ج1.وج2.
ج1. كتاب العقد الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
المقدمة
كتاب اللؤلؤة في
السلطان السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار
الدنيا؛ وهو حمى الله في بلاده، وظله الممدود على عباده؛ به يمتنع حريمهم، وينتصر
مظلومهم، وينقمع ظالمهم، ويأمن خائفهم.
قالت الحكماء: إمام
عادل، خير من مطر وابل؛ وإمام غشوم، خير من فتنة تدوم؛ ولما يزع الله بالسلطان
أكثر ما يزع بالقرآن.
وقال وهب بن منبه:
فيما أنزل الله على نبيه داود عليه السلام: إني أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك
بيدي، فمن كان لي على طاعة جعلت الملوك عليهم نعمة، ومن كان لي على معصية جعلت
الملوك عليهم نقمة.
فحق على من قلده الله
أزمة حكمه، وملكه أمور خلقه؛ واختصه بإحسانه، ومكن له في سلطانه، أن يكون من
الاهتمام بمصالح رعيته، والاعتناء بمرافق أهل طاعته؛ بحيث وضعه الله عز وجل من
الكرامة، وأجرى له من أسباب السعادة. قال الله عز وجل: " الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف
ونهوا عن المنكر والله عاقبة الأمور " .
وقال حذيفة بن
اليمان: ما مشى قوم قط إلى سلطان الله في الأرض ليذلوه إلا أذلهم الله قبل موتهم.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: عدل ساعة في حكومة خير من عبادة ستين سنة.
وقال صلى الله عليه
وسلم: كلكم راع وكل راع مسئول عن رعيته.
وقال الشاعر:
فكلكم راع ونحن رعية
... وكل سيلقى ربه فيحاسبه
ومن شأن الرعية قلة
الرضا عن الأئمة، وتحجر العذر عليهم، وإلزام اللائمة لهم؛ ورب ملوم لا ذنب له. ولا
سبيل إلى السلامة من ألسنة العامة، إذ كان رضا جملتها، وموافقة جماعتها؛ من المعجز
الذي لا يدرك، والممتنع الذي لا يملك؛ ولكل حصته من العدل، ومنزلته من الحكم.
فمن حق الإمام على
رعيته أن تقضي عليه بالأغلب من فعله، والأعم من حكمه. ومن حق الرعية على إمامها
حسن القبول لظاهر طاعتها، وإضرابه صفحاً عن مكاشفتها، كما قال زياد لما قدم العراق
والياً عليها: أيها الناس، قد كانت بيني وبينكم إحن، فجعلت ذلك دبر أذني، وتحت
قدمي، فمن كان محسناً فليزد في إحسانه، ومن كان مسيئاً فلينزع عن إساءته. إني
والله لو علمت أن أحدكم قد قتله السل من بغضي لم أكشف له قناعاً، ولم أهتك له
ستراً، حتى يبدي صفحته لي.
وقال عبد الله بن
عمر: إذا كان الإمام عادلاً فله الأجر وعليك الشكر، وإذا كان الإمام جائراً فعليه
الوزر وعليك الصبر.
وقال كعب الأحبار:
مثل الإسلام والسلطان والناس مثل الفسطاط والعمود والأطناب والأوتاد، فالفسطاط
الإسلام؛ والعمود السلطان؛ والأطناب والأوتاد الناس. ولا يصلح بعضها إلا ببعض.
وقال الأفوه الأودي:
لا يصلح الناس فوضى
لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والبيت لا يبتنى إلا
له عمد ... ولا عماد إلا لم ترس أوتاد
فإن تجمع أوتاد
وأعمدة ... يوماً فقد بلغوا الأمر الذي كادوا
نصيحة السلطان ولزوم
طاعتهقال الله تبارك وتعالى: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا
الرسول وأولي الأمر منكم " .
وقال أبو هريرة: لما
نزلت هذه الآية أمرنا بطاعة الأئمة. وطاعتهم من طاعة الله، وعصيانهم من عصيان الله.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: من فارق الجماعة، أو خلع يداً من طاعة، مات ميتة جاهلية.
وقال صلى الله عليه
وسلم: الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة. قالوا لمن يا رسول الله؟ قال:
لله ولرسوله ولأولي الأمر منكم.
فنصح الإمام ولزوم
طاعته وإتباع أمره ونهيه في السر والجهر فرض واجب، وأمر لازم، ولا يتم إيمان إلا
به، ولا يثبت إسلام إلا عليه.
الشعبي عن ابن عباس
رضي الله عنهما، قال لي أبي: أرى هذا الرجل - يعني عمر بن الخطاب يستفهمك ويقدمك
على الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وإني موصيك بخلال أربع: لا تفشين
له سراً، ولا يجربن عليك كذباً، ولا تطو عنه نصيحة، ولا تغتابن عنده أحداً.
قال الشعبي: فقلت
لابن عباس: كل واحد خير من ألف. قال: إي والله، ومن عشرة آلاف.
وفي كتاب للهند: أن
رجلاً دخل على بعض ملوكهم، فقال أيها الملك، إن نصيحتك واجبة في الصغير الحقير،
والكبير الخطير. ولولا الثقة بفضيلة رأيك، واحتمالك ما يسوء موقعه من الأسماع
والقلوب في جنب صلاح العامة وتألف الخاصة، لكان خرقاً مني أن أقول. ولكنا إذا
رجعنا إلى أن بقاءنا موصول ببقائك، وأنفسنا متعلقة بنفسك، لم نجد بداً من أداء
الحق إليك، وإن أنت لم تسلني ذلك؛ فإنه يقال: من كتم السلطان نصيحته، والأطباء
مرضه، والإخوان بثه، فقد أخل بنفسه. وأنا أعلم أن كل ما كان من كلام يكرهه سامعه
لا يتشجع عليه قائله، إلا أن يثق بعقل المقول له ذلك. فإنه إذا كان عاقلاً احتمل ذلك،
لأن ما كان فيه من نفع فهو للسامع دون القائل. وإنك أيها الملك ذو فضيلة في الرأي،
وتصرف في العلم، ويشجعني ذلك على أن أخبرك بما تكره، واثقاً بمعرفتك نصيحتي لك
وإيثاري إياك على نفسي.
وقال عمرو بن عتبة للوليد،
حين تغير الناس عليه: يا أمير المؤمنين، إنه ينطقني الأنس بك، وتسكتني الهيبة لك،
وأراك تأمن أشياء أخافها عليك؛ أفأسكت مطيعاً أم أقول مشفقاً؟ قال: كل مقبول منك،
والله فينا علم غيب نحن صائرون إليه. فقتل بعد ذلك بأيام.
وقال خالد بن صفوان:
من صحب السلطان بالصحة والنصيحة كان أكثر عدواً ممن صحبه بالغش والخيانة؛ لأنه
يجتمع على الناصح عدو السلطان وصديقه بالعداوة والحسد، فصديق السلطان ينافسه في
مرتبته، وعدوه يبغضه لنصيحته.
ما يصحب به
السلطانقال ابن المقفع: ينبغي لمن خدم السلطان أن لا يغتر به إذا رضي، ولا يتغير
له إذا سخط، ولا يستقل ما حمله، ولا يلحف في مسألته.
وقال أيضاً: لا تكن
صحبتك للسلطان إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم؛ فإن كنت حافظاً إذا أولوك،
حذراً إذا قربوك، أميناً إذا ائتمنوك، ذليلاً إذا صرموك، راضياً إذا أسخطوك؛
تعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وتؤدبهم وكأنك تتأدب بهم، وتشكرهم ولا تكلفهم الشكر،
وإلا فالبعد منهم كل البعد، والحذر منهم كل الحذر.
وقال المأمون: الملوك
تتحمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال ابن المقفع: إذا
نزلت من السلطان بمنزلة الثقة فلا تلزم الدعاء له في كل كلمة، فإن ذلك يوجب الوحشة
ويلزم الانقباض.
وقال الأصمعي: توصلت
بالملح، وأدركت بالغريب.
وقال أبو حازم الأعرج
لسليمان بن عبد الملك: إنما السلطان سوق، فما نفق عند حمل إليه.
ولما قدم معاوية من
الشام - وكان عمر قد استعمله عليها - دخل على أمه هند، فقالت له: يا بني، إنه قلما
ولدت حرة مثلك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهته. ثم
دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني، إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقونا
وتأخرنا عنهم، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تأخرنا. فصرنا أتباعاً وصاروا قادة. وقد
قلدوك جسيماً من أمرهم، فلا تخالفن أمرهم، فإنك تجري إلى أمد لم تبلغه ولو قد
بلغته لنوفست فيه.
قال معاوية: فعجبت من
اتفاقهما في المعنى على اختلافهما في اللفظ.
وقال أبرويز لصاحب
بيت المال: إني لا أعذرك في خيانة درهم ولا أحمدك على صيانة ألف ألف: لأنك إنما
تحقن بذلك دمك وتقيم أمانتك، فإن خنت قليلاً خنت كثيراً. واحترس من خصلتين:
النقصان فيما تأخذ، والزيادة فيما تعطى. واعلم أني لم أجعلك على ذخائر الملك
وعمارة المملكة والقوة على العدو، إلا وأنت عندي آمن من موضعه الذي هو فيه،
وخواتمه التي هي عليه، فحقق ظني باختياري إياك أحقق ظنك في رجائك إياي: ولا تتعوض
بخير شراً، ولا برفعة ضعة، ولا بسلامة ندامة، ولا بأمانة خيانة.
ولما ولي يزيد بن
معاوية سلم بن زياد خراسان، قال له: إن أباك كفى أخاه عظيماً، وقد استكفيتك
صغيراً، فلا تتكلن على عذر مني، فقد اتكلت على كفاية منك. وإياك مني قبل أن أقول
إياي منك، فإن الظن إذا أخلف مني فيك أخلف منك في. وأنت في أدنى حظك فاطلب أقصاه،
وقد أتعبك أبوك فلا تريحن نفسك.
وقال يزيد: حدثني
أبي: أن عمر بن الخطاب لما قدم الشام قدم على حمار، ومعه عبد الرحمن بن عوف على
حمار، فتلقاهما معاوية في موكب ثقيل، فجاوز عمر معاوية حتى اخبر به، فرجع إليه. فلما قرب
منه نزل إليه، فأعرض عنه، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً، فقال له عبد الرحمن بن عوف:
أتعبت الرجل. فأقبل عليه عمر، فقال: يا معاوية، أنت صاحب الموكل آنفاً مع ما بلغني
من وقوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ولم ذاك؟ قال: لأنا
في بلاد لا نمتنع فيها من جواسيس العدو، ولا بد لهم مما يرهنهم من هيبة السلطان،
فإن أمرتني بذلك أقمت عليه، وإن نهيتني عنه انتهيت. فقال لئن كان الذي تقول حقاً
فإنه رأي أريب، وإن كان باطلاً إنها خدعة أديب، وما آمرك به ولا أنهاك عنه. فقال
عبد الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر هذا الفتى عما أوردته فيه! فقال: لحسن مصادره و
موارده جشمناه ما جشمناه.
وقال الربيع بن زياد
الحارثي: كنت عاملاً لأبي موسى الأشعري على البحرين، فكتب إليه عمر بن الخطاب رضي
الله عنه يأمره بالقدوم عليه هو وعماله، وأن يستخلفوا من هو من ثقاتهم حتى يرجعوا.
فلما قدمنا أتيت يرفأ، فقلت: يا يرفأ، أني سائل مسترشد، أخبرني أي الهيئات أحب إلى
أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله؟ فأومأ إلى الخشونة. فاتخذت خفين مطارقين، ولبست
جبة صوف، ولثت رأسي بعمامة دكناء. ثم دخلنا على عمر، فصفنا بين يديه وصعد فينا
نظره وصوب، فلم تأخذ عينه أحداً غيري، فدعاني فقال: من أنت؟ قلت: الربيع
بن زياد الحارثي. قال: وما تتولى من أعمالنا؟ قلت: البحرين. قال: فكم
ترزق؟ قلت: خمسة دراهم في كل يوم، قال كثير؛ فما تصنع بها؟ قلت: أتقوت منها شيئاً
وأعود بباقيها على أقارب لي، فما فضل منها فعلى فقراء المسلمين. فقال: لا
بأس، ارجع إلى موضعك. فرجعت إلى موضعي من الصف. ثم صعد فينا وصوب، فلم تقع عينه
إلا علي، فدعاني فقال: كم سنوك؟ فقلت: ثلاث وأربعون سنة. قال: الآن حين استحكمت.
ثم دعا بالطعام، وأصحابي حديثو عهد بلين العين، وقد تجوعت له، فأتى بخبز يابس
وأكسار بعير. فجعل أصحابي يعافون ذلك، وجعلت آكل فأجيد الأكل فنظرت فإذا به يلحظني
من بينهم. ثم سبقت مني كلمة تمنيت أن سخت في الأرض ولم ألفظ بها، فقلت: يا أمير
المؤمنين، إن الناس يحتاجون إلى صلاحك، فلو عمدت إلى طعام هو ألين من هذا؟ فزجرني
وقال: كيف قلت؟ قلت: أقول: لو نظرت يا أمير المؤمنين إلى قوتك من الطحين فيخبز لك
قبل إرادتك إياه بيوم، ويطبخ لكم اللحم كذلك، فتؤتى بالخبر ليناً وباللحم غريضاً.
فسكن عن غربه، وقال: هذا قصدت؟ قلت: نعم. قال: يا ربيع، إنا لو نشاء لملأنا هذه
الرحاب من صلائق وسبائك وصناب، ولكني رأيت الله تعالى نعى على قوم شهواتهم، فقال:
" أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها " ثم أمر أبا موسى أن يقرني على عملي وأن يستبدل بأصحابي.
قوله: لثتها على
رأسي؛ يقال: رجل ألوث، إذا كان شديداً، وذلك من اللوث، ورجل ألوث، إذا كان أهوج،
وهو مأخوذ من اللوثة؛ يقال: لثت عمامة على رأسي؛ يقول: أدرتها بعضها على بعض على
غير استواء.
وقول: صلائق، هو شيء
يعمل من اللحم، فمنها ما يطبخ ومنها ما يشوى. يقال: صلقت اللحم، إذا طبخته؛
وصلقته، إذا شويته.
وقوله: غريضاً، يقول:
طرياً؛ يقال: لحم غريض، تراد به: الطراءة. قال العتابي:
إذا ما فاتني لحم
غريض ... ضربت ذراع بكري فاشتويت
وقوله: سبائك، يريد
الحوارى من الخبز، وذلك أنه يسبك فيؤخذ خالصه، والعرب تسمي الرقاق: السبائك.
الصناب: صباغ يتخذ من
الزبيب والخردل؛ ومنها قيل للفرس: صنابي، إذا كان ذلك اللون.
قال جرير:
تكلفني معيشة آل زيد
... ومن لي بالمرقق والصناب
وقوله: أكسار بعير،
فالكسر والعصل والجزل: العظم يفصل ما عليه من اللحم.
وقول: نعى على قوم
شهواتهم، أي عابهم بها ووبخهم.
ومما يصحب به
السلطان: أن لا يسلم على قادم بين يديه، وإنما استن ذلك زياد، وذلك أن عبد الله بن
عباس قدم على معاوية وعنده زياد، فرحب به معاوية وألطفه وقرب مجلس، ولم يكلمه زياد
شيئاً فابتدأه ابن عباس وقال: ما حالك أبا المغيرة؟ كأنك أردت أن تحدث بيننا وبينك
هجراً! قال: لا، ولكنه لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين؛ فقال له ابن عباس:
ما ترك الناس التحية بينهم بين يدي أمرائهم. فقال له معاوية: كف عنه يا بن عباس
فإنك لا تشاء أن تغلب إلا غلبت.
دخل أبو سلم على أبي
العباس وعنده المنصور فسلم على أبي العباس؛ فقال له: يا أبا مسلم، هذا أبو جعفر!
فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا موضع لا يقضى فيه إلا حقك.
أبو حاتم عن العتبي
قال: قدم معاوية من الشام، وعمرو بن العاص من مصر، على عمر بن الخطاب رضي الله
عنه، فأقعدهما بين يديه، وجعل يسائلهما عن أعمالهما، إلى أن اعترض عمرو في حديث
معاوية، فقال له معاوية: أعملي تعيب وإلي تقصد؟ هلم تخبر أمير المؤمنين عن عملي وأخبره
عن عملك. قال عمرو: فعلمت أنه بعملي أبصر مني بعمله، وأن عمر لا يدع أول هذا
الحديث حتى يصير إلى آخره، فأردت أن أفعل شيئاً أشغل به عمر عن ذلك، فرفعت يدي فلطمت
معاوية. فقال عمر: تالله ما رأيت رجلاً أسفه منك، قم يا معاوية فاقتص منه. قال
معاوية: إن أبي أمرني أن لا أقضي أمراً دونه. فأرسل عمر إلى أبي سفيان، فلما أتاه ألقى له وسادة، وقال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم، إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه. ثم قص عليه ما جرى بين عمرو
ومعاوية. فقال: لهذا بعثت إلي! أخوه وابنه عمه، وقد أتى غير كبير، وقد وهبت ذلك
له: وقالوا: ينبغي لمن صحب السلطان أن لا يكتم عنه نصيحة وإن استثقلها وليكن كلامه
له كلام رفق لا كلام خرق، حتى يخبره بعيبه من غير أن يواجهه بذلك، ولكن يضرب له
الأمثال ويخبره بعيب غيره ليعرف عيب نفسه.
وقالوا: من تعرض
للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه فشبهوا السلطان في ذلك بالريح الشديدة التي لا
تضر بما لان لها وتمايل معها من الحشيش والشجر، وما استهدف لها قصمته. قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما
عصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
وقالوا: إذا زادك
السلطان إكراما فزده إعظاما، وإذا جعلك عبد فاجعله ربا.
وقال شبيب بن شيبة:
ينبغي لمن ساير خليفة أن يكون بالموضع الذي أراد الخليفة أن يسأله عن شيء لم يحتج
إلى أن يلتفت، ويكون من ناحية إذا التفت لم تستقبله الشمس.
وقرأت في كتاب للهند:
أنه أهدى لملك ثياب وحلى، فدعا بامرأتين له، وخير أحظاهما عنده بين اللباس والحلى،
وكان وزيره حاضرا، فنظرت المرأة إليه كالمستشير له. فغمزها باللباس تغضينا بعينه،
فلحظه الملك، فاختارت الحلية لئلا يفطن للغمزة، وصار اللباس للأخرى. فأقام الوزير
أربعين سنة كاسرا عينه لئلا تقر في نفس الملك، وليظن أنها عادة وخلقة.
اختيار السلطان لأهل
عملهلما وجه عمر بن هبيرة مسلم بن سعيد إلى خراسان، قال له: أوصيك
بثلاثة: حاجبك، فإنه وجهك الذي به تلقى الناس، إن أحسن فأنت المحسن، وإن أساء فأنت
المسيء، وصاحب شرطتك، فإنه سوطك وسيفك، حيث وضعتهما فقدر ضعتهما. عمال القدر. قال:
وما عمال القدر؟ قال أن نختار من كل كورة رجالا لعملك فإن أصابوا فهو الذي أردت،
وإن أخطأوا فهم المخطئون وأنت المصيب.
وكتب عمر بن عبد
العزيز رحمه الله إلى عدي بن أرطأة: أن أجمع بين إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة
الجوشني، فول القضاء أنفذهما فجمع بينهما، فقال له إياس: أيها الرجل، سل عني وعن
القاسم فقيهي البصرة: الحسن البصري وابن سيرين - وكان القاسم يأتي الحسن وابن
سيرين، وكان إياس لا يأتيهما - فعلم القاسم أنه إن سألهما عنه أشارا به. فقال
القاسم: لا تسأل عني ولا عنه، فوالله الذي لا إله إلا هو، إن إياس بن معاوية أفقه
مني وأعلم بالقضاء، فإن كنت كاذبا فما ينبغي أن توليني، وإن كنت صادقاً، فينبغي لك
أن تقبل قولي، فقال له إياس: إنك جئت برجل فوقفته على شفير جهنم فنجى نفسه منها
بيمين كاذبة، يستغفر الله منها وينجو مما يخاف. فقال له عدي: أما إذا فهمتها فأنت لها،
فاستقضاه.
قال عدي بن أرطأة
لإياس بن معاوية دلني على قوم من القراء أولهم فقال له: القراء ضربان: ضرب يعملون
للآخرة ولا يعملون لك، وضرب يعملون للدنيا، فما ظنك بهم إذا أمكنتهم منها؟ ولكن
عليك بأهل البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولهم.
أيوب السختياني، قال:
طلب أبو قلابة لقضاء البصرة، فهرب إلى الشام، فأقام حينا ثم رجع. قال أيوب: فقلت له:
لو وليت القضاء وعدلت كان لك أجران. قال: يا أيوب، إذا وقع السابح في البحر كم عسى
أن يسبح! وقال عبد الملك بن مروان لجلسائه: دلوني على رجل أستعمله. فقال له روح بن
زنباع: أدلك يا أمير المؤمنين على رجل إن دعوتموه أجابكم، وإن تركتموه لم يأتكم؛
ليس بالملحف طلبا، ولا بالممعن هربا: عامر الشعبي. فولاه قضاء البصرة.
وسأل عمر بن عبد
العزيز رحمه الله أبا مجلز عن رجل يوليه خراسان. فقال له: ما تقول في فلان؟ قال:
مصنوع له وليس بصاحبها. قال: ففلان؟ قال: سريع الغضب بعيد الرضا، يسأل الكثير
ويمنع القليل، و يحسد أمه، وينافس أباه، ويحقر مولاه. قال: ففلان؟ قال: يكافئ الأكفاء،
ويعادي الأعداء، ويفعل ما يشاء. قال: ما في واحد من هؤلاء خير.
وأراد عمر بن عبد الخطاب
رضي الله عنه أن يستعمل رجلا. فبدر الرجل فطلب منه العمل. فقال عمر: والله لقد كنت
أردتك لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وطلب رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يستعمله، فقال له: إنا لا نستعمل على عملنا من يريده.
وطلب العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم إلى النبي ولاية. فقال: يا عم، نفس تحييها، خير من ولاية لا
تحصيها.
وقال أبو بكر الصديق
رضي الله عنه لخالد بن الوليد: فر من الشرف يتبعك الشرف، واحرص على الموت توهب لك
الحياة.
وتقول النصارى: لا
يختار للجثلقة إلا زاهد غير طالب لها.
وقال إياس بن معاوية:
أرسل إلى إلي عمر بن هبيرة فأتيته، فساكتني فسكت، فلما أطلت قال: هيه. قلت: سل ما
بدا لك. قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال أتقرض الفرائض؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من
أيام العرب شيئاً؟ قلت: نعم. قال: أتعرف من أيام العجم شيئاً؟ قلت: أنا بها أعرف.
قال: إني أريد أن أستعين بك على عملي. قلت إن خلالاً ثلاثاً لا أصلح معها لليل.
قال: و ما هي؟ قلت: دميم كما ترى، وأنا حديد، وأنا عي. قال: أما دمامتك فإني لا
أريد أن أحاسن الناس بك، وأما العي فإني أراك تعرب عن نفسك، وأما الحدة فإن السوط
يقومك. قم قد وليتك. قال: فولاني وأعطاني مائة درهم. فهي أول مال تمولته.
وقال الأصمعي: ولي
سليمان بن حبيب المحاربي قضاء دمشق لعبد الملك والوليد وسليمان وعمر بن عبد العزيز
رحمه الله ويزيد وهشام.
وأراد عمر بن عبد
العزيز رحمه الله مكحولاً على القضاء، فأبى عليه. قال له: وما يمنعك؟ قال مكحول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقض بين الناس إلا ذو شرف في قومه، وأنا
مولى.
ولما قدم رجال من
الكوفة على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يشكون سعد بن أبي وقاص، قال: من يعذرني من
أهل الكوفة؟ إن وليت عليهم التقي ضعفوه، وإن وليت عليهم القوي فجروه. فقال له
المغيرة: يا أمير المؤمنين، إن التقي الضعيف له تقواه وعليك ضعفه. والقوي الفاجر
لك قوته وعليه فجوره. قال: صدقت، فأنت القوي الفاجر، فاخرج إليهم. فخرج إليهم، فلم
يزل عليهم أيام عمر وصدرا من أيام عثمان وأيام معاوية حتى مات المغيرة.
حسن السياسة وإقامة
المملكةكتب الوليد بن عبد الملك إلى الحجاج بن يوسف يأمره أن يكتب إليه بسيرته.
فكتب إليه: إني أيقظت رأيي وأنمت هواي، فأدنيت السيد المطاع في قومه، ووليت الحرب
الحازم في أمره، وقلدت الخراج الموفر لأمانته. وقسمت لكل خصم من نفسي قسماً، أعطيه
حظاً من لطيف عنايتي ونظري. وصرفت السيف إلى النطف المسيء، والثواب إلى المحسن
البريء، فخاف المريب صولة العقاب، وتمسك المحسن بحظه من الثواب.
وقال أردشير لابنه:
يا بني: إن الملك والعدل أخوان لا غنى بأحدهما عن الآخر، فالملك أس والعدل حارس.
والبناء ما لم يكن له أس فمهدوم، والملك ما لم يكن له حارس فضائع. يا بني، اجعل
حديثك مع أهل المراتب، وعطيتك لأهل الجهاد، وبشرك لأهل الدين، وسرك لمن عناه ما
عناك من ذوي العقول.
وقالت الحكماء: مما يجب
على السلطان أن يلتزمه العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه، وفي ضميره لإقامة
أمر دينه. فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان ومدار السياسة كلها على العدل والإنصاف،
لا يقوم سلطان لأهل الكفر والإيمان إلا بهما، ولا يدور إلا عليهما، مع ترتيب
الأمور مراتبها وإنزالها منازلها. وينبغي لمن كان سلطاناً أن يقيم على نفسه حجة
الرعية، ومن كان رعية أن يقيم على نفسه حجة السلطان. وليكن حكمه على غيره مثل حكمه
على نفسه. وإنما يعرف حقوق الأشياء من يعرف مبلغ حدودها ومواقع أقدارها. ولا يكون
أحد سلطان حتى يكون قبل ذلك رعية.
وقال عبد الملك بن
مروان لبنيه: كلكم يترشح لهذا الأمر، ولا يصلح له منكم إلا من كان له سيف مسلول،
ومال مبذول، وعدل تطمئن إليه القلوب.
ووصف بعض الملوك
سياسته فقال: لم أهزل في وعد ولا وعيد، ولا أمر ولا نهي، ولا عاقبت للغضب،
واستكفيت، وأثبت على الغناء لا للهوى، وأودعت القلوب هيبة لم يشبها مقت، ووداً لم
تشبه جرأة، وعممت بالقوت، ومنعت الفضول.
وذكر أعرابي أمير
فقال: كان إذا ولي لم يطابق بين جفونه، وأرسل العيون على عيونه، فهو غائب عنهم
شاهد معهم، فالمحسن راج والمسيء خائف.
وقال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه: لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف، القوي من غير عنف.
وقال الوليد بن عبد
الملك لأبيه: يا أبت ما السياسة؟ قال: هيبة الخاصة مع صدق مودتها، واقتياد قلوب
العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع.
وكتب أرسطوطاليس إلى
الإسكندر: أن املك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها، فإن طلبك ذلك منها
بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك. وأعلم أن تقول قدرت على أن تفعل، فاجتهد ألا
تقول تسلم من أن تفعل.
وقال أردشير لأصحابه:
إني إنما أملك الأجساد لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالرضا، وأفحص عن الأعمال لا عن
السرائر.
وكان عمرو بن العاص
يقول في معاوية: اتقوا أكرم قريش وابن كريمها، من يضحك في الغضب، ولا ينام إلا على
الرضا، ويتناول ما فوقه من تحته.
وقال معاوية: إني لا
أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس
شعرة ما انقطعت أبداً. فقيل له: وكيف ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، وإذا
أرخوها مددتها.
وقال عمرو بن العاص
رأيت معاوية في بعض أيامنا بصفين خرج في عدة لم أره خرج في مثلها، فوقف في قلب
عسكره، فجعل يلحظ ميمنته فيرى فيها الخلل، فيبدر إليه من يسده؛ ثم يفعل ذلك
بميسرته، فتغنيه اللحظة على الإشارة. فدخله زهو مما رأى، فقال: يا ابن العاص، كيف ترى
هؤلاء وما هم عليه؟ فقلت: والله يا أمير المؤمنين، لقد رأيت من يسوس الناس بالدين
والدنيا، فما رأيت أحد تأتى له من طاعة رعيته ما تأتى لك من هؤلاء. فقال: أفتدري
متى يفسد هذا؟ وفي كم ينتقض جميعه؟ قلت: لا. قال: في يوم واحد. قال: فأكثرت
التعجب. قال: إي والله، وفي بعض يوم، قلت: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا
كذبوا في الوعد والوعيد، وأعطوا على الهوى لا على الغناء، فسد جميع ما ترى.
وكتب عبد الله بن
عباس إلى الحسن بن علي إذ ولاه الناس أمرهم بعد علي رضي الله عنه: أن شمر للحرب،
وجاهد عدوك، واشتر من الظنين دينه بما لا يثلم دينك، وول أهل البيوتات تستصلح بهم عشائرهم.
وقالت الحكماء: أسوس
الناس لرعيته، من قاد أبدانها بقلوبها وقلوبها بخواطرها، وخواطرها بأسبابها من
الرغبة والرهبة.
وقال أبرويز لابنه
شيرويه: لا توسعن على جندك سعة يستغنون بها عنك، ولا تضيقن عليهم ضيقاً يضجون به
منه، ولكن أعطهم عطاء قصداً، وامنعهم منعاً جميلاً، وابسط لهم في الرجاء، ولا تبسط
لهم في العطاء.
ونحو هذا قول المنصور
لبعض قواده: صدق الذي قال: أجع كلبك يتبعك، وسمنه يأكلك. فقال له أبو العباس
الطوسي: أما تخشى يا أمير المؤمنين إن أجعته أن يلوح له غيرك برغيف فيتبعه ويدعك.
وكتب أبرويز إلى ابنه
شيرويه من الحبس: اعلم أن كلمة منك تسفك دما، وأخرى منك تحقن دماً، وأن سخطك سيف
مسلول على من سخطت عليه، وأن رضاك بركة مستفيضة على من رضيت عنه، وأن نفاذ أمرك مع
ظهور كلامك. فاحترس في غضبك من قولك أن يخطئ، ومن لونك أن يتغير، ومن جسدك أن يخف؛
فإن الملوك تعاقب حزماً وتعفو حلماً. واعلم أنك تجل من الغضب، وأن ملكك يصغر عن رضاك،
فقدر لسخطك من العقاب، كما تقدر لرضاك من الثواب.
وخطب سعيد بن سويد
بحمص، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس إن للإسلام حائطاً منيعا وبابا
وثيقاً، فحائط الإسلام الحق وبابه العدل. ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد
السلطان. وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط، ولكن قضاء بالحق
وأخذاً بالعدل.
وقال عبد الله بن
الحكم: إنه قد يضطغن على السلطان رجلان: رجل أحسن في محسنين فأثيبوا وحرم، ورجل
أساء في مسيئين فعوقب وعفي عنهم. فينبغي للسلطان أن يحترس منهما.
وفي كتاب التاج: أن أبرويز
كتب لابنه شيرويه يوصيه بالرعية: و ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة
فرفعته، أو ذا شرف كان مهملاً فاصطنعته. ولا تجعله امرأً أصبته بعقوبة فاتضع لها،
ولا امرأً أطاعك بعد ما أذللته، ولا أحداً ممن يقع في قلبك أن إزالة سلطانك أحب
إليه من ثبوته. وإياك أن تستعمله ضرعاً غمراً كثيراً إعجابه بنفسه، قليلاً تجربته
في غيره؛ ولا كبيراً مدبراً قد أخذ الدهر من عقله، كما أخذت السن من جسمه.
بسط المعدلة ورد
المظالمالشيباني قال: حدثنا محمد بن زكريا عن عباس بن الفضل الهاشمي عن قحطبة بن
حميد قال: إني لواقف على رأس المأمون يوماً وقد جلس للمظالم، فكان آخر من تقدم
إليه - وقد هم بالقيام - امرأة عليها هيئة السفر، وعليها ثياب رثة، فوقفت بين
يديه فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فنظر المأمون إلى
يحيى بن أكثم. فقال لها يحيى: وعليك السلام يا أمة الله، تكلمي بحاجتك. فقالت:
يا خير منتصف يهدى له
الرشد ... ويا إماماً به قد أشرق البلد
تشكو إليك عميد القوم
أرملةعدى عليها فلم يترك لها سبد
وابتز مني ضياعي بعد
منعتها ... ظلما وفرق مني الأهل والولد
فأطرق المأمون حيناً،
ثم رفع رأسه إليها وهو يقول:
في دون ما قلت زال
الصبر والجلد ... عني وأقرح مني القلب والكبد
هذا أذان صلاة العصر
فانصرفي ... وأحضري الخصم في اليوم الذي أعد
فالمجلس السبت إن يقض
الجلوس لناننصفك منه وإلا المجلس الأحد
قال: فلما كان
يوم الأحد جلس، فكان أول من تقدم إليه تلك المرأة، فقالت: السلام عليك يا أمير
المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك السلام ثم قال: أين الخصم؟ فقالت: الواقف على رأسك يا أمير المؤمنين - وأومأت إلى
العباس ابنه - فقال: يا أحمد بن أبي خالد، خذ بيده فأجلسه معها مجلس الخصوم. فجعل كلامها
يعلو كلام العباس. فقال لها أحمد بن أبي خالد: يا أمة الله، إنك بين يدي أمير
المؤمنين، وإنك تكلمين الأمير، فاخفضي من صوتك. فقال المأمون: دعها يا
أحمد، فإن الحق أنطقها والباطل أخرسه. ثم قضى لها برد ضيعتها إليها، وظلم العباس
بظلمه لها، وأمر بالكتاب لها إلى العامل الذي ببلدها أن يوغر لها ضيعتها ويحسن
معاونتها، وأمر لها بنفقة.
العتبي قال: إني لقاعد
عند قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيم ابن محمد بن طلحة وصاحب حرس هشام حتى
قعدا بين يديه، فقال: إن أمير المؤمنين جراني في خصومة بينه وبين إبراهيم. فقال
القاضي شاهديك على الجراية. فقال: أتراني قلت على أمير المؤمنين ما لم يقل، وليس
بيني وبينه إلا هذه السترة! قال: لا، ولكنه لا يثبت الحق لك ولا عليك إلا ببينة.
قال: فقام الحرسي فدخل على هشام فأخبره. فلم نلبث أن تقعقعت الأبواب وخرج الحرسي، وقال: هذا أمير المؤمنين.
وخرج هشام، فلما نظر إليه القاضي قام، فأشار إليه وبسط له مصلى، فقعد عليه وإبراهيم
بين يديه. وكنا حيث نسمع بعض كلامهم ويخفى عنا بعضه قال: فتكلما وأحضرا البينة،
فقضى القاضي على هشام بن عبد الملك. فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخرق فقال:
الحمد لله الذي أبان للناس ظلمك. فقال له هشام: هممت أن أضربك ضربة ينتثر منها
لحمك عن عظمك. قال: أما والله لئن فعلت لتفعلنه بشيخ كبير السن قريب القرابة واجب
الحق. فقال هشام: يا إبراهيم، استرها علي. قال: لا ستر الله علي إذا ذنبي يوم
القيامة إن سترتها. قال: فإني معطيك عليها مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتها عليه
أيام حياته ثمناً لما أخذت منه، وأذعتها بعد مماته تزيينا له.
قال: وورد على الحجاج
بن يوسف سليك بن سلكة، فقال: أصلح الله الأمير، أرعني سمعك، واغضض عني بصرك، واكفف
عني غربك. فإن سمعت خطأ أو زللا فدونك والعقوبة. قال: قل. فقال: عصى عاص من عرض
العشيرة فحلق على اسمي، وهدم منزلي وحرمت عطائي. قال: هيهات! أو ما سمعت قول
الشاعر:
جانيك من يجني عليك
وقد ... تعدي الصحاح مبارك الجرب
ولرب مأخوذ بذنب
عشيرة ... ونجا المقارف صاحب الذنب
فقال: أصلح
الله الأمير، إني سمعت الله عز وجل يقول غير هذا. قال: وما ذاك؟ قال: قال الله
تعالى: " يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك
من المحسنين. قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون
" . قال الحجاج: علي بيزيد بن أبي مسلم. فمثل بين يديه. فقال: افكك لهذا عن
اسمه، واصكك له بعطائه، وابن له منزل، ومر مناديا ينادي: صدق الله وكذب الشاعر.
وقال معاوية: إني
لأستحي أن أظلم من لا يجد علي ناصراً إلا الله.
وكتب إلى عمر بن عبد
العزيز رحمه الله بعض عماله يستأذنه في تحصين مدينته. فكتب إليه: حصنها بالعدل،
ونق طرقها من الظلم.
وقال المهدي للربيع
بن أبي الجهم، وهو والي أرض فارس: يا ربيع، آثر الحق، والزم القصد، وابسط العدل،
وارفق بالرعية، واعلم أن أعدل الناس من أنصف من نفسه، وأظلمهم من ظلم الناس لغيره.
وقال ابن أبي الزناد
عن هشام بن عروة قال: استعمل ابن عامر عمرو بن أصبغ على الأهواز، فلما عزله، قال له: ما جئت
به؟ قال له: ما معي إلا مائة درهم وأثواب. قال: كيف ذلك؟ قال: أرسلتني إلى بلد أهله
رجلان: رجل مسلم له ما لي وعليه ما علي، ورجل له ذمة الله ورسوله، فوالله ما دريت
أين أضع يدي. قال: فأعطاه عشرين ألفاً.
وقال جعفر بن يحيى:
الخراج عمود الملك، وما استغزر بمثل العدل، وما استغزر بمثل الظلم.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الظلم ظلمات يوم القيامة.
صلاح الرعية بصلاح
الإمامقالت الحكماء: الناس تبع لإمامهم في الخير والشر.
وقال أبو حازم
الأعرج: الإمام سوق، فما نفق عنده جلب إليه.
ولما أتي عمر بن
الخطاب رضي الله عنه بتاج كسرى وسواريه، قال: إن الذي أدى هذا لأمين! قال له رجل:
يا أمير المؤمنين، أنت أمين الله يؤدون إليك ما أديت إلى الله تعالى، فإذا رتعت
رتعوا.
ومن أمثالهم في هذا
قولهم: إذا صلحت العين صلحت سواقيها.
الأصمعي قال: كان
يقال: صنفان إذا صلحا صلح الناس: الأمراء، والفقهاء.
واطلع مروان بن الحكم
على ضيعة له بالغوطة فأنكر شيئاً، فقال لوكيله: ويحك! إن لأظنك تخونني. قال: أفتظن
ذلك ولا تستيقنه؟ قال: وتفعله؟ قال: نعم، والله إني لأخونك، وإنك لتخون أمير
المؤمنين، وإن أمير المؤمنين ليخون الله، فلعن الله شر الثلاثة.
قولهم في الملك
وجلسائه ووزرائه
قالت الحكماء لا ينفع
الملك إلا بوزرائه وأعوانه، ولا ينفع الوزراء والأعوان إلا بالمودة والنصيحة، ولا
تنفع المودة والنصيحة إلا مع الرأي والعفاف. ثم على الملوك بعد ذلك ألا يتركوا
محسناً ولا مسيئاً ما دون جزاء؛ فإنهم إذا تركوا ذلك تهاون المحسن، واجترأ المسيء،
وفسد الأمر، وبطل العمل.
وقال الأحنف بن قيس.
من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء، ومن غص بالماء فلا مساغ له، ومن خانه ثقاته فقد
أتي من مأمنه.
وقال العباس بن
الأحنف:
قلبي إلى ما ضرني
داعي ... يكثر أحزاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي
إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال آخر:
كنت من كربتي أفر
إليهم ... فهم كربتي فأين الفرار
وأول من سبق إلى هذا
المعنى عدي بن زيد في قوله للنعمان بن المنذر:
لو بغير الماء حلقي
شرق ... كنت كالغصان بالماء اعتصاري
وقال آخر:
إلى الماء يسعى من
يغص بريقه ... فقل أين يسعى من يغص بماء
وقال عمرو بن العاص:
لا سلطان إلا بالرجال، ولا رجال إلا بمال، ولا مال إلا بعمارة، ولا عمارة إلا بعدل.
وقالوا: إنما السلطان
بأصحابه كالبحر بأمواجه.
وقالوا: ليس شيء
أضر بالسلطان من صاحب يحسن القول، ولا يحسن الفعل. و لا خير في القول إلا مع
الفعل، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الفقه إلا
مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع حسن النية، ولا في الحياة إلا مع الصحة.
وقالوا: إن السلطان
إذا كان صالحاً ووزراؤه وزراء سواء امتنع خيره من الناس، ولم ينتفع منه بمنفعة،
وشبهوا ذلك بالماء الصافي يكون فيه التمساح، فلا يستطيع أحد أن يدخله، وإن كان
محتاجا إليه.
صفة الإمام العادلكتب
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما ولي الخلافة إلى الحسن بن أبي الحسن البصري أن
يكتب إليه بصفة الإمام العادل، فكتب إليه الحسن رحمه الله: اعلم يا أمير المؤمنين،
أن الله جعل الإمام العادل قوام كل مائل، وقصد كل جائر، وصلاح كل فاسد، وقوة كل
ضعيف، ونصفة كل مظلوم، ومفزع كل ملهوف والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالراعي
الشفيق على إبله، الرفيق بها، الذي يرتاد لها أطيب المراعي، ويذودها عن مراتع
الهلكة، ويحميها من السباع، ويكنها من أذى الحر والقر. والإمام العدل يا أمير المؤمنين
كالأب الحاني على ولده، يسعى لهم صغاراً، ويعلمهم كباراً؛ يكتسب لهم في حياته،
ويدخر لهم بعد مماته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين كالأم الشفيقة البرة الرفيقة
بولدها، حملته كرها، ووضعته كرها، وربته طفلاً تسهر بسهره، وتسكن بسكونه، ترضعه
تارة وتفطمه أخرى، وتفرح بعافيته، وتغتم بشكايته. والإمام العدل يا أمير المؤمنين
وصي اليتامى، وخازن المساكين، يربي صغيرهم، ويمون كبيرهم. والإمام العدل يا أمير
المؤمنين كالقلب بين الجوارح، تصلح الجوارح بصلاحه، وتفسد بفساده والإمام العدل يا
أمير المؤمنين هو القائم بين الله وبين عباده، يسمع كلام الله ويسمعهم، وينظر إلى
الله ويريهم، وينقاد إلى الله ويقودهم. فلا تكن يا أمير المؤمنين فيما ملكك الله
عز وجل كعبد ائتمنه سيده، واستحفظه ماله وعياله، فبدد المال وشرد العيال، فأفقر
أهله وفرق ماله.
واعلم يا أمير
المؤمنين أن الله أنزل الحدود ليزجر بها عن الخبائث والفواحش، فكيف إذا أتاها من
يليها! وأن الله أنزل القصاص حياة لعباده، فكيف إذا قتلهم من يقتص لهم! واذكر يا
أمير المؤمنين الموت وما بعده، وقلة أشياعك عنده، وأنصارك عليه، فتزود له ولما بعده
من الفزع الأكبر.
واعلم يا أمير
المؤمنين أن لك منزلاً غير منزلك الذي أنت فيه، يطول فيه ثواؤك، ويفارقك أحباؤك،
يسلمونك في قعره فريداً وحيداً. فتزود له ما يصحبك يوم يفر المرء من أخيه. وأمه
وأبيه وصاحبته وبنيه واذكر يا أمير المؤمنين " إذا بعثر ما في القبور. وحصل
ما في الصدور " ، فالأسرار ظاهرة، والكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا
أحصاها. فالآن يا أمير المؤمنين وأنت مهل قبل حلول الأجل، وانقطاع الأمل. لا
تحكم يا أمير المؤمنين في عباد الله بحكم الجاهلين، ولا تسلك بهم سبيل الظالمين، ولا
تسلط المستكبرين على المستضعفين؛ فإنهم لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، فتبوء
بأوزارك مع أوزارك، وتحمل أثقالك مع أثقالك. ولا يغرنك الذين يتنعمون بما فيه
بؤسك، ويأكلون الطيبات في دنياهم بإذهاب طيباتك في آخرتك. و لا تنظر إلى قدرتك
اليوم، ولكن انظر إلى قدرتك غداً وأنت مأسور في حبائل الموت، وموقوف بين يدي الله
في مجمع من الملائكة والنبيين والمرسلين، وقد عنت الوجوه للحي القيوم. إني يا أمير
المؤمنين، وإن لم أبلغ بعظتي ما بلغه أولو النهي من قبلي، فلم آلك شفقة ونصحاً،
فأنزل كتابي إليك كمداوي حبيبه يسقيه الأدوية الكريهة لما يرجو له في ذلك من
العافية والصحة. والسلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.
هيبة الإمام في
تواضعهقال ابن السماك لعيسى بن موسى: تواضعك في شرفك أكبر من شرفك.
وقال عبد الملك بن
مروان: إن أفضل الرجال من تواضع عن رفعة، وزهد عن قدرة، وأنصف عن قوة.
و ذكر عن النجاشي
أمير الحبشة: أنه أصبح يوما جالساً على الأرض والتاج على رأسه، فأعظم ذلك أساقفته،
فقال لهم: إني وجدت فيما أنزل الله تعالى على المسيح عليه السلام، يقول له: "
إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع لها أتممتها عليه " . وإنى ولد لي الليلة
غلام فتواضعت لذلك شكراً لله تعالى.
وقال ابن قتيبة: لم
يقل في الهيبة مع التواضع بيت أبدع من قوال الشاعر في بعض خلفاء بني أمية:
يغضي حياء ويغضى من
مهابته ... فما يكلم إلا حين يبتسم
وأحسن منه عندي قول
الآخر.
فتى زاده عز المهابة
ذلة ... فكل عزيز عنده متواضع
وقال أبو العتاهية:
يا من تشرف بالدنيا
وطينتها ... ليس التشرف رفع الطين بالطين
إذا أردت شريف الناس
كلهم ... فانظر إلى ملك في زي مسكين
ذاك الذي عظمت في
الله نعمته ... وذاك يصلح للدنيا وللدين
وقال الحسن بن هانئ
في هيبة السلطان مع محبة الرعية:
إمام عليه هيبة ومحبة
... ألا حبذا ذاك المهيب المحبب
وقال آخر في الهيبة،
وإن لم تكن في طريق السلطان:
بنفس من لو مر برد
بنانه ... على كبدي كانت شفاء أنامله
ومن هابني في كل شيء
وهبته ... فلا هو يعطيني ولا أنا سائله
ولابن هرمة في
المنصور:
له لحظات عن حفافي
سريره ... إذا كرها فيها عقاب ونائل
كريم له وجهان وجه
لدى الرضا ... أسيل ووجه في الكريهة باسل
فأم الذي آمنت آمنة
الردى ... وأم الذي أوعدت بالثكل ثاكل
وليس بمعطى العفو من
غير قدرة ... ويعفو إذا ما مكنته المقاتل
وقال آخر في الهيبة:
أهاشم يا فتى دين
ودنيا ... ومن هوى في اللباب من اللباب
أهابك أن أبوح بذات
نفسي ... وتركي للعتاب من العتاب
وقال أشجع بن عمرو في
هيبة السلطان:
منعت مهابتك النفوس
حديثها ... بالشيء تكرهه وإن لم تعلم
ومن الولاة مفخم لا
يتقى ... والسيف تقطر شفرتاه من الدم
وقال أيضا لهارون
الرشيد:
وعلى عدوك يا ابن عم
محمد ... رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعته وإذا
غفا ... سلت عليه سيوفك الأحلام
وقال الحسن بن هانئ
في الهيبة فأفرط:
ملك تصور في القلوب
مثاله ... فكأنه لم يخل منه مكان
ما تنطوي عنه القلوب
بفجرة ... إلا يكلمه بها اللحظان
حتى الذي في الرحم لم
يك صورة ... لفؤاده من خوفه خفقان
فمجاز هذا البيت في
إفراطه أن الرجل إذا خاف شيئاً وأحبه أحبه بسمعه وبصره وشعره وبشره ولحمه ودمه
وجميع أعضائه، فالنطف التي في الأصلاب داخلة في هذه الجملة. قال الشاعر:
ألا ترثي لمكتئب ...
يحبك لحمه ودمه
وقال المكفوف في آل
محمد عليه السلام:
أحبكم حباً على الله
أجره ... تضمنه الأحشاء واللحم والدم
وفي مثل هذا قول
الحسن بن هانئ:
وأخفت أهل الشرك حتى
إنه ... لتخافك النطف التي لم تخلق
فإذا خافه أهل الشرك
خافته النطف التي في أصلابهم، على المجاز الذي ذكرناه.
ومجاز آخر: أن النطف
التي أخذ الله عليها ميثاقها يجوز أن يضاف إليها ما هي لا بد فاعلة من قبل أن
تفعله، كما جاء في الأثر: إن الله عز وجل عرض على آدم ذريته، فقال: هؤلاء أهل
الجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، وهؤلاء أهل النار، وبعمل أهل النار يعملون.
ومن قولنا في الهيبة:
يا من يجرد من بصيرته
... تحت الحوادث صارم العزم
رعت العدو فما مثلت
له ... إلا تفزع منك في الحلم
أضحى لك التدبير
مطرداً ... مثل اطراد الفعل للاسم
رفع الحسود إليك
ناظره ... فرآك مطلعاً مع النجم
أبو حاتم سهل بن
محمد، قال: أنشدني العتبي للأخطل في معاوية:
تسمو العيون إلى إمام
عادل ... معطى المهابة نافع ضرار
ونرى عليه إذا العيون
لمحنه ... سيما الحليم وهيبة الجبار
حسن السيرة والرفق
بالرعيةقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم فيما أوصاه به من الرفق
بالرعية: " ولو كنت فظاً غليظ لانفضوا من حولك " .
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من الخير كله، ومن حرم حظه من الرفق
حرم حظه من الخير كله.
ولما استخلف عمر بن
عبد العزيز رحمه الله أرسل إلى سالم بن عبد الله ومحمد بن كعب، فقال لهما: أشيرا
علي. فقال له سالم: اجعل الناس أباً وأخاً وابناً، فبر أباك، واحفظ أخاك، وارحم
ابنك. وقال له محمد بن كعب: أحبب للناس ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك،
واعلم أنك لست أول خليفة.
وقال عبد الملك بن
عمر بن عبد العزيز لأبيه عمر: يا أبت؛ ما لك لا تنفذ في الأمور؟ فوالله لا أبالي
في الحق لو غلت بي وبك القدور. فقال له عمر: لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم
الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة
فيدعوه وتكون فتنة.
وكتب عمر بن عبد العزيز
إلى عدي بن أرطاة، أما بعد، فإن أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرة الخالق
عليك، واعلم أن ما لك عند الله مثل ما للرعية عندك.
وقال المنصور لولده
عبد الله المهدي: لا تبرم أمراً حتى تفكر فيه، فإن فكرة العاقل مرآة تريه حسناته
وسيآته. واعلم أن الخليفة لا تصلحه إلا التقوى، والسلطان لا تصلحه إلا الطاعة،
والرعية لا يصلحها إلا العدل. وأولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة، وانقص الناس
عقلاً من ظلم من هو دونه.
وقال خالد بن عبد
الله القسري لبلال بن أبي بردة: لا يحملنك فضل المقدرة على شدة السطوة، ولا تطلب
من رعيتك إلا ما تبذله لها، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.
وقال أبو عبيد الله
كاتب المهدي: ما أحوج ذا القدرة والسلطان إلى دين يحجزه، وحياء يكفه، وعقل يعقله،
وإلى تجربة طويلة، وعين حفيظة؛ وأعراق تسري إليه، وأخلاق تسهل الأمور عليه؛ وإلى
جليس شفيق، وصاحب رفيق؛ وإلى عين تبصر العواقب وقلب يخاف الغير. ومن لم يعرف لؤم
الكبر لم يسلم من فلتات اللسان، ولم يتعاظم ذنباً وإن عظم، ولا ثناء وإن سمح.
وكتب أردشير إلى
رعيته: من أردشير المؤيد ملك الملوك ووارث العظماء إلى الفقهاء الذين هم حملة
الدين، والأساورة الذين هم حفظة البيضة، والكتاب الذين هم زينة المملكة، وذوي
الحرث الذين هم عماد البلاد: السلام عليكم، فإنا بحمد الله إليكم سالمون. فقد
وضعنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا بها إتاوتها الموظفة عليها، ونحن مع ذلك كاتبون بوصية
فاحفظوها: لا تستشعروا الحقد فيدهمكم العدو، ولا تحتكروا فيشملكم القحط، وتزوجوا
في الأقارب فإنه أمس للرحم وأثبت للنسب، ولا تعدوا هذه الدنيا شيئاً فإنها لا تبقي
على أحد، ولا ترفضوها فإن الآخرة لا تدرك إلا بها.
ولما انصرف مروان بن
الحكم من مصر إلى الشام استعمل عبد العزيز ابنه على مصر، وقال له حين ودعه: أرسل
حكيماً ولا توصه. أي بني، انظر إلى عمالك، فإن كان لهم عندكم حق غدوة فلا تؤخره إلى
عشية، وإن كان لهم عشية فلا تؤخره إلى غدوة، وأعطهم حقوقهم عند محلها، تستوجب بذلك
الطاعة منهم. وإياك أن يظهر لرعيتك منك كذب فإنهم إن ظهر لهم منك كذب لم يصدقوك في
الحق. واستشير جلساءك وأهل العلم، فإن لم يستبن لك فاكتب إلي يأتك رأيي فيه إن شاء
الله تعالى. وإن كان بك غضب على أحد من رعيتك فلا تؤاخذه به عند سورة الغضب، واحبس
عنه عقوبتك حتى يسكن غضبك، ثم يكون منك ما يكون وأنت ساكن الغضب منطفئ الجمرة؛ فإن
أول من جعل السجن كان حليماً ذا أناة. ثم انظر إلى أهل الحسب والدين والمروءة،
فليكونوا أصحابك وجلساءك، ثم اعرف منازلهم منك على غير استرسال ولا انقباض. أقول
هذا واستخلف الله عليك.
أبو بكر بن أبي شيبة
عن عبد الله بن مجالد عن الشعبي، قال: قال زياد: ما غلبني أمير المؤمنين معاوية في
شيء من السياسة إلا مرة واحدة، استعملت رجلاً فكسر خراجه، فخشي أن أعاقبه ففر إليه
واستجار به فأمنه. فكتبت إليه: إن هذا أدب سوأ من قبلي. فكتب إلي: إنه لا ينبغي أن
نسوس الناس سياسة واحدة، لا نلين جميعاً فتمرح الناس في المعصية، ولا نشتد جميعا
فنحمل الناس على المهالك، ولكن تكون أنت للشدة والغلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.
ما يأخذ به السلطان
من الحزم والعزمقالت الحكماء: أحزم الملوك من قهر جده هزله، وغلب رأيه هواه، وجعل
له الفكر صاحباً يحسن له العواقب، وأعرب عن ضميره فعله ولم يخدعه رضاه عن سخطه،
ولا غضبه عن كيده.
وقال عبد الملك بن
مروان لابنه الوليد، وكان ولي عهده: يا بني، اعلم أنه ليس بين السلطان وبين أن
يملك الرعية أو تملكه الرعية إلا حزم أو توان.
وقالوا: لا ينبغي
للعاقل أن يستصغر شيئاً من الخطأ أو الزلل، فإنه متى ما استصغر الصغير يوشك أن يقع
الكبير؛ فقد رأينا الملوك تؤتى من العدو المحتقر، ورأينا الصحة تؤتى من الداء
اليسير، ورأينا الأنهار تتدفق من الجداول الصغار.
وقالوا: لا يكون الذم
من الرعية لراعيها إلا لإحدى ثلاث: كريم قصر به عن قدره فاحتمل لذلك ضغناً، أو
لئيم بلغ به إلى ما لا يستحق فأورثه ذلك بطراً، أو رجل منع حظه من الإنصاف فشكا
تفريطا.
ومن كتاب للهند: خير
الملوك من أشبه النسر حوله الجيف، لا من أشبه الجيف حولها النسور.
وقيل لملك سلب ملكه:
ما الذي سلبك ملكك؟ فقال: دفع شغل اليوم إلى غد، والتماس عدة بتضييع عدد، واستكفاء
كل مخدوع عن عقله. والمخدوع عن عقله من بلغ قدراً لا يستحقه، أو أثيب ثواباً لا
يستوجبه.
وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: انتهزوا هذه الفرص فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثراً بعد عين.
وكان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أحزم الخلفاء. كانت عائشة رضي الله عنها إذا ذكر عمر قالت: كان والله
أحوزياً نسيج وحده، وقد أعد للأمور أقرانها.
وقال المغيرة بن
شعبة: ما رأيت أحداً هو أحزم من عمر، كان والله له فضل يمنعه أن يخدع، وعقل يمنعه
أن يخدع.
وقال عمر: لست بخب،
والخب لا يخدعني.
ومر عمر رضي الله عنه
ببنيان يبنى بآجر وجص فقال: لمن هذا؟ قيل: لعاملك على البحرين. فقال: أبت الدراهم
إلا أن تخرج أعناقها. فأرسل فشاطره ماله.
وكان سعد بن أبي وقاص
يقال له: المستجاب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: اتقوا دعوة سعد. فلما شاطره
عمر ماله، قال له سعد: لقد هممت. قال له عمر: بأن تدعو علي؟ قال: نعم. قال: إذا لا
تجدني بدعاء ربي شقيا.
وهجا رجل الشعراء سعد
بن أبي وقاص يوم القادسية، فقال:
ألم تر أن الله اظهر
دينه ... وسعد بباب القادسية معصم
فأبنا وقد آمت نساء
كثيرة ... ونسوة سعد ليس فيهن أيم
فقال سعد: اللهم
اكفني يده ولسانه، فقطعت يده وبكم لسانه.
ولما عزل عمر أبا
موسى الأشعري عن البصرة وشاطره ماله، وعزل أبا هريرة عن البحرين وشاطره ماله، وعزل
الحارث بن كعب بن وهب وشاطره ماله، دعا أبا موسى فقال له: ما جاريتان بلغني أنهما
عندك، إحداهما عقيلة، والأخرى من بنات الملوك؟ قال: أما عقيلة فإنها جارية بيني
وبين الناس، وأما التي هي من بنات الملوك فإني أردت بها غلاء الفداء. قال: فما
جفنتان تعملان عندك؟ قال: رزقتني شاة في كل يوم، فيعمل نصفها غدوة ونصفها عشية. قال: فما
مكيالان بلغني أنهما عندك؟ قال: أما أحدهما فأوفي به أهلي وديني. وأما الآخر فيتعامل
الناس به. فقال: ادفع إلينا عقيلة، والله إنك لمؤمن لا تغل، أو فاجر مبل، أرجع إلى
عملك عاقصاً بقرنك، مكتسعاً بذنبك. والله إن بلغني عنك أمر لم أعدك.
ثم دعا أبا هريرة
فقال له: هل علمت من حين أني استعملتك على البحرين، وأنت بلا نعلين، ثم بلغني أنك
ابتعت أفراساً بألف دينار وستمائة دينار؟ قال: كانت لنا أفراس تناتجت، وعطايا
تلاحقت. قال: قد حسبت لك رزقك ومؤونتك وهذا فضل فأده. قال: ليس لك ذلك. قال بلى
والله وأوجع ظهرك. ثم قام إليه بالدرة فضربه حتى أدماه، ثم قال: إيت بها. قال:
احتسبتها عند الله. قال: ذلك لو أخذتها من حلال وأديتها طائعاً. أجئت من أقصى حجر البحرين
يجبي الناس لك لا لله ولا للمسلمين! ما رجعت بك أميمة إلا لرعية الحمر. وأميمة أم
أبي هريرة.
وفي حديث أبي هريرة،
قال: لما عزلني عمر عن البحرين قال لي: يا عدو الله وعدو كتابه، سرقت مال الله؟
قال: فقلت: ما أنا عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، ما سرقت مال
الله. قال: فمن أين لك عشرة آلاف؟ قلت: خيل تناتجت، وعطايا تلاحقت، وسهام تتابعت. قال:
فقبضها مني. فلما صليت الصبح استغفرت لأمير المؤمنين. فقال لي بعد ذلك: ألا تعمل؟
قلت: لا. قال: قد عمل من هو خير منك، يوسف صلوات الله عليه. قلت: إن
يوسف نبي وابن نبي وأنا ابن أميمة، أخشى أن يشتم عرضي ويضرب ظهري وينزع مالي.
قال: ثم دعا الحارث
بن كعب بن وهب فقال: ما قلاص وأعبد بعتها بمائتي دينار؟ قال: خرجت بنفقة معي فتجرت
فيها. فقال: أما والله ما بعثناكم لتتجروا في أموال المسلمين! أدها. فقال: أما
والله لا عملت عملاً بعدها أبداً. قال: انتظر حتى استعملك.
وكتب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص، وكان عامله على مصر: من عبد الله عمر بن الخطاب
إلى عمرو بن العاص، سلام عليك، أما بعد، فإنه بلغني أنك فشت لك فاشية من خيل وإبل
وغنم وبقر وعبيد. وعهدي بك قبل ذلك أن لا مال لك، فاكتب إلي من أين أصل هذا المال
ولا تكتمه.
فكتب إليه: من عمرو
بن العاص إلى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين. سلام عليك. فإني أحمد إليك
الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد. فإنه أتاني كتاب أمير المؤمنين يذكر فيه ما فشا
لي، وأنه يعرفني قبل ذلك ولا مال لي. وإني اعلم أمير المؤمنين أني ببلد السعر به رخيص،
وأني من الحرفة والزراعة ما يعالجه أهله، وليس في رزق أمير المؤمنين سعة. وبالله
لو رأيت خيانتك حلالاً ما خنتك، فأقصر أيها الرجل، فإن لنا أحساباً هي خير من
العمل لك، إن رجعنا إليها عشنا بها. ولعمري إن عندك من لا يذم معيشته ولا تذم له.
وذكرت أن عنك من المهاجرين الأولين من هو خير مني، فأنى كان ذلك ولم نفتح قفلك،
ولم نشركك في عملك.
فكتب إليه عمر: أما بعد،
فإني والله ما أنا من أساطيرك التي تسطر، ونسقك الكلام في غير مرجع! وما يغني عنك
أن تزكي نفسك، وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة فشاطره مالك. فإنكم أيها الرهط الأمراء
جلستم على عيون المال ثم لم يعوزكم عذر، تجمعون لأبنائكم، وتمهدون لأنفسكم. أما
تجمعون العار، وتورثون النار، والسلام.
فلما قدم عليه محمد
بن مسلمة صنع له عمرو طعاماً كثيراً. فأبى محمد بن مسلمة أن يأكل منه شيئاً. فقال له عمر: أتحرمون طعامنا؟
فقال: لو قدمت إلي طعام الضيف أكلته، ولكنك قدمت إلى طعاماً هو تقدمة شر.
والله لا أشرب عندك الماء، فاكتب لي كل شيء هو لك ولا تكتمه. فشاطره ماله بأجمعه، حتى
بقيت نعلاه. فأخذ إحداهما وترك الأخرى. فغضب عمرو بن العاص فقال: يا محمد بن مسلمة
قبح الله زماناً عمرو بن العاص لعمر بن الخطاب فيه عامل. والله إني لأعرف الخطاب يحمل فوق رأسه حزمة من الحطب وعلى ابنه مثلها،
وما منهما إلا في نمرة لا تبلغ رسغيه، والله ما كان العاص بن وائل يرضى أن يلبس الديباج
مزوراً بالذهب والفضة. قال له محمد ابن مسلمة: اسكت، والله عمر خير منك، وأما أبوك
وأبوه ففي النار. والله لولا الزمان الذي سبقك فيه لألفيت مقتعد شاة يسرك غزرها
ويسوءك بكؤها. فقال عمرو: هي عندك بأمانة الله. فلم يخبر بها عمر.
ومن حديث زيد بن أسلم
عن أبيه قال: بعث معاوية إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على الشام بمال
وأدهم، وكتب إلى أبي سفيان أن يدفع ذلك إلى عمر - يعني بالأدهم القيد - وكتب إلى
عمر يقول: إني وجدت في حصون الروم جماعة من أسارى المسلمين مقيدين بقيود حديد،
أنفذت منها هذا ليراه أمير المؤمنين - وكانت العرب قبل ذلك تقيد بالقيد. قال
الفرزدق: أو لجدل الأداهم - فخرج الرسول حتى قدم على سفيان بالمال والأدهم قال: فذهب أبو
سفيان بالأدهم والكتاب إلى عمر واحتبس المال لنفسه. فلما قرأ عمر الكتاب، قال له:
فأين المال يا أبا سفيان؟ قال: كان علينا دين ومعونة، ولنا في بيت المال حق، فإذا
أخرجت لنا شيئاً قاصصتنا به. فقال عمر: اطرحوه في الأدهم حتى يأتي بالمال. قال:
فأرسل أبو سفيان من أتاه بالمال. فأمر عمر بإطلاقه من الأدهم. فلما قدم الرسول على
معاوية، قال له: رأيت أمير المؤمنين اعجب بالأدهم؟ قال: نعم، وطرح فيه أباك. قال:
ولم؟ قال جاءه بالأدهم وحبس المال؛ قال: إي والله، والخطاب لو كان لطرحه فيه.
زار أبو سفيان معاوية
بالشام، فلما رجع من عنده دخل على عمر. فقال: أجزنا أبا سفيان. قال: ما أصبنا
شيئاً فنجيزك منه. فأخذ عمر خاتمه، فبعث به إلى هند، وقال للرسول: قل لها: يقول لك
أبو سفيان: انظري إلى الخرجين اللذين جئت بهما فأحضريهما. فما لبث عمر أن أتي
بخرجين فيهما عشرة آلاف درهم. فطرحهما عمر في بيت المال. فلما ولي عثمان ردهماً
عليه. فقال أبو سفيان: ما كنت لآخذ مالا عابه علي عمر.
ولما ولى عمر بن
الخطاب رضي الله عنه عتبة بن أبي سفيان الطائف وصدقاتها ثم عزله، تلقاه في بعض
الطريق، فوجد معه ثلاثين ألفاً، فقال: أنى لك هذا؟ قال: والله ما هو لك ولا
للمسلمين، ولكنه مال خرجت به لضيعة أشتريها. فقال عمر: عاملنا وجدنا معه مالاً، ما
سبيله إلا بيت المال، ورفعه. فلما ولى عثمان قال لعتبة: هل لك في هذا المال فإني
لم أر لأخذ ابن الخطاب فيه وجهاً؟ قال: والله إن بنا إليه لحاجة، ولكن لا ترد على
من قبلك فيرد عليك من بعدك.
القحذمي قال: ضرب عمر
رجلاً بالدرة فنادى: يا لقصي. فقال أبو سفيان: يا بن أخي، لو قبل اليوم تنادي
قصياً لأتتك منها الغطاريف. فقال له عمر: اسكت لا أبالك. قال أبو سفيان: ها، ووضع سبابته
على فيه.
خليفة بن خياط قال:
كتب يزيد بن الوليد، المعروف بالناقص - وإنما قيل له الناقص لفرط كماله - إلى
مروان بن محمد - وبلغه عنه تلكؤ في بيعته - : أما بعد، فإني أراك تقدم رجلاً وتؤخر
أخرى، فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيهما شئت والسلام. فأتته بيعته.
ولما منع أهل مرو أبا
غسان الماء وزجته إلى الصحارى، كتب إليهم أبو غسان: إلى بني الأستاه من أهل مرو،
ليمسيني الماء أو لتصبحنكم الخيل. فما أمسى حتى أتاه الماء. فقال:
الصدق ينبئ عنك لا الوعيد.
وكتب عبد الله بن
طاهر الخراساني إلى الحسن بن عمر التغلبي: أما بعد، فقد بلغني ما كان من قطع
الفسقة الطريق ما بلغ، فلا الطريق تحمي، ولا اللصوص تكفي، ولا الرعية ترضي، وتطمع
بعد هذا في الزيادة! إنك لمنفسح الأمل! وأيم الله لتكفيني من قبلك أو لأوجهن إليك رجالا
لا تعرف مرة من جهم، ولا عدي من رهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكتب الحجاج بن يوسف
إلى قتيبة بن مسلم، واليه بخراسان: أما بعد، فإن وكيع بن حسان كان بالبصرة منه ما
كان، ثم صار لصاً بسجستان، ثم صار إلى خراسان، فإذا أتاك كتابي هذا فاهدم بناءه
واحلل لواءه. وكان على شرطة قتيبة فعزله، وولى الضبي عم مسعود بن الخطاب.
وبلغ الحجاج أن قوماً
من الأعراب يفسدون الطريق، فكتب إليهم: أما بعد، فإنكم قد استخفتكم الفتنة، فلا عن
حق تقاتلون، ولا عن منكر تنهون، وإني أهم أن ترد عليكم مني خيل تنسف الطارف والتالد،
وتدع النساء أيامى، والأبناء يتامى، والديار خراباً.
فلما أتاهم كتابه
كفوا عن الطريق.
التعرض للسلطان والرد
عليهقالت الحكماء: من تعرض للسلطان أرداه، ومن تطامن له تخطاه، وشبهوه في ذلك
بالريح العاصفة التي لا تضر بما لان له من الشجر ومال معها من الحشيش، وما استهدف
لها من الدواح العظام قصفته. قال الشاعر:
إن الرياح إذا ما
أعصفت قصفت ... عيدان نبع ولا يعبأن بالرتم
وقال حبيب بن أوس -
وهو أحسن مل قيل في السلطان - :
هو السيل إن واجهته
انقدت طوعه ... وتقتاده من جانبيه فيتبع
وقال آخر:
هو السيف إن لاينته
لان متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان
وقال معاوية لأبي
الجهم العدوي: أنا أكبر أم أنت؟ فقال: لقد أكلت في عرس أمك يا أمير المؤمنين. قال:
عند أي أزواجها؟ قال: عند حفص ابن المغيرة. قال: يا أبا الجهم، إياك والسلطان،
فإنه يغضب غضب العصبي، ويأخذ أخذ الأسد.
وأبو الجهم هذا هو
القائل في معاوية بن أبي سفيان:
ونغضبه لنخبر حالتيه
... فنخبر منهما كرماً ولينا
نميل على جوانبه كأنا
... نميل إذا نميل على أبينا
وقدم عقيبة الأسدي
على معاوية، ورفع إليه رقعة فيها هذه الأبيات:
معاوي إننا بشر فأسجح
... فلسنا بالجبال ولا الحديد
أكلتم أرضنا
فجردتمونا ... فهل من قائم أو من حصيد
أتطمع بالخلود إذا
هلكنا ... وليس لنا ولا لك من خلود
فهبنا أمة هلكت ضياعا
... يزيد أميرها وأبو يزيد
فدعا به معاوية،
فقال: ما جرأك علي؟ قال: نصحتك إذ غشوك، وصدقتك إذ كذبوك. فقال: ما أظنك إلا
صادقاً، وقضى حوائجه.
ومن حديث زياد عن
مالك بن أنس قال: خطب أبو جعفر المنصور، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أيها
الناس اتقوا الله. فقام إليه رجل من عرض الناس، فقال: أذكرك الله الذي ذكرتنا به
يا أمير المؤمنين. فأجابه أبو جعفر بلا فكرة ولا روية: سمعاً وطاعة لمن ذكر بالله،
وأعوذ بالله أن أذكر به وأنساه فتأخذني العزة بالإثم، فقد ضللت إذا وما أنا من
المهتدين وأما أنت، فوالله ما الله أردت بها، ولكن ليقال: قال فعوقب فصبر، وأهون
بها لو كانت، وأنا أحذركم أيها الناس أختها، فإن الموعظة علينا نزلت، ومنا أخذت.
ثم رجع إلى موضعه من الخطبة.
وقام رجل إلى هارون
الرشيد، وهو يخطب بمكة، فقال: " كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " . فأمر به فضرب مائة
سوط. فكان يئن الليل كله ويقول: الموت! الموت! فأخبر هارون الرشيد أنه رجل صالح، فأرسل
إليه فاستحله فأحله.
المدائني قال: جلس
الوليد بن عبد الملك على المنبر يوم الجمعة حتى اصفرت الشمس، فقام إليه رجل فقال:
يا أمير المؤمنين، إن الوقت لا ينتظرك، وإن الرب لا يعذرك. قال صدقت: ومن قال مثل
مقالتك، فلا ينبغي له أن يقوم مثل مقامك. من ها هنا من أقرب الحرس يقوم إليه فيضرب
عنقه؟ الرياشي عن الأصمعي قال: خاطر رجل رجلاً أن يقوم إلى معاوية إذا سجد فيضع
يده على كفله ويقول: سبحان الله يا أمير المؤمنين! ما أشبه عجيزتك بعجيزة أمك هند!
ففعل ذلك. فلما انفتل معاوية عن صلاته قال: لا يا بن أخي، إن أبا سفيان كان إلى
ذلك منها أميل، فخذ ما جعلوا لك، فأخذه.
ثم خاطر أيضاً أن
يقوم إلى زياد وهو في الخطبة فيقول له: أيها أمير، من أبوك؟ ففعل. فقال له
زياد: هذا يخبرك، وأشار إلى صاحب الشرطة، فقدمه فضرب عنقه.
فلما بلغ معاوية،
قال: ما قتله غيري، ولو أدبته على الأولى ما عاد إلى الثانية.
وخاطر رجل إلى أن
يقوم إلى عمرو بن العاص وهو في الخطبة فيقول: أيها الأمير من أمك؟ ففعل. فقال له:
النابغة بنت عبد الله، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها عبد الله بن
جدعان للعاص بن وائل، فولدت فأنجبت فإن كانوا جعلوا شيئاً فخذه.
دخل خريم الناعم على
معاوية بن أبي سفيان، فنظر معاوية إلى ساقيه، فقال: أي ساقين، لو أنهما على جارية!
فقال له خريم: في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين. قال: واحدة بأخرى والبادئ أظلم.
تحلم السلطان على أهل
الدين
والفضل إذا اجترءوا
عليهزياد عن مالك بن أنس قال: بعث أبو جعفر المنصور إلي وإلى ابن طاوس، فأتيناه
فدخلنا عليه، فإذا هو جالس على فرش قد نضدت، وبين يديه أنطاع قد بسطت، وجلاوزة
بأيديهم السيوف يضربون الأعناق. فأموا إلينا: أن اجلسا. فجلسنا. فأطرق عنا طويلاً،
ثم رفع رأسه والتفت إلى ابن طاوس، فقال له: حدثني عن أبيك. قال: نعم، سمعت أبي
يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة رجل
أشركه الله في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله. فأمسك ساعة. قال مالك: فضممت ثيابي
من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه. ثم التفت إليه أبو جعفر فقال: عظني يا ابن طاوس.
قال: نعم يا أمير المؤمنين، إن الله تعالى يقول: " ألم تر كيف فعل ربك بعاد.
إرم ذات العماد. التي لم يخلق مثلها في البلاد. وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وفرعون
ذي الأوتاد. الذين طغوا في البلاد. فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن
ربك لبالمرصاد " . قال مالك: فضممت ثيابي مخافة أن يملأ ثيابي من دمه. فأمسك
ساعة حتى اسود ما بيننا وبينه. ثم قال: يا ابن طاوس، ناولني هذه الدواة. فأمسك عنه،
ثم قال: ناولني هذه الدواة: فأمسك عنه. فأمسك عنه. فقال: ما يمنعك أن تناولنيها؟ قال: أخشى أن تكتب بها معصية
الله فأكون شريكك فيها. فلما سمع ذلك قال: قوماً عني قال ابن طاوس: ذلك ما كنا نبغي
منذ اليوم.
قال مالك: فما زلت
أعرف لا بن طاوس فضله.
أبو بكر بن أبي شيبة
قال: قام أبو هريرة إلى مروان بن الحكم وقد أبطأ بالجمعة، فقال له: أتظل عن ابنة
فلان تروحك بالمراوح وتسقيك الماء البارد، وأبناء المهاجرين والأنصار يصهرون من
الحر! لقد هممت أن أفعل وأفعل، ثم قال: اسمعوا من أميركم.
فرج بن سلام بن أبي
حاتم عن الأصمعي، قال: حدثني رجل من أهل المدينة، كان ينزل بشق بني زريق، قال:
سمعت محمد بن إبراهيم يحدث قال: سمعت أبا جعفر بالمدينة وهو بنظر فيما بين رجل من
قريش وأهل بيت من المهاجرين بالمدينة ليسوا من قريش، فقالوا لأبي جعفر: اجعل بيننا
وبينه ابن أبي ذئب. فقال أبو جعفر لابن أبي ذئب: ما تقول في بني فلان؟ قال أشرار
من أهل بيت أشرار. قالوا: اسأله يا أمير المؤمنين عن الحسن بن زيد وكان عامله على
المدينة - قال: ما تقول في الحسن بن زيد؟ قال: يأخذ بالإحنة، ويقضي بالهوى. فقال
الحسن: يا أمير المؤمنين، والله لو سألته عن نفسك لرماك بداهية أو وصفك بشر. قال:
ما تقول في؟ قال: اعفني. قال: لا بد أن تقول. قال: لا تعدل في الرعية، ولا تقسم بالسوية. قال: فتغير وجه أي جعفر.
فقال إبراهيم بن يحيى بن محمد بن علي صاحب الموصل: طهرني بدمه يا أمير المؤمنين. قال:
اقعد يا بني، فليس في دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله طهور. قال: ثم تدارك ابن أبي
ذئب الكلام، فقال: يا أمير المؤمنين، دعنا مما نحن فيه، بلغني أن لك ابنا صالحاً
بالعراق، يعني المهدي. قال: أما إنك قلت ذلك، إنه الصوام القوام البعيد ما بين
الطرفين. قال ثم قام ابن أبي ذئب فخرج. فقال أبو جعفر: أما والله ما هو بمستوثق
العقل، ولقد قال بذات نفسه.
قال الأصمعي: ابن أبي
ذئب، من بني عامر بن لؤي، من أنفسهم.
قال: ودخل
الحارث بن مسكين على المأمون فسأله عن مسألة، فقال: أقول فيها كما قال مالك بن أنس
لأبيك هارون الرشيد؟ - وذكر قوله فلم يعجب المأمون - فقال: لقد تيست
فيها وتيس مالك. قال الحارث بن مسكين: فالسامع يا أمير المؤمنين، من التيسين أتيس.
فتغير وجه المأمون. وقام الحارث بن مسكين فخرج، وتندم على ما كان من قوله. فلم
يستقر منزله حتى أتاه رسول المأمون؛ فأيقن بالشر، ولبس ثياب أكفانه، ثم أقبل حتى
دخل عليه فقربه المأمون من نفسه، ثم أقبل عليه بوجهه فقال له: يا هذا، إن الله
تبارك وتعالى قد أمر من هو خير منك بإلانة القول لمن هو شر مني، فقال لنبيه موسى
صلى الله عليه وسلم إذ أرسله إلى فرعون: " فقولاً له قولاً لينا لعله يتذكر
أو يخشى " . فقال: يا أمير المؤمنين، أبوء بالذنب وأستغفر الرب. قال: عفا
الله عنك، انصرف إذا شئت.
وأرسل أبو جعفر إلى
سفيان الثوري، فلما دخل عليه قال: عظني أبا عبد الله قال: وما عملت يا أمير المؤمنين فيما علمت فأعظك فيما جهلت؟ فما وجد له
المنصور جواباً.
ودخل أبو النضر سالم
مولى عمر بن عبد الله على عامل للخليفة فقال له: أبا النضر، إنا تأتين كتب من عند
الخليفة فيها وفيها، ولا نجد بداً من إنفاذها، فما ترى؟ قال له أبو النضر: قد أتاك
كتاب الله تعالى قبل كتاب الخليفة، فأيهما اتبعت كنت من أهله.
ونظير هذا القول ما
رواه الأعمش عن الشعبي: أن زياداً كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري، وكان على الصائفة:
إن أمير المؤمنين معاوية كتب إلي يأمرني أن أصطفي له الصفراء والبيضاء، فلا تقسم
بين الناس ذهباً ولا فضة واقسم ما سوى ذلك. فكتب إليه: إني وجدت كتاب الله قبل كتاب أمير المؤمنين، والله لو أن السموات
والأرض كانتا رتقاً على عبد فاتقى الله لجعل له منهما مخرجاً. ثم نادى في الناس، فقسم
فيهم ما اجتمع له من الفيء.
ومثله قول الحسن حين
أرسل إليه ابن هبيرة وإلى الشعبي، فقال له: ما ترى أبا سعيد في كتب تأتينا من عند
يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها، فإن أنفذتها وافقت سخط الله، وإن لم أنفذها خشيت
على دمي؟ فقال له الحسن: هذا عندك الشعبي فقيه أهل الحجاز. فرقق له الشعبي وقال
له: قارب وسدد، فإنما أنت عبد مأمور. ثم التفت ابن هبيرة إلى الحسن وقال: ما تقول
يا أبا سعيد؟ فقال الحسن: يا ابن هبيرة، خف الله في يزيد ولا تخف يزيد في الله. يا
ابن هبيرة، إن الله مانعك من يزيد وإن يزيد لا يمنعك من الله. يا ابن هبيرة لا
طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب الله
تعالى، فما وافق كتاب الله تعالى فأنفذه، وما خالف كتاب الله فلا تنفذه، فإن الله
أولى بك من يزيد، وكتاب الله أولى بك من كتابه. فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن
وقال: هذا الشيخ صدقني ورب الكعبة. وأمر للحسن بأربعة آلاف درهم، وأمر للشعبي
بألفين. فقال الشعبي: رققنا فرفق لنا. فأما الحسن فأرسل إلى المساكين، فلما
اجتمعوا فرقها. وأما الشعبي فإنه قبلها وشكر عليها.
ونظير هذا قول الأحنف
بن قيس لمعاوية حين شاوره في استخلاف يزيد، فسكت عنه. فقال: ما لك لا تقول؟ فقال: إن
صدقناك أسخطناك، وإن كذبناك أسخطنا الله، فسخط أمير المؤمنين أهون علينا من سخط
الله. فقال له: صدقت.
وكتب أبو الدرداء إلى
معاوية، أما بعد: فإنه من يلتمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس، ومن
التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس.
وكتبت عائشة رضي الله
عنها إلى معاوية: أما بعد، فإنه من يعمل بمساخط الله يصر حامده من الناس ذاماً له،
والسلام.
أبو الحسن المدائني
قال: خرج الزهري يوماً من عند هشام فقال: ما رأيت مثل أربع كلمات تكلم به اليوم
إنسان عند هشام. قيل له: و ما هن؟ قال: دخل رجل على هشام فقال: يا أمير المؤمنين،
احفظ عني أربع كلمات فيهن صلاح ملكك، واستقامة رعيتك فقال هاتهن. فقال: لا تعدن
عدة لا تثق من نفسك بإنجازها. قال: هذه واحدة فهات الثانية. قال: لا يغرنك المرتقى وإن كان سهلاً
إذا كان المنحدر وعراً. قال: هات الثالثة. قال: إن للأعمال جزاء فاتق العواقب. قال
هات الرابعة. قال: واعلم أن للأمور بغتات فكن على حذر.
قعد معاوية بالكوفة
يبايع الناس على البراءة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال له رجل: يا أمير
المؤمنين، نطيع أحياءكم ولا نتبرأ من موتاكم فالتفت إلى المغيرة فقال له: هذا رجل
فاستوص به خيراً.
وقال عبد الملك بن
مروان للحارث بن عبد الله بي أبي ربيعة: ما كان يقول الكذاب في كذا وكذا؟ - يعني ابن
الزبير - فقال: ما كان كذاباً. فقال له يحيى بن الحكم: من أمك يا حار؟ قال: هي
التي تعلم. قال له عبد الملك: اسكت فهي أنجب من أمك.
دخل الزهري على
الوليد بن عبد الملك، فقال له: ما حديث يحدثنا به أهل الشام؟ قال: يحدثوننا
أن الله إذا استرعى عبداً رعيته كتب له الحسنات ولم يكتب له السيئات. قال: باطل يا
أمير المؤمنين، أنبي خليفة أكرم على الله أم خليعة غير نبي؟ قل: بل نبي خليفة.
قال: فإن الله تعالى يقول لنبيه داور عليه السلام: " يا داوود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله. إن
الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب " . فهذا وعيد
يا أمير المؤمنين لنبي خليفة، فما ظنك بخليفة غير نبي؟ قال: إن الناس ليغووننا عن
ديننا.
الأصمعي عن إسحاق بن يحيى
عن عطاء بن يسار، قال: قلت للوليد بن عبد الملك: قال عمر بن الخطاب: وددت أني
خرجت من هذا الأمر كفافاً لا علي ولا لي. فقال: كذبت. فقلت: أو كذبت؟ فما أفلت
بجريعة الذقن.
المشورةقال النبي صلى
الله عليه وسلم: ما ندم من استشار، ولا خاب من استخار. وقدر أمر الله تبارك وتعالى
نبيه عليه الصلاة والسلام بمشاورة من هو دونه في الرأي والحزم، فقال: "
وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله " .
ولما هممت ثقيف
بالارتداد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم استشاروا عثمان بن أبي العاص، وكان
مطاعاً فيهم، فقال لهم: لا تكونوا آخر العرب إسلاماً، وأولهم ارتداداً. فنفعهم الله برأيه.
وسئل بعض الحكماء: أي
الأمور أشد تأييداً للفتى وأيتها أشد إضراراً به؟ فقال: أشدها تأييداً له ثلاثة:
مشاورة العلماء، وتجربة الأمور، وحسن التثبت. وأشدها إضراراً به ثلاثة أشياء:
الاستبداد والتهاون والعجلة.
وأشار حكيم على حكيم
برأي فقبله منه. فقال له: لقد قلت بما يقول به الناصح الشفيق الذي يخلط حلو كلامه
بمره، وسهله بوعره، ويحرك الإشفاق منه ما هو ساكن من غيره. وقد وعيت النصح وقبلته،
إذ كان مصدره من عند من لا يشك في مودته وصفاء غيبه، ونصح جيبه؛ وما زلت بحمد الله
إلى الخير طريقاً واضحاً، ومناراً بيناً.
وكان عبد الله بن وهب
الراسي يقول: إياكم والرأي الفطير. وكان يستعيذ بالله من الرأي الدبري.
وكان علي بن أبي طالب
رضي الله عنه يقول: رأي الشيخ خير من مشهد الغلام.
وأوصى ابن هبيرة ولده
فقال: لا تكن أول مشير، وإياك والهوى والرأي الفطير؛ ولا تشيرن على مستبد ولا على
وغد ولا على متلون ولا لجوج وخف الله في موافقة هوى المستشير. فإن النماس موافقته
لؤم، وسوء الاستماع منه خيانة.
وكان عامر بن الظرب
حاكم العرب يقول: دعوا الرأي يغب حتى يختمر، وإياكم والرأي الفطير. يريد الأناة في
الرأي والتثبت فيه. ومن أمثالهم في هذا قولهم: لا رأي لمن لا يطاع.
وكان المهلب يقول: إن
من البلية أن يكون الرأي بيد من يملكه دون من يبصره.
العتبي: قال: قيل
لرجل من عبس: ما أكثر صوابكم! قال نحن ألف رجل وفينا حازم واحد، فنحن نشاوره،
فكأنا ألف حازم.
قال الشاعر:
الرأي كالليل مسود
جوانبه ... والليل لا ينجلي إلا بإصباح
فاضمم مصابيح آراء
الرجال إلى ... مصباح رأيك تزدد ضوء مصباح
العتبي قال: أخبرني
من رأى عبد الله بن عبد الأعلى، وهو أول داخل على الخليفة وآخر خارج من عنده. قال:
ثم رأيته وإنه ليتقى كما يتقى البعير الأجرب فقال لي: يا أخا العراق، اتهمنا القوم
في سريرتنا، ولم يقبلوا منا علانيتنا، ومن ورائهم وورائنا حكم عدل.
ومن أحسن ما قيل فيمن
أشير عليه فلم يقبل قول سبيع لأهل اليمامة بعد إيقاع خالد بهم: يا بني حنيفة بعدا
لكم كما بعدت عاد وثمود. أما والله لقد أنبأتكم بالأمر قبل وقوعه، كأني أسمع جرسه
وأبصر غيبه، ولكنكم أبيتم النصيحة فاجتنيتم الندامة، وإني لما رأيتكم تتهمون النصيح
وتسفهون الحليم، استشعرت منكم اليأس وخفت عليكم البلاء. والله ما منعكم الله
التوبة، ولا أخذكم على غرة، ولقد أمهلكم حتى مل الواعظ، ووهن الموعوظ. وكنتم كأنما
يعنى بما أتم فيه غيركم، فأصبحتم وفي أيديكم من تكذيبي التصديق. ومن نصيحتي
الندامة، وأصبح في يدي من هلاككم البكاء، ومن ذلكم الجزع، وأصبح ما فات غير مردود،
وما بقي غير مأمون.
وقال القطامي في هذا
المعنى:
ومعصية الشفيق عليك
مما ... تزيدك مرة منه استماعا
وخير الأمر ما
استقبلت منه ... وليس بأن تتبعه اتباعا
كذاك وما رأيت الناس
إلا ... إلى ما جر غاويهم سراعا
تراهم يغمزون من
استركوا ... ويجتمبون من صدق المصاعا
وكان يقال: لا تستشر
معلماً ولا حائكاً ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء.
وأنشد في المعلمين:
وكيف يرجى العقل
والرأي عند من ... يروح إلى أنثى ويغدو إلى طفل
وكان يقال: لا تشاور
صاحب حاجة يريد قضاءها.
وكان يقال: لا رأي
لحاقن، ولا حازق، وهو الذي ضغطه الخف ولا لحاقب وهو الذي يحد رزا في بطنه.
وينشد في الرأي بعد
فوته:
وعاجز الرأي مضياع
لفرصته ... حتى إذا فات أمر عاتب القدرا
ومن قولنا في هذا
المعنى:
فلئن سمعت نصيحتي
وعصيتها ... ما كنت أول ناصح معصي
وقال حبيب في بني
تغلب عند إيقاع مالك بن طوق بهم:
لم يألكم مالك صفحاً
ومغفرةً ... ولو ينفخ قين الحي في فحم
حفظ الأسرارقالت
الحكماء: صدرك أوسع لسرك من صدر غيرك.
وقالوا: سرك من دمك
فانظر أين تريقه. يعنون أنه ربما كان في إفشائه سفك دمك.
وكتب عبد الملك بن
مروان إلى الحجاج بن يوسف:
ولا تفش سرك إلا إليك
... فإن لكل نصيح نصيحا
فإني رأيت غواة الرجا
... ل لا يتركون أديماً صحيحا
وقالت الحكماء: ما
كنت كاتمه من عدوك فلا تطلع عليه صديقك.
وقال عمرو بن العاص:
ما استودعت رجلاً سراً فأفشاه فلمته، لأني كنت أضيق صدراً منه حين استودعته إياه
حتى أفشاه.
وقال الشاعر:
إذا ضاق صدر المرء عن
سر نفسه ... فصدر الذي يستودع السر أضيق
قيل لأعرابي: كيف
كتمانك للسر؟ أجحد المخبر وأحلف للمستخبر.
وقيل لآخر: كيف
كتمانك للسر؟ قال: ما قلبي له إلا قبر.
وقال المأمون: الملوك
تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملوك، وإفشاء السر، والتعرض للحرم.
وقال الوليد بن عتبة
لأبيه: إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً ولا أراه يطوي عنك، أفلا أحدثك به؟ قال:
لا يا بني، إنه من كتم سره كان الخيار له، ومن أفشاه كان الخيار عليه، فلا تكن
مملوكاً بعد أن كنت مالكاً.
وفي كتاب التاج. أن
بعض ملوك العجم استشار وزيريه فقال أحدهما: لا ينبغي للملك أن يستشير منا أحد إلا
خالياً به، فإنه أموت للسر، وأحزم للرأي، وأجدر بالسلامة، وأعفى لبعضنا من غائلة
بعض. فإن إفشاء السر إلى رجل واحد أوثق من إفشائه إلى اثنين، وإفشائه إلى ثلاثة
كإفشائه إلى جماعة؛ لأن الواحد رهن بما أفشي، والثاني مطلق عنه بذلك الرهن،
والثالث علاوة فيه فإذا كان السر عند واجد كان أحرى أن لا يظهره رغبة ورهبة وإن
كان اثنين دخلت على الملك الشبهة. واتسعت على الرجلين المعاريض، فإن عاقبهما عاقب
اثنين بذنب واحد، وإن اتهمهما اتهم بريئاً بجناية مجرم، وإن عفا عنهما كان العفو
عن أحدهما ولا ذنب له، وعن الآخر ولا حجة معه.
ومن أحسن ما قالت
الشعراء في السر قول عمر بن أبي ربيعة:
فقالت وأرخت جانب
الستر إنما ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم
من ترقب ... ولكن سرى ليس يحمله مثلي
وقال أبو محجن الثقفي:
لا تسألي الناس عن
مالي وكثرته ... وسائلي الناس عن بأسي وعن خلقي
قد أطعن الطعنة
النجلاء عن عرض ... وأكتم السر فيه ضربة العنق
وقال الحطيئة يهجو:
أغربالاً إذا استودعت
سراً ... وكانونا على المتحدثينا
الإذنقال زياد لحاجبه
عجلان: كيف تأذن للناس؟ قال: على البيوتات، ثم على الأسنان، ثم على الآداب. قال
فمن تؤخر؟ قال: من لا يعبأ الله بهم. قال: ومن هم؟ قال: الذين يلبسون كسوة الشتاء في الصيف وكسوة الصيف في الشتاء.
وكان سعيد بن عتبة بن
حصين إذا حضر باب أحد من السلاطين جلس جانباً، فقيل له: إنك لتباعد من الآذن جهدك.
قال: لأن أدعى من بعيد خير من أن أقصى من قريب، ثم قال:
وإن مسيري في البلاد
ومنزلي ... هو المنزل الأقصى إذا لم أقرب
ولست وإن أدنيت يوماً
ببائع ... خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب
وقد عده قوم تجارة
رابح ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
وقال آخر:
رأيت أناساً يسرعون
تبادراً ... إذا فتح البواب بابك إصبعا
ونحن جلوس ساكنون
رزانة ... وحلما إلى أن يفتح الباب أجمعا
وقف الأحنف بن قيس
ومحمد بن الأشعث بباب معاوية، فأذن للأحنف ثم أذن لابن الأشعث، فأسرع في مشيته حتى
تقدم الأحنف ودخل قبله. فلما رآه معاوية غمه ذلك وأحنقه، فالتفت إليه، فقال: والله
إني ما أذنت له قبلك وأنا أريد أن تدخل قبله. وإنا كما نلي أموركم كذلك نلي
آدابكم، ولا يزيد متزيد في خطوه إلا لنقص يجده من نفسه.
وقال هشام الرقاشي:
أبلغ أبا مسمع عني
مغلغلة ... وفي العتاب حياة بين أقوام
قدمت قبلي رجالاً ما
يكون لهم ... في الحق أن يلجوا الأبواب قدامى
لو عد قوم وقوم كنت
أقربهم ... قربى وأبعدهم من منزل الذام
حتى جعلت إذا ما حاجة
عرضت ... بباب قصرك أدلوها بأقوام
قيل لمعاوية: إن آذنك
يقدم معارفه في الإذن على وجوه الناس. قال: وما عليه؟ إن المعرفة لتنفع في الكلب
العقور والسبع الهصور والجمل الصؤول، فكيف في رجل حسيب ذي كرم ودين؟ وقالت
الحكماء: لا يواظب أحد على باب السلطان فيلقي عن نفسه الأنفة ويحمل الأذى ويكظم
الغيظ إلا وصل إلى حاجته.
وقالوا: من أدمن قرع
الباب يوشك أن يفتح له.
وقال الشاعر:
كم من فتىً قصرت في
الرزق خطوته ... أصبته بسهام الرزق قد فلجا
إن الأمور إذا انسدت
مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت
مطالبةإذا استعنت بصبر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن
يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
ونظر رجل إلى روح بن
حاتم واقفاً في الشمس عند باب المنصور؛ فقال له: قد طال وقوفك في الشمس فقال:
ليطول وقوفي في الظل.
ونظر آخر إلى الحسن
بن عبد الحميد يزاحم الناس على باب محمد بن سليمان فقال له: أمثلك يرضى بهذا؟ فقال:
أهين لهم نفسي
لأكرمها بهم ... ولا يكرم النفس الذي لا يهينها
وفي كتاب للهند: إن
السلطان لا يقرب الناس لقرب آبائهم ولا يبعدهم لبعدهم، ولكن ينظر ما عند كل رجل
منهم، فيقرب البعيد لنفعه ويبعد القريب لضره وشبهوا ذلك بالجرذ الذي هو في البيت
مجاور، فمن أجل ضره نفي، والبازي الذي هو وحشي، فمن أجعل نفعه اقتني.
استأذن رجل على النبي
صلى الله عليه وسلم وهو في بيت، فقال: أألج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، وقل له يقول: السلام عليكم، أأدخل.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لك وإلا فارجع.
وقال النبي عليه
السلام الأولى أذن، والثانية مؤامرة، والثالثة عزمة، إما أن يأذنوا وإما أن يرجع.
الحجابقال زياد
لحاجبه: يا عجلان إني وليتك حجابتي وعزلتك عن أربع: هذا المنادى إلى الله في
الصلاة والفلاح لا تحجبه عني، فلا سلطان لك عليه؛ وطارق الليل لا تحجبه، فشر ما
جاء به، ولو كان في تلك الساعة؛ ورسول الثغر، فإنه إن أبطأ ساعة أفسد عمل سنة،
فأدخله علي وإن كنت في لحافي؛ وصاحب الطعام، فإن الطعام إذا أعيد تسخينه فسد.
ووقف أبو سفيان بباب
عثمان بن عفان، وقد اشتغل ببعض مصالح المسلمين فحجبه. فقال له رجل، وأراد أن
يغريه: يا أبا سفيان، ما كنت أرى أن تقف بباب مضري فيحجبك. فقال أبو سفيان: لا
عدمت من قومي من أقف ببابه فيحجبني.
استأذن أبو الدرداء
على معاوية فحجبه، فقال: من يغش أبواب الملوك يقم ويقعد، ومن يجد بابا مغلقا يجد إلى جانبه
بابا مفتوحا، إن دعا أجيب وإن سأل أعطي.
وقال محمود الوراق:
شاد الملوك قصورهم
فتحصنوا ... من كل طالب حاجة أو راغب
غالوا بأبواب الحديد
لعزها ... وتنوقوا في قبح وجه الحاجب
فإذا تلطف للدخول
عليهم ... راج تلقوه بوعد كاذب
فاطلب إلى ملك الملوك
ولا تكن ... بادي الضراعة طالباً من طالب
سعيد بن مسلم قال:
كنت واليا بإرمينية فغبر أبو هفان أياما ببابي ولا أعلم به، فلما وصل إلي مثل
قائماً بين السماطين وقال: والله إني لأعرف أقواماً لو علموا أن سف التراب يقيم من
أود أصلابهم لجعلوه مسكة لأرماقهم إيثاراً للتنزه عن عيش رقيق الحواشي. أما والله
إني لبعيد الوثبة بطيء العطفة. إن الله ما يثنيني عنك إلا ما يصرفك عني، ولأن أكون
مقلاً مقرباً أحب إلي من أكون مكثراً مبعداً. والله ما نسأل عملاً لا نضبطه، ولا
مالاً ونحن أكثر منه. وهذت الأمر الذي قد صار إليك وفي يديك كان في يد غيرك قبلك
فأمسوا والله حديثاً، إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فتجنب إلى عباد الله، وبغضهم موصول
ببغضه، لأنهم شهداء الله على خلقه، ورقباؤه على من اعوج عن سبيله.
أبو مسهر قال: أتيت
أبا جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان فحجبت، فكتبت إليه:
إني أتيتك للتسليم
أمس فلم ... تأذن عليك لي الأستار والحجب
وقد علمت بأني لم أرد
و لاوالله ما رد إلا العلم والأدب
فأجابني محمد بن عبد
الله بن عبد كان فقال:
لو كنت كافأت بالحسنى
لقلت كما ... قال ابن أوس وفيما قاله أدب:
ليس الحجاب بمقص عنك
أي أملاً ... إن السماء ترجى حين تحتجب
وقف بباب محمد بن
منصور رجل من خاصته فحجب عنه، فكتب إليه:
علي أي باب أطلب
الإذن بعد ما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه
وقف أبو العتاهية إلى
باب بعض الهاشميين فطلب الإذن؛ فقيل له: تكون لك عودة فقال:
لئن عدت بعد اليوم
إني لظالم ... سأصرف وجهي حيث تبغى المكارم
متى يظفر الغادي إليك
بحاجة ... ونصفك محجوب ونصفك نائم
ونظير هذا المعنى
للعتابي، حيث يقول:
قد أتيناك للسلام
مراراً ... غير من منا بذاك المزار
فإذا أنت في استتارك
باللي ... ل على مثل حالنا بالنهار
وقف رجل بباب أبي
دلف، فأقام حيناً لا يصل إليه، فتلطف برقعة أوصلها إليه، وكتب فيها:
إذا كان الكريم له
حجاب ... فما فضل الكريم على الليئم
فأجابه أبو دلف:
إذا كان الكريم قليل
مال ... ولم يعذر تعلل بالحجاب
وأبواب الملوك محجبات
... فلا تستعظمن حجاب بابي
وقال حبيب الطائي في
الحجاب:
سأترك هذا الباب ما
دام إذنه ... على ما أرى حتى يلين قليلا
فما خاب من لم يأته
متعمداً ... ولا فاز من قد نال منه وصولا
ولا جعلت أرزاقنا بيد
امرئ ... حمى بابه من أن ينال دخولا
إذا لم نجد للإذن
عندك موضعاً ... وجدنا إلى ترك المجيء سبيلا
وأنشد أبو بكر بن
العطار:
مالك قد حلت عن وفائك
واس ... تبدلت يا عمرو شيمة كدره
لستم ترجون للحساب
ولا ... يوم تكون السماء منفطره
قد كان وجهي لديك معرفة
... فاليوم أضحى بابا من النكرة
وقال غيره:
أتيتك للتسليم لا
أنني امرؤ ... أردت بإتيانيك أسباب نائلك
فألفيت بواباً ببابك
مغرماً ... يهدم ما وطدته من فضائلك
وقد قال قوم حاجب
المرء عامل ... على عرضه فاحذر خيانة عاملك
وقال أبو نواس الحسن
بن هانئ:
أيها الراكب المغذ
إلى الفض ... ل ترفق فدون فضل حجاب
ونعم هبك قد وصلت إلى
الفض ... ل فهل في يديك إلا التراب
وقال آخر، وهو محمد
البغدادي:
حجابك من مهابته عسير
... وخيرك في تزيده يسير
خرجت كما دخلت إليك
إلا ... غبار طار في خفي كثير
وقال آخر، وهو
العتابي:
حجابك ليس يشبهه حجاب
... وخيرك دون مطلبه السحاب
ونومك نوم من ورد
المنايا ... فليس له إلى الدنيا إياب
وقال غيره:
أنا بالباب واقف منذ
أصبح ... ت على السرج ممسكاً بعناني
وبعين البواب كل الذي
بي ... ويراني كأنه لا يراني
وقال غيره:
إذا ما أتيناه في
حاجة ... رفعنا الرقاع له بالقصب
له حاجب دونه حاجب
... وحاجب حاجبه محتجب
وقال أبو بشير: حجبني
بعض كتاب العسكر، فكتبت إليه: إن من لم يرفعه الإذن لم يضعه الحجاب. وأنا أرفعك عن
هذه المنزلة، وأرغب بقدرك عن هذه الخليفة، وكل من قام منزلك عظم قدره أو صغر،
وحاول حجاب الخليفة، أمكنه. فتأمل هذه الحال وانظر إليها بعين الفهم ترها في أقبح
صورة وأدنى منزلة.
وقد قلت في ذلك:
إذا كنت تأتي المرء
تعظم حقه ... ويجهل منك الحق فالهجر أوسع
وفي الناس أبدال وفي
الهجر راحة ... وفي الناس عمن لا يواتيك مقنع
وإن امرأ يرضى الهوان
لنفسه ... حري بجدع الأنف والأنف أسنع
وقال آخر:
يا أبا موسى وأنت فتى
... ماجد حلو ضرائبه
كن على منهاج معرفة
... إن وجه المرء حاجبه
فيه تبدو محاسنه ...
وبه تبدو معايبه
وأنشد حسين الجمل -
وبكر إلى باب سليمان بن وهب فحجبه الحاجب وأدخل ابن سعوة وحمدويه - قال:
ولعمري لئن حجبنا عن
الشي ... خ فلا عن وجه هناك وجيه
لا ولا عن طعامه
التافه النز ... ر الذي حوله لطام بنيه
بل حجبنا به عن الخسف
والمس ... خ وذاك التبريق والتمويه
فجزى الله حاجباً لك
فظاً ... كل خير عنا إذا يجزيه
فلقد سرني دخول أبي
سع ... وة دوني وبعده حمدويه
إن ذبحي نذالة قد
تأتى ... من صباحي بقبح تلك الوجوه
وقال أحمد بن محمد
البغدادي في الحسن بن وهب الكاتب:
ومستنب عن الحسن بن
وهب ... وعما فيه من كرم وخير
أتاني كي أخبره بعلمي
... فقلت له سقطت على الخبير
هو الرجل المهذب غير
أني ... أراه كثير إرخاء الستور
وأكثر ما يغنيه فتاه
... حسين حين يخلو للسرور:
ولولا الريح أسمع أهل
حجر ... صليل البيض تقرع بالذكور
ومن قولنا في هذا
المعنى:
ما بال بابك محروساً
ببواب ... يحميه من طارق يأتي ومنتاب
لا يحتجب وجهك
الممقوت عن أحد ... فالمقت يحجبه من غير حجاب
فاعزل عن الباب من قد
ظل يحجبه ... فإن وجهك طلسم على الباب
ووقف حبيب بن أوس
الطائي بباب مالك بن طوق فحجب عنه. فكتب إليه يقول:
قل لا بن طوق رحى سعد
إذ طحنت ... نوائب الدهر أعلاها وأسفلها:
أصبحت حاتمها جوداً
وأحنفها ... حلماً وكيسها علماً ودغفلها
ما لي أرى القتبة
البيضاء مقفلة ... دوني وقد طالما استفحت مقفلها
أظنها جنة الفردوس
معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
باب من الوفاء
والغدرقال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه: قد احتجت إلى أن
تصير مع عدوي وتظهر الغدر بي؛ فإن إعجابهم بأدبك وحاجتهم إلى كتابك تدعوهم إلى حسن
الظن بك، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي وإلا لم تعجز عن نفع حرمي بعد موتي. فقال
عبد الحميد: إن الذي أمرت به أنفع الأشياء لك وأقبحها بي، وما عندي غير الصبر معك،
حتى يفتح الله عليك أو أقتل معك. وأنشأ يقول:
أسر وفاء ثم أظهر
غدرة ... فمن لي بعذر يوسع الناس ظاهره
أبو الحسن المدائني
قال: لما قتل عبد الملك بن مروان عمرو بن سعيد بعد ما صالحه وكتب إليه أماناً
وأشهد شهوداً، قال عبد الملك بن مروان لرجل كان يستشيره ويصدر عن رأيه إذا ضاق به
الأمر: ما رأيك في الذي كان مني؟ قال: أمر قد فات دركه. قال: لتقولن. قال: حزم لو قتلته وحييت. قال: أو لست
بحي؟ فقال: ليس بحي من أوقف نفسه موقفاً لا يوثق له بعهد ولا بعقد. قال عبد الملك:
كلام لو سبق سماعه فعلى لأمسكت.
المدائني قال: لما
كتب أبو جعفر أمان ابن هبيرة واختلف فيه الشهود أربعين يوماً، ركب في رجال معه حتى
دخل على المنصور، فقال له: يا أمير المؤمنين إن دولتكم هذه جديدة فأذيقوا الناس حلاوتها
وجنبوهم مرارتها، لتسرع محبتكم إلى قلوبهم، ويعذب ذكركم على ألسنتهم، وما زلت
منتظراً لهذه الدعوة. فأمر أبو جعفر برفع الستر بينه وبينه، فنظر إلى وجهه وباسطه
بالقول حتى اطمأن قلبه. فلما خرج قال أبو جعفر لأصحابه. عجبا لمن يأمرني بقتل مثل
هذا! ثم قتله بعد ذلك غدراً.
وقال أبو جعفر لسلم
بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال سلم: " لو كان فيهما آلهة إلا الله
لفسدتا " ؛ قال حسبك الله أبا أمية.
قال أبو عمرو بن
العلاء: كان بنو سعد بن تميم أغدر العرب، وكانوا يسمون الغدر في الجاهلية: كيسان فقال
فيهم الشاعر:
إذا كنت في سعد وخالك
منهم ... غريباً فلا يغررك خالك من سعد
إذا ما دعوا كيسان
كانت كهولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد
الولاية والعزلقال
النبي صلى الله عليه وسلم: ستحرصون على الإمارة، ثم تكون حسرة وندامة، فنعمت
المرضعة، وبئست الفاطمة.
وقال المغيرة بن
شعبة: أحب الإمارة لثلاث وأكرهها لثلاث أحبها لرفع الأولياء، ووضع الأعداء،
واسترخاص الأشياء. وأكرهها لروعة البريد، وموت العزل، وشماتة الأعداء.
وقال ولد ابن شبرمة
القاضي: كنت جالساً مع أبي قبل أن يلي القضاء، فمر به طارق بن أبي زياد في موكب
نبيل، وهو وإلى البصرة، فلما رآه أبي تنفس الصعداء وقال:
أراها وإن كانت تحب
كأنها ... سحابة صيف عن قريب تقشع
ثم قال: اللهم لي
ديني ولهم دنياهم. فلما ابتلى بالقضاء، قلت له يا أبت أتذكر يوم طارق؟ قال: يا
بني، إنهم يجدون خلفاً من أبيك، وإن أباك حط في أهوائهم، وأكل من حلوائهم.
قيل لعبد الله بن
الحسن: إن فلاناً غيرته الولاية قال: من ولي ولاية يراها أكبر منه تغير لها، ومن
ولى ولاية يرى نفسه أكبر منها لم يتغير لها.
ولما عزل عمر بن
الخطاب رضي الله عنه المغيرة بن شعبة عن كتابة أبي موسى، قال له: أعن عجز أم خيانة
يا أمير المؤمنين؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فضل عقلك على العامة.
وكتب زياد إلى
معاوية: قد أخذت العراق بيميني وبقيت شمالي فارغة يعرض له بالحجاز - فبلغ ذلك عبد
الله بن عمر، فرفع يده إلى السماء وقال: اللهم اكفنا شمال زياد. فخرجت في شماله قرحة فقتلته.
ولقي عمر بن الخطاب أبا
هريرة، فقال له: ألا تعمل؟ قال: لا أريد العمل. قال: قد طلب العمل من هو خير منك،
يوسف عليه الصلاة والسلام. قال: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم.
المدائني قال: كان
بلال بن أبي بردة ملازماً لباب خالد بن عبد الله القسري، فكان لا يركب خالد إلا
رآه في موكبه، فبرم به، فقال لرجل من الشرط: إئت ذلك الرجل صاحب العمامة السوداء
فقل له: يقول لك الأمير: ما لزومك بابي وموكبي! إني لا أوليك ولاية أبداً. فأتاه
الرسول فأبلغه. فقال له بلال: هل أنت مبلغ عني الأمير كما بلغتني عنه؟ قال: نعم.
قال: قل له: والله لئن وليتني لا عزلتني. فأبلغه ذلك. فقال خالد: قاتله الله! إنه
ليعد من نفسه بكفاية. فدعاه فولاه.
وأراد عمر ابن الخطاب
أن يستعمل رجلاً، فبادر الرجل فطلب منه العمل. فقال له عمر: والله لقد كنت أردتك
لذلك، ولكن من طلب هذا الأمر لم يعن عليه.
وطلب العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم من النبي ولاية، فقال له: يا عم نفس تحييها خير من ولاية لا
تحصيها.
وطلب رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنا لا نستعين على عملنا بمن يريده.
وتقول النصارى: لا
نختار للجثلقة إلا زاهداً فيها هارباً منها غير طالب لها.
وقال زياد لأصحابه:
من أغبط الناس عيشا؟ قالوا: الأمير وأصحابه. قال: كلا، إن لأعواد المنبر لهيبة،
ولقرع لجام البريد لفزعة. ولكن أغبط الناس عيشا رجل له دار يجري عليه كراؤها،
وزوجة قد وافقته في كفاف من عيشه، لا يعرفنا ولا نعرفه، فإن عرفنا وعرفناه، أفسدنا
عليه آخرته ودنياه.
وكتب المغيرة بن شعبة
إلى معاوية، حين كبر وخاف أن يستبدل به: أما بعد، فقد كبرت سني، ورق عظمي، واقترب
أجلي، وسفهني سفهاء قريش، فرأى أمير المؤمنين في عمله موفق.
فكتب إليه معاوية:
أما ما ذكرت من كبر سنك، فأنت أكلت شبابك؛ وأما ما ذكرت من اقتراب أجلك، فإني لو
أستطيع دفع المنية لدفعتها عن آل أبي سفيان؛ وأما ما ذكرت من سفهاء قريش، فحلماؤها
أحلوك ذاك المحل؛ وأما ما ذكرت من أمر العمل، فضح رويداً يدرك الهيجا حمل وهذا مثل
للعرب وقد وقع تفسيره في كتاب الأمثال.
فلما انتهى الكتاب
إلى المغيرة، كتب إليه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له، فخرج وخرجنا معه. فلما
دخل عليه قال له: يا مغيرة، كبرت سنك، ورق عظمك، ولم يبق منك شيء، ولا أراني إلا
مستبدلاً بك. قال المحدث عنه: فانصرف إلينا ونحن نرى الكآبة في وجهه، فأخبرنا بما
كان من أمره قلنا له: فما تريد أن تصنع؟ قال: ستعلمون ذلك. فأتى معاوية فقال له:
يا أمير المؤمنين، إن الأنفس ليغدى عليها ويراح، ولست في زمن أبي بكر ولا عمر، فلو
نصبت لنا علما من بعدك نصير إليه، فإني قد كنت دعوت أهل العراق إلى بيعة يزيد.
فقال: يا أبا محمد، انصرف إلى عملك ورم هذا الأمر لابن أخيك. فأقبلنا تركض على
النجب، فالتفت فقال: والله لقد وضعت رجله في ركاب طويل، ألقى عليه أمة محمد صلى
الله عليه وسلم.
باب من أحكام
القضاءقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: إذا كان في القضاء خمس خصال فقد كمل: علم
بما كان قبله، ونزاهة عن الطمع، وحلم على الخصم، واقتداء بالأئمة، ومشاورة أهل
العلم والرأي.
وقال عمر بن عبد
العزيز: إذا أتاك الخصم وقد فقئت عينه، فلا تحكم له حتى يأتي خصمه، فلعله قد فقئت
عيناه جميعاً. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية كتاباً في القضاء يقول
فيه: إذ تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة، أو اليمين القاطعة، وإدناء
الضعيف حتى يشتد قلبه؛ وينبسط لسانه. وتعاهد الغريب، فإنك إن لم تتعاهده ترك حقه،
ورجع إلى أهله، وإنما ضيع حقه من لم يرفق به. وآس بين الناس في لحظك وطرفك، وعليك
بالصلح بين الناس ما لم يتبين لك فصل القضاء.
العتبي قال: تنازع
إبراهيم بن المهدي هو وبختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي داود القاضي في مجلس
الحكم في عقار بناحية السواد، فزرى عليه ابن المهدي وأغلظ له بين يدي أحمد بن أبي داود.
فأحفظه ذلك، فقال: بإبراهيم، إذا نازعت أحداً في مجلس الحكم فلا أعلمن أنك رفعت
عليه صوتاً، ولا أشرت إليه بيد؛ وليكن قصدك أمماً، وطريقك نهجاً، وريحك ساكنة. ووف
مجالس الحكومة حقوقها من التوقير والتعظيم والتوجه إلى الواجب، فإن ذلك أشبه بك،
وأشكل لمذهبك في محتدك وعظم خاطرك. ولا تعجل، فرب عجلة تهب ريثاً، والله يعصمك من
الزلل، وخطل القول والعمل، ويتم نعمته عليك ما أتمها على أبوك من قبل، إن ربك حكيم
عليم. قال إبراهيم: أصلحك الله، أمرت بسداد، وحضضت على رشاد، ولست بعائد إلى ما يلثم
مروءتي عندك، ويسقطني من عينك، ويخرجني عن مقدار الواجب إلى الاعتذار، فها أنذا معتذر
إليك من هذه البادرة اعتذار مقر بذنبه، باخع بجرمه؛ فإن الغضب لا يزال يستفز بمودة
فيردني مثلك بحلمه، وقد رهبت حقي من هذا العقار لبختيشوع، فليت ذلك يقوم بأرش
الجناية، ولن يتلف مال أفاد موعظة. وبالله التوفيق.
وكتب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري - رواها ابن عيينة - :
أما بعد، فإن القضاء
فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلى إليك الخصم، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا
نفاذ له. آس بين الناس في مجلسك ووجهك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف
من جورك البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا
صلحا أحل حراماً أو حرم حلالاً. ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن
ترجع عنه، فإن الحق قديم، والرجوع إليه خير من التمادي على الباطل. الفهم الفهم فيما
يتلجلج في صدرك مما لم يبلغك به كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم واعرف
الأمثال والأشباه وقس الأمور عند ذلك، ثم اعمد إلى أحبها عند الله ورسوله وأشبهها
بالحق، واجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة أخذت له بحقه، وإلا وجهت
عليه القضاء، فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر. والمسلمون عدول بعضهم على بعض، إلا مجلوداً في حد، أو مجرباً عليه
شهادة زور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة أو نسب، فإن الله عز وجل ولى منكم السرائر ودرأ
عنكم بالبينات والأيمان. ثم إياك والتأذي بالناس والتنكر للخصوم في مواطن الحقوق
التي يوجب الله عز وجل بها الأجر، ويحسن بها الذخر، فإنه من تخلص نيته فيما بينه
وبين الله ولو على نفسه يكفيه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم
الله خلافه منه هتك الله ستره.
وكتب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: أما بعد فإن للناس نفرة عن سلطانهم، فاحذر أن
تدركني وإياك عمياء مجهولة، وضغائن محمولة، وأهواء متبعة، ودنيا مؤثرة. أقم الحدود
واجلس للمظالم ولو ساعة من النهار، وأخف الفساق واجعلهم يداً يداً، ورجلاً رجلاً
وإذا كانت بين القبائل ثائرة فنادوا: يا لفلان، فإنما تلك نجوى من الشيطان فاضربهم
بالسيف حتى يفيئوا إلى أمر الله عز وجل، وتكون دعواتهم إلى الله والإسلام. واستدم
النعمة بالشكر، والطاعة بالتألف، والمقدرة بالعفو، والنصرة بالتواضع والمحبة للناس،
وبلغني أن ضبة تنادي: يا لضبة. وإني والله ما أعلم أن ضبة ساق الله بها خيراً قط،
ولا صرف بها شراً. فإذا جاءك كتابي هذا، فأنهكهم عقوبة حتى يفرقوا إن لم يفقهوا،
وألصق بغيلان بن خرشة من بينهم. وعد مرضى المسلمين، واشهد جنائزهم، وباشر أمورهم
بنفسك، وافتح لهم بابك؛ فإنما أنت رجل منهم، غير أن الله قد جعلك أثقلهم حملاً.
وقد بلغ أمير المؤمنين أنه فشت لك ولأهل بيتك هيئة في لباسك ومطعمك ومركبك ليس
للمسلمين مثلها، فإياك يا عبد الله أن تكون كالبهيمة همها في السمن والسمن حتفها.
واعلم أن العامل إذا زاغ زاغت رعيته، وأشقى الناس من يشقى به الناس، والسلام.
أراد عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أن يغزو قوماً في البحر، فكتب إليه عمرو بن العاص، وهو عامله على مصر: يا
أمير المؤمنين، إن البحر خلق عظيم يركبه خلق صغير، دود على عود. فقال عمر: لا
سألني الله عن أحد أحمله فيه.
الشعبي قال: كنت
جالساً عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها وهو غائب، وتبكي بكاء شديداً. فقلت:
أصلحك الله، ما أراها إلا مظلومة. قال: وما علمك؟ قلت: لبكائها. قال: لا تفعل،
فإن أخوة يوسف جاءوا آباءهم عشاء يبكون وهم له ظالمون.
وكان الحسن بن أبي
الحسن لا يرى أن يرد شهادة رجل مسلم إلا أن يحرجه المشهود عليه. فأقبل إليه رجل،
فقال: يا أبا سعيد، إن إياساً رد شهادتي. فقام معه الحسن إليه فقال: يا أبا وائلة،
لم رددت شهادة هذا المسلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، من صلى صلاتنا
واستقبل قبلتنا فهو مسلم، له ما لنا وعليه ما علينا؟ فقال: يا أبا سعيد، إن الله
عز وجل يقول: " ممن ترضون من الشهداء " وهذا ممن لا يرضى.
ودخل الأشعث بن قيس
على شريح القاضي في مجلس الحكومة فقال: مرحباً وأهلاً بشيخنا وسيدنا، وأجلسه معه.
فبينما هو جالس عنده إذ دخل رجل يتظلم من الأشعث، فقال له شريح: قم فاجلس مجلس
الخصم وكلم صاحبك. قال: بل أكلمه من مجلسي. فقال له: لتقومن أو لآمرن من يقيمك. فقال له
الأشعث: لشد ما ارتفعت! قال: فهل رأيت ذلك ضرك؟ قال: لا. قال: فأراك
تعرف نعمة الله على غيرك وتجهلها على نفسك.
وأقبل وكيع بن أبي سعود
صاحب خراسان ليشهد عند إياس بشهادة، فقال: مرحباً وأهلاً بأبي مطرف وأجلسه معه، ثم
قال له: ما جاء بك؟ قال: لأشهد لفلان. فقال: مالك وللشهادة، إنما يشهد الموالي والتجار
والسوقة. قال: صدقت، وانصرف من عنده. فقيل له: خدعك، إنه لا يقبل شهادتك. قال: لو علمت ذلك لعلوته بالقضيب.
دخل عدي بن أرطأة على
شريح، فقال: أين أنت أصلحك الله؟ قال: بينك وبين الحائط. قال: إني رجل
من أهل الشام. قال: نائي الدار سحيق المزار. قال: قد تزوجت عندكم. قال:
بالرفاء والبنين قال: وولد لي غلام. قال: ليهنئك الفارس. قال: وأردت أن أرحلها.
قال: الرجل أحق بأهله قال: وشرطت لها دارها، قال: الشرط أملك. قال
فاحكم الآن بيننا. قال: قد فعلت قال: على من قضيت؟ قال: على ابن أمك. قال:
بشهادة من؟ قال: بشهادة ابن أخت خالتك. يريد إقراره على نفسه.
سفيان الثوري قال:
جاء رجل يخاصم إلى شريح في سنور، قال: بينتك. قال: ما أجد بينة في سنور ولدت
عندنا. قال شريح: فاذهبوا بها إلى أمها فأرسلوها، فإن استقرت واستمرت ودرت فهي
سنورك، وإن هي اقشعرت وازبأرت وهرت فليست بسنورك.
سفيان الثوري قال:
جاء رجل إلى شريح فقال: ما تقول في شاة تأكل الدبى قال: لبن طيب وعلف مجان.
وقيل لشريح: أيهما
أطيب: الجوزينق أو اللوزينق؟ قال: لست أحكم على غائب.
ودخل رجل على الشعبي
في مجلس القضاء ومعه امرأته، وهي من أجمل النساء، فاختصما إليه، فأدلت المرأة
بحجتها وقربت بينتها. فقال الشعبي للزوج: هل عندك من مدفع؟ فأنشأ يقول:
فتن الشعبي لما ...
رفع الطرف إليها
فتنته بدلال ...
وبخطي حاجبيها
قال للجلواز قرب ...
ها وأحضر شاهديها
فقضى جوراً على الخص
... م ولم يقض عليها
قال الشعبي: فدخلت
على عبد الملك بن مروان، فلما نظر إلي تبسم وقال:
فتن الشعبي لم ...
رفع الطرف إليها
ثم قال: ما فعلت
بقائل هذه الأبيات؟ قلت: أوجعته ضرباً يا أمير المؤمنين بما انتهك من حرمتي في
مجلس الحكومة، وبما افترى به علي. قال: أحسنت.
كتاب الفريدة في
الحروب
ومدار أمرهاقال أبو
عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه رحمه الله قد مضى قولنا في السلطان وتعظيمه، وما على
الرعية من لزوم طاعته، وإدامة نصيحته؛ وما على السلطان من العدل في رعيته، والرفق
بأهل مملكته.
ونحن قائلون بعون
الله وتوفيقه في الحروب ومدار أمرها، وقود الجيوش وتدبيرها، وما على المدبر لها من
إعمال الخدعة، وانتهاز الفرصة، والتماس الغرة وإذكاء العيون، وإفشاء الطلائع،
واجتناب المضايق، وطول تجربته لها و لمقاساة الحروب ومعاناة الجيوش، وعلمه أن لا
درع كالصبر، ولا حصن كاليقين. ثم نذكر كرم الإقدام، ومحمود عاقبته، ولؤم الفرار،
ومذموم مغبته. والله المعين.
صفة الحربالحرب رحى ثقالها
الصبر، وقطبها المكر، ومدارها الاجتهاد، وثقافها الأناة، وزمامها الحذر، ولكل شيء
من هذه ثمرة، فثمرة الصبر التأييد، وثمرة المكر الظفر، وثمرة الاجتهاد والتوفيق،
وثمرة الأناة اليمن، وثمرة الحذر السلامة. ولكل مقام مقال، ولكل زمان رجال، والحرب
بين الناس سجال، والرأي فيها أبلغ من القتال.
قال عمرو بن الخطاب
رضي الله عنه لعمرو بن معد يكرب: صف لنا الحرب، قال: مرة المذاق، إذا كشفت عن ساق،
من صبر فيها عرف، ومن نكل عنها تلف ثم أنشأ يقول:
الحرب أول ما تكون
فتية ... تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا حميت وشب
ضرامها ... عادت عجوزاً ذات خليل
شمطاء جزت رأسها
وتنكرت ... مكروهة للثم والتقبيل
وقيل لعنترة الفوارس:
صف لنا الحرب. فقال: أولها شكوى، وأوسطها نجوى، وآخرها بلوى.
وقال الكميت:
والناس في الحرب شتى
وهي مقبلة ... ويستوون إذا ما أدبر القبل
كل بأمسيها طب مولية
... والعاملون بذي غدويها قلل
وقال نصر بن سياد
صاحب خراسان يصف الحرب ومبتدا أمرها:
أرى خلل الرماد جمر
... فيوشك أن يكون له ضرام
فإذا النار بالعودين
تذكى ... وإن الحرب أولها الكلام
فإن لم يطفها عقلاء
قوم ... يكون وقودها جثث وهام
فقلت من التعجب ليت
شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
وفي حكمة سليمان بن
داود عليهما السلام: الشر حلو أوله: مر آخره.
والعرب تقول: الحرب
غشوم، لأنها تنال غير الجاني وقال حبيب:
والحرب تركب رأسها في
مشهد ... عدل السفيه به بألف حليم
في ساعة لو أن
لقماناً بها ... وهو الحكيم لكان غير حكيم
وقال أكثم بن صيفي حكيم
العرب: لا حلم لمن لا سفيه له.
ونحو هذا قول الأحنف
بن قيس: ما قل سفهاء قوم قط إلا ذلوا.
وقال: لأن يطيعني
سفهاء قومي، أحب إلي من أن يطيعني حلماؤهم.
وقال: أكرموا
سفهاءكم، فإنهم يكفونكم النار والعار.
وقال النابغة الجعدي:
ولا خير في حلم إذا
لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
وأنشد هذا الشعر
للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى هذا البيت، قال له النبي صلى الله عليه
وسلم: لا يفضض الله فاك. فعاش ثلاثين ومائة سنة لم تسقط له ثنية.
وقال النابغة
الذبياني يصف الحرب:
تبدو كواكبه والشمس
طالعة ... لا النور نور ولا الإظلام إظلام
يريد بقوله: "
تبدو كواكبه والشمس طالعة " شدة الهول والكرب، كما تقول العامة: أريته النجوم
وسط النهار.
قال الفرزدق: "
أريك نجوم الليل والشمس حية " وقال طرفة بن العبد: " وتريك النجم يجري
بالظهر " وإليه ذهب جرير في قوله:
والشمس طالعة ليست
بكاسفة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
يقول: الشمس طالعة
وليست بكاسفة نجوم الليل، لشدة الغم والكرب الذي فيه الناس.
ومن قولنا في صفة
الحرب:
ومغبر السماء إذا
تجلى ... يغادر أرضه كالأرجوان
سموت له سمو النقع
فيه ... بكل مذلق سلب السنان
وكل مشطب المتنين صاف
... كلون الملح منصلت يماني
كأن نهاره ظلماء ليل
... كواكبه من السمر اللذان
وفي صفة المعترك:
ومعترك تهز به
المنايا ... ذكور الهند في أيدي ذكور
لوامع يبصر الأعمى
سناها ... ويعمي دونها طرف البصير
وخافقة الذرائب قد
أنافت ... على حمراء ذات شباً طرير
تحوم حولها عقبان موت
... تخطفت القلوب من الصدور
بيوم راح في سربال
ليل ... فما عرف الأصيل من البكور
وعين الشمس ترنو في
قتام ... رنو البكر من بين الستور
فكم قصرت من عمر طويل
... به وأطلت من عمر قصير
العمل في الحربقيل
لأكثم بن صيفي: صف لنا العمل في الحرب. قال: أقلوا الخلاف على أمرائكم، فلا جماعة
لمن اختلف عليه. واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، فتثبتوا، فإن أحزم الفريقين
الركين، ورب عجلة تعقب ريثاً. وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، وتحفظوا من البيات.
وقال شبيب الحروري:
الليل يكفيك الجبان ونصف الشجاع.
وكان إذا أمسى يقول
لأصحابه: أتاكم المدد يعني الليل.
وقالت عائشة رضي الله
تعالى عنها يوم الجمل، وسمعت منازعة أصحابها وكثرة صياحهم: المنازعة
في الحرب خور، والصياح فيها فشل، وما برأيي خرجت مع هؤلاء.
وقال عتبة بن ربيعة
لأصحابه يوم بدر لما رأى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترونهم خرساً لا
يتكلمون، يتلمظون تلمظ الحيات.
وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: من أكثر النظر في العواقب، لم يشجع.
وقال النعمان بن مقرن
لأصحابه عند لقاء العدو: إني هاز لكم الراية، فليصلح كل رجل منكم من شأنه، وليشد
على نفسه وفرسه؛ ثم إني هازها لكم الثانية، فلينظر كل رجل منكم موقع سهمه، وموضع
عدوه، ومكان فرصته ثم إني هازها لكم الثالثة وحامل، فاحملوا على اسم الله.
وللنعمان بن مقرن هذا
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه - إذ تكاملت عنده الحشود وتطلع الصحابة إلى
التقدم عليها - : لأقلدن أعنتها رجلاً يكون عداء لأول أسنة يلقاها. فقلدها النعمان بن
مقرن.
وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه: انتهزوا الفرصة، فإنها تمر مر السحاب، ولا تطلبوا أثراً بعد عين.
وقال بعض الحكماء:
انتهز الفرصة، فإنها خلسة؛ وثب عند رأس الأمر، ولا تثب عند ذنبه. وإياك والعجز،
فإنه أذل مركب؛ والشفيع المهين، فإنه والله أضعف وسيلة.
وخرجت خارجة بخراسان
على قتيبة بن مسلم فأهمه ذلك، فقيل له: ما يهمك منهم! وجه إليهم وكيع بن أبي سود
فإنه يكفيكم. فقال: لا، إن وكيعاً رجل به كبر يحتقر أعداءه، ومن كان هكذا قلت
مبالاته بأعدائه فلم يحترس منهم، فيجد عدوه غرة منه.
وسئل بعض الملوك عن
وثائق الحزم في القتال فقال: مخاتلة العدو عن الريف، وإعداد العيون على الرصد،
وإعطاء المبلغين أمانا على مستأمن، ولا تشدهنك الغنيمة عن المحاذرة.
وفي بعض كتب العجم:
أن حكيماً سئل أشد الأمور تدريباً للجنود وشحذاً لها، فقال: تعود القتال وكثرته،
وأن يكون لها مواد من ورائها.
وقال عمرو بن العاص
لمعاوية: والله ما أدري يا أمير المؤمنين أشجاع أنت أم جبان؟ فقال معاوية:
شجاع إذا ما أمكنتني
فرصة ... وإن لم تكن لي فرصة فجبان
وقال الأحنف بن قيس:
إن رأيت الشر يتركك إن تركته فاتركه.
قال هدبة العذري:
ولا أتمنى الشر والشر
تاركي ... ولكن متى أحمل على الشر أركب
ولست بمفراح إذا
الدهر سرني ... ولا جازع من صرفه المتقلب
الصبر والإقدام في
الحربجمعت الله تبارك وتعالى تدبير الحرب كلها في آيتين من كتابه فقال: " يا
أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون.
وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين " .
وتقول العرب: إن
الشجاعة وقاية، والجبن مقتلة. واعتبر من ذلك، أن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل
مقبلاً؟ ولذلك قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب
لك الحياة.
والعرب تقول: الشجاع
موقى، والجبان ملقى.
وقال أعرابي: الله
نخلف ما أتلف الناس، والدهر متلف ما جمعوا؛ وكم من منية علتها طلب الحياة، وحياة
سببها التعرض للموت.
وكان خالد بن الوليد
يسير في الصفوف يذمر الناس ويقول: يا أهل الإسلام، إن الصبر عز، وإن الفشل عجز،
وإن مع الصبر النصر.
وكتب أنو شروان إلى
مرازبته، عليكم بأهل الشجاعة والسخاء، فإنهم أهل حسن الظن بالله.
وقالت الحكماء:
استقبال الموت خير من استدباره.
وقال حسان بن ثابت:
ولسنا على الأعقاب
تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وقال العلوي في هذا
المعنى:
محرمة أكفال خيلى على
القنا ... ودامية لباتها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن
مدبر ... وتغرق منها في الصدور صدورها
وكانوا يتمادحون
بالموت قعصا، ويتهاجون بالموت على الفراش، ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه وأول من
قال ذلك النبي عليه الصلاة والسلام.
وخطب عبد الله بن الزبير
الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إنا والله
لا نموت حتفاً، ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح، وموتاً تحت ظلال السيوف. وإن يقتل
مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه.
وقال السموأل بن
عادياء:
ما مات منا سيد حتف
أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات
نفوسنا ... وليس على غير السيوف تسيل
وقال آخر:
وإنا لتستحلي المنايا
نفوسنا ... ونترك أخرى مرة ما نذوقها
وقال الشنفرى:
فلا تدفنوني إن دفني
محرم ... عليكم ولكن خامري أم عامر
إذا حملت رأسي وفي الرأس
أكثري ... وغودر عند الملتقى ثم سائري
هنالك لا أبغي حياة
تسرني ... سجيس الليالي مبسلاً بالجرائر
قوله: خامري أم
عامر، هي الضبع. يعني بقوله: إذا قتلتموني فلا تدفنوني ولكن ألقوني إلى التي يقال
لها: خامري أم عامر، وهي الضبع وهذا اللفظ بعيد من المعنى.
وقال أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب عليه السلام - وقيل له: أتقتل أهل الشام بالغداة وتظهر بالعشي في إزار ورداء؟ - فقال: أبالموت
تخوفوني! فوالله ما أبالي أسقطت على الموت أم سقط علي.
وقال لابنه الحسن
عليهما السلام: لا تدعون أحداً إلى المبارزة، وإن دعيت إليها فأجب، فإن الداعي
إليها باغ، والباغي مصروع.
وقال علي بن أبي طالب
رضي الله تعالى عنه: بقية السيف أنمى عدداً، وأطيب ولداً. يريد أن السيف إذا أسرع في أهل بيت كثر عددهم، ونمى ولدهم.
ومما يستدل به على
صدق قوله: ما عمل السيف في آل الزبير، وآل أبي طالب، وما كثر من عددهم.
وقال أبو دلف العجلي:
إني امرؤ عودني ...
مهرى ركوب الغلس
يحمدني سيفي كما ...
يحمد كري فرسي
سيفي بليلي قبسي ...
وفي نهاري أنسى
وقال محمد بن عبد
الله بن طاهر صاحب خراسان:
لست لربحان ولا راح
... ولا على الجار بنباح
فإن أردت الآن موقفاً
... فبين أسياف وأرماح
ترى فتى تحت ظلال
القنا ... يقبض أرواحاً بأرواح
وقال أشهب بن رميلة:
أسود شرى لاقت أسود
خفية ... تساقوا على حرد دماء الأساود
وقيل للمهلب بن أبي
صفرة: ما أعجب ما رأيت في حرب الأزارقة؟ قال: فتى كان يخرج إلينا منهم في كل غداة
فيقف فيقول:
وسائلة بالغيب عني
ولو درت ... مقارعتي الأبطال طال نحيبها
إذا ما التقينا كنت
أول فارس ... يجود بنفس أثقلتها ذنوبها
ثم يحمل فلا يقوم له
شيء إلا أقعده. فإذا كان من الغد عاد لمثل ذلك.
وقال هشام بن عبد
الملك لأخيه مسلمة: يا أبا سعيد، هل دخلك ذعر قط لحرب أو عدو؟ قال: ما سلمت في ذلك
من ذعر ينبه علي حيلي، ولم يغشني ذعر قط سلبني رأيي. قال هشام: صدقت، هذه والله البسالة.
وقيل لعنترة: كم كنتم
يوم الفروق؟ قال: كنا مائة، لم نكثر فنتكل، ولم نقل فنذل.
وكان يزيد بن المهلب
يتمثل كثيراً في الحرب بقول حصين بن الحمام:
تأخرت أستبقي الحياة
فلم أجد ... لنفسي حياة مثل أن أتقدما
وقالت الخنساء:
نهين النفوس وبذل
النفو ... س يوم الكريهة أبقى لها
وقيل لعباد بن الحصين
- وكان من أشد أهل البصرة - : في أي عدة كنت تريد أن تلقى عدوك؟ قال: في أجل
مستأخر: وكان مما يتمثل به معاوية رضي الله عنه يوم صفين.
أبت لي شيمتي وأبى
بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقدامي على المكروه
نفسي ... وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت
وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات
... وأحمي بعد عن عرض صحيح
ونظير هذا قول قطري
بن الفجاءة:
وقولي كلما جشأت
لنفسي ... من الأبطال ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت حياة
يوم ... سوى الأجل الذي لك لم تطاعي
وكان علي بن أبي طالب
رضي الله عنه يخرج كل يوم بصفين حتى يقف بين الصفين ويقول:
أي يومي من الموت أفر
... يوم لا يقدر أو يوم قدر
يوم لا يقدر لا أرهبه
... ومن المقدور لا ينجي الحذر
ومثله قول جرير:
قل للجبان إذا تأخر
سرجه ... هل أنت من شرك المنية ناجي
وهذا البيت في شعره
الذي أوله: " هاج الهوى لفؤادك المهتاج " ومدح فيه الحجاج، فلما أنشده:
" قل للجبان إذا تأخر سرجه " قال: جرأت علي الناس يا بن اللخناء. قال:
والله ما ألقيت لها بالاً أيها الأمير إلا وقتي هذا.
وكان عاصم بن الحدثان
عالماً ذكياً وكان رأس الخوارج بالبصرة وربما جاءه الرسول منهم من الجزيرة يسأله
عن الأمر يختصمون فيه، فمر به الفرزدق، فقال لابنه: أنشد أبا فراس، فأنشد:
وهم إذا كسروا الجفون
أكارم ... صبر وحين تحلل الأزرار
يغشون حومات المنون
وإنها ... في الله عند نفوسهم لصغار
يمشون بالخطي لا
يثنيهم ... والقوم إذ ركبوا الرماح تجار
فقال له الفرزدق:
ويحك! اكتم هذا لا يسمعه النساخون فيخرجوا علينا بحقوقهم. فقال أبوه: يا فرزدق، هو شاعر المؤمنين وأنت شاعر الكافرين.
ونظير هذا مما يشجع
الجبان قول عنترة الفوارس:
بكرت تخوفني الحتوف
كأنني ... أصبحت عن غرض الحتوف بمعزل
فأجبتها إن المنية
منهل ... لا بد أن أسقى بكأس المنهل
فاقني حياءك لا أبالك
واعلمي ... أني امرؤ سأموت إن لم أقتل
ومن أحسن ما قالوه في
الصبر قول نهشل بن حري بن ضمرة النهشلي:
ويوم كأن المصطلين
بحره ... وإن لم تكن نار وقوف على جمر
صبرنا له حتى يبوخ
وإنما ... تفرج أيام الكريهة بالصبر
وأحسن من هذا عندي
قول حبيب:
فأثبت في مستنقع
الموت رجله ... وقال لها من تحت إخمصيك الحشر
تردي ثياب الموت
حمراً فما أتى ... لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وأحسن من هذا القول:
يستعذبون مناياهم
كأنهم ... لا يخرجون من الدنيا إذا قتلوا
وقوله في هذا المعنى:
قوم إذا لبسوا الحديد
حسبتهم ... لم يحسبوا أن المنية تخلق
انظر فحيث ترى السيوف
لوامعاً ... أبدا ففوق (رؤوسهم تتألق
وقال الحجاج بن حكيم:
شهدن مع النبي مسومات
... حنيناً وهي دامية الحوامي
ووقعة راهط شهدت وحلت
... سنابكهن بالبلد الحرام
تعرض للطعان إذا
التقينا ... خدوداً لا تعرض للطام
أخذه من قولهم: ضربة
بسيف في عز، خير من لطمة في ذل.
ومن أحسن ما وصفت به
رجال الحرب قول الشاعر:
رويداً بني شيبان بعض
وعيدكم ... تلاقوا غدا خيلي على سفوان
تلاقوا جياداً لا
تحيد عن الوغى ... إذا ما غدت في المأزق المتداني
إذا استنجدوا لم
يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان
ونظير هذا قولالآخر:
قوم إذا نزل الغريب
بدارهم ... تركوه رب صواهل وقيان
وإذا دعوتهم ليوم
كريهة ... سدوا شعاع الشمس بالفرسان
لا ينكتون الأرض عند
سؤالهم ... لتطلب العلات بالعيدان
بل يسفرون وجوههم
فترى لها ... عند السؤال كأحسن الألوان
ومن أحسن المحدثين
تشبيها في الحرب، مسلم بن الوليد الأنصاري في قوله ليزيد بن مزيد:
تلقى المنية في أمثال
عدتها ... كالسيل يقذف جلموداً بجلمود
بجود بالنفس إذ ظن الجواد
بها ... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وقوله أيضاً:
موف على مهج في يوم
ذي رهج ... كأنه أجل يسعى إلى أمل
ينال بالرفق ما تعيا
الرجال به ... كالموت مستعجلاً يأتي على مهل
وقال أبو العتاهية:
كأنك عند الكر في
الحرب إنما ... تفر عن السلم الذي من ورائكا
كأن المنايا ليس تجري
لدى الوغى ... إذا التقت الأبطال إلا برائكا
فما آفة الآجال غيرك
في الوغى ... وما آفة الأموال غير حبائكا
وقال زيد الخيل:
وقد علمت سلامة أن
سيفي ... كريه كلما دعيت نزال
أحادثه بصقل كل يوم
... وأعجمه بهامات الرجال
وقال أبو محلم السعدي:
تقول وصكت وجهها
بيمينها ... أبعلي هذا بالرحى المتقاعس
فقلت لها لا تعجلي
وتبيني ... بلائي إذا التفت علي الفوارس
ألست أرد القرن يركب
ردعه ... وفيهن سنان ذو غرارين نائس
إذا هاب أقوام تقحمت
غمرة ... يهاب حمياها الألد المداعس
لعمر أبيك الخير إني
لخادم ... لضيفي وإني إن ركبت لفارس
وقال آخر يمدح المهلب
بالصبر:
وإذا جددت فكل شيء
نافع ... وإذا حددت فكل شيء ضائر
وإذا أتاك مهلبي في
الوغى ... في كفه سيف فنعم الناصر
ومن قولنا في القائد
أبي العباس في الحرب:
نفسي فداؤك والأبطال
واقفة ... والموت يقسم في أرواحها النقما
شاركت صرف المنايا في
نفوسهم ... حتى تحكمت فيها مثل ما احتكما
لو تستطيع العلا
جاءتك خاضعة ... حتى تقبل منك الكف والقدما
ومن قولنا في وصف
الحرب:
سيوف يقيل الموت تحت
ظباتها ... لها في الكلى طعم وبين الكلى شرب
إذا اصطفت الرايات
حمراً متونها ... ذرائبها تهفو فيهفو لها القلب
ولم تنطق الأبطال إلا
بفعلها ... فألسنها عجم وأفعالها عرب
إذا ما التقوا في
مأزق وتعانقوا ... فلقياهم طعن وتقبيلهم ضرب
ومن قولنا في رجال
الحرب، وأن الوغى قد أخذت من أجسامهم فهي مثل السيوف في رقتها وصلابتها:
سيف تقلد مثله ...
عطف القضيب على القضيب
هذا تجز به الرقا ...
ب وذا تجز به الخطوب
ومن قولنا أيضا:
تراه في الوغى سيفاً
صقيلا ... يقلب صفحتي سيف صقيل
ومن قولنا أيضاً:
سيف عليه نجاد سيف
مثله ... في حده للمفسدين صلاح
ومن قولنا أيضاً في
الحرب وذكر القائد:
مقيلك تحت أظلال
العوالي ... وبيتك فوق صهوات الجياد
تبختر في قميص من
دلاص ... وترفل في رداء من نجاد
كأنك للحرب رضيع ثدى
... غذتك بكل داهية نآد
فكم هذا التمني
للمنايا ... وكم هذا التجلد للجلاد
لئن عرف الجهاد بكل
عام ... فإنك طول دهرك في جهاد
وإنك حين أبت بكل سعد
... كمثل الروح آب إلى الفوائد
رأينا السيف مرتدياً
بسيف ... وعاينا الجواد على الجواد
وقد وصفن الحرب
بتشبيه عجيب لم يتقدم إليه، ومعنى بديع لا نظير له، وذلك قولنا:
وجيش كظهر اليم تنفحه
الصبا ... يعب عبوباً من قنا وقنابل
فتنزل أولاه وليس
بنازل ... وترحل أخراه وليس براحل
ومعترك ضنك تعاطت
كماته ... كؤوس دماء من كلى ومفاصل
يديرونها راحاً مني
الروح بينهم ... ببيض رقاق أو بسمر ذوابل
وتسمعهم أم المنية
وسطها ... غناء صليل البيض تحت المناصل
ومن قولنا في هذا:
سيف من الحتف تردى به
... يوم الوغى سيف من الحزم
مواصلاً أعداءه عن
قلى ... لا صلة القربى ولا الرحم
وصل يحن الإلف من
بغضه ... شوقاً إلى الهجران والصرم
حتى إذا نادمهم سيفه
... بكل كأس مرة الطعم
ترى حمياها بهاماتهم
... تغور بين الجلد والعظم
على أهازيج ظبا بينها
... ما شئت من حذف ومن خرم
طاعوا له من بعد
عصيانهم ... وطاعة الأعداء عن رغم
وكم أعدوا واستعدوا
له ... هيهات ليس الخضم كالقضم
ومن قولنا في شبهه:
كم ألحم في أبناء
ملحمة ... ما منهم فوق متن الأرض ديار
وأورد النار من أرواح
مارقة ... كادت تميز من غيظ لها النار
كأنما صال في ثنيى
مفاضته ... مستأسد حنق الأحشاء هدار
لما رأى الفتنة
العمياء قد رحبت ... منها على الناس آفاق وأقطار
وأطبقت ظلم من فوقها
ظلم ... ما يستضاء بها نور ولا نار
قاد الجياد إلى
الأعداء سارية ... قباً طواها كطي العصب إضمار
ملمومة تتبارى في
ململمة ... كأنها لاعتدال الخلق أفهار
تزور عند احتماس
الطعن أعينها ... وهن من فرجات النقع نظار
تفوت بالثأر أقواماً
وتدركه ... من آخرين إذ لم يدرك الثار
فانساب ناصر دين الله
يقدمهم ... وحوله من جنود الله أنصار
كتائب تتبارى حول
رايته ... وجحفل كسواد الليل جرار
قوم لهم في مكر الليل
غمغمة ... تحت العجاج وإقبال وإدبار
يستقدمون كراديساً
مكردسة ... كما تدفع بالتيار تيار
من كل أروع لا يرعى
لها جسة ... كأنه مخدر في الغيل هصار
في قسطل من عجاج
الحرب مد له ... بين السماء وبين الأرض أستار
فكم بساحتهم من شلو
مصرح ... كأنه فوق ظهر الأرض إجار
كأنما رأسه أفلاق
حنظلة ... وساعداه إلى الزندين جمار
وكم على النهر
أوصالاً مقسمة ... تقسمتها المنايا فهي أشطار
قد فلقت بصفيح الهند
هامهم ... فهن حوامى الخيل أعشار
ومن قولنا في الحروب:
وحومة غادرت فرسانها
... في مبرك للحرب جعجاع
مستلحم بالموت مستشعر
... مفرق للشمل جماع
وبلدة صحصحت منها
الربا ... بفيلق كالسيل دفاع
كأنما باضت نعام
الفلا ... منهم بهام فوق أدراع
تراهم عند احتماس
الوغى ... كأنهم جن بأجراع
بكل مأثور على متنه
... مثل مدب النمل في القاع
يرتد طرف العين من
حده ... عن عكوكب للموت لماع
ومن قولنا في الحرب:
ورب ملتفة العوالي
... يلتمع الموت في ذراها
إذا توطت حزون أرض
... طحطحت الشم من رباها
يقودها منه ليث غاب
... إذا رأى فرصة قضاها
تمضي بآرائه سيوف ...
يستبق الموت في ظباها
بيض تحل القلوب سوداً
... إذا انتضى عزمه انتضاها
تتبعه الطير في
الأعادي ... تجنى كلا العشب من كلاها
أقدم إذ كاع كل ليث
... عن حومة الموت إذ رآها
فأقحم الخيل في غمار
... تفغر بالموت لهوتاها
عنت له أوجه المنايا
... فعافها القوم واشتهاها
فرسان العرب في
الجاهلية والإسلامكان فارس العرب في الجاهلية ربيعة بن مكدم؛ من بني فراس بن غنم
ابن مالك بن كنانة، وكان يعقر على قبره في الجاهلية، ولم يعقر على قبر أحد غيره.
وقال حسان بن ثابت
وقد مر على قبره:
نفرت قلوصي من حجارة
حرة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه
فإنه ... شريب خمر مسعر لحروب
لولا السفار وطول قفر
مهمه ... لتركتها تحبو على العرقوب
وكان بنو فراس بن غنم
بن كنانة أنجد العرب، كان الرجل منهم يعدل بعشرة من غيرهم. وفيهم يقول علي بن أبي
طالب رضي الله عنه لأهل الكوفة: من فاز بكم فقد فاز بالسهم الأخيب. أبدلكم الله بي
من هو شر لكم، وأبدلني بكم من هو خير منكم. وددت والله أن لي بجميعكم - وأنتم مائة
ألف - ثلثمائة من بني فراس بن غنم.
ومن فرسان العرب في
الجاهلية: عنترة الفوارس، وعتيبة بن الحارث ابن شهاب، وأبو براء عامر بن مالك
ملاعب الأسنة، وزيد الخيل، وبسطام بن قيس، والأحيمر السعدي، وعامر بن الطفيل،
وعمرو بن عبد ود، وعمرو ابن معد يكرب.
وفي الإسلام: أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، والزبير وطلحة، ورجال الأنصار، وعبد الله
بن خازم السلمى، وعباد بن الحصين، وعمير بن الحباب، وقطري بن الفجاءة، والحريش بن
هلال السعدي، وشبيب الحروري.
وقالوا: ما استحيا
شجاع قط أن يفر من عبد الله بن حازم، وقطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة.
وقالوا: ذهب حاتم
بالسخاء، والأحنف بن قيس بالحلم، وخريم بالنعمة، وعمير بن الحباب بالشدة.
وبينما عبد الله بن
خازم عند عبيد الله بن زياد إذ دخل عليه بجرذ أبيض. فعجب منه عبيد الله وقال: هل
رأيت يا أبا صالح أعجب من هذا؟ ونظر إليه. فإذا عبد الله قد تضاءل حتى صار كأنه
فرخ، واصفر كأنه جرادة ذكر. فقال عبيد الله: أبو صالح يعصى الرحمن، ويتهاون بالسلطان، ويقبض على الثعبان، ويمشي
على الليث الورد، و يلقى الرماح بنحره، وقد اعتراه من جرذ ما ترون، أشهد أن الله
على كل شيء قدير.
وكان شبيب الحروري
يصيح في جنبات الجيش، فلا يلوي أحد على أحد. وفيه يقول الشاعر:
إن صاح يوماً حسبت
الصخر منحدراً ... والريح عاصفة والموج يلتطم
ولما قتل أمر الحجاج
بشق صدره، فإذا له فؤاد مثل فؤاد الجمل. فكانوا إذا ضربوا به الأرض ينزو كما تنزو
المثانة المنوخة.
ورجال الأنصار أشجع
الناس. قال عبد الله بن عباس: ما استلت السيوف، ولا زحفت الزحوف، ولا أقيمت
الصفوف، حتى أسلم ابنا قيلة. يعني الأوس والخزرج. وهما الأنصار من بني عمرو بن
عامر، من الأزد.
العتبي قال: لما أسن
أبو براء عامر بن مالك، وضعفه بنو أخيه وخرفوه، ولم يكن له ولد يحميه، أنشأ يقول:
دفعتكم عني وما دفع
راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل
يضعفني حلمي وكثرة
جهلكم ... علي وأني لا أصول بجاهل
وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه، إذ رأى همدان وغناءها في الحرب يوم صفين:
ناديت همدان والأبواب
مغلقة ... ومثل همدان سنى فتحة الباب
كالهندواني لم تفلل
مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب
وقال ابن براقة الهمداني:
كذبتم وبيت الله لا
تأخذونها ... مراغمة ما دام للسيف قائم
متى تجمع القلب الذكي
وصارما ... وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
وكنت إذا قوم غزوني
غزوتهم ... فهل أنا في ذا يا لهمدان ظالم
وقال تأبط شراً:
قليل التشكي للمهم
يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك
يبيت بموماة ويضحي
بغيرها ... جحيشا ويعروري ظهور المهالك
إذا حاص عينيه كعرى
النوم لم يزل ... له كالئ من قلب شيحان فاتك
ويجعل عينيه ربيئة
قلبه ... إلى سلة من حد أخلق باتك
إذا هزه في عظم قرن
تهللت ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك
وقال أبو سعيد
المخزومي، وكان شجاعاً:
وما يرى بنو الأغبار
من رحل ... بالجمر مكتحل بالنبل مشتمل
لا يشرب الماء إلا من
قليب دم ... ولا يبيت له جار على وجل
ونظير هذا قول بشار
العقيلي:
فتى لا يبيت على دمنة
... ولا يشرب الماء إلا بدم
وقال عبد الله بن
الزبير: التقيت بالأشتر النخعي يوم الجمل فيما ضربته ضربة حتى ضربني خمساً أو
ستاً، ثم أخذ برجلي فألقاني في الخندق وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما اجتمع منك عضو إلى آخر.
وقال أبو بكر بن أبي
شيبة: أعطت عائشة رضي الله عنها الذي بشرها بحياة ابن الزبير، إذ التقى مع الأشتر،
عشرة آلاف درهم.
وذكر متمم بن نويرة
أخاه مالكاً وجلده، فقال: كان يخرج في الليلة الصنبر، عليه الشملة الفلوت، بين
المزادتين على الجمل الثفال. معتقل الرمح الخطي. قالوا: وأبيك إن هذا لهو اجلد.
وكتب عمر بن الخطاب
إلى النعمان بن مقرن وهو على الصائفة: أن استعن في حربك بعمرو بن معد يكرب، وطليحة
الأزدي، ولا تولهما من الأمر شيئاً، فإن كل صانع أعلم بصناعته.
وقال عمر بن معد يكرب
يصف صبره وجلده في الحرب:
أعاذل عدني بزي ورمحي
... وكل مقلص سلس القياد
أعاذل إنما أفنى
شبابي ... إجابتي الصريخ إلى المنادي
مع الأبطال حتى سل
جسمي ... وأفرح عاتقي حمل النجاد
ويبقى بعد حلم القوم
حلمي ... ويفنى قبل زاد القوم زادي
ومن عجب عجبت له حديث
... بديع ليس من بدع السداد
تمنى أن يلاقيني أبي
... وددت وأينما مني ودادي
تمناني وسابغتي قميصي
... كأن قتيرها حدق الجراد
وسيف من لدن كنعان
عندي ... تخير نصله من عهد عاد
فلو لاقيتني للقيت
ليثاً ... هصوراً ذا ظباً وشباً حداد
ولاستيقنت أن الموت
حق ... وصرح شحم قلبك عن سواد
أريد حياته ويريد
قتلى ... عذيرك من خليلك من مراد
ومن قوله في قيس بن
مكشوح المرادي:
تمناني على فرس ...
عليه جالساً أسده
علي مفاضة كالنه ...
ي أخلص ماءه جدده
فلو لاقيتني للقي ...
ت ليثاً فوقه لبده
سبنتي ضيغماً هصراً
... صلخداً ناشزاً كتده
يسامي القرن إن قرن
... تيممه فيعتضده
فيأخذه فيرديه ...
فيخفضه فيقتصده
فيدمغه فيحطمه ...
فيخضمه فيزدرده
المكيدة في الحربقال
النبي صلى الله عليه وسلم: الحرب خدعة.
وقال المهلب لبنيه:
عليكم بالمكيدة في الحرب، فإنها خير من النجاة.
وكان المهلب يقول:
أناة في عواقبها فوت، خير من عجلة في عواقبها درك.
وقال مسلمة بن عبد
الملك: ما أخذت أمراً قط بحزم قط فظلمت نفسي فيه وإن كانت العاقبة علي، ولا أخذت
أمراً قط وضيعت الحزم فيه إلا لمت نفسي عليه وإن كانت العاقبة لي.
وسئل بعض أهل التمرس
بالحرب: أي المكايد فيها أحزم؟ قال: إذكاء العيون، وإفشاء الغلبة، واستطلاع
الأخبار، وإظهار السرور، وإماتة الفرق، والاحتراس من البطانة، من غير إقصاء لمن
يستنصح، ولا استنصاح لمن يستغش، واشتغال الناس عما هم فيه من الحرب بغيره.
وفي كتاب للهند:
الحازم يحذر عدوه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والغارة إن بعد، والكمين إن
انكشف، والاستطراد إن ولى.
وقال المأمون للفضل
بن سهل. قد كان لأخي رأى لو عمل به لظفر. فقال له الفضل: ما هو يا أمير المؤمنين؟
قال: لو كتب إلى أهل خراسان وطبرستان والري ودنباوند أنه قد وهب لهم الخراج لسنة
لم نخل نحن من إحدى خصلتين، إما رددنا فعله ولم نلتفت إليه، فعصانا أهل هذه
البلدان وفسدت نياتهم فانقطعوا عن معاونتنا، وإما قبلناه وأمضيناه فلا نجد ما نعطى
منه من معنا وتفرق جندنا ووهي أمرنا. فقال الفضل: الحمد الذي ستر هذا الرأي عنه
وعن أصحابه.
وكتب الحجاج إلى
المهلب يستعجله في حرب الأزارقة فكتب إليه: إن من البلية أن يكون الرأي بيد من
يملكه دون أن يبصره.
وكان بعض أهل التمرس
يقول لأصحابه: شاوروا في حربكم الشجعان من أولي العزم، والجبناء من أولي الحزم فإن
الجبان لا يألوا برأيه ما يقي مهجكم، والشجاع لا يعدو ما يشد بصيرتكم. ثم خلصوا من
بين الرأيين نتيجة تحمل عنكم معرة الجبان، وتهور الشجعان، فتكون أنفذ من السهم
الزالج، والحسام الوالج.
وكان الإسكندر لا
يدخل مدينة إلا هدمها وقتل أهلها، حتى مر بمدينة كان مؤدبه فيها. فخرج إليه،
فألطفه الإسكندر وأعظمه. فقال له: أصلح الله الملك، إن أحق من زين لك أمرك، وأعانك
على كل ما هويت لأنا. وإن أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك، فأحب أن
تشفعني فيهم، وأن لا تخالفني في كل ما سألتك لهم. فأعطاه من العهود والمواثيق على
ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه. فلما توثق منه قال: فإن حاجتي إليك أن تهدمها
وتقتل أهلها. قال: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من مخالفتك. فقال له: إرحل عنا.
وقيل: صالح سعيد بن
العاص حصناً من حصون فارس على أن لا يقتل منهم رجلاً واحداً، فقتلهم كلهم إلا
رجلاً واحداً.
ابن الكلبي قال: لما
فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه علجها: أن أبعث إلي رجلاً
من أصحابك أكلمه. ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري. قال: فخرج حتى دخل على العلج
فكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله. فقال العلج: حدثني: هل في أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا، إني
هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له، ولا يدرون ما تصنع بي؟ قال: فأمر له
بجائزة وكسوة، وبعث إلى البواب: إذ مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من
عنده فمر من رجل من نصارى غسان فعرفه فقال: يا عمرو، قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج.
ففطن عمرو لما أراده، فرجع. فقال له الملك: ما ردك إلينا؟ قال: نظرت فيما أعطيتني
فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية، فيكون
معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت، أعجل بهم. وبعث إلى
البواب أن خل سبيله. فخرج عمرو وهو يلتفت، حتى إذا أمن، قال: لا عدت لمثلها أبداً.
فلما صالحه عمرو ودخل عليه العلج، قال له: أنت هو! قال: نعم، على ما كان من غدرك.
وقال: ولما أتي
بالهرمزان أسيراً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قيل له: يا أمير المؤمنين، هذا
زعيم العجم وصاحب رستم. فقال له عمر: أعرض عليك الإسلام نصحاً لك في عاجلك وآجلك.
قال: يا أمير المؤمنين، إنما أعتقد ما أنا عليه ولا أرغب في الإسلام رهبة. فدعا له
عمر بالسيف. فلما هم بقتله، قال: يا أمير المؤمنين، شربة ماء أفضل من قتلى على
ظمأ. فأمر له عمر بشربة ماء. فلما أخذها قال له: أنا آمن حتى أشربها؟ قال: نعم. فرمى بها وقال:
الوفاء يا أمير المؤمنين نور أبلج. قال: صدقت، لك التوقف عنك وأنظر في أمرك، ارفعوا
عنه السيف. فلما رفع عنه قال: الآن يا أمير المؤمنين أشهد أن لا إله إلا الله وأن
محمداً عبده ورسوله وما جاء به حق من عنده. قال عمر: أسلمت خير إسلام، فما أخرك؟
قال: كرهت أن يظن أني إنما أسلمت جزعاً من السيف، وإيثاراً لدينه بالرهبة. فقال
عمر: إن لأهل فارس عقولاً بها استحقوا ما كانوا فيه من الملك؛ ثم أمر به أن يبر
ويكرم. فكان عمر يشاوره في توجيه العساكر والجيوش لأهل فارس.
وهذا نظير فعل الأسير
الذي أتى به معن بن زائدة في جملة الأسرى فأمر بقتلهم، فقال له أتقتل الأسرى
عطاشاً يا معن؟ فأمر بهم فسقوا. فلما شربوا قال: أتقتل أضيافك يا معن؟ فخلى سبيلهم.
وذكروا أن ملك من
ملوك العجم كان معروفاً ببعد الغور ويقظة الفطنة وحسن السياسة، وكان إذا أراد
محاربة ملك من الملوك وجه إليه من يبحث عن أخباره وأخبار رعيته قبل أن يظهر إلى
محاربته، فيكشف عن ثلاث خصال من حاله، فكان يقول لعيونه: انظروا هل ترد على الملك
أخبار رعيته على حقائقها أم يخدعه عنها المنهي ذلك إليه؟ وانظروا إلى الغنى في أي
صنف هو من رعيته، أفيمن اشتد أنفه وقل شرهه؟ أم فيمن قل أنفه واشتد شرهه؟ وانظروا
في أي صنفي رعيته القوام بأمره؟ أفيمن نظر ليومه وغده؟ أم من شغله يومه عن غده؟
فإن قيل له لا يخدع عن أخبار رعيته، والغنى فيمن قل شرهه واشتد أنفه، والقوام
بأمره من نظر ليومه وغده؛ قال: اشتغلوا عنه بغيره. وإن قيل له ضد ذلك؛ قال: نار كامنة
تنتظر موقد، وأضغان مزملة تنتظر مخرجاً، اقصدوا له فلا حين أحين من سلامة مع
تضييع، ولا عدو أعدى من أمن أدى إلى اغترار.
وكانت ملوك العجم قبل
ملوك الطوائف تنزل بلخ، ثم نزلت بابل، ثم نزل أردشير بن بابك فارس، فصارت دار
مملكتهم، وصار بخراسان ملوك الهياطلة، وهم الذين قتلوا فيروز بن يزدجرد بن بههرام
ملك الفرس، وكان غزاهم. فكاده ملك الهياطلة بأن عمد إلى رجل ممن عرفه بالمكابدة
وحسن الإدارة، فأظهر السخط عليه، ووقع به على أعين الناس توقيعاً قبيحاً، ونكل به
تنكيلاً شديداً، ثم أرسله وقد واطأه على أمر أبطنه معه وظاهره عليه. فخرج حتى أتى
فيروز في طريقه، فأظهر له النزوع إليه والاستنصار به من عظيم ما يناله. فلما رأى
فيروز ما به من التوقيع والنكاية فيه، وثق به واستنام إليه. فقال له: أنا أدلك
أيها الملك على غرة القوم وعورتهم، وأعلمك مكان غفلتهم. فسلك به سبيل مهلكة معطشة.
ثم خرج إليه ملك الهياطلة فأسره وأكثر أصحابه. فسألهم أن يمنوا عليه وعلى من معه، وأعطاهم
موثقاً لا يغزوهم أبداً، ونصب لهم حجراً جعله حداً بينه وبينهم، وحلف لهم أن لا يجاوزه
هو ولا جنوده، وأشهد الله عليه وعلى من حضر من قرابته وأساورته. فمنوا عليه
وأطلقوه ومن معه. فلما عاد إلى مملكته أخذته الأنفة مما أصابه، فعاد إلى غزوهم
ناكثاً لعهده، غادراً بذمته إلا أنه لطف في ذلك بحيلة ظنها مجزية في أيمانه، فجعل
الحجر الذي نصبه لهم على فيل في مقدمة عسكره، وتأول في ذلك أنه لا يجاوزه. فلما
صار إليهم ناشدوه الله وذكروه الأيمان به، وما جعل على نفسه من عهده وذمته. فأبى
إلا لجاجاً ونكثاً. فواقعوه فضفروا به، فقتلوه وقتلوا حماته، واستباحوا عسكره.
أسامة بن زيد الليثي:
قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غزا أخذ طريقاً وهو يريد أخرى، ويقول:
الحرب خدعة.
زياد عن مالك بن أنس:
كان مالك عبد الله الخثعمي، وهو على الصائفة يقوم في الناس كلما أراد أن يرحل،
فيحمد الله تعالى ويثني عليه، ثم يقول: إني دارب بالغداة إن شاء الله تعالى درب
كذا. فتتفرق الجواسيس عنه بذلك. فإذا أصبح الناس سلك بهم طريقاً أخرى. فكانت الروم
تسميه الثعلب.
وصايا أمراء الجيوش
كتب عمر بن عبد
العزيز رحمه الله إلى الجراح: إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا
بعث جيشاً أو سرية قال: اغزوا بسم الله، وفي سبيل الله، تقاتلون من كفر بالله، لا
تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا امرأة ولا وليداً. فإذا بعثت جيشاً أو
سرية فمرهم بذلك.
وكان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يقول عند عقد الألوية: بسم الله وبالله وعلى عون الله، امضوا بتأييد
الله والنصر، ولزوم الحق والصبر، فقاتلوا في سبيل الله لا من كفر بالله، ولا
تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند القدرة،
ولا تسرفوا عند الظهور، ولا تقتلوا هرماً ولا امرأة ولا وليداً، وتوقوا قتلهم إذا
التقى الزحفان، وعند حمة النهضات، وفي شن الغارات ولما وجه أبو بكر رضي الله عنه
يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيعه راجلاً. فقال له يزيد: إما أن تركب وإما أن
أنزل. فقال: ما أنت بنازل وما أنا براكب، إني أحتسب خطاي هذه في سبيل الله، ثم
قال: إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله، فذرهم وما حبسوا أنفسهم له - يعني الرهبان
- وستجد قوماً فحصوا عن أوساط رؤسهم الشعر، فاضرب ما فحصوا عنه بالسيف. ثم قال له:
إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثل، ولا تقتل هرماً ولا امرأة ولا وليداً، ولا تقرن
شاة ولا بعيراً إلا ما أكلتم، ولا تحرقن نخلاً، ولا تخربن عامر، ولا تغل، ولا تبخس.
وقال أبو بكر رضي
الله عنه لخالد بن الوليد حين وجهه لقتال أهل الردة: سر على بركة الله، فإذا دخلت
أرض العدو فكن بعيدا من الحملة، فإني لا آمن عليك الجولة. واستظهر بالزاد، وسر
بالأدلاء، ولا تقاتل بمجروح فإن بعضه ليس منه، واحترس من البيات فإن في العرب غرة:
وأقل من الكلام فإنما لك ما وعي عنك. واقبل من الناس علانيتهم، وكلهم إلى الله في سرائرهم
وأستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه.
كتب خالد بن الوليد
إلى مرازبة فارس مع ابن نفيلة الغساني: الحمد لله الذي فض حرمتكم، وفرق جمعكم، وأوهن
بأسكم، وسلب ملككم، وأذل عزكم. فإذا أتاكم كتابي هذا فابعثوا إلي بالرهن، واعتقدوا
منا الذمة، وأجيبوا إلى الجزية، وإلا والله الذي لا إله إلا هو، لأسيرن إليكم بقوم
تحبون الموت كما تحبون الحياة، ويرغبون في الآخرة كما ترغبون في الدنيا.
كتب عمر بن الخطاب
إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما ومن معه من الأجناد: أما بعد، فإني آمرك ومن
معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو، وأقوى
المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من
عدوكم، فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم
لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن
استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم
نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون،
فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا إن عدونا
شر منا فلن يسلط علينا وإن أسأنا، فرب قوم قد سلط عليهم شر منهم كما سلط على بني
إسرائيل، لما عملوا بمساخط الله، كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً
مفعولاً. واسألوا الله العون على أنفسكم، كما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل الله
ذلك لنا ولكم. وترفق بالمسلمين في مسيرهم ولا تجشمهم مسيراً يتعبهم، ولا تقصر بهم
على منزل يرفق بهم، حتى يبلغوا عدوهم والسفر لم ينقص قوتهم، فإنهم سائرون إلى عدو
مقيم حامي الأنفس والكراع. وأقم ومن معك في كل جمعة يوم وليلة، حتى تكون لهم راحة
يحيون فيها أنفسهم، ويرمون أسلحتهم وأمتعتهم ونح منازلهم عن قرى أهل الصلح والذمة،
فلا يدخلها من أصحابك إلا من تثق بدينه، ولا يرزأ أحداً أهلها شيئاً، فإن لهم حرمة
وذمة ابتليتم بالوفاء بها كما ابتلوا بالصبر عليها، فما صبروا لكم فتولوهم خيراً.
ولا تستنصروا على أهل الحرب بظلم أهل الصلح. وإذا وطئت لأرض العدو فأذك العيون
بينك وبينهم، ولا يخف عليك أمرهم. وليكن عندك العرب أو من أهل الأرض من تطمئن إلى نصحه وصدقه، فإن
الكذوب لا ينفعك خيره، وإن صدقك في بعضه، والغاش عين عليك وليس عينا لك. وليكن منك
عند دنوك من أرض العدو أن تكثر الطلائع وتبث السرايا بينك وبينهم، فتقطع السرايا
أمدادهم وموافقهم، وتتبع الطلائع عوراتهم. وانتق للطلائع أهل الرأي والبأس من
أصحابك، وتخير لهم سوابق الخيل. فإن لقوا عدوا كان أول ما تلقاهم القوة من رأيك،
واجعل أمر السرايا إلى أهل الجهاد والصبر على الجلاد، لا تخص بها أحداً يهوى،
فيضيع من أمرك ورأيك اكثر مما حابيت به أهل خاصتك. ولا تبعثن طليعة ولا سرية في
وجه تتخوف عليها فيه غلبة أو ضيعة ونكاية. فإذا عاينت العدو فاضمم إليك أقاصيك
وطلائعك وسراياك، واجمع إليك مكيدتك وقوتك، ثم لا تعاجلهم المناجزة، ما لم يستكرهك
قتال، حتى تبصر عورة عدوك ومقالته، وتعرف الأرض كلها كمعرفة أهلها بها، فتصنع
بعدوك كصنعه بك. ثم أذك أحراسك على عسكرك، وتيقظ من البيات جهدك. ولا تؤتي بأسير ليس
له عقد إلا ضربت عنقه، لترهب بذلك عدو الله وعدوك. والله ولي أمرك ومن معك، وولي النصر
لكم على عدوكم، والله المستعان.
وأوصى عبد الملك بن
مروان أميراً سيره إلى أرض الروم فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيس
الذي إن وجد ربحاً تجر، وإلا تحفظ برأس المال. ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة،
وكن من احتيالك على عدوك أشد حذراً من احتيال عدوك عليك.
وكان زياد يقول
لقواده: تجنبوا اثنين لا تقاتلوا فيهما العدو: الشتاء وبطون الأودية.
وأغزى الوليد بن عبد
الملك جيشاً في الشتاء، فغنموا وسلموا، فقال لعباد: يا أبا حرب، أين رأى زياد من
رأينا؟ فقال: يا أمير المؤمنين، قد أخطأت، وليس كل عورة تصاب.
العتبي قال: جاشت
الروم وغزوا المسلمين براً وبحراً، فاستعمل معاوية على الصائفة عبد الرحمن بن خالد
بن الوليد، فلما كتب له عهده قال: ما أنت صانع بعهدي؟ قال: أتخذه إماماً لا أعصيه. قال: اردد علي عهدي.
ثم بعث إلى سفيان بن عوف الغامدي فكتب له عهده، ثم قال له: ما أنت صانع بعهدي؟ قال:
أتخذه إماماً أمام الحزم، فإن خالفه خالفته. فقال معاوية: هذا الذي لا يكفكف من
عجلة، ولا يدفع في ظهره من خور، ولا يضرب على الأمور ضرب الجمل الثفال.
وقال دريد الصمة
لمالك بن عوف النصري قائد هوازن يوم حنين: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك، وإن هذا يوم له ما بعده من الأيام.
مالي أسمع رغاء البعير، ونهاق الحمير، وبكاء الصغير، ويعار الشاء؟ قال: سقت مع الناس
أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم ذاك؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله
ليقاتل عنهم. فأنقض به وقال: راعى ضأن والله؟ وهل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت
لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ويحك إنك لم
تصنع بتقديم البيضة بيضة هوزان إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى متمنع بلادهم،
وعليا قومهم، ثم الق الصباء على متون الخيل. فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن
كانت عليك كنت قد أحرزت أهلك ومالك. قال: لا والله لا أفعل ذلك، إنك قد كبرت وذهل
عقلك. قال: دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني، ثم أنشأ يقول:
يا ليتني فيها جذع
... أخب فيها وأضع
أقود وطفاء الزمع ...
كأنها شاة صدع
وكان قتيبة بن مسلم
يقول لأصحابه: إذ غزوتم فأطيلوا الأظفار وقصروا الشعور، والحظوا الناس شزراً،
وكلموهم رمزاً، واطعنوهم وخزاً.
وكان أبو مسلم يقول
لقواده: أشعروا قلوبكم الجرأة فإنها من أسباب الظفر، وأكثروا ذكر الضغائن فإنها
تبعث على الإقدام، والزموا الطاعة فإنها حصن المحارب.
وكان سعيد بن زيد
يقول لبنيه: قصروا الأعنة واشحذوا الأسنة، تأكلوا القريب، ويرهبكم البعيد.
وقال عيسى بن موسى:
لما وجهني المنصور إلى المدينة لمحاربة ابني عبد الله بن الحسن، وجعل يوصيني
ويكثر، قلت: يا أمير المؤمنين؛ إلى متى توصيني:
إني أنا ذاك الحسام
الهندي ... أكلت جفني وفريت غمدي
فكل ما تطلب عندي
عندي
المحاماة عن العشيرة
ومنع المستجيرقال عبد
الملك بن مروان لجعيل بن علقمة الثعلبي: ما مبلغ عزكم؟ قال: لم يطمع فينا ولم يؤمن
منا. قال: فما مبلغ حفظكم؟ قال: يدفع الرجل منا عمن استجار به من غير قومه كدفاعه
عن نفسه. قال عبد الملك: مثلك من يصف قومه.
وقال عبد الملك بن
مروان لابن مطاع الغنزي: أخبرني عن مالك بن مسمع. قال له: لو غضب مالك لغضب معه
مائة ألف سيف لا يسألونه في أي شيء غضب. قال عبد الملك: هذا والله السؤدد.
قال: ولم يل قط مالك
بن مسمع ولا أسماء بن خارجة شيئاً للسلطان.
وكانت العرب تمتدح
بالذب عن الجار فيقولون: فلان منيع الجار، حامي الذمار. نعم، حتى كان فيهم من يحمي
الجراد إذا نزل في جواره، فسمي مجير الجراد.
وقال مروان بن أبي
حفصة يمدح معن بن زائدة ويصف مفاخر بني شيبان ومنعهم لمن استجار بهم:
هم القوم إن قالوا
أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا
هم يمنعون الجار حتى
كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
وقال آخر:
هم يمنعون الجار حتى
كأنه ... كثيبة زور بين خافيتي نسر
وذكر أن معاوية ولى
كثير بن شهاب المذحجي خراسان، فاختان مالاً كثيراً ثم هرب فاستتر عند هانئ بن عروة
المرادي: فبلغ ذلك معاوية، فهدر دم هانئ. فخرج إلى معاوية فكان في جواره، ثم حضر
مجلسه وهو لا يعرفه، فلما نهض الناس ثبت مكانه. فسأله معاوية عن أمره فقال: أنا
هانئ بن عروة. فقال: إن هذا اليوم ليس باليوم الذي يقول فيه أبوك:
أرجل جمتي وأجر ذيلي
... وتحمل شكتي أفق كميت
وأمشي في سراة بني
غطيف ... إذا ما ساءني أمر أبيت
قال: أنا
والله يا أمير المؤمنين اليوم أعز مني ذلك اليوم. فقال: بم ذلك؟ قال: بالإسلام.
قال: أين كثير بن شهاب؟ قال: عندي وعندك يا أمير المؤمنين. قال: انظر إلى
ما اختانه، فخذ منه بعضاً، وسوغه بعضاً، وقد أمناه ووهبناه لك.
الشيباني قال: لما
نزل محمد بن أبي بكر مصر وصير إليه معاوية معاوية بن حديج الكندي، تفرق عن محمد من
كان معه، فتغيب. فدل عليه، فأخذه وضرب عنقه وبعث برأسه إلى معاوية. وكان أول رأس
طيف به في الإسلام.
وكان محمد بن جعفر بن
أبي طالب معه، فاستجار بأخواله من خثعم فغيبوه. وكان سيد خثعم يومئذ رجلاً في ظهره
بزخ من كسر أصابه، فكان إذا مشى ظن الجاهل أنه يتبختر في مشيته، فذكر لمعاوية أنه
عنده، فقال له: أسلم إلينا هذا الرجل: فقال: ابن اختنا لجأ إلينا لنحقن دمه، عنك يا أمير المؤمنين. قال: والله لا
أدعه حتى تأتيني به. قال لا والله لا أتيك به. قال: كذبت. والله لتأتيني به، إنك ما
علمت لأوره. قال: أجل، إني لأوره حين أقاتلك على ابن عمك لأحقن دمه، وأقدم ابن عمي
دونه تسفك دمه. فسكت عنه معاوية وخلى بينه وبينه.
الشيباني قال: قال
سعيد بن سلم: أهدر المهدي دم رجل من أهل الكوفة كان يسعى في فساد دولته وجعل لمن
دله عليه أو جاءه به مائة ألف درهم. قال: فأقام الرجل حيناً متوارياً ثم إنه ظهر
بمدينة السلام، فكان ظاهراً كغائب، خائفاً مترقباً. فبينا هو يمشي في بعض نواحيها
إذ بصر به رجل من أهل الكوفة فعرفه، فأهوى إلى مجامع ثوبه، وقال: هذا بغية أمير
المؤمنين؛ فأمكن الرجل من قياده، ونظر إلى الموت أمامه. فبينما هو على الحالة إذ
سمع وقع الحوافر من وراء ظهره، فالتفت فإذا معن بن زائدة، فقال: يا أبا الوليد،
أجرني أجارك الله؛ فوقف وقال للرجل الذي تعلق به: ما شأنك؟ قال: بغية أمير
المؤمنين، الذي أهدر دمه وأعطى لمن دل عليه مائة ألف. فقال: يا غلام، انزل عن
دابتك، واحمل أخانا. فصاح الرجل: يا معشر الناس، يحال بيني وبين من طلبه أمير المؤمنين!
قال له معن: اذهب فأخبره أنه عندي. فانطلق إلى باب أمير المؤمنين فأخبر الحاجب،
فدخل إلى المهدي فأخبره، فأمر بحبس الرجل، ووجه إلى معن من يحضر به. فأتته رسل
أمير المؤمنين وقد لبس ثيابه، وقربت إليه دابته، فدعا أهل بيته ومواليه فقال: لا
يخلصن إلى هذا الرجل وفيكم عين تطرف. ثم ركب ودخل حتى سلم على المهدي، فلم يرد
عليه. فقال: يا معن، أتجير علي؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين. قال: ونعم أيضاً!
واشتد غضبه. فقال معن: يا أمير المؤمنين، قتلت في طاعتكم باليمن في يوم واحد خمسة
عشر ألفاً، ولي أيام كثيرة قد تقدم فيها بلائي، وحسن غنائي، فما رأيتموني أهلاً أن
تهبوا لي رجلاً واحداً استجار بي؟ فأطرق المهدي طويلاً، ثم رفع رأسه وقد سري عنه، فقال:
قد أجرنا من أجرت. قال معن: فإن رأى أمير المؤمنين أن يصله فيكون قد أحياه وأغناه
فعل. قال: قد أمرنا له بخمسين ألف. قال: يا أمير المؤمنين، إن صلات الخلفاء تكون
على قدر جنايات الرعية، وإن ذنب الرجل عظيم، فأجزل له الصلة. قال: قد أمرنا له
بمائة ألف. قال: فتعجلها يا أمير المؤمنين فإن خير البر عاجله. فأمر بتعجيلها.
فدعا لأمير المؤمنين بأفضل دعاء، ثم انصرف ولحقه المال. فدعا الرجل، فقال له: خذ
صلتك، والحق بأهلك، وإياك ومخالفة خلفاء الله تعالى.
الجبن والفرارقال
عمرو بن معد يكرب: الفزعات ثلاث: فمن فزعته في رجليه، فذلك الذي لا تقله رجلاه؛ ومن كانت فزعته في
رأسه، فذلك الذي يفر عن أبويه، ومن كانت فزعته في قلبه، فذلك الذي يقاتل.
وقال الأحنف بن قيس:
أسرع إلى الفتنة أقلهم حياء من الفرار.
وقامت عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها: إن لله خلقاً قلوبهم كقلوب الطير، كلما خفقت الريح خفقت
معها، فأف للجبناء! أف للجبناء! وقال الشاعر:
يفر الجبان عن أبيه
وأمه ... ويحمي شجاع القوم من لا يناسبه
ويرزق معروف الجواد
عدوه ... ويحرم معروف البخيل أقاربه
وقال خالد بن الوليد
عند موته. لقد لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسمي موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة
أو رمية، ثم هأنذا أموت حتف أنفى كما يموت العير، فلا نامت أعين الجبناء.
ومن أشعار الفرارين
الذين حسنوا فيها الفرار على قبحه حتى حسن، قول الفرار السلمي:
وكتيبة لبستها بكتيبة
... حتى إذا التبست نفضت لها يدي
وتركتهم تقص الرماح ظهورهم
... من بين مقتول وآخر مسند
هل ينفعنى أن تقول
نساؤهم ... وقتلت دون رجالها: لا تبعد
وقال أبو عبيدة معمر
بن المثنى: ما اعتذر أحد من الفرارين بأحسن مما اعتذر به الحارث بن هشام حيث يقول:
الله يعلم ما تركت
قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل
واحداً ... أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي
فصدفت عنهم والأحبة
فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مرصد
وهذا الذي سمعه رتبيل
فقال: يا معشر العرب، حسنتم كل شيء فحسن حتى الفرار.
وبعد هذا يأتي قول
حسان في ذلك.
وأسلم الحارث يوم فتح
مكة وحسن إسلامه، وخرج في زمن عمر إلى الشام من مكة بأهله وماله مجاهداً فأتبعه
أهل مكة يبكون، فرق وبكى وقال: أما لو كنا نستبدل داراً بدارنا، أو جاراً بجارنا،
ما رأينا بكم بدلا، ولكنها النقلة إلى الله. فلم يزل هنالك مجاهداً حتى مات.
وقال آخر:
قامت تشجعني هند وقد
علمت ... أن الشجاعة مقرون بها العطب
لا والذي منع الأبصار
رؤيته ... ما يشتهي الموت عندي من له أدب
للحرب قوم أضل الله
سعيهم ... إذا دعتهم إلى نيرانها وثبوا
ولست منهم ولا أبغي
فعالهم ... لا القتل يعجبني منهم ولا السلب
وقال محمود الوراق:
أيها الفارس المشيح
المغير ... إن قلبي من السلاح يطير
ليس لي قوة على رهج
... الخيل إذا ثور الغبار مثير
واستدارت رحى الحروب
بقوم ... فقتيل وهارب وأسير
حيث لا ينطق الجبان
من الذعر ويعلو الصياح والتكبير
أنا في مثل ذا وهذا
بليد ... ولبيب في غيره بحرير
وقال أيمن بن خريم:
إن للفتنة ميطاً
بيناً ... فرويد الميط منها يعتدل
فإذا كان عطاء فأتهم
... وإذا كان قتال فاعتزل
إنما يوقدها جهالها
... حطب النار فدعها تشتعل
ومما يحتج به
الفرارون ما قاله صاحب كليلة ودمنة: إن الحازم يكره القتال ما وجد بداً منه، لأن
النفقة فيه من النفس، والنفقة في غيره من المال.
أخذ هذا المعنى حبيب
الطائي فنظمه في شعره حيث يقول:
كم بين قوم إنما
نفقاتهم ... مال وقوم ينفقون نفوسا
ومن الفرارين: عبد
الرحمن بن محمد بن الأشعث، فر من الأزارقة وكان في عشرة آلاف، وكان قد بعث إليه
المهلب: يا بن أخي، خندق على نفسك وعلى أصحابك فإني عالم بأمر الخوارج ولا تغتر.
فبعث إليه: أنا أعلم بهم منك، وهم أهون علي من ضربة الجمل.فبيته قطري صاحب
الأزارقة، فقتل من أصحابه خمسمائة وفر لا يلو على أحد. فقال فيه الشاعر:
تركت ولداننا تدمى
نحورهم ... وجئت منهزماً يا ضرطة الجمل
ومن الفرارين: أمية
بن عبد الله بن خالد بن أسيد. فر يوم مرداء هجر من أبي فديك. فسار من البحرين إلى
البصرة في ثلاثة أيام، فجلس يوماً بالبصرة فقال: سرت على فرسي المهرجان من البحرين إلى البصرة في ثلاثة أيام. فقال له
بعض جلسائه: أصلح الله الأمير، فلو ركبت النيروز لسرت إليها في يوم واحد. فلما دخل
عليه أهل البصرة لم يروا كيف يكلمونه ولا ما يلقونه من القول، أيهنئونه أم يعزونه،
حتى دخل عليه عبد الله بن الأهتم فاستشرف الناس له وقالوا: ما عسى أن يقال
للمنهزم؟ فسلم ثم قال: مرحباً بالصابر المخذول، الذي خذله قومه الحمد لله الذي نظر
لنا عليك ولم ينظر لك علينا، فقد تعرضت للشهادة جهدك، ولكن علم الله تعالى حاجة
أهل الإسلام إليك فأبقاك لهم بخذلان من معك لك. فقال أمية بن عبد الله: ما وجدت أحداً أخبرني عن نفسي غيرك.
وفيه يقول الشاعر:
إذا صوت العصفور طار
فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
أتي الحجاج بدواب
أمية قد وسم على أفخاذها عدة فأمر الحجاج أن يكتب تحت ذلك: للفرار.
وقال أبو دلامة: كنت
مع مروان أيام الضحاك الحروري، فخرج فارس منهم فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل
فقتله، ثم ثان فقتله، ثم ثالث فقتله فانقبض الناس عنه وجعل يدنو ويهدر كالفحل
المغتلم. فقال مروان: من يخرج إليه وله عشرة آلاف؟ قال: فلما سمعت عشرة آلاف هانت
علي الدنيا وسخوت بنفسي في سبيل عشرة آلاف وبرزت إليه، فإذا عليه فرو قد أصابه
المطر فارمعل، ثم أصابته الشمس فاقفعل، وله عينان تتقدان كأنهما جمرتان. فلما رآني
فهم الذي أخرجني، فأقبل نحوي وهو يرتجز ويقول:
وخارج أخرجه حب الطمع
... فر من الموت وفي الموت وقع
" من كان
ينوي أهله فلا رجع "
فلما رأيته قنعت
رأسي، ووليت هارباً، ومروان يقول: من هذا الفاضح؟ لا يفتكم، فدخلت في غمار الناس.
وقيل لأعرابي: ألا
تغزو العدو؟ قال: وكيف يكونون لي عدواً وما أعرفهم ولا يعرفوني؟ وقيل لآخر: ألا
تغزو العدو؟ قال: والله إني لأبغض الموت على فراشي، فكيف أخب إليه راكضاً.
ومما قيل في الفرارين
والجبناء من الشعر قول حسان بن ثابت يعير الحارث بن هشام بفراره يوم بدر، وقد تقدم
ذكر ذلك:
إن كنت كاذبة الذي
حدثتني ... فنجوت منجى الحارث هشام
ترك الأحبة لم يقاتل
دونهم ... ونجا برأس طمرة ولجام
ملأت به الفرجين
فارمدت به ... وثوى أحبته بشر مقام
وقال بعض العراقيين
في رجل أكول جبان:
إذا صوت العصفور طار
فؤاده ... وليث حديد الناب عند الثرائد
وقال فيه:
ضعيف القلب رعديد ...
عظيم الخلق والمنظر
رأى في النوم عصفوراً
... فوارى نفسه أشهر
وقال آخر:
لو جرت خيل نكوصاً
لجرت خيل ذفافه
هي لا خيل رجاء ...
لا ولا خيل مخافه
وقال آخر:
خرجنا نريد مغاراً
لنا ... وفينا زياد أبو صعصعة
فستة رهط به خمسة ...
وخمسة رهط به أربعة
ولم يقل أحد في وصف
الجبن والفرار مثل قول الطرماح في بني تميم:
تميم بطرق اللؤم أهدى
من القطا ... ولو سلكت طرق المكارم ضلت
ولو أن برغوثاً على
ظهر قملة ... رأته تميم يوم زحف لولت
ولو جمعت يوماً تميم
جموعها ... على ذرة معقولة لاشمعلت
وليس يعاب الشجاع
والبهمة البطل بالفرة الواحدة تكون منه خاصة لا عامة، وقليلة لا عادة، كما قال زفر
بن الحارث، وفر يوم مرج راهط عن أبيه وأخيه فقال:
أيذهب يوم واحد إن
أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا
ولم تر مني زلة قبل
هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
وفر عمر بن معد يكرب
من عباس بن مرداس السلمي، وأسر أخته ريحانة. وفيها يقول عمرو:
أمن ريحانة الداعي
السميع ... يؤرقني وأصحابي هجوع
وفر عن بني عبس،
وفيهم زهير بن جذيمة العبسي، وولده شأس بن زهير، وقيس بن زهير، ومالك بن زهير فقال
فيهم:
أجاعلة أم الثوير
خزاية ... علي فراري إذ لقيت بني عبس
لقيت أبا شأس وشأساً
ومالكاً ... وقيساً فجاشت من لقائهم نفسي
لقونا فضموا جانبينا بصادق
... من الطعن مثل النار في الحطب اليبس
ولما دخلنا تحت فيء
رماحهم ... خبطت بكفي أطلب الأرض باللمس
وليس يعاب المرء من
جبن يومه ... إذا عرفت منه الشجاعة بالأمس
وقال أيضاً:
ولقد أجمع رجلي بها
... حذر الموت وإني لفرور
ولقد أعطفها كارهة
... حين للنفس من الموت هرير
كل ما ذلك مني خلق
... وبكل أنا في الروع جدير
وابن صبح سادراً
يوعدني ... ما له في الناس ما عشت مجير
وقال الحارث لامرأته،
وذلك أنها نظرت إليه وهو يحد حربة يوم فتح مكة، فقالت له: ما تصنع بهذه؟ قال: أعددتها لمحمد وأصحابه. فقالت: ما أرى يقوم لمحمد وأصحابه
شيء! قال: والله إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، قم أنشأ يقول:
إن يقبلوا اليوم فيما
بي علة ... هذا سلاح كامل وأله
وذو غرارين سريع
السلة
فلما لقيهم خالد بن
الوليد يوم الخندمة انهزم الرجل، فلامته امرأته فقال:
إنك لو شهدت يوم
الخندمة ... إذ فر صفوان وفر عكرمة
وأبو يزيد قائم
كالموتمة ... ولحقتنا بالسيوف المسلمة
يفلقن كل ساعد وجمجمة
... ضرباً فلا تسمع إلا غمغمة
لهم نهيت خلفنا
وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدنى كلمة
وكان أسلم بن زرعة
وجهه عبيد الله بن زياد لحرب أبي بلال الخارجي في ألفين، وأبو بلال في أربعين
رجلاً، فشدوا عليه شدة رجل واحد فانهزم هو وأصحابه؛ فما دخل على ابن زياد عنفه في
ذلك وقال: أتمضي في ألفين وتنهزم.
عن أربعين! فخرج عنه
وهو يقول لأن يذمني ابن زياد حياً، خير من أن يمدحني ميتاً. وفي رواية أخرى: أن
يشتمني الأمير وأنا حي، أحب إلي من أن يدعو لي وأنا ميت.
فقال شاعر الخوارج:
أألفا مؤمن؟ لستم
كذاكم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليلة قد
علمتم ... على الفئة الكثيرة ينصرونا
ومثل ذلك قول عبد
الله بن مطيع بن الأسود العدوي وكان فر يوم الحرة من جيش مسلم بن عقبة، فلما كان
أيام حصار الحجاج بمكة لعبد الله بن الزبير جعل يقاتل أهل الشام ويقول:
أنا الذي فررت يوم
الحرة ... والشيخ لا يفر إلا مرة
فاليوم أجزى فرة بكره
... لا بأس بالكرة بعد الفره
فلم يزل يقاتل حتى
قتل.
وأحسن ما قيل في
الفرار كله ما قال قيس بن الخطيم:
إذا ما فررنا كان
أسوا فرارنا ... صدود الخدود وازورار المناكب
أجالدهم يوم الحديقة
حاسراً ... كأن يدي بالسيف مخراق لاعب
وقر عتيبة بن الحارث
بن شهاب ... يوم ثبرة عن ابنه حزوة وقال:
يا حسرتا لقد لقيت
حسرة ... يالتميم غشيتني غمره
نعم الفتى غادرته
بثبرة ... نجيت نفسي وتركت حزرة
هل يترك الحر الكريم
بكره
وفر أبو خراش الهذلي
من فائد وأصحابه ورصدوه بعرفات، فقال:
رفوني وقالوا يا
خويلد لا ترعفقلت وأنكرت الوجوه هم هم
وقلت وقد جاوزت أصحاب
فائد ... أأعجزت أولى الخيل أم أنا أحلم
فلولا أدراك الشد
قامت حليلتي ... تخير من خطابها وهي أيم
ولولا أرداك الشر
أتلفت مهجتي ... وكاد خراش يوم ذلك ييتم
وفر خبيب بن عوف يوم
مرداء هجر من أبي فديك فقال:
بذلت لهم يا قوم حولي
وقوتي ... ونصحي وما ضمت يداي من التبر
فلما تناهى الأمر بي
من عدوكم ... إلى مهجتي وليت أعداءكم ظهري
وطرت ولم أحفل ملامة
عاجز ... يقيم لأطراف الردينية السمر
فلو كان لي روحان عرضت
واحداً ... لكل رديني وأبيض ذي أثر
رجع بنا القول إلى
الفرارين والجبناء وما قيل فيهم.
فر خالد بن عبد الله
بن خالد بن أسيد عن مصعب بن الزبير يوم الجفرة بالبصرة، فقال فيه الفرزدق:
وكل بني السوداء قد
فر فرة ... فلم يبق إلا فرة في است خالد
فضحتم أمير المؤمنين
وأنتم ... تمرون سودانا غلاظ السواعد
وقيل لرجل جبان في
بعض الوقائع: تقدم. فأنشأ يقول:
وقالوا تقدم قلت لست
بفاعل ... أخاف على فخارتي أن تحطما
فلو كان لي رأسان
أتلفت واحداً ... ولكنه رأس إذا راح أعقما
ولو كان مبتاعاً لدى
السوق مثله ... فعلت ولم أحفل بأن أتقدما
فأوتم أولاداً وأرمل
نسوة ... فكيف على هذا ترون التقدما
وقالت هند بنت
النعمان بن بشير لزوجها روح بن زنباع الجذامي: عجباً منك! كيف سودك قومك وأنت جبان
غيور؟ قال: أما الجبن، فإن لي نفساً واحدة فأنا أحوطها؛ وأما الغيرة، فما أحق بها
من كانت له امرأة حمقاء مثلك، مخافة أن تأتيه بولد من غيره فترمي به في حجره.
وقال كعب بن زهير:
بخلاً علينا وجبناً
من عدوكم ... لبئست الخلتان: البخل والجبن
فضائل الخيلقال النبي
صلى الله عليه وسلم في صفة الخيل: أعرفها أدفاؤها، وأذنابها مذابها، والخيل معقود
في نواصيها الخير إلى يوم القيامة.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: عليكم بإناث الخيل، فإن بطونها كنز، وظهورها حرز، وأصحابها معانون
عليها.
وسأل رجل النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن اشتري فرساً أعده في سبيل الله. فقال له: اشتره
أدهم؛ أو كميتاً أقرح أرثم، أو محجلاً مطلق اليمين، فإنها ميامن الخيل.
وقيل لبعض الحكماء:
أي الأموال أشرف؟ قال فرس يتبعها فرس في بطنها فرس.
صفة جياد الخيلكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحب من الخيل الشقر.
وقال: لو جمعت خيل
العرب في صعيد واحد ما سبقها إلا أشقر.
وسأله رجل: أي المال
خير؟ قال: سكة مأبورة، ومهرة مأمورة.
وكان عليه الصلاة
والسلام يكره الشكال في الخيل.
وقالوا: إنما سميت
خيلاً لاختيالها.
ووصف أعرابي فرساً
فقال: إذا تركته نعس، وإذا حركته طار.
وأرسل مسلم بن عمرو
لابن عم له بالشام يشتري له خيلاً. فقال له: لا علم لي بالخيل. فقال: ألست صاحب
قنص؟ قال: بلى. قال: انظر كل شيء تستحسنه في الكلب في الفرس. فأتى بخيل لم يكن في
العرب مثلها.
وقال بعض الضبيين في
وصف فرس:
متقاذف عبل الشوى شنج
النسا ... سباق أندية الجياد عميثل
وإذا تعلل بالسياط
جيادها ... أعطاك نائله ولم يتعلل
سأل المهدي مطر بن
دراج عن أي الخيل أفضل؟ قال: الذي إذا استقبلته قلت نافر، وإذا استدبرته قلت زاخر،
وإذا استعرضته قلت زافر. قال: فأي هذه أفضل؟ قال: الذي طرفه إمامه، وسوطه عنانه.
وقال آخر: الذي إذا
مشى ردى، وإذا عدا دحا، وإذا استقبل أقعى، وإذا استدبر جبى، وإذا استعر استوى.
وسأل معاوية بن أبي
سفيان صعصعة بن صوحان: أي الخيل أفضل! قال: الطويل الثلاث، القصير الثلاث، العريض
الثلاث، الصافي الثلاث. قال: فسر لنا. قال: أما الطويل الثلاث، فالأذن والعنق
والحزام. وأما القصر الثلاث، فالصلب والعسيب والقضيب. وأما العريض الثلاث، فالجبهة
والمنخر والورك؛ وأما الصافي الثلاث، فالأديم والعين والحافر.
وقال عمر بن الخطاب
لعمرو بن معد يكرب: كيف معرفتك بعراب الخيل؟ قال: معرفة الإنسان بنفسه وأهله
وولده. فأمر بأفراس فعرضت عليه. فقال: قدموا إليها الماء في التراس، فما شرب ولم
يكتف فهو من العراب، وما ثنى سنبكه فليس منها.
قلت: إنما المحفوظ أن
عمر شك في العتاق والهجن، فدعا سلمان بن ربيعة الباهلي فأخبره. فأمر سلمان بطست من
ماء فوضع بالأرض، ثم قدم إليه الخيل فرساً فرساً، فما ثنى سنبكه وشرب هجنه، وما
شرب ولم يثن سنبكه عربه.
وقال حسان بن ثابت
يصف طول عنق الفرس:
بكل كميت جوزه نصف
خلقه ... أقب طوال مشرف في الحوارك
وقال زهير:
وملجمنا ما أن ينال
قذاله ... ولا قدماه الأرض إلا أنامله
وقال آخر:
له ساقا ظليم خا ...
ضب فوجئ بالرعب
حديد الطرف والمنكب
... والعرقوب والقلب
وقال آخر:
هريت قصير عذاب
اللجام ... أسيل طويل عذار الرسن
لم يرد بقوله. قصير عذار
اللجام قصر خده، وإنما أراد طول شق الفم. وأراد بطول عذار الرسن: طول الخد.
وقال آخر:
بكل هريت نقي الأديم
... طويل الحزام قصير اللبب
وقال أبو عبيدة يستدل
على عنق الفرس برقة جحافله وأرنبته، وسعة منخريه، وعري نواهقه، ودقة حقويه وما ظهر
من أعالي أذنيه، ورقة سالفتيه وأديمه، ولين شعره. وأبين من ذلك كله لين شكير
ناصيته وعرفه. وكانوا يقولون. إذا اشتد نفه، ورحب متنفسه، وطال عنقه، واشتد حقوه،
وانهرت شدقه، وعظمت فخذاه، وانشبخت أنساؤه، وعظمت فصوصه، وصلبت حوافره ووقحت، ألحق
بجياد الخيل.
قيل لرجل من بني أسد:
أتعرف الفرس الكريم من المقرف؟ قال: نعم؛ أما الكريم، فالجواد الجيد الذي نهز نهز
العير، وأنف تأنيف السير، الذي إذا عدا اسلهب، وإذا أقبل أجلعب، وإذا انتصب اتلأب.
وأما المقرف: فإنه
الذلول الحجبة، الضخم الأرنبة، الغليظ الرقبة، الكثير الجلبة، الذي إذا أرسلته قال: أمسكني،
وإذا أمسكته قال: أرسلني.
وكان محمد بن السائب
الكلبي يحدث: أن الصافنات الجياد المعروضة على سليمان بن داود عليهما السلام كانت
ألف فرس ورثها عن أبيه، فلما عرضت ألهته عن صلاة العصر حتى توارت الشمس بالحجاب، فعرقبها
إلا أفراساً لم تعرض عليه. فوفد عليه أقوام من الأزد وكانوا أصهاره، فلما فرغوا من
حوائجهم قالوا: يا نبي الله، إن أرضنا شاسعة فزودنا زاداً يبلغنا. فأعطاهم فرساً
من تلك الخيل وقال: إذا نزلتم منزلاً فاحملوا عليه غلاماً واحتطبوا، فإنكم لا
تورون ناركم حتى يأتيكم بطعامكم، فساروا بالفرس، فكانوا لا ينزلون منزلاً إلا ركبه
أحدهم للقنص، فلا يفلته شيء وقعت عينه عليه من ظبي أو بقر أو حمار، إلى أن قدموا
إلى بلادهم، فقالوا. ما لفرسنا هذا اسم إلا زاد الراكب. فسموه زاد الراكب. فأصل
فحول العرب من نتاجه.
ويقال إن أعوج كان
منها، وكان فحلاً لهلال بن عامر أنتجته أمه ببعض بيوت الحي، فنظروا إلى طرف يضع
جحفلته على كاذتها على الفخذ مما يلي الحياء فقالوا: أدركوا ذلك الفرس لا ينزو على
فرسكم، لعظم أعوج وطول قوائمه. فقاموا إليه فوجدوا المهر، فسموه أعوج.
وأخبرنا فرج بن سلام
عن أبي حاتم عن الأصمعي قال: أغير على أهل النسار، وأعوج موثق بثمامة، فجال صاحبه
في متنه، ثم زجره فاقتلع الثمامة، فخرجت تحف في متنه كالخذروف وراءه. فغدا
بياض يومه وأمسى يتعشى من جميم قباء.
وقال الشاعر في وصف
فرس:
وأحمر كالديباج أما
سماؤه ... فريا وأما أرضه فمحول
قوله سماؤه: أعلاه؛
وأرضه: أسفله. يريد قوائمه.
وللطائي نظير هذا حيث
يقول:
مبتل متن وصهوتين إلى
... حوافر صلبة له ملس
فهو لدى الروع
والحلائب ذو ... أعلى مندى وأسفل يبس
أو أدهم فيه كمتة أمم
... كأنه قطعة من الغلس
صهصلق في الصهيل
تحسبه ... أشرج حلقومه على جرس
وقال حبيب أيضاً يصف
فرساً أهداه إليه الحسن بن وهب الكاتب:
ما مقرب يختال في
أشطانه ... ملآن من صلف به وتلهوق
بحوافر حفر وصلب صلب
... وأشاعر شعر وحلق أحلق
وبشعلة تبدو كأن
حلولها ... في صهوتيه بدو شيب المفرق
ذو ألق تحت العجاج
وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق
تغرى العيون به ويفلق
شاعر ... في نعته عفواً وليس بمفلق
بمصعد من حسنه ومصوب
... ومجمع في خلقه ومفرق
قد سالت الأوضاح سيل
قرارة ... فيه فمفترق عليه وملتقى
صافي الأديم كأنما
ألبسته ... من سندس ثوباً ومن إستبرق
مسود شطر مثل ما اسود
الدجى ... مبيض شطر كابيضاض المهرق
فكأن فارسه يصرف إذ
بدا ... في متنه ابنا للصباح الأبلق
إملسه إمليده لو علقت
... في صهوتيه الصين لم تتعلق
يرقى وما هو بالسليم
ويغتدي ... دون السلاح سلاح أروع مملق
وقال أبو سويد: شهد
أبو دلف وقعة البذ وتحته فرس أدهم، وعليه نضح الدم. فاستوقفه رجل من الشعراء،
وأنشد:
كم ذا تجرعه المنون
ويسلم ... لو يستطيع شكا إليك الأدهم
في كل منبت شعرة من
جلده ... نمق ينمقه الحسام المخذم
وكأنما عقد النجوم
بطرفه ... وكأنه بعرى المجرة ملجم
وكأنه بين البوارق
لقوة ... شقراء كاسرة طوت ما تطعم
ما تدرك الأرواح أدنى
سيره ... لا بل يفوت الريح فهو مقدم
رجعته أطراف الأسنة
أشقراً ... واللون أدهم حين ضرجه الدم
قال: فأمر له بعشرة
آلف درهم.
ومن قولنا في وصف
الفرس:
ومقربة يشقر في النقع
كمتها ... ويخضر حيناً كلما بلها الرشح
تطير بلا ريش إلى كل
صيحة ... وتسبح في البر الذي ما به سبح
وقال عدى بن الرقاع:
يخرجن من فرجات النقع
دامية ... كأن آذانها أطراف أقلام
وطلب البحتري الشاعر
من محمد بن حميد بن عبد الحميد الكاتب فرساً، ووصف له أنواعاً من الخيل في شعره
فقال:
لآكلفن العيس أبعد
همة ... يجري إليها خائف أو مرتجى
وإلى سراة بني حميد
إنهم ... أمسوا كواكب أشرقت في مذحج
والبيت لولا أن فيه
فضيلة ... تعلو البيوت بفضلها لم يحجج
فأعن على غزو العدو
بمنطو ... أحشاؤه طي الرداء المدرج
إما بأشقر ساطع أغشى
الوغى ... منه بمثل الكوكب المتأجج
متسربل شية طلت
أعطافه ... بدم فما تلقاه غير مضرج
أو أدهم صافي الأديم
كأنه ... تحت الكمى مظهر بيرندج
ضرم يهيج السوط من
شؤبوبه ... هيج الجنائب من حريق العرفج
خفت مواقع وطئه فلو
أنه ... يجري برملة عالج لم يرهج
أو أشهب يقق يضئ
وراءه ... متن كمتن اللجة المترجرج
تخفى الحجول ولو بلغن
لبانه ... في أبيض متألق كالدملج
أوفى بعرف أسود متفرد
... فيما يليه وحافر فيروزجي
أو أبلق ملأ العيون
إذا بدا ... من كل لون معجب بنموذج
جذلان تحسده الجياد
إذا مشى ... عنقاً بأحسن حلة لم تنسج
وعريض أعلى المتن لو
عليته ... بالزئبق المنهال لم يترجرج
خاضت قوائمه الوثيق
بناؤها ... أمواج تحنيب بهن مدرج
ولأنت أبعد في
السماحة همة ... من أن تضن بموكف أو مسرج
وأول من شبه الخيل
بالظبي والسرحان والنعامة وتبعه الشعراء وحذوا حذوه وعلى مثاله، امرؤ القيس بن
حجر، فقال في الفرس:
له أيطلا ظبي وساقا
نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل
كأن على المتنين منه
إذا انتحى ... مداك عروس أو صلاية حنظل
مكر مفر مقبل مدبر معاً
... كجلمود صخر حطه السيل من عل
درير كخذروف الوليد
أمره ... تتابع كفيه بخيط موصل
كميت يزل اللبد عن
حال متنه ... كما زلت الصفواء بالمتنزل
فأخذت الشعراء هذا
التشبيه من امرئ القيس فحذوا عليه، فقال طفيل الخيل:
إني وإن قل مالي لا
يفارقني ... مثل النعامة في أوصالها طول
تقريبها المرطى
والجوز معتدل ... كأنه سبد بالماء مغسول
أو ساهم الوجه لم
تقطع أباجله ... يصان وهو ليوم الروع مبذول
وقال عبد الملك بن
مروان لأصحابه: أي المناديل أفضل؟ فقال: بعضهم: مناديل مصر التي كأنها غرقئ البيض،
وقال بعضهم: مناديل اليمن التي كأنها أنوار الربيع. فقال: ما صنعتم شيئاً، أفضل المناديل مناديل عبدة ابن الطبيب حيث يقول:
لما نزلنا ضربنا ظل
أخبية ... وفار باللحم للقوم المراجيل
ورداً وأشقر لم ينهئه
طابخه ... ما قارب النضج منها فهو مأكول
وقد وثبنا على عوج
مسومة ... أعرفهن لأيدينا مناديل
سوابق الخيلوقال
الأصمعي: ما سبق في الرهان فرس أهضم قط. وأنشد لأبي النجم:
منتفج الجوف عريض
كلكله
قال: وكان
هشام بن عبد الملك رجلاً مسبقاً لا يكاد يسبق، فسبقت له فرس أنثى وصلت أختها، ففرح
لذلك فرحاً شديداً وقال: علي بالشعراء. قال أبو النجم: فدعينا فقيل لنا: قولوا في هذه الفرس وأختها. فسأل أصحاب النشيد
النظرة حتى يقولوا فقلت له: هل لك في رجل ينقذك إذا استنسئوك؟ قال: هات. فقلت من ساعتي:
أشاع للغراء فينا
ذكرها ... قوائم عوج أطعن أمرها
وما نسينا بالطريق
مهرها ... حين نقيس قدره وقدرها
وصبره إذا عدا وصبرها
... والماء يعلو نحره ونحرها
ملمومة شد المليك
أسرها ... أسفلها وبطنها وظهرها
قد كاد هاديها يكون
شطرها
قال أبو النجم: فأمر
لي بجائزة وانصرفت.
أبو القاسم جعفر بن
أحمد بن محمد وأبو الحسن علي بن جعفر البصري قالا: حدثنا أبو سعيد عبد الملك بن
قريب الأصمعي: أن هارون الرشيد ركب في سنة خمس وثمانين ومائة إلى الميدان لشهود
الحلبة. قال الأصمعي: فدخلت الميدان لشهودها فيمن شهد من خواص أمير المؤمنين،
والحلبة يومئذ أفراس للرشيد ولولديه الأمين والمأمون ولسليمان بن أبي جعفر المنصور
ولعيسى بن جعفر. فجاء فرس أدهم، يقال له الربد لهارون الرشيد، سابقاً. فابتهج لذلك
ابتهاجاً علم ذلك في وجهه وقال: علي بالأصمعي. فنوديت له من كل جانب. فأقبلت
سريعاً حتى مثلت بين يديه. فقال: يا أصمعي، خذ بناحية الربد ثم صفه من قونسه إلى سنبكه،
فإنه يقال: إن فيه عشرين اسماً ومن أسماء الطير. قلت: نعم يا أمير المؤمنين،
وأنشدك شعراً جامعاً لها من قول أبي حزرة. قال: فأنشدنا لله أبوك. قال: فأنشدته:
وأقب كالسرحان تم له
... ما بين هامته إلى النسر
الأقب: اللاحق
المخطف البطن، وذلك يكون من خلقة، وربما حدث من هزال أو بعد قود، والأنثى قباء،
والجمع: قب، والمصدر: القبب. والسرحان: الذئب، شبهه في ضموره وعدوه به، وجمعه
سراحين، وقد قالوا: سراح. والهامة: أعلى الرأس، وهي أم الدماغ؛ وهي من أسماء
الطير. والنسر: هو ما ارتفع من بطن الحافر من أعلاه، كأنه النوى والحصى، وهو من
أسماء الطير، وجمعه نسور.
رحبت نعامته ووفر
فرخه ... وتمكن الصردان في النحر
رحبت: اتسعت.
ونعامته: جلدة رأسه التي تغطى الدماغ، وهي من أسماء الطير. وقوله: ووفرة
فرخه. الفرخ: هو الدماغ، وهو من أسماء الطيور. ووفر: أي تمم؛ يقال: وفرت
الشيء ووفرته بالتخفيف فهو موفور. والصردانن: عرقان في أصل اللسان، يجري منهما
الريق ونفس الرئة، وهما من أسماء الطير. وفي الظهر صرد أيضاً، وهو بياض يكون في
موضع السرج من أثر الدبر؛ يقال: فرس صرد، إذا كان ذلك به، والنحر: موضع القلادة من
الصدر، وهو البرك.
وأناف بالعصفور من
سعف ... هام أشم موثق الجذر
أناف: أشرف.
والعصفور: أصل منبت الناصية والعصفور أيضاً: عظم ناتئ في كل جبين والعصفور: من
الغرر أيضاً، وهي التي سالت ودقت ولم تتجاوز إلى العينين ولم تستدر كالقرحة، وهو
من أسماء الطير والسعف، يقال: فرس بين السعف، وهو الذي سالت ناصيته. وهام، أي سائل
منتشر. وأشم: مرتفع. والشمم في الأنف: ارتفاع قصبته. ويروى: هاد أشم يريد عنقاً
مرتفعاً، وجمعه: هواد، وقوله: موثق، أي شديد قوي. والجذر: الأصل من كل شيء. قال
الأصمعي وغيره: هو بالفتح؛ وقال أبو عمرو بن العلاء: هو بالكسر.
وازدان بالديكين
صلصله ... ونبت دجاجته عن الصدر
ازدان: افتعل،
من قولك زان يزين، وكان الأصل ازتان، فقلبت التاء دالا، لقرب نخرجها من مخرج
الزاي، وكذلك ازداد، من زاد يزيد. والديكان واحدهما ديك، وهو العظم الناتئ خلف
الأذن، وهو الذي يقال له الخششاء والخشاء. والصلصل: بياض في طرف الناصية، ويقال: هو أصل الناصية. والدجاجة: اللحم الذي
على زوره بين يديه. والديك والصلصل والدجاجة، من أسماء الطير.
والناهضان أمر جلزهما
... فكأنما عثما على كسر
الناهضان: واحدهما
ناهض، وهو لحم المنكبين؛ ويقال: هو اللحم الذي يلي العضدين من أعلاهما، والجمع:
نواهض، ويقال في الجمع: أنهض، على غير قياس. والناهض: فرخ القطا، وهو من أسماء
الطير. وقوله: أمر جلزهما، أي فتل وأحكم؛ يقال: أمررت الحبل فهو ممر، أي فتلته.
والجلز: الشد. وقوله: " فكأنما عثما على كسر " أي كأنهما كسراً ثم جبراً. يقال: عثمت يده. العثم: الجبر على عقدة
وعوج؛ وعثمان، فعلان منه.
مسحنفر الجنبين ملتئم
... ما بين شيمته إلى الغر
مسحنفر الجنبين: أي
منتفخهما. ملتئم، أي معتدل. وشيمته: نحره. والشيمة، أيضاً: من قولك: فرس أشيم، بين
الشيمة، وهي بياض فيه؛ ويقال: أن تكون شامة أو شام في جسده. والغر في الطير يسمى
الرخمة، وهي عضلة الساق.
وصفت سماناه وحافزه
... وأديمه ومنابت الشعر
السمانى: طائر،
وهو موضع من الفرس لا أحفظه، إلا أن يكون أراد السمامة، وهي دائرة تكون في سالفة
الفرس، وهي عنقه، والسمامة، من الطير أيضاً. والأديم: الجلد.
وسما الغراب لموقعيه
معاً ... فأبين بينهما على قدر
سما الغراب، أي
ارتفع، والغراب: رأس الورك. ويقال للصلوين: الغرابان، وهما مكتنفا عجب الذنب.
ويقال: هما ملتقى أعالي الوركين. والموقعان، منه في أعالي الخاصرتين، فأبين، أي
فرق بينهما، على قدر، أي على استواء واعتدال.
واكتن دون قبيحه
خطافه ... ونأت سمامته عن الصقر
اكتن: أي
استتر. والقبيح: ملتقى الساقين، ويقال أنه مركب الذراعين في العضدين. والخطاف:
من أسماء الطير، وهو حيث أدركت عقب الفرس إذا حرك رجليه. ويقال لهذين الموضعين من
الفرس: المركلان. ونأت، أي بعدت. والسمامة: دائرة تكون في عنق الفرس، وقد ذكرناها،
وهي من أسماء الطير. والصقر: أحسبها دائرة في الرأس، وما وقفت عليها، وهي من أسماء
الطير.
وتقدمت عنه القطاة له
... فنأت بموقعها عن الحر
القطاة: مقعد الردف،
وهي من أسماء الطير، والحر: من الطير، يقال إنه ذكر الحمام، وهو من الفرس، سواد
يكون في ظاهر أذنيه.
وسما على نقويه دون
حداته ... خربان بينهما مدى الشبر
النقوان: واحدهما
نقو، والجمع. أنقاء، وهو عظم ذو مخ، وإنما عنى هاهنا عظام الوركين، لأن الخرب هو
الذي تراه مثل المدهن في ورك الفرس. وهو من الطير: ذكر الحبارى. والحدأة: من الطير، وأصله الهمز، ولكنه خفف، وهي سالفة
الفرس، وجمعها حداء، على وزن فعال، كما تقول: عظاءة وعظاء، ويقال: عظاية. وإذا فتحت
الفاء قلت: حدأة، وهي الفأس ذات الرأسين، وجمعها: حدأ، مثل نواة ونوى، وقطاة وقطا.
يدع الرضيم إذا جرى
فلقاً ... بتوائم كمواسم سمر
الرضيم: الحجارة.
والفلق: المكسورة فلقاً. بتوائم: جمع توأم، وقد قالوا. تؤم، على وزن فعال، جمع
توأم، وهي على غير قياس. يقول: هي مثنى مثنى، يعني حوافره.
والمواسم: جمع ميسم
الحديد، من وسمت، أي إنها كمواسم الحديد في صلابتها. وقوله: سمر، أي لون الحافر،
وهو أصلب الحوافر.
ركبن في محص الشوى
سبط ... كفت الوثوب مشدد الأسر
الشوى، هاهنا:
القوائم، والواحدة: شواة. ويقال: فرس محص الشوى، إذا كانت قوائمه معصوبة. سبط:
سهل. كفت الوثوب، أي مجتمع، من قولك: كفت الشيء، إذا جمعته وتممته. مشدد الأسر، أي
الخلق.
قال الأصمعي: فأمر لي
بعشرة آلاف درهم.
وسبق يوماً فرس
للرشيد يسمى المشمر، وكان أجراه مع أفراس للفضل وجعفر بني يحيى بن خالد البرمكي،
فقال أبو العتاهية:
جاء المشمر والأفراس
يقدمها ... هوناً على سرعة منها وما انتهرا
وخلق الريح حسرى وهي
تتبعه ... ومر يختطف الأبصار والنظرا
وقال أبو النجم في
شعر يصف الفرس، وهو أجود شعر يصف الحلبة:
ثم سمعنا برهان نأمله
... قيد له من كل أفق جحفله
فقلت للسائس قده
أعجله ... وأغد لعنا في الرهان نرسله
فظل مجنوناً وظل جمله
... بين شعيبين وزاد يزمله
نعلو به الحزن ولا
نسهله ... إذا علا الأخشب صاح جندله
ترنم النوح تبكي
مثكله ... كأن في الصوت الذي يفصله
زمام دف يتغنى جلجله
... حتى وردنا المصر يطوى قنبله
طي التجار العصب إذ
تنخله ... وقد رأينا فعلهم فنفعله
نطويه والطي الرقيق
يجدله ... نضمر الشحم ولسنا نهزله
حتى إذا الليل تولى
أثلجه ... وأتبع الأيدي منه أرجله
قمنا على هول شديد
وجله ... نمد حبلاً فوق خط نعدله
نقوم قدم ذا وهذا
أدخله ... وقام مشقوق القميص يعجله
فوق الخماسي قليلاً
يفضله ... أدرك عقلاً والرهان عمله
حتى إذا أدرك خيلاً
مرسله ... ثار عجاج مستطير قسطله
تنفش منه الخيل ما لا
تغزله ... مراً يغطيها ومراً تنعله
مر القطا انصب عليه
أجدله ... وهو رخي البال ساج وهله
قدمه مثلاً لمن
يتمثله ... تطيره الجن وحينا ترجله
تسبح أخراه ويطفو
أوله ... ترى الغلام ساجياً ما يركله
يعطيه ما شاء وليس
يسأله ... كأنه من زبد يسربله
في كرسف النداف لولا
بلله ... تخال مسكاً عله معلله
ثم تناولنا الغلام
ننزله ... عن مفرع الكتفين حلو عطله
منتفج الجوف عريض
كلكله ... فوافت الخيل ونحن نشكله
والجن عكاف به تقبله
وقال آخر في فرس أبي
الأعور السلمي:
مر كلمع البرق سام
ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره
" فما يمس
الأرض منه حافره " وقول هذا أشبه من قول أبي نجم، لأنه يقول: " تسبح أخراه ويطفو أوله " وقال الأصمعي: إذا كان الفرس كما قال
أبو النجم فحمار الكساح أسرع منه، لأن اضطراب مؤخره قبيح.
وقال الأصمعي كان أبو
النجم وصافاً للخيل إلا أنه غلط في هذا البيت. وقد غلط رؤبة أيضاً في الفرس، فقال
يصف قوائمه: " يهوين شتى ويقعن وفقا "
ولما أنشده مسلم بن
قتيبة. قال له: أخطأت في هذا يا أبا الجحاف، جعلته مقيداً. فقال: قربني من ذنب
البعير.
وأنشد الأصمعي:
قد أطرق الحي على
سابح ... أسطع مثل الصدع الأجرد
لما أتيت الحي في
متنه ... كأن عرجوناً بمثنى يدي
أقبل يختال على شأوه
... يضرب في الأقرب والأبعد
كأنه سكران أو عابس
... أو ابن رب حدث المولد
وقال غيره:
أما إذا استقبلته
فكأنه ... جذع سما فوق النخيل مشذب
وإذا اعترضت له استوت
أقطاره وكأنه مستدبراً متصوب
وقال ابن المعتز:
وقد يحضر الهيجاء بي
شنج النسا ... تكامل في أسنانه فهو قارح
له عنق يغتال طول
عنانه ... وصدر إذا أعطيته الجري سابح
إذا مال عن أعطافه
قلت شارب ... عناه بتصرف المدامة طافح
وقال أيضاً:
ولقد وطئت الغيث
يحملني ... طرف كلون الصبح حين وقد
يمشي فيعرض في العنان
كما ... صدف المعشق ذو الدلال وصد
طارت به رجل مرصعة
... رجامة لحصى الطريق ويد
فكأنه موج يسيل إذا
... أطلقته وإذا حبست جمد
الحلبة والرهانوالحلبة:
مجمع الخيل. ويقال: مجتمع الخيل. ويقال: مجتمع الناس للرهان. وهو من قولك: حلب بنو
فلان على بني فلان وأحلبوا، إذا اجتمعوا. ويقال منه: حلب الحالب اللبن في القدح، أي جمعه فيه. والمقوس: الحبل
الذي يمد في صدور الخيل عند الإرسال للسباق. والمنصبة: الخيل حين تنصب للإرسال.
وأصل الرهان من
الرهن؛ لأن الرجل يراهن يصاحبه في المسابقة، يضع هذا رهناً وهذا رهناً، فأيهما سبق
فرسه أخذ رهنه ورهن صاحبه. والرهان: مصدر راهنته مراهنة ورهاناً، كما تقول: قاتلته
مقاتلة وقتالاً. وهذا كان من أمر الجاهلية، وهو القمار المنهي عنه، فإن كان الرهن
من أحدهما بشيء مسمى، على أنه إن سبق لم يكن له شيء، وإن سبقه صاحبه أخذ الرهن،
فهذا حلال، لأن الرهن إنما هو من أحدهما دون الآخر. وكذلك إن جعل كل واحد منهما
رهناً وأدخلا بينهما محللاً، وهو فرس ثالث يكون مع الأولين، ويسمى أيضاً الدخيل،
ولا يجعل لصاحب الثالث شيء، ثم يرسلون الأفراس الثلاثة، فإن سبق أحد الأولين أخذ
رهنه ورهن صاحبه، فكان له طيباً، وإن سبق الدخيل أخذ الرهنين معاً، وإن سبق هو لم
يكن عليه شيء. ولا يكون الدخيل إلا رائعاً جواداً، لا يأمنان أن يسبقهما، وإلا فهذا
قمار لأنهما كأنهما لم يدخلا بينهما محللاً.
قال الأصمعي: السابق من
الخيل: الأول، والمصلي: الثاني الذي يتلوه. قال: وإنما قيل له مصل، لأنه يكون عند
صلوي السابق، وهما جانبا ذنبه عن يمينه وشماله. ثم الثالث والرابع لا اسم لواحد
منهما إلى العاشر، فإنه يسمى سكيتاً. قال أبو عبيدة: لم نسمع في سوابق الخيل ممن يوثق بعلمه اسما لشيء منها إلا الثاني
والعاشر، فإن الثاني اسمه المصلي، والعاشر السكيت، وما سوى ذينك يقال: الثالث والرابع،
وكذلك إلى التاسع، ثم السكيت. ويقال السكيت بالتشديد والتخفيف. فما جاء
بعد ذلك لم يعتد به. والفسكل، بالكسر: الذي يجيء آخر الليل، والعامة تسميه الفسكل،
بالضم. وقال أبو عبيدة: القاشور: الذي يجيء في الحلبة آخر الخيل، وهو الفسكل،
وإنما قيل للسكيت سكيت، لأنه آخر العدد الذي يقف العاد عليه. والسكت: الوقوف. هكذا
كانوا يقولون، فأما اليوم فقد غيروا.
وكان من شأنهم أن
يمسحوا على وجه السابق قال جرير:
إذا شئتم أن تمسحوا
وجه سابق ... جواد فمدوا في الرهان عنانيا
ومن قولنا في هذا
المعنى:
إذا جياد الخيل
ماطلها المدى ... وتقطعت في شأوها المبهور
خلوا عناني في الرهان
ومسحوا ... مني بغرة أبلق مشهور
وصف السلاحكانت درع
علي صدراً لا ظهر لها. فقيل له في ذلك. فقال: إذا استمكن دعوي من ظهري فلا يبقي.
ورئي الجراح بن عبد
الله قد ظاهر بين درعين. فقيل له في ذلك. فقال: لست أقي بدني وإنما أقي صبري.
واشترى زيد بن حاتم
أدراعاً وقال: إني لست أشتري أدراعاً وإنما أشتري أعماراً.
وقال حبيب بن المهلب
لبنيه لا يقعدن أحدكم في السوق، فإن كنتم لا بد فاعلين فإلى زراد، أو سراج، أو
وراق.
العتبي قال: بعث عمر
بن الخطاب إلى عمرو بن معد يكرب أن يبعث إليه بسيفه المعروف بالصمصامة. فبعث به
إليه. فلما ضرب به وجده دون ما كان يبلغه عنه، فكتب إليه في ذلك. فرد عليه: إنما
بعثت إلى أمير المؤمنين بالسيف، ولم أبعث إليه بالساعد الذي يضرب به.
وسأله عمر بن الخطاب
رضي الله عنه يوماً عن السلام: فقال: يسأل أمير المؤمنين عما بدا له قال: ما تقول
في الترس؟ قال: هو المجن الدائر. وعليه تدور الدوائر. قال: فما تقول في الرمح؟ قال:
أخوك وربما خانك فانقصف. قال: فالنبل؟ قال: منايا تخطئ وتصيب. قال: فما تقول في الدرع؟
قال: مثقلة للراجل، متعبة للفارس، وإنها الحصن الحصين. قال فما تقول في السيف؟
قال: هناك لا أم لك يا أمير المؤمنين. فضربه عمر بالدرة، وقال: بل لا أم
لك. قال: الحمى أضرعتني لك.
الهيثم بن عدي قال:
وصف سيف عمرو بن معد يكرب، الذي يقال له الصمصامة، لموسى الهادي. فدعا به، فوضع
بين يديه مجرداً ثم قال لحاجبه: إيذن للشعراء. فلما دخلوا، أمرهم أن يقولوا فيه. فبدرهم
ابن يامين فقال:
حاز صمصامة الزبيدي
عمرو ... من جميع الأنام مواسي الأمين
سيف عمرو وكان فيما
سمعنا ... خبر ما أغمدت عليه الجفون
أخضر المتن بين حديه
نور ... من فرند تمتد فيه العيون
أوقدت فوقه الصواعق
ناراً ... ثم شابت به الذعاف القيون
فإذا ما سللته بهر
الشم ... س فلم تكد تستبين
فكائن الفرند والرونق
الجا ... ري في صفحتيه ماء معين
وكأن المنون نيطت
إليه ... فهو من كل جانبيه منون
نعم مخراق ذي الحفيظة
في الهي ... جاء يسطو به أم يمين
فأمر له ببدرة وخرجوا.
وضرب الزبير بن
العوام يوم الخندق عثمان بن عبد الله بن المغيرة فقطه إلى القربوس. فقالوا: ما
أجود سيفك! فغضب. يريد أن العمل ليده لا لسيفه. وقال:
متى تلقني يعدو ببزي
مقلص ... كميت بهيم أو أغر محجل
تلاق أمراً إن تلقه
فبسيفه ... تعلمك الأيام ما كنت تجهل
وقال أبو الشيص:
ختلته المنون بعد
اختيال ... بين صفين من قناً ونصال
في رداء من الصفيح
صقيل ... وقميص من الحديد مذال
وبلغ أبا الأغر
التميمي أن أصحابه بالبادية قد وقع بينهم شر، فوجه إليهم ابنه الأغر، وقال: يا
بني، كن يداً لأصحابك على من قاتلهم؛ وإياك والسيف، فإنه ظل الموت؛ واتق الرمح،
فإنه رشاء المنية؛ ولا تقرب السهام، فإنها رسل لا تؤامر مرسلها. قال: فبماذا
أقاتل؛ قال: بما قال الشاعر:
جلاميد يملأن الأكف
كأنها ... رءوس رجال حلقت في المواسم
وذكر أعرابي قوماً
تحاربوا فقال: أقبلت الفحول تمشي مشي الوعول، فلما تصافحوا بالسيوف، فغرت المنايا
أفواهها.
وقال آخر يذكر قوماً
أسروا: استنزلوهم عن الجياد بلينة الخرصان، ونزعوهم نزع الدلاء بالاشطان.
وقال أعرابي في آخرين
ابتغوا قوما أغاروا عليهم: احتثوا كل جمالية عيرانة، كيما يخصفون أخفاف المطي
بحوافر الخيل. حتى أدركوهم بعد ثالثة، فجعلوا المران أرشية المنايا، فاستقوا بها
أرواحهم.
ومن أحسن ما قيل في
السيف قول حبيب:
ونبهن مثل السيف لو
لم تسله ... يدان لسلته ظباه من الغمد
وقال في صفة الرماح:
مثقفات سلبن الروم زرقتها
... والعرب سمرتها والعاشق القضفا
ومن الإفراط القبيح
قول النابغة في وصف السيف:
يقد السلوقي المضاعف
نسجه ... ويوقد في الصفاح نار الحباحب
فذكر أنه يقد الدرع
المضاعف نسجها، والفارس والفرس، ويقع بها في الأرض فيقدح النار من الحجارة.
وأقبح منه في الإفراط
قول الآخر:
تظل تحفر عنه إن ضرب
به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
وقد جمع العلوي وصف
الخيل والسلاح كله، فأحسن وجود حيث يقول:
بحسبي من مالي من
الخيل أعيط ... سليم الشطي عاري النواهق أمعط
وأبيض من ماء الحديد
مهند ... وأسمر عسال الكعوب عنطنط
وبيضاء كالضحضاح زعف
مفاضة ... يكفتها عني نجاد مخطط
ومعطوفة الأطراف
كبداء سمحة ... منفجة الأعضاد صفراء شوحط
فيا ليت مالي غير ما
قد جمعته ... على لجة تيارها يتغطغط
ويا ليتني أمسي على
الدهر ليلة ... وليس على نفسي أمير مسلط
ومن قولنا في وصف
الرمح والسيف:
بكل رديني كأن سنانه ...
شهاب بدا في ظلمة الليل ساطع
تقاصرت الآجال في طول
متنه ... وعادت به الآمال وهي فجائع
وساءت ظنون الحرب في
حسن ظنه ... فهن ظبات للقلوب قوارع
وذي شطب تقضي المنايا
بحكمه ... وليس لما تقضي المنية دافع
فرند إذا ما اعتن
للعين راكد ... وبرق إذا ما اهتز بالكف لامع
يسلل أرواح الكماة
انسلاله ... ويرتاع منه الموت والموت رائع
إذا ما التقت أمثاله
في وقيعة ... هنالك ظن النفس بالنفس واقع
ومن قولنا في وصف
السيف:
بكل مأثور على متنه
... مثل مدب النمل بالقاع
يرتد طرف العين من
حده ... عن كوكب للموت لماع
وقال إسحاق بن خلف
البهراني في صفة السيف:
ألقى بجانب خصره ...
أمضى من الأجل المتاح
وكأنما ذر الهبا ...
ء عليه أنفاس الرياح
ومن جيد صفات السيف
قول الغنوي:
حسام غداة الروع ماض
كأنه ... من الله في قبض النفوس رسول
كأن على إفرنده موج
لجة ... تقاصر في ضحضاحه وتطول
كأن جيوش الذركسرن فوقه
... قرون جراد بينهن ذحول
النزع بالقوسإبراهيم
الشيباني قال: كان رجل من أهل الكوفة قد بلغه عن رجل من أهل السلطان أنه يعرض ضيعة
له بواسط في مغرم لزمه للخليفة، فحمل وكيلاً له على بغل وأترع له خرجاً بدنانير،
وقال له: اذهب إلى واسط فاشتر هذه الضيعة المعروضة، فإن كفاك ما في هذا الخرج وإلا
فاكتب إلي أمدك بالمال. فخرج، فلما أصحر عن البيوت، لحق به أعرابي راكب على حمار
معه قوس وكنانة، فقال له: إلى أين تتوجه؟ فقال: إلى واسط. قال: فهل لك في الصحبة؟
قال: نعم. فسارا حتى فوزا فعنت لهما ظباء، فقال له الأعرابي: أي هذه الظباء أحب
إليك، المتقدم منها أم المتأخر فأزكيه لك؟ قال له: المتقدم. فرماه فخرمه بالسهم فاقتنصه
فاشتويا وأكلا. فاغتبط الرجل بصحبة الأعرابي. ثم عنت لهما زفة قطا، فقال: أيها
تريد فأصرعها لك؟ فأشار إلى واحدة منها. فرماها فأقصدها، ثم اشتويا وأكلا. فلما
انقضى طعامهما فوق له الأعرابي سهماً ثم قال له: أين تريد أن أصيبك؟ فقال له: اتق
الله عز وجل واحفظ زمام الصحبة. قال: لا بد منه. قال: اتق الله ربك واستبقني،
ودونك البغل والخرج فإنه مترع مالاً. قال: فاخلع ثيابك. فانسلخ من ثيابه ثوباً ثوباً حتى بقي مجرداً. قال
له: اخلع أمواقك، وكان لابساً خفين مطابقين. فقال له: اتق الله في ودع
الخفين أتبلغ بهما من الحر، فإن الرمضاء تحرق قدمي. قال: لا بد منه. قال: فدونك الخف،
فأخلعه. فلما تناول الخف، ذكر الرجل خنجراً كان معه في الخف، فاستخرجه ثم ضرب به
صدره فشقه إلى عانته وقال له: الاستقصاء فرقة: فذهبت مثلاً. وكان هذا الأعرابي من
رماة الحدق.
وحدث العتبي عن بعض
أشياخه قال: كنت عند المهاجر بن عبد الله والي اليمامة. فأتي بأعرابي كان معروفاً بالسرق
فقال له: أخبرني عن بعض عجائبك. قال: عجائبي كثيرة. ومن أعجبها، أنه كان لي بعير
لا يسبق، وكانت لي خيل لا تلحق، فكنت أخرج فلا أرجع خائباً، فخرجت يوما فاحترشت
ضبا، فعلقته على قتبي، ثم مررت بخباء ليس فيه إلا عجوز ليس معها غيرها، فقلت: يجب
أن يكون لهذه رائحة من غنم وإبل. فلما أمسيت إذا بإبل وإذا شيخ عظيم البطن شثن
الكفين ومعه عبد أسود وغد. فلما رآني رحب بي، ثم قام إلى ناقة فاحتلبها، وناولني
العلبة، فشربت ما يشرب الرجل، فتناول الباقي فضرب بها جبهته، ثم احتلب تسع أينق،
فشرب ألبانهن، ثم نحر حواراً فطبخه، فأكلت شيئاً، وأكل الجميع حتى ألقى عظامه
بيضاً. وجثا على كومة من البطحاء وتوسدها، ثم غط غطيط البكر. فقلت: هذه والله
الغنيمة، ثم قمت إلى فحل إبله فخطمته، ثم قرنته ببعيري وصحت به، فاتبعني الفحل واتبعته
الإبل إرباباً به في قطار، فصارت خلفي كأنها حبل ممدود. فمضيت أبادر ثنية بيني
وبينها مسيرة ليلة للمسرع، ولم أزل أضرب بعيري مرة بيدي ومرة برجلي حتى طلع الفجر،
فأبصرت الثنية وإذا عليها سواد، فلما دنوت منه، إذا الشيخ قاعد وقوسه في حجره.
فقال: أضيفنا؟ قلت: نعم. قال: أتسخو نفسك عن هذه الإبل؟ قلت: لا. فأخرج سهماً كأنه
لسان كلب، ثم قال: انظره بين أذني الضب المعلق في القتب، ثم رماه، فصدع عظمه عن
دماغه، فقال لي: ما تقول؟ قلت: أنا على رأيي الأول قال: انظر هذا السهم الثاني في
فقرة ظهره الوسطى، ثم رمى به فكأنما قدره بيده ثم وضعه بإصبعه. ثم قال: رأيك؟
فقلت: إني أحب أن أستثبت. قال: انظر هذا السهم الثالث في عكوة. ذنبه، والرابع
والله في بطنك. ثم رماه فلم يخطئ العكوة. قلت: أنزل آمناً؟ قال: نعم. فدفعت إليه خطام
فحله وقلت: هذه إبلك لم يذهب منها وبرة، وأنا متى يرميني بسهم يقصد به قلبي. فلما
تباعدت، قال: أقبل؛ فأقبلت والله فرقاً من شره لا طمعاً في خيره. فقال: ما أحسبك
تجشمت الليلة ما تجشمت إلا من حاجة. قلت نعم. قال فاقرن من هذه الإبل بعيرين وامض
لطيتك. قال: قلت: أما والله لا أمضي حتى أخبرك عن نفسك، فلا والله ما رأيت
أعرابياً قط أشد ضرساً، ولا أعدى رجلاً، ولا أرمى يداً، ولا أكرم عفواً، ولا أسخى
نفساً منك. فصرف وجهه عني حياء، وقال: خذ الإبل برمتها مباركاً لك فيها.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: اركبوا وارموا. وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا.
وقال: كل لهو
المؤمن باطل إلا ثلاث: تأديبه فرسه، ورميه عن كبد قوسه، وملاعبته امرأته، فإنه حق.
إن الله ليدخل الجنة بالسهم الواحد: عامله المحتسب، والقوي به سبيل الله، أي
والرامي به في سبيل الله.
وروي عن عقبة بن عامر
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو قائم على المنبر: وأعدوا لهم ما
استطعتم من قوة، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي.
وكان أرمى أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم سعد بن أبي وقاص، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا
له، فقال " اللهم سدد رميته، وأجب دعوته " فكان لا يرد له دعاء، ولا
يخيب له سهم.
وذكر أسامة بن زيد أن
شيوخاً من أسلم حدثوه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم وهم يرمون ببطحان.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارموا يا بني إسماعيل، فقد كان أبوكم رامياً، وأنا
مع ابن الأدرع. فتعدى القوم فقالوا: يا رسول الله، من كنت معه فقد نضل. قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: ارموا وأنا معكم كلكم. فانتضلوا ذلك اليوم، ثم رجعوا
بالسواء ليس لأحد على أحد منهم فضل.
وقال عمر: ائتزروا
وارتدوا، وانتعلوا واحتفوا، وارموا الأغراض، وألقوا الركب، وانزوا على الخيل نزوا،
وعليكم بالمعدية - أو قال بالعربية - ودعوا التنعم وزي العجم.
وقال أيضاً: لن تخور
قواكم ما نزوتم ونزعتم. يعني نزوتم على ظهور الخيل، ونزعتم بالقسي.
وجنى قوم من أهل
اليمامة جناية، فأرسل السلطان إليهم جنداً من محاربة ابن زياد. فقام رجل
من أهل البادية يذمر أصحابه، فقال: يا معشر العرب، ويا بني المحصنات. قاتلوا عن
أحسابكم وأنسابكم، فوالله إن ظهر هؤلاء عليكم لا يدعون بها لبنة حمراء، ولا نخلة
خضراء إلا وضعوها بالأرض، ولاعتراكم من نشاب معهم في جعاب كأنها أيور الفيلة،
ينزعون في قسى كأنها الغبط، تئط إحداهن أطيط الزرنوق، يمعط أحدهم فيها حتى يتفرق
شعر إبطيه، ثم يرسل نشابة كأنها رشاء منقطع فما بين أحدكم وبين أن تنفضخ عينه أو
ينصدع قلبه منزلة. فخلع قلوبهم، فطاروا رعباً.
مشاورة المهدي لأهل
بيته
في حرب خراسانهذا ما تراجع
فيه المهدي ووزراؤه، وما دار بينهم من تدبير الرأي في حرب خراسان، أيام تحاملت
عليهم العمال وأعنفت، فحملتهم الدالة وما تقدم لهم من المكانة، على أن نكثوا
ببيعتهم ونقضوا موثقهم، وطردوا العمال، والتواوا بما عليهم من الخراج وحمل المهدي
ما يحب من مصلحتهم، ويكره من عنتهم، على أن أقال عثرتهم، واغتفر زلتهم، واحتمل
دالتهم؛ تطولا بالفضل، واتساعاً بالعفو، وأخذا بالحجة، ورفقاً بالسياسة. ولذلك لم
يزل، منذ حمله الله أعباء الخلافة، وقلده أمور الرعية، رفيقا بمدار سلطانه، بصيراً
بأهل زمانه؛ باسطاً للمعدلة في رعيته، تسكن إلى كنفه، وتأنس بعفوه، وتثق بحلمه.
فإذا وقعت الأقضية اللازمة، والحقوق الواجبة، فليس عنده هوادة ولا إغضاء ولا مداهنة،
أثرة للحق، وقياما بالعدل، وأخذا بالحرم. فدعا أهل خراسان الاغترار بحلمه، والثقة
بعفوه، أن كسروا الخراج، وطردوا العمال، وسألوا ما ليس لهم من الحق. ثم خلطوا
احتجاجاً باعتذار، وخصومه بإقرار، وتنصلاً باعتلال. فلما انتهى ذلك إلى المهدي خرج
إلى مجلس خلائه، وبعث إلى نفر من لحمته ووزرائه، فأعلمهم الحال، واستنصحهم للرعية،
ثم أمر الموالى بالابتداء، وقال للعباس بن محمد أي عم؛ تعقب قولنا، وكن حكماً
بيننا. وأرسل إلى ولديه موسى وهارون فأحضرهما الأمر، وشاركهما في الرأي، وأمر محمد
بن الليث بحفظ مراجعتهم، وإثبات مقالتهم في كتاب.
فقال سلام صاحب دار
المظالم: أيها المهدي: إن في كل أمر غاية ولكل قوم صناعة، استفرغت رأيهم، واستغرقت
أشغالهم، واستنفذت أعمارهم، وذهبوا بها معونتنا عليها، أقوام من أبناء الحرب،
وساسة الأمور، وقادة الجنود، وفرسان الهزاهز، وإخوان التجارب، وأبطال الوقائع،
الذين رشحتهم سحالها، وفيأتهم ظلالها، وعضتهم شدائدها، وقرمتهم نواجذها. فلو عجمت ما
قبلهم، وكشعت ما عندهم، لوجدت نظائر تؤيد أمرك، وتجارب توافق نظرك، وأحاديث تقوي
قلبك. فأما نحن، معاشر عمالك، وأصحاب دواوينك، فحسن بنا وكثير منا أن نقوم بثقل ما
حملتنا من عملك، واستودعتنا من أمانتك، وشغلتنا به من إمضاء عدلك، وإنفاذ حكمك،
وإظهار حقك.
فأجابه المهدي: إن في
كل قوم حكمة، ولكل زمان سياسة، وفي كل حال تدبيراً، يبطل الآخر الأول، ونحن أعلم
بزماننا وتدبير سلطاننا.
قال: نعم،
أيها المهدي، أنت متسع الرأي، وثيق العقدة، قوي المنة، بليغ الفطنة، معصوم النية،
محضور الروية، مؤيد البديهة موفق العزيمة، معان بالظفر، مهدي إلى الخير. إن هممت
ففي عزمك مواقع الظن، وإن أجمعت صدع فعلك ملتبس الشك. فاعزم يهد الله إلى الصواب قلبك، وقل ينطق الله بالحق لسانك؛ فإن
جنودك جمة، وخزائنك عامرة، ونفسك سخية، وأمرك نافذ.
فأجابه المهدي: إن المشاورة
والمناظرة باباً رحمة، ومفتاحاً بركة، لا يهلك عليهما رأي، ولا يتفيل معهما حزم،
فأشيروا برأيكم، وقولوا بما يحضركم، فإني من ورائكم، وتوفيق الله من وراء ذلك.
قال الربيع: أيها
المهدي، أن تصاريف وجوه الرأي كثيرة وإن الإشارة ببعض معاريض القول يسيرة. ولكن
خراسان أرض بعيدة المسافة، متراخية الشقة، متفاوتة السبل. فإذا ارتأيت من محكم
التدبير، ومبرم التقدير، ولباب الصواب، رأيا قد احكمه نظرك، وقلبه تدبيرك، فليس وراءه
مذهب الحجة طاعن، ولا دونه معلق لخصومة عائب؛ ثم خبت البرد به، وانطوت الرسل عليه،
كان بالحري أن لا يصل إليهم محكمه، إلا وقد حدث منهم ما ينقضه. فما أيسر أن ترجع إليك
الرسل، وترد عليك الكتب، بحقائق أخبارهم، وشوارد آثارهم، ومصاده أمورهم، فتحدث
رأياً غيره، وتبتدع تدبيراً سواه، وقد انفرجت الحلق، وتحللت العقد، واسترخى
الحقاب، وامتد الزمان. ثم لعلما موقع الآخرة كمصدر الأولى. ولكن الرأي لك أيها
المهدي - وفقك الله - أن تصرف إجالة النظر وتقليب الفطر، فيما جمعتنا له،
واستشرتنا فيه، من التدبير لحربهم، والحيل في أمرهم، إلى الطلب لرجل ذي دين فاضل،
وعقل كامل، وورع واسع، ليس موصوفاً بهوى في سواك، ولا متهماً في أثره عليك، ولا
ظنيناً على دخلة مكروهة، ولا منسوبا إلى بدعة محظورة، فيقدح في ملكك، ويربض الأمور
لغيرك، ثم تسند إليه أمورهم، وتفوض إليه حربهم، وتأمره في عهدك ووصيتك إياه، بلزوم
أمرك ما لزمه الحزم؛ وخلاف نهيك إذا خالفه الرأي، عند استحالة الأمور، واستدارة
الأحوال، التي ينقض أمر الغائب عنها، ويثبت رأي الشاهد لها، فإنه إذا فعل ذلك
فواثب أمرهم من قريب، وسقط عنه ما يأتي من بعيد، تمت الحيلة، وقويت المكيدة، ونفذ
العمل وأحد النظر. إن شاء الله.
قال الفضل بن العباس:
أيها المهدي، إن ولي الأمور وسائس الحروب، ربما جند جنوده، وفرق أمواله في غير ما
ضيق أمر حزبه، ولا ضغطة حال اضطرته، فيقعد عند الحاجة إليها، وبعد التفرقة لها،
عديماً منها، فاقداً لها، لا يثق بقوة، ولا يصول بعدة، ولا يفزع إلى ثقة. فالرأي
لك أيها المهدي - وفقك الله - أن تعفى خزائنك من الإنفاق للأموال، وجنودك من
مكابدة الأسفار، ومقارعة الأخطار، وتغرير القتال، ولا تسرع للقوم في الإجابة إلى
ما يطلبون، والإعطاء لما يسألون، فيفسد عليك أدبهم، وتجرئ من رعيتك غيرهم. ولكن
اغزهم بالحيلة، وقاتلهم بالمكيدة، وصارعهم باللين وخاتلهم بالرفق، وأبرق لهم، وأرعد
نحوهم بالفعل وابعث البعوث، وجند الجنود، وكتب الكتائب، واعقد الألوية، وانصب
الرايات وأظهر أنك موجه إليهم الجيوش، مع أحنق قوادك عليهم، وأسوئهم أثراً فيهم.
ثم ادسس الرسل وابثث الكتب، وضع بعضهم على طمع من وعدك، وبعضاً على خوف من وعيدك.
وأوقد بذلك وأشباهه نيران التحاسد فيهم، وأغرض أشجار التنافس بينهم، حتى تملأ
القلوب من الوحشة، وتنطوي الصدور على البغضة، ويدخل كلا من كل الحذر والهيبة، فإن
مرام الظفر بالغيلة، والقتال بالحيلة، والمناصبة بالكتب والمكايدة بالرسل،
والمقارعة بالكلام اللطيف المدخل في القلوب، القوي الموقع من النفوس، المعقود
بالحجج، الموصول بالحيل، المبني على اللين، الذي يستلب العقول، ويسترق القلوب؛
ويسبى الآراء، ويستميل الأهواء، ويستدعي المواتاة، أنفذ من القتال بظبات السيوف وأسنة
الرماح. كما أن الوالي الذي يستنزل طاعة رعيته بالحيل، ويفرق كلمة عدوه بالمكايدة،
أحكم عملاً، وألطف نظراً، وأحسن سياسة من الذي لا ينال ذلك إلا بالقتال، وإتلاف
الأموال، والتغرير والخطار. وليعلم المهدي - وفقه الله - أنه إن وجه لقتالهم
رجلاً، لم يسر لقتالهم إلا بجنود كثيفة تخرج عن حال شديدة، وتقدم على أسفار صعبة،
وأموال متفرقة، وقواد غششة، إن ائتمنهم استنفذوا ماله، وإن استنصحهم كانوا عليه لا
له.
قال المهدي: هذا رأي
قد أسفر نوره، وبرق ضوؤه، وتمثل صوابه للعيون، وتجسد حقه في القلوب. ولكن فوق كل
ذي علم عليم. ثم نظر إلى ابنه علي فقال: ما تقول؟
قال علي: أيها المهدي،
إن أهل خراسان لم يخلعوا من طاعتك يداً، ولم ينصبوا من دونك أحداً يكدح في تغيير
ملكك، ويربض الأمور لفساد دولتك، ولو فعلوا لكان الخطب أيسر، والشأن أصغر، والحال
أذل؛ لأن الله مع حقه الذي لا يخذله، وعند موعده الذي لا يخلفه. ولكنه قوم من
رعيتك، وطائفة من شيعتك، الذين جعلك الله عليهم والياً، وجعل العدل بينك وبينهم
حاكماً. طلبوا حقاً، وسألوا إنصافاً، فإن أجبت إلى دعوتهم،ونفست عنهم قبل أن
تتلاحم منهم حالاً، أو يحدث من عندهم فتق، أطعت أمر الرب، وأطفأت نائرة الحرب،
ووفرت خزائن المال، وطرحت تغرير القتال، وحمل الناس محمل ذلك على طبيعة جودك،
وسجية حلمك، وإسجاح خليقتك، ومعدلة نظرك. فأمنت أن تنسب إلى ضعف. وأن يكون ذلك لهم
فيما بقى دربة. وإن منعتهم ما طلبوا، ولم تجبهم إلى ما سألوا، اعتدلت بك وبهم
الحال، وساويتهم في ميدان الخطاب. فما أرب المهدي أن يعمد إلى طائفة من رعيته،
مقرين بمملكته، مذعنين لطاعته، لا يخرجون أنفسهم عن قدرته، ولا يبرئونها من عبوديته،
فيملكهم أنفسهم، ويخلع نفسه عنهم، ويقف على الجدل معهم، ثم يجازيهم السوء في جد
المقارعة، ومضمار المخاطرة؟ أيريد المهدي - وفقه الله - الأموال؟ فلعمري لا ينالها ولا يظفر بها إلا بإنفاق أكثر مما يطلب
منهم، وأضعاف ما يدعي قبلهم. ولو نالها فحملت إليه، ووضعت بخرائطها بين يديه، ثم تجافى
لهم عنها، وطال عليهم بها، لكان ذلك مما إليه ينسب، وبه يعرف، من الجود الذي طبعه
الله عليه؛ وجعل قرة عينه ونهمة نفسه فيه فإن قال المهدي: هذا رأي مستقيم سديد في أهل الخراج الذين شكوا ظلم عمالنا، وتحامل
ولاتنا؛ فأما الجنود الذين نقضوا مواثيق العهود، وأنطقوا لسان الإرجاف وفتحوا باب المعصية،
وكسروا قيد الفتنة، فقد ينبغي لهم أن أجعلهم نكالاً لغيرهم وعظة لسواهم، فيعلم
المهدي أنه لو أتي بهم مغلولين في الحديد، مقرنين في الأصفاد، ثم اتسع لحقن دمائهم
عفوه، ولإقامة عثرتهم صفحه، واستقبالهم لما هم فيه من حربه، أو لمن بإزائهم من عدوه
لما كان بدعاً من رأيه، ولا مستنكراً من نظره. لقد علمت العرب أنه أعظم الخلفاء
والملوك عفواً، وأشدها وقعاً، وأصدقها صولة، وأنه لا يتعاظمه عفو، ولا يتكاءده
صفح، وإن عظم الذنب، وجل الخطب. فالرأي للمهدي - وفقه الله تعالى - أن يحل عقدة
الغيظ بالرجاء لحسن ثواب الله في العفو عنهم، وأن يذكر أولى حالاتهم، وضيعة عيالاتهم،
براً بهم وتوسعاً لهم؛ فإنهم إخوان دولته، وأركان دعوته، وأساس حقه الذين بعزتهم
يصول، وبحجتهم يقول. إنما مثلهم فيما دخلوا فيه من مساخطه، وتعرضوا له من معاصيه،
وانطووا فيه عن إجابته، ومثله في قلة ما غير ذلك من رأيه فيهم، أو نقل من حاله
لهم، أو تغير من نعمته عليهم، كمثل رجلين أخوين متناصرين متوازرين، أصاب أحدهما
خبل عارض، ولمم حادث، فنهض إلى أخيه بالأذى، وتحامل عليه بالمكروه، فلم يزد ذلك
أخاه إلا رقة له، ولطفا به، واحتيالاً لمداواة مرضه، ومراجعة حاله، عطفاً عليه،
وبراً به، ومرحمة له.
فقال المهدي: أما علي
فقد نوى سمت الليان، وفض القلوب عن أهل خراسان، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون. ثم
قال: ما ترى يا أبا محمد؟ يعني موسى ابنه.
فقال موسى: أيها
المهدي، لا تسكن إلى حلاوة ما يجري من القول على ألسنتهم، وأنت ترى الدماء تسيل من
خلل فعلهم. الحال من القوم تنادى بمضرة شر، وخفية حقد، قد جعلوا المعاذير عليه
ستراً، واتخذوا العلل من دونها حجاباً، رجاء أن يدافعوا الأيام بالتأخير، والأمور
بالتطويل، فيكسروا حيل المهدي فيهم، ويثنوا جنوده عنهم، حتى يتلاحم أمرهم، وتتلاحق
مادتهم، وتستفحل حربهم، وتستمر الأمور بهم. والمهدي من قولهم في حال غرة ولباس
أمنة قد فتر لها، وأنس بها، وسكن إليها. ولولا ما اجتمعت به قلوبهم، وبردت عليه
جلودهم، من المناصبة بالقتال، والإضمار للقراع، عن داعية ضلال، أو شيطان فساد،
لرهبوا عواقب أحوال الولاة، وغب سكون الأمور. فليشدد المهدي - وفقه
الله - أزره لهم، ويكتب كتائبه نحوهم، وليضع الأمر على أشد ما يحضره فيهم، وليوقن
أنه لا يعطيهم خطة يريد بها صلاحهم، إلا كانت دربة لفسادهم، وقوة على معصيتهم،
وداعية إلى عودتهم، وسببا لفساد من بحضرته من الجنود، ومن ببابه من الوفود، الذين
أقرهم على تلك العادة، وأجراهم على ذلك الأدب، لم يبرح في فتق حادث، وخلاف حاضر،
لا يصلح عليه دين، ولا تستقيم به دنيا. وإن طلب تغييره بعد استحكام العادة،
واستمرار الدربة، لم يصل إلى ذلك إلا بالعقوبة المفرطة، والمؤونة الشديدة. والرأي
للمهدي - وفقه الله - أن لا يقيل عثرتهم، ولا يقبل معذرتهم، حتى تطأهم الجيوش، وتأخذهم
السيوف، ويستحر بهم القتل، ويحدق بهم الموت، ويحيط بهم البلاء، ويطبق عليهم الذل. فإن فعل
المهدي بهم ذلك، كان مقطعة لكل عادة سوء فيهم، وهزيمة لكل بادرة شر منهم. واحتمال
المهدي مؤونة غزوتهم هذه يضع عنه مؤونة غزوات كثيرة، ونفقات عظيمة.
قال المهدي: قد قال
القوم، فاحكم يا أبا الفضل.
فقال العباس بن محمد:
أيها المهدي، أما الموالي فأخذوا بفروع الرأي، وسلكوا جنبات الصواب، وتعدوا أموراً
قصر نظرهم عنها، لأنه لم تأت تجاربهم عليها.
وأما الفضل فأشار بالأموال
أن لا تنفق، والجنود أن لا تفرق، وبأن لا يعطى القوم ما طلبوا، ولا يبذل لهم ما
سألوا، وجاء بأمر بين ذلك، استصغاراً لأمرهم، واستهانة بحربهم، وإنما يهيج جسيمات
الأمور صغارها.
وأما علي فأشار باللين
وإفراط الرفق. وإذا جرد الوالي لمن غمط أمره، وسيفه حقه، اللين بحتاً، والخير
محضاً، لم يخلطهما بشدة تعطف القلوب على لينه ولا بشر يحيشهم إلى خيره؛ فقد ملكهم
الخلع لعذرهم، ووسع لهم الفرجة لثني أعناقهم. فإن أجابوا دعوته، وقبلوا لينه من
غير ما خوف اضطرهم، ولا شدة حال أخرجتهم، لم يزل ذلك يهيج عزة في نفوسهم، ونزوة في
رؤوسهم، يستعدون بها البلاء إلى أنفسهم، ويصرفون بها رأي المهدي فيهم. وإن لم
يقبلوا دعوته، ويسرعوا لإجابته باللين المحض، والخير الصراح، فذلك ما عليه الظن
بهم، والرأي فيهم، وما قد يشبه أن يكون من مثلهم؛ لأن الله تعالى خلق الجنة وجعل
فيها من النعيم المقيم، والملك الكبير، ما لا يخطر على قلب بشر، ولا تدركه الفكر ولا
تعلمه النفوس، ثم دعا الناس إليها، ورغبهم فيها. فلولا أنه خلق ناراً لهم رحمة
يسوقهم بها إلى الجنة، لما أجابوا ولا قبلوا.
وأما موسى فأشار بأن
يعصبوا بشدة لا لين فيها، وأن يرموا بشر لا خير معه. وإذا أضمر الوالي لما فارق
طاعته، وخالف جماعته، الخوف مفرداً، والشر مجرداً؛ ليس معهما طمع يكسرهم، ولا لين
يثنيهم، امتدت الأمور بهم، وانقطعت الحال منهم إلى أحد أمرين: إما أن تدخلهم
الحمية من الشدة، والأنفة من الذلة، والامتعاض من القهر، فيدعوهم ذلك إلى التمادي
في الخلاف، الاستبسال في القتال، والاستسلام للموت؛ وإما أن ينقادوا بالكره،
ويذعنوا بالقهر، على بغضة لازمة، وعداوة باقية، تورث النفاق، وتعقب الشقاق، فإذا
أمكنتهم فرصة، أو ثابت لهم قدرة، أو قويت لهم حال، عاد أمرهم إلى أصعب وأغلظ وأشد
مما كان.
وقال: في قول
الفضل أيها المهدي، أكفى دليل، وأوضح برهان، وأبين خبر بان؛ قد اجتمع رأيه، وحزم
نظره على الإرشاد ببعثة الجيوش إليهم، وتوجيه البعوث نحوهم، مع إعطائهم ما سألوا
من الحق، وإجابتهم إلى ما سألوا من العدل.
قال المهدي: ذلك رأى.
قال هارون: خلطت
الشدة أيها المهدي باللين، فصارت الشدة أمر فطام لما تكره وعاد اللين أهدى قائد
إلى ما تحب، ولكن أرى غير ذلك.
قال المهدي: لقد قلت
قولاً بديعاً، خالفت به أهل بيتك جميعاً، والمرء متهم بما قال، وظنين بما ادعى،
حتى يأتي ببينة عادلة، وحجة ظاهرة؛ فاخرج عما قلت.
قال هارون: أيها
المهدي، إن الحرب خدعة، والأعاجم قوم مكرة، وربما اعتدلت الحال بهم، واتفقت
الأهواء منهم، فكان باطن ما يسرون على ظاهر ما يعلنون؛ وربما افترقت الحالان،
وخالف القلب اللسان، فانطوى القلب على محجوبة تبطن، واستسر بمدخوله لا تعلن.
والطبيب الرفيق بطبه، البصير بأمره، العالم بمقدم يده، وموضع ميسمه، لا يتعجل
بالدواء، حتى يقع على معرفة الداء. فالرأي للمهدي - وفقه الله - أن يفر باطن أمرهم
فر المسنة، ويمخض ظاهر حالهم مخض السقاء، بمتابعة الكتب، ومظاهرة الرسل، وموالاة
العيون، حتى تهتك حجب غيوبهم، وتكشف أغطية أمورهم، فإن انكشفت الحال له، وأفضت
الأمور به، إلى تغيير حال، أو داعية ضلال، اشتملت الأهواء عليه، وانقاد الرجال
إليه، وامتدت الأعناق نحوه، بدين يعتقدونه، وإثم يستحلونه، عصبهم بشدة لا لين فيها،
ورماهم بعقوبة لا عفو معها. وإن انفرجت الغيوب واهتصرت الستور، ورفعت الحجب،
والحال فيهم مريعة، والأمور بهم معتدلة، عن أرزاق يطلبونها، وأعمال ينكرونها،
وظلامات يدعونها، وحقوق يسألونها، بماتة سابقتهم، ودالة مناصحتهم، فالرأي للمهدي -
وفقه الله - أن يتسع لهم بما طلبوا، ويتجافى لهم عما كرهوا، ويشعب من أمرهم ما
صدعوا، ويرتق من فتقهم ما فتقوا، ويولي عليهم من أحبوا، ويداوي بذلك مرض قلوبهم،
وفساد أمورهم، فإنما المهدي وأمته وسواد أهل مملكته، بمنزلة الطبيب الرفيق،
والوالد الشفيق، والراعي الحدب، الذي يحتال لمرابض غنمه، وضوال رعيته. حتى يبرئ
المريضة من داء علتها، ويرد الضالة إلى أنس جماعتها. ثم إن خراسان بخاصة لهم دالة
محمولة، وماتة مقبولة، ووسيلة معروفة، وحقوق واجبة، لأنهم أيدي دولته، وسيوف
دعوته، وأنصار حقه، وأعوان عدله؛ فليس من شأن المهدي الاضطغان عليهم، ولا المؤاخذة
لهم، ولا التوعر بهم، ولا المكافأة بإساءتهم، لأن مبادرة حسم الأمور ضعيفة قبل أن
تقوى، ومحاولة قطع الأصول ضئيلة قبل أن تغلظ، أحزم في الرأي. وأصح في التدبير، من
التأخير لها، والتهاون بها، حتى يلتئم قليلها بكثيرها، وتجتمع أطرافها إلى جمهورها.
قال المهدي: ما زال
هارون يقع وقع الحيا، حتى خرج خروج القدح مما قال، وانسل انسلال السيف فيما ادعى.
فدعوا ما قد سبق موسى فيه أنه هو الرأي، وثنى بعده هارون. ولكن من لأعنه الخيل،
وسياسة الحرب، وقادة الناس، إن أمعن بهم اللجاج، وأفرطت بهم الدالة؟ قال الصالح: لسنا
نبلغ أيها المهدي بدوام البحث، وطول الفكر، أدنى فراسة رأيك، وبعض لحظات نظرك،
وليس ينفض عنك من بيوتات العرب ورجالات العجم ذو دين فاضل، ورأي كامل، وتدبير قوي،
تقلده حربك، وتستودعه جندك، ممن يحتمل الأمانة العظيمة، ويضطلع بالأعباء الثقيلة.
وأنت بحمد الله ميمون النقيبة مبارك العزيمة، مخبور التجارب، محمود العواقب، معصوم
العزم، فليس يقع اختيارك، ولا يقف نظرك، على أحد توليه أمرك، وتسند إليه ثغرك، إلا
أراك الله منه ما تحب، وجمع لك منه ما تريد.
قال المهدي: إني
لأرجو ذلك لقديم عادة الله فيه، وحسن معونته عليه. ولكن أحب الموافقة على الرأي،
والاعتبار بالمشاورة في الأمر المهم.
قال محمد بن الليث:
أهل خراسان، أيها المهدي، قوم ذو عزة ومنعة، وشياطين خدعة زروع الحمية فيهم نابتة،
وملابس الأنفة عليهم ظاهرة. فالروية عنهم عازبة، والعجلة فيهم حاضرة، تسبق سيولهم
مطرهم، وسيوفهم عذلهم، لأنهم بين سفلة لا يعدو مبلغ عقولهم منظر عيونهم، وبين رؤساء
لا يلجمون إلا بالشدة، ولا يفطمون إلا بالقهر. وإن ولى المهدي عليهم وضيعاً لم
تنقد له العظماء، وإن ولى أمرهم شريفاً تحامل على الضعفاء. وإن أخر المهدي أمرهم،
ودافع حربهم، حتى يصيب لنفسه من حشمه ومواليه، أو بني عمه أو بني أبيه، ناصحاً
يتفق عليه أمرهم، وثقة تجتمع له أملاؤهم، بلا أنفة تلزمهم، ولا حمية تدخلهم، ولا
عصبية تنفرهم، تنفست الأيام بهم، وتراخت الحال بأمرهم، فدخل بذلك من الفساد
الكبير، والضياع العظيم، ما لا يتلافاه صاحب هذه الصفة وإن جد، ولا يستصلحه، وإن
جهد، إلا بعد دهر طويل، وشر كبير. وليس المهدي - وفقه الله - فاطماً عاداتهم، ولا قارعاً صفاتهم، بمثل
أحد رجلين لا ثالث لهما، ولا عدل في ذلك بهما: أحدهما لسان ناطق، موصول بسمعك، ويد
ممثلة لعينك، وصخرة لا تزعزع، وبهمة لا يثنى، وبازل لا يفزعه صوت الجلجل؛ تقي
العرض، نزيه النفس، جليل الخطر، قد اتضعت الدنيا عن قدره، وسما نحو الآخرة بهمته؛
فجعل الغرض الأقصى لعينه نصباً، والغرض الأدنى لقدمه موطئاً، فليس يغفل عملاً، ولا
يتعدى أملاً، وهو رأس مواليك، وأنصح بني أبيك، رجل قد غذي بلطيف كرامتك، ونبت في
ظل دولتك، ونشأ على قويم أدبك. فإن قلدته أمرهم، وحملته ثقلهم، وأسندت إليه ثغرهم،
كان قفلاً فتحه أمرك، وباباً أغلقه نهيك، فجعل العدل عليه وعليهم أميراً، والإنصاف
بينه وبينهم حاكماً، فأعطاهم مالهم، وأخذ منهم ما عليهم، غرس لك في الذي بين
صدورهم، وأسكن لك في السويداء داخل قلوبهم، طاعة راسخة العروق، باسقة الفروع، متمثلة
في حواشي عوامهم، متمكنة من قلوب خواضهم، فلا يبقى فيهم ريب إلا نفوه، ولا يلزمهم
حق إلا أدوه، وهذا أحدهم. والآخر عود من غيضتك، ونبعة من أرومتك، فتي السن، كهل
الحلم، راجح العقل، محمود الصرامة، مأمون الخلاف، يجرد فيهم سيفه، ويبسط عليهم
خيره، بقدر ما يستحقون، وعلى حسب ما يستوجبون، وهو فلان أيها المهدي. فسلطه - أعزك
الله - عليهم، ووجهه بالجيوش إليهم، ولا تمنعك ضراعة سنه، وحداثة مولده؛ فإن الحلم
والثقة مع الحداثة، خير من الشك والجهل مع الكهولة وإنما أحداثكم أهل البيت فيما
طبعكم الله عليه، واختصكم به، من مكارم الأخلاق، ومحامد الفعال، ومحاسن الأمور،
وصواب التدبير، وصرامة الأنفس، كفراخ عتاق الطير المحكمة لأخذ الصيد بلا تدريب، والعارفة
لوجوه النفع بلا تأديب، فالحلم والعلم والعزم والحزم والجود والتؤدة والرفق ثابت
في صدوركم، مزروع في قلوبكم مستحكم لكم، متكامل عندكم، بطبائع لازمة، وغرائز ثابتة.
قال معاوية بن عبد
الله: أفتاء أهل بيتك أيها المهدي في الحلم على ما ذكر، وأهل خراسان في حال عز على
ما وصف، ولكن إن ولى المهدي عليهم رجلاً ليس بقديم الذكر في الجنود، ولا بنبيه
الصوت في الحروب، ولا بطويل التجربة للأمور ولا بمعروف السياسة للجيوش والهيبة في الأعداء،
دخل ذلك أمران عظيمان، وخطران مهولان، أحدهما: أن الأعداء يغتمزونها منه،
ويحتقرونها فيه، ويجترئون بها عليه، في النهوض به والمقارعة له، والخلاف عليه، قبل
الاختبار لأمره، والتكشف لحاله، والعلم بطباعه. والأمر الآخر: أن الجنود التي يقود، والجيوش التي يسوس، إذا لم
يختبروا منه البأس والنجدة، ولم يعرفوه بالصوت والهيبة، انكسرت شجاعتهم، وماتت
نجدتهم، واستأخرت طاعتهم إلى حين اختبارهم، ووقوع معرفتهم، وربما وقع البوار قبل الاختبار.
وبباب المهدي - وفقه الله - رجل مهيب، نبيه حنيك صيت، له نسب زاك، وصوت عال، قد
قاد الجيوش، وساس الحروب، وتألف أهل خراسان، واجتمعوا عليه بالمقة، ووثقوا به كل
الثقة، فلو ولاه المهدي أمرهم، لكفاه الله شرهم.
قال المهدي: جانيت
قصد الرمية، وأبيت إلا عصبية، إذ رأي الحدث من أهل بيتنا، كرأي عشرة حلماء من
غيرنا. ولكن أين تركتم ولي العهد؟ قالوا: لم يمنعنا من ذكره إلا كونه شبيه جده،
ونسيج وحده، ومن الدين وأهله بحيث يقصر القول عن أدنى فضله، ولكن وجدنا الله عز
وجل قد حجب عن خلفه، وستر من دون عباده، علم ما تختلف به الأيام، ومعرفة ما تجري
به المقادير، من حوادث الأمور، وريب المنون، المخترمة لخوالي القرون، ومواضي
الملوك، فكرهنا شسوعه عن محلة الملك، ودار السلطان، ومقر الإمامة والولاية، وموضع
المدائن والخزائن، ومستقر الجنود، وموضع الوجوه، ومجمع الأموال، التي جعلها الله
عز وجل قطباً لمدار الملك، ومصيدة لقلوب الناس، ومثابة لإخوان الطمع، وثوار الفتن،
ودواعي البدع، وفرسان الضلال، وأبناء المروق. وقلنا إن وجه المهدي ولى عهده، فحدث
في جيوشه وجنوده ما قد حدث بجنود الرسل من قبله، لم يستطع المهدي أن يعقبه بغيره،
إلا أن ينهض إليهم بنفسه، وهذا خطر عظيم، وهول شديد، إن تنفست الأيام بمقامه،
واستدامت الحال بأيامه، حتى يقع عرض لا يستغنى فيه، أو يحدث أمر لا بد فيه منه،
صار ما بعده، مما هو أعظم هولاً وأجل خطراً، له تبعاً وبه متصلاً.
قال المهدي: الخطب
أيسر مما تذهبون إليه، وعلى غير ما تصفون الأمر عليه. نحن - أهل البيت - نجري من
أسباب القضايا، ومواقع الأمور، على سابق من العلم، ومحتوم من الأمر، قد أنبأت به الكتب،
وتتابعت عليه الرسل، وقد تناهى ذلك بأجمعه إلينا، وتكامل بحذافيره عندنا، فبه
ندبر، وعلى الله نتوكل. إنه لا بد لولي عهدي، عقبي من بعدي، أن يقود إلى خراسان
البعوث، ويتوجه نحوها بالجنود.
أما الأول فإنه يقدم إليهم
رسله، ويعمل، فيهم حيله ثم يخرج نشطاً إليهم حنقاً عليهم يريد أن لا يدع أحد من
إخوان الفتن، ودواعي البدع، وفرسان الضلال، إلا توطأه بحر القتل، وألبسه قناع
القهر، وطوقه طوق الذل؛ ولا أحداً من الذين عملوا في قص جناح الفتنة، وإخماد نار
البدعة، ونصرة ولاة الحق، إلا أجرى عليهم ديم فضله، وجداول بذله. فإذا خرج مزمعاً
له مجمعاً عليه، لم يسر إلا قليلاً حتى يأتيه أن قد عملت حيله. وكدحت كتبه، ونفذت
مكايده؛ فهدأت نافرة القلوب، ووقعت طائرة الأهواء، واجتمع عليه المختلفون بالرضا،
فيميل نظراً لهم، وبراً بهم، وتعطفاً عليهم، إلى عدو قد أخاف سبيلهم، وقطع طريقهم،
ومنع حجاجهم بيت الله الحرام، وسلب تجارهم رزق الله الحلال.
وأما الآخر فإنه يوجه
إليهم من يعتقد له الحجة بإعطاء ما يطلبون، وبذل ما يسألون، فإذا سمت الفرق
بقرانها له، وجنح أهل النواحي بأعناقهم نحوه، فأصغت إليه الأفئدة، واجتمعت له
الكلمة، وقدمت عليه الوفود، قصد لأول ناحية بخعت بطاعتها، وألقت بأزمتها، فألبسها
جناح نعمته، وأنزلها ظل كرامته وخصها بعظيم حبائه، ثم عم الجماعة بالمعدلة، وتعطف
عليهم بالرحمة. فلا تبقى فيهم ناحية دانية، ولا فرقة قاصية، إلا دخلت عليها بركته،
ووصلت إليها منفعته، فأغنى فقيرها، وجبر كسيرها، ورفع وضيعها، وزاد رفيعها، ما خلا
ناحيتين: ناحية يغلب عليهم الشقاء، وتستميلهم الأهواء، فتستخف بدعوته، وتبطئ عن
إجابته، وتتثاقل عن حقه، فتكون آخر من يبعث، وأبطأ من يوجه، فيضطمر عليها موجدة،
ويبتغي لها علة، لا يلبث أن يجدها بحق يلزمهم، وأمر يجب عليهم، فتستلحمهم الجيوش، وتأكلهم
السيوف، ويستحر فيهم القتل، ويحيط بهم الأسر، ويفنيهم التتبع، حتى يخرب البلاد،
ويوتم الأولاد. وناحية لا يبسط لهم أماناً، ولا يقبل لهم عهداً، ولا يجعل لهم ذمة،
لأنهم أول من فتح باب الفرقة، وتدرع جلباب الفتنة، وربض في شق العصا. ولكنه يقتل
أعلامهم، ويأسر قوادهم، ويطلب هرابهم، في لجج البحار، وقلل الجبال، وخمر الأردية،
وبطون الأرض، تقتيلاً وتغليلاً وتنكيلاً، حتى يدع الديار خراباً، والنساء أيامى.
وهذا أمر لا نعرف في كتبناً وقتاً، ولا نصحح منع غير ما قلنا تفسيراً.
وأما موسى ولي عهدي،
فهذا أوان توجهه إلى خراسان، وحلوله بجرجان، وما قضى الله له من الشخوص إليها،
والمقام فيها، خير للمسلمين مغبة، وله بإذن الله عاقبة من المقام بحيث يغمر في لجج
بحورنا، ومدافع سيولنا ومجامع أمواجنا، فيتصاغر عظيم فضله، ويتذأب مشرق نوره،
ويتقلل كثير ما هو كائن منه. فمن يصحبه من الوزراء، ومن يختار له من الناس؟ قال
محمد بن الليث: أيها المهدي، إن ولى عهدك أصبح لأمتك وأهل ملتك علماً قد تثنت نحوه
أعناقها، ومدت سمته أبصارها. وقد كان لقرب داره منك، ومحل جواره لك: عطل الحال، غفل الأمر، واسع
العذر. فأما إذا انفرد بنفسه، وخلا بنظره، وصار إلى تدبيره، فإن من شأن
العامة، وأمراء الأمة، أن تتفقد مخارج رأيه، وتستنصت لمواقع آثاره، وتسأل عن حوادث
أحواله، في بره ومرحمته، وإقساطه ومعدلته، وتدبيره، وسياسته، ووزرائه وأصحابه، ثم
يكون ما سبق إليهم، أغلب الأشياء عليهم، فلا يفتأ المهدي - وفقه الله - ناظراً له فيما يقوي عمد مملكته ويسدد أركان ولايته،
ويستجمع رضا أمته، بأمر هو أزين لحاله، وأظهر لجماله، وأفضل مغبة لأمره، وأجل موقعاً
في قلوب رعيته، وأحمد حالاً في نفوس أهل ملته. ولا أوقع مع ذلك باستجماع الأهواء
له، وأبلغ في استعطاف القلوب عليه، من مرحمة تظهر من فعله؛ ومعدلة تنتشر من أثره،
ومحبة للخير وأهله. وإن يختار المهدي - وفقه الله - من خيار أهل كل بلدة، وفقهاء
أهل كل مصر، أقواماً تسكن العامة إليهم إذا ذكروا، وتأنس الرعية بهم إذا وصفوا، ثم
تسهل لهم عمارة سبل الإحسان، وفتح باب المعروف، كما قد كان فتح له وسهل عليه.
قال المهدي: صدقت ونصحت.
ثم بعث في ابنه موسى، فقال: أي بني، إنك قد أصبحت لسمت عيون العامة نصباً، ولمثنى
أعطاف الرعية غاية، فحسنتك شاملة، وإساءتك نامية وأمرك ظاهر. فعليك
بتقوى الله عز وجل وطاعته، فاحتمل سخط الناس فيهما، ولا تطلب رضاهم بخلافهما، فإن
الله عز وجل كافيك من أسخطه إيثارك رضاه، وليس بكافيك من يسخطه عليك إيثارك رضا من
سواه. ثم اعلم أن لله تعالى في كل زمن عترة من رسله، وبقايا من صفوة خلقه، وخبايا
لنصرة حقه؛ يجدد حبل الإسلام بدعواهم، ويشيد أركان الدين بنصرتهم، ويتخذهم لأولياء
دينه أنصاراً، وعلى إقامة عدله أعوانا يسدون الخلل، ويقيمون الميل، ويدفعون عن
الأرض الفساد. وإن أهل خراسان أصبحوا أيدي دولتنا، وسيوف دعوتنا، الذين نستدفع
المكاره بطاعتهم، ونصرف نزول العظائم بمناصحتهم، وندافع ريب الزمان بعزائمهم،
ونزاحم ركن الدهر ببصائرهم. فهم عماد الأرض إذا أرجفت كنفها، وحتوف الأعداء إذا
برزت صفحتها، وحصون الرعية إذا تضايقت الحال بها. قد مضت لهم وقائع صادقات، ومواطن
صالحات، أخمدت نيران الفتن، وقصمت دواعي البدع، وأذلت رقاب الجبارين، ولم ينفكوا
كذلك ما جروا مع ريح دولتنا، وأقاموا في ظل دعوتنا، واعتصموا بحبل طاعتنا التي أعز
الله بها ذلتهم، ورفع بها ضعتهم، وجعلهم بها أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً
على رقاب العالمين، بعد لباس الذل، وقناع الخوف، وإطباق البلاء، ومحالفة الأسى،
وجهد البأس والضر. فظاهر عليهم لباس كرامتك، وأنزلهم في حدائق نعمتك ثم اعرف لهم
حتى طاعتهم، ووسيلة دالتهم، وماتة سابقتهم، وحرمة مناصحتهم بالإحسان إليهم،
والتوسعة عليهم، والإثابة لمحسنهم، والإقالة لمسيئهم.
أي بني: ثم عليك
العامة، فاستدع رضاها بالعدل عليها، واستجلب مودتها بالإنصاف لها، وتحسن بذلك
لربك، وتزين به في عين رعيتك، واجعل عمال القدر، وولاة الحجج مقدمة بين يدي عملك،
ونصفة منك لرعيتك؛ وذلك أن تأمر قاضي كل بلد، وخيار أهل كل مصر، أن يختاروا
لأنفسهم رجلاً توليه أمرهم، وتجعل العدل حاكماً بينه وبينهم، فإن أحسن حمدت، وإن
أساء عذرت، هؤلاء عمال القدر وولاة الحجج. فلا يضيعن عليك ما في ذلك - إذا انتشر
في الآفاق، وسبق إلى الأسماع - من انعقاد ألسنة المرجفين، وكبت قلوب الحاسدين،
وإطفاء نيران الحروب، وسلامة عواقب الأمور. ولا ينفكن في ظل كرامتك نازلاً، وبعراً حبلك متعلقاً رجلان: أحدهما
كريمة من كرائم رجالات العرب، وأعلام بيوتات الشرف، له أدب فاضل، وحلم راجح، ودين صحيح.
والآخر له دين غير مغمور، وموضع مدخول، بصير بتقلب الكلام، وتصريف الرأي، وإيحاء
الأدب، ووضع الكتب عالم بحالات الحروب، وتصاريف الخطوب، يضع آداباً نافعة، وآثاراً
باقية؛ من تجميل محاسنك، وتحسين أمرك، وتحلية ذكرك، فتستشيره في حربك، وتدخله في
أمرك؛ فرجل أصبته كذلك فهو يأوي إلى محلتي، ويرعى في خضرة جناني: ولا تدع أن تختار
لك من فقهاء البلدان، وخيار الأمصار، أقواماً يكونون جيرانك وسمارك، وأهل مشاورتك
فيما تورد، وأصحاب مناظرتك فيما تصدر. فسر على بركة الله، أصحبك الله من عونه
وتوفيقه دليلاً يهدي إلى الصواب قلبك؛ وهادياً ينطق بالحق لسانك.
وكتب في شهر ربيع
الآخرة سنة سبعين ومائة ببغداد.
باب في مداراة
العدوفي كتاب للهند: إن العدو الشديد الذي لا تقوى له لا ترد بأسه عنك بمثل الخشوع
والخضوع له، كما أن الحشيش إنما يسلم من الريح العاصفة بلينه وانثنائه معها.
وقالوا: أزفن للقرد
في دولته.
أخذه الشاعر فقال:
لا تعبدن صنماً في
فاقة نزلت ... وازفن بلا حرج للقرد في زمنه
وقال أحمد بن يوسف
الكاتب: إذا لم تقدر أن تعض يد عدوك فقبلها.
وقال سابق البلوي:
وداهن إذا ما خفت
يوماً مسلطاً ... عليك ولن يحتال من لا يداهن
وقالت الحكماء: رأس
العقل مغافصة الفرصة عند إمكانها، والانصراف عما لا سبيل إليه.
وقال الشاعر:
بلاء ليس يشبهه بلاء
... عداوة غير ذي حسب ودين
يبيحك منه عرضاً لم
يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
التحفظ من العدو
إن أبدى لك
المودةقالت الحكماء: احذر الموتور ولا تطمئن إليه، وكن أشد ما تكون حذراً منه ألطف
ما يكون مداخلة لك. فإنما السلامة من العدو بتباعدك منه، وانقباضك عنه؛ وعند الأنس
إليه والثقة به تمكنه من مقاتلك.
وقالوا: لا تطمئن
إلى العدو إن أبدى لك المقاربة، وإن بسط لك وجهه وخفض لك جناحه، فإنه يتربص بك
الدوائر، ويضمر لك الغوائل، ولا يرتجى صلاحاً إلا في فسادك، ولا رفعة إلا بسقوط
جاهك.
كما قال الأخطل:
بني أمية إني ناصح
لكم ... فلا يبيتن فيكم آمناً زفر
واتخذوه عدواً إن
شاهده ... وما تغيب من أخلاقه دعر
إن الضغينة تلقاها
وإن قدمت ... كالعر يكمن حيناً ثم ينتشر
وفي كتاب الهند:
الحازم يحذر عدوه على كل حال، يحذر المواثبة إن قرب، والمعاودة إن بعد، والكمين إن
انكشف، والاستطراد إن ولى، والكرة إن فر.
وأوصى بعض الحكماء
ملكاً فقال: لا يكونن العدو الذي كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي
يستتر لك بمخاتلته، فإنه ربما تخوف الرجل السم الذي هو أقتل الأشياء، وقتله الماء
الذي هو محيي الأشياء؛ وربما تخوف أن تقتله الملوك التي تملكه، ثم تقتله العبيد
التي يملكها.
ولم يقل أحد في العدو
المندمل على العداوة؛ مثل قول الأخطل:
إن الضغينة تلقاها
وإن قدمت ... كالعرق يكمن حيناً ثم ينتشر
وقد أشار الحسن بن
هانئ إلى هذا المعنى فأجاده حيث يقول:
وابن عم لا يكاشفنا
... قد لبسناه على غمره
كمن الشنآن فيه لنا
... ككمون النار في حجره
وشبهوا العدو إذا كان
هذا فعله بالحية المطرقة. قال ابن أخت تأبط شراً:
مطرق يرشح موتاً كما
... أطرق أفعى ينفث السم صل
وقال عبد الله بن
الزبير لمعاوية - ويقال: بل معاوية قالها لعبد الله بن الزبير - : مالي أراك تطرق إطراق الأفعوان في أصول السخبر؟ وفي كتاب الهند: إذا أحدث
لك العدو صداقة لعلة ألجأته إليك فمع ذهاب العلة رجوع العداوة، كالماء تسخنه فإذا
أمسكت عنه عاد إلى أصله بارداً: والشجرة المرة لو طليتها بالعسل لم تثمر إلا مراً.
وقال دريد بن الصمة:
وما تخفى الضغينة حيث
كانت ... ولا النظر المريض من الصحيح
وقال زهير:
وما يك في صديق أو
عدو ... تخبرك العيون عن القلوب
وقيل لزياد: ما
السرور؟ قال: من طال في العافية والكفاية عمره، حتى يرى في عدوه ما يسره.
باب من أخبار
الأزارقةكان أول من خرج من الخوارج بعد قتل علي رضي الله عنه: حوثرة
الأقطع، فإنه كان خرج إلى النخيلة واجتمع إليه جماعة من الخوارج؛ ومعاوية بالكوفة،
وقد بايعه الحسن والحسين وقيس بن سعد بن عبادة. ثم خرج الحسن يريد المدينة، فوجه إليه
معاوية وقد تجاوز في طريقه يسأله أن يكون المتولي لمحاربتهم. فقال الحسن عليه
السلام: والله لقد كففت عنك لحقن دماء المسلمين، وما أحسب ذلك يسعني، فكيف أن
أقاتل قوماً أنت أولى بالقتال منهم؟ فلما رجع الجواب إليه، وجه إليهم جيشاً أكثره
من أهل الكوفة، ثم قال لأبي حوثرة: تقدم فاكفني أمر ابنك. فسار إليه أبوه، فدعاه
إلى الرجوع، فأبى، فداوره فصمم. فقال له: أي بني، أجيئك بابنك لعلك تراه فتحن
إليه؟ فقال له: يا أبت، أنا والله إلى طعنة نافذة أتقلب فيها على كعوب الرمح أشوق مني
إلى ابني. فرجع إلى معاوية فأخبره. فقال: يا أبا حوثرة، عتا هذا جداً. فلما نظر حوثرة
إلى أهل الكوفة، قال: يا أعداء الله، أنتم بالأمس تقاتلون معاوية لتهدوا سلطانه،
واليوم تقاتلون معه لتشدوا سلطانه. ثم جعل يشد عليهم ويقول:
احمل على هذي الجموع
حوثرة ... فعن قريب ستنال المغفره
فحمل عليه رجل من طيء
فقتله، فرأى أثر السجود قد لوح جبهته، فندم على قتله.
وكان مرداس أبو بلال
قد شهد صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنكر التحكيم، وشهد النهروان ونجا
فيمن نجا؛ فلما خرج من حبس ابن زياد، ورأى شدة الطلب للشراة عزم على الخروج، فقال
لأصحابه: إنه والله ما يسعنا المقام مع هؤلاء الظالمين، تجرى علينا أحكامهم،
مجانيين للعدل، مفارقين للفصل. والله إن الصبر على هذا لعظيم، وإن تجريد السيف
وإخافة السبيل لشديد، ولكنا ننتبذ عنهم ولا نجرد سيفاً ولا نقاتل إلا من قاتلنا.
فاجتمع إليه أصحابه زهاء ثلاثين رجلاً؛ منهم: حريث بن حجل، وكهمس ابن طلق الصريمي
فأرادوا أن يولوا أمرهم حريثاً فأبى. فولوا أمرهم مرداساً. فلما مضى بأصحابه لقيهم
عبد الله بن رباح الأنصاري، وكان له صديقاً، فقال له: يا ابن أخي، أين تريد؟ فقال:
أريد أن أهرب بديني ودين أصحابي من أحكام هؤلاء الجورة. قال: له: أعلم أحد
بكم؟ قال: لا، قال: فارجع. قال: أو تخاف علي مكروها؟ قال: نعم، وأن يؤتى بك. قال:
فلا تخف فإني لا أجرد سيفاً ولا أخيف أحداً، ولا أقاتل إلا من قاتلني. ثم مضى حتى
نزل آسك. فمر به مال يحمل إلى ابن زياد، وقد بلغ أصحابه الأربعين: فحط ذلك المال
فأخذ منه عطاءه وأعطيات أصحابه وترك ما بقى، وقال: قولوا لصاحبكم: إنما أخذنا
أعطياتنا. فقال له أصحابه: لماذا تترك الباقي؟ قال: إنهم يقسمون هذا الفيء كما
يقيمون الصلاة، فلا تقاتلوهم ما داموا على الصلاة.
فوجه إليهم ابن زياد
أسلم بن زرعة الكلابي في ألفين. فلما وصل إليهم، قال له مرداس: اتق الله يا أسلم،
فإنا لا نريد قتالاً ولا نروع أحداً، وإنما هربنا من الظلم، ولا نأخذ من الفيء إلا
أعطياتنا، ولا نقاتل إلا من قاتلنا. قال: لا بد من ردكم إلى ابن زياد. قال: وإن أراد
قتلنا. قال: وإن أراد قتلكم! قال: فتشرك في دمائنا. قال: نعم. فشدوا
عليه شدة رجل واحد فهزموه وقتلوا أصحابه.
ثم وجه إليهم ابن
زياد عباداً. فقاتلهم يوم الجمعة حتى كان وقت الصلاة، فناداهم أبو بلال: يا قوم، هذا
وقت الصلاة فوادعونا حتى نصلي. فوادعوهم، فلما دخلوا في الصلاة شدوا عليهم
فقتلوهم، وهم بين راكع وساجد وقائم في الصلاة وقاعد. فقال عمران بن حطان يرثي أبا
بلال:
يا عين بكي لمرداس
ومصرعه ... يا رب مرداس اجعلني كمرداس
أبقيتني هائماً أبكي
لمرزئتي ... في منزل موحش من بعد إيناس
أنكرت بعدك ما قد كنت
أعرفه ... ما الناس بعدك يا مرداس بالناس
إما شربت بكأس دار
أولها ... على القرون فذاقوا جرعة الكاس
فكل من لم يذقها شارب
عجلاً ... منها بأنفاس ورد بعد أنفاس
وليس في الفرق كلها
وأهل البدع أشد بصائر من الخوارج ولا أكثر اجتهاداً، ولا أوطن أنفساً على الموت،
فمنهم الذي طعن فأنفذه الرمح فجعل يسعى إلى قاتله ويقول: عجلت إليك رب لترضى.
ولما مالت الخوارج
إلى أصبهان حاصرت بها عتاب بن ورقاء سبعة أشهر يقاتلهم في كل يوم، وكان من عتاب بن
ورقاء رجل يقال له شريح ويكنى أبا هريرة، فكان يخرج إليهم في كل يوم فيناديهم:
يا بن أبي الماحوز
والأشرار ... كيف ترون يا كلاب النار
شد أبي هريرة الهرار
... يعروكم بالليل والنهار
وهو من الرحمن في
جوار
فتعاظمهم ذلك. فكمن
له عبيدة بن هلال فضربه، واحتمله أصحابه، فظنت الخوارج أنه قد قتل، فكانوا إذا
تواقفوا ينادونهم: ما فعل الهرار؟ فيقولون: ما به من بأس. حتى أبل من علته، فخرج إليهم، فقال: يا أعداء الله. أترون بي بأساً؟
فصاحوا به: قد كنا نرى أنك لحقت بأمك الهاوية في النار الحامية.
فلما طال الحصار على
عتاب، قال لأصحابه: ما تنتظرون: إنكم والله ما تؤتون من قلة، وإنكم فرسان عشائركم،
ولقد حاربتموها مراراً فانتصفتم منهم، وما بقي من هذا الحصار إلا أن تفنى ذخائركم،
فيموت أحدكم فيدفنه صاحبه، ثم يموت هو فلا يجد من يدفنه، فقاتلوا القوم وبكم قوة
من قبل أن يضعف أحدكم عن أن يمشي إلى قرنه. فلما أصبح بهم الصبح، ثم خرج إلى
الخوارج وهم غارون، وقد نصب لواء لجارية يقال لها ياسمين، فقال: من أراد البقاء
فليلحق بلواء ياسمين، ومن أراد الجهاد فليلحق بلوائي. قال: فخرج في ألفين وسبعمائة
فارس، فلم تشعر بهم الخوارج حتى غشوهم، فقاتلوهم بجد لم تر الخوارج مثله، فقتلوا
أميرهم الزبير بن علي وانهزمت الخوارج فلم يتبعهم عتاب بن ورقاء.
وخرج قريب بن مرة
الأزدي وزحاف الطائي. كانا مجتهدين بالصرة في أيام زياد، فاعترضا الناس، فلقيا
شيخاً ناسكاً من بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار فقتلاه، وتنادى الناس، فخرج رجل من
بني قطيعة من الأزد بالسيف. فناداه الناس من بعض البيوت: الحرورية، انج بنفسك.
فنادوه: لسنا حرورية، نحن الشرط فوقف فقتلوه.
وبلغ أبا بلال
خبرهما، وكان على دين الخوارج، إلا أنه كان لا يرى اعتراض الناس، فقال قريب، لا
قربه الله من الخير؛ وزحاف، لا عفا الله عنه، فلقد ركباها عشواء مظلمة.
ثم جعلا لا يمران
بقبيلة إلا قتلا من وجدا فيها، حتى مرا ببني علي ابن سود، من الأزد. وكانوا رماة،
وكان فيهم مائة يجيدون الرمي. فرموهم رمياً شديداً، فصاحوا: يا بني علي، البقيا، لا رماء بيننا.
فقال رجل منهم:
لا شيء للقوم سوى
السهام ... مشحوذة في غلس الظلام
فهربت عنهم الخوارج.
فاشتقوا مقبرة بني يشكر حتى خرجوا إلى مزينة. واستقبلهم الناس فقتلوا عن آخرهم.
ثم عاد الناس إلى
زياد، فقال: ألا ينهى كل قوم سفهاءهم. فكانت القبائل إذا أحست بخارجي فيهم أوثقوه
وأتوا به زياداً، فمنهم من يجبسه ومنهم من يقتله.
ولزياد أخرى في
الخوارج أنه أتي بامرأة منهم فقتلها، ثم عراها، فلم تخرج النساء إلا بعد زياد، وكن
إذا أرغمن على الخروج قلن: لولا التعرية لسارعنا.
ومن مشاهير فرسان
الخوارج: عمرو القنا، من بني سعد بن زيد مناة، وعبيدة بن هلال، من بني يشكر بن بكر
بن وائل، وهو الذي طعن صاحب المهلب في فخذه؛ فشكها مع السرج وهما اللذان يقول
فيهما ابن المنجب السدوسي من فرسان المهلب، وكان قال له مولاه خلاج: وددت أنا
فضضنا عسكرهم، فأستلب منه جاريتين إحداهما لك وأخرى لي - :
أخلاج إنك لن تعانق
طفلة ... شرقا بها الجادي كالتمثال
حتى تعانق في الكتيبة
معلماً ... عمرو القنا وعبيدة بن هلال
وترى المقعطر في
الكتيبة مقدماً ... في عصبة قسطوا مع الضلال
والمقعطر: من مشاهير
فرسانهم. وقطري: أنجدهم قاطبة. وصالح بن مخراق: من بهمهم، وكذلك سعد الطلائع.
ولما اختلف أمر
الخوارج وانحاز قطري فيمن معه وبقي عبد ربه، قال المهلب لأصحابه. إن الله قد
أراحكم من أقران أربعة: قطري بن الفجاءة، واصلح بن مخراق. وعبيدة بن هلال، وسعد
الطلائع، وإنما بين أيديكم عبد ربه في خشار من خشار الشيطان.
وكانت الخوارج تقاتل
على القدح يؤخذ منها والسوط والعلق الخسيس أشد قتال، وسقط في بعض أيامهم رمح لرجل
من مراد من الخوارج فقاتلوا عليه حتى كثر الجراح والقتل، وذلك مع المغرب، والمرادي
يرتجز:
الليل ليل فيه ويل
ويل ... وسال بالقوم الشراة السيل
إن جاز للأعداء فينا
قول
وتعرقت مقالة الخوارج
على أربعة أضرب فقال نافع بن الزرق باستعراض الناس، والبراءة من عثمان وعلي وطلحة
والزبير، واستحلال الأمانة، وقتل الأطفال. وقال أبو بيهس هيصم بن جابر الضبعي: إن أعداءنا كأعداء الرسول صلى
الله عليه وسلم يحل لنا المقام فيهم كما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام
المسلمون بين المشركين، وأقول: إن مناكحتهم ومواريثهم تجوز، لأنهم منافقون يظهرون
الإسلام، وأن حكمهم عند الله حكم المشركين. وقال عبد الله بن إباض: لا نقول فيمن
خالفنا، إنه مشرك لأن معهم التوحيد والإقرار بالكتاب المقدس والرسول، وإنما هم
كفار للنعم، ومواريثهم ومناكيحهم والإقامة معهم حل، ودعوة الإسلام تجمعهم.
وقالت الصفرية بقول
عبد الله بن إباض، ورأت القعود، حتى صارت عامتهم قعداً. وإنما سموا صفرية لإصفرار
وجوههم، وقيل لأنهم أصحاب ابن الصفار.
كتاب الزبرجدة في
الأجواد والأصفادقال الفقيه أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد ربه، تغمده الله برحمته:
قد مضى قولنا في الحروب وما يدخلها من النقص والكمال، وتقدم الرجال على منازلهم من
الصبر والجلد، والعدة والعدد. ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الأجواد والأصفاد،
إذ كان أشرف ملابس الدنيا، وأزين حللها، وأجلها لحمد، وأدفعها لذم، وأسترها لعيب،
كرم طبيعة يتحلى بها السمح السري، والجواد السخي. ولو لم يكن في الكرم إلا أنه صفة
من صفات الله تعالى تسمى بها، فهو الكريم عز وجل. ومن كان كريماً من خلقه، فقد
تسمى باسمه، واحتذى على صفته.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
وفي الحديث المأثور:
الخلق عيال الله، فأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
وفي الحسن والحسين
عليهما السلام لعبد الله بن جعفر: إنك قد أسرفت في بذل المال. قال: بأبي وأمي
أنتما، إن الله قد عودني أن يتفضل علي، وعودته أن أتفضل على عباده، فأخاف أن أقطع
العادة فيقطع عني.
وقال المأمون لمحمد بن
عباد المهلبي: أنت متلاف. قال: منع الجود سوء ظن بالمعبود. يقول الله عز وجل:
" وما أنفقتم من شيء فهو يخلقه وهو خير الرازقين " .
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أنفق بلال ولا تخش من ذي العرش إقلالاً.
مدح الكرم وذم
البخلقال النبي صلى الله عليه وسلم: اصطناع المعروف يقي مصارع السوء.
وقال عليه الصلاة
والسلام: إن الله يحب الجود ومكارم الأخلاق، ويبغض سفسافها.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم لقوم من العرب: من سيدكم؟ قالوا: الجد ابن قيس على بخل فيه. فقال صلى
الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل؟ يقول الله تعالى: " ومن يوق شح نفسه
فأولئك هم المفلحون " .
وقال أكثم بن صيفى حكيم
العرب: ذللوا أخلاقكم للمطالب، وقودوها إلى المحامد، وعلموها المكارم، ولا تقيموا
على خلق تذموه من غيركم، وصلوا من رغب إليكم، وتحلوا بالجود يكسبكم المحبة، ولا
تقتعدوا البخل فتتعجلوا الفقر.
أخذه الشاعر فقال:
أمن خوف فقر تعجلته
... وأخرت إنفاق ما تجمع
فصرت الفقير وأنت
الغني ... وما كنت تعدو الذي تصنع
وكتب رجل من البخلاء
إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه ويخوفه بالفقر. فرد عليه: "
الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم الفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً " وإني
أكره أن أترك أمراً قد وقع لأمر لعله لا يقع.
وكان خالد بن عبد
الله القسري يقول على المنبر: أيها الناس، عليكم بالمعروف فإن الله لا يعدم فاعله
جوازيه. وما ضعفت الناس عن أدائه، قوي الله على جزائه.
وأخذه من قول الحطيئة:
من يفعل الخير لا
يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وأخذه الحطيئة من بعض
الكتب القديمة. يقول الله تعالى فيما أنزله على داود عليه السلام: من يفعل الخير
يجده عندي، لا يذهب العرف بيني وبين عبدي.
وكان سعيد بن العاص
يقول على المنبر: من رزقه الله رزقاً حسناً فلينفق منه سراً وجهراً، حتى يكون أسعد
الناس به، فإنما يترك ما يترك لأحد رجلين: إما لمصلح فلا يقل عليه شيء، وإما لمفسد
فلا يبقى له شيء.
أخذه الشاعر فقال:
أسعد بمالك في الحياة
فإنما ... يبقى خلافك مصلح أو مفسد
فإذا جمعت لمفسد لم
يغنه ... وأخو الصلاح قليله يتزيد
وقال أبو ذر رضي الله
عنه: إن لك في مالك شريكين: الحدثان والوارث، فإن استطعت ألا تكون أبخس الشركاء
حظاً فافعل.
وقال بزرجمهر الفارسي:
إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق منها فإنها
لا تبقى: أخذ الشاعر هذا المعنى فقال:
لا تبخلن بدنيا وهي
مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسرف
وإن تولت فأحرى أن
تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
وكان كسرى يقول: عليكم
بأهل السخاء والشجاعة، فإنهم أهل حسن الظن بالله تعالى، ولو أن أهل البخل لم يدخل
عليهم من ضرر بخلهم، ومذمة الناس لهم، وإطباق القلوب على بغضهم، إلا سوء ظنهم
بربهم في الخلف لكان عظيماً.
وأخذ هذا المعنى
محمود الوراق فقال:
من ظن بالله خيراً
جاد مبتدئاً ... والبخل من سوء ظن المرء بالله
محمد بن يزيد بن عمر
بن عبد العزيز قال: خرجت مع موسى الهادي أمير المؤمنين من جرجان، فقال لي: إما أن
تحملني وإما أن أحملك. ففهمت ما أراد، فأنشدته أبيات ابن صرمة الأنصاري:
فأوصيكم بالله أول
وهلة ... وأحسابكم، والبر بالله أول
وإن قومكم سادوا فلا
تحسدوهم ... وإن كنتم أهل السيادة فاعدلوا
وإن أنتم أعوزتم
فتعففوا ... وإن كان فضل المال فيكم فأفضلوا
فأمر لي بعشرين ألفاً.
وقال عبد الله بن
عباس: سادات الناس في الدنيا الأسخياء، وفي الآخرة الأتقياء.
وقال أبو مسلم
الخولاني: ما شيء أحسن من المعروف إلا ثوابه. وما كل من قدر على المعروف كانت له
نية. فإذا اجتمعت القدرة والنية تمت السعادة، وأنشد:
إن المكارم كلها حسن
... والبذل أحسن ذلك الحسن
كم عارف بي لست أعرفه
... ومخبر عني ولم يرني
يأتيهم خبري وإن بعدت
... داري وبوعد عنهم وطني
إني لحر المال ممتهن
... ولحر عرضي غير ممتهن
وقال خالد بن عبد
الله القسري: من أصابه غبار مركبي فقد وجب علي شكره.
وقال عمرو بن العاص:
والله لرجل ذكرني، ينام على شقة مرة وعلى شقة أخرى، يراني موضعاً لحاجته، لأوجب
علي حقاً إذا سألنيها مني إذا قضيتها له.
وقال عبد العزيز بن
مروان: إذا أمكنني الرجل من نفسه حتى أضع معروفي عنده، يده عندي أعظم من يدي عنده،
وأنشد لابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
إذا طارقات الهم
ضاجعت الفتى ... وأعمل فكر الليل والليل عاكر
وباكرني في حاجة لم
يكن لها ... سواي ولا من نكبة الدهر ناصر
فرجت بمالي همه عن
خناقه ... وزايله الهم الطروق المساور
وكان له فضل علي بظنه
... بي الخير إني للذي ظن شاكر
وقيل لأبي عقيل
البليغ العراقي: كيف رأيت مروان بن الحكم عند طلب الحاجة إليه؟ قال: رأيت رغبته في
الشكر، وحاجته إلى القضاء أشد من حاجة صاحب الحاجة.
أخذه بشار فنظمه فقال:
مالكي ينشق عن وجهه
الجد ... ب كما انشقت الدجى عن ضياء
ليس يعطيك للرجاء ولا
الخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء
وقال زياد: كفى
بالبخل عاراً اسمه لم يقع في حمد قط، وكفى بالجود فخراً أن اسمه لم يقع في ذم قط.
وقال آخر:
لقد علمت وقد قطعتني
عذلاً ... ماذا من الفضل بين البخل والجود
إلا يكن ورق يوماً
أروح به ... للخابطين فإني لين العود
لا يعدم السائلون
الخير أفعله ... إما نوالاً وإما حسن مردود
قوله: إلا يكن
ورق يريد المال، وضربه مثلاً. ويقال: أتى فلان فلاناً يختبط ما عنده. والاختباط:
ضرب الشجر ليسقط الورق لتأكله السائمة، فجعل طالب الرزق مثل الخابط.
وقال أسماء بن خارجة:
ما أحب أن أرد أحداً عن حاجة طلبها. لأنه لا يخلو أن يكون كريماً فأصون له عرضه،
أو لئيماً فأصون عرضي منه.
وقال أرسطو طاليس: من
انتجعك من بلاده فقد ابتدأك بحسن الظن بك والثقة بما عندك.
الترغيب في حسن
الثناء
واصطناع المعروفقال
النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أردتم أن تعلموا ما للعبد عند ربه، فانظروا ما
يتبعه من حسن الثناء.
وكتب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري: اعتبر منزلتك من الله بمنزلتك من الناس، واعلم
أن مالك عند الله مثل ما للناس عندك.
وقيل لبعض الحكماء:
ما أفادك الدهر؟ قال العلم به. قيل: فما أحمد الأشياء؟ قال: أن تبقى للإنسان
أحدوثة حسنة.
وقال بعض أهل التفسير
في قول الله تعالى: " واجعل لي لسان صدق في الآخرين " . إنه أراد حسن
الثناء من بعده.
وقال أكثم بن صيفي:
إنما أنتم أخبار، فطيبوا أخباركم.
أخذ هذا المعنى حبيب
الطائي فقال:
وما ابن آدم إلا ذكر
صالحة ... أو ذكر سيئة يسري بها الكلم
أما سمعت بدهر باد
أمته ... جاءت بأخبارها من بعدها أمم
وقال أبو بكر محمد بن
دريد:
وإنما المرء حديث
بعده ... فكن حديثاً حسناً لمن وعى
وقالوا: الأيام مزارع
فما زرعت فيها حصدته.
ومن قولنا في هذا
المعنى وغيره من مكارم الأخلاق:
يا من تجلد للزما ...
ن أما زمانك منك أجلد
سلط نهاك على هوا ...
ك وعد يومك ليس من غد
إن الحياة مزارع ...
فازرع بها ما شئت تحصد
والناس لا يبقى سوى
... آثارهم والعين تفقد
أو ما سمعت بمن مضى
... هذا يذم وذاك يحمد
والمال إن أصلحته ...
يصلح وإن أفسدت يفسد
والعلم ما وعت الصدو
... ر وليس ما في الكتب يخلد
وقال الأحنف بن قيس:
ما أدخرت الآباء للأبناء، ولا أبقت الموتى للأحياء، شيئاً أفضل من اصطناع المعروف
عند ذوي الأحساب والآداب.
وقالوا: تربيب
المعروف أولى من اصطناعه، لأن اصطناعه نافلة، وتربيبه فريضة.
وقالوا: أحي معروفك
بإماتة ذكره، وعظمه بالتصغير له.
وقالت الحكماء: من
تمام كرم النعم التغافل عن حجته، والإقرار بالفضيلة لشاكر نعمته.
وقالوا: للمعروف خصال
ثلاث: تعجيله وستره وتيسيره، فمن أخل بواحدة منها فقد بخس المعروف حقه، وسقط عنه
الشكر.
وقيل لمعاوية: أي
الناس أحب إليك؟ فقال: من كانت له عندي يد صالحة. قيل: فإن لم تكن له؟ فقال: فمن
كانت لي عنده يد صالحة.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: من عظمت نعمة الله عنده عظمت مؤونة الناس عليه، فإن لم يقم بتلك
المؤونة عرض النعمة للزاول.
أبو اليقظان قال: أخذ
عبيد الله بن زياد عروة بن أدية، أخا أبي بلال، وقطع يده ورجله وصلبه على باب
داره. فقال لأهله وهو مصلوب: انظروا إلى هؤلاء الموكلين بي فأحسنوا إليهم فإنهم
أضيافكم.
ابن المبارك عن حميد
عن الحسن قال: لأن أقضي حاجة لأخ لي أحب إلي من عبادة سنة.
وقال إبراهيم بن
السندي: قلت لرجل من أهل الكوفة، من وجوه أهلها، كان لا يجف لبده، ولا يستريح
قلبه، ولا تسكن حركته في طلب حوائج الرجال، وإدخال المرافق على الضعفاء، وكان
رجلاً مفوهاً، فقلت له: أخبرني عن الحالة التي خففت عنك النصب، وهونت عليك التعب
في القيام بحوائج الناس، ما هي؟ قال: قد والله سمعت تغريد الطير بالأسحار؛ في فروع
الأشجار؛ وسمعت خفق أوتار العيدان، وترجيع أصوات القيان، فما طربت من صوت قط طربي
من ثناء حسن بلسان حسن على رجل قد أحسن؛ ومن شكر حر لمنعم حر، ومن شفاعة محتسب
لطالب شاكر. قال إبراهيم: فقلت له: لله أبوك! لقد حشيت كرماً.
إسماعيل بن مسرور عن
جعفر بن محمد عليه السلام قال: إن الله خلق خلقاً من رحمته برحمته لرحمته، وهم
الذين يقضون الحوائج للناس، فمن استطاع منكم أن يكون منهم فليكن.
الجود مع الإقلالقال
الله تبارك وتعالى فيما حكاه عن الأنصار: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم
المفلحون " .
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: أفضل العطية ما كان من معسر إلى معسر.
وقال عليه الصلاة
والسلام: أفضل العطية جهد المقل.
وقالت الحكماء:
القليل من القليل أحمد من الكثير من الكثير.
أخذ هذا المعنى حبيب
فنظمه في أبيات كتب بها إلى الحسن بن وهب الكاتب وأهدى إليه قلماً:
قد بعثنا إليك أكرمك
الل ... ه بشيء فكن له ذا قبول
لا تقسه إلى ندى كفك
الغم ... ر ولا نيلك الكثير الجزيل
واستجز قلة الهدية
مني ... إن جهد المقل غير قليل
وقالوا: جهد المقل
أفضل من غنى المكثر.
وقال صريع الغواني:
ليس السماح لمكثر في
قومه ... لكن لمقتر قومه المتحمد
وقال أبو هريرة: ما
وددت أن أحداً ولدتني أمه إلا أم جعفر بن أبي طالب عليه السلام، تبعته ذات يوم
وأنا جائع، فلما بلغ الباب التفت فرآني فقال لي: أدخل، فدخلت. ففكر حيناً فما وجد في بيته إلا نحيا كان فيه سمن مر،
فأنزله من رف لهم، فشقه بين أيدينا، فجعلنا نلعق ما كان فيه من السمن والرب، وهو يقول:
ما كلف الله نفساً
فوق طاقتها ... ولا تجود يد إلا بما تجد
وقيل لبعض الحكماء:
من أجود الناس؟ قال: من جاد من قلة، وصان وجه السائل عن المذلة.
وقال حماد عجرد:
أروق بخير تؤمل
للجزيل فما ... ترجى الثمار إذا لم يورق العود
إن الكريم ليخفي عنك
عسرته ... حتى تراه غنياً وهو مجهود
وللبخيل على أمواله
علل ... زرق العيون عليها أوجه سود
بث النوال ولا نمنعك
قلته ... فكل ما سد فقراً فهو محمود
وقال حاتم:
أضاحك ضيفي قبل إنزال
رحله ... ويخصب عندي والمحل جديب
وما الخصب للأضياف أن
يكثر القرى ... ولكنما وجه الكريم خصيب
وقال عبد الملك بن
مروان: ما كنت أحب أن أحداً ولدني من العرب إلا عروة بن الورد لقوله:
أتهزأ مني أن سمنت
وأن ترى ... بجسمي مس الجوع والجوع جاهد
لأني أمرؤ عافي إنائي
شركة ... وأنت أمرؤ عافى أنائك واحد
أقسم جسمي في جسوم
كثيرة ... وأحسو قراح الماء بارد
ومن أحسن ما قيل في
الجود والإقلال، قول أبي تمام حبيب:
فلو لم يكن في كفه
غير روحه ... لجاد بها فليتق الله سائله
ومن أفرط ما قيل في
الجود، قول بكر بن النطاح:
أقول لمرتاد الندى
عند مالك ... تمسك بجدوى مالك وصلاته
فتى جعل الدنيا وقاء
لعرضه ... فأسدى بها المعروف قبل عداته
فلو خذلت أمواله جود
كفه ... لقاسم من يرجوه شطر حياته
وإن لم يجز في العمر
قسم لمالك ... وجاز له أعطاه من حسناته
وجاد بها من غير كفر
بربه ... وأشركه في صومه وصلاته
وقال آخر في هذا
المعنى وأحسن:
ملأت يدي من الدنيا
مراراً ... وما طمع العواذل في اقتصادي
ولا وجبت علي زكاة
مال ... وهل تجب الزكاة على الجواد
العطية قبل السؤالقال
سعيد بن العاصي: قبح الله المعروف إن لم يكن ابتدئ من غير مسألة، فالمعروف عوض عن
مسألة الرجل إذ بذل وجهه، فقلبه خائف، وفراصه ترتعد، وجبينه يرشح؛ لا يدري أيرجع
بنجح الطلب، أم بسوء المنقلب، قد انتفع لونه، وذهب دم وجهه. اللهم فإن كانت الدنيا
لها عندي حظاً فلا تجعل لي حظاً في الآخرة.
وقال أكثم بن صيفي:
كل سؤال وإن قل أكثر من كل نوال وإن جل.
وقال علي بن أبي طالب
رضي الله عنه لأصحابه: من كانت له إلي منكم حاجة فليرفعها في كتاب لأصون وجوهكم عن
المسألة.
حبيب قال:
عطاؤك لا يفنى
ويستغرق المنى ... وتبقى وجوه الراغبين بمائها
وقال حبيب أيضاً:
==========================
ج2. كتاب : العقد
الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
ذل السؤال شجاً في
الحلق معترض ... من دونه شرق من خلفه جرض
ما ماء كفك إن جادت
وإن بخلت ... من ماء وجهي إذا أفنيته عوض
إني بأيسر ما أدنيت
منبسط ... كما بأكثر ما أقصيت منقبض
وقالوا: من بذل إليك
وجهه فقد وفاك حق نعمتك وقالوا: أكمل الخصال ثلاث: وقار بلا مهابة، وسماح بلا طلب
مكافأة، وحلم بغير ذل.
وقالوا: السخي من
كان مسروراً ببذله، متبرعاً بعطائه، لا يلتمس عرض دنيا فيحبط عمله، ولا طلب مكافأة
فيسقط شكره، ولا يكون مثله فيما أعطى مثل الصائد الذي يلقي الحب للطائر، لا يريد
نفعها ولكن نفع نفسه.
نظر المنذر بن أبي سبرة
إلى أبي الأسود الدؤلي وعليه قميص مرقوع، فقال له: ما أصبرك على هذا القميص؟ فقال
له: رب مملوك لا يستطاع فراقه. فبعث إليه بتخت من ثياب. فقال أبو الأسود:
كساني ولم أستكسه
فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وإن أحق الناس إن كنت
شاكراً ... بشكرك من أعطاك والعرض وافر
وسأل معاوية صعصعة بن
صوجان: ما الجود؟ فقال: التبرع بالمال، والعطية قبل السؤال: ومن قولنا في هذا
المعنى:
كريم على العلات جزل
عطاؤه ... ينيل وإن لم يعتمد لنوال
وما الجود من يعطى
إذا ما سألته ... ولكن من يعطى بغير سؤال
وقال بشار العقيلي:
مالكي ينشق عن وجهه
الجد ... ب كما انشقت الدجى عن ضياء
فثجوج السماء فيض
يديه ... لقريب ونازح الدار نائي
ليس يعطيك للرجاء ولا
الخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء
لا ولا أن يقال شيمته
الجو ... د ولكن طبائع الآباء
وقال آخر:
إن بين السؤال
والإعتذار ... خطة صعبة على الأحرار
وقال حبيب بن أوس
لئن جحدتك ما أوليت
من نعم ... إني لفي اللؤم أمضى منك في الكرم
أنسى ابتسامك
والألوان كاسفة ... تبسم الصبح في داج من الظلم
رددت رونق وجهي في
صحيفته ... رد الصقال بهاء الصارم الخذم
وما أبالي وخير القول
أصدقه ... حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي
استنجاح الحوائجكانوا
يستفتحون حوائجهم بركعتين يقولون فيهما: اللهم بك أستنجح وباسمك أستفتح، وبمحمد
نبيك إليك أتوجه. اللهم ذلل لي صعوبته، وسهل لي حزونته، وارزقني من الخير أكثر مما
أرجو، وأصرف عني من الشر أكثر مما أخاف.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: استعينوا على حوائجكم بالكتمان لها، فإن كل ذي نعمة محسود.
وقال خالد بن صفوان:
لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها من غير أهلها؛ فإن الحوائج تطلب
بالرجاء، وتدرك بالقضاء.
وقال: مفتاح نجح
الحاجة الصبر على طول المدة، ومغلاقها اعتراض الكسل دونها.
قال الشاعر:
إني رأيت وفي الأيام
تجربة ... للصبر عاقبة محمودة الأثر
وقل من جد في أمر
يحاوله ... فاستصحب الصبر إلا فاز بالظفر
ومن أمثال العرب في
هذا: من أدمن قرع الباب يوشك أن يفتح له.
أخذ الشاعر هذا
المعنى فقال:
إن الأمور إذا انسدت
مسالكها ... فالصبر يفتق منها كل ما ارتتجا
لا تيأسن وإن طالت
مطالبة ... إذ تضايق أمر أن ترى فرجا
أخلق بذي الصبر أن
يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا
وقال خالد بن صفوان:
فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها، وأشد من المصيبة سوء الخلف منها.
وقالوا: صاحب الحاجة
مبهوت، وطلب الحوائج كلها تعزير.
وقالت الحكماء: لا
تطلب حاجتك من كذاب، فإنه يقر بها بالقول، ويبعدها بالفعل؛ ولا من أحمق، فإنه يريد
نفعك فيضرك، ولا من رجل له آكلة من جهة رجل، فإنه لا يؤثر حاجتك على أكلته.
وقال دعبل بن علي
الخزاعي:
جئتك مسترفداً بلا
سبب ... إليك إلا بحرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنني رجل
... غير ملح عليك في الطلب
وقال شبيب بن شيبة:
إني لأعرف أمراً لا يتلاقى به اثنان إلا وجب النجح بينهما. قيل له:
وما ذاك؟ قال: العقل، فإن العاقل لا يسأل ما لا يمكن ولا يرد عما يمكن.
وقال الشاعر:
أتيتك لا أدلي بقربى
ولا يد ... إليك سوى أني بجودك واثق
فإن تولني عرفاً أكن
لك شاكراً ... وإن قلت لي عذراً أقل أنت صادق
وقال الحسن بن هانئ:
فإن تولني منك الجميل
فأهله ... وإلا فإني عاذر وشكور
وقال آخر:
لعمرك ما أخلقت وجهاً
بذلته ... إليك ولا عرضته للمعاير
فتى وفرت أيدي
المكارم عرضه ... عليه وخلت ماله غير وافر
ودخل محمد بن واسع
على بعض الأمراء، فقال: أتيتك في حاجة فإن شئت قضيتها وكنا كريمين، وإن شئت لم
تقضها وكنا لئيمين.
أراد إن قضيتها كنت
أنت كريماً بقضائها، وكنت أنا كريما بسؤالك إياها، لأني وضعت الطلبة في موضعها.
فإن لم تقضها كنت أنت لئيماً بمنعك، وكنت أنا لئيما بسوء اختياري لك.
وسرق حبيب هذا المعنى
فقال:
عياش إنك للئيم وإنني
... إذ صرت موضع طلبي للئيم
ودخل سوار القاضي على
عبد الله بن طاهر صاحب خراسان، فقال: أصلح الله الأمير:
لنا حاجة والعذر فيها
مقدم ... خفيف معناها مضاعفة الأجر
فإن تقضها فالحمد لله
وحده ... وإن عاق مقدور ففي أوسع العذر
قال له: ما حاجتك أبا
عبد الله؟ قال: كتاب لي إن رأى الأمير - أكرمه الله - أن ينفذه في خاصته، كتبه إلى
موسى بن عبد الملك في تعجيل أرزاقي. قال: أو غير ذلك أبا عبد الله نعجلها لك من
مالنا؟ وإذا وددت كنت مخيراً بين أن تأخذ أو ترد. فأنشد سوار يقول:
فبابك أيمن أبوابهم
... ودارك مأهولة عامرة
وكفك حين ترى المجتدي
... ن أندى من الليلة الماطرة
وكلبك آنس بالمعتفين
... من الأم بابنتها الزائرة
ودخل أبو حازم الأعرج
على بعض أهل السلطان، فقال: أتيتك في حاجة رفعتها إلى الله فبلك، فإن يأذن الله لك
في قضائها قضيتها وحمدناك، وإن لم يأذن في قضائها لم تقضها وعذرناك.
وفي بعض الحديث:
اطلبوا الحوائج عن حسان الوجوه.
أخذه الطائي فنظمه في
شعره فقال:
قد تأولت فيك قول
رسول ال ... له إذا قال مفصحاً إفصاحاً
إن طلبتم حوائجاً عند
قوم ... فتنقوا لها الوجوه الصباحا
فلعمري لقد تنقيت
وجهاً ... ما به خاب من أراد النجاحا
قال المنصور لرجل دخل
عليه: سل حاجتك؛ قال: يبقيك الله يا أمير المؤمنين. قال: سل حاجتك فإنك لست تقدر على مثل هذا المقام في كل حين. قال: والله يا
أمير المؤمنين، ما أستقصر عمرك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مالك، وإن عطاءك لشرف،
وإن سؤالك لزين، وما بامرئ بذل إليك وجهه نقض ولا شين، فوصله وأحسن إليه.
استنجاز المواعيدمن
أمثالهم في هذا: أنجز حر ما وعد.
وقالوا: وعد الكريم
نقد، ووعد اللئيم تسويف.
وقال الزهري: حقيق
على من أورق بوعد أن يثمر بفعل.
وقال المغيرة: من أخر
حاجة فقد ضمنها.
وقال الموبذان
الفارسي: الوعد السحابة، والإنجاز المطر.
وقال غيره: المواعيد
رؤوس الحوائج، والإنجاز أبدانها.
وقال عبد الله بن عمر
رحمه الله: خلف الوعد ثلث النفاق، وصدق الوعد ثلث الإيمان، وما ظنك بشيء جعله الله
تعالى مدحة في كتابه، وفخراً لأنبيائه، فقال تعالى: " وذاكر في الكتاب
إسماعيل إنه كان صادق الوعد " .
وذكر جبار بن سلمى
عامر بن الطفيل، فقال: كان والله إذا وعد الخير وفى، وإذا أوعد بالشر أخلف، وهو
القائل:
ولا يرهب ابن العم ما
عشت صولتي ... ويأمن مني صولة المتهدد
وإني وإن أوعدته أو
وعدته ... ليكذب إيعادي ويصدق موعدي
وقال ابن أبي حازم:
إذا قلت في شيء نعم
فأتممه ... فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل لا تسترح
وترح بها ... لئلا يقول الناس إنك كاذب
ولو لم يكن في خلف
الوعد إلا قول الله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون.
كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون " لكفى.
وقال عمر بن الحارث:
كانوا يفعلون ولا يقولون، ثم صاروا يقولون ويفعلون، ثم صاروا يقولون ولا يفعلون،
ثم صاروا لا يقولون ولا يفعلون: فزعم أنهم ضنوا بالكذب فضلاً عن الصدق.
وفي هذا المعنى يقول
الحسن بن هانئ:
قال لي ترضى بوعد
كاذب ... قلت إن لم يك شحم فنفش
ومثله قول عباس بن
الأحنف، ويقال إنه لمسلم بن الوليد، صريع الغواني:
ما ضر من شغل الفؤاد
ببخله ... لو كان عللني بوعد كاذب
صبراً عليك فما أرى
لي حيلة ... إلا التمسك بالرجاء الخائب
سأموت من كمد وتبقى
حاجتي ... فيما لديك وما لها من طالب
قال عبد الرحمن بن أم
الحكم لعبد الملك بن مروان في مواعيد وعدها إياه فمطله بها: نحن إلى الفعل أحوج
منا إلى القول، وأنت بالإنجاز أولى منك بالمطل. واعلم أنك لا تستحق الشكر إلا بإنجازك الوعد، واستتمامك المعروف.
القاسم بن معن
المسعودي قال: قلت لعيسى بن موسى، أيها الأمير، ما انتفعت بك مذ عرفتك، ولا أوصلت
لي خيراً مذ صحبتك. قال: ألم أكلم لك أمير المؤمنين في كذا وسألته لك كذا؟ قال:
قلت: بلى، فهل استنجزت ما وعدت، واستتممت ما بدأت؟ قال: حال من دون ذلك أمور
قاطعة، وأحوال عاذرة. قلت: أيها الأمير، فما زدت على أنها نبهت العجز من رقدته،
وأثرت الحزن من ربضته، إن الوعد إذا لم يشفه إنجاز يحققه، كان كلفظ لا معنى له،
وجسم لا روح فيه.
وقال عبد الصمد بن
الفضل الرقاشي لخالد بن ديسم، عامل الري.
أخالد إن الري قد
أجحفت بنا ... وضاق علينا رحبها ومعاشها
وقد أطعمتنا منك
يوماً سحابة ... أضاءت لنا برقاً وأبطأ رشاشها
فلا غيمها يصحو فييئس
طامعاً ... ولا ماؤها يأتي فتروى عطاشها
وقال سعيد بن سلم:
وعد أبي بشاراً العقيلي حين مدحه بالقصيدة التي يقول فيها:
صدت بخد وجلت عن خد
... ثم انثنت كالنفس المرتد
فكتب إليه بشار بالغد:
ما زال ما منيتني من
همي ... والوعد غم فأرح من غمي
إن لم ترد حمدي فراقب
ذمي
فقال له أبي: يا أبا
معاذ، هلا استنجحت الحاجة بدون الوعيد؟ فإذ لم تفعل فتربص ثلاثاً وثلاثاً، فإني
والله ما رضيت بالوعد حتى سمعت الأبرش الكلبي يقول لهشام: يا أمير المؤمنين، لا
تصنع إلي معروفاً حتى تعدني، فإنه لم يأتني منك سيب على غير وعد وإلا هان علي
قدره، وقل مني شكره. قال له هشام: لئن قلت ذلك لقد قاله سيد أهلك أبو مسلم
الخولاني: إن أوقع المعروف في القلوب، وأبرده على الأكباد معروف منتظر بوعد لا
يكدره المظل.
وكان يحيى بن خالد بن
برمك لا يقضي حاجة إلا بوعد، ويقول: من لم يبت على سرور لم يجد للصنيعة طعماً.
وقالوا: الخلف
ألأم من البخل، لأنه من لم يفعل المعروف لزمه ذم اللؤم وحده، ومن وعد وأخلف لزمه
ثلاث مذمات: ذم اللؤم، وذم الخلف، وذم الكذب.
قال زياد الأعجم:
لله درك من فتى ...
ولو كنت تفعل ما تقول
لا خير في كذب الجوا
... د وحبذا صدق البخيل
استبطأ حبيب الطائي
الحسن بن وعيب في عدة وعدها إياه، فكتب إليه أبياتاً يستعجله بها. فبعث إليه بألف
درهم، وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاك عاجل
برنا ... قلاً ولو أخرته لم يقلل
فخذ القليل وكن كمن
لم يسأل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل
وقال عبد الله بن
مالك الخزاعي: دخلت على أمير المؤمنين المهدي وعنده ابن دأب وهو ينشد قول الشماخ:
وأشعث قد قد السفار
قميصه ... يجر شواء بالعصا غير منضج
دعوت إلى ما نابني
فأجابني ... كريم من الفتيان غير مزلج
فتى يملأ الشيزي
ويروي سنانه ... ويضرب في رأس الكمي المدجج
فتي ليس بالراضي
بأدنى معيشة ... ولا في بيوت الحي بالمتولج
فرفع رأس إلي المهدي
وقال: هذه صفتك أبا العباس فقلت: بك نلتها يا أمير المؤمنين. فضحك إلي وقال: هل
تنشد من الشعر شيئاً؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال: فأنشدني. فأنشدته قول
السموأل:
وإن هو لم يحمل على
النفس ضيمها ... فليس إلى حسن الثناء سبيل
إذا المرء أعيته
المروءة يافعاً ... فمطلبها كهلاً عليه ثقيل
تعيرنا أنا قليل
عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل
وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
ونحن أناس لا نرى
القتل سبة ... إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا
لنا ... وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد حتف
أنفه ... ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد السيوف
نفوسنا ... وليست على غير السيوف تسيل
وننكر إن شئنا على
الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين نقول
فنحن كماء المزن ما
في نصابنا ... كهام ولا فينا يعد بخيل
وأسيافنا في كل شرق
ومغرب ... بها من قراع الدارعين فلول
فقال: أحسنت!
اجلس، بهذا بلغتم، سل حاجتك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، تكتب لي في العطاء ثلاثين
رجلاً من أهلي؟ قال: نعم، فرض علي إذا وعدت. فقلت يا أمير المؤمنين، إنك متمكن من
القدرة وليس دونك حاجز عن الفعل، فما معنى العدة؟ فنظر إلى بن دأب كأنه يريد منه
كلاماً في فضل الموعد. فقال ابن دأب:
حلاوة الفعل بوعد
ينجز ... لا خير في العرف كنهب ينهز
فضحك المهدي وقال:
الفعل أحسن ما يكو
... ن إذا تقدمه ضمان
وقال المهلب بن أبي
صفرة لبنيه: يا بني، إذ غدا عليكم الرجل وراح مسلماً، فكفى بذلك تقاضيا. وقال
الشاعر:
أروح بتسليمي عليك
وأغتدي ... وحسبك بالتسليم مني تقاضيا
وقال آخر:
كفاك مخبراً وجهي
بشأني ... وحسبك أن أراك وأن تراني
وما ظني بمن يعنيه
أمري ... ويعلم حاجتي ويرى مكاني
كتب العتابي إلى بعض
أهل السلطان: أما بعد، فإن سحائب وعدك قد أبرقت، فليكن وبلها سالماً من علل المطل،
والسلام.
وكتب الجاحظ إلى رجل
وعده: أما بعد، فإن شجرة وعدك قد أورقت، فليكن ثمرها سالماً من جوائح المطل،
والسلام.
ووعد عبد الله بن
طاهر دعبلاً بغلام، فلما طال عليه تصدى له يوماً، وقد ركب إلى باب الخاصة، فلما
رآه قال: أسأت الافتضاء، وجهلت المأخذ، ولم تحسن النظر، ونحن أولى بالفضل، فلك
الغلام والدابة لما ننزل إن شاء الله تعالى. فأخذ دعبل بعنانه وأنشده:
يا جواد اللسان من
غير فعل ... ليت في راحتيك جود اللسان
عين مهران قد لطمت مراراً
... فاتقي ذا الجلال في مهران
عرت عيناً فدع لمهران
عيناً ... لا تدعه يطوف في العميان
قال: فنزل له عن
دابته، وأمر له بالغلام.
وسأل خلف بن خليفة
أبان بن الوليد جارية فوعده بها، وأبطأت عليه، فكتب إليه:
أرى حاجتي عند الأمير
كأنها ... تهم زماناً عنده بمقام
وأحصر عن إذكاره إن
لقيته ... وصدق الحياء ملجم بلجام
أراها إذا كان النهار
نسيئة ... وبالليل تقضى عند كل منام
فيا رب أخرجها فإنك
مخرج ... من الميت حياً مفصحاً بكلام
فتعلم ما شكري إذا ما
قضيتها ... وكيف صلاتي عندها وصيامي
وكتب أبو العتاهية
إلى رجل وعده وعداً وأخلفه:
أحسبت أرض الله ضيقة
... عني فأرض الله لم تضيق
وجعلتني فقعاً بقرقرة
... فوطئتني وطئاً على حنق
فإذا سألتك حاجة
أبداً ... فاضرب لها قفلاً على غلق
وأعد لي غلاً وجامعة
... فاجمع يدي بها إلى عنقي
ما أطول الدنيا
وأوسعها ... وأدلني بمسالك الطرق
ومن قولنا في رجل كتب
إلى بعدة في صحيفة ومطلني بها:
صحيفة طابعها اللوم
... عنوانها بالجهل مختوم
يهدى لها والخلف في
طيها ... والمطل والتسويف واللوم
من وجهه نحس ومن قربه
... رجس ومن عرفانه شوم
لا تهتضم إن بت ضيفاً
له ... فخبزه في الجوف هاضوم
تكلمه الألحاظ من رقة
... فهو بلحظ العين مكلوم
ولا تأتدم على أكله
... فإنه بالجوع مأدوم
وقلت فيه:
صحيفة كتبت ليت بها
وعسى ... عنوانها راحة الراجي إذا يئسا
وعد له هاجس في القلب
وقد برمت ... أحشاء صدري به من طول ما هجسا
يراعة غرني منها وميض
سنى ... حتى مددت إليها الكف مقتبسا
فصادفت حجراً لو كنت
تضربه ... من لؤمه بعضا موسى لما انبجسا
كأنما صيغ من بخل ومن
كذب ... فكان ذاك له روحاً وذا نفسا
وقلت فيه:
رجاء دون أقربه
السحاب ... ووعد مثل ما لمع السراب
وتسويف يكل الصبر عنه
... ومطل ما يقوم له حساب
وأيام خلت من كل خير
... ودنيا قد توزعها الكلاب
لطيف الاستمناحقال
الحكماء: لطيف الاستمناح سبب النجاح، والأنفس ربما انطلقت وانشرحت بلطيف السؤال،
وانقبضت وامتنعت بجفاء السائل؛ كما قال الشاعر:
وجفوتني فقطعت عنك
فوائدي ... كالدر يقطعه جفاء الحالب
وقال العتابي: إن طلب
حاجة إلى ذي سلطان فأجمل في الطلب إليه، وإياك والإلحاح علي، فإن إلحاحك يكلم
عرضك، ويريق ماء وجهك، فلا تأخذ منه عوضاً لما يأخذ منك؛ ولعل الإلحاح يجمع عليك
إخلاق الوجه، وحرمان النجاح؛ فإنه ربما مل المطلوب إليه حتى يستخف بالطالب.
وقال الحسن بن هانئ:
تأن مواعيد الكرام
فربما ... حملت من الإلحاح سمحاً على بخل
وقال آخر:
إن كنت طالب حاجة
فتجمل ... فيها بأحسن ما طلب وأجمل
إن الكريم أخا
المروءة والنهى ... من ليس في حاجاته بمثقل
وقال مروان بن أبي
حفصة: لقيت يزيد بن مزيد وهو خارج من عند المهدي، فأخذ بعنان دابته وقلت له: إني
قلت فيك ثلاثة أبيات أريد لكل بيت منها مائة ألف. قال: هات، لله أبوك! فأنشأت أقول:
يا أكرم الناس من عجم
ومن عرب ... بعد الخليفة يا ضرغامة العرب
أفنيت مالك تعطيه
وتنهبه ... يا آفة الفضة البيضاء والذهب
إن السنان وحد السيف
لو نطقا ... لا خبراً عنك في الهيجاء بالعجب
فأمر لي بها.
المدائني قال: قدم
قوم من بني أمية على عبد الملك بن مروان، فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن ممن تعرف،
وحقنا لا ينكر، وجئناك من بعيد، ونمت بقريب، وهما تعطنا فنحن أهله.
دخل عبد الملك بن
صالح على الرشيد فقال: أسألك بالقرابة والخاصة، أم بالخلافة والعامة؟ قال: بل
بالقرابة والخاصة. قال: يداك يا أمير المؤمنين بالعطية أطلق من لساني بالمسألة. فأعطاه وأجزل
له.
ودخل أبو الريان على
عبد الملك بن مروان، وكان عنده أثيراً، فرآه خائراً، فقال: يا أبا
الريان، مالك خائراً؟ قال: أشكو إليك الشرف يا أمير المؤمنين. قال: وكيف
ذلك؟ قال: نسأل ما لا نقدر عليه ونعتذر فلا نعذر. قال عبد الملك: ما أحسن ما
استمنحت، واعتررت يا أبا الريان! أعطوه كذا وكذا.
العتابي قال: كتب
الشعبي إلى الحجاج يسأله حاجة، فاعتل عليه. فكتب إليه الشعبي: والله لا عذرتك وأنت
والي العراقين، وابن عظيم القريتين، فقضى حاجته.
وكان جد الحجاج لأمه
عروة بن مسعود الثقفي.
العتبي قال: قدم عبد
العزيز بن زرارة الكلابي على أمير المؤمنين معاوية، فقال: إني لم أزل أهز ذئاب الرحال إليك، فلم أجد معولاً إلا عليك؛ امتطى
الليل بعد النهار، وأسم المجاهل بالآثار؛ يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى، المجتهد يعذر،
وإذا بلغتك فقطني. فقال: احطط عن راحلتك رحلها.
ودخل كريز بن زفر بن
الحارث على يزيد بن المهلب فقال: أصلح الله الأمير، أنت أعظم من أن يستعان بك
ويستعان عليك، ولست تفعل من الخير شيئاً إلا وهو يصغر عنك وأنت أكبر منه، وليس
العجب أن تفعل، ولكن العجب أن لا تفعل قال: سل حاجتك. قال: قد حملت
عن عشيرتي عشر ديات. قال: قد أمرت لك بها وشفعتها بمثلها.
العتبي عن أبيه قال:
أتى رجل إلى حاتم الطائي فقال: إنها وقعت بيني وبين قومي ديات فاحتملتها في مالي
وأملي، فعدمت مالي وكنت أملي، فإن تحملها عني فرب هم فرجته، وغم كفيته، ودين
قضيته؛ وإن حال دون ذلك حائل لم أذم يومك، ولم أيأس من غدك. فحملها عنه.
المدائني قال:
سأل رجل خالداً
القسري حاجة، فاعتل عليه. فقال له: لقد سألت الأمير من غير حاجة. قال وما دعاك إلى
ذلك؟ قال رأيتك تحب من لك عنده حسن بلاء، فأردت أن أتعلق منك بحبل مودة. فوصله
وحباه وأدنى مكانه.
والأصمعي قال: دخل
أبو بكير الهجري على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، نغض فمي، وأنتم أهل البيت
بركة، فلو أذنت لي فقبلت رأسك لعل الله يشدد لي منه. قال: اختر منها ومن الجائزة.
فقال: يا أمير المؤمنين أهون علي من ذهاب درهم من الجائزة ألا تبقى حاكة في
فمي. فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
وذكروا أن جاراً لأبي
دلف ببغداد لزمه كبير دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره. فساوموه بها، فسألهم ألف
دينار، فقالوا له: إن دارك تساوي خمسمائة دينار. قال: وجواري من أبي دلف بألف وخمسمائة
دينار. فبلغ أبا دلف، فأمر بقضاء دينه، وقال له لا تبع دارك ولا تنتقل من جوارنا.
ووقفت امرأة على قيس
بن سعد بن عبادة، فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان، قال: ما أحسن هذه الكناية! املئوا
لها بيتاً خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً.
إبراهيم بن أحمد عن
الشيباني قال: كان أبو جعفر المنصور أيام بني أمية إذا دخل البصرة دخل مستتراً،
فكان يجلس في حلقة أزهر السمان المحدث. فلما أفضت الخلافة إليه، قدم عليه أزهر،
فرحب به وقربه، وقال له ما حاجتك يا أزهر؟ قال: داري متهدمة، وعلي أربعة آلاف
درهم، وأريد أن يبني محمد ابني بعياله، فوصله باثني عشر ألفاً، وقال. قد قضينا
حاجتك يا أزهر، فلا تأتنا طالباً: فأخذها وارتحل. فلما كان بعد سنة أتاه. فلما رآه
أبو جعفر، قال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال جئتك مسلماً. قال: إنه يقع في خلد أمير
المؤمنين أنك جئت طالباً. قال: ما جئت إلا مسلماً. قال: قد أمرنا لك باثني عشر
ألفاً، واذهب فلا تأتنا طالباً ولا مسلماً. فأخذها ومضى. فلما كان بعد سنة أتاه،
فقال: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: أتيت عائداً. قال: إنه يقع في خلد أمير المؤمنين
أنك جئت طالباً. قال: ما جئت إلا عائداً قال أمرنا لك باثني عشر ألفاً فاذهب ولا
تأتنا لا طالباً ولا مسلماً ولا عائداً، فأخذها وانصرف. فلما مضت السنة أقبل، فقال
له: ما جاء بك يا أزهر؟ قال: دعاء كنت أسمعك تدعو به يا أمير المؤمنين، جئت
لأكتبه. فضحك أبو جعفر وقال: إنه دعاء غير مستجاب، وذلك أني قد دعوت الله تعالى به
أن لا أراك، فلم يستجب لي، وقد أمرنا لك باثني عشر ألفاً، فاذهب وتعال متى شئت،
فقد أعيتني فيك الحيلة.
أقبل أعرابي إلى داود
بن المهلب فقال له: إني مدحتك فاستمع. قال: على رسلك، ثم دخل بيته وقلد سيفه وخرج،
فقال: فإن أحسنت حكمناك، وإن أسأت قتلناك. فأنشأ يقول:
أمنت بداود وجود
يمينه ... من الحدث المخشي والبؤس والفقر
فأصبحت لا أخشى بداود
نبوة ... من الحدثان إذ شددت به أزري
له حكم لقمان وصورة
يوسف ... وملك سليمان وعدل أبي بكر
فتى تفرق الأموال من
جود كفه ... كما يفرق الشيطان من ليلة القدر
فقال: قد
حكمناك، فإن شئت على قدرك وإن شئت على قدري. قال: بل على قدري، فأعطاه خمسين
ألفاً. فقال له جلساؤه: هلا احتكمت على قدر الأمير! قال: لم يك في ماله ما يفي
بقدره. قال له داود: أنت في هذه أشعر منك في شعرك، وأمر بمثل ما أعطاه.
الأصمعي قال: كنت عند
الرشيد إذ دخل عليه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فأنشده:
وآمرة بالبخل قلت لها
اقصري ... فليس إلى ما تأمرين سبيل
فعالى فعال المكثرين
تجملاً ... ومالي كما قد تعلمين قليل
فكيف أخاف الفقر أو
أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل
فقال له الرشيد: لله
در أبيات تأتينا بها! ما أحسن أصولها، وأبين فصولها، وأقل فضولها! يا غلام، أعطه
عشرين ألفاً. قال: والله لا أخذت منها درهماً واحداً. قال: ولم؟ قال: لأن كلامك
والله يا أمير المؤمنين خير من شعري. قال: أعطوه أربعين ألفاً. قال الأصمعي: فعلمت والله أنه أصيد لدراهم
الملوك مني.
العتبي عن أبيه قال:
قدم زيد بن منية من
البصرة على معاوية - وهو أخو يعلى بن منية صاحب جمل عائشة رضي الله عنها ومتولي تلك الحروب
ورأس أهل البصرة، وكانت ابنة يعلى عند عتيبة بن أبي سفيان - فلما دخل على معاوية
شكا دينه، فقال: يا كعب، أعطه ثلاثين ألفاً. فلما ولى قال: وليوم الجمل ثلاثين
ألفاً أخرى. ثم قال له: الحق بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر، فقال: إني سرت
إليك شهرين، أخوض فيهما المتالف، ألبس أردية الليل مرة، وأخوض في لجج السراب أخرى،
موقراً من حسن الظن بك، وهارباً من دهر قطم، ومن دين لزم. بعد غنى جدعنا به أنوف
الحاسدين. فقال عتبة: إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا، ثم استرد ما أمكنه أخذه،
وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه، وأنا رافع يدي ويدك بيد الله. فأعطاه ستين ألفاً
كما أعطاه معاوية.
إبراهيم الشيباني
قال: قال عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف: أعدم أبي إعدامة شديدة بالبصرة وأنفض،
فخرج إلى خراسان، فلم يصب بها طائلاً، فبينا هو يشكو تعزر الأشياء عليه، إذ عدا
غلامه على كسوته وبلغته فذهب بهما. فأتى أبا ساسان حضين بن المنذر الرقاشي فشكا
إليه حاله. فقال له: والله يا بن أخي ما عمك ممن يحمل محاملك، ولكن لعلي أحتال لك:
فدعا بكسوة حسنة فألبسني إياها، ثم قال. امض بنا. فأتى باب والي خراسان فدخل وتركني
بالباب، فلم ألبث أن خرج الحاجب فقال: أين علي بن سويد؟ فدخلت إلى الوالي، فإذا
حضين على فراش جانبه. فسلمت على الوالي، فرد علي، ثم أقبل عليه حضين فقال: أصلح
الله الأمير، هذا علي بن سويد بن منجوف، سيد فتيان بكر بن وائل، وابن سيد كهولها،
وأكثر الناس مالاً حاضراً بالبصرة، وفي كل موضع ملكت به بكر بن وائل مالاً، وقد
تحمل بي إلى الأمير حاجة. قال: هي مقضية. قال: يسألك أن تمد يدك في ماله ومراكبه
وسلاحه إلى ما أحببت. قال: لا والله لا أفعل ذلك به، نحب أولى بزيادته. قال: فقد
أعفيناك من هذه إذ كرهتها، فهو يسألك أن تحمله حوائجك بالبصرة. قال: إن كانت حاجة
فهو فيها ثقة، ولكن أسألك أن تكلمه في قبول معونة منا، فإنا نحب أن يرى على مثله
من أثرنا. فأقبل علي أبو ساسان فقال: يا أبا الحسن، عزمت عليك أن لا ترد على عمك
شيئاً أكرمك به. فسكت. فدعا لي بمال ودواب وكساو ورقيق. فلما خرجت قلت: أبا ساسان،
لقد أوقفتني على خطة ما وقفت على مثلها قط. قال: اذهب إليك يا بن أخي، فعمك أعلم
بالناس منك. إن الناس إن علموا لك غرارة من مال حشوا لك أخرى، وإن يعلموك فقيراً
تعدوا عليك مع فقرك.
إبراهيم الشيباني
قال: ولدت لأبي دلامة ابنة ليلاً، فأوقد السراج وجعل يخيط خريطة من شقق. فلما اصبح
طواها بين أصابعه وغدا بها إلى المهدي فاستأذن عليه، وكان لا يحجب عنه. فأنشده:
لو كان يقعد فوق
الشمس من كرم ... قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس
ثم ارتقوا من شعاع
الشمس في درج ... إلى السماء فأنتم أكرم الناس
قال له المهدي: أحسنت
والله أبا دلامة! فما الذي غدا بك إلينا؟ قال: ولدت لي جارية يا أمير المؤمنين.
قال: فهل قلت فهيا شعراً؟ قال: نعم، قلت:
فما ولدتك مريم أم
عيسى ... ولم يكفلك لقمان الحكيم
ولكن قد تضمك أم سوء
... إلى لباتها وأب لئيم
قال: فضحك
المهدي. وقال: فما تريد أن أعينك به في تربيتها أبا دلامة؟ قال: تملأ هذه يا أمير
المؤمنين، وأشار إليه بالخريطة بين إصبعيه. فقال المهدي: وما عسى أن تحمل هذه؟
قال: من لم يقنع بالقليل لم يقنع بالكثير. فأمر أن تملأ مالاً. فلما نشرت أخذت
عليهم صحن الدار، فدخل فيها أربعة آلاف درهم.
وكان المهدي قد كسا
أبا دلامة ساجاً. فأخذ به وهو سكران، فأتي به إلى المهدي. فأمر بتمزيق الساج عليه، وأن يحبس في بيت الدجاج، فلما كان في بعض
الليل وصحا أبو دلامة من سكره ورأى نفسه بين الدجاج، صاح: يا صاحب البيت.
فاستجاب له السجان؛
فقال: مالك يا عدو الله؟ قال له: ويلك! من أدخلني مع الدجاج؟ قال: أعمالك الخبيثة،
أتى بك أمير المؤمنين وأنت سكران فأمر بتمزيق ساجك وحبسك مع الدجاج. قال له: ويلك!
أو تقدر على أن توقد سراجاً، وتجيئني بدواة وورق ولك سلبي هذا. فأتاه بدواة وورق:
فكتب أبو دلامة إلى المهدي:
أمن صهباء صافية
المزاج ... كأن شعاعها لهب السراج
تهش لها النفوس
وتشتهيها ... إذا برزت ترقرق في الزجاج
وقد طبخت بنار الله
حتى ... لقد صارت من النطف النضاج
أمير المؤمنين فدتك
نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أقاد إلى السجون بغير
ذنب ... كأني بعض عمال الخراج
ولو معهم حبست لهان
وجدي ... ولكني حبست مع الدجاج
دجاجات يطيف بهن ديك
... يناجي بالصياح إذا يناجي
وقد كانت تخبرني
ذنوبي ... بأني من عذابك غير ناجي
على أني وإن لاقيت
شراً ... لخيرك بعد ذاك الشر راجي
ثم قال: أوصلها إلى
أمير المؤمنين. فأوصلها إليه السجان. فلما قرأها، أمر بإطلاقه وأدخله عليه، فقال:
أين بت الليلة أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج يا أمير المؤمنين. قال: فما كنت تصنع؟
قال: كنت أقاقي معهن حتى أصبحت. فضحك المهدي وأمر بصلة جزيلة، وخلع عليه كسوة
شريفة.
وكتب أبو دلامة إلى
عيسى موسى، وهو والي الكوفة رقعة فيها هذه الأبيات:
إذا جئت الأمير فقل
سلام ... عليك ورحمة الله الرحيم
فأما بعد ذاك فلي
غريم ... من الأنصار قبح من غريم
لزوم ما علمت لباب
داري ... لزوم الكلب أصحاب الرقيم
له مائة علي ونصف
أخرى ... ونصف النصف في صك قديم
دراهم ما انتفعت بها
ولكن ... وصلت بها شيوخ بني تميم
أتوني بالعشيرة
يسألوني ... ولم أك في العشيرة باللئيم
قال: فبعث إليه بمائة
ألف درهم.
ولقى أبو دلامة أبا
دلف في مصاد، وهو والي العراق، فأخذ بعنان فرسه وأنشد:
إن حلفت لئن رأيتك
سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفر
لتصلين على النبي
محمد ... ولتملأن دراهماً حجري
فقال: أما
الصلاة على النبي، فنعم، صلى الله عليه وسلم؛ وأما الدراهم، فلما نرجع إن شاء الله
تعالى. قال له: جعلت فداك، لا تفرق بينهما. فاستلفها له، وصبت في حجره حتى أثقلته.
ودخل أبو دلامة على
المهدي، فأنشده أبياتاً أعجب بها، فقال له: سلني أبا دلامة واحتكم وأفرط ما شئت.
فقال: يا أمير المؤمنين، كلب اصطاد به، قال: قد أمرنا لك بكلب؛ وهاهنا بلغت همتك،
وعلى هاهنا انتهت أمنيتك؟ قال لا تعجل علي يا أمير المؤمنين، فإنه بقي علي. قال: وما بقي
عليك؟ قال غلام يقود الكلب. قال: وغلام يقود الكلب. قال: وخادم يطبخ لنا الصيد.
قال: وخادم يطبخ الصيد. قال ودار نسكنها. قال: ودار تسكنها. قال وجارية نأوي إليه.
قال: وجارية تأوي إليها. قال: قد بقى الآن المعاش، قال: قد أقطعناك ألفي جريب
عامرة وألفي جريب غامرة. قال: وما الغامرة يا أمير المؤمنين؟ قال: التي لا تعمر.
قال: أنا أقطع أمير المؤمنين خمسين ألفاً من فيافي بني أسد. قال قد جعلتها كلها لك
عامرة. قال: فيأذن لي أمير المؤمنين في تقبيل يده؟ قال: أما هذه فدعها. قال: ما
منعتني شيئاً أيسر هي أم ولدي فقداً منه.
ودخل أبو دلامة على
أبي جعفر المنصور يوماً وعليه قلنسوة طويلة - وكان قد أخذ أصحابه بلبسها وأخذهم
بلبس دراريع عليها مكتوب بين كتفي الرجل: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم
" وأمرهم بتعليق السيوف على أوساطهم - فدخل عليه أبو دلامة في ذلك الزي، فقال
له: كيف أصبت أبا دلامة؟ قال: بشر حال يا أمير المؤمنين. قال: كيف ذلك؟ ويلك! قال:
وما ظنك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه في أسته، وقد نبذ كتاب الله
عز وجل وراء ظهره. قال: فضحك أبو جعفر، وأمر بتغيير ذلك، وأمر لأبي دلامة بصلة.
وأوصل أبو دلامة إلى
العباس بن المنصور رقعة فيها هذه الأبيات:
قف بالديار وأي الدهر
لم تقف ... على منازل بين الظهر والنجف
وما وقوفك في أطلال
منزلة ... لولا الذي استحدثت في قلبك الكلف
إن كنت أصبحت مشغوفاً
بجارية ... فلا وربك لا تشفيك من شغف
ولا تزيدك إلا العل
من أسف ... فهل لقلبك من صبر على الأسف
هذي مقالة شيخ من بني
أسد ... يهدي السلام إلى العباس في الصحف
تخطها من جواري المصر
كاتبة ... قد طالما ضربت في اللام والألف
وطالما اختلفت صيفاً
وشاتية ... إلى معلمها باللوح والكتف
حتى إذا ما استوى
الثديان وامتلأت ... منها وخيفت على الإسراف والقرف
صينت ثلاث سنين ما
ترى أحداً ... كما تصان ببحر درة الصدف
بينا الفتى يتمشى نحو
مسجده ... مبادراً لصلاة الصبح بالسدف
حانت لن نظرة منها
فأبصرها ... مطلة بين سجفيها من الغرف
فخر في الترب ما يدري
غداتئذ ... أخر منكشفاً أم غير منكشف
وجاءه القوم أفواجاً
بمائهم ... لينضحوا الرجل المغشى بالنطف
فوسوسوا بقران في
مسامعه ... خوفاً من الجن والإنسان لم يخف
شيئاً ولكنه من حب
جارية ... أمسى وأصبح من موت على شرف
قالوا: لك الخير ما
أبصرت؟ قلت لهم ... جنية أقصدتني من بني خلف
أبصرت جارية محجوبة
لهم ... تطلعت من أعالي القصر ذي الشرف
فقلت من أيكم والله
يأجره ... يعير قوته مني إلى ضعفي
فقام شيخ بهي من
تجارهم ... قد طالما خدع الأقوام بالحلف
فابتاعها لي بألف
أحمر فغدا ... بها إلي فألقاها على كتفي
فبت ألثمها طوراً
وتلثمني ... طوراً ونفعل بعض الشيء في اللحف
بتنا كذلك حتى جاء
صاحبها ... يبغي الدنانير بالميزان ذي الكفف
وذاك حق على زند وكيف
به ... والحق في طرف والعين في طرف
وبين ذاك شهود لم
أبال بهم ... أكنت معترفاً أم غير معترف
فإن تصلني قضيت القوم
حقهم ... وإن تقل لا فحق القوم في تلف
فلما قرأ العباس
الأبيات أعجب بها واستظرفها، وقضى عنه ثمن الجارية. واسم أبي دلامة: زند.
إبراهيم بن المهدي
قال: قال لي جعفر بن يحيى يوماً: إني استأذنت أمير المؤمنين في الحجامة وأردت أن
أخلو وأفر من أشغال الناس وأتوحد. فهل أنت مساعدي قلت: جعلني الله فداك، أنا أسعد الناس بمساعدتك، وآنس بمخالاتك. قال: فكر
إلي بكور الغراب. قال: فأتيت عند الفجر الثاني فوجدت الشمعة بين يديه، وهو قاعد ينتظرني
للميعاد. قال: فصلينا ثم أفضنا في الحديث حتى جاء وقت الحجامة، فأتى بحجام وحجمنا
في ساعة واحدة، ثم قدم إلينا طعام فطعمنا. فلما غسلنا أيدينا خلع علينا ثياب
المنادمة، وضمخنا بالخلوق، وظللنا بأسر يوم مر بنا. ثم إنه ذكر حاجة فدعا الحاجب، فقال: إذا جاء عبد الملك القهرماني فأذن
له. فنسي الحاجب، وجاء عبد الملك بن صالح الهاشمي، على جلالته وسنه وقدره وأدبه،
فإذن له الحاجب. فما راعنا إلا طلعة عبد الملك. فتغير لذلك جعفر بن يحيى وتنغص
عليه ما كان فيه. فلما نظر عبد الملك إليه على تلك الحال دعا غلامه دفع إليه سيفه
وسواده وعمامته، ثم جاء ووقف على باب المجلس، وقال: اصنعوا بي ما صنعتم بأنفسكم. قال: فجاء الغلام فطرح عليه ثياب
المنادمة. ودعا بالطعام فطعم، ثم دعا بالشراب فشرب ثلاثاً، ثم قال: ليخفف عني،
فإن شيء ما شربته قط. فتهلل وجه جعفر وفرح به، وكان الرشيد قد عتب على عبد الملك
بن صالح ووجد عليه. فقال له جعفر بن يحيى: جعلني الله فداك، قد تفضلت وتطولت
وأسعدت، فهل من حاجة تبلغها مقدرتي، أو تحيط بها نعمتي فأقضيها لك مكافأة لما
صنعت؟ قال: بلى، إن قلب أمير المؤمنين عاتب علي، فسله الرضا عني. قال: قد رضي عنك
أمير المؤمنين. ثم قال: علي أربعة آلاف دينار. قال حاضرة، ولكن من مال أمير
المؤمنين أحب إليك. قال: وابني إبراهيم أحب أن أشد ظهره بصهر من أولاد أمير
المؤمنين. قال: قد زوجه أمير المؤمنين ابنته عائشة. قال: وأحب أن تخفق الألوية على
رأسه. قال: قد ولاه أمير المؤمنين على مصر. قال: وانصرف عبد الملك، ونحن نعجب من
إقدامه على قضاء الحوائج من غير استئذان أمير المؤمنين. فلما كان من الغد وقفنا
على باب الرشيد ودخل جعفر، فلم نلبث أن دعي بأبي يوسف القاضي ومحمد بن الحسن
وإبراهيم بن عبد الملك، فعقد النكاح، وحملت البدر إلى منزل عبد الملك، وكتب سجل
إبراهيم على مصر. وخرج جعفر فأشار إلينا. فلما صار إلى منزله ونحن خلفه، نزل
ونزلنا بنزوله. فالتفت إلينا فقال: تعلقت قلوبكم بأول أمر عبد الملك فأحببتم معرفة
آخره، وإني لما دخلت على أمير المؤمنين ومثلت بين يديه ابتدأت القصة من أولها كما
كانت، فجعل يقول: أحسن والله! أحسن والله! فما صنعت؟ فأخبرته بما سأله وبما أجبته
به. فجعل يقول في ذلك: أحسنت، أحسنت! وخرج إبراهيم والياً على مصر.
قدم رجل على ملك من
ملوك الأكاسرة، فمكث ببابه حيناً لا يصل إليه، فتلطف في رقعة أوصلها إليه، وفيها
أربعة أسطر: في السطر الأول: الضر والأمل أقدماني عليك.
والسطر الثاني: الفقر
لا يكون معه صبر على المطالبة.
السطر الثالث:
الانصراف بلا فائدة فتنة وشماتة للعدو.
والسطر الرابع: فإما
نعم مثمرة، وإما لا مريحة.
فلما قرأها وقع تحت
كل سطر منها بألف مثقال وأمر له بها.
ودخل رجل من الشعراء
على يحيى بن خالد بن برمك فأنشده:
سألت الندى هل أنت حر
فقال لا ... ولكنني عبد ليحيى بن خالد
فقلت شراء قال لا بل
وراثة ... توارثني عن والد بعد والد
فأمر له بعشر آلاف.
ودخل أعرابي على خالد
بن عبد الله القسري فأنشده:
أخالد إن لم أزرك
لخلة ... سوى أنني عاف وأنت جواد
أخالد بين الحمد
والأجر حاجتي ... فأيهما تأتي فأنت عماد
فأمر له بخمسة آلاف
درهم.
ومن قولنا في هذا
المعنى. ودخلت على أبي العباس القائد فأنشدته:
الله جرد للندى
والباس ... سيفاً فقلده أبا العباس
ملك إذا استقبلت غرة
وجهه ... قبض الرجاء إليك روح إلياس
وجه عليه من الحياء
سكينة ... ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحب الله يوماً
عبده ... ألقى عليه محبة للناس
ثم سألته حاجة فيها
بعض الغلظ. فتلكأ فيها علي، فأخذت سحاية من بين يديه فوقعت فيها على البديهة:
ما ضر عندك حاجتي ما
ضرها ... عذراً إذا أعطيت نفسك قدرها
انظر إلى عرض البلاد
وطولها ... أولست أكرم أهلها وأبرها
حاشى لجودك أن يوعر
حاجتي ... ثقتي سهلت لي وعرها
لا يجتني حلو المحامد
ماجد ... حتى يذوق من المطالب مرها
فقضى الحاجة وسارع
إليها.
وأبطأ عبد الله بن
يحيى عن الديوان، فأرسل إليه المتوكل يتعرف خبره، فكتب إليه:
عليل من مكانين ...
من الإفلاس والدين
ففي هذين لي شغل ...
وحسبي شغل هذين
فبعث إليه بألف دينار.
عبد الله بن منصور
قال: كنت يوماً في مجلس الفضل بن يحيى. فأتاه الحاجب فقال: إن
بالباب رجلاً قد أكثر في طلب الإذن وزعم أن له يداً يمت بها. فقال: أدخله.
فدخل رجل جميل الوجه رث الهيئة. فسلم فأحسن. فأومأ إليه بالجلوس، فجلس. فلما علم
أنه قد انطلق وأمكنه الكلام قال له: ما حاجتك؟ قال له: قد أعربت بها رثاثة هيئتي
وضعف طاقتي. قال: أجل، فما الذي تمت به؟ قال: ولادة تقرب من ولادتك، وجوار يدنو من
جوارك، واسم مشتق من اسمك. قال: أما الجوار فقد يمكن أن يكون كما قلت، وقد يوافق
الاسم الاسم، ولكن ما علمك بالولادة؟ قال: أعلمتني أمي أنها لما وضعتني، قيل: إنه
ولد الليلة ليحيى بن خالد غلام وسمي الفضل، فسمتني فضيلاً، إعظاماً لاسمك أن
تلحقني به. فتبسم الفضل وقال: كم أتى عليك من السنين؟ قال: خمس وثلاثون سنة. قال:
صدقت، هذا المقدار الذي أتيت عليه، فما فعلت أمك؟ قال: توفيت رحمها الله. قال: فما
منعك من اللحوق بنا فيما مضى؟ قال: لم ارض نفسي للقائك لأنها كانت في عامية وحداثة
تقعدني عن لقاء الملوك. قال: يا غلام، أعطه لكل عام مضى من سنيه ألفاً، وأعطه من
كسوتنا ومراكبنا ما يصلح له. فلم يخرج من الدار إلا وقد طاف به إخوانه وخاصة أهله.
وكتب حبيب بن أوس
الطائي إلى أحمد بن أبي داود:
اعلم وأنت المرء غير
معلموافهم جعلت فداك غير مفهم
أن اصطناع العرف ما
لم توله ... مستكملاً كالثوب ما لم يعلم
والشكر ما لم يستثر
بصنيعةكالخط تقرؤه وليس بمعجم
وتفنني في القول
إكثار وقد ... أسرجت في كرم الفعال فألجم.
وقال دعبل بن علي
الخزاعي في طاهر بن الحسين صاحب خراسان:
أيا ذا اليمينين
والدعوتين ... ومن عنده العرف والنائل
أترضى لمثلى أنى مقيم
... ببابك مطرح خامل
رضيت من الود
والعائدات ... ومن كل ما أمل الآمل
بتسليمة بين خمس وست
... إذا ضمك المجلس الحافل
وما كنت أرضى بذا من
هسواك ... أيرضى بذا رجل عاقل
وإن ناب شغل ففي دون
ما ... تدبره شغل شاغل
عليك السلام فإني
امرؤ ... إذا ضاق بي بلد راحل
الأصمعي قال: ونظر
زياد إلى رجل من ضبة يأكل أكلاً قبيحاً، وهو أقبح الناس وجهاً، فقال: يا أخا ضبة،
كم عيالك؟ قال: سبع بنات أنا أجمل منهن وجهاً، وهن آكل مني: فضحك زياد وقال: لله
درك! ما ألطف سؤالك! افرضوا له و لكل واحدة منهن مائة وخادماً، وعجلوا له و لهن
أرزاقهم. فخرج الصبي وهو يقول:
إذا كنت مرتاد
السماحة والندى ... فناد زياداً أو أخاً لزياد
يجبك امرؤ يعطى على
الحمد ما له ... إذا ضن بالمعروف كل جواد
ومالي لا أثنى عليك
وإنما ... طريفي من معروفكم وتلادي
ووقف دعبل ببعض أمراء
الرقة، فلما مثل بين يديه قال: أصلح الله الأمير، إني لا أقول كما قال صاحب معن:
بأي الخلتين عليك
أثني ... فإني عند منصرفي مسول
أبالحسنى وليس لها
ضياء ... علي فمن يصدق ما أقول
أم الأخرى ولست لها
بأهل ... وأنت لكل مكرمة فعول
ولكنني أقول:
ماذا أقول إذا أتيت
معاشري ... صفراً يداي من الجواد المجزل
إن قلت أعطاني كذبت
وإن أقل ... ضن الأمير بماله لم يجمل
ولأنت أعلم بالمكارم
والعلا ... من أن أقول فعلت ما لم تفعل
فاختر لنفسك ما أقول
فإني ... لا بد مخبرهم وإن لم أسأل
قال له: قاتلك الله!
وأمر له بعشرة آلاف درهم.
العتبي قال: دخل ابن
عبدل على عبد الملك بن بشر بن مروان، لما ولي الكوفة فقعد بين السماطين، ثم قال:
أيها الأمير، إني رأيت رؤيا فإذن لي في قصصها. فقال: قل. فقال:
أغفيت قبل الصبح يوم
مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك رعتني
بوليدة ... مفلوجة حسن علي قيامها
وببدرة حملت إلي
وبغلة ... شهباء ناجية يصر لجامها
قال له عبد الملك بن
بشر بن مروان: كل شيء رأيت فهو عندي إلا البغلة، فإنها دهماء فارهة. امرأتي طالق
ثلاثاً إن كنت رأيتها إلا دهماء. إلا أني غلطت.
الشيباني عن البطين
الشاعر قال: قدمت على علي بن يحيى الأرميني فكتبت إليه:
رأيت في النوم أني
راكب فرساً ... ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم حذق ومعرفة
... رأيت خيراً وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غداً عند
الأمير تجد ... تعبير ذاك وفي الفال التباشير
فجئت مستبشراً
مستشعراً فرحاً ... وعند مثلك لي بالفعل تيسير
قال: فوقع لي في أسفل
كتابي: أضغاث أحلام، وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. ثم أمر لي بكل شيء ذكرته في أبياتي
ورأيته في منامي.
وقال بشار العقيلي:
حتى متى ليت شعري يا
بن يقطين ... أثني عليك بما لا منك توليني
أما علمت جزاك الله
صالحة ... عني وزادك خيراً يا بن يقطين
أني أريدك للدنيا
وزينتها ... ولا أريدك يوم الدين للدين
وقال آخر في مثل هذا
المعنى:
يا بن العلاء ويا بن
القرم مرداس ... إني لأطريك في أهلي وجلاسي
أثني عليك ولي حال
تكذبني ... فيما أقول فاستحيي من الناس
حتى إذا قيل ما أعطاك
من صفد ... طأطأت من سوء حالي عندها رأسي
الأخذ من
الأمراءحدثنا جعفر بن محمد عن يزيد بن سمعان عن عبد الله بن ثور عن عبد الحميد ابن
وهب عن أبي الخلال، قال: سألت عثمان بن عفان عن جائزة السلطان، فقال: لحم طري زكي.
جعفر بن محمد بن يحيى
بن محمد العامري عن المعتمر عن عمران بن حدير، قال: انطلقت أنا ورجل إلى عكرمة،
فرأى الرجل عليه عمامة متخرفة. فقال الرجل: عندنا عمائم، ألا نبعث إليك بعمامة منها؟
قال عكرمة: إنا لا نقبل من الناس شيئاً، إنما نقبل من الأمراء.
وقال هشام بن حسان:
رأيت على الحسن البصري خميصة لها أعلام يصلي فيها، أهداها إليه مسلمة بن عبد الملك.
وكان النبي صلى الله
عليه وسلم يلبس خفين أسودين أهداهما إليه النجاشي صاحب الحبشة.
وقال نافع: كان عبد
الله بن عمر يقبل هدايا أهل الفتنة، مثل المختار وغيره.
ودخل مالك بن أنس على
هارون الرشيد، فشكا إليه ديناً لزمه، فأمر له بألف دينار عين. فلما وضع يديه
للقيام قال: يا أمير المؤمنين، وزوجت ابني محمداً فصار علي فيه ألف دينار. قال:
ولابنه ألف دينار.
فلقد مات مالك وتركها
زنته في مزوده.
وقال الأصمعي: حدثني
إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: كان الربيع بن خثيم في ألف ومائة من العطاء، فكلم فيه
أبي معاوية فألحقه بألفين. فلما حضر العطاء نودي الربيع بن خثيم، فقيل له: في
ألفين، فقعد. فنظروا على اسمه مكتوباً: كلم فيه ابن يحيى بن طلحة أمير المؤمنين
فألحقه بألفين.
وقال رجل لإبراهيم بن
أدهم: يا أبا إسحاق، كنت أريد أن تقبل مني هذه الجبة كسوة. قال: إن كنت غنياً
قبلتها منك، وإن كنت فقيراً لم أقبلها منك. قال: فإن غني. قال: وكم مالك؟ قال:
ألفا دينار. قال: فأنت تود أنها أربعة آلاف. قال: نعم. قال: فأنت
فقير لا أقبلها منك.
وأمر إبراهيم بن
الأغلب، المعروف بزيادة الله، بمال يقسم على الفقهاء، فكان منهم من قبل، ومنهم من
لم يقبل. فكان أسد بن الفرات فيمن قبل، فجعل زيادة الله يغمص على كل من قبل منهم:
فبلغ ذلك أسد ابن الفرات، فقال: لا عليه، إنما أخذنا بعض حقوقنا والله سائله عما
بقي.
وقد فخرت العرب بأخذ
جوائز الملوك، وكان من أشرف ما يتمولونه، فقال ذو الرمة:
وما كان مالي من تراث
ورثته ... ولا دية كانت ولا كسب مأثم
ولكن عطاء الله من كل
رحلة ... إلى كل محجوب السرادق خضرم
وقال آخر: يهجو مروان
بن أبي حفصة ويعيبه بأخذه من العامة، ويفخر بأنه لا يأخذ إلا من الملوك، فقال:
عطايا أمير المؤمنين
ولم تكن ... مقسمة من هؤلاء وأولئكا
وما نلت حتى شبت إلا
عطية ... تقوم بها مصرورة في ردائكا
التفضيل في العطاء
تفضيل بعض الناس على
بعض في العطاءذكر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الفقراء، فقال: إن سعيد بن حذيم
منهم. فأعطاه ألف دينار، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أعطيت
فأغن.
وقدم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم وفد من العرب فأعطاهم، وفضل رجلاً منهم. فقيل له في ذلك. كل
القوم عيال عليه.
وأعطى النبي صلى الله
عليه وسلم يوم حنين المؤلفة قلوبهم فأعطى الأفرع ابن حابس التيمي وعيينة بن حصن
الفزاري مائة من الإبل، وأعطى العباس ابن مرداس السلمي خمسين، فشق ذلك عليه، فقال
أبياتاً، فأتاه بها وأنشده إياها، وهي:
أيذهب نهبي ونهب
العبيد ... بين عيينة والأقرع
ولا كان حصن ولا حابس
... يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت غير امرئ
منهم ... ومن تضع اليوم لم يرفع
فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لبلال: اقطع عني لسان العباس. فأعطاه حتى أرضاه.
وقال صفوان بن أمية:
لقد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما خلق الله خلقاً أبعض إلي منه، فما
زال يعطيني حتى ما خلق الله خلقاً أحب إلي منه. وكان صفوان بن أمية من المؤلفة قلوبهم.
شكر النعمةسليمان
التميمي قال: إن الله أنعم على عباده بقدر قدرته. وكلفهم من الشكر بقدر طاقتهم.
وقالوا: مكتوب في
التوراة: اشكر لمن أنعم عليك وأنهم على من شكرك.
وقالوا: كفر النعمة
يوجب زوالها، وشكرها يوجب المزيد فيها.
وقالوا: من حمدك فقد
وفاك حق نعمتك.
وجاء في الحديث: من
نشر معروفاً فقد شكره، ومن ستره فقد كفره.
وقال عبد الله بن
عباس: لو أن فرعون مصر أسدى إلي يداً صالحة لشكرته عليها.
وقالوا: إذا قصرت يدك
عن المكافأة. فليطل لسانك بالشكر.
وقالوا: ما نحل الله
تعالى عباده شيئاً أقل من الشكر، واعتبر ذلك بقول الله عز وجل: " وقليل من
عبادي الشكور " .
محمد بن صالح بن
الواقدي قال: دخلت على يحيى بن خالد البرمكي، فقلت: إن هاهنا قوماً جاءوا يشكرون
لك معروفاً، فقال: يا محمد، هؤلاء يشكرون معروفاً، فكيف لنا بشكر شكرهم.
وقال النبي صلى الله
عليه وسلم: ما أنعم الله على عبده نعمة فرأى عليه أثرها إلا كتب: حبيب الله شاكراً
لأنعمه، وما أنعم الله على عبده نعمة فلم ير أثرها عليه إلا كتب: بغيض الله كافراً
لأنعمه.
وكتب عدي بن أرطأة
إلى عمر بن عبد العزيز: إني بأرض كثرت فيها النعم، وقد خفت على من قبلي من
المسلمين قلة الشكر والضعف عنه. فكتب إليه عمر رضي الله عنه: إن الله تعالى لم
ينعم على قوم نعمة فحمدوه عليها إلا كان ما أعطوه أكثر مما أخذوا. واعتبر ذلك لقول
الله تعالى: " ولقد آتينا داود وسليمان علماً وقالا الحمد لله الذي فضلنا
" . فأي نعمة أفضل مما أوتي داود وسليمان.
وسمع النبي صلى الله
عليه وسلم عائشة رضي الله عنها تنشد أبيات زهير بن جناب:
ارفع ضعيفك لا يحر بك
ضعفه ... يوماً فتدركه عواقب ما جنى
يجزيك أو يثني عليك
فإن من ... أثنى عليك بما فعلت كمن جزى
فقال النبي عليه
الصلاة والسلام: صدق يا عائشة، لا شكر الله من لا يشكر الناس.
الخشنى قال: أنشدني
الرياشي:
إذا أنا لم أشكر على
الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمما
ففيم عرفت الخير
والشكر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما
وأنشدني في الشكر:
سأشكر عمراً ما تراخت
منبتي ... أيادي لم تمنن وإن هي جلت
فتى غير محجوب الغنى
عن صديقة ... ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت
رأى خلتي من حيث يخفي
مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلت
قلة الكرام في كثرة
اللئام
قال النبي صلى الله
عليه وسلم: الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة.
وقالت الحكماء:
الكرام في اللئام كالغرة في الفرس.
وقال الشاعر:
تفاخرني بكثرتها قريظ
... وقبلي والد الحجل الصقور
فإن أك في شراركم
قليلاً ... فإني في خياركم كثير
بغاث الطير أكثرها
فراخاً ... وأم الصقر مقلات نزور
وقال السموأل:
تعيرنا أنا قليل
عديدنا ... فقلت لها عن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل
وجارنا ... عزيز وجار الأكثرين ذليل
وقال حبيب:
ولقد تكون ولا كريم
نناله ... حتى نخوض إليه ألف لئيم
قال ابن أبي حازم:
وقالوا لو مدحت فتى
كريماً ... فقلت وكيف لي بفتى كريم
بلوت ومر بي خمسون حولاً
... حسبك بالمجرب من عليم
فلا أحد يعد ليوم خير
... ولا أحد يعود على عديم
وقال دعبل:
ما أكثر الناس لا بل
ما أقلهم ... والله يعلم أني لم أقل فندا
إن لأغلق عيني ثم
أفتحها ... على كثير ولكن ما أرى أحد
وأحسن ما قيل في هذا
المعنى قول حبيب الطائي:
إن الجياد كثير في
البلاد وإن ... قلوا كما غيرهم قل وإن كثروا
لا يدهمنك من دهمائهم
عجب ... فإن جلهم أو كلهم بقر
وكلما أضحت الأخطار
بينهم ... هلكي تبين من أضحى له خطر
لو لم تصادف شيات
البهم أكثر ما ... في الخيل لم تحمد الأوضاح والغرر
الأصمعي قال: قال
كسرى: أي شيء أضر؟ فأجمعوا على الفقر. فقال كسرى: الشح أضر منه، لأن الفقير يجد
الفرجة فيتسع.
من جاد أولاً وضن
آخراً
نزل أعرابي برجل من
أهل البصرة، فأكرمه وأحسن إليه، ثم أمسك. فقال الأعرابي:
تسرى فلما حاسب المرء
نفسه ... رأى أنه لا يستقر له السرو
وكان يزيد بن منصور
يجري لبشار العقيلي وظيفة في كل شهر، ثم قطعها عنه فقال:
أبا خالد ما زلت سابح
غمرة ... صغيراً فلما شبت خيمت بالشاطئ
جريت زماناً سابقاً
ثم لم تزل ... تأخر حتى جئت تقطو مع القاطي
كسنور عبد الله بيع
بدرهم ... صغيراً فلما شب بيع بقيراط
وقال مسلم بن الوليد
صريع الغواني لمحمد بن منصور بن زياد:
أبا حسن قد كنت قدمت
نعمة ... وألحقت شكراً ثم أمسكت وانيا
فلا ضير لم تلحقك مني
ملامة ... أسأت بنا عوداً وأحسنت باديا
فأقسم لا أجزيك
بالسوء مثله ... كفى بالذي جازيتني لك جازياً
وقال سليمان الأعمى،
وهو أخو صريع الغواني، في سليمان بن علي:
يا سوءة يكبر الشيطان
إن ذكرت ... منها العجائب جاءت من سليمانا
لا تعجبن بخير زل عن
يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
من ضن أولاً ثم جاد
آخراً
قدم الحارث بن خالد
المخزومي على عبد الملك فلم يصله، فرجع وقال فيه:
صحبتك إذ عيني عليها
غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
حبست عليك النفس حتى
كأنما ... بكفيك يجري بؤسها ونعيمها
فبلغ قوله عبد الملك،
فأرسل إليه فرده، وقال: أرأيت عليك غضاضة من مقامك ببابي؟ قال: لا، ولكني اشتقت
إلى أهلي ووطني، ووجدت فضلاً من القول فقلت، وعلي دين لزمني. قال: وكم دينك؟ قال:
ثلاثون ألفاً. قال: فقضاء دينك أحب إليك أم ولاية مكة؟ قال: بل ولاية مكة. فولاه
إياها.
وقدم الحطيئة المدينة
فوق إلى عتيبة بن النهاس العجلي فقال: أعطني. فقال: مالك عند فأعطيكه، وما في مالي
فضل عن عيالي فأعود به عليك. فخرج عنه مغضباً. وعرفه به جلساؤه، فأمر برده، ثم قال
له: يا هذا إنك وقفت إلينا فلم تستأنس ولم تسلم، وكتمتنا نفسك، كأنك الحطيئة؟ قال:
هو ذلك. قال: اجلس، فلك عندما كل ما تحب. فجلس، فقال له: من أشعر الناس؟ قال: الذي
يقول:
من يجعل المعروف من
دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
يعني زهيراً: قال: ثم
من؟ قال: الذي يقول:
من يسأل الناس يحرموه
... وسائل الله لا يخيب
يعني عبيداً. قال: ثم
من؟ قال: أنا.
فقال لوكيله: خذ بيد
هذا فامض به إلى السوق، فلا يشيرن إلى شيء إلا اشتريته له. فمضى معه
إلى السوق، فعرض عليه الخز والقز، فلم يتلفت إلى شيء منه وأشار إلى الأكسية والكرابيس
الغلاظ والأقبية. فاشترى له منها حاجته، ثم قال: أمسك. قال: فإنه قد أمرني أن أبسط يدي بالنفقة قال: لا حاجة في أن
يكون له على قومي يد أعظم من هذه، ثم أنشأ يقول:
سئلت فلم تبخل ولم
تعط طائلاً ... فسيان لا ذم عليك ولا حمد
وأنت امرؤ لا الجود
منك سجية ... فتعطى وقد يعدى على النائل الوجد
من مدح أميراً فخيبه
قال سعيد بن سلم:
مدحني أعرابي فأبلغ، فقال:
ألا قل لساري الليل
لا تخش ضلة ... سعيد بن سلم نور كل بلاد
لنا سيد أربى على كل
سيد ... جواد حثا في وجه كل جواد
قال: فتأخرت عنه
قليلاً. فهجاني فأبلغ، فقال:
لكل أخي مدح ثواب
علمته ... وليس لمدح الباهلي ثواب
مدحت سعيداً والمديح
مهزة ... فكان كصفوان عليه تراب
ومدح الحسن بن رجاء
أبا دلف فلم يعطه شيئاً، فقال:
أبا دلف ما أكذب
الناس كلهم ... سواي فإني في مديحك أكذب
وقال آخر في مثل هذا
المعنى:
إني مدحتك كاذباً
فأثبتني ... لما مدحتك ما يثاب الكاذب
وقال آخر في مثل هذا
المعنى:
لئن أخطأت في مدحي
... ك ما أخطأت في منعي
لقد أحللت حاجاتي ...
بواد غير ذي زرع
ومدح حبيب الطائي
عياش بن لهيعة، وقدم عليه بمصر، واستسلفه مائتي مثقال. فشاور فيها زوجته، فقالت
له: هو شاعر يمدحك اليوم، ويهجوك غداً، فاعتل عليه واعتذر إليه ولم يقض حاجته.
فقال فيه:
عياش إنك للئيم وإنني
... مذ صرت موضع مطلبي للئيم
ثم هجاه حتى مات.
وهجاه بعد موته، فقال فيه:
لا سقيت أطلالك
الدائرة ... ولا انقضت عثرتك العاثرة
يا أسد الموت تخلصته
... من بين فكي أسد القاصرة
ما حفرة واراك ملحودها
... ببرة الرمس ولا طاهره
ومن قولنا في هذا
المعنى، وسألت بعض موالي السلطان إطلاق محبوس فتلكأ فيه، فقلت:
حاشا لمثلك أن يفك
أسيرا ... أو أن يكون من الزمان مجيرا
لبست قوافي الشعر فيك
مدارعاً ... سوداً وصكت أوجهاً وصدورا
علا عطفت برحمة لما
دعت ... ويلاً عليك مدائحي وثبورا
لو أن لؤمك عاد جوداً
عشره ... ما كان عندك حاتم مذكورا
قال: ومدح ربعة الرقي
يزيد بن حاتم الأزدي، وهو والي مصر فاستبطأه ربيعة. فشخص عنه من مصر وقال:
أراني ولا كفران الله
راجعاًبخفي حنين من نوال ابن حاتم
فبلغ قوله يزيد بن
حاتم. فأرسل في طلبه، فرد إليه. فلما دخل عليه قال له: أنت القائل:
أراني ولا كفران الله
راجعاً
قال: نعم؛
قال: فهل قلت غير هذا؟ قال: لا والله؛ قال: لترجعن بخفي حنين مملوءة مالاً. فأمر
بخلع نعليه وملئت له مالاً. فقال فيه لما عزل عن مصر وولي يزيد بن أسيد السلمي
مكانه:
بكى أهل مصر بالدموع
السواجم ... غداة غدا منها الأغر ابن حاتم
وفيها يقول:
لشتان ما بين
اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر بن حاتم
فهم الفتى الأزدي
إنفاق ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني
هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم
أجود أهل الجاهليةالذين
انتهي إليهم الجود في الجاهلية ثلاثة نفر: حاتم بن عبد الله بن سعد الطائي، وهرم
بن سنان المري، وكعب بن مامة الإيادي.
ولكن المضروب به
المثل: حاتم وحده، وهو القائل لغلامه يسار، وكان إذا اشتد البرد وكلب الشتاء أمر
غلامه فأوقد ناراً في يفاع من الأرض لينظر إليها من أضل الطريق ليلاً فيصمد نحوه،
فقال في ذلك:
أوقد فإن الليل ليل
قر ... والريح ما موقد ريح صر
عسى يرى نارك من يمر
... إن جلبت ضيفاً فأنت حر
ومر حاتم في سفره على
عنزة، وفيهم أسير. فاستغاث بحاتم ولم يحضره فكاكه، فاشتراه من العنزيين وأطلقه،
وأقام مكانه في القيد حتى أدى فداءه.
وقالوا: لم يكن حاتم
ممسكاً شيئاً ما عدا فرسه وسلاحه، فإن كان لا يجود بهما.
وقالت نوار امرأة
حاتم: أصابتنا سنة اقشعرت لها الأرض واغبر أفق السماء، وراحت الإبل حدبا حدابير،
وضنت المراضع على أولادها فما تبض بقطرة، وحلقت ألسنة المال وأيقنا بالهلاك.
فوالله إنا لفي ليلة صنبر، بعيدة ما بين الطرفين، إذا تضاغى صبيتنا جوعاً، عبد
الله وعدي وسفانة، فقام حاتم إلى الصبيين، وقمت أنا إلى الصبية، فوالله ما سكتوا
إلا بعد هدأة من الليل، وأقبل يعللني بالحديث، فعرفت ما يريد فتناومت، فلما تهورت
النجوم، إذا شيء قد رفع كسر البيت ثم عاد؛ فقال: من هذا؟ قالت: إلا عليك يا أبا
عدي. فقال. أعجليهم فقد أشبعك الله وإياهم. فأقبلت المرأة تحمل اثنين ويمشي جانبها
أربعة، كأنها نعامة حولها رئالها. فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية فخر، ثم كشطه عن
جلده، ودفع المدية إلى المرأة، فقال لها: شأنك. فاجتمعنا على اللحم نشوي بالنار، ثم
جعل يمشي في الحي يأتيهم بيتاً بيتاً، فيقول: هبوا أيها القوم عليكم بالنار،
فاجتمعوا والتفع في ثوبه ناحية ينظر إلينا، فلا والله إن ذاق منه مزعه، وإنه لأحوج
إليه منا، فأصبحنا وما على الأرض من الفرس إلا عظم وحافر، فأنشأ حاتم يقول:
مهلاً نوار أقل اللوم
والعذلا ... ولا تقولي لشيء فات ما فعلا
ولا تقولي لمال كنت
مهلكه ... مهلاً وإن كنت أعطى الإنس والخبلا
يرى البخيل سبيل
المال واحدة ... إن الجواد يرى في ماله سبلا
ورئي حاتم يوماً يضرب
ولده لما رآه يضرب كلبة كانت تدل عليه أضيافه، وهو يقول:
أقول لابني وقد سطت
يديه ... بكلبة لا يزال يلدها
أوصيك خيراً بها فإن
لها ... عندي يداً لا أزال أحمدها
تدل ضيفي علي في غلس
ال ... ليل إذا النار نام موقدها
ذكرت طبئ عند عدي بن
حاتم: أن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مر بقبر حاتم فنزل به وجعل ينادي: أبا عدي، أقر
أضيافك. قال: فيقال له: مهلاً ما تكلم من رمة بالية؟ فقال: إن طيئاً يزعمون أنه لم
ينزل به أحد إلا قراه، كالمستهزئ. فلما كان في السحر وثب أبو خيبري يصيح: وا راحلتاه! فقال له أصحابه:
ما شأنك؟ قال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليها. فتأملوا راحلته
فإذا هي لا تنبعث، فقالوا: قد والله أقراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها، ثم
أردفوه وانطلقوا. فبينما هم في مسيرهم إذ طلع عليهم عدي بن حاتم ومعه جمل قد قرنه
ببعيره، فقال: إن حاتماً جاء في النوم فذكر لي قولك وأنه أقراك وأصحابك راحلتك
وقال لي أبياتاً رددها علي حتى حفظتها وهي:
أبا الخيبري وأنت
امرؤ ... حسود العشيرة شتامها
فماذا أردت إلى رمة
... بداوية صخب هامها
أتبغي أذاها وإعسارها
... وحولك غوث وأنعامها
وإنا لنطعم أضيافنا
... من الكوم بالسيف نعتامها
وأمرني بدفع راحلة
عوض راحلتك فخذها، فأخذها ولحاتم بن عبد الله أيضاً:
أماوي قد طال التجنب
والهجر ... وقد عذرتنا عن طلابكم العذر
أماوي إن المال غاد
ورائح ... ويبقى من المال الأحاديث والذكر
أماوي إما مانع فمبين
... وإما عطاء لا ينهنهه الزجر
أماوي إني لا أقول
لسائل ... إذا جاء يوماً حل في مالي النذر
أماوي ما يغني الثراء
عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
أماوي إن يصبح صداي
بقفرة ... من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
تري أن ما أنفقت لم
يك ضرني ... وأن يدي مما بخلت به صفر
إذا أنا دلاني الذين
يلونني ... بمظلمة لج جوانبها غبر
وراحوا سراعاً ينفضون
أكفهم ... يقولون قد أدمى أظافرنا الحفر
أماوي إن المال مال
بذلته ... فأوله سكر وآخره ذكر
وقد يعلم الأقوام لو
أن حاتماً ... أراد ثراء المال كان له وفر
فإن وجدي رب واحد أمه
... أجرت فلا قتل عليه ولا أسر
ولا أظلم بن العم إن
كان إخوتي ... شهوداً وقد أودى بإخوته الدهر
غنينا زماناً
بالتصعلك والغنى ... وكلاً سقاناه بكاسيهما الدهر
فما زادنا بأواً على
ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحلامنا الفقر
وأما هرم بن سنان فهو
صاحب زهير الذي يقول فيه:
متى تلاق على علاته
هرماً ... تلق السماحة في خلق وفي خلق
وكان سنان أبو هرم
سيد غطفان، وماتت أمه وهي حامل به، وقالت: إذا أنا مت فشقوا بطني فإن سيد غطفان
فيه. فلما ماتت شقوا بطنها فاستخرجوا منه سناناً.
وفي بني سنان يقول
زهير:
قوم أبوهم سنان حين
تنبسهم ... طابوا وطاب من الأولاد ما ولدوا
لو كان يقعد فوق
الشمس من كرم ... قوم بأولهم أو مجدهم قعدوا
جن إذا فزعوا إنس إذا
أمنوا ... مرزءون بهاليل إذا قصدوا
محسدون على كان من
نعم ... لا ينزع الله منهم ما له حسدوا
وقال زهير في هرم بن
سنان:
وأبيض فياض يداه
غمامة ... على معتفيه ما تغب نوائله
تراه إذا ما جئته
متهللاً ... كأنك تعطيه الذي أنت سائله
أخور ثقة لا تتلف
الخمر ماله ... ولكنه قد يتلف المال نائله
أخذ الحسن بن هانئ
هذا المعنى فقال:
فتى لا تغول الخمر
شحمة ماله ... ولكن أياد عود وبوادي
وقال زهير في هرم بن
سنان وأهل بيته:
إليك أعملتها فتلا
مرافقها ... شهرين يجهض من أرحامها العلق
حتى دفعن إلى حلو
شمائله ... كالغيث ينبت في آثاره الورق
من أهل بيت برى ذو
العرش فضلهم ... يبنى لهم في جنان الخلد مرتفق
المطعمون إذا ما أزمة
أزمت ... والطيبون ثياباً كلما عرقوا
كأن آخرهم في الجود
أولهم ... إن الشمائل والأخلاق تتفق
إن قامروا أو فاخروا
فخروا ... أو ناضلوا نضلوا أو سابقوا سبقوا
تنافس الأرض موتاهم
إذا دفنوا ... كما تنوفس عند الباعة الورق
وقال فيهم أيضاً:
وفيهم مقامات حسان
وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم حق من
يعتفيهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
فما كان من خير ألوه
فإنما ... توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطى إلا
وشيجه ... وتغرس إلا في منابتها النخل
وأما كعب بن مامة
الإيادي، فلم يأت عنه إلا ما ذكر من إيثاره رفيقه النمري بالماء حتى مات عطشاً
ونجا النمري، وهذا أكثر من كل ما أثني لغيره.
وله يقول حبيب:
يجود بالنفس إن ضن
البخيل بها ... والجود بالنفس أقص غاية الجود
وله ولحاتم الطائي
يقول:
كعب وحاتم اللدان
تقسما ... خطط العلا من طارف وتليد
هذا الذي خلف السجاب
ومات ذا ... في المجد ميتة خضرم صنديد
إلا يكن فيها الشهيد
فقومه ... لا يسمحون به بألف شهيد
أجواد أهل
الإسلاموأما أجواد أهل الإسلام فأحد عشر رجلاً في عصر واحد لم يكن قبلهم ولا بعدهم
مثلهم.
فأجواد الحجاز ثلاثة
في عصر واحد: عبيد الله بن العباس، وعبد الله بن جعفر، وسعيد بن العاص.
وأجواد البصرة خمسة
في عصر واحد، وهم: عبد الله بن عامر بن كريز وعبيد الله بن أبي بكرة، مولى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ومسلم بن زيادة، وعبيد الله بن معمر القرشي، ثم التمي،
وطلحة الطلحات، وهو طلحة بن عبد الله بن خلف الخزاعي، وله يقول الشاعر يرثيه، ومات
بسجستان وهو وال عليها:
نضر الله أعظماً
دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
وأجواد أهل الكوفة
ثلاثة في عصر واحد، وهم: عتاب بن ورقاء الرياحي، وأسماء بن خارجة الفزاري، وعكرمة
بن ربعي الفياض.
جود عبيد الله بن
عباس
أنه أول من فطر
جيرانه، وأول من وضع الموائد على الطرق، وأول من حيا على طعامه، وأول من أنهبه،
وفيه يقول شاعر المدينة:
وفي السنة الشهباء
أطعمت حامضاً ... وحلواً ولحماً تامكا وممزعا
وأنت ربيع لليتامى
وعصمة ... إذ المحل من جو السماء تطلعا
أبوك أبو الفضل الذي
كان رحمة ... وغوثاً ونوراً للخلائق أجمعا
ومن جوده: أنه أتاه
رجل وهو بفناء داره، فقام بين يديه فقال: يا بن عباس، إن لي عندك يداً، وقد احتجت
إليها. فصعد فيه بصره وصوبه، فلم يعرفه، ثم قال له: ما يدك عندنا؟ قال رأيتك
واقفاً بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها، والشمس قد صهرتك، فظللتك بطرف كسائي حتى
شربت قال: إني لأذكر ذلك، وإنه يتردد بين خاطري وفكري، ثم قال لقيمه: ما عندك؟
قال: مائتا دينار وعشرة آلاف درهم؛ قال فادفعها إليه وما أراها تفي بحق يده عندنا.
فقال له الرجل: والله لو لم يكن لإسماعيل ولد غيرك لكان فيه ما كفاه فكيف وقد ولد
سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم، ثم شفعه بك وبأبيك.
ومن جوده أيضاً: أن
معاوية حبس عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت عليه حاله. فقيل له: لو وجهت
إلى ابن عمك عبيد الله، فإن قد قدم بنحو من ألف ألف درهم. فقال الحسين: وأين تقع
ألف ألف من عبيد الله، فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت، وأسخى من البحر إذا
زخر. ثم وجه إليه مع رسوله بكتاب ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته وضيق حاله، وأنه
يحتاج إلى مائة ألف درهم. فلما قرأ عبيد الله كتابه، وكان من أرق الناس قلباً
وألينهم عطفاً، انهملت عيناه، ثم قال: ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك من الإثم أصبحت حين لين المهاد، رفيع العماد،
والحسين يشكو ضيق الحال، وكثرة العيال، ثم قال لقهرمانه: احمل إلى الحسين نصف ما
أملكه من فض وذهب وثوب ودابة، وأخبره أني شاطرته مالي، فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع
واحمل إليه الشطر الآخر؛ فقال له القيم: فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها؟
قال: إذا بلغنا ذلك دللتك على أمر يقيم حالك. فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين، قال: إنا الله حملت والله على
ابن عمي وما حسبته يتسع لنا بهذا كله؛ فأخذ الشطر من ماله. وهو أول من فعل ذلك في الإسلام.
ومن جوده: أن معاوية
بن أبي سفيان أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة ومسكاً
وآنية من ذهب وفضة ووجهها مع حاجبه، فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب وهو ينظر
إليها، فقال: هل في نفسك منها شيء؟ قال: نعم والله، إن في نفسي منها ما كان في نفس
يعقوب من يوسف عليهما السلام؛ فضحك عبيد الله، وقال: فشأنك بها فهي لك. قال: جعلت
فداك، أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي. قال: فاختمها بخاتمك وادفعها إلى الخازن
فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً. فقال الحاجب: والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر
من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه - يعني معاوية - فظن عبيد الله أنها
مكيدة منه، قال: دع عنك هذا الكلام فإنا قوم نفي بما وعدنا، ولا ننقض ما أكدنا.
ومن جوده أيضاً: أنه
أتاه سائل وهو لا يعرفه، فقال له: تصدق، فإني نبئت أن عبيد الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر
إليه؟ فقال له: وأين أنا من عبيد الله؟ قال أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال؟ قال:
فيهما؛ قال: أما الحسب في الرجل، فمروءته وفعله، وإذا شئت فعلت، وإذا فعلت كنت
حسيباً، فأعطاه ألفي درهم واعتذر له من ضيق الحال؛ فقال له السائل: إن لم تكن عبد
الله بن عباس فأنت خير منه، وإن كنت هو فأنت اليوم خير منك أمس؛ فأعطاه ألفاً
أخرى. فقال السائل: هذه هزة كريم حسيب، والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك،
فما أخطأت إلا باعتراض الشك بين جوانحي.
ومن جوده أيضاً: أنه
جاءه رجل من الأنصار فقال: يا بن عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه ولد لي في
هذه الليلة مولود، وإني سميته باسمك تبركاً مني به، وإن أمه ماتت.
فقال عبيد الله: بارك
الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة، ثم دعا بوكيله، فقال: انطلق الساعة فاشتر
للمولود جارية تحضنه، وادفع إليه مائتي دينار للنفقة على تربيته، ثم قال للأنصاري:
عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة. قال
الأنصاري: لو سبقت حاتماً بيوم واحد ما ذكرته العرب أبداً، ولكنه سبقك، فصرت له
تالياً، وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده، وكل كرمك أكثر من وابله.
جود عبد الله بن
جعفرومن جود عبد الله بن جعفر أن عبد الرحمن بن أبي عمار دخل على نخاس يعرض قياناً
له، فعلق واحدة منهن، فشهر بذكرها حتى مشى إليه عطاء وطاووس ومجاهد يعذلونه، فكان
جوابه أن قال:
يلومني فيك أقوام
أجالسهم ... فما أبالي أطار اللوم أم وقعا
فانتهى خبره إلى عبد
الله بن جعفر، فلم يكن له هم غيره، فحج فبعث إلى مولى الجارية، فاشتراها منه
بأربعين ألف درهم، وأمر قيمة جواريه أن تزينها وتحليها، ففعلت. وبلغ الناس قدومه
فدخلوا عليه، فقال: مالي لا أرى ابن أبي عمار زارنا! فأخبر الشيخ، فأتاه مسلماً.
فلما أراد أن ينهض استجلسه ثم قال: ما فعل حب فلانة؟ قال: في اللحم والدم والمخ والعصب. قال: أتعرفها لو رأيتها؟
قال: لو أدخلت الجنة لم أنكرها فأمر بها عبد الله أن تخرج إليه وقال له: إنما
اشتريتها لك، ووالله ما دنوت منها، فشأنك بها، مباركاً لك فيها. فلما ولى، قال يا
غلام، احمل معه مائة ألف درهم ينعم بها معها. قال: فبكى عبد الرحمن فرحاً، وقال: يا أهل البيت، لقد خصكم الله بشرف ما خص
به أحداً قبلكم من صلب آدم، فتهنئكم هذه النعمة، وبورك لكم فيها.
ومن جوده أيضاً: أنه
أعطى امرأة سألته مالاً عظيماً. فقيل له: إنها لا تعرفك. وكان يرضيها اليسير. قال:
إن كان يرضيها اليسير فإني لا أرضى بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي.
جود سعيد بن العاصومن
جود سعيد بن العاص: أنه مرض وهو بالشام، فعاده معاوية ومعه شرحبيل بن السمط ومسلم
بن عقبة المري، ويزيد بن شجرة الرهاوي، فلما نظر سعيد معاوية وثب عن صدر مجلسه
إعظاماً لمعاوية، فقال له معاوية: أقسمت عليك أبا عثمان أن لا تتحرك، فقد ضعفت بالعلة.
فسقط، فتبادر معاوية نحوه حتى حنا عليه وأخذه بيده، فأقعده على فراشه وقعد معه،
وجعل يسائله عن علته ومنامه وغذائه، ويصف له ما ينبغي أن يتوقاه، وأطال القعود
معه. فلما خرج التفت إلى شرحبيل بن السمط، ويزيد بن شجرة، فقال: هل رأيتما خللا في
مال أبي عثمان؟ فقالا: ما رأينا شيئاً ننكره. فقال لمسلم بن عقبة: ما تقول؟ قال:
رأيت. قال: وما ذاك؟ قال: رأيت على حشمه ومواليه ثياباً وسخة ورأيت صحن داره غير
مكنوس، ورأيت التجار يخاصمون قهرمانه. قال: صدقت، كل ذلك قد رأيته فوجه إليه مع
مسلم بثلاثمائة ألف. فسبق رسول يبشره بها ويخبره بما كان، فغضب سعيد وقال للرسول:
إن صاحبك ظن أنه أحسن فأساء، وتأول فأخطأ. فأما وسخ ثياب الحشم فمن كثرة حركته
اتسخ ثوبه؛ وأما كنس الدار فليست أخلاقنا أخلاق من جعل داره مرآته، وتزينه لبسه،
ومعروفه عطره، ثم لا يبال بمن مات هزلاً من ذي لحمة أو حرمة. وأما منازعة التجارة
قهرماني، فمن كثرة حوائجه وبيعه وشرائه لم يجد بداً من أن يكون ظالماً أو مظلوماً؛
وأما المال الذي أمر به أمير المؤمنين، فوصلته كل ذي رحم قاطعة، وهنأته كرامته
المنعم بها عليه، وقد قبلناه وأمرنا لصاحبك منه بمائة ألف، ولشرحبيل بن السمط
بمثلها، وليزيد بن شجرة بمثلها، وفي سعة الله وبسط يد أمير المؤمنين ما عليه معولنا.
فركب مسلم بن عقبة
إلى معاوية فأعلمه. فقال: صدق ابن عمي فيما قال، وأخطأت فيما انتهيت إليه، فاجعل
نصيبك من المال لروح بن زنباع عقوبة لك، فإنه من جنى جناية عوقب بمثلها، كما أنه
فعل خيراً كوفئ عليه.
ومن جوده أيضاً: أن
معاوية كان يداول بينه وبين مروان بن الحكم في ولاية المدينة، فكان مروان يقارضه. فلما دخل
على معاوية قال له: كيف تركت أبا عبد الملك؟ - يعني مروان - قال: تركته
منفذاً لأمرك، مصلحاً لعملك. قال معاوية: إنه كصاحب الخبزة كفى إنضاجها فأكلها.
قال: كلا يا أمير المؤمنين، إنه من قوم لا يأكلون إلا ما حصدوا. ولا يحصدون إلى ما
زرعوا. قال: فما الذي باعد بينك وبينه؟ قال: خفته على شرفي وخافني على مثله. قال:
فأي شيء كان له عندك؟ قال: أسوءه حاراً وأسره غائباً. قال: يا أبا عثمان، تركتنا
في هذه الحروب. قال: حملت الثقل وكفيت الحزم. قال: فما أبطأ بك؟ قال: غناك عني
أبطأني عنك. وكنت قريباً، لو دعوت لأجبناك، ولو أمرت لأطعناك. قال: ذلك ظننا بك.
فأقبل معاوية على أهل الشام، فقال يا أهل الشام هؤلاء قومي وهذا كلامهم. ثم قال:
أخبرني عن مالك، فقد نبئت أنك تتجر فيه. قال: يا أمير المؤمنين، لنا مال يخرج لنا
منه فضل، فإذا كان ما خرج قليلاً أنفقناه على قلته، وإن كان كثيراً فكذلك، غير أنا
لا ندخر منه شيئاً عن معسر، ولا طالب، ولا مستحمل، ولا نستأثر منه بفلذة لحم، ولا
مزعة شحم. قال: فكم يدوم لك هذا؟ قال: من السنة نصفها. قال: فما تصنع باقيها؟ قال:
نجد من يسلفنا ويسارع إلى معاملتنا. قال: ما أحد أحوج إلى أن يصلح من شأنه منك.
قال: إن شأننا لصالح يا أمير المؤمنين، ولو زدت في مالي مثله ما كنت إلا بمثل هذه
الحال. فأمر له معاوية بخمسين ألف درهم، وقال: اشتر بها ضيعة تعينك على مروءتك. فقال سعيد: بل أشتري بها حمداً وذكراً
باقياً، أطعم بها الجائع، وأزوج بها الأيم، وأنك بها العاني؛ وأواسي بها الصديق،
وأصلح بها حال الجار. فلم تأت عليه ثلاثة أشهر وعنده منها درهم. فقال معاوية: ما
فضيلة بعد الإيمان بالله هي أرفع في الذكر ولا أنبه في الشرف، من الجود، وحسبك أن
الله تبارك وتعالى جعل الجود أحد صفاته.
ومن جوده أيضاً ما
حكاه الأصمعي، قال: كان سعيد بن العاص يسمر معه سماره إلى أن ينقضي حين من الليل،
فانصرف عنه القوم ليلة ورجل قاعد لم يقم. فأمر سعيد بإطفاء الشمعة وقال: حاجتك يا
فتى؟ فذكر أن عليه ديناً أربعة آلاف درهم، فأمر له بها. وكان إطفاؤه للشمعة أكثر
من عطائه.
جود عبيد الله بن أبي
بكرةومن جود عبيد الله بن أبي بكرة: أنه أدلى إليه رجل بحرمة، فأمر له بمائة ألف
درهم. فقال: أصلحك الله، ما وصلني أحد بمثلها قط. ولقد قطعت لساني عن شكر غيرك،
وما رأيت الدنيا في يد أحد أحسن منها في يدك، ولولا أنت لم تبق لها بهجة إلا أظلمت
ولا نور إلا انطمس.
جود عبيد الله بن
معمر
القرشي التيميومن جود
عبيد الله بن معمر القرشي: أن رجلاً أتاه من أهل البصرة كانت له جارية نفيسة قد
أدبها بأنواع الأدب حتى برعت وفاقت في جميع ذلك، ثم إن الدهر قعد بسيدها ومال
عليه. وقدم عبيد الله بن معمر البصرة من بعض وجوهه فقالت لسيدها: إني أريد أن أذكر
لك شيئاً أستحي منه، إذ فيه جفاء مني، غير أن يسهل ذلك علي ما أرى من ضيق حالك،
وقلة مالك وزوال نعمتك، وما أخافه عليك من الاحتياج، وضيق الحال، وهذا عبيد الله
بن معمر قدم البصرة، وقد علمت شرفه وفضله وسعة كفه وجود نفسه، فلو أذنت لي فأصلحت
من شأني، ثم تقدمت بي إليه وعرضتني عليه هدية، رجوت أن يأتيك من مكافأته ما يقيلك
الله به وينهضك إن شاء الله. قال فبكى وجداً عليها وجزعاً لفراقها منه، ثم قال لها:
لولا أنك نطقت بهذا ما ابتدأتك به أبداً. ثم نهض بها حتى أوقفها بين يدي عبيد
الله، فقال: أعزك الله، هذه جارية ربيتها ورضيت بها لك فاقبلها مني هدية. فقال:
مثلي لا يستهدي من ملك، فهل لك في بيعها، فأجزل لك الثمن عليها حتى ترضى؟ قال:
الذي تراه. قال: يقنعك مني عشرة بدر، في كل بدرة عشرة آلاف درهم؟ قال: والله يا سيدي
ما امتد أملي إلى عشر ما ذكرت، ولكن هذا فضلك المعروف، وجودك المشهور. فأمر عبيد
الله بإخراج المال حتى صار بين يدي الرجل وقبضه، وقال للجارية: ادخلي الحجاب. فقال
سيدها: أعزك الله لو أذنت لي في وداعها؟ قال: نعم. فوقفت وقام، وقال لها وعيناه
تدمعان:
أبوح بحزن من فراقك
موجع ... أقاسي به ليلاً يطيل تفكري
ولولا قعود الدهر بي
عنك لم يكن ... يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري
عليك سلام لا زيادة
بيننا ... ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر
قال عبيد الله بن
معمر: قد شئت ذلك، فخذ جاريتك، وبارك الله لك في المال. فذهب بجاريته وماله، فعاد
غنياً.
فهؤلاء أجواد الإسلام
المشهورون في الجود المنسوبون إليه، وهم أحد عشر رجلاً كما ذكرنا وسمينا، وبعدهم
طبقة أخرى من الأجواد، قد شهروا بالجود وعرفوا بالكرم، وحمدت أفعالهم. وسنذكر ما
أمكننا ذكره منها إن شاء الله تعالى.
الطبقة الثانية من
الأجواد
الحكم بن حنطبقيل
لنصيب بن رباح: خرف شعرك أبا محجن؛ قال: لا، ولكن خرف الكرم، لقد رأيتني ومدحت بن
حنطب، فأعطاني ألف دينار ومائة ناقة وأربعمائة شاة.
وسأل أعرابي الحكم بن
حنطب، فأعطاه خمسمائة دينار فبكى الأعرابي فقال: ما يبكيك يا أعرابي؟ لعلك استقللت
ما أعطيناك؟ قال: لا والله، ولكني أبكي لما تأمل الأرض منك، ثم أنشأ يقول:
وكأن آدم حين حان
وفاته ... أوصاك وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم
فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء
العتبي قال: أخبرني
رجل من أهل منبج، قال: قدم علينا الحكم بن حنطب، وهو مملق فأغنانا. قال: كيف
أغناكم وهو مملق؟ قال: علمنا المكارم فعاد غنينا على فقيرنا.
معن بن زائدةوكان
يقال فيه: حدث عن البحر ولا حرج، وحدث عن معن ولا حرج. وأتاه رجل يسأله أن يحمله،
فقال: يا غلام، أعطه فرساً وبرذوناً وبغلاً وعيراً وبعيراً وجارية، وقال: لو عرفت
مركوباً غير هؤلاء لأعطيتك.
العتبي قال: لما قدم
معن بن زائدة البصرة واجتمع إليه الناس، أتاه مروان بن أبي حفصة أخذ بعضادتي
الباب، فأنشده شعره الذي قال فيه:
فما أحجم الأعداء عنك
بقية ... عليك ولكن لم يروا فيك مطمعا
له راحتان الحتف
والجود فيهما ... أبى الله إلا أن يضر وينفعا
يزيد بن المهلبوكان
هشام بن حسان إذ ذكره قال: والله إن كانت السفن لتجري في جوده.
وقيل ليزيد بن
المهلب: مالك لا تبني داراً؟ قال: منزلي دار الإمارة أو الحبس.
ولما أتى يزيد بن عبد
الملك برأس يزيد بن المهلب نال منه بعض جلسائه، فقال له: مه! إن يزيد بن المهلب طلب جسيماً، وركب عظيماً، ومات كريماً.
ودخل الفرزدق على
يزيد بن المهلب في الحبس فأنشده:
صح في قيدك السماحة
والجو ... د وفك العناة والإفضال
قال: أتمدحني وأنا في
هذه الحال؟ قال: أصبتك رخيصاً فاشتريتك. فأمر له بعشرة آلاف.
وقال سليمان بن عبد
الملك لموسى بن نصير: اغرم ديتك خمسين مرة. قال: ليس عندي ما أغرم. قال: والله
لتغر من ديتك مائة مرة. قال يزيد بن المهلب: أنا أغرمها عنه يا أمير المؤمنين.
قال: اغرم، فغرمها عنه مائة ألف.
العتبي قال: أخبرني
عوانة قال:
استعمل الوليد بن عبد
الملك عثمان بن حيان المري على المدينة وأمره بالغلظة على أهل الظنة، فلما استخلف
سليمان أخذه بألفي ألف درهم. فاجتمعت القيسية في ذلك، فتحملوا شطرها وضاقوا ذرعاً
بالشطر الثاني، ووافق ذلك استعمال سليمان يزيد بن المهلب على العراق. فقال عمر بن
هبيرة: عليكم بيزيد بن المهلب فما لها أحد غيره. فتحملوا إلى يزيد وفيهم عمر بن
هبيرة، والقعقاع بن حبيب، والهذيل بن زفر بن الحارث، وانتهوا إلى رواق يزيد. قال
يحيى بن أقتل - وكان حاجباً ليزيد بن المهلب، وكان رجلاً من الأزد - : فاستأذنت
لهم، فخرج يزيد إلى الرواق فقرب ورحب، ثم دعاء بالغداء، فأتوا بطعام، ما أنكروا
منه أكثر مما عرفوا. فلما تغدوا، تكلم عثمان بن حيان وكان لساناً مفوهاً وقال:
زادك الله في توفيقك أيها الأمير، إن الوليد بن عبد الملك وجهني إلى المدينة عاملاً
عليها، وأمرني بالغلظة على أهل الظنة وصخذ عليهم، وإن سليمان أغرمني غرماً، والله
ما يسعه مالي ولا تحمله طاقتي، فأتيناك لتحمل من هذا المال ما خف عليك، وما بقي
والله ثقيل علي. ثم تكلم كل منهم بما حضره، وقد اختصرنا كلامهم، فقال يزيد بن
المهلب: مرحباً بكم وأهلاً، إن خير المال ما قضيت فيه الحقوق، وحملت به المغارم.
وإنما لي من المال ما فضل عن إخواني، وأيم الله، لو علمت أن أحداً أملأ بحاجتكم
مني لهديتكم إليه، فاحتكموا وأكثروا. فقال عثمان بن حيان: النصف، أصلح الله
الأمير. قال: نعم وكرامة، اغدوا على مالكم فخذوه. فشكروا له وقاموا فخرجوا. فلما
صاروا على باب السرادق، قال عمر بن هبيرة: قبح الله رأيكم، والله ما يبالي يزيد
أنصفها تحمل أم كلها، فمن لكم بالنصف الباقي؟ قال القوم: هذا والله لرأي. وسمع يزيد
مناجاتهم، فقال لحاجبه: انظر يا يحيى إن كان بقي على القوم شيء فليرجعوا. فرجعوا
إليه. وقالوا: أقلنا. قال: قد فعلت. قالوا: فإن رأيت أن تحملها كلها فأنت أهلها،
وإن أبيت فما لها أحد غيرك. قال: قد فعلت. وغدا يزيد بن المهلب إلى سليمان. فقال:
يا أمير المؤمنين أتاني عثمان بن حيان وأصحابه، قال: أمسك في المال؟ قال: نعم. قال
سليمان: والله لآخذنه منهم. قال يزيد: إني قد حملته. قال: فأده. قال يزيد: والله ما حملته إلا لأؤديه،
ثم قال: يا أمير المؤمنين، إن هذه الحمالة وإن عظم خطبها، فحمدها والله أعظم منها،
ويدي مبسوطة بيدك. فابسطها لسؤالها. ثم غدا يزيد بالمال على الخزان فدفعه إليهم.
فدخلوا على سليمان فأخبروه بقبض المال. فقال: وفت يمين سليمان، احملوا إلى أبي
خالد ماله: فقال عدي ابن الرقاع العاملي:
والله علينا من رأى
كحمالة ... تحملها كبش العراق يزيد
الأصمعي قال: قدم على
يزيد بن المهلب قوم من قضاعة من بني ضنة، فقال رجل منهم:
والله ما ندري إذا ما
فاتنا ... طلب إليك من الذي نتطلب
ولقد ضربنا في البلاد
فلم نجد ... أحداً سواك إلى المكارم ينسب
فاصبر لعادتنا التي
عودتنا ... أو لا فأرشدنا إلى من نذهب
فأمر له بألف دينار.
فلما كان في العام المقبل وفد عليه فقال:
مالي أرى أبوابهم
مهجروة ... وكأن بابك مجمع الأسواق
حابوك أما هابوك أم
شاموا الندى ... بيديك فاجتمعوا من الآفاق
إني رأيتك للمكارم
عاشقاً ... والمكرمات قليلة العشاق
فأمر له بعشر آلاف
درهم.
ومر يزيد بن المهلب
في طريق البصرة بأعرابية فأهدت إليه عنزاً فقبلها، وقال لابنه معاوية: معاوية: ما
عندك من نفقة؟ قال: ثمانمائة درهم. قال: ادفعها إليها. قال: إنها لا تعرفك ويرضيها
اليسير. قال: إن كانت لا تعرفني، فأنا أعرف نفسي، وإن كان يرضيها اليسير، فأنا لا
أرضى إلا بالكثير.
يزيد بن حاتموكتب
إليه رجل يستوصله، فبعث إليه ثلاثين ألف درهم، وكتب إليه: أما بعد، فقد بعثت إليك
بثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً، ولا أقللها تجبراً، ولا أستثنيك عليها ثناءً،
ولا أقطع لك بها رجاء، والسلام.
وكان ربيعة الرقى قد
قدم مصر فأتى يزيد بن حاتم الأزدي، فلم يعطه شيئاً، فخرج وهو يقول:
أراني ولا كفران الله
راجعاًبخفي حنين من نوال ابن حاتم
فسأل عنه يزيد، فأخبر
أنه قد خرج، وقال كذا، وأنشد البيت؛ فأرسل في طلبه، فأتي به فقال: كيف قلت؟ فأنشده
البيت. فقال: شغلنا عنك. ثم أمر بخفيه فخلعتا من رجليه وملئتا مالاً، وقال: ارجع
بها بدلاً من خفي حنين. فقال فيه لما عزل عن مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد.
بكى أهل مصر بالدموع
السواجم ... غداة غدا منها الأغر ابن حاتم
وفيها يقول:
لشتان ما بين
اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
فهم الفتى الأزدي
إتلاف ماله ... وهم الفتى القيسي جمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني
هجوته ... ولكنني فضلت أهل المكارم
وخرج إليه رجل من
الشعراء يمدحه، فلما بلغ مصر وجده قد مات، فقال فيه:
لئن مصر فاتتني بما كنت
أرتجي ... وأحلفني منها الذي كنت آمل
فما كل ما يخشى الفتى
بمصيبه ... ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل
وما كان بيني لو
لقيتك سالماً ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
أبو دلفواسمه القاسم
بن إسماعيل، وفيه يقول علي بن جبلة:
إنما الدنيا أبو دلف
... بين مبداه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ...
ولت الدنيا على أثره
وقال فيه رجل من
شعراء الكوفة:
الله أجرى من الأرزاق
أكثرها ... على العباد على كفى أبي دلف
بارى الرياح فأعطى
وهي جارية ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقف
ما خط لا كاتباه في
صحيفته ... يوماً كما خط لا في سائر الصحف
فأعطاه ثلاثين ألفاً.
ومدحه آخر فقال له:
يشبهه الرعد إذا
الرعد رجف ... كأنه البرق إذا البرق خطل
كأنه الموت إذا الموت
أزف ... تحمله إلى الوغى الخيل القطف
إن سار سار المجد أو
حل وقف ... انظر بعينيك إلى أسنى الشرف
هل ناله بقدرة أو
بكلف ... خلق من الناس سوى أبي دلف
فأعطاه خمسين ألفاً.
أخبار معن بن
زائدةقال شراحيل بن معن بن زائدة: حج هارون الرشيد وزميله أبو يوسف القاضي، وكنت
كثيراً ما أسايره، إذ عرض له أعرابي من بني أسد فأنشده شعراً مدحه فيه وأفرط؛ فقال
له هارون: ألم أنهك عن مثل هذا في مدحك يا أخا بني أسد؟ إذا قلت فينا فقل كقول
القائل في أب هذا:
بنو مطر يوم اللقاء
كأنهم ... أسود لها في غيل خفان أشبل
هم يمنعون الجار حتى
كأنما ... لجارهم بين السماكين منزل
بهاليل في الإسلام
سادوا ولم يكن ... كأولهم في الجاهلية أول
وما يستطيع الفاعلون
فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات وأجملوا
هم القوم إن قالوا
أصابوا وإن دعوا ... أجابوا إن أعطوا أطابوا وأجزلوا
هم القوم إن قالوا
أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وأن أعطوا أطابوا وأجزلوا
خالد بن عبد الله
القسريوهو الذي يقول فيه الشاعر:
إلى خالد حتى أنحن
بخالد ... فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل
بينما خالد بن عبد
الله القسري جالس في مظلة له إذ نظر إلى أعرابي يخب به بعيره مقبلاً نحوه، فقال
لحاجبه: إذا قدم فلا تحجبه. فلما قدم أدخله عليه فلم وقال:
أصلحك الله قل ما
بيدي ... فما أطيق العيال إذ كثروا
أناخ دهر ألقى بكلكله
... فأرسلوني إليك وانتظروا
فقال خالد: أرسلوك
وانتظروا؟ والله لا تنزل حتى تنصرف إليهم بما يسرهم، وأمر له بجائزة عظيمة وكسوة
شريفة.
عدي بن حاتمدخل عليه
ابن دارة فقال: إني مدحتك؟ قال: أمسك حتى آتيك بمالي، ثم امدحني على حسبه، فإني
أكره ألا أعطيك ثمن ما تقول، لي ألف شاة وألف درهم وثلاثة أعبد وثلاث إماء وفرسي
هذا حبس في سبيل الله، فامدحني على حسب ما أخبرتك. فقال:
تحن قلوصى في معد
وإنما ... تلاقي الربيع في ديار بني ثعل
وأبقى الليالي من عدي
بن حاتم ... حساماً كنصل السيف سل من الخلل
أبوك جواد لا يشق
غباره ... وأنت جواد ما تعذر بالعلل
فإن تتقوا شراً
فمثلكم اتقى ... وإن تفعلوا خيراً فمثلكم فعل
قال له عدي: أمسك لا
يبلغ مالي أكثر من هذا.
أصفاد الملوك على
المدحسعيد بن مسلم الباهلي قال: قدم على الرشيد أعرابي من باهلة وعليه جبة حبرة
ورداء يمان، قد شده على وسطه، ثم ثناه على عاتقه، قد عصها على فوديه، وأرخى لها
عذبة من خلفه. فمثل بين يدي الرشيد. فقال سعيد: يا أعرابي. خذ في شرف أمير المؤمنين. فاندفع في شعره. فقال الرشيد: يا
أعرابي، أسمعك مستحسناً وأنكرك متهماً، فقل لنا بيتين في هذين - يعني محمداً
الأمين وعبد الله المأمون ابنيه وهما عن حفافيه - فقال: يا أمير المؤمنين، حملتني
على الوعر القردد، ورجعتني عن السهل الجدد، روعة الخلافة، وبهر الدرجة، ونفور
القوافي على البديهة، فأرودني تتألف لي نوافرها، ويسكن روعي. قال: قد فعلت: وجعلت
اعتذارك بدلاً من امتحانك. قال: يا أمير المؤمنين، نفست الخناق، وسهلت ميدان
السباق؛ فأنشأ يقول:
بنيت لعبد الله ثم
محمد ... ذرى قبة لإسلام فاخضر عودها
هما طنباها بارك الله
فيهما ... وأنت أمير المؤمنين عمودها
فقال الرشيد: وأنت يا
أعرابي، بارك الله فيك، فسل ولا تكن مسألتك دون إحسانك. قال: الهنيدة يا أمير المؤمنين. فأمر له بمائة ناقة وسبع خلع.
وقال مروان بن أبي
حفصة: دخلت على المهدي فاستنشدني؛ فأنشدته الشعر الذي أقول فيه:
طرقتك زائرة فحي
خيالها ... بيضاء تخلط بالحياء دلالها
قادت فؤادك فاستقاد
ومثلها ... قاد القلوب إلى الصبا فأمالها
حتى انتهيت إلى قولي:
شهدت من الأنفال آخر
آية ... بتراثهم فأردتم إبطالها
أوتجحدون مقالة عن
ربكم ... جبريل بلغها النبي فقالها
هل تطمسون من السماء
نجومها ... بأكفكم أو تسترون هلالها
قال: وأنشدته أيضاً
شعري الذي أقول فيه:
يا بن الذي ورث النبي
محمداً ... دون الأقارب من ذوي الأرحام
الوحي بين بنى البنات
وبينكم ... قطع الخصام فلات حين خصام
ما للنساء مع الرجال
فرضية ... نزلت بذلك سورة الأنعام
إني يكون وليس ذاك
بكائن ... لبني البنات وراثة الأعمام
ألغى سهامهم الكتاب
فحاولوا ... أن يشرعوا فيها بغير سهام
ظفرت بنو ساقي الحجيج
بحقهم ... وغررتم بتوهم الأحلام
قال مروان بن أبي
حفصة: فلما أنشدت المهدي الشعرين، قال: وجب حقك على هؤلاء - وعنده
جماعة من أهل البيت - قد أمرت لك بثلاثين ألفاً، وفرضت على موسى خمسة آلاف، وعلى
هارون مثلها، وعلى علي أربعة آلاف، وعلى العباس كذا، وعلى فلان كذا. فحسبت سبعين
ألفاً. قال: فأمر بالثلاثين ألفاً فأتي بها، ثم قال: اغد على هؤلاء، وخذ ما فرضت
لك، فأتيت موسى، فأمر لي بخمسة آلاف، وأتيت هارون فأمر لي بمثلها، وأتيت علياً،
قال: قصر بي دون إخوتي فلن أقصر بنفسي، فأمر لي بخمسة آلاف، فأخذت من الباقين
سبعين ألفاً.
ودخل أعشى ربيعة على
عبد الملك بن مروان وعن يمينه الوليد، وعن يساره سليمان. فقال له عبد الملك: ماذا بقي
يا أبا المغيرة؟ قال: مضى ما مضى وبقي ما بقي، وأنشأ يقول:
وما أنا في حقي ولا
في خصومتي ... بمهتضم حقي ولا قارع سني
ولا مسلم مولاي من
سوء ما جنى ... ولا خائف مولاي من سوء ما أجني
وفضلى في الأقوال
والشعر أنني ... أقول الذي أعني وأعرف ما أعني
وأن فؤادي بين جنبي
عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وإني وإن فضلت مروان
وابنه ... على الناس قد فضلت خير أب وابن
فضحك عبد الملك، وقال
للوليد وسليمان: أتلوماني على هذا؟ وأمر له بعشرة آلاف.
العتبي قال: دخل
الفرزدق على عبد الرحمن الثقفي بن أم الحكم، فقال له عبد الرحمن: أبا
فراس، دعني من شعرك الذي لا يأتي آخره حتى ينسى أوله، وقل في بيتين يعلقان أفواه
الرواة، وأعطيكها عطية لم يعطكها أحد قبلي. فغدا عليه وهو يقول:
وأنت ابن بطحاوي قريش
فإن تشأ ... تكن في ثقيف سيل ذي حذب غمر
وأنت ابن فرع ماجد
لعقيلة ... تلقت له الشمس المضيئة بالبدر
قال: أحسنت. وأمر له
بعشرة آلاف.
أبو سويد قال: أخبرني
الكوفي قال: اعترض الفضل بن يحيى بن خالد في وقت خروجه إلى خراسان فتى من التجار
كان شخص إلى الكوفة فقطع به وأخذ جميع ما كان معه، فأخذ بعنان دابة الفضل وقال:
سأرسل بيتاً ليس في
الشعر مثله ... يقطع أعناق البيوت الشوارد
أقام الندى والبأس في
كل منزل ... أقام به الفضل بن يحيى بن خالد
قال فأمر له بمائة
ألف درهم.
العتبي: قال أبو
الجنوب مروان بن أبي حفصة أبياتاً ورفعها إلى زبيدة بنت جفعر يمتدح ابنها محمداً،
وفيها يقول:
لله درك يا عقيلة
جعفر ... ماذا ولدت من العلا والسودد
إن الخلافة قد تبين
نورها ... للناظرين على جبين محمد
فأمرت أن يملأ فمه
دراً.
وقال الحسن بن رجاء
الكاتب: قدم علينا علي بن جبلة إلى عسكر الحسن ابن سهل والمأمون هناك بانياً على
خديجة بنت الحسن بن سهل، المعروفة ببوران، ونحن إذ ذاك نجري على نيف وسبعين ألف
فلاح، وكان الحسن بن سهل مع المأمون يتصبح، فكان الحسن يجلس للناس إلى وقت
انتباهه. فلما قدم علي ابن جبلة نزل بي، فقلت له، قد قوي شغل الأمير. قال: إذاً لا
أضيع معك. قلت: أجل. فدخلت على الحسن بن سهل في وقت ظهوره فأعلمته مكانه. فقال:
ألا ترى ما نحن فيه؟ فقلت: لست بمشغول عن الأمر له. فقال: يعطى عشرة آلاف إلى أن نتفرغ له.
فأعلمت علي بن جبلة. فقال في كلمة له:
أعطيتني يا ولي الحق
مبتدئاً ... عطية كافأت حمدي ولم ترني
ما شمت برقك حتى نلت
ريقه ... كأنما كنت بالجدوى تبادرني
عرض رجل لابن طوق،
وقد خرج متنزهاً في الرحبة، فناوله رقعة فيها جميع حاجته، فأخذها فإذا فيها:
جعلتك دنياي فإن أنت
جدت لي ... بخير وإلا فالسلام على الدنيا
فقال: والله لأصدقن
ظنك. فأعطاه حتى أغناه.
عرض دعبل بن علي
الشاعر لعبد الله بن طاهر الخراساني، وهو راكب في حراقة له في دجلة، فأشار إليه
برقعة، فأمر بأخذها فإذا فيها:
عجبت لحراقة بن
الحسين ... كيف تسير ولا تغرق
وبحران: من تحتها ...
واحد وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها
... إذا مسها كيف لا تورق
فأمر له بخمسة آلاف
درهم وجارية وفرس.
وخرج عبد الله بن
طاهر، فتلقاه دعبل برقعة فيها:
طلعت قناتك بالسعادة
فوقها ... معقودة بلواء ملك مقبل
تهتز فوق طريدتين
كأنما ... تهفو يقص لها جناحاً أجدل
ربح البخيل على
احتيال عرضه ... بندى يديك ووجهك المتهلل
لو كان يعلم أن نيلك
عاجل ... ما فاض منه جدول في جدول
فأمر له بخمسة آلاف.
ووقف رجل من الشعراء
إلى عبد الله بن طاهر فأنشده:
إذا قيل أي فتى
تعلمون ... أهش إلى البأس والنائل
وأضرب للهام يوم
الوغى ... وأطعم في الزمن الماحل
أشار إليك جميع
الأنام ... إشارة غرقى إلى ساحل
فأمر له بخمسين ألف
درهم.
أحمد بن مطير قال:
أنشدت عبد الله بن طاهر أبياتاً كنت مدحت بها بعض الولاة، وهي:
له يوم بؤس فيه للناس
أبؤس ... ويوم نعيم فيه للناس أنعم
فيقطر يوم الجود من
كفه الندى ... ويقطر يوم البؤس من كفه الدم
فلو أن يوم البؤس لم
يثن كفه ... عن الناس لم يصبح على الأرض محرم
ولو أن يوم الجود فرغ
كفه ... لبذل الندى ما كان بالأرض معدم
فقال لي عبد الله: كم
أعطاك؟ قلت خمسة آلاف؛ قال: فقبلتها؟ قلت: نعم، قال لي: أخطأت، ما ثمن هذه إلا
مائة ألف.
ودخل حماد عجرد على
أبي جعفر بعد موت أبي العباس أخيه فأنشده:
أتوك بعد أبي العباس
إذ بانا ... يا أكرم الناس أعراقاً وعيدانا
لو مج عود على قوم
عصارته ... لمج عودك فينا الشهد والبانا
فأمر له بخمسة آلاف
درهم.
القحذمي قال:
جاء موسى شهوات إلى
سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، فقال: إن هنا جارية تعشقتها، وأبوا أن ينقصوني عن
مائتى دينار. فقال: بورك فيه. فذهب إلى سعيد بن خالد بن أسيد، وأمه عائشة بنت طلحة
الطلحات، فدعا بمطرف خز فبسطه وعقد في كل ركن من أركانه مائة دينار، وقال لموسى:
خذ المطرف بما فيه، فأخذه، ثم غدا عليه فأنشده:
أبا خالد أعني سعيد
بن خالد ... أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
عميد الندى ما عاش
يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بعميد
دعوه دعوه إنكم قد
رقدتم ... وما هو عن أحسابكم برقود
العتبي: سمعت عمي
ينشد لأبي العباس الزبيري:
وكل خليفة وولي عهد
... لكم يا آل مروان الفداء
إمارتكم شفاء حيث
كانت ... وبعض إمارة الأقوام داء
فأنتم تحسنون إذا
ملكتم ... وبعض القوم إن ملكوا أساءوا
أأجعلكم وغيركم سواء
... وبينكم وبينهم الهواء
هم أرض لأرجلكم وأنتم
... لأيديهم وأرجلهم سماء
فقلت له: كم أعطي
عليها؟ قال: عشرين ألفاً.
الأصمعي قال: حدثني
رؤبة قال: دخلت على أبي مسلم صاحب الدعوة، فلما أبصرني نادى: يا رؤبة، فأجبته:
لبيك إذ دعوتني لبيكا
... أحمد رباً ساقني إليكا
الحمد والنعمة في
يديكا
قال: بل في يدي الله
تعالى. قلت له: وأنت إذا أنعمت أجدت. ثم قلت: يأذن لي الأمير في الإنشاد؟ قال:
نعم، فأنشدته:
ما زال يأتي الملك من
أقطاره ... وعن يمينه وعن يساره
مشمراً لا يصطلى
بناره ... حتى أقر الملك في قراره
فقال: يا رؤية،
إنك أتيتنا وقد شف المال واستنفده الإنفاق، وقد أمرنا لك بجائزة وهي تافهة يسيرة،
ومنك العود وعلينا المعول، والدهر أطرق مستتب فلا تجعل بيننا وبينك الأسدة. قال
رؤبة: فقلت: الذي أفادني الأمير من كلامه أكثر من الذي أفادني من ماله.
ودخل نصيب بن رباح
على هشام فأنشده:
إذا استبق العلا
سبقتهم ... يمينك عفواً ثم صلت شمالك
فقال هشام: بلغت غاية
المدح فسلني. فقال: يا أمير المؤمنين، يداك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة؟ قال:
لا بد أن تفعل؟ قال: لي ابنة نفضت عليها من سوادي فكسدها فلو أنفقها أمير المؤمنين
بشيء يجعله لها؟ قال: فأقطعها أرضاً، وأمر لها بحلي وكسوة فنفقت السوداء.
الرياشي عن الأصمعي،
قال: مدح نصيب بن رباح عبد الله بن جعفر، فأمر له بمال كثير، وكسوة شريفة، ورواحل
موقرة براً وتمراً. فقيل له: أتفعل هذا بمثل هذا العبد الأسود؟ قال: أما لئن كان عبداً
إن شعره في لحر، ولئن كان أسود إن ثناءه لأبيض، وإنما أخذ مالاً يفنى، وثياباً
تبلى، ورواحل تنضى، وأعطى مديحاً يروى، وثناء يبقى.
وذكروا عن أبي النجم
العجلي أنه أنشد هشاماً شعره الذي يقول فيه:
الحمد لله الوهوب
المجزل
وهو من أجود شعره،
حتى انتهى إلى قوله:
والشمس في الجو كعين
الأحول
وكان هشام أحول،
فأغضبه ذلك، فأمر به فطرد. فأمل أبو النجم رجعته، فكان يأوي إلى المسجد. فأرق هشام
ذات ليلة فقال لحاجبه: ابغنى رجلاً عربياً فصيحاً يحدثني وينشدني. فطلب له ما سأل،
فوجد أبا النجم، فأتى به. فلما دخل عليه قال: أين تكون منذ أقصيناك؟ قال: حيث
ألفاني رسولك. قال: فمن كان أب النجم أبا مثواك؟ قال: رجلين أتغدى عند أحدهما
وأتعشى عند الآخر. قال: فما لك من الولد؟ قال: ابنتان. قال: أزوجتهما؟ قال: زوجت
إحداهما. قال: فبم أوصيتها ليلة أهديتها؟ قال: قلت لها:
سبي الحماة وابهتي
عليها ... وإن أبت فازدلفي إليها
ثم اقرعي بالعود
مرفقيها ... وجددي الخلف به عليها
قال: هل أوصيتها بعد
هذا؟ قال: نعم:
أوصيت من برة قلباً
برا ... بالكلب خيراً والحماة شرا
لا تسأمي خنقاً لها
وجرا ... والحي عميهم بشر طرا
وإن كسوك ذهباً ودرا
... حتى يروا حلو الحياة مرا
قال هشام: ما هكذا
أوصى يعقوب ولده. قال أبو النجم: ولا أنا كيعقوب ولا ولدي كولده. قال: فما حال
الأخرى؟ قال: هي ظلامة التي أقول فيها:
كان ظلامة أخت شيبان
... يتيمة ووالداها حيان
الرأس قمل كله وصئبان
... وليس في الرجلين إلا خطيان
فهي التي يذعر منها
الشيطان
قال هشام لحاجبة: ما
فعلت بالدنانير التي أمرتك بقبضها؟ قال: هي عندي، وهمس خمسمائة دينار. قال له:
ادفعها لأبي النجم ليجعلها في رجلي ظلامة مكان الخيطين.
أبو عبيدة قال: حدثني
يونس بن حبيب قال: لما استخلف مروان بن محمد دخل الشعراء يهنئونه بالخلافة، فتقدم
إليه طريح بن إسماعيل الثقفي، خال الوليد بن يزيد، فقال: الحمد الله الذي أنعم بك
على الإسلام إماماً، وجعلك لأحكام دينه قوماً، ولأمة محمد المصطفى جنة ونظاماً، ثم
أنشده شعره الذي يقول فيه:
تسوء عداك في سداد
ونعمة ... خلافتنا تسعين عاماً وأشهرا
فقال مروان: كم
الأشهر؟ قال: وفاء المائة يا أمير المؤمنين، تبلغ فيها أعلى درجة وأسعد عاقبة في
النصرة والتمكين. فأمر له بمائة ألف درهم.
ثم تقدم إليه ذو
الرمة متحانياً كبرة قد انحلت عمامته منحدرة على وجهه، فوقف يسويها. فقيل له:
تقدم. قال: إني أجل أمير المؤمنين أن أخطب بشرفه مادحاً بلوثة عمامتي فقال مروان:
ما أملت أنه قد أبقت لنا منك مي ولا صيدح في كلامك إمتاعاً. قال: بلى والله يا
أمير المؤمنين، أرد منه قراحاً، والأحسن امتداحاً. ثم تقدم فأنشد شعراً يقول فيه:
فقلت لها سيري أمامك
سيد ... تفرع من مروان أو من محمد
فقال له: ما فعلت مي؟
فقال: طويت غدائرها ببرد بلى، ومحا الترب محاسن الخد فالتفت مروان إلى العباس بن
الوليد، فقال: أما ترى القوافي تنثال انثيالاً، يعطى بكل من سمى من آبائي ألف
دينار. قال ذو الرمة: لو علمت لبلغت به عبد شمس.
الربيع حاجب المنصور
قال: قلت يوماً للمنصور: إن الشعراء ببابك وهم كثيرون طالت أيامهم، ونفدت نفقاتهم.
قال: أخرج إليهم فاقرأ عليهم السلام وقل لهم: من مدحني منكم فلا يصفني بالأسد،
فإنما هو كلب من الكلاب، ولا بالحية، فإنما هي دويبة منتنة تأكل التراب، ولا
بالجبل، فإنما هو حجر أصم، ولا بالبحر، فإنما هو غطامط لجب، ومن ليس في شعره هذا
فليدخل ومن كان في شعره هذا فلينصرف فانصرفوا كلهم إلا إبراهيم بن هرمة، فإنه قال
له: أنا له يا ربيع، فأدخلني. فأدخله، فلما مثل بين يديه، قال المنصور يا ربيع، قد
علمت أنه لا يجيبك أحد غيره، هات يا بن هرمة. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
له لحظات عن حفافى
سريره ... إذا كرها فيها عذاب ونائل
لهم طينة بيضاء من آل
هاشم ... إذا أسود من كوم التراب القبائل
إذا ما أبي شيئاً مضى
كالذي أبى ... وإذا قال إني فاعل فهو فاعل
فقال: حسبك،
هاهنا بلغت، هذا عين الشعر، قد أمرت لك بخمسة آلاف درهم. فقمت إليه وقبلت رأسه
وأطرافه ثم خرجت؛ فلما كدت أن أخفى على عينيه سمعته يقول: يا إبراهيم. فأقبلت إليه
فزعاً، فقلت: لبيك، فداك أبي وأمي. قال: احتفظ بها فليس لك عندنا غيرها. فقلت:
بأبي وأمي أنت، أحفظها حتى أوافيك بها على الصراط بخاتم الجهبذ.
علي بن الحسين قال:
أنشد علي بن الجهم جعفراً المتوكل شعره الذي أوله:
هي النفس ما حملتها
تتحمل
وكان في يد المتوكل
جوهرتان. فأعطاه التي في يمينه، فأطرق متفكراً في شيء يقوله ليأخذ التي في يساره.
فقال: مالك مفكراً؟ إنما تفكر فيما تأخذ به الأخرى خذها لا بورك لك فيها. فأنشأ
يقول:
بسر من رى إمام عدل
... تغرف من بحره البحار
يرجى ويخشى لكل أمر
... كأنه جنة ونار
الملك فيه وفي بنيه
... ما اختلف الليل والنهار
يداه في الجود ضرتان
... عليه كلتاهما تغار
لم تأت منه اليمين
شيئاً ... إلا أتت مثله اليسار
وقال آخر في الهول:
إذا سألت الندى عن كل
مكرمة ... لم تلف نسبتها إلا إلى الهول
لو زاحم الشمس ألفى
الشمس مظلمة ... أو زاحم الصم ألجاها إلى الميل
أمضى من الدهر إن
نابته نائبة ... وعند أعدائه أمضى من السيل
ودخل شاعر من أهل
الري يقال له أبو يزيد على عبد الله بن طاهر صاحب خراسان فأنشده:
اشرب هنيئاً عليك
التاج مرتفقاً ... من شاذياخ ودع غمدان لليمن
فأنت أولى بتاج الملك
تلبسه ... من هوذة بن علي وابن ذي يزن
فأمر له بعشر آلاف
درهم.
ودخلت ليلى الأخيلية
على الحجاج فأنشدته:
إذا ورد الحجاج أرضاً
مريضة ... تتبع أقصى دائها فشفاها
شفاها من الداء
العضال الذي بها ... غلام إذا هز القناة سقاها
فقال لها: لا تقولي
غلام، ولكن قولي: همام. ثم قال: أي النساء أحب إليك أنزلك عندها؟ قال: ومن نساؤك
أيها الأمير؟ قال أم الجلاس بنت المهلب بنت سعيد بن العاص الأموية، وهند بنت أسماء
من خارجة الفزارية، وهند بنت المهلب بن أبي صفرة العتكية. قالت: القيسية أحب إلي.
فلما كان من الغد دخلت عليه. قال: يا غلام، أعطها خمسمائة. قالت: أيها الأمير،
أحسبها أدما. قال قائل: إنما أمر لك بشاء قالت: الأمير أكرم من ذلك. فجعلها إبلاً
إناثا على استحياء، وإنما كان أمر لها بشاء أولاً.
كتاب الجمانة في
الوفودقال الفقيه أبو عمر أحمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الأجواد والأصفاد على
مراتبهم ومنازلهم، وما جروا عليه، وما ندبوا إليه، من الأخلاق الجميلة، والأفعال
الجزيلة؛ ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي صلى الله
عليه وسلم، وعلى الخلفاء والملوك، فإنها مقامات فضل، ومشاهد حفل يتخير لها الكلام،
وتستهذب الألفاظ، وتستجزل المعاني. ولا بد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم
الذي عن قوته ينزعون، وعن رأيه يصدرون؛ فهو واحد يعدل قبيلة، ولسان يعرب عن ألسنة.
وما ظنك بوافد قوم يتكلم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم أو خليفته، أو بين يدي
ملك جبار في رغبة أو رهبة، فهو يوطد لقومه مرة، ويتحفظ ممن أمامه أخرى؛ أتراه
مدخراً نتيجة من نتائج الحكمة، أو مستبقياً غريبة من غرائب الفطنة، أم تظن القوم
قدموه لفضل هذه الخطة إلا وهو عندهم في غاية الحذلقة واللسن، ومجمع الشعر
والخطابة. ألا ترى أن قيس بن عاصم المنقري لما وفد على النبي صلى الله عليه وسلم،
بسط له رداءه وقال: هذا سيد الوبر. ولما توفي قيس بن عاصم قال فيه الشاعر:
عليك سلام الله قيس
بن عاصم ... ورحمته ما شاء أن يترحما
تحية من ألبسته منك
نعمة ... إذا زار عن شحط بلادك سلما
وما كان قيس هلكه هلك
واحد ... ولكنه بنيان قوم تهدما
وفود العرب على
كسرىابن القطامي عن الكلبي قال:
قدم النعمان بن
المنذر على كسرى وعنده وفود الروم والهند والصين، فذكروا من ملوكهم وبلادهم،
فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جميع الأمم، لا يستثنى فارس ولا غيرها. فقال
كسرى - وأخذته عزة الملك - يا نعمان، لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأمم،
ونظرت في حال من يقدم علي من وفود الأمم، فوجدت الروم لها حظ في اجتمع ألفتها،
وعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، ووثيق بنيانها، وأن لها ديناً يبين حلالها وحرامها،
ويرد سفيهها، ويقيم جاهلها؛ ورأيت الهند نحواً من ذلك في حكمتها وطبها، مع كثرة
أنهار بلادها وثمارها، وعجيب صناعاتها، وطيب أشجارها، ودقيق حسابها، وكثرة عددها؛
وكذلك الصين في اجتماعها، وكثرة صناعات أيديها في آلة الحرب وصناعة الحديد،
وفروسيتها وهمتها، وأن لها ملكاً يجمعها، والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال
في المعاش، وقلة الريف والثمار والحصون، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس،
لهم ملوك تضم قواصيهم، وتدبر أمرهم؛ ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير في أمر دين
ولا دنيا، ولا حزم ولا قوة؛ مع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها، محلتهم
التي هم بها مع الوحوش النافرة، والطيرة الحائرة؟ يقتلون أولادهم من الفاقة، ويأكل
بعضهم بعضاً من الحاجة؟ قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ولهوها ولذتها، فأفضل
طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع، لثقلها وسوء طعمها
وخوف دائها؛ وإن قرى أحدهم ضيفاً عدها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدها غنيمة؛ تنطق بذلك
أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها، وشد
مملكتها، ومنعها من عدوها، فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا؛ وإن لها مع ذلك آثاراً ولبوساً،
وقرى وحصوناً، وأموراً تشبه بعض أمور الناس - يعني اليمن. ثم لا أراكم تستكينون
على ما بكم من الذلة والقلة، والفاقة والبؤس، حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق
مراتب الناس.
قال النعمان: أصلح
الله الملك، حق لأمة منها أن يسموا فضلها، ويعظم خطبها، وتعلو درجتها، إلا أن عندي
جواباً في كل ما نطق به الملك، وفي غير رد عليه ولا تكذيب له، فإن أمنني من غضبه نطقت
به. قال كسرى: قل، فأنت آمن.
قال النعمان: أما
أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل، لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها،
وبسطة محلها، وبحبوحة عزها، وما أكرمها الله به من ولاية آبائك وولايتك. وأما الأمم
التي ذكرت، فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها. قال كسرى: بماذا؟ قال النعمان:
بعزها ومنعتها وحسن رجوا وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائه.
فأما عزها ومنعتها،
فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دوخوا البلاد، ووطدوا الملك، وقادوا الجند، لم
يطمع فيهم طامع، ولم ينلهم نائل، حصونهم ظهور خيلهم، ومهادهم الأرض، وسقوفهم
السماء، وجبنتهم السيوف، وعدتهم الصبر؛ إذ غيرها من الأمم، إنما عزها الحجارة
والطين وجزائر البحور.
وأما حسن وجوهها
وألوانها، فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة، والصين المنحفة،
والترك المشوهة، والروم المقشرة.
وأما أنسابها
وأحسابها، فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها، حتى
إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنياً، فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا
يسمي آباءه أباً فأباً، حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في
غير قومه، ولا ينتسب إلى غير نسبه، ولا يدعى إلى غير أبيه.
وأما سخاؤها، فإن
أدناهم رجلاً الذي تكون عنده البكرة والناب، عليها بلاغه في حموله وشبعه وريه،
فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتزئ بالشربة، فيعقرها له، ويرضى أن يخرج عن
دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر.
وأما حكمة ألسنتهم،
فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنه ووزنه وقوافيه، مع معرفتهم
بالأشياء، وضربهم للأمثال، وإبلاغهم في الصفات، ما ليس لشيء من ألسنة الأجناس. ثم خيلهم
أفضل الخيل، ونساؤهم أعف النساء، ولباسهم أفضل اللباس، ومعادنهم الذهب والفضة،
وحجارة جبلهم الجزع، ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفر.
وأما دينها وشريعتها،
فإنهم متمسكون به، حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً، وبلداً
محرماً، وبيتاً محجوجاً، ينسكون فيه مناسكهم، ويذبحون فيه ذبائحهم، فيلقى الرجل
قاتل أبيه أو أخيه، وهو قادر على أخذ ثأره وإدراك رغبته منه، فيحجزه كرمه، ويمنعه دينه
عن تناوله بأذى.
وأما وفاؤها، فإن
أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماءة فهي ولث وعقدة لا يحلها إلى خروج نفسه. وإن
أحدهم ليرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه، فلا يغلق رهنه، ولا تخفر ذمته؛ وإن
أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به، وعسى أن يكون نائياً عن داره، فيصاب، فلا يرضى
حتى يفني تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى قبيلته، لما خفر من جواره؛ وإنه ليلجأ
إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة، فتكون أنفسهم دون نفسه، وأموالهم دون
ماله.
وأما قولك أيها
الملك: يئدون أولادهم؛ فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من
الأزواج.
أما قولك: إن أفضل
طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها؛ فما تركوا ما دونها إلا احتقاراً له، فعمدوا
إلى أجلها وأفضلها، فكانت مراكبهم وطعامهم؛ مع أنها أكثر البهائم شحوماً، وأطيبها
لحوماً، وأرقها ألباناً، وأقلها غائلة، وأحلاها مضغة؛ وإنه لا شيء من اللحمان
يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما تحاربهم وأكل
بعضهم بعضاً، وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعه؛ فإنما يفعل ذلك من يفعله من
الأمم إذا أنست من نفسها ضعفاً، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف، وإنه إنما يكون
في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم،
وينقادون لهم بأزمتهم؛ وأما العرب، فإن ذلك كثير فيهم، حتى لقد حاولوا أن يكونوا
ملوكاً أجمعين، مع أنفتهم من أداء الخراج والوطف بالعسف.
وأما اليمن التي
وصفها الملك، فإنما أتى جد الملك الذي أتاه عند غلبة الحبش له، على ملك متسق، وأمر
مجتمع، فأتاه مسلوباً طريداً مستصرخاً. قد تقاصر عن إيوائه، وصغر في عينه ما شيد
من بناءه؛ ولولا ما وتر به من يليه من العرب، لمال إلى مجال، ولوجد من يجيد
الطعان، ويغضب للأحرار، من غلبة العبيد الأشرار.
قال: فعجب
كسرى لما أجابه النعمان به، وقال: إنك لأهل لموضعك من الرياسة في أهل إقليمك ولما
هو أفضل. ثم كساه كسوته، وسرحه إلى موضعه من الحيرة.
فلما قدم النعمان
الحيرة وفي نفسه ما فيهم مما سمع من كسرى من تنقص العرب وتهجين أمرهم، بعث إلى
أكثم بن صيفي وحاجب بن زرارة، التميميين وإلى الحارث بن عباد وقيس بن مسعود،
البكريين، وإلى خالد بن جعفر وعلقمة ابن علاثة وعامر بن الطفيل، العامريين، وإلى
عمرو بن الشريد السلمي، وعمرو ابن معد يكرب الزبيدي، والحارث بن ظالم المري. فلما
قدموا عليه في الخورنق، قال لهم: قد عرفتم هذه الأعاجم وقرب جوار العرب منها، وقد
سمعت من كسرى مقالات تخوفت أن يكون لها غور، أو يكون إنما أظهرها لأمر أراد أن
يتخذ به العرب خولاً كبعض طماطمته في تأديتهم الخراج إليه، كما يفعل بملوك الأمم
الذين حوله، فاقتص مقالات كسرى وما رد عليه. فقالوا: أيها الملك، وفقك الله، ما
أحسن ما رددت، وأبلغ ما حججته به! فمرنا بأمرك، وادعنا إلى ما شئت. قال: إنما أنا
رجل منكم، وإنما ملكت وعززت بمكانكم، وما يتخوف، من ناحيتكم، وليس شيء أحب إلي مما
سدد الله أمركم، وأصلح به شأنكم، وأدام به عزكم؛ والرأي أن تسيروا بجماعتكم أيها
الرهط وتنطلقوا إلى كسرى، فإذا دخلتم نطق كل رجل منكم بما حضره، ليعلم أن العرب
على غير ما ظن أو حدثته نفسه، ولا ينطق رجل منكم بما يغضبه، فإنه ملك عظيم
السلطان، كثير الأعوان، مترف معجب بنفسه؛ ولا تنخزلوا له انخزال الخاضع الذليل،
وليكن أمر بين ذلك تظهر به وثاقة حلومكم، وفضل منزلتكم، وعظمة أخطاركم؛ وليكن أول
من يبدأ منكم بالكلام أكثم بن صيفي، لسني محله، ثم تتابعوا على الأمر من منازلكم
التي وضعتكم بها؛ وإنما دعاني إلى التقدمة بينكم علمي بميل كل رجل منكم إلى التقدم
قبل صاحبه فلا يكونن ذلك منكم فيجد في آدابكم مطعناً، فإنه ملك مترف، وقادر مسلط.
ثم دعا لهم بما في خزانته من طرائف حلل الملوك، كل رجل منهم حلة، وعممه عمامة
وختمه بياقوته، وأمر لكل رجل منهم بنجيبة مهرية وفرس نجيبة، وكتب معهم كتاباً:
أما بعد، فإن الملك
ألقى إلي من أمر العرب ما قد علم، وأجبته بما قد فهم، بما أحببت أن يكون منه على
علم، ولا يتلجلج في نفسه أن أمة من الأمم التي احتجزت دونه بمملكتها، وحمت ما
يليها بفضل قوتها، تبلغها في شيء من الأمور التي يتعزز بها ذوو الحزم والقوة
والتدبير والمكيدة، وقد أوفدت أيها الملك رهطاً من العرب لهم فضل في أحسابهم
وأنسابهم، وعقولهم وآدابهم، فليسمع الملك، وليغمض عن جفاء إن ظهر من منطقهم،
وليكرمني بإكرامهم، وتعجيل سراحهم، وقد نسبتهم في أسفل كتابي هذا إلى عشائرهم.
فخرج القوم في أهبتهم،
حتى وقفوا بباب كسرى بالمدائن، فدفعوا إليه كتاب النعمان، فقرأه وأمر بإنزالهم إلى
أن يجلس لهم مجلساً يسمع منهم. فلما أن كان بعد ذلك بأيام، أمر مرازبته ووجوه أهل
مملكته فحضروا وجلسوا على كراسي عن يمينه وشماله، ثم دعا بهم على الولاء والمراتب
التي وصفهم النعمان بها في كتابه، وأقام الترجمان ليؤدي إليه كلامهم، ثم أذن لهم
في الكلام.
فقام أكثم بن صيفي
فقال: إن أفضل الأشياء أعاليها، وأعلى الرجال ملوكها، وأفضل الملوك أعمها نفعاً،
وخير الأزمنة أخصبها، وأفضل الخطباء أصدقها. الصدق منجاة، والكذب مهواة، والشر
لجاجة، والحزم مركب صعب، والعجز مركب وطيء آفة الرأي الهوى، والعجز مفتاح الفقر،
وخير الأمور الصبر. حسن الظن ورطة، وسوء الظن عصمة. إصلاح فساد الرعية خير من
إصلاح فساد الراعي. من فسدت بطانته كان الغاص بالماء. شر البلاد بلاد لا أمير بها.
شر الملوك من خافه البريء. المرء يعجز لا المحالة. أفضل الأولاد البررة. خير الأعوان من لم يراء بالنصيحة.
أحق الجنود بالنصر من حسنت سريرته. يكفيك من الزاد ما بلغك المحل. حسبك من شر
سماعه. الصمت حكم وقليل فاعله. البلاغة الإيجاز. من شدد نفر، ومن تراخى تألف.
فتعجب كسرى من أكثم،
ثم قال: ويحك يا أكثم! ما أحكمك وأوثق كلامك لولا وضعك كلامك في غير موضعه! قال
أكثم: الصدق ينبئ عند لا الوعيد؛ قال كسرى: لو لم يكن للعرب غيرك لكفى؛ قال أكثم:
رب قول أنفذ من صول.
ثم قام حاجب بن زرارة
التميمي فقال: ورى زندك، وعلت يدك، وهيب سلطانك، إن العرب أمة قد غلظت أكبادها،
واستحصدت مرتها، ومنعت درتها؛ وهي لك وامقة ما تألفتها، مسترسلة ما لا ينتها،
سامعة ما سامحتها؛ وهي العلقم مرارة، والصاب غضاضة، والعسل حلاوة، والماء الزلال
سلاسة؛ نحن وفودها إليك، وألسنتها لديك، ذمتنا محفوظة، وأحسابنا ممنوعة، وعشائرنا
فينا سامعة مطيعة، وإن نؤب لك حامدين خيراً فلك بذلك عموم محمدتنا، وإن نذم لم
نختص بالذم دونها.
قال كسرى: يا حاجب،
ما أشبه حجر التلال بألوان صخرها؛ قال حاجب: بل زئير الأسد بصولتها؛ قال كسرى:
وذلك.
ثم قام الحارث بن
عباد البكري فقال: دامت لك المملكة باستكمال جزيل حظها، وعلو سنائها. من طال رشاؤه
كثر متحه، ومن ذهب ماله قل منحه. تناقل الأقاويل يعرف به اللب، وهذا مقام سيوجف
بما ينطق فيه الركب، وتعرف به كنه حالنا العجم والعرب؛ ونحن جيرانك الأدنون،
وأعوانك المعينون، خيولنا جمة، وجيوشنا فخمة؛ إن استنجدتنا فغير ربض، وإن
استطرقتنا فغير جهض، وإن طلبتنا فغير غمض، لا ننثني لذعر، ولا نتنكر لدهر؛ رمحنا
طوال، وأعمارنا قصار.
قال كسرى: أنفس
عزيزة، وأمة والله ضعيفة.
قال الحارث: أيها
الملك، وأنى يكون لضعيف عزة، أو لصغير مرة.
قال كسرى: لو قصر
عمرك لم تستول على لسانك نفسك.
قال الحارث: أيها
الملك، إن الفارس إذا حمل نفسه على الكتيبة، مغرراً بنفسه على الموت، فهي منية
استقبلها، وحياة استدبرها؛ والعرب تعلم أني أبعث الحرب قدماً وأحسبها وهي تصرف
بهم؛ حتى إذا جاشت نارها، وسعرت لظاها، وكشفت عن ساقها، جعلت مقادها رمحي، وبرقها
سيفي، ورعدها زئيري، ولم أقصر عن خوض خضاخضها، حتى انغمس في غمرات لججها، وأكون
فلكاً لفرساني إلى بحبوحة كبشها، فأستمطرها دماً، وأترك حماتها جزر السباع، وكل
نسر قشعم.
ثم قال كسرى لمن حضره
من العرب: أكذلك هو؟ قالوا: فعاله أنطق من لسانه. قال كسرى: ما رأيت كاليوم وفداً
أحشد، ولا شهوداً أوفد.
ثم قام عمرو بن
الشريد السلمي فقال: أيها الملك، نعم بالك، ودام في السرور حالك؛ إن عاقبة الكلام
متدبرة، وأشكال الأمور معتبرة، وفي كثير ثقلة، وفي قليل بلغة، وفي الملك سورة
العز. وهذا موطن له ما بعده، شرف فيه من شرف، وخمل فيه من خمل. لم نأت لضيمك، ولم
نفد لسخطك، ولم نتعرض لرفدك؛ إن في أموالنا مرتقداً، وعلى عزنا معتمداً؛ إن أورينا
ناراً أثقبنا، وإن أود دهر بنا اعتدلنا؛ إلا أنا مع هذا لجوارك حافظون، ولمن رامك
مكافحون؛ حتى يحمد الصدر، ويستطاب الخبر.
قال كسرى: ما يقوم قصد
منطقك بإفراطك، ولا مدحك بذمك.
قال عمرو: كفى بقليل
قصدي هادياً، وبأيسر إفراطي مخبراً. ولم يلم من عزفت نفسه عما يعلم، ورضي من القصد
بما بلغ.
قال كسرى: ما كل ما
يعرف المرء ينطق به، اجلس.
ثم قام خالد بن جعفر
الكلابي فقال: أحضر الله الملك إسعاداً، وأرشده إرشاداً؛ إن لكل منطق فرصة، ولكل
جابة غصة؛ وعي المنطق أشد عي السكوت، وعثار القول أنكى من عثار الوعث؛ وما فرصة
المنطق عندنا إلا بما نهوي، وغصة المنطق بما لا نهوي غير مستساغة، وتركي ما أعلم
من نفسي ويعلم من سمعني أنني له مطيق أحب إلي من تكلفي ما أتخوف ويتخوف مني؛ وقد
أوفدنا إليك ملكنا النعمان، وهو لك من خير الأعوان، ونعم حامل المعروف والإحسان
أنفسنا بالطاقة لك باخعة، ورقابنا بالنصيحة خاضعة، وأيدينا لك بالوفاء رهينة.
قال له كسرى: نطقت
بعقل، وسموت بفضل، وعلوت بنبل.
ثم قام علقمة بن
علانة العامري فقال: أنهجت لك سبل الرشاد، وخضعت لك رقاب العباد؛ إن للأقاويل
مناهج، وللآراء موالج، وللعويص مخارج؛ وخير القول أصدقه، وأفضل الطلب أنجحه؛ إنا
وإن كانت المحبة أحضرتنا، والوفادة قربتنا، فليس من حضرك منا بأفضل ممن عزب عنك،
بل لو قست كل رجل منهم، وعلمت منهم ما علمنا، لوجدت له في آبائه دنياً أنداداً
وأكفاء، كلهم إلى الفضل منسوب، وبالشرف والسودد موصوف، وبالرأي الفاضل والأدب
النافد معروف؛ يحمي حماه، ويروي نداماه، ويذود أعده؛ لا تخمد ناره، ولا يحترز منه
جاره. أيها الملك، من يبل العرب يعرف فضلهم فاصطنع العرب فإنها الجبال الرواسي
عزاً، والبحور طمياً، والنجوم الزواهر شرفاً، والحصى عدداً؛ فإن تعرف لهم فضلهم
يعزوك، وإن تستصرخهم لا يخذلوك.
قال كسرى - وخشي أن
يأتي منه كلام يحمله على السخط عليه - : حسبك، أبلغت وأحسنت.
ثم قام قيس بن مسعود
الشيباني فقال: أطاب الله بك المراشد، وجنبك المصائب، ووقاك مكروه الشصائب، ما
أحقنا إذا أتيناك بإسماعك، ما لا يحنق صدرك، ولا يزرع لنا حقداً في قلبك. لم نقدم
أيها الملك لمساماة، ولم ننتسب لمعاداة، ولكن لتعلم أنت ورعيتك ومن حضرك من وفود
الأمم أنا في المنطق غير محجمين، وفي البأس غير مقصرين، إن جورينا فغير مسبوقين،
وإن سومينا فغير مغلوبين.
قال كسرى: غير أنكم
إذا عاهدتم غير وافين، وهو يعرض به في تركه الوفاء بضمانه السواد.
قال قيس: أيها الملك،
ما كنت في ذلك إلا كواف غدر به، أو كخافر أخفر بذمته.
قال كسرى: ما يكون
لضعيف ضمان، ولا لذليل خفارة.
قال قيس: أيها الملك،
ما أنا فيها خفر من ذمتي، أحق بإلزامي العار منك فيما قتل من رعيتك، وانتهك من
حرمتك.
قال كسرى: ذلك لأن من
ائتمن الخانة واستنجد الأثمة ناله من الخطأ ما نالني، وليس كل الناس سواء؛ كيف
رأيت حاجب بن زرارة، لم يحكم قواه فيبرم، ويعهد فيوفي، ويعد فينجز؟ قال: وما أحقه
بذلك وما رأيته إلا لي.
قال كسرى: القوم بزل،
فأفضلها أشدها.
ثم قام عامر بن
الطفيل العامري فقال: كثر فنون المنطق، ولبس القول أعمى من حندس الظلماء؛ وإنما
الفخر في الفعال، والعز في النجدة، والسودد مطاوعة القدرة، وما أعلمك بقدرنا،
وأبصرك بفضلنا، وبالحري، إن أدالت الأيام وثابت الأحلام، أن تحدث لنا أموراً لها
أعلام.
قال كسرى: وما تلك
الأعلام؟ قال: مجتمع الأحياء من ربيعة ومضر، على أمر يذكر.
قال كسرى: وما الأمر
الذي يذكر؟ قال: ما لي علم بأكثر مما خبرني به مخبر.
قال كسرى: متى تكاهنت
يا بن الطفيل؟ قال: لست بكاهن، ولكني الرمح طاعن. قال كسرى: فإن أتاك آت من جهة
عينك العوراء ما أنت صانع؟ قال ما هيبتي في قفاي بدون هيبتي في وجهي، وما أذهب
عيني عيث، ولكن مطاوعة العبث.
ثم قام عمرو بن معد
يكرب الزبيدي فقال: إنما المرء بأصغريه: قلبه ولسانه؛ فبلاغ المنطق الصواب، وملاك
النجعة الارتياد، وعفو الرأي خير من استكراه الفكرة، وتوقف الخبرة خير من اعتساف
الحيرة؛ فاجتبذ طاعتنا بلفظك، واكتظم بادرتنا بحلمك، وألن لنا كنفك يسلس لك
قيادنا، فإنا أناس لم يوقس صفاتنا قراع مناقير من أراد لنا قضماً، ولكن منعنا
حمانا من كل من رام لنا هضماً.
ثم قام الحارث بن
ظالم المري فقال: إن من آفة المنطق الكذب، ومن لؤم الأخلاق الملق، وانقيادنا لك عن
تصاف؛ فما أنت لقبول ذلك منا بخليق، ولا للاعتماد عليه بحقيق؛ ولكن الوفاء
بالعهود، وإحكام ولث العقود؛ والأمر بيننا وبينك معتدل، ما لم يأت من قبلك ميل أو
زلل.
قال كسرى: من أنت؟
قال: الحارث بن ظالم؛ قال: إن في أسماء آبائك لدليلاً على قلة وفائك، وأن تكون
أولى بالغدر، وأقرب من الوزر.
قال الحارث: إن في
الحق مغضبة، والسرو التغافل، ولن يستوجب أحد الحلم إلا مع القدرة، فلتشبه أفعالك
مجلسك.
قال كسرى: هذا فتى
قوم. ثم قال كسرى: قد فهمت ما نطقت به خطباؤكم وتفنن فيه متكلموكم، ولولا أني أعلم
أن الأدب لم يثقف فيه أودكم، ولم يحكم أمركم، وأنه ليس لكم ملك يجمعكم فتنطقون
عنده منطق الرعية الخاضعة الباخعة، فنطقتم بما استولى على ألسنتكم، وغلب على
طباعكم، لم أجز لكم كثيراً مما تكلمتم به؛ وإني لأكره أن أجبه وفودي أو أخنق
صدورهم، والذي أحب هو إصلاح مداركم، وتألف شواذكم، والإعذار إلى الله فيما بيني
وبينكم، وقد قبلت ما كان في منطقهم من صواب، وصفحت عما كان فيه من خلل، فانصرفوا
إلى ملككم فأحسنوا موازرته، والتزموا طاعته، واردعوا سفهاءكم، وأقيموا أودهم،
وأحسنوا أدبهم، فإن في ذلك صلاح العامة.
وفود حاجب بن زرارة
على كسرىالعتبي عن
أبيه: إن حاجب بن زرارة وفد على كسرى لما منع تميماً من ريف العراق، فاستأذن
عليه، فأوصل إليه: أسيد العرب أنت؟ قال: لا؛ قال: فسيد مضر؛ قال: لا؛ قال: فسيد بني
أبيك أنت؟ قال: لا. ثم أذن له، فلما دخل عليه، قال له: من أنت؟ قال: سيد العرب؛
قال: أليس قد أوصلت إليك، أسيد العرب؟ فقلت لا، حتى اقتصرت بك على بني أبيك فقلت
لا؟ قال له: أيها الملك، لم أكن كذلك حتى دخلت عليك، فلما دخلت عليك صرت سيد
العرب؛ قال كسرى: آه، املئوا فاه دراً. ثم قال: إنكم معشر العرب غدر، فإن أذنت لكم أفسدتم البلاد، وأغرتم على العباد،
وآذيتموني. قال حاجب: فإني ضامن للملك أن لا يفعلوا؛ قال: فمن لي بأن تفي أنت؟ قال
أرهنك قوسي. فلما جاء بها ضحك من حوله وقالوا: لهذه العصا يفي! قال
كسرى: ما كان ليسلمها لي لشيء أبداً فقبضها منه، وأذن لهم أن يدخلوا الريف.
ومات حاجب بن زرارة،
فارتحل عطارد بن حاجب إلى كسرى يطلب قوس أبيه؛ فقال له: وقد وفى له قومه ووفى هو
للملك. فدرها عليه وكساه حلة.
فلما وفد إلى النبي
صلى الله عليه وسلم عطارد بن حاجب وهو رئيس تميم، وأسلم على يديه، أهداها للنبي
صلى الله عليه وسلم، فلم يقبلها، فقالوا: يا رسول الله، هلك قومك وأكلتهم الضبع،
يريدون الجوع - والعرب يسمون السنة الضبع والذئب. قال جرير: من ساقه السنة الحصاء
والذيب - فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأحيوا؛ وقد كان دعا عليهم، فقال:
اللهم اشدد وطأتك على مضر، وابعث عليهم سنين كسني يوسف.
وفود أبي سفيان
إلى كسرىالأصمعي قال: حدثنا
عبد الله بن دينار عن عبد الله بن بكر المري قال: قال أبو سفيان: أهديت
لكسرى خيلاً وأدماً فقبل الخيل ورد الأدم، وأدخلت عليه، فكان وجهه وجهين من عظمه،
فألقى إلي مخدة كانت عنده، فقلت: وا جوعاه! أهذه حظي من كسرى بن هرمز؟ قال: فخرجت
من عنده، فما أمر على أحد من حشمة إلا أعظمها، حتى دفعت إلى خازن له، فأخذها
وأعطاني ثمانمائة إناء من فضة وذهب.
قال الأصمعي: فحدثت
بهذا الحديث النوشجان الفارسي، فقال: كانت وظيفة المخدة ألفاً أن الخازن اقتطع
منها مائتين.
وفود حسان بن ثابت
على النعمان بن المنذر
قال: وفد حسان
بن ثابت على النعمان بن المنذر قال: فلقيت رجلاً ببعض الطريق، فقال لي: أين تريد؟
قلت: هذا الملك؛ قال: فإنك إذا جئته متروك شهراً ثم تترك شهراً آخراً، ثم عسى أن
يأذن لك، فإن أنت خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيراً، وإن رأيت أبا أمامة
النابغة فاظغن، فإنه لا شيء لك. قال: فقدمت عليه ففعل بي ما قال: ثم خلوت به وأصبت
مالاً كثيراً ونادمته. فبينما أنا معه إذا رجل يرتجز حول القبة ويقول:
أنام أم يسمح رب
القبة ... يا أوهب الناس لعنس صلبه
ضرابة بالمشفر الأذبة
... ذات نجاء في يديها جذبه
فقال النعمان: أبو
أمامة! ائذنوا له. فدخل فحياه وشرب معه، ووردت النعم السود؛ ولم يكن لأحد من العرب
بعير أسود غيره، ولا يفتحل أحد فحلاً أسود. فاستأذنه النابغة في الإنشاد فأذن له،
فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
فإنك شمس والملوك
كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
فأمر له بمائة ناقة
من الإبل السود برعاتها. فما حسدت أحداً قط حسدي له في شعره وجزيل عطائه.
وفود قريش على سيف بن
ذي يزن
بعد قتله الحبشةنعيم
بن حماد قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري قال: قال ابن عباس: لما
ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم، أتته وفود
العرب وأشرافها وشعراؤها تهنئه وتمدحه وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه.
فأتاه وفد قريش، فيهم: عبد المطلب بن هاشم، وأمية بن عبد شمس، وأسد بن عبد العزى،
وعبد الله بن جدعان، فقدموا عليه وهو في قصر له يقال غمدان - وله يقول أبو الصلت،
والد أمية بن أبي الصلت:
ليطلب الثأر، أمثال
ابن ذي يزن ... لجج في البحر للأعداء أحوالا
أني هرقل وقد شالت
نعامته ... فلم يجد عنده القول الذي قالا
ثم انثنى نحو كسرى
بعد تاسعة ... من السنين لقد أبعدت إيغالا
حتى أتى ببني الأحرار
يقدمهم ... إنك عمري لقد أسرعت إرقالا
من مثل كسرى وبهرام
الجنود له ... ومثل وهرز يوم الجيش إذ جالا
لله درهم من عصبة
خرجوا ... ما إن رأينا لهم في الناس أمثالا
صيداً جحاجحة بيضاً
خضارمة ... أسداً تربب في الغابات أشبالا
أرسلت أسداً على سود
الكلاب فقد ... غادرت أوجههم في الأرض أفلالا
اشرب هنيئاً عليك
التاج مرتفقاً ... في رأس غمدان داراً منك محلالا
ثم اطل بالمسك إذ
شالت نعامتهم ... وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان
من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
فطلبوا الإذن عليه،
فإذن لهم، فدخلوا فوجدوه متضمخاً، بالعنبر يلمع وبيص المسك في مفرق رأسه، وعليه
بردان أخضران، قد ائتزر بأحدهما وارتدى بالآخر، وسيفه بين يديه، والملوك عن يمينه
وشماله، وأبناء الملوك والمقاول. فدنا عبد المطلب فاستأذنه في الكلام؛ فقال له:
قل؛ فقال؛ إن الله تعالى أيها الملك أحلك محلاً رفيعاً، صعباً منيعاً، باذجاً
شامخاً، وأنبتك منبتاً طابت أرومته، وعزت جرثومته، ونبل أصله، وبسق فرعه، في أكرم
معدن، وأطيب موطن، فأنت - أبيت اللعن - رأس العرب، وربيعها الذي به تخصب، وملكها
الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد؛ سلفك
خير سلف، وأنت لنا بعدهم خير خلف؛ ولن يهلك من أنت خلفه، ولن يخمل من أنت سلفه.
نحن أيها الملك أهل حرم الله وذمته وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أنهجك لكشفك،
الكرب الذي فدحنا، فنحن وفد التهنئة لا وفود المرزئة. قال: من أنت أيها المتكلم؟
قال: أنا عبد المطلب بن هاشم؛ قال: ابن أختنا؟ قال: نعم. فأدناه وقربه، ثم أقبل عليه وعلى القوم وقال: مرحباً وأهلا،
وناقة ورحلا، ومستناخاً سهلا، وملكاً ربحلا، يعطى عطاء جزلا؛ فذهبت مثلا. وكان أول
ما تكلم به: قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، فأهل الشرف
والنباهة أنتم، ولكم القربى ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم. قال: ثم استنهضوا إلى
دار الضيافة والوفود، وأجريت عليهم الأنزال، فأقاموا ببابه شهراً لا يصلون إليه،
ولا يأذن لهم في الانصراف. ثم انتبه إليهم انتباهة، فدعا بعبد المطلب من بينهم،
فخلا به وأدنى مجلسه، وقال: يا عبد المطلب، إني مفوض إليك من سر علمي أمراً لو
غيرك كان لم أبح له به، ولكني رأيتك موضعه فأطلعتك عليه، فليكن مصوناً حتى يأذن
الله فيه، فإن الله بالغ أمره: إني أجد في العلم المخزون، والكتاب المكنون؛ الذي
ادخرناه لأنفسنا، واحتجبناه دون غيرنا؛ خبراً عظيماً وخطراً جسيماً؛ فيه شرف
الحياة، وفضيلة الوفاة؛ للناس كافة، ولرهطك عامة، ولنفسك خاصة.
قال عبد المطلب: مثلك
يا أيها الملك من بر وسر وبشر، ما هو؟ فداك أهل الوبر، زمراً بعد زمر.
قال ابن ذي يزن: إذا
ولد مولود بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة إلى يوم القيامة.
قال عبد المطلب: أبيت
اللعن. لقد أبت بخير ما آب به أحد فلولا إجلال الملك لسألته أن يزيدني في البشارة
ما أزداد به سروراً.
قال ابن ذي يزن: هذا
حينه الذي يولد فيه أو قد ولد، يموت أبوه وأمه، ويكفله جده وعمه؛ قد ولدناه
مراراً، والله باعثه جهاراً، وجاعل له منا أنصاراً؛ يعز بهم أولياءه، ويذل بهم
أعداءه، ويفتتح كرائم الأرض، ويضرب بهم الناس عن عرض؛ يخمد الأديان، ويدحر
الشيطان، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن؛ قوله حكم وفصل، وأمره حزم وعدل؛ يأمر
بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب: طال
عمرك، ودام جدك، وعز فخرك؛ فهل الملك يسرني بأن يوضح فيه بعض الإيضاح؟ فقال ابن ذي
يزن: والبيت ذي الطنب، والعلامات والنصب، إنك يا عبد المطلب، لجده من غير كذب. فخر
عبد المطلب ساجداً.
قال ابن ذي يزن: ارفع
رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، فهل أحسست شيئاً مما ذكرت لك؟ قال عبد المطلب: أيها
الملك، كان لي ابن كنت له محباً وعليه حدباً مشفقاً، فزوجته كريمة من كرائم قومه،
يقال لها آمنة بنت وهب بن عبد مناف، فجاءت بغلام بين كتفيه شامة، فيه كل ما ذكرت
من علامة، مات أبوه وأمه، وكفلته أنا وعمه.
قال ابن ذي يزن: إن
الذي قلت لك كما قلت، فاحفظ ابنك، واحذر عليه اليهود، فإنهم له أعداء، ولن يجعل
الله لهم عليه سبيلاً؛ اطو ما ذكرت لك، دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن
أن تدخلهم النفاسة، من أن تكون لكم الرياسة؛ فيبغون له الغوائل، وينصبون له
الحبائل، وهم فاعلون وأبناؤهم. ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير
بيثرب دار مهاجر. فإني أجد في الكتاب الناطق، والعلم السابق، أن يثرب دار هجرته، وبيت
نصرته، ولولا أني أتوقى عليه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنة
أمره، وأوطأت أقدام العرب عقبه؛ ولكني صارف ذلك إليك عن غير تقصير مني بمن معك.
ثم أمر لكل رجل منهم
بعشرة أعبد، وعشر إماء سود، وخمسة أرطال فضة، وحلتين من حلل اليمن، وكرش مملوءة
عنبراً. وأمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك، وقال: إذا حال الحول فأنبئني بما يكون
من أمره.
فما حول الحول حتى مات
ابن ذي يزن، فكان عبد المطلب بن هاشم يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني رجل منكم
بجزيل عطاء الملك فإنه إلى نفاذ، ولكن يغبطني بما يبقى لي ذكره وفخره لعقبي؛ فإذا
قالوا له: وما ذاك؟ قال سيظهر بعد حين.
وفود عبد المسيح على
سطيحجرير بن حازم عن عكرمة ابن عباس قال: لما كان ليلة ولد النبي صلى الله عليه
وسلم ارتج إيوان كسرى، فسقطت منه أربع عشرة شرفة؛ فعظم ذلك على أهل مملكته، فما
كان أوشك أن كتب إليه صاحب اليمن يخبره أن بحيرة ساوة غاضت تلك الليلة؛ وكتب إليه
صاحب السماوة يخبره أن وادي السماوة انقطع تلك الليلة؛ وكتب إليه صاحب طبرية أن
الماء لم يجر تلك الليلة في بحيرة طبرية؛ وكتب إليه صاحب فارس يخبره أن بيوت
النيران خمدت تلك الليلة ولم تخمد قبل ذلك بألف سنة. فلما تواترت الكتب أبرز سريره
وظهر لأهل مملكته، فأخبرهم الخبر؛ فقال الموبذان: أيها الملك، إني رأيت تلك الليلة
رؤيا هالتني؛ قال له: وما رأيت؟ قال: رأيت إبلاً صعاباً، تقوم خيلاً عراباً، قد
اقتحمت دجلة وانتشرت في بلادنا؛ قال: رأيت عظيماً، فما عهدك في تأويلها؟ قال: ما
عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن أرسل إلى عاملك بالحيرة، يوجه إليك رجلاً من
علمائهم، فإنهم أصحاب علم بالحدثان، فبعث إليه عبد المسيح بن نفيلة الغساني، فلما
قدم عليه، أخبره كسرى الخبر؛ فقال له: أيها الملك، والله ما عندي فيها ولا في تأويلها شيء، ولكن جهز إلى خال
لي بالشام، يقال له سطيح؛ قال: جهزوه، فلما قدم على سطيح وجده قد احتضر، فناداه
فلم يجبه، وكلمه فلم يرد عليه، فقال عبد المسيح:
أصم أم يسمع غطريف
اليمن ... يا فاصل الخطة أعيت من ومن
أتاك شيخ الحي من آل
سنن ... أبيض فضفاض الرداء والبدن
رسول قيل العجم يهوي
للوثن ... لا يرعب الوعد ولا ريب الزمن
فرفع إليه رأسه،
وقال: عبد المسيح، على جمل مشيح، إلى سطيح، وقد أوفى على الضريح؛ بعثك ملك بني
ساسان، لارتجاج الإيوان، وخمود النيران، ورؤيا الموبذان؛ رأى إبلاً صعاباً، تقود
خيلاً عراباً؛ قد اقتحمت في الواد، وانتشرت في البلاد. يا عبد المسيح، إذا ظهرت
التلاوة، وفاض وادي السماوة، وغاضت بحيرة ساوة، وظهر صاحب الهراوة، وخمدت نار
فارس؛ فليست بابل للفرس مقاماً، ولا الشام لسطيح شاما، يملك منهم ملوك وملكات، عدد
سقوط الشرفات، وكل ما هو آت آت. ثم قال:
إن كان ملك بني ساسان
أفرطهم ... فإن ذا الدهر أطوار دهارير
منهم بنوا الصرح
بهرام وإخوته ... والهرمزان وسابور وسابور
فربما أصبحوا منهم
بمنزلة ... يهاب صولهم الأسد المهاصير
حثوا المطي وأدوا في
رمالهم ... فما يقوم لهم سرح ولا كور
والناس أولاد علات
فمن علموا ... أن قد أقل فمحقور ومهجور
والخير والشر مقرونان
في قرن ... فالخير متبع والشر محذور
ثم أتى كسرى فأخبره،
فغمه ذلك. ثم تعزى فقال: إلى من يملك منا أربعة عشر ملكاً يدور الزمان. فهلكوا
كلهم في أربعين سنة.
الوفود على رسول الله
وفود همدان على النبي
صلى الله عليه
وسلمقدم مالك بن نمط في وفد همدان على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقوه مقبلاً
من تبوك، فقال مالك بن نمط: يا رسول الله، نصية من همدان، من كل حاضر وباد، أتوك
على قلض نواج، متصلة بحبائل الإسلام، لا تأخذهم في الله لومة لائم، من مخلاف خارف
ويام وشاكر. عهدهم لا ينقض. عن سنة ما حل ولا سوداء عنقفير، ما أقام لعلع، وما جرى
اليعفور بصلع.
فكتب إليهم النبي صلى
الله عليه وسلم: هذا كتاب من محمد رسول الله إلى مخلاف خارف، وأهل جناب الهضب،
وحفاف الرمل، مع وافدها ذي المشعار، مالك بن نمط، ومن أسلم من قومه أن لهم فراعها
ووهاطها وعزازها ما أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، يأكلون علافها، ويرعون عفاها، لنا
من دفئهم وصرامهم ما سلموا بالميثاق والأمانة، ولهم من الصدقة الثلب والناب
والفصيل والفارض الداجن والكبش الحوري، وعليهم الصالغ والقارح.
وفود النخع على النبي
صلى الله عليه
وسلمقدم أبو عمرو النخعي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني
رأيت في طريقي هذه رؤيا، رأيت أتاناً تركتها في الحي ولدت جدياً أسفع أحوى؛ فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل لك من أمة تركتها مصرة حملاً؟ قال: نعم، تركت
أمة لي أظنها قد حملت؛ قال: فقد ولدت غلاماً وهو ابنك؛ قال: فما له أسفع أحوى؟
قال: ادن مني؛ فدنا منه. فقال: هل بك برص تكتمه؟ قال: نعم، والذي بعثك بالحق نبياً
ما رآه مخلوق ولا علم به؛ قال: فهو ذلك. قال: ورأيت النعمان بن المنذر عليه قرطان ودملجان ومسكتان؛
قال: ذلك ملك العرب عاد إلى أفضل زيه وبهجته. قال: ورأيت عجوزاً شمطاء تخرج
من الأرض؛ قال: تلك بقية الدنيا. قال: ورأيت ناراً خرجت من الأرض فحالت بيني وبين
ابن لي يقال له عمرو، ورأيتها تقول: لظى لظى، بصير وأعمى، أطعموني، آكلكم آكلكم،
أهلككم وما لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تلك فتنة في آخر الزمان: قال: وما
الفتنة يا رسول الله؟ قال: يقتل الناس إمامهم ثم يشتجرون اشتجار أطباق الرأس -
وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه - يحسب المسيء أنه محسن، ودم
المؤمن عند المؤمن أحلى من شرب الماء.
وفود كلب على النبي
صلى الله عليه وسلم قدم قطن بن حارثة العليمي في وفد كلب على النبي صلى الله عليه
وسلم فذكر كلاماً، فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً نسخته: هذا كتاب
من محمد رسول الله لعمائر طلب وأحلافها، ومن ظأره الإسلام من غيرها، مع قطن بن
حارثة العليمي، فإقامة الصلاة لوقتها، وإيتاء الزكاة لحقها، في شدة عقدها، ووفاء
عهدها؛ بمحضر شهود من المسلمين: سعد بن عبادة، وعبد الله بن أنيس، ودحية بن خليفة
الكلبي. عليهم في الحمولة الراعية البساط الظؤار، في كل خمسين ناقة غير ذات عوار، والحمولة
المائرة لهم لاغية؛ وفي الشوي الوري مسنة حامل أو حائل، وفيما سقى الجدول من العين
المعين العشر من ثمرها مما أخرجت أرضها، وفي العذي شطره بقيمة الأمين، فلا تزاد
عليهم وظيفة ولا يفرق، يشهد الله تعالى على ذلك ورسوله. وكتب ثابت بن قيس بن شماس.
وفود ثقيف على النبي
صلى الله عليه
وسلموفدت ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فكتب لهم كتاباً حين أسلموا: إن لهم
ذمة الله، وإن واديهم حرام عضاهه وصيده وظلم فيه، وإن ما كان لهم من دين إلى أجل
فبلغ أجله فإنه لياط مبرأ من الله ورسوله، وإن ما كان لهم من دين في رهن وراء عكاظ
فإنه يقضى إلى رأسه ويلاط بعكاظ ولا يؤخر.
وفود مذحج على النبي
صلى الله عليه وسلم
وفد ظبيان بن حداد في
سراة مذحج على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: بعد السلام على رسول الله صلى الله
عليه وسلم، والثناء على الله عز وجل بما هو أهله: الحمد لله الذي صدع الأرض
بالنبات، وفتق السماء بالرجع. ثم قال: نحن قوم من سراة مذحج من يحابر بن مالك. ثم
قال: فتوقلت بنا القلاص، من أعالي الحوف ورؤوس الهضاب، ترفعها عرر الربا، وتخفضها
بطنان الرفاق، وتلحفها دياحي الدجى. ثم قال: وسروات الطائف كانت لبني مهلائيل بن
قينان غرسوا وديانه، وذللوا خشانه، ورعوا قريانه. ثم ذكر نوحاً حين خرج من السفينة
بمن معه، قال: فكان أكثر بنيه بناتا، وأسرعهم نباتا، عاد وثمود، فرماهم الله بالدمالق،
وهم الذي خطوا مشاربها، وأتوا جداولها، وأحيوا غراسها، ورفعوا عريشها. ثم قال: وإن
حمير ملكوا معاقل الأرض وقرارها، وكهول الناس وأغمارها، ورؤوس الملوك وغرارها،
فكان لهم البيضاء والسوداء، وفارس الحمراء، والجزية الصفراء؛ فبطروا النعم،
واستحقوا النقم، فضرب الله بعضهم ببعض. ثم قال: وإن قبائل من الأزد نزلوا على عهد
عمرو بن عامر، ففتحوا فيها الشرائع، وبنوا فيها المصانع، واتخذوا الدسائع، ثم
ترامت مذحج بأسنتها، وتنزت بأعنتها، فغلب العزيز أذلها، وقتل الكثير أقلها. ثم
قال: وكان بنو عمرو بن جذيمة يخبطون عضيدها، ويأكلون حصيدها، ويرشحون خضيدها. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن نعيم الدنيا أفل وأصغر عند الله من خرء بعيضة، ولو
عدلت عند الله جناح ذباب لم يكن لكافر منها خلاق، ولا لمسلم منها لحاق.
وفود لقيط بن عامر بن
المنتفق على النبي
صلى الله عليه
وسلموفد لقيط بن المنتفق على النبي صلى الله عليه وسلم ومعه صاحب له، يقال له نهيك
بن عاصم بن مالك بن المنتفق. قال لقيط: فخرجت أنا وصاحبي حتى قدمنا لانسلاخ رجب،
فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين انصرف من صلاة الغداة، فقام في الناس
خطيباً، فقال: أيها الناس، ألا إني قد خبأت لكم صوتي من أربعة أيام لتسمعوا الآن،
ألا فهل من امرئ قد بعثه قومه؟ - فقالوا: اعلم لنا ما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - ألا، ثم لعله أن
يلهبه حديث نفسه أو حديث صاحبه أو يلهيه ضال، ألا وإني مسئول هل بلغت، ألا اسمعوا،
ألا اجلسوا. فجلس الناس: وقمت أنا وصاحبي، حتى إذا فرغ لنا فؤاده وبصره، قلت: يا
رسول الله، ما عندك من علم الغيب؟ فضحك لعمر الله وهز رأسه، وعلم أني أبتغه سقطه؛
فقال: ضن ربك عز وجل بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمهن إلا الله. وأشار بيده. قلت:
وما هي؟ قال: علم المنية، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه؛ وعلم ما في غد، وما
أنت طاعم غداً، ولا تعلمه وعلم المني حين يكون في الرحم، قد علمه ولا تعلمونه؛
وعلم الغيث، يشرف عليكم آزلين مسنتين فيظل يضحك، قد علم أن عونكم قريب - قال لقيط:
قلت: لن نعدم من رب يضحك خيراً - وعلم يوم الساعة؛ قلت: يا رسول الله، إني أسألك عن
حاجتي فلا تعجلني؛ قال: سل عما شئت؛ قال قلت: يا رسول الله، علمنا مما لا يعلم الناس
ومما تعلم، فإنا من قبيل لا يصدقون تصديقنا أحداً، من مذحج التي تدنو إليها وخشعم
التي توالينا وعشيرتنا التي نحن منها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تلبثون
ما لبثتم، ثم توفى نبيكم، ثم تلبثون حتى تبعث الصيحة، فلعمر إلهك ما تدع على ظهرها
من شيء إلا مات والملائكة الذين عند ربك، فيصبح ربك يطوف في الأرض وقد خلت عليه
البلاد، فيرسل ربك السماء بهضب من عند العرش، فلعمر ألهك ما تدع ظهرها من مصرع
قتيل، ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلقه من قبل رأسه، يستوي اليوم!.
ولعهده بالحياة يحسبه حديث عهد بأهله. فقلت: يا رسول الله، كيف يجمعنا بعد ما قد
تفرقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال: أنبئك بمثل ذلك في إل الله، أشرفت على الأرض
وهي مدبرة يابسة، فقلت: لا تحيا هذه أبداً؛ ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث إلا
أياماً حتى أشرفت عليها وهي شربة واحدة. ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من
الماء على أن يجمع نبات الأرض، فتخرجون من الأصواء. - قال ابن إسحاق: الأصواء:
أعلام القبور.
ومن مصارعكم، فتنظرون
إليه ساعة وينظر إليكم. قال: قلت: يا رسول الله، كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر
إلينا وننظر إليه؟ قال: أنبئك بمثل ذلك في إل الله، الشمس والقمر آية منه صغيرة،
ترونهما ويريانكم ساعة واحدة. ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه من أن
ترونهما ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما. قال: قلت: يا رسول الله، فما يفعل بنا
ربنا إذا لقيناه؟ قال: تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى منكم خافية، فيأخذ
ربك عز وجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قلبكم، فلعمر إلهك ما تخطئ وجه واحد منكم
قطرة، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء، وأما الكافر بتخطمه بمثل الحمم
الأسود، ثم ينصرف نبيكم ويتفرق على أثره الصالحون؛ قال: فتسلكون جسراً من النار،
فيطأ أحدكم الجمر، فيقول: حس؛ فيقول ربك عز وجل: أو إنه؟ فتطلعون على حوض الرسول لا يظمأ والله ناهله،
فلعمر إلهك ما يبسط أحد منكم يده إلا وقع عليها قدح يظهره من الطوف والبول والأذى،
وتحبس الشمس والقمر فلا ترون منهما أحداً. قال: قلت: يا رسول الله، فبم نبصر
يومئذ؟ قال: بمثل بصر ساعتك هذه، وذلك مع طلوع الشمس في يوم أشرقته الأرض وواجهته
الجبال. قال: قلت: يا رسول الله، فبم نجزى من سيآتنا وحسناتنا؟ قال: الحسنة بعشر
أمثالها، والسيئة بمثلها أو يعفو. قال: قلت: يا رسول الله، فما الجنة وما النار؟ قال: لعمر إلهك، إن للنار
سبعة أبواب ما منها بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً، وإن للجنة لثمانية
أبواب، ما منهما بابان إلا يسير الراكب بينهما سبعين عاماً. قال: قلت: يا
رسول الله، فعلام نطلع من الجنة؟ قال: على أنها من عسل مصفى، وأنها من كأس ما بها
من صداع ولا ندامة، وأنها من لبن لم يتغير طعمه، وماء غير آسن وفاكهة، لعمر إلهك
ما تعلمون، وخير من مثله معه، وأزواج مطهرة. قال: قلت: يا رسول الله، أولنا فيها أزواج، أو منهن صالحات؟ قال: الصالحات للصالحين،
تلذون بهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذذن بكم، غير أن لا توالد. قال
لقيط: قلت: أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه. فلم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: قلت: يا رسول الله، علام أبايعاك؟ قال: فبسط إلي يده وقال: على إقامة
الصلاة، وإيتاء الزكاة، وزيال الشرك، فلا تشرك بالله إلهاً غيره. قال: فقلت: وإن
لنا ما بين المشرق والمغرب؟ فقبض النبي صلى الله عليه وسلم يده وظن أن أشترط عليه
شيئاً لا يعطينيه قال: قلت نحل منها حيث شئنا، ولا يجزى عن امرئ إلا نفسه؟ فبسط
إلي يده وقال: ذلك لك: حل حيث شئت، ولا يجزي عنك إلا نفسك. قال: فانصرفنا عنه.
وفود قيلة على النبي
صلى الله عليه وسلم
خرجت قيلة بنة مخرمة
التميمية تبغي الصحبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عم بناتها، وهو أثوب
بن أزهر، قد انتزع منها بناتها، فبكت جويرية منهن حديباء قد أخذتها الفرصة، عليها
سبيج من صوف، فرحمتها فذهبت بها. فبينما هما ترتكان الجمل إذا انتفجت منه الأرنب.
فقال الحديباء: الفصية، والله لا يزال كعبك أعلى من كعب أثوب، ثم سنح الثعب، فسمته
اسماً غير الثعلب نسيه ناقل الحديث. ثم قالت فيه، مثل ما قالت في الأرنب، فبينما هما
ترتكان الجمل إذ برك الجمل وأخذته رعدة. فقالت الحديباء: أخذتك - والأمانة إخذة
أثوب. قالت قيلة: فقلت لها: فما أصنع؟ ويحك! قالت: قلبي ثيابك ظهورها
لبطونها، وادحرجي ظهرك لبطنك، واقلبي أحلاس جملك، ثم خلعت سبيجها فقلبته، ثم
ادحرجت ظهرها لبطنها، فلما فعلت ما أمرتني به انتفض الجمل، ثم قام فنأج وبال. فقالت:
أعيدي عليه أداتك. ففعلت، ثم خرجنا نرتك، فإذا أثوب يسعى وراءنا بالسيف صلتا،
فوألنا إلى حواء ضخم فداراه، حتى ألقه الجمل إلى رواقه الأوسط وكان جملاً ذلولاً،
واقتحمت داخله، وأدركني بالسيف، فأصابت ظبته طائفة من قرون رأسيه، ثم قال: ألق إلي
ابنة أخي يا دفار. فألقيتها إليه، فجعلها على منكبيه وذهب بها، وكنت أعلم به من
أهل البيت. وخرجت إلى أخت لي ناكح في بني شيبان أبتغي الصحبة إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ فبينما أنا عندها تحسب أني نائمة، إذ جاء زوجها من السامر، فقال
لها: وأبيك، لقد وجدت لقيلة صاحب صدق. قالت أختي: من هو؟ قال: حريث بن حسان
الشيباني، وافد بكر بن وائل عاوياً ذا صياح. فقالت أختي: الويل لي! لا تخبرها،
فتتبع أخا بكر بن وائل بين سمع الأرض وبصرها، ليس معها أحد من قومها؛ قال: لا
ذكرته. قالت: وسمعت ما قالا فغدوت إلى جملي فشددت عليه، ثم نشدت عنه فوجدته غير
بعيد، فسألته الصحبة؛ فقال: نعم وكرامة، وركابه مناخ عنده. قالت: فسرت معه صاحب
صدق، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي بالناس صلاة الغداة،
قد أقيمت حين شق الفجر، والنجوم شابكة في السماء، والرجال لا تكاد تعارف من ظلمة
الليل فصففت مع الرجال، وأنا امرأة قريبة عهد بجاهلية. فقال الرجل الذي يليني من
الصف: امرأة أنت أم رجل؟ فقلت: لا، بل امرأة؛ فقال: أنك كدت تفتنيني، فصلي في
النساء وراءك. فإذا صف من نساء قد حدث عند الحجرات لم أكن رأيته إذا دخلت، فكنت
فيهن، حتى إذا طلعت الشمس دنوت، لجعلت إذا رأيت رجلاً ذا رواء وقشر طمح إليه بصري
لأرى رسول الله فوق الناس، حتى جاء رجل، فقال: السلام عليك يا رسول الله؛ فقال:
وعليك السلام ورحمة الله؛ وعليه - تعني النبي صلى الله عليه وسلم أسمال مليتين، كانتا بزعفران قد نفضتا،
ومعه عسيب نخلة مقشو غير خوصتين من أعلاه، وهو قاعد القرفصاء، فلما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم متخشعاً في الجلسة أرعدت من الفرق؛ فقال جليسه: يا رسول الله،
أرعدت المسكينة. فقال رسول الله، ولم ينظر إلي وأنا عند ظهره: يا
مسكينة عليك السكينة. قالت: فلما قالها صلى الله عليه وسلم أذهب الله ما كان دخل
في قلبي من الرعب، وتقدم صاحب أول رجل فبايعه على الإسلام، عليه وعلى قومه، ثم
قال: يا رسول الله، اكتب بيننا وبين تميم كتاباً بالدهناء لا يجاوزها إلينا منهم
إلا مسافر أو مجاوز. قال: يا غلام، اكتب له بالدهناء. قالت: فلما رأيته أمر أن يكتب له، شخص بي، وهي وطني وداري، فقلت: يا
رسول الله، إنه لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء مقيد الجمل ومرعى
الغنم، ونساء بني تميم وأبناؤها وراء ذلك؛ فقال: أمسك يا غلام، صدقت المسكينة:
المسلم أخو المسلم، يسعهما الماء والشجر، ويتعاونان على الفتان. فلما رأى
حريث أن قد حيل دون كتابه، قال: كنت أنا وأنت كما قال في المثل: حتفها
تحمل ضأن بأظلافها؛ فقلت: أما والله ما علمت إن كنت لدليلاً في الظلماء، جواداً
لدى الرحل، عفيفاً عن الرفيقة حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن
لا تلمني أن أسأل حظي إذ سألت حظك؛ قال: وأي حظ لك في الدهناء لا أبالك؟ قلت: مقيد
جملي تريده لجمل امرأتك؛ فقال: لا جرم، إني أشهد رسول الله أني لك أخ ما حييت إذ
أثنيت علي عنده؛ فقلت: إذ بدأتها فلن أضيعها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أيلام ابن هذه أن يفضل الخطة
وينتصر من وراء
الحجزة؛ فبكيت ثم قلت: فقد والله ولدته يا رسول الله حراماً، فقاتل معك يوم
الربذة، ثم ذهب يمتري خيبر، فأصابته حماها ومات، فقال: لو لم تكوني مسكينة لجررناك
على وجهك. أيغلب أحيدكم على أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً فإذا حال بينة
وبينه من هو أولى بن استرجع ثم قال: رب آسني لما أمضيت، وأعني على ما أبقيت.
فوالذي نفس محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعير له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا
إخوانكم. ثم كتب لها في قطعة أدم أحمر: لقيلة والنسوة من بنات قيلة أن لا يظلمن
حقاً، ولا يكرهن على منكح، وكل مؤمن ومسلم لهن نصير، أحسن ولا تسئن.ينتصر من وراء
الحجزة؛ فبكيت ثم قلت: فقد والله ولدته يا رسول الله حراماً، فقاتل معك يوم
الربذة، ثم ذهب يمتري خيبر، فأصابته حماها ومات، فقال: لو لم تكوني مسكينة لجررناك
على وجهك. أيغلب أحيدكم على أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفاً فإذا حال بينة وبينه
من هو أولى بن استرجع ثم قال: رب آسني لما أمضيت، وأعني على ما أبقيت. فوالذي نفس
محمد بيده إن أحدكم ليبكي فيستعير له صويحبه، فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم. ثم
كتب لها في قطعة أدم أحمر: لقيلة والنسوة من بنات قيلة أن لا يظلمن حقاً، ولا
يكرهن على منكح، وكل مؤمن ومسلم لهن نصير، أحسن ولا تسئن.
كتاب رسول الله
لأكيدر دومة
صلى الله عليه وسلم لأكيدر
دومةمن محمد رسول الله لأكيدر دومة حين أجاب إلى الإسلام، وخلع الأنداد والأصنام،
مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها: إن لنا الضاحية من الضحل
والبور، والمعامي وأغفال الأرض، والحلقة، والسلاح والحافر والحصن؛ ولكم الضامنة من
النخل والمعين من المعمور، ولا تعدل سارحتكم ولا تعد فاردتكم، ولا يحظر عليكم
النبات، تقيمون الصلاة لوقتها، وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله
والميثاق، ولكم به الصدق والوفاء، شهد الله ومن حضر من المسلمين.
كتابه لوائل بن حجر
الحضرمي
صلى الله عليه وسلم
لوائل بن حجر الحضرميمن محمد رسول الله إلى الأقيال العباهلة والأرواع المشابيب من
أهل حضرموت، بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، في التيعة شاة، لا مقورة الألياط ولا
ضناك، وأنطوا الثبجة؛ والتيمة لصاحبها، وفي السيوب الخمس، لا خلاط ولا وراط، ولا
شناق، ولا شغار، ومن أجبى فقد أربى، وكل مسكر حرام.
حديث جرير بن عبد
الله البجليقدم جرير بن عبد الله البجلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله
عن منزله ببيشة، فقال: سهل ودكداك، وسلم وأراك، وحمض وعلاك، إلى نخلة ونخلة، ماؤها
ينبوع، وجنابها مريع، وشتاؤها ربيع. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن خير الماء
الشبم، وخير المال الغنم، وخير المرعى الأراك، والسلم إذا أخلف كان لجينا، وإذا
سقط كان درينا، وإذا أكل كان لبينا. وفي كلامه عليه السلام: إن الله خلق الأرض
السفلى من الزبد الجفاء، والماء الكباء.
حديث عياش بن أبي
ربيعةبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عياش بن أبي ربيعة إلى بني عبد كلال، وقال
له: خذ كتابي بيمينك وادفعه بيمينك في أيمانهم، فهم قائلون لك اقرأ، فاقرأ: "
لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين " ،
فإذا فرغت منها فقل: آمن محمد وأنا أول المؤمنين، فلن تأتيك حجة إلا وقد دحضت، ولا
كتاب زخرف إلا وذهب نوره، ومح لونه، وهم قارئون، فإذا رطنوا فقد ترجموا، فقل: حسن،
آمنت بالله وبما أنزل من كتاب الله، فإذا أسلموا، فسلهم قضبهم الثلاثة التي إذا
تخصروا بها سجد لهم: وهي الأثل، قضيب ملمع ببياض، وقضيب ذو عجر كأنه من خيزران،
والأسود البهيم، كأنه من ساسم، اخرج بها فحرقها في سوقهم.
حديث راشد بن عبد ربه
السلميعبد الله بن الحكم الواسطي عن بعض أشياخ أهل الشام قال قال: استعمل رسول
الله صلى الله عليه وسلم أبا سفيان بن حرب على نجران، فولاه الصلاة والحرب، ووجه
راشد بن عبد ربه أميراً على القضاء والمظالم. فقال راشد بن عبد ربه:
صحا القلب عن سلمى
وأقصر شأوه ... وردت عليه ما نفته تماضر
وحكمه شيب القذال عن
الصبا ... وللشيب عن بعض الغواية زاجر
فأقصر جهلي اليوم
وارتد باطلي ... عن الجهل لما آبيض مني الغدائر
على أنه قد هاجه بعد
صحوة ... بمعرض ذي الآجام عيس بواكر
ولما دنت من جانب
الغوط أخصبت ... وحلت ولاقاها سليم وعامر
وخبرها الركبان أن
ليس بينها ... وبين قرى بصرى ونجران كافر
فألقت عصاها واستقرت
بها النوى ... كما قر عيناً بالإياب المسافر
وفود نابغة بني جعدة
على النبي
صلى الله عليه
وسلموفد أبو ليلى نابغة بني جعدة على النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشده شعره الذي
يقول فيه:
بلغنا السماء مجدنا
وسناؤنا ... وإنا لنبغي فوق ذلك مظهرا
قال له النبي صلى
الله عليه وسلم: إلى أين أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم:
إن شاء الله. فلما انتهى إلى قوله:
ولا خير في حلم إذا
لم تكن له ... بوادر تحمي صفوه أن يكدرا
فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: لا يفضض الله فاك، فعاش مائة وثلاثين سنة لم تنفض له سن. وبقي حتى
وفد على عبد الله بن الزبير في أيامه بمكة وامتدحه؛ فقال له: يا أبا ليلى، أن أدنى
وسائلك عندنا الشعر، لك في مال الله حقان: حق برؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق بشركتك أهل الإسلام في
فيئهم، ثم أحسن صلته وأجازه.
وفود طهفة بن أبي
زهير على رسول الله
صلى الله عليه
وسلملما قدمت وفود العرب على النبي صلى الله عليه وسلم، قام طهفة بن أبي زهير،
فقال: يا رسول الله، أتيناك من غوري تهامة بأكوار الميس، ترمي بنا العيس، نستحلب
الصبير، ونستخلب الخبير، ونستعضد البرير؛ ونستخيل الرهام، ونستجيل الجهام؛ من أرض
غائلة النطاء، غليظة الوطاء؛ قد نشف المدهن، ويبس الجعئن؛ ومات العسلوج؛ وسقط
الأملوج؛ وهلك الهدي، ومات الودي. برئنا يا رسول الله من الوثن والعنن، وما يحدث الزمن؛ لنا دعوة
السلام، وشريعة الإسلام؛ ما طمى البحر وقام تعار؛ ولنا نعم همل أغفال، ما تبص ببلال؛
ووقير كثير الرسل قليل الرسل أصابتها سنية حمراء، مؤزلة ليس بها علل ولا نهل.
فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: اللهم بارك لهم في محضها ومحضها ومذقها، وابعث راعيها في الدثر،
بيانع الثمر؛ وافجر له الثمد، وبارك له في المال والولد؛ من أقام الصلاة كان
مسلماً، ومن أتى الزكاة كان محسناً، ومن شهد أن لا إله إلا الله كان مخلصاً. لكم
يا بني نهد، ودائع الشرك، ووضائع الملك؛ لا تلطط في الزكاة، ولا تلحد في الحياة،
ولا تثاقل عن الصلاة.
وكتب معه كتاباً على
بني نهد: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى بني نهد بن زيد: السلام
على من آمن بالله ورسوله، لكم يا بني نهد في الوظيفة الفريضة، ولكم الفارض
والفريش، وذو العنان الركوب، والفلو الضبيس، لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا
يحبس دركم، ما لم تضمروا الإمآق، وتأكلوا الرباق، من أقر بما في هذه الكتاب، فله
من رسول الله صلى الله عليه وسلم الوفاء بالعهد والذمة، ومن أبى عليه فعليه الربوة.
الوفود على عمر بن
الخطاب
وفود جبلة بن الأيهم
على عمر بن الخطاب
رضي الله عنه
العجلى قال: حدثني
أبو الحسن علي بن أحمد بن عمر بن الأجدع الكوفي بهيت، قال: حدثني
إبراهيم بن علي مولى بني هاشم، قال: حدثنا ثقات شيوخنا: أن جبلة بن الأيهم بن أبي
شمر الغساني لما أراد أن يسلم كتب إلى عمر بن الخطاب من الشام يعلمه بذلك يستأذنه
في القدوم عليه، فسر بذلك عمر والمسلمون، فكتب إليه أن أقدم ولك ما لنا وعليك ما
علينا: فخرج جبلة في خمسمائة فارس من عك وجفنة، فما دنا من المدينة ألبسهم ثياب
الوشي المنسوج بالذهب والفضة، ولبس يومئذ جبلة تاجه وفيه قرط مارية، وهي جدته، فلم
يبق يومئذ بالمدينة أحد إلا خرج ينظر إليه حتى النساء والصبيان، وفرح المسلمون
بقدومه وإسلامه، حتى حضر الموسم من عامه ذلك مع عمر بن الخطاب، فبينما هو يطوف
بالبيت إذ وطئ على إزاره رجل من بني فزارة فحله، فالتفت إليه جبلة مغضباً، فلطمه
فهشم أنفه، فاستعدى عليه الفزاري عمر بن الخطاب، فبعث إليه فقال: ما دعاك يا جبلة
إلى أن لطمت أخاك هذا الفزاري فهشمت أنفه؟ فقال: إنه وطئ أزاري فحله، ولولا حرمة
هذا البيت لأخذت الذي في عيناه؛ فقال له عمر: أما أنت فقد أقررت، إما أن ترضيه
وإلا أقدته منك؛ قال: أتقيده مني وأنا ملك وهو سوقة؟ قال: يا جبلة، إنه قد جمعك
وإياه الإسلام، فما تفضله بشيء إلا بالعافية؛ قال: والله لقد رجوت أن أكون في
الإسلام أعز مني في الجاهلية؛ قال عمر: دع عنك ذلك؛ قال: إذن أتنصر؛ قال: إن تنصرت
ضربت عنقك. قال: واجتمع قوم جبلة وبنو فزارة فكادت تكون فتنة؛ فقال جبلة: أخرني
إلى غد يا أمير المؤمنين؛ قال: ذلك لك. فلما كان جنح الليل خرج هو وأصحابه، فلم
يئن حتى دخل القسطنطينية على هرقل فتنصر، وأقام عنده، وأعظم هرقل قدوم جبلة وسر
بذلك، وأقطعه الأموال والأرضي والرباع. فلما بعث عمر بن الخطاب رسولاً إلى هرقل يدعوه
إلى الإسلام أجابه إلى المصالحة على غير الإسلام، فلما أراد أن يكتب جواب عمر، قال
للرسول: ألقيت ابن عمك هذا الذي ببلدنا - يعني جبلة - الذي أتانا راغباً في ديننا؟
قال: ما لقيته؛ قال: آلقه، ثم ائتني أعطك جواب كتابك. وذهب الرسول إلى باب جبلة،
فإذا عليه من القهارمة والحجاب والبهجة وكثر الجمع مثل ما على باب هرقل. قال
الرسول: فلم أزل أتلطف في الإذن، حتى أذن لي، فدخلت عليه، فرأيت رجلاً أصهب اللحية
ذا سبال، وكان عهدي به أسمر أسود اللحية والرأس، فنظرت إليه فأنكرته، فإذا هو قد
دعا بسحالة الذهب فذرها في لحيته حتى عاد أصهب، وهو قاعد على سرير من قوارير،
قوائمه أربعة أسود من ذهب، فلما عرفني رفعني معه في السرير، فجعل يسائلني عن
المسلمين، فذكرت خيراً وقلت: قد أضعفوا أضعافاً على ما تعرف؛ فقال: كيف تركت عمر
ابن الخطاب؟ قلت: بخير، فرأيت الغم قد تبين فيه، لما ذكرت له من سلامة عمر؛ قال:
فانحدرت عن السرير؛ فقال: لم تأبى الكرامة التي أكرمناك بها؟ قلت: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا؛ قال: نعم، صلى الله عليه وسلم، ولكن نق قلبك من
الدنس، ولا تبال علام قعدت. لما سمعته يقول: صلى الله عليه وسلم، طمعت فيه؛ فقلت
له: ويحك يا جبلة! ألا تسلم وقد عرفت الإسلام وفضلة؟ قال: أبعدها ما كان مني؟ قلت:
نعم، قد فعل رجل من بني فزارة أكثر مما فعلت، ارتد عن الإسلام وضرب وجوه المسلمين
بالسيف، ثم رجع إلى الإسلام، وقبل ذلك منه، وخلفه بالمدينة مسلماً؛ قال: ذرني من
هذا، إن كنت تضمن لي أن يزوجني عمر ابنته ويوليني الأمر من بعده رجعت إلى الإسلام؛
قال: ضمنت لك التزوج، ولم أضمن لك الإمرة؛ قال: فأومأ إلى خادم بين يديه، فذهب
مسرعاً، فإذا خدم قد جاءوا يحملون الصناديق فيها الطعام، فوضعت ونصبت موائد الذهب وصحاف
الفضة، وقال لي: كل، فقبضت يدي، وقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
الأكل في آنية الذهب والفضة، فقال نعم، صلى الله عليه وسلم، ولك نق قلبك وكل فيما
أحببت، قال: فأكل في الذهب والفضة وأكلت في الخليج، فلما رفع الطعام جيء بطساس
الفضة وأباريق الذهب، وأومأ إلى خادم بين يديه، فمر مسرعاً، فسمعت حساً، فالتفت،
فإذا خدم معهن الكراسي مرصعة بالجواهر، فوضعت عشرة عن يمينه وعشرة عن يساره، ثم
سمعت حساً، فإذا عشر جوار قد أقبلن مطمومات الشعر متكسرات في الحلي عليهن ثياب
الديباج، فلم أر وجوها قط أحسن منهن، فأقعدهن على الكراسي عن يمينه ثم
سمعت حساً، فإذا عشر
جوار أخرى، فأجلسهن على الكراسي عن يساره، ثم سمعت حساً، فإذا جارية كأنها الشمس حسناً
وعلى رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك
وعنبر، وفي يدها اليسرى جام فيه ماء ورد؛ فأومأت إلى الطائر، أو قال فصفرت
بالطائر، فوقع في جام ماء الورد فاضطرب فيه، ثم أومأت إليه، أو قال فصفرت به، فطار
حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما ريشه عليه، وضحك جبلة من
شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال: بالله
أطربنني. فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن:معت حساً، فإذا عشر جوار أخرى،
فأجلسهن على الكراسي عن يساره، ثم سمعت حساً، فإذا جارية كأنها الشمس حسناً وعلى
رأسها تاج، وعلى ذلك التاج طائر لم أر أحسن منه، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك
وعنبر، وفي يدها اليسرى جام فيه ماء ورد؛ فأومأت إلى الطائر، أو قال فصفرت
بالطائر، فوقع في جام ماء الورد فاضطرب فيه، ثم أومأت إليه، أو قال فصفرت به، فطار
حتى نزل على صليب في تاج جبلة، فلم يزل يرفرف حتى نفض ما ريشه عليه، وضحك جبلة من
شدة السرور حتى بدت أنيابه، ثم التفت إلى الجواري اللواتي عن يمينه، فقال: بالله
أطربنني. فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن:
لله در عصابة نادمتهم
... يوماً بجلق في الزمان الأول
يسقون من وريد
البريص، عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل
أولاد جفنة حول قبر
أبيهم ... قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر
كلابهم ... لا يسألون عن السواد المقبل
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
... شم الأنوف من الطراز الأول
قال: فضحك حتى
بدت نواجذه، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت: لا، قال: قائله حسان بن ثابت شاعر
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم التفت إلى الجواري اللاتي عن يساره، فقال: بالله
أبكيننا، فاندفعن يتغنين يخفقن بعيدانهن ويقلن:
لمن الدار أقفرت
بمعان ... بين أعلى اليرموك فالخمان
ذاك مغنى لآل جفنة في
الدهر ... محلاً لحادث الأزمان
قد أراني هناك دهراً
مكيناً ... عند ذلك التاج مقعدي ومكاني
ودنا الفصح فالولائد
ينظمن ... سراعاً أكلة المرجان
لم يعللن بالمغافير
والصمغ ... ولا نقف حنظل الشريان
قال: فبكى حتى جعلت
الدموع تسيل على لحيته، ثم قال: أتدري من قائل هذا؟ قلت لا أدري؛ قال: حسان بن
ثابت. ثم أنشأ يقول:
تنصرت الأشراف من عار
لطمة ... وما كان فيها لو صبرت لها ضرر
تكنفني منها لجاج
ونخوة ... وبعت لها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني
وليتني ... رجعت إلى الأمر الذي قال لي عمر
ويا ليتني أرعى
المخاض بقفرة ... وكنت أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام
أدنى معيشة ... أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
ثم سألني عن حسان:
أحي هو؟ قلت: نعم، تركته حياً. فأمر لي بكسوة ومال، ونوق موقرة برا، ثم قال لي: إن
وجدته حياً، فادفع إليه الهدية وأقرئه سلامي، وإن وجدته ميتاً فادفعها إلى أهله،
وانحر الجمال على قبره. فلما قدمت على عمر أخبرته خبر جبلة وما دعوته إليه من
الإسلام، والشرط الذي شرطه، وأني ضمنت له التزوج، ولم أضمن له الإمرة. فقال: هلا
ضمنت له الإمرة؟ فإذا أفاء الله به الإسلام قضى عليه بحكمه عز وجل. ثم ذكرت له
الهدية التي أهداها إلى حسان بن ثابت. فبعث إليه، وقد كف بصره؛ فأتي به وقائد
يقوده، فلما دخل، قال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد رياح آل جفنة عندك؛ قال: نعم،
هذا رجل أقبل من عنده؛ قال: هات يا بن أخي، إنه كريم من كرام مدحتهم في الجاهلية
فحلف أن لا يلقى أحداً يعرفني إلا أهدى إلي معه شيئاً. فدفعت إليه الهدية: المال والثياب،
وأخبرته بما كان أمر به في الإبل إن وجد ميتاً؛ فقال: وددت أني كنت ميتاً، فنحرت
على قبري.
قال الزبير: وانصرف
حسان وهو يقول:
إن ابن جفنة من بقية
معشر ... لم يغذهم آباؤهم باللوم
لم ينسني بالشام إذ
هو ربها ... مهلكاً ولا متنصراً بالروم
يعطى الجزيل ولا يراه
عنده ... إلا كبعض عطية المذموم
فقال له رجل كان في
مجلس عمر: أتذكر ملوكاً كفرة أبادهم الله وأفناهم؟ قال: ممن الرجل؟ قال: مزني؛
قال: أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقت؛ طوق
الحمامة. قال: ثم جهزني عمر إلى قيصر وأمرني أن أضمن لجبلة ما اشترط به، فلما قدمت
القسطنطينية وجدت الناس منصرفين من جنازته، فعملت أن الشقاء غلب عليه في أم الكتاب.
وفود الأحنف
على عمر بن الخطاب
رضي الله عنهالمدائني قال: قدم الأحنف بن قيس التميمي على عمر بن الخطاب رضي الله
عنه في أهل البصرة وأهل الكوفة، فتكلموا عنده في أنفسهم وما ينوب كل واحد منهم،
وتكلم الأحنف فقال: يا أمير المؤمنين، إن مفاتيح الخير بيد الله، وقد أتتك وفود
أهل العراق، وإن إخواننا من أهل الكوفة والشام ومصر نزلوا منازل الأمم الخالية،
والملوك الجبابرة، ومنازل كسرى وقيصر، وبني الأصفر، فهم من المياه العذبة، والجنان
المخصبة، في مثل حولاء السلى وحدقة البعير؛ تأتيهم ثمارهم غضة لم تتغير، وإنا
نزلنا أرضاً نشاشة، طرف في فلاة وطرف في ملح أجاج، جانب منها منابت القصب، وجانب
سبخة نشاشة، لا يجف ترابها، ولا ينبت مرعاها، تأتينا منافعها في مثل مريء النعامة،
يخرج الرجل الضعيف منا يستعذب الماء من فرسخين، وتخرج المرأة بمثل ذلك ترنق ولدها
ترنيق العنز، تخاف عليه العدو والسبع، فإلا ترفع خسيستنا، وتنعش ركيستنا، وتجبر
فاقتنا، وتزيد في عيالنا عيالاً، وفي رجالنا رجالاً، وتصفر درهمنا، وتكبر قفيزنا،
وتأمر لنا بحفر نهر نستعذب به الماء هلكنا.
قال عمر: هذا والله
السيد! هذا والله السيد! قال الأحنف: فما زلت أسمعها بعدها.
فأراد زيد بن جبلة أن
يضع منه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنه ليس هناك، وأمه باهلية. قال عمر: هو خير منك
إن كان صادقاً. يريد إن كانت له نية. فقال الأحنف:
أنا ابن الباهلية
أرضعتني ... بثدي لا أجد ولا وخيم
أغض على القذى أجفان
عيني ... إذا شر السفيه إلى الحليم
قال: فرجع
الوفد واحتبس الأحنف عنده حولاً وأشهراً، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم، حذرنا كل منافق صنع اللسان، وإني خفتك فاحتبستك، فلم يبلغني عنك إلا خير،
رأيت لك جولاً ومعقولاً، فارجع إلى منزلك واتق الله ربك. وكتب إلى أبي موسى
الأشعري: أن يحتفر لهم نهراً.
وفود الأحنف وعمرو بن
الأهتم
على عمر بن الخطاب رضي
الله عنهالعتبي عن أبيه قال: وفد الأحنف وعمرو بن الأهتم على عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، فأراد أن يقرع بينهما في الرياسة، فلما اجتمعت بنو تميم، قال الأحنف:
ثوى قدح عن قومه
طالما ثوى ... فلما أتاهم قال قوموا تناجزوا
فقال عمرو بن الأهتم:
إنا كنا وأنتم في دار جاهلية فكان الفضل فيها لمن جهل، فسفكنا دماءكم، وسبينا
نساءكم، وإنا اليوم في دار الإسلام، والفضل فيها لمن حلم، فغفر الله لنا ولك. قال:
فغلب يومئذ عمرو بن الأهتم على الأحنف ووقعت القرعة لآل الأهتم. فقال عمرو بن
الأهتم:
لما دعتني للرياسة
منقر ... لدى مجلس أضحى به النجم باديا
شددت لها أزري وقد
كنت قبلها ... لأمثالها مما أشد إزاريا
وعمرو بن الأهتم: هو
الذي تكلم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسأله عن الزبرقان؛ فقال عمرو:
مطاع في أدنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزبرقان: والله يا رسول الله، إنه ليعلم مني أكثر مما قال، ولكن
حسدني، قال: أما والله يا رسول الله، إنه لزمر المروءة، ضيق العطن، أحمق الولد،
لئيم الخال، والله ما كذبت في الأولى، ولقد صدقت في الأخرى، رضيت عن ابن عمي فقلت
أحسن ما علمت، ولم أكذب، وسخطت عليه فقلت أقبح ما علمت، ولم أكذب؛ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً.
وفود عمرو بن معد
يكرب
على عمر بن الخطاب
رضي الله عنهإذ أوفده سعد
لما فتحت القادسية
على يدي سعد بن أبي وقاص، أبلى فيها عمرو بن معد يكرب بلاء حسناً، فأوفده سعد على
عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكتب إليه معه بالفتح وأثنى في الكتاب على عمرو. فلما
قدم على عمر بن الخطاب سأله عنه سعد؛ فقال: أعرابي في نمرته، أسد في تأمورته، نبطي في جبايته، يقسم بالسوية،
ويعدل في القضية، وينفر في السرية، وينقل إلينا حقنا نقل الذرة. فقال عمر: لشد ما تقارضتما
الثناء. وكان عمر قد كتب إلى سعد يوم القادسية أن يعطى الناس على قدر ما معهم من
القرآن. فقال سعد لعمرو بن معد يكرب: ما معك من القرآن؟ قال: ما معي شيء؛ قال: إن
أمير المؤمنين كتب إلي أن أعطي الناس على قدر ما معهم من القرآن؛ فقال عمرو:
إذا قتلنا ولا يبكي
لنا أحد ... قالت قريش ألا تلك المقادير
نعطى السوية من طعن
له نفذ ... ولا سوية إذ نعطى الدنانير
قال: فكتب سعد
بأبياته إلى عمر. فكتب إليه أن يعطى على مقاماته في الحرب.
وفود أهل اليمامة على
أبي بكر الصديق
رضي الله عنهوفد أهل
اليمامة على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، بعد إيقاع خالد بهم وقتله مسيلمة
الكذاب؛ فقال لهم أبو بكر: ما كان يقول صاحبكم؟ قالوا: أعفنا يا خليفة رسول الله؛ قال: لا بد أن تقولوا؛ قالوا: كان يقول: يا
ضفدع، كم تنقين، لا الشراب تمنعين، ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض ولقريش نصفها،
ولكن قريش قوم لا يعدلون. فقال لهم أبو بكر: وحيكم! ما خرج هذا من إل ولا بر، فأين
ذهب بكم؟ قال أبو عبيد: الإل: الله تعالى. والبر: الرجل الصالح.
وفود عمرو بن معد
يكرب على مجاشع بن مسعودوفد عمرو بن معد يكرب الزبيدي على مجاشع بن مسعود السلمي -
وكانت بين عمرو وبين سليم حروب في الجاهلية - فقدم عليه البصرة يسأله الصلة؛ فقال:
اذكر حاجتك؛ فقال له: حاجتي صلة مثلي. فأعطاه عشرة آلاف درهم، وفرساً من بنات الغبراء،
وسيفاً جرازاً، ودرعاً حصينة، وغلاماً خبازاً. فلما خرج من عنده، قال له أهل المجلس:
كيف وجدت صاحبك؟ قال: لله در بني سليم، ما أشد في الهيجاء لقاءها، وأكرم في
اللأواء عطاءها، وأثبت في المكرمات بناءها، والله يا بني سليم لقد قاتلناكم في
الجاهلية فما أجبناكم، ولقد هاجيناكم فما أقحمناكم، وقد سألناكم فما أبخلناكم.
فلله مسؤولاً نوالاً
ونائلاً ... وصاحب هيج يوم هيج مجاشع
الوفود على معاوية
وفود الحسن بن علي
رضي الله عنهما على
معاوية رضي الله عنهأبو بكر بن أبي شيبة قال: وفد الحسن بن علي رضي الله عنهما على
معاوية بعد عام الجماعة، فقال له معاوية، والله لأحبونك بجائزة ما أجزت بها أحداً
قبلك، ولا أجيز بها أحداً بعدك، فأمر بمائة ألف.
وفي بعض الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم، دخل على ابنته فاطمة، فوجد الحسن طفلاً يلعب بين يديها،
فقال لها: إن الله تعالى سيصلح على يدي ابنك هذا بين فئتين عظيمتين من المسلمين.
وفود زيد بن منية
على معاوية رحمه
اللهالعتبي قال: قدم زيد بن منية على معاوية من البصرة - وهو أخو يعلى بن منية
صاحب جمل عائشة ومتولي تلك الحروب، ورأس أهل البصرة، وكان عتبة بن أبي سفيان قد
تزوج يعلى بن منية - فلما دخل على معاوية، شكا إليه ديناً لزمه؛ فقال: يا كعب،
أعطه ثلاثين ألفاً، فلما ولى قال: وليوم الجمل ثلاثين ألفاً أخرى: ثم قال له: الحق
بصهرك - يعني عتبة - فقدم عليه مصر، فقال: إن سرت إليك شهرين أخوض فيهما المتالف،
ألبس أردية الليل مرة، وأخوض في لجج السراب أخرى، موقراً من حسن الظن بك، وهارباً
من دهر قطم، ودين لزم، بعد غنى جدعنا به أنوف الحاسدين، فلم أجد إلا إليك مهربا،
وعليك معولاً؛ فقال عتبة: مرحباً بك وأهلاً، إن الدهر أعاركم غنى، وخلطكم بنا، ثم
استرد ما أمكنه أخذه، وقد أبقى لكم منا ما لا ضيعة معه، وأنا واضع يدي ويدك بيد الله.
فأعطاه ستين ألفاً، كما أعطاه معاوية رحمه الله.
وفود عبد العزيز بن
زرارة
على معاوية رحمه
اللهالعتبي عن أبيه قال:
وفد عبد العزيز بن
زرارة على معاوية، وهو سيد أهل الكوفة، فلما أذن له وقف بين يديه، وقال: يا أمير
المؤمنين، لم أزل أهز ذوائب الرحال إليك، إذ لم أجد معولاً إلا عليك؛ أمتطي الليل
بعد النهار، وأسم المجاهل بالآثار، يقودني إليك أمل، وتسوقني بلوى؛ والمجتهد يعذر،
وإذ بلغتك فقطني. فقال معاوية: احطط عن راحتك رحلها.
وخرج عبد العزيز بن
زرارة مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك، فكتب به يزيد بن معاوية إلى
معاوية، فقال لزرارة: أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب؛ قال زرارة: يا أمير المؤمنين،
هو ابني أو ابنك؟ قال: بل ابنك؟ قال: للموت ما تلد الوالدة.
أخذ سابق البريري
فقال:
وللموت تغدو الوالدات
سخالها ... كما لخراب الدار تبنى المساكن
وقال آخر:
للموت يولد منا كل
مولود ... لا شيء يبقى ولا يفنى بموجود
وفود عبد الله جعفر
على يزيد بن معاويةالمدائني قال: قدم عبد الله بن جعفر على يزيد بن معاوية. فقال
له: كم كان عطاؤك؟ فقال له: ألف ألف، قال: قد أضعفاناها لك؛ قال: فداك أبي وأمي،
وما قلتها لأحد قبلك؛ قال: أضعفناها لك ثانية. فقيل ليزيد: أتعطي رجلاً واحداً
أربعة آلاف ألف! فقال: ويحكم! إنما أعطيتها أهل المدينة أجمعين، فما يده فيها إلا
عارية. فلما كان في السنة الثانية قدم عبد الله بن جعفر، وقدم مولى له يقال له
نافع، كانت له منزلة من يزيد بن معاوية. قال نافع: فلما قدمنا عليه أمر لعبد الله
بن جعفر بألف ألف، وقضى عنه ألف ألف، ثم نظر إلي فتبسم؛ فقلت: هذه لتلك الليلة.
وكنت سامرته ليلة في خلافة معاوية وأسمعته فيها فذكرته بها. وقدمت عليه هدايا من مصر
كثيرة، فأمر بها لعبد الله بن جعفر، وكان له مائة ناقة، فقلت لابن جعفر: لو سألته
منها شيئاً نحتلبه في طريقنا؟ ففعل، فأمر بصرفها كلها إليه. فلما
أراد الوداع أرسل إلي فدخلت عليه، فقال: ويلك! إنما أخترك لأتفرغ إليك، هات قول
جميل:
خليلي فيما عشتما هل
رأيتما ... قتيلاً بكى من حب قاتله قبلي
قال: فأسمعته!
فقال: أحسنت والله؛ هات حاجتك. فما سألته شيئاً إلا أعطانيه؛ فقال: إن يصلح الله
هذا الأمر من قبل ابن الزبير تلقنا بالمدينة، فإن هذا لا يحسن إلا هناك. فمنع
والله من ذلك شؤم ابن الزبير.
الوفود على عبد الملك
بن مروان
وفود عبد الله بن
جعفر
على عبد الملك بن
مروانقال بديح: وفد عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان، وكان زوج ابنته أم
كلثوم من الحجاج على ألفي ألف في السر وخمسمائة في العلانية، وحملها إليه إلى
العراق، فمكثت عنده ثمانية أشهر. قال بديح: فلما خرج عبد الله بن جعفر إلى عبد الملك بن مروان، خرجنا معه حتى
دخلنا دمشق، فإنا لنحط رحالنا إذ جاءنا الوليد بن عبد الملك على بغلة وردة ومعه الناس،
فقلنا: جاء إلى ابن جعفر ليحييه ويدعوه إلى منزله. فاستقبله ابن جعفر بالترحيب؛
فقال له: لكن أنت لا مرحباً بك ولا أهلاً؛ مهلاً يا بن أخي، فلست أهلاً لهذه
المقالة منك؛ قال: بلى ولشر منها؛ قال: وفيم ذلك؟ قال: إنك عمدت إلى عقيلة نساء العرب، وسيدة بني عبد مناف، ففرشتها عبد ثقيف
يتفخذها؛ قال: وفي هذا عتب علي يا بن أخي؟ قال: وما أكثر من هذا؟ قال: والله إن
أحق الناس أن لا يلومني في هذا لأنت وأبوك، إن كان من قبلكم من الولاة ليصلون
رحمي، ويعرفون حقي، وإنك وأباك منعتماني ما عندكما حتى ركبني من الدين ما والله لو
أن عبداً مجدعاً حبشياً أعطاني بها ما أعطاني عبد ثقيف لزوجتها، فإنما فديت بها
رقبتي من النار. قال: فما راجعه كلمة حتى عطف عنانه، ومضى حتى دخل على عبد الملك -
وكان الوليد إذا غضب عرف ذلك في وجهه - فلما رآه عبد الملك قال: مالك أبا العباس؟ قال: إنك سلطت عبد ثقيف وملكته
ورفعته، حتى تفخذ نساء عبد مناف، وأدركته الغير. فكتب عبد الملك إلى الحجاج يعزم
عليه أن لا يضع كتابه من يده حتى يطلقها. فما قطع الحجاج عنها رزقاً ولا كرامة
يجريها عليها حتى خرجت من الدنيا. قال: وما زال واصلاً لعبد الله بن جعفر حتى هلك.
قال بديح: فما كان
يأتي علينا هلال إلا وعندنا عير مقبلة من الحجاج، عليها لطف وكسوة وميرة، حتى لحق
عبد الله بن جعفر بالله.
ثم استأذن ابن جعفر
على عبد الملك، فلما دخل عليه استقبله عبد الملك بالترحيب، ثم أخذ بيده فأجلسه معه
على سريره، ثم سأله فألطف المسألة، حتى سأله عن مظعمه ومشربه، فلما انقضت مسألته،
قال له يحيى بن الحكم: أمن خبيثة كان وجهك أبا جعفر؟ قال: وما خبيثة؟ قال: أرضك
التي جئت منها؛ قال: سبحان الله! رسول الله صلى الله عليه وسلم يسميها طيبة
وتسميها خبيثة! لقد اختلفتما في الدنيا وأظنكما في الآخرة مختلفين. فلما خرج من
عنده هيأ له ابن جعفر هدايا وألطافاً. فقلت لبديح: ما قيمة ذلك؟ قال: قيمته مائة
ألف، من وصفاء ووصائف وكسوة وحرير ولطف من لطف الحجاز. قال: فبعثني بها، فدخلت عليه
وليس عنده أحد، فجعلت أعرض عليه شيئاً شيئاً. قال: فما رأيت مثل إعظامه لكل ما
عرضت عليه من ذلك، وجعل يقول كلما أريته شيئاً: عافى الله أبا جعفر، ما رأيت
كاليوم، وما كنا نريد أن يتكلف لنا شيئاً من هذا، وإن كنا لمتذممين محتشمين. قال:
فخرجت من عنده، وإذن لأصحابه، فوالله لبينا أنا أحدثه عن تعجب عبد الملك وإعظامه
لما أهدى إليه، إذا بفارس قد أقبل علينا، فقال: أبا جعفر، إن أمير المؤمنين يقرأ
السلام عليك، ويقول لك: جمعت لنا وخش رقيق الحجاز أباقهم، وحبست عنا فلانة، فابعث
بها إلينا - وذلك أنه حين دخل عليه أصحابه جعل يحدثهم عن هدايا ابن جعفر ويعظمها
عندهم؛ فقال له يحيى بن الحكم: وماذا أهدى إليك ابن جعفر؟ جمع لك وخش رقيق الحجاز
وأباقهم وحبس عنك فلانة؛ قال: ويلك! وما فلانة هذه؟ قال: ما لم يسمع والله أحد
بمثلها قط جمالاً وكمالاً وخلقاً وأدباً، لو أراد كرامتك بعث بها إليك؛ قال: وأين تراها،
وأين تكون؟ قال: هي والله معه، وهي نفسه التي بين جنبيه - فلما قال الرسول ما قال،
وكان ابن جعفر في أذنه بعض الوقر إذا سمع ما يكره تصام، فأقبل علي فقال: ما يقول
بديح؟ قال: قلت: فإن أمير المؤمنين يقرأ السلام ويقول: إنه جاءني بريد من ثغر كذا
يقول: إن الله نصر المسلمين وأعزهم؛ قال: اقرأ أمير المؤمنين السلام، وقل له: أعز الله نصرك، وكبت عدوك؛ فقال الرسول:
يا أبا جعفر، إني لست أقول هذا، وأعاد مقالته الأولى. فسألني، فصرفته إلى وجه آخر؛
فأقبل علي الرسول، فقال: يا ماص أبرسل أمير المؤمنين تهكم؟ وعن أمير المؤمنين تجيب
هذا الجواب؟ قال: والله لأطلن دمك؛ فانصرف. وأقبل علي ابن جعفر فقال: من ترى صاحبنا؟ قال: صاحبك بالأمس؛ قال: أظنه،
فما الرأي عندك؟ قلت: يا أبا جعفر، قد تكلفت له ما تكلفت فإن منعتها إياه جعلتها
سبباً لمنعك، ولو طلب أمير المؤمنين إحدى بناتك ما كنت أرى أن تمنعها إياه، قال:
ادعها لي. فلما أقبلت رحب بها، ثم أجلسها إلى جنبه، ثم قال: أما والله ما كنت أظن
أن يفرق بيني وبينك إلا الموت؛ قالت: وما ذاك؟ قال: إنه حدث أمر وليس والله كائناً
فيه إلا ما أحببت، جاء الدهر فيه بما جاء؛ قالت: وما هو؟ قال: إن أمير المؤمنين
بعث يطلبك، فإن تهوين فذاك، وإلا والله لا يكون أبداً؛ قالت: ما شيء لك فيه هوى
ولا أظن فيه فرجاً عنك إلا فديته بنفسي، وأرسلت عينيها بالبكاء؛ فقال لها: أما إذا
فعلت فلا ترين مكروهاً، فمسحت عينيها، وأشار إلي فقال: ويحك يا بديح! استحثها قبل
أن تتقدم إلي من القوم بادرة. قال: ودعا بأربع وصائف ودعا من صاحب نفقته بخمسمائة
دينار، ودعا مولاة له كانت تلي طيبه، فدحست لها ربعة عظيمة مملوءة طيباً، ثم قال:
عجلها ويلك! فخرجت أسوقها حتى انتهيت إلى الباب، وإذا الفارس قد بلغ عني، فما
تركني الحجاب أن تمس رجلاي الأرض حتى أدخلت على عبد الملك وهو يتلظى؛ فقال لي: يا
ماص! وكذا أنت المجيب عن أمير المؤمنين والمتهكم برسله؟ قلت: يا أمير المؤمنين،
ائذن لي أتكلم؛ قال: وما تقول يا كذا وكذا؟ قلت: ائذن لي يجعلني الله فداك أتكلم؛
قال: تكلم؛ قلت: يا أمير المؤمنين، أنا أصغر شأناً، وأقل خطراً من أن يبلغ كلامي
من أمير المؤمنين ما أرى، وهل أنا إلا عبد من عبيد أمير المؤمنين، نعم قد قلت ما
بلغك، وقد يعلم أمير المؤمنين أنا إنما نعيش في كنف هذا الشيخ، وأن الله لم يزل
إليه محسناً، فجاءه من قبلك شيء ما أتاه قط مثله، إنما طلبت نفسه التي بين جنبيه،
فأجبت بما بلغك لأسهل الأمر عليه، ثم سألني فأخبرته، واستشارني فأشرت عليه، وها هي
ذه قد جئتك بها؛ قال: أدخلها ويلك! قال:
فأدخلتها عليه، وعنده
مسلمة ابنه غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضر شاربه، فلما جلست وكلها أعجب
بكلامها، فقال: لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب إليك، أم أهبك لهذا الغلام؟ فإنه ابن
أمير المؤمنين؛ قالت: يا أمير المؤمنين، لست لك بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام
لي وجهاً؛ قال: فقام من مكانه ما راجعها؛ فدخل وأقبل عليها مسلمة، يالكاع، أعلى
أمير المؤمنين تختارين؟ قالت: يا عدو نفسه، إنما تلومني أن اخترتك! لعمر الله، لقد
قال: رأي من اختارتك. قال: فضيقت والله مجلسه؛ واطلع علينا عبد الملك، قد ادهن بدهن وارى
الشيب، وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب، بيده مخصرة يخطر بها، فجلس مجلسه على سريره،
ثم قال: إيها! لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب لك، أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت: ومن أنت
أصلحك الله؟ قال لها الخصي: هذا أمير المؤمنين؛ قالت: لست مختارة على أمير
المؤمنين أحداً؛ قال: فأين قولك آنفاً؟ قالت: رأيت شيخاً كبيراً، وأرى أمير
المؤمنين أشب الناس وأجملهم، ولست مختارة عليه أحداً، قال: دونكها
يا مسلمة.دخلتها عليه، وعنده مسلمة ابنه غلام ما رأيت مثله ولا أجمل منه حين اخضر
شاربه، فلما جلست وكلها أعجب بكلامها، فقال: لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب إليك، أم
أهبك لهذا الغلام؟ فإنه ابن أمير المؤمنين؛ قالت: يا أمير المؤمنين، لست لك
بحقيقة، وعسى أن يكون هذا الغلام لي وجهاً؛ قال: فقام من مكانه ما راجعها؛ فدخل وأقبل عليها مسلمة، يالكاع، أعلى أمير المؤمنين
تختارين؟ قالت: يا عدو نفسه، إنما تلومني أن اخترتك! لعمر الله، لقد قال: رأي من
اختارتك. قال: فضيقت والله مجلسه؛ واطلع علينا عبد الملك، قد ادهن بدهن وارى
الشيب، وعليه حلة تتلألأ كأنها الذهب، بيده مخصرة يخطر بها، فجلس مجلسه على سريره،
ثم قال: إيها! لله أبوك! أمسكك لنفسي أحب لك، أم أهبك لهذا الغلام؟ قالت: ومن أنت
أصلحك الله؟ قال لها الخصي: هذا أمير المؤمنين؛ قالت: لست مختارة على أمير
المؤمنين أحداً؛ قال: فأين قولك آنفاً؟ قالت: رأيت شيخاً كبيراً، وأرى أمير
المؤمنين أشب الناس وأجملهم، ولست مختارة عليه أحداً، قال: دونكها يا مسلمة.
قال بديح: فنشرت عليه
الكسوة والدنانير التي معي، وأريته الجواري والطيب؛ قال: عافى الله ابن جعفر، أخشي
أن لا يكون لها عندنا نفقة وطيب وكسوة؟ فقلت: بلى، ولكن أحب أن يكون معها ما تكتفي
به حتى تستأنس. قال: فقبضها مسلمة. فلم تلبث عنده إلا يسيراً حتى هلكت. قال بديح:
فوالله الذي ذهب بنفس مسلمة، ما جلست معه مجلساً، ولا وقفت موقفاً أنازعه فيه
الحديث إلا قال: أبغني مثل فلانة، فأقول: أبغني مثل ابن جعفر.
قال: فقلت لبديح:
ويلك! فما أجازه به؟ قال: قال: حين دفع إليه حاجته ودينه، لأجيزنك جائزة، لو نشر لي مروان من
قبره ما زدته عليها، فأمر له بمائة ألف، وأيم الله إني لا أحسبه أنفق في هديته ومسيره
ذلك وجاريته التي كانت عدل نفسه مائتي ألف.
وفود الشعبي
على عبد الملك بن
مروانكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف: أن ابعث رجلاً يصلح للدين
وللدنيا، أتخذه سميراً وجليساً وخلياً؛ فقال الحجاج: ما له إلا عامر الشعبي، وبعث
به إليه. فلما دخل عليه وجده قد كبامهتماً، فقال: ما بال أمير المؤمنين؟ قال: ذكرت قول زهير:
كأني وقد جاوزت تسعين
حجة ... خلعت بها عني عذار لجامي
رمتني بنات الدهر من
حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برامي
فلو أنني أرمى بنبل
رأيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام
على الراحتين تارة
وعلى العصا ... أنوء ثلاثاً بعدهن قيامي
قال له الشعبي: ليس
كذلك يا أمير المؤمنين، ولكن كما قال لبيد بن ربيعة وقد بلغ سبعين حجة:
كأني وقد جاوزت سبعين
حجة ... خلصت بها عن منكبي ردائياً
ولما بلغ سبعاً وسبعين
سنة قال:
بانت تشكي إلى النفس
موهنة ... وقد حملتك سبعاً بعد سبعيناً
فإن تزادي ثلاثاً
تبلغي أملاً ... وفي الثلاث وفاء للثمانيناً
ولما بلغ تسعين سنة
قال:
وقد سئمت من الحياة
وطولها ... وسؤال هذا الناس كيف لبيد
ولما بلغ عشراً ومائة
قال:
أليس ورائي إن تراخت منيتي
... لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون
التي خلت ... أنوء كأني كلما قمت راكع
ولما بلغ ثلاثين
ومائة وحضرته الوفاة قال:
تمنى ابنتاي أن يعيش
أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
فقوما فقولا بالذي
تعلمانه ... ولا تخمشا وجهاً ولا تحلقا شعر
وقولا هو المرء الذي
لا صديقه ... أضاع ولا خان الخليل ولا غدر
إلى سنة ثم السلام
عليكما ... ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر
قال الشعبي: فلقد
رأيت السرور في وجه عبد الملك طمعاً أن يعيشها.
وفود الحجاج بإبراهيم
بن محمد
بن طلحة على عبد
الملك بن مروانعمران بن عبد العزيز قال:
لما ولي الحجاج بن
يوسف الحرمين بعد قتله ابن الزبير استخلص إبراهيم بن محمد بن طلحة فقربه وعظم
منزلته، فلم تزل حاله عنده حتى خرج إلى عبد الملك بن مروان، فخرج معه معادلاً، لا
يقصر له في بر ولا إعظام، حتى حضر به عبد الملك، فلما دخل عليه لم يبدأ بشيء بعد
السلام إلا أن قال له: قدمت عليك أمير المؤمنين برجل الحجاز، لم أدع له بها نظيراً
في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قد الأبوة
وما بلوت منه في الطاعة والنصيحة وحسن الموازرة، وهو إبراهيم بن محمد بن طلحة، وقد
أحضرته بابك ليسهل عليه إذنك، وتعرف له ما عرفتك؛ فقال: أذكرتنا رحماً قريبة وحقاً
واجباً، يا غلام، ائذن لإبراهيم بن محمد بن طلحة، فلما دخل عليه أدناه عبد الملك
حتى أجلسه على فراشه، ثم قال له: يا بن طلحة، إن أبا محمد ذكرنا ما لم نزل نعرفك
به في الفضل والأدب والمروءة وحسن المذهب، مع قرابة الرحم ووجوب الحق وعظم قدر
الأبوة، وما بلاه منك في الطاعة والنصيحة وحسن الوازرة، فلا تدعن حاجة عن خاصة
نفسك وعامتك إلا ذكرتها؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إن أول الحوائج وأحق ما قدم بين
يدي الأمور ما كان لله فيه رضا، ولحق نبيه صلى الله عليه وسلم أداء، ولك فيه
ولجماعة المسلمين نصيحة، وعندي نصيحة لا أجد بداً من ذكرها، ولا أقدر على ذلك إلا
وأنا خال، فأخلني يا أمير المؤمنين ترد عليك نصيحتي؛ قال: دون أبي محمد؟ قال: نعم،
دون أبي محمد. قال عبد الملك للحجاج: قم. فلما خطرف الستر أقبل علي، فقال: يا بن طلحة،
قل نصيحتك؛ فقال: تالله يا أمير المؤمنين، لقد عمدت إلى الحجاج في تغطرسه،
وتعجرفه، وبعده من الحق، وقربه من الباطل، فوليته الحرمين، وهما ما هما وبهما ما
بهما من المهاجرين والأنصار والموالي الأخيار يطؤهم بطغام أهل الشام ورعاع لا روية
لهم في إقامة حق ولا في إزاحة باطل، ويسومهم الخسف ويحكم فيهم بغير السنة، بعد
الذي كان من سفك دمائهم، وما انتهك من حرمهم، ثم ظننت أن ذلك فيما بينك وبين الله
زاهق، وفيما بينك وبين نبيك غداً إذا جاثاك للخصومة بين يدي الله في أمته، أما
والله لا تنجو هنالك إلا بحجة، فاربع على نفسك أودع. فقال له عبد الملك: كذبت ومنت
وظن بك الحجاج ما لم يجده فيك، وقد يظن الخير بغير أهله، قم فأنت الكاذب المائن.
قال: فقمت وما أعرف طريقاً، فلما خطرف الستر لحقني لاحق، فقال: احبسوا هذا، وقال
للحجاج: ادخل، فدخل، فمكث ملياً من النهار لا أشك أنهما في أمري، ثم خرج
الآذن، فقال: ادخل يا بن طلحة، فلما كشف لي الستر لقيني الحجاج، وهو خارج وأنا داخل،
فاعتنقني وقبل ما بين عيني، وقال: أما إذا جزى الله المتواخيين خيراً تواصلهم
فجزاك الله عني أفضل الجزاء، فوالله لئن سلمت لك لأرفعن ناظرك، ولأعلين كعبك،
ولأتبعن الرجال غبار قدميك؛ قال: قلت: يهزأ بي وحق الكعبة. فلما
وصلت إلى عبد الملك أدناني حتى أدناني عن مجلسي الأول، ثم قال: يا بن طلحة، لعل
أحداً شاركك في نصيحتك هذه؟ قلت: والله يا أمير المؤمنين، ما أعلم أحداً أنصع عندي
يداً ولا أعظم معروفاً من الحجاج، ولو كنت محابياً أحداً لغرض دنيا لحابيته، ولكني
آثرت الله ورسوله وآثرتك والمؤمنين عليه؛ قال: قد علمت أنك لم ترد الدنيا، ولو
أردتها لكانت لك في الحجاج، ولكن أردت الله والدار الآخرة، وقد عزلته عن الحرمين
لما كرهت من ولايته عليهما، وأعلمته أنك استنزلتني له عنهما استقلالاً لهما،
ووليته العراقين، وما هنالك من الأمور التي لا يدحضها إلا مثله، وأعلمته أنك
استدعيتني إلى ولايته عليهما استزادة له، لألزمه بذلك من حقك ما يؤدي إليك عني أجر
نصيحتك، فاخرج معه فإنك غير ذام لصحبته. فخرجت مع الحجاج وأكرمني أضعاف إكرامه.
وفود رسول المهلب على
الحجاج
بقتل الأزارقةأبو
الحسن المدائني قال:
لما هزم المهلب بن
أبي صفرة قطري بن الفجاءة صاحب الأزارقة، بعث إلى مالك بن بشير، فقال له: إني
موفدك إلى الحجاج فسر، فإنما هو رجل مثل؛ وبعث إليه بجائزة، فردها وقال: إنما الجائزة
بعد الاستحقاق، وتوجه. فلما دخل إلى الحجاج؛ قال له، ما اسمك؟ قال: مالك بن بشير؛
قال: ملك وبشارة؛ كيف تركت المهلب؟ قال: أدرك ما أمل وأمن من خاف؛ قال: كيف هو
بجنده؟ قال: والد رءوف؛ قال: فكيف جنده له؟ قال أولاد بررة؛ قال: كيف رضاهم عنه؟
قال: وسعهم بالفضل وأقنعهم بالعدل؛ قال: فكيف تصنعون إذا لقيتم عدوكم؟ قال: نلقاهم
بحدنا فنطمع فيهم، ويلقوننا بحدهم فيطعمون فينا؛ قال: كذلك الحد إذا لقي الحد؛
قال: فما حال قطري؟ قال: كادنا ببعض ما كدناه؛ قال: فما منعكم من إتباعه؟ قال:
رأينا المقام من ورائه خيراً من إتباعه؛ قال: فأخبرني عن ولد المهل؛ قال: أعباء
القتال بالليل، حماة السرح بالنهار؛ قال: أيهما أفضل؟ قال: ذلك إلى أبيهم؛ قال:
لتقولن؛ قال: هم كحلقة مضروبة لا يعرف طرفاها؛ قال: أقسمت عليك، هل روأت في هذا
الكلام؟ قال: ما أطلع الله على غيبة أحداً؛ فقال الحجاج لجلسائه: هذا والله الكلام
المطبوع، لا الكلام المصنوع.
وفود جرير
على عبد الملك بن
مروانلما مدح جرير بن الخطفي الحجاج بن يوسف بشعره الذي يقول فيه:
من سد مطلع النفاق
عليكم ... أم من يصول كصولة الحجاج
أم من يغار على
النساء حفيظة ... إذ لا يثقن بغيرة الأزواج
وقوله:
دعا الحجاج مثل دعاء
نوح ... فأسمع ذا المعارج فاستجابا
قال له الحجاج: إن
الطاقة تعجز عن المكافأة، ولكني موفدك على أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان، فسر
إليه بكتابي هذا. فسار إليه، ثم استأذنه في الإنشاد، فأذن له، فقال:
أتصحو بل فؤادك غير
صاحي
قال له عبد الملك: بل
فؤادك. فلما انتهى إلى قوله:
تعزت أم حزرة ثم قالت
... رأيت الواردين ذوي امتياح
ثقي بالله ليس له
شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
سأشكر إن رددت إلي
ريشي ... وأثبت القوادم في جناحي
ألستم خير من ركب
المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
ارتاح عبد الملك وكان
متكئاً، فاستوى جالساً، ثم قال: من مدحنا منكم فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت؛ ثم قال
له: يا جرير، أترى أم حزرة ترويها مائة ناقة من نعم كلب؟ قال: إذا لم تروها يا
أمير المؤمنين فلا أرواها الله. فأمر له بمائة ناقة من نعم كلب كلها سود الحدقة؛
فقال: يا أمير المؤمنين، إنها أباق ونحن مشايخ، وليس بأحدنا فضل عن راحلته؛ فلو
أمرت بالرعاء؛ فأمر له بثمانية من الرعاء. وكانت بين يدي عبد الملك صحاف من فضة
يقرعها بقضيب في يده؛ فقال له جرير: والمحلب يا أمير المؤمنين، وأشار إلى صحفة
منها، فنبذها إليه بالقضيب وقال: خذها لا نفعتك. ففي ذلك يقول جرير:
أعطوا هنيدة يحدوها
ثمانية ... ما في عطائهم من ولا شرف
الوفود على عمر بن
عبد العزيز
وفود جرير
عن أهل الحجاز على
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهقدم جرير بن الخطفي، على عمر بن عبد العزيز رضي
الله عنه، عن أهل الحجاز فاستأذنه في الشعر، فقال: ما لي وللشعر يا جرير؟ إني لفي شغل عنه؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنها
رسالة عن أهل الحجاز؛ قال: فهاتها إذاً؛ فقال:
كم من ضرير أمير
المؤمنين لدى ... أهل الحجاز دهاه البؤس والضرر
أصابت السنة الشهباء
ما ملكت ... يمينه فحناه الجهد والكبر
ومن قطيع الحشا عاشت
مخبأة ... ما كانت الشمس تلقاها ولا القمر
لما اجتلتها صروف
الدهر كارهة ... قامت تنادي بأعلى الصوت يا عمر
وفود دكين الراجز
على عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنه
قال دكين بن رجاء
الفقيمي الراجز: مدحت عمر بن عبد العزيز، وهو والي المدينة، فأمر لي بخمس عشرة
ناقة كرائم صعاباً، فكرهت أن أرمي بها الفجاج فتنشر علي، ولم تطب نفسي ببيعها،
فقدمت علينا رفقة من مضر، فسألتهم الصحبة، فقالوا: إن خرجت الليلة؛ فقلت: إني لم أودع الأمير ولا بد من وداعه؛ قالوا:
فإن الأمير لا يحجب عن طارق ليل؛ فاستأذنت عليه، فأذن لي وعنده شيخان لا أعرفهما؛
فقال لي: يا دكين، إن لي نفساً تواقة، فإن أنا صرت إلى أكثر مما أنا في فبعين ما
أرينك؛ قلت: أشهد لي بذلك أيها الأمير؛ قال: إني أشهد الله؛ قلت: ومن خلقه؟ قال:
هذين الشيخين؛ قلت لأحدهما: من أنت يرحمك الله أعرفك؟ قال: سالم بن عبد الله؛
فقلت: لقد استسمنت الشاهد؛ وقلت للآخر: من أنت يرحمك الله؟ قال: أبو يحيى مولى
الأمير، وكان مزاحم يكنى أبا يحيى. قال دكين: فخرجت بهن إلى بلدي فرمى الله في
أذنابهن بالبركة، حتى اتخذت منهن الضياع والربع والغلمان، فإني لبصحراء فلج إذا
بريد يركض إلى الشام، فقلت له: هل من مغربة خبر قال: مات سليمان بن عبد الملك؛
قلت: فمن القائم بعده؟ قال: عمر بن عبد العزيز. قال: فأنخت قلوصي، فألقيت عليها
أداتي وتوجهت عنده، فلقيت جريراً في الطريق جائياً من عنده، فقلت: من أيا أبا
حزرة؟ قال: من عند أمير يعطي الفقراء ويمنع الشعراء؛ قلت: فما ترى، فإني خرجت
إليه؟ قال: عول عليه في مال ابن السبيل، كما فعلت. فانطلقت فوجدته قاعداً على كرسي
في عرصة داره قد أحاط الناس به، لم أجد إليه سبيلاً للوصول، فناديت بأعلى صوتي:
يا عمر الخيرات
والمكارم ... وعمر الدسائع العظائم
إني امرؤ من قطن بن
دارم ... أطلب حاجي من أخي مكارم
إذ ننتجي والله غير
نائم ... في ظلمة الليل وليلي عاتم
عند أبي يحيى وعند
سالم
فقام أبو يحيى، ففرج
لي وقال: يا أمير المؤمنين، إن لهذا البدوي عندي شهادة عليك؛ قال: أعرفها، ادن مني
يا دكين، أنا كما ذكرت لك أن لي نفساً تواقة، وأن نفسي تاقت إلى أشرف منازل
الدنيا؛ فلما أدركتها وجدتها تتوق إلى الآخرة، والله ما رزأت من أمور الناس شيئاً
فأعطيك منه، وما عندي إلا ألفا درهم، أعطيك أحدهما؛ فأمر لي بألف درهم. فوالله ما
رأيت ألفاً كانت أعظم بركة منها.
وفود كثير والأحوص
على عمر بن العزيز
رضي الله عنهحماد الراوية قال:
قال لي كثير عزة: ألا
أخبرك عما دعاني إلى ترك الشعر؟ قلت: نعم؛ قال: شخصت أنا والأحوص ونصيب إلى عمر بن
عبد العزيز رضي الله عنه، وكل واحد منا يدل عليه بسابقة وإخاء قديم، ونحن لا نشك
أنه سيشر كنا في خلافته، فلما رفعت لنا أعلام خناصرة، لقينا مسلمة بن عبد الملك،
وهو يومئذ فتى العرب؛ فسلمنا، فرد، ثم قال: أما بلغكم أن إمامكم لا يقبل الشعر؟
قلنا ما توضح إلينا خبر حتى انتهينا إليك، ووجمنا وجمة عرف ذلك فينا؛ فقال: إن يك
ذو دين بنى مروان قد ولي وخشيتم حرمانه، فإن ذا دنياها قد بقي ولكم عندي ما تحبون،
وما ألبث حتى أرجع إليكم وأمنحكم ما أنتم أهله. فلما قدم كانت رحالنا عنده بأكرم منزل
وأكرم منزول عليه؛ فأقمنا عنده أربعة أشهر يطلب لنا الإذن هو وغيره فلا يؤذن لنا،
إلى أن قلت في جمعة من تلك الجمع: لو أني دنوت من عمر فسمعت كلامه فحفظته كان ذلك
رأيا، ففعلت. فكان مما حفظت من كلامه: لكل سفر زاد لا محالة، فتزودوا لسفركم من
الدنيا إلى الآخرة بالتقوى، وكونوا كمن عاين ما أعد الله له من ثوابه أو عقابه،
فترغبوا وترهبوا، ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم وتنقادوا لعدوكم؛ في كلام
كثير لا أحفظه. ثم قال: أعوذ بالله أن آمركم بما أنهى عنه نفسي فتخسر صفقتي، وتظهر
عيلتي، وتبدو مسكنتي، في يوم لا ينفع فيه إلا الحق والصدق. ثم بكى حتى ظننت أنه
قاض نحبه، وارتج المسجد وما حوله بالبكاء فانصرفت إلى صاحبي فقلت لهما: خذا في شرج
من الشعر غير ما كنا نقول لعمر وآبائه، فإن الرجل آخري وليس بدنيوي. إلى أن استأذن
لنا مسلمة في يوم جمعة ما أذن للعامة، فلما دخلت سلمت ثم قلت: يا أمير المؤمنين،
طال الثواء وقلت الفائدة وتحدثت بجفائك إيانا وفود العرب؛ قال؛ يا كثير "
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب
والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل " أفي واحد من هؤلاء أنت؟ قلت: بلى، ابن
سبيل منقطع به، وأنا ضاحك؛ قال: ألست ضيف أبي سعيد؟ قلت: بلى؛ قال: ما أرى ضيف أبي سعيد منقطعاً به؛ قلت: يا أمير المؤمنين،
أتأذن لي في الإنشاء؟ قال: نعم، ولا تقل إلا حقاً، فقلت:
وليت فلم تشتم عليا
ولم تخف ... بريا ولم تقبل إشارة مجرم
وصدقت بالفعل المقال
مع الذي ... أتيت فأمسى راضياً كل مسلم
ألا إنما الفتى بعد
زيغة ... من الأود البادي ثقاف المقوم
وقد لبست لبس الهلوك
ثيابها ... تراءى لك الدنيا بكف ومعصم
وتومض أحياناً بعين
مريضة ... وتبسم عن مثل الجمان المنظم
فأعرضت عنها مشمئزاً
كأنما ... سقتك مدوفاً من سمام وعلقم
وقد كنت من أجبالها
في ممنع ... ومن بحرها في مزبد الموج مفعم
وما زلت تواقاً إلى
كل غاية ... بلغت بها أعلى البناء المقوم
فلما أتاك الملك
عفواً ولم يكن ... لطالب دنيا بعده من تكلم
تركت الذي يفنى وإن
كان مونقا ... وآثرت ما يبقى برأي مصمم
وأضررت بالفاني وشمرت
للذي ... أمامك في يوم من الهول مظلم
ومالك إذ كنت الخليفة
مانع ... سوى الله من مال رغيب ولا دم
سما لك هم في الفؤاد
مؤرق ... بلغت به أعلى المعالي بسلم
فما بين شرق الأرض
والغرب كلها ... مناد ينادي من فصيح وأعجم
يقول: أمير المؤمنين
ظلمتني ... بأخذ للدينار ولا أخذ درهم
ولا بسط كف لامرئ غير
مجرم ... ولا السفك منه ظالماً ملء محجم
ولو يستطيع المسلمون
لقسموا ... لك الشطر من أعمارهم غير ندم
فأربح بها من صفقة
لمبايع ... وأعظم بها أعظم بها ثم أعظم
قال: فأقبل علي وقال:
إنك مسؤول عما قلت. ثم تقدم الأحوص فاستأذنه في الإنشاد؛ فقال: قل ولا تقل إلا
حقاً؛ فقال:
وما الشعر إلا حكمة
من مؤلف ... بمنطق حق أو بمنطق باطل
فلا تقبلن إلا الذي
وافق الرضا ... ولا ترجعنا كالنساء الأرامل
رأيناك تعدل عن الحق
يمنة ... ولا شأمة فعل الظلوم المخاتل
ولكن أخذت الحق جهدك
كله ... وتقفو مثال الصالحين الأوائل
فقلنا ولم نكذب بما
قد بدا لنا ... ومن ذا يرد الحق من قول قائل
ومن ذا يرد السهم بعد
مضائه ... على فوقه إذ عار من نزع نابل
ولولا قد عودتنا
خلائف ... غطاريف كانوا كالليوث البواسل
لما وخدت شهراً برحلى
شملة ... تقدمتون البيد بين الرواحل
ولكن رجونا منك مثل
الذي به ... حبينا زماناً من ذويك الأوائل
فإن لم يكن للشعر
عندك موضع ... وإن كان مثل الدر من نظم قائل
وكان مصيباً صادقاً
لا يعيبه ... سوى أنه يبنى بناء المنازل
فإن لنا قربى ومحض
مودة ... وميراث آباء مشوا بالمناصل
فذادوا عدو السلم عن
عقر دارهم ... وأرسوا عمود الدين بعد التمايل
وقبلك ما أعطى
الهنيدة جلة ... على الشعر كعباً من سديس وبازل
رسول الإله المستضاء
بنوره ... عليه سلام الضحى والأصائل
فقال: إنك
مسؤول عما قلت. قم تقدم نصيب فاستأذنه في الإنشاد، فلم يأذن له، وأمره بالغزو إلى
دابق، فخرج إليها وهو محموم. وأمر لي بثلثمائة، وللأحوص بمثلها، ولنصيب بمائة
وخمسين.
وفود الشعراء
على عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنهابن الكبى: لما استخلف عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وفدت إليه
الشعراء كما كانت تفد إلى الخلفاء قبله، فأقاموا ببابه أياماً لا يأذن لهم
بالدخول، حتى قدم عون بن عبد الله بن عنبة بن مسعود على عمر بن عبد العزيز، وعليه
عمامة قد أرخى طرفيها، وكانت له منه مكانة، فصاح به جرير:
يا أيها الرجل المرخي
عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت
لاقيه ... أني لدى الباب كالمصفود في قرن
وحش المكانة من أهلي
ومن لدى ... نائي المحلة عن داري وعن وطني
قال: نعم أبا
حزرة ونعمى عين. فلما دخل على عمر، قال: يا أمير المؤمنين، إن الشعراء ببابك،
وأقوالهم باقية وسنانهم مسنونة؛ قال: يا عون: مالي وللشعراء؛ قال: يا أمير
المؤمنين، إن النبي صلى الله عليه وسلم: قد مدح وأعطى، وفيه أسوة لكل مسلم؛ قال:
ومن مدحه؟ قلت: عباس بن مرداس، فكساه حلة قطع بها لسانه؛ قال: وتروي قول؟ قلت: نعم:
رأيتك يا خير البرية
كلها ... نشرت كتاباً جاء بالحق معلما
ونورت بالبرهان أمراً
مدمساً ... وأطفأت بالبرهان ناراً مضرما
فمن مبلغ عني النبي
محمداً ... وكل امرئ يجزى بما قد تكلما
تعالى علواً فوق عرش
إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
قال: صدقت، فم بالباب
منهم؟ قلت: ابن عمك عمر بن أبي ربيعة؛ قال: لا قرب الله قرابته ولا حيا وجهه، أليس
هو القائل:
ألا ليت أني يوم حانت
منيتي ... شممت الذي ما بين عينيك والفم
وليت طهوري كان ريقك
كله ... وليت حنوطي من مشاشك والدم
ويا ليت سلمى في
القبو ضجيعتي ... هنالك أو في جنة أو جهنم
فليته والله تمنى
لقاءها في الدنيا، ويعمل عملاً صالحاً، والله لا دخل علي أبداً؛ فمن بالباب غير من
ذكرت؟ قلت: جميل بن معمر العذري؛ قال: هو الذي يقول:
ألا ليتنا نحيا
جميعاً وإن نمت ... يوافي لدى الموتى ضريحي ضريحها
فما أنا في طول
الحياة براغب ... إذا قيل قد سوي عليها صفيحها
أظل نهاري لا أراها
ويلتقي ... مع الليل روحي في المنام وروحها
اعزب به، فوالله لا
دخل علي أبداً، فمن غير من ذكرت؟ قلت: كثير عزة؛ قال: هو الذي قال:
رهبان مدين والذين
عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت
حديثها ... خروا لعزة راكعين سجودا
اعزب به، فمن بالباب
غير من ذكرت؟ قلت: الأحوص الأنصاري؛ قال: أبعد الله ومحقه، أليس هو القائل، وقد أفسد
على أهل المدينة جارية عرب بها منه:
الله بيني وبين سيدها
... يفر عني بها وأتبع
اعزب به، فمن بالباب
غير من ذكرت؟ قلت: همام بن غالب الفرزدق؛ قال: أليس هو القائل يفخر بالزنى:
هما دلتاني من ثمانين
قامة ... كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي في
الأرض قالتا ... أحي يرجى أم قتيل نحاذره
وأصبحت في القوم
الجلوس وأصبحت ... مغلقة دوني عليها دساكره
فقلت ارفعا الأسباب
لا يشعروا بنا ... ووليت في أعقاب ليل أبادره
اعزب به، فوالله لا
دخل علي أبداً، فمن بالباب غير من ذكرت؟ قلت: الأخطل التغلبي؛ قال: أليس هو القائل:
فلست بصائم رمضان
عمري ... ولست بآكل لهم الأضاحي
ولست بزاجر عنسا
بكوراً ... إلى بطحاء مكة للنجاح
ولست بقائم كالعير
يدعو ... قبيل الصبح حي على الفلاح
ولكني سأشربها شمولاً
... وأسجد عند منبلج الصباح
اعزب به، فوالله لا
وطئ لي بساطاً أدباً وهو كافر، فمن الباب غير من ذكرت؟ قلت: جرير بن الخطفي؛ قال:
أليس هو القائل:
لولا مراقبة العيون
أريتنا ... مقل المها وسوالف الآرام
هل ينهينك أن قتلن
مرقشا ... أو ما فعلن بعروة بن حزام
ذم المنازل بعد منزلة
اللوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام
طرقتك صائدة القول
وليس ذا ... حين الزيارة فارجعي بسلام
فإن كان ولا بد فهذا،
فأذن له فخرجت إليه، فقلت: ادخل أبا حزرة؛ فدخل وهو يقول:
إن الذي بعث النبي
محمداً ... جعل الخلافة في إمام عادل
وسع الخلائق عدله
ووفاؤه ... حتى أرعوى وأقام ميل المائل
والله أنزل في القرآن
فريضة ... لابن السبيل وللفقير العائل
إني لأرجو منك خيراً
عاجلاً ... والنفس مولعة بحب العاجل
فلما مثل بين يديه،
قال: اتق الله يا جرير، ولا تقل إلا حقاً؛ فأنشأ يقول:
كم باليمامة من شعثاء
أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن يعدك تكفي فقد
والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر
يدعوك دعوة ملهوف كأن
به ... خبلا من الجن أو مسا من البشر
خليفة الله ماذا
تأمرن بنا ... لنا إليكم ولا في دار منتظر
ما زلت بعدك في هم
يؤرقني ... قد طال في الحي إصعادي ومنحدري
لا ينفع الحاضر
المجهود بادينا ... ولا يعود لنا باد على حضر
إنا لنرجو إذا ما
الغيث أخلفنا ... من الخليفة ما نرجو من المطر
نال الخلافة إذ كانت
له قدراً ... كما أتى ربه موسى على قدر
هذي الأرامل قد قضيت
حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
فقال: يا جرير،
والله لقد وليت هذا الأمر، وأملك إلا ثلثمائة، فمائة أخذها عبد الله، ومائة أخذتها
أم عبد الله، يا غلام، أعطه المائة الباقية؛ فقال: والله يا أمير المؤمنين إنها لأحب مال إلي كسبته، ثم خرج؛ فقالوا له:
ما وراءك؟ قال: ما يسوؤكم، خرجت من عند أمير المؤمنين يعطى الفقراء ويمنع الشعراء،
وإني عنه لراض، ثم أنشأ يقول:
رأيت رقى الشيطان لا
تستفزه ... وقد كان شيطاني من الجن راقياً.
الوفود على ابن
الزبير
وفود نابغة بني جعدة
على ابن الزبير
رحمه الله
تعالى:الزبير بن بكار قاضي الحرمين قال: أقحمت السنة نابغة بني جعدة، فوفد إلى ابن
الزبير، فدخل عليه في المسجد الحرام، ثم أنشده:
حكيت لنا الصديق لما
وليتنا ... وعثمان والفاروق فارتاح معدم
وسويت بين الناس في
الحق فاستووا ... فعاد صباحاً حالك اللون مظلم
أتاك أبو ليلى يجوب
به الدجى ... دجى الليل جواب الفلاة عثمثم
لتجبر منه جانباً
زعزعت به ... صروف الليالي والزمان المصمم
فقال له ابن الزبير:
هو عليك أبا ليلى، فالشعر أدنى وسائل عندنا، أما صفوة أموالنا فلآل الزبير، وأما
عفوته فإن بني أسد وتيماً تشغلها عنك، ولكن لك في مال الله سهمان، سهم برؤيتك رسول
الله صلى الله عليه وسلم، وسهم بشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده ودخل به
دار النعم فأعطاه قلائص سبعاً، وجملاً رحيلاً، وأوقر له الركاب براً وتمراً
وثياباً. فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفاً؛ فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى!
لقد بلغ به الجهد؛ قال النابغة: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
ما وليت قريش فعدلت، واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيراً فأنجزت، فأنا
والنبيون فراط القاصفين.
قال الزبير بن بكار:
الفارط: الذي يتقدم إلى الماء يصلح الرشاء والدلاء. والقاصف: الذي يتقدم لشراء
الطعام.
وفود أهل الكوفة على
ابن الزبير
رحمة الله تعالىقال:
لما قتل صعب بن الزبير المختار بن أبي عبيد خرج حاجاً، فقدم على أخيه عبد الله بن
الزبير بمكة، ومعه وجوه أهل العراق، فقال له: يا أمير المؤمنين، جئتك بوجوه أهل
العراق، لم أدع لهم بها نظيراً، لتعطيهم من هذا المال؛ قال: جئتني بعبيد أهل
العراق لأعطيهم مال الله! والله لا فعلت. فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم، قال لهم: يا أهل الكوفة، وددت والله
أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار والدرهم، بل لكل عشرة رجلاً. قال عبيد الله بن
ظبيان: أتدري يا أمير المؤمنين ما مثلنا ومثلك فيما ذكرت؟ قال: وما ذلك؟ قال: فإن
مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام، كما قال أعشى بكر بن وائل:
علقتها عرضاً وعقلت
رجلاً ... غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
أحببناك نحن، وأحببت
أنت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك. ثم انصرف القوم من عنده خائبين، فكاتبوا
عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير.
وفود رؤبة على أبي
مسلمالأصمعي قال: حدثنا رؤبة قال: قدمت على أبي مسلم صاحب الدعوة، فأنشدته،
فناداني: يا رؤية؛ فنوديت له من كل مكان: يا رؤبة، فأجبت:
لبيك إذ دعوتني لبيكا
... أحمد ربا ساقني إليكا
الحمد والنعمة في
يديكا
قال: بل في يدي الله
عز وجل؛ قلت: وأنت لما أنعمت حمدت. ثم استأذنت في الإنشاد، فأذن لي فأنشدته:
ما زال يأتى الملك من
أقطاره ... وعن يمينه وعن يساره
مشمراً لا يصطلى
بناره ... حتى أقر الملك في قرراه
فقال: إنك
أتيتنا وقد شف المال واستنفضه الإنفاق، وقد أمرنا لك بجائزة، وهي تافهة يسيرة،
ومنك العود وعليك المعول، والدهر أطرق مستتب، فلا تجعل بجنبيك الأسدة؛ قال: فقلت:
الذي أفادني الأمير من كلامه أحب إلي من الذي أفادني من ماله.
وفود العتابي على
المأمونالشيباني قال: كان كلثوم العتابي أيام هارون الرشيد في ناحية المأمون، فلما
خرج إلى خراسان شيعه إلى قومس حتى وقف على سنداد كسرى، فلما حاول وداعه، قال له
المأمون: لا تدع زيارتنا إن كان لنا من هذا الأمر شيء. فلما أفضت الخلافة إلى
المأمون، وفد إليه العتابي زائراً، فحجب عنه، فتعرض ليحيى بن أكثم، فقال: أيها
القاضي، إن رأيت أن تذكر بي أمير المؤمنين؛ فقال له يحيى: ما أنا بالحاجب؛ قال له:
قد علمت، ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان. فدخل على المأمون؛ فقال: يا أمير المؤمنين،
أجرني من العتابي ولسانه، فلم يأذن له وشغل عنه، فلما رأى العتابي جفاءه قد تمادى،
كتب إليه:
ما على ذاكنا افترقنا
بسندا ... دولا هكذا رأينا الإخاء
لم أكن أحسب الخلافة
يزدا ... د بها ذو الصفاء إلا صفاء
تضرب الناس بالمثقفة السم
... ر على غدرهم وتنسى الوفاء
فلما قرأ أبياته دعا
به؛ فلما دنا منه سلم بالخلافة ووقف بين يديه؛ فقال: يا عتابي، بلغتنا وفاتك
فغمتنا، ثم انتهت إلينا وفادتك فسرننا؛ فقال: يا أمير المؤمنين، لو قسم هذا البر
على أهل منى وعرفات لوسعهم، فإنه لا دين إلا بك، ولا دنيا إلا معك؛ قال: سل حاجتك؛
قال: يدك بالعطية أطلق من لساني بالمسألة. فأحسن جائزته وانصرف
وفود أبي عثمان
المازني على الواثقأبو عثمان بكر بن محمد قال: وفدت على الواثق، فلما دخلت وسلمت
قال: هل خليت وراءك أحداً يهمك أمره؟ قلت: أخية لي ربيتها فكأنها بنتي؛ قال:
ليس شعري! ما قالت حين فارقتها؟ قلت: أنشدتني قول الأعشى:
تقول ابنتي يوم جد
الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم
أبانا فلا رمت من
عندنا ... فإنا نخاف بأن تخترم
أرانا إذا أضمرتك
البلا ... د نجفى وتقطع منا الرحم
قال: ليت شعري! ما
قلت لها؟ قال: أنشدتها أمير المؤمنين قول جرير:
ثقي بالله ليس له
شريك ... ومن عنده الخليفة بالنجاح
قال: أتاك
النجاح، وأمر له بعشرة آلاف درهم. ثم قال: حدثني حديثاً ترويه عن أبي مهدية
مستظرفاً؛ قلت: يا أمير المؤمنين، حدثني الأصمعي قال: قال لي أبو مهدية: بلغني أن
الأعراب والأعزاب سواء في الهجاء؛ قلت: نعم؛ قال: فاقرأ: الأعراب أشد كفراً ونفاقاً ولا تقرأ الأعراب، ولا يغرنك العزب وإن صام
وصلى. فضحك الواثق حتى شغر رجله، وقال: لقد لقي أبو مهدية من العزبة شراً، وأمر له
بخمسمائة دينار.
الوافدات على معاوية
وفود سودة بنت عمارة
على معاويةعامر
الشعبي قال: وفدت سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية على معاوية بن أبي سفيان،
فاستأذنت عليه، فأذن لها؛ فلما دخلت عليه سلمت؛ فقال لها: كيف أنت يا بنة الأشتر؟
قالت: بخير يا أمير المؤمنين؛ قال لها: أنت القائلة لأخيك:
شمر كفعل أبيك يا بن
عمارة ... يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليا والحسين
ورهطه ... واقصد لهند وابنها بهوان
إن الإمام أخو النبي
محمد ... علم الهدى ومنارة الإيمان
فقد الجيوش وسر أمام
لوائه ... قدماً بأبيض صارم وسنان
قالت: يا أمير
المؤمنين، مات الرأس وبتر الذنب، فدع عنك تذكار ما قد نسي؛ قال: هيهات؛
ليس مثل مقام أخيك ينسى؛ قالت: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ما كان أخي خفي
المقام، ذليل المكان، ولكن كما قالت الخنساء:
وإن صخراً لتأتم
الهداة به ... كأنه علم في رأسه نار
وبالله أسأل أمير
المؤمنين إعفائي مما استعفيته؛ قال: قد فعلت: فقولي حاجتك؛ قالت: يا أمير
المؤمنين، إنك للناس سيد، ولأمورهم مقلد، والله سائلك عما افترض عليك من حقنا، ولا
تزال تقدم علينا من ينهض بعزك، ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس
البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطأة قدم بلادي، وقتل رجالي،
وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة، فإما عزلته فشكرناك، وإلا لا
فعرفناك؛ فقال معاوية: إياي تهددين بقومك! والله قد هممت أن أردك إليه على قتب أشرس، فينفذ
حكمه فيك؛ فسكتت ثم قالت:
صلى الإله على روح
تضمنه ... قبر فأصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي
به ثمناً ... فصار بالحق والإيمان مقرونا
قال: ومن ذلك؟
قالت: علي بن أبي طالب رحمه الله تعالى؛ قالت: وما أرى عليك منه أثراً؛ قال: بلى،
أتيته يوماً في رجل ولاه صدقاتنا، فكان بيننا وبينه ما بين الغث والسمين، فوجدته
قائماً يصلي، فانفتل من الصلاة، ثم قال برأفة وتعطف: ألك حاجة؟ فأخبرته خبر الرجل،
فبكى ثم رفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم إني لم آمرهم بظلم خلقك، ولا ترك حقك؛ ثم أخرج من جيبه قطعة من
جراب، فكتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. قد جاءتكم بينة من ربكم، فأوفوا الكيل والميزان
بالقسط ولا تبخسوا الناس أشياءهم، ولا تعثوا في الأرض مفسدين، بقية الله خير لكم
إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ. إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يديك، حتى
يأتي من يقبضه منك، والسلام.
فأخذته منه يا أمير
المؤمنين ما خزمه بخزام، ولا ختمه بختام. فقال معاوية: اكتبوا لها الإنصاف لها
والعدل عليها؛ فقالت: ألي خاصة، أم لقومي عامة؟ قال: وما أنت وغيرك؟ قال: هي والله
إذا الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً، وإلا يسعنى ما يسع قوي؛ قال: هيهات،
لمظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان فبطيئاً ما تفطمون، وغركم قوله:
فلو كنت بواباً على
باب جنة ... لقلت لهمدان ادخلوا بسلام
وقوله:
ناديت همدان والأبواب
مغلقة ... ومثل همدان سنى فتحة الباب
كالهنداوي لم تفلل
مضاربه ... وجه جميل وقلب غير وجاب
اكتبوا لها بحاجتها
وفود بكارة الهلالية
على معاويةاستأذنت
بكارة الهلالية على معاوية بن أبي سفيان، فأذن لها، وهو يومئذ بالمدينة، فدخلت
عليه، وكانت امرأة قد أسنت وعشي بصرها، وضعفت قوتها، ترعش بين خادمين لها، فسلمت
وجلست، فرد عليها معاوية السلام، وقال: كيف أنت يا خالة؟ قالت: بخير يا أمير
المؤمنين؛ قال: غيرك الدهر؛ قالت: كذلك هو ذو غير، من عاش كبر، ومن مات قبر. قال
عمرو بن العاص: هي والله والقائلة يا أمير المؤمنين:
يا زيد دونك فاستشر
من دارنا ... سيفاً حساماً في التراب دفينا
قد كنت أذخره ليوم
كريهة ... فاليوم أبرزه الزمان مصونا
قال مروان: وهي والله
القائلة يا أمير المؤمنين:
أترى ابن هند للخلافة
مالكاًهيهات، ذاك وإن إراد بعيد
منتك نفسك في الخلاء
ضلالة ... أغراك عمرو للشقا وسعيد
قال سعيد بن العاصي:
هي والله القائلة:
قد كنت أطمع أن موت
ولا أرى ... فوق المنابر من أمية خاطبة
فالله آخر مدتي
فتطاولت ... حتى رأيت من الزمان عجائب
في كل يوم للزمان
خطيبهم ... بين الجميع لآل أحمد عائباً
ثم سكتوا. فقالت: يا
معاوية، كلاك أعشى بصري وقصر حجتي، أنا والله قائلة ما قالوا، وما خفي عليك مني
أكثر؛ فضحك وقال: ليس يمنعنا ذلك من برك، اذكري حاجتك. قالت: الآن فلا.
وفود الزرقاء
على معاويةعبيد الله
بن عمرو الغساني عن الشعبي قال: حدثني جماعة من بني أمية ممن كان يسمر مع معاوية قالوا:
بينما معاوية ذات ليلة مع عمرو وسعيد وعتبة والوليد، إذ ذكروا الزرقاء بنت عدي بن
غالب بن قيس الهمدانية، وكانت شهدت مع قومه صفين، فقال: أيحكم يحفظ كلامها؟ قال بعضهم: نحن نحفظه يا أمير المؤمنين؛ قال:
فأشيروا علي في أمرها؛ فقال بعضهم: نشير عليك بقتلها؛ قال: بئس الرأي الذي أشرتم
به علي، أيحسن بمثلى أن يتحدى عنه أنه قتل امرأة بعدما ظفر بها! فكتب إلى عامله
بالكوفة أن يوفدها إليه ما ثقة من ذوي محارمها، وعدة من فرسان قومها، وأن يمهد لها
وطاء ليناً، ويسترها بستر خصيف، ويوسع لها في النفقة، فأرسل إليها فأقرأها الكتاب؛
فقالت: إن كان أمير المؤمنين جعل الخيار إلي فإني لا آتية، وإن كان حتم فالطاعة
أولى. فحملها وأحسن جهازها على ما أمر به، فلما دخلت على معاوية، قال: مرحباً
وأهلاً، قدمت خير مقدم قدمه وافد، كيف حالك؟ قالت: بخير يا أمير المؤمنين. أدام
الله لك النعمة؛ قال: كيف كنت في مسيرك؟ قالت: ربيبة بيت أو طفلاً ممهداً؛ قال:
بذلك أمرناهم، أتدرين فيما بعثت إليك؟ قالت: أنى لي بعلم ما لم أعلم؛ قال: ألست
الراكبة الجمل الأحمر، والوقفة بين الصفين يوم الصفين تحضين على القتال. وتوقدين
الحرب، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مات الرأس، وبتر الذنب، ولم يعد
ما ذهب، والدهر ذو غير، ومن تفكر أبصر، والأمر يحدث بعد الأمر؛ قال لها معاوية: صدقت.
أتحفظين كلامك يوم صفين؟ قالت: لا والله لا أحفظه ولقد أنسيته؛ قال: لكني
أحفظه، لله أبوك حين تقولين: أيها الناس، ارعووا وارجعوا، إنكم قد أصبحتم في فتنة
غشتكم جلابيب الظلم، وجارت بكم عن قصد المحجة، فيا لها فتنة عمياء، صماء بكماء؛ لا
تسع لناعقها، ولا تنساق لقائدها. إن المصباح لا يضيء في الشمس، ولا تنير الكواكب
مع القمر، ولا يقطع الحديد إلا الحديد. ألا من استرشدنا أرشدناه، ومن سألنا أخبرناه. أيها الناس، إن الحق كان
يطلب ضالته فأصابها، فصبراً يا معشر المهاجرين والأنصار على الغصص، فكأن قد اندمل
شعب الشتات، والتأمت كلمة العدل، ودمغ الحق باطله، فلا يجهلن أحد، فيقول: كيف
العدل وأنى، ليقض الله أمراً كان مفعولا. ألا وإن خضاب النساء الحناء وخضاب الرجال
الدماء، ولهذا اليوم ما بعده.
والصبر خير في الأمور
عواقبا
أيهاً، في الحرب
قدماً غير ناكصين ولا متشاكسين.
ثم قال لها: والله يا
زرقاء، لقد شركت علياً في كل دم سفكه؛ قالت: أحسن الله بشارتك، وأدام سلامتك،
فمثلك بشر بخير وسر جليسه؛ قال: أو يسرك ذلك؟ قالت: نعم والله. لقد سررت بالخبر فأنى لي بتصديق الفعل؛ فضحك معاوية وقال:
والله لوفاؤكم له بعد موته أعجب من حبكم له في حياته، اذكري حاجتك؛ قالت: يا أمير
المؤمنين، آليت على نفسي أن لا أسأل أميراً أعنت عليه أبداً، ومثلك أعطى عن غير
مسألة، وجاد من غير طلبة؛ قال: صدقت، وأمر لها وللذين جاؤوا معها بجوائز وكسا.
وفود أم سنان بنت
خيثمة
على معاوية
رحمه اللهسعيد بن أبي
حذافة قال: حبس مروان بن الحكم وهو والي المدينة غلاماً من بني ليث في جناية
جناها، فاتته جدة الغلام أم أبيه، وهي أم سنان بنت خيثمة بن خرشة المذحجية، فكلمته
في الغلام، فأغلظ مروان، فخرجت إلى معاوية، فدخلت عليه فانتسب، فعرفها؛ فقال لها:
مرحباً يا بنة خيثمة، ما أقدمك أرضنا؟ وقد عهدتك تشتميننا وتحضين علينا عدونا؛
قالت: إن لبني عبد مناف أخلاقاً طاهرة، وأحلاماً وافرة؛ لا يجهلون بعد علم، ولا
يسفهون بعد حلم، ولا ينتقمون بعد عفو، وإن أولى الناس باتباع ما سن آباؤه لأنت؛
قال: صدقت، نحن كذلك، فكيف قولك:
عزب الرقاد فمقلتي لا
ترقد ... والليل يصدر بالهموم ويورد
يا آل مذحج لا مقام
فشمروا ... إن العدو لآل أحمد يقصد
هذا علي كالهلال تحفه
... وسط السماء من الكواكب أسعد
خير الخلائق وابن عم
محمد ... إن يهدكم بالنور منه تهتدوا
ما زال مذ شهد الحروب
مظفراً ... والنصر فوق لوائه ما يفقد
قالت: كان ذلك يا
أمير المؤمنين، وأرجو أن تكون لنا خلفاً بعده. فقال رجل من جلسائه: كيف يا أمير
المؤمنين وهي القائلة:
إما هلكت أبا الحسين
فلم تزل ... بالحق تعرف هادياً مهديا
فاذهب عليك صلاة ربك
ما دعت ... فوق الغصون حمامة قمريا
قد كنت بعد محمد
خلفاً كما ... أوصى إليك بنا فكنت وفيا
فاليوم لا خلف يؤمل
بعده ... هيهات نأمل بعده إنسيا
قالت: يا أمير
المؤمنين، لسان نطق، وقول صدق، ولئن تحقق فيك ما ظننا فحظك الأوفر؛ والله ما ورثك
الشنآن في قلوب المسلمين إلا هؤلاء، فأدحض مقالتهم، وأبعد منزلتهم، فإنك إن فعلت
ذلك تزدد من الله قربا، ومن المؤمنين حبا؛ قال: وإنك لتقولين ذلك؟ قالت: سبحان
الله! والله ما مثلك مدح بباطل، ولا اعتذر إليه بكذب، وإنك لتعلم ذلك من رأينا،
وضمير قلوبنا؛ كان والله علي أحب إلينا منك، وأنت أحب إلينا من غيرك؛ قال: ممن؟
قالت: مروان بن الحكم وسعيد بن العاصي؛ قال: وبم استحققت ذلك عندك؟ قالت: بسعة
حلمك وكريم عفوك؛ قال: فإنهما يطمعان في ذلك؛ قال: والله لقد قاربت، فما حاجتك؟
قالت: يا أمير المؤمنين، إن مروان تبنك بالمدينة تبنك من لا يريد منها البراح. لا حكم
بعدل، ولا يقضي بسنة، يتتبع عثرات المسلمين، ويكشف عورات المؤمنين، حبس ابن ابني
فأتيته، فقال: كيت وكيت، فألقمته أخشن من الحجر، وألعقته أمر من الصاب، ثم رجعت
إلى نفس باللائمة، وقلت: لم لا أصرف ذلك إلى من هو أولى بالعفو منه، فأتيتك يا
أمير المؤمنين لتكون في أمري ناظراً، وعليه معديا؛ قال: صدقت، لا أسألك عن ذنبه،
ولا عن القيام بحجته، اكتبوا لها بإطلاقه؛ قالت: يا أمير المؤمنين، وأنى لي
بالرجعة، وقد نفذ زادي، وكلت راحلتي. فأمر لها براحلة موطأة وخمسة آلاف درهم.
وفود عكرشة بنت
الأطرش
على معاوية رحمه الله
تعالىأبو بكر الهذلي عن عكرمة قال:
دخلت عكرشة بنت
الأطرش بن رواحة على معاوية متوكئة على عكاز لها، فلمت عليه بالخلافة، ثم جلست؛
فقال لها معاوية: الآن يا عكرشة صرت عندك أمير المؤمنين؟ قالت: نعم، إذ لا علي حي؛
قال: ألست المتقلدة حمائل السيف بصفين، وأنت واقفة بين الصفين تقولين: أيها الناس،
عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، إن الجنة لا يرحل عنها من قطنها، ولا
يرهم من سكنها، ولا يموت من دخلها، فابتاعوها بدار لا يدوم نعيمها، ولا تنصرم
همومها، وكونوا قوماً مستبصرين في دينهم، مستظهرين بالصبر على طلب حقهم؛ إن معاوية
دلف إليكم بعجم العرب غلف القلوب، لا يفقهون الإيمان ولا يدرون ما الحكمة، دعاهم بالدنيا
فأجابوه، واستدعاهم إلى الباطل فلبوه، فالله الله عباد الله في دين الله، وإياكم
والتواكل، فإن ذلك ينقض عرى الإسلام، ويطفئ نور الحق، هذه بدر الصغرى، والعقبة
الأخرى؛ يا معشر المهاجرين والأنصار، امضوا على بصيرتكم، واصبروا على عزيمتكم،
فكأني بكم غداً، ولقد لقيتم أهل الشام كالحمر الناهقة تصقع صقع البقر وتروث روث
العتاق. فكأني أراك على عصاك هذه وقد انكفأ عليك العسكران، يقولون: هذه عكرشة بنت
الأطرش بن رواحة، فإن كدت لتقتلين أهل الشام لولا قدر الله، وكان أمر الله قدراً
مقدوراً، فما حملك على ذلك؟ قالت: يا أمير المؤمنين، قال الله تعالى: " يا
أيها الذي آمنوا لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم " وإن اللبيب إذا كره
أمراً لا يحب إعادته؛ قال: صدقت، فاذكري حاجتك؛ قالت: إنه كانت صدقاتنا تؤخذ من
أغنيائنا فترد على فقرائنا، وإنا قد فقدنا ذلك فما يجبر لنا كسير، ولا ينعش لنا فقير،
فإن كان ذلك عن رأيك، فمثلك من انتبه عن الغفلة، وراجع التوبة، وإن كان عن غير
رأيك، فما مثلك من استعان الخونة، ولا استعمل الظلمة. قال معاوية: يا هذه، إنه
ينوبنا من أمور رعيتنا أمور تنبثق، وبحور تنفهق، قالت: يا سبحان الله، والله ما فرض الله لنا حقاً فجعل فيه ضرراً على غيرنا
وهو علام الغيوب؛ قال معاوية: هيهات يا أهل العراق، نبهكم علي بن أبي طالب فلن تطاقوا.
ثم أمر برد صدقاتهم فيهم وإنصافها.
قصة دارمية الحجونية
مع معاوية رحمه الله
تعالىسهل بن أبي سهل التميمي عن أبيه قال: حج معاوية، فسأل عن امرأة من بني كناية
كانت تنزل بالحجون، يقال لها دارمية الحجونية، وكانت سوداء كثيرة اللحم، فأخبر
بسلامتها، فبعث إليها فجيء بها، فقال: ما حالك يا بنة حام؟ فقالت: لست لحام إن
عبتني، أنا امرأة من بني كنانة؛ قال: صدقت، أتدرين لم بعثت إليك؟ قالت: لا يعلم الغيب إلا الله؛ قال: بعثت
إليك لأسألك علام أحببت علياً وأبعضتني، وواليته وعاديتني؟ قالت: أوتعفيني يا أمير
المؤمنين؟ قال: لا أعفيك؛ قالت: أما إذ أبيت، فأني أحببت علياً على عدله في
الرعية، وقسمه بالسوية، وأبغضتك على قتالك من هو أولى منك بالأمر، وطلبتك ما ليس
لك بحق؛ وواليت علياً على ما عقد له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الولاء، وحبه
المساكين، وإعظامه لأهل الدين؛ وعاديتك على سفكك الدماء، وجورك في القضاء، وحكمك
بالهوى؛ قال: فلذلك انتفخ بطنك، وعظم ثدياك، وربت عجيزتك؛ قالت: يا هذا، بهند
والله كان يضرب المثل في ذلك لا بي، قال معاوية: يا هذه اربعي، فإنا لم نقل إلا
خيراً، إنه إذا انتفخ بطن المرأة تم خلق ولدها، وإذا عظم ثدياها تروى رضيعها، وإذا
عظمت عجيزتها رزن مجلسها؛ فرجعت وسكنت. قال لها: يا هذه هل رأيت علياً؟ قالت: إي
والله؛ قال: فكيف رأيته؟ قالت: رأيته والله لم يفتنه الملك الذي فتنك، ولم تشغله النعمة
التي شغلتك؛ قال: فهل سمعت كلامه؟ قالت: نعم والله، فكان يجلو القلب من العمى، كما
يجلو الزيت صدأ الطست؛ قال: صدقت، فهل لك من حاجة؟ قالت: أو تفعل إذا سألتك؟ قال:
نعم، قالت: تعطيني مائة ناقة حمراء فحلها وراعيها؛ قال: تصنعين بها ماذا؟ قالت:
أغذوا بألبانها الصغر، وأستحيي بها الكبار، وأكتسب بها المكارم، وأصلح بها بين
العشائر؛ قال: فإن أعطيتك ذلك، فهل أحل عندك محل علي بن أبي طالب؟ قالت: ماء ولا
كصداء، ومرعى ولا كالسعدان، وفتى ولا كمالك، يا: سبحان الله، أو دونه؟. فأنشأ
معاوية يقول:
إذ لم أعد بالحلم مني
عليكم ... فمن ذا الذي بعدي يؤمل للحلم
خذيها هنيئاً واذكري
فعل ماجد ... جزاك على حرب العداوة بالسلم
ثم قال: أما والله لو
كان علي حياً ما أعطاك منها شيئاً؛ قالت: لا والله، ولا وبرة واحدة من مال
المسلمين.
وفود أم الخير بنت
الحريش
على معاويةعبيد الله
بن عمر الغساني عن الشعبي قال: كتب معاوية إلى واليه بالكوفة أن يحمل إليه أم
الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي برحلها، وأعلمه أنه مجازيه بقولها فيه بالخير
خيراً وبالشر شراً. فلما ورد عليه كتابه ركب إليها فأقرأها كتابه؛ فقالت: أما أنا
فغير زائغة عن طاعة، ولا معتلة بكذب، ولقد كنت أحب لقاء أمير المؤمنين لأمور تختلج
في صدري. فلما شيعها وأراد مفارقتها، قال لها: يا أم الخير، إن أمير المؤمنين كتب
إلي أنه مجازيني بالخير خيراً وبالشر شراً، فمالي عندك؟ يا هذا لا يطمعنك برك بي
أن أسرك بباطل، ولا تؤيسك معرفتي بك أن يقول فيك غير الحق. فسارت خير مسير حتى
قدمت على معاوية، فأنزلها مع الحرم، ثم أدخلها عليه في اليوم الرابع، وعنده جلساؤه؛
فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته؛ فقال لها: وعليك السلام
يا أم الخير، بحق ما دعوتني بهذا الاسم؟ قالت: يا أمير المؤمنين، مه، فإن بديهة
السلطان مدحضة لما يحب علمه، و لكل أجل كتاب؛ قال: صدقت، فكيف حالك يا خالة؟ وكيف كنت في مسيرك؟ قالت: لم أزل يا أمير المؤمنين
في خير وعافية حتى صرت إليك، فأنا في مجلس أنيق، عند ملك رفيق؛ قال معاوية: بحسن
نيتي ظفرت بكم؛ قالت: يا أمير المؤمنين، يعيذك الله من دحض المقال وما تردي
عاقبته؛ قال: ليس هذا أردنا، أخبرينا كيف كان كلامك إذ قتل عمار بن ياسر؟ قالت: لم
أكن زورته قبل، ولا رويته بعد، وإنما كانت كلمات نفثها لساني عند الصدمة، فإن
أحببت أن أحدث لك مقالاً عن ذلك فعلت؛ قال: لا أشاء ذلك. فالتفت معاوية إلى
جلسائه، فقال: أيكم يحفظ كلامها؟ فقال رجل منهم: أنا أحفظ بعض كلامها يا أمير
المؤمنين؛ قال: هات؛ قال: كأني بها وعليها برد زبيدي كثيف النسيج، وهي على جمل
أرمك، وقد أحيط حولها، وبيدها سوط منتشر الضفيرة، وهي كالفحل يهدر في شقشقته، تقول:
يا أيها الناس، اتقوا
ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، إن الله قد أوضح لكم الحق، وأبان الدليل، وبين
السبيل، ورفع العلم، ولم يدعكم في عمياء مبهمة، ولا سوداء مدلهمة، فأين تريدون
رحمكم الله، أفراراً عن أمير المؤمنين، أم فراراً من الزحف، أم رغبة عن الإسلام،
أم ارتداداً عن الحق؟ أما سمعتم الله جل ثناؤه يقول: " ولبيلونكم حتى نعلم
المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم " . ثم رفعت رأسها إلى السماء، وهي
تقول: اللهم قد عيل الصبر، وضعف اليقين، وانتشرت الرغبة، وبيدك يا رب أزمة القلوب،
فاجمع اللهم بها الكلمة على التقوى، وألف القلوب على الهدى، واردد الحق إلى أهله،
هلموا رحمكم الله إلى الإمام العادل، والرضي التقي؛ والصديق الأكبر، إنها إحن
بدرية وأحقاد جاهلية، وضغائن أحدية، وثب بها واثب حين الغفلة، ليدرك ثارات بني عبد
شمس. ثم قالت: قاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون. صبراً يا
معشر المهاجرين والأنصار، قاتلوا على بصيرة من ربكم وثبات من دينكم، فكأني بكم
غداً وقد لقيتم أهل الشام، كحمر مستنفرة، فرت من قسورة، لا تدري أين يسلك بها فجاج
الأرض، باعوا الآخرة بالدنيا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا البصيرة بالعمى،
وعما قليل ليصبحن نادمين، حين تحل بهم الندامة، فيطلبون الإقالة ولات حين مناص،
إنه من ضل والله عن الحق وقع في الباطل، ألا إن أولياء الله استصغروا عمر الدنيا
فرفضوها، واستطابوا الآخرة فسعوا لها؛ فالله الله أيها الناس، قبل أن تبطل الحقوق،
وتعطل الحدود، ويظهر الظالمون؛ وتقوى كلمة الشيطان، فإلى أين تريدون رحمكم الله؟
عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره وأبي سبطيه؟ خلق من طينته، وتفرع من
نبعته، وخصه بسره، وجعله باب مدينته، وأبان ببغضه المنافقين، وها هو ذا مغلق
الهام، ومكسر الأصنام، صلى والناس مشركون. وأطاع والناس كارهون، فلم يزل في ذلك
حتى قتل مبارزي بدر، وأفنى أهل أحد، وهزم الأحزاب، وقتل الله به أهل خيبر، وفرق بن
جمع هوازن. فيالها من وقائع زرعت في قلوب نفاقاً، وردة وشقاقاً، وزادت المؤمنين
أيماناً، قد اجتهدت في القول، وبالغت في النصيحة، وبالله التوفيق، والسلام عليكم
ورحمة الله.
فقال معاوية: يا أم
الخير، ما أردت بهذا الكلام إلا قتلي، ولو قتلتك ما حرجت في ذلك؛ قالت: والله ما يسوءني
أن يجري قتلي على يدي من يسعدني الله بشقائه؛ قال: هيهات يا كثيرة الفضول، ما
تقولين في عثمان بن عفان رحمه الله؟ قالت: وما عسيت أن أقول في عثمان، استخلفه
الناس وهم به راضون، وقتلوه وهم له كارهون، قال معاوية: يا أم الخير، هذا أصلك
الذي تبينين عليه؟ قالت: لكن الله يشهد وكفى بالله شهيداً، ما أردت بعثمان نقصاً،
ولكن كان سابقاً إلى الخير، وإنه لرفيع الدرجة غداً. قال: فما تقولين في طلحة بن
عبيد الله؟ قالت: وما عسى أن أقول في طلحة، اغتيل من مأمنه، وأتي من حيث لم يحذر،
وقد وعده رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة. قال: فما تقولين في الزبير؟ قالت:
وما أقول في ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحواريه، وقد شهد له رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالجنة، ولقد كان سباقاً إلى كل مكرمة في الإسلام. وأنا أسألك بحق
الله يا معاوية - فإن قريشاً تحدثت أنك أحلمها - أن تسعني بفضل حلمك، و أن تعفني
من هذه المسائل وتسألني عما شئت من غيرها؛ قال: نعم ونعمة عين، قد أعفيتك منها، ثم
أمر لها بجائزة رفيعة وردها مكرمة.
وفود أروى بنت عبد
المطلب
على معاوية رحمه الله
العباس بن مكار قال:
حدثني عبد الله بن سليمان المدني وأبو بكر الهذلي: أن أروى بنت الحارث بن عبد
المطلب دخلت على معاوية، وهي عجوز كبيرة، فلما رآها معاوية قال: مرحباً بك وأهلاً
يا عمة، فكيف كنت بعدنا؟ فقالت: يا بن أخي، لقد كفرت يد النعمة، وأسأت لابن عمك
الصحبة، وتسميت بغير اسمك، وأخذت غير حقك، من غير بلاء كان منك، ولا من آبائك، ولا
سابقة في الإسلام، بعد أن كفرتم برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتعس الله منك
الجدود، وأضرع منكم الخدود، ورد الحق إلى أهله، ولو كره المشركون، وكانت كلمتنا هي
العليا، ونبينا صلى الله عليه وسلم هو المنصور، فوليتم علينا من بعده، تحتجون بقرابتكم
من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن أقرب إليه منكم، وأولى بهذا الأمر، فكنا
فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب رحمه الله بعد نبينا
صلى الله عليه وسلم بمنزلة هارون من موسى، فغايتنا الجنة وغايتكم النار. فقال لها
عمرو بن العاص: كفى أيتها العجوز الضالة، وأقصري من قولك مع ذهاب عقلك، إذ لا تجوز
شهادتك وحدك! فقالت له: وأنت يا بن النابغة، تتكلم وأمك كانت أشهر امرأة تغني بمكة وآخذهن لأجرة؛
ادعاك خمسة نفر من قريش، فسئلت أمك عنهم، فقالت: كلهم أتاني، فانظروا أشبههم به
فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل، فلحقت به. فقال مروان: كفى
أيتها العجوز، واقصدي لما جئت له. فقالت: وأنت أيضاً يا بن الزرقاء تتكلم! ثم
التفتت إلى معاوية، فقالت: والله ما جرأ علي هؤلاء غيرك، فإن أمك القائلة في قتل
حمزة:
نحن جزيناكم بيوم بدر
... والحرب بعد الحرب ذات سعر
ما كان لي عن عتبة من
صبر ... وشكر وحشى علي دهري
حتى ترم أعظمي في
قبري
فأجابتها بنت عمي،
وهي تقول:
خزيت في بدر وبعد بدر
... يا بنة جبار عظيم الكفر
فقال معاوية: عفا
الله عما سلف، يا عمة، هات حاجتك؛ قالت: مالي إليك حاجة؛ وخرجت عنه.
كتاب المرجانة في
مخاطبة الملوكقال أبو عمر أحمد بن محمد بن عبد ربه: قد مضى قولنا في الوفود
والوافدات ومقاماتهم بين يدي نبي الله صلى الله عليه وسلم وبين يدي الخلفاء
والملوك، ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه وتأييده وتسديده في مخاطبة الملوك والتزلف
إليهم بسحر البيان، الذي يمازج الروح لطافة، ويجري مع النفس رقة؛ والكلام الرقيق
مصايد القلوب، وإن منه لما يستعطف المستشيط غيظاً، والمندمل حقداً، حتى يطفئ جمرة
غيظه، ويسل دفائن حقده؛ وإن منه لما يستميل قلب اللئيم، ويأخذ بسمع الكريم وبصره؛
وقد جعله الله تعالى بينه وبين خلقه وسيلة نافعة، وشافعاً مقبولاً؛ قال تبارك
وتعالى: " فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب إنه هو التواب الرحيم " .
وسنذكر في كتابنا هذا
إن شاء الله تعالى من تخلص من أنشوطة الهلاك وتفلت من حبائل المنية، بحسن التفصل،
ولطيف التوصل، ولين الجواب، ورقيق الاستعتاب، حتى عادت سيآته حسنات، وعيض بالثواب
بدلاً من العقاب. وحفظ هذا الباب، أوجب على الإنسان من حفظ عرضه، وألزم له من قوام
بدنه.
البيانكل شيء كشف لك
قناع المعنى الخفي حتى يتأدى إلى الفهم ويتقبله العقل، فذلك البيان الذي ذكره الله
عز وجل في كتابه، ومن به على عباده، فقال تعالى: " الرحمن علم القرآن خلق الإنسان
علمه البيان " .
وسئل النبي صلى الله
عليه وسلم: فيم الجمال؟ فقال: في اللسان، يريد البيان.
وقال صلى الله عليه
وسلم: إن من البيان لسحراً.
وقالت العرب: أنفذ من
الرمية كلمة فصيحة.
وقال الراجز:
لقد خشيت أن تكون
ساحراً ... راوية طوراً وطوراً شاعراً.
وقال سهل بن هارون:
العقل رائد الروح، والعلم رائد العقل، والبيان ترجمان العلم.
وقالوا: البيان بصر،
والعي عمى؛ كما أن العلم بصر، والجهل عمى. والبيان من نتاج العلم، والعي من نتاج
الجهل.
وقالوا: ليس لمنقوص
البيان بهاء، ولو حك بيافوخه عنان السماء.
وقال صاحب المنطق: حد
الإنسان: الحي الناطق المبين. وقال: الروح عماد البدن والعلم عماد الروح، والبيان
عماد العلم.
تبجيل الملوك وتعظيمهمقال
النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه.
وقالت العلماء:
لا يؤم ذو سلطان في
سلطانه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه.
وقال زياد ابن أبيه:
لا يسلم على قادم بين يدي أمير المؤمنين.
وقال يحيى بن خالد بن
برمك: مساءلة الملوك عن حالها من سجية النوكى، فإذا أردت أن تقول: كيف أصبح
الأمير؟ فقل: صبح الله الأمير بالنعمة والكرامة؛ وإذا كان عليلاً، فأردت أن تسأله
عن حاله، فقل: أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة؛ فإن الملوك لا تسأل ولا تشمت
ولا تكيف، وأنشد:
إن الملوك لا
يخاطبونا ... ولا إذا ملوا يعاتبونا
وفي المقال لا
ينازعونا ... وفي العطاس لا يشمتونا
وفي الخطاب لا
يكيفونا ... يثنى عليهم ويبجلونا
فافهم وصاتي لا تكن
مجنونا
اعتل الفضل بن يحيى،
فكان إسماعيل بن صبيح الكاتب إذا أتاه عائداً لم يزد على السلام عليه والدعاء له،
ويخفف في الجلوس، ثم يلقى حاجبه فيسأله عن حاله ومأكله ومشربه ونومه، وكان غيره
يطيل الجلوس. فلما أفاق من علقته قال: ما عادني في علتي هذه إلا إسماعيل بن صبيح.
وقال أصحاب معاوية
له: إنا ربما جلسنا عندك فوق مقدار شهوتك، فنريد أن تجعل لنا علامة نعرف بها ذلك؛
فقال: علامة ذلك أن أقول: إذا شئتم.
وقيل ذلك ليزيد،
فقال: إذا قلت: على بركة الله.
وقيل ذلك لعبد الملك
بن مروان، فقال: إذا وضعت الخيزرانة من يدي.
ومن تمام خدمة الملوك
أن يقرب الخادم إليه نعليه، ولا يدعه يمشي إليهما، ويجعل النعل اليمنى مقابلة
الرجل اليمنى، واليسرى مقابلة اليسرى؛ وإذا رأى متكأ يحتاج إلى إصلاح أصلحه قبل أن
يؤمر، فلا ينتظر في ذلك؛ ويتفقد الدواة قبل أن يأمره، وينفض عنها الغبار إذا قربها
إليه؛ وإن رأى بين يديه قرطاساً قد تباعد عنه قربه ووضعه بين يديه على كسره.
ودخل الشعبي على
الحجاج، فقال له: كم عطاك؟ قال: ألفين؛ قال: ويحك! كما عطاؤك؟ قال ألفان؛ قال: فلم
لحنت فيما لا يلحن فيه مثلك؟ قال: لحن الأمير فلحنت، وأعرب الأمير فأعربت، ولم أكن
ليلحن الأمير فأعرب أنا عليه، فأكون كالمقرع له بلحنه، والمستطيل عليه بفضل القول
قبله. فأعجبه ذلك منه ووهبه مالاً.
قبلة اليدذكر عبد
الرحمن بن أبي ليلى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا نقبل يد النبي
صلى الله عليه وسلم.
ومن حديث عبد الرحمن
وكيع عن سفيان قال قال: قبل أبو عبيدة يد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
ومن حديث الشعبي قال:
لقي النبي عليه الصلاة والسلام جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، فالتزمه وقبل ما
بين عينيه.
قال إياس بن دغفل:
رأيت أبا نضرة يقبل خد الحسين.
الشيباني عن أبي
الحسن عن مصعب قال: رأيت رجلاً دخل على علي بن الحسين في المسجد فقبل يده ووضعها
على عينيه فلم ينهه.
العتبي قال: دخل رجل
على عبد الملك بن مروان فقبل يده، وقال: يدك يا أمير المؤمنين أحق يد بالتقبيل،
لعلوها في المكارم، وطهرها من المآثم؛ وإنك تقل التثريب، وتصفح عن الذنوب، فمن
أراد بك سوءاً جعله الله حصيد سيفك، وطريد خوفك.
الأصمعي قال: دخل أبو
بكر الهجري على المنصور، فقال: يا أمير المؤمنين، نغض فمي، وأنتم أهل البيت بركة،
فلو أذنت فقبلت رأسك، لعل الله يمسك علي ما بقي من أسناني؛ قال: اختر بينها وبين
الجائزة؛ فقال: يا أمير المؤمنين، أيسر علي من ذهاب الجائزة أن لا تبقى في فمي
حاكة؛ فضحك المنصور وأمر له بجائزة.
ودخل جعفر بن يحيى في
زي العامة وكتمان النباهة على سليمان صاحب بيت الحكمة، معه ثمامة بن أشرس؛ فقال
ثمامة: هذا أبو الفضل، فنهض إليه سليمان فقبل يده، وقال له: بأبي أنت، ما دعاك إلى
أن تحمل عبدك ثقل هذه المنة التي لا أقوم بشكرها ولا أقدر أن أكافئ عليها.
الشعبي قال: ركب زيد
بن ثابت، فأخذ عبد الله بن عباس بركابه؛ فقال له: لا تفعل يا بن عم رسول الله صلى
الله عليه وسلم؛ قال هكذا: أمرنا أن نفعل بلعمائنا؛ فقال له زيد: أرني يدك؛ فأخرج
إليه يده، فأخذها وقبلها، وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا.
وقالوا: قبلة الإمام
في اليد، وقبلة الأب في الرأس، وقبلة الأخ في الخد، وقبلة الأخت في الصدر، وقبلة
الزوجة في الفم.
من كره من الملوك
تقبيل اليدالعتبي قال:
دخل رجل على هشام بن
عبد الملك فقبل يده؛ فقال: أف له، إن العرب ما قبلت الأيدي إلا هلوعاً، ولا فعلته
العجم إلا خضوعاً.
واستأذن رجل المأمون
في تقبيل يده، فقال له: إن قبلة اليد من المسلم ذلة، ومن الذمي خديعة، ولا حاجة بك
أن تذل، ولا بنا أن نخدع.
واستأذن أبو دلامة
الشاعر المهدي في تقبيل يده؛ فقال: أما هذه فدعها؛ قال: ما منعت عيالي شيئاً أيسر
فقداً عليهم من هذه.
حسن التوفيق في
مخاطبة الملوكقال هارون الرشيد لمعن بن زائدة: كيف زمانك يا معن؟ قال: يا أمير
المؤمنين، أنت الزمان، فإن أصلحت صلح الزمان، وإن فسدت فسد الزمان.
وهذا نظير قول سعيد
بن سلم، وقد قال له أمير المؤمنين الرشيد: من بيت قيس في الجاهلية؟ قال: يا أمير
المؤمنين، بنو فزارة؛ قال: فمن بيتهم في الإسلام؟ قال: يا أمير المؤمنين، الشريف من شرفتموه؛ قال: صدقت أنت
وقومك.
ودخل معن بن زائدة
على أبي جعفر، فقال له: كبرت يا معن؛ قال: في طاعتك يا أمير المؤمنين؛ قال: وإنك
لجلد؛ قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين؛ قال وإن فيك لبقية؛ قال: هي لك يا أمير
المؤمنين؛ قال أي الدولتين أحب إليك أو أبغض، أدولتنا أم دولة بني أمية؟ قال: ذلك
إليك يا أمير المؤمنين، وإن زاد برك على برهم كانت دولتك أحب إلي، وإن زاد برهم
على برك كانت دولتهم أحب إلي؛ قال: صدقت.
قال هارون الرشيد
لعبد الملك بن صالح: أهذا منزلك؟ قال: هو لأمير المؤمنين ولي به؛ قال: كيف ماؤه؟
قال: أطيب ماء؛ قال: فكيف هواءه؟ قال: أصح هواء.
وقال أبو جعفر
المنصور لجرير بن يزيد: إنك أردتك لأمر؛ قال: يا أمير المؤمنين، قد أعد الله لك
مني قلباً معقوداً بطاعتك، ورأياً موصولاً بنصيحتك، وسيفاً مشهوراً على عدوك، فإذا
شئت فقل.
وقال المأمون لطاهر
بن الحسين: صف لي ابنك عبد الله؛ قال: يا أمير المؤمنين، إن مدحته عبته، وإن ذممته اغتبته، ولكنه قدح في كف
مثقف ليوم نضال في خدمة أمير المؤمنين.
وأمر بعض الخلفاء
رجلاً بأمر؛ فقال: أنا أطوع من الرداء، وأذل لك من الحذاء.
وهذا قاله الحسن بن
وهب لمحمد بن عبد الملك الزيات.
وقال آخر: أطوع لك من
يدك، وأذل لك من نعالك وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: ما ترى في قتل أبي مسلم؟ قال:
" لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . قال: حسبك أبا أمية.
وقال المأمون ليزيد
بن مزيد: ما أكثر الخلفاء في ربيعة؟ قال: بلى، ولكن منابرهم الجذوع.
وقال المنصور لإسحاق
بن مسلم: أفرطت في وفائك لبني أمية؛ قال: يا أمير المؤمنين، إنه من وفىّ لمن لا
يرجى كان لمن يرجى أوفى.
وقال هارون لعبد
الملك بن صالح: صف لي منبج؛ قال: رقيقة الهواء، لينة الوطاء؛ قال: فصف لي منزلك
بها؛ قال: دون منازل أهلي، وفوق منازل أهلها؛ قال: ولم قدرك فوق أقدارهم؟ قال: ذلك
خلق أمير المؤمنين أتأسى به وأقفو أثره وأحذو مثاله.
ودخل المأمون يوماً
بيت الديوان، فرأى غلاماً جميلاً على أذنه قلم، فقال: من أنت يا غلام؟ قال: أنا
الناشئ في دولتك، والمتقلب في نعمتك، والمؤمل لخدمتك، الحسن بن رجاء؛ قال المأمون:
بالإحسان في البديهة تفاضلت العقول، ارفعوا هذا الغلام فوق مرتبته.
علي بن يحيى قال: إني
عند المتوكل حين دخل عليه الرسول برأس إسحق بن إسماعيل، فقام علي بن الجهم يخطر
بين يدي المتوكل، ويقول:
أهلاً وسهلاً بك من
رسول ... جئت بما يشفي من الغليل
برأس إسحق بن إسماعيل
فقال المتوكل: قوموا
التقطوا هذا الجوهر لئلا يضيع.
ودخل عقال بن شبة على
أبي عبيد الله كاتب المهدي، فقال: يا عقال، لم أرك منذ اليوم؛ قال: والله إني
لألقاك بشوق، وأغيب عنك بتوق.
وقال عبد العزيز بن
مروان لنصيب بن رباح - وكان أسود - يا نصيب، هل لك فيما يثمر المحادثة؟ يريد
المنادمة؛ فقال: أصلح الله الأمير، اللوم مرمد، والشعر مفلفل، ولم أقعد إليك بكريم
عنصر، ولا بحسن منظر، وإنما هو عقلي ولساني، فإن رأيت أن لا تفرق بينهما فافعل.
ولما ودع المأمون
الحسن بن سهل عند مخرجه من مدينة السلام، وقال له: يا أبا محمد، ألك حاجة تعهد إلي
فيها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، أن تحفظ علي من قلبك ما لا أستعين على حفظه إلا بك.
وقال سعيد بن سلم بن
قتيبة للمأمون: لو لم أشكر الله إلا على حسن ما أبلاني في أمير المؤمنين من قصده إلي
بحديثه، وإشارته إلي بطرفه، لكان ذلك من أعظم ما توجبه النعمة، وتفرضه الصنيعة؛
قال المأمون: ذلك والله لأن الأمير يجد عندك من حسن الإفهام إذا حدثت، وحسن الفهم
إذا حدثت، ما لا يجده عند غيرك.
مدح الملوك والتزلف
إليهمفي سير العجم أن أردشير بن يزدجرد لما استوثق له أمره، جمع الناس، فخطبهم
خطبة حضهم فيها على الألفة والطاعة، وحذرهم المعصية ومفارقة الجماعة، وصنف لهم
الناس أربعة أصناف، فخروا له سجداً. وتكلم متكلمهم، فقال: لا زلت أيها الملك
محبواً من الله بعز النصر، ودرك الأمل، ودوام العافية، وتمام النعمة، وحسن المزيد؛
ولا زلت تتابع لديك المكرمات، وتشفع إليك الذمامات حتى تبلغ الغاية التي يؤمن زوالها،
ولا تنقطع زهرتها، في دار القرار التي أعدها الله لنظرائك من أهل الزلفى عنده،
والحظوة لديه؛ ولا زال ملكك وسلطانك باقيين بقاء الشمس والقمر، زائدين زيادة
البحور والأنهار، حتى تستوي أقطار الأرض كلها في علوك عليها، ونفاذ أمرك فيها، فقد
أشرق علينا من ضياء نورك ما عمنا عموم ضياء الصبح، ووصل إلينا من عظيم رأفتك ما
اتصل بأنفسنا اتصال النسيم، فأصبحت قد جمع الله بك الأيادي بعد افتراقها، وألف بين
القلوب بعد تباغضها، وأذهب عنا الإحن والحسائف بعد توقد نيرانها، بفضلك الذي لا
يدرك بوصف، ولا يحد بنعت. فقال أردشير: طوبى للممدوح مستحقاً؛ وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً.
ودخل حسان بن ثابت
على الحارث الجفني فقال: أنعم صباحاً أيها الملك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك،
ووالدي فداؤك، أنى يناوئك المنذر، فوالله لقذالك أحسن من وجهه، ولأمك أحسن من
أبيه، ولظلك خير من شخصه، ولصمتك أبلغ من كلامه، ولشمالك خير من يمينه. ثم أنشأ
يقول:
ونبئت أن أبا منذر
... يساميك للحدث الأكبر
قذالك أحسن من وجهه
... وأمك خير من المنذر
ويسرى يديك إذا أعسرت
... كيمنى يديه فلا تمتر
ودخل خالد بن عبد
الله القسري على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة، فقال: يا أمير المؤمنين، من
تكون الخلافة قد زانته فأنت قد زنتها، ومن تكون شرفته فأنت قد شرفتها، وأنت كما
قال الشاعر:
وإذا الدر زان حسن
وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا.
فقال عمر بن عبد
العزيز رحمه الله: أعطي صاحبكم مقولاً ولم يعط معقولاً.
ذكر بن أبي طاهر قال:
دخل المأمون بغداد فتلقاه وجوه أهلها، فقال له رجل منهم: يا أمير المؤمنين بارك الله لك في مقدمك، وزادك في نعمتك، وشكرك على رعيتك،
تقدمت من قبلك، وأتعبت من بعدك، وآيست أن يعاين مثلك؛ أما فيما مضى فلا نعرفه،
وأما فيما بقي فلا نرجوه، فنحن جميعاً ندعو لك ونثني عليك؛ خصب لنا جنابك، وعذب
شرابك، وحسنت نظرتك، وكرمت مقدرتك؛ جبرت الفقير، وفككت الأسير، فأنت يا أمير
المؤمنين كما قال الأول:
ما زلت في البذل
للنوال وإط ... لاق لعان بجرمه علق
حتى تمنى البراء أنهم
... عندك أسرى في القيد والحلق
ودخل رجل على خالد بن
عبد الله القسري فقال: أيها الأمير، إنك لتبذل ما جل، وتجبر ما اعتل، وتكثر ما قل؛
ففضلك بديع، ورأيك جميع.
وقال رجل للحسن بن
سهل: لقد صرت لا أستكثر كثيرك، ولا أستقل قليلك؛ قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك أكثر من
كثيرك، ولأن قليلك أكثر من كثير غيرك.
وقال خالد بن صفوان
لوال دخل عليه: قدمت فأعطيت كلاً بقسطه من نظرك ومجلسك؛ وصلاتك وعداتك، حتى كأنك
من كل أحد، وكأنك لست من أحد.
وقال الرشيد لبعض
الشعراء: هل أحدثت فينا شيئاً؟ قال: يا أمير المؤمنين، المديح كله دون قدرك،
والشعر فيك فوق قدري، ولكني أستحسن قول العتابي:
ماذا عسى مادح يثني
عليك وقد ... ناداك في الوحي تقديس وتطهير
فت الممادح إلا أن
ألسننا ... مستنطقات بما تخفي الضمايير
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق