حديث (هل تُنصَرون وتُرزَقون إِلا
بضعفائكم)... رواية ودراية
دكتور : أحمد عبد المجيد مكي
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولًا : روايات الحديث :
الرواية الأولى : أخرجها الإمام البخاري في
كِتَاب الجِهَادِ وَالسِّيَرِ من صحيحه - بَاب: مَنِ اسْتَعَانَ بِالضُّعَفَاءِ وَالصَّالِحِينَ
فِي الْحَرْب - عن مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: رَأَى سَعْدٌ بن أَبِي وَقَّاصٍ،
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ لَهُ فَضْلاً عَلَى مَنْ دُونَهُ، فَقَالَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا
بِضُعَفَائِكُمْ»([1]).
أراد صلى الله عليه وسلم بذلك حضَّ سعد على
التواضع ونفي الزهو على غيره وترك احتقار المسلم في كل حالة.
والسؤال الذي قد يتبادر إلى الذهن: ما المنزلة
التي أراد سعد أَنْ يتميز بها عن إِخوانه؟
نجد الجواب شافياً وتتضح لنا الصورة كاملة في
الرواية التالية.
الرواية الثانية : وهي عند الإمام أحمد: قال
سعد يا رسول الله: أرأيت رجلاً يكون حامية القوم ويدفع عن أصحابه، أيكون نصيبه
كنصيب غيره؟ فقال ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ أُمِّ سَعْدٍ، وَهَلْ تُرْزَقُونَ وَتُنْصَرُونَ
إِلا بِضُعَفَائِكُمْ([2]).
وعلى هذا فالمراد بالفضل - كما يقول الحافظ ابن حجر -
إرادة الزيادة من الغنيمة، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أَنَّ سهام المقاتلة سواء،
فإنْ كان القوي يترجح بفضل شجاعته، فإِنَّ الضعيف يترجح بفضل دعائه وإخلاصه([3]).
والاستفهام في الحديث للتقرير، أي ليس النصر
وإدرار الرزق إلا ببركتهم، فأبرزه في صورة الاستفهام ليدل على مزيد التقرير
والتوبيخ.
الرواية الثالثة : رواية الترمذي وأبي داود
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم
يَقُولُ: «أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ
وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ»([4]).
ومعنى «أَبْغُونِي» أي اطْلُبُوا رِضَايَ فِي
ضُعَفَائِكُمْ، وتقرّبوا إِلَيَّ بالتقرب إليهم وتفقد حالهم وحفظ حقوقهم والإحسان
إليهم قولاً وفعلاً واستنصاراً بهم، فهم الأحَقُّ بمجالستي وبالقرب مني.
الرواية الرابعة: وهي عند النسائي بزيادة تبين
معنى الروايات السابقة، ولفظه: « إِنما يَنْصُر الله هذه الأمةَ بضعيفها: بدعوتِهم،
وصلاتِهم، وإِخلاصهم»([5]).
ثانيًا: فوائد الحديث:
الفائدة الأولى : للضعفاء عِنْد الله من
الشّرف ما لَيْسَ لغيرهم:
معنى إِنَّما تنصرون وترزقون بضعفائكم: أي
إِنَّما تُمَكَّنون من الانتفاع بما أخرجنا لكم، وتعانون على عدوكم، ويُدْفع عنكم
البلاء والأذى، بسبب وجود ضعفائكم بين أظهركم، أو بسبب رعايتكم لهم أو ببركة
دعائهم، فما السِّرُّ في ذلك؟
السِّرُّ في ذلك أن الضعفاء أشد إخلاصاً في
الدعاء وأكثر خضوعاً في العبادة لجلاء قلوبهم عن التعلق بزخرف الدنيا ؛ فالضعيف إذا
رأى عجزه وعدم قوته تبرّأ عن الحول والقوة بإخلاص، ورقّ قلبه واستكان لربه وتضرع
إليه، فيستجيب الله دعاءه ويحقق له رجاءه، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن
الله، بخلاف القوي فإنه يظن أنه إنما يغلب الرجال بقوته، فيكله الله إلى نفسه على
قدر عجبه، ويكون ذلك سَبَباً للخذلان.
ومن هنا استدل بعض العلماء على استحباب إخراج
الشيوخ والصبيان في صلاة الاستسقاء.
والمقصود بالضعفاء: مَنْ يكون ضعفه في بدنه
(المرض الجسماني)، أو في نفسه (المرض الذهني والنفسي)، أو
في حاله (الفقر وقلة ذات اليد)؛ والنصوص تشمل الأنواع الثلاثة.
فإِنْ قيل بأَنَّ المقصود بالضعفاء هم من
يستضعفهم الناس لفقرهم ورثاثتهم، لأنهم هم الذين يستطيعون الدعاء والصلاة، كما في رواية
النسائي التي أشرت إليها قبل قليل.
فالجواب أَنَّ الدعاء والصلاة والإخلاص قد
تتحقق في النوعين الآخرين ليس من المريض نفسه، وإِنَّمَا مِمَّنْ يقوم على رعايته،
فكم من مريض يتضرع أهله إلى الله، وتنكسر له قلوبهم أكثر من صاحب المرض ذاته.
الفائدة الثانية : لايتحقق النصر إلا باستجماع
أسبابه المادية والمعنوية:
الأسباب التي يحصل بها النصر نوعان:
النوع الأول : أسباب مادية ملموسة، كالقوة
العقلية والبدنية وأنواع الأسلحة والآلات ونحو ذلك مما يعين على قتال الأعداء.
ويلاحظ أَنَّ هذا النوع هو الذي يغلب على قلوب
أكثر الخلق، ويعلّقون به وحده حصول النصر والرزق، وفي هذا من قِصَرَ النظر وضعف
الإيمان وقلّة الثقة بوعد الله وكفايته ما الله به عليم. فالنصر ليس بكثرة عَدَدٍ
ولا عُدَدٍ، وإِنَّما هو من عند الله.
ولهذا أدب الله عز وجل صحابة نَبِيِّهِ - وهم
خيار الخلق - حين أُعْجِبَ بعضهم بكثرتهم في غزوة حنين حتى قال قائلهم: «لَنْ
نُغْلَبَ اليوم عَنْ قِلَّةٍ»، فَوُكِلُوا إِلَى هذه الكلمة، فَكَانت الْهَزِيمَة
فِي الِابْتِدَاءِ، وفرّ معظم المسلمين من الميدان، واشتدت عليهم الأزمة حتى ضاقت
عليهم الأرض - على رحبها وسعتها -، ثم ولوا منهزمين، إِلَّا رسول الله؛ فإِنَّه
ثبت ولم يَفِرّ، وصمد ولم يتخاذل، بل كان يدعو ربه بدعائه الخاشع قائلاً:
«اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَأَنْتَ نَصِيرِي بِكَ أَحُولُ وَبِكَ أَصُولُ وَبِكَ
أقاتل».. فلما زال الْعُجْبُ عن الصحابة وعرفوا ضعفهم، أنزل الله السكينة عليهم،
وأنزل جنوداً من عنده يثبتونهم ويبشرونهم حتى تحقق النصر.
وأمّا النوع الثاني: فهو الأسباب المعنويّة،
وهي قوّة التوكل على الله، وكمال الثقة به، وقوّة التوجّه إليه والطلب منه. وهذه
الأمور تقوى جدّاً من الضعفاء العاجزين الذين ألجأتهم الضرورة إلى أن يعلموا حقّ
العلم أنّ كفايتهم ورزقهم ونصرهم من عند الله، وأنّهم في غاية العجز، فتنكسر بذلك
قلوبهم، وتتوجّه إلى الله ثقة به وطمعاً في فضله وبرّه ورجاء لما في يديه
الكريمتين.
فيُنْزِل الله لهم من نصره ورزقه ما لا يدركه
القادرون، بل ييسّر للقادرين بسببهم من أسباب النصر والرزق ما لم يخطر لهم ببال،
ولا دار لهم يوماً في خيال، {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ
رَبِّكَ إلَّا هُوَ } [المدثر: 31].
الفائدة الثالثة : قلب العبد وجوارحه في حالة
استنفار تام في ذات الله:
قد يظن القارئ الكريم أَنَّ هناك تعارضاً بين
النصوص السابقة والنصوص التي تمدح المؤمن القوي وتأمره بالأخذ بالقوة والاستعداد
للأعداء. وعند التأمّل نجد أَنَّه لا تعارض، إذ المراد أَنَّه متى تمكّن المسلم من
الأخذ بأسباب القوة المادية وتيسَّرت له، فعليه أنْ يسارع ولا يفرط ولا يقصر.
وقد ورد الجمع بين الأمرين في قول الله عز وجل
لنبيه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: ٩٩].
والمعنى: استمر في جميع الأوقات على التقرب
إلى الله بأنواع العبادات البدنية والقلبية، حتى يأتيك الموت وأنت على ذلك، وقد
امتثل أمرَ ربه بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فلم يزل دائباً في العبادة بجميع
أنواعها حتى أتاه اليقين.
كما جمع النبي الكريم بين الأمرين في قوله: «
احْرِصْ على ما يَنْفَعُكَ، واسْتَعِنْ بالله ولا تَعْجَز.....» ([6]).
أَمَّا إِذا لم يتمكَّن المسلم من الجمع بين
الأمرين - كأن حبسه المرض في نفسه أو غيره -، فعليه رقة القلب والانكسار بمشاهدة
جلال الجبار.
والخلاصة أَنَّ قلب العبد وجوارحه في حالة
استنفار تام في ذات الله؛ فالجوارح تستفرغ الوسع في الأسباب حتى يحس صاحبها من
نفسه أنَّه لا مزيد، والقلب يستجلب رضا الله وعونه وثقته ورجاءه والطمع فيه، فإِنْ
حدث وقعدت به الأسباب فليتحرك بقلبه إلى الله، فإِنَّ الله منجز له ما وعد، وليس
هذا فحسب، بل ربما تَفَجَّرَتْ ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه.
وأخيرًا :
فلنحرص على رعاية الضعفاء والاهتمام بهم
وتأدية حقوقهم، وألَّا نستصغر أو نستقل دعاءهم، فدعاؤهم لا يقل تأثيراً في الأعداء
عن تأثير المدافع والدبابات.
اللهم أَصْلِحْ لنا شَأْنَنَا كُلَّهُ، ولا
تَكِلْنَا إِلى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، ولا إِلى أَحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ.
------------ ----------------
([1]) أخرجه البخاري (2896).
([2]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده برقم (1493). وقال
المحققون : حسن لغيره. وهو في مصنف عبد الرزاق برقم (9691).
([3]) فتح الباري ( 6/89).
([4]) أخرجه الإمام أحمد برقم (21731). وقال محققوا
المسند : صحيح. وأخرجه أبو داود (2594) والترمذي (1702) ، وابن حبان (4767).
([5]) أخرجه النسائي (3178) في الجهاد، باب
الاستنصار بالضعيف.
([6]) أخرجه مسلم رقم (2664) في القدر، باب في الأمر
بالقوة وترك العجز.
==== ==*=== ==
في
الحديث : {إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها}
|
|
|
بسم الله الرحمن الرحيم
في
الحديث : {إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها} كان شيوخنا يعلموننا
هذا الحديث ليربونا على أن نعمل الصالحات ونستكمل صنائع المعروف حتى آخر
الأنفاس، فليس بعد قيام الساعة إلا الموت..
لكنني فهمت اليوم من الحديث معنى آخر :
فهمت
أن لا تنشغل عن العمل لدينك مهما كان الصخب حولك!! فقيام الساعة يستدعي معه كل
صور الاضطراب..
طلوع الشمس من مغربها، النفخة الأولى في الصور.... إلخ تخيل : في مثل هذه
الأجواء يقال لك: اغرس فسيلتك!!
يا
رب..
وما تصنع فسيلتي؟ ومن سيأكل منها ؟ ومن أين لي بطاقة نفسية تعينني على الغرس
والسقيا والعالم ينتهي من حولي؟!
أنت مطالب بعمل الخير وبذل المعروف حتى ولو كنت قريب الأجل، وحتى ولو كان العالم
من حولك شديد الاضطراب، ولو كان اضطراب يوم القيامة!!
لأن الله عز وجل لا يريد للمصلحين أن يتوقفوا... ولأن المصلح لا تخلو يدُه من
فسيلة خير إلا إذا مات... ما عدا ذلك فحتى القيامة لا تبرر ترك الفسيلة!! أقول
هذا الكلام وأنا أرى الكثير من الأصحاب يتركون فسائلهم لأن الناس ساءت أخلاقهم،
ولأن العالم صار موحشا، ولأنه لم يعد لديه طاقة وسط هذا الاضطراب والصخب الحياتي
المرهق؟!
ومن يغرس فسائل الخير إذن؟!
وأين اضطراب اليوم من اضطراب يوم القيامة؟ لا عذر لمقصر، ولا حجة لتارك
الفسيلة!!
بل المعروف أنه كلما صعب غرس الفسيلة عظُم الأجر..
كم
امتلأت كتبُنا بقصص الإمام فلان الذي ظل يعلم طلابه الحديث حتى خرجت روحه وهو
يحدث..
وقصة أبي أيوب الأنصاري الذي خرج مع جيش القسطنطينية وهو في الثمانين من عمره لا
يثبت على الفرس!! وقصة أنس بن النضر الذي صرخ في أصحابه الذين أقعدهم نبأ موت
النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: فيمَ مقامكم بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات
عليه!!
العجيب أن تاركي الفسائل من المصلحين اليوم يتركونها وأصحاب الفسائل الضارة،
وناشرو الفجور، وأصحاب الأفكار الهدامة يزرعون شجر الغرقد، ويبنون مساجد الضرار
في كل بلد وشارع، بلا كلل ولا ملل..
حتى ملؤوا الأرض إلحادا وشذوذا وفجورا وفواحش... بينما الكثير منا ينظر إليهم
بنفس مهزومة وعقول موهومة...
أيها الصحب...
استكملوا غرس فسائلكم فلا يصح أبدا أن يزهق ويملّ الحق ويستكمل الباطل!!
أكملوا الغرس فلا عذر لكم إن كانت القيامة تقوم فكيف بما دونها؟!
أكملوا الغرس ولا تُشمتوا فيكم ابن سَلول وأبا عامر الفاسق، فمساجد الضرار
أعمارها قصيرة وإن ظننا غير ذلك!!
أكملوا الغرس في صغار أبناء الأمّة وكبارها، استنقذوا مَن استطعتم من الناس من
النار، جابهوا سلاح الفجور ولو بالصدور...
أكملوا الغرس في تثبيت بعضكم، والعضّ معاً على جراحكم.. فاللهُ الذي تعبّدكم
بالغرس ولو مع قيام القيامة لا يريد منكم إلا أن تظلوا رافعي اللواء ولو حاصركم
الأعداء، وتستكملوا العمل ولو أطفئت مشاعلُ الأمل..
*فالعبرة
ببقاء المصلحين ولو مع قدوم يوم الدين!!*
|
|
تاريخ
الفقه الاسلامي: أهميته وأهم المؤلفات فيه
|
|
دكتور
: أحمد عبد المجيد مكي
|
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
أولاً:
أهمية علم تاريخ الفقه:
للتاريخ بشكل عام أهمية كبيرة في حياة الأفراد والأمم، لخصها ابن حميد النجدي
(ت: 1295 هـ) في قوله: التاريخ فنّ طريف، يشتاقه كلّ ذي طبع لطيف، وقد قال
الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه: «من حفظ التّاريخ زاد عقله»، وفيه فوائد عظيمة
ومنافع جسيمة، أجلّها الاعتبار بمن مضى، والاقتداء بمن سار على منهاج الرّضى،
وتنشيط الهمّة في طلب العلم عند الاطّلاع على كيفيّة أحوال العلماء، واجتهادهم،
وصبرهم، وقناعتهم، إلى غير ذلك من الفوائد، الّتي هي بالخير إن شاء الله
عوائد([1]).
وعلم تاريخ الفقه الإسلامي من صميم الدراسات والتخصصات الفقهية،
لذا فمن الضروري والمتعيِّن على طالب العلم أن يكون على دراية بهذا العلم، وأن
يتضلع منه، فهو علمٌ جليل، عظيم النَّفع، وهو جزء لا يتجزّأ من علم الفقه ذاته،
وله أهميته، فمن فوائده للمتفقه ما يلي:
- الصبر على التفقه وعدم الملل أوالانقطاع، ومن دقيق الفوائد المستنبطة من قصة
نبي الله موسى مع الخضر : أن السبب الكبير لحصول الصبر: إحاطة الإنسان علمًا
وخبرة بذلك الأمر الذي أمر بالصبر عليه. وإلا فالذي لا يدريه، أو لا يدري غايته
ولا نتيجته، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر ، لقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ
عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}، فجعل الموجب لعدم صبره : عدم إحاطته خبرا
بالأمر([2]). أو كما يقول الفخر الرازي (ت: 606هـ) : استبعد الخضر حصول الصبر
على ما لم يقف الإنسان على حقيقته([3]).
- إثراء الملَكة وتوسيع المدارك ، فمما لا شك فيه أن المطلع على تاريخ علم
من العلوم يزداد به بصيرة، ويتسع أُفُقُه، ويعلم ما طرأ عليه في مختلف العصور،
وقد مَرَّ قول الإمام الشافعي (ت: 204هـ) : من حفظ التاريخ زاد عقله.
- الثقة والاطمئنان لما توصل إليه من أحكام ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن
تيمية (ت: 728هـ): "إن معرفة أصول الأشياء ومبادئها ومعرفة الدين وأصله
وأصل ما توَلَّد فيه من أعظم العلوم نفعًا، إذ المرء ما لم يُحِطْ علمًا بحقائق
الأشياء التي يحتاج إليها يبقى في قلبه حَسَكَة"([4]). والحَسَك: الشوك،
وحَسَكُ الصَّدْر: الحِقْد والعداوة، والمقصود هنا : القلق والتردد.
- معرفة أقدار الفقهاء ومراتبهم، وفي ذلك يقول الفخر الرازي (ت: 606هـ) :
"فكل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر ؛ كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة
أكثر ، فكان طلبه لها أشد، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد"([5]).
ثانيًا : موضوع علم تاريخ الفقه:
يعنى هذا العلم بمصادر التشريع وبدء تدوينها وتاريخ تشريع بعض
الأحكام، وأدوار التشريع ومراحله، وأصول مدارس الصَّحابة في الفقه والفتيا ،
وأهم القضايا التي اختلفوا فيها، وما نشأ بعد ذلك من مذاهب متبوعة ومندثرة،
والتعريف بأئمة الفقه ومناهجهم في الاجتهاد والاستنباط والترجيح؛ وأسباب
اتِّفاقهم واختلافهم، وطريقة تعاملهم مع المستجدات والقدرة على فهم طبيعة هذه
الاجتهادات ضمن ظروفها وبيئتها، وغير ذلك.
ثالثًا : المؤلفات فيه :
مفردات هذا العلم ومباحثه مبثوثة في علوم شتى كعلوم القرآن
والحديث وأصول الفقه وكتب الفتاوى، ولـم يظهر التأليف فيه- كعلم ومادة مستقلة-
إلا في أواسط القرن الرابع عشر الهجري، وبالأخص بعد نشأة الكليات الشرعية، حيث
وُضِعَت مادة (تاريخ الفقه) لتكون مدخلًا ومقدمة لدراسة الفقه، من هذه المؤلفات:
الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي، للشيخ محمـد بن الحسن الحجوي ، تاريخ
التشريع الإسلامي، للخضري، وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي، لعبدالوهاب خلاف،
المدخل لدراسة الفقه الإسلامي، للدكتور محمـد يوسف موسى، تاريخ المذاهب
الإسلامية، للشيخ محمـد أبو زهرة، المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، للدكتور
عبدالكريم زيدان، تاريخ التشريع الإسلامي، للشيخ مناع القطان، المدخل لدراسة
الشريعة والفقه الإسلامي، للدكتور عمر سليمان الأشقر، ويتميز الكتابان الأخيران،
بسهولة العبارة وحسن الترتيب.
--------------------------------
([1]) السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة (1/ 4(.
([2]) تفسير السعدي (ص: 484(.
([3]) تفسير الرازي (21/ 485(.
([4]) مجموع فتاوى ابن تيمية (10/368).
([5]) تفسير الرازي (21/ 484(.
|
============================*=======
غُرَف
الجَنَّةِ : وَصْفُهَا والطَّرِيق المُوَصِّلِ إِلَيْها
|
|
دكتور
: أحمد عبد المجيد مكي
|
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
الحمدُ لله الذي يُجازي بالكثير على القليل، والصَّلاة والسَّلام على نبينا
مُحمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
" فإنَّ صاحب الهِمَّةِ العالية والنفس الشريفة التواقة لا يرضى
بالأشياء الدنية الفانية، وإنما هِمَّتُهُ المسابقة إلى الدرجات الباقية الزاكية
التي لا تفنى، ولا يرجع عن مطلوبه ولو تَلفَتْ نفسه في طلبه، ومن كان في
الله تَلَفه كان على الله خَلَفه.
فأما خسيس الهِمَّة فاجتهاده في متابعة هواه، ويتكل على مجرد العفو، فيفوته- إنْ
حصل له العفو- منازل السابقين المقربين، قال بعض السلف: هَبْ أنَّ المسيء عُفِي
عنه، أليس قد فاته ثواب المحسنين!!([1]).
والجنَّة محلُّ خواص الله وأوليائه، فيها فوق ما يخطر بالبال أو
يدور في الخيال، وقد خَّصَّصَ علماء الحديث أبوابا في كتبهم لوصف الجنة ونعيمها،
كما خَصَّها العلماء بالتأليف منذ زمن بعيد كابن أبي الدنيا(ت: 281هـ)، و أبي نعيم
الأصبهاني(ت: 430هـ)، وضياء الدين المقدسي(ت: 643هـ)، وابن قيم الجوزية (ت:
751هـ) في كتابه : حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح.
وها أنا أذكر في هذا المقام -بعون الله وتوفيقه- بعضَ ما جاء في غُرَف الجنَّة
والطرق المُوَصِّلة إِلَيْها، جعلنا الله من أهلها.
أولًا - وَصْفُ غُرَف الجنة:
كلمة (غُرْفة) مفرد، جمعها غُرُفات وغُرْفات وغُرَف.
وغُرَف الجنة: منازل عالية ودرجة رفيعة، وهي- مِنْ حسنها وبهائها
وصفائها- يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، فهي شفافة لا يحتجب من فيها،
ولا يخفى عنها من خارجها. كما أنها عالية، ومن علوها وارتفاعها، أنها تُرَى كما
يُرَى الكوكب الغارب في الأفق الذي لا تكاد تناله الأبصار.
وقد ورد ذكر الغُرَف في القران الكريم في قوله تعالى: {أُولَئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا}، وقوله: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ
ءَامِنُونَ}، وقوله سبحانه: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا}،
وقوله تعالى: { لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ
فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ}.
قال ابن القيم(ت: 751هـ) تعليقا على هذه الآية الكريمة : أخبر تعالى أنها
غرف فوق غرف، وأنها مبنية بناء حقيقة ، لئلا تتوهم النفوس أن ذلك تمثيل، وأنه
ليس هناك بناء، بل تتصور النفوس غرفا مبنية كالعلالي ، بعضها فوق بعض ، حتى
كأنها يُنْظر إليها عيانا، ومبنية صفة للغرف الأولى والثانية، أي لهم منازل
مرتفعة، وفوقها منازل أرفع منها([2]).
ثانيًا- الطَّرِيق المُوَصِّلِ إِلى غُرَف الجنة :
الْأَسْبَاب الموصلة إِلى غُرَف الجنة كثيرة، أكتفي بما ورد في قول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ في الجنة غُرَفاً تُرَى ظُهُورُهَا مِنْ بُطُونِهَا،
وبُطُونُهَا مِنْ ظُهُورِهَا ، فقام أعرابيٌّ فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال:
لِمَنْ أطابَ الكلامَ، وأطعمَ الطعامَ، وصلى بالليل والناسُ نيام»([3]).
وقد أشار الإمام المناوي إلى أنَّ العَطف بِالوَاو في هذا الحديث يقتضي
اشْتِرَاط اجتماع الأمور المذكورة ([4]).
أولا: إطعام الطعام:
اهتم أصحاب الكتب الصحاح والمسانيد بهذه المسألة ووضعوا لها بابا في كتبهم، حيث
بوب الإمام البخاري "باب إِطْعَامُ الطَّعَامِ مِنَ الإِسْلاَمِ"،
وذكر تحته حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ
رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلاَمِ
خَيْرٌ(أي أعمال الإسلام أكثر نفعا) ؟ قَالَ: «تُطْعِمُ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأُ
السَّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ»([5]).
* وقد جعله الله في كتابه من الأسباب الموجبة للجنة ونعيمها، قال الله عز وجل:
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا،
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا
شُكُورًا} [الإنسان: 8 - 9].
قال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدُ في تفسير (على حُبِّهِ): أي على قِلَّتِهِ
وَحُبِّهِمْ إِيَّاهُ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ. وقيل: على حُبِّ اللَّهِ. وقيل: على
حُبِّ إِطْعَامِ الطَّعَامِ. وكان الرَّبِيعُ بن خُثَيْم إِذَا جَاءَهُ
السَّائِلُ قال: أَطْعِمُوهُ سُكَّرًا فَإِنَّ الرَّبِيعَ يُحِبُّ
السُّكَّرَ([6]).
وروي عَنِ الحَسَنِ البصري: أَنَّ يَتِيمًا كان يَحْضُرُ طَعَامَ ابْنَ عُمَرَ،
فَدَعَا ذَاتَ يَوْمٍ بِطَعَامِهِ، وطَلَبَ الْيَتِيمَ فَلَمْ يَجِدْهُ، وجاءه
بعد ما فَرَغَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ طَعَامِهِ فَلَمْ يَجِدِ الطَّعَامَ، فَدَعَا
لَهُ بِسَوِيقٍ وَعَسَلٍ، فَقَالَ: دُونَكَ هَذَا، فَوَاللَّهِ مَا
غُبِنْتَ"([7]).
يعني لم تفتك فرصة الأكل معي، فلك عندي ما هو خير منه.
والسَوِيقٍ : طعام يصنع من دقيق الحنطة أو الشَّعير، سُمِّي بذلك لانسياقه
في الحلْق.
* ويتأكد إطعام الطعام للجائع والمضطر وللجيران خصوصاً، وأفضل أنواعه : الإيثار
مع الحاجة كما وصفه الله تعالى بذلك الأنصار رضي الله عنهم فقال: (ويُؤثِرونَ
على أَنْفُسِهم ولو كانَ بهمْ خَصَاصَةٌ) ، وكان بعض السلف لا يفطر إلا مع
اليتامى والمساكين، ومنهم من كان لا يأكل إلا مع ضيف له، ومنهم من كان يعمل
الأطعمة الفاخرة ثم يطعمها إخوانه الفقراء، واشتهى أحدهم حلواء، فلما صُنِعَتْ
له دعا بالفقراء فأكلوا، فقال له أهله: أتعبتنا ولم تأكل!. فقال: ومن أكله
غيري!. وقال آخر منهم -وجرى له نحو من ذلك-: إذا أكلته كان في الحُشِّ (بيت
الخلاء) ، وإذا أطعمته كان عند الله مذخوراً.
"وقد جمع فيه بعض العلماء المحدثين أربعين حديثا في شأن فضله،
وفيه مع الأجر: شرف الذكر في الدنيا، ومحبة العباد له، فإن القلوب جبلت على من
أحسن إليها وعلى الثناء عليه ، ولذلك صار ذكر حاتم الطائي في كل مكان، وضربت
بجوده الأمثال كل لسان، فمطعم الطعام فائز بالأجر في الدنيا والآخرة، مع تعويض
له فيما ينفقه، ومغفرة الله له"([8]).
وقد يظن ظان أنَّ هناك تعارضا بين ما ورد في فضل إطعام الطعام، وبين قول النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا تُصَاحِبْ إلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعَامَكَ
إلا تَقيٌّ"([9]).
قال الإمام الخطابي (ت: 388هـ): هذا إنما جاء في طعام
الدعوة دون طعام الحاجة، وذلك أن الله سبحانه قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ
عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، ومعلوم أن
أسراهم كانوا كفاراً غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي، وزجر عن مخالطته ومؤاكلته، فإن المُطاعمة توقعُ
الألفةَ والمودةَ في القلوب. يقول: لا تُؤالف مَن ليَس مِن أهل التقوى والورع،
ولا تتخذه جليساً تُطاعمه وتُنادمه"([10]).
وقيل: هذا حث على الأولى والأرجح ، وإنْ جاز خلافه ، فليس المراد من هذا الحديث
حرمان غير التقي من الإحسان، فإطْعَام الطَّعَام لكل أحد من برّ وَفَاجِر وصديق
وعدّو مطلوب، لأنه بِرٌ للنفس يطفئ حرارة الحقد والحسد وينفي مكامن الغل، والنبي
أطعم المشركين وأعطى المؤلفة قلوبهم.
ثانيا: الكلام الطيب:
المقصود بأطاب (الكلام) أي تكلم بكلام طيب، ويدخل فيه : مخاطبة الناس باللين،
وملاطفتهم، وطلاقة الوجه معهم، وتجنب الغلظة والفظاظة ونحو ذلك.
وفي رواية: " إفشاء السلام "، وهو داخل في لين الكلام، وقد وردت نصوص
كثيرة في فضل طيب الكلام ، منها : قوله تعالى: (ادفعْ بالتي هيَ أحسنُ) ، وقوله:
(ويدرَؤُن بالحسنةِ السيئةَ) ، وقوله : (وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسنُ) ،
وقوله: (وجادلهم بالتي هي أحسنُ) ، وقوله سبحانه: (وقُولوا للناس حُسناً)
[البقرة: 83].
قال الإمام القرطبي (ت: 671هـ) : وهذا كله حض على مكارم الأخلاق،
فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لينا ، ووجهه منبسطا طلقا مع البر والفاجر،
والسني والمبتدع، من غير مداهنة، ومن غير أن يتكلم معه بكلام يظن أنه يرضي
مذهبه، لأن الله تعالى قال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا
لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، فالقائل ليس بأفضل من موسى
وهارون، والفاجر ليس بأخبث من فرعون، وقد أمرهما الله تعالى باللين معه. والقول
اللين هو القول الذي لا خشونة فيه، فإذا كان موسى أمر بأن يقول لفرعون قولا
لينا، فمن دونه أحرى بأن يقتدي بذلك في خطابه و كلامه. والنصوص المذكورة
دخل فيها اليهود والنصارى فكيف بالمسلم! ([11]).
وربما كان معاملة الناس بالقول الحسن أحب إليهم من الإحسان بإعطاء
المال، كما قال لقمان لابنه: يا بُنيّ! لتكن كلمتك طيبة، ووجهك منبسطاً،
تكن أحب إلى الناس ممن يُعطيهم الذهب والفضة. وروي عن ابن عمر أنه كان ينشد:
بُنَيَّ!
إنّ البرَّ شيءٌ هيِّنٌ ... :وجهٌ طليقٌ وكلامٌ ليِّنٌ.
ثالثا:
الصلاة بالليل والناس نيام:
أي التهجد في جوف الليل حال غفلة الناس واستغراقهم في لذة النوم، وذلك هو وقت
الصفاء وتنزل الرحمات.
وقد مدح الله تعالى المتهجدين بالليل ، فقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ
عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ
قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16، 17] ، وقال
تعالى: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ، وقال سبحانه:
{كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ} [الذريات: 17، 18]، وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ
لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان:64]، وقال جل شأنه: {أَمَّنْ هُوَ
قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو
رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9]، وقال
تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً}
[الانسان:26]
وقالت عائشة رضي الله عنها لرجل: «لا تدَعْ قيام الليل، فإن رسولَ الله - صلى
الله عليه وسلم- كان لا يَدَعُهُ، وكان إِذا مَرِض أو كَسِلَ صلى قاعداً»([12]).
وفي قيام الليل من الفوائد أنه: يَحُطُّ الذنوب كما يَحُطُّ
الريح العاصف الورق الجاف من الشجرة، وينور القبر، ويحسن الوجه، ويذهب الكسل،
وينشط البدن، وترى الملائكة موضعه من السماء كما يتراءى الكوكب الدري لنا من
السماء([13]).
* وإنما فضلت صلاة الليل على صلاة النهار لأنها:
- أبلغ في الإسرار وأقرب إلى الإخلاص.
- ولأن صلاة الليل أشق على النفوس فإن الليل محل النوم والراحة من التعب بالنهار
فتركُ النوم مع ميل النفس إليه مجاهدةٌ عظيمة قال بعضهم: أفضل الأعمال ما أُكرهت
عليه النفوس.
- ولأن القراءة في صلاة الليل أقرب إلى التدبر فإنه تنقطع الشواغل بالليل ويحضر
القلب ويتواطأ هو واللسان على الفَهم كما قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ
هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً} [المزمل:6] إن ساعات الليل هي أشد
موافقة للقلب مع القراءة وأصوب قولًا.
- ولأن وقت التهجد هو وقت فتح أبواب السماء واستجابة الدعاء واستعراض حوائج
السائلين.
نسأل الله – بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ - أن يرزقنا الدرجات العلى من الجنة ، والنعيم
المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم آمين.
------------------------------------
([1]) لطائف المعارف لابن رجب (ص: 244).
([2]) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح (ص: 142).
([3]) أخرجه أحمد (22905)، والترمذي (1984).
([4]) التيسير بشرح الجامع الصغير (1/ 325).
([5]) أخرجه البخاري (12) ومسلم (39).
([6]) تفسير القرطبي (19/ 128).
([7]) تفسير القرطبي (19/ 129).
([8]) التنوير شرح الجامع الصغير (2/ 538).
([9]) أخرجه أبو داود (4832) والترمذي (2395) وهو حديث حسن.
([10]) معالم السنن(4/ 115).
([11]) تفسير القرطبي (2/ 16) ، (11/ 200).
([12]) أبو داود رقم (1307).
([13]) فيض القدير (4/ 351).
|
|
أسباب
الفلاح كما بَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّة
|
|
دكتور
: أحمد عبد المجيد مكي
|
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيم
من الأمور المشتركة بين بني الإنسان أن كل واحد منهم
يبحث عن السعادة، والمُصيب منهم حقاً مَنْ التمسها في نصوص الوحي واستوحاها منه،
فهو منبع الخير ومَطلعُ الهداية، ولأن الله عز وجل هو خالق الناس جميعاً فَمَن
خَلَقَ الخَلْق وأتقنه وأحسنه لا بد أن يعلم ما يُصْلِحه ويُسْعده {أَلا
يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ}، ولأن اهتمام الوحي بالأساس مُنْصَبٌّ على تهذيب الإنسان
والرقي بالنفس البشرية إلى مدارج الكمال، ومن هداية الوحي حديثه عن المفلحين
وبيان أهم صفاتهم التي تؤهلهم للفوز والفلاح والطمأنينة والراحة النفسية.
معنى الفَلاَح :
فلَح الشَّخصُ ، يَفلَح، فَلاحًا، فهو فالِح: فاز، ظفِر بما يريد.
وعَرَّفَه الإمام المناوي بأنه: الفوز بالبُغْية في الدارين. كما عَرَّفَه الشيخ
السعدي بأنه : اسم جامع لحصول كل مطلوب محبوب، والسلامة من كل مخوف مرهوب.
وقسّمه العلماء الى نوعين: دنيوىّ، وأُخروىّ.
فالدّنيوى: نيل الأَسباب الَّتى بها تطِيب الحياة. وهى البقاءُ (الصحة
والعافية)، والغِنى، والعِزَّ.
والأُخروىّ: أَربعة أَشياءَ: بقاءٌ بلا فناءٍ، وغنى بى فقرٍ، وعزّ بلا ذُلٍّ
وعلم بلا جهل. لذلك قال صلَّى الله عليه وسلَّم: "اللهمّ لا عيش إِلا عيش
الآخرة" ([1]).
أسُسُ الفلاح كما بَيَّنَهَا النبي الكريم:
أوصاف المفلحين مبثوثة في سور القرآن وآياته، كما
اهتمت السنة النبوية ببيان طرف من دعائم الفلاح، من ذلك ما رواه عبد الله بن
عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: «قد
أفْلَحَ مَنْ أسلم، ورُزِقَ كفافاً، وقَنَّعه الله بما آتاه».
هذا الحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب في الكفاف
والقناعة، وقد أورده الإمام النووي في كتابه النافع رياض الصالحين، في بابين
متتابعين، الأول : باب فضل الجوع وخشونة العيش والاقتصار على القليل من المأكول
والمشروب والملبوس وغيرها من حظوظ النفس وترك الشهوات.
والثاني: باب القناعة والعَفاف والاقتصاد في المعيشة والإنفاق وذم السؤال من غير
ضرورة.
ورواه أيضا الإمام الترمذي في كتاب الزهد من سننه، باب ما جاء في الكفاف، بلفظ:
«طُوبى لِمنْ هدِيَ للإسلام، وكان عَيْشُه كَفَافاً وَقنِعَ» .
ولفظ طُوبَى (مفرد): مؤنَّث أطيبُ. ومعناها غبطة وسعادة،
وخيرٌ دائم وهي من الطِّيب، وفي القرآن الكريم: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ}: والمعنى : لهم كل مستطاب في الجنة
من بقاء وعِزّ وغنى، ويقال: طُوبَى لك و طوباك: لك الحظّ والعَيْش الطَّيِّب،
وطُوبَى لكم: كونوا سُعداءَ جدًّا.
وطُوبَى أيضا اسم عَلَم للجنّة أو لشجرة فيها.
وفيما يلي محاولة متواضعة لتوضيح معالم ودعائم طريق
السعادة والفلاح كما بينها هذا الحديث النبوي الشريف.
الأساس الأول : الهداية للإسلام.
لا شك أن الإسلام تحصل به السعادة في الدنيا والآخرة، فعلى قدر إسلام الوجه
والقلب والجوارح واللسان لله -تبارك وتعالى- على قدر ما يحصل للعبد من الفلاح؛
لأن النبي علقه بذلك في قوله (قد أفلح من أسلم)، والحُكْم المُعَلَّق على
وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه.
ووجه كون الإسلام سبباً في الفلاح:
- أنه سبب لنجاة العبد من النار ودخوله الجنة، قال تعالى: {فمن زحزح عن النار
وأدخل الجنة فقد فاز} (آل عمران: 185) ، ولن يقبل الله من أحدٍ ديناً غير
الإسلام.
- أن الإسلام أكمل الشرائع وأفضلها، وأعلاها وأجلها، فهو الدين
الذي ارتضاه الله عز وجل لجميع البشر منذ أن خلق آدم إلى أن تقوم الساعة، وهو
دين الأنبياء والمرسلين جميعًا.
- أنه دين الفطرة ، كما أنه حرر الإنسان من عبودية العباد إلى عبودية رب العباد.
- أن من مقاصده الأساسية حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، ولا يمكن
لإنسان أن يهنأ بعيش أو راحة في ظل انتقاص أو غياب واحد من هذه المقاصد. فماذا
سيكون حال الانسان لو غاب او انتقص جُلُّ هذه المقاصد.
- أن ما شرعه من أحكام وعبادات وأخلاق هدفها تنظيم حياة الإنسان، وبث الراحة
والطمأنينة والسعادة في نفسه، ولتجعل منه مخلوقاً مكرماً يعيش لهدف، ليس كل
هَمَّه أن يأكل ويشرب ويتمتع كما تفعل الأنعام.
وبشكلٍ عام يمكن القول أنَّ الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله
ورسوله، وقد استفاض الإمام ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751هـ) في بيان ذلك عند
تفسيره لقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ...} [الأنفال: 24]، فقال ما
ملخصه :
فتضمنت هذه الآية أمورا أحدها:
أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، فمن لم تحصل له هذه
الاستجابة فلا حياة له، وإن كانت له حياة بهيمية مشتركة بينه وبين أرذل
الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهرًا وباطنا،
فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان
أكمل الناس حياة أكملهم استجابة لدعوة الرسول، فإنَّ كل ما دعا إليه ففيه
الحياة، فمن فاته جزء منه فاته جزء من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب
للرسول.
والإنسان مضطر إلى نوعين من الحياة:
النوع الأول: حياة بدنه التي بها يدرك النافع والضار ويؤثر ما ينفعه على
ما يضره.
النوع الثاني: حياة قلبه وروحه التي بها يميز بين الحق والباطل، والغَيّ
والرشاد، والهوى والضلال.
فكما أن الإنسان لا حياة له حتى ينفخ فيه الملك الذي هو رسول الله من
روحه، فيصير حيًا بذلك النفخ، وإن كان قبل ذلك من جملة الأموات، فكذلك لا حياة
لروحه وقلبه حتى ينفخ فيه الرسول البشري من الروح الذي أُلْقى إليه، كما قال
تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ
مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] وقال: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ
يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] ؛ فجعل وحيه روحًا ونورًا، فمن لم يُحيه
بهذا الروح فهو ميت...([2]).
الأساس الثاني : الكفاية من الرزق
قد يهدي الله العبد للإسلام، ولكنّه يُبْتَلى: إمّا بفقرٍ يُنسِي، أو غِنَىً
يطغي، وكل مِنهُمَا ملهاة تُورث الهمّ والغمّ وَالْقَسْوَة أو المذلة، فمن أراد
به الله الخير والفلاح كان رزقه كفافاً، لأنه سلم من تَبِعَةِ الغنى وذُلّ سؤال
الخلق.
وحَدُّ الكفاف : أن يجد الإنسان ما يدفع ضروراته وحاجاته ويَكُفَّ قلبه
ولسانه عن سؤال الناس والتطلع إلى ما في أيديهم.
وغني عن التنبيه أن المراد بالرزق الحلال؛ لأنه لا فلاح مع رزق حرام .
وفي فضل الكفاية يروي لنا أبو الدّرداء- رضي الله عنه- عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم أنه قال: « مَا طَلَعَتْ شَمْسٌ قَطُّ إِلَّا بُعِثَ بِجَنْبَتَيْهَا
مَلَكَانِ يُنَادِيَانِ، يُسْمِعَانِ أَهْلَ الْأَرْضِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمُّوا إِلَى رَبِّكُمْ فَإِنَّ مَا قَلَّ وَكَفَى
خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ وَأَلْهَى ،...([3]).
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يكون رزق آل محمد ما يقوتهم ويكفيهم
فعن أبي هريرة- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ
ارزق آل محمّد قوتا»([4]). وفي رواية عند مسلم: "كفافاً"
والقوت : هو ما يقوت ويكفي من العيش ويَكُفُّ عن الحاجة، سُمِّيَ قوتا
لحصول القوة منه، وهو بمعنى الكفاف. والمعنى: اكفهم من القوت ما لا يرهقهم إلى
ذُلِّ المسألة، ولا يكون فيه فضول يبعث على الترف والتبسط في الدنيا.
قال العلامة المناوي (المتوفى: 1031هـ):
وقد احتج بهذا مَنْ فَضَّل الفقر على الغنى، وقد اتفق الجميع على أن ما أحوج من
الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم، والكفاف حالة متوسطة بين الفقر والغنى،
وخير الأمور أواسطها، ولذلك سأله المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله:( اللهم اجعل
رزق آل محمد قوتا)، ومعلوم أنه لا يسأل إلا أفضل الأحوال، والكفاف حالة سليمة من
آفات الغنى المطغي، وآفات الفقر المدقع الذي كان يتعوذ منهما، فهي أفضل
منهما([5]).
الأساس الثالث : القناعة التامة بما قسم الله له.
قد يهدي الله الإنسان إلى الإسلام ويكون عيشه كفافاً، ولكنه لا
يقنع بما آتاه الله، بل يكون في قلق دائم وتسخط، فلا يزال يشكو ربه ليل نهار،
وقلبه مشغول وجوارحه مشغولة في طلب الزيادة، فمثل هذا فقير القلب والنفس، من هنا
جاء الأساس الثالث ليكتمل بذلك مثلث الفلاح (وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ).
تعريف القناعة :
قنَعَ، يَقْنَع، قَناعةً، فهو قانِع وقَنوع وقَنِع، وقنِع الشَّخْصُ بالشَّيء:
رَضِيَ بما أُعْطِي وقَبِلَه، عَكْس (حَرَص)، والقانع: الرّاضي بما قسم الله.
قال ابن عَلَّان الشافعي (المتوفى: 1057هـ):
(وَقَنَّعَهُ) أي صَيّره قانعاً، ولعل التضعيف (أي: تشديد النون في قوله:
وَقَنَّعَهُ) إيماء إلى بُعْد هذا الوصف عن طبع الإنسان، فمن حاول إزالتها يحتاج
إلى مبالغة في ذلك، لأن الطبع البشري مائل إلى الاستكثار من الدنيا والحرص عليها
إلَّا مَنْ عَصَم الله، وقليل ما هُم، وكأن المعنى: وجعله الله بِخَفِيِّ ألطافه
قانعاً بما أعطاه من الكفاف. قال القرطبي: معنى الحديث: أن من حصل له ذلك فقد
حصل على مطلوبه وظفر بمرغوبه في الدارين([6]).
ووجه كون القناعة سببًا للفلاح؛ أنها تمنع صاحبها من الوقوع في الظلم، والتطاول
على الأموال المحرمة، وبسبب ذلك يَهْلَكُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كما مشاهد في
الواقع المُعَاش.
وجه ثان: أنَّ الطامع – وهو عكس القانع- كلما حصل على شيء من أمور
الدنيا طلب غيره، وهَلُمَّ جَرَّا، فنَفْسَهُ فقيرة أبدا حتى يقبض ملك الموت
روحه وهو على تلك الحالة الخبيثة، مِنْ غير استعداد للموت ولا تأهب له، وفي ذلك
خسران مبين.
وهناك وجه آخر : وهو أن الحازم إذا ضاقت عليه الدنيا لم يجمع على نفسه بين ضيقها
وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق فليسع لراحة
القلب، وسكونه وطمأنينته. والقناعة أحد الأسباب لتحقيق ذلك، فبسببها يكون المسلم
راضياً برزقه، منشرح الصدر والبال، لذلك كان من دعاء النبي صلّى الله عليه
وسلّم: « اللَّهُمَ قَنِّعْنِي بِمَا رَزَقْتَنِي، وَبَارِكْ لي فِيهِ،
وَاخْلُفْ عَلَيَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لِي بِخَيْرٍ»([7]).
ومن أقوال الحكماء: أطول النّاس غمّا الحسود، وأهنأهم عيشا القنوع، القناعة كنزٌ
لا يَفْنَى، العبدُ حُرٌّ إذا قنَع، والحرُّ عبدٌ إذا طمِع، خير الغنى القنوع
وشرُّ الفقر الخضوع، من لزم القناعةَ نال عِزًّا، من لم يقنع باليسير لم يكتفِ
بالكثير.
ومن عيون الشعر العربي:
والنّفس
راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
وفي
الختام أود الاشارة الى أمرين هامين:
الأمر الاول: ليس معنى القناعة والكفاف أن يلازم الإنسان بيته ويقعد عن طلب
الرزق، ويقول: إنني راضٍ بحالي، بل عليه أن يسعى بِجِدٍّ واجتهاد في طلب الرزق،
استجابة لقوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)، وكان أحد السلف إِذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ
انْصَرَفَ فَوَقَفَ على بَابِ الْمَسْجِدِ، فقال: اللَّهُمَّ إِنِّي أجبتُ دعوتَك،
وصليتُ فريضتك، وانتشرت كما أمرتني، فَارْزُقْنِي مِنْ فَضْلِكَ، وَأَنْتَ
خَيْرُ الرَّازِقِينَ ([8]).
وكذلك استجابة لقوله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ
رِزْقِهِ} [الملك:15]، وخوفاً من الإثم المشار إليه في قول النبي صلى الله عليه
وسلم: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت)([9]).
الأمر الثاني: لا يُفهَم من الحديث ذم الغنى أو مدح الفقر ، وقد أشار الإمام
المناوي (المتوفى: 1031هـ) إلى أن صاحب الحالة- التي أشار اليها الحديث الشريف-
معدود من الفقراء لأنه لا يترفه في طيبات الدنيا بل يجاهد نفسه في الصبر على
القدر الزائد على الكفاف، فلم يفته من حال الفقراء إلَّا السلامة من قهر الرجال
وذُلِّ المسألة([10]).
نسأل الله أن ييسر لنا طريق الفلاح، وأن يجعلنا من الفالحين المفلحين، اللهم
آمين، وصلى اللهم على النبي الأمي وعلى آله وصحبه اجمعين.
--------------------------------------------
([1]) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز (2/ 180).
([2]) الفوائد لابن القيم (ص: 88).
([3]) أخرجه احمد في المسند (21721) وقال المحقق: إسناده حسن.
([4]) البخاري (6460) ومسلم (1055) .
([5]) فيض القدير (5/ 479).
([6]) دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين (4/ 468).
([7]) أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 356) ، وابن خزيمة (4/ 218)، وابن أبي
شيبة(4/ 109)، والبيهقي في شعب الإيمان،(4/ 454).
([8]) تفسير ابن كثير (8/ 122).
([9]) أخرجه أحمد (6495)، وأبو داود (1692)، وابن حبان (4240).
([10]) فيض القدير (4/ 508).
|
=================*==========
الناسُ
سواسيةٌ في دينِ الإسلام
|
|
د.
عبدالله بن معيوف الجعيد
@abdullahaljuaid
|
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد جاءت رسالة الإسلام منذ ألفٍ وأربعمئة سنة حاملةً كل معاني الخير للبشرية
جمعاء ولقد عبر القرآن عن هذا المعنى بدقة ففي خطاب الله للنبي صلى الله عليه
وسلم قال: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) سورة الأنبياء
107، فدعوة الإسلام جاءت مستهدفة الناس جميعاً على اختلاف أنواعهم وأعراقهم
وألوانهم وغيرها من المعايير التي يصنف على أساسها البشر، وتقر لهم كافة الحقوق
على حد سواء فلا يتم التعامل مع أي من الناس باعتبار شكله أو لونه أو عرقه أو
حسبه ونسبه، بل إن معيار التفاضل الوحيد الذي أقره الإسلام بين الناس هو التقوى،
فكل الناس في الإسلام سواسية فالإنسان هو الإنسان كان غني أم فقير قوي أم ضعيف
حاكم أم محكوم، ويمكننا أن نلمس وجود مبدأ المساواة بين الناس في الإسلام في
كثير من المواضع في القرآن الكريم والكثير من المواقف في سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم، فلقد جاء في القرآن الكريم بيان أن الناس جميعاً يرجع نسبهم إلى أب واحد
وأم واحدة فهم بذلك أخوة لا يجب أن يتم التفريق في المعاملة بينهم بأي شكل من
الأشكال فقد قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ
وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) سورة
الحجرات 13، كما أنه لا يمكننا أن نغض الطرف عن ما احتوت عليه سيرة النبي صلى
الله عليه وسلم من أحداث ومواقف تأصل وتأكد على مبدأ المساواة الذي يتم على
أساسه التعامل مع كل الناس في الإسلام، فها هو صلى الله عليه وسلم يؤكد أنه لا
يمكن لأحد مهما كانت مكانته أن يكون فوق القانون وأن يتم معاملته بأسلوب مخالف
لما يُعامَل به عامة الناس فيقر عقوبة السارق ولو كان واحدا أهل بيته، فيقول في
ضرر عدم المساواة في معاقبة المجرمين والتمييز بينهم بناءً على مكانتهم
وأنسابهم: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق منهم الشريف تركوه، وإذا
سرق منهم الضعيف أقاموا عليه الحد. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع
محمد يدها)، ولقد كانت حياة الصحابة في المدينة المنورة خير مثالٍ للتعايش
والمساواة بين مختلف الأعراق والأجناس فلا نرى بين الصحابة تمييزاً بين أبي بكر
العربي وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي، جمعهم الإسلام جميعاً تحت
عباءته إخواننا متحابين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الناس سواسية كأسنان
المشط الواحد. لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).
ولا ينكر الإسلام وجود التفاوت بين الناس في أنسابهم وأعمالهم وأرزاقهم، بل يؤكد
وجود ذلك إلا أنه لا يتم التعامل على أساس هذا التفاوت مع الناس بل إن هذا
التفاوت موجود لضمان استمرارية الحياة البشرية وتكامل البشر في تقديم الخدمات
المختلفة لبعضهم البعض، فقد قال تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ)
سورة الزخرف 32.
والناظر إلى حضارة المسلمين في مختلف مراحلها يلمس حقيقة المساواة بينهم وأن
الحق في المساواة حقٌ أصيل وليست وجهة نظر ولا يقوم على أهواء الناس، فها هم
يصطفون في الصلاة جنباً إلى جنب الحاكم والمحكوم والغني والفقير والقوي والضعيف
والكبير والصغير خلف رجل واحد مستقبلين قبلةً واحدة متذللين منكسرين لإله واحد.
ولعلنا نرى حقيقة المساواة واضحةً جليةً في قصة الصحابي الجليل بلال الحبشي رضي
الله عنه فها هو يتحول من عبدٍ مملوك في الجاهلية إلى مؤذن النبي الصادح بأهم
نداءٍ في الإسلام، وعندما عيره أبو ذر الغفاري بلونه اشتاط النبي غضباً لما
تحمله معايرة أبي ذر من دعوى الجاهلية التي تتصف بالعنصرية في التعامل مع الناس
والتمييز بينهم على أساس أعراقهم واجناسهم وأحسابهم وأنسابهم وما يملكونه من
متاع الدنيا فقال النبي لأبي ذر إنك امرؤ فيك جاهلية، أي أن ما صدر عنك من سلوك
عنصري يتنافى مع أخلاقيات الإسلام السمحة وإقرار المساواة بين الناس في الحقوق
والاحترام.
ولقد تعدى مبدأ المساواة في الإسلام التعامل بين المسلمين إلى تعامل المسلم مع
غيره من الناس، فلقد جاء في تشريع التعامل مع غير المسلمين في القرآن الكريم:
(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ
ۚ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) سورة الممتحنة 8، فقد أمرنا الله بالبر
والقسط في التعامل معهم وهما من أرقى مبادئ التعامل الإنساني، فحتى لو لم يكونوا
مسلمين إلا أن لهم الحق في احترام حقوقهم وحمايتها وعدم الاعتداء عليها، كما
أننا نلمس الرقي في التعامل الإنساني في وصية أبي بكر لجيش المسلمين حين أمرهم
بحفظ حقوق الناس في الحياة والدين وغيرها وعدم التعدي عليها.
ونرى بما لا يدع مجالاً للشك أن الإسلام كان سباقاً في إقرار الحقوق المختلفة
للناس والدعوة إلى احترامها والحفاظ عليها وتحريم الاعتداء عليها وسلبها من
الناس ومن بينها الحق في المساواة، والشواهد التشريعية والعملية كثيرة في باب
المساواة، أما اليوم فيرى العالم أجمع الكثير من الحملات العنصرية التي تهدف إلى
التمييز والتفضيل بين الناس على أساس أعراقهم وأجناسهم وألوانهم في الكثير من
دول العالم التي تُظهر للناس التزامها ودفاعها عن حقوق الإنسان، فنرى الاعتداءات
على الطوائف والأقليات والأعراق في الكثير الدول حول العالم، ولقد شاهدنا في
الأيام الأخيرة الكثير من الأحداث المؤسفة التي تعرض لها أصحاب البشرة السوداء
في الولايات المتحدة الأمريكية، وليست هذه الأحداث الأولى من نوعها فغالباً ما
يتم التعامل مع أصحاب البشرة السوداء بالقوة وبشكل عنيف، ويرجع ذلك إلى عدم
اتخاذ الدول للإجراءات الجزائية المناسبة لمعاقبة مرتكبي الانتهاكات من أفراد
الشرطة والأمن التي أدت إلى مقتل مواطن وخلفت الكثير من أعمال العنف انتقاماً
لما يتعرضون له من عدم مساواة مع غيرهم وانتهاك لحقوقهم والاعتداء عليهم وعلى
ممتلكاتهم.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق