اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الاثنين، 7 نوفمبر 2022

ج3.وج4. كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص

ج3.وج4.
ج3. كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص


أَحَدُهُمَا : أَنَّ الشَّافِعِيَّ جَعَلَ قَوْله تَعَالَى { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } وَقَوْلُهُ { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } بَيَانًا وَلَيْسَ فِيهِ إخْرَاجُ الشَّيْءِ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُشْكِلًا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } لَمْ يَشْكُلْ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ عَشَرَةٌ فَلَمْ يُخْرِجْ بِذِكْرِهِ الْأَرْبَعِينَ وَالْعَشَرَةَ شَيْئًا مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ مِنْ الْحَوَادِثِ لَا يَخْرُجُ بِهِ الشَّيْءُ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي ( لِأَنَّهُ ) لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا كَانَ مِنْ بَابِ الِاجْتِهَادِ وَلَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ مَا عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ قَائِمَةٌ يَكْشِفُ عَنْ حَقِيقَتِهِ كَالتَّوْحِيدِ وَسَائِرِ صِفَاتِ اللهِ تَعَالَى ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ خَالَفَ فِي مَسْأَلَةٍ اجْتِهَادًا ( مُخَالِفًا ) لِحُكْمِ اللهِ تَعَالَى مَرْدُودَ الْحُكْمِ إذَا حُكِمَ بِهِ ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ( كَانَ طَرِيقُهُ ) الِاجْتِهَادَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حَيِّزِ الْإِشْكَالِ إلَى التَّجَلِّي .
وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ أَحَدَ ( أَقْسَامِ الْبَيَانِ ) مَعَ خُرُوجِهِ عَنْ الْحَدِّ الَّذِي حَدَّهُ ( أَصْحَابُهُ لِلْبَيَانِ ) .
وَعَلَى أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ أَيْضًا ( ظَاهِرُ الِانْحِلَالِ ) ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ إنَّمَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ أَقْسَامِ الْبَيَانِ وَهُوَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ ( الَّذِي لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ ) وَالْخِطَابُ

الْمُبْتَدَأُ مِنْ اللهِ تَعَالَى وَمِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمِنْ سَائِرِ ( الْمُخَاطَبِينَ إذَا كَانَ ظَاهِرَ ) الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ فَهُوَ بَيَانٌ صَحِيحٌ لَا يَدْفَعُ أَحَدٌ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا ( فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مَعَ ) ذَلِكَ الْوَصْفِ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الْبَيَانُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } لَمْ يَكُنْ قَطُّ فِي حَيِّزِ الْإِشْكَالِ فَأَخْرَجَ بِهَذَا الْبَيَانَ إلَى التَّجَلِّي ، إذْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ إشْكَالٌ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فِي أَنَّ الْغُسْلَ وَاجِبٌ أَوْ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ أَوْ غَيْرُ مُحَرَّمَةٍ وَقَدْ أَطْلَقَ مَعَ ذَلِكَ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْبَيَانَ اسْمٌ لِكَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ يَقْتَضِي سَائِرَ مَا يُسَمَّى بَيَانًا ثُمَّ اقْتَصَرَ بِهَذَا الْوَصْفِ عَلَى بَعْضِ أَقْسَامِ الْبَيَانِ دُونَ جَمِيعِهِ .

فارغة

الْبَابُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُوْنَ: فِي وُجُوهِ الْبَيَانِ

بَابُ الْقَوْلِ فِي وُجُوهِ الْبَيَانِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
الْبَيَانُ فِي الشَّرْعِ عَلَى وُجُوهٍ :
مِنْهَا الْأَحْكَامُ الْمُبْتَدَأَةُ ، وَمِنْهَا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِ مَا يَنْتَظِمُهُ الِاسْمُ فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ الْبَعْضُ .
وَمِنْهَا صَرْفُ الْكَلَامِ عَنْ الْحَقِيقَةِ أَوْ الْمَجَازِ وَصَرْفُ الْأَمْرِ إلَى النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ وَصَرْفُ الْخَبَرِ إلَى الْأَمْرِ ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّفْظِ غَيْرُ حَقِيقَتِهِ ،
وَمِنْهَا بَيَانُ الْجُمْلَةِ الَّتِي لَا تَسْتَغْنِي عَنْ الْبَيَانِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ ، وَهَذَا الْبَيَانُ لَيْسَ بِتَخْصِيصٍ ( وَلَكِنَّهُ ) تَفْسِيرٌ لِلْمُرَادِ بِالْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْعُشْرُ وَنِصْفُ الْعُشْرِ وَالْحَقُّ نَفْسُهُ هُوَ الْعُشْرُ فَلَا تَخْصِيصَ فِي ذَلِكَ وَلَا صَرْفَ لِلْكَلَامِ عَنْ الْحَقِيقَةِ .
وَمِنْهَا النَّسْخُ ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمُدَّةِ الْحُكْمِ بَعْدَ أَنْ كَانَ فِي وَهْمِنَا وَتَقْدِيرِنَا بَقَاؤُهُ .

الْبَابُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُوْنَ: : فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ

فارغة

بَابٌ : فِيمَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
كُلُّ لَفْظٍ أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَلَمْ يَقْتَرِنْ إلَيْهِ مَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ حُكْمِهِ عَلَى مُقْتَضَى لَفْظِهِ فَغَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى الْبَيَانِ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْمُخَاطَبُ بَعْضَ مَا انْتَظَمَهُ ، أَوْ كَانَ مُرَادُهُ غَيْرَ حَقِيقَتِهِ ( فَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ الْمُرَادِ بِهِ وَكُلُّ لَفْظٍ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمُهُ إمَّا لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ فِي نَفْسِهِ ) أَوْ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ إلَيْهِ مَا جَعَلَهُ فِي مَعْنَى الْمُجْمَلِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَّا الْقَوْلُ فِي ( صِفَةِ الْمُجْمَلِ ) وَمَا فِي مَعْنَاهُ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } هَذِهِ أَلْفَاظٌ مَعَانِيهَا مَعْقُولَةٌ ظَا ( هِرَةٌ ) فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ بِنَفْسِ وُرُودِهَا ، وَالثَّانِي ( نَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وقَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ } وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي

دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللهِ } ( وَنَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ } { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } وَ ( نَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ إلَيْهِمَا مَا أَوْجَبَ كَوْنَهُمَا مَوْقُوفَيْنِ ( عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ بِهِمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ) .

الْبَابُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُوْنَ: فِيْ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ

فارغة

بَابُ مَا يَقَعُ بِهِ الْبَيَانُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
بَيَانُ الشَّرْعِ يَقَعُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ إنَّ الْبَيَانَ يَقَعُ بِخَمْسَةِ أَشْيَاءَ : بِالْقَوْلِ وَالْخَطِّ وَالْإِشَارَةِ وَالْعَقْدِ وَهُوَ يَعْنِي عَقْدَ الْحِسَابِ وَبِالنِّسْبَةِ الدَّالَّةِ .
فَنَقُولُ عَلَى هَذَا : إنَّ الْبَيَانَ مِنْ اللهِ تَعَالَى يَقَعُ بِالْقَوْلِ وَبِالْكِتَابَةِ ، وَالْبَيَانُ بِالْقَوْلِ : نَحْوُ سَائِرِ الْفُرُوضِ الْمُبْتَدَأَةِ الْمَعْقُولِ مَعَانِيهَا مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ .
وَيَقَعُ بِالْكِتَابِ أَيْضًا : لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى وَكِتَابُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي غَيْرِهِ ، فَيَكُونُ مِنْهُ ( بَيَانُ الْأَحْكَامِ الْمُبْتَدَأَةِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ .
وَيَكُونُ مِنْهُ ) بِهِمَا أَيْضًا تَخْصِيصُ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَخَصَّ مِنْهُ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَنَحْوُ بَيَانِ الْجُمْلَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } ثُمَّ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } .

وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا بَيَانُ مُدَّةِ الْفَرْضِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ النَّسْخُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِك فِي السَّمَاءِ } ثُمَّ قَالَ ( تَعَالَى ) { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
وَكَانَ حَدُّ الزَّانِينَ الْحَبْسَ وَالْأَذَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } إلَى آخِرِهِ ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَنَسَخَ بِهِ الْحَبْسَ
وَالْأَذَى الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِ .
وَيَكُونُ مِنْهُ تَعَالَى الْبَيَانُ بِالنِّسْبَةِ الدَّالَّةِ وَذَلِكَ عَلَى وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : الْعَقْلِيَّاتُ وَدَلَائِلُهَا ، وَالْبَيَانُ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَجُوزُ فِيهِ التَّخْصِيصُ وَصَرْفُهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ ، وَالدَّلَائِلُ الْعَقْلِيَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ تَعَالَى وَعَدْلِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الِانْقِلَابُ وَالتَّخْصِيصُ فَهِيَ آكَدُ مِنْ اللَّفْظِ فِي هَذَا الْبَابِ فَكَانَ الْبَيَانُ وَاقِعًا بِهَا .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : مَا كَانَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ بَيْنَ فُرُوعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَائِلُ الْمُوجِبَةُ لِصِحَّةِ الْقَوْلِ بِالِاجْتِهَادِ فَجَازَ أَنْ يُسَمَّى مَا يُؤَدِّينَا إلَيْهِ بَيَانًا وَإِنْ ( كَانَ

عَنْ ) غَالِبِ ظَنٍّ .
وَيَكُونُ الْبَيَانُ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوْلِ : نَحْوُ سَائِرِ السُّنَنِ الْمُبْتَدَأَةِ وَنَحْوُ تَخْصِيصِهِ لِعُمُومِ الْقُرْآنِ " كَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ " ، وَ " بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ " ، وَ " أُحِلَّتْ لِي مَيْتَتَانِ " وَنَحْوُ قَوْلِهِ " خَمْسٌ يَقْتُلُهُنَّ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ " خَصَّ بِهِ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
وَيَكُونُ الْبَيَانُ مِنْهُ بِالْكِتَابَةِ أَيْضًا : كَنَحْوِ " كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ فِي الصَّدَقَاتِ وَالدِّيَاتِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ " ، وَ " كِتَابِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فِي الصَّدَقَاتِ " وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ حَكِيمٍ ، وَرَدَ عَلَيْنَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِشَهْرَيْنِ { أَنْ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِإِهَابٍ وَلَا عَصَبٍ } .

وَقَالَ ( الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ ) الْكِلَابِيُّ { كَتَبَ إلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } فَثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَةَ يَقَعُ بِهَا الْبَيَانُ كَوُقُوعِهِ بِالْقَوْلِ وَيَكُونُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُ الْمُجْمَلِ فِي الْكِتَابِ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ ، نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ } ، وَ { لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ } ، وَبَيَانُهُ لِفُرُوضِ صَدَقَاتِ الْمَوَاشِي بِالْقَوْلِ وَالْكِتَابَةِ ، كُلّ ذَلِكَ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ الْعُشْرُ } بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وقَوْله تَعَالَى { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنْ الْأَرْضِ } .

وَيَكُونُ ( الْبَيَانُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ أَيْضًا كَفِعْلِهِ ) لِأَعْدَادِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَأَوْصَافِهَا وَقَعَ بِهِ بَيَانُ الْمُجْمَلِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ }
وَنَحْوُ فِعْلِهِ فِي الْمَنَاسِكِ بَيَانًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ }
وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي }
وَقَوْلُهُ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } نَبَّهَهُمْ بِهِ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْبَيَانِ بِفِعْلِهِ عَمَّا أُجْمِلَ فِي الْكِتَابِ ( ذَكَرَهُ ) وَلَيْسَ كُلُّ فِعْلِهِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ الصَّدَقَةِ بَيَانًا لِلْجُمْلَةِ ( الَّتِي ) فِي الْكِتَابِ ، لِأَنَّهُ لَوْ صَلَّى لِنَفْسِهِ لَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وَلَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهَا مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَإِنَّمَا يَقَعُ عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ مَا يَجْمَعُ النَّاسَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَكْتُوبَاتِ أَوْ عُقِلَ ( مِنْ ) فَعْلِهِ أَنَّهُ فَعَلَهَا عَلَى أَنَّهَا فَرْضٌ ، فَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَعْقُولٌ بِالْكِتَابِ فَصَارَ بَيَانًا لَهُ ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ

وَآتُوا الزَّكَاةَ } مُوجِبٌ لِفَرْضِهِمَا وَمَا فَعَلَهُ فِي نَفْسِهِ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ فَعَلَهُ فَرْضًا فَلَا يَكُونُ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ بَيَانًا .
وَيَكُونُ مِنْهُ أَيْضًا بَيَانُ ( مُدَّةِ الْفَرْضِ ) الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } قَدْ قِيلَ : إنَّهُ نَسَخَ بِهِ الْوَصِيَّةَ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ، وَقَوْلُهُ فِي الرَّجْمِ نُسِخَ بِهِ الْحَبْسُ وَالْأَذَى عَنْ الْمُحْصَنِ ،
وَفِي السُّنَّةِ نَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } ،
وَ { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَكُلُوا وَادَّخِرُوا }.
وَيَكُونُ الْبَيَانُ مِنْهُ بِالْإِشَارَةِ أَيْضًا كَقَوْلِهِ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْعَشْرِ } فَأَفَادَ بِأَنَّهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا .
ثُمَّ قَالَ : { الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَحَبَسَ الْإِبْهَامَ فِي الثَّالِثَةِ } فَأَفَادَ أَنَّهُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ : { آيَتُك أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إلَّا رَمْزًا } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً

وَعَشِيًّا } يَعْنِي أَشَارَ إلَيْهِمْ فَقَامَتْ إشَارَتُهُ مُقَامَ الْقَوْلِ فِي بُلُوغِ الْمُرَادِ .
وَحَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَرْيَمَ ( صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهَا ) { فَأَشَارَتْ إلَيْهِ } فَبَيَّنَتْ لَهُمْ مُرَادَهَا بِالْإِشَارَةِ .
وَيَكُونُ فِيهِ الْبَيَانُ أَيْضًا بِالدَّلَالَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْحُكْمِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ ، نَحْوُ { قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ فِي دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إنَّهَا دَمُ عِرْقٍ وَلَيْسَتْ الْحَيْضَةَ } فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ ( خُرُوجِ ) دَمِ الْعَرَقِ فِي نَقْضِ الطَّهَارَةِ ، { وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سُئِلَ عَنْ سَمْنٍ مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ فَقَالَ : إنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقَوْهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَأَرِيقُوهُ } فَدَلَّ بِتَفْرِيقِهِ بَيْنَ الْمَائِعِ وَالْجَامِدِ عَلَى أَنَّ سَائِرَ الْمَائِعَاتِ يَنْجُسُ بِمُجَاوَرَةِ أَجْزَاءِ النَّجَاسَةِ إيَّاهَا ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ النَّظَرِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْ السُّنَنِ .
وَقَدْ يَقَعُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانُ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ عَلَى فِعْلٍ شَاهَدَهُ مِنْ فَاعِلٍ يَفْعَلُهُ عَلَى

وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَيَتْرُكُ النَّكِيرَ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ ( ذَلِكَ ) بَيَانًا مِنْهُ فِي جَوَازِ فِعْلِ ذَلِكَ الشَّيْءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّهُ عَلَيْهِ ، أَوْ وُجُوبُهُ إنْ كَانَ شَاهَدَهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ فَلَمْ يُنْكِرْهُ .
وَذَلِكَ نَحْوُ عَلِمْنَا بِأَنَّ عُقُودَ الشِّرْكِ وَالْمُضَارَبَاتِ وَالْقُرُوضِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ قَدْ كَانَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِحَضْرَتِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاسْتِفَاضَتِهَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْهَا عَلَى فَاعِلِيهَا ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ إقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَى إبَاحَتِهِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ حَيِّزِ الْمَحْظُورِ لَأَنْكَرَهُ وَأَبْطَلَهُ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرَى أَحَدًا عَلَى مُنْكَرٍ مِنْ الْفِعْلِ أَوْ الْقَوْلِ فَيُقَارُّهُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْكِرُهُ ، إذْ كَانَ إنْكَارُهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ .
وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ النَّاسِ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَظُّ الْأَوْفَرُ مِنْهُ ، إذْ كُلُّ مَنْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهَى عَنْ مُنْكَرٍ مِنْ أُمَّتِهِ فَإِنَّمَا فَعَلَهُ اقْتِدَاءً بِهِ وَبِأَمْرِهِ ، فَإِذَا عَلِمْنَا إقْرَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا عَلَى أُمُورٍ عَلِمَهَا مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُ عَلَيْهِمْ فِيهَا كَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ أَنْ تَكُونَ ( جَارِيَةً ) عَلَى الْوَجْهِ ( الَّذِي ) أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْبَيَانَ قَدْ يَقَعُ ( مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بِإِقْرَارِ مَنْ شَاهَدَهُ عَلَى فِعْلٍ وَتَرْكِهِ النَّكِيرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى جَوَازِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ( شَاهَدَهُ ) يَفْعَلُهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَيْسَ فِي إقْرَارِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ شَاهَدَهُ عَلَى فِعْلٍ وَتَرْكِهِ النَّكِيرَ دَلَالَةٌ عَلَى إبَاحَتِهِ وَجَوَازِهِ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُتْرَكَ النَّكِيرُ عَلَيْهِ اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْهُ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلَالَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى عَلَى الْكُفْرِ وَعَلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَهُ وَرِضَاهُ بِهِ .
قِيلَ لَهُ : أَيُّ نَكِيرٍ أَشَدُّ مِنْ قِتَالِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ

صَاغِرُونَ ، مَعَ مَا قَدَّمَ فِيهِ مِنْ الْوَعِيدِ بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ وَإِنَّمَا أَعْطَاهُمْ الْعَهْدَ وَأَخَذَ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى كُفْرِهِمْ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ ظَاهِرٌ مِنْ أَمْرِهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ مَا لَمْ يُعْطِهِمْ الْعَهْدَ فِيهِ عَلَى إقْرَارِهِمْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ، نَحْوُ مَا كَتَبَ بِهِ إلَى أَهْلِ نَجْرَانَ وَكَانُوا نَصَارَى { إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا وَإِمَّا أَنْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ } فَابْتَدَأَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ حِينَ عَلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُرْبُونَ وَأَنَّ إقْرَارَهُمْ ( عَلَيْهِ ) لَمْ يَدْخُلْ فِيمَا أَعْطَاهُمْ مِنْ الذِّمَّةِ .
وَيُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ : خَبِّرْنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَرَى رَجُلًا يُرْبِي أَوْ يَغْصِبُ أَوْ يَقْتُلُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَى فَاعِلِهِ اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ .
فَإِنْ قَالَ نَعَمْ : خَرَجَ مِنْ إجْمَاعِ الْأَمَةِ وَجَوَّزَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَزَّهَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ وَأَجَازَ ( عَلَى ) ( النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) تَرْكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ وَيُقَالُ لَهُ : ( فَإِنْ ) جَازَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لَنَا أَجْوَزُ ، وَإِنْ جَازَ ذَلِكَ لَنَا فَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ إلَى سُقُوطِ ( فَرْضِ ) الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ اكْتِفَاءً بِمَا قَدَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا نَقْضُ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَظِيمٍ .
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ

يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ } وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَنَا بِأَنْ لَا نُقِرَّ أَحَدًا عَلَى مُنْكَرٍ إذَا أَمْكَنَنَا تَغْيِيرُهُ ثُمَّ يُقِرُّ ( هُوَ ) النَّاسَ عَلَيْهِ وَيَتْرُكُ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، حَاشَا لَهُ مِنْ ذَلِكَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَقَدْ جَعَلَ أَصْحَابُنَا - ( رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِمْ ) - تَرْكَ الْعُلَمَاءِ النَّكِيرَ عَلَى الْعَامَّةِ فِي مُعَامَلَاتٍ قَدْ تَعَارَفُوهَا وَاسْتَفَاضَتْ فِيمَا بَيْنَهُمْ إجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ ، نَحْوُ مَا قَالُوا فِي الِاسْتِصْنَاعِ أَنَّهُمْ لَمَّا شَاهَدُوا عُلَمَاءَ السَّلَفِ ( لَمْ يُنْكِرُوهُ ) عَلَى عَاقِدِيهِ مَعَ ظُهُورِهِ وَاسْتِفَاضَتِهِ كَانَ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِهِ وَتَرَكُوا الْقِيَاسَ مِنْ أَجْلِهِ ،
وَمِثْلُ دُخُولِ الْحَمَّامِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ أُجْرَةٍ ( مَعْلُومَةٍ ) وَلَا مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَا ذِكْرٍ لِمِقْدَارِ الْمَاءِ الَّذِي يَسْتَعْمِلُهُ أَجَازُوهُ لِظُهُورِهِ فِي عُلَمَاءِ السَّلَفِ مِنْ الْعَامَّةِ وَتَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ ( فِيهِ ) ،
وَمِثْلُ عِلْمِهِمْ بِأَنَّ الْجِبَابَ وَالْكِيزَانَ لَا يَخْلُو مِنْ بَقٍّ أَوْ بَعُوضٍ يَمُوتُ فِيهَا فِي أَكْثَرِ الْحَالِ ثُمَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ

مِنْ عُلَمَاءِ السَّلَفِ لِلْعَامَّةِ لَا يَجُوزُ لَكُمْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الَّذِي هَذِهِ حَالُهُ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ بَلْوَاهُمْ بِهِ ، فَدَلَّ تَرْكُهُمْ النَّكِيرَ فِيهِ عَلَى طَهَارَةِ ذَلِكَ الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجَسًا مَا جَازَ لَهُمْ تَرْكُ النَّكِيرِ عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ لِلطَّهَارَةِ إذْ كَانُوا بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِهَا فِي قَوْلِهِ { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنْكَرِ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا أَقَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ .
وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ { أَنَّ عُوَيْمِرًا الْعَجْلَانِيَّ لَمَّا لَاعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ قَالَ كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللهِ إنْ أَمْسَكْتهَا هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا } فَتَضَمَّنَ هَذَا الْقَوْلُ إخْبَارًا مِنْهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَى أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ ( عَلَيْهِ ) النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إخْبَارَهُ بِذَلِكَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُخْبِرُ أَحَدٌ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ

مَالِكٌ لِبُضْعِ امْرَأَةٍ وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، ثُمَّ يُقِرُّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّ قَائِلَ ذَلِكَ قَدْ انْتَظَمَ أَمْرَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : إخْبَارُهُ أَنَّهُ مَالِكٌ لِبُضْعِهَا وَهُوَ غَيْرُ مَالِكٍ ، وَهَذَا كَذِبٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى الْكَذِبِ .
وَالثَّانِي : إخْبَارُهُ عَنْ اعْتِقَادِهِ بِأَنَّ فَرْجَهَا لَهُ مُبَاحٌ وَهُوَ مَحْظُورٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَدَلَّ تَرْكُهُ النَّكِيرَ عَلَى عُوَيْمِرٍ ( فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ ) ذَلِكَ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَكُنْ ( قَدْ ) وَقَعَتْ بِنَفْسِ اللِّعَانِ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ { النَّهْيِ عَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالتَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ ، ثُمَّ يَرَى عَلَى نِسَائِهِ الْحَرِيرَ وَالذَّهَبَ فَلَا يُنْكِرُهُ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ ( خَاصٌّ ) بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ .
وَقَدْ يَقَعُ بَيَانُ الْمُجْمَلِ ( بِالْإِجْمَاعِ ) ، لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى قَدْ أَمَرَ بِاتِّبَاعِهِ وَحَكَمَ بِصِحَّتِهِ ، فَيَجُوزُ وُقُوعُ الْبَيَانِ بِهِ ، نَحْوُ إجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ دِيَةَ الْخَطَأِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَاَلَّذِي فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى { فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَلَمْ يَذْكُرْ وُجُوبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَبَيَّنَ الْإِجْمَاعَ الْمُرَادَ

بِهَا ، وَكَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ لِلْجَدِّ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ السُّدُسَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ ، وَأَنَّ لَبِنْتَيْ الِابْنِ الثُّلُثَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ لِصُلْبٍ ، وَأَنَّ لِلْجَدَّتَيْنِ أُمِّ الْأُمِّ وَأُمِّ الْأَبِ ( إذَا اجْتَمَعَتَا ) سُدُسًا وَاحِدًا ، وَهُوَ مِمَّا قَدْ وَقَعَ بِهِ بَيَانٌ قَوْله تَعَالَى { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } كَمَا بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْضَهُ بِنَصِّ قَوْلِهِ { يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ، وَكَمَا بَيَّنَتْ السُّنَّةُ بَعْضَهُ { فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَدَّةَ السُّدُسَ } كَذَلِكَ الْإِجْمَاعُ بَيَّنَ هَذِهِ الْفَرَائِضَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا وَهِيَ مُجْمَلَةٌ فِي قَوْله تَعَالَى { لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ } .
وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُ الْإِجْمَاعِ بِحُكْمٍ مُبْتَدَأٍ كَمَا يَكُونُ بَيَانَ حُكْمِ الْكِتَابِ وَالسَّنَةِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ إجْمَاعِ السَّلَفِ عَلَى حَدِّ الْخَمْرِ ثَمَانِينَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ ، وَإِجْمَاعِهِمْ عَلَى تَأْجِيلِ امْرَأَةِ الْعِنِّينِ .
وَقَدْ يَكُونُ بَيَانُ خُصُوصِ الْعُمُومِ بِالْإِجْمَاعِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَنَّ الْعَبْدَ يُجْلَدُ خَمْسِينَ ، وَالْإِجْمَاعُ ( وَإِنْ ) لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ تَوْقِيفٍ أَوْ رَأْيٍ فَإِنَّهُ أَصْلٌ بِرَأْسِهِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِيمَا يَقَعُ الْبَيَانُ بِهِ .

فارغة

الْبَابُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُوْنَ: الْقَوْلِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: الْمُجْمَلُ الَّذِيْ لَاسَبِيْلَ إِلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ إِلَّا بِبِيَانٍ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : غَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ بَيَانِ اللَّفْظِ الَّذِي يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ عَلَى ظَاهِرِهِ وَحَقِيقَتِهِ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَ الظَّاهِرِ ، وَمَنَعُوا أَيْضًا جَوَازَ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الظَّاهِرِ وَيَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُؤَدِّيًا بِبَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي نَحْوُ قَوْلِ الْقَائِلِ : أَعْطِ زَيْدًا حَقَّهُ إذَا بَيَّنَهُ ( لَهُ ) .
وَامْتَنَعُوا مِنْ إجَازَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَفْظُ ( الْإِجْمَالِ مُظْهَرًا ) فِيهِ فَقَالُوا فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى : { وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وقَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ بِهِمَا صَلَاةً أَوْ زَكَاةً مَعْهُودَةً أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي مِثْلِهِ عَنْ حَالِ وُرُودِهِ ، إذْ لَيْسَ مَعَهُ مَا يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِبَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوزُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ حُكْمِهِ أَوْ كَانَ مُجْمَلًا مَوْقُوفَ الْحُكْمِ عَلَى بَيَانٍ مِنْ غَيْرِهِ .

وَقَالَ آخَرُونَ : مَا كَانَ مُجْمَلًا لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ فِي نَفْسِهِ مُجْمَلًا إلَّا أَنَّهُ قُرِنَ بِهِ مَا يُوجِبُ إجْمَالَهُ وَيَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ حُكْمِهِ فَجَائِزٌ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ عَنْ وَقْتِ وُرُودِهِ سَوَاءٌ كَانَ اللَّفْظُ مُؤَدِّيًا بِبَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي أَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذَلِكَ ، وَأَمَّا مَا أَمْكَنَ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ بَيَانِ خُصُوصِهِ - إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْخُصُوصَ - عَنْ حَالِ إيقَاعِ الْخِطَابِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : الَّذِي أَحْفَظُهُ عَنْ ( شَيْخِنَا ) أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ جَوَازَ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَامْتِنَاعَهُ فِيمَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ .
وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي اللَّفْظِ ( الْمُطْلَقِ ) إذَا أَرَادَ بِهِ الْمُخَاطَبُ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ فَغَيْرُ جَائِزٍ تَأْخِيرُ بَيَانِ مُرَادِهِ .
وَهَذَا الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ هُوَ عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ

فارغة المتن

الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ نَسْخًا إذَا وَرَدَتْ مُتَرَاخِيَةً عَنْهُ ( وَلَا يُجَوِّزُونَهَا ) إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ بِهِ النَّسْخُ نَحْوُ إيجَابِ النَّفْيِ مَعَ الْجَلْدِ ، وَشَرْطِ الْإِيمَانِ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ ، وَالنِّيَّةِ فِي الطَّهَارَةِ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ .
وَلَوْ جَازَ عِنْدَهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ فِي مِثْلِهِ لَمَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُمْ نَسْخًا ( بَلْ ) كَانَ يَكُونُ بَيَانًا لِأَنَّ الْمَذْكُورَ بَدْءًا بَعْضُ الْفَرْضِ لَا جَمِيعُهُ ، وَقَدْ أَجَازُوا ( مِثْلَ ) هَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الْمُجْمَلِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَشْتَرِطُونَ النِّيَّةَ فِي الصَّوْمِ وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ نَسْخَهُ بَلْ كَانَتْ

عَلَى وَجْهِ الْبَيَانِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ لَمَّا كَانَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ بِكُلِّ مَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَشْرُوطٌ فِيهِ مِنْ جِهَةِ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَوْ الْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْأَدِلَّةِ فَهُوَ مُرَادٌ بِاللَّفْظِ وَيَصِيرُ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ ، فَكَانَ ثُبُوتُ ذَلِكَ فِيهِ عَلَى جِهَةِ بَيَانِ الْمُرَادِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ مَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا صِحَّةُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَوَجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا إذَا كَانَ ( هَذَا ) هَكَذَا اعْتِقَادُ حُكْمِ اللَّفْظِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عُمُومٍ ( وَ ) حَقِيقَةٍ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْخُصُوصَ أَوْ الْمَجَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ عَنْ حَالِ الْخِطَابِ بِهِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَلُزُومَ حُكْمِهِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، وَ ( لَا ) عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ إذَا أَوْجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادَهُ بِنَفْسِ ظُهُورِ اللَّفْظِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ عُمُومٍ أَوْ حَقِيقَةٍ فَقَدْ أَجَازَ لَنَا الْإِخْبَارَ عَنْهُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْبَعْضَ أَوْ غَيْرَ الْحَقِيقَةِ فَقَدْ أَجَازَ لَنَا الْكَذِبَ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَلَا يَنْفَكُّ الْقَائِلُ بِتَأْخِيرِ بَيَانِ مَا هَذَا وَصْفُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ : إمَّا تَرْكُ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَالظَّاهِرِ .
أَوْ إجَازَةُ مَجِيءِ الْعِبَادَةِ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِذَلِكَ وَكِلَاهُمَا مَنْفِيَّانِ عَنْ اللهِ تَعَالَى .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ إرَادَةَ التَّخْصِيصِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فَكَمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَرَاخَى الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَقُولَ { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ } ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ مُدَّةٍ { إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ الْعُمُومِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ أَلَّا يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ لِأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا جَمِيعًا :

أَنَّ ) تَأْخِيرَ بَيَانِهِمَا يُؤَدِّي إلَى جَوَازِ التَّعَبُّدِ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَاف مَا هُوَ بِهِ .
وَأَيْضًا : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وَقَالَ { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } ، وَفِي مُخَاطَبَاتِ الْحُكَمَاءِ أَنَّ الْكَلَامَ إذَا انْقَطَعَ ضَرْبًا مِنْ الِانْقِطَاعِ يُعْرَفُ بِهِ الْفَرَاغُ مِنْهُ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِقَادُ مُوجِبِهِ غَيْرَ مُنْتَظَرٍ بِهِ وُرُودُ بَيَانٍ فِي الثَّانِي يَنْفِي بَعْضَ مُوجِبِهِ ، كَمَا يُعْقَلُ مِثْلُهُ فِي الْإِعْدَادِ إذَا عُرِّيَتْ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ ، فَلَوْ أَنَّ مُتَكَلِّمًا أَطْلَقَ لَفْظَ عُمُومٍ أَوْ عَدَدًا مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ : أَرَدْت بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ حَكَمُوا عَلَيْهِ بِالْكَذِبِ فِي مَقَالَتِهِ ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَلْفٍ ( دِرْهَمٍ ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ زَمَانٍ : أَرَدْت تِسْعَمِائَةٍ ،
وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمَا اُسْتُنْكِرَ عَلَى أَحَدٍ كَذِبٌ أَبَدًا ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يَنْفِي بِهِ الْكَلَامَ الْأَوَّلَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ ( مَا أَرَدْتُهُ ) بِاللَّفْظِ أَوْ أَرَدْت نَفْيَهُ بِشَرْطٍ ، فَلَمَّا كَانَ جَوَازُ ذَلِكَ مَنْفِيًّا عَنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ عَنْ خِطَابِ اللهِ تَعَالَى ( وَخِطَابِ رَسُولِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ) إنَّمَا خَاطَبَنَا بِمَا هُوَ فِي لُغَتِنَا وَتَعَارُفِنَا .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي النَّسْخِ لِأَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاجِبٌ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ بَقَاءِ حُكْمِهِ ، ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ وُرُودِ نَسْخِهِ ، كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَلْزَمَنَا اعْتِقَادُ الْعُمُومِ مَا لَمْ يَرِدْ بَيَانُ الْخُصُوصِ .

قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ كُلَّ مَا حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَتَبْدِيلُهُ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَقِدَ بَقَاءَهُ مَا دَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيًّا ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ جَوَازِ نَسْخِهِ مَا بَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ فَإِنَّمَا وَرَدَ مَا كَانَ فِي اعْتِقَادِنَا عِنْدَ وُرُودِ الْفَرْضِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَقَدْ احْتَجَّ بَعْضُ مَنْ صَنَّفَ فِي هَذَا الْبَابِ لِامْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِيمَا كَانَ وَصْفُهُ مَا ذَكَرْنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وقَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } قَالَ : فَقَدْ أَمَرَهُ بِالتَّبْلِيغِ وَالْبَيَانِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ مُخَالَفَةَ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْعَدُ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ .
وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } إنَّمَا يَقْتَضِي
الْمُنَزَّلَ بِعَيْنِهِ وَالْمُنَزَّلُ مُبَيَّنٌ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إظْهَارَهُ وَتَرْكَ كِتْمَانِهِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بَيَانَ الْخُصُوصِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ احْتَاجَ أَنْ يُثْبِتَ أَوَّلًا أَنَّ الْبَيَانَ مِمَّا نَزَلَ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ ، وَكَلَامُنَا مَعَ الْمُخَالِفِ فِي : هَلْ جَائِزٌ أَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانَ الْعُمُومِ ( إذَا كَانَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ ) وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ امْتِنَاعُهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِجَاجِ بِهَا فِي ذَلِكَ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بَيَانَ الْخُصُوصِ لَمَا دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا تَقُولُ : أَعْطَيْتُك هَذِهِ الدَّرَاهِمَ لِتَشْتَرِي بِهَا ثَوْبًا أَوْ لِتُنْفِقَهَا عَلَى نَفْسِك لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى إرَادَةِ ذَلِكَ فِي الْحَالِ .

وَأَيْضًا : فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُرَادَ لِتُبَيِّنَ مَا أُمِرْت بِبَيَانِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى ( أَنْ ) يُثْبِتَ أَوَّلًا أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبَيَانِ عَلَى الْفَوْرِ إذْ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَيْهِ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى مَا ذَكَرَ هَذَا الْقَائِلُ فِي امْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَوَّلًا أَنَّ الْبَيَانَ مِمَّا ( قَدْ ) أُنْزِلَ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَهُ ، لِأَنَّ مَنْ يُخَالِفُ فِي هَذَا مُجَوِّزٌ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّه تَعَالَى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمُومَ حُكْمٍ وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ ثُمَّ يُؤَخِّرُ بَيَانَهُ عَنْهُ .
وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَنْ أَجَازَ الْبَيَانَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْلِ زَعْمُ إحَالَةِ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَتِنَا أَنْ يُخَاطِبَنَا بِالْعُمُومِ فَنَعْتَقِدُهُ ثُمَّ يُبَيِّنُهُ لَنَا فِي الثَّانِي .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَفَسَادُ هَذَا الْكَلَامِ وَانْحِلَالُهُ أَظْهَرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى ذِي بَصِيرَةٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ادَّعَى أَوَّلًا أَنَّ فِي الْعَقْلِ يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَعْلَمَ
اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَتِنَا أَنْ يُخَاطِبَنَا بِالْعُمُومِ فَنَعْتَقِدُهُ ثُمَّ يُبَيِّنُهُ لَنَا فِي الثَّانِي .
وَقَائِلُ هَذَا لَا يَدْرِي أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ ( فِي ) أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِخِلَافِ مُرَادِهِ وَأَنْ يُبِيحَ لَنَا الْإِخْبَارَ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ ، فَرَامَ هَذَا الْقَائِلُ إثْبَاتَ تَجْوِيزِ كَوْنِ الْمَصْلَحَةِ فِي مَجِيءِ الْعِبَادَةِ بِهِ بِأَنْ يَجُوزَ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يُتَعَبَّدَ بِخِلَافِ مُرَادِهِ ، وَبِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ فَانْتَظَمَ أَمْرَيْنِ كِلَاهُمَا مَنْفِيٌّ عَنْ اللهِ تَعَالَى .
أَحَدُهُمَا : تَجْوِيزُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ ( يَتَعَبَّدَنَا بِالْجَهْلِ ) لِأَنَّ اعْتِقَادَ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ جَهْلٌ .

وَالثَّانِي : تَجْوِيزُهُ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِالْكَذِبِ ، ثُمَّ إنَّهُ بَنَى عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْفَاسِدِ الَّذِي أَصَّلَهُ فِي التَّجْوِيزِ وُجُودَ مَا ادَّعَاهُ فِي جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِي زَعْمِهِ ، وَاحْتَجَّ فِيهِ بِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إلَيْك وَحْيُهُ } قَالَ : وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ وَجْهَانِ .
أَحَدُهُمَا : تِلَاوَتُهُ .
وَالْآخَرُ : بَيَانُهُ .
قَالَ : وَهُوَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : ( أَنَّهُ ) إنْ سَلِمَ لَهُ مَا ( قَدْ ) ادَّعَاهُ مِنْ التَّأْوِيلِ مِنْ أَنَّ وَحْيَهُ بَيَانُهُ كَانَ ذَلِكَ فِيمَا يَقْتَضِي الْبَيَانَ وَيَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَأَمَّا اللَّفْظُ الْمُكَتَّفِي بِنَفْسِهِ عَنْ الْبَيَانِ فَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْآيَةُ .
وَالْآخَرُ : أَنَّهُ نَهَى عَنْ الْعَجَلَةِ ( بِهِ ) قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ جَمِيعِهِ لِأَنَّ بَيَانَ الْقَوْلِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ وَبُلُوغُ آخِرِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَلَّقُ تَارَةً بِشَرْطٍ ( وَ ) يُوصَلُ بِاسْتِثْنَاءِ وَبِلَفْظِ التَّخْصِيصِ ، وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ وَيَكُونُ مَعْنَاهُ مُوَافِقًا لِمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ
يُقْضَى إلَيْك بَيَانُهُ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ .
وَيُقَالُ لِلْمُحْتَجِّ بِهَذَا : مَا مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ } عِنْدَك ؟ أَرَادَ بِهِ أَنْ ( لَا ) يَتْلُوَهُ أَوْ أَرَادَ أَنْ ( لَا ) يَعْتَقِدَ حُكْمَهُ عَلَى مَا وَرَدَ حَتَّى نُبَيِّنَ لَك مَعْنَاهُ .
فَإِنْ قَالَ : أَرَادَ التِّلَاوَةَ .
قِيلَ لَهُ : فَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ كَانَ جَائِزًا لَهُ التِّلَاوَةُ إذَا حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْهُ بِانْقِطَاعِ الْكَلَامِ .

فَإِنْ قَالَ : أَرَادَ ( أَنْ ) لَا يَعْتَقِدَهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُهُ فَإِنَّ هَذَا يُمْنَعُ ( مِنْ ) اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِيهِ وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ .
وَهَذَا لَوْ صَحَّ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ مَنْ يَقِفُ فِي الْعُمُومِ وَأَنْتَ تَقُولُ إنِّي أَعْتَقِدُ الْعُمُومَ فِيهِ مَا لَمْ يَرِدْ بَيَانُهُ ، فَقَدْ خَالَفْت قَوْلَهُ { وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ } عَلَى مَعْنَاهُ عِنْدَك ، وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يُوجِبُ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعُمُومَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ ، لِأَنَّ تَأْخِيرَ بَيَانِ جَمِيعِهِ يَجُوزُ عِنْدَك .
وَكُلَّمَا بُيِّنَ لَهُ شَيْءٌ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ بَيَانٌ آخَرُ وَالْبَيَانُ نَفْسُهُ قَدْ يَكُونُ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا أَيْضًا عَلَى بَيَانٍ آخَرَ ، وَهَذَا فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِهِ .
وَاحْتَجَّ أَيْضًا : بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وَثُمَّ لِلتَّرَاخِي فَيُقَالُ لَهُ : مَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْبَيَانِ وَالْقَوْلُ الْمُكَتَّفِي بِنَفْسِهِ فِي إفَادَةِ الْحُكْمِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلَى الْبَيَانِ .
فَمَا الدَّلَالَةُ فِي الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ ( كَوْنِهِ ) بَيَانًا حَتَّى يَجُوزَ تَأْخِيرُهُ .
وَأَيْضًا : مَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بَيَانَ جَمِيعِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْبَيَانُ أَيْضًا مُفْتَقِرًا إلَى بَيَانٍ .
وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَدَلَّ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ بَعْضِ الْقُرْآنِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ هُوَ الْمُجْمَلُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ فَسَقَطَ اسْتِدْلَالُهُ بِالْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الظَّاهِرِ.
وَأَيْضًا : فَإِذَا كَانَ مَعْلُومًا مَعَ وُرُودِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ بَعْضِ الْقُرْآنِ صَارَ تَقْدِيرُهَا ( ثُمَّ ) إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَ بَعْضِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى عَلَى مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَعْضِ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤَخِّرُ بَيَانَهُ .
وَقَالَ هَذَا الرَّجُلُ أَيْضًا : لَمَّا كَانَ ( تَأْخِيرُ ) بَيَانِ الْجُمْلَةِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْعُمُومِ وَلَا فَرْقَ

، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ .
وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ جَوَابًا وَلَا زِيَادَةً أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُقَالَ لَهُ : وَلِمَ قُلْت إنَّ هَذَا مِثْلُ بَيَانِ الْجُمْلَةِ ؟ .
ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ قِيلَ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يَدْرِ مَا الِاعْتِقَادُ وَفِي الْعُمُومِ يَدْرِي .
قَالَ : فَإِنَّهُمَا قَدْ اجْتَمَعَا فِي أَنَّ سَارِقًا يُقْطَعُ وَأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ يُقْطَعُ .
وَقَالَ ( وَ ) أَيْضًا فَإِذَا جَازَ أَنْ يُؤَخَّرَ بَيَانُ مَا لَا يُدْرَى مَا هُوَ كَانَ بَيَانُ مَا يُدْرَى أَوْلَى أَنْ يُؤَخَّرَ هُنَا .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَأَمَّا قَوْلُهُ قَدْ اجْتَمَعَا فِي الِاعْتِقَادِ ( فَهُمَا سَوَاءٌ ) فَإِنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْهَذَيَانِ ، لِأَنَّ الْجُمْلَةَ لَا يُمْكِنُنَا اعْتِقَادُ مَعْنَاهَا ، وَإِنَّمَا نَعْتَقِدُ بِوُرُودِهَا إنْ فَرَضْنَا مَا قَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ نُبَيِّنَ فِي الثَّانِي مَعْنَى اللَّفْظِ ، وَأَمَّا الْعُمُومُ فَعَلَيْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ ظَاهِرِهِ وَمُوجِبَ لَفْظِهِ ، فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ غَيْرَ مَا دَخَلَ تَحْتَ اللَّفْظِ فَحِينَ أَلْزَمَنَا الْقَوْلُ بِالْعُمُومِ فَقَدْ أَوْجَبَ عَلَيْنَا اعْتِقَادَهُ عَلَى خِلَافِ مَا أَرَادَهُ مِنَّا ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ :إذَا جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِ مَا لَا يُدْرَى مَا هُوَ فَفِيمَا يُدْرَى أَوْلَى فَلَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّ مَا لَا يُدْرَى لَا يَلْزَمُنَا فِيهِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ يُبَيَّنُ لَنَا فِي الثَّانِي خِلَافُهُ ، وَمَا يُدْرَى قَدْ أُلْزِمْنَا مِنْهُ اعْتِقَادَ ظَاهِرِهِ فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الْبَيَانِ بَعْدَهُ بِخِلَافِهِ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الِاسْتِثْنَاءُ عَنْ الْجُمْلَةِ لِأَنَّا لَا نَدْرِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ } فَتَأْخِيرُ بَيَانِ الِاسْتِثْنَاءِ أَوْلَى حَتَّى يَقُولَ بَعْدَ مُدَّةٍ { إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } كَمَا قُلْت فِي تَأْخِيرِ بَيَانِ الْعُمُومِ إذَا كَانَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ .

قَالَ هَذَا الْقَائِلُ : وَإِنَّمَا نَقُولُ فِي اعْتِقَادِ مِثْلِهِ أَنَّا نَعْتَقِدُهُ عَلَى الْعُمُومِ إنْ خَلَّيْنَا وَهُوَ ، فَلَيْسَ يَرْفَعُ الْبَيَانُ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَإِنَّمَا حَكَيْنَا أَلْفَاظَهُ عَلَى وَجْهِهَا وَإِنْ كَانَتْ مَلْحُونَةً عَنْهُ لِأَنَّا لَمْ نُحِبَّ تَغْيِيرَهَا وَأَرَدْنَا أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرَهَا .
فَيُقَالُ ( لَهُ ) : فِي هَذَا الْفَصْلِ مَا تَقُولُ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ إذَا صَدَرَ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْهُ قَبْلَ وُرُودِ الْبَيَانِ ، أَنَقْطَعُ فِيهِ بِأَنَّ مُرَادَهُ الْعُمُومُ أَوْ لَا نَقْطَعُ فِيهِ بِشَيْءٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ فِي الْحَالِ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : لَا أَعْتَقِدُ فِيهِ الْعُمُومَ إلَّا لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يُرِيدَ ( بِهِ ) الْخُصُوصَ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ .
قِيلَ لَهُ : فَإِنَّا كَلَّمْنَاك عَلَى أَنَّك تَقُولُ مَعَنَا بِالْعُمُومِ ، فَإِنْ صِرْت إلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِ الْوَقْفِ سَحَبْنَا عَلَيْك جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ إثْبَاتِ الْعُمُومِ عَلَى أَصْحَابِ الْوَقْفِ وَأَلْزَمْنَاك أَنْ تَقِفَ فِي الْبَيَانِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لَهُ بَيَانٌ آخَرُ لَمْ يَذْكُرْهُ وَيَذْكُرُهُ فِي الثَّانِي ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ بَيَانٍ يَرِدُ سَوَاءٌ كَانَ لَفْظًا أَوْ دَلَالَةً مِنْهُ ،لِأَنَّ دَلَالَةَ اللَّفْظِ لَيْسَتْ بِآكَدَ مِنْ ( اللَّفْظِ فَأَوْجَبَ الْوَقْفُ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ ) لِجَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِهِ فَدَلَالَتُهُ أَحْرَى أَنْ تَكُونَ كَذَلِكَ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ حُكْمِ اللَّفْظِ رَأْسًا .
فَإِنْ قَالَ : إنِّي لَا أَقُولُ بِالْوَقْفِ ، وَالْفَصْلُ بَيْنِي وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْوَقْفِ أَنِّي أَقُولُ إنِّي أَعْتَقِدُ الْعُمُومَ إنْ خُلِّيت وَإِيَّاهُ ، وَهَؤُلَاءِ يَقُولُونَ نَقِفُ فِيهِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعُمُومُ أَوْ الْخُصُوصُ .
قِيلَ لَهُ : لَا فَصْلَ بَيْنَكُمَا فِي الْمَعْنَى وَإِنَّمَا خَالَفْتهمْ فِي الْعِبَارَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّك مُعْتَرِفٌ أَنَّك

لَمْ تُخَلَّ وَالْعُمُومَ حِينَ وُرُودِهِ وَحُصُولِ الْفَرَاغِ مِنْهُ ، فَالْعُمُومُ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدُ لِأَنَّك عَلَّقْته بِشَرْطٍ لَمْ يَثْبُتْ وَهُوَ قَوْلُك إنْ خُلِّيت وَإِيَّاهُ وَأَنْتَ ( إذَا لَا ) تَدْرِي أَخُلِّيت وَإِيَّاهُ أَمْ لَا ، وَأَنْتَ وَاقِفٌ فِي الْعُمُومِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَك وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْوَقْفِ حِينَ قَالُوا نَعْتَقِدُ الْعُمُومَ إنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ وَالْخُصُوصَ إنْ كَانَ هُوَ الْمُرَادَ ، فَإِنْ قُلْت إنِّي قَدْ خُلِّيت وَالْعُمُومَ نَقَضْت مَا ابْتَدَأْت بِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَرَجَعْت عَنْهُ وَلَزِمَك جَمِيعُ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ هَذَا الْبَابِ .
وَيُقَالُ لَهُ : مَا الْفَصْلُ بَيْنَك وَبَيْنَ مَنْ اعْتَقَدَ فِي ذِكْرِ الْأَعْدَادِ مِثْلِ اعْتِقَادِك فِي الْعُمُومِ ، فَنَقُولُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } إنَّهُ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَقَدَ فِيهِ عِنْدَ وُرُودِهِ أَنَّهُمَا شَهْرَانِ إنْ خُلِّينَا وَإِيَّاهُمَا وَإِنْ ( لَمْ ) يُعْقِبْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَيَانِ اسْتِثْنَاءٍ يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَا دُونَهُمَا بِأَنْ نَقُولَ شَهْرَيْنِ إلَّا عَشَرَةَ أَيَّامٍ ، وَلَا نَعْتَقِدُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا } الْعَدَدُ الْمَذْكُورُ فِيهِ حَتَّى يُتَوَفَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَرِدَ بَعْدَهُ الِاسْتِثْنَاءُ ( فَيَقُولُ ): سَبْعِينَ إلَّا عَشَرَةً وَاثْنَيْ عَشَرَ إلَّا وَاحِدًا فَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْأَعْدَادِ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْهَا فَمَا الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعُمُومِ ،
وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُصَدَّقَ مَنْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَسَكَتَ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ شَهْرٍ أَرَدْت أَلْفًا إلَّا مِائَةً فَلَمَّا كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْ إطْلَاقِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَتَى حَصَلَ الْفَرَاغُ مِنْهَا

اعْتِقَادَ مَضْمُونِهَا غَيْرَ مُرْتَقِبٍ فِيهَا بَيَانًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهَا فِي خِطَابِ اللهِ تَعَالَى إيَّانَا .
وَاحْتَجَّ أَيْضًا : بِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْبَيَانُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِعْلِ كَمَا يُبَيِّنُ بِالْقَوْلِ وَزَمَانُ الْفِعْلِ أَطْوَلُ مِنْ زَمَانِ الْقَوْلِ فَقَدْ أَخَّرَ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ إمْكَانِهِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } .
وَ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } وَبَيَّنَ جِبْرِيلُ ( لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يُجِبْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( السَّائِلَ ) عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ ( حَتَّى صَلَّى الصَّلَوَاتِ ) ثُمَّ قَالَ { أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ مَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ ؟ الْوَقْتُ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ ( فِي شَيْءٍ ) مِمَّا ذُكِرَ دَلَالَةٌ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَذَلِكَ لِأَنَّ فَرْضَ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَعَلَّقَ بِمَعْهُودٍ مَعْلُومٍ عِنْدَهُمْ فَانْصَرَفَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيَانٍ ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي } وَ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } تَأْكِيدًا وَتَقْرِيرًا لِمَا قَدْ عَلِمُوهُ ، فَلَمْ يَقَعْ بِهَذَا بَيَانٌ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ائْتَمُّوا بِي وَلْيَأْتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ } وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِمَعْنًى قَدْ عَرَفُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ بِبَيَانٍ .
وَكَذَلِكَ مَوَاقِيتُ الصَّلَاةِ أَوْ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ حِينَ وَرَدَ كَانَ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ ، فَأَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَانَهُمَا وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ

فَإِذًا لَا دَلَالَةَ فِيمَا ذُكِرَ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ بَيْنَنَا .
( وَقَالَ أَيْضًا ) : إنَّ النَّسْخَ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِالصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّا نُصَلِّي إلَيْهَا مَا بَقِينَا وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ ، فَنَعْتَقِدُ أَنْ لَا يَزَالَ يُصَلَّى إلَيْهَا إنْ بَقِينَا وَالْأَمْرُ الْأَوَّلُ فَيُقَالُ لَهُ لَيْسَ هَذَا مِنْ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ فِي شَيْءٍ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ ثُبُوتِ الْحُكْمِ بَعْدَ وُرُودِهِ .
وَهَذَا الَّذِي قَدْ اعْتَقَدْنَا ثُبُوتَهُ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ وَلَا تَبَيَّنَ لَنَا خِلَافُهُ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُجَوِّزُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانٌ آخَرُ وَقْتُهُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ ، فَيَلْزَمُنَا اعْتِقَادُ عُمُومِهِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ وُرُودُ النَّسْخِ رَافِعًا لِلِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَا اعْتَقَدْنَا ثُبُوتَهُ لَمْ يَرْتَفِعْ بِوُرُودِ النَّسْخِ ( وَأَمَّا وُرُودُ نَسْخِهِ فَقَدْ ) كُنَّا نُجَوِّزُهُ مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ ، وَأَنْتَ فَلَا يُمْكِنُك أَنْ تَقُولَ مِثْلَهُ فِي بَيَانِ الْخُصُوصِ إلَّا بِتَرْكِ اعْتِقَادِ الْعُمُومِ فِي حَالِ وُرُودِ اللَّفْظِ فَيُجْعَلُ نَفْسُ الْحُكْمِ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَرِدُ مِنْ بَيَانِهِ .
وَأَيْضًا : فَلَوْ وَرَدَ الْحُكْمُ النَّاسِخُ مَعَ الْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَنَافَيَا ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : صَلِّ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى وَقْتِ كَذَا ، ثُمَّ صَلِّ إلَى الْكَعْبَةِ ، كَمَا تَقُولُ صَلِّ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَلَا تُصَلِّ عِنْدَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ .
وَاعْتِقَادُ الْعُمُومِ لَا يَصِحُّ مَعَهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ لَوْ جَمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَعْتَقِدُ قَطَعَ جَمِيعِ السُّرَّاقِ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَضُمَّ إلَيْهِ وَقْفٌ فِي السُّرَّاقِ لَا يُحْكَمُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ حَتَّى يَرِدَ الْبَيَانُ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الثَّانِيَ يُنَافِي الْأَوَّلَ .
فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ وُرُودُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُرِيدَهُ بِهِ ، وَلَمَّا صَحَّ جَمْعٌ ( ذَكَرَ ) الْحُكْمَ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ فِي خِطَابِ وَاحِدٍ صَحَّ أَنْ يُرِيدَهُ .

وَأَيْضًا : فَإِنَّ مُدَّةَ الْفَرْضِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مَذْكُورَةً وَكَانَ تَجْوِيزُ بَيَانِهَا بِالنَّسْخِ فَإِنَّمَا صَارَ النَّسْخُ فِي ( مَعْنَى ) بَيَانِ الْمُجْمَلِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَعْلُولِ الْمَعْنَى فَجَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : أَلَيْسَ كُلُّ حُكْمٍ وَرَدَ مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ فَأَنْتَ تُجَوِّزُ نَسْخَهُ مَا بَقِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِذَا قَالَ : نَعَمْ ، قِيلَ لَهُ : فَنَقُولُ فِي كُلِّ عُمُومٍ يَرِدُ مِمَّا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَلَا يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ الْعُمُومَ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْخُصُوصُ .
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ .
قِيلَ : فَقَدْ تَرَكْت الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ ، وَيَلْزَمُك أَنْ لَا تَثِقَ بِالْبَيَانِ أَنَّهُ عَلَى مَا وَرَدَ مِنْ مُقْتَضَى لَفْظِهِ وَأَنْ يَجُوزَ فِيهِ وُرُودُ بَيَانِ خُصُوصِهِ أَوْ تَعْلِيقِهِ عَلَى شَرْطٍ أَوْ حَالٍ أُخْرَى ، أَوْ اسْتِثْنَاءٍ ، وَيُسْحَبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ مَا يَلْزَمُ مَنْ يَنْفِي الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ فِي إخْلَاءِ اللَّفْظِ مِنْ الْفَائِدَةِ .
وَاحْتَجَّ أَيْضًا : بِقِصَّةِ مُوسَى وَالْخَضِرِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ وَجْهُ مَا فَعَلَهُ مِنْ خَرْقِ السَّفِينَةِ وَقَتْلِ الْغُلَامِ وَإِقَامَةِ الْجِدَارِ فِي وَقْتِ الْفِعْلِ وَأَخَّرَهُ إلَى ثَانٍ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ فِي شَيْءٍ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ فِي جَمِيعِ مَا فَعَلَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَنَا وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ فِيمَا يَفْعَلُهُ مِنْ الْآلَامِ وَالْأَمْرَاضِ وَالْمَوْتِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يَفْعَل مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَا هُوَ صَلَاحٌ وَحِكْمَةٌ .

فَأَمَّا أَنْ يُعَرِّفَنَا كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ فَيَقُولُ إنَّ هَذَا وَجْهُ الْحِكْمَةِ وَالْمَصْلَحَةِ فِيهِ كَذَا وَهَذَا وَجْهُهُ كَذَا فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ وَاجِبٍ .
وَقَدْ كَانَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يُبَيِّنَ أَوْ لَا يُبَيِّنَ ، إذْ لَمْ يَكُنْ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَهُ بِالْبَيَانِ فَلَمْ يُؤَخِّرْ بَيَانَ شَيْءٍ لَزِمَهُ بَيَانُهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ( قَدْ ) كَانَ عَالِمًا بِأَنَّ الْخَضِرَ لَمْ يَفْعَلْ إلَّا مَا هُوَ صَوَابٌ وَحِكْمَةٌ فِي الْجُمْلَةِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَ الْمَصْلَحَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ ( مِنْهُ ) بِعَيْنِهِ فَكَانَ وَجْهُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُجْمَلِ الْمَوْقُوفِ الْحُكْمُ عَلَى الْبَيَانِ فَجَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ كَمَا نَقُولُ فِي تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ .
( وَقَالَ أَيْضًا : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ قَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ } وَقَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ فِيهَا لُوطًا } فَبَيَّنُوا حِينَئِذٍ وَقَالُوا { لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ } فَخَاطَبُوهُ بِخِطَابٍ اقْتَضَى الْعُمُومَ وَلَمْ يُبَيِّنُوهُ فِي الْحَالِ حَتَّى سَأَلَ ) .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ كَانَتْ تَقَدَّمَتْ مِنْ اللهِ تَعَالَى لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ لُوطًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ خَارِجُونَ مِنْ الْخِطَابِ فَصَارُوا مُسْتَثْنِينَ بِالدَّلَالَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُخَاطِبِ اسْتِثْنَاؤُهُمْ وَإِخْرَاجُهُمْ مِنْ الْجُمْلَةِ بِالْبَيَانِ فَقَدْ كَانَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَالِمًا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُهْلِكُ لُوطًا وَالْمُؤْمِنِينَ مَعَهُ وَعَلِمَتْ الْمَلَائِكَةُ ( أَيْضًا ذَلِكَ ) مِنْ عِلْمِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ خِطَابِهِمْ .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ عَلِمَ أَنَّ لُوطًا مُسْتَثْنًى مِنْ خِطَابِهِمْ لَمَا قَالَ

لَهُمْ : إنَّ فِيهَا لُوطًا ، هَذَا يَدُلُّ أَنَّهُ كَانَ اعْتَقَدَ مِنْ خِطَابِهِمْ الْعُمُومَ ، وَجَائِزٌ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يُمِيتَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ قَوْمِهِمْ ( مِنْ غَيْرِ ) أَنْ يَكُونَ لَهُمْ عُقُوبَةٌ وَإِنْ كَانَ عُقُوبَةً لِقَوْمِهِمْ .
قِيلَ لَهُ : وَمَا فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ فِيهَا لُوطًا مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ مِنْ خِطَابِهِمْ اسْتِثْنَاءَ لُوطٍ مِنْ الْجُمْلَةِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ اعْتَقَدَ اسْتِثْنَاءَ لُوطٍ مِنْهُمْ وَقَالَ إنَّ فِيهَا لُوطًا عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ عَنْ كَيْفِيَّةِ خَلَاصِهِ ( بِأَنْ يَتْرُكَهُ ) اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقَرْيَةِ وَيُهْلِكَ أَهْلَهَا سِوَاهُ وَسِوَى مَنْ آمَنَ بِهِ ، أَوْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا ثُمَّ يُهْلِكَ الْقَرْيَةَ بِمَا فِيهَا فَأَخْبَرَتْهُ الْمَلَائِكَةُ حِينَئِذٍ بِجِهَةِ خَلَاصِهِ ، أَوْ لَمْ تُبَيِّنْهُ لَهُ إذْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ بَيَانُهُ ، كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فَلَمْ يَثْبُتْ لِهَذَا الْقَائِلِ وَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ .
وَذَكَرَ أَيْضًا : قِصَّةَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ وَأَهْلَهُ ، ثُمَّ بَيَّنَ فِي الثَّانِي اسْتِثْنَاءَ ابْنِهِ مِنْ الْمُنَجِّيِينَ فَقَالَ لَهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ كَانَ أَخْبَرَهُ { أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ } وَكَانَ ابْنُهُ كَافِرًا فَعَلِمَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ الِابْنَ مُسْتَثْنًى مِنْ الْمُنَجِّيِينَ إنْ بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ .
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْمِنَ ابْنُهُ قَبْلَ الْغَرَقِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا قَالَ لَهُ { إنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِك إلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ } وَظَاهِرٌ هَذَا أَلَّا يَتَنَاوَلَ أَهْلَهُ فَقَالَ { رَبِّ إنَّ ابْنِي مِنْ

أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَك الْحَقُّ } فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُعَرِّفَهُ حَالَ ابْنِهِ بَعْدَ الْغَرَقِ هَلْ كَانَ نَزْعٌ عَنْ كُفْرِهِ بَعْدَ فِرَاقِهِ إيَّاهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَمَنَعَ أَنْ يَشْفَعَ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ إنِّي أَعِظُك أَنْ تَكُونَ مِنْ الْجَاهِلِينَ } .
وَذَكَرَ أَيْضًا : قِصَّةَ بَقَرَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ وَأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ بَقَرَةٍ ، وَبَيَّنَ فِي الثَّانِي أَنَّهَا عَلَى صِفَةٍ فَدَلَّ أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ عُمُومٍ وَأَرَادَ خُصُوصَ بَقَرَةٍ بِعَيْنِهَا فِي الثَّانِي .
فَيُقَالُ لَهُ : إنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ كَانَ ذَبْحَ بَقَرَةٍ أَيِّ بَقَرَةٍ كَانَتْ فَلَمَّا تَعَنَّتُوا شَدَّدَ عَلَيْهِمْ بِزِيَادَةِ الصِّفَةِ .
وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ لِأَنَّهُ وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِيهِ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ أَنَّهُمْ سَيَفْعَلُونَ هَذَا وَيَتَعَنَّتُونَ .
قِيلَ لَهُ : عِلْمُ اللهِ تَعَالَى بِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ أَوْ لَا يَفْعَلُونَ لَا يَمْنَعُ ( مِنْ ) جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ قَبْلَ وُقُوعِهِ .
وَذَكَرَ أَيْضًا : قَوْله تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى } وَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي ( عَبْدِ ) الْمُطَّلِبِ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَعْطَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يَذْكُرْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ بِشَيْءٍ فَلَمَّا سَأَلَهُ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ ( لَمْ ) يُرَادُوا بِالْقَرَابَةِ ، وَقَدْ كَانَ اللَّفْظُ يَشْمَلُهُمْ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ حَتَّى سُئِلَ فَدَلَّ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ .

فَيُقَالُ ( لَهُ : إنَّ ) هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلِذِي الْقُرْبَى لَفْظٌ مُجْمَلٌ مُفْتَقِرٌ إلَى الْبَيَانِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ قَرَابَةَ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا يَتَنَاوَلُ قَرَابَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْبَيَانِ ، وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ .
وَذَكَرَ ( أَيْضًا ) قَوْله تَعَالَى { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } فَقَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى قَدْ عُبِدَتْ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَسِيحُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } فَأَطْلَقَ اللَّفْظَ وَلَمْ يُعْقِبْهُ بِبَيَانٍ حَتَّى قَالَ ابْنُ الزِّبَعْرَى مَاقَالَ .
فَيُقَالُ ( لَهُ ) : هَذَا جَهْلٌ بِمَوْضُوعِ اللَّفْظِ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْعُقَلَاءُ ( لِأَنَّ مَا لِغَيْرِ الْعُقَلَاءِ ) وَمَنْ لِلْعُقَلَاءِ ، وَقَدْ كَانَ ابْنُ الزِّبَعْرَى عَلِمَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا اعْتَرَضَ بِمَا ذَكَرَ مُتَعَنِّتًا فِي غَيْرِ مَوْضِعِ اعْتِرَاضٍ كَمَا كَانُوا يُكَابِرُونَ فِي تَسْمِيَتِهِمْ ( إيَّاهُ ) مَرَّةً سَاحِرًا وَمَرَّةً مَجْنُونًا وَيُنَاقِضُونَ فِيهِ أَفْحَشَ مُنَاقَضَةٍ وَلَا يُبَالُونَ ، لِأَنَّ السَّاحِرَ هُوَ الَّذِي يَبْلُغُ ( بِدِقَّةِ تَدْبِيرِهِ وَلُطْفِ حِيلَتِهِ ) مَا لَا يَبْلُغُهُ غَيْرُهُ ، وَالْمَجْنُونُ هُوَ الَّذِي يَخْبِطُ وَيَتَعَسَّفُ فِي أَفْعَالٍ لَا يُجْرِيهَا عَلَى نِظَامٍ وَلَا تَرْتِيبٍ فَمَنْ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةَ وَيُبَاهِتُ هَذَا الْبُهُتَ إذْ لَمْ يَجِدْ سَبِيلًا إلَى الطَّعْنِ فِي دَلَائِلِ

وَأَعْلَامِ نُبُوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَسَدًا وَبَغْيًا لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُبَاهَتَ فِي الِاعْتِرَاضِ بِذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى الْآيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَضَمَّنْ لَفْظُ الْآيَةِ دُخُولَهُمْ فِيهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ وَجْهُ اعْتِرَاضِهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَامَ إنْ كَانَتْ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنَّهُ يَجِبُ مِثْلُهُ فِي ( الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ ) وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَقُلْ إنَّهَا فِي النَّارِ مَعَ عَبَدَتِهَا لِأَنَّهَا عُبِدَتْ مِنْ دُونِ اللهِ ، ثُمَّ أَبَانَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ جَهْلِ هَذَا الْقَائِلِ وَبُهْتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْ غَيْرَ الْأَصْنَامِ أَنَّهُ خَاطَبَ بِهَا قُرَيْشًا وَكَانُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ وَلَمْ يَكُونُوا يَعْبُدُونَ ( الْمَسِيحَ وَلَا الْمَلَائِكَةَ ) .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ لَمْ تَتَضَمَّنْ الْآيَةُ دُخُولَ هَؤُلَاءِ فِيهِ لَبَيَّنَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَجَابَ
مَنْ اعْتَرَضَ بِذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ .
قِيلَ لَهُ : فَكَأَنَّك تُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَقَدَ دُخُولَ الْمَلَائِكَةِ وَالْمَسِيحِ فِي حُكْمِهَا وَأَنَّهُمْ فِي النَّارِ لِأَنَّهُمْ عُبِدُوا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْسَلَخَ مِنْ الْمِلَّةِ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ ( وَ ) كُلُّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ مُعْتَقِدَهُ كَافِرٌ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أَنَّهُمْ لَمْ يُرَادُوا بِالْآيَةِ .
قِيلَ لَهُ : أَفَلَيْسَ قَدْ جَازَ أَنْ لَا يُجِيبَهُمْ إلَّا بَعْدَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ غَيْرُ دَاخِلِينَ فِيهَا فَمَا أَنْكَرْت مِنْ قَوْلِنَا حِينَ قُلْنَا إنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالْمَسِيحَ لَمْ يَدْخُلُوا قَطُّ فِي الْآيَةِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِظُهُورِ فَسَادِ اعْتِرَاضِهِمْ وَلِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَهُ { إنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ } لَوْ

تَنَاوَلَ الْعُقَلَاءَ وَغَيْرَهُمْ ، لَكَانَ مُرَتَّبًا عَلَى مَا قَرَّرَ فِي الْعُقُولِ وَأَنْزَلَ بِهِ الْكُتُبَ فِي أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَنْبِيَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ فَلَمْ يَرِدْ اللَّفْظُ مُقْتَرِنًا بِدَلَالَةِ التَّخْصِيصِ فَأَيُّ بَيَانٍ تَأَخَّرَ .
وقَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى } تَأْكِيدٌ لِمَا قَدْ ثَبَتَ قَبْلَ ذَلِكَ وَتَقْرِيرٌ لَهُ ( كَمَا ) ذُكِرَ ( فِي صِحَّةِ ) التَّوْحِيدِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ ( تَعَالَى ) فِي الْكِتَابِ بَعْدَ تَقْدِيمِ الدَّلَائِلِ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ الْبَيَانِ قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } فَأَخَّرَ بَيَانَ الصَّلَاةِ عَلَى حَالِ الْأَمْرِ بِذِكْرِ الزَّكَاةِ ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْبَيَانُ هَذَا الْقَدْرَ جَازَ أَنْ يَتَأَخَّرَ
أَوْقَاتًا كَثِيرَةً .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى : { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } مِنْ أَنْ يَكُونَ تَنَاوَلَ صَلَاةً مَعْهُودَةً قَدْ عَرَفُوهَا فَلَمْ تَكُنْ مُفْتَقِرَةً إلَى الْبَيَانِ فَقَوْلُك أَخَّرَ بَيَانَهَا سَاقِطٌ أَوْ أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا عِنْدَ هُمْ عِنْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَنَحْنُ نُجَوِّزُ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ حُكْمَ الْكَلَامِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ تَأَخُّرُهُ وَحُصُولُ الْفَرَاغِ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَهُ بِاسْتِثْنَاءٍ أَوْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ تَعَلَّقَ الْجَمِيعُ بِهِ ، فَلَوْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْعُمُومِ وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يُؤَخِّرَ بَيَانَهُ بِمِقْدَارِ الْفَرَاغِ مِنْ الْكَلَامِ ، لِأَنَّ السَّامِعَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِ شَيْئًا إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : جَمِيعُ مَا أَلْزَمْته الْقَائِلِينَ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ فِيهِ إلَى وُرُودِ الْبَيَانِ يَنْفِي وُجُوبَ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ وَتَرْكَ الْوَقْفِ وَالْقَوْلَ بِاعْتِقَادِ عُمُومِهِ ( وَ ) يُؤَدِّي إلَى تَجْوِيزِ اعْتِقَادِ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي دَلَائِلِ التَّخْصِيصِ مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ ، لِأَنَّك لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَعْتَقِدَ الْعُمُومَ بِنَفْسِ وُرُودِهِ أَوْ تَقِفَ فِيهِ حَتَّى يَسْتَبِينَ حُكْمُ

اللَّفْظِ فِي عُمُومِهِ أَوْ خُصُوصِهِ ، فَإِنْ اعْتَقَدْت الْعُمُومَ لَمْ تَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يُوجِبُ خُصُوصَهُ فَتَكُونُ قَدْ اعْتَقَدْت الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ .
وَإِنْ وَقَفْت فِيهِ قُلْنَا : أَنْ تَقُولَ مِثْلَهُ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ الْعَامِّ أَنَّهُ عَلَى الْعَامِّ إنْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ فَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ الَّذِي يَرِدُ فِي الثَّانِي ، وَلَا يَقْدَحُ ( ذَلِكَ ) فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ كَمَا أَنَّ وُقُوفَك فِي عُمُومِ اللَّفْظِ إلَى أَنْ تَسْتَبْرِئَ حَالَ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِتَخْصِيصِهِ ، يُعْتَرَضُ عَلَيْك فِي الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ .
قِيلَ لَهُ : الْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يُخَاطِبُ أَحَدًا بِلَفْظِ الْعُمُومِ وَمُرَادُهُ الْخُصُوصُ إلَّا مَعَ إيرَادِ دَلَائِلِ التَّخْصِيصِ عَلَيْهِ حَتَّى يُعْقَلَ الْخُصُوصُ مَعَ وُرُودِ اللَّفْظِ كَمَا يُعْقَلُ الِاسْتِثْنَاءُ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَيْسَ يَخْلُو السَّامِعُ لِذَلِكَ إذَا كَانَ مُخَاطَبًا بِحُكْمِ اللَّفْظِ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ .
وَمَنْ يَلْزَمُهُ قَبُولُ قَوْلِهِ فَلَا يُورَدُ عَلَيْهِ الْخِطَابُ إذَا كَانَ مُكَلَّفًا لِاعْتِقَادِ حُكْمِهِ عَارِيًّا مِنْ دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ إلَّا وَقَدْ أَرَادَ مِنْهُ إمْضَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ فَيَجِبُ عَلَى السَّامِعِ إذَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ اعْتِقَادُ حُكْمِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ ( وَالْقَطْعُ ) بِأَنْ لَا دَلِيلَ هُنَاكَ يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ .
وَكَذَلِكَ الْعَامِّيُّ وَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأُصُولِ الْحُكْمِ وَطُرُقِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنَّهُ مَتَى سَأَلَ مَنْ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُهُ عَنْ ( حُكْمِ ) حَادِثَةٍ فَأَجَابَهُ فِيهَا بِجَوَابٍ مُعَلَّقٍ مِنْ آيَةٍ أَوْ خَبَرٍ فَعَلَيْهِ اعْتِقَادُ عُمُومُهُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَاصًّا لَبَيَّنَهُ لَهُ ، فَإِنْ سَمِعَ ( خَبَرًا أَوْ آيَةً ) عَلَى غَيْرِ

هَذَا الْوَجْهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيهِمَا شَيْئًا لِأَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِحُكْمِهِمَا فَهُوَ فِي مَعْنَى مَنْ ( لَمْ ) يَسْمَعْهُمَا .
وَإِنْ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأُصُولِ الْأَحْكَامِ وَالنَّظَرِ فِيهَا فَتَلَا آيَةً مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ سَمِعَ خَبَرًا عَنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لَيْسَ ( يَصِيرُ ) مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَالْعِلْمِ بِأُصُولِ الْأَحْكَامِ إلَّا وَقَدْ عَرَفَ مِثْلَ ذَلِكَ مَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْعُمُومِ مِنْ تَخْصِيصٍ أَوْ نَسْخٍ أَوْ صَرْفِهِ ( عَنْ حَقِيقَتِهِ ) إلَى الْمَجَازِ ، فَتَكُونُ حِينَئِذٍ دَلَائِلُ الْأُصُولِ مُقَارِنَةً لِلْعُمُومِ فِي إيجَابِ تَخْصِيصِهِ إنْ كَانَ الْمُرَادُ الْخُصُوصَ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحَقِيقَةِ خَاصًّا وَلَمْ يُبَيِّنْ هُوَ خُصُوصَهُ لِعُمُومِ دَلَالَتِهِ وَخَفَائِهَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا أُتِيَ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ فِي ذَهَابِهِ عَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ ، فَإِنْ اعْتَقَدَ فِيهِ الْعُمُومَ فَإِنَّمَا قَصَّرَ فِي اجْتِهَادِهِ وَأَخْطَأَ فِي اعْتِقَادِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْمُرْهُ بِاعْتِقَادِ الْخَطَأِ .
وَإِنَّمَا أَلْزَمَنَا نَحْنُ الْقَائِلِينَ بِتَأْخِيرِ الْبَيَانِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِاعْتِقَادِ عُمُومِ لَفْظٍ مُرَادُهُ فِيهِ الْخُصُوصُ فَيَكُونُ أَمْرًا لَهُ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ.
وَلَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُجِيبُوا عَنْ ذَلِكَ بِمِثْلِ جَوَابِنَا عَنْ سُؤَالِهِمْ لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يُبَيِّنْ بَعْدُ شَيْئًا ، وَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ ( وَلَا يُمْكِنُهُمْ ) الْوُصُولُ مَعَهُ عَلَى عِلْمِ الْخُصُوصِ .
فَإِنَّمَا أَتَوْا فِي اعْتِقَادِ عُمُومِ مَعْنَاهُ ( الْخُصُوصَ ) مِنْ قِبَلِ اللهِ تَعَالَى لَا مِنْ قِبَلِ تَقْصِيرِهِمْ وَذَهَابِهِمْ عَنْ وَجْهِ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ وَهَذَا هُوَ الْمُنْكَرُ عِنْدَنَا .
وَلَمْ نُنْكِرْ أَنْ يُخْطِئَ الْإِنْسَانُ فَيَعْتَقِدَ الْعُمُومَ فِيمَا ( قَدْ ) بُيِّنَ خُصُوصُهُ فَيُخْطِئَ دَلَالَةَ الْخُصُوصِ وَيَعْتَقِدَ الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ عَلَى اللهِ تَعَالَى أَنْ يُوقِفَ عَلَى

خَطَأِ ( قَوْلِ ) كُلِّ قَائِلٍ بِنَصٍّ يُزِيلُ مَعَهُ الْإِشْكَالَ عَنْهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَخْطَأَهَا مُخْطِئٌ لَمْ ( يُؤَثِّرْ ) ذَلِكَ فِي وُقُوعِ الْبَيَانِ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ .
أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَأَلَهُ عَنْ الْكَلَالَةِ يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ } فَلَمْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى الْحُكْمِ عِنْدَ إشْكَالِهِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَدْ بَيَّنَهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَوَكَلَهُ إلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ بَيَانِهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : فَإِذَا لَمْ تَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ مَا سَمِعَهُ مِنْ الْآيَةِ أَوْ الْخَبَرِ مَنْسُوخًا بِغَيْرِهِ ، وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ النَّظَرَ فِي الْأُصُولِ هَلْ فِيهَا مَا يَنْسَخُهَا ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَقِفَ فِي حُكْمٍ قَدْ تَيَقَّنَّا ثُبُوتَهُ بِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا ، بَلْ وَاجِبٌ عَلَيْنَا الثَّبَاتُ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ نَسْخُهُ ، فَكَذَلِكَ عَلَيْنَا اعْتِبَارُ حُكْمِ اللَّفْظِ وَاعْتِقَادُ عُمُومِهِ ، وَلَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ غَيْرَ ظَاهِرِهِ فَلَا يُبَيِّنُهُ ، كَمَا أَنَّ عَلَيْنَا الثَّبَاتَ عَلَى حُكْمٍ قَدْ عَلِمْنَا ثُبُوتَهُ يَقِينًا وَلَا يَجُوزُ الْوُقُوفُ فِيهِ لِأَجْلِ جَوَازِ نَسْخِهِ لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَبَيَّنَهُ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَنْ وَقَفَ فِي حُكْمِ اللَّفْظِ لِلنَّظَرِ فِي الْأُصُولِ هَلْ فِيهَا مَا يَخُصُّهُ فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَجِدْ فِيهَا ( دَلَالَةُ التَّخْصِيصِ حَكَمَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ فِي حَالِ وُرُودِهِ ، وَإِنْ وَجَدَ فِيهَا ) مَا يَخُصُّهُ تَبَيَّنَ بِهِ اقْتِرَانُ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ إلَى اللَّفْظِ كَالِاسْتِثْنَاءِ فَإِنَّمَا وَقَفَ ( طَلَبًا لِبَيَانٍ ) قَدْ حَصَلَ ( إنْ كَانَ خَاصًّا ) .
وَأَنْتَ تَقِفُ لِرَدِّ الْبَيَانِ فِي الثَّانِي وَلَا تَطْلُبُ بِوُقُوفِك بَيَانًا قَدْ حَصَلَ كُنْت بِذَلِكَ تَارِكًا لِلْقَوْلِ بِالْعُمُومِ عَلَى الْحَقِيقَةِ

( فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ ) لَيْسَ جَائِزًا أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ تَعَالَى ( حُكْمًا ) فَيَتَعَلَّقَ حُكْمُهُ عَلَى مَنْ سَمِعَهُ وَلَا يَتَعَلَّقُ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ كَمَا رُوِيَ { أَنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ قَدْ حُوِّلَتْ فَاسْتَدَارُوا إلَى الْكَعْبَةِ } فَقَدْ صَلَّوْا بَعْضَ صَلَاتِهِمْ بَعْدَ نَسْخِ التَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَمْ يُؤْمَرُوا بِاسْتِئْنَافِهَا لِأَنَّ حُكْمَ النَّسْخِ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَلَيْهِمْ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ ، فَكَذَلِكَ مَا أُنْكِرَ أَنْ يَجُوزَ اعْتِقَادُ الْعُمُومِ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ وَيَتَأَخَّرَ بَيَانُهُ فَيَكُونُ السَّامِعُ مُتَعَبِّدًا بِاعْتِقَادِ الْعُمُومِ ، فَإِذَا وَرَدَ الْبَيَانُ تَبَيَّنَ خُصُوصُ اللَّفْظِ فَصَارَ إلَيْهِ وَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي اعْتِقَادِهِ بَدْءًا كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّسْخُ فَهُوَ مُتَعَبِّدٌ بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ فَإِذَا بَلَغَهُ عِلْمُ أَنَّهُ كَانَ مَنْسُوخًا قَبْلَ ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَنْ بَلَغَهُ النَّسْخُ بَعْدَ زَمَانٍ فَقَدْ كَانَ مُتَعَبِّدًا بِالْفَرْضِ الْأَوَّلِ وَقْتَ بُلُوغِهِ إيَّاهُ وَلَمْ يُنْسَخْ عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْسُوخًا عَنْ غَيْرِهِ فَمَنْ بَلَغَهُ قَبْلَهُ فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ اعْتِقَادُ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ ، وَمُخَالِفُنَا فِي تَأْخِيرِ الْبَيَانِ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ عُمُومٍ ، مَعْنَاهُ الْخُصُوصُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بِعَيْنِهَا .
وَهَذَا مُسْتَنْكَرٌ لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِنَّمَا نَظِيرُ النَّسْخِ مِنْ هَذَا أَنْ يَعْتَقِدَ الْعُمُومَ ثُمَّ يَخُصُّهُ بَعْدَ ثُبُوتِ حُكْمِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَسْخًا لِبَعْضِ حُكْمِ اللَّفْظِ ، وَهَذَا لَا نَأْبَاهُ وَلَا نَكْرَهُهُ .

فَصْلٌ
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ الَّذِي لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِ حُكْمِهِ إلَّا بِبَيَانٍ فَإِنَّمَا جَازَ تَأْخِيرُ بَيَانِهِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَرَادَ مِنَّا اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ إذَا ( كَانَ ) بَيَّنَ حُكْمَهُ وَلَا يَمْتَنِعُ تَكْلِيفُ ذَلِكَ ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَنَا فِي تَقْدِمَةِ ذَلِكَ إلَيْنَا وَتَكْلِيفِنَا تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِهِ عِنْدَ بَيَانِهِ كَمَا كُلِّفْنَا سَائِرَ الْعِبَادَاتِ وَكَمَا كُلِّفْنَا اعْتِقَادَ ( أَدَاءِ ) الصَّلَاةِ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِهَا ، وَفِعْلَ صَوْمِ رَمَضَانَ إذَا حَضَرَ الشَّهْرُ ، كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَدِّمَ إلَيْنَا جُمْلَةً يَلْزَمُنَا بِهَا تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِهِ إذَا وَرَدَ بَيَانُهُ ، فَالْأَمْرُ الْمُجْمَلُ قَدْ تَضَمَّنَ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : لُزُومُ تَوْطِينِ النَّفْسِ فِي الْحَالِ عَلَى فِعْلِهِ إذَا وَرَدَ بَيَانُهُ ، وَتَرَقُّبِ مَجِيءِ وَقْتِهِ .
وَالثَّانِي : ( أَنَّهُ ) مَتَى بُيِّنَ كَانَ وُجُوبُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْجُمْلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَلَيْسَ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ كَتَأْخِيرِ بَيَانِ الْعُمُومِ إذَا كَانَ مُرَادُهُ الْخُصُوصَ ، لِأَنَّ وُرُودَ لَفْظِ الْعُمُومِ يُلْزِمُنَا شَيْئَيْنِ :

أَحَدُهُمَا : اعْتِقَادُ حُكْمِهِ عَلَى مَا انْتَظَمَهُ لَفْظُهُ .
وَالْآخَرُ : لُزُومُ فِعْلِهِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ ، وَلُزُومُ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ مَانِعٌ مِنْ تَأْخِيرِ بَيَانِ خُصُوصِهِ ، لِأَنَّهُ يُوجِبُ اعْتِقَادَ الْعُمُومِ فِيمَا مُرَادُهُ الْخُصُوصُ ، وَيُوجِبُ أَيْضًا اعْتِقَادَ لُزُومِهِ عَلَى الْفَوْرِ .
وَالْمُرَادُ تَأْخِيرُهُ إلَى وَقْتِ الْبَيَانِ وَكِلَا الْوَجْهَيْنِ مَنْفِيٌّ عَنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْمُجْمَلُ لَا يَلْزَمُنَا فِيهِ اعْتِقَادُ عُمُومٍ وَلَا خُصُوصٍ وَ ( لَا ) يَلْزَمُ بِهِ الْفِعْلُ عَلَى الْفَوْرِ ، بَلْ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ ، وَأَكْثَرُ مَا يَلْزَمُنَا فِيهِ عِنْدَ وُرُودِهِ إعْلَامُ حُكْمٍ يُبَيِّنُهُ لَنَا فِي الثَّانِي وَيَلْزَمُنَا ( بِبَيَانِهِ فِعْلُهُ ) وَقَبْلَ بَيَانِهِ تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلُهُ عَلَيْهَا ، وَيُنَبِّهُنَا عَلَى الْفِكْرِ فِيمَا حَتَّمَ فِعْلُهُ مِنْ الثَّوَابِ وَبِتَرْكِهِ مِنْ الْعِقَابِ فَيَصِيرُ حَتْمًا عَلَى الْمُتَمَسِّكِ بِمَا هُوَ مُفْتَرَضٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ يُسَهِّلُ فِعْلَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مُرُوا صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ } .وَقَالَ تَعَالَى { قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا } .
رُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ أَدِّبُوهُمْ وَعَلِّمُوهُمْ وَمَعْلُومٌ ( أَنَّهُ لَيْسَ ) عَلَيْهِمْ فَرْضٌ فِي الْحَالِ ، وَأَمَّا أَمْرُنَا بِذَلِكَ ( فِيهِمْ ) لِيَتَمَرَّنُوا عَلَيْهَا وَيَعْتَادُوهَا قَبْلَ الْبُلُوغِ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهَا إذَا

بَلَغُوا وَقَدْ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ حَثًّا لَهُ عَلَى التَّمَسُّكِ بِالصَّبْرِ وَتَسْهِيلًا لِلْمِحْنَةِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْك مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَك } وَقَصَّ ( عَلَيْنَا ) أَخْبَارَ الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لِنَتَّعِظَ بِهَا وَنَنْتَهِيَ عَنْ مِثْلِ الْأَفْعَالِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ بِهَا فَلَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ لَنَا بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْ اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا وَالِاتِّعَاظِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُجْمَلُ إذَا كَانَ فِيهِ ضَرْبٌ مِنْ التَّكْلِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ فِي الْحَالِ يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِبَيَانٍ يَصْحَبُهُ ثُمَّ يُبَيِّنُهُ لَنَا إذَا أَرَادَ إلْزَامَ الْفِعْلِ ( بِهِ ) ، وَهَذَا يُسْقِطُ جَمِيعَ مَا يَتَعَلَّقُونَ بِهِ فِي ذَلِكَ مِنْ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التِّلَاوَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ مَأْمُورٌ بِهِ يَلْزَمُنَا فِعْلُهُ فِي الْحَالِ وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مُخَاطَبَةِ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ وَأَنَّ إيرَادَ ذَلِكَ بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْهُ بِلَفْظِ النَّهْيِ إذْ لَيْسَ تَحْتَهُ فِعْلٌ مُرَادٌ فِي الْحَالِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ خِطَابَ الْعَرَبِيِّ بِالزِّنْجِيَّةِ لَا يَفْهَمُ بِهِ الْمُخَاطَبُ شَيْئًا وَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ ، فَيَكُونُ عَبَثًا وَلَغْوًا ، وَالْخِطَابُ الْمُجْمَلُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوهِ التَّكْلِيفِ وَالْمَصْلَحَةِ فَلَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
فَأَمَّا الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ الْمُجْمَلِ فَمُنْفَصِلٌ عَنْ الْخِطَابِ بِالنَّهْيِ الْمُجْمَلِ كَانْفِصَالِ الْخِطَابِ بِالْأَمْرِ الْمَعْلُومِ الْمَعْنِيِّ عَنْ الْخِطَابِ بِالنَّهْيِ ، لِأَنَّ النَّهْيَ الْمُجْمَلَ يُفِيدُ تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى اجْتِنَابِ مَا يَرِدُ بَيَانُهُ ، كَمَا يُفِيدُ الْخِطَابُ بِالْأَمْرِ الْمُجْمَلِ تَوْطِينَهَا ( عَلَى ) فِعْلِهِ عِنْدَ وُرُودِ الْبَيَانِ ، فَبَانَ بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ اعْتَرَضَ بِمِثْلِهِ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِ بَيَانِ الْمُجْمَلِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ يَأْمَنُ أَنْ تُعَاجِلَهُ الْمَنِيَّةُ قَبْلِ بَيَانِهِ فَلَا يُوصَلُ بَعْدَهُ إلَى حُكْمِهِ .

قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلِمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَنْ يَتَوَفَّاهُ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَيُبَيِّنَ ( لِلْأُمَّةِ ) مَا تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِهِ فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ .
وَأَيْضًا : فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ أَخَّرَ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتٍ لَا يُمْكِنُهُ بَعْدَهُ تَبْلِيغُهُ وَأَدَاؤُهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ تَوْقِيفِهِ إيَّاهُ عَلَى تَعْجِيلِهِ وَتَرْكِ تَأْخِيرِهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا أَرْسَلَهُ إلَى النَّاسِ لِيُبَلِّغَهُمْ مَا تَهُمُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ ، فَإِذَا أَبَاحَ لَهُ تَأْخِيرَ الْبَيَانِ فَإِنَّمَا يُبِيحُهُ لَهُ مَا ( لَمْ ) يُؤَخِّرْهُ إلَى وَقْتٍ يَفُوتُهُ فِيهِ فِعْلُهُ ، فَإِذَا صَارَ فِي حَالٍ إنْ لَمْ يُبَيِّنْهُ فِيهِ فَاتَهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَعْلَمَهُ قَبْلَ تَأْخِيرِهِ .
فَأَمَّا مَنْ أَجَازَ تَأْخِيرَ بَيَانِ الْمُجْمَلِ إذَا كَانَ فِي الْخِطَابِ مَا يُوجِبُ تَعَلُّقَهُ بِحَالٍ ثَابِتَةٍ ، وَأَبَاهُ إذَا وَرَدَّ مُطْلَقًا غَيْرَ مُطْمِعٍ فِي بَيَانٍ يَرِدُ فِي الثَّانِي ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ فِيهِ إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا كَانَ يَقْتَضِي فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ فَقَدْ أَلْزَمَنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ فِعْلَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ بَيَانُهُ مَقْرُونًا بِهِ لِيُمْكِنَهُ تَنْفِيذُهُ وَإِلَّا كَانَ فِيهِ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ وَهَذَا ( لَا ) يُوجِبُ مَا قَالُوهُ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ وُرُودَ الْأَمْرِ مُطْلَقًا غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِوَقْتٍ ، وَتَقُومُ الدَّلَالَةُ عَلَى ( أَنَّ ) الْمُرَادَ بِهِ الْمُهْلَةُ دُونَ الْفَوْرِ ، فَمَتَى وَرَدَ لَفْظٌ مُجْمَلٌ لَا يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ حُكْمِهِ كَانَ وُرُودُهُ هَذَا الْمُورِدَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنَّا فِعْلَهُ فِي الْحَالِ ، وَأَنَّ لُزُومَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ فِيهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ مُقَارَنَةِ هَذِهِ الدَّلَالَةِ لِلَّفْظِ وَبَيْنَ ذِكْرِ مَا يُوجِبُ وُقُوفَهُ عَلَى الْبَيَانِ مُتَّصِلًا بِهِ .

الْبَابُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُوْنَ:فِي الْأَمْرِ مَا هُوَ ؟

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ مَا هُوَ ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
قَوْلُ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ : افْعَلْ إذَا أَرَادَ بِهِ الْإِيجَابَ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ حِينَ قَسَّمُوا

الْكَلَامَ جَعَلُوا الْأَمْرَ أَحَدَ أَقْسَامِهِ ، وَقَالُوا هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلْ كَمَا ( ذَكَرُوا الْخَبَرَ ) وَالِاسْتِخْبَارَ وَالطَّلَبَ .
وَقَوْلُ الْقَائِلِ افْعَلْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ : عَلَى جِهَةِ إيجَابِ الْفِعْلِ ( وَإِلْزَامِهِ ) كَقَوْلِهِ تَعَالَى { اتَّقُوا اللَّهَ } { وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } وَنَحْوِهَا ، وَعَلَى النَّدْبِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } وَقَوْلِهِ { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } ، وَعَلَى الْإِرْشَادِ إلَى الْأَوْثَقِ وَالْأَحْوَطِ لَنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } ، ( وَقَوْلِهِ ) { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وقَوْله

تَعَالَى فِي ( شَأْنِ ) الرَّجْعَةِ { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } ، وَعَلَى الْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } .
وقَوْله تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } ، وَعَلَى التَّقْرِيعِ وَالتَّعْجِيزِ كَقَوْلِهِ { قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } وقَوْله تَعَالَى { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } وقَوْله تَعَالَى : { فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إنْ كَانُوا صَادِقِينَ } .
وَعَلَى الْوَعِيدِ وَالتَّهْدِيدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } .
وقَوْله تَعَالَى { وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِك } .
وَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَكُونُ خِطَابًا مِنْ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ .
وَتَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ وَالطَّلَبِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا لِمَنْ فَوْقَهُ كَقَوْلِنَا : رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ وَأَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيعِ أَوْ الْوَعِيدِ أَوْ الْمَسْأَلَةِ لَا يُسَمَّى أَمْرًا وَإِنْ كَانَتْ صُورَتُهُ صُورَةَ الْأَمْرِ .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ : " افْعَلْ " إذَا كَانَ نَدْبًا أَوْ إبَاحَةً أَوْ إشَارَةً ، هَلْ يُسَمَّى أَمْرًا ، بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْإِيجَابَ كَانَ أَمْرًا .
فَقَالَ قَائِلُونَ : جَمِيعُ ذَلِكَ يُسَمَّى أَمْرًا وَلَيْسَ وُرُودُهُ مُطْلَقًا أَوْلَى بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ مِنْهُ بِالْآخَرِ وَجَمِيعُهُ يُسَمَّى أَمْرًا .
وَقَالَ آخَرُونَ : حَقِيقَةُ الْأَمْرِ مَا كَانَ إيجَابًا وَمَا عَدَاهُ فَلَيْسَ بِأَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ

أُجْرِيَ عَلَيْهِ الِاسْمُ فِي حَالٍ كَانَ مَجَازًا ، ( وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا ) الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ لِلْإِيجَابِ صِيغَةٌ فِي اللُّغَةِ تَخْتَصُّ بِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَالضَّرُورَةُ دَاعِيَةٌ لِأَهْلِ كُلِّ لُغَةٍ إلَى أَنْ ( يَكُونَ ) فِي لُغَتِهِمْ صِيغَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ إيجَابٌ كَمَا أَنَّ بِهِمْ ضَرُورَةً إلَى أَنْ يَكُونَ مِنْهَا لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْخَبَرِ وَلَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلِاسْتِخْبَارِ وَلَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِلْعُمُومِ وَكَمَا سَمَّى الْأَجْنَاسَ وَنَحْوَهَا .
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي لُغَتِهِمْ لَفْظٌ مَوْضُوعٌ لِإِيجَابِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لِمَنْ دُونَهُ افْعَلْ هُوَ : لَفْظُ الْأَمْرِ الْمَوْضُوعُ لِلْإِيجَابِ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْإِيجَابُ : أَنَّ كُلَّ وَاجِبٍ يَتَعَلَّقُ وُجُوبُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَ الْجَمِيعِ ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَنْتَفِيَ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَالنَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ قَدْ يَنْتَفِي عَنْهُمَا

ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ وَصَوْمِ ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ كَانَ صَادِقًا ، وَلَوْ قَالَ : لَمْ يَأْمُرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ كَانَ كَاذِبًا ( خَارِجًا ) مِنْ الْمِلَّةِ ، وَ ( لَوْ ) قَالَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَك فِي هَذَا الْوَقْتِ بِصَلَاةِ تَطَوُّعٍ أَوْ صَدَقَةِ نَفْلٍ أَوْ بِالِاصْطِيَادِ أَوْ بِالشِّرَاءِ
وَالْبَيْعِ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا فِي قَوْلِهِ ، وَكَانَ وَاضِعًا لِلْأَمْرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ .
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لَيْسَ عَلَيْهِ صَلَاةٌ وَلَا صَدَقَةٌ : مَا أَمَرَنِي اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَانَ مُصِيبًا فِي قَوْلِهِ ، فَلَمَّا كَانَ إطْلَاقُ لَفْظِ الْأَمْرِ مُمْتَنِعًا فِي النَّوَافِلِ وَالْمُبَاحَاتِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا غَيْرَ مُنْتَفٍ عَنْ الْفُرُوضِ وَالْوَاجِبَاتِ بِحَالٍ ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَخْتَصُّ بِالْإِيجَابِ حَقِيقَةً ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا مَتَى لَمْ يُصَادِفْ وَاجِبًا .
وَيَدُلُّ ( عَلَى ذَلِكَ ) أَيْضًا أَنَّ الْعَرَبِيَّ يُسَمِّي تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى حَاكِيًا عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } ، وَقَالَ تَعَالَى لِإِبْلِيسَ { مَا مَنَعَك أَنْ لَا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك }
وَمِنْهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ:
أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ اللِّوَى*** فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ
فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى*** غِوَايَتَهُمْ وَأَنَّنِي غَيْرُ مُهْتَدِي
فَسَمَّى تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا وَسِمَةُ الْعِصْيَانِ لَا تَلْحَقُ إلَّا تَارِكَ الْوَاجِبَاتِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مُخْتَصٌّ بِالْإِيجَابِ .

فارغة

الْبَابُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُوْنَ:فِي لَفْظِ الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ لِمَنْ تَحْتَ طَاعَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ هُوَ أَمْ عَلَى النَّدْبِ ؟

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ لِمَنْ تَحْتَ طَاعَتِهِ عَلَى الْوُجُوبِ هُوَ أَمْ عَلَى النَّدْبِ ؟ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : الَّذِي يُفِيدُهُ هَذَا اللَّفْظُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ الدَّلَالَةُ عَلَى حُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَوْنُهُ مُرَغَّبًا فِيهِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْإِيجَابِ وَلَا الْإِبَاحَةِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَثْبُتَ النَّدْبُ أَوْ الْإِيجَابُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : اللَّفْظُ ( مُحْتَمِلٌ ) لِلْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ فَهُوَ مَوْقُوفُ الْحُكْمِ حَتَّى تَقُومَ ( دَلَالَةٌ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى الْمُرَادِ ) بِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ عَلَى الْإِيجَابِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَإِلَيْهِ كَانَ مَذْهَبُ شَيْخِنَا أَبِي الْحَسَنِ .

فارغة المتن

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : قَوْلُ اللهِ تَعَالَى { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } فَدَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى وُجُوبِ الْأَمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : نَفْيُهُ التَّخْيِيرَ فِيمَا أَمَرَ بِهِ وَقَوْلُ مَنْ يَقُولُ بِالنَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ يُثْبِتُ مَعَهُمَا التَّخْيِيرَ وَذَلِكَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْآيَةِ .
وَالثَّانِي : قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } فَسَمَّى تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا وَاسْمُ الْعِصْيَانِ لَا يَلْحَقُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ ، وَلَا لَفْظُ لِلْأَمْرِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ غَيْرُ قَوْلِهِمْ افْعَلْ فَدَلَّ أَنَّهُ لِلْإِيجَابِ حَتَّى ( تَقُومَ الدَّلَالَةُ ) عَلَى غَيْرِهِ ،
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى

{ فَلَا وَرَبِّك لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوك فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } ، وَالْقَضَاءُ يُسَمَّى أَمْرًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَضَى رَبُّك أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } مَعْنَاهُ أَمْرٌ مُتَضَمِّنٌ لُزُومَ الْأَمْرِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوَعِيدَ لَا يَلْحَقُ تَارِكَ النَّدْبِ وَالْمُبَاحِ ، فَدَلَّ عَلَى لُزُومِ الْأَمْرِ وَوُجُوبِهِ لَوْلَا ( هَا ) مَا اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ بِتَرْكِهِ .
وَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَوْعَدَ مَنْ خَالَفَ الْأَمْرَ ، وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ بِهِ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلْأَمْرِ .
قِيلَ لَهُ : ( بَلْ ) هُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ أَفْطَرَ فِي ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ خَالَفْت أَمْرَ اللهِ تَعَالَى ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَرْكَ الْمَأْمُورِ بِهِ مُخَالِفٌ لِلْأَمْرِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك } فَعَلَّقَ ذَمَّهُ بِتَرْكِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلَّوْمِ وَذَلِكَ حُكْمُ الْوَاجِبَاتِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا ذَمَّهُ لِأَنَّهُ اسْتَكْبَرَ لِمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى { إلَّا إبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ } .
قِيلَ لَهُ : قَدْ ذَمَّهُ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا عَلَى تَرْكِ الْأَمْرِ وَعَلَى الِاسْتِكْبَارِ ، وَلَوْلَا أَنَّ تَرْكَ الْأَمْرِ بِمُجَرَّدِهِ مَذْمُومٌ لَمَّا قَرَنَهُ إلَى الِاسْتِكْبَارِ فِيمَا عَنَّفَهُ عَلَيْهِ .

وَأَيْضًا : فَإِنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ لِلْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فَيَكُونُ مُقْتَضِيًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَوْ لِبَعْضِهَا حَقِيقَةً وَلِبَعْضِهَا مَجَازًا .
فَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْإِيجَابِ مَجَازًا فِيمَا سِوَاهُ عَلَى مَا يَقُولُهُ فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ( فَلَا يُصْرَفُ ) إلَى الْمَجَازِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ حَقِيقَةً فِي الْإِيجَابِ وَأَفَادَنَا بِاللَّفْظِ فَغَيْرُ جَائِزٍ صَرْفُهُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ حُكْمَ اللَّفْظِ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَأَنَّ الْوَاجِبَ إذَا ( كَانَ كَذَلِكَ جَازَ ) حَمْلُهُ عَلَى النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْإِيجَابِ ، لِأَنَّ مَا صَلُحَ لِلْإِيجَابِ وَلِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْعَلَهُ وَاجِبًا إلَّا بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ أَوْ نَقِفُ فِيهِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْمُرَادِ إذْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِتَضَادِّهَا .
قِيلَ لَهُ : حَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ ( لِلْإِيجَابِ ) بِمَا قَدْ دَلَّلْنَا عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الَّذِي قَبْلَهُ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْته مِنْ الْحَقِيقَةِ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِيجَابِ أَوْلَى .
وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبَاحَ مَا لَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ وَلَا بِتَرْكِهِ الْعِقَابَ .
( وَالنَّدْبُ مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِتَرْكِهِ الْعِقَابَ ) فَفِيهِ زِيَادَةُ مَعْنًى عَلَى الْمُبَاحِ .

وَالْوَاجِبُ مَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِهِ الثَّوَابَ وَبِتَرْكِهِ الْعِقَابَ ، فَفِيهِ زِيَادَةُ حُكْمٍ عَلَى النَّدْبِ .
فَلَوْ سُلِّمَ لَك أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَانَ الْأَوْلَى حَمْلَهُ عَلَى الْوُجُوبِ ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ وَيَقْتَضِيهِ وَهُوَ يُفِيدُ هَذِهِ الْمَعَانِيَ ( فِيهِ ) حَقِيقَةً ، كَمَا أَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ وَإِنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الثَّلَاثَةِ فَمَا فَوْقَهَا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } كَانَ الْوَاجِبُ حَمْلَهُ عَلَى أَكْثَرِ مَا يَتَضَمَّنُهُ وَيَقْتَضِيهِ ، وَلَمْ يَجُزْ الِاقْتِصَارُ ( بِهِ ) عَلَى الْأَقَلِّ إلَّا بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ
كَذَلِكَ لَفْظُ الْأَمْرِ إذَا كَانَ يُفِيدُ الْإِيجَابَ حَقِيقَةً فَقَدْ تَضَمَّنَ وُرُودُهُ اسْتِيعَابَ جَمِيعِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْحُكْمِ فَلَا جَائِزٌ الِاقْتِصَارُ بِهِ عَلَى الْبَعْضِ ، وَثَبَتَ أَنَّ اللَّفْظَ إنْ كَانَ حَقِيقَةً فِي الْجَمِيعِ فَهُوَ يَقْتَضِي عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لُزُومَ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ حَقِيقَةً فِي بَعْضِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَا ( هَا ) مَجَازًافِي الْبَعْضِ ، وَلَيْسَ يَخْلُو مَا هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْإِيجَابَ أَوْ النَّدْبَ أَوْ الْإِبَاحَةَ.
فَإِنْ كَانَ لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً فَالْوَاجِبُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَنَاوَلُ النَّدْبَ وَالْإِبَاحَةَ حَقِيقَةً دُونَ غَيْرِهِمَا فَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَنْ اسْتَعْمَلَهُ لِلْإِيجَابِ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلَالَةِ فَقَدْ صَرَفَهُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ وَاسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهَذَا لَا يَقُولُهُ أَحَدٌ ، وَيَلْزَمُ قَائِلَهُ أَنْ يَقُولَ : لَمْ يَأْمُرْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ حَقِيقَةً فِي قَوْلِهِ { آمِنُوا بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالتَّقْوَى عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { اتَّقُوا رَبَّكُمْ } فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِيجَابِ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَوْضُوعُ اللَّفْظِ لِإِفَادَةِ كَوْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ حَسَنًا مَمْدُوحًا ، وَأَنَّهُ لِلْإِيجَابِ مُتَعَلِّقٌ بِإِرَادَةِ الْآمِرِ فَمَتَى صَارَ عَارِيًّا عَنْ دَلَالَةِ الْإِيجَابِ لَمْ نَحْمِلْهُ عَلَيْهِ لِفَقْدِ عِلْمِنَا بِإِرَادَتِهِ إذْ كَانَتْ الصِّيغَةُ لَا تُفِيدُ الْإِيجَابَ ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تُفِيدُهُ لَأَفَادَتْهُ حَيْثُ وُجِدَتْ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهَا قَدْ تَرِدُ وَلَا يُرَادُ بِهَا الْإِيجَابُ .
قِيلَ لَهُ : فَمَا تَقُولُ إذَا وَرَدَتْ الصِّيغَةُ مُقَارِنَةً لِدَلَالَةِ الْإِيجَابِ ؟ أَيَكُونُ اللَّفْظُ عِنْدَك مُسْتَعْمَلًا لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً أَمْ مَجَازًا ؟ فَإِنْ قَالَ : حَقِيقَةً .
قِيلَ لَهُ : إنَّ الْحَقَائِقَ لَا تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا بِالْإِرَادَاتِ وَلَا تَنْتَفِي عَمَّا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لَهُ فِي مُوَاصَفَاتِ اللُّغَةِ فِيهَا بِحَالٍ فَإِذَا قَدْ أَعْطَيْت أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً عِنْدَ إرَادَةِ الْآمِرِ ذَلِكَ فَهَلَّا دَلَّك هَذَا عَلَى أَنَّ اللَّفْظَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَصْلِ لِلْإِيجَابِ فَيُعْقَلُ بِهِ ذَلِكَ عِنْدَ وُرُودِهِ فَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ فِيهِ إلَى أَنْ يَعْرِفَ إرَادَةَ الْقَائِلِ إذَا لَمْ يَقْرِنْهُ بِدَلَالَةٍ تُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، بَلْ يَكُونُ وُرُودُهُ مُطْلَقًا دَلَالَةً عَلَى إرَادَةِ الْقَائِلِ لِلْإِيجَابِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ حَقِيقَةٌ فَيَجِبُ إمْضَاؤُهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَوْضُوعِهِ فِي اللُّغَةِ ، كَمَا أَنَّ سَائِرَ الْأَسْمَاءِ الْمَوْضُوعَةِ لِمُسَمَّيَاتِهَا حَقِيقَةٌ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً لَمْ يَجُزْ الْوُقُوفُ فِيهَا إلَى أَنْ يَتَعَرَّفَ إرَادَةَ الْقَائِلِ بِإِطْلَاقِهَا وَوُجُوبَ إمْضَائِهَا عَلَى مَوْضُوعِهَا فِي اللُّغَةِ مَتَى لَمْ يَقْرِنْهُ بِدَلَالَةٍ تُزِيلُهُ عَنْ حَقِيقَتِهِ ، وَكَلَفْظِ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ أَنَّهُ لِلشُّمُولِ وَالِاسْتِيعَابِ لَمْ يَحْتَجْ عِنْدَ وُرُودِهِ مُطْلَقًا إلَى مُسَاعَدَةِ الدَّلَالَةِ فِي حَمْلِهِ عَلَى الْعُمُومِ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مَتَى وَرَدَ مُقَارِنًا لِدَلَالَةِ الْإِيجَابِ كَانَ مَجَازًا مُسْتَعْمَلًا فِي غَيْرِ مَوْضُوعِهِ رَفَعَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ لِلَفْظِ الْإِيجَابِ صِيغَةٌ فِي اللُّغَةِ ، وَخَرَجَ ( بِهِ ) أَيْضًا عَنْ قَوْلِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَزِمَهُ مَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ فِيمَا سَلَفَ .

وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ الصِّيغَةَ نَفْسَهَا لَوْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِذَلِكَ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهَا فِي إيجَابِهَا لِذَلِكَ وَلَمَا وَرَدَتْ إلَّا مُوَجَّهَةً .
فَإِنَّا نَقُولُ لَهُ إنَّ الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ ( فِي ) الْأَصْلِ فَمَتَى صَدَرَتْ وَالْمُرَادُ النَّدْبُ أَوْ الْإِبَاحَةُ فَهِيَ مَجَازٌ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ لَا حَقِيقَةٌ كَمَا تَقُولُ فِي سَائِرِ أَلْفَاظِ الْمَجَازِ ، وَلَيْسَ وُرُودُ الصِّيغَةِ ( عَارِيَّةً مِنْ ) حُكْمِ الْإِيجَابِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ بِمَانِعٍ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا وَبَابُهَا الْوُجُوبَ ، كَمَا أَنَّ صِيغَةَ الْعُمُومِ تَقْتَضِي الِاسْتِيعَابَ وَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ مَعَ إرَادَةِ الْخُصُوصِ وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ اعْتِبَارَ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِيعَابِ عِنْدَ تَعَرِّيه مِنْ دَلَالَةِ الْخُصُوصِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ ( مَنْ ) قَالَ إنَّ ظَاهِرَ الْأَمْرِ النَّدْبُ فَقَدْ أَعْطَى بِأَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ مِنْهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ ، وَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِإِرَادَةِ إيقَاعِ الْفِعْلِ وَجَبَ فِعْلُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ (وَ ) احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ ( إلَى ) الدَّلَالَةِ مِنْ غَيْرِهِ .
وَأَيْضًا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِلْإِيجَابِ لَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ مُخَيَّرًا بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ ( بَيْنَ الْفِعْلِ وَالتَّرْكِ ) وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى التَّخْيِيرِ ، فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ إلَّا بِلَفْظٍ يَقْتَضِيهِ أَوْ بِدَلَالَةِ غَيْرِ الْأَمْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَثْبُتْ التَّخْيِيرُ بِلَفْظِ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَاهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ وَكَانَ تَرْكُهُ مُبَاحًا فَبَقَّيْنَاهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَثْبُتْ الْوُجُوبُ .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا كَانَ التَّرْكُ مُبَاحًا قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ فَأَمَّا بَعْدَ وُرُودِهِ وَإِرَادَةِ الْآمِرِ إيقَاعَهُ فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ تَرْكِهِ وَقَدْ أَعْطَيْنَا أَنَّ الْآمِرَ قَدْ أَرَادَ مِنْهُ إيقَاعَ الْفِعْلِ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إرَادَةِ الْفِعْلِ كَرَاهَةٌ لِتَرْكِهِ إذْ لَيْسَ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْحُسْنِ .

قِيلَ لَهُ : مَا أَنْكَرْت أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ مَوْضُوعٌ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ وَكَرَاهَةِ التَّرْكِ كَمَا أَنَّ لَفْظَ النَّهْيِ مَوْضُوعٌ لِكَرَاهَةِ الْفِعْلِ وَإِرَادَةِ التَّرْكِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَمْرِ إنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ التَّرْكِ لِجَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْحُسْنِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي النَّهْيِ حَتَّى يُقَالَ إنَّ النَّهْيَ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى كَرَاهَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنَّمَا فِيهِ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ ضِدِّهِ كَمَا قُلْت فِي الْأَمْرِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ اجْتِمَاعُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَضِدِّهِ فِي الْحُسْنِ .
فَإِنْ قَالَ : مَا مِنْ نَهْيٍ إلَّا وَمَعَهُ كَرَاهَةُ الْفِعْلِ .
قِيلَ لَهُ : وَمَا مِنْ أَمْرٍ إلَّا وَمَعَهُ كَرَاهَةُ التَّرْكِ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ وَلَا يُرَادُ كَرَاهَةُ ضِدِّهِ .
قِيلَ لَهُ : لَا نُسَلِّمُ لَك أَنَّ هَذَا أَمْرٌ ، وَمَعَ هَذَا ( فَقَدْ يَرِدُ ) النَّهْيُ وَلَا يُرَادُ بِهِ كَرَاهَةُ الْفِعْلِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } وَفِعْلُ
الْفَضْلِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَقَالَ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى مَنْ عَرَفَ الشُّرُوطَ أَنْ يَكْتُبَ لِلنَّاسِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ } يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِأَنْ يَشْغَلَ عَنْ حَوَائِجِهِ وَيَضُرَّ بِهِ ( وَقَدْ قَالَ ) { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ } وَهُوَ نَدْبٌ فِي ( هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ) .

أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا } فَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا النَّهْيِ كَرَاهَةَ الْفِعْلِ .
فَإِنْ قَالَ : لَيْسَ هَذَا بِنَهْيٍ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ النَّهْيِ .
قِيلَ لَهُ : وَلَفْظُ الْأَمْرِ إذَا لَمْ يُقَارِنْهُ كَرَاهَةُ التَّرْكِ فَلَيْسَ بِأَمْرٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ فِي النَّهْيِ سَوَاءٌ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعِصْيَانِ فِي اللُّغَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } وَقَالَ { مَا مَنَعَك أَنْ لَا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك } فَذَمَّهُ وَلَعَنَهُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَاصِدًا لَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمْ يَسْتَحِقَّ إبْلِيسُ الذَّمَّ بِتَرْكِ الْأَمْرِ بِمُجَرَّدِهِ وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّهُ بِالِاسْتِكْبَارِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَى عَنْهُ أَنَّهُ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ .
قِيلَ لَهُ : ( قَدْ ) اسْتَحَقَّ الذَّمَّ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا : بِتَرْكِ الْأَمْرِ عَلَى حِيَالِهِ وَبِالِاسْتِكْبَارِ ( أَيْضًا ) ، لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { مَا مَنَعَك أَلَّا تَسْجُدَ إذْ أَمَرْتُك } قَدْ اقْتَضَى تَوْجِيهَ اللَّائِمَةِ إلَيْهِ لِتَرْكِ الْأَمْرِ مُتَعَرِّيًا مِنْ الِاسْتِكْبَارِ ، وَالْآيَةُ الْأُخْرَى أَوْجَبَتْ الذَّمَّ بِالِاسْتِكْبَارِ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ تَارِكَ الْأَمْرِ يَسْتَحِقُّ سِمَةَ الْعِصْيَانِ فِي اللُّغَةِ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ :
أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرِجِ اللِّوَى*** فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ
فَلَمَّا عَصَوْنِي كُنْتُ مِنْهُمْ وَقَدْ أَرَى*** غِوَايَتَهُمْ وَإِنِّي غَيْرُ مُهْتَدٍ
فَسَمَّى تَارِكَ الْأَمْرِ عَاصِيًا ، وَلَا يَسْتَحِقُّ سِمَةَ الْعِصْيَانِ إلَّا تَارِكُ الْوَاجِبَاتِ .

وَأَيْضًا : فَإِنَّ تَارِكَ أَمْرِ مَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُهُ فِيمَا بَيَّنَّا مُسْتَحِقٌّ لِلتَّعْنِيفِ وَاللَّائِمَةِ ، وَأَوَامِرُ اللهِ تَعَالَى مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَعْقُولِ الْمُتَعَارَفِ بَيْنَنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } وَقَالَ تَعَالَى { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } وَلَا ( شَيْءَ ) يَسْتَحِقُّ بِهِ تَارِكُ الْأَمْرِ اللَّوْمَ فِيمَا بَيَّنَّا إلَّا وُرُودُهُ مُطْلَقًا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِلْإِيجَابِ .
وَكَذَلِكَ مَعْلُومٌ مُتَقَرَّرٌ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أَمَرَ رَجُلًا بِالْقِيَامِ أَوْ الْقُعُودِ أَمْرًا مُطْلَقًا فَلَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ مُعَنَّفًا عِنْدَ الْجَمِيعِ مُسْتَحِقًّا لِلذَّمِّ فَدَلَّ ( عَلَى ) أَنَّهُ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ فِي أَوَامِرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَامِرِنَا فِيمَا ( بَيْنَنَا ) لِعَبِيدِنَا وَمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا لِأَنَّ الْمَأْمُورَ يَقَعُ لَهُ عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِ الْآمِرِ وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي خِطَابِ اللهِ تَعَالَى .
قِيلَ لَهُ : يَقَعُ لِلسَّامِعِ عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِإِرَادَةِ الْآمِرِ ( الْوُجُوبَ ) بِنَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بِمَعْنًى يُقَارِنُهُ ؟ فَإِنْ قَالَ : بِنَفْسِ الْأَمْرِ .
قِيلَ لَهُ : فَيَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ لَهُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَوَامِرِ لِوُجُوبِ الضَّرُورَةِ الْمُوجِبَةِ لِعِلْمِ الضَّرُورَةِ .
وَإِنْ قَالَ : إنَّمَا يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ بِأَحْوَالٍ مُقَارِنَةٍ .
قِيلَ ( لَهُ ) : فَكُلُّ مَا صَدَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ تَجِبُ طَاعَتُهُ مُقَارَنَةُ حَالٍ يَعْلَمُ الْمَأْمُورُ إرَادَةَ الْأَمْرِ لِإِيجَابِهِ ضَرُورَةً .

فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ ، عُلِمَ بُطْلَانُ قَوْلِهِ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ ( قَدْ ) يَرِدُ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ الْآمِرِ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ بِهِ وَلَا يُقَارِنُهُ حَالٌ يَعْلَمُ بِهَا الْوُجُوبَ ضَرُورَةً ، بَلْ يَشُكُّ فِي
أَنَّهُ أَرَادَ الْإِيجَابَ أَمْ لَا ، ثُمَّ لَمْ تَعْتَبِرْ النَّاسُ الْأَحْوَالَ لِإِلْحَاقِ الذَّمِّ بِتَارِكِ الْأَمْرِ فَعَلِمْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ عِنْدَهُمْ لِتَرْكِهِ الْأَمْرَ بِمُجَرَّدِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنْ كَانَ كَمَا قَالَ مِنْ أَنَّ لُزُومَ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ يُخَاطِبُهُ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَا يَقَعُ لِلسَّامِعِ مِنْ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ بِمُرَادِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الْأَمْرِ لِمَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِمَنْ لَمْ يُشَاهِدْهُ مِمَّنْ بَلَغَهُ أَمْرُهُ ، فَيَلْزَمُ الْمُشَاهِدَ لَهُ ( وَالسَّامِعَ مِنْهُ ) وَ ( لَا ) يَلْزَمُ الْمُبَلِّغَ ، لِأَنَّ الْمُشَاهِدَ وَقَعَ لَهُ الْعِلْمُ بِمُرَادِهِ مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ ، وَالْمُبَلِّغَ لَا يَقَعُ لَهُ ذَلِكَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَمْرَ ( النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْتَلِفُ فِي السَّامِعِ وَالْمُبَلِّغِ وَقَدْ ) أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّامِعِينَ بِالتَّبْلِيغِ بِقَوْلِهِ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا } فَدَلَّ ( عَلَى ) أَنَّ السَّامِعَ وَالْمُبَلِّغَ فِي حُكْمِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُمَا فِيمَا تَعَبَّدَا بِهِ لِقَيْدِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَعْنَى غَيْرِ إطْلَاقِ اللَّفْظِ يَسْتَوِي فِي الْعِلْمِ بِمُرَادِهِ السَّامِعُ وَالْمُبَلِّغُ .
وَأَيْضًا : لَوْ سَاغَ أَنْ يُقَالَ هَذَا فِي الْأَوَامِرِ لَسَاغَ لِنَفَّاتِ الْعُمُومِ أَنْ يَقُولُوا مِثْلَهُ فِي نَفْيِهِ ، لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ مُرَادَ بَعْضٍ ( فِي الْعُمُومِ ) وَالْخُصُوصِ ضَرُورَةً ، فَوَجَبَ فِي

مُخَاطَبَاتِنَا اعْتِبَارُ الْعُمُومِ لِوُقُوعِ عِلْمِ السَّامِعِ بِمُرَادِ ( الْقَائِلِ ) ضَرُورَةً ( وَلَا يَجِبُ مِثْلُهُ فِي خِطَابِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ لَنَا الْعِلْمُ بِمُرَادِهِ ضَرُورَةً ) فَلَا يَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا وَرَدَ عَنْ اللهِ تَعَالَى مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ عَلَى عُمُومِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَتِهِ
الْعُمُومَ ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَنْ شَاهَدَهُ أَنَّهُ عَلَى الْعُمُومِ وَ ( مَنْ ) بَلَغَهُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ ، لِأَنَّ مَنْ شَاهَدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْلَمُ مُرَادَهُ ضَرُورَةً لِخِطَابِهِ لِمُقَارَنَةِ الْأَحْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِذَلِكَ وَكَانَ يَلْزَمُ السَّامِعَ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ ، وَمَنْ لَمْ يُشَاهِدْ لَمْ يَقَعْ لَهُ عِلْمُ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِهِ بِوُرُودِ لَفْظِ الْعُمُومِ عَلَيْهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ اعْتِبَارُ الْعُمُومِ إلَّا بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ كَانَ قَوْلُ الْمُحْتَجِّ بِمِثْلِهِ فِي نَفْسِ وُجُوبِ الْأَمْرِ بِمَثَابَتِهِ
وَأَيْضًا : مَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا تَلَا عَلَيْهِمْ الْآيَاتِ الَّتِي فِيهَا الْأَوَامِرُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً } وقَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وَ ( قَوْلِهِ ) { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } وَ { حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى } { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } لَمْ يَكُونُوا مُحْتَاجِينَ إلَى مَسْأَلَتِهِ فِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى الْوُجُوبِ بَلْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عِنْدَهُمْ عَنْ ذَلِكَ مُعَنَّفًا تَارِكًا لِأَوَامِر اللهِ وَلَمْ يَزِدْهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تِلَاوَةِ الْآيَةِ وَلَمْ يُعْقِبْهَا بِالْإِخْبَارِ عَنْ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى فِي إيجَابِهِ .

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْآيَاتِ لَمْ تُوجِبْ لَهُمْ عِلْمَ الضَّرُورَةِ بِمُرَادِ اللهِ تَعَالَى فِيهَا لِأَنَّ مُرَادَ اللهِ تَعَالَى لَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ سُقُوطُ اعْتِرَاضِ مَنْ اعْتَرَضَ بِمَا ذُكِرَ فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ أَوَامِرِ الْآدَمِيِّ .
وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِأَنَّ قَوْلَهُ " افْعَلْ " لَوْ صَلَحَ لِلْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ ، لَكَانَ الْمَصِيرُ إلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْلَى لِمَا فِيهِ الِاحْتِيَاطُ وَالْأَخْذُ بِالثِّقَةِ .
وَهَذَاوَإِنْ كَانَ اسْتِدْلَالًا مِنْ غَيْرِ جِهَةِ اللَّفْظِ فَإِنَّهُ احْتِجَاجٌ صَحِيحٌ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُتَشَابِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَقَالَ : { إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللهِ تَعَالَى مَحَارِمُهُ وَمَنْ رَتَعَ حِوَلَ الْحُمَّى يُوشَكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } فَأَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : اعْتِبَارُ الِاحْتِيَاطِ فِي إيجَابِ الْأَمْرِ هُوَ تَرْكُ الِاحْتِيَاطِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مُرَادُ اللهِ تَعَالَى الْإِيجَابَ وَاعْتَقَدْنَا فِيهِ الْوُجُوبَ فَقَدْ أَقْدَمْنَا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ مِنْ اعْتِقَادِنَا الشَّيْءَ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا كَمَا ظَنَنْت لِأَنَّا لَمْ نُكَلَّفْ فِي هَذِهِ الْحَالِ غَيْرَ الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ ، فَقَدْ تَيَقَّنَّا مَتَى فَعَلْنَا ذَلِكَ أَنَّا غَيْرُ مُعْتَقِدِينَ لِلشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ حِينَ قَالَ { فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَعِلَّتُك قَائِمَةٌ فِيهِ ( لِأَنَّك لَا تَأْمَنُ ) أَنْ تَدَعَهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ تَرْكَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِي

الْحَقِيقَةِ ، { وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَخْبَرَتْهُ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ وَزَوْجَتَهُ دَعْهَا عَنْك فَقَالَ يَا رَسُولَ اللهِ إنَّهَا سَوْدَاءُ يَعْنِي الْمُخْبِرَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ دَعْهَا عَنْك } فَأَمَرَ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَالثِّقَةِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِصِحَّةِ خَبَرِهَا .
وَاعْتِبَارُ الِاحْتِيَاطِ وَالْأَخْذِ بِالثِّقَةِ أَصْلٌ كَبِيرٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ( قَدْ ) اسْتَعْمَلَهُ الْفُقَهَاءُ كُلُّهُمْ وَهُوَ فِي الْعَقْلِ كَذَلِكَ أَيْضًا ، لِأَنَّ مَنْ قِيلَ لَهُ إنَّ فِي طَرِيقِك سَبُعًا
أَوْ لُصُوصًا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْأَخْذَ بِالْحَزْمِ وَتَرْكَ الْإِقْدَامِ عَلَى سُلُوكِهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ أَمْرُهَا .
وَأَيْضًا : قَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ فَمِنْ حَيْثُ كَانَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ لَفْظُ النَّهْيِ مِنْ فِعْلِ ضِدِّهِ عَلَى الْوُجُوبِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْأَمْرِ أَدَلَّ عَلَى الْإِيجَابِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ ( بِهِ ) مِنْهُ بِدَلَالَةِ لَفْظِ النَّهْيِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فِي الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ إثْبَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي اللَّفْظِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ إذْ كَانَ ( لَفْظُ ) الْأَمْرِ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تُعْطَى أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ حَقِيقَةً أَوْ يَمْتَنِعُ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَعْطَيْت أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْإِيجَابِ حَقِيقَةً سَقَطَ سُؤَالُك لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْوَاجِبِ مَا يُسْتَحَقُّ الذَّمُّ بِتَرْكِهِ فَلَا مَعْنَى حِينَئِذٍ لِقَوْلِك إنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ إلَّا بِلَفْظٍ ( يُنْبِئُ عَنْهُ ) .
وَإِنْ كُنْت مِمَّنْ يَأْبَى أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ كَانَ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ كَانَ اتِّفَاقُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَغَيْرِهِمْ قَاضِيًا بِفَسَادِ قَوْلِك ، وَلَزِمَك أَنْ ( لَا ) تُثْبِتَ لِلْأَمْرِ صِيغَةً فِي اللُّغَةِ وَهَذَا ( قَوْلٌ ) ظَاهِرُ الْفَسَادِ.

وَأَيْضًا : فَإِنَّا قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْإِيجَابِ يَسْتَحِقُّ مُرْتَكِبُهُ الذَّمَّ مَعَ عَدَمِ الْوَعِيدِ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ فَانْتَقَضَ بِذَلِكَ مَا أَحَلَّتْ مِنْ امْتِنَاعِ إثْبَاتِ الْوَعِيدِ إلَّا بِلَفْظٍ يُنْبِئُ عَنْهُ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ هَذَا السَّائِلَ إنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ إنَّ ظَاهِرَ لَفْظِ الْأَمْرِ إنَّمَا يَقْتَضِي الدَّلَالَةَ عَلَى حُسْنِ الشَّيْءِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَكَوْنُهُ مَمْدُوحًا مُرَغَّبًا فِيهِ فَإِنَّهُ
قَدْ أَثْبَتَ لَهُ ضَرْبًا مِنْ الثَّوَابِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَيْسَ لَفْظُ الْأَمْرِ عِبَارَةً عَنْ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ ، فَمَا يُنْكِرُ مِنْ إثْبَاتِ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَنْهُ .
وَأَيْضًا : مَعْلُومٌ فِي تَعَارُفِنَا وَعَادَاتِنَا أَنَّ مَنْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِفِعْلِ شَيْءٍ فَتَخَلَّفَ عَنْهُ اسْتَحَقَّ التَّعْنِيفَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ ذَلِكَ مَذْكُورًا فِي اللَّفْظِ بَلْ كَانَ مَعْقُولًا ( مِنْهُ ) مِنْ حَيْثُ عُقِلَ وُجُوبُ الْأَمْرِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنِّي أَجْعَلُهُ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ النَّدْبِ أَوْ الْإِيجَابِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ بِإِقَامَةِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَا قَالَ فَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَيْهَا .
وَيُقَالُ لَهُ : فَإِذَا قَامَتْ ، دَلَالَة الْإِيجَابِ كَانَ اللَّفْظُ مُسْتَعْمَلًا فِيهِ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا .
فَإِنْ قَالَ : حَقِيقَةً .
قِيلَ لَهُ : فَهَلَّا حَمَلْته عَلَى الْإِيجَابِ إذَا كَانَ مُقْتَضَاهُ مِنْ غَيْرِ دَلَالَةٍ تَطْلُبُهَا مِنْ غَيْره .
فَإِنْ قَالَ : يَكُونُ مَجَازًا فِي الْإِيجَابِ أَكَذَبَتْهُ اللُّغَةُ وَخَرَج عَنْ قَوْلِ الْأُمَّةِ .
وَيُقَالُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا : مَا أَنْكَرْت أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَيْضًا ، لِأَنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْإِبَاحَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ } فَيُؤَدِّي هَذَا ( الْقَوْلُ ) اللَّفْظُ إلَى إسْقَاطِ فَائِدَتِهِ رَأْسًا .

الْبَابُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُوْنَ: فِي الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ ؟

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ إذَا صَدَرَ غَيْرَ مُؤَقَّتٍ ، هَلْ هُوَ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : هُوَ عَلَى الْمُهْلَةِ ، وَلَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَخْشَى الْفَوَاتَ بِتَرْكِهِ فِي آخِرِ عُمُرِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : هُوَ عَلَى الْفَوْرِ يَلْزَمُ الْمَأْمُورَ فِعْلُهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ .
وَكَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْكِي ذَلِكَ عَنْ أَصْحَابِنَا ، وَيَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ فِي فَرْضِ الْحَجِّ إنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا وَأَنَّهُ لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهُ .

فارغة المتن

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ بِمَا قَدَّمْنَا ، وَالْفِعْلُ مُرَادٌ مِنْ الْمَأْمُورِ فِي الْحَالِ ، بِدَلَالَةِ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ فِيهَا مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ مُرَادًا بِالْأَمْرِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : افْعَلْهُ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ ، فَلَزِمَ فِعْلُهُ فِي الْحَالِ ، وَاحْتَجْنَا فِي جَوَازِ التَّأْخِيرِ إلَى دَلَالَةٍ ، وَأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَى الْوَقْتِ فَقَالَ : افْعَلْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِيهِ وَلَمْ يَسَعْهُ التَّأْخِيرُ ( إلَى وَقْتٍ غَيْرِهِ .
كَذَلِكَ لَمَّا ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ( أَنَّ ) الْفِعْلَ مُرَادٌ فِي الْحَالِ لَمْ يَجُزْ لَنَا التَّأْخِيرُ ) إلَّا بِدَلَالَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَلَوْ أَخَّرَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ حَتَّى فَعَلَهُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى انْقِضَاءِ عُمُرِهِ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مُرَادٌ بِالْأَمْرِ .
قِيلَ لَهُ : لِمَ قُلْت إنَّهُ مُؤَدٍّ لِلْوَاجِبِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ افْعَلْهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، وَلَا تُؤَخِّرْهُ ، فَإِنْ أَخَّرْته إلَى الْوَقْتِ الثَّانِي فَافْعَلْهُ فِيهِ وَلَا تُؤَخِّرْهُ ، فَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ إذْ قَدْ يَكُونُ مَأْمُورًا بِالتَّعْجِيلِ ثُمَّ إذَا أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي

يَلِيهِ .
فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيهِ ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } فَأَلْزَمَهُ فِعْلُهَا عِنْدَ الذِّكْرِ .
وَمَنَعَهُ التَّأْخِيرَ ، وَلَوْ أَخَّرَهَا كَانَ تَارِكًا لِلْوَاجِبِ وَلَزِمَهُ فِعْلُهَا فِي الثَّانِي وَمَا يَلِيهِ مِنْ الْأَوْقَاتِ .
وَكَالدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ لِلْآدَمِيِّينَ : يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهَا بَعْدَ حَالِ الْوُجُوبِ ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ الْحَالِ لَزِمَهُ فِي الثَّانِي ( أَدَاؤُهُ ) وَإِنْ أَخَّرَهُ لَزِمَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَلِيهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ سُؤَالِ مَنْ اعْتَرَضَ عَلَيْنَا بِمَا وَصَفْنَا ، وَأَنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ مُرَادًا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي إذَا تَرَكَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ .
وَأَيْضًا : فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ مُرَادٌ فِعْلُهُ احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ فِي الْحَالِ إلَى دَلَالَةٍ ( أُخْرَى ) كَمَا احْتَجْنَا فِي جَوَازِ تَرْكِهِ ( رَأْسًا ) إلَى دَلَالَةٍ ، فَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ صُورَةُ الْأَمْرِ عَلَى الْإِيجَابِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَنْ جَعَلَهُ عَلَى الْمُهْلَةِ فَقَدْ أَثْبَتَ تَخْيِيرًا غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ التَّخْيِيرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الدُّيُونَ وَسَائِرَ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَرْطُ التَّأْخِيرِ لَزِمَ أَدَاؤُهَا عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَمْ يَجُزْ لِلَّذِي هِيَ عَلَيْهِ تَأْخِيرُهَا إلَّا بِإِذْنِ الَّذِي لَهُ الْحَقُّ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُقُوقُ اللهِ تَعَالَى ، وَالْمَعْنَى الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ وُجُوبَهُمَا غَيْرُ مُؤَقَّتٍ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ( أَيْضًا ) : أَنَّ الْمُتَعَارَفَ الْمُعْتَادَ مِنْ أَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا وَمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَوَجَبَ مِثْلُهُ فِي أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ صَارَ مُوجِبَ الْقَوْلِ وَمُقْتَضَاهُ ،

وَقَدْ خَاطَبَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُتَعَارَفِ مِنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } .
وَأَيْضًا : فَلَوْ احْتَمَلَ الْفَوْرَ وَالْمُهْلَةَ جَمِيعًا لَكَانَ الْأَخْذُ بِالثِّقَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْحَزْمِ فِي الْمُبَادَرَةِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي دَلَالَةِ وُجُوبِ الْأَمْرِ ، مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ اخْتِرَامَ الْمَنِيَّةِ إيَّاهُ فَيَحْصُلُ مُفْرِطًا فِي التَّأْخِيرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْمُسَارَعَةُ إلَيْهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ اعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ } ، وَقَوْلُهُ { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ } يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا مُبْتَدَأً عَلَى لُزُومِ التَّعْجِيلِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ .
وَدَلِيلٌ آخَرُ : لَا يَخْلُو ( الْقَوْلُ ) فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ إذَا لَمْ يَكُنْ آخِرِ وَقْتِهِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُخَاطَبِ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى مَا قُلْنَا ، أَوْ عَلَى الْمُهْلَةِ عَلَى مَا قَالَ مُخَالِفُنَا .
فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُهْلَةِ لَمْ يَخْلُ الْمَأْمُورُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ تَأْخِيرُهُ أَبَدًا حَتَّى لَا يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ وَلَا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ ، أَوْ يَكُونُ مُفَرِّطًا مُسْتَحِقًّا لِلَّوْمِ إذَا مَاتَ قَبْلَ فِعْلِهِ .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ لَا يَكُونُ مُفَرِّطًا بِتَرْكِهِ فِي حَيَاتِهِ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ حَيِّزِ الْوُجُوبِ وَصَارَ فِي حَيِّزِ النَّوَافِلِ ، لِأَنَّ مَا كَانَ الْمَأْمُورُ مُخَيَّرًا بَيْنَ فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ فَهُوَ نَافِلَةٌ أَوْ مُبَاحٌ ، وَلَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ

الْأَمْرِ بَطَلَ هَذَا الْقَوْلُ .
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يَلْحَقُهُ التَّفْرِيطُ بِالْمَوْتِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْحَقَهُ التَّفْرِيطُ فِي وَقْتٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ الْوَقْتُ الْمُضَيَّقُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ الْفِعْلِ عَنْهُ ، وَلَمْ يُنْصَبْ لَهُ دَلِيلٌ يُوصِلُهُ إلَى الْعِلْمِ بِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ مَنْهِيًّا عَنْ تَأْخِيرِ الْفِعْلِ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي إذَا أَخَّرَهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْ فِعْلَهُ ، كَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَعَبَّدَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعِبَادَةٍ لَا ( يُعْلِمُهُ بِهَا ) وَلَا يَنْصِبُ لَهُ عَلَيْهَا دَلِيلًا ، فَلَمَّا كَانَ آخِرُ عُمُرِ الْإِنْسَانِ الَّذِي يَخْشَى فِيهِ فَوَاتَ الْفِعْلِ غَيْرَ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُكَلَّفَ فِعْلَهُ فِيهِ ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ مُفَرِّطًا بِتَرْكِهِ إلَى أَنْ يَمُوتَ ، فَيَعُودُ الْقَوْلُ فِيهِ إلَى الْقِسْمِ الَّذِي قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى بُطْلَانِهِ ، فَلَمَّا بَطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ تَحْتَمِلْ الْمَسْأَلَةُ وَجْهًا غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا ، وَبَطَلَ الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ صَحَّ الثَّالِثُ .
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ احْتَجَّ بِهَذَا مَرَّةً فَأَلْزَمْتُ عَلَيْهِ الزَّكَوَاتِ وَالنُّذُورَ وَقَضَاءَ ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ وَمَا جَرَى مَجْرَاهُ مِنْ حُقُوقِ اللهِ تَعَالَى ( الَّتِي ) ثَبَتَتْ فِي ذِمَّتِهِ فِي وَقْتٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ ، وَقُلْتُ لَهُ : إنَّ هَذَا الِاعْتِلَالَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لُزُومُ جَمِيعِ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِأَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ بَعْدَ حَالِ وُجُوبِهِ وَثُبُوتِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَالْتَزَمَ ذَلِكَ وَقَالَ : لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ لَا يَسَعُ مَنْ لَزِمَهُ تَأْخِيرُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } وَفِي

بَعْضِ الْأَلْفَاظِ " لَا وَقْتَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ " لَمَّا أَثْبَتَهَا فِي ذِمَّتِهِ مَنَعَهُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِ لُزُومِهَا فِي الذِّمَّةِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ
فِي جَوَازِ تَأْخِيرِهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ لِأَنَّ آخِرَ وَقْتِهَا مَعْلُومٌ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفِعْلُ فِي وَقْتٍ عِنْدَهُ ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ آخِرُ وَقْتِ الْفِعْلِ مُعَيَّنًا فَإِنَّ مُخَالِفَنَا إنَّمَا يَلْزَمُهُ التَّفْرِيطُ فِي وَقْتٍ لَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ آخِرُ أَوْقَاتِهِ ، وَيَجْعَلُهُ مَنْهِيًّا عَنْ تَرْكِ فِعْلٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَمْ يُنْصَبْ لَهُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ .
فَإِنْ ( قَالَ قَائِلٌ ) : قَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : " كَأَنْ يَكُونَ عَلَيَّ قَضَاءُ أَيَّامِ مِنْ رَمَضَانَ فَلَا أَقْضِيهَا إلَّا فِي شَعْبَانَ " ، فَقَدْ كَانَتْ تُؤَخِّرُهَا ، وَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِكُمْ إنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ وَاجِبٌ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّهَا عَلَيْهِ .
وَأَيْضًا : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا أَنَّ قَضَاءَ رَمَضَانَ فَرْضٌ مُوَقَّتٌ بِالسَّنَةِ كُلِّهَا إلَى أَنْ يَجِيءَ رَمَضَانُ آخَرُ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَصَلَاةِ الظُّهْرِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمَنْهِيَّ عَنْ تَأْخِيرِهِ عَنْهُ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ الْأَمْرَ لَمَّا كَانَ عَلَى الْوُجُوبِ اقْتَضَى كَرَاهَةَ تَرْكِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ نُهِيَ عَنْ تَرْكِهِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي تَرْكَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى الْفَوْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : مَا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ اقْتَضَى كَرَاهَةَ تَرْكِهِ فِي الْحَالِ دُونَ أَنْ يَكُونَ قَدْ كُرِهَ مِنْهُ تَرْكُهُ فِي عُمُرِهِ كُلِّهِ .
قِيلَ لَهُ : إذَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ ( قَدْ ) تَضَمَّنَ كَرَاهَةَ التَّرْكِ ( وَ ) كَانَ مَا كَرِهَ تَرْكَهُ فَهُوَ

مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْمَعْنَى صَارَ كَمَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَتْرُكْهُ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ كَرَاهَةَ تَرْكِهِ عَلَى الْفَوْرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ فِعْلُهُ ، وَالْحَالُ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فِي الْقَوْلِ بِإِيجَابِ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ إثْبَاتُ الْوَعِيدِ عَلَى تَارِكِهِ فِي الْحَالِ وَلَفْظُ الْأَمْرِ لَا يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ الْأَمْرِ وَمَا كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ يَقْتَضِي ذَمَّ تَارِكِهِ ، فَلَسْنَا نَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى اسْتِئْنَافِ دَلَالَةٍ عَلَى ذَمِّ تَارِكِهِ ، وَلَوْ صَحَّ هَذَا السُّؤَالُ لَاعْتُرِضَ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْأَمْرِ فِي الْأَصْلِ وَلَسَاغَ لِمَنْ يَنْفِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ رَأْسَا ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِمَنْ نَفَى وُجُوبَ الْأَمْرِ لِلدَّلَائِلِ الدَّالَّةِ عَلَى وُجُوبِهِ ، كَذَلِكَ لَا يُعْتَرَضُ عَلَى الْقَوْلِ بِلُزُومِهِ عَلَى الْفَوْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ وَالْمُرَادُ الْفَوْرُ ، وَقَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ .
وَلَا دَلَالَةَ فِي اللَّفْظِ عَلَى لُزُومِ فِعْلِهِ فِي الْحَالِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْزَامُهُ فِي الْحَالِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَثْبُتْ أَمْرٌ عَلَى الْمُهْلَةِ إلَّا وَآخِرُ وَقْتِهِ مَعْلُومٌ مُعَيَّنٌ .
فَقَوْلُك إنَّهُ قَدْ يَرِدُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ ( خَطَأٌ عَلَى هَذَا الْإِطْلَاقِ )وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ وُرُودُهُ وَالْمُرَادُ الْمُهْلَةُ لَمَّا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ قَوْلِنَا ، لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ بِدَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ كَمَا يَخُصُّ الْعُمُومَ بِدَلَالَةٍ وَكَمَا يُصْرَفُ اللَّفْظُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بِدَلَالَةٍ وَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي ( صِحَّةِ اعْتِبَارِنَا الْقَوْلَ بِالْعُمُومِ ) وَوُجُوبُ حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ لَازِمًا عَلَى الْفَوْرِ لَسَقَطَ فِعْلُهُ بِتَرْكِهِ عَلَى الْفَوْرِ كَمَا يَسْقُطُ الْأَمْرُ الْمُؤَقَّتُ بِتَرْكِ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ .
قِيلَ لَهُ : الَّذِي كَانَ وَاجِبًا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَيْسَ هُوَ الْوَاجِبَ فِي الْوَقْتِ التَّالِي بَلْ قَدْ

سَقَطَ مَا وَجَبَ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ بِفَوَاتِ وَقْتِهِ ، كَمَا سَقَطَ الظُّهْرُ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا ،
وَاَلَّذِي يَجِبُ بَعْدِ الْوَقْتِ فَرْضٌ غَيْرُ الْأَوَّلِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي هَذَا الْوَجْهِ .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَاحْتَجْنَا إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْأَمْرِ فِي إيجَابِهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي ( فَلَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي ) إذَا تَرَكَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَاجِبًا بِالْأَمْرِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ لُزُومَهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْحَالِ دُونَ الْمُهْلَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الظُّهْرُ وَسَائِرُ الْفُرُوضِ الْمُؤَقَّتَةِ لِأَنَّ فَوَاتَ الْوَقْتِ قَبْلَ فِعْلِهَا يُسْقِطُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ فَرْضٌ آخَرُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ بِدَلَالَةٍ أُخْرَى .
قِيلَ لَهُ : إنَّ تَقْرِيرَ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ عِنْدَنَا أَنْ صَلِّ فِي أَوَّلِ حَالِ الْإِمْكَانِ فَإِنْ تَرَكْته فَافْعَلْهُ فِي الثَّانِي فَإِنْ تَرَكْته فَافْعَلْهُ فِي الثَّالِثِ فَتَضَمَّنَ الْأَمْرُ ( فِعْلَهُ ) فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ أَنْ يَكُونَ لُزُومُهُ مُتَعَلِّقًا بِالْأَمْرِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَيَّدَهُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ كَانَ جَائِزًا .
أَلَا تَرَى : أَنَّ مُخَالِفَنَا يَقُولُ مَعَنَا فِيمَنْ تَرَكَ الظُّهْرَ حَتَّى فَاتَ الْوَقْتُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا عِنْدَ الذِّكْرِ ، فَإِنْ أَخَّرَهَا عَنْ حَالِ الذِّكْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ اسْتَحَقَّ اللَّوْمَ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَّرَهَا عَنْ الْوَقْتِ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى جَوَازِ ( تَأْخِيرِهَا ) عَنْ وَقْتِ الذِّكْرِ ، وَبِذَلِكَ وَرَدَ الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَإِنَّ ذَلِكَ وَقْتُهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ } .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانَ لُزُومُ الْأَمْرِ عَلَى الْفَوْرِ لَكَانَ فِعْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ كَالظُّهْرِ إذَا فَاتَ وَقْتُهَا قَبْلَ فِعْلِهَا .

قِيلَ لَهُ : تَسْمِيَتُنَا إيَّاهُ قَضَاءً أَوْ غَيْرَ قَضَاءٍ
إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ ، وَقَدْ قُلْنَا إنَّ الْمَفْعُولَ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي غَيْرُ الْمَتْرُوكِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَأَنَّهُ فَرْضٌ آخَرُ غَيْرُهُ .
فَإِنْ شِئْت بَعْدَ ذَلِكَ ( أَنْ ) تُسَمِّيَهُ ( قَضَاءً ) لَمْ نَمْنَعْك مِنْهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَا لَمْ ( نَتَبَيَّنْ فِي الْخَبَرِ ) عَمَّا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقْتَضِيًا لِلْفَوْرِ ، كَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ } ، وَلَمْ يَدْخُلْهُ عَلَى الْفَوْرِ ، وَكَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لِيَسْتَخْلِفُنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ } ، وَلَمْ يَكُنْ فِي فَوْرِ الْخِطَابِ
وَكَقَوْلِ الْقَائِلِ : وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا وَلَأُكَلِّمَنَّ عَمْرًا فَلَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِثْلَهُ .
قِيلَ لَهُ : وَلِمَ وَجَبَ إذَا ( كَانَ ) الْإِخْبَارُ عَنْ أَمْرٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُقْتَضِيًا لِلْفَوْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مِثْلَهُ ، وَبِأَيَّةِ عِلَّةٍ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، وَكَيْفَ وَجَّهَ دَلَالَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ؟ .
وَعَلَى أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ لَا يَقْتَضِي إلْزَامَ شَيْءٍ لِأَنَّ مَنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَدْخُلَنَّ الدَّارَ وَلَأُكَلِّمَنَّ زَيْدًا لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْقَوْلِ فِعْلُ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } فَأَمَرَهُ بِتَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَنْ يَفْعَلَهُ .
( وَلَا يَحْنَثُ ) فِيهِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا

وَلْيَصْفَحُوا } رُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي شَأْنِ مِسْطَحِ بْنِ أَثَاثَةَ حِينَ حَلَفَ أَبُو بَكْرٍ أَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ لِمَا كَانَ مِنْهُ فِي أَمْرِ عَائِشَةَ ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِتَرْكِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ ، فَثَبَتَ أَنَّ حَلِفَهُ عَلَى فِعْلٍ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ ، فَكَمَا جَازَ لَهُ تَرْكُهُ رَأْسًا فَكَيْفَ لَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ عَلَى الْفَوْرِ .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا وَجَّهَ اسْتِدْلَالَنَا مِنْهُ أَنَّ الْخَبَرَ وَالْيَمِينَ لَمْ تُفِيدَا فِعْلَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَلَى الْفَوْرِ ، وَلَمْ يَقْتَضِ اللَّفْظُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ وَاخْتِلَافُهُمَا مِنْ جِهَةِ مَا يُعَلَّقُ بِالْأَمْرِ مِنْ الْإِيجَابِ دُونَ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا .
قِيلَ لَهُ : فَاَلَّذِي ( فِيهِ ) إلْزَامُ الْفِعْلِ إنَّمَا كَانَ عَلَى الْفَوْرِ مِنْ أَجْلِ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْوُجُوبِ ، وَاَلَّذِي لَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ الْفِعْلِ لَمْ يَقْتَضِ الْحَالَ لِعَدَمِ الْإِلْزَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ وُرُودُ الْأَمْرِ يَقْتَضِي عُمُومَ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ كَانَ لَهُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ مِنْهَا ، لِأَنَّ فِي إلْزَامِهِ إيَّاهُ عَلَى الْفَوْرِ تَخْصِيصًا لِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ .
قِيلَ لَهُ : قَوْلُك إنَّهُ عُمُومٌ فِي الْأَزْمَانِ غَلَطٌ لِأَنَّ الزَّمَانَ غَيْرُ مَذْكُورٍ ، فَيَكُونُ عُمُومًا مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ لِتَرْكِهِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ

وُجُوبُهَا ) ( فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَائِهِ ، كَالدُّيُونِ إذَا أَخَّرَهَا مَنْ هِيَ عَلَيْهِ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهَا ) .
وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ يَقْتَضِي عُمُومُهُ جَوَازَ فِعْلِهِ فِي سَائِرِ الْأَزْمَانِ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُهُ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي الدُّيُونِ الْحَالَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ أَخَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ عَنْ وَقْتِ وُجُوبِهِ لِأَنَّهُ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْحَجِّ ، وَلَمْ يَحُجَّ هُوَ حَتَّى حَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ تَقَدُّمِ فَرْضِ الْحَجِّ عَلَى السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ فِيهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِ الْفَوْرَ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا ( بِسُؤَالٍ فِي ) الْمَسْأَلَةِ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا لِأَنَّ الْكَلَامَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُخَالِفِنَا فِي الْأَصْلِ ، وَنَحْنُ لَا نَأْبَى أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي أَعْيَانِ الْمَسَائِلِ أَنَّهَا مِمَّا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ أَوْ لَا يَجُوزُ يَكُونُ كَلَامًا فِي الدَّلَالَةِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِعَيْنِهَا ، وَفِي ذَلِكَ خُرُوجٌ عَنْ مَسْأَلَتِنَا وَكَلَامٌ فِي غَيْرِهَا ، كَمَا أَنَّ الْكَلَامَ فِي دَلَالَةِ التَّخْصِيصِ لَفْظٌ ( ظَاهِرُهُ ) الْعُمُومُ لَيْسَ هُوَ كَلَامًا فِي أَصْلِ الْقَوْلِ بِالْعُمُومِ أَوْ نَفْيِهِ وَلَا قَادِحًا فِيهِ ، فَلَوْ صَحَّ أَنَّ وُجُوبَ الْحَجِّ قَدْ كَانَ مُتَقَدِّمًا لِلسَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا لَمَا دَلَّ ( ذَلِكَ ) عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَهُ لِعُذْرٍ ( أَوْجَبَ تَأْخِيرَهُ ) ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ قِيلَ إنَّ

فَرْضَ الْحَجِّ إنَّمَا نَزَلَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ وَهِيَ السَّنَةُ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، وَقِيلَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ .
فَإِنْ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعٍ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ حَجَّةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ فَقَدْ انْتَفَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا قَبْلَهُ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ( هَذَا ) ظَاهِرُ الْحَالِ ( وَهُوَ ) أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمْ يَحُجَّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُضُورِ الْمَوْسِمِ وَالْوُقُوفِ بِتِلْكَ الْمَشَاهِدِ مُتَنَفِّلًا بِهِ عَلَى الرَّسْمِ الَّذِي كَانُوا يَحُجُّونَهُ ، لِيَعْلَمَ الْعَرَبُ وَمَنْ شَهِدَ ذَلِكَ الْمَوْسِمَ أَنَّ مِنْ شَرِيعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِعْلَ الْحَجِّ اقْتِدَاءً بِسُنَّةِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالدَّلِيلُ : عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ فَرْضِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ خَطَبَ النَّاسَ فِي عَرَفَاتٍ فَقَالَ : إنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ } فَرُوِيَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْحَجَّ قَدْ صَارَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ إلَى

الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى ( الْحَجَّ ) فِيهِ حِينَ أَمَرَ بِهِ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ ( قَبْلَ ذَلِكَ ) يُنْسِئُونَ الشُّهُورَ فَيَتَّفِقُ الْحَجُّ فِي أَكْثَرِ السِّنِينَ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ الْمَأْمُورِ فِيهِ ، وَاتَّفَقَ عَوْدُهُ إلَى وَقْتِهِ الْمَفْرُوضِ فِيهِ فِي السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا مَحَالَةَ إذَا كَانَ هَذَا هَكَذَا أَنَّ حَجَّ أَبِي بَكْرٍ كَانَ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ ، فَلَمْ يَكُنْ مَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَمَنْ حَجَّ مَعَهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ وُجُوبُهُ قَبْلَ تِلْكَ السَّنَةِ الَّتِي حَجَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا .
وَكَانَ ( شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَجُّ لِعُذْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَأَخُّرِهِ عَنْ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الَّتِي بَعَثَ فِيهَا أَبَا بَكْرٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ كَانُوا يَحُجُّونَ الْبَيْتَ وَكَانَتْ تَلْبِيَتُهُمْ شِرْكًا وَكُفْرًا ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، فَصَانَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُشَاهَدَةِ ذَلِكَ ، فَأَمَرَهُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ إلَى السَّنَةِ الْأُخْرَى لِيَنْبِذَ إلَى الْمُشْرِكِينَ عُهُودَهُمْ فِي تِلْكَ السَّنَةِ وَقَالَ : { لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ } وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ

كَغَيْرِهِ لِأَنَّ مَنْ كَشَفَ عَوْرَتَهُ بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتِخْفَافًا كَانَ كَافِرًا .
وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِحَضْرَةِ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ أَقَامَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمٌ لَمْ يَحُجُّوا ، قِيلَ ( لَهُ ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ بِأَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ هُنَاكَ وَحَوْلَ الْمَدِينَةِ ، فَكَانُوا مَعْذُورِينَ فِي الْمَقَامِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ { حَبَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ بَرَاءَةٌ وَأَمَرَهُ أَنْ يَلْحَقَ أَبَا بَكْرٍ فَيَقْرَأُ سُورَةَ بَرَاءَةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْمَوْسِمِ فَبَعَثَ بِهِ بَعْدَ أَنْ حَبَسَهُ عِنْدَهُ } ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا فِي الِابْتِدَاءِ إذَنْ قَدْ جَازَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ بَعْدَ حَبْسِهِ نَدْبًا .
قِيلَ لَهُ : قَدْ كَانَ كَوْنُهُ عِنْد النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرْضًا فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ لَزِمَهُ فَرْضُ الْخُرُوجِ لِلتَّبْلِيغِ عَنْهُ فِيمَا عَهِدَ إلَيْهِ فِيهِ ، فَقَدْ كَانَ هَذَا أَوْجَبَ مِنْ الْأَوَّلِ فَلِذَلِكَ بَعَثَ بِهِ .

فارغة

الْبَابُ الثَّلَاثُونَ فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ لَهُ أَوَّلٌ وَآخِرٌ وَأُجِيزَ لَهُ تَأْخِيرُهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ نَحْوُ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ مُخْتَلِفُونَ فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ .
فَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : قَدْ وَجَبَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا فَإِذَا انْتَهَى إلَى آخِرِ الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ مَا يُؤَدِّي فِيهِ الْفَرْضَ صَارَ وُجُوبُهُ مُضَيَّقًا .
وَكَذَلِكَ قَالَ هَؤُلَاءِ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا قَدْ وَجَبَتْ بِوُجُودِ النِّصَابِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا إلَى آخِرِ الْحَوْلِ فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ صَارَ وُجُوبُهَا مُضَيَّقًا ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُمْ فِي الشَّرِيعَةِ يَتَعَلَّقُ بِالشَّيْءِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : ثُبُوتُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَلُزُومُهُ إيَّاهُ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ مَعَهُ الْفِعْلُ .
وَالْآخَرُ : وُجُوبُ الْأَدَاءِ كَالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ ، أَنَّ وُجُوبَهُ قَدْ تَعَلَّقَ فِي ذِمَّتِهِ وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَدَاءُ فِي الْحَالِ ثُمَّ إذَا أَحَلَّ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْأَدَاءِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ قَدْ تَعَلَّقَ وُجُوبُهُ فِي ذِمَّتِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُلُولِ الْأَجَلِ لَمَا صَحَّ الْعَقْدُ إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُدُوثُ الْمِلْكِ فِيهِ بِمَجِيءِ الْوَقْتِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَدْ بِعْتُك هَذَا الْعَبْدَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ وُجُوبَ الْمِلْكِ عَلَى مَجِيءِ الْوَقْتِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ قَدْ مُلِكَ فِي ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ أَدَاؤُهُ إلَّا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ .
قَالُوا : فَكَذَلِكَ الْفَرْضُ قَدْ وَجَبَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وُجُوبًا مُوَسَّعًا حَتَّى إذَا صَارَ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهُ الْأَدَاءُ وَلَمْ يَسْعَهُ التَّأْخِيرُ .

وَقَدْ حُكِيَ لَنَا مَعْنَى هَذَا الْمَذْهَبِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ شُجَاعٍ الثَّلْجِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا : إنَّ الْوُجُوبَ فِي مِثْلِهِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الْوَقْتِ فَإِنَّ أَوَّلَ الْوَقْتِ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ شَيْئًا .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا ، فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : إنَّ مَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلٌ يَمْنَعُ لُزُومَ الْفُرُوضِ فِي آخِرِهِ ، مِثْلُ رَجُلٍ مُحْدِثٍ تَوَضَّأَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ مُتَنَفِّلًا بِطَهَارَتِهِ وَمَنَعَ ذَلِكَ لُزُومَ ( فَرْضِ ) الطَّهَارَةِ ( لَهُ ) عِنْدَ مَجِيءِ ( وَقْتِ ) الْفَرْضِ .
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الزَّكَاةِ إذَا عَجَّلَهَا قَبْلَ الْحَوْلِ بَعْدَ وُجُودِ النِّصَابِ .
وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا بِمَا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِيهِ : أَنَّ امْرَأَةً لَوْ حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا قَضَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَافَرَ رَجُلٌ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهُ الْقَصْرُ وَلَمْ يَكُنْ لِمَا سَلَفَ مِنْ الْوَقْتِ تَأْثِيرٌ فِي لُزُومِ الْفَرْضِ .
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ امْرَأَةً لَوْ طَهُرَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَزِمَهَا فَرْضُ الصَّلَاةِ .
وَلَوْ أَنَّ مُسَافِرًا أَقَامَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ لَزِمَهُ الْإِتْمَامُ ، قَالُوا فَلَمَّا كَانَ هَذَا هَكَذَا عَلِمْنَا أَنَّ لُزُومَ فَرْضِ الصَّلَاةِ مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَأَنَّ مَا قَبْلَ ذَلِكَ ( مِنْ ) الْوَقْتِ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْإِيجَابِ .
وَقَالَتْ الْفِرْقَةُ الْأُخْرَى مِنْ أَصْحَابِنَا : مَا فَعَلَهُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مُرَاعًى فَإِنْ لَحِقَ آخِرَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا كَانَ مَا أَدَّاهُ فَرْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْل الْخِطَابِ بِهَا كَانَ الْمَفْعُولُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلًا .

وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الزَّكَاةِ إذَا عَجَّلَهَا بَعْدَ وُجُوبِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ مِنْ أَهْلِ الْخِطَابِ بِهَا كَانَ الْمُؤَدَّى فَرْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَانَ الْمُؤَدَّى تَطَوُّعًا .
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ لَهُ أَرْبَعُونَ مِنْ الْغَنَمِ فَعَجَّلَ
لِلْمُصَدِّقِ شَاةً ثُمَّ حَالَ الْحَوْلُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا ثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثُونَ شَاةً أَنَّهُ يَأْخُذُ الشَّاةَ مِنْ الْمُصَدِّقِ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا .
وَإِنْ حَالَ الْحَوْلُ وَعِنْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ أَجْزَأَتْهُ الشَّاةُ عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا ، فَجَعَلُوا حُكْمَ الشَّاةِ مُرَاعًى فِي جَوَازِهَا عَنْ الْفَرْضِ وَكَوْنِهَا غَيْرَ مُجْزِيَةٍ عَنْهُ .
قَالُوا : وَلَيْسَ يَمْنَعُ فِي الْأُصُولِ أَنْ يَكُونَ الْمَفْعُولُ عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ مُرَاعًى بِمَوْقُوفِ الْحُكْمِ فَيَصِيرُ تَارَةً فِي حَيِّزِ الْوَاجِبِ وَتَارَةً فِي حَيِّزِ النَّفْلِ .
أَلَا ( تَرَى ) : أَنَّ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا لَوْ صَلَّى الظُّهْرَ فِي بَيْتِهِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ كَانَ ظُهْرُهُ مُرَاعًى فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامُ بَعْدَ ذَلِكَ فَصَلَّى مَعَهُ الْجُمُعَةَ تَبَيَّنَّا أَنَّ الْأُولَى لَمْ تَكُنْ ظُهْرًا وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ الْجُمُعَةَ كَانَتْ الْأُولَى ظُهْرًا .
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) : وَاَلَّذِي حَصَّلْنَاهُ عَنْ ( شَيْخِنَا ) أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ الظُّهْرِ كُلَّهُ وَقْتٌ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالْوَاجِبُ يَتَعَيَّنُ فِيهِ بِأَحَدِ وَقْتَيْنِ .
أَمَّا إذَا لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى آخِرِهِ فَإِنَّ الْوُجُوبَ يَتَعَيَّنُ ( عَلَيْهِ بِآخِرِ الْوَقْتِ وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي لَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهَا عَنْهُ .
وَأَمَّا إذَا فَعَلَهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ يَتَعَيَّنُ ) بِالْوَقْتِ الْمَفْعُولِ فِيهِ الصَّلَاةُ كَمَا يَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ

فارغة المتن

فِي وَاحِدٍ كَالْحِنْثِ حَتَّى إذَا فَعَلَ أَحَدَهَا تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الْوُجُوبِ فَكَانَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ .
وَكَمَا يَقُولُ فِيمَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ مِنْ صُبْرَةٍ إنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِنَفْسِ الْعَيْنِ ، فَإِنْ كَالَ مِنْهَا قَفِيزًا وَسَلَّمَهُ تَعَيَّنَ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمَبِيعُ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا تَعَيَّنَ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ
بِالتَّسْلِيمِ ، كَذَلِكَ حُكْمُ الْوُجُوبِ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْفِعْلِ ( وَإِنْ كَانَ لَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَقْتِ تَأْثِيرٌ فِي وُجُوبِهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَيَّنَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ ) لِأَنَّ الْمَفْعُولَ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ وَلَا الْأَمْرُ بِهِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حُكْمُ الْإِيجَابِ بِمَا لَمْ يَفْعَلْهُ مِمَّا يَصِحُّ وُقُوعُهُ مِنْهُ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ إنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ تَوَجَّهَ إلَيْهِ فِي حَالِ الْفِعْلِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ وَهُوَ كَمَا نَقُولُ فِي الْحَانِثِ فِي يَمِينِهِ إنَّهُ مَتَى فَعَلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْوُجُوبِ ( بِالْمَفْعُولِ مِنْهَا وَانْتَفَى عَمَّا لَمْ يَفْعَلْ ، فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ تَعَيَّنَ الْوُجُوبُ ) فِيهِ بِالْأَمْرِ ، وَكَمَا يَلْزَمُهُ فَرْضُ أَدَاءِ الزَّكَاةِ

إلَى مَسَاكِينَ لَمْ يَتَعَيَّنُوا بِوُجُوبِ الْفَرْضِ ثُمَّ إذَا أَعْطَاهَا مَسَاكِينَ بِأَعْيَانِهِمْ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْوُجُوبِ فِيهِمْ وَإِنْ كَانَ لَهُ فِي الِابْتِدَاءِ الِانْصِرَافُ عَنْهُمْ ( إلَى غَيْرِهِمْ ) .
فَإِنْ قَالَ : لَا يُشْبِهُ مَا ذَكَرْت كَفَّارَةَ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ وُجُوبُ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بِالْحِنْثِ فِي الْحَالِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّهَا شَاءَ ، فَأَيَّهَا فَعَلَ كَانَ هُوَ الْوَاجِبَ ، وَأَنْتَ لَا تَقُولُ إنَّهُ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ وُجُوبُ إحْدَى الصَّلَوَاتِ الَّتِي ( لَمْ ) يُمْكِنْ فِعْلُهَا فِي الْوَقْتِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ، لِأَنَّهُ ( إنَّمَا يُمْكِنُهُ ) فِعْلُهَا عَلَى حَسَبِ مَجِيءِ الْأَوْقَاتِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى فِعْلِ أَيُّهَا شَاءَ بِدُخُولِ الْوَقْتِ ، كَمَا يُمْكِنُهُ فِعْلُ أَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِالْحِنْثِ فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَدْ وَجَبَتْ وُجُوبًا مُوَسَّعًا أَوْ أَنْ يَكُونَ فَاعِلُهَا مُتَنَفِّلًا .
قِيلَ لَهُ : لَا يُوجِبُ مَا ذَكَرْت الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا
، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَعَلُّقَ فِعْلِ الصَّلَاةِ بِالْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ قَدْ تَوَجَّهَ إلَيْهِ بِهَا فِي أَنْ يَفْعَلَ مَا شَاءَ مِنْهَا إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : إنْ ( شِئْت ) تُصَلِّي الظُّهْرَ فَصَلِّهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي الثَّانِي وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَفِي الثَّالِثِ عَلَى أَنَّك مُخَيَّرٌ فِيهَا ، فَلَا يَخْتَلِفُ حُكْمُهَا وَحُكْمُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِأَنَّ حُكْمَ الْوُجُوبِ قَدْ تَعَلَّقَ عَلَيْهِ بِفِعْلِهَا فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ تَرْكِهَا إلَى صَلَاةٍ أُخْرَى تَلِيهَا ، كَمَا تَعَلَّقَ ( حُكْمُ ) الْوُجُوبِ بِأَحَدِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الْكَفَّارَةِ لَا بِجَمِيعِهَا لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ جَمِيعُهَا فِي الْإِيجَابِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ كَفَّرَ بِالْجَمِيعِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ الْوَاجِبُ إلَّا وَاحِدًا مِنْهَا كَمَا لَا يَكُونُ الْوَاجِبُ إلَّا إحْدَى الصَّلَوَاتِ الْمَفْعُولَةِ فِي الْوَقْتِ دُونَ جَمِيعِهَا .
وَكَانَ ( شَيْخُنَا ) أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَتَعَلَّقْ وُجُوبُهُ بِأَوَّلِ الْوَقْتِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ فِيهِ أَنَّ لَهُ تَأْخِيرَهَا عَنْهُ لَا إلَى بَدَلٍ ، لِأَنَّ الْمَفْعُولَ فِي آخِرِ الْوَقْتِ لَيْسَ بِبَدَلٍ

عَنْ الْمَتْرُوكِ فِي أَوَّلِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ لَمَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا ( كَانَ ) لَهُ تَرْكُهُ ( انْصَرَفَ ) عَنْهُ لَا إلَى بَدَلٍ مِنْهُ فَلَيْسَ بِفَرْضٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ نَفْلٌ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لَهُ تَرْكُهُ لَا إلَى بَدَلٍ .
قِيلَ ( لَهُ ) : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إذَا تَرَكَهُ انْصَرَفَ عَنْهُ لَا إلَى بَدَلٍ مِنْهُ ، لِأَنَّ بَعْضَهَا لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ بَعْضٍ ، وَأَيَّهَا فَعَلَ مَعَ ذَلِكَ كَانَ فَرْضًا وَلَمْ يَكُنْ نَفْلًا .
وَكَذَلِكَ تَارِكُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ وَإِنْ كَانَ تَارِكًا لَهَا لَا إلَى بَدَلٍ مِنْهَا فَلَيْسَ يَمْنَعُ
ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَتَى فَعَلَهَا تَعَلَّقَ فِيهَا حُكْمُ الْوُجُوبِ بِالْفِعْلِ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لَيْسَ بِنَفْلٍ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوَّلُ وَقْتِ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ } .
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَرَادَ ( بِهِ ) وَقْتَ النَّفْلِ الَّذِي يَمْنَعُ وُجُوبَ الظُّهْرِ .

قِيلَ لَهُ : الظُّهْرُ لَا يَكُونُ نَفْلًا وَقَدْ جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقْتًا لَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ فَاعِلٌ لِلْفَرْضِ ، إذْ كَانَ لَا يَصِحّ أَنْ يُقَال إنَّهُ وَقْت الظُّهْر إلَّا وَقَدْ جَعَلَ وَقْتًا لِوُجُوبِهَا أَوْ لِأَدَائِهَا ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يرد الْوُجُوبَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ وَقْتٌ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ .
وَيَلْزَمُ هَذَا الْقَائِلَ أَنْ يَقُولَ : إنَّ مُصَلِّيَ الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتٍ مُصَلِّي نَفْلٍ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا يُتَنَفَّلُ بِهَا بِحَالٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ يَخْلُو وَقْتُ الْوُجُوبِ ( مِنْ أَنْ يَكُونَ ) مِقْدَارَ مَا يَلْحَقُ فِيهِ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ فَيَلْزَمُ الطَّاهِرَ مِنْ الْحَيْضِ فَرْضُهَا ، وَيَلْزَمُ الْمُسَافِرَ الْإِتْمَامُ إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ فِيهِ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ مُتَعَلِّقًا فِي الْوَقْتِ بِمِقْدَارِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فِيهِ قَبْلَ خُرُوجِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ بِآخِرِ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْحَقُ فِيهِ مِقْدَارَ الِافْتِتَاحِ فَوَاجِبٌ أَلَّا يَأْثَمَ بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ ، لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَعَيَّنُ ( عَلَيْهِ إلَّا فِيهِ ) فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ ، فَإِنْ كَانَ يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ مِنْ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فِي ( أَوَّلِ ) الْوَقْتِ ( الَّذِي ) يَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ عَنْهُ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَزِمَك عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ فِي الْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي تَكُونُ مُسِيئَةً بِتَأْخِيرِ الِافْتِتَاحِ أَنْ يَلْزَمَهَا فَرْضُ
الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا قَدْ أَدْرَكَتْ مِنْ وَقْتِ الْفَرْضِ مِقْدَارَ الِافْتِتَاحِ ، كَمَا قُلْت فِيمَنْ طَهُرَتْ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مَا يُمْكِنُهَا فِيهِ الِافْتِتَاحُ لَزِمَهَا فَرْضُ الْوَقْتِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّ لُزُومَ فَرْضِ الْوَقْتِ عِنْدَنَا مُتَعَلِّقٌ بِآخِرِهِ وَهُوَ مِقْدَارُ مَا يَلْحَقُ فِيهِ الِافْتِتَاحَ ، وَمَا قَبْلَهُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْوُجُوبِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الطَّاهِرَ إذَا حَاضَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ فَرْضُ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ أَدْرَكَتْ مِنْهُ وَهِيَ طَاهِرٌ الْمِقْدَارَ الَّذِي لَوْ تَحَرَّمَتْ فِيهِ بِالصَّلَاةِ لَمْ يُمْكِنْهَا قَضَاؤُهَا

حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ ، لِأَنَّهَا لَمْ تَلْحَقْ وَقْتَ الْوُجُوبِ ، وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْ التَّأْخِيرِ إذَا لَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مِقْدَارُ مَا يُصَلِّي فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَهَا لَحَصَلَ فِعْلُ بَعْضِ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَمُنِعَ مِنْ التَّأْخِيرِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْ التَّأْخِيرِ بِمُوجَبِ أَنْ يَكُونَ هُوَ وَقْتَ لُزُومِ الْفَرْضِ ، إذْ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ لِمَعْنًى غَيْرِهِ .
كَمَا يَقُولُ فِيمَنْ أَدْرَكَ مِنْ وَقْتِ الْفَجْرِ مِقْدَارَ مَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَةً إنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ التَّحْرِيمَةِ ، لِأَنَّ بَعْضَ صَلَاتِهِ تَحْصُلُ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِنْ كَانَ مُدْرِكًا لِوَقْتِ الْفَرْضِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُؤْمَرَ بِتَقْدِيمِ الْفِعْلِ عَلَى وَقْتِ لُزُومِ الْفَرْضِ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا ( بِفِعْلِ الصَّلَاةِ قَبْلَ وُجُودِ وَقْتِ وُجُوبِهَا وَيُنْهَى عَنْ تَرْكِهَا ، وَهَلْ صُورَةُ الْوَاجِبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِفِعْلِهِ مَنْهِيًّا ) عَنْ تَرْكِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ هُوَ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ الْإِسَاءَةُ بِتَأْخِيرِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ يَمْتَنِعُ هَذَا فِي الْأُصُولِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ لِلْمُتَمَتِّعِ قَبْلَ وُجُوبِهِ يَوْمَ النَّحْرِ ، لِأَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ هُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْهَدْيُ وَالصَّوْمُ بَدَلٌ مِنْهُ ثُمَّ أَمَرَ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهِ لِئَلَّا يَحْصُلَ فِي الْوَقْتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيهِ الصَّوْمُ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَأْمُورًا بِتَقْدِيمِ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ عَلَى وَقْتِ وُجُوبِهَا لِئَلَّا يَحْصُلَ فِعْلُ بَعْضِهَا بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ .

فارغة

الْبَابُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ: فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ؟ .
وَفِيهِ فَصْلٌ : الْأَمْرُ إذَا كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِوَقْتٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ؟.
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هَلْ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ أَمْ لَا ؟ فَقَالَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ : لَا يَجِبُ التَّكْرَارُ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، وَمَتَى فَعَلَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ قَضَى عُهْدَةَ الْأَمْرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : أَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْفِعْلَ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهَا ، إلَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ حَمْلُهُ عَلَى الْأَقَلِّ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى إرَادَةِ أَكْثَرَ مِنْهَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَلْزَمُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا قَوْلُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : طَلِّقِي نَفْسَك أَنَّ هَذَا عَلَى وَاحِدَةٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ ثَلَاثًا فَيَكُونُ ثَلَاثًا ، وَقَوْلُهُمْ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : تَزَوَّجْ أَنَّهُ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ ثِنْتَيْنِ فَيَكُونُ ( الْأَمْرُ ) عَلَى مَا عَنَى ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ فِي الْأَمْرِ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِعَدَدٍ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ مَرَّةً وَاحِدَةً ( وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْمَلُ عَلَى الْأَكْثَرِ إلَّا بِدَلَالَةٍ ) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى غَيْرِهِ .

الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ ( الْأَوَّلِ ) أَنَّهُ مَتَى فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً فَقَدْ تَنَاوَلَهُ إطْلَاقُ الْوَصْفِ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَلَا يَقُولُ أَحَدٌ أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ لَمَا جَازَ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ قَدْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ .

فَإِنْ قِيلَ : فَإِذَا فَعَلَهُ مَرَّةً أُخْرَى وَثَالِثَةً يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ ( قَدْ ) فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي الْأَمْرِ مِنْ حَيْثُ صَلَحَ لَهُ اللَّفْظُ عَلَى مَوْضُوعِك .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَجْعَلْ جَوَازَ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الْأَمْرِ فَيَلْزَمُنَا مَا ذَكَرْت ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَمَّا كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ ، وَلَمْ يَقْتَضِ الْأَمْرُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَنْ أَثْبَتَ شَيْئًا غَيْرَهُ احْتَاجَ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ لَفْظِ الْأَمْرِ ، وَعَلَى أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ أَنَّهُ إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً ثَانِيَةً وَثَالِثَةً فَقَالَ إنَّهُ قَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ خَطَأً ، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ ( فِعْلُهُ ) فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ آتِيًا بِمَا أُمِرَ بِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ نَفْلًا وَتَطَوُّعًا فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ فِي إيجَابِ التَّكْرَارِ إثْبَاتَ عَدَدٍ وَجَمْعٍ لَيْسَ اللَّفْظُ مَوْضُوعًا لَهُ وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ ذَلِكَ إلَّا بِلَفْظٍ أَوْ دَلَالَةٍ فَلَمْ يَجِبْ التَّكْرَارُ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : أَنَّ لِلتَّكْرَارِ لَفْظًا مَوْضُوعًا فِي اللُّغَةِ ، نَحْوُ قَوْلِهِمْ كُلٌّ وَكُلَّمَا وَلِغَيْرِ التَّكْرَارِ صِيغَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِيهَا ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إيجَابُ التَّكْرَارِ إلَّا مَعَ وُجُودِ حَرْفِ التَّكْرَارِ وَقِيَامِ دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ الْخَبَرِ عَنْ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ فِي الْإِثْبَاتِ فُعِلَ مَرَّةً وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهَا ، كَقَوْلِك : دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ أَوْ سَيَدْخُلُهَا لَا يُعْقَلُ مِنْهُ التَّكْرَارُ ، وَلَوْ قَالَ بَدَلَ هَذَا : قَدْ دَخَلَهَا كُلَّ يَوْمٍ أَوْ كُلَّمَا مَضَى يَوْمٌ كَانَ الْمَعْقُولُ مِنْهُ وُجُودَ الدُّخُولِ مُكَرَّرًا عَلَى حَسَبِ عَدَدِ الْأَيَّامِ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يُفَارِقْهُ لَفْظُ التَّكْرَارِ .

وَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ التَّكْرَارِ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ حَرْفُ التَّكْرَارِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَرْفِ
التَّكْرَارِ عَمَّا ذُكِرَ فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لِمَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْأَمْرُ وَكَانَ مَتَى فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي أَيِّ زَمَانٍ كَانَ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أُرِيدَ مِنْهُ الْفِعْلُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ : افْعَلْهُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَ خَمْسِينَ سَنَةً كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْغَرَضِ فِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَمَعْلُومٌ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ مِنْهُ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ الِاتِّصَالِ وَالدَّوَامِ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا لِعَجْزِهِ عَنْهُ وَلِانْقِطَاعِهِ ( بِهِ ) عَنْ سَائِرِ الْفُرُوضِ ، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِ قَوْلِك أَنَّهُ ( مِنْ ) حَيْثُ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ ( الْأَوْقَاتُ ) كُلُّهَا وَقْتًا لِلْفِعْلِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ فَهَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّا نَقُولُ : إنَّمَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ فِي أَيِّ وَقْتٍ فَعَلَهُ مِنْ عُمْرِهِ مَا لَمْ يَفْعَلْ الْمَأْمُورَ بِهِ مَرَّةً ، فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ مَرَّةً فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي يُوجَدُ بَعْدَ الْفِعْلِ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِلْفَرْضِ ، كَمَا يَقُولُ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا إنَّ فَرْضَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْوَقْتِ مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ فَعَلَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً مَا بَيْنَ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهَا وَلَمْ يَكُنْ مَا بَعْدَ وُقُوعِ الْفِعْلِ وَقْتًا لِلْوُجُوبِ ، وَلَمْ يَجِبْ مِنْ أَجْلِ كَوْنِ الْوَقْتِ كُلِّهِ وَقْتًا لَهَا مَا لَمْ يُقَيِّدْهَا بِأَنْ يَكُونَ فِعْلُ الظُّهْرِ وَاجِبًا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ مِنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ إلَى آخِرِهِ .
وَأَيْضًا : لَوْ كَانَ الْأَمْرُ ( يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ) لَمَا كَانَ بَعْضُ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ مِنْ بَعْضٍ ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا مُتَسَاوِيَةً فِي بَابِ وُجُوبِ فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِيهِ ، وَهَذَا مُقْتَضَى وُجُوبِ فِعْلِهِ دَائِمًا مُتَّصِلًا غَيْرَ مُنْقَطِعٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، فَإِذَنْ الْمُرَادُ مِنْهُ فِعْلُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا بِأَوْلَى بِإِيقَاعِ الْفِعْلِ مِنْ بَعْضٍ فَيَحْصُلُ الْأَمْرُ مُجْمَلًا مُفْتَقِرًا إلَى الْبَيَانِ غَيْرَ مَعْلُومٍ مِنْهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ .
وَلَمَّا اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِفِعْلٍ ظَاهِرِ الْمَعْنَى بَيِّنَ الْمُرَادِ يَلْزَمُهُ فِعْلُهُ قَبْلَ وُرُودِ بَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِيهِ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ فِي الْأَوْقَاتِ إذْ كَانَ وُجُوبُ اعْتِبَارِ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى

أَنْ يَكُونَ لُزُومُ الْمَأْمُورِ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى وُرُودِ بَيَانِ الْوَقْتِ .
فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعُمُومِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ أَبَدًا حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْخُصُوصِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْوَقْتَ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْأَمْرِ فَيُعْتَبَرُ عُمُومُهُ ، فَقَوْلُك إنَّ اعْتِبَارَ فِعْلِهِ فِي الْأَوْقَاتِ وَاجِبٌ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ خُصُوصِهِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ خَطَأً .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَقْتُ مَذْكُورًا بِلَفْظِ عُمُومٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عُمُومًا فِي الْأَمْرِ ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ } لَيْسَ بِعُمُومٍ فِي الْحَجِّ ( لِأَنَّهُ ) مَذْكُورٌ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ ( ذِكْرِ ) عُمُومِ الْوَقْتِ ( لَوْ ذُكِرَ ) مَعَ عَدَمِ لَفْظِ الْعُمُومِ فِي الْمَأْمُورِ بِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ : اُدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ كَانَ الَّذِي يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ دُخُولُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فِي الْيَوْمِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مَذْكُورًا بِعُمُومِ لَفْظٍ يَنْتَظِمُ سَائِرَ أَجْزَائِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا : { أَنَّ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً ؟ فَقَالَ بَلْ حَجَّةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ ، وَلَوْ وَجَبَتْ ثُمَّ تَرَكْتُمُوهُ لَضَلَلْتُمْ } قَدْ حَوَى هَذَا الْخَبَرُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّ التَّكْرَارَ لَوْ كَانَ مَعْقُولًا مِنْ الْآيَةِ لَمَا سَأَلَ الْأَقْرَعَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ اللِّسَانِ .
وَالثَّانِي : قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ " بَلْ حَجَّةً وَاحِدَةً " فَأَخْبَرَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ إيجَابَ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ .
وَالثَّالِثُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " وَلَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ " فَأَخْبَرَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ نَعَمْ كَانَ وَاجِبًا بِقَوْلِهِ لَا بِالْآيَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَوْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ وُجُوبَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً لَمَا سَأَلَ عَنْهُ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يُشْكَلْ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَقْتَضِ فِعْلَهُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ هَلْ أَرَادَ بِالْأَمْرِ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ ، أَوْ هَلْ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حُكْمٌ فِي إيجَابِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ زِيَادَةً عَلَى مَا اقْتَضَتْ الْآيَةُ ( وُجُوبَهُ ) فَأَخْبَرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ غَيْرَ مَا فِي الْآيَةِ .

وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ الْمَعْقُولَ مِنْ مُخَاطَبَاتِنَا فِيمَا بَيْنَنَا أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَعْطِ هَذَا الْفَقِيرَ دِرْهَمًا أَنَّهُ لَمْ يَقْتَضِ أَمْرُهُ أَنْ يَفْعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ مُكَرَّرًا دَائِمًا مُتَّصِلًا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خِطَابُ اللهِ تَعَالَى وَخِطَابُ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحْمُولًا عَلَى ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ } .
وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي هَذَا كَالنَّهْيِ ، لِأَنَّ النَّهْيَ يَقْتَضِي نَفْيَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَفِيَ أَبَدًا .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ أَدْخَلَ حَرْفَ النَّفْيِ عَلَى الْخَبَرِ كَانَ الْمُخْبَرُ عَنْهُ مُنْتَفِيًا أَبَدًا ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَا دَخَلَ زَيْدٌ الدَّارَ أَوْ قَالَ لَا يَدْخُلُهَا فَعَلَّقَ الْخَبَرَ عَلَى مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ بِحَرْفِ النَّفْيِ عَلَّقَ بِهِ ( نَفْيَ ) جَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَمْرُ لِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي الْإِثْبَاتَ ، وَالْخَبَرُ إذَا وَقَعَ عَنْ إثْبَاتِ فِعْلٍ مَاضٍ أَوْ مُسْتَقْبَلٍ لَمْ يَقْتَضِ التَّكْرَارَ .
كَذَلِكَ الْأَمْرُ إذَا كَانَ مَوْضُوعُهُ الْإِثْبَاتَ فَمَتَى فُعِلَ الْمَأْمُورُ بِهِ مَرَّةً فَقَدْ أَدَّى مُوجِبَ الْأَمْرِ ، وَإِنْ فَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ مَرَّةً لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ النَّهْيِ فِيمَا بَعْدُ لِأَنَّ النَّهْيَ لَمَّا تَنَاوَلَ نَفْيَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ صَارَ كَمَنْ قِيلَ لَهُ : لَا تَفْعَلْ ( ذَلِكَ ) فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ ، فَإِذَا أَوْقَعَ الْفِعْلَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لَمْ يَبْطُلْ حُكْمُ النَّهْيِ عَنْ فِعْلِهِ فِي بَاقِي الْأَوْقَاتِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمَّا تَضَمَّنَ الْأَمْرُ وُجُوبَ الِاعْتِقَادِ ( لِلُزُومِ ) فِعْلِهِ كَمَا تَضَمَّنَ وُجُوبَ

الْفِعْلِ ثُمَّ كَانَ الِاعْتِقَادُ لِوُجُوبِ فِعْلِهِ لَازِمًا عَلَى وَجْهِ التَّكْرَارِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ الْفِعْلُ لِأَنَّ كِلَيْهِمَا مِنْ مَضْمُونِ الْأَمْرِ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الِاعْتِقَادِ بَلْ يَكْفِيهِ الِاعْتِقَادُ الْأَوَّلُ إلَى أَنْ يُوقِعَ الْفِعْلَ ، فَقَوْلُك : إنَّ الْأَمْرَ يَتَضَمَّنُ تَكْرَارَ الِاعْتِقَادِ خَطَأٌ .
وَأَيْضًا : لَوْ فَعَلَهُ عَقِيبَ وُرُودِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الِاعْتِقَادِ ، وَإِنَّمَا ظَنَّ السَّائِلُ أَنَّ لُزُومَ الثَّبَاتِ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهِ إلَى وَقْتِ إيقَاعِهِ تَكْرَارٌ لِلِاعْتِقَادِ وَلَيْسَ هُوَ كَمَا ظَنَّ ، وَعَلَى أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ .
وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ :حُجَّ فِي عُمْرِك حَجَّةً وَاحِدَةً لَكَانَ عَلَيْهِ الثَّبَاتُ عَلَى اعْتِقَادِ وُجُوبِهَا إلَى وَقْتِ إيقَاعِهَا وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَكْرَارُ الْحَجِّ مِنْ حَيْثُ لُزُومُهُ الثَّبَاتَ عَلَى الِاعْتِقَادِ إلَى وَقْتِ إيقَاعِهَا
فَصْلٌ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا بَيْنَ الْأَمْرِ إذَا كَانَ مُطْلَقًا أَوْ مُعَلَّقًا بِوَقْتٍ أَوْ شَرْطٍ أَوْ صِفَةٍ أَنَّهُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ حَرْفُ التَّكْرَارِ وَلَا قَامَتْ عَلَيْهِ الدَّلَالَةُ مِنْ غَيْرِهِ .

فارغة المتن

وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى { إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } ، لَمْ يَقْتَضِ ظَاهِرُ الْأَمْرِ التَّكْرَارَ لِأَنَّ أَصْحَابَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَدْ قَالُوا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَدَخَلَتْهَا طَلُقَتْ ، وَلَوْ دَخَلَتْهَا مَرَّةً أُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ ، وَأَنَّهُ لَوْ قَالَ : كُلَّمَا دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهَا بِتَكْرَارِ الدُّخُولِ لِأَنَّ " إذَا " لَيْسَ فِيهَا تَكْرَارٌ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِيهِ وَقْتٌ .
فَإِنْ قِيلَ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَنْ تَقُولَ إنَّ أَحَدًا لَمْ يَتَوَضَّأْ بِالْآيَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً .
قِيلَ لَهُ : الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ لَمْ يَتَنَاوَلْهَا اللَّفْظُ وَاَلَّذِي تَنَاوَلَ اللَّفْظُ مِنْ ذَلِكَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحُكْمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى ، لِأَنَّ الْمُرَادَ إذَا قُمْتُمْ وَأَنْتُمْ مُحْدِثُونَ ، فَلَمَّا كَانَ الْحُكْمُ مُتَعَلِّقًا بِالْحَدَثِ لَا بِالْقِيَامِ إلَى الصَّلَاةِ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ مَتَى أَرَادَ الصَّلَاةَ وَهُوَ مُحْدِثٌ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَتْ " إذَا " لِلْوَقْتِ فَوَاجِبٌ أَنْ تَقْتَضِيَ التَّكْرَارَ لِوُجُودِ الْأَوْقَاتِ الَّتِي عَلَّقَ الْفِعْلَ بِهَا .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ لِذِكْرِ الْوَقْتِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ لَوْ قَالَ ( لَهُ ) صَلِّ فِي هَذَا الْيَوْمِ أَوْ صُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمْ يَقْتَضِ ذَلِكَ تَكْرَارَ الْفِعْلِ فِي الْأَوْقَاتِ لِأَجْلِ تَعْلِيقِهِ إيَّاهُ بِاسْمٍ يَنْتَظِمُ عِدَّةَ أَوْقَاتٍ فَكَذَلِكَ مَا
وَصَفْنَاهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ ( قَالَ ) لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَنَّ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ

نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ وَاحِدَةً لَا أَكْثَرَ مِنْهَا ، وَلَا تَكُونُ مَشِيئَتُهَا مَقْصُورَةً عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ عَلَّقَهَا بِسَائِرِ الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَقْبَلَةِ فَيُثْبِتُ لَهَا الْمَشِيئَةَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ إلَّا إيقَاعَ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فِي بَابِ الْوَقْتِ فَجَعَلُوا ذَلِكَ عَلَى الْمَجْلِسِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَقْتِ وَكَانَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ ، وَأَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ تَتَعَلَّقُ عَلَى الْمَجْلِسِ مَا لَمْ تَتَعَلَّقْ بِوَقْتٍ بَعْدَهُ .
وَالْعِلَّةُ فِي كَوْنِ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطٍ ( أَوْ ) وَقْتٍ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ وُجُوبِ التَّكْرَارِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ هِيَ أَنَّ التَّكْرَارَ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ إلَّا بِوُجُودِ لَفْظِ التَّكْرَارِ أَوْ بِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ .
وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فِي نَحْوِ قَوْله تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أَنَّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ صَلَاةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُرَادَ بِهِ تَكْرَارُ الْفِعْلِ بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ مَا وَصَفْنَا .
وَنَظِيرُ قَوْله تَعَالَى { أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } مَا قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسَّنَةِ ، وَأَرَادَ ثَلَاثًا أَنَّهُ كَمَا نَوَى ، وَجَعَلُوا قَوْلَهُ لِلسَّنَةِ مُحْتَمِلًا أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لِأَوْقَاتِ السَّنَةِ فَيَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِتَكْرَارِ الْأَوْقَاتِ ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ : أَنْتِ طَالِقٌ فِي ثَلَاثَةٍ

أَطْهَارٍ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَنَّهُ ( قَدْ ) تَنَاوَلَ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ مُتَفَرِّقَةً فِي أَوْقَاتِ السَّنَةِ .
وَقَدْ قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قَدْ تَنَاوَلَ الطَّلَاقَ
الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةَ ، فَوَجَبَ عَلَى هَذَا أَنْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } لُزُومَ فِعْلِ الصَّلَاةِ مُكَرَّرًا عِنْدَ أَوْقَاتِ الدُّلُوكِ ، إلَّا أَنَّ اللَّفْظَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمِلًا لِذَلِكَ فَغَيْرُ جَائِزٍ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ .

الْبَابُ الثَّانِيْ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي الْأَمْرِ إذَا تَنَاوَلَ أَحَدَ أَشْيَاءَ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْأَمْرِ إذَا تَنَاوَلَ أَحَدَ أَشْيَاءَ عَلَى جِهَةِ التَّخْيِيرِ .
إذَا خُيِّرَ الْمَأْمُورُ بَيْنَ فِعْلِ أَحَدِ أَشْيَاءَ مِثْلِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَالْوَاجِبُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهَا ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا أَنْ يُقَالَ إنَّ جَمِيعَهَا هُوَ الْوَاجِبُ ، لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ مَا لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْصِرَافُ عَنْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ إلَّا إلَى بَدَلٍ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا إذَا تَعَيَّنَ بِالْفِعْلِ ( مُنْفَرِدًا عَنْ ) غَيْرِهِ كَانَ فِي الْحُكْمِ هُوَ الْوَاجِبَ ، لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَمَّا كَانَ لَهُ تَرْكُ مَا عَدَا الْوَاحِدَ لَا إلَى بَدَلٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا : اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ مِنْ مُخَالِفِينَا فِي ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْجَمِيعَ دُفْعَةً ( وَاحِدَةً ) كَانَ الْمَفْعُولُ عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ وَاحِدًا مِنْهَا لَا جَمِيعَهَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ وَاحِدٌ فِيهَا ، إذْ لَوْ كَانَ الْجَمِيعُ وَاجِبًا لَكَانَ الْجَمِيعُ إذَا فَعَلَهُ مَفْعُولًا عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ ، لِأَنَّهُ مُحَالٌ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا قَبْلَ الْفِعْلِ ثُمَّ إذَا وَقَعَ الْفِعْلُ وَقَعَ نَفْلًا لَا وَاجِبًا ، فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهَا ( لَا بِعَيْنِهِ ) لَا جَمِيعُهَا وَأَنَّ مَا فُعِلَ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ حُكْمُ الْوُجُوبِ فِيهِ بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ مِثْلُ مَا يَقُولُ فِي أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي أَنْ يُعْطِيَ زَكَاتَهُ مَنْ شَاءَ مِنْ الْمَسَاكِينِ فَأَيَّهُمْ أَعْطَى كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ إعْطَاءُ مَسَاكِينِ أَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ جَازَ إعْطَاؤُهَا لِمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : بَلْ إذَا كَانَ وَجْهُ الْإِيجَابِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ ( مِنْ ) الْمَصْلَحَةِ وَمِنْ أَجْلِهِ يَقْبُحُ تَرْكُهُ فَلَا بُدَّ ( مِنْ ) أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَإِذَا خُيِّرَ بَيْنَ أَحَدِ أَشْيَاءَ وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهَا عَلِمْنَا أَنْ حُكْمَ الْوُجُوبِ قَدْ تَعَلَّقَ بِالْجَمِيعِ.
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَابِ وَاحِدٍ مِنْهَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ عَلَى أَنَّهُ أَيَّهَا فَعَلَ مِنْهَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ ، كَنَهْيٍ فِي الْآخَرِ لَوْ فَعَلَهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا مُمْتَنِعًا لَمْ يَجِبْ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ مُتَعَلِّقًا بِالْجَمِيعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ .
فَصْلٌ فِي تَكْرَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
تَكْرَارُ الْأَمْرِ ) يُوجِبُ تَكْرَارَ الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ ( عَلَى ) أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّانِي هُوَ ( الْأَوَّلُ ، نَحْوُ ) قَوْلِ الْقَائِلِ : تَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ يَقُولُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ : تَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ فَيَكُونُ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ قَالَ أَصْحَابُنَا فِيمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ ( أَنَّ ) الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِيمَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِدِرْهَمٍ : إنَّ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ .
وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هَكَذَا مِنْ قِبَلِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ حُكْمًا فِي نَفْسِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ

تَضْمِينُهُ بِغَيْرِهِ إلَّا بِدَلَالَةٍ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى فَائِدَةٍ مُحَدَّدَةٍ وَحُكْمٍ مُسْتَأْنَفٍ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْأَوَّلِ وَيَجْعَلَهُ تَكْرَارًا إلَّا بِدَلَالَةٍ .
وَالدَّلَالَةُ الْمُوجِبَةُ لِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَضْمُونِ اللَّفْظِ وَظَاهِرِ الْحَالِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي غَيْرِهِ ، نَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك } ثُمَّ يَقُولُ فِي حَالٍ أُخْرَى { إذَا وَجَدْت الْمَاءَ فَأَمِسَّهُ جِلْدَك } ، مَعْلُومٌ مِنْ ظَاهِرِ الْخِطَابِ وَالْحَالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْهَا الْكَلَامُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ فَلَا يَجِبُ تَكْرَارُ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لِأَجْلِ تَكْرَارِ اللَّفْظِ ، لِأَنَّ تَكْرَارَهُ إنَّمَا تَعَلَّقَ بِسُؤَالٍ سَائِلٍ أَوْ حُدُوثِ حَالٍ اُحْتِيجَ فِيهِ إلَى بَيَانِ الْحُكْمِ لِغَيْرِ مَنْ قِيلَ لَهُ ذَلِكَ أَوَّلًا ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ .
فَصْلٌ
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) :
مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْأَمْرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ مُمَكَّنًا مِنْ فِعْلِهِ فِي حَالِ لُزُومِهِ ، وَلَا اعْتِبَارَ بِحَالِ فُصُولِ الْأَمْرِ مِنْ الْآمِرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّ أَوَامِرَ اللهِ تَعَالَى قَدْ تَنَاوَلَتْ جَمِيعَ النَّاسِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ حَدَثَ بَعْدَهُمْ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { نَذِيرًا لِلْبَشَرِ } وقَوْله تَعَالَى { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ

بَلَغَ } وقَوْله تَعَالَى { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا } فَمِنْ حَيْثُ كَانَ رَسُولًا إلَى أَهْلِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ آمِرًا لَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ( جَمِيعَهُمْ ) مَوْجُودِينَ ( وَقْتَ ) الْأَمْرِ ، لِأَنَّ الْآمِرَ انْفَصَلَ مِنْ أَمْرِهِ لِلْمَأْمُورِينَ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ أَوَامِرُ اللهِ تَعَالَى أَمْرًا لَنَا لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مَوْجُودِينَ وَقْتَ ( الْأَمْرِ لَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الرَّسُولُ رَسُولًا إلَيْنَا لِأَنَّا لَمْ نَكُنْ مَوْجُودِينَ وَقْتَ ) الرِّسَالَةِ ، ( وَلَمْ نَكُنْ مَأْمُورِينَ بِهَا الْآنَ ) وَهَذَا لَا يَقُولُهُ مُسْلِمٌ ، فَصَحَّ أَنَّ أَوَامِرَ اللهِ تَعَالَى لِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ ، مِمَّنْ كَانُوا مَوْجُودِينَ ( فِي ) وَقْتِ الْأَمْرِ وَمَنْ وَجَدَ بَعْدَهُ عَلَى شَرْطِ بُلُوغِ الْأَمْرِ وَالتَّمْكِينِ مِنْ الْفِعْلِ .
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْآمِرُ مِنْ أَمْرِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْمَأْمُورِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُمَكَّنًا مِنْهُ فِي حَالِ فُصُولِ الْأَمْرِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ لِلْمَرِيضِ : إذَا بَرَأْت فَصُمْ وَصَلِّ وَقَاتِلْ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ } فَقَدْ صَحَّ خِطَابُ الْعَاجِزِ بِالْفِعْلِ عَلَى شَرِيطَةِ التَّمْكِينِ .
فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَصِحُّ ( أَمْرُ الْمَعْدُومِ )
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا بِأَمْرٍ لِلْمَعْدُومِ بِأَنْ يَفْعَلَهُ وَهُوَ مَعْدُومٌ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْأَمْرَ قَدْ

يَصِحُّ وُجُودُهُ وَالْمَأْمُورُ غَيْرُ مَوْجُودٍ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ هُوَ قَوْلُ الْقَائِلِ " افْعَلْ " وَقَدْ حَصَلَ أَمْرٌ لِمَنْ وُجِدَ بَعْدَ زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ أَمْرٌ يَكُونُونَ مُخَاطَبِينَ بِهِ ، وَلَوْ لَزِمَنَا أَنْ لَا نُجِيزَ لِلْمُعْدَمِ لِتَعَذُّرِ الْفِعْلِ وَاسْتِحَالَتِهِ مِنْهُ فِي حَالِ الْأَمْرِ ( لَلَزِمَ أَنْ ) لَا يَصِحَّ خِطَابُ الْمَرِيضِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى شَرْطِ الْبُرْءِ وَالْإِمْكَانِ وَهَذَا لَا يُنْكِرُهُ أَحَدٌ .
فَصْلٌ
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَمْرِ اللهِ تَعَالَى لِمَنْ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْهُ وَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَلَى شَرْطِ بُلُوغِهِ ( فِي ) حَالِ التَّمْكِينِ .
فَأَبَى ذَلِكَ قَوْمٌ ، وَقَالُوا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا بِشَيْءٍ إلَّا وَفِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ سَيَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ مِنْهُ فَيَفْعَلُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُ اللَّهُ عَلَى شَرِيطَةِ التَّمْكِينِ وَبُلُوغِ حَالِ الْقُدْرَةِ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَعْلُومِهِ أَنَّهُ سَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ وَيُقْطَعُ دُونَهُ إذَا جَوَّزَ الْمَأْمُورُ أَنَّهُ لَا يُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ .

فَذَهَبَتْ الْفِرْقَةُ الْأُولَى : ( إلَى ) أَنَّ هَذَا لَوْ جَازَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَنَقْلِ الْجِبَالِ عَنْ مَوَاضِعِهَا ( بِشَرْطِ ) الْإِمْكَانِ وَهَذَا سَفَهٌ وَعَبَثٌ ، لِأَنَّ فِي مَعْلُومِهِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى مِنَّا وَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ بِحَالٍ ، كَذَلِكَ كُلُّ مَا ( كَانَ ) فِي مَعْلُومِهِ أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ تَكْلِيفُهُ إيَّاهُ لَا مُطْلَقًا وَلَا مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ ، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَأْمُورٌ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ عُمُرِهِ بِالْإِيمَانِ ، وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْكُفْرِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى ثِقَةٍ بِالْبَقَاءِ ، وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ ، لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي هَلْ يَبْلُغُ الْحَالَ الثَّانِيَةَ أَمْ لَا .
وَأَبَى هَذَا الْقَوْلَ مُخَالِفُوهُمْ ، وَقَالُوا : قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِنْكَارِ هَذَا الْقَوْلِ مِمَّنْ ظَهَرَ فِيهِ .
قَالُوا : وَقَدْ وَجَدْنَا مَا أَجَزْنَاهُ مِنْ ذَلِكَ جَائِزًا فِيمَا بَيْنَنَا فِي أَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : اسْقِنِي مَاءً كَانَ عَالِمًا بِاضْطِرَارٍ أَنَّهُ قَدْ أَمَرَ عَبْدَهُ بِشَيْءٍ وَأَرَادَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُحِطْ عِلْمًا بِبَقَائِهِ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ ، وَمَعَ تَجْوِيزِهِ أَنَّهُ يُحَالُ بَيْنَهُ ( وَبَيْنَهُ ) وَكَانَ مَعْلُومًا ( مَعَ ) ذَلِكَ مَعَ وُرُودِ أَمْرِهِ أَنَّ مُرَادَهُ إيقَاعُ الْفِعْلِ عَلَى شَرْطِ الْإِمْكَانِ وَالْبَقَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَصِحُّ فِي أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى لَنَا عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ إذَا جَوَّزَ بُلُوغَ ( وُقُوعِ ) حَالِ الشَّرْطِ - وَقَدْ قِيلَ لَهُ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَتَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ لَمْ يَقْدُمْ فَلَا تَفْعَلْهُ - فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ مُتَعَبِّدًا بِشَيْئَيْنِ فِي الْحَالِ .

أَحَدُهُمَا : الِاعْتِقَادُ ( أَنَّهُ ) إنْ قَدِمَ لَزِمَهُ فِعْلُهُ وَأَنَّهُ سَيَفْعَلُهُ إنْ قَدِمَ .
وَالْآخَرُ : أَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْدُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ تَرْكُهُ - كَانَ هَذَا مَعْنًى سَائِغًا وَتَكْلِيفًا جَائِزًا يَسْتَفِيدُ بِهِ الْمَأْمُورُ تَوْطِينَ النَّفْسِ عَلَى فِعْلِهِ إنْ وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَعَلَى تَرْكِهِ إنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْرِنَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَقَلْعِ الْجِبَالِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ لِأَنَّ هَذَا قَدْ وَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ وُجُودِهِ ، فَلَا يَكُونُ الْأَمْرُ بِهِ إلَّا عَبَثًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ .
وَالْأَوَّلُ الَّذِي قَدْ يَجُوزُ عِنْدَنَا وُجُودُ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَيَجُوزُ غَيْرُهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِثْلُهُ فِي عَادَاتِ الْحُكَمَاءِ عَلَى الشَّرْطِ الَّذِي وَصَفْنَا .
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِعَبْدِهِ : اقْلَعْ الْجِبَالَ وَاشْرَبْ مَاءَ الْبَحْرِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَانَ عَابِثًا وَاضِعًا لِلْأَمْرِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، فَكَذَلِكَ أَوَامِرُ اللهِ تَعَالَى لَنَا تَجْرِي عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَجُوزُ عَلَى هَذَا أَنْ يَرِدَ الْأَمْرُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُنْسَخَ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ : صَلِّ غَدًا إنْ لَمْ نَنْسَخْ هَذِهِ الصَّلَاةَ عَلَيْكُمْ ، كَمَا أَجَزْت أَنْ يَقُولَ : صَلِّ غَدًا إنْ مُكِّنْت مِنْهَا وَلَمْ يُحَلْ بَيْنَك وَبَيْنَهَا ، وَمَا الْفَصْلُ بَيْنَ الْأَمْرِ الْمُعَلَّقِ بِشَرْطِ التَّمْكِينِ وَبَيْنَهُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ .
قِيلَ لَهُ:لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ ( مَعْقُودًا ) بِشَرِيطَةِ أَنْ افْعَلُوهُ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ قَبْلَ وَقْتِ الْفِعْلِ ، وَالْفَصْلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا أَمَرَ بِأَمْرٍ فَقَدْ أَرَادَهُ مِنْهُ ، وَإِذَا نَهَاهُ عَنْهُ فَقَدْ كَرِهَهُ مِنْهُ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَجْمَعَ ذَلِكَ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ لَمْ يَصِحَّ الْأَمْرُ بِهِ مَعْقُودًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَة .
وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَقُولَ : افْعَلْهُ إنْ قَدَرْت

عَلَيْهِ وَإِنْ أَمْكَنَك ، فَلَمَّا صَحَّ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ صَحَّ وَوَرَدَ الْأَمْرُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ .
أَلَا تَرَى : أَنَّ الْأَمْرَ مِنَّا لِعَبِيدِنَا جَائِزٌ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ وَاحِدٌ مِنَّا لِعَبْدِهِ : قَدْ أَرَدْت مِنْك هَذَا الْفِعْلَ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ إلَّا وَمَعْنَاهُ عِنْدَهُ إنْ لَمْ يَبْدُ ( لِي ) وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ( لِأَنَّهُ تَعَالَى ) عَالِمٌ بِالْعَوَاقِبِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ .
فَصْلٌ
وَمَنْ أَمَرَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، نَحْوُ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَجَزَاءَ الصَّيْدِ ، وَمَا خُيِّرَ الْإِنْسَانُ فِيهِ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوْ يَفْعَلَ غَيْرَهُ .
وَإِذَا نُهِيَ عَنْ شَيْئَيْنِ لَمْ يَجُزْ لَهُ فِعْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَوْ تَتَنَاوَلُ أَحَدَ مَا تَدْخُلُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، فَإِذَا أُدْخِلَتْ عَلَى النَّهْيِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى حِيَالِهِ بِالنَّهْيِ ، وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْإِيجَابِ تَنَاوَلَتْ أَيْضًا أَحَدَ مَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، فَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى النَّهْيِ لَمْ يَجُزْ إيقَاعُ شَيْءٍ مِنْهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُ ، لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَوْقَعَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ( أَيْضًا ) : قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } وقَوْله تَعَالَى { إلَّا

مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوْ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } لَمَّا دَخَلَتْ أَوْ عَلَى النَّهْيِ تَنَاوَلَتْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُ عَلَى حِيَالِهِ .
وَإِذَا دَخَلَتْ عَلَى الْإِيجَابِ تَنَاوَلَتْ وَاحِدًا مِنْهُ ، إلَّا أَنَّهُ أَيُّهَا فَعَلَ أَجْزَأَهُ وَكَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا عَلَيْهِ ، عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا .
فَصْلٌ
وَمِنْ الْأَمْرِ مَا يَكُونُ فَرْضًا عَلَى الْكِفَايَةِ وَيَتَوَجَّهُ بِهِ الْخِطَابُ إلَى جَمَاعَتِهِمْ ، نَحْوُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَدَفْنِ الْمَوْتَى وَغُسْلِهِمْ ، وَنَحْوُ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ ، وَالْجِهَادُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فَرْضَ الْجِهَادِ لَازِمٌ لِإِظْهَارِ دِينِ اللهِ ، وَلَوْ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ ذَلِكَ لَتَعَطَّلَ النَّاسُ عَنْ سَائِرِ أُمُورِهِمْ ، وَفِي ذَلِكَ ظُهُورُ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ ، فَدَلَّ ( عَلَى ) أَنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ بِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْجَمِيعِ فَإِنَّ لُزُومَ فَرْضِهِ مَقْصُورٌ عَلَى وُقُوعِ الْكِفَايَةِ ( بِهِ ) مِنْ بَعْضِهِمْ ، فَمَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَابُوا عَنْ ( النَّاسِ ) الْبَاقِينَ ، عَلَى هَذَا مَضَى السَّلَفُ وَسَائِرُ الْخَلْفِ مِنْ عَصْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .

فَصْلٌ : فِي حُكْمِ ( تَكْلِيفِ الْكُفَّارِ )
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ) :
وَالْكُفَّارُ مُكَلَّفُونَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِهِ كَمَا هُمْ مُكَلَّفُونَ بِالْإِسْلَامِ ، وَكَذَلِكَ كَانَ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ.

وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ ذَمَّ الْكُفَّارَ عَلَى تَرْكِ كَثِيرٍ مِمَّا تَعَلَّقَ لُزُومُهُ بِالشَّرْعِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } وَنَحْوُ حِكَايَتِهِ عَنْ أَهْلِ النَّارِ { قَالُوا لَمْ نَكُ مِنْ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ } فِيهِ إخْبَارٌ عَنْ عِقَابِهِمْ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَتَرْكِ إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ مَعَ مَا اسْتَحَقُّوا مِنْ الْعِقَابِ عَلَى كُفْرِهِمْ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِفَةِ الْمُنَافِقِينَ وَذَمِّهِمْ { وَإِذَا قَامُوا إلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إلَّا قَلِيلًا } وَقَالَ تَعَالَى { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } فَذَمَّهُمْ ( اللَّهُ ) عَلَى فِعْلِ الرِّبَا ، فَدَلَّ

عَلَى أَنَّهُمْ مَنْهِيُّونَ عَنْهُ فِي حَالِ الْكُفْرِ ( مُسْتَحِقُّونَ لِلْعِقَابِ ) عَلَيْهِ وَالْعِقَابُ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ ( أَيْضًا ) : وُجُوبُ حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ ، فَدَلَّ جَمِيعُ مَا وَصَفْنَا عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ ( بِالشَّرَائِعِ مُعَاقَبُونَ عَلَى تَرْكِهَا سِوَى عُقُوبَةِ الْكُفْرِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ ) بِهَا وَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ فِعْلُهَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ فِي حَالِ الْكُفْرِ .
قِيلَ لَهُ: لِأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهُمْ السَّبِيلَ إلَى فِعْلِهَا بِأَنْ يُسْلِمُوا ثُمَّ يَأْتُوا بِهَا ، كَمَا أَنَّ الْجُنُبَ
لَا يَصِحُّ مِنْهُ فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي حَالِ الْجَنَابَةِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ فَرْضُهَا ، إذْ كَانَ قَدْ جَعَلَ لَهُ السَّبِيلَ إلَى فِعْلِهَا بِطَهَارَةٍ يُقَدِّمُهَا أَمَامَهَا ، كَذَلِكَ الْكَافِرُ قَدْ جُعِلَ لَهُ السَّبِيلُ إلَى التَّمَسُّكِ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يُقَدِّمَ أَمَامَهَا فِعْلَ الْإِيمَانِ .
فَإِنْ قَالَ : لَوْ كَانُوا مُخَاطَبِينَ بِهَا لَمَا جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَى تَرْكِهَا كَالْمُسْلِمِينَ ، قِيلَ لَهُ : هُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْإِيمَانِ عِنْدَ الْجَمِيعِ وَقَدْ أُقِرُّوا عَلَى تَرْكِهِ بِالْجِزْيَةِ ، كَذَلِكَ شَرَائِعُهُ .
فَصْلٌ : الْأَمْرُ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ ضِدِّهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِهِ - فِيمَا سَلَف - مِنْ أَنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ .

ثُمَّ اخْتَلَفَ بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ قَالَ بِذَلِكَ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ النَّهْيِ عَلَى ضِدِّهِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، فَيَكُونُ لَفْظُ الْأَمْرِ مُقْتَضِيًا لِذَلِكَ وَمُوجِبًا لَهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُوجِبًا لِلنَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لَكِنْ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ( لَهُ ) فِعْلُ ( ضِدِّهِ ) الْمُنَافِي لَهُ فِي وَقْتِ وُجُوبِهِ .
وَقَالَ آخَرُونَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ ، لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ قَدْ دَلَّ عَلَى كَرَاهَةِ ضِدِّهِ ، لِأَنَّ لِلنَّهْيِ صِيغَةً يَخْتَصُّ بِهَا فِي اللُّغَةِ ، كَمَا أَنَّ لِلْأَمْرِ لَفْظًا يَخْتَصُّ بِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ فِيمَا لَمْ يَكُنْ وُجُوبُهُ أَوْ حَظْرُهُ مِنْ

طَرِيقِ اللَّفْظِ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ لَزِمَهُ فِعْلُهُ ، أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَزِمَهُ اجْتِنَابُهُ إذَا ( كَانَ ) ثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ لَهُ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ لَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ لَا يُسَمَّى أَمْرًا أَوْ نَهْيًا .
وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ إنَّمَا تَصِحُّ مَعَانِيهَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُ الْأَمْرَ ( لِلْوُجُوبِ ) .
فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجْعَلْ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ لَفْظَ الْأَمْرِ دَلِيلًا عَلَى كَرَاهَةِ ضِدِّهِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ مَتَى اقْتَضَى الْأَمْرُ الْإِيجَابَ فِي وَقْتٍ مُضَيَّقٍ لَا يَسَعُ الْمَأْمُورَ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ فَمَحْظُورٌ عَلَيْهِ تَرْكُهُ فِيهِ .
وَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ وَكَوْنَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَاجِبًا ( لَا ) يَقْتَضِي قُبْحَ تَرْكِهِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الذَّمَّ إذَا تَرَكَ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا لِأَنَّهُ فَعَلَ قَبِيحًا بَلْ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ فَاحِشٌ قَبِيحٌ لِأَنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِقَابِ لَا عَلَى فِعْلٍ كَانَ مِنْ الْعَبْدِ .
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَنْ أَطْلَقَ لَفْظَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِيمَا كَانَ وُجُوبُهُ أَوْ حَظْرُهُ مِنْ طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ هَلْ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ ؟ فَكُلُّ مَنْ جَعَلَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ الْأَمْرَ عَلَى الْفَوْرِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ ( عَنْ ) ضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ .
وَقَالَتْ الطَّائِفَةُ الَّتِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهَا فِي صَدْرِ ( هَذَا ) الْبَابِ : إنَّهُ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ

جِهَةِ اللَّفْظِ ، وَكُلُّ مَنْ جَعَلَ الْأَمْرَ عَلَى الْمُهْلَةِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيًا عَنْ ضِدِّهِ فِي الْحَالِ مِنْ طَرِيقِ اللَّفْظِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ ، لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ سَائِرَ أَضْدَادِهِ وَيَتْرُكَهُ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُهُ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ فِعْلُهُ وَتَرْكُ سَائِرِ أَضْدَادِهِ .
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ عِنْدَ مَنْ يُطْلِقُ لَفْظَ الْأَمْرِ فِي مِثْلِهِ ، أَمَّا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ الدَّلَالَةِ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ ( لَهُ ) : لَا تَتَحَرَّكْ ، فَإِنَّ السُّكُونَ ضِدٌّ لِسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ السُّكُونِ ، إذْ لَيْسَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْ سَائِرِ الْحَرَكَاتِ إلَّا إلَى سُكُونٍ ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَخْلُوَ مِنْ الْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْهُ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِشَيْءٍ مِنْ أَضْدَادِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ تَقُولَ لَهُ : لَا تَسْكُنْ فَلِلسُّكُونِ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ وَهِيَ حَرَكَاتُهُ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : ( إنَّ ) النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ .
وَجَعَلَ هَؤُلَاءِ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِ عَلَى ضَرْبَيْنِ : وَاجِبًا أَوْ مَحْظُورًا ، وَأَسْقَطُوا الْقِسْمَ الْمُبَاحَ ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى قَوَدِ قَوْلِهِمْ إسْقَاطُ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ أَيْضًا لِأَنَّ كُلَّ مَنْ نُهِيَ عَنْ شَيْءٍ فَكُلُّ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ مِمَّا يُضَادُّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِهِ عِنْدَهُمْ ، وَإِذَا أَمَرَ بِشَيْءٍ فَكُلُّ فِعْلٍ يُضَادُّ الْمَأْمُورَ بِهِ فَهُوَ مَحْظُورٌ عِنْدَهُمْ ، فَلَا يَبْقَى ( هَا ) هُنَا فِعْلٌ يَكُونُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ لَا وَاجِبًا ( وَلَا مَحْظُورًا ) .

وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا : أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَا ضِدٍّ وَاحِدٍ أَوْ أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا وُجُوبُ الْأَمْرِ وَأَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ ، فَيَلْزَمُهُ بِوُرُودِهِ تَرْكُ سَائِرِ أَضْدَادِهِ ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قِيلَ لَهُ لَا تَفْعَلْ أَضْدَادَ هَذَا الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي هَذَا الْوَقْتِ ، مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِمَنْ كَانَ فِي الدَّارِ : اُخْرُجْ فِي هَذَا الْوَقْتِ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ ، فَقَدْ كُرِهَ لَهُ سَائِرُ مَا يُضَادُّ الْخُرُوجَ مِنْهَا نَحْوُ الْقُعُودِ ( وَالْقِيَامِ ) وَالِاضْطِجَاعِ وَالْحَرَكَةِ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ إلَّا مَا كَانَ مِنْهَا خُرُوجًا مِنْ الدَّارِ فَصَارَ كَمَنْ نَهَى عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي كَرَاهَةَ فِعْلِهَا ، وَالنَّهْيُ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ نَهْيٌ صَحِيحٌ لَوْ نَصَّ عَلَيْهَا بِلَفْظِ النَّهْيِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا وَلَا مُمْتَنِعًا ، فَكَذَلِكَ إذَا تَضَمَّنَهُ لَفْظُ الْأَمْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ مَحْظُورَةً يَلْزَمُ الْمَأْمُورَ اجْتِنَابُهَا عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ .
وَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشَّيْءِ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِضِدِّهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَرْكُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَاجْتِنَابُهُ إلَّا بِفِعْلِ ضِدِّهِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَنْفَكَّ مِنْهُمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ فَلَيْسَ النَّهْيُ عَنْهُ أَمْرًا بِسَائِرِ أَضْدَادِهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ

عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى غَيْره عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : قَدْ نَهَيْتُك عَنْ السُّكُونِ وَأَبَحْت لَك الْحَرَكَةَ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ ، فَيُطْلَقُ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَرَكَةِ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْحَرَكَةُ فِي هَذِهِ الْجِهَاتِ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهَا وَاجِبَةً لَمَا صَحَّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ ( عَلَيْهَا ) ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ ضِدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : قَدْ نَهَيْتُك عَنْ الْحَرَكَةِ فِي الْجِهَاتِ السِّتِّ وَأَبَحْت لَك السُّكُونَ ( لِأَنَّ السُّكُونَ ) إذَا كَانَ ضِدًّا لِهَذِهِ الْحَرَكَاتِ ( وَهُوَ ) لَا يَنْفَكُّ مِنْهَا أَوْ مِنْهُ فَالسُّكُونُ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ ، فَلَا يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ عَلَى مَا هُوَ وَاجِبٌ ، وَلِهَذِهِ الْعِلَّةِ قُلْنَا : إنَّ الْأَمْرَ ( بِالشَّيْءِ ) نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ مِنْ جِهَةِ الدَّلَالَةِ وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَوْجَبْت عَلَيْك فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ عَلَى الْفَوْرِ وَأَبَحْت لَك سَائِرَ أَضْدَادِهِ أَوْ وَاحِدًا مِنْ أَضْدَادِهِ ، فَلَمَّا انْتَفَى عَنْ سَائِرِ أَضْدَادِهِ اسْمُ الْإِبَاحَةِ وَالْإِيجَابِ صَحَّ أَنَّهُ ( مَدْلُولٌ بِالْأَمْرِ كَرَاهَةً ) وَلَزِمَ اجْتِنَابُهُ .

وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : أَنَّا لَوْ قُلْنَا إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ وَإِنْ كَانَ ذَا أَضْدَادٍ كَثِيرَةٍ لَأَدَّى ذَلِكَ إلَى إسْقَاطِ قِسْمِ الْمُبَاحِ وَالْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ أَقْسَامِ الْأَفْعَالِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِ إذَا كَانَتْ وَاقِعَةً عَنْ قَصْدٍ وَإِرَادَةٍ وَلَمْ تَكُنْ وَاقِعَةً عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ تَنْقَسِمُ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً : وَاجِبٌ وَمَحْظُورٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُبَاحٌ ، فَلَوْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ الزِّنَا أَمْرًا بِسَائِرِ أَضْدَادِ الزِّنَا لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمَشْيُ إلَى السُّوقِ وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ وَصَوْمُ النَّفْلِ وَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَكُلُّ مَا يُضَادُّ ( الزِّنَا ) مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ مَأْمُورًابِهِ وَاجِبًا .
وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ فِعْلٍ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ أَوْ مُبَاحٍ فَإِنَّهُ يُضَادُّ فِعْلَ الْمَحْظُورِ بِتِلْكَ الْجَارِحَةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَنْ أَمْكَنَهُ فِعْلُ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ فَهُوَ يُمْكِنُهُ فِعْلُ أَضْدَادِهِ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ ، فَإِذَا تَرَكَ أَضْدَادَهُ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِفِعْلِ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَنْدُوبِ فَوَاجِبٌ عَلَى قَضِيَّةِ مَنْ حَكَيْنَا قَوْلَهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُضَادُّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ ( بِهِ ) فَيَكُونُ هَذَا مُؤَدِّيًا إلَى أَنْ لَا يَكُونَ فِي الشَّرْعِ فِعْلٌ مُبَاحٌ وَلَا مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَقَلُوا أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ مُبَاحًا وَمَنْدُوبًا إلَيْهِ مُرَغَّبًا فِيهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، فَصَحَّ بُطْلَانُ كُلِّ قَوْلٍ يُؤَدِّي إلَى دَفْعِ ذَلِكَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ هَلَّا قُلْت : إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ أَمْرٌ بِضِدِّهِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَضْدَادٌ كَثِيرَةٌ كَانَ أَمْرًا بِوَاحِدٍ مِنْ أَضْدَادِهِ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ فِعْلُهُ فِي وَقْتِهِ ( مِمَّا يُنَافِي ) فِعْلَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَلَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِفِعْلِ جَمِيعِ أَضْدَادِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ ، كَمَا يَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، إنَّ الْوَاجِبَ مِنْهَا أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ .

قِيلَ لَهُ : مَا تَقَدَّمَ يُسْقِطُ هَذَا السُّؤَالَ وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ ( قَدْ ) نَهَيْتُك عَنْ السُّكُونِ وَأَبْحَثُ لَك سَائِرَ أَضْدَادِهِ مِنْ الْحَرَكَاتِ ، فَنُطْلِقُ اسْمَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْجَمِيعِ ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا مِنْ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعَلَّقَ الْوُجُوبُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ التَّخْيِيرِ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِبَاحَةِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهَا ، بَلْ يُقَالُ ( لَهُ ) افْعَلْ أَيَّهَا شِئْت عَلَى وَجْهِ الْوُجُوبِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا .
( وَأَيْضًا : فَلَوْ كَانَ لَا يَنْصَرِفُ عَنْ فِعْلِ مَأْمُورٍ بِهِ فِيمَا وَصَفْت إلَّا إلَى وَاجِبٍ مِثْلِهِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرْت مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَحِقَّ الثَّوَابَ بِفِعْلِ مَا يَفْعَلُهُ
مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَسْتَحِقُّهُ بِمَا فَعَلَ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ أَيَّ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ فَعَلَ مِنْهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِلثَّوَابِ فِيمَا وَصَفْنَا بِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلِمْنَا أَنَّ فِعْلَهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ وَلَا وَاجِبٌ ، وَأَنَّهُ يَفْعَلُهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ عَلَى فِعْلِ الْوَاجِبِ الثَّوَابَ ) .

فَصْلٌ
كُلُّ أَمْرٍ مُضَمَّنٌ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ( إنْ كَانَ الْوَقْتُ ) يَسْتَوْعِبُ الْفِعْلَ ، كَصَوْمِ رَمَضَانَ مُؤَقَّتٌ بِالشَّهْرِ فَعَلَيْهِ فِعْلُهُ فِيهِ ، وَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ .
وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ يَتَّسِعُ لِإِيقَاعِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِيهِ مِرَارًا كَثِيرَةً فَوُجُوبُهُ مُتَعَلِّقٌ بِأَوَّلِ أَوْقَاتِهِ حَتَّى تَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ تَأْخِيرِهِ ، وَيَكُونُ حِينَئِذٍ فَائِدَةُ ذِكْرِ الْوَقْتِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ أَنَّهُ إنْ أَخَّرَهُ عَنْ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ لَزِمَهُ فِعْلُهُ فِي الثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِعْلُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ أُبِيحَ لَنَا تَأْخِيرُ الْفِعْلِ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي وُجُوبِ الظُّهْرِ وَتَعَلَّقَ فَرْضُهُ بِالْوَقْتِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي قَدَّمْنَا ، وَمَتَى فَاتَ الْوَقْتُ قَبْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ فِعْلُهُ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ يُوَجَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ إلَى فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ ، وَمَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَتَضَمَّنْهُ الْأَمْرُ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَا دَخَلَ تَحْتَ الْأَمْرِ ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُهُ إلَّا بِدَلَالَةٍ أُخْرَى غَيْرِ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ النَّهْيِ إذَا كَانَ مُؤَقَّتًا فَإِنْ مَضَى ( الْوَقْتُ ) يُزِيلُ حُكْمَهُ وَيَحْتَاجُ فِي إثْبَاتِ حُكْمِهِ إلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى ( مِنْ غَيْرِهِ ) .

الْبَابُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي النَّهْيِ هَلْ يُوجِبُ فَسَادَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ أَمْ لَا ؟

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي النَّهْيِ هَلْ يُوجِبُ فَسَادَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ أَمْ لَا ؟
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا : أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يُوجِبُ فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ إلَّا أَنْ تَقُومَ دَلَالَةُ الْجَوَازِ .

وَهَذَا ( الْمَذْهَبُ ) مَعْقُولٌ مِنْ احْتِجَاجَاتِهِمْ لِإِفْسَادِ مَا أَفْسَدُوهُ مِنْ

فارغة المتن

الْعُقُودِ وَالْقُرَبِ لِمُجَرَّدِ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ ، نَحْوُ احْتِجَاجِهِمْ لِإِفْسَادِ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ الزَّوَالِ بِظَاهِرِ ( النَّهْيِ الْوَارِدِ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ) ، وَاحْتِجَاجِهِمْ لِإِفْسَادِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ بِظَاهِرِ مَا وَرَدَ فِيهِمَا مِنْ النَّهْيِ الْمُطْلَقِ .
وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُولُ شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ مَعَ ذَلِكَ ، قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ إذَا كَانَ ( النَّهْيُ عَنْهُ ) إنَّمَا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ لَا لِنَفْسِهِ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَ هَذِهِ الْعُقُودِ وَلَا الْقُرَبِ الْمَفْعُولَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَنَحْنُ نُفَصِّلُ ذَلِكَ بَعْدُ .
وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَقُولُهُ فِي ذَلِكَ هُوَ أَيْضًا عِنْدِي مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وَمَسَائِلُهُمْ تَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَحِكَايَةُ عَبْدِ الْوَارِثِ بْنِ سَعِيدٍ مَشْهُورَةٌ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَهِيَ أَنَّهُ قَالَ : أَتَيْت مَكَّةَ فَوَجَدْت بِهَا أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَابْنَ أَبِي لَيْلَى وَابْنَ شُبْرُمَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَأَتَيْت أَبَا حَنِيفَةَ ) .
فَقُلْت ( لَهُ ) : مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ ابْتَاعَ بَيْعًا وَاشْتَرَطَ شَرْطًا فَقَالَ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ، فَأَتَيْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْط

بَاطِلٌ فَأَتَيْت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَسَأَلْته عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ قَالَ فَقُلْت : ثَلَاثَةٌ مِنْ فُقَهَاءِ الْكُوفَةِ اخْتَلَفُوا عَلَيْنَا فِي مَسْأَلَةٍ ( وَاحِدَةٍ ) فَأَتَيْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : " لَا أَدْرِي مَا قَالَا ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ } .
وَأَتَيْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا أَدْرِي مَا قَالَا ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا: اشْتَرِي بَرِيرَةَ وَاشْتَرِطِي الْوَلَاءَ لَهُمْ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ } الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ

بَاطِلٌ .
قَالَ فَأَتَيْت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَذَكَرْت ( لَهُ ذَلِكَ ) فَقَالَ لَا أَدْرِي مَا قَالَا ، حَدَّثَنِي مِسْعَرُ بْنُ كِدَامٍ عَنْ مُحَارِبِ بْنِ دِثَارٍ عَنْ { جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ بِعْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةً وَاشْتَرَطَ لِي حُمْلَانَهُ إلَى الْمَدِينَةِ } فَأَجَازَ الْبَيْعَ وَالشَّرْطَ ، فَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ فِي إفْسَادِ مَا أَفْسَدَ بِظَاهِرِ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
( وَ ) هَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ لَا نَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مِنْهُمْ قَالَ : إنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ أَوْ الْقُرَبِ بَلْ ظَاهِرُ احْتِجَاجَاتِهِمْ وَمُنَاظَرَاتِهِمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عِنْدَهُمْ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي الْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فَقَالَ مِنْهُمْ قَائِلُونَ : إنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الرَّبَائِبِ دُونَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ ، وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ : هُوَ رَاجِعٌ إلَيْهِمَا .
ثُمَّ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ إذَا رَجَعَ

إلَى أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَجَبَ فَسَادُ نِكَاحِهِنَّ ، وَلَمْ يَلْجَأْ مَنْ أَفْسَدَهُ بِرُجُوعِ الْحُكْمِ إلَيْهِ إلَّا إلَى ظَاهِرِ مَا عُلِّقَ بِهِ مِنَ التَّحْرِيمِ الْمَذْكُورِ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } .
وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ قَدْ عُقِلَ مِنْهُ فَسَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ .
قَالَ ابْنُ عُمَرَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ نِكَاحِ النَّصْرَانِيَّةِ - فَقَالَ : " حَرَّمَ اللَّهُ الْمُشْرِكَاتِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَا أَعْلَمُ مِنْ الشِّرْكِ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنْ قَوْلِ الْمَرْأَةِ : عِيسَى أَوْ عَبْدٌ مِنْ الْعِبَادِ اللَّهُ " .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَطْءِ أَفْسَدَ ( بِهِ ) النِّكَاحَ بَعْدَ الْوَطْءِ ، وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْعَقْدِ دُونَ الْوَطْءِ مَنَعَ ( مِنْ ) تَزْوِيجِهَا بَعْدَ عَقْدِ الْأَبِ عَلَيْهَا ، وَلَا يَمْنَعُهُ بَعْدَ وَطْئِهَا بِالزِّنَا ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَرَّمَ نِكَاحَ الزَّانِيَةِ مِنْهُمْ لَمْ يَرْجِعْ فِي إفْسَادِ نِكَاحِهَا إلَّا إلَى قَوْله تَعَالَى { الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ } .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ } ( يَعْنِي فِي الْعِدَّةِ ) { حَتَّى يَبْلُغَ

الْكِتَابُ أَجَلَهُ } وقَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } عَقَلَتْ الْأُمَّةُ مِنْ ظَاهِرِهِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ ، اقْتَضَى فَسَادَ الْعَقْدِ ، وَعَقَلَتْ الصَّحَابَةُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } مَعَ ذِكْرِهِ الْأَصْنَافَ السِّتَّةَ فَسَادَ الْبَيْعِ فِيهَا إذَا عَقَدَ عَلَيْهَا عَلَى الْوَجْه الَّذِي حَظَرَهُ الْخَبَرُ ، وَقَالَ فِي الصَّرْفِ { لَا تَبِيعُوا غَائِبًا بِنَاجِزٍ } وَقَالَ { إذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ } ، وَحَاجُّوا ابْنَ عَبَّاسٍ فِي تَجْوِيزِهِ الصَّرْفَ بِهَذَا الْخَبَرِ وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي مُقْتَضَى لَفْظِ الْخَبَرِ أَنَّهُ يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا عَارَضَهُمْ بِخَبَرِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُُُُُُُُُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ } ثُمَّ لِمَا تَوَاتَرَ عِنْدَهُ الْأَخْبَارُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ ، وَعَقَلَ السَّلَفُ مِنْ { نَهْيَهُ عَنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ } فَسَادَ الْعَقْدِ إذَا حَصَلَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَكَذَلِكَ { نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ

يُقْبَضْ ، وَعَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ ، وَبَيْعِ الْمَجْرِ } ( مَا فِي الْبُطُونِ ) وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ وَلَمْ يَرْجِعُوا فِي إفْسَادِهَا ( إلَّا ) إلَى ظَاهِرِ النَّهْيِ .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ ( مِنْ ) مَذْهَبِهِمْ ، أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ ، وَكَذَلِكَ احْتِجَاجُ أَصْحَابِنَا فِي كُتُبِهِمْ فِي إفْسَادِ هَذِهِ الْعُقُودِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ دُونَ غَيْرِهِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَذْهَبُهُمْ فِيهِ مَا وَصَفْنَا ، وَمِنْ أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ النَّهْيَ وَإِنْ مَنَعَ جَوَازَ هَذِهِ الْعُقُودِ ، وَالْقُرَبِ إذَا تَنَاوَلَهَا ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُقُوعِهَا عَلَى فَسَادٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَقَالَ فِي نَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ صَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ : إنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ إذَا صَامَ فِيهِنَّ كَانَ صَوْمُهُ صَوْمًا لَمَا كَانَ لِلنَّهْيِ مَعْنًى ، وَقَالَ مَعَ ذَلِكَ إنَّهُ ( إنْ ) صَامَ هَذِهِ الْأَيَّامَ عَنْ صَوْمٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يُجْزِهِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ عَلَى مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى فَسَادٍ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَهُ عَنْ وَاجِبٍ عَلَيْهِ .
وَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ مَا تَنَاوَلَهُ ، عَلَى أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ غَيْرُ مُجْزِئٍ عَنْ فَاعِلِهِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إذَا لَمْ يَتَنَاوَلْ مَعْنًى

فِي نَفْسِ الْعَقْدِ ، أَوْ الْقُرْبَةِ الْمَفْعُولَةِ ، أَوْ مَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهَا الَّتِي يَخُصُّهَا لَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ ذَلِكَ نَحْوُ الْبَيْعِ عِنْدَ أَذَانِ الْجُمُعَةِ ، وَتَلَقِّي الْجَلَبِ ، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ السَّبْيِ ( لِذَوِي الرَّحِمِ ) الْمَحْرَمِ فِي الْبَيْعِ إذَا كَانُوا صِغَارًا ، وَمِثْلِ الصَّلَاةِ فِي الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَالطَّهَارَةِ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ ، وَغَسْلِ النَّجَاسَةِ بِهِ ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ عَلَى جَمَلٍ مَغْصُوبٍ : أَنَّ كَوْنَ ( الْفِعْلِ ) فِيهَا عَنْهُ فِي هَذِهِ ( الْوُجُوهِ ) لَا يَمْنَعُ جَوَازَهُ ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهَا لَمْ يَتَنَاوَلْ مَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَفْعُولِ ، وَإِنَّمَا تَنَاوَلَ مَعْنًى فِي غَيْرِهِ ، وَكَوْنُ الْإِنْسَانِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ عَاصِيًا فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ( لَا يَمْنَعُ وُقُوعَ فِعْلِهِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ ، كَمَا أَنَّ كَوْنَهُ عَاصِيًا فِي تَرْكِهِ الصَّلَاةَ لَا يَمْنَعُ ) صِحَّةَ صِيَامِهِ إذَا صَامَ
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ رَجُلًا لَوْ رَأَى رَجُلًا يَغْرَقُ ، وَهُوَ يُصَلِّي ، وَقَدْ كَانَ يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ ، أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْمُضِيِّ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ وَمَأْمُورٌ بِتَخْلِيصِ الرَّجُلِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ آخَرَ وَيُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْهُ أَنَّ عَلَيْهِ تَرْكَ الصَّلَاةِ وَدَفْعَ الْقَاتِلِ عَمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَمَضَى فِي صَلَاتِهِ كَانَتْ صَلَاتُهُ مُجْزِئَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُنْفِرَ النَّاسُ إلَى عَدُوٍّ أَظَلَّهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ كَانَ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ أَنْ يَنْفِرَ إلَيْهِمْ ، فَلَوْ اشْتَغَلَ بِفِعْلِ الظُّهْرِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَتَرَكَ الْخُرُوجَ كَانَتْ صَلَاتُهُ مَاضِيَةً ، مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْ الِاشْتِغَالِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ .
وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ وَاجِبًا أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَحَدٍ مِنَّا فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إذَا أَلْزَمْنَا الْخُرُوجَ إلَى طَرَسُوس لِقِتَالِ الْعَدُوِّ ، وَفِي اتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ صَلَاةِ مَنْ

هَذَا وَصْفُهُ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ فِي نَفْسِ الْقُرْبَةِ الْمَفْعُولَةِ أَوْ بِمَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهَا الَّتِي تَخْتَصُّ بِهَا أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ ( وَ ) وُقُوعَ الْقُرْبَةِ مَوْقِعَ الْجَوَازِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَخْلِيصَ ( الرَّجُلِ مِنْ ) الْغَرَقِ لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ وَلَا مِنْ شُرُوطِهَا فِي شَيْءٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ تَخْلِيصَ الْغَرِيقِ ( لَوْ اشْتَغَلَ ) بِالصَّلَاةِ أَيْضًا كَانَ عَاصِيًا فِي اشْتِغَالِهِ عَنْ تَخْلِيصِهِ ، وَأَنَّ أَذَانَ الْجُمُعَةِ لَيْسَ مِنْ نَفْسِ الْبَيْعِ وَلَا مِنْ شَرْطِهِ فَلَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ مِنْ أَجْلِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ الِاشْتِغَالُ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ ( لَا الْبَيْعُ ) ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْقِدْ الْبَيْعَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ كَانَ النَّهْيُ قَائِمًا فِي اشْتِغَالِهِ بِغَيْرِ الصَّلَاةِ ، فَعَلِمْت أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا تَنَاوَلَ الِاشْتِغَالَ عَنْ الْجُمُعَةِ لَا الْبَيْعَ نَفْسَهُ .
وَكَذَلِكَ النَّهْيُ عَنْ تَلَقِّي الْجَلَبِ ، وَبَيْعِ حَاضِرٍ لِبَادٍ ، إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ حَقِّ الْغَيْرِ لَا لِأَجْلِ الْبَيْعِ .
وَكَذَلِكَ ( هَذَا ) فِي اسْتِيَامِ الرَّجُلِ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ أَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَلَوْ عَقَدَ الْبَيْعَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ إنَّمَا تَعَلَّقَ لِحَقِّ الْمُسَاوِمِ لَا بِالْعَقْدِ نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ فِي الْخُلْعِ إذَا وَقَعَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْمَهْرِ الَّذِي تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ كَانَ جَائِزًا مَعَ الْكَرَاهَةِ ، لِأَنَّهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ كَرَاهَتُهُ بِمَعْنًى فِي الْعَقْدِ ، إنَّمَا تَعَلَّقَ بِاَلَّذِي أَخَذَتْهُ أَقَلَّ مِمَّا أَعْطَتْ ،

أَلَا تَرَى أَنَّ مَهْرَهَا لَوْ كَانَ مِثْلَ هَذَا أَوْ أَكْثَرَ لَجَازَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَهَا بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ النُّشُوزُ مِنْ قِبَلِهِ .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى الْمَعْنَى فِي أَشْبَاهِهِ ، فَصَارَ مَا ذَكَرْنَا أَصْلًا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ .
ثُمَّ الْعُقُودُ وَمَا سَبِيلُهُ أَنْ يُفْعَلَ عَلَى وَجْهِ الْقُرْبَةِ إذَا فُعِلَتْ عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهَا عَلَى وُجُوهٍ : فَمِنْهَا مَا يَكُونُ حَالُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ تَعَلُّقِ النَّهْيِ بِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ وَفِي غَيْرِ شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ .
وَمِنْهَا مَا يَتَعَلَّقُ النَّهْيُ فِيهِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ أَوْ فِي شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : فَمَا كَانَ مِنْهُ مُخْتَلَفًا فِيهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَوْ غَيْرُ جَائِزٍ - وَهُوَ مِمَّا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَيَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ - فَإِنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ عَلَى فَسَادٍ ، وَيَجِبُ فَسْخُهُ مَعَ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا مَا لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهِ .
فَأَمَّا مَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا تَعَلَّقَ النَّهْيُ فِيهِ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْعَقْدِ وَفِي شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ ، فَكَبَيْعِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ بِثَمَنٍ مَجْهُولٍ ، وَبَيْعِ الْغَرَرِ ، وَبَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، فَهَذَا تَعَلَّقَ النَّهْيُ فِيهِ بِنَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بَدَلٌ وَمُبْدَلٌ عَنْهُ ، فَإِذَا جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ وَالْمَجْهُولَ وَالْغَرَرَ وَمَا لَيْسَ عِنْدَهُ بَدَلًا وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَقَدْ تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِنَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ فَسَادَهُ .
وَأَمَّا شُرُوطُهُ الَّتِي تَخُصُّهُ : فَنَحْوُ الْقَبْضِ وَالْأَجَلِ وَإِلْحَاقِ شَرْطٍ بِهِ لَا يُوجِبُهُ الْعَقْدُ ، فَإِذَا بَاعَ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ ، أَوْ بَاعَ مَا لَمْ يَقْبِضْ ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يَبِيعَ وَلَا يَهَبَ ، أَوْ شَرَطَ أَنْ لَا يُسْلِمَ إلَى الْمُشْتَرِي وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يُوجِبُهَا الْعَقْدُ ، فَمَتَى تَعَلَّقَ النَّهْيُ بِهَذِهِ

الْأَوْصَافِ أَوْجَبَ فَسَادَ الْبَيْعِ ، وَلَا يَمْنَعُ مَا تَنَاوَلَ النَّهْيُ مِنْ هَذِهِ الْعُقُودِ وُقُوعَهَا عَلَى فَسَادٍ ، لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا عُقُودٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ : إنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، ( لِأَنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ الْبَيْعَ فِي مِثْلِهِ بِالْقِيمَةِ ، وَالْبَيْعُ إلَى الْعَطَاءِ وَالدِّيَاسِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ) فَمِنْ الصَّحَابَةِ مَنْ أَجَازَ ذَلِكَ ، " وَيُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ إلَى الْعَطَاءِ أَنَّهُ جَائِزٌ " فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْنَعْ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ النَّهْيِ الَّذِي تَنَاوَلَ نَفْسَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ بَعْضَ شُرُوطِهِ مِنْ وُقُوعِهِ عَلَى فَسَادٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا هَكَذَا عِنْدَهُمْ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ إجَازَةٌ بِحَالٍ ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا ( عَنْهُ ) لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ عَلَى فَسَادٍ ، وَوُقُوعُ الْمِلْكِ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ إذَا وُجِدَ التَّسْلِيطُ ( مِنْ مَالِكِهِ لِمُشْتَرِيهِ ) عَلَى ذَلِكَ .
وَالْبُيُوعُ الْمُخْتَلَفُ فِيهَا وَمَا يَسُوغُ الِاجْتِهَادُ فِيهِ قَدْ تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ بِحَالٍ ، لِأَنَّ قَاضِيًا لَوْ قَضَى بِجَوَازِهِ نَفَذَ حُكْمُهُ وَصَحَّ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا عِنْدَنَا قَبْلَ حُكْمِ الْحَاكِمِ ( بِهِ ) ، فَصَارَ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ الَّذِي يَجُوزُ أَنْ تَلْحَقَهُ الْإِجَازَةُ مِنْ جِهَةِ مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ ، فَيَمْلِكُ مُشْتَرِيهِ بَدَلَهُ إذَا قَبَضَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُقُوعَ الْمِلْكِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ .
وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ عَلَى ذَلِكَ : { بِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَاشْتَرَطَتْ الْوَلَاءَ لِمَوَالِيهَا ، ثُمَّ أَعْتَقَتْهَا ، ثُمَّ سَأَلَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَجَازَ عِتْقَهَا } ، وَقَدْ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا بِشَرْطِهَا الْوَلَاءَ لَهُمْ .
هَذَا مَعْنَى قَضِيَّةِ بَرِيرَةَ عِنْدَنَا وَإِنْ كَانَتْ الْأَلْفَاظُ الْوَارِدَةُ فِيهَا

مُخْتَلِفَةً ، فَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الْعُقُودِ يَقَعُ فَاسِدًا وَيُمْلَكُ بِهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ النِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْوَطْءُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي بَابِ لُزُومِ الْمَهْرِ وَوُجُوبِ الْعِدَّةِ وَثُبُوتِ النَّسَبِ .
وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ الْفَاسِدَةُ إذَا اتَّصَلَ بِهَا الْأَدَاءُ أُعْتِقَ بِهِ الْعَبْدُ ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْأَصْلِ عَلَى فَسَادٍ .
وَضَرْبٌ آخَرُ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ فَلَا يَقَعُ رَأْسًا ، مِثْلُ بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ، لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِعُقُودٍ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَلْحَقَهَا ( الْإِجَازَةُ بِحَالٍ ) ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يُجِيزُ بَيْعَ الْعَبْدِ بِهَذِهِ الْأَبْدَالِ لَا بِقِيمَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ عَقْدًا بِحَالٍ صَارَ لَغْوًا لَا حُكْمَ لَهُ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ هَذِهِ الْعُقُودِ بِأَنْ قَالَ هِيَ عَلَى ثَلَاثَةٍ : مِنْهَا عَقْدٌ جَائِزٌ ، وَهِيَ الْمُبَايَعَاتُ الصَّحِيحَةُ ، وَمِنْهَا عَقْدٌ فَاسِدٌ ، وَهِيَ كَشِرَاءِ الْعَبْدِ بِالْخَمْرِ ( وَالْخِنْزِيرِ ) وَبِالْأَثْمَانِ الْمَجْهُولَةِ ، أَوْ إلَى آجَالٍ مَجْهُولَةٍ ، أَوْ يَشْرِطُ فِيهَا شُرُوطًا فَاسِدَةً ، وَسَائِرُ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي يَقَعُ الْمِلْكُ ( فِيهَا ) عَنْدَ الْقَبْضِ .
وَمِنْهَا عَقْدٌ بَاطِلٌ وَهُوَ الشِّرَاءُ بِالْخَمْرِ وَبِالْمَيْتَةِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الْمِلْكِ قَبَضَ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ ، فَيُفَرِّقُونِ بَيْنَ الْفَاسِدِ وَالْبَاطِلِ ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ وَلَا يَضِيقُ أَنْ يُعَبِّرَ بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ

وَيُفَرِّقَ بَيْنَ مَعَانِيهَا لِلْإِفْهَامِ ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِمَّا لَا يَلْحَقُهُ ( فَسْخٌ ) ، فَإِنَّ كَوْنَهُ وَاقِعًا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ وُقُوعِهِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَا يَمْنَعُ وُقُوعَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَسَادِ ، وَمَا يَقَعُ فَاسِدًا فَإِنَّهُ قَدْ تَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فِي بَابِ وُقُوعِ الْمِلْكِ بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ فِيمَا يَمْلِكُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فَسْخُهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لِانْتِفَاءِ أَحْكَامِ الصِّحَّةِ عَنْهُ ، فَمَا ( يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَهُوَ وَاقِعٌ فَيَصِيرُ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ صَارَُُُُ
بِحَالٍ ) لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ ، وَذَلِكَ مِثْلُ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ ( فَإِنَّهُ ) وَإِنْ تَعَلَّقَ النَّهْيُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الطَّلَاقِ ، وَفِيمَا هُوَ ( مِنْ ) شُرُوطِهِ ، إذَا أَرَادَ إيقَاعَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ ، فَإِنَّ كَوْنَهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ لَمْ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ الَّتِي يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَلْحَقَهُ الْفَسْخُ نَفَذَ وَصَحَّ " وَقَدْ { نَهَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ } ( وَ ) أَجَازَ مَعَ ذَلِكَ طَلَاقَ ابْنِ عُمَرَ .
وَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّيَّةُُُُِ

إذَا أَوْقَعَهَا عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ مِثْلَ أَنْ يَعْتِقَهُ فِي الْمَرَضِ - وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ قَاصِدًا بِهِ ( إضْرَارَ ) - الْوَرَثَةِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ ، وَإِنْ وَقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ .
{ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي الَّذِي أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ لَوْ أَدْرَكْته مَا صَلَّيْت عَلَيْهِ } وَأَعْتَقَ مَعَ ذَلِكَ ثُلُثَ ذَلِكَ الرَّقِيقِ مَعَ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، وَمَتَى وَقَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي لَا يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ بَعْدَ وُقُوعِهَا كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ عَلَى أَبْدَالٍ مَذْكُورَةٍ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ، كَانَتْ وَاقِعَةً نَافِذَةً لَا يُبْطِلُهَا بُطْلَانُ الْبَدَلِ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ الْعَقْدِ نَحْوُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْرٍ أَوْ يَعْفُوَ مِنْ دَمِ عَمْدٍ عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ ، وَيَصِحُّ الْعَفْوُ ، وَلَمْ يَسْتَحِقَّ عَنْهَا بَدَلًا ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بَدَلًا ، وَلَمْ يَكُنُُُُْ

مِنْ الْعَاقِدِ غُرُورٌ لِلْمَعْقُودِ لَهُ لِعِلْمِهِ بِأَنَّهُ خَمْرٌ وَمَيْتَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا مِنْ جِهَةِ الْعَقْدِ ، فَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَقْدًا بِحَالٍ وَإِنَّمَا وَقَعَ بِهِ الطَّلَاقُ وَنَظَائِرُهُ مِمَّا وَصَفْنَاهُ مِنْ حَيْثُ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْقَبُولِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا تَعَلَّقَ عَلَى الْأَخْطَارِ وَالشُّرُوطِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّهَا مِمَّا يَصِحُّ إيقَاعُهَا بِالْقَبُولِ دُونَ شَرْطِ الْبَدَلِ ، فَلَا يَقْدَحُ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي صِحَّةِ وُقُوعِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الْقَبُولِ صَارَ كَقَوْلِهِ : إنْ قَبِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ .
وَأَمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ إذَا وَقَعَ عَلَى خَمْرٍ وَمَيْتَةٍ وَنَحْوِهِمَا فَإِنَّهُ يُشْبِهُ الْعِتْقَ وَنَظَائِرَهُ الْوَاقِعَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَبْدَالِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَصِحُّ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْبَدَلِ فَلَا يَقْدَحُ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي صِحَّتِهِ ، وَيُفَارِقُهَا مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِهَا بِالْأَخْطَارِ وَالشُّرُوطِ ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَخْطَارِ وَلَا عَلَى الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ كَقَوْلِهِ ، إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَقَدْ تَزَوَّجْتُك ، فَإِنَّمَا جَازَ مَعَ فَسَادِ الْبَدَلِ لِأَحَدِالْمَعْنَيَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا فِي الْعِتْقِ وَنَظَائِرِهِ وَهُوَ جَوَازُ وُقُوعِهِ بِالْقَوْلِ دُونَ شَرْطِ ( الْبَدَلِ ).
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : هَذَا ( الْأَصْلُ ) يَنْتَقِضُ عَلَيْك فِي عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ وَسَائِرِ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ الْوَاقِعَةِ عَلَى أَبْدَالٍ إذَا وَقَعَتْ عَلَى خَمْرٍ أَوْ مَيْتَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا ، لِأَنَّ مَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ

مِنْ ) نَحْوِ الْعَبْدِ وَالدَّارِ يَجُوزُ أَنْ يُمْلَكَ بِالْهِبَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ ( الْبَدَلِ ) ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ فَسَادُ عَقْدِ الْبَيْعِ لِأَجْلِ فَسَادِ الْبَدَلِ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ تَأَمَّلْت مَا قُلْنَاهُ لَعَلِمْت بُطْلَانَ هَذَا السُّؤَالِ ؛ لِأَنَّا إنَّمَا قُلْنَا ( إنَّ ) مَا يَصِحُّ ( إيقَاعُهُ ) بِالْقَوْلِ ( عَلَى وَجْهٍ ) عَلَى غَيْرِ شَرْطِ الْبَدَلِ لَمْ يَقْدَحْ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي صِحَّتِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ وَالْعَفْوِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ مِمَّا تَصِحُّ بِالْقَوْلِ .
وَأَمَّا تَمْلِيكُ الْأَعْيَانِ : عَلَى جِهَةِ الْهِبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ بِالْقَوْلِ دُونَ انْضِمَامِ
مَعْنًى آخَرَ إلَيْهِ ، وَهُوَ الْقَبْضُ فَلَمْ يَلْزَمْ عَلَى مَا قَدَّمْنَا ، وَلَمْ يَجُزْ لَنَا تَصْحِيحُ الْبَيْعِ الْمَعْقُودِ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ لِأَجْلِ أَنَّ الْهِبَةَ قَدْ تَصِحُّ بِغَيْرِ بَدَلٍ ؛ لِأَنَّا لَوْ صَحَّحْنَاهُ لَكَانَ إنَّمَا يَجِبُ تَصْحِيحُهُ بِالْقَوْلِ مِنْ غَيْرِ إثْبَاتِ الْبَدَلِ فِيهِ ، وَالْقَوْلُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي إيجَابِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ لَا تَلْزَمُ عَلَى هَذَا ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أَيْضًا لَا تَصِحُّ بِالْقَوْلِ ، وَإِنَّمَا تَحْتَاجُ فِي صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْقَوْلِ إلَى مَوْتِ الْمُوصِي حَتَّى تُمْلَكَ بِهَا .
فَإِنْ قَالَ : الْبَرَاءَةُ مِنْ الدَّيْنِ تَصِحُّ بِالْقَوْلِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا عَقَدَهَا عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ لَمْ يَصِحَّ كَالْبَيْعِ .
قِيلَ لَهُ : الْبَرَاءَةُ فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ مِنْ حَيْثُ كَانَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ

الْمُبْرِئِ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمَقْبُوضَةِ فَلَمْ يَخْلُ أَنْ تَكُونَ صِحَّتُهَا مُتَعَلِّقَةً بِالْقَوْلِ ( وَبِمَعْنًى ) آخَرَ يَنْضَمُّ إلَيْهِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ الْوَاقِعِ بِالْهِبَةِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْوَاقِعِ بِالْبَيْعِ لِمَا تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي ( لَا ) تَتَعَلَّقُ بِالْآخَرِ ، وَلَيْسَ حُكْمُ الطَّلَاقِ ( الْوَاقِعِ ) بِبَدَلٍ مُخَالِفًا لِحُكْمِ وُقُوعِهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ .
وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ وَالصُّلْحُ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ ، فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي نَفْسِهِ سَوَاءٌ وَقَعَتْ بِبَدَلٍ أَوْ غَيْرِ بَدَلٍ - وَجَبَ أَنْ ( لَا ) يُؤَثِّرَ فَسَادُ الْبَدَلِ فِي وُقُوعِهَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَقَعُ ( عَلَيْهِ ) لَوْ لَمْ ( يَكُنْ ) هُنَاكَ بَدَلٌ ، لِأَنَّ الْمَوْقِعَ فِي الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ غَيْرُ مُخْتَلِفِ الْحُكْمِ فِي نَفْسِهِ .
وَلَمَّا كَانَ الْمَمْلُوكُ بِالْبَيْعِ حُكْمُهُ فِي نَفْسِهِ مُخَالِفًا لِحُكْمِ الْمَمْلُوكِ بِالْهِبَةِ كَانَ لِفَسَادِ الْبَدَلِ تَأْثِيرٌ فِي مَنْعِ صِحَّتِهِ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاقِعًا عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ أَوْ ( عَلَى ) بَدَلٍ فَاسِدٍ عَلَى مَا شُرِطَ ، فَإِنْ أَوْقَعْنَاهُ عَلَى غَيْرِ بَدَلٍ كُنَّا قَدْ أَلْزَمْنَاهُمَا ( عَقْدَ ) هِبَةٍ لَمْ يَعْقِدَاهَا ، وَإِنْ أَوْقَعْنَاهُ عَلَى بَدَلٍ فَاسِدٍ فَوَاجِبٌ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ بِفَسَادِ الْبَدَلِ ، إذْ لَا يَصِحُّ إلَّا بِبَدَلٍ صَحِيحٍ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْعُقُودِ وَاجِبٌ فِيمَا سَبِيلُهُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً إذَا أَوْقَعَهُ عَلَى وَجْهٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ ( فِي ) أَنَّ النَّهْيَ مَتَى تَنَاوَلَ مَعْنًى فِي نَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ فِي شُرُوطِهِ الَّتِي تَخُصُّهُ فَمَاُُُُ

كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُخْتَلِفًا فِيهِ فَإِنَّهُ يَقَعُ عَلَى فَسَادٍ ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ شُرُوطِهِ وَبِهِ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ فَإِنَّهُ مَتَى أَخَلَّ بِهِ بَطَلَ حُكْمُ فِعْلِهِ رَأْسًا فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَفْعَلْهُ .
فَالْأَوَّلُ : مِثْلُ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ ، هِيَ فَاسِدَةٌ إذَا وَقَعَتْ عَلَى ( هَذَا الْوَجْهِ ) وَلَمْ يُخْرِجْهَا الْفَسَادُ مِنْ ثَبَاتِ حُكْمِهَا عَلَى فَسَادٍ وَلَمْ ( يُجْزِهِ مِنْ ذَلِكَ ) عَنْ الْفَرْضِ ، وَإِنْ ضَحِكَ فِيهَا أَعَادَ ( وَأَعَادَ ) الْوُضُوءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَالثَّانِي : مِثْلُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَالصَّلَاةِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ ، فَوُجُودُ الْكَلَامِ فِيهَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِهَا نَاسِيًا كَانَ أَوْ عَامِدًا ، وَكَذَلِكَ عَدَمُ الطَّهَارَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهَا ( وَثُبُوتَ حُكْمِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ تَرْكَ الْكَلَامِ فِيهَا مِنْ شُرُوطِهَا ، وَأَنَّ وُجُودَ الطَّهَارَةِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ فِعْلِهَا ) فَمَتَى أَخَلَّ بِذَلِكَ خَرَجَ مِنْهَا ، وَكَانَ نَظِيرُهَا مِنْ عُقُودِ الْبِيَاعَاتِ ( الْعَقْدُ ) عَلَى حُرٍّ وَمَيْتَةٍ ( وَدَمٍ ) ( وَمُدَبَّرٍ ) .ُُُُُُُُ

فَصْلٌ : فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ( صِحَّةِ ) مَا قَدَّمْنَا فِي أَصْلِ الْبَابِ
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى : { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ .
قَدْ حَوَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ } فَنَهَى عَنْ أَكْلِ الزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نَهْيِهِ عَنْهُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { : لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا } ، فَدَلَّ أَنَّ ظَاهِرَ نَهْيِهِ قَدْ اقْتَضَى وُجُوبَ الِامْتِنَاعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا أَخَذَ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا .
وَالثَّانِي : قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } فَذَمَّ مَنْ سَوَّى بَيْنَ الرِّبَا ( الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ) وَبَيْنَ الْبَيْعِ الْمُبَاحِ ، وَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَحْظُورَ لَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْحُكْمِ الْوَاجِبِ ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنْ يَكُونَ الْمَحْظُورُ مُخَالِفًا لِلْمُبَاحِ .
فَإِذَا كَانَ وُقُوعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ يُوجِبُ صِحَّتَهُ فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ وُقُوعُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَحْظُورِ مُوجِبًا ( لِفَسَادِهِ بِمَا ) فِي فَحَوَى الْآيَةِ مِنْ إيجَابِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ .
وَالثَّالِثُ : قَوْله تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } فَاقْتَضَى ظَاهِرُ النَّهْيِ رَدَّ

الزِّيَادَةِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ عَقْدِ الرِّبَا إلَى بَائِعِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ ، وَكَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِظَاهِرِ النَّهْيِ .
وَالرَّابِعُ : قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } لَمَّا نَهَىُُُُ
عَنْهُ حَكَمَ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ ، فَلَوْلَا أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ قَدْ اقْتَضَى الْفَسَادَ لَكَانَ مَمْلُوكًا بِعَقْدٍ صَحِيحٍ لَا يَجِبُ رَدُّهُ .
وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كُلُّ رِبًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا الْعَبَّاسِ } فَلَمَّا تَعَلَّقَ الْفَسَادُ فِيمَا ذَكَرْنَا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ بِالنَّهْيِ ثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ النَّهْيِ يَقْتَضِي فَسَادَ مَا تَنَاوَلَهُ حَتَّى تَقُومَ دَلَالَةُ الْجَوَازِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ وَالْقُرَبَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ ( سَبِيلُهَا أَنْ تَكُونَ ) ( مَفْعُولَةً عَلَى وَجْهِ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ أَوْ الْإِبَاحَةِ ) ( وَ ) كَوْنُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا فَرْضًا أَوْ مُبَاحًا ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هُوَ الْفَرْضَ أَوْ النَّدْبَ أَوْ الْمُبَاحَ .
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ ( كَذَلِكَ ) وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ ، وَلَا لِمَا قُصِدَ إلَى فِعْلِهِ

مِنْ نَدْبٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ فَرْضٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَأَنْ لَا تَصِحَّ لَهُ قُرْبَةٌ وَلَا فِعْلُ الْمُبَاحِ ، فَإِذَا كَانَ مَا فَعَلَهُ عَقْدًا مِنْ عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَ الْعِبَادِ الَّذِي سَبِيلُهُ أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَاحِ ، فَهُوَ إذَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ الْعَقْدِ نَفْسِهِ أَوْ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ شُرُوطِهِ فَهُوَ غَيْرُ فَاعِلٍ فِي هَذِهِ الْحَالِ لِلْعَقْدِ الْمُبَاحِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ عَقْدُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَأَنْ لَا يَزُولَ مِلْكُ مَالِكِهِ عَنْهُ بِهَذَا الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْوَاقِعَ بِذَلِكَ إنَّمَا هُوَ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِإِبَاحَةِ اللهِ تَعَالَى إيَّاهُ وَحُكْمِهِ بِهِ ، وَإِذَا حُكِمَ بِنَهْيِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُ الْحُكْمِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ إيقَاعِ الْمِلْكِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ فَاسِدًا لَا حُكْمَ لَهُ .
وَكَذَلِكَ نَقُولُ فِي سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ : إنَّهَا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُكْمٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ ثَبَتَ لِلْمَقْبُوضِ حُكْمُ الْمِلْكِ مِنْ وَجْهٍ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ ، وَنَحْنُ فَإِنَّمَا كَلَامُنَا هَاهُنَا فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَنْهِيٍّ عَنْهُ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَدَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ النَّهْيَ يَتَنَاوَلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ بِأَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا وَقَعَ مِنْ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِهَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَصِحُّ النَّهْيُ عَنْهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُقُوعِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ وَعَنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، فَإِذَا وَجَبَ ذَلِكَ كَانَ لُزُومُ فَسْخِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ( وَلَزِمَ الْحَاكِمَ إذَا اخْتَصَمُوا إلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ قَبْضِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ قَبْضَ الْمَبِيعِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ ، وَإِنْ قَبَضَهُ ثُمَّ اخْتَصَمَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ سَائِرِ وُجُوهِ التَّصَرُّفِ ، وَكَانَ الْمَنْعُ مِنْ ذَلِكَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ) مُتَعَلِّقًا بِظَاهِرِ النَّهْيِ ، لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ أَحْكَامَ الْعَقْدِ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مَمْنُوعَةً بَعْدَ الْعَقْدِ بِظَاهِرِ النَّهْيِ وَجَبَ فَسْخُهُ مَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى نَفَاذِ تَصَرُّفِهِ .

وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِنَا : إنَّ الْعَقْدَ وَاقِعٌ عَلَى فَسَادٍ ، لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا تَنَاوَلَ الْعَقْدَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا .
وَأَمَّا إذَا تَنَاوَلَ النَّهْيُ مَعْنًى لَيْسَ هُوَ نَفْسَ الْمَعْقُودِ وَلَا مِنْ شَرَائِطِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْنًى فِي غَيْرِهِ فَخَارِجٌ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ لِمَا قَدَّمْنَا فِيمَا سَلَفَ ، وَهُوَ أَنَّ كَوْنَهُ فَاعِلًا لِمَا نُهِيَ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ فِعْلِهِ لِشَيْءٍ آخَرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ النَّهْيُ بِهِ مِنْ عَقْدٍ أَوْ قُرْبَةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ لَا يَمْنَعُ تَرْكُهُ لِصَلَاتِهِ صِحَّةَ صَوْمِهِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْفُرُوضِ مَتَىُُُُ
ارْتَكَبَ النَّهْيَ فِي تَرْكِ بَعْضِهَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ صِحَّةِ فِعْلِ مَا فَعَلَ مِنْهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ تَحْرِيمَ نِكَاحِ الْأُمَّهَاتِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَالْمُعْتَدَّةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبِمَا هُوَ مِنْ شُرُوطِهِ مَنَعَ صِحَّةَ الْعَقْدِ .
وَأَنَّ نِكَاحَ مَنْ خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ - وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ - لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ صِحَّةَ وُقُوعِهِ لِأَنَّ النَّهْيَ تَنَاوَلَ مَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَبَانَ بِذَلِكَ ( صِحَّةُ ) مَا وَصَفْنَا .ُُُُ

الْبَابُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: الْكَلَامُ فِي مَاهِيَّةِ النَّسْخِ
ُُُُ

فارغة ُُُُ

بَابُ الْكَلَامِ فِي النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ
فَصْلٌ ( فِي الْكَلَامِ ) فِي مَاهِيَّةِ النَّسْخِ .
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى النَّسْخِ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ .
فَقَالَ قَائِلُونَ : هُوَ النَّقْلُ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : نُسِخَ الْكِتَابُ ، أَيْ نُقِلَ مَا فِيهِ إلَى غَيْرِهِ ، فَيُطْلِقُونَ اسْمَ النَّسْخِ وَالنَّقْلِ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَالَ آخَرُونَ : مَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ ، وَمِنْهُ ( قَوْلُهُمْ ) : نَسَخَتْ الرِّيَاحُ الْآثَارَ .
وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي ، وَأَيُّهَا كَانَ الْمَعْنَى فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ مَتَى اُسْتُعْمِلَ فِي نَسْخِ الْأَحْكَامِ فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ دُونَ الْحَقِيقَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى النَّسْخِ فِي مَوْضُوعِ اللُّغَةِ هُوَ النَّقْلَ : فَهَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ ، لِأَنَّ ( لِلنَّقْلِ مَعْنًى مَعْقُولًا ) فِي اللُّغَةِ لَا تَصِحُّ حَقِيقَتُهُ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ ، وَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ نَقْلَ الْحُكْمِ نَفْسِهِ ، أَوْ نَقْلَ الْمُتَعَبَّدِ بِهِ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَى غَيْرِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْحُكْمَ فَإِنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ هُوَ مَعْنًى يَصِحُّ نَقْلُهُ فِي الْحَقِيقَةِ ، لِأَنَّ النَّقْلَ الْمَعْقُولَ فِي اللُّغَةِ هُوَ نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَان إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ مُسْتَحِيلٌ فِي الْحُكْمِ .
وَإِنْ كَانَ

الْمُرَادُ نَقْلَ الْمُتَعَبِّدِ بِالْحُكْمِ إلَى حُكْمٍ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ نَقْلٌ بِأَنْ يَتَعَبَّدَ بِحُكْمٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ .
فَعَلِمْت أَنَّ الِاسْمَ إنْ كَانَ مَوْضُوعًا ( لِلنَّقْلِ ) فِي ( أَصْلِ ) اللُّغَةِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُ مَجَازٌ فِي الْحُكْمِ ، فَكَأَنَّهُ إنَّمَا سُمِّيَ بِذَلِكَ عَلَى جِهَةِ التَّشْبِيهِ ، لِأَنَّ النَّقْلَ يُوجِبُ تَغْيِيرَ الْمَنْقُولِ عَنْ الْحَالِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا إلَى غَيْرِهَا ، فَشُبِّهَ تَغْيِيرُ الْحُكْمِ فِي الثَّانِي بِالنَّقْلِ .
وَعَلَى أَنَّ نَسْخَ الْكِتَابِ إنَّمَا يُسَمَّى نَقْلًا مَجَازًا أَيْضًا لَا حَقِيقَةً ، لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ بَدْءًا هُوَ بَاقٍ فِيُُُُُُُُُُُُ
مَوْضِعِهِ غَيْرِ مَنْقُولٍ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ مَا نُسِخَ مِنْهُ مَنْقُولًا تَشْبِيهًا لَهُ بِالشَّيْءِ الْمَنْقُولِ مِنْ مَكَان إلَى غَيْرِهِ ، فَلَمْ يَحْصُلْ مَعْنَى النَّسْخِ أَنَّهُ نَقْلُ ( مَا ) فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَجَازًا .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ النَّسْخُ هُوَ الْإِزَالَةُ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ أَيْضًا إلَّا إلَى الْمَجَازِ فِي اللُّغَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمْ : نَسَخَتْ الرِّيَاحُ الْآثَارَ ، قَدْ يُطْلَقُ فِي الرِّيحِ إذَا أَعْفَتْ آثَارَ الدِّيَارِ بِأَنْ سَفَّتْ عَلَيْهَا التُّرَابَ فَأَخْفَتْهَا وَهِيَ بَاقِيَةٌ ، كَمَا يُقَالُ : عَفَتْ الدِّيَارُ وَدَرَسَتْ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إطْلَاقُ النَّسْخِ عَلَى كُلِّ مُزَالٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَزَالَ جِسْمًا مِنْ مَكَان إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَالَ لَهُ ( إنَّهُ ) قَدْ نَسَخَهُ ، فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُزَالَةِ مَا يَنْتَفِي عَنْهُ اسْمُ النَّسْخِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ النَّسْخِ فِي إزَالَةِ الرِّيحِ الْأَثَرَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةً ، وَهُوَ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا كَذَلِكَ ، لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ إزَالَتُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، إذْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ بِعَيْنِهِ غَيْرَ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حُكْمٌ أُزِيلَ بِالنَّسْخِ ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُبَيِّنُ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ

الْحُكْمِ لَا يَجِبُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَلَا يَكُونُ النَّسْخُ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ إلَّا تَشْبِيهًا لَهُ بِمَا كَانَ ثَابِتًا فِي مَوْضُوعٍ فَأُزِيلَ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَيَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَيْضًا أَنَّ إزَالَةَ الشَّيْءِ فِي اللُّغَةِ لَا يَقْتَضِي ارْتِفَاعَ عَيْنِهِ وَلَا إبْطَالَهُ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : أَزَلْت الْحَجَرَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَهُوَ بَاقِي الْعَيْنِ فِي مَوْضِعٍ غَيْرِهِ ، وَالْحُكْمُ الْأَوَّلُ لَيْسَ بِبَاقٍ بَعْدَ النَّسْخِ فَلَا يَصِحُّ فِيهِ مَعْنَى الْإِزَالَةِ إلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ .
وَأَمَّا مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ فِي اللُّغَةِ ، وَاسْتَدَلَُُُُّ
عَلَيْهِ بِقَوْلِهِمْ نَسَخَتْ ( الشَّمْسُ الظِّلَّ ) فَإِنَّهُ يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ هَذَا اللَّفْظُ مَجَازًا لِأَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا : نَسَخْت الْكِتَابَ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ ، وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } وَلَمْ يُرِدْ إبْطَالَ شَيْءٍ بَلْ مَعْنَاهُ إثْبَاتُ مَقَادِيرِهَا وَمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَهُوَ فِي مَعْنَى نَسْخِ الْكِتَابِ وَإِثْبَاتِ مِثْلِهِ فِي هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى بِمَعْنَى اللَّفْظِ مِنْ الْإِبْطَالِ .
وَلَوْ ثَبَتَ أَيْضًا أَنَّ مَعْنَاهُ الْإِبْطَالُ لَمَا صَحَّ إطْلَاقُهُ فِي الْأَحْكَامِ إلَّا مَجَازًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَوَّلَ لَا يَصِحُّ إبْطَالُهُ بِحَالٍ ، وَأَنَّ مَا ثَبَتَ فِي الثَّانِي حُكْمُ غَيْرِ الْأَوَّلِ ( وَالْأَوَّلُ ) لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُرَادًا فِي الثَّانِي فَلَيْسَ هُنَاكَ حُكْمٌ أُبْطِلَ بِالنَّسْخِ .
وَالنَّسْخُ فِي الشَّرِيعَةِ هُوَ بَيَانُ مُدَّةِ الْحُكْمِ الَّذِي كَانَ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا جَوَازُ بَقَائِهِ ، فَتَبَيَّنَ لَنَا أَنَّ ذَلِكَ الْحُكْمَ مُدَّتُهُ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطُّ مُرَادًا بَعْدَهَا .
وَلَا يَجُوزُ ( أَنْ يَكُونَ ) لِنَسْخِ الْأَحْكَامِ مَعْنًى غَيْرُهُ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ مُرَادًا فِي الْوَقْتِ الثَّانِي الَّذِي ( وَرَدَ ) فِيهِ النَّسْخُ ثُمَّ أَبْطَلَهُ وَنَهَى عَنْهُ ، لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ

=================

ج4. كتاب : أصول الفقه المسمى: الفصول في الأصول الإمام أحمد بن علي الرازي الجصاص


الْبَدَاءُ ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى ، إذْ هُوَ الْعَالِمُ بِالْعَوَاقِبِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ عِلْمُ شَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الْأَوَّلِ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى النَّسْخِ فِي الشَّرْعِ مَا وَصَفْنَا .
وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مَعْنَى النَّسْخِ فِي اللُّغَةِ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَاهُ فِي الشَّرْعِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا وُقُوعُهُ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْحَدِّ الَّذِي وَصَفْنَا ، وَقَدْ أُرِيدَ بِهِ مَعْنًى لَيْسَ الِاسْمُ مَوْضُوعًا لَهُ فِي اللُّغَةِ ، فَقَدْ صَارَ اسْمًا شَرْعِيًّا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخُُُُْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَلَيْسَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ تَوْقِيتَ الْمُدَّةِ فِيمَا كَانَ يُظَنُّ بَقَاؤُهُ وَدَوَامُهُ يُسَمَّى نَسْخًا ، فَثَبَتَ أَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ
( وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ شَرْعِيٌّ ) إطْلَاقُهُ فِي أَوَامِرِنَا لِمَنْ تَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا مِنْ عَبِيدِنَا وَمَنْ تَحْتَ أَيْدِينَا ، وَأَنَّ هَذَا الِاسْمَ مَخْصُوصٌ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ .
وَلَيْسَ كُلُّ مَا بُيِّنَ بِهِ ( مُدَّةُ ) الْحُكْمِ يُسَمَّى نَسْخًا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الْمُدَّةُ مَعْلُومَةً مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ بِأَنْ قَالَ : صَلُّوا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَلَا تُصَلُّوا فِي غَيْرِهِ ، لَمْ يَكُنْ زَوَالُ الْأَمْرِ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ نَسْخًا ، لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ تَوْقِيتَ مُدَّتِهِ ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ اسْمُ النَّسْخِ فِيمَا يَكُونُ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا تَجْوِيزُ بَقَائِهِ عَلَى الدَّوَامِ ، فَيَأْتِي الْحُكْمُ النَّاسِخُ وَيُبَيِّنُ أَنَّ مَا كَانَ فِي تَقْدِيرِنَا مِنْ بَقَاءِ الْحُكْمِ غَيْرَ ثَابِتٍ وَأَنَّ مُدَّةَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَضَتْ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ النَّسْخَ رَفْعُ الْحُكْمِ وَهَذَا جَهْلٌ مُفْرِطٌ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْأَحْكَامِ لَا يَجُوزُ رَفْعُهُ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الْبَدَاءِ ، وَإِنَّمَا يَدُلُّنَا النَّسْخُ أَنَّ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا فِي هَذَا الْوَقْتِ .ُُُُ

الْبَابُ الخَامِسُ وَالثَّلَاثُوْنَ:الْقَوْلِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ ُُُُ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: حُكْمُ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِيْمَا يَجُوْزُ نَسْخُهُ مِنَ الْأَحْكَامِ وَ مَالَا يَجُوْزُ نَسْخُهُ مِنْهَا

فارغة ُُُُ

بَابُ الْقَوْلِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ
الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَفْعَالَ الْمُكَلَّفِينَ إذَا وَقَعَتْ عَنْ قَصْدِ فَاعِلِهَا فَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ فِي الْعَقْلِ .
مِنْهَا وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ ، كَتَوْحِيدِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَصْدِيقِ رُسُلِهِ وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ وَاجْتِنَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ .
وَمِنْهَا مُمْتَنِعٌ مَحْظُورٌ انْقِلَابُهُ عَنْ حَالٍ ، نَحْوُ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْكَذِبِ وَتَكْذِيبِ رُسُلِ اللهِ وَارْتِكَابِ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعُقُولِ ، فَهَذَانِ الْبَابَانِ يَجْرِيَانِ فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمَا التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ ، وَلَا يَصِحُّ مَجِيءُ الْعِبَادِ فِيهِمَا بِخِلَافِ مَا فِي الْعُقُولِ مِنْ حُكْمِهَا ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُمَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَقْلَ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَمَا حَسَّنَهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ حَسَنٌ وَمَا قَبَّحَهُ فَهُوَ قَبِيحٌ ، وَالسَّمْعُ حُجَّةٌ لِلَّهِ تَعَالَى أَيْضًا ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَتَضَادَّ حُجَجُ اللهِ تَعَالَى ، وَلَا ( يَجُوزُ أَنْ ) تَتَنَافَيَا فَثَبَتَ أَنَّ السَّمْعَ لَا يَرِدُ بِرَفْعِ مَا فِي الْعَقْلِ وُجُوبُهُ وَلَا إيجَابِ مَا فِي الْعَقْلِ حَظْرُهُ ، فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِمَا .

وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ مَا يُجَوِّزُ الْعَقْلُ إيجَابَهُ ( تَارَةً ) وَحَظْرَهُ أُخْرَى وَإِبَاحَتَهُ ، مِثْلُ ( الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ) وَالْحَجِّ وَذَبْحِ الْبَهَائِمِ وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، فَهَذَا الضَّرْبُ مِمَّا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يُجَوِّزُ الْعَقْلُ مَجِيءَ الشَّرْعِ بِهِ ، وَإِنَّمَا صَارَ النَّسْخُ يَتَطَرَّقُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّ حُكْمَهُ مَرْدُودٌ إلَى مَا فِي عِلْمِ اللهِ تَعَالَى مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، فَإِذَا عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِي إيجَابِهِ أَوْجَبَهُ ، وَإِذَا عَلِمَهَا فِي حَظْرِهِ بَعْدَ الْإِيجَابِ حَظَرَهُ ، وَإِذَا عَلِمَهَا فِي إبَاحَتِهِ دُونَ إيجَابِهِ وَحَظْرِهِ فَعَلَُُُُُُُُُُُُ
فَلِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِهَا الْمَعْلُومَةِ ، وَيَحْظُرُ صِيَامَ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَيَحْظُرُ الصَّلَاةَ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا وَيُبِيحُ فِعْلَ الصِّيَامِ فِي غَيْرِ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ ، فَلِذَلِكَ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُتَعَبَّدَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ ثُمَّ يَنْسَخُهُ بِحَظْرِهَا أَوْ إبَاحَتِهَا ، وَيَدُلُّكَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَجْهَيْنِ ( الْأَوَّلَيْنِ ) أَنَّهُ جَائِزٌ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِلُزُومِ ( الصَّلَاةِ ، وَالصِّيَامِ ) بَعْضَ الْمُكَلَّفِينَ وَحَظْرِهِمَا عَلَى بَعْضِهِمْ كَنَحْوِ مَا أَمَرَ الطَّاهِرَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَهَى عَنْهُمَا ، وَهُوَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجْرِي مَجْرَى سَائِرِ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى فِي تَدْبِيرِ عِبَادِهِ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ ( وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ ) وَمِنْ إحْدَاثِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ لِمَا عَلِمَ تَعَالَى ( فِيهِ ) مِنْ مَصَالِحِ عِبَادِهِ ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ هَذَا الضَّرْبِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ عَلَيْهِ مَجِيءُ الْعِبَادَةِ ( بِهِ ) تَارَةً وَبِضِدِّهِ أُخْرَى عَلَى حَسَبِ الْمَصْلَحَةِ .

وَالْبَابَانِ الْأَوَّلَانِ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْمُكَلَّفِينَ مَأْمُورِينَ بِالتَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبَعْضُهُمْ مَنْهِيِّينَ عَنْهُ ، أَوْ مُبَاحًا لَهُمْ تَرْكُهُ وَالْإِعْرَاضُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يُكَلَّفَ بَعْضُهُمْ مُجَانَبَةَ الْمُقَبَّحَاتِ فِي الْعَقْلِ ( مِنْ نَحْوِ ) كُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَالْكَذِبِ وَتَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَيُؤْمَرَ بَعْضُهُمْ بِارْتِكَابِهَا .
فَلَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِي هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمِ سَائِرِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا فِي الْأَزْمِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ ، فَلَمْ يَجُزْ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِمَا .
وَلَمَّا جَازَ فِي غَيْرِهِمَا مِمَّا وَصَفْنَا اخْتِلَافَ أَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ فِيهَا فِي الزَّمَانِ الْوَاحِدِ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْأَزْمِنَةِ ( الْمُخْتَلِفَةِ ) فَيَتَعَبَّدُونَ بِالْحَظْرِ فِي زَمَانٍ وَبِالْإِيجَابِ أَوْ الْإِبَاحَةِ فِي زَمَانٍ غَيْرِهِ .
وَأَمَّا الْخَبَرُ الْوَارِدُ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعِبَادَةُ بِاعْتِقَادِ مَخْبَرِهِ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَلَا تَبْدِيلُهُ وَلَا التَّعَبُّدُ فِيهِ بِغَيْرِ الِاعْتِقَادِ الْأَوَّلِ .
وَالْمَعْنَى الْآخَرُ : حِفْظُهُ وَتِلَاوَتُهُ ، وَهَذَا مِمَّا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِأَنْ يَأْمُرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ وَتَرْكِ تِلَاوَتِهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ عَلَى مُرُورِ الْأَزْمَانِ فَيُنْسَى ، كَمَا نُسِخَتْ ( تِلَاوَةُ ) سَائِرِ كُتُبِ ( اللهِ تَعَالَى ) الْقَدِيمَةِ كَصُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَكَثِيرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، قَدْ نُسِخَتْ تِلَاوَةً حَتَّى صَارَتْ لَا يَتْلُوهَا أَحَدٌ وَلَا يَحْفَظُهَا .

وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِنَسْخِ اعْتِقَادِ مَعْنَى الْخَبَرِ وَإِنْ جَازَ وُرُودُهَا بِنَسْخِ الْخَبَرِ الَّذِي هُوَ التِّلَاوَةُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَوْ جَازَ ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ إيجَابُ ( التَّعَبُّدِ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ ) عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ ( لِأَنَّ خَبَرَ اللهِ تَعَالَى لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ صِدْقًا يَلْزَمُنَا عِنْدَ وُرُودِهِ اعْتِقَادُ مَخْبَرِهِ عَلَى مَا هُوَ بِهِ ) وَهَذَا لَا يَجُوزُ عَلَى اللهِ تَعَالَى وَلَا عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِاعْتِقَادِ ذَلِكَ لَجَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ عَلَى حَسَبِ مَا أُمِرْنَا بِاعْتِقَادِهِ ، فَيَكُونُ أَمْرًا لَنَا بِالْكَذِبِ ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَنَا بِالْكَذِبِ لَجَازَ أَنْ يَفْعَلَهُ هُوَ ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا .
فَلِذَلِكَ قُلْنَا إنَّ مَعَانِيَ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ مِنْ اللهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى اعْتِقَادِنَا فِيهَا ، بِأَنْ يَتَعَبَّدَنَا بِاعْتِقَادِ ضِدِّ مَخْبَرِهَا لِأَنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ التَّغْيِيرُ وَالتَّبْدِيلُ بِتَغَيُّرِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ .
فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ نَعْتَقِدَ فِيهَا خِلَافَ مَا أَوْجَبَهُ وُرُودُ الْخَبَرِ
وَهَذَا نَظِيرُ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى ( بِهِ ) مِنْ الْعِبَادَاتِ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا وَمَضَى عَلَيْهَا أَوْقَاتُ فِعْلِهَا ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَرِدَ الْعِبَادَةُ بِنَسْخِ اعْتِقَادِ صِحَّتِهَا وَثُبُوتِهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَاضِيَةِ ؛ لِأَنَّ فِي نَسْخِ ذَلِكَ الِاعْتِقَادَ وُجُوبِ اعْتِقَادِ فَسَادِ مَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ، وَاعْتِقَادُ ذَلِكَ قُبْحٌ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهِ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا .
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ اعْتِقَادَ مَعَانِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَارٍ مَجْرَى التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ وَسَائِرِ مَا لَا يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ وَالتَّبْدِيلُ ، فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ لِمَا لَهُ فِي الْعُقُولِ حَالَانِ مِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَجُوزُ وُرُودُ الْعِبَادَةِ بِهَا تَارَةً وَبِأَضْدَادِهَا أُخْرَى أَنَّهُ يَمْتَنِعُ الْأَمْرُ بِالِاعْتِقَادَيْنِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لِزَمَانَيْنِ مُخْتَلِفِينَ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : اعْتَقِدُوا فِي خَبَرِي هَذَا أَنَّهُ ( عَلَى ) مَا هُوَ عَلَيْهِ إلَى مُدَّةِ كَذَا ، فَإِذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ فَاعْتَقِدُوا فِيهِ ضِدَّهُ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : اعْتَقِدُوا صِحَّةَ التَّوْحِيدِ وَتَصْدِيقَ الرُّسُلِ إلَى وَقْتِ كَذَا ( فَإِذَا انْقَضَى الْوَقْتُ فَاعْتَقِدُوا ضِدَّهُمَا ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا وَصُومُوا إلَى وَقْتِ كَذَا ) فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ

فَلَا تَصُومُوا وَلَا تُصَلُّوا ، فَثَبَتَ أَنَّ اعْتِقَادَ مَعْنَى الْخَبَرِ يَجْرِي فِي حُكْمِ الْعَقْلِ عَلَى شَاكِلَةٍ وَاحِدَةٍ كَاعْتِقَادِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، فَلَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَمَنْ جَوَّزَ النَّسْخَ فِي اعْتِقَادِ مَعَانِي خَبَرِ اللهِ تَعَالَى وَخَبَرِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَدْ وَصَفَ اللَّهَ تَعَالَى بِالْبَدَاءِ ، وَأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ فِي الثَّانِي مَا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ قَبْلُ ، لِأَنَّ الْبَدَاءَ مَعْنَاهُ ، الظُّهُورُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } يَعْنِي إنْ تَظْهَرْ لَكُمْ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ } وَمَنْ جَوَّزَ الْبَدَاءَ عَلَى اللهِ تَعَالَى فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } .
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ الْأَخْبَارِ إذَا شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ( نَسْخَهَا ) .
قِيلَ لَهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ تَعَالَى : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ } مِنْ مَعَانِي الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِنْ تَعَلَّقْت بِعُمُومِهِ فَجَعَلْته عَلَى الْخَبَرِ وَغَيْرِهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْك أَوَّلًا أَنْ تُثْبِتَ أَنَّ نَسْخَ مَعَانِي الْأَخْبَارِ مِمَّا يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا آنِفًا عَلَى أَنَّ هَذَا سَفَهٌ وَقُبْحٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَشَاءَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالِاحْتِجَاجُ بِظَاهِرٍ فِي هَذَا الْمَعْنَى ( بَاطِلٌ ) سَاقِطٌ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْخَبَرِ لَكَانَ الْمَعْنَى نَسْخَ تِلَاوَتِهِ لَا مَخْبَرِهِ ( لِأَنَّهُ ) لَيْسَ هُوَ الْخَبَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ ، وَامْتِنَاعَ جَوَازِ نَسْخِ اعْتِقَادِ مَخْبَرِهِ .

وَقَدْ رُوِيَ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ أَقَاوِيلُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا أَنَّ الْمُرَادَ نَسْخُ الْأَخْبَارِ ، لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ مَعْنَاهُ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْدِلُهُ مَا يَشَاءُ مِنْ الْقُرْآنِ فَيَنْسَخُهُ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ فَلَا يُبْدِلُهُ { وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } يَعْنِي جُمْلَةُ ذَلِكَ عِنْدَهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ مِمَّا يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَيُثْبِتُ مَا يَشَاءُ مِمَّا يُنْزِلُهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ لَا يُغَيَّرُ وَلَا يُبَدَّلُ .
وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ : يَمْحُو اللَّهُ مَنْ جَاءَ أَجَلُهُ فَيَذْهَبُ ، وَيُثْبِتُ الَّذِي هُوَ حَيٌّ يَجْرِي إلَى أَجَلِهِ .
فَصْلٌ مِنْ هَذَا الْبَابِ
قَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ بِمَا فِيهِ كِفَايَةٌ .
وَنُبَيِّنُ الْآنَ حُكْمَ الْأَلْفَاظِ الْوَارِدَةِ فِي الْقَبِيلِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْ الْأَحْكَامِ وَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ مِنْهَا .
فَنَقُولُ : إنَّ الْحُكْمَ الْوَارِدَ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَقَّتًا وَلَا مَقْرُونًا

بِلَفْظِ التَّأْبِيدِ فِي الْأَزْمَانِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ، فَإِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَى سَامِعِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ ( لَهُ وَالْمُتَعَبِّدِينَ بِهِ لُزُومُ ) اعْتِقَادِ جَوَازِ نَسْخِهِ مَا دَامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيًّا ، كَقَوْلِهِ : صَلُّوا وَصُومُوا فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَيَّامِ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، وَهَذَا مَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ نَعْلَمُهُ ، وَأَمَّا إذَا ( قَرَنَهُ بِوَقْتٍ ) بِعَيْنِهِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا هَذِهِ السَّنَةَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، أَوْ يَقُولَ : صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ الْقَابِلَ ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عِنْدَنَا بِحَالٍ ، وَسَنُفْرِدُ الْقَوْلَ فِيهِ بَعْدَ هَذَا .
وَأَمَّا إذَا قَالَ : صَلُّوا الظُّهْرَ أَبَدًا فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِكُمْ وَمِنْ بَعْدِكُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ، فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ النَّسْخِ فِي مِثْلِهِ ، إذَا كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ نَبِيِّنَا خَاتَمِ النَّبِيِّينَ وَلَا يَجُوزُ النَّسْخُ بَعْدَهُ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُجِيزُ وُرُودَ النَّسْخِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ .
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ الَّذِي بَدَأْنَا بِذِكْرِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّمَا جَازَ نَسْخُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَحْصُرْهُ تَوْقِيتٌ وَلَا مُدَّةٌ ، وَكَانَ جَوَازُ النَّسْخِ قَائِمًا فِي مِثْلِهِ ، وَجَبَ عَلَيْنَا أَلَّا نَعْتَقِدَ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَيْنَا بَقَاءَ حُكْمِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ مَعَ بَقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بَلْ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا فِي مِثْلِهِ اعْتِقَادُ جَوَازِ
نَسْخِهِ .
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ ( كَذَلِكَ ) جَازَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ ، حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ نَسْخِهِ اسْتَقَرَّ حُكْمُهُ عَلَى التَّأْبِيدِ ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَمَّا إذَا ( قَرَنَهُ بِالتَّأْبِيدِ ) فَقَالَ : افْعَلُوهُ ( أَبَدًا ) أَنْتُمْ وَمَنْ ( يَحْدُثُ ) بَعْدَكُمْ إلَى

أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ ، فَإِنَّ الْأَظْهَرَ فِي مِثْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوز نَسْخُ ( مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ ) لِأَنَّهُ قَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ بَقَائِهِ مُؤَبَّدًا ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَقَاءَهُ إلَى وَقْتٍ وَمُدَّةٍ ، لِأَنَّ تَجْوِيزَ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ دَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ الْقَوْلُ ( فِيهِ ) فِي إثْبَاتِ الْعُمُومِ وَامْتِنَاعِ جَوَازِ تَأْخِيرِ ( بَيَانِ ) الْخُصُوصِ فِيمَا سَلَفَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّ الْيَهُودَ تَزْعُمُ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ الْأَمْرَ بِالتَّمَسُّكِ بِالسَّبْتِ مَا دَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ ، وَقَدْ وَرَدَ نَسْخُهُ عَلَى لِسَانِ كَثِيرٍ مِمَّنْ جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا الَّذِي قَالُوهُ ، وَلَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الَّذِي ادَّعَوْهُ فِي التَّوْرَاةِ بِاللِّسَانِ الْعِبْرَانِيِّ يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ ، فَحَمَلَهُ هَؤُلَاءِ عَلَى التَّأْبِيدِ مِنْ جِهَةِ التَّأْوِيلِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَنَا عِلْمٌ بِحَقِيقَةِ مَعْنَى اللَّفْظِ الْمَذْكُورِ فِي التَّوْرَاةِ فِي هَذَا الْبَابِ لَمْ يَثْبُتْ مَا ذَكَرُوهُ .
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ مَا ادَّعَوْهُ فِي ذَلِكَ ثَابِتًا وَكَانَ الْعِلْمُ بِهِ وَاقِعًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ مَعَ سَمَاعِنَا لِذَلِكَ ، كَوُقُوعِ عِلْمِهِمْ بِهِ فِي زَعْمِهِمْ ، فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا ذَلِكَ مَعَ سَمَاعِنَا لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلِمْنَا بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ .
وَمَنْ أَجَازَ ذَلِكَ فِي أَزْمَانِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَعَ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ فِيهِ مِمَّنْ وَصَفْنَا قَوْلَهُمْ فَإِنَّمَا أَجَازَهُ لِأَنَّ عَلَيْنَا اعْتِقَادَ صِحَّةِ مَا يَأْتِي بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الشَّرِيعَةِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ أَوْ يُوَافِقُهُ ، فَيَصِيرُ تَقْدِيرُ ذِكْرِ التَّأْبِيدِ فِيهِ مَقْرُونًا بِجَوَازِ النَّسْخِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : افْعَلُوا هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ أَبَدًا مَا لَمْ أَنْسَخْهُ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا هُوَ الْأَوَّلُ ، لِأَنَّ هَذَا لَوْ جَازَ مِثْلُهُ فِي الْعُمُومِ فَيُقَالُ : إنَّا نَعْتَقِدُ فِيهِ

الْعُمُومَ إنْ لَمْ يَكُنْ أَرَادَ الْخُصُوصَ ، وَلَجَازَ فِي الْحُكْمِ الْمَفْرُوضِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنْ ( يَقُولَ لَهُ ) : افْعَلْهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا لَمْ أَنْسَخْهُ ، وَهَذَا قَوْلٌ فَاحِشٌ قَبِيحٌ لَا يَصِحُّ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ مَا وَصَفْنَا .

فارغة

الْبَابُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ ( فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ) بَيَّنَّا

فارغة

بَابٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى جَوَازِ النَّسْخِ ( فِي الْوُجُوهِ الَّتِي ) بَيَّنَّا
( قَالَ أَبُو بَكْرٍ ):
مَنْ يُنْكِرُ النَّسْخَ فَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : الْيَهُودُ ، وَالْآخَرُ : فَرِيقٌ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ لَا يُعْتَدُّ بِهِمْ .
فَأَمَّا الْيَهُودُ فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ ( تَجْوِيزَ ) النَّسْخِ ( فِيمَا زَعَمَ ) مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ فِي الْعَقْلِ إلَّا أَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ ، وَ ( تَحْرِيمَ ) يَوْمِ السَّبْتِ لَا يُنْسَخُ أَبَدًا ، فَأَمَّا مَنْ مَنَعَ مِنْهُمْ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى ( أَنَّ ) هَذَا ( بَدَاءٌ ) وَرُجُوعٌ عَنْ إرَادَةِ الشَّيْءِ إلَى كَرَاهَتِهِ ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مِمَّنْ كَانَ جَاهِلًا بِالْعَوَاقِبِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى عَالِمُ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ كَوْنِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ صَحِيحًا فَالرُّجُوعُ عَنْ الصَّحِيحِ لَا يَفْعَلُهُ حَكِيمٌ ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ جَهْلٌ مِنْهُمْ بِمَعْنَى النَّسْخِ ، لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ غَيْرُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِيمَا يَقَعُ فِيهِ النَّسْخُ ، وَإِنَّمَا النَّسْخُ يُبَيِّنُ أَنَّ زَمَانَ الْفَرْضِ الْأَوَّلِ قَدْ انْقَضَى ،

وَأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الزَّمَانِ الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ الْوَاجِبِ ( الَّذِي ) كَانَ فِي الْمَاضِي ، وَهَذَا لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ كَانَ جَائِزًا مُسْتَقِيمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : تَمَسَّكُوا بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ، إلَى مِائَةِ سَنَةٍ ثُمَّ أَحِلُّوهُ كَانَ جَائِزًا .
وَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تُطْلِقَ الْقَوْلَ بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ثُمَّ تُبَيِّنَ الْوَقْتَ الَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ مُدَّةُ التَّحْرِيمِ عَلَى حَسَبِ مَا عَلِمَ سُبْحَانَهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِيهِ ، وَكَمَا ( أَنَّهُ ) جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَحْكَامِ الْعِبَادِ فَيَتَعَبَّدُ بَعْضَهُمْ بِحُكْمٍ ، وَ ( يَتَعَبَّدُ ) بَعْضَهُمْ بِضِدِّ ذَلِكَ
الْحُكْمِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ ، نَحْوُ تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى الْحَائِضِ ، وَإِيجَابِهِمَا عَلَى الطَّاهِرِ عَلَى حَسَبِ مَا عُلِمَ مِنْ مَصَالِحِهِمْ .
كَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَ أَحْكَامِهِمْ ( فِي زَمَانَيْنِ وَكَمَا جَازَ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمْ فِي تَغْيِيرِهِ وَأَفْعَالِهِ فِيهِمْ نَحْوُ أَنْ ) يُمِيتَ وَاحِدًا وَيَخْلُقَ آخَرَ وَيُمْرِضَ وَاحِدًا وَيُصِحَّ آخَرَ وَيُغْنِيَ وَاحِدًا وَيُفْقِرَ آخَرَ ، وَ ( يَفْعَلَ ) ذَلِكَ بِوَاحِدٍ فِي زَمَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى الْبَدَاءِ وَعَلَى الرُّجُوعِ عَمَّا أَرَادَهُ ، لِأَنَّ الَّذِي أَرَادَهُ فِي الثَّانِي غَيْرُ الَّذِي أَرَادَهُ فِي الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ الْعِبَادَاتُ تَجْرِي عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ مُبَاحًا لِوَلَدِ آدَمَ مِنْ صُلْبِهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَخُ مِنْهُمْ بِأُخْتِهِ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ تَنَاسُلٌ وَهُوَ مُحَرَّمٌ فِي شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ بَعْدَهَا وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا يُوجِبُ الْبَدَاءَ ، وَكَذَلِكَ تَحْرِيمُ السَّبْتِ وَسَائِرُ الشَّرَائِعِ الَّتِي يُجَوِّزُ الْعَقْلُ حَظْرَهَا تَارَةً وَإِبَاحَتَهَا أُخْرَى جَائِزٌ نَسْخُهَا وَالْإِبَانَةُ عَنْ مُضِيِّ وَقْتِ تَحْرِيمِهَا .
وَأَمَّا مَنْ زَعَمَ مِنْهُمْ أَنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ شَرِيعَةَ التَّوْرَاةِ لَا تُنْسَخُ ، فَإِنَّهُ مُعْتَرِفٌ أَنَّ التَّوْرَاةَ قَدْ أَنْبَأَتْ عَنْ نُبُوَّةِ أَنْبِيَاءَ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ( وَإِذْ كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَحْرِيمَ السَّبْتِ مُعَلَّقٌ بِتَوْقِيفِ الْأَنْبِيَاءِ بَعْدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ) فَإِذَا أَحَلَّتْهُ صَارَ ذَلِكَ

مَقْرُونًا إلَى لَفْظِ التَّحْرِيمِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : حَرِّمُوا السَّبْتَ مَا لَمْ أُحِلَّهُ عَلَى لِسَانِك .
وَعَلَى أَنَّ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ تَوْقِيفِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى التَّمَسُّكِ ( بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ ) أَبَدًا لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَوَجَبَ أَنْ يَقَعَ لَنَا الْعِلْمُ بِهِ مَعَ سَمَاعِنَا لِلْخَبَرِ عَنْهُ ( بِهِ ) كَمَا ادَّعَى هَؤُلَاءِ لِأَنْفُسِهِمْ .
فَلَمَّا لَمْ يَقَعْ لَنَا الْعِلْمُ بِذَلِكَ مَعَ سَمَاعِنَا الْأَخْبَارَ الَّتِي سَمِعُوهَا فِي ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّهُمْ إنَّمَا صَارُوا إلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ فَأَخْطَئُوا فِيهِ .
وَقَدْ تَكَلَّمَ النَّاس عَلَيْهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا انْفِصَالَ لَهُمْ مِنْهَا ، وَلَيْسَ غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ وَإِنَّمَا ( الْقَصْدُ ) الْكَلَامُ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا عَرَضَ فِيهِ الْقَوْلُ بِالنَّسْخِ أَحْبَبْنَا أَلَا نُخَلِّيَهُ مِنْ جُمْلَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ أَبَى ذَلِكَ مِنْ الْفِرْقَةِ الَّتِي تَنْتَحِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ ضَاهَتْ الْيَهُودَ فِي امْتِنَاعِهَا مِنْ تَجْوِيزِ نَسْخِ الشَّرِيعَةِ .
فَنَقُولُ بَعْدَ تَقْدِمَةِ الْقَوْلِ فِي جَوَازِ النَّسْخِ فِي الْجُمْلَةِ إنَّ الْفِرْقَةَ الْمُنْكِرَةَ لِلنَّسْخِ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ قَدْ خَالَفَتْ الْكِتَابَ وَالْآثَارَ الْمُتَوَاتِرَةَ وَاتِّفَاقَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا فِيمَا صَارَتْ إلَيْهِ ( مِنْ ) هَذِهِ الْمَقَالَةِ .
فَأَمَّا مُخَالَفَتُهَا لِلْكِتَابِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَأَثْبَتَ النَّسْخَ فِي الْكِتَابِ .

وَإِنْ قَالَ قَائِلٌ إنَّمَا أَرَادَ النَّسْخَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْإِزَالَةَ وَالْإِسْقَاطَ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو ( مِنْ ) أَنْ يُرِيدَ بِهِ إزَالَةَ الْحُكْمِ ( أَوْ إزَالَةَ الرَّسْمِ ، فَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ الْحُكْمِ فَقَدْ وَافَقْت ، وَإِنْ أَرَدْت إزَالَةَ الرَّسْمِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ ) فَإِنَّ هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا : أَنَّ عُمُومَ اللَّفْظِ يَقْتَضِي الْأَمْرَيْنِ وَمَنْ حَمَلَهُ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ فَهُوَ مُتَحَكِّمٌ قَائِلٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا لَك مَا ادَّعَيْت مِنْ إزَالَةِ الرَّسْمِ فَدَلَالَتُهُ قَائِمَةٌ عَلَى مَا ادَّعَيْنَا لِأَنَّهُ قَدْ أَسْقَطَ عَنَّا فَرْضَ تِلَاوَتِهِ وَاعْتِقَادَ كَوْنِهِ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ أَنْ
كَانَ لَزِمَنَا ذَلِكَ .
وَوَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ الْإِزَالَةَ وَالْإِسْقَاطَ أَيْضًا فِي قَوْله تَعَالَى : { أَوْ نُنْسِهَا } فَعَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ بِذِكْرِ النَّسْخِ هُوَ نَسْخُ الْحُكْمِ .
وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } وَقَالَ تَعَالَى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا } وَأَخْبَرَ عَنْ نَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ }
وَقَدْ وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ وَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ الَّذِي لَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَالْبُطْلَانُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إلَى أَنْ نَسَخَ اللَّهُ تَعَالَى الصَّلَاةَ إلَى تِلْكَ الْجِهَةِ

وَأَمَرَهُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِك فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ ( قَدْ ) كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ نُقِلُوا عَنْهَا ، وَقَدْ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى فَنُسِخَا عَنْ غَيْرِ الْمُحْصَنِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } ، وَكَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } ، ثُمَّ نُسِخَ مِنْهُ مَا عَدَا الْأَرْبَعَةَ الْأَشْهُرِ وَالْعَشَرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَمِثَالُ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَقَدْ نَقَلَتْ الْأُمَّةُ النَّاسِخَ وَالْمَنْسُوخَ وَتَوَارَثُوهُمَا قَرْنًا عَنْ قَرْنٍ لَا يَتَنَاكَرُونَهُ وَلَا يَشُكُّونَ فِيهِ .
وَذَكَرَ مَنْ أَبَى وُجُودَ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ ( أَنَّ النَّسْخَ ) الْمَذْكُورَ فِي الْقُرْآنِ إنَّمَا هُوَ نَسْخُهُ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَتَنْزِيلُهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا وَكُلُّهُ

نَاسِخًا ، وَهَذَا مُحَالٌ مُمْتَنِعٌ عِنْدَ الْأُمَّةِ .
وَقَوْلُ هَذِهِ الطَّائِفَةِ أَظْهَرُ فَسَادًا وَأَبْيَنُ انْحِلَالًا مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى الْإِكْثَارِ فِي الْإِبَانَةِ ( عَنْ ) قُبْحِهِ وَشَنَاعَتِهِ .

الْبَابُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِيْ نَسْخِ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ

فارغة

بَابُ نَسْخِ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ .
فَقَالَ قَائِلُونَ وَهُمْ الْأَكْثَرُ : لَا يَمْتَنِعُ نَسْخُ الْحُكْمِ بِمَا هُوَ مِثْلُهُ وَبِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ وَبِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ .
وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُنْسَخُ حُكْمٌ إلَّا بِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ أَخَفُّ مِنْهُ ، وَلَا يُنْسَخُ بِمَا هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ .
وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ الْمَقَالَتَيْنِ إنَّمَا هِيَ تَظْنِينٌ وَحُسْبَانٌ مِنْ قَائِلِيهَا لَا يَرْجِعُ مِنْهَا إلَى دَلَالَةٍ يُعَضِّدُ بِهَا مَقَالَتَهُ .
وَالصَّحِيحُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ .
وَهُوَ عِنْدِي قَوْلُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ : أَنَّ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا تَرِدُ مِنْ اللهِ تَعَالَى ( عَلَى ) حَسَبِ مَا يَعْلَمُ مِنْ مَصَالِحِنَا فِيهَا ، وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ تَارَةً فِي الْأَخَفِّ وَتَارَةً فِي الْأَثْقَلِ ، فَيُنْقَلُ ( الْمُتَعَبِّدُ ) مِنْ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ الْمَصْلَحَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَنْقُلُهُمْ

مِنْ الرَّخَاءِ ، إلَى الشِّدَّةِ تَارَةً وَمِنْ الشِّدَّةِ إلَى الرَّخَاءِ أُخْرَى فَيُغْنِي فِي وَقْتٍ ثُمَّ يُفْقِرُ فِي ( وَقْتٍ ) آخَرَ وَيُصِحُّ فِي وَقْتٍ وَيُمْرِضُ فِي ( وَقْتٍ ) آخَرَ كَذَلِكَ الْعَادَاتُ جَارِيَةٌ هَذَا الْمَجْرَى ، وَالْعِلَّةُ فِي الْجَمِيعِ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جِهَةُ الْمَصْلَحَةِ ، وَهَذَا أَيْضًا مَعْلُومٌ مِنْ تَدْبِيرِ الْحُكَمَاءِ لِمَنْ يَلُونَ أَمْرَهُمْ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْقُلُونَهُمْ مِنْ الشِّدَّةِ ، إلَى الرَّخَاءِ وَمِنْ الرَّخَاءِ إلَى الشِّدَّةِ فَيَنْقُلُونَهُمْ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَوْنَ لَهُمْ مِنْ الْمَصْلَحَةِ فِي أَحْوَالِهِمْ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ مَقَالَةَ هَاتَيْنِ الطَّائِفَتَيْنِ يُوجِبُ أَلَا يَفْرِضَ اللَّهُ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا ، لِأَنَّ إيجَابَ الْفَرْضِ تَكْلِيفٌ وَهُوَ أَثْقَلُ مِنْ الْإِبَاحَةِ ، وَقَدْ وَجَدْنَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى مَا يُوَضِّحُ عَنْ بُطْلَانِ قَوْلِ
هَؤُلَاءِ ، قَالَ تَعَالَى : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيرًا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَقَلَهُمْ مِنْ الْإِبَاحَةِ إلَى الْحَظْرِ وَهُوَ أَشَدُّ عَلَى الْمُكَلَّفِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ ( وَابْنِ عُمَرَ ) وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ ( فِي ) تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فَكَانَ مَنْ شَاءَ صَامَ وَمَنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ مِسْكِينًا ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } فَجَعَلَ الصَّوْمَ حَتْمًا وَأَسْقَطَ التَّخْيِيرَ ، ( وَأَيْضًا ) فَإِنَّ الْخَمْرَةَ قَدْ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي

أَوَّلِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَأْمُورًا بِتَرْكِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } ثُمَّ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } وَقَالَ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ } وَنَحْوُهُ ( مِنْ ) الْآيَاتِ فَنَقَلَهُمْ مِنْ الْأَخَفِّ إلَى مَا هُوَ أَشَقُّ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ كَانَ حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْحَبْسَ وَالْأَذَى فَنُقِلُوا إلَى الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ، وَقَدْ كَانَ مَنْ قَتَلَ مُسْلِمًا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ثُمَّ أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَنْ كَانَ يُفْطِرُ فِي ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ لَمْ ( تَكُنْ ) تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ثُمَّ أَوْجَبَهَا النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى الْمُجَامِعِ ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً حَتَّى أَوْجَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْبِيَاعَاتِ الْمُحَرَّمَةِ لَمْ يَكُنْ تَحْرِيمُهَا مُتَقَدِّمًا ثُمَّ حُرِّمَتْ .
وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِجَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَصْلِ لَا تُفَرِّقُ بَيْنَ نَسْخِ الْأَخَفِّ بِالْأَثْقَلِ وَبَيْنَ نَسْخِ الْأَثْقَلِ بِالْأَخَفِّ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِي الْجَمِيعِ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ مَصْلَحَةِ ( الْمُتَعَبِّدِ بِهِ ) وَلَا يُمْكِنُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ : قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا مَصْلَحَةَ فِي نَقْلِ الْمُتَعَبِّدِ مِنْ الْأَخَفِّ إلَى الْأَثْقَلِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ .
وَأَيْضًا لَوْ جُمِعَ الْأَمْرَانِ جَمِيعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَتَنَافَيَا ، بِأَنْ يَقُولَ : قَدْ أَبَحْت لَكُمْ كَذَا

إلَى وَقْتِ كَذَا ثُمَّ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ .
كَمَا أَبَاحَ الْإِفْطَارَ فِي سَائِرِ السَّنَةِ إلَى دُخُولِ ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ فَإِذَا جَاءَ ( شَهْرُ ) رَمَضَانَ حُظِرَ الْإِفْطَارُ ( فِيهِ ، وَ ) كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : " فُرِضَتْ الصَّلَاةُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَتْ فِي صَلَاةِ الْحَضَرِ وَأُقِرَّتْ صَلَاةُ السَّفَرِ عَلَى مَا كَانَتْ " .
فَإِنْ قِيلَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُنْقَلُ إلَى مَا هُوَ أَشَقُّ عَلَيْنَا ، وَإِنَّمَا يَنْقُلُ إلَى مِثْلِهِ أَوْ أَخَفَّ ( مِنْهُ ) .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ أَنْ يَكُونَ الْأَثْقَلُ خَيْرًا لَنَا وَأَصْلَحَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ أَشَقُّ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ تَرْكِهَا ، وَفِعْلُهَا مَعَ ذَلِكَ خَيْرٌ لَنَا مِنْ تَرْكِهَا ، فَلَيْسَ الْخَبَرُ إذْن عِبَارَةٌ عَنْ الْأَخَفِّ وَلَا الْأَثْقَلِ ، فَلَا دَلَالَةَ فِي الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ .
( وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ ) .

الْبَابُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ
وَفِيْهِ فَصْلٌ:فِي الدَّلَالَةِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلِ مَجِيْءِ وَقْتِهِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي نَسْخِ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ
لَيْسَ يَخْلُو الْأَمْرُ فِي تَعْلِيقِهِ بِالْمَأْمُورِ مِنْ أَحَدِ أَقْسَامٍ خَمْسَةٍ : إمَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ نَحْوُ قَوْلِهِ : صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ، أَوْ يَقُولَ : صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ بِعَيْنِهِ .
أَوْ أَنْ يُعَلِّقَهُ بِوَقْتٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ يَوْمٍ شِئْتُمْ ، وَصُومُوا ( شَهْرَ ) رَمَضَانَ فِي أَيِّ ( شَهْرِ ) رَمَضَانَ شِئْتُمْ .
وَأَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ يَتَنَاوَلُ فَرْضًا فِي وَاحِدٍ إلَّا عَلَى وَجْهِ تَكْرَارِهِ فِي الْأَوْقَاتِ ، وَلَا التَّخْيِيرَ فِي أَوْقَاتِ فِعْلِهِ ، نَحْوُ قَوْلِهِ : صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً ، وَصُومُوا يَوْمًا أَوْ شَهْرًا وَاحِدًا .
أَوْ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا بِالتَّأْبِيدِ نَحْوُ ( أَنْ يَقُولَ ) : صَلُّوا أَبَدًا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَا بَقِيتُمْ ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَا حَيِيتُمْ .
أَوْ ( أَنْ ) يَكُونَ وَارِدًا بِلَفْظٍ يَقْتَضِي أَدْنَى الْجَمْعِ حَقِيقَةً ، وَيَحْتَمِلُ أَكْثَرَ مِنْهُ ، وَيَقْتَضِي فِعْلَهُ مُكَرَّرًا فِي الْأَزْمَانِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مَقْرُونٍ بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ .
فَالْأَمْرُ الْوَارِدُ عَنْ اللهِ تَعَالَى وَعَنْ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِدًا عَلَى أَحَدِ هَذِهِ الْأَقْسَامِ .

فَأَمَّا هَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهَا بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَسْقُطُ عَنَّا الْفَرْضُ بِأُمُورٍ أُخْرَى عَلَى غَيْرِ وَجْهِ النَّسْخِ .
وَالْقِسْمُ الْخَامِسُ هُوَ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ النَّسْخُ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ : أَنَّ كُلَّ مَأْمُورٍ بِهِ تَعَلَّقَ وُجُوبُ فِعْلِهِ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ نَسْخِهِ ، لِأَنَّهُ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِعَيْنِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ ( بِهِ ) مِنْ أَحْكَامِ اللهِ تَعَالَى هُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ .
وَالْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا هِيَ مِنْ هَذَاالْقَبِيلِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ، صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ، فَرْضٌ ( قَدْ تَعَلَّقَ ) بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، فَلَيْسَ يَخْلُو مِنْ أَنْ يُنْسَخَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ( أَوْ بَعْدَهُ وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُهُ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ) لِمَا نَسْتَنِدُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا مَضَى وَقْتُ الْفِعْلِ ( قَبْلَ أَنْ ) يَفْعَلَهُ ، فَإِنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَمْرِ مِنْ لُزُومِ الْفِعْلِ قَدْ سَقَطَ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ ( وَسُقُوطُ الْفَرْضِ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا ) لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَعْقُولًا مَعَ وُرُودِ الْأَمْرِ وَمَا لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ ، لِأَنَّ مَا بِلَفْظِ الْأَمْرِ لَا يُسَمَّى سُقُوطُهُ بِمُضِيِّ وَقْتِهِ نَسْخًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ مِنْ هَذِهِ السَّنَةِ ( وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ) فَلَمْ يَصُمْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي لُزُومِ

الْقَضَاءِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ غَيْرِهِ ، وَأَنَّ سُقُوطَهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا يُسَمَّى نَسْخًا .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي : وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلُّوا صَلَاةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْتُمْ ، أَوْ صُومُوا شَهْرًا أَيَّ شَهْرٍ شِئْتُمْ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ ، فَإِنَّ هَذَا لَوْ صَحَّ الْأَمْرُ بِهِ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَيًّا فَأَيُّ وَقْتٍ فَعَلَ فِيهِ الْمَأْمُورَ بِهِ كَانَ ذَلِكَ وَقْتَ فَرْضِهِ .
وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ ذَلِكَ وَسِعَهُ التَّأْخِيرُ أَبَدًا ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ مُفَرِّطًا بِالْمَوْتِ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِالْوَقْتِ الَّذِي يُعَيَّنُ عَلَيْهِ فِيهِ الْفَرْضُ ، فَيَخْرُجُ ذَلِكَ الْأَمْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ فَرْضًا ، إلَّا أَنَّا تَكَلَّمْنَا فِيهِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ وُرُودَ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ فَقُلْنَا: وَاجِبٌ أَلَا يَجُوزَ نَسْخُهُ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتٍ يَأْتِي عَلَيْهِ إذَا فَعَلَهُ فِيهِ كَانَ فَاعِلًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِعَيْنِهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وُرُودُ نَسْخِهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ لِمَا وَصَفْنَا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ .
وَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ فَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهُ فَلَيْسَ هُنَاكَ أَمْرٌ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ فَيُنْسَخُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ مِنْهُمَا غَيْرَ مَحْصُورٍ بِوَقْتٍ وَهُوَ فَرْضٌ وَاحِدٌ لَا يَقْتَضِي لَفْظُ الْأَمْرِ فِعْلَهُ مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ نَسْخُهُ أَيْضًا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ عَلَيْهِ فِعْلَهُ عَلَى الْفَوْرِ عِنْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّانِي ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ( لَزِمَهُ فِعْلُهُ ) فِي الثَّانِي بِذَلِكَ الْأَمْرِ بِعَيْنِهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فِي الثَّانِي لَزِمَهُ فِعْلُ مِثْلِهِ فِي الثَّالِثِ بِالْأَمْرِ أَيْضًا ، فَصَارَ تَقْدِيرُ الْأَمْرِ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّانِي فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهُ فَفِي الثَّالِثِ فَلَمَّا كَانَ كُلُّ وَقْتٍ لَمْ يَفْعَلْهُ فِيهِ كَانَ الَّذِي يَلِيهِ وَقْتًا لِفِعْلِهِ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ ( ثُمَّ ) لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَنْسَخَهُ قَبْلَ الْفِعْلِ أَوْ بَعْدَهُ .
وَلَا يَجُوزُ نَسْخُهُ قَبْلَ وَقْتِهِ كَمَا قُلْنَا فِي نَسْخِ الْفِعْلِ قَبْلَ ( مَجِيءِ ) وَقْتِهِ الْمُعَيَّنِ لَهُ أَوْ أَنْ

يَنْسَخُهُ بَعْدَ الْفِعْلِ ، وَهَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ ، وَمَنْ سَقَطَ عَنْهُ ( الْفَرْضُ ) بِأَدَائِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ قَدْ نُسِخَ عَنْهُ مَا قَدْ أَدَّاهُ وَلَمْ يَقْضِ لَفْظُ الْأَمْرِ لُزُومَ غَيْرِ مَا فَعَلَهُ ( فَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا شَيْءٌ نُسِخَ فِي الْحَقِيقَةِ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يُوجِبَ فِعْلَهُ ) مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ وَيُقْرِنَهُ بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ ، نَحْوُ قَوْلِهِ : صَلُّوا
أَبَدًا مَا بَقِيتُمْ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَصُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ( أَبَدًا ) مَا حَيِيتُمْ إلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ فَإِنَّ هَذَا قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ فِيمَا سَلَفَ وَاخْتِلَافُ النَّاسِ فِي جَوَازِ نَسْخِهِ وَامْتِنَاعِهِ .
وَبَيَّنَّا أَنَّ الْأَظْهَرَ مِنْ أَمْرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهُ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الْخَامِسُ : وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ بِلَفْظٍ تَنَاوَلَ أَدْنَى الْجَمْعِ حَقِيقَةً وَيُحْتَمَلُ أَكْثَرُ مِنْهُ وَيَقْتَضِي فِعْلُهُ مُكَرَّرًا فِي أَوْقَاتٍ مُسْتَقْبَلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُؤَقَّتًا وَلَا مَقْرُونًا بِذِكْرِ التَّأْبِيدِ فَإِنَّ هَذَا هُوَ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِهِ عَلَى أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُهُ سَوَاءٌ فَعَلَهُ الْمَأْمُورُ ( بِهِ ) أَوْ لَمْ يَفْعَلْهُ .
وَأَقْسَامُ النَّهْيِ فِيمَا يَجُوزُ نَسْخُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَمْرِ إلَّا فِي وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : صَلِّ وَصُمْ وَنَحْوَ ذَلِكَ إنَّمَا يَقْتَضِي فِعْلَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَقُمْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِعْلُهُ مُكَرَّرًا ، فَمَتَى فَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ بِالْأَمْرِ فَلَمْ يَصِحَّ مَعْنَى النَّسْخِ ( فِيهِ ) قَبْلَ فِعْلِهِ وَلَا بَعْدَ فِعْلِهِ .

وَأَمَّا النَّهْيُ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : لَا تَصُمْ أَوْ لَا تُصَلِّ فَفَعَلَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ حُكْمُ النَّهْيِ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ : وَيَكُونُ فِي تَوَهُّمِنَا وَتَقْدِيرِنَا بَقَاءُ حُكْمِ النَّهْيِ مَا لَمْ يَرِدْ النَّسْخُ فَيَصِحُّ وُرُودُ النَّسْخِ ( فِيهِ ) ، فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَهُوَ وَالْأَمْرُ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
فَصْلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ
الدَّلَالَةُ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَازِ ذَلِكَ أَنَّ إطْلَاقَ لَفْظِ الْأَمْرِ يَقْتَضِي لُزُومَ فِعْلِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي عُلِّقَ بِهِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَأْمُرُ إلَّا بِحَسَنٍ ، وَلَا يَنْهَى إلَّا عَنْ قَبِيحٍ ، فَكُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ دَلَّ بِأَمْرِهِ ( بِهِ ) عَلَى حُسْنِهِ وَعَلَى قُبْحِ تَرْكِهِ ، وَكُلُّ مَا نَهَى عَنْهُ فَقَدْ دَلَّ عَلَى قُبْحِهِ بِنَهْيِهِ فَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى الْإِخْبَارِ فِيهِ فَيَكُونُ الْمَأْمُورُ بِهِ حَسَنًا وَيَكُونُ تَرْكُهُ قَبِيحًا .
وَإِذَا صَحَّ هَذَا لَمْ يَجُزْ ( أَنْ ) يَنْهَى عَمَّا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهِ مِمَّا هَذَا وَصْفُهُ لِأَنَّهُ لَوْ نَهَى ( عَنْهُ ) لَكَانَ نَهْيُهُ دَلَالَةً مِنْهُ عَلَى قُبْحِهِ وَعَلَى حُسْنِ تَرْكِهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ

مِنْهُ بِكَوْنِهِ قَبِيحًا إذَا وَقَعَ مِنْ فَاعِلِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَدُلَّ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ حَسَنٌ ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَبِيحٌ الْوَجْهُ الَّذِي ( دَلَّ ) عَلَيْهِ حُسْنُهُ لِأَنَّ هَذَا يَقْتَضِي تَنَاقُضَ دَلَالَتِهِ وَتَنَافِيهَا ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ .
وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُخْبِرَنَا عَنْهُ بِأَنَّهُ حَسَنٌ ، وَيُخْبِرَ عَنْهُ أَيْضًا بِأَنَّهُ قَبِيحٌ ، فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ يَجْرِيَانِ مَجْرَى الْإِخْبَارِ فِي بَابِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْحَسَنِ أَوْ الْقَبِيحِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِيمَا ذَكَرْت غَيْرَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا بِوَقْتٍ مَحْصُورٍ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا مُحَالٌ لِأَنَّهُ قَدْ دَلَّ بِالْأَمْرِ عَلَى أَنَّهُ مَتَى أُوقِعَ هَذَا الْفِعْلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقَعَ حَسَنًا ، وَالنَّسْخُ إذَا وَرَدَ فَإِنَّمَا تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ بِعَيْنِهِ لَا فِعْلًا غَيْرَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ فِعْلُ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِالْأَمْرِ فَيَتَنَاوَلُهُ النَّسْخُ عَلَى أَنَّهُ إنْ كَانَ النَّهْيُ الَّذِي وَقَعَ بِهِ النَّسْخُ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَأْمُورَ ( بِهِ ) بِعَيْنِهِ ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ فِعْلِهِ بَعْدَ النَّهْيِ عَلَى حَسَبِ اقْتِضَائِهِ الْأَمْرَ بَدْءًا ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا السَّائِلَ لَمْ يُحَصِّلْ مَعْنَى مَا قَالَ .
دَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ أَرَادَ مِنَّا فِعْلَهُ ، وَمَا نَهَانَا عَنْهُ فَقَدْ كَرِهَ مِنَّا فِعْلَهُ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَلَّا يَكُونَ مُرِيدًا لِمَا أَمَرَ بِهِ ، لَجَازَ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا بِضِدِّهِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَمَا كَانَ الْمَأْمُورُ مُطِيعًا بِفِعْلِ مَا أُمِرَ بِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُطِيعًا لَهُ بِفِعْلِ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ ، وَكَانَ لَا يَكُونُ عَاصِيًا بِفِعْلِ مَا نَهَاهُ عَنْهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ أَرَادَهُ مِنْهُ ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُرْتَكِبُ النَّهْيِ مُطِيعًا لِلَّهِ

تَعَالَى ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَرَادَهُ مِنْهُ وَهَذَا يُوجِبُ سُقُوطَ مَعْنَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَيَجْعَلُ وُرُودَهُمَا عَبَثًا وَسَفَهًا ، فَإِذَا صَحَّ هَذَا ثُمَّ وَرَدَ الْأَمْرُ مُقْتَضِيًا لِإِرَادَةِ الْفِعْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكْرَهَهُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ مِنْهُ وَفِي النَّهْيِ عَنْهُ بَعْدَ الْأَمْرِ بِهِ كَرَاهَةٌ لِذَلِكَ الْفِعْلِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَهُ ، وَهَذَا هُوَ الْبَدَاءُ الَّذِي هُوَ مَنْفِيٌّ عَنْ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا يَكْرَهُهُ بَعْدَ إرَادَتِهِ ، لَهُ إلَّا وَقَدْ اسْتَحْدَثَ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ وَقْتَ إرَادَتِهِ أَوْ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ عَبَثًا وَسَفَهًا فِي الِابْتِدَاءِ ، وَالْوَجْهَانِ جَمِيعًا مَنْفِيَّانِ عَنْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُرَادَ الْفِعْلُ مِنْ وَجْهٍ وَيُكْرَهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ فَتَتَعَلَّقُ الْإِرَادَةُ وَالْكَرَاهَةُ ( بِهِ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، فَأَمَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلَا .
وَتَعَلُّقُ الْإِرَادَةِ وَالْكَرَاهَةِ ) مِنْ وَجْهَيْنِ أَنْ يُرِيدَ الْفِعْلَ عِبَادَةً لِلَّهِ وَيَكْرَهَهُ عِبَادَةً لِلشَّيْطَانِ ( وَمِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ أَنْ يُرِيدَهُ مِنْهُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى وَيَكْرَهَهُ عِبَادَةً لِلَّهِ تَعَالَى ) وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ الَّذِي أَجَازَهُ مُخَالِفُونَا فِي ذَلِكَ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى اللهِ ، تَعَالَى ( اللَّهُ ) عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ( وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى جَوَازَ تَعَلُّقِ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْإِبَاحَةُ بِهِ غَيْرُ الْفِعْلِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الْحَظْرُ ، وَأَيُّ الْوَجْهَيْنِ صَحَّ مِنْهُمَا ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ لِجَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ الْفِعْلِ لِمَا بَيَّنَّا ) .
وَدَلِيلٌ آخَرُ : وَهُوَ أَنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَجُوزُ وُرُودُهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ شَرْطُهُ مَعَ الْأَمْرِ ( بِهِ ) فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : صَلُّوا إلَى وَقْتِ كَذَا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ صَلُّوا ، بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكَعْبَةِ .

وَمَا لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ وُرُودُ النَّسْخِ ( بِهِ ) وَمَا ذَكَرْنَا وَصْفَهُ مِنْ نَسْخِ الْأَمْرِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ هُوَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَدْ فَرَضْت عَلَيْكُمْ الظُّهْرَ وَنَهَيْتُكُمْ عَنْهُ بِعَيْنِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ مَذْكُورًا مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ يَصِحُّ أَنْ يُرِيدَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَتَعَبَّدَ بِالنَّهْيِ عَنْهُ بَعْدَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ مَا يَجُوزُ نَسْخُهُ إنَّمَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ لَوْ ذُكِرَ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ بَدْءًا لَمْ يَتَنَاقَضْ ( وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِمَا لَوْ ذُكِرَ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ تَنَاقَضَ ) الْكَلَامُ وَاسْتَحَالَ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ امْتِنَاعِ ( جَوَازِ ) نَسْخِ مَا هَذِهِ صِفَتُهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيمَا ( كَانَ ) هَذَا وَصْفَهُ إذَا كَانَ لَفْظُ الْأَمْرِ مُطْلَقًا وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ النَّهْيِ عَنْهُ مَعَ لَفْظِ الْأَمْرِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ مُعَلَّقًا بِعَدَمِ وُرُودِ النَّسْخِ فَيَصِيرُ تَقْدِيرُهُ ، افْعَلُوا إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ .
قِيلَ لَهُ : فَهَذَا هُوَ الْمُسْتَنْكَرُ الَّذِي لَا يَجُوزُ شَرْطُهُ فِي لَفْظِ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : قَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ إنْ لَمْ أَنْهَكُمْ عَنْهُ ، وَقَدْ أَرَدْته مِنْكُمْ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ ، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : افْعَلُوهُ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ إذَا كَانَ يَقْتَضِي ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَشْرِطَهُ مَعَ الْأَمْرِ .
وَعَلَى أَنَّ قَائِلَ هَذَا لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَقُولَ : بِأَنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِيهِ ، أَوْ أَنْ يَقُولَ : إنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ لَا تَقْتَضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ حُكْمُهُ فِي اقْتِضَاءِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ مَوْقُوفًا عَلَى دَلَالَةِ غَيْرِ اللَّفْظِ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَأْبَى الْقَوْلَ بِاقْتِضَاءِ وُرُودِ الْأَمْرِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ ( وَهُوَ أَنْ ) يَقُولَ : إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى الدَّلِيلِ فَإِنَّ الْأَمْرَ مَعَ ذَلِكَ فِي صِيغَتِهِ وَحِيَالَ وُرُودِهِ لَيْسَ بِالْإِيجَابِ

أَوْلَى مِنْهُ بِالنَّهْيِ ، حَتَّى إذَا وَرَدَ النَّهْيُ عَلِمْت أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِالْأَمْرِ الْإِيجَابَ .
فَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ خَارِجٌ عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ إذْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْهُمْ يُجَوِّزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ النَّهْيَ .
وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَقُولُ : إنَّ الْأَمْرَ يَقْتَضِي إيقَاعَ الْفِعْلِ عَلَى أَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ اقْتَضَى إيقَاعَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ وَلَا مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِي اللَّفْظِ كَمَا يَقُولُ فِي أَلْفَاظِ الْعُمُومِ .
وَالْحَقَائِقُ أَنَّهَا مَتَى وَرَدَتْ مُطْلَقَةً كَانَتْ مُقْتَضِيَةً لِأَحْكَامِهَا الْمَوْضُوعَةِ لَهَا فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَلَزِمَنَا بِهَا اعْتِقَادُ مُوجِبِ صِيغَتِهَا ، ثُمَّ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَرِدَ - بَعْدَ أَنْ اسْتَقَرَّ حُكْمُهَا عَلَى مَا اقْتَضَتْهُ صُورَتُهَا بِحُصُولِ الْفَرَاغِ فِيهَا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِشَرْطٍ وَلَا وَصْفٍ - أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا غَيْرُ مَا اقْتَضَتْهُ حَقِيقَةُ لَفْظِهَا ، فَكَذَلِكَ الْأَمْرُ إذَا وَرَدَ مُطْلَقًا ( مُقْتَضِيًا ) لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُجْعَلَ مُقَيَّدًا بِشَرْطِ أَلَّا يُنْسَخَ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي نَفْيِ إثْبَاتِ الشَّرْطِ فِي الْأَمْرِ الْمُطْلَقِ الْعَارِي مِنْ الشَّرْطِ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرَهُ السَّائِلُ ، وَسَنَتَكَلَّمُ بَعْدَ هَذَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ مُقَيَّدًا بِهَذَا الشَّرْطِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : أَلَيْسَ لَوْ قَالَ ( اللَّهُ تَعَالَى ) لَنَا : صَلُّوا الظُّهْرَ فِي مُسْتَقْبَلِ أَعْمَارِكُمْ ، أَوْ صُومُوا شَهْرَ رَمَضَانَ فِي مُسْتَقْبَلِ السِّنِينَ ، كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْنَا اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ مُكَرَّرًا ، ثُمَّ جَائِزٌ مَعَ ذَلِكَ عِنْدَك وُرُودُ نَسْخِهِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِ أَدْنَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ ، فَلِمَ أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهُ كَمَا أَجَزْت وُرُودَهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي شَيْءٍ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وُرُودَ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ مُقَارِنٌ لِجَوَازِ نَسْخِهِ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ أَدْنَى فِعْلِ مَا تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ مَا دَامَ النَّسْخُ قَائِمًا بِبَقَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا وَرَدَ النَّسْخُ عَلِمْنَا أَنَّ الْفَرْضَ كَانَ الْمِقْدَارَ الَّذِي وَقَعَ التَّمْكِينُ مِنْهُ إلَى وَقْتِ

النَّسْخِ ، وَأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَكُنْ مُرَادًا بِالْأَمْرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسْأَلَتُنَا لِأَنَّهُ
إذَا قَالَ لَنَا : صَلُّوا إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ وُجُوبِهَا فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ مِنْ غَيْرِ تَجْوِيزٍ لِغَيْرِهِ ، فَمَتَى وَرَدَ نَسْخُهُ كَانَ نَهْيًا عَنْ الْمَأْمُورِ بِعَيْنِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَهُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَهَلَّا أَجَزْت وُرُودَ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ فِعْلِهِ فِي وَقْتٍ إنْ لَمْ ( يَنْهَ ) عَنْهُ وَلَمْ يَنْسَخْهُ فَيَقُولُ : صَلُّوا عِنْدَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ قَدْ ( أَرَدْته ) مِنْكُمْ إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَكَقَوْلِهِ : هُوَ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا ، وَكَقَوْلِهِ : خَبَرِي هَذَا صِدْقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَكَقَوْلِهِ : ( قَدْ ) أَمَرْتُكُمْ بِهِ إنْ لَمْ يَبْدُ لِي فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَهَذَا لَا يَقُولُهُ إلَّا جَاهِلٌ بِالْعَوَاقِبِ وَبِقُبْحِ الْأَمْرِ أَوْ بِحُسْنِهِ ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ لَيْسَ هُوَ الْمُوجِبَ لِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ مُوجِبًا لِقُبْحِهِ وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ إذَا وَرَدَا مِنْ اللهِ تَعَالَى عَلَى حُسْنِهِ أَوْ قُبْحِهِ ، لِأَنَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِحُسْنِ الْمَأْمُورِ بِهِ قَبْلَ الْأَمْرِ بِهِ وَعَالِمٌ بِقُبْحِهِ قَبْلَ النَّهْيِ عَنْهُ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ مِنْهُ جَوَازُ شَرْطِ النَّهْيِ فِيمَا عُلِمَ حُسْنُهُ وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْأَمْرِ فِيمَا عُلِمَ قُبْحُهُ .
فَإِنْ قَالَ : أَلَيْسَ جَائِزًا فِيمَا بَيْنَنَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ : اُدْخُلْ الدَّارَ غَدًا مَا لَمْ أَنْهَك عَنْهُ وَلَا يَكُونُ هَذَا مُسْتَنْكَرًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ فَمَا أَنْكَرْت مِنْ تَجْوِيزِ مِثْلِهِ فِي أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا يَجُوزُ هَذَا فِيمَا بَيْنَنَا لِجَوَازِ الْبَدَاءِ عَلَيْنَا وَالتَّنَقُّلِ فِي الرَّأْيِ وَاسْتِحْدَاثِ الْعِلْمِ ( بِالْأَمْرِ ) ، فَجَازَ أَنْ يَقُولَ الْوَاحِدُ مِنَّا لِعَبْدِهِ : افْعَلْ غَدًا كَذَا مَا لَمْ أَنْهَك عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : افْعَلْهُ إنْ لَمْ يَبْدُ لِي فِيهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبُدَاءَاتُ ، وَلَا اسْتِحْدَاثُ الْعِلْمِ

بِالْأُمُورِ فَلِذَلِكَ امْتَنَعَ جَوَازُ شَرْطِ ذَلِكَ فِي أَوَامِرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ ( مِثْلَ ) ذَلِكَ مِنَّا لِعَبْدِهِ عَقَلْنَا مِنْ لَفْظِهِ ( أَنَّهُ ) إنَّمَا جَوَّزَ عَلَى نَفْسِهِ انْتِقَالَهُ عَنْ الرَّأْيِ ( الْأَوَّلِ ) إلَى غَيْرِهِ لِمَا عَسَى أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فِي الْمُسْتَأْنَفِ وَأَنْ سَيَحْدُثُ عِلْمًا لَمْ يَكُنْ عَلِمَهُ فِي الْأَوَّلِ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ مِثْلُهُ عَلَى اللهِ تَعَالَى كَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْبَدَاءُ وَاسْتِحْدَاثُ الْعِلْمِ بِالْأُمُورِ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ أَجَزْت فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وُرُودَ الْأَمْرِ مِنْ اللهِ تَعَالَى مُعَلَّقًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ : صَلِّ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ إنْ كُنْت صَحِيحًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَقَاتِلْ الْمُشْرِكِينَ غَدًا إنْ أَمْكَنَك ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ عِنْدَك صِحَّةَ الْأَمْرِ مُعَلَّقًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، فَهَلَّا جَوَّزْت ( أَنْ يَقُولَ ) صَلِّ عِنْدَ الزَّوَالِ إنْ لَمْ أَنْهَك عَنْهُ .
قِيلَ لَهُ : مَا قَدَّمْنَا مِنْ عِلَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَثَلَيْنِ فِي الْجَوَازِ أَوْ الِامْتِنَاعِ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَأَنَّ أَمْرِي إيَّاكَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُ قَبِيحًا ، وَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ مِنْهُ يَقْتَضِي تَجْوِيزَ الْبَدَاءِ ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مَنْفِيَّةٌ ، وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ : صَلِّ إنْ قَدَرْت عَلَيْهِ اقْتِضَاءُ صِفَةٍ حُكْمُهَا أَنْ تَكُونَ مَنْفِيَّةً عَنْ اللهِ تَعَالَى ، فَلَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُهُ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْأَمْرِ وَكَوْنِهِ حَسَنًا وُجُودُ التَّمْكِينِ فِي حَالِ لُزُومِ فِعْلِهِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُهُ مَقْرُونًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ .
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِفِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الثَّانِي مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الثَّانِي مَا يُضَادُّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ وُقُوعِ الْفِعْلِ مِنْهُ فِي حَالِ وُجُودِ ضِدِّهِ ، كَمَا أَنَّهُ مَعْلُومٌ امْتِنَاعُ وُقُوعِهِ ( مِنْهُ ) مَعَ عَدَمِ التَّمْكِينِ مِنْهُ ، ثُمَّ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ الْأَمْرِ

بِفِعْلٍ فِي وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لِأَجَلٍ مَا فِي الْمَعْلُومِ مِنْ وُقُوعِ ضِدِّهِ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ بَدَلًا مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا عَبَثًا وَلَا سَفَهًا ، كَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطِ التَّمْكِينِ أَمْرٌ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ ( فِي ) مَعْلُومِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْمَأْمُورَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ ، وَمَنْ مَنَعَ حُسْنَ الْأَمْرِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ إذَا كَانَ فِي الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْآمِرَ إذَا كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ كَانَ أَمْرُهُ ( بِهِ ) عَبَثًا كَأَمْرِهِ لَنَا بِصُعُودِ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ .
وَفَرْقٌ بَيْنَ أَوَامِرِ اللهِ تَعَالَى وَأَوَامِرِنَا لِعَبِيدِنَا وَمَنْ يَلْزَمُهُ طَاعَتُنَا فِي جَوَازِهِ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ لِأَنَّ الْأَمْرَ مِنَّا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ بُلُوغُ الْمَأْمُورِ حَالَ التَّمْكِينِ وَلَوْ كَانَ وُجُودُهُ مِنْ الْمَأْمُورِ فِيمَا بَيْنَنَا مَيْئُوسًا مِنْهُ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ بِهِ حَسَنًا .
قَالَ : وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ فِي مَعْلُومِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ لَمْ يَصِحَّ أَمْرُهُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا : أَنَّ هَذَا إنَّمَا جَازَ وُرُودُهُ مِنْ اللهِ تَعَالَى مَقْرُونًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ بُلُوغُ حَالَ التَّمْكِينِ وَإِنْ كَانَ ( فِي ) مَعْلُومِ اللهِ ( أَنَّا ) لَا نَبْلُغُهَا لِأَنَّا مَتَى جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَزِمَنَا بِوُرُودِهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ عَلَى الشَّرِيطَةِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ وَيُلْزِمُنَاهَا تَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَيْهِ وَتَسْهِيلُهُ عَلَيْهَا إنْ بَلَغْنَا حَالَ التَّمْكِينِ وَهَذِهِ عِبَادَةٌ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَبَّدَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَيُلْزِمَنَاهَا فِي الْحَالِ .
وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ بِصُعُودِ السَّمَاءِ بِشَرْطِ الْإِمْكَانِ ، لِأَنَّا قَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّا لَا نَبْلُغُ حَالَ التَّمْكِينِ مِنْهُ أَبَدًا وَلَا يَصِحُّ مَعَ ذَلِكَ اعْتِقَادُ جَوَازِ بُلُوغِ حَالِ الْإِمْكَانِ وَتَوْطِينُ النَّفْسِ عَلَى الْفِعْلِ إذَا بَلَغْنَاهَا ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَذَا الْأَمْرِ وُجُوبُ الْفِعْلِ وَلَا اعْتِقَادُ شَيْءٍ تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِهِ

كَانَ عَبَثًا فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت عَلَى هَذَا أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِشَرِيطَةِ ( أَنْ يَقُولَ ) افْعَلُوا مَا لَمْ أَنْسَخْهُ عَنْكُمْ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ،وَأَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ عَلَيْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ لَمْ يَنْسَخْهُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَلْزَمَهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ بِوُرُودِ الْأَمْرِ ، أَوْ أَنْ يَلْزَمَهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ كَانَ وَاجِبًا ، أَوْ اعْتِقَادُ حَظْرِهِ إنْ كَانَ مَحْظُورًا فَيُعْتَقَدُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ يُعْتَقَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ .
فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَلْزَمُهُ بِوُرُودِ الْأَمْرِ الْمَعْقُودِ بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ فَهَذَا الِاعْتِقَادُ لَيْسَ هُوَ مِمَّا يَقْتَضِيهِ لَفْظُ الْأَمْرِ الْمُقَيَّدُ بِالشَّرْطِ عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ذَكَرْت ، بَلْ هُوَ مُقْتَضَى اعْتِقَادِ الْأَمْرِ الْمُبْهَمِ الَّذِي لَا شَرْطَ فِيهِ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى إسْقَاطِ فَائِدَةِ الشَّرْطِ .
وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى فَسَادِ الْقَوْلِ بِجَوَازِ نَسْخِ ( الْأَمْرِ ) الْمُبْهَمِ الْعَارِي مِنْ الشَّرْطِ إذَا تَنَاوَلَ ( وَقْتًا ) مَحْصُورًا ، وَأَيْضًا فَإِنَّ كَوْنَهُ مَعْقُودًا بِشَرِيطَةِ أَنْ لَا يَنْهَى عَنْهُ يَمْنَعُ وُقُوعَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ اعْتِقَادُ وُجُوبِ فِعْلِهِ عِنْدَ مَجِيءِ وَقْتِهِ بِأَوْلَى مِنْ اعْتِقَادِ وُجُوبِ تَرْكِهِ فَلَوْ لَزِمَنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذِهِ صِفَتُهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ كَانَ فِي ذَلِكَ إيجَابَ اعْتِقَادِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَهَذَا أَمْرٌ بِاعْتِقَادِ الشَّيْءِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ بِهِ وَجَوَازُ الْأَمْرِ بِمِثْلِهِ مُنْتَفٍ عَنْ اللهِ تَعَالَى فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ بِمَا وَصَفْنَا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذَا وَصْفُهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهِ إنْ

كَانَ وَاجِبًا ، أَوْ حَظْرِهِ إنْ كَانَ مَحْظُورًا عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ ، فَهَذَا لَمْ يَحْصُلْ بَعْدُ عَلَى اعْتِقَادِ شَيْءٍ لَا حَظْرَ وَلَا إيجَابَ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهِ رَأْسًا ، لِأَنَّ بَعْدَ وُرُودِ الْأَمْرِ كَهِيَ قَبْلَ وُرُودِهِ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ يَعْتَقِدُ قَبْلَ وُرُودِ الْأَمْرِ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَأْنَفِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، وَأَنَّ مَا يَحْظُرُهُ فَهُوَ مَحْظُورٌ ، فَيُؤَدِّي هَذَا الْقَوْلُ ( إلَى ) إسْقَاطِ فَائِدَةِ الْأَمْرِ رَأْسًا ، فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا .
فَإِنْ قُلْنَا : إنَّهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ هَذَا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مَجِيءُ الْعِبَادَةِ بِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَرَدْته مِنْك إنْ لَمْ أَكْرَهْهُ ، وَهُوَ حَسَنٌ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا ، وَأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ صِدْقٌ إنْ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ وُرُودُ الْخِطَابِ مِنْ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي خِطَابِهِ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلِاعْتِقَادِ فِي الْأَمْرِ الَّذِي وَصَفَهُ مَا ذَكَرْت وَجْهٌ غَيْرُ مَا وَصَفْنَا ، وَلَمْ يَصِحَّ شَيْءٌ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا ، ثَبَتَ امْتِنَاعُ جَوَازِ وُرُودِهِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ .
فَإِنْ قَالَ : مَا أَنْكَرْت أَنْ يَجُوزَ وُرُودُ الْأَمْرِ عَلَى هَذِهِ الشَّرِيطَةِ .
فَنَقُولُ : قَدْ أَمَرْتُك ( بِهِ ) إنْ لَمْ أَنْسَخْهُ ، وَيَكُونُ الَّذِي يَلْزَمُنَا بِوُرُودِ الْأَمْرِ الَّذِي هَذِهِ صُورَتُهُ : أَنَّ هَذَا الْخِطَابَ قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ مُجْمَلٌ يَرِدُ بَيَانُهُ فِي الثَّانِي مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، وَيَكُونُ بَيَانُ حُكْمِهِ مُتَرَقَّبًا بِمَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ فَإِنْ حَظَرَهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ( بِالْخِطَابِ الْمُتَقَدِّمِ كَانَ الْحَظْرَ ، وَإِنْ لَمْ يَنْسَخْهُ عَلِمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ ) ( بِهِ ) كَانَ الْإِيجَابَ ، كَمَا نَقُولُ فِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ الْمُجْمَلَةِ الَّتِي لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِعْمَالِهَا إلَّا بِوُرُودِ بَيَانِهَا وَلَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ ( فَائِدَةِ الْأَمْرِ كَمَا لَا يَكُونُ ) اللَّفْظُ الْمُجْمَلُ عَارِيًّا مِنْ ( الْفَائِدَةِ ) لِوُرُودِهِ مُجْمَلًا .

قِيلَ لَهُ : هَذَا فَاسِدٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَوْلَهُ صَلِّ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ تَصَدَّقْ بِدِرْهَمٍ غَدًا لَيْسَ بِمُجْمَلٍ مِنْ حَيْثُ اقْتَضَى وُجُوبَ الْفِعْلِ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ لَهُ ، فَقَدْ أَلْزَمَنَا بِوُرُودِهِ اعْتِقَادَ وُجُوبِهِ فَلَوْ جَازَ أَنْ يُقْرَنَ بِهِ ( قَوْلُهُ )افْعَلْ مَا لَمْ أَنْسَخْهُ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُؤَثِّرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَنَّهُ مُقْتَضَى الْإِيجَابِ إلَّا أَنَّهُ شُرِطَ جَوَازُ رَفْعِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَأَمَّا الْمُجْمَلُ : فَمِنْ حَيْثُ لَمْ يَلْزَمْنَا فِيهِ اعْتِقَادُ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مَوْقُوفًا عَلَى الْبَيَانِ ، فَمَا وَرَدَ فِيهِ مِنْ بَيَانِ الْحُكْمِ عَلِمْنَا أَنَّهُ كَانَ الْمُرَادُ بِالْجُمْلَةِ .
وَالْوَجْهُ الْآخَرُ : أَنَّ النَّهْيَ لَوْ وَرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ عِبَارَةً عَنْهُ .
فَقَوْلُك : إنَّ لَفْظَ الْأَمْرِ الْمَقْرُونَ بِجَوَازِ شَرْطِ النَّهْيِ مَوْقُوفٌ عَلَى وُرُودِ الْبَيَانِ خَطَأٌ ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ صَحَّ لَمَا كَانَ الْأَمْرُ بَاقِيًا ، بَلْ يَكُونُ مَرْفُوعًا زَائِلًا فَكَيْفَ يَكُونُ مَا يُوجِبُ دَفْعَهُ وَإِسْقَاطَهُ بَيَانًا لَهُ ، وَهُوَ يُوجِبُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الْأَمْرِ مَوْضُوعًا لِلنَّهْيِ ، وَلَفْظُ الْإِيجَابِ مَوْضُوعًا لِلْحَظْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ .
وَأَمَّا وُرُودُ بَيَانِ الْمُجْمَلِ فَغَيْرُ مُزِيلٍ لِحُكْمِ اللَّفْظِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْجُمْلَةِ قَدْ كَانَ يَصْلُحُ لَهُ ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةٌ عَنْهُ إمَّا فِي اللُّغَةِ أَوْ الشَّرْعِ ، فَلَمْ يَكُنْ بَيَانُهُ مُنَافِيًا لِحُكْمِ الْجُمْلَةِ .
وَقَدْ احْتَجَّ مَنْ أَجَازَ نَسْخَ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فُرِضَ عَلَيْهِ وَعَلَى أُمَّتِهِ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إلَى السَّمَاءِ خَمْسُونَ صَلَاةً فَمَا زَالَ يَسْأَلُ اللَّهَ حَتَّى رَدَّهَا إلَى خَمْسٍ .
قَالُوا : فَقَدْ نُسِخَ فَرْضُ الْخَمْسِينَ إلَى الْخَمْسِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ .
وَبِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ ابْنِهِ وَأَنَّهُ نُسِخَ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ ، وَبِصُلْحِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ ( مِنْهُمْ ) مُسْلِمًا ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ عَنْ النِّسَاءِ قَبْلَ

مَجِيئِهِنَّ إلَيْهِ ، وقَوْله تَعَالَى : { إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ نَسَخَهُ قَبْلَ مَجِيءِ ( وَقْتِ فِعْلِهِ ) .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ : أَنَّ مَا رُوِيَ مِنْ فَرْضِ الْخَمْسِينَ صَلَاةً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَرَدَ فِي الِابْتِدَاءِ مَعْقُودًا بِشَرْطِ اخْتِيَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { فَإِذَا اسْتَأْذَنُوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَجَعَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( بِأَعْلَى ) النَّظَرَيْنِ فِي ذَلِكَ ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا تَعَلُّقُ الْفَرْضِ بِاخْتِيَارِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، كَاخْتِلَافِ حُكْمِ صَلَاةِ السَّفَرِ وَالْحَضَرِ بِاخْتِيَارِهِ السَّفَرَ وَالْإِقَامَةَ ، وَكَمَا تَلْزَمُنَا الْقُرَبُ بِالنَّذْرِ وَإِيجَابُنَا لَهَا عَلَى أَنْفُسِنَا ، وَكَمَا يَكُونُ الْحَانِثُ فِي يَمِينِهِ مُخَيَّرًا فِي أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ وَبِأَيِّهَا كَفَّرَ تَعَيَّنَ حُكْمُ الْفَرْضِ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ .
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إيجَابُ الْفَرْضِ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ أَحَدٍ مِنْ الْمَأْمُورِينَ ، لِأَنَّ الْفُرُوضَ وَالْأَوَامِرَ إنَّمَا ( هِيَ ) حَسَبَ الْمَصَالِحِ وَلَا عِلْمَ لِأَحَدٍ غَيْرِ اللهِ تَعَالَى بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ يَمْتَنِعُ عِنْدَنَا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْلُومِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُتَسَاوِيَةٌ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاحِ ، فَإِذَا خُيِّرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ لَا يَخْتَارُ إلَّا مَا هُوَ صَلَاحٌ فَيَكِلُ وُجُوبَ الْفَرْضِ إلَى اخْتِيَارِهِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ جَعَلَ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُسِنَّ مَا رَأَى ، وَيَفْرِضَ مَا شَاءَ بِاخْتِيَارِهِ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ يَأْتِيهِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِعَيْنِهِ ، كَمَا { قَالَ

لِلْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ الْحَجِّ أَوَاجِبٌ فِي كُلِّ عَامٍ أَوْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : بَلْ حَجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ } وَكَمَا اسْتَثْنَى الْإِذْخِرَ عِنْدَ مَسْأَلَةِ الْعَبَّاسِ إيَّاهُ ذَلِكَ حِينَ قَالَ : { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ : إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ : إلَّا الْإِذْخِرَ } بَعْدَمَا أَطْلَقَ النَّهْيَ فِي الْجَمِيعِ قَالَ : فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ كَانَ حُكْمُ التَّحْرِيمِ أَوْ الْإِبَاحَةِ مُعَلَّقًا بِاخْتِيَارِهِ .
وَكَمَا قَالَ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ، الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إيجَابَ ذَلِكَ كَانَ مَجْعُولًا إلَيْهِ وَمَوْقُوفًا عَلَى اخْتِيَارِهِ ، وَلَيْسَ الْغَرَضُ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، إلَّا أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عِنْدَ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَنَا صِحَّتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ ( عِنْدَنَا ) أَنْ نَكِلَ فَرْضَ الْخَمْسِينَ إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْأَلَةَ فِيهِ ، فَمَا زَالَ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِ يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى فِي ذَلِكَ حَتَّى اسْتَقَرَّ الْفَرْضُ عَلَى خَمْسٍ .
فَإِنْ قِيلَ : فَإِنْ كَانَ الْفَرْضُ فِي الِابْتِدَاءِ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا مَعْنَى مَسْأَلَتِهِ التَّخْفِيفَ وَمُرَاجَعَتِهِ فِيهِ .
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مَوْكُولًا إلَى اخْتِيَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنْ

يَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى التَّخْفِيفَ عَنْ أُمَّتِهِ فَتَكُونُ مَسْأَلَتُهُ سَبَبًا لِلتَّخْفِيفِ ، كَمَا قُلْنَا ( فِي ) فَرْضِ السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ إنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى اخْتِيَارِنَا لِلسَّفَرِ أَوْ الْإِقَامَةِ فَيَخْتَلِفُ الْفَرْضُ بِاخْتِلَافِ الْحَالَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا مَوْقُوفَانِ عَلَى اخْتِيَارِنَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ أَنَّ الْفَرْضَ وَكَفَّارَةَ الْيَمِينِ أَحَدُ الْأَشْيَاءِ
الثَّلَاثَةِ لَا جَمِيعُهَا ، وَأَنَّ حُكْمَ الْمَفْرُوضِ فِيهَا مُتَعَلِّقٌ بِاخْتِيَارِ الْمُكَفِّرِ حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِهِ الْحُكْمُ إذَا فَعَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا أَمْرُ اللهِ تَعَالَى إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَبْحِ ابْنِهِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِذَبْحِهِ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ عَلَى شَرْطِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ الْحَائِلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ وُرُودِ الْأَمْرِ مَعْقُودًا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ ، فَلَمَّا عَالَجَ أَسْبَابَ الذَّبْحِ حِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ بِضَرْبٍ مِنْ الْمَنْعِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ ( الْعِلْمِ فِي ) التَّفْسِيرِ : ضَرَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى حَلْقِهِ صَفِيحَةَ نُحَاسٍ فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهَا الشَّفْرَةُ ، فَقِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، قَدْ صَدَّقْت الرُّؤْيَا ، لِأَنَّهُ فَعَلَ مَا أَمْكَنَهُ وَبَذَلَ الْمَجْهُودَ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُك فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى } ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ( إنَّمَا ) رَأَى فِي الْمَنَامِ فِعْلَ أَسْبَابِ الذَّبْحِ وَمُعَالَجَتَهُ وَقَدْ فَعَلَ وَسَمَّاهُ ذَبْحًا لِأَنَّهُ سَبَبٌ يَقَعُ بِمِثْلِهِ الذَّبْحُ فِي الْعَادَةِ مَا لَمْ يَحْدُثْ مَنْعٌ كَمَا يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ أَوْ كَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَلَا مَعْنَى إذَنْ لِلْفِدْيَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالذَّبْحِ لِعَدَمِ التَّمْكِينِ مِنْهُ وَلَا يَقَعُ مَا سُمِّيَ فِدْيَةً مَوْقِعَ الْفِدْيَةِ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ مَا قَامَ مَقَامَ الشَّيْءِ .

وَمَا فُدِيَ بِهِ عِنْدَك لَمْ يَقُمْ مَقَامَ شَيْءٍ أُمِرَ بِهِ ثُمَّ لَمْ يَفْعَلْهُ إذَا كَانَ جَمِيعُ مَا أَمَرَ بِهِ قَدْ فَعَلَهُ عِنْدَك .
قِيلَ لَهُ : ( لَيْسَ ) يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ سُمِّيَ فِدْيَةً لِمَا كَانَ يَتَوَقَّعُهُ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حُدُوثِ الْمَوْتِ بِالذَّبْحِ ، فَفَدَى مَا كَانَ فِي تَقْدِيرِهِ أَنَّهُ سَيَقَعُ بِمَا ( قَدَرَ ) بِهِ .
وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ ذَبَحَهُ وَفَرَى الْأَوْدَاجَ ثُمَّ وَصَلَهَا اللَّهُ فِي أَسْرَعَ مِنْ لَمْحِ الطَّرْفِ قَبْلَ خُرُوجِ الرُّوحِ ، وَهَذَا جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ.
وَأَمَّا صُلْحُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قُرَيْشًا عَلَى مَا صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ وَنَسْخُ الْحُكْمِ عَنْ النِّسَاءِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ، لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَضَى مِنْ وَقْتِ الْحُكْمِ إلَى أَنْ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِرَدِّ النِّسَاءِ مُدَّةً يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ فِيهَا فَلَيْسَ فِي هَذَا نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِهِ ، وَكَذَلِكَ نَسْخُ الصَّدَقَةِ عِنْدَ مُنَاجَاةِ الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ مَضَى مِنْ وَقْتِ نُزُولِ الْحُكْمِ إلَى وَقْتِ وُرُودِ النَّسْخِ مُدَّةٌ يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُ الْحُكْمِ فِيهَا ، وَنَسْخُ مِثْلِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ مَسْأَلَتِنَا فِي شَيْءٍ .
فَثَبَتَ بِمَا ذَكَرْنَا امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّسْخِ قَبْلَ مَجِيءِ وَقْتِ الْفِعْلِ وَجَمِيعُ الْأَقْسَامِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا هُوَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ .
وَأَمَّا الْقِسْمُ الَّذِي ذَكَرْنَا جَوَازَ نَسْخِهِ ، وَهُوَ أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ عُمُومًا فِي جِنْسِ يُوجِبُ فِعْلَهُ عَلَى الدَّوَامِ فِي مُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ تَوْقِيتٍ فَهُوَ ( مِنْ ) نَحْوِ قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } وقَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَمَا جَرَى مَجْرَى

ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعُمُومِ وَفِيمَا ( يَقْتَضِي ) مُسْتَقْبَلَ الْأَوْقَاتِ كَقَوْلِهِ : صُومُوا عَاشُورَاءَ فِيمَا ( يُسْتَقْبَلُ ) مِنْ السِّنِينَ وَنَحْوُ ( ذَلِكَ ) قَوْلُهُ لِبَنِي إسْرَائِيلَ : تَمَسَّكُوا بِتَحْرِيمِ السَّبْتِ فِي مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ ، فَيَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِهَا اعْتِقَادُ مُوجِبِ لَفْظِهَا وَتَجْوِيزُ نَسْخِهَا مَعَ ذَلِكَ إذَا وُجِدَ مِنْ وَقْتِ الْفِعْلِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ لَفْظُ الْأَمْرِ ، لِأَنَّ لَفْظَ الْعُمُومِ لَمَّا كَانَ عِبَارَةً عَنْ ثَلَاثَةٍ فَمَا فَوْقَهَا ، وَذِكْرُهُ بِمُسْتَقْبَلِ الْأَوْقَاتِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ قَلِيلِ الْأَوْقَاتِ وَكَثِيرِهَا ، لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ بِأَنْ يُبَيِّنَ تَارَةً أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْمُشْرِكِينَ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ وُجُوبُ قَتْلِهِمْ ، وَمِنْ الْآنَ قَبُولُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ حُكْمَ بَعْضِ الْقَاذِفِينَ إلَى هَذَا الْوَقْتِ الْجَلْدُ ، وَمِنْ الْآنَ اللِّعَانُ وَهُمْ قَاذِفُو الزَّوْجَاتِ ، وَيُبَيِّنُ أَنَّ صَوْمَ عَاشُورَاءَ فَرْضُهُ إلَى وَقْتِ نُزُولِ ( الْأَمْرِ بِصَوْمِ شَهْرِ ) رَمَضَانَ ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ السَّبْتِ ( إلَى الْوَقْتِ ) الَّذِي نَسَخَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيٍّ آخَرَ جَاءَ بَعْدَهُ ، وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ فُعِلَ الْمَأْمُورُ بِهِ أَوْ لَمْ يُفْعَلْ ، فَإِنَّ نَسْخَهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا .
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ التَّمْكِينُ مِنْ الْفِعْلِ فَقَدْ لَزِمَهُ فَرْضُهُ ، وَتَفْرِيطُهُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ نَسْخَهُ عَنْهُ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُعَلِّقَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِوَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، فَإِذَا مَضَى الْوَقْتُ قَبْلَ فِعْلِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ ، وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَشْرِطَ ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَقُولُ ( لَهُ : إنْ فَعَلْته عِنْدَ وُجُودِ التَّمْكِينِ مِنْهُ فَذَاكَ وَإِنْ تَرَكْته فَأَنْتَ مُعَاقَبٌ ) عَلَى تَرْكِهِ وَلَا فَرْضَ عَلَيْك بَعْدَهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا : أَنَّ وُرُودَ النَّسْخِ جَائِزٌ ، وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ الْمَأْمُورِينَ مَا أَمَرَ بِهِ فِي وَقْتِ لُزُومِهِ ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ كَذَلِكَ لَكَانَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا أَرَادَ نَسْخَ شَيْءٍ سَأَلَهُمْ : هَلْ تَرَكَ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ حَتَّى يَصِحَّ نَسْخُهُ عَلَى قَوْلِ الْمُخَالِفِ .
وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَنُقِلَ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْأَلْهُمْ عَنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِمَّا نَسَخَهُ ، بَلْ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ نَسَخَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ غَيْرِ بَحْثٍ مِنْهُ عَنْ حَالِ

الْمَأْمُورِينَ فِي فِعْلِهِ أَوْ تَرْكِهِ دَلَّ ( ذَلِكَ ) عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ شَرْطُ جَوَازِ النَّسْخِ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ .
وَأَيْضًا فَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ يَصِحُّ نَسْخُهُ بَعْدَ التَّمْكِينِ مِنْ تَرْكِهِ وَإِنْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ فِعْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ ارْتِكَابُهُ لِلْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَانِعًا مِنْ نَسْخِهِ كَذَلِكَ تَرْكُهُ لِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِهِ .

فارغة

الْبَابُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُوْنَ: فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ

فارغة

بَابٌ فِي نَسْخِ التِّلَاوَةِ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ
اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي نَسْخِ ( رَسْمِ ) الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِهِ .
فَقَالَ قَوْمٌ : لَا يَكُونُ رَفْعُ حُكْمِهِ إلَّا بِرَفْعِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ فَيَرْتَفِعُ الْحُكْمُ بِارْتِفَاعِهَا .
وَقَالَ آخَرُونَ : يَجُوزُ رَفْعُ أَحَدِهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْآخَرِ أَيُّهُمَا كَانَ مِنْ تِلَاوَةٍ أَوْ حُكْمٍ .
وَقَالَ طَائِفَةٌ : لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتُهُ وَلَكِنْ يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ التِّلَاوَةِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَّا جَوَازُ نَسْخِ الْحُكْمِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ إلَّا فِرْقَةً شَذَّتْ عَنْهَا ، وَقَدْ حَكَيْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَوْلَهَا .
وَأَمَّا نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ فَإِنَّمَا يَكُونُ بِأَنْ يُنْسِيَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إيَّاهُ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ ( أَوْ يَأْمُرَهُمْ ) بِالْإِعْرَاضِ عَنْ تِلَاوَتِهِ وَكَتْبِهِ فِي الْمُصْحَفِ فَيَنْدَرِسُ عَلَى الْأَيَّامِ كَسَائِرِ كُتُبِ اللهِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي كِتَابِهِ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى ، صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى } وَلَا نَعْرِفُ الْيَوْمَ مِنْهَا شَيْئًا ، ثُمَّ لَا يَخْلُو ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إذَا تُوُفِّيَ لَا يَكُونُ مَتْلُوًّا مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ يَمُوتُ وَهُوَ مَتْلُوٌّ مَوْجُودٌ بِالرَّسْمِ ثُمَّ يُنْسِيهِ اللَّهُ النَّاسَ وَيَرْفَعُهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ .
وَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا نَسْخُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا رَسْمُهُ وَلَا حُكْمُهُ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْأُمَّةِ أَنَّ نَسْخَ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ لَا يَكُونُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا قَوْمٌ مُلْحِدَةٌ يَسْتَهْزِئُونَ بِإِظْهَارِ الْإِسْلَامِ وَيَقْصِدُونَ إفْسَادَ الشَّرِيعَةِ بِتَجْوِيزِ نَسْخِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَمَّا نَسْخُ رَسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ حُكْمِهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنَّ فِي مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا مَا يَدُلُّ عَلَى تَجْوِيزِهِمْ نَسْخَ التِّلَاوَةِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَ بَقَاءِ الْحُكْمِ ، وَأَمَّا بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ جَائِزٍ .

وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا : إيجَابُهُمْ التَّتَابُعَ فِي صَوْمِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، لِمَا ذَكَرُوا أَنَّ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ " فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ " وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ الْيَوْمَ وَلَا يَجُوزُ تِلَاوَتُهُ فِيهِ وَلَا الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مِنْهُ ، وَقَدْ كَانَ حَرْفُ عَبْدِ اللهِ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ الْعَصْرِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ غَيْرُ جَائِزٍ وُقُوعُهُ بَعْدَ مَوْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ نَأْمَنْ مِنْ أَنْ تَكُونَ الشَّرِيعَةُ كَانَتْ عِنْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَضْعَافَ مَا فِي أَيْدِينَا الْيَوْمَ فَرَفَعَهَا اللَّهُ مِنْ أَوْهَامِ الْأُمَّةِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أَلَّا يَكُونَ شَيْءٌ مِمَّا فِي أَيْدِينَا مِنْ الشَّرِيعَةِ مِمَّا كَانَ مَوْجُودًا فِي عَصْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، بِأَنْ يَكُونَ أَنْسَى الْأُمَّةَ جَمِيعَ مَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَرَفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ ثُمَّ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَأَلْهَمَهُمْ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الَّتِي فِي أَيْدِينَا ( الْيَوْمَ ) .
وَفِي الْقَوْلِ بِهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْمِلَّةِ ، فَثَبَتَ امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا ذَكَرُوهُ مِنْ شَرْطِ التَّتَابُعِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ مَنْسُوخَ التِّلَاوَةِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ قَدْ أُمِرُوا بِأَلَّا يَقْرَءُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَلَا يَكْتُبُوهُ فِي الصُّحُفِ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا مِنْ الطَّرِيقِ الَّتِي نُقِلَ الْقُرْآنُ ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِمْ أَنَّهُ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ ( أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ ) ثُمَّ نُسِخَتْ التِّلَاوَةُ وَبَقِيَ الْحُكْمُ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ نَقَلَهُ إلَيْنَا إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي نُقِلَ إلَيْنَا مِنْهُ سَائِرُ الْقُرْآنِ ، وَهُوَ التَّوَاتُرُ وَالِاسْتِفَاضَةُ ، حَتَّى لَا يَشُكَّ أَحَدٌ فِي كَوْنِهِ مِنْهُ ، فَلَمَّا لَمْ يَرِدْ نَقْلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُمْ أَنَّهُ مِمَّا كَانَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ وَأَنَّ تِلَاوَتَهُ مَنْسُوخَةٌ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ إلَيْنَا إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْأَحَادِيثِ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَى حُكْمِ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ مِنْ أَصْلِك أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ ( إلَّا بِمِثْلِ مَا يَجُوزُ ) بِهِ النَّسْخُ .
قِيلَ لَهُ : قَدْ كَانَ هَذَا الْحُكْمُ مُسْتَفِيضًا عِنْدَهُمْ أَنَّهُ كَانَ مَتْلُوًّا مِنْ الْقُرْآنِ فَأَثْبَتْنَا الْحُكْمَ بِالِاسْتِفَاضَةِ وَبَقَاءُ تِلَاوَتِهِ غَيْرِ ثَابِتٍ بِالِاسْتِفَاضَةِ ، لِأَنَّهُ جَائِزٌ بَقَاءُ الْحُكْمِ مَعَ نَسْخِ التِّلَاوَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ نُثْبِتْهُ مَتْلُوًّا فِيهِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالِاسْتِفَاضَةِ ، فَأَثْبِتْ التِّلَاوَةَ بِمِثْلِهَا ، لِأَنَّهُ الْوَجْهُ الَّذِي مِنْهُ نُقِلَ الرَّسْمُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَمَّا لَمْ يَبْقَ حُكْمُهَا الْيَوْمَ مِنْ جِهَةِ نَقْلِ الِاسْتِفَاضَةِ إذَا لَمْ تَثْبُتْ فِي سَائِرِ الْمَصَاحِفِ ، عَلِمْنَا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ تِلَاوَتِهَا مَا يُوجِبُ نَسْخَ حُكْمِهَا إذْ لَا يَمْتَنِعُ بَقَاءُ أَحَدِهِمَا مَعَ عَدَمِ الْآخَرِ .
فَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا : فَجَائِزٌ ( أَيْضًا ) عِنْدَنَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَيَجُوزُ ( عِنْدَنَا أَيْضًا ) نَسْخُ الْأَخْبَارِ دُونَ مَخْبَرِهَا فِي حَيَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ تَتَعَلَّقُ بِنَا بِوُرُودِ رَسْمِ الْقُرْآنِ مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : التِّلَاوَةُ .
وَالْآخَرُ : الْحُكْمُ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ زَوَالُ الْعِبَادَةِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا .

أَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ : فَبِأَنْ يُتَعَبَّدَ بِضِدِّهِ .
وَأَمَّا نَسْخُ التِّلَاوَةِ فَبِأَنْ يُنْسِيَهُ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ كَانَ حَفِظَ مِنْ الْأُمَّةِ فِي عَصْرِهِ وَيَرْفَعَهُ مِنْ أَوْهَامِهِمْ أَوْ يَأْمُرَهُمْ بِأَلَّا يُثْبِتُوهُ فِي الْمُصْحَفِ وَلَا يَتْلُوهُ ، فَيُنْسَى عَلَى مَرِّ الْأَوْقَاتِ قَبْلَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نَسْخَهُ بِالنِّسْيَانِ قَدْ كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، { وَأَنَّ بَعْضَهُمْ أُنْسِيَ سُورَةً قَدْ كَانَ حَفِظَهَا فَسَأَلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إنَّهَا نُسِخَتْ } ، وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَرَأَ فِي صَلَاةٍ سُورَةً ، فَتَرَكَ آيَةً مِنْهَا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : تَرَكْت آيَةَ كَذَا ، فَقَالَ : أَلَا أَذْكَرْتنِيهَا فَقَالَ الرَّجُلُ : ظَنَنْت أَنَّهَا نُسِخَتْ } .
{ وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } .
وَقَالَ تَعَالَى : { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } .
وَرُوِيَ فِي التَّفْسِيرِ : أَوْ نُنْسِهَا مِنْ النِّسْيَانِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُ مِنْ التَّرْكِ بِأَلَّا يَنْسَخَهَا ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْآيَةِ إذَا كَانَتْ مُحْتَمِلَةً ( لِلنِّسْيَانِ ) تَجْوِيزُ مَا وَصَفْنَا فِيهَا .
وَأَمَّا مَا طَعَنَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْإِلْحَادِ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ دِينَ الْإِسْلَامِ وَلَيْسَ
مِنْهُ فِي شَيْءٍ ثُمَّ كَشَفَ قِنَاعَهُ وَأَبْدَى مَا كَانَ يُضْمِرُهُ مِنْ إلْحَادِهِ ، بِأَنَّ الْقُرْآنَ مَدْخُولٌ فَاسِدُ النِّظَامِ لِسُقُوطِ كَثِيرٍ مِنْهُ .
وَيَحْتَجُّ فِيهِ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " إنَّ آيَةَ الرَّجْمِ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى

وَسَيَجِيءُ أَقْوَامٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهِ إذَا زَنَى الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ " " وَإِنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ قَالَ : إنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تُوَازِي الْبَقَرَةَ أَوْ هِيَ أَطْوَلُ ، وَأَنَّهُ " كَانَ فِيهَا آيَةُ الرَّجْمِ وَأَنَّهُ كَانَ فِيهَا لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ لَابْتَغَى إلَيْهِمَا ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ "

وَأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ "
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ " أَنَّهُمْ كَانُوا يَقْرَءُونَ بَلِّغُوا قَوْمًا عَنَّا أَنَّا لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا " ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا يُرْوَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْقُرْآنِ ، فَإِنَّهُ لَا مَطْعَنَ لِمُلْحِدٍ فِيهِ ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ وُرُودُهَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ فَغَيْرُ جَائِزٍ إثْبَاتُ الْقُرْآنِ بِهَا .
ثُمَّ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ ثَابِتَةً عَلَى مَا رُوِيَ فِيهَا أَوْ سَقِيمَةً مَدْخُولَةً ، ( فَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولَةً ) فَالْكَلَامُ عَنَّا فِيهَا سَاقِطٌ ، وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَكُونَ مُحْتَمِلَةً أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَمُحْتَمِلَةً لِغَيْرِهِ ، أَوْ لَا تَحْتَمِلُ إلَّا كَوْنَهَا مِنْ الْقُرْآنِ ، فَمَا لَمْ يَحْتَمِلْ مِنْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَتْ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ مِنْ الْخَبَرِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ مَنْسُوخُ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمَا احْتَمَلَ مِنْهَا لَفْظُهُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ (أَنَّهُ ) آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ ( آيَةً ) مِنْ حُكْمِ اللهِ وَمِمَّا أَنْزَلَهُ ( اللَّهُ ) ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْقُرْآنِ فَلَيْسَ الْقَطْعُ فِيهِ بِأَحَدِ وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَالْكَلَامُ فِيهِ عَنَّا سَاقِطٌ ، وَعَلَى أَيِّ الْوَجْهَيْنِ حُمِلَ فَلَا اعْتِرَاضَ فِيهِ لِمُلْحِدٍ ، لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فَهُوَ ( مِنْ ) الْقَبِيلِ الَّذِي هُوَ مَنْسُوخُ

التِّلَاوَةِ ، وَعَلَى أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ ذُكِرَ فِي سِيَاقِهِ لَفْظُهُ فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِهِ دَلَالَةٌ عَلَى الْمُرَادِ بِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ ، مِثْلُ خَبَرِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ لَفْظَهُ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى ( أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ ) أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ قَرَأْنَاهُ وَوَعَيْنَاهُ ، فَهَذَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ فِي فَرْضِ اللهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ } يَعْنِي فَرَضَهُ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ } يَعْنِي فِي فَرْضِهِ وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ } ( أَيْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ ) وَ { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ } يَعْنِي فُرِضَ عَلَيْكُمْ ، وَإِذَا كَانَ ( ذَلِكَ ) كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ فَنُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِاسْتِفَاضَةِ النَّقْلِ فِي لَفْظٍ لَا يَحْتَمِلُ إلَّا مَعْنًى وَاحِدًا .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ مَا وَصَفْنَا ، أَنَّهُ قَالَ : لَوْلَا أَنْ يَقُولَ النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللهِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ ، فَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ آيَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ لَكَتَبَهُ فِيهِ قَالَ النَّاسُ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُولُوهُ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ إنَّ الرَّجْمَ فِي كِتَابِ اللهِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ ( وَ ) رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الرَّجْمَ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِهِ ،
وَهَذَا اللَّفْظُ أَيْضًا لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قُرْآنًا وَغَيْرَ قُرْآنٍ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحْيٌ يُوحَى } وَرُوِيَ فِي

بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ : " إنْ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الرَّجْمِ " وَهَذَا اللَّفْظُ لَوْ ثَبَتَ لَمْ يَدُلَّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْآيَةِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ ، قَالَ تَعَالَى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ } فَسَمَّى الدَّلَالَةَ الْقَائِمَةَ مِمَّا خَلَقَ عَلَى تَوْحِيدِهِ آيَةً فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَذْكُرَ ( آيَةَ ) الرَّجْمِ وَهُوَ يَعْنِي أَنَّ مَا يُوجِبُ الرَّجْمَ أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ .
وَأَيْضًا ( فَإِنَّهُ ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْخَبَرِ مَا ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ ( الرَّجْمُ ) ثُمَّ ( كَانَ ) تَغْيِيرُ الْأَلْفَاظِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الرُّوَاةِ فَعَبَّرَ كُلٌّ مِنْهُمْ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الْمُرَادُ لِأَنَّ مِنْ الرُّوَاةِ مَنْ يَرَى نَقْلَ الْمَعْنَى ( عِنْدَهُ دُونَ ) اللَّفْظِ فَظَنَّ بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّهُ إذَا قَالَ إنَّهُ مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ قَالَ إنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنَّهُ آيَةٌ مِنْهُ فَعَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ .
فَإِنْ قِيلَ : فَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ الْقُرْآنِ كَيْفَ كَانَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ ( لَوْلَا أَنْ يَقُولَ ) النَّاسُ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللهِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ مِنْهُ .
قِيلَ لَهُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْتُبُهُ فِي آخِرِ الْمُصْحَفِ وَيُبَيِّنُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ لِيَتَّصِلَ نَقْلُهُ وَيَتَوَاتَرَ الْخَبَرُ بِهِ كَمَا يَتَّصِلُ نَقْلُ الْقُرْآنِ لِئَلَّا يَشُكَّ فِيهِ شَاكٌّ وَلَا يَجْحَدَهُ

جَاحِدٌ فَقَالَ : لَوْلَا أَنْ يَظُنَّ ظَانٌّ أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ ، أَوْ يَقُولَ قَائِلٌ : إنَّ عُمَرَ زَادَ فِي الْقُرْآنِ لَكَتَبْته فِي الْمُصْحَفِ .
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ { عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : لَقَدْ هَمَمْت أَنْ أَكْتُبَ فِي الْمُصْحَفِ شَهِدَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ رَجَمَ وَرَجَمْنَا بَعْدَهُ وَسَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ وَبِالشَّفَاعَةِ وَبِقَوْمٍ يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ } فَبَيَّنَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ مُرَادَهُ كَانَ إشَاعَتَهُ وَإِظْهَارَهُ لِيَسْتَفِيضَ نَقْلُهُ لَا أَنَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِذَلِكَ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ سَيَجِيءُ قَوْمٌ يُكَذِّبُونَ بِالرَّجْمِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيفٍ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ .
وَأَمَّا حَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، فَإِنْ ثَبَتَ وَصَحَّ فَهُوَ مِنْ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ لَا مَحَالَةَ .
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ : لَا تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ فَإِنَّهُ كُفْرٌ بِكُمْ فَلَا دَلَالَةَ ( فِيهِ ) عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَرَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ السُّنَنَ وَسَائِرَ كَلَامِ النَّاسِ يُقْرَأُ ، وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أَنَسٍ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : تَأْوِيلُكُمْ لِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ الْخَبَرُ فَإِنَّهُ مِنْ الْخَبَرِ الْمَنْسُوخِ التِّلَاوَةِ وَالرَّسْمِ كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْسُوخِ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ لَا يَعْرِفُهُ النَّاسُ وَلَا يَقْرَءُونَهُ ، وَقَدْ أَخَّرْت ثُبُوتَ الْخَبَرِ وَقِرَاءَتَهُمْ إيَّاهُ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَيْفَ يَكُونُ مَنْسُوخَ الرَّسْمِ مِمَّا بَقِيَتْ تِلَاوَتُهُ ( وَرَسْمُهُ ) إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
قِيلَ لَهُ : تَجْوِيزُنَا لِثُبُوتِ الْخَبَرِ لَا يَمْنَعُ مَا ذَكَرْنَا
وَلَا يَنْقُضُ تَأْوِيلَنَا ، لِأَنَّ الْخَبَرَ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَنْقُولُ بِعَيْنِهِ هُوَ الَّذِي كَانَ مِنْ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى نِظَامِهِ وَتَأْلِيفِهِ حَسَبَ مَا نَقَلُوهُ إلَيْنَا وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ قَدْ نَقَلُوهُ عَلَى نَظْمٍ آخَرَ وَنُسِخَ ذَلِكَ النَّظْمُ وَأُنْسِيَ مَنْ كَانَ يَحْفَظُهُ وَلَمْ يُنْسَخْ الْحُكْمُ ، فَنَقَلُوهُ بِلَفْظٍ غَيْرِ اللَّفْظِ الَّذِي كَانَ رَسْمُ الْقُرْآنِ حِينَ نُزُولِهِ إلَى أَنْ رُفِعَ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا جَائِزٌ أَنْ يَفْعَلَهُ اللَّهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَمِنْ رَسْمِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ لَا تَتَعَلَّقُ بِغَيْرِهِ ، مِنْهَا أَنَّهُ مِمَّا يَلْزَمُ الْجَمِيعَ اعْتِقَادُ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ مِنْ ( غَيْرِ ) تَغَيُّرٍ لِنَظْمِهِ وَلَا إزَالَةٍ لِتَأْلِيفِهِ فَإِذَا نُسِخَ رَسْمُهُ وَنِظَامُهُ أَسْقَطَ عَنَّا التَّعَبُّدَ بِالِاعْتِقَادِ وَاَلَّذِي أَلْزَمْنَاهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَنْسُوخٍ .
وَالثَّانِي : مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ حُكْمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ ( بِهِ ) وَأَنَّ قِرَاءَتَهُ فِيهَا لَا تُفْسِدُهَا وَإِذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ أَفْسَدَهَا .
وَالثَّالِثُ : الْعِبَادَةُ بِالتَّقَرُّبِ إلَى اللهِ تَعَالَى بِتِلَاوَتِهِ وَمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ بِقِرَاءَتِهِ .
وَالرَّابِعُ : أَنْ نَكُونَ مَأْمُورِينَ بِحِفْظِهِ وَإِثْبَاتِهِ فِي مَصَاحِفِنَا وَنَقْلِهِ عَلَى نِظَامِهِ وَتَرْتِيبِهِ .
فَهَذِهِ كُلُّهَا أَحْكَامٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِوُجُودِ رَسْمِ الْقُرْآنِ دُونَ مَعَانِيهِ وَأَحْكَامِهِ الْمَذْكُورَةِ ( فِيهِ ) فَلَا يَمْتَنِعُ إذَا

كَانَ هَذَا كَمَا وَصَفْنَا أَنْ يُنْسَخَ الرَّسْمُ فَتَزُولُ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مِنْ الْمَنْسُوخِ وَيَبْقَى حُكْمُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ السُّنَنِ كَمَا نُسِخَ رَسْمُ الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ وَتِلَاوَتُهَا وَكَثِيرٌ مِنْ أَحْكَامِهَا وَمَعَانِيهَا بَاقِيَةٌ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ وَهُوَمِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ حُكْمُ الِاعْتِقَادِ فِيهِ فَيُعْتَقَدُ فِي حَالٍ أَنَّهُ قُرْآنٌ وَفِي حَالٍ أَنَّهُ غَيْرُ قُرْآنٍ ، وَهَلَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَجُوزُ نَسْخُهَا كَأَخْبَارِ اللهِ تَعَالَى أَنَّ اعْتِقَادَنَا فِي مُخْبَرَاتِهَا لَمَّا لَمْ يَخْتَلِفْ حُكْمُهَا فِي حَالٍ فَنَعْتَقِدُ فِي حَالِ نُزُولِهَا مُوجَبَ مُخْبَرَاتِهَا وَنَعْتَقِدُ فِي حَالٍ أُخْرَى خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ نَسْخُهَا .
قِيلَ لَهُ : مَا ذَكَرْت لَا يَمْنَعُ ( نَسْخَ ) الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ إنَّمَا كَانَ ( قُرْآنًا ) لِوُجُودِهِ عَلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ النِّظَامِ الْمُعْجِزِ لِلْإِنْسِ وَالْجِنِّ ، وَاَللَّهُ قَادِرٌ عَلَى إزَالَةِ النَّظْمِ وَرَفْعِهِ مِنْ قُلُوبِ عِبَادِهِ وَأَوْهَامِهِمْ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِاَلَّذِي أَوْحَيْنَا إلَيْكَ } فَإِذَا ذَهَبَ بِهِ وَأَنْسَاهُ خَلْقَهُ لَمْ يَكُنْ قُرْآنً ، لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ لَا يُسَمَّى قُرْآنًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ وُرُودُ النَّسْخِ فِيهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ( إلَّا أَنَّ الِاعْتِقَادَ ) الْأَوَّلَ بَاقٍ فِي أَنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَى ذَلِكَ الضَّرْبِ مِنْ النِّظَامِ كَانَ قُرْآنًا حِينَ كَانَ مَوْجُودًا مَتْلُوًّا وَمَسْطُورًا ، فَإِذَا عُدِمَ ذَلِكَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْحَالِ قُرْآنًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ مُخْبِرُ أَخْبَارِ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَنَا اعْتِقَادُ مَعْنَاهُ عَلَى مَا وَقَعَ عَلَيْهِ وُرُودُ الْخَبَرِ بِهِ وَذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي وَرَدَ الْخَبَرُ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ ( فَلَا يَصِحُّ ) أَنْ نَتَعَبَّدَ بِخِلَافِ مُعْتَقَدِهِ ، وَأَمَّا النَّظْمُ الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ كَانَ قُرْآنًا إذَا زَالَ فَقَدْ زَالَ الْمَعْنَى الَّذِي مِنْ أَجْلِهِ لَزِمَ الدَّوَامُ عَلَى الِاعْتِقَادِ فِي بَقَائِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قُرْآنًا فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } .
وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لَهُ أَبَدًا وَأَنَّ الْبَيَانَ بِهِ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ إذْ لَمْ يَخُصَّ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ وَلَا قَوْمًا مِنْ قَوْمٍ ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنْ هُوَ إلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ } فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَذَلِكَ يُؤْمِنُنَا وُقُوعَ نَسْخِ تِلَاوَتِهِ وَرَسْمِهِ ، لِأَنَّ مَا رَفَعَ وَأُنْسِيَ وَلَمْ يُنْقَلْ لَا يَكُونُ ذِكْرًا لِلْعَالَمِينَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } فَأَخْبَرَ أَنَّهُ مُنْذَرٌ بِجَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي ( كُلِّ ) الْأَوْقَاتِ وَمَا رُفِعَ لَا يَصِحُّ الْإِنْذَارُ بِهِ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ ( رَفْعِهِ ) ، وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } ، فَأَخْبَرَ أَنَّ جَمِيعَهُ يَهْدِي وَلَمْ يَسْتَثْنِ وَقْتًا مِنْ وَقْتٍ فَوَجَبَ أَنْ تُوجَدَ الْهِدَايَةُ فِي جَمِيعِهِ أَبَدًا .
وَقَالَ تَعَالَى : { مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } وَذَلِكَ خَبَرٌ عَنْ جَمِيعِهِ .
وَالْجَوَابُ : بِأَنَّ جَمِيعَ مَا ذُكِرَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ كَمَا لَمْ تَمْنَعْ ( هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ ) جَوَازِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ وَمُوجِبَاتِهِ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَنْتَظِمُ شَيْئَيْنِ ، النَّظْمَ وَالْمَعْنَى ، فَإِذَا لَمْ تَمْنَعْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ جَوَازِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ لَمْ تَمْنَعْ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ ، وَكَانَتْ مَعَانِي هَذِهِ الْآيَاتِ مَحْمُولَةً عَلَى غَيْرِ جَوَازِ النَّسْخِ .

وَأَمَّا نَسْخُ الرَّسْمِ وَالتِّلَاوَةِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ فَغَيْرُ جَائِزٍ كَمَا لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْحُكْمِ ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ فِي رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ لَجَازَ مِثْلُهُ فِي أَحْكَامِهِ ، فَلَمَّا امْتَنَعَ نَسْخُ أَحْكَامِهِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ امْتَنَعَ نَسْخُ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ ، لِأَنَّ الرَّسْمَ قَدْ تُعَلَّقُ بِهِ الْأَحْكَامُ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ وَفِي نَسْخِهِ نَسْخُ تِلْكَ الْأَحْكَامِ .
وَقَدْ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِاعْتِبَارِ الْخَمْسِ رَضَعَاتٍ فِي إيجَابِ التَّحْرِيمِ بِمَا رَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ وَيَحْيَى بْنُ شُعْبَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ : { كَانَ فِيمَا نَزَلَ مِنْ الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، ثُمَّ نُسِخْنَ بِخَمْسٍ

مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، فَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ } وَفِي بَعْضِ أَلْفَاظِ هَذَا الْحَدِيثِ " وَكَانَتْ فِي صَحِيفَةٍ تَحْتَ السَّرِيرِ فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ اشْتَغَلْنَا بِدَفْنِهِ فَدَخَلَتْ دَاجِنٌ فَأَكَلَتْهَا " فَلَا يَخْلُو ( الْمُحْتَجُّ بِهَذَا ) الْحَدِيثِ مِنْ إحْدَى مَنْزِلَتَيْنِ : إمَّا أَنْ يُجِيزَ نَسْخَ رَسْمِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَوْ لَا يُجِيزَ .
فَإِذَا أَجَازَهُ ارْتَكَبَ أَمْرًا شَنِيعًا قَبِيحًا خَارِجًا عَنْ أَقَاوِيلِ الْأُمَّةِ كَطُرُقِ الْمُلْحِدِينَ الطَّاعِنِينَ فِي الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَكْثَرُهُ وَأَنَّهُ قَدْ فُقِدَ عِظَمُهُ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الْفَصْلُ بَيْنَ إجَازَةِ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ وَبَيْنَ إجَازَةِ نَسْخِ أَحْكَامِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَلَفَ ، وَإِنْ مَنَعَ جَوَازَ نَسْخِ رَسْمِهِ وَتِلَاوَتِهِ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الِاحْتِجَاجُ ( بِهِ ) ، لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَرَسْمُهُ بَاقٍ ، لِأَنَّهَا قَالَتْ : تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ مِمَّا يُقْرَأُ مِنْ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ كَانَ الْخَبَرُ ثَابِتًا عِنْدَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إثْبَاتُهُ مِنْ الْقُرْآنِ

لِأَنَّهُ قَدْ أَعْطَى امْتِنَاعَ جَوَازِ النَّسْخِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِنْ قَالَ : إنَّمَا أُثْبِتُ الْحُكْمَ دُونَ التِّلَاوَةِ كَمَا أَثْبَتَّ أَنْتَ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِمَا فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتْ الرَّسْمَ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ فِي حَرْفِ عَبْدِ اللهِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُوُفِّيَ وَهُوَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَكَوْنُهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي وَقْتٍ لَا يُوجِبُ ( كَوْنَهُ مِنْ الْقُرْآنِ ) أَبَدًا مَا دَامَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَاقِيًا فَوَجَبَ إذْ لَمْ يَثْبُتْ نَقْلُهُ قُرْآنًا مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ أَلَّا نُثْبِتَهُ قُرْآنًا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَفِي خَبَرِ عَائِشَةَ هَذَا أَنَّهُ كَانَ قُرْآنًا بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَمَا ثَبَتَ فِي ذَلِكَ ، لَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ نَسْخُهُ ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَنَّ ذَهَابَهُ كَانَ لِأَجْلِ أَنَّ الدَّاجِنَ أَكَلَ الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَ فِيهَا ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ فِي كِتَابِ اللهِ الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ أَنَّهُ كَانَ مُعَرَّضًا لِأَكْلِ الدَّاجِنِ لَهُ وَذَهَابِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا وَجْهُ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَكُمْ .
قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ عَائِشَةَ فِيهِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي رُوِيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِأَنْ تَكُونَ قَالَتْ إنَّهُ كَانَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ فِي كِتَابِ اللهِ كَيْتَ ( وَ ) كَيْتَ ، وَنَحْوُهُ مِنْ الْأَلْفَاظِ الَّتِي يُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْقُرْآنُ وَيُرَادُ بِهِ وَحْيٌ غَيْرُ قُرْآنٍ .
فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ مَعْنَى اللَّفْظَيْنِ وَاحِدٌ ، وَأَنَّ الْمُرَادَ كَانَ قُرْآنًا إلَى أَنْ تُوُفِّيَ ، فَنُقِلَ الْمَعْنَى عِنْدَهُ
عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي خَبَرِ عُمَرَ فِي الرَّجْمِ ، وَإِذَا اُحْتُمِلَ ذَلِكَ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إثْبَاتِ مَا رُوِيَ فِيهِ لَا سِيَّمَا وَهُوَ مَعْنَى يَرُدُّهُ الْكِتَابُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّا عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ }

وَنَحْوُهُ مِنْ الْآيِ الْمُقْتَضِيَةِ لِبَقَاءِ رَسْمِ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَإِنْ قِيلَ ، فَأَثْبِتُوا الْحُكْمَ وَإِنْ لَمْ تُثْبِتُوا الرَّسْمَ ( كَمَا أَثْبَتُّمْ التَّتَابُعَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ بِحَرْفِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ الرَّسْمُ ) قِيلَ لَهُ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ حَدِيثَ عَائِشَةَ لَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَاهِنًا سَقِيمًا غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ الرِّوَايَةِ فَيَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي إثْبَاتِ الْأَحْكَامِ ، أَوْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي وَرَدَ النَّقْلُ بِهِ فَلَا يَصِحُّ إثْبَاتُ حُكْمِهِ لِمَا قَدْ بَانَ مِنْ خَطَأِ الرَّاوِي لَهُ فِي نَقْلِهِ .
إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ لَفْظُهُ ثَابِتًا عَلَى مَا رُوِيَ فِيهِ ، وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا سَبِيلٌ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ حُكْمِهِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي يُقْصَدُ إلَى إثْبَاتِهِ إلَّا وَجَائِزٌ أَنْ ( يَكُونَ ) وَهُوَ مِمَّا غَلِطَ فِيهِ رَاوِيهِ كَغَلَطِهِ فِي لَفْظِهِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ حُذِفَ مِنْهُ أَيْضًا بَعْضُ لَفْظِهِ مِمَّا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ بِحُكْمِهِ عَلَى بَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَفِي بَعْضِ الْمَوْضِعَيْنِ دُونَ بَعْضٍ ، بِأَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ حُكْمًا فِي رَضَاعِ الْكَبِيرِ خَاصَّةً ، فَلَمَّا تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَةِ لَفْظِهِ وَسِيَاقَةِ مَعْنَاهُ سَقَطَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ .
وَأَمَّا حَرْفُ عَبْدِ اللهِ فِي التَّتَابُعِ : فَلَيْسَ فِي ظَاهِرِ لَفْظِهِ مَا يُدْفَعُ
، لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا مَعْنًى صَحِيحٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ وَلَيْسَ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ قَبْلَ وَفَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا نَسْخُ الْحُكْمِ مَعَ بَقَاءِ الرَّسْمِ فَمَوْجُودٌ فِي الْقُرْآنِ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ } إلَى آخِرِهَا مَنْسُوخُ الْحُكْمِ بِالْجَلْدِ تَارَةً

وَبِالرَّجْمِ أُخْرَى ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وقَوْله تَعَالَى : { مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذْرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وقَوْله تَعَالَى : { ، وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } رُوِيَ أَنَّ الصَّحِيحَ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْفِدْيَةِ فَنُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ .

فارغة

الْبَابُ الأْأَرْبَعُوْنَ: الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا النَّسْخُ
وَفِيْهِ فَصْلَانِ:
فَصْلٌ: إِذَا وَرَدَ خَبَرَانِ فِيْ أَحَدِهِمَا إِيْجَابُ شَيْءٍ وَ فِي الْآخِرِ حَظْرٌ
فَصْلٌ: حُكْمُ الزِّيَادَةِ إِذَا وَرَدَتْ وَ قَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَ لَا نَعْلَمُ تَارِيْخَهُمَا

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ فِي الْوُجُوهِ الَّتِي يُعْلَمُ بِهَا النَّسْخُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
نَسْخُ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَى وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : ( نَسْخُ جَمِيعِ الْحُكْمِ .
وَالْآخَرُ : نَسْخُ بَعْضِهِ .
وَالْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ النَّاسِخِ مِنْ الْمَنْسُوخِ ) مِنْ وُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ : الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، ثُمَّ بِدَلَائِلِ الْأُصُولِ إذَا عُدِمَ ذَلِكَ .
وَالْحُكْمُ النَّاسِخُ هُوَ الَّذِي يَرِدُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ ( وَالتَّمْكِينِ مِنْ فِعْلِهِ مِمَّا يُنَافِي بَقَاءَ حُكْمِ الْمَنْسُوخِ ) وَيَمْتَنِعُ مَعَهُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْآخَرُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَإِنْ اقْتَضَى زَوَالَ ( جَمِيعِهِ ، وَإِنْ اقْتَضَى ) بَعْضَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لِذَلِكَ الْبَعْضِ .
فَأَمَّا نَسْخُ الْجَمِيعِ : فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } رُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ حَرُمَ عَلَيْهِمْ الْجِمَاعُ وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } الْآيَةُ فَأَبَاحَ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ وَالْجِمَاعَ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ ، وَنَحْوُهُ قَوْله تَعَالَى : { فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ } وَ ( نَحْوُ ) قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا

الَّذِي بَيْنَك وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } .
وَأَمَّا نَسْخُ بَعْضِ الْحُكْمِ : فَنَحْوُ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ إنَّمَا نُسِخَ مِنْهَا التَّوَجُّهُ إلَى هُنَاكَ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا بَاقِيَةٌ ، وَصَلَاةُ اللَّيْلِ نُسِخَ مِنْهَا الْوُجُوبُ وَسَائِرُ أَحْكَامِهَا بَاقِيَةٌ ، مِنْ أَوْصَافِ أَفْعَالِهَا وَشَرَائِطِهَا وَكَوْنِهَا قُرْبَةً ثَابِتَةً ، وَنَحْوُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْجَلْدِ عَلَى قَاذِفِ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالزَّوْجَاتِ بِقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةُ ثُمَّ نَسَخَ الْجَلْدَ عَنْ قَاذِفِ الزَّوْجَاتِ وَأَوْجَبَ اللِّعَانَ إذَا كَانَا عَلَى صِفَةٍ .
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَدَّ الْجَمِيعِ كَانَ الْجَلْدَ { قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ قَذَفَ امْرَأَتَهُ : ائْتِنِي بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِكَ ، وَقَالَتْ الْأَنْصَارُ : الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ ، وَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ } .
وَلَمْ يُوجِبْ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ غَيْرَ الْجَلْدِ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ أَمَرَهُ بِاللِّعَانِ وَلَمْ يَجِدْهُ .
وَإِذَا عُرِفَ تَارِيخُ الْحُكْمَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ التَّعَبُّدِ بِهِمَا فِي حَالِ وَاحِدَةٍ

لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَإِنْ الْآخِرَ مِنْهُمَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَّبِعُونَ الْأَحْدَثَ فَالْأَحْدَثَ مِنْ أَمْرِهِ " .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ النَّسْخَ يَقَعُ بِمَا لَا تَصِحُّ الْعِبَادَةُ بِهِ مَعَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ وَلَا يَكُونُ نَسْخًا ، لِأَنَّ مَا جَازَتْ الْعِبَادَةُ بِهِ فِي حَالٍ ( وَاحِدَةٍ ) لِشَخْصٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ فِي تَكْلِيفِ أَحَدِهِمَا مَا يَنْفِي لُزُومَ الْآخَرِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَا جَمِيعًا إذَا وَرَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ : أَنَّهُ كَانَ ( يَصِحُّ ) التَّعَبُّدُ بِهِمَا مَعًا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا لَمْ يَتَنَافَيَا
إذَا وَرَدَا مَعًا وَجَبَ أَلَّا يَتَنَافَيَا إذَا وَرَدَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ ، أَلَا ( تَرَى ) أَنَّ الصَّلَاةَ وَالصِّيَامَ لَمَّا صَحَّ الْأَمْرُ بِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ وَلَا مَانِعًا ( مِنْ بَقَاءِ ) حُكْمِهِ إذَا وَرَدَ بَعْدَهُ ، وَهَذَا الِاعْتِبَارُ وَاجِبٌ فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِبَادَاتِ .
وَقَدْ يَرِدُ حُكْمٌ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ وُرُودُهُ عَقِيبَ نَسْخِ الْأَوَّلِ ، فَيُطْلِقُ ( بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْأَوَّلَ مَنْسُوخٌ بِالثَّانِي وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ ) فِي الْحَقِيقَةِ وَاقِعًا بِغَيْرِهِ ، وَإِطْلَاقُ هَذَا مَجَازٌ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحَقِيقَةٍ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا نَسْخًا لِأَنَّهُ وَرَدَ عَقِيبَ النَّسْخِ مُتَّصِلًا بِهِ وَسُمِّيَ بِاسْمِهِ ، كَمَا يُسَمَّى ( الشَّيْءُ ) بِاسْمِ غَيْرِهِ إذَا كَانَ مُجَاوِرًا لَهُ وَكَانَ مِنْهُ بِسَبَبٍ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } إلَى آخِرِ الْقِصَّةِ ، فَرُوِيَ أَنَّ هَذَا كَانَ حَدَّ الزَّانِيَيْنِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ .

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَهُوَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّا لَوْ خَلَّيْنَا وَالْآيَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ ( بَيْنَ ) حُكْمِهِمَا عَلَى شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، فَيَكُونُ حَدُّهُ الْحَبْسَ وَالْأَذَى وَالْجَلْدَ مَعَ ذَلِكَ ، فَلَا يَكُونُ وُجُوبُ جَلْدِ غَيْرِ الْمُحْصَنِ مَانِعًا مِنْ بَقَاءِ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُزِيلًا لَهُمَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، إلَّا أَنَّهُ ( كَانَ ) يَكُونُ نَسْخًا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ عِنْدَنَا لِمَا سَنُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، فَعَلِمْنَا أَنَّ زَوَالَ حُكْمِ الْحَبْسِ وَالْأَذَى لَمْ يَتَعَلَّقْ بِوُجُوبِ الْجَلْدِ وَإِنَّمَا
تَعَلَّقَ بِشَيْءٍ غَيْرِهِ ، فَلَمَّا أَوْجَبَ الْجَلْدَ عَلَى الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ عِنْدَ نَسْخِهِمَا ، أَطْلَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ نَسَخَهُ .
وَهَذَا الَّذِي قُلْنَاهُ هُوَ فِي الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ ، فَأَمَّا الزَّانِي الْمُحْصَنُ فَهَذَا الْحُكْمُ لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخٌ عَنْهُ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إيجَابِهِ الرَّجْمَ عَلَى الْمُحْصَنِ ، إذْ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ ( الرَّجْمِ وَالْحَبْسِ وَالْأَذَى ) .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَدْ كَانَ يَصِحُّ اجْتِمَاعُ الْحَبْسِ وَالْأَذَى وَالرَّجْمِ عَلَيْهِ وَيَكُونَانِ جَمِيعًا عُقُوبَتَهُ ، بِأَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ بَعْدَ الْحَبْسِ وَالْأَذَى .
قِيلَ لَهُ : أَمَّا الَّذِي فِي الْآيَةِ ( مِنْ ذَلِكَ ) فَلَمْ يَكُنْ يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الرَّجْمِ ، لِأَنَّهُ قَالَ : { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَكَانَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى هُمَا الْحَدَّ إلَى أَنْ تَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهَا أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهَا سَبِيلًا غَيْرَهُمَا ، وَوُقُوعُ الرَّجْمِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ ، فَقَدْ نَسَخَ الرَّجْمُ هَذَا الْحُكْمَ بِحَيْثُ لَمْ يَصِحَّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .

وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى : إنَّ الرَّجْمَ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالزِّنَى ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ حَدُّهُمَا الْحَبْسَ وَالْأَذَى فِي الْحَالِ الَّتِي أَبْدَلَ مَكَانَهَا الرَّجْمَ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ ثُبُوتُ ( الْحَبْسِ وَالْأَذَى ) فِي الْحَالِ الَّتِي وَجَبَ فِيهَا الرَّجْمُ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الرَّجْمِ يُنَافِيهِمَا ، فَثَبَتَ أَنَّهُمَا مَنْسُوخَانِ بِهِ عَلَى الْحَقِيقَةِ .
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } وَهَذَا يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - السَّبِيلَ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى : { حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } فَأَخْبَرَ بِزَوَالِ الْحَبْسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ حَبْسَهُنَّ إلَى وَقْتِ وُرُودِ السَّبِيلِ ،
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( ذَلِكَ ) السَّبِيلَ ، وَأَخْبَرَ بِنَسْخِ حُكْمِ الْآيَةِ عَنْ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ لَا بِإِيجَابِ الْجَلْدِ ، لَكِنْ بِمَعْنًى غَيْرِهِ ، وَنَسَخَهُ عَنْ الْمُحْصَنِ بِالرَّجْمِ ، لِأَنَّ وُقُوعَ الرَّجْمِ يُنَافِي الْحَبْسَ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } ، قِيلَ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْمِيرَاثِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ وُجُوبَ الْمِيرَاثِ لَمْ يَكُنْ يُنَافِي بَقَاءَ الْوَصِيَّةِ فَيَسْتَحِقُّهَا جَمِيعًا مَعًا ، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا نُسِخَتْ الْوَصِيَّةُ وَأَوْجَبَ عَقِيبَهَا الْمِيرَاثَ ، قِيلَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِهِ .
وَلَوْ خُلِّينَا وَالْآيَتَيْنِ لَاسْتَعْمَلْنَاهُمَا جَمِيعًا ، وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِصِيَامِ عَاشُورَاءَ ثُمَّ نُسِخَ بِصِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ } وَأَنَّ الزَّكَاةَ نَسَخَتْ كُلَّ صَدَقَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَهَا ، وَأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ نَسَخَتْ كُلَّ ذَبِيحَةٍ كَانَتْ وَاجِبَةً قَبْلَهَا ، وَأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ } مَنْسُوخٌ بِإِيجَابِ الْغُسْلِ بِالْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ يَمْتَنِعُ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلِمْنَا

أَنَّ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَمْ يُنْسَخْ بِالْأَحْكَامِ الْوَارِدَةِ بَعْدَهَا ، فَإِنَّ مَنْ سَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا فَإِنَّمَا سَمَّاهُ ( بِهِ ) مَجَازًا لَا حَقِيقَةً ، لِأَنَّهُ لَمَّا نُسِخَ الْأَوَّلُ وَجَبَ الثَّانِي عَقِيبَهُ وَإِنْ كَانَ النَّسْخُ وَاقِعًا لِغَيْرِهِ.
وَأَمَّا كُلُّ حُكْمَيْنِ لَا يَصِحُّ مَجِيءُ التَّعَبُّدِ بِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ إذَا وَرَدَ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ } مَتَى اسْتَقَرَّ هَذَا الْحُكْمُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } فَأَوْجَبَ ذَلِكَ نَسْخَ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ فِيهِ ، إذْ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : قَدْ خَيَّرْتُك بَيْنَ الْحُكْمِ وَالْإِعْرَاضِ وَمَعَ ذَلِكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مِنْ غَيْرِ إعْرَاضٍ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاقَضُ بِهِ وَيَسْتَحِيلُ مَعْنَاهُ ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَنَعْنَا أَنْ يَعْتَرِضَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا صَلَاةَ إلَّا بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ } عَلَى قَوْله تَعَالَى : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْ الْقُرْآنِ } لِأَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ التَّخْيِيرَ فِي الْمَفْرُوضِ مِنْ الْقِرَاءَةِ ، وَإِذَا حُمِلَ مَعْنَى التَّخْيِيرِ عَلَى تَعْيِينِ فَرْضِ الْقِرَاءَةِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ أَوْجَبَ إسْقَاطَ التَّخْيِيرِ الَّذِي فِي الْآيَةِ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ .
وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا } فَأَوْجَبَ عَلَى الْعِشْرِينَ مُقَاوَمَةَ الْمِائَتَيْنِ وَعَلَى الْمِائَةِ مُقَاوَمَةَ الْأَلْفِ وَحَظَرَ عَلَيْهِمْ الْفِرَارَ مِنْهُمْ ثُمَّ قَالَ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ } فَصَارَ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ اجْتِمَاعِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ فَثَبَتَ نَسْخُ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي ، وَمِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قُلْنَا : إنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ ( يُوجِبُ نَسْخُهُ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ ، وَكَذَلِكَ النَّصُّ إذَا وَرَدَ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ

الزِّيَادَةِ بَعْدَ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ مَعَ النَّصِّ وَاسْتِقْرَارِ ) حُكْمِهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلزِّيَادَةِ ، وَذَلِكَ ( لِاسْتِحَالَةِ ) جَمْعِهِمَا فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، فَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } اقْتَضَى ظَاهِرُهُ وَحَقِيقَتُهُ جَوَازَ الصَّلَاةِ بِغَسْلِ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَصَارَ كَقَوْلِهِ :قَدْ أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ بِغَسْلِهَا دُونَ وُجُودِ النِّيَّةِ فِيهِ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ مَعَ ذَلِكَ النِّيَّةُ وَاجِبَةٌ فِي غَسْلِهَا فَإِنْ لَمْ تَنْوُوا بِهِ الطَّهَارَةَ لَمْ تُجْزِكُمْ صَلَاتُكُمْ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } الْآيَةُ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُ مَعَ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ مَعَ اسْتِعْمَالِ حُكْمِ الْآيَةِ عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا ، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : ( قَدْ ) أَوْجَبْت عَلَيْكُمْ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدَيْنِ وَالرَّجُلِ وَالْمَرْأَتَيْنِ دُونَ غَيْرِهِمْ ، وَأَجَزْت لَكُمْ مَعَ ذَلِكَ الْحُكْمَ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ يَتَنَاقَضُ وَيَسْتَحِيلُ مَعْنَاهُ .
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمِائَةُ حَدَّهُمَا ( وَأَنَّ وُجُودَهُمَا ) يُوجِبُ وُقُوعَهَا مَوْقِعَ الْجَوَازِ وَاسْتِيفَاءُ كَمَالِ الْحَدِّ بِهَا فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَقُولَ بَعْدَ ذَلِكَ : هَذَا بَعْضُ الْحَدِّ دُونَ جَمِيعِهِ وَأَنَّ كَمَالَهُ بِوُجُودِ النَّفْيِ مَعَهُ .
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرٌ فَلَمَّا امْتَنَعَ وُجُودُهُمَا فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُوجِبًا لِنَسْخِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ وُرُودِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ فِي كَوْنِهَا نَاسِخًا لِلنَّصِّ الْمُتَقَدِّمِ لَهُ الْمَعْقُودِ بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ ، وَبَيْنَ وُرُودِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ وُرُودِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا ، فَأَمَّا وُرُودُ النَّصِّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَاقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى ذِكْرِ الْجَلْدِ دُونَ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ ، وَقَدْ كَانَ تَقَدَّمَ قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذِكْرُ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ مَعَ الْجَلْدِ فِي حَالِ وُجُودِ الْإِحْصَانِ أَوْ عَدَمِهِ بِقَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ،الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } وَبِهِ نُسِخَ الْحَبْسُ وَالْأَذَى لِأَنَّ هَذَا السَّبِيلَ هُوَ السَّبِيلُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى : { أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَعَلِمْنَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } لَمْ يَكُنْ نَزَلَ حِينَئِذٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ

كَانَ نَزَلَ لَكَانَ السَّبِيلُ قَدْ جُعِلَ لَهُنَّ قَبْلَ قَوْلِهِ : { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا } فَلَمَّا أَخْبَرَ أَنَّ السَّبِيلَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ مَأْخُوذٌ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ عُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تَكُنْ نَزَلَتْ قَبْلَهُ ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْآيَةُ بَعْدَهُ مُنْفَرِدَةً عَنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهَا مُسْتَعْمَلًا عَلَى حَسَبِ مُقْتَضَاهَا وَمُوجِبِهَا فَيَكُونُ الْجَلْدُ الْمَذْكُورُ فِيهَا ( هُوَ ) كَمَالُ الْحَدِّ وَتَكُونُ نَاسِخَةً لِلنَّفْيِ وَالرَّجْمِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي الْخَبَرِ حَدًّا مَعَ الْجَلْدِ .
فَإِنْ ( قَالَ قَائِلٌ ) قَدْ قُلْت فِيمَا سَلَفَ : إنَّ النَّسْخَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ وُرُودُ الْأَمْرِ بِهِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ وَأَنَّ مَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُ ذِكْرِهِ مَعَ الْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ لَمْ يَصِحَّ نَسْخُهُ بِهِ ، وَالزِّيَادَةُ مَعَ الْأَصْلِ مِمَّا يَصِحُّ وُجُودُهُ مَعَهُ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ فِيمَا ذَكَرْنَا ( إلَى هَاهُنَا ) مِنْ حُكْمِ أَحْكَامِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ نَفْيٌ لِمَا قُلْنَا مِنْ اعْتِبَارِ جَوَازِ النَّسْخِ فِي الْأَصْلِ بَلْ هُمَا جَمِيعًا صَحِيحَانِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّا قُلْنَا إنَّ مَا ( لَا ) يَصِحُّ وُرُودُ التَّعَبُّدِ بِهِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى يَكُونَ مَأْمُورًا بِاعْتِقَادِ الْحُكْمِ عَلَى وَجْهٍ وَمَأْمُورًا أَيْضًا فِي تِلْكَ الْحَالِ بِاعْتِقَادِهِ عَلَى خِلَافِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَلْزَمُهُ تَنْفِيذُ الْحُكْمِ ، لَا يَصِحُّ وُرُودُ النَّصِّ بِهِ نَحْوُ مَا ذَكَرْنَا فِي أَنَّ الْآيَةَ إذَا كَانَتْ مُوجِبَةً لِكَوْنِ الْحَدِّ ( جَلْدَ مِائَةٍ فَقَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ
كَوْنِهِ ) حَدًّا كَامِلًا ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : فَاعْتَقِدُوا فِي هَذِهِ الْحَالِ أَيْضًا أَنَّ جَلْدَ الْمِائَةِ هُوَ بَعْضُ الْحَدِّ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ هُوَ بَعْضَ الْحَدِّ وَهُوَ جَمِيعُهُ ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةٌ ، وَعِدَّتُهَا أَيْضًا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ ، فَلَا يَصِحُّ الْأَمْرُ بِاعْتِقَادِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمُدَّتَيْنِ عِدَّةً كَامِلَةً فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ، وَأَمَّا مَا قُلْنَا فِي اعْتِبَارِ جَوَازِ النَّسْخِ بِاجْتِمَاعِ ذِكْرِ الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْرَيْنِ مُدَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُدَّةِ الْآخَرِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً

لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ } فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } فَكَانَ نَاسِخًا لِمَا عَدَا هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْحَوْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وَقَدْ كَانَ يَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ بِأَنْ نَتَعَبَّدَ بِهِمَا فِي حَالَيْنِ بِجَوَازِ أَنْ تَقُولَ : عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا حَوْلٌ إلَى أَنْ يَمْضِيَ خَمْسُ سِنِينَ فَإِذَا مَضَتْ السُّنُونَ الْخَمْسُ كَانَتْ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا ( زَوْجُهَا ) أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَا ذَكَرْت مِنْ حُكْمِ الزِّيَادَةِ فِي النَّصِّ لَا يَقْتَضِي مَا ذَكَرْت مِنْ إيجَابِهَا النَّسْخَ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ تَقُولَ : حَدُّ الزَّانِيَيْنِ الْجَلْدُ وَالنَّفْيُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ أَوْ شَاهِدًا وَيَمِينًا ، وَأَنَّ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ فَرْضٌ مَعَ إحْضَارِ النِّيَّةِ لَهُ وَلَا يَتَنَاقَضُ الْخِطَابُ بِهِ ، فَلَيْسَ ( فِي ) وُرُودِ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْآخَرِ مَا يُوجِبُ النَّسْخَ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا سُؤَالٌ سَاقِطٌ مُحَالٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِأَنَّهُمَا إذَا وَرَدَا مَعًا لَا يَكُونَانِ زِيَادَةً فِي النَّصِّ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَذْكُورُ جَمِيعَ النَّصِّ ، لِأَنَّ مَا جَمَعَهُ أَمْرٌ وَاحِدٌ ( وَخِطَابٌ وَاحِدٌ ) لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ بَعْضَهُ زِيَادَةٌ فِي بَعْضٍ وَإِنَّمَا الزِّيَادَةُ فِي النَّصِّ ، ( أَنْ يَرِدَ النَّصُّ مُفْرَدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ تَرِدُ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً عَنْ خِطَابِ النَّصِّ ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَتَكُونُ الْآيَةُ مُوجِبَةً لِكَوْنِ جَلْدِ الْمِائَةِ حَدًّا وَاقِعًا مَوْقِعَ الْجَوَازِ فِي عِقَابِ الزَّانِي ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : فَاجْلِدُوهُمْ مِائَةَ ( جَلْدَةٍ ) وَانْفُوهُمْ فَقَدْ تَغَيَّرَ بِوُرُودِ الزِّيَادَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ اعْتِقَادُ مُوجَبِ حُكْمِ الْآيَةِ فَكُلُّ مَا وَرَدَ بَعْدَهُ مِمَّا يُوجِبُ زِيَادَةً فِيهِ أَوْ نُقْصَانًا مِنْهُ فَهُوَ لَا مَحَالَةَ نَسْخٌ لِاسْتِحَالَةِ وُرُودِ الْخِطَابِ ( بِهِ ) فِي أَمْرٍ وَاحِدٍ ، بَلْ يَقُولُ :

جَلْدُ الْمِائَةِ هُوَ جَمِيعُ الْحَدِّ وَهُوَ بَعْضُهُ ، فَأَمَّا أَنْ يَرِدَا مَعًا فَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَا يَكُونُ زِيَادَةً ، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا سَنَةً وَيَكُونُ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرُ دَاخِلَةً فِيهَا وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُولَ : الْعِدَّةُ سَنَةٌ وَالْعِدَّةُ أَرْبَعَةٌ وَعَشْرٌ ، وَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ أَنْ نَقُولَ : صَلُّوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَإِلَى الْكَعْبَةِ ، وَيَمْتَنِعُ أَنْ نَقُولَ صَلُّوا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلُّوا إلَى الْكَعْبَةِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ .
وَمَتَى اسْتَقَرَّ أَحَدُهُمَا ثُمَّ وَرَدَ الْآخَرُ كَانَ نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ( هَاهُنَا ) فِي النَّصِّ ( هِيَ ) عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
وَأَيْضًا فَإِنَّا نَقُولُ فِي الزِّيَادَةِ ( كَمَا يَقُولُ مُخَالِفُنَا مَعَنَا فِي النُّقْصَانِ : فَلَمَّا كَانَ النُّقْصَانُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْفَرْضِيِّ نَسْخًا كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ) وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ : الْعِدَّةُ سَنَةٌ ، ثُمَّ يَقُولُ :
الْعِدَّةُ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا ، وَلَوْ جَمَعَهُمَا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ بِأَنْ قَالَ : الْعِدَّةُ سَنَةٌ إلَّا ( كَذَا وَكَذَا وَشَهْرًا ) لَمْ يَكُنْ نَسْخًا ، كَذَلِكَ الزِّيَادَةُ إذَا وَرَدَتْ مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ فَلَيْسَ بِنَسْخٍ وَإِذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِ النَّصِّ كَانَ نَسْخًا ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إنَّمَا هُوَ كَلَامٌ فِي الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ النَّصِّ ، فَأَمَّا إذَا أُورِدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ ( وَوَرَدَتْ الزِّيَادَةُ ) وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا فَإِنَّ هَذَا لَهُ شَرِيطَةٌ أُخْرَى غَيْرُ مَا كُنَّا فِيهِ ، وَسَنَذْكُرُهَا أَيْضًا فِيمَا بَعْدُ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِنْهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ بَيَّنَّا كَيْفِيَّةَ وُجُودِ النَّسْخِ .
وَنُبَيِّنُ الْآنَ الْوُجُوهَ الَّتِي تُوصِلُ إلَى الْعِلْمِ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مِنْ الْجِهَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَنَّ النَّسْخَ يَقَعُ بِهَا .
فَنَقُولُ : إنَّ مَا يُعْلَمُ بِهِ النَّسْخُ عَلَى وُجُوهٍ ، مِنْهَا أَنْ يَرِدَ لَفْظٌ يَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا مَعَ ذِكْرِ تَارِيخِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ عَلَى سَامِعِهِمَا أَنَّ الثَّانِيَ مِنْهُمَا فِي التَّارِيخِ نَاسِخٌ ( لِلْأَوَّلِ ) نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى قَبْلَ ذَلِكَ : { سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنْ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا } فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا عَلَى قِبْلَةٍ غَيْرِهَا ثُمَّ حُوِّلُوا إلَيْهَا وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } فَكَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا ثُمَّ قَالَ : { الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا } إلَى آخِرِ الْآيَةِ فَدَلَّ ذِكْرُهُ لِلتَّخْفِيفِ أَنَّهُ وَارِدٌ بَعْدَ حُكْمٍ هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ فَصَارَ نَاسِخًا لَهُ ، وَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { إنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يَعْنِي فَخَفَّفَ عَنْكُمْ وَهَذَا بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا } ثُمَّ قَالَ : { عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى } إلَى آخِرِ السُّورَةِ فَاقْتَضَتْ الْقِصَّةُ بِفَحْوَاهَا وَمَضْمُونِ خِطَابِهَا أَنَّ فَرْضَ صَلَاةِ اللَّيْلِ مَنْسُوخٌ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ إبَاحَةِ تَرْكِهَا ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ } ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ }
يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - سَهَّلَ عَلَيْكُمْ وَخَفَّفَ عَنْكُمْ ، فَدَلَّ عَلَى نَسْخِ حَظْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي رَمَضَانَ ، فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ ذِكْرَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ .
وَالسُّنَّةُ عَلَى وَجْهَيْنِ ، قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَفِعْلٌ ، وَقَدْ يَقَعُ النَّسْخُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
فَأَمَّا النَّسْخُ بِالسُّنَّةِ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ فَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فَزُورُوهَا } ، وَ { كُنْت نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْأَوْعِيَةِ ، فَاشْرَبُوا وَلَا تَسْكَرُوا } ، وَ { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، فَكُلُوا وَادَّخِرُوا } فَانْتَظَمَ الْخَبَرُ ذِكْرَ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا .

وَكَمَا رَوَى عَبْدُ اللهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، ثُمَّ قَالَ مَالِي وَلِلْكِلَابِ ثُمَّ رَخَّصَ فِي كَلْبِ الصَّيْدِ } .
وَقَالَ جَابِرٌ { أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ثُمَّ أَذِنَ لِطَوَائِفَ } فَهَذِهِ الْآيَةُ وَالْأَخْبَارُ مِمَّا نُقِلَ إلَيْنَا فِيهِ حُكْمُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ وَكُلُّ مَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ فَلَا إشْكَالَ عَلَى أَحَدٍ فِي حُكْمِهِ .
وَأَمَّا النَّسْخُ مِنْ جِهَةِ الْفِعْلِ فَنَحْوُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ فَإِنْ عَادَ فَاجْلِدُوهُ ثُمَّ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : فَإِنْ عَادَ فَاقْتُلُوهُ } ثُمَّ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ أُتِيَ بِشَارِبِ الْخَمْرِ فِي الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَقْتُلْهُ } وَمِثْلُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَكَلَ لَحْمًا وَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ } نُسِخَ بِهِ مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ { تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } .
وَمِنْ الْأَلْفَاظِ مَا يُوجِبُ النَّسْخَ مِنْ جِهَةِ قِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَى تَأَخُّرِ حُكْمِهَا عَنْ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ الْمَنْسُوخُ مَذْكُورًا مَعَهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } ، فَمَنَعَ تَخْلِيَةَ سَبِيلِهِمْ إلَّا بِشَرْطِ الْإِيمَانِ .
وَرُوِيَ أَنَّ سُورَةَ " بَرَاءَةٌ " مِنْ آخِرِ مَا أُنْزِلَ مِنْ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِلْفِدَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّهُ رَضَخَ رَأْسَ يَهُودِيٍّ قَتَلَ جَارِيَةً عَلَى أَوْضَاحٍ

لَهَا }
{ وَأَنَّهُ قَطَعَ أَيْدِيَ الْعُرَنِيِّينَ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ لَمَّا ارْتَدُّوا وَقَتَلُوا رَاعِيَ الْإِبِلِ وَسَاقُوهَا } .
وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَشْعَرَ الْبُدْنَ ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَخْبَارٍ مُسْتَفِيضَةٍ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ } ، وَقَالَ سَمُرَةُ ( بْنُ جُنْدَبٍ ) { مَا خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا وَأَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } فَاقْتَضَى ذَلِكَ وُجُوبَ النَّهْيِ عَنْهَا فِي آخِرِ خُطْبَةٍ خَطَبَهَا ، فَيَكُونُ نَاسِخًا لِسَمْلِ أَعْيُنِ الْمُحَارَبِينَ وَرَضْخِ الرَّأْسِ عَلَى وَجْهِ الْقِصَاصِ وَإِشْعَارِ الْبُدْنِ لِأَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ الْمُثْلَةِ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بِالْهَجِيرِ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ، ثُمَّ قَالَ : أَبْرِدُوا بِالظُّهْرِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ } فَأَخْبَرَنَا بِأَنَّ الْأَمْرَ بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ

كَانَ مُتَأَخِّرًا ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى خَبَرِ خَبَّابٍ { شَكَوْنَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّ الرَّمْضَاءِ فَلَمْ يُشْكِنَا } لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ كَانَ
مُتَأَخِّرًا .
وَمِنْ الْأَلْفَاظِ الدَّالَّةِ عَلَى تَأْخِيرِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ عَنْ الْآخَرِ : مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حُكْمَ وُجُوبِ الْقَوَدِ مُتَقَدِّمٌ لِهَذَا الْخَبَرِ لِأَنَّهُ لَا يَذْكُرُ كَيْفِيَّةَ الْقَوَدِ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ وُجُوبِهِ فَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْتَدِلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } عَلَى إيجَابِ الْقَوَدِ بِكُلِّ مَا قُتِلَ بِهِ لِأَنَّ إيجَابَ الْقَوَدِ بِالسَّيْفِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فَهُوَ قَاضٍ عَلَيْهِ .
وَنَحْوُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلُ السَّوْطِ وَالْعَصَا فِيهِ الدِّيَةُ مُغَلَّظَةً } فَلَمْ يَذْكُرْ خَطَأَ الْعَمْدِ إلَّا وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْعَمْدِ وَالْخَطَأِ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ { فِي شَاةِ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ حِينَ رَآهَا مَيِّتَةٌ : هَلَّا انْتَفَعْتُمْ بِإِهَابِهَا فَقَالُوا إنَّهَا مَيِّتَةٌ } فَدَلَّ عَلَى

أَنَّ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ كَانَ مُقَدَّمًا لِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { إنَّمَا الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ } يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ إيجَابُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ مُتَقَدِّمًا لِهَذَا الْخَبَرِ ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ إخْبَارُ الصَّحَابِيِّ وَالتَّابِعِيِّ عَنْ تَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ ( عِيَارًا فِي ) هَذَا الْبَابُ ، فَيُوجَبُ بِهِ النَّسْخُ نَحْوُ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } ( نَزَلَ ) بَعْدَ قَوْله تَعَالَى : { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ }
وَنَحْوِ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ لَهُ الرَّضْعَةَ الرَّضْعَتَانِ قَالَ : قَدْ كَانَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا الْيَوْمُ فَلَا فَأَخْبَرَ عَنْ تَقَدُّمِ عِلْمِهِ بِهَذَا الْخَبَرِ وَأَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ ، وَإِنْ ( كَانَ ) حُكْمُهُ غَيْرَ

ثَابِتٍ الْآنَ فَصَارَ ذَلِكَ إخْبَارًا مِنْهُ بِنَسْخِهِ وَتَارِيخِ حُكْمِهِ .
وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَدَّ زَيْنَبَ ابْنَتَهُ عَلَيْهَا السَّلَامُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ وَكَانَتْ هَاجَرَتْ وَبَقِيَ هُوَ مُشْرِكًا ثُمَّ جَاءَ مُسْلِمًا بَعْدَ سِنِينَ } .
قَالَ الزُّهْرِيُّ وَكَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ .
" وَنَحْوُهُ مَا رُوِيَ مِنْ قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ فِي الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : ( إنَّمَا ) كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ اسْتَحْكَمَتْ الْفَرَائِضُ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ الصَّحَابِيَّ وَالتَّابِعِيَّ إذَا أُخْبِرَا بِنَسْخِ حُكْمٍ كَانَ خَبَرُهُمَا مَقْبُولًا فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّارِيخِ لَا سَبِيلَ إلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ .
( اجْتِهَادِ الرَّأْيِ ) وَإِنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ جِهَةِ السَّمَاعِ وَالتَّوْقِيفِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقِلَّ ( ذَلِكَ ) إلَّا مِنْ جِهَةِ ( التَّوْقِيفِ ) .
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الَّتِي ذَكَرْنَا

مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِمَّا أَوْصَلَ إلَى الْعِلْمِ بِتَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ ، إمَّا بِذِكْرِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ مَعًا مَعَ ذِكْرِ تَارِيخِهِمَا ، أَوْ بِذِكْرِ النَّاسِخِ وَتَارِيخِهِ دُونَ ذِكْرِ الْمَنْسُوخِ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ أَوْ فَحْوَى الْخِطَابِ وَدَلَالَتِهِ .
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ فَقَدْ ذَكَرَهُ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ : إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ لِلْآخَرِ ، فَاسْتَدَلَّ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى النَّسْخِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَسْنَا نَقُولُ إنَّ الْإِجْمَاعَ يُوجِبُ النَّسْخَ ، لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَالْمَرْجِعُ إلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِمَنْ كَانَ فِي حَضْرَتِهِ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْإِجْمَاعِ فِيهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّسْخَ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ طَرِيقِ التَّوْقِيفِ ، وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، إلَّا أَنَّ الْإِجْمَاعَ إذَا حَصَلَ عَلَى زَوَالِ حُكْمٍ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِتَوْقِيفٍ ، وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا اللَّفْظُ النَّاسِخُ لَهُ .
فَمِمَّا دَلَّنَا الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا } وَلَمْ يُعْلَمْ زَوَالُ هَذَا الْحُكْمِ إلَّا مِنْ طَرِيقِ الْإِجْمَاعِ .
وَنَحْوُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَلْيَغْتَسِلْ وَمِنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ } وَحَدِيثُ سَلَمَةَ بْنِ الْمُحَبِّقِ { فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنْ كَانَتْ طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ اسْتَكْرَهَهَا فَهِيَ حُرَّةٌ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا }
وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِيمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ أَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَذِنَتْ لَهُ جُلِدَ مِائَةً

وَإِنْ لَمْ تَكُنْ امْرَأَتُهُ أَذِنَتْ لَهُ فَعَلَيْهِ الرَّجْمُ } .
فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ( لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُهَا إلَّا بِدَلَالَةِ ) الْإِجْمَاعِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا اعْتِبَارُ دَلَائِلِ النَّظَرِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْحُكْمَيْنِ فَإِنَّمَا يَجِبُ فِيمَا لَا يُعْرَفُ تَارِيخُهُ مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي بَيَّنَّا ، فَيُرْجَعُ فِيهِ إلَى شَوَاهِدِ الْأُصُولِ وَدَلَائِلِ النَّظَرِ فَيَثْبُتُ مِنْهُ مَا أَثْبَتَهُ وَيَنْتَفِي ( مِنْهُ ) مَا نَفَتْهُ وَقَدْ ذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى جُمْلَةً يُعْرَفُ بِهَا عَامَّةُ هَذَا الْبَابِ مِنْ فَهْمِ مَعَانِي كَلَامِهِ .
قَالَ عِيسَى : إذَا رُوِيَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ وَالنَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِمَا وَاسْتِعْمَالُ أَشْبَهِهِمَا بِالْأُصُولِ ، وَإِنْ عُلِمَ تَارِيخُهُمَا فَالْآخَرُ نَاسِخُ الْأَوَّلِ إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمُوَافَقَةَ وَإِنْ احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ ( فِيهِ ) .
وَإِنْ عَمِلَ النَّاسُ بِالْأَوَّلِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي أَيْدِي أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ خَامِلٌ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ نَظَرُهُ ، فَإِنْ سَوَّغَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ ، وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ كَانَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ ، لِأَنَّ النَّسْخَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَمَا عَرَفُوا الْأَوَّلَ وَلَظَهَرَ النَّسْخُ مِنْهُمْ كَمَا ظَهَرَ الْفَرْضُ الْأَوَّلُ ، حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْهُ إلَّا الْقَلِيلُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لُحُومَ الْأَضَاحِيِّ قَدْ ظَهَرَتْ الْإِبَاحَةُ فِيهَا كَمَا ظَهَرَ الْحَظْرُ ، وَكَذَلِكَ زِيَارَةُ الْقُبُورِ ، وَإِبَاحَةُ الظُّرُوفِ ، وَمُتْعَةُ النِّسَاءِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : ( أَمَّا قَوْلُهُ ) أَمَّا إذَا كَانَ النَّاسُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَهُوَ النَّاسِخُ ، فَإِنَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَتْ صِحَّةُ ( حُجَّةِ ) الْإِجْمَاعِ ، فَحَيْثُمَا وُجِدَتْ فَوَاجِبٌ الْحُكْمُ بِصِحَّتِهِ

وَإِنْ وُجِدَ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ وَاسْتَحَالَ ثُبُوتُ مَا يُضَادُّهُ مِنْ الْحُكْمِ فِي حَالِ ثُبُوتِهِ ثَبَتَ هُوَ وَانْتَفَى مَا يُضَادُّهُ ، وَكَانَ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ
مَنْسُوخٌ بِمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إذَا اخْتَلَفُوا سَاغَ الِاجْتِهَادُ وَاسْتُعْمِلَ أَشْبَهُهُمَا بِالْأُصُولِ ، فَإِنَّ مُرَادَهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا ، فَإِذَا كَانَ هَكَذَا وَجَبَ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا وَجِهَاتُ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى النَّاسِخِ مِنْهُمَا مُخْتَلِفَةٌ ، وَأَنَا ذَاكِرٌ مِنْهَا طَرَفًا نَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى جُمْلَةِ الْقَوْلِ فِيهِ .
فَنَقُولُ قَبْلَ أَنْ نَشْرَعَ فِي ذِكْرِ جِهَاتِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ : إنَّ الدَّلِيلَ عَلَى وُجُوبِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِنْهُمَا ( عَلَى ) أَنَّ اخْتِلَافَ النَّاسِخِ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَحْتَمِلَانِ غَيْرَ النَّسْخِ يُجْعَلُ الْحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَعْنَى سَائِرِ أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ الَّتِي ( قَدْ ) اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا عَلَى وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ ، ثُمَّ كَانَ طَرِيقُ اسْتِدْرَاكِ حُكْمِهَا بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إثْبَاتِ ( حُكْمِ ) أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ اعْتِبَارَ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ ، فَيَكُونُ الْخَبَرُ الَّذِي تُعَضِّدُهُ الْأُصُولُ مِنْهَا أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ ، كَحُكْمِ الْحَادِثَةِ إذَا عَاضَدَتْهُ دَلَائِلُ الْأُصُولِ فَيَكُونُ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّا اُخْتُلِفَ فِيهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَضَادَّتْ أَحْكَامُهُمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَإِنَّ أَقَلَّ أَحْوَالِهِمَا أَنْ يَسْقُطَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فَيُجْعَلُ الْحُكْمُ مَوْقُوفًا عَلَى شَوَاهِدِ الْأُصُولِ فَمَا دَلَّتْ الْأُصُولُ عَلَى ثَبَاتِهِ مِنْ الْحُكْمَيْنِ فَهُوَ الثَّابِتُ دُونَ الْآخَرِ .
وَأَيْضًا فَإِنَّ حُكْمًا ( يُوجِبُهُ الْأَثَرُ ) وَدَلَائِلُ الْأُصُولِ أَوْلَى بِالْإِثْبَاتِ مِنْ حُكْمٍ يَنْفَرِدُ بِإِيجَابِهِ الْأَثَرُ دُونَ ( دَلَائِلِ ) الْأُصُولِ .
فَدَلَّ جَمِيعُ مَا وَصَفْنَا عَلَى وُجُوبِ اعْتِبَارِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأُصُولِ عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ إنْ عَلِمَ تَارِيخَهُمَا فَالْآخَرُ أَوْلَى إذَا لَمْ يَحْتَمِلْ الْمُوَافَقَةَ ، فَمِنْ قِبَلِ أَنَّ الْآخَرَ ثَابِتُ الْحُكْمِ

لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدَهُ مَا يُزِيلُهُ ، وَفِي ( ثُبُوتِهِ نَفْيُ الْأَوَّلِ لِتَضَادِّهِمَا ) وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنْ احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ سَاغَ الِاجْتِهَادُ ، فَلِأَنَّهُ إذَا احْتَمَلَ النَّسْخَ وَاحْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالِاحْتِمَالِ ، وَلَا الْحُكْمِ بِالْمُوَافَقَةِ أَيْضًا بِالِاحْتِمَالِ ، إذْ لَيْسَ أَحَدُ ( وَجْهَيْ الِاحْتِمَالِ ) بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَصَارَ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادَ وَالِاسْتِدْلَالَ بِالْأُصُولِ عَلَى ثُبُوتِهِمَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمُوَافَقَةِ أَوْ إثْبَاتُ حُكْمِ أَحَدِهِمَا بِإِثْبَاتِ النَّسْخِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : هَلَّا حَكَمْت بِالْمُوَافَقَةِ دُونَ النَّسْخِ ، مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْأُصُولِ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ خَبَرٍ حُكْمُهُ ثَابِتٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يُزِيلُهُ ، فَإِذَا اُحْتُمِلَ كَوْنُ الثَّانِي نَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَاحْتُمِلَ كَوْنُهُ مُوَافِقًا لَهُ ، لَمْ يَزُلْ عَنْ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ إلَّا بِيَقِينٍ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسْخُ بِالشَّكِّ .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ، لِأَنَّ هَاهُنَا أَصْلٌ آخَرُ وَهُوَ ( أَنَّ ) الْخَبَرَ ( الثَّانِيَ ) إذَا كَانَ حُكْمُهُ مُنَافِيًا لِلْحُكْمِ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ فَإِذَا احْتَمَلَ الْمُوَافَقَةَ صَارَ بَقَاءُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مَشْكُوكًا فِيهِ ، وَصَارَ إيجَابُ النَّسْخِ مَشْكُوكًا فِيهِ أَيْضًا ، فَلَمَّا تَطَرَّقَ الشَّكُّ عَلَى الْحُكْمَيْنِ جَمِيعًا احْتَجْنَا إلَى اعْتِبَارِهِمَا بِالْأُصُولِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ لِأَحَدِ الْحَكَمِينَ دُونَ الْآخَرِ كَانَ حُكْمُهُ ثَابِتًا ، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْأَوَّلَ حُمِلَ الثَّانِي عَلَى مُوَافَقَتِهِ ، وَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ كَانَ الْخَبَرُ الثَّانِي ثَابِتَ الْحُكْمِ وَكَانَ الْأَوَّلُ مَحْمُولًا عَلَى مُوَافَقَةِ الثَّانِي .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فَإِنْ عَمِلَ النَّاسُ ( بِالْأَوَّلِ ) وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي يَدِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْآخَرُ خَامِلٌ لَا يَعْمَلُ بِهِ إلَّا الشَّاذُّ نَظَرُهُ ، فَإِنْ سَوَّغَ الَّذِينَ عَمِلُوا بِالْأَوَّلِ الْعَمَلَ بِالْآخَرِ ، سَاغَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ ، كَانَ مَا ( عَمِلَ بِهِ ) النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ فِيهِ أَنَّ عَمَلَهُمْ بِالْأَوَّلِ مَعَ تَرْكِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالثَّانِي دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَرِيقَ اسْتِعْمَالِ حُكْمِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاجْتِهَادُ ، لَوْلَا ذَلِكَ لَكَانَ الْآخَرُ عِنْدَهُمْ نَسْخًا لِلأَوَّلِ وَلَظَهَرَ النَّكِيْرُ

مِنْهُمْ ) عَلَى مَنْ عَمِلَ بِالْأَوَّلِ ، فَكَانَ فِي تَرْكِ بَعْضِهِمْ النَّكِيرَ عَلَى بَعْضٍ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ مِنْ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى جَوَازِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمْ فِي اسْتِعْمَالِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ أَيُّهُمَا كَانَ دُونَ الْآخَرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَإِنْ عَابُوا مَنْ عَمِلَ بِالْآخَرِ كَانَ مَا عَمِلَ بِهِ النَّاسُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلَ ، فَلِأَنَّهُمْ إذَا عَابُوا عَلَى الْآخَرِينَ مَا ذَهَبُوا إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَدْ أَبَانُوا عَنْ نَسْخِ الْآخَرِ وَأَفْصَحُوا بِهِ ، وَلَوْلَا أَنَّ ذَلِكَ
كَذَلِكَ لَكَانَ الاِجْتِهَادُ فِيهِ سَائِغًا عِنْدَهُمْ ، وَمَا يُسَوَّغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ لَا يَسَعُ بَعْضَهُمْ إظْهَارُ النَّكِيرِ فِيهِ عَلَى بَعْضٍ ، فَدَلَّ ظُهُورُ النَّكِيرِ مِنْهُمْ عَلَى الْآخَرِينَ فِيمَا ذَهَبُوا إلَيْهِ عَلَى أَنَّ خَبَرَهُمْ ثَابِتٌ ( عِنْدَهُمْ ) غَيْرُ مَنْسُوخٍ ، فَصَارَ ذَلِكَ كَالْإِخْبَارِ مِنْهُمْ بِأَنَّ الثَّابِتَ هُوَ الَّذِي اسْتَعْمَلُوهُ دُونَ الْآخَرِ
وَلِأَنَّ نَسْخَ الْأَوَّلِ ( لَوْ كَانَ ) ثَابِتًا لَعَرَفُوهُ كَمَا عَرَفُوا الْأَوَّلَ وَلَظَهَرَ النَّسْخُ فِيهِمْ كَمَا ظَهَرَ الْأَوَّلُ حَتَّى لَا يَشِذَّ عَنْ عِلْمِهِ إلَّا الْقَلِيلُ مِنْهُمْ ، كَالنَّهْيِ عَنْ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ وَزِيَارَةِ الْقُبُورِ وَالشُّرْبِ فِي الظُّرُوفِ وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ عَلَى حَسَبِ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : كَيْفَ يَكُونُ الْأَوَّلُ نَاسِخًا لِلْآخَرِ .
قِيلَ لَهُ : لَمْ نَقُلْ إنَّ الْأَوَّلَ نَاسِخٌ لِلْآخَرِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَالِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الثَّابِتُ الْحُكْمِ دُونَ الْآخَرِ ، وَأَنَّ الْآخَرَ لَا يَنْفَكُّ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ غَيْرَ ثَابِتٍ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنًى لَا يُخَالِفُ الْأَوَّلَ ، أَوْ يَكُونُ مَنْسُوخًا بِالْأَوَّلِ ( وَلَكِنْ ) بِمَعْنًى آخَرَ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا كَمَا قُلْنَا فِيمَا دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ مِنْ الْأَخْبَارِ ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ :
وَمَا حَكَيْنَاهُ عَنْ عِيسَى مِنْ أَنَّ نَسْخَ الْأَوَّلِ لَوْ كَانَ ثَابِتًا لَظَهَرَ فِيهِمْ كَظُهُورِ الْحُكْمِ ( الْأَوَّلِ ) صَحِيحٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ وَانْتَشَرَ فِي الْكَافَّةِ ثُمَّ أَحْدَثَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَسْخًا فَلَا بُدَّ ( مِنْ ) أَنْ يُظْهِرَهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْكَافَّةِ حَتَّى يَعْرِفُوهُ كَمَا كَانُوا عَرَفُوا الْمَنْسُوخَ قَبْلَ نَسْخِهِ ، لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الْحُكْمِ الْأَوَّلِ مُعْتَقِدُونَ لِبَقَائِهِ

عَلَيْهِمْ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ ثُبُوتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ مَعَ إيجَابِ نَسْخِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَكَانَ فِيهِ إقْرَارُهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ الشَّيْءِ ( عَلَى خِلَافِ ) مَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الْعَمَلِ بِالْمَنْسُوخِ الَّذِي لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَلَكَانَ فِيهِ أَيْضًا تَرْكُ الْإِبْلَاغِ الَّذِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } وقَوْله تَعَالَى : { فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ } وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ مُسَارَعَةً إلَى اتِّبَاعِ أَمْرِ اللهِ تَعَالَى ، فَوَجَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إظْهَارُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِمَّنْ عَرَفَ ( الْحُكْمَ ) الْمَنْسُوخَ بَدْءًا ، وَمَتَى أَظْهَرَهُ فِيهِمْ نَقَلُوهُ كَمَا نَقَلُوا الْأَوَّلَ ، وَلَوْ نَقَلُوهُ لَاسْتَفَاضَ فِيهِمْ وَظَهَرَ كَظُهُورِ الْأَوَّلِ ، فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلْ الْحُكْمُ الْآخَرُ إلَّا الشَّاذُّ مِنْهُمْ وَثَبَتَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ كَانَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ ثَابِتًا غَيْرَ ( مَرْفُوعٍ بِالشَّاذِّ ) الَّذِي لَا يُوَازِيهِ فِي النَّقْلِ وَالِاسْتِعْمَالِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ الْحُكْمَ الْآخَرَ إذَا كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ مَاسَّةً ثُمَّ عُرِفَ الْأَوَّلُ ، فَالْوَاجِبُ تَوْقِيفُهُمْ عَلَيْهِ ، وَإِعْلَامُهُمْ إيَّاهُ ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ النَّاسِخُ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهَا ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ إلَّا نَقْلُ
الْكَافَّةِ ، وَلَا يُلْتَفَتُ ( فِيهِ ) إلَى نَقْلِ الشَّاذِّ ، فَيَصِيرُ الْحُكْمُ ( بِالْآخَرِ ) حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَقْلٌ ، وَصَارَ الْأَوَّلُ ثَابِتًا غَيْرَ مُعَارَضٍ بِالْآخَرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ( حُكْمُ ) الْآيَتَيْنِ إذَا أَوْجَبَتَا حُكْمَيْنِ لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي الْأَخْبَارِ ( فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ ) مِنْ جِهَةِ أَنَّ عَمَلَ النَّاسِ بِأَحَدِهِمَا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ الْآخَرِ وَوَهَانَتِهِ مِنْ طَرِيقِ النَّقْلِ أَوْ عَلَى

إغْفَالِ بَعْضِ الرُّوَاةِ لِبَعْضِ مَعَانِيهِ ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ ، فَيَصِيرُ الْمَعْمُولُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ كَالْمَنْقُولِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ ، وَالْآخَرُ كَخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا يُعْتَرَضُ بِهِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْآيَتَانِ فَجَوَازُ وُقُوعِ ذَلِكَ فِيهِمَا مَأْمُونٌ ( مِنْهُمَا ) .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ عِيسَى لَمْ يُفَرِّقْ ( مَا ) بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا وَرَدَا مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ ، وَبَيْنَهُمَا إذَا وَرَدَا مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُعْتَبَرْ مَا ذَكَرْت ، وَعَلَى أَنَّهُ لَمَّا اُعْتُبِرَ ظُهُورُ الْحُكْمِ النَّاسِخِ أَنَّهُ نَاسِخٌ كَظُهُورِ الْمَنْسُوخِ كَانَ عِنْدَهُمْ بَدْءًا ، وَجَبَ أَلَّا يَخْتَلِفَ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْآيَتَيْنِ وَالْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ نَقْلَ النَّاسِخِ مِنْهُمَا أَنَّهُ نَاسِخٌ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ كَذَلِكَ كَنَقْلِ لَفْظِهِ وَأَحْكَامِهِ ، وَإِذَا لَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ عَلِمْنَا أَنَّ حُكْمَهُ مَوْكُولٌ إلَى الِاجْتِهَادِ وَاعْتِبَارِ الْأُصُولِ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَأَمَّا طُرُقُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْحُكْمِ النَّاسِخِ مِنْهُمَا مِنْ جِهَةِ الْأُصُولِ ، فَعَلَى وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ يَتَعَذَّرُ وَصْفُ جَمِيعِهَا وَلَكِنَّا نَذْكُرُ مِنْهَا جُمَلًا يُعْتَبَرُ بِهَا نَظَائِرُهَا وَتَدُلُّ عَلَى أَمْثَالِهَا .
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ :
( إنَّ ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يُعْلَمْ تَارِيخُهُمَا وَجَازَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ مَنْسُوخًا بِالْآخَرِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ مُبَاحَ الْأَصْلِ ثُمَّ وَرَدَ فِيهِ خَبَرَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ ، وَالْآخَرُ الْحَظْرَ فَحُكْمُ الْحَظْرِ أَوْلَى وَيَصِيرُ خَبَرُ الْحَظْرِ رَافِعًا لِلْإِبَاحَةِ .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يُسَمِّي ذَلِكَ نَسْخًا إذَا لَمْ تَكُنْ الْإِبَاحَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ثَابِتَةً مِنْ جِهَةِ الشَّرْعِ .
وَلَيْسَ غَرَضُنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْكَلَامَ فِي أَنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى نَسْخًا أَوْ لَا يُسَمَّى ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَلَامٌ فِي الْعِبَارَةِ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَلَامُنَا فِي الْمَعْنَى وَفِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ وَزَوَالِهِ ، وَفِي أَنَّ أَيَّ الْخَبَرَيْنِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا عَلَى الْآخَرِ وَمُزِيلًا لِحُكْمِهِ .
فَنَقُولُ : إنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، أَنَّا قَدْ عَلِمْنَا وُرُودَ النَّقْلِ عَنْ الْإِبَاحَةِ الَّتِي كَانَ ( الْأَصْلُ ) بِخَبَرِ الْحَظْرِ ، وَالْخَبَرُ الْمُبِيحُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ وُرُودُهُ مُؤَكِّدًا لِلْإِبَاحَةِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ الْأَصْلَ مِنْ طَرِيقِ دَلَالَةِ الْعَقْلِ ، إذْ ذَلِكَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ ، وَفِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَنِ مِنْهُ مَا يَفُوقُ الْإِحْصَاءَ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ } وقَوْله تَعَالَى : { فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا

مِنْ رِزْقِهِ } وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا } وَنَحْوِ ذَلِكَ .
فَإِذَا كَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ جَائِزًا أَنْ يَكُونَ وَرَدَ مُؤَكِّدًا لَمَا كَانَ ( فِي ) الْعَقْلِ مِنْهَا ، وَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ طَارِئًا لَا مَحَالَةَ عَلَى الْإِبَاحَةِ وَنَاقِلًا عَنْهَا إلَى الْحَظْرِ ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْحَظْرِ ثَابِتًا ، وَأَلَّا يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ بِخَبَرِ الْإِبَاحَةِ إنْ لَمْ نَتَيَقَّنْ وُرُودَهُ عَلَى الْحَظْرِ وَنَاقِلًا عَنْهُ .
وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ هَذَا الِاعْتِبَارِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، حِينَ سُئِلَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَقَالَ : " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ وَالتَّحْرِيمُ أَوْلَى " فَأَثْبَتَ حُكْمَ الْحَظْرِ عِنْدَ تَعَارُضِ مُوجِبِ الْآيَتَيْنِ ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ قَدْ كَانَ يَقُولُهَا شَيْخُنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ نَحْوُ خَبَرِ جَرْهَدٍ الْأَسْلَمِيِّ وَمَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ أَمَرَ بِتَغْطِيَةِ الْفَخِذِ وَقَالَ : إنَّهَا عَوْرَةٌ } .
وَمَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَخِذُهُ مَكْشُوفٌ فَلَمْ يُغَطِّهَا ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَغَطَّاهَا ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَمَّا أَسْتَحْيِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحْيِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ } فَاقْتَضَى هَذَا الْخَبَرُ إبَاحَةَ كَشْفِ

الْفَخِذِ ، وَاقْتَضَى ( خَبَرُ ) جَرْهَدٍ وَمَعْمَرٍ حَظْرَ كَشْفِهِمَا فَصَارَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ نَهَى عَنْ أَكْلِ الضَّبِّ وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ أَبَاحَهُ } فَكَانَ خَبَرُ الْحَظْرِ أَوْلَى لِمَا وَصَفْنَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَلَّا وَقَفْت حُكْمَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ عَلَى دَلَالَةٍ أُخْرَى مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ ، لِأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ وَإِنْ كَانَ يَقِينًا فِي وُرُودِهِ عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ ، فَإِنَّ بَقَاءَهُ مَعَ وُرُودِ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِيَقِينٍ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ ( وَارِدًا ) بَعْدَ الْحَظْرِ فَيَكُونُ رَافِعًا لَهُ وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا فِيهِمَا ( فَقَدْ ) وَقَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ مَوْقِفَ الِاحْتِمَالِ ، فَلَا يَخْلُو حِينَئِذٍ مِنْ أَنْ يُجْعَلَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا ، فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى حُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْمُقَدَّمَةِ ( أَوْ يُوقَفُ ) حُكْمُهُ ، وَيُطْلَبُ حُكْمُ حَظْرِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ مِنْ وَجْهِ غَيْرِهِمَا .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا لَمَّا عَلِمْنَا وُرُودَ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ، وَثُبُوتَ حُكْمِهِ بَعْدَهُ لَمْ يُجِزْ لَنَا الْحُكْمُ بِزَوَالِهِ إلَّا بِيَقِينٍ ، لِأَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ لَوْ كَانَ مُتَأَخِّرًا ( عَنْ الْحَظْرِ ) يَعْرِفُهُ مَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ يَنْقُلَ الْجَمِيعُ تَارِيخَ الْإِبَاحَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ ، لِأَنَّهُمْ عَرَفُوا الْحَظْرَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَمَا قُلْنَا فِي خَبَرِ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا ، وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَنَظَائِرِهَا : فَلَمَّا لَمْ يَنْقُلُوا تَارِيخَ الْإِبَاحَةِ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ وَارِدٌ

عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ حَالُ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ فِيهِ قَبْلَ وُرُودِ حَظْرِهِ .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ مَا كَانَ أَصْلُهُ الْإِبَاحَةَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ ، ثُمَّ أَقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَلَيْهِ وَتَرَكَ النَّكِيرَ عَلَيْهِمْ فِي إتْيَانِهِمْ إيَّاهُ ( عَلَى ) وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِخْبَارِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِبَاحَتِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ مَا كَانَ أَصْلُهُ مَا وَصَفْنَا مِنْ الْقَضَاءِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ عَلَيْهِ وَإِزَالَتِهِ عَنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
كَذَلِكَ وُرُودُ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ مَعَ خَبَرِ الْحَظْرِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ ، كَمَا لَمْ يَمْنَعْ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَنْ إبَاحَةِ شَيْءٍ ( مِنْ ) إزَالَتِهِ بِخَبَرِ الْحَظْرِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا الْأَصْلِ أَنْ تَقْضِي بِخَبَرِ إيجَابِ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ عَلَى الْخَبَرِ النَّافِي لَهُ ، لِأَنَّ خَبَرَ النَّفْيِ وَارِدٌ عَلَى الْأَصْلِ ، وَخَبَرُ الْإِيجَابِ نَاقِلٌ عَنْهُ ، فَوَجَبَ حَظْرُ الصَّلَاةِ قَبْلَ إحْدَاثِ الطَّهَارَةِ بَعْدَ الْمَسِّ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَلْزَمُنَا ذَلِكَ ، لِأَنَّ خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ( لَوْ ) انْفَرَدَ عَنْ مُعَارَضَةِ خَبَرِ النَّفْيِ لَمَا لَزِمَنَا قَبُولُهُ عَلَى أَصْلِنَا ، لِأَنَّهُ مِمَّا بِالنَّاسِ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَاجَةٌ عَامَّةٌ ، فَلَا يُقْبَلُ فِيهِ أَخْبَارُ الْآحَادِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا الِاعْتِبَارَ الَّذِي وَصَفْنَا فِي الْخَبَرَيْنِ إذَا تَوَازَيَا وَتَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ وَوَجْهِ الِاسْتِعْمَالِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَا عَلَى غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ فَلَهُمَا حُكْمٌ آخَرُ ، وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ الَّذِي قَدَّمْنَا أَنْ نَقُولَ : لَوْ عَلِمْنَا شَيْئًا كَانَ أَصْلُهُ الْحَظْرَ ، ثُمَّ وَرَدَ خَبَرٌ يُبِيحُهُ وَخَبَرٌ يَحْظُرُهُ ( يَجِبُ أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ ) أَوْلَى ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ فِي هَذِهِ الْحَالِ طَارِئَةٌ عَلَى الْحَظْرِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْحَظْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْكِيدًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ وُرُودِ إبَاحَتِهِ ، فَخَبَرُ الْإِبَاحَةِ نَاقِلٌ عَنْ الْحَظْرِ فَلَا يُعْلَمُ خَبَرُ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَيْهَا نَاقِلًا عَنْهَا ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى مَا لَمْ تَعُمَّ الدَّلَالَةُ عَلَى وُرُودِ خَبَرِ الْحَظْرِ بَعْدَ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ .
وَلَا أَحْفَظُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ شَيْئًا ( فِي هَذَا ) الْفَصْلِ الْأَخِيرِ ، وَاعْتِلَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ فِي مِثْلِهِ أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ثُبُوتِ وُرُودِهَا عَلَى الْحَظْرِ وَإِزَالَتِهَا ( لِحُكْمِهِ يَقِينًا ) وَغَيْرُ مَعْلُومٍ وُرُودُ خَبَرِ الْحَظْرِ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، بَلْ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ( وَرَدَ تَأْكِيدًا ) لِمَا كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْحَظْرِ قَبْلَ وُرُودِ الْإِبَاحَةِ ، إلَّا أَنِّي قَدْ سَمِعْته

يَحْتَجُّ أَيْضًا بِوُجُوبِ اسْتِعْمَالِ خَبَرِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ إذَا وَرَدَا عَلَى الْجِهَةِ الَّتِي وَصَفْنَا ، بِأَنَّ تَرْكَ الْمُبَاحِ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابُ ، وَفِعْلُ الْمَحْظُورِ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ الْعِقَابُ ، فَالِاحْتِيَاطُ ( عِنْدَ الشَّكِّ ) اجْتِنَابُهُ وَالِامْتِنَاعُ مِنْ مُوَافَقَتِهِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَاَلَّذِي يُعَضِّدُ هَذَا الْحِجَاجَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَقَالَ : { فَمَنْ تَرَكَهُنَّ كَانَ أَشَدَّ اسْتِبْرَاءً لِعِرْضِهِ وَدِينِهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَالْحِجَاجُ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ فِي هَذَا الْفَصْلِ يُوجِبُ أَنْ يَخْتَلِفَ الْحُكْمُ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْحَظْرِ ، لِاخْتِلَافِ حَالِ الشَّيْءِ الْمَحْكُومِ فِيهِ فِي الْأَصْلِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ ، لِأَنَّهُ إذْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِاسْتِعْمَالِ خَبَرِ الْحَظْرِ فِيمَا وَصَفْنَا مَا لَزِمَ مِنْ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ وَالِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ ، فَهَذَا مَوْجُودٌ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ الْحَظْرَ ثُمَّ وَرَدَ فِيهِ خَبَرَانِ : أَحَدُهُمَا حَاظِرٌ ، وَالْآخَرُ مُبِيحٌ ، وَتَجْوِيزُ ( وُرُودِ ) خَبَرِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ قَائِمٌ ، فَالْوَاجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَ مِنْ الِاحْتِيَاطِ لِلدِّينِ وَالْأَخْذِ بِالْحَزْمِ مُوجِبًا لِلْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي اسْتِعْمَالِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ احْتِيَاطٌ ، وَلَا أَخْذٌ بِالْحَزْمِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْت ، لِأَنَّهُ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ اعْتِقَادُ الْحَظْرِ فِيمَا هُوَ مُبَاحٌ ، كَمَا حُظِرَ عَلَيْنَا اعْتِقَادُ الْإِبَاحَةِ فِيمَا هُوَ مَحْظُورٌ ، فَمَنْ اعْتَقَدَ الْحَظْرَ فِيمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ مُبَاحًا فَهُوَ تَارِكٌ لِلِاحْتِيَاطِ .
قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ إذْ كَانَ مَأْمُورًا بِتَرْكِ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يَأْمَنُهُ مَحْظُورًا ، وَكَانَ ذَلِكَ أَصْلًا ثَابِتًا فِي الشَّرِيعَةِ وَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِيمَا وَصَفْنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي وُجُوبِ الْأَمْرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَقَدْ ذَهَبَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ ( إلَى ) غَيْرِ هَذَا الْمَذْهَبِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ الْإِبَاحَةَ ، ثُمَّ وَرَدَ خَبَرَانِ : حَاظِرٌ وَمُبِيحٌ ، وَلَمْ يَعْلَمْ

تَارِيخَهُمَا ، فَقَالَ عِيسَى فِيهِمَا : إذَا عَرِيَا مِنْ شَوَاهِدِ الْأُصُولِ ، وَتَسَاوَيَا فِي جِهَةِ النَّقْلِ فَإِنَّهُمَا إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يَحْتَمِلَا الْمُوَافَقَةَ سَقَطَا ، وَصَارَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا ، وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ .
وَذَكَرَ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ حَدِيثَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ :{ كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ } وَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ{أُتِيَ بِنَبِيذٍ فَرَفَعَهُ إلَى فِيهِ فَقَطَّبَ ، فَقِيلَ لَهُ : أَحَرَامٌ هُوَ ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ثُمَّ شَرِبَهُ}.
وَرُوِيَ عَنْهُ { مَنْ خَشِيَ مِنْ شَرَابِهِ فَلْيُكْثِرْهُ بِالْمَاءِ } .
وَذُكِرَ أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ أَوْلَى ، لِأَنَّ الْحَظْرَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا فِي مِثْلِهِ لَعَرَفَهُ جُلُّ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُمْ الْإِبَاحَةُ ، وَلِأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ يَحْتَمِلُ الْمَعَانِيَ ، وَخَبَرَ الْإِبَاحَةِ لَا يَحْتَمِلُهَا .
ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ إلَّا وَفِي الْآخَرِ مِثْلُهُ ، لَكَانَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا عَلَى إحْلَالِهِ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ لَا يَثْبُتُ إذَا تَضَادَّ الْخَبَرَانِ ، كَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ .
وَذَكَرَ أَيْضًا خَبَرَ الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ ( قَالَ ) : " لَا وُضُوءَ فِيهِ " ، ثُمَّ ذَكَرَ وُجُوهَ التَّرْجِيحِ لِلْخَبَرِ النَّافِي لِلْوُضُوءِ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إلَّا تَضَادُّ الْخَبَرَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا مَا لَيْسَ لِلْآخَرِ ، كَانَ الْخَبَرَانِ كَأَنَّهُمَا لَمْ يَأْتِيَا وَكَانَ الْأَمْرُ عَلَى أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَذَكَرَ عِيسَى ( بْنُ أَبَانَ ) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعَثَ رَجُلَيْنِ يَنْظُرَانِ إلَى الْفَجْرِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : قَدْ طَلَعَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : لَمْ يَطْلُعْ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ اخْتَلَفْتُمَا إذًا ( شَذَّا بِي ) وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ مِثْلَ ذَلِكَ .
قَالَ عِيسَى : ( فَأَسْقَطَا الْخَبَرَيْنِ ) عِنْدَ التَّعَارُضِ ، وَتَرَكَا الْأَمْرَ عَلَى الْأَصْلِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : فَهَذَا الْمَذْهَبُ خِلَافُ مَا حَكَيْنَاهُ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَوَجْهُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ خَبَرَيْ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لَمَّا اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى صَاحِبِهِ فَنَسَخَهُ ، وَجَبَ أَنْ يَسْقُطَا ( جَمِيعًا ) إذَا تَسَاوَيَا ، كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فَيَبْقَى الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ( حُكْمُهُ ) قَبْلَ وُرُودِهِمَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا ( وَجْهَ مَا ) كَانَ يَقُولُهُ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ .
وَمَذْهَبُ أَبِي الْحَسَنِ فِي هَذَا أَظْهَرُ الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قُلْتُمْ فِي رَجُلٍ دُعِيَ إلَى طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ : إنَّ هَذَا اللَّحْمَ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ ، وَهَذَا الشَّرَابَ قَدْ خَالَطَهُ خَمْرٌ ، وَأَخْبَرَهُ آخَرُ أَنَّهُ طَاهِرٌ حَلَالٌ .
أَوْ كَانَ ذَلِكَ ( فِي مَاءٍ ) أَرَادَ الْوُضُوءَ بِهِ ، وَقَالَ لَهُ أَحَدُ الْمُخْبِرَيْنِ : قَدْ حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ ، وَقَالَ الْآخَرُ : هُوَ طَاهِرٌ ، أَنَّهُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ فَيَعْمَلُ عَلَى آكَدِ ظَنِّهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ ، وَاسْتَوَتْ الْحَالَانِ عِنْدَهُ ، جَازَ لَهُ أَكْلُ ذَلِكَ وَشُرْبُهُ وَالْوُضُوءُ بِهِ .
وَأَسْقَطْتُمْ الْخَبَرَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَا ، وَجَعَلْتُمُوهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ ، فَهَلَّا قُلْتُمْ مِثْلَهُ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا رُوِيَا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَسَاوَيَا فِي النَّقْلِ ، وَدَلَالَةُ الْأُصُولِ أَنَّهُمَا يَتَعَارَضَانِ وَيَسْقُطَانِ ؟ .
قِيلَ لَهُ : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ أَخْبَارَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا جَازَ فِيهَا وُرُودُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ ثُمَّ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا الْحَظْرَ طَارِئًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَالْإِبَاحَةُ لَوْ وَرَدَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ لَظَهَرَ أَمْرُهَا وَانْتَشَرَ تَارِيخُهَا فِيمَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ لَا مَحَالَةَ يُظْهِرُ الْإِبَاحَةَ لِكَافَّةِ مَنْ عَلِمَ الْحَظْرَ ، حَتَّى يَنْتَشِرَ فِيهِمْ وَيَظْهَرَ كَظُهُورِ الْحَظْرِ قَبْلَهَا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ فِي خَبَرِ النَّهْيِ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهَا ، وَمُتْعَةِ النِّسَاءِ وَنَحْوِهَا ، فَلَمَّا فَقَدْنَا ذَلِكَ فِيمَا وَصَفْنَا ، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى ( أَنَّ خَبَرَ ) الْإِبَاحَةِ وَرَدَ عَلَى الْأَصْلِ ، وَأَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ ، وَكَانَتْ هَذِهِ جِهَةً تُوجِبُ لِخَبَرِ الْحَظْرِ مَزِيَّةٌ لَيْسَتْ لِخَبَرِ الْإِبَاحَةِ ، وَتَغْلِبُ

بِهَا فِي النَّفْسِ أَنَّهُ أَوْلَى مِنْهُ ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُخْبِرَيْنِ إذَا أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا بِنَجَاسَةِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهِ أَنَّهُ مَتَى غَلَبَ ( فِي الظَّنِّ ) صِحَّةُ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ عَمِلْنَا عَلَيْهِ وَأَلْغَيْنَا الْآخَرَ ، فَالْخَبَرَانِ الْمُتَضَادَّانِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إثْبَاتِ حُكْمِ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ بِمَنْزِلَةِ غَلَبَةِ الظَّنِّ فِي خَبَرِ أَحَدِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ وَلَا يُشْبِهُ تَسَاوِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ ( فِي هَذَا الْوَجْهِ تُسَاوِيَ خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ ) فِي الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ فَيَسْقُطَانِ وَيَبْقَى الشَّيْءُ مُبَاحًا عَلَى الْأَصْلِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ ارْتِفَاعُ حُكْمِ النَّجَاسَةِ بَعْدَ حُلُولِهَا فِي الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ ، فَيَعْتَبِرُ فِيهِ وُرُودَ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ وَظُهُورُ أَمْرِهَا لَوْ ثَبَتَ عَلَى حَسَبِ مَا قُلْنَا فِي أَخْبَارِ النَّبِيِّ
عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هَاهُنَا حَالٌ يَغْلِبُ بِهَا جِهَةَ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ تَسَاوَى الْخَبَرَانِ جَمِيعًا وَسَقَطَا وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمَا الْحُكْمُ ، وَصَارَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : إنْ كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي تَغْلِيبِ جِهَةِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ مَا ذَكَرْت ، مِنْ أَنَّ الْإِبَاحَةَ لَوْ كَانَتْ بَعْدَ الْحَظْرِ لَظَهَرَ أَمْرُهَا وَانْتَشَرَ تَارِيخُهَا حَتَّى يَعْرِفَهَا عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُك مِثْلُهُ فِي الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ الْحَظْرَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا بَعْدَ الْإِبَاحَةِ لَظَهَرَ تَارِيخُ الْحَظْرِ عَنْهَا ، وَلَعَرَفَهُ عَامَّةُ مَنْ عَرَفَ الْإِبَاحَةَ مُتَأَخِّرًا عَنْهَا .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، لِأَنَّ وُرُودَ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِأَكْثَرَ فِي إيجَابِهِ مَا أَوْجَبَ مِنْ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ عِلْمِنَا بِكَوْنِ الشَّيْءِ مُبَاحًا عَلَى الْأَصْلِ ، وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ لَمْ يَجِبْ إذَا وَرَدَ خَبَرُ الْحَظْرِ عَارِيًّا عَنْ خَبَرِ الْإِبَاحَةِ لَفْظًا عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَنْ تَكُونَ الْإِبَاحَةُ أَوْلَى بَلْ ( أَنْ ) يَكُونَ الْحَظْرُ أَوْلَى ، وَلَا يَحْتَاجُونَ أَنْ يَنْقُلُوا إلَيْنَا أَنَّ هَذَا الْحَظْرَ كَانَ بَعْدَ إقْرَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّاسَ عَلَى الْإِبَاحَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
كَذَلِكَ إذَا نُقِلَ لَفْظُ الْإِبَاحَةِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنُقِلَ الْحَظْرُ ، فَلَيْسَ يَجِبُ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ وُرُودِ الْحَظْرِ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى نَقْلِ التَّارِيخِ ، وَأَمَّا إذَا ثَبَتَ الْحَظْرُ ثُمَّ نَقَلُوا عَنْهُ إلَى الْإِبَاحَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ تَارِيخِهِ وَظُهُورِهِ فِيمَنْ عَرَفَ الْحَظْرَ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ بِهَذَا الْوَصْفِ فَعَلَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ وَارِدَةٌ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ ، وَأَنَّ الْحَظْرَ وَارِدٌ بَعْدَهَا فَكَانَ أَوْلَى .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : مَاذَكَرْت فِي الْفَصْلِ بَيْنَ أَخْبَارِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبَيْنَ خَبَرِ

الْمُخْبِرَيْنِ بِالطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ ، بِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا يَجُوزُ فِيهِ وُرُودُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ تَارَةً وَوُرُودُ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أُخْرَى ، وَأَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي مُخَالَطَةِ النَّجَاسَةِ لِلطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ طَاهِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ نَجَسًا .
( فَوَجَبَ تَأْكِيدُ ) خَبَرِ النَّجَاسَةِ وَالتَّحْرِيمُ عَلَى خَبَرِ الطَّهَارَةِ وَالتَّحْلِيلُ ، لِأَنَّهُ إذَا حَلَّتْهُ النَّجَاسَةُ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ تَطْهُرَ بَعْدَهُ ، وَمَا حَظَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَجُوزُ أَنْ يُبِيحَهُ بَعْدَهُ .
قِيلَ لَهُ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّا لَمْ نَجْعَلْ الْفَصْلَ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ ، أَنَّ أَحَدَهُمَا يَجُوزُ فِيهَا وُرُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إبَاحَةٍ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَأَنَّ الْأُخْرَى لَا يَجُوزُ فِيهَا وُرُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْحَظْرِ فَحَسْبُ ، دُونَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ أَخْبَارَ الشَّرْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، لَمَّا جَازَ فِيهَا وُرُودُ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا صِحَّةَ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَى الْإِبَاحَةِ ، امْتَنَعَ وُجُودُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَهُ ، إلَّا مَعَ وُرُودِ تَارِيخِهِمَا مُتَأَخِّرًا عَنْ الْحَظْرِ مُنْتَشِرًا ظَاهِرًا عِنْدَ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ الْحَظْرُ ، أَوْ أَكْثَرُهُمْ ، فَلَمَّا عَدِمْنَا ذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ خَبَرَ الْإِبَاحَةِ وَارِدٌ ( عَلَى الْأَصْلِ ) وَأَنَّ خَبَرَ ( الْحَظْرِ ) بَعْدَهُ ( وَ ) قُلْنَا : إنَّ مِثْلَ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ ، لِامْتِنَاعِ وُرُودِ الطَّهَارَةِ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ وُرُودِ النَّجَاسَةِ ، فَلَمْ يَكُنْ هَاهُنَا جِهَةٌ تُوجِبُ كَوْنَ إثْبَاتِ النَّجَاسَةِ أَوْلَى مِنْ إثْبَاتِ الطَّهَارَةِ .
وَيُبَيِّنُ لَك الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا ( أَنَّك لَا تُخَالِفُنَا ) فِي صِحَّةِ خَبَرِ الْحَظْرِ طَارِئًا عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ إثْبَاتَ الْإِبَاحَةِ الَّتِي هِيَ قَوْلٌ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، أَوْ فِعْلٌ طَارِئٌ عَلَى الْحَظْرِ ، وَلَا نَقُولُ مِثْلَهُ فِي خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ ، لِأَنَّك تَمْنَعُ إثْبَاتَ الطَّهَارَةِ بَعْدَ النَّجَاسَةِ ، وَإِنَّمَا عَارَضْت أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ ، فَأَسْقَطَتْهُمَا جَمِيعًا ، وَبَقَّيْت الشَّيْءَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ خَبَرِ الْمُخْبِرَيْنِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْفَصْلِ بَيْنَ خَبَرِ النَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ ، وَبَيْنَ أَخْبَارِ الشَّرْعِ فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، أَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ بِالنَّجَاسَةِ وَالطَّهَارَةِ إنَّمَا ( تَنَاوَلَ خَبَرَاهُمَا عَيْنًا وَاحِدَةً أَخْبَرَ أَحَدُهُمَا )

بِنَجَاسَتِهَا ، وَالْآخَرُ بِطَهَارَتِهَا ، وَيَسْتَحِيلُ وُجُودُ مُخْبِرِيهِمَا عَلَى مَا ( أَخْبَرَا بِهِ ) مِنْ حُكْمِ الْمَخْبَرِ عَنْهُ ، فَلَمَّا كَانَ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ أَحَدَ الْمُخْبِرَيْنِ قَدْ أَوْهَمَ فِي خَبَرِهِ وَأَخْبَرَ عَنْ ( الشَّيْءِ عَلَى ) خِلَافِ حَقِيقَةِ حَالِهِ .
فَلَمَّا لَمْ يَعْرِفْ الْغَالِطَ مِنْهُمَا ، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِقَبُولِ خَبَرِهِ ، مِنْ الْآخَرِ سَقَطَ الْخَبَرَانِ جَمِيعًا فَصَارَ وُجُودُ خَبَرَيْهِمَا عَلَى هَذَا الْوَصْفِ قَادِحًا فِي نَفْسِ الْخَبَرِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ حُكْمُ أَخْبَارِ الشَّرْعِ إذَا وَرَدَتْ مُتَعَارِضَةً فِي الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ وُرُودَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَمْ يَقْدَحْ فِي نَفْسِ الْخَبَرِ ، وَلَمْ يُوجِبْ كَوْنَهُ مَشْكُوكًا فِيهِ إذْ لَا فَرْقَ عِنْدَنَا فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا وَرَدَ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ وَمِنْ جِهَةِ الْآحَادِ ، وَإِنَّمَا تَعَارَضَ الْخَبَرَانِ مِنْ حَيْثُ فَقَدْنَا الْعِلْمَ بِتَارِيخِهِمَا ، لِأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا فِي ( حُكْمِ ) شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ خَبَرَ الْحَظْرِ إذَا وَرَدَ ( عَلَى مَا ) عَلِمْت إبَاحَتَهُ فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( النَّاسَ ) عَلَيْهَا ، أَنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْإِبَاحَةِ وَيَرْفَعُهَا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعَارُضًا وَلَا تَضَادًّا فِي الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ مَا حُظِرَ مِنْ ذَلِكَ غَيْرُ مَا كَانَ مُبَاحًا ، فَلَمْ يَرِدْ الْخَبَرَانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ ( فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ ) أَنَّهُ : مَحْظُورٌ مُبَاحٌ .
فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ ثَبَتَ حُكْمُ الْحَظْرِ دُونَ الْإِبَاحَةِ لِلْعِلَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَا ، وَكَانَ خَبَرُ الْإِبَاحَةِ صَحِيحًا ، مَحْكُومٌ بِهِ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْحَظْرِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ الْحَظْرُ ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَتَعَارَضَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ جَمِيعًا فِي إثْبَاتِ الْإِبَاحَةِ وَالْحَظْرِ ثَابِتَانِ ، إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِتَقَدُّمِ الْإِبَاحَةِ عَلَى الْحَظْرِ ، وَأَثْبَتْنَا الْحَظْرَ بَعْدَهَا ، فَالْكَلَامُ فِي ذَلِكَ إنَّمَا هُوَ فِي تَارِيخِ الْحُكْمَيْنِ أَيَّهُمَا الْمُتَقَدِّمُ لِصَاحِبِهِ.
وَأَمَّا الْمُخْبِرَانِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ مَا أَخْبَرَ بِهِ فِي حَالٍ يُثْبِتُ صَاحِبُهُ فِيهِ ضِدَّهُ ، فَلَمْ يَصِحَّ ثُبُوتُهُمَا إذَا تَسَاوَيَا ، وَلَمْ يَجْرِ الْحُكْمُ بِتَأْخِيرِ حُلُولِ النَّجَاسَةِ عَنْ الْحَالِ الَّتِي أَخْبَرَ الْمُخْبِرُ الْآخَرُ مِنْهُمَا بِالطَّهَارَةِ ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ بِالطَّهَارَةِ يَزْعُمُ أَنَّهُ طَاهِرٌ فِي الْحَالِ ، وَأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ ثَابِتُ الْحُكْمِ ، وَالْمَخْبَرُ بِالنَّجَاسَةِ يَقُولُ : هُوَ نَجِسٌ فِي الْحَالِ ، لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ ، فَتَنَاوَلَ خَبَرُهُمَا عَيْنًا وَاحِدَةً بِحُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، فَتَعَارَضَ مُوجِبُ خَبَرَيْهِمَا عِنْدَ اسْتِوَاءِ حَالِهِمَا ، وَسَقَطَا كَأَنْ لَمْ يَرِدَا ، وَبَقِيَ الشَّيْءُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ عَمْرًا يَوْمَ النَّحْرِ بِالْكُوفَةِ ، وَشَهِدَ آخَرَانِ

أَنَّهُ قَتَلَ زَيْدًا يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ ، فَتَبْطُلُ شَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ لِتَضَادِّهِمَا ، إذْ قَدْ عَلِمْنَا كَذِبَ أَحَدِهِمَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ بِالْمَوْضِعِ ( الَّذِي ذَكَرَهُ فِي شَهَادَتِهِ فِي الْحَالِ الَّتِي أَثْبَتَ الْآخَرُ كَوْنَهُ بِالْمَوْضِعِ ) الْآخَرِ ، وَذَلِكَ مُتَنَافٍ مُتَضَادٌّ ، لَا يَصِحُّ إثْبَاتُهُ ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِأَوْلَى بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ مِنْ الْآخَرِ ، فَسَقَطَتْ شَهَادَتُهُمَا جَمِيعًا .
فَقَدْ تَبَيَّنَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَسْأَلَةَ السَّائِلِ عَمَّا وَصَفْنَا لَيْسَتْ ( مِنْ ) تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَكُونَ هُوَ النَّاسِخَ لِصَاحِبِهِ فِي شَيْءٍ
وَإِنَّمَا نَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَأَلَ عَنْهَا السَّائِلُ : أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ فِي عَيْنٍ وَاحِدَةٍ يُخْبِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْهُ بِحَالِ تَضَادِّ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِهِ صَاحِبَهُ ، فَيَحْتَاجُ حِينَئِذٍ فِيهِ إلَى اعْتِبَارٍ آخَرَ ، نَحْوُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ } ،وَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ حَلَالٌ } وَكَانَ ذَلِكَ تَزْوِيجًا وَاحِدًا.
وَنَحْوُ مَا

رُوِيَ { أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُعْتِقَتْ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا " وَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى فِي الْكَعْبَةِ حِينَ دَخَلَهَا .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ فِيهَا } وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي شَيْءٍ ، وَلَهُ شُرُوطٌ أُخَرُ سَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إذَا انْتَهَيْنَا إلَى مَوْضِعِ الْكَلَامِ فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ .

فَصْلٌ مِنْ هَذَا ( الْبَابِ )
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
وَأَمَّا إذَا وَرَدَ خَبَرَانِ فِي أَحَدِهِمَا إيجَابُ شَيْءٍ وَفِي الْآخَرِ حَظْرٌ ، وَهُمَا مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَاسِخًا لِلْآخَرِ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّمْنَا ، فَإِنَّ مَا وَرَدَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ خَبَرِ الْمُبَاحِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ أَوْ مِنْ خَبَرِ الْمَحْظُورِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ خَبَرِ الْمَحْظُورِ الَّذِي يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ عَلَى حَسَبِ مَجِيءِ السَّمْعِ بِهَا ، فَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُرُودَ الْإِيجَابِ عَلَى الْحَظْرِ وَإِزَالَتَهُ لِحُكْمِهِ .
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ خَبَرُ الْحَظْرِ وَارِدًا عَلَى جِهَةِ التَّأْكِيدِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ حَالُهُ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ ، فَالْحُكْمُ فِي مِثْلِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْإِيجَابَ لِلْعِلَّةِ الَّتِي وَصَفْنَا .
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ السَّمْعِ مِنْ خَبَرِ الْمُبَاحِ ، فَلَيْسَ وُرُودُ الْحَظْرِ بِأَنْ يَكُونَ طَارِئًا عَلَى إبَاحَةِ الْأَصْلِ ، بِأَوْلَى مِنْ وُرُودِ خَبَرِ الْإِيجَابِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَنَا تَارِيخٌ ، فَلَيْسَ أَحَدُ الْخَبَرَيْنِ بِأَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنْ الْآخَرِ ، فَالْوَاجِبُ حِينَئِذٍ طَلَبُ الدَّلِيلِ ( عَلَى الثَّابِتِ ) مِنْ حُكْمِ الْخَبَرَيْنِ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْأُصُولِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ مَا يَشْهَدُ لِثُبُوتِ حُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْوَاجِبَ فِي مِثْلِهِ أَنْ يَتَعَارَضَا ، وَأَنْ يَسْقُطَا وَيَصِيرَا كَأَنَّهُمَا لَمْ يَرِدَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْوَاجِبَ الِامْتِنَاعُ مِنْ الْفِعْلِ ، لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لَنَا الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ طَاعَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عِنْدَنَا .
وَغَيْرُ جَائِزٍ أَيْضًا فَعَلَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، لِأَنَّ الْمُخْبِرَيْنِ قَدْ أَخْرَجَاهُ مِنْ حَيِّزِ الْإِبَاحَةِ وَأَلْحَقَاهُ بِحُكْمِ الْحَظْرِ أَوْ الْإِيجَابِ ، وَالِاحْتِيَاطِ فِي مِثْلِهِ الْكَفُّ عَنْ الْإِقْدَامِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُبَاحٍ فَيَفْعَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِبَاحَةِ ، وَلَا يَعْلَمُهُ وَاجِبًا وَلَا مَنْدُوبًا إلَيْهِ فَيَفْعَلُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَالِاحْتِيَاطُ بِهِ إذَنْ لَمْ يَثْبُتْ إيجَابُهُ ، وَعَلَى أَنَّا بِحَمْدِ اللهِ لَمْ نَجِدْ خَبَرَيْنِ أَحَدَهُمَا يَحْظُرُ وَالْآخَرَ يُوجِبُ ، إلَّا وَالدَّلَائِلُ قَائِمَةٌ عَلَى ثُبُوتِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعِلْمِ بِتَارِيخِهِمَا ، أَوْ قِيَامِ دَلَائِلَ مِنْ الْأُصُولِ عَلَى الثَّابِتِ مِنْهُمَا .
وَإِنَّمَا تَكَلَّمْنَا عَلَى حَالِ عَدَمِ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهِمَا وَتَسَاوِيهِمَا فِي مُوجِبِ لَفْظِهِمَا ، اسْتَوَيَا فِي الْكَلَامِ فِي الْمَسْأَلَةِ حَسَبَ مَا يَقْتَضِيهِ أَقْسَامُ الِاحْتِمَالِ .

وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّاسِخِ ، أَنْ يَرِدَ خَبَرَانِ مُتَضَادَّانِ مَعَ احْتِمَالِ نَسْخِ أَحَدِهِمَا بِالْآخِرِ ، فَيَخْتَلِفُ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي النَّاسِخِ مِنْهُمَا ، بَعْدَ اتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى نَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ أَحَدِهِمَا ، فَيَدُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى أَنَّهُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْخَبَرِ الَّذِي لَمْ يَتَّفِقْ عَلَى نَسْخِ شَيْءٍ مِنْهُ ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَكُونَ مَا اتَّفَقَ عَلَى نَسْخِ بَعْضِهِ مَنْسُوخًا بِالْآخِرِ لِدَلَالَةِ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ بَعْضَ مَا فِيهِ قَدْ نُسِخَ بِالْآخَرِ ( وَأَنَّ الْآخَرَ قَدْ ) صَارَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي وُجُوبِ نَسْخِ بَعْضِهِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ إذَا رَكَعَ وَإِذَا رَفَعَ وَإِذَا سَجَدَ ، وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السُّجُودِ ، وَإِذَا نَهَضَ إلَى الْقِيَامِ } .
وَرُوِيَ ( عَنْ ) عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ إلَّا فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى } وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِ الرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ وَعِنْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْهُ ، وَإِذَا نَهَضَ إلَى الْقِيَامِ ، ( فَدَلَّ عَلَى ) أَنَّ خَبَرَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ مُتَقَدِّمٌ لِخَبَرِ التَّرْكِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُجْعَلَ مَنْسُوخًا بِهِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ هُنَا خَبَرٌ يُوجِبُ نَسْخَ الرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ وَبَعْدَهُ إلَّا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ تَرْكُ الرَّفْعِ فِي الرُّكُوعِ وَفِي سَائِرِ أَحْوَالِ الصَّلَاةِ إلَّا عِنْدَ الِافْتِتَاحِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا هُوَ النَّاسِخُ لِلرَّفْعِ عِنْدَ السُّجُودِ ، صَارَ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ فِي التَّارِيخِ ، فَوَجَبَ أَنْ يُنْسَخَ الرَّفْعُ عِنْدَ الرُّكُوعِ ، إذْ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ وَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُهُ فَرْقٌ بَيْنَ الرَّفْعِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَ ( عِنْدَ ) السُّجُودِ .
وَنَظِيرُهُ أَيْضًا مَا رُوِيَ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَفِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ }
وَرُوِيَ عَنْهُ : { تَرْكُ الْقُنُوتِ فِي سَائِرِ الصَّلَوَاتِ } وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى تَرْكِهِ فِي

الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ ( فَدَلَّ عَلَى ) أَنَّ خَبَرَ التَّرْكِ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا لِجَمِيعِهِ إذْ كَانَ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ وَأَوْجَبَ نَسْخَ بَعْضِهِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُقَالَ إنَّ فِعْلَ الْقُنُوتِ فِي الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَمْ يُنْسَخْ بِهَذَا الْخَبَرِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ مَعَنَا خَبَرٌ غَيْرُهُ يُوجِبُ نَسْخَهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْكُمَ بِأَنَّهُ هُوَ النَّاسِخُ دُونَ غَيْرِهِ ، كَمَا أَنَّا إذَا ( وَجَدْنَا ) الْأُمَّةَ مُجْتَمِعَةً عَلَى مَعْنًى مَذْكُورٍ فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ ، وَجَبَ أَنْ يُحْكَمَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ حَصَلَ عَنْ الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ ، فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا.
وَمِثْلُ مَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صِفَةِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ : رَكَعَ رُكُوعَيْنِ ثُمَّ سَجَدَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { رَكَعَ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ سَجَدَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ : { رَكَعَ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ

سَجَدَ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { صَلَّى كَهَيْئَةِ صَلَاتِنَا ، وَأَنَّهُ قَالَ : صَلُّوا كَأَحْدَثِ صَلَاةٍ صَلَّيْتُمُوهَا }
وَقَدْ اتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْكَعُ فِي رَكْعَةٍ أَكْثَرَ مِنْ رُكُوعَيْنِ فَصَارَ ( مَا زَادَ عَلَى الرُّكُوعَيْنِ مَنْسُوخًا بِخَبَرٍ مَا ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُتَأَخِّرًا ) عَنْ الرُّكُوعَيْنِ أَيْضًا نَاسِخًا لَهُمَا كَنَسْخِهِ لِمَا زَادَ عَلَيْهِمَا وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى النَّسْخِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مُتَّفَقًا عَلَى اسْتِعْمَالِهِ ، وَالْآخَرُ مُخْتَلَفًا فِي اسْتِعْمَالِهِ ، فَالْوَاجِبُ فِيمَا كَانَ هَذَا سَبِيلَهُ أَنْ يُقْضَى فِيهِ بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فِيهِ فَيَصِيرُ نَاسِخًا ( لَهُ ) إنْ اقْتَضَى لَفْظُهُ رَفْعَ جَمِيعِهِ وَإِنْ اقْتَضَى رَفْعَ بَعْضِهِ كَانَ نَاسِخًا لِذَلِكَ الْبَعْضِ ، وَذَلِكَ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } الْآيَةُ وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ { قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ } فَلَوْ ثَبَتَ الْخَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُخَالِفُ لَكَانَتْ الْآيَةُ نَاسِخَةً لَهُ لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى ثَبَاتِ حُكْمِهَا وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْخَبَرِ ، وَنَحْوُ قَوْلِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } { وَنَهْيِهِ عَنْ

الْمُزَابَنَةِ } فَهَذَانِ الْخَبَرَانِ مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِهِمَا ، " وَخَبَرُ الْخَرْصِ وَالْعَرَايَا " مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا فَهُمَا مَنْسُوخَانِ بِهِمَا ، وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ قَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي الْعَامِّ وَالْخَاصِّ .

وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال عَلَى النَّاسِخِ مِنْ الْخَبَرَيْنِ بِالْقِيَاسِ وَالنَّظَرِ فَنَحْوُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ عِيسَى بْنِ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { تَوَضَّئُوا مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ { أَنَّهُ أَكَلَ مِمَّا مَسَّتْ النَّارُ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ }.
وَرُوِيَ فِيهِ عَنْ السَّلَفِ اخْتِلَافٌ فَكَانَ تَرْكُ الْوُضُوءِ مِنْهُ أَشْبَهَ بِالسُّنَّةِ ، لِأَنَّا لَمْ نَرَ الْوُضُوءَ فِي السُّنَّةِ الْقَائِمَةِ إلَّا فِي الْأَنْجَاسِ الْخَارِجَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ فِي الْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِيهِ أَنَّهُ لَا وُضُوءَ فِيهِ .
وَوَجَدْنَا لْمَسَ مَا هُوَ أَنَجَسُ مِنْ الذَّكَرِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ الْوُضُوءُ فَكَانَ الْأَمْرُ ( فِيهِ ) عِنْدَنَا أَنْ لَا وُضُوءَ فِيهِ .فَاسْتَدَلَّ عِيسَى بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَمُعَاضَدَةِ الْقِيَامِ لَهُ عَلَى بَيَانِ حُكْمِهِ دُونَ الْآخَرِ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَمِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّهُ قَالَ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ : لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا } وَرُوِيَ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { غَطُّوا رُءُوسَ مَوْتَاكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ } .
وَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ : { إذَا مَاتَ الْمَرْءُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ يُعْمَلُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ } ، فَكَانَ النَّظَرُ مُعَاضِدًا لِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ وَمُنَافِيًا لِخَبَرِ النَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ لِاتِّفَاقِ النَّاسِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا لَا يُوقَفُ بِهِ بِعَرَفَةَ وَلَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا يُطَافُ بِهِ وَلَا يُفْعَلُ بِهِ سَائِرُ أَفْعَالِ الْمَنَاسِكِ ، فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إحْرَامِهِ ، وَعَلَى أَنَّ خَبَرَ النَّهْيِ عَنْ تَخْمِيرِ رَأْسِهِ مَنْسُوخٌ بِالْخَبَرَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَا ، وَكَذَلِكَ ( مَا ) رُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ تَتَوَضَّأُ لِكُلِّ صَلَاةٍ } وَرُوِيَ { أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ } فَكَانَ الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَا فِيهِ اعْتِبَارَ الْوَقْتِ أَوْلَى ، مِنْ قِبَلِ أَنَّا قَدْ وَجَدْنَا فِي الْأُصُولِ طَهَارَةً مُقَدَّرَةً بِوَقْتٍ وَهُوَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ، وَلَيْسَ مِنْهَا طَهَارَةٌ مُقَدَّرَةٌ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ وَنَظِيرُهُ أَيْضًا : مَا رُوِيَ مِنْ الْأَخْبَارِ الْمُتَضَادَّةِ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ ، فَقُلْنَا : إنَّ خَبَرَنَا أَوْلَى لِاتِّفَاقِ الْجَمِيعِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ لَيْسَ فِيهَا الْجَمْعُ بَيْنَ رُكُوعَيْنِ مِنْ غَيْرِ سُجُودٍ بَيْنَهُمَا ، فَكَانَتْ الْأُصُولُ شَاهِدَةً بِخَبَرِنَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ نَاسِخٌ لِسَائِرِ الْأَخْبَارِ الَّتِي تُخَالِفُهُ وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ .
وَفِيمَا ذَكَرْنَا تَنْبِيهٌ عَلَى مَا تَرَكْنَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الدَّلَالَةِ ( فِي مَوَاضِعَ ) عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْأُصُولِ لِحُكْمِ أَحَدِ الْخَبَرَيْنِ يُوجِبُ كَوْنَهُ أَوْلَى مِمَّا تُنَافِيهِ الْأُصُولُ ( فِي مَوَاضِعَ ) فَكَرِهْنَا إعَادَتَهُ مَخَافَةَ التَّطْوِيلِ .

فَصْلٌ فِي حُكْمِ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا وَلَا يُعْلَمُ تَارِيخُهَا.
مِنْ هَذَا الْبَابِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي النَّصِّ إذَا وَرَدَتْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ حُكْمِهِ مُنْفَرِدًا عَنْهَا كَانَ نَسْخًا ، وَأَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ وَرَدَتْ مُتَّصِلَةً بِالنَّصِّ مَعْطُوفَةً عَلَيْهِ - كَاتِّصَالِ الِاسْتِثْنَاءِ بِالْجُمْلَةِ - فَإِنَّهُمَا جَمِيعًا مُسْتَعْمَلَانِ ، فَيَكُونُ النَّصُّ مُسْتَعْمَلًا بِالزِّيَادَةِ الْوَارِدَةِ مَعَهُ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي مِثْلِهِ إفْرَادُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُ الْجُمْلَةِ عَنْ الِاسْتِثْنَاءِ .
وَنَذْكُرُ الْآنَ حُكْمَ الزِّيَادَةِ إذَا وَرَدَتْ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ مُنْفَرِدًا عَنْهَا ، وَلَا نَعْلَمُ تَارِيخَهُمَا فَنَقُولُ : إنَّ الزِّيَادَةَ إنْ كَانَتْ وَرَدَتْ مِنْ جِهَةٍ ثَبَتَ النَّصُّ بِمِثْلِهَا فَإِنَّ طَرِيقَهُ الِاسْتِدْلَال بِالْأُصُولِ ، فَإِنْ شَهِدَتْ الْأُصُولُ مِنْ عَمَلِ السَّلَفِ أَوْ النَّظَرِ عَلَى ثُبُوتِهِمَا مَعًا أَثْبَتْنَاهُمَا ، فَإِنْ شَهِدَتْ ( بِالنَّصِّ ) مُنْفَرِدًا عَنْهَا أَثْبَتْنَاهُ دُونَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُصُولِ دَلَالَةً عَلَى إسْقَاطِ حُكْمِ الزِّيَادَةِ وَإِثْبَاتِ النَّصِّ دُونَهَا فَالْوَاجِبُ أَنْ يُحْكَمَ فِي ذَلِكَ بِوُرُودِهِمَا مَعًا ، وَيَكُونَانِ بِمَنْزِلَةِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ إذَا وَرَدَا وَلَا نَعْلَمُ تَارِيخَهُمَا ، وَلَا فِي الْأُصُولِ دَلَالَةٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَضَاءِ بِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ ، فَيَكُونَانِ مُسْتَعْمَلَيْنِ جَمِيعًا .
كَذَلِكَ إذَا وَرَدَتْ الزِّيَادَةُ وَالنَّصُّ وَلَمْ نَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا وَلَا مَعَ أَحَدِهِمَا دَلَالَةٌ مِنْ الْأُصُولِ وَلَا اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِلنَّصِّ دُونَ الزِّيَادَةِ ، فَالْحُكْمُ بِوُرُودِهِمَا مَعًا وَاجِبٌ فَيَكُونُ النَّصُّ ثَابِتًا بِزِيَادَتِهِ .
وَأَمَّا إذَا كَانَ وُرُودُ النَّصِّ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِمُوجِبِهِ ، نَحْوُ أَنْ يَكُونَ نَصَّ الْكِتَابِ أَوْ سُنَّةً ثَابِتَةً بِالنَّقْلِ ( الْمُسْتَفِيضِ ) وَكَانَ وُرُودُ الزِّيَادَةِ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلْحَاقُهَا بِالنَّصِّ الثَّابِتِ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالنَّقْلِ الْمُسْتَفِيضِ ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً مَوْجُودَةً ( مَعَ النَّصِّ ) لِنَقْلِهَا إلَيْنَا مِنْ نَقْلِ النَّصِّ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إثْبَاتَ النَّصِّ مَعْقُودًا بِالزِّيَادَةِ ، فَيَقْتَصِرُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( عَلَى ) إبْلَاغِ النَّصِّ مُنْفَرِدًا مِنْهَا ، فَوَاجِبٌ

إذَنْ ) أَنْ يَذْكُرَهَا مَعَهُ ، وَلَوْ ذَكَرَهُمَا مَعًا لَنَقَلَ الزِّيَادَةَ مَنْ نَقَلَ النَّصَّ .
فَإِنْ كَانَ النَّصُّ مَذْكُورًا فِي الْقُرْآنِ وَالزِّيَادَةُ وَارِدَةً مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَقْتَصِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تِلَاوَةِ الْحُكْمِ الْمُنَزَّلِ فِي الْقُرْآنِ دُونَ أَنْ يُعْقِبَهَا بِذِكْرِ الزِّيَادَةِ ، لِأَنَّ حُصُولَ الْفَرَاغِ مِنْ النَّصِّ الَّذِي يُمْكِنُ اسْتِعْمَالُهُ بِنَفْسِهِ يَلْزَمُنَا اعْتِقَادُ مُقْتَضَاهُ مِنْ حُكْمِهِ ، نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ }
فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ هُوَ الْجَلْدَ وَالنَّفْيَ أَوْ الْجَلْدَ وَالرَّجْمَ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَتْلُوَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْآيَةَ عَلَى النَّاسِ عَارِيَّةً مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ عَقِيبَهَا ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ مَعَهَا يُلْزِمُنَا اعْتِقَادَ مُوجِبِهَا ، وَلِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِيهَا هُوَ كَمَالُ الْحَدِّ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْجَزَاءِ عِنْدَ إيقَاعِهِ ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ مَعَهُ نَفْيٌ أَوْ رَجْمٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْفِعْلِ لَكَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ ( أَنَّهُ ) بَعْضُ الْحَدِّ وَأَنَّهُ جَمِيعُهُ ، فَإِذَا أَخْلَى النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ التِّلَاوَةَ مِنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ عَقِيبَهَا ، فَقَدْ أَلْزَمَنَا اعْتِقَادَ الْجَلْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ( حَدًّا كَامِلًا ) ، فَغَيْرُ جَائِزٍ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِهِ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ جَلْدًا ، كَانَ ذَلِكَ نَسْخًا لِمَا فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ { وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ الْجَلْدُ وَالرَّجْمُ } .
وَكَذَلِكَ لَمَّا رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يَجْلِدْهُ دَلَّ عَلَى ( أَنَّهُ ) نَسَخَ الْجَلْدَ مَعَ الرَّجْمِ .
كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } عَارِيًّا عَنْ ذِكْرِ النَّفْيِ وَالرَّجْمِ مُوجِبًا لِنَسْخِ النَّفْيِ الْمَذْكُورِ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ ( بْنِ الصَّامِتِ ) { الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ }
فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ثَابِتَةً مَعَ الْأَصْلِ لَذَكَرَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ ، وَلَوْ ذَكَرَهَا لَنَقَلَتْهَا " الْكَافَّةُ الَّتِي نَقَلَتْ الْأَصْلَ ، إذْ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ أَنْ يَعْلَمُوا ( الْحَدَّ ) الْجَلْدَ

وَالنَّفْيَ جَمِيعًا فَيَنْقُلُوا الْجَلْدَ دُونَ النَّفْيِ .
كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلُوا بَعْضَ الْحَدِّ دُونَ بَعْضٍ وَقَدْ سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ الْجَمِيعَ
فَلَمَّا عَدِمْنَا نَقْلَ الْكَافَّةِ لِلزِّيَادَةِ حَسَبِ نَقْلِهَا لِلنَّصِّ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ ، إذْ كَانَ ( السَّامِعُونَ لِلْآيَةِ مُعْتَقِدِينَ نَقْلَ ) الزِّيَادَةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ الْأَصْلِ وَغَيْرُ جَائِزٍ عَلَيْهِمْ التَّبْعِيضُ وَتَرْكُ النَّقْلِ فِيمَا كَانَ هَذَا وَصْفَهُ ، فَامْتَنَعَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِالنَّصِّ مِنْ جِهَةٍ تُوجِبُ الْعِلْمَ بِنَقْلِ الْكَافَّةِ إيَّاهَا ، فَلَا تَخْلُو حِينَئِذٍ الزِّيَادَةُ الْوَارِدَةُ مِنْ جِهَةِ الْآحَادِ إنْ كَانَتْ ثَابِتَةً مِنْ أَنْ تَكُونَ قَبْلَ النَّصِّ أَوْ بَعْدَهُ .
فَإِنْ كَانَتْ قَبْلَهُ فَقَدْ نَسَخَهَا النَّصُّ الْمُطْلَقُ عَارِيًّا مِنْ ذِكْرِ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَهُ فَهَذَا يُوجِبُ نَسْخَ الْآيَةِ ، وَغَيْرُ جَائِزٍ نَسْخُ الْآيَةِ بِخَبَرٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَمِنْ نَحْوِ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وَالْقِيَاسُ الَّذِي ( شَرْطٌ فِي الرَّقَبَةِ الْإِيمَانِ ) يُوجِبُ نَسْخَ مَا فِي الْآيَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا .
وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتَقَ رَقَبَةً ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِلَّذِي سَأَلَهُ عَنْ الْإِفْطَارِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ : أَعْتِقْ رَقَبَةً ، وَلَمْ يَشْرِطْ فِيهَا الْإِيمَانَ مَعَ عِلْمِهِ بِجَهْلِ السَّائِلِ بِالْحُكْمِ فَلَا يَجُوزُ زِيَادَةُ شَرْطِ الْإِيمَانِ فِيهَا إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ ، وَهَذَا يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ وَإِلْحَاقَ شَرْطِ الْإِيمَانِ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ .
أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَسْخَ الْآيَةِ لَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْقِيَاسَ لَوْ أَوْجَبَ شَرْطَ الْإِيمَانِ فِيهَا لَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ لِئَلَّا يَعْتَقِدَ السَّائِلُ غَيْرَهُ ، وَلِئَلَّا يَقْدَمَ فِي الْحَالِ عَلَى تَنْفِيذِهَا فِي رَقَبَةٍ كَافِرَةٍ ، إذْ قَدْ أَمَرَهُ بِعِتْقِهَا فِي الْحَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اُغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } عَقَلْنَا مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهَا غَيْرُ الرَّجْمِ إذْ كَانَ مَأْمُورًا فِي الْحَالِ بِتَنْفِيذِ هَذَا

الْحُكْمِ وَإِمْضَائِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَدُّ لَا غَيْرُ .
كَذَلِكَ أَمْرُهُ السَّائِلَ بِرَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ فِي الْحَالِ أَيِّ رَقَبَةِ كَانَتْ ، يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ هِيَ الْوَاجِبَةَ كَافِرَةً كَانَتْ أَوْ مُسْلِمَةً .
وَأَمَّا إذَا كَانَ ثُبُوتُ النَّصِّ مِنْ جِهَةِ أَخْبَارِ الْآحَادِ ، فَإِنَّهُ جَائِزٌ إلْحَاقُ الزِّيَادَةِ بِهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ نَسْخُهُ بِهِ عَلَى الِاعْتِبَارِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْخَبَرَيْنِ الْمُتَضَادَّيْنِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ تَارِيخَهُمَا ، وَلَمْ يُرِدْ مَعَ النَّصِّ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ ( مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِذَا كَانَتْ وَارِدَةً مَعَ النَّصِّ
فِي خِطَابِ وَاحِدٍ ) فَلَيْسَتْ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي النَّصِّ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ الْجُمْلَةُ كُلُّهَا هِيَ النَّصُّ فَجَمِيعُهَا ثَابِتُ الْحُكْمِ .
وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وُقُوعُ النَّسْخِ بِهِ ، وَهَذَا مَا لَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا بَيْنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ مِمَّنْ يُعْتَدُّ بِقَوْلِهِ .
وَحُكِيَ لِي عَنْ بَعْضِ مِنْ ( كَانَ بِبَغْدَادَ مِنْ ) أَذْنَابِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ كَانَ يُجِيزُ نَسْخَ الْقُرْآنِ قِيَاسًا عَلَى نَصٍّ فِي الْقُرْآنِ .
وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ قِيَاسًا عَلَى سُنَّةٍ أُخْرَى .
وَاَلَّذِي يَحْكِي عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ خَامِلٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَخِلَافُهُ فِي ذَلِكَ كَخِلَافِ رَجُلٍ مِنْ الْعَامَّةِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لَوْ خَالَفَ عَلَى أَهْلِ عَصْرِهِ ، فَكَيْفَ بِهِ إذَا خَالَفَ عَلَى السَّلَفِ وَالْخَلَفِ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الْأَعْصَارِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْمَأْثُورِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبَاحَةِ الِاجْتِهَادِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ .
فَمِنْهُ مَا رُوِيَ بِالنَّقْلِ الشَّائِعِ الَّذِي تَلَقَّاهُ النَّاسُ بِالْقَبُولِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِمُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ إلَى الْيَمَنِ بِمَ تَقْضِي قَالَ : بِكِتَابِ اللهِ ، قَالَ : فَإِنْ جَاءَك شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ ، قَالَ : أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ قَالَ : فَإِنْ جَاءَك شَيْءٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللهِ قَالَ : أَجْتَهِدُ رَأْيِي ، قَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَهُ لِمَا يُحِبُّهُ رَسُولُ اللهِ } .

فَأَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جَوَازَ الِاجْتِهَادِ مَقْصُورٌ عَلَى عَدَمِ النَّصِّ الْمُتَوَارَثِ عَنْ الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ فُقَهَاءِ سَائِرِ الْأَعْصَارِ إذَا اُبْتُلُوا بِحَادِثَةٍ طَلَبَ حُكْمَهَا مِنْ النَّصِّ ، ثُمَّ إذَا عَدِمُوا النَّصَّ فَزِعُوا إلَى الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ ، وَلَا يُسَوِّغُونَ لِأَحَدٍ الِاجْتِهَادَ وَاسْتِعْمَالَ الْقِيَاسِ مَعَ النَّصِّ .
أَلَا تَرَى إلَى مَارُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ { مَنْ أَتَاهُ مِنْكُمْ أَمْرٌ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ وَلَا سُنَّةِ رَسُولِهِ فَلْيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ } .
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا نَزَلَ بِهِ نَازِلَةٌ مِنْ أَمْرِ الْأَحْكَامِ سَأَلَ الصَّحَابَةَ : هَلْ فِيكُمْ مَنْ يَحْفَظُ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا شَيْئًا فَإِذَا رُوِيَ لَهُ فِيهَا ( أَثَرٌ ) قَبِلَهُ وَلَمْ يَفْتَقِرْ مَعَهُ إلَى مُشَاوَرَةٍ وَلَا اجْتِهَادٍ ، فَإِذَا عَدِمَ حُكْمَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَزِعَ إلَى مُشَاوَرَةِ الصَّحَابَةِ وَإِلَى اجْتِهَادِ الرَّأْيِ فِيهَا " .
وَكَذَلِكَ كَانَ أَمْرُ سَائِرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ إنَّمَا كَانُوا يَفْزَعُونَ إلَى النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ عِنْدَ عَدَمِ النُّصُوصِ ، وَلَمْ يُحْكَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ مُقَابَلَةُ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ وَلَا مُعَارَضَتُهُ بِالِاجْتِهَادِ .
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا أَنَّ نَصَّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ يُوجِبَانِ

الْعِلْمَ بِمَا تَضَمَّنَاهُ ، وَالْقِيَاسُ الشَّرْعِيُّ لَا يُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِمُوجِبِهِ وَإِنَّمَا هُوَ غَالِبُ ظَنٍّ فَغَيْرُ جَائِزٍ رَفْعُ مَا أَوْجَبَ الْعِلْمُ بِمَا لَا يُوجِبُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَلَفَ مِنْ الْقَوْلِ فِي تَخْصِيصِ النَّصِّ بِالْقِيَاسِ
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : يَلْزَمُك عَلَى هَذَا أَلَّا تُزِيلَ الْإِبَاحَةَ الثَّابِتَةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الشَّرْعِ بِالْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ ، لِأَنَّ ثُبُوتَهَا مِنْ طَرِيقِ الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ .
قِيلَ ( لَهُ ) : هَذَا غَلَطٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْعَقْلَ وَإِنْ دَلَّ عَلَى إبَاحَةِ أَشْيَاءَ فِي الْجُمْلَةِ ، فَإِنَّا مَتَى قَصَدْنَا إلَى اسْتِبَاحَةِ شَيْءٍ مِنْهَا بِعَيْنِهِ ، فَإِنَّمَا نَسْتَبِيحُهُ مِنْ طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبِ الظَّنِّ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَلَبَ ( فِي ) ظَنِّنَا أَنَّ عَلَيْنَا فِي تَنَاوُلِهِ ضَرَرًا أَكْثَرَ مِمَّا نَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ لَمْ يَجُزْ لَنَا تَنَاوُلُهُ ، وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الِاسْتِبَاحَةِ طَرِيقُهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ لَا حَقِيقُهُ الْعِلْمِ ، لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَمَّا كَانَتْ مَعْقُودَةً بِأَلَّا يَلْحَقَنَا ضَرَرٌ أَكْثَرُ مِمَّا نَرْجُو مِنْ نَفْعِهِ ، وَكَانَ هَذَا الْمَعْنَى مَوْقُوفًا عَلَى غَلَبَةِ الظَّنِّ ، بَطَلَ قَوْلُ الْقَائِلِ : إنَّ اسْتِبَاحَةَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ
وَهَذَا نَظِيرُ مَا نَقُولُ : إنَّهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ قَبُولُ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ فِي الدُّيُونِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } ثُمَّ إذَا أَرَدْنَا قَبُولَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا كَانَ طَرِيقُ قَبُولِهَا الِاجْتِهَادَ وَغَلَبَةَ الظَّنِّ ، لَا مِنْ جِهَةٍ تُفْضِي إلَى الْعِلْمِ بِصِحَّةِ مَقَالَتِهِمَا فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا .
وَأَيْضًا : فَإِنَّ النَّسْخَ لَمَّا كَانَ بَيَانًا لِمِقْدَارِ مُدَّةِ الْحُكْمِ وَكَانَ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ الْمَقَادِيرِ مِنْ طَرِيقِ الْمَقَايِيسِ ، كَتَوْقِيتِ مِقْدَارِ فَرْضِ الصَّوْمِ وَرَكَعَاتِ الظُّهْرِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُ النَّسْخِ بِالْقِيَاسِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَقْدِيرِ مُدَّةِ الْفَرْضِ .

الْبَابُ الْحَادِيْ وَالْأَرْبَعُوْنَ: فِي الْقَوْلِ فِيمَا يُنْسَخُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمَا لَا يُنْسَخُ
وَفِيْهِ فَصْلٌ: الدَّلِيْلُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ

فارغة

بَابُ الْقَوْلِ ( فِيمَا يُنْسَخُ ) بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَمَا لَا يُنْسَخُ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ :
قَدْ ثَبَتَ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .
وَكَذَلِكَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ .
وَجَائِزٌ عِنْدَنَا نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، وَ ( نَسْخُ ) الْقُرْآنِ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ التَّوَاتُرِ .

وَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ وَلَا نَسْخُ السُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ جِهَةِ التَّوَاتُرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَيَجُوزُ نَسْخُ مَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ .
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ يُوجِبُ الْعِلْمَ فَجَائِزٌ نَسْخُهُ بِمَا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
( فَلَا ) يَجُوزُ نَسْخُهُ بِمَا لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ طَرِيقٍ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْعَمَلَ فَجَائِزٌ نَسْخُهُ بِمِثْلِهِ وَبِمَا هُوَ آكَدُ مِنْهُ مِمَّا يُوجِبُ الْعِلْمَ .
فَصْلٌ
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } فَإِذَا كَانَ النَّسْخُ بَيَانًا لِمُدَّةِ الْحُكْمِ عَلَى مَا بَيَّنَّا اقْتَضَى عُمُومُ الْكِتَابِ جَوَازَ نَسْخِ السُّنَّةِ ( بِهِ ) ، وَأَيْضًا : لَمَّا جَازَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ وَجَبَ أَنْ يَجُوزَ نَسْخُهَا أَيْضًا بِوَحْيٍ هُوَ قُرْآنٌ ، لِأَنَّهُمَا وَحْيٌ مِنْ اللهِ تَعَالَى .
وَأَيْضًا : لَا خِلَافَ بَيْنَ السَّلَفِ فِي جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، لِأَنَّ الرِّوَايَاتِ قَدْ تَظَاهَرَتْ عَنْهُمْ فِي أَشْيَاءَ مِنْ السُّنَنِ ذَكَرُوا أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِالْقُرْآنِ .
مِنْهَا ( مَا ) رُوِيَ فِي شَأْنِ الْقِبْلَةِ : { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَلَّى بِضْعَةَ عَشَرَ

شَهْرًا إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَوَلِّ وَجْهَك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وَنَسَخَ بِهِ التَّوَجُّهَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ } .
وَرَوَى أَبُو رَافِعٍ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، فَقَالَ النَّاسُ : يَا رَسُولَ اللهِ مَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي أَمَرْتَ بِقَتْلِهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَك مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ ( مُكَلِّبِينَ ) } } قَالَ أَبُو بَكْرٍ : فَأَخْبَرَ أَنَّ نَسْخَ قَتْلِ الْكِلَابِ كَانَ بِالْآيَةِ .
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ثُمَّ أَنْزَلَ ( قَوْلَهُ ) { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ } .
وَرُوِيَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مَحْظُورًا عَلَيْهِمْ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ } فَنَسَخَ ( بِهِ ) الْحَظْرَ الْمُتَقَدِّمَ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ قُرَيْشًا عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ إلَيْهِمْ مَنْ جَاءَهُ مِنْ نِسَائِهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا ، فَنُسِخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } } الْآيَةُ .
رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ السَّلَفِ { أَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَيْنَبَ عَلَى أَبِي الْعَاصِ } مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ }
وَقَالَ قَتَادَةُ : كَانَ رَدُّهُ إيَّاهَا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ سُورَةُ

بَرَاءَةٌ " فَرَأَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخٌ بِسُورَةِ " بَرَاءَةٌ " يَعْنِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - قَوْله تَعَالَى : { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَنِسَاؤُهُ عِنْدَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ بَعْدَ أَنْ كُنَّ غَيْرَ مُحَجَّبَاتٍ } .
وَمِنْهَا تَبَنِّي النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَتَبَنِّي أَبِي حُذَيْفَةَ سَالِمًا نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالكُمْ } وقَوْله تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ } .
{ وَكَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمَرَهُمْ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِفَسْخِ الْحَجِّ ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ : ذَلِكَ مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }.
وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ ، وَقَدْ اعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ عَلَى هَذَا ، وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ يَقِفُ مِنْ تَأْوِيلِ مُجْمَلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا لَا يُشْرِكُهُ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِهِ ، فَلَيْسَتْ لَهُ سُنَّةٌ لَا كِتَابَ فِيهَا إلَّا وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا فِي الْكِتَابِ جُمْلَةٌ تَدُلُّ عَلَيْهَا ، فَخَصَّ ( اللَّهُ تَعَالَى ) رَسُولَهُ بِعِلْمِ ذَلِكَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّ آيَةً نَسَخَتْ سُنَّةً ، لِأَنَّ تِلْكَ السُّنَّةَ قَدْ تَكُونُ مَأْخُوذَةً مِنْ جُمْلَةِ ( هَذَا ) الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ ( عَلَيْنَا ) عِلْمُ ذَلِكَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْكَلَامُ بَيِّنُ الِانْحِلَالِ ظَاهِرُ السُّقُوطِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ جَوَازَ مَا ذَكَرَهُ

يَمْنَعُ وُجُودَ نَسْخِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ وَنَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ آيَتَيْنِ ظَاهِرُهُمَا النَّسْخُ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ إحْدَاهُمَا إنَّمَا كَانَ بِسُنَّةِ الرَّسُولِ وَإِنْ لَمْ يُنْقَلْ إلَيْنَا إلَّا بِقُرْآنٍ .
وَ ( أَنَّ ) الْقُرْآنَ إنَّمَا نَزَلَ بَعْدَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ قَدْ سَنَّهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَسَخَ بِهِ الْقُرْآنَ ، وَكُلُّ سُنَّتَيْنِ كَانَ ظَاهِرُهُمَا النَّسْخَ فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَسْخُ الْمَنْسُوخِ مِنْهُمَا إنَّمَا كَانَ بِحُكْمٍ أَوْجَبَهُ جُمْلَةٌ مِنْ الْقُرْآنِ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا } وقَوْله تَعَالَى : { فَاتَّبَعُوهُ } وقَوْله تَعَالَى : { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ، وَعَلَى
أَنَّ هَذَا يُوجِبُ أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَّةٌ رَأْسًا وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ مَا سَنَّهُ ( فَإِنَّمَا هُوَ ) بَيَانٌ لِجُمْلَةٍ مَذْكُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ ، وَقَدْ عَلِمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَفْسِيرَهَا دُونَنَا لِمَا خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ مِنْ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ الَّتِي لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ .
وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ مَعْلُومٌ مِنْ اتِّفَاقِ الْأُمَّةِ ، لِأَنَّهَا قَدْ عَقَلَتْ أَنَّ فِي الشَّرِيعَةِ أَحْكَامًا مَأْخُوذَةً مِنْ الْكِتَابِ ، وَأَحْكَامًا لَيْسَتْ مِنْ الْكِتَابِ مَأْخُوذَةً مِنْ السُّنَّةِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : إنَّ ( هَذَا الْقَوْلَ ) الَّذِي عَارَضْت بِهِ مَا حَكَيْت يَرُدُّهُ ظَاهِرُ الْكِتَابِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } فَقَدْ أَفْصَحَ الْكِتَابُ بِأَنَّ بَعْضَهُ يَنْسَخُ بَعْضًا .
قِيلَ لَهُ : نَقُولُ لَك إنَّمَا أَفْصَحَ الْكِتَابُ بِوُجُودِ النَّسْخِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ نَسْخَهُ بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ بِسُنَّةٍ نُوحِي بِهَا إلَيْك نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا .

وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } بِأَنْ نَنْسَخَهَا بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ثُمَّ نَنْزِلُ أُخْرَى مَكَانَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَاسِخَةً لَهَا ، فَلَا يُمْكِنُ الْقَائِلُ بِمَا وَصَفْنَا الِانْفِصَالَ مِمَّنْ نَفَى نَسْخَ الْكِتَابِ إلَّا بِالسُّنَّةِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ إلَّا بِالْكِتَابِ ، فَإِنْ قَالَ : قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى جَوَازِ نَسْخَ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَنَسْخَ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ .
قِيلَ لَهُ : الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ هُمْ الَّذِينَ اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ .
فَإِنْ قَالَ ( قَائِلٌ ) : الشَّافِعِيُّ يُخَالِفُ فِي ذَلِكَ .
قِيلَ لَهُ : مَنْ تَقَدَّمَ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَجَازُوا ذَلِكَ فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّافِعِيُّ
خِلَافًا عَلَيْهِمْ وَهُوَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْكِيَ هَذَا الْقَوْلَ عَنْ أَحَدٍ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُ .
وَقَدْ حَكَيْنَا نَحْنُ عَنْ خَلْقٍ مِنْ السَّلَفِ جَوَازَهُ فَإِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الشَّافِعِيُّ خِلَافًا عَلَى مَنْ تَقَدَّمَهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْقَائِلُ الَّذِي حَكَيْنَا قَوْلَهُ وَعَارَضْنَا بِهِ قَوْلَ الشَّافِعِيِّ خِلَافًا عَلَيْنَا وَعَلَى الشَّافِعِيِّ جَمِيعًا .
ثُمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِلُ : ( لَمْ نَرَ ) مَنْ خَالَفَ ( فِي ) هَذَا أَوْرَدَ آيَةً نُسِخَتْ عِنْدَهُ لِسُنَّةٍ ، وَقَدْ وَجَدْنَا لَهَا جُمْلَةً فِي الْكِتَابِ نَحْوُ مَا ادَّعَوْهُ مِنْ نَسْخِ اسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَاسْتِحْلَالِ الْخَمْرِ وَتَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ بَعْدَ النَّوْمِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ .
فَقَدْ يَكُونُ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مَأْخُوذًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ شُرْبَهَا لَا يَحِلُّ وَفِيهِ إثْمٌ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...
} الْآيَةُ .
وَتَحْرِيمُ مَا يَحِلُّ لِلْمُفْطِرِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ قَدْ يَكُونُ مَأْخُوذًا مِنْ جُمْلَةِ قَوْلِهِ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } أَيْ عَلَى ( تِلْكَ ) الْهَيْئَةِ .
وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى ذَلِكَ .

قَالَ : وَإِنْ وَرَدَ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ فَيُقَالُ ( لَهُ ) : بِمَ تَنْفَصِلُ مِمَّنْ قَالَ لَك إنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُؤَدِّي ( إلَى ) أَلَّا يَكُونَ فِي شَرِيعَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هُدَى اللَّهُ
فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فِيهِ الْأَمْرُ ( بِالِاقْتِدَاءِ بِالْأَنْبِيَاءِ ) الْمُتَقَدِّمِينَ فِي شَرَائِعِهِمْ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ مَا شَرَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ شَرَائِعِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ ، وَأَنَّ مَعْنَى النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا بَقَاءُ الْحُكْمِ الْمَنْسُوخِ فِيهِمْ هَذِهِ الْمُدَّةَ مِنْ الزَّمَانِ ثُمَّ نُقِلُوا إلَى الْحُكْمِ الثَّانِي ، فَلَا شَيْءَ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ مِنْ حَظْرٍ أَوْ إيجَابٍ أَوْ إبَاحَةٍ إلَّا وَقَدْ كَانَ مِثْلُهُ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ فِي شَرِيعَتِنَا .
وَإِنَّمَا صَارَ فِي شَرِيعَتِنَا ( بِقَوْلِهِ تَعَالَى ) { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } .
فَإِنْ قَالَ : لَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّا قَدْ عَلِمْنَا كَوْنَ أَشْيَاءَ مُبَاحَةً فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا حُظِرَتْ فِي شَرِيعَتِنَا كَالْخَمْرِ وَنَحْوِهَا ، وَكَوْنَ أَشْيَاءَ مَحْظُورَةٍ فِي شَرِيعَتِهِمْ أَبَاحَتْهَا شَرِيعَتُنَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا } قِيلَ لَهُ : نَقُولُ لِهَذَا الْقَائِلِ لَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا حُظِرَ بَعْدَ الْإِبَاحَةِ وَأُبِيحَ بَعْدَ الْحَظْرِ إلَّا وَقَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ ( مِنْ ) قَبْلِنَا كَذَلِكَ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ فَتَعَبَّدَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فِي الْحُكْمِ فِي ( مِثْلِ ) الْمُدَّةِ الَّتِي فِيهَا الْحَظْرُ أَوْ الْإِبَاحَةُ .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : مَا أَنْكَرْت أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا أَنَّ سُنَنَ الْأَنْبِيَاءِ قَدْ كَانَ يَجُوزُ نَسْخُهَا بِالْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ مِنْ اللهِ تَعَالَى إذْ لَيْسَ ( مَعَنَا ) نَصٌّ وَلَا إجْمَاعٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهْ } فَيَنْتَظِمُ جَوَازُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ كَمَا كَانَ فِي شَرِيعَةِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي حَظْرِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ ( بَعْدَ النَّوْمِ ) ، وَنَسْخُهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ، وَأَنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ فِي الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ إثْبَاتَهُ عَلَيْنَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُنَا أَلَّا نَجْعَلَ هَذَا الْحُكْمَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } ، وَأَنَّهُ إنَّمَا زَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ بَقِيَ فِيهَا ، لِأَنَّهُ كَذَلِكَ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَلَا يَكُونُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَرِيعَتِنَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ }
ثُمَّ قَالَ : حُظِرَ ( عَلَيْهِمْ ) الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ بَعْدَ النَّوْمِ مِقْدَارَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ إبَاحَةُ جَمِيعِ ذَلِكَ بِاللَّيْلِ بَعْدَ النَّوْمِ وَقَبْلَهُ ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ نَسْخُ شَيْءٍ وَإِنَّمَا كَانَ يَكُونُ فِيهِ إيجَابُ حُكْمٍ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَلَا يُمْكِنُهُ مَعَ ذَلِكَ الِانْفِصَالُ مِمَّنْ يَنْفِي مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ وُجُودَ نَاسِخٍ ، وَمَنْسُوخٍ فِي الْقُرْآنِ ، لِأَنَّ مَنْ يَنْفِي مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا نَسْلُكُ فِيهِ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ وَيَجْرِي ( فِيهِ ) عَلَى هَذَا الْمِنْهَاجِ فِي نَفْيِ النَّسْخِ .
وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ الْفَسَادِ وَعَلَى أَنَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَيْنَا الصِّيَامُ ، وَالصِّيَامُ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ وَإِنْ حُظِرَ الْأَكْلُ فِيهِ بَعْدَ النَّوْمِ فَكَيْفَ يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ وَقَدْ بَيَّنَ ( ذَلِكَ ) فِي سِيَاقِ الْآيَةِ

فِي قَوْله تَعَالَى : { أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ } فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّوْمَ الَّذِي كُتِبَ عَلَيْنَا ( كَمَا كُتِبَ عَلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا إنَّمَا هُوَ أَيَّامٌ مَعْدُودَاتٌ ) فَلَمْ يَتَنَاوَلْ اللَّيْلَ قَطُّ فَسَقَطَ قَوْلُهُ إنَّ مَا نُسِخَ مِنْ ذَلِكَ قَدْ كَانَ مُوجِبًا بِالْآيَةِ قَبْلَ نَسْخِهَا .
وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } وَأَنَّهُ قَدْ قَرَنَهَا بِالْإِثْمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ } ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } وَهَذَا اللَّفْظُ قَدْ اقْتَضَى تَحْرِيمَهَا لِأَنَّ الْإِثْمَ كُلَّهُ مُحَرَّمٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ } ، وَ ( ذِكْرُ الْمَنَافِعِ ) الَّتِي فِيهَا لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ قَدْ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي أُمُورِ الدُّنْيَا مَعَ بَقَاءِ الْحَظْرِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : إنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِشُرْبِهِمْ إيَّاهَا وَإِقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَدْ كَانَ يَشْرَبُهُ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْحَظْرِ وَظَنَّ أَنَّ الْآيَةَ لَمْ تُوجِبْ تَحْرِيمَهَا .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَيْسَ فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ بَعْدَ إبَاحَتِهَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْت ، لِأَنَّ إبَاحَتَهَا قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ كَانَتْ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ وَكَوْنَ الْأَشْيَاءِ مُبَاحَةً فِي الْأَصْلِ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُطْلَقُ فِيهِ اسْمُ النَّسْخِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُرُودُ الْكِتَابِ بِحَظْرِهَا ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ : إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ بِالسُّنَّةِ هَلْ يَجُوزُ نُزُولُ الْقُرْآنِ بِزَوَالِهِ وَنَسْخِهِ أَمْ لَا .
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَشْرَبُونَهَا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ مَعَ عِلْمِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فَصَارَ إقْرَارُهُ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ( إبَاحَةً مِنْهُ بِشُرْبِهَا مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَوْ قَالَ : قَدْ أَبَحْت لَكُمْ شُرْبَهَا لَا فَرْقَ بَيْنَ وُجُودِ لَفْظِهِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ ذَلِكَ وَبَيْنَ إقْرَارِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ ) ، وَقَدْ وَرَدَتْ الْآيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِنَسْخِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فَثَبَتَ نَسْخُ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ .

وَالْوَجْهُ الْآخَرُ ( أَنَّ ) دَلَالَتَنَا عَلَى مَا اسْتَدْلَلْنَا ( بِهِ ) عَلَيْهِ قَائِمَةٌ ، لِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ فِي الِاسْمِ لَا فِي الْمَعْنَى ، وَإِذَا جَازَ أَنْ يُزِيلَ اللَّهُ حُكْمًا أَقَامَ عَلَيْهِ الدَّلَالَةَ فِي الْأَصْلِ مِنْ طَرِيقِ الْعَقْلِ بِالْقُرْآنِ ، جَازَ أَنْ يُزِيلَ بِهِ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ عِنْدِهِ فَجِهَةُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ صَحِيحَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا .
وَأَمَّا قَوْلُ هَذَا الرَّجُلِ وَكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ وَرَدَ مَا لَا يُمْكِنُ فِيهِ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا مِنْ الْكِتَابِ وَإِنْ خَفِيَ عَلَيْنَا عِلْمُهُ .
فَإِنَّهُ يُقَالُ ( لَهُ ) : هَلْ يَجُوزُ عِنْدَك أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى مُرَادٌ فِي حُكْمٍ يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ لَفْظٌ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ فَيَخْفَى عَامُّهُ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ ؟ .
فَإِنْ قَالَ : نَعَمْ جَوَازُ أَنْ يَكُونَ هَاهُنَا أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَدْ خَفِيَ عِلْمُهَا عَنْ الْأُمَّةِ فَأَخْطَئُوهَا ، وَحَكَمُوا بِغَيْرِهَا وَهَذَا يُوجِبُ جَوَازَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى الْخَطَأِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وُقُوعَ ذَلِكَ مَأْمُونٌ مِنْهُمْ .
وَإِنْ قَالَ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، قِيلَ لَهُ : فَلِمَ أَجَزْت أَنْ تَرِدَ آيَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِيهَا ثُمَّ يُنْسَخُ ذَلِكَ الْحُكْمُ ، فَلَا يَعْلَمُ النَّاسُ الْحُكْمَ الْمَنْسُوخَ مِنْ الْكِتَابِ ، فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحُكْمُ قَدْ ذَهَبَ عَنْ الْأُمَّةِ لِأَنَّ مُخَالِفِيك يَقُولُونَ:لَيْسَ فِي الْكِتَابِ حُكْمٌ قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي اخْتَلَفْنَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا الْكِتَابُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ وَرَدَ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ وَتَزْعُمُ أَنْتَ أَنَّك لَا تَقِفُ عَلَيْهِ وَلَا تَعْلَمُهُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حُكْمٌ قَدْ خَفِيَ عَلَيْك فَقَدْ أَدَّاك هَذَا إلَى خَفَاءِ الْحُكْمِ عَنْ الْأُمَّةِ بِأَسْرِهَا .
وَلَوْ جَازَ هَذَا لَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَحْكَامًا كَثِيرَةً نَحْنُ مُتَعَبِّدُونَ بِهَا لَمْ تَقِفْ الْأُمَّةُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا ، وَهَذَا قَوْلٌ ظَاهِرُ السُّقُوطِ .

وَيُقَالُ لَهُ : فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ كُلُّ مَا سَنَّهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَهُوَ مِمَّا أَوْجَبَتْهُ جُمْلَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي الْكِتَابِ وَلَمْ نَقِفْ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ مَا نَسَخَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ ثَبَاتِ حُكْمِهِ مِنْ سُنَّتِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسَخَهُ بِمَا اقْتَضَتْهُ جُمْلَةٌ فِي الْكِتَابِ لَمْ نَقِفْ عَلَى مَعْنَاهَا وَيَجِبُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَنٌ بِوَحْيٍ غَيْرِ الْقُرْآنِ .
وَهَذَا قَوْلٌ سَاقِطٌ مَرْدُودٌ ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى أَحْكَامٌ تَخْفَى عَلَى الْأُمَّةِ ، لَمَا صَحَّ الرَّدُّ إلَى كِتَابِ اللهِ تَعَالَى ، وَلَبَطَلَ الِاسْتِدْلَال وَالنَّظَرُ لِأَنَّا مَتَى أَرَدْنَا رَدَّ الْحَادِثَةِ إلَى الْأَصْلِ ، وَجَوَّزْنَا مَعَ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ فِي الْأُصُولِ مَا قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا حُكْمُهُ لَمْ نَأْمَنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ هُوَ مِمَّا قَدْ خَفِيَ عَلَيْنَا حُكْمُهُ مِنْ الْكِتَابِ ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى بُطْلَانِ الْقِيَاسِ ، وَكَفَى بِقَاعِدَةٍ تُؤَدِّي الْبَانِيَ عَلَيْهَا إلَى هَذِهِ الْجَهَالَاتِ فَسَادًا مِنْ إبْطَالِ نَسْخِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَمِنْ أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّسْخُ فِيهِمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالْكِتَابِ وَلَا السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ ، وَإِلَى تَجْوِيزِ ( خَفَاءِ حُكْمٍ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ عَلَى الْأُمَّةِ فَلَا نَعْلَمُهُ وَلَا نَقِفُ عَلَيْهِ ، وَإِلَى تَجْوِيزِ ) أَلَّا يَكُونَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ سُنَّةٌ ، وَأَنَّ جَمِيعَ مَا سَنَّهُ فَهُوَ فِي الْقُرْآنِ ، وَإِلَى بُطْلَانِ رَدِّ الْحَادِثَةِ إلَى الْكِتَابِ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا مِمَّا لَمْ تَقِفْ عَلَيْهِ الْأُمَّةِ .
وَذَكَرَ هَذَا الرَّجُلُ وَجْهًا ثَالِثًا فِي زَعْمِهِ لِتَخْرِيجِ هَذِهِ الْآيَاتِ قَدْ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ سَنَذْكُرُهُ عِنْدَ حِكَايَتِنَا بِقَوْلِهِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَعَلَى أَنَّ الْآيَ الَّتِي احْتَجَجْنَا بِهَا إنَّمَا يُطْلَبُ لَهَا تَأْوِيلٌ يُوَافِقُ مَذْهَبَ مَنْ أَقَامَ الدَّلَالَةَ عَلَى صِحَّةِ الْمَقَالَةِ فِي الْأَصْلِ ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يُعَضِّدْ قَوْلَهُ بِحُجَّةٍ وَلَا شُبْهَةٍ فَلَمْ يَلْجَأْ فِيهِ إلَى دَلَالَةٍ مِنْ عَقْلٍ وَلَا شَرْعٍ ، ثُمَّ اسْتَغَلَّ مَطْلَبَ تَأْوِيلِ

الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِفَسَادِ مَقَالَتِهِ وَحَمَلَهَا عَلَى وُجُوهٍ تُنَاقِضُ الْأُصُولَ وَتُنَافِيهَا كَانَ قَوْلُهُ سَاقِطًا مَطْرُوحًا فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَقَالَتِنَا قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ مُبَيِّنًا فَلَا يَكُونُ الْكِتَابُ إذَنْ مُبَيِّنًا لِقَوْلِهِ .
وقَوْله تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَنْسَخُ آيَةً مِثْلَهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } .
قِيلَ لَهُ لَا يَخْلُو قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إظْهَارَهُ وَتَرْكَ كِتْمَانِهِ ، فَيَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْقُرْآنِ مَا افْتَقَرَ مِنْهُ إلَى بَيَانٍ ، وَمَا لَمْ يَفْتَقِرْ ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إلَيْك مِنْ رَبِّك } ( أَنْ ) يَكُونَ الْمُرَادُ ( مِنْهُ ) مَا احْتَاجَ مِنْهُ إلَى ( بَيَانِ ) الرَّسُولِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ تَعَالَى ( إلَيْهِ ) النَّسْخَ لِلسُّنَّةِ فَيُبَيِّنُهُ ( لِلنَّاسِ ) بِإِظْهَارِهِ إيَّاهُ ، فَهَذَا لَا يَكُونُ دَلَالَةً عَلَى جَوَازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ .
وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَجْهَ الثَّانِيَ ، فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرْت ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لُزُومِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيَانَ مُجْمَلِ الْكِتَابِ ، مَا يَنْفِي نَسْخَ السُّنَّةِ بِحُكْمٍ فِي الْقُرْآنِ غَيْرِ مُفْتَقِرٍ

إلَى بَيَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَّ عَلَيْهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ يَقُولَ : لِتُبَيِّنَ مُجْمَلَ الْكِتَابِ لَمْ يَنْفِ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ ( مَا لَا يَحْتَاجُ ) إلَى الْبَيَانِ مِنْهُ نَاسِخًا لِسُنَّتِهِ .
وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ مَا يَحْصُلُ مِنْ بَيَانِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُتَوَلِّي لِتَبْيِينِهِ بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } مَانِعًا أَنْ يَكُونَ مَا حَصَلَ مِنْ الْبَيَانِ فَهُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّي لِذَلِكَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَيْضًا أَنْ يُبَيِّنَ مُدَّةَ السُّنَّةِ فَيَنْسَخُهَا بِالْكِتَابِ كَمَا تَوَلَّى تَبْيِينَهَا عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَأَيْضًا : لَيْسَ فِي أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ يُبَيِّنُ السُّنَّةَ أَيْضًا ، كَمَا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبَيِّنُ الْقُرْآنَ ، وَلَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ نَسْخَهُ بِهِ ، وَكَمَا أَنَّ السُّنَّةَ تُبَيِّنُ السُّنَّةَ وَتَنْسَخُهَا أَيْضًا ، فَلَيْسَ إذَنْ فِي وَصْفِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ نُبَيِّنُ الْقُرْآنَ مَا يَمْنَعُ أَنْ يَنْسَخَ سُنَّةً بِالْقُرْآنِ .
وَأَيْضًا : فَاَلَّذِي قَالَ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } هُوَ الَّذِي قَالَ : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } فَهَلَّا أَجَزْت لِعُمُومِهِ تَبْيِينَ مُدَّةِ السُّنَّةِ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } مَا يُوجِبُ تَخْصِيصَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ : { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } وَلِتُبَيِّنَ الْكِتَابَ مَا بِسُنَّةٍ إذْ لَيْسَ بَيَانُ مُجْمَلِ الْكِتَابِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنَّمَا يُبَيِّنُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ كَذَا ، أَوْ أَنَّ مُرَادَهُ بِمَا قَالَ كَذَا ، فَلَا يُسَمَّى هَذَا سُنَّةً فَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَى قَوْله تَعَالَى : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْك الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } وَإِيجَابُ تَخْصِيصِهِ .
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : { مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } فَلَيْسَ لَهُ

تَعَلُّقٌ بِمَا ذَكَرْنَا لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ إذَا نَسَخَ آيَةً أَتَى بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا وَلَا دَلَالَةَ فِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ لَا تُنْسَخُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ } ( أَنَّهُ ) لَا يَمْنَعُ أَنْ يُبَدِّلَ آيَةً مَكَانَ سُنَّةٍ وَإِنَّمَا ذَكَرَ حِكَايَةَ قَوْلِ الْكُفَّارِ عِنْدَ نَسْخِ آيَةٍ بِآيَةٍ مِثْلِهَا وَلَمْ يَنْفِ نَسْخَ السُّنَّةِ بِآيَةٍ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي كِتَابِ الرِّسَالَةِ : وَسُنَّةُ رَسُولِ اللهِ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ فِي أَمْرٍ سُنَّ مِنْهُ غَيْرُ مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا مِمَّا يُخَالِفُهَا وَهَذَا مَذْكُورٌ فِي السُّنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَقَدْ ، وَجَدْنَا الدَّلَالَةَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ يَنْسَخُ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ فَأَوْجَبْنَا ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ : فِيمَا وَصَفْت مِنْ فَرْضِ اللهِ عَلَى النَّاسِ اتِّبَاعَ أَمْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا قُبِلَتْ عَنْ اللهِ ، فَمَنْ قَبِلَهَا فَكِتَابُ اللهِ تَعَالَى يَتْبَعُهَا ، وَلَا نَجِدُ خَبَرًا أَلْزَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَلْقَهُ نَصًّا مُبَيِّنًا إلَّا كِتَابَهُ ثُمَّ سُنَّةَ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
فَإِذَا كَانَتْ السُّنَّةُ كَمَا وَصَفْت لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْسَخَهَا إلَّا مِثْلُهَا وَلَا مِثْلَ لَهَا غَيْرُ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا الْفَصْلُ مِنْ كَلَامِهِ يَشْتَمِلُ عَلَى ضُرُوبٍ مِنْ الِاخْتِلَالِ مِنْهَا قَوْلُهُ : إنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنَعَ بِذَلِكَ نَسْخَ السُّنَّةِ إلَّا بِسُنَّةٍ مِثْلِهَا ، ثُمَّ نَقَضَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِي سِيَاقِ كَلَامِهِ ، وَلَوْ أَحْدَثَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ فِي أَمْرٍ سُنَّ فِيهِ غَيْرُ مَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ ، لَيْسَ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً ، فَأَجَازَ بِذَلِكَ أَنْ يَنْسَخَ اللَّهُ سُنَّةَ نَبِيِّهِ بِالْقُرْآنِ ، وَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ بَدْءًا أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ .

فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : لَمْ يَقُلْ إنْ أَحْدَثَ اللَّهُ ذَلِكَ بِقُرْآنٍ يُنَزِّلُهُ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ يَنْسَخُهُ بِوَحْيٍ لَيْسَ بِقُرْآنٍ .
قِيلَ لَهُ : فَإِذَنْ يَكُونُ مَا أَحْدَثَ سُنَّةً لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، لِأَنَّ مَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ غَيْرُ قُرْآنٍ مِنْ الْأَحْكَامِ هِيَ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : لَسُنَّ فِيمَا أَحْدَثَ ( اللَّهُ ) إلَيْهِ ، ، وَاَلَّذِي أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ سُنَّةً لَا يَفْتَقِرُ فِي وُقُوعِ النَّسْخِ بِهَا إلَى سُنَّةٍ أُخْرَى .
وَعَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ أَبْطَلَ تَأْوِيلَ هَذَا الْقَائِلِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذَا الْفَصْلِ .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : فَهَلْ تُنْسَخُ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ .
قِيلَ لَهُ : لَوْ نُسِخَتْ السُّنَّةُ بِالْقُرْآنِ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيهِ سُنَّةٌ تَبَيَّنَ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ ، حَتَّى تَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى النَّاسِ ، فَإِنَّ الشَّيْءَ يُنْسَخُ بِمِثْلِهِ ، فَأَجَازَ نَسْخَهَا بِالْقُرْآنِ إذَا سَنَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يُبَيِّنُ أَنَّ سُنَّتَهُ الْأُولَى مَنْسُوخَةٌ .
وَقَوْلُهُ : لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ سُنَّةً نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا كَلَامٌ مُتَنَاقِضٌ مُسْتَحِيلٌ ، لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ اللَّهَ نَسَخَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ مِنْ خِلَافِ سُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَقَوْلُهُ أَيْضًا : لَسَنَّ فِيمَا أَحْدَثَ اللَّهُ إلَيْهِ حَتَّى يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ لَهُ ( سُنَّةً ) نَاسِخَةً لِلَّتِي قَبْلَهَا .
فَمَا قَدْ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَهُ ( النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بَعْدَهُ ، وَكَيْفَ يَجُوزُ نَسْخُ الْمَنْسُوخِ ، وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَى أَنَّ مَا قَدْ نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَجُوزُ مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّ سُنَّتَهُ نَسَخَتْهُ فَيَكُونُ فِيهِ الْإِخْبَارُ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ ، حَاشَا لَهُ

مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا إلَّا سُنَّةٌ بِمَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ اللهِ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
وَهَذَا لَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ لَا يَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ ، إذْ لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ ( النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَنْفِي جَوَازَ نَسْخِهَا بِالْقُرْآنِ كَمَا لَا يَنْفِي جَوَازَ نَسْخِهَا بِوَحْيٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ لَيْسَ بِقُرْآنٍ ، فَإِذَنْ لَيْسَ فِي الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِ ) النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَعَلُّقٌ بِنَسْخِ السُّنَّةِ بِقُرْآنٍ وَلَا غَيْرِهِ ، لِأَنَّا إنَّمَا أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِ سُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ( الَّتِي ) لَمْ تُنْسَخْ ( فَأَمَّا ) إذَا نَسَخَهَا الْقُرْآنُ أَوْ سُنَّةٌ لَهُ أُخْرَى فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ حِينَئِذٍ بِاعْتِقَادِ نَسْخِهَا وَزَوَالِ حُكْمِهَا ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِاتِّبَاعِ كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ، وَلَمْ يَمْنَعْ جَوَازَ نَسْخِهِ بِالْقُرْآنِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ السُّنَّةَ لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ خَلْقٍ مِنْ خَلْقِ اللهِ فَلَيْسَ يَخْلُو مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ .
إمَّا أَنْ يُرِيدَ أَنَّ نَظْمَهَا مُعْجِزٌ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْخَلْقِ .
أَوْأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْحُكْمَ .
فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ اللَّفْظَ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُ إنَّ كَلَامَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعْجِزٌ بِالنَّظْمِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَفْصَحَ الْخَلْقِ ، وَلَوْ كَانَ كَلَامُهُ مُعْجِزًا لَكَانَ مُسَاوِيًا لِلْقُرْآنِ فِي إعْجَازِ النَّظْمِ وَهَذَا خَلَفٌ مِنْ الْقَوْلِ ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِعْجَازِ النَّظْمِ دُونَ سَائِرِ الْكَلَامِ .
وَلَوْ كَانَ كَلَامُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُعْجِزًا لَتَحَدَّى بِهِ الْعَرَبَ كَمَا تَحَدَّاهُمْ بِالْقُرْآنِ وَلَاسْتَغْنَى النَّاسُ ( بِهِ ) عَنْ طَلَبِ الشَّبَهِ لِمُبَايِنَتِهِ لِكَلَامِ غَيْرِهِ مِنْ الْبَشَرِ فِي إعْجَازِ

نَظْمِهِ كَمَا بَانَ الْقُرْآنُ مِنْ سَائِرِ الْكَلَامِ بِالنَّظْمِ الْمُعْجِزِ وَالتَّأْلِيفِ الْبَدِيعِ الَّذِي لَيْسَ فِي وُسْعِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ فَبَطَلَ هَذَا الْقِسْمُ .
وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْحُكْمَ الثَّابِتَ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ فَإِنَّ أَحَدًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يَقُولُ : إنَّ لِغَيْرِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ الْخَلْقِ أَنْ يَشْرَعَ الشَّرَائِعَ ( وَيَبْتَدِعَ ) الْأَحْكَامَ فَلَا مَعْنَى لِذِكْرِهِ هَاهُنَا إذْ لَيْسَ هُوَ مَوْضِعَ الْخِلَافِ ، لِأَنَّ كَلَامَنَا إنَّمَا هُوَ فِي نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ الَّذِي لَا شِبْهَ لَهُ مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ لَا فِي نَسْخِهَا بِمَا لَهُ شَبَهُ ( كَلَامٍ ) مِنْ كَلَامِ الْمَخْلُوقِينَ ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ السُّنَّةَ لَا شِبْهَ لَهَا مِنْ قَوْلِ أَحَدٍ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ حَصَلَ مَعْنَى كَلَامِهِ ، لِمَا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَنْسَخُهَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ لَا شِبْهَ لَهُ مِنْ قَوْلِهِ أَحَدٌ مِنْ الْخَلْقِ ، وَيَنْسَخُهُ الْقُرْآنُ ( فَكَذَلِكَ السُّنَّةُ لَا يَكُونُ لَهَا شِبْهٌ مِنْ قَوْلِ الْخَلْقِ ، وَيَنْسَخُهَا الْقُرْآنُ ) الَّذِي لَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْمَخْلُوقِينَ فَلَمْ يَحْصُلْ ( لَهُ ) مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَجْهُ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْعِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالْقُرْآنِ .
قَالَ الشَّافِعِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ :وَلَوْ جَازَ أَنْ يُقَالَ قَدْ سَنَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُسِخَتْ سُنَّتُهُ بِالْقُرْآنِ ، وَلَا يُؤْثَرُ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ السُّنَّةُ النَّاسِخَةُ ، جَازَ أَنْ يُقَالَ فِيمَا حَرَّمَ ( رَسُولُ ) اللهِ تَعَالَى مِنْ الْبُيُوعِ كُلِّهَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ حَرَّمَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَفِيمَنْ يُرْجَمُ مِنْ الزِّنَا قَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الرَّجْمُ ( قَبْلَ نُزُولِ ) قَوْله =

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...