ج3.وج4.
ج3. كتاب العقد
الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
مدح خالد بن صفوان
رجلاً فقال: قريع المنطق، جزيل الألفاظ، عربي اللسان، قليل الحركات، حسن الإشارات،
حلو الشمائل، كثيرة الطلاوة، صموتاً قؤولاً، يهنأ الجرب، ويداوي الدبر، ويقل الحز،
ويطبق المفصل، لم يكن بالبرم في مروءته، ولا بالهذر في منطقه، متبوعاً غير تابع.
كأنه علم في رأسه نار
دخل سهل بن هارون على الرشيد، فوجده يضاحك ابنه المأمون، فقال: اللهم زده من الخيرات،
وابسط له في البركات، حتى يكون كل يوم من أيام موفياً على أمسه، مقصراً على غده؛
فقال له الرشيد: يا سهل، من روى من الشعر أحسن وأجوده، ومن الحديث أصحه وأبلغه،
ومن البيان أفصحه وأوضحه، إذا رام أن يقول لم يعجزه؟ قال سهل: يا أمير المؤمنين،
ما ظننت أن أحداً تقدمني سبقني إلى هذا المعنى؛ فقال: بل أعشى همدان حيث يقول:
وجدتك أمس خير بني
لؤي ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غداً تزيد الخير
ضعفاً ... كذاك تزيد سادة عبد شمس
وكان المأمون قد
استثقل سهل بن هارون، فدخل عليه يوماً والناس عنده على منازلهم، فتكلم المأمون
بكلام ذهب فيه كل مذهب؛ فلما فرغ أقبل سهل بن هارون على ذلك الجمع، فقال لهم: ما
لك تسمعون ولا تعون، وتفهمون ولا تعجبون، وتعجبون ولا تصفون، أما والله إنه ليقول
ويفعل في اليوم القصير، مثل ما قالت وفعلت بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم
كعجمهم، وعجمهم كعرب بني تميم، ولكن كيف يشعر بالدواء من لا يعرف الداء؛ قال: فرجع
له المأمون إلى رأيه الأول.
وكان الحجاج بن يوسف
يستثقل زياد بن عمرو العتكي، فلما أثنى الوفد على الحجاج عند عبد الملك بن مروان،
قال زياد: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج سيفك الذي لا ينبو، وسهمك الذي لا يطيش،
وخادمك الذي لا تأخذه فيك لومة لائم. فلم يكن بعد ذلك أحد أخف على الحجاج ولا أحب
إليه منه.
حدث الشيباني قال:
أقام المنصور صالحاً ابنه، فتكلم في أمر فأحسن، فقال شبيب بن شيبة: تالله ما رأيت
كاليوم أبين بياناً، ولا أعرب لساناً، ولا أربط جأشاً، ولا أبل ريقاً، ولا أحسن
طريقاً، وحق لمن كان المنصور أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير:
هو الجواد فإن يلحق
بشأوهما ... على تكاليفه فمثله لحقا
أو يسبقاه على ما كان
من مهل ... فمثل ما قدما من صالح سبقا
وخرج شبيب بن شيبة من
دار الخلافة يوماً، فقيل له: كيف رأيت الناس؟ قال: رأيت الداخل راجياً، والخارج
راضياً.
وقيل لبعض الخلفاء:
إن شبيب بن شيبة يستعمل الكلام ويستعد له، فلو أمرته أن يصعد المنبر فجأة لافتضح.
قال: فأمر رسولاً فأخذ بيده فصعده المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي
صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ألا إن لأمير المؤمنين أشباهاً أربعة: فمنها الأسد
الخادر، والبحر الزاخر، والقمر الباهر، والربيع الناضر؛ فأما الأسد الخادر، فأشبه
منه صولته ومضاءه، وأما البحر الزاخر فأشبه منه جوده وعطاءه، وأما القمر الباهر
فأشبه منه نوره وضياءه، وأما الربيع الناضر فأشبه منه حسنه وبهاءه، ثم نزل.
وقال عبد الملك بن
مروان لرجل دخل عليه: تكلم بحاجتك قال: يا أمير المؤمنين، بهر الدرجة وهيبة
الخلافة يمنعاني من ذلك؛ قال: فعلى رسلك، فإنا لا نحب مدح المشاهدة، ولا تزكية
اللقاء؛ قال: يا أمير المؤمنين، لست أمدحك، ولكن أحمد الله على النعمة فيك، قال:
حسبك فقد أبلغت.
ودخل رجل على
المنصور، فقال له: تكلم بحاجتك؛ فقال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين؛ قال: تكلم
بحاجتك، فإنك لا تقدر على هذا المقام كل حين؛ قال: والله يا أمير المؤمنين، ما أستقصر
أجلك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرف، وإن سؤال لزين، وما لامرئ
بذل وجهه إليك نقص ولا شين. قال: فاحسن جائزته وأكرمه.
حدث إبراهيم بن
السندي قال:
دخل العماني على
المأمون، وعليه قلنسوة طويلة وخف ساذج؛ فقال له: إياك أن تنشدني إلا وعليك عمامة
عظيمة الكور وخفان رائقان. قال: فغدا علي في زي الأعراب فأنشده، ثم دنا فقبل يده،
وقال: قد والله يا أمير المؤمنين أنشدت يزيد بن الوليد، وإبراهيم بن الوليد، ورأيت
وجوههما وقبلت أيديهما وأخذت جوائزهما، وأنشد مروان، وقبلت يده وأخذت جائزته؛
وأنشدت المنصور، ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته؛ وأنشدت المهدي، ورأيت وجهه
وقبلت يده وأخذت جائزته؛ إلى كثير من أشباه الخلفاء، وكبراء الأمراء، والسادة
الرؤساء، فلا والله يا أمير المؤمنين، ما رأيت فيهم أبهى منظراً، ولا أحسن وجهاً،
ولا أنعم كفاً، ولا أندى راحة منك يا أمير المؤمنين. قال: فأعظم له الجائزة على شعره،
وأضعف له على كلامه، وأقبل عليه بوجهه وبشره فبسطه، حتى تمنى جميع من حضره أنهم
قاموا مقامه.
حدث العتبي عن سفيان
بن عينية قال: قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق، فنظر إلى شاب منهم
يتحوش للكلام، فقال: أكبروا أكبروا؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس بالسن، ولو
كان الأمر كله بالسن لكان في المسلمين من أهو أسن منك؛ فقال عمر: صدقت رحمك الله
تكلم؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فقد دخلت
علينا منازلنا، وقدمت علينا بلادنا، وأما الرهبة فقد أمننا الله بعدلك من جورك؛
قال: فما أنتم؟ قال: وفد الشكر؛ قال: فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل،
فقال: يا أمير المؤمنين، لا يغلبن جهل القوم بك معرفتك بنفسك، فإن ناساً خدعهم
الثناء، وغرهم شكر الناس فهلكوا، وأنا أعيذك بالله أن تكون منهم، فألقى عمر رأسه
على صدره.
التنصل والاعتذارقال النبي
صلى الله عليه وسلم: من لم يقبل من متنصل عذراً صادقاً كان أو كاذباً لم يرد على
الحوض. وقال صلى الله عليه وسلم: المعترف بالذنب كمن لا ذنب له.
وقال: الاعتراف يهدم
الاقتراف.
وقال الشاعر:
إذا ما امرؤ من ذنبه
جاء تائباً ... إليك فلم تغفر له فلك الذنب
واعتذر رجل إلى
إبراهيم بن المهدي فقال: قد عذرتك غير معتذر، إن المحاذير يشوبها الكذب.
واعتذر رجل إلى جعفر
بن يحيى، فقال: قد أغناك الله بالعذر عن الاعتذار، وأغنانا بحسن النية عن سوء الظن.
وقال إبراهيم
الموصلي: سمعت جعفر بن يحيى يعتذر إلى رجل من تأخر حاجة ضمنها له وهو يقول: أحتج
إليك بغالب القضاء، وأعتذر إليك بصادق النية.
وقال رجل لبعض
الملوك: أنا من لا يحاجك عن نفسه، ولا يغالطك في جرمه، ولا يلتمس رضاك إلا من جهة
عفوك، ولا يستعطفك إلا بالإقرار بالذنب، ولا يستميلك إلا بالاعتراف بالزلة.
وقال الحسن بن وهب:
ما أحسن العفو من
القادر ... لا سيما عن غير ذي ناصر
إن كان لي ذنب ولا
ذنب لي ... فما له غيرك من غافر
أعوذ بالود الذي
بيننا ... أن يفسد الأول بالآخر
وكتب الحسن بن وعب
إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أبا جعفر ما أحسن
العفو كله ... ولا سيما عن قائل: ليس لي عذر
وقال آخر:
اقبل معاذير من يأتيك
معتذراً ... إن بر عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك
ظاهره ... وقد أجلك من يعصيك مستترا
خير الخليطين من أغضى
لصاحبه ... ولو أراد انتصاراً من لانتصرا
وقالت الحكماء: ليس
من العدل سرعة العذل.
وقال الأحنف بن قيس:
رب ملوم لا ذنب له.
وقال آخر: لعل له
عذراً وأنت تلوم وقال حبيب:
البر بي منك وطى
العذر عندك لي ... فيما أتاك فلم تقبل ولم تلم
وقام علمك بي فاحتج
عندك لي ... مقام شاهد عدل غير متهم
وقال آخر:
إذا اعتذر الجاني محا
العذر ذنبه ... وكل امرئ لا يقبل العذر مذنب
ومن قولنا في هذا
المعنى:
عذيري من طول البكا
لوعة الأسى ... وليس لمن لا يقبل العذر من عذر
وقال آخر:
فهبني مسيئاً كالذي
قلت ظالماً ... فعفواً جميلاً كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن للعفو
عندك للذي ... أتيت به أهلاً فأنت له أهل
ومن الناس من لا يرى
الاعتذار ويقول: إياك وما يعتذر منه.
وقالوا: ما اعتذر
مذنب إلا ازداد ذنباً.
وقال الشاعر محمود
الوراق:
إذا كان وجه العذر
ليس ببين ... فإن أطراح العذر خير من العذر
قال ابن شهاب الزهري:
دخلت على عبد الملك بن مروان في رجال من أهل المدينة، فرآني أحدثهم سناً، فقال لي:
من أنت؟ فانتسبت له؛ فقال: لقد كان أبوك وعمك نعاقين في فتنة ابن الأشعث؛ فقلت: يا
أمير المؤمنين، إن مثلك إذا عفا لم يعدد، وإذا صفح لم يثرب. فأعجبه ذلك، وقال: أين
نشأت؟ قلت: بالمدينة؛ قال: عند من طلبت؟ قلت: سعيد بن المسيب؛ وسليمان بن يسار، وقبيصة بن ذؤيب؛
قال: فأين أنت من عروة بن الزبير؟ فإنه بحر لا تكدره الدلاء. فلما انصرفت
من عنده لم أبارح عروة بن الزبير حتى مات.
ودخل ابن السماك على
محمد بن سليمان بن علي فرآه معرضاً عنه، فقال: مالي أرى الأمير كالعاتب علي؟ قال: ذلك لشيء
بلغني عنك كرهته؛ قال: إذاً لا أبالي؛ قال: ولم؟ قال: لأنه إذا كان ذنباً غفرته،
وإن كان باطلاً لم تقبله.
ودخل جرير بن عبد
الله على أبي جعفر المنصور، وكان واجداً عليه، فقال له: تكلم بحجتك؛ فقال؛ لو كان
لي ذنب تكلمت بعذري، ولكن عفو أمير المؤمنين أحب إلي من براءتي.
وأتي موسى الهادي
برجل، فجعل يقرعه بذنوبه؛ فقال: يا أمير المؤمنين إن اعتذاري مما تقرعني به رد
عليك، وإقراري ذنباً لم أجنه، ولكني أقول:
فإن كنت ترجو في
العقوبة راحة ... فلا تزهدن عند المعافاة في الأجر
سعي بعبد الملك بن
الفارسي إلى المأمون، فقال له المأمون: إن العدل من عدله أبو العباس، وقد كان وصفك
بما وصفك به، ثم أتتني الأخبار بخلاف ذلك؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي بلغك عني تحميل علي، ولو كان كذلك لقلت:
نعم، كما بلغك، فأخذت بحظي من الله في الصدق، واتكلت على فضل أمير المؤمنين في سعة
عفوه؛ قال: صدقت.
محمد بن القاسم
الهاشمي أبو العيناء قال: كان أحمد بن يوسف الكاتب قد تولى صدقات النصرة، فجار
فيها وظلم، فكثر الشاكي له والداعي عليه، ووافى باب أمير المؤمنين زهاء خمسين
رجلاً من جلة البصريين، فعزله المأمون، وجلس لهم مجلساً خاصاً، وأقام أحمد بن يوسف
لمناظرتهم. فكان مما حفظ من كلامه، أن قال: يا أمير المؤمنين، لو أن أحداً ممن ولي
الصدقات سلم من الناس لسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله عز وجل: " ومنهم من يلمزك فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون " فأعجب المأمون جوابه، واستجزل مقاله، وخلى سبيله.
محمد بن القاسم الهاشمي
أبو العيناء قال: قال لي أبو عبد الله أحمد بن أبي داود: دخلت على الواثق، فقال
لي: ما زال قوم في ثلبك ونقصك؛ فقلت: يا أمير المؤمنين. " لكل امرئ منهم ما
اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم " ، والله ولي جزائه،
وعقاب أمير المؤمنين من ورائه، وما ذل من كنت ناصره، ولا ضاع من كنت حافظه، فماذا
قلت لهم يا أمير المؤمنين؟ قال: قلت أبا عبد الله:
وسعى إلي بعيب عزة
نسوة ... جعل الإله خدودهن نعالها
قال أبو العيناء: قلت
لأحمد بن أبي داود: إن قوماً تظافروا علي؛ قال: " يد الله فوق أيديهم " .
قلت: إنهم عدد وأنا واحد؛ قال: " كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة " .
قلت: إن للقوم مكراً؛ قال: " ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله " .
قال أبو العيناء:
فحدثت بها الحديث أحمد بن يوسف الكاتب، فقال: ما يرى ابن أبي داود إلا أن القرآن
أنزل عليه.
قال: وهجا نهار بن توسعة
قتيبة بن مسلم، وكان ولي خراسان بعد يزيد بن المهلب، فقال:
كانت خراسان أرضاً إذ
يزيد بها ... وكل باب من الخيرات مفتوح
فبدلت بعده قرداً
نطوف به ... كأنما وجهه بالخل منضوح
فطلبه فهرب منه، ثم
دخل عليه بكتاب أمه، فقال له: ويحك! بأي وجه تلقاني؟ قال: بالوجه الذي ألقى به ربي وذنوبي إليه أكثر من ذنوبي إليك. فقر به
ووصله وأحسن إليه.
وأقبل المنصور يوماً
راكباً والفرج بن فضالة جالس عند باب الذهب، فقام الناس إليه ولم يقم، فاستشاط
المنصور غيظاً وغضباً ودعا به، فقال: ما منعك من القيام مع الناس حين رأيتني؟ قال:
خفت أن يسألني الله تعالى لم فعلت، ويسألك عنه لم رضيت، وقد كرهه رسول الله صلى
الله عليه وسلم. فسكن غضبه وقر به وقضى حوائجه.
يحيى بن أكثم قال:
إني عند المأمون يوماً، حتى أتي برجل ترعد فرائصه، فلما مثل بين يديه، قال له المأمون:
كفرت نعمتي ولم تشكر معروفي؛ قال له: يا أمير المؤمنين، وأين يقع شكري في جنب ما
أنعم الله بك علي؟ فنظر المأمون إلي وقال متمثلاً:
فلو كان يستغني عن
الشكر ماجد ... لكثرة مال أو علو مكان
لما ندب الله العباد
لشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثقلان
ثم التفت إلى الرجل،
فقال له: هلا قلت كما قال أصرم بن حميد:
رشحت حمدي حتى إنني
رجل ... كلي بكل ثناء فيك مشتغل
خولت شكري ما خولت من
نعم ... فحر شكري لما خولتني خول
الاستعطاف والاعترافلما
سخط المهدي على يعقوب بن داود، قال له: يا يعقوب؛ قال: لبيك يا أمير المؤمنين،
تلبية مكروب لموجدتك؛ قال: ألم أرفع من قدرك إذ كنت وضيعاً، وأبعد من ذكرك إذا كنت
خاملاً، وألبسك من نعمتي ما لم أجد بها يدين من الشكر، فكيف رأيت الله أظهر عليك،
ورد إليك مني؟ قال: إن كان ذلك بعلمك يا أمير المؤمنين فتصديق معترف منيب، وإن كان
مما استخرجته دفائن الباغين فعائذ بفضلك؛ فقال: والله لولا الحنث في دمك بما تقدم
لك، لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً، ثم أمر به إلى الحبس. فتولى وهو يقول:
الوفاء يا أمير المؤمنين كرم، والمودة رحم، وأنت بها جدير.
أخذت الشعراء معنى
قول المهدي: لألبستك منه قميصاً لا تشد عليه زراً، فقال معلي الطائي:
طوقته بالحسام طوق
ردى ... ما يستطيع عليه شد أزرار
وقال حبيب:
طوقته بالحسام طوق
داهية ... أغناه عن مس طوقه بيده
ومن قولنا:
طوقته بالحسام منصلتا
... آخر طوق يكون في عنقه
ولما رضي الرشيد عن
يزيد بن مزيد، أذن له بالدخول عليه، فلما مثل بين يديه، قال: الحمد الله الذي سهل
لي سبيل الكرامة بلقائك، ورد على النعمة بوجه الرضا منك، وجزاك الله يا أمير
المؤمنين في حال سخطك جزاء المحسنين المرغبين، وفي حال رضاك جزاء المنعمين
المتطولين: فقد جعلك الله، وله الحمد، تثبت تحرجاً عند الغضب، وتمتن تطولاً
بالنعم، وتستبقي المعروف عند الصنائع تفضلاً بالعفو.
ولما ظفر المأمون
بإبراهيم بن المهدي - وهو الذي يقال له ابن شكلة - أمر بإدخاله عليه، فلما مثل بين
يديه، قال: ولي الثأر محكم في القصاص، والعفو للتقوى، وقد جعل الله كل ذنب دون
عفوك، فإن صفحت فبكرمك، وإن أخذت فبحقك. قال المأمون: إني شاورت أبا إسحاق والعباس
في قتلك، فأشارا علي به؛ قال: أما أن يكونا قد نصحاك في عظم قدر الملك، وما جرت
عليه عادة السياسة فقد فعلا، ولكنك أبيت أن تستجلب النصر إلا من حيث عودك الله، ثم
استعبر باكياً؛ قال له المأمون: ما يبكيك؟ قال: جذلاً إذ كان ذنبي إلى من هذه
صفته؛ ثم قال: يا أمير المؤمنين، إنه وإن كان جرمي يبلغ سفك دمي، فحلم أمير
المؤمنين وتفضله يبلغاني عفوه، ولي بعدها شفاعة الإقرار بالذنب، وحرمة الأب بعد
الأب، قال المأمون: لو لم يكن في حق نسبك ما يبلغ الصفح عن زلتك، لبلغك إليه حسن
توصلك، ولطيف تنصلك.
وكان تصويب إبراهيم
لرأي أبي إسحاق والعباس ألطف في طلب الرضا ودفع المكروه عن نفسه من تخطئتهما.
وقال المأمون لإسحاق
بن العباس: لا تحسبني أغفلت إجلابك مع ابن المهلب وتأييدك لرأيه، وإيقادك لناره؛
قال: يا أمير المؤمنين، والله لإجرام قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم
من جرمي إليك، ولرحمي أمس من أرحامهم، وقد قال كما قال يوسف لإخوته: " لا
تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " وأنت يا أمير المؤمنين
أحق وارث لهذه المنة وممتثل لها؛ قال: هيهات، تلك أجرام جاهلية عفا عنها الإسلام، وجرمك جرم في إسلامك وفي
دار خلافتك؛ قال: يا أمير المؤمنين، فوالله للسلم أحق بإقالة العثرة؛ وغفران الزلة
من الكافر، هذا كتاب الله بيني وبينك، يقول الله تعالى: " وسارعوا إلى مغفرة
من ربكم " إلى " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين
" . فهي للناس يا أمير المؤمنين سنة دخل فيها المسلم والكافر والشريف
والمشروف؛ قال: صدقت، اجلس، وريت بك زنادي، فلا برح نادماً من القادرين من أهلك
وأمثالك.
العتبي عن أبيه قال:
قبض مروان بن محمد من
معاوية بن عمرو بن عتبة ماله بالفرسان، وقال: إني قد وجدت قطيعة عمك لأبيك: إني
أقطعتك بستاني، والبستان لا يكون إلا غامراً، وأنا مسلم إليك الغامر وقابض منك
العامر؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن سلفك الصالح لو شهدوا مجلسنا هذا كانوا شهوداً
على ما ادعيته، وشفعاء فيما طلبته، يسألونك بإحسانك إلي، مكافأة إحسان سلفي إليهم،
فشفع فينا الأموات واحفظ منا القرابات، واجعل مجلسك هذا مجلساً يلزم من بعدنا
شكره؛ قال: لا والله إلا أن أجعلها طعمة مني لك، لا قطيعة من عمك لأبيك؛ قال: قد
قبلت ذلك، ففعل.
العتبي قال: أمر عبد
الملك بن مروان بقطع أرزاق آل أبي سفيان وجوائزهم لموجودة وجدها على خالد بن يزيد
بن معاوية فدخل عليه عمر بن عتبة، فقال: يا أمير المؤمنين، إن أدنى حقك معتب،
وبعضه فادح لنا، ولنا من حقك علينا حق عليك، بإكرام سلفنا لسلفك، فانظر إلينا
بالعين التي نظروا بها إليهم، وضعنا بحيث وضعتنا الرحم منك؛ قال: عبد الملك: إنما
ما يستحق عطيتي من استعطاها، فأما من ظن أنه يكتفي بنفسه، فسنكله إلى نفسه، ثم أمر
له بعطيته.
فبلغ ذلك خالداً
فقال: أبا لحرمان يهددني! يد الله فوق يده باسطة، وعطاء الله دونه مبذول، فأما
عمرو فقد أعطى من نفسه أكثر مما أخذ لها.
العتبي قال: حدثنا طارق
بن المبارك عن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة قال: جاءت دولة المسودة، وأنا حديث
السن كثير العيال متفرق المال، فجعلت لا أنزل قبيلة من قبائل العرب إلا شعرت فيها،
فلما رأيت أمري لا يكتتم، أتيت سليمان بن علي، فاستأذنت عليه قرب المغرب، فأذن لي
وهو لا يعرفني، فلما صرت إليه، قلت: أصلحك الله، لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك، فإما قبلتني
غانماً، وإما رددتني سالماً؛ قال: ومن أنت؟ فانتسبت له، فعرفني وقال: مرحباً،
اقعد، فتكلم غانماً؛ قلت: أصلحك الله، إن الحرم اللاتي أنت أقرب الناس إليهن معنا،
وأولى الناس بهن بعدنا، قد خفن بخوفنا، ومن خاف خيف عليه؛ قال: فاعتمد
سليمان على يديه، وسالت دموعه على خديه، ثم قال: يا بن أخي، يحقن الله دمك، ويستر
حرمك، ويسلم مالك إن شاء الله، ولو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت. فلم أزل في
جوار سليمان آمناً.
وكتب سليمان إلى أبي
العباس أمير المؤمنين: أما بعد، يا أمير المؤمنين، فإنا إنما حاربنا بني أمية على عقوقهم،
ولم نحاربهم على أرحامهم، وقد دفت إلي منهم دافة. لم يشهروا سلاحاً، ولم يكثروا
جمعاً، وقد أحسن الله إليك فأحسن، فإن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لهم أماناً ويأمر
بإنفاذه إلي فليفعل.
فكتب لهم كتاباً
منشوراً، وأنفذه إلى سليمان بن علي في كل من لجأ إليه من بني أمية، فكان يسميه أبو
مسلم: كهف الأباق.
ودخل عبد الملك بن
صالح يوماً على الرشيد، فلم يلبث في مجلسه أن التفت الرشيد، فقال متمثلاً:
أريد حياته ويريد
قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
ثم قال: أما والله
لكأني أنظر إلى شؤبؤبها قد همع، وعارضها قد لمع، وكأني بالوعيد قد وقع، فأقلع عن
براجم بلا معاصم، وجماجم بلا غلاصم، فمهلاً مهلاً، فبي والله يسهل لكم الوعر.
ويصفو لكم الكدر؛ وألقت إليكم الأمور مقاليد أزمتها، فالتدارك التدارك قبل حلول
داهية خبوط باليد لبوط بالرجل. قال عبد الملك: أفذاً ما تكلمت أم توأماً يا أمير المؤمنين؟ قال: بل
فذاً؛ قال اتق الله في ذي رحمك، وفي رعيتك التي استرعاك الله، ولا تجعل الكفر مكان
الشكر، ولا العقاب موضع الثواب، فقد محضت لك النصيحة، وأديت لك الطاعة، وشددت
أواخي ملكك بأثقل من ركني يلملم، وتركت عدوك سبيلاً تتعاوره الأقدام، فالله الله
في ذي رحمك أن تقطعه بعد أن وصلته، إن الكتاب لنميمة واش وبغي باغ، ينهش اللحم،
ويلغ في الدم، فكم ليل تمام فيك كابدته، ومقام ضيق فرجته، وكنت كما قال الشاعر أخو
بني كلاب:
ومقام ضيق فرجته ...
بلساني ومقامي وجدل
لو يقوم الفيل أو
فياله ... زل عن مثل مقامي وزجل
فرضي عنه ورحب به،
وقال: وريت بك زنادي.
والتفت الرشيد يوماً
إلى عبد الملك بن صالح، فقال: أكفراً بالنعمة، وغدراً بالإمام؟ قال: لقد بؤت إذاً
بأعباء الندم، وسعيت في استجلاب النقم، وما ذلك يا أمير المؤمنين إلا بغي باغ
نافسني فيك بقديم الولاية، وحق القرابة؛ يا أمير المؤمنين، إنك خليفة الله ورسوله
صلى الله عليه وسلم في أمته، وأمينه على رعيته، لك عليها فرض الطاعة، وأداة
النصيحة، ولها عليك التثبت في حادثها، والعدل في حكمها. فقال له هارون: تضع لي من
لسانك، وترفع علي من جنانك بحيث يحفظ الله لي عليك، هذا قمامة كاتبك يخبرني بفعلك؛
فقال عبد الملك: أحقاً يا قمامة؟ قال: نعم، لقد أردت قتل أمير المؤمنين والغدر به فقال
عبد الملك: كيف لا يكذب علي من خلفي من بهتني في وجهي! قال الرشيد: هذا ابنك
عبد الرحمن شاهد عليك؛ قال: يا أمير المؤمنين، هو بين مأمور أو عاق، فإن كان
مأموراً معذور، وإن كان عاقاً فما أخاف من عقوقه أكثر.
وقال له الرشيد
يوماً، وكان معتلاً عليه: أتبقون بالرقة؟ قال: نعم، ونبرغث؛ قال له: يا بن
الفاعلة، ما حملك على أن سألتك عن مسألة، فرددت علي في مسألتين، وأمر به إلى
الحبس. فلم يزل في حبسه حتى أطلقه الأمين.
إبراهيم بن السندي
قال: سمعت عبد الملك بن صالح يقول بعد إخراج المخلوع له من الحبس، وذكر الرشيد
وفعله به، فقال: والله إن الملك لشيء ما نويته ولا تمنيته، ولا نصبت له ولا أردته،
ولو أردته لكان إلي أسرع من الماء إلى الحدور، ومن النار إلى يبس العرفج، وإني
لمأخوذ بما لم أجن، ومسؤول عما لم أعرف؛ ولكن حين رآني للملك قميناً، وللخلافة
خطيراً، ورأي لي يداً تنالها إذا مدت، وتبلغها إذا بسطت، ونفساً تكمل لخصالها،
وتستحقها بفعالها - وإن كنت لم أجن تلك الخصال، ولم أصطنع تلك الفعال، ولم أترشح
لها في السر، ولا أشرت إليها في الجهر - ورآها تجن حنين الوالدة الوالهة، وتميل
ميل الهلوك، خاف أن ترغب إلى خير مرغب، وتنزع إلى أخصب منزع، وعاقبني عقاب من سهر
في طلبها، وجهد في التماسها؛ فإن كان إنما حسبني أني أصلح لها وتصلح لي، وأليق بها
وتليق لي، فليس ذلك بذنب جنيته فأتوب منه، ولا تطاولت له فأحط نفسي عنه؛ وإن زعم
أن لا صرف لعقابه، ولا نجاة من عذابه، إلا أن أخرج له من حد العلم والحلم والحزم،
فكما لا يستطيع المضياع أن يكون مصلحاً، كذلك لا يستطيع العاقل أن يكون جاهلاً،
وسواء علي أعاقبني على علمي وحلمي أم عاقبتني على نسبي وسني، وسواء علي عاقبتني
على جمالي أو عاقبتني على محبة الناس لي، ولو أردتها لأعجلته عن التفكير، وشغلته
عن التدبير، ولما كان فيها من الخطب إلا اليسير.
إبراهيم بن السندي
قال: كنت أساير سعيد بن سلم حين قيل له: إن أمير المؤمنين قد غضب على رجاء بن أبي الضحاك وأمر بأخذ ماله،
فارتاع بذلك وجزع؛ فقيل له: ما يروعك منه؟ فوالله ما جعل الله بينكما نسباً ولا سبباً؛
فقال: بلى، النعمة نسب بين أهلها؛ والطاعة سبب مؤكد بين الأولياء.
وبعث بعض الملوك إلى
رجل وجد عليه، فلما مثل بين يديه قال: أيها الأمير، إن الغضب شيطان، فاستعذ بالله
منه، وإنما خلق العفو للمذنب، والتجاوز للمسيء، فلا تضق عما وسع الرعية من حلمك
وعفوك. فعفا عنه، وأطلق سبيله.
ولما اتهم قتيبة بن
مسلم أبا مجلز على بعض الأمر، قال: أصلح الله الأمير، تثبت فإن التثبت نصف العفو.
قال الحجاج لرجل دخل
عليه: أنت صاحب الكلمة؟ قال: أبوء بالذنب وأستغفر الرب، وأسأل العافية؛ قال: قد
عفونا عنك.
وأرسل بعض الملوك في
رجل أراد عقوبته، فلما مثل بين يديه، قال: أسألك بالذي أنت بين يديه أذل مني بين
يديك، وهو على عقابك أقدر منك على عقابي، إلا نظرت في أمري نظر من برئي أحب إليه
من سقمي، وبراءتي أحب إليه من جرمي.
وقال خالد بن عبد
الله لسليمان بن عبد الملك حين وجد عليه: يا أمير المؤمنين، إن القدرة تذهب
الحفيظة، وأنت تجل عن العقوبة، ونحن مقرون بالذنب، فإن تعف عني فأهل ذلك أنت، وإن
تعاقبني فأهل ذلك أنا.
وأمر معاوية بن أبي
سفيان بعقوبة روح بن زنباع، فقال: أنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تضع مني خسيسة أنت
رفعتها، أو تنقض مني مريرة أنت أبرمتها، أو تشمت بي عدواً أنت وقمته إلا أتى حلمك
وصفحك عن خطئي وجهلي؛ فقال معاوية: خليا عنه، إذا أراد الله أمراً يسره.
وجد عبد الملك بن
مروان على رجل فجفاه وأطرحه، ثم دعا به ليسأله عن شيء، فرآه شاحباً ناحلاً، فقال
له: مذ متى اعتللت؟ فقال: ما مسني سقم، ولكني جفوت نفسي إذ جفاني الأمير، وآليت أن
لا أرضى عنها حتى يرضى عني أمير المؤمنين. فأعاده إلى حسن رأيه.
وقعد الحسن بن سهل
لنعيم بن حازم، فأقبل إليه حافياً حاسراً، وهو يقول: ذنبي أعظم من السماء، ذنبي أعظم
من الأرض؛ فقال الحسن: على رسلك أيها الرجل، لا بأس عليك، قد تقدمت لك طاعة، وحدثت
لك توبة، وليس للذنب بينهما موضع، ولئن وجد موضعاً فما ذنبك في الذنوب بأعظم من
عفو أمير المؤمنين في العفو.
أذنب رجل من بني هاشم
ذنباً إلى المأمون، فعاتبه فيه، فقال يا أمير المؤمنين، من حمل مثل دالتي، ولبس
ثوب حرمتي، ومت بمثل قرابتي، اغتفر له فوق زلتي؛ قال: صدقت يا بن عمي، وصفح عنه.
واعتذر رجل إلى
المأمون من ذنب، فقال: إني وإن كانت زلتي قد أحاطت بحرمتي فإن فضلك محيط بها وكرمك
موقوف عليها.
أخذه صريع الغواني
فقال:
إن كان ذنبي قد أحاط
بحرمتي ... فأحط بذنبي عفوك المأمولا
دخل يزيد بن عمر بن
هبيرة على أبي جعفر المنصور بعدما كتب أمانه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن إمارتكم
بكر، ودولتكم جديدة، فأذيقوا الناس حلاوتها، وجنبوهم مرارتها، تخف على قلوبهم
طاعتكم، وتسرع إلى أنفسهم محبتكم، وما زلت مستبطئاً لهذه الدعوة. فلما قام قال أبو
جعفر: عجباً من كل من يأمر بقتل هذا! ثم قتله بعد ذلك غدراً.
الهيثم بن عدي قال:
لما انهزم عبد الله بن علي من الشام، قدم على المنصور وفد منهم، فتكلموا عنده، ثم
قام الحارث فقال: يا أمير المؤمنين، إنا لسنا وفد مباهاة، وإنما نحن وفد توبة،
ابتلينا بفتنة استخفت كريمنا، واستفزت حليمنا، ونحن بما قدمنا معترفون، ومما سلف منا
معتذرون، فإن تعاقبنا فقد أجرمنا، وإن تعف عنه فطالما أحسنت إلى من أساء منا؛ فقال
المنصور للحرسي: هذا خطيبهم، وأمر برد ضياعه عليه بالغوطة.
قال أحمد بن أبي
داود: ما رأينا رجلاً نزل به الموت فما شغله ذلك ولا أذهله عما كان يحب أن يفعله
إلا تميم بن جميل، فإنه كان تغلب على شاطئ الفرات، وأوفى به الرسول باب أمير
المؤمنين المعتصم في يوم الموكب حين يجلس للعامة، ودخل عليه، فلما مثل بين يديه،
دعا بالنطع والسيف، فأحضرا؛ بجعل تميم بن جميل ينظر إليهما ولا يقول شيئاً، وجعل
المعتصم يصعد النظر فيه ويصوبه، وكان جسيماً وسيماً، ورأى أن يستنطقه لينظر أين
جنانه ولسانه من منظره؛ فقال: يا تميم، إن كان لك عذر فأت به، أو حجة فأدل بها؛
فقال: أما إذ قد أذن لي أمير المؤمنين فإني أقول: الحمد لله الذي أحسن كل شيء
خلقه، وبدأ خلق الإنسان من طين، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين. يا أمير
المؤمنين، إن الذنوب تخرس الألسنة، وتصدع الأفئدة، ولقد عظمت الجريرة، وكبر الذنب،
وساء الظن، ولم يبق إلا عفوك أو انتقامك، وأرجو أن يكون أقربهما منك وأسرعهما إليك
أولاهما بإمامتك، وأشبههما بخلافتك، ثم أنشأ يقول:
أرى الموت بين السيف
والنطع كامناً ... يلاحظني من حيثما أتلفت
وأكبر ظني أنك اليوم
قاتلي ... وأي امرئ مما قضى الله يفلت
ومن ذا الذي يدلى بعذر
وحجة ... وسيف المنايا بين عينيه مصلت
يعز على الأوس بن
تغلب موقف ... يسل علي السيف فيه وأسكت
وما جزعي من أن أموت
وإنني ... لأعلم أن الموت شيء مؤقت
ولكن خلفي صبية قد
تركتهم ... وأكبادهم من حسرة تتفتت
كأني أراهم حين أنعى
إليهم ... وقد خمشوا تلك الوجوه وصوتوا
فإن عشت عاشوا خافضين
بغبطة ... أذود الردى عنهم وإن مت موتوا
فكم من قائل: لا يبعد
الله روحه ... وآخر جذلان يسر ويشمت
قال: فتبسم المعتصم،
وقال: كاد والله يا تميم أن يسبق السيف العذل، اذهب فقد غفرت لك الصبوة، وتركتك
للصبية.
وحكي أن أمير
المؤمنين المهدي قال لأبي عبيد الله لما قتل ابنه: إنه لو كان في صالح خدمتك، وما
تعرفناه من طاعتك، وفاء يجب به الصفح عن ولدك، ما تجاوز أمير المؤمنين ذلك به إلى
غيره، ولكنه نكص على عقبيه، وكفر بربه؛ قال أبو عبيد الله: رضانا عن أنفسنا وسخطنا
عليها موصول برضاك وسخطك، ونحن خدم نعمتك؛ تثيبنا على الإحسان فنشكر، وتعاقبنا على
الإساءة فنصبر.
أبو الحسن المدائني
قال: لما حج المنصور مر بالمدينة، فقال للربيع الحاجب: علي بن جعفر بن محمد؛ قتلني
الله إن لم أقتله، فمطل به، ثم ألح عليه فحضر، فلما كشف الستر بينه وبينه ومثل بين
يديه، همس جعفر بشفتيه؛ ثم تقرب وسلم؛ فقال: لا سلم الله عليك يا عدو الله، تعمل
علي الغوائل في ملكي، قتلني الله إن لم أقتلك؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن سليمان
صلى الله على محمد وعليه، أعطى فشكر، وإن أيوب ابتلى فصبر، وإن يوسف ظلم فغفر،
وأنت على إرث منهم، وأحق من تأسى بهم. فنكس أبو جعفر رأسه ملياً، وجعفر واقف، ثم
رفع رأسه فقال: إلي أبا عبد الله، فأنت القريب القرابة، وذو الرحم الواشجة، السليم
الناحية، القليل الغائلة، ثم صافحه بيمينه، وعانقه بشماله، وأجلسه معه على فراشه،
وانحرف له عن بعضه، وأقبل عليه بوجهه يحادثه ويسائله، ثم قال: يا ربيع، عجل لأبي
عبد الله كسوته وجائزته وإذنه. قال الربيع: فلما حال الستر بيني وبينه أمسكت
بثوبه؛ فقال: ما أرانا يا ربيع إلا وقد حبسنا؛ فقلت: لا عليك، هذه مني لا منه؛
فقال: هذه أيسر، سل حاجتك؛ فقلت له: إني منذ ثلاث أدفع عنك وأداري عليك، ورأيتك إذ
دخلت همست بشفتيك، ثم رأيت الأمر انجلى عنك، وأنا خادم سلطان، ولا غنى لي عنه،
فأحب منك أن تعلمينه؛ قال: نعم، قلت: اللهم احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني
بحفظك الذي لا يرام، ولا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمتها علي قل لك عندها
شكري فلم تحرمني، وكم من بلية ابتليت بها قل عندها صبري فلم تخذلن؛ اللهم بك أدرأ
في نحره، وأستعيذ بخيرك من شره، فإنك على كل شيء قدير، وصلى الله على سيدنا محمد وآله
وسلم.
المدائني قال: كان
يزيد بن راشد خطيباً، وكان فيمن دعا إلى خلع سليمان بن عبد الملك والبيعة لعبد
العزيز بن الوليد، فنذر سليمان قطع لسانه. فلما أفضت الخلافة إليه دخل عليه يزيد
بن راشد، فجلس على طرف البساط مفكراً، ثم قال: يا أمير المؤمنين، كن كنبي الله صلى
الله عليه وسلم، ابتلي فصبر، وأعطي فشكر، وقدر فغفر؛ قال: ومن أنت؟ قال: يزيد بن
راشد. فعفا عنه.
حبس الرشيد رجلاً،
فلما طال حبسه كتب إليه: إن كل يوم يمضي من نعيمك يمضي من بؤسي مثله، والأمد قريب،
والحكم لله. فأطلقه.
ومر أسد بن عبد الله
القسري، وهو والي خراسان بدار من دور الاستخراج ودهقان يعذب في حبسه، وحول أسد
مساكين يستجدونه، فأمر لهم بدراهم تقسم فيهم؛ فقال الدهقان: يا أسد، إن كنت تعطى
من يرحم فارحم من يظلم، فإن السموات تنفرج لدعوة المظلوم؛ يا أسد، احذر من ليس له
ناصر إلا الله، واتق من لا جنة له إلا الابتهال إليه، إن الظلم مصرعه وخيم، ولا
تغتر بإبطاء الغيثات من ناصر متى شاء أن يجيب أجاب، وقد أملى لقوم ليزدادوا إثماً.
فأمر أسد بالكف عنه.
عتب المأمون على رجل
من خاصته، فقال: يا أمير المؤمنين، إن قديم الحرمة، وحديث التوبة، يمحوان ما
بينهما من الإساءة؛ فقال: صدقت، ورضي عنه.
وكان ملك من ملوك
فارس عظيم المملكة شديد النقمة، وكان له صاحب مطبخ، فلما قرب إليه طعامه صاحب
المطبخ سقطت نقطة من الطعام على يديه، فزوى لها الملك وجهه، وعلم صاحب المطبخ أنه
قاتله، فكفأ الصحفة على يديه؛ فقال الملك: علي به، فلما أتاه، قال له: قد علمت أن
سقوط النقطة أخطأت بها يدك، فما عذرك في الثانية؟ قال: استحييت للملك أن يقتل مثلي
في سني وقديم حرمتي في نقطة، فأردت أن أعظم ذنبي ليحسن به قتلي؛ فقال له الملك:
لئن كان لطف الاعتذار ينجيك من القتل، ما هو بمنجيك من العقوبة، اجلدوه مائة جلدة
وخلوه.
الشيباني قال:
دخل محمد بن عبد
الملك بن صالح على المأمون حين قبض ضياعهم، فقال: يا أمير المؤمنين، محمد بن عبد
الملك بين يديك، ربيب دولتك، وسليل نعمتك، وغصن من أغصان دوحتك، أتأذن لي في
الكلام؟ قال: نعم؛ قال: نستمتع الله حياطة ديننا ودنيانا ورعاية أدنانا وأقصانا
ببقائك، ونسأله أن يزيد في عمرك من أعمارنا، وفي أثرك من آثارنا، ويقيك الأذى
بأسماعنا وأبصارنا، هذا مقام العائد بفضلك، الهارب إلى كنفك وظلك، الفقير إلى
رحمتك وعدلك؛ ثم تكلم في حاجته فقضاها.
وقال عبيد بن أيوب،
وكان يطالبه الحجاج لجناية جناها، فهرب منه وكتب إليه:
أذقني طعم النوم أو
سل حقيقة ... علي فإن قامت ففصل بنانيا
خلعت فاستطار فأصبحت
... ترامى به البيد القفار تراميا
ولم يقل أحد في هذا
المعنى أحسن من قول النابغة الذبياني للنعمان بن المنذر:
أتاني أبيت اللعن أنك
لمتني ... وتلك التي تستك منها المسامع
فبت كأني ساورتني
ضئيلة ... من الرقش في أنيابها السم ناقع
أكلفتني ذنب امرئ
وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع
فإنك كالليل الذي هو
مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
وقال فيه أيضاً:
ولست بمستبق أخاً لا
تلمه ... على شعث أي الرجال المهذب
فإن أك مظلوماً فعبد
ظلمته ... وإن تك ذا عتب فمثلك يعتب
حلفت فلم أترك لنفسك
ريبة ... وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني
جناية ... لمبلغك الواشي أغش وأكذب
ألم تر أن الله أعطاك
سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك
كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
قال ابن الطثرية:
فهبني امرأ إما
بريئاً علمته ... وإما مسيئاً تاب منه وأعتبا
وكنت كذي داء يبغي
لدائه ... طبيباً فلما لم يجده تطببا
وقال الممزق لعمرو بن
هند:
تروح وتغدو ما يحل
وضينها ... إليك ابن ماء المزن وابن محرق
أحقاً أبيت اللعن أن
ابن مزننا ... على غير إجرام بريقي مشرقي
فإن كنت مأكولاً فكن
خير آكل ... وإلا فادركني ولما أمزق
فأنت عميد الناس مهما
تقل نقل ... ومهما تضع من باطل لا يحقق
وتمثل بهذه الأبيات
عثمان بن عفان في كتابه إلى علي بن أبي طالب يوم الدار.
وكتب محمد بن عبد
الملك الزيات لما أحس بالموت وهو في حبس المتوكل برقعة إلى المتوكل، فيها:
هي السبيل فمن يوم
إلى يوم ... كأنه ما تريك العين في النوم
لا تعجلن رويداً إنما
دول ... دنيا تنقل من قوم إلى قوم
إن المنايا وإن أصبحت
ذا فرح ... تحوم حولك حوماً أيما حوم
فلما وصلت إلى
المتوكل وقرأها، أمر بإطلاقه، فوجدوه ميتاً.
وقال عمرو بن معاوية
بن عمرو بن عتبة للمنصور وقد أراد عقوبة رجل: يا أمير المؤمنين، إن الانتقام عدل،
والتجاوز فضل، والمتفضل قد جاوز حد المنصف، ونحن نعيذ أمير المؤمنين أن يرضى لنفسه
أوكس النصيبين، دون أن يبلغ أرفع الدرجتين.
جرى بين أبي مسلم
صاحب الدعوة وبين قائد من قواده يقال له شهرام كلام، فقال له قائده كلمة فيها بعض
الغلظ، ثم ندم على ما كان منه، فجعل يتضرع ويتنصل إليه؛ فقال له أبو مسلم: لا
عليك، لسان سبق، ووهم أخطأ، وإنما الغضب شيطان، وأنا جرأتك علي بطول احتمالي منك،
فإن كنت للذنب متعمداً، فقد شاركتك فيه، وإن كنت مغلوباً، فإن العذر يسعك، وقد
عفونا على كل حال. فقال: أصلح الله الأمير، إن عفو مثلك لا يكون غروراً؛ قال: أجل؛
قال: فإن عظم الذنب لا يدع قلبي يسكن، وألح في الاعتذار؛ فقال له أبو مسلم: عجباً
لك، إنك أسأت فأحسنت، فلما أحسنت أأسيء! دخل أبو دلف على المأمون، وقد كان عتب
عليه ثم أقاله، فقال له وقد خلا مجلسه: قل أبا دلف، وما عسيت أن تقول وقد رضي عنك
أمير المؤمنين وغفر لك ما فعلت؛ فقال يا أمير المؤمنين:
ليالي تدنو منك
بالبشر مجلسي ... ووجهك من ماء البشاشة يقطر
فمن لي بالعين التي
كنت مرة ... إلي بها في سالف الدهر تنظر
قال المأمون: لك بها
رجوعك إلى المناصحة، وإقبالك على الطاعة، ثم عاد له إلى ما كان عليه.
وقال له المأمون
يوماً: أنت الذي تقول:
إني امرؤ كسروي
الفعال ... أصيف الجبال وأشتوا العرافا
ما أراك قدمت لحق
طاعة، ولا قضيت واجب حرمة؛ قال له: يا أمير المؤمنين، إنما هي نعمتك، ونحن فيها
خدمك، وما هراقة دمي في طاعتك، إلا بعض ما يجب لك.
ودخل أبو دلف على
المأمون، فقال: أنت الذي يقول فيك ابن جبلة:
إنما الدنيا أبو دلف
... بين باديه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ...
ولت الدنيا على أثره
فقال: يا أمير
المؤمنين، شهادة زور، وكذب شاعر، وملق مستجد، وليكن الذي يقول فيه ابن أخيه:
ذريني أجوب الأرض في
طلب الغنى ... فما الكرج بالدنيا ولا الناس قاسم
الكرج: منزل أبي دلف،
وكان اسمه القاسم بن عيسى.
وقال المنصور وجعل
لمعن بن زائدة: ما أظن ما قيل عنك من ظلمك أهل اليمن واعتسافك عليهم إلا حقاً؟
قال: كيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: بلغني عنك أنك أعطيت شاعراً لبيت قاله ألف
دينار، وأنشده البيت وهو:
معن بن زائدة الذي
زيدت به ... فخراً إلى فخر بنو شيبان
قال: نعم يا أمير
المؤمنين، قد أعطيته ألف دينار، ليس على هذا البيت، ولكن على قوله:
ما زلت يوم الهاشمية
معلماً ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت
وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان
قال: فاستحيا المنصور
وجعل ينكت بالمخصرة، ثم رفع رأسه وقال: اجلس أبا الوليد.
أتي عبد الملك بن
مروان بأعرابي سرق، فأمر بقطع يده فأنشأ يقول:
يدي يا أمير المؤمنين
أعيذها ... بعفوك أن تلقى مكاناً يشينها
ولا خير في الدنيا
وكانت حبيبة ... إذا ما شمالي فارقتها يمينها
فأبى إلا قطعه؛ فقالت
أمه: يا أمير المؤمنين، واحدي وكاسبي؛ قال: بئس الكاسب كان لك، وهذا حد من حدود
الله؛ قالت: يا أمير المؤمنين، اجعله من بعض ذنوبك التي تستغفر الله منها، فعفا
عنه.
تذكير الملوك بذمام
متقدمقال ثمامة بن أشرس للمأمون لما صارت إليه الخلافة: إنه كان لي أملان: أمل لك
وأمل بك، فأما أملي لك فقد بلغته، وأما أملي بك فلا أدري ما يكون منك فيه؛ قال: يكون
أفضل ما رجوت وأملت، فجعله من سماره وخاصته.
الأصمعي قال: لما مات
يزيد بن عبد الملك وصارت الخلافة إلى هشام بن عبد الملك، خر أصحابه سجوداً إلا
الأبرش الكلبي؛ فقال له: يا أبرش، ما منعك أن تسجد كما سجدوا؟ قال: يا أمير
المؤمنين، لأنك ذهبت عنا وتركتنا؛ قال: فإن ذهبت بك معي؟ قال: أو تفعل يا أمير
المؤمنين؟ قال: نعم؛ قال: فالآن طاب السجود، ثم سجد.
ولما صارت الخلافة
إلى أبي جعفر كتب إليه رجل من إخوانه:
إنا بطانتك الألى ...
كنا نكابد ما نكابد
ونرى فنعرف بالعدا
... وة والبعاد لمن نباعد
ونبيت من شفق علي ...
ك ربيئة والليل هاجد
هذا أوان وفاء ما ...
سبقت به منك المواعد
فوقع أبو جعفر على كل
بيت منها: صدقت صدقت، ثم دعاء به وألحقه بخاصته.
وقال حبيب الشاعر في
هذا المعنى:
وإن أولى الموالي أن
تواسيه ... عند السرور لمن واساك في الحزن
إن الكرام إذا ما
أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في الموطن الخشن
حسن التخلص من
السلطان
أبو الحسن المدائني
قال: كان العباس بن سهل والي المدينة لعبد الله بن الزبير، فلما بايع الناس عبد
الملك بن مروان، ولى عثمان بن حيان المري، وأمره بالغلظة على أهل الظنة، فعرض
يوماً بذكر الفتنة وأهلها، فقال له قائل: هذا العباس بن سهل على ما فيه، كان مع
ابن الزبير وعمل له؛ فقال عثمان بن حيان: ويلي عليه، والله لأقتلنه؛ قال العباس: فبلغني ذلك، فتغيبت حتى أضر بي
التغيب، فأتيت ناساً من جلسائه فقلت لهم: ما لي أخاف وقد أمنني عبد الملك بن
مروان؟ فقالوا: والله ما يذكرك إلا تغيظ عليك، وقلما كلم على طعامه في ذنب إلا
انبسط، فلو تنكرت وحضرت عشاءه وكلمته. قال: ففعلت، وقلت على طعامه وقد أتي بجفنة
ضخمة ذات ثريد ولحم: والله لكأني أنظر إلى جفنة حيان بن معبد والناس يتكاوسون
عليها، وهو يطوف في حاشيته، يتفقد مصالحها، يسحب أردية الخز، حتى إن الحسك ليتعلق
به فما يميطه، ثم يؤتى بجفنة تهادى بين أربعة، ما يستقلون بها إلا بمشقة وعناء،
وهذا بعد ما يفرغ الناس من الطعام ويتنحون عنه، فيأتي الحاضر من أهله بالدنو
والطارئ من أشراف قومه، وما بأكثرهم من حاجة إلى الطعام، وما هو إلا الفخر بالدنو
من مائدته والمشاركة ليده؛ قال: هيه، أنت رأيت ذلك؟ قلت: أجل والله؛ قال لي: ومن أنت؟ قلت: وأنا آمن؟
قال: نعم؛ قلت: العباس بن سهل بن سعد الأنصاري، قال: مرحباً وأهلاً، أهل
الشرف والحق. قال: فلقد رأيتني بعد ذلك وما بالمدينة رجل أوجه مني عنده. فقيل له بعد
ذلك: أنت رأيت ونزلنا ذلك الماء وغشينا وعليه عباءة ذكوانية، فلقد جعلنا نذوده عن
رحلنا مخافة أن يسرقه.
أبو حاتم قال: حدثنا
أبو عبيدة قال: أخذ سراقة بن مرداس البارقي أسيراً يوم جبانة السبيع، فقدم في
الأسرى إلى المختار، فقال سراقة:
امنن علي اليوم يا
خير معد ... وخير من لبى وصلى وسجد
فعفا عنه المختار
وخلى سبيله. ثم خرج مع إسحاق بن الأشعث فأتي به المختار أسيراً، فقال له: ألم أعف
عنك وأمنن عليك؟ أما والله لأقتلنك؛ قال: لا والله لا تفعل إن شاء الله؛ قال: ولم؟
قال: لأن أبي أخبرني أنك تفتح الشام حتى تهدم مدينة دمشق حجراً حجراً وأنا معك، ثم
أنشده:
ألا أبلغ أبا إسحاق
أنا ... حملنا حملة كانت علينا
خرجنا لا نرى الضعفاء
شيئاً ... وكان خروجنا بطراً وحينا
تراهم في مصفهم
قليلاً ... وهم مثل الدبى لما التقينا
فأسجح إذا قدرت فلو
قدرنا ... لجرنا في الحكومة واعتدينا
تقبل توبة مني فإني
... سأشكر إن جعلت النقد دينا
قال: فخلى
سبيله. ثم خرج إسحاق بن الأشعث ومعه سراقة، فأخذ أسيراً وأتي به المختار؛ فقال:
الحمد لله الذي أمكنني منك يا عدو الله، هذه ثالثة؛ فقال سراقة: أما والله ما
هؤلاء الذين أخذوني، فأين هم لا أراهم؟ إنا لما التقينا رأينا قوماً عليهم ثياب
بيض، وتحتهم خيل بلق تطيق بين السماء والأرض؛ فقال المختار: خلوا سبيله ليخبر
الناس. ثم دعا لقتاله فقال:
ألا أبلغ أبا إسحاق أني
... رأيت البلق دهماً مصمتات
أري عيني ما لم
ترأياه ... كلانا عالم بالترهات
كفرت بوحيكم وجعلت
نذراً ... علي قتالكم حتى الممات
كان معن بن زائدة قد
أمر بقتل جماعة من الأسرى، فلما سقوا، قال: يا معن، أتقتل ضيفانك؟ فأمر معن
بإطلاقهم.
لما أتي عمر بن
الخطاب بالهرمزان أسيراً دعاه إلى الإسلام، فأبى عليه، فأمر بقتله، فلما عرض عليه
السيف، قال: لو أمرت يا أمير المؤمنين بشربة من ماء فهو خير من قتلي على الظمأ؛
فأمر له بها، فلما صار الإناء بيده قال: أنا آمن حتى أشرب؟ قال: نعم. فألقى الإناء
من يده، وقال: الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج، قال: لك التوقف حتى أنظر في
أمرك، ارفعا عنه السيف؛ فلما رفع عنه؛ قال: الآن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؛ فقال له عمر: ويحك! أسلمت خير إسلام، فما أخبرك؟
قال: خشيت يا أمير المؤمنين أن يقال أن إسلامي إنما كان جزعاً من الموت؛
فقال عمر: إن لفارس حلوماً بها استحقت ما كانت فيه من الملك. ثم كان عمر يشاوره بعد
ذلك في إخراج الجيوش إلى أرض فارس ويعمل برأيه.
لما أتي الحجاج بالأسرى
الذين خرجوا مع ابن الأشعث أمر بقتلهم؛ فقال رجل: أصلح الله الأمير، إن لي حرمة؛
قال: وما هي؟ قال: ذكرت في عسكر ابن الأشعث فشتمت في أبويك، فعرضت دونهما، فقلت:
لا والله ما في نسبه مطعن، فقولوا فيه ودعوا نسبه؛ قال: ومن يعلم ما ذكرت؟ فالتفت
إلى أقرب الأسرى إلي، فقلت: هذا يعمله؛ قال له الحجاج: ما تقول فيما يقول؟ قال:
صدق، أصلح الله الأمير، وبر. قال: خلياً عن هذا لنصرته وعن هذا لحفظ شهادته.
عمرو بن بحر الجاحظ قال:
أتي روح بن حاتم برجل كان متلصصاً في طريق الرقاق فأمر بقتله؛ فقال: أصلح
الله الأمير، لي عندك يد بيضاء؛ قال: وما هي؟ قال: إنك جئت يوماً إلى مجمع موالينا
بني نهشل والمجلس محتفل، فلم يتحفز لك أحد، فقمت من مكاني حتى جلست فيه، ولولا محض
كرمك، وشرف قدرك، ونباهة أوليتك، ما ذكرتك هذه عند مثل هذا؛ قال ابن حاتم: صدق،
وأمر بإطلاقه، وولاه تلك الناحية وضمنه إياها.
ولما ظفر المأمون
بأبي دلف، وكان يقطع في الجبال، أمر بضرب عنقه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، دعني أركع
ركعتين؛ قال: افعل. فركع وحبر أبياتاً، ثم وقف بين يديه فقال:
بع بي الناس فإني ...
خلف ممن تبيع
واتخذني لك درعاً ...
قلصت عنه الدروع
وارم بي كل عدو ...
فأنا السهم السريع
فأطلقه، وولاه تلك
الناحية، فأصلحها.
أتي معاوية يوم صفين
بأسير من أهل العراق، فقال: الحمد لله الذي أمكنني منك؛ قال: لا تقل يا معاوية،
فإنها مصيبة؛ قال: وأي نعمة أعظم من أن أمكنني الله عز وجل من رجل قتل جماعة من
أصحابي في ساعة واحدة؟ اضرب عنقه يا غلام؛ فقال الأسير: اللهم اشهد أن معاوية لم
يقتلني فيك، وأنك لا ترضى بقتلي، وإنما يقتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا، فإن
فعل فافعل به ما هو أهله، وإن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله؛ قال له: ويحك! لقد
سببت فأبلغت، ودعوت فأحسنت، خلياً عنه.
وأمر مصعب بن الزبير
برجل من أصحاب المختار أن يضرب عنقه؛ فقال: أيها الأمير، ما أقبح بك أن أقوم يوم
القيامة إلى صورتك هذه الحسنة، ووجهك هذا الذي يستضاء به، فأتعلق بأطرافك، وأقول:
أي رب، سل هذا فيم قتلني؛ قال: أطلقوه فإني جاعل ما وهبت له من حياته في خفض،
أعطوه مائة ألف؛ قال الأسير: بأبي أنت وأمي. أشهد أن لابن قيس الرقيات منها خمسين ألفاً؛
قال: ولم؟ قال: لقوله:
إنما مصعب شهاب من
الل ... ه تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه
... جبروت منه ولا كبرياء.
يتقي الله في الأمور
وقد أف ... لح من كان همه الاتقاء
أمر عبد الملك بقتل
رجل؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أعز ما تكون أحوج ما تكون إلى الله؛ فعفا عنه.
أتي الحجاج بأسرى من
الخوارج، فأمر بضرب أعناقهم، فقدم فيهم شاب، فقال: والله يا حجاج لئن كنا أسأنا في
الذنب فما أحسنت في العفو؛ فقال: أف لهذه الجيف، ما كان فيهم من يقول مثل هذا!
وأمسك عن القتل.
وأتي الحجاج بأسرى
فأمر بقتلهم، فقال له رجل منهم: لا جزاك الله يا حجاج عن السنة خيراً، فإن الله تعالى
يقول: " فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق
فإما منا بعد وإما فداء " . فهذا قول الله في كتابه. وقد قال شاعركم فيما وصف
به قومه من مكارم الأخلاق:
وما نقتل الأسرى ولكن
نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل القلائد
فقال الحجاج: ويحكم!
أعجزتم أن تخبروني بما أخبرني هذا المنافق! وأمسك عمن بقي.
الهيثم بن عدي قال:
أتي الحجاج بحرورية، فقال لأصحابه: ما تقولون في هذه؟ قالوا: اقتلها،
أصلح الله الأمير، ونكل بها غيرها. فتبسمت الحرورية؛ فقال لها: لم تبسمت؟ فقالت:
لقد كان وزراء أخيك فرعون خيراً من وزرائك يا حجاج، استشارهم في قتل موسى، فقالوا:
أرجه وأخاه، وهؤلاء يأمرونك بتعجيل قتلي؛ فضحك الحجاج، وأمر بإطلاقها.
وقال معاوية ليونس
الثقفي: اتق الله، لأطيرنك طيرة بطيئاً وقوعها؛ قال: أليس بي وبك المرجع إلى الله؟
قال: نعم؛ قال: فاستغفر الله.
ودخل رجل من بني
مخزوم على عبد الملك بن مروان، وكان زبيرياً، فقال له عبد الملك: أليس الله قد ردك
على عقبيك؟ قال: ومن رد إليك يا أمير المؤمنين فقد رد على عقبيه؟ فسكت عبد الملك
وعلم أنها خطأ.
دخل يزيد بن أبي مسلم
على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: على امرئ أمرك وجرأك وسلطك على الأمة
لعنة الله، أتظن الحجاج استقر في قعر جهنم أم هو يهوي فيها؟ قال: يا أمير
المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم القيامة بين أخيك وأبيك، فضعه من النار حيث شئت.
وقال عبيد الله بن
زياد لقيس بن عباد: ما تقول في وفي الحسين؟ قال: أعفني عافاك الله؛ قال: لا بد أن
تقول؛ قال: يجيء أبوه يوم القيامة فيشفع له ويجيء أبوك فيشفع لك؛ قال: قد علمت غشك
وخبثك، لئن فارقتني يوماً لأضعن أكثرك شعراً بالأرض.
الأصمعي قال: بعث
الحجاج إلى يحيى بن يعمر، فقال له: أنت الذي تقول: إن الحسين بن علي ابن عم رسول
الله صلى الله عليه وسلم ابن رسول الله، لتأتيني بالمخرج مما قلت أو لأضربن عنقك؛
فقال له ابن يعمر: وإن جئت بالمخرج فأنا آمن؟ قال: نعم؛ قال: اقرأ: " وتلك
حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه " إلى قوله " ومن ذريته داود وسليمان
وأيوب ويوسف وموسى " إلى قوله " وعيسى " . فمن أقرب: عيسى من
إبراهيم، وما هو ابن بنته، أو الحسين من محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال له الحجاج:
والله لكأني ما قرأت هذه الآية قط، وولاه قضاء بلده، فلم يزل بها قاضياً حتى مات.
أبو بكر بن أبي شيبة
بإسناده قال: دخل عبد الرحمن بن أبي ليلى على الحجاج، فقال لجلسائه: إن أردتم أن
تنظروا إلى رجل يسب أمير المؤمنين عثمان ابن عفان فهذا عندكم، يعني عبد الرحمن؛
فقال عبد الرحمن: معاذ الله أيها الأمير أن أكون أسب أمير المؤمنين، إنه ليحجزني
عن ذلك آيات في كتاب الله، قال الله تعالى: " للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا
من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم
الصادقون " . فكان عثمان منهم. ثم قال: " والذين تبوؤا الدار والإيمان
من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على
أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون " . فكان أبي
منهم. ثم قال: " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان
ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم " . فكنت أنا منهم.
فقال: صدقت.
أبو عوانة عن عاصم بن
أبي وائل قال: بعث إلي الحجاج فقال لي: ما اسمك؟ قال: ما أرسل إلي الأمير حتى عرف
اسمي؛ قال: متى هبطت هذا البلد؟ قلت: حين هبط أهله؛ قال: ما تقرأ من القرآن؟ قلت:
أقرأ منه ما لو تبعته كفاني؛ قال: إني أريد أن أستعين بك في عملي؛ قلت: إن تستعن
بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء، وإن تدعني فهو أحب إلي، وإن تقحمني
أتقحم؛ قال: إن لم أجد غيرك أقحمتك، وإن وجدت غيرك لم أقحمك؛ قلت: وأخرى،
أكرم الله الأمير، إني ما علمت الناس هابوا أميراً قط هيبتهم لك، والله إني لأتعار
من الليل فيما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح، هذا ولست لك على عمل؛ قال: هيه، كيف
قلت؟ فأعدت عليه؛ فقال: إني والله لا أعلم على وجه الأرض خلقاً هو أجراً على دم
مني، قال: فقمت فعدلت عن الطريق كأني لا أبصر؛ فقال: أرشدوا الشيخ.
لما أتي الحجاج بأسرى
الجماجم أتي فيهم بعامر الشعبي، ومطرف بن عبد الله الشخمير، وسعيد بن جبير، وكان
الشعبي ومطرف يريان التقية، وكان سعيد بن جبير لا يراها، وكان قد تقدم كتاب عبد الملك
بن مروان إلى الحجاج في أسرى الجماجم أن يعرضهم على السيف، فمن أقر منهم بالكفر في
خروجهم علينا فيخلي سبيله، ومن زعم أنه مؤمن فيضرب عنقه؛ فقال الحجاج للشعبي: وأنت
ممن ألب علينا مع ابن الأشعث؟ اشهد على نفسك بالكفر؛ فقال: أصلح الله الأمير، نبا
بنا المنزل، وأحزن بنا الجناب، واستحلسنا الخوف، واكتحلنا السهر، وخبطتنا فتنة لم
نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء؛ قال: لله أبوك، لقد صدقت، ما بررتم بخروجكم
علينا ولا قويتم، خلوا سبيل الشيخ. ثم قال لمطرف: أتقر على نفسك بالكفر؟ قال: أصلح
الله الأمير، إن من شق العصا، وسفك الدماء، ونكث البيعة، وفارق الجماعة، وأخاف
المسلمين، لجدير بالكفر، فخلى سبيله. ثم قال لسعيد بن جبير: أتقر على نفسك بالكفر؟
قال: ما كفرت منذ آمنت بالله، فضرب عنقه، ثم استعرض الأسرى، فمن أقر بالكفر خلى
سبيله، ومن أبى قتله، حتى أتي بشيخ وشاب، فقال للشاب: أكافر أنت؟ قال: نعم. قال: لكن الشيخ لا يرضى بالكفر؛ فقال له الشيخ:
أعن نفسي تخادعني يا حجاج، والله لو علمت أعظم من الكفر لقلته؛ فضحك الحجاج وخلى
سبيله.
فلما مات الحجاج،
وقام سليمان، قال الفرزدق:
لئن نفر الحجاج آل
معتب ... لقوا دولة كان العدو يدالها
لقد أصبح الأحياء
منهم أذلة ... وموتاهم في النار كلحا سبالها
وكانوا يرون الدائرات
بغيرهم ... فصار عليهم بالعذاب انفتالها
ألكني إلى من كان
بالصين أورمت ... به الهند ألواح عليها جلالها
هلم إلى الإسلام
والعدل عندنا ... فقد مات عن أهل العراق خبالها
لما ولي سليمان بن
عبد الملك كتب إلى عامله بالأردن: اجمع يدي عدي ابن الرقاع إلى عنقه وابعث به إلي
على قتب بلا وطاء، ووكل به من ينخس به؛ ففعل ذلك؛ فلما انتهى إلى سليمان بن عبد
الملك ألقي بين يديه وهو لقى لا حراك فيه ولا روح، فتركه حتى ارتد إليه روحه، ثم
قال له: أنت أهل لما نزل بك، ألست القائل في الوليد:
معاذ ربي أن نبقى
ونفقده ... وأن نكون لراع بعدهم تبعا
وقال: لا والله يا
أمير المؤمنين، ما هكذا قلت، وإنما قلت:
معاذ ربي أن نبقى
ونفقدهم ... وأن نكون لراع بعدهم تبعا
فنظر إليه سليمان
واستضحك، ثم أمر له بصلة وخلى سبيله.
العتبي قال: كان بين
شريك القاضي والربيع حاجب المهدي معارضة، فكان الربيع يحمل عليه المهدي، فلا يلتفت
إليه، حتى رأى المهدي في منامه شريكاً القاضي مصروفاً وجهه عنه، فلما استيقظ من
نومه دعا الربيع، وقص عليه رؤياه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن شريكاً مخالف لك وإنه فاطمي محض؛ قال المهدي:
علي به فلما دخل عليه، قال له: يا شريك، بلغني أنك فاطمي، قال له شريك: أعيذك بالله
يا أمير المؤمنين أن تكون غير فاطمي، إلا أن تعني فاطمة بنت كسرى؛ قال: ولكني أعني
فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم: قال: أفتلعنها يا أمير المؤمنين؟ قال: معاذ
الله؛ فماذا تقول فيما يلعنها؟ قال: عليه لعنة الله؛ قال: فالعن هذا - يعني الربيع
- فإنه يلعنها، فعليه لعنة الله؛ قال الربيع: لا والله يا أمير المؤمنين ما ألعنها؛ قال له شريك: يا ماجن فما ذكرك لسيدة
نساء العالمين، وابنة سيد المرسلين في مجالس الرجال؟ قال المهدي: دعني من
هذا، فإني رأيتك في منامي كأن وجهك مصروف عني وقفاك إلي، وما ذلك إلا بخلافك علي،
ورأيت في منامي كأن أقتل زنديقاً؛ قال شريك: إن رؤياك يا أمير المؤمنين ليست برؤيا
يوسف الصديق صلوات الله على محمد وعليه، وإن الدماء لا تستحل بالأحلام، وإن علامة
الزندقة بينة؛ قال: وما هي؟ قال: شرب المر والرشا في الحكم ومهر البغي؛ قال: صدقت
والله أبا عبد الله، أنت والله خير من الذي حملني عليك.
ودخل شريك القاضي على
المهدي فقال له الربيع: خنت مال الله ومال أمير المؤمنين؛ قال: لو كان ذلك لأتاك
سهمك.
العتبي قال: دخل جامع
المحاربي على الحجاج - وكان جامع شيخاً صالحاً خطيباً لبيباً جريئاً على السلطان،
وهو الذي قال للحجاج إذ بنى مدينة واسط: بنيتها في غير بلدك، وتورثها غير ولدك -
لجعل الحجاج يشكو سوء طاعة أهل العراق وقبح مذهبهم. فقال له جامع: أما إنه لو
أحبوك لأطاعوك، على أنهم ما شنئوك لنسبك ولا لبلدك، ولا لذات نفسك، فدع عنك ما
يبعدهم منك إلى ما يقربهم إليك، والتمس العافية ممن دونك تعطها ممن فوقك، وليكن
إيقاعك بعد وعيدك، ووعيدك بعد وعدك. قال الحجاج: ما أرى أن أراد بني اللكيعة إلى
طاعتي إلا بالسيف؛ قال: أيها الأمير، إن السيف إذ لاقى السيف ذهب الخيار؛ قال
الحجاج: الخيار يومئذ لله؛ قال: أجل، ولكنك لا تدري لمن يجعله الله؛ فغضب
وقال: يا هناه، إنك من محارب؛ فقال جامع:
وللحرب سمينا وكنا
محارباً ... إذا ما القنا أمسى من الطعن أحمرا
فقال الحجاج: والله
لقد هممت بأن أخلع لسانك فأضرب به وجهك؛ قال جامع: إن صدقناك أغضبناك، وإن غششناك
أغضبنا الله، فغضب الأمير أهون علينا من غضب الله؛ قال: أجل، وسكن. وشغل الحجاج
ببعض الأمر، فانسل جامع، فمر بين الصفوف من أهل الشام حتى جاوزها إلى صفوف العراق،
فأبصر كبكبة فيها جماعة من بكر العراق، وقيس العراق، وتميم العراق، وأزد العراق،
فلما رأوه أشرأبوا إليه، وقالوا له: ما عندك؟ دفع الله عنك؛ قال: ويحكم؛ عموه
بالخلع كما يعمكم بالعداوة، ودعوا التعادي ما عاداكم، فإذا ظفرتم تراجعتم
وتعاديتم، أيها التميمي، هو أعدى لك من الأزدي، وأيها القيسي هو أعدى لك من
التغلبي، وهل ظفر بمن ناوأه منكم إلا بمن بقي معه منكم. وهرب جامع من فوره ذلك إلى
الشام، واستجار بزفر بن الحارث فأجاره.
العتبي قال: كان
هارون الرشيد يقتل أولاد فاطمة وشيعتهم، وكان مسلم ابن الوليد صريع الغواني؛ قد
رمي عنده بالتشيع، فأمر بطلبه، فهرب منه، ثم أمر بكلب أنس بن أبي شيخ كاتب البرامكة،
فهرب منه، ثم وجد هو ومسلم بن الوليد عند قينة ببغداد، فلما أتي بهما، قيل له: يا
أمير المؤمنين، قد أتي بالرجلين؛ قال: أي الرجلين؟ قيل: أنس بن أبي شيخ، ومسلم ابن الوليد؛ فقال: الحمد لله الذي أظفرني بهما،
يا غلام، أحضرهما. فلما دخلا عليه، نظر إلى مسلم، وقد تغير لونه، فرق له وقال: إيه يا
مسلم، أنت القائل:
أنس الهوى ببني علي
في الحشا ... وأراه يطمح عن بني العباس
قال: بل أنا الذي
أقول يا أمير المؤمنين:
أنس الهوى ببني
العمومة في الحشا ... مستوحشاً من سائر الإيناس
وإذا تكاملت الفضائل
كنتم ... أولى بذلك يا بني العباس
قال: فعجب
هارون من سرعة بديهته، وقال له بعض جلسائه: استبقه يا أمير المؤمنين، فإنه من أشعر
الناس، وامتحنه فسترى منه عجباً؛ فقال له: قل شيئاً في أنس؛ فقال: يا أمير
المؤمنين، أفرخ روعي، أفرخ الله روعك يوم الحاجة إلى ذلك، فإني لم أدخل على خليفة
قط، ثم أنشأ يقول:
تلمظ السيف من شوق
إلى أنس ... فالموت يلحظ والأقدار تنتظر
فليس يبلغ منه ما
يؤمله ... حتى يؤامر فيه رأيك القدر
أمضى من الموت عند
قدرته ... وليس للموت عفو حين يقتدر
قال: فأجلسه
هارون وراء ظهره، لئلا يرى ما هم به، حتى إذا فرغ من قتل أنس، قال له: أنشدني أشعر
شعر لك، فكلما فرغ من قصيدة، قال له: التي تقول فيها الوحل، فإني رويتها وأنا
صغير، فأنشده شعره الذي أوله:
أديرا علي الراح لا
تشربا قبلي ... ولا تطلبا من عند قاتلتي ذحلي
حتى انتهى إلى قوله:
إذا ما علت منا ذؤابة
شارب ... تمشت به مشي المقيد في الوحل
فضحك هارون وقال:
ويحك يا مسلم! أما رضيت أن قيدته، حتى جعلته يمشي في الوحل، ثم أمر له بجائزة وخلي
سبيله.
قال كسرى ليوشت
المغني: وقد قتل الفهليذ تلميذه، كنت أستريح منك إليه ومنه إليك، فأذهب حسدك ونغل
صدرك شكر تمتعي، وأمر أن يطرح تحت أرجل الفيلة. فقال: أيها الملك، إذا كنت أنا قد أهبت شطر تمتعك، وأذهبت أنت الشطر
الآخر: أليس جنايتك على نفسك، مثل جنايتي عليك؟ قال كسرى: دعوه، فما دله على
هذا الكلام إلا ما جعل من طول المدة.
يعقوب بن صالح بن علي
بن عبد الله بن عباس قال: دخلت يوماً على الرشيد، أمير المؤمنين، وهو متغيظ متربد،
فندمت على دخولي عليه، وقد كنت أفهم غضبه في وجهه، فسلمت، فلم يرد؛ فقلت: داهية
نآد، ثم أومأ إلي فجلست. فالتفت إلي وقال: لله عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن
جعفر بن أبي طالب، فلقد نطق بالحكمة حيث يقول:
يا أيها الزاجري عن
شيمتي سفهاً ... عمداً عصيت مقال الزاجر الناهي
أقصر فإنك من قوم
أرومتهم ... في اللؤم فافخر بهم ما شئت أو باهي
يزين الشعر أفواهاً
إذا نطقت ... بالشعر يوماً وقد يزري بأفواه
قد يرزق المر لا من
فضل حيلته ... ويصرف الرزق عن ذي الحيلة الداهي
لقد عجبت لقوم لا
أصول لهم ... أثروا وليسوا وإن أثروا بأشباهي
ما نالني من غنى
يوماً ولا عدم ... إلا وقولي عليه الحمد لله
فقلت: يا أمير
المؤمنين، ومن ذا الذي بلغت به المقدرة أن يسامي مثلك أو يدانيه؟ قال: لعله من بني
أبيك وأمك.
كان الكميت بن زيد
يمدح بني هاشم ويعرض ببني أمية، فطلبه هشام، فهرب منه عشرين سنة، لا يستقر به
القرار من خوف هشام، وكان مسلمة بن عبد الملك له على هشام يوماً إلى بعض صيوده،
أتى الناس يسلمون عليه، وأتاه الكميت بن زيد فيمن أتى، فقال: السلام عليك أيها
الأمير ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
قف بالديار وقوف زائر
... وتأن إنك غير صاغر
حتى انتهى إلى قوله:
يا مسلم بن أبي الولي
... د لميت إن شئت ناشر
غلقت حبالي من حبا ...
لك ذمة الجار المجاور
فالآن صرت إلى أمي
... ة والأمور إلى المصاير
والآن كنت به المصي
... ب كمهتد بالأمس حائر
فقال مسلمة: سبحان
الله، من هذا الهندكي الجلحاب الذي أقبل من أخريات الناس فبدأ بالسلام ثم أما بعد
ثم الشعر؟ قيل له: هذا الكميت بن زيد. فأعجب لفصاحته وبلاغته، فسأله مسلمة عن
خبره، وما كان فيه طول غيبته، فذكر له سخط أمير المؤمنين عليه، فضمن له مسلمة
أمانه، وتوجه به حتى أدخله على هشام، وهشام لا يعرفه. فقال الكميت: السلام عليك يا
أمير المؤمنين ورحمة الله بركاته، - الحمد لله - قال هشام: نعم، الحمد لله يا هذا
- قال الكميت: مبتدئ الحمد ومبتدعه، والذي خص بالحمد نفسه، وأمر به ملائكته، وجعله
فاتحة كتابه، ومنتهى شكره، وكلام أهل جنته، أحمده حمد من علم يقيناً، وأبصر مستبيناً،
وأشهد له بما شهد به لنفسه قائماً بالقسط، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده
العربي، ورسوله الأمي، أرسله والناس في هبوات حيرة، ومدلهمات ظلمة، عند استمرار
أبهة الضلال، فبلغ عن الله ما أمر به، ونصح لأمته، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى
أتاه اليقين، صلى الله عليه وسلم. ثم إني يا أمير المؤمنين تهت في حيرة وحرت في
سكرة، إدلأم بي خطرها؛ وأهاب بي داعيها، وأجابني غاويها، فاقطوطيت إلى الضلالة،
وتسكعت في الظلمة والجهالة، حائداً عن الحق، قائلاً بغير صدق، فهذا مقام العائذ،
ومنطق التائب، ومبصر الهدى بعد طول العمي. ثم يا أمير المؤمنين، كم من عاثر أقلتم
عثرته، ومجترم عفوتم عن جرمه. فقال له هشام، وأيقن أنه الكميت: ويحك! من سن لك
الغواية، وأهاب بك في العماية؟ قال: الذي أخرج أبي آدم من الجنة فنسي ولم يجد له عزماً؛
وأمير المؤمنين كريح رحمة أثارت سحاباً متفرقاً فلفقت بعضه إلى بعض حتى التحم
فاستحكم، وهدر رعده، وتلألأ برقه، فنزل الأرض فرويت واخضلت واخضرت، وأسقيت، فروي
ظمآنها، وامتلأ عطشانها، فكذلك نعدك أنت يا أمير المؤمنين، أضاء الله بك الظلمة
الداجية بعد العموس فيها، وحقن بك دماء قوم أشعر خوفك قلوبهم، فهم يبكون لما
يعلمون من حزمك وبصيرتك، وقد علموا أنك الحرب وابن الحرب، إذا حمرت الحدث، وعضت
المغافر بالهام، عز بأسك، واستربط جأشك، مسعار هتاف، وكاف بصير بالأعداء، مغزي
الخيل بالنكراء، مستغن برأيه عن رأي ذوي الألباب، برأي أريب، وحلم مصيب، فأطال
الله لأمير المؤمنين البقاء، وتمم عليه النعماء، ودفع به الأعداء. فرضي عنه هشام
وأمر له بجائزة.
العتبي قال: لما أتي
بابن هبيرة إلى خالد بن عبد الله القسري وهو والي العراق، أتي به مغلولاً مقيداً
في مدرعة، فلما صار بين يدي خالد ألقته الرجال إلى الأرض؛ فقال: أيها الأمير، إن
القوم الذين أنعموا عليك بهذه النعمة قد أنعموا بها علي من قبلك، فأنشدك الله أن
تستن في بسنة يستن بها فيك من بعدك. فأمر به إلى الحبس؛ فأمر ابن هبيرة غلمانه
فحفروا له تحت الأرض سرداباً حتى خرج الحفر تحت سريره، ثم خرج منه ليلاً وقد أعدت
له أفراس يداولها، حتى أتى مسلمة بن عبد الملك، فاستجار به فأجاره، واستوهبه مسلمة
من هشام ابن عبد الملك فوهبه إياه. فلما قدم خالد بن عبد الله القسري على هشام وجد
عنده ابن هبيرة، فقال له: إباق العبد أبقت؛ قال له: حين نمت نومة الأمة.
فقال الفرزدق في ذلك:
لما رأيت الأرض قد سد
ظهرها ... فلم يبق إلا بطنها لك مخرجا
دعوت الذي ناداه يونس
بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرجا
فأصبحت تحت الأرض قد
سرت ليلة ... وما سار سار مثلها حين أدلجا
خرجت ولم تمنن عليك
شفاعة ... سوى حثك التقريب من آل أعوجا
ودخل الناس على ابن
هبيرة بعدما أمنه هشام بن عبد الملك يهنئونه ويحمدون له رأيه، فقال متمثلاً:
من يلق خيراً يحمد
الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
ثم قال لهم: ما كان
وقلكم لو عرض لي أو أدركت في طريقي؟ ومثل هذا قول القطامي:
والناس من يلق خيراً
قائلون له ... ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
عبد الله بن سوار
قال: قال لي ربيع الحاجب: أتحب أن تسمع حديث ابن هبيرة مع مسلمة؟ قلت: نعم؛ قال:
فأرسل لخصي كان لمسلمة يقوم على وضوئه، فجاءه، فقال: حدثنا حديث ابن هبيرة مع مسلمة؛ قال: كان مسلمة بن عبد الملك يقوم من الليل
فيتوضأ ويتنفل حتى يصبح فيدخل على أمير المؤمنين، فإني لأصب الماء على يديه م آخر
الليل وهو يتوضأ إذ صاح صائح من وراء الرواق: أنا بالله وبالأمير؛ فقال مسلمة: صوت
ابن هبيرة، اخرج إليه. فخرجت إليه ورجعت فأخبرته؛ فقال: أدخله، فدخل؛ فإذا رجل
يميد نعاساً، فقال: أنا بالله وبالأمير؛ قال: أنا بالله وأنت بالله؛ ثم قال: أنا
بالله وبالأمير؛ قال: أنا بالله وأنت بالله، حتى قالها ثلاثاً؛ ثم قال: أنا بالله، فسكت
عنه، ثم قال لي: انطلق به فوضئه ولصصل، ثم اعرض عليه أحب الطعام إليه فأته به
وافرش له في تلك الصفة - بصفة بين يدي بيوت النساء - ولا توقظه حتى يقوم متى قام.
فانطلقت به فتوضأ وصلى وعرضت عليه الطعام، فقال: شربة سويق، فشرب، وفرشت له فنام؛
وجئت إلى مسلمة فأعلمته، فغدا إلى هشام، فجلس عنده حتى إذا حان قيامه، قال: يا
أمير المؤمنين، لي حاجة؛ قال: قضيت إلا أن تكون في ابن هبيرة؛ قال: رضيت يا أمير
المؤمنين، ثم قام منصرفاً، حتى إذا كان أن يخرج من الإيوان رجع، فقال: يا أمير
المؤمنين، عودتني أن تستثني في حاجة من حوائجي، وإني أكره أن يتحدث الناس أنك
أحدثت على الاستثناء؛ قال: لا أستثني عليك؛ قال: فهو ابن هبيرة. فعفا عنه.
بلغ هشام بن عبد
الملك عن رجل كلام غليظ، فأحضره. فلما وقف بين يديه جعل يتكلم؛ فقال له هشام:
وتتكلم أيضاً؟ فقال الرجل: يقول الله عز وجل: " يوم تأتي كل نفس تجادل عن
نفسها " فنجادل الله تعالى جدالاً ولا نكلمك كلاماً؟ فقال هشام بن عبد الملك:
ويحك! تكلم بحاجتك.
فضيلة العفو والترغيب
فيهكان للمأمون خادم، وهو صاحب وضوئه، فبينما هو يصب الماء على يديه، إذ سقط
الإناء من يده، فاغتاظ المأمون عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الله يقول:
" والكاظمين الغيظ " . قال: قد كظمت غيظي عنك. قال: " والعافين عن الناس " . قال:
قد عفوت عنك. قال: " والله يحب المحسنين " . قال: اذهب فأنت حر.
أمر عمر عبد العزيز
بعقوبة رجل، فقال له رجاء بن حيوة: يا أمير المؤمنين، إن الله قد فعل ما تحب من
الظفر، فافعل ما يحبه من العفو.
الأصمعي قال: عزم عبد
الله بن علي على قتل بني أمية بالحجاز، فقال له عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن
أبي طالب رضي الله عنهم: إذا أسرعت بالقتل في أكفائك، فمن تباهي بسلطانك، فاعف يعف
الله عنك.
دخل ابن خريم على
المهدي، وقد عتب على بعض أهل الشام، وأراد أن يغزيهم جيشاً، فقال: يا أمير المؤمنين،
عليك بالعفو عن الذنب، والتجاوز عن المسيء، فلأن تطيعك العرب طاعة محبة، خير لك من
أن تطيعك طاعة خوف.
أمر المهدي بضرب عنق
رجل، فقام إليه ابن السماك، فقال: إن هذا الرجل لا يجب عليه ضرب العنق؛ قال: فما
يجب عليه؟ قال: تعفو عنه، فإن كان من أجر كان لك دوني، وإن كان وزر كان علي دونك.
فخلى سبيله.
كلم الشعبي ابن هبيرة
في قوم حبسهم، فقال: إن كنت حبستهم بباطل فالحق يطلقهم، وإن كنت حبستهم بحق فالعفو
يسعهم.
العتبي قال: وقعت دماء
بين حيين من قريش، فأقبل أبو سفيان، فما بقي أحد واضع رأسه غلا رفعه، فقال: ما
معشر قريش، هل لكم في الحق أو فيما هو أفضل من الحق؟ قالوا: وهل شيء أفضل من الحق؟
قال: نعم، العفو، فتهادن القوم واصطلحوا.
وقال هزيم بن أبي
طحمة ليزيد بن عاتكة بعد ظفره بيزيد بن المهلب: ما ظلم أحد ظلمك، ولا نصر نصرك،
فهل لك في الثالثة نقلها؟ قال: وما هي؟ قال ولا عفا عفوك.
وقال المبارك بن
فضالة: كنت عند أبي جعفر جالساً في السماط، إذ أمر برجل أن يقتل، فقلت: يا أمير
المؤمنين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا كان يوم القيامة نادى
مناد بين يدي الله: ألا من كانت له عند الله يد فليتقدم، فلا يتقدم إلا من عفا عن
مذنب. فأمر بإطلاقه.
وقال الأحنف بن قيس:
أحق الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: " أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب " وتقول العرب في أمثالها: ملكت فأسجح، وارحم ترحم، وكما تدين تدان، ومن
بر يوماً بر به.
بعد الهمة وشرف
النفسدخل نافع بن جبيرة بن مطعم على الوليد، وعليه كساء غليظ، وخفان جاسيان، فسلم
وجلس، فلم يعرفه الوليد، فقال لخادم بين يديه: سل هذا الشيخ من هو. فسأله، فقال
له: اعزب؛ فعاد إلى الوليد فأخبره؛ فقال: عد إليه واسأله؛ فعاد إليه، فقال له مثل
ذلك. فضحك الوليد، وقال له: من أنت؟ قال: نافع بن جبير بن مطعم.
وقال زياد بن ظبيان
لابنه عبيد الله؛ ألا أوصي بك الأمير زياداً؟ قال: يا أبت إذا لم يكن للحي إلا
وصية فالحي هو الميت.
وقال معاوية لعمرو بن
سعيد: إلى من أوصى بك أبوك؟ قال: إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي؛ قال وبما أوصى إليك؟
قال: أن لا يفقد إخوانه منه إلا وجهه.
وقال مالك بن مسمع
لعبيد الله بن زياد بن ظبيان: ما في كنانتي سهم أنا به أوثق مني بك، قال: وإني لفي
كنانتك! أما والله لئن كنت فيها قائماً لأطولنها، ولئن كنت فيها قاعداً لأخرقنها.
قال: كثر الله مثلك في العشيرة؛ قال: لقد سألت الله شططا.
وقال يزيد بن المهلب:
ما رأيت أشرف نفساً من الفرزدق، هجاني ملكاً ومدحني سوقة.
وقدم عبيد الله بن
زياد بن ظبيان على عتاب بن ورقاء الرياحي - وهو والي خراسان - فأعطاه
عشرين ألفاً، فقال له: والله ما أحسنت فأحمدك، ولا أسأت فألومك، وإنك لأقرب
البعداء، وأحب البغضاء.
وعبيد الله بن زياد
بن ظبيان هذا هو القائل: والله ما ندمت على شيء قط ندمي على عبد الملك بن مروان،
إذ أتيته برأس مصعب بن الزبير فخر لله ساجداً، أن لا أكون قد ضربت عنقه، فأكون قد قتلت
ملكين من ملوك العرب في يوم واحد.
ومن أشرف الناس همة
عقيل بن علفة المري. وكان أعرابياً يسكن البادية، وكان تصهر إليه الخلفاء، وخطب
إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده، فقال له: جنبني هجناء ولدك.
وقال عمر بن عبد
العزيز لرجل من بني أمية كان له أخوال في بني مرة: قبح الله شبهاً غلب عليك من بني
مرة. فبلغ ذلك عقيل بن علفة، فأقبل إليه فقال له قبل أن يبتدئه بالسلام: بلغني يا
أمير المؤمنين أنك غضبت على رجل من بني عمك له أخوال في بني مرة، فقلت: قبح الله
شبهاً غلب عليك من بني مرة، وأنا أقول قبح الله ألأم الطرفين، ثم انصرف. فقال عمر
بن عبد العزيز: من رأى أعجب من هذا الشيخ الذي أقبل من البادية ليست له حاجة إلا
شتمنا ثم انصرف؟ فقال له رجل من بني مرة: والله يا أمير المؤمنين ما شتمك وما شتم
إلا نفسه وقومه، نحن والله ألأم الطرفين.
أبو حاتم السجستاني
عن محمد بن عبد الله العتبي قال: سمعت أبي يحدث عن أبي عمرو المري، قال: كان بنو
عقيل بن علفة بن مرة بن غطفان يتناقلون وينتجعون الغيث، فسمع عقيل بن علفة بنتاً
له ضحكت فشهقت في آخر ضحكها، فاخترط السيف وحمل عليها وهو يقول:
فرقت إني رجل فروق
... بضحكة آخرها شهيق
وقال عقيل:
إني وإن سيق إلي
المهر ... ألف وعبدان وذود عشر
أحب أصهاري إلي القبر
وقال الأصمعي: كان
عقيل بن علفة المري رجلاً غيوراً، وكان يصهر إليه الخلفاء، وإذا خرج يمتار خرج
بابنته الجرباء معه. قال: فنزلوا ديراً من ديرة الشام يقال لها دير سعد، فلما
ارتحلوا قال عقيل:
قضت وطراً من دير سعد
وطالماً ... على عرض ناطحنه بالجماجم
ثم قال لابنه: يا
عملس أجز، فقال:
فأصبحن بالموماة
يحملن فتية ... نشاوى من الإدلاج ميل العمائم
ثم قال لابنته: يا
جرباء، أجيزي، فقالت:
كأن الكرى سقاهم
صرخدية ... عقاراً تمشى في المطا والقوائم
قال: وما يدريك أنت
ما نعت الخمر! فأخذ السيف وهوى نحوها، فاستعانت بأخيها عملس، فحال بينه وبينها.
قال: فأراد أن
يضربه. قال: فرماه بسهم فاختل فخذيه فبرك، ومضوا وتركوه، حتى إذا بلغو أدنى ماء
للأعراب، قالوا لهم: إنا أسقطنا جزروا فأدركوها وخذوا معكم الماء، فإذا عقيل بارك
وهو يقول:
إن بني زملوني بالدم
... شنشنة أعرفها من أخزم
من يلق أبطال الرجال
يكلم
والشنشنة: الطبيعة،
وأخزم: فحل معروف، وهذا مثل للعرب ومن أعز الناس نفساً وأشرفهم همماً الأنصار، وهم
الأوس والخزرج ابنا قيلة، لم يؤدوا إتاوة قط في الجاهلية إلى أحد من الملوك، وكتب
إليهم تبع يدعوهم إلى طاعته، ويتوعدهم إن لم يفعلوا أن يغزوهم. فكتبوا إليه:
العبد تبع كم يروم
قتالنا ... ومكانه بالمنزل المتذلل
إنا أناس لا ينام
بأرضنا ... عض الرسول ببظر أم المرسل
فغزاهم تبع أبو كرب،
فكانوا يقاتلونه نهاراً ويخرجون إليه القرى ليلاً، فتذمم من قتالهم ورحل عنهم.
ودخل الفرزدق على
سليمان بن عبد الملك، فقال له: من أنت؟ وتجهم له كأنه لا يعرفه: فقال له الفرزدق:
وما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ قال: لا؛ قال: أنا من قوم منهم أوفى العرب، أسود
العرب، وأجود العرب، وأحلم العرب، وأفرس العرب، وأشعر العرب: قال: والله لتبينن ما
قلت أو لأوجعن ظهرك؛ ولأهدمن دارك، قال: نعم يا أمير المؤمنين، أما أوفى العرب،
فحاجب بن زرارة، الذي رهن قوسه عن جميع العرب فوفى بها: وأما أسود العرب، فقيس بن
عاصم، الذي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبسط له رداءه، وقال: هذا سيد
الوبر؛ وأما أحلم العرب، فعتاب بن ورقاء الرياحي؛ وأما أفرس العرب، فالحريش بن هلال
السعدي؛ أما أشعر العرب فأنذا بين يديك يا أمير المؤمنين، فاغتم سليمان مما سمع من
فخره ولم ينكره، وقال: ارجع على عقبيك، فما لك عندنا شيء من خير. فرجع الفرزدق
وقال:
أتيناك لا من حاجة
عرضت لنا ... إليك ولا من قلة في مجاشع
وقال الفرزدق في
الفخر:
بنو دارم قومي ترى
حجزاتهم ... عتاقاً حواشيها رقاقاً نعالها
يجرون هداب اليماني
كأنهم ... سيوف جلا الأطباع عنها صقالها
وقال الأحوص في
الفخر، وهو أفخر بيت قالته العرب:
ما من مصيبة نكبة
أرمى بها ... ألا تشرفني وترفع شاني
وإذا سألت عن الكرام
وجدتني ... كالشمس لا تخفى بكل مكان
وقال أبو عبيدة:
اجتمعت وفود العرب عند النعمان بن المنذر، فأخرج إليهم بردي محرق، وقال: ليقم أعز
العرب قبيلة فليلبسهما فقام عامر بن أحيمر السعدي فاتزر بأحدهما وارتدى بالآخر؛
فقال له النعمان: بم أنت أعز العرب؟ قال: العز والعدد من العرب في معد، ثم في نزار، ثم في تميم، ثم في سعد، ثم
في كعب، ثم في عوف، ثم في بهدلة، فمن أنكر هذا من العرب فلينافرني؛ فسكت الناس. ثم
قال النعمان: هذه حالك في قومك، فكيف أنت في نفسك وأهل بيتك؟ قال: أنا أبو عشرة،
وخال عشرة، وعم عشرة؛ وأما أنا في نفسي فهذا شاهدي ثم وضع قدمه في الأرض، ثم قال:
من أزالها من مكانها فله مائة من الإبل. فلم يقم إليه أحد، فذهب بالبردين.
ففيه يقول الفرزدق:
فما ثم في سعد ولا آل
مالك ... غلام إذا ما سيل لم يتبهدل
لهم وهب النعمان بردي
محرق ... بمجد معد والعديد المحصل
وفي أهل هذا البيت من
سعد بن زيد مناة كانت الإفاضة في الجاهلية. ومنهم بنو صفوان الذين يقول فيهم أوس
بن مغراء السعدي:
ولا يريمون في
التعريف موقفهم ... حتى يقال أجيزوا آل صفوانا
ما تطلع الشمس إلا
عند أولنا ... ولا تغيب إلا عند أخرانا
وقال الفرزدق في مثل
هذا المعنى:
ترى الناس ما سرنا
يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا
وكانت هنيدة بنت
صعصعة عمة الفرزدق تقول: من جاءت من نساء العرب بأربعة كأربعتي يحل لها أن تضع
خمارها عندهم فصرمتى لها: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع بن حابس، وزوجي
الزبرقان بن بدر، فسميت ذات الخمار.
وممن شرفت نفسه،
وبعدت همته: طاهر بن الحسين الخراساني، وذلك أنه لما قتل محمد بن زبيدة، وخاف
المأمون أن يغدر به، امتنع عليه بخراسان ولم يظهره خلعه.
وقال دعبل بن علي الخزاعي
يفتخر بقتل طاهر بن الحسين محمداً، لأنه كان مولى خزاعة، ويقال إنه خزاعي:
أيسومني المأمون خطة
عاجز ... أوما رأى بالأمس رأس محمد
توفي على روس الخلائق
مثل ما ... توفي الجبال على رؤوس القردد
إني من القوم الذين
هم هم ... قتلوا أخاك وشرفوك بمقعد
رفعوا محلك بعد طول
خموله ... واستنقذوك من الحضيض الأوهد
وقال طاهر بن الحسين:
غضبت على الدنيا
فأنهبت ما حوت ... وأعتبتها مني بإحدى المتالف
قتلت أمير المؤمنين
وإنما ... بقيت عناء بعده للخلائف
وأصبحت في دار مقيما
كما ترى ... كأني فيها من ملوك الطوائف
وقد بقيت في أم رأس فتكة
... فإما لرشد أو لرأي مخالف
فأجابه محمد بن يزيد
بن مسلمة:
عتبت على الدنيا فلا
كنت راضيا ... فلا أعتبت إلا بإحدى المتالف
فمن أنت أو ما أنت يا
فقع قرقر ... إذا أنت منا لم تعلق بكانف
فنحن بأيدينا هرقنا
دماءنا ... كثول تهادى الموت عند التزاحف
ستعلم ما تجني عليك
وما جنت ... يداك فلا تفخر بقتل الخلائف
وقد بقيت في أم رأسك
فتكة ... سنخرجها منه بأسمر راعف
وقال عبد الله بن
طاهر:
مدمن الإغضاء موصول
... ومديم العتب مملول
ومدين البيض في تعب
... وغريم البيض ممطول
وأخو الوجهين حيث رمى
... بهواه فهو مدخول
أقصري عما لهجت به
... ففراغي عنك مشغول
سائلي، عمن تسائلني
... قد يرد الخير مسئول
أنا من تعرف نسبته
... سلفي الغر بالبهاليل
سل بهم تنبيك نجدتهم
... مشرفيات مصاقيل
كل عضب مشرب علقا ...
وغرار الحد مفلول
مصعب جدي نقيب بني
... هاشم والأمر مجبول
وحسين رأس دعوتهم ...
بعده الحق مقبول
وأبي من لا كفاء له
... من يسامي مجده قولوا
صاحب الرأي الذي حصلت
... رأيه القوم المحاصيل
حل منهم بالذرى شرفاً
... دونه عز وتبجيل
نفصح الأنباء عنه إذا
... أسكت الأنباء مجهول
سل به الجبار يوم غدا
... حوله الجرد الأبابيل
إذ علت من فوقه يده
... نوطها أبيض مصقول
أبطن المخلوع كلكله
... وحوالبه المقاويل
فثوى والترب مصرعه
... غال منه ملكه غول
وهبوا لله أنفسهم ...
لا معازيل ولا ميل
ملك تجتاح صولته ...
ونداه الدهر مبذول
نزعت منه تمائمه ...
وهو مرهوب ومأمول
وتره يسعى إليه به
... ودم يجنيه مطلول
فأجابه محمد بن يزيد
بن مسلمة، وكان من أصحابه وآثرهم عنده، ثم اعتذر إليه وزعم أنه لم يدعه إلى إجابته
إلا قوله:
من يسامي مجده قولوا
فأمر له بمائة ألف
وزاده أثرة ومنزلة:
لا يرعك القال والقيل
... كل ما بلغت تضليل
ما هوى لي كنت أعرفه
... بهوى غيرك موصول
أيخون العهد ذو ثقة
... لا يخون العهد متبول
حملتني كل لائمة ...
كل ما حملت محمول
واحكمي ما شئت
واحتكمي ... فحرامي لك تحليل
أين لي عنك إلى بدل
... لا بديل منك مقبول
ما لداري منك مقفرة
... وضميري منك مأهول
وبدت يوم الوداع لنا
... غادة كالشمس عطبول
تتعاطى شد مئزرها ...
ونطاق الخصر محلول
شملنا إذ ذاك مجتمع
... وجناح البين مشكول
ثم ولت كي تودعنا ...
كحلها بالدمع مغسول
أيها البادي بطيته
... ما لأغلاطك تحصيل
قد تأولت على جهة ...
ولنا ويحك تأويل
إن دليلاك يوم غدا
... بك في الحين لضليل
قاتل المخلوع مقتول
... ودم القاتل مطلول
قد يخون الرمح عامله
... وسنان الرمح مصقول
وينال الوتر طالبه
... بعد ما تسلو المثاكيل
بأخي المخلوع طلت
يداً ... لم يكن في باعها طول
وبنعماه التي كفرت
... جالت الخيل الأبابيل
ويراع غير ذي شفق ...
فعلت تلك الأفاعيل
يا بن بيت النار
موقدها ... ما لحاذيه سراويل
من حسين وأبوه ومن
... مصعب غالتهم غول
إن خير القول أصدقه
... حين تصطك الأقاويل
مراسلات الملوكالعتبي
عن أبيه قال: أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة، وأمر أن ينحرها أعز قريشي. فقدمت
وأبو سفيان عروس بهند بنت عتبة، فقال له: أيها الرجل، لا يشغلنك النساء عن هذه
المكرمة التي لعلها أن تفوتك؛ فقال لها: يا هذه، دعي زوجك وما يختاره لنفسه، والله
ما نحرها غيري إلا نحرته. فكانت في عقلها حتى خرج أبو سفيان في اليوم السابع
فنحرها.
زهير عن أبي الجويرية
الجرمي قال: كتب قيصر إلى معاوية: أخبرني عما لا قبلة له، وعمن لا أب له، وعمن لا
عشيرة له، وعمن سار به قبره، وعن ثلاثة أشياء لم تخلق في رحم، وعن شيء ونصف شيء
ولا شيء، وابعث إلي في هذه القارورة ببزر كل شيء، فبعث معاوية بالكتاب والقارورة
إلى ابن عباس. فقال ابن عباس: أما مالا قبلة قبله له فالكعبة؛ وأما من لا أب له
فعيسى، وأما من لا عشيرة له فآدم، وأما من سار به قبره فيونس؛ وأما ثلاثة أشياء لم
تخلق في رحم: فكبش إبراهيم، وناقة ثمود، وحية موسى؛ وأما شيء، فالرجل له عقل يعمل
بعقله؛ وأما نصف شيء، فالرجل ليس له عقل ويعمل برأي ذوي العقول؛ وأما لا شيء،
فالذي ليس له عقل يعمل به ولا يستعين بعقل غيره؛ وملأ القارورة ماء، وقال: هذا بزر
كل شيء: فبعث به إلى معاوية، فبعث به معاوية إلى قيصر. فلما وصل إليه الكتاب والقارورة،
قال: ما خرج هذا إلا من أهل بيت النبوة.
نعيم بن حماد قال:
بعث ملك الهند إلى
عمر بن عبد العزيز كتاباً فيه: من ملك الأملاك الذي هو ابن ألف ملك، والذي تحته
ابنه ألف ملك، والذي مربطه ألف فيل، والذي له نهران ينبتان العود والألوة والجوز
والكافور، والذي يوجد ريحه على مسيرة اثني عشر ميلاً، إلى ملك العرب الذي لا يشرك
بالله شيئاً، أما بعد، فإني قد بعثت إليك بهدية وما بهدية، ولكنها تحية، وأحببت أن
تبعث إلي رجلاً يعلمني ويفهمني الإسلام، والسلام، يعني الهدية الكتاب.
الرياشي قال: لما هدم
الوليد كنيسة دمشق كتب إليه ملك الروم: إنك هدمت الكنيسة التي رأى أبوك تركها، فإن
كان صواباً فقد أخطأ أبوك، وإن كان خطأ فما عذرك؟ فكتب إليه: " وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين،
ففهمناها سليمان، وكلاً آتينا حكماً وعلماً " .
وكتب ملك الروم إلى
عبد الملك بن مروان: أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة لأغزينك جنوداً
مائة ألف ومائة ألف. فكتب عبد الملك إلى الحجاج أن يبعث إلى عبد الله بن الحسن
ويتوعده ويكتب إليه بما يقول، ففعل، فقال عبد الله بن الحسن: إن الله عزل وجل
لوحاً محفوظاً، يلحظه كل يوم ثلثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلا يحيي فيها ويميت
ويعز ويذل ويفعل ما يشاء، وإني لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة. فكتب به الحجاج
إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى ملك الروم، فلما قرأه قال: ما خرج
هذا إلا من كلام النبوة.
بعث ملك الهند إلى
هارون الرشيد بسيوف قلعية، وكلاب سيورية، وثياب من ثياب الهند؛ فلما أتته الرسل
بالهدية أمر الأتراك فصفوا صفين، ولبسوا الجديد حتى لا يرى منهم إلا الحدق، وأذن
للرسل فدخلوا عليه، فقال لهم: ما جئتم به؟ قالوا: هذه أشرف كسوة بلدنا، فأمر هارون
القطاع بأن يقطع منها جلالاً وبراقع كثيرة لخيله، فصلب الرسل على وجوههم، وتذمموا
من ذلك ونكسوا رؤوسهم؛ ثم قال لهم الحاجب: ما عندكم غير هذا؟ قالوا له: هذه سيوف
قلعية لا نظير لها. فدعا هارون بالصمصامة سيف عمرو بن معد يكرب، فقطعت به السيوف
بين يديه سيفاً سيفاً، كما يقط الفجل، من غير أن تنثني له شفرة، ثم عرض عليهم حد السيف
فإذا لا فل فيه، فصلب القوم على وجوههم؛ ثم قيل لهم: ما عندكم غير هذا؟ قالوا: هذه
كلاب سيورية لا يلقاها سبع إلا عقرته؛ فقال لهم هارون: فإن عند سبعا فإن عقرته فهي
كما ذكرتم؛ ثم أمر بالأسد فأخرج إليهم: فلما نظروا إليه هالهم، وقالوا: فنرسلها
عليه، وكانت الأكلب ثلاثة، فأرسلت عليه فمزقته، فأعجب بها هارون، وقال لهم: تمنوا
في هذه الكلاب ما شئتم من طرائف بلدنا؛ قالوا: ما نتمنى إلا السيف الذي قطعت به
سيوفنا؛ قال لهم: ما كنا لنبخل عليكم، ولكنه لا يجوز في ديننا أن نهاديكم بالسلاح،
ولكن تمنوا غير ذلك ما شئتم؛ قالوا: ما نتمنى إلا السيف؛ قال: لا سبيل إليه، ثم
أمر لهم بتحف كثيرة وأحسن جائزتهم.
أبو جعفر البغدادي
قال:
لما انقبض طاهر بن
الحسين بخراسان عن المأمون وأخذ حذره، أدب له المأمون وصيفاً بأحسن الآداب وعلمه
فنون العلم، ثم أهداه إليه مع ألطاف كثيرة من طرائف العراق، وقد واطأه على أن
يسمه، وأعطاه سم ساعة، ووعده على ذلك بأموال كثيرة. فلما انتهى إلى خراسان وأوصل
إلى طاهر الهدية، قبل الهدية، وأمر بإنزال الوصيف في دار، وأجرى عليه ما يحتاج
إليه من التوسعة في النزالة وتركه أشهراً. فلما برم الوصيف بمكانه كتب إليه: يا سيدي، إن كنت تقبلني فاقبلني
وإلا فردني إلى أمير المؤمنين؛ فأرسل إليه وأوصله إلى نفسه. فلما انتهى إلى باب المجلس
الذي كان فيه، أمره بالوقوف عند باب المجلس، وقد جلس على لبد أبيض وقرع رأسه، وبين
يديه مصحف منشور وسيف مسلول، فقال: قد قبلنا ما بعث به أمير المؤمنين غيرك فإنا لا
نقبلك، وقد صرفناك إلى أمير المؤمنين، ولي عندي جواب أكتبه، إلا ما ترى من حالي،
فأبلغ أمير المؤمنين السلام، وأعلمه بالحال التي رأيتني فيها. فلما قدم الوصيف على
المأمون، وكلمه بما كان من أميره، ووصف له الحال التي رآه فيها؛ شاور وزراءه في
ذلك وسألهم عن معناه، فلم يعلمه واحد منهم؛ فقال المأمون: لكني قد فهمت معناه: أما
تقريعه رأسه وجلوس على اللبد الأبيض، فهو يخبرنا أنه عبد ذليل؛ وأما المصحف
المنشور؛ فإنه يذكرنا بالعهود التي له علينا؛ وأما السيف المسلول، فإنه يقول: إن نكثت
تلك العهود فهذا يحكم بيني وبينك، أغلقوا عنا باب ذكره، ولا تهيجوه في شيء مما هو
فيه. فلم يهجه المأمون حتى مات طاهر بن الحسين، وقام عبد الله بن طار بن الحسين
مكانه، فكان أخف الناس على المأمون.
وكتب طاهر بن الحسين
إلى المأمون في إطلاق بن السندي من حبسه، وكان عامله على مصر فعزله عنها وحبسه،
فأطلقه له وكتب إليه:
أخي أنت ومولاي ...
فما ترضاه أرضاه
وما تهوى من الأمر
... فإني أنا أهواه
لك الله على ذاك ...
لك الله لك الله
/كتاب الياقوتة في
العلم والأدب قال أبو عمر أحمد بن محمد بن عَبد ربِّه: قد مضى قولًنا في مُخاطبة
الملوك ومقاماتهم، وما تفنَّنوا فيه من بديع حِكَمهم، والتزلّف إليهم بحسن التوصل
ولطيف المعاني، وبارع مَنطقهم، واختلاف مذاهبهم، ونحن قائلون بحمد الله وتوفيقه في
العلم والأدب، فإنهما القُطبان اللذان عليها مَدار الدين والدنيا، وفَرْقُ ما بين
الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطَّبيعة المَلَكية، والطبيعة البهيمية. وهما
مادَّة العقل وسراج البدن ونُور القَلب وعماد الرُّوح، وقد جَعل الله بلطيف
قُدْرته، وعظيم سُلطانه، بعضَ الأشياء عَمَداً لبعض ومُتولِّدًا من بعض، فإجالة
الوَهم فيما تُدْركه الحواسّ تَبعث خواطر الذِّكر، وخواطر الذكر تنبه رؤية الفِكْر،
وروية الفِكْر تثير مكامِن الإرادة، والإرادة تُحْكم أسباب العمل، فكلُّ شيء يقوم
في العقل وُيمثل في الوهم يكون ذِكْرِا، ثم فِكْرا، ثم إرادة، ثم عملا. والعقل
متقبل للعِلْم لا يعمل في غير ذلك شيئاَ. والعلم علمان: علم حُمِل، وعلم استُعمل
فما حُمل منه ضرّ، وما استُعمل نَفع. والدليل على أن العقل إنما يعمل في تقبل العُلوم كالبصر في تقبل
الألوان، والسمع في تقبل الأصوات، أن العاقل إذا لم يُعلَّم شيئا كان كمن لا عقل
له، والطِّفل الصغير لو لم تعرِّفه أدبا وتُلقنه كتابا كان كأبله البهائم وأضلِّ
الدواب، فإن زَعم زاعمِ فقال: إنا نجد عاقلا قليلَ العِلم: فهو يَستعمل عقله في
قلّة علمه، فيكون أشدَ رأياَ، وأنبه فِطنةً، وأحسنَ مواردَ ومَصادِرَ من الكثير
العِلم مع قَلّة العَقْل، فإنَّ حُجَّتنا عليه ما قد ذكرناه من حَمْل العِلْم
واستعماله، فقليل العِلْم يستعمله العَقل خَيرٌ من كثيره يحفظه القلب.
قيل للمُهلِّب: بِمَ
أدركتَ ما أدركتَ؟ قال: بالعِلم، قيل له: فإن غيرك قد عَلم أكثر مما عَلِمتَ، ولم يُدرك ما
أدركت، قال: ذلك عِلم حُمِل، وهذا علم استُعْمل.
وقد قالت الحكماء:
العِلمُ قائد، والعَقل سائق، والنَّفس ذَوْد، فإذا كان قائد بلا سائق هلكت " الماشية " ، وإن كان سائق بلا قائد أخذتْ يميناً وشمالا، وإذا
اجتمعا أنابت طَوْعاً أو كَرْهاً.
فنون العلم
قال سهل بن هارون
يوماً وهو عند المأمون: مِن أصناف العلم مالا ينبغي للمُسلمين أن يَرْغبوا فيه،
وقد يُرغب عن بعض العِلم كما يُرغب عن بَعض الحلال؟ فقال المأمون: قد يُسمِّي بعضُ
الناسِ الشيءَ عِلماً وليس بعلمِ، فإن كان هذا أردتَ فوَجْهُه الذي ذَكرتُ؛ ولو
قلتَ أيضاَ: إِنّ العلم لا يُدْرَك غوْرُه، ولا يُسْبر قَعْره، ولا تُبلغ غايتهُ،
ولا تُستقىَ أُصوله، ولا تَنْضَبط أجزاؤُه، صدقتَ، فإن كان الأمر كذلك فابدأ
بالأهمِّ فالأهمّ، والأوكد فالأوكد، وبالفَرْض قبل النَّفل، يكن ذلك عَدْلا قصداً
ومذْهباً جَمِيلاَ. وقد قال بعضُ الحُكماء: لستً أَطلب العلْم طمعاً في غايته والوقوف على نِهايته، ولكن التماسَ
مالا يسع جَهلُه؛ فهذا وَجهٌ لما ذكرت. وقال آخرون: عِلْم المُلوك والنَّسب والخَبَر،
وعِلمُ أصحاب الحُروب درْس كُتبِ الأيَّام والسِّير، وعِلم التجَّار الكِتاب
والحساب، فأما أن يُسمَّى الشيء عِلماً وًينهى عنه من غير أن يُسأل عما هو أنفع
منه فلا.
وقال محمد بن إدريس
رضي الله عنه: العِلم علمان: عِلم الأبدان، وعِلم الأديان.
وقال عبد الله بن
مُسلم بن قُتيبة: من أراد أن يكون عالماً فليطلب فنًا واحداً، ومن أراد أن يكون
أديباً فَلْيتسع في العلوم.
وقال أبو يوسُف
القاضي: ثلاثة لا يَسلمون من ثلاثة: مَن طلب الدِّين بالفلسفة لمِ يَسلم من
الزَّنْدَقَة، ومَن طلب " المالَ " بالكِيمياء لم يَسلم من الفَقْر، ومن
طلب غرائبَ الحديث لم يَسلم من الكذب.
وقال ابن سِيرين رحمه
اللهّ تعالى: العِلْم أكثرُ من أن يُحاط به، فخُذوا من كلِّ شيء أحسنه.
وقال ابن عبّاس رضي
الله عنهما: كَفَاك من عِلم الدِّين أن تَعرف مالا يسع جهلُه، وكفاك من عِلم الأدب
أن تَرْوِي الشاهد والمَثل، قال الشاعر:
وما من كاتب إلا
ستبقى ... كِتابتهُ وإن فنيت يدَاه
فلا تكتب بكفِّك غير
شيء ... يَسرّك في القِيامة أن تَراه
قال الأصمعيّ: وَصلت
بالمًلَح، ونلْت بالغريب.
وقالوا: مَن أكثر من
النَّحْو حَمّقه، ومن أكثر من الشعر بذَّله، ومن أكثر من الفِقه شرَفه.
وقال أبو نُواس الحسن
بن هانئ:
كم من حَديث مُعْجِب
عندي لكا ... لو قد نبذتَ به إليك لسركا
ممَّا تَخَيَّره
الرواة مُهذّب ... كالدُّرِّ مُنتظماً بِنحْرٍ فَلَّكَا
أَتتبع العُلماءَ
أكتبُ عنهمُ ... كيما أُحدِّثَ من لقيتُ فَيَضْحكا
الحض على طلب
العلمقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال الرجلُ عالماً ما طَلب العِلم، فإذا
ظَنَّ أنه قد عَلِم فقد جَهل.
وقال عليه الصلاةُ
والسلام: الناسُ عالمٌ ومُتعلِّم وسائرهم هَمَج.
وعنه صلى الله عليه
وسلم: إنّ الملائكة لتَضَع أجنحتَها لطالب العِلم رِضاً بما يَطلب، وَلمِدَاد جَرت
به أقلامُ العُلماء خيرٌ من دماء الشّهداء في سبيل اللّه.
وقال داود لابنه
سُليمان عليهما السلام: لفَّ العِلْم حولَ عُنقك، واكتُبه في ألواح قَلبك.
وقال أيضاً: اجعل
العِلْم مالَكَ، والأدب حِلْيتك.
وقال عليّ بن أبي
طالب رضي الله عنه: قيمة كلِّ إنسان ما يُحْسن.
وقيل لأبي عمرو بن
العَلاء: هل يَحْسُن بالشَيخ أن يتعلًم؟ قال: إن كان يَحسن به أن يعيش فإنه يحسن
به أن يتعلم.
وقال عُرْوة بن
الزُّبير رحمه اللهّ تعالى " لبنيه " : يا بنيَّ، اطلبوا العِلم فإن
تكونوا صِغار " قوم " لا يُحتاج إليكم، فعسى أن تكونوا كبارَ قوم آخرين
لا يستغني عنكم.
وقال ملك الْهِند
لولده، وكان له أربعون ولداً: يا بني، أكثِروا من النظر في الكتب، وازدادوا في كل يوم حرفاً، فإن
ثلاثةً لا يَستوْحشون في غُربة: الفقِيه العالم، والبَطَل الشجاع، والحُلوُ اللسان
الكثير مخارج الرأي.
وقال المُهَلّب
لبَنِيه: إياكم أن تجلسوا في الأسواق إلا عند زَرَّاد أو وَرَّاق، أراد الزرَّاد
للحرب، والورَّاق للعلم.
وقال الشاعر:
نِعْمَ الأنيسُ إذا
خلوْتَ كِتَابُ ... تَلْهو به إن خانَكَ الأحبابُ
لا مُفْشِياً سرّا
إذا استودعتَه ... وتُفاد منهُ حكمةٌ وصَوَابُ
وقال " آخر " :
ولكلِّ طالب لذّة
مُتنزَه ... وألذُّ نُزهة عالمٍ في كُتْبهِ
ومَرَّ رجل بعبد الله
بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وهو جالس في المَقْبرة، وبيده كتاب، فقال له:
ما أَجلسك هاهنا؟ قال: إنه لا أوْعظَ " مِن " قبر، ولا أَمتع من كتاب.
وقال رُؤْبة بن
العجَّاج: قال لي النسِّابة البَكْري: يا رُؤبة، لعلك من قوم إن سَكَتُّ عنهم لم
يَسأَلوني، وإن حَدَّثتُهم لم يَفْهموني؟ قلتُ: إني أرجو أن لا أكون كذلك. قال:
فما آفة العلم ونَكَده وهُجْنته؟ قلت: تُخبرني؛ قال: آفتُه النسيان، ونَكَده
الكذب، وهُجْنته نشره عند غير أهله.
وقال عبد اللهّ بن
عبَّاس رضوان الله عليهما: مَنْهومان لا يَشبعان: طالِب علم وطالب دنيا.
وقال: ذَلَلتُ طالباً
فعَزَزْتُ مطلوباً.
وقال رجل لأبي
هُريرة: أُريد أن أطلب العِلْم وأخاف أن أضيِّعه قال: كفاك بترك طَلَب العِلم
إضاعةً له.
وقال عبد اللهّ بن
مسعود: إن الرجل لا يُولد عالماً، وإنما العِلم بالتعلّم.
وأخذه الشاعر فقال:
تَعَلم فليسَ المرء
يُولد عالماً ... وليس أخو عِلم كمن هو جاهلُ
ولآخر:
تَعلم فليس المرءُ
يُخلق عالماً ... وما عالمٌ أمراً كمن هو جاهلُ
ولآخر:
ولم أر فرعاً طال إلا
بأصْلهِ ... ولم أرَ بَدْءَ العِلم إِلا تَعَلّما
وقال آخر.
العِلْم يُحْي قُلوبَ
الميِّتِين كما ... تَحْيا البلادُ إذا ما مَسَّها المَطَرُ
والعِلم يَجْلو
العَمَى عن قَلْب صاحِبه ... كما يُجَلِّي سوادَ الظُّلْمة القمَر
وقال بعضً الحكماء:
اقصِد من أصناف العِلم إلى ما هو أشهى لنفسك، وأخفُّ على قَلبك، فإنّ نفاذَك فيه
على حَسب شَهوَتك له وسُهولتِه عليك.
فضيلة العلمحَدَّثنا
أيوب بن سُليمان قال حَدَّثنا عامر بن مُعاوية عن أحمد بن عِمْران الأخنس عن
الوليد بن صالح الهاشميّ عن عبد الله بن عبد الرحمن الكُوفي عن أبي مِخْنف عن
كُميل النِّخعيّ، قال: أخذ بيدي عليٌّ بن أبي طالب كَرَّم الله وجهه، فخرج بي إلى
ناحية الجبَّانة، فلما أسحر تنفّس الصُّعداء، ثم قال: يا كُميل، إنّ هذه القلوب
أوْعِيَة، فخيْرها أوعاها، فاحفظ عنِّي ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالم ربَّاني،
ومتعلَّم على سبيل نَجَاة، وهَمَج رَعَاع، أَتْباع كلّ ناعق، مع كلِّ ريح يَميلون،
لم يَسْتضيئوا بنُور العِلْم، وِلم يَلْجأوا إلى رًكْن وَثيق. يا كميل: العِلم يحْرُسك
وأنت تحرُس المال، والمال تَنْقصه النّفقة، والعِلم يزكو على الإنفاق، ومَنفعة
المال تزول بزواله. يا كميل: محبَّة العلْم دين يُدان به، يَكِسب الإنسان الطاعةَ
في حياته، وجَميل الأحدوثة بعد وَفاته. والعِلم حاكم، والمال محكوم عليه. يا كميل:
مات خُزَّان المال وهم أحياء، والعًلماء باقُون ما بَقي الدهر، أعيانهمُ مَفْقودة،
وأمثالهم في القلوب مَوْجودة. ها إنّ هاهُنا لعِلْماً جما - وأشار بيده إلى صَدْره - لو وَجدت له
حَمَلة؛ بلى أَجد لَقِناً غير مَأمون، يستَعمل " آلة " الدَّين
للدُّنيا، ويَسْتظهر بِنعَم اللهّ على عِباده، وبحُجَجه على أَوْليائه، أو
مُنقاداً لحملَة الحق ولا بَصِيرة له في أحنائه، يَنْقدحٍ الشكّ في قَلْبه لأوَّل عارض
من شبهة، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ " أو مَنهوماً باللذّة سَلِسَ القياد
للشهوة، أو مُغرماً بالجمع والادخار " ، ليسا من رُعاة الدين، " في شيء
" ، أقربُ شبهاً بهما الأنعامُ السائمة، كذلك يموت العلم بموت حامِلِيه؛
اللهم بلَى، لا تخلو الأرضُ من قائم بحجة اللّه، إما ظاهراً مشهوراً، وإما خائفاً
مَغموراَ، لئلاّ تبطل حًجج الله وبيّناته، وكم ذا وأين؟ أولئك " واللّه
" الأقلُّون عدداَ، والأعْظمون " عند اللّه " قدراً، بهم يحفظ الله
حُجَجَه " وبيِّناته " ، حتى يُودعوها نُظراءَهم، ويَزْرعوها في قلوب
أشباههم، هَجمَ بهم العِلم على حَقِيقة الإيمان حتى باشَرُوا رُوح اليقين،
فاستَلانوا ما آستَخْشن المترفون، وأنِسوا بما آستَوْحش منه الجاهلون، وصَحبوا
الدنيا بأبدانٍ أرواحُها مًعَلَّقة بالرَّفيق الأعلى. يا كُميل: أولئك خُلفاء الله
في أَرضه، والدُعاة إلى دِينه، آه آه شَوْقاً إليهم، انصرف " يا كميل "
إذا شئت.
قِيل للخَلِيل بن
أحمد: أيهما أفضل، العِلم أو المال؟ قال: العِلم. قيل له: فما بالُ العُلماء
يَزْدحمون على أبواب الملوك، والملوك لا يَزْدحمون على أبواب العُلماء؟ قال: ذلك لِمَعْرفة
العًلماء بحق المُلوك، وجَهْلِ الملوك بحق العلماء.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: فَضْل العِلم خيْر من فَضْل العبادة.
وقال عليه الصلاةُ
والسلام: إن قَليلَ العَمل مع العِلْم كثير، كما أنّ كَثيرَه مع الجهل قليل.
وقال عليه الصلاةُ
والسلام: يَحمل هذا العِلم من كل خَلَف عُدُولُه، يَنْفون عنهُ تحريف القائلين،
وآنتحالَ اْلْمُبْطلين، وتَأْويل الجاهلين.
وقال الأحْنَف بن
قيس: كاد العُلماء أنت يكونوا أرْباباً، وكلُّ عزّ لم يُوكَد بعِلْم فإلى ذُلّ ما
يَصِير.
وقال أبو الأسْوَد
الدُّؤليّ: الملوك حُكّام على الدُنيا، والعُلماء حُكام على الملوك وقال أبو
قِلابة: مَثَل العُلماء في الأرض مَثَل النجوم في السماء، مَن تَركها ضَلّ، ومَن
غابت عنه تَحَيَّر.
وقال سُفيان بن
عُيينة: إنما العالم مثلُ السِّراج، مَنِ جاءَه اقتبس من عِلْمه، ولا يَنْقًصه
شيئاً؛ كما لا يَنْقًص القابِس من نُور السّرَاج شيئاَ.
وفي بعض الأحاديث:
إنّ الله لا يَقتل نَفْس التّقيِّ العالم جُوعاً.
وقيل للحَسَن بن أبي
الْحَسن البَصْريّ:ِ لمَ صارت الْحِرْفة مَقْرونة مِع العِلْم، والثروة مَقْرونة
مع الجهْل؟ فقال: ليس كما قُلتم، ولكِنْ طَلَبتم قليلاَ في قَلِيل فأعجزكم: طَلبتم
المالَ وهو قليل " في الناس " في أهل العِلمْ! وهُم قَلِيل " في
الناس " ، ولو نَظرتم إلى من احترق مِن أهل الجَهْل لوَجدتموهم أَكثر.
وقال الله تبارك
وتعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء " و " وَمَا يَعْقِلُها إلا
العاِلمُون " .
وقيل: لا تَمْنعوا
العِلم أَهلَه فتَظلمُوهم، ولا تُعْطوه غير أهله فتَظْلموه. ولبعضهم:
مَنْ مَنعَ الحِكْمَة
أَرْبابَها ... أَصْبح في الحُكْم لهم ظاِلمَا
وواضعُ الحِكْمة في
غَيْرهم ... يكون في الحُكْم لها غاشِما
سَمِعت يوماً مثلاً
سائراً ... وكنتُ في الشعر له ناظِما:
لا خير في آْلمَرْءِ
إذَا ما غَدَا ... لا طالباً عِلماً ولا عَاِلمَا
وقيل لبَعض العُلماء:
كيف رأيتَ العِلم؟ قال: إَذا اغتممتُ سَلوتي، وإذا سَلَوت لذاًتي.
وأنشد لسابق
البرْبريّ:
العِلم زَيْن
وتَشْريفٌ لصاحبه ... والجَهْل والنَّوك مَقْرُونان في قَرَنِ
ولغيره:
وإذَا طَلَبت العِلِم
فاعْلَم أنَّه ... حِمْل فأَبْصر أيَّ شيء تَحْمِلُ
وإذَا علمتَ بأنّه
مُتَفاضِلٌ ... فاشْغل فؤادَك بالذي هو أَفضل
الأصمعيّ قال:
أوّل العِلَم
الصَّمْت، والثاني الاستماع، والثالث اْلْحِفْظ، والرابع العَمَل، والخامس نَشْرُه.
ويُقال: العالم
والمُتَعَلِّم شريكان، والباقي هَمَج.
وأُنشِد:
لاَ يَنْفعُ العِلم
قلباً قاسياً أَبَداً ... ولاَ يَلين لفَكِّ الماضِغ الحجُر
وقال مُعاذ بن جَبَل:
تعلّموا العِلم فإنّ تَعَلَّمه حسنة، وطَلَبه عِبَادة، وبَذْلَه لأهله قُرْبة،
والعِلم مَنار سَبيل أهل الجنّة، والأنيسُ في الوَحْشة، والصاحب في الغُربة،
والمُحَدِّث في الخَلْوة، والدًليلُ على السًرّاء والضّرّاء، والزَّبن عند
الإخلاء، والسِّلاح على الأعداء. يَرْفع اللهّ به قوماً فيجعلُهم قادةً أَئمة
تُقتَفى آثارهم، ويقتدى بفعالهم. والعِلم حياة القَلْب من الجهل، ومِصْباح الأبصار من الظَّلمةِ،
وقوَّة الأبدان من الضّعف يبلغ بالعَبد مَنازلَ الأخيار، والدَّرجات العُلا في الدُّنيا
والآخرة، الفِكْر فيه يَعدِل الصِّيامَ، ومُذاكرتُه القِيامَ، وبه تُوصَل
الأرْحام، ويُعرَف الحلال من الحرام.
ولابن طَبَاطَبا
العَلويّ:
" حَسُود
مريض القَلْب يُخْفِي أَنِينَه ... ويُضْحِي كئيب البال عِنْدي حزينَهُ،
يَلومُ على أنْ رُحتُ
في العِلم طالبَا ... أُجَمِّع من عِنْدِ الرِّجال فُنُونهُ
فأمْلك أبكارَ الكلام
وعُونَه ... وأَحْفظ مِمَّا أَسْتَفِيد عُيُونه
وَيزْعُم أنّ العِلم
لا يَجْلب الغِنَى ... ويُحْسن بالجهل الذميم ظُنُونه
فَيَا لائمي دَعْنِي
أُغَالِ بِقِيمَتِي ... فَقِيمة كلِّ الناس ما يحْسِنُونه "
؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟
ضبط العلم والتثبت
فيهقِيل لمحتد بن عبد الله بن عُمَر رضي الله عنه: ما هذا العِلم الذي بنتَ به عن
العالَم؟ قال: كنتُ إذا أخذتُ كتاباً جَعَلْته مِدْرَعة.
وقيل لرقبَةَ بن
مَصْقَلة: ما أكثر شَكك؟ قال: مُحَاماةً عن اليقين.
وسأَل شُعبةُ أيوبَ
السِّختيانيِّ عن حديث، فقال: أَشُكّ فيه. فقال: شَكّك أَحبُّ إليَّ من يقيني.
وقال أيُّوب: إنّ مِن
أصحابي مَن أرتجي بركة دُعائه، ولا أقبَل حديثَه.
وقالت الحكماء:
عَلِّم عِلْمك مَن يَجهل وتعلّم مِمَّن يعلم، فإذا فَعَلت ذلك حَفِظتَ ما عَلِمتَ،
وعَلمْتَ ما جَهلت.
وسأَل إبراهيم
النَّخعيُّ عامراً الشَّعبيَّ عن مَسألة، فقال: لا أَدرِي؟ فقال: هذا
واللّه العاِلم، سُئِل عمّا لا يَدْرِي، فقال: لا أَدرِي.
وقال مالك بن أَنس:
إذا تَرك العالم لا أدري أُصِيبت مَقاتلة.
وقال عبد الله بن
عمرو بن العاص: مَن سُئلَ عما لا يَدري فقال: لا أدري، فقد أَحرَزَ نِصْفَ العِلم.
وقالوا: العِلْم
ثلاثة: حَدِيث مُسْند، وآية مُحْكمة، ولا أَدْرِي. فجَعلوا لا أَدري مِن العِلم،
إذْ كان صواباً من القول.
وقال الخَلِيل بن
أحمد: إنك لا تَعْرف خَطأ مُعَلّمك حتى تَجْلِس عند غيره.
وكان الخليلُ قد غَلبت
عليه الإباضية حتى جالسَ أيُّوب وقالوا: عَوَاقبُ المَكَاره محمودة.
وقالوا: الخَير كلُّه
فيما أُكْرِهَت النفوسُ عليه.
انتحال العلمقال بعض
" الحكماء " : لا يَنبَغي لأحد أن يَنتحَل العِلم، فإنّ الله عزِّ
وجَلَّ يقول: " ومَا أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْم إلا قَلِيلاً " . وقال عز
وجلّ: " وَفَوْقَ كُلّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم " .
وقد ذُكر عن موسى بن عِمْران
عليه السلام، أنّه لما كلّمه الله تعالى تَكليَماَ، ودَرَس التَّوارةَ وحَفِظها،
حَدَّثته نفسُه: أنّ الله لم يَخلق خَلقاً أعلم منه. فهَوّن اللّه عليه نفسَه بالْخِضْر عليه السلام.
وقال مُقاتل بن سُليمان،
وقد دَخَلْته أبهة العِلم: سَلُوني عمّا تحت العَرْش إلى أَسفل الُثرى. فقام إليه
رجلٌ من القوم فقال: ما نسأَلك عما تحت العرش، ولا أسفل الثرّى، ولكن نسأَلك
عَمَّا كان في الأرض، وذَكَرَه الله في كتابه، أَخْبرني عن كَلْب أَهل الكَهْف، ما
كان لونُه؟ فأَفحمه.
وقال قَتَادة: ما سمعت
شيئاً قطُّ إلا حَفِظْتُه، ولا حَفِظت شيئاً قَط فَنَسيته، ثم قال: يا غلام،
هَاتِ نعلي؛ فقال: هُما في رِجْليك، فَفَضحه اللهّ.
وأَنشد أبو عَمْرو
بنُ العلاء في هذا المعنِى:
مَنْ تَحَلَّى بغير
ما هو فيهِ ... فضَحَتْهُ شواهدُ الامتحانِ
" وفي هذا
المعنى:
مَنْ تَحَلَّى بغَير
ما هو فيهِ ... شانَ ما في يَدَيْه ما يَدَّعيهِ
وإذَا قلَّلَ
الدعاوَى لما في ... ه أَضافُوا إليه ما ليسَ فيه
ومَمَكّ الفَتَى
سيظهر للنا ... س وإن كان دائباً يُخْفِيه
يَحْسب الذي ادَعَى
ماعَدَاه ... أنه عالمٌ بما يَفْتَرِيهِ
وقالَ شَبِيب بن
شَيْبة لفتى من دَوْس: لا تُنازع مَن فوقك، ولا تَقُل إلا بعِلْم، ولا تَتَعاطَ ما
لم تَبْلُ، ولا يخالف لسانُكَ ما في قلبك، ولا قولُكَ فِعْلَك، ولا تَدَع الأمرَ
إذا أَقبل، ولا تَطلبهُ إذا أَدْبر " .
وقال قَتَادة:
حَفِظْتُ ما لم يَحفَظْ أَحَد، وأنسيتُ ما لم يَنْسَ أَحَدٌ، حَفِظت القرآن في
سَبعة أشهر، وقَبَضت على لِحْيَتي وأنا أُريد قَطع ما تحت يدي فقطعتُ ما فوقها.
ومَرَّ الشَّعبيّ
بالسُّدِّيّ، وهو يفسر القرآن، فقال: لو كان هذا الساعةَ نشوانَ يُضرب على استه
بالطَّبل، أما كان خَيْراً له؟ وقال بعض المنتحلين:
يُجَهِّلني قَوْمي
وفي عَقْد مئزَري ... تَمَنَّون أمثالاً لهم مُحكم العِلْمٍ
وما عَنَّ لي من
غامِض العِلم غامض ... مَدَى الدَّهر إلا كنتُ منه على فهْم
وقال عَدِيُّ بن
الرِّقاع:
وعَلِمْتُ حَتَّى ما
أُسائِل عالماً ... عَنْ عِلْم واحدةٍ لكيْ أَزْدَادَها
شرائط العلم وما يصلح
لهوقالوا: لا يكون العالم عالماً، حتى تكونَ فيه ثلاثُ خِصال: لا يَحْتَقر مَن
دونه، ولا يَحْسد مَن فوقه، ولا يأخذ على العِلم ثَمَناً.
وقالوا: رأسُ العِلم
الخوْف " من " الله تعالى.
وقيل للشَّعبي:
أَفْتني أيُّها العالم؛ فقال: إنّما العاِلم مَن اتَّقى اللّه.
وقال الحسن: يكون
الرجلُ عالماً ولا يكون عابداً، ويكون عابداً ولا يكون عاقلاَ.
وكان مُسلم بن يسار
عالماً عابداً عاقلاً.
وقالوا: ما قُرِن شيء
إلى شيء أفضل من حِلْم إلى عِلم، ومن عَفْو إلى قُدْرَة.
وقالوا: من تمام
آلة العاِلم أن يكون شديدَ اْلْهَيْبة، رَزِين المَجْلس، وَقُوراً صَمُوتاً، بطيء
الالتفات، قليلَ الإشارات، ساكنَ الحَرَكات، لا يَصخَب ولا يَغْضب، ولا يُبْهَر في
كلامه، ولا يَمسح عُثْنونه عند كلامه في كلّ حين؛ فإنّ هذه كلّها من آفات العِيّ.
وقال الشاعر:
مَلِيء بِبُهْر
وآلْتِفَاتٍ وسُعْلةٍ ... ومسحة عُثْنون وفَتْل الأصابع
ومَدَح خالدُ بن
صَفْوان رجلاً، فقال: كان بديع المَنْطق، جَزْل الألفاظ، عربيّ اللسان، قليلَ
الحَرَكات، حَسنَ الإشارات، حُلْوَ الشمائل. كثير الطَّلاوَة، صَمُوتاً وَقُوراً،
يهنأ الجرب، ويُدَاوي الدَبر، ويُقِلَّ " " الحزّ، ويُطبِّق المَفْصِل، لم يكن بالزَمِر المُروءة، ولا الهَذِر المنطبق،
مَتبوعاً غيرَ تابع.
كأنّهُ عَلَم في رأسه
نارُ وقال عبد اللهّ بن المُبارك في مالك بن أنس رضي الله عنه:
يَأتَي الجوابَ فما
يُراجَع هَيْبَةً ... فالسَّائلون نَوَاكِسُ الأذْقان
هَدْي الوَقار وعِزُّ
سُلطان التُّقى ... فهو المَهيب وليسَ ذَا سُلْطان
وقال عبد الله بن
المبارك فيه أيضاَ:
صَمُوت إذا ما
الصَّمْتُ زَيَنَ أَهلَه ... وفَتَاقُ أبكار الكلام المُخَتَّم
وَعَى ما وَعَى
القرانُ من كلِّ حِكمة ... وسِيطَت له الآدابُ باللَّحْم والدَّم
ودخل رجلٌ علىِ عبد
الملك بن مَرْوان، وكان لا يَسأَله عن شيء إلاّ وَجد عنده منه عِلماً، فقال لهُ:
أَنىَ لك هذا؟ فقال: لم أَمْنع قَطّ يا أَميرَ المؤمنين علماً أفيده، ولم أَحتقر
علماً أَستفيده، وكنتُ إذَا لَقيت الرَّجُلَ أَخذتُ منه وأَعطيتُهُ.
وقالوا: لو أَنّ
أَهلَ العلم صانُوا علِمَهم لَسَادُوا أهلَ الدًّنيا، لكن وَضَعُوه غيرَ مَوْضعه
فقَصَّر في حقّهم أهلُ الدُّنيا.
حفظ العلم
واستعمالهقال عبد الله بن مَسْعود: تعَلَّموا فإذا عَلِمْتم فاعمَلوا.
وقال مالكُ بن دِينار:
العاِلم إذا لم يَعْمل بعِلمه زَلَّت مَوْعظته عن القَلْب، كما يَزل الماء عن
الصفا.
وقالوا: لولا العَمَل
لم يُطلب العِلم، ولولا العِلم لم يُطلب العَمَل.
وقال الطائيًّ:
ولم يَحْمدوا مِن
عاِلمٍ غيرِ عامل ... ولم يَحْمدوا مِن عاملٍ غير عالم
وقال عمر بن الخطّاب
رضوان الله عليه: أيها الناس، تعلَّمُوا كتابَ الله تُعْرَفوا به، واْعْمَلوا به
تكونوا من أهله.
وقالوا: الكلمة إذا
خرجتْ من القلب وقعتْ في القلب، وإذا خرجتْ من اللّسان لم تُجَاوز الآذان.
وَرَوَى زِيَاد عن
مالك قال: كًنْ عالماً أو مًتَعلّماً " أو مُسْتمعا " ، وإيَّاك والرابعة
فإنها مَهلكة، ولا تكونُ عالماً حتى تكون عاملاً، ولا تكون مؤمناً حتى تكون
تقيَّاً.
وقال أبو الحسن: كان
" وكيع " بن الجَرَّاح يَسْتحفظ كل يوم ثلاثة أحاديث.
وكان الشَّعبي
والزُّهري يقولان: ما سَمِعْنا حديثاً قَطُّ وسأَلْنا إعادَته.
رفع العلم وقولهم
فيهقال عبد الله بن مسعود: تَعلَّمُوا العِلم قبل أن يُرفِع.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إنَّ الله لا يَقْبض العِلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يَقْبضه
بقَبْض العُلماء.
وقال عبد الله بن
عبَّاس رضوان الله عليهما، لما وُورِيَ زيدُ بن ثابت في قبره: مَن سرَّه أن يرى
كيف يُقبض العلم فهكذا يُقبض.
تحامل الجاهل على
العالمقال النبي صلى الله عليه وسلم: وَيْل لعالم أمْرٍ من جاهله.
وقالوا: إذا أردتَ أن
تُفْحم عالماً فأحْضره جاهلاً.
وقالوا: لا تُناظر
جاهلاً.
وقالوا: لا تُناظر
جاهلاً ولا لجوجاً، فإنه يجعل المُناظرة ذريعة إلى التعلّم بغير شكر.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: آرحموا عزيزاً ذلّ، اْرحموا غنيّاً افتقر، آرحموا عالماً ضاع بين
جُهًال.
وجاء كَيْسان إلى
الخليل بن أَحمد يَسأله عن شيء، ففكَّر فيه الخليلُ ليُجيبه، فلما استفتح الكلام؟
قال له: لا أَدري ما تقول؛ فأنشأ الخليل يقول:
لو كنتَ تَعْلم ما
أقولً عَذَرْتَتي ... أو كنتُ أَجْهل ما تقولُ عذلْتُكا
لكن جَهِلْت مَقالتي
فعَذلْتَني ... وعلمتُ أنك جاهل فعَذَرْتُكا
وقال حَبِيب:
وعاذِلٍ عذلتُه في
عَذْله ... فظَنَّ أنيِّ جاهلٌ مِن جَهْلِه
ما غبن المَغْبُونَ
مثل عَقْلِه ... مَن لكَ يوماً بأخيك كُلِّهِ
تبجيل العلماء
وتعظيمهمالشِّعبي قال: رَكب زيدُ بن ثابت فأَخذ عبد الله بن عبَّاس بركابه، فقال:
لا تَفعل بابن عَمَّ رسول الله صلى الله عليه؛ فقال: هكذا أُمِرْنا أن نَفعل بعُلمائنا. قال زيد: أرني يدك، فلما أَخرَج
يدَه قبَّلها، وقال: هكذا أًمرنا أن نَفعَل بابن عمِّ نبِّينا.
وقالو: خِدْمة
العاِلم عبادة.
وقال عليُّ بن أبي
طالب رضوان الله عليه: من حق العاِلم عليكَ إذا أتيتَه أن تُسَلِّم عليه خاصَّة،
وعلى القوم عامَّة، وتَجْلس قُدَامه، ولا تشِر بيدك، ولا تَغْمِز بعَيْليْك، ولا
تَقُل: قال فلان خلافَ قولك، ولا تأخذ بثَوْبه، ولا تُلحَّ عليه في السؤال، فإنما
هو بمنزلة النَخلة المرطبة، التيِ لا يزال يَسْقط عليك منها شيء. وقالوا: إذا
جلستَ إلى العاِلم فَسَلْ تَفَقُّهاَ ولا تَسَلْ تعَنَتاً.
عويص
المسائلالأوزاعيُّ عن عبد الله بن سَعد عن الصُّنابحيّ عن مُعاوية بن أبي سُفيان
قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأغلوطات. قال الأوزاعيّ: يعني صِعاب
المسائل. وكان ابن سِيرين إذا سُئل عن مَسألة فيها أغلوطة، قال للسائل: أمْسِكها
حتى نَسأل عنها أخاكَ إِبليس.
وسأل عُمَر بن قيس
مالكَ بن أنَس عن مُحْرِم نزَع نَابي ثعلَب، فلم يَردّ عليه شيئاً.
وسأل عُمَرُ بن
الخطّاب رضي الله عنه علي بن أبي طالب كَرَّم الله وَجْهَه، فقال: ما تَقُول في
رجُل أمّه عند رجل آخر؟ فقال: يُمسك عنها، أراد عمر أنَّ الرجل يموت وأمه عند رجل
آخر، وقولُ علّيٍ يُمسك عنها. يريد الزَّوج يُمسك عن أمِّ الميت حتى تَسْتَبْرِئ
من طريق الميراث.
وسأل رجلٌ عُمَر بن
قيس عن الْحَصاة يَجدها الإنسان في ثوبه أو في خُفّه أو في جَبْهته من حَصى
المَسْجد؛ فقال: ارْم بها قال الرجلُ: زَعموا أنها تَصِيح حتى ترد إلى المسجد؛
فقال: دَعها تصيح حتى يَنْشق حلقها؟ فقال الرجل: سُبحان اللِّه! ولها
حَلْق؟ قال: فمن أين تَصِيح؟ وسأل رجلٌ مالكَ بنَ أَنس عن قوله تعالى: " الرَّحْمنُ عَلَى اْلْعَرْش آسْتَوَى " كيف هذا الاستواء؟ قال:
الاستواء مَعْقول والكَيْف مَجّهول، ولا أظنّك إلا رجلَ سوء.
وروى مالكُ بن أنَس الحديثَ
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا استيقظ أحدُكم من نومه فلا يُدخل يدَه
في الإناء حتى يَغْسِلها، فإِنَّ أحدَكم لا يَدْري أين باتت يدُه. فقال له رجل:
فكيف نَصنع في المِهرَاس أبا عبد الله؟ - والمِهْراس: حَوْض مكة الذي يتَوضّأ الناس فيه - فقال: من الله العِلْم، وعلى
الرسول البلاغ، ومنّا التَّسليم، أمِرُّوا الحديث.
وقيل لابن عبَّاس رضي
الله عنهما: ما تقول في رجل طًلّق امرأَته عددَ نُجوم السماء؟ قال: يَكْفيه منها
كوكب الجوزاء.
وسُئِل عليُّ بن أبي
طالب رضوان الله عليه: أين كان ربُّنا قبل أن يَخلق السماء والأرض؟ فقال: أين:
تُوجب المَكان، وكان الله عزّ وجلّ ولا مكان.
التصحيفوذكر الأصمعيّ
رجلاً بالتًصحيف، فقال: كان يَسمع فيَعِي غيرَ ما يَسمع، ويَكْتب غير ما وَعى،
ويَقْرأ في الكتاب غير ما هو فيه.
وذكر آخر رجلاً
بالتَّصحيف، فقال: كان إذا نَسخ الكِتاب مَرَّتين عاد سُرْيانياً.
طلب العلم لغير اللّه
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إذا أعطِي الناسُ العِلْم ومُنِعوا العَمل، وتحابُّوا بالألْسن،
وتباغَضوا بالقًلوب، وتَقاطعوا في الأرحام، لعَنهم الله فأصمَهم وأعْمى أبصارَهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخْبركم بشرِّ الناس؟ قالوا: بلَى يا رسول
الله؛ العُلماء إذا فَسدوا.
وقال الفُضَيل بن
عِيَاض: كان العُلَمَاء رَبيعَ الناس، إذ رآهم المَريضُ لم يسرّه أن يكون صَحيحاً،
وإذا نظر إليهم الفقيُر لم يَودَّ أن يكون غنياً، " وقد صاروا اليومَ فتنة للناس " .
وقال عيسى بنُ مَرْيم
عليه السلام: سيكون في آخرِ الزمان عُلماء يُزَهِّدون في الدُّنيا ولا يَزهدون، ويُرَغِّبون
في الآخرة ولا يَرْغَبون، يَنْهَوْن عن إتيان الوُلاة ولا ينْتهون، يُقَرِّبون
الأغنياء، ويُبْعِدون الفُقراء، ويتَبسِّطون للكبراء، ويَنْقبضون عن الحُقراء،
أولئك إخوانُ الشياطين وأعداء الرحمن.
وقال محمد بن واسع:
لأن تَطلُب الدنيا بأَقبحَ ممّا تطلبُ به الآخرةَ خيرٌ من أن تطلبَها بأحسَن مما
تطلب به الآخرةَ.
وقال الحسن: العِلْم
عِلمان، عِلم في القَلْب، فذاك العِلم النافع، وعِلم في اللسان، فذاك حجّة الله
على عِباده.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إنَّ الزبانية لا تَخْرج إلى فَقِيه ولا إلى حَمَلة القران إِلا قالوا
لهم: إليكم عنّا، دُونكم عَبدةَ الأوثان. فيَشْتكون إلى اللّه، فيقول: ليس من عَلِم كمن لم يَعلم.
وقال مالك بن دِينار:
مَن طلب العِلم لنفسه فالقَلِيل منه يَكْفِيه، ومَن طَلبه للنَّاس فحوائجُ الناس
كثيرة.
وقال ابن شبْرمة:
ذَهب العِلم إلا غُبَّرات في أَوْعية سوء.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: مَن طلب العِلْم لأرْبَع دَخل النارَ: مَن طلبه ليُباهي به العُلماء،
وليُمارِي به السُّفهاء، وليَسْتَمِيل به وُجوه الناس إليه، أو ليأخذَ به من
السلطان.
وتكلّم مالكُ بن
دِينار فأبْكَى أصحابَه، ثم افتقد مُصْحفه، فنظَر إلى أصحابه وكلهم يَبْكِي، فقال:
وَيحكم! كلكم يبكِي، فمن أخذ هذا المُصحف؟ قال أحمد بن أبي الحَوَاريّ: قَال
لي أبو سُليمان في طريق الحجّ: يا أحمد، إنَّ اللّه قال لمُوسى بن عِمْران: مُرْ
ظَلمة بني إسرائيل أن لا يَذْكروني فإني لا أذكر من ذكرني منهم إلا بلَعْنة حتى
يَسْكت. وَيْحك يا أحمد! بَلغني أنه من حجّ بمالٍ من غير حله ثم لبَّى قالت الله
تبارك وتعالى: لا لَبيك ولا سَعْدَيْك حتى تُؤَدَي ما بيديك، فلا يؤمننا أن يُقال
لنا ذلك.
باب من أخبار العلماء
والأدباءأملى أبو عبد الله محمدُ بن عبد السلام الخُشَنيّ. إنَ عبد الله بن عبَّاس
سُئَل عن أبي بكر رضي الله عنه، فقال: كان واللّه خيراَ كلّه مع الْحِدّة التي
كانت فيه. قالوا: فأخْبرنا عن عَمر رضوانُ الله عليه. قال: كان واللّه كالطير الحذر
الذي نصب فخ له فهو يخاف أن يقع فيه. قالوا فأخبرنا عن عثمان، قال: كان واللّه
صواماً قواماً. قالوا: فأخبرنا عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه قال: كان
واللّه ممن حَوَى عِلْماً وحلماً؟ حَسْبك من رجل أعزَّتْه سابقتُه وقَدَّمته
قرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلّما أشرْف على شيء إلا نالَه. قالوا:
يقال إنه كان مَحْدوداً؛ قال: أنتم تقولونه.
وذكروا أنَّ رجلا
أتىَ الحسَنَ، فقال؛ أبا سَعِيد، إنهم يزعمون أنك تُبْغِض عليّاً، فبَكَى حتى
اخضلت لِحْيته، ثم قال؛ كان عليُّ بنُ أبي طالب سهماً صائباً من مَرامي الله على
عدوّه، ورَبَّانيَّ هذه الأمّة، وذا فَضْلها، وذا قَرابةٍ قَريبة من رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لم يكن بالنَّئومة عن أمر اللّه، ولا بالمَلُولة في حق اللّه، ولا
بالسَرُوقة لمال اللّه، أعطَى القران عزائمه ففاز منه برياض مُونِقة، وأعلام
بيِّنة، ذاك عليُّ بن أبي طالب يا لُكَع.
وسُئل خالدُ بن
صَفوان عن الحسَن البَصْريّ، فقال: كان أشبَهَ الناس علانيةً بسَرِيرة، وسريرة بعَلاَنِيَة،
واخذَ الناس لِنَفْسه بما يَأْمُر به غيرَه. " يا له " من رجل اسْتَغنى
عمَّا في أيدي الناس من دُنياهم، واحتاجُوا إلى ما في يَدَيْه من دِينهم.
ودَخل عُروة بن
الزبير بُستاناً لعبد المَلِك بن مَرْوان، فقال عُروة: ما أحسنَ هذا البستان! فقال
له عبدُ الملك: أنت واللّه أحسنً منه، إنَّ هذا يُؤتي أكله كلَّ عام، وأنت تُؤتي
أكلك كلّ يوم.
وقال محمدُ بن شهاب
الزُّهريّ: دخلتُ على عبد الملك بن مَرْوان في رجال من أهل المدينة، فرآني
أَحدثَهمِ سنّاً، فقال: من أنت؟ فانتسبتُ إليه، فعَرفني، فقال: لقد كان أبوك وعمُك
نعَّاقَينْ في فِتْنة ابن الزُّبير؟ قلتُ: يا أمير المؤمنين، مثلُك إذا عفا
يَعُدّ، وإذا صَفح لم يثرب، قال لي: أين نشأتَ؟ قلتً بالمدينة؟ قال: عند مَن طلبت؟
قلت: عند ابن يَسار وقَبِيصة ابن ذؤيب وسَعيد بن المُسيِّب؟ قال لي: وأين كنت من
عُروة بن الزبير؟ فإنه بَحر لا تُكدِّره الدِّلاء.
وذُكر الصحابةُ عند
الحَسَن البَصريّ، فقال: رَحِمهم اللّه، شَهدوا وغِبْنا، وعَلِموا وجَهِلنا، فما اجتمعوا عليه اتَبعنا،
وما اختلفوا فيه وَقَفنا.
وقال جعفرُ بن
سُليمان: سمعتُ عبدَ الرحمن بن مهديّ يقول: ما رأيتُ أَحداً أقْشفَ من شُعبة، ولا
أعبدَ من سُفيان، ولا أحفظَ من ابن المُبارك.
وقال: ما رأيتُ مثلَ
ثلاثة: عَطَاء بن أبي رَباح بمكة، ومحمد بن سِيرين بالعراق، ورجاء بن حَيوة بالشام.
وقيل لأهل مكة: كيف
كان عَطَاء بن أبي رَباح فيكم؟ فقالوا: كان مثلَ العافية التي لا يُعرف فَضْلها
حتى تُفْقد.
وكان عَطَاء بن أبي
رَباح أسوَد أعوَر أفطسَ أشلّ أعرج ثم عَمِي، وأمُه سوادء تُسمَى بَرَكَة.وكان
الأحنفُ بن قَيس: أعوَر أعرج، ولكنه إذا تكلّم جلا عن نفسه.
وقال الشَّعبي: لولا
أنِّي زُوحمت في الرَّحم ما قامت لأحد معي قائمة، وكان تَوأماً.
وقيل لطاووس: هذا
قَتادة يُريد أن يَأتِيك، قال: لئن جاء لأقومن، قيل إنه فَقِيه، قال: ابليس أفْقه
منه؟ قال: " رَبِّ بِمَا أغْوَيتَني " .
وقال الشَعبيّ:
القُضاة أربعة: عُمَر وعلي وعبد الله وأبو موسى.
وقال الحَسَن: ثلاثة
صَحِبًوا النبي صلى الله عليه وسلم، الابن والأب والجدّ: عبد الرحمن بنُ أبي بكر بن أبي قُحافة، ومَعَن بن يَزيد بن الأخْنس السُّلميّ.
وكان عُبيد الله بن
عبد الله بن عًتبة بن مَسعود فَقِيهاً شاعراً، وكان أحدَ السَّبعة من فُقهاء
المدينة.
وقال الزًّهري: كنتُ
إذا لقيتُ عبيد الله بن عَبد اللهّ، فكأنما أَفْجُر به بَحرْاً.
وقال عمرُ بن عبد
العزيز: وددتُ لو أنّ لي مجلساً من عُبيد اللهّ بن عبد الله بن عُتبة بن مَسْعود
لم يَفُتْني.
ولَقِيه سعيدُ بن
المُسيِّب فقال له: أنت الفَقِيه الشاعر؟ قال: لا بدِّ للمَصْدور أن يَنْفُث.
وكتب عبيد الله بن
عبد اللهّ إلى عُمَر بنِ عبد العزيز، وبلغه عنه شيء يكرهه:
أبا حَفْص أتاني عَنك
قَول ... قُطعتُ به وضَاق به جَوابي
أبا حَفْص فلاَ
أدْرِي أَرَغْمِي ... تُريد بما تُحاول أم عِتابي
فإنْ تك عاتباً
تُعْتِبْ وإلا ... فما عُودي إذاً بيَرَاع غاب
وقد فارقتُ أعظمَ منك
رُزءًا ... وواريتُ الأحِبَّة في التراب
وقد عَزًّوا علي
واْسْلمَوني ... معاً فَلَبْستُ بعدهُم ثِيابي
وكان خالدُ بنُ يزيدَ
بنِ مُعاوية أبو هاشم عالماً كثيرَ الدِّراسة للكتُب وربما قال الشعرَ، ومن قوله:
هَلْ أنت مُنْتِفعٌ
بِعل ... مك مَرّةً والعِلم نافِعْ
ومِنٍ المُشير عليك
بال ... رأي المُسدَّد أنت سامِع
الموت حَوْض لا مَحا
... لةَ فيه كلُّ الخَلْق شارع
ومِن التُّقَى
فازْرَع فإن ... ك حاصِدٌ ما أنتَ زارع
وقال عمرُ بنُ عبد
العزيز: ما ولدتْ أُميةُ مثلَ خالد بن يزيد، ما أَستَثْني عثمان ولا غيره.
وكان الحسن في جِنازة
فيها نوائحُ، ومعه سَعِيدُ بن جُبير، فهمَّ سَعيد بالانصراف، فقال له الحسنُ: إنْ
كنتَ كلّما رأيتَ قبيحاً تركتَ له حسناً أسرَعَ ذلك في دِينك.
وعن عيسى بن إسماعيل
عن ابن عائشة عن ابن المُبارك قال: علَمني سُفيان الثَّوْريّ اختصار الحديث.
وقال الأصمعيّ:
حدَّثنا شُعبة قال: دخلتُ المدينة فإذا لمالك حَلْقة وإذا نافع قد مات قبل ذلك
بسَنة، وذلك سنة ثمانيَ عشرةَ ومائة.
وقال أبو الحسن بن
محمد: ما خَلق الله أحداً كان أعرف بالحديث من يحيى بن مَعِين، كان يُؤتى
بالأحاديث قد خلطت وقُلبت، فيقول: هذا الحديثُ لذا وذا لهذا، فيكون كما قالِ.
وقال شريك: إني
لأًسمع الكلمةَ فيتغيَّر لها لَوْني.
وقال ابن المُبارك:
كلّ من ذُكر لي عنه وجدتُه دون ما ذُكر إلاّ حَيْوةَ بن شرُيح وأبا عَوْن.
وكان حَيْوة بن شرُيح
يَقعُد للناس، فتقول له أًمه: قُمْ يا حَيْوة ألقِ الشعيرَ للدَّجاج، فيقوم.
وقال أبو الحسن: سمع
سليمان التّيمي من سُفيان الثّوريّ ثلاثة آلاف حديث.
وكان يحيى بن اليمان
يَذْهب بابنه داودَ كلَّ مذهب، فقال له يوماً؟ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ثم كان عبد الله، ثم كان عَلْقمة، ثم كان إبراهيم، ثم كان مَنصور، ثم كان سفيان.
ثم كان وَكيع، قم يا داود: يعني أنه أهلٌ للإمامة. ومات داود سنة أربع ومائتين.
وقال الحسنُ: حدّثني
أبي قال: أمر الحجّاج أن لا يَؤمّ بالكوفة إلا عربيّ.
وكان يحيى بن وَثّاب
يَؤمّ قومَه بني أَسَد، وهو مَوْلى لهم؛ فقالوا: اعتزل، فقال: ليس عن مِثْلي نَهى،
أنا لاحِقٌ بالعَرب، فأبَوا، فأَتى الحجاجَ فقرأ؛ فقال: مَن هذا.؟ فقالوا: يحيى بن
وَثّاب؛ قال: مالَه؟ قالوا: أمرتَ أن لا يؤُمّ إلا عربيّ فَنحّاه قومه؛ فقال. ليس
عن مِثل هذا نَهيتُ، يُصلِّي بهم. قال: فصلّى بهم الفَجْر والظُهر والعَصر
والمغْرب والعِشاء، ثم قال: اطلُبوا إماماً غيري، إنما أردتُ أن لا تَستذلّوني،
فأمّا إذ صار الأمرُ إليّ، فأنا أؤمّكم؟ لا ولا كرامة.
وقال الحسن: كان يحيى
بن اليَمان يُصلِّي بقومه، فتعصّب عليه قومٌ منهم. فقالوا: لا تُصلِّ بنا، لا نَرْضاك،
إن تَقدَمت نَحَّيْنَاك: فجاء بالسيف فسَل منه أربَع أصابَع ثم وَضعه في اِلمحراب،
وقال: لا يَدْنُو منى أحذ إلا ملأتُ السيفَ منه؛ فقالوا: بيننا وبينك شريك؛
فَقَدَموه إلى شريك فقالوا: إن هذا كان يُصَلِّي بنا وكَرِهناه؛ فقال لهم شريك:
مَن هو؟ قالوا: يحيى بن اليمان؛ فقال: يا أعداء الله، وهل بالكوفة أحدٌ يُشبه
يحيى؛ لا يُصلِّي بكم غيرُه. فلما حَضرتْه الوفاة، قال لابنه داود: يا بُني، كان
دِيني يَذْهب مع هؤلاء، فإن اضطُروه إليك بعدي فلا تُصلِّ بهم. وقال يحيى بن
اليمان: تزوَّجتُ أم داود وما كان عِنْدي ليلةَ العُرْس إلا بطِّيخة، أكلتُ أنا
نِصْفها وهي نِصْفَها، وولدت داودَ، فما كان عندنا شيء نَلُفُه فيه، فاشتريتُ له
كُسْوة بحبَّتَين، فلَفَفناه فيها.
وقال الحسن بن محمد:
كان لعليّ ضَفِيرتان، ولابن مَسْعود ضَفِيرتان.
وذكر عبدُ الملك بن
مَرْوان رَوْحا، فقال: ما أُعْطِي أحدٌ ما أُعْطِي أبو زُرْعة، أُعْطِي فِقْه
الحجاز، ودَهاء أهل العراق، وطاعةَ أهل الشام.
ورُويِ أنّ مالكَ بن
أَنس كان يَذْكُر عُثمان وعليَّاً وطَلْحَة والزُّبير، فيقول: واللّه ما اقتتلوا
إلا على الثَّريد الأعْفر.
ذكر هذا محمدُ بن
يَزيد في الكامل، " ثم " ، قال: فأمّا أبو سعيد الحَسَن البَصريّ فإنه
كان يُنكر الحُكومة ولا يَرى رأيهم، وكان إذا جَلس فتمكَّن في مَجْلسه ذَكَرَ
عُثمان، فترحَّم عليه ثلاثاً، ولَعن قَتلته ثلاثاً " ويقول: لو لم نَلْعنهمٍ لَلُعِنّا " ؛ ثم يَذكر عليَّاً فيقول:
لم يَزل عليٌّ أميرُ المؤمنين صلواتُ الله عليه مُظَفَرا مُؤيداَ بالنعم حتى حكّم،
ثم يقول: ولم تُحَكم والحق معك؟ ألا تَمْضي قُدماً لا أبا لك.
وهذه الكلمة وإن كان
فيها جَفاء، فإنّ بعضَ العرب يأتي بها على معنى المَدْح، فيقول: انظر في أمر
رعيَّتك لا أبا لك " وأنت على الحق " 0 وقال أعرابي:
رَبِّ العِباد ما
لَنا وما لَكَا ... قد كُنْتَ تَسْقِينا فما بَدَا لَكَا
أَنْزل علينا
الغَيْثَ لا أَبا لكا
وقال ابن أبي
الحَوَارِيّ: قلت لسُفيان: بلغني في قول الله عزً وجلّ: " إلا مَنْ أتىَ الله
بِقَلْبٍ سَلِيمٍ " . أنَّه الذي يَلْقى اللهّ وليس في قَلبه أحد غيره. قال:
فبكَى وقال: ما سمعتُ منذ ثلاثين سنةً أحسنَ من هذا.
وقال ابن المُبارك:
كنتُ مع محمد بن النَّضْر الحارثيِّ في سَفِينة، فقلتُ: بأيّ شيء أَستخرج منه الكلام؟ فقلت: ما تقول في الصَوم في السَّفر؟
قال: إنما هي المُبَادرة يا بن أخي. فجاءني واللهّ بفُتْيا غير فُتْيا
إبراهيم والشَعبي.
وقال الفًضَيل بن
عِيَاض: اجتمع محمدُ بن واسع ومالكُ بن دينار في مجلس بالبصرة، فقال مالكُ بن
دينار: ما هو إلا الله أو النار، فقال محمد بن واسع لمَن كان عنده: كنّا نقول: ما
هو إلا عَفْو الله أو النار. قال مالكُ بنُ دِينار: إنَّه ليُعْجبني أن تكون
للإنسان مَعيشة قَدْر ما يَقُوته. فقال محمد بن واسع: ما هو إلا كما تقول: وليس
يُعْجبني أن يُصبح الرجل وليس له غَدَاء، وُيمسي وليس له عَشاء، وهو مع ذلك راضٍ
عن الله عزّ وجلّ. فقال مالك: ما أَحْوجني إلى أن يِعظني مِثلُك.
وكان يَجلس إلى
سُفيانَ فتى كثيرُ الفِكرة، طويلُ الإطراق، فأراد سُفيان أن يحرِّكه ليسمعَ كلامه،
فقال: يا فتى، إن مَنْ كان قبلَنا مرُّوا على خَيْل عِتَاق وبَقينا على حَمِير
دَبِرَة. قال: يا أبا عبد الله، إن كُنَا على الطريق فما أسرعَ لحُوقنا بالقوم.
الأصمعي عن شُعبة قال: ما أُحدثكم عن أحدٍ ممن تَعْرفون، وممن لا تَعرفون، إلا
وأيوب ويُونس وابن عَوْن " وسُليمان " خير منهم.
قال الأصمعيُّ:
وحدَّثني سلام بن أبي مُطِيع؟ قال: أيوب أفقههم: وسُليمان التّيمي أعبدُهم، ويُونس أشدُّهم " زُهدا
" ، عند الدَّراهم، وابن عَوْن أَضْبطهم لنفسه في الكلام.
" الأصمعيّ
قال؛ حدّثنا نافع بن أبي نُعَيم عن رَبيعة بن أبي عبد الرحمن قال: ألفٌ عن ألف خيرٌ
من واحد عن واحد، " فلان عن فلان " ينتزع السنّة من أيديكم " .
وكان إبراهيمً
النَّخعيّ في طَريق فلَقِيه الأعْمَش فانصرف معه، فقال له: يا إبراهيم، إنّ الناسَ
إذا رأَوْنا قالوا: أعمش وأعور قال: وما عَليك أن يَأْثموا ونؤجر؛ قال: وما عليك
أن يَسْلَموا ونَسْلم.
ورَوى سُفيان الثّوريّ
عن واصل الأحدب قال: قلت لإبراهيم: إن سَعيد بن جُبير يقول: " كلُّ امرأة أتزوّجها طالق " ليس بشيء. فقال له إبراهيم: قُل له
يَنْقع أستَه في الماء البارد. قال: فقُلت لسعيد ما أمرني به؛ فقال: قل له: إذا مررت
بوادي النَّوْكى فاحلُل به.
وقال محمد بن
مُنَاذِر:
ومَنْ يَبْغ الوَصاةَ
فإنّ عندي ... وَصاةً للكُهول والشباب
خذوا عن مالكٍ وعن
ابن عَوْن ... ولا تَرْوُوا أحاديتَ ابن دَاب
وقال آخر:
أيّها الطالبُ عِلْما
... آيت حَمّادَ بن زِيد
فاقتَبس حِلْما
وعِلما ... ثم قَيِّده بقَيْد
وقيل لأبي نُواس: قد
بعثوا في أبي عُبيدة والأصمعيّ ليَجْمعوا بينهما، قال: أما أبو عُبيدة فإن مَكّنوه
من سِفْره قرأ عليهم أساطير الأولين، وأمّا الأصمعيّ فبُلبل في قَفَص يُطربهم
بِصَفِيره.
وذَكروا عند
المَنْصور محمدَ بن إسحاق وعيسى بنَ دَأْب، فقال؛ أمّا ابن إسحاق فأَعْلم الناس بالسِّيرة،
وأمّا ابن دَأْب فإذا أخرجتَه عن داحس والغَبراء لم يُحسن شيئاً. وقال المأمون
رحمه الله تعالى: مَن أراد لَهْواً بلا حَرَج، فليسمع كلامَ الحَسن الظالبيّ.
وسُئل العَتّابيّ عن
الحَسن الطالبيّ فقال: إنّ جَلِيسه لِطيب عشرْته لأَطربُ من الإبل على الحُداء،
ومن الثَّمِل على الغِنَاء.
؟
قولهم في حملة
القرآنوقال رجلٌ لإبراهيمَ النَّخعيّ: إني أَختِمُ القران كل ثلاث، قال: ليتك
تَخْتِمه كلَّ ثلاثين وتَدْري أيَّ شيء تقرأ.
وقال الحارثُ
الأعْوَر: حدًثني عِليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: كتاب اللهّ فيه خبر ما قَبْلكم ونَبَأ ما بعدكم وحُكْم ما بَينكم،
وهو الفَصْل ليس بالهَزْل، هو الذي لا تَزيغ به الأهواء، ولا يَشْبع منه العُلماء،
ولا يَخْلَقُ على كَثْرة الردّ، ولا تَنْقضي عجائبُه، هو الذي مَن تَركه من جبّار
قَصَمه اللّه، ومَن ابتغى الهَدْى في غَيْره أضَلّه اللهّ، هو حَبْل الله
المَتِين، والذِّكْر العَظِيم، والصرِّاط المُسْتقيم، خًذْها إليك يا أَعْوَر.
وقيل للنبيّ صلى الله
عليه وسلم، عجّل عليك الشيبُ يا رسولَ اللهّ؟ قال: شَيّبتني هُود وأَخواتُها.
وقال عبد الله بن
مَسْعود: الحَوامِيم ديباج القُرآن.
وقال: إذا رَتعتُ
رَتعتُ في رياض دَمِثة أتأنّق فيهن.
وقالت عائشةُ رضي
اللهّ تعالى عنها: كانت تَنْزل علينا الآيةُ في عَهْد رسول الله صلى الله عليه
وسلم فنَحْفظ حلالَها وحَرَامها، وأَمْرها وزَجْرها، قبل أن نَحْفظها.
وقال صلى الله عليه
وسلم: سيكون في أمّتي قومٌ يَقرأون القرآن لا يجاوز تَراقِيَهم، يَمْرقون من الدين
كما يَمْرُقُ السهمُ من الرميّة، هم شرُّ الخَلْقِ والخَلِيقة.
وقال: إن الزَّبانية لأسْرع
إلى فُسّاق حَمَلة القرآن منهم إلى عَبَدَة الأوْثان؛ فيَشْكون إلى ربّهم، فيقول:
ليس مَن عَلِمٍ كمَن لم يَعْلم.
وقال الحسن: حَمَلة القرآن
ثلاثة نفر: رجلٌ اتخذه بضاعةً يَنْقُله من مِصْر إلى مصر يَطْلُب به ما عند الناس،
ورجل حَفِظ حُروفه، وضيّع حُدُوده، واستدَرّ به الوُلاة، واستطال به على أهل بلده،
وقد كثُر هذا الضَرب في حَملة القرآن، لا كَثّرهم الله عزَّ وجلَّ، ورجُل قرأ
القرآن، فوضع دواءه على داء قَلبه، فسَهِر ليلَته، وهَمَلت عَيْناه، وتَسَرْبل
الخُشوعَ، وارتدى الوَقَار، واستَشعر الحُزن، وواللّه لهذا الضَّرب من حملة القران
أقلّ من الكِبْريت الأحمر، بهم يَسْقي الله الغَيْث، ويُنزِّل النَصر، ويَدْفع
البَلاء.
العقلٍوقال سَحْبان
وائل: العَقْل بالتَّجارب، لأنَّ عَقْل الغَرِيزة سُلَّم إلى عَقْل التجربة.
ولذلك قال عليُّ بن
أبي طالب رِضْوانُ الله عليه: رأي الشيخ خير من مَشْهد الغُلام.
وعلى العاقل أنْ يكون
عالماً بأهل زمانه " مالِكاً للسانه " مُقْبِلاً على شانه.
وقال الحسن
البَصْريّ: لسانُ العاقل من وَراء قَلْبه، فإذا أراد الكلامَ تفكّر، فإن كان له
قال، وإن كان عليه سكت. وقلب الأحمق من وراء لسانه فإذا أراد أن يقول قال، "
فإنَّ كان له سَكَت، وإن كان عليه قال " .
وقال محمد بن الغاز:
دخل رجل على سُليمان بن عبد الملك، فتكلَم عنده بكلام أعجب سُليمانَ، فأراد أن
يخْتبره لينظر أعقلُه على قَدْر كلامه أم لا، فوجده مَضْعوفاً فقال: فضل العَقل
على المنطِق حِكمة، وفَضْل المنطِق على العقْل هجنة، وخير الأمور ما صدقت بعضها
بعضاً، وأنشد:
وما المَرْءِ ألا
الأصْغرانِ لسانُه ... ومَعْقوله والجسْم خَلْق مُصورُ
فإنْ تَمر منه ما
يَرُوق فربّما ... أمر مَذاقُ العَود والعُودُ أخْضر
ومن أحْسن ما قيل في
هذا المعنى قولُ زهَير:
وكائن تَرَى من صامتٍ
لك مُعْجِب ... زيادتُه أو نَقْصُه في التكلُّم
لسانُ الفَتى نِصْف
فُؤاده ... فلم يَبْق إلاِّ صورةُ اللحْم والدَّم
وقال عليُ رضي الله عنه:
العقْل في الدماغ، والضحَك في الكَبد، والرَّأْفة في الطحال، والصَّوت في الرئة.
وسئِل المُغيرة بن
شعْبة عن عُمَر بن الخطاب رضوان الله عليه فقال: كان واللّه أفضلَ من أن يَخدع،
وأعقلَ من أن يُخدع، وهو القائل: لستُ بِخَبٍّ والِخَبُّ لا يَخدعني.
وقال زياد: ليس
العاقلُ الذي إذا وَقَع في الأمْر احتال له، ولكنّ العاقل يَحْتال للأمر حتى لا
يقع فيه.
وقيل لعَمْرو بن
العاص: ما العَقْل؟ فقال: الإصابةُ بالظَّن، ومَعْرفة ما يكون بما قد كان.
وقال عمرُ بن الخطّاب
رضي الله عنه: مَنْ لم يَنْفعه ظنّه لم ينفعه يَقِينه.
وقال عليُ بن أبي
طالب رضي الله عنه، وذَكَر ابن عبِّاس رضي الله عنهما فقال: لقد كَان ينظُر إلى
الغَيْب من ستر ْرقيق.
وقالوا: العاقل فَطِن
مُتغافل.
وقال مُعاوية:
العَقْل مِكيال ثُلُثه فِطْنة وثلثاه تغافل.
وقال المُغِيرة بن
شُعْبة لعُمَر بن الخطاب رضي الله عنه إذ عَزَله عن كتابة أبي مُوسى: أعَن عَجْز
عَزَلْتَني أم عن خِيانة؟ فقال: لا عن واحدة منهما، ولكني كرِهْت أن أحمل على
العامة فَضْلَ عقلك.
وقال مُعاوية لعَمْرو
بن العاص: ما بَلَغ من عَقْلك؟ قال: ما دخلتُ في شيء قَط إلا خَرجتُ منه؟ فقال مُعاوية:
لكنّي ما دخلتُ في شيء قطُ أريد الخُرُوجَ منه.
وقال الأصمعيُ: ما
سَمِعتً الحسن بنَ سهل مُذْ صار في مَرْتبة الوزارة يتَمثّل إلاّ بهذين البيتين:
وما بَقيتْ من
اللَّذّات إلا ... مًحادثةُ الرِّجال ذوي العُقول
وقد كَانوا إذا
ذُكِرُوا قليلاً ... فقد صارُوا أقلَّ من القَلِيل
وقال محمدُ بنُ عبد
الله بن طاهر، " ويرْوي لمحمود الورّاق " :
لَعَمْرك ما بالعَقْل
يكتسب الغِنَى ... ولا باكتِسَاب المال يُكتَسَب العقلُ
وكَمْ من قَليل المال
يُحمد فَضْله ... وآخرَ ذىِ مال وليس له فَضْل
وما سَبقَت من جاهل
قطًّ نِعْمَة ... إلى أحدٍ إلا أضّرَ بها الجَهْل
وذو اللُّبّ إن لم
يُعْطِ أحمدتَ عقلَه ... وإن هو أعطَى زانه القَوْلً والفِعْلُ
وقال محمد بنُ مُناذر:
وتَرى الناسَ كثيراً
فإذا ... عُدَّ أهل العَقْل قلُّوا في العَدَدْ
لا يقلُّ المَرْء في
القَصْد ولا ... يَعدم القِلَة مَنْ لم يقتصد
لا تعد ْشرّاً وعِد
خيراً ولا ... تُخْلِف الوَعْدَ وعَجِّل ما تَعد
لا تَقلْ شِعْراً ولا
تَهْمُمْ به ... وإذا ما قُلت شِعراً فأجد
ولآخر:
يُعْرَف عَقْل
المَرْءِ في أربَع ... مشيته أولها والحَرَكْ
ودوْر عَيْنيه
وألفاظه ... بعدُ عليهنّ يَدُورِ الفلكَ
ورُبَّما أَخْلفن
إلاّ التي ... آخرُها منهنَ سُمين لك
هَذِي دَليلات على
عَقْله ... والعقلُ في أركانه كاْلمَلِك
إِنْ صحَّ صحَ المرءُ
من بعده ... ويهْلِك المرءُ إذا ما هَلك
فانظرُ إلى مَخْرج
تَدْبِيره ... وعقْلِهِ ليس إلى ما ملك
فرُّبما خَلَّط أهلُ
الحِجَا ... وقد يكون النَّوْك في ذي النُّسك
فإنْ إمام سالَ عن
فاضل ... فادلُل على العاقل لا أمَّ لك
وكان هَوْذة بن عليّ
الحَنفيّ يُجيز لَطِيمة كِسْرِى في كلِّ عام - واللِّطِيمة عِير تَحْمِل الطِّيبَ
والبَزّ - فوفَد على كِسرى، فسأله عن بَنِيه، فسمَّى له عدداً؛ فقال: أيهم أحب
إليك؟ قال: الصَغير حتى يَكْبُر، والغائبُ حتى يرْجِع، والمَريض حتى يُفيق؟ فقال
له: ما غِذاؤك في بلدك؟ قال: الخُبز؛ فقال كسرى لجلسائه: هذا عَقْل الخبز، يُفضِّله عَلَى عُقول
أهل البَوادي الذين غِذَاؤهم اللَّبن والتمر.
وهوذة بن علي الحنفي
هو الذي يقول فيه أعشى بكر:
مَنْ يرَ هَوْذة
يَسْجُد غير مُتَّئِب ... إذا تَعصَب فوق التاجِ أو وَضَعَا
له أكاليلُ بالياقوت
فَضَّلًها ... صَوَاغُها لا تَرَى عيباَ ولا طَبعا
وقال أبو عُبَيدة عن
أبي عمرو: لم يَتَتوّج مَعدِّيّ قطُّ، وإنما كانت التِّيجان لليمن، فسألتُه عن
هوذة بن عليّ الحنفي، فقال: إنما كانت خَرَزات تُنظم له.
وقد كتب النبي صلى
الله عليه وسلم إلى هَوْذة بن عليّ يدْعوه إلى الإسلام كما كتب إلى الملوك.
وفي بعض الحديث: إنَّ
الله عزَّ وجلّ لما خلق العقل، قال: أقْبِل، فأقْبل، ثم قال له: أَدْبِر، فأدبر.
فقال: وعزَّتي وجَلالي ما خلقتُ خَلْقاً أحبَّ إليَّ منك ولا وَضَعتُك إلا في
أحَبِّ الْخَلْق إلي.
وبالعقل أَدْرك الناس
معرفةَ الله عزَّ وجلّ، ولا يشُكّ فيه أحدٌ من أهل العقول، يقول الله عز وجلّ في
جميع الأُمم: " وَلَئِنْ سَألْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنّ اللّهُ
" . وقال أهلُ التفسير في قول الله " قسَم لِذِي حِجْر " قالوا: لذي عَقل.
وقالوا: ظنُّ العاقل
كهانة.
وقال الحسنُ
البَصْريّ: لو كان للناس كلِّهم عُقول خَرِبت الدنيا.
وقال الشاعر:
يُعَد رفيِع القَوم
مَن كَان عاقلاً ... وإن لم يكُن في قَوْمه بحَسيبِ
وإِنْ حل أرضاَ عاش
فيها بعَقله ... وما عاقلٌ في بلده بغَريب
وقالوا: العاقل يَقِي
مالَه بسُلْطانه، ونَفْسَه بماله، ودينه بنَفْسه.
وقال الأحْنف بن
قيْس؛ أنا للعاقل المدبر أرْجى منِّي للأحْمق المقبل.
" قال:
ولما أهْبط الله عز وجلّ آدمَ عليه السلام إلى الأرض، أتاه جبْريل عليه السلاٍم،
فقال له: يا آدم، إنّ الله عزّ وجلّ قد حَبَاك بثلاث خصالٍ لتختارَ منها واحدة
وتَتَخَلى عن اثنتين، قال: وما هنَّ؟ قال: الحياء والدِّين والعَقْل. قال آدم:
اللّهم إنَي اخترت العقلَ. فقال جبريلُ عليه السلامُ للحياء والدين: ارتفِعَا؟
قالا: لن نَرتفع؟ قال جبريلُ عليه السلام: أعَصَيتُما؟ قالا: لا، ولكنا أمرْنا أن
لا نُفارق العقلَ حيث كان.
وقال صلى الله عليه
وسلم: لا تَقْتدوا بمن ليست له عُقْدة.
قال: وما خَلق الله
خَلقاً أحبَّ إليه من العقل.
وكان يقال: العقل
ضربان: عَقْل الطبيعة وعقل التَّجْربة، وكلاهما يُحتاج إليه ويؤدَي إلى المنفعة.
وكَان يُقال: لا يكون
أحدٌ أحب إليك من وَزِيرٍ صالح وافِر العقل كامِل الأدب حَنيك السن بَصير بالأمور،
فإذا ظَفِرْتَ به فلا تُباعِدْه، فإنَّ العاقلَ ليس يمانِعك نَصِيحَته وإن جَفَتْ.
وكان يقال: غَرِيزة
عقل لا يَضِيعِ معها عَمَل.
وكان يقال: أجَل
الأشياء أصلاَ وأحْلاها ثمرةً، صالحُ الأعمال، وحُسن الأدب، وعقل مُسْتَعمل.
وكان يقال: التجاربُ
ليس لها غاية والعاقلُ منها في الزَيادة. ومما يُؤكَد هذا قولُ الشاعر:
ألم تَرَ أنَ العقلَ
زينٌ لأهْله ... وأنَ كمالَ العقْل طولُ التجاربِ
ومكتوب في الْحِكمة:
إنَّ العاقلَ لا يغترَّْ بمودَّة الكَذوب ولا يثِق بنَصيحته ويُقال: مَن فاته
العقلُ والفُتوَّة فرَأْسُ مالِه الجَهْلُ.
ويُقال: من عَير
الناسَ الشيءَ ورَضِيه لنفْسه فذاك الأحْمق نفسُه.
وكان يقال: العاقلٍ
دائمُ المودَة، والأحمق سَريع القطِيعة.
وكان يقال: صَديق كل
امرئ عقله وعدوُه جَهْله.
وكان يقال: المعْجبِ
لَحُوح والعاقلُ منه في مَؤُونهَ. وأمَا العُجْب فإنه الجَهْل والكِبر.
وقيل: أعلى الناس
بالعَفْو أقدرُهم على العُقوبة، وأنْقص الناس عقلاً مَن ظَلم من هو دونه.
ويقال: ما شيء بأحسنَ
من عَقْل زانه حِلْم، وحِلْم زانه عِلم، وعِلم زانه صِدْق، وصِدْق زانه عَمَل،
وعَمَل زانه رِفْق.
وكان عمر بن الخطّاب
رضىِ الله عنه يقول: ليس العاقلُ من عَرف الخير من الشر، بل العاقلُ مَن عرف
" خَير " الشرّين ويقال: عدوٌ عاقل أحب إلي من صديقٍ جاهل.
وكان يقال: الزم ذا
العقل وذا الكرم واسترسل إليه، وإياك وفراقه إذا كان كريماً، ولا عليك أن تصحب
العاقل وإن كان غير محمود الكرم، لكن احترس من شين أخلاقه وانتفع بعقله، ولا تدع
مواصلة الكريم وإن لم تحمد عقله، وانتفع بكرمه وانفعه بعقلك، وفر الفرار كله من
الأحمق اللئيم.
وكان يقال: قطيعة
الأحمق مثل صلة العاقل.
وقال الحسن: ما أودع
الله تعالى أمرأ عقلاً إلا استنقذه به يوماً ما.
وأتى رجلٌ من بني
مجاشع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ألست أفضل قومي؟ قال
النبي صلى الله عليه وسلم: إن كان لك عقل فلك فضل، وإن كان لك تقي فلك دينٌ، وإن
كان لك مالٌ فلك حسب، وإن كان لك خلق فلك مروءة.
قال: تفاخر
صفوان بن أمية مع رجل، فقال صفوان: أنا صفوان بن أمية، بخٍ بخٍ، فبلغ ذلك عمر بن
الخطاب رضي الله عنه فقال: ويلك! إن كان لك دين فإن لك حسباً، وإن كان لك عقل فإن
لك أصلاً، وإن كان لك خلق فلك مروءة، وإلا فأنت شرٌ من حمار.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه.
وقال: وكل الله عز
وجل الحرمان بالعقل، ووكل الرزق بالجهل، ليعتبر العاقل فيعلم أن ليس له في الرزق
حيلة.
وقال بزرجمهر: لا
ينبغي للعاقل أن ينزل بلداً ليس فيه خمسة: سلطان قاهر، وقاضٍ عدل، وسق قائمة،
ونهرٍ جارٍ، وطبيب عالم.
وقال أيضاً: العاقل
لا يرجو ما يعنف برجائه، ولا يسأل ما يخاف منعه، ولا يمتهن ما لا يستعين بالقدرة
عليه.
سئل أعرابي: أي
الأسباب أعون على تذكية العقل وأيها أعون على صلاح السيرة؟ فقال: أعونها على تذكية
العقل التعلم، وأعونها على صلاح السيرة القناعة.
وسُئل عن أجود
المواطن أن يُخْتبر فيه العقل، فقال: عند التّدْبير.
وسُئِل: هل يَعمل
العاقلُ بغير الصَّواب؟ فقال: ما كلّ ما عُمِل بإذن العقل فهو صواب.
وسُئل: أيُّ الأشياء
أدلُّ على عَقل العاقل؟ قال: حُسن التَّدْبير.
وسُئل: أي مَنافع العقل
أعظم؟ قال: اجتنابُ الذّنوب.
وقال بُزُرْجَمهِر:
أفْره ما يكونُ من الدّوابّ لا غِنى بها عن السَّوْط، وأَعفُّ مَن تكون منِ النساء
لا غِنى بها عن الزًوْج، وأَعْقل من يكون من الرِّجال لا غِنى به عن مَشورة ذوِي
الأَلباب.
سُئل أعرابيّ عن
العقل متى يُعرف؟ قال: إذا نَهاك عقلُك عمّا لا يَنْبغي فأنت عاقل.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: العَقْل نُور في القْلب نُفرِّق به بين الحقّ والباطل، وبالعَقْل
عُرِف الْحَلال
والْحَرام، وعُرِفَت شَرائع الإسلام ومَواقع الأحكام، وجَعَله الله نُوراً في
قُلوب عِبَاده يَهْديهم إلى هُدًى ويَصُدُّهم عن رَدى.
" ومِن
جَلالة قَدْر العَقْل أنَّ اللهّ تعالى لم يُخاطب إلا ذَوي العُقول فقال عزَّ
وجلّ: " إنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَاب " . وقال: " لِتُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا " . أي عاقلا، وقال: " إِنّ
في ذَلِكَ لَذِكْرَى لمَنْ كَانَ لهُ قَلب " . أي لمن كان له عَقل.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: العاقل يَحْلُم عمّن ظَلَم، ويَتواضع لمن هو دُونه، ويُسابق إلى البِرّ
مَن فَوْقه. وإذا رأى بابَ بِرٍّ أنتهزه، وإذا عَرَضت له فِتْنة اعتَصم باللّه
وتَنَكَّبَها.
وقال صلى الله عليه
وسلم: قِوَام المَرْء عَقْلُه، ولا دينَ لمن لا عَقْل له.
وإذا كان العَقْل
أشرَفَ أَعلاق النَّفس، وكان بقَدْر تمكُّنه فيها يكونُ سُمُوُّها لطَلَب الفضائل
وعلوُّها لابتغاء المَنازل، كانت قِيمةُ كلّ امرىء عقلَه، وحِلْيَتُه التي يَحْسُن
بها في أَعُين الناظرين فَضْلَه.
ولعَبْد اللهّ بن
محمَّد:
تأَمَّل بعَيْنَيْكَ
هذا الأنام ... وكُنْ بعضَ مَن صانه نُبْلُهُ
فحِليةُ كلَّ فتىً
فَضْلُه ... وقِيمة كلَّ آمرىءٍ عقْله
ولا تتكل في طِلاب
العُلا ... على نَسَب ثابتٍ أَصلُه
فما من فتىً زانَه
أهلُه ... بشيءٍ وخاًلَفه فِعْلُه
ويُقال: العَقْلُ
إدْراك الأشياء على حَقائقها، فَمَن أدرَك شيئاً على حقيقته فقد كَمُل عَقْله.
وقيل: العقْل مِرآه
الرَّجُل.
أَخذه بعضُ الشعراء
فقال:
عقْل هذا المَرْء مرآ
... ة تَرَى فيها فِعالَه
فإذا كانَ عليها ...
صَدَأ فَهْوَ جَهالَه
وإذا أَخْلَصه الل
... ه صِقالاً وصَفَا له
فَهْي تُعْطِي كُلَّ
حيٍّ ... ناظرٍ فيها مِثَاله
ولآخر:
لا تَراني أَبداً أُك
... رِمُ ذَا المالَ لمالهِ
لا ولا تزْرِي بمَنْ
يع ... قل عِنْدِي سُوءُ حالهِ
إنما أَقضي عَلَى ذَا
... كَ وهذا بِفِعَاله
أنا كاْلمِرآةِ
أَلْقَى ... كل وجهٍ بِمثاله
كيفما قَلَّبني الَدهرُ
... يَجدْني مِنْ رِجَاله
ولبعضهم:
إذا لم يَكُنْ
لِلْمَرْءِ عَقْلٌ فإنَّه ... وإن كان ذا نُبْلٍ على النَّاس هَين
وإن كان ذا عقْل
أُجِلَّ لعَقْله ... وأَفضلُ عَقْل عقْلُ مَنْ يتَدَيَّن
وقال آخر:
إذا كُنتَ ذا عقْل
ولم تَكُ ذا غنى ... فأنت كذِي رَحْل وليس له بَغْلُ
وإن كُنت ذا مال ولم
تَكُ عاقلا ... فأَنت كذى بَغْلٍ وليس له رَحْل
ويُقال: إنّ العَقْل
عينْ القَلْب، فإذا لم يَكُن للمرء عقْل كان قَلْبه أكمه.
وقال صالح بنُ جَنَاح:
ألاَ إنَّ عقْل المرء
عَيْنَا فُؤادِه ... وإنْ لم يكن عقْل فلا يُبْصِر القَلبُ
وقال بعضُ الفلاسفة:
الهَوَى مصاد العَقْل.
ولعبد الله بن ميحمد:
ثلاث مَنْ كنَّ فيه
حَوَى الفضلَ وإن كان راغباً عن سِواها: صِحَّة العَقْل، والتَّمسُّك بالعَدْل،
وتَنزيه نَفسه عن هَوَاها.
ولمحمد بن الْحَسن بن
دُريد:
وآفةُ العقل الهَوَى
فمنْ عَلا ... على هَوَاهُ عقلُه فَقد نَجَا
وقال بعضُ الحُكماء:
ما عبد الله بشيء أحبَّ إليه من العقل، وما عُصي بشيءِ أحبَّ إليه من السَّتْر.
وقال مَسْلمة بن عبد
الملك: ما قرأتُ كتاباً قطُّ لأحد إلا عرفتُ عقله منه.
وقال يحيى بن خالد:
ثلاثةُ أشياء تدلُّ على عُقول أرْبابها: الكتاب يدُل على عقل كاتبه، والرسولُ
يَدُل على عقل مُرْسِله، والهديَّةُ تدل على عقل مُهديها. واستعمل عمرُ بن عبدِ
العزيز رجلاً، فقيل له: إنه حَدِيث السنّ ولا نراه يَضْبط عملَك؛ فأخذ العهدَ منه
وقال: ما أُراك تَضبِط عملَك لحداثتك؛ فقال الفَتى:
وليس يَزيد المرءَ
جهلاً ولا عَمىً ... إذا كان ذا عَقْل حداثةُ سِنَهِ
فقال عمرُ: صدق،
ورَدَّ عليه عهدَه.
وقال جَثّامة بن
قَيْس يَصِف عاقلاً:
بَصِيرٌ بأَعْقاب
الأمور كأئما ... تُخاطِبه من كلّ أمرٍ عواقبُهُ
ولغيره في المعنى:
بَصِير بأَعقاب
الأمُور كأنّما ... يَرَى بصَواب الرأْي ما هو واقعُ
وقال شَبِيبُ بن
شَيْبة لخالد بنِ صَفْوان: إني لأَعْرف أمراً لا يتلاقى فيه اثنان إلا وَجب
النُّجح بينهما؛ قال له خالد: ما هو؟ قال العقل، فإن العاقل لا يسأل إلا ما يجوز،
ولا يردّ عما يُمكن. فقال له خالد: نعَيتَ إليَّ نفسي، إنّا أهل بَيْت لا يموتُ
منّا أحدٌ حتى يرى خَلفه.
وقال عبدُ اللهّ بن
الحُسن لابنه محمد، يا بني احذَر الجاهل وإن كان لك ناصحاً، كما تَحْذر العاقلَ
إذا كان لك عدوًا؟ ويُوشِك الجاهلُ أن توَرطَك مَشورته في بعض اغترارك فيَسْبِقَ
إليك مكْر العاقل، وإِيَّاكَ ومُعاداة الرّجال، فإنك لا تَعْلَمَنّ منها مَكْرَ
حَلِيم عاقل، أو مُعاندة جاهل.
وقال أمير المؤمنين
عليّ بن أبي طالب صلواتُ الله عليه: لا مالَ أعودُ من عقل، ولا فَقر أضرُّ من جَهل.
ويُقال: لا مرُوءة
لمن لا عَقلَ له.
وقال بعضُ الحًكماء:
لو استغنى أحدٌ عن الأدب لاستَغْنى عنه العاقل، ولا يَنتَفع بالأدب مَن لا عَقل
له، كما لا ينتَفع بالرّياضة إلا النِّجيب.
وكان يُقال: بالعقل
تُنَال لذَّة الدنيا، لأنّ العاقل لا يَسْعَى إلا في ثلاث: مَزِية
لمَعاش، أو مَنْفعة لمَعاد، أو لذة في غير مُحرم.
ولبعضهم:
إذا أحببتَ أقواماً
فلاصِقْ ... بأهْل العَقل منهم والحَيَاء
فإنّ العقلَ ليس له
إذا ما ... تفاضلت الفضائل من كفاء
لمحمّد بن يزيد:
وأفضَل قَسْم الله
للمَرْء عقلًه ... وليس منَ الخَيراتِ شيءٌ يُقارِبهُ
إذا أكمل الرحْمن
للمرء عقلَه ... فقد كَمُلت أخلاقُه ومآربُه
يَعِيش الفتَى
بالعقلِ في النَاس إنّه ... على العقل يَجْري عِلْمهُ وتجَاربهً
ومَنْ كان غَلاَّباَ
بعقل ونَجْدَةٍ ... فذُو الجَدّ في أَمْرِ المَعِيشة غالبِه
فَزَينُ الفتَى في
النًاس صِحَّةُ عقله ... وإن كان مَحْصوراً عليه مَكاسِبه
وشَين الفَتى في
النَّاس قِلّة عقله ... وإن كَرُمت أعراقهُ ومَناسِبهُ
ولبَعْضهم:
العقْلُ يأمر
بالعَفاف وبالتُّقَى ... وإليه يَأْوِي الحِلْمُ حين يؤولُ
فإن استطعتَ فخُذْ
بفَضلك فَضْلَه ... إنَّ العُقول يُرى لها تَفضيل
ولبعضهم:
إذا جمُع الآفاتُ
فالبُخْل شَرها ... وشرَ منَ البُخل المواعيدُ والمَطلُ
ولا خَيرَ في عقل إذا
لم يَكًن غنىً ... ولا خَيْر في غِمْدٍ إذا لم يكًن نَصْل
وإن كان للإنسان عقل
فعَقْلُه ... هُو النَصْل والإنسانُ مِن بعده فَضْل
ولبَعضهم:
يُمَثَل ذو العقل في
نَفْسه ... مصائبَه قبْل أن تنْزِلا
فإن نزلت بَغْتةً لم
ترعه ... لِما كان في نفسه مَثَلا
رأى الهمَّ يُفْضي
إلى آخِرٍ ... فَصيَّرَ آخرَه أوَّلا
" وذو
الْجَهْل يَأمن أيامَه ... ويَنسى مَصارِع مَن قد خَلا "
الحكمةقال النبي صلى
الله عليه وسلم: ما أخلصَ عبدٌ العملَ لله أربعين يوماً إلا ظهرت يَنابيعُ
الحِكْمة من قَلْبه على لسانه.
وقال عليه الصلاةُ
والسلام: الحِكْمة ضالّة المُؤْمن يأخذها ممَن سَمِعها ولا يبالي من أيَ وعاء
خَرجت.
وقال عليه الصلاةُ
والسلام: لا تَضَعوا الحِكْمة عِنْدَ غير أهلها فتَظلِمُوها، ولا تَمْنعوها أهلَها
فَتَظْلِمُوهم.
وقال الحُكماء: لا
يطلب الرجلُ حِكْمة إلا بحكمة عنده.
وقالوا: إذا وَجَدتم
الحِكْمة مَطْرُوحة على السكك فخُذوها.
وفي الحديث: خُذوا
الحِكْمة ولو من أَلْسِنة المُشْركين.
وقال زياد: أيها
الناس لا يَمْنعكم سوءُ ما تَعْلمون منَّا أن تنَنْتفعوا بأحْسَنِ ما تسمعون منّا،
فإِنَّ الشاعر يقول:
اعْمل بعِلْمي وإن
قَصَّرْت في عَمَلي ... يَنْفَعْك قولِي ولا يَضْرُرْكَ تَقْصِيرِي
نوادر من الحكمة
قيل لقُس بن ساعدة:
ما أفضلُ المَعْرِفة؟ قال معْرفة الرجل نَفْسَه؛ قِيل له: فما أَفضلُ العِلْم؟ قال: وقوف المرء عند عِلْمه؛ قِيل له: فما أفضلُ المروءة؟
قال: استبقاءُ الرجل ماء وَجْهه.
وقال الحسنُ:
التّقْدِير نِصْف الكَسْب، والتًّؤدة نِصف العقل، وحُسْن طَلب الحاجة نِصْف
العِلْم.
وقالوا: لا عقلَ
كالتَّدبير، ولا وَرَع كالكفّ، ولا حَسَب كحُسْن الخُلق، ولا غِنى كرِضا عن اللّه،
وأَحقُّ ما صبر عليه ما ليس إلى تَغْييره سَبيل.
وقالوا: أفضلُ البرِّ
الرّحمة، ورَأْس المودّة الاسترسالُ، ورَأس العُقوق مُكاتمة الأَدْنين، ورَأْس
العَقْل الإصابة بالظنّ.
وقالوا: التفكًر نور،
والغَفلة ظُلْمة، والجهالة ضَلالة، والعِلم حَياة، والأوّل سابق، والآخِر لاحِق،
والسعِيد من وُعِظ بغَيْره.
حَدَّث أبو حاتم
قالِ: حدّثني أبو عُبيدة قال: حدّثني غيرُ واحد من هَوازِنَ من أولي العِلم،
وبعضُهم قد أدرك أبوه الجاهلية " أو جدُّه " ، قالوا: اجتمع عامر بن
الظرِب العَدْواني، وحُممَة بن رافعِ الدَّوْسيّ - ويَزعمُ النُّساب أنّ ليلى بنت
الظَّرب أُمُّ دوس، وزينبَ بنت الظرب أُمُ ثقيف " وهو قَيْسي " - عند مَلك من مُلوك حِمْير، فقال: تَساءَ لا حتى
أَسْمع ما تقولان. فقال عامر لحُممة: أين تُحِب أن تكون أياديك؟ قال: عند ذي الرَّثْية
العَدِيم، وعند ذي الخلّة الكَريم، والمُعْسِر الغَريم، والمُسْتَضْعف الهضِيم.
قال: مَن أحقُّ الناس بالمقْت؟ قال: الفَقِير المُختال، والضعيف الصوال، والعَييّ
القوّال، قال: فمَن أَحق الناس بالمنّع؟ قال: الحَرِيص الكاند، والمُستميد الحاسد،
والمُلْحِف الواجِد. قال: فمن أجدرُ الناس بالصَنيعة؟ قال: من إذا أُعطى شَكر، وإذا مُنِع
عَذر، وإذا مُطِل صَبر، وإذا قدُم العهدُ ذكَر قال: من أكرمُ الناس عِشْرة؟ قال: من إذا
قَرُب مَنَح، " وإذا بَعُد مدح " ، وإذا ظُلم صَفَح، وإذا ضُويق سَمح
قال: مَن ألأم الناس؟ قال: مَن إذَا سأل خَضع، وإذا سُئل مَنع، وإذا مَلك كَنَع،
ظاهِره جَشع، وباطنه طَبع. قال: فمن أحْلم الناس؟ قال: من عَفا إذا قَدَر، وأجملَ
إذا انتصر، ولم تُطْغِه عِزَّة الظَّفر. قال: فمن أحزمُ الناس؟ قال: مَن لا أَخذ
رقابَ الأمور بيدَيه، وجَعل العواقبَ نُصْب عَيْنَيه، ونَبذ التهيب دَبْر أُذنيه.
قال: فمن أَخرقُ الناس؟ قال: مَن رَكِب الْخِطار، واعتَسف العِثَار، وأَسرعَ في
البِدَار قبلَ الاقتِدار. قال: مَن أَجوَدُ الناس؟ قال: مَن بذل المجهود، ولم يأس على المعهود.
قال: مَن أَبلغ الناس؟ قال: مَن جَلَّى المعنى المزِيز بالّلفظ الوجيز،
وطَبَّق المفْصل قبل التَّحزيز. قال: من أنعم الناس عَيشاً؟ قال: من تحلَّى بالعَفاف،
ورَضي بالكَفاف، وتجاوز ما يَخاف إلى مالا يَخاف. قال: فمن أشقى الناس؟ قال: من
حسد على النِّعم، وسَخِط على القِسَم، واستَشعر النَّدَم، على فوْت ما لم يُحتم.
قال: من أغنى الناس؟ قال: من آستَشعر الياس، وأظْهر التَّجمُّل للناس، واستكثر
قليلَ النِّعم، ولمِ يَسْخط على القِسَم. قال: فمن أحكم الناس؟ قال: من صَمت فادًكر، ونَظر فاعتبر، وَوُعِظ فازْدَجر. قال: مَن
أَجْهل الناس؟ قال: من رأى الخُرْق مَغْنما، والتَّجاوزَ مَغْرما.
وقال أبو عُبيدة:
الخَلة: الحاجة، والخُلَّة: الصداقة. والكاند: الذي يَكفر النِّعمة، والكنود:
الكفور، والمُسْتَمِيد: مثل المُسْتَمِير، وهو المُسْتعطِي. ومنه اشتقاق المائدة.
لأنها تًمادُ. وكَنع: تَقَبَّض؟ يُقال منه: تَكَنًع جِلْدُه، إذا تَقَبَّض. يريد
أنه مُمْسك بخَيل. والجَشَع: أسوأ الحِرْص. والطَّبع " الدَنس. والاعتساف: رُكوب الطريق على
غير هِداية، وركوبُ الأمر على غير مَعرفة. والمَزيز: من قولهم: هذا أمزّ من هذا،
أي أفضل منه وأزيد. والمُطبِّق من السيوف: الذي يُصيب المفاصل لا يجاوزها.
وقال عمرو بن العاص:
ثلاثٌ لا أناة فيهنّ: المُبادرة بالعَمل الصالح، ودَفْن الميِّت، وتَزْويج الكُفْء.
وقالوا: ثلاثة لا
يُندم على ما سَلف إليهم: الله عزَ وجَلّ فيما عُمل له، والمَوْلى الشَّكُور فيما
أُسْدى إليه، والأرضُ الكَريمة فيما بُذر فيها.
وقالوا: ثلاثة لا
بقاء لها: ظِلُّ الغَمام، وصُحْبة الأشرْار، والثًناء الكاذب.
وقالوا: ثلاثة لا
تكون إلاّ في ثلاثة: الغِنَى في النَّفس، والشَّرف في التَّواضع، والكرم في
التَّقوى.
وقالوا ثلاثة لا
تًعرف إلا عند ثلاثة ذو البَأس لا يُعرف إلاّ عند اللقاء، وذو الأمانة لا يُعرف
إلا عند الأخذ والعَطاء. والإخوان لا يُعرفون إلا عند النَّوائب.
وقالوا: مَن طلب
ثلاثة لم يَسْلم من ثلاثة: مَن طلب المالَ بالكيمياء لم يسلم من الإفلاس، ومَن طلب
الدِّين بالفَلْسفة لم يَسلم من الزًندقة، ومَن طلب الفِقه بغرائب الحديث لم يَسلم
من الكَذِب.
وقالوا: عليكم بثلاث:
جالِسوا الكبراء، وخالطوا الحكماء، وسائلوا العُلماء.
وقال عمرُ بن الخطّاب
رضوان الله عليه: أخوفُ ما أخاف عليكم شُحٌّ مُطاع، وهَوًى مُتَّبع، وإعجاب المرء
بنفسه.
واجتمعت عُلماء
العَرب والعجم على أربع كلمات: لا تحمل على ظَنِّك ما لا تُطيق، ولا تَعْمل عملاً
لا يَنْفعك، ولا تَغْترّ بامرأة، ولا تَثِق بمال وإن كثر.
وقال الرِّياحي فيِ
خُطبته باْلمِرْبَد: يا بَني رِياح، لا تَحْقِرُوا صغيراً تأخذون عنه، فإني أخذتُ
من الثعلب رَوَغانه، ومن القِرْدَ حِكايته، ومن السِّنَّوْر ضَرَعه، ومن الكلب
نُصرَته. ومن ابن آوَى حذَره؛ ولقد تعلَمت من القَمر سَيْرَ اللَّيل، ومن الشَّمس
ظهور الحيِن بعد الحين.
وقالوا: ابن آدم
هو العالَم الكَبير الذي جَمع الله فيه العالَم كلّه، فكان فيه بَسالة اللَّيث،
وصَبْر الْحِمار، وحِرْص الخنزير، وحَذَر الغُراب، ورَوَغان الثّعلب، وضَرَع
السِّنَّور، وحِكاية القِرْد، وجُبْن الصِّفْرِد.
ولما قَتَل كِسْري
بُزُرْجمهرَ وجد في مِنْطقتِهِ مكْتوباً: إذا كان الغدرْ في الناس طِبَاعاً فالثقة
بالناس عَجْز، وإذا كان القَدَر حقَّاً فالْحِرْص باطل، وإذا كان المَوْت راصداً
فالطمأنينة حُمق.
وقال أبو عمرو بن
العلاء: خُذ الخَير من أَهْله، ودَع الشرَّ لأهله.
وقال عمرُ بن الخطاب
رضي الله عنه: لا تَنْهَكوا وَجْه الأرض فإن شَحْمتها في وَجْهها.
وقال: بِع الحَيَوان
أحسنَ ما يكون في عَيْنك.
وقال: فَرِّقوا بين
المَنايا، واجعلوا من الرأس رأسين، ولا تَلبثوا بِدَرا مَعْجزة.
وقالوا: إذا قَدُمت
المُصيبة تُرِكت التَّعزية، وإذا قَدُم الإخاء سَمُجَ الثَّناء.
وفي كتاب للهند:
يَنْبغي للعاقل أن يَدَع التماسَ ما لا سَبِيل إليه، لئلاّ يُعدّ جاهلاً، كرَجُل
أراد أن يُجري السفنَ في البرّ والعَجلَ في البَحْر، وذلك ما لا سَبيلَ إليه.
وقالوا: إحسان
المُسيء أن يَكُفَّ عنك أذاه، وإساءةُ المُحسن أن يَمْنعك جَدْواه.
وقال الحسنُ
البَصْريّ: اقدَعوا هذه النفوسَ فإنها طُلعة، وحادِثوها بالذِّكر فإنها سريعة
الدُّثور، فإنكم إلاّ تَقْدعوها تَنزع بكم إلى شرِّ غاية.
يقول: حادثوها
بالحكمة كما يُحادث السَّيف بالصِّقال، فإنها سَريعة الدُّثور يريد الصَّدأ الذي
يَعْرض للسيف. واقدَعوها: من قدعتَ أنف الجمل، إذا دفعتَه. فإنها طُلَعة، يريد
مُتَطلّعة إلى الأشياء.
قال أرْدشير بن بابك:
إن للآذان مَجَّة، وللقلوب مَلَلا، ففَرِّقوا بين الحكمتين يَكُنْ ذلك اسْتِجماماً.
البلاغة وصفتهاقيل
لعمرو بن عُبيد: ما البلاغة؟ قال: ما بَلَّغك الجنَّة، وعَدَل بِك عن النار، قال
السائل: ليس هذا أُريد قال: فما بَصَّرك مواضعَ رُشْدك، وعواقبَ غَيِّك؛ قال: ليس
هذا أريد؛ قال: مَن لم يحسن أن يسكت لم يُحسن أن يَسمع؛ ومَن لم يُحسن أن يَسمع لم
يحسن أن يسأل، ومَن لم يُحسن أن يَسأل لم يُحسن أن يقول: قال: ليس هذا أُريد؛ قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّا معشر " النبيين " بِكَاء - أي قليلو الكلام، وهو جمع
بكىء - وكانوا يكرهون أن يَزيد مَنْطق الرجل على عَقْله؛ قال السائل: ليس هذا
أريد؟ قال: فكأنك تُريد تَخَيُّر الألفاظ في حُسْن إفهام؛ قال: نعم؛ قال: إنك إن
أردتَ تَقْرير حُجَّة اللهّ في عُقول المُكَلَّفين، وتخفيف المَؤونة على المُسْتمعين،
وتَزيين المعاني في قُلوب المستفهمين بالألفاظ الحَسنة رغبةً في سُرعة استجابتهمِ،
ونفْي الشواغل عن قلوبهم بالمَوْعظة الناطقة عن الكتَاب والسُّنَّة، كُنت قد
أُوتيت فَصْلَ الخِطاب.
وقيل لبعضهم: ما
البلاغة؟ قال: مَعْرفة الوَصْل من الفَصل.
وقيل لآخر: ما
البلاغة؟ قال: إيجاز الكلام، وحَذْف الفُضُول، وتَقْرِيب البعيد.
وقيل لبعضهم: ما
البلاغة؟ قال: أن لا يُؤتى القائل من سُوء فَهْم السامع، ولا يُؤتى السّامع من
سُوء بيَان القائل.
وقال مُعاوية لصُحارٍ
العَبْديّ: ما البلاغة؟ قال: أن تُجيب فلا تُبطئ، وتُصيب فلا تُخْطئ. ثمّ قال:
أَقِلْني يا أمير المؤمنين؛ قال: قد أَقَلْتكَ. قال: لا تُبْطئ ولا تُخطئ.
قال أبو حاتم: استطال
الكلامَ الأوّل فاستقَال، وتَكلّم بأوجزَ منه.
وسمع خالدُ بن
صَفْوان رجلاً يتكلّم ويُكثْر فقال، اعلم رحمك الله أن البلاغة ليست بحِفّة
اللسان، وكَثْرة الهَذَيان، ولكنها بإصابَة المَعْنى، والقَصْدِ إلى الحُجَّة.
فقال له: أبا صَفْوان، ما من ذَنْب أعظم من اتْفاق الصَّنعة.
وتكلّم رَبيعة
الرَّأي يوماً فأكثر " وأُعجب بالذي كان منه " وإلى جَنْبه أعرابيٌّ، فالتفتَ إليه، فقال: ما تَعُدّون البلاغةَ يا أعرابيّ؟
قال: قِلّة الكلام وإيجاز الصواب، قال: فما تَعُدّون العِيّ؟ قال: ما كًنت
فيه منذُ اليوم. فكأنما أَلْقمه حَجراً.
ومن أمثالهم في البلاغة
قولُهم: يُقِلّ الحزّ ويُطبِّق اْلمِفْصل. وذلك أنّهم شَبّهوا البَلِيغ المُوجز
الذي يُقل الكلام، ويُصيب الفُصول والمَعاني، بالجزَّار الرَّفيق يًقل حَزّ
اللَّحم ويُصيب مَفاصله.
ومثله قولُهم: يَضع
الهِناء مواضع النُّقبِ أي لا يتكلّم إلا فيما يجب فيه الكلامُ، مِثْل الَطالِي الرَّفيق
الذي يضع الْهناء مواضع النُّقب. وآلْهِناء؛ القطران. والنُّقب: الجَرَب.
وقولهم: قَرْطَس فلان
فأصاب الثغرة، وأصاب عَيْن القِرْطاس. كل هذا مَثل للمُصيب في كلامه الموجز في
لَفْظه.
" قيل
للعَتّابي: ما البلاغة؟ قال: إظهار ما غمَض من الحقّ، وتَصْوير الباطل في صورة
الحق.
وقيل لأعرابيّ: مَن
أَبلغ الناس؟ قال: أَسْهَلهم لَفظاً وأحسنهم بَدِيهة.
وقيل لآخر: ما البلاغة؟
فقال: نشر الكلام بمعانيه إذا قَصُر، وحُسْن التأليف له إذا طال.
وقيل لآخر: ما
البلاغة؟ فقال: قَرْع الحجَّةِ ودُنُوّ الحاجة.
وقيل لآخر: ما
البلاغة؟ قال: الإيجاز في غَيْر عَجْز، والإطناب في غَيْر خَطَل.
وقيل لغيره: ما
البلاغة؟ قال: إقلال في إيجاز، وصَواب مع سُرعة جواب.
قيل لليُونانيّ: ما
البلاغة؟ قال: تَصْحيح الأقسام واختيار الكلام.
وقيل لبعضهم: مَن
أبلغ الناس؟ قال: مَن ترك الفُضُول واقتصر على الإيجاز.
وكان يقال: رسولُ
الرجل مكان رَأْيه، وكِتَابه مكان عَقله.
وقال جَعفر بن محمد
عليه السلام: سُمِّي البليغ بليغاً لأنه يَبلغ حاجتَه بأَهْون سعيه.
وسُئل بعضُ الحكماء
عن البلاغة فقال: مَن أخذ مَعاني كثيرة فأدَاها بألفاظ قليلة، وأخذ معاني قليلة
فولّد منها لفظاً كثيراً، فهوِ بَليغ.
وقالوا: البلاغة ما
حَسُن من الشعر المنظوم نثره، ومن الكلام المنثور نَظْمه.
وقالوا: البلاغة ما
كان من الكلام حَسناً عند استماعه، مُوجزاً عند بَدِيهته.
وقيل: البلاغة:
لَمْحة دالّة على ما في الضَّمير.
وقال بعضُهم: إذا
كفاك الإيجاز فالإكثار عِيّ، وإنما يَحْسن الإيجاز إذا كان هو البَيان: ولبعضهم:
خَيْر الكلامٍ قَليلُ
... على كَثير دَلِيلُ
والعِيُّ مَعنى
قَصِيرُ ... يَحويه لفظٌ طَويلُ
وقال بعضُ الكتَّاب:
البلاغةُ مَعْرفة الفَصْل من الوَصْل. وأَحْسن الكلام القَصْد وإصابة المعنى.
قال الشاعر:
وإذا نَطقتَ فلا تكًن
أَشِراً ... وآقصِدْ فخيرُ الناس مَن قصَدَا
وقال آخر:
وما أحدٌ يكون له
مَقالٌ ... فيَسْلَم من مَلامٍ أو أثامِ
وقال:
الدَّهرُ ينقص تارةً
ويَطولُ ... والمَرْءُ يَصْمت مَرَّةً ويَقُول
والقولُ مخْتلف إذا
حصَّلته ... بَعْضٌ يرَدّ وبعضُه مَقبول
وقال:
إذا وَضَح الصواب فلا
تَدَعْه ... فإنّك كلّمكا ذُقْت الصَّوابَا
وجدتَ له على
اللّهوات بَرْداً ... كبَرْد الماء حين صَفا وطابا
وقال آخر:
ليس شَأْنُ البليغ
إرسالَه القو ... لَ بطُول الإسهاب والإكثار
إنما شأنُهُ
التَّلطُّف لِلْمَع ... نىَ بحُسْنِ الإيراد والإصدْارِ
وجوه البلاغةالبلاغة
تكون على أَرْبعة أَوْجه: تكون باللّفظ والخطّ والإشارة والدِّلالة، وكلٌّ منها له
حظّ من البلاغة والبَيَان، ومَوْضع لا يجوز فيه غيرُه، ومنه قولُهم: لكل مَقام
مَقال، ولكل كلام جَواب، ورُبّ إشارة أبلغً من لفظ. فأمّا الخطّ والإشارة
فمفْهومان عند الخاصة أو أكثر العامة. وأمّا الدِّلالة: فكل شيء دلَّك على شيء فقد
أخبرك به، كما قال الحكيم: أشهد أنّ السمواتِ والأرضَ آيات دالاّت، وشَواهد
قائمات، كلٌّ يُؤدّي عنك الحجَّة، ويَشهد لك بالرُّبوبية.
وقال آخر: سَل الأرضِ
" فقُل " : مَن شَقَّ أنهارَكِ، وغَرَس أشجارَكِ، وجَنَى ثمارك؛ فإن لم
تُجِبك إخباراَ، أجابتك اعتباراً.
وقال الشاعر:
لقد جِئْتُ أبغِي
لِنَفْسي مُجيراً ... فَجِئْت الْجبَالَ وجِئْتُ البُحُورَا
فقال ليَ البحرُ إذ
جِئْتُه ... وكيف يُجير ضريرٌ ضَريرا
وقال آَخر: نَطقتْ
عَيْنُه بما في الضَّمير وقال نُصِيب بن رَباح:
فَعاجُوا فأَثْنَوْا
بالذي أنت أهلُه ... ولو سَكتُوا أثنت عليك الحَقَائِبُ
يُرِيد: لو سكتوا
لأثنت عليك حقائبُ الإبل التي يَحْتقبها الرَّكب من هِباتك. وهذا الثَّناء إنما هو
بالدَّلالة لا باللفظ.
وقال حَبِيب.
الدار ناطَقةٌ وليست
تَنْطقُ ... بدُثورها أنَّ الجديد سَيخْلُقُ
وهذا في قديم الشعرِ
وحَديثه، وطارفِ الكلام وتَليده، أكثر من أن يُحيط به وَصْف، أو يأتَي من ورائه
نعْت.
وقال رجل للعتّابي:
ما البلاغة؟ قال: كل من بلّغك حاجته وأَفهمك معناه، بلا إعادة ولا حُبْسة ولا
استعانة، فهو بَليغ. قالوا: قد فَهمنا الإعادة والحُبسة، فما معنى الاستعانة؟ قال.
أن يقول عند مَقاطع كلامه: اْسمع منِّي، وافهم عنِّي، أو يمسح عُثْنونه، أو
يَفْتِل أصابعه، أو يُكْثر التفاته من غير مُوجب، أو يتساءل من غير سُعلة، أو
يَنبهر في كلامه.
وقال الشاعر:
مَليْء ببُهر
والتفاتٍ وسُعْلة ... ومَسْحِة عُثْنون وفَتْل الأصابع
وهذَا كلُّه من العيّ.
وقال أبْرويز لكاتبه:
اعلم أنَّ دعائم المَقالات أربع، إن التُمس لها خامسة لم تُوجد، وإن نَقصت منها
واحدة لم تتمّ، وهي: سُؤالك الشيء، وسُؤالك عن الشيء، وأمْركِ بالشيء، وإخبارك عن
الشيء. فإذا طلبت فأسجح، وإذا سألتَ فأَوْضح، وإِذا أمرت فأحكم، وإِذا أَخبرت
فحقِّق. وأجمع الكَثِير مما تريد في القَليل مما تقول.
يريد الكلام الذي
تَقِل حروفه، وتَكثر معانيه.
وقال ربيعة الرِّأي:
إني لأسمع الحديثَ عُطْلاً فأًشنِّفه وأُقرّطه فيَحْسُن، وما زِدْت فيه شيئاً ولا
غيرت له معنى.
وقالوا: خيرُ الكلام
ما لم يحْتج بعدَه إلى كلام.
" وقال
يحيى: الكلامُ ذُو فنون، وخيره ما وفق له القائل، وانتفع به السامع وللحسن بن
جَعفر:
عجبت لإدْلال العَيِّ
بنَفسه ... وصَمْتِ الذي قد كان بالحقِّ أَعْلَمَا
وفي الصمْتِ سَترٌ
للعَيِّ وإِنما ... صَحِيفة لُبِّ المرء أن يتكلما
وصف أعرابي بليغاً
فقال: كأنّ الألْسن رِيضَتْ فما تَنْعَقِد إِلا على وُده، ولا تَنطق إلا ببَيانه.
وَصف أبو الوَجيه
بلاغةَ رجل فقال: كان واللّه يَشُول بلسانه شولان البَرُوق ويتخلّل به تخلًل
الحيّة " .
وللعرب من مُوجز
اللّفظ ولَطِيف المعنى، فًصول عَجيبة، وبدائع غريبة، وسنأتي على صَدْر منها إن شاء
الله تعالى.
فصول من البلاغةقدم
قُتيبة بن مُسلم خُراسانَ والياً عليها فقال: مَن كان في يده شيء من مال عبد الله
بن خازم فَلْيَنْبِذْه، وإن كان في فيه فَليَلْفِظه، وإن كان في صَدْره
فَلْيَنْفُثْه. فَعَجب الناس من حُسن ما فصّل.
وقيل لأبي السَّمًال
الأسديّ أيامَ مُعاوية: كيف تركتَ الناس؟ قال: تركتُهم بين مظلوم لا يَنْتَصف،
وظالم لا يَنتهي.
وقيل لشَبيب بن
شَيْبة عند باب الرَّشيد: كيف رأيتَ الناس؟ قال: رأيت الداخلَ راجياً، والخارج
راضياً.
وقال حسّان بن ثابت
في عبد الله بن عبّاس:
إذا قال لم يَتْرك
مَقالا لقائلٍ ... بمْلْتَقطات لا نَرَى بينها فَضْلا
كَفي وَشَفي ما في
النُّفوس ولم يَدَعْ ... لذي إِرْبة في القَوْل جِدّاً ولا هَزْلا
ولَقي الحُسين بن
عليّ رضوان الله عليهما الفرزدقَ في مَسيره إلى العراق، فسأله عن الناس، فقال:
القُلوب معك، والسُّيوِف عليك، والنَّصر في السماء.
وقال مُجاشع النهشلي:
الحق ثَقيل، فمَن بَلَغه اكتفي، ومن جاوزًه اعتدى.
وقيل لأمير المؤمنين
عليّ بن أبي طالب عليه السلام: كم بين المَشرق والمَغرب؟ فقال: مَسيرة يوم للشمس؛
قيل له: فكم بين السماء والأرض؟ قال: مَسيرة ساعة لدَعْوة مُستجابة.
وقيل لأعْرابي: كم
بين مَوْضع كذا وموضع كذا؟ قال: بَياضُ يوم وسَواد ليلة.
وشكا قوم إلى المَسيح
عليه السلام ذنوبهم، فقال: اتركوها تُغفَر لكم.
وقال عليُّ بنُ أبي
طالب رضي الله عنه: قِيمة كلِّ إنسان ما يحسن.
وقيل لخالد بن يَزيد
بن مُعاوية: ما أقربُ شيء؟ قال: الأجل؛ قيل له: فما أبعدُ شيء؟ قال: الأمل؛ قيل
له: فما أوْحش شيء؟ قال: الميّت؛ قيل له: فما آنس شيء؟ قال: الصاحب المُواتي.
مَرّ عمرو بن عُبيد
بسارق يُقْطع، فقال: سارق السَّريرة يَقطع سارق العلانية. وقيل للخليل بن أحمد: مالك
تَرْوي الشِّعر ولا تَقُوله؟ قال: لأني كالمِسَنّ، أشْحذ ولا أقْطع.
وقيل لعَقِيل بن
عًلَّفةَ: ما لَك لا تًطيل الهجاء؟ قال: يَكْفيك من القِلادة ما أَحاط بالعُنق.
ومَرِّ خالد بن
صَفْوان برجل صَلَبه الخَلِيفة، فقال: أَنْبتته الطاعة، وحَصَدته المَعْصية.
ومرَّ أَعرابيّ برجل
صَلبه السلطان، فقال: مَن طَلّق الدنيا فالآخرة صاحبتُه، ومن فارق الحق فالْجذْع
راحلتُه.
ومن النطق بالدِّلالة
ما حدّث به العبَّاس بن الفرج الرِّياشي قال: نزل النعمان بن المنذر ومعه عديّ بن
زيد العِبَاديّ في ظل شَجرة مُورقة ليلهوَ النعمان هناك، فقال له عَدِيّ: أبيتَ
اللعنَ، أتدري ما تقول هذه الشجرة؟ قال: ما تقول؟ قال تقول:
رب شَرْبٍ قد أناخُوا
حولَنا ... يَمْزُجون الخمرَ بالماء الزُّلالْ
ثم أضحَوْا عَصَف
الدهرُ بهم ... وكذاك الدهرُ حال بعد حال
فتَنغّص على النعمان
ما هو فيه.
" وقال ابن
الأعرابي: قلت للفضل: ما الإيجاز عندك؟ قال: حذف الفضول، وتقريب البعيد " .
وقال رجلٌ لخالد بن
صَفْوان: إنك لتًكْثر؛ قال: أكثر لضَرْبين، أحدهما فيما لا تُغني فيه القِلْة،
والآخر لتمرين اللّسان، فإنَّ حَبْسه يُورِث العُقلة.
وكان خالدُ بن
صَفْوان يقول: لا تكونُ بليغاً حتى تُكلِّم أمَتك السَّوداء في اللّيلة الظَّلماء
في الحاجة المُهِمَة بما تَتكلَّم به في نادي قَومك.
وإنما اللّسان عُضو
إذا مَرّنته مَرَن، وإذا تَركته لَكِنَ، كاليد تُخَشِّنها بِالمُمَارسة، والبَدنِ
الذي تُقوِّيه برَفّع الحجر وما أشبهه، والرِّجْل إذا عُوِّدت المشي مشت.
وكان نوفلُ بن مُساحق
إذا دخل على امرأته صَمت، فإذا خرج عنها تكلّم، فقالت له: إذا كنتَ عندي سكتَ،
وإذا كنتَ عند الناس تَنْطِق؟ قال: إني أجلِّ عن دَقِيقك وتَدِقّين عن جَليلي.
وذكر شَبِيبُ بن شيبة
خالدَ بن صَفْوان فقال: ليس له صَدِيق في السِّر، ولا عدوٌّ في العَلاَنية. وهذا
كلام لا يَعرف قَدْره إلا أهلُ صناعته.
" وَوَصف
رجلٌ آخرَ فقال: أتَيناه فأخرج لسانَه كأنّه مِخْراق لاعب.
ودَخل مَعن بن زائدة
على المَنْصُور يُقارب خَطْوه، فقال المنصور: لقد كَبرتْ سنّك؛ قال: في طاعتك؛
قال: وإنك لَجلْد؟ قال: على أعدائك؟ قال: أرى فيك بقية؟ قال: هي لك.
وكان عبد الله بن عبَّاس
بليغاً، فقال فيه مُعاوية:
إذا قال لم يَتْرك
مقالاً ولم يَقِفْ ... لعِيّ وِلم يَثْنِ اللسانَ على هُجْر
يُصَرِّفُ بالقول
اللسانَ إذا انتحَى ... ويَنظُر في أعْطافه نَظَر الصَّقر
وتكلّم صَعْصَعَةُ بن
صُوحان عند مُعاوية فَعَرِق، فقال له مُعاوية: بَهرك القولُ، قال: الجياد نَضَّاحة
بالعَرَق.
وكتب ابن سَيَابة إلى
عمرو بن بانة: إنَّ الدهر قد كَلَحَ فَجَرح، وطَمحَ فجَمح، وأفسد ما صَلَح، فإن لم
تُعِنْ عليه فَضَح.
ومَدح رجل من طَيئ
كلامَ رجل فقال: هذا الكلامُ يُكْتَفي بأُولاه، ويُشْتَفي بأًخْراه.
ووَصف أعرابيّ رجلاً
فقال: إنَّ رِفْدَك لَنجيح، وإن خيرك لصَرِيح، وإن مَنْعك لمُرِيح.
ودخل إياسُ بنُ
معاويةَ الشامَ وهو غلام، فقدِّم خصماً له إلى قاضٍ لعبد الملك، " وكان خَصْمه شيخاً كبيراً " . فقال له القاضي: أتقدِّم شيخاً
كبيرأً؟ فقَال له إياس: الحقُّ أكبرُ منه؟ قال له: اسكت، قال. فمن يَنْطق
بحُجَّتي؟ قال: ما أظنّك تقُول حقّاً حتى تقُوم؛ قال: أشهد أن لا إله إلا اللّه. فقام
القاضي فدخل على عبد الملك فأَخبره بالخبر، فقال: اقض حاجتَه الساعة وأَخْرجه من
الشام لا يُفْسِد عليّ الناسَ.
ومن الأسْجاع قولُ
ابن القِرِّيّة، وقد دُعي لكلام فاحتبَسٍ القولُ عليه فقال: قد طال السَّمر، وسَقَط
القَمر، واشتَدّ المَطر، فما أنتظر. فأجابه فتى من عبد القيس: قد طال الأَرَق،
وسقَط الشَفق، فَلْينطق من نَطَق.
قال أحمد بنُ يوسف الكاتب:
دخلتُ، على المأمون وبيده كتابٌ لعمرو بن مَسْعدة، وهو يُصَعِّد في ذُراه ويقوم
مَرَّة ويَقْعد أخرى، ففعل ذلك مراراً ثم التفت إليَّ فقال: أَحْسَبك
مُفكِّراً فيما رأيتَ؟ قلتُ: نعمٍ، وَقَى الله عزّ وجلّ أميرَ المؤمنين المَكاره،
فقال: ليس بَمكْروه، ولكن قرأتُ كلاما نَظِير خَبرٍ خَبّرني به الرشيدُ، سمعتُه
يقول: إنَّ البَلاغة لتَقاربٌ من المَعنى البَعيد وتَباعدٌ من حَشْو الكلام،
ودَلالة بالقَلِيل على الكثير. فلم أتوَهّمٍ أنّ هذا الكلامَ يَسْتَتِبّ على هذه
الصِّفة حتى قرأتُ هذا الكتابَ، فكان استعطافاً على الجُنْد وهو: كتابي إلى أمير
المؤمنين أَيَّدَه اللّه، ومَن قِبَلي من أجناده وقُوّاده في الطاعة والانقياد على
أفضل ما تكون عليه طاعةُ جًنْد تأخّرت أرزاقُهم واختّلت أحوالُهم.
فأَمر بإعطائهم
ثمانيةَ أشهر.
ووَقع جَعْفر
البرمكيّ إلى كُتَّابه: إن اْستطعتُم أن تكون كُتًبكم تَوْقيعات فافعلوا.
وأمره هارون الرشيد
أن يَعْزل أخاه الفضلَ عن الخاتَم ويأخذَه إليه عَزْلاً لَطيفاً.
فكتب إليه: قد رَأَى
أميرُ المؤمنين أن يَنْقُل خاتَم خِلافته من يمينك إلى شِمالك، فكَتب إليه الفضلُ:
ما انتقلتْ عني نِعمة صارت إليك، ولا خَصَّتك دوني.
ووَقع جعفرٌ في
رُقْعة رجل تنَصل إليه من ذَنب: تقدمت لك طاعة، وظَهرت منك نَصيحة، كانت بينهما
نَبْوة، ولن تَغْلِب سيَئة حسَنَتين.
قال الفضْل بن يحيى
لأبيه: ما لنا نُسْدِي إلى الناس المَعروف فلا نرى من السُّرور في وُجوههم عند
انصرافهم ببِرنا ما نراه في وُجوههم عند آنصرافِهم ببِرَ غيرنا؟ فقال له يَحيى: إن
آمال الناس فينا أطولُ منها في غيرنا، وإنما يُسَر الإنسانُ بما بَلِّغه أملَه.
قيل ليحيى: ما
الكرمُ؟ قال: مَلِك في زِيّ مِسكين؟ قيل: فما الفَرْعنة؟ قال: مِسكين في بَطْش
عِفريت؟ قيل: فما الجودُ؟ قال: عَفْو بعد قُدرة.
أُتي المأمونُ برجل
قد وَجَب عليه الحدُّ، فقال وهو يُضرب: قَتَلتني يا أميرَ المؤمنين؟ قال: الحقَّ قَتَلك،
قال: ارحَمني، قال: لستُ أرْحمَ بك ممن أوجبَ عليك الحدَ.
وسأل المأمون عبد
الله بن طاهر في شيء، فأسرع يفي ذلك؟ فقال له المأمون: فإنّ الله عزّ وجلّ قد قَطع
عُذْر العَجول بما مكَّنه من التثبُّت، وأَوْجب الْحُجَّة على القَلِق بما بَصَّره
من فضْل الأناة. قال: أتأذن لي يا أميرَ المؤمنين أن أكتُبه؟ قال: نعم، فكَتبه.
قال إبراهيمُ بن
المهديّ قال لي المأمونُ: أنت الخليفة الأسْود؟ قلت: يا أميرَ المؤمنين، أنت
مَنَنت عليّ بالعَفو، وقد قال عبدُ بني الْحَسْحاس:
أشعارُ عَبْد بنيِ
الْحَسْحاس قُمْنَ له ... عند الفَخار مَقامَ الأصل والوَرقِ
إن كنتُ عبداَ
فنَفْسي حُرِّة كَرَماً ... أَو أَسْودَ الْجلْد إني أَبْيضُ الخُلُقِ
فقال المأمون: يا
عمُّ، خرّجك الهَزْل إلى الجد، ثم أنشأ يقول:
ليس يُزْرِي السواد
بالرَّجلِ الشَّهم ... ولا بَالفتى الأديب الأريبِ
إن يكُن للسّواد مِنك
نصِيبٌ ... فبَيَاض الأخلاق منك نَصيبي
قال المأمون: أسْتحسن
من قول الحُكماء: الجودُ بَذْل المَوْجود، والبُخل بَطَر بالمَعْبود عزّ وجلّ.
قالت أُمُّ جعفر
زُبيدة بنت جعفر للمأمون حين دَخلت عليه بعد قتْل ابنها: الحمد لله الذي ادّخرك لي
لمَّا أثكَلني وَلَدي، ما ثكِلت ولداً كنتَ لي عوضاً منه. فلما خرجَت قال المأمون
لأحمد بن أبي خالد: ما ظننتُ أن نِساءَ جُبلن على مِثل هذا الصَّبر " .
وقال أبو جَعفر لعمرو
بن عُبيد: أعنِّي بأصحابك يا أبا عُثمان، قال: ارفع عَلَم الحقّ يَتْبعك أهلُه.
آفات البلاغةقال محمد
بن منصور كاتبُ إبراهيم، وكان شاعراً راوياً وطالباً للنحو عَلامة، قال سمعتُ أبا
دُواد " بن جرير الإيادي " ، وجَرى شيء من ذِكْر الخُطَب وتَمْييز
الكلام، فقال: تَلْخيصُ المَعاني رِفق، والاستعانة بالغَريب عَجْز، والتَّشادُق في
غير أهل البادية نَقْص، والنَّظر في عُيون الناس عِيّ، ومَسُ اللِّحية هَلَع،
والخُروج عما بُني عليه الكلام إسْهاب.
قال: وسمعتهُ
يقول: رَأْسُ الخَطابة الطبْع، وعَمُودها الدربة، " وجناحاها رواية الكلام
" ، وحَلْيُها الِإعراب، وبَهاؤها تخيّر اللَفظ، والمَحبَّة مَقرونة بقلّة
الاستكراه. وأنشدني بيتاً في خُطباء إياد:
يَرْمُون بالخُطب
الطِّوال وتارةً ... وَحْي المَلاَحظ خِيفَةَ الرُّقباءِ
وقال ابن الأعرابيّ:
قلتُ للفَضْل: ما الايجاز عندك؟ قال: حَذْف الفُضول، وتَقْريب البَعيد.
وتكلم ابن السمَّاك
يوماً وجارية له تَسمعِ " كلامه " ،، فلما دخل " إليها " قال لها:
كيف سمعتِ كلامي؟ " قالت: ما أَحسنه! لولا أنك تُكْثِر ترْدادَه! قال:
أرِدده حتى يَفهمه، مَن لم يفهمه " ؛ قالت: إلى أن تًفَهِّمه من لم يَفْهمه
يكون " قد " مَلَّه من فَهمِه.
باب الحلم ودفع
السيئة بالحسنةقال الله تبارك وتعالى: " وَلاَ تَسْتَوِى الحسنةُ وَلا السَّيِّئَةُ
ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَة
كأَنَّهُ وَليٌّ حَمِيم. وَمَا يُلَقَاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوَا وَمَا
يُلًقّاهَا إِلا ذو حظٍّ عَظِيم " .
وقال رجل لعمرو بن
العاص: والله لأتفرَّغنَّ لك، قال: هنالك وقعت في الشغل؟ قال: كأنك
تهددني، والله لئن قلت لي كلمة لأقولنِّ لك عشراً، قال: وانت والله لئن قلت لي
عشراً لم اقل لك واحدة وقال رجل لأبي بكر رضي الله عنه: واللهّ لأَسُبَّنك سبًّا
يَدْخل القبرَ معك؟ قال: معك يَدْخل لا مَعي.
وقيل لعمرو بن عُبيد:
لقد وَقع فيك اليومَ أيّوب السِّخْتِياني حتى رَحِمناك، قال: إياه فارحموا. وشَتم
رجلٌ الشَعبَيّ، فقال له: إن كنتَ صادقاً فغَفر اللهّ لي، وإن كنتَ كاذباً فغفر
الله لك.
وشَتم رجلٌ أبا ذَرًّ
فقال: يا هذا، لا تُغْرق في شَتْمنا ودَعْ للصُّلح مَوْضعاً، فإنا لا نًكافيء مَن عمى
الله فينا بأكثر من أن نُطيع الله فيه.
ومَرَّ المَسيح بن
مَرْيم عليه الصلاةُ والسلام بقوم من اليهود، فقالوا له شرًّا، فقال خيراَ؛ فقيل له:
إنّهم يقولون شرًّا وتقول لهم خيراً؟ فقال: كلّ واحد يُنفق مما عنده.
وقال الشاعر:
ثَالَبني عَمْرٌو
وثَالبته ... فأُثِّم المَثْلوب والثَّالبُ
قلتُ له خيراً وقال
الخنى ... كل على صاحبِه كاذِب
وقال آخر.
وذي رَحِمٍ قَلّمْت
أَظفار ضغنه ... بِحِلْميَ عنه حين ليس له حِلْمُ
إذا سُمْتهُ وَصْلَ
القَرابة سامَني ... قطيعَتها تلك السّفاهة والِإُثم
فداويتُه بالحِلْم
والمَرْءُ قادرٌ ... على سَهْمه ما كان في كَفِّه السًهم
" وعن
النبي صلى الله عليه وسلم: ما تجرّع عَبد في الدنيا جرْعةً أحب إلى اللهّ من
جَرْعة غيظ رَدّها بحِلْم، أو جَرْعة مُصيبة ردها بصَبْر " وكتب رجل إلى صديق
له، وبلَغه أنه وَقع فيه:
لئن ساءَني أن
نِلْتِني بمَساءةٍ ... لقد سَرَّني أَنِّي خَطّرْتُ ببالك
وأنشد طاهرُ بن عبد
العزيز:
إذا ما خَليلي أَسا
مَرَّةً ... وقد كان فيما مضى مُجْمِلاَ
ذكرتُ المقدم من
فِعْلهِ ... فلم يفسد الآخرُ الأوّلا
صفة الحلم وما يصلح
له
قيل للأحنف بن قيس:
ممنِ تعلَّمت الحِلْم؟ قال: من قيس بن عاصم المِنْقريّ، رأيتهُ قاعداً بفِناء داره
مُحْتبياَ بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه؟ حتى أُتي برجُل مكتوف ورجُل مقتول، فقيل
له: هذا ابن أخيك قَتل ابنك؟ فواللّه ما حَل حَبْوته، ولا قطَع كلامه، ثم التفت
إلى ابن أخيه فقال له: يا بن أخي، أَثِمت برّبك، ورَمَيت نفسَك بسَهْمك، وقتلتَ
ابن عمك. ثم قال لابن له آخر: قم يا بني فوارِ أخاك، وحُلّ كِتاف ابن عمك، وسُق
إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة، ثم أنشأ يقول:
إِنِّي امرؤ لا شائنٌ
حَسَبي ... دَنَس يهجنه ولا أفْنُ
من مِنْقرٍ في بيت
مكْرُمة ... والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن
خطباء حي يقول
قائلُهم ... بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن
لا يفطنون لعَيْب
جارهمُ ... وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ
وقال رجل للأحنف بن
قَيْس: علِّمني الْحِلم يا أبا بَحْر، قال: هو الذُّل يا بن أَخي، أَفتصبر عليه؟
وقال الأحنف: لستُ حليماً ولكنّي أتحالم.
وقيل " له " : مَن أَحلمُ: أنت أم معاوية؟ قال: تا للّه ما رأيتُ أجهلَ
منكم، إنّ معاويةَ يَقْدِر فيَحْلُم، وأنا أَحلُم ولا أقدِر، فكيف أُقاس عليه أو أُدانيه!
وقال هشامُ بن عبد الملك لخالد بنِ صَفْوان: بم بلغ فيكم الأحنفُ ما بلَغ؟ قال: إن
شئتَ أخبرتُك بخَلَّة، وإن شئت بخَلَّتين، وإن شئت بثلاث قال: فما الخَلَّة؟ قال:
كان أَقوى الناس على نفسه قال: فما الخلتان؟ قال: كان مُوَقّي الشر مُلَقّي الخَيْر؟ قال: فما الثلاث؟ قال: كان لا يجهل
ولا يبْغي ولا يَبْخل.
وقيل لقَيْس بن عاصم:
ما الْحِلم؟ قال: أن تَصِل مَن قطَعك، وتُعْطي مَن حرَمَك، وتعفو عَمَّن ظلَمك.
وقالوا: ما قرن شيء
إلى شيء أَزينُ من حِلْم إلى عِلْم، ومن عَفْو إلى قُدْرة.
وقال لُقمانُ الحكيم:
ثلاثة لا تَعْرفهم إلا في ثلاثة: لا تعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا
عند الحَرْب، ولا تَعْرف أخاك إلا إذا احتجت إليه.
وقال الشاعر:
ليْست الأحلامُ في حي
الرِّضا ... إنما الأحلامُ في حين الغَضَبْ
وفي الحديث. أقرب ما
يكون المَرْء من غَضَب الله إذا غَضِب.
وقال الحسن: المؤْمن
حَليم لا يَجهل وإن جُهل عليه، وتلا قولَ الله عز وجلَّ: " وَإذَا خاطَبَهُمْ
الجاهلونَ قَالُوا سَلاماً " .
وقال معاوية: إني
لأستحي من ربيِّ أن يكون ذَنْبٌ أعظمَ من عفوي، أو جَهْل أكبرَ من حِلْمي، أو
عوْرة لا أُواريها بسَتري.
وقال مُؤَرِّق
العِجْليّ: ما تكلّمت في الغَضب بكلمة ندمتُ عليها في الرِّضا. وقال
يزيدُ بن أبي حَبيب: إنما غَضَبي في نَعْليّ، فإذا سمعت ما أكره أخذتُهما ومَضيت.
وقالوا: إذا غَضِب
الرجلُ فَلْيَسْتَلق على قفاه، وإذا عَيِيَ فَليرَاوح بين رِجْلَيْهِ.
وقيل للأحنف: ما
الحِلْم؟ فقال: قوْل إن لم يكنِ فعل، وصَمْت إن ضَرَّ قوْل.
وقال " أمير
المؤمنين " علِيٌ بن أبي طالب رضي الله عنه: مَن لانَتْ كلمته، وجبت
مَحبَّتهُ.
وقال: حِلْمك على
السًفيه يكثر أنصارك عليه.
وقال الأحنف: مَن لم
يصبر على كلمة سَمِع كلمات.
وقال: رب غَيْظ
تجرعته مخافةَ ما هو أشدُّ منه، وأنشد:
رَضيتُ بِبَعْض
الذُّلِّ خوفَ جميعه ... كذلك بعضُ الشر أهونُ من بَعْض
وأسمع رجلٌ عمر بن
عبد العَزيز بعضَ ما يَكْره، فقال؛ لا عليك، إنّما أردتَ أن يَسْتِفزَّني الشيطانُ
بعزة السلطان، فأنال منك اليوم ما تنالُه مني غداً، انصرفْ إذا شئت.
وقال الشاعرُ في هذا
المعنى:
لَنْ يًدْرِك المجدَ
أقوامٌ وإن كَرُموِا ... حتى يَذِلُوا وإن عَزُوا لأقوام
ويُشْتَموا فترَى
الألوانَ كَاسفةَ ... لا ذلَ عَجْزٍ ولكنْ ذُلِّ أحْلام
ولآخر:
إذا قِيلت العوراءُ
أغضى كأنّه ... ذَلِيل بلا ذُلِّ ولو شاء لانتصرْ
وأحسن بيْت في
الحِلْم قولُ كَعْب بنِ زُهير:
إذا أنت لم تُعْرِض
عن الجهل والخَنَى ... أصبتَ حَليماً أو أصابك جاهلُ
وقال الأحنفُ آفةُ
الحِلْم الذّلّ.
وقال؛ لا حِلْم لمَن
لا سَفِيه له.
وقال: ما قلَّ سُفهاء
قَوْم إلا ذَلْوا. وأنشد:
لابدَّ للسًّودد من
رِماح ... ومِن رِجالٍ مُصَّلَتي السِّلاح
يُدَافعون دونه
بالرَّاح ... ومِنْ سَفيهٍ دائم النباح
وقال النَابغة
الجعديّ:
ولا خير في حِلْمٍ
إذا لم تَكُنْ له ... بَوادرُ تَحُمِي صَفْوَه أن يُكَدَرَا
" ولا خَير
في جَهْل إذا لم يَكُن له ... حَلِيم إذا ما أَوْرد الأمر أصْدرا "
ولمّا أنشدَ هذين
البيتن للنبي صلى الله عليه وسلم، قال: لا يَفْضُض اللهّ فاك، " قال " : فعاش مائة وثلاثين سنةً لم تَنْغَضْ له ثَنيَّة.
وقالوا: لا يَظهر
الحِلْم إلاِّ مع الانتصار، كما لا يَظهر العَفو إلاّ مع الاقْتدار.
وقال الأصمعيّ: سمعتُ
أعرابيَّاً يقول: كَان سِنانُ بن أبي حارثة أحلمَ من فَرْخ الطائر؛ قلت: وما حِلْم
فرخ الطائر؟ قال: إنّه يخرج من بَيْضة في رأس نِيق ولا يتحوَل حتى يتوفّر ريشه،
ويَقْوى على الطيران.
" وللأشْنَنْدانيّ:
وفي اللّين ضَعْفٌ
والشَّراسة هَيْبةٌ ... ومَن لا يُهَب يُحْمَل على مَرْكب وَعْرِ
وللفقر خيرٌ من غِنى
في دَنَاءَةً ... ولَلْمَوتُ خيرٌ من حياة على صُغر
وما كُلَّ حين يَنْفع
الْحِلْمُ أَهْلَه ... ولا كُلَّ حالٍ يَقْبُح الْجَهلُ بالصَّبر
وما بي عَلى مَن لان
لي مِنْ فَظَاظَةٍ ... ولكنّني فَظّ أَبيٌّ على القَسرْ
وقَال آخر في مَدح
اَلحِلْم:
إني أرى الحِلْم
مَحْمُوداً عواقبُه ... والجَهْلُ أفنَى من الأقوام أقوامَا
ولسَابق:
ألمِ تَرَ أنّ
الحِلْم زَيْنٌ مُسَوِّدٌ ... لصاحبه والجَهْلَ لِلْمرء شائِنُ
فكن دافناً للجهل
بالحِلْم تَسْتَرح ... من الجهل إنّ الحِلم للجَهْل دافِنُ
ولغيره:
ألاَ إنّ حِلم
المَرْء أكبر نِسْبةٍ ... يُسامى بها عند الفخار كريمُ
فيا ربِّ هَبْ لي منك
حَلماً فإنني ... أرى الحِلْم لم يندم عليه حليم
وقال بعضً الحُكماء:
ما حَلا عِنْدي أفضل من غَيْظ أتجرّعه.
وقال بعضهم:
وفي الحِلم رَدْعٌ
للسَّفِيه عن الأذى ... وفي الخُرْق إغراءٌ فَلا تَكُ أَخْرَقَا
فَتَنْدَمَ إذ لا
تَنْفَعَنْك ندامةٌ ... كما ندِم المَغْبُونُ لَمَا تَفَرَّقا
وقال علي عليه
السلام: أوّل عِوَض الحَليم عن حِلْمه أن الناسَ أنصارُه على الجاهل.
سُئل كِسْرى أنو
شرِوان: ما قَدْر الحِلْم؟ فقال: وكيف تَعْرِفُ قَدْر ما لم يَرَ كَمَالَه أحد.
وقال مُعاوية لخالد بن
المُعَمَّر: كيف حُبُّك لعليّ بن أبي طالب عليه السلامُ؟ قال: أُحِبّه لثلاثِ
خِصال: على حِلمه إذا غَضِب، وعلى صِدقة إذا قال، وعلى وَفائه إذا وَعد.
وكان يُقال: ثلاثٌ
مَن كُنَّ فيه استَكْمل الإيمان: من إذا غَضِب لم يُخْرِجْه غَضَبُه عن الحقّ،
ومَن إذا رَضيَ لَم يُخرِجه رِضاهُ إلى الظلم والباطل، ومن إذا قَدَر لم يَتَناول
ما ليس له.
وقال عمرُ بن الخطّاب
رضي الله عنه: إذا سَمعت الكلمةَ تُؤْذِيك فطَأْطِىء لها حتى تَتخطاك.
وقال الحسنُ: إنما
يُعْرف الحِلم عند الغَضَب. فإذا لم تَغْضب لم تَكن حِليماً وقال الشاعر:
وليس يَتِمًّ الحِلْم
لِلمَرْء راضِياً ... إذا هو عند السُّخط لم يَتَحِلَّم
كما لا يَتِمُّ
الجُود للمرء مُوسِراً ... إذا هو عند العسر لم يَتَجَشَم
وقال بعضُ الحكماء:
إنّ أفضلَ وادٍ تُرى به الحِلْمُ، فإذا لم تكن حَلِيماً فتحلّم، فإذا لم تكن
عَلِيماً فتعلِّم، فقلَّما تشبَّه رجلٌ بقَوْم إلا كان منهم.
وقال بعضُهم: الحِلم
عُدَّة على السّفيه، لأنك لا تُقابل سفيهاً بالإعراض عنه والاستخفاف بفِعْله إلا
أَذْللتَه.
ويقال: ليس الحَلِيم
مَن ظُلِم فَحَلُم حتى إذا قَدَر انْتَقم، ولكنَّ الحَلِيم من ظُلِم فَحَلُم ثمّ
قَدَر فَعَفا.
وللأحنف أو غيره:
ولربما ضحِك الحَليمُ
من الأذىَ ... وفؤادهُ من حَرِّه يَتأَوَّهُ
ولرًبَّما شَكَلَ
الحليمُ لسانَهَ ... حَذَرَ الجواب وَإنّه لمُفَوَّه
وقيل: ما استَبَ
اثنان إلا غَلب ألأمُهما.
وقال الأحنف: وجدتُ
الحلم أنصرَ لي من اِلرِّجال.
وقال بعضهم: إيّاك
وعِزَّةَ الغَضب فإنها تصَيرك إلى ذلّ الاعتذار.
وقيل: مَن حَلُم ساد،
ومَن تَفهَّم ازداد.
وقال الأحنف: ما
نازعني أحد قط إلا أخذتُ أمري بإحدى ثلاث: إن كان فوقي عرفتُ قدرَه، وإن كان دُوني
أكرمتُ نفسي عنه، وإن كانَ مثلي تفَضَّلت عليه. ولقد أَحْسن الذي أخذ هذا المعنى
فَنَظَمه فقال:
إذا كان دُوني مَنْ
بُليت بجَهْله ... أَبَيْتُ لِنَفْسي أن تُقَارع بالجَهْل
وإن كان مثلي ثم جاء
بِزَلَّة ... هَوِيتُ لصَفْحي أن يُضاف إلى العَدْل
وان كنت أدنى منه
قدراً ومَنْصِباً ... عَرفت له حَقَّ التقدم والفضل
وفي مِثْله قال بعضُ
الشعراء:
سأُلزِم نَفسي
الصَفحَ عن كل مُذْنبٍ ... وإن كَثُرت منه إليَّ الجرائمُ
ولا الناسُ إلا واحدٌ
من ثلاثةٍ ... شريفٌ ومشروفٌ ومثلٌ مُقاوم
فأمًا الذي فَوقي
فأَعْرِف فضلَه ... وأَتبع فيه الحقَّ والحقُّ قائم
وأمّا الذي دوني فإن
قال صُنت عن ... إجابته نَفْسي وإن لامَ لائِم
وأمّا الذين مِثْلي
فإنْ زلَّ أو هَفَا ... تفضلت إنّ الفَضل للحُرّ لازم
ولأصْرم بن قَيْس،
ويُقال إنها لعليّ عليه السلامُ:
أَصَمُّ عن الكَلِم
المُحْفِظاتِ ... وأَحْلُمُ والحِلْمُ بي أَشْبَهُ
وإني لأَتْرُك جُلّ
الكلام ... لئلاّ أُجابَ بما أَكْرَه
إذا ما اجتَررْتُ
سِفاه السّفيه ... عليّ فإنِّي أنا الأسفَه
فلا تَغْتِرر برُواء
الرِّجال ... وما زَخْرَفوا لك أو مَوَّهوا
فكم من فَتَى يُعْجِب
الناظرين ... له أَلْسُنٌ وله أَوْجُه
ينام إذا حَضَر
المَكْرُمَاتِ ... وعند الدَّناءة يستنبه
وللحَسن بن رجاء:
أُحِبُّ مكارِم
الأخلاق جَهْدِي ... وأَكْره أن أَعيب وأن أُعابَا
وأَصْفَح عن سِباب
النَّاس حِلْماً ... وشرُّ الناس مَن يَهْوَى السِّبابا
ومَن هَاب الرِّجالَ
تَهَيَّبُوه ... ومَن حَقَر الرِّجالَ فلن يُهَابا
ومَن قَضَت الرجالُ
له حُقوقاً ... ولم يَقْض الحُقوِق فما أصابَا
وقال محمد بن عليّ
رضوان الله عنهما: مَن حَلُمَ وَقَى عِرْضه، ومَن جادت كفُّه حَسُن ثناؤه، ومَن
أَصْلح مالَه استَغْنى، ومَن احتمل المَكْروه كثرت مَحاسنه، ومَن صَبر حُمِد
أمرُه، ومَن كظَم غيظَه فشا إحسانُه، ومَن عَفا عن الذُّنوب كثُرت أياديه، ومَن
اتَّقى الله كفاه ما أهمَّه.
وسأل أميرُ المؤمنين
عليٌّ عليه السلامُ كبيراً من كُبراء الفُرْس: أيُّ شيء لمُلوككمٍ كان أحمدَ
عندكم؟ قال: كان لأرْدَشير فضل السَّبْق في المملكة، غير أنّ أحمدَهم سيرة أنو
شروان. قال: فأيّ أخلاقِه كان أغلبَ عليه؟ قال: الحلم والأناة. قال: هما توأمان يُنتجهما عُلوّ الهمَّة.
ولمحمود بن الحسن
الوَرَاق:
إنّي وَهَبْت لظاِلمي
ظُلْمِيِ ... وغفَرْتُ ذاك له على عِلم
ورأيتُه أسدَى إليَّ
يداَ ... لما أبان بجَهْله حِلْمي
رَجَعَتْ إساءتُه
عليه وإح ... ساني إليَّ مُضاعَف الغُنْم
وغَدْوتُ ذا أَجْرٍ
ومَحْمدةٍ ... وغداَ بكَسْب الظلم والإثمْ
وكأنما الإحسانُ كان
له ... وأنا المُسيء إليه في الحُكْم
ما زال يَظْلمني
وأَرْحَمه ... حتى رَثيتُ له من الظُّلم
ولمحمد بن زياد يَصِف
حُلماء:
نَخالُهمُ في الناس
صُمَّاً عن الْخَنَىِ ... وخُرْساً عن الفَحْشاء عند التَهاجُرِ
ومَرضىَ إذا لُوقُوا
حياءً وعِفّةَ ... وعند الحِفَاظ كاللُّيوث الخَوادِر
كأن لهم وَصْماَ
يخافون عارَه ... وما ذاك إلاّ لاتّقاء المَعاير
وله أيضاً:
وأَرْفع نفسي عنِ
نًفوس وربما ... تَذلَلتُ في إكرامها لنُفوس
وإنْ رامني يوماَ
خَسيسٌ بجَهْله ... أَبى اللهُ أنْ أَرْضى بعِرْضِ خَسيس
قال وهب: مَكتوب في
الإنجيل: لا ينْبغي لإمام أن يكون جائراَ ومنه يُلْتَمس العَدْل، ولا سَفيهاً ومنه
يُقْتبس الحلْم.
ولبعضهم:
وإذا استشارك مَنْ
تَوَدّ فُقل له ... أَطِع الحَلِيم إذا الحلِيمُ نَهَاكَا
واعلم بأنَك لن
تَسُود ولن ترَى ... سُبل الرًشادِ إذا أَطعتَ هَواكا
وقال آخر:
وكن مَعْدِناً للحِلم
واصفَح عن الأذى ... فإنك راءِ ما عملتَ وسامِعُ
وأَحْبِب إذا أجبتَ
حُثا مُقارِباً ... فإنك لا تَدْري متى أَنْتَ نازع
وأَبْغِض إذا أبغضتَ
غيرَ مُباين ... فإنَك لا تَدْري متى أنت راجِع، "
باب السوددقيل لعَدِي
بنِ حاتم: ما السودد؟ قال: السيد الأحمق في مالِه، الذَليل في عِرْضه، المُطَّرِح
لحِقده.
وقيل لقَيْس بن عاصم:
بمَ سَوَدك قومُك؟ قال: بكَفِّ الأذى، وبَذْل النًدى، ونَصْر المَوْلى.
وقال رجلٌ للأحنف، بم
سوَدك قومُك وما أنت بأشرفهم بَيتاً، ولا أُصْبحهم وَجهاً، ولا أحسنهم خُلُقاً؟
قال: بخِلاف ما فيك با بنَ أخي، قال: وما ذاك؟ قال: بتركي من أَمْرك ما لا
يَعْنِيني كما عناك من أَمْري ما لا يَعْنِيك.
وقال عمرُ بن الخطَاب
رضي الله عنه لرجل: مَن سيِّد قَوْمك؟ قال: أنا؛ قال؛ كذبت لو كنتَ كذلك لم
تَقُلْه.
وقال ابن الكَلْبي:
قَدِم أوسُ بنُ حارثة بن لأم الطائي وحاتمِ بنُ عبد الله الطّائي على النُّعمان بن
المُنذر، فقال لإياس بن قَبِيصة الطائيّ: أيهما أفْضل؟ قال: أبيتَ اللعنَ أيها
الملك. إنِّي من أحدهما، ولكنْ سَلهما عن أَنْفسهما فإنهما يُخبرانك. فدخل عليه
أوسٌ، فقال أنت أفضلُ أم حاتم؟ فقال: أبيتَ اللعن، إنّ أدنى ولد حاتم أفضلُ مني، ولو كنتُ أنا وولدي ومالي لحاتم
لأنْهبَنَا في غَداة واحدة. ثم دخل عليه حاتم، فقال له: أنت أفضلُ أم أَوس؟ فقال:
أبيت اللعن، إنّ أدنى ولد لأوّس أفضلُ مني. فقال النعمان: هذا واللهّ السُّودد،
وأمر لكل واحد منهما بمائة من الإبل.
وسأل عبدُ الملك بن
مَروانَ روح بن زِنْباع عن مالك بن مِسْمع، فقال: لو غَضِب مالكٌ لغَضِب معه مائةُ
ألف سيف لا يسأله واحدٌ منهم: لم غضبتَ؟ فقال عبدُ الملك: هذا واللّه السودد.
أبو حاتم عن العُتبي
قال: أهدى ملكُ اليمن سبعَ جزائر إلى مكة، وأوصى أن يَنحرها أعزُ قرشيّ بها، فأتت
وأبو سفيان عَروس بهند، فقالت له هِنْد: يا هذا، لا تَشغلك النّساء عن هذه
الأكرومة التي لعلّك أن تُسْبق إليها؛ فقال لها: يا هذه، ذرِي زَوْجك وما اختار
لنفسه، فواللّه لا نحرها أحدٌ إلا نحرتُه. فكانت في عُقُلها حتى خرَج إليها بعد السابع
فنَحرها.
ونظر رجلٌ إلى
معاوية، وهو غلام صغير، فقال: إني أظنّ أنّ هذا الغلام سيسود قومَه، فسمعته أمه
هِنْد فقالت: ثكِلتُه إذاً إن لم يَسُد غيرَ قومه.
وقال الهيثم بن
عَدِيِّ: كانوا يقولون: إذا كان الصبيّ سابل الغُرّة، طويل الغُرْلة، مُلتاث
الإزْرَة، فذاك الذي لا يُشكّ في سُودده.
ودخل ضَمْرة بن ضمْرة
على النعمان بن المُنْذر، وكانت به دَمامة شديدة، فالتفت النعمانُ إلى أصحابه،
وقال: تَسمع بالمُعيديّ خير من أن ترإه.
فقال: أيها الملك،
إِنما المرء بأصغريه قلبِه ولسانه، فإن قال قال ببَيان، وإن قاتل قاتل بجَنَان
قال: صدقت، وبحَقِّ سوّدك قومُك.
وقيل لعَرابة
الأوسيّ: بم سوَّدكَ قومُك؟ قال: بأربع خلال: أَنْخَدع لهم في مالي، وأذِلّ لهم في
عِرْضي، ولا أحْقِر صغيرَهم، ولا أحسُد كبيرَهم.
وفي عَرابة الأوْسيّ
يقول الشَّمَّاخ، وهو " ابن " ضرِار:
رأيتُ عَرابة الأوْسي
يَسمو ... إلى الخيْرَاتِ مُنقطع القَرينِ
إذا ما رايةٌ رُفعت
لمجْدٍ ... تلقاها عرَابة باليمين
وقالوا: يَسود الرجل
بأربعة أشياء: بالعَقل والأدب والعِلم والمال.
وكان سلم بنُ نوفل
سيِّدَ بني كِنانة فوَثب رجلٌ على ابنه وابن أخيه، فجَرَحهما، فأُتي به، فقال
" له " : ما أمَنك من انتقامي؟ قال: فلِم سَوَّدْناك إذاً، إلا أن تكْظم
الغَيظ، وتَحْلُم عن الجاهل، وتحتمل المكروه، فخلّى سبيلَه، فقال فيه الشاعر:
يُسوَّد أقوام وليسوا
بسادةٍ ... بل السيّد الصِّنديد سَلم بنُ نوفل
وقال ابن الكلْبي:
قال لي خالدٌ العَنْبري: ما تعُدُّون السُّودد؟ قلت: أمّا في الجاهليَّة
فالرِّياسة، وأما في الإسلام فالوِلاية، وخَيْر من ذا وذاك التقوَى؛ قال: صدقت؛
كان أبي يقول: لم يُدْرِك الأوِّلُ الشرفَ إلا بالعقل، ولم يُدْرِك الآخرُ إلاّ
بما أَدْرَك به الأوّل قلتً له: صدق أبوك، إنما ساد الأحنف بن قيْس بحلْمه، ومالك
بن مِسْمَع بحُبّ العشيرة له، وقتُيبة بن مُسلم بدَهائه، وساد المُهَلّب بهذه
الْخِلال كلّها. الأصمعي قال: قيل لأعرابيّ يقال له مُنْتَجع بن نَبْهان: ما
السَّميدع؟ قال: السيّد المُوَطّأ الأكناف.
وكان عمر بن الخطاب
" رضي الله عنه " يُفْرش له فِراش في بَيْته في وَقْت خلافته، فلا يجلس
عليه أحد إلا العبَّاس بن عبد المطّلب، وأبو سُفيان بن حَرْب. وقال النبي صلى الله
عليه وسلم لأبي سُفيان: كل الصيد في جَوْف الفَرأ. والفرأ: الْحِمار الوَحْشي، وهو
مَهموز، وجَمعه فِراء، ومعناه: أنه في الناس مثل الحمار الوحشي في الوحش.
ودخل عمرو بنُ العاص
مكة، فرَأى قوماً مِن قُريش قد تحلّقوا حَلقة، فلما رَأوه رَموا بأبصارهم إليه،
فعَدل إليهم، فقال: أَحْسبَكم كنتم في شيء من ذِكْرِي؟ قالوا: أجل، كنا نُمَاثِل
بينكَ وبن أخيكَ هِشام، أيّكما أفضل. فقال عمرو: إنّ لهشام عليَّ أربعةً: أمه ابنة هِشام بن المُغيرة،
وأُمي من قد عَرفتم؟ وكان أحبَّ الناس إلى أبيه منِّي، وقد عرفتم مَعْرفة الوالد؛ وأَسْلَم
قبلي، واستُشْهِد وبقيتُ.
قال قيسُ بنِ عاصم
لبَنِيه لما حضرته الوفاة: " يا بَنيَّ " ، احفَظوا عنّي فلا أحدَ أنصح
لكم منّي، أمَّا إذا أنامِتُّ فسَوِّدوا كِبَارَكم ولا تُسوِّدوا صغارَكم، فيَحقر
الناسُ كِبارَكم.
وقال الأحنفُ بن قيس:
السُّودد مع السَّواد.
وهذا المعنى يحتمل
وجهين من التفسير: أحدهما، أن يكون أراد بالسواد سوادَ الشعر، يقول: من لم
يَسُد مع الحَداثة لم يَسُد مع الشيخوخة. والوجه الآخر أن يكون أَراد بالسَّواد
سوادَ الناس ودَهْماءهم، يقول: من لم يَطِرْ له اسمٌ على ألسنة العامّة بالسُّودد
لم يَنْفعه ما طار له في الخاصة.
وقال أَبانُ بن
مَسْلمة:
ولَسنا كقَوْم
مُحُدَثين سِيادةً ... يُرَى ما لها ولا تُحَسّ فَعالُها
مَساعِيهمُ
مَقَصورَةٌ في بُيوتهم ... ومَسْعاتنا ذُبيانُ طُرّاً عِيالُها
الهيْثم بن عَدِيّ
قال: لما اْنفرد سًفيان بن عُيينة ومات نُظراؤه من العُلماء تَكاثر الناسُ عليه،
فأنشأ يقول:
خَلَت الدِّيارُ
فَسُدت غَيْر َمُسَوَّد ... ومِنَ الشَّقاء تَفَردي بالسُّوددِ
سودد الرجل بنفسهقال
النبي صلى الله عليه وسلم: مَن أسْرع به عَمَلُه لم يُبْطِىء به حَسَبُه، ومَن
أَبطأ به عملُه لم يسرع به حسبه وقال قس بن ساعدة: من فاته حسب نفسه لم ينفعه حسب
أبيه.
وقالوا: إنما الناس
بأبدانهم.
وقال الشاعر:
نفس عصام سودت عصاماً
... وعلمته الكر والإقداما
وقال عبد الله بن
معاوية:
لسنا وإن كرمت
أوائلنا ... يوماً على الأحساب نتكل
نبني كما كانت
أوائلنا ... تبني ونفعل مثل ما فعلوا
وقال قس بن ساعدة:
لأقضين بين العرب بقضية لم يقض بها أحدٌ قبلي، ولا يردها أحدٌ بعدي، أيما رجل رمى
رجلاً بملامة دونها كرم فلا لوم عليه، وأيما رجلٌ أدعى كرماً دونه لؤم فلا كرم له.
وقالت عائشة رضي الله
عنها: كل كرم دونه لؤم فاللؤم أولى به، وكل لوم دونه كرم فالكرم أولى به.
تريد أن أولى الأمور
بالإنسان خصال نفسه، فإن كان كريماً وآباؤه لئام لم يضره ذلك، وإن كان لئيماً
وآباؤه كرامٌ لم ينفعه ذلك.
وإني وإن كنت ابن سيد
عامرٍ ... وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامرٌ عن
وراثةٍ ... أبى الله أن أسمو بجدٍ ولا أب
ولكنني أحمي حماها
وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكبي
وتكلم رجل عند عبد
الملك بن مروان بكلام ذهب فيه كل مذهب، فأعجب عبد الملك ما سمع من كلامه، فقل له:
ابن من أنت؟ قال: أنا ابن نفسي يا أمير المؤمنين التي بها توصلت إليك، قال: صدقت.
فأخذ الشاعر هذا
المعنى، فقال:
ما لي عقلي وهمتي
حسبي ... ما أنا مولى ولا أنا عربي
إذا انتمى منتم إلى
أحد فإنني منتمٍ إلى أدبي، وقال بعض المحدثين:
رأيت رجال بني دالقٍ
... ملوكاً بفضل تجاراتهم
وبربرنا عند حيطانهم
... يخوضون في ذكر أمواتهم
وما الناس إلا
بأبدانهم ... وأحسابهم في حر اماتهم
المروءةقال النبي صلى
الله عليه وسلم: لا دين إلا بمروءة.
وقال ربيعة الرأي:
المروءة ست خصال: ثلاثة في الحضر وثلاثة في السفر، فأما التي في السفر: فبذل
الزاد، وحسن الخلق، ومداعبه الرفيق، وأما التي في الحضر: فتلاوة القرآن، ولزوم المساجد، وعفاف الفرج.
وقال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: المروءة مروءتان: مروءة ظاهرة، ومروءة باطنة، فالمروءة الظاهرة
الرياش، والمروءة الباطنة العفاف.
وقدم وفد على معاوية
فقال لهم: ما تعدون المروءة؟ قالوا: العفاف وإصلاح المعيشة، قال اسمع يا يزيد.
وقيل لأبي هريرة: ما
المروءة؟ قال: تقوى تالله وتفقد الضيعة.
وقيل للأحنف: ما
المروءة؟ قال: العفة والحرفة.
وقال عبد الله بن عمر
رضي الله عنهما: إنا معشر قريش لا نعد الحلم والجود سودداً، ونعمد العفاف وإصلاح
المال مروءة.
قال الأحنف: لا مروءة
لكذوب، ولا سودد لبخيل، ولا ورع لسيء الخلق وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
تجاوزوا لذوي المروآت عن عثراتهم، فوالذي نفسي بيده إن أحدهم ليعثر وإن يده لبيد
الله.
وقال العتبي عن أبيه:
لا تتم مروءة الرجل إلا بخمس: أن يكون عالماً، صادقاً، عاقلاً، ذا بيان، مستغيناً
عن الناس.
وقال الشاعر:
وما المرء إلا حيث
يجعل نفسه ... ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل
وقيل لعبد الملك بن
مروان: أكان مصعب بن الزبير يشرب الطلاء؟ فقال: لو علم مصعب أن الماء يفسد مروءته
ما شر به.
وقالوا: من أخذ
من الديك ثلاثة أشياء، ومن الغراب ثلاثة أشياء، تم بها أدبه ومُروءته: مَن أخذ من
الدِّيك سَخاءه وشَجاعته وغَيْرته، ومن الغُراب بُكوره لطَلَب الرِّزق وشدَّة
حَذَره وسَتر سِفاده.
طبقات الرجالقال خالدُ
بنُ صَفْوان: الناسُ ثلاثُ طبقات: طَبقة عُلماء، وطَبقة خُطباء، وطبقة أدباء
ورِجْرِجة بين ذلك يغْلُون الأسعار، ويُضَيِّقون الأسواق، ويُكَدِّرون المِياه.
وقال الحسنِ:
الرِّجال ثلاثة: فَرَجل كالغِذاء لا يُسْتغنى عنه، ورَجُل كالدَّواء لا يحتاج
إِليه إلا حِيناَ بعد حِين، ورَجل كالدَّاء لا يحتاج إليه أبداً.
وقال مُطَرِّف بن عبد
الله بن الشِّخِّير: الناسُ ثَلاثة: ناسٌ ونَسْناس وناس غُمِسوا في ماء الناس.
وقال الخليل بن أحمد:
الرجالُ أربعة: فَرَجل يَدْرِيَ ويَدْري أنه يَدْري، فذلك عالم فَسَلُوه، ورجُل
يَدْري ولا يَدْري أنه يَدْري فذلك النَّاسي فذَكِّروه، ورجُل لا يَدْري ويَدْري
أنه لا يَدْري، فذلك الجاهلُ فعلِّموه، ورجُل لا يَدْري ولا يَدري أنه لا يَدري،
فذلك الأحمقُ فارفضوه.
وقال الشاعر:
أَليس من البَلْوى
بأنّك جاهل ... وأنك لا تَدْري بأنك لا تَدْري
إذا كنت لا تَدْري
ولستَ كمن درَى ... فكيف إذاً تَدْرِي بأنك لا تَدْري
ولآخر:
وما الدَّاء إلا أن
تُعلِّم جاهلاً ... ويَزْعُم جهلاً أنه منك أَعْلَمُ
وقال علّيّ بن أبي
طالب رضي الله عنه: الناس ثلاثة: عالمٌ ربَّاني، ومُتعلِّم على سَبِيل نَجَاة،
ورَعَاع هَمَجٌ يميلون مع كل ريح.
وقالت الحُكماء:
الِإخوانُ ثَلاثة: فأخٌ يُخْلِص لك ودَّه، ويَبْذُلُ لك رِفْدَه، ويَستَفْرغ في
مُهمِّك جُهْده؟ وأَخٌ ذو نِيّة يَقْتصر بك على حُسن نيَّته دون رِفْده ومَعُونته،
وأخٌ يتَملق لك بلِسانِه ويَتَشاغَل عنك بشانه، ويُوسعكَ مِن كَذِبه وأيمانه.
وقال الشعبيّ. مَرَّ
رجُل بعبد الله بن مَسعُود، فقال لأصحابه: هذا لا يَعْلم، ولا يَعْلم أنه لا
يَعْلم، ولا يَتعلّمِ ممن يَعْلم.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: كُنْ عالماَ أو مُتَعلماً ولا تكُن الثالثةَ فتَهْلِك.
الغوغاءالغوغاء:
الدَّبا، وهي صغار الجَراد، وشُبِّه بها سَوَادُ الناس.
وذُكر الغَوْغاء عند
عبد الله بن عباس فقال: ما اجتَمعوا قطُّ إلا ضَرُّوا، ولا افترقوا إلا نفَعوا
وقيل له: قد عَلِمْنا ما ضَرَّ اجتماعهم، فما نَفع افتراقهم؟ قال: يَذْهب الحجَّام
إلى دكانه، والحداد إلى أكياره، وكل صانع إلى صِنَاعته.
ونظر عمرُ بن الخطّاب
رضي الله عنه إلى قَوْم يَتبعون رجلاً أخذ في رِيبَة، فقال: لا مَرْحباً بهذه
الوُجوه التي لا تُرَى إلا في كلِّ شرًّ.
وقال حبيب بن أوس
الطائي:
إنْ شِئْتَ أن
يَسْوَدَّ ظَنُّك كُلُّهُ ... فأَجِلْهُ في هذا السّوَادِ الأعْظم
وقال دِعْبل:
ما أكثر الناسَ لا
بَلْ ما أَقلَّهم ... الله يَعْلم أَنِّي لم أَقُلْ فَنَدَا
إنِّي لأفْتح عَيْني
حِينَ أَفْتَحَها ... على كَثيرٍ ولكنْ لا أرَى أحدا
الثقلاءقالت عائشةُ
أم المؤمنين رضي الله عنها: نزلتْ آيةٌ في الثُّقلاء: " فإذا طَعمتُمْ
فِانْتَشرًوا ولا مًسْتَأْنِسِين لِحَديث " .
وقال الشعبي: مَن
فاتَتْه رَكْعتا الفَجْر فَلْيلعن الثقلاء.
وقيل لجالينوس: بِمَ
صار الرجلُ الثقيلُ أثقلَ من الْحِمْل الثقيل؟ فقال: لأنّ الرجلَ الثقيل إنما
ثِقَلُه على القَلْب دون الجَوارح. والحِمْل الثَّقيل يَسْتَعِين فيه المرء
بالجَوَارح.
وقال سَهْل بن هارون:
من ثَقل عليك بنَفْسه، وغمك بسُؤاله، فأَعِرْه أُذناً صَمَّاء، وعيناً عمياء.
وكان أبو هُرَيرة
إِذا استثَقل رجلاً، قال: اللهم اغْفِر له وأرِحْنا منه.
وكان الأعمشُ إِذا
حَضر مَجلسه ثقيلٌ يقول:
فما الفِيلُ
تَحْمِلُه مَيِّتاً ... بأثقلَ من بَعْض جُلاسِنَا
وقال أبو حَنِيفة
للأعمش، وأتاه عائِداً في مرضه: لَوْلا أن أثْقُل عليك أبا محمَد لعُدْتك واللّهِ
في كلّ يوم مَرّتين، فقال له الأعمش: والله يا بن أخي، أنتَ ثَقِيل عليّ وأنتَ في
بَيْتك، فكيف لو جئتني في كلّ يوم مَرَّتين.
وذكر رجلٌ ثقيلاً كان
يَجْلِس إليه، فقال: واللّه إِني لُأبْغِضُ شِقِّي الذي يليه إذا جَلس إلِيّ.
ونقَشَ رجل على
خاتَمه: أَبْرَمْتَ فَقُم. فكان إذا جَلس إليه ثقيلٌ ناوَله إِيَّاه وقال: اقرأ ما
على هذا الخاتم.
وكان حَمّاد بن سَلمة
إذا رأى من يَستَثقله قال: " رَبَّنَا اكشفْ عَنَا العَذَابَ إِنَّا
مُؤْمِنونَ " .
وقال بشّار
العُقَيليّ في ثَقِيل يُكنى أبا عِمْران:
رُبمَّا يَثْقُل
الجَلِيسُ وإنْ كا ... نَ حنيفاً في كِفّة الميزانِ
ولقد قلتُ إذْ أطل
عَلَى القَوْ ... م ثَقِيل يُرْبي عَلَى ثَهْلان
كيفَ لا تَحْمِل
الأمانَةَ أُرْض ... حَمَلَتْ فوقَها أبا عُمْران
ولآخر:
أنتَ يا هذا ثَقِيلُ
... وثقيل وثقيل
أنتَ في المَنْظَر
إنْسا ... ن وفي الميزان فيل
وقال الحَسَن بن هانئ
في رجل ثَقِيل:
ثَقِيل يُطَالِعُنا
من أمَمْ ... إذا سره رغم أنفي ألم
أقوله له إذا بَدَا
لا بَدَا ... ولا حملته إلينا قدم
فَقدتُ خيالَك لا مِن
عَمىٍ ... وصوت كلامك لا من صمم
وله فيه:
وما أظنَ القِلاَصَ
مُنْجِيتي ... منك ولا الفلك أيها الرجل
ولو رَكِبْت البرَاق
أدْرَكني ... منك على نَأي دَارِك الثَقَل
هل لك فيما ملكته
هِبةً ... تَاخذه جُمْلة وتَرْتَحِل
وله فيه:
يا مَن على الجُلاس كالفَتْق
... كلامُك التًخْديش في الحَلْق
هل لك في مالي وما قد
حَوَت ... يَدَاي من جِلٍّ ومن دق
تَأخُذه منّي كذا
فِدْيةً ... واذْهب ففي البُعد وفي السحْق
وله فيه:
ألا يا جبل المَقْت
ال ... ذي أرسىَ فما يَبْرحْ
لقد أكثرتُ تَفكِيري
... فما أدْرِي لما تَصْلُحْ
فما تصلح أنْ
تُهْجَىَ ... ولا تَصلحُ أن تُمْدَح
أَهْدى رجلٌ من
الثُقلاء إلى رجل من الظُرفاء جَمَلاَ، ثم نزَل عليه حتى أبْرمه، فقال فيه:
يا مبرماً أهدى
جَمَلْ ... خُذْ وانصرف ألفيْ جَمَل
قالَ وما أوْقارُها
... قلتُ زَبِيبٌ وعَسَلْ
قال ومَن يَقُودها
... قلتُ له ألْفَا رَجُل
قال ومَن يَسُوقها
... قلتُ له ألْفَا بَطَل
قال وما لِباسُهم ...
قلتُ حُلِيً وحُلَل
قال وما سِلاحُهم ...
قلتُ سُيوف وأَسَل
قال عَبِيد لي إذن
... قلتُ نَعم ثم خَوَل
قال بهذا فاكتُبوا
... إذن عليكم لي سِجل
قلت له ألْفي سِجل
... فاضمَنْ لنا أن تَرْتَحل
قال وقد أضجرتُكم ...
قلتُ أَجَل ثم أَجل
قال وقد أبرَمتُكم
... قلتُ له الأمر جَلَل
قال وقد أثقلتكم ...
قلتُ له فوق الثَقل
قال فإني راحلٌ ...
قلتُ العَجَلِ ثم العَجَل
يا كوكبَ الشُؤم ومَن
... أرْبَى على نحْس زُحَل
يا جبلاً مِن جَبَلٍ
... في جَبَلٍ فوق جبَل
وقال الحَمْدوني في
رجل بَغِيض مَقِيت:
أيابن البَغِيضة وابن
البَغِيضِ ... ومَن هو في البُغض لا يُلْحَق
سألتًك بالله إلا
صَدَقْت ... وعِلْمي بأنكَ لا تَصدق
أتبغضُ نَفسك مِن
بُغضها ... وإلا فأنتَ إذن أحْمَقُ
وله فيه:
في حمير الناس إن كُن
... تَ من الناس تُعَدُّ
ولقد أُنبئت: إبلي
... س إذا راك يَصُد
ولحبيب الطائي في
مثله، أي في رجل مَقِيت:
يا مَن تَبَرَّمت
الدنيا بطَلعته ... كما تَبَرَّمت الأجفان بالرَّمدِ
يَمشي على الأرض
مختالا فأَحْسِبه ... لبُغْض طَلعته يَمشي على كَبِدي
لو أنّ في الأرض
جُزءاً من سَماجتِه ... لم يَقْدَم الموْتُ إشفاقاً على أحد
وللحسن بن هانئ في
الفضل الرًقاشيّ:
رأيتُ الرقاشيِّ في
مَوْضِع ... وكان إليَّ بغيضاً مقيتا
فقال اقترِح بعض ما
تَشْتَهِي ... فقلتُ اقترحتُ عليك السُّكوتا
وأنشد الشَعبيُّ:
إنّي بُلِيتُ بمَعشر
... نَوْكَى أخفهمُ ثقيلْ
بُلْهٌ إذَا جالستهُم
... صَدِئَتْ لقُرْبهمُ العُقول
لا يُفْهموني قولهم
... ويَدِقُّ عنهم ما أقول
فَهُمُ كثِيرٌ بي كما
... أنيِّ بقُرْبهم قليل
وقال العُتْبيّ: كتب
الكِسائيّ إلى الرّقاشي:
شَكَوْتَ إلينا
مَجَانينَكم ... وأشْكُو إليك مَجَانيننا
وأنشأتَ تَذْكر
قُذّاركم ... فأنتِنْ وأَقْذِرْ بمَنْ عِنْدنا
فلَوْلا السَّلامة
كُنًا كَهُم ... ولوْلا البَلاء لكانوا كَنَا
وقال حبيب الطائي:
وصاحبٍ لي مَلِلت
صُحبَته ... أفقَدَني اللهّ شَخْصَه عَجِلاَ
سَرَقْتًُ سِكِّينه
وخاتَمه ... أقطع ما بيننا فما فَعلا
وقال حبيب:
يا مَن لهُ في وَجْهه
إذ بَدَا ... كنُوز قارُون من البُغْض
لو فر شيء قطٌّ مِن
شكله ... فرَّ إذاً بعضك من بَعْض
كوْنُك في صُلْبِ
أبينا، الّذِي ... أهبطنا جمعاً إلى الأرْض
وقال أبو حاتم:
وأنشدني أبو زَيْد
الأنصاريّ النًحوي صاحبُ النَّوادر:
وَجْهُ يحيى يدْعو إلى
البَصْق فيه ... غير أنِّي أَصون عنه بُصاقي
قال أبو حاتم:
وأنشدني العُتبيّ:
له وَجْه يَحلّ
البَصقُ فيه ... ويَحْرُم أن يُلقَّى بالتَّحيَّة
قال وأنشدني:
قميصُ أبي أميِّة ما
عَلِمتم ... وأوْسَخُ منه جِلْدُ أبي أُمَيَّه
التفاؤل بالأسماءسأَل
عُمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً أراد أن يَسْتعين به على عمل عن اسمه واسم
أبيه. فقال: ظالم بن سُراقة، فقال: تَظْلم أنت ويَسْرِق أبوك؟ ولم يَسْتَعِن به في
شيء.
وأقبل رجلٌ إلى عُمَر
بن الخطاب فقال له عمر: ما اسمك؟ فقال: شِهاب ابن حُرْقة، قال: ممَّن؟ قال: من أهل
حَرة النار، قال: وأين مَسكنك؟ قال: بذات لَظى، قال: اذهب فإن أهلَك قد احترقوا.
فكان كما قال عمر رضي الله عنه. ولقي عمرُ بن الخطّاب رضي الله عنه مَسْروق بن
الأجْدع، فقال له: من أنتَ؟ قال: مَسْروق بن الأجدع. قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الأجدع شيطان.
وروى سُفيان عن هشام
الدَسْتُوائيّ عن يحيى بن أبي كَثير قال: كَتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
أمرائه: لا تُبْردوا بريداً إلا حَسَن الوجه، حَسَنَ الاسم.
ولمَّا فرغ المُهلّب
بن أبي صُفْرة من حرب الأزارقة وجه بالفتْح إلى الحجاج رجلاً يقال له مالك بن
بَشِير؟ فلما دخل على الحجّاج، قال له: ما اسمك؟ قال: مالك بن بَشِير، محال: مُلْك وبِشارة.
وقال الشاعر:
وإذا تكُون كريهةٌ
فَرَّجْتها ... أدعو بأسْلم مَرَّةً ورَباح
يُريد التَّطيّر
بأسْلم ورَباح، للسَّلامة والرِّبح.
الرّياشي عن الأصمعيّ
قال: لما قَدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينه على رجل من الأنصار، فصاح
الرجلً بغُلامَيه: يا سالم ويا يسار؟ فقال رسول صلى الله عليه وسلم: سَلِمت لنا
الدّار في يُسْر.
وقال سَعيد بن
المسيِّب بن حَزْن بن أبي وَهب المَخْزومي: قَدِم جَدِّي حَزْن بن أبي وَهْب على
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: كيف اسمُك؟ قال: حَزْن، قال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: بل مَهْل؟ قال: ما كنتُ لأدع اسماً سَمّتني به أُمِّي قال: سَعِيد:
فإِنا لَنَجد تلك الحزُونة في أخْلاقنا إلى اليوم.
وإنما تَطيّرت العرب
من الغُراب للغُربة، إذ كان اسمُه مُشْتَقًّا منها.
وقال أبو الشِّيص:
أشاقَكَ والليلً
مُلْقِي الجرَانِ ... غُرابٌ يَنُوحِ على غُصْن بَانِ
وفي نَعَبات الغُراب
اغتِراب ... وفي البَان بينٌ بَعيد التَّدَاني
ولآخر في السَّفَرْجل:
أَهْدَى إليه
سَفَرْجلاً فتَطيَّرا ... منه فظَلّ مُفَكِّرا مستعبرا
خَوْفَ الفِراق لأنّ
شَطْر هِجَائه ... سَفَر وحَقّ له بأن يَتَطَيًّرَا
ولآخر في السَّوْسن:
ياذا الَّذي أهدئ لنا
السَّوْسَنا ... ما كنتَ في إهدائه مُحْسِنَا
شَطْرُ اْسمه سَوء
فقد سُؤْتَني ... يالَيت أنِّي لم أَر َالسَّوسَنا
ولآخرَ في الأتْرُج:
أَهْدَى إليه حبِيبُه
أُتْرُجّة ... فَبَكَى وأشْفَق من عِيافة زَاجرِ
خافَ التَّبدّل
والتَّلوُّن إنّها ... لَوْنان باطنُها خلافُ الظّاهر
وقال الطائي في
الحَمام:
هُنّ الحَمام فإن
كَسَرتَ عِيافةً ... مِن حائِهنّ فإنهن حِمامُ
وكان أشعبُ يَختلف
إلى قَيْنة بالمَدينة، فلمّا أراد الخُروِج سألها أن تُعْطِيه خاتَم ذَهب في
يَدِها ليَذكرها به، قالت: إن ذَهب، وأَخاف أن تذْهب، ولكن هذا العُود فلعلّك أن
تعود.
باب الطيرةقال النبي
صلى الله عليه وسلم: ثلاثة لا يَكاد يَسْلم منهنّ أحد: الطِّيرة والظنّ والحَسد، قيل:
فما المَخْرج منهنّ يا رسولَ اللّه؟ قال: إذا تَطيَّرت فلا تَرْجع، وإذا ظَننت فلا
تًحقِّق، وإذا حَسَدت فلا تَبْغ.
وقال أبو حاتم:
السانح ما وَلاك مَيامِنه، والبارِح ما وَلاك ميَاسره، والجابه ما استقبلك من تُجاهك،
والقَعِيد الذي يَأْتيك من خَلْفك.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: لا عَدْوَى ولا طِيَرة.
وقال: ليس منا مَن
تَطيّر.
وقال: إذا رَأَى
أحدُكم الطِّيرة فقال: اللَهمّ لا طَير إلا طَيْرك، ولا خَيْر إلا خيْرك، ولا إله
غَيْرك، لم تَضره.
وقد كانت العَرب
تتطيّر، ويَأْتي ذلك في أشعارهم، وقال بعضهم:
وما صَدَقَتك الطير
يوم لَقِيتَنا ... وما كان مَنْ دَلاك فينا بخَابِر
وقال حسّان رضي الله
تعالى عنه:
يا ليتَ شِعْرِي
ولَيت الطَّير تُخْبرني ... ما كان بين علي وابن عفَّانا
لتَسمعنَّ وَشيكاً في
ديارِهُم ... الله أكْبر يا ثاراتِ عُثْمانا
وقال الحَسَن بن هانئ:
قامَ الأمير بأمر
الله في البَشَر ... واسْتَقْبل المُلْك في مَسْتَقبل الثمر
فالطَير تُخْبِرنا
والطَّيُر صادقةٌ ... عن طِيبِ عَيْش وعن طًول من العُمر
وقال الشَّيْباني:
لما قَدِم قُتيبة بن مُسْلم والياً على خُراسان، قام خَطِيباً، فسَقطت المِخْصَرَة
من يَدِه فتطيّر بها أهلً خُراسان، فقال: أيها الناس، ليس كما ظَننتم ولكنه كما قال الشاعر:
فأَلْقت عَصاها
واستَقْرّت بها النَّوى ... كما قَر عَيْناً بالإيابِ المَسَافُر
اتخاذ الإخوان وما
يجب لهمرَوَى الأوزاعيّ عن يحيى بن أبي كَثير أنّ داود قال لابنه سُليمان عليهما
السلام: يا بُنيّ لا تَستَقلّ عَدوَاً واحداَ ولا تَستَكْثِر أَلف صَديق، ولا
تَستَبدل بأخٍ قديم أخاً مُستَحدثاً ما استَقام لك.
وفي الحديث المرفوع:
المَرْء كَثير بأَخيه.
وقاد شَبيب بن
شَيْبة؟ إخوان الصَّفاء خير مكاسب الدُّنيا، هم زِينةٌ في الرِّخَاء، وعدَّة في
البَلاء، ومَعُونة على الأعداء.
وأنشد ابن الأعرابيّ:
لَعَمْرك ما مالُ
الفَتَى بذَخيرة ... ولكن إخوانَ الصَّفاء الذَّخائرُ
وقال الأحْنف بن
قَيْس: خَيْرُ الإخوان إن استغنيت عنه لم يَزِدك في المَودَّة، وإن احتَجْت إليه
لم يَنْقُصك منها، وإن كُوثِرت عَضدك، وإن استرفدت رفَدَك، وأنشد:
أخوكَ الذي إن
تَدْعُه لِمُلِمِّة ... يُجِبْك وإنْ تَغْضب إلى السًيف يَغْضب
ولآخر:
أخَاكَ أَخَاكَ إنّ
مَن لا أخاً له ... كَساعٍ إلى الهَيْجَا بغَيْر سِلاح
وإنّ ابن عَمّ
المَرْء فاعْلَم جَناحُه ... وهل يًنْهض البازِي بغَيْر جَنَاح
ومما يَجب للصدًيق
على الصَّديق النصيحةُ جَهْده. فقد قالوا: صدِيق الرجل مِرْآته تُريه حَسناتِه
وسيّآته.
وقالوا الصَّدِيق من
صَدَقك وُدّه، وبَذَل لك رِفْدَه.
" وقالوا:
أربعة لا تعرَف إلاّ عِنْد أربعة: لا يُعرف الشجاع إلا عند الحَرْب، ولا الحَلِيم
إلا عند الغَضب، ولا الأمين إلا عند الأخذ والعَطاء، ولا الأخوانُ إلا عَند
النَّوائب " .
وقالوا: خير الإخوان
مَن أقبل عليك إذا أدبر الزمان عنك.
وقال الشاعر:
فإنّ أوْلَى المَوالي
أن توَاليه ... عند السُّرور لمَن واساكَ في الحَزَنِ
إن الكرِامَ إذا مَا
أُسهَلوا ذَكَرُوا ... مَن كان يأَلَفَهُم في المنزل الخَشِن
ولآخر:
البرُّ من كَرَم
الطبيعة ... والمَنّ مَفْسدة الصنيعة
تَرْكُ التعهُّد
للصَّدي ... ق يكون داعيةَ القطيعة
أنشد محمدُ بن يزيد
المبرِّد لعبد الصَّمد بن المُعذَّل في الحَسْن بن إبراهيم.
يا من فَدَت نَفْسَه
نَفْسي ومن جُعُلت ... له وِقَاءً لِمَا يخشى وأَخْشاهُ
أبْلِغ أخاكَ وان شَط
المَزَار به ... أنِّي وإنْ كُنتُ لا ألقاه ألقاه
وأنّ طَرْفيَ مَوْصول
برؤيته ... وإنْ تَباعد عن مَثْواي مَثْواه
اللّه يعْلَم أنّي
لستُ أذْكُره ... وكيف يَذكره مَن ليس يَنْساه
عًدُّوا فهل حَسَنٌ
لم يَحْوِه حَسَن ... وهَلْ فتَى عَدَلت جَدْواه جَدْوَاه
فالدهر يَفْنى ولا
تَفْنى مَكارمه ... والقَطْر يُحْمىَ ولا تُحْصىَ عَطَايَاه
وقيل لبعض الوُلاة:
كم صديقاً لك؟ قال: لا أدْري، الدُّنيا مُقْبِلة عليَّ والناس كلِّهم أصدقائيِ،
وإنما أَعرف ذلك إذا أدبرَتْ عنِّي.
ولمّا صارت الخِلافة
إلى المَنْصور كَتب إليه رجلٌ من إخوانه كتاباً فيه هذه الأبيات:
انا بِطَانُتك الآلي
... كُنَّا نُكابِد ما تُكابِدْ
ونُرَى فنُعْرف
بالعَدا ... وَة والبِعاد لمَن تُباعد
ونبيت في شَفَق عَلَي
... ك رَبيئةً والليلُ هاجِد
أصناف الإخوِان
قال العَتّابي:
الإخوانُ ثلاثة أصناف: فرْع بائنٌ من أصله، وأصل مُتَّصل بفَرْعه، وفَرْع ليس له
أصل. فأمّا الفرع البائن من أصله، فإخاءٌ بُني على مودّة ثم انقطعت فحُفِظ على
ذمام الصُّحبة؛ وأمّا الأصل المتَّصل بفَرْعه، فإخاءٌ أصله الكرم وأغصانه التَقوى؛
وأمّا الفرع الذي لا أصل له، فالمموه الظاهر الذي ليس له باطن.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الصاحب رُقْعة في قميصك فانظر بم تُرَقِّعه.
ويقال: من علامة
الصَّديق أن يكون لصَديق صديقه صديقاً ولعدوه عدوَّاً.
وقَدِم دِحْية
الكَلْبيّ على أمير المؤمنين عليّ عليه السلامُ، فما زال يَذْكر مُعاوية ويطْريه
في مجلسه؛ فقال عليٌّ عليه السلام:
صَديقُ عَدُوِّي
داخلٌ في عَدَاوَاتي ... وإنِّي لمَن وَدَّ الصّديقَ وَدودُ
فلا تَقْرَباً منّي
وأنت صَديقُه ... فإنّ الذي بين القُلوب بعيدُ
وفي هذا المعنى قول
العتابيّ:
تَودُّ عدوِّي ثم
تَزْعُم أنني ... صديقُك إنّ الرَّأي عنك لعازِبُ
وليس أخي مَن دوني
رَأْيَ عَيْنه ... ولكنْ أخي مَن دوني وهو غائبُ
وقال آخر:
ليس الصديقُ الذي إن
زَلَّ صاحبُه ... يوماً رَأَى الذنبَ منه غيرَ مغْفِورِ
وإنْ أَضاع له حَقَاً
فعاتَبه ... فيه أتاه بتَزْوِيق المَعاذِير
إنّ الصًديق الذي
ألقاه يَعذِر لي ... ما ليس صاحبُه فيه بمَعْذور
وقال الآخر:
كم مِن أخ لم يَلدِهْ
أبُوكا ... وأخ أبوهُ أبوكَ قد يَجْفُوكا
صافِ الكِرَامَ إذا
أَردتَ إخاءَهم ... واعْلَم بأنّ أخا الحِفاظ أُخوكا
والناسُ ما استغنيتَ
كُنتَ أخاهُمُ ... وإذَا افتقرتَ إليهمُ رَفَضًوكا
وقال بعضهم:
أخوك الذي إن قمتَ
بالسًيْف عامِداً ... لتَضْرِبَه لم يَسْتغشَّك في الوُدِّ
وإنْ جئتَ تَبْغي
كفّه لتُبينَها ... لبادَر إشفاقاً عليك من الرَّدّ
يرى أنَّه في الودّ
وانٍ مقَصرٌِّ ... على أنَّه قد زادَ فيه على الجَهْد
وقال آخر:
إنْ كنتَ مُتَّخذاً
خَلِيلاً ... فتَنَقَّ واْنتَقد الخَلِيلاَ
مَن لم يكُن لك
منصفًا ... في الوُدّ فابغ به بَدِيلا
ولقَلَّما تَلْقى
اللَّئيمَ ... عليك إلا مستطيلا
وللعَطوِيّ:
صُنِ الوًدً إلاِّ
عَن الاكرمين ... ومَن بمُؤَاخاتِه تَشْرُفُ
ولا تغتررْ مِن ذَوِي
خلَة ... بما مَوّهوا لكَ أَوْ زَخْرفوا
وكم من أخ ظاهر ودًّه
... ضَمِيرُ مَودّته أَحْيَف
إذا أنت عاتبتَه في
الإخا ... ءِ تنكر منه الذي تَعْرِف
وكتب العباس بن جَرير
إلى الحَسن بن مَخْلد:
ارعَ الإِخاءَ أبا
مُحم ... د للَّذي يصْفو وصُنْهُ
وإذا رأيتَ مُنافِساً
... في نيل مكرمةٍ فكنه
إنَ الصديقَ هو الذي
... يرعاك حيث تغيب عنه
فإذا كشفت إخاءَهُ
... أحمدتَ ما كشفت منه
مِثْل الحُسام إذا
انتضا ... هُ أخُو الحفيظة لم يخنه
يسعى لما تسْعى له
... كرماً وإنْ لم تَسْتَعِنْهُ
وقال آخر:
خَيْرُ إخوانِكَ
آْلمشارك في المر ... وأَين الشرِيكُ في المرّ أَيْنَا
الَّذِي إنْ شهدتَ
زادَك في البرّ ... وإن غِبْتَ كان أذْناً وعَيْنا
وقال آخر:
ومِنَ البَلاء أخٌ
جنايتُه ... عَلَق بنا ولغَيْرنا سَلَبُهْ
ولآخر:
إذا رأيتُ انحرافاً
من أخِي ثِقةٍ ... ضاقتْ عليّ برُحب الأرض أوْطانِي
فإن صددتُ بوَجْهي
كَيْ أكافئَه ... فالعَين غَضْبَى وقَلْبي غير غضبان
وكتب بعضُهم إلى محمد
بن بَشّار:
مَن لم يُرِدْك فلا
تردهُ ... لِتَكُنْ كَمَنْ لم تَسْتَفِدْه
باعِدْ أخاكَ لبُعْده
... وإذا دَنا شِبْراً فزِده
كم من أخٍ لك يا بنَ
بَشّ ... ا رٍ وأُمُّك لم تَلِدْه
وأخِي مُناسَبة يَسُو
... ءُك، غَيْبُه لم تفتقده
فأجابه محمد بن
بَشّار:
غَلِطَ الفَتى في
قَوْله: ... مَن لم يُرِدْك فَلا تُرده
مَنْ يَأْنس الإخْوان
لم ... يَبْدَ العِتابَ ولم يُعِدْه
عاتِبْ أخاك إذا هَفا
... واعْطِفْ بِودك واسْتَعِدْه
وإذا أتاك بِعَيْبِهِ
... واشٍ فقُل لم تَعْتمده
معاتبة الصديق
واستبقاء مودتهقالت الحكماء: مما يجب للصَّديق على الصديق الإغْضاء عن زلاّته،
والتَّجاوز عن سيّآته، فإن رجع وأعتب وإلاّ عاتبتَه بلا إكثار، فإنّ كثرَة العتاب
مَدْرجة للقَطِيعة.
وقال عليّ بن أبي
طالب رضي اللهّ عنه: لا تَقْطع أخاك على ارتياب، ولا تهجره دون استِعْتاب.
وقال أبو الدَّرداء:
مَن لك بأَخيك كلّه.
وقالوا؛ أيّ الرجال
المُهذَّب.
وقال بشّار
العُقَيْليّ:
إذا أنتَ لم تَشْرب
مِراراً على القَذَى ... ظَمِئْتَ وأيُ النَّاس تَصْفو مَشارِبُه
وقالوا: مُعاتبة الأخ
خَيرٌ من فَقْدِه.
وقال الشاعر:
إذا ذَهب العِتاب
فليْسَ ودٌ ... ويَبْقَى الوُدُّ ما بَقِي العِتَابُ
ولمحمد بن أَبان:
إذا أنَا لم أَصْبِرْ
على الذَّنب مِن أخٍ ... وكنتُ أُجازيه فأَين التفاضلُ
" إذا ما
دهاني مِفْصلٌ فقطعتًهَ ... بَقيتُ وما لي للنُّهوص مَفاصل، "
ولكنْ أُدَاويه فإنْ
صَحَّ سرًّني وإنْ هو أَعْيا كان فيه تحامل وقال الأحنف: مِن حَقّ الصَّديق أن يَتَحَمَل ثلاثاً: ظُلم الغضب، وظُلم الدالّة،
وظُلم الهَفوة.
لعبد الله بن مُعاوية:
ولستُ ببَادي صاحبِي
بقَطِيعة ... ولستُ بمُفْشٍ سِرَّه حين يغْضبُ
عَليك بإخوان
الثِّقَات فإنهم ... قليلٌ فَصِلْهم دُون مَن كنت تَصْحَب
وما الخِدْن إلا مَن
صَفا لك وُدّه ... ومَن هو ذو نُصْح وأنت مُغَيَّب
ما يستجلب الإخاء
والمودة ولين
الكلمةقال عليُّ بن أبي طالب عليه السلام: مَن لانت كَلِمته وَجَبت محبّتُه.
وأنشد: كيفَ أصبحتَ كيف أمْسيتَ ممَّا يُنْبِتُ الوُدّ في فُؤاد الكَرِيم وعَلَى
الصديقِ ألا يلقَى صديقه إلا بما يُحب، ولا يًؤذِي جليسَه، فيما هو عنه بمَعْزِل،
ولا يأتي ما يَعيب مِثْلَه، ولا يَعيب ما يأتي شَكْلَه. وقد قال المتوكّل اللّيثي:
لا تنهَ عَن خُلُقِ
وَتأْتِيَ مِثْلَه ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عَظِيمُ
وقال عمرً بن
الخَطّاب رضي الله عَنه: ثلاث تثبت لك الوًدَّ في صَدْرِ أخيك: أن تَبدأه
بالسَّلام، وتُوسع له في المَجْلس، وتَدْعوه بأحبّ الأسماء إليه.
وقال: ليس شيءٌ أبلغَ
في خَيْر ولا شَرّ من صاحب.
وقال الشاعر:
إن كُنتَ تبغي
الأَمْرَ أو أصلَه ... وشاهداً يُخْبر عن غائبِ
فاعْتَبِر الأرضَ
بأَشْباهها ... واعْتَبر الصّاحب بالصَّاحب
لعَدِيّ بن زَيد:
عَنِ المَرْء لا
تَسَلْ وسَلْ عَن قَرِينه ... فكُلُّ قَرِين بالمُقارن يَقْتَدِي
و لعمرو بن جَمِيل
التَغْلَبي:
سأصبر من صَديقي إنْ
جَفَاني ... على كلّ الأذَى إلا الهَوَانَا
فإنّ الحُرَّ يَأنَف
في خَلاءِ ... وإن حَضر الجماعةَ أن يُهانَا
وقال رجلٌ لمُطِيع بن
إياس: جِئّتُك خاطباً مَوَدَّتك؛ قال: قد زَوَّجتكها على شرط أن تجعل صَداقها أن
لا تَسمع فيَّ مقالَ الناس.
ويقال في المَثَل:
مَن لم يَزْدَرِد الرّيق لم يَستكثر من الصديق.
وما أحسنَ ما قال
إبراهيمُ بن العبَّاس:
يا صديقيِ الذي
بَذَلْت له الو ... دَّ وأنزلتُه على أحشائي
إنّ عَيْناَ
أقْذَيْتهَا لتراعي ... ك على ما بها مِن الإقذاءِ
ما بها حاجةٌ إليك
ولكنْ ... هي مَعْقودة بحَبْل الوَفاء
ولابن أبي حازم:
ارْضَ من المَرْءِ في
مَوَدَّته ... بما يُؤدي إليكَ ظاهرُه
مَن يَكْشِف الناسَ
لا يَرى أحداً ... تَصِحّ منه له سَرائرُه
توشِك أن لا تتم
وَصْل أخٍ ... في كلّ زَلاّته تُنافِره
إنْ ساءَني صاحِبي
احْتملْتُ وإن ... سرَّ فإني أخوه شاكِرُه
أصفح عَنْ ذَنْبه
وإِن طَلَب ال ... عُذْرَ فإنّي عليه عَاذِرُه
ولغيره:
لعمري لئن أبطأت
عَنْك فلم أزَل ... لأحْداث دَهْرٍ لا يزال يَعُوقُ
لقد أصبحتْ نَفْسي
علي شَفِيقةً ... ومِثْلي على أهل الوَفاء شَفِيق
أسرَّ بما فيه
سُرُورك إنَّني ... جَدِير بمكنون الإخاء حَقِيق
عدَوّ لمن عاديتَ
سَلْم مُساِلمٌ ... لكل آمرئ يَهْوى هواكَ صَدِيق
ولأبي عبد الله بن
عُرْفة:
هُمًومُ رجالٍ في
أمور كَثيرةٍ ... وهَمِّي من الدِّنيا صديق مُساعِدُ
يكون كرُوح بين
جِسْمين فُرِّقَا ... فَجِسْماهما جِسْمان والرُّوح واحِد
قال بعض الحكماء:
الإخاء جَوْهرة رقيقة، وهي ما لم تُوَقِّها وتَحْرُسها مُعرَّضة للآفات، فَرُض
الإخاء بالحدّ له حتى تَصل إلى قُربه، وبالكَظْم حتى يَعْتذِر إليك مَن ظَلَمك،
وبالرِّضى حتى لا تَسْتَكْثر من نَفْسك الفَضْل ولا من أخيك التَّقْصير.
لمحمود الوَرّاق:
لا بِرِّ أعظمُ من
مُساعدةٍ ... فاشكُر أخاك علىِ مُساعَدَتِهْ
وإذا هَفا فأَقِلْه
هَفْوَته ... حتى يَعودَ أخاَ كعادته
فالصفح عن زَلَل
الصّديق وإن ... أَعْياك خيرٌ من مُعاندته
لعبد الصمد بن
المُعذَّل:
مَن لم يُدرِك ولم
ترده ... لم يستفدك ولم تُفِدْه
قَرِّبْ صدِيقَك ما
نَأى ... وَزِدِ التقارُب واستزده
وإذا وَهَتْ أركان
ودٍّ ... من أَخي ثِقَة فَشِدْهُ
فضل الصداقة على
القرابةقيل لبُزرجمهر: مَن أحب إليك: أخوك أم صديقك؟ فقال: ما أحِبّ أخي إلا إذا
كان لي صديقاً.
وقال أكثم بن صَيفيّ:
القرابة تحتاج إلى مودَة، والمودَة لا تحتاج إلى قرابة.
وقال عبد الله بن
عبّاس: القرابة تقْطع، والمعروف يُكْفر، وما رأيتً كتقارب القلوب.
وقالوا: إيَّاكم ومَن
تكْرهه قلوُبكم فإن القُلوب تُجَارِي القلوب.
وقال عبد الله بنً
طاهر الخُراسانيّ:
أميل مع الذِّمام على
ابن أمِّيِ ... وأحْمِل للصديق على الشِّقِيقِ
وإن ألفيتَني مَلِكاً
مُطاعاَ ... فإنك واجدِي عبدَ الصَّديق
أفرِّق بين معروفي
ومَنِّي ... وأجمع بين مالي والحُقوق
وقال حَبيب الطائي:
ولقد سَبَرتُ الناس
ثم خَبرتُهمِ ... ووصفتُ ما وَصفوا من الأسباب
فإذا القرابةُ لا
تُقَرِّب قاطعاً ... وإِذا المودَة أقرب الأنساب
وللمبرِّد:
ما القرْبُ إلا لمن
صحَت مَوَدَّته ... ولم يَخُنْك وليس القُرْبً للنسَبِ
كم مِن قَريب دَوِيّ
الصَّدْر مُضْطَغِن ... ومن بَعيدٍ سَلِيم غير مقترب
وقالت الحًكماء: رب
أخ لك لم تَلِدْه أمك.
وقالوا: القَرِيب من
قَرب نَفْعه.
وقالوا: رُبّ بعيدٍ
أقرب من قَريب.
وقال آخر:
رُب بعيدَ ناصحُ
الجَيْب ... وابن أبِ مُتهم الْغَيب
وقال آخر:
أخُو ثِقةٍ يُسَر
ببعض شانِي ... وِإنْ لم تُدْنِه مني قَرَابهْ
أحَبُّ إليَّ من
ألْفْي قَريب ... لَبيتُ صُدورهم لي مُسْترابه
وقال آخر:
فَصِلْ حِبَال البعيد
إن وَصَل ال ... حَبْلَ وأقص القَرِيبَ إن قَطَعهْ
قد يَجمع المالَ غير
ُآكله ... ويأكل المالَ غيرُ من جَمَعه
فارْض من الدهر ما
أتاك به ... من قَرَّعَيْنَا بعَيْشِه نَفَعه
وقال.
لكلِّ شيء من الهُموم
سَعَهْ ... والليلُ والصُّبح لا بقَاءَ معهْ
لا تَحْقِرَنّ
الفقيرَ عَلَّكَ أن ... تركع يوماً والدَّهُرُ قد رفَعَه
وقال ابن هَرْمة:
للّه درُّك من فَتًى
فَجعت به ... يومَ البَقيع حوادِثُ الأيام
هَشّ إذا نزَل
الوُفودُ ببابه ... سَهْل الحِجاب مُؤَدَّب الخُدّام
وإِذا رأيت صديقه
وشَقيقه ... لم تَدْرِ أيّهما أخو الأرحام
التحبب إلى الناسفي
الحديث المَرْفوع: أحبُّ الناس إلى الله أكثرهم تَحَبُّباً إلى الناس.
وفيه أيضاً: إذا
أحبَّ الله عبداً حبَّبه إلى الناس.
ومن قولنا في هذا
المعنى.
وَجْهٌ عليه من
الحَيَاء سَكينةٌ ... ومحبَّة تجري مع الأنفاس
وإذا أحبّ الله يوماً
عبدَه ... ألقى عليه محبَّة للنّاس
وكتب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقّاص: إن الله إذا أحَبَّ عبداً حبَّبه إلى خَلْقه،
فاعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعْلم أنّ مالك عند الله مثلُ ما للناس
عندك.
وقال أبو دُهْمان
لسَعيد بن مُسلم ووقف إلى بابه فحجَبَه حيناً، ثم أذن له، فمثل بين يديه وقال:
إنَّ هذا الأمر الّذي صار إليك وفي يديك، قد كان في يدَيْ غيرك فأمسى واللّه حديثاً،
إن خيراَ فخير، وإن شراً فشر، قتحبَّب إلى عباد الله بحُسن البِشْر، وتسهيل
الحجاب، ولين الجانب، فإن حُبَّ عبادِ الله مَوْصولٌ بحُب اللّه، وبُغضهم مَوْصول
ببغض اللّه، لأنهم شُهداء الله على خَلْقه، ورُقباؤه على من أعوج عن سبيله. وقال
الجارود: سُوء الخُلق يُفْسِد العَمل، كما يُفسد الخَلّ العَسل.
وقيل لمُعاوية: من
أحبّ الناس إليك؟ قال: مَن كانت له عِنْدي يد صالحة؛ قيل له: ثم مَن؟ قال: من كانت
لي عِنْده يدٌ صالحة.
وقال محمدُ بن يزيد
النَّحوي: أتيتُ الخليلَ فوجدته جالساً على طُنْفسة صَغِيرة، فوسَّع لي وكَرِهتُ
أن أُضيِّق عليه، فانقبضتُ، فأخذ بِعَضُدي وقَرَّبي إلى نَفْسه، وقال: إنه لا
يَضِيق سَمُّ الخياطَ بمُتحابين، ولا تَسَع الدنيا مُتباغضين.
ومن قَولنا في هذا
المَعنى.
صِل من هَوِيتَ وإن
أبدى مُعاتبةً ... فأَطيبُ العَيْش وَصلٌ بين إلْفين
واقْطَعْ حَبائل
خِدْنٍ لا تُلائمه ... فربِّما ضاقتِ الدُّنيا بإثْنين
صفة المحبةأبو بكر
الورَّاق قال: سأل المأمونُ عبد الله بنَ طاهر ذا الرِّياستين عن الحبّ ما هو،
فقال: يا أمير المؤمنين إذا تقادحتْ جواهر النُّفوس المُتقاطعة بوَصْل المُشاكلة
انبعثت منها لمْحَة نور تَسْتضيء بها بواطنُ الأعضاء، فتحرّك لإشراقها طَبائع
الحَياة، فيتصوَّر من ذلك خَلْق حاضر للنَّفس، مُتَّصِل بخَواطِرها يُسمى الحب.
وسُئل حمَّاد الراوية
عن الحبّ، فقال: شَجرة أصلُها الفِكْر، وعُروقها الذِّكر، وأغصانُها السَّهر، وأوراقُها
الأسقام، وثمرتُها المنيّة.
وقال مُعاذ بن سَهْل:
الحبُّ أصعبُ ما ركب، وأسْكر، ما شُرب، وأَفْظع ما لُقِي، وأحْلَى ما اشتُهي، وأَوْجع
ما بَطَن، وأشهى ما عَلَن، وهو كما قال الشاعر:
وللحُب آياتٌ إذا هي
صَرّحت ... تَبَدَّت علاماتٌ لها غُرَرٌ صفْرُ
فباطِنُه سُقْم
وظاهِرُه جَوَى ... وأوَّلُه ذكر وآخره فكر
وقالوا: لا يكن حُبّك
كَلَفا، ولا بغْضك سَرَفا.
وقال بشَّار
العُقَيْليِّ.
هل تَعْلَمِينَ وَراء
الحُبّ مَنزلةً ... تُدْني إليكِ فإنّ الحبَّ أقصَانِي
وقال غيرُه:
أُحِبّكِ حُبا لو
تحبينَ مِثْلَه ... أصابك من وَجْدٍ عليّ جُنُونُ
لَطِيفاً مع الأحْشاء
أمّا نهارُه ... فدَمْعٌ وأمّا لَيْلُه فأنِين
مواصلتك لمن كان
يواصل أباكمن حديث ابن أبي شَيْبة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا
تَقْطع مَن كان يواصلُ أباك تُطفيء بذلك نُورَه، فإنّ وُدَّك وُدُّ أبيك.
وقال عبدُ الله بن
مَسعود: مِن بِرّ الحيِّ بالميِّت أن يَصِل مَن كان يصلُ أباه.
وقال أبو بكر: الحبُّ
والبغضُ يُتوارثَان.
ومن أمثالهم في هذا
المعنى: لا تقْتنِ من كلب سَوْء جِرْواً.
وقال الشاعر:
تَرْجُو الوليدَ وقد
أعياك والدُه ... وما رَجاؤُك بعد الوالدِ الوَلدَا
واجتمع عندَ مَلِك من
ملوك العرب. تميمُ بن مُرّ وبكر بن وائل، فوقَعت بينهما مُنازعة ومُفاخرة، فقالا:
أيُّها الملك، أعطِنا سَيْفين نتجالد بهما بين يَدَيك حتى تَعلم أيُّنا أجْلد.
فأمر الملكُ فنُحِت لهما سَيفان من عُودين، فأعطاهما " إياهما " ،
فجعلاَ يَضْطربان مَليًّا من النهار، فقال بكرُ بن وائل:
لو كانَ سيفانَا
حديداً قَطَعا
قال تميم بن مُرّ:
أو نحتا من جَنْدل
تَصًدّعا
وحال الملكُ بينهما،
فقال تميم بن مُرّ لبكر بن وائل:
أُساجِلك العَداوَةَ
ما بَقِينا
فقال له بكر:
وإنْ مِتْنا
نُوَرِّثها البَنِينا
فيًقال إن عداوة بكر
وتميم من أجل ذلك إلى اليوم.
أبو زيد: قال أبو
عُبيدة: بُني دُكَان بسجستان بَنَتْه بكر بن وائل، فهَدَّمته تميم، ثم بنته تميم
فهَدَّمته بكر، فتواقعوَا في ذلك أربعةً وعشرين وَقعة. فقال ابن حِلِّزة اليَشْكُري في ذلك:
قَرَبي ياخَليُّ
وَيحْكِ دِرْعي ... لَقِحَت حَرْبُنا وحربُ تميم
إخْوة قرّشوا
الذُّنوب علينا ... في حديث من دهرِهم وقَدِيم
طَلبُوا صُلْحنا
ولاتَ أوَانٍ ... إنَّ ما يَطلبون فوق النُّجُوم
الحسدقال علي رضي
الله عنه: لا راحةَ لِحَسُود، ولا إخَاء لمَلُول، ولا مُحِبَّ لسَيىِّء الخُلًق.
وقال الحسن: ما رَأيت
ظالماً أشبهَ بمظلوم من حاسِد، نَفَس دائم، وحُزن لازم، وغم لايَنْفد.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: كاد الحَسد يَغْلِب القَدَر.
وقال مُعاوية: كلُّ
الناس أَقْدِر أُرْضِيهم إلا حاسدَ نِعْمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها.
وقال الشاعر:
كلُّ العَداوة قد
تُرْجَى إماتتُها ... إلا عَدَاوَةَ مَن عاداكَ مِن حَسَدِ
وقال عبد الله بن
مَسعود: لا تُعادُوا نِعَم الله؛ قيل له: ومن يُعادي نِعَم اللّه؟ قال: الذين
يحْسُدون الناسَ على ما آتاهم الله من فِضله. يقول الله في بعض الكتب: الحَسُود
عدوُّ نِعْمَتي، مُتَسخِّطٌ لقَضَائي، غيرُ راض بِقسْمَتي.
ويقال: الحَسَد أوّل
ذَنْب عصي الله به في الَسماء، وأوّل ذَنْبِ عُصي الله به في الأرض؟ فأمّا في
السماء فحَسدُ إبليس لآدمَ، وأما في الأرض فَحَسدَ قابيلَ هابيل. وقال بعضُ أهل
التفسير، في قوله تعالى: " رَبًنَا أَرِنَا الَّلذَيْنِ أَضلأَنَا مِنَ اْلْجنِّ والإنْس
نَجْعَلهما تحتَ أقدامِنا ليَكُونَا من الأسْفَلِين " . إنه أراد بالذي من
الجن إبليس، والذي من الإنس قابيل، وذلك أن إبليس أولُ من سَنَّ الكفر، وقابيل
أوّل من سَنَّ القتل؛ وإنما كان أصل ذلك كله الحسد.
ولأبي العتاهية:
فيا رَبِّ إنّ الناس
لا يُنْصفونني ... وكيفَ ولَوْ أَنصفتُهم ظَلَمُوني
وإنْ كانَ لي شيءٌ
تَصدِّوْا لأخْذه ... وإن جئت أبْغِي سَيْبهم مَنَعُوني
وإن نالَهُمِ بَذْلي
فلا شُكْرَ عِنْدهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شَتَمُوني
وإن طَرَقتْني
نِقْمَةٌ فَرِحُوا بها ... وإن صَحِبَتنِي نِعْمَةٌ حَسَدُوني
سَأَمْنَع قلْبِي أن
يَحنَّ إليهُم ... وأحْجُب عنهم ناظِري وجُفُوني
أبو عُبيدة مَعمر بن
اَلمُثنِّي قال: مَرّ قيس بن زُهير ببلاد غَطَفان، فرأَى ثَرْوَةً وعدداً، فكَرِه
ذلك، فقيل له: أيسوؤك ما يَسرُّ الناس؟ قال: إِنك لا تَدْري أنّ مع النِّعمة
والثروة التَّحاسدَ والتخاذلَ، وأنَّ معِ القلّة التحاسد والتناصُر.
وكان يقال: ما أثْرَى
قَوْم قطُّ إلا تَحاسدوا وتخاذلوا.
وقال بعضُ الحكماء:
ألزَم الناس للكآبة أربعة: رجل حديد، ورجل حَسُود، وخَلِيط الأدباء وهو غيرُ
أدِيب، وحَكِيم مُحَقَّر لدى الأقْوام.
عليّ بن بِشْر
المَرُّوزيّ قال: كتب إليَّ ابن المبارك هذه الأبياتَ:
كلَّ العَدَاوة قد
ترْجَى إماتَتُها ... إلا عَداوةَ مَنْ عاداك من حَسَدِ
فإِنّ في القَلْبِ
منها عُقْدَةً عُقِدَتْ ... وليس يَفْتحها راقٍ إلى الأبدِ
إلا الإَله فإن
يَرْحم تُحَلّ به ... وإنْ أباه فلا تَرْجُوه من أحد
سُئِلَ بعضُ
الحُكماء: أيّ أعدائك لا تُحِبّ أن يَعُود لك صديقاً؟ قال " : الحاسِد الذي
لا يَرُدّه إلى " مودتي " إلا زوالُ نِعْمتي.
وقال سُلَيمان
التَّيْمِيّ: الحَسد يُضعِف اليَقِين، ويُسْهِر العَينْ، ويُثِرُ الهمّ.
الأحنفُ بن قَيْس
صَلِّى على حارثة بن قُدَامة السَّعْديّ، فقال: رَحمك اللهّ، كنتَ لا تحْسُد
غَنياً ولا تحقر فقيراَ.
وكان يُقال: لا
يُوجَد الحُرُّ حَرِيصاً، ولا الكَرِيم حَسُداً.
وقال بعضُ الحُكماء:
أجهدُ البَلاء أن تَظْهَرَ الخَلَّة، وتَطُوِل المُدَّة، وتَعْجِز الحِيلة، ثم لا
تعْدَم صَدِيقاً مُوَلِّيا، وابن عمٍّ شامتاً وجاراً حاسِداَ، ووليًّا قد تَحَوَّل
عدوًّا، وزَوْجة مُخْتلِعة، وجارية مُسْتَبِيعة، وعَبداً يَحْقِرك، وولداً
يَنتهرك، فانظُر أين مَوْضِع جَهْدك في الهرَب: لرجل من قُريش:
حَسَدُوا النعمةَ
لمَّا ظَهَرت ... فَرمَوْها بأباطيل الكَلِمْ
وإذا ما الله أَسْدَى
نِعْمَةً ... لم يَضِرْها قولُ أعداءِ النِّعَم
وقيل: إذا سرك أن
تَسْلم من الحاسد فعَمِّ عليه أمْرَك.
وكانت عائشةُ رضى
اللهّ عنها تتمثّل بهذين البيتين:
إذا ما الدهر جَرَّ
على أناس ... حوادثَه أناخَ بآخرِينَا
فقُلْ للشَّامِتين
بنا أفِيقُوا ... سيَلْقى الشامِتون كما لَقِينا
ولبعضهم:
إياك والحسدَ الذي هو
آفةٌ ... فَتَوَقَّه وتَوَقَّ غِيرة مَنْ حَسد
إِنَّ الحَسُودَ إذا
أرك مَوَدَّةً ... بالقَوْل فهو لك العَدُوُّ المُجْتَهِدْ
الليثً بن سَعْد قال:
بَلَغني أنَّ إبليس لقي نُوحًا صلى الله عليه وسلم، فقال له إبليس: اتّق الحَسْد
والشح، فإني حَسَدتُ آدمَ فخرجتُ من الجنة، وشَحَّ آدم على شَجرة واحدة مُنِع منها
حتى خَرج من الجنًة.
وقال الحسنُ: أصول الشَّرِّ
" ثلاثة " وفُروعه ستَّة، فالأصول الثلاثة: الحَسَد، والحِرْص، وحُبًّ
الدُّنيا. والفُروع الستة: " حُبّ النوم، وحُبّ الشِّبع، وحُبُّ الراحة،
وحُبُّ الرئاسة وحُبُّ الثناء، وحُبُّ الفَخْر.
وقال الحسن: يَحْسُد
أحدُهم أخاه حتى يَقَعَ في سَرِيرته وما يَعْرِف علانِيَته، ويَلُومه على ما لا
يَعْلمه منه، وَيتعلم منه في الصّداقة ما يُعَيِّره به إذا كانت العداوة، واللّه
ما أرى هذا بمُسْلِم.
ابن أبي الدُّنيا قال: بَلغني
عن عُمر بن ذَرّ أنه قال: اللهم من أرادنا بشّرٍ فاكفِناه بأيِّ حُكمَيْك شِئت،
إمّا بتَوْبة وإمّا براحة. قال ابن عباس: ما حسدتُ أحداً على هاتين "
الكلمتين " .
وقال ابن عبَّاس: لا
تَحْقِرَنَ كلمة الحكمة أن تَسْمعها من الفاجر، فإنما مَثَلُه كما قال الأول:
رُبَّ رَمْيَة من غير رام.
وقال بعضُ الحكماء:
ما أمحقَ للإيمان، ولا أهتكَ للستر من الحسد، وذلك أنّ الحاسدَ مًعاند لحكم الله.
باغٍ على عباده، عاتٍ على ربه، يَعْتَدّ نِعم اللهّ نِقَما، ومَزِيده غِيَرا،
وعَدْل قضائة حَيْفا، للناس حال وله حال، ليس يهدأ، ولا يَنام جَشَعه، ولا ينْفعه
عَيْشُه، مُحْتقر لِنَعم الله عليه، مُتسخِّط ما جرت به أقدارُه، لا يَبردُ
غَليله، ولا تُؤْمَن غوائله، إن سالمتَه وَتَرَك، وأن وَاصلتَه قَطَعك، وإن
صَرَمتْه سَبَقك.
ذُكِر حاسدٌ عند بعض
الحكماء فقال: يا عَجَبا لرجل أسلكه الشيطانُ مهاوِي الضَّلالة، وأورده قُحَم
الهَلَكة، فصار لنعم الله تعالى بالمرصاد، إن أنالها من أحب مِن عِباده أشْعِر
قلبُه الأسف على ما لم يُقْدَر له، وأغاره الكَلَفُ بما لم يكن لِينالَه.
أنشدني فتًى
بالرَّملة:
اصبر على حَاسَد
الحَسو ... د فإنّ صَبْرَكَ قاتلُه
النَّارُ تأكل بعضها
... إن لم تَجدْ ما تاكله
وقال عبدُ الملك بن
مَرْوان للحجاح: إنه ليس منَ أحدٍ إلا وهو يَعرف عَيب نفسه، فصفْ لي عيوبك. قال:
أعفِنى يا أمير المؤمنين؛ قال: لستُ أفعل؛ قال: أنا لَجُوج لَدُود حَقُود حَسُود؛
قال: ما في إبليس شرٌ من هذا.
وقال المنصور
لسُليمان بنِ مُعاوية المُهلَبي: ما أسرع الناسَ إلى قومك! فقال: يا أمير المؤمنين:
إن العَرَانين
تَلْقَاها مُحَسِّدةً ... ولن تَرَى للئام الناس حُسَّادَا
وأنشد أبو موسى
لنَصرْ بن سيار:
إِنِّي نشأتُ
وحُسَّادي ذَوُو عَدَدٍ ... يا ذا المَعارج لا تَنْقُص لهم عَدَدَا
إنْ يَحْسُدًوني على
حُسْنِ البَلاَء بهم ... فمِثْل حُسْن بَلاَئي جر لي حَسدا
وقال آخر:
إن يَحْسُدُوني فإنّي
غيرُ لائمهم ... قبْلي من الناس أهل الفضل قد حُسِدُوا
فَدَام لي ولهم ما بي
وما بهم ... وما أكثرْنا غَيظاً بما يَجِد
وقال آخر:
إنَ الغُراب وكان
يَمشي مِشْيَةً ... فيما مضى من سالف الأحْوَالِ
حَسَد القطَاة فَرَام
يمشي مَشْيَها ... فأصابَه ضَرْبٌ من العُقًال
" فأضلّ
مِشْيته وأخطأ مَشْيها ... فلذاك كنِّوه أبا مِرْقال "
وقال حبيب الطائي:
وإذا أراد الله نَشرَ
فَضيلةٍ ... طُوِيت، أتاح لها لسانَ حَسُودِ
لولا اشتعالُ النار
فيما جاوَرَت ... ما كان يُعْرف طِيبُ عَرْف العُودِ
وقال محمد بن مُناذر:
بأيُها العَائبي وما
بيَ من ... عَيْبِ ألا تَرْعَوِي وتَزْدَجِرُ
هلْ لك عِندي وِتْرٌ
فتَطْلُبَه ... أم أنتَ مما أتيتَ مُعتَذِرُ
إِنْ يَكُ قَسْمُ
الإله فَضّلني ... وأنت صَلْدٌ ما فيك معْتَصر
فالحمدُ والشُّكر
والثَناء له ... وَللْحَسود الترَابُ والْحَجَرُ
فما الذي يَجتني
جَليسُك أوْ ... يَبْدُو لهُ منك حين يَختبر
اقرأ لنا سورة
تُذَكرنا ... فإنّ خيْرَ المواعِظ السُوَرُ
أو صِف لنا الحُكم في
فرائضنا ... ما تَسْتَحِق الأنثى أو الذَكَر
أوِ ارْوِ فِقْهًا
تُحيى القُلوبَ به ... جاء َبه عن نبينا الأثَرُ
أو مِن أعاجيب
جاهِليتنا ... فإنها حِكمةٌ ومُخْتَبر
أو آرْوِ عن فارس لنا
مثلاً ... فإن أمثالَها لنا عِبَرُ
فإن تكن قد جَهِلت
ذاك وذا ... ففيكَ للناظِرينِ مُعْتَبَر
فغَنً صوتاً تُشْجَى
النفوس به ... وبعضُ ما قد أتيت يُغتفر
الأصمعيّ قال: كان
رجلٌ من أهل البصرة بذيئاً شِرِّيراً، يؤذي جيرانه ويَشتم أعراضهم، فأتاهُ رجلٌ
فوَعظه، فقال له: ما بالُ جيرانك يَشكونك؟ قال: إنهم يَحسدُونني؛ قال له: على أيّ
شيء يَحسدُونك؟ قال: على الصَلْب، قال: وكيف ذاك؟ قال: أَقْبِلْ معي. فأقبل معه
إلى جيرانه، فقعد مُتحازِناً، فقالوا له: ما لَك؟ قال: طَرَق الليلة كتاب مُعاوية
أنا أصلب أنا ومالك بن المنذر وفلان وفلان - فذكر رجالاً من أشراف أهل البصْرَة -
فوَثبوا عليه، وقالوا: يا عدوّ اللهّ، أنت تُصْلب مع هؤلاء ولا كرامةَ لك! فالتفت إلى الرجل
فقال: أما تراهم قد حَسدوني، على الصَّلب، فكيف لو كان خيراً! وقيل لأبي
عاصم النبيل: إنّ يحيى بن سَعيد يَحْسُدك وربما قَرَّضك، فأَنشأَ يقول:
فلستَ بحيٍّ ولا ميتٍ
... إذا لم تُعادَ ولم تُحْسَدِ
محاسدة الأقاربكتب
عُمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريّ: مُر ذَوي القَرَابات أن
يتزَاورُوا ولا يتجاورُوا.
وقال أكثم بن
صَيْفيّ: تباعَدُوا في الدار تقاربُوا في المودَّة.
وقالوا: أَزْهدُ
الناس في عالمٍ أهلُه.
فَرَج بن سلام قال:
وَقف أميِّة بن الأسكر عِلى ابن عم له فقال:
نَشَدْتُك بالبَيت
الذي طافَ حولَه ... رجالٌ بَنوه من لؤَيّ بن غالبِ
فإنك قد جَرَّبتني
فوجدتنيِ ... أُعينك في الجُلّى وأكفيك جانبي
وإن دبَّ من قومي
إليك عداوةً ... عقاربهُم دبَّت إليهم عَقارِبي
قال أكذلك أنتَ؟ قال:
نعم، قال: فما بالُ مِئبرك لا يزال إليَّ دسيسا؟ قال: لا أعود؛ قال: قد رضيتُ،
وعفا الله عما سلف وقال يحيى بن سعيد: من أراد أن يَبِين عملُه، ويَظهر علمُه،
فَلْيَجلس في غير مَجْلس رهْطه.
وقالوا الأقارب هم
العقارب.
وقيل لعطاء بن مصعب:
كيف غلبتَ على البرامكة وكان عندهم من هو آدبُ منك؟ قال: كنتُ بعيدَ الدار منهم، غريب الاسم، عظيمَ الكِبْر، صغير الجرْم،
كثيرَ الالتوإء، فقرّبني إليهم تبعُّدِي منهم، ورغَّبهم فيّ رَغبتي عنهم، وليس للقرباء
طَرافة الغرباء.
وقال رجلٌ لخالد بنِ
صَفْوان: إنِّي أحبك؛ قال: وما يَمنعك من ذلك ولستُ لك بجار ولا أخٍ ولا ابن عم. يريد أن الحسد
مُوكل بالأدنى فالأدنى.
الشِّيباني قال:
خَرجِ أبو العبَّاس أميرُ المؤمنين متنزِّها بالأنبار فأمعن في نزهتة وانتبذ من
أصحابه، فوافي خباءً لأعرَابيّ. فقال له الأعرابيّ: ممن الرجل؟ قال: مِن كِنانة؟
قال: من أيّ كِنانة قال: من أبغض كِنانة إلى كِنانة؛ قال: فأنت إذاً من قُريش؟ قال: نعم؛
قال: فمن أيّ قريش؟ قال: من أبغض قريش إلى قُريش؛ قال: فأنت إذاً من ولد عبد
المطلب؛ قال: نعم؛ قال: فمن أيّ وَلد عبد المطّلب أنت؟ قال: من أبغض ولد عبد
المطلب إلى ولد عبد المُطلب؛ قال: فأنت إذاً أميرُ المؤمنين، السلام عليك يا أميرَ
المؤمنين ورحمةُ الله وبركاته. فاستحسنَ ما رأى منه وأمر له بجائزة.
وقال ذو الإصبع
العَدْوَانيّ.
ليَ ابن عمٍٍّ على ما
كان من خُلُق ... مُحاسِدٌ ليَ أقليه ويَقْلِيني
أزْرَى بنا أنّنا
شالتْ نعامتُنا ... فخالني عُونهَ أو خِلْتُه دوني
يا عمرو إلا تَدَعْ
شَتْمي ومَنقصتي ... أضربْك حتى تقول الهامةُ اسقوني
ماذا عَلَيّ وإن كنتم
ذَوِي رَحَمِي ... أن لا أُحبَّكُم إن لم تُحبوني
لا أسألُ الناس عما
في ضمائرهم ... ما في ضَمِيري لهم من ذاك يكْفيني
وقال آخر:
مهلاً بني عمِّنا
مهلاً مَوالينا ... لاتَنْبِشًوا بيننا ما كان مَدْفوناً
لا تَطمعوا أن
تًهينونا ونُكْرمكم ... وأن نَكُفَّ الأذى عنكم وتُؤذونا
الله يعلم أنا
لانحبًّكمُ ... ولا نَلومكُم إن لم تحِبُّونا
وقال آخر:
ولقد سَبرت الناسَ ثم
خَبرتهم ... ووصفت ما وصفوا من الأسبابِ
فإذا القرابة لا
تقَرّب قاطعا ... وإذا المودة أقرب الأنساب
المشاكلة ومعرفة
الرجل لصاحبهقالوا: أَقرب القرابة المُشاكلة، وقالوا: الصاحب المُناسب.
وقال حبيب:
وقُلت أخي؟ قالوا أخٌ
من قرابة؟ ... فقلت لهم إنّ الشُكول أقاربُ
وقال أيضاً:
ذو الودّ منِّي وذو
القُرْبى بمنزلةٍ ... وإخْوَتي أُسوةٌ عندي وإخواني
عِصابةٌ جَاوَرَتْ
آدابُهم أَدبي ... فهُم وإن فُرِّقوا في الأرض جِيرانَي
وقال أيضاً:
إنْ نَفْتَرِقْ
نَسَبًا يُؤلِّفْ بيننا ... أدبٌ أَقمناه مُقام الوالد
أو نَخْتلف فالوَصْلُ
منَّا ماؤه ... عَذب تَحدَّر من غَمَامٍ واحد
وقال آخر:
إنَّ النفوس لأجْنادٌ
مُجَنًدَة ... بالإذْن من رَبِّنا تَجْري وتَخْتلفُ
فما تَعارفَ منها فهو
مُؤتلِفٌ ... وما تَناكر منها فهو مُختلف
وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: الأنفس أجْناد مُجنَّدة، وإنها لتتَشامّ في الهَوَى كما تتَشام
الخَيْل، فما تعارف منها ائتلف، وما تَناكر منها اختلف.
وقال صلى الله عليه
وسلم: الصاحبُ رُقْعة في الثَّوب، فَلينظر الإنسان بم يَرْقع ثوبه.
وقال عليه الصلاة
والسلام: امتحنوا الناس بإِخوانهم.
وقال الشاعر:
فاعتبر الأرضَ
بأشباهها ... واعتبر الصاحبَ بالصاحبِ
وقيل: كلُ إلْف إلى
إلْفه يَنزع وقال الشاعر:
والإلْفُ ينزع نحو
الآلِفين كما ... طَيْرُ السماء على ألاًفها تَقَعُ
وقال امرؤ القيس:
أجارتَنا إِنا
غَريبان هاهنا ... وكل غَريب للغريب نَسِيبُ
وقال آخر:
إذا كنت في قَوْم
فصاحِبْ خِيارَهم ... ولا تَصْحب الأرْدى فتردىَ مع الرّدِي
عن المرْء لا تَسأل
وسَلْ عن قَرينه ... فكل قَرِين بالمُقارِن يَقْتدي
وقال آخر:
اصحبْ ذَوِي الفَضل
وأهْل الدِّين ... فالمرْءُ مَنسوبٌ إلى القرينِ
أيوب بن سُليمان قال:
حدَّثنا أبان بن عيسى عن أبيه عن ابن القاسم، قال: بينما سُليمان بن داود عليهما
السلام تحمله الريح، إذ مَرّ بنَسْر واقع على قَصْر، فقال له: كم لك مذ وقعتَ
هاهنا؟ قال: سبعمائة سنة؛ قال: فمن بَنى هذا القصر؟ قال: لا أدريِ، هكذا وجدتُه؟
ثم نظر فإذا فيه كتاب مَنْقور بأبيات من شعر وهي:
خرجنا من قُرَى
اصطَخْرٍ ... إلى القصر فقلناهَ
فمن يسأل عن القصر
... فمبنيا وَجَدناه
فلا تصحب أخا
السَّوْء ... وإِيَّاكَ وإياه
فكم من جاهلٍ أردى
... حَكِيما حي آخاه
يُقاس المرْءُ
بالمرْء ... إذا ما المرْءُ ماشاه
وفي الناس منٍ الناس
... مقاييسٌ وأشباه
وفي العيَن غِنى
للعَين ... أن تَنطق أفواه
السعاية والبغيقال
اللهّ تعالى ذِكْرُه: " يَا أيُّهَا الناسُ إِنَمَا بَغْيًكُمْ على أنْفُسِكم
" . وقال عزَ وجل: " ثَم بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنًهُ الله " .
وقال الشاعر:
فلا تسبق إلى أحدٍ
بِبَغْيٍ ... فإِنَّ البَغْي مَصرعه وخيم
وقال العتَّابي:
بَغَيْت فلم تَقَع
إلاّ صَرِيعاً ... كذاك البَغْي يَصرع كلَّ باغِي
وقال المأمون يوماَ
لبعض وَلده: إياك وأن تُصْغي لاستماعٍ قول السُّعاة، فإنه ما سَعى رجلٌ برجل إلا
انحطّ من قَدْرِه عندي ما لا يتلافاه أبداً.
ووقَّع في رُقعة
ساعٍ: سننظر أصدقتَ أم كنت من الكاذبين.
ووقّع في رًقعة رجل
سعَى إليه ببعض عُمَّاله: قد سَمِعنا ما ذكره الله عزَّ وجلَّ في كتابه، فانصرفْ رَحمك
اللّه.
فكان إذا ذُكر عند
السُّعاة، قال: ما ظَنُّكم بقوْمٍ يَلعنهم الله على الصِّدق؟ وسعَى رجلٌ إلى بلال
بن أبي بُردة، فقال له: انصَرف حتى أَكْشِفَ عما ذكرت.
ثم كشف عن ذلك فإذا
هو لغير رِشْدَة، فقال: أنا أبو عمرو وما كَذبْتُ ولا كُذِبت.
حدثني أبي عن جدّي
أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: السًاعي لِغَيْر رِشْدة.
وسأل رجلٌ عبدَ الملك
الخَلْوَة، فقال لأصحابه: إذا شِئْتم فقُوموا. فلما تَهَيَّأَ الرجل للكلام، قال
له: إيّاك أن تَمْدحني، فأنا أعلم بنفسي منك، أو تَكْذِبني، فإنه لا رَأْي
لكَذُوب، أو تَسْعى إليً بأحد، وإن شئتَ أَقلتُك؟ قال: أَقِلْني.
ودخل رجلٌ على الوليد
بن عبد الملك، وهو والي دِمشق لأبيه، فقال: للأمير عندي نصيحة؟ فقال: إِن كانت لنا
فاذكُرْها، وإن كانت لِغَيرنا فلا حاجةَ لنا فيها؟ قال: جارٌ لي عَصىَ وفَرَّ مِنْ
بَعْثه؛ قال: أما أنت فتُخبِر أنَّك جارُ سَوْء، وإِن شئتَ أرْسلنا معك، فإن كنتَ صادقاً
أقصَيناك، وإِن كنتَ كاذباً عاقبناك، وإِن شئتَ تارَكناك، قال: تَارِكْني.
وفي سِيَر العجم: أنّ
رجلاً وَشىَ برجل إلى الإسكندر، فقال: أتًحِب أن تَقْبل مِنه عليك ومِنك عليه؟ قال: لا، قال: فكُفَّ الشر
يُكَفُّ عنك الشرُّ.
وقال الشاعر:
إذا الواشي نَعَى
يومًا صدِيقا ... فلا تَدَع الصديق لقَوْلِ واشي
وقال ذو الرِّياستين:
قَبول النَّمِيمة شَرٌ من النميمة، لأنّ النميمة دِلالة، والقَبُول إجازة، وليس
مَن دَلَّ على شيء كمن قَبِله وأجازه.
ذُكِر السُّعاة عند
المأمون، فقال لرجل ممن حَضر،: لو لم يكن من عَيْبهم إلا أنّهم أَصدق ما يكونون
أبغضُ ما يكونون إلى الله تعالى " لكَفَاهُم " .
وعاتب مُصْعبُ بن
الزبير الأحنفَ في شيء، فأنكره، فقال: أَخْبَرني الثقةُ؛ قال: كلا، إنّ الثقة لا
يُبلغِ.
وقد جَعل اللهّ السامع
شريك القائل. فقال: " سًمّاعُون للكَذِب أَكَّالُون للسُّحْتِ " .
وقيل: حَسْبك من شّرٍ
سماعُه.
وقال الشاعر:
لَعمركَ ما سبَّ
الأمير عدوُّه ... ولكنَّما سَبَّ الأمير المُبَلغُ
وقال آخر:
لا تقبلنَّ نَميمةً
بُلِّغتَها ... وتحفَظَنَّ مِن الذي أنباكَهَا
إنّ الذي أنباك عنه
نَميمةً ... سَيَدِبُّ عنك بمثلها قد حاكها
لا تنقشنَّ برِجْل
غيرك شَوْكةً ... فَتَفي برِجْلك رجْلَ مَن قد شاكَها
وقال دِعْبل:
===================
ج4. كتاب : العقد
الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
وقد قطَع الواشُون ما
كان بَيننا ... ونحنُ إلى أن نُوصِلَ الحَبلَ أحْوَجُ
رَأوْا عَوْرةً
فاستَقْبلوها بألْبهِم ... فلم يَنْههم حِلْمٌ ولم يَتحرجوا
وكانوا أناسا كنتُ
آمنُ غيْبَهم ... فراحُوا على ما لا نُحبّ فأدْلجوا
الغِيبَة
قال النبي صلى الله
عليه وسلم: إذا قلتَ في الرجل ما فيه فقد اغتَبْته، وإذا قلتَ ما ليس فيه فقد
بهَته: ومرَّ محمدُ سِيرين بقوم، فقال إليه رجل منهم فقال: أبا بكر، إنّا قد
نِلْنا منك فحَلِّلنا؟ فقال: " إني " ، لا أحِلّ لك ما حَرّم اللهّ
عليك، " فأمّا ما كان إليَّ فهو لك " . وكان رَقَبة بن مَصْقلة جالساً
مع أصحابه فذَكَروا رجلاً بشيء، فاطْلعَ ذلك الرجلُ، فقال " له " بعضُ أصحابه: أَلا أخْبره بما قًلنا فيه لئلا تكون غِيبة؟
قال: أخبره حتى تكون نميمة.
اغتاب رجلٌ رجلاً عند
قُتيبة بن مُسلم، فقال له " قُتَيبة " : أمْسك عليك أيها الرجل، فواللّه لقد تلَمَّظت
بمُضْغة طالما لَفَظها الكِرام.
محمد بن مُسلم
الطائفيّ قال: جاء رجلٌ إلى ابن سِيرين، فقال له: بَلغني أنك نِلْتَ منّي، قال:
نفسي أعزًّ " علي " ، من ذلك.
وقال رجل لبَكْر بن
محمد بن عِصْمة: بلَغني أنَّك تقع فيّ؟ قال: أنتَ إذًا عليَّ أكرمِ من نفسي.
وَوقع رجلٌ في
طَلْحَة والزُبير عند سَعد بن أبي وَقّاص، فقال له: اسكُتْ، فإن الذي بيننا لم
يَبْلُغ دينَنا.
وعاب رجلٌ رجلاً عند
بعض الأشراف، فقال له: قد استدللتُ على كَثرة عُيوبك بما تكثر من عُيوب الناس، لأن
طالبَ العُيوب إِنما يَطْلبها بقَدر ما فيه منها، أما سمعتَ قولَ الشاعر:
لا تَهْتِكَنْ من
مَساوي الناس ما سترُوا ... فَيَهْتِكَ الله سِتْراً مِن مَساوِيكَا
واذكُرْ محَاسِنَ ما
فيهم إذا ذُكِروا ... ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فِيكا
وقال آخر:
لا تنهَ عن خُلُقٍ
وتأتيَ مثْلَه ... عارٌ عليكَ إذا فعلتَ عَظيمُ
وابْدَأْ بنفسك
فانهَها عنَ غَيِّها ... فإِذا انتهت عنه فأنتَ حَكيمِ
وقال محمد بن السماك:
تَجَنَب القول في أخيكَ لخَلتين: أمَّا واحدة، فعلَّك تعِيبه بشيءٍ هو فيك؟ وأما
الأخرى، فإنْ يَكُن الله عافاك ممَّا ابتلاه به، كان شُكْرك الله على العافية
تعبيراً لأخيك على البَلاء.
وقيل لبعض الحُكماء:
فلانٌ يَعِيبك؛ قال: إنما يَقْرض الدَرهمَ الوازنُ.
" قيل
لبُزَرْجَمُهر: هل تعلم أحداً لا عيبَ فيه؟ قال: إن الذي لا عيب فيه لا يموت " .
وقيل لعمرو بن عُبيد:
لقد وَقع فيك أيوب السِّخْتيانيّ حتى رَحمْناك؟ قال: إياه فارحَمُوا. " وقال
ابن عبَّاس: اذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، ودَع منه ما تُحِبُّ أن
يَدَع منك.
وقَدم العلاء بن
الحَضرميّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: هل تَرْوِي من الشعر شيئَاَ؟
قال: نعم؟ قال: فأنشِدني؟ فأنشِده:
تَحَببْ ذَوي الأضغان
تَسْب نفوسَهم ... تَحَببَك القُربَى فقد تُرْقع النَّعَلْ
وإن دَحسوا بالكُرْه
فاَعفُ تكرُّمًا ... وإن غَيَّبوا عنك الحديثَ فلا تَسَل
فإن الذي يُؤْذيك منه
سماعُه ... وإن الذي قالوا وراءك لم يُقل
فقال النبي عليه
السلام: إن من الشِّعر لَحِكْمة.
وقال الحسنُ
البَصْرِي: لا غِيبةَ في ثَلاثة: فاسقٍ مُجاهر " بالفِسْقِ " ، وإمام
جائر، وصاحب بِدْعة لم يَدَع بِدْعته.
وكتب الكِسائي إلى
الرَّقاشي:
تركتَ المسجد آلْجَام
... عَ والتَرك له ريبَهْ
فلا نافلةً تَقْضي
... ولا تَقضي لمَكْتوبَه
وأخبارُكَ تَأْتينا
... على الأعْلام مَنْصوبَه
فإنْ زِدْتَ من
الغيَب ... بة زِدْناك من الغِيبه
مداراة أهل الشرقال
النبي عليه الصلاة والسلام: شَرّ الناس من اتّقاه الناسُ لشَرّه.
وقال عليه الصلاة
والسلام: إذا لقيتَ اللئيمَ فخالِفْه، وإذا لقيتَ الكريمَ فخالِطْه.
وقال أبو الدِّرداء:
إنا لنَكْشِرُ في وُجوه قوم وإنّ قلوبنا لتَلْعنهم وسُئل شَبيب بن شَيْبة عن خالد
بن صَفْوان، فقال: ليس له صديق في السرّ ولا عدوّ في العَلاَنية.
وقال الأحنف: رُبَّ
رجل لا تَغيب فوائدُه وإن غابَ، وآخرَ لا يسلم منه جليسهُ وإِن احتَرس.
وقال كثير بن
هَرَاسة: إنّ من الناس ناسًا يَنْقصونك إذا زِدْتهم، وتَهُون عندهم إذا خاصصْتَهم،
ليس لرضاهم مَوْضع تَعْرِفه، ولا لسُخْطهم موضع تَحْذره، فإذا عرفتَ أُولئك
بأعْيانهمِ فابذُل لهم موضِعَ الموَدة، واحرمهم موضعَ يَكُن ما بذلتَ لهم من
المودة حائلاً دون شرِّهم، وما حَرَمتهم من الخاصة، قاطعاً لحرْمتهم.
وأنشد العُتْبيّ:
لي صديقٌ يَرَى
حُقوقي عليه ... نافلاتٍ وحقَّه الدهرَ فَرْضَا
لو قطعتُ البلادَ
طُولاً إليه ... ثم من بَعْد طُولها سِرْتُ عَرْضا
لرَأَى ما فعلتُ
غَيْر كَثِير ... وآشتَهى أن يَزيد في الأرْض أَرْضا
وفي هذه الطَّبقة من
الناس يقول دِعْبل الخُزاعيّ:
اْسقِهم السُّمّ إن
ظَفِرت بهم ... وآمزُجْ لهم من لِسانك العَسَلاَ
كَتب سهلُ بن هارون
إلى مُوسى بن عِمْران في أبي الهُذَيل العَلاّف:
إنّ الضَّمِير إذا
سألتًكَ حاجةً ... لأبي الهُذَيل خلافُ ما أبدِي
" فأَلِن
له كنفا ليحسن ظنًّه ... في غير منفعة ولا رِفد "
حتى إذا طالتْ
شَقاوةُ جَدِّه ... وعَنَاؤه فاجْبَهه بالردّ
وقال صالحُ بن عبد
القُدُوس:
تجنب صدِيق السّوء
وآصرِمْ حِبالَه ... وإِن لم تَجدْ عنه مَحيصاً فَدَارِهِ
ومَن يَطلب المعْروف
من غير أَهله ... يَجدْه ورَاءَ البحر أو في قَرارِه
وللّه في عَرْضُ
السمواتِ جَنَّةٌ ... ولكنّها مَحْفوفة بالمَكاره
وقال آخر:
بَلاءٌ ليس يُشْبِهه
بَلاءٌ ... عدَاوةُ غير ذي حَسَبٍ ودينِ
يبيحك منه عِرْضاً لم
يَصُنْه ... لِيرْتع منكَ في عِرْض مَصون
عُرض على أبي مُسلم
صاحب الدّعْوة فرسٌ جواد، فقال لقُوّاده: لماذا يصلُح مثلُ هذا الفرس؟ قالوا: إنا
نَغْزو عَليه العدوّ؛ قال: لا، ولكن يركبه الرجلُ فيَهْرُب عليه من جار السّوء.
ذم الزمانقالت
الحُكماء: جُبل الناسُ على ذمّ زَمانهم وقلّة الرِّضا عن أهل عَصْرهم، فمنه
قولُهم: رضَا الناسُ غايةٌ لا تُدرك. وقولهم: لا سبيلَ إلى السلامة من أَلْسنة
العامّة. وقولهم: الناسُ يعيّرون ولا يَغْفِرون، واللّه يَغْفر ولا يُعيِّر.
وفي الحديث: لو أن
المؤمن كالقِدْح المُقوّم لقال الناس: ليت ولو.
وقال الشاعر:
مَن لابَس النَّاس لم
يَسْلم من الناس ... وضَرَّسُوهُ بأَنْيَابٍ وأَضْرَاس
هِشام بن عُروة عن
أبيه عن عائشة أنها قالت: رَحِمَ الله لَبِيداً كًان يقول:
ذَهب الذين يُعاش في
أكنافهم ... وبَقِيتُ في خَلَف كجِلْد الأجْرَبِ
فكيف لو أَبصر
زمانَنا هذا.
قال عُروة: ونحن
نقول: رَحِم الله عائشة، فكيف لو أدركت زمانَنا هذا.
وكان بعضهم يقول: ذهب
الناسُ وبَقيَ النَسْناس، فكيف لو أدْرك زماننا هذا.
دخل مُسلم بن يَزِيد
بن وَهْب على عبد الملك بن مَرْوَان،. فقال له عبدُ الملك: أيُّ زمان أدركتَ
أفضَل، وأيُّ الملوك أكمل؟ قال: أمّا المُلوك فلم أَرَ إلا حامداً أو ذامًّا، وأما
الزمان فيَرْفع أقواماً، وكلّهم يَذُم زمانَه لأنه يُبْلِي جديدَهم، ويُفرَق
عديدهم، ويهْرِم صغيرَهم؛ ويهلك كَبيرَهم.
وقال الشاعر:
أيا دهرُ إن كنتَ
عاديتَنا ... فَها قد صَنَعتَ بِنا ما كفَاكَا
جَعلت الشرَارَ علينا
خِياراً ... وولَيتنا بعد وَجْهٍ قفَاكا
وقال آخر:
إذا كان الزمانُ
زمانَ تَيْمٍ ... وعكْلٍ فالسلامُ على الزّمانِ
زمان صارَ فيه الصدرُ
عَجْزا ... وصار الزُّجّ قُدّامَ السّنان
لعلّ زمانَنا سَيعود
يومًا ... كما عاد الزمانُ على بِطان
أبو جعفر الشّيباني
قال: أتانا يوماً أبو مَيَّاس الشاعر ونحن في جماعة، فقال: ما أنَتم
" فيه " وما تتذاكرون؟ قلنا: نَذْكُر الزمان وفَساده؟ قال: كلا، إنما
الزمانُ وِعاء وما ألْقِي فيه مِن خَيْر أو شرّ كان على حاله، ثم أنشأ يقول:
أرَى حُللاً تُصان
على أناسٍ ... وأخلاقاً تُدَاسُ فَما تُصَان
يَقولوِن الزمانُ به
فَسادٌ ... وهُم فَسدوا وما فَسد الزمان
أنشد فرج بن سلاّم:
هذا الزمان الذيِ
كنَّا نُحذَّرُه ... فيما يُحدِّث كعبٌ وابن مسعودِ
إن دام ذا الدهرُ لم
نحْزَن على أحدٍ ... يموتُ منَا ولم نَفْرح بِمَوْلود
وقال حَبِيب الطائيّ:
لم أَبكِ في زَمن لم
أرضَ خَلَته ... إلا بكيتُ عليه حين يَنْصَرِمُ
وقال آخر في طاهر بن
الحسين:
إذا كانت الدُنيا
تًنال بِطاهرٍ ... تَجَنَّبت منها كلَّ ما فيه طاهرُ
وأعرضتُ عنها عِفَةَ وتكَرُّماَ
... وأرجأتُها حتى تَدورَ الدوائر
وقال مُؤمن بن سَعيد
في مَعْقل الضَّبيّ وابن أخيه عثمان:
لقد ذلَّت الدنيا وقد
ذلّ أهلُها ... وقد مَلَّها أهلُ النَدى والتَّفضُّل
إذا كانت الدُّنيا
تَميل بخَيّرها ... إلى مِثل عًثمانٍ ومِثل المُحوّل
ففي استِ ام دُنيانا
وفي آست ام خَيّرها ... وفي آست آم عثمان وفي آست ام مَعقِل
وقال محمد بن مُناذر:
يا طالبَ الأشعار
والنَّحوِ ... هذا زمانٌ فاسدُ الحَشْوِ
نهارُه أوْحشً من
لَيْله ... ونَشْوُه من أخْبَث النّشْو
فَدَع طِلاَبَ
النَّحو لا تَبغِهِ ... ولا تقل شعراً ولا تَرْو
فَما يَجوز اليومَ
إلا آمرؤٌ ... مُسْتَحكم العَزْف أو الشَّدْو
أو طِرْمِذان قولُه
كَذِبٌ ... لا يَفْعل الخير ولا ينوي
ومن قولنا في هذا
المعنى:
رَجاءٌ دُون أَقْربه
السَّحابُ ... وَوَعْدٌ مثلُ ما لمَع السَّرَابُ
ودَهْر سادت
العُبْدان فيه ... وعاثَتْ في جوانبه الذِّئاب
وأيّام خلَتْ من كلِّ
خَيْرٍ ... ودُنيا قد تَوَزّعها الكِلاب
كلابٌ لو سألتَهم
تُرَاباً ... لقالوا عندنا آنقطع التّراب
يُعاقَب مَن أساء
القولَ فيهم ... وإنْ يُحْسِن فليس له ثَواب
كتب عَمْرو بن بحر
الجاحظ إلى بعض إِخوانه في ذمِّ الزمان: بسم الله الرحمن الرحيم، حَفِظك الله حفْظ
مَن وَفّقه للقَناعة، واستَعمله في الطاعة. كتبتُ إليك وحالي حالُ من كَثُفت
غمومه، وأشْكلت عليه أموره، واشتَبه عليه حالُ دهره، ومَخْرج أمْره، وقَلَّ عنده
من يَثِق بوَفائه، أو يَحمد مَغبة إخائه، لاستحالة زمانِنا، وفَساد أيّامنا، ودَوْلة
أنذالِنا. وقِدْماً كان يقال مَن قَدَم الحياءَ على نَفْسه، وحكَّم الصِّدْق في
قوله، وآثر الحقً في أموره، ونَبَذ المُشتبِهات عليه من شئونه، تَمٌتْ له السلامة،
وفاز بوُفورِ حظّ العافية. وحَمِد مَغبة مكْروه العاقِبة؛ فنَظرنا إذ حال عِنْدنا حُكْمُه،
وتحوّلت دولتُه، فَوَجَدْنا الحياء متَّصلاً بالحِرْمان، والصِّدْق آفةً علِى
المال، والقَصْدَ في الطّلَب برك استعمال القِحة وإخْلاقِ العِرض في طريق التوكّل
دليلاَ على سَخافة الرأي، إذا صارت الخُطوة السابقة والنًعمة السابغة في لُؤم
النِّيَّة، وتناولُ الرِّزق من جهة محاشاة الوفاء ومُلابسة مَعرّة العار. ثم
نَظَرنا في تعقّب المُتعقّب لقولنا، والكاسِر لحُجّتنا، فأقَمنا له عًلَماً
واضِحا، وشاهِداً قائماً، ومنارًا بيِّناً، إذ وَجَدْنا مَن فيه السُّفوليةَ
الواضحة، والمَثالب الفاضحة، والكَذِب المُبرِّح، والخُلْفَ المُصَرّح، والجَهالة
المُفْرطة، والرِّكاكة المُسْتَخِفّة؛ وضَعْف اليقين والاستيثاب، وسرْعة الغَضب والخِفّة،
قد استُكْمل سروره، واعتدلت أمورُه، وفاز بالسِّهْم الأغْلب، والحظّ الأوْفر،
والقَدْر الرَّفيع، وَالجَواب الطّائع، والأمر النافِذ، إن زلّ قيل حَكُم، وإنْ
أخطأَ قيل أصاب، وإن هَذَى في كَلامه وهو يَقْظان، قيل رُؤْيا صادِقة في سِنَة
مُباركة، فهذه حُجّتنا " أبقاك اللّه " على مَن زَعم أنّ الجهْل
يَخْفِضُ، وأن الحُمق يَضَع، وأنّ النَّوْك يُرْدي، وأن الكَذِب يَضُر وأنّ
الخُلفَ يُزْرِي.
ثم نَظَرْنا في الوَفاء
والأمانة، والنُّبْل والبَراعة، وحُسْن المَذْهب وكماله المُروءَة، وسَعة الصَّدْر،
وقلّة الغَضب، وكَرِم الطبيعة، والفائق في سَعة عِلْمه، والحاكم على نَفْسه،
والغالِب لِهَواه، فَوَجدنا فُلان بن فلان، ثم وَجدنا الزَّمان لم يًنْصفه من
حقّه، ولا قامَ له بوَظائف فرْضه. وَوَجَدْنا فضائلَه القائمة له قاعدهً به. فهذا
دليلٌ على أنّ الطًلاح أجدَى من الصَّلاح، وأنّ الفَضْل قد مَضى زمانُه، وعَفَت
آثارُه، وصارت الدائرة عليه، كما كانت الدائرة على ضدّه؛ وَوَجدْنا العَقْلَ
يَشْقى به قرينُه، كما أن الجَهْل والحمْق يَحْظَى به خَدِينُه. وَوَجدْنا الشعرَ
ناطقاً على الزَّمان، ومُعْرباً عن الأيّام حيث يقول:
تَحَامَقْ مع
الحَمْقَى إِذا ما لَقيتَهمِ ... ولاقِهمُ بالجَهْل فعْلَ أخِي الجَهْل
وخَلِّط إذا لاقَتْ
يوماً مُخَلِّطا ... يُخَلِّط في قَوْلٍ صَحيح وفي هَزْل
فإنِّي رأيتُ المَرْء
يَشْقَى بعَقْلِه ... كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعَقْل
فبقيتُ أبقاك الله
مثلَ مَن أصبح على أَوْفاز، ومن النُّقلة على جهَاز، لا تَسوغ له نِعْمة، ولا
يُطعم عَيْنيه غَمْضة؛ في أهاويل يُباكره مكْرُوهها، وتُراوحه عقابيلُها، فلو أنّ
الدُّعاءَ أجيب، والتَضرًع سُمع، لكانت الهَدّة العُظمى، والرَّجفة الكبرى؟ فليتَ
الذي يا أخي ما أَستَبْطئه من النّفْخة، ومن فَجْأَة الصَّيحة، قُضي فحان، وأذن به
فكان؟ فواللهّ ما عُذبت أُمةٌ برَجفة، ولا ريح ولا سَخْطة، عذابَ عَينيّ برُؤْية
المُغايظة المُضْنية، والأخبار المُهلكة، كأنّ الزَّمان توكَّل بعَذَابي، أو انتصب
لإيلامي؟ فما عَيْشُ مَن لا يُسَر بأخ شقيق، " ولا خِدْن شفيق " ، ولا يَصْطبح
في أوَّل نهارِه إلا برُؤية من تُكْره " رؤيتُه " ونَغمة من تَغُمه طَلْعته،
فبدَّل الله " لي أي، أخي بالمسكن مَسكنا وبالرَّبع رَبْعا، فقد طالت الغُمة،
وواطنت الكُرْبة، ادلهمتْ الظُّلمة، وخَمد السِّراج، وتَباطأ الانفِراج. "
والسلام " .
فساد الإخوانقال أبو
الدَّرداء: كان الناس وَرَقاً لا شَوْك فيه، فصاروا شَوْكاً لا وَرَق فيه.
وقيل لعُرْوة بن
الزُّبير: ألا تَنْتقل إلى المدينة؟ قال: ما بَقِى بالمدينة إلا حاسدٌ على نِعْمة،
أو شامت بمُصِيبة.
الخُشني قال أنشدني
الرِّياشيّ:
إذا ذَهَب التكرُّم
والوَفاء ... وباد رِجالُه وبَقِي الغُثَاءُ
وأَسْلَمني الزَّمانُ
إلى رِجالٍ ... كأمْثال الذِّئاب لها عُواء
صَديق كلَّما
استَغْنيت عنهم ... وأَعْداء إذا جَهَدَ البَلاء
إذا ما جئتهم
يَتدافَعوني ... كأنِّي أجربٌ آذاه داء
أقولُ ولا ألاَم على
مَقالعلى الإخوان كُلِّهم العَفاء
وقالت الحًكماء: لا
شيءَ أضيع من مَوَدَةِ من لا وَفاء له: واصطناع مَن لا شكر عِنده، والكريمُ
يَوَدُّ الكريم عن لُقْية واحدة، واللّئيم لا يَصِل أحداً إلا عن رَغْبة أو رَهْبة.
وفي كتاب لِلْهند:
إنّ الرَّجل السًوْء لا يَتَغَيّر عن طبْعه، كما أنَّ الشَّجرة المُرَّة لو
طَلَيْتها بالعَسل لم تثمر إلا مُرًّا.
وسَمِع رجلٌ أبا
العتاهية يُنْشد:
فارْم بطَرْفك حيث شئ
... تَ فلا ترى إلا بَخيلاَ
" فقال له:
بَخلت الناس كًلَّهم؛ قال: فأَكذبني بسَخِيّ واحد " .
وقال أيضا في هذا
المعنى:
للّه درُّ أَبيك أيّ
زَمان ... أصبحتُ فيه وأيّ أهل زَمانِ
كلّ يُوازنك المَودة
جاهداً ... يُعْطِي ويأخُذ منك بالميزان
فإذا رأى رُجْحانَ
حَبَّة خَرْدلٍ ... مالتْ مَودَّتُه مع الرًّجحان
وقال فيه أيضاً:
أَرَى قوماً
وُجُوهُهمُ حِسانٌ ... إذا كانت حَوائجُهم إلينَا
وإن كانت حَوائجُنا
إِليهم ... يُقبح حُسْن أوجههم عَلَينا
فإن مَنع الأشحّةُ ما
لَدَيهم ... فإنّا سوف نَمْنح ما لَدَينا
وقال:
مَوالينا إذا احتاجوا
إلينا ... وليسَ لنا إذا احتجنا موالى
للبَكريّ:
وخَليلٍ لم أَخُنْه
ساعةً ... في دَمِي كَفّيه ظُلْماً قد غمٍسْ
كان في سِرِّي
وجَهْري ثِقَتي ... لستُ عنه في مُهِمّ أحترس
ستر البغض بألفاظ
الهوى ... وادَّعىٍ الوُدَّ بغِش ودَلَس
إنْ رآني قال لي
خَيراً وإنْ ... غبت عنه الود بغش ودلس
ثم لمّا أمكَنَتهُ
فًرْصةٌ ... حَمَل السيفَ على مَجْرَى النّفس
وأرادَ الرُوح لكنْ
خانَهُ ... قَدَرٌ أيقَظَ مَن كانَ نَعَس
وأنشد العُتبي:
إِذا كنتَ تَغْضب من
غير ذَنْب ... وتَعْتِب من غَير جُرْم عَلَيّا
طَلبتُ رِضاكَ فإن
عَزَّني ... عَدْدتُكَ مَيْتاً وإن كنتً حَيّا
فلا تعجبنّ بمَا في
يَدَيْكا ... فأكثْر منه الذي في يَدَيّا
وقال ابن أبي حازم:
وصاحب كانَ لي وكنتُ
لهُ ... أشفقَ من والدٍ عَلَى وَلَدِ
كُنّا كَسَاقٍ تَسْعى
بها قَدَمٌ ... أو كَذِراعٍ نيطت إلى عَضد
حتى إذا دَبَّت
الحوادثُ في ... عَظْمِي وحًل الزّمانُ من عقَدي
ازور عنّي وكان
يَنْظُر مِنْ ... طَرْفي ويَرْمِي بساعِدِي ويَدِي
وقال:
وخِلٍّ كان يَخْفِض
لي جَناحًا ... أعادَ غِنًى فنابذَني جماحَا
فقلتُ لهُ وَلِي
نَفْس عَزُوف ... إذَا حَمُيت تَقحَمت الرًّماحا
سأبدِل بالمَطامع فيك
يأسًا ... وباليَأْس آستَراح من استراحا
وقال عبد الله بن
مُعاوية بن " عبد الله بن " جعفر:
وأنتَ أخي ما لم تكن
ليَ حاجةٌ ... فإِنْ عَرَضت أيقنتُ أنْ لا أخا لِيَا
فلا زاد ما بَيْني
وبَيْنك بعدَ ما ... بَلَوْتُكَ في الحاجاتِ إلا تمَادِيا
كِلاَنَا غنيٌّ عن
أَخِيه حياتَه ... ونحنُ إذا مِتْنا أشدُّ تَغانِيا
وعينُ الرِّضَا عن
كلِّ عَيْبٍ كليلةٌ ... كما أنّ عينَ السُّخط تُبدِي المَساوِيا
وقال البُحتريّ:
أشرِّق أم أغَرِّبً
يا سعيدُ ... وأَنْقُص من ذِمامِي أو أزِيدُ
عَدَتني عن نَصِيبين
العَوادِي ... فبَخْتى أبلهٌ فيها بَلِيدُ
وخَلَّفني الزّمانُ
على رِجالٍ ... وجُوههمُ وأيديهمْ حَدِيد
لهم حُلَل فهُنَّ
بِيضٌ ... وأخلاقٌ سَمُجن فهُنَّ سُود
أَلا ليتَ المَقَادر
لم تُقَدَّر ... ولم تَكُنِ العطايا والجُدودُ
وقال ابن أبي حازِمِ:
وقالُوا لو مَدحت
فَتًى كَرِيماً ... فقلتُ وكيفَ لي بفتًى كَريم
بُلِيتُ ومَرَّ بي
خَمْسون حَولاً ... وحَسْبُك باْلمُجَرِّب من عَلِيم
فلا أَحدٌ يُعَدُّ
ليومِ خيْرٍ ... ولا أحدٌ يَعود علَى عَدِيم
وقال:
قد بلوتُ النّاسَ
طُرَّا ... لم أحِدْ في الناس حرا
صار حُلْوُ الناس في
العَي ... ن إذا ما ذيق مُرا
وقال:
مَن سَلاَ عنِّيَ
أَطْلَق ... تُ حِبالِي من حِبالهْ
أَو أَجَدّ الوَصل
سارَع ... ت بجَهْدِي في وصاله
إنَّما أَحْذو على فع
... ل صَدِيقي بمثَاله
غيرَ مُستجْدٍ إِذا
ازوَر ... ر كأني مِن عِيَاله
لَنْ تراني أبداً أع
... ظِم ذا مالٍ لماله
لا ولا أَزْرَى بمَنْ
يع ... قِل عندي سُوءُ حاله
إنما أقضي عَلَى ذَا
... كَ وهذا بفِعاله
كيفَما صَرّفني
الدَّه ... رُ فإني من رِجاله
ومن قولنا في هذا
المعنى:
أبا صالحٍِ جاءت على
الناس غَفْلةٌ ... على غَفْلَةٍ بانت بكلِّ كَرِيم
فَليتَ الآلي باتُوا
يُفادون بالألى ... أقاموا فَيُفْدَى ظاعنٌ بمقيم
وياليتَها الكُبْرَى
فتُطْوى سماؤنا ... لها وتُمَدّ الأرضُ مَدَّ أَديم
فما الموتُ إلا عَيْش
كلِّ مُبَخَّل ... وما العَيْش إلا موت كل ذَميم
وأعذَرُ ما أدمى
الجُفونَ من البُكا ... كَريمٌ رَأى الدًّنيا بكَفّ لَئيم
ومثلُه في هذا المعنى:
أبا صالحٍ أينَ
الكِرامُ بأَسْرِهم ... أفِدْني كريماً فالكريمُ رِضَاءُ
أحقًّا يقول الناسُ
في جود حاتمٍ ... وابن سِنان كان فيه سَخاء
عَذِيريَ مِن خَلْق
تَخَلَّق منهم ... غَباءٌ ولُؤْم فاضحٌ وجَفاء
حِجارةُ بُخْلٍ ما
تَجُود ورُبَّما ... تَفجَّر من صُمِّ الحجارة ماء
ولو أنّ موسى جاَء
يَضْربُ بالعَصا ... لما انبجَسَت من ضَرْبه البُخلاء
بَقاءُ لِئام الناس
مَوْتٌ عليهمُ ... كما أنّ موتَ الأكْرمين بَقاء
عَزيزٌ عليَهم أن
تَجود أكفّهم ... عليهم مِن الله العَزيزِ عَفاء
ومثلُه قولُنا في هذا
المعنى:
ساقٌ تَرنّح يَشْدُو
فوقَهُ ساقُ ... كأنّه لِحَنِين الصَّوْتِ مُشْتاقُ
يا ضَيْعَةَ الشِّعر
في بُلْهٍ جَرامقةٍ ... تَشابهت منهُمُ في اللُّؤْم أخلاق
" غُلَّت
باَّعناقِهم أَيدٍ مُقَفَّعَةٌ ... لا بُوركت منهُمُ أَيدٍ وأعنَاق
كأنما بينهم في مَنْع
سائلهم ... وحَبْس نائلهم عَهْد ومِيثاقُ
كم سُقْتهم بأَماديحي
وقُدْتهم ... نحو المَعالي فما انقادوا ولا انساقوا
وإن نَبا بيَ في
ساحاتهم وَطنٌ ... فالأرض واسعة والناس أَفراق
ما كنتُ أوّلَ ظمآن
بمَهمهة ... يَغرُّه من سراب القَفْر رَقراق
رِزْقٌ من الله
أرضاهم وأسخطَني ... اللّهُ للأنْوك المَعْتوه رَزَّاق
يا قابضَ الكف لا
زالت مُقبَّضة ... فما أناملُها للناس أرزاق
وغِبْ إذا شِئت حتى
لا تُرى أبداً ... فما لفقدك في الأحشاء إقلاق
ولا إليك سبيلُ الجود
شارعةٌ ... ولا عليكَ لنور المجد إشراق
لم يَكتنفني رَجاء لا
ولا أمل ... إلا تكنّفه ذُلّ وإملاق
وقال مُؤَمِّل بن
سَعيد في هذا المعنى:
إنما أزرى بقدْري
أنَني ... لستُ من نابِهِ أهل البلدِ
ليس منهم غير ذي
مَقْلية ... لذوي الألباب أو ذي حَسَد
يَتحامَوْن لِقائي
مثلَ ما ... يَتحامَوْن لِقاءَ الأسد
طَلْعتي أثقلُ في
أعينهم ... وعلى أنفسهم من أحُد
لو رأوني وَسْط بحْرٍ
لم يكن ... أحَدٌ يأخذ منهم بيَدىِ "
باب في الكبرأقال
النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى: العَظمة إزاري، والكِبْرياء
ردائي، فمن نازعني واحداً منهما قصمتُه وأهنته.
وقال عليه السلام: لا
يدخل حَضْرة القدس مُتكبِّر.
وقال: فَضل الإزار في
النار. معناه: من سَحب ذيلَه في الخُيلاء قاده ذلك إلى النار.
و " نَظر الحسنُ إلى عبد الله بن الأهْتم يَخْطِر في المَسْجِد، فقال: انظروا
إلى هذا، ليس منه عضو إلا وللّه عليه نِعْمة، وللشيطان في لَعْنة.
وقال سَعد بن أبي
وَقّاص لابنه: يا بُني: إيّاك والكِبرَ، ولْيكُنْ فيما تَسْتَعِين به على تَرْكه:
عِلْمُك بالذي منه كنتَ، والذي إليه تَصِير، وكيف الكِبْر مع النُّطْفة التي منها
خُلِقتَ، والرحِم التي منها قُذِفْت، والغِذَاء الذي به غُذِيت.
وقال يحيى بن حَيّان:
الشريفُ إذا تَقَوى تواضَع، والوَضيع إذا تقوَّى تَكَبَّر.
وقال بعضُ الحُكماء:
كيف يَسْتقِرّ الكِبر فيمن خُلِق من ترَاب، وطُوِي على القَذَر، وجَرى مجرى البول.
وقال الحسن: عجباً
لابن آدم كيف يَتَكبر وفيه تِسع سُموِم كلّها يُؤْذي وذكر الحسنُ المُتكبرين فقال:
يُلْفي أحدُهم ينص " رَقَبَته " نصّا، ينفَض مذرويه، ويَضرب أصْدَريه،
يَمْلُخ في الباطل مَلْخا، يقول: ها أناذا فاعرفُوني؟ قد عَرَفناك يا أَحمق، مَقتك
الله ومَقتك الصالحون.
ووَقف عُيينة بن
حِصْن بباب عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: استأذِنُوا لي على أمير المؤمنين
وقولُوا له: هذا ابن الأخيار بالباب. فأذِن له، فلما دَخل عليه، قال له: أنتَ ابن
الأخْيار؟ قال نعم؛ قال له: بل أنتَ ابن الأَشْرار، وأما ابن الأخيار فهو يُوسف بن
يَعْقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
وقيل لعبيد اللهّ بن
ظَبْيان: كثر الله في العَشِيرة أمثالك، فقال: لقد سألتم الله شَططا.
وقيل لرجُل من بني
عبد الدَّار عَظِيم الكِبْر: ألا تَأْتي الخَلِيفة؟ قال: أخشى أَلا يَحمل الجسْرُ
شرفي.
وقَيل له: ألا تَلبَس
فإنَّ البَردَ شدِيد؟ قال: حَسَبي يُدْفئني.
قيل للحجاجِ: كيف
وجدت منزلَك بالعِرَاق أيها الأمِير؟ قال: خَير مَنزِل، لو أدركتُ بها أربعةَ نفر
فَتقرَّبت إلى الله سُبحانه وتعالى بدمائهم؛ قيل له: ومَن هم؟ قال: مُقاتل بن مِسْمع، وَلِي سِجِسْتان، فأتاه الناسُ
فأعْطاهم الأموال؛ فلما قَدِم البصرة بسط له الناسُ أرديتهم فمشى عليها؛ فقال:
لمثْل هذا فليعمل العامِلُون. وعبيد اللهّ بن ظَبيان خطَب خُطْبة أَوْجَز فيها، فناداه
الناسُ من أَعْراض المَسْجد. كثَّر الله فينا أمثالك؟ قال: لقد كلَّفتم ربكم شططا.
ومَعْبد بن زُرارة، كان ذات يومٍ جالساً على طريق، فمرَّت به امرأةٌ، فقالت: يا
عبد الله، أين الطَّريق لِمَكان كذا؟ فقالَ لمِثْلي يُقال يا عبد الله! وَيلك!
وأبو السَّمّال الحَنَفِيّ، أضلَّ ناقَته، فقال: واللهّ لئن لم تُرَدَّ عليَّ
ناقتي لا صلّيتُ أبداً.
وقال ناقلُ الحديث:
ونَسيِ الحجَّاج نفسَه، وهو خامسُ هؤلاء الأربعة، بل هو أشدُّهم كُفْراً وأعْظَمهم
إلحاداَ، حين كتب إلى عبد الملك بن مروان في عَطْسة عَطسها فَشَمَّته أصحابُه
ورَدَ عليهم: بَلغني ما كان من عُطاس أمير المؤمنين وتشْميت أصحابه له وردّه
عليهم، فيا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً عظيما.
وكتابُه إليه: إنّ
خَليفة الرَّجل في أهلِه أكرمُ عليه من رَسوله إليهم، وكذلك الخُلفاء يا أميرَ
المؤمنين أعلَى منزِلةً من المُرسلين.
العُتْبيّ قال: رأيتُ
مُحْرِزاَ مولَى باهلة يَطوف على بَغْلة بين الصَّفا والمَرْوة، ثم رأيتُه بعد ذلك
على جِسْر بَغْداد راجلاً، فقلتُ له: أراجلٌ أنتَ في مِثْل هذا المَوْضع؟ قال:
نعم، إنّي ركبتُ في مَوْضع يمْشي الناسُ فيه، فكان حقيقاً على الله أن يُرَجِّلني
في مَوْضع يَرْكب الناس فيه.
وقال بعضُ الحكماء
" لابنه: يا بُني، عليك بالترحيب والبشر، وإياك والتقطيبَ والكبر، فأنَ
الأحرار أحبُّ إليهم أن يًلْقَوْا بما يُحبون ويُحرَموا، مِن أن يُلْقَوْا بما
يكرهون ويًعْطَوْا. فانظر إلى خَصْلة غَطّت على مِثْل اللؤم فالزمها، وانظر إلى خَصلة عَفَّت
على مثل الكرة فاجتنبها. ألم تسمع قول حاتم الطائي:
أضاحِك ضيفي قبل
إنزال رَحْله ... ويُخصب عندي المَحَلُّ جديبُ
وما الخِصب للأضياف
أن يَكْثُرَ القِرَى ... ولكنما وجهُ الكريم خَصيب
وقال محمود الوراق:
التِّيه مَفسدة
للدِّين منقصة ... للعَقل لمجلبة للذمّ والسخَطِ
مَنْع العطاء وبَسْط
الوجه أحسنُ من ... بَذْل العطاء بوَجْه غير منبسط
وقال أيضاً:
بِشْرُ البخيلِ يكاد
يصْلِح بُخلَه ... والتِّيهُ مَفْسدة لكلِّ جوادِ
ونقيصة تبْقى على
أيامه ... ومَسبَّة في الأهل والأولاد
وقال آخر في الكِبر:
مع الأرض يا بنَ
الأرض في الطَيران ... أَتأْمُل أن تَرْقَى إلى الدَبَرَانِ
فواللّه ما أبصرتُ
يوماً مُحلِّقاً ... ولو حَلَّ بين الجَدْي والسَّرطان
حَمَاهُ مكانُ البُعد
مِن أَن تَناله ... بسَهْم من البَلْوى يدُ الحَدثان
التسامح مع النعمة
والتذلل مع
المصيبةقالوا: من عَزّ بإقبال الدَّهر ذَلّ بإِدْباره.
وقالوا: مَن أَبْطره
الغِنَى أذلّه الفقر.
وقالوا: مَن وَليَ
وِلاية يَرى نفْسَه أكبر منها لم يتغيَّر لها، ومَن وَليَ ولايةً يراها أكبر من
نفسه تغير لها.
وقال يحيى بن حَيّان:
الشرَّيف إذا تقوَّى تواضع، والوضيعُ إذا تقوَّى تكبَّر.
وقال كِسرى: احذَرُوا
صَوْلة الكريم إذا جاع، واللئيم إذا شَبع.
وكتب عليًّ بن
الجَهْم إلى ابن الزيّات:
أبا جعفر عرج على
خُلطائكَا ... وأَقصِر قليلاً من مَدى غُلوائكَا
فإن كنتَ قد أُوتيت
في اليوم رِفْعةً ... فإنّ رَجائي في غَدٍ كرجائكا
وقال عبد العزيز بن
زُرارة الكلابيّ:
لقد عجبتْ منهُ
اللًيالي لأنَهُ ... صَبُورٌ على عَضلاء تلك البلابِل
إذا نال لم يَفْرَح
وليس لنَكبة ... أَلمَت به بالخاشع المُتَضائل
وقال الحسنُ بن هانئ:
لقد حَزِنْتُ فلَم
أَمُتْ تَرَحا ... ولقد فَرِحْتُ فلم أمُت فَرَحا
كتب عقِيلُ بن أبي
طالب إلى أخيه عليّ بن أبي طالب عليه السلامُ يسأله عن حاله، فكتب إليه عليٌّ رضي
الله عنه:
فإنْ تَسألِينيّ كيفَ
أنتَ فإنني ... جَليِدٌ على عَض الزَّمان صَلِيبُ
عَزِيزٌ عليًّ أنْ
تُرى بي كآبةٌ ... فيفرح واشٍ أو يُسَاء حَبِيب
ما جاء في ذم الحمق
والجهلقال النبي صلى الله عليه وسلم: " الجاهلُ يظلم مَن خالطه، ويعتدي على
مَن هو دونه، ويتَطاول على مَن هو فَوْقه، ويتَكلّم بغير تَمييز، وإن رَأَى كريمةً
أعرض عنها، وإن عَرَضت فتْنة أرْدَتْه وتهوَّر فيها.
وقال أبو الدَّرداء:
عَلامة الجاهل ثلاث: العُجُب، وكَثرة المَنطق، وأن يَنْهَى عن شيء ويأتيه.
وقال أرْدشير:
حَسْبُكم دَلالة على عَيْب الجهل أنَّ كل الناس تَنفر منه وتَغضب من أن تُنسب إليه.
وكان يُقال: لا
تَغْرُرْك من الجاهل قَرابة ولا أُخوَة ولا إِلْف، فإنّ أحقَّ الناس بتَحريق
النَّار أقربُهم منها.
وقيل: خَصْلتان
تقَرِّبانك من الأحمق، كثرةُ الالتفات، وسرعة الجواب. وقيل: لا تَصْطحب الجاهِلَ،
فإنّه يُريد أن يَنْفعك فيضُرّك.
ولبعضهم:
لكلِّ دَاءٍ دواءٌ
يستطب به ... إلا الحماقةَ أَعْيَتْ مَن يُدَاويها
ولأبى العتاهية:
احْذَرِ الأحمقَ أن
تَصْحَبَه ... إنما الأحمقُ كالثَّوب الخَلَقْ
كلَّما رَقَّعْتَه
مِن جانبٍ ... زَعْزَعتْه الريحُ يوماَ فَانخرق
أو كصدع في زُجاج
فاحشٍ ... هل تَرَى صَدْع زُجاجٍ يَلْتصق
فإذا عاتبتَه كي
يَرْعَوِي ... زادَ شرًّا وتمادى في الحُمق
باب في التواضعقال
النبي صلى الله عليه وسلم: مَن تَوَاضَع للّه رَفعه الله.
قالت الحكَماء: كلّ
نِعْمة يحسد عليها إلا التَواضع.
وقال عبدُ الملك بن
مَرْوان، رَفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: أفضَل الرجال مَن تَوَاضع عن
رِفْعة، وزَهِد عن قُدْرة، وأنصف عن قوة.
وقال ابن السماك
لعيسى بن موسى: تواضُعك في شَرَفك أكبرُ من شرَفك.
وأصبح النّجاشيّ
يوماً جالساً على الأرض والتّاجُ عليه، فأعظمت بَطارقتُه ذلك، وسألُوه عن السَّبب
الذي أوْجبه، فقال: إني وَجدت فيما أنزل الله على المَسِيح: إذا أنعَمْتُ عَلَى
عَبْدِي نِعمةً فَتَواضَع أتمَمتُها عليه، وإنه وُلد لي هذه الليلةَ غلامٌ
فتواضعتُ شكراً للّه.
خرج عمرُ بن الخطّاب
رضي الله عنه، ويدُه على المُعلَّى بن الجارود العَبْديِّ، فَلقيَتْه امرأةٌ من
قُرَيش، فقالت له: يا عُمر، فَوَقف لها؟ فقالت: كنَا نَعْرفك مُدةً عُميراً، ثم
صِرْت من بعد عُمير عُمر، ثم صِرْت من بعد عُمر أميرَ المؤمنين، فاتق اللهّ يا بن
الخطّاب وانظُر في أمور الناس، فإنه مَن خاف الوَعيد قَرُبَ عليه البَعيد، ومَن
خاف الموتَ خَشيَ الفَوْت. فقال المُعلّى: إيهاً يا أمةَ الله، فقد أبكيتِ أميرَ
المؤمنين. فقال له عُمر: اسكت، أتَدْري مَن هذه " ويحك " ؟ هذه خَوْلة بنت حَكيم
التي سمع الله قولَها من سمائه، فعُمَر أحرى أن يَسمع قولَها ويَقْتدي به.
وقال أبو عَبّاد
" الكاتب " : ما جَلس إليَّ رجل قَطَ إلا خيِّل إليَ أنّي سأجلس إليه.
وسُئل الحسنُ عن
التواضع فقال: هو أن تخرج من بَيْتك فلا تلْقى أحداً إلا رأيتَ له الفضلَ عليك.
وقال رجل لبَكر بن
عبد الله: عَلِّمني التواضع؛ فقال: إذا رأيتَ مَن هو أكبَرُ منك فقُل: سَبَقني إلى
الِإسلام والعَمل الصالح، فهو خير مني، وإذا رأيت " من هو " أصغرُ منك فقُل: سبقتُه إلى الذُّنوب والعمل السيئ، فأنا
شرٌّ منه.
وقال أبو العتاهية:
يا مَن تشرًّف
بالدُّنيا وزينتها ... ليسَ التشرُّف رَفْعَ الطّين بالطيّن
إذا أردتَ شريفَ
الناس كلِّهِمُ ... فانظُرْ إلى مَلِك في زِيِّ مِسْكينَ
" ذاك الذي
عَظُمت في الناس هِمَّته ... وذاكَ يَصْلح للدُّنيا وللدِّين "
الرفق والأناةقال
النبي صلى الله عليه وسلم: مَن أًوتِيَ حظَّه من الرِّفق فقد أوتي حظَّه من خَيْر
الدُنيا والآخرة.
وقالت الحُكماء:
يُدْرَك بالرِّفق ما لا يُدْرَك بالعًنْف، ألاَ تَرى أنّ الماء على لِينه يَقْطع
الْحَجَر على شِدَته؟ وقال أشجعُ " بن عمرو " السُّلَميّ لجعفر بنِ يحيى
بنِ خالد:
ما كان يُدْرَك
بالرجال ولا ... بالمال ما أدركتَ بالرِّفْق
وقال النابغة:
الرِّفْقُ يُمْن
والأَناةُ سعادةٌ ... فاْسْتَأْنِ في رِفْق تُلاَق نَجَاحَا
وقالوا: العَجل
بَرِيدُ الزَّلل.
أخذ القَطامىِ
التَّغلبِيّ هذا المعنى فقال:
قد يُدْرِك
المُتَأنِّي بعض حاجتِه ... وقد يكونُ معَ المُستَعْجل الزَّللُ
وقال عَدِيُّ بن زَيد:
قد يُدْرِكُ المُبْطِىءُ
مِن حظّه ... والْحَين قد يَسْبقُ جُهْدَ الحَرِيصْ
استراحة الرجل بمكنون
سره إلى صديقةتقول العرب: أَفْضَيْتُ إليك بشُقوري. وأَطلَعْتُك على عًجَري وبُجَري. لوكان في جَسدي بَرص ما كَتَمتُه.
وقال اللهّ تبارك
وتعالى: " لِكُلِّ نَبَأٍ مُسْتَقَرّ " .
وقالت الحكماء: لكلّ
سِرّ مُستودع.
وقالوا: مكاتمة
الأدْنين صرَيحُ العُقوق.
وقال الشاعر:
وأبثثتُ عَمراً بعضَ
ما في جَوَانحي ... وجَرَّعتُه من مُرّ ما أتجرع
" ولا بدَّ
من شَكْوى إلى ذي حَفِيظةٍ ... إِذَا جَعلتْ أسرارُ نفس تَطَلَّع "
وقال حبيب:
شكوت وما الشَّكْوَى
لِمِثْليَ عادةٌ ... ولكنْ تَفِيضُ النفسُ عند امتلائها
وأنشد أبو الحسن محمد
الَبَصَريَّ:
لَعِبَ الهَوَى
بمَعالمي ورُسومي ... ودُفِنْتُ حيًّا تحت رَدْم هُمُومِي
وشكوتُ هَمِّي حين
ضِقْتُ ومَن شكا ... هَمًّا يضِيقُ به فغير ملوم
وقال آخر:
إِذا لم أطِق صَبراً
رَجعتُ إلى الشكوى ... وناديتُ تحت اللًيل يا سامع النَّجْوَى
وأَمطَرْت صَحْن
الخَدِّ غيثاً من البُكا ... على كَبِد حَرَّى لِتَرْوَى فما تَرْوَى
الاستدلال باللحظ على
الضميرقالت الحكماء: العينُ باب القَلْب، فما كان في القلب ظهَر في العين.
أبو حاتم عن الأصمعي
عن يونس بن مُصْعب عن عثمان بن إبراهيم بن محمد قال: إني لأَعرف في العين إِذَا
عَرفتْ، وأَعرِف فيها إذا أنكرتْ، وأعرف فيها إذا لم تَعرف ولم تُنكر، أما إذا
عرفت فتخواصّ، وأما إذا أَنكرت فتَجْحظ، وأما إذا لم تَعرف ولم تُنْكر فتَسْجُو.
وقال صريعُ الغَواني:
جَلنا عَلامات
اْلمَوَدَّة بَيْننا ... مَصايِدَ لَحْظٍ هنَ أَخفي من السِّحْرِ
فأعرفُ فيها الوَصْلَ
في لِينِ طَرْفِها ... وأعرِف فيها الهَجْر في النَظر الشزْر
وقال محمودٌ الورّاق:
إنّ العُيون على
القُلوب شَوِاهدٌ ... فبغيضُها لكَ بَينٌّ وحبِيبُها
وإذا تَلاحظت العُيون
تَفاوضت ... وتحدثت عما تجن قلوبها
يَنْطِقْنَ
والأفْواهُ صامِتةٌ فما ... يَخْفي عليك بَريئُهَا ومُريبها
وقال ابن أبي حازم:
خذْ مِن العَيْش ما
كَفي ... ومِن الدَّهر ما صَفا
عين من لا يُحب
وَصْلك تُبْدِي لكَ آلْجَفَا
ومن قولنا في هذا المعنى:
صاحب في الحب
مَكْذُوبُ ... دَمْعة للشَّوق مَسْكوب
كلُّ ما تطوي
جوَانحهُ ... فهو في العَيْنين مَكْتوب
وقال الحسنُ بن هانئ:
وإِنّي لِطَيْر
العيَنْ بالعَينْ زاجِر ... فقد كِدْتُ لا يَخْفي عَلَيَّ ضَمِيرُ
الاستدلال بالضمير
على الضميركتب حَكيمٌ إلى حَكيمٍ: إذا أردتَ معرفةً مالَك عنِدي فضَع يَدَك على
صدْرك فكما تَجدُني كذلك أجدُك.
وقالوا: إيَّاكم ومَن
تُبغضه قلوبُكم، فإنَ القُلوب تُجَازي القلوبَ.
وقال ذو الإصْبع:
لا أسألُ الناسَ عمّا
في ضَمائرهم ... ما في ضمِيري لهم مِن ذاك يَكْفِينى
وقال محمود الورّاق:
لا تسألنَّ المَرْء
عمًا عنِده ... واستَمْل ما في قَلبه من قَلْبكَا
إنْ كان بُغْضاً كان
عندك مِثْلُه ... أو كان حُبَا فاز منك بحًبِّكا
الإصابة بالظنقيل
لعمرو بن العاص: ما العَقْل؟ قال الإصابة بالظَّن ومَعْرفة ما يكون بما قد كان.
أو قال عمر بن
الخطاب: مَن لم يَنْفعه ظنُّه لم يَنْفعه يَقِينُه،.
وقال عليٌ بن أبي
طالب رضي الله عنه: للهّ دَرُّ عباس، إن كان، لينظر إلى الغَيْب من سِترْ رَقيق.
وقال الشاعر:
وقَلّما يَفْجأ
المَكْرُوهُ صاحبَه ... حتى يَرى لوجوه الشَّرّ أسْبَاباً
وإنّما رَكَّب الله
العقلَ في الإنسان دون سائر الحَيوان ليستدلَ بالظاهر على الباطن، ويَفْهم الكثيرَ
بالقليل.
ومن قوِلنا في هذا
المعنى:
يا غافلا ما يَرى إلا
مَحاسِنَه ... ولو دَرَى ما رأى إلا مَساويهِ
انظُر إلى باطنِ
الدًّنيا، فظاهِرُها ... كلُّ البهائم يَجْري طَرْفُها فيه
تقديم القرابة وتفضيل
المعارفقال الشَّيباني: أَوَّل مَن آثر القَرابة والأولياء عثمانُ بن عفّان رضي
الله عنه، وقال: كان عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه يمنع أقاربَه ابتغاءَ وجه اللهّ.
فلا يُرَى أفضل من عمر.
وقال لما آوَى طريدَ
النبي صلى الله عليه وسلم: ما نَقِم الناسُ عَلَيَّ أن وصلتُ رحماً وقَرَّبت عما.
وقيل لمُعَاوية بن
أبي سُفيان: إنَّ آذِنَك يُقدِّم معارفَه وأصدقاءَه في الإذْن على أشرافِ الناس
ووُجوههم؛ فقال: وَيْلكم! إنَّ المَعْرفة لتَنْفع في الكلْب العَقور، والجَمَل
الصَّؤول، فكيف في رَجُل حَسيب ذي كرم ودين.
وقال رجلٌ لزِياد:
أصلح اللهّ الأميرَ، إنَ هذا يُدِلّ بمَكانةٍ يَدَّعيها منك؛ قال: نعم، وأخبرك بما
يَنْفعه من ذلك، إنْ كان الحق له عليك أخذتُكَ به أخذاً شديداً، وإن كان لك عليه
قَضيته عنه.
وقال الشاعر:
أقولُ لجاريِ إنْ
أتاني مُخاصماً ... يُدِلُ بحقِّ أو يُدِلُّ بباطل
إذا لم يَصِلْ خيْري
وأنتَ مُجاورِي ... إليك فما شَرِّي إليك بواصِل
العُتْبيّ قال: وَلَي
عبدً اللهّ بنُ خالد بن عبد الله القَسْرِي " قَضاء " البَصرة، فكان
يُحابى أهل مودَّتِه؛ فقيلَ له: أيّ رجلٍ أنت لولا أنك تُحَابي! قال: وما
خَيْر الصَّديق إذا لم يَقْطع لصديقه قِطْعة من دينه.
ووَلِي ابن شُبرمة
قَضَاء البَصرة وهو كاره، فأحسن السِّيرة. فلما عُزِلَ اجتمع إليه أهلُ خاصَّته
ومَودَّته، فقال لهم: والله لقد وَليتُ هذه الوِلاية وأنا كارهٌ، وعُزلت عنها وأنا
كاره، وما بي من ذلك إلا مخافَة أن يلي هذه الوُجوهَ من لا يَعرف حقّها. ثم تمثَل
بقول الشاعر:
فما السِّجنُ أبكاني
ولا القَيْد شَفّني ... ولا أنني من خَشْية المَوْت أجْزَعُ
بَلَى إنَّ أقواماً
أخافُ عليهمُ ... إذا مِتُّ أن يُعطوا الذي كنتُ أمنع
" وتقول
العامَّة: مَحَبَّة السلطان أردّ عليك من شُهودك " وقال الشاعر:
إذا كان الأمير عليك
خَصما ... فَلَيس بقابلٍ منك الشّهودَا
وقال زياد: أحب
الولايةَ لثلاث، وأَكرهها لثلاث: أحبها لِنَفْع الأوْلياء، وضرَّ الأَعْداء،
واسترخاص الأشياء؛ وأكرهها لِرَوْعة البريد، وقُرْب العزْل، وشَماتة العدوّ.
ويقول الحُكماء:
أَحقُّ مَن شاركك في النِّعمة شرُكاؤك في المُصِيبة.
أَخذه الشاعر فقال:
وإنَ أوْلى الموالي
أن تُوَاسِيه ... عند السُّرُور لمن آساك في الحزَن
إنّ الكِرام إذا ما
أسْهلُوا ذَكَروا ... مَن كان يَألَفهم في المَنْزِل الخَشِن
وقال حَبِيب:
قَبَح الإلهُ عداوةً
لا تُتّقى ... ومَودَّةً يُدْلَى بها لا تَنْفَعُ
فضل العشيرةقال عليّ
بنُ أبي طالب رضي اللهّ عنه: عشيرةُ الرجل خيرٌ للرجل من الرجل للعَشِيرة، إن
كَفَّ عنهم يداً واحدة كَفُّوا عنه أيدياً كثيرة، مع مودَّتهم وحِفَاظهم
ونُصْرتهم. إنِّ الرجل لَيَغْضَب للرجل لا يَعْرفه إلا بِنسَبه، وسأتْلُو عليكمِ
في ذلك آياتٍ من كِتاب اللهّ " تعالى " ، قال اللهّ عزّ وجلّ فيما حكاه
عن لُوط: " لَوْ أنَّ لِي بِكُم قُوّة أَوْ آوِى إلى رُكْن شَدِيد " !
يعني العشيرة، ولم يكن للوط عَشيرة: فوالذي نفسيِ بيده ما بعث الله نبيًّا من بعده
إلا في ثَرْوَة من قومه، ومَنعة من عَشِيرته، ثم ذكر شُعيباَ إذ قال له قومُه:
" إنَّا لَنَرَاكَ فِينا ضعِيفاً ولَوْلا رَهطك لَرَجَمْناكَ " ، وكان
مَكْفوفاً، واللّه ما هابُوا " الله ولا هابوا " إلا عشيرتَه.
وقبل لِبُزُرْجمْهِر:
ما تقول في ابن العم؟ قال: هو عدوُّك وعدوُّ عدوّك.
الدَّين
مِن حَدِيث عائشة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: الدَّيْنُ يَنْقُص ذا الحَسب.
وقال عمر " ألا
إنّ " لأسَيْفع أُسَيْفِع جُهينة رَضي مِن دِينه وأمانته أن يُقال: سَبق
الحاج ألا وإنه قد أدان مُعرِضاَ وأصبح قدرِين به، فمن كان له عِنْده شيء
فلْيأْتنا بالغداة نَقْسم " له " ما " له " بين غُرمائه،
وإياكم والدَّينَ فإنّ أوّله هَمَّ وآخره حُزْن.
وقال مولَى قُضاعة:
فلو كنتُ مولىَ قَيْس
غَيْلانَ لم تَجد ... علي لإنْسان من الناس دِرْهَما
ولكنَّني مولَى
قُضاعة كُلِّها ... فلستُ أبالي أن أدينَ وتَغرَما
وقال آخر:
إذا ما قضيْتَ
الدَّينَ بالدَين لم يكُن ... قَضاءَ ولكِن كان غًرْماً على غُرْم
وقال سُفيان الثوريّ:
الدَّين هَمٌ باللًيل وذُلٌ بالنهار، فإذا أراد الله أن يُذِلَ عَبداً جَعله
قِلادة في عُنقه.
ورأى عمرُ بن الخطاب
رضي الله عنه رجلاً مُتقنِّعاً، فقال له: كان لقمان الحكيم يِقول: القِنَاع رِيبةٌ
بالليل ذُلٌّ بالنهار؛ فقال الرجلُ: إنّ لُقمان الحكيم لم يكن عليه دين.
وقال المقنع
الكِنْديّ:
يَعِيبونني بالدَين
قَومي وإنما ... تَداينتُ في أشياء تُكْسِبهم حَمْدا
إذا أكلوا لَحْمي
وَفَرتُ لحومهم ... وإن هدَمُوا مَجْدِي بنيتُ لهم مَجْدَا
مجانبة الخُلْف
والكذب
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الكَذِب مُجانب الإيمان.
وقالت الحكماء: لَيس
لكَذّاب مُرُوءة.
وقالوا: مَن عُرف
بالكَذِب لم يَجُزْ صِدْقه.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: لا يجوز الكَذِب في جِدّ ولا هَزْل.
وقال: لا يكون المؤمن
كَذّاباً.
وقال عبد الله بن
عُمر: خُلْف الوَعْدِ ثُلُث النِّفاق.
وقال حبيب الطائيِّ
في عَيّاش:
يا أكثر الناس
وَعْداَ حَشْوُه خُلْفٌ ... وأكثر الناس قولاً حَشْوُه كَذِبُ
ومن قولنا في هذا
المعنى:
صَحِيفةٌ أفنيتْ ليتٌ
بها وعسى ... عُنْوانها راحةُ الرِّاجي إذا يَئسَا
وَعْدٌ له هاجسٌ في
القَلْب قد بَرِمتْ ... أحشاءُ صَدْري به من طول ما آنحبسا
مواعدٌ غَرَّني منها
وَمِيضُ سَنَى ... حتى مَددْتُ أيها الكًفّ مقْتَبِسا
فَصادفتْ حجَراً لو
كنتَ تَضْرِبه ... مِن لُؤْمه بعَصَا مُوسى لما آنْبَجَسا
كأنما صِيغ من بُخل
ومن كَذِب ... فكان ذاكَ له رُوحا وذا نَفَسا
التنزه عن استماع
الخنا
والقول بهاعلم أنّ
السامع شريك القائل في الشَر. قال الله " تعالى " : " سماعُونَ
لِلْكَذِب " .
وقال العُتبي:
حَدّثني أبي عن سَعد القصير قال: نَظر إليَّ عمرو بن عُتبة ورجل يَشْتُم رجلاً بين
يديّ، فقال لي، ويلك - وما قال لي ويلك قبْلها - نَزَه سَمْعك عن استماع الخَنا
كما تُنزِّه لِسانَك عن الكلام به، فإنّ السامعَ شريكُ القائل، وإنه عَمد إلى شرِّ
ما في وعائه فأفرغه في وِعائك، ولو رُدَّت كلمة جاهل في فِيهِ لَسَعِدَ رادُّها
كما شَقي قائُلها.
باب في الغلو في
الدِّين
توّفِّي رجل في عَهد
عمرَ بن ذَرّ ممن أسرَف على نفسه في الذنوب، وجاوَزَ في الطُّغيان، فتَحَامَى
الناسُ عن جِنازته، فحضرَها عمرُ بن ذرّ وصلّى عليه، فلما أدْلٍيَ في قبره قال:
يَرْحمك الله أبا فُلان، صَحِبْت عُمْرك بالتوحيد، وعَفَّرت وجهك لله بالسُّجود،
فإن قالوا مُذْنِب وذو خَطايا، فمَن منَا غيرُ مُذنِب وذِي خطايا.
ومن حديث أبي هُريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال:
" يأ يُّها الرُسل كُلُوا مِنَ الطًيبَاتِ واعْمَلوا صالِحاً إنّي بما
تَعملون عَلِيم " وقال: " يأيها الذِينَ آمَنُوا كلوا مِنْ طَيِّبَاتِ
ما رَزَقْنَا كُمْ " ، ثم ذكر الرجلَ يرى أشعثَ أغبرَ يمُدُّ يديه إلى السماء
يقول: يا رَبّ يا رَب، ومَطعَمه حَرَام ومشرَبه حَرام ومَلْبسه حَرام، فأنى
يُستجاب له؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن اللهّ بَعثني بالْحَنِيفيَّة السَّمْحة
ولم يبعثني بالرهبْانية المُبْتدعة، سُنَّتي الصلاة والنوم، والإفطار والصَّوم،
فمن رَغِب عن سُنتي فليس مني.
وقال صلى الله عليه
وسلم: إنّ هذا الدِّين مَتِين فأَوْغل فيه برِفق، فإنّ اْلمنبَتَ لا أرْضاً قَطع
ولا ظَهْراً أَبقى.
وقال عليّ بن أبي
طالب رضي الله عنه: خَير هذه الأمَّة هذا النَّمط الأوْسط، يَرْجع إليهم الغالي
ويَلحق بهم التّالي.
وقال مطَرِّف بن عبد
الله بن الشِّخِّير لابنه، وكان قد تَعبَّد: يا بُنيّ، إن الحسنَة بين السيئتين -
يعني أن الدين بين الإفْراط والتّقْصير - وخَير الأمور أَوْسطها، وشَرّ السّير
الحَقْحقة.
وقال سلمان
الفارِسيّ: القَصْدَ والدًوامَ فأنت الجَواد السابق.
وقالوا: " طالب
العِلم و " عاملُ البِرِّ كآكِل الطَّعام، إن أكل منه قوتاً عصمه وإن أسْرَف
منه أَبْشَمه.
وفي بعض الحديث: إن
عيسى بنَ مريم عليه السلام لَقِيَ رجلاً فقال له: ما تَصْنع؟ قال: أَتعبَّد، قال:
فمن يَعود عليك؟ قال: أخي؛ قال: هو أعْبَد منك.
ونظير هذا أن رفقة من
الأشعريين كانوا في سَفر، فلما قَدِموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدَكَ أفضلَ
من فلان، كان يَصُوم النهار، فإذا نزَلنا قام من الليل حتى نرْتحل؛ قال: فَمن كان
يَمْهن له ويَكفُله؟ قالوا: كلّنا قال: كلّكم أفضلُ منه.
وقيل للزهري: ما
الزّهد في الدنيا؟ قال " أمّا " إنه ما هو بتشعيث اللِّمة، ولا قَشَف
الهيئة، ولكنَّه ظَلَف النَّفس عن الشَّهوة.
عليِّ بن عاصم عن أبي
إسحاق الشَّيباني قال: رأيتُ محمد بن الحنفيَّة واقفاً بعَرَفات على بِرذَوْن
وعليه مُطْرَف خز أصْفَر.
السدِّي عن ابن جُريج
عن " عثمان بن أبي سليمان: أن " ابن عباس كان يَرْتدي رِدَاء بأَلْف.
إسماعيل بن عبد الله
بن جعْفر عن أبيه قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ثوبان مصبوغان
بالزَّعفران: رداء وعمامة.
وقال مَعمر: رأيتُ
قميص أيوب السِّخْتِياني يكاد يَمس الأرض، فسألتُه عن ذلك؟ فقال: إن الشُّهرة كانت
فيما مضى في تذْييل القَمِيص، وإنهّا اليومَ في تَشميره.
أبو حاتم عن الأصمعي:
أن ابن عَوْن اشترى بًرْنساً فمرَّ على معاذَة العَدَويَّة، فقالت: مِثلُك يَلْبس
هذا؟ فذكرتُ ذلك لابن سيربن، قال: أفلا أخبرتها أن تَميما الدارمي اشترى حُلَّة
بألف فصلّىِ فيها.
قدم حمَّاد بن سَلمة
البَصرة فجاءه فرْقد السَّبَخي وعليه ثيابُ صُوف، فقال له حمَاد: ضَع عنك
نَصرانيّتك هذه، فلقد رأيتنا ننتظر إبراهيم " فيخرج إلينا " وعليه معَصفْرة، ونحن نرى أن المَيْتة قد حلَّتْ له أبو الحسن
المدائنيّ قال: دخل محمد بن واسع على قُتيبة بن مُسلم وَالي خُراسان في مِدْرَعة
صوف، فقال له: ما يدعوكَ إلى لِباس هذه؟ فسكت؟ فقال له قتيبة: أكلّمك ولا تُجيبني؟
قال: أَكرَه أن أقولَ زُهداً فأُزَكّي نفسي، أو أقولَ فَقْراً فأَشكو ربي، فما
جوابُك إلا السُّكوت.
قال ابن السًماك
لأصحاب الصُّوف: واللّه لئن كان لباسُكم وَفْقاً لسرائركم فقد أحببتم أن يطلع الناس
عليها، وإن كان مخالفاً لها فقد هَلكتم.
وكان القاسمُ بن محمد
يَلْبس الخزّ، وسالِم بن عبد الله يَلْبس الصُّوف، ويقعُدان في مجلس المدينة، فلا
يُنكر هذا على هذا " شيئاَ " ولا ذا على هذا.
ودَخل رجلٌ على محمد
بن المُنْكَدر فوجده قاعداً على حَشايا مُضاعَفة، وجاريةٌ تُغَلِّفه بالغالية، فقال:
رَحمك اللّه، جئتُ أسألك عن شيء وجدتك فيه - يريد التزيّن - قال: على هذا
أدركتُ الناس.
وصلّى الأعمشُ في
مسجد قوم فأطال بهم الإمام، فلما فَرغ، قال له: يا هذا، لا تُطِلْ صلاتك، فإنه
يكون خَلْفك ذو الحاجة والكبَير والضَّعيف؟ قال الإمام: وإنها لكبيرة إلا على
الخاشعين؛ فقال له الأعمش: أنا رسولُ الخاشعين إليك، إنهم لا يَحتاجون إلى هذا منك.
العُتْبيّ قال: أصابت
الربيعَ بن زِياد نُشَّابةٌ في جبينه، فكانت تنتقض عليه كل عام، فأتاه عليُّ بن
أبي طالب عائداً، فقال له: كيف تَجدك يا أبا عبد الرحمن؟ قال: أجدُني لو كان لا
يذهب ما بي إلا بذَهاب بَصري لتمنيّت ذهابَه، قال له: وما قيمة بَصرك عندك؟ قال:
لو كانت لي الدُّنيا فديتُه بها؟ قال: لا جَرم، ليُعطينّك اللهّ على قَدْر
الدُنيا، لو كانت لك لأنفقتها في سبيله، إِنّ الله يُعطي على قَدْر الألم
والمُصيبة وعنده بعدُ تَضْعيفٌ كثير. قال له الرَّبيع: يا أميرَ المؤمنين، ألا
أشكو إليك عاصمَ بن زِياد؟ قال: وماله؟ قال: لَبِسَ العَباء، وتَرَك المُلاَء، وغم
أهْلَه، وأحْزن وَلَده؛ قال: عليِّ عاصماً. فلما أتاه عَبس في وَجْهه، وقال: وَيْلكَ
يا عاصم! أترى الله أباح لك اللذّاتِ وهو يكره " منك " أخْذَك منها، أنت
أهونُ على الله من ذلك، أو ما سَمعْته يقول: " مَرَجَ البَحْرَيْنِ
يَلْتَقِيَان بَيْنهما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَان " حتى قال: " يَخْرُجُ مِنْهَما اللُؤْلُؤُ والمَرْجَان " . وتاللّه لابتذال
نِعَم الله بالفِعال، أحب إِلي من ابتذالها بالمَقَال، وقد سمعته يقول: "
وأمَّا بِنِعْمَةِ ربكَ فَحَدًث " وقوله: " قُلْ مَنْ حَرَمَ زِينَةَ
الله الَتي أخْرَجَ لِعِبَادهِ والطيبَاتِ مِنَ الرزْقِ " . قال عاصم: فعلامَ
اقتصرتَ أنت يا أميرَ المَؤمنين؟ على لِبْس الخَشِن وأكْل الحَشف؟ قال: إن الله افترض
على أئمة العَدْل أن يُقَدِّروا أنفسَهم بالعوامّ لئلاّ يَشْنعَ بالفقير فَقرُه.
فما بَرِح حتى لِبس المُلاء وترك العَباء.
محمد بن حاطب
الْجُمَحيّ قال: حدّثني من سَمع عمرو بن شُعيب، وكنتُ سمعتُه أنا وأبي جميعاً،
قال: حدّثني عمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدّه عن " عبد الله بن مَسعود قال: أتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاتَ يوم أمّ " عبد الله بن عمرو " بن
العاص " ، وكانت امرأة تَلْطُف برسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّم، فقال:
كيف أنتِ يا أمَ عبد الله؟ كيف أكونُ وعبد الله بن عمرو رجلٌ قد تخلّى من الدنيا،
قال لها: كيف ذلك؟ قالت: حرّم النوم فلا ينام، ولا يُفطر، ولا يَطْعم اللحم، ولا
يؤدِّي إلى أهله حقَّهم؟ قال: فأين هو؟ قالت: خرج ويُوشك أن يَرْجع الساعة، قال: فإذا رجع فاحبسيه عليَّ. فخرج رسول
الله صلى الله عليه وسلم وجاء عبد الله وأوْشك رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الرَّجعة، فقال: يا عبد الله بن عَمرو، ما هذا الذي بلغني عنك، " قال: وما ذاك يا رسولَ الله؟ قال بَلَغني، أنك لا تنام " ولا
تُفْطر " ؟ قال: أردتُ بذلك الأمْنَ من الفزع الأكبر قال: وبلَغني أنك لا
تَطْعم اللَّحم، قال: أردتُ بذلك ما هو خيرٌ منه في الجنَّة؛ قال: وبلغني أنك لا تؤدي
إلى أهلك حقَهم؛ قال: أردتُ بذلك نساءً هنَّ خير منهنّ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم وسلَّم يا عبد الله بن عمرو، إن لك في رسول الله أسوة حَسنة، فرسول الله
يَصوم ويُفطر ويأكل اللَّحم، ويُؤدِّي إلى أهله حقوقَهم. يا عبد الله بن عمرو، إنَ لله عليك حقّا، وإنَ لبدنك عليك حقّا، وإن
لأهلك عليك حقّا. فقال: يا رسول الله، ما تأمرني أن أصوم خمسة أيام وأفطر يوماً؟ قال:
لا؛ قال: فأصوم أربعة وأفطر يوماً؟ قال: لا؛ قال: فأصوم ثلاثة وأفطر يوماً؟ قال:
لا؛ قال: فيومين وأفطر يوماً؟ قال: لا، قال: فيوماً " وأفْطِر يوماً " ؟
قال: ذلك صيام أخي داود، يا عبد الله بن عمرو، كيف بك إذا بَقِيت في حُثالة من
الناس قد مَرِجَتْ عهودُهم ومواثيقُهم فكانوا هكذا - وخالف بين أصابعه قال: فما
تأمرني " به " يا رسول اللهّ؟ قال: تأخذ ما تَعرف، وتَدَع ما تُنكر،
وتَعمل بخاصَّة نَفْسك، وتَدع الناس وعوامَّ أمرهم. قال: ثم أخذه بيده وجعل يمشي به حتى وضعَ يده في يد أبيه، وقال له. أطِع
أباك. فلما كان يومُ صِفّين، قال له أبوه عمرو: يا عبد الله، اخرج فقاتل،
فقال: يا أبتاه، أتأمُرني أن أخرج فأقاتل وقد سمعتُ من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ما سمعت وعَهِد إليَ " ما عهد " ؟ قال: أنشدك الله، ألم يكن
آخر ما قال لك أن أخذ بيدك فوضعها في يدي، وقال لك: أطِع أباك؟ٍ قال: اللهم بلى؛ قال:
فإني أعزم عليك أن تَخْرج فتقاتل. قال: فخرج فقاتل متقلَداً بسيفين.
القول في القدرأتى
قومٌ من أهل القَدر محمد بن المُنْكدر. فقالوا له: أنت الذي تقول: إن الله يُعذِّب
الخلق على ما قدَّر عليهم؟ فصرف وجهه عنهم ولم يُجبهم. فقالوا له: أصلحك الله، إن
كنت لا تُجيبنا فلا تُخْلِنا من بركة دعائك، فقال: اللهم لا تُرْدِنا بعُقوبتك،
ولا تَمكر بنا حِيلتك، ولا تُؤاخذنا بتَقْصيرنا عن رِضاك، قليلَ أعمالنا تقَبّل،
وعظيمَ خطايانا اغفر، أنت الله الذي لم يكن شيء قبلك، ولا يكونُ شيء بعدك، وليّ
الأشياء، ترفع بالهُدى من تشاء؛ لا مَن أحسن استغنى عن عَونك، ولا مَن أساء
غَلَبك، ولا استبدّ شيء عن حُكومتك وقُدرتك، " لا ملجأ إلا إليك " ،
فكيف لنا بالمغفرة وليست إلا في يديك، وكيف لنا بالرحمة وليست إلا عندك، حفيظ لا
ينسى، قديم لا يَبلى، حيّ لا يموت، بك عرفناك، وبك اهتدينا إليك، ولولا أنت لم
نَدْرِ ما أنت، سُبحانك وتعاليت. فقال القوم: قد واللّه أخبر وما قَصرّ.
وقال: ذُكر
القَدر في مجلس الحسن البصريّ، فقال: إن الله خلق الخلق للابتلاء، لم يُطيعوه
بإكراه، ولم يَعْصوه بغَلبة، لم يُهْملهم من الملْك وهو القادر على ما أقدرهم
عليه، والمالك لما ملّكهم إياه، فإن يأتمر العِباد بطاعة الله لم يكن اللهّ
مُثَبِّطاً " لهم " بل يَزيدهم هُدىً إلى هُداهم، وتَقوَى إلى تَقْواهم،
وإن يأتمروا بمعْصية اللّه، كان الله قادراً على صرفهم إن شاء، وإن خَلّى بينهم
وبين المَعْصية، فمن بعد إعذار وإنذار.
مروان بن موسى قال:
حدّثنا أبو ضَمْرة أنّ غَيْلان قَدِم بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة، فقال له:
أنت الذي تزعم أنّ الله أحبَّ أن يُعْصىَ؟ فقال له رَبيعة: أنت الذي تزعم أن الله
يُعصى كَرها؟ فكأَنما أَلقمه حجراً.
قيل لطاوس: هذا
قَتادة يُحب أن يأتيك، فقال: إن جاء لأقُومنّ؟ قيل له: إنه فقيه؟ قال: إِبليس أفقه
منه، قال: " رَبِّ بما أَغْوَيْتَني " .
وقيل للشعبّى: رأيتَ
قتادة؟ قال: نعم، رأيت كُناسة بين حَشَّين، القَدَر هو العِلْم والكِتاب والكَلِمة
والإذْن والمشيئة.
قال الأصمعي: سألتُ
أعرابياً فقلت له: ما فَضلُ بَني فُلان على بَني فلان؟ قال: الكِتاب، يعني القَدَر.
وقال الله عزّ وجلّ:
" إنَّا كُلّ شيءِ خَلَقْنَاهُ بِقَدَر " . وقال: " كُلُّ في
كِتَاب مُبِين " . وقال: " ولَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لعِبَادِنَا اْلمًرْسَلِين
" يعني القَدَر. وقال: " وَلَوْلاً كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
لَكانَ لِزَاما " .
قال الخُشني أبو عبد
الله محمد بن السَّلام: شاعران من فُحُول الجاهلية لهما " بَيْتان " ذَهب "
أحدهما في بيته " مَذْهب العَدْلية، والآخر ذَهب مَذْهب الجَبْرية، فالذي ذهب مَذْهب العَدْلية
أعشى بَكْر حيثُ يقول:
آسْتأثر الله
بالوَفَاء وبالعَدْل وَوَلًى اللامة الرَّجلاَ
والذي ذَهب مذْهب
الجَبْرية لَبِيد بن رَبِيعة حيث يقول:
إنّ تَقْوَى ربِّنَا
خَيْرُ نَفَل ... وبإذْن الله رَيثي وعَجَلْ
مَن هَداه سُبلَ
الخْير اهتدى ... ناعِمَ البال ومَن شاءَ أَضَل
وقال إِياس بن
مُعاوية: كلَّمتُ الفِرَق كلها ببعض عَقْلي، وكلًمتُ القَدَرِيّ بعَقْلي كلِّه،
فقلت له: دُخولك فيما ليس لك ظُلْم منك؟ قال: نعم؟ قلت: فإنّ الأمر كله للّه.
ومن قوْل اللهّ عز
وجل في القدر: " قُلْ فَلّلهِ الْحُجًةُ البَالِغةُ فَلَوْ شَاء لهَدَاكمْ
أجْمَعين " . وقال: " يَمُنُّون عَلَيْكَ أنْ أسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَّلَيَ
إِسْلامَكُمْ بَل الله يَمُنَّ عَلَيْكُمْ أنْ هَدَاكُمْ لِإيمَان إِنْ كنْتمْ
صَادِقينَ " ابن شِهاب قال: أنزل الله على نبيه آية في القَدرِيَّة: " الذين
قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين
وقال: " قُلْ لَوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكُمْ لبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ
عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إلى مَضَاجِعِهِمْ " .
وقال محمد بنُ
سِيرين: ما يُنْكر القَدَرية أن يكونَ الله " قد " عَلِم مِن خَلْقه
عِلْماً فكَتبه عليهم.
وقال رجلٌ لعلي بن
أبي طالب رضي الله عنه: ما تَقول في القَدَر؟ قال: وَيْحك! أخبرني
عن رحمة الله، أكانَتْ قبلَ طاعة العباد؟ قال نعم؟ قال علي: أسْلَم صاحبًكم وقد
كان كافراً؟ فقال الرجلً له: أليس بالمَشيئة الأولى التي أنشأني بها "
وقَوَّم خَلقي " ، أقوم وأقعد، وأقْبِضً وأبْسُط؟ قال له " علي " ، إنك بعدُ في المشيئة؛ أمَا إني أسألك عن ثلاث، فإن قلتَ
في واحدة منهن لا، كفرت؛ وإن قلت نعم، فأنت أنت، فمدَ القومُ أعناقهم ليسمعوا ما يقول،
فقال له عليّ: أخبرني عنك، أخلقك اللهّ كما شِئت أو كما شاء؟ قال: بل كما شاء؛
قال: فَخَلقَك الله لما شِئْت أو لما شاء؟ قال: بل لما شاء؟ قال: فيومَ
القيامة تأتيه بما شئت أو بما شاء؟ قال: بل بما شاء؟ قال: قُمْ فلا مَشيئة لك.
قال هشام بن محمد بن
السائب الكَلْبي: كان هِشام بن عبد الملك قد أنكر على غَيلان التكلم في القَدَر،
وتقدَّم إليه في ذلك أشدَّ التقدّم، وقال له في بعض ما توعده به من الكلام: ما
أحسبك تَنْتهي حتى تَنْزِل بك دعوةُ عمرَ بن عبد العزيز إِذا احتجَ عليك في
المَشيئة بقول الله عزّ وجل: " وَمَا تشاءُونَ إلا أنْ يَشَاء الله " ،
فزعمتَ أنك لم تُلْقِ الا بالاً، فقال عمر: اللهم ان كان كاذباً فاقطع يده وِرجله
ولسانه واضرب عُنُقه، فانْتَهِ أولى لك، ودعَ عنك ما ضَرُه إليك أقربُ من نفْعه، فقال
له غَيْلان، لِحَيْنه وشَقْوته: ابعث إليَّ يا أمير المؤمنين من يُكلّمني ويحتجّ
عليّ، فإن أخذتْه حُجَّتي أمسكتَ عنّي فلا سبيلَ لك إليَّ، وإن أخذتنى حجتُه،
فسألتك بالذي أكرمَك بالخِلافة إلاّ نفَذت فيّ ما دعا به عمرُ عليّ. فغاظ قوله
هشاماً، فعبث إلى الأوْزاعيّ فحكى له ما قال لغَيلان، وما ردَّ غيلان: فالتفت إليه
الأوزاعيّ، فقال له: اسألك عن خمس أو عن ثلاث؟ فقال غيلان: بل عن ثلاث؛ قال
الأوزاعيّ: هل علمتَ أنّ الله أعان على ما حَرَّم؟ قال غيلان: ما علِمت، "
وعَظُمت عنده " . قال: فهل علمتَ أن اللهّ قَضى على ما نهى؟ قال غيلان: هذه
أعظمُ! ما لي بهذا من عِلْم؛ قال: فهل علمتَ أنّ الله حال دون ما أمر؟ قال غيلان - : حال دون ما أمر؟ ما
علمتُ؛ قال الأوزاعي: هذا مرتاب من أهل الزَّيع. فأمر هشامُ بقَطع يده ورِجْله، ثم
ألقي في الكُناسة. فاحْتَوشه الناسُ، يَعجبون من عظيم ما أنزل اللهّ به من نِقمته.
ثم أقبل رجلٌ كان كثيراً ما يُنْكر عليه التكلّم في القَدَر، فتخلّل الناس حتى
وَصل إليه، فقال يا غيلانُ، اذكُر دُعاء عمر رحمه اللهّ؟ فقال غيلان: أفلح إذاً
هشام، إن كان الذي نَزَل بي بدعاء عمر أو بقضاء سابق فإنه لا حَرج على هشام فيما
أمر به، فبلغت كلمته هشاما، فأمر بقَطْع لسانه وضَرب عُنقه لتمام دَعْوة عمر. ثم
التفت هشام إلى الأوزاعيّ وقال له: قد قلتَ يا أبا عمرو فَفَسِّر؛ فقال: نعم، قَضى
على ما نَهى عنه، نَهى آدم عن أكل الشجرة، وقضى عليه بأكلها؛ وحال دُون ما أَمر،
أمر إبليس بالسُجود لآدم، وحال بينه وبين ذلك؛ وأعان على ما حرَّم، المَيْتة،
وأعان المُضطر على أكلها.
الرَّياشي عن سعيد بن
عامر بن جُوَيرية عن سَعيد بن أبي عَرُوبة، قال: لما سألتُ قتادةَ عن القَدَر،
فقال: رأى العرب تريد فيه أم رأيَ العَجم؟ فقلت: بل رَأْيَ العرب: قال: فإنه لم
يكن أحدٌ من العرب إلا وهو يُثبت " القدر " ، وأنشد:
ما كان قَطْعِي
هَوْلَ كلِّ تَنْوفة ... إلا كتاباً قد خلا مَسْطُورَا
وقال أعرابيّ:
الناظًر في قَدَر الله كالناظر في عَين الشمس، يعرف ضَوْءها ولا يَختم على حدودها.
وقال كعب بن زُهَير:
لو كنتُ أعجبُ من شيء
لأعجَبني ... سَعْيُ الفَتَى وهو مخْبُوءٌ له القَدَرُ
يَسْعى الفتَى لأمور
ليس يُدْرِكها ... فالنَّفْس واحدةٌ وآلهمّ منْتشِر
والمَرْءُ ما عاش
مَمْدُودٌ له أمل ... لا تَنْتَهي العينُ حتى يَنْتهي الأثر
وقال آخر:
والجَدّ أنهض بالفتَى
من عَقْله ... فانهضْ بجَدٍّ في الحَوادث أو ذَرِ
ما أقربَ الأشْياء
حين يَسُوقها ... قَدَرٌ وأبعدَها إذا لم تُقْدَرِ
عبد الرحمن القَصِير
قال: حدّثنا يونس بن بلال عن يَزيد بن أبي حَبيب، أنّ رجلاً قال للنبيّ صلى الله
عليه وسلم: يا رسول الله، أيقدّر الله عليِّ الشرّ ثم يُعذَبني عليه؟ قال: نعم،
وأنت أظْلم.
وحدّث أبو عبد الرحمن
المُقْرىء، يَرْفعه إلى أبي هُريرة، عن عمر بن الخطاب رضي اللهّ عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: لا تجَالسوا أهلَ القَدَر ولا تُفاتحوهم.
ومن حديث عبد الله بن
مَسعود، قال: ما كان كُفْر بعد نُبوَّة قط، إلا كان مِفْتاحه التَّكْذيب بالقَدَر.
ثُمَامة بن أَشْرَس
قال: دَخل أبو العَتاهية على المأمون لما قَدِم العراق، فأَمر له بمال، وجَعل
يُحادثه، فقال له يومًا: ما في الناس أجهل من القَدرِيَّة، فقال له المأمون: أنت
بصناعتك أَبصر، فلا تَتَخَطَّها إلى غيرها؟ قال له: يا أميرَ المؤمنين، اجمع بيني وبين من شئتَ منهم. فأَرْسَلَ إليِّ،
فدخلتُ عليه، فقال لي: هذا يَزعم أنّك وأصحابَك لا حُجَّة عندكم. قلت: فلْيَسأَل عمّا
بدا له. فحرَّك أبو العتاهية يدَه وقال: مَن حَرَّك هذه؟ قلتُ مَن ناك أُمّه؛
فقال: يا أميرَ المؤمنين، شتَمني؛ قلت له: نَقضت أصلَك يا ماصّ بَظْر أمّه؛ فَضَحك
المأمونُ؛ فقلت له: يا جاهل، تحرك يدَك، ثم تقول: مَن حَرَّكها؟ " فإن كان
اللهّ حَرَّكها " فلم أَشْتُمك، وإِن كنتَ أنت المُحَرّك لها، فهو قَوْلي؛
قال له المأمون: عندك زيادةٌ في المسألة.
قال الكندي في الفَنّ
التاسع من التّوحيد: اعلم أن العالَم كله مَسوس بالقضاء والقَدَر - أعنى بالقضاء -
ما قُسم لكل مَعْلول مما هو أَصلح وأَحْكم وأَتقن في بِنْية الكُل، لأنه - جل
ثناؤه - خَلَق وأبدع مُضطرًّا ومُختارًا بتمام القُدْرة، فلما كان المختار غيرَ
تامّ الحكمة، لأن تمام آلحِكمة لِمبدع الكل، كان لوِ أطلق واختيارَه لاختار كثيراً
مما فيه فَسادُ الكل، فقَدّر - جلّ ثناؤه - بِنْيةً للكلّ تقديراَ محْكَمًا. فصيّر
بعضه سوانحَ لبعض، يَختار بإرادته ومَشيئته غيرَ مقْهور مما هو أَصْلح وأحكم في
بِنْية اكل، فتقدير هذه السَّوانح هو القَدَر، فبالقضاء والقَدَر ساسَ - جل ثناؤه - جميع ما أَبدع
بهذه السِّياسة المُحكمة المُنظمة، التي لا يَدْخلها زَلَل ولا نَقْص، فاتْضَح أنّ
كل مَعْلوِل فيما قسم له ربه من الأحْوال لا خارج عنها، وأنّ بعضَ ذلك باضطرار
وبعضه باختيار، وأنّ المُختار عن سَوانح قَدَره " اختار " ، وبإرادته لا
بالكَرْه " منه " فَعل.
سُئل أعرابيّ عن القَدَر
فقال: ذاك عِلْم اختَصَمت فيه الظُّنون، وكثر فيه المُختلفون، والواجب علينا أن
نَرد ما أتشكل من حُكْمه إلى ما سبق في عِلْمه.
واصطحب مَجوسي
وقَدَري في سَفَر، فقال القدريّ للمجوسيّ: مالَك لا تُسلم؟ قال: إن أَذِن الله في
ذلك كان؛ قال: إن الله قد أذن إلا أنَّ الشيطان لا يدَعك؛ قال: فأنا مع أَقْواهما.
وقال رجلٌ لهشام بن
الحَكَم: أنت تَزعُم أن اللهّ في فضْله وكَرمه وعَدْله كَلَّفنا ما لا نُطِيقه، ثم
يًعذِّبنا عليه؟ قال هشام: قد واللّه فَعل، ولكن لا نَسْتطيع أن نتكلَّم. اجتمع
عمرو بن عُبيد مع الحارث بن مِسْكين بمنىَ، فقال له: إنّ مِثلى ومثلك لا يَجْتمعان
في مثل هذا المَوْضع، فيَفترقان من غير فائدةَ، فإن شِئتَ فقُلْ، وإن شئتَ فأنا
أقول؟ قال له: قل، قال: هل تَعلم أحداً أقبلَ للعُذر من الله عز وجل؟ قال: لا؛
قال: فهل تَعْلم عذراً أبينَ من عذر مَنْ قال لا أقدر، فيما تَعلم أنت أنه لا
يَقدر عليه؟ قال: لا؛ قال: فلمَ لا يَقْبَلُ - مَن لا أَقبلِ للعُذر منه - عُذْرَ
مَن لا أبينَ من عُذْره؟ فانقطع الحارث بن مِسْكين فلم يرُدّ شيئاَ.
رد المأمون على
الملحدين
وأهل الأهواءقال
المأمون للثَّنوي الذي تكلّم عنده: أَسألك عن حَرْفين لا أَزيد عليهما، هل نَدِم مُسيء
قط على إساءته؟ قال: بلى؟ قال: فالندَّم على الإساءة إساءةٌ أم إحسان؟ قال: بل
إحسان؛ قال: فالذي نَدِم هو الذي أساء أم غَيْره؟ قال: بل هو الذي أساء، قال:
فأرَى صاحبَ الخَيْر هو صاحبُ الشر؛ قال: فإني أقول: إن الذي نَدِم غير الذي أساء؟
قال: فنَدِم على شيء كان منه أم على شيء كان من غَيْره، فسكت. قال له أيضاً:
أخبرني عن قولك باثنين، هل يَستطيع أحدُهما أن يَخلُق خلقاً لا يَستعين فيه
بصاحبه؟ قال: نعم؛ قال: فما تَصنع باثنين؟ واحدٌ يَخلق كلَّ شيء خيرٌ لك وأصح.
وقال المأمون للمُرتد
الخراسانيّ الذي أسلم على يَدَيه وحمله معه إلى العِراق فارتدَ عن الإسلام: أَخبرني
ما الذي أَوْحَشك مما كنتَ به آنساً من دِيننا؟ فواللّه لأن أستحييك بحق، أحبّ
إليَّ من أن أقتلُك بحق، وقد صِرْتَ مُسلماً بعد أن كنت كافراً، ثم عُدت كافراً
بعد أن صِرْت مُسلماً، وإن وجدتَ عندنا دواءً لدائك تداويتَ به، وإن أخطأك الشفاء،
وتَباعد عنك، كنتَ قد أبليتَ العُذْر في نَفْسك، ولم تُقَصرِّ في الاجتهاد لها،
فإن قتلناك قَتَلْناك في الشَّريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليَقين،
ولم تُفَرِّط في الدُّخول من باب الحزْم؛ قال المرتد: أوْحشني منكم ما رأيتُ من
كثرة الاختلاف في دِينكم؛ قال المأمون: لنا اختلافان: أحدُهما كاختلافِنا في
الآذان، وتكبير الجنائز، وصلاة العِيدين، والتشهّد، والتَّسليم من الصلاة، ووُجوه
القراآت، واختلاف وُجوه الفُتيا، وما أشبه ذلك، وهذا ليس باختلاف، وإنما هو تخيير وتَوْسعة
وتخفيف من السنَّة، فمن أذِّن مَثنى وأقام مَثْنى لم يَأثم، ومَن ربع لم يأثم.
والاختلاف الآخر كنَحْو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله، وتأويل الحديث عن
نبيّنا، مع اجتماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عَينْ الخبر، فإن كان إنما
أوْحشك هذا، فينبغي أن يكون اللفظُ بجميع التوراة والإنجيل متفقاً على تأويله كما
يكون متفقاً على تَنزيله، ولا يكون بين اليهود والنَّصارى اختلافٌ في شيء من
التأويلات، ولو شاء الله أن يُنزِّل كًتبه مُفَسَرة، ويجعل كلامَ أنبيائه ورسله لا
يُختلف في تأويله لفَعل، ولَكنَّا لم نجد شيئاً من أمور الدَين والدُنيا وقع إلينا
على الكِفاية إلا معِ طُولِ البحث والتَحْصيل والنَّظر، ولو كان الأمر كذلك لسَقَطت
البَلْوى والمِحن، وذهَب التفاضل والتبايُن، ولمَا عُرف الحازم من العاجز، ولا
الجاهل مِن العالم، وليس على " هذا " بُنِيت الدنيا. قال المُرتد: أشهدُ
أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأن المَسيح عبدُ اللّه، وأنَّ محمداً
صادق، وأنك أمير المؤمنين " حقّا " .
وقال المأمون لعليّ
بن موسى الرِّضا: بِمَ تَدَّعون هذَا الأمر؟ قال: بقرابة عليّ مِن رسول الله صلى
الله عليه وسلم " وعلى آله وبقرابة فاطمة منه " ؟ فقال له المأمون: إنْ
لم يكن ها هنا إلا القرابة، فقد خَلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أهل بَيته
مَن كان أقربَ إليه من عليّ، أو مَن في مِثل قُعْدُده، وإن كان بقرابة فاطمة من
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعلي في
هذا الأمر حق وهما حيان، فإذا كان الأمر كذلك، فإن عليًا قد ابتزَهما حقهما وهما
صحيحان، واستولى على ما لا يَجب له. فما أجابه علي بن موسى بشيء.
كتب واصل بنُ عَطاء
الغزّال إلى عمرو بن عُبيد: أما بعد، فإنّ استلاب نِعمة العبد وتَعْجيل المُعاقبة بيد
اللّه، ومهما يكن ذلك فباستكمال الآثام، والمُجاوَرة للجِدال الذي يحُول بين المرء
وقَلْبه، وقد عرفتَ ما كان يُطعن به عليك وُينسب إليك ونحن بين ظَهْراني الحسن بن
أبي الحسن رحمه اللّه، لاسْتِبْشاع قُبْح مَذْهبك، نحن ومَن قد عرفتَه من جميع
أصحابنا، وُلمَّة إخواننا، الحاملين الواعين عن الحسن، فللّه تلكم لمَّة وأوْعياء
وحَفَظة، ما أدمثَ الطبائع، وأرزن المجالس، وأبينَ الزُّهد، وأصدقَ الألسنة،
اقتدَوْا والله بمن مَضى شَبهًا بهم، وأخذوا بهَدْيهم. عَهدي واللهّ بالحسن
وعَهدكم به أمس في مَسْجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرقيّ الأجنحة، وآخر حديث
حدَّثنا إذ ذَكر الموت وهول المُطَّلع، فأسف على نفسه واعترف بذنبه، ثم التفت
واللّه يَمنة ويسرة مُعتبرًا باكيًا، فكأني أنظر إليه يمسَح مُرْفَض العَرق عن
جبينه، ثم قال: اللهم إني قد شَددْت وَضِين راحلتي، وأخذت في أَهبة سَفَري إلى محلّ
القبر وفَرْش العَفْر، فلا تؤاخذني بما ينسبون إليَّ من بعدي، اللهم إني قد بلَّغْت
ما بَلغني عن رسولك، وفسَّرت من مُحْكم تأويلك ما قد صَدًقه حديثُ نبيّك، ألا وإني
خائفٌ عَمْرا، ألا وإني خائف عَمْرا، شكاية لك إلى ربِّه جَهراً، وأنت عن يمين أبي
حُذيفة أقر بنا إليه؛ وفد يلغني كبير ما حمّلته نفسَك، وقَلّدته عنقك، من تَفسير
التنزيل، وعبارة التأويل، ثم نظرتُ في كتبك، وما أدّته إلينا روايتك من تنقيص
المعاني، وتفريق المَباني، فدلَت شكاية الحسن عليك بالتَّحقيق بظهور ما ابتَدَعت،
وعظيم ما تحمَّلت، فلا يَغْرْرك " أي أخي " تَدْبيرُ مَن حولك، وتعظيمهم
طولَك، وخَفضهم أعينهم عنك إجلالاً لك، غداً واللّه تمضي الخُيلاء والتفاخر،
وتُجْزى كلّ نَفْس بما تَسعى، ولم يكُن كتابي إليك، وتَجليبي عليك، إلا لتَذْكيرك بحديث
الحسن رحمه اللهّ، وهو آخر حَديث حدّثناه، فأَدِّ المَسموع، وانطق بالمفرُوض، ودَعْ
تأويلك الأحاديث على غير وَجْهها، وكن من اللهّ وَجِلا " فكأن قد " .
باب من أخبار
الخوارجلما خرجت الخوارجُ عَلَى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكانوا من أصحابه،
وكان مِن أمر الحَكمين ما كان، واختِداع عمرو لأبي مُوسى " الأشعريّ " ؛ قالوا: لا حُكْم إلا للهّ. فلما سمع عليٌ رضي اللهّ
عنه نِداءهم، قال: كلمة حق يراد بها باطل، وإنما مَذْهبهم أن لا يكون أمير، ولا بُدَ
من أمير بَرًّا كان أو فاجرًا. وقالوا لعليّ: شككتَ في أمرك، وحكَّمت عدوّك في
نَفْسك. وخرجوا إلى حَرُوراء، وخرج إليهم عليٌّ رضي الله عنه، فخَطَبهم متوكِّئاً
على قوْسه، وقال: هذا مَقام مَن أفلح فيه أَفلح يومَ القيامة، أنْشُدكم اللهّ، هل
عَلِمتم أنّ أحداً كان أكرَه للحكومة منِّي؟ قالوا: اللهم لا؛ " قال: أفعلتم
أنكم أكرهتموني عليها حتِى قبِلْتُها؟ قالوا: اللهم نعم " ، قال: فعلامَ
خالفتُموني ونابذتموني؟ قالوا: إنَّا أتينا ذنباَ عظيما فتُبْنا إلى اللهّ منه،
فتُب إلى اللهّ منه، واْستغفره نُعدْ إليك. فقال عليٌ: إني أستغفر الله من كلّ
ذنب، فرَجَعوا معه وهم في ستّة آلاف. فلما استقرُّوا بالكوفة أشاعُوا أن عليَاً
رَجع عن التحكيم، وتاب منه، ورآه ضلالاً. فأتى الأشعثُ بن قيس عليَاً رضي اللهّ
عنه؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ الناس قد تحدثوا أنك رأيتَ الحكومة ضلالاً والإقامة
عليها كُفْراً وتُبْت. فخطب عليٌ الناس فقال: مَن زَعم أني رجعتُ عن الحكومة فقد
كذَب، ومَن رآها ضلالاً فهو أضلّ منها. فخرجت الخوارج من المسجد فحكّمت، فقيل
لعليّ: إنهم خارجون " عليك " ؛ فقال: لا أقاتلهم حتى يقاتلوني،
وسيَفعلون.
فوَجّه إليهمٍ عبدَ
الله بن العبّاس، فلما سار إليهم رحَّبوا به وأكرموه، فرأى لهم جباهًا قَرِحة لطول
السجود، وأيديًا كثَفِنات الإبل، وعليهم قمُص مُرْحَضة وهم مُشمِّرُون، فقالوا: ما
جاء بك يا بن عبّاس؟ قال: جِئتكم من عند صِهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه،
وأَعْلمنا برّبه وسنة نبيّه، ومن عند المهاجرين والأنصار؟ فقالوا: إنا أتينا
عظيماَ حين حَكّمنا الرجالَ في دين اللّه، فإن تاب كما تُبْنا ونهض لمًجَاهدة
عدوّنا رَجعنا. فقال ابن عبّاس: نَشدتكم الله إلا ما صَدَقتم أنفسَكم، أمَا عَلمتم
أنَّ الله أمر بتَحْكيم الرِّجال في أَرْنب تُساوي رُبع درْهم تًصَاد في الحَرَم،
وفي شِقاق رجل وامرأته؟ فقالوا: اللهم نعم؛ قال: فأنشُدكم اللّه، هل علمتم أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمْسك عن القِتال للهُدنة بينه وبين أهل الحُدَيبية؟
قالوا: نعم، ولكن عليًّا مَحا نفسَه من خِلافة المسلمين قال ابن عبّاس: ليس ذلك
يُزِيلها عنه، وقد مَحا رسول الله صلى الله عليه وسلم " اسمه " من
النبوَّة، وقال سُهَيل بن عمرو: لو عَلمتُ أنك رسول الله ما حاربتُك، فقال للكاتب: اكتُب: محمد بن عبد
الله. وقد أخذ على الحَكَمين أن لا يَجُورا، " وإِن يَجُورا " ، فعليٌّ أوْلى
من مُعاوية وغيره، قالوا: إنّ مُعاويةَ يدَّعي مثلَ دعوى عليّ؛ قال فأيُّهما
رأيتُموه أوْلى فولُوه، قالوا: صدقتَ. قال ابن عباس: ومتى جار الحَكَمان فلا طاعة
لهما ولا قَبُول لقولهما. فاتَّبعه منهم ألفان وبَقي أربعة آلاف.
فصلّى بهم صلاتَهُم
ابن الكَوّاء، وقال: متى كانت حرب فرئيسُكم شَبَث بن رِبْعِيّ الرِّياحي. فلم
يَزالوا على ذلك حتى أجْمعوا على البَيعة لعَبد الله بن وَهْب الرَّاسبيّ، فخرج
بهم إلى النَّهروان، فأوْقع بهم عليّ، فقَتل منهم ألفين وثمانمائة، وكان عددُهم
ستةَ آلاف، وكان منهم بالكوفة زُهاء ألفين ممن يُسِرّ أمره، فخرج منهم رجلٌ بعد أن
قال عليٌّ رضي اللهّ عنه: ارجعوا وادفعوا إلينا قاتلَ عبد الله بن خَبّاب؟ قالوا:
كلّنا قَتله وشرك في دَمه، وذلك أنهمٍ لما خرجوا إلى النَّهْروان لقُوا مُسْلمًا
ونَصرانيا، فقتلوا المُسْلم وأوْصَو! بالنصرانيّ خَيرا، وقالوا: احفظًوا ذمّة نبيّكم.
ولقُوا عبدَ الله بن خبّاب، وفي عُنقه المُصحف ومعه امرأته وهي حامل، فقالوا: إنّ
هذا الذي في عنقك يأمرنا بقَتلك؛ فقال لهم: أحْيوا ما أحْيا القُرآن، وأميتوا ما
أمات القرآن، قالوا: حَدِّثنا عن أبيك؛ قال: حدَّثني أبي قال: سمعتُ رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة يموت فيها قلبُ الرجل كما يموت بدنه، يمسى مؤمناً
ويُصبح كافرًا، فكُن عبدَ اللهّ المقتول ولا تكن عبدَ اللهّ القاتلَ؛ قالوا: فما
تَقول في أبي بكر وعمر؟ فأثنى خيراً؟ " قالوا: فما تقول في عليّ قبل التحكيم
وفي عثمان؟ فأثنى خيراً " ؟ قالوا: فما تقول في الحكومة والتحكيم؟ قال: أقول:
إنَّ عليًّا أعلمُ بكتاب اللهّ منكم، وأشد تَوقِّيا على دينه وأبعد بصيرةً؛ قالوا:
إنك لستَ تتَّيع الهدى بل الرجالَ على أسمائها، ثم قَرَّبوه إلى شاطئ البَحر
فذَبحوه، فا مذَقَرَّ دمُه، أي جَرى مستقيماً على دقة وسامُوا رجلاً نَصْرانيا
بنَخْلة، فقال: هي لكم هِبَة، قالوا: ما كُنَّا نأخذها إلا بثَمن؟ فقال: ما أَعجبَ
هذا! أتقتلون مثلَ عبد الله بن خبّاب، ولا تَقبلون منا " جنَى " نخْلة
إلا بثَمن! ثم افترقت الخوارج على أربعة أضرب: الإباضية، أصحاب عبد اللهّ بن إباض؟
والصُّفرية، واختلفوا في نَسبهم، فقال قوم: سُمُّوا بابن الصفار، وقال قوم: نهكتهم
العبادة فاصفرّت وجوهُهم، ومنهم البَيْهسية، وهم أصحاب ابن بَيْهس؟ ومنهم الأزارقة
أصحاب نافع بن الأزرق الحنفي، وكانوا قبلُ على رَأْيٍ واحد لا يختلفون إلا في الشيء
الشاذّ.
فبلغهم خروج مُسلم بن
عُقبة إلى المدينة، وقَتْلُهُ أَهلَ حَرَّة، وأنه مُقبل إلى مكة، فقالوا: يجب
علينا أن نمنعَ حَرَم الله منهم، ونمْتَحن ابن الزبير، فإن كان على رأينا تابعناه.
فلما صاروا إلى ابن الزبير عرَّفوه أنفسهم، وما قَدِموا له، فأظهر لهم أنه على
رأْيهم، حتى أتاهم مُسلم بن عُقبة وأهل الشام، فدافعوه إلى أن يأتي رأْيُ يزيدَ
بنِ مُعاوية، ولم يُتابعوا ابن الزُّبير، ثم تناظَروا فيما بينهم، فقالوا: نَدخل
إلى هذا الرجل فنْظر ما عنده، فإن قَدّم أبا بكر وعمر وبَرِىء من عُثمان وعليّ،
وكَفر أباه وطَلْحة بايعناه، وإن تكُن الأخرى ظَهر لنا ما عنده، وتَشاغلنا بما
يجديِ علينا. فدخلوا على ابن الزًّبير وهو مُتَبذل وأصحابه مُتفرقون عنه، فقالوا
له: إنَا جِئناك لتُخْبرنا رأْيَكَ، فإن كنتَ على صواب بايعناك، وإن كنتَ على
خلافة دَعَوْناك إلى الحق، ما تقولُ في الشَّيخين؟ قال: خيرًا؛ قالوا: فما تقول في
عُثمان الذي حَمَى الحِمَى، وآوى الطَّريد، وأظهر لأهل مِصرْ شيئاً وكَتب بخلافه،
وأوطأ آلَ بني مُعيط رِقابَ الناس، وآثرهم بَفيْء المُسلمين؛ وفي الذي بعده الذي
حكّم " في دين اللّه " الرجالَ، وأقام على ذلك عيرَ تائب ولا نادم؛ وفي
أبيك وصاحبه، وقد بايعا عليًّا، وهو إمام عادل مَرْضي لم يَظْهر منه كُفر، ثم
نكَثَا بَيْعته، وأخرجا عائشة تُقاتل، وقد أمرها الله وصَواحبَها أن يَقرنْ في
بُيوتهن، وكان لك في ذلك ما يَدْعوك إلى التَّوْبة، فإن أنتَ قبِلت كلّ ما نقول
" لك " فلك الزُّلفي عند اللهّ، والنصر على أيدينا، إن شاء الله،
ونَسألُ الله لك التوفيقَ وإن أبَيتَ خَذلك الله والنصر منك بأيدينا.
فقال ابن الزبير: إنّ
الله أمر، وله العِزّة والقُدرة في مخاطبة أكْفر الكافرين، وأَعتَى العانين،
بأَرقَّ من هذا القول، فقال لموسى وأخيه صلى الله عليهما: " اذهبا إلى
فِرْعَوْنَ إنِّهُ طَغَى، فقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعًلّهُ يَتذكَّر أَوْ يَخْشىَ
" . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تُؤذوا الأحياء بسَبّ المَوْتىَ
" . فنهى عن سبّ أبي جَهل من أجل عِكْرمة ابنه، وأبو جهل عدوّ الله وعدوّ
رسوله والمُقيم على الشِّرك، والجادّ في محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبل
الهجرة، والمُحارب له بعدَها، وكفي بالشِّرك ذَنْبًا، وقد كان يُغْنيكم عن هذا
القول الذي سمَّيتم فيه طلحة وأَبي أن تقُولُوا: أتَبرأ من الظالمين؟ فإن كانا منهم دخَلا في غُمَار الناس، وإن لم
يكونا منهم لم تُحْفِظوني بسبّ أبي وصاحبه، وأنتم تَعلمون أنّ اللهّ جلّ وعزّ قال للمُؤْمن
في أبويه: " وَإنْ جاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصاحِبْهُمَا في الدًّنْيَا مَعْرًوفاً " . وقال: " وَقُولُوا للَنَّاس حُسْنًا " . وهذا الذي دعوتُم
إليه أمرٌ له ما بعده، وليس يُقْنعكم إلا التَّوقيف والتَّصْريح، ولَعَمْري إنّ
ذلك أحرَى بِقَطْع الْحجج، وأَوْضَح لمنهاج الحقّ، وأوْلَى بأن يَعرف كلٌّ صاحبَه
من عدوِّه، فَرُوحوا إليَّ من عَشِيَّتكم هذه أكْشف لكم ما أنا عليه إن شاء الله
تعالى.
فلمَّا كان العشي
راحُوا إليه، فخَرج إليهم وقد لبِس سلاحه، فلما رأى ذلك نَجْدةُ، قال: هذا خُروج
منا بذلكم، فجلس على رَفَع من الأرض، فحمد اللّه، وأثنى عليه، وصلىّ على نبيّه، ثم
ذكراً أبا بكر وعُمر أحسنَ ذِكْر، ثم ذكر عُثمان في السِّنين الأوائل من خِلافته،
ثم وصلهنّ بالسّنين التي أنكروا سِيرتَه فيها فجعلها كالماضية؛ وأخبر أنه آوى الحَكَم
بن أبي العاصي بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذَكر الحِمَى ومما كان فيه من
الصَّلاح، وأن القومَ آستعتبوه " من أمور " ما كان له أن يَفعلها؟
أوّلاً مصيِبِا، ثم أعتبهم بعد ذلك مُحسناً، وأن أهل مصر لما أتوه بكتاب ذكروا أنه
منه بعد أن ضمِن لهم العُتْبى، ثم كُتب ذلك الكتابُ بقَتْلهم، فدَفعوا الكتابَ
إليه، فَحَلف باللّه أنه لم يكتبه ولم يأْمر به، وقد أَمر الله عزّ وجلّ بقبول
اليمين ممَّن ليس له مثل سابقته، مع ما اجتَمع له من صِهْر رسول الله صلى الله
عليه وسلم ومكانه " من " الإمامة، وأنّ بَيعة الرِّضوان تحت الشجرة إنما
كانت بِسبَبه، وعثمان الرجل الذي لَزِمَتْه يمينٌ لو حَلَف عليها لَحَلَف على حقّ،
فافتَدَاها بمائة ألف ولم يَحْلِف؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع:
" مَن حَلَف باللّه فلْيَصدُق ومن حُلِف له باللّه فليقْبل " . وعُثمان
أمير المؤمنين " كصاحبيه " وأنا وليّ وليّه، وعدوّ عدوّه، وأبي وصاحبه صاحبَا
رسول الله صلى الله عليه وسلم، " ورسول الله " يقول " عن اللّه
" عزّ وجلّ يومَ أُحد لما قُطعت إصْبع طَلْحَة: " سَبَقته إلى الجنة
" . وقال: " أوْجب طلحة " . وكان الصِّديق إذا ذُكر يومَ أُحد قال: ذلك يوم كلّه " أو جُلّه
" لطلحة. والزُّبير حواريَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصَفْوته، وقد ذكر أنه
في الجنّة، وقال عزّ وجلّ: " لَقَدْ رَضيَ الله عَنِ المؤمنينَ إذْ يُبَايعُونَكَ
تَحْتَ الشَّجَرَة " . وما أخبرَنا بعدُ أنه سَخِط عليهم؟ وإن يكن ما صَنعوا
حقًّا فأهل ذلك هم، وإن يكن زلّة ففي عَفو الله تَمحِيصُها، وفيما وَفَّقهم له من
السابقة مع نبيّهم صلى الله عليه وسلم ومهما ذَكَرتموهما به، فقد بَدَأْتم
بأًمِّكم عائشة، فإن أبَى آبٍ أن تكون له أمًّا، نَبَذ اسم الإيمان عنه، وقد قال
جلّ ذِكْره: " النَّبِيُّ أَوْلَى باْلمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِم
وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ " . فنظر بعضهم إلى بعض ثم انصرفوا عنه.
وكتب بعد ذلك نافعُ
بن الأزرق إلى عبد الله بن الزُّبير يَدْعوه إلى أمره: أمّا بعد، فإني أحذِّرك من
الله يومَ تَجد كلُّ نفس ما عَمِلَت من خَيْر مُحْضَرًا، وما عَمِلَت من سُوء توَدّ
لو أنّ بينها وبَينه أَمدًا بعيداً، " ويُحَذِّركم الله نفسه " . فاتّق الله ربَّك ولا تَتَوَلّ الظالمين فإنّ الله يقول: "
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنّهُ مِنْهُمْ " . وقال: لا يَتَّخِذ المُؤْمِنون
الكافِرِينَ أوْليَاءَ مِنْ دونِ المُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْس
مِنَ الله في شيَء " . وقد حضرتُ عثمانَ يومَ قُتِل، فَلَعمري لئن كان قُتل
مظلومًا لقد كفر قاتلوه وخاذِلُوه، وإن كان قاتلوه مُهْتدين، وإنهم لمُهْتدون، لقد
كفَر مَن تولاّه ونصرَه. ولقد علمتَ أنّ أباك وطَلْحة وعليّاً كانوا أشدَّ الناس
عليه، وكانوا في أمره بين قاتل وخاذِل، وأنت تتولى أباك وطلحة وعثمان، فكيف ولاية
قاتل مُتَعَمِّد ومَقتول في دين واحد، ولقد ملك علىّ بعده فَنَفي الشُّبهات، وأقام
الحُدود، وأَجْرى الأحكام مجاريها، وأَعطى الأمور حقّها فيما عليه وله، فبايَعه أبوك
وطَلْحة، ثم خَلعا بَيْعته ظالمين له، وإن القَول فيك وفيهما لكما قال ابنُ عباس
رحمه الله: إن يكُن علِيّ في وقت مَعْصِيتكم ومُحاربتكم له كان مؤمنَاَ لقد كفَرتم
بقتال المؤمنين وائمة العَدْل، وإن كان كافراً كما زَعمتم، وفي الحُكم جائراً، فقد
بُؤْتم بغضب من الله لفراركم من الزَّحف. ولقد كنتَ له عدوًّا، ولسيرته عائباً، فكيف توليته بعد مَوته.
وكتب نجدةُ وكان من
الصُّفرية القَعَديّة إلى نافع بن الأزرق، لما بلغه عنه استعراضُه للناس، وقَتْله
الأطفال، واستحلاله الأمانة: بسم اللهّ الرحمن الرحيم صلى الله عليه وسلم، أمّا
بعد، فإنّ عَهْدي بك وأنت لليتيم كالأب الرَّحيم، وللضعيف كالأخ البَرّ، لا تأخذك
في الله لومةُ لائم، ولا ترى معونة ظالم، " كذلك كنتَ أنت وأصحابك، أما تذكر
قولَكَ: لولا أني أعلمِ أنّ للإمام العاذل مِثلَ أجر جميع رعيّته ما تولّيت أمر
رجلين من المسلمين " فلما شَرَيْتَ نفسك في طاعة ربّك ابتغاءَ رضوانه، وأصبتَ من الحق
فصَّه، " وركبتَ مُرَّة " تَجَرّد لك الشيطانُ، فلم يكن أحدٌ أثقلَ وطأةً
عليه منك ومن أصحابك، فاستمالك واستغواك، فعَوِيتَ وأكفرت الذين عَذرهم الله في كتابه
من قَعَدة المسلمين وَضعفتهمِ، فقال جلَّ ثناؤه، وقوله الحق، ووعدُه الصِّدق:
" لَيْسَ عَلَى الضعفاءِ وَلاَ على المَرْضى وَلا عَلَى الذينَ لا يَجدُونَ
مَا يُنْفِقونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للّه وَرَسُوله " ثم سمَّاهم أحسنَ
الأسماء فقال: " مَا عَلَى المحسِنِينَ مِنْ سَبِيل " . ثم استحللت قتلَ
الأطفال، وقد نَهى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن قَتْلهم، وقال جلَّ ثناؤه:
" وَلاَ تَزِرً وَازِرَةٌ وِزْرَ أًخْرَى " . وقال في القَعَد خيراً،
وفَضّل الله من جاهد عليهم، ولا يدفع منزلةُ أكثر الناس عملاً منزلةَ مَن هو
دُونه، إلا إذا اشتركا في أصلٍ، أو ما سمعتَ قوله تبارك وتعالى: " لا
يَسْتَوِى القَاعِدُون مِن المؤمِنين غيرُ أولَي الضّرَرِ والمُجَاهِدُونَ في
سَبِيل الله " فجعلهم الله من المؤمنين، وفَضّل عليهم المَجاهدين بأعمالهم،
ورأيتَ من رأيك أن لا تؤَدِّي الأمانة إلى مَن يُخالفك، واللّه يأمرك أن تؤدي
الأماناتِ إلى أهلها، فإتق الله وانظُرْ لنفسك، واتَّقَ يومًا لا يجزى والدٌ عن
ولده ولا مَوْلود هو جازٍ عن والده شيئاً، فإن الله بالمِرْصاد، وحُكمه العدل،
وقوله الفصل، والسلام.
فكتب إليه نافعُ بن
الأزرق: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فقد أتاني كتابُك تَعِظُني فيه
وتُذكِّرني، وتَنصحُ لي وتزجرُني، وتصِفُ ما كنتُ عليه من الحق، وما كنتُ أُوثرهُ
من الصواب، وأنا أسألُ الله أن يجعلني من الذين يَسْتمعون القولَ فيتبعون أحسنه.
وعِبْتَ على ما دِنْتُ به من إكفار القَعد، وقَتل الأطْفال، واستحلال الأمانة؛
وسأفسِّر لك " لِمَ " ذلك إن شاء اللّه: أما هؤلاء القَعد فليسوا كمن
ذكرتَ ممن كان بِعَهْد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم كانوا بمكة مَقْهورين
مَحْصورين لا يجدون إلى الهرب سَبيلاً، ولا إلى الاتصال بالمُسلمين طريقاً؛ وهؤلاء
قد فَقُهوا في الدين، وقرءوا القرآن؛ والطريقُ لهم نَهَج واضح؛ وقد عرفتَ ما يقول
الله فيمن كان مِثْلهم إذ قال: " إنَّ الّذَينَ تَوَفَّاهُمُ الملائِكةُ
ظالمي أنْفُسِهِم قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ. قَالوا كنا مُسْتَضْعَفينَ فيِ الأرْض. قالوا
أَلم تَكُنْ أرضُ الله وَاسعةَ فتُهاجرُوا فيها " . وقال: فَرحَ المُخَلَّفُون
بمقعدهم خِلاف رسول الله وقال: " وَجَاء الْمُعَذِّرًونَ مِنَ الأعرابِ
لِيُؤْذَن لَهُمْ. وَقَعَد الّذِين كَذَبُوا الله وَرَسُولَه " " فخبَّر بتَعْذِيرهم وأنهم كذبوا الله ورسولَه " . وقال: "
سَيُصِيبُ الذينَ كَفَروا منهُمْ عَذابٌ أَليم " فانظر إلى أسمائهم وسِمَاتهم.
وأما أمر الأطفال
فإنّ نبيّ الله نُوحًا كان أَعرفَ باللهّ يا نَجْدةُ منّي ومنك قال: " رَبِّ
لاَ تَذَرْ عَلَى الأرْض منَ الكافِرينَ دَيَّارًا. إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلاَّ
فَاجِراً كَفَّارًا " ، فسماهم بالكفر وهم أطفال وقبل أن يُولَدُوا، فكيف جاز
ذلك في قوم نُوح ولا يجوز في قومنا؟ واللّه يقول: " أَكُفَّارُكم خَيْرٌ مِنْ
أولَئِكُم أَمْ لَكُم بَرَاءَةٌ في الزُّبُر " . وهؤلاء كمشركي العرب لا تُقْبل
منهم جِزْية، وليس بيننا وبينهم إلا السيف أو الإسلام.
وأما استحلال
الأمانات ممَّن خالفنا، فإن الله عز وجلَّ أحلَّ لنا أموالهم، كما أحل لنا
دماءَهم، فدماؤهم حَلال طِلْق، وأموالهُم فَيْء للمُسْلمين، فاتَّق اللهّ وراجِع
نفسك، فإنه لا عُذْر لك إلا بالتوبة، ولا يَسَعك خِذْلانُنا، والقُعود دوننا،
" وتَرْك ما نهجناه لك من طريقتنا ومقالتنا " ، والسلام على مَن أَقرَّ
بالحق وعمل به.
وكان مِرْداس أبو
بلال من الخوارج وكان مُستتراَ، فلما رأى جِدَّ ابن زياد في قَتْل الخوارج وحَبْسهم،
قال لأصحابه: إنه واللهّ لا يَسعنا المُقام بين هؤلاء الظالمين تَجْري علينا أحكامُهم!
مُجانبين للعدل؛ مفارقين للعقل، والله إنّ الصبرَ على هذا لَعَظيم، وإنّ تَجريد
السيف وإخافةَ السبيل لعظيم، ولكنّا لا نَبْتدئهم ولا نُجرِّد سيفاً ولا نُقاتل
إلا مَن قاتلنا. فاجتمعِ عليه أصحابُه، وهم ثلاثون رجلاً، فأرادوا أن يُولّوا
أمرَهم حُرَيث بن حَجْل، فأبى، فولّوا أمرَهم مِرداساً أبا بلال. فلما مضى بأصحابه
لَقِيه عبدُ الله بن رَبَاح الأنْصاري، وكان له صديقاَ، فقال له: يا أخي، أين
تُريد؟ قال: أريد أن أهْرُب بديني ودين أصحابي هؤلاء من أَحكام هؤلاء الجَوَرة
والظَّلمَة؛ فقال له: أَعَلِم بكم أحد؟ قال: لا؟ قال: فارجع؛ قال أَوَ تخاف عليّ
مكروهاً؟ قال: نعم، " وأن يُؤْتى بك " ؛ قال: فلا تَخَف، فإنّي لا
أجرِّد سيفاً، ولا أخيف أحَداً، ولا أقاتل إلا مَن قاتلني. ثم مَضى حتى نزل آسَك،
وهوِ مَوْضع دون خُراسان، فمرّ به مالٌ يُحمل إلى ابن زِيَاد، وقد بلغ أصحابُه أربعين
رجلاَ، فحطَّ ذلك المالَ، وأخذ منه عطاءَه وأعْطيات أصحابه، وردّ الباقي على
الرُّسل، فقال: قُولوا لصاحبكم إنّا قبضنا أعطياتِنا؛ فقال بعضُ أصحابه: فعلامَ
نَدع الباقي؟ فقال: إنّهم يَقْسمون هذا الفَيْء، كما يُقيمون الصلاة، فلا نقاتلهم.
ولأبي بلال مِرْداس
هذا أشعارٌ في الخُروجِ، منها قولُه:
أبعدَ ابن وَهْب ذي
النزاهة والتُّقىِ ... ومن خاضَ في تلك الحُروب المَهالِكَا
أحِبّ بقاءً أو
أُرَجِّي سَلامةً ... وقد قَتلوا زيدَ بن حِصْنٍ ومالكا
فيا رَبِّ سَلِّمْ
نِيّتي وبَصيرتي ... وهَبْ لي التّقَى حتى ألاقِي أولئكا
وقالوا: إنََّ
رجلا من أصحاب زياد، قال: خرجنا في جَيْش نُريد خُراسان، فمرَرْنا بآسَك، فإذا نحن
بمرْداس وأصحابه، وهم أربعون رجلاً، فقال: أقاصدُون لقتالنا أنتم؟ قُلْنا: لا،
إنما نريد خُراسان؛ قال: فأبْلِغوا مَن لَقِيتم أنَّا لم نَخْرج لنُفْسد في الأرض
ولا لنُروِّع أحداً، ولكن هَرَبنا من الظُّلم، ولَسْنا نُقاتل إلا مَن قاتَلنا،
ولا نأخذ من الفَيْء إلا أعطياتنا، ثم قال: أَنُدِب لنا أحد؟ فقُلْنا: نعم، أسْلَم
بن زُرْعة الكلابيّ، قال: فمتى تَرَوْنه يَصلُ إلينا؟ قُلنا له: يومَ كذا وكذا؛
فقال أبو بلال: حَسْبنا الله ونعم الوكيل.
ونَدَب عُبيد الله بن
زياد أسلم بن زُرعة الكِلاَبيّ ووجّهه إليهم فيِ ألفين، فلما صار إليهم صاح به أبو
بلال: اتق الله يا أسلم، فإنا لا نُريد قتالا ولا نحْتجز مالا، فما الذي تُريد؟
قال: أريد أن أردَّكم إلى ابن زياد؟ قال: إذاً يقتلنا؛ قال: وإنْ قَتلكم؛ قال:
أفَتَشْركه في دمائنا؟ قال: نعم، إنه مُحق وأنتم مُبْطلون؛ قال أبو بلال: وكيف هو
مُحق وهو فاجر يُطيع الظَّلمة. ثم حَملوا عليه حملةَ رجل واحد، فانهزم هو وأصحابه.
فلما وَرد على ابن زياد غَضَب عليه غَضباً شديداً، وقال: انهزمت وأنت في ألفين عن
أَربعين رجلا! قال له أسلم: واللّه لأن تَذُمَّني حيّا أحبًّ إليَّ من أن تَحمَدني
مَيِّتاً. وكان إذا خرج إلى السوق ومرَّ بالصبيان صاحُوا به: أبو بلال وراءك؟ حتى
شكا إلى ابن زياد، فأمر الشّرط أن يكفّوا الناسَ عنه.
رد عمر بن عبد العزيز
رضي الله عنه على شوذب الخارجي
الهيثم بن عَدِيّ
قال: أخبرنى عَوانة بن الحَكم عنِ محمد بن الزُّبير قال: بَعثني عمر بن عبد العزيز
مع عَوْن بن عبد الله بن مَسْعود إلى شوْذَب الخارجيّ وأصحابه إذ خرجوا بالجزيرة،
وكتب معنا كتاباً، فقَدِمنا عليهمِ ودَفعنا كتابَه إليهم، فبَعثوا معنا رجلاً من
بني شَيْبان ورجلاً فيه حَبشيّة يقال له شوْذَب. فقدما معنا على عمرَ وهو
بخِنَاصرة، فصَعِدْنا إليه، وكان في غُرْفة ومعه ابنه عبدُ الملك وحاجبُه مُزاحم،
فأخبرناه بمكان الخارجيين؟ فقال عمر: فتِّشوهما لا يَكُن معهما حديد وأدخلوهما،
فلما دخلا قالا: السلامُ عليكم، ثم جلسا؛ فقال لهما عمر: أخْبراني ما الذي أخْرجكم عن حُكْمي
هذا وما نَقِمْتم علي؟ فتكلَّم الأسود منهما، فقال: إنَّا واللّه ما نَقِمْنا عليك
في سِيرتك، وتَحَرِّيك العَدْل والإحسان إلى مَن وَليت، ولكنَّ بيننا وبينك أمراً
إن أعطيتَناه فنحن منك وأنت منَّا، وإن مَنَعْتناه فلستَ منا ولسنا منك؟ قال عمر:
ما هوِ؟ قالا: رأيناك خالفتَ أهلَ بيتك وسَمَّيتها مظالم وسلكت غيرَ طريقهم، فإن
زعمتَ أنك على هُدى وهم على ضلال فالْعَنهم وابرأ منهم؛ فهذا الذي يَجمع بيننا
وبينك أو يُفرِّق. فتكلم عمر، فَحَمِد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني قد علمتُ أو ظننتُ
أنكم لم تَخْرجوا مخرجكم هذا لطلب الدنيا ومَتاعها، ولكنَّكم أردتم الآخرة فأخطأتم
سبيلَها، وإني سائُلكما عن أمر، فباللّه اصْدقاني فيه مَبلغ عِلْمكما؛ قالا: نعم؟
قال: أخبراني عن أبي بكر وعُمر، أليسا من أسلافكما، ومَن تتولَّيان وتَشْهدان لهما
بالنجاة؟ قالا: اللهم نعم؛ قال: فهل عَلِمْتما أنّ أبا بكر حين قُبض رسول الله صلى
الله عليه وسلم له فارتدّت العرب قاتلَهم فَسَفك الدِّماء وأخذ الأموال وسَبَى
الذراري؟ قالا: نعم؛ قال: فهل عَلمتم أنّ عمر قام بعد أبي بكر فردّ تلك السَّبايا
إلى عشائرها؟ قالا: نعم؟ قال: فهل بَرِىء عمر من أبي بكر أو تَبْرءون أنتم من أحد
منهما؟ قالا: لا، قال: فأخبراني عن أهل النَّهروان، أَليْسوا من صالحي أسلافكم وممَّن
تَشْهدون لهم بالنجاة؟ قالا: نعم؛ قال: فهلِ تَعلمون أنّ أهل الكوفة حين خرجوا
كَفوا أيديَهم، فلم يَسْفكوا دماً، ولم يُخيفوا آمناَ، ولم يأخذوا مالا؟ قالا:
نعم؛ قال: فهل علمتم أن أهل البَصْرة حين خَرجوا مع مِسْعَر بن فُدَيك استعرضوا
الناس، يَقْتلونهم، ولَفوا عبد الله بن خبّاب بن الأرَتّ، صاحب رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقتلوه وقتلوا جاريتَه، ثم قتلوا النّساء والأطفال، حتى جعلوا
يُلْقونهم في قُدُور الأقْط وهي تفور؟ قالا: قد كان ذلك؛ قال: فهل بَرِىء أهلُ
الكوفة من أهل البصرة؟ قالا: لا، قال: فهل تَبرءُون أنتم من إحدى الفِئتين؟ قالا:
لا؛ قال: أَفرأَيتم الدِّين، إليس هو واحد، أَم الدِّين اثنان؟ قالا: بل واحدة
قال: فهل يَسعكم منه شيء يُعْجِزني؟ قالا: لا؟ قال؛ فكيف وَسِعكم أن تولَّيتم أبا
بكر وعُمرِ وتولَّى كلُّ واحد منهما صاحبَه، وتولَّيتم أهلَ الكوفة والبَصرة وتولَّى
بعضُهم بعضاَ، وقد اختلفوا في أعْظم الأشياء: الدِّماء والفُروج والأموال؛ ولا
يَسَعني إلا لَعْن أهل بَيْتي والتبرُؤ منهم؟ أو رأيتَ لَعْنَ أهل الذُّنوب
فَريضةً لا بدّ منها؟ فإنْ كان ذلك فمتى عَهْدك بلَعْن فِرْعون، وقد قال: أَنَا
ربًّكم الأعلى؟ قال: ما أذكُر أني لعنتُه؛ قال: ويحك! أيسَعك أن لا تَلْعن فِرْعون وهو أخبث الخَلْق، ولا يَسَعُني
إلا أن ألعن أهلَ بَيْتي والبراءةُ منهم؟ ويحكم! إنكم قَوْم جُهَّال أردتم أمراً فأخطأتموه،
فأنتم تَردّون على الناس ما قَبل منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، بَعثه اللهّ
إليهم وهم عَبَدَة أوثان، فدعاهم إلا أن يخلعوا الأوثان، وأن يَشهدوا أن لا إله
إلا الله وأنّ محمداً عبدُه ورسولُه، فمن قال ذلك حَقَن بذلك دَمَه، وأحْرز مالَه،
ووَجبت حُرمَتُه، وأَمِن به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إِسوة
المُسلمين، وكان حسابُه على اللّه، أفلستم تَلقَون مَن خَلع الأوْثان، ورَفَض
الأديان، وشَهد أن لا إله إلا الله وأنّ محمداً رسول الله تَسْتحلون دَمَه ومالَه،
وُيلْعن عندكم، ومَن تَرَك ذلك وأباه من اليهود والنَّصارى وأهلِ الأديان
فَتُحَرِّمون دَمَه ومالَه " ويأمن عندكم " ؛ فقال الأسود: ما سمعتُ
كاليوم أحداَ أبين
حُجّة، ولا أقرب
مَأْخذاً، أمّا أنا فأشهد أنك على الحق وأني بَرِيءٌ ممن بَرِىء منك. فقال عمر
لصاحبه: يا أخا بني شَيْبان، ما تقول أنت؟ قال: ما أَحسَنَ ما قُلْتَ ووصفتَ، غير
أني لا أفتات على الناس بأمْر حتى أَلقاهم بما ذكرتَ وأنظر ما حُجّتهم؛ قال: أنت
وذاك. فأقام الحَبشيّ مع عمر، وأمر له بالعَطاء فلم يَلْبث أن مات، ولَحِق
الشَّيباني بأصحابه، فقُتل معهم بعد وفاة عُمر " رضي الله عنه " .حُجّة،
ولا أقرب مَأْخذاً، أمّا أنا فأشهد أنك على الحق وأني بَرِيءٌ ممن بَرِىء منك.
فقال عمر لصاحبه: يا أخا بني شَيْبان، ما تقول أنت؟ قال: ما أَحسَنَ ما قُلْتَ
ووصفتَ، غير أني لا أفتات على الناس بأمْر حتى أَلقاهم بما ذكرتَ وأنظر ما
حُجّتهم؛ قال: أنت وذاك. فأقام الحَبشيّ مع عمر، وأمر له بالعَطاء فلم يَلْبث أن مات، ولَحِق الشَّيباني
بأصحابه، فقُتل معهم بعد وفاة عُمر " رضي الله عنه " .
القول في أصاب
الأهواءوذُكر رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم، فَذَكروا فضلَه وشِدَة اجتهاده
في العِبادة. فبينما هم في ذِكْره حتى طَلَع عليهم الرجلُ، فقالوا: يا رسولَ
اللّه، هو هذا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إني أرى بين عَيْنيه
سَفْعة من الشَّيطان، فأقبل الرجلُ حتى وقف فسلّم عليهم، فقال: هل حَدَّثتك نفسُك
إذ طلعتَ علينا أنه ليس في القوم أحسن منك؟ قال نعم، ثم ذهب إلى المسجد فصفّ بين
قَدَميه يصلِّي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيكم يقومُ إليه فيقتله؟ فقال أبو
بكر: أنا يا رسول اللهّ. فقام إليه فَوَجده يًصلَي فهابه فانصرف؛ فقال: ما صنعتَ؟ قال وجدتُه
يصلِّي يا رسول الله فهِبتُه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيكم يَقُوم إليه فيقتله؟
قال عمر: أنا يا رسولَ اللّه. فقام إليه فوجده يصلِّي فهابه فانصرف، فقال: يا
رسولَ اللّه، وجدتُه يصلِّي فهِبتُه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكم
يقوم إليه فيقْتُلَه؟ فقال عليٌّ: أنا يا رسول اللّه؟ قال: أنت له إن أدركته. فقام
إليه فوجده قد انصرف. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا أول قَرْنٍ يَطلًعُ في
أُمتي، لو قتلتموه ما اختلف بعده اثنان، إنّ بني إسرائيل افترقت على اثنتين وسبعين
فرقة، وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا فرقةً
واحدة، وهي الجماعة.
الرافضةإنما قيل لهم
رافضة، لأنهم رفضوا أبا بكر وعمر ولم يَرْفُضهما أحد من أهل الأهواء غيرهم،
والشيعة دونهم، وهم الذين يُفضِّلون عليًّا على عثمان، ويَتَوَلَّون أبا بكر وعمر.
فأما الرافضة فلها غُلوّ شديد في عليّ، ذهب بعضُهم مَذهب النَّصارى في المسيح، وهم
السَّبئية أصحاب عبد الله بن سبأ، عليهم لعنةُ اللهّ، وفيهم يقول السَّيد الحميري:
قَوْمٌ غَلوْا في
علّيِ لا أبالهمُ ... وأُجْشَمُوا أنفُساً في حُبِّه تَعَبَا
قالوا هو اللهّ،
جَلِّ الله خالقُنا ... من أن يكون ابن شيء أو يكون أَبا
وقد أَحْرقهم عليّ
رضي الله عنه بالنَّار.
ومن الروافض:
المُغيرة بن سعد مولى بَجِيلة. قال الأعمش: دخلتُ على المُغيرة بن سعد، فسألته عن
فَضائل عليّ؛ فقال: إنك لا تَحْتملها؛ قلتُ: بلى. فَذَكر آدم صلواتُ الله عليه،
فقال: عليٌّ خير منه، ثم ذكر مَن دونه من الأنبياء، فقال عليٌّ خير منهم، حتى
انتهى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فقال: عليّ مثلُه، فقلت: كذبت، عليك لعنة
الله؛ قال: قد أَعلمتُك أَنك لا تحتملها.
ومن الروافض: مَن
يزعُم أنّ علياً رضي الله عنه في السَّحاب، فإذا أطلَّت عليهم سحابة قالوا:
السلامُ عليك يا أبا الحَسن. وقد ذكرهم الشاعر فقال:
بَرِئتُ من الخوارجِ
لستُ منهم ... مِن الغَزّال منهم وابن باب
ومِن قوم إذا ذكروا
عليًّا ... يردون السلامَ على السَّحاَب
ولكنّي أُحِبُّ بكلّ
قَلْبي ... وأعْلم أنَّ ذاك من الصواب
رسولَ الله
والصِّدِّيقَ حَقًّا ... به أرجو غداً حُسن الثَّواب
وهؤلاء من الرافضة
يقال لهم: المَنصورية. وهم أصحاب أبي منصور الكِسْف، وإنما سُمِّي الكِسْف لأنه
كان يتأوَّل قي قول الله عزَّ وجلً: " وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ
سَاقِطاً يَقُولوا سَحَابٌ مَرْكُوم " ، فالكِسْفُ عليٌّ وهو في السحاب.
وكان المُغيرة بن سعد
من السَّبئية الذين أحْرقهم علي رضيِ الله تعالى عنه بالنار، وكان يقول: لو شاء
عليّ لأحيا عاداً وثمودَ وقروناً بين ذلك كثيراَ. " وقد " خرج "
على " خالد بن عبد الله، فقتل خالد وصلبه بواسط عند قنطرة العاشر.
ومن الروافض كُثَيِّر
عَزَّة الشاعر. ولما حضرته الوفاة، دعا ابنةَ أَخٍ له، فقال: يا بِنتَ أخي، إنَ عمَّك
كان يُحب هذا الرَّجلَ فأَحبَيه - يعني عليَّ بن أبي طالب رضي الله عنه - فقالت:
نَصِيحتك يا عمّ مردودة عليك، أحبًّه واللهّ خلافَ الحبِّ الذي أحْببتَه أنت؛ فقال
لها: بَرِئت منك، وأنشد يقول:
بَرِئتُ إلى الإله من
ابن أَرْوَى ... ومن قول الخوارج أجمعينَا
ومن عُمرٍ برئتُ ومن
عَتيق ... غداةَ دُعي أميرَ المؤمنينا
ابن أروى: عثمان.
والروافض كلها تؤمن
بالرَّجعة، وتقول: لا تقوم الساعةُ حتى يخرجِ المهديُّ، وهو محمد بن عليِّ،
فيملؤُها عَدْلا كما مُلِئتْ جَوْراً، ويُحيى لهم موتاهم فيرْجعون إلى الدنيا،
ويكون الناسُ أمةً واحدة. وفي ذلك يقول الشاعر:
أَلا إنَّ الأئمة من
قُريش ... وُلاةَ العَدْل أربعةٌ سَواءُ
عليّ والثلاثةُ مِن
بَنيه ... همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء
فَسِبْطٌ سِبطُ
إيمانٍ وبِرٍّ ... وسِبْط غَيًبته كرْبلاء
أراد بالأسباط
الثلاثة: الحسن، والحسين، ومحمد بن الحنفيَّة، وهو المهديّ الذي يخرُج في آخر
الزمان.
ومن الروافض: السيّد
الحِمْيري، وكان يُلقَى له وسائد في مسجد الكوفة يَجلس عليها، وكان يؤمن
بالرَّجعة، وفي ذلك يقول:
إذا ما المرْءُ شابَ
له قَذال ... وعَلِّلهُ اْلمَواشِطُ بالْخِضابِ
فقد ذهبتْ بَشاشتهُ
وأودَى ... فَقُم بأَبيك فابكِ على الشَباب
فليسَ بعائدٍ ما فاتَ
منهُ ... إلى أحدٍ إلى يوم المآب
إلى يومٍ يؤوب الناسُ
فيه ... إلى دُنياهُمِ قبل الحساب
أدين بأنّ ذاك كذاك
حقا ... وما أنا في النشور بذي ارتياب
لأنَّ الله خَبَّر عن
رِجالٍ ... حَيُوا من بعد دَسٍّ في التُّراب
وقال يرثيِ أخاه:
يابن أمِّي فدَتْكَ
نفسي ومالي ... كنتَ رُكني ومَفْزعي وَجَمالي
ولَعَمْرِي لئن
تركْتُك مَيْتاً ... رَهْنَ رَمْس ضَنْكٍ عليك مُهالَ
لوشيكاً ألقاك حياً
صحيحاً ... سامِعاً مُبْصَراً على خير حال
قد بُعثتم من القُبور
فَأبْتُم ... بعد ما رَفَت العِظامَ البَوالي
أو كَسَبْعين وافداً
مع مُوسى ... عاينُوا هائلاً من الأهْوال
حين رامُوا من خُبثهم
رُؤية الله ... وأنىَّ برُؤية المتعالي
فرَماهم بصَعْقة
أحْرقتهم ... ثم أحياهُم شديدُ المحال
دخل رجل من
الْحِسْبانيّة على المأمون، فقال: لثُمامة بن أشرس كلِّمه؟ فقال له: ما تقول وما
مَذْهبك؟ فقال: أقول إنّ الأشياء كلّها على التوهُّم والْحِسْبان، وإنما يُدْرٍك
منها الناسُ على قَدْر عقولهم، ولا حتَّى في الحقيقة. فقام إِليه ثُمامة، فَلَطَمه
لطمةً سوَدت وَجْهه، فقال: يا أميرَ المؤمنين، يفعل بي مثلَ هذا في مجلسك! فقال له
ثُمامة: وما فعلتُ بك؟ قال: لَطَمْتني، قال: ولعلَّ إنما دَهَنتُك بالبان، ثم أنشأ يقول:
ولَعلَّ آدمَ أمنا
... والأب حوّا في الْحِسابْ
ولعلَّ ما أبصرتَ من
... بِيض الطًّيور هو الغُراب
وعَساك حين قَعدتَ قم
... تَ وحين جئتَ هو الذّهاب
وعَسى البنفسج
زِئْبقاً ... وعسى البَهار هو السَّذاب
وعَساك تأكل مِن
خَرَا ... ك وأنتَ تَحْسبه الكَباب
ومن حديث ابن أبي
شَيْبة أن عبد الله بن شدِّاد قال: قال لي عبد الله بن عبَّاس: لأخبرنَّك بأعجب
شيء: قَرَع اليومَ علي البابَ رجلٌ لما وضعتُ ثيابي للظَّهيرة، فقلتُ: ما أتى به
في مثل هذا الحين إلا أمرٌ مهمّ، أدخله. فلما دخل قال: متى يُبعث ذلك الرجل؟ قلت: أي رجل؟ قال: عليّ بن أبي
طالب؟ قلتُ: لا يُبعث حتىِ يَبعث الله مَن في القبور، قال: وإنك لتقول بقول هذه الجَهلة!
قلت: أَخْرِجُوه عني لعنه اللّه.
ومن الروافض
الكَيْسانية، قلتُ: وهم أصحاب المُختار بن أبي عُبيد، ويقولون إنّ اسمه كَيْسان.
ومن الرافضة
الحُسينية، وهم أصحاب إبراهيم بن الاشتر، وكانوا يطوفون بالليل في أزقة الكوفة
وينادون: يا ثاراتِ الحًسين؛ فقيل لهم: الحُسينية.
ومن الرافضة
الغُرابية: سمِّيت بذلك لقولهم: عليّ أشبه بالنبي من الغُراب بالغراب.
ومن الرافضة:
الزَّيْدِية، وهم أصحاب زيد بن عليّ المقتول بخُراسان، وهم أقلُّ الرافضة
غُلُوًّا، غيرَ أنّهم يَرَوْن الخُروج مع كل مَن خرج.
مالك بن مُعاوية قال:
قال لي الشّعبيِ، وذَكَرْنا الرافضة: يا مالك، لو أردتُ أن يُعطوني رقابَهم
عَبيداً وأن يَمْلئوا بيتي ذَهَباَ عليً على أن أكْذِبَ لهم على علّيِ كِذْبَةً
واحدةً لَقَبِلوا، ولكني واللّه لا أَكْذِب عليه أبداً، يا مالك، إني دَرسْتُ
الأهواءَ كلَّها فلم أَرَ قوماً أحمقَ من الرافضة، فلو كانوا من الدوابّ لكانوا
حميراً، أو كانوا من الطير لكانوا رَخَماً. ثم قال: أحذِّرك الأهواءَ المُضلة
شرُّها الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يُبغضون الإسلام، كما يُبغض اليهودُ
النَّصرِانية، ولم يدْخلوا في الإسلام رغبةً ولا رَهْبة من الله، ولكن مَقْتاً
لأهل الإسلام وبَغْياَ عليهم، وقد أحرَقهم عليًّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالنار،
ونفاهم إلى البُلْدان، منهم: عبد الله بن سبأ، نفاه إلى ساباط، وعبد الله بن سباب،
نفاه إلى الجازر، وأبو الكَرَوَّس، وذلك أن مِحْنة الرافضة محنة اليهود، قالت
اليهود: لا يكون المُلك إلا في آل داود، وقالت الرافضة: لا يكون المُلك إلا في آل
عليّ بن أبي طالب، وقالت اليهود: لا يكون جِهاد في سبيل الله حتى يَخْرج المَسيح
المُنتظر، ويُنادي منادٍ من السماء، وقالت الرافضة: لا جِهادَ في سبيل الله حتى
يخرُج المَهديُّ، ويَنْزل سَبَب من السماء، واليَهود يُؤخِّرون صلاةَ المَغرِب حتى
تَشتبك النّجوم، وكذلك الرافضة، واليَهود لا تَرى الطَّلاق الثلاثَ شيئاَ، وكذا
الرَّافضة واليهود لا تَرى على النساء عدة وكذلك الرافضة، واليهود تستحل دم كل
مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرفوا التوراة وكذلك الرافضة حرفت القران، واليهود
تُبْغض جبريلَ وتقول: هو عَدوُّنا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول: غَلط جبريلُ في
الوَحْي إلى محمد بترك عليّ بن أبي طالب، واليهود لا تأكُل لَحم الجَزُور، وكذلك
الرافضة. ولليهود والئصارى فَضِيلة على الرافضة في خَصْلتين، سُئِل اليهود مَن
خَيْر أهل مِلّتكم؟ فقالوا: أصحابُ موسى، وسُئِلت النصارى، فقالوا: أصحابً عيسى،
وسُئِلت الرِافضة: مَن شرّ أهل مِلّتكم؟ فقالوا: أصحابُ محمّد، أمَرهم اللهّ
بالاستغفار لهم فشَتَموهم، فالسيفُ مَسْلول عليهم إلى يوم القيامةِ، لا تَثبُت لهم
قدم، ولا تَقومُ لهم راية، ولا تُجمع لهم كِلمة، دَعْوَتُهم مَدْحورة، وكَلِمتهم،
مِختلفة، وجَمْعهم مُفرَّق، كلما أَوْقدُوا ناراً للحرب أطْفأها اللّه.
وذُكرت الرّافضةُ
يوماً عند الشًعْبِيّ فقال: لقد بغَّضُوا إلينا حديثَ عليّ بن أبي طالب.
وقال الشّعبيّ: ما
شَبَّهتُ تأويلَ الرِوافض في القرآن إلا بتأويل رَجل مَضْعوف من بني مَخْزوم من
أهل مكّة وجدتُه قاعداَ بفِناء الكَعْبة، فقال يا شعبيّ: ما عِنْدك في تأويل هذا
البَيْت؟ فإن بَني تَميم يَغْلطون فيه ويزعمون أنه إنما قيل في رجل منهم، وهو قولُ
الشاعر:
بَيْتاً زُرَارةُ
مًحْتَبِ بِفِنائه ... ومُجاشع وأَبو الفَوارس نَهْشلُ
فقلت له: وما عِندَك
أنت فيه؟ قال: البيتُ هو هذا البيت، وأشار بيده إلى الكَعْبة، وزُرارةُ الحجر،
زُرِّر حول البيت؟ فقلت له: فَمُجاشع؟ قال: زَمزم جَشِعت بالماء؟ قلت: فأَبُو الفوارس؟ قال: هو أبو قُبيس جَبل
مكَّة؟ قلت: فَنَهْشل؟ ففكّر فيه طويلا ثم قال: أَصبتُه، هو مِصْباح الكعبة طويلٌ أَسود،
وهو النَّهشل.
قولهم في الشيعةقال
أبو عُثمان عمرو بِن بَحر الجاحظ: أخبرني رجلٌ من رُؤساء التجّار قال: كان معنا في
السَّفينة شيخٌ شرس الأخلاق، طويلُ الِإطْراق، وكان إذا ذُكِر له الشِّيعةُ غَضِب
واربدّ وجهُه وزَوى من جاجبَيْه، فقلتُ له يوماً: يَرْحمك اللّه، ما الذي تَكْرهه من
الشِّيعة فإني رأيتُك إذا ذُكِروا غَضِبْتَ وقُبضتَ؟ قال: ما أَكْره منهم إلا هذه
الشِّين في أوّل اسمهم، فإني لم أجِدْها قطُّ إلا في كلَّ شرّ وشُؤْم وشَيْطان
وشَغب وشَقَاء وشَنَار وشَرَر وشَين وشَوْك وشَكْوى وشَهْوة وشَتْم وشُح. قال أبو
عثمان: فما ثَبت لِشيعيّ بعدها قائمة.
باب من كلام
المتكلميندخل المُوبَذ على هشام بن الحكم، واْلمُوبَذ هو عالم الفُرس، فقال له: يا
هشام: حولَ الدنيا شيء؟ قال: لا؛ قال: فإن اخرجتُ يدي فثَمِّ شيءٌ يَرُدُها؟ قال
هشام: ليس ثَمَّ شيءٌ يرُدّها ولا شيء تُخْرِج يدك فيه؛ قال: فكيف أعلَم هذا؟ قال
له يا مُوبَذُ، أنا وأنت على طَرَف الدنيا فقلت لك يا مُوبَذً. إني لا أرى شيئاً،
فقلتَ لي: ولم لا ترِى؟ فقلت لك: ليس هاهنا ظلامٌ يمنعني، قلت لي أنتَ: يا هشام،
إِني لا أرى شيئاَ، فقلت لك: ولم لا ترى؟ قلتَ: ليس ضياء أنظر به، فهل تكافأت
المِلَّتان في التناقض؟ قال: نعم؛ قال: فإذا تكافأَتا في التناقض لم تتكافآ في
الإبطال أن ليس شيء؟ فأشار الموبَذُ بيده أن أصبت " .
قال رجلٌ لبعض ولاة
بني العباس: أنا أجعل هِشام بن الحَكم يقول في عليّ رضيِ الله عنه إنه ظالم " فقال: إن فعلت ذلك فلك كذا وكذا ثم أحْضر هشام " فقال له نشدتُك
اللهّ أبا محمَد، أما تَعلم أن عليًّا نازع العباس عند أبي بكر؟ قال: نعم؛ قال:
فمَن الظالم منهما؟ فكَرِه أن يقول: العبّاس، فَيُواقع سُخْط الخليفة، أو يقول: عليْ
فيَنْقض أصلَه، قال: ما منهما ظالم؟ قال: فكيف يَتنازع اثنان في شيء لا يكون
أحدُهما ظالماً؟ قال: قد تَنازع المَلَكان عند داود عليه السلام وما فيهما ظالم،
ولكن ليُنبِّها داود على الخَطِيئة، وكذلك هذان أرادا تَنْبيه أبي بكر من
خَطِيئته، فأُسْكت الرجل، وأمر الخليفةُ لهشام بِصِلة عظيمة.
" دخلَ
إبراهيمُ النَّظَّام على أبي الهُذَيل العَلاف وقد أَسنَّ وَبَعًد عهدُه
بالمُناظرة، وإبراهيمُ حَدَث السنّ، فقال: أخبرني عن قراركم: أن يكون جَوْهراً
مخافة أن يكون حِسْما، فهل قَرَّرْتم أن لا يكون جوهراً مخافةَ أن يكون عرضاً،
والعَرض أضعفُ من الجوهر. فَبَصَق أبو الهُذَيل في وجهه؟ فقال له إبراهيم: قبحك
الله من شَيْخ! ما أضعف حُجِّتك وأسفه حِلْمك.
قال: لَقِي جَهْم
رجلاً من اليونانيين فقال له: هل لك أن تُكلِّمني وأكلَمك عن مَعْبودك هذا، أرأيته
قطَّ؟ قال: لا؟ قال: فلمستَه؟ قال: لا؛ قال: فذُقته؟ قال: لا؟ قال: فمن أين
عَرفتَه وأنت لم تُدْركه بحسّ من حواسّك الخَمْس وإنما عقلك معبر عنها فلا يدرك
إلا ما أوصلَتْ إليه من جميع المَعْلومات. قال: فَتلجلج جَهْم ساعةً ثم استدرك
فعكس المسألة عليه فقال له: ما تًقِرّ أنّ لك رُوحا؟ قال: نعم؛ قال: فهل رأيتَه أو
ذُقْتَه أو سَمِعْته أو شَممتَه أو لَمستَه؟ قال: لا؛ قال: فكيف علمتَ أنّ لك
رُوحا؟ فأقَرّ له اليُونانيّ.
باب في الحياءقال
النبي صلى الله عليه وسلم الحَياء خَيْرٌ كلُّه. الحَياء شُعْبة من الإيمان.
وقال عليه السلام:
إنّ اللهّ تَبارك وتعالى يحبّ الحيّ الحَليمَ المُتَعفِّف، ويَكره البَذِىء السأّل
المُلْحُف.
وقال عَوْن بن عبد
الله: الحياءُ والحِلْم والصَّمتُ من الإيمان.
وقال ابن عمر: الحياء
والإيمان مَقْرونان جميعاً، فإِذا رُفِع أحدهما ارتفع الآخر معه.
وقال: مَكْتوب في
التوراة: إذا لم تَسْتح فاصنع ما تَشاء. وقال: أحيُوا الحياء بمُجالسة من يُسْتحيا
منه.
وذكر أعرابيٌ رجلاً
حيا فقال: لا ترَاه الدهرَ إلا وكأنّه لا غِنى به عنك وإن كنتَ إليه أحوجَ، وإن
أذْنبتَ غَفر وكأنّه المُذنب، وإن أسأت إليه أحسن وكأنه المُسيء.
لليلى الأخيلية:
فتًى هو أحْيا منِ
فَتاة حَيِيَّة ... وأشجعً من لَيْثٍ بخِفَّان خادِر
ولابن قيس أيضاَ:
تخَالهم للحلم صُما
عن الخَنَا ... وخُرْساً عن الفَحشَاءِ عند التَهاجُر
ومَرْضى إذا لوقُوا
حَياءً وعَفّة ... وعند الحِفاظ كالليوث الخوادر
وقال الشعبي: تَعاشر
الناس فيما بينهم زماناً بالدِّين والتَقوى، ثم رُفِع ذلك فتعاشروا بالحَياء
والتذمُّم، ثم رُفع ذلك، فما يَتعاشر الناس إلا بالرغبة والرَّهبة، وسيجىء ما هو
شرمن ذلك.
وقيل: الحياء يزيد في
النُّبل.
ولبعضهم:
فلا وأبيكَ ما في
العَيْش خيرٌ ... ولا الدُّنيا إذا ذَهب الحياءُ
وقال آخر:
إذا رُزِق الفتى
وجهاً وَقاحاً ... تَقلَّب في الأمور كما يشاءُ
ولم يَكُ للدَّواء
ولا لشيء ... تُعالجه به فيه غَناء
ورُث قَبيحةٍ ما حالَ
بيني ... وبين رُكُوبها إلا الحَياء
وقال عليّ بن أبي
طالب كرَّم الله وجهَه: قُرنت الهيبةُ بالخَيْبة، والحياءُ بالحِرْمان. وقد قيل:
ارفع حياءَكَ فيما
جئتَ طالبَه ... إنّ لحياءَ مع الحِرمان مَقرونُ
وفي المثل: كثرة
الحياء من التخنث.
قال الحسن: من استتر
بالحياء لبس الجهل سرباله، فقطّعوا سرابيل الحياء، فإنه مَن رَقّ وجهه رق عِلْمه.
وَصَف رجل الحياء عند
الأحنف فقال: إن الحياء " لَيَتّتُم " لمقدار من المقادير، فما زاد على
ذلك فسمِّه بما أحببت.
وقال بعضهم:
إن الحياء مع الحرمان
مُقْترن ... كذاك قال أميرُ المؤمنين عَلي
واعلم بأن من التخنيث
أكثره ... فارفعه في طلب الحاجات والأمَلَ
وللشماخ:
أجاملُ أقواماً حياءً
وقد أرى ... صدورهم بادٍ عَلَيَّ مِراضُها
ولابن أبي حازم:
وإنّي ليَثْنيني عن
الجهل والخنا ... وعن شَتْم ذِي القُربى خلائقُ أربعُ
حياءٌ وإسلام وتقْوى
وأنَّني كريم ... ومِثْلي قد يَضرُ ويَنفع
وقال آخر:
إذا حُرم المرء
الحياءَ فإنهُ ... بكلّ قبيح كان منه جديرُ
له قِحة في كل أمر
وسِره ... مُباح وجدواه جفاً وغرور
يَرى الشَّتْم
مَدْحاً والدناءة رِفْعة ... وللسَّمْع منه في العِظات نُفور
فرجِّ الفتى ما دام
حيَّا فإنّهُ ... إلى خيِر حالات اْلمُنِيب يَصِير "
باب جامع الآداب
أدب الله لنبيه
صلى الله عليه وسلم
قال أبو عُمر أحمد
ببن محمد: أوّل ما نَبدأ أدبُ النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أَدبه صلى الله عليه
وسلم لأمّته، ثم الحكماء والعُلماء، وقد أدّبَ الله نَبِيّه بأحسن الآداب كًلها،
فقال له: " وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولةً إلى عُنُقِكَ وَلا بَبْسُطها
كُلّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً " . فنهاه عن التَقتِير كما نهاه عن التَّبذير، وأمره بتوسّط الحاليْن، كما
قال عزّ وجلّ: " وَالَّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لم يسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا
وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما " ، وقد جَمع الله " تبارك و " تعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكَلِم في كتابه
المُحْكَكم، ونَظِم له مَكارم الأخلاق كلّها في ثلاث كلمات منه، فقال: " خُذِ
العفو وَأَمًرْ بالعرفِ وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ " . ففي أَخذِه اللعفو
صِلة مَن قَطَعه، والصَّفحُ عمَّن ظَلَمه؛ وفي الأمر بالمعروف تَقْوَى اللّه، وغَض
الطِّرفِ عن المحارم، وصَوْن اللسان عن الكَذِب؛ وفي الإعراض عن الجاهِلين تنزيه
النَّفْس عن مماراة السَّفيه، ومنازعة اللَجُوجِ. ثم أمره تبارك وتعالى فيماِ
أدَّبه باللِّين في عَريكته والرِّفق بأًمّته فقال: " واخفضْ جَناحَك لمن اتَّبَعَكَ مِنَ المؤْمِنِين " . وقال:
" ولَوْ كُنْتَ فَظّا غليظَ الْقَلْب لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ " .
وقال تبارك وتعالى: " لا تَسْتَوي الحَسَنَةُ وَلا السِّيِّئَةُ اْدْفَعْ بالَّتي هِيَ
أحْسَنُ فَإِذَا الَذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كأنَّهُ وَليٌّ حَمِيم. وَمَا
يُلَقَاهَا إلا الذِينَ صَبروا وَمَا يُلَقَاهَا إلاّ ذُو حَظٍّ عَظِيم " .
فلما وَعى عن الله عزَّ وجلَّ وكَمُلت فيه هذه الآداب، قال اللهّ تبارك وِتعالى:
" لقَدْ جَاءَكمِ رَسُولٌ مِنْ أنفُسِكم عَزِيزٌ عليكم ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عليكمُ بالمؤمِنين رَءُوفٌ رَحِيم. فإنْ توَلَّوْا فَقُلْ حَسْبيَ الله لا إِله
إلاّ هوَ عليهِ تَوَكلْتُ عليه وَهُوَ رَبُّ العَرْش العَظِيم " .
باب أدب النبي لأمته
صلى الله عليه وسلم
لأمتهقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أدّب به أمته وحَضها عليه من مَكارم
الأخْلاق وجَمِيل المعاشرة وإصلاح ذاتِ البَينْ وصِلَة الأرحام: أوْصاني ربيِّ
بتِسْع " وأنا " أوصيكم بها: أوصاني بالإخلاص في السر والعَلانية، والعَدْل
في الرِّضا والغَضب، والقَصْد في الغِنَى والفَقْر، وأن أعْفُو عمن ظَلَمني،
وأعْطي مَن حَرَمني، وأصِل مَن قَطعني، وأن يكون صَمتي فِكْراً، ونُطْقي ذِكْراً،
ونَظَري عبَرا.
وقد قال صلى الله
عليه وسلم: نَهيتُكم عن قِيل وقال وإضاعةُ المال وكثرة السؤال.
وقد قال صلى الله
عليه وسلم: لا تقْعدوا على ظُهور الطُّرق، فإن أَبَيْتم فغُضُوا الأبصار، وأفشُوا
السلام، واهدوا الضالَّ، وأعينوا الضعِيف.
وقال صلى الله عليه
وسلم: أَوْكُوا السِّقاء، واكْفَئُوإ الإناء، وأَغْلِقوا الأبواب، وأطفِئوا
المِصْباح، فإن الشيطان لا يَفْتح غَلَقا، ولا يحل وِكاءً، ولا يَكْشف الإناء.
وقال صلى الله عليه
وسلم: ألا أنَبئكم بشرّ الناس؟ قالوا: بلى يا رسولَ اللهّ؛ قال: من أكل وَحْدَه،
ومَنَع رِفْده، وجَلَد عبدَه. ثم قال: ألا أُنبئكم بشِرّ من ذلك؟ قالوا. بلى يا
رسول اللّه، قال: " من لا يُقيل عزة ولا يقبل مَعْذرة ثم قال؛ أَلاَ أنبئكم
بشرّ من ذلك؟ قالوا بلى يا رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال: مَن يُبغض الناسَ
ويُبْغِضونه.
وقال: حَصِّنوا
أموالَكم بالزّكاة، وداوُوا مَرْضاكم بالصدَقة، واستَقْبِلوا البَلاء بالدُّعاء
وقال: ما قَلّ وكَفي خير مما كثر وألْهى.
وقال المسْلِمون
تَتكافأ دِماؤُهم، ويَسْعَى بذمَّتهم أدْناهم، وهُمْ يَدٌ على مَن سواهم.
وقال: اليَدُ
العُلْيا خيرٌ من اليد السُّفْلي.
" وقال
" : وابْدَأ بمن تَعول.
وقال: لا تَجْن
يَمينُك على شِمالك، ولا يًلدغ المُؤمن من جحر مرتين.
وقال: المَرْء كثِيرٌ
بأخيه.
وقال: اْفصِلُوا بين
حَدِيثكم بالاستغفار، واسْتَعينوا على قضاء حَوائجكم بالكِتمان.
وقال: أَفضل الأصحاب
من إذا ذَكَرْت أعانك، وإذا نَسيت ذَكرَّك.
وقال: لا يُؤَم ذو
سُلْطان في سُلْطانه، ولا يُجْلس على تَكْرِمته إلا بإِذنه.
وقال صلى الله عليه
وسلم: يقول ابن آدم مالي مالي، وإنما له من ماله ما أَكل فأفْنى، أو لَبِسَ
فأبلَى، أو وهب فأمْضى.
وقال: سَتَحْرصون على
الإمارة، فنِعمت المُرْضعة وبئست الفاطمة.
وقال: لا يَحْكمِ
الحاكم بين اثنين وهو غَضْبان.
وقال: لو تَكاشفتم ما
تَدافَنْتم، وما هَلَك امرؤ عَرف قَدْره.
وقال: الناس كإبل
مائةٍ لا تَكاد تَجد فيها راحلةً واحدة، والناس كلّهم سواء كأسنان المُشْط.
وقال: رَحِم الله
عبداً قال خيراً فَغَنِم أو سَكَت فَسَلِم.
وقال: خَيْر المال
سِكَة مَأْبورة، ومُهْرة مَأْمورة، وخير المال عَينٌ ساهرة لِعَين نائمة.
وقال في إناث الخيل:
بُطونها كَنْز وظُهورها حِرْز.
وقال: ما أملق تاجرٌ
صدُوق، وما أقفر بيتٌ فيه خَلّ.
وقال: قَيّدوا العِلم
بالكتابة.
وقال: زُر غِبَاً
تَزددْ حُبًّا.
وقال: عَلق سَوْطك
حيثُ يراه أهلُك.
باب في آداب الحكماء
والعلماءفضيلة الأدب أوصى بعضُ الحكماء بنيه فقال: الأدب أكرم الجواهر طبيعةً،
وأنْفسها قيمةً، يَرْفع الأحساب الوَضيعة، ويُفيد الرَّغائب الجليله، ويُعِز بلا
عشيرة، ويُكثر الأنصار بغَيْر رزيَّة، فالبسوه حُلّة، وتَزَينُوه حِلْية، يُؤْنسكم
في الوَحشة، ويجمع لكم القُلوب المختلفة.
ومن كلام علّي عليه
السلام: فيما يُروى عنه أنه قال: مَن حَلم ساد، ومن ساد استفاد، ومن استَحيا حُرم،
ومن هاب خاب، ومَن طلب الرّآسة صَبر على السياسة؛ ومَن أبصر عَيْب نفسه عَمِيَ عن
عَيب غيره، ومَن سلَّ سيف البَغْي قُتل به، ومن احتقر لأخيه بئراً وقَع فيها، ومَن
نَسى زَلَّته استعظم زلّة غيره، ومن هَتَك حِجاب غيره اْنهتكت عورات بَيته، ومن كابر
في الأمور عَطِب، ومن اقتحم اللُّجج غَرِق، ومن أعجب برأْيه ضَلَّ، ومن استغنى
بعَقله زلَ، ومن تَجَبَّر على الناس ذَلَّ، ومن تَعمَّق في العَمَل مَلَّ؛ ومَن
صاحَب الأنذال حُقِّر، ومن جالس العلماء وُقَر؛ ومن دَخل مَداخل السًوء اتُّهم؛
ومَن حَسَنُ خُلقه، سَهُلَت له طُرُقه؛ ومن حَسَّنَ كلامَه، كانت الْهَيْبة
أمامَه؛ ومَن خَشي الله فاز؛ ومَن استقاد الجَهْل، تَرك طَرِيق العَدْل؛ ومَن عرف
أجَله، قَصًر أمله؛ ثم أنشأ يقول:
البَسْ أخاك على عُيوبه
... واسْتُر وغَطِّ على ذُنوبه
واصبر على بَهْتِ
السَّفِيهِ ... وللزَّمان على خُطوبه
ودَع الجوابَ تفضلاً
... وكِل الظلومَ إلى حَسِيبه
وقال شَبِيب بن
شَيبة: اطلُبوا الأدب فإنّه مادًة للعَقْل؛ ودليل على المُروءة، وصاحب في الغُربة،
ومُؤنس في الوَحشة، وحِلْية في المَجْلِس، " ويجمع لكم القلوب المختلفة " .
وقال عبدُ الملك بن
مَروان لبَنِيه: عليكم بطلب الأدب فإنكم إن احتجتم إليه كان لكم مالاً، وإن
اسْتَغنيتم عنه كان لكمٍ جمالاً.
وقال بعضُ الحكماء:
اعلم أن جاهاً بالمال إنما يَصْحبك ما صَحِبَكَ المال، وجاهاً بالأدب غيرُ زائل
عنك.
وقال ابن المقفَّع:
إذا أكرمك الناسُ لمالٍ أو لسُلطانٍ فلا يُعْجِبك ذلك، فإنّ الكرامة تزُول
بزوالهما، ولكن ليُعْجبك إذا أكرموك لدِين أو أدب.
وقال الأحْنَف بن
قَيس: رأسُ الأدب المَنْطِق، ولا خَيْر في قوْل إلاِّ بِفِعْل، ولا في مال إلا
بجُود، ولا في صَدِيق إلا بوَفاء، ولا في فِقْه إلا بوَرَع، ولا في صدق إلا بِنيّه.
وقال مَصقلة
الزُّبيريّ: لا يَستغني الأديب عن ثلاثة واثنن؛ فأما الثلاثة: فالبلاغة والفصاحة
وحُسن العِبارة، وأما الاثنان، فالعِلْم بالأثر والحِفْظ للخَبر.
وقالوا: الحَسَب
مُحتاجِ إلى الأدب، والمعرفة محتاجة إلى التَّجربة.
وقال بُزُرْجَمْهِر:
ما ورَّث الآباءُ الابناءُ شيئاً خيراً من الأدب، لأنّ بالأدب يَكْسِبون المال،
وبالجهل يُتْلفونه وقال الفُضَيل بن عِياضِ: رأسُ الأدب مَعْرِفة الرجل قَدْره.
وقالوا: حُسْن الخُلق
خيْر قَرِين، والأدب خير ميراث، والتَوفيق خير قَائد.
وقال سُفيان
الثَّوريّ: مَن عَرَف نفسَه لم يَضِرْه ما قال الناس فيه.
وقال أنو شِرْوان
للموبذ، وهو العالم " بالفارسيّة " : ما كان أفضلُ الأشياء؟ قال:
الطبيعة النقيّة تَكْتفي من الأدب بالرائحة، ومن العِلْم بالإشارة، وكلما يَموت البَذْر
في السِّباخ، كذلك تموت الحِكْمة بمَوْت الطبيعة، قال له: صدقت، ونحن لهذا
قَلّدناك ما قلّدناك.
وقيل لارْدَشِير:
الأدبُ أغلبُ أم الطَّبيعة؟ فقال: الأدب زِيادة في العَقل، ومَنْبهة للرأيٍ، ومِكْسبة
للصواب، والطَّبيعة أملك، لأن بها الاعتقاد، ونَماء الغِراسة، وتَمام الغِذاء.
وقيل لبعض الحُكماء:
أي أعون للعقل بعد الطٌبيعة المَولودة؟ قال: أدب مُكْتسب.
وقالوا: الأدب
أدَبان: أدبُ الغَريزة وهو الأصل، وأدب الرِّواية وهو الفرع، ولا يتفرَّع شيء إلا
عن أصله، ولا يَنْمى الأصل إلا باتصال المادة.
وقال الشاعر:
" ولم أرَ فَرْعًا
طال إلا بأصْله ... ولم أرَ بَدْء العِلْم إلا تعلُّما
وقال حَبيب " :
وما السيفُ إلا
زُبْرَةٌ لو تركتَه ... على الحالة الأولى لما كان يَقْطعُ
وقال آخر:
ما وَهب اللهّ لامرىء
هِبةً ... أفضلَ من عَقْله ومن أَدبهْ
هُما حياةُ الفَتى
فإن فًقِدَا ... فإنّ فَقْد الحَياة أحسنُ به
وقال ابن عبّاس:
كَفَاك من عِلْم الدِّين أن تَعْرف مالا يَسعك جهلُه، وكفاكَ من عِلْم الأدب أن
تَرْوي الشاهد والمثاللَ.
قال ابن قُتيبة: إِذا
أردتَ أن تكون " عالماً فاطلب فَنّا واحداً؛ وإذ أردتَ أن " تكون أديباً
فتفنَّن في العلوم.
وقالت الحُكماء: إذا
كان الرجل طاهرَ الأثواب، كثيرَ الآداب، حسنَ المذْهب، تأدَّب بأدبه وصَلُح لصلاحه
جميع أهله وولده. قال الشاعر:
رأيتُ صلاحَ الَمرْء
يِصلح أهلَه ... ويُفسدهم ربُّ الفَساد إذا فَسَدْ
يُعظَّم في الدنيا
لِفَضل صَلاحه ... وحْفَظ بعد الموت في الأهْل والوَلد
وسُئل ديُوجانِس: أي
الخِصال أحمدُ عاقبة؟ قال: الإيمانُ بالله عزّ وجلّ، وبرّ الوالدين، ومحبّة
العُلماء، وقبولُ الأدب.
رُوي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال: مَن لا أدب له لا عقل له.
وقالوا: الأدب يَزيدُ
العاقلَ فضلاً ونَباهة، ويُفيده رقّة وظَرفاً.
في رقة الأدب قال أبو
بكر بن أبي شَيْبة: قيل للعبّاس بن عبد المطّلب: أنت أكبرُ أم رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ قال: هو أكبر منّي وأنا أسنّ منه.
وقيل لأبي وائل:
أيكما أكبر، أنتَ أم الرَّبيع بن خُثَيم؟ قال: أنا أكبر منه سنًا، وهو أكبر منّي
عقلاً.
وقال أبان بنُ عثمان
لطُويس المغنّى: أنا أكبر أم أنت؟ قال: جُعلتُ فداك، لقد شَهِدْتُ زفاف أمك
المُباركة " على أبيك الطيّب. انظر إلى حِذْقه ورقّة أدبه كيف لم يَقُل أمك
الطيبة إلى أبيك المبارك " .
وقيل لعُمر بن ذَرّ: كيف برّ
ابنك بك؟ قال: ما مَشَيت نهاراً قطُّ إلا مشى خَلْفي، ولا ليلاً إلا مَشى أمامي،
ولا رَقى عِلّية وأنا تحته.
ومن حديث عائشة،
قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبجل أحداً تبجيلَه لعمّه العباس.
وكان عمر وعثمان إذا
لَقِيا العباس نَزلا إعظاماً له، إذا كانا راكبَين.
الرياشيّ عن الأصمعيّ
قال: قال هارون الرشيد لعبد الملك بن صالح: هذا منزلُك؟ وقد تقدم هذا الخبر في
الخبر الذي فيه مخاطبة الملوك، وكذلك قول الحجَّاج للشعبيّ: كم عَطاؤك؟ ومن قولنا
في رقة الأدب:
أَدبٌ كمثْل الماء لو
أفرغتَه ... يوما لسال كما يَسيلُ الماءُ
أحمد بن بّي طاهر
قال: قلتُ لعليّ بن يحيى، ما رأيتُ أكملَ أدبا منك؛ قال: كيف لو رأيتَ إسحاق بن
إبراهيم؟ فقلتُ ذلك لإسحاق بن إبراهيم؛ قال: كيف لو رأيتَ إبراهيم بن المهديّ؟
فقلتُ ذلك لإبراهيم؛ فقال: كيف لو رأيت جعفر بن يحيى؟
وقال عبدُ العزيز بِن
عُمر بن عبد العزيز: قال لي رَجاءُ بن حَيْوة: ما رأيتُ أكرمَ أدباً ولا أكرم
عِشْرَةً من أبيك، سَمَرتُ عنده ليلة، فبينا نحن كذلك إذ عَشى المصباحُ ونام
الغلام، فقلتُ: يا أمير المؤمنين، قد عَشى المصباح ونام الغلام، فلو أذنتَ لي
أصلحتُه، فقال: إنه ليس من مروءة الرجل أن يَسْتخدم ضيفَه، ثم حطّ رداءه عن مَنْكِبيه،
وقام إلى الدَبَّة فصبَّ من الزيت في المصباح وأشْخص الفَتيلة، ثم رَجع "
وأخذ رداءه وقال: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر.
العتبي عن أبيه قال:
صوَت رجل عند عمر بن الخطاب في المسجد، فلما كانت الصلاة قال عمر: عَزَمتُ على
صاحب الصوت إلا قم فتوضّأ " ؟ فلم يَقُم أحدٌ. فقال جريرُ بن عبد اللهّ: يا أميرَ
المؤمنين، اعزم علينا كلِّنا أن نَقوم فنتوضأ؟ قال: صدقتَ، ولا عَلِمتُك إلا سيّدا
في الجاهليّة، فقيها في الإسلام، قُوموا فتوضئوا.
الرياشي عن الأصمعي
قال: حدَّثني عُثمان الشحَّام، قال: قلتُ للحسن: يا أبا سعيد، قال: لَبَّيك؛ قلت:
أتقول لي لَبّيك؟ قال: إني أقولها لخادمي.
وقال الشاعر:
يا حبذا حين تُمسى
الريحُ باردةً ... وادي أًشيٍَ وفِتْيانٌ به هُضمُ
مُخدَمون كِرامٌ في
مجالسهم ... وفي الرّحال إذا جَربتَهم خَدم
وما أصاحب من قوم
فأذْكُرهم ... إلا يَزيدُهم حُبّا إليَ هُم
الأدب في الحديث
والاستماع وقالت الحُكماء: رأسُ الأدب كلِّه حُسنُ الفَهم والتفهّم والإِصغاء
للمتكلّم.
وذكر الشّعبي قوماً
فقال: ما رأيتُ مثلَهم أسدَّ تَنَاوباَ في مَجلس، ولا أحسن فهما من مُحدِّث.
وقال الشعبي، فيما
يَصِف به عبدَ الملك بن مروان: والله ما علمتُه إلا آخذاً بثلاث، تاركاً لثلاث
آخذاً بحُسن الحدِيث إذا حدث، وبُحسن الاستماع إذا حُدِّث، وبأيسر المؤونة إذا
خُولف، تاركاً لمجاوبة اللئيم، ومماراة السَّفيه، ومُنازعة اللجُوج.
وقال بعض الحُكماء
لابنه: يا بُني، تعلِّم حُسن الاستماع كما تتعلّم حُسن الحديث، وليعلم الناسُ أنك
أحرصُ على أن تَسمع منك على أن تقول، فاحذرْ أن تُسرع في القَوْل فيما تُحِبّ عنه
الرجوع بالفِعْل، حتى يعلم الناسُ أنك على فِعْل ما لم تَقُل منك إلى قَوْل ما لم تَفْعل.
وقالوا: من حُسن
الأدب أن لا تُغالب أحداً على كلامه، وإذا سُئِل غيرُك فلا تُجب عنه، وإذا حَدًث
بحديث فلا تُنازعه إياه، ولا تَقْتحم عليه فيه، ولا تُره أنك تعَلمه، وإذا كلّمت
صاحبك فأخذتْه حُجّتك فحسِّن مخرج ذلك عليه، ولا تُظهر الظَّفر به، وتَعلَم حُسنَ
الاستماع، كما تعلم حُسنَ الكلام.
وقال الحسنُ
البَصريّ: حَدِّثوا الناسَ ما أقبلوا عليكم بوجُوههم.
وقال أبو عبًاد
" الكاتب " : إذا أنكر المُتكلِّم عين السامع فَلْيسأله عن مَقاطع
حديثه، والسبَب الذي أُجري ذلك له؛ فإن وَجده يقف على الحقّ أتم له الحديث، وإلاّ
قطعه عنه وحَرمه مُؤانسته، وعَرّفه ما في سُوء الاستماع من الفُسُولة والحِرْمان
للفائدة.
الأدب في المجالسة
ومن حديث أبي بكر بن أبي شَيبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يَقم الرجلُ
" للرجل " عن مجلسه ولكن ليُوسع له.
وكان عبد الله بن عمر
إِذا قام له الرجلُ عن مجلسه لم يجلس فيه؛ وقال: لا يقم أحد لأحد عن مجلسه، ولكن
افْسَحوا يَفسح الله لكم.
أبو أمامة قال: خرج
إلينا النبي صلى الله عليه وسلم فقمنا إليه؛ فقال: لا تقوموا كما يقوم العجم
لعُظمائها. فما قام إليه أحد منّا بعد ذلك.
ومن حديث ابن عمر: أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن خرجتُ عليكم وأنتم جُلوس فلا يقومنَّ أحدٌ منكم
في وجهي، وإن قمت فكما أنتم، وإن جلست فكما أنتم، فإنّ ذلك خلق من أخلاق المشركين.
وقال صلى الله عليه
وسلم: الرّجل أحقُّ بصَدْر دابتَّه وصدْر مجلسه وصَدْر فراشه، ومن قام من مجلسه
وَرَجع إليه فهو أحقّ به.
وقال صلى الله عليه
وسلم: إذا جلس إليك أحدٌ فلا تَقم حتى تستأذنه وجَلس رجلٌ إلى الحسن بن عليّ
عليهما الرِّضوانُ، فقال له: إنك جلستَ إلينا، ونحن نريد القيام؛ أفتأذَنُ؟ وقال
سعيدُ بنُ العاص: ما مددتُ رجْلي قَطًّ بين يَدي جليسي، ولا قمتُ " عن مجلسي
" حتى يقوم.
وقال إبراهيمُ
النِّخَعيّ: إذا دخل أحدُكمِ بيتاً فَلْيَجْلس حيثُ أجلسه أهلُه.
وطَرح أبو قِلابة
لِرَجُل جَلَس إليه وسادةً فرَدَّها؟ فقال: أَمَا سَمِعْتَ الحديثَ؛ لا تَردَّ على
أخيك كرامَته؟ وقال عليّ بن أبي طالب رضوانُ الله عليه: لا يأبى الكرامةَ إلا
حِمار.
وقال سَعِيد بن
العاص: لجليسي عَلَيَّ ثلاثٌ: إذا دنَا رَحَّبْتُ به، وإذا جَلَس وَسَّعتُ له،
وإذا حَدًث أقبلْت عليه. وقال: إني لأكره أن يمرّ الذُّباب بجليسي مخافةَ أن
يُؤذِيه.
الهيثم بن عديّ
" عن عامر الشَّعبي " قال: دَخل الأحنفُ بنُ قيس على مُعاوية فأشار إليه
إلى وِسادةِ فلم يَجلس عليها، فقال له: ما مَنعك يا أَحْنف أن تَجلِس على الوسادة؟
فقال: يا أمير المُؤمنين، إنَّ فيما أَوصى به قَيسُ بن عاصم ولدَه أن قال: لا
تَسْع للسُّلطان حتى يَمَلَّك، ولا تَقْطعه حتى يَنْساك، ولا تَجْلِس له على فراش
ولا وِسادة، واجعل! بَينك وبينه مَجْلسَ رجل أو رجلين.
وقال الحسن: "
مُجالسةُ الرجل من غير أن يُسأل عن اسمه واسم أبيه مُجالسة النوكى.
ولذلك قال شَبيب بن
شَيْبة لأبي جعفر، ولَقِيه في الطّواف وهو لا يَعرفه، فأَعجبه حسن هَيْئته وسَمته:
أصلحك الله، إنِّي أحب المعرفةَ، وأجلَّك عن المسألة؟ فقال: أنا فُلان بنُ فلان.
قال زياد: ما أتيت
مجلساً قطّ إلا تركتُ منه ما لو جلستُ فيه لكان لي؛ وتَرْك ما لي أحبُ من أخذ ما
ليس لي.
وقال: إيّاكَ وصدور
المجالس وإن صَدَّرك صاحبُها، فإنها مجالس قُلَعة.
وقال " الشعبي
" : لأن أدعي مِن بُعْد إلى قُرْب أحبُّ إليَّ من أقصى من قُرْب إلى بعد.
وذكروا أنه كان يوماً
أبو السَّمراء عند عبد الله بن طاهر، وعنده إسحاقُ ابن إبراهيم، فاستدعى عبد الله
إِسحاقَ فَناجاه بشيء، وطالت النَجوى بينهما. قال: فاعترَتْني حَيْرَةٌ فيما بين القُعود على ما هما عليه والقيام،
حتى انقطع ما بينهما وتنَحّى إسحاق إلى مَوْقفه، ونظر عبد الله إلي، " يا أبا
السمراء "
إذا النَجيان سرًا
عنك أمرهَما ... فانزحْ بِسَمْعك تَجْهلْ ما يَقُولانِ
ولا تُحَملهما
ثِقْلاً لخوفهما ... على تَناجِيهما بالمجلس الدَّاني
فما رأيتُ أكرَم منه،
ولا أرفق أدباً، ترك مُطالبتي في هَفْوتي بحق الأمراء، وأدَبني أدبَ النُظراء.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إنما أحدُكم مرآة أخيه، فإذا رأى عليه أَذىَ فليمطه عنه، وإذا أخذ
أحدُكم على أخيه شيئاً فليقل: لا بك السُّوء، وصَرَف اللهّ عنك السُّوء.
وقالوا: إذا اجتمعت
حُرْمتان، أسقطت الكبرى الصُّغرى: وقال المُهلَب بن أبي صفرة: العيْش كلّه في
الجَليس المُمْتع.
الأدب في المماشاة
وَجه هِشامُ بن عبد الملك ابنه على الصَّائفة، ووجَّه معه ابن أخيه، وأوصى كلَّ
واحد منهما بصاحبه؛ فلما قَدِما عليه، قال لابن أخيه: كيف رأيتَ ابن عمّك؟ فقال: إن شئت أجملت، وإن شئت فسّرْتُ؛ قال: بل
أجمل؛ قال: عرضتْ بيننا جادة فتركها كلُّ واحد منَّا لصاحبه فما رَكِبناها حتى رَجعنا
إليك.
وقال يحيى بن أكثم:
ما شيتُ المأمون يوماً من الأيام في بُستان مُؤْنسة بنت المَهديّ، فكنت من الجانب
الذي يَسترٌه من الشَمس، فلما انتهى إلى آخره وأراد الرجوع، وأردتُ أن أدور إلى
الجانب الذي يَسْترٌه من الشمس، فقال: لا تفعل، ولكن كُن بحالك حتى أسترك كما
سَتَرْتني، فقلت: يا أمير المؤمنين، لو قدرتُ أن أقيك حَرَّ النار لفعلتُ فكيف
الشمسُ؟ فقال: ليس هذا من كرم الصُحبة، ومَشى ساتراً لي من الشّمس كما سترته.
وقيل لعُمَر بن ذرّ:
كيف برُ ابنك بك؟ قال: ما مشيتُ نهاراً قط إلا مَشى خَلفي، ولا ليلاً إلا مشى
أمامي، ولا رَقِي سَطحاً وأنا تحته.
وقيل لزياد: إنك تَستخلص
حارثة بن بَدْر وهو يُواقع الشراب؛ فقال: وكيف لا أَسْتَخْلصه وما سألته عن شيء قط
إلا وجدتُ عنده منه عِلْماً، ولا استودعتُه سِرّاً قطْ فضيّعته، ولا راكبني قطّ
فمست رُكْبتي رُكْبته.
محمد بن يزيد بن عُمر
بن عبد العزيز قال: خرجتُ مع موسى الهادي أمير المُؤمنين من جُرْجان؛ فقال لي:
إمّا أن تَحملين، وإمّا أن أحْملك، فعلمتُ ما أراد، فأنْشدتُه أبياتَ ابن صِرْمة:
أوصيكم بالله أولَ
وَهْلةٍ ... وأَحْسابِكِم والبرُّ باللّه أَوَّلُ
وإنْ قومُكم سادوا
فلا تَحْسُدوهم ... وإن كُنتم أهلَ السِّيادة فاعْدِلوا
وإن أنتمُ
أعْوَزْتُمُ فتَعفَفَّوا ... وإن كان فَضْلُ المال فيكم فأَفْضِلوا
وإنْ نزلتْ إحدى
الدَواهي بقَوْمكم ... فأنْفُسَكم دون العَشيرة فاجعلوا
وإنّ طَلبوا عُرْفاً
فلا تَحْرموهمُ ... وما حَمَّلوكم في المُلمّات فاحملوا
قال: فأمر لي بعشرين
ألف دِرْهم.
وقيل: إن سعيد
بن سَلْم راكب موسى الهادي، والحَربةُ بيد عبد الله بن مالك، وكانت الريح تَسْفي
التراب، وعبد الله يَلْحظ موضع مَسير موسى، فيتكلَّف أن يسير على مُحاذاته، وإذا
حاذاه ناله ذلك التراب، فلما طال ذلك عليه أقبلَ على سَعيد بن سَلْم، فقال: أما
ترى ما نَلقى من هذا الخائن؟ قال: واللّه يا أميرَ المؤمنين ما قَصَّر في
الاجتهاد، ولكن حُرِم التوفيق.
باب السلام والإذن
قال النبي صلى الله عليه وسلم: أَطِيبوا الكلام، وأفشوا السلام، وأطعِموا الأيتام،
وَصَلُّوا بالليل والناسُ نِيام.
وقال صلى الله عليه
وسلم: إن أبخل الناس الذي يَبخل بالسلام.
وأتى رجلٌ النبي صلى
الله عليه وسلم، فقال: عليك السلامُ يا رسول الله؛ فقال: لا تقُل: عليك السلام، فإِنها تحيِّة الموتى، وقل: السلام عليك.
وقال صاحبُ حَرس عمر
بن عبد العزيز: خرج علينا عمرُ في يوم عِيد وعليه قميصُ كَتَّان وعِمامة؛ على
قلنسوة لاطئة، فقُمْنا إليه وسَلّمنا عليه؛ فقال: مَه، أنا واحدٌ وأنتم جماعة، السلامُ عليّ والردُّ عليكم. ثم سلّم
ورَددنا عليه ومشى، فمشينا معه إلى المسجد.
قال النبي صلى الله
عليه وسلم: يُسَلِّم الماشي على القاعد، والرَّاكب على الراجل، والصًغير على
الكبير.
ودخل رجل على النبي
صلى الله عليه وسلم فقال له: أبي يُقْرِئك السلام؛ فقال: عليك وعلى أبيك السلام.
إبراهيم عن الأسود
قال قال " لي " عبد الله بن مسعود: إذا لقيتَ عُمرَ فاقرأ علية السلام
قال: فلقيتُه فأَقْرأْته السلام؛ فقال: عليك وعليه السلام.
دخل مَيْمون بن
مِهْران على سُليمان بن هِشام، وهو والي الجزيرة، فقال: السلام عليكم؛ فقال له
سُليمان: ما مَنعك أن تُسَّلِّم بالأمرة؟ فقال: إنما يُسلَّم على الوالي بالإمرة
إذا كان عنده الناس.
أبو بكر بن أبي
شَيْبة قال: كان الحَسن وإبراهيم ومَيمون بن مِهران يَكْرهون أن يقول الرجلُ:
حيَّاك الله حتى يقول السَّلام.
وسُئل عبد الله بن
عُمر عن الرجل يَدْخل المَسجدَ أو البيتَ ليس فيه أحد؛ قال يقول: السلام علينا
وعلى عباد الله الصالحين.
ومر رجل بالنبي صلى
الله عليه وسلم وهو يبَول، فسلّم عليه، فلم يرد عليه السلام.
وقال رجلٌ لعائشة
" رضي الله عنها " : كيف أصبحت " يا أم المؤمنين " ؟ قالت:
بنِعْمة من اللّه.
وقال رجل لشُرَيح:
كيف أصبحتَ؟ " قال: بنعمة " ومدَ إصبعه السَّبابة إلى السماء.
وقيلِ لمحمد بن وكيع:
كيف أصبحت؟ " قال: أصبحتُ طويلاً أملى، قصيراً أجلى، سيئاً عملي.
وقيل لسًفْيان
الثَّوْري: كيف أصبحتَ؟ قال: أصبحتُ في دار حارتْ فيها الأدِلاء.
واستأذن رجلٌ من بني
عامر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أَلِجُ؟ فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لخادمه: اخرُج إلى هذا فعَلِّمه الاستئذان، وقُل له يقول: السَّلام
عليكم، أدْخُل؟ جابر بن عبد الله قال: استأذنتُ على النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال: مَن أنت؟ فقلت: أنا؛ قال: أنا أنا.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الاستئذان ثلاثة، فإن أُذن لك وإلاّ فارجع.
وقال عليُّ بن أبي
طالب رضى الله عنه: الأولى إذْن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزيمة، إمّا أن يأذنوا
وإمّا أن يردّوا.
باب في تأديب
الصغيرقالت الحُكماء: مَن أَدَّب ولدَه صغيراً سُرّ به كبيراً.
وقالوا: اطْبَعِ
الطِّن ما كان رَطْباً، واغْمِز العُود ما كان لَدْناً.
وقالوا: مَن أدَّب
ولدَه غَمّ حاسدَه.
وقال ابن عبّاس: مَن
لم يَجْلِس في الصِّغر حيثُ يَكْره لم يَجْلِس في الكبر حيث يحب قال الشاعر:
إذا المَرءُ
أَعْيَتْه المُروءةُ ناشِئاً ... فَمَطْلَبها كَهْلاً عليه شديدُ
وقالوا: ما أشدَّ
فِطامَ الكبير وأعسرَ رياضةَ الهَرم.
قال الشاعر:
وتَرُوض عِرْسَك بعد
ما هَرمت ... ومِن العَناء رياضةُ الهَرِم
وكتب شُرَيح إلى
معلِّم ولده:
تَركَ الصلاةَ
لأكْلُبٍ يَسعى بها ... يَبْغِي الهِرَاشَ مع الغُواة الرُّجَّس
" فَليَأتيِنَّك
غُدوًة بصحيفة ... كُتِبت له كصحيفة المُتَلمِّس "
فإذا أتَاكَ فَعَضَّه
بمَلامةٍ ... وعِظَتْه مَوْعِظة الأديب الكَبِّس
فإذا هَمَمْتَ بضربه
فبدِرَّةٍ ... وإذا بلغتَ بها ثلاثاً فاحْبِس
واعْلم بأنّك ما
أتيتَ فنفْسُه ... مع ما تُجَرِّعني اعزُّ الأنْفس
وقال صالح بن عبد
القدّوس:
وإنَّ مَن أدَّبته في
الصبا ... كالعُود يُسقَى الماءَ في غَرْسِه
حتى تَراه مُورِقاً
ناضِراً ... بَعد الذي أبصرتَ من يُبْسِه
والشيخُ لا يَتْرك
أخلاقَه ... حتى يُوارَى في ثَرى رَمْسه
إذا ارْعوى عادَ له
جَهْلهُ ... كذي الضَّنَى عاد إلى نُكْسِه
ما يَبْلغ الأعداءُ
من جاهل ... ما يَبْلغ الجاهلُ من نَفْسهِ
وقال عمرو بن عُتبة
لمعلِّم ولده: ليكُن أوّلَ إصلاحك لولدي إصلاحُك لنفسك، فإنّ عُيونهم مَعْقودة
بعَيْنك، فالحَسن عندهم ما صَنعتَ، والقبيح عندهم ما تَركت. علمَهم كتابَ اللهّ
ولا تُكْرههم عليه فيَملّوه، ولا تَتركهم منه فيهجروه؛ رَوِّهم من الحديث أشرفَه،
ومن الشعر أعفّه، ولا تَنْقُلهم من عِلم إلى علم حتى يُحْكِموه، فإنّ ازدحام
الكلام في القَلْب مَشغلة للفهم، وعَلِّمهم سُنَن الحكماء، وجَنِّبهم محادثة
النِّساء، ولا تَتّكَل على عُذْر منّي لك، فقد اتكلتُ على كِفاية منك.
باب في حب الولدأرسل
معاوية إلى الأحنف بن قيس، فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ قال: " يا
أمير المؤمنين " ، ثمار قُلوبنا، وعماد ظهورنا؛ ونحن لهم أرضٌ ذَليلة، وسماء ظَلِيلة،
فإن طلبوا فأعْطِهم، وإن غَضبوا فأَرْضهم؛ يمنحوك ودهم ويُحبوك جَهْدهم؛ ولا تكن
عليهم ثقيلاً فيملّوا حياتك، ويُحبُّوا وفاتك. فقال: للّه أنت يا أحنف، لقد دخلتَ
عليّ وإني لمملوء غضباً على يزيدَ فسَلَلَته من قلبي. فلمّا خرج الأحنفُ من عنده،
بعث مُعاوية إلى يزيد بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب، فبعث يزيدُ إلى الأحنف بمائة
ألف دِرْهم ومائة ثوب، شاطره إياها.
وكان عبد الله بن
عُمر يذهب بولده سالم كلَّ مَذْهب، حتى لامه الناسُ فيه، فقال:
يَلُومونني في سالمِ
وأَلُومهم ... وجِلْدةُ بين العَينْ والأنف سالمً
وقال: إن ابني سالماَ
ليُحِبّ حُبَّاً لو لم يَخَفْه لم يَعْصه.
وكان يحيى بن اليمان
يَذْهب بولده داود كل مَذْهب، حتى قال يوماً: أئمة الحَدِيث أربعة، كان عبد الله،
ثم كان عَلْقمة، ثم كان إبراهيم، ثم أنت يا داود. وقال تزوّجْتُ أمَ داود، فما كان
عندنا شيءٌ أُلّفه فيه، حتى اشتريتُ له كُسوة بدانِق.
وقال زيدُ بن علي
لْابنه: يا بُنيَّ، إن الله لم يَرْضك لي فأوصاك بي، ورَضيني لك فحذَرنيك، واعلم
أنَ الآباء للأبناء مَن لم تَدْعه المَودَّةُ إلى التَفريط، وخَيْرَ الأبناء
للآباء مَن لم يَدْعه التقصير إلى العُقوق.
وفي الحديث
المَرْفوع: ريح الوَلد من ريح الجنَّة.
وفيه أيضاً: الأولاد
منِ رَيحان اللّه.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم لمَّا بُشر بفاطمة: رَيحانة أَشَمّها ورِزْقها على اللهّ.
ودخل عمرو بن العاص
على مُعاوية وبين يديه بنته عائشة، فقال: مَن هذه يا " أمير المؤمنين "
؟ فقال: هذه تًفَّاحة القَلْب؛ فقال له: انبذُوها عنك " يا أمير المؤمنين
" فواللّه إنَهن لَيَلدْنَ الأعداء، ويُقرِّبن البُعداء، ويُورِّثن الضّغائن.
قال: لا تَقُل ذاك يا عمرو، فواللهّ ما مَرّضِ المَرْضى، ولا نَدَب الموْتى، ولا
أعان على الأحزان مِثْلهن، ورُبَّ ابن أُخت قد نَفعَ خاله.
وقال المُعلّي الطائي:
لولا بُنيّات كزغْب
القطَا ... حُطِطْن من بعْض إلى بَعْض
لكان لي مُضطَرَب
واسعٌ ... في الأرض ذاتِ الطّول والعَرْض
وإنما أولادُنا بيننا
... أكبادُنا تمشي على الأرض
إن هَبَّت الريحُ على
بَعْضهم ... لم تَشْبع العينُ من الغَمْض
وقال عبد الله بن أبي
بَكْرة: مَوْت الوَلد صَدْع في الكَبِد: لا يَنجبر آخرَ الأبد.
ونظر عمرُ بن
الخطَّاب رضي الله عنه إلى رجل يحمل طِفْلاً على عُنقه، فقال: ما هذا منك؟ قال:
ابني يا أميرَ المؤمنين، قالت: أمَا إنه إن عاش فَتَنَك، وإن مات حَزَنك.
وكانت فاطمة بنت رسول
الله صلى الله عليه وسلم تُرَقص الحسين بن علي رضي اللهّ عنهما وتقول:
إنّ بُني شِبْه النبي
... ليس شَبيهاً بعَلي
وكان الزُّبير يُرَقص
" ولده " عُرْوَة ويقول:
أَبْيَضُ من آل أبي
عَتِيق ... مُبارَك مِن وَلد الصِّدِّيقِ
ألذَّه كما أَلذّ
رِيقي
وقال أعرابي وهو
يُرَقّص ولده:
أُحبُّه حُبَّ الشحيح
مالَهْ ... قد كان ذاقَ الفقر تمَ نالَهْ
إذا يُريد بذلَه
بدالة وقال آخر وهو يُرْقص ولده:
أعرِف منه قلَّة
النُّعاس ... وخِفّةً في رَأسة من راسي
وكان رجلٌ من طيء
يَقطع الطّريق، فمات وتَرك بُنياً رضيعاً، فجعلت أُمه تُرقصه وتْقول:
ياليتَه قد قطع
الطّريقا ... ولم يًرِد في أمره رَفيقاً
وقد أخاف الفَجّ
والمضيقا ... فقَلّ أن كان به شفيقاً
وقال عبدُ الملك بن
مروان: أضرَ بنا فِي الوليد حُبُّنا له فلم نُؤدِّبه، وكأنّ الوليدَ أدبنا.
وقال هارون الرشيد
لابنه المعتصم: ما فعل وصيفك " فلان " ؟ قال: مات فاستراح من الكُتَّاب؛
قال أو بلغ منك الكتّاب هذا المبلغ! واللهّ لا حضرته أبداً، ووجّهه إلى البادية،
فتعلّم الفصاحة، وكان أُمِّيّاً، وهو المعروف بابن مارِدة.
وفي بعضِ الحديث أنّ
إبراهيم خليل الرَّحمن صلوات الله عليه كان من أغير النَّاس، فلمّا حضرَتْه
الوفاة، دخل عليه ملك الموت في صُورة رجل أنكره فقال له؛ مَن أدخلك داري؟ قال الذي
أسكنك فيها منذُ كذا وكذا سنة؛ قال: ومَن أنت، قال: أنا ملك الموت، جئت لقَبض
رُوحك؟ قال: أتاركي أنت حتى أودِّع ابني إسحاق؟ قال: نعم، فأرسل إلى إسحاق، فلمّا
أتاه أخبره، فتعلّق إسحاق بأبيه إبراهيم وجعل يتقطّع عليه بُكاءً؛ فخرج عنهما ملك
الموت، وقال: يا ربَّ ذبيحُك إسحاق متعلِّق بخليلك؛ فقال له اللّه: قل له إني قد أمهلتك،
ففعل. وانحلّ إسحاق عن أبيه، ودخل إبراهيم بيتاً ينام فيه، فقبض ملك الموت روحَه
وهو نائم.
باب الاعتضاد
بالولدقال الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن عَبْدِه زكريَّا ودُعائه إليه في الولد:
" وَزَكَرِيَّا إذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْني فَرداً وَأَنْتَ خَيْرُ
الْوَارِثين " . وقال: " وَإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانت
امرأتي عاقراَ فَهَبْ لي مِنْ لَدُنْكَ وَليَّاَ. يَرِثُني وَيَرِثُ مِن آل
يعقُوبَ واجعلهُ رَبِّ رَضِيَّاً " . والمَوَالِي ها هنا بنو العم.
وقال الشاعر:
مَن كان ذا عَضُد
يُدْرِكْ ظُلامته ... إنِّ الذّليل الذي لَيْستْ له عَضدُ
تَنْبو يَدَاه إذا ما
قَلَّ ناضرُه ... وَيَأنَفُ الضّيْم إنْ أثْرَى له عدد
العُتبى قال: لمّا
أسنَّ أبو بَراء عامرُ بن مالك وضَعَّفه بنو أخيه وخَرَّفوه ولم يكن له ولد
يَحْميه، أنشأ يقول:
دَفعتُكم عنَي وما
دَفْع راحةٍ ... بشيء إذا لم تَسْتَعِن بالأنامل
يُضَعّفني حِلْمي
وكثرةُ جَهلكم ... عليّ وأني لا أصُول بجاهل
وقال آخر:
تَعْدُو الذِّنائب
عَلَى من لا كلابَ له ... وتَتَّقي سَوْرةَ المُستنفِر الحامِي
باب في التجارب
والتأدّب بالزمان
قالت الحُكماء: كَفي
بالتّجارب تأديباً، وبتقلّب الأيام عِظَة.
وقالوا: كَفي
بالدَّهر مُؤَدِّباً، وبالعَقل مُرْشداً.
وقال حبيب:
أحاولتَ إرشادي
فعَقْليَ مُرْشِدي ... أم استَمْت تَأديبي فدَهري مُؤدبي
وقال إبراهيم بن
شَكلة:
من لم يؤدَبه والده
... أدَّبه الليلُ والنَّهارُ
كم قد أذلأَ كَريمَ
قَوْم ... ليس له منهما انتصار
مَن ذا يَدُ الدهرِ
لم تَنَله ... أو اطمأَنّت به الدَيار
كُلّ عن الحادِثات
مُغْضٍ ... وعِنده للزّمان ثار
وقال آخر:
وما أبقت لك الأيامُ
عُذْراً ... وبالأيَّام يَتَّعظ! اللًبِيب
وقالوا: كفي بالدهر
مُخبرا بما مَضى عمّا بَقيِ.
وقالوا: كَفي مخبراً
لذَوي الألباب ما جَرَبوا.
وقالوا لعيسى بن
مَرْيم عليهما السلام: مَن أدَّبك؟ قال: ما أدَّبني أحد، رأيتُ الجَهل قبيحاً
فاجتنبتُه.
باب في صحبة الأيام
بالموادعةقالت الحُكَمَاء: اصحب الأيام بالمُوادعة ولا تُسابق الدهرَ فتَكْبُو.
وقال الشاعر:
مَن سابَق الدهر كبا
كَبْوةً ... لم يَسْتَقِلها من خطُا الدَّهرِ
فاخطُ مع الدَّهر إذ
ما خَطا ... واجرِ مع الدهر كما يَجْرِي
وقال بشّار العُقَيلي:
أعاذِل إنّ العُسْر
سَوف يُفيق ... وإنّ يَساراً من غدٍ لخلِيقُ
وما كنْتُ إلا
كالزَّمان إذا صحا ... صحوتُ وإنْ ماقَ الزَّمان أَموق
وقال آخر:
تحامِق مَع الحَمْقىِ
إذا ما لَقيتَهمِ ... ولاقِهمُ بالجهل فِعل ذوي الجَهْل
وَخَلِّط إذا لاقيْت
يوماً مخَلَطاَ ... يُخَلِّط في قول صحيح وفي هَزْل
فإنّي رأيتُ المَرْءَ
يَشْفي بعَقله ... كما كان قبلَ اليوم يَسْعد بالعقل
وقال آخر:
إن المَقَادِيرَ إذا
ساعَدَتْ ... ألحقت العاجِزَ بالحازِم
وقال الآخر:
والسبب المانعُ حظّ
العاقل ... هو الذي سَبَّب حظّ الجاهِل
ومن أمثالهم في ذلك
" قولُهم " : تطامن لها تَخْطُك.
ومن قولنا في هذا
المعنى:
وتطَامنْ للزَّمان
يَجْزُكَ عَفْواً ... وإن قالوا ذَليلٌ قُلْ ذليلُ
وقال حَبيب:
وكانت لَوْعَةً ثم
اطمأنتْ ... كذاك لكلِّ سائلة قَرَارُ
وقال آخر:
ماذا يُريك الدَهْرُ
من هَوانِهِ ... ازْفِن لِقرْد السَّوْء في زَمانِهِ
ولآخر:
الدهر لا يبقى على
حالةٍ ... لا بُدَّ أن يُقبِلَ أو يدبرْ
فإنْ تَلقاك
بِمْرُوهه ... فاصبِر فإنَّ الدَّهرَ لا يَصْبر
ولآخر:
اصبرْ لِدَهْرٍ نال
من ... ك؛ فهكذا مضتْ الدُّهورُ
فَرَحاً وحُزْناً مرّةً
... لا الحُزن دام ولا السُّرورُ
ولآخر:
عَفَا الله عَمَّن
صَيَّر الهمّ واحداً ... وأيقن أنَّ الدَّائرات تَدُررُ
تَرُوح لنا الدُّنيا
بغير الذي غَدَت ... وتَحْدُث مِن بعد الأمور أمورُ
وتجْرِي الليالي
باجتماع وفُرْقة ... وتَطْلُع فيها أنجمٌ وتَغور
وتَطْمع أن يَبقى
السّرُور لأهله ... وهذا مُحال أن يَدُوم سُرُور
ولآخر:
سأنتظرُ الأيّامَ فيك
لعلّها ... تَعود إلى الوَصل الذي هو أَجْمَلً
باب التحفظ من
المقالة القبيحة
وإن كانت باطلاً
قالت الحكماء: إياك
وما يُعتذر منه.
وقالوا: مَن عَّرَض
نَفْسه للتُّهم فلا يأمَن مِن إساءة الظنّ.
وقالوا: حَسْبك من
شرِّ سماعه.
وقالوا: كفي بالقَوْل
عاراً وإن كان باطلاَ.
وقال الشاعر:
ومَن دعا الناسَ إلى
ذَمِّه ... ذمُوه بالحقّ وبالباطل
مَقالة السّوء إلى
أهلها ... أسرعُ من منْحدِرٍ سائل
وقال آخر:
قد قِيل ذلك إن
حقَّاً وإن كَذِباً ... فما اعتذارُك من قَوْلٍ إذا قِيلاَ
وقال أَرِسْططاليس
للإسكندر: إنّ الناس إذا قَدروا أن يقولُوا قدروا أن يفعلوا، فاحترس من أن يقولوا
تَسْلم من أن يفعلوا.
وقال آمرؤُ القيس:
وجُرْع اللّسان كجُرح
اْلْيَد
وقال الأخطل:
والقول يَنْفذ ما لا
تَنفذ الإبرُ
وقال يَعقوب الحَمْدونيّ:
وقد يُرْجَى لجُرح
السًيف بُرءٌ ... ولا بُرْءٌ لما جرح اللّسانُ
ولآخر:
قالوا ولَوْ صحَّ ما
قالُوا لفُزْت به ... مَن لي بتَصْدِيق ما قالوا وتَكْذِيبي
باب الأدب في تشميت
العاطسومن حديث أبي بكر بن أبي شيبة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تًشَمِّت
العاطس حتى يَحمد الله، فإن لم يَحمده فلا تُشَمَتوه.
وقال: اذا عطس أحدكم
فحمد الله فشمِّتوه، وإن لم يحمد فلا تُشَمِّته.
وقال عليٌّ رضي اللهّ
عنه: يُشَمَّت العاطس إلى ثلاث، فإن زاد فهو داء يَخْرج من رأسه.
عَطَس ابن عمر،
فقالوا له: يرْحمك اللهّ؛ فقال: يَهديكم الله ويُصلح بالكم.
وعَطَس عليُّ بن أبي
طالب فحمِد اللّه، فقيل له: يَرْحمك اللّه؟ فقال: يَغفر الله لنا و لكم.
وقال عمرُ بن الخطّاب
رضي الله عنه: إذا عَطَس أحدُكم فشَمِّتوه ثلاثاً؟ فإن زاد فقولوا: إنك مَضنوك.
وقال بعضُهم:
التَّشْميت مرة واحدة.
باب الإذن في
القبلةعبدُ الرحمن بن أبي لَيلى عن عبد الله بن عُمر قال: كنَّا نُقَبِّل يدَ
النبي صلى الله عليه وسلم.
وكيع عن سُفيان قال:
قَبَّل أبو عُبيدة يدَ عمر بن الخطّاب.
ومن حديث الشعبيّ
قال: لَقِيَ النبي صلى الله عليه وسلم جعفرَ بن أبي طالب فالتزمه وقبل بين عينيه.
وقال إياسُ بن
دَغْفل: رأيتُ أبا نَضْرة يُقَبِّل خدَّ الحسن.
الشَّيباني عن أبي
الحسن عن مُصعب قال: رأيتُ رجلاً دخل عَلَى عليّ بن الحسين رضي الله عنهما في
المسجد فقبَّل يدَه ووَضعها على عيْنَيه فلم يَنهه.
العُتبي قال: دخل
رجلٌ على هِشام بن عبد الملك فقبّل يدَه، فقال: أُفٍّ! إنّ العرَب ما قبّلت الأيدي
إلا هُلوعاً، ولا قبّلتها العجم إلاّ خُضوعاً.
واستأذن رجلٌ المأمون
في تَقْبيل يده، فقال: إنّ القُبلة من المؤمن ذِلّة، ومن الذِّمي خديعة، ولا حاجةَ
بك أن تَذِلّ، ولا حاجةَ بنا أن نُخْدَع.
واستأذن أبو دُلامة المهديَّ
في تَقْبيل يده فمنَعَه، فقال: ما مَنَعْتَني شيئاً أيسر على عِيالي فَقْداً
مِنْهُ.
الأصمعيُّ قال: دخل
أبو بكر الهَجريّ على المنصور فقال: يا أميرَ المؤمنين، نَغَض فمي، وأنتم أهل بيت
بركة، فلو أَذِنت لي فقبلت رأْسَك لعلَّ اللهّ كان يُمسك عليَّ ما بقي من أسناني؟
قال: اختَر بينها وبين الجائزة؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ أهوَن من ذهاب درهم
من الجائزة أن لا يبقى في فمي حاكَّة. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
وقالوا: قُبلة الإمام
في اليَد، وقُبلة الأب في الرأس، وقُبلة الأخ في الخدِّ، وقبلة الأخت في الصدر،
وقبلة الزَّوجة في الفَم.
باب الأدب في
العيادةمَرِض أبو عمرو بن العَلاء، فدَخَل عليه رجلٌ من أصحابه، فقال له: أَريد أن
أُساهرَك الليلةَ؛ قال له: أنت مُعافي وأنا مًبْتَلي، فالعافية لا تَدَعك أن
تَسهر، والبلاءُ لا يَدَعني أن أنامِ، وأسأل الله أن يَهب لأهل العافية الشُّكر،
ولأهل البلاء الصَّبر.
ودَخل كُثير عَزَّة على
عبد العزيز بن مَرْوان وهو مريض، فقال: لو أنّ سُرورك لا يتمّ إلا بأن تَسْلم
وأَسْقَم لدعوتُ ربَي أن يَصرف ما بك إليّ، ولكن أسأل الله لك أيها الأمير
العافية، ولي في كَنفك النِّعمة. فضحِك وأَمر له بجائزة، فخرج وهو يقول:
ونعودُ سيِّدَنا
وسيِّد َغَيْرنا ... ليتَ التشكِّي كان بالعوادِ
لو كان يُقْبَل
فِدْيةٌ لفَدَيْتُه ... بالمُصْطفي مِن طارِفي وتلاَدِي
وكتب رجلٌ من أهل
الأدب إلى عَليل:
نُبِّئت أنّكَ
مُعْتَلّ فقلتُ لهم ... نَفسي الفِداء لهُ من كلّ مَحْذورِ
يا ليتَ عِلّته بي
ثَمَّ كان له ... أجرُ العَليل وأنِّي غيرُ مأجورِ
وكتب آخر إلى عليل:
وَقَيْنَاك لو
نُعْطَى الهوى فيك والمُنَى ... لكان بنا الشَّكْوى وكان لك الأجْرُ
وكان شاعرٌ يختلف إلى
يَحيى بن خالد بن بَرمك ويمتدحه، فغاب عنه أيّاماً لعلّة عرضت له، فلم يَفْتَقده
يحيى ولم يَسأَل عنه، فلمّا أفاق الرجلُ من عِلّته كتب إليه:
أيهذا الأمير أكرمك
الل ... ه وأبقاك لي بَقاءً طَوِيلاَ
أَجَميلاً تراه أصلحك
الل ... ه لكَيما أراه أيضاً جَميلاً
أنَّنَي قد أقمتُ عَنْك
قَلِيلاً ... لا تُرَى مُنْفذاً إليَّ رَسُولا
ألذنب فما عَلِمْتُ
سوى الشّك ... ر لما قد أَوْليتنيه جَزِيلا
أم مَلالاً فما
عَلِمْتًك للحا ... فظ مِثْلي على الزَمان مَلولا
قد أَتى الله
بالصَّلاح فما أَن ... كرت مما عَهِدْتُ إلاّ قَليلا
وأَكلتُ الدًّرَّاج
وهو غِذاء ... أفَلت عِلّتي عليه أُفولا
وكَأَنِّي قَدِمْتُ
قُبْلك آتي ... ك غداً إن أَجِدْ إليك سَبيلا
فكتب إليه الوزير
يعتذر:
دَفَعَ الله عنكَ
نائبةَ الده ... رِ وحاشاك أن تكون عَلِيلاَ
أُشْهِدُ الله ما
علمتُ وما ذَا ... كَ من العذر جائزاً مَقْبولا
ولَعَلِّي لو قد
عَلِمْتُ لعاوَدْ ... تُكَ شَهراً وكان ذاك قَلِيلا
فاجعلنْ لي إلى
التعلّق بالعُذْ ... ر سبيلاً إن لم أجدِ لي سَبِيلا
فقديماً ما جاء ذو
الفَضْل بالفض ... لْ وما سامَح الخَلِيلُ خَلِيلاَ
وكتب المُعتصم إلى
عبد الله بن طاهر:
أَعْزِرْ على بأن
أراك عَليلا ... أو أن يكون بك السَّقامُ نزيلاَ
فَوَددْتُ أنَي مالكٌ
لسَلامَتِي ... فأُعيرَها لك بُكرةً وأَصيلا
فتكونَ تَبقى سالماً
بسلامتي ... وأكونَ مما قد عَرَاكَ بَدِيلا
هذا أخٌ لك يَشْتكي
ما تشتكي ... وكذا الخليل إذا أَحَبَّ خَليلا
ومَرِض يحيى بن خالد
فكان إسماعيل بن صُبيح الكاتب إذا دَخَل عليه يَعوده وقف عند رأسه ودَعا له، ثم
يَخْرُج فيسأل الحاجبَ عن مَنامه وشرابه وطعامه، فلمّا أفاق، قال يحيى بنُ خالد:
ما عادني في مرضي هذا إلا إسماعيلُ ابن صُبيح.
وقال الشاعر:
عِيادة المَرْء يومٌ
بين يَوْمين ... وجَلسةٌ لك مِثْل اللَّحظ بالعين
لا تُبْرِمَنَّ
مَريضاً في مُساءلة ... يكفيك من ذاكَ تَسْآل بحرفين
وقال بكر بنُ عبد
الله لقوم عادوه في مرضه فأطالوا الجلوسَ عنده: المريض يُعاد والصحيح يُزار.
وقال سفُيان
الثّوْريّ: حُمْق العُوّاد أشدُّ على المَرضى من أمراضهم، يجيئون في غير وقت
ويطيلون الجلوس.
ودخل رجلٌ على عمر بن
عبد العزيز يَعوده في مرضه، فسأله عن علّته، فلمّا أخبره قال: من هذه العلة مات
فلان ومات فلان. فقال له عمر: إذا عُدت المَرْضى فلا تَنْعَ إليهم الموْتى، وإذا
خرجتَ عَنَّا فلا تَعُد إلينا.
وقال ابن عبّاس: إذا
دخلتم على الرَّجل وهو في الموت فبشرُوه ليلقى ربَّه وهو حَسن الظن، ولقّنُوه
الشهادة ولا تُضْجروه.
ومَرِض الأعمش فأبرمه
الناس بالسُّؤال عن حاله، فكَتب قصَّته في كِتاب وجعله عند رأسه، فإذا سأله أحدٌ،
قال: عندك القِصَّة في الكتاب فاقرأها.
ولبعضهم:
مَرِض الحبيبُ
فعُدْتُه ... فمَرِضتُ من حَذَري عليه
وأَتىَ إليَّ
يَعُودني ... فبرِئْتُ من نظري إليه
ومَرِض محمدُ بن عبد
الله بن طاهر، فكتبَ إلى أخيه عبيد اللهّ بن عبد الله:
إنِّي وجدتُ عَلَى
جَفَا ... ئك من فِعالكَ شاهِدَا
إني اعتللت في فَقَدْ
... تُ سِوى رَسولك عائدا
ولو اعتللتَ فلم
أَجِدْ ... سبباً إليك مُساعداً
لاستشعرتْ عيني
الكَرَى ... حتى أَعُودَك راقداً
فأجابه:
كُحِلت مُقْلتي بشَوك
القَتاد ... لم أذق مُذْ حُمِمْتَ طَعْم الرُّقادِ
يا أخي الباذل
المودّة والنا ... زلَ من مقلتي مكانَ السواد
منَعَتْني عليك
رِقَّةُ قلبي ... من دُخولي إليك في العُوّاد
لوْ بِأُذْني سمعتُ
منك أنيناً ... لتَفَرَّى مع الأنين فؤادي
ولمحمد بن يزيد:
يا عَلِيلاً أفْدِيك
من ألم العِل ... ة هل لي إلى اللقاء سبيلُ
إن يَحُل! دونك
الحجابُ فما يح ... جَب عني بك الضَّنَى والعَويل
وأنشد محمدُ بنُ يزيد
قال أنشدني أبو دُهْمان لنفسه وقد دَخل على بعض الأمراء يعوده:
بأَنْفُسنا لا
بالطَوارِف والتُلْدِ ... نَقِيك الذي تُخْفِي من السُّقم أو تُبدِي
بنا مَعْشرَ العُوّاد
ما بك من أذى ... فإن أَشفقوا مما أقول فَبِي وَحْدِي
وكتب أبو تمام الطائي
إلى مالك بن طَوْق في شَكاة له:
كم لَوْعةٍ للنِّدَى
وكم قَلق ... للمجد والمَكْرمات في قَلَقِكْ
أَلُبَسكَ اللهّ منهُ
عافيةَ ... في نوْمك المُعْتري وفي أَرَقك
تُخْرج عن جِسْمِك
السَّقام كما ... أخرج ذَمّ الفَعال من عُنقك
ودخل محمد بن عبد
الله على المتوكل في شَكاة له يعوده، فقال:
اللهّ يَدفعْ عن
نَفْس الإمام لنا ... وكلّنا للمنايا دُونه غَرَض
فليتَ أَنّ الذي
يَعروه من مرض ... العائدين جميعاً لا به المَرَض
فبالإمام لنا من
غيرنا عِوَض ... وليس في غيره منه لنا عِوَض
فما أُبالي إذا ما
نَفْسه سَلِمَتْ ... لو باد كلُّ عباد الله وانقرضوا
وقال آخر في بعض
الأمراء:
واعتلّ فاعتلت الدنيا
لعِلّته ... واعتلّ فاعتلَّ فيه البأسُ والكرمُ
لما استقَلَّ أنار
المَجد وانقشعت ... عنه الضَّبابة والأحْزان والسَّقم
وبلغ قيساً مجنونَ
بني عامر أن ليلى بالعراق مريضة، فقال:
يقولون ليلى بالعِراق
مريضةٌ ... فما لك تَجْفوها وأنت صديقُ
شَفي الله مرْضى
بالعِراق فإنني ... على كلِّ شاكٍ بالعِراق شفِيق
ولمحمد بن عبد الله
بن طاهر:
أَلْبسك اللَهُ منه
عافيةً ... تُغْنيك عن دَعْوتي وعن جَلَدكْ
سُقْمك ذَا لا لعلّةٍ
عرَضت ... بل سُقم عيْنيك رُدَّ في جَسدك
" فيا
مريضَ الجُفون أَحييِ فَتًى ... قتلتَهُ بالجُفون لا بيَدك "
وقال غيره:
يا أملي كيف أنتَ من
ألمِكْ ... وكيف ما تَشْتكيه من سَقَمكْ
هذان يومان لي
أعدُّهما ... مُذ لم تَلًح لي بُرُوق مُبْتسمك
حسدتُ حُمّاك حين
قِيل لنا ... بأنها قَبَّلَتك فوق فَمك
ولسُحَيم عَبد بني
الحَسحاس:
تَجَمّعن شتى من ثلاث
وأرْبع ... ووَاحدةٍ حتى كَمُلنَ ثمانيَا
وأقْبلن من أقصى
الْخِيام يَعُدْنني ... ألا إِنما بعضُ العوائد دَائيا
وللعباس بن الأحف:
قالت مَرِضْت
فعُدْتها فتبرَّمت ... وهي الصحيحة والمريضُ العائدُ
والله لو قَسَت
القلوبُ كقَلبها ... ما رَقّ للوَلد الضعيف الوَالدُ
وقال الواثق:
لا بك السُقْم ولكنْ
كان بي ... وبنَفْسي وبأُمِّي وأبيِ
قيل لي إنك صُدِّعتَ
فما ... خالطت سمعيَ حتى دير بي
وأنشد محمدُ بن يزيد
المُبرِّد لعًلية بنت المهدي:
تمَارضتِ كي أشجى وما
بكِ عِلّة ... تُريدين قَتْلي قد ظَفِرْتِ بذلكِ
وقَوْلُكِ للعُوّاد
كيف تَرَوْنه ... فقالوا قَتيلاً قلتِ أهونُ هالكِ
لئن سَاءَني أن
نِلتِني بمَساءَةٍ ... لقد سَرَني أني خَطرت ببالكِ
ومن قولنا في هذا
المعنى:
رُوح النَّدى بين
أثواب العُلا وَصب ... يَعْتنُّ في جَسد للمجْد مَوْصوب
ما أنتَ وحدَك
مكْسُوًّا شُحوبَ ضَنى ... بل كلنا بك من مُضنى ومشحوب
يا مَن عليه حِجَابٌ
من جَلالته ... وإِن بدا لك يوماً غير محجوب
أَلْقَى عليك يداً
للضرُّ كاشفةً ... كَشَّافُ ضرُّ نبيّ الله أيُوبِ
ومثله من قولنا:
لا غَرْو إن نال منك
السُّقْمُ والضررُ ... قد تُكْسف الشمسُ لا بل يُخْسَف القمرُ
يا غُرّة القمر
الذّاوي غَضارتُها ... فِداً لنُورك منِّي السمعُ والبَصر
إن يُمس جسمك موعوكا
بصاليةٍ ... فهكذا يُوعَكُ الضًرغامة الهَصر
أنتَ الحُسام فإِن
تُقْلَل مضاربُه ... فقبلَه ما يُفَلّ الصّارِم الذّكَر
رُوح من المَجْد في
جُثمان مَكْرُمة ... كأنما الصُّبح من خَدَّيه يَنْفجر
لو غال مَجْلودَه
شيءٌ سِوَى قَدَرٍ ... أكبرتُ ذاك ولكن غالَه القَدرُ
ومن قولنا في هذا
المعنى:
لا غرو إن نال منك
السقْمُ ما سأَلاَ ... قد يُكْسَفُ البدر أحياناً إذا كَمُلا
ما تَشْتَكي عِلّةً
في الدهر واحدةً ... إلا اشتكي الجُود من وَجْدٍ بها عِلَلا
الأدب في الاعتناقأبو
بكر بن محمد قال: حدّثنا سعيد بن " إسحاق عن عليّ بن يونس المَدينيّ "
قال: كنتُ جالساً عند مالك " بن أَنس " فإذا سُفيان بن عُيينة يَستأذن
بالباب، فقال مالك: رجلٌ صالح صاحب سُنَة، أدخِلوه؛ فدخل فقال: السلامُ
عليكم ورحمةُ اللهّ وبركاته، فردَ السلام، فقال: سلامٌ خاصّ وعامّ عليك يا أبا عبد
الله ورحمةُ الله؛ فقال مالك: وعليك السلامُ يا أبا محمد ورحمةُ اللهّ، فصافَحه
مالك، وقال: يا أبا محمد، لولا أنها بِدْعة لعانَقْناك؟ فقال سُفيان: قد عانق مَن
هو خيرٌ منَّا، رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال مالك: جعفراً؟ قال: نعم؟ فقال
مالك: ذاك حديثٌ خاصّ يا أبا محمد ليس بعامّ؛ فقال سفيان: ما عمَّ جعفراً يَعُمّنا
وما خصَّه يخُصّنا إذا كنَّا صالحين، أفتأْذن لي أن أُحدَّث في مجلسك؟ قال: نعم يا
أبا محمد؟ فقال: حدّثني عبد الله بن طاوس عن أبيه عن عبد الله بن عباس، أنه لما
قَدِم جعفرٌ من أرض الحبشة اعتنقه النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بين عينيه، وقال:
جعفر أشبه الناس بي خَلْقَاَ وخُلُقاً.
باب الأدب في إصلاح
المعيشةقالوا: مَن أشبع أرضَه عملاً أشبعت " بيته " خُبزاً.
وقالوا: يقول الثّوب
لصاحبه: أكرمني داخَلاَ أُكْرِمْك خارجاً.
وقالت عائشة:
المَغزَل بيد المرأة أحسنُ من الرُّمح بيد المُجَاهد في سبيل اللّه.
وقال عمرُ بن الخطاب:
لا تَنْهَكوا وجهَ الأرض، فإِن شَحمها في وَجْهها.
وقال: فَرِّقوا بين
المَنايا واجعلوا من الرأْس رَأْسين.
وقال: أملكوا
العَجِين فإِنه أحد الرَّيعين.
وقال أبو بكر لغُلام
له كان يتَّجر بالثياب: إذا كان الثوبُ سابغاً فانشرهُ وأنت قائم، وإذا كان
قَصيراً فانشُره وأنت جالس، وإنما البيْع مِكَاس.
وقال عبد الملك بن
مَرْوَان: مَن كان في يده شيءٌ فلْيُصْلحه، فإنه في زمان إن احتاج فيه فأوّل ما يَبْذُل
دينهُ.
باب الأدب في
المؤاكلةقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أَكل أحدُكم فليأكل بيمينه ولْيَشْرَب
بيمينه، فإنّ الشيطان يِأكل بشماله ويشرب بشماله.
محمد بن سلاّم
الجُمحي قال: قال بلال بن أبي بُردة وهو أمير على البَصرة للجارود بن أبي سَترْة
الهُذليّ: أتحضُر طعامَ هذا الشيخ؟ - يعني عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر - قال:
نعم؛ قال: فصِفه لي؛ قال: نأتيه فنجده مُنْبطحاً - يعني نائماً - فنجلس حتى
يستيقظ، فيأْذن فنُساقطه الحديث، فإن حدَّثناه أحسنَ الاستماع، وإن حدَّثَنا أحسنَ
الحديث، ثم يدعو بمائدته وقد تقدّم إلى جواريه وأُمهات أولاده أن لا تُلطفه واحدةٌ
منهن " إلا " إذا وُضعت مائدته، ثم يُقبل خَبْازه فيمْثُل بين يديه
قائماً، فيقول له: ما عِنْدك؟ فيقول: عِندي كذا وكذا، فيعدِّد ما عنده - يريد بذلك
أن يَحْبس كلُّ رجل نفسَه وشهوتَه على ما يًريد من الطعام، وتُقْبِل الألوان من
هاهنا ومن هاهنا، فتوضع على المائدة، ثم يُؤتى بثريدة شَهباءَ من الفُلفل، رَقْطَاء
من الْحِمَّص، ذاتِ حِفافينْ من العُرَاق، فيأكل مُعذِراً، حتى إذا ظنّ أن القوم
قد كادوا يمتلئون جثَا على رُكْبتيه، ثم استأنف الأكل معهم. قال ابن أبي بُردة:
للّه ذرُّ عبد الأعلى، ما أربطَ جأشَه على وقع الأضراس.
حضر أعرابيُّ سُفرةَ
هشام بن عبد الملك، فبَينا هو يأكل معه إذ تعلّقتَ شَعرةٌ في لُقمة الأعرابيّ.
فقال له هشام: عندك شعرة في لُقمتك يا أعرابيّ؟ فقال: وإنك لتُلاحظني مُلاحظة من
يَرى الشَّعرة في لُقمتي، واللّه لا أكلت عندك أبداً. ثم خرج وهو يقول:
وللَموتُ خيرٌ من
زيارة باخل ... يُلاحظ أطرافَ الأكِيل على عَمْدِ
محمد بن يزيد قال:
أكل قائدٌ لأبي جعفر المنصور معه يوماً، وكان على المائدة محمدٌ المهديّ وصالحٌ
ابناه، فبينا الرجلُ يأكل من ثَريدة بين أيديهم إذ سَقط بعضُ الطعام من فيه في
الغَضَّارة، وكأن المهديّ وأخاه عافَا الأكل معه، فأخذ أبو جعفر الطّعام الذي سَقط
من فم الرجل فأكله. فالتفتَ إليه الرجلُ، فقال: يا أميرَ المؤمنين أمّا الدُّنيا
فهي أقلُّ وأيسر من أن أتركها لك، لكن واللّه لأتركن في مرضاتك الدُّنيا والآخرة.
وحدّث إبراهيمُ بن
السِّنديّ قال: كان فتىً من بني هاشم يَدْخل على المنصور كثيراً، " يُسلم من
بعيد ويَنْصرف " . فأتاه يوماً فأدناه، ثم دعاه إلى الغَداء، فقال: قد
تغذيتُ. فأمهله الربيعُ حاجبُ المنصور حتى ظَنّ أنه لم يفهم الخطيئة، فلما انصرف
وصار وراء السِّتر دَفع في قَفاه. فلما رأى من الحاجب دَفعه في قَفاه شَكا الفتى
حالتَه وما ناله إلى عُمومته، فأقبلوا من غد إلى أبي جعفر، وقالوا: إنَ الربيع نال
من هذا الفتى كذا وكذا؛ فقال لهم أبو جعفر: إنَ الرّبيع لا يقدم على مثل هذا إلا
وفي يده حُجَّة، فإن شئتم أمْسكنا عن ذلك وأغضينا، وإن شِئتم سألتُه وأسمعتكم؛
قالوا: بل يسأله أميرُ المؤمنين ونسمع. فدعاه فسأله فقال: إنّ هذا الفتى كان يأتي
فيُسلِّم ويَنصرف من بعيد، فلما كان أمس أَدناه أميرُ المؤمنين حتى سلَم من قُرْب،
وتبذل بين يديه ودعاه إلى غدائه، فبلغ من جهله بحق المَرْتبة التي أحلّه فيها أن
قال: قد تغدّيتُ، وإذا هو ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين وشاركه في يده إلا
سدًّ خَلّة الجوع، ومثل هذا لا يُقوِّمه القولُ دون الفعل. فسكت القومُ وانصرفوا.
وقال بكرُ بن عبيد
الله: أحق الناس بلَطْمة مَن أني طعاماً لم يُدْعَ إليه؛ وأحقُّ الناس بلَطْمتين
من يقول له صاحب البيت اجلس ها هنا، فيقول: لا، ها هنا؛ وأحقًّ الناس بثلاث لطمات
من دُعي إلى طعام فقال لصاحب المنزل: ادعُ رَبّةَ البيت تأكل معنا.
وقال أبو عثمان عمرو
بن بحر الجاحظ: لا ينبغي للفتى أن يكون مُكْحلاً ولا مُقبِّباً ولا مُكوكباً ولا
شُكامداً ولا حرامداً ولا نُقامداً، ثم فسّره فقال: أما اُلمكحل فالذي يتعرّق
العظم حتى يَدَعه كأنه مُكْحُلة عاج والمًقَبِّب فالذيِ يُركِّب اللحم بين يديه
حتى يجعله كأنه قُبّة. والمُكَوكب: الذي يَبْصق في الطِّست ويتَنخّم فيها حتى يصير بُصَاقه
كأنه الكواكب في الطَّست. والحرَامد: الذي يأتي في وقت الغَداء والعَشاء فيقول: ما
تأكلون؟ فيقولون من بُغْضه: سُمًّا، فيُدخل يده ويقول في حِرامّ العيش بعدكم.
والشُّكامد: الذي يُتْبع اللقمة بأُخرى قبل أن يُسيغها فيَخْتنق كأنه ديك قد ابتلع
فأرة. والنُّقامد: الذي يضع الطعامَ بين يديه ويأكل من بين يدي غيره.
ومن الأدب: أن يبدأ
صاحبُ الطعام بغَسْل يده قبل الطعامِ، ثم يقول لجلسائه: من شاء منكم فليغسل، فإذا
غُسلَ بعد الطعام فَلْيُقَدَمْهم ويتأخر.
أدب الملوكوقال
العلماء: لا يُؤم ذو سُلطان في لسُطانه، ولا يُجلس على تَكْرِمته إلا بإذنه. وقال
زِياد: لا يُسَلَّمُ على قادمٍ بين يَدي أمير المؤمنين: ودخل عبد الله بن عبّاس
على مُعاوية وعنده زَياد، فرحَّب به مُعاوية، ووسَّع له إلى جَنْبه، وأقبل عليه
يُسائله ويُحادثه، وزِياد ساكِت، فقال له ابن عبّاس: كيف حالُك أبا المُغيرة، كأنك
أردت أن تُحْدث بيننا وبينك هِجْرة؟ فقال: لا، ولكنه لا يُسلَّم على قادم بين يدي
أمير المؤمنين. قال ابن عبّاس: ما أَْدركْت الناس إِلا وهم يُسلمون على إخوانهم
بين يدي أمرائهم. فقال له مُعاوية: كُفَّ عنه يابن عبّاس، فإنك لا تَشاء أن
تَغْلِبَ إلا غُلبت.
الشّيبانيّ قال: بَصق
ابن مَرْوان فقَصر في بَصْقته، فوقعت في طَرف البِساط، فقام رجلٌ من المجلس فمسَحه
بكُمّه. فقال عبدُ الملك بن مَرْوان: أَرْبعة لا يُسْتحي من خِدْمتهم: الإمام
والعاِلم والوالد والضيف.
وقال يحيى بن خالد:
مُساءَلة المُلوكِ عن حالها من تَحيَّة النَّوْكَى، فإذا أردتَ أن تقول: كيف أصبح
الأمير، فقُل: صَبَّح الله الأميرَ بالنِّعمة والكرامة؛ وإن كان عليلاً فأردتَ أن تَسأله
عن حاله، فقُل: أنزل الله علِى الأمير الشِّفاء والرِّحمة.
وقالوا: إذا زادك
المَلِك إكراماً فزِدْه إعظاماَ، ماذا جَعلك عَبْداَ فاجعله ربًّا، ولا تُدِيمن
النظر إليه، ولا تُكثر من الدُّعاء له في كلِّ كلمةٍ. ولا تتغير له إذا سَخِط، ولا تَغتر به إذا رَضيَ، ولا تُلْحِف في
مسألته.
وقالوا: الملوك لا
تُسْال ولا تُشمَّت ولا تُكَيف. وقال الشاعر:
إِنَّ المُلوكَ لا
يُخَاطَبُونَا ... ولا إذَا مَلُوا يُعَاتَبُونَا
وفي المَقَال لا
يُنَازَعُونَا ... وفي العطاس لا يُشَمًتونَا
وفي الخطاب لا
يُكَيَّفُونَا ... يُثنى عليهم ويُبَجًلونَا
فافْهَم وَصاتي لا
تكُن مَجْنُونا
وقالوا: من تمام
خِدْمة الملوك أن يُقَرِّب الخادمَ إليه نَعْلَيْه، ولا يَدَعه يَمشي إليهما،
ويَجعل النعلَ اليُمنى قُبالة الرِّجل اليمنى، واليُسرى قُبالة الرجل اليُسرى،
وإذا رأى مُتَّكأ يَحتاج إلى إصلاح أصْلَحَه، ولا يَنْتظر فيه أمرَه، ويَتفقد
الدَواة قبلَ أن يَأمره، ويَنْفُضِ عنها الغبار إِذا قَربها إليه، وإن رأى بين
يديه قِرْطاساً قد تباعد عنه قَرّبه إليه وَوَضعه بي يديه على كِسْره.
وقال أصحابُ معاوية
لمُعاوية: إنّا ربما جَلَسنا عندك فوقَ مِقْدار شَهْوتك، فأنتْ تَكْره أن
تَسْتَخِفَّنا فتأمر بالقيام، ونحن نكرْه أن نُثْقِل عليك في الجُلوس، فلو جعلتَ
لنا علامةً نَعْرِف بها ذلك؟ فقال: علامةُ ذلك أن أقولَ: إذا شِئتم.
وقيل مثلُ ذلك ليزيدَ
بنِ مُعاوية. فقال: إذا قلتُ على بَرَكة اللّه.
وقيل مثلُ ذلك لعبد
الملك بن مروان، فقال. إذا وضعتُ الخَيْزُرانة.
وما سمعتُ بألطف
مَعنى، ولا أكملَ أَدَباً، ولا أحسنَ مَذْهباً في مُساءلة الملوك من شَبِيب بن
شَيْبة، وقوله لأبي جَعْفَر: أَصْلَحَكَ الله إني أُحِبُ المعرفة، وأُجِلّك عن
السُّؤال. فقال له: فلان بن فُلان.
باب الكناية
والتعريضومن أَحْسن الكِناية اللَطيفة عن المعنى الذي يَقْبحُ ظاهرهُ: قيل لعُمَر
بن عبد العزيز وقد نَبتَ له حبنٌ تحت أُنْثَيَيْه: أين نبَتَ بك هذا الحِبْن؟ قال
بين الرانفة والصَّفْن.
وقال آخر ونَبتَ به
حِبْن في إبطه: أين نبت بك هذا الحِبْن؟ قال: تحت مَنْكِبيّ.
وقد كَنَى اللهّ
تعالى في كِتابة عن الجماع بالمُلامَسة، وعن الحَدَث بالغائط فقال: " أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمِ مِن الغَائِطِ " ، والغائطَ: الفَحْص، " وهو المُطْمئن من الأرض " ؛ وجَمْعه: غِيطان. " وقالُوا مَا
لِهَذا الرّسُول يأكًلُ الطَّعامَ " . وإنما كنّى " به " عن
الحَدث. وقال تعالى: " واضْمُمْ يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْر سًوءٍ " . فكنّى " بالسوء " عن البرص.
ودخل الرّبيع بن زياد
على النُّعمان بن المُنذر وبه وَضح، فقال: ما هذا البَياض بك؟ فقال: سيف اللهّ
جلاه.
ودخل حارثةُ بن بدر
على زياد وفي وَجهه أثر، فقال له زياد: ما هذا الأثر الذي في وَجْهِك؟ قال: رَكِبت
فَرَسي الأشقر فجمح بي، فقال: أما إنك لو رَكِبْت الأشهب لما فعل ذلك. فكنّى حارثة
بالأشقر عن النبيذ، وكنّى زياد بالأشهب عن اللبن.
وقال معاوية للأحنف
بن قيْس: أَخْبرني عن قول الشاعرِ.
إذَا ما مات مَيْتٌ
من تميم ... وسرك أن يَعيش فجِيءْ بزادِ
بخُبز أو بتَمْرِ أو
بِسَمْنِ ... أو الشيءِ المُلَفَفِ في البِجَاد
تراه يَطُوف في
الافاقْ حِرْصاَ ... ليأكل رأس لُقمان بن عاد
ما هذا الشيء الملفّف
في البِجاد؟ قال الأحنف: السّخينة يا أميرَ المؤمنين. قال معاوية: واحدةٌ بأخرى والبادي أظلم - والسّخينة طعام كانت تعمله
قريش من دقيق، وهو الخَريزة، فكانت تُسَب به، وفيه يقول حسَّان بن ثابت:
زَعمْت سَخينة أن
ستَغْلِب رَبّها ... وليُغْلِبنّ مُغالِب الغلابِ
وقال آخر:
تَعشوا من خَزيرتهم
فناموا
ولمّا عَزل عثمانُ بن
عفان عمرو بن العاص عن مِصر وولاها ابن أَبي سَرْح، دخل عمرو على عُثمان وعليه
جُبّة محشوّة، فقال له عُثمان: ما حَشْو جُبّتك يا عمرو؟ قال: أنا؛ قال: قد علمتُ
أنك فيها. ثم قال له يا عمرو: أشعرتَ أن اللِّقاح درّت بعدك ألبانُها؟ فقال: لأنكم
أعجفتم أولادَها. فكنّى عثمان عن خَراج مصر باللّقاح، وكنّى عمرو عن جَوْر الوالي
بعده، وأنه حَرم الرزق أهلَ العطاء ووفَّره على السلطان.
وكان في المَدِينة
رجلٌ يُسَّمى جَعْدة يُرجِّل شعره ويتعرَّض للنساء المِعْزَبات، فكتب رجلٌ من
الأنصار كان في الغَزْو إلى عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه:
أَلاَ أَبلغ أبا
حَفْص رسولاً ... فدًى لك من أَخي ثِقَةٍ إزَارِي
قَلائِصُنا هدَاكَ
اللهّ إنّا ... شُغِلنا عنكُم زمنَ الحصارِ
يُعَقِّلُهن جَعْد
شيظمي ... وبِئْسَ مُعَقّلُ الذًوْد الظُّؤار
فكنَى بالقلائص عن
النّساء. وعَرض برجل يقال له جَعْدَة. فسأل عنه عمرُ، فَدُل عليه، فجزّ شَعره،
ونَفَاه عن المدينة.
وسمعِ عمرُ بن الخطاب
امرأة في الطّواف تقول:
فَمِنْهُنَّ من
تُسْقَى بعَذْب مُبرد ... نًقاخ فتِلْكم عند ذلك قرَتِ
ومنهنّ مَن تُسْقَى
بأخضرَآجن ... أُجاجٌ ولولا خشيةُ الله فَرَّت
ففهم شكواها، فبَعث
إلى زَوْجها، فوجده متغيِّر الفم. فخيَّره بين خمسمائة من الدراهم وطلاقِها.
فاختار الدَّراهم، فأعطاه وطَلّقها.
ودخل على زياد رجلٌ
من أشراف البصرة فقال له زياد: أين مَسكنك من البَصرة؟ قال: في
وَسطها، قال له: كم لك من الولد؟ قال: تِسْعة، فلما خرج من عنده قيل له: إنه ليس
كذلك في كل ما سألته، وليس له من الوَلد إلاّ واحدٌ، وهو ساكن في طَرف البَصرْة.
فلمّا عاد إليه سأله زياد عن ذلك، فقال له: ما كذبتُك، لي تسعة من الولد قَدَمْت
منهم ثمانية فهم لي، وبقي معي واحد، فلا أدري إليَ يكون أم عليَّ، ومنزلي بين
المدينة والجَبانة، فأنا بين الأحياء والأموات، فمنزِلَي في وَسط البَصرة؛ قال:
صدقت.
الكناية يورى بها عن الكذب
والكفرلما هَزم الحجاجُ عبدَ الرحمن بن الأشعث وقتَل أصحابَه وأسرَ بعضهم، كتب
إليه عبدُ الملك بن مَرْوان أن يَعْرِض الأسرى على السيف، فمَن أقرَّ منهم بالكفر
خلِّى سبيلَه، ومَن أبَى يَقْتله، فأُتي منهم بعامر الشًعبي ومطرِّف ابن عبد الله
بن الشّخّير وسعيد بن جُبَير؟ فأمّا الشعبي ومطرِّف فذَهبا إلى التعريض والكناية
ولم يُصرِّحا بالكفر، فَقبِل كلامهما وعفا عنهما؟ وأمّا سعيد ابن جُبير فأبى ذلك
فقتل.
وكان مما عرَّض به الشعبي،
فقال؛ أَصلح الله الأمير، نَبا المنزل، وأَحْزَن بنا الجَناب، واستَحلَسْنا
الخوفَ، واكتَحلنا السهرَ، وخَبطتنا فتنةٌ لم نكن فيها برَرَة أتقياء، ولا فَجَرة
أقوياء. قال؛ صدقَ والله، ما بَرُّوا بخروجهم علينا ولا قَوُوا، خَلّيا عنه ثم
قُدِّم " إليه " مُطرِّف بن عبد الله، فقال له الحجّاج: أَتُقِرّ على
نفسِك بالكفر؟ قال: إنّ مَن شق العصا، وسَفَك الدماء، ونكث البَيْعة، وأخاف
المسلمين لجديرٌ بالكفر؟ قال: خليا عنه. ثمّ قُدّم إليه سعيد بن جُبير، فقال له:
أتقِر على نفسك بالكُفر؟ قال: ما كفرتُ باللّه مذ آمنت به؟ قال: آضربوا عُنقه.
ولما وَلي الواثقُ
وأَقعد للناس أحمدَ بن أبي دُوَاد للمحنة في القُرآن ودعا إليه الفُقهاء، أُتي
فيهم بالحارث بن مِسْكين، فقيل له: أتَشهد أنّ القرآن مخلوق؟ قال: أشهدُ أنّ التوراة
والإنجيل والزَّبور والقرآن، هذه الأربعة مخلوقة، ومَدّ أصابعه الأربع، فعرض بها
وكنَى عن خلق القرآن وخلِّص مُهْجَته من القَتل: وعَجز أحمدُ بن نَصر فقيهُ بغداد
عن الكِناية فأباها، فقُتِل وَصلِب.
ودَخل بعضُ النسّاك
على بعض الخُلفاء فدعاه إلى طَعامه، فقال له: الصائم لا يأكل يا أميرَ المؤمنين،
وما أذكِّي نفسي بل الله يُزَكِّي مَن يشاء؛ وإنما كره طعامه.
الأصمعيُّ عن عيسى بن
عمر قال؛ بينما ابن عِرْباض يَمشي مُقْدِماً لِطيَّتِه، إذ استقبلته الخوارج
يَجزُّون الناسَ بسيوفهم، فقال لهم: هل خَرج إليكم في اليهود شيء؟ قالوا: لا؟ قال:
فامضُوا راشِدين، فمضَوْا وتركوه.
ولقي شيطانُ الطاق
رجلاً من الخوارج وبيده سيفٌ، فقال له الخارجي: واللهّ لأقتلنَّك أو تبرأَ من
عليّ؛ فقال له: أنا من عليّ، ومن عثمان بريء " يريد أنه من عليّ، وبريء من
عثمان " 0 أبو بكر بن أبي شَيْبة قال: قال الوليد " بن عُقْبة "
على المِنْبر بالكوفة: أًقسمُ على مَن سمّاني أَشعرَ بَرْكاً إلا قام " فخرج
عنّي " ، فقام إليه رجل من أهل الكوفة، فقال له: ومَن هذا الذي يقوم بين يديك
فيقول: أنا الذىِ سمّيتك أشعر بركاً؟ " قال " : وكان هو الذي سمّاه
" بذاك " .
" وقال
معاويةُ لصعْصعة بن صوحان: اصْعَد المنبر فالْعَن عليَّا " ، فامتنع من ذلك
وقال: أو تُعْفيني؟ قال: لا. فَصَعد المنبر فَحَمِد اللهّ وأثنى عليه ثم قال: معاشر
الناس، إنّ معاوية أمرني أن ألعن عليَّاً، فالعَنُوه لعنه الله " .
الكناية عن الكذب في
طريق المدحالمدائنيّ قال: أتي العُرْيان بن الهَيْثم بغلام سكران، فقال له: مَن
أنت؟ فقال:
أنا ابن الذي لا
يَنْزلُ الدَّهرِ قدرُه ... وإن نزلت يوماً فسوف تَعودُ
ترى الناسَ أفواجاَ
إلى ضوْء ناره ... فمنهم قِيامٌ حولها وقُعود
فظنّه ولداً لبعض
الأشراف، فأمر بتخليته. فلمّا كُشف عنه، قيل له: إنّه ابن باقلاني.
ودخل رجل على عيسى بن
موسى وعنده ابن شُبْرمة " القاضي " ، فقال له: أتعرف هذا الرجل؟ - وكان
رُمي عنده بريبة - فقال " نعم " ، إن له بيتاَ وقَدماً وشرَفاً، فخلّى
سبيلَه. فلمّا انصرف ابن شبرمة قال له " أصحابُه " : أكنت تعرف هذا
الرجل؟ قال: لا، ولكني عرفُ أنّ له بيتاً يأوي إليه، وقدماَ يمشي عليها، وشرفُه
أُذناه ومَنْكباه.
وخطب رجل لرجل إلى
قوم، فسألوه: ما حِرْفته؟ فقال: هو نخَّاس الدوَاب، فزوّجوه، فلمّا كُشف عنه وجدوه
يبيع السَّنانير، فلمّا عنِّفوه في ذلك قال: أوَ ما السنانير دواب؟ ما كذبتكم في شيء.
ودخل مُعلَى الطائي
على ابن السَّرِيّ يعوده في مرضه، فأنشده شعراً يقول فيه:
فأُقسم إن منَّ الإله
بصحَة ... ونَال السَّرِيُ بنُ السرِيِّ شفَاءَ
لأرتَحِلِّن العِيسَ
شهراً بحِجة ... وأُعتق شُكرإً سالماً وصَفَاء
فلمّا خرج من عنده
قال له أصحابُه: واللّه ما نعلم عبدَك سالماً ولا عبدك صَفاء، فمَن أردت أن تُعتق؟
قال؟ هما هرّتان عندي، والحجّ فريضة واجبة، فما عَلَيِّ في قولي شيءإن شاء الله
تعالى.
باب في الكناية
والتعريض في طريق الدعابةسُئل ابن سيرين عن رجل، فقال: تُوفّي البارحة. فلما رأى
جَزَع السائل، قال: " الله يَتوفَئ الأنفسَ حين مَوْتها والتي لم تمُتْ في مَنامها
" وإنما أردتُ بالوَفاة النوم.
ومَرِض زيادٌ فدخَل
عليه شُريح القاضي يَعوده. فلمِّا خَرج بعث إليه مَسْرُوقُ بنِ الأجْدَع يسأله:
كيف تركتَ الأمير؟ قال: تركتُه يأمر وينهى؛ فقال مَسروق: إن شُرَيحاَ صاحبُ تَعرِيض
" عَوِيص " فاسألوه، فسألوه فقال: تركتُه يَأمر بالوصيّة ويَنْهى عن
البُكاء.
وكان سِنان بن
مُكمِّل النُميريّ يُساير عُمر بن هبيرة الفَزاريّ يوماً على بَغلة، فقال له ابن
هُبيرة: غُضَّ من عِنان بَغلتك؛ فقال: إنها مكتوبة، أصلح الله الأمير. أراد ابن
هُبيرة قول جرير:
فغُضَّ الطَّرْفَ إنك
من نُمير ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كلابَا
وأراد سِنَان قولَ
الشاعر:
لا تَأمننَ
فَزاريَّاً خَلوتَ به ... على قَلُوصك واكتُبْها بأسْيارِ
ومرّ رجلٌ من بني
تَميم برجل من بني نُمير على يده بازي، فقال التَّميميُ للنّميريّ: هذا البازي لك؟
فقال له النُّميري: نعم، وهو أهدَى من القَطا.
أراد التميميُّ قولَ
جرير:
أنا البازي المُطِلّ
على نُمَيْر ... أُتِحْتُ لها من الجوِّ انصبابَا
وأراد النميري قول
الطِّرِمْاح:
تَميم بطُرْق اللُّؤم
أهدَى من القَطَا ... ولو سَلكت سُبْل المكارم ضَلَّتِ
ودخل رجلٌ من مُحارب
على عبد الله بن يَزيد الهلاليّ، وهو والي أَرْمِينية وقَريبٌ منه غَدير فيه
ضفادع، فقال عبد الله بن يزيد: ما تركتنا شيوخ مُحارب نَنام الليلة؛ فقال له
المُحاربيّ: أصلح الله الأمير، أَو تدْري لمَ ذلك؟ قال: ولم؟ قال: لأنها أضفَت
بُرْقُعاً لها؛ قال: قَبّحك اللهّ وقَبَّحَ ما جئتَ به. أراد ابن يزيد الهِلاليّ
قولَ الأخطل:
تَنِقّ بلا شيء
شُيوخُ مُحَاربِ ... وما خِلتُها كانت تَريش ولا تَبْرى
ضَفادع في ظَلماءِ
ليلٍ تَجاوبتْ ... فدلَّ عليها صوتُها حَيَّةَ البَحَر
وأراد المُحاربيُّ
قولَ الشاعر:
لكلّ هِلاليّ من
الًّلؤم بُرْقُع ... ولابن يزيد بُرقعٌ وقميص ُ
وقال مُعاوية لعبد
الرحمن بن الحَكم: استعْرِض لي هذين الفَرسين؛ فقال: أحدُهما أجَشُّ والآخر
هَزِيم، يعني قولَ النَّجاشيّ:
ونَجَّى ابن هِنْد
سابحٌ ذو عُلالةِ ... أجشُّ هَزيم والرِّماح دواني
فقال مُعاوية: أما
إنَ صاحبَهما على ما فيه " لا " ، يُشئب بكَنائنه.
وكان عبدُ الرحمن
يُرْمى بكنَّتِه.
وشاور زيادٌ رجلا من
ثِقاته في آمرأة يتزوَّجها، فقال: لا خير لك فيها، إني رأيتُ رجلاً يُقبِّلها،
فتركها؛ وخالَفه الرجل إليها وتزوَّجها. فلما بلغ زياداً خبرهُ أرسل إليه وقال له:
أما قلتَ لي إنك رأيتَ رجلاً يُقبِّلها؟ قال: نعم، رأيتُ أباها يُقبِّلها.
وقال أعرابيُ لعمرَ
بن الخطّاب رضي الله عنه: يا أميرَ المؤمنين، احمِلْني وسُحَيما على جمل؟ فقال:
نَشدتك الله يا أعرابيّ، أسُحيم هذازِق؟ قال: نعم؟ ثم قال: مَن لم يَنْفعه ظنه لم يَنْفعه
يَقينُه.
وودَّع رجلٌ رجلاً
كان يُبْغِضُه، فقال: امض في سّرٍ مِن حِفْظ الله، وحِجاب من كلاءته. فَفطِن له
الرجل، فقال: رَفع الله مكانك، وشَدِّ ظهرك، وجَعلك مَنظوراً إليك.
والشَّيباني قال: كان
ابن أبي عَتيق صاحبَ هَزْل ولهو، واسمُه عبد الله بن محمد بن أبي بَكر " الصدِّيق رضي الله عنهم " ، وكانت له آمرأة من أشراف قَريش، وكان
لها فتياتٌ يُغنين في الأعراس والمآتم، فأمرت جاريةً منهن أن تغنِّي بشعر لها قالتْه
في زَوْجها، فتغنّت الجاريةُ وهو يسمع:
ذَهب الإله بما تَعيش
به ... وقمرتَ لُبك أيما قَمْرِ
أنفقت مالك غير
مُحْتشم ... في كلِّ زانية وفي الخمر
فقال للجارية: لمن
هذا الشًعر؟ قالت: لموْلاتي. فأخذ قرْطاساً فكتبه وخرج به، فإذا هو بعبد الله بن
عُمر بن الخطاب، فقال: يا أبا عبد الرحمن، قف قليلا أُكلمك، فوقف عبد الله بن عمر؛
فقال: ما تَرى فيمن هجاني بهذا الشعر؟ وأنشد البيتن؟ قال: أرى أن تَعفو وتَصفح؛
قال: أما وإللهّ لئن لقيتُه لأنيكنَه، فأخذ ابن عُمر ينَكُله ويَزْجره، وقال:
قبّحك اللهّ. ثم لَقيه بعد ذلك بأيام، فلما أبصره ابن عُمر أعرض عنه بوَجْهه،
فاستقبله ابن أبي عَتيق؟ فقال له: سألتُك بالقبر ومَن فيه إلا سمعتَ مني حرفين؟
فولاه قفاه وأنصت له، قال: علمتَ أبا عبد الرحمن أني لقيتُ قائل ذلك الشعر
ونِكْته؟ فصعِق عبد الله ولُبِط به؟ فلما رأى ما نَزَل به دنا من أُذنه، وقال:
أصلحك اللّه، إنها امرأتي " فلانة " . فقام ابن عمر، وقَبل ما بي
عَيْنيه " وتبسَّم ضاحكاً " .
باب في الصمتكان
لُقمان الحكيم يجلس إلى داود صلى اله عليه وسلم " مُقْتَبسا " ، وكان
عبداً أسود، فوجده وهو يَعمل دِرْعاً من حديد؛ فعجب منه ولم يَرَ درْعاً قبل ذلك،
فلم يسأله لُقمان عما يَعمل ولم يُخبره داود، حتى تمَّت الدِّرع بعد سنة، فقاسها
داودُ على نفسه، وقال: زِرْد طافا ليوم قِرَافا. تفسيره: درع حَصينة ليوم قِتال. فقال لُقمان: الصمت
حُكم وقَليل فاعله.
وقال أبو عبيد الله
كاتبُ المهدىِّ: كُن على التماس الحظ بالسكوتِ أحرصَ منك على التماسه بالكلام،
إِنّ البلاء موَكَلٌ بالمنطق.
وقال أبو الدَّرداء:
أنْصف أُذنيك مِن فيك، فإنما جُعل لك أُذنان اثنان وفَم واحد لِتسمع أكثر مما
تقوله ابن عَوْف عن الحسن، قال: جلسوا عند مُعاوية فتكلّموا وسكت الأحنف فقال
مُعاوية: مالك لا تتكلّم أبا بَحْر؟ قال: أخافُك إن صدقتُ، وأخاف الله إن كذبت.
وقال المُهلَّب بن
أًبي صُفْرة: لأن أرى لعقل الرجل فضلاً على لسانه أحبُّ إليَّ من أن أرى للسانه
فضلا على عقله.
وقال سالم بنُ عبد
الملك: فضلُ العَقل عَلَى اللسان مُرُوءة، وفضل اللسان عَلَى العقل هُجْنة.
وقالوا: مَن ضاق
صدرُه اتسع لسانُه، ومَن كثُر كلامُه كثُر سَقَطه، ومَن ساء خُلقه قلَّ صديقُه.
وقال هَرم ابن حيّان:
صاحبُ الكلام بين إحدى مَنْزلتين، إن قصَّرَ فيه خصم، وإن أَغْرق فيه أَثِم.
وقال شَبيب بن شَيبة:
مَن سمع الكلمة يَكرهها فسكتَ عنها انقطع ضرُّها عنه.
وقال أكثمُ بن
صَيْفيّ: مَقْتل الرجل بين فَكًيه.
وقال جعفر بن محمد بن
عليِّ بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب رضي اللهّ عنهم:
يَموت الفتَى من
عَثْرة بلِسانِه ... وليس يموتُ المرءُ من عَثْرة الرِّجْل
فعثرته مِن فِيه
تَرْمِي برأْسه ... وعثرتُه بالرِّجْل تَبرا على مَهْل
وقال الشاعر:
الْحِلم زَيْنٌ
والسكُوتُ سلامةٌ ... فإذا نَطقتَ فلا تَكُنْ مكثَارَا
ما إن نَدِمْتُ على
سُكُوتي مَرّةً ... لكن نَدِمْتُ على الكلام مِرَارا
وقال لحسن بن هانيء:
خَلّ ِجنبيك لِرَامِي
... واْمض عنه بسَلاَم
مُتْ بداء الصمت خيرٌ
... لك من داء الكلامَ
ربَّ لفظ ساق آجا ...
ل فِئَام وفئام
إنما الساِلمُ من
أَلْ ... جَم فاهُ بِلِجَام
وقال بعض الحكماء:
حَظّي من الصّمت لي ونَفْعُه مَقْصور عَلَيَّ، وحظّي من الكلام لغيري وَوَباله
راجع عَليَّ.
وقالوا: إذا أعجبك
الكلامُ فاصمُت.
وقال رجلٌ لعمر بن
عبد العزيز: متى أتكلم؟ قال: إذا اشتهيتَ أن تَصْمُت؟ قال: فمتى أصمُتَ؟ قال: إذا
اشتهيتَ أن تتكلّم.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: ما أعْطيَ العبدُ شرّا مِن طَلاقة اللّسان.
وسَمِع عبد الله بن
الأهتم رجلا يتكلم فيُخْطىء، فقال: بكلامك رُزِق الصمتُ المحبة.
باب في المنطققال
الذين فَضلوا المنطقَ: إنما بُعثَت الأنبياء بالكلام ولم يُبْعثوا بالسُّكوت.
وبالكلام وُصِف فَضْل الصَّمت، ولم يُوصف القولُ بالصمت، وبالكلام يُؤْمر بالمعروف
وينْهى عن المُنْكر ويُعظَّم اللهّ ويُسبَّحِ بحمده " ، والبيان من الكلام هو
الذي مَنَّ الله به على عِباده، فقال: " خَلَقَ الإنْسَان عَلَّمَهُ البَيَان
" . والعِلْم كلُّه لا يُؤدِّيه إلى أَوْعية القُلوب إلا اللسان، فنَفْع
المنطق عام لقائله وسامعه " ومن بلّغه " ، ونَفْع الصمتِ خاص بفاعله.
وأَعْدلُ شيء قِيل في
الصمت والمَنْطق قولهم: الكلامُ في الخير كلِّه أفضلُ من الصمت، والصمت في الشرِّ
كلّه أفضلُ من الكلام.
وقال عبد الله
المُبارك صاحبُ الرقائق يَرْثي مالكَ بن أَنس المَدَنيّ:
صَمُوتٌ إذا ما
الصمتُ زَيَّنَ أَهلَه ... وفَتِّاق أبكار الكلام المُخَتَّم
وَعَى ما وَعَى
القرآنُ من كلِّ حِكْمَة ... وسِيطَت له الآدابُ باللحم والدَّم
وقال عمرُ بن
الخطّاب: ترْك الحركة غَفْلة.
وقال بكرُ بن عبد
الله المُزنيّ: طُول الصمت حبُسْة.
وقالوا: الصمتُ
نَوْم، والكلام يَقَظة.
وقالوا: ما شيء ثًني
إلا قَصرُ، إلا الكلام فإنه كلما ثُني طال. " وقال الشاعر:
الصمت ُشيمته فإنْ
... أبْدَى مَقاَلاً كان فَصْلاَ
أَبدَى السكوتَ فإن
تك ... لم لم يَدَعْ في القول فَضْلا "
باب في الفصاحةمحمدُ
بن سِيرين قال: ما رأيتُ عَلَى آمرأة أجملَ من شَحم، ولا رأيتُ عَلَى رَجُل أجمل
من فصاحة.
وقال اللهّ تبارك وٍ
تعالى فيما حكاه عنِ نبيّه موسى صلى الله عليه وسلم وآستيحاشه بعدم الفصاحة:
" وَأخي هرُون هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناَ فَأرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءَا
يُصَدِّقُني " .
آفات المنطقتكلّمَ
ابن السماك يوماً وجارية له تسمع كلامه، فلما دخل قال لها: كيف سمعت كلامي؟ قالت:
ما أحسنه لولا أنك تردده؛ قال: أردّده ليفهمه من لم يفهمه؛ قالت: إلى أن يفهمه من
لم يفهمه يملّه من فَهِمَه.
" الأصمعي
قال " : قال مُعاوية يوماً لجلسائه: أيّ الناس أفصح؟ فقال رجلٌ من السِّماط:
يا أميرَ المؤمنين، قوم قد ارتفعوا عن رُتَّة العراق، وتياسَرُوا عن كَشْكشة بكر، وتيامَنُوا
عن: شَنْشَنة تَغْلب، ليس فيهم غَمْغمة قُضاعة، ولا طمطمانيّة حِمْير.
قال: مَن هم؟ قال:
قومُك يا أميرَ المؤمنين قُريش؛ قال: صدقتَ، فمن أنت؟ قال: مِن جَرْم قال
الأصمعيّ: جَرْم فُصْحَى الناس.
وهذا الحديث قد وقَع
في فضائل قُريش، وهذا مَوْضعه أيضاً فأعدناه.
قال أبو العباس محمد
بن يزيد النَحويّ. التَمتمة في المنطق: التردُّد في التاء، والعُقْلة: هي التواء
اللسان عند إرادة الكلام؟ والحُبْسة: تعذُر الكلام عند إرادته؛ واللفف: إدخالُ
حَرْف في حَرْف؟ والرُّتة: كالرتَج تمنُع أول الكلام، فإِذا جاء منه شيء اتصل به
" . والغَمْغمة: أن تسمع الصوت ولا يَبِين لك تقطيعُ الحروف. وأما الرَتة:
فإنها تكون غريزية، وقال الراجز:
يأيُها المُخلّط
الأرَتّ
ويقال إنها تكثر في
الأشراف. وأما الغَمْغمة: فإنها قد تكون من الكلام وغيره.
لأنها صَوتُ من لا
يُفهم تقطيع حرُوفه.
قال عنترة:
" وصاحبِ
ناديته فغَمْغما ... يُريدُ لَبيك وما تكلَّما
قد صار من خوف الكلام
أَعْجما "
والطمْطمة: أن يكون
الكلام مُشْبِهاً لكلام العجم؟ والُّلكنة: أن تَعْترض في الكلام اللغةُ الأعجمية -
وسنفسِّر هذا حرفاً حرفاً، وما قيل فيه إن شاء اللّه - واللَّثغة: أن يُعدَل بحَرْف إلى حَرْف؛ والغُنّة: أن يُشرب الحرفُ
صوتَ الخَيْشوم؛ والخُنَة: أشد منها؟ والزخيم: حَذْف الكلام؛ والفأفأة: التردد في
الفاء: يقال: رجل فأفاء، تقديره فاعال، ونظيره من الكلام ساباط وخاتام، قال الراجز:
يامَيُّ ذات الجَوْرب
المنشَقّ ... أخذتِ خاتامِي بغَير حَقِّ
وقال آخر:
ليس بفأفاء ولا
تَمتّام ... ولا مُحبٍّ سَقَطَ الكلام
وأما كشْكشة تميم:
فإن بني عمرو بن تميم إذا ذَكرتْ كاف المؤنّث فوقفتْ عليها أبدلت منها شينا، لقُرب
الشين من الكاف في المخرج، وقال راجزُهم:
هل لكِ أن تَنْتفعي
وأنفعش ... فتُدْخلين الَلذْ معي في الَّلذْ مَعَش
وأما كسكسة بكر. فقوم
منهم يُبدلون من الكاف سينا كما فعل التميميون في الشين. وأما طمطمانية حِمْير:
ففيها يقول عَنترة:
تَأوي له قُلُص
النَّعام كما أوَتْ ... حِزَقٌ يمانِيَةٌ لأعجمَ طِمْطِم
وكان صُهيب أبو يحيى
رحمه الله يَرْتضخ لُكْنة روميّة.
وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: صُهيب سابق الروم.
وكان عبيد الله بن
زياد يرتضخُ لكنة فارسية مِن قِبل زوج أُمه شيرويه الأسواريّ.
وكان زياد الأعجم،
وهو رجل من بني عبد القيس. يَرْتضخ لكنة أعجمية، وأنشد المُهلّبَ في مَدْحه إياه:
فتى زاده السُّلتان
في الحمد رغبةً ... إذا غيَّر السُّلْتان كلَّ خَليل
بريد السلطان - وذلك
أن بين التاء والطاء نسباً، لأن التاء من مخرج الطاء.
وأما الغُنة فتُستحسن
من الجارية الحديثة السن. قال ابن الرّقاع " في الظبية " :
تُزْجِي أَغَنّ كأن
إبرةَ رَوْقه ... قلمٌ أصابَ من الدَّواة مِدَادها
وقال ابن المُقَفّع:
إذا كثر تَقْلِيب الِّلسان رقّت حواشيه ولانت عَذَبته.
وقال العتّابي: إذا
حُبس اللسانُ عن الاستعمال اشتدَّت عليه مخارج الحروف.
وقال الراجز:
كأن فيه لفَفَا إذا
نطق ... من طُول تَحْبِيس وهمّ وأرَقْ
باب في الإعراب
واللحنأبو عُبَيدة قال: مَرً الشِّعبيُّ بقَوْم من المَوالي يَتذاكرون النحوَ،
فقال لهم: لئن أَصْلحتموه إنكم لأوَّل من أفسده.
قال أبو عُبيدة: ليته
سَمِع لحنَ صَفْوان وخالد بن صَفْوان وخاقان والفتح بن خاقان والوليدِ بن عبد
الملك.
وقال عبد الملك بن
مروان: اللحنُ في الكلام أقبح من التَّفتيق في الثوب والجُدَريّ في الوجه.
وقيل له: لقد عَجِل
عليك الشيبُ يا أميرَ المؤمنين، قال: شَيَّبنى ارتقاءُ المنابر وتوقع اللحن.
وقال الحجَّاج لابن
يَعْمَر: أتَسمعني ألحن؟ قال: لا، إلاّ أنه ربما سَبَقكَ لسانُك ببعضه في آن وآن؛
قال: فإذا كان ذلك فعَرِّفني.
وقال المأمون لأبي
عليّ المعروف بأبي يَعْلى المِنْقريّ: بلغني أنك أُمِّيّ، وأنك لا تقيم الشِّعر،
وأنك تَلحن في كلامك؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أمّا الَّلحن فربما سَبَقني لساني
بالشيء منه، وأما الأمِّيَّة وكَسْر الشعر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم
أًمّياً وكان لا يُنشد الشعر؟ قال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عيوب فيك فزدْتني
عَيباً رابعاً، وهو الجهل، ياجاهل، إنّ ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فضيلة،
وفيك وفي أمثالك نَقيصة، وإنما مُنع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لنَفْي
الظِّنَّة عنه، لا لِعَيب في الشِّعر والكتاب، وقد قال تبارك وتعالى: " وَمَا
كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذَا
لارْتَابَ اْلمُبْطِلُونَ " .
وقال عبدُ الملك بن
مروانً: الإعراب جمالٌ للوَضِيع، واللحن هُجْنة على الشَّرِيف.
وقال: تَعلَّموا
النحوَ كما تتعلّمون السًّنن والفرائض.
وقال رجلٌ للحسن:
إنَّ لنا إماماً يلحن؟ قال: أمِيطوه " عنكم، فإن الإعراب حِلْية الكلام " .
وقال الشاعر:
النَّحوُ يَبْسُط من
لسان الأَلْكن ... والمرءُ تُكْرمه إذا لم يَلْحَنِ
فإذا طلبتَ من
العُلوم أَجلَّها ... فأَجلُّها منها مُقِيم الألسن
وقال آخر:
النَّحو صَعْب وطويل
سُلًمه ... إذا ارتقى فيه الذي لا يَعْلمُهْ
زَلَّتْ به إلى
الحَضِيض قَدَمُه ... يُريدُ أن يُعْربه فَيُعْجِمه
وقال رجل للحسن: يا
أبو سَعِيد؟ فقال: أحْسَبُ أنّ الدَّوانِق شَغَلتْك عن أن تقول: يا أبا سعيد.
وكان عمرُ بنُ عبد
العزيز جالساً عند الوليد بن عبد الملك، وكان الوليد لَحَّاناً، فقال: ياغلام،
ادعُ لي صالح؛ فقال الغلام: ياصالحا؛ قال له الوليد: انُقص ألفاً؛ فقال عمر: وأنت
يا أميرَ المؤمنين فزِدْ ألفاً.
ودخل على الوليد بن
عبد الملك رجلٌ من أشراف قُريش، فقال له الوليد: من خَتَنَك؟ قال له: فلانٌ
اليهودي؛ فقال: ما تقول؟ ويحك! قال: لعلّك إنما تَسْأل عن خَتَني يا أمير
المؤمنين، هو فلان بن فلان.
وقال عبدُ الملك بن
مروان: أضرّ بنا في الوليد حُبُّنا له، فلم نُلْزمه البادية. وقد يَستثقل الإعرابُ
في بعض المواضع كما يستخفّ اللحنُ في بعضها.
وقال مالك بن أسماء
بن خارجة الفَزاريّ:
منطقٌ بارعٌ وتَلحنُ
أحيا ... ناً وخير الحديث ما كان لحنا
وذلك أنه من حَكى
نادرةً مُضحكة، وأراد أن يُوفِّي حروفها حظَّها من الإعرِاب، طَمس حُسنها،
وأَخرجها عن مِقدارها، ألا ترى أن مُزَبِّدا المَدِينيّ أكل طَعاماَ فكظَّه، فقيل
له: أَلا تَقِي؟ قال: وما أَقي؟ خبز نقي ولحم طَرِي؟ مَرَتي طالق، لو وَجدت هذا
فيئاً لأكلته.
قال: وكذلك يُستقبح
الإعراب في غير موضعه كما استُقبح من عيسى بن عمر إذ قال وابن هُبيرة يَضربه بالسِّياط:
واللهّ إن كانت إلا أُثَيَّابا في أُسَيْفاط قَبضها عَشَّاروك.
وحُكي عن بعض
المغربين في الَّلحن أن جارية له غنّته:
إذا ما سَمعتُ اللومَ
فيها رفضته ... فَيَدْخل من أُذْنٍ ويَخرج مِن أُخرَى
فقال لها: مِن أُخرِى
يا فاعلة، أما علّمتِكٍ أن " من " تَخفض؟.
وقال رجل لشُرَيح: ما
تقول في رجل توفي وترك أباه وأخيه؟ فقال له: أباه وأخاه؛ فقال: كم لأباه وأخاه؟
قال لأبيه وأخيه؛ قال: أنت علّمتني فما أصْنَع؟ وقال بعضُ الشعراء، وأَدرك عليه
رجل من المُتفصّحين يقال له حَفْص لحناً في شِعْره، وكان حَفْص به اختلاف في
عَينيه وتَشويه في وجهه، فقال فيه:
لقد كان في عَينيك يا
حَفْصً شاغلٌ ... وأنفٌ كمِثْل الطَّود عما تَتَبَّع
تَتَبّع لحناً من
كلامٍ مُرَقَّش ... وخَلقْك مبْنيّ من اللَّحْن أَجمع
فعينك إقواء وأنفك
مكفأ ... ووجهك إبطاء فما فيك مرقع
باب في اللحن
والتصحيفوكان أبو حَنيفة لَحَّاناً، على أنه كان في الفُتيا ولُطف النَظر واحدَ
زمانه. وسأله رجل يوماً فقال له: ما تقول في رجل تناول صَخْرة فضرب بها رأسَ رجل
فقَتله، أتُقيده به؟ قال: لا، ولو ضربه بأبا قُبيس.
وكان بِشْر المَرِيسيّ
يقول لجلسائه: قَضى الله لكم الحوائج على أحسن الوجُوه وأهنؤها، فسمع قاسم
التَّمّار قوماً يَضْحكون، فقال: هذا كما قال الشاعر:
إنّ سليمى واللّهُ
يَكْلؤها ... ضنَّت بشيء ما كان يَرْزَؤها
وبِشر المَرِيسيّ
رأْس في الرأْي، وقاسم التَّمّار مُتقدم في أصحاب الكلام، واحتجاجُه لبِشر أعجبُ
من لَحْن بِشر.
ودخل شَبِيب بن شَيبة
على إسحاق بن عيسى يُعزِّيه عن طِفْل أُصِيب به، فقال في بعض كلامه: أَصْلح الله
الأمير، إنّ الطفل لا يزال مُحْبنظيا على باب الجنة يقول: لا أدْخل حتى يَدخل
أبواي، قال إسحاق بن عيسى: سبحان اللّه! ماذا جئتَ به؟ إنما هو مُحْبنطى، أما
سمعتَ قول الراجز:
إني إذا أنشدتُ لا
أَحبنطي ... ولا أُحِبُّ كثرةَ التمطِّي
قال شَبيب: ألي يقال
مثل هذا وما بين لا بتَيها أعلم مني بها؟ فقال له إسحاق: وهذه أيضاً، أللبصرةَ لابتان يالُكع؟ فأبان بتَقريعه عَوَاره، فأخجله
فسكت.
قوله المُحبنطي:
المُمتنع امتناع طلب لا امتناع إباء، وهو بالطاء غير معجمة، ورواه شبيب بالظاء
المعجمة. وقوله ما بين لا بتَيْها، خطأ، إذ ليس للبصرة لابتان، وإنما اللابة
للمدينة والكوفة. واللابة: الحرّة، وهي الأرض ذات الحجارة السود.
نوادر من الكلاميقال:
ماء نُقاخ، للماء العذب؟ وماء فُرات، وهو أعذب العذب؛ وماء قُعَاع، وهو شديد
المُلوحة؛ وماء حُراق، وهو الذي يَحرق من مُلوحته، وماء شرُوب، وهو دون العَذب
قليلاً؛ وماء مَسُوس، وهو دون الشَرُوب، وماء شَريب، وهو العذب.
اجتمع المُفضَّل
الضّبي وعبدُ الملك بن قرَيب الأصمعي، فأنشد المُفضل:
تُصْمت بالملك
تَوْلباً جَذَعا
فقال له الأسمعي:
تولباً جَدِعاً، والجَدِع: السيء الغذاء. فضَجَّ المفَضّل وأَكثر؛ فقال له
الأصمعي: لو نَفخت في الشَّبُّور ما نفعك، تكلّم بكلام الئمل وأَصِب.
وقال مروان بن أبي
حَفْصة في قوم من رُواة الشعر لا يعَلمون ما هو على كثرة استكثارهم من روايته:
زَوامل للأشعار لا
عِلْم عندهم ... بجيِّدها إلاِّ كعِلْم الأباعرِ
لَعمرك ما يَدْري
البَعير إذا غدا ... بأوْساقه أو راح ما في الغرائر
باب نوادر من
النحوقال الخليلِ بن أحمد: أنشدني أعرابيّ:
وإنَّ كِلاباً هذه
عَشْر أَبطُنٍ ... وأنت بَرِىء من قَبائلها العَشْرِ
قال: فجعلتُ أعجب من
قوله عَشْرَ أَبطُن " حيث أنث، لأنه عَنَى القبيلة " فلما رأَى عَجبي،
قال: أليس هكذا قولُ الآخر:
وكان مِجَنّي دون من
كنتُ أَتَّقي ... ثلاثُ شُخوص كاعبان ومُعْصرُ
وقال أبو زيد قلتُ
للخليل: لم قالوا في تَصْغير واصل: أو يصل، ولم يقولوا وُوَيصل؟ قال: كرهوا أن
يُشبه كلامُهم بنبح الكلاب.
وقال أبو الأسود
الدُّؤَلي: من العرب من يقول: لولاى لكان كذا وكذا. وقال الشاعر:
وكم مَوطنٍ لولاي
طِحْتَ كما هَوي ... بأَجْرامه من قنّة النِّيق مُنْهوِي
وكذلكَ لولا أنتم
ولولاكم، ابتداءٌ وخبره محذوف.
وقال أبو زيد: وراء
وقُدَّام لا يصرفان لأنهما مؤنثان، وتَصغير قدَّام قُدَّيْدمة وتصغير وراء
وُرَيِّئة، وقدَّام خمسة أحرف، لأن الدال مشدَّدة: فأسقطوا الألف لأنها زائدة، ولئلا يُصغر اسم على خمسة أحرف.
أبو حاتم قال: يقال
أمٌّ بيِّنة الأمومة: وعمٌّ بين العُمومة. ويقال: مَأموم، إِذ شُج أم رأسه. ورجل
مَمُوم: إذأ أصابه المُوم.
وقال المازنيّ. يقال
في حَسب الرجل أُرْفة ووَصمة وابنة، وكذلك يقال للعصا إذا كان فيها عيب. ويقال:
قذِيَت عينهُ، إذا أصاجها الرَّمد. وقد يقال في التقديم والتأخير مثلُ قول الشاعر:
شَرَّ يوميها وأغواه
لها ... رَكِبتْ عَنْز بحِدْج حَملاَ
يريد: ركبت عَنْز
" بحِدْج جملا في شرِّ يوميها: نصب لأنه ظرف.
وقد يُسمى الشيء باسم
الشيء إذا جاوره. قال الفرزدق:
أخذنا بآفاق السماء
عليكم ... لنا قَمراها والنجومُ الطَّوالعُ
قوله: لنا قَمراها:
يريد الشمس والقمر.
وكذلك قولُ الناس في
العُمرين: أبي بكر وعمر.
الرِّياشي: يقال أخذ
قِضِّتها وكُعْبتها، إذا أخذ عُذرتها.
قال أبو عُبيدة:
المَعيون الذي ليس له منظر ولا مخبر، والمَعين - الذي قد أصيب بالعين. والمعين:
الماء الظاهر.
أبو عُبيدة قال: سمعت
رُؤبة يقول: أباريق، يريد على الريق.
الأصمعي قال: لقي أبو
عمرو بن العلاء عيسى بن عمر. فقال له: كيف رَحْلك؟ قال: ما تزداد إلا مثَالة؛ قال:
فما هذه المَعيوراء التي تَرْكض، يريد ما هذه الحمير التي تَركب.
يقال: مَعيوراء
ومَشْيوخاء ومَعْبوداء.
قال الأصمعي: إنما
يُقال: اقرأ عليه السلام. وأنشد:
اقرأ على عَصْر
الشَّباب تحية ... وإذا لقيتَ دداً فَقطْنى من دَدِ
وقال الفرزدق:
وما سبق القيسيُّ من
ضَعف عَقله ... ولكن طَفَت عَلْماء قُلْفة خالدِ
" أراد:
على الماء، فحذف " . وهذا آخر كتاب سيبويه. وقال بعض الورَّاقين:
رأيتُ يا حمَّاد في
الصَّيد ... أرانباً تؤخذ بالأيْدِي
إن ذَوي النَّحو لهم
أنفسٌ ... مَعروفة بالمَكْر والكيد
يَضرب عبد الله زيداً
وما ... يُريد عبد الله من زيد؟
وأنشد أبو زيد
الأنصاري:
يا قرطَ قُرْطَ
حُيَيّ لا أبالكمُ ... ياقُرطُ إنّي عليكم خائفٌ حَذرُ
قُلتُمٍ له اهجُ
تَميماً لا أبا لكم ... في فَم قائِل هذا التُّرابُ والحَجَر
فإن بيتَ تميم ذو
سمعتَ به ... بيتٌ به رَأست في عِزِّها مُضر
ذو هنا في مكان الذي،
لا يتغيّر عن حاله في جميع الإعراب. وهذه لغة طيء تجعل ذو في مكان الذي.
وقال الحسن بن هانئ:
حُبًّ المُدَامة ذو
سمعتَ به ... لم يُبق فيّ لغيرها فَضلاَ
وبعضُ العرب يقول: لا
أباك في مكان لا أبا لك، " ولأن أبا لك " مضاف. لذلك بقيت الألف، ولو
كانت غير مُعربة لقلت: لا أبَ لك، بغير ألف: وليس في الإضافة شيء يُشبه هذا لأنه حالَ
بين المُضاف والمضاف إليه وقال الشاعر:
أبالموت الذي لا بدُ
أني ... مًلاقٍ لا أباكِ تُخَوِّفينِي
وقال آخر:
وقد مات شَمَّاح ومات
مُزَرِّد ... وأَيّ كريم لا أباكِ يُخلَّدُ
وأنشد الفرَّاء لابن
مالك العُقيليّ:
إذا أنا لم أُومَن
عليك ولم يَكُن ... لقاؤُك إلا من وراءُ وراءُ
هذا مثل قولهم: بين
بين.
وقال محمود الوراق:
مزَج للصدودُ وصالهنّ
فكان أمراً بَيْنَ بَيْنَ
وقال الفرزدق:
وإذا الرّجال رأوا
يزيدَ رأيتهم ... خُضُعَ الرِّقاب نواكسَ الأبصارِ
قال أبو العبّاس محمد
بن يزيد النَّحويّ: في هذا البيت شيء مُسْتطرف عند أهل النَّحو. وذلك أنه جمع فاعل
على فواعل، وإذا كان هكَذا لم يكن بين المُذكر والمُؤنث فَرْق، لأنك تقول: ضاربة
وضوارب، ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين، وذلك قولهم: فوارس وهوالك،
ولكنّه اضطر في الشّعر فأخرجه عن الأصل ولولا الضرورة ما جاز له.
وقال أبو غَسَّان
" رَفيع بن سَلَمة " تلميِذ أبي عُبيدة " المعروف بدَمَاذ، يخاطب
أبا عثمان النحويَّ المازنيّ " :
تَفكَّرْتُ في
النَّحو حتى مَلِل ... تُ وأَتعبتُ نفسي له والبَدنْ
وأتعبْت بَكْراً
وأصحابَه ... بكلّ المَسائل في كلّ فَن
سِوَى أنَّ باباً
عليه العَفا ... ءُ لِلْفاء ياليتَهُ لم يَكُن
فكنتُ بظاهره عالماً
... وكنتُ بباطِنه ذا فَطَن
وللواو بابٌ إلى
جَنْبه ... من المَقْت أحسبُهُ قد لُعن
إذا قلتُ هاتُوا لما
يُقا ... ل لستُ بآتيك أو تَأتين
" أَجِيبُوا
لما قِيلَ هذا كذا ... على النَّصب قالُوا لإضمارِ أن
وما إنْ رأيتُ لها
مَوْضعاً ... فأَعْرفَ ما قِيلَ إلاّ بفن
فقد خِفْتُ يا بكرُ
من طُولِ ما ... أُفكِّر في أَمْر " أَن " أو أُجَن "
باب في الغريب
والتقعيب
دخل أبو عَلْقمة على
أَعْينَ الطبيب، فقال: أصلحك الله، أَكلتُ من لحوم هذه الجَوازل وطَسِئْت طَسْأَة
فأصابني وَجَعٌ بين الوابلة ودأية العُنق، فلم يزل يَنْمو ويَرْبُو حتى خالَطَ
الخِلْب والشَّراسيف، فهل عندك دواء؟ قال: نعم، خذ خَرْبَقاً وسلفقاً وشِبْرقاً فزَهْزِقه " وزَقْزقه
" و اغسله بماء ذَوْب واشربه؛ فقال له أبو عَلقمة: لم أفهمكَ، فقال: ما
أفهمتُك إلاَّ كما أَفهمتني.
وقال له مرّة أُخرى:
إني أجد مَعْمعة وقَرْقرة؛ فقال: أمّا معمعة فلا أعرفها، وأما القرقرة: فضُراط لم
يَنْضَج.
وقال أبو الأسوَد
الدّؤلي لأبي عَلْقمة: ما حال ابنك؟ قال: أخذته الحمَّى فطَبَختْه طبخاً، ورَضَخته
رَضْخاً، " وفَتَخته فَتْخاً " فتركته فَرْخاً؛ قال: فما فعلت زوجتُه
التي كانت تُشارّه وتُهارّه وُتمارّه وتزارّه؟ قال: طَلَّقها. فتزوَّجت بعده فَحَظِيت وبظَيت؟ فقال له: قد عَرفنا "
حَظِيت " فما " بظَيت " ؟ قال: حرف من الغريب لم يَبْلغك؛ فقال: يابن
أخي، كل حَرْف لا يعرفه عمُّك فاستره كما تَستر السِّنور خُرْأها.
ودعا أبو عَلْقمة بحَجَّام
يَحْجِمهُ فقال له: أنْقِ غَسْلَ المحاجم، واشدُد قصب المَلازم، وأرْهف ظُبات
المشَارِط، وأسْرع الوضْع، وَعجِّل النَّزع، ولْيكُن شَرْطُكم وَخْزا، ومَصَّك
نَهْزا، ولا تَرُدَّن آتياَ، ولا تُكْرِهن آبياً. فوضع الحجّام مَحاجمه في جُونته
ومضى عنه.
وسَمِع أعرابيّ أبا
المَكْنون النَّحوي " في حَلْقته " وهو يقول في دعاء الاستسقاء: اللهم
ربنا وإلهنا ومولانا فصلِّ على محمد نبيّنا، " اللهم " ومن أراد بنا
سُوءا فأحِطْ ذلك السوء به كإِحاطة القلائد بأعناق الولائد، ثم أَرْسخه على
هامَتِه، كرسُوخ السِّجِّيل على هام أصحاب الفيل، اللهم اسقنا غَيْثاً مُغيثا
" مَرِيئا " مَرِيعا مُجلْجلا مُسْحَنفرا " هَزِجا " سَحَّا سفُوحا
طَبَقا غَدقا مُثْعَنْجرا، ناقعا لعامَّتنا، وغيرَ ضار لخاصَّتنا. فقال الأعرابيّ:
يا خليفة نوح هذا الطًّوفان وربِّ الكعبة، دعني حتى آوي إلى جَبَل يَعْصمني من الماء.
وسَمعه مرة أخرى يقول
في يوم برد: إن هذا يوم بلّة عَصبْصب بارد هِلَّوْف، فارتعد الأعرابي وقال: واللّه
هذا مما يَزيدني بردا.
وخطب أبو بكر
المَنْكور فأغرب في خُطبته وتقَعَّر في كلامه، وعند أصل المِنبر رجلٌ من أهل
الكوفة يقال له حَنش، فقال لرجل إلى جَنبه: إني لأبغض الخطيب يكون فَصيحاً بليغاً
مًتَقعِّراً. وسمعه أبو بكر المنكور الخطيبُ،. فقال له: ما أحوجك يا حنش إلى
مُدَحْرج مَفْتول لي الجلاز لَدْن المَهزّة عظيم الثّمرة، تُؤخذ به من مَغْرِز
العنق إلى عَجْب الذًنب " فتُعلَى به " فتَكْثُر له رقصاتُك من غير جَذل.
وقال حبيب الطائي:
فما لك بالغريب يدٌ
ولكن ... تَعاطيكَ الغَرِيبَ من الغَرِيبِ
أمَا لو أن جهلك عاد
عِلْما ... إذاً لرسختَ في عِلْم الغُيوب
ومن قولنا نَمدح رجلا
باستسهال اللفظ وحُسن الكلام:
قَولٌ كأن فَرِيدَه
... لسِحْر على ذهن الَّلبيب
لا يَشمئز على اللّسا
... نِ ولا يَشِذّ عن القُلوب
لم يَغْلُ في شَنِع
الًّلغا ... تِ ولا توَحّش بالغريب
سَيف تَقَلّد مثْلَهُ
... عَطْفَ القَضيب على القَضيب
هذا تُجَذّ بهِ
الرِّقَا ... بُ وَذا تُجَذّ به الخُطُوب
باب في تكليف الرجل
ما ليس من طبعهقالوا: ليس الفِقْه بالتفقُه، ولا الفَصاحة بالتفصُّح، لأنه لا
يَزيد مُتَزيّد في كلامه إلا لنَقْص يَجده في نَفْسه. ومما اتفقت عليه العربُ والعجمُ قولهم: الطَّبع أمْلك. وقال حَفْص بنُ
النُّعمان: المَرْء يَصْنع نَفْسه فمتى ما تَبْلًهُ يَنْزع إلى العِرْق.
وقال العَرْجيّ:
يأيها المُتحلَي غيرَ
شيمته ... ومِن شَمَائله التَّبديلُ والمَلَقُ
ارْجع إلى خِيمك
المَعروف دَيْدَنُة ... إنَّ التخلّق يأتي دُونه الخُلُق
وقال آخر:
وَمَن يَبتدع ما ليس
مِن خِيم نَفْسه ... يَدَعْه ويَغْلِبه على النَّفس خِيمُها
وقال آخر:
كلُّ امرىءٍ راجِعٌ
يوماً لِشِيمَته ... وإنْ تَخَلًقَ أخلاقاً إلى حِين
وقال الخرَيمي:
يُلاَم أبو الفَضل في
جُوده ... وهَلْ يَمْلِك البَحرُ أَلاّ يَفِيضَا
وقال أبو الأسود
الدُّؤلي:
ولائمةٍ لامَتكَ يا
فَيْضُ في النَّدَى ... فقُلْتُ لها هل يَقْدَح اللَّوْمُ في البَحْرِ
أَرَادَتْ لتَثْني
الفَيْضَ عن عادة النَّدَى ... ومَن ذا الذي يَثْنى السحابَ عن القَطْرِ
وقالَ حَبيب:
تَعَوَّد بَسْط
الكفِّ حتى لَوَ انه ... ثَناها لِقَبْضٍ لم تُجبْه أَنامِلُه
وقال آخر:
وقَفَّعَ أطرافَهم
قَبْضُها ... فإنْ طَلبُوا بَسطها تَنْكَسِرْ
وقالوا: إن مَلِكاً
من ملوك فارس كان له وزير حازم مُجرِّب، فكان يُصْدِر عن رأيه، ويَتعرف اليُمْن في
مَشُورته، ثم إنّه هَلَكَ ذلك الملكُ، وقام بعده ولدٌ له مُعجَب بنفسه مًستبدٌّ
برأيه، " فلم يُنزل ذلك الوزيرَ منزلته ولا آهْتَبل رأيَه " ومَشورته،
فَقيل له: إن أباك كان لا يَقِطع أمراً دونه، فقال: كان يَغْلَط فيه وسأمتحنه
بنَفْسي. فأرسل إليه، فقال له: أيّهما أغْلبُ على الرجل: الأدبُ أو الطبيعة؟ فقال
له الوزير: الطبيعةً أغلبُ، لأنها أصلٌ والأدب فَرْعٌ، وكلّ فَرْع يَرْجع إلى
أصله. فدعا " الملكُ " بسُفرته، فلما وُضعت أقبلت سَنانيرُ بأَيديها الشَّمعُ، فوقفت حول السُّفرة،
فقال للوزير: اعتبر خَطَأَكَ وضَعْفَ مَذْهبك، متى كان أبو هذه السنانير
شَمَّاعاً. فسكت عنه الوزير، وقال: أَمْهلني في الجواب إلى الليلة المُقبلة؛ فقال:
ذلك لك. فخَرج الوزيرُ، فدعا بغُلام له، فقال: التمسْ لي فأْراً واربطه في خَيط
وجئْني به؛ فأتاه به الغلامُ، فعقده في سَبَنِيَّة وطرحه في كُمّه، ثم راح من الغد
إلى الملك، فلما حضرت سُفرته أقبلت السنانير بالشَّمع حتى حَفّت بها، فحلّ الوزيرُ
الفأرَ من سَبنيَّته، ثم ألقاه إليها، فاستبقت السنانيرُ إليه ورَمت الشمعَ حتى
كاد البيتُ يضطرم عليهم ناراً. فقال الوزيرُ: كيف رأيتَ غَلَبة الطَّبيعة على
الأدب، ورُجوعَ الفَرْع إلى أصله؟ قال: صدقت، ورجع إلى ما كان أبوه عليه معه،
فإنما مَدار كل شيء على طبعه، والتكلُّف مَذْموم من كل وجه. قال الله " تبارك
وتعالى " لنبيّه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: " ومَا أَنَا مِنَ
المُتَكلِّفين " . وقالوا: من تَطبّعِ بغير طبعه نَزَعَتْه العادةُ حتى تردَّه إلى
طَبْعه، كما أنّ الماءَ إذا أَسْخَنته ثم تركته " ساعة " عاد إلى طَبعه
من البرودة، والشجرةَ المُرّة لو طليتها بالعسل لا تُثمر إلا مُرًّا.
باب في ترك المشاراة
والمماراةدخل السّائبِ بن صَيْفيّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أَتعرفني
يا رسول اللهّ؟ قال: وكيف لا أعرف شريكي في الجاهليَّة الذي كان لا يُشارى ولا
يُمارى. وقال ابن المُقفَّع: المُشاراة والمُماراة يُفْسدان الصَّداقة القديمة،
ويَحُلان العقدة الوثيقة، وأيسر ما فيها أنهما ذَرِيعة إلى المُنافسة والمُغالبة.
وقال عبدُ الرحمن بنُ أبي ليْلى: لا تُمارِ أخاك فإمّا أن تُغْضِبه وإما أن
تَكْذِبه. وقال الشاعر:
فإيَّاك إيَّاك
المِرَاءَ فإنه ... إلى السَّبّ دَعّاءٌ وللصَّرْم جالبُ
وقال عبد الله بن
عَبّاس: لا تُمار فقيهاً ولا سَفيهاً، فإنّ الفقيهَ يَغلبك والسفيه يُؤذيك. وقال
صلى الله عليه وسلم: سِبَاب المُؤمن فُسوق وقِتاله كُفْر.
باب في سوء الأدب
دخل عُرْوة بن مَسعود
الثَقفيّ على النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل يُحدَثه ويُشير بيده إليه حتى تَمسّ
لحيته، والمُغيرة بن شُعبة واقفٌ على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيفُ،
فقال له: اقبض يدك عن لِحْيَة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك.
فَقبض عُروة يده. وعُروة هذا " هو " عظيم القريتين الذي قالت " فيه
" قريش: لَولا نُزِّل هذا القرآنُ على رجُل من القَرْيتين عظيم. ويقال
إنه الوليد بن المغيرة المخزوميّ. ولما قَدِم وفدُ تميم على النبي صلى الله عليه
وسلم ناداه رجل " منهم " من وراء الجدار: يا محمد، اخرج إلينا. فأنزل
الله تعالى: " إنّ الذينَ يُنَادُونَكَ مِن ورَاء الحُجُراتِ أكثرُهم لا
يَعْقِلُون " . وفي قراءة ابن مسعود: " بنو تميمٍ أكثرُهم لا يَعْقلون
" . وأنزل الله في ذلك: " لا تَجْعَلوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَينَكم كدُعاء
بَعْضكم بَعْضاً " .
ونظر أبو بكر "
الصدِّيق رضي الله عنه إلى " رجل يَبيع ثَوْباً، فقال له: أتبيع الثوبَ؟ قال: لا عافاك اللهّ، قال:
لقد علمتم لو تتعلّمون! قل: لا وعافاك اللّه.
وخطب الحسن في دَم.
فأجابه صاحب الدم، فقال: قد وضعتُ ذلك الدم للّه ولوُجوهكم. قال له الحسن: ألا قلت:
قد وضعتُ ذلك للّه خالصاً؟ وذكر إعرابيّ رجلاً بسوء الأدب فقال: إن حدّثتَه سابقَك
إلى ذلك الحديث، وإن تركتَه أخذ في الترَّهات. ودخل بعضُ الرُّوَاة على المَهديّ،
فقال له. أنشدني قولَ زُهير:
لمن الدِّيار بقُنَة
الحِجْرِ
فأنشدها حتى أتى على
آخرها. فقال له المهديُّ: ذَهب واللّه مَن كان يقول هذا؛ فقال له: كما ذَهب واللّه
من يُقال فيه. فاستجهله واستَحمقَه. ولما رَفع قُطْرُبٌ النحوي كتابه في القران
إلى المأمون، أمرَ له بجائزة، وأذن له. فلما دخل عليه قال: قد كانت عِدَةُ أمير المؤمنين أرفع من جائزته.
فغَضب المأمون وهَمَّ به. فقال له سهل بن هارون: يا أمير المؤمنين: إنه لم يَقُل بذات
نَفْسه، وإنما غَلب عليه الحَصرَ. ألا تراه كيف يَرْشَح جبينُه ويكْسِر أصابعه،
فَسَكَن غضبُ المأمون واستجهله واستحمقه وكان الحسنُ اللؤلئيّ ليلةً عند المؤمون
بالرقَّة وهو يُسامره، إذ نَعَس المأمونً والحسن يُحَدِّثه، فقال له: نَعَست يا
أمير المؤمنين. فانتبه فقال: سُوقيٌ وربِّ الكعبة، يا غلام خُذ بيده. ودخل أبو
النًجْم على هشام بن عبد الملك بأرْجوزته التي أوّلها:
الحمد للّه الوَهُوب
المُجْزِل
وهي من أجود شِعْره.
" فاستحسنها هشام وأصغى إليها " فلما أتى على قوله:
والشمسُ في الجوِّ
كعَيْن الأحْول
غَضب هشام وكان
أحولَ، فأَمر بصفْع قَفاه وإخراجه.
ودخل كُثَيِّر عَزّة
على يَزيد بن عبد الملك، فبينا هو يُحدِّثه إذ قال: يا أمير المؤمنين، ما معنى قول
الشَّمَّاخ:
إذا الأرْطَى
تَوَسَّد أبرديْه ... خُدُودُ جوازيء بالرمْل عِينِ
فقال له يزيد: وماذا
على أمير المؤمنين ألا يعرفَ ما قال هذا الإعرابيّ الجِلْف مثلُك، واستحمقه وأمر
بإخْراجه. ودخل كُثَيِّر عَزّة على عبد العزيز بن مَرْوَان فأنشده مِدحَته التي
يقول فيها:
وأنتَ فلا تُفْقَدْ
ولا زال مِنْكًم ... إمامٌ يُحيَّا في حِجَاب مُسَدَّنِ
أشَمُّ منَ الغادين
في كُلِّ حُلَّة ... يَميسون في صَبْغ من العَصب مُتْقن
لهم أُزُرٌ حُمْرُ
الحَواشي يَطَوْنَها ... بأقدامِهم في الحَضرميّ المُلَسَّن
فاستَحْسنَها وقال
له: سَلْ حاجَتك؟ فقال: تُولَيني مكانَ ابن رُمَّانة كاتبك؛ فقال له: ويلك! ذا
كاتبٌ وأنت شاعر، فكيف تَقوم مَقامه وتَسُد مَسدَّه؟ فلما خرج من عنده ندم وقال:
عَجِبتُ لأخذِي خَطَة
العَجْز بعدما ... تَبَينَّ من عبد العزيز قَبُولُها
لئن عاد عبدُ العزيز
بمثْلها ... وأَمْكنني منها إذاً لا أقولها
ووقف الأحنف بنُ قيس
ومحمدٌ بن الأشعث بباب معاوية، فأذِن للأحنف ثم لمحمد بن الأشعث، فأسرع محمدٌ في
مشْيته حتى دَخل قبل الأحنف. فلما رآه مُعاوية قال له: والله إنِّي ما أذنتُ له
قبلَك وأنا أريد أن تَدْخل قبلَه، وإنّا كما نَلى أمورَكم كذلك نلى أدبكم، ولا
يزيد مُتَزَيِّد في أمره إلا لنقْص يجده في نَفْسِه. وقال عبدُ الملك بن مروان:
ثلاثة لا يَنبغي للعاقل أن يَستخِفَّ بهم: العُلماء والسُّلطان والإخْوان. فمن
اْستخفَّ بالعُلماء أفْسد دينَه، ومَن استخفَّ بالسُّلطان أفسد دُنياه، ومن
استخفَّ بالإخوان أفسد مرُوءته.
وقال أبو الزِّناد:
كنتُ كاتباً لعُمر بن عبد العزيز، فكان يكتب إلى عبد الحميد عامله على المدينة في
المَظالم فيُراجعه فيها، فكتَب " إليه " : إنه يُخيَّل إلي أَنِّي لو
كتبتُ إليك أن تُعطِي رجلاً شاةٍ، لكتبتَ إليّ: أضأنا أم مَعزاً؟ ولو كتبتُ إليك
بأحدهما لكتبتَ إليَّ: أذكراً أم أنثى؟ ولو كتبتُ إليك بأحدهما لكتبت: أصغيراً أم كبيراً؟ فإذا
كتبتُ إليك في مَظْلمة " فنَفِّذ أمري " ولا تراجعني فيها. وكتب أبو
جعفر إلى سَلْم بن قُتيبة، يأمره بهَدْم دور مَن خَرج مع إبراهيم " بن عبد
الله " ، وعَقْر نخلهم، فكتب إليه: بأيّ ذلك تَبدأ،
بالدُّور أو بالنّخل؟ فكتب إليه أبو جعفر: إنِّي لو أمرتك بإفساد تَمرهم، لكتبتَ:
بأيّ ذلك نبدأ؟ بالصَّيْحاني أم بالبَرْنِيّ؟ وعَزله وولّى محمد بن سليمان. "
ولمحمود الورّاق:
كم قد رأيتَ مَساءةً
... من حيثُ تَطْمع أن تُسَرّا
ولربما طَلب الفَتى
... لأخيه مَنْفعة فَضَرا "
ودخل عَدِيّ بن
أرْطأة على شرَيح القاضي، فقال له: أين أنت أصلحك اللّه؟ قال: بينك
وبين الحائط، قال: اسمع منِّي؛ قال: قُلْ نَسمع؛ قال: إني رَجل من أهل الشام، قال:
مكان سَحيق، قال: وتزوّجتُ عندكم، قال: بالرِّفاء والبَنين؛ قال: وأردتُ أن
أرحِّلها؟ قال: الرَّجلُ أحقُّ بأهله؟ قال: وشرَطتُ لها دارها؛ قال: الشَرْط أَمْلك؛
قال: فاحكم الآن بيننا، قال: قد فعلتُ، قال: فعلى مَن حكمتَ؟ قال: على ابن أمّك، قال: بشهادة من؟ قال بشهادة ابن
أخت خالتك - أراد شُريح إقرارَه على نفسه بالشَّرْطِ - وكان شِريح صاحب تعريض عويص.
ودخل شريك بنُ عبد الله على إسماعيل وهو يتَبخَر بعود، فقال للخادم: جئنا
بعود لأبي عبد الله. فجاء بِبَربط، فقال له إسماعيل: اكْسِرْه، " ويلك " ! وقال لشَريك: أخَذُوا البارحةَ في الحرس رجلاً ومعه هذا البَرْبط. وقال بعض
الشعراء في عيّ الخادم:
وَمَتَى أدْعها
بكأْسٍ من الما ... ء أتَتْني بصَحْفَة وزبِيبِ
وقال حَبيبٌ في بني
تَغْلِب من أهل الجَزِيرة يَصفُهم بالجفاء وقِلَةِ الأدب مع كرم النُّفوس:
لا رِقَّةُ الحَضَرِ
اللَّطيف غَذَتْهمُ ... وتَباعدُوا عن فِطْنة الأعْراب
فإذا كشفتَهمُ وجدتَ
لديهمُ ... كَرَم النُّفوس وقِلَّة الآدابَ
وكان فَتًى يُجالسُ
الشَّعْبيّ، وكان كثيرَ الصَّمت، فالتفت إلى الشَّعبيّ، فقال له: إني لأجد في
قَفاي حِكِّة أفتأمُرني بالحِجامة؟ فقال الشَعبِيُّ: الحمدُ لله الذي حوَلنا من الفِقْه إلى الحِجامة. " قال: وأتى
أحمدَ بن الخَصيب بعضُ المتظلّمين يوماً، فأخرج رِجْلَه من الرِّكاب فَركله بها. فقال فيه
الشاعر:
قلْ للخليفَةِ يابن
عَمِّ محمدٍ ... اشْكُل وزيرَك إنَّه رَكَّالُ "
وبعثَ رجلٌ من
التّجار وكيلاً له إلى رَجل من الأشراف يَقْتضيه مالاً عليه، فَرَجَع إليه
مَضروباَ فقال له: ويلك! مالك؟ قال: سَبك فسببته، فضَرَبَني. قال: وما
قال لك؟ قال قال: أدخَل الله هَنَ الحِمار في حِرِ أمَ مَن أرسلك؛ قال: دَعْني مِن
افترائه عليّ وسَبّه لي، وأخبرني كيف جعلتَ أنتَ لأيْرِ الحِمار من الحُرْمة ما
لمِ تجعله لِحِر أمّ مَن أرسلك؟ هلا قلتَ: أيْر الحِمار في هَنِ أم مَن أرْسلك؟
باب في تحنك
الفتىقِيلَ لعُمَر بن الخطَّاب: إِن فُلاناً لا يَعْرِف الشَر. قال: ذلك أحْرَى أن
يَقَع فيه. وقال سُفْيان الثَورِيّ: مَن لم يُحْسن أن يَتفتَى لم يُحسن أن
يَتَقَرَّى. وقال عمرو بن العاص: ليس العاقلُ الذي يعرف الخيرَ من الشر، إنما
العاقلُ الذي يَعرف خيَر الشرَّين. ومثل ذلك قول الشاعر:
رَضِيتُ ببعض الذل
خوفَ جَمِيعه ... كذلك بعضُ الشَر أهونُ من بعض
وسُئِل المُغيرة بن
شُعبة عن عُمَر بن الخَطّاب " رضي الله عنه " فقال: كان واللّه له
فَضْلٌ يمنعه من أن يَخدع، وعَقل يَمنعه من أن يَنخدع. قال إياس: لستُ
بِخَبّ والخب لا يَخْدعني. وتَجادَل إياس والحَسنُ - وكان الحَسنُ يَرى كلَّ
مُسْلم جائزَ الشهادة حتى تَظْهر عليه سَقْطةٌ أو يُجَرِّحه المشهود عليه، وكان
إِياسٌ لا يَرى ذلك - فأقبلَ رجلٌ إلى الحَسن، فقال: إنّ إياساَ رَدّ شهادتي. فقام معه الحسنُ إليه، فقال: أبا وائلة، لمَ
رددت شهادة هذا المُسلم؟ فقد قال صلى الله عليه وسلم: من صلى إلى قبلتتا فهو المُسلم،
له مالنا وعليه ما علينا؛ فقال له إياسٌ: يا أبا سَعيد، يقولُ الله تعالى: "
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداء " وهذا ممن لا نَرْضاه.
وكان عامرُ بنُ عبد
الله بن الزًبَير في غاية الفَضْل والدِّين، وكان لا يَعْرف الشرًّ،فبينا هو جالسٌ
في المَسْجِد، إذ أتي بعَطائه، فقام إلى مَنْزله فَنَسيه. فلما صار في بَيْته
ذَكَره، فقال لخادمه: اذهبْ إلى المَسْجد فائْتني بعَطائي؛ فقال له: وأين نجِده؟
قال سُبحان اللّه! أو بَقي أحدٌ يَأخذ ما ليس له؟ وقال أيُّوب: مِن أصحابي مَن
ارتجى بركةَ دُعائِه ولا أقْبل شهادَته. وذًكِرت فاطمةُ بنتُ الحُسين عليهما
السلامُ عند عُمَر بن عبد العَزيز وكان لها مُعظِّماً، فقيل إنها لا تَعْرِف
الشَّرَّ، فقال عُمر: عَدمُ مَعْرِفتها بالشرِّ جَنَبها الشَّرً.
وكانوا
يَسْتَحْسِنُون الحُنْكة للفَتى والصَّبْوة للحَدَث، ويَكرهون الشَّيب قبل أوانه، وُيشَبِّهون
ذلك بيُبوسِ الثَّمرة قبل نُضْجها، وأنِّ ذلك لا يَكُون إلا مِن ضرَر فيها. فأنفع
الإخوانِ مجلساَ، وأكرمُهم عِشْرةً، وأشدُهم حِذقاً، وأنبَهُهم نَفْساَ، مَن لم
يكن بالشاطِر المُتَفَتِّك، ولا الزًاهِد المتنَسِّك، ولا الماجن المتَظَرِّف، ولا
العابد المتقَشِّف، ولكن كما قال الشاعر:
يا هِنْدً هَلْ لك في
شَيْخٍ فَتًى أبداً ... وقد يكونُ شبابٌ غير فِتْيانِ
وقال آخر:
وفتًى وهْوَ قد
أَنافَ عَلى الْخم ... سِينَ يَلْقالك في ثيابِ غلام
وقال آخر:
فَلِلنُّسْكِ مني
جانبٌ لا أًضِيعُه ... وللَهْو مني والبَطالة جانبُ
وقال حَبيب:
كهْلُ الأناةِ فَتى
الشَّذاة إذا عَدا ... للرَّوْع كان القَشْعَمَ الغِطْرِيفَا
ومن قولنا " في
هذا المعنى " :
إذا جالسَ الفِتْيانَ
ألفيتَه فتًى ... وجالسَ كَهْلَ الناس ألفيتَه كهْلاَ
ونظيرُه قول ابن
حِطّان:
يوماً يَمانٍ إذا
لاقيتَ ذا يَمن ... وإن لَهقيت مَعديا فَعَدْناني
وقولُ عمران بن
حِطّان هذا هذا يَحتمل غيرَ هذا المعنى، إلا أنّ هذا أقربُ إليه وأشبهُ به، لأنّه
أراد أنه مع اليَمانيّ يمانيّ، ومَع العَدناني عدناني، فيُحتمل أنّ ذلك لخوف منه
أو مُساعدة، وكل ذلك داخلٌ في باب الحُنْكة والحِذْق والتَجْربة.
وقالوا: اصحبْ
البَرَّ لتتأسَى به، والفاجرَ لتتحنَك به. وقالوا: مَن لم يَصْحب البر والفاجرَ
" ولم " يؤدّبه الرَّخاءُ والشِّدة مَرة، ولم يَخْرج منِ الظّل إلى
الشَمس مَرة فلا تَرْجُه. ومن هذا قولهم: حَلب فلانٌ الدهرَ أشْطُره، وشرِبَ
أفاويقَه، إذ فَهِمَ خيرَه وشرَّه، فإذا نَزَلَ به الغِنى عَرَفه " ولم
يُبْطره " ، وإذا نَزَل به البَلاء " صَبر له و " لم يُنكرِه.
وقال هُدْبة
العُذْريّ:
ولستُ بِمفراحَ إذا
الدهرُ سرًّني ... ولا جازع و مِنْ صرفه المُتَقَلِّبِ
ولا أتمنى الشرَّ
والشرُّ تاركي ... ولكني متى أحْمَلْ على الشرّ ِأَرْكَب
وقال عبدُ العزيز بن
زرارةَ في هذا المعنىِ.
قَد عِشْتُ في
الدَّهر أطواراً على طُرُقٍ ... شتَى فصادفتُ منه اللِّينَ والفَظَعَا
كُلا بَلوتُ فلا
النَّعماءُ تُبْطِرني ... ولا تَخشَعتُ مِن لأوائِه جَزَعا
لا يملأ الأمر
صَدْرِي قبل وَقعته ... ولا أَضِيقُ به ذَرْعاً إذا وَقَعا
وقال آخر:
فإِن تَهْدِمُوا
بالغَدْرِ داري فإنّها ... تُراثُ كَرِيمٍ لا يخافُ العَوَاقِبَا
إذا هَمَّ ألقَى بين
عَيْنيه عَزْمه ... وأضرب عن ذِكْر العَواقب جانِبا
ولم يَسْتشرِ في
أَمره غيرَ نَفْسه ... ولم يرْضَ إلا قائمَ السَّيف صاحِبا
سأغسِلُ عنَي العارَ
بالسيف جالباً ... عليّ قضاءُ الله ما كان جالباً
وسئِلت هِنْدُ عن
مُعاوية، فقالت: والله لو جُمعت قريشٌ من أقطارها ثم رُمِي به فِي وسَطها لخرَج من
أي أَعْراضها شاء. وهذا نظَير " قول الشاعر " :
برِئت إلى الرَّحمن
من كلِّ صاحبٍ ... أصاحبهُ إلا عِراكَ بن نائل
وعِلْمي به بين
السِّماطين أنَهَ ... سَيَنْجو بحقٍّ أوسينْجو بباطل
وقال آخر:
لئنْ كنتُ محتاجاً
إلى الحلم إنّني ... إلى الجَهْل في بَعْض الأحايين أَحْوجُ
وما كنتُ أرضىَ
الجهلَ خِدْناً وصاحباَ ... ولكنني أرضى به حين أحرج
فإن قال قومٌ إنّ فيه
سماجةً ... فقد صَدَقوا والذُّلِّ بالحُرِّ أَسْمج
وِلى فَرَسٌ للِحلْم
بالحم مُلْجَمٌ ... ولي فَرس للجَهْل بالجهْل مُسْرج
فمنْ شاء تقويمي فإني
مُقوَّمٌ ... ومَن شاء تَعْويجي فإني مُعَوَّج
وقال مُعاوية في
سُفيان بن عَوف الغامديّ: هذا الذي لا يكَفكف من عَجَلة، ولا يُدْفع في ظَهْره من
بُطْء، ولا يُضرب على الأمور ضرْب الجَمل الثَّفَال.
وقال الحسنُ بن هانئ:
مَن لِلجذَاع إذا
المَيدانُ ماطَلَها ... بشَأو مُطلع الغايات قد قَرَحَا
من لا يُغَضغض منه
البُؤسُ أنملةً ... ولا يُصعِّد أطرافَ الربىَ فَرَحَا
وقال جرير:
وابنُ اللَبونِ إذا
ما لُزَّ في قَرَن ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْل القَنَاعِيس
باب في الرجل النفاع
الضراريقال إنه لخرَّاج وَلاّج، وإنه لحًوَّل قُلّب، إذا كان مُتصرِّفاً في
أُموره، نَفّاعاً لأوليائه، ضرَّاراً لأعدائه. وإذِا كان على غير ذلك، قيل: ما
يُحْلِي ولا يُمرِّ، ولا يُعدّ في العِير ولا في النَّفير، وما فيه خير يُرْجَى
ولا شرّ يُتَّقى. وقال بعضُهم: لاَ يرضى العاقلُ أن يكون إلا إماماً فيِ الخير
والشرّ. وقال الشاعر:
إذا أنت لم تَنْفع
فضرّ فإنما ... يُرَجَّى الفَتى كيما يُضرَّ وَيَنْفَعا
وقال حبيب:
ولم أرَ نَفْعاً عِند
من ليس ضائراً ... ولم أَرَ ضرًّا عند مَن ليس يَنفعُ
وسمع إعرابيٌّ رجلاً
يقول: ما أتى فلانٌ بيوم خيرٍ قطُّ؛ فقال: إن لا يكُن أتى بيوم خير فقد أتى بيوم
شر. وقال الشاعر:
وما فعلت بنو ذُبيانَ
خيراً ... ولا فعلتْ بنو ذُبيان شرَّا
وقال آخر:
قَبَح الإلهُ عداوةَ
لا تُتَّقى ... وقَرابةً يُدْلَى بها لا تَنفَعُ
وفخر رجال فقال: أبي
الذي قَتل الملوك، وغَصَب المنابر، وفعل وفعل. فقال له رجل: لكنه أسِر وقتل وصُلب.
فقال: دَعْني من أسره وقَتْله وصَلْبه، أبوك " هل " حدّث نفسَه بشيء من هذا قطُّ. وقال رجل " من العرِب
" يذُمّ قومه وأغارت بنو شَيبان على إبله فاستنجدهم، فلم يُنجدوه، وكان فيهم
ضعف، فقال فيهم:
لو كنتُ من مارنٍ لم
تَسْتَبح إبلي ... بنو اللّقيطة من ذهل بن شَيْباناً
إذاً لقام بنَصْري
مَعْشَرٌ خشُنٌ ... عند الحَفيظة إن ذو لوثة لانا
قومٌ إذا الشرُّ
أبدَى ناجِذَيه لهم ... طارُوا إليه زَرافات وَوُحْدانا
لا يَسألون أخاهم حين
يَنْدُبهم ... في النَائبات على ما قال بُرْهانا
لكنَّ قَوْمي وإن
كانوا ذَوي عدَدٍ ... ليسُوا من الشر في شيء وإن هانا
" يَجْزُون
من ظُلْم أهل الظُّلم مَغْفِرَةَ ... ومِن إسَاءَةِ أهْل السُّوءِ إحْساناً "
كأنّ رَبَّك لم
يَخْلُقْ لخشيته ... سواهُم من جميع الناس إنسانا
" فليت لي
بهمُ قوماً إذا رَكِبوا ... شَنُّوا الإغارَة فُرْساناً ورُكْبانا "
ولم يُرد بهذا أنه
وَصَفهم بالحِلْم ولا بالخَشْية لله، وإنما أراد به الذلَ والعَجز، كما قال
النَجاشي في رَهْط تَميم بن مُقْبِل:
قَبيلَتُه لا
يَخْفِرون بِذِمَّة ... ولا يَظلمون الناسَ حبةَ خَرْدَل
ولا يَرِدون الماءَ
إلا عَشيةً ... إذا صَدَرَ الوُرَّادُ عن كلِّ مَنْهَل
وكل من نَفع في شيء
فقد ضَرّ في شيء. وكذلك قول أشْجِع بن عمرو:
يَصْطاد أعناقاً
بِمنصله ... وَيفكّ أعْناقا من الرقِّ
وقال الحسنُ بن هانئ:
يَرْجو ويَخْشىَ
حالَتَيْك الوَرَى ... كأنَكَ الجنَّة والنَارُ
ومن قولنا في هذا
المعنى:
من يَرْتجي غيرَك أو
يَتَّقي ... وفي يَدَيْكَ الجودُ والباسُ
ما عِشتَ عاشَ الناسُ
في نِعْمة ... وإن تَمُتْ ماتَ بك النَاس
وقال آخر:
وليس فَتَى
الفِتْيانِ مَن راحَ واغْتَدَى ... لشُرْبِ صَبُوح أو لِشرْب غَبُوقِ
ولَكِنْ فَتَى
الفِتْيانِ مَن راح واغتَدَى ... لضرًّ عدوٍّ أو لِنَفْع صدِيق
باب في طلب الرغائب
واحتمال المغارمفي كتاب للهِنْد: مَن لمِ يَرْكَب الأهوالَ لَم يَنَل الرًغائبَ،
ومَن ترك الأمرَ الذي لعلّه أن يَنال منه حاجَتَه مخافة ما لعَلّه يُوِقَّاه فليسَ
ببالغٍ جَسيماً، وإنّ الرَّجل ذا المروءة ليكُون خاملَ الذِّكْر خافض المَنْزلة،
فَتَأْبى مُروءتهُ إلا أن يَسْتَعْلَى ويَرْتَفع، كالشُعلة من النار التي يَصُونها
صاحبُها وتأبيَ إلا اْرتفاعاً. وذو الفَضْل لا يَخفي فَضله، وإن أخفاه، كالمِسْك
الذي يُخْتم عليه ثم لا يمْنَع ذلك رِيحَه من التَذكّي والظُّهور. ومن قَوْلنا في
هذا المعنى:
خُتمت فأرةُ مِسْك
... فأَبتْ إلا التَّذكِّي
ليسَ يَخفي فَضْلُ ذي
الفض ... ل بزُورٍ وبإفْك
والذي بَرز في الفَض
... ل غني عن مُزَكِّي
رُبما غُمِّ هِلالُ
ال ... فِطْرفي لَيْلة شَكْ
ثم جَلِّى وجهَه
النُّو ... رُ فَجَلِّى كلَّ حَلْك
إنَّ ظهر اليمِّ
لاتَرْ ... كَبه من غير فُلْك
ونظامَ الدُرّ لا تع
... قِده مِن غير سِلْك
ليسَ يصفو الذهب
الإبْ ... ريزُ إلا بعد سَبْك
هَذه جُمْلَة أَمْثا
... لٍ فمن شاء فَيَحْكى
أبطلتْ كلِّ يَمانيًّ
... وشاميٍّ ومَكّي
ليس ذا من صوْغ
عَيْنيِّ ... ولا مِن نَسْج عَكِّي
وقالوا: لا
يَنبغي للعاقل أن يكون إلا في إحدَى منزلتين: إما في الغاية من طَلب الدنيا؟ وإما
في الغاية من تَرْكها. ولا ينْبغي له أن يُرى إلا في مكانين: إمَّا مع
المًلوك مكَرماً، وإمَّا مع العُبَّاد مُتبتَلا. ولا يُعَد الغُرْم غُرْماً إذا ما
ساق غنْماً، ولا الغُنْمُ غُنْما إذا ما ساق غُرْما. ونظر معاويةُ إلى عسكر عليّ
رضي الله عنه يوم صِفِّين، فقال: مَن طَلب عظيماً خاطَرَ بعَظِيمته، وأشار إلى
رأسه.
وقال حبيبٌ الطائيّ:
أَعاذِلَتي ما أخشنَ
اللَّيْلَ مَرْكباً ... وأَخشن منه في المُلِمَّات راكِبُه
ذَرِيني وأهوال
الزَّمان أقاسِها ... فأهوالُه العُظْمى تَليها رغائبُه
وقال كَعْبُ بنُ
زًهير:
ولَيْسَ لمن لم
يَرْكب الهوْلَ بُغْيةٌ ... وليس لِرَحْل حَطًه الله حامِلُ
إذا أنتَ لم تُعْرِضْ
عنِ الجهل والخَنَا ... أصبتَ حَليماً أو أصَابَكَ جاهل
وقال الشًماخ:
فتٍى ليس بالراضي
بأَدنىَ مَعِيشةٍ ... ولا في بُيوت الحَيِّ بالمُتَولِّج
فَتى يملأ الشِّيزَى
ويُرْوِي سِنَانَه ... ويَضْرِبُ في رأس الكَميِّ المدَجَّج
وقال امروء القَيْس:
فَلو أن ما أَسْعَى
لأدنىَ مَعيشةٍ ... كَفَاني ولم أطلبْ قليلٌ منَ المال
ولكنَّما أسعَى
لمَجْدٍ مُؤَثَّل ... وقد يُدْرِك المجدَ المُؤَثَّل أمثالي
وقال آخر:
لولا شَماتةُ أعداء
ذوي حَسَدٍ ... أو أن أنالَ بِنَفْعي مَن يُرَجِّينِي
لما خَطبتُ من
الدُّنْيا مَطالبَها ... ولا بذلتُ لها عِرْضي ولا دِيني
لكنْ مُنافسةُ
الأكفاء تَحْمِلني ... على أمورٍ أَراها سوف تُرْديني
وكيفَ لا كيفَ أنْ
أرضىَ بمنزلة ... لا دِينَ عندي ولا دُنْيا تُواتيني
وقال الحُطَيئة في
هجائه الزِّبْرِ قان بن بَدْر:
دعَ المَكارِمَ لا
تَرْحل لبُغْيتها ... واقعُدْ فإنَّكَ أنتَ الطَاعمُ الكاسي
فاستعدَى عليه عمرَ
بنَ الخطاب وأَسمعه الشعرَ؛ فقال: ما أَرى مما قال بأساً؛ قال: واللّه
يا أميرَ المُؤمنين ما هُجِيت ببيت قطًّ أَشدً! " عليَّ " منه. فأرسل
إلى حَسَّان فسأله: هل هجاه؟ فقال: ما هجاه، ولكنه سَلَح عليه. وقد أخذ هذا المعنى
من الحُطيئة بعضُ المُحْدَثين فقال:
إنِّي وجدتُ مِن
المكارم حَسْبُكمٍ ... أنْ تَلْبسوا خَر الثِّياب وتشْبَعوا
فإذا تُذوكرت
المكارمُ مَرَّة ... في مَجلِس أنتم به فَتَقنّعوا
وقالوا: مَن لم
يَرْكب الأهوال لم يٍنل الرَّغائبَ، ومَن طلب العظائمَ خاطرَ بعَظيمته. وقال يزيدُ
بن عبد الملك لما أتي برأس يزيدَ بنِ المُهلّب فنال منه بعضُ جلسائه، فقال: إنّ
يزيدَ ركِبَ عَظيماً، وطَلب جَسيماً، ومات كريماً. وقال بعض الشعراء:
لا تَقْنعن ومَطْلَب
لك مُمْكن ... فإذا تضايقت المطالبُ فاقْنع
ومما جُبِلِ عليه
الحُر الكريم، أن لا يَقنع من شرف الدنيا والآخر بشيءٍ مما انبسط له، أملاً فيما
هو أسنىِ منه درجةً وأرفعُ منزلةً؛ ولذلك قال عمرُ بن عبد العزيز لدًكين الرِاجز:
إنّ لي نفساَ تَوَّاقة، فإذا بلغك أنِّي صِرْتُ إلى أشرف مِن منزلتي " هذه
" ، فبعَينٍ ما أَرَينَّك - قال له ذلك وهو عامل " المدينة "
لسليمان بن عبد الملك - فلما صارت إليَه الخلافةُ قَدِم عليه دُكَين، فقال له: أنا
كما أعلمتُك أنّ لي نَفْساً تَوَاقة، وأنّ نَفْسي تاقت إلى أشرف منازل الدُّنيا،
فلما بلغتها وجدتُها تَتوق إلى أشرف منازل الآخرة. ومن الشاهد لهذا المعنى، أنَّ
موسى صلوات الله عليه - لما كلمه الله " عزَّ وجل " تكليماً - سأله
النظرَ إليه، إذ كان ذلك لو وصل إليه أشرفَ من المنزلة التي نالها، فانبسط أملُه
إلى ما لا سبيلَ إليه، ليُستدلّ بذلك على أنّ الحرّ الكريم لا يَقْنع بمنزلةٍ إذا
رأى ما هو أشرفُ منها. ومن قولنا في هذا المعنى:
والحرُّ لا يَكْتفي
من نَيْل مكْرُمةٍ ... حتى يَرومَ التي من دُونها العَطَبُ
يَسْعَى به أملٌ من
دونه أجلٌ ... إنْ كفَّه رَهَب يَسْتَدْعِه رَغَب
لذاك ما سالَ مُوسى
ربّه أرِني ... أنظُرْ إليكَ وفي تسأله عَجَب
يَبْغى التزيّدَ فيما
نال من كرم ... وَهْو النَّجِيُّ لديه الوَحْيُ والكُتُبُ
وقال تأبّط شرًّا في
ابن عمّ له يَصفه برُكوب الأهوال وبَذْل الأموال:
وإني لمُهْدٍ. مِن
ثَنائي فقاصدٌ ... به لابن عم الصَدْقِ شُمْس بنِ مالكِ
أهُزُّ به في نَدْوَة
الحيّ عِطْفَهُ ... كما هَزِّ عطفي بالهِجان الأوارك
قَليلُ التَّشكِّي
للْمًهِمِّ يُصيبُه ... كثيرُ النَوى شَتَى الهَوَى والمسالك
يَظَلُّ بمَوْماة
ويسمى بغيرها ... وَحيداً ويعْرورِي ظُهورَ المهالك
ويسبق وَفْدَ
الرِّيحِ من حيثُ يَنْتحى ... بمُنْخَرِق من شَده المُتَدَارك
إذا خاط عينَيْه كرَى
النَّوْم لم يزل ... لَه كاليءٌ من قلب شَيْحانَ فاتِك
" ويَجعل
عينَيْه رَبيئة قلبه ... إلى سَلَّةٍ من جَفْن أخلَقَ باتك "
إذا هَزَّه في عَظْم
قِرْنٍ تَهلَّلت ... نَواجذُ أفواه المَنايا الضّواحك
وقال غيرُه من
الشعراء " بل هي له " :
إذا المرءُ لم يَحْتل
وقد جَدَّ جِدُّه ... أضاعَ وقاسىَ أمرَه وهو مُدْبِرُ
ولكنْ أخو الحَزْم
الذي ليس نازِلاً ... به الخطبُ إلا وللقَصْد مبْصِر
فذاك قَريعُ الدّهر
ما عاش حُوّل ... إذا سُدّ منه مِنْخر جاش مِنْخر
باب في الحركة
والسكونقال وَهْب بن منبِّه: مكتوب في التوراة: ابن آدم، خلقتك من الحركة "
للحركة " فتحرّك وأنا معك. وفي بعض الكتب: ابن آدم: أمدُد يدك إلى بابٍ من
العمل أفتح لك باباً من الرِّزْق. وشاور عُتْبة بن رَبيعة أخاه شَيْبةَ بن ربيعَة
في النُّجْعة، وقال: إني قد أجدبتُ، ومن أجدب انتجع. فذهبت مثلاً. قال له شَيبة: ليس من العِزِّ أن تَتَعَرَّض للذلّ.
فذهبت مثلاً. " فقال عُتبة: لن يَفرِسَ الليثُ الطًّلا وهو رابض، فذهبت مثلاً " ، أخذه حبيب فقال:
أراد بأن يَحْوِي
الغِنَى وهو وادعٌ ... ولن يَفْرِس اللَّيثُ الطًّلا وهو رابضُ
وقيل لأعشى بكر: إلى
كم هذه النّجعة والاغتراب، ما تَرضى بالخَفْض والدَّعة؟ فقال: لو دامت الشمسُ
عليكم لَمَلِلْتُمُوها. أخَذه حبيبٌ فقال:
وطُول مُقام المَرْءِ
في الحَيِّ مُخْلِقٌ ... لديباجَتَيه فاغتَرِبْ تَتَجَدَّدِ
فإني رأيتً الشمسَ
زِيدتْ مَحَبةً ... إلى الناس إِذ ليستْ عليهم بِسَرْمدِ
قال أبو سَعيد أحمدُ
بن عبد الله المَكيّ: سمعتُ الشَافِعيَّ يقول: قلت بيتين من الشِّعر، وأنشدنا:
إني أرى نَفْسي
تَتُوق إلى مِصر ... ومِن دونها خَوْض المَهامه والقَفْرِ
فواللّه ما المحرِي
أللْخَفْض وَالغِنَى ... أقاد إليها أم أقاد إلى قَبْري
فدخل مصر فمات. وقال
مُوسى بن عِمْران عليه السلام: لا تذُّمُوا السفرَ، فإني أدركتُ فيه ما لم يُدْرك
أحدٌ. يريد أنّ الله عزَّ وجلّ كلَّمه فيه تكليماً.
وقال المأمون: لا شيء
ألذُ من سفر في كِفاية، لأنّك في يوم تَحل مَحلة لم تَحُلَّها، وتُعاشر قوماً لم
تُعاشرهم. وقال الشاعر:
لا يَمنعنَّك خَفْضُ
العيش في دَعة ... من أن تُبدِّل أوطاناً بأوطانِ
تَلْقى بكل بلادٍ إن
حَللْتَ بها ... أهلاً بأهل وإخواناً بإخوان
مع أن المُقام
بالمقام الواحد يُورث المَلالة.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: زُرْغِبًّا تَزْدَدْ حُبا. وقالت الحكماء: لا تُنَال الرّاحةُ إلا
بالتَعب، ولا تُدْرك الدَعة إلا بالنَصب. وقال حبيب:
بَصُرْتَ بالراحة
الكُبرى فلم تَرها ... تُنال إلا على جِسر من التَعَب
وقال أيضاَ:
على أَنَّني لم
أَحْوِ وَفْرًا مُجَمَّعا ... قَرٍرْتُ به إلا بشَمْل مُبَددِ
ولم تًعْطِني الأيامُ
نَوْماً مُسكِّناً ... ألذّ به إلا بنَوْم مشرِّد
وقال أيضَاَ:
وَرَكْب كأطْراف
الأسِنَّةِ عرّسُوا ... على مثلها والليلُ تَسْطُر غَياهبُه
لأمرٍ عليهم أن تَتمّ
صدُورُه ... وليس عليهم أن تتمّ عواقبُه
وبعدُ؛ فهل يجوز في
وَهْم، أو يتمثَّل في عقل، أو يصحُّ في قياس، أن يُحصد زَرْع بغير بَذْر، أو
تُجْنى ثمرة بغير غَرْس، أو يُورَى زَنْدٌ بغير قدْح، أو يُثمِر مال بغير طَلَب.
ولهذا قال الخليلُ بنُ أحمد: لا تصل إلى ما تحتاجُ إليه إلا بالوُقوف على ما لا
تحتاجُ إليه؛ فقال له أبو شَمِر المتكلِّم: فقد احتجتَ إذاً إلى مالا تحتاج إليه، إذ كنت لا تصل إلى ما تحتاجِ
إليه إلا به؛ قال " له " الخليلُ وَيْحك! وهل يَقْطَع السَّيفُ الحُسامُ
إلا بالضرب، أو يجْرِي الجَوَادُ إلا بالرّكْض، أو هل تُنال نهايةٌ أو تُدْرَك غايةٌ
إِلا بالسعي إِليها، والإيضاع نحوَها، وقد يكون الإكْداء مع الكدّ، والخيْبة مع
الهيْبة.
وقال الشاعر:
وما زِلْتُ أَقطع
عَرْضَ البِلادِ ... من المشرقين إلى المغْرِبينِ
وأِدَّرِع الخَوف تحت
الدُّجَى ... وَأسْتَصحب الجًدْيَ والفَرْقَدَيْنِ
وَأطْوِي وَأنْشُرُ
ثوْبَ الهُموم ... إلى أَنْ رجعتُ بخُفَّيْ حُنَين
إلى كم أكون على
حالةٍ ... مقِلاً من المال صِفْرَ اليَدَين
فَقِيرَ الصَّديق
غنيّ العدوّ ... قليلَ الجَداء عنٍ الوالدين
ومثْلُ هذا قليل في
كثير، وإنما يُحكم بالأعمّ والأغلب، والنجْح مع الطّلب، والْحِرمان لِلعَجْز
أصْحب. وقد شرح حبيبٌ هذا المعنى، فقال:
هِمَم الفَتَى في
الأرض أغْصانُ الغِنى ... غُرِست وليست كلّ حينِ تُورِقُ
وقال إسماعيلُ بن
إبراهيم الحَمْدُونيّ في المطالب:
لكِ ألحاظٌ مِرَاضٌ
ودَلُّ ... غيرَ أنّ الطَّرْفَ عنهِا أكل
وأَرَى خَدَّيْكِ
وَرْداً نضيراً ... جادَه من دمعِ عَيْنيّ طَل
عَذْبة الألفاظ لم لم
يَشِنْها ... كَرُّ تَفْنِيدٍ بِسمْعي يُضِلّ
أنّ عَزَّى التي
أنِفَتْ بي ... عَنْ سواها كُثْرُها ليَ قُلّ
ظَلْتُ في أفياء
ظِلِّك حتى ... ظلّ فوقي للمَتالف ظِلّ
ِأنّ أَوْلَى منكِ بي
لَمَرامٌ ... لا يحُلّ الهَوَانُ حيثُ يَحُلّ
ما مقامي، وحُسامىِ
قاطعٌ ... وسِناني صارمٌ مَا يُفَلُّ
سَنائي مِثْلُ
رَوْضةِ حَزْنٍ ... أَضْحَكَتْهَا ديمَةٌ تَسْتَهِلّ
دليلى بين فَكَّيَّ
يَعْلو ... كلَّ صَعْبِ رَيِّضٍ فَيذِلّ
َثمِلاً من خَمْرة
العَجْز أُسْقى ... نَهَلاً من بعده ليَ عَليّ
إنْ يَكُنْ قُرْبك
عِندي جليلا ... فأقلُّ الحَزْم منهَ أَجَلّ
َأقعِيداً للقعيدة
إلفاً ... كلُّ إلفٍ بي لعُدْمي مخِلّ
ويكِ ليس اللّيثُ
لليث يُضْحِي ... مخرِجاً من غِيله وهو كَلّ
فاتْرُكي عَتْباً
ولَوْماً ودَعى ... وعلى الإقتار عَتْبُك كُلّ
هو سَيفٌ غِمْدُه
بُردتاه ... ينتضيه الْحَزْمُ حين يُسَلّ
لا يَشُك السِّمْع
حين يراه ... أنّه بالبِيد سِمْع أزَلّ
بين ثَوْبَيْهِ أخو
عزمات ... يَتَقيها الحادثُ المصمئلِّ
ليس تَنبُوِ بي رحالٌ
وَبِيدٌ ... إن نَبَا بي مَنْزِلٌ وَمَحلّ
فأقلِّي بعض عَذل
مُقِلٍّ ... لا يَرَى صَرْفَ الزَّمان يَقِلّ
نّ وَخْدَ العِيس
إثْمَار رِزْق ... يَجْتنيها المُسْهَب المُشمعل
لا تفلي حد عزمي
بِلَوْمِ ... إنني لِلْعَزْم والَدَّهر خِلّ
فالفَتى مَن ليس
يَرعَى حِماه ... طَمعاً يوماَ له مُسْتَذِلّ
مَن إذا خَطْبٌ أطلَّ
عليه ... فله صبرٌ عليه مُطِلّ
يَصْحب الليلَ الوليدَ
إلى أنْ ... يَهْرَمَ الليلُ وما إنْ يمَلّ
ويرى السَّير "
قد " يًلَجْلج منه ... مُضغةً لكنّها لاتَصِلّ
شمَرت أثوابُه تحت
لَيْلٍ ... ثَوْبُه ضافٍ عليه رِفَلّ
سأُضِيع النومَ كيما
تَرَيْني ... ومضيعي مُعْظِمٌ لي مُجلّ
فابتناءُ العزِّ
هَدْم المَهارِي ... وانحلالُ العُدْم سَيْرٌ وَحِل
باب التماس الرزق
وما يعود على الأهل
والولدقال النبي صلى الله عليه وسلم: العائد على أهْله ووَلده كالمُجاهد المُرابط
في سَبِيل اللّه. وقال صلى الله عليه وسلم: اليد العُلْيَا خَيْرٌ من اليد
السُّفلى، وابدأ " بنَفْسك ثم " بمَنْ تَعُول. وقال عمرُ بن الخَطّاب: لا يَقْعُدْ أحدُكمِ عن طَلب الرِّزق ويقول:
اللهم ارزُقْني، وقد عَلِم أن السَّماءَ لا تُمْطِرُ ذَهَباً ولا فِضة؛ وإنّ الله تعالى
إنما يَرْزق الناسَ بعضهم من بعض، وتلا قولَ الله جلّ وعلا: " فإذا قُضيت
الصَلاةُ فانتشروا في الأرْض وأبْتَغُوا مِنْ فَضْل الله واذْكُرُوا الله كثيراً
لَعَلَّكُم تُفلحُون " . وقال محمدُ بن إدريس الشَافعي: احرصْ على ما يَنفعك
ودَعْ كلامَ الناس، فإنّه لا سَبيل إلى السَّلامة من ألْسنة العامّة. ومثلُه قولُ
مالك بن دِينار: مَن عَرف نَفْسَه لم يَضِرْه ما قال الناسُ فيه. وقال كطاهر بن
عبد العزيز: أَخبرنا علي بن عبد العزيز، قال: أَنشدنا أبو عُبيد القاسم بن سَلام:
لا يَنْقص الكاملَ
مِن كماله ... ما ساقَ مِن خير إلى عِيالِه
وقال عمرُ بن الخطّاب
" رضى الله عنه " : يا معشرَ القُرَّاء، التًمسوا الرِّزْق، ولا
تَكُونوا عالةً على الناس. وقال أكثمُ بن صَيْفيّ: مَن ضَيَّع زاده اتَكل على زادِ
غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: خَيْركم مَن لم يَدَع آخرتَه لدُنْياه ولا
دُنياه لآخرته. وقال عمرو بن العاص: اعمل لدُنياكَ عَمل من يَعيش أبداً، واعمل
لآخرتك عمل من يموت غداً.
وذُكر رجلٌ عند النبي
صلى الله عليه وسلم بالاجتهادِ في العِبادة والقُوَّة على العمل، وقالوا:
صَحِبْناه في سَفر فما رأينا بعدك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعبَدَ منه،
كان لا يَنْفتل من صلاة، ولا يُفْطر من صيام. قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن
كان يَمُونه ويَقُوم به؟ قالوا: كلّنا؛ قال: كلُّكم أعبدُ منه. ومَرّ المسيحُ برجل من بني إسرائيل يتعبّد، فقال:
ما تصنع؟ قال: أتعبد؛ قال: ومَن يقوم بك؟ قال: أخي؟ قال: أخوك أعبدُ منك.
وقد جعل الله طَلَب
الرِّزق مَفْروضا على الخَلْقِ كلّه، من الإنس والجنّ والطير والهوام، منهم
بتَعْليم، ومنهم بإلهام وأهلُ التَّحصيل والنَظر " من الناس " يَطْلبونه
بأحسن وُجوهه من التصرف والتَحرز، وأهلُ العَجْز والكسل يَطْلبونه بأقْبح وجوهه من
السؤال والاتكال والخِلابة والاحتيال.
باب في فضل المالقال
الله تعالى " المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَيَاةِ الدًّنْيَا
والْبَاقِيَاتً الصالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيرٌ أَمَلاً
" . وقال النبي صلى الله عليه وسلم للمُجاشِعيّ: إن كان لك مال فلك حسَب، وإن
كان لك خُلًق فلك مُروءة، وإن كان لك دِين فلك كَرم. وقال عمرُ بن الخطّاب: حَسَب الرجل مالُه، وكرَمه دِينه، ومُروءته
خُلُقُه.
وفي كتاب الأدب
للجاحظ: اعلم أنّ تَثْمير المال آلةٌ للمكارم، وعَوْنٌ على الدِّين، وتأليف
للإخوان؛ وأنّ مَن فَقد المالَ قَلَت الرَّغبةُ إليه والرَّهبة منه، ومَن لم يكن
بمَوْضع رَغْبة ولا رَهْبة استهان الناسُ به؛ فاجْهَد جَهْدك كلًه في أَنْ تكُون
القلوبُ مُعَلَّقة منك برَغْبة أو رَهْبة في دِبن أو دُنيا. وقال حكيم لابنه: يا
بُنيّ، عليك بطَلَب المال، فلو لم يكن فيه إلاّ أنّه عِزٌّ في قَلْبك وذُلٌ في قلب
عدوّك لكفي.
وقال عبدُ الله بن
عبّاس: الدُّنيا العافية، والشَّباب الصِّحة، والمُروءة الصبر، والكرِم التَّقْوى،
والحَسَب المال. وكان سعدُ بن عُبادة يقول: اللهم ارزقني جِدّاً ومَجداَ، فإنه لا مَجد إلا بفعَال، ولا فَعال إلا
بمال. وقالت الحُكماء: لا خيرَ فيمن لا يَجْمع المالَ يَصون به عرْضه، ويَحْمي به
مُروءته، ويَصِل به رَحِمه. وقال عبد الرحمن بن عَوْف: يا حَبذا المالُ أصونُ به
عِرْضي، وأتقربُ به إلى ربِّي وقال سُفْيان الثَّوْرِيّ: المالُ سِلاح المُؤمن في هذا الزمان.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: نِعْمَ العَوْنُ على طاعة الله الغِنى، ونعَم السُّلَّم إلى طاعة الله
الغنى، وتَلا " وَلَوْ أنَهم أقامُوا التَّوْراةَ وَالإنجِيلَ وَما أنْزِلَ إِليهم
مِن ربِّهم لأكًلُوا مِنْ فَوْقهم وَمِنْ تَحْتِ أرْجُلِهم " ، وقولَه: " واستغفروا رَبَّكم إنه كان
غَفّارًا، يُرْسل السماءَ عليكم مِدْراراً، وُيمدِدْكم بأمْوالٍ وَبَنين " .
وقال خالدُ بن صفْوان
لابنه: يا بُنَيَّ، أوصيك باثنتين، لن تزال بخَيْر ما تمسَّكت بهما: درْهمك لمعاشك،
ودِينك لمعادك. وقال عُروة بن الوَرد:
ذَرِيني للغِنَى أسعى
فإنِّي ... رأيتُ النَّاسَ شَرّهُم الفقيرُ
وأحقَرُهم وأهونُهم
عليهم ... وإنْ أمسى له حَسب وخِير
يُباعده القريبُ
وتَزْدرِيه ... حَلِيلتُه ويَنْهره الصَّغير
وتُلْفِي ذا الغنى
وله جَلالٌ ... يكاد فؤادُ صاحبه يَطير
قلِيل ذَنْبُه
وَالذنْبُ جم ... ولكنْ لِلْغَني رَبٌّ غَفور
قَلِيلٌ ذَنْبُه
وَالذَّنْبُ جم ... ولكنْ لِلْغَنِي رَبُّ غَفور
وقال آخر:
سأكسبُ مالاً أو
أموتَ ببَلدة ... يَقِلُ بها قَطْرُ الدًّموع على قَبْرِي
وقال آخر:
سأعْمل نَصَّ العِيس
حتى يَكُفَّني ... غِنَى المال يوماً أو غِنَى الْحَدَثانِ
فَللْموتُ خيرٌ من
حياة يُرى بهاَ ... على المَرْء بالإقلال وَسْمُ هَوَانِ
إذا قال لم يُسْمع
لِحُسْن مَقاله ... وإن لم يَقُل قالوا عَدِيمُ بَيَانِ
كأنّ الغِنَى عن
أهْله بُورك الغِنَىبغَيْرِ لِسانٍ ناطقٌ بلسانِ
الرِّياشيّ قال:
أنشدنا أبو بكر بن عَيَّاش:
حيْران يَعلم أنّ
المالَ ساقَ له ... ما لم يَسُقْهُ له دِينٌ ولا خُلقُ
لولا ثلاثون ألفاً
سُقْتها بِدَراً ... إلى ثلاثين ألفاً ضاقت الطُرق
فمن يَكُن عن كرام
الناس يَسْألني ... فأكْرم الناس مَن كانت له وَرِق
وقال آخر:
أجلّكَ قوم حين
صِرْتَ إلى الغِنَى ... وكلُّ غَني في العُيون جَلِيلُ
ولو كنتَ ذا عقل ولم
تُؤْتَ ثروَةً ... ذَلَلْت لدًيهم والفقيرُ ذليل
وقال محمود الورَّاق:
أرى كلِّ فِي مالٍ
يُبَرُّ لماله ... وإنْ كان لا أَصْلٌ هناك ولا فَضلُ
فشرًّف ذَوِي الأموال
حيثُ لَقِيتَهم ... فقَوْلهُمُ قَوْلٌ وَفِعْلُهم فِعْلُ
وأنشد أبو مُحَلَم
لرجل من وَلد " طَلِبَة بن " قَيسى بن عاصم:
وكنتُ إذا خاصمتُ
خَصماً كبَبْتُه ... على الوَجْه حتى خاصَمَتْني الدَّرَاهمُ
فلمّا تنازعنا
الخُصومة غُلِّبت ... عليّ وقالوا قُمْ فإنّك ظالم
وأنشد الرِّياشي:
لم يَبْقَ مِن طَلب
الغِنَى ... إلا التَّعَرضُ للحُتُوف
فَلأَقْذِفَنَّ
بمًهْجَتي ... بين الأسِنَّة والسيوف
ولأطْلُبَنَّ ولو
رَأيتُ ... الموتَ يلمعُ في الصُّفوف
وكان لأحَيْحَة بن
الجُلاَح بالزَّوْراء ثلثمائة ناضح، فَدَخَل بستاناً له، فمرَّ بتَمْرة فَلَقطها
فعُوتب في ذلك، فقال: تمْرَة إلى تَمرة تَمرات، وجَمل إلى جَمل ذَوْد. ثم أنشأ
يقول:
إني مُقيم على
الزَّوْراء أعمرُها ... إنّ الحبيب إلى الإخوان ذو المال
فلا يَغُرَّنك ذو
قُرْبى وذو نَسب ... من ابن عمّ ومن عمٍ ومن خال
كلّ النداء إذا
ناديتُ يَخْذًلني ... إلا نِدَائي إذا ناديتُ يا مالي
ومن قولنا في هذا
المعنى.
دَعْني أَصُنْ حُرَّ
وَجْهي عن إذالته ... وإن تَغرَّبتُ عن أهلي وعن وِلدي
قالوا نأيتَ عن
الإخوان قلتُ لهم ... مالِي أخٌ غَير ما تًطْوَى عليه يَدِي
" كان
الرُّمَاحِس بن حَفْصة بن قَيْس وابن عمِّ له يُدْعى رَبيعة بن الوَرْد يَسْكًنان
الارْدُن، وكان رَبيعة بن الوَرْد مُوسِراً، والرُّمَاحسُ مُعْسِراً كثيراً ما
يَشْكو إليه الحاجة ويَعْطف عليه ربيعةُ بعضَ العَطْف، فلما أكثر عليه كَتب إليه:
إِذَا المَرْء لم
يَطْلُب مَعاشاً لنَفْسه ... شكاَ الفَقْرَ أوْ لامَ الصَّدَيقَ فأكْثرا
وصار عَلَى الأدنين
كَلاًّ وأوشَكت ... صِلاتُ ذَوي القرْبىَ له أن تَنَكَرا
فَسِرْ في بِلاد الله
والتَمس الغنَى ... تَعِشْ ذا يَسَارٍ أو تموتَ فَتُعْذَرا
فما طالبُ الحاجات
مِنْ حيثُ تبتغى ... من المال إلا مَنْ أََجدَّ وشَمَّرا
ولا تَرْضَ مِنْ
عَيْش بدُونٍ ولا تَنمَ ... وكيف يَنام الليلَ من كان مُعْسرا
وقال بعضُ
الُحَكَماء: المالُ يُوَقَر الدنئ والفَقْر يُذِل السَنيّ. وأنشد:
أرَى ذا الغِنَى في
النَّاس يَسْعَون حولِه ... فإِنْ قال قولا تَابَعُوه وصدَقُوا
فذلك دَأْبُ النَّاس
ما كان ذا غِنَى ... فإنْ زال عنه المال يومًا تَفَرقوا
وأنشد:
ما النَّاس إلا مع
الدُّنيا وصاحبها ... فحيثُما انقلبتْ يوماً به انقلَبُوا
ُيعَظمون أخا الدُّنيا
فإن وَثَبتْ ... يوما عليه بما لا يَشْتَهي وَثَبوا "
صنوف المال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق