اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الأربعاء، 9 نوفمبر 2022

ج15.وج16.بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع علاء الدين الكاساني

 

ج15. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني

سنة الولادة / سنة الوفاة 587

فيه عَادَةً
وَكَذَا له أَنْ يَسْتَأْجِرَ له شيئا بِأَقَلَّ من أَجْرِ الْمِثْلِ أو بِأَجْرِ الْمِثْلِ أو بِأَكْثَرَ منه قَدْرَ ما يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً
وَلَوْ أجر نَفْسَهُ أو مَالَهُ ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ في الْمُدَّةِ فَلَهُ الْخِيَارُ في إجَارَةِ النَّفْسِ إنْ شَاءَ مَضَى عليها وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَهَا وَلَا خِيَارَ له في إجَارَةِ الْمَالِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إجَارَةَ مَالِ الصَّغِيرِ تَصَرُّفٌ في مَالِهِ على وَجْهِ النَّظَرِ فَيَقُومُ الْأَبُ فيه مَقَامَهُ فَلَا يَثْبُتُ له خِيَارُ الْإِبْطَالِ بِالْبُلُوغِ فَأَمَّا إجَارَةُ نَفْسِهِ فَتُصْرَفُ على نَفْسِهِ بالإضرار وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْأَبُ إلَّا أَنَّهُ مَلَكَهَا من حَيْثُ إنَّهَا نَوْعُ رِيَاضَةٍ وَتَهْذِيبٌ لِلصَّغِيرِ وَتَأْدِيبٌ له وَالْأَبُ يَلِي تَأْدِيبَ الصَّغِيرِ فَوَلِيَهَا على أنها تَأْدِيبٌ فإذا بَلَغَ فَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ التَّأْدِيبِ وهو الْفَرْقُ وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِهِ وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مَالَهُ مُضَارَبَةً وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَ وَلَهُ أَنْ يؤكل بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَكُلُّ من مَلَكَ التِّجَارَةَ يَمْلِكُ ما هو من تَوَابِعِهَا وَلِهَذَا مَلَكَهَا الْمَأْذُونُ وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ مَالَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَكَانَ ضَرَرًا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَضَرُورَاتِهَا فَتُمْلَكُ بِمِلْكِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا مَلَكَهَا الْمَأْذُونُ وَلَهُ أَنْ يُودِعَ مَالَهُ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ له بِالتِّجَارَةِ عِنْدَنَا إذَا كان يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِأَنَّ الأذن بِالتِّجَارَةِ دُونَ التِّجَارَةِ فَإِذًا مَلَكَ التِّجَارَةَ بِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَمْلِكَ الْإِذْنَ بِالتِّجَارَةِ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ في مَعْنَى الْبَيْعِ وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ بِدَيْنِهِ لِأَنَّ الرَّهْنَ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ التَّاجِرَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وهو يَمْلِكُ قَضَاءَ دَيْنِهِ من مَالِهِ فَيَمْلِكُ الرَّهْنَ بِدَيْنِهِ أَيْضًا وَلَهُ أَنْ يَرْهَنَ مَالَهُ بِدَيْنِ نَفْسِهِ أَيْضًا لِأَنَّ عَيْنَ الْمَرْهُونِ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهَنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَضْمَنُ مِقْدَارَ ما صَارَ مُؤَدِّيًا من ذلك دَيْنَ نَفْسِهِ
وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَهُ مُضَارَبَةً عِنْدَ نَفْسِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ على ذلك في الِابْتِدَاءِ وَلَوْ لم يُشْهِدْ يَحِلُّ له الرِّبْحُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ
وَكَذَلِكَ إذَا شَارَكَ وَرَأْسُ مَالِهِ أَقَلُّ من مَالِ الصَّغِيرِ
فَإِنْ أَشْهَدَ فَالرِّبْحُ على ما شَرَطَ
وَإِنْ لم يُشْهِدْ يَحِلَّ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُصَدِّقُهُ وَيُجْعَلُ الرِّبْحُ على قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا
وما عَرَفْتَ من الْجَوَابِ في الْأَبِ فَهُوَ الْجَوَابُ في وَصِيِّهِ حَالَ عَدَمِهِ
وفي الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ حَالَ عَدَمِهِ إلَّا أَنَّ بين الْأَبِ وَوَصِيِّهِ وَبَيْنَ الْجَدِّ وَوَصِيِّهِ فَرْقًا من وُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ
منها أَنَّ الْأَبَ أو الْجَدَّ إذَا اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ أو بَاعَ مَالَ نَفْسِهِ من الصَّغِيرِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو بِأَقَلَّ جَازَ
وَلَوْ فَعَلَ الْوَصِيُّ ذلك لَا يَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَصْلًا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنْ كان خَيْرًا لِلْيَتِيمِ جَازَ وَإِلَّا فَلَا
وَمِنْهَا أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ الِاقْتِصَاصِ لِأَجْلِ الصَّغِيرِ في النَّفْسِ وما دُونَهَا وَلِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَيْسَ له وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ في النَّفْسِ وَمِنْهَا أَنَّ وِلَايَةَ الصُّلْحِ في النَّفْسِ وما دُونَهَا على قَدْرِ الدِّيَةِ من غَيْرِ حَطٍّ بِلَا خِلَافٍ وَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْعَفْوِ وفي جَوَازِ الصُّلْحِ من الْوَصِيِّ رِوَايَتَانِ
وقد ذَكَرْنَا الْوَجْهَ في ذلك في كِتَابِ الصُّلْحِ
ثُمَّ وَلِيُّ الْيَتِيمِ هل يَأْكُلُ من مَالِ الْيَتِيمِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا كان غَنِيًّا لَا يَأْكُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ كان غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ } فَأَمَّا إذَا كان فَقِيرًا فَهَلْ له أَنْ يَأْكُلَ على سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ أو ليس له أَنْ يَأْكُلَ إلَّا قَرْضًا
اخْتَلَفَ فيه الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ له أَنْ يَأْكُلَ على سَبِيلِ الْإِبَاحَةِ لَكِنْ بِالْمَعْرُوفِ من غَيْرِ إسْرَافٍ
وهو قَوْلُ سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يَأْكُلُ قَرْضًا فإذا أَيْسَرَ قَضَى
وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
احْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عليهم } أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْإِشْهَادِ على الْأَيْتَامِ عِنْدَ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِمْ
وَلَوْ كان الْمَالُ في أَيْدِي الْأَوْلِيَاءِ بِطَرِيقِ الْأَمَانَةِ لَكَانَ لَا حَاجَةَ إلَى الْإِشْهَادِ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْوَلِيِّ إذَا قال دَفَعْتُ الْمَالَ إلَى الْيَتِيمِ عِنْدَ إنْكَارِهِ
وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْإِشْهَادِ عِنْدَ الْأَخْذِ قَرْضًا لِيَأْكُلَ منه
لِأَنَّ في قَضَاءِ الدَّيْنِ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ لَا قَوْلُ من يَقْضِي الدَّيْنَ وَعَنْ سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَسَّرَ قَوْلَهُ عز وجل { وَمَنْ كان فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } قال قَرْضًا
احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَمَنْ كان فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } أَطْلَقَ اللَّهُ عز شَأْنُهُ لِوَلِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يَأْكُلَ من مَالِ الْيَتِيمِ بِالْمَعْرُوفِ وهو الْوَسَطُ من غَيْرِ إسْرَافٍ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال ليس لي مَالٌ وَلِي يَتِيمٌ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلْ من مَالِ يَتِيمِكَ
____________________

(5/154)


غير مُسْرِفٍ وَلَا مُتَأَثِّلٍ مَالَكَ بِمَالِهِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَمَالِكٌ في الموطأ أَنَّ الْأَفْضَلَ هو الِاسْتِعْفَافُ من مَالِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا أتى عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه فقال له أُوصِيَ إلى يَتِيمٌ
فقال عبد اللَّهِ لَا تَشْتَرِ من مَالِهِ شيئا وَلَا تَسْتَقْرِضْ من مَالِهِ شيئا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا تَرْتِيبُ الْوِلَايَةِ فَأَوْلَى الْأَوْلِيَاءِ الْأَبُ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ ثُمَّ الْجَدُّ ثُمَّ وَصِيُّهُ ثُمَّ وَصِيُّ وَصِيِّهِ ثُمَّ الْقَاضِي ثُمَّ من نَصَّبَهُ الْقَاضِي وهو وَصِيُّ الْقَاضِي وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ على هذا التَّرْتِيبِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ على الصِّغَارِ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ لهم لِعَجْزِهِمْ عن التَّصَرُّفِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالنَّظَرُ على هذا التَّرْتِيبِ لِأَنَّ ذلك مَبْنِيٌّ على الشَّفَقَةِ وَشَفَقَةُ الْأَبِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْكُلِّ وَشَفَقَةُ وَصِيِّهِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْجَدِّ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْأَبِ وَمُخْتَارُهُ فَكَانَ خَلَفَ الْأَبِ في الشَّفَقَةِ وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو وَشَفَقَةُ الْجَدِّ فَوْقَ شَفَقَةِ الْقَاضِي لِأَنَّ شَفَقَتَهُ تَنْشَأُ عن الْقَرَابَةِ وَالْقَاضِي أَجْنَبِيٌّ وَلَا شَكَّ أَنَّ شَفَقَةَ الْقَرِيبِ على قَرِيبِهِ فَوْقَ شَفَقَةِ الْأَجْنَبِيِّ
وَكَذَا شَفَقَةُ وَصِيِّهِ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْجَدِّ وَخَلَفُهُ فَكَانَ شَفَقَتُهُ مِثْلَ شَفَقَتِهِ وإذا كان ما جُعِلَ له الْوِلَايَةُ على هذا التَّرْتِيبِ كانت الْوِلَايَةُ على هذا التَّرْتِيبِ ضَرُورَةً لِأَنَّ تَرْتِيبَ الْحُكْمِ على حَسَبِ تَرْتِيبِ الْعِلَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَيْسَ لِمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ من الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَغَيْرِهِمْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ على الصَّغِيرِ في مَالِهِ لِأَنَّ الْأَخَ وَالْعَمَّ قَاصِرَا الشَّفَقَةِ وفي التَّصَرُّفَاتِ تَجْرِي جِنَايَاتٌ لَا يَهْتَمُّ لها إلَّا ذُو الشَّفَقَةِ الْوَافِرَةِ وَالْأُمُّ وَإِنْ كانت لها وُفُورُ الشَّفَقَةِ لَكِنْ ليس لها كَمَالُ الرَّأْيِ لِقُصُورِ عَقْلِ النِّسَاءِ عَادَةً فَلَا تَثْبُتُ لَهُنَّ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ وَلَا لِوَصِيِّهِنَّ لِأَنَّ الْوَصِيَّ خَلَفُ الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَهُ فَلَا يَثْبُتُ له إلَّا قَدْرُ ما كان لِلْمُوصِي وهو قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالْحِفْظُ لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ هَؤُلَاءِ وَلِوَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ وَالْعَقَارَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ لِلصَّغِيرِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا حَيًّا حَاضِرًا فَلَيْسَ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ أَصْلًا في مِيرَاثِ الصَّغِيرِ لِأَنَّ الْمُوصِيَ لو كان حَيًّا لَا يَمْلِكُهُ في حَالِ حَيَاتِهِ فَكَذَا الْوَصِيُّ وَإِنْ لم يَكُنْ فَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ يَبِيعُ الْمَنْقُولَ لِمَا أَنَّ بَيْعَ الْمَنْقُولِ من بَابِ الْحِفْظِ لِأَنَّ حِفْظَ الثَّمَنِ أَيْسَرُ وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ لِاسْتِغْنَائِهِ عن الْحِفْظِ لِكَوْنِهِ مَحْفُوظًا بِنَفْسِهِ
وَكَذَا لَا يَبِيعُ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لِأَنَّهَا مَحْفُوظَةٌ وَلَيْسَ له أَنْ يَشْتَرِيَ شيئا على سَبِيلِ التِّجَارَةِ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ما لَا بُدَّ منه لِلصَّغِيرِ من طَعَامِهِ وَكِسْوَتِهِ وما اسْتَفَادَ الصَّغِيرُ من الْمَالِ من جِهَةٍ أُخْرَى سِوَى الْإِرْثِ بِأَنْ وُهِبَ له شَيْءٌ أو أوصى له بِهِ فَلَيْسَ له وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فيه أَصْلًا عَقَارًا كان أو مَنْقُولًا لِأَنَّهُ لم يَكُنْ للموصي عليه وِلَايَةٌ فَكَذَا الْوَصِيُّ
وَأَمَّا وَصِيُّ الْمُكَاتَبِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ وَالْعَقَارَ لِقَضَاءِ دَيْنِ الْمُكَاتَبِ وَلِقَضَاءِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ كان يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ فَكَذَا وَصِيُّهُ وما فَضَلَ من كَسْبِهِ يَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ
أَمَّا الْأَحْرَارُ منهم فَلَا شَكَّ وَكَذَا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ في الْكِتَابَةِ وَمَنْ كُوتِبَ معه لِأَنَّهُ عَتَقَ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ بِعِتْقِ أبيه وإذا صَارَ الْفَاضِلُ من كَسْبِهِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَهَلْ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مَالِهِمْ ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إلَّا الْحِفْظَ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ وَالْعَمِّ وفي كِتَابِ الْقِسْمَةِ الحقه بِوَصِيِّ الْأَبِ فإنه أَجَازَ قِسْمَتَهُ في الْعَقَارَاتِ وَالْقِسْمَةُ في مَعْنَى الْبَيْعِ فَمَنْ جَازَتْ قِسْمَتُهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَكَانَ فيه رِوَايَتَانِ
وَهَذَا إذَا مَاتَ قبل أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَأَمَّا إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ في حَالِ حَيَاتِهِ وَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ كان وَصِيُّهُ كَوَصِيِّ الْحُرِّ بِلَا خِلَافٍ
وَالثَّانِي أَنْ لَا يَكُونَ في الْمَبِيعِ حَقٌّ لِغَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنْ كان لَا يَنْعَقِدُ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجَرِ لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وقد اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْكُتُبِ في هذه الْمَسْأَلَةِ في بَعْضِهَا أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ من أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَمْلُوكٍ له مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ أَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْتَكَّ الرَّهْنَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ فَيُسَلِّمَهُ إلَى الْمَدِينِ وَكَذَا احْتِمَالُ الْإِجَازَةِ من الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ ثَابِتٌ في الْبَابَيْنِ جميعا إلَّا أَنَّهُ لم يَنْفُذْ لِلْحَالِ لِتَعَلُّقِ حَقِّهِمَا فَتَوَقَّفَ وَيُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ فَاسِدٌ على أَنَّهُ لَا حُكْمَ له ظَاهِرٌ وهو تَفْسِيرُ الْمَوْقُوفِ عِنْدَنَا فإذا تَوَقَّفَ على إجَازَتِهِمَا فَإِنْ أَجَازَا جَازَ وَنَفَذَ وَهَلْ يَمْلِكَانِ الْمُطَالَبَةَ بِالْفَسْخِ
ذكر ( ( ( ذكره ) ) ) الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ وقال أَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَلَا يَمْلِكُ وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَمْلِكُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا من حَيْثُ أن حَقَّ الْمُسْتَأْجِرِ في
____________________

(5/155)


الْمَنْفَعَةِ لَا في الْعَيْنِ إذْ الْإِجَارَةُ عَقْدٌ على الْمَنْفَعَةِ لَا على الْعَيْنِ وَالْبَيْعُ عَقْدٌ على الْعَيْنِ فلم يَكُنْ الْبَيْعُ تَصَرُّفًا في مَحَلِّ حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَحَقُّ الْمُرْتَهِنِ في الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي الدَّيْنَ من بَدَلِ الْعَيْنِ بِالْبَيْعِ عِنْدَ عَدَمِ الِافْتِكَاكِ من الراهن ( ( ( الرهن ) ) )
وَلِهَذَا لو أَجَازَ الْبَيْعَ كان الثَّمَنُ رَهْنًا عِنْدَهُ فَكَانَ الْبَيْعُ تَصَرُّفًا في مَحَلِّ حَقِّهِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ
وَهَلْ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ فَإِنْ لم يَعْلَمْ أَنَّهُ مَرْهُونٌ أو مُؤَجَّرٌ يَثْبُتْ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُطْلَقَ يَقْتَضِي التَّسْلِيمَ لِلْحَالِ وقد فَاتَ فَيَثْبُتُ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَإِنْ عَلِمَ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّهُ رضي بِالتَّسْلِيمِ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ الذي وَجَبَ عليه الْقَوَدُ نَفَذَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ في نَفْسِ الْقَاتِلِ وَإِنَّمَا له وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وإنها لَا تَبْطُلُ بِالْبَيْعِ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَلَا يَصِيرُ الْمَوْلَى بِالْبَيْعِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ سَوَاءً عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّ حَقَّ الْوَلِيِّ في الْقِصَاصِ وَالْبَيْعِ لَا يُبْطِلُ الْقِصَاصَ
وَكَذَلِكَ لو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو كَاتَبَ أمة فَاسْتَوْلَدَهَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو بَاعَ عَبْدَهُ الذي هو حَلَالُ الدَّمِ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُوجِبُ إبَاحَةَ الدَّمِ لَا غَيْر وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُهَا وَكَذَا لو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ وَكَذَا لو بَاعَ عَبْدَهُ الذي وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ بِالسَّرِقَةِ أو وَجَبَ عليه حَدٌّ من الْحُدُودِ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذِهِ الْجِنَايَاتِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقَطْعِ وَالْحَدُّ وَالْبَيْعُ لَا يُبْطِلُهَا
وَلَوْ بَاعَ عَبْدَهُ الذي وَجَبَ دَفْعُهُ بِالْجِنَايَةِ يَجُوزُ عَلِمَ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَةِ أو لَا وَلَا سَبِيلَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ على الْعَبْدِ وَلَا على الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَا حَقَّ له في نَفْسِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا يُخَاطِبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْفِدَاءَ غير أَنَّهُ إنْ كان عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ بَالِغًا ما بَلَغَ لِأَنَّ إقْدَامَهُ على الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْجِنَايَةِ اخْتِيَارٌ لِلْفِدَاءِ إذْ لو لم يَخْتَرْ لَمَا بَاعَهُ لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ في الدَّفْعِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِهِ وَعَلَى تَقْدِيرِ الِاخْتِيَارِ كان الْبَيْعُ إبْطَالًا لِحَقِّهِمْ إلَى بَدَلٍ وهو الْفِدَاءُ فَكَانَ الْإِقْدَامُ على الْبَيْعِ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ بِخِلَافِ ما إذَا كان عليه قَتْلٌ أو قَطْعٌ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ أو حَدٍّ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هذه الْحُقُوقِ فلم يَكُنْ الْإِقْدَامُ على الْبَيْعِ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ فَلَا تَسْقُطُ هذه الْحُقُوقُ بَلْ بَقِيَتْ على حَالِهَا وَإِنْ كان عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ يَلْزَمْهُ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عَالِمًا بِالْجِنَايَةِ كان الْبَيْعُ اسْتِهْلَاكًا لِلْعَبْدِ من غَيْرِ اخْتِيَارِهِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ ما أَتْلَفَ على وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا قَدْرَ الْأَرْشِ إلَّا إذَا كان أَقَلُّهُمَا عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَنْقُصُ منها عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ قِيمَةَ قَتْلِ الْعَبْدِ خَطَأً إذَا بَلَغَ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ يَنْقُصُ منها عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
وَكَذَلِكَ لو أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى أو دَبَّرَهُ أو كَاتَبَ أمة فَاسْتَوْلَدَهَا جَازَ وَلَا سَبِيلَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ على الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ غير أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ كان ذلك اخْتِيَارًا منه لِلْفِدَاءِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ وما زَادَ على هذا نَذْكُرُهُ في كِتَابِ جِنَايَاتِ الْعَبِيدِ في آخَرِ كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الصِّحَّةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبِيَاعَاتِ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ
فَمِنْهَا ما ذَكَرْنَا من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ لِأَنَّ ما لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ بِدُونِهِ لَا يَصِحُّ بِدُونِهِ ضَرُورَةً إذْ الصِّحَّةُ أَمْرٌ زَائِدٌ على الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ فَكُلُّ ما كان شَرْطَ الِانْعِقَادِ وَالنَّفَاذِ كان شَرْطَ الصِّحَّةِ ضَرُورَةً وَلَيْسَ كُلُّ ما يَكُونُ شَرْطَ الصِّحَّةِ يَكُونُ شَرْطَ النَّفَاذِ وَالِانْعِقَادِ عِنْدَنَا فإن الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يَنْعَقِدُ وَيَنْفُذُ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ عِنْدَنَا وَإِنْ لم يَكُنْ صَحِيحًا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا وَثَمَنُهُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ من الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَسَدَ الْبَيْعُ وَإِنْ كان مَجْهُولًا جَهَالَةً لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا يَفْسُدْ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إذَا كانت مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ كانت مَانِعَةً من التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْبَيْعِ وإذا لم تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تَمْنَعُ من ذلك فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ
وَبَيَانُهُ في مَسَائِلَ إذَا قال بِعْتُكَ شَاةً من هذا الْقَطِيعِ أو ثَوْبًا من هذا الْعِدْلِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الشَّاةَ من الْقَطِيعِ وَالثَّوْبَ من الْعِدْلِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لِتَفَاحُشِ التَّفَاوُتِ بين شَاةٍ وَشَاةٍ وَثَوْبٍ وَثَوْبٍ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ فَإِنْ عَيَّنَ الْبَائِعُ شَاةً أو ثَوْبًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ وَيَكُونُ ذلك ابْتِدَاءَ بَيْعٍ بِالْمُرَاضَاةِ وَلِأَنَّ البايعات ( ( ( البياعات ) ) ) لِلتَّوَسُّلِ إلَى اسْتِيفَاءِ النُّفُوسِ إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهَا وَالتَّنَازُعُ يُفْضِي إلَى التَّفَانِي فَيَتَنَاقَضُ وَلِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ الْبَيْعِ وَالرِّضَا لَا يَتَعَلَّقُ إلَّا بِالْمَعْلُومِ
وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عِلْمًا مَانِعًا من الْمُنَازَعَةِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِهِمَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَبَيَانُهُ في مَسَائِلَ وَكَذَا إذَا قال بِعْتُكَ أَحَدَ هذه الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ
____________________

(5/156)


بِكَذَا وَذَكَرَ خِيَارَ التَّعْيِينِ أو سَكَتَ عنه أو قال بِعْتُكَ أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أو أَحَدَ هذه الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ بِكَذَا وَسَكَتَ عن الْخِيَارِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ وَلَوْ ذَكَرَ الْخِيَارَ بِأَنْ قال على أَنَّكَ بِالْخِيَارِ تَأْخُذُ أَيَّهَا شِئْتَ بِثَمَنِ كَذَا وَتَرُدُّ الْبَاقِيَ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَفْسُدَ الْبَيْعُ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَفْسُدُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ بَاعَ أَحَدَهُمَا غير عَيْنٍ وهو غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كما لو بَاعَ أَحَدَ الْأَثْوَابِ الْأَرْبَعَةِ وَذَكَرَ الْخِيَارَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ الِاسْتِدْلَال بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا مِسَاسُ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْخِيَارَيْنِ طَرِيقٌ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ وَوُرُودُ الشَّرْعِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا وَالْحَاجَةُ تَنْدَفِعُ بِالتَّحَرِّي في ثَلَاثَةٍ لِاقْتِصَارِ الْأَشْيَاءِ على الْجَيِّدِ وَالْوَسَطِ وَالرَّدِيءِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ في الزِّيَادَةِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الناس تَعَامَلُوا هذا الْبَيْعَ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذلك فإن كُلَّ أَحَدٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدْخُلَ السُّوقَ فَيَشْتَرِيَ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ خُصُوصًا الْأَكَابِرَ وَالنِّسَاءَ فَيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ وَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ بِشِرَاءِ شَيْءٍ وَاحِدٍ مُعَيَّنٍ من ذلك الْجِنْسِ لِمَا عَسَى لَا يُوَافِقُ الآخر ( ( ( الآمر ) ) ) فَيَحْتَاجَ إلَى أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَ اثْنَيْنِ من ذلك الْجِنْسِ فَيَحْمِلَهُمَا جميعا إلَى الْآمِرِ فَيَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ الْمَذْكُورِ وَيَرُدَّ الْبَاقِيَ فَجَوَّزْنَا ذلك لِتَعَامُلِ الناس وَلَا تَعَامُلَ فِيمَا زَادَ على الثَّلَاثَةِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيه على أَصْلِ الْقِيَاسِ
قوله ( ( ( وقوله ) ) ) الْمَعْقُودُ عليه مَجْهُولٌ قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ فإنه إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ بِأَنْ قال على أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْتَ فَقَدْ انْعَقَدَ الْبَيْعُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لَا لِلْحَالِ والمقعود ( ( ( والمعقود ) ) ) عليه عِنْدَ اخْتِيَارِهِ مَعْلُومٌ مع ما أَنَّ هذه جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَلَا تَقَعُ الْمُنَازَعَةُ وَهَلْ يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ في هذا الْخِيَارِ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه لِاخْتِلَافِ أَلْفَاظِ مُحَمَّدٍ في هذه الْمَسْأَلَةِ في الْكُتُبِ فذكر في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ على أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي أَيَّهُمَا شَاءَ وهو فيه بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ على أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِأَلْفٍ ولم يذكر الْخِيَارَ فقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ هذا الْبَيْعُ إلَّا بِذِكْرِ مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ وهو ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فما دُونَهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا الثَّلَاثُ وما زَادَ عليها بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وهو قَوْلُ الْكَرْخِيِّ وَالطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وقال بَعْضُهُمْ يَصِحُّ من غَيْرِ ذِكْرِ الْمُدَّةِ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ الْمَبِيعَ لو كان ثَوْبًا وَاحِدًا مُعَيَّنًا وَشُرِطَ فيه الْخِيَارُ كان بَيَانُ الْمُدَّةِ شَرْطَ الصِّحَّةِ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَا إذَا كان وَاحِدًا غير مُعَيَّنٍ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ تَرْكَ التَّوْقِيتِ تَجْهِيلٌ لِمُدَّةِ الْخِيَارِ وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا وَالثَّابِتُ بِخِيَارِ التَّعْيِينِ رَدُّ أَحَدِهِمَا وَهَذَا حُكْمُ خِيَارِ الشَّرْطِ فَلَا بُدَّ من ذِكْرِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِينَ أن تَوْقِيتَ الْخِيَارِ في الْمُعَيَّنِ إنَّمَا كان شَرْطًا لِأَنَّ الْخِيَارَ فيه يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِوَاسِطَةِ التَّأَمُّلِ فَكَانَ في مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا بُدَّ من التَّوْقِيتِ لِيَصِحَّ اسْتِثْنَاءُ ذلك في الْوَقْتِ عن ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيه وَخِيَارُ التَّعْيِينِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بَلْ يَثْبُتُ الْحُكْمُ في أَحَدِهِمَا غير عَيْنٍ وَإِنَّمَا يُمْنَعُ تَعَيُّنُ الْمَبِيعِ لَا غَيْرُ فَلَا يُشْتَرَطُ له بَيَانُ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ لَا يُورَثُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَخِيَارُ التَّعْيِينِ يُورَثُ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا لَا حُكْمًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ الْمَعْهُودِ لِيَشْتَرِطَ له بَيَانَ الْمُدَّةِ بَلْ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمُضَافَ إلَى أَحَدِهِمَا غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مَحَلًّا لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ مَعْهُودٍ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وعلى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ أو عَبْدَيْنِ أو دَابَّتَيْنِ على أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أو الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ في أَحَدِهِمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ولم يُعَيَّنْ الذي فيه الْخِيَارُ من الذي لَا خِيَارَ فيه وَلَا بين حِصَّةٍ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ فِيهِمَا جميعا لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
أَمَّا جَهَالَةُ الْمَبِيعِ فَلِأَنَّ الْعَقْدَ في أَحَدِهِمَا بَاتٌّ وفي الْآخَرِ خِيَارٌ ولم يُعَيَّنْ أَحَدُهُمَا من الْآخَرِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا وَأَمَّا جَهَالَةُ الثَّمَنِ فَلِأَنَّهُ إذَا لم يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَلَا يُعْرَفُ ذلك إلَّا بِالْحَزَرِ وَالظَّنِّ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَالْمَبِيعُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ أَحَدِهِمَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَجَهَالَتُهُمَا أَوْلَى
وَكَذَا إذَا عَيَّنَ الذي فيه الْخِيَارُ لَكِنْ لم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ وَكَذَا إذَا بَيَّنَ ثَمَنَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ لم يُعَيِّنْ الذي فيه الْخِيَارُ من صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَجْهُولٌ وَلَوْ عَيَّنَ وَبَيَّنَ جَازَ الْبَيْعُ فِيهِمَا جميعا لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ مَعْلُومَانِ وَيَكُونُ الْبَيْعُ في أَحَدِهِمَا بَاتًّا من غَيْرِ خِيَارٍ وفي الْآخَرِ فيه خِيَارٌ لِأَنَّهُ هَكَذَا فَعَلَ فإذا أَجَازَ من له الْخِيَارُ الْبَيْعَ فِيمَا له فيه الْخِيَارُ أو مَاتَ أو مَضَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ من غَيْرِ فَسْخٍ حتى تَمَّ الْبَيْعُ وَلَزِمَ
____________________

(5/157)


الْمُشْتَرِيَ ثَمَنُهُمَا ليس له أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا أو كِلَاهُمَا ما لم يَنْقُدْ ثَمَنَهُمَا جميعا لِأَنَّ الْخِيَارَ لَمَّا سَقَطَ وَلَزِمَ الْعَقْدُ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُمَا جميعا شِرَاءً بَاتًّا وَلَوْ كان كَذَلِكَ كان الْأَمْرُ على ما وَصَفْنَا فَكَذَا هذا
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا أو دَابَّةً وَاحِدَةً بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ على أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أو الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ في نِصْفِهِ وَنِصْفُهُ بَاتٌّ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ النِّصْفَ مَعْلُومٌ وَثَمَنُهُ مَعْلُومٌ أَيْضًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ بَاعَ عَدَدًا من جُمْلَةِ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ بِدِرْهَمٍ وَالْجُمْلَةُ أَكْثَرُ مِمَّا سَمَّى فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَبِيعِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ عَزَلَ ذلك الْقَدْرَ من الْجُمْلَةِ بَعْدَ ذلك أو تَرَاضَيَا عليه فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ ذلك بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْكِتَابِ فقال وَإِنَّمَا وَقَعَ الْبَيْعُ على هذا الْمَعْزُولِ حين تَرَاضَيَا وَهَذَا نَصٌّ على جَوَازِ الْبَيْعِ بِالْمُرَاوَضَةِ
وَلَوْ قال بِعْتُ هذا الْعَبْدَ بِقِيمَتِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ ثَمَنَهُ قِيمَتَهُ وَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى من هذا اللَّحْمِ ثَلَاثَةَ أَرْطَالٍ بِدِرْهَمٍ ولم يُبَيِّنْ الْمَوْضِعَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَكَذَلِكَ إذَا بَيَّنَ الْمَوْضِعَ بِأَنْ قال زِنْ لي من هذا الْجَنْبِ رَطْلًا بِكَذَا أو من هذا الْفَخِذِ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في السَّلَمِ وَعَلَى قيام ( ( ( قياس ) ) ) قَوْلِهِمَا يَجُوزُ
وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وَكَذَا إذَا بَاعَ بِحُكْمِ الْمُشْتَرِي أو بِحُكْمِ فُلَانٍ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يَحْكُمُ فُلَانٌ فَكَانَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا وَكَذَا إذَا قال بِعْتُكَ هذا بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أو بقفيز ( ( ( بقفيزي ) ) ) شَعِيرٍ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ وَقِيلَ هو الْبَيْعَانِ في بَيْعٍ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعَيْنِ في بَيْعٍ وَكَذَا إذَا قال بِعْتُكَ هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ أو بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ وَقِيلَ هو الشَّرْطَانِ في بَيْعٍ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن شَرْطَيْنِ في بَيْعٍ وَلَوْ بَاعَ شيئا بِرِبْحِ ده بازده ( ( ( يازده ) ) ) ولم يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَأْسَ مَالِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ حتى يَعْلَمَ فَيَخْتَارَ أو يَدَعَ هَكَذَا روي ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ إذَا لم يُعْلَمْ رَأْسُ مَالِهِ كان ثَمَنُهُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ الثَّمَنِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فإذا عَلِمَ وَرَضِيَ بِهِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ وهو الْجَهَالَةُ عِنْدَ الْعَقْدِ وقد زَالَتْ في الْمَجْلِسِ وَلَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ كان مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ حتى إذَا افْتَرَقَا تَقَرَّرَ الْفَسَادُ
وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْعِلْمِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ هذا حُكْمُ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وقد تَقَرَّرَ الْفَسَادُ بِالْهَلَاكِ لِأَنَّ بِالْهَلَاكِ خَرَجَ الْبَيْعُ عن احْتِمَالِ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَلْحَقُ الْقَائِمَ دُونَ الْهَالِكِ فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ فَلَزِمَتْهُ الْقِيمَةُ
وَرَوَى ابن شُجَاعٍ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ على الْإِجَازَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال صَحَّ وَهَذِهِ أَمَارَةُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قبل أَنْ يرضي الْمُشْتَرِي وقد قَبَضَ أو لم يَقْبِضْ انْتَقَضَ الْبَيْعُ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ عَبْدًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ أو بَاعَهُ أو مَاتَ قبل الْعِلْمِ جَازَ الْعِتْقُ وَالْبَيْعُ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِوُجُودِ الْهَلَاكِ حَقِيقَةً بِالْمَوْتِ وَبِالْإِعْتَاقِ في الْمَبِيعِ فَخَرَجَ الْبَيْعُ عن احْتِمَالِ الْإِجَازَةِ فَتَأَكَّدَ الْفَسَادُ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ بعدما عَلِمَ بِرَأْسِ الْمَالِ فَعَلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ إقْدَامَهُ على الْإِعْتَاقِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ وَلَوْ عَتَقَ بِالْقَرَابَةِ قبل الْعِلْمِ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له في الْقَرَابَةِ فلم يُوجَدْ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ فَكَانَ الْعِتْقُ بها بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الْعَبْدِ قبل الْعِلْمِ وَهُنَاكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ كَذَا هَهُنَا
وَكَذَا إذَا بَاعَ الشَّيْءَ بِرَقْمِهِ أو رَأْسِ مَالِهِ ولم يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَقْمَهُ وَرَأْسَ مَالِهِ فَهُوَ كما إذَا بَاعَ شيئا بِرِبْحِ ده بازده ( ( ( يازده ) ) ) ولم يَعْلَمْ ما اشْتَرَى بِهِ
وَلَوْ قال بِعْتُكَ قَفِيزًا من هذه الصُّبْرَةِ صَحَّ وَإِنْ كان قَفِيزًا من صُبْرَةٍ مَجْهُولًا لَكِنْ هذه جَهَالَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الصُّبْرَةَ الْوَاحِدَةَ مُتَمَاثِلَةُ الْقُفْزَانِ بِخِلَافِ الشَّاةِ من الْقَطِيعِ وَثَوْبٍ من الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ بين شَاةٍ وَشَاةٍ تَفَاوُتًا فَاحِشًا وَكَذَا بين ثَوْبٍ وَثَوْبٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ بَاعَ شيئا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أو بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وفي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ الْغَالِبِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ خُصُوصًا إذَا كان فيه صِحَّةُ الْعَقْدِ وَإِنْ كان في الْبَلَدِ نُقُودٌ غَالِبَةٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ إذْ الْبَعْضُ ليس بِأَوْلَى من الْبَعْضِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ أَصْلُ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ إذَا كانت مَجْهُولَةً عِنْدَ الْعَقْدِ في بَيْعٍ مُضَافٍ إلَى جُمْلَةٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا في الْقَدْرِ الذي جَهَالَتُهُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو أما إنْ كان من الْمِثْلِيَّاتِ من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من غَيْرِهَا من الذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَلَا يَخْلُو أما إنْ سَمَّى جُمْلَةَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالذَّرْعِ في الْبَيْعِ وأما إنْ لم يُسَمِّ أَمَّا الْمَكِيلَاتُ فَإِنْ لم يُسَمِّ جُمْلَتَهَا بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذه الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ منها
____________________

(5/158)


بِدِرْهَمٍ لم يَجُزْ الْبَيْعُ إلَّا في قَفِيزٍ منها بِدِرْهَمٍ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فيه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا يَجُوزُ في الْبَاقِي إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَةَ الْقُفْزَانِ قبل الِافْتِرَاقِ بِأَنْ كَالَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ حتى افْتَرَقَا عن الْمَجْلِسِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ في كل الصُّبْرَةِ كُلَّ قَفِيزٍ منها بِدِرْهَمٍ سَوَاءً عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال كُلُّ قَفِيزٍ منها بِدِرْهَمَيْنِ أو كُلُّ ثَلَاثَةِ أَقْفِزَةٍ منها بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْوَزْنُ الذي لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ كَالزَّيْتِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعَدَدِيُّ الْمُتَقَارِبُ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ إذَا لم يُسَمِّ جُمْلَتَهَا
وَأَمَّا الذَّرْعِيَّاتُ فَإِنْ لم يُسَمِّ جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الثَّوْبَ أو هذه الْأَرْضَ أو هذه الْخَشَبَةَ كُلَّ ذِرَاعٍ منها بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ في الْكُلِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَةَ الذُّرْعَانِ في الْمَجْلِسِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ حتى إذَا تَفَرَّقَا تَقَرَّرَ الْفَسَادُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ الْبَيْعُ في الْكُلِّ وَيَلْزَمُهُ كُلُّ ذِرَاعٍ منه بِدِرْهَمٍ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال كُلُّ ذِرَاعَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ أو كُلُّ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ كَالْأَغْنَامِ وَالْعَبِيدِ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الْقَطِيعَ من الْغَنَمِ كُلَّ شَاةٍ منها بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ولم يُسَمِّ جُمْلَةَ الشِّيَاهِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْوَزْنِيُّ الذي في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ كَالْمَصُوغِ من الْأَوَانِي وَالْقُلْبِ وَنَحْوِ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا في مَسَائِلِ الْخِلَافِ أَنَّ جُمْلَةَ الْبَيْعِ مَعْلُومَةٌ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ مُمْكِنُ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْعَدَدِ وَالذَّرْعِ فَكَانَتْ هذه جَهَالَةٌ مُمْكِنَةَ الرَّفْعِ وَالْإِزَالَةِ وَمِثْلُ هذه الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ كما إذَا بَاعَ بِوَزْنِ هذا الْحَجَرِ ذَهَبًا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جُمْلَةَ الثَّمَنِ مَجْهُولَةٌ حَالَةَ الْعَقْدِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كما إذَا بَاعَ الشَّيْءَ بِرَقْمِهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ جَهَالَةَ الثَّمَنِ حَالَةَ الْعَقْدِ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهُ بَاعَ كُلَّ قَفِيزٍ من الصُّبْرَةِ بِدِرْهَمٍ وَجُمْلَةُ الْقُفْزَانِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ حَالَةَ الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ مَعْلُومَةً ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ هذا في الْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ
وَقَوْلُهُمَا يُمْكِنُ رَفْعُ هذه الْجَهَالَةِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهَا ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ وَعِنْدَنَا إذَا ارْتَفَعَتْ في الْمَجْلِسِ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ إلَى الْجَوَازِ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ وَإِنْ طَالَ فَلَهُ حُكْمُ سَاعَةِ الْعَقْدِ وَالْبَيْعُ بِوَزْنِ هذا الْحَجَرِ ذَهَبًا مَمْنُوعٌ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ جَوَابُ أبي حَنِيفَةَ بين الْمِثْلِيَّاتِ وَغَيْرِهَا من وَجْهٍ حَيْثُ جَوَّزَ الْبَيْعَ في وَاحِدٍ في بَابِ الْأَمْثَالِ ولم يُجِزْ في غَيْرِهَا أَصْلًا لِأَنَّ الْمَانِعَ من الصِّحَّةِ جَهَالَةُ الثَّمَنِ لِكَوْنِهَا مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وَجَهَالَةُ قَفِيزٍ من صُبْرَةٍ غَيْرُ مَانِعَةٍ مع الصِّحَّةِ لِأَنَّهَا لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
أَلَا تَرَى لو اشْتَرَى قَفِيزًا من هذه الصُّبْرَةِ ابْتِدَاءً جَازَ فإذا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ كَلِمَةِ { كُلَّ } صُرِفَتْ إلَى الْخُصُوصِ لِأَنَّهُ مُمْكِنٌ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في صِيغَةِ الْعَامِّ إذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِهَا أنها تُصْرَفُ إلَى الْخُصُوصِ عِنْدَ إمْكَانِ الصَّرْفِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ لِأَنَّ جَهَالَةَ شَاةٍ من قَطِيعٍ وَذِرَاعٍ من ثَوْبٍ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ ذِرَاعٍ من ثَوْبٍ وَشَاةٍ من قَطِيعٍ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً فَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِعُمُومِ كَلِمَةِ { كُلَّ } فَفَسَدَ الْبَيْعُ في الْكُلِّ وَلَوْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الْقَطِيعَ من الْغَنَمِ كُلَّ شَاتَيْنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ في الْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي عَدَدَ الْجُمْلَةِ في الْمَجْلِسِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فُرِّقَ بين الْمَعْدُودِ الْمُتَفَاوِتِ وَبَيْنَ الْمَذْرُوعِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ أَنَّ الْوَاحِدَ والإثنين هُنَاكَ على الِاخْتِلَافِ وإذا عَلِمَ في الْمَجْلِسِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ وَهَهُنَا لَا يَجُوزُ الإثنين بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ عَلِمَ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةُ الِارْتِفَاعِ وَالزَّوَالِ ثَمَّةَ بِالْعِلْمِ في الْمَجْلِسِ فَكَانَ الْمَانِعُ يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ وَالْجَهَالَةُ هَهُنَا لَا تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ أَصْلًا لِأَنَّ ثَمَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ لَا يدري كَمْ هو
وَلَوْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذه الصُّبْرَةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلَّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ ولم يُسَمِّ جُمْلَةَ الصُّبْرَةِ وَلَكِنَّهُ سَمَّى جُمْلَةَ الثَّمَنِ لم يُذْكَرْ هذا في الْأَصْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وهو صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الثَّمَنِ ولم تُوجَدْ حَيْثُ سَمَّاهَا وَصَارَتْ تَسْمِيَةُ جُمْلَةِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ تَسْمِيَةِ جُمْلَةِ الْمَبِيعِ وَلَوْ سَمَّى جُمْلَةَ الْمَبِيعِ لَجَازَ على ما نَذْكُرُهُ كَذَا هذا
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا لم يُسَمِّ جُمْلَةَ الْمَبِيعِ من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ فَأَمَّا إذَا سماها ( ( ( أسماها ) ) ) بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذه الصُّبْرَةَ على أنها مِائَةُ قَفِيزٍ كُلُّ قَفِيزٍ بِدِرْهَمٍ أو قال على أنها مِائَةُ قَفِيزٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْقُفْزَانِ ثَمَنًا على حِدَةٍ أو سَمَّى لِلْكُلِّ ثَمَنًا وإحداهما سَوَاءٌ فَلَا شَكَّ في جَوَازِ الْبَيْعِ لِأَنَّ جُمْلَةَ البيع ( ( ( المبيع ) ) ) مَعْلُومَةٌ وَجُمْلَةَ الثَّمَنِ
____________________

(5/159)


مَعْلُومَةٌ ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا كما سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ من مِائَةِ قَفِيزٍ فَالزِّيَادَةُ لَا تُسَلَّمُ لِلْمُشْتَرِي بَلْ تُرَدُّ إلَى الْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا قَدْرُ ما سَمَّى وهو مِائَةُ قَفِيزٍ وَلَا خِيَارَ له وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ من مِائَةِ قَفِيزٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ وَطَرَحَ حِصَّةَ النُّقْصَانِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا وَأَصْلُ هذا أَنَّ الزِّيَادَةَ فِيمَا لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ لَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يُقَابِلَهُ الثَّمَنُ وَلَا ثَمَنَ لِلزِّيَادَةِ فَلَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ فَكَانَ مِلْكَ الْبَائِعِ فَيُرَدُّ إلَيْهِ وَالنُّقْصَانُ فيه نُقْصَانُ الْأَصْلِ لَا نُقْصَانُ الصِّفَةِ فإذا وَجَدَهَا أَنْقَصَ مِمَّا سَمَّى نَقَصَ من الثَّمَنِ حِصَّةَ النُّقْصَانِ
وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عليه لِأَنَّهَا وَقَعَتْ على مِائَةِ قَفِيزٍ ولم تُسَلَّمْ له فَأَوْجَبَ خَلَلًا في الرِّضَا فَيَثْبُتُ له خِيَارُ التَّرْكِ وَكَذَا الْجَوَابُ في الْمَوْزُونَاتِ التي ليس في تَنْقِيصِهَا ضَرَرٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فيها لَا تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا وَكَذَلِكَ الْمَعْدُودَاتُ الْمُتَقَارِبَةُ
وَأَمَّا الْمَذْرُوعَاتِ من الثَّوْبِ وَالْأَرْضِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهَا
فَإِنْ سمي لِجُمْلَةِ الذُّرْعَانِ ثَمَنًا وَاحِدًا ولم يُسَمِّ لِكُلِّ ذِرَاعٍ منها على حِدَةٍ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الثَّوْبَ على أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ وَثَمَنَهُ مَعْلُومَانِ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ مِثْلَ ما سَمَّى لَزِمَهُ الثَّوْبُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَلَا خِيَارَ له وَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَالزِّيَادَةُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ لَا يَطْرَحُ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ شيئا من الثَّمَنِ وهو بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَرْقٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ التي ليس في تَنْقِيصِهَا ضَرَرٌ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ في الذَّرْعِيَّاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَةِ كَصِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا وَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْأَصْلَ لَا الصِّفَةَ وَالدَّلِيلُ على أنها جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَةِ إن وُجُودَهَا يُوجِبُ جَوْدَةً في الْبَاقِي وَفَوَاتَهَا يَسْلُبُ صِفَةَ الْجَوْدَةِ وَيُوجِبُ الرَّدَاءَةَ فَتُلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِالْجَوْدَةِ وَالنُّقْصَانُ بِالرَّدَاءَةِ حُكْمًا
وَالْجَوْدَةُ وَالرَّدَاءَةُ صِفَةٌ وَالصِّفَةُ تُرَدُّ على الْأَصْلِ دُونَ الصِّفَةِ إلَّا أَنَّ الصِّفَةَ تُمْلَكُ تَبَعًا لِلْمَوْصُوفِ لِكَوْنِهَا تَابِعَةً قَائِمَةً بِهِ فإذا زَادَ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ رَدِيئًا فإذا هو جَيِّدٌ كما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا على أَنَّهُ ليس بِكَاتِبٍ أو ليس بِخَيَّاطٍ فَوَجَدَهُ كَاتِبًا أو خَيَّاطًا أو اشْتَرَى عَبْدًا على أَنَّهُ أَعْوَرُ فَوَجَدَهُ سَلِيمَ الْعَيْنَيْنِ أو اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها ثَيِّبٌ فَوَجَدَهَا بِكْرًا تُسَلَّمُ له وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ كَذَا هذا
وإذا نَقَصَ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ على أَنَّهُ جَيِّدٌ فَوَجَدَهُ رَدِيئًا أو اشْتَرَى عَبْدًا على أَنَّهُ كَاتِبٌ أو خَبَّازٌ أو صَحِيحُ الْعَيْنَيْنِ فَوَجَدَهُ غير كَاتِبٍ وَلَا خَبَّازٍ وَلَا صَحِيحَ الْعَيْنَيْنِ أو اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها بِكْرٌ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا لَا يَطْرَحُ شيئا من الثَّمَنِ لَكِنْ يَثْبُتُ له الْخِيَارُ كَذَا هذا بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ التي لَا ضَرَرَ فيها إذَا نَقَصَتْ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فيها غَيْرُ مُلْحَقَةٍ بِالْأَوْصَافِ لِأَنَّهَا أَصْلٌ بِنَفْسِهَا حَقِيقَةً وَالْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ إلَّا أنها أُلْحِقَتْ بِالصِّفَةِ في الْمَذْرُوعَاتِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ وُجُودَهَا يُوجِبُ الْجَوْدَةَ وَالْكَمَالَ لِلْبَاقِي وَفَوَاتَهَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ وَالرَّدَاءَةَ له وَهَذَا الْمَعْنَى هَهُنَا مُنْعَدِمٌ فَبَقِيَتْ أَصْلًا بِنَفْسِهَا حَقِيقَةً وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ منها ثَمَنًا على حِدَةٍ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الثَّوْبَ على أَنَّهُ عَشْرَةُ أَذْرُعٍ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ مِثْلَ ما سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَزِمَهُ الثَّوْبُ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ وَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ كُلَّهُ بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَرَحَ حِصَّةَ النُّقْصَانِ دِرْهَمًا وَأَخَذَهُ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عليه وَهَذَا يُشْكِلُ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ في المزروعات ( ( ( المذروعات ) ) ) تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ لها لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الْوَصْفِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ سَالِمَةً لِلْمُشْتَرِي وَلَا خِيَارَ له وَلَا يَطْرَحُ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ شيئا كما في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ الْجَوْدَةِ وَنُقْصَانِ الرَّدَاءَةِ على ما ذَكَرْنَا
وَحَلُّ هذا الْإِشْكَالِ أَنَّ الذَّرْعَ في المزروعات ( ( ( المذروعات ) ) ) إنَّمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ على الْإِطْلَاقِ إذَا لم يُفْرِدْ كُلَّ ذِرَاعٍ بِثَمَنٍ على حِدَةٍ
فإما إذَا أَفْرَدَ بِهِ فَلَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ أَصْلًا من وَجْهٍ وَصِفَةً من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ أن التَّبْعِيضَ فيها يُوجِبُ تعيب ( ( ( تعييب ) ) ) الْبَاقِي كانت الزِّيَادَةُ صِفَةً بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا على حِدَةٍ كان كُلُّ ذِرَاعٍ مَعْقُودًا عليه فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ أَصْلًا من وَجْهٍ صِفَةً من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا صِفَةٌ كانت لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْأَصْلَ
____________________

(5/160)


لَا الصِّفَةَ وَإِنَّمَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ تَبَعًا على ما بَيَّنَّا
وَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَصْلٌ لَا يُسَلَّمُ له إلَّا بِزِيَادَةِ ثَمَنٍ اعْتِبَارًا لِلْجِهَتَيْنِ جميعا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَلَهُ الْخِيَارُ في أَخْذِ الزِّيَادَةِ وَتَرْكِهَا لِأَنَّهُ لو لَزِمَهُ الْأَخْذُ لَا مَحَالَةَ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ ثَمَنٍ لم يَكُنْ لُزُومُهَا ظَاهِرًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَاخْتَلَّ رِضَاهُ فَوَجَبَ الْخِيَارُ
وفي النُّقْصَانِ إنْ شَاءَ طَرَحَ قَدْرَ النُّقْصَانِ وَأَخَذَ الْبَاقِيَ اعْتِبَارًا لِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عليه وَأَوْجَبَ خَلَلًا في الرِّضَا وَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ
هذا إذَا كانت الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ ذِرَاعًا تَامًّا فإما إذَا كانت دُونَ ذِرَاعٍ لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ
وَذُكِرَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ اخْتِلَافُ أَقَاوِيلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ في كَيْفِيَّةِ الْخِيَارِ فيه فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَرَّقَا بين الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ غير أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ زِيَادَةِ ذِرَاعٍ كَامِلٍ فقال إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَجَعَلَ نُقْصَانَ ذِرَاعٍ كَلَا نُقْصَانَ لَكِنْ جَعَلَ له الْخِيَارَ فقال إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بعرة ( ( ( بعشرة ) ) ) دَرَاهِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَلَا يَطْرَحُ من الثَّمَنِ شيئا لِأَجْلِ النُّقْصَانِ وَمُحَمَّدٌ جَعَلَ على الْقَلْبِ من ذلك فَجَعَلَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا زِيَادَةَ فقال يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ له وَجَعَلَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَنُقْصَانِ ذِرَاعٍ كَامِلٍ وقال إنْ شَاءَ أَخَذَ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَأَمَّا أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَسَوَّى بين الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
فقال في زِيَادَةِ نِصْفِ ذِرَاعٍ يُزَادُ على الثَّمَنِ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وقال في نُقْصَانِ نِصْفِ ذِرَاعٍ يَنْقُصُ من الثَّمَنِ نِصْفَ دِرْهَمٍ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِتِسْعَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَالْقِيَاسُ ما قَالَهُ أبو يُوسُفَ وهو اعْتِبَارُ الْجُزْءِ بِالْكُلِّ إلَّا أَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا اسْتَحْسَنَا لِتَعَامُلِ الناس
فَجَعَلَ أبو حَنِيفَةَ زِيَادَةَ نِصْفِ ذِرَاعٍ بِمَنْزِلَةِ ذِرَاعٍ تَامٍّ وَنُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ كَلَا نُقْصَانَ
لِأَنَّ الناس في الْعَادَاتِ في بِيَاعَاتِهِمْ وَأَشْرِيَتِهِمْ لَا يَعُدُّونَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ نُقْصَانًا بَلْ يَحْسِبُونَهُ ذِرَاعًا تَامًّا فَبَنَى الْأَمْرَ في ذلك على تَعَامُلِ الناس
وَجَعَلَ مُحَمَّدٌ الْأَمْرَ في ذلك على الْقَلْبِ من ذلك لِمَا أَنَّ الْبَاعَةَ يُسَامِحُونَ في زِيَادَةِ نِصْفٍ على الْقَدْرِ الْمُسَمَّى في الْبَيْعِ عَادَةً وَلَا يَعُدُّونَهُ زِيَادَةً فَكَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ عَادَةً كَأَنَّهُ لم يَزِدْ وَكَذَا يُسَامِحُونَ فَيَعُدُّونَ نُقْصَانَ نِصْفِ ذِرَاعٍ في الْعَادَاتِ نُقْصَانَ ذِرَاعٍ كَامِلٍ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِتَعَامُلِ الناس وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِمَا لِاخْتِلَافِ عَادَاتِ الناس وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا جَمِيعُ المزروعات ( ( ( المذروعات ) ) ) من الْأَرْضِ وَالْخَشَبِ وَغَيْرِهِمَا أَنَّهُ إنْ لم يُسَمِّ لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذه الْأَرْضَ على أنها أَلْفُ ذِرَاعٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا
ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا مِثْلَ ما سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَيَلْزَمْهُ الْأَرْضُ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ فَالزِّيَادَةُ سَالِمَةٌ له وَلَا خِيَارَ وَإِنْ وَجَدَهَا أَنْقَصَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ زِيَادَةَ الذَّرْعِ في الذَّرْعِيَّاتِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الصِّفَاتِ وَالثَّمَنُ يُقَابِلُ الْأَصْلَ دُونَ الصِّفَةِ وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا على حِدَةٍ بِأَنْ قال كُلُّ ذِرَاعٍ بِكَذَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ إنْ وَجَدَهَا مِثْلَ ما سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَإِنْ وَجَدَهَا أَزْيَدَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الزِّيَادَةَ بِثَمَنِهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةُ ثَمَنٍ لم يَلْتَزِمْهُ لِذَا الْعَقْدِ وَإِنْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ تَسْقُطْ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ على ما ذَكَرْنَا في الثَّوْبِ
وَعَلَى هذا الْخَشَبُ وَغَيْرُهُ من الذَّرْعِيَّاتِ وَعَلَى هذا الْمَوْزُونَاتُ التي في تَبْعِيضِهَا ضَرَرٌ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذه السَّبِيكَةَ من الذَّهَبِ على أنها مِثْقَالَانِ بِكَذَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ
ثُمَّ إنْ وُجِدَ على ما سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ أو أَنْقَصَ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في الذَّرْعِيَّاتِ
وَعَلَى هذا إذَا بَاعَ مَصُوغًا من نُحَاسٍ أو صُفْرٍ أو ما أَشْبَهَ ذلك على أَنَّ فيه كَذَا مَنًّا بِكَذَا دِرْهَمًا فَوَجَدَهُ أَكْثَرَ أو أَقَلَّ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا لِأَنَّ الْوَزْنَ في مِثْلِهِ يَكُونُ مُلْحَقًا بِالصِّفَةِ بِمَنْزِلَةِ الذَّرْعِ في الذَّرْعِيَّاتِ لِأَنَّ تَبْعِيضَهُ يُوجِبُ تَعْيِيبَ الْبَاقِي وَهَذَا حَدُّ الصِّفَةِ في هذا الْبَابِ
وَلَوْ بَاعَ مَصُوغًا من الْفِضَّةِ على أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ولم يُسَمِّ لِكُلِّ عَشَرَةٍ ثمناعلى حِدَةٍ بِأَنْ قال بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ولم يَقُلْ كُلُّ
____________________

(5/161)


وَزْنِ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ
ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ على ما سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ بِأَنْ كان مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَالْكُلُّ لِلْمُشْتَرِي بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَلَا يُزَادُ في الثَّمَنِ شَيْءٌ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ فيه بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ وَالصِّفَاتُ الْمَحْضَةُ لَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ وَإِنْ وَجَدَهُ تِسْعِينَ أو ثَمَانِينَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ على ما ذَكَرْنَا وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ عَشَرَةٍ ثَمَنًا على حِدَةٍ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ على أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ كُلُّ وَزْنِ عَشَرَةٍ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ثُمَّ إنْ وَجَدَهُ على ما سَمَّى فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَا خِيَارَ
وَإِنْ وَجَدَ وَزْنَهُ أَزْيَدَ بِأَنْ كان مِائَةً وَخَمْسِينَ نُظِرَ في ذلك إنْ عَلِمَ ذلك قبل التَّفَرُّقِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ زَادَ في الثَّمَنِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَأَخَذَ كُلَّهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لها حُكْمُ سَاعَةِ الْعَقْدِ
وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الفرق ( ( ( التفرق ) ) ) بَطَلَ الْبَيْعُ في ثُلُثِ الْمَصُوغِ لِانْعِدَامِ التَّقَابُضِ فيه وَلَهُ الْخِيَارُ في الْبَاقِي إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ الدَّنَانِيرَ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ
وَإِنْ وَجَدَ وَزْنَهُ خَمْسِينَ وَعَلِمَ ذلك قبل التَّفَرُّقِ أو بَعْدَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَدَّهُ وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِ وَاسْتَرَدَّ من الثَّمَنِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ وَكَذَلِكَ لو بَاعَ مَصُوغًا من ذَهَبٍ بِدَرَاهِمَ فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ
وَلَوْ بَاعَ مَصُوغًا من الْفِضَّةِ بِجِنْسِهَا أو بَاعَ مَصُوغًا من الذَّهَبِ بِجِنْسِهِ مِثْلَ وَزْنِهِ على أَنَّ وَزْنَهُ مِائَةٌ بِمِائَةٍ ثُمَّ وَجَدَهُ أَزْيَدَ مِمَّا سَمَّى فَإِنْ عَلِمَ بِالزِّيَادَةِ قبل التَّفَرُّقِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ زَادَ في الثَّمَنِ قَدْرَ وَزْنِ الزِّيَادَةِ وَأَخَذَ الْكُلَّ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ له حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ
وَإِنْ عَلِمَ بها بَعْدَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الْبَيْعُ في الزِّيَادَةِ لِأَنَّ التَّقَابُضَ شَرْطُ بَقَاءِ الصَّرْفِ على الصِّحَّةِ ولم يُوجَدْ في قَدْرِ الزِّيَادَةِ وَإِنْ وَجَدَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رضي بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَاسْتَرَدَّ فَضْلَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ سَمَّى الْجُمْلَةَ أو سَمَّى لِكُلِّ وَزْنِ درهم ( ( ( درهما ) ) ) دِرْهَمًا لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَصَارَ كَأَنَّهُ سَمَّى ذلك وَإِنْ لم يُسَمِّ حَقِيقَةً إلَّا الْجُمْلَةَ
وَأَمَّا الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَفَاوِتَةُ كَالْغَنَمِ وَالْعَبِيدِ وَنَحْوِهَا بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الْقَطِيعَ من الْغَنَمِ على أنها مِائَةُ شَاةٍ بِكَذَا فَإِنْ وَجَدَهُ على ما سَمَّى فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَإِنْ وَجَدَهُ أَزْيَدَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ في الْكُلِّ سَوَاءٌ ذَكَرَ لِلْكُلِّ ثَمَنًا وَاحِدًا بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الْقَطِيعَ على أنها مِائَةُ شَاةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو ذَكَرَ لِكُلِّ شَاةٍ فيها ثَمَنًا على حِدَةٍ بِأَنْ قال كُلُّ شَاةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لِأَنَّ كُلَّ شَاةٍ أَصْلٌ في كَوْنِهَا مَعْقُودًا عليها وَالزِّيَادَةُ لم تَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ فلم تَكُنْ مَبِيعَةً وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَكَانَ الْبَاقِي مَجْهُولًا ضَرُورَةَ جَهَالَةِ الزِّيَادَةِ فَيَصِيرُ بَائِعًا مِائَةَ شَاةٍ من مِائَةِ شَاةٍ وَوَاحِدَةٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ سَمَّى له ثَمَنًا أو لم يُسَمِّ وَإِنْ وَجَدَهُ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّى فَإِنْ كان لم يسمى ( ( ( يسم ) ) ) لِكُلِّ وَاحِدَةٍ منها ثَمَنًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى طَرْحِ ثَمَنِ شَاةٍ وَاحِدَةٍ من جُمْلَةِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى وهو مَجْهُولُ التَّفَاوُتِ فَاحِشٌ بين شَاةٍ وَشَاةٍ فَصَارَ ثَمَنُ الْبَاقِي مَجْهُولًا ضَرُورَةَ جَهَالَةِ حِصَّةِ الشَّاةِ النَّاقِصَةِ
وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ منها ثَمَنًا على حِدَةٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ بِحِصَّةِ الْبَاقِي منها لِأَنَّ حِصَّتَهُ الزَّائِدَةَ مَعْلُومَةٌ وَحِصَّةُ الْبَاقِي معلوم ( ( ( معلومة ) ) ) فَالْفَسَادُ من أَيْنَ من أَصْحَابِنَا من قال هذا مَذْهَبُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ في الْكُلِّ بِنَاءً على أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَهُ أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا أُضِيفَتْ إلَى ما يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ وإلا ( ( ( وإلى ) ) ) ما لَا يَحْتَمِلُهُ فَالْفَسَادُ يَشِيعُ في الْكُلِّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا على أَنَّ هذا بِلَا خِلَافٍ وَهَكَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ ولم يُذْكَرْ الْخِلَافُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُضَافَ إلَى مَوْجُودٍ يَجُوزُ أَنْ يَفْسُدَ لِمَعْنًى يُوجِبُ الْفَسَادَ ثُمَّ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى غَيْرِهِ
وَأَمَّا الْمَعْدُومُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَقْدَ أَصْلًا لِأَنَّهُ ليس بِشَيْءٍ فَلَا يُوصَفُ الْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَيْهِ بِالْفَسَادِ لِيَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ بَلْ لم تَصِحَّ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ فَيَبْقَى مُضَافًا إلَى الْمَوْجُودِ فَيَصِحَّ لَكِنْ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِمَا سَمَّى من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عليه
وَعَلَى هذا جَمِيعُ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَلَوْ قال بِعْتُ مِنْكَ هذا الْقَطِيعَ من الْغَنَمِ على أنها مِائَةٌ كُلُّ شَاتَيْنِ منها بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَإِنْ وَجَدَهُ على ما سَمَّى لِأَنَّ ثَمَنَ كل وَاحِدَةٍ من الشَّاتَيْنِ مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حِصَّةَ كل شَاةٍ منها من الثَّمَنِ إلَّا بَعْدَ ضَمِّ شَاةٍ أُخْرَى إلَيْهَا وَلَا يَعْلَمُ أَيَّةَ شَاةٍ يَضُمُّ إلَيْهَا لِيَعْلَمَ حِصَّتَهَا لِأَنَّهُ إنْ ضَمَّ إلَيْهَا أَرْدَأَ منها كانت حِصَّتُهَا أَكْثَرَ وَإِنْ ضَمَّ إلَيْهَا أَجْوَدَ منها كانت حِصَّتُهَا أَقَلَّ لِذَلِكَ فَسَدَ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ بَاعَ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ من مِائَةِ ذِرَاعٍ من هذه الدَّارِ أو من هذا الْحَمَّامِ أو من هذه الْأَرْضِ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ جَائِزٌ
وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ من مِائَةِ سَهْمٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْكَلَامُ فيه يَرْجِعُ إلَى مَعْرِفَةِ مَعْنَى الذِّرَاعِ فَقَالَا إنَّهُ اسْمٌ في الْعُرْفِ لِلسَّهْمِ الشَّائِعِ وَلَوْ بَاعَ عَشَرَةَ أَسْهُمٍ من مِائَةِ سَهْمٍ من هذه الْأَشْيَاءِ جَازَ فَكَذَا هذا
وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يقول الذِّرَاعُ في الْحَقِيقَةِ اسْمٌ لِمَا يُذْرَعُ بِهِ وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمَذْرُوعُ ذِرَاعًا مَجَازًا اطلاقا لِاسْمِ الْفِعْلِ على الْمَفْعُولِ فَكَانَ
____________________

(5/162)


بَيْعُ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ من دَارٍ مَعْنَاهُ بَيْعُ قَدْرِ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِمَّا يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ الْحَقِيقِيُّ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا مَحَلًّا مُعَيَّنًا فَكَانَ الْمَبِيعُ قَدْرَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ مُعَيَّنٌ من الدَّارِ وهو الذي يَحِلُّهُ الذِّرَاعُ الْحَقِيقِيُّ وَذَلِكَ مَجْهُولٌ في نَفْسِهِ قبل الْحُلُولِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّهْمِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّائِعِ وهو جُزْءٌ مَعْلُومٌ من الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَالْعُشْرِ وَنَحْوِ ذلك فَبَيْعُ عَشَرَةِ أَسْهُمٍ من مِائَةِ سَهْمٍ من الدَّارِ هو بَيْعُ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ من مِائَةِ جُزْءٍ منها وهو عُشْرُهَا فَقَدْ بَاعَ جزأ مَعْلُومًا منها فَيَجُوزُ بِخِلَافِ الذِّرَاعِ فإن قَدْرَ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْحُلُولِ على ما مَرَّ فَقَبْلَهُ يَكُونُ مَجْهُولًا فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فلم يَصِحَّ فَوَضَحَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ
وَعَلَى هذا يُخَرَّج ضَرْبَةُ الْغَائِصِ وهو أَنْ يَقُولَ الْغَائِصُ لِلتَّاجِرِ أَغُوصُ لَك غَوْصَةً فما أَخْرَجْته فَهُوَ لَك بِكَذَا وهو فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مجهولا ( ( ( مجهول ) ) )
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن ضَرْبَةِ الْغَائِصِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ أَجْنَاسُ هذه الْمَسَائِلِ وَبَيْعُ رَقَبَةِ الطَّرِيقِ وَهِبَتُهُ مُنْفَرِدًا جَائِزٌ وَبَيْعُ مَسِيلِ الْمَاءِ وَهِبَتُهُ مُنْفَرِدًا فَاسِدٌ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الطَّرِيقَ مَعْلُومُ الطُّولِ وَالْعَرْضِ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَعْلُومًا فَجَازَ بَيْعُهُ بِخِلَافِ الْمَسِيلِ فإنه مَجْهُولُ الْقَدْرِ لِأَنَّ الْقَدْرَ الذي يَشْغَلُ الْمَاءَ من النَّهْرِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا فلم يَجُزْ
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِأَوْصَافِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالذَّاتِ وَالْجَهْلُ بها هل هو مَانِعٌ من الصِّحَّةِ
قال أَصْحَابُنَا ليس بِشَرْطِ الصِّحَّةِ وَالْجَهْلُ بها ليس بِمَانِعٍ من الصِّحَّةِ لَكِنَّهُ شَرْطُ اللُّزُومِ فَيَصِحُّ بَيْعُ ما لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ لَا يَلْزَمُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَوْنُ الْمَبِيعِ مَعْلُومَ الذَّاتِ وَالصِّفَةِ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ حتى لَا يَجُوزَ بَيْعُ ما لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ جَهَالَةَ الذَّاتِ إنَّمَا مَنَعَتْ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ تَخْتَلِفُ رَغَبَاتُ الناس فيها لِاخْتِلَافِ مَالِيَّتِهَا فَالْبَائِعُ إذَا سَلَّمَ عَيْنًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَطْلُبَ الْمُشْتَرِي عَيْنًا أُخْرَى أَجْوَدَ منها بِاسْمِ الْأُولَى فَيَتَنَازَعَانِ وَجَهَالَةُ الْوَصْفِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْغَائِبَ عن الْمَجْلِسِ إذَا أَحْضَرَهُ الْبَائِعُ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي هذا ليس عَيْنَ الْمَبِيعِ بَلْ مثله من جِنْسِهِ فَيَقَعَانِ في الْمُنَازَعَةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَلِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ يُوجِبُ تَمَكُّنَ الْغَرَرِ في الْبَيْعِ وَنَهَى رسول اللَّهِ عن بَيْعٍ فيه غَرَرٌ وَبَيَانُ تَمَكُّنِ الْغَرَرِ أَنَّ الْغَرَرَ هو الْخَطَرُ وفي هذا الْبَيْعِ خَطَرٌ من وُجُوهٍ
أحدهما ( ( ( أحدها ) ) ) في أَصْلِ الْمَعْقُودِ عليه
وَالثَّانِي في وَصْفِهِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُودِ إذَا كان غَائِبًا هو الْخَبَرُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيَتَرَدَّدُ الْمَعْقُودُ عليه بِأَصْلِهِ وَوَصْفِهِ بين الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ
وَالثَّالِثُ في وُجُودِ التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِهِ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ وَقْتُ نَقْدِ الثَّمَنِ وقد يَتَّفِقُ النَّقْدُ وقد لَا يَتَّفِقُ وَالْغَرَرُ من وَجْهٍ وَاحِدٍ يَكْفِي لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَكَيْفَ من وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ
وَرُوِيَ عن النبي عليه السلام أَنَّهُ قال لَا تَبِعْ ما ليس عِنْدَك وَعِنْدَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ وَالْغَيْبَةُ تُنَافِيهَا وَالْخِلَافُ في الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ خِلَافٌ وَاحِدٌ
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ من غَيْرِ فَصْلٍ وَنَصٍّ خَاصٍّ وهو ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من اشْتَرَى شيئا لم يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ وَلَا خِيَارَ شَرْعًا إلَّا في بَيْعٍ مَشْرُوعٍ وَلِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ من أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحَلٍّ هو خَالِصُ مِلْكِهِ فَيَصِحُّ كَشِرَاءِ الْمَرْئِيِّ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُودَ التَّصَرُّفِ حَقِيقَةً بِوُجُودِ رُكْنِهِ وَوُجُودُهُ شَرْعًا لِصُدُورِهِ من أَهْلِهِ وَحُلُولِهِ في مَحَلِّهِ
وَقَوْلُهُ جَهَالَةُ الْوَصْفِ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ في خَبَرِهِ حَيْثُ اشْتَرَاهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُكَذِّبُهُ وَدَعْوَى الْغَرَرِ مَمْنُوعَةٌ فإن الْغَرَرَ هو الْخَطَرُ الذي اسْتَوَى فيه طَرَفُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ بِمَنْزِلَةِ الشَّكِّ وَهَهُنَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ على جَانِبِ الْعَدَمِ بِالْخَبَرِ الرَّاجِحِ صِدْقُهُ على كَذِبِهِ فلم يَكُنْ فيه غَرَرٌ على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْغَرَرَ اسْمٌ لِمُطْلَقِ الْخَطَرِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ كُلَّ غَرَرٍ يُفْسِدُ الْعَقْدَ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَرُ هو الْخَطَرُ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ من الغرور ( ( ( الغرر ) ) ) فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ أو تحمله ( ( ( نحمله ) ) ) على الْغَرَرِ في صُلْبِ الْعَقْدِ بِالتَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ أو بِالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ كُلِّهَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه بَيْعُ ما ليس بِمَمْلُوكٍ له عن نَفْسِهِ لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن مَالِكِهِ أو بَيْعُ شَيْءٍ مُبَاحٍ على أَنْ يَسْتَوْلِيَ عليه فَيَمْلِكَهُ فَيُسَلِّمَهُ وَهَذَا يُوَافِقُ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال بَيْعُ السَّمَكِ في الْمَاءِ غَرَرٌ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ شيئا لم يَرَهُ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ وإذا جَازَ عِنْدَنَا فَهَلْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ نَذْكُرُ ذلك في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
____________________

(5/163)



وَعَلَى هذا الْخِلَافِ شِرَاءُ الْأَعْمَى وَبَيْعُهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ إذَا وُلِدَ أَعْمَى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَإِنْ كان بَصِيرًا فَرَأَى الشَّيْءَ ثُمَّ عَمِيَ فَاشْتَرَاهُ جَازَ وما قَالَهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فإنه رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ النبي عليه السلام حين قال لِحِبَّانَ بن منفذ ( ( ( منقذ ) ) ) إذَا بَايَعَتْ فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وكان حَبَّانُ ضَرِيرًا
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْعُمْيَانَ في كل زَمَانٍ من لَدُنْ رسول اللَّهِ لم يُمْنَعُوا من بِيَاعَاتِهِمْ وَأَشْرِيَتِهِمْ بَلْ بَايَعُوا في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ إنْكَارٍ وإذا جَازَ شِرَاؤُهُ وَبَيْعُهُ فَلَهُ الْخِيَارُ فِيمَا اشْتَرَى وَلَا خِيَارَ له فِيمَا بَاعَ في أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ كَالْبَصِيرِ ثُمَّ بِمَاذَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا اشْتَرَى شيئا مُغَيَّبًا في الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ يثبت ( ( ( ويثبت ) ) ) له الْخِيَارُ إذَا قَلَعَهُ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ أَصْلًا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَنَقُولُ الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ لِأَنَّ التعيين ( ( ( التعين ) ) ) لَا يَحْصُلُ إلَّا بها إلَّا إذَا كان دَيْنًا كَالْمُسْلَمِ فيه فَيَحْصُلُ الْعِلْمُ بِهِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ عِنْدَنَا مَجَازٌ عن تَسْمِيَةِ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ على ما يُعْرَفُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غير أَنَّ الْمَبِيعَ إنْ كان أَصْلًا لَا بُدَّ من الْإِشَارَةِ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِيَصِيرَ مَعْلُومًا وَإِنْ كان تَبَعًا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ الْبَيْعَ كما لَا يُفْرَدُ بِعِلَّةٍ على حِدَةٍ لَا يُفْرَدُ بِشَرْطٍ على حِدَةٍ إذْ لو أُفْرِدَ لَانْقَلَبَ أَصْلًا وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا بَاعَ جَارِيَةً حَامِلًا من غَيْرِ مَوْلَاهَا أو بَهِيمَةً حَامِلًا دخل الْحَمْلُ في الْبَيْعِ تَبَعًا لِلْأُمِّ كَسَائِرِ أَطْرَافِهَا وَإِنْ لم يُسَمِّهِ وَلَا أَشَارَ إلَيْهِ وَلَوْ بَاعَ عَقَارًا دخل ما فيها من الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ إلَّا بِقَرِينَةٍ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في بَيْعِ الْعَقَارِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ أَرْضًا أو كَرْمًا أو دَارًا أو مَنْزِلًا أو بَيْتًا وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو أما إنْ لم يذكر في بَيْعِهِ الْحُقُوقَ وَلَا الْمَرَافِقَ وَلَا ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ منها وأما إنْ ذَكَرَ شيئا من ذلك فَإِنْ كان الْمَبِيعُ أَرْضًا ولم يذكر شيئا من الْقَرَائِنِ دخل ما فيها من الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ ولم يَدْخُلْ الزَّرْعُ وَالثِّمَارُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ثِمَارُ سَائِرِ الْأَشْجَارِ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ ثَمَرُ النَّخْلِ إذَا أُبِّرَ فَأَمَّا إذَا لم يُؤَبَّرْ يَدْخُلْ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال من بَاعَ نَخْلًا قد أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ قَيَّدَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِلْكَ الْبَائِعِ في الثَّمَرَةِ بِوَصْفِ التَّأْبِيرِ وَلَوْ لم يَكُنْ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ لم يَكُنْ لِلتَّقْيِيدِ فَائِدَةٌ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في كِتَابِ الشُّفْعَةِ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من اشْتَرَى أَرْضًا فيها نَخْلٌ فَالثَّمَرَةُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الثَّمَرَةَ لِلْبَائِعِ مُطْلَقًا عن وَصْفٍ وَشَرْطٍ فَدَلَّ أَنَّ الْحُكْمَ لَا يَخْتَلِفُ بِالتَّأْبِيرِ وَعَدَمِهِ وَلِأَنَّ النَّخْلَ اسْمٌ لِذَاتِ الشَّجَرَةِ فَلَا يَدْخُلُ ما عَدَاهُ إلَّا بِقَرِينَةٍ زَائِدَةٍ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ ثِمَارُ سَائِرِ الْأَشْجَارِ وَلَا حُجَّةَ له فِيمَا رُوِيَ لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْحُكْمِ بِوَصْفٍ لَا يَدُلُّ على أَنَّ الْحُكْمَ في غَيْرِ الْمَوْصُوفِ بِخِلَافِهِ بَلْ يَكُونُ الْحُكْمُ فيه مَسْكُوتًا مَوْقُوفًا على قِيَامِ الدَّلِيلِ وقد قام وهو ما رَوَيْنَا وَلَا لحمل ( ( ( يحمل ) ) ) الْمُطْلَقُ على الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا لِمَا فيه من ضَرْبِ النُّصُوصِ بَعْضُهَا في بَعْضٍ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَكَذَلِكَ إنْ كان كَرْمًا يَدْخُلُ في بَيْعِهِ ما فيه من الزِّرَاعَةِ والعرايش ( ( ( والعرائش ) ) ) وَالْحَوَائِطِ من غَيْرِ ذِكْرِ قرينه وَلَا تَدْخُلُ الْفَوَاكِهُ وَالْبُقُولُ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما رُكِّبَ في الْأَرْضِ يَدْخُلُ وما لم يُرَكَّبْ فيها أو رُكِّبَ لَا لِلْبَقَاءِ بَلْ لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ لَا يَدْخُلُ وَكَذَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ وَالطَّرِيقُ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ من غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ وَإِنْ ذَكَرَ شيئا من الْقَرَائِنِ
فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أو الْمَرَافِقَ دخل فيها الشُّرْبُ وَمَسِيلُ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ الذي يَكُونُ في مِلْكِ إنْسَانٍ وهو حَقُّ الْمُرُورِ في مِلْكِهِ وَلَا يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ لِأَنَّهَا أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ بِنَفْسِهَا فَلَا يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ بِخِلَافِ الشُّرْبِ وَالْمَسِيلِ وَالتَّطَرُّقِ فَإِنَّهَا عِبَارَةٌ عن حَقِّ الشُّرْبِ والسقى وَالتَّسْيِيلِ وَالْمُرُورِ فَيَتَنَاوَلُهَا الِاسْمُ
وَإِنْ ذَكَرَ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ بِأَنْ قال بِعْتهَا مِنْك بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هو فيها وَمِنْهَا فَهَلْ يَدْخُلُ الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ يُنْظَرُ إنْ قال في آخِرِهِ من حُقُوقِهَا فَلَا يَدْخُلَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ من حُقُوقِهَا خَرَجَ تَفْسِيرًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فَكَأَنَّهُ نَصَّ على الْبَيْعِ بِحُقُوقِهَا وَإِنْ لم يَقُلْ في آخِرِهِ من حُقُوقِهَا دخل فيه الزَّرْعُ وَالثَّمَرُ وَكُلُّ ما كان مُتَّصِلًا بِهِ لِأَنَّ اسْمَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فيه وَمِنْهُ يَتَنَاوَلُ ذلك
وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ عنها كَالثِّمَارِ الْمَجْذُوذَةِ وَالزَّرْعِ الْمَحْصُودِ وَالْحَطَبِ
____________________

(5/164)


وَاللَّبَنِ وَالْقَصَبِ الْمَوْضُوعِ فَلَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ
فَرْقٌ بين الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ أَنَّ الشُّرْبَ وَالْمَسِيلَ وَالطَّرِيقَ الْخَاصَّ في مِلْكِ إنْسَانٍ يَدْخُلُ في الْإِجَارَةِ من غَيْرِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ لَا يَدْخُلُ بِدُونِهِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَدْخُلَ في الْبَابَيْنِ جميعا إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا في الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَأْجَرِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِدُونِ الْحُقُوقُ مَذْكُورَةً بِذِكْرِ الْمُسْتَأْجِرِ دَلَالَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه يُعْقَدُ لِلْمِلْكِ وَالِانْتِفَاعُ ليس من ضَرُورَاتِ الْمِلْكِ فإنه يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيمَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ
وَكَذَا فَرْقٌ بين الْبَيْعِ وَالرَّهْنِ فإن من رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ أَرْضًا فيها زَرْعٌ وَأَشْجَارٌ عليها ثِمَارٌ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ أَنَّهُ يَدْخُلُ في الرَّهْنِ كُلُّ ما كان مُتَّصِلًا بها من غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْحُقُوقِ وَالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تَمْيِيزَ الرَّهْنِ من غَيْرِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الرَّهْنِ على ما نَذْكُرُ في كِتَابِهِ فَمَتَى أَقْدَمَا على عَقْدِ الرَّهْنِ فَقَدْ قَصَدَا صِحَّتَهُ وَلَا صِحَّةَ له إلَّا بِدُخُولِ ما كان مُتَّصِلًا بِالْمَرْهُونِ فَدَخَلَ فيه تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ إذْ لَا صِحَّةَ له بِدُونِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإن تَمْيِيزَ الْمَبِيعِ من غَيْرِهِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَلَا ضَرُورَةَ في الدُّخُولِ بِغَيْرِ التَّسْمِيَةِ فَلَا يَدْخُلُ بِدُونِهَا
هذا إذَا كان الْمَبِيعُ أَرْضًا أو كَرْمًا فَإِنْ كان دَارًا يَدْخُلُ في بَيْعِهَا جَمِيعُ ما ما كان من بَيْتٍ وَمَنْزِلٍ وَعُلُوٍّ وَسُفْلٍ وَجَمِيعِ ما تَجْمَعُهُ الْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ من غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ وَتَدْخُلُ أَغَالِيقُ الدَّارِ وَمَفَاتِيحُ أَغَالِيقِهَا
أَمَّا الْأَغَالِيقُ فَلِأَنَّهَا رُكِّبَتْ لِلْبَقَاءِ لَا لِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فَتَدْخُلُ كَالْمِيزَابِ
وَأَمَّا الْمَفَاتِيحُ فَلِأَنَّ مِفْتَاحَ الْغَلَقِ من الْغَلَقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى الْغَلَقَ دخل الْمِفْتَاحُ فيه من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ فَيَدْخُلُ في الْبَيْعِ بِدُخُولِ الْغَلَقِ وَيَدْخُلُ طَرِيقُهَا إلَى طَرِيقِ الْعَامَّةِ وَطَرِيقُهَا إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ كما يَدْخُلُ في الْأَرْضِ وَالْكَرْمِ وَيَدْخُلُ الْكَنِيفُ وَالشَّارِعُ وَالْجَنَاحُ كُلُّ ذلك يَدْخُلُ من غَيْرِ قَرِينَةٍ وَهَلْ تَدْخُلُ الظُّلَّةُ يُنْظَرُ إنْ لم يَكُنْ مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ لَا تَدْخُلُ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ لَا تَدْخُلُ أَيْضًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظُّلَّةَ إذَا كانت مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ كانت من أَجْزَاءِ الدَّارِ فَتَدْخُلُ بِبَيْعِ الدَّارِ كَالْجَنَاحِ وَالْكَنِيفِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ ظُلَّةَ الدَّارِ خَارِجَةٌ عن حُدُودِهَا فَإِنَّهَا اسْمٌ لِمَا يُظِلُّ عِنْدَ بَابِ الدَّارِ خَارِجًا منها فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ بَيْعِ الدَّارِ كَالطَّرِيقِ الْخَارِجِ وَبِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هذه الدَّارَ فَدَخَلَ ظُلَّتَهَا لَا يَحْنَثُ
وَأَمَّا ما كان لها من بُسْتَانٍ فَيُنْظَرُ إنْ كان دَاخِلَ حَدِّ الدَّارِ يَدْخُلُ وَإِنْ كان يَلِي الدَّارَ لَا يَدْخُلُ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وقال بَعْضُهُمْ إنْ كانت الدَّارُ صَغِيرَةً يَدْخُلُ وَإِنْ كانت كَبِيرَةً لَا يَدْخُلُ لِأَنَّهَا إذَا كانت صَغِيرَةً يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلدَّارِ وإذا كانت كَبِيرَةً لَا يُمْكِنُ وقال بَعْضُهُمْ يَحْكُمُ الثَّمَنُ فَإِنْ صَلَحَ لَهُمَا بدخل ( ( ( يدخل ) ) ) وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ
وَأَمَّا مَسِيلُ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ في مِلْكِ إنْسَانٍ وَحَقُّ إلْقَاءِ الثَّلْجِ فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ يَدْخُلُ وَكَذَا إنْ ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هو فيها وَمِنْهَا سَوَاءٌ ذَكَرَ في آخِرِهِ من حُقُوقِهَا أو لم يذكر وَتَدْخُلُ الظُّلَّةُ أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ إذَا كان مَفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ وإذا كان الْمَبِيعُ بَيْتًا فَيَدْخُلُ في بَيْعِهِ حَوَائِطُهُ وَسَقْفُهُ وَبَابُهُ وَالطَّرِيقُ إلَى الطَّرِيقِ الْعَامَّةِ وَالطَّرِيقُ إلَى سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ من غَيْرِ ذِكْرِ قَرِينَةٍ وَأَمَّا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ في مِلْكِ إنْسَانٍ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِ الْقَرَائِنِ الثَّلَاثِ وَلَا يَدْخُلُ بَيْتُ الْعُلْوِ إنْ كان على عُلْوِهِ بَيْتٌ وَإِنْ ذَكَرَ الْقَرَائِنَ لِأَنَّ الْعُلُوَّ بَيْتٌ مِثْلُهُ فَكَانَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا له وَإِنْ لم يَكُنْ على عُلْوِهِ بَيْتٌ كان له أَنْ يَبْنِيَ على عُلْوِهِ
وَإِنْ كان الْبَيْتُ في دَارِهِ فَبَاعَهُ من رَجُلٍ لَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ طَرِيقُهُ في الدَّارِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ثُمَّ إنْ كان الْبَيْتُ يَلِي الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ يَفْتَحُ له بَابًا إلَيْهِ وَإِنْ كان لَا يَلِي الطَّرِيقَ الْأَعْظَمَ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الطَّرِيقَ إلَيْهِ أو يَسْتَعِيرَ من صَاحِبِ الدَّارِ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْقِسْمَةِ إذَا أَصَابَ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ في الدَّارِ بَيْتٌ أو مَنْزِلٌ أو نَاحِيَةٌ منها بِغَيْرِ طَرِيقٍ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَهُ فَتْحُ الْبَابِ إلَى الطَّرِيقِ ليس له أَنْ يَتَطَرَّقَ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ سَوَاءٌ ذَكَرُوا في الْقِسْمَةِ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ أو لَا
وَكَذَا إذَا كان مَسِيلُ مَائِهِ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ قبل الْقِسْمَةِ انْقَطَعَ ذلك الْحَقُّ إنْ أَمْكَنَهُ تَسْيِيلٌ في نَصِيبِ نَفْسِهِ ليس له أَنْ يُسَيِّلَ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ تَسْيِيلُ الْمَاءِ وَلَا فَتْحُ الْبَابِ في نَصِيبِ نَفْسِهِ وَيُمْكِنُهُ ذلك في نَصِيبِ شَرِيكِهِ فإنه يُنْظَرُ إنْ ذَكَرُوا في الْقِسْمَةِ الْحُقُوقَ أو الْمَرَافِقَ فَالطَّرِيقُ وَالْمَسِيلُ يَدْخُلَانِ في الْقِسْمَةِ وَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَإِنْ لم يَذْكُرُوا ذلك فَلَا يَدْخُلَانِ وَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لِتَتْمِيمِ الْمَنْفَعَةِ وَتَكْمِيلِهَا
____________________

(5/165)


فإذا أَدَّتْ إلَى تَفْوِيتِهَا بَطَلَتْ وَالْبَيْعُ لِلْمِلْكِ لَا لِلِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ على ما ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ بَيْعُ بَيْتِ الْعُلُوِّ دُونَ السُّفْلِ إذَا كان على الْعُلُوِّ بِنَاءٌ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه بِنَاءٌ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْهَوَاءِ على الِانْفِرَادِ وأنه لَا يَجُوزُ ثُمَّ إذَا بَاعَ الْعُلُوَّ وَعَلَيْهِ بِنَاءٌ حتى جَازَ الْبَيْعُ فَطَرِيقُهُ في الدَّارِ لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ
وَيَجُوزُ بَيْعُ السُّفْلِ سَوَاءٌ كان مَبْنِيًّا أو غير مَبْنِيٍّ لِأَنَّهُ بَيْعُ السَّاحَةِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه بِنَاءٌ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ مَنْزِلًا يَدْخُلُ في بَيْتُ السُّفْلِ وَلَا يَدْخُلُ بين ( ( ( بيت ) ) ) الْعُلُوِّ وَلَا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ أو الْمَرَافِقِ أو بِذِكْرِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ أَعَمُّ من الْبَيْتِ وَأَخَصُّ من الدَّارِ فَكَانَ بين الدَّارِ وَالْبَيْتِ فَيُعْطَى له حُكْمٌ بين حُكْمَيْنِ فلم يَدْخُلْ الْعُلُوُّ في بَيْعِ الْمَنْزِلِ من غَيْرِ قَرِينَةٍ اعْتِبَارًا لِلْخُصُوصِ وَيَدْخُلُ فيه بِقَرِينَةٍ اعْتِبَارًا لِلْعُمُومِ عَمَلًا بِالْجِهَتَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ إذَا لم تَدْخُلْ الثَّمَرَةُ بِنَفْسِ الْبَيْعِ يُجْبَرُ الْبَائِعُ على قَطْعِهَا من الشَّجَرَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يَتْرُكَهَا على الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَكَذَا الزَّرْعُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يُجْبَرُ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ الثَّمَرَةَ على الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَيَتْرُكَ الزَّرْعَ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْجَبْرَ على الْقَطْعِ وَالْقَلْعِ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَوَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ هو وَقْتُ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّهُ لَا يُقْطَعُ وَلَا يُقْلَعُ إلَّا بَعْدَ الْإِدْرَاكِ عَادَةً فَلَا يَجِبُ عليه التَّسْلِيمُ قَبْلَهُ كما إذَا انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ لم يُسْتَحْصَدْ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على الْقَلْعِ بَلْ يُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ عَقِيبَهُ بِلَا فَصْلٍ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ وَتَسْلِيمٌ بِتَسْلِيمٍ فَالْقَوْلُ بِتَأْخِيرِ التَّسْلِيمِ يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ الْعَادَةُ أَنَّ الثَّمَرَةَ تُتْرَكُ على الشَّجَرَةِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ قُلْنَا الْعَادَةُ هذا قبل الْبَيْعِ أَمَّا بَعْدَهُ فَمَمْنُوعٌ بَلْ تُقْطَعُ بَعْدَهُ وَلَا تُتْرَكُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي مَشْغُولٌ بِمِلْكِ الْبَائِعِ فَلَا بُدَّ من إزَالَةِ الشَّغْلِ وَذَلِكَ بِقَطْعِ الثَّمَرَةِ هَكَذَا نَقُولُ في مَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ أنه يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَرْضِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ وَإِنَّمَا تُتْرَكُ بِإِجَارَةٍ جَدِيدَةٍ بِأُجْرَةٍ أُخْرَى وَهَذَا حُجَّةٌ عليه لِأَنَّهُ لو تُرِكَ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَمَا وَجَبَتْ أُجْرَةٌ أُخْرَى وَسَوَاءٌ أبرأ ( ( ( أبر ) ) ) ولم يُؤَبَّرْ بِأَنْ كان الْمَبِيعُ نَخْلًا بَعْدَ أَنْ ظَهَرَتْ الثَّمَرَةُ من الشَّجَرَةِ وَبَانَتْ منها ليس له أَنْ يَتْرُكَهَا على شَجَرَةِ الْمُشْتَرِي إلَّا بِرِضَاهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ تَرَكَهَا على الشَّجَرَةِ إلَى أَنْ أَدْرَكَتْ فَإِنْ كان التَّرْكُ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي طَابَ له الْفَضْلُ وَإِنْ كان بِغَيْرِ إذْنِ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كان قد تَنَاهَى عِظَمُهَا يَطِيبُ له الْفَضْلُ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَا تَزْدَادُ بَعْدَ ذلك بَلْ تَنْتَقِصُ وَإِنْ كان صِغَارًا لم يَتَنَاهَ عِظَمُهَا لَا يَطِيبُ له الْفَضْلُ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ من أَصْلٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْبَائِعُ الشَّجَرَةَ لِيَتْرُكَ الثَّمَرَ عليها إلَى وَقْتِ الْجُذَاذِ لم تَجُزْ هذه الْإِجَارَةُ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِجَارَةِ مع أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهَا لِكَوْنِهَا بَيْعَ الْمَعْدُومِ لِتَعَامُلِ الناس وَالنَّاسُ ما تَعَامَلُوا هذا النَّوْعَ من الْإِجَارَةِ كما لم يَتَعَامَلُوا اسْتِئْجَارَ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ وَتَجْفِيفِ اللَّحْمِ لَكِنْ لو فَعَلَ يَطِيبُ له الْفَضْلُ لِأَنَّهُ تَرَكَ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ مُدَّتُهَا وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لم يُسْتَحْصَدْ بَعْدُ أَنْ يُتْرَكَ فيه إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّ التَّرْكَ بِالْأُجْرَةِ هُنَاكَ مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ فَكَانَ جَائِزًا
هذا إذَا لم يُسَمِّ الثَّمَرَةَ في بَيْعِ الشَّجَرِ فَأَمَّا إذَا سَمَّى دخل الثَّمَرُ مع الشَّجَرِ في الْبَيْعِ وَصَارَ لِلثَّمَرَةِ حِصَّةٌ من الثَّمَنِ وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ عليها يوم الْعَقْدِ لِأَنَّهُ لَمَّا سماهما ( ( ( سماها ) ) ) فَقَدْ صَارَتْ مَبِيعًا مَقْصُودًا لِوُرُودِ فِعْلِ الْبَيْعِ عليه حتى لو هَلَكَ الثمن ( ( ( التمر ) ) ) قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ عن الْمُشْتَرِي كما لو هَلَكَ الشَّجَرُ قبل الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّجَرَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عليه وَلَوْ جَذَّهُ الْبَائِعُ وَالْمَجْذُوذُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ يُنْظَرُ إنْ جَذَّهُ في حِينِهِ ولم يُنْقِصْهُ الْجُذَاذُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَيَقْبِضُهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَوْ قَبَضَهُمَا بَعْدَ جُذَاذِ الْبَائِعِ ثُمَّ
____________________

(5/166)


وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا وَهُمَا مُتَفَرِّقَانِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ وَقْتَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ ما إذَا جَذَّهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بَلْ يَرُدَّهُمَا جميعا أو يُمْسِكَهُمَا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَعِنْدَ الْقَبْضِ جميعا فَإِفْرَادُ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ يَكُونُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ بَعْدَ وُقُوعِهَا مُجْتَمِعَةً وَهَذَا لَا يَجُوزُ
هذا إذَا لم ينقضه ( ( ( ينقصه ) ) ) الْجُذَاذُ بِأَنْ جَذَّهُ الْبَائِعُ في حِينِهِ وَأَوَانِهِ فَأَمَّا إذَا نقصه ( ( ( أنقصه ) ) ) بِأَنْ جَذَّهُ في غَيْرِ حِينِهِ تَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي حِصَّةُ النُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَصَهُ الْجُذَاذُ فَقَدْ أَتْلَفَ بَعْضَ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ فَتَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ في الْبَاقِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عليه وإذا قَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي بَعْدَ جُذَاذِ الْبَائِعِ ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ قَبَضَهُمَا وَهُمَا مُتَفَرِّقَانِ فَصَارَا كَأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى شَجَرَةً أَنَّهُ هل يَدْخُلُ في شِرَائِهَا أَصْلُهَا وعرقها ( ( ( وعروقها ) ) ) وَأَرْضُهَا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ هذا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أما إنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَرْضِهَا لِلْقَلْعِ وأما إنْ اشْتَرَاهَا بِقَرَارِهَا من الْأَرْضِ لِلتَّرْكِ لَا لِلْقَلْعِ
وأما إنْ اشْتَرَاهَا ولم يذكر شيئا فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَرْضِهَا لِلْقَلْعِ دخل فيها أَصْلُهَا وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على الْقَلْعِ وَلَهُ أَنْ يَقْلَعَهَا بِأَصْلِهَا لَكِنْ قَلْعًا مُعْتَادًا مُتَعَارَفًا وَلَيْسَ له أَنْ يَحْفِرَ الْأَرْضَ إلَى ما يَتَنَاهَى إلَيْهِ الْعُرُوقُ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالشَّرْطِ إلَّا إذَا شَرَطَ الْبَائِعُ الْقَطْعَ على وَجْهِ الْأَرْضِ فَلَا يَدْخُلُ فيه أَصْلُهَا أو لم يَشْتَرِطْ لَكِنْ في الْقَطْعِ من أَصْلِهَا ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ بِأَنْ كان بِقُرْبِ حَائِطِهِ أو على حَافَّةِ نَهْرِهِ فَيَخَافُ الْخَلَلَ على الْحَائِطِ أو الشَّقَّ في النَّهْرِ فَقَطْعُهَا على وَجْهِ الْأَرْضِ دُونَ أَصْلِهَا لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَإِنْ قَلَعَ أو قَطَعَ ثُمَّ نَبَتَ من أَصْلِهَا أو عُرُوقِهَا شَجَرَةٌ أُخْرَى فَهِيَ لِلْبَائِعِ لَا لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ رضي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ الْقَدْرَ الْمَقْطُوعَ فَيَكُونُ الْبَاقِي لِلْبَائِعِ إلَّا إذَا قَطَعَ من أَعْلَى الشَّجَرَةِ فَالنَّابِتُ يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِهِ وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِقَرَارِهَا من الْأَرْضِ لِلتَّرْكِ لَا لِلْقَلْعِ فَيَدْخُلُ فيها أَرْضُهَا وَلَا يُجْبَرُ على الْقَلْعِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الشَّجَرَةَ مع مَوْضِعِهَا فلم يَكُنْ مِلْكُ الْبَائِعِ مَشْغُولًا بِهِ فَلَا يَمْلِكُ إجْبَارَهُ على الْقَلْعِ وَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ مَكَانَهَا أُخْرَى لِأَنَّهُ يَغْرِسُ في مِلْكِ نَفْسِهِ
وَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا من غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ وَلَا التَّرْكِ لم يذكر هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ اخْتِلَافًا بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فقال على قَوْلِ أبي يُوسُفَ لَا تَدْخُلُ الْأَرْضُ في الْبَيْعِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ تَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمُسَمَّى في الْبَيْعِ هو الشَّجَرَةُ وَهِيَ اسْمٌ لِلْقَائِمِ على أَرْضِهَا بِعُرُوقِهَا فَأَمَّا بَعْدَ الْقَلْعِ فَهِيَ خَشَبٌ لَا شَجَرٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَدْخُلَ الْأَرْضُ فيه وَلِهَذَا دَخَلَتْ في الْإِقْرَارِ بِالْإِجْمَاعِ بِأَنْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِشَجَرٍ في أَرْضِهِ حتى كانت الشَّجَرَةُ مع أَرْضِهَا لِلْمُقَرِّ له كَذَا هذا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالشَّجَرَةَ تَابِعَةٌ لها أَلَا تَرَى أنها تَدْخُلُ في بَيْعِ الْأَرْضِ من غَيْرِ شَرْطٍ تَبَعًا لِلْأَرْضِ فَلَوْ دَخَلَتْ في بَيْعِ الشَّجَرَةِ لَاسْتَتْبَعَ التَّبَعُ الْأَصْلَ وَهَذَا قَلْبُ الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ في الْإِقْرَارِ بِالشَّجَرَةِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن كَائِنٍ فَلَا بُدَّ من كَوْنٍ سَابِقٍ على الْإِقْرَارِ وهو قِيَامُهَا في الْأَرْضِ التي هِيَ قَرَارُهَا وَذَلِكَ دَلِيلُ كَوْنِ الْأَرْضِ لِلْمُقَرِّ له بِسَبَبٍ سَابِقٍ فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِكَوْنِ الشَّجَرَةِ له إقْرَارًا بِكَوْنِ الْأَرْضِ له أَيْضًا وَمِثْلُ هذه الدَّلَالَةِ لم تُوجَدْ في الْبَيْعِ فَلَا يَدْخُلُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى صَدَفَةً فَوَجَدَ فيها لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا تَتَوَلَّدُ من الصَّدَفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضَةِ تَتَوَلَّدُ من الدَّجَاجَةِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أَجْزَائِهَا فَتَدْخُلُ في بَيْعِهَا كما تَدْخُلُ الْبَيْضَةُ في بَيْعِ الدَّجَاجَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فيها لُؤْلُؤَةً لِأَنَّ السَّمَكَ يَأْكُلُ الصَّدَفَةَ فَصَارَ كما لو اشْتَرَى سَمَكَةً فَوَجَدَ فيها سَمَكَةً أُخْرَى أَنَّ الثَّانِيَةَ تَكُونُ له وَلَوْ اشْتَرَى دَجَاجَةً فَوَجَدَ فيها لُؤْلُؤَةً فَهِيَ لِلْبَائِعِ لِأَنَّ اللُّؤْلُؤَ لَا يَتَوَلَّدُ من الدَّجَاجِ وَلَا هو من عَلَفِهَا فَلَا يَدْخُلُ في بَيْعِهَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُوجَدُ في حَوْصَلَةِ الطيران كان مِمَّا يَأْكُلُهُ الطَّيْرُ فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَلَفِ له وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَأْكُلُهُ الطَّيْرُ فَهُوَ لِلْبَائِعِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا بَاعَ رَقِيقًا وَلَهُ مَالٌ أَنَّ مَالَهُ لَا يَدْخُلُ في الْبَيْعِ وَيَكُونُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ وما في يَدِهِ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَالْمَوْلَى ما بَاعَ ما في يَدِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتِ الْبَيْعِ هو الْعَبْدُ فَلَا يَدْخُلُ في بَيْعِهِ ما ليس منه وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَدْخُلَ ثِيَابُ بَدَنِهِ كما لَا يَدْخُلُ اللِّجَامُ وَالسَّرْجُ وَالْعِذَارُ في بَيْعِ الدَّابَّةِ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا في ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمِهْنَةِ وَهِيَ التي يَلْبَسُهَا في الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِتَعَامُلِ الناس وَتَعَارُفِهِمْ
وَأَمَّا الثِّيَابُ النَّفِيسَةُ التي لَا يَلْبَسُهَا إلَّا وَقْتَ الْعَرْضِ لِلْبَيْعِ فَلَا تَدْخُلُ في الْبَيْعِ لِانْعِدَامِ التَّعَارُفِ في ذلك فَبَقِيَ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهَذَا مِمَّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُرْفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ في كل بَلَدٍ فَبُنِيَ الْأَمْرُ فيه على ذلك وَكَذَا لو أَعْتَقَ عَبْدَهُ على مَالٍ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا لو أَعْتَقَ مُدَبَّرَهُ أو أُمَّ وَلَدِهِ لِأَنَّهُ مَرْقُوقٌ مَمْلُوكٌ فَلَا يَكُونُ له مَالٌ وَلَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ فما كان له من الْمَالِ وَقْتَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُ كَسْبُ الْقِنِّ وما اكْتَسَبَ بَعْدَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ له لِأَنَّهُ كَسْبُ الْمُكَاتَبِ وَلِأَنَّهُ حُرٌّ يَدًا فَكَانَ كَسْبُهُ له وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

____________________

(5/167)


وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُ الْبَائِعَ فَإِنْ لم يُمْكِنْ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَلْزَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وَلَا يَلْزَمُ بِالْتِزَامِ الْعَاقِدِ إلَّا ضَرَرُ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عليه فَأَمَّا ما وَرَاءَهُ فَلَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا بَاعَ جِذْعًا له في سَقْفٍ أو آجُرًّا له في حَائِطٍ أو ذِرَاعًا في دِيبَاجٍ أو كِرْبَاسٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِالنَّزْعِ وَالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِالْبَائِعِ وَالضَّرَرُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَكَانَ هذا على هذا التَّقْدِيرِ بَيْعَ ما لَا يَجِبُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا فَيَكُونُ فَاسِدًا فَإِنْ نَزَعَهُ الْبَائِعُ أو قَطَعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي قبل أَنْ يَفْسَخَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ حتى يُجْبَرَ الْمُشْتَرِي على الْأَخْذِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ ضَرَرُ الْبَائِعِ بِالتَّسْلِيمِ
فإذا سَلَّمَ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَجَازَ الْبَيْعُ وَلَزِمَ فرق ( ( ( وفرق ) ) ) بين هذا وَبَيْنَ بَيْعِ الْأَلْيَةِ في الشَّاةِ الْحَيَّةِ وَالنَّوَى في التَّمْرِ وَالزَّيْتِ في الزَّيْتُونِ وَالدَّقِيقِ في الْحِنْطَةِ وَالْبَزْرِ في الْبِطِّيخِ وَنَحْوِهَا أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا حتى لو سَلِمَ لم يَجُزْ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ أَنَّ ما لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ اتِّصَالٍ ثَابِتٍ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ وما لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ يَرْجِعُ إلَى قَطْعِ اتِّصَالٍ عَارِضٍ فبيعه ( ( ( فبيع ) ) ) فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُقْطَعَ بِاخْتِيَارِهِ وَيُسْلَمَ فَيَجُوزُ
وَالْقِيَاسُ على هذا الْأَصْلِ أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الصُّوفِ على ظَهْرِ الْغَنَمِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْزَمُهُ بِالْجَزِّ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا عَدَمَ الْجَوَازِ لِلنَّصِّ وهو ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ وَلِأَنَّ الْجَزَّ من أَصْلِهِ لَا يَخْلُو عن الْإِضْرَارِ بِالْحَيَوَانِ وَمَوْضِعُ الْجَزِّ فِيمَا فَوْقَ ذلك غَيْرُ مَعْلُومٍ فَتَجْرِي فيه الْمُنَازَعَةُ فَلَا يَجُوزُ
وَلَوْ بَاعَ حِلْيَةَ سَيْفٍ فَإِنْ كان يَتَخَلَّصُ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَجُوزُ وَإِنْ كان لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا إذَا فَصَلَ وسلم وَعَلَى هذا بِنَاءٌ بين رَجُلَيْنِ وَالْأَرْضُ لِغَيْرِهِمَا فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ من الْبِنَاءِ لِغَيْرِ شَرِيكِهِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ وهو نَقْضُ الْبِنَاءِ
وَكَذَا زَرْعٌ بين رَجُلَيْنِ أو ثِمَارٌ بَيْنَهُمَا في أَرْضٍ لَهُمَا حَقُّ التَّرْكِ فيها إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ قبل الْإِدْرَاكِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ على الْقَلْعِ لِلْحَالِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِ
وَلَوْ بَاعَ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ جَازَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ وَكَذَا إذَا كان الزَّرْعُ كُلُّهُ لِرَجُلٍ ولم يُدْرَكْ فَبَاعَ الزَّرْعَ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِقَطْعِ الْكُلِّ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَلَوْ كان بَعْدَ الْإِدْرَاكِ جَازَ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ
دَارٌ أو أَرْضٌ بين رَجُلَيْنِ مَشَاعٌ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا بَيْتًا منها بِعَيْنِهِ قبل الْقِسْمَةِ أو بَاعَ قِطْعَةً من الْأَرْضِ بِعَيْنِهَا قبل الْقِسْمَةِ لم يَجُزْ لَا في نَصِيبِهِ وَلَا في نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَمَّا في نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَظَاهِرٌ وَأَمَّا في نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلِأَنَّ فيه إضْرَارًا بِصَاحِبِهِ بِإِحْدَاثِ زِيَادَةِ شَرِكَةٍ
وَلَوْ بَاعَ جَمِيعَ نَصِيبِهِ من الدَّارِ وَالْأَرْضِ جَازَ لِأَنَّهُ لم يُحْدِثْ زِيَادَةَ شَرِكَةٍ وَإِنَّمَا قام الْمُشْتَرِي مَقَامَ الْبَائِعِ وَلَوْ بَاعَ اللُّؤْلُؤَةَ في الصَّدَفَةِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِشَقِّ الصَّدَفَةِ وأنه ضَرَرٌ فِيمَا وَرَاءَ الْمَعْقُودِ فَصَارَ كَبَيْعِ الْجِذْعِ في السَّقْفِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِشَقِّ الصَّدَفَةِ لِأَنَّ الصَّدَفَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالشَّقِّ وَلَوْ بَاعَ قَفِيزًا من هذه الصُّبْرَةِ أو عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من هذه النَّقْرَةِ جَازَ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِالْفَصْلِ وَالتَّمْيِيزِ
وَكَذَا لو بَاعَ الْقَوَائِمَ على رؤوس الْأَشْجَارِ أو بَاعَ الثِّمَارَ على رؤوس الْأَشْجَارِ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أو مُطْلَقًا جَازَ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا لو بَاعَ بِنَاءَ الدَّارِ دُونَ الْعَرْصَةِ أو الْأَشْجَارَ الْقَائِمَةَ على الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ أو الزَّرْعَ أو الْبُقُولَ الْقَائِمَةَ قبل الْجَذِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُ هذه الْأَشْيَاءِ من غَيْرِ ضَرَرٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْخُلُوُّ عن الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ منها شَرْطٌ في وُجُودِهِ غَرَرٌ نحو ما إذَا اشْتَرَى نَاقَةً على أنها حَامِلٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ وَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه لِلْحَالِ لِأَنَّ عِظَمَ الْبَطْنِ وَالتَّحَرُّكَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِعَارِضِ دَاءٍ أو غَيْرِهِ فَكَانَ في وُجُودِهِ غَرَرٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعٍ الغرر ( ( ( وغرر ) ) )
وَالْمَنْهِيُّ عنه فَاسِدٌ وَرَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ الْبَيْعَ بهذا الشَّرْطِ جَائِزٌ لِأَنَّ كَوْنَهَا حَامِلًا بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ كَوْنِ الْعَبْدِ كَاتِبًا أو خَيَّاطًا وَنَحْوَ ذلك وَذَا جَائِزٌ فَكَذَا هذا
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها حَامِلٌ إلَّا رِوَايَةً فيه عن أَصْحَابِنَا وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ قِيَاسًا على الْبَهَائِمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْبُيُوعِ فإنه قال لو بَاعَ وَتَبَرَّأَ من حَمْلِهَا جَازَ الْبَيْعُ وَلَيْسَ هذا كَالشَّرْطِ
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ وَلَيْسَ هذا كَالشَّرْطِ يُشِيرُ إلَى أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فيه مُفْسِدٌ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَبَلَ في الْجَوَارِي عَيْبٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو اشْتَرَى
____________________

(5/168)


جَارِيَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا له أَنْ يَرُدَّهَا فَكَانَ ذِكْرُ الْحَبَلِ في الْجَوَارِي إبْرَاءً عن هذا الْعَيْبِ بِخِلَافِ الْبَهَائِمِ لِأَنَّ الْحَبَلَ فيها زِيَادَةٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى بَهِيمَةً فَوَجَدَهَا حَامِلًا ليس له حَقُّ الرَّدِّ فَكَانَ ذِكْرُ الْحَبَلِ فيها شَرْطًا في وُجُودِهِ غَرَرٌ فَيُفْسِدُ الْبَيْعَ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ فيه تَفْصِيلًا فقال إنْ اشْتَرَاهَا لِيَتَّخِذَهَا ظِئْرًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ شَرْطُ زِيَادَةٍ في وُجُودِهَا خَطَرٌ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ أَيْضًا فَأَشْبَهَ اشْتِرَاطَ الْحَبَلِ في بَيْعِ النَّاقَةِ وَإِنْ لم يُرِدْ بِالشِّرَاءِ ذلك جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ ذِكْرَهُ يَكُونُ إبْرَاءً عن هذا الْعَيْبِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ اشْتَرَى نَاقَةً وَهِيَ حَامِلٌ على أنها تَضَعُ حَمْلهَا إلَى شَهْرٍ أو شَهْرَيْنِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ في وُجُودِ هذا الشَّرْطِ غَرَرًا وَكَذَا لو اشْتَرَى بَقَرَةً على أنها تَحْلُبُ كَذَا كَذَا رَطْلًا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً على أنها حَلُوبَةٌ لم يُذْكَرْ هذا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ وهو قِيَاسُ رِوَايَتِهِ في شَرْطِ الْحَبَلِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ شَرْطَ كَوْنِهَا حَلُوبَةً شَرْطُ زِيَادَةِ صِفَةٍ فَأَشْبَهَ شَرْطَ الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ في الْجَوَارِي وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وهو اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ هذا شَرْطُ زِيَادَةٍ فَيَجْرِي في وُجُودِهَا غَرَرٌ وهو مَجْهُولٌ وهو اللَّبَنُ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا في الْبَيْعِ وَكَوْنُهَا حَلُوبَةً إنْ كان صِفَةً لها لَكِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِهِ إلَّا بِوُجُودِ اللَّبَنِ وفي وُجُودِهِ غَرَرٌ وَجَهَالَةٌ على ما ذَكَرْنَا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَلَوْ اشْتَرَى بَقَرَةً على أنها لَبُونٌ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هذا الشَّرْطَ لَا يُفْسِدُ الْبَيْعَ وَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ في الْحَلُوبَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى قُمْرِيَّةً على أنها تُصَوِّتُ أو طَيْرًا على أَنَّهُ يَجِيءُ من مَكَان بَعِيدٍ أو كَبْشًا على أَنَّهُ نَطَّاحٌ أو دِيكًا على أَنَّهُ مُقَاتِلٌ فاليبع ( ( ( فالبيع ) ) ) فَاسِدٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فيه غَرَرٌ وَالْوُقُوفُ عليه غَيْرُ مُمْكِنٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ عليه فَصَارَ كَشَرْطِ الْحَبَلِ وَلِأَنَّ هذه صِفَاتٌ يُتَلَهَّى بها عَادَةً وَالتَّلَهِّي مَحْظُورٌ فَكَانَ هذا شَرْطًا مَحْظُورًا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا بَاعَ قُمْرِيَّةً على أنها تُصَوِّتُ فإذا صَوَّتَتْ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهَا لَمَّا صَوَّتَتْ عُلِمَ أنها مُصَوِّتَةٌ فلم يَتَحَقَّقْ غَرَرُ الْعَدَمِ وَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ قالوا في الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ قُمْرِيَّةً مُصَوِّتَةً أنه يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مُصَوِّتَةً
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها مُغَنِّيَةٌ على سَبِيلِ الرَّغْبَةِ فيها فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ التَّغْنِيَةَ صِفَةٌ مَحْظُورَةٌ لِكَوْنِهَا لَهْوًا فَشَرْطُهَا في الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها مُغَنِّيَةٌ على وَجْهِ إظْهَارِ الْعَيْبِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ هذا بَيْعٌ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عن هذا الْعَيْبِ فَصَارَ كما لو بَاعَهَا بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عن عَيْبٍ آخَرَ فَإِنْ وَجَدَهَا لَا تغنى لَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْغِنَاءَ في الْجَوَارِي عَيْبٌ فَصَارَ كما لو اشْتَرَى على أَنَّهُ مَعِيبٌ فَوَجَدَهُ سَلِيمًا
وَلَوْ اشْتَرَى كَلْبًا أو فَهْدًا على أَنَّهُ مُعَلَّمٌ قال أبو يُوسُفَ يَجُوزُ الْبَيْعُ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَصِيدَ فَيُمْسِكُهُ على صَاحِبِهِ وَذَا ليس بِشَرْطٍ مَحْظُورٍ لِأَنَّ تَعْلِيمَ الْكَلْبِ وَالِاصْطِيَادَ بِهِ مُبَاحٌ فَأَشْبَهَ شَرْطَ الْكِتَابَةِ في الْعَبْدِ وَالطَّبْخِ في الْجَارِيَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فيه غَرَرٌ إذْ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه إلَّا بِالِاصْطِيَادِ وَالْجَبْرُ عليه غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَوْ اشْتَرَى بِرْذَوْنًا على أَنَّهُ هِمْلَاجٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه بِالتَّسْيِيرِ فلم يَكُنْ في وُجُودِهِ غَرَرٌ وَلَا خَطَرٌ أَيْضًا وَإِنْ شِئْت أَفْرَدْت لِجِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ شَرْطًا على حِدَةٍ وَخَرَّجْتهَا إلَيْهِ فَقُلْت وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْمَشْرُوطُ مَحْظُورًا فَافْهَمْ
وَمِنْهَا شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي أو لِلْمَبِيعِ إنْ كان من بَنِي آدَمَ كَالرَّقِيقِ وَلَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِلْعَقْدِ وَلَا مِمَّا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بين الناس نحو ما إذَا بَاعَ دَارًا على أَنْ يَسْكُنَهَا الْبَائِعُ شَهْرًا ثُمَّ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ أو أَرْضًا على أَنْ يَزْرَعَهَا سَنَةً أو دَابَّةً على أَنْ يَرْكَبَهَا شَهْرًا أو ثَوْبًا على أَنْ يَلْبَسَهُ أُسْبُوعًا أو على أَنْ يُقْرِضَهُ الْمُشْتَرِي قَرْضًا أو على أَنْ يَهَبَ له هِبَةً أو يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ منه أو يَبِيعَ منه كَذَا وَنَحْوَ ذلك أو اشْتَرَى ثَوْبًا على أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ قَمِيصًا أو حِنْطَةً على أَنْ يَطْحَنَهَا أو ثَمَرَةً على أَنْ يَجُذَّهَا أو رَبْطَةً قَائِمَةً على الْأَرْضِ على أَنْ يَجُذَّهَا أو شيئا له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ على أَنْ يَحْمِلَهُ الْبَائِعُ إلَى مَنْزِلِهِ وَنَحْوَ ذلك فَالْبَيْعُ في هذا كُلِّهِ فَاسِدٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ في الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا لِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ في عَقْدِ الْبَيْعِ وهو تَفْسِيرُ الرِّبَا وَالْبَيْعُ الذي فيه الرِّبَا فَاسِدٌ أو فيه شُبْهَةُ الرِّبَا وَإِنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْبَيْعِ كَحَقِيقَةِ الرِّبَا على ما نُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا لو بَاعَ جَارِيَةً على أَنْ يُدَبِّرَهَا الْمُشْتَرِي أو على أَنْ يَسْتَوْلِدَهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فيه مَنْفَعَةٌ لِلْمَبِيعِ وَإِنَّهُ مُفْسِدٌ وَكَذَا لو بَاعَهَا بِشَرْطِ أَنْ يُعْتِقَهَا
____________________

(5/169)


الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ جَائِزٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَوَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ شَرْطَ الإعتاق ( ( ( الاعتقاد ) ) ) مِمَّا يُلَائِمُ الْعَقْدَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءُ الْمِلْكِ وَإِنْهَاءُ الْمِلْكِ تَقْرِيرٌ له فَكَانَ مُلَائِمًا وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ أَنَّ الْبَيْعَ ثَبَّتَ مُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ في قَوْلِ الرَّجُلِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَ حتى يَقَعَ الْعِتْقُ عن الْآمِرِ وَلَا عِتْقَ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ فَلَوْ كان الْإِعْتَاقُ إزَالَةَ الْمِلْكِ لَمَا تُصُوِّرَ وُجُودُ الْإِعْتَاقِ مُقْتَضَاهُ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَالشَّيْءُ لَا يَقْتَضِي ضِدَّهُ وإذا كان إنْهَاءَ الْمِلْكِ كان تَقْرِيرًا له فَكَانَ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهُ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَعُمُّ الْكُلَّ
وَالثَّانِي يَخُصُّ أَبَا حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ شَرْطٌ لَا يُلَائِمُهُ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْمِلْكَ وَالْمِلْكَ يَقْتَضِي إطْلَاقَ التَّصَرُّفِ في الْمَمْلُوكِ تَحْصِيلًا وَتَرْكًا وَشَرْطُ الْإِعْتَاقِ يَقْتَضِي الِاسْتِحْقَاقَ وَاللُّزُومَ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُلَائِمُهُ بَلْ يُضَادُّهُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ هذا الشَّرْطَ يُلَائِمُ الْعَقْدَ من وَجْهٍ وَلَا يُلَائِمُهُ من وَجْهٍ وَهَذَا يُوجِبُ الْفَسَادَ على ما نَذْكُرُ تَقْرِيرَهُ ثُمَّ إذَا بَاعَ بهذا الشَّرْطِ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي انْقَلَبَ الْعَقْدُ جَائِزًا بِالْإِعْتَاقِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا حتى يَجِبُ على الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ سَوَاءٌ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ أو قَبْلَهُ
هَكَذَا رَوَى ابن شُجَاعٍ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْقَلِبُ جَائِزًا حتى تَلْزَمَهُ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وهو الْقِيَاسُ
وَهَكَذَا رَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ فَاسِدًا من حِينِ وُجُودِهِ وَبِالْإِعْتَاقِ لَا يَنْعَدِمُ الْفَسَادُ بَلْ يَتَقَرَّرُ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ لِلْمِلْكِ وَإِنَّهُ تَقْرِيرٌ فَيُوجِبُ تَقَرُّرَ الْفَسَادِ لِلْفَاسِدِ وَالْفَاسِدُ يُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ لَا بِالثَّمَنِ
وَلِهَذَا لو هَلَكَ الْعَبْدُ في يَدِهِ قبل الْإِعْتَاقِ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ
وَكَذَا لو بَاعَهُ من رَجُلٍ أو وَهَبَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ الْإِعْتَاقِ يُلَائِمُ الْعَقْدَ من وَجْهٍ وَلَا يُلَائِمُهُ من وَجْهٍ لِأَنَّهُ إنْهَاءٌ من وَجْهٍ وَإِزَالَةٌ من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ إنْهَاءٌ كان يُلَائِمُهُ لِأَنَّهُ تَقْرِيرٌ لَكِنْ من حَيْثُ إنَّهُ إزَالَةٌ لَا يُلَائِمُهُ
لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُوجَبِ الْعَقْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ فَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْإِزَالَةِ فَقُلْنَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ في الِابْتِدَاءِ وَعَمِلْنَا بِشَبَهِ الْإِنْهَاءِ فَقُلْنَا بِجَوَازِهِ في الِانْتِهَاءِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يُعْمَلُ بِهِمَا على الْقَلْبِ مِمَّا قُلْتُمْ
قِيلَ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّا لم نَجِدْ جَائِزًا انْقَلَبَ فَاسِدًا في أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَوَجَدْنَا فَاسِدًا انْقَلَبَ جَائِزًا كما في بَيْعِ الرَّقْمِ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ أو وَهَبَ
لِأَنَّ ذلك ليس إنْهَاءَ الْمِلْكِ وَبِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّدْبِيرِ أو الِاسْتِيلَادِ فَدَبَّرَهَا الْمُشْتَرِي أو اسْتَوْلَدَهَا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ
لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَالِاسْتِيلَادَ لَا يُوجِبَانِ إنْهَاءَ الْمِلْكِ بِيَقِينٍ لِاحْتِمَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي
بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ
وَبِجَوَازِ بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ في الْجُمْلَةِ فَكَانَ ذلك شَرْطًا لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ أَصْلًا فَأَوْجَبَ لُزُومَ الْفَسَادِ
وَكَذَا لو بَاعَ عَبْدًا أو جَارِيَةً بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعَهُ وَأَنْ لَا يَهَبَهُ وَأَنْ لَا يُخْرِجَهُ عن مِلْكِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ
لِأَنَّ هذا شَرْطٌ يَنْتَفِعُ بِهِ الْعَبْدُ وَالْجَارِيَةُ بِالصِّيَانَةِ عن تَدَاوُلِ الْأَيْدِي فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِلْبَيْعِ
وَأَمَّا فِيمَا سِوَى الرَّقِيقِ إذَا بَاعَ ثَوْبًا على أَنْ لَا يَبِيعَهُ الْمُشْتَرِي أو لَا يَهَبَهُ أو دَابَّةً على أَنْ لَا يَبِيعَهَا أو يَهَبَهَا أو طَعَامًا على أَنْ يَأْكُلَهُ وَلَا يَبِيعَهُ ذَكَرَ في الْمُزَارَعَةِ ما يَدُلُّ على جَوَازِ الْبَيْعِ فإنه قال لو شَرَطَ أَحَدُ الْمُزَارِعِينَ في الْمُزَارَعَةِ على أَنْ لَا يَبِيعَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ وَلَا يَهَبَهُ فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ في الْمُجَرَّدِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وفي الْإِمْلَاءِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْبَيْعَ بهذا الشَّرْطِ فَاسِدٌ
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُهُ وَلَا جَرَى بِهِ التَّعَارُفُ بين الناس فَيَكُونُ مُفْسِدًا كما في سَائِرِ الشَّرَائِطِ الْمُفْسِدَةِ وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَ في الْمُزَارَعَةِ لِأَنَّ هذا شرط ( ( ( الشرط ) ) ) لَا مَنْفَعَةَ فيه لِأَحَدٍ فَلَا يُوجِبُ الْفَسَادَ وَهَذَا لِأَنَّ فَسَادَ الْبَيْعِ في مِثْل هذه الشُّرُوطِ لِتَضَمُّنِهَا الرِّبَا وَذَلِكَ بِزِيَادَةِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ في الْعَقْدِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ ولم يُوجَدْ في هذا الشَّرْطِ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فيه لِأَحَدٍ إلَّا أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ في نَفْسِهِ لَكِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ في الْعَقْدِ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا على أَنْ يَحْرِقَهُ الْمُشْتَرِي أو دَارًا على أَنْ يُخَرِّبَهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَضَرَّةِ لَا يُؤَثِّرُ في الْبَيْعِ على ما ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً على أَنْ لَا يَطَأَهَا الْمُشْتَرِي ذَكَرَ ذلك في الِاخْتِلَافِ بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اخْتِلَافًا ولم يذكر قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ فقال الْبَيْعُ فَاسِدٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ
____________________

(5/170)


يَطَأَهَا جَازَ الْبَيْعُ وَالشَّرْطُ في قَوْلِهِمْ جميعا وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ في الْمَوْضِعَيْنِ جميعا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا شَرْطٌ لَا مَنْفَعَةَ فيه لِأَحَدٍ فَلَا يُؤَثِّرُ في فَسَادِ الْبَيْعِ كما لو بَاعَ ما سِوَى الرَّقِيقِ على أَنْ لَا يَبِيعَ أو لَا يَهَبَ إلَّا أَنَّهُ نوع ( ( ( نوى ) ) ) مَضَرَّةً لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ بَاطِلًا وَالْبَيْعُ صَحِيحًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن هذا شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ أَمْرٌ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَهَذَا الشَّرْطُ يَنْفِيهِ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّ ذلك شَرْطٌ يُقَرِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّ إبَاحَةَ الْوَطْءِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على ما رُوِيَ عنه أَنَّ شَرْطَ الْوَطْءِ مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ أَيْضًا بَلْ يَنْفِيه لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي الْحِلَّ لَا الِاسْتِحْقَاقَ وَقَضِيَّةُ الشَّرْطِ الِاسْتِحْقَاقُ وَاللُّزُومُ وَهُمَا مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ بَلْ يَنْفِيهِ
وَأَمَّا الشَّرْطُ الذي يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَهُ كما إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْمَبِيعَ أو بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الثَّمَنَ أو بَاعَ بِشَرْطِ أَنْ يحبس ( ( ( يبخس ) ) ) الْمَبِيعَ أو اشْتَرَى على أَنْ يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ أو اشْتَرَى جَارِيَةً على أَنْ تَخْدِمَهُ أو دَابَّةً على أَنْ يَرْكَبَهَا أو ثَوْبًا على أَنْ يَلْبَسَهُ أو حِنْطَةً في سُنْبُلِهَا وَشَرَطَ الْحَصَادَ على الْبَائِعِ وَنَحْوَ ذلك فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي هذه الْمَذْكُورَاتِ من غَيْرِ شَرْطٍ فَكَانَ ذِكْرُهَا في مَعْرِضِ الشَّرْطِ تَقْرِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ
وَلَوْ اشْتَرَى شيئا بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ في مَنْزِلِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي وَالْبَائِعُ بِمَنْزِلِهِمَا في الْمِصْرِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا في الْمِصْرِ وَالْآخَرُ خَارِجَ الْمِصْرِ فَإِنْ كان كِلَاهُمَا في الْمِصْرِ فَالْبَيْعُ بهذا الشَّرْطِ جَائِزٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا إلَّا إذَا كان في تَصْحِيحِ هذا الشَّرْطِ تَحْقِيقُ الرِّبَا كما إذَا تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ وَشَرَطَ أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ الْإِيفَاءَ في مَنْزِلِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْبَيْعُ بهذا الشَّرْطِ فَاسِدٌ وهو الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَأَشْبَهَ ما إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ الْحَمْلِ إلَى مَنْزِلِهِ أو بِشَرْطِ الْإِيفَاءِ في مَنْزِلِهِ وَأَحَدُهُمَا في الْمِصْرِ وَالْآخَرُ خَارِجَ الْمِصْرِ
وَلَهُمَا أَنَّ الناس تَعَامَلُوا الْبَيْعَ بهذا الشَّرْطِ إذَا كان الْمُشْتَرِي في الْمِصْرِ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِتَعَامُلِ الناس وَلَا تَعَامُلَ فِيمَا إذَا لم يَكُونَا في الْمِصْرِ وَلَا في شَرْطِ الْحَمْلِ إلَى الْمَنْزِلِ فَعَمِلْنَا بِالْقِيَاسِ فيه
وَكَذَلِكَ الشَّرْطُ الذي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَكِنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ من حَيْثُ الْمَعْنَى مؤكد ( ( ( مؤكدا ) ) ) إيَّاهُ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَيُلْحَقُ بِالشَّرْطِ الذي هو من مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ نحو ما إذَا بَاعَ على أَنْ يُعْطِيَهُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ رَهْنًا أو كَفِيلًا وَالرَّهْنُ مَعْلُومٌ وَالْكَفِيلُ حَاضِرٌ فَقَبِلَ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْبَيْعِ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الرَّهْنِ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا أو مَجْهُولًا فَإِنْ كان مَعْلُومًا فَالْبَيْعُ جائزا ( ( ( جائز ) ) ) اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ الشَّرْطَ الذي يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ مُفْسِدٌ في الْأَصْلِ وَشَرْطُ الرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ مِمَّا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَكَانَ مُفْسِدًا إلَّا أن ( ( ( أنا ) ) ) اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِأَنَّ هذا الشَّرْطَ لو كان مُخَالِفًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ صُورَةً فَهُوَ مُوَافِقٌ له مَعْنًى لِأَنَّ الرَّهْنَ بِالثَّمَنِ شُرِعَ تَوْثِيقًا لِلثَّمَنِ
وَكَذَا الْكَفَالَةُ فإن حَقَّ الْبَائِعِ يَتَأَكَّدُ بِالرَّهْنِ وَالْكَفَالَةِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَرِّرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ مَعْنًى فَأَشْبَهَ اشْتِرَاطَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ لِلثَّمَنِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَكَذَا هذا وَلَوْ قَبِلَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ على هذا الشَّرْطِ ثُمَّ امْتَنَعَ من تَسْلِيمِ الرَّهْنِ لَا يُجْبَرُ على التَّسْلِيمِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يُجْبَرُ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الرَّهْنَ إذَا شُرِطَ في الْبَيْعِ فَقَدْ صَارَ حَقًّا من حُقُوقِهِ وَالْجَبْرُ على التَّسْلِيمِ على حُقُوقِ الْبَيْعِ فَيُجْبَرُ عليه
وَلَنَا أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ في الْأَصْلِ وَاشْتِرَاطُهُ في الْبَيْعِ لَا يُخْرِجُهُ عن أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعًا وَالْجَبْرُ على التَّبَرُّعِ ليس بِمَشْرُوعٍ فَلَا يُجْبَرُ عليه وَلَكِنْ يُقَالُ له إمَّا أَنْ تَدْفَعَ الرَّهْنَ أو قِيمَتَهُ أو تُؤَدِّيَ الثَّمَنَ أو يَفْسَخَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ لِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَرْضَ بِزَوَالِ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ إلَّا بِوَثِيقَةِ الرَّهْنِ أو بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ تَقُومُ مَقَامَهُ وَلِأَنَّ الدَّيْنَ يُسْتَوْفَى من مَالِيَّةِ الرَّهْنِ وَهِيَ قِيمَتُهُ وإذا أَدَّى الثَّمَنَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَلَا مَعْنَى لِلْفَسْخِ
وَلَوْ امْتَنَعَ الْمُشْتَرِي من هذه الْوُجُوهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِفَوَاتِ الشَّرْطِ وَالْغَرَضِ وَإِنْ كان الرَّهْنُ مَجْهُولًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ جَوَازَ هذا الشَّرْطِ مع أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ لِكَوْنِهِ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ مُقَرِّرًا لِمُقْتَضَاهُ مَعْنًى لِحُصُولِ معنى التَّوَثُّقِ وَالتَّأَكُّدِ لِلثَّمَنِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ في الْمَجْهُولِ وَلَوْ اتَّفَقَا على تَعْيِينِ رَهْنٍ في الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو جَهَالَةُ الرَّهْنِ وقد زَالَ فَكَأَنَّهُ كان مَعْلُومًا مُعَيَّنًا من الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ له حُكْمُ حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ افْتَرَقَا عن الْمَجْلِسِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ
وَكَذَا إذَا لم يَتَّفِقَا على تَعْيِينِ الرَّهْنِ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ نَقَدَ الثَّمَنَ جَازَ
____________________

(5/171)


الْبَيْعُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الرَّهْنِ هو الْوُصُولُ إلَى الثَّمَنِ وقد حَصَلَ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْوَثِيقَةِ وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِشَرْطِ إعْطَاءِ الْكَفِيلِ أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ كان حَاضِرًا في الْمَجْلِسِ وَقَبِلَ جَازَ الْبَيْعُ اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كان غَائِبًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ
وَكَذَا إذَا كان حَاضِرًا ولم يَقْبَلْ لِأَنَّ الْجَوَازَ على مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ ثَبَتَ لِمَعْنَى التَّوْثِيقِ وَتَوْكِيدِ الثَّمَنِ لِمَا فيه من تَقْرِيرِ مُوجَبِ الْعَقْدِ على ما بَيَّنَّا فإذا كان الْكَفِيلُ غَائِبًا أو حَاضِرًا ولم يَقْبَلْ لم تَصِحَّ الْكَفَالَةُ فلم يَحْصُلْ مَعْنَى التَّوْثِيقِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ على ما يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ
وَكَذَا إذَا كان الْكَفِيلُ مَجْهُولًا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ وَلَوْ كان الْكَفِيلُ مُعَيَّنًا وهو غَائِبٌ ثُمَّ حَضَرَ وَقَبِلَ الْكَفَالَةَ في الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِالْقَبُولِ في الْمَجْلِسِ وإذا حَضَرَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ تَأَكَّدَ الْفَسَادُ وَلَوْ شَرَطَ الْمُشْتَرِي على الْبَائِعِ أَنْ يُحِيلَهُ بِالثَّمَنِ على غَرِيمٍ من غُرَمَائِهِ أو على أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ لِغَرِيمٍ من غُرَمَاءِ الْبَائِعِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّ شَرْطَ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَالشَّرْطُ الذي لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ مُفْسِدٌ في الْأَصْلِ إلَّا إذَا كان فيه تَقْرِيرُ مُوجَبِ الْعَقْدِ وَتَأْكِيدُهُ وَالْحَوَالَةُ إبراء ( ( ( إبراز ) ) ) عن الثَّمَنِ وَإِسْقَاطٌ له فلم يَكُنْ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ
وَكَذَلِكَ إنْ كان مِمَّا لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ أَيْضًا لَكِنْ لِلنَّاسِ فيه تَعَامُلٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كما إذَا اشْتَرَى نَعْلًا على أَنْ يَحْدُوَهُ الْبَائِعُ أو جِرَابًا على أَنْ يَخْرِزَهُ له خُفًّا أو يَنْعَلَ خُفَّهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هذا شَرْطٌ لَا يتقضيه ( ( ( يقتضيه ) ) ) الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وأنه مُفْسِدٌ كما إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِشَرْطِ أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ له قَمِيصًا وَنَحْوَ ذلك
وَلَنَا أَنَّ الناس تَعَامَلُوا هذا الشَّرْطَ في الْبَيْعِ كما تَعَامَلُوا الِاسْتِصْنَاعَ فَسَقَطَ الْقِيَاسُ بِتَعَامُلِ الناس كما سَقَطَ في الِاسْتِصْنَاعِ وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها بِكْرٌ وطباخة أو خَبَّازَةٌ أو غُلَامًا على أَنَّهُ كَاتِبٌ أو خَيَّاطٌ أو بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أنها صِحَاحٌ أو على أنها جِيَادُ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ أو اشْتَرَى على أنها مُؤَجَّلَةٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ صِفَةٌ لِلْمَبِيعِ أو الثَّمَنِ صِفَةٌ مَحْضَةٌ لَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُهَا أَصْلًا وَلَا يَكُونُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِحَالٍ
وَلَوْ كان مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ يَدْخُلُ فيه من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وأنها صِفَةٌ مَرْغُوبٌ فيها لَا على وَجْهِ التَّلَهِّي وَالْمَشْرُوطُ إذَا كان هذا سَبِيلَهُ كان من مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ وَاشْتِرَاطُ شَرْطٍ يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ كما إذَا اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّسْلِيمِ وَتَمَلُّكِ الْمَبِيعِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ وَنَحْوَ ذلك بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى نَاقَةً على أنها حَامِلٌ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ عَيْنٌ وهو الْحَمْلُ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا وَكَوْنُ النَّاقَةِ حَامِلًا وَإِنْ كان صِفَةً لها لَكِنْ لَا تَحَقُّقَ له إلَّا بِالْحَمْلِ وهو عَيْنٌ في وُجُودِهِ غَرَرٌ وَمَعَ ذلك مَجْهُولٌ فَأَوْجَبَ ذلك فَسَادَ الْبَيْعِ
وَيَخْرُجُ على هذا أَيْضًا ما ذَكَرْنَا من المسائل ( ( ( مسائل ) ) ) إذَا اشْتَرَى نَاقَةً على أنها تَحْلُبُ كَذَا وَكَذَا رَطْلًا أو على أنها حَلُوبَةٌ أو على أنها لَبُونٌ أَنَّ الْبَيْعَ بِهَذِهِ الشُّرُوطِ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ في هذه الْمَوَاضِعِ عَيْنٌ فَلَا يَصْلُحُ شَرْطًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها مُغَنِّيَةٌ على سَبِيلِ الرَّغْبَةِ فيها لِأَنَّ جِهَةَ الْغِنَاءِ جِهَةُ التَّلَهِّي فَاشْتِرَاطُهَا في الْبَيْعِ يُوجِبُ الْفَسَادَ وَكَذَا إذَا اشْتَرَى قُمْرِيَّةً على أنها تُصَوِّتُ أو طرطيا ( ( ( طوطيا ) ) ) على أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ أو حَمَامَةً على أنها تَجِيءُ من مَكَان بَعِيدٍ أو كَبْشًا على أَنَّهُ نَطَّاحٌ أو دِيكًا على أَنَّهُ مُقَاتِلٌ لِأَنَّ هذه الْجِهَاتِ كُلَّهَا جِهَاتُ التَّلَهِّي بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى كَلْبًا على أَنَّهُ مُعَلَّمٌ أو اشْتَرَى دَابَّةً على أنها هِمْلَاجٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لَا حَظْرَ فيها بِوَجْهٍ وَاَللَّه عز شَأْنُهُ الْمُوَفِّقُ
وَيَجُوزُ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عن الْعَيْبِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ عَمَّ الْعُيُوبَ كُلَّهَا بِأَنْ قال بِعْت على أَنِّي بَرِيءٌ من كل عَيْبٍ أو خَصَّ بِأَنْ سَمَّى جِنْسًا من الْعُيُوبِ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ خَصَّ صَحَّ وَإِنْ عَمَّ لَا يَصِحُّ وإذا لم يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ عِنْدَهُ هل يَصِحُّ الْعَقْدُ له فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ يَبْطُلُ الْعَقْدُ أَيْضًا وفي قَوْلٍ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْإِبْرَاءُ عن الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ وَلَوْ شَرَطَ على أَنِّي بَرِيءٌ من الْعَيْبِ الذي يَحْدُثُ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ بهذا الشَّرْطِ فَاسِدٌ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عن كل عَيْبٍ إبْرَاءٌ عن الْمَجْهُولِ فَلَا يَصِحُّ وَلَا شَكَّ إنه إبْرَاءٌ عن الْمَجْهُولِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْإِبْرَاءَ عن كل عَيْبٍ إبْرَاءٌ عن الْمَجْهُولِ غَيْرُ صَحِيحٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَهَذَا آيَةُ التَّمْلِيكِ إذْ الْإِسْقَاطُ لَا يَحْتَمِلُ ذلك وَتَمْلِيكُ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ وَإِنْ كان فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ لَكِنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ أَلَا تَرَى أنها لَا تُمْنَعُ في مَوْضِعٍ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كما
____________________

(5/172)


إذَا بَاعَ قَفِيزًا من هذه الصُّبْرَةِ أو عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من هذه النُّقْرَةِ وَهَذَا النَّوْعُ من الْجَهَالَةِ هَهُنَا لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ عَيْبٍ يَتَنَاوَلُ الْعُيُوبَ كُلَّهَا فإذا سَمَّى جِنْسًا من الْعُيُوبِ لَا جَهَالَةَ له أَصْلًا مع ما أَنَّ التَّمْلِيكَ في الْإِبْرَاءِ يَثْبُتُ ضِمْنًا وَتَبَعًا لِلْإِسْقَاطِ لِأَنَّ اللفط ( ( ( اللفظ ) ) ) ينبىء عن الْإِسْقَاطِ لَا عن التَّمْلِيكِ فَيُعْتَبَرُ التَّصَرُّفُ إسْقَاطًا لَا تَمْلِيكًا وَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطَاتِ
وَالدَّلِيلُ على جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عن الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ ما رُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في مَوَارِيثَ ( وأشياء ) قد دُرِسَتْ فقال لَهُمَا عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتِهِمَا وَأَوْجِبَا الْحَقَّ وَلْيَحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ وَعَلَى هذا إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ من اسْتِحْلَالِ مُعَامَلَاتِهِمْ في آخَرِ أَعْمَارِهِمْ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ إنْكَارٍ
وَأَمَّا بَيْعُ الثَّمَرِ على الشَّجَرِ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَبَيْعُ الزَّرْعِ في الْأَرْضِ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان لم يَبْدُ صَلَاحُهُ بَعْدَ أَنْ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ وَإِمَّا إنْ كان قد بَدَا صَلَاحُهُ بِأَنْ صَارَ مُنْتَفَعًا بِهِ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أو مُطْلَقًا أو بِشَرْطِ التَّرْكِ حتى يَبْلُغَ فَإِنْ كان لم يَبْدُ صَلَاحُهُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ جَازَ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَقْطَعَ لِلْحَالِ وَلَيْسَ له أَنْ يَتْرُكَ من غَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل بُدُوِّ صَلَاحِهِ وهو خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على ما ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ جَازَ أَيْضًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَالْمُتَعَارَفُ هو التَّرْكُ فَكَانَ هذا بَيْعًا بِشَرْطِ التَّرْكِ دَلَالَةً فَصَارَ كما لو شَرَطَ التَّرْكَ نَصًّا
وَلَنَا أَنَّ التَّرْكَ ليس بِمَشْرُوطٍ نَصًّا إذْ الْعَقْدُ مُطْلَقٌ عن الشَّرْطِ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ تَقْيِيدُهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ من غَيْرِ دَلِيلٍ خُصُوصًا إذَا كان في التَّقْيِيدِ فَسَادُ الْعَقْدِ وَإِنْ اشْتَرَى بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَلَا جَرَى بِهِ التَّعَامُلُ بين الناس وَمِثْلُ هذا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ من التَّرْكِ إلَّا بِإِعَارَةِ الشَّجَرَةِ وَالْأَرْضِ وَهُمَا مِلْكُ الْبَائِعِ فَصَارَ بِشَرْطِ التَّرْكِ شَارِطًا الْإِعَارَةَ فَكَانَ شَرْطُهُ صَفْقَةً في صَفْقَةٍ وأنه مَنْهِيٌّ هذا إذَا لم يَبْدُ صَلَاحُهُ
وَكَذَا إذَا بَدَا صَلَاحُهُ فَبَاعَ بِشَرْطِ الْقَطْعِ أو مُطْلَقًا فَأَمَّا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَإِنْ لم يَتَنَاهَ عِظَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِلَا خِلَافٍ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا تَنَاهَى عِظَمُهُ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال مُحَمَّدٌ يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِتَعَارُفِ الناس وَتَعَامُلِهِمْ ذلك
وَلَهُمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ التَّرْكِ فيه مَنْفَعَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَالْعَقْدُ لَا يَقْتَضِيهِ وَلَيْسَ بِمُلَائِمٍ لِلْعَقْدِ أَيْضًا وَمِثْلُ هذا الشَّرْطِ يَكُونُ مُفْسِدًا كما إذَا اشْتَرَى حِنْطَةً على أَنْ يَتْرُكَهَا في دَارِ الْبَائِعِ شَهْرًا قَوْلُهُ الناس تَعَامَلُوا ذلك قُلْنَا دَعْوَى تَعَامُلِ الناس شَرْطَ التَّرْكِ في الْمَبِيعِ مَمْنُوعَةٌ وَإِنَّمَا التَّعَامُلُ بِالْمُسَامَحَةِ بِالتَّرْكِ من غَيْرِ شَرْطٍ في عَقْدِ الْبَيْعِ
وَلَوْ اشْتَرَى مُطْلِقًا عن شَرْطٍ فَتَرَكَ فَإِنْ كان قد تَنَاهَى عِظَمُهُ ولم يَبْقَ إلَّا النُّضْجُ لم يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ تُرِكَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ لَا يَزْدَادُ بَعْدَ التَّنَاهِي وَإِنَّمَا يَتَغَيَّرُ إلَى حَالِ النُّضْجِ وَإِنْ كان لم يَتَنَاهَ عِظَمُهُ يُنْظَرُ إنْ كان التَّرْكُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ جَازَ وَطَابَ له الْفَضْلُ وَإِنْ كان بِغَيْرِ إذْنِهِ تَصَدَّقَ بِمَا زَادَ في ذاته ( ( ( إذنه ) ) ) على ما كان عِنْدَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ بِجِهَةٍ مَحْظُورَةٍ فَأَوْجَبَتْ خُبْثًا فيها فَكَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقُ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُشْتَرِي من الْبَائِعِ الشَّجَرَ لِلتَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وطاب ( ( ( طاب ) ) ) له الْفَضْلُ لِأَنَّ التَّرْكَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ وَلَكِنْ لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ لِأَنَّ هذه الْإِجَارَةَ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ جَوَازَهَا ثَبَتَ على خِلَافِ الْقِيَاسِ لِتَعَامُلِ الناس فما لم يَتَعَامَلُوا فيه لَا تَصِحُّ فيه الْإِجَارَةُ وَلِهَذَا لم تَصِحَّ إجَارَةُ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ وَإِجَارَةُ الْأَوْتَادِ لِتَعْلِيقِ الْأَشْيَاءِ عليها وَإِجَارَةُ الْكُتُبِ لِلْقِرَاءَةِ وَنَحْوُ ذلك حتى لم تَجِبْ الْأُجْرَةُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ أَخْرَجَتْ الشَّجَرَةُ في مُدَّةِ التَّرْكِ ثَمَرَةً أُخْرَى فَهِيَ لِلْبَائِعِ سَوَاءٌ كان التَّرْكُ بِإِذْنِهِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ نَمَاءُ مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ له وَلَوْ حَلَّلَهَا له الْبَائِعُ جَازَ وَإِنْ اخْتَلَطَ الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ بالموجود ( ( ( بالموجودة ) ) ) عِنْدَهُ حتى لَا يُعْرَفَ يُنْظَرُ إنْ كان قبل التَّخْلِيَةِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ بِالِاخْتِلَاطِ لِلْجَهَالَةِ وَتَعَذُّرِ التَّمْيِيزِ فَأَشْبَهَ الْعَجْزَ عن التَّسْلِيمِ بِالْهَلَاكِ وَإِنْ كان بَعْدَ التَّخْلِيَةِ لم يَبْطُلْ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ وَحُكْمُ الْبَيْعِ يَتِمُّ وَيَتَنَاهَى بِالْقَبْضِ وَالثَّمَرَةُ تَكُونُ بَيْنَهُمَا لِاخْتِلَاطِ مِلْكِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ اخْتِلَاطًا لَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ الْكُلُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي في الْمِقْدَارِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ يَدٍ لِوُجُودِ التَّخْلِيَةِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةً بَدَا صَلَاحُ
____________________

(5/173)


بَعْضِهَا دُونَ بَعْضٍ بِأَنْ أَدْرَكَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ على أَصْلِهِمَا لِأَنَّهُ لو كان أَدْرَكَ الْكُلَّ فَاشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ عِنْدَهُمَا فَبِإِدْرَاكِ الْبَعْضِ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو اخْتِيَارُ الْعَادَةِ فَإِنْ كان صَلَاحُ الْبَاقِي مُتَقَارِبًا جَازَ لِأَنَّ الْعَادَةَ في الثِّمَارِ أَنْ لَا يُدْرِكَ الْكُلُّ دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ يَتَقَدَّمُ إدْرَاكُ الْبَعْضِ على الْبَعْضِ وَيَلْحَقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَصَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا بَعْدَ إدْرَاكِ الْكُلِّ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَصَحَّ الشِّرَاءُ عِنْدَهُ بِشَرْطِ التَّرْكِ كَذَا هذا وَإِنْ كان يَتَأَخَّرُ إدْرَاكُ الْبَعْضِ عن الْبَعْضِ تَأْخِيرًا فَاحِشًا كَالْعِنَبِ وَنَحْوِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيمَا أَدْرَكَ وَلَا يَجُوزُ فِيمَا لم يُدْرِكْ لِأَنَّ عِنْدَ التَّأَخُّرِ الْفَاحِشِ يَلْتَحِقَانِ بِجِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
وَمِنْهَا شَرْطُ الْأَجَلِ في الْمَبِيعِ الْعَيْنِ وَالثَّمَنِ الْعَيْنِ وهو أَنْ يُضْرَبَ لِتَسْلِيمِهَا أَجَلٌ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ التَّأْجِيلِ أَصْلًا لِأَنَّهُ تَغْيِيرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ تَمْلِيكٌ بِتَمْلِيكٍ وَتَسْلِيمٌ بِتَسْلِيمٍ وَالتَّأْجِيلُ يَنْفِي وُجُوبَ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ فَكَانَ مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ إلَّا أَنَّهُ شَرْطُ نظرا ( ( ( نظر ) ) ) لِصَاحِبِ الْأَجَلِ لِضَرُورَةِ الْعَدَمِ تَرْفِيهًا له وَتَمْكِينًا له من اكْتِسَابِ الثَّمَنِ في الْمُدَّةِ الْمَضْرُوبَةِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْأَعْيَانِ فَبَقِيَ التَّأْجِيلُ فيها تَغْيِيرًا مَحْضًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ
وَيَجُوزُ في الْمَبِيعِ الدَّيْنُ وهو السَّلَمُ بَلْ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ عِنْدَنَا على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَكَذَا يَجُوزُ في الثَّمَنِ الدَّيْنُ وهو بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ يُلَائِمُ الدُّيُونَ وَلَا يُلَائِمُ الْأَعْيَانَ لِمَسَاسِ حَاجَةِ الناس إلَيْهِ في الدُّيُونِ لَا في الْأَعْيَانِ على ما بَيَّنَّا
وَمِنْهَا شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ في الْبَيْعِ وَمِنْهَا شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِوَقْتٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَجِيءِ الْمَطَرِ وَقُدُومِ فُلَانٍ وَمَوْتِ فُلَانٍ وَنَحْوِ ذلك أو مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ وَنَحْوِهَا
وَمِنْهَا شَرْطُ خِيَارٍ غَيْرِ مُؤَقَّتٍ أَصْلًا وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ فَكَانَ شَرْطًا مُغَيِّرًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ وأنه مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ في الْأَصْلِ وهو الْقِيَاسُ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وهو ما رُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بن مُنْقِذٍ كان يَغْبِنُ في التِّجَارَاتِ فَشَكَا أَهْلُهُ إلَى رسول اللَّهِ فقال له إذَا بَايَعْت فَقُلْ لَا خِلَابَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
فَبَقِيَ ما وَرَاءَ الْمَنْصُوصِ عليه على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَمِنْهَا شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِالزَّائِدِ على ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هذا الشَّرْطُ ليس بِمُفْسِدٍ
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما شَرَطَ الْخِيَارَ شَهْرَيْنِ وَلِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ في خِيَارِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ بِالتَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ على الثَّلَاثِ كَالْحَاجَةِ إلَى التَّأْجِيلِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذا الشَّرْطَ في الْأَصْلِ مِمَّا يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ وَالنَّصُّ أَمَّا الْقِيَاسُ فما ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطٌ مُغَيِّرٌ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَمِثْلُ هذا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ في الْأَصْلِ وَأَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الْغَرَرِ
وَهَذَا بَيْعُ الْغَرَرِ لِأَنَّهُ تَعَلُّقُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ على غَرَرِ سُقُوطِ الْخِيَارِ إلَّا أَنَّهُ وَرَدَ نَصٌّ خَاصٌّ بِجَوَازِهِ فَيَتْبَعُ مَوْرِدَ النَّصِّ وأنه وَرَدَ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَصَارَ ذلك مَخْصُوصًا عن النَّصِّ الْعَامِّ وَتُرِكَ الْقِيَاسُ فيه فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ النَّصِّ وَمُقْتَضَى الْقِيَاسِ فِيمَا وَرَاءِ هذا وَالْعَمَلُ بِقَوْلِ سَيِّدِ الْبَشَرِ عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَوْلَى من الْعَمَلِ بِقَوْلِ عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ
وَقَوْلُهُمَا النَّصُّ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ قُلْنَا لو كان كَذَلِكَ فَالثَّلَاثُ مُدَّةٌ صَالِحَةٌ لِدَفْعِ الْغَبْنِ لِكَوْنِهَا صَالِحَةً لِلتَّأَمُّلِ وما وَرَاءَ ذلك لَا نِهَايَةَ له
وَأَمَّا شَرْطُ خِيَارٍ مُؤَقَّتٍ بِالثَّلَاثِ فما دُونَهَا فَلَيْسَ بِمُفْسِدٍ اسْتِحْسَانًا لِحَدِيثِ حِبَّانَ بن مُنْقِذٍ وَلِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَالتَّدَارُكِ عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ وَسَوَاءٌ كان الشَّرْطُ لِلْعَاقِدِ أو لِغَيْرِهِ بِأَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِثَالِثٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدِ مع أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ فَبَقِيَ اشْتِرَاطُهُ لِغَيْرِهِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَلَنَا أَنَّ النَّصَّ مَعْلُولٌ بِالْحَاجَةِ إلَى التَّأَمُّلِ لدفع الغبن والناس يتفاوتون في البصارة بالسلع فمن الجائز أن يكون المشروط له الخيار أبصر منه ففوض الخيار إليه ليتأمل في ذلك فَإِنْ صَلَحَ أَجَازَهُ وَإِلَّا فَسَخَ وإذا جَازَ هذا الشَّرْطُ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِلْمَشْرُوطِ له وَلِلْعَاقِدِ أَيْضًا وَلِمَا نَذْكُرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ الْإِجَازَةِ وَالْفَسْخِ وَسَوَاءٌ كان الْعَاقِدُ مَالِكًا أو وَصِيًّا أو وَلِيًّا أو وَكِيلًا فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فيه لِنَفْسِهِ أو لِصَاحِبِهِ الذي عَاقَدَهُ
أَمَّا الْأَبُ أو الْوَصِيُّ فَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ مِنْهُمَا من بَابِ النَّظَرِ لِلصَّغِيرِ فَيَمْلِكَانِهِ وَأَمَّا
____________________

(5/174)


الْوَكِيلُ فَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وقد أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُطْلَقًا فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ
وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ أو الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ أو مُفَاوَضَةٍ يَمْلِكُ شَرْطَ الْخِيَارِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى شيئا على أَنَّهُ إنْ لم يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فَالْقِيَاسُ أنه لَا يَجُوزَ هذا الْبَيْعُ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ جَائِزٌ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هذا بَيْعٌ عُلِّقَتْ إقَالَتُهُ بِشَرْطِ عَدَمِ نَقْدِ الثَّمَنِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَتَعْلِيقُ الْإِقَالَةِ بِالشَّرْطِ فَاسِدٌ فَكَانَ هذا بَيْعًا دَخَلَهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيَكُونُ فَاسِدًا كَسَائِرِ الْأَنْوَاعِ التي دَخَلَتْهَا شُرُوطٌ فَاسِدَةٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا الْبَيْعَ في مَعْنَى الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِوُجُودِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ الْمُسْتَدْعِيَةِ لِلْجَوَازِ أَمَّا التَّعْلِيقُ فإنه عَلَّقَ إقَالَةَ هذا الْبَيْعِ وَفَسْخَهُ بِشَرْطِ عَدَمِ النَّقْدِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وفي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَلَّقَ انْعِقَادَهُ في حَقِّ الْحُكْمِ بِشَرْطِ سُقُوطِ الْخِيَارِ
وَأَمَّا الْحَاجَةُ فإن الْمُشْتَرِيَ كما يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ في الْمَبِيعِ أَنَّهُ هل يُوَافِقُهُ أَمْ لَا فَالْبَائِعُ يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّهُ هل يَصِلُ الثَّمَنُ إلَيْهِ في الثَّلَاثِ أَمْ لَا وَكَذَا الْمُشْتَرِي يَحْتَاجُ إلَى التَّأَمُّلِ أَنَّهُ هل يَقْدِرُ على النَّقْدِ في الثَّلَاثِ أَمْ لَا فَكَانَ هذا بَيْعًا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى جَوَازِهِ في الْجَانِبَيْنِ جميعا فَكَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ من الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالْجَوَازِ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَلَوْ اشْتَرَى على أَنَّهُ إنْ لم يَنْقُدْ الثَّمَنَ إلَى أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ كما لَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ أو أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يقول هَهُنَا لَا يَجُوزُ كما قال أبو حَنِيفَةَ فَأَبُو حَنِيفَةَ مَرَّ على أَصْلِهِ ولم يَجُزْ في الْمَوْضِعَيْنِ وَمُحَمَّدٌ مَرَّ على أَصْلِهِ وَأَجَازَ فِيهِمَا وأبو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى الْجَوَازَ في الْمَوْضِعَيْنِ جميعا إلَّا أَنَّ الْجَوَازَ في شَرْطِ الْخِيَارِ عَرَفْنَاهُ بِأَثَرِ ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما فَبَقِيَ هذا على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
وَيَتَّصِلُ بِالشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ ما إذَا بَاعَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى ما في بَطْنِهِ من الْحَمْلِ أن الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِأَنَّ بَيْعَ الْحَمْلِ بِانْفِرَادِهِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ اسْتِثْنَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ أُدْخِلَ في الْبَيْعِ فَوَجَبَ فَسَادُ الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ هذا في عَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْحَمْلِ في هذه الْعُقُودِ لَا يُبْطِلُهَا
وَكَذَلِكَ في الْإِعْتَاقِ لِمَا أَنَّ اسْتِثْنَاءَ ما في الْبَطْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ وَالْبَيْعُ وَأَخَوَاتُهُ تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَكَانَ الشَّرْطُ فَاسِدًا وَالْعَقْدُ فَاسِدًا فَأَمَّا النِّكَاحُ وَنَحْوُهُ فَلَا تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَجَازَ الْعَقْدُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ فَيَدْخُلُ في الْعَقْدِ الْأُمُّ وَالْوَلَدُ جميعا وَكَذَا في الْعِتْقِ وَكَذَا إذَا بَاعَ حَيَوَانًا وَاسْتَثْنَى شيئا من أَطْرَافِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ
وَلَوْ بَاعَ صُبْرَةً وَاسْتَثْنَى قَفِيزًا منها فَالْبَيْعُ جَائِزٌ في الْمُسْتَثْنَى منه وَكَذَا إذَا بَاعَ صُبْرَةً وَاسْتَثْنَى جُزْءًا شَائِعًا منها ثُلُثَهَا أو رُبُعَهَا أو نحو ذلك وَلَوْ بَاعَ قَطِيعًا من الْغَنَمِ وَاسْتَثْنَى شَاةً منها بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وَلَوْ اسْتَثْنَى شَاةً منها بِعَيْنِهَا فَالْبَيْعُ جَائِزٌ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ من بَاعَ جُمْلَةً وَاسْتَثْنَى منها شيئا فَإِنْ اسْتَثْنَى ما يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَالْبَيْعُ في الْمُسْتَثْنَى منه جَائِزٌ وَإِنْ اسْتَثْنَى ما لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَالْبَيْعُ في الْمُسْتَثْنَى منه فَاسِدٌ
وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ على رؤوس النَّخْلِ وَاسْتَثْنَى منها صَاعًا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى ما يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ فَأَشْبَهَ ما إذَا بَاعَ جُزْءًا مُشَاعًا منه من الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَكَذَا لو كان الثَّمَرُ مَجْذُوذًا فَبَاعَ الْكُلَّ وَاسْتَثْنَى صَاعًا يَجُوزُ
وَأَيُّ فَرْقٍ بين الْمَجْذُوذِ وَغَيْرِ الْمَجْذُوذِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَإِلِيهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ في الموطأ فإنه قال لَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ ثَمَرَةً وَيَسْتَثْنِيَ منها بَعْضَهَا إذَا اسْتَثْنَى شيئا في جُمْلَتِهِ رُبُعًا أو خُمُسًا أو سُدُسًا قُيِّدَ الْجَوَازُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مُشَاعًا في الْجُمْلَةِ فَلَوْ ثَبَتَ الْجَوَازُ في الْمُعَيَّنِ لم يَكُنْ لِتَقْيِيدِهِ بهذا الشَّرْطِ مَعْنًى
وَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال لَا يَجُوزُ وَكَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في مُخْتَصَرِهِ ثُمَّ فَسَادُ الْعَقْدِ بِمَا ذَكَرْنَا من الشُّرُوطِ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
وقال ابن أبي لَيْلَى الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وقال ابن شُبْرُمَةَ الْبَيْعُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَى أبو حَنِيفَةَ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ فَيَدُلُّ على فَسَادِ كل بَيْعٍ وَشَرْطٍ إلَّا ما خُصَّ عن عُمُومِ النَّصِّ وَلِأَنَّ هذه الشُّرُوطَ بَعْضُهَا فيه مَنْفَعَةٌ زَائِدَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدَيْنِ أو إلَى غَيْرِهِمَا وَزِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ في عَقْدِ الْبَيْعِ تَكُونُ رِبًا وَالرِّبَا حَرَامٌ وَالْبَيْعُ الذي فيه رِبًا فَاسِدٌ وَبَعْضُهَا فيه غَرَرٌ وَنَهَى رسول اللَّهِ
____________________

(5/175)


عن بَيْعٍ فيه غَرَرٌ
وَالْمَنْهِيُّ عنه فَاسِدٌ وَبَعْضُهَا شَرْطُ التَّلَهِّي وَأَنَّهُ مَحْظُورٌ وَبَعْضُهَا يُغَيِّرُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وهو مَعْنَى الْفَسَادِ إذْ الْفَسَادُ هو التَّغْيِيرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ قِرَانُ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ وَإِلْحَاقُهُ بِهِ سَوَاءٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى لو بَاعَ بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ أَلْحَقَ بِهِ شيئا من هذه الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُفْسِدُ الْعَقْدَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَلَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو أَلْحَقَ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ شَرْطًا صَحِيحًا كَالْخِيَارِ الصَّحِيحِ في الْبَيْعِ الْبَاتِّ وَنَحْوِ ذلك يَلْتَحِقُ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن إلْحَاقَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ بِالْعَقْدِ يُغَيِّرُ الْعَقْدَ من الصِّحَّةِ إلَى الْفَسَادِ فَلَا يَصِحُّ فَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا كما كان لِأَنَّ الْعَقْدَ كَلَامٌ لَا بَقَاءَ له وَالِالْتِحَاقُ بِالْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ الْإِلْحَاقُ أَصْلًا إلَّا أَنَّ إلْحَاقَ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ثَبَتَ شَرْعًا لِلْحَاجَةِ إلَيْهِ حتى صَحَّ قِرَانُهُ بِالْعَقْدِ فَيَصِحُّ إلْحَاقُهُ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إلْحَاقِ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ قِرَانُهُ بِالْعَقْدِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اعْتِبَارَ التَّصَرُّفِ على الْوَجْهِ الذي أَوْقَعَهُ الْمُتَصَرِّفُ وَاجِبٌ إذَا كان هو أَهْلًا وَالْمَحَلُّ قَابِلًا وقد أَوْقَعَهُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ إذْ الْإِلْحَاقُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ كما أَوْقَعَهُ فَاسِدًا في الْأَصْلِ
وَقَوْلُهُمَا الْإِلْحَاقُ تَغْيِيرٌ لِلْعَقْدِ قُلْنَا إنْ كان تَغْيِيرًا فَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ التَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ وَالْحَطِّ عن الثَّمَنِ وَبِإِلْحَاقِ الشَّرْطِ الصَّحِيحِ وَإِنْ كان تَغْيِيرًا وَلِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْفَسْخَ فَالتَّغْيِيرُ أَوْلَى لِأَنَّ التَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ وَالْفَسْخَ رَفْعُ الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الرِّضَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } عَقِيبَ قَوْلِهِ عز اسْمُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ }
وقال عليه السلام لَا يَحِلُّ مَالُ امرء مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبٍ من نَفْسِهِ
فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْمُكْرَهِ إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وسلم مُكْرَهًا لِعَدَمِ الرِّضَا فَأَمَّا إذَا بَاعَ مُكْرَهًا وسلم طَائِعًا فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ على ما نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُ الْهَازِلِ لِأَنَّهُ مُتَكَلِّمٌ بِكَلَامِ الْبَيْعِ لَا على إرادة ( ( ( إدارة ) ) ) حَقِيقَتِهِ فلم يُوجَدْ الرِّضَا بِالْبَيْعِ فَلَا يَصِحُّ بِخِلَافِ طَلَاقِ الْهَازِلِ أَنَّهُ وَاقِعٌ لِأَنَّ الْفَائِتَ بِالْإِكْرَاهِ ليس إلَّا الرِّضَا وَالرِّضَا ليس بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ على أَنَّ الْهَزْلَ في بَابِ الطَّلَاقِ مُلْحَقٌ بِالْجِدِّ شَرْعًا
قال عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) ) والسلام ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ الطَّلَاقُ وَالنِّكَاحُ وَالْعَتَاقُ
أَلْحَقَ الْهَازِلَ بِالْجَادِّ فيه وَمِثْلُ هذا لم يَرِدْ في الْبَيْعِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ بَيْعُ الْمُنَابَذَةِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالْحَصَاةِ الذي كان يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كان الرَّجُلَانِ يَتَسَاوَمَانِ السِّلْعَةَ فإذا أَرَادَ أَحَدُهُمَا إلْزَامَ الْبَيْعِ نَبَذَ السِّلْعَةَ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ رضي الْمُشْتَرِي أَمْ سَخِطَ أو لَمَسَهَا الْمُشْتَرِي أو وَضَعَ عليها حَصَاةً فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَشَرَطَ الرِّضَا وَأَبْطَلَ ذلك كُلَّهُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ وَهِيَ ما لَجَأَ الْإِنْسَانُ إلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ اخْتِيَارِ الْإِيثَارِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ التَّلْجِئَةَ في الْأَصْلِ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ في نَفْسِ الْبَيْعِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ في الثَّمَنِ فَإِنْ كانت في نَفْسِ الْبَيْعِ فَإِمَّا أَنْ تَكُونَ في إنْشَاءِ الْبَيْعِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ في الْإِقْرَارِ بِهِ فَإِنْ كانت في إنْشَاءِ الْبَيْعِ بِأَنْ تَوَاضَعُوا في السِّرِّ لِأَمْرٍ أَلْجَأَهُمْ إلَيْهِ على أَنْ يَظْهَرَ الْبَيْعُ وَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هو رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ نحو أَنْ يَخَافَ رَجُلٌ السُّلْطَانَ فيقول الرَّجُلُ إنِّي أُظْهِرُ أَنِّي بِعْت مِنْك دَارِي وَلَيْسَ بِبَيْعٍ في الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا هو تَلْجِئَةٌ فَتَبَايَعَا فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمَا تَكَلَّمَا بِصِيغَةِ الْبَيْعِ لَا على قَصْدِ الْحَقِيقَةِ وهو تَفْسِيرُ الْهَزْلِ وَالْهَزْلُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُعْدِمُ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فلم يَكُنْ هذا بَيْعًا مُنْعَقِدًا في حق الْحُكْمِ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّ ما شَرَطَاهُ في السِّرِّ لم يَذْكُرَاهُ في الْعَقْدِ وَإِنَّمَا عَقَدَا عَقْدًا صَحِيحًا بِشَرَائِطِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه ما تَقَدَّمَ من الشَّرْطِ كما إذَا اتَّفَقَا على أَنْ يَشْتَرِطَا شَرْطًا فَاسِدًا عِنْدَ الْبَيْعِ ثُمَّ بَاعَا من غَيْرِ شَرْطٍ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِ هذا الْبَيْعِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ فَلَوْ اعْتَبَرْنَا وُجُودَ الشَّرْطِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا تَنْدَفِعُ الضَّرُورَةُ وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لم يَجُزْ وَإِنْ أَجَازَاهُ جَازَ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ السَّابِقَ وهو الْمُوَاضَعَةُ مَنَعَتْ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا وَلَا يَمْلِكُهُ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ حتى لو كان المشتري عَبْدًا فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ لَا ينقذ ( ( ( ينفذ ) ) ) إعْتَاقُهُ بِخِلَافِ الْمُكْرَهِ على الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إذَا بَاعَ وسلم فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أن ينقذ ( ( ( ينفذ ) ) ) إعْتَاقُهُ لِأَنَّ بَيْعَ الْمُكْرَهِ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحُكْمِ لِوُجُودِ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَقْلًا لِمَا فيه من صِيَانَةِ نَفْسِهِ عن الْهَلَاكِ فَانْعَقَدَ السَّبَبُ إلَّا أَنَّهُ فَسَدَ لِانْعِدَامِ
____________________

(5/176)


الرِّضَا طَبْعًا فَتَأَخَّرَ الْمِلْكُ فيه إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ أَمَّا هَهُنَا فلم يُوجَدْ الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ في الْجَانِبَيْنِ أَصْلًا فلم يَنْعَقِدْ السَّبَبُ في حَقِّ الْحُكْمِ فَتَوَقَّفَ على أَحَدِهِمَا فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ بِشَرْطِ خِيَارِ الْمُتَبَايِعَيْنِ
هذا إذَا كانت التَّلْجِئَةُ في إنْشَاءِ الْبَيْعِ فإما أذا كانت في الْإِقْرَارِ بِهِ فَإِنْ اتَّفَقَا على أَنْ يُقِرَّا بِبَيْعٍ لم يَكُنْ فَأَقَرَّا بِذَلِكَ ثُمَّ اتَّفَقَا على أَنَّهُ لم يَكُنْ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ حتى لَا يَجُوزُ بِإِجَازَتِهِمَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَصِحَّةُ الْإِخْبَارِ بِثُبُوتِ الْمُخْبَرِ بِهِ حَالَ وُجُودِ الْإِخْبَارِ فَإِنْ كان ثَابِتًا كان الْإِخْبَارُ صِدْقًا وَإِلَّا فَيَكُونُ كَذِبًا وَالْمُخْبَرُ بِهِ هَهُنَا وهو الْبَيْعُ ليس بِثَابِتٍ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ لِأَنَّهَا تَلْحَقُ الْمَوْجُودَ لَا الْمَعْدُومَ
هذا كُلُّهُ إذَا كانت التَّلْجِئَةُ في نَفْسِ الْبَيْعِ إنْشَاءً كان أو إقْرَارًا فَأَمَّا إذَا كانت في الثَّمَنِ فَهَذَا أَيْضًا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كانت في قَدْرِ الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ كانت في جِنْسِهِ فَإِنْ كانت في قَدْرِهِ بِأَنْ تَوَاضَعَا في السِّرِّ وَالْبَاطِنِ على أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفًا وَيَتَبَايَعَانِ في الظَّاهِرِ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ لم يَقُولَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَلْفٌ مِنْهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ ما تَعَاقَدَا عليه لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلْمَذْكُورِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْمَذْكُورُ عِنْدَ الْعَقْدِ أَلْفَانِ فَإِنْ لم يذكر ( ( ( يذكرا ) ) ) أَنَّ أَحَدَهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ صَحَّتْ تَسْمِيَةُ الْأَلْفَيْنِ وَإِنْ قَالَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ أَلْفٌ مِنْهُمَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ ثَمَنُ السِّرِّ وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الثَّمَنَ ثَمَنُ الْعَلَانِيَةِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّمَنَ هو الْمَذْكُورُ في الْعَقْدِ وَالْأَلْفَانِ مَذْكُورَانِ في الْعَقْدِ وما ذَكَرَا في الْمُوَاضَعَةِ لم يَذْكُرَاهُ في الْعَقْدِ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ ما تَوَاضَعَا في السِّرِّ هو ما تَعَاقَدَا عليه في الْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنَّهُمَا زَادَا عليه أَلْفًا أُخْرَى وَالْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ أَبْطَلَتْ الزِّيَادَةَ لِأَنَّهُمَا في هُزْلَانِهَا حَيْثُ لم يَقْصِدَاهَا فلم يَصِحَّ ذِكْرُ الزِّيَادَةِ في الْبَيْعِ فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِمَا تَوَاضَعَا عليه وهو الْأَلْفُ وَإِنْ كانت في جِنْسِهِ بِأَنْ اتَّفَقَا في السِّرِّ على أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَكِنَّهُمَا يُظْهِرَا أَنَّ الْبَيْعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ لم يَقُولَا في الْمُوَاضَعَةِ أن ثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالثَّمَنُ ما تَعَاقَدَا عليه لِمَا قُلْنَا وَإِنْ قَالَا ذلك فَالْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَصِحُّ بِمِائَةِ دِينَارٍ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ ثَمَنَ السِّرِّ لم يَذْكُرَاهُ في الْعَقْدِ وَثَمَنَ الْعَلَانِيَةِ لم يَقْصِدَاهُ فَقَدْ هَزِلَا بِهِ فَسَقَطَ وَبَقِيَ بَيْعًا بِلَا ثَمَنٍ فَلَا يَصِحُّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا لم يَقْصِدَا بَيْعًا بَاطِلًا بَلْ بَيْعًا صَحِيحًا فَيَجِبُ حَمْلُهُ على الصِّحَّةِ ما أَمْكَنَ وَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الصِّحَّةِ إلَّا بِثَمَنِ الْعَلَانِيَةِ فَكَأَنَّهُمَا انْصَرَفَا عَمَّا شَرَطَاهُ في الْبَاطِنِ فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ كما لو اتَّفَقَا على أَنْ يَبِيعَاهُ بَيْعَ تَلْجِئَةٍ فَتَوَاهَبَا بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْمَذْكُورَ الْمَشْرُوطَ في السِّرِّ مَذْكُورٌ في الْعَقْدِ وَزِيَادَةٌ فَتَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِهِ
هذا إذَا تَوَاضَعَا في السِّرِّ ولم يَتَعَاقَدَا في السِّرِّ فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا في السِّرِّ بِثَمَنٍ ثُمَّ تَوَاضَعَا على أَنْ يُظْهِرَا الْعَقْدَ بِأَكْثَرَ منه أو بِجِنْسٍ آخَرَ فَإِنْ لم يَقُولَا أن الْعَقْدَ الثَّانِيَ رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَالْعَقْدُ الثَّانِي يَرْفَعُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ وَالثَّمَنُ هو الْمَذْكُورُ في الْعَقْدِ الثَّانِي لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ فَشُرُوعُهُمَا في الْعَقْدِ الثَّانِي إبْطَالٌ لِلْأَوَّلِ فَبَطَلَ الْأَوَّلُ وَانْعَقَدَ الثَّانِي بِمَا سُمِّي عِنْدَهُ
وَإِنْ قَالَا رِيَاءٌ وَسُمْعَةٌ فَإِنْ كان الثَّمَنُ من جِنْسٍ آخَرَ فَالْعَقْدُ هو الْعَقْدُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهُمَا لم يَذْكُرَا الرِّيَاءَ وَالسُّمْعَةَ فَقَدْ أَبْطَلَا الْمُسَمَّى في الْعَقْدِ الثَّانِي فلم يَصِحَّ الْعَقْدُ فَبَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَإِنْ كان من جِنْسِ الْأَوَّلِ فَالْعَقْدُ هو الْعَقْدُ الثَّانِي لِأَنَّ الْبَيْعَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ الْعَقْدُ هو الْعَقْدُ الثَّانِي لَكِنْ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَاهَا حَيْثُ هَزِلَا بها
هذا إذَا تَوَاضَعَا وَاتَّفَقَا في التَّلْجِئَةِ في الْبَيْعِ فَتَبَايَعَا وَهُمَا مُتَّفِقَانِ على ما تَوَاضَعَا فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّلْجِئَةَ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَزَعَمَ أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعُ رَغْبَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُنْكِرِ التَّلْجِئَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ على ما يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ من التَّلْجِئَةِ إذَا طَلَبَ الثَّمَنَ
وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ على التَّلْجِئَةِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشَّرْطَ بِالْبَيِّنَةِ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ كما لو أَثْبَتَ الْخِيَارَ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ هذا التَّفْرِيعُ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمُوَاضَعَةَ السَّابِقَةَ فَأَمَّا على رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ عنه فَلَا يَجِيءُ هذا التَّفْرِيعُ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْعَقْدَ الظَّاهِرَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى هذه الدَّعْوَى لِأَنَّهَا وَإِنْ صَحَّتْ لَا تُؤَثِّرُ في الْبَيْعِ الظَّاهِرِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ فقال على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي جَوَازَ الْبَيْعِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا الْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي التَّلْجِئَةَ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ
وَلَوْ اتَّفَقَا على التَّلْجِئَةِ ثُمَّ قَالَا عِنْدَ الْبَيْعِ كُلُّ شَرْطٍ كان بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ تَبْطُلُ التَّلْجِئَةُ وَيَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ زَائِدٌ فَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ وَمَتَى سَقَطَ صَارَ الْعَقْدُ جَائِزًا إلَّا إذَا اتَّفَقَا عِنْدَ الْمُوَاضَعَةِ وَقَالَا إنَّ ما نَقُولُهُ عِنْدَ الْبَيْعِ أَنَّ
____________________

(5/177)


كُلَّ شَرْطٍ بَيْنَنَا فَهُوَ بَاطِلٌ فَذَلِكَ الْقَوْلُ مِنَّا بَاطِلٌ فإذا قَالَا ذلك لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَنَّ ما يُبْطِلَانِهِ من الشَّرْطِ عَنْدَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ إلَّا إذَا حَكَيَا في الْعَلَانِيَةِ ما قَالَا في السِّرِّ فَقَالَا إنَّا شَرَطْنَا كَذَا وَكَذَا وقد أَبْطَلْنَا ذلك ثُمَّ تَبَايَعَا فَيَجُوزُ الْبَيْعُ ثُمَّ كما لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّلْجِئَةِ لَا يَجُوزُ الْإِقْرَارُ بِالتَّلْجِئَةِ بِأَنْ يَقُولَ لِآخَرَ إنِّي أُقِرُّ لك في الْعَلَانِيَةِ بِمَالِي أو بِدَارِي وَتَوَاضَعَا على فَسَادِ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ حتى لَا يَمْلِكَهُ الْمُقَرُّ له وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ بَعْضَ الْبِيَاعَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا في بَيْعٍ فيه أَجَلٌ فَإِنْ كان مَجْهُولًا لا يَفْسُدُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كانت الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً كَهُبُوبِ الرِّيحِ وَمَطَرِ السَّمَاءِ وَقُدُومِ فُلَانٍ وَمَوْتِهِ وَالْمَيْسَرَةِ وَنَحْوِ ذلك أو مُتَقَارِبَةً كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ وَقُدُومِ الْحَاجِّ وَخُرُوجِهِمْ وَالْجُذَاذِ وَالْجِزَارِ وَالْقِطَافِ وَالْمِيلَادِ وَصَوْمِ النَّصَارَى وَفِطْرِهِمْ قبل دُخُولِهِمْ في صَوْمِهِمْ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ الْأَوَّلَ فيه غَرَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ
وَالنَّوْعُ الثَّانِي ما ( ( ( مما ) ) ) يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ فَيُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ وَلَوْ بَاعَ الْعَيْنَ بِثَمَنِ دَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ جَهَالَةً مُتَقَارِبَةً ثُمَّ أَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ قبل مَحَلِّهِ وَقَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْفَسَادِ جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ لم يَبْطُلْ حتى حَلَّ الْأَجَلُ وَأَخَذَ الناس في الْحَصَادِ ثُمَّ أَبْطَلَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كانت الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً فَأَبْطَلَ الْمُشْتَرِي الْأَجَلَ قبل الِافْتِرَاقِ وَنَقَدَ الثَّمَنَ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَلَوْ افْتَرَقَا قبل الْإِبْطَالِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى هذا إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ولم يُوَقِّتْ لِلْخِيَارِ وَقْتًا مَعْلُومًا بِأَنْ قال أَبَدًا أو أَيَّامًا أو لم يذكر الْوَقْتَ حتى فَسَدَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ
ثُمَّ أن صَاحِبَ الْخِيَارِ أَبْطَلَ خِيَارَهُ قبل مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قبل أَنْ يفسخ ( ( ( يفسد ) ) ) الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ أَبْطَلَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ وَإِنْ وَقَّتَ وَقْتًا مَعْلُومًا بِأَنْ قال أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ أو شهرا ( ( ( شهر ) ) ) فَأَبْطَلَ الْخِيَارَ قبل مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَقَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِأَجْلِ الْفَسَادِ جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا هذا الْخِيَارُ جَائِزٌ وَلَوْ مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ ثُمَّ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ
وَعَلَى هذا لو عَقَدَا عَقْدَ السَّلَمِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ حتى فَسَدَ السَّلَمُ ثُمَّ إنَّ صَاحِبَ الْخِيَارِ أَبْطَلَ خِيَارَهُ قبل الِافْتِرَاقِ جَازَ السَّلَمُ عِنْدَنَا إذَا كان رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا في يَدِهِ وَلَوْ افْتَرَقَا قبل الْإِبْطَالِ ثُمَّ أَبْطَلَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَعَلَى هذا إذ اشْتَرَى ثَوْبًا بِرَقْمِهِ ولم يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي رَقْمَهُ حتى فَسَدَ الْبَيْعُ ثُمَّ عَلِمَ رَقْمَهُ فَإِنْ عَلِمَ قبل الإفتراق وَاخْتَارَ الْبَيْعَ جَازَ الْبَيْعُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَالْأَصْلُ عِنْدَ زُفَرَ أَنَّ الْبَيْعَ إذَا انْعَقَدَ على الْفَسَادِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بَعْدَ ذلك بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْفَسَادِ فَإِنْ كان قَوِيًّا بِأَنْ دخل في صُلْبِ الْعَقْدِ وهو الْبَدَلُ أو الْمُبْدَلُ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ كما قال زُفَرُ إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَطْلٍ من خَمْرٍ فَحَطَّ الْخَمْرَ عن الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان ضَعِيفًا لم يَدْخُلْ في صُلْبِ الْعَقْدِ بَلْ في شَرْطٍ جَائِزٍ يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ خِيَارٍ لم يُوَقَّتْ أو وُقِّتَ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ أو لم يذكر الْوَقْتَ وَكَمَا في بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ على ما ذَكَرْنَا
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في الْعِبَارَةِ عن هذا الْعَقْدِ قال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ أنه انْعَقَدَ فَاسِدًا لَكِنْ فَسَادًا غير مُتَقَرِّرٍ فَإِنْ أَبْطَلَ الشَّرْطَ قبل تَقَرُّرِهِ بِأَنْ لم يَدْخُلْ وَقْتُ الْحَصَادِ أو الْيَوْمُ الرَّابِعُ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ وَإِنْ لم يُبْطِلْ حتى دخل تَقَرَّرَ الْفَسَادُ وهو قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ
وقال مَشَايِخُ خُرَاسَانَ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِمَا وَرَاءَ النَّهْرِ الْعَقْدُ مَوْقُوفٌ إنْ أَسْقَطَ الشَّرْطَ قبل وَقْتِ الْحَصَادِ وَالْيَوْمِ الرَّابِعِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان جَائِزًا من الْأَصْلِ وَإِنْ لم يُسْقِطْ حتى دخل الْيَوْمُ الرَّابِعُ أو أَوَانُ الْحَصَادِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ فَاسِدًا من حِينِ وُجُودِهِ
وَذُكِرَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال قال أبو حَنِيفَةَ لو أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ أَكْثَرَ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ فَإِنْ قال الْمُشْتَرِي قبل مُضِيِّ الثَّلَاثِ أنا أُبْطِلُ خِيَارِي وَاسْتَوْجَبَ الْمَبِيعَ قبل أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ شيئا كان له ذلك وَتَمَّ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ ولم يَكُنْ لِلْبَائِعِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَإِنْ قال الْبَائِعُ قد أَبْطَلْت الْبَيْعَ قبل أَنْ يُبْطِلَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ ولم يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَوْجِبَهُ بَعْدَ ذلك وَأَنْ يُبْطِلَ خِيَارَهُ فَقَدْ نَصَّ على التَّوَقُّفِ وَفَسَّرَهُ حَيْثُ جَعَلَ لِلْبَائِعِ حَقَّ الْفَسْخِ قبل إجَازَةِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا أَمَارَةُ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ
____________________

(5/178)


وَاحِدٍ من الْعَاقِدَيْنِ حَقُّ الْفَسْخَ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ هذا بَيْعٌ انْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ من حِينِ وُجُودِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْقَلِبَ جَائِزًا لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ
وَلِهَذَا لم يَنْقَلِبْ إلَى الْجَوَازِ إذَا دخل الْيَوْمُ الرَّابِعُ أو وَقْتُ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ
وَلَنَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هذا الْعَقْدَ مَوْقُوفٌ لِلْحَالِ لَا يُوصَفُ بِالْفَسَادِ وَلَا بِالصِّحَّةِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا حَقِيقَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ فإذا سَقَطَ قبل دُخُولِ أَوَانِ الْحَصَادِ وَالْيَوْمِ الرَّابِعِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس بِمُفْسِدٍ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما شَرَطَ الْأَجَلَ وَالْخِيَارَ إلَّا إلَى هذا الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا مُفِيدًا لِلْمِلْكِ بِنَفْسِهِ من حِينِ وُجُودِهِ كما لو أَسْقَطَ الْأَجَلَ الصَّحِيحَ وَالْخِيَارَ الصَّحِيحَ وهو خِيَارُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ مُضِيِّ يَوْمٍ وَإِنْ لم يُسْقِطْ حتى مَضَتْ الْأَيَّامُ الثَّلَاثَةُ وَدَخَلَ الْحَصَادُ تَبَيَّنَ أَنَّ الشَّرْطَ كان إلَى هذا الْوَقْتِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ مُفْسِدٌ
وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ في نَفْسِهِ مَشْرُوعٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسَادَ على ما عُرِفَ وَكَذَا أَصْلُ الْأَجَلِ وَالْخِيَارُ لِأَنَّهُ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ وَأَنَّهُ يُوصَفُ الْعَقْدُ بِالْفَسَادِ لِلْحَالِ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِمَعْنًى مُجَاوِرٍ له زَائِدٍ عليه وَعَلَى أَصْلِ الْأَجَلِ وَالْخِيَارِ وهو الْجَهَالَةُ وَزِيَادَةُ الْخِيَارِ على الْمُدَّةِ الْمَشْرُوعَةِ فَإِنْ سَقَطَ قبل دُخُولِ وَقْتِ الْحَصَادِ أو الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَقَدْ أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قبل تَقَرُّرِهِ فَزَالَ الْفَسَادُ فَبَقِيَ الْعَقْدُ مَشْرُوعًا كما كان من غَيْرِ وَصْفِ الْفَسَادِ وإذا دخل الْوَقْتُ فَقَدْ تَقَرَّرَ الْمُفْسِدُ فَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ وَالْفَسَادُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ لَا يَحْتَمِلُ الزَّوَالَ
وَقَوْلُهُ الْعَقْدُ ما وَقَعَ فَاسِدًا من حِينِ وُجُودِهِ قُلْنَا على الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ مَمْنُوعٌ بَلْ هو مَوْقُوفٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي مُسَلَّمٌ لَكِنْ لَا لِعَيْنِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ وهو الشَّرْطُ الْمُجَاوِرُ الْمُفْسِدُ وقد أَسْقَطَ الْمُفْسِدَ قبل تَقَرُّرِهِ فَزَالَ الْفَسَادُ الثَّابِتُ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ فَبَقِيَ مَشْرُوعًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ثُمَّ أَخَّرَ إلَى الْآجَالِ الْمُتَقَارِبَةِ جَازَ التَّأْخِيرُ وَلَوْ أَخَّرَ إلَى الْآجَالِ الْمُتَفَاحِشَةِ لم يَجُزْ وَالدَّيْنُ على حَالِهِ حَالٌّ فَرَّقَ بين التَّأْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ لم ( ( ( ولم ) ) ) يُجَوِّزْ التَّأْجِيلَ إلَى هذه الْآجَالِ أَصْلًا وَجَوَّزَ التَّأْخِيرَ إلَى الْمُتَقَارِبِ منها
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ التَّأْجِيلَ في الْعَقْدِ جَعْلُ الْأَجَلِ شَرْطًا في الْعَقْدِ
وَجَهَالَةُ الْأَجَلِ الْمَشْرُوطِ في الْعَقْدِ وَإِنْ كانت مُتَقَارِبَةً تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
فَأَمَّا التَّأْخِيرُ إلَى الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ جهالة مُتَقَارِبَةً فَلَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الناس يُؤَخِّرُونَ الدُّيُونَ إلَى هذه الْآجَالِ عَادَةً وَمَبْنَى التَّأْخِيرِ على الْمُسَامَحَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُسَامِحُونَ وَلَا يُنَازِعُونَ
وما جَرَتْ الْعَادَةُ منهم بِالتَّأْخِيرِ إلَى آجَالٍ تَفْحُشُ جَهَالَتُهَا بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ لِأَنَّ ما جُعِلَ شَرْطًا في الْبَيْعِ مَبْنَاهُ على الْمُضَايَقَةِ فَالْجَهَالَةُ فيها وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ إلَى الْآجَالِ الْمُتَقَارِبَةِ
وَجَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَيْهَا لِأَنَّ مَبْنَى الْكَفَالَةِ على الْمُسَامَحَةِ
فإن الْمَكْفُولَ له لَا يُضَيِّقُ الْأَمْرَ على الْكَفِيلِ عَادَةً لِأَنَّ له سَبِيلَ الْوُصُولِ إلَى الدَّيْنِ من جِهَةِ الْأَصِيلِ
فَالتَّأْجِيلُ إلَيْهَا لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ
فإن الْجَهَالَةَ في بَابِ الْبَيْعِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَكَانَتْ مُفْسِدَةً لِلْبَيْعِ
وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِثَمَنِ دَيْنٍ على أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ في مِصْرٍ آخَرَ
فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مِمَّا لا حَمْلَ له وَلَا مُؤْنَةَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَعَلَى كل ذلك لَا يَخْلُو من أَنْ ضَرَبَ له الْأَجَلَ أو لم يَضْرِبْ فَإِنْ لم يَضْرِبْ له الْأَجَلَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أو لم يَكُنْ لِأَنَّهُ إذَا لم يَضْرِبْ له الْأَجَلَ كان شَرْطُ التَّسْلِيمِ في مَوْضِعٍ على سَبِيلِ التَّأْجِيلِ وَأَنَّهُ أَجَلٌ مَجْهُولٌ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان لَا حَمْلَ له وَلَا مُؤْنَةَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ شَرْطَ التَّأْجِيلِ في مَكَان آخَرَ ليس بِتَأْجِيلٍ حَقِيقَةً بَلْ هو تَخْصِيصُ التَّسْلِيمِ بِمَكَانٍ آخَرَ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَيُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على تَسْلِيمِ الثَّمَنِ في أَيِّ مَوْضِعٍ طَالَبَهُ
وَإِنْ ضَرَبَ له أَجَلًا على أَنْ يُسَلِّمَ إلَيْهِ الثَّمَنَ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ في مِصْرٍ آخَرَ فَإِنْ كان الْأَجَلُ مِقْدَارَ ما لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ في قَدْرِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ إذَا كان لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فيه إلَى الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ صَارَ كَأَنْ لم يَضْرِبْ وَإِنْ كان ضَرَبَ أَجَلًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فيه إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ وَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ إذَا ضَرَبَ له أَجَلًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ فيه إلَى ذلك الْمَكَانِ عُلِمَ أَنَّ شَرْطَ التَّسْلِيمِ في ذلك الْمَكَانِ لم يَكُنْ على سَبِيلِ التَّأْجِيلِ بَلْ على تَخْصِيصِ ذلك الْمَكَانِ بِالتَّسْلِيمِ فيه فإذا حَلَّ الْأَجَلُ وَطَالَبَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ في
____________________

(5/179)


غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ يُنْظَرُ إنْ كان الثَّمَنُ مِمَّا ليس له حَمْلٌ وَلَا مُؤْنَةٌ يُجْبَرُ الْمُشْتَرِي على تَسْلِيمِهِ في أَيِّ مَوْضِعٍ طَالَبَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ وَإِنْ كان الثَّمَنُ له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُجْبَرُ على تَسْلِيمِهِ إلَّا في الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ
وَكَذَلِكَ لو أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَهُ في غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ وَأَبَى الْبَائِعُ ذلك إلَّا في الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ وَلَوْ كان الثَّمَنُ عَيْنًا فَشَرَطَ تَسْلِيمَهُ في مِصْرٍ آخَرَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ سَوَاءٌ شَرَطَ الْأَجَلَ أو لم يَشْرُطْ لِأَنَّ فيه غَرَرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْقَبْضُ في بَيْعِ الْمُشْتَرِي الْمَنْقُولَ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) ) والسلام نهى عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ وَالنَّهْيُ يُوجِبُ فَسَادَ الْمَنْهِيِّ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ فيه غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه لِأَنَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَعْقُودُ عليه قبل الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ فَيَنْفَسِخُ الثَّانِي لِأَنَّهُ بَنَاهُ على الْأَوَّلِ وقد نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن بَيْعٍ فيه غَرَرٌ وَسَوَاءٌ بَاعَهُ من غَيْرِ بَائِعِهِ أو من بَائِعِهِ لِأَنَّ النَّهْيَ مُطْلَقٌ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْبَيْعِ من غَيْرِ بَائِعِهِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ من بَائِعِهِ وَكَذَا مَعْنَى الْغَرَرِ لَا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا فَلَا يَصِحُّ الثَّانِي وَالْأَوَّلُ على حَالِهِ وَلَا يَجُوزُ إشْرَاكُهُ وَتَوْلِيَتُهُ لِأَنَّ كُلَّ ذلك بَيْعٌ
وَلَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْمَبِيعِ دُونَ النِّصْفِ فَأَشْرَكَ رَجُلًا لم يَجُزْ فِيمَا لم يَقْبِضْ وَجَازَ فِيمَا قَبَضَ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ نَوْعُ بَيْعٍ وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ فلم يَكُنْ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ مَحَلًّا له شَرْعًا فلم يَصِحَّ في غَيْرِ الْمَقْبُوضِ وَصَحَّ في قَدْرِ الْمَقْبُوضِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عليه وَلَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ وَمِلْكُ الْمَنْفَعَةِ تَابِعٌ لِمِلْكِ الْعَيْنِ وَلَا يَجُوزُ فيه تَمْلِيكُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَمَكَّنُ فيه غَرَرُ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه
وَلِأَنَّ ما رَوَيْنَا من النَّهْيِ يَتَنَاوَلُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا نَوْعُ بَيْعٍ وهو بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ
وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ بِعِوَضٍ وَغَيْرِ عِوَضٍ
وَكَذَا تَدْبِيرُهُ وَاسْتِيلَادُهُ بِأَنْ كانت أَمَةً فَأَقَرَّ أنها كانت وَلَدَتْ له لِأَنَّ جَوَازَ هذه التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ قِيَامَ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وقد وُجِدَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإن صِحَّتَهُ تَفْتَقِرُ إلَى مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جميعا لِافْتِقَارِهِ إلَى التَّسْلِيمِ
وَكَذَا الْإِجَارَةُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ
وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْقَبْضُ وَبِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَصِيرُ قَابِضًا على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلِأَنَّ الْفَسَادَ لِتَمَكُّنِ الْغَرَرِ وهو غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه لِمَا نَذْكُرُهُ
وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ فلم يُوجَدْ فَلَزِمَ الْجَوَازُ بِدَلِيلِهِ
وَهَلْ تَجُوزُ كِتَابَتُهُ لَا رِوَايَةَ فيه عن أَصْحَابِنَا فَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَالَ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا على الْبَيْعِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالْإِقَالَةَ
وَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ يَجُوزُ فَرْقًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَيْعِ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ إضْرَارًا من الْبَيْعِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ إذَا كَاتَبَهُ الْمُشْتَرِي قبل الْقَبْضِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُبْطِلَهُ فَإِنْ لم يُبْطِلْهُ حتى نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ جَازَتْ الْكِتَابَةُ ذَكَرَهَا في الْعُيُونِ وَلَوْ وَهَبَهُ من الْبَائِعِ فَإِنْ لم يَقْبَلْهُ لم تَصِحَّ الْهِبَةُ وَالْبَيْعُ على حَالِهِ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ بِدُونِ الْقَبُولِ فَإِنْ قَبِلَهُ الْبَائِعُ لم تَجُزْ الْهِبَةُ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَالْبَيْعِ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ إقَالَةً لِلْبَيْعِ فَرَّقَ بين الْهِبَةِ من الْبَائِعِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ منه حَيْثُ جَعَلَ الْهِبَةَ منه إقَالَةً دُونَ الْبَيْعِ منه
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بين الْهِبَةِ وَالْإِقَالَةِ مُقَارَبَةً فإن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْتَعْمَلُ في إلْحَاقِ ما سَلَفَ بِالْعَدَمِ يُقَالُ وَهَبْتُ مِنْك جَرِيمَتَك كما يُقَالُ أَقَلْتُ عَثْرَتَك أو جَعَلْت ذلك كَالْعَدَمِ في حَقِّ الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَكَانَ الْآخَرِ فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عن الْإِقَالَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِقَالَةِ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ مَجَازًا عنها فَوَقَعَ لَغْوًا وَكَذَلِكَ لو تَصَدَّقَ بِهِ عليه فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا
وَلَوْ وَهَبَ لِغَيْرِ الْبَائِعِ أو تَصَدَّقَ بِهِ على غَيْرِ الْبَائِعِ وَأَمَرَ بِالْقَبْضِ من الْبَائِعِ أو رَهَنَهُ عِنْدَ آخَرَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَ من الْبَائِعِ فَقَبَضَهُ بِأَمْرِهِ أو ( ( ( وأقرضه ) ) ) أقرضه وَأَمَرَهُ بِالْقَبْضِ لم تَجُزْ هذه الْعُقُودُ كُلُّهَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ جَازَتْ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن صِحَّةَ هذه الْعُقُودِ بِالْقَبْضِ فإذا أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فَقَدْ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ في الْقَبْضِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ له فإذا قَبَضَ بِأَمْرِهِ يَصِيرُ قَابِضًا عنه أَوَّلًا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَيَصِحُّ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جَوَازَ هذه الْعُقُودِ مَبْنِيٌّ على الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وهو مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَالْيَدِ جميعا لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الْأَمْنُ عن غَرَرِ الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه وَغَرَرُ الِانْفِسَاخِ هَهُنَا ثَابِتٌ فلم يَكُنْ الْمِلْكُ مُطْلَقًا فلم يَجُزْ
وَلَوْ أَوْصَى بِهِ لِرَجُلٍ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ
وَلَوْ مَاتَ قبل الْقَبْضِ صَارَ ذلك مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ كَذَا الْوَصِيَّةُ
وَلَوْ قال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ بِعْهُ لي لم يَكُنْ نَقْضًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ بَاعَهُ لم يَجُزْ بَيْعُهُ
وَلَوْ قال بِعْهُ لِنَفْسِك كان نَقْضًا بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ قال بِعْهُ مُطْلَقًا كان نَقْضًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَكُونُ نَقْضًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إطْلَاقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ لِلْآمِرِ
____________________

(5/180)


لَا لِلْمَأْمُورِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له لَا لِلْمَأْمُورِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال له بِعْهُ لي
وَلَوْ نَصَّ عليه لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِبَيْعٍ فَاسِدٍ فَكَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ يُحْمَلُ على بَيْعٍ صَحِيحٍ يصح ( ( ( صح ) ) )
وَلَوْ حَمَلْنَاهُ على الْبَيْعِ لِلْآمِرِ لَمَا صَحَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَمْرًا بِبَيْعِ من لَا يَمْلِكُ بِنَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ فَيُحْمَلُ على الْبَيْعِ لِنَفْسِهِ كَأَنَّهُ نَصَّ عليه فقال بِعْهُ لِنَفْسِك وَلَا يَتَحَقَّقُ الْبَيْعُ لِنَفْسِهِ إلَّا بَعْدَ انْفِسَاخِ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَيَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ لِنَفْسِهِ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَيَنْفَسِخُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ كما في قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي على أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَلَوْ قال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ أَعْتِقْهُ فَأَعْتَقَهُ الْبَائِعُ فَإِعْتَاقُهُ جَائِزٌ عن نَفْسِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ إعْتَاقُهُ بَاطِلٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْإِعْتَاقِ عن الأمر لَا عن نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْآمِرِ وَالْإِعْتَاقُ عنه بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ وَالْبَائِعُ لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عن الْمُشْتَرِي في الْقَبْضِ عنه فَلَا يَصْلُحُ نَائِبًا عنه في الْإِعْتَاقِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِعْتَاقِ يُحْمَلُ على وَجْهٍ يَصِحُّ
وَلَوْ حُمِلَ على الْإِعْتَاقِ عن الْآمِرِ لم يَصِحَّ لِمَا ذَكَرْتُمْ فَيُحْمَلُ على الْإِعْتَاقِ عن نَفْسِهِ
فإذا أَعْتَقَ يَقَعُ عنه
وَأَمَّا بَيْعُ الْمُشْتَرِي الْعَقَارَ قبل الْقَبْضِ
فَجَائِزٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ قِيَاسًا
وَاحْتَجُّوا بِعُمُومِ النَّهْيِ الذي رَوَيْنَا
وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ على الْقَبْضِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا قُدْرَةَ إلَّا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَفِيهِ غَرَرٌ
وَلَهُمَا عُمُومَاتُ الْبِيَاعَاتِ من الْكِتَابِ الْعَزِيزِ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ
وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ الْكِتَابِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ عِنْدَنَا أو نَحْمِلُهُ على الْمَنْقُولِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في رُكْنِ الْبَيْعِ إذَا صَدَرَ من الْأَهْلِ في الْمَحَلِّ هو الصِّحَّةُ وَالِامْتِنَاعُ لِعَارِضِ الْغَرَرِ وهو غَرَرُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه وَلَا يُتَوَهَّمُ هَلَاكُ الْعَقَارِ فَلَا يَتَقَرَّرُ الْغَرَرُ فَبَقِيَ بَيْعُهُ على حُكْمِ الْأَصْلِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُشْتَرِي الْمَنْقُولَ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأُجْرَةِ الْمَنْقُولَةِ قبل الْقَبْضِ إذَا كانت عَيْنًا وَبَدَلِ الصُّلْحِ الْمَنْقُولِ إذَا كان عَيْنًا
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ ينسخ ( ( ( ينفسخ ) ) ) فيه الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه كَالْمَبِيعِ وَالْأُجْرَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ إذَا كان مَنْقُولًا مُعَيَّنًا وَكُلُّ عِوَضٍ مُلِكَ بِعَقْدٍ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فيه بِهَلَاكِهِ قبل الْقَبْضِ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الْعِتْقِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَفِقْهُ هذا الْأَصْلِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ هو الصِّحَّةُ في التَّصَرُّفِ الصَّادِرِ من الْأَهْلِ الْمُضَافِ إلَى الْمَحَلِّ وَالْفَسَادُ بِعَارِضٍ غَرَرُ الِانْفِسَاخِ وَلَا يُتَوَهَّمُ ذلك في هذه التَّصَرُّفَاتِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ هذه التَّصَرُّفَاتِ عَمَلًا بِالْأَصْلِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ مَعْنَى الْغَرَرِ لَا يَتَقَرَّرُ فيه وَلِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمَيِّتَ في مِلْكِ الْمَوْرُوثِ وَخَلَفُ الشَّيْءِ قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو فكان الْمُوَرِّثَ قَائِمٌ وَلَوْ كان قَائِمًا لَجَازَ تَصَرُّفُهُ فيه كَذَا الْوَارِثُ
وَكَذَلِكَ الْمُوصَى بِهِ بِأَنْ أَوْصَى إلَى إنْسَانٍ بِشَيْءٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَلِلْمُوصَى له أَنْ يَتَصَرَّفَ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمِيرَاثِ قبل الْقَبْضِ فَكَذَا في الْمُوصَى بِهِ وَهَلْ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَقْسُومِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قبل الْقَبْضِ يُنْظَرُ إنْ كان ما وَقَعَ عليه الْقِسْمَةُ مِمَّا يُجْبَرُ عليه الشُّرَكَاءُ إذَا طَلَبَهَا وَاحِدٌ منهم جَازَ لِوَاحِدٍ منهم أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ قبل الْقَبْضِ سَوَاءٌ كان مَنْقُولًا أو غير مَنْقُولٍ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في مِثْلِهِ إفْرَازٌ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يُجْبَرُ عليه الشُّرَكَاءُ عِنْدَ طَلَبِ وَاحِدٍ منهم كَالْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالرَّقِيقِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ إنْ كان مَنْقُولًا وَإِنْ كان عَقَارًا فَعَلَى الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا لِأَنَّ قِسْمَةَ هذه الْأَشْيَاءِ فيها مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَتُشْبِهُ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عز اسْمُهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيْعُ الدَّيْنِ قبل الْقَبْضِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الدُّيُونُ أَنْوَاعٌ منها ما لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ وَمِنْهَا ما يَجُوزُ أَمَّا الذي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ فَنَحْوُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لِعُمُومِ النَّهْيِ وَلِأَنَّ قَبْضَهُ في الْمَجْلِسِ شَرْطٌ وَبِالْبَيْعِ يَفُوتُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً وَكَذَا الْمُسَلَّمُ فيه لِأَنَّهُ مَبِيعٌ لم يُقْبَضْ وَكَذَا لو بَاعَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجُوزَ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ ارْتَفَعَ بِالْإِقَالَةِ لِأَنَّهَا فَسْخٌ وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ من الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وإذا ارْتَفَعَ الْعَقْدُ من الْأَصْلِ عَادَ رَأْسُ الْمَالِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ رَبِّ الْمَالِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِبْدَالِ كما كان قبل السَّلَمِ وَلِهَذَا يَجِبُ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ
____________________

(5/181)


الْإِقَالَةِ في مَجْلِسِ الإقال ( ( ( الإقالة ) ) )
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ عُمُومُ النَّهْيِ الذي رَوَيْنَا إلَّا من حَيْثُ خُصَّ بِدَلِيلٍ وفي الْبَابِ نَصٌّ خَاصٌّ وهو ما رَوَى أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لِرَبِّ السَّلَمِ لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أو رَأْسَ مَالِك
وفي رِوَايَةٍ خُذْ سَلَمَك أو رَأْسَ مَالِك
نهى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَبَّ السَّلَمِ عن الْأَخْذِ عَامًّا وَاسْتَثْنَى أَخْذَ السَّلَمِ أو رَأْسَ الْمَالِ فَبَقِيَ أَخْذُ ما وَرَاءَهُمَا على أَصْلِ النَّهْيِ
وَكَذَا إذَا انْفَسَخَ السَّلَمُ بَعْدَ صِحَّتِهِ لِمَعْنًى عَارِضٍ نحو ذِمِّيٍّ أَسْلَمَ إلَى ذِمِّيٍّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في خَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قبل قَبْضِ الْخَمْرِ حتى بَطَلَ السَّلَمُ وَوَجَبَ على الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ الِاسْتِبْدَالُ اسْتِحْسَانًا لِمَا رَوَيْنَا
وَلَوْ كان السَّلَمُ فَاسِدًا من الْأَصْلِ وَوَجَبَ على الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ رَدُّ رَأْسِ الْمَالِ لِفَسَادِ السَّلَمِ يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ لِأَنَّ السَّلَمَ إذَا كان فَاسِدًا في الْأَصْلِ لَا يَكُونُ له حُكْمُ السَّلَمِ فَكَانَ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ من الْقَرْضِ وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ
وَأَمَّا بَدَلُ الصَّرْفِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ في الِابْتِدَاءِ وهو حَالُ بَقَاءِ الْعَقْدِ وَيَجُوزُ في الِانْتِهَاءِ وهو ما بَعْدَ الْإِقَالَةِ بِخِلَافِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فإنه لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ في الْحَالَيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقِيَاسَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ في الناس جميعا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ وَفَسْخُ الْعَقْدِ رَفْعُهُ من الْأَصْلِ كَأَنْ لم يَكُنْ وَلَوْ لم يَكُنْ الْعَقْدُ لَجَازَ الِاسْتِبْدَالُ فَكَذَا إذَا رُفِعَ وَأُلْحِقَ بِالْعَدَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الِاسْتِبْدَالُ فِيهِمَا جميعا إلَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ في بَابِ السَّلَمِ ثَبَتَتْ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وهو ما رَوَيْنَا وَالنَّصُّ وَرَدَ في السَّلَمِ فَبَقِيَ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ في الصَّرْفِ على الْأَصْلِ
وَكَذَا الثِّيَابُ الْمَوْصُوفَةُ في الذِّمَّةِ الْمُؤَجَّلَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قبل الْقَبْضِ لِلنَّهْيِ سَوَاءٌ كان ثُبُوتُهَا في الذِّمَّةِ بِعَقْدِ السَّلَمِ أو غَيْرِهِ لِأَنَّ الثِّيَابَ كما تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةٌ بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةً لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ بِأَنْ بَاعَ عَبْدًا بِثَوْبِ مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ فإنه يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَكُونُ جَوَازُهُ بِطَرِيقِ السَّلَمِ بِدَلِيلٍ أَنَّ قَبْضَ الْعَبْدِ ليس بِشَرْطٍ وَقَبْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ
وَكَذَا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ بِثَوْبٍ مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ جَازَتْ الْإِجَارَةُ وَلَا يَكُونُ سَلَمًا وَكَذَا لو ادَّعَى عَيْنًا في يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ من دَعْوَاهُ على ثَوْبٍ مَوْصُوفٍ في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ جَازَ الصُّلْحُ وَلَا يَكُونُ هذا سَلَمًا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كما لَا يَجُوزُ بِالْمُسَلَّمِ فيه وَإِنْ لم يَكُنْ ثُبُوتُهُ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَهَذِهِ جُمْلَةُ الدُّيُونِ التي لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قبل الْقَبْضِ وما سِوَاهَا من ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَالْقَرْضِ وَقِيمَةِ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ وَنَحْوِهَا فَيَجُوزُ بَيْعُهَا مِمَّنْ عليه قبل الْقَبْضِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَمَنُ الْمَبِيعِ إذَا كان عَيْنًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كان دَيْنًا لَا يَجُوزُ في أَحَدِ قَوْلَيْهِ أَيْضًا بِنَاءً على أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمُثَمَّنَ عِنْدَهُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ يَقَعَانِ على مُسَمًّى وَاحِدٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا فَكَانَ بَيْعُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَكَذَا النَّهْيُ عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ عَامٌّ لَا يَفْصِلُ بين الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
وَأَمَّا على أَصْلِنَا فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ في الْأَصْلِ يَقَعَانِ على مَعْنَيَيْنِ مُتَبَايِنَيْنِ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في مَوْضِعِهِ وَلَا حُجَّةَ له في عُمُومِ النَّهْيِ لِأَنَّ بَيْعَ ثَمَنِ الْمَبِيعِ مِمَّنْ عليه صَارَ مَخْصُوصًا بِحَدِيثِ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما على ما نَذْكُرُهُ
وَأَمَّا بَيْعُ هذه الدُّيُونِ من غَيْرِ من عليه وَالشِّرَاءُ بها من غَيْرِ من عليه فَيُنْظَرُ إنْ أَضَافَ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ إلَى الدَّيْنِ لم يَجُزْ بِأَنْ يَقُولَ لِغَيْرِهِ بِعْت مِنْك الدَّيْنَ الذي في ذِمَّةِ فُلَانٍ بِكَذَا أو يَقُولَ اشْتَرَيْت مِنْك هذا الشَّيْءَ بِالدَّيْنِ الذي في ذِمَّةِ فُلَانٍ لِأَنَّ ما في ذِمَّةِ فُلَانٍ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ في حَقِّهِ وَالْقُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ على ما مَرَّ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عليه الدَّيْنُ لِأَنَّ ما في ذِمَّتِهِ مُسَلَّمٌ له وَإِنْ لم يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ الذي عليه جَازَ
وَلَوْ اشْتَرَى شيئا بِثَمَنِ دَيْنٍ ولم يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الدَّيْنِ حتى جَازَ ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ على غَرِيمِهِ بِدَيْنِهِ الذي له عليه جَازَتْ الْحَوَالَةُ سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ الذي أُحِيلَ بِهِ دَيْنًا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ أو لَا يَجُوزُ كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِدَيْنٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قبل الْقَبْضِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هذا تَوْكِيلٌ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فإن الْمُحَالَ له يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلْمُحِيلِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ من الْمُحْتَالِ له وَالتَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ جَائِزٌ أَيُّ دَيْنٍ كان وَيَكُونُ قَبْضُ وَكِيلِهِ كَقَبْضِ مُوَكِّلِهِ
وَلَوْ بَاعَ هذا الدَّيْنَ مِمَّنْ عليه الدَّيْنُ جَازَ بِأَنْ اشْتَرَى منه شيئا بِعَيْنِهِ بِدَيْنِهِ الذي له في ذِمَّتِهِ لِأَنَّهُ بَاعَ ما هو مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ الشِّرَاءِ لِأَنَّ ذِمَّتَهُ في
____________________

(5/182)


يَدِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَكَذَا إذَا صَالَحَ معه من دَيْنِهِ على شَيْءٍ بِعَيْنِهِ جَازَ الصُّلْحُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ مَنْطُوقًا بِهِ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْمُبَادَلَةِ وَهِيَ الْمُبَادَلَةُ الْقَوْلِيَّةُ فَإِنْ كان مَسْكُوتًا عنه فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ بِأَنْ قال بِعْت مِنْك هذا الْعَبْدَ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ فقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ في اللُّغَةِ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ وفي الشَّرْعِ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فإذا لم يَكُنْ الْبَدَلُ مَنْطُوقًا بِهِ وَلَا بِيعَ بِدُونِ الْبَدَلِ إذْ هو مُبَادَلَةٌ كان بَدَلُهُ قِيمَتَهُ فَكَانَ هذا بَيْعُ الْعَبْدِ بِقِيمَتِهِ وَأَنَّهُ فَاسِدٌ وَهَكَذَا السَّبِيلُ في الْبِيَاعَاتِ الْفَاسِدَةِ أنها تَكُونُ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ على ما نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ
هذا إذَا سَكَتَ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا نَفَاهُ صَرِيحًا بِأَنْ قال بِعْتُك هذا الْعَبْدَ بِغَيْرِ ثَمَنٍ أو بِلَا ثَمَنٍ فقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ هذا وَالسُّكُوتُ عن الثَّمَنِ سَوَاءٌ وَالْبَيْعُ فَاسِدٌ وقال بَعْضُهُمْ الْبَيْعُ بَاطِلٌ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ أَنَّ قَوْلَهُ بِلَا ثَمَنٍ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْبَدَلِ فإذا قال بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَقَدْ نَفَى ماأثبته فَبَطَلَ قَوْلُهُ بِلَا ثَمَنٍ وَبَقِيَ قَوْلُهُ بِعْت مَسْكُوتًا عن ذِكْرِ الثَّمَنِ فَكَأَنَّهُ بَاعَ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ
وَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِينَ أَنَّ عِنْدَ السُّكُوتِ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ يَصِيرُ الْبَدَلُ مَذْكُورًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فإذا نَصَّ على نَفْيِ الثَّمَنِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ فلم يَكُنْ هذا بَيْعًا أَصْلًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْخُلُوُّ عن الرِّبَا وَإِنْ شِئْت قُلْت
وَمِنْهَا الْمُمَاثَلَةُ بين الْبَدَلَيْنِ في أَمْوَالِ الرِّبَا حتى لو انْتَفَتْ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبًا وَالْبَيْعُ الذي فيه رِبًا فَاسِدٌ لِأَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ قال اللَّه عز وجل { وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَالْكَلَامُ في مَسَائِلِ الرِّبَا في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ الرِّبَا في عُرْفِ الشَّرْعِ أَنَّهُ ما هو وَالثَّانِي في بَيَانِ عِلَّتِهِ أنها ما هِيَ وَالثَّالِثُ في بَيَانِ شَرْطِ جَرَيَانِ الرِّبَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالرِّبَا في عُرْفِ الشَّرْعِ نَوْعَانِ رِبَا الْفَضْلِ وَرِبَا النَّسَاءِ
أَمَّا رِبَا الْفَضْلِ فَهُوَ زِيَادَةُ عَيْنِ مَالٍ شُرِطَتْ في عَقْدِ الْبَيْعِ على الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وهو الْكَيْلُ أو الْوَزْنُ في الْجِنْسِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هو زِيَادَةٌ مُطْلَقَةٌ في الْمَطْعُومِ خَاصَّةً عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ خَاصَّةً
وَأَمَّا رِبَا النَّسَاءِ فَهُوَ فَضْلُ الْحُلُولِ على الْأَجَلِ وَفَضْلُ الْعَيْنِ على الدَّيْنِ في الْمَكِيلَيْنِ أو الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أو في غَيْرِ الْمَكِيلَيْنِ أو الْمَوْزُونَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو فَضْلُ الْحُلُولِ على الْأَجَلِ في الْمَطْعُومَاتِ وَالْأَثْمَانِ خَاصَّةً وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو بَيَانُ الْعِلَّةِ فَنَقُولُ الْأَصْلُ الْمَعْلُولُ في هذا الْبَابِ بِإِجْمَاعِ الْقَائِسِينَ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو ما رَوَى أبو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعُبَادَةُ بن الصَّامِتِ رضي اللَّهُ عنهما عن النبي أَنَّهُ قال الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفَضْلُ رِبًا أَيْ بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ
وَرُوِيَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ بِالرَّفْعِ أَيْ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَدٌ بِيَدٍ جَائِزٌ فَهَذَا النَّصُّ مَعْلُولٌ بِاتِّفَاقِ الْقَائِسِينَ غير أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في الْعِلَّةِ قال أَصْحَابُنَا عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ في الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْمَنْصُوصِ عليها الْكَيْلُ مع الْجِنْسِ وفي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والوزن ( ( ( الوزن ) ) ) مع الْجِنْسِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْعِلَّةُ إلَّا بِاجْتِمَاعِ الْوَصْفَيْنِ وَهُمَا الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ هِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ
أما الْكَيْلُ أو الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ أو الْجِنْسُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ في الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الطُّعْمُ وفي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةَ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ هُمَا غَيْرُ مَعْلُولَيْنِ وَعِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ ما هو عِلَّةُ رِبَا الْفَضْلِ وَهِيَ الطُّعْمُ في الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةُ في الْأَثْمَانِ دُونَ الْجِنْسِ إذْ الْأَصْلُ عِنْدَهُ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ
وَأَمَّا التَّسَاوِي في الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مع الْيَدِ مُخَلَّصٌ من الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ لِإِثْبَاتِ هذا الْأَصْلِ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ
هذا الْأَصْلُ يَدُلُّ على أَنَّ الْأَصْلَ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ وَإِنَّمَا الْجَوَازُ بِعَارِضِ التَّسَاوِي في الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُطْلَقًا وَاسْتَثْنَى حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ فَيَدُلُّ على أَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ في بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا على جَعْلِ الطَّعْمِ عِلَّةً لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْحُكْمَ عَقِيبَ اسْمٍ مُشْتَقٍّ من مَعْنًى
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ عَقِيبَ اسْمٍ مُشْتَقٍّ من مَعْنًى يَصِيرُ مَوْضِعُ الِاشْتِقَاقِ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }
____________________

(5/183)


وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَالطَّعَامُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ من الطُّعْمِ فَيَدُلُّ على كَوْنِ الطُّعْمِ عِلَّةً وَلِأَنَّ الْعِلَّةَ اسْمٌ لِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ في الْحُكْمِ وَوَصْفُ الطُّعْمِ مُؤَثِّرٌ في حُرْمَةِ بَيْعِ الْمَطْعُومِ وَالْحُكْمُ مَتَى ثَبَتَ عَقِيبَ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ يُحَالُّ إلَيْهِ كما في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِ ذلك
وَبَيَانُ تَأْثِيرِ الطُّعْمِ أَنَّهُ وَصْفٌ ينبىء عن الْعِزَّةِ وَالشَّرَفِ لِكَوْنِهِ مُتَعَلِّقَ الْبَقَاءِ وَهَذَا يُشْعِرُ بِعِزَّتِهِ وَشَرَفِهِ فَيَجِبُ أظهار عِزَّتِهِ وَشَرَفِهِ وَذَلِكَ في تَحْرِيمِ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ وَتَعْلِيقِ جَوَازِهِ بِشَرْطَيْ التَّسَاوِي في الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَالْيَدِ لِأَنَّ في تَعَلُّقِهِ بِشَرْطَيْنِ تَضْيِيقَ طَرِيقِ إصَابَتِهِ وما ضَاقَ بطريق ( ( ( طريق ) ) ) إصَابَتِهِ يَعِزُّ وُجُودُهُ فَيَعِزُّ إمْسَاكُهُ وَلَا يَهُونُ في عَيْنِ صَاحِبِهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فيه هو الْحَظْرُ وَلِهَذَا كان الْأَصْلُ في الْأَبْضَاعِ الْحُرْمَةَ وَالْحَظْرَ وَالْجَوَازَ بِشَرْطَيْ الشَّهَادَةِ وَالْوَلِيِّ إظْهَارًا لِشَرَفِهَا لِكَوْنِهَا مَنْشَأَ الْبَشَرِ الَّذِينَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ في الْعَالَمِ وَبِهِمْ قِوَامُهَا وَالْأَبْضَاعُ وَسِيلَةٌ إلَى وُجُودِ الْجِنْسِ وَالْقُوتُ وَسِيلَةٌ إلَى بَقَاءِ الْجِنْسِ فَكَانَ الْأَصْلُ فيها الْحَظْرَ وَالْجَوَازَ بِشَرْطَيْنِ لِيَعِزَّ وُجُودُهُ وَلَا تَتَيَسَّرُ إصَابَتُهُ فَلَا يَهُونُ إمْسَاكُهُ فَكَذَا هذا
وَكَذَا الْأَصْلُ في بَيْعِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِجِنْسِهِمَا هو الْحُرْمَةُ لِكَوْنِهِمَا أَثْمَانَ الْأَشْيَاءِ فيها وَعَلَيْهَا فَكَانَ قِوَامَ الْأَمْوَالِ وَالْحَيَاةِ بها فَيَجِبُ إظْهَارُ شَرَفِهَا في الشَّرْعِ بِمَا قُلْنَا وَلَنَا في إثْبَاتِ الْأَصْلِ إشَارَاتُ النُّصُوصِ من الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِدْلَالِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا من الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلَا تَبْخَسُوا الناس أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا في الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا الناس أَشْيَاءَهُمْ } { وَلَا تفسدوا ( ( ( تعثوا ) ) ) في الْأَرْضِ بعد ( ( ( مفسدين ) ) ) إصلاحها } جَعَلَ حُرْمَةَ الرِّبَا بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الطُّعْمِ فَدَلَّ على أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا على الناس يَسْتَوْفُونَ وإذا كَالُوهُمْ أو وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أَلْحَقَ الْوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِالتَّطْفِيفِ في الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمَطْعُومِ وَغَيْرِهِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ أَنَّ عَامِلَ خَيْبَرَ أَهْدَى إلَى رسول اللَّهِ تمر جَنِيبًا فقال أو كل تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا فقال لَا وَلَكِنِّي أَعْطَيْتُ صَاعَيْنِ وَأَخَذْتُ صَاعًا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرْبَيْت هَلَّا بِعْتَ تَمْرَكَ بِسِلْعَةٍ ثُمَّ ابْتَعْتَ بِسِلْعَتِك تَمْرًا وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ وَأَرَادَ بِهِ الْمَوْزُونَ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِمُجَاوِرَةٍ بَيْنَهُمَا مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمَطْعُومِ وَغَيْرِ الْمَطْعُومِ وَكَذَا رَوَى مَالِكُ بن أَنَسٍ وَمُحَمَّدُ بن إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيُّ بإسنادها ( ( ( بإسنادهما ) ) ) الحديث الْمَشْهُورَ الذي رَوَاهُ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْبُيُوعِ عن النبي أَنَّهُ قال في أخره وَكَذَلِكَ كُلُّ ما يُكَالُ أو يُوزَنُ
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال فَهُوَ أَنَّ الْفَضْلَ على الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ من الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ في الْجِنْسِ إنَّمَا كان رِبًا في الْمَطْعُومَاتِ وَالْأَثْمَانِ من الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ الْمَنْصُوصِ عليها لِكَوْنِهِ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عن الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وقد وُجِدَ في الْجَصِّ وَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهِمَا فَوُرُودُ الشَّرْعِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا ههنا ( ( ( هنا ) ) ) دَلَالَةً
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْبَيْعَ لُغَةً وَشَرْعًا مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَهَذَا يَقْتَضِي التَّسَاوِي في الْبَدَلَيْنِ على وَجْهٍ لَا يَخْلُو كُلُّ جُزْءٍ من الْبَدَلِ من هذا الْجَانِبِ عن الْبَدَلِ من ذلك الْجَانِبِ لِأَنَّ هذا هو حَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ بَيْعَ مَالِ الْيَتِيمِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ وَلَا يَصِحُّ من الْمَرِيضِ إلَّا من الثُّلُثِ وَالْقَفِيزُ من الْحِنْطَةِ مِثْلُ الْقَفِيزِ من الْحِنْطَةِ صُورَةً وَمَعْنًى وَكَذَلِكَ الدِّينَارُ مع الدِّينَارِ
أَمَّا الصُّورَةُ فَلِأَنَّهُمَا مُتَمَاثِلَانِ في الْقَدْرِ وَأَمَّا المعنى ( ( ( معنى ) ) ) فإن الْمُجَانَسَةَ في الْأَمْوَالِ عِبَارَةٌ عن تَقَارُبِ الْمَالِيَّةِ فَكَانَ الْقَفِيزُ مِثْلًا لِلْقَفِيزِ وَالدِّينَارُ مِثْلًا لِلدِّينَارِ وَلِهَذَا لو أَتْلَفَ على آخَرَ قَفِيزًا من حِنْطَةٍ يَلْزَمُهُ فقيز ( ( ( قفيز ) ) ) مِثْلُهُ وَلَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وإذا كان الْقَفِيزُ من الْحِنْطَةِ مِثْلًا لِلْقَفِيزِ من الْحِنْطَةِ كان الْقَفِيزُ الزَّائِدُ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عن الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَكَانَ رِبًا وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَخُصُّ الْمَطْعُومَاتِ وَالْأَثْمَانَ بَلْ يُوجَدُ في كل مَكِيلٍ بِجِنْسِهِ وَمَوْزُونٍ بمثله فَالشَّرْعُ الْوَارِدُ هُنَاكَ يَكُونُ وَارِدًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْأَصْلُ حُرْمَةُ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ فَمَمْنُوعٌ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما اقْتَصَرَ على النَّهْيِ عن بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ لِيُجْعَلَ الْحَظْرَ فيه أَصْلًا بَلْ قَرَنَ بِهِ الِاسْتِثْنَاءَ
فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا سَوَاءً بسواءفلا يَدُلُّ على كَوْنِ الْحُرْمَةِ فيه أَصْلًا
وَقَوْلُهُ جَعْلُ الطُّعْمِ عِلَّةً دَعْوَى مَمْنُوعَةٌ أَيْضًا وَالِاسْمُ
____________________

(5/184)


الْمُشْتَقُّ من مَعْنًى إنَّمَا يُجْعَلُ عِلَّةً لِلْحُكْمِ الْمَذْكُورِ عَقِيبَهُ عِنْدَنَا إذَا كان له أَثَرٌ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهِمَا فَلِمَ قُلْتُمْ بِأَنَّ لِلطُّعْمِ أَثَرًا وَكَوْنُهُ مُتَعَلِّقَ الْبَقَاءِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُ في الْإِطْلَاقِ أَوْلَى من الْحَظْرِ فإن الْأَصْلَ فيه هو التَّوْسِيعُ دُونَ التَّضْيِيقِ على ما عُرِفَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تُبْنَى مَسَائِلُ الرِّبَا نَقْدًا وَنَسِيئَةً وَفُرُوعُ الْخِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ أَمَّا رِبَا النَّقْدِ فَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فيه تَظْهَرُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيْعِ مَكِيلٍ بِجِنْسِهِ غير مَطْعُومٍ أو مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ غير مَطْعُومٍ وَلَا ثَمَنٍ كَبَيْعِ قَفِيزِ جَصٍّ بِقَفِيزَيْ جَصٍّ وَبَيْعِ مَنِّ حَدِيدٍ بِمَنَوَيْ حَدِيدٍ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ رِبًا لِوُجُودِ عِلَّةِ الرِّبَا وهو الْكَيْلُ مع الْجِنْسِ أو الْوَزْنُ مع الْجِنْسِ وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ أو الثَّمَنِيَّةَ ولم يُوجَدْ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ بَيْعُ كل مُقَدَّرٍ بِجِنْسِهِ من الميكلات ( ( ( المكيلات ) ) ) وَالْمَوْزُونَاتِ غير الْمَطْعُومَاتِ وَالْأَثْمَانِ كَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَنَحْوِهَا
وَأَمَّا بَيْعُ الْمَكِيلِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا وَبَيْعُ الْمَوْزُونِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا كَبَيْعِ قَفِيزِ أُرْزٍ بِقَفِيزَيْ أُرْزٍ وَبَيْعِ مَنِّ سُكَّرٍ بِمَنَوَيْ سُكَّرٍ فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِوُجُودِ الْقَدْرِ وَالْجِنْسِ وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الطَّعْمِ وَالْجِنْسِ وَكَذَا كُلُّ مَوْزُونٍ هو مَأْكُولٌ أو مَشْرُوبٌ كَالدُّهْنِ وَالزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَنَحْوِهَا
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا مَطْعُومًا كان أو غير مَطْعُومٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ قَفِيزِ حِنْطَةٍ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ وَبَيْعِ قَفِيزِ جَصٍّ بِقَفِيزَيْ نُورَةٍ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْفَضْلُ مَجْمُوعُ الْوَصْفَيْنِ وقد انْعَدَمَ أَحَدُهُمَا وهو الْجِنْسُ وَكَذَا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِغَيْرِ جِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا جَائِزٌ ثَمَنَيْنِ كَانَا أو مُثَمَّنَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ دِينَارٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَبَيْعِ مَنِّ حَدِيدٍ بِمَنَوَيْ نُحَاسٍ أو رَصَاصٍ وَنَحْوِ ذلك لِمَا قُلْنَا
وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ وَعَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ وَشَاةٍ بِشَاتَيْنِ وَنَصْلٍ بِنَصْلَيْنِ وَنَحْوِ ذلك بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ وهو الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ وَعِنْدَهُ لِانْعِدَامِ الطُّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ
وَأَمَّا بَيْعُ الْأَوَانِي الصُّفْرِيَّةِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ كَبَيْعِ قُمْقُمَةٍ بِقُمْقُمَتَيْنِ وَنَحْوِ ذلك فَإِنْ كان مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَدَّ في الْعَدَدِيَّاتِ ليس من أَوْصَافِ عِلَّةِ الرِّبَا فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَإِنْ كان مِمَّا يُبَاعُ وَزْنًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ الرِّبَا بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ من غَيْرِ الْمَطْعُومَاتِ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَبَيْعِ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ عِبَارَةٌ عَمَّا تُقَدَّرُ بِهِ مَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ وَمَالِيَّةُ الْأَعْيَانِ كما تُقَدَّرُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ تُقَدَّرُ بِالْفُلُوسِ فَكَانَتْ أَثْمَانًا وَلِهَذَا كانت أَثْمَانًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَعِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ وَإِنْ كانت ثَمَنًا فَالثَّمَنُ لَا يَتَعَيَّنُ وَإِنْ عُيِّنَ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالْتَحَقَ التعيين ( ( ( التعين ) ) ) فِيهِمَا بِالْعَدَمِ فَكَانَ بَيْعُ الْفَلْسِ بِالْفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَذَا لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّهَا إذَا كانت أَثْمَانًا فَالْوَاحِدُ يُقَابِلُ الْوَاحِدَ فَبَقِيَ الْآخَرُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا
وَلَهُمَا أَنَّ عِلَّةَ رِبَا الْفَضْلِ هِيَ الْقَدْرُ مع الْجِنْسِ وهو الْكَيْلُ أو الْوَزْنُ الْمُتَّفِقُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمُجَانَسَةِ إنْ وُجِدَتْ هَهُنَا فلم يُوجَدْ الْقَدْرُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا
وَقَوْلُهُ الْفُلُوسُ أَثْمَانٌ قُلْنَا ثَمَنِيَّتُهَا قد بَطَلَتْ في حَقِّهِمَا قبل الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ صَادَفَهَا وَهِيَ سِلَعٌ عَدَدِيَّةٌ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْوَاحِدِ بالإثنين كَسَائِرِ السِّلَعِ الْعَدَدِيَّةِ كَالْقَمَاقِمِ الْعَدَدِيَّةِ وَغَيْرِهَا إلَّا أنها بَقِيَتْ أَثْمَانًا عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَبِجِنْسِهَا حَالَةَ الْمُسَاوَاةِ لِأَنَّ خُرُوجَهَا عن وَصْفِ الثمينة ( ( ( الثمنية ) ) ) كان لِضَرُورَةِ صِحَّةِ الْعَقْدِ وَجَوَازِهِ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِمَا قُلْنَا وَلَا ضَرُورَةَ ثَمَّةَ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ في الْحَالَيْنِ بَقِيَتْ على صِفَةِ الثمينة ( ( ( الثمنية ) ) ) أو خَرَجَتْ عنها
وَالثَّانِي في بَيْعِ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ ليس بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَبَيْعِ حَفْنَةِ حِنْطَةٍ بِحَفْنَتَيْنِ منها أو بِطِّيخَةٍ بِبِطِّيخَتَيْنِ أو تُفَّاحَةٍ بِتُفَّاحَتَيْنِ أو بَيْضَةٍ بِبَيْضَتَيْنِ أو جَوْزَةٍ بِجَوْزَتَيْنِ يَجُوزُ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَبَقِيَ الْكَيْلُ مع الْجِنْسِ أو الْوَزْنِ وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الطَّعْمِ وَالْجِنْسِ
وَكَذَا لو بَاعَ حَفْنَةً بِحَفْنَةٍ أو تُفَّاحَةً بِتُفَّاحَةٍ أو بَيْضَةً بِبَيْضَةٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الطَّعْمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ هو الْعَزِيمَةُ عِنْدَهُ وَالتَّسَاوِي في الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ مُخَلِّصٌ عن الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ ولم يُوجَدْ الْمُخَلِّصُ فَبَقِيَ على أَصْلِ الْحُرْمَةِ
وَأَمَّا رِبَا النَّسَاءِ وَفُرُوعُهُ وَفَائِدَةُ الِاخْتِلَافِ فيه فَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ أَنَّهُ قال أَسْلِمْ
____________________

(5/185)


ما يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ وَأَسْلِمْ ما يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ وَلَا تُسْلِمْ ما يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ وَلَا ما يُوزَنُ فِيمَا يُوزَنُ
وإذا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ مِمَّا يُكَالُ أو يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فيه نَسِيئَةً
وَلَا بُدَّ من شَرْحِ هذه الْجُمْلَةِ وَتَفْصِيلِ ما يَحْتَاجُ منها إلَى التَّفْصِيلِ لِأَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْرَى الْقَضِيَّةَ فيها عَامَّةً وَمِنْهَا ما يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَمِنْهَا ما لَا يَحْتَمِلُ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ذلك فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ في الْمَكِيلَاتِ على الْعُمُومِ سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كالنحطة ( ( ( كالحنطة ) ) ) في الْحِنْطَةِ أو في الشَّعِيرِ أو غير مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ في الْجَصِّ أو في النُّورَةِ
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ حَالًّا سَلَمًا لَكِنْ دَيْنًا مَوْصُوفًا في الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ أو من جِنْسَيْنِ مَطْعُومَيْنِ كَانَا أو غير مَطْعُومَيْنِ عِنْدَنَا لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ جَمَعَهُمَا وهو الْكَيْلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَا مَطْعُومَيْنِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ لم يَكُونَا مَطْعُومَيْنِ جَازَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ عِنْدَهُ الطَّعْمُ
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ في الْمَوْزُونَاتِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ إنْ كَانَا جميعا مِمَّا يَتَعَيَّنَانِ في الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالسُّكَّرِ في الزَّعْفَرَانِ أو غير مَطْعُومَيْنِ كَالْحَدِيدِ في النُّحَاسِ لِوُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ الذي هو عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِرِبَا النَّسَاءِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ في غَيْرِ الْمَطْعُومِ وَلَا يَجُوزُ في الْمَطْعُومِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كَانَا مِمَّا لَا يَتَعَيَّنَانِ في الْعَقْدِ كَالدَّرَاهِمِ في الدَّنَانِيرِ وَالدَّنَانِيرِ في الدَّرَاهِمِ أو الدَّرَاهِمِ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ في الدَّنَانِيرِ أو لَا يَتَعَيَّنُ الْمُسَلَّمُ فيه كَالْحَدِيدِ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُسَلَّمَ فيه مَبِيعٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ بَيْعَ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِأَنَّهُ رَخَّصَ في بَعْضِ ما دخل تَحْتَ النَّهْيِ وَالدَّاخِلُ تَحْتَ النَّهْيِ هو الْبَيْعُ دَلَّ أَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ لِيَسْتَقِيمَ إثْبَاتُ الرُّخْصَةِ فيه فَكَانَ الْمُسَلَّمُ فيه مَبِيعًا وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَحْتَمِلَانِ التَّعْيِينَ شَرْعًا في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فلم يَكُونَا مُتَعَيِّنَيْنِ فَلَا يَصْلُحَانِ مُسَلَّمًا فِيهِمَا
وَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ وَالْمُسَلَّمُ فيه مِمَّا يَتَعَيَّنُ كما لو أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ أو الدَّنَانِيرَ في الزَّعْفَرَانِ أو في الْقُطْنِ أو الْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا من سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ فإنه يَجُوزُ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ أو الْجِنْسُ
أَمَّا الْمُجَانَسَةُ فَظَاهِرَةُ الِانْتِفَاءِ وَأَمَّا الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ فَلِأَنَّ وَزْنَ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ تُوزَنُ بِالْمَثَاقِيلِ وَالْقُطْنَ وَالْحَدِيدَ يُوزَنَانِ بِالْقَبَّانِ فلم يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فلم تُوجَدْ الْعِلَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا
هذا إذَا أَسْلَمَ الدَّرَاهِمَ أو الدَّنَانِيرَ في سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ أو تِبْرَ ذَهَبٍ أو الْمَصُوغَ فيها فَهَلْ يَجُوزُ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فيه بين أبي يُوسُفَ وَزُفَرَ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ وُجِدَ عِلَّةً رِبَا النَّسَاءِ وَهِيَ أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وهو الْوَزْنُ في الْمَالَيْنِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ أَحَدَ الْوَصْفَيْنِ الذي هو عِلَّةُ الْقَدْرِ الْمُتَّفِقِ لَا مُطْلَقَ الْقَدْرِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ النَّقْرَةَ أو التِّبْرَ من جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَأَصْلِ الْأَثْمَانِ وَوَزْنُ الثَّمَنِ يُخَالِفُ وَزْنَ الْمُثَمَّنِ على ما ذَكَرْنَا فلم يَتَّفِقْ الْقَدْرُ فلم تُوجَدْ الْعِلَّةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا كما إذَا أَسْلَمَ فيها الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ
وَلَوْ أَسْلَمَ فيها الْفُلُوسَ جَازَ لِأَنَّ الْفَلْسَ عَدَدِيٌّ وَالْعَدَدُ في الْعَدَدِيَّاتِ ليس من أَوْصَافِ الْعِلَّةِ وَلَوْ أَسْلَمَ فيها الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ يُنْظَرُ إنْ كانت تُبَاعُ وَزْنًا لم يَجُزْ لِوُجُودِ الْوَزْنِ الذي هو أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وَإِنْ كانت تُبَاعُ عَدَدِيَّةً جَازَ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَكِيلَاتِ في الْمَوْزُونَاتِ فَهُوَ أَيْضًا على التَّفْصِيلِ فَإِنْ كان الْمَوْزُونُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَا مَطْعُومَيْنِ كَالْحِنْطَةِ في الزَّيْتِ أو الزَّعْفَرَانِ أو غير مَطْعُومَيْنِ كَالْجَصِّ في الْحَدِيدِ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ في الْمَطْعُومَيْنِ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وهو الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا يَجُوزُ لِمَا مَرَّ أَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ فيه مَبِيعًا وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أَثْمَانٌ أَبَدًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ
ثُمَّ إذَا لم يَجُزْ هذا الْعَقْدُ سَلَمًا هل يَجُوزُ بَيْعًا يُنْظَرُ أن كان بِلَفْظِ الْبَيْعِ يَجُوزُ وَيَكُونُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لِأَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ سَلَمًا بَيْعًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا بِهِ وَإِنْ كان بِلَفْظِ السَّلَمِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ السَّلَمَ يُخَالِفُ مُطْلَقَ الْبَيْعِ في الْأَحْكَامِ وَالشَّرَائِطِ فإذا لم يَصِحَّ سَلَمًا بَطَلَ رَأْسًا
وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ أَلَا تَرَى أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمَّاهُ بَيْعًا حين نهى عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ وَلِهَذَا يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ اختص بِشَرَائِطَ مَخْصُوصَةٍ فإذا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بَيْعًا هو سَلَمٌ يُصَحَّحُ بَيْعًا بِثَمَنٍ
____________________

(5/186)


مُؤَجَّلٍ تَصْحِيحًا لِلتَّصَرُّفِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَمَّا إسْلَامُ الْمَوْزُونَاتِ في الْمَكِيلَاتِ فَجَائِزٌ على الْعُمُومِ سَوَاءٌ كان الْمَوْزُونُ الذي جَعَلَهُ رَأْسَ الْمَالِ عَرَضًا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أو ثَمَنًا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وهو الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِأَنَّهُ لم يَجْمَعْهَا أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وهو الْقَدْرُ الْمُتَّفِقُ أو الْجِنْسُ فلم تُوجَدْ الْعِلَّةُ وَلَوْ أَسْلَمَ جِنْسًا في جِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ كما إذَا أَسْلَمَ مَكِيلًا في مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ لم يَجُزْ السَّلَمُ في جَمِيعِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ في حِصَّةِ خِلَافِ الْجِنْسِ وهو الْمَوْزُونُ وهو على اخْتِلَافِهِمْ فيما ( ( ( فيمن ) ) ) جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ وباعها ( ( ( وباعهما ) ) ) صَفْقَةً وَاحِدَةً وقد ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا إسْلَامُ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ في جِنْسِهِ من الذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ كَالْهَرَوِيِّ في الروي ( ( ( الهروي ) ) ) وَالْمَرْوِيِّ في الْمَرْوِيِّ وَالْحَيَوَانِ في الْحَيَوَانِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ
وَلَقَبُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْجِنْسَ بِانْفِرَادِهِ يُحَرِّمُ النَّسَاءَ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يُحَرِّمُ فَلَا يَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ في الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ في الْبِيضِ وَالتُّفَّاحِ في التُّفَّاحِ وَالْحَفْنَةِ في الْحَفْنَةِ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ الْجِنْسِ عِنْدَنَا وَلِوُجُودِ الطَّعْمِ عِنْدَهُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْهَرَوِيِّ في الْمَرْوِيِّ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لِانْعِدَامِ الطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ
وَيَجُوزُ إسْلَامُ الْجَوْزِ في الْبَيْضِ وَالتُّفَّاحِ في السَّفَرْجَلِ وَالْحَيَوَانِ في الثَّوْبِ عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَعِنْدَهُ لَا يَجُوزُ في الْمَطْعُومِ لِوُجُودِ الطَّعْمِ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْفُلُوسَ في الْفُلُوسِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْجِنْسِ وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ الْأَوَانِيَ الصُّفْرِيَّةَ في جِنْسِهَا وَهِيَ تُبَاعُ عَدَدًا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ وَعِنْدَهُ لِوُجُودِ الثَّمَنِيَّةِ وَالْكَلَامُ في مَسْأَلَةِ الْجِنْسِ بِانْفِرَادِهِ مَبْنِيٌّ على الْكَلَامِ في مَسْأَلَةِ الرِّبَا
وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ فيها ما ذَكَرْنَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ وَحُرْمَةَ بَيْعِ الْأَثْمَانِ بِجِنْسِهَا هِيَ الْأَصْلُ وَالتَّسَاوِي في الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مع الْيَدِ مُخَلِّصٌ عن الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ أو رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَهُ هو فَضْلُ الْحُلُولِ على الْأَجَلِ في الْمَطْعُومَاتِ وَالثَّمَنِيَّةِ في الْأَثْمَانِ وقد ذَكَرْنَا ما له من الدَّلِيلِ على صِحَّةِ هذا الْأَصْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَالْكَلَامُ لِأَصْحَابِنَا في هذه الْمَسْأَلَةِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وهو أَنَّ السَّلَمَ في الْمَطْعُومَاتِ وَالْأَثْمَانِ إنَّمَا كان رِبًا لِكَوْنِهِ فَضْلًا خَالِيًا عن الْعِوَضِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ على طَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُسَاوَاةِ في الْبَدَلَيْنِ وَلِهَذَا لو كَانَا نَقْدَيْنِ يَجُوزُ وَلَا مُسَاوَاةَ بين النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ لِأَنَّ الْعَيْنَ خَيْرٌ من الدَّيْنِ وَالْمُعَجَّلَ أَكْثَرُ قِيمَةً من الْمُؤَجَّلِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ فَضْلٍ مَشْرُوطٍ في الْبَيْعِ رِبًا سَوَاءٌ كان الْفَضْلُ من حَيْثُ الذَّاتُ أو من حَيْثُ الْأَوْصَافُ إلَّا ما لا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه دَفْعًا لِلْحَرَجِ وَفَضْلُ التَّعْيِينِ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه بِأَنْ يَبِيعَ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَحَالًّا غير مُؤَجَّلٍ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في غَيْرِ الْمَطْعُومِ وَالْأَثْمَانِ فَوُرُودُ الشَّرْعِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً وَابْتِدَاءُ الدَّلِيلِ لنا في الْمَسْأَلَةِ ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا رِبَا إلَّا في النَّسِيئَةِ
وَرُوِيَ إنَّمَا الرِّبَا في النَّسِيئَةِ حَقَّقَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الرِّبَا في النَّسِيئَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمَطْعُومِ وَالْأَثْمَانِ وَغَيْرِهَا فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِتَحْقِيقِ الرِّبَا فيها على الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ وَالرِّبَا حَرَامٌ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وإذا كان الْجِنْسُ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وَعِلَّةِ رِبَا النَّسِيئَةِ عِنْدَنَا وَشَرْطُ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ عِنْدَهُ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْجِنْسِ من كل ما يَجْرِي فيه الرِّبَا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْحِنْطَةُ كُلُّهَا على اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَوْصَافِهَا وَبُلْدَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ وَكَذَلِكَ دَقِيقُهُمَا وَكَذَا سَوِيقُهُمَا
وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَكَذَلِكَ الْمِلْحُ وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ وَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ كل مَكِيلٍ من ذلك بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا في الْكَيْلِ وَإِنْ تَسَاوَيَا في النَّوْعِ وَالصِّفَةِ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا في الْكَيْلِ مُتَفَاضِلًا في النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ والسقية ( ( ( السقية ) ) ) بِالسَّقِيَّةِ وَالنَّحْسِيَّةُ بِالنَّحْسِيَّةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالْجَيِّدَةُ بِالْجَيِّدَةِ وَالرَّدِيئَةُ بِالرَّدِيئَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالْجَدِيدَةُ بِالْجَدِيدَةِ وَالْعَتِيقَةُ بِالْعَتِيقَةِ وَإِحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى وَالْمَقْلُوَّةُ بِالْمَقْلُوَّةِ
وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ على هذا وَكَذَلِكَ دَقِيقُ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقُ الشَّعِيرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ دَقِيقِ
____________________

(5/187)


الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقِ الْحِنْطَةِ بِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ وَكَذَا دَقِيقُ الشَّعِيرِ وَسَوِيقُهُ وَكَذَا التَّمْرُ بِالتَّمْرِ الْبَرْنِيُّ بِالْمَعْقِلِيِّ وَالْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ وَالْجَدِيدُ بِالْجَدِيدِ وَالْعَتِيقِ بِالْعَتِيقِ وَأَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ
وَكَذَلِكَ الْعِنَبُ بِالْعِنَبِ وَالزَّبِيبُ الْيَابِسُ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ وَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ حِنْطَةٍ مَقْلِيَّةٍ بِحِنْطَةٍ غَيْرِ مَقْلِيَّةٍ وَالْمَطْبُوخَةِ بِغَيْرِ المطبوخة ( ( ( مطبوخة ) ) ) وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ وَبِسَوِيقِ الْحِنْطَةِ وَبَيْعُ تَمْرٍ مَطْبُوخٍ بِتَمْرٍ غَيْرِ مَطْبُوخٍ مُتَفَاضِلًا في الْكَيْلِ أو مُتَسَاوِيًا فيه لِأَنَّ الْمَقْلِيَّةَ يَنْضَمُّ بَعْضُ أَجْزَائِهَا إلَى بَعْضٍ يُعْرَفُ ذلك بِالتَّجْرِبَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ من حَيْثُ الْقَدْرُ في الْكَيْلِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَكَذَا الْمَطْبُوخَةُ بِغَيْرِ الْمَطْبُوخَةِ لِأَنَّ الْمَطْبُوخَ يَنْتَفِخُ بِالطَّبْخِ فَكَانَ غَيْرُ الْمَطْبُوخَةِ أَكْثَرَ قَدْرًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ
وَكَذَلِكَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَقِيقِ الْحِنْطَةِ لِأَنَّ في الْحِنْطَةِ دَقِيقًا إلَّا أَنَّهُ مُجْتَمِعٌ لِوُجُودِ الْمَانِعِ من التَّفَرُّقِ وهو التَّرْكِيبُ وَذَلِكَ أَكْثَرُ من الدَّقِيقِ الْمُتَفَرِّقِ عُرِفَ ذلك بِالتَّجْرِبَةِ إلَّا أَنَّ الْحِنْطَةَ إذَا طُحِنَتْ ازْدَادَ دَقِيقُهَا على الْمُتَفَرِّقِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّحْنَ لَا أَثَّرَ له في زِيَادَةِ الْقَدْرِ فَدَلَّ أَنَّهُ كان أَزْيَدَ في الْحِنْطَةِ فَيَتَحَقَّقُ الْفَضْلُ من حَيْثُ الْقَدْرُ بِالتَّجْرِبَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَأَمَّا بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ أو النَّدِيَّةِ بِالنَّدِيَّةِ أو الرَّطْبَةِ بِالرَّطْبَةِ أو الْمَبْلُولَةِ بالمبلولة أو الْيَابِسَةِ بِالْيَابِسَةِ وَبَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ وَالرُّطَبِ بِالرُّطَبِ أو بِالتَّمْرِ وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ وَالْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ الْيَابِسِ وَالْيَابِسِ بِالْمُنْقَعِ وَالْمُنْقَعِ بِالْمُنْقَعِ مُتَسَاوِيًا في الْكَيْلِ فَهَلْ يَجُوزُ قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ ذلك جَائِزٌ وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّهُ جَائِزٌ إلَّا بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّهُ فَاسِدٌ إلَّا بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ بِالْعِنَبِ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّهُ بَاطِلٌ
وَيَجُوزُ بَيْعُ الكفري بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ بِالْبُسْرِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ الْجِنْسِ وَالْكَيْلِ إذْ هو اسْمٌ لِوِعَاءِ الطَّلْعِ فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ الْمُسَاوَاةَ في الْحَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى النُّقْصَانِ في الْمَآلِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُهَا حَالًا وَمَآلًا وَاعْتِبَارُ أبي يُوسُفَ مِثْلُ اعْتِبَارِ أبي حَنِيفَةَ إلَّا في الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ فإنه يُفْسِدُهُ بِالنَّصِّ
وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا في مَسْأَلَةِ عِلَّةِ الرِّبَا أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ هِيَ الْأَصْلُ وَالتَّسَاوِي في الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مع الْيَدِ مُخَلِّصٌ إلَّا أَنَّهُ يَعْتَبِرُ التَّسَاوِيَ هَهُنَا في الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ في أَعْدَلِ الْأَحْوَالِ وَهِيَ حَالَةُ الْجَفَافِ
وَاحْتَجَّ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِمَا رُوِيَ عن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنَّهُ يَنْقُصُ إذَا جَفَّ
بَيَّنَ عليه السلام الْحُكْمَ وَعِلَّتَهُ وَهِيَ النُّقْصَانُ عِنْدَ الْجَفَافِ فَمُحَمَّدٌ عَدَّى هذا الْحُكْمَ إلَى حَيْثُ تَعَدَّتْ الْعِلَّةُ وأبو يُوسُفَ قَصَرَهُ على مَحِلِّ النَّصِّ لِكَوْنِهِ حُكْمًا ثَبَتَ على خِلَافِ الْقِيَاسِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابُ الْكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَعُمُومَاتُ الْبَيْعِ من نَحْوِ قَوْله { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَظَاهِرُ النُّصُوصِ يَقْتَضِي جَوَازَ كل بَيْعٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ وقد خُصَّ الْبَيْعُ مُتَفَاضِلًا على الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ فَبَقِيَ الْبَيْعُ مُتَسَاوِيًا على ظَاهِرِ الْعُمُومِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ الْمَشْهُورَةُ فَحَدِيثُ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعُبَادَةَ بن الصَّامِتِ رضي اللَّهُ عنهما حَيْثُ جَوَّزَ رسول اللَّهِ بَيْعَ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ عَامًّا مُطْلَقًا من غَيْرِ تَخْصِيصٍ وَتَقْيِيدٍ وَلَا شَكَّ أَنَّ اسْمَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَقَعُ على كل جِنْسِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ على اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِمَا وَأَوْصَافِهِمَا وَكَذَلِكَ اسْمُ التَّمْرِ يَقَعُ على الرُّطَبِ وَالْبُسْرِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِتَمْرِ النَّخْلِ لُغَةً فَيَدْخُلُ فيه الرُّطَبُ وَالْيَابِسُ وَالْمُذَنَّبُ وَالْبُسْرُ وَالْمُنْقَعُ
وَرُوِيَ أَنَّ عَامِلَ خَيْبَرَ أَهْدَى إلَى رسول اللَّهِ تمر أجنبيا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أو كل تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا
وكان أَهْدَى إلَيْهِ رُطَبًا فَقَدْ أَطْلَقَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْمَ التَّمْرِ على الرُّطَبِ
وروى أَنَّهُ نهى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن بيعه ( ( ( بيع ) ) ) التَّمْرِ حتى يَزْهُوَ أَيْ يَحْمَرَّ أو يَصْفَرَّ
وروى حتى يَحْمَارَّ أو يَصْفَارَّ والأحمرار والإصفرار من أَوْصَافِ الْبُسْرِ فَقَدْ أَطْلَقَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْمَ التَّمْرِ على الْبُسْرِ فَيَدْخُلُ تَحْتَ النَّصِّ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَمَدَارُهُ على زَيْدِ بن عَيَّاشٍ وهو ضَعِيفٌ عِنْدَ النَّقَلَةِ فَلَا يُقْبَلُ في مُعَارَضَةِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ الْمَشْهُورَةِ وَلِهَذَا لم يَقْبَلْهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْمُنَاظَرَةِ في مُعَارَضَةِ الحديث الْمَشْهُورِ مع أَنَّهُ كان من صَيَارِفَةِ الحديث وكان من مَذْهَبِهِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ وَإِنْ كان في حَدِّ الْآحَادِ على الْقِيَاسِ بَعْدَ أَنْ كان رَاوِيهِ عَدْلًا ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ أو بِأَدِلَّةٍ فَيَحْمِلُهُ على بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً أو تَمْرًا من مَالِ الْيَتِيمِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ كُلٍّ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا في الْوَزْنِ سَوَاءٌ اتَّفَقَا في النَّوْعِ وَالصِّفَةِ بِأَنْ كَانَا مَضْرُوبَيْنِ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو مَصُوغَيْنِ أو تِبْرَيْنِ جَيِّدَيْنِ أو رَدِيئَيْنِ أو اخْتَلَفَا لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْفَضْلُ
____________________

(5/188)


رِبًا وَأَمَّا مُتَسَاوِيًا في الْوَزْنِ مُتَفَاضِلًا في النَّوْعِ وَالصِّفَةِ كَالْمَصُوغِ بِالتِّبْرِ وَالْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ وَاحْتَجَّ بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ في الْقِيمَةِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَالْمُرَادُ منه الْمُمَاثَلَةُ في الْوَزْنِ وَكَذَا رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَوْدَةَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا لَا قِيمَةَ لها شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ وَاللُّحُومُ مُعْتَبَرَةٌ بِأُصُولِهَا فَإِنْ تَجَانَسَ الْأَصْلَانِ تَجَانَسَ اللَّحْمَانِ فَتُرَاعَى فيه الْمُمَاثَلَةُ وَلَا يَجُوزُ إلَّا مُتَسَاوِيًا
وَإِنْ اخْتَلَفَ الإصلان اخْتَلَفَ اللَّحْمَانِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً لِوُجُودِ أَحَدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وهو الْوَزْنُ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لُحُومُ الْإِبِلِ كُلِّهَا على اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا من لُحُومِ الْعِرَابِ وَالْبَخَاتِيِّ وَالْهَجِينِ وَذِي السَّنَامَيْنِ وَذِي سَنَامٍ وَاحِدٍ جِنْسٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْإِبِلَ كُلَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَكَذَا لُحُومُهَا
وَكَذَا لُحُومُ الْبَقَرِ وَالْجَوَامِيسِ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ وَلُحُومُ الْغَنَمِ من الضَّأْنِ وَالنَّعْجَةِ وَالْمَعْزِ وَالتَّيْسِ جِنْسٌ وَاحِدٌ اعْتِبَارًا بِالْأُصُولِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ اتَّحَدَتْ أُصُولُهَا أو اخْتَلَفَتْ حتى لَا يَجُوزَ بَيْعُ لَحْمِ الْإِبِلِ بِالْبَقَرِ وَالْبَقَرِ بِالْغَنَمِ مُتَفَاضِلًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ اللَّحْمَيْنِ اسْتَوَيَا اسْمًا وَمَنْفَعَةً وَهِيَ التَّغَذِّي وَالتَّقَوِّي فَاتَّحَدَ الْجِنْسُ فَلَزِمَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ في بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ
وَلَنَا أَنَّ أُصُولَ هذه اللُّحُومِ مُخْتَلِفَةُ الْجِنْسِ فَكَذَا اللُّحُومُ لِأَنَّهَا فُرُوعُ تِلْكَ الْأُصُولِ وَاخْتِلَافُ الْأَصْلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْفَرْعِ قَوْلُهُ الِاسْمُ شَامِلٌ وَالْمَقْصُودُ مُتَّحِدٌ قُلْنَا الْمُعْتَبَرُ في اتِّحَادِ الْجِنْسِ اتِّحَادُ الْمَقْصُودِ الْخَاصِّ لَا الْعَامِّ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَطْعُومَاتِ كُلَّهَا في مَعْنَى الطَّعْمِ مُتَّحِدَةٌ ثُمَّ لَا يُجْعَلُ كُلُّهَا جِنْسًا وَاحِدًا كَالْحِنْطَةِ مع الشَّعِيرِ وَنَحْوِ ذلك حتى يَجُوزَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُتَفَاضِلًا مع اتِّحَادِهِمَا في مَعْنَى الطَّعْمِ لَكِنْ لَمَّا كان ذلك مَعْنًى عالم ( ( ( عاما ) ) ) يُوجِبْ اتِّحَادَ الْجِنْسِ كَذَا هذا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الطَّيْرِ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَإِنْ كَانَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ لَا يُوزَنُ عَادَةً وَعَلَى هذا الْبَابِ هذه الْحَيَوَانَاتِ حُكْمُهَا حُكْمُ أُصُولِهَا عِنْدَ الِاتِّحَادِ وَالِاخْتِلَافِ لِأَنَّهَا مُتَفَرِّعَةٌ من الْأُصُولِ فَكَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِأُصُولِهَا وَكَذَا خَلُّ الدَّقَلِ مع خَلِّ الْعِنَبِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِمَا وَاللَّحْمُ مع الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ وَالْمَنَافِعِ وَكَذَا مع الإلية والإلية مع الشَّحْمِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِمَا قُلْنَا
وَشَحْمُ الْبَطْنِ مع شَحْمِ الظَّهْرِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا مع الإلية بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ مع شَحْمِ الْبَطْنِ والإلية لِأَنَّهُ لَحْمٌ سَمِينٌ وَصُوفُ الشَّاةِ مع شَعْرِ الْمَعْزِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ لِاخْتِلَافِ الِاسْمِ وَالْمَنْفَعَةِ وَكَذَا غَزْلُ الصُّوفِ مع غَزْلِ الشَّعْرِ وَالْقُطْنِ مع الْكَتَّانِ جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَكَذَا غَزْلُ الْقُطْنِ مع غَزْلِ الْكَتَّانِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ غَزْلِ الْقُطْنِ بِالْقُطْنِ مُتَسَاوِيًا لِأَنَّ الْقُطْنَ يَنْقُصُ بِالْغَزْلِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ كَبَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ مع اللَّحْمِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْأَصْلَانِ فَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مع لَحْمِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ مُجَازَفَةً نَقْدًا وَنَسِيئَةً لِانْعِدَامِ الْوَزْنِ وَالْجِنْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا أَصْلًا وَإِنْ اتَّفَقَا كَالشَّاةِ الْحَيَّةِ مع لَحْمِ الشَّاةِ من مَشَايِخِنَا من اعْتَبَرَهُمَا جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَبَنَوْا عليه جَوَازَ بَيْعِ لَحْمِ الشَّاةِ بِالشَّاةِ الْحَيَّةِ مُجَازَفَةً عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعَلَّلُوا لَهُمَا بِأَنَّهُ بَاعَ الْجِنْسَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ
وَمِنْهُمْ من اعْتَبَرَهُمَا جِنْسًا وَاحِدًا وَبَنَوْا مَذْهَبَهُمَا على أَنَّ الشَّاةَ لَيْسَتْ بِمَوْزُونَةٍ وَجَرَيَانُ رِبَا الْفَضْلِ يَعْتَمِدُ اجْتِمَاعَ الْوَصْفَيْنِ الْجِنْسِ مع الْقَدْرِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ وهو الصَّحِيحُ على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ إلَّا على وَجْهِ الِاعْتِبَارِ على أَنْ يَكُونَ وَزْنُ اللَّحْمِ الْخَالِصِ أَكْثَرَ من اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ الْحَيَّةِ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَكُونُ اللَّحْمُ بِإِزَاءِ اللَّحْمِ وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ إخلاف ( ( ( خلاف ) ) ) الْجِنْسِ من الْأَطْرَافِ وَالسَّقَطِ من الرَّأْسِ وَالْأَكَارِعِ وَالْجِلْدِ وَالشَّحْمِ فَإِنْ كان اللَّحْمُ الْخَالِصُ مِثْلَ قَدْرِ اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ الْحَيَّةِ أو أَقَلَّ أو لَا يدري لَا يَجُوزُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ الشَّاةَ الْحَيَّةَ بِشَحْمِ الشَّاةِ أو بإليتها وَهَذَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اللُّحُومُ كُلُّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ كَيْفَ ما كان سَوَاءٌ اتَّفَقَ الْأَصْلَانِ أن اخْتَلَفَا بَاعَ مُجَازَفَةً أو على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ

____________________

(5/189)


وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّاةِ بِلَحْمِ الشَّاةِ نَسِيئَةً لِوُجُودِ الْجِنْسِ الْمُحَرِّمِ لِلنَّسَاءِ لِأَنَّ اللَّحْمَ الْخَالِصَ من جِنْسِ اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ إلَّا على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وهو أَنْ يَكُونَ الدُّهْنُ الْخَالِصُ أَكْثَرَ من الدُّهْنِ الذي في السِّمْسِمِ حتى يَكُونَ الدُّهْنُ بِإِزَاءِ الدُّهْنِ وَالزَّائِدُ بِإِزَاءِ خِلَافِ جِنْسِهِ وهو الْكُسْبُ وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْجَوْزِ بِلُبِّ الْجَوْزِ
وَأَمَّا دُهْنُ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ مُجَازَفَةً
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ إلَّا على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ بَيْعَ النِّصَالِ بِالْحَدِيدِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ جَائِزٌ مُجَازَفَةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ بَنَى مَذْهَبَهُ على أَصْلٍ له ذَكَرْنَاهُ غير مَرَّةٍ وهو أَنَّ حُرْمَةَ بَيْعِ مَأْكُولٍ بِجِنْسِهِ هو الْعَزِيمَةُ وَالْجَوَازُ عِنْدَ التَّسَاوِي في الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ رُخْصَةٌ وَلَا يُعْرَفُ التَّسَاوِي بين اللَّحْمِ الْخَالِصِ وَبَيْنَ اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ فَيَبْقَى على أَصْلِ الْحُرْمَةِ وقد أَبْطَلْنَا هذا الْأَصْلَ في عِلَّةِ الرِّبَا
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أَصْحَابِنَا فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ في تَجْوِيزِ الْمُجَازَفَةِ هَهُنَا احْتِمَالُ الرِّبَا فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عنه ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ بِمُرَاعَاةِ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ فَلَزِمَ مُرَاعَاتُهُ قِيَاسًا على بَيْعِ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ فيه الرِّبَا أَنَّ اللَّحْمَ مَوْزُونٌ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّحْمُ الْمَنْزُوعُ أَقَلَّ من اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ وَزْنًا فَيَكُونَ شَيْءٌ من اللَّحْمِ مع السَّقَطِ زِيَادَةً وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مثله في الْوَزْنِ فَيَكُونَ السَّقَطُ زِيَادَةً فَوَجَبَ مُرَاعَاةُ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ تَحَرُّزًا عن الرِّبَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ بَيْعُ الدُّهْنِ بِالسِّمْسِمِ وَالزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إلَّا على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ كَذَا هذا
وَلِهَذَا قُلْنَا أن هذا بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِمَا ليس بِمَوْزُونٍ يَدًا بِيَدٍ فَيَجُوزُ مُجَازَفَةً وَمُفَاضَلَةً اسْتِدْلَالًا بِبَيْعِ الْحَدِيدِ الْغَيْرِ الْمَصْنُوعِ بِالنِّصَالِ مُجَازَفَةً ومفاضلة يَدًا بِيَدٍ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ اللَّحْمَ الْمَنْزُوعَ وَإِنْ كان مَوْزُونًا فَاللَّحْمُ الذي في الشَّاةِ ليس بِمَوْزُونٍ لِأَنَّ الْمَوْزُونَ ماله طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ ثِقْلِهِ وَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ثِقْلِ اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الِاسْتِدْلَال بِالتَّجْرِبَةِ
وأما أَنْ يَكُونَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ وَشَيْءٌ من ذلك لَا يَصْلُحُ طَرِيقًا لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ
أَمَّا الْوَزْنُ بِالْقَبَّانِ فَلِأَنَّ الشَّاةَ لَا تُوزَنُ بِالْقَبَّانِ عُرْفًا وَلَا عَادَةً وَلَوْ صَلَحَ الْوَزْنُ طَرِيقًا لِوَزْنٍ لِأَنَّ إمْكَانَ الْوَزْنِ ثَابِتٌ وَالْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ اللَّحْمِ الذي فيها مَاسَّةٌ حتى يَتَعَرَّفَ الْمُشْتَرِي ذلك بِالْجَسِّ وَالْمَسِّ بِالْيَدِ وَالرَّفْعِ من الْأَرْضِ وَنَحْوِ ذلك وَلِأَنَّ الْحَيَّ يَثْقُلُ بِنَفْسِهِ مَرَّةً وَيَخِفُّ أُخْرَى فَيَخْتَلِفُ وَزْنُهُ فَدَلَّ أَنَّ الْوَزْنَ لَا يَصْلُحُ طَرِيقَ الْمَعْرِفَةِ
وَأَمَّا التَّجْرِبَةُ فإن ذلك بِالذَّبْحِ وَوَزْنُ الْمَذْبُوحِ لِيُعْرَفَ اللَّحْمُ الذي كان فيها عِنْدَ الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ لَا يُمْكِنُ لِأَنَّ الشَّاةَ تَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَالسِّمَنَ وَالْهُزَالَ سَاعَةً فَسَاعَةً فَلَا يُعْرَفُ بِهِ مِقْدَارُ ثِقْلِهِ حَالَةَ الْعَقْدِ بِالتَّجْرِبَةِ
وَأَمَّا الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فإنه لَا حَزْرَ لِمَنْ لَا بَصَارَةَ له في هذا الْبَابِ بَلْ يخطىء ( ( ( يخطئ ) ) ) لَا مَحَالَةَ وَمَنْ له بَصَارَةٌ يَغْلَطُ أَيْضًا ظَاهِرًا وَغَالِبًا
وَيَظْهَرُ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ الْحَيَّةِ فلم يَكُنْ موزنا ( ( ( موزونا ) ) ) فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِرِبَا الْفَضْلِ بِخِلَافِ بَيْعِ دُهْنِ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ لِأَنَّ ذلك بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الدُّهْنِ في السِّمْسِمِ بِالتَّجْرِبَةِ بِأَنْ يُوزَنَ قَدْرٌ من السِّمْسِمِ فَيُسْتَخْرَجَ دُهْنُهُ فَيَظْهَرَ وَزْنُ دُهْنِهِ الذي في الْجُمْلَةِ بِالْقِيَاسِ عليه أو يَعْصِرَ الْجُمْلَةَ فَيَظْهَرَ قَدْرُ الدُّهْنِ الذي كان فيها حَالَةَ الْعَقْدِ أو يُعْرَفَ بِالْحَزْرِ وَالتَّخْمِينِ أَنَّهُ كَمْ يَخْرُجُ من الدُّهْنِ من هذا الْقَدْرِ من غَيْرِ تَفَاوُتٍ فَاحِشٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ ذلك بَيْعَ الْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ مُجَازَفَةً فلم يَجُزْ لِاحْتِمَالِ الرِّبَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
لأ وَلَوْ بَاعَ شَاةً مَذْبُوحَةً غير مَسْلُوخَةٍ بِلَحْمِ شَاةٍ لَا يَجُوزُ إلَّا على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ اللَّحْمَ الذي في الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ مَوْزُونٌ فَقَدْ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ وَبِخِلَافِ جِنْسِهِ فَيُرَاعَى فيه طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ الذي في الشَّاةِ الْحَيَّةِ فإنه غَيْرُ مَوْزُونٍ لِمَا قُلْنَا فلم يَتَحَقَّقْ الرِّبَا فَجَازَتْ الْمُجَازَفَةُ فيه
وَلَوْ بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ مُجَازَفَةً جَازَ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ بَاعَ الْمَوْزُونَ بِمَا ليس بِمَوْزُونٍ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا كما لو بَاعَ شَاةً حَيَّةً بِلَحْمِ الشَّاةِ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ اللَّحْمَ يُقَابِلُ اللَّحْمَ وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ في إحْدَاهُمَا مع سَقَطِهَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا
وَكَذَلِكَ لو بَاعَ شَاتَيْنِ حَيَّتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غَيْرِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ وَيَكُونُ اللَّحْمُ بِمُقَابَلَةِ اللَّحْمِ وَزِيَادَةُ اللَّحْمِ في أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ مع السَّقَطِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ
____________________

(5/190)


الْأُخْرَى
وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ مسلوختين بِشَاةٍ وَاحِدَةٍ مَذْبُوحَةٍ غَيْرِ مَسْلُوخَةٍ يَجُوزُ وَيُقَابَلُ اللَّحْمُ بِاللَّحْمِ وَمُقَابَلَةُ اللَّحْمِ من الْمَسْلُوخَتَيْنِ بِمُقَابَلَةِ سَقَطِ الْأُخْرَى
وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَذْبُوحَتَيْنِ غير مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّحْمِ من غَيْرِ الْمَسْلُوخَتَيْنِ مع السَّقَطِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا وَلَوْ بَاعَ شَاتَيْنِ مَسْلُوخَتَيْنِ بِشَاةٍ مَسْلُوخَةٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا مَالَانِ جَمَعَهُمَا الْوَزْنُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مُفَاضَلَةً وَمُجَازَفَةً حتى لو كَانَا مُسْتَوِيَيْنِ في الْوَزْنِ يَجُوزُ يَدًا بِيَدٍ
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ وَدُهْنِ الْكَتَّانِ بِالْكَتَّانِ وَالْعَصِيرِ بِالْعِنَبِ وَالسَّمْنِ بِلَبَنٍ فيه سَمْنٌ وَالصُّوفِ بِشَاةٍ على ظَهْرِهَا صُوفٌ وَاللَّبَنِ بِحَيَوَانٍ في ضَرْعِهِ لَبَنٌ من جِنْسِهِ وَالتَّمْرِ بِأَرْضٍ وَنَخْلٍ عليه تَمْرٌ وَالْحِنْطَةِ بِأَرْضٍ فيها زَرْعٌ قد أُدْرِكَ وَنَحْوِ ذلك من أَمْوَالِ الرِّبَا حتى يَكُونَ الْمُفْرَدُ أَكْثَرَ من الْمَجْمُوعِ لِيَكُونَ الْمِثْلُ بِالْمِثْلِ وَالزِّيَادَةُ بمقابله خِلَافِ الْجِنْسِ وَسَنَذْكُرُ أَجْنَاسَ هذه الْمَسَائِلِ في مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا إذَا قُوبِلَ بَدَلٌ من جِنْسٍ بِبَدَلٍ من جِنْسِهِ أو بِبَدَلَيْنِ من جِنْسِهِ أو من خِلَافِ جِنْسِهِ فَأَمَّا إذَا قُوبِلَ أَبْدَالٌ من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِأَبْدَالٍ من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنْ كان من غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَجُوزُ
وَتُقْسَمُ الْأَبْدَالِ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْأَبْدَالِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ من حَيْثُ التَّقْوِيمِ وَإِنْ كان من أَمْوَالِ الرِّبَا فَيَجُوزُ أَيْضًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَيُقَسَّمُ قِسْمَةَ تَصْحِيحٍ لَا قِسْمَةَ إشَاعَةٍ وَتَوْزِيعٍ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ وَيُقْسَمُ قِسْمَةَ تَوْزِيعٍ وَإِشَاعَةٍ من حَيْثُ الْقِيمَةُ كما في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا بَاعَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ جَازَ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَتُصْرَفُ الْحِنْطَةُ إلَى الشَّعِيرِ وَالشَّعِيرُ إلَى الْحِنْطَةِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ ويصرف ( ( ( يصرف ) ) ) الدِّرْهَمُ إلَى الدِّينَارَيْنِ وَالدِّينَارُ إلَى الدِّرْهَمَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّ هذا بَيْعُ رِبًا فَلَا يَجُوزُ كَبَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَابَلَ الْجُمْلَةَ بِالْجُمْلَةِ مُطْلَقًا وَمُطْلَقُ مُقَابِلَةِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ يَقْتَضِي انْقِسَامَ كل بَدَلٍ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِجَمِيعِ الْأَبْدَالِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ على سَبِيلِ الشُّيُوعِ من حَيْثُ الْقِيمَةُ إذَا كانت الْأَبْدَالُ مُخْتَلِفَةَ الْقِيَمِ اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فإنه إذَا بَاعَ عَبْدًا وَجَارِيَةً بِفَرَسٍ وَثَوْبٍ وَقِيمَتُهُمَا مُخْتَلِفَةٌ يُقَسَّمُ الْعَبْدُ على قِيمَةِ الْفَرَسِ وَالثَّوْبِ
وَكَذَا الْجَارِيَةُ حتى لو وُجِدَ بِوَاحِدٍ من الْجُمْلَةِ عَيْبًا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ من الْبَدَلَيْنِ وَكَذَا لو اُسْتُحِقَّ وَاحَدٌّ مِنْهُمَا يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ من الْبَدَلَيْنِ على الْبَائِعِ وَكَذَا لو كان أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِحِصَّتِهَا من الْبَدَلَيْنِ فَكَانَ التَّقْسِيمُ على الْوَجْهِ الذي قُلْنَا هو الْمُوجَبُ الْأَصْلِيُّ في الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا وَالِانْقِسَامُ على هذا الْوَجْهِ في أَمْوَالِ الرِّبَا يُحَقِّقُ الرِّبَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَائِعًا كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّيْ شَعِيرٍ بِكُرَّيْ شَعِيرٍ وَبِكُرِّ حِنْطَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا على أَنَّهُ إنْ لم يَتَحَقَّقْ الرِّبَا فَفِيهِ احْتِمَالُ الرِّبَا وَأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَبَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ مُجَازَفَةً
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ من غَيْرِ فَصْلٍ فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَلِأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَطْلَقَا مُقَابَلَةَ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ وَالْمُطْلَقُ يَتَعَرَّضُ لِلذَّاتِ لَا لِلصِّفَاتِ وَالْجِهَاتِ فَلَا يَكُونُ مُقَابَلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا وَلَا مُقَابَلَةُ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ عَيْنًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا لِأَنَّهُ اسْمٌ لِفَضْلِ مَالٍ في مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا ولم يُوجَدْ أو نَقُولُ مُطْلَقُ الْمُقَابِلَةِ تَحْتَمِلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ على سَبِيلِ الشُّيُوعِ من حَيْثُ الْقِيمَةُ كما قُلْتُمْ وَتُحْتَمَلُ مُقَابِلَةَ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك مُقَابَلَةُ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّا لو حَمَلْنَاهُ على الْأَوَّلِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ على الثَّانِي لَصَحَّ فَالْحَمْلُ على ما فيه الصِّحَّةُ أَوْلَى
وَقَوْلُهُ مُوجَبُ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ الْمُشْتَمِلِ على إبدال من الْجَانِبَيْنِ انْقِسَامُ كل بَدَلٍ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ على جَمِيعِ الْأَبْدَالِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ على الشُّيُوعِ من حَيْثُ التَّقْوِيمِ قُلْنَا مَمْنُوعٌ لِأَنَّ هذا مُوجَبُ الْعَقْدِ الْمُطْلَقِ في مَوْضِعٍ في مَسَائِلِ الْبِيَاعَاتِ في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا ما ثَبَتَ الِانْقِسَامُ مُوجَبًا له بَلْ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ في الْأَبْدَالِ لَأَنَّهُمَا لَمَّا أَطْلَقَا الْبَيْعَ وهو يَشْتَمِلُ على أَبْدَالٍ من الْجَانِبَيْنِ من غَيْرِ تَعْيِينِ مُقَابِلَةِ الْبَعْضِ بِالْبَعْضِ وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَوْلَى من الْبَعْضِ في التَّعْيِينِ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْإِشَاعَةِ وَالتَّقْسِيمِ من حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِالْإِشَاعَةِ وَالرُّجُوعِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَنَحْوِ ذلك فَلَا يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ عِنْدَ الْقِيمَةِ قبل تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ على
____________________

(5/191)


ما عُرِفَ
وَقَوْلُهُ فيه احْتِمَالُ الرِّبَا
قُلْنَا احْتِمَالُ الرِّبَا هَهُنَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ عَيْنًا كما في بَيْعِ الصُّبْرَةِ بِالصُّبْرَةِ لَا على الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ يَلْزَمُ رِعَايَةُ الْمُمَاثَلَةِ الْمَشْرُوطَةِ ولم تُوجَدْ هَهُنَا فَلَا تُوجِبُ الْفَسَادَ وَعَلَى هذا إذَا بَاعَ دِينَارًا وَدِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمَيْنِ وَدِينَارَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَيَكُونُ الدِّينَارُ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَالدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ
وَكَذَا إذَا بَاعَ دِرْهَمَيْنِ وَدِينَارًا بِدِينَارَيْنِ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا بِأَنْ يُجْعَلَ الدِّرْهَمَانِ بِالدِّينَارَيْنِ وَالدِّينَارُ بِالدِّرْهَمِ وَكَذَا إذَا بَاعَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَتَكُونُ الْخَمْسَةُ بِمُقَابَلَةِ الْخَمْسَةِ وَالْخَمْسَةُ الْأُخْرَى بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدِينَارٍ جَازَ عِنْدَنَا وَكَانَتْ الْعَشَرَةُ بِمِثْلِهَا وَدِينَارٌ بِدِرْهَمٍ
وَكَذَلِكَ قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أنه إذَا بَاعَ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَجُوزُ وَلَا بَأْسَ بِهِ وَتَكُونُ الْمِائَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ وَالتُّسْعُمِائَةِ بِمُقَابَلَةِ الدِّينَارِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا
وَكَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال إذَا بَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّرَاهِمِ وفي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ من حَيْثُ الْوَزْنُ وفي الْجَانِبِ الذي لَا فَضْلَ فيه فُلُوسٌ فَهُوَ جَائِزٌ في الْحُكْمِ وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ
فَقِيلَ كَيْفَ تَجِدُهُ في قَلْبِكَ
قال أَجِدُهُ مِثْلَ الْجَبَلِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى ما يُقَابِلُ الزِّيَادَةَ من حَيْثُ الْوَزْنُ من خِلَافِ الْجِنْسِ إنْ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الزِّيَادَةِ أو كانت أَقَلَّ منها مِمَّا يَتَغَابَنُ الناس فيه عَادَةً جَازَ الْبَيْعُ من غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَإِنْ كانت شيئا قَلِيلَ الْقِيمَةِ كَفَلْسٍ وَجَوْزَةٍ وَنَحْوِ ذلك يَجُوزُ مع الْكَرَاهَةِ وَإِنْ كان شيئا لَا قِيمَةَ له أَصْلًا كَكَفٍّ من تُرَابٍ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ أَصْلًا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَرَيَانِ الرِّبَا فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مَعْصُومَيْنِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا غير مَعْصُومٍ لَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ ما إذَا دخل مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أو غير ذلك من سَائِرِ الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ في حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْمُسْلِمُ الْأَسِيرُ في دَارِ الْحَرْبِ أو الْحَرْبِيُّ الذي أَسْلَمَ هُنَاكَ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا فَبَايَعَ أَحَدًا من أهل الْحَرْبِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا كما هِيَ ثَابِتَةٌ في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ ثَابِتَةٌ في حَقِّ الْكُفَّارِ لِأَنَّهُمْ مُخَاطَبُونَ بِالْحُرُمَاتِ في الصَّحِيحِ من الْأَقْوَالِ فَاشْتِرَاطُهُ في الْبَيْعِ يُوجِبُ فَسَادَهُ كما إذَا بَايَعَ الْمُسْلِمُ الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَلَهُمَا أَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ ليس بِمَعْصُومٍ بَلْ هو مُبَاحٌ في نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُسْتَأْمَنَ مُنِعَ من تَمَلُّكِهِ من غَيْرِ رِضَاهُ لِمَا فيه من الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ فإذا بَدَّلَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَرِضَاهُ فَقَدْ زَالَ هذا الْمَعْنَى فَكَانَ الْأَخْذُ اسْتِيلَاءً على مَالٍ مُبَاحٍ غَيْرِ مَمْلُوكٍ وأنه مَشْرُوعٌ مُفِيدٌ لِلْمِلْكِ كَالِاسْتِيلَاءِ على الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ هَهُنَا ليس بِتَمَلُّكٍ بَلْ هو تَحْصِيلُ شَرْطِ التَّمَلُّكِ وهو الرِّضَا لِأَنَّ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ لَا يَزُولُ بِدُونِهِ وما لم يَزُلْ مِلْكُهُ لَا يَقَعُ الْأَخْذُ تَمَلُّكًا لَكِنَّهُ إذَا زَالَ فَالْمِلْكُ لِلْمُسْلِمِ يَثْبُتُ بِالْأَخْذِ وَالِاسْتِيلَاءِ لَا بِالْعَقْدِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا لِأَنَّ الرِّبَا اسْمٌ لِفَضْلٍ يُسْتَفَادُ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا بَاعَ حَرْبِيًّا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَالْمَالُ الْمَعْصُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاسْتِيلَاءِ فَتَعَيَّنَ التَّمَلُّكُ فيه بِالْعَقْدِ وَشَرْطُ الرِّبَا في الْعَقْدِ مُفْسِدٌ
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ فَبَاعَ حَرْبِيًّا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أو غير ذلك من الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ في الْإِسْلَامِ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا لِأَنَّ ما جَازَ من بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ من بُيُوعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وما يَبْطُلُ أو يَفْسُدُ من بُيُوعِ الْمُسْلِمِينَ يَبْطُلُ أو يَفْسُدُ من بُيُوعِهِمْ إلَّا الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْبَدَلَانِ مُتَقَوِّمَيْنِ شَرْعًا وهو أَنْ يَكُونَا مَضْمُونَيْنِ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا غير مَضْمُونٍ حَقًّا لِلْعَبْدِ لَا يَجْرِي فيه الرِّبَا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ ما إذَا دخل الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ فَبَايَعَ رَجُلًا أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم يُهَاجِرْ إلَيْنَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أو غير ذلك من الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ في دَارِ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِنْ كانت ثَابِتَةً فَالتَّقَوُّمُ ليس بِثَابِتٍ عِنْدَهُ حتى لَا يَضْمَنَ نَفْسَهُ بِالْقِصَاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ عِنْدَهُ وَكَذَا مَالُهُ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ وَعِنْدَهُمَا نَفْسُهُ وَمَالُهُ مَعْصُومَانِ مُتَقَوِّمَانِ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في كِتَابِ السِّيَرِ
وَلَوْ دخل مُسْلِمَانِ دَارَ الْحَرْبِ فَتَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ أو غَيْرَهُ من الْبُيُوعِ الْفَاسِدَةِ في دَارِ الْإِسْلَامِ
____________________

(5/192)


لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَالَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ فَكَانَ التَّمَلُّكُ بِالْعَقْدِ فَيَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ الذي بَايَعَ الْمُسْلِمَ وَدَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ أو أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ فما كان من رِبًا مَقْبُوضٍ أو بَيْعٍ فَاسِدٍ مَقْبُوضٍ فَهُوَ جَائِزٌ مَاضٍ وما كان غير مَقْبُوضٍ يَبْطُلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ من الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ }
أَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتَرْكِ ما بَقِيَ من الرب ( ( ( الربا ) ) ) وَالْأَمْرُ بِتَرْكِ ما بَقِيَ من الرِّبَا نَهْيٌ عن قَبْضِهِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال اُتْرُكُوا قَبْضَهُ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ الْقَبْضِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال كُلُّ رِبًا في الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمِي وَالْوَضْعُ عِبَارَةٌ عن الْحَطِّ وَالْإِسْقَاطِ وَذَلِكَ فِيمَا لم يُقْبَضْ وَلِأَنَّ بِالْإِسْلَامِ حُرِّمَ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ فَكَذَا الْقَبْضُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ تَقْرِيرُ الْعَقْدِ وَتَأْكِيدُهُ فَيُشْبِهُ الْعَقْدَ فَيَلْحَقُ بِهِ إذْ هو عَقْدٌ من وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا وَمَتَى حُرِّمَ الْقَبْضُ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْبَدْلَانِ مِلْكًا لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَإِنْ كان لَا يَجْرِي الرِّبَا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا بَاعَ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ وَلَيْسَ عليه دَيْنٌ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فما في يَدِهِ لِمَوْلَاهُ فَكَانَ الْبَدَلَانِ مِلْكَ الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ هذا بَيْعًا فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا إذْ هو مُخْتَصٌّ بِالْبِيَاعَاتِ
وَكَذَلِكَ الْمُتَعَاوَضَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَدَلَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ مُبَادَلَةَ مَالِهِ بماله فَلَا يَكُونُ بَيْعًا وَلَا مُبَادَلَةً حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ الشَّرِيكَانِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ من مَالِ الشَّرِكَةِ جَازَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ تَبَايَعَا من غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا في غَيْرِ مَالِ الشَّرِكَةِ أَجْنَبِيَّانِ وَلَوْ كان على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنٌ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ فلم يَجْتَمِعْ الْبَدَلَانِ في مِلْكٍ وَاحِدٍ
وَعِنْدَهُمَا وَإِنْ كان يَمْلِكُ لَكِنْ مِلْكًا مَحْجُورًا عن التَّصَرُّفِ فيه لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عنه وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا عَاقَدَ مُكَاتَبَهُ عَقْدَ الرب ( ( ( الربا ) ) ) لم يَجُزْ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ في حَقِّ الِاكْتِسَابِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ لِانْقِطَاعِ تَصَرُّفِ الْمَوْلَى عنها فَأَشْبَهَ الْأَجَانِبَ
وَأَمَّا إسْلَامُ الْمُتَبَايِعِينَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَرَيَانِ الرِّبَا فَيَجْرِي الرِّبَا بين أَهْلِ الذِّمَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ لِأَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ في حَقِّهِمْ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِشَرَائِعَ هِيَ حُرُمَاتٌ إنْ لم يَكُونُوا مُخَاطَبِينَ بِشَرَائِعَ هِيَ عِبَادَاتٌ عِنْدَنَا قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وقد نُهُوا عنه وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ الناس بِالْبَاطِلِ }
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ إمَّا أَنْ تَذَرُوا الرِّبَا أو تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ من اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَهَذَا في نِهَايَةِ الْوَعِيدِ فَيَدُلُّ على نِهَايَةِ الْحُرْمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْخُلُوُّ عن احْتِمَالِ الرِّبَا فَلَا تَجُوزُ الْمُجَازَفَةُ في أَمْوَالِ الرِّبَا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الرِّبَا كما هِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَاحْتِمَالُ الرِّبَا مُفْسِدٌ له أَيْضًا لِقَوْلِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه ما اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ في شَيْءٍ إلَّا وقد غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كلما جَازَتْ فيه الْمُفَاضَلَةُ جَازَ فيه الْمُجَازَفَةُ وما لَا فَلَا لِأَنَّ التَّمَاثُلَ وَالْخُلُوَّ عن الرِّبَا فِيمَا يَجْرِي فيه الرِّبَا لَمَّا كان شَرْطَ الصِّحَّةِ فَلَا يُعْلَمُ تَحْقِيقُ الْمُمَاثَلَةِ بِالْمُجَازَفَةِ فَيَقَعُ الشَّكُّ في وُجُودِ شَرْطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَثْبُتُ الصِّحَّةُ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في الْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ على شَرْطٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ في وُجُودِ شَرْطِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِأَنَّ غير الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ كما أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ
وَبَيَانُ هذا الْأَصْلِ في مَسَائِلَ إذَا تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ مُجَازَفَةً فَإِنْ لم يَعْلَمَا كَيْلَهُمَا أو عَلِمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ أو عَلِمَا كَيْلَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ عُلِمَ اسْتِوَاؤُهُمَا في الْكَيْلِ فَإِنْ عُلِمَ في الْمَجْلِسِ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ وَإِنْ طَالَ فَلَهُ حُكْمُ حَالَةِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ عُلِمَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لم يَجُزْ وقال زُفَرُ يَجُوزُ عُلِمَ قبل الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَيْلِ عِنْدَ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ الْمَشْرُوطَةِ وقد تَبَيَّنَ أنها كانت ثَابِتَةً عِنْدَهُ
وَلَنَا أَنَّ عِلْمَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْمُسَاوَاةِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ ولم يُوجَدْ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْعِلْمَ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطُ الصِّحَّةِ أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ رِعَايَةَ الْمُمَاثَلَةِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَيْ بِيعُوا الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ أَمَرَ الْمُتَبَايِعَيْنِ بِالْبَيْعِ بِصِفَةِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ الْمُمَاثَلَةُ مَعْلُومَةً لَهُمَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِتُمَكِّنَهُمَا من رِعَايَةِ هذا الشَّرْطِ
وَكَذَا لو كان بين رَجُلَيْنِ حِنْطَةٌ فَاقْتَسَمَاهَا مُجَازَفَةً لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فيها مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فيها مُجَازَفَةً فَكَذَا الْقِسْمَةُ وَلَوْ تَبَايَعَا حِنْطَةً بِحِنْطَةٍ
____________________

(5/193)


وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا في الْوَزْنِ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَكِيلَةٌ وَالتَّسَاوِي في الْكَيْلِ شَرْطُ جَوَازِ الْبَيْعِ في الْمَكِيلَاتِ وَلَا تُعْلَمُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا في الْكَيْلِ فَكَانَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ مُجَازَفَةً
وروى عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا غَلَبَ اسْتِعْمَالُ الْوَزْنِ فيها تَصِيرُ وَزْنِيَّةً وَيَعْتَبِرُ التَّسَاوِي فيها بِالْوَزْنِ وَإِنْ كانت في الْأَصْلِ كَيْلِيَّةٌ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الْمُزَابَنَةُ وَالْمُحَاقَلَةُ أَنَّهُمَا لَا يَجُوزَانِ لِأَنَّ الْمُزَابَنَةَ بَيْعُ التَّمْرِ على رؤوس النَّخْلِ بِمِثْلِ كيلة من التَّمْرِ خَرْصًا لَا يدري أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَالزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ لَا يدري أَيُّهُمَا أَكْثَرُ وَالْمُحَاقَلَةُ بَيْعُ الْحَبِّ في السُّنْبُلِ بِمِثْلِ كيلة من الْحِنْطَةِ خَرْصًا لَا يدري أَيُّهُمَا أَكْثَرُ فَكَانَ هذا بَيْعَ مَالِ الرِّبَا مُجَازَفَةً لِأَنَّهُ لَا تعرف ( ( ( يعرف ) ) ) الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا في الْكَيْلِ
وقد رُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ الْمُزَابَنَةِ وَالْمُحَاقَلَةِ
وَفَسَّرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُزَابَنَةَ وَالْمُحَاقَلَةَ في الموطأ بِمَا قُلْنَا وهو كان إمَامًا في اللُّغَةِ كما كان إمَامًا في الشَّرِيعَةِ وقال كَذَلِكَ الْجَوَابُ إذَا كان أَكْثَرَ من خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَأَمَّا ما دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رَوَى أبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ رَخَّصَ في بَيْعِ الْعَرَايَا بِالتَّمْرِ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَقَدْ رَخَّصَ رسول اللَّهِ من جُمْلَةِ ما حَرَّمَ من الْمُزَابَنَةِ ما دُونَ خَمْسَةٍ وَالْمُرَخَّصُ من جُمْلَةِ ما حُرِّمَ يَكُونُ مُبَاحًا
وَتَفْسِيرُ الْعَرِيَّةِ عِنْدَنَا ما ذَكَرَهُ مَالِكُ بن أَنَسٍ في الموطأ رضي اللَّهُ عنه وهو أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ نَخِيلٌ فَيُعْطِيَ رَجُلًا منها ثَمَرَةَ نَخْلَةٍ أو نَخْلَتَيْنِ يَلْقُطُهُمَا لِعِيَالِهِ ثُمَّ يَثْقُلَ عليه دُخُولُهُ حَائِطَهُ فَيَسْأَلَهُ أَنْ يَتَجَاوَزَ له عنها على أَنْ يُعْطِيَهُ بِمَكِيلَتِهَا تَمْرًا عِنْدَ إصْرَامِ النَّخْلِ وَذَلِكَ ما لَا بَأْسَ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ لَا بَيْعَ هُنَاكَ بَلْ التَّمْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ فَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ له ثَمَرُ النَّخْلِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ بِمَكِيلَتِهَا من التَّمْرِ إلَّا أَنَّهُ سَمَّاهُ الرَّاوِي بَيْعًا لِتَصَوُّرِهِ بِصُوَرِ الْبَيْعِ لَا أَنْ يَكُونَ بَيْعًا حَقِيقَةً بَلْ هو عَطِيَّةٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَمْلِكْهُ المعري له لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ فَكَيْفَ يُجْعَلُ بَيْعًا وَلِأَنَّهُ لو جُعِلَ بَيْعًا لَكَانَ بَيْعَ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ إلَى أَجَلٍ وأنه لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ دَلَّ أَنَّ الْعَرِيَّةَ الْمُرَخَّصَ فيها لَيْسَتْ بِبَيْعٍ حَقِيقَةً بَلْ هِيَ عَطِيَّةٌ وَلِأَنَّ الْعَرِيَّةَ هِيَ الْعَطِيَّةُ لُغَةً قال حَسَّانُ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه لَيْسَتْ بِسَنْهَاءَ وَلَا رَجَبِيَّةٍ وَلَكِنْ عَرَايَا في السِّنِينَ الْجَوَائِحِ وَلَوْ اشْتَرَى بِكُرٍّ من تَمْرٍ نَخْلًا عليها ثَمَرٌ وَسَمَّى التَّمْرَ أو ذَكَرَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هو منه حتى دخل في الْبَيْعِ يُرَاعَى في جَوَازِهِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ وهو أَنْ يَكُونَ كَيْلُ التَّمْرِ أَكْثَرَ من كَيْلِ الثَّمَرِ لِيَكُونَ الثَّمَرُ بمثله وَالزِّيَادَةُ بِإِزَاءِ النَّخْلِ فَإِنْ كان أَقَلَّ لَا يَجُوزُ
لِأَنَّ التَّمْرَ يَكُونُ بِمِثْلِ كَيْلِهِ وَزِيَادَةُ التَّمْرِ مع النَّخْلِ تَكُونُ زِيَادَةً لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ فَيَكُونُ رِبًا
وَكَذَا إذَا كان مثله لِأَنَّ النَّخْلَ يَكُونُ فَضْلًا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَكَذَا إذَا كان لَا يدري عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ إنَّمَا يَجُوزُ على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ إذَا كان التَّمْرُ نَقْدًا فَإِنْ كان نَسِيئَةً لم يَجُزْ لِتَحَقُّقِ رِبَا النَّسَاءِ
هذا إذَا كان ثَمَرُ النَّخْلِ بُسْرًا أو رُطَبًا أو تَمْرًا يَابِسًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَإِنْ كان كفري جَازَ الْبَيْعُ كَيْفَ ما كان من غَيْرِ شَرْطِ الِاعْتِبَارِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الكفري بِالتَّمْرِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ كَيْفَ ما كان وَلَوْ لم يَكُنْ التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قبل الْقَبْضِ كُرًّا أو أَكْثَرَ من الْكُرِّ لَا يَفْسُدُ الْبَيْعُ بِخِلَافِ ما إذَا كان التَّمْرُ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ أَثْمَرَ النَّخْلُ قبل الْقَبْضِ فَبَاعَهُ مع النَّخْلِ بِالتَّمْرِ وَكَيْلُ التَّمْرِ مِثْلُ كَيْلِ ثَمَرِ النَّخْلِ أو أَقَلُّ حَيْثُ يَفْسُدُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَدْخَلَا الرِّبَا في الْعَقْدِ لِأَنَّهُمَا قَابَلَا الثَّمَنَ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَانْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا وَبَعْضُ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا فَدَخَلَ الرِّبَا في الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا وَاشْتِرَاطُ الرِّبَا في الْعَقْدِ مُفْسِدٌ له
وَهَهُنَا الْبَيْعُ كان صَحِيحًا في الْأَصْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ إذْ الْمَبِيعُ هو النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا زَادَ فَقَدْ صَارَ مَبِيعًا في حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا فَبَقِيَ الْبَيْعُ صَحِيحًا وَالزِّيَادَةُ مِلْكُ الْمُشْتَرِي وَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ النَّخْلِ وَقِيمَةِ الزِّيَادَةِ لَكِنْ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّخْلِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَيَطِيبُ له من التَّمْرِ قَدْرُ حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ فَضَلَ له ذلك الْقَدْرُ بِبَدَلٍ وَلَا يَطِيبُ له الْفَضْلُ وَيَتَصَدَّقُ بِهِ لِأَنَّهُ رِبْحُ ما لم يَضْمَنْ
وَلَوْ قَضَى الثَّمَنَ من التَّمْرِ الْحَادِثِ يُنْظَرُ إنْ قَضَاهُ منه قبل الْقَبْضِ فَقَضَاؤُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ منه تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وأنه لَا يَجُوزُ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم يَقْبِضْ حتى لو هَلَكَ الثَّمَنُ في يَدِ الْبَائِعِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَإِنْ أَكَلَهُ الْبَائِعُ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ
وَإِنْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ قَضَى منه جَازَ
____________________

(5/194)


الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ وأنه جَائِزٌ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا زَادَ على حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالْقِيمَةُ فِيهِمَا مُجَازَفَةٌ وَلَوْ تَبَايَعَا حِنْطَةً بِشَعِيرٍ أو ذَهَبًا بِفِضَّةٍ مُجَازَفَةً جَازَ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ في بَيْعِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ غَيْرُ مَشْرُوطَةٍ وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُفَاضَلَةُ فيه فَالْمُجَازَفَةُ أَوْلَى وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ بَيْعُ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ وَغَيْرِ جِنْسِهِ كما إذَا اشْتَرَى فِضَّةً مع غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ بِأَنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ أو مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً أو جَارِيَةً في عُنُقِهَا طَوْقٌ من فِضَّةٍ أو اشْتَرَى ذَهَبَا وَغَيْرَهُ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ كما إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ أو جَارِيَةً مع حِلْيَتِهَا وَحُلِيُّهَا ذَهَبٌ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ وَنَحْوِ ذلك أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُجَازَفَةً عِنْدَنَا بَلْ يُرَاعَى فيه طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ وهو أَنْ يَكُونَ وَزْنُ الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ أو الذَّهَبِ الْمُفْرَدِ أَكْثَرَ من الْمَجْمُوعِ مع غَيْرِهِ لِيَكُونَ قَدْرُ وَزْنِ الْمُفْرَدِ بمثله من الْمَجْمُوعِ وَالزِّيَادَةُ بِخِلَافِ جِنْسِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فَإِنْ كان وَزْنُ الْمُفْرَدِ أَقَلَّ من وَزْنِ الْمَجْمُوعِ لم يَجُزْ لِأَنَّ زِيَادَةَ وَزْنِ الْمَجْمُوعِ مع خِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ في عَقْدِ الْبَيْعِ فَيَكُونُ رِبًا
وَكَذَلِكَ إذَا كان مثله في الْوَزْنِ لِأَنَّهُ يَكُونُ الْفِضَّةُ بِمِثْلِهَا وَالذَّهَبُ بمثله فَالْفَضْلُ يَكُونُ رِبًا وَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ وَكَذَلِكَ إذَا كان لَا يُعْلَمُ وَزْنُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ أو مِثْلُهُ أو أَقَلُّ أو اخْتَلَفَ أَهْلُ النَّظَرِ فيه
فقال بَعْضُهُمْ الثَّمَنُ أَكْثَرُ
وقال بَعْضُهُمْ هو مِثْلُهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْأَصْلَ في الْبَيْعِ جَوَازُهُ وَالْفَسَادُ بِعَارِضِ الرِّبَا وفي وُجُودِهِ شَكٌّ فَلَا يَثْبُتُ الْفَسَادُ بِالشَّكِّ لِأَنَّ جِهَةَ الْفَسَادِ في هذا الْعَقْدِ أَكْثَرُ من جِهَةِ الْجَوَازِ لِأَنَّ وَزْنَ الْمُفْرَدِ لو كان أَقَلَّ يُفْسِدُ وَكَذَلِكَ لو كان مثله وَلَوْ كان أَكْثَرَ يَجُوزُ فَجَازَ من وجد ( ( ( وجه ) ) ) وَفَسَدَ من وَجْهَيْنِ فَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِجِهَةِ الْفَسَادِ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ ثُمَّ إذَا كان وَزْنُ الْمُفْرَدِ أَكْثَرَ حتى جَازَ الْبَيْعُ فَيَجْتَمِعُ في هذا الْعَقْدِ صَرْفٌ وهو بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ أو الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَبَيْعٌ مُطْلَقٌ وهو بَيْعُ الذَّهَبِ أو الْفِضَّةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَيُرَاعَى في الصَّرْفِ شَرَائِطُهُ وَسَنَذْكُرُ شَرَائِطُ الصَّرْفِ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا فَاتَ شَيْءٌ من الشَّرَائِطِ حتى فَسَدَ الصَّرْفُ هل يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ فيه تَفْصِيلٌ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا إذَا اشْتَرَى فِضَّةً مع غَيْرِهَا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ أو ذَهَبًا مع غَيْرِهِ بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى ذَهَبًا مع غَيْرِهِ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ أو فِضَّةً مع غَيْرِهَا بِذَهَبٍ مُفْرَدٍ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَا رِبَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ غير أَنَّهُ يُقَسَّمُ الْمُفْرَدُ على قِيمَةِ الْمَجْمُوعِ وَقِيمَةِ ذلك الْغَيْرِ فما كان بِمُقَابَلَةِ الذَّهَبِ أو الْفِضَّةِ يَكُونُ صَرْفًا فَيُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ وما كان بِمُقَابَلَةِ غَيْرِهِ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا على ما نَذْكُرُهُ في بَيَانِ شَرَائِطِ الصَّرْفِ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ بَيْعُ تُرَابِ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ أَمَّا تُرَابُ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِفِضَّةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِغَيْرِهَا فَإِنْ بَاعَهُ بِفِضَّةٍ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ على ما في التُّرَابِ من الْفِضَّةِ لَا على التُّرَابِ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ له وَالْمُمَاثَلَةُ بين الْفِضَّتَيْنِ لَيْسَتْ بِمَعْلُومَةٍ فَكَانَ هذا الْبَيْعُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ بَاعَهُ بِذَهَبٍ جَازَ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَيُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لم يَخْلُصْ منه شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كان فَاسِدًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ ما ليس بِمَالٍ فَصَارَ كما لو اشْتَرَى شَخْصًا على أَنَّهُ عَبْدٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حُرٌّ أو اشْتَرَى شَاةً مَسْلُوخَةً على أنها مَذْبُوحَةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أنها مَيِّتَةٌ فَإِنْ خَلَصَ منه شَيْءٌ فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى شيئا لم يَرَهُ فَأَشْبَهَ ما لو اشْتَرَى ثَوْبًا في سَقَطٍ أو سَمَكَةً في جُبٍّ
وَلَوْ بَاعَهُ بِعِوَضٍ جَازَ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا ثُمَّ يُنْظَرُ أن خَلَصَ منه شَيْءٌ أو لم يَخْلُصْ على ما ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنٍ مِثْلِهِ من الْفِضَّةِ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقَعُ على ما فيها من الْفِضَّةِ وَلَا يُعْلَمُ تَسَاوِيهِمَا في الْوَزْنِ فَكَانَ بَيْعَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً وَلَوْ بَاعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ جَازَ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَيُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ ثُمَّ إنْ لم يَخْلُصْ منه شَيْءٌ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كان فَاسِدًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ ما ليس بِمَالٍ
وَكَذَا إنْ خَلَصَ من أَحَدِهِمَا ولم يَخْلُصْ من الْآخَرِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ الْمَالَ بِمَا ليس بِمَالٍ وَإِنْ خَلَصَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْأَمْرُ مَاضٍ وَلَهُمَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرٍ ما لم يَرَهُ وَكَذَلِكَ لو كان تُرَابُ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ بين رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهُ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فيها مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْمُجَازَفَةَ كَالْبَيْعِ
وَلَوْ بَاعَ منه قَفِيزًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِذَهَبٍ أو بِعَرَضٍ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْمَبِيعَ ما في التُّرَابِ من الْفِضَّةِ وأنه
____________________

(5/195)


مَجْهُولُ الْقَدْرِ لِأَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ منه قَفِيزٌ يَخْلُصُ منه خَمْسَةٌ وَمِنْهُ قَفِيزٌ يَخْلُصُ منه عَشَرَةٌ فَكَانَ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْقَفِيزِ من صُبْرَةٍ لِأَنَّ قُفْزَانَ الصُّبْرَةِ الْوَاحِدَةِ مُتَمَاثِلَةٌ فلم يَكُنْ الْمَبِيعُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ جُمْلَةِ التُّرَابِ أو ثُلُثَهَا أو رُبُعَهَا شَائِعًا بِذَهَبٍ أو عَرَضٍ جَازَ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا إلَّا إذَا لم يَخْلُصْ منه شَيْءٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كان فَاسِدًا لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ خَلَصَ منه شَيْءٌ فَيَكُونُ ما خَلَصَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهَا وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ تُرَابَ الْمَعْدِنِ جَازَ وَعَلَى الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ ما خَلَصَ منه وَقَبَضَ لِأَنَّ الْقَرْضَ وَقَعَ على ما يَخْلُصُ منه وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ في قَدْرِ ما قَبَضَ وَخَلُصَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِنِصْفِ هذا التُّرَابِ أو بِثُلُثِهِ أو بِرُبُعِهِ يَجُوزُ إنْ خَلَصَ منه شَيْءٌ كما يَجُوزُ لو بِيعَ منه شَيْءٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كان فَاسِدًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ خَلَصَ منه شَيْءٌ فَيَكُونُ أَجْرُهُ مِمَّا ما خَلَصَ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِتُرَابِ الْمَعْدِنِ بِعَيْنِهِ جَازَتْ الْإِجَارَةُ أن خَلَصَ منه شَيْءٌ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِمَالِ وَالْأَجِيرِ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ آجَرَ نَفْسَهُ بِمَا لم يَرَهُ فَإِنْ شَاءَ رضي بِهِ وَلَا شَيْءَ له غَيْرَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ وَرَجَعَ على الْمُسْتَأْجِرِ بِأَجْرِ مِثْلِهِ بَالِغًا ما بَلَغَ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِقَفِيزٍ من تُرَابٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ما في التُّرَابِ من الْفِضَّةِ وأنه مَجْهُولُ الْقَدْرِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ بَيْعُهُ وَيَكُونُ بَيْنَهُمَا وَلَهُ الْخِيَارُ وَإِنْ لم يَخْلُصْ لَا يَجُوزُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَعَلَى هذا حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ في جَمِيعِ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا تُرَابُ الصَّاغَةِ فَإِنْ كان فيه فِضَّةٌ خَالِصَةٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الْفِضَّةِ وَإِنْ كان فيه ذَهَبٌ خَالِصٌ فَحُكْمُهُ حُكْمُ تُرَابِ مَعْدِنِ الذَّهَبِ وَإِنْ كان فيه ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ أو فِضَّةٍ لم يَجُزْ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ ما فيه من الذَّهَبِ أو الْفِضَّةِ أَكْثَرَ أو أَقَلَّ أو مثله فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا
وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ جَازَ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ذَهَبًا وَفِضَّةً بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ فَيَجُوزُ وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ويراعي فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ وَلَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ جَازَ لِانْعِدَامِ احْتِمَالِ الرِّبَا وَهَذَا كُلُّهُ إذَا خَلَصَ منه شَيْءٌ فَإِنْ لم يَخْلُصْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ كان فَاسِدًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ التي الْغِشُّ فيها هو الْغَالِبُ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمَضْرُوبَةَ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ أما أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ فيها هِيَ الْغَالِبَةُ وأما أَنْ يَكُونَ الْغِشُّ فيها هو الْغَالِبُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ فيها على السَّوَاءِ فَإِنْ كانت الْفِضَّةُ فيها هِيَ الْغَالِبَةُ بِأَنْ كان ثُلُثَاهَا فِضَّةً وَثُلُثُهَا صُفْرًا أو كانت ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا فِضَّةً وَرُبُعُهَا صُفْرًا وَنَحْوَ ذلك فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ إلَّا سَوَاءً سواء
وَكَذَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ لَا يَجُوزُ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْغَالِبِ وَإِلْحَاقُ الْمَغْلُوبِ بِالْعَدَمِ هو الْأَصْلُ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الْجِيَادَ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ غِشٍّ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لَا تَنْطَبِعُ بِدُونِهِ على ما قِيلَ فَكَانَ قَلِيلُ الْغِشِّ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه فَكَانَتْ الْعِبْرَةُ لِلْغَلَبَةِ وَإِنْ كان الْغِشُّ فيها هو الْغَالِبُ فَإِنْ كانت الْفِضَّةُ لَا تَخْلُصُ بِالذَّوْبِ وَالسَّبْكِ بَلْ تَحْتَرِقُ وَيَبْقَى النُّحَاسُ فَحُكْمُهَا حُكْمُ النُّحَاسِ الْخَالِصِ لِأَنَّ الْفِضَّةَ فيها إذَا كانت مُسْتَهْلَكَةً كانت مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ كُلُّهُ نُحَاسًا لَا يُبَاعُ بِالنُّحَاسِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ
وَإِنْ كانت تَخْلُصُ من النُّحَاسِ وَلَا تَحْتَرِقُ وَيَبْقَى النُّحَاسُ على حَالِهِ أَيْضًا فإنه يُعْتَبَرُ فيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حَالِهِ وَلَا يُجْعَلُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ كَأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ مُمْتَازَانِ أَحَدُهُمَا عن صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَخْلِيصُ أَحَدِهِمَا من صَاحِبِهِ على وَجْهٍ يَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الذَّوْبِ وَالسَّبْكِ لم يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُسْتَهْلَكًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ إلَّا على طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ وهو أَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ من الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ يُصْرَفُ إلَى الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ مِثْلُهَا من الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ وَالزِّيَادَةُ إلَى الْغِشِّ كما لو بَاعَ فِضَّةً وَصُفْرًا مُمْتَازَيْنِ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ فَإِنْ كانت الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَقَلَّ من الْمَخْلُوطَةِ لم يَجُزْ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْفِضَّةِ الْمَخْلُوطَةِ مع الصُّفْرِ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا من الْعِوَضِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ رِبًا
وَكَذَا إذَا كانت مِثْلَهَا لِأَنَّ الصُّفْرَ يَكُونُ فَضْلًا لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ وَكَذَا إذَا كان لَا يدري قَدْرُ الْفِضَّتَيْنِ أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أو هُمَا سَوَاءٌ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يَجُوزُ وقد ذَكَرْنَا الْحُجَجَ فِيمَا قَبْلُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ إذَا كانت الدَّرَاهِمُ ثُلُثَاهَا صُفْرًا وَثُلُثهَا فِضَّةٌ وَلَا يُقْدَرُ أَنْ يُخَلَّصَ الْفِضَّةُ من الصُّفْرِ وَلَا يدري إذَا خُلِّصَتْ أَيَبْقَى الصُّفْرُ أَمْ يَحْتَرِقُ أَنَّهُ يراعي في بَيْعِ هذه الدَّرَاهِمِ بِفِضَّةٍ خَالِصَةٍ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ ثُمَّ إذَا كانت الْفِضَّةُ الْخَالِصَةُ أَكْثَرَ حتى جَازَ الْبَيْعُ يَكُونُ هذا صَرْفًا وَبَيْعًا
____________________

(5/196)


مُطْلَقًا فَيُرَاعَى في الصَّرْفِ شَرَائِطُهُ وإذا فَسَدَ بِفَوَاتِ شَرْطٍ منه يَفْسُدُ الْبَيْعُ في الصُّفْرِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تمييزه ( ( ( تميزه ) ) ) إلَّا بِضَرَرٍ وَبَيْعُ ما لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ عن غَيْرِهِ إلَّا بِضَرَرٍ فَاسِدٌ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ بِيعَتْ هذه الدَّرَاهِمُ بِذَهَبٍ جَازَ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الرِّبَا وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يَمْنَعُ تحقق ( ( ( تحقيق ) ) ) الرِّبَا لَكِنْ يُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وإذا فَاتَ شَرْطٌ منه حتى فَسَدَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ في الصُّفْرِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ بِيعَتْ بِجِنْسِهَا من الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ جَازَ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا نَصَّ عليه مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كما لو بَاعَ فِضَّةً مُنْفَصِلَةً وَصُفْرًا مُنْفَصِلًا بِفِضَّةٍ وَصُفْرٍ مُنْفَصِلَيْنِ
وَقَالُوا في السَّتُّوقَةِ إذَا بِيعَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا أنه يَجُوزُ وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ وَمَشَايِخُنَا لم يُفْتُوا في ذلك إلَّا بِالتَّحْرِيمِ احْتِرَازًا عن فَتْحِ بَابِ الرِّبَا
وَقَالُوا في الدَّرَاهِمِ الْقَطْرُ يفينه ( ( ( يفنيه ) ) ) يَجُوزُ بَيْعُ وَاحِدٍ أو اثْنَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ أو أَرْبَعَةٍ أو خَمْسَةٍ منها بِدِرْهَمٍ فِضَّةٍ لِأَنَّ ما فيها من الْفِضَّةِ يَكُونُ بِمِثْلِ وَزْنِهَا من الْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ وَزِيَادَةُ الْفِضَّةِ تَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الصُّفْرِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ سِتَّةٍ منها بِدِرْهَمٍ فِضَّةٍ لِأَنَّ الصُّفْرَ الذي فيها يَبْقَى فَضْلًا خَالِيًا عن الْعِوَضِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ رِبًا
وكان الشَّيْخُ الْإِمَامُ أبو بَكْرٍ محمد بن الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُفْتِي بِجَوَازِ هذا
وَإِنْ كانت الْفِضَّةُ وَالْغِشُّ فيها سَوَاءً فلم يَقْطَعْ مُحَمَّدٌ الْجَوَابَ فيه في الْجَامِعِ لَكِنَّهُ بَنَاهُ على قَوْلِ الصَّيَارِفَةِ
وحكي عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا إنَّ الْفِضَّةَ وَالصُّفْرَ إذَا خُلِطَا لَا تَتَمَيَّزُ الْفِضَّةُ من الصُّفْرِ حتى يَحْتَرِقَ الصُّفْرُ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَمَيَّزَانِ إلَّا بِذَهَابِ أَحَدِهِمَا وَالصُّفْرُ أَسْرَعُهُمَا ذَهَابًا فقال في هذه الدَّرَاهِمِ إنْ كانت الْفِضَّةُ هِيَ الْغَالِبَةُ أَيْ على ما يَقُولُهُ الصَّيَارِفَةُ إن الصُّفْرَ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الِاحْتِرَاقُ عِنْدَ الْإِذَابَةِ وَالسَّبْكِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ وَلَا بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ كَبَيْعِ الزُّيُوفِ بِالْجِيَادِ لِأَنَّ الصُّفْرَ إذَا كان يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الِاحْتِرَاقُ كان مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ وَإِنْ لم يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَبَقِيَا على السَّوَاءِ يُعْتَبَرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حِيَالِهِ كَأَنَّهُمَا مُنْفَصِلَانِ وَيُرَاعَى في بَيْعِهِمَا بِالْفِضَّةِ الْخَالِصَةِ طَرِيقُ الِاعْتِبَارِ كما في النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا وَمُتَفَاضِلًا وَيُصْرَفُ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ كما في النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَهَلْ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُ الدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ عَدَدًا أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ وهو ما كانت فِضَّتُهُ غَالِبَةً على غِشِّهِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ إلَّا وَزْنًا لِأَنَّ الْغِشَّ إذَا كان مَغْلُوبًا فيه كان بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ عَدَدًا لِأَنَّهَا وَزْنِيَّةٌ فلم يُعْتَبَرْ الْعَدَدُ فيها فَكَانَ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً فلم يَجُزْ فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا أَيْضًا لِأَنَّهَا مُبَادَلَةٌ حَقِيقَةً أو فيها شبه ( ( ( شبهة ) ) ) الْمُبَادَلَةِ فَيَجِبُ صِيَانَتُهَا عن الرِّبَا وَعَنْ شُبْهَةِ الرِّبَا وَلِهَذَا لم يَجُزْ اسْتِقْرَاضُ الْكَيْلِيِّ وَزْنًا لِمَا أَنَّ الْوَزْنَ في الْكَيْلِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَكَانَ إقْرَاضُهُ مُبَادَلَةَ الشَّيْءِ بمثله مُجَازَفَةً أو شُبْهَةَ الْمُبَادَلَةِ فلم يَجُزْ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ النَّوْعُ الثَّالِثُ وهو ما إذَا كان نِصْفُهُ فِضَّةً وَنِصْفُهُ صُفْرًا لِأَنَّ الْغَلَبَةَ إذَا كانت الْفِضَّةُ على اعْتِبَارِ بَقَائِهَا وَذَهَابِ الصُّفْرِ في الْمَآلِ على ما يَقُولُهُ أَهْلُ الصَّنْعَةِ كان مُلْحَقًا بِالدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا وَإِنْ كان لَا يَغْلِبُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ وَيَبْقَيَانِ بَعْدَ السَّبْكِ على حَالِهِمَا كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا بِنَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على حِيَالِهِ فَكَانَ اسْتِقْرَاضُ الْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ جُمْلَةً عَدَدًا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الصفر إن كان يُوجِبُ الْجَوَازَ لِأَنَّ الْفَلْسَ عَدَدِيٌّ فَاعْتِبَارُ الْفِضَّةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ
لِأَنَّ الْفِضَّةَ وَزْنِيَّةٌ فَالْحُكْمُ بِالْفَسَادِ عِنْدَ تَعَارُضِ جِهَتَيْ الْجَوَازِ وَالْفَسَادُ أَحْوَطُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي ما كان الْغِشُّ فيه غَالِبًا وَالْفِضَّةُ مَغْلُوبَةً فإنه يُنْظَرُ إنْ كان الناس يَتَعَامَلُونَ بِهِ وَزْنًا لَا عَدَدًا لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا
لِأَنَّ الْعَدَدَ في الْمَوْزُونِ بَاطِلٌ فَكَانَ اسْتِقْرَاضُهُ مُبَادَلَةَ الْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِ مُجَازَفَةً أو شُبْهَةَ الْمُبَادَلَةِ وأنه لَا يَجُوزُ
وَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِهِ عَدَدًا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا لِأَنَّهُمْ إذَا تَعَامَلُوا بِهِ عَدَدًا فَقَدْ أَلْحَقُوهُ بِالْفُلُوسِ وَجَعَلُوا الْفِضَّةَ التي فيه تَبَعًا لِلصُّفْرِ وأنه مُمْكِنٌ لِأَنَّهَا قَلِيلَةٌ وقد يَكُونُ في الْفُلُوسِ في الْجُمْلَةِ قَلِيلُ فِضَّةٍ فَثَبَتَتْ التَّبَعِيَّةُ بِدَلَالَةِ التَّعَامُلِ
وَمِثْلُ هذه الدَّلَالَةِ لم تُوجَدْ فِيمَا إذَا تَعَامَلُوا بها وَزْنًا لَا عَدَدًا فَبَقِيَتْ وزنيه فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ عَدَدًا
وَإِنْ تَعَامَلَ الناس بها عَدَدًا
لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْفِضَّةِ تَبَعًا لِلْغِشِّ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ منه أو مِثْلُهُ وَالْكَثِيرُ لَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْقَلِيلِ
وَمِثْلُ هذا الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَبَعًا أَيْضًا فَبَقِيَتْ على الصِّفَةِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لها شَرْعًا وَهِيَ كَوْنُهَا وَزْنِيَّةً فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا مُجَازَفَةً كما لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ مُجَازَفَةً وَكَذَا الشِّرَاءُ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْشُوشَةِ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عَدَدًا حُكْمُهُ حُكْمُ الِاسْتِقْرَاضِ سَوَاءٌ
____________________

(5/197)


فَلَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ إلَّا وَزْنًا لِأَنَّهَا في حُكْمِ الْجِيَادِ وإنها وَزْنِيَّةٌ فلم يَجُزْ الشِّرَاءُ بها إلَّا وَزْنًا إذَا لم يَكُنْ مُشَارًا إلَيْهَا وَكَذَلِكَ بِالنَّوْعِ الثَّالِثِ لِمَا ذَكَرْنَا في الِاسْتِقْرَاضِ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَالْأَمْرُ فيه على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَاهُ في الِاسْتِقْرَاضِ أَنَّ الناس إنْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بها وَزْنًا لَا عَدَدًا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْتَاعَ بها عَدَدًا لِأَنَّ الْوَزْنَ صِفَةٌ أَصْلِيَّةٌ لِلدَّرَاهِمِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ عَدَدِيَّةً بِتَعَامُلِ الناس فَإِنْ جَرَى التَّعَامُلُ بها وَزْنًا لَا عَدَدًا فَقَدْ تَقَرَّرَتْ الصِّفَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَبَقِيَتْ وَزْنِيَّةً فإذا اشْتَرَى بها عَدَدًا على غَيْرِ وَزْنٍ وَالْعَدَدُ هَدْرٌ ولم تُوجَدْ الْإِشَارَةُ فَقَدْ بَقِيَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُ لَا يدري ما وَزْنُ هذا الْقَدْرِ من الْعَدَدِ الْمُسَمَّى فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى بها عَدَدًا على غَيْرِ وَزْنٍ وَلَكِنْ أَشَارَ إلَيْهَا فِيمَا يكتفي فيه بِالْإِشَارَةِ حَيْثُ يَجُوزُ لِأَنَّ مِقْدَارَ وَزْنِهَا وَإِنْ كان مَجْهُولًا بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا لَكِنَّ هذه جَهَالَةٌ لَا تقضي ( ( ( تفضي ) ) ) إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالْوَزْنِ إذَا كان قَائِمًا فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ بها عَدَدًا جَازَ لِأَنَّهَا صَارَتْ عَدَدِيَّةً بِتَعَامُلِ الناس وَصَارَتْ كَالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ هذا إذَا اشْتَرَى بِالْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ عَدَدًا على وَزْنٍ ولم يُعَيِّنْهَا
فَأَمَّا إذَا عَيَّنَهَا وَاشْتَرَى بها عَرَضًا بِأَنْ قال اشْتَرَيْتُ هذا الْعَرَضَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ وَأَشَارَ إلَيْهَا فَلَا شَكَّ في جَوَازِ الشِّرَاءِ بها وَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا حتى لو هَلَكَتْ قبل أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ ويعطي مَكَانَهَا مِثْلَهَا من جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَقَدْرِهَا وَصِفَتِهَا
أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ الْجِيَادِ وإنها لَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهَا فَكَذَا هذه
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي فَلِأَنَّ الصِّفَةَ فيها إنْ كانت هِيَ الْغَالِبَةُ على ما يَقُولُهُ السَّبَّاكُونَ فَهِيَ في حُكْمِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ وَإِنْ لم يَغْلِبْ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحِيَالِهِ فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ أَيْضًا لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفِضَّةِ لَا يُوجِبُ الْبُطْلَانَ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ وَاعْتِبَارَ الصُّفْرِ يُوجِبُ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الناس إنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بها وَزْنًا فَهِيَ وَسَائِرُ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ فَلَا تَتَعَيَّنُ بِالْإِشَارَةِ وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِمِثْلِهَا في الذِّمَّةِ لَا بِعَيْنِهَا فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهَا وَإِنْ كَانُوا يَتَعَامَلُونَ بها عَدَدًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ وأنها إذَا قُوبِلَتْ بِخِلَافِ في جِنْسِهَا في الْمُعَاوَضَاتِ لَا تَتَعَيَّنُ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ بِمِثْلِهَا عَدَدًا وَلَا يَبْطُلُ بِهَلَاكِهَا
كَذَا هذا
وَلَوْ كَسَدَ هذا النَّوْعُ من الدَّرَاهِمِ وَصَارَتْ لَا تَرُوجُ بين الناس فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ وَالسَّتُّوقِ وَالرَّصَاصِ حتى تَتَعَيَّنَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا وَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا حتى يَبْطُلَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهَا قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهَا صَارَتْ سِلْعَةً لَكِنْ قالوا هذا إذَا كان الْعَاقِدَانِ عَالِمَيْنِ بِحَالِ هذه وَيَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْآخَرَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَا لَا يَعْلَمَانِ أو يَعْلَمُ أَحَدُهُمَا ولم يَعْلَمْ الْآخَرُ أو يَعْلَمَانِ لَكِنْ لَا يَعْلَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ يَعْلَمُ فإن الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ وَلَا بِجِنْسِهَا وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّرَاهِمِ الرَّائِجَةِ التي عليها تَعَامُلُ الناس في تِلْكَ الْبَلَدِ هذا إذَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا تَرُوجُ أَصْلًا
فَأَمَّا إذَا كانت يَقْبَلُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ فَيَجُوزُ الشِّرَاءُ بها وَلَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهَا بَلْ يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ الزُّيُوفِ إنْ كان الْبَائِعُ يَعْلَمُ بِحَالِهَا خَاصَّةً لِأَنَّهُ رضي بِجِنْسِ الزُّيُوفِ وَإِنْ كان الْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِجِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَيِّدِ من نَقْدِ تِلْكَ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ لم يَرْضَ إلَّا بِهِ إذَا كان لَا يَعْلَمُ بِحَالِهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ إنَّمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الدَّرَاهِمِ في الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا إذَا كان عَلِمَ عَدَدَهَا أو وَزْنَهَا قبل الْهَلَاكِ لِأَنَّهُ إذَا كان عَلِمَ ذلك يُمْكِنُ إعْطَاءُ مِثْلِهَا بَعْدَ هَلَاكِهَا
فَأَمَّا إذَا كان لم يَعْلَمْ لَا عَدَدَهَا وَلَا وَزْنَهَا حتى هَلَكَتْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الثَّمَنَ صَارَ مَجْهُولًا إذْ الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ إعْطَاءُ مِثْلِ الدَّرَاهِمِ الْمُشَارِ إلَيْهَا
وَمِنْهَا الْخُلُوُّ من شُبْهَةِ الرِّبَا لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا وَأَصْلُهُ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لِوَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ رضي اللَّهُ عنه الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلَى ما لَا يَرِيبُكَ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا بَاعَ رَجُلٌ شيئا نَقْدًا أو نَسِيئَةً وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ولم يَنْقُدْ ثَمَنَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِبَائِعِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ من مُشْتَرِيهِ بِأَقَلَّ من ثَمَنِهِ الذي بَاعَهُ منه عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا بَيْعٌ اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ جَوَازِهِ وَخَلَا عن الشُّرُوطِ الْمُفْسِدَةِ إيَّاهُ فَلَا مَعْنَى لِلْحُكْمِ بِفَسَادِهِ كما إذَا اشْتَرَاهُ بَعْدَ نَقْدِ الثَّمَنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها وَقَالَتْ إنِّي ابْتَعْتُ
____________________

(5/198)


خَادِمًا من زَيْدِ بن أَرْقَمَ بِثَمَانِمِائَةٍ ثُمَّ بِعْتُهَا منه بِسِتِّمِائَةٍ فقالت سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها بِئْسَ ما شَرَيْتِ وَبِئْسَ ما اشْتَرَيْتِ
أبلغني ( ( ( أبلغي ) ) ) زَيْدًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد أَبْطَلَ جِهَادَهُ مع رسول اللَّهِ إنْ لم يَتُبْ
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أنها أَلْحَقَتْ بِزَيْدٍ وَعِيدًا لَا يُوقَفُ عليه بِالرَّأْيِ وهو بُطْلَانُ الطَّاعَةِ بِمَا سِوَى الرِّدَّةِ فَالظَّاهِرُ أنها قَالَتْهُ سَمَاعًا من رسول اللَّهِ وَلَا يَلْتَحِقُ الْوَعِيدُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْمَعْصِيَةِ فَدَلَّ على فَسَادِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ مَعْصِيَةٌ
وَالثَّانِي أنها رضي اللَّهُ عنها سَمَّتْ ذلك بَيْعَ سُوءٍ وَشِرَاءَ سُوءٍ وَالْفَاسِدُ هو الذي يُوصَفُ بِذَلِكَ لَا الصَّحِيحُ وَلِأَنَّ في هذا الْبَيْعِ شُبْهَةَ الرِّبَا لِأَنَّ الثَّمَنَ الثَّانِي يَصِيرُ قِصَاصًا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وهو تَفْسِيرُ الرِّبَا إلَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ ثَبَتَتْ بِمَجْمُوعِ الْعَقْدَيْنِ فَكَانَ الثَّابِتُ بِأَحَدِهِمَا شُبْهَةَ الرِّبَا وَالشُّبْهَةُ في هذا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ ما إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَتَحَقَّقُ بَعْدَ الثَّمَنِ فَلَا تَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ بِالْعَقْدِ وَلَوْ نقد ( ( ( نقدا ) ) ) الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا شيئا قَلِيلًا فَهُوَ على الْخِلَافِ
وَلَوْ اشْتَرَى ما بَاعَ بِمِثْلِ ما بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ جَازَ بالإجاع ( ( ( بالإجماع ) ) ) لِانْعِدَامِ الشُّبْهَةِ وَكَذَا لو اشْتَرَاهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَلِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالْأَثَرِ وَالْأَثَرُ جاء في الشِّرَاءِ بِأَقَلَّ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَهُ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
هذا إذَا اشْتَرَاهُ بِجِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِخِلَافِ الْجِنْسِ جَازَ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إلَّا في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ خَاصَّةً اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً فَالْتَحَقَا بِسَائِرِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا في الثَّمَنِيَّةِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا بِمَجْمُوعِ الْعَقْدَيْنِ فَكَانَ في الْعَقْدِ الثَّانِي شُبْهَةُ الرِّبَا وَهِيَ الرِّبَا من وَجْهٍ وَلَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَبَاعَهُ من بَائِعِهِ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ جَازَ لِأَنَّ نُقْصَانَ الثَّمَنِ يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ فَيَلْتَحِقُ النُّقْصَانُ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِمِثْلِ ما اشْتَرَاهُ فَلَا تَتَحَقَّقُ شُبْهَةُ الرِّبَا
وَلَوْ خَرَجَ الْمَبِيعُ من مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ من الْمَالِكِ الثَّانِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ جَازَ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ فَيَمْنَعُ تَحَقُّقَ الرِّبَا وَلَوْ مَاتَ الْمُشْتَرِي فَاشْتَرَاهُ الْبَائِعُ من وَارِثِهِ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ لم يَخْتَلِفْ وَإِنَّمَا قام الْوَارِثُ مَقَامَ الشتري ( ( ( المشتري ) ) ) بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيَرِدُ عليه
وَكَذَا لو كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ أو كان دَارًا فَبَنَى عليها ثُمَّ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ فَأَخَذَ منه قِيمَةَ الْوَلَدِ وَنَقَضَ عليه الْبِنَاءَ كان لِلْوَارِثِ أَنْ يَرْجِعَ على بَائِعِ الْمُوَرَّثِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ كما كان يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي لو كان حَيًّا لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الشِّرَاءُ منه بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ من الْمُشْتَرِي فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَاشْتَرَى وَارِثُهُ من الْمُشْتَرِي بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا كان الْوَارِثُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِلْبَائِعِ في حَالِ حَيَاتِهِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا وَرِثَهُ وَوَارِثُ الْمُشْتَرِي وَرِثَ عَيْنَ الْمَبِيعِ فَقَامَ مَقَامَهُ في عَيْنِهِ فَكَانَ الشِّرَاءُ منه كَالشِّرَاءِ من الْمُشْتَرِي فلم يَجُزْ وَوَارِثُ الْبَائِعِ وُرِّثَ الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وما عُيِّنَ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ فلم يَكُنْ ذلك عَيْنَ ما وَرِثَهُ عن الْبَائِعِ فلم يَكُنْ وَارِثُ الْبَائِعِ مقامه فِيمَا وَرِثَهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ من وَارِثِ الْبَائِعِ كما لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ من وَارِثِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ فَالْمُشْتَرِي قَائِمٌ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو
وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ممن غَيْرِهِ فَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِهِ فشتراه ( ( ( فاشتراه ) ) ) بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ وَإِمَّا إنْ عَادَ إلَيْهِ على حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ جَدِيدٍ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ وَالْإِقَالَةِ قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَنَحْوِ ذلك من أَسْبَابِ تَجْدِيدِ الْمِلْكِ جَازَ الشِّرَاءُ منه بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَيْنِ
وَإِنْ عَادَ إلَيْهِ على حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالرَّدِّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ قبل الْقَبْضِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَبَعْدَ الْقَبْضِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ منه بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ لِأَنَّ الرَّدَّ في هذه الْمَوَاضِعِ يَكُونُ فَسْخًا وَالْفَسْخُ يَكُونُ رَفْعًا من الْأَصْلِ وَإِعَادَةً إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِهِ أَصْلًا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَكَانَ لَا يَجُوزُ له الشِّرَاءُ فَكَذَا هذا
وَلَوْ لم يَشْتَرِهِ الْبَائِعُ لَكِنْ اشْتَرَاهُ بَعْضُ من لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ له كَالْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ
____________________

(5/199)


لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كما لَا يَجُوزُ من الْبَائِعِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ كما يَجُوزُ من الْأَجْنَبِيِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن كُلَّ وَاحِدٍ منها ( ( ( منهما ) ) ) أَجْنَبِيٌّ عن مِلْكِ صَاحِبِهِ لِانْفِصَالِ مِلْكِهِ عن مِلْكِ صَاحِبِهِ فَيَقَعُ عَقْدُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا له لَا لِصَاحِبِهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ ثُمَّ شِرَاءُ الْأَجْنَبِيِّ لِنَفْسِهِ جَائِزٌ فَكَذَا شِرَاؤُهُ لِصَاحِبِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبِيعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً حتى لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ مَعْنَى مِلْكِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتًا لِصَاحِبِهِ فَكَانَ عَقْدُهُ وَاقِعًا لِصَاحِبِهِ من وَجْهٍ فَيُؤَثِّرُ في فَسَادِ الْعَقْدِ احْتِيَاطًا في بَابِ الرِّبَا
وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى ثُمَّ اشْتَرَاهُ مُدَبَّرُهُ أو مُكَاتَبُهُ أو بَعْضُ مَمَالِيكِهِ وَلَا دَيْنَ عليه أو عليه دَيْنٌ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ عن الْمَوْلَى وَكَذَا لو بَاعَ الْمُدَبَّرُ أو الْمُكَاتَبُ أو بَعْضُ مَمَالِيكِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ لِأَنَّ عَقْدَ هَؤُلَاءِ يَقَعُ لِلْمَوْلَى من وَجْهٍ
وَلَوْ كان وَكِيلًا فَبَاعَ وَاشْتَرَى بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ كما لو بَاعَ وَاشْتَرَى الْمُوَكِّلُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَانِعَ تَمَكُّنُ شُبْهَةِ الرِّبَا وَأَنْ لَا يُفْصَلَ بين الْوَكِيلِ وَالْمُوَكَّلِ وَلِذَا سَيِّدَتُنَا عَائِشَةُ رضي اللَّهُ عنها لم تَسْتَفْسِرْ السَّائِلَةَ أنها مَالِكَةٌ أو وَكِيلَةٌ وَلَوْ كان الْحُكْمُ يَخْتَلِفُ لَاسْتَفْسَرَتْ
وَكَذَا لو بَاعَ الْوَكِيلُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لو اشْتَرَاهُ وَكِيلُهُ لم يَجُزْ فإذا اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ وَكَذَا لو بَاعَهُ الْوَكِيلُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بَعْضُ من لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَكِيلِ له أو بَعْضُ من لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُوَكِّلِ له لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ على ما مَرَّ
وَلَوْ بَاعَ ثُمَّ وَكَّلَ بِنَفْسِهِ إنْسَانًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ له ذلك الشَّيْءَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ فَاشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْوَكِيلِ وَالثَّمَنَانِ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا وَالزِّيَادَةُ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ لا تَطِيبُ لِلْبَائِعِ وَيَكُونُ مِلْكًا له وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ التَّوْكِيلُ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وقال مُحَمَّدٌ التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْبَائِعِ شِرَاءً فَاسِدًا وَيَمْلِكُهُ الْبَائِعُ مِلْكًا فَاسِدًا وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلٍ لهم فَأَصْلُ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْعَاقِدِ وَيَعْتَبِرُ أَهْلِيَّتَهُ وَلَا يَعْتَبِرُ أَهْلِيَّةَ من يَقَعُ له حُكْمُ الْعَقْدِ وَلِهَذَا قال إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كان وَكَّلَ ذِمِّيًّا بِشِرَاءِ الْخَمْرِ أو بَيْعِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ
وَكَذَا الْمُحْرِمُ إذَا وَكَّلَ حَلَالًا بِبَيْعِ صَيْدٍ له أو بِشِرَاءِ صَيْدٍ جَازَ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُ وَتُعْتَبَرُ أَهْلِيَّةُ الْوَكِيلِ
وَأَصْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ لِلْعَقْدِ وَالْمَعْقُودِ له جميعا حتى لم يَجُزْ التَّوْكِيلُ عِنْدَهُمَا في الْمَسْأَلَتَيْنِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا خَالَفَ أَبَا يُوسُفَ في هذه الْمَسْأَلَةِ وَتَرَكَ أَصْلَهُ حَيْثُ قال بِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ ولم يَنْظُرْ إلَى الْمُوَكِّلِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا بِأَنْ يَشْتَرِيَ له من ذِمِّيٍّ عَبْدَهُ بِخَمْرٍ وَغَيْرِ ذلك الْعَبْدِ فَفَعَلَ الْوَكِيلُ صَحَّ الشِّرَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَيَكُونُ الْعَبْدُ لِلْمُوَكِّلِ وَعَلَى الْوَكِيلِ لِلْبَائِعِ الْخَمْرُ وهو يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْخَمْرِ على مُوَكِّلِهِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ التَّوْكِيلُ فَاسِدٌ وَيَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ شِرَاءً فَاسِدًا
وَلَوْ بَاعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَالَّةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلَةٍ فَالشِّرَاءُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ما بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الْحَالَّةَ خَيْرٌ من الْمُؤَجَّلَةِ
وَكَذَا لو بَاعَ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ مُؤَجَّلَةٍ إلَى أَبْعَدَ من ذلك الْأَجَلِ فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفٍ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ وَعَبْدًا آخَرَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ فإن الثَّمَنَ يُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ قيمتهما ( ( ( قيمتيهما ) ) )
ثُمَّ يُنْظَرُ فَإِنْ كانت حِصَّةُ الْعَبْدِ الذي بَاعَهُ مِثْلَ ثَمَنِهِ أو أَكْثَرَ جَازَ الشِّرَاءُ فِيهِمَا جميعا أَمَّا في الذي لم يَبِعْهُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا في الذي بَاعَهُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ما بَاعَ بِمِثْلِ ما بَاعَ أو بِأَكْثَرَ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وأنه جَائِزٌ
وَإِنْ كان أَقَلَّ من ثَمَنِهِ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فيه وَلَا يَفْسُدُ في الْآخَرِ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِكَوْنِهِ شِرَاءَ ما بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ وُجِدَ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا على أَصْلِهِمَا ظَاهِرٌ وَكَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَفْسُدَ فِيهِمَا لِأَنَّ من أَصْلِهِ أَنَّ الصَّفْقَةَ مَتَى اشْتَمَلَتْ على أبدال وَفَسَدَتْ في بَعْضِهَا أَنْ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْكُلِّ كما إذَا جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا جميعا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا لم يَفْسُدْ فِيهِمَا لِأَنَّ الْفَسَادَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمَّا جَمَعَ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ في أَحَدِهِمَا شَرْطًا لِقَبُولِ الْعَقْدِ في الْآخَرِ وَالْحُرُّ ليس بِمَحَلٍّ لِقَبُولِ الْعَقْدِ فيه بِيَقِينٍ فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ فيه فَلَا يَصِحُّ في الْآخَرِ فلم يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا وَالْفَسَادُ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ شِرَاءِ ما بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ وَذَلِكَ وُجِدَ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَفْسُدُ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ اقْتِصَارُ الْفَسَادِ على قَدْرِ الْمُفْسِدِ وَلِهَذَا لو جَمَعَ بَيْن عَبْدَيْنِ وَبَاعَ أَحَدَهُمَا إلَى الْحَصَادِ أو الدِّيَاسِ أَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ فِيمَا
____________________

(5/200)


في بَيْعِهِ أَجَلٌ وَلَا يَفْسُدُ في الْآخَرِ
وَكَذَا لو جَمَعَ بين قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً يَصِحُّ الْبَيْعُ في الْقِنِّ وَيَفْسُدُ في الْمُدَبَّرِ لِوُجُودِ الْمُفْسِدِ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ
كَذَا هذا
وَمِنْهَا قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ في بَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وهو السَّلَمُ وَالْكَلَامُ في السَّلَمِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ رُكْنِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ ما يَجُوزُ من التَّصَرُّفِ في الْمُسْلَمِ فيه وما لَا يَجُوزُ
أَمَّا رُكْنُ السَّلَمِ فَهُوَ لَفْظُ السَّلَمِ وَالسَّلَفِ وَالْبَيْعِ بِأَنْ يَقُولَ رَبُّ السَّلَمِ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ في كَذَا أو أَسْلَفْتُ لِأَنَّ السَّلَمَ وَالسَّلَفَ مُسْتَعْمَلَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ يُقَالُ سَلَّفْتُ وَأَسْلَفْتُ وَأَسْلَمْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ فإذا قال الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَبِلْتُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ
وَكَذَا إذَا قال الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِعْتُ مِنْكَ كَذَا وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ فقال رَبُّ السَّلَمِ قَبِلْتُ وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ السَّلَمَ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَنْعَقِدَ أَصْلًا لِأَنَّهُ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عنه إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِجَوَازِهِ بِلَفْظِ السَّلَمِ بِقَوْلِهِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ
وَلَنَا أَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ فَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ بَيْعٌ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ نهى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ عَامًّا وَرُخِّصَ السَّلَمُ بِالرُّخْصَةِ فيه فَدَلَّ أَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِيَسْتَقِيمَ تَخْصِيصُهُ عن عُمُومِ النَّهْيِ بِالتَّرَخُّصِ فيه فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَهِيَ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ فَوَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاتًّا عَارِيًّا عن شَرْطِ الْخِيَارِ لِلْعَاقِدَيْنِ أو لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ مع شَرْطِ الْخِيَارِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ بِثُبُوتِ الْحُكْمِ لِلْحَالِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ وَمِثْلُ هذا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ في الْأَصْلِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا جَوَازَهُ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في بَيْعِ الْعَيْنِ فَبَقِيَ ما وَرَاءَهُ على أَصْلِ الْقِيَاسِ خُصُوصًا إذَا لم يَكُنْ في مَعْنَاهُ وَالسِّلْمُ ليس في مَعْنَى بَيْعِ الْعَيْنِ فِيمَا شُرِعَ له الْخِيَارُ لِأَنَّهُ شُرِعَ لِدَفْعِ الْغَبْنِ وَالسَّلَمُ مَبْنَاهُ على الْغَبْنِ وَوَكْسِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ فلم يَكُنْ في مَعْنَى مَوْرِدِ النَّصِّ فورد ( ( ( فورود ) ) ) النَّصِّ هُنَاكَ لَا يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيه لِلْقِيَاسِ وَلِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ على ما نَذْكُرُهُ وَلَا صِحَّةَ لِلْقَبْضِ إلَّا في الْمِلْكِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ الْمُسْتَحِقُّ صِحَّةَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمُسْتَحَقِّ إنه لَا يُبْطِلُ السَّلَمَ حتى لو اسْتَحَقَّ رَأْسَ الْمَالِ وقد افْتَرَقَا عن الْقَبْضِ وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ صَحِيحًا من حِينِ وُجُودِهِ وَكَذَا الْقَبْضُ
إذا الْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَبِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ
وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قبل الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا وَرَأْسُ الْمَالِ قَائِمٌ في يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ
وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
وَإِنْ كان هَالِكًا أو مُسْتَهْلَكًا لَا يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَصِيرُ دَيْنًا على الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالسَّلَمُ لَا يَنْعَقِدُ بِرَأْسِ مَالِ دَيْنٍ فَلَا يَنْعَقِدُ عليه أَيْضًا
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ خَاصَّةً وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فيه خَاصَّةً
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَأَنْوَاعٌ منها بَيَانُ جِنْسِهِ كَقَوْلِنَا دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ أو حِنْطَةٌ أو تَمْرٌ وَمِنْهَا بَيَانُ نَوْعِهِ إذَا كان في الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ كَقَوْلِنَا دَرَاهِمُ فَتْحِيَّةٌ أو دَنَانِيرُ نَيْسَابُورِيَّةٌ أو حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أو تَمْرٌ بَرْنِيُّ
وَمِنْهَا بَيَانُ صِفَتِهِ كَقَوْلِنَا جَيِّدٌ أو وَسَطٌ أو رَدِيءٌ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ وأنها مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْوُجُوهِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَمِنْهَا بَيَانُ قَدْرِهِ إذَا كان مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ من الميكلات ( ( ( المكيلات ) ) ) وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وَلَا يكتفي بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ليس بِشَرْطٍ وَالتَّعْيِينُ بِالْإِشَارَةِ كَافٍ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَوْ كان رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ من الذرعيات وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ قَدْرِهِ ويكتفي بِالْإِشَارَةِ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ في بَيْعِ الْعَيْنِ ليس بِشَرْطٍ وَالْإِشَارَةُ كَافِيَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قال أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هذه الدَّرَاهِمَ أو هذه الدَّنَانِيرَ وَلَا يُعْرَفُ وَزْنُهَا أو هذه الصُّبْرَةَ ولم يُعْرَفْ كَيْلُهَا لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ وَلَوْ قال
____________________

(5/201)


أَسْلَمْتُ إلَيْك هذا الثَّوْبَ ولم يُعْرَفْ ذَرْعُهُ أو هذا الْقَطِيعَ من الْغَنَمِ ولم يُعْرَفْ عَدَدُهُ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّهُ حَصَلَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعْلَامِ قَدْرِهِ وَلِهَذَا لم يُشْتَرَطْ إعْلَامُ قَدْرِ الثَّمَنِ في بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَا في السَّلَمِ إذَا كان رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فيه وَأَنَّهَا مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ فَيَلْزَمُ إعْلَامُ قَدْرِهِ صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عن الْفَسَادِ ما أَمْكَنَ كما إذَا أَسْلَمَ في الْمَكِيلِ بِمِكْيَالِ نَفْسِهِ بِعَيْنِهِ
وَدَلَالَةً أنها تُؤَدِّي إلَى ما قُلْنَا أن الدَّرَاهِمَ على ما عليه الْعَادَةُ لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ زَيْفٍ وقد ورد ( ( ( يرد ) ) ) الِاسْتِحْقَاقُ على بَعْضِهَا فإذا رَدَّ الزَّائِفَ ولم يَسْتَبْدِلْ في مَجْلِس الرَّدِّ ولم يتجرز ( ( ( يتجوز ) ) ) الْمُسْتَحَقُّ يَنْفَسِخُ السَّلَمُ في الْمُسْلَمِ فيه بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ وَالْمُسْتَحَقِّ وَيَبْقَى في الْبَاقِي وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فيه مَجْهُولَ الْقَدْرِ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ السَّلَمُ في الْمَكِيلَاتِ بِقَفِيزٍ بِعَيْنِهِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ هَلَاكَ الْقَفِيزِ فَيَصِيرُ الْمُسْلَمُ فيه مَجْهُولَ الْقَدْرِ فلم يَصِحَّ كَذَا هذا بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فإن الزَّيْفَ وَالِاسْتِحْقَاقَ هُنَاكَ لَا يُؤَثِّرُ في الْعَقْدِ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَبِخِلَافِ الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لِأَنَّ الْقَدْرَ فيها مُلْحَقٌ بِالصِّفَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هذا الثَّوْبَ على أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَحَدَ عَشَرَ سُلِّمَتْ الزِّيَادَةُ له فَثَبَتَ أَنَّ الزِّيَادَةَ فيها تَجْرِي مَجْرَى الصِّفَةِ وَإِعْلَامُ صِفَةِ رَأْسِ الْمَالِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ السَّلَمِ إذَا كان مُعَيَّنًا مُشَارًا إلَيْهِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا كان رَأْسُ الْمَالِ جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ على قَدْرِهِ فَأَسْلَمَهُ في جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ أو نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ من جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ وَلَوْ كان جِنْسًا وَاحِدًا مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ على قَدْرِهِ كَالثَّوْبِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَفَاوِتِ فَأَسْلَمَهُ في شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من ثَمَنِ رَأْسِ الْمَالِ فَالثَّمَنُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ كان رَأْسُ الْمَالِ من جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أو نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَأَسْلَمَهُمَا في جِنْسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ السَّلَمِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ إعْلَامَ الْقَدْرِ لَمَّا كان شَرْطًا عِنْدَهُ فإذا كان رَأْسُ الْمَالِ وَاحِدًا وَقُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كان انْقِسَامُهُ عَلَيْهِمَا من حَيْثُ الْقِيمَةُ لَا من حَيْثُ الْأَجْزَاءُ وَحِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من رَأْسِ الْمَالِ لَا تُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَيَبْقَى قَدْرُ حِصَّةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من رَأْسِ الْمَالِ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مُفْسِدَةٌ لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا إعْلَامُ قَدْرِهِ ليس بِشَرْطٍ فَجَهَالَتُهُ لَا تَكُونُ ضَارَّةً وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في ثَوْبَيْنِ جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ وَنَوْعُهُمَا وَاحِدٌ وَصِفَتُهُمَا وَاحِدَةٌ وَطُولُهُمَا وَاحِدٌ ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الْعَشَرَةِ فَالسَّلَمُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ليس بِشَرْطٍ
وَأَمَّا عِنْدَهُ فَلِأَنَّ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من رَأْسِ الْمَالِ تُعْرَفُ من غَيْرِ حَزْرٍ وَظَنٍّ فَكَانَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا وَصَارَ كما إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في قَفِيزَيْ حِنْطَةٍ ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل قَفِيزٍ من رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ قَبَضَ الثَّوْبَيْنِ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ ليس له أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً على خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ له ذلك وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُمَا جميعا مُرَابَحَةً على عَشَرَةٍ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا لو كان بين حِصَّةِ كل ثَوْبٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ له أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا على خَمْسَةٍ مُرَابَحَةً بِلَا خِلَافٍ وَنَذْكُرُ دَلَائِلَ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْبُوضًا في مَجْلِسِ السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه دَيْنٌ وَالِافْتِرَاقُ لَا عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ يَكُونُ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وأنه مَنْهِيٌّ عنه لِمَا رُوِيَ أَنْ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ الكالىء ( ( ( الكالئ ) ) ) بالكالىء ( ( ( بالكالئ ) ) ) أَيْ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ هذا الْعَقْدِ دَلِيلٌ على هذا الشَّرْطِ فإنه يُسَمَّى سَلَمًا وَسَلَفًا لُغَةً وَشَرْعًا تَقُولُ الْعَرَبُ أَسْلَمْتُ وَأَسْلَفْتُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وفي الحديث من أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ
وروى من أسلف ( ( ( سلف ) ) ) فَلْيُسَلِّفْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَالسَّلَمُ ينبىء عن التَّسْلِيمِ وَالسَّلَفُ ينبىء عن التَّقَدُّمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ وَيُقَدَّمُ قَبْضُهُ على قَبْضِ الْمُسْلَمِ فيه فَإِنْ قِيلَ شَرْطُ الشَّيْءِ يَسْبِقُهُ أو يُقَارِنُهُ وَالْقَبْضُ يَعْقُبُ الْعَقْدَ فَكَيْفَ يَكُونُ شَرْطًا فَالْجَوَابُ أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ لَا شَرْطُ الصِّحَّةِ فإن الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ صَحِيحًا بِدُونِ قَبْضٍ ثُمَّ يَفْسُدُ بِالِافْتِرَاقِ لَا عن قَبْضٍ وَبَقَاءُ الْعَقْدِ صَحِيحًا يَعْقُبُ
____________________

(5/202)


الْعَقْدَ وَلَا يَتَقَدَّمُهُ فَيَصْلُحُ الْقَبْضُ شَرْطًا له وَسَوَاءٌ كان رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أو عَيْنًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُهُ في الْمَجْلِسِ إذَا كان عَيْنًا وهو قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ لِلِاحْتِرَازِ عن الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهَذَا افْتِرَاقٌ عن عَيْنٍ بِدَيْنٍ وأنه جَائِزٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ يَكُونُ دَيْنًا عَادَةً وَلَا تُجْعَلُ الْعَيْنُ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ إلَّا نَادِرًا وَالنَّادِرُ حُكْمُهُ حُكْمُ الغالب ( ( ( الغائب ) ) ) فَيَلْحَقُ بِالدَّيْنِ على ما هو الْأَصْلُ في الشَّرْعِ في إلْحَاقِ الْمُفْرَدِ بِالْجُمْلَةِ وَلِأَنَّ مَأْخَذَ الْعَقْدِ في الدَّلَالَةِ على اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ على ما ذَكَرْنَا وَسَوَاءٌ قَبَضَ في أَوَّلِ الْمَجْلِسِ أو في آخِرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ لها حُكْمُ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَذَا لو لم يَقْبِضْ حتى قَامَا يَمْشِيَانِ فَقَبَضَ قبل أَنْ يَفْتَرِقَا بِأَبْدَانِهِمَا جَازَ لِأَنَّ ما قبل الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا له حُكْمُ الْمَجْلِسِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عن رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبُولِ رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطُ صِحَّةِ السَّلَمِ فَلَوْ جَازَ الْإِبْرَاءُ من غَيْرِ قَبُولِهِ وَفِيهِ إسْقَاطُ هذا الشَّرْطِ أَصْلًا لَكَانَ الْإِبْرَاءُ فَسْخًا مَعْنًى وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَلَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ وَبَقِيَ عَقْدُ السَّلَمِ على حَالِهِ
وإذا قَبِلَ جَازَ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ الْفَسْخَ حِينَئِذٍ يَكُونُ بِتَرَاضِيهِمَا وأنه جَائِزٌ وإذا جَازَ الْإِبْرَاءُ وأنه في مَعْنَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ضَرُورَةً بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عن الْمُسْلَمِ فيه أَنَّهُ جَائِزٌ من غَيْرِ قَبُولِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ليس في الْإِبْرَاءِ عنه إسْقَاطُ شَرْطٍ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْلَمِ فيه ليس بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ من غَيْرِ قَبُولٍ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عن ثَمَنِ الْمَبِيعِ أَنَّهُ يَصِحُّ من غَيْرِ قَبُولِ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِأَنَّ في الْإِبْرَاءِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ على سَبِيلِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَلْزَمُ دَفْعًا لِضَرَرِ الْمِنَّةِ وَلَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عن الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ عَيْنٌ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ الْأَعْيَانِ لَا يُعْقَلُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ في مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وهو أَنْ يَأْخُذَ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ شيئا من غَيْرِ جِنْسِهِ لِأَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ لَمَّا كان شَرْطًا فَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُ الشَّيْءِ غَيْرُهُ
وَكَذَلِكَ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أعطى رَبُّ السَّلَمِ من جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أَجْوَدَ أو أَرْدَأَ وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بالأردأ جَازَ لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ حَقِّهِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْوَصْفُ فَإِنْ كان أَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ وَأَحْسَنَ في الْقَضَاءِ وَإِنْ كان أَرْدَأَ فَقَدْ قَضَى حَقَّهُ أَيْضًا لَكِنْ على وَجْهِ النُّقْصَانِ فَلَا يَكُونُ أَخْذُ الْأَجْوَدِ والأردأ اسْتِبْدَالًا إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على أَخْذِ إلا ردأ لِأَنَّ فيه فَوَاتَ حَقِّهِ عن صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَلَا بُدَّ من رِضَاهُ وَهَلْ يُجْبَرُ على الْأَخْذِ إذَا أَعْطَاهُ أَجْوَدَ من حَقِّهِ قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُجْبَرُ عليه وقال زُفَرُ لَا يُجْبَرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن رَبَّ السَّلَمِ في إعْطَاءِ الزِّيَادَةِ على حَقِّهِ مُتَبَرِّعٌ وَالْمُتَبَرِّعُ عليه لَا يُجْبَرُ على قَبُولِ التَّبَرُّعِ لِمَا فيه من إلْزَامِ الْمِنَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ من غَيْرِ الْتِزَامِهِ
وَلَنَا أَنَّ إعْطَاءَ الْأَجْوَدِ مَكَانَ الْجَيِّدِ في قَضَاءِ الدُّيُونِ لَا يُعَدُّ فَضْلًا وَزِيَادَةً في الْعَادَاتِ بَلْ يُعَدُّ من بَابِ الْإِحْسَانِ في الْقَضَاءِ ولو أحق الْإِيفَاءِ فإذا أَعْطَاهُ الْأَجْوَدَ فَقَدْ قَضَى حَقَّ صَاحِبِ الْحَقِّ وَأَجْمَلَ في الْقَضَاءِ فَيُجْبَرُ على الْأَخْذِ
وَأَمَّا الِاسْتِبْدَالُ بِالْمُسْلَمِ فيه بِجِنْسٍ آخَرَ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا لَكِنْ بِنَاءً على أَصْلٍ آخَرَ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ السلم ( ( ( المسلم ) ) ) فيه مَبِيعٌ مَنْقُولٌ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَعْطَى أَجْوَدَ أو أَرْدَأَ فَحُكْمُهُ حُكْمُ رَأْسِ الْمَالِ وقد ذكرنا ( ( ( ذكرناه ) ) )
وَأَمَّا اسْتِبْدَالُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِجِنْسٍ آخَرَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ أو بَعْدَ انْفِسَاخِ السَّلَمِ الْعَارِضِ فَلَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَيَجُوزُ اسْتِبْدَالُ بَدَلِ الصَّرْفِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ بِالْإِجْمَاعِ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه وَالْفَرْقُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ على رَجُلٍ حَاضِرٍ وَالْكَفَالَةُ بِهِ لِوُجُودِ رُكْنِ هذه الْعُقُودِ مع شَرَائِطِهِ فَيَجُوزُ كما في سَائِرِ الْعُقُودِ فَلَوْ امْتَنَعَ الْجَوَازُ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ لِمَكَانِ الْخَلَلِ في شَرْطِ عَقْدِ السَّلَمِ وهو الْقَبْضُ وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تُخِلُّ بهذا الشَّرْطِ بَلْ تُحَقِّقُهُ لِكَوْنِهَا وَسَائِلَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ فَكَانَتْ مُؤَكِّدَةً له هذا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذه الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِتَوْثِيقِ حَقٍّ يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عن الْمَجْلِسِ فَلَا يَحْصُلُ ما شُرِعَ له الْعَقْدُ فَلَا يَصِحُّ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مَعْنَى التَّوْثِيقِ يَحْصُلُ في الْحَقَّيْنِ جميعا فَجَازَ الْعَقْدُ فِيهِمَا جميعا ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ فَإِنْ قَبَضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ من الْمُحَالِ عليه أو الْكَفِيلِ أو من رَبِّ السَّلَمِ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا كان ( ( ( كانا ) ) ) في الْمَجْلِسِ سَوَاءٌ بَقِيَ الْحَوِيلُ وَالْكَفِيلُ أو افْتَرَقَا بَعْدَ أَنْ كان الْعَاقِدَانِ في الْمَجْلِسِ وَإِنْ افْتَرَقَا الْعَاقِدَانِ بِأَنْفُسِهِمَا قبل الْقَبْضِ
____________________

(5/203)


بَطَلَ السَّلَمُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ وَإِنْ بَقِيَ الْمُحَالُ عليه وَالْكَفِيلُ في الْمَجْلِسِ فَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا لَا لِبَقَاءِ الْحَوِيلِ وَالْكَفِيلِ وَافْتِرَاقِهِمَا لِأَنَّ الْقَبْضَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَقِيَامُ الْعَقْدِ بِالْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَجْلِسَهُمَا
وَعَلَى هذا الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ لِمَا قُلْنَا لَكِنَّ التَّقَابُضَ من الْجَانِبَيْنِ قبل تَفَرُّقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا شَرْطٌ وَافْتِرَاقُ الْمُحَالِ عليه وَالْكَفِيلِ لَا يَضُرُّ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ افْتَرَقَ الْعَاقِدَانِ بِأَبْدَانِهِمَا قبل التَّقَابُضِ من الْجَانِبَيْنِ بَطَلَ الصَّرْفُ وَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ كما في السَّلَمِ
وَأَمَّا الرَّهْنُ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أو أَكْثَرُ فَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ حَصَلَ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ قَبْضَ الرَّهْنِ قَبْضُ اسْتِيفَاءٍ لِأَنَّهُ قَبْضٌ مَضْمُونٌ وقد تَقَرَّرَ الضَّمَانُ بِالْهَلَاكِ وَعَلَى الرَّاهِنِ مِثْلُهُ من جِنْسِهِ في الْمَالِيَّةِ فَيَتَقَاصَّانِ فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَتَمَّ عَقْدُ السَّلَمِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من رَأْسِ الْمَالِ تَمَّ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ وَيَبْطُلُ في الْبَاقِي لِأَنَّهُ استوفي من رَأْسِ الْمَالِ بِقَدْرِهِ وَإِنْ لم يَهْلِكْ الرَّهْنُ حتى افْتَرَقَا بَطَلَ السَّلَمُ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ وَعَلَيْهِ رَدُّ الرَّهْنِ على صَاحِبِهِ
وَكَذَا هذا الْحُكْمُ في بَدَلِ الصَّرْفِ إذَا أَخَذَ بِهِ رَهْنًا أَنَّهُ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ قبل افْتِرَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَبْدَانِهِمَا تَمَّ عَقْدُ الصَّرْفِ لِأَنَّهُ بِالْهَلَاكِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا وَإِنْ لم يَهْلِكْ حتى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الصِّحَّةِ وهو الْقَبْضُ كما في السَّلَمِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا على الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو على غَيْرِهِ فَأَسْلَمَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ ولم يُوجَدْ حَقِيقَةً فَيَكُونُ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ وأنه مَنْهِيٌّ فَإِنْ نَقَدَهُ في الْمَجْلِسِ جَازَ إنْ كان الدَّيْنُ على الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ هَهُنَا ليس إلَّا انْعِدَامَ الْقَبْضِ حَقِيقَةً وقد زَالَ وَإِنْ كان على غَيْرِهِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ نَقَدَهُ في الْمَجْلِسِ لَكِنْ هُنَاكَ مَانِعٌ آخَرُ وهو الْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ لِأَنَّ ما في ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَالْقُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ على ما مَرَّ وَهَذَا الْمَانِعُ مُنْعَدِمٌ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ في يَدِهِ فَكَانَ قَادِرًا على التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا لم يَجُزْ لِعَدَمِ الْقَبْضِ وإذا وُجِدَ جَازَ
وَلَوْ أَسْلَمَ دَيْنًا وَعَيْنًا وَافْتَرَقَا جَازَ في حِصَّةِ الْعَيْنِ وَبَطَلَ في حِصَّةِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْفَسَادَ بِقَدْرِ الْمُفْسِدِ وَالْمُفْسِدُ عَدَمُ الْقَبْضِ وأنه يَخُصُّ الدَّيْنَ فَيَفْسُدُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ كما لو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ ولم يَقْبِضْهُمَا حتى هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ في الْهَالِكِ وَيَبْقَى في الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ ثُمَّ انْتَقَصَ الْقَبْضَ فيه بِمَعْنًى أَوْجَبَ انْتِقَاصَهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ السَّلَمُ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ جُمْلَةَ رَأْسِ الْمَالِ لَا تَخْلُو أما أَنْ تَكُونَ عَيْنًا وهو ما يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وأما أَنْ تَكُونَ دَيْنًا وهو ما لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالْعَيْنُ لَا تَخْلُو أما أَنْ تُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أو مَعِيبًا وَالدَّيْنُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ مُسْتَحَقًّا أو زُيُوفًا أو نبهرهة ( ( ( نبهرجة ) ) ) أو سُتُّوقًا أو رَصَاصًا
وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ وُجِدَ كُلُّهُ كَذَلِكَ أو بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ
وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا وُجِدَ بَدَلُ الصَّرْفِ كَذَلِكَ فَهُوَ على التَّفَاصِيلِ التي ذَكَرْنَا فَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَوَجَدَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مُسْتَحَقًّا أو مَعِيبًا فَإِنْ لم يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ ولم يَرْضَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ يَبْطُلُ السَّلَمُ سَوَاءٌ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ أو قَبْلَهُ لِأَنَّهُ انْتَقَضَ الْقَبْضَ فيه بِالِاسْتِحْقَاقِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ غَيْرِهِ مَقَامَهُ في الْقَبْضِ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ فَيَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ لَا عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ في الْمَجْلِسِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ وَإِنْ أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ وَرَضِيَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِالْعَيْبِ جَازَ السَّلَمُ سَوَاءٌ كان قبل الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَهُ وَقَعَ صَحِيحًا فَحَصَلَ الِافْتِرَاقُ عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا وَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْتَحِقِّ على الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَجَازَ فَقَدْ صَارَ الْمَقْبُوضُ مِلْكًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ على النَّاقِدِ بمثله إنْ كان مِثْلِيًّا وَبِقِيمَتِهِ إنْ لم يَكُنْ مِثْلِيًّا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه مَالَهُ بِالتَّسْلِيمِ
وَكَذَا في الصَّرْفِ غير أَنَّ هُنَاكَ إذَا كان الْبَدَلُ الْمُسْتَحَقُّ أو الْمَعِيبُ عَيْنًا كَالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ من الْفِضَّةِ ولم يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ وَلَا رضي الْقَابِضُ بِالْمَعِيبِ حتى بَطَلَ الصَّرْفُ يُرْجَعُ على قَابِضِ الدِّينَارِ بِعَيْنِ الدِّينَارِ إنْ كان قَائِمًا وَبِمِثْلِهِ إنْ كان هَالِكًا وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ وَأَخَذَهُ الْمُسْتَحِقُّ وَلَوْ كان قَابِضُ الدِّينَارِ تَصَرَّفَ فيه وَأَخْرَجَهُ من مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عليه تَصَرُّفُهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كما في الْمَقْبُوضِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
هذا إذَا كان رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَأَمَّا إذَا كان دَيْنًا فَإِنْ وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا وَأَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ فَالسَّلَمُ مَاضٍ سَوَاءٌ كان قبل الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْقَبْضَ كان صَحِيحًا وَلَا
____________________

(5/204)


سَبِيلَ لِلْمُشْتَرِي على الْمَقْبُوضِ وَيَرْجِعُ على النَّاقِدِ بمثله لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِالتَّسْلِيمِ وهو مِثْلِيٌّ فَيَرْجِعُ عليه بمثله وَإِنْ لم يُجِزْ فَإِنْ كان قبل الِافْتِرَاقِ وَاسْتُبْدِلَ في الْمَجْلِسِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كان دَيْنًا كان الْوَاجِبُ في ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ لَا عَيْنَهُ فَقَبْضُ الْمُسْتَحَقِّ أن لم يَصِحَّ أو انْتَقَضَ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَعَدَمِ الْإِجَازَةِ يَقُومُ قَبْضُ مِثْلِهِ مَقَامَهُ فَيَرْجِعُ عليه بمثله وَيُلْحَقُ ذلك الذي كان بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لم يَقْبِضْ وَأَخَّرَ الْقَبْضَ فيه إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ ما إذَا كان عَيْنًا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ قَبْضُ الْعَيْنِ وقد انْتَقَضَ الْقَبْضُ فيه بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَعَذَّرَ إقَامَةُ قَبْضِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ فَجُعِلَ الِافْتِرَاقُ لَا عن قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ وَإِنْ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ يَبْطُلُ السَّلَمُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ
هذا إذَا وَجَدَهُ مُسْتَحَقًّا فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أو نَبَهْرَجَةً فَإِنْ تَجَوَّزَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَالسَّلَمُ مَاضٍ على الصِّحَّةِ سَوَاءٌ وَجَدَهُ قبل الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّ الزُّيُوفَ من جِنْسِ حَقِّهِ لِأَنَّهَا دَرَاهِمُ لَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ بِالزِّيَافَةِ وَفَوَاتِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فإذا تَجَوَّزَ بِهِ فَقَدْ أَبْرَأَهُ عن الْعَيْبِ وَرَضِيَ بِقَبْضِ حَقِّهِ مع النُّقْصَانِ بِخِلَافِ السَّتُّوقِ فإنه لَا يَجُوزُ به وَإِنْ تَجَوَّزَ بِهِ لِأَنَّهُ ليس من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ على ما نَذْكُرُهُ وَإِنْ لم يَتَجَوَّزْ بِهِ وَرَدَّهُ فَإِنْ كان قبل الِافْتِرَاقِ وَاسْتَبْدَلَهُ في الْمَجْلِسِ فَالْعَقْدُ مَاضٍ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ أَخَّرَ الْقَبْضَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ سَوَاءٌ اسْتَبْدَلَ في مَجْلِسِ الرَّدِّ أو لَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ لم يَسْتَبْدِلْ في مَجْلِسِ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ وَإِنْ اسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ السَّلَمُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَبْضَ الزُّيُوفِ وَقَعَ صَحِيحًا لِأَنَّهُ قَبَضَ جِنْسَ الْحَقِّ أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو تَجَوَّزَ بها جَازَ وَلَوْ لم يَكُنْ من جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ كَالسَّتُّوقِ إلَّا أَنَّهُ فَاتَتْهُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِالزِّيَافَةِ فَكَانَتْ من جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا لَا وَصْفًا فَكَانَتْ الزِّيَافَةُ فيها عَيْبًا وَالْمَعِيبُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كان الْمَبِيعُ مَعِيبًا وَبِالرَّدِّ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَكِنْ مَقْصُورًا على حَالَةِ الرَّدِّ وَلَا يَسْتَنِدُ الِانْتِقَاضُ إلَى وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَبْقَى الْقَبْضُ صَحِيحًا كان يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ قَبْضُ بَدَلِهِ في مَجْلِسِ الرَّدِّ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ السَّلَمِ الْقَبْضُ مَرَّةً وَاحِدَةً إلَّا أَنَّهُ شُرِطَ لِأَنَّ لِلرَّدِّ شِبْهًا بِالْعَقْدِ حَيْثُ لَا يَجِبُ الْقَبْضُ في مَجْلِسِ الرَّدِّ إلَّا بِالرَّدِّ كما لَا يَجِبُ الْقَبْضُ في مَجْلِسِ الْعَقْدِ إلَّا بِالْعَقْدِ فَأُلْحِقَ مَجْلِسُ الرَّدِّ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الزُّيُوفَ من جِنْسِ حَقِّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَكِنْ أَصْلًا لَا وَصْفًا وَلِهَذَا ثَبَتَ له حَقُّ الرَّدِّ بِفَوَاتِ حَقِّهِ عن الْوَصْفِ فَكَانَ حَقُّهُ في الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جميعا فَصَارَ بِقَبْضِ الزُّيُوفِ قَابِضًا حَقَّهُ من حَيْثُ الْأَصْلُ لَا من حَيْثُ الْوَصْفُ إلَّا أَنَّهُ إذَا رضي بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عن الْوَصْفِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هو قَبْضُ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ لا ( ( ( لإبرائه ) ) ) براعة إيَّاهُ عن الْوَصْفِ فإذا قَبَضَهُ فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ فَيَبْطُلُ الْمُسْتَحَقُّ وَإِنْ لم يَرْضَ بِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَقْبِضْ حَقَّهُ لِأَنَّ حَقَّهُ في الْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جميعا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عن قَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ
هذا إذَا وَجَدَهُ زُيُوفًا أو نهرجة ( ( ( نبهرجة ) ) ) فَأَمَّا إذَا وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا فَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ السَّلَمُ لِأَنَّ السَّتُّوقَ ليس من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ أَلَا يُرَى أنها لَا تَرُوجُ في مُعَامَلَاتِ الناس فلم تَكُنْ من جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَوَصْفًا فَكَانَ الِافْتِرَاقُ عن الْمَجْلِسِ لَا عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ وَسَوَاءٌ تَجَوَّزَ بِهِ أو لَا لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ من جِنْسِ حَقِّهِ كان التَّجَوُّزُ بِهِ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قبل الْقَبْضِ وأنه لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الزُّيُوفِ فَإِنَّهَا من جِنْسِ حَقِّهِ على ما بَيَّنَّا وَإِنْ وَجَدَهُ في الْمَجْلِسِ فَاسْتَبْدَلَ فَالسَّلَمُ مَاضٍ لِأَنَّ قَبْضَهُ وَإِنْ لم يَصِحَّ فَقَدْ بَقِيَ الْوَاجِبُ في ذِمَّةِ رَبِّ السَّلَمِ دَرَاهِمَ هِيَ حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فإذا قَبَضَهَا فَقَدْ قَبَضَ حَقَّهُ في الْمَجْلِسِ وَالْتَحَقَ قَبْضُ السَّتُّوقِ بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ لم يَقْبِضْ أَصْلًا وَأَخَّرَ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ
وَكَذَا في الصَّرْفِ غير أَنَّ هُنَاكَ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ سَتُّوقَةٌ أو رَصَاصٌ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ حتى بَطَلَ الصَّرْفُ فَقَابِضُ الدِّينَارِ يَسْتَرِدُّ دَرَاهِمَهُ السَّتُّوقَةَ وَقَابِضُ الدَّرَاهِمِ يَسْتَرِدُّ من قَابِضِ الدِّينَارِ عَيْنَ دِينَارِهِ إنْ كان قَائِمًا وَمِثْلَهُ إنْ كان هَالِكًا وَلَا خِيَارَ لِقَابِضِ الدِّينَارِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ سَتُّوقَةٌ أو رَصَاصٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَبْضَهُ لم يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عن قَبْضٍ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ وَبَقِيَ الدِّينَارُ في يَدِهِ من غَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ فَأَشْبَهَ يَدَ الْغَصْبِ وَاسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ في بَيْعِ الْعَيْنِ وَهُنَاكَ يَسْتَرِدُّ عَيْنَهُ إنْ كان قَائِمًا كَذَا هَهُنَا
وَطَعَنَ عِيسَى بن أَبَانَ وقال يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ عَيْنَ الدِّينَارِ وَإِنْ شَاءَ
____________________

(5/205)


رَدَّ مثله وَلَا يُسْتَحَقُّ عليه رَدُّ عَيْنِ الدِّينَارِ وَإِنْ كان قَائِمًا لِأَنَّهُ لم يَكُنْ مُتَعَيِّنًا في الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مُتَعَيِّنًا في الْفَسْخِ
وَالِاعْتِبَارُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هُنَاكَ ظَهَرَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ لِأَنَّهُ إذَا لم يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ بَاطِلًا من حِينِ وُجُودِهِ وَهُنَاكَ الْعَقْدُ وَقَعَ صَحِيحًا وَإِنَّمَا بَطَلَ في الْمُسْتَقْبَلِ لِعَارِضٍ طَرَأَ عليه بَعْدَ الصِّحَّةِ فَلَا يَظْهَرُ بُطْلَانُهُ من الْأَصْلِ
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا أَخَذُوا بِقَوْلِ عِيسَى وَنَصَرُوهُ وَحَمَلُوا جَوَابَ الْكِتَابِ على ما إذَا اخْتَارَ قَابِضُ الدِّينَارِ رَدَّ عَيْنِ الدِّينَارِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا وُجِدَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ كل رَأْسُ الْمَالِ مُسْتَحَقًّا أو مَعِيبًا أو زُيُوفًا أو سُتُّوقًا فَأَمَّا إذَا وُجِدَ بَعْضُهُ دُونَ بَعْضٍ فَفِي الِاسْتِحْقَاقِ إذَا لم يُجِزْ الْمُسْتَحِقُّ يُنْقَصُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ سَوَاءٌ كان رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا أو دَيْنًا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الْقَبْضَ انْتَقَصَ فيه بِقَدْرِهِ وَكَذَا في السَّتُّوقِ وَالرَّصَاصِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا بِالْإِجْمَاعِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا هذا في الصَّرْفِ غير أَنَّ هُنَاكَ قَابِضَ السَّتُّوقَةِ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ في الدِّينَارِ الذي دَفَعَهُ بَدَلًا عن الدَّرَاهِمِ فَيَرْجِعُ عليه بِعَيْنِهِ وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ على ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا في الزُّيُوفِ وَالنَّبَهْرَجَةِ فَقِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُنْقَصَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهِ إذَا لم يَتَجَوَّزْ وَرَدَّهُ اسْتَبْدَلَ في مَجْلِسِ الرَّدِّ أولا وهو قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ قَبْضَ الْمَرْدُودِ لم يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ لَا عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ في قَدْرِ الْمَرْدُودِ فَيَبْطُلُ السَّلَمُ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ في الْقَلِيلِ وقال إنْ كان قَلِيلًا فَرَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ في ذلك الْمَجْلِسِ فَالْعَقْدُ مَاضٍ في الْكُلِّ وَإِنْ كان كَثِيرًا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ لِأَنَّ الزِّيَافَةَ في الْقَلِيلِ مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَخْلُو عن ذلك فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْكَثِيرِ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ في الْحَدِّ الْفَاصِلِ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ مع اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ على أَنَّ الثُّلُثَ قَلِيلٌ
وفي رِوَايَةٍ عنه أَنَّ ما زَادَ على الثُّلُثِ يَكُونُ كَثِيرًا
وفي رِوَايَةٍ النِّصْفِ وفي رِوَايَةٍ عنه الزَّائِدُ على النِّصْفِ وَكَذَا هذا في الصَّرْفِ غير أَنَّ هُنَاكَ إذَا كَثُرَتْ الزُّيُوفُ فَرَدَّ حتى بَطَلَ الْعَقْدُ في قَدْرِ الْمَرْدُودِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَصِيرُ شَرِيكًا لِقَابِضِ الدِّينَارِ فَيَسْتَرِدُّ منه عَيْنَهُ وَعَلَى قَوْلِ عِيسَى قَابِضُ الدِّينَارِ بِالْخِيَارِ على ما بَيَّنَّا وَلَوْ كان تَصَرَّفَ فيه أو أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ لَا يُفْسَخُ عليه تَصَرُّفُهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ كما في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ على ما مَرَّ
وَكُلُّ جَوَابٍ عَرَفْتَهُ في السَّلَمِ وَالصَّرْفِ فَهُوَ الْجَوَابُ في عَقْدٍ تَتَعَلَّقُ صِحَّتُهُ بِالْقَبْضِ قبل الِافْتِرَاقِ مِمَّا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ كَمَنْ كان له على آخَرَ دَنَانِيرُ فَصَالَحَ منها على دَرَاهِمَ أو كان له على آخَرَ مَكِيلٌ أو مَوْزُونٌ مَوْصُوفٌ في الذِّمَّةِ أو غَيْرُهُمَا مِمَّا يَثْبُتُ مِثْلُهُ في الذِّمَّةِ دَيْنًا فَصَالَحَ منها على دَرَاهِمَ أو نَحْوُ ذلك من الْعُقُودِ مِمَّا يَكُونُ قَبْضُ الدَّرَاهِمِ فيه قبل الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ فَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ وَجَدَهَا مُسْتَحَقَّةً أو زُيُوفًا أو نَبَهْرَجَةً أو سَتُّوقَةً أو رَصَاصًا كُلَّهَا أو بَعْضَهَا الِافْتِرَاقِ أو بَعْدَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ مُقَاصَّةُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِدَيْنٍ آخَرَ على الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِأَنْ وَجَبَ على الْمُسْلَمِ إلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ هل يَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ قِصَاصًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ أَمْ لَا فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وَجَبَ دَيْنٌ آخَرُ بِالْعَقْدِ وَإِمَّا إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ على عَقْدِ السَّلَمِ وأما إنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عنه فَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ على السَّلَمِ بِأَنْ كان رَبُّ السَّلَمِ بَاعَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ولم يَقْبِضْ الْعَشَرَةَ حتى أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في كُرِّ حِنْطَةٍ فَإِنْ جَعَلَا الدَّيْنَيْنِ قِصَاصًا أو تَرَاضَيَا بِالْمُقَاصَّةِ يَصِيرُ قِصَاصًا وَإِنْ أَبَى أَحَدُهُمَا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِيرَ قِصَاصًا كَيْفَ ما كان وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ شَرْطٌ وَالْحَاصِلُ بِالْمُقَاصَّةِ ليس بِقَبْضٍ حَقِيقَةً فَكَانَ الِافْتِرَاقُ حَاصِلًا لَا عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَبَطَلَ السَّلَمُ
وَلَنَا أَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْقَبْضِ حَقِيقَةً لَوْلَا الْمُقَاصَّةُ فإذا تَقَاصَّا تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ وقد وُجِدَ وَنَظِيرُهُ ما قُلْنَا في الزِّيَادَةِ في الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ أنها جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا وَتَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لِأَنَّ بِالزِّيَادَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على الْمَزِيدِ عليه وَعَلَى الزِّيَادَةِ جميعا كَذَا هذا
وَإِنْ وَجَبَ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عن السَّلَمِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا وَإِنْ جَعَلَاهُ قِصَاصًا إلَّا رِوَايَةً عن أبي يُوسُفَ شَاذَّةً لِأَنَّ بِالْمُقَاصَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ مُوجِبًا قَبْضًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ من حِينِ وُجُودِهِ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ تَسْتَدْعِي قِيَامَ دَيْنَيْنِ ولم يَكُنْ عِنْدَ عَقْدِ السَّلَمِ إلَّا دَيْنٌ وَاحِدٌ فَانْعَقَدَ مُوجِبًا حَقِيقَةَ الْقَبْضِ وأنه لَا يَحْصُلُ بِالْمُقَاصَّةِ
هذا إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِالْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا وَجَبَ بِالْقَبْضِ كَالْغَصْبِ
____________________

(5/206)


وَالْقَرْضِ فإنه يَصِيرُ قِصَاصًا أولا ( ( ( سواء ) ) ) بَعْدَ إن كان وُجُوبُ الدَّيْنِ الْآخَرِ مُتَأَخِّرًا عن الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ إنْ انْعَقَدَ مُوجِبًا قَبْضًا حَقِيقَةً فَقَدْ وُجِدَ هَهُنَا لَكِنَّ قَبْضَ الْغَصْبِ وَالْقَرْضِ قَبْضٌ حَقِيقَةً فَيُجْعَلُ عن قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَقَبْضُ الْغَصْبِ مَحْظُورٌ وَقَبْضُ الْقَرْضِ ليس بِوَاجِبٍ فَكَانَ إيقَاعُهُ عن الْوَاجِبِ أَوْلَى بِخِلَافِ ما تَقَدَّمَ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْقَبْضُ حَقِيقَةً وَالْقَبْضُ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ يُمْكِنُ في أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا تَسَاوَى الدَّيْنَانِ فَأَمَّا إذَا تَفَاضَلَا بِأَنْ كان أَحَدُهُمَا أَفْضَلَ وَالْآخَرُ أَدْوَنَ فَرَضِيَ أَحَدُهُمَا بِالْقِصَاصِ وَأَبَى الْآخَرُ فإنه يُنْظَرُ إنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَفْضَلِ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا لِأَنَّ حَقَّهُ في الْجَوْدَةِ مَعْصُومٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عليه من غَيْرِ رِضَاهُ وَإِنْ أَبَى صَاحِبُ الْأَدْوَنِ يَصِيرُ قِصَاصًا لِأَنَّهُ لَمَّا رضي بِهِ صَاحِبُ الْأَفْضَلِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ عن الْفَضْلِ كَأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ فَأَعْطَاهُ أَجْوَدَ مِمَّا عليه وَهُنَاكَ يُجْبَرُ على الْأَخْذِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ الْمُقَاصَّةُ في ثَمَنِ الصَّرْفِ تَخْرُجُ على هذه التَّفَاصِيلِ التي ذَكَرْنَاهَا في رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فأفهم وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ وهو قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ حَالَ بَقَاءِ الْعَقْدِ فَأَمَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِهِ بِطَرِيقِ الْإِقَالَةِ أو بِطَرِيقٍ آخَرَ فَقَبْضُهُ ليس بِشَرْطٍ في مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ بِخِلَافِ الْقَبْضِ في مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَقَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ في مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ كَقَبْضِهِمَا في مَجْلِسِ الْعَقْدِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقَبْضَ في مَجْلِسِ الْعَقْدِ في الْبَابَيْنِ ما هو شَرْطٌ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا هو شَرْطٌ لِلتَّعْيِينِ وهو أَنْ يَصِيرَ الْبَدَلُ مُعَيَّنًا بِالْقَبْضِ صِيَانَةً عن الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ على ما بَيَّنَّا وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ في مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ في السَّلَمِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُهُ فَيَعُودُ إلَيْهِ عَيْنُهُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى التَّعْيِينِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْوَاجِبُ نَفْسَ الْقَبْضِ فَلَا يراعي له الْمَجْلِسُ بِخِلَافِ الصَّرْفِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ لِأَنَّ اسْتِبْدَالَهُ جَائِزٌ فَلَا بُدَّ من شَرْطِ الْقَبْضِ في الْمَجْلِسِ لِيَتَعَيَّنَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُسْلَمِ فيه فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ كَقَوْلِنَا حِنْطَةٌ أو شَعِيرٌ أو تَمْرٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ كَقَوْلِنَا حِنْطَةٌ سَقِيَّةٌ أو نَحِسِيَّةٌ تَمْرٌ بَرْنِيُّ أو فَارِسِيٌّ هذا إذَا كان مِمَّا يَخْتَلِفُ نَوْعُهُ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ النَّوْعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الصِّفَةِ كَقَوْلِنَا جَيِّدٌ أو وَسَطٌ أو رَدِيءٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِالْكَيْلِ أو الْوَزْنِ أو الْعَدِّ أو الزرع ( ( ( الذرع ) ) ) لِأَنَّ جَهَالَةَ النَّوْعِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ وإنها مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ
وقال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِكَيْلٍ أو وَزْنٍ أو ذَرْعٍ يُؤْمَنُ عليه فَقْدُهُ عن أَيْدِي الناس فَإِنْ كان لَا يُؤْمَنُ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ بِأَنْ أَعْلَمَ قَدْرَهُ بِمِكْيَالٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قال بهذا الْإِنَاءِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ يَسَعُ فيه أو بِحَجَرٍ لَا يُعْرَفُ عِيَارُهُ بِأَنْ قال بهذا الْحَجَرِ وَلَا يُعْلَمُ كَمْ وَزْنُهُ أو بِخَشَبَةٍ لَا يُعْرَفُ قَدْرُهَا بِأَنْ قال بِهَذِهِ الْخَشَبَةِ وَلَا يُعْرَفُ مِقْدَارُهَا أو بِذِرَاعِ يَدِهِ وَلَوْ كان هذا في بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قال بِعْتُكَ من هذه الصُّبْرَةِ مِلْءَ هذا الْإِنَاءِ بِدِرْهَمٍ أن من هذا الزَّيْتِ وَزْنَ هذا الْحَجَرِ بِدِرْهَمٍ يَجُوزُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ في بَيْعِ الْعَيْنِ أَيْضًا كما لَا يَجُوزُ في السَّلَمِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ كان يقول أَوَّلًا لَا يَجُوزُ ثُمَّ رَجَعَ وقال يَجُوزُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ هذا الْبَيْعَ مُكَايَلَةٌ والسلم ( ( ( والعلم ) ) ) بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ في بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ ولم يُوجَدْ فَيَفْسُدُ كما لو بَاعَ قُفْزَانًا من هذه الصُّبْرَةِ وَلِظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْفَرْقُ بين السَّلَمِ وَبَيْنَ بَيْعِ الْعَيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّسْلِيمَ في بَابِ السَّلَمِ لَا يَجِبُ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ الْإِنَاءَ قبل مَحَلِّ الْأَجَلِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ إنْ لم يَكُنْ غَالِبًا فَلَيْسَ بِنَادِرٍ أَيْضًا وإذا هَلَكَ يَصِيرُ الْمُسْلَمُ فيه مَجْهُولَ الْقَدْرِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَهَلَاكُ الْقَفِيزِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِلَا فَصْلٍ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَلَا يَصِيرُ الْمَبِيعُ مَجْهُولَ الْقَدْرِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْقُدْرَةَ على تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ شَرْطُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَصِحَّتِهِ وَالْقُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَائِتَةٌ في بَابِ السَّلَمِ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ وفي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ قد تَثْبُتُ وقد لَا تَثْبُتُ لِأَنَّهُ إنْ بَقِيَ الْمِكْيَالُ وَالْحَجَرُ وَالْخَشَبَةُ تَثْبُتُ وَإِنْ لم يَبْقَ لَا يَقْدِرُ فَوَقَعَ
____________________

(5/207)


الشَّكُّ في ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في غَيْرِ الثَّابِتِ يقين ( ( ( بيقين ) ) ) إذَا وَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الْقُدْرَةَ على التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وفي فَوَاتِهَا بِالْهَلَاكِ شَكٌّ فَلَا تَفُوتُ بِالشَّكِّ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ في الثَّابِتِ بِيَقِينٍ إذَا وَقَعَ الشَّكُّ في زَوَالِهِ أَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْعِلْمَ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ في بَيْعِ الْمُكَايَلَةِ شَرْطُ الصِّحَّةِ فَنَقُولُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِعَيْنِهِ بَلْ لِصِيَانَةِ الْعَقْدِ عن الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهَذَا النَّوْعُ من الْجَهَالَةِ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِقَدْرِ الْمَبِيعِ بِالْكَيْلِ لِلْحَالِ بِخِلَافِ بَيْعِ قُفْزَانٍ من الصُّبْرَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا طَرِيقَ لِلْوُصُولِ إلَى الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْمَبِيعِ فَالْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِزِيَادَةٍ وَالْبَائِعُ لَا يُعْطِيهِ فَيَتَنَازَعَانِ فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ وَقِيلَ إنَّمَا يَجُوزُ هذا في بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كان الْإِنَاءُ من خَزَفٍ أو خَشَبٍ أو حَدِيدٍ أو نَحْوِ ذلك لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ
وَأَمَّا إذَا كان مِثْلَ الزِّنْبِيلِ وَالْجُوَالِقِ وَالْغِرَارَةِ وَنَحْوِ ذلك فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كان الْمُسْلَمُ فيه مَكِيلًا فأعلم ( ( ( فعلم ) ) ) قَدْرُهُ بِالْوَزْنِ الْمَعْلُومِ أو كان مَوْزُونًا فأعلم ( ( ( فعلم ) ) ) قَدْرُهُ بِالْكَيْلِ الْمَعْلُومِ جَازَ لِأَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهُ مَعْلُومَ الْقَدْرِ بِمِعْيَارٍ يُؤْمَنُ فَقْدُهُ وقد وجده بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ الْمَكِيلَ بِالْمَكِيلِ وَزْنًا بِوَزْنٍ مُتَسَاوِيًا في الْوَزْنِ أو بَاعَ الْمَوْزُونَ بِالْمَوْزُونِ كَيْلًا بِكَيْلٍ مُتَسَاوِيًا في الْكَيْلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ما لم يَتَسَاوَيَا في الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسْلَمِ فيه مَعْلُومَ الْقَدْرِ وَالْعِلْمُ بِالْقَدْرِ كما يَحْصُلُ بِالْكَيْلِ يَحْصُلُ بِالْوَزْنِ فَأَمَّا شَرْطُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ في الْأَشْيَاءِ التي وَرَدَ الشَّرْعُ فيها بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ في بَيْعِ الْعَيْنِ ثَبَتَ نَصًّا فَكَانَ بَيْعُهَا بِالْكَيْلِ أو الْوَزْنِ مُجَازَفَةً فَلَا يَجُوزُ أَمَّا في بَابِ السَّلَمِ فَاعْتِبَارُ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فيه وقد حَصَلَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُضْبَطَ قَدْرُهُ وَصِفَتُهُ بِالْوَصْفِ على وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يُمْكِنُ وَيَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فيه لِأَنَّهُ إذَا لم يُمْكِنْ ضَبْطُ قَدْرِهِ وَصِفَتِهِ بِالْوَصْفِ يبقي مَجْهُولَ الْقَدْرِ أو الْوَصْفِ جَهَالَةً فَاحِشَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وأنها مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ في الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ التي تَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ أَمَّا الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ فَلِأَنَّهَا مُمْكِنَةُ الضَّبْطِ قَدْرًا وصفه على وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ إلَّا تَفَاوُتٌ يَسِيرٌ لِأَنَّهَا من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ
وَكَذَلِكَ الْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ من الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فيها يَسِيرَةٌ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَصَغِيرُ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَكَبِيرُهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَا يَجْرِي التَّنَازُعُ في ذلك الْقَدْرِ من التَّفَاوُتِ وبين ( ( ( بين ) ) ) الناس عَادَةً فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فيها عَدَدًا وَكَذَلِكَ كَيْلًا وَهَذَا عِنْدَنَا وقال زُفَرُ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْجَوْزَ وَالْبَيْضَ مِمَّا يَخْتَلِفُ وَيَتَفَاوَتُ في الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ حتى يشتري الْكَبِيرُ منها بِأَكْثَرَ مِمَّا يشتري الصَّغِيرُ فَأَشْبَهَ الْبِطِّيخَ وَالرُّمَّانَ
وَلَنَا أَنَّ التَّفَاوُتَ بين صَغِيرِ الْجَوْزِ وَكَبِيرِهِ يَسِيرٌ اعرض الناس عن اعْتِبَارِهِ فَكَانَ سَاقِطَ الْعِبْرَةِ وَلِهَذَا كان مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ بِخِلَافِ الرُّمَّانِ وَالْبِطِّيخِ فإن التَّفَاوُتَ بين آحَادِهِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ وَلِهَذَا كان مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ
وَأَمَّا السَّلَمُ في الْفُلُوسِ عَدَدًا فَجَائِزٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ الْفُلُوسَ أَثْمَانٌ عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فيها كما لَا يَجُوزُ السَّلَمُ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَعِنْدَهُمَا ثَمَنِيَّتُهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لِأَنَّهَا ثَبَتَتْ بِالِاصْطِلَاحِ فَتَزُولُ بِالِاصْطِلَاحِ وَإِقْدَامُ الْعَاقِدَيْنِ على عَقْدِ السَّلَمِ فيها مع عِلْمِهِمَا أَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلسَّلَمِ في الْأَثْمَانِ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا على إخْرَاجِهَا عن صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فَتَبْطُلُ ثَمَنِيَّتُهَا في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ سَابِقًا على الْعَقْدِ وَتَصِيرُ سِلَعًا عَدَدِيَّةً فَيَصِحُّ السَّلَمُ فيها كما في سَائِرِ السِّلَعِ الْعَدَدِيَّةِ كَالنِّصَالِ وَنَحْوِهَا
وَأَمَّا الذَّرْعِيَّاتُ كَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَالْحَصِيرِ وَالْبَوَارِي وَنَحْوِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فيها لِأَنَّهَا لَيْسَتْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بين ثَوْبٍ وَثَوْبٍ وَلِهَذَا لم تُضْمَنْ بِالْمِثْلِ في ضَمَانِ الْعَدَدِيَّاتِ بَلْ بِالْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ في اللآلىء ( ( ( اللآلئ ) ) ) وَالْجَوَاهِرِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ لِقَوْلِهِ عز وجل في آيَةِ الدَّيْنِ { وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أو كَبِيرًا إلَى أَجَلِهِ } وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ لَا يُقَالُ فيه الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذلك في الذَّرْعِيَّاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ وَلِأَنَّ الناس تَعَامَلُوا السَّلَمَ في الثِّيَابِ لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذلك فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ بِمُقَابِلَتِهِ وَلِأَنَّهُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَنَوْعَهُ
____________________

(5/208)


وَرِفْعَتَهُ وَطُولَهُ وَعَرْضَهُ يَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فليحق ( ( ( فيلحق ) ) ) بِالْمِثْلِ في بَابِ السَّلَمِ شَرْعًا لِحَاجَةِ الناس وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِلْحَاقِ بِالْمِثْلِ في بَابِ الِاسْتِهْلَاكِ مع ما أَنَّ هذا الِاعْتِبَارَ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ قد يُحْتَمَلُ في الْمُعَامَلَاتِ من التَّفَاوُتِ الْيَسِيرِ مالا يُحْتَمَلُ مِثْلُهُ في الْإِتْلَافَاتِ فإن الْأَبَ إذَا بَاعَ مَالَ وَلَدِهِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ جَازَ وَلَا يَضْمَنُ
وَلَوْ أَتْلَفَ عليه شيئا يَسِيرًا من مَالِهِ يَضْمَنُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِبْدَالُ
هذا إذَا أَسْلَمَ في ثَوْبِ الْكِرْبَاسِ أو الْكَتَّانِ فَأَمَّا إذَا أَسْلَمَ في ثَوْبِ الْحَرِيرِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ فيه بَيَانُ الْوَزْنِ بَعْدَ بَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ إنْ كان مِمَّا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ وَزْنِهِ من الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ بَعْدَ التَّسَاوِي في الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالرِّفْعَةِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ يُشْتَرَطُ لِأَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هذه الْأَشْيَاءِ تَبْقَى جَهَالَتُهُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ يَجُوزُ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَزْنِ فيه لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ في الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ من الْحَيَوَانِ وَالْجَوَاهِرِ واللآلىء ( ( ( واللآلئ ) ) ) وَالْجَوْزِ وَالْجُلُودِ وَالْأُدُمِ والرؤوس ( ( ( والرءوس ) ) ) وَالْأَكَارِعِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَنَحْوِهَا من الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا بِالْوَصْفِ إذْ يَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَصِفَتِهَا وَقَدْرِهَا جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بين جَوْهَرٍ وَجَوْهَرٍ وَلُؤْلُؤٍ وَلُؤْلُؤٍ وَحَيَوَانٍ وَحَيَوَانٍ وَكَذَا بين جِلْدٍ وَجِلْدٍ وَرَأْسٍ وَرَأْسٍ في الصِّغَرِ وَالْكِبْرِ وَالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ في الْحَيَوَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ هُنَا جَهَالَةُ الْمُسْلَمِ فيه وقد زَالَتْ بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالسِّنِّ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَعْلُومُ الْجِنْسَ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَكَانَ مَضْبُوطَ الْوَصْفِ وَالتَّفَاوُتُ فِيمَا وَرَاءَ ذلك لَا يُعْتَبَرُ وَلِهَذَا وَجَبَ دَيْنًا في الذِّمَّةِ في النِّكَاحِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ
وَلَنَا أَنَّ بَعْدَ بَيَانِ هذه الْأَشْيَاءِ يبقي بين فَرَسٍ وَفَرَسٍ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ في الْمَالِيَّةِ فَتَبْقَى جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ وأنها مَانِعَةٌ صِحَّةَ الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْوُجُوهِ فِيمَا قيل ( ( ( قبل ) ) )
وقد رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن السَّلَفِ في الْحَيَوَانِ وَالسَّلَفُ وَالسَّلَمُ وَاحِدٌ في اللُّغَةِ وَالِاعْتِبَارُ بِالنِّكَاحِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ جَهَالَةً لَا يَتَحَمَّلُهَا الْبَيْعُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ من غَيْرِ ذِكْرِ الْبَدَلِ وَبِبَدَلٍ مَجْهُولٍ وهو مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَصِحُّ الْبَيْعُ إلَّا بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِدْلَال
وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ في التِّبْنِ أَحْمَالًا أو أَوْقَارًا لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بين الْحِمْل وَالْحِمْلِ وَالْوِقْرِ وَالْوِقْرِ مِمَّا يَفْحُشُ إلَّا إذَا أَسْلَمَ فيه بِقَبَّانٍ مَعْلُومٍ من قَبَابِينَ التُّجَّارِ فَلَا يَخْتَلِفُ فَيَجُوزُ ولايجوز السَّلَمُ في الْحَطَبِ حُزَمًا وَلَا أَوْقَارًا لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بين حُزْمَةٍ وَحُزْمَةٍ وَوِقْرٍ وَوِقْرٍ
وَكَذَا في الْقَصَبِ وَالْحَشِيشِ وَالْعِيدَانِ إلَّا إذَا وَصَفَهُ بِوَصْفٍ يُعْرَفُ وَيَتَقَارَبُ التَّفَاوُتُ فَيَجُوزُ وَيَجُوزُ السَّلَمُ في اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا سَمَّى مَلْبَنًا مَعْلُومًا لَا يَخْتَلِفُ وَلَا يَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا
وَكَذَا في الطَّوَابِيقِ إذَا وَصَفَهَا بِوَصْفٍ يُعْرَفُ على وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْوَصْفِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِلْجَهَالَةِ فإذا صَارَ مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ جَازَ وَكَذَا في طَشْتٍ أو قُمْقُمَةٍ أو خُفَّيْنِ أو نَحْوِ ذلك إنْ كان يُعْرَفُ يَجُوزُ وَإِنْ كان لَا يُعْرَفُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه دَيْنٌ حَقِيقَةً وَالدَّيْنُ يُعْرَفُ بِالْوَصْفِ فَإِنْ كان مِمَّا يَحْصُلُ تَمَامُ مَعْرِفَتِهِ بِالْوَصْفِ بِأَنْ لم تَبْقَ فيه جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ جَازَ السَّلَمُ فيه وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ اسْتَصْنَعَ رَجُلٌ شيئا من ذلك بِغَيْرِ أَجَلٍ جَازَ اسْتِحْسَانًا
وَالْكَلَامُ في الِاسْتِصْنَاعِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ جَوَازِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ جَوَازِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازَ الِاسْتِصْنَاعِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ كَالسَّلَمِ بَلْ هو أَبْعَدُ جَوَازًا من السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه تَحْتَمِلُهُ الذِّمَّةُ لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً وَالْمُسْتَصْنَعُ عَيْنٌ تُوجَدُ في الثَّانِي وَالْأَعْيَانُ لَا تَحْتَمِلُهَا الذِّمَّةُ فَكَانَ جَوَازُ هذا الْعَقْدِ أَبْعَدَ عن الْقِيَاسِ عن السَّلَمِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ جَازَ لِأَنَّ الناس تَعَامَلُوهُ في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على الْجَوَازِ فَيُتْرَكُ الْقِيَاسُ ثُمَّ هو بَيْعٌ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وقال بَعْضُهُمْ هو عِدَّةٌ وَلَيْسَ بِسَدِيدٍ لِأَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ في جَوَازِهِ
وَذِكْرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ لَا يَلِيقُ بِالْعِدَّاتِ وَكَذَا ثَبَتَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُسْتَصْنِعِ من وأنه خَصَائِصِ الْبُيُوعِ وَكَذَا من شَرْطِ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ فِيمَا لِلنَّاسِ فيه تَعَامُلٌ وَالْعِدَّاتُ لَا يَتَقَيَّدُ جَوَازُهَا بِهَذِهِ الشَّرَائِطِ فَدَلَّ أَنَّ جَوَازَهُ جَوَازُ الْبِيَاعَاتِ لَا جَوَازُ الْعِدَّاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِهِ فَمِنْهَا بَيَانُ جِنْسِ الْمُسْتَصْنَعِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ لِأَنَّهُ مَبِيعٌ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَالْعِلْمُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَشْيَاءَ منها أَنْ يَكُونَ ما لِلنَّاسِ فيه تَعَامُلٌ كَالْقَلَنْسُوَةِ
____________________

(5/209)


وَالْخُفِّ وَالْآنِيَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا يَجُوزُ فِيمَا لَا تَعَامُلَ لهم فيه كما إذَا أَمَرَ حَائِكًا أَنْ يحوك ( ( ( يحيك ) ) ) له ثَوْبًا بِغَزْلِ نَفْسِهِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا لم تَجْرِ عَادَاتُ الناس بِالتَّعَامُلِ فيه لِأَنَّ جَوَازَهُ مع أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَاهُ ثَبَتَ بِتَعَامُلِ الناس فَيَخْتَصُّ بِمَا لهم فيه تَعَامُلٌ وَيَبْقَى الْأَمْرُ فيما ( ( ( فيها ) ) ) وَرَاءَ ذلك مَوْكُولًا إلَى الْقِيَاسِ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ جَوَازِهِ فَهِيَ أَنَّهُ عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا قبل رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ حتى كان لِلصَّانِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ من الصُّنْعِ وَأَنْ يَبِيعَ الْمَصْنُوعَ قبل أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَلِلْمُسْتَصْنِعِ أَنْ يَرْجِعَ أَيْضًا لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَجُوزَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ جَوَازَهُ ثَبَتَ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ الناس وَحَاجَتُهُمْ قبل الصُّنْعِ أو بَعْدَهُ قبل رُؤْيَةِ الْمُسْتَصْنِعِ وَالرِّضَا بِهِ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ دُونِ اللُّزُومِ فَيَبْقَى اللُّزُومُ قبل ذلك على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِصْنَاعِ فَحُكْمُهُ في حَقِّ الْمُسْتَصْنِعِ إذَا أتى الصَّانِعُ بِالْمُسْتَصْنَعِ على الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ ثُبُوتُ مِلْكٍ غَيْرِ لَازِمٍ في حَقِّهِ حتى يَثْبُتَ له خِيَارُ الرُّؤْيَةِ إذَا رَآهُ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وفي حَقِّ الصَّانِعِ ثُبُوتُ مِلْكٍ لَازِمٍ إذَا رَآهُ الْمُسْتَصْنِعُ وَرَضِيَ بِهِ وَلَا خِيَارَ له وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا حتى يَثْبُتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَازِمٌ في حَقِّهِمَا حتى لَا خِيَارَ لِأَحَدِهِمَا لَا لِلصَّانِعِ وَلَا لِلْمُسْتَصْنِعِ أَيْضًا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ في إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارًا بِالصَّانِعِ لِأَنَّهُ قد أَفْسَدَ مَتَاعَهُ وفري جِلْدَهُ وَأَتَى بِالْمُسْتَصْنَعِ على الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَلَوْ ثَبَتَ له الْخِيَارُ لَتَضَرَّرَ بِهِ الصَّانِعُ فَيَلْزَمُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ في اللُّزُومِ إضْرَارًا بِهِمَا جميعا أَمَّا إضْرَارُ الصَّانِعِ فَلِمَا قال أبو يُوسُفَ وَأَمَّا ضَرَرُ الْمُسْتَصْنِعِ فَلِأَنَّ الصَّانِعَ مَتَى لم يَصْنَعْهُ وَاتَّفَقَ له مُشْتَرٍ يَبِيعُهُ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَةُ الْمُسْتَصْنِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْخِيَارُ لَهُمَا دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنهما
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِلْمُسْتَصْنِعِ لَا لِلصَّانِعِ أَنَّ الْمُسْتَصْنِعَ مُشْتَرٍ شيئا لم يَرَهُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه وهو الْمُسْتَصْنِعُ وَإِنْ كان مَعْدُومًا حَقِيقَةً لَكِنَّهُ جُعِلَ مَوْجُودًا شَرْعًا حتى جَازَ الْعَقْدُ اسْتِحْسَانًا وَمَنْ اشْتَرَى شيئا لم يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ وَالصَّانِعُ بَائِعٌ شيئا لم يَرَهُ فَلَا خِيَارَ له وَلِأَنَّ إلْزَامَ حُكْمِ الْعَقْدِ في جَانِبِ الْمُسْتَصْنِعِ إضْرَارٌ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ لَا يُلَائِمَهُ الْمَصْنُوعُ وَلَا يَرْضَى بِهِ فَلَوْ لَزِمَهُ وهو مُطَالَبٌ بِثَمَنِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِ من غَيْرِهِ وَلَا يشتري منه بِمِثْلِ قِيمَتِهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَيْسَ في الْإِلْزَامِ في جَانِبِ الصَّانِعِ ضَرَرٌ لِأَنَّهُ إنْ لم يَرْضَ بِهِ الْمُسْتَصْنِعُ يَبِيعُهُ من غَيْرِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ وَذَلِكَ مُيَسَّرٌ عليه لِكَثْرَةِ مُمَارَسَتِهِ
هذا إذَا اسْتَصْنَعَ شيئا ولم يَضْرِبْ له أَجَلًا فَأَمَّا إذَا ضَرَبَ له أَجَلًا فإنه يَنْقَلِبُ سَلَمًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا كما في السَّلَمِ وَعِنْدَهُمَا هو على حَالِهِ اسْتِصْنَاعٌ وَذِكْرُهُ الْأَجَلَ لِلتَّعْجِيلِ وَلَوْ ضَرَبَ الْأَجَلَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ فيه يَنْقَلِبُ سَلَمًا بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا اسْتِصْنَاعٌ حَقِيقَةً فَلَوْ صَارَ سَلَمًا إنَّمَا يَصِيرُ بِذِكْرِهِ الْمُدَّةَ وَأَنَّهُ قد يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ كما في الِاسْتِصْنَاعِ فَلَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ اسْتِصْنَاعًا مع الِاحْتِمَالِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْأَجَلَ في الْبَيْعِ من الْخَصَائِصِ اللَّازِمَةِ لِلسَّلَمِ فَذِكْرُهُ يَكُونُ ذِكْرًا لِلسَّلَمِ مَعْنًى وَإِنْ لم يَذْكُرْهُ صَرِيحًا كَالْكَفَالَةِ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ أنها حَوَالَةٌ مَعْنًى وَإِنْ لم يَأْتِ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ
وَقَوْلُهُ ذِكْرُ الْوَقْتِ قد يَكُونُ لِلِاسْتِعْجَالِ قُلْنَا لو حُمِلَ على الِاسْتِعْجَالِ لم يَكُنْ مُفِيدًا لِأَنَّ التَّعْجِيلَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَوْ حُمِلَ على حَقِيقَةِ التَّأْجِيلِ لَكَانَ مُفِيدًا لِأَنَّهُ لَازِمٌ فَكَانَ الْحَمْلُ عليه أَوْلَى وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ في اللَّحْمِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ إذَا بَيَّنَ جِنْسَهُ وَنَوْعَهُ وَصِفَتَهُ وَقَدْرَهُ وَسِنَّهُ وَمَوْضِعَهُ لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ وقد زَالَتْ بِبَيَانِ هذه الْأَشْيَاءِ وَلِهَذَا كان مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ في ضَمَانَ الْعُدْوَانِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ المجهالة ( ( ( الجهالة ) ) ) تَبْقَى بَعْدَ بَيَانِ ما ذَكَرْنَاهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا من جِهَةِ الْهُزَالِ وَالسِّمَنِ
وَالثَّانِي من جِهَةِ قِلَّةِ الْعَظْمِ وَكَثْرَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الثَّانِي أَنَّهُ لو أَسْلَمَ في مَنْزُوعِ الْعَظْمِ يَجُوزُ وهو رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَقِيَاسُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ كَيْفَ ما كان وهو ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ إنْ زَالَتْ الْجَهَالَةُ من إحْدَى الْجِهَتَيْنِ بَقِيَتْ من جِهَةٍ أُخْرَى وَهِيَ جَهَالَةُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ فَكَانَ الْمُسْلَمُ فيه مَجْهُولًا فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ إلَّا أَنَّهُ جُعِلَ مِثْلًا في ضَمَانِ الْعُدْوَانِ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ فيه شَرْعًا تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الزَّجْرِ من وَجْهٌ لِأَنَّ ذلك لَا يَحْصُلُ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ لِلنَّاسِ رَغَائِبَ في الْأَعْيَانِ ما ليس في قِيمَتِهَا وَيَجُوزُ السَّلَمُ في الإلية
____________________

(5/210)


وَالشَّحْمِ وَزْنًا لِأَنَّهُ لَا تَخْتَلِفُ بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ إلَّا يَسِيرًا بِخِلَافِ اللَّحْمِ فإن التَّفَاوُتَ بين غَيْرِ السمن ( ( ( السمين ) ) ) وَالسَّمِينِ وَالْمَهْزُولِ وَغَيْرِ الْمَهْزُولِ تَفَاوُتٌ فَاحِشٌ
وَأَمَّا السَّلَمُ في السَّمَكِ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ الْأَصْلِ في ذلك
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ في الصِّغَارِ منه كَيْلًا وَوَزْنًا مَالِحًا كان أو طريا بَعْدَ أَنْ كان في حَيِّزِهِ لِأَنَّ الصِّغَارَ منه لَا يَتَحَقَّقُ فيه اخْتِلَافُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَلَا اخْتِلَافُ الْعَظْمِ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وفي الْكِبَارِ عن أبي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ طَرِيًّا كان أو مَالِحًا كَالسَّلَمِ في اللَّحْمِ لِاخْتِلَافِهَا بِالسِّمَنِ وَالْهُزَالِ كَاللَّحْمِ وفي رِوَايَةٍ يَجُوزُ كَيْفَ ما كان وَزْنًا لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بين سَمِينِهِ وَمَهْزُولِهِ لَا يُعَدُّ تَفَاوُتًا عَادَةً لِقِلَّتِهِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ اللَّحْمِ عِنْدَهُمَا وَالْفَرْقُ لَهُمَا أَنَّ بَيَانَ الْمَوْضِعِ من اللَّحْمِ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَهُمَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ في السَّمَكِ فَأَشْبَهَ السَّلَمَ في الْمَسَالِيخِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا السَّلَمُ في الْخُبْزِ عَدَدًا فَلَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بين خُبْزٍ وَخُبْزٍ في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ
وَأَمَّا وَزْنًا فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ السَّلَمَ في الْخُبْزِ لَا يَجُوزُ في قَوْلِهِمْ لِتَفَاوُتٍ فَاحِشٍ بين خُبْزٍ وَخُبْزٍ في الْخَبْزِ وَالْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ فتبقي جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ جَوَازَ السَّلَمِ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِتَعَامُلِ الناس وَلَا تَعَامُلَ في الْخُبْزِ وذلك ( ( ( وذكر ) ) ) في نَوَادِرِ ابْنِ رُسْتُمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا من وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْأَجَلِ فَإِنْ لم يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ أو عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ أو كان مَوْجُودًا فِيهِمَا لَكِنَّهُ انْقَطَعَ من أَيْدِي الناس فِيمَا بين ذلك كَالثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَاللَّبَنِ وَأَشْبَاهِ ذلك لَا يَجُوزُ السَّلَمُ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّرْطُ وُجُودُهُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ لَا غير
وَجْهُ قَوْلِهِ أن اعْتِبَارَ هذا الشَّرْطِ وهو الْوُجُودُ ليس لِعَيْنِهِ بَلْ لِلْقُدْرَةِ على التَّسْلِيمِ فَيُعْتَبَرُ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ فَأَمَّا قبل ذلك فَالْوُجُودُ فيه وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَنَظِيرُ هذا في الْعَقْلِيَّاتِ ما قُلْنَا في اسْتِطَاعَةِ الْفِعْلِ أنها مع الْفِعْلِ لَا تَتَقَدَّمُهُ لِأَنَّ وُجُودَهَا لِلْفِعْلِ فَيَجِبُ وُجُودُهَا عِنْدَ الْفِعْلِ لَا سَابِقًا عليه كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْقُدْرَةَ على التَّسْلِيمِ ثَابِتَةٌ لِلْحَالِ وفي وُجُودِهَا عِنْدَ الْمَحَلِّ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الْهَلَاكِ فَإِنْ بَقِيَ حَيًّا إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ ثَبَتَتْ الْقُدْرَةُ وَإِنْ هَلَكَ قبل ذلك لَا تَثْبُتُ وَالْقُدْرَةُ لم تَكُنْ ثَابِتَةً فَوَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِهَا فَلَا تَثْبُتُ مع الشَّكِّ وَلَوْ كان مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ فَحَلَّ الْأَجَلُ ولم يَقْبِضْهُ حتى انْقَطَعَ عن أَيْدِي الناس لَا يَنْفَسِخُ السَّلَمُ بَلْ هو على حَالِهِ صَحِيحٌ لِأَنَّ السَّلَمَ وَقَعَ صَحِيحًا لِثُبُوتِ الْقُدْرَةِ على التَّسْلِيمِ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فيه مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَدَامَ وُجُودُهُ إلَى مَحَلِّ الْأَجَلِ إلَّا أن عَجَزَ عن التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ لِعَارِضِ الِانْقِطَاعِ مع عَرَضِيَّةِ حُدُوثِ الْقُدْرَةِ ظَاهِرًا بِالْوُجُودِ فَكَانَ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ وَالْعَقْدُ إذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ على السَّوَاءِ كَبَيْعِ الْآبِقِ إذَا أَبَقَ قبل الْقَبْضِ فَلَأَنْ يَبْقَى لِفَائِدَةِ عَوْدِ الْقُدْرَةِ في الثَّانِي ظَاهِرًا أَوْلَى لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِرَبِّ السَّلَمِ إنْ شَاءَ فَسَخ الْعَقْدَ وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ وُجُودَهُ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ قبل الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَوْ أَسْلَمَ في حِنْطَةٍ قبل حُدُوثِهَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ أَسْلَمَ في الْمُنْقَطِعِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَسْلَمَ في حِنْطَةِ مَوْضِعٍ أَنَّهُ إنْ كان مِمَّا لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهِ جَازَ السَّلَمُ فيه كما إذَا أَسْلَمَ في حِنْطَةِ خُرَاسَانَ أو ( ( ( والعراق ) ) ) العراق أو فَرْغَانَةَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها اسْمٌ لِوِلَايَةٍ فَلَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُ طَعَامِهَا وَكَذَا إذَا أَسْلَمَ في طَعَامِ بَلْدَةٍ كَبِيرَةٍ كَسَمَرْقَنْدَ وَبُخَارَى أو كَاشَانَ جَازَ لِأَنَّهُ لَا ينفذ ( ( ( ينفد ) ) ) طَعَامُ هذه الْبِلَادِ إلَّا على سَبِيلِ النُّدْرَةِ وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال لَا يَجُوزُ إلَّا في طَعَامِ وِلَايَةٍ لِأَنَّ وَهْمَ الِانْقِطَاعِ فِيمَا وَرَاءَ ذلك ثَابِتٌ وَالسَّلَمُ عَقْدٌ جُوِّزَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِكَوْنِهِ بَيْعَ الْمَعْدُومِ فَتَجِبُ صِيَانَتُهُ عن غَرَرِ الِانْقِطَاعِ ما أَمْكَنَ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْمُضَافَ إلَيْهِ الطَّعَامُ وَإِنْ كان مِمَّا لَا ينفذ ( ( ( ينفد ) ) ) طَعَامُهُ غَالِبًا يَجُوزُ السَّلَمُ فيه سَوَاءٌ كان وِلَايَةً أو بَلْدَةً كَبِيرَةً لِأَنَّ الْغَالِبَ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَنْقَطِعَ طَعَامُهُ فَلَا يَجُوزُ فيه السَّلَمُ كَأَرْضٍ بِعَيْنِهَا أو قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ الِانْقِطَاعُ لَا على سَبِيلِ النُّدْرَةِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا قُدْرَةَ له لِلْحَالِ لِأَنَّهُ بَيْعُ المقاليس ( ( ( المفاليس ) ) ) وفي ثُبُوتِ الْقُدْرَةِ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ شَكٌّ لِاحْتِمَالِ الِانْقِطَاعِ فَلَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ مع الشَّكِّ
وقد رُوِيَ أَنَّ زَيْدَ بن شُعْبَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يُسْلِمَ إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم قال أُسْلِمُ إلَيْكَ في تَمْرِ نَخْلَةٍ بِعَيْنِهَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّا في تَمْرِ نَخْلَةٍ
____________________

(5/211)


بِعَيْنِهَا فَلَا
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا أَسْلَمَ في حِنْطَةِ هَرَاةَ لَا يَجُوزُ وَأَرَادَ قَرْيَةً من قُرَى الْفُرَاتِ الْمُسَمَّاةِ بِهَرَاةَ لِأَنَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ ثُمَّ لو أَسْلَمَ في ثَوْبِ هَرَاةَ وَذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ يَجُوزُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ إضَافَةَ الثَّوْبِ إلَى هَرَاةَ ذِكْرُ شَرْطٍ من شَرَائِطِ السَّلَمِ لَا جَوَازَ له بِدُونِهِ وهو بَيَانُ النَّوْعِ لَا تَخْصِيصُ الثَّوْبِ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لو أتى بِثَوْبٍ نُسِجَ في غَيْرِ هَرَاةَ لَكِنْ على صِفَةِ ثَوْبِ هَرَاةَ يُجْبَرُ رَبُّ السَّلَمِ على الْقَبُولِ فإذا ذَكَرَ النَّوْعَ وَذَكَرَ الشَّرَائِطَ الآخر كان هذا عَقْدًا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَهُ فَيَجُوزُ فَأَمَّا إضَافَةُ الطَّعَامِ إلَى هَرَاةَ فَلَيْسَ يُفِيدُ شَرْطًا لَا جَوَازَ لِلسَّلَمِ بِدُونِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تَرَكَ الْإِضَافَةَ أَصْلًا جَازَ السَّلَمُ فَبَقِيَتْ الْإِضَافَةُ لِتَخْصِيصِ الطَّعَامِ بِمَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ يَحْتَمِلُ انْقِطَاعَ طَعَامِهِ فلم يَجُزْ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فيه لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه بَيْعٌ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ سمي السَّلَمَ بَيْعًا فَكَانَ الْمُسْلَمُ فيه مَبِيعًا وَالْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فلم تَكُنْ مَبِيعَةً فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فيها وَهَلْ يَجُوزُ السَّلَمُ في التِّبْرِ وَالنُّقْرَةِ وَالْمَصُوغِ فَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ
وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ يَجُوزُ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ حَيْثُ لم يُجَوِّزْ الْمُضَارَبَةَ بها فَتَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً فَيَجُوزُ السَّلَمُ فيها
وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ السَّلَمُ في الْفُلُوسِ عَدَدًا إنه جَائِزٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْفُلُوسَ ما ( ( ( مما ) ) ) تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في الْجُمْلَةِ عِنْدَهُمَا حتى جُوِّزَ بَيْعُ فَلْسٍ بِفَلْسٍ بِأَعْيَانِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فيها كما لَا يَجُوزُ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهَا أَثْمَانٌ عِنْدَهُ وَلِهَذَا لم يَجُزْ بَيْعُ وَاحِدٍ منها بِاثْنَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا وَيَجُوزُ السَّلَمُ في الْقَمَاقِمِ وَالْأَوَانِي الصُّفْرِيَّةِ التي تُبَاعُ عَدَدًا لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً وَإِنْ كانت تُبَاعُ وَزْنًا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فيها ما لم يُعْرَفْ وَزْنُهَا لِأَنَّهَا مَجْهُولَةُ الْقَدْرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا حتى لَا يَجُوزَ السَّلَمُ في الْحَالِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَسَلَمُ الْحَالِ جَائِزٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَجَلَ شُرِعَ نَظَرًا لَلْمُسْلَمِ إلَيْهِ تَمْكِينًا له من الِاكْتِسَابِ فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ في كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ أَوْجَبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُرَاعَاةَ الْأَجَلِ في السَّلَمِ كما أَوْجَبَ مُرَاعَاةَ الْقَدْرِ فيه فَيَدُلُّ على كَوْنِهِ شَرْطًا فيه كَالْقَدْرِ وَلِأَنَّ السَّلَمَ حَالًا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَاجِزًا عن تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فيه وَرَبُّ السَّلَمِ يطلب ( ( ( يطالب ) ) ) بِالتَّسْلِيمِ فَيَتَنَازَعَانِ على وَجْهٍ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْفَسْخِ وَفِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِرَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ رَأْسَ الْمَالِ إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَصَرَفَهُ في حَاجَتِهِ فَلَا يَصِلُ إلَى الْمُسْلَمِ فيه وَلَا إلَى رَأْسِ الْمَالِ فَشُرِطَ الْأَجَلُ حتى لَا يَمْلِكَ الْمُطَالَبَةَ إلَّا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ وَعِنْدَ ذلك يَقْدِرُ على التَّسْلِيمِ ظَاهِرًا فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْفَسْخِ وَالْإِضْرَارِ بِرَبِّ السَّلَمِ وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لم يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً لِكَوْنِهِ بَيْعَ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم نهى عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ فَهَذَا الْحَدِيثُ يَدُلُّ على أَنَّ بَيْعَ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ لم يُشْرَعْ إلَّا رُخْصَةً وإن السَّلَمَ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ أَيْضًا على ما ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَالرُّخْصَةُ في عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا يُغَيِّرُ عن الْأَمْرِ الْأَصْلِيِّ بِعَارِضِ عُذْرٍ إلَى تَخْفِيفٍ وَيُسْرٍ كَرُخْصَةِ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ بِالْإِكْرَاهِ وَالْمَخْمَصَةِ وَنَحْوِ ذلك فَالتَّرَخُّصُ في السَّلَمِ هو تَغْيِيرُ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ وهو حُرْمَةُ بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَى الْحَلِّ بِعَارِضٍ عذر ( ( ( عذرا ) ) ) العدم ( ( ( لعدم ) ) ) ضَرُورَةِ الْإِفْلَاسِ فَحَالَةُ الْوُجُودِ وَالْقُدْرَةِ لَا يَلْحَقُهَا اسْمُ قُدْرَةِ الرُّخْصَةِ فَيَبْقَى الْحُكْمُ فيها على الْعَزِيمَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَكَانَتْ حُرْمَةُ السَّلَمِ الْحَالِ على هذا التَّقْرِيرِ مُسْتَفَادَةً من النَّصِّ كأن يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ من الْقَادِرِ على تَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فيه لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَخْصُوصًا عن النَّهْيِ الْعَامِّ فَأُلْحِقَ بِالْعَاجِزِ عن التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ على اعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَإِلْحَاقِ النَّادِرِ بِالْعَدَمِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ فَإِنْ كان مَجْهُولًا فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ سَوَاءٌ كانت الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً أو مُتَقَارِبَةً لِأَنَّ كُلَّ ذلك يُفْضِيَ إلَى الْمُنَازَعَةِ
____________________

(5/212)


وأنها مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ لِجَهَالَةِ الْقَدْرِ وَغَيْرِهَا على ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْأَجَلِ فلم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ تَقْدِيرَ الْأَجَلِ إلَى الْعَاقِدَيْنِ حتى لو قَدَّرَا نِصْفَ يَوْمٍ جَازَ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَقَلُّهُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ قِيَاسًا على خِيَارِ الشَّرْطِ
وَهَذَا الْقِيَاسُ غَيْرُ سَدِيدٌ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الْخِيَارِ ليس بِمُقَدَّرٍ وَالثَّلَاثُ أَكْثَرُ الْمُدَّةِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَدَّرَ بِالشَّهْرِ وهو الصَّحِيحُ
لِأَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا شُرِطَ في السَّلَمِ تَرْفِيهًا وَتَيْسِيرًا على الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ من الِاكْتِسَابِ في الْمُدَّةِ وَالشَّهْرُ مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ يُمَكَّنُ فيها من الِاكْتِسَابِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّرْفِيهِ
فَأَمَّا ما دُونَهُ فَفِي حَدِّ الْقِلَّةِ فَكَانَ له حُكْمُ الْحُلُولِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ مَاتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قبل الْأَجَلِ حَلَّ الدَّيْنُ
وَكَذَلِكَ كُلُّ دَيْنٍ مُؤَجَّلٍ سِوَاهُ إذَا مَاتَ من عليه الدَّيْنُ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ مَوْتَ من عليه الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ وَمَوْتَ من له الدَّيْنُ لَا يُبْطِلُ
لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَدْيُونِ لَا حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَتُعْتَبَرُ حَيَاتُهُ وَمَوْتُهُ في الْأَجَلِ وَبُطْلَانِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا بَيَانُ مَكَانِ إيفَائِهِ إذَا كان له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ بَيَانُ مَكَانِ الْأُجْرَةِ في الْإِجَارَاتِ إذَا كان لها حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا جُعِلَ الْمَكِيلُ الْمَوْصُوفُ أو الْمَوْزُونُ الْمَوْصُوفُ ثَمَنًا في بَيْعِ الْعَيْنِ أَنَّهُ لَا بُدَّ من بَيَانِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا كَذَا أَطْلَقَهُ الْكَرْخِيُّ ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا كان مُؤَجَّلًا أو غير مُؤَجَّلٍ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا من فَرَّقُوا فَقَالُوا إذَا كان حَالًا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ بِالْإِجْمَاعِ
وَحَاصِلُ الِاخْتِلَافِ رَاجِعٌ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ هل يَتَعَيَّنُ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُ لَا يَتَعَيَّنُ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُ ولم يُوجَدْ مِنْهُمَا تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَلَمَّا تَعَيَّنَ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ عِنْدَهُمَا صَارَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَعْلُومًا فَيَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ هو الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ وُجِدَ في هذا الْمَكَانِ فَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فيه كما في بَيْعِ الْعَيْنِ إذَا كان الْمُسْلَمُ فيه شيئا له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فإنه يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِوُجُوبِ الْإِيفَاءِ فيه لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَقْدَ وُجِدَ مُطْلَقًا عن تَعْيِينِ مَكَان فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَالدَّلِيلُ على إطْلَاقِ الْعَقْدِ عن تَعْيِينِ مَكَان الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ ذِكْرُ الْمَكَانِ في الْعَقْدِ نَصًّا فَالْقَوْلُ بِتَعْيِينِ مَكَانِ الْعَقْدِ شَرْعًا من غَيْرِ تَعْيِينِ الْعَاقِدَيْنِ تقييدا ( ( ( تقييد ) ) ) لمطلق ( ( ( المطلق ) ) ) فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الْحُكْمُ فإن الْعَاقِدَيْنِ لو عَيَّنَا مَكَانًا آخَرَ جَازَ وَلَوْ كان تَعْيِينُ مَكَانِ الْعَقْدِ من مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ شَرْعًا لَكَانَ تَعْيِينُ مَكَان آخَرَ تَغْيِيرًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ وأنه يُعْتَبَرُ فيه حُكْمُ الشَّرْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ وإذا لم يَتَعَيَّنْ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ بَقِيَ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ في الْأَشْيَاءِ التي لها حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ لِمَا يَلْزَمُ في حَمْلِهَا من مَكَان إلَى مَكَان آخَرَ من الْمُؤْنَةِ فَيَتَنَازَعَانِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا سَبَبُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ هو الْعَقْدُ في هذا الْمَكَانِ
قُلْنَا ليس كَذَلِكَ فإن الْعَقْدَ قَائِمٌ بِالْعَاقِدَيْنِ لَا بِالْمَكَانِ فلم يُوجَدْ الْعَقْدُ في هذا الْمَكَانِ وَإِنَّمَا هذا مَكَانُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ على أَنَّ الْعَقْدَ ليس بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ سَبَبًا عِنْدَ حَلِّ الْأَجَلِ مَقْصُورًا عليه وَعِنْدَ ذلك مَكَانُ الْعَاقِدَيْنِ ليس بِمُتَّحِدٍ بَلْ مُخْتَلِفٍ فَيَتَنَازَعَانِ
وَأَمَّا الْمُسْلَمُ فيه إذَا لم يَكُنْ له حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ هُنَاكَ أَيْضًا وهو رِوَايَةُ كِتَاب الْإِجَارَاتِ وَيُوَفِّيهِ في أَيِّ مَكَان شَاءَ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَسَادَ لِأَنَّ الْفَسَادَ هَهُنَا لِمَكَانِ الْجَهَالَةِ الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْقِيمَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ وما لَا حِمْلَ له وَلَا مُؤْنَةَ لَا تَخْتَلِفُ قِيمَتُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ فلم تَكُنْ جهلة ( ( ( جهالة ) ) ) مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ وفي رِوَايَةٍ يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وهو رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
وَرِوَايَةُ الْبُيُوعِ من الْأَصَلِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من أَوَّلَ هذه الرِّوَايَةِ وقال هِيَ مَعْنَى قَوْلِهِ يُوَفِّيهِ في الْمَكَانِ الذي أَسْلَمَ فيه إذَا لم يَتَنَازَعَا
فإذا تَنَازَعَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ حَيْثُ ما لَقِيَهُ
وَلَوْ شَرَطَ رَبُّ السَّلَمِ التَّسْلِيمَ في بَلَدٍ أو قَرْيَةٍ فَحَيْثُ سَلَّمَ إلَيْهِ في ذلك الْمَوْضِعِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَتَخَيَّرَ مَكَانًا لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ هو التَّسْلِيمُ في مَكَان منه مُطْلَقًا وقد وُجِدَ وَإِنْ سَلَّمَ في غَيْرِ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فَلِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يأتي ( ( ( يأبى ) ) ) لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَإِنْ أَعْطَاهُ على ذلك أَجْرًا لم يَجُزْ له أَخْذُ الْأَجْرِ عليه لِأَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فيه فَقَدْ تَعَيَّنَ مِلْكُهُ في الْمَقْبُوضِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ الْأَجْرَ على
____________________

(5/213)


نَقْلِ مِلْكِ نَفْسِهِ فلم يَجُزْ فَيَرُدُّ الْأَجْرَ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمُسْلَمَ فيه حتى يُسْلِمَ في الْمَكَان الْمَشْرُوطِ لِأَنَّ حَقَّهُ في التَّسْلِيمِ فيه ولم يَرْضَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ ولم يُسْلِمْ له فَبَقِيَ حَقُّهُ في التَّسْلِيمِ في الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا صلح ( ( ( صالح ) ) ) الشَّفِيعُ من الشُّفْعَةِ التي وَجَبَتْ له على مَالٍ إنه لَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَيَسْقُطُ حَقُّهُ في الشُّفْعَةِ وَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِ الصُّلْحِ وإذا رَدَّهُ لَا يَعُودُ حَقُّهُ في الشُّفْعَةِ لِأَنَّهُ ليس لِلشَّفِيعِ حَقٌّ ثَابِتٌ في الْمَحَلِّ قبل التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ وَإِنَّمَا له حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ وَهَذَا ليس بِحَقٍّ ثَابِتٍ في الْمَحَلِّ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاعْتِيَاضَ وَبَطَلَ حَقُّهُ من الشُّفْعَةِ بِإِعْرَاضِهِ عن الطَّلَبِ بِإِسْقَاطِهِ صَرِيحًا وَلِرَبِّ السَّلَمِ حَقٌّ ثَابِتٌ في التَّسْلِيمِ في الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فإذا لم يَصِحَّ الِاعْتِيَاضُ عنه الْتَحَقَ الِاعْتِيَاضُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ الْحَقُّ على ما كان وَاَلَّذِي يَدُلُّ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ لو قال أَسْقَطْتُ حَقِّي في الشُّفْعَةِ يَسْقُطُ وَلَوْ قال أَسْقَطْتُ حَقِّي في التَّسْلِيمِ في ذلك الْمَكَانِ لَا يَسْقُطُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلَيْنِ جميعا فَهُوَ أَنْ لَا يَجْمَعَهُمَا أَحَدُ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وَذَلِكَ إمَّا الْكَيْلُ وَإِمَّا الْوَزْنُ وَإِمَّا الْجِنْسُ لِأَنَّ أَحَدَ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ هو عِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ فإذا اجْتَمَعَ أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ في الْبَدَلَيْنِ يَتَحَقَّقُ رِبَا النَّسَاءِ وَالْعَقْدُ الذي فيه رِبًا فَاسِدٌ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ إسْلَامُ الْمَكِيلِ في الْمَكِيلِ أو الْمَوْزُونِ في الْمَوْزُونِ وَالْمَكِيلِ في الْمَوْزُونِ وَالْمَوْزُونِ في الْمَكِيلِ وَغَيْرِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِجِنْسِهِمَا من الثِّيَابِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك وَتَفْصِيلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ في مَسَائِلِ رِبَا النَّسَاءِ وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجُوزُ من التَّصَرُّفِ في الْمُسْلَمِ فيه وما لَا يَجُوزُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا يَجُوزُ اسْتِبْدَالُ الْمُسْلَمِ فيه قبل قَبْضِهِ بِأَنْ يَأْخُذَ رَبُّ السَّلَمِ مَكَانَهُ من غَيْرِ جِنْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْلَمَ فيه وَإِنْ كان دَيْنًا فَهُوَ مَبِيعٌ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ وَيَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عنه لِأَنَّ قَبْضَهُ ليس بِمُسْتَحَقٍّ على رَبِّ السَّلَمِ فَكَانَ هو بِالْإِبْرَاءِ مُتَصَرِّفًا في خَالِصِ حَقِّهِ بِالْإِسْقَاطِ فَلَهُ ذلك بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ على رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْقَبْضِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِنَفْسِهِ بِالْإِبْرَاءِ على ما ذَكَرْنَا
وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِالْمُسْلَمِ فيه لِوُجُودِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ مع شَرَائِطِهِ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّ في الْحَوَالَةِ يَبْرَأُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ وفي الْكَفَالَةِ لَا يَبْرَأُ وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةً وَالْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِمُبَرِّئَةٍ إلَّا إذَا كانت بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْمَكْفُولِ عنه لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى على ما ذَكَرْنَا
وَلَا يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ الِاسْتِبْدَالُ مع الْكَفِيلِ كما لَا يَجُوزُ ذلك مع الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَا على الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَا بِدَيْنٍ آخَرَ إذْ الدَّيْنُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا تَعَدَّدَتْ الْمُطَالَبَةُ بِالْكَفَالَةِ وهو الصَّحِيحُ على ما يَجِيءُ في كِتَابِ الْكَفَالَةِ
وَيَجُوزُ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ مع الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ فَيَأْخُذُ بَدَلَ ما أَدَّى إلَى رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إذَا كانت بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عنه كانت إقْرَاضًا وَاسْتِقْرَاضًا كان الْكَفِيلَ أَقْرَضَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَاسْتِبْدَالُ الْقَرْضِ قبل الْقَبْضِ جَائِزٌ
وَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فيه لِأَنَّهُ دَيْنٌ حَقِيقَةً وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ أَيِّ دَيْنٍ كان جَائِزٌ وَالْإِقَالَةُ جَائِزَةٌ في الْمُسْلَمِ فيه كما تَجُوزُ في بَيْعِ الْعَيْنِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يوم الْقِيَامَةِ مُطْلَقًا من غَيْرِ فَصْلٍ وَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ في بَيْعِ الْعَيْنِ إنَّمَا شُرِعَتْ نَظَرًا لِلْعَاقِدَيْنِ دَفْعًا لِحَاجَةِ النَّدَمِ وَاعْتِرَاضُ النَّدَمِ في السَّلَمِ هَهُنَا أَكْثَرُ لِأَنَّهُ بَيْعٌ بِأَوْكَسِ الْأَثْمَانِ فَكَانَ أَدْعَى إلَى شَرْعِ الْإِقَالَةِ فيه ثُمَّ جُمْلَةُ الْكَلَامِ في الْإِقَالَةِ في السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ في كل الْمُسْلَمِ فيه وَإِمَّا إنْ تقابلا ( ( ( تقايلا ) ) ) في بَعْضٍ دُونَ بَعْضٍ فَإِنْ تَقَايَلَا في كل الْمُسْلَمِ فيه جَازَتْ الْإِقَالَةُ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كانت الْإِقَالَةُ بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ أو قَبْلَهُ لِأَنَّ نَصَّ الْإِقَالَةِ مُطْلَقٌ لَا يَفْصِلُ بين حَالٍ وَحَالٍ
وَكَذَا جَوَازُ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ قَائِمٌ في الْحَالَيْنِ وَسَوَاءٌ كان رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا في يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو هَالِكًا أَمَّا إذَا كان قَائِمًا فَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا إذَا كان هَالِكًا لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ ثَمَنٌ وَالْمَبِيعُ هو الْمُسْلَمُ فيه وَقِيَامُ الثَّمَنِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ إنَّمَا الشَّرْطُ قِيَامُ الْمَبِيعِ وقد وُجِدَ ثُمَّ إذَا جَازَتْ الْإِقَالَةُ فَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وهو قَائِمٌ فَعَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كان هَالِكًا فَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له فَعَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ وَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهِ هَالِكًا
____________________

(5/214)


كان أو قَائِمًا لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عن عَقْدٍ صَحِيحٍ
وَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ فيه تَقَايَلَا وَالْمَقْبُوضُ قَائِمٌ في يَدِهِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ وَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ ما قَبَضَ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ في يَدِهِ بَعْدَ السَّلَمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ ما وَرَدَ عليه عَقْدُ السَّلَمِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَبِيعَ الْمَقْبُوضَ مُرَابَحَةً على رَأْسِ الْمَالِ وَإِنْ تَقَايَلَا السَّلَمَ في بَعْضِ الْمُسْلَمِ فيه فَإِنْ كان بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ فيه بِقَدْرِهِ إذَا كان الْبَاقِي جزأ مَعْلُومًا من النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِ ذلك من الْأَجْزَاءِ الْمَعْلُومَةِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقَالَةَ شُرِعَتْ نَظَرًا وفي إقَالَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ هَهُنَا نَظَرٌ من الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ السَّلَمَ بَيْعٌ بِأَبْخَسِ الْأَثْمَانِ لِهَذَا سَمَّاهُ ابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما حَسَنًا جَمِيلًا فقال رضي اللَّهُ عنه ذلك الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الجميلوالسلم في الْبَاقِي إلَى أَجَلِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال ابن أبي لَيْلَى يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْكُلِّ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وُجِدَتْ في الْبَعْضِ لَا في الْكُلِّ فَلَا تُوجِبُ انْفِسَاخَ الْعَقْدِ في الْكُلِّ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ هذا هو الْأَصْلُ وَإِنْ كان قبل حَلِّ الْأَجَلِ يُنْظَرُ إنْ لم يُشْتَرَطْ في الْإِقَالَةِ تَعْجِيلُ الْبَاقِي من الْمُسْلَمِ جَازَتْ الْإِقَالَةُ أَيْضًا وَالسَّلَمُ في الْبَاقِي إلَى أَجَلِهِ وَإِنْ اُشْتُرِطَ فيها تَعْجِيلُ الْبَاقِي لم يَصِحَّ الشَّرْطُ وَالْإِقَالَةُ صَحِيحَةٌ
أَمَّا فَسَادُ الشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ اعْتِيَاضٌ عن الْأَجَلِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَجَلَ ليس بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عنه
وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِقَالَةِ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ فَبَطَلَ الشَّرْطُ وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ وَهَذَا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا فَسْخٌ
وَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَتَبْطُلُ الْإِقَالَةُ وَالسَّلَمُ على حَالِهِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ جَدِيدٌ وَالْبَيْعُ تُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ في بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وهو عَقْدُ الصَّرْفِ وَالْكَلَامُ في الصَّرْفِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في تَفْسِيرِ الصَّرْفِ في عُرْفِ الشَّرْعِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالصَّرْفُ في مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِبَيْعِ الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وهو بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَأَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ فَاحْتُمِلَ تَسْمِيَةُ هذا النَّوْعِ من الْبَيْعِ صَرْفًا لِمَعْنَى الرَّدِّ وَالنَّقْلِ يُقَالُ صَرَفْتُهُ عن كَذَا إلَى كَذَا سُمِّيَ صَرْفًا لِاخْتِصَاصِهِ بِرَدِّ الْبَدَلِ وَنَقْلِهِ من يَدٍ إلَى يَدٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ التَّسْمِيَةُ لِمَعْنَى الْفَضْلِ إذْ الصَّرْفُ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْفَضْلِ كما رُوِيَ في الحديث من فَعَلَ كَذَا لم يَقْبَلْ اللَّهُ منه صَرْفًا وَلَا عَدْلًا فَالصَّرْفُ الْفَضْلُ وهو النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفَرْضُ
سُمِّيَ هذا الْعَقْدُ صَرْفًا لِطَلَبِ التَّاجِرِ الْفَضْلَ منه عَادَةً لِمَا يُرْغَبُ في عَيْنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ قبل الِافْتِرَاقِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الحديث الْمَشْهُورِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ
وَرُوِيَ عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال لَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تسقوا ( ( ( تشفوا ) ) ) بَعْضَهَا على بَعْضٍ وَلَا تَبِيعُوا منها شيئا غَائِبًا بِنَاجِزٍ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ عن أبيه رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَلَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ أَحَدَهُمَا غَائِبٌ وَالْآخَرَ نَاجِزٌ وَإِنْ اسْتَنْظَرَك حتى يَلِجَ بَيْتَهُ فَلَا تنطره ( ( ( تنظره ) ) ) إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ الرَّمَاءَ أَيْ الرِّبَا فَدَلَّتْ هذه النُّصُوصُ على اشْتِرَاطِ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ قبل الافتراض ( ( ( الافتراق ) ) ) وَتَفْسِيرُ الِافْتِرَاقِ هو أَنْ يَفْتَرِقَ الْعَاقِدَانِ بِأَبْدَانِهِمَا عن مَجْلِسِهِمَا فَيَأْخُذَ هذا في جِهَةٍ وَهَذَا في جِهَةٍ أو يَذْهَبَ أَحَدُهُمَا وَيَبْقَى الْآخَرُ حتى لو كَانَا في مَجْلِسِهِمَا لم يَبْرَحَا عنه لم يَكُونَا مُفْتَرِقَيْنِ
وَإِنْ طَالَ مَجْلِسُهُمَا لِانْعِدَامِ الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا وَكَذَا إذَا نَامَا في الْمَجْلِسِ أو أُغْمِيَ عَلَيْهِمَا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا قَامَا عن مَجْلِسِهِمَا فَذَهَبَا مَعًا في جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَطَرِيقٍ واحد ( ( ( واحدة ) ) ) وَمَشَيَا مِيلًا أو أَكْثَرَ ولم يُفَارِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فليس ( ( ( فليسا ) ) ) بِمُفْتَرِقَيْنِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِتَفَرُّقِ الْأَبَدَانِ ولم يُوجَدْ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ خِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ إذَا قَامَتْ عن مَجْلِسِهَا أو اشْتَغَلَتْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَخْرُجُ الْأَمْرُ من يَدِهَا لِأَنَّ خِيَارَ الْمُخَيَّرَةِ يَبْطُلُ بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا وَالْقِيَامُ عن الْمَجْلِسِ أو الِاشْتِغَالُ بِعَمَلٍ آخِرُ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ وَهَهُنَا لَا عِبْرَةَ بِالْإِعْرَاضِ إنَّمَا الْعِبْرَةُ لِلِافْتِرَاقِ بِالْأَبْدَانِ ولم يُوجَدْ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَلْحَقَ هذا بِخِيَارِ الْمُخَيَّرَةِ حتى لو نَامَ طَوِيلًا أو وُجِدَ ما يَدُلُّ على الْإِعْرَاضِ يَبْطُلُ الصَّرْفُ كَالْخِيَارِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ له على إنْسَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ عليه خَمْسُونَ دِينَارًا فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فقال
____________________

(5/215)


بِعْتُكَ الدَّنَانِيرَ التي لي عَلَيْكَ بِالدَّرَاهِمِ التي لَك عَلَيَّ وقال قَبِلْتُ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالرَّسُولِ بَلْ بِالْمُرْسِلِ وَهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِأَبْدَانِهِمَا
وَكَذَلِكَ لو نَادَى أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ من وَرَاءِ جِدَارٍ أو نَادَاهُ من بَعِيدٍ لم يَجُزْ لِأَنَّهُمَا مُفْتَرِقَانِ بِأَبْدَانِهِمَا عِنْدَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ إذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إلَى إنْسَانٍ فقال بِعْتُ عَبْدِي الذي في مَكَانِ كَذَا مِنْكَ بِكَذَا فَقَبِلَ ذلك الرَّجُلُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِأَنَّ التَّقَابُضَ في الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ وَلَا يَكُونُ الِافْتِرَاقُ مُفْسِدًا له ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ افْتِرَاقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ سَوَاءٌ كَانَا مَالِكَيْنِ أو نَائِبَيْنِ عنهما كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ لِأَنَّ الْقَبْضَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَيُعْتَبَرُ افْتِرَاقُهُمَا
ثُمَّ إنَّمَا يُعْتَبَرُ التَّفَرُّقُ بِالْأَبْدَانِ في مَوْضِعٍ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فَإِنْ لم يُمْكِنْ اعْتِبَارُهُ يُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ دُونَ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ بِأَنْ قال الْأَبُ اشْهَدُوا أَنِّي اشْتَرَيْتُ هذا الدِّينَارَ من ابْنِي الصَّغِيرِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ثُمَّ قام قبل أَنْ يَزِنَ الْعَشَرَةَ فَهُوَ بَاطِلٌ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْأَبَ هو الْعَاقِدُ فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ فَيُعْتَبَرُ الْمَجْلِسُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتُعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ بَيْعُ الْجِنْسِ بِالْجِنْسِ وَبِخِلَافِ الْجِنْسِ كَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ سَوَاءٌ لَا يَخْتَلِفَانِ في حُكْمِ الْقَبْضِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك صَرْفٌ فَيُشْتَرَطُ فيه التَّقَابُضُ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في جوز ( ( ( جواز ) ) ) التَّفَاضُلِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَيَجُوزُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ وَلَكِنْ يَجِبُ التَّقَابُضُ اتَّحَدَ الْجِنْسُ أو اخْتَلَفَ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ
وَلَوْ تَصَارَفَا ذَهَبًا بِذَهَبٍ أو فِضَّةً بِفِضَّةٍ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَتَقَابَضَا وَتَفَرَّقَا ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ شيئا أو حَطَّ عنه شيئا وَقَبِلَ الْآخَرُ فَسَدَ الْبَيْعُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الزيادة وَالْحَطُّ بَاطِلَانِ وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْحَطُّ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَاخْتِلَافُهُمْ في هذه الْمَسْأَلَةِ فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ في أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ في الذِّكْرِ إذَا أُلْحِقَ بِهِ هل يَلْتَحِقُ بِهِ أَمْ لَا فَمِنْ أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فيه أن يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيُفْسِدُ الْعَقْدَ وَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الْمَزِيدِ عليه وَالزِّيَادَةِ جميعا فَيَتَحَقَّقُ التَّفَاضُلُ وَالْجِنْسُ مُتَّحِدٌ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ مُلْتَحِقٍ بِالْعَقْدِ فَيَتَأَخَّرُ عنه فَيَلْتَحِقُ بِهِ وَيُوجِبُ فَسَادَهُ وَمِنْ أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ لَا يَلْتَحِقُ بِالْعَقْدِ فَطَرَدَ أبو يُوسُفَ هذا الْأَصْلَ وقال تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ جميعا وَيَبْقَى الْبَيْعُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بين الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ وقال الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْحَطُّ جَائِزٌ
لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لو صَحَّتْ لَالْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيُوجِبُ فَسَادَهُ فَبَطَلَتْ الزِّيَادَةُ وَلَيْسَ من شَرْطِ صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَلْتَحِقَ بِالْعَقْدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ صَحَّ وَلَا يَلْتَحِقُ إذْ لو الْتَحَقَ لَكَانَ الْبَيْعُ وَاقِعًا بِلَا ثَمَنٍ فَيُجْعَلُ حَطًّا لِلْحَالِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ وَلَوْ تَبَايَعَا الْجِنْسَ بِخِلَافِ الْجِنْسِ بِأَنْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ دِرْهَمًا وَقَبِلَ الْآخَرُ أو حَطَّ عنه دِرْهَمًا من الدِّينَارِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ وَالِالْتِحَاقِ تَحَقُّقُ الرِّبَا وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الرِّبَا إلَّا أَنَّ في الزِّيَادَةِ يُشْتَرَطُ قَبْضُهَا قبل الِافْتِرَاقِ حتى لو افْتَرَقَا قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ في حِصَّةِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَمَّا الْتَحَقَتْ بِأَصْلِ الْعَقْدِ صَارَ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الزِّيَادَةِ وَالْأَصْلِ جميعا إلَّا أَنَّهُ جَازَ التَّفَاضُلُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فإذا لم يَقْبِضْ الزِّيَادَةَ قبل الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الْعَقْدُ بِقَدْرِهَا
وَأَمَّا الْحَطُّ فَجَائِزٌ سَوَاءٌ كان قبل التَّفَرُّقِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّ الْحَطَّ وَإِنْ كان يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيُؤَدِّي إلَى التَّفَاضُلِ لَكِنَّ التَّفَاضُلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ جَائِزٌ وَلَا زِيَادَةَ هَهُنَا حتى يُشْتَرَطَ قَبْضُهَا فَصَحَّ الْحَطُّ وَوَجَبَ عليه رَدُّ الْمَحْطُوطِ لِأَنَّ الْحَطَّ لَمَّا الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ لم يَقَعْ على قَدْرِ الْمَحْطُوطِ من الِابْتِدَاءِ فَيَجِبُ رَدُّهُ
وَلَوْ حَطَّ مُشْتَرِي الدِّينَارِ قِيرَاطًا منه فَبَائِعُ الدِّينَارِ يَكُونُ شَرِيكًا له في الدِّينَارِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على ما سِوَى الْقِيرَاطِ وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلًّى بِفِضَّةٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ زَادَهُ دِينَارًا في الثَّمَنِ دَفَعَهُ إلَيْهِ قبل أَنْ يُفَارِقَهُ أو بَعْدَ ما فَارَقَهُ يَجُوزُ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ
وَتُصْرَفُ الزِّيَادَةُ إلَى النَّصْلِ وَالْجِفْنِ والخمائل ( ( ( والحمائل ) ) ) لِأَنَّهَا تَلْحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ على ما وَصَفْنَا كَذَا هذا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فإنه يُقَسَّمُ على جَمِيعِ الثَّمَنِ لِمَا نَذْكُرُ في مَسَائِلِ الْمُرَابَحَةِ
وَسَوَاءٌ كان دَيْنًا بِدَيْنٍ وهو الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ أو عَيْنًا بِعَيْنٍ وهو التِّبْرُ وَالْمَصُوغُ أو دَيْنًا بِعَيْنٍ وهو الدرهم ( ( ( الدراهم ) ) ) وَالدَّنَانِيرُ بِالتِّبْرِ وَالْمَصُوغِ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ
____________________

(5/216)


وَسَوَاءٌ كان مُفْرَدًا أو مَجْمُوعًا مع غَيْرِهِ كما إذَا بَاعَ ذَهَبًا وَثَوْبًا بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تَنْقَسِمُ على الذَّهَبِ وَالثَّوْبِ فما قَابَلَ الذَّهَبَ يَكُونُ صَرْفًا فَيُشْتَرَطُ فِيهِمَا الْقَبْضُ وما يُقَابِلُ الثَّوْبَ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الْقَبْضُ
وَكَذَا إذَا بَاعَ ذَهَبًا وَثَوْبًا بِذَهَبٍ وَالذَّهَبُ أَكْثَرُ حتى جَازَ الْبَيْعُ أَنَّهُ في حِصَّةِ الذَّهَبِ يَكُونُ صَرْفًا وفي حِصَّةِ الثَّوْبِ يَكُونُ بَيْعًا مُطْلَقًا
وَكَذَا إذ بَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِالْفِضَّةِ مُفْرَدَةً أو مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً أو لِجَامًا أو سَرْجًا أو سِكِّينًا مُفَضَّضَةً أو جَارِيَةً على عُنُقِهَا طَوْقُ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ وَالْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ أَكْثَرُ حتى جَازَ الْبَيْعُ كان بِحِصَّةِ الْفِضَّةِ صَرْفًا وَيُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ وَبِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ التي هِيَ من خِلَافِ جِنْسِهَا بَيْعًا مُطْلَقًا فَلَا يُشْتَرَطُ له ما يُشْتَرَطُ لِلصَّرْفِ فَإِنْ وُجِدَ التَّقَابُضُ وهو الْقَبْضُ من الْجَانِبَيْنِ قبل التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ تَمَّ الصَّرْفُ وَالْبَيْعُ جميعا وَإِنْ لم يُوجَدْ أو وُجِدَ الْقَبْضُ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ بَطَلَ الصَّرْفُ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ من غَيْرِ قَبْضٍ وَهَلْ يَبْطُلُ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ يُنْظَرُ إنْ كانت الْفِضَّةُ الْمَجْمُوعَةُ مع غَيْرِهَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَخْلِيصُهَا من غَيْرِ ضَرَرٍ كَالْجَارِيَةِ مع الطَّوْقِ وَغَيْرِ ذلك فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَفَسَادُ الصَّرْفِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَخْلِيصُهَا من غَيْرِ ضَرَرٍ جَازَ لِأَنَّهُمَا شيآن ( ( ( شيئان ) ) ) مُنْفَصِلَانِ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يَبْقَى جائز ( ( ( جائزا ) ) ) انْتِهَاءً أَوْلَى
لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ من الِابْتِدَاءِ
وَإِنْ كان لَا يُمْكِنُ فَصْلُهَا وَتَخْلِيصُهَا إلَّا بِضَرَرٍ بَطَلَ الْبَيْعُ أَيْضًا
لِأَنَّهُ بَيْعُ ما لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهُ إلَّا بِضَرَرٍ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً كَبَيْعِ الْجِذْعِ في السَّقْفِ وَنَحْوِ ذلك فَكَذَا في حَالَةِ الْبَقَاءِ
فإذا بَطَلَ الْعَقْدُ في قَدْرِ الصَّرْفِ يَبْطُلُ في الْبَيْعِ أَيْضًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ على الصِّحَّةِ ثُمَّ فَسَدَ في قَدْرِ الصَّرْفِ بِطَرَيَانِ الْمُفْسِدِ عليه وهو الِافْتِرَاقُ من غَيْرِ تَقَابُضٍ
فَأَمَّا إذَا انْعَقَدَ على الْفَسَادِ من الِابْتِدَاءِ بِأَنْ شَرَطَا الْخِيَارَ أو أَدْخَلَا الْأَجَلَ فيه لم يَصِحَّ الصَّرْفُ بِالْإِجْمَاعِ
وَهَلْ يَصِحُّ الْبَيْعُ الْمُطْلَقُ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَصِحُّ سَوَاءٌ كان يَتَخَلَّصُ من غَيْرِ ضَرَرٍ أو لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هذا الأول ( ( ( والأول ) ) ) سَوَاءٌ إنْ كان يَتَخَلَّصُ من غَيْرِ ضَرَرٍ يَصِحُّ وَإِنْ كان لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِضَرَرٍ لَا يَصِحُّ
وَكَذَا إذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ نَسِيئَةً ثُمَّ نَقَدَ بَعْضَ الْعَشَرَةِ دُونَ الْبَعْضِ في الْمَجْلِسِ فَسَدَ الصَّرْفُ في الْكُلِّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ بِقَدْرِ ما قَبَضَ وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ بَيْنَهُمْ وهو أَنَّ الصَّفْقَةَ إذَا اشْتَمَلَتْ على الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ يَتَعَدَّى الْفَسَادُ إلَى الْكُلِّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَعَدَّى فَهُمَا سَوِيًّا بين الْفَسَادِ الطارىء وَالْمُقَارِنِ وأبو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ ما ذَكَرْنَا من قَبْلُ أَنَّ الْفَسَادَ إذَا كان مُقَارِنًا يَصِيرُ قَبُولُ الْعَقْدِ في الْفَاسِدِ شَرْطَ قَبُولِ الْعَقْدِ في الْآخَرِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ فَيُؤَثِّرُ في الْكُلِّ ولم يُوجَدْ هذا الْمَعْنَى في الطارىء فَاقْتَصَرَ الْفَسَادُ فيه على قَدْرِ الْمُفْسِدِ ثُمَّ إذَا كانت الْفِضَّةُ الْمُفْرَدَةُ فيه أَكْثَرَ ولم يُوجَدْ فيه شَرْطُ الْخِيَارِ وَلَا الْأَجَلِ حتى جَازَ الْعَقْدُ ثُمَّ نَقَدَ قَدْرَ الْفِضَّةِ الْمَجْمُوعَةِ من الْمُفْرَدَةِ دُونَ غَيْرِهَا وَتَفَرَّقَا عن قَبْضٍ من الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ بَاعَ سَيْفًا محلا ( ( ( محلى ) ) ) بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ فَنَقَدَهُ الْمُشْتَرِي خَمْسِينَ فَالْقَدْرُ الْمَنْقُودُ من الْفِضَّةِ الْمُفْرَدَةِ يَقَعُ عن الصَّرْفِ حتى لَا يَبْطُلَ بِالِافْتِرَاقِ أو عن الْبَيْعِ حتى يَبْطُلَ الصَّرْفُ بِالِافْتِرَاقِ من غَيْرِ قَبْضٍ فَهَذَا لَا يَخْلُو من خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أما إنْ ذَكَرَ أَنَّ الْمَنْقُودَ من ثَمَنِ الْحِلْيَةِ وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ من ثَمَنِ الْجِفْنِ وَالنَّصْلِ وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ من ثَمَنِهِمَا جميعا وَإِمَّا إنْ ذَكَرَ أَنَّهُ من ثَمَنِ السَّيْفِ وَإِمَّا إنْ سَكَتَ ولم يذكر شيئا فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ من ثَمَنِ الْحِلْيَةِ يَقَعُ عنها وَيَجُوزُ الصَّرْفُ وَالْبَيْعُ جميعا
وَهَذَا ظَاهِرٌ
وَكَذَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ من ثَمَنِهِمَا فإنه يَقَعُ عن الْحِلْيَةِ أَيْضًا وَجَازَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ لِأَنَّ قَبْضَ التَّصَرُّفِ مُسْتَحَقٌّ حَقًّا لِلشَّرْعِ
وَقَبْضَ الْبَيْعِ ليس بِمُسْتَحَقٍّ فَيُصْرَفُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ وَيُمْكِنُ إيقَاعُ الْمَنْقُودِ كُلِّهِ عن هذه الْجِهَةِ
وَإِنْ أَضَافَهُ إلَيْهِمَا لِأَنَّ ذِكْرَ شَيْئَيْنِ على إرَادَةِ أَحَدِهِمَا جَائِزٌ في اللُّغَةِ
قال اللَّهُ تَعَالَى { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } وَإِنَّمَا يَخْرُجُ من أَحَدِهِمَا وهو الْمَالِحُ
وَكَذَا إذَا لم يذكر شيئا يَقَعُ عن الصَّرْفِ
لِأَنَّ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مَحْمُولَةٌ على الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ
وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَا
لِأَنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ مُسْتَحَقٌّ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُصْرَفُ إلَى جِهَةِ الِاسْتِحْقَاقِ
وَكَذَا إذَا ذَكَرَ أَنَّهُ من ثَمَنِ السَّيْفِ يَقَعُ عن الْحِلْيَةِ
لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تَدْخُلُ في اسْمِ السَّيْفِ
وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّهُ من ثَمَنِ الْجِفْنِ وَالنَّصْلِ يُنْظَرُ إنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُ الْفِضَّةِ من غَيْرِهَا من غَيْرِ ضَرَرٍ يَقَعُ عن ثَمَنِ الْمَذْكُورِ وَيَبْطُلُ الصَّرْفُ بِالِافْتِرَاقِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَازَ الْبَيْعِ وَصُرِفَ بِفَسَادِ الصَّرْفِ
وإذا أَمْكَنَ
____________________

(5/217)


تَخْلِيصُهَا من غَيْرٍ ضَرَرٍ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ مع فَسَادِ الصَّرْفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ السَّيْفِ بِانْفِرَادِهِ فَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَيَبْطُلُ الصَّرْفُ
وَإِنْ لم يَكُنْ تَخْلِيصُهَا إلَّا بِضَرَرٍ فَالْمَنْقُودُ يَقَعُ عن ثَمَنِ الصَّرْفِ
وَيَجُوزُ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ جميعا لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَازَ الْبَيْعِ
وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِجَوَازِ الصَّرْفِ لِأَنَّ بَيْعَ السَّيْفِ بِدُونِ الْحِلْيَةِ لَا يَجُوزُ إذَا لم يُمْكِنْ تَخْلِيصُهَا من غَيْرِ ضَرَرٍ
فَإِنْ أَمْكَنَ تَخْلِيصُهَا من غَيْرِ ضَرَرٍ فَيَجُوزَانِ جميعا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَكَذَلِكَ في السَّيْفِ الْمُحَلَّى إذَا لم يَكُنْ من جِنْسِ الْحِلْيَةِ فَإِنْ كانت حِلْيَةُ السَّيْفِ ذَهَبًا اشْتَرَاهُ مع حِلْيَتِهِ بِفِضَّةٍ مُفْرَدَةٍ فَحُكْمُهُ وَحُكْمُ الْجِنْسِ سَوَاءٌ في جَمِيعِ ما وَصَفْنَا لِأَنَّهُمَا في حُكْمِ الْقَبْضِ وما يَتَعَلَّقُ بِهِ لَا يَخْتَلِفَانِ
وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك وَتَفْصِيلَهُ على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْإِبْرَاءُ عن بَدَلِ الصَّرْفِ وَهِبَتِهِ مِمَّنْ عليه وَالتَّصَدُّقُ بِهِ عليه أَنَّهُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ قَبُولِهِ
وَإِنْ قَبِلَ انْتَقَضَ الصَّرْفُ وَإِنْ لم يَقْبَلْ لم يَصِحَّ وَيَبْقَى الصَّرْفُ على حَالِهِ
لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ مُسْتَحَقٌّ وَالْإِبْرَاءُ عن الدَّيْنِ إسْقَاطُهُ وَالدَّيْنُ بَعْدَمَا سَقَطَ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ عن الْبَدَلِ جَعْلُ الْبَدَلِ بِحَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ قَبْضُهُ فَكَانَ في مَعْنَى الْفَسْخِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا كَصَرِيحِ الْفَسْخِ وإذا لم يَصِحَّ بَقِيَ عَقْدُ الصَّرْفِ على حَالِهِ فَيَتِمُّ بِالتَّقَابُضِ قبل الِافْتِرَاقِ بِأَبْدَانِهِمَا
وَلَوْ أَبَى المبرىء ( ( ( المبرئ ) ) ) أو الْوَاهِبُ أو الْمُتَصَدِّقُ أَنْ يَأْخُذَ ما أَبْرَأَ أو وَهَبَهُ أو تَصَدَّقَ يُجْبَرُ على الْقَبْضِ لِأَنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ عن الْقَبْضِ يُرِيدُ فَسْخَ الْعَقْدِ وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالصَّرْفُ على حَالِهِ يُقْبَضُ الْبَدَلُ قبل الِافْتِرَاقِ وَيَتِمُّ الْعَقْدُ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ وَبِالِاسْتِبْدَالِ يَفُوتُ قَبْضُهُ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ يُقْبَضُ بَدَلُهُ وَبَدَلُهُ غَيْرُهُ
وقال زُفَرُ إنَّ الِاسْتِبْدَالَ جَائِزٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَقَعُ بِعَيْنِ ما في الذِّمَّةِ لِأَنَّ ما في الذِّمَّةِ من الدَّرَاهِمِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِمِثْلِ ما في الذِّمَّةِ فَيَجِبُ لِمَنْ عليه الدَّيْنُ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي دَرَاهِمُ مِثْلُ ما في ذِمَّتِهِ في النَّوْعِ وَالصِّفَةِ فَلَا يَفُوتُ قَبْضُ الْبَدَلِ بِالِاسْتِبْدَالِ بَلْ يَصِيرُ قَابِضًا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَصِحُّ الِاسْتِبْدَالُ
وَالْجَوَابُ عنه أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ وَإِنْ كانت لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ وَقَبْضُهَا وَاجِبٌ وَبِالْمُقَاصَّةِ يَفُوتُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً فلم تَصِحَّ الْمُقَاصَّةُ فَبَقِيَ الشِّرَاءُ بها إسْقَاطًا لِلْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَلَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَبَقِيَ الصَّرْفُ صَحِيحًا مَوْقُوفًا بَقَاؤُهُ على الصِّحَّةِ على الْقَبْضِ قبل الِافْتِرَاقِ وَإِنْ أَعْطَاهُ صَاحِبُهُ دَرَاهِمَ أَجْوَدَ أو أَرْدَأَ من حَقِّهِ فَرَضِيَ بِهِ وَالْمَقْبُوضُ مِمَّا يَجْرِي مَجْرَى الدَّرَاهِمِ الْوَاجِبَةِ بِالْعَقْدِ في الْمُعَاوَضَاتِ بين الناس جَازَ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ من جِنْسِهِ أَصْلًا وَإِنَّمَا يُخَالِفُهُ في الْوَصْفُ فإذا رضي بِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ فَكَانَ اسْتِيفَاءً لَا اسْتِبْدَالًا وَتَجُوزُ الْحَوَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ إذَا كان الْمُحْتَالُ عليه حَاضِرًا
وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ بِهِ وَالصَّرْفُ على حَالِهِ فَإِنْ قَبَضَ من الْمُحْتَالِ عليه أو من الْكَفِيلِ أو هَلَكَ الرَّهْنُ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ في الْمَجْلِسِ فَالصَّرْفُ مَاضٍ على الصِّحَّةِ وَإِنْ افْتَرَقَ الْمُتَصَارِفَانِ قبل الْقَبْضِ وَهَلَكَ الرَّهْنُ بَطَلَ الصَّرْفُ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا تَجُوزُ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ في السَّلَمِ وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ في الْمَجْلِسِ وَافْتِرَاقِهِمَا عنه لَا لِبَقَاءِ الْمُحَالِ عليه وَالْكَفِيلِ وَافْتِرَاقِهِمَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ من حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدَيْنِ فَيُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُمَا وَكَذَلِكَ لو وَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ من الْعَاقِدَيْنِ رَجُلًا أَنْ يَنْقُدَ عنه يُعْتَبَرُ مَجْلِسُ الْمُوَكِّلَيْنِ بَقَاءً وَافْتِرَاقًا لَا مَجْلِسُ الْوَكِيلِ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ الْمُقَاصَّةُ في ثَمَنِ الصَّرْفِ إذَا وَجَبَ الدَّيْنُ بِعَقْدٍ مُتَأَخِّرٍ عن عَقْدِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَإِنْ تَرَاضَيَا بِذَلِكَ وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ الْكَلَامِ في ذلك وَتَفْصِيلَهُ في السَّلَمِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قَبَضَ بَدَلَ الصَّرْفِ ثُمَّ انْتَقَضَ بَدَلَ الصَّرْفِ ثُمَّ انْتَقَضَ الْقَبْضَ فيه بِمَعْنًى أَوْجَبَ انْتِقَاضَهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ الصَّرْفُ وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا في السَّلَمِ ثُمَّ قَبْضُ الصَّرْفِ في الْمَجْلِسِ كما هو شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ فَقَبْضُهُمَا في مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ شَرْطُ بَقَاءِ الْإِقَالَةِ على الصِّحَّةِ أَيْضًا حتى لو تَقَايَلَا الصَّرْفَ وتقابض ( ( ( وتقابضا ) ) ) قبل الِافْتِرَاقِ مَضَتْ الْإِقَالَةُ على الصِّحَّةِ وَإِنْ افْتَرَقَا قبل التَّقَابُضِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ
أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ على أَصْلِهِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ مُصَارَفَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا بُدَّ من التَّقَابُضِ
وَعَلَى أَصْلِهِمَا إنْ كانت فَسْخًا في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ ثَالِثٍ وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ حَقٌّ لِلشَّرْعِ هَهُنَا ثَالِثٌ فَيُعْتَبَرُ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقِّ هذا الْحُكْمِ فَيُشْتَرَطُ فيه التَّقَابُضُ بِخِلَافِ السَّلَمِ
____________________

(5/218)


فإن قَبْضَ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ في مَجْلِسِ الْإِقَالَةِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقَالَةِ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ وَجَدَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ عَيْبًا وهو عَيْنٌ كما إذَا اشْتَرَى قُلْبَ فِضَّةٍ بِذَهَبٍ فَرَدَّهُ ثُمَّ افْتَرَقَا قبل قَبْضِ الثَّمَنِ إنْ رَدَّهُ عليه بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالرَّدُّ صَحِيحٌ على حَالِهِ وَإِنْ كان بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَارِقَهُ حتى يَقْبِضَ الثَّمَنَ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا في حَقِّ الْكُلِّ وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ عن الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَإِعَادَةُ الْمَالِكِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ كَأَنَّهُ لم يَزُلْ عن مِلْكِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْقَبْضِ وَالرَّدُّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ فَسْخًا في حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقِّ ثَالِثٍ وَحَقُّ الشَّرْعِ وهو الْقَبْضُ يُعْتَبَرُ ثَالِثًا فَيُجْعَلُ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقِّ هذا الْحُكْمِ وَأَمَّا التَّقَابُضُ في بَيْعِ الْمَطْعُومِ بِالْمَطْعُومِ بِجِنْسِهِ أو بِغَيْرِ جِنْسِهِ بِأَنْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ أو بقفيز ( ( ( بقفيزي ) ) ) شَعِيرٍ وَعَيَّنَا الْبَدَلَيْنِ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا فَهَلْ هو شَرْطٌ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا ليس بِشَرْطٍ
قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ حتى لو افْتَرَقَا من غَيْرِ قَبْضٍ عِنْدَنَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَعِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ ما لم يَتَقَابَضَا في الْمَجْلِسِ
احْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الحديث الْمَشْهُورِ الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ
وَبِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ وَلِأَنَّ الِافْتِرَاقَ من غَيْرِ تَقَابُضٍ في بَيْعِ المطعو ( ( ( المطعوم ) ) ) بِجِنْسِهِ لَا يَخْلُو عن الرِّبَا لِجَوَازِ أَنْ يَقْبِضَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا لِأَنَّ لِلْمَقْبُوضِ فَضْلًا على غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَأَشْبَهَ فَضْلَ الْحُلُولِ على الْأَجَلِ وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّحَرُّزُ عنه بِوُجُوبِ التَّقَابُضِ وَلِهَذَا صَارَ شَرْطًا في الصَّرْفِ كَذَا هذا
وَلَنَا عُمُومَاتُ الْبَيْعِ من نَحْوِ قَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ عز وجل ( ( ( شأنه ) ) ) { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَغَيْرِ ذلك نهى عن الْأَكْلِ بِدُونِ التِّجَارَةِ عن تَرَاضٍ وَاسْتَثْنَى التِّجَارَةَ عن تَرَاضٍ فَيَدُلُّ على إبَاحَةِ الْأَكْلِ في التِّجَارَةِ عن تَرَاضٍ من غَيْرِ شَرْطِ الْقَبْضِ وَذَلِكَ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّقَابُضِ لِأَنَّ أَكْلَ مَالِ الْغَيْرِ ليس بِمُبَاحٍ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَظَاهِرُ قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَدًا بِيَدٍ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ لِأَنَّ الْيَدَ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ ليس بِمُرَادٍ بِالْإِجْمَاعِ فلأن حَمْلَهَا على الْقَبْضِ لِأَنَّهَا آلَةُ الْقَبْضِ فَنَحْنُ نَحْمِلُهَا على التَّعْيِينِ لِأَنَّهَا آلَةُ التَّعْيِينِ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ بِالْيَدِ سَبَبُ التَّعْيِينِ وَعِنْدَنَا التَّعْيِينُ شَرْطٌ فَسَقَطَ احْتِجَاجُهُ بِالْحَدِيثِ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى على أَنَّ الْحَمْلَ على ما قُلْنَا أَوْلَى لِأَنَّ فيه تَوْفِيقًا بين الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَهَكَذَا نَقُولُ في الصَّرْفِ أن الشَّرْطَ هُنَاكَ هو التَّعْيِينُ لَا نَفْسُ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّهُ قام الدَّلِيلُ عِنْدَنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنَّمَا تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَشَرَطْنَا التَّقَابُضَ لِلتَّعْيِينِ لَا لِلْقَبْضِ وَهَهُنَا التَّعْيِينُ حَاصِلٌ من غَيْرِ تَقَابُضٍ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَقَوْلُهُ الْمَقْبُوضُ خَيْرٌ من غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا قُلْنَا هذا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لو قُلْنَا بِوُجُوبِ تَسْلِيمِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عن شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنْ شُرِطَ الْخِيَارُ فيه لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ لِأَنَّ الْقَبْضَ في هذا الْعَقْدِ شَرْطُ بَقَائِهِ على الصِّحَّةِ وَخِيَارُ الْعَقْدِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ وَلَوْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قبل الِافْتِرَاقِ ثُمَّ افْتَرَقَا عن تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ إلَى الْجَوَازِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَلَوْ لم يَبْطُلْ حتى افْتَرَقَا تَقَدَّرَ الْفَسَادُ وقد ذَكَرْنَا جِنْسَ هذه الْمَسَائِلِ بِدَلَائِلِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عن الْأَجَلِ لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا فَإِنْ شراطاه ( ( ( شرطاه ) ) ) لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا فَسَدَ الصَّرْفُ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ مُسْتَحَقٌّ قبل الِافْتِرَاقِ وَالْأَجَلُ يُعْدِمُ الْقَبْضَ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْأَجَلِ أَجَلَهُ قبل الِافْتِرَاقِ فَنَقَدَ ما عليه ثُمَّ افْتَرَقَا عن تَقَابُضٍ يَنْقَلِبُ جَائِزًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ وَهَاتَانِ الشَّرِيطَتَانِ على الحيقيقة ( ( ( الحقيقة ) ) ) فريعتان ( ( ( فرعيتان ) ) ) لِشَرِيطَةِ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّ إحْدَاهُمَا تُؤَثِّرُ في نَفْسِ الْقَبْضِ وَالْأُخْرَى في صِحَّتِهِ على ما بَيَّنَّا
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَيَثْبُتَانِ في هذا الْعَقْدِ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ حُكْمَ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعَانِ صِحَّةَ الْقَبْضِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ في الْعَيْنِ وهو التِّبْرُ وَالنُّقْرَةُ وَالْمَصُوغُ وَلَا يَثْبُتُ في الدَّيْنِ وهو الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ الْمَضْرُوبَةُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في الرَّدِّ إذْ الْعَقْدُ لَا يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ لِأَنَّهُ ما وَرَدَ على عَيْنِ الْمَرْدُودِ وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ بمثله فإذا قَبَضَ يَرُدُّهُ فَيُطَالِبُهُ بِآخَرَ هَكَذَا إلَى ما لَا يَتَنَاهَى
وَكَذَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ في سَائِرِ الْعُقُودِ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ ما إذَا كان ثَمَنُ الصَّرْفِ عَيْنًا لِأَنَّ هُنَاكَ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِالرَّدِّ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِعَيْنٍ أُخْرَى فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَيَثْبُتُ في الْوَجْهَيْنِ جميعا
____________________

(5/219)


لِأَنَّ السَّلَامَةَ عن الْعَيْبِ مَطْلُوبَةٌ عَادَةً فَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كما في سَائِرِ الْبِيَاعَاتِ إلَّا أَنَّ بَدَلَ الصَّرْفِ إذَا كان عَيْنًا فَرَدُّهُ بِالْعَيْبِ يَفْسَخُ الْعَقْدَ سَوَاءٌ رَدَّهُ في الْمَجْلِسِ أو بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَيَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِمَا نَقَدَ وَإِنْ كان دَيْنًا بِأَنْ وَجَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَقْبُوضَةَ زُيُوفًا أو كَاسِدَةً أو وَجَدَهَا رَائِجَةً في بَعْضِ التِّجَارَاتِ دُونَ الْبَعْضِ وَذَلِكَ عَيْبٌ عِنْدَ التُّجَّارِ فَرَدُّهَا في الْمَجْلِسِ يَنْفَسِخُ بعقد ( ( ( العقد ) ) ) بِالرَّدِّ حتى لو اسْتَبْدَلَ مَكَانَهُ مَضَى الصَّرْفُ وأن رَدَّهَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بَطَلَ الصَّرْفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ لَا عن قَبْضٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ إذَا استدل ( ( ( استبدل ) ) ) في مَجْلِسِ الرَّدِّ على ما ذَكَرْنَا في السَّلَمِ وَخِيَارُ الْمُسْتَحِقِّ لَا يُبْطِلُ الصَّرْفَ أَيْضًا وَلِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ على تَقْدِيرِ الْإِجَازَةِ وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ قَائِمٌ فَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ ظَاهِرًا بِالشَّكِّ
ثُمَّ إذَا اسْتَحَقَّ أَحَدَ بَدَلَيْ الصَّرْفِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَإِنْ كان أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ وَالْبَدَلُ قَائِمٌ أو ضَمِنَ النَّاقِدُ وهو هَالِكٌ جَازَ الصَّرْفُ لِأَنَّهُ إذَا كان قَائِمًا كان بِمَحَلِّ الْإِجَازَةِ وَالْإِجَازَةُ اللَّاحِقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وإذا كان هَالِكًا ضَمِنَ النَّاقِدُ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَّمَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَإِنْ اسْتَرَدَّهُ وهو قَائِمٌ أو ضَمِنَ الْقَابِضُ قِيمَتَهُ وهو هَالِكٌ بَطَلَ الصَّرْفُ لِأَنَّهُ نَقَضَ قَبْضَهُ أو تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَصِحَّ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ له الْقَبْضَ فَجَازَ الصَّرْفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا في بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْإِشْرَاكِ الوضيعة ( ( ( والوضيعة ) ) ) وَالْأَصْلُ في هذه الْعُقُودِ عُمُومَاتُ الْبَيْعِ من غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنِ بَيْعٍ وَبَيْعٍ وقال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ } وقال عز وجل { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ } وَالْمُرَابَحَةُ ابْتِغَاءٌ لِلْفَضْلِ من الْبَيْعِ نَصًّا
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا أَرَادَ الْهِجْرَةَ اشْتَرَى سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه بَعِيرَيْنِ فقال له رسول اللَّهِ وَلِيَ أَحَدُهُمَا
فقال سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه هو لَك بِغَيْرِ شَيْءٍ
فقال رسول اللَّهِ أَمَّا بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَلَا فَدَلَّ طَلَبُ التَّوْلِيَةِ على جَوَازِهَا
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه اشْتَرَى بِلَالًا فَأَعْتَقَهُ
فقال له رسول اللَّهِ الشَّرِكَةُ يا أَبَا بَكْرٍ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ قد أَعْتَقْتُهُ لو لم تَكُنْ الشَّرِكَةُ مَشْرُوعَةً لم يَكُنْ لِيَطْلُبَهَا رسول اللَّهِ
وَكَذَا الناس تَوَارَثُوا هذه الْبِيَاعَاتِ في سَائِرِ الإعصار من غَيْرِ نَكِيرٍ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ على جَوَازِهَا
ثُمَّ الْكَلَامُ في الْمُرَابَحَةِ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِهِ وفي بَيَانِ رَأْسِ الْمَالِ أَنَّهُ ما هو
وفي بَيَانِ ما يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وما لَا يَلْحَقُ بِهِ وفي بَيَانِ ما يَجِبُ بَيَانُهُ عِنْدَ الْمُرَابَحَةِ مِمَّا تُرِكَ بَيَانُهُ يَكُونُ خِيَانَةً وما لَا يَجِبُ بَيَانُهُ وَتُرِكَ بَيَانُهُ لَا يَكُونُ خِيَانَةً
وفي بَيَانِ حُكْمِ الْخِيَانَةِ إذَا ظَهَرَتْ
أَمَّا تَفْسِيرُهُ فَقَدْ ذَكَرْنَاهُ في أَوَّلِ الْكِتَابِ وهو أَنَّهُ بَيْعٌ بِمِثْلِ لثمن ( ( ( الثمن ) ) ) الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ رِبْحٍ
وَأَمَّا شَرَائِطُهُ فَمِنْهَا ما ذكرناه ( ( ( ذكرنا ) ) ) وهو أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ومع ( ( ( مع ) ) ) زِيَادَةِ رِبْحٍ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
فَإِنْ لم يَكُنْ مَعْلُومًا له فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَى أَنْ يَعْلَمَ في الْمَجْلِسِ فَيَخْتَارَ إنْ شَاءَ فَيَجُوزَ أو يَتْرُكَ فَيَبْطُلَ
أَمَّا الْفَسَادُ لِلْحَالِ فَلِجَهَالَةِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الثَّمَنَ لِلْحَالِ مَجْهُولٌ
وَأَمَّا الْخِيَارُ فَلِلْخَلَلِ في الرِّضَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَرْضَى بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِثَمَنٍ يَسِيرٍ وَلَا يَرْضَى بِشِرَائِهِ بِثَمَنٍ كبير ( ( ( كثير ) ) ) فَلَا يَتَكَامَلُ الرِّضَا إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ
فإذا لم يُعْرَفْ اخْتَلَّ رِضَاهُ وَاخْتِلَالُ الرِّضَا يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلَوْ لم يَعْلَمْ حتى افْتَرَقَا عن الْمَجْلِسِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِتَقَرُّرِ الْفَسَادِ
وقد ذَكَرْنَا اخْتِلَافَ عِبَارَاتِ الرِّوَايَةِ عن أَصْحَابِنَا عن هذا الْبَيْعِ كَبَيْعِ الشَّيْءِ بِرَقْمِهِ وَنَحْوِ ذلك في بَعْضِهَا أَنَّهُ فَاسِدٌ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ مَوْقُوفٌ على الْإِجَازَةِ وَالِاخْتِيَارِ إذَا عُلِمَ
وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ وَالْإِشْرَاكُ والوضعية ( ( ( والوضيعة ) ) ) في اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ وَالْمُرَابَحَةُ سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا وَالْإِشْرَاكُ تَوْلِيَةٌ لَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ كُلِّهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ وَالْوَضِيعَةُ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مع نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ منه فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا لِيُعْلَمَ قَدْرُ النُّقْصَانِ منه
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ جُمْلَةً مِمَّا له مِثْلٌ فَاقْتَسَمَاهَا ثُمَّ أَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ مُرَابَحَةً إنه يَجُوزُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ وَإِنْ كانت لَا تَخْلُو عن مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ حَقِيقَةً لَكِنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ في قِسْمَةِ الْمُتَمَاثِلَاتِ ساقذ ( ( ( ساقط ) ) ) شَرْعًا بَلْ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فيها تَمْيِيزًا لِلنَّصِيبِ وَإِفْرَازًا مَحْضًا وإذا كان كَذَلِكَ فما يَصِلُ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ عَيْنُ ما كان له قبل الْقِسْمَةِ فَكَانَ يَجُوزُ له أَنْ يَبِيعَ له نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً قبل الْقِسْمَةِ كَذَا بَعْدَهَا
وَإِنْ اشْتَرَيَا
____________________

(5/220)


جُمْلَةً مِمَّا لَا مِثْلَ له فَاقْتَسَمَاهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يبي ( ( ( يبيع ) ) ) حِصَّتَهُ ومرابحته ( ( ( مرابحة ) ) ) لِأَنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ في قِسْمَةِ هذا النَّوْعِ مُعْتَبَرَةٌ إذْ الْأَصْلُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ فَكَانَ ما يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ نِصْفَهُ مِلْكُهُ وَنِصْفَهُ بَدَلُ مِلْكِهِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِهِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً كما إذَا اشْتَرَى عَرَضًا بِعَرَضٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في ثَوْبَيْنِ مُتَّفِقَيْنِ من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَنَوْعٍ وَاحِدٍ وَصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَطُولٍ وَاحِدٍ حتى جَازَ السَّلَمُ بِالْإِجْمَاعِ ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من رَأْسِ الْمَالِ فَحَلَّ الْأَجَلُ له أَنْ يَبِيعَهُمَا جميعا مُرَابَحَةً على الْعَشَرَةِ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا مُرَابَحَةً على خَمْسَةٍ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ
وَلَوْ كان بين حِصَّةِ كل وَاحِدٍ من الثَّوْبَيْنِ من رَأْسِ الْمَالِ جَازَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً على خَمْسَةٍ بِالْإِجْمَاعِ لَهُمَا إن الْمَقْبُوضَ هو الْمُسْلَمُ فيه وَالْمِلْكُ في الْمُسْلَمِ فيه يَثْبُتُ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَعَقْدُ السَّلَمِ أَوْجَبَ انْقِسَامَ الثَّمَنِ وهو رَأْسُ الْمَالِ على الثَّوْبَيْنِ الْمَقْبُوضَيْنِ على السَّوَاءِ لِاتِّفَاقِهِمَا في الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَكَانَتْ حِصَّةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومَةً فَتَجُوزُ الْمُرَابَحَةُ عَلَيْهِمَا كما إذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ في كرى حِنْطَةٍ فَحَلَّ السَّلَمُ وَقَبَضَهُمَا ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ ليس عَيْنَ الْمُسْلَمِ فيه لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه دَيْنٌ حَقِيقَةً وَقَبْضُ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فلم يَكُنْ الْمَقْبُوضُ مَمْلُوكًا بِعَقْدِ السَّلَمِ بَلْ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْقَبْضُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُمَا جميعا ابْتِدَاءً ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً
وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِيمَا لَا مِثْلَ له وَيَجُوزُ فِيمَا له مِثْلٌ على ما ذَكَرْنَا كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ بَعْضُ الثَّمَنِ وَالْعِلْمُ بِالثَّمَنِ شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وهو شَرْطُ جَوَازِ الْمُرَابَحَةِ على الْإِطْلَاقِ وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ المقاربة ( ( ( المتقاربة ) ) ) وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ له من الذَّرْعِيَّاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وتوليه مُطْلَقًا سَوَاءٌ بَاعَهُ من بَائِعِهِ أو من غَيْرِهِ وسوءا ( ( ( وسواء ) ) ) جَعَلَ الرِّبْحَ من جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ في الْمُرَابَحَةِ أو من خِلَافِ جِنْسِهِ بَعْدَ أَنْ كان الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مَعْلُومًا وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا
وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له من الْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً وَلَا توليه مِمَّنْ ليس ذلك الْعَرَضُ في مِلْكِهِ
لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ
وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ فإذا لم يَكُنْ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ مِثْلَ جِنْسِهِ
فَإِمَّا أَنْ يَقَعَ الْبَيْعُ على غَيْرِ ذلك الْعَرَضِ
وَإِمَّا أَنْ يَقَعَ على قِيمَتِهِ وَعَيْنُهُ ليس في مِلْكِهِ وَقِيمَتُهُ مَجْهُولَةٌ تُعْرَفُ بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ التَّقْوِيمِ فيها
وَيَجُوزُ بَيْعُهُ تَوْلِيَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ في مِلْكِهِ وَيَدِهِ
وَأَمَّا بَيْعُهُ مُرَابَحَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ في مِلْكِهِ وَيَدِهِ فَيُنْظَرُ أن جَعَلَ الرِّبْحَ شيئا مُفْرَدًا عن رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا كَالدَّرَاهِمِ وَثَوْبٍ مُعَيَّنٍ وَنَحْوِ ذلك جَازَ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ مَعْلُومٌ وَالرِّبْحَ مَعْلُومٌ
وَإِنْ جَعَلَ الرِّبْحَ جُزْءًا من رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ قال بِعْتُكَ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ بِرِبْحِ ده يا زده لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الرِّبْحَ جزأ من الْعَرَضِ وَالْعَرَضُ ليس مُتَمَاثِلَ الْأَجْزَاءِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذلك بِالتَّقَوُّمِ وَالْقِيمَةُ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ
وَأَمَّا بَيْعُهُ مُوَاضَعَةً مِمَّنْ الْعَرَضُ في يَدِهِ وَمِلْكِهِ فَالْجَوَابُ فيها على الْعَكْسِ من الْمُرَابَحَةِ وهو أَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْوَضِيعَةَ شيئا مفردا ( ( ( منفردا ) ) ) عن رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا كَالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى وَضْعِ ذلك الْقَدْرِ عن رَأْسِ الْمَالِ وهو مَجْهُولٌ وَإِنْ جَعَلَهَا من جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ بَاعَهُ بِوَضْعِ ده يا زده جَازَ الْبَيْعُ بِعَشَرَةِ أَجْزَاءٍ من أَحَدَ عَشَرَ جزأ من رَأْسِ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَوْضُوعَ جُزْءٌ شَائِعٌ من رَأْسِ مَالٍ مَعْلُومٍ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الثَّمَنُ في الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مُقَابَلًا بِجِنْسِهِ من أَمْوَالِ الرِّبَا فَإِنْ كان بِأَنْ اشْتَرَى الْمَكِيلَ أو الْمَوْزُونَ بِجِنْسِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ لم يَجُزْ له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ وَالزِّيَادَةُ في أَمْوَالِ الرِّبَا تَكُونُ رِبًا لَا رِبْحًا وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُوَاضَعَةً لِمَا قُلْنَا وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ تَوْلِيَةً لِأَنَّ الْمَانِعَ هو تَحَقُّقُ الرِّبَا ولم يُوجَدْ في التَّوْلِيَةِ وَلِأَنَّهُ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وَكَذَا الْإِشْرَاكُ لِأَنَّهُ تَوْلِيَةٌ لَكِنْ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا بَأْسَ بِالْمُرَابَحَةِ حتى لو اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أو ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ
____________________

(5/221)


الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ وَلَوْ بَاعَ دِينَارًا بِأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا أو بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَثَوْبٍ كان جَائِزًا كَذَا هذا وَلَوْ بَاعَ الدِّينَارَ بِرِبْحِ ذَهَبٍ بِأَنْ قال بِعْتُكَ هذا الدِّينَارَ الذي اشْتَرَيْتُهُ بِرِبْحِ قِيرَاطَيْنِ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ جَازَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةٍ كَأَنَّهُ بَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقِيرَاطَيْنِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَطَرِيقُ جَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ الْقِيرَاطَانِ بِمِثْلِهِمَا من الدِّينَارِ وَالْعَشَرَةِ بِبَقِيَّةِ الدِّينَارِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ في تَجْوِيزِ هذا تَغْيِيرُ الْمُرَابَحَةِ لِأَنَّ الْمُتَصَارِفَيْنِ جَعَلَا الْعَشَرَةَ رَأْسَ الْمَالِ وَالدَّرَاهِمَ رِبْحًا فَلَوْ جَوَّزْنَا على ما قَالَهُ مُحَمَّدٌ لَصَارَ الْقِيرَاطُ رَأْسَ مَالٍ وَبَعْضُ الْعَشَرَةِ رِبْحًا وَفِيهِ تَغْيِيرُ الْمُقَابَلَةِ وَإِخْرَاجُهَا عن كَوْنِهَا مُرَابَحَةً فَلَا يَصِحُّ وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ دِرْهَمٍ أو بِرِبْحِ دِينَارٍ أو بِرِبْحِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةِ رِبْحٍ وَالرِّبْحُ يَنْقَسِمُ على كل الثَّمَنِ لِأَنَّهُ جُعِلَ رِبْحَ كل الثَّمَنِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَنْقَسِمَ على كُلِّهِ لِيَكُونَ مُرَابَحَةً على كل الثَّمَنِ وَمَتَى انْقَسَمَ على الْكُلِّ كان لِلْحِلْيَةِ حِصَّةٌ من الرِّبْحِ لَا مَحَالَةَ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا فَإِنْ كان فَاسِدًا لم يَجُزْ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ رِبْحٍ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ وَإِنْ كان يُفِيدُ الْمِلْكَ في الْجُمْلَةِ لَكِنْ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أو بمثله لَا بِالثَّمَنِ لِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ رَأْسِ الْمَالِ فَرَأْسُ الْمَالِ ما لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ بِالْعَقْدِ لَا ما نَقَدَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ هو ما وَجَبَ بِالْبَيْعِ فَأَمَّا ما نَقَدَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَذَلِكَ وَجَبَ بِعَقْدٍ آخَرَ وهو الِاسْتِبْدَالُ فَيَأْخُذُ من االمشتري ( ( ( المشتري ) ) ) الثَّانِي الْوَاجِبَ بِالْعَقْدِ لَا الْمَنْقُودَ بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ
وَبَيَانُ هذا الْأَصْلِ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنَقَدَ مَكَانَهَا دِينَارًا أو ثَوْبًا فَرَأْسُ الْمَالِ هو الْعَشَرَةُ لَا الدِّينَارُ وَالثَّوْبُ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ هِيَ التي وَجَبَتْ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا الدِّينَارُ أو الثَّوْبُ بَدَلُ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ جِيَادٍ وَنَقَدَ مَكَانهَا الزُّيُوفَ وَتَجَوَّزَ بها الْبَائِعُ الْأَوَّلُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي نَقْدُ الْجِيَادِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ هِيَ خِلَافُ نَقْدِ الْبَلَدِ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً فَإِنْ ذَكَرَ الرِّبْحَ مُطْلَقًا بِأَنْ قال أَبِيعُكَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَرِبْحِ دِرْهَمٍ كان على الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَشَرَةٌ من جِنْسِ ما نَقَدَ وَالرِّبْحُ من دَرَاهِمِ نَقْدِ الْبَلَدِ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ هو الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ وهو عَشَرَةٌ وَهِيَ خِلَافُ نَقْدِ الْبَلَدِ فَيَجِبُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي مِثْلُهَا وَالرِّبْحُ من نَقْدِ الْبَلَدِ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الرِّبْحَ وما أَضَافَهُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وهو نَقْدُ الْبَلَدِ وَإِنْ أَضَافَ الرِّبْحَ إلَى الْعَشَرَةِ بِأَنْ قال أَبِيعُكَ بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ أو بِرِبْحِ ده يا زده فَالْعَشَرَةُ وَالرِّبْحُ من جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ
أَمَّا إذَا قال بِرِبْحِ الْعَشَرَةِ فَلِأَنَّهُ أَضَافَ الرِّبْحَ إلَى تِلْكَ الْعَشَرَةِ إذَا كان من جِنْسِهَا وَأَمَّا إذَا قال بِرِبْحِ ده يا زده فَلِأَنَّهُ جَعَلَ الرِّبْحَ جزأ من الْعَشَرَةِ فَكَانَ من جِنْسِهَا ضَرُورَةً
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ الْأَوَّلَ في الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَقَبِلَ أَنَّهُ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ في التَّقْدِيرِ كَأَنَّ الْعَقْدَ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا فَكَانَ الْأَصْلُ مع الزِّيَادَةِ رَأْسِ الْمَالِ لِوُجُوبِهِمَا بِالْعَقْدِ تَقْدِيرًا فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَيْهِمَا
وَكَذَا لو حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عن الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ فإنه يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على الثَّانِي بَعْدَ الْحَطِّ لِأَنَّ الْحَطَّ أَيْضًا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ الْحَطِّ رَأْسَ الْمَالِ وهو الثَّمَنُ الْأَوَّلُ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عليه
وَلَوْ حَطَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عن الْمُشْتَرِي بَعْدَ ما بَاعَهُ الْمُشْتَرِي حَطَّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ ذلك الْقَدْرَ عن الْمُشْتَرِي الثَّانِي مع حِصَّتِهِ من الرِّبْحِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ وهو الثَّمَنُ الْأَوَّلُ ما وَرَاءَ قَدْرِ الْمَحْطُوطِ فَيَحُطُّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ عن الْمُشْتَرِي الثَّانِي ذلك الْقَدْرَ وَيَحُطُّ حِصَّتَهُ من الرِّبْحِ أَيْضًا لِأَنَّ قَدْرَ الرِّبْحِ يَنْقَسِمُ على جَمِيعِ الثَّمَنِ فإذا حَطَّ شيئا من ذلك الثَّمَنِ لَا بُدَّ من حَطِّ حِصَّتِهِ من الرِّبْحِ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ مُسَاوَمَةً ثُمَّ حَطَّ عن الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ شيء من الثَّمَنِ أَنَّهُ لَا يَحُطُّ ذلك عن الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ في بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ في بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ قِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهُمَا مُسَاوَمَةً انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا على الْقِيمَةِ نِصْفَيْنِ وَلَوْ بَاعَهُمَا مُرَابَحَةً أو تَوْلِيَةً انْقَسَمَ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا لَا على قَدْرِ الْقِيمَةِ دَلَّ أَنَّ الْأَوَّلَ أَصْلٌ في بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَلَا عِبْرَةَ بِهِ في بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ فَالْحَطُّ عن الثَّمَنِ الْأَوَّلِ في بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ يُوجِبُ الْحَطَّ عن الثَّمَنِ الثَّانِي وَلَا يُوجِبُ في الْمُسَاوَمَةِ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا على أَصْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ على الثَّمَنِ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ
وَكَذَا الْحَطُّ عنه وَيَصِيرُ كَأَنَّ الْعَقْدَ في الِابْتِدَاءِ وَقَعَ على هذا الْقَدْرِ
____________________

(5/222)


فَأَمَّا على أَصْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ فَالزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَصِحُّ زِيَادَةً في الثَّمَنِ وَحَطًّا عنه وَإِنَّمَا يَصِحُّ هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ وما لَا يَلْحَقُ بِهِ فَنَقُولُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْحَقَ بِرَأْسِ الْمَالِ أُجْرَةُ الْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْغَسَّالِ وَالْفَتَّالِ وَالْخَيَّاطِ وَالسِّمْسَارِ وَسَائِقِ الْغَنَمِ وَالْكِرَاءُ وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ من طَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وما لَا بُدَّ لهم منه بِالْمَعْرُوفِ وَعَلَفُ الدَّوَابِّ وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً على الْكُلِّ اعْتِبَارًا لِلْعُرْفِ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِيمَا بين التُّجَّارِ أَنَّهُمْ يُلْحِقُونَ هذه الْمُؤَنَ بِرَأْسِ الْمَالِ وَيَعُدُّونَهَا منه وَعُرْفُ الْمُسْلِمِينَ وَعَادَتُهُمْ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ
قال النبي عليه السلام ما رأه الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يقول عِنْدَ الْبَيْعِ اشْتَرَيْتُهُ بِكَذَا وَلَكِنْ يقول قام عَلَيَّ بِكَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَذِبٌ وَالثَّانِيَ صِدْقٌ
وَأَمَّا أُجْرَةُ الرَّاعِي وَالطَّبِيبِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ وَالْبَيْطَارِ وَجُعْلِ الْآبِقِ وَالْفِدَاءِ عن الْجِنَايَةِ وما أَنْفَقَ على نَفْسِهِ وَعَلَى الرَّقِيقِ من تَعْلِيمِ صِنَاعَةٍ أو قُرْآنٍ أو شِعْرٍ فَلَا يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ
وَيُبَاعُ مُرَابَحَةً وَتَوْلِيَةً على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبِ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا غير لِأَنَّ الْعَادَةَ ما جَرَتْ من التُّجَّارِ بِإِلْحَاقِ هذه الْمُؤَنِ بِرَأْسِ الْمَالِ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَبِيحًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ قَبِيحٌ وَكَذَا الْمُضَارِبُ ما أَنْفَقَ على الرَّقِيقِ من طَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وما لَا بُدَّ لهم منه بِالْمَعْرُوفِ يَلْحَقُ بِرَأْسِ الْمَالِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ وما أَنْفَقَ على نَفْسِهِ في سَفَرِهِ لَا يَلْحَقُ بِهِ لِأَنَّهُ لَا عَادَةَ فيه وَالتَّعْوِيلُ في هذا الْبَابِ على الْعَادَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ بَيَانُهُ في الْمُرَابَحَةِ وما لَا يَجِبُ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بَيْعُ أَمَانَةٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ ائْتَمَنَ الْبَائِعَ في إخْبَارِهِ عن الثَّمَنِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ بينه وَلَا اسْتِحْلَافٍ فَتَجِبُ صِيَانَتُهَا عن الْخِيَانَةِ وَعَنْ سَبَبِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عن ذلك كُلِّهِ وَاجِبٌ ما أَمْكَنَ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ليس مِنَّا من غَشَّنَا
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِوَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ رضي اللَّهُ عنه الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ ما يَرِيبُكَ إلا ( ( ( إلى ) ) ) ما لَا يَرِيبُكَ وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ وَالِاحْتِرَازُ عن الْخِيَانَةِ وَعَنْ شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ وَالتُّهْمَةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِبَيَانِ ما يَجِبُ بَيَانُهُ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ما يَجِبُ بَيَانُهُ وما لَا يَجِبُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
إذَا حَدَثَ بِالسِّلْعَةِ عَيْبٌ في يَدِ الْبَائِعِ أو في يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً يُنْظَرُ إنْ حَدَثَ بآفاة ( ( ( بآفة ) ) ) سَمَاوِيَّةٍ له أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ من غَيْرِ بَيَانٍ عِنْدَنَا
وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ وَإِنْ حَدَثَ بِفِعْلِهِ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْبَيْعَ من غَيْرِ بَيَانِ حُدُوثِ الْعَيْبِ لَا يَخْلُو من شُبْهَةِ الْخِيَانَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لو عَلِمَ أَنَّ الْعَيْبَ حَدَثَ في يَدِ الْمُشْتَرِي لَكَانَ لَا يَرْبَحُهُ فيه وَلِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ بَعْدَ حُدُوثِ الْعَيْبِ في يَدِهِ فَقَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهُ جُزْءًا منه فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْبَاقِي من غَيْرِ بَيَانٍ كما لو احْتَبَسَ بِفِعْلِهِ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ
وَلَنَا أَنَّ الْفَائِتَ جُزْءٌ لَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو فَاتَ بَعْدَ الْعَقْدِ قبل الْقَبْضِ لَا يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَكَانَ بَيَانُهُ وَالسُّكُوتُ عنه بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وما يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ قَائِمٌ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَائِعًا ما بَقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ ما إذَا فَاتَ بِفِعْلِهِ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لِأَنَّ الْفَائِتَ صَارَ مَقْصُودًا بِالْفِعْلِ وَصَارَ مُقَابِلُهُ الثَّمَنَ فَقَدْ حَبَسَ الْمُشْتَرِي جُزْءًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ فَلَا يَمْلِكُ بَيْعَ الْبَاقِي مُرَابَحَةً إلَّا بِبَيَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ حَدَثَ من الْمَبِيعِ زِيَادَةٌ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَالْعُقْرِ لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ من الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا حتى تَمْنَعَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ لم يَكُنْ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ لِلْحَالِ فَهَذَا حَبَسَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَبَاعَ الْبَاقِيَ فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ بَيَانٍ
وَكَذَا لو هَلَكَ بِفِعْلِهِ أو بعفل ( ( ( بفعل ) ) ) أَجْنَبِيٍّ وَوَجَبَ الْأَرْشُ لِأَنَّهُ صَارَ مَبِيعًا مَقْصُودًا يُقَابِلُهُ الثَّمَنُ ثُمَّ الْمَبِيعُ بَيْعًا غير مَقْصُودٍ لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ فَالْمَبِيعُ مَقْصُودًا أَوْلَى
وَلَوْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ لِأَنَّهُ إنْ هَلَكَ طَرَفٌ من أَطْرَافِهِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ بَاعَهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ
____________________

(5/223)


بَيَانٍ على ما مَرَّ فَالْوَلَدُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالطَّرَفِ
وَلَوْ اسْتَغَلَّ الْوَلَدَ وَالْأَرْضَ جَازَ له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ التي لَيْسَتْ بِمُتَوَلِّدَةٍ من الْمَبِيعِ لَا تَكُونُ مَبِيعَةً بِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا لَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فلم يَكُنْ بِبَيْعِ الدَّارِ أو الْأَرْضِ حَابِسًا جُزْءًا من الْمَبِيعِ فَكَانَ له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ
وَكَذَلِكَ لو كان المشتري جَارِيَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا جَازَ له أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ فإن الْوَطْءَ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ حَقِيقَةً وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِجُزْءٍ لها حَقِيقَةً فَاسْتِيفَاؤُهَا لَا يُوجِبُ نُقْصَانًا في الذَّاتِ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ بِالْجُزْءِ عِنْدَ عَدَمِ الْمِلْكِ إظْهَارًا لِخَطَرِ الإبضاع وَلَا حَاجَةَ إلَى ذلك في الْمِلْكِ فَبَقِيَتْ مَبِيعَةً حَقِيقَةً وَوَطْءُ الثَّيِّبِ إنَّمَا مَنَعَ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا لَا لِأَنَّهُ إتْلَافُ جُزْءٍ من الْعَيْنِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ بِكْرًا فَافْتَضَّهَا الْمُشْتَرِي لم يَبِعْهَا مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ لِأَنَّ الِافْتِضَاضَ إزَالَةُ الْعُذْرَةِ وهو ( ( ( وهي ) ) ) عُضْوٌ منها فَكَانَ إتْلَافًا لِجُزْئِهَا فَأَشْبَهَ إتْلَافَ سَائِرِ الْأَجْزَاءِ وَلَوْ أَتْلَفَ منها جُزْءًا آخَرَ لَكَانَ لَا يَبِيعُهَا مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ
كَذَا هذا
وَلَوْ اشْتَرَى شيئا نَسِيئَةً لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شُبْهَةَ الْمَبِيعِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَبِيعًا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ مَرْغُوبٌ فيه أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَنَ قد يُزَادُ لِمَكَانِ الْأَجَلِ فَكَانَ له شُبْهَةٌ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً على ثَمَنِ الْكُلِّ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ في هذا الْبَابِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عنها بِالْبَيَانِ
وَلَوْ اشْتَرَى من إنْسَانٍ شيئا بِدَيْنٍ له عليه له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ وَلَوْ أَخَذَ شيئا صُلْحًا من دَيْنٍ له على إنْسَانٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ على الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَلَا بُدَّ من الْبَيَانِ لِيَعْلَمَ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ سَامَحَ أَمْ لَا فَيَقَعُ التَّحَرُّزُ عن التُّهْمَةِ وَمَبْنَى الشِّرَاءِ على الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ وَفَرْقٌ آخَرُ إن في الشِّرَاءِ لَا تُتَصَوَّرُ الْخِيَانَةُ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَقَعُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ بَلْ بمثله وهو أَنْ يَجِبَ على الْمُشْتَرِي مِثْلُ ما في ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ كَذَلِكَ أَنَّهُ لو اشْتَرَى ثُمَّ تَصَادَقَا على أَنَّهُ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لم يَبْطُلْ الشِّرَاءُ وَلَوْ وَقَعَ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ لَبَطَلَ الشِّرَاءُ وإذا لم يَقَعْ الشِّرَاءُ بِذَلِكَ الدَّيْنِ بِعَيْنِهِ لَا تَتَقَدَّرُ الْخِيَانَةُ كما إذَا اشْتَرَى منه ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الصُّلْحِ فإنه يَقَعُ بِمَا في الذِّمَّةِ على الْبَدَلِ الْمَذْكُورِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لو تَصَادَقَا بَعْدَ عَقْدِ الصُّلْحِ على أَنَّهُ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ يَبْطُلُ الصُّلْحُ فَاحْتَمَلَ تُهْمَةَ الْمُسَامَحَةِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عن ذلك بِالْبَيَانِ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَرَقَمَهُ اثْنَيْ عَشَرَ فَبَاعَهُ مُرَابَحَةً على الرَّقْمِ من غَيْرِ بَيَانٍ جَازَ إذَا كان الرَّقْمُ مَعْلُومًا وَالرِّبْحُ مَعْلُومًا وَلَا يَكُونُ خِيَانَةً لِأَنَّهُ صَادِقٌ لَكِنْ لَا يقول اشْتَرَيْته بِكَذَا لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فيه
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا كان لَا يَعْلَمُ عَادَةَ التُّجَّارِ وَعِنْدَهُ أَنَّ الرَّقْمَ هو الثَّمَنُ لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً على ذلك من غَيْرِ بَيَانٍ
وَكَذَلِكَ لو وَرِثَ مَالًا فَرَقَمَهُ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً على رَقْمِهِ يَجُوزُ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى شيئا ثُمَّ بَاعَهُ بِرِبْحٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً فإنه يَطْرَحُ كُلَّ رِبْحٍ كان قبل ذلك فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على ما يبقي من رَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الطَّرْحِ فَإِنْ لم يَبْقَ منه شَيْءٌ بِأَنْ اسْتَغْرَقَ الرِّبْحُ الثَّمَنَ لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً وَهَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةِ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على الثَّمَنِ الْأَخِيرِ من غَيْرِ بَيَانٍ وَلَا عِبْرَةَ بِالْعُقُودِ الْمُتَقَدِّمَةِ رَبِحَ فيها أو خَسِرَ
وَبَيَانُ ذلك إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ فإنه يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسَةٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا على عَشَرَةٍ وَلَوْ بَاعَهُ بِعِشْرِينَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً أَصْلًا وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على عَشَرَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعُقُودَ الْمُتَقَدِّمَةَ لَا عِبْرَةَ بها لِأَنَّهَا ذَهَبَتْ وَتَلَاشَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا فَأَمَّا الْعَقْدُ الْأَخِيرُ فَحُكْمُهُ قَائِمٌ وهو الْمِلْكُ فَكَانَ هذا الْمُعْتَبَرُ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على الثَّمَنِ الْأَخِيرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الشِّرَاءَ الْأَخِيرَ كما أَوْجَبَ مِلْكَ الثَّوْبِ فَقَدْ أَكَّدَ الرِّبْحَ وهو خمسه لِأَنَّهُ كان يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أو بِغَيْرِهِ من أَسْبَابِ الْفَسْخِ فإذا اشْتَرَى فَقَدْ خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْبُطْلَانِ فَتَأَكَّدَ وَلِلتَّأَكُّدِ شُبْهَةُ الأثبات فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِلثَّوْبِ وَخَمْسَةُ الرِّبْحِ بِعَشَرَةٍ من وَجْهٍ فَكَانَ فيه شبهه أَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً على ثَمَنِ الْكُلِّ وَذَا لَا يَجُوزُ من غَيْرِ بَيَانٍ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ في هذا الْبَابِ لها حُكْمُ الْحَقِيقَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ نَسِيئَةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً على عَشَرَةٍ نقد ( ( ( نقدا ) ) ) لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ احتراز ( ( ( احترازا ) ) ) عن الشُّبْهَةِ لِأَنَّ لِلْأَجَلِ شُبْهَةَ أَنْ يُقَابِلَهُ الثَّمَنُ على ما مَرَّ فَوَجَبَ التَّحَرُّزُ عنه بِالْبَيَانِ كَذَا هذا فإذا بَاعَهُ
____________________

(5/224)


بِعَشْرَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ صَارَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى ثَوْبًا وَعَشَرَةً بِعَشَرَةٍ فَيَكُونُ الْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ وَيَبْقَى الثَّوْبُ خَالِيًا عن الْعِوَضِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَتَمَكَّنُ فيه شُبْهَةُ الرِّبَا فلم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ له كَالْوَالِدَيْنِ والمولدين ( ( ( والمولودين ) ) ) وَالزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لم يَجُزْ له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً حتى يُبَيِّنَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ له ذلك من غَيْرِ بَيَانٍ وَلَوْ اشْتَرَى من مُكَاتَبِهِ أو عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أو لَا دَيْنَ عليه لم يَبِعْهُ مُرَابَحَةً من غَيْرِ بَيَانٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا خَلَلَ في الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مِلْكَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُمْتَازٌ عن مِلْكِ صَاحِبِهِ مُنْفَصِلٌ عنه فَصَحَّ الشِّرَاءُ الْأَوَّلُ فَلَا يَجِبُ الْبَيَانُ
كما إذَا اشْتَرَى من الْأَجْنَبِيِّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تُهْمَةَ الْمُسَامَحَةِ في الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ قَائِمَةٌ لِأَنَّ الناس في الْعَادَاتِ لَا يُمَاكِسُونَ في الشِّرَاءِ من هَؤُلَاءِ فَكَانَتْ التُّهْمَةُ وَهِيَ الشِّرَاءُ بِزِيَادَةِ الثَّمَنِ قَائِمَةً فَلَا بُدَّ من الْبَيَانِ كما في الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَلِأَنَّ لِلشِّرَاءِ من هَؤُلَاءِ شُبْهَةَ عَدَمِ الصِّحَّةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَبِيعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ لِكَوْنِهَا شَهَادَةً لِنَفْسِهِ من وَجْهٍ فَكَانَ مَالُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ لِهَذَا الشِّرَاءِ شُبْهَةُ عَدَمِ الصِّحَّةِ
وَالشُّبْهَةُ في هذا الْبَابِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فيؤثر ( ( ( فتؤثر ) ) ) في الْمُرَابَحَةِ كما في الْمُكَاتَبِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ
وَلَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً من رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اشْتَرَى منه من لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ له بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فإنه يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَذَلِكَ أَلْفٌ وَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إلَّا بِبَيَانٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةِ وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ من غَيْرِ بَيَانٍ لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَجْمَعُوا على أَنَّهُ لو اشْتَرَى عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ من الْمُكَاتَبِ الْمَدْيُونِ أو لَا دَيْنَ عليه بِأَلْفٍ إنه لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَكْثَرِ الثَّمَنَيْنِ
وَكَذَا لو اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أو الْمَأْذُونُ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ من الْمَوْلَى بِأَلْفٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى من مُضَارِبِهِ أو اشْتَرَى مضاربه منه فإنه يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ وَحِصَّةُ الْمُضَارِبِ من الرِّبْحِ إنْ كان فيه رِبْحٌ وَإِنْ لم يَكُنْ رِبْحٌ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ بَيَانُ ذلك إذَا دَفَعَ أَلْفًا مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ فإن الْمُضَارِبَ يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ رَبِّ الْمَالِ من الْمُضَارِبِ وَالْمُضَارِبِ من رَبِّ الْمَالِ ليس بِمَقْطُوعٍ بِهِ بَلْ هو مَحَلُّ الِاجْتِهَادِ فإن عِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ وهو الْقِيَاسُ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَالِ نَفْسِهِ على نَفْسِهِ وَالشِّرَاءُ من الْإِنْسَانِ بِمَالِهِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْجَوَازَ بِالِاجْتِهَادِ مع احْتِمَالِ الْخَطَأِ فَكَانَ شُبْهَةُ عَدَمِ الْجَوَازِ قَائِمَةً فتلحق ( ( ( فتلتحق ) ) ) بِالْحَقِيقَةِ في الْمَنْعِ من الْمُرَابَحَةِ من غَيْرِ بَيَانٍ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ بَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَكْثَرَ من قِيمَتِهِ لَكِنْ سَاهَلَهُ الْمُضَارِبُ لِأَنَّهُ ما اشْتَرَاهُ بِمَالِ نَفْسِهِ بَلْ بِمَالِ رَبِّ الْمَالِ فَتَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ في هذا الْبَيْعِ فَلَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً بِأَوْفَرِ الثَّمَنَيْنِ إلَّا بِبَيَانٍ
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ وَمِائَتَيْنِ فإن لِرَبِّ الْمَالِ بَيْعَهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَمِائَةٍ إنْ كانت الْمُضَارَبَةُ بِالنِّصْفِ لِأَنَّ الْمِائَتَيْنِ رِبْحٌ وَهِيَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ حِصَّةَ رَبِّ الْمَالِ فيها شُبْهَةٌ وَتُهْمَةٌ على ما ذَكَرْنَا فَيُطْرَحُ ذلك الْقَدْرُ من بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَأَمَّا حِصَّةُ الْمُضَارِبِ فَلَا شُبْهَةَ فيها وَلَا تُهْمَةَ إذْ لَا حَقَّ فيها لِرَبِّ الْمَالِ فَيَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على أَلْفٍ وَمِائَةٍ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ عَبْدًا بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً على مِائَةٍ
وَكَذَلِكَ لو اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ فَبَاعَهُ من رَبِّ الْمَالِ بِمِائَةٍ بَاعَهُ رَبُّ الْمَالِ مُرَابَحَةً على مِائَةٍ وَهِيَ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ في الْأَقَلِّ وفي الْأَكْثَرِ تُهْمَةٌ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ اشْتَرَى رَبُّ الْمَالِ بِخَمْسِمِائَةٍ فَبَاعَهُ من الْمُضَارِبِ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ بَاعَهُ الْمُضَارِبُ مُرَابَحَةً على خَمْسِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ لِأَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ أَقَلُّ الثَّمَنَيْنِ وَالْخَمْسُونَ قَدْرُ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ من الرِّبْحِ فَتُضَمُّ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَانَةِ إذَا ظَهَرَتْ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ في الْمُرَابَحَةِ لَا يَخْلُو إمَّا إن ظَهَرَتْ في صِفَةِ الثَّمَنِ وَإِمَّا إن ظَهَرَتْ في قَدْرِهِ فَإِنْ ظَهَرَتْ في صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ اشْتَرَى شيئا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ولم يُبَيِّنْ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَسِيئَةٍ أو بَاعَهُ تَوْلِيَةً ولم يُبَيِّنْ ثُمَّ عَلِمَ الْمُشْتَرِي فَلَهُ الْخِيَارُ بِالْإِجْمَاعِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ عَقْدٌ بُنِيَ على الْأَمَانَةِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَدَ الْبَائِعَ وَائْتَمَنَهُ في الْخَبَرِ عن الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَكَانَتْ الْأَمَانَةُ مَطْلُوبَةً في هذا الْعَقْدِ فَكَانَتْ صِيَانَتُهُ عن الْخِيَانَةِ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً فَفَوَاتُهَا يُوجِبُ الْخِيَارَ كَفَوَاتِ السَّلَامَةِ عن الْعَيْبِ
وَكَذَا لو صَالَحَ من دَيْنِ
____________________

(5/225)


أَلْفٍ له على إنْسَانٍ على عَبْدٍ ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً على الْأَلْفِ ولم يُبَيِّنْ لِلْمُشْتَرِي أَنَّهُ كان بَدَلَ الصُّلْحِ فَلَهُ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ في قَدْرِ الثَّمَنِ في الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ بِأَنْ قال اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بِرِبْحِ دَهٍ يا زده أو قال اشْتَرَيْتُ بِعَشَرَةٍ وَوَلَّيْتُكَ بِمَا تَوَلَّيْتُ ثُمَّ تَبَيَّنَّ أَنَّهُ كان اشْتَرَاهُ بتسعه فَقَدْ اُخْتُلِفَ في حُكْمِهِ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ في الْمُرَابَحَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وفي التَّوْلِيَةِ لَا خِيَارَ له لَكِنْ يُحَطُّ قَدْرُ الْخِيَانَةِ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي
وقال أبو يُوسُفَ لَا خِيَارَ له وَلَكِنْ يُحَطُّ قَدْرُ الْخِيَانَةِ فِيهِمَا جميعا وَذَلِكَ دِرْهَمٌ في التَّوْلِيَةِ وَدِرْهَمٌ في الْمُرَابَحَةِ وَحِصَّةٌ من الرِّبْحِ وهو جُزْءٌ من عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ من دِرْهَمٍ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ له الْخِيَارُ فِيهِمَا جميعا إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ على الْبَائِعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لم يَرْضَ بِلُزُومِ الْعَقْدِ إلَّا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى من الثَّمَنِ فَلَا يَلْزَمُ بِدُونِهِ وَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عن الْخِيَانَةِ كما يَثْبُتُ الْخِيَارُ بِفَوَاتِ السَّلَامَةِ عن الْعَيْبِ إذَا وُجِدَ الْمَبِيعُ مَعِيبًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أَصْلٌ في بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ فإذا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ تَبَيَّنَ أَنَّ تَسْمِيَةَ قَدْرِ الْخِيَانَةِ لم تَصِحَّ فَلَغَتْ تَسْمِيَتُهُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ لَازِمًا بِالثَّمَنِ الْبَاقِي
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وهو أَنَّ الْخِيَانَةَ في الْمُرَابَحَةِ لَا تُوجِبُ خُرُوجَ الْعَقْدِ عن كَوْنِهِ مُرَابَحَةً لِأَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَزِيَادَةُ رِبْحٍ وَهَذَا قَائِمٌ بَعْدَ الْخِيَانَةِ لِأَنَّ بَعْضَ الثَّمَنِ رَأْسُ مَالٍ وَبَعْضَهُ رِبْحٌ فلم يَخْرُجْ الْعَقْدُ عن كَوْنِهِ مُرَابَحَةً وَإِنَّمَا أَوْجَبَ تَغْيِيرًا في قَدْرِ الثَّمَنِ وَهَذَا يُوجِبُ خَلَلًا في الرِّضَا فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ كما إذَا ظَهَرَتْ الْخِيَانَةُ في صِفَةِ الثَّمَنِ بِأَنْ ظَهَرَ إن الثَّمَنَ كان نَسِيئَةً وَنَحْوَ ذلك على ما ذَكَرْنَا بِخِلَافِ التَّوْلِيَةِ لِأَنَّ الْخِيَانَةَ فيها تُخْرِجُ الْعَقْدَ عن كَوْنِهِ تَوْلِيَةً لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ بَيْعٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ وقد ظَهَرَ النُّقْصَانُ في الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لَأَخْرَجْنَاهُ عن كَوْنِهِ تَوْلِيَةً وَجَعَلْنَاهُ مُرَابَحَةً وَهَذَا إنْشَاءُ عَقْدٍ آخَرَ لم يَتَرَاضَيَا عليه وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَحَطَطْنَا قَدْرَ الْخِيَانَةِ وَأَلْزَمْنَا الْعَقْدَ بِالثَّمَنِ الْبَاقِي وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْمَبِيعُ عِنْدَ ظُهُورِ الْخِيَانَةِ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ بِأَنْ هَلَكَ أو حَدَثَ بِهِ ما يَمْنَعُ الْفَسْخَ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ لم يَكُنْ في ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ فَيَسْقُطُ كما في خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْإِشْرَاكُ فَحُكْمُهُ حُكْمُ التَّوْلِيَةِ لَا أَنَّهُ تَوْلِيَةٌ حَقِيقَةً لَكِنَّهُ تَوْلِيَةُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِبَعْضِ الثَّمَنِ وقد ذَكَرْنَا ما يَتَعَلَّقُ بِالتَّوْلِيَةِ من الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِالْإِشْرَاكِ بَيَانُ الْقَدْرِ الذي تَثْبُتُ فيه الشَّرِكَةُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ المشتري لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لِاثْنَيْنِ أو أَكْثَرَ فَإِنْ كان لِوَاحِدٍ فَأَشْرَكَ فيه غَيْرَهُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُشْرِكَهُ في قَدْرٍ مَعْلُومٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِ ذلك وَإِمَّا إن أَطْلَقَ الشَّرِكَةَ فَإِنْ أَشْرَكَهُ في قَدْرٍ مَعْلُومٍ فَلَهُ ذلك الْقَدْرُ لَا شَكَّ فيه لِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ فيه يَثْبُتُ في قَدْرِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ هو الْأَصْلُ فَإِنْ أَطْلَقَ الشَّرِكَةَ بِأَنْ قال أَشْرَكْتُكَ في هذا الْكُرِّ فَلَهُ نِصْفُ الْكُرِّ كما لو قال أَشْرَكْتُكَ في نِصْفِ الْكُرِّ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ الرَّجُلِ مِثْلَ نَصِيبِهِ
وَلَوْ أَشْرَكَ رَجُلًا في نِصْفِهِ فلم يَقْبِضْهُ حتى هَلَكَ نِصْفُهُ فَالرَّجُلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَ ما بَقِيَ وهو رُبُعُ الْكُرِّ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُ كان له نِصْفٌ شَائِعٌ من ذلك فما هَلَكَ هَلَكَ على الشَّرِكَةِ وما بَقِيَ بَقِيَ على الشَّرِكَةِ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا كان قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قد تَفَرَّقَتْ عليه
وَكَذَلِكَ لو بَاعَ رجلا ( ( ( رجل ) ) ) نِصْفَ الْكُرِّ ثُمَّ هَلَكَ نِصْفُهُ قبل الْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان مَكَانَ الْهَلَاكِ اسْتِحْقَاقٌ بِأَنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْكُرِّ فَهَهُنَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الشَّرِكَةِ وَالْبَيْعِ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً في الْبَيْعِ وفي الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْعَ أُضِيفَ إلَى نِصْفٍ شَائِعٍ وَتَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ في النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ في نِصْفِ الْمَمْلُوكِ فَيَجِبُ تَنْفِيذُهُ فيه
وَكَذَلِكَ في الشَّرِكَةِ إلَّا أَنَّ تَنْفِيذَهُ في النِّصْفِ الْمَمْلُوكِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا في ذلك النِّصْفِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ لِلرَّجُلِ وَنِصْفُهُ له
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا فقال له رَجُلٌ أَشْرِكْنِي في هذا الْعَبْدِ فقال قد أَشْرَكْتُكَ ثُمَّ قال له رَجُلٌ آخَرُ مِثْلَ ذلك فَأَشْرَكَهُ فيه إنْ كان الثَّانِي عَلِمَ بِمُشَارَكَةِ الْأَوَّلِ فَلَهُ الرُّبُعُ وَلِلْمُشْتَرِي الرُّبُعُ وَالنِّصْفُ لِلْأَوَّلِ وَإِنْ كان لم يَعْلَمْ بِمُشَارَكَتِهِ فَالنِّصْفُ له وَالنِّصْفُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ الثَّانِي بِمُشَارَكَةِ الْأَوَّلِ فلم يَطْلُبْ الشَّرِكَةَ منه إلَّا في نَصِيبِهِ خَاصَّةً
____________________

(5/226)


وَالشَّرِكَةُ في نَصِيبِهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بين النَّصِيبَيْنِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ
وإذا لم يَعْلَمْ بِالشَّرِكَةِ فَقَوْلُهُ أَشْرِكْنِي طَلَبُ الشَّرِكَةِ في الْكُلِّ وَالْإِشْرَاكُ في الْكُلِّ أَنْ يَكُونَ نِصْفُهُ له وَالْأَوَّلُ قد اسْتَحَقَّ النِّصْفَ بِالْمُشَارَكَةِ فَيَسْتَحِقُّ الثَّانِي النِّصْفَ الْبَاقِيَ تَحْقِيقًا لِلشَّرِكَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمُسَاوَاةِ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ اشْتَرِ جَارِيَةَ فلأن بَيْنِي وَبَيْنَكَ فقال الْمَأْمُورُ نعم ثُمَّ لَقِيَهُ غَيْرُهُ فقال له مِثْلَ ما قال الْأَوَّلُ فقال الْمَأْمُورُ نعم ثُمَّ اشْتَرَى الْجَارِيَةَ فَالْجَارِيَةُ بين الْآمِرَيْنِ وَلَا شَيْءَ منها لِلْمَأْمُورِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِ الْجَارِيَةِ وَبِقَبُولِ الْوَكَالَةِ الثَّانِيَةِ لَا يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ وَكِيلًا لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ نَفْسِهِ عن الْوَكَالَةِ من غَيْرِ مَحْضَرٍ من الْمُوَكِّلِ فَبَقِيَ وَكِيلًا له بِشِرَاءِ النِّصْفِ فإذا قَبِلَ الْوَكَالَةَ من الثَّانِي صَارَ وَكِيلًا في شِرَاءِ النِّصْفِ الْآخَرِ فإذا اشْتَرَى الْجَارِيَةَ فَقَدْ اشْتَرَاهَا لِمُوَكِّلَيْهِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ لَقِيَهُ ثَالِثٌ فقال له مِثْلَ ما قال الْأَوَّلَانِ فقال نعم ثُمَّ اشْتَرَاهَا كانت الْجَارِيَةُ لِلْأَوَّلَيْنِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّالِثِ لِأَنَّهُ قد بَقِيَ وَكِيلًا لِلْأَوَّلَيْنِ إذْ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ نَفْسِهِ عن وَكَالَتِهِمَا حَالَ غَيْبَتِهِمَا فلم يَصِحَّ قَبُولُهُ الْوَكَالَةَ من الثَّالِثِ
شَرِيكَانِ شَرِكَةَ عِنَانٍ في الرَّقِيقِ أَمَرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدَ فُلَانٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ ثُمَّ أَمَرَهُ آخَرُ بِمِثْلِ ذلك فَاشْتَرَاهُ فَالنِّصْفُ لِلْأَجْنَبِيِّ وَالنِّصْفُ لِلشَّرِيكَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ يَمْلِكُ شِرَاءَ الرَّقِيقِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ من غَيْرِ أَمْرٍ فَكَانَ الْأَمْرُ سَفَهًا فلم يَصِحَّ وَصَحَّ من الْأَجْنَبِيِّ فَاسْتَحَقَّ النِّصْفَ وَاسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ تقضية ( ( ( تقتضيه ) ) ) الشَّرِكَةُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا كان المشتري لِوَاحِدٍ فَأَشْرَكَهُ فَإِنْ كان لِاثْنَيْنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْرَكَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَاهُ جميعا فَإِنْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فَإِمَّا إن أَشْرَكَهُ في نَصِيبِهِ خَاصَّةً بِأَنْ قال أَشْرَكْتُكَ في نَصِيبِي وَإِمَّا إن أَشْرَكَهُ في نِصْفِهِ بِأَنْ قال أَشْرَكْتُكَ في نِصْفِي وَإِمَّا إن أَشْرَكَهُ مُطْلَقًا بِأَنْ قال أَشْرَكْتُكَ في هذا الْعَبْدِ وَإِمَّا أَنْ أَشْرَكَهُ في نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ وَإِمَّا إن أَشْرَكَهُ في نِصْفِهِ بِأَنْ قال أَشْرَكْتُكَ في نِصْفِ هذا الْعَبْدِ فَإِنْ أَشْرَكَهُ في نَصِيبِهِ خَاصَّةً فَلَهُ النِّصْفُ من نَصِيبِهِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ في نَصِيبِهِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ فيه مِثْلَ نَصِيبِهِ لِأَنَّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَكَذَا لو أَشْرَكَهُ في نِصْفِهِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ في نِصْفِهِ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فيه وَإِنْ أَشْرَكَهُ مُطْلَقًا فَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ فَلَهُ النِّصْفُ كَامِلًا وَالنِّصْفُ لَهُمَا وَإِنْ لم يُجِزْ فَالرُّبُعُ له لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرِكَةَ الْمُطْلَقَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ فَتَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ وَحْدَهُ مِثْلَ نَصِيبِهِمَا جميعا إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يُجِزْ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْإِشْرَاكِ في نَصِيبِهِ فَيَنْفُذُ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ له الرُّبُعُ وإذا أَجَازَ أَمْكَنَ إجْرَاءُ الشَّرِكَةِ على إطْلَاقِهَا وَهِيَ بِإِطْلَاقِهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَذَلِكَ في أَنْ يَكُونَ له النِّصْفُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَإِنْ أَشْرَكَهُ في نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ فَلَهُ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَهُمَا وَإِنْ لم يُجِزْ فَلَهُ الرُّبُعُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إنْ أَجَازَ كان بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَإِنْ أَبَى أَنْ يُجِيزَ كان له ثُلُثُ ما في يَدِ الذي أَشْرَكَهُ وهو سُدُسُ الْكُلِّ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ إن إشْرَاكَ أَحَدِهِمَا وَإِجَازَةَ الْآخِرِ بِمَنْزِلَةِ إشْرَاكِهِمَا مَعًا لِأَنَّ الْإِجَازَةَ تَسْتَنِدُ إلَى حَالِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُمَا أَشْرَكَاهُ مَعًا
وَلِأَنَّ الْإِجَازَةَ اللَّاحِقَةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ فَصَارَ كَأَنَّ الْعَاقِدَ أَشْرَكَ بِوَكَالَةِ صَاحِبِهِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِشْرَاكَ وَالْإِجَازَةَ تَثْبُتُ على التَّعَاقُبِ لِوُجُودِ الْإِشْرَاكِ وَالْإِجَازَةِ على التَّعَاقُبِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ على وَفْقِ الْعِلَّةِ فَصَارَ كما لو أَشْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على التَّعَاقُبِ
قَوْلُهُ الْإِجَازَةُ تَسْتَنِدُ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ
قُلْنَا نعم لَكِنَّ الثَّابِتَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَكَانَ حُكْمُ الْإِجَازَةِ مُتَأَخِّرًا عن حُكْمِ الْإِشْرَاكِ ثُبُوتًا وَإِنْ أَشْرَكَهُ في نِصْفِ الْعَبْدِ فَأَجَازَ شَرِيكُهُ فَلَهُ نِصْفُ ما في يَدِ هذا وَنِصْفُ ما في يَدِ الْآخَرِ وَإِنْ لم يُجِزْ فَلَهُ نِصْفُ ما في يَد الذي أَشْرَكَهُ لِمَا قُلْنَا
هذا إذَا أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فَأَمَّا إذَا أَشْرَكَاهُ جميعا فَلَا يَخْلُو إمَّا إن أَشْرَكَاهُ مَعًا وَإِمَّا إن أَشْرَكَاهُ على التَّعَاقُبِ فَإِنْ أَشْرَكَاهُ مَعًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ له النِّصْفُ كَامِلًا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ أَشْرَكَاهُ على التَّعَاقُبِ مُطْلَقًا ولم يُبَيِّنَا قَدْرَ الشَّرِكَةِ أو أَشْرَكَاهُ في نَصِيبِهِمَا بِأَنْ قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَشْرَكْتُكَ في نَصِيبِي ولم يُبَيِّنْ في كَمْ أَشْرَكَهُ كان له النِّصْفُ وَلِلْأَوَّلَيْنِ النِّصْفُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا أَشْرَكَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِهِ فَكَانَ النِّصْفُ له وَالنِّصْفُ لَهُمَا جميعا كما لو أَشْرَكَاهُ على التَّعَاقُبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وهو الْفَرْقُ بين حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ إن الْإِشْرَاكَ الْمُطْلَقَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيَّاهُ في زَمَانٍ وَاحِدٍ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ في
____________________

(5/227)


أَنْصِبَاءِ الْكُلِّ وهو أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ منهم مِثْلَ نَصِيبِ الْآخَرِ في أَنْ يَكُونَ المشتري بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ على التَّعَاقُبِ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ من أَحَدِهِمَا مُطْلَقًا في زَمَانٍ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِثْلَ نَصِيبِهِ وَكَذَلِكَ الْإِشْرَاكُ الْآخَرُ في الزَّمَانِ الثَّانِي فَيَجْتَمِعُ له رُبُعَانِ وهو النِّصْفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْمُوَاضَعَةُ فَهِيَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مع نُقْصَانِ شَيْءٍ مَعْلُومٍ منه وَيُعْتَبَرُ لها من الشَّرَائِطِ وَالْأَحْكَامِ ما يُعْتَبَرُ لِلْمُرَابَحَةِ وقد ذَكَرْنَا ذلك كُلَّهُ وَالْأَصْلُ في مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ في الْمُوَاضَعَةِ أَنْ يُضَمَّ قَدْرُ الْوَضِيعَةِ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ يُطْرَحُ منه فما بَقِيَ بَعْدَ الطَّرْحِ فَهُوَ الثَّمَنُ
مِثَالُهُ إذَا قال اشْتَرَيْتُ هذا بِعَشَرَةٍ وَبِعْتُكَ بوضيعه دَهٍ يا زده فإذا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ الثَّمَنَ أَنَّهُ كَمْ هو فَسَبِيلُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ دِرْهَمٍ من الْعَشَرَةِ التي هِيَ رَأْسُ الْمَالِ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا فَيَكُونُ الْكُلُّ أَحَدَ عَشَرَ اطْرَحْ منها ( ( ( منهما ) ) ) دِرْهَمًا يَكُونُ الثَّمَنُ تِسْعَةَ دَرَاهِمَ وَجُزْءًا من أَحَدَ عَشَرَ جزء من دِرْهَمٍ وَعَلَى هذا الْقِيَاسِ تَجْرِي مَسَائِلُ الْمُوَاضَعَةِ وَاَللَّهُ الْمُوفَقُ لِلصَّوَابِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ لُزُومِ الْبَيْعِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ وَنَفَاذِهِ وَصِحَّتِهِ فَوَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ خَالِيًا عن خِيَارَاتٍ أَرْبَعَةٍ خِيَارِ التَّعْيِينِ وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَلَا يَلْزَمُ مع أَحَدِ هذه الْخِيَارَاتِ وَهَذَا عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ افْتِرَاقُ الْعَاقِدَيْنِ مع الْخُلُوِّ عن الْخِيَارَيْنِ وهو خِيَارُ الشَّرْطِ وَخِيَارُ الْعَيْبِ شَرْطٌ أَيْضًا
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ ليس بِثَابِتٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ثَابِتٌ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُتَبَايِعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَفْتَرِقَا وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قد يَبِيعُ شيئا وَيَشْتَرِي شيئا ثُمَّ يَبْدُو له فَيَنْدَمُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ بِالْفَسْخِ
فَكَانَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ في الْمَجْلِسِ من بَابِ النَّظَرِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ
وَلَنَا ظَاهِرُ قَوْلِهِ عز وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } أَبَاحَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَكْلَ بِالتِّجَارَةِ عن تَرَاضٍ مُطْلَقًا عن قَيْدِ التَّفَرُّقِ عن مَكَانِ الْعَقْدِ
وَعِنْدَهُ إذَا فَسَخَ أَحَدُهُمَا الْعَقْدَ في الْمَجْلِسِ لَا يُبَاحُ الْأَكْلُ فَكَانَ ظَاهِرُ النَّصِّ حُجَّةً عليه
وَلِأَنَّ الْبَيْعَ من الْعَاقِدَيْنِ صَدَرَ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ وَالْعَقْدُ الْمُطْلَقُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ في الْعِوَضَيْنِ في الْحَالِ فَالْفَسْخُ من أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ تَصَرُّفًا في الْعَقْدِ الثَّابِتِ بِتَرَاضِيهِمَا أو في حُكْمِهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْطَالِ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا لم يَنْفَرِدْ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ وَالْإِقَالَةِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنْ ثَبَتَ مع كَوْنِهِ في حَدِّ الْآحَادِ مُخَالِفًا لِظَاهِرِ الْكِتَابِ فَالْخِيَارُ الْمَذْكُورُ فيه مَحْمُولٌ على خِيَارِ الرُّجُوعِ وَالْقَبُولِ ما دَامَا في التَّبَايُعِ وهو أَنَّ الْبَائِعَ إذَا قال لِغَيْرِهِ بِعْتُ مِنْكَ كَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ ما لم يَقُلْ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا وإذا قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُ مِنْكَ بِكَذَا كان له أَنْ يَرْجِعَ ما لم يَقُلْ الْبَائِعُ بِعْتُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَقْبَلَ أَيْضًا وَهَذَا النَّوْعُ من التَّأْوِيلِ لِلْخَبَرِ نَقَلَهُ مُحَمَّدٌ في الْمُوَطَّأِ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وأنه مُوَافِقٌ لِرِوَايَةِ أبي حَنِيفَةَ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ ما لم يَتَفَرَّقَا عن بَيْعِهِمَا حَمَلْنَاهُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ من الْبِيَاعَاتِ وما يَتَّصِلُ بها فَأَمَّا الْبِيَاعَاتُ الْمَكْرُوهَةُ فَمِنْهَا التَّفْرِيقُ بين الرفيق ( ( ( الرقيق ) ) ) في الْبَيْعِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عن وَلَدِهَا وَالتَّفَرُّقُ بَيْنَهُمَا تَوْلِيهٌ فَكَانَ مَنْهِيًّا
وَرُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى امْرَأَةً وَالِهَةً في السَّبْيِ فَسَأَلَ عن شَأْنِهَا فَقِيلَ قد بِيعَ وَلَدُهَا فَأَمَرَ بِالرَّدِّ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من فَرَّقَ بين وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يوم الْقِيَامَةِ وَهَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَعِيدِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَجْتَمِعُ عليهم السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حتى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ وَنَهَى عن التَّفْرِيقِ في الصِّغَرِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهَبَ من سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه غُلَامَيْنِ صَغِيرَيْنِ فَبَاعَ أَحَدَهُمَا فَسَأَلَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عنهما فقال بِعْتُ أَحَدَهُمَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِعْهُمَا أو رُدَّ وَالْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا في الْبَيْعِ أو رَدِّ الْبَيْعِ فِيهِمَا دَلِيلٌ على كَرَاهَةِ التَّفْرِيق وَلِأَنَّ التَّفْرِيقَ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ نَوْعُ إضْرَارٍ بِهِمَا لِأَنَّ الصَّغِيرَ يَنْتَفِعُ بشفقة ( ( ( بشفعة ) ) ) الْكَبِيرِ وَيَسْكُنُ إلَيْهِ وَالْكَبِيرُ يَسْتَأْنِسُ بِالصَّغِيرِ وَذَا يَفُوتُ
____________________

(5/228)


بِالتَّفْرِيقِ فَيَلْحَقُهُمَا الْوَحْشَةُ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِهِمَا بِإِلْحَاقِ الْوَحْشَةِ وَكَذَا بين الصَّغِيرَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَأْتَلِفَانِ وَيَسْكُنُ قَلْبُ أَحَدِهِمَا بِصَاحِبِهِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا إيحَاشًا بِهِمَا فَكُرِهَ وَلِأَنَّ الصِّبَا من أَسْبَابِ الرَّحْمَةِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من لم يَرْحَمْ صَغِيرَنَا ولم يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا
وفي التَّفْرِيقِ تَرْكُ الرَّحْمَةِ فَكَانَ مَكْرُوهًا
ثُمَّ الْكَلَامُ في كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرَائِطِ الْكَرَاهَةِ وفي بَيَانِ ما يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ وفي بَيَانِ صِفَةِ ما يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا
أَمَّا شَرَائِطُ الْكَرَاهَةِ فَمِنْهَا صِغَرُ أَحَدِهِمَا وهو أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا أو يَكُونَا صَغِيرَيْنِ فَإِنْ كَانَا كَبِيرَيْنِ لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يَجْتَمِعُ عليهم السَّبْيُ وَالتَّفْرِيقُ حتى يَبْلُغَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ
مَدَّ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النَّهْيَ عن التَّفْرِيقِ إلَى غَايَةِ الْبُلُوغِ فَدَلَّ على اخْتِصَاصِ الْكَرَاهَةِ بِحَالَةِ الصِّغَرِ وَزَوَالِهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَلِأَنَّ الْكَرَاهَةَ مَعْلُولَةٌ بِالْإِضْرَارِ بِزَوَالِ الِاسْتِئْنَاسِ وَالشَّفَقَةِ وَتَرْكِ الرَّحِمِ
وَكُلُّ ذلك يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الصِّغَرِ
وَمِنْهَا الرَّحِمُ وهو الْقَرَابَةُ فَإِنْ كَانَا أَجْنَبِيَّيْنِ لم يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا
وَمِنْهَا الْمَحْرَمِيَّةُ وهو أَنْ يَكُونَا ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ بِأَنْ كان بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ لِلنِّكَاحِ فَلَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بين إبني الْعَمِّ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ مُحَرِّمَةٌ الْقَطْعَ مُفْتَرِضَةٌ الْوَصْلَ فَكَانَتْ مَنْشَأَ الشَّفَقَةِ والإنس بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ وَكَذَا الْمَحْرَمِيَّةُ بِدُونِ الرَّحِمِ لَا تُحَرِّمُ التَّفْرِيقَ كَحُرْمَةِ الرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الشَّفَقَةِ والإنس لِعَدَمِ دَلِيلِهِمَا وهو الْقَرَابَةُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا واحد ( ( ( واحدا ) ) ) بِأَيِّ سَبَبٍ مَلَكَهُمَا بِشِرَاءٍ أو هِبَةٍ أو مِيرَاثٍ أو صَدَقَةٍ أو وَصِيَّةٍ
حتى لو كان أَحَدُهُمَا في مِلْكِهِ وَالْآخَرُ في مِلْكِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ
وَكَذَا لو كان له وَلَدَانِ صَغِيرَانِ أَحَدُ الْمَمْلُوكَيْنِ في مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ في مِلْكِ الْآخَرِ لَا بَأْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ في التَّفْرِيقِ أَنْ يَكُونَا في مِلْكِ وَاحِدٍ وَإِنْ لم يَجْمَعْهُمَا مِلْكُ مَالِكٍ وَاحِدٍ لَا يَقَعُ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا لِأَنَّهُمَا كَانَا مُتَفَرِّقَيْنِ قبل الْبَيْعِ
وَكَذَا إذَا كان أَحَدُهُمَا في مِلْكِهِ وَالْآخَرُ في مِلْكِ مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُمَا لم يَجْتَمِعَا في مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْكَسْبِ مُلْحَقٌ بِالْأَحْرَارِ فَاخْتَلَفَ الْمَالِكُ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا في مِلْكِهِ وَالْآخَرُ في مِلْكِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ
فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ فَلَا بَأْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ الْعَبْدَ الذي عِنْدَهُ
فَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ فلم يُوجَدْ بِالِاجْتِمَاعِ في مِلْكِ مَالِكٍ وَاحِدٍ وَعِنْدَهُمَا
وَإِنْ كان يَمْلِكُهُ لَكِنَّهُ مِلْكٌ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ عنه فلم يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ مَعْنًى
وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ يُكْرَهُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا لِوُجُودِ الِاجْتِمَاعِ في مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا في مِلْكِهِ وَالْآخَرُ في مِلْكِ مُضَارِبِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارِبِ وَإِنْ لم يَكُنْ مِلْكَ الْمُضَارِبِ لَكِنْ له حَقٌّ قَوِيٌّ فيه حتى جَازَ بَيْعُ الْمُضَارِبِ من رب ( ( ( رأس ) ) ) الْمَالِ وَبَيْعُ رب ( ( ( رأس ) ) ) الْمَالِ من الْمُضَارِبِ اسْتِحْسَانًا فَكَانَ رب ( ( ( رأس ) ) ) الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فلم يُوجَدْ الِاجْتِمَاعُ في مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا بَاعَ جَارِيَةً كَبِيرَةً على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فيها ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ إنه يُكْرَهُ إيجَابُ الْبَيْعِ في الْجَارِيَةِ بِالْإِجَازَةِ أو بِالتَّرْكِ حتى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بَلْ يُفْسَخُ الْبَيْعُ حتى لَا يَحْصُلَ التَّفْرِيقُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْجَارِيَةُ على مِلْكِهِ فإذا مَلَكَ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ فَقَدْ اجْتَمَعَا في مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ
وَلَوْ بَاعَ الْجَارِيَةَ على أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ مَلَكَ الْبَائِعُ وَلَدَهَا الصَّغِيرَ في الْمُدَّةِ فَلَا بَأْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ أو يَفْسَخَ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ خَرَجَتْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في دُخُولِهَا في مِلْكِ الْمُشْتَرِي فلم يَجْتَمِعْ الْمَمْلُوكَانِ في مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فلم تَكُنْ الْإِجَازَةُ تَفْرِيقًا
وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي وَلَهَا ابْنٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا تُكْرَهُ الْإِجَازَةُ بِلَا إشْكَالٍ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ لَا تَكُونُ تَفْرِيقًا بَلْ تَكُونُ جَمْعًا
وَأَمَّا الفسح ( ( ( الفسخ ) ) ) فَكَذَلِكَ لَا يُكْرَهُ أَيْضًا
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُشْكِلُ أَيْضًا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لم تَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ في مِلْكِهِ على أَصْلِهِ فلم يَقَعْ الْفَسْخُ تَفْرِيقًا لِانْعِدَامِ الِاجْتِمَاعِ في مِلْكِهِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْجَارِيَةُ وَإِنْ دَخَلَتْ في مِلْكِهِ لَكِنَّ الْفَسْخَ حَقُّهُ فَالْإِجْبَارُ
____________________

(5/229)


على الْإِجَازَةِ إبْطَالٌ لِحَقِّهِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَكَانَ له أَنْ يَفْسَخَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يملكها ( ( ( يملكهما ) ) ) على الْكَمَالِ فَإِنْ مَلَكَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِقْصًا منه لم يُكْرَهْ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ من أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ الْبَيْعَ هَهُنَا لَا يَقَعُ تَفْرِيقًا مُطْلَقًا لِحُصُولِ التَّفْرِيقِ قَبْلَهُ من وَجْهٍ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ عن التَّفْرِيقِ على الاطلاق
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ عِنْدَ الْبَيْعِ فَإِنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا عن مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ بِالتَّدْبِيرِ أو الِاسْتِيلَادِ فَلَا بَأْسَ من بَيْعِ الْآخَرِ وَإِنْ كان فيه تَفْرِيقٌ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عليه بَيْعُهُمَا جميعا فَلَوْ مُنِعَ عن بَيْعِ الْآخَرِ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَالِكُ وَكَرَاهَةُ التَّفْرِيقِ شَرْعًا لِدَفْعِ ضَرَرٍ زَائِدٍ فَلَا يَجُوزُ دَفْعُهُ بِإِلْحَاقِ ضَرَرٍ فَوْقَهُ بِالْمَالِكِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِأَحَدِهِمَا حَقٌّ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِأَنْ لَحِقَ أَحَدَهُمَا دَيْنٌ بِأَنْ اسْتَهْلَكَ مَالَ إنْسَانٍ أو جَنَى جِنَايَةً على بَنِي آدَمَ أو اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا لم يُكْرَهْ التَّفْرِيقُ بَلْ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَيُرَدُّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ في الْمَنْعِ من التَّفْرِيقِ دَفْعَ ضَرَرٍ زَائِدٍ بِضَرَرٍ أَقْوَى منه وهو إبْطَالُ الْحَقِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنه إذَا جَنَى أَحَدُهُمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَالِكِ أَنْ يَفْدِيَ لِمَا فيه من مُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ من الْجَانِبَيْنِ وَأَنَّهُ حَسَنٌ عَقْلًا وَشَرْعًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَاهُمَا رَجُلٌ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يَرُدُّهُمَا جميعا أو يُمْسِكُهُمَا وَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لِأَنَّ رَدَّهُ خَاصَّةً تَفْرِيقٌ وإنه إضْرَارٌ فَصَارَ كما إذَا اشْتَرَى مِصْرَاعَيْ بَابٍ أو زَوْجَيْ خُفٍّ أو فعل ( ( ( نعل ) ) ) ثُمَّ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا إنه ليس له أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً لِكَوْنِهِ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ خَاصَّةً
كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالِكُهُمَا مُسْلِمًا فَإِنْ كان كَافِرًا لَا يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ وَسَوَاءٌ كان الْمَالِكُ حُرًّا أو مُكَاتَبًا أو مَأْذُونًا
عليه دَيْنٌ أو لَا دَيْنَ عليه صَغِيرًا أو كَبِيرًا وَسَوَاءٌ كان الْمَمْلُوكَانِ مُسْلِمَيْنِ أو كَافِرَيْنِ
أو أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ الْمُوجِبَةِ لِكَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ من النُّصُوصِ وَالْمَعْقُولِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَلَوْ دخل حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ وَمَعَهُ عَبْدَانِ صَغِيرَانِ أو أَحَدُهُمَا صغيرا ( ( ( صغير ) ) ) وَالْآخَرُ كَبِيرٌ وَهُمَا ذَوَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ أو اشْتَرَاهُمَا في دَارِ الْإِسْلَامِ من صَاحِبِهِ الذي دخل معه بِأَمَانٍ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا فَلَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهُ وَلَوْ اشْتَرَاهُمَا من مُسْلِمٍ في دَارِ الْإِسْلَامِ أو ذِمِّيٍّ أو حَرْبِيٍّ دخل بِأَمَانٍ من وِلَايَةٍ أُخْرَى لَا من وِلَايَتِهِ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدَهُمَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الضَّرُورَةَ دَفَعْت الْكَرَاهَةَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لو لم يشتري ( ( ( يشتر ) ) ) لَأَدْخَلَهُمَا في دَارَ الْحَرْبِ فَيَصِيرُ عَوْنًا لهم على الْمُسْلِمِينَ وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَنْعَدِمُ في هذا الْفَصْلِ لِأَنَّهُ يُجْبَرُ على بَيْعِهِمَا وَلَا يُمَكَّنُ من إلْحَاقِهِمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فلم تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَرْضَيَا بِالتَّفْرِيقِ فَإِنْ رَضِيَا لَا يُكْرَهُ بِأَنْ كان الصَّبِيُّ مُرَاهِقًا وَرَضِيَ بِالْبَيْعِ وَرَضِيَتْ أُمُّهُ فَبِيعَ بِرِضَاهُمَا لِأَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِمَكَانِ الضَّرَرِ فإذا رَضِيَا بِهِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فَلَا يُكْرَهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا اجْتَمَعَ مع الصَّغِيرِ في مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ قَرِيبٌ وَاحِدٌ هو ذُو رَحِمٍ مُحَرِّمٍ منه فَأَمَّا إذَا كان معه عَدَدٌ من الْأَقَارِبِ كُلُّ وَاحِدٍ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الصَّغِيرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كَانَا أَبَوَيْنِ أو غَيْرَهُمَا من ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنْ كَانَا أَبَوَيْنِ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانَا مِمَّنْ سِوَاهُمَا من ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فأما إن كان أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ من الصَّغِيرِ وَالْآخَرُ أَبْعَدَ منه وَإِمَّا إن كَانَا في الْقُرْبِ منه على السَّوَاءِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَقْرَبَ لَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ بين الصَّغِيرِ وَبَيْنَ الْأَبْعَدِ مِنْهُمَا لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأَقْرَبِ تُغْنِي عن شَفَقَةِ الْأَبْعَدِ فلم يَكُنْ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِالصَّغِيرِ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ قَرَابَةُ الْكَبِيرَيْنِ كَالْأَبِ مع الْجَدِّ وَالْأُمِّ مع الْجَدَّةِ أو الْخَالَةِ أو الْخَالِ أو اخْتَلَفَتْ كَالْأُمِّ مع الْعَمَّةِ أو الْعَمِّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا كَيْفَ ما كان لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا له شَفَقَةٌ على الصَّغِيرِ وَتَزُولُ بِالتَّفْرِيقِ وَإِنْ كان الْكَبِيرَانِ في الْقُرْبِ من الصَّغِيرِ شَرْعًا سَوَاءً يُنْظَرُ إنْ اتَّفَقَتْ جِهَةُ قَرَابَتِهِمَا كَالْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ والآخرين ( ( ( والأخوين ) ) ) لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو لأم فَالْقِيَاسُ أَنْ يُكْرَهَ التَّفْرِيقُ بين الصَّغِيرَيْنِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا وَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُكْرَهُ إذَا بَقِيَ مع الصَّغِيرِ قَرِيبٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَفَقَةٌ على حِدَةٍ على الصَّغِيرِ فَلَا تَقُومُ شَفَقَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَكَذَا قد يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ شَفَقَةٍ لَيْسَتْ في الْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا بِتَفْوِيتِ شَفَقَتِهِ من حَيْثُ الْأَصْلِ أو من حَيْثُ الْقَدْرِ فَيُكْرَهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ كَرَاهَةَ التَّفْرِيقِ لِلْإِضْرَارِ بِالصَّغِيرِ بِتَفْوِيتِ النَّظَرِ وَعِنْدَ اتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَالتَّسَاوِي في الْقُرْبِ من الصَّغِيرِ كان مَعْنَى
____________________

(5/230)


النَّظَرِ حَاصِلًا بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَتْ الْجِهَةُ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ تَخْتَلِفُ الشَّفَقَةُ فَيَحْصُلُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ما لَا يَحْصُلُ بِالْآخَرِ فَكَانَ التَّفْرِيقُ إضْرَارًا وَكَذَلِكَ لو مَلَكَ سِتَّةَ أخوة أو سِتَّةَ أَخَوَاتٍ ثَلَاثَةٌ منهم كِبَارٌ وَثَلَاثَةٌ صِغَارٌ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ كل صَغِيرٍ مع كل كَبِيرٍ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان مع الصَّغِيرِ أَبَوَانِ حُكْمًا بِأَنْ ادَّعَيَاهُ حتى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا ثُمَّ اجْتَمَعُوا في مِلْكِ شَخْصٍ وَاحِدٍ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُكْرَهَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِاتِّحَادِ جِهَةِ الْقَرَابَةِ وَهِيَ قَرَابَةُ الْأُبُوَّةِ كَالْعَمَّيْنِ وَالْخَالَيْنِ وَنَحْوِ ذلك
وفي الِاسْتِحْسَانِ يُكْرَهُ لِأَنَّ أَبَاهُ أَحَدُهُمَا حَقِيقَةً فَكَانَ الثَّابِتُ قَرَابَةَ أَحَدِهِمَا حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا حَكَمْنَا بِثَبَاتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الدَّعْوَةِ وَلَكِنَّ الْأَبَ في الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا فَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا لَاحْتُمِلَ أَنَّهُ بَاعَ الْأَبَ فَيَتَحَقَّقُ التَّفْرِيقُ بِخِلَافِ ماإذا كان لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمٌّ حَيْثُ يُكْرَهُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ قَرَابَةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَحَقِّقَةٌ فَكَانَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا بين الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِ أَبَوَيْهِ بِيَقِينٍ فَيُكْرَهُ
وَإِنْ اخْتَلَفَتْ جِهَةُ قَرَابَةِ الْكَبِيرَيْنِ كَالْعَمَّةِ مع الْخَالَةِ وَالْعَمِّ مع الْخَالِ وَالْأَخِ لِأَبٍ مع الْأَخِ لِأُمٍّ وما أَشْبَهَ ذلك يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ لِأَنَّ من يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ إلَى الصَّغِيرِ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ وَاَلَّذِي يُدْلِي إلَيْهِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ يَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ فَصَارَ كما لو كان مع الصَّغِيرِ أَبًا وَأُمًّا
وَلَوْ كان كَذَلِكَ يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ كَذَا هذا امْرَأَةٌ سُبِيَتْ وفي حِجْرِهَا بِنْتٌ صَغِيرَةٌ وَقَعَتَا في سَهْمِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْمَرْأَةُ تَزْعُمُ أنها بنتها ( ( ( ابنتها ) ) ) يُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كان لَا يَثْبُتُ نَسَبُهَا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا في سَائِرِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ الْأَخْبَارَ في كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ وَرَدَتْ في حَقِّ السَّبَايَا وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُ الصَّغِيرِ وَلَدَ الْمَسْبِيَّةِ إلَّا بِقَوْلِهَا فَيَدُلُّ على قبولها ( ( ( قبول ) ) ) قَوْلِهَا في حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ وَلِأَنَّ هذا من بَابِ الدِّيَانَةِ وَقَوْلُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ في الدِّيَانَاتِ مَقْبُولٌ خُصُوصًا فِيمَا يُسْلَكُ فيه طَرِيقُ الِاحْتِيَاطِ
وَلَوْ كَبِرَتْ الصَّغِيرَةُ في يَدِ السَّابِي وقد كان وطىء الْكَبِيرَةَ ولم يَعْلَمْ من الْمَرْأَةِ الْمَسْبِيَّةِ إرْضَاعَ الصَّغِيرَةِ لَا يَنْبَغِي له أَنْ يَقْرَبَ الْبِنْتَ وَإِنْ لم يَثْبُتْ نَسَبُهَا منها لِدَعْوَتِهَا لِاحْتِمَالِ أنها بِنْتُهَا من النَّسَبِ أو الرَّضَاعِ فَلَا يَقْرَبُهَا احْتِيَاطًا وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُ من قُرْبَانِهَا في الْحُكْمِ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ في حُقُوقِ الْعِبَادِ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَإِنْ لم تَكُنْ الصَّغِيرَةُ في حِجْرِهَا وَقْتَ السَّبْيِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ بَيْنَهُمَا في الْوَطْءِ لِأَنَّهُ إذَا لم تَكُنْ في حِجْرِهَا عِنْدَ السَّبْيِ فَلَا دَلِيلَ على كَوْنِهَا وَلَدًا لها في حَقِّ الْحُكْمِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا أَصْلًا
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ من السَّبَايَا صَغِيرًا أو صَغِيرَةً أَنَّهُ وَلَدُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ منه سَوَاءٌ كان قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أو بَعْدَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قبل الْقِسْمَةِ أو قبل الدُّخُولِ في مِلْكٍ خَاصٍّ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّ دَعْوَى الرَّجُلِ صَحِيحَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه فَيَظْهَرُ في حَقِّ كَرَاهَةِ التَّفْرِيقِ سَوَاءٌ كان الْوَلَدُ وَقْتَ السَّبْيِ في يَدِهِ أو لم يَكُنْ بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمَرْأَةِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْوَلَدَ مَعَهَا من هذا الرَّجُلِ وهو زَوْجُهَا وَصَدَّقَهَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الزَّوْجِيَّةُ بِتَصَادُقِهِمَا وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُمَا وَيُكْرَهُ التَّفْرِيقُ بين الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ وَلَدُهُمَا بِإِقْرَارِهِمَا
وَلَوْ ادَّعَى وَاحِدٌ من الْغَانِمِينَ وَلَدًا صَغِيرًا من السَّبْيِ أَنَّهُ وَلَدُهُ قبل الْقِسْمَةِ أو الْبَيْعِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَكُونُ وَلَدُهُ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان معه عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ كان مُسْلِمًا وَلَا يَسْتَرِقُّ وَإِنْ لم يَكُنْ معه عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ من المدعي ( ( ( الداعي ) ) ) وَلَكِنَّهُ يَسْتَرِقُّ لِأَنَّ دَعْوَتَهُ وَإِنْ صَحَّتْ في حَقِّ ثَبَاتِ النَّسَبِ وَاسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ لَكِنَّهَا لم تَصِحَّ ولم تَسْتَنِدْ في حَقِّ الِاسْتِرْقَاقِ لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ فَلَا يُصَدَّقُ في إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ
وَيَجُوزُ أَنْ يُصَدَّقَ الْإِنْسَانُ في إقْرَارِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَلَا يُصَدَّقُ في حَقِّ غَيْرِهِ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ كَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عبد إنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ عليه
وَكَذَا لو اشْتَرَاهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ في حَقِّهِ حتى يَعْتِقَ عليه وَلَا يَصِحُّ في حَقِّ بَائِعِهِ حتى لم يَكُنْ له أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ على بَائِعِهِ وَلِهَذَا نَظَائِرُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا ما يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ فَهُوَ التَّمْلِيكُ بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ بِهِ مَنْفَعَةُ الإنس وَالشَّفَقَةِ وَكَذَا الْقِسْمَةُ في الْمِيرَاثِ وَالْغَنَائِمِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَخْلُو عن مَعْنَى التَّمْلِيكِ خُصُوصًا فِيمَا لَا مِثْلَ له فَيَحْصُلُ بها التَّفْرِيقُ فَيُكْرَهُ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْتِقَ أَحَدُهُمَا أو يُكَاتِبَهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ ليس بِتَمْلِيكٍ بَلْ هو إزَالَةُ الْمِلْكِ أو إنْهَاؤُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّفْرِيقُ لِأَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ يُمْكِنُهُ الِاسْتِئْنَاسُ بِصَاحِبِهِ والاحسان إلَيْهِ فلم يَكُنْ الْإِعْتَاقُ تَفْرِيقًا وَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ حُرٌّ يَدًا فَلَا تَنْقَطِعُ بها مَنْفَعَةُ الإنس وَنَحْوُ ذلك فَلَا يَكُونُ تَفْرِيقًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَئِنْ كان تَفْرِيقًا فَيَقَعُ الْإِعْتَاقُ فَوْقَ ضَرَرِ التَّفْرِيقِ فَلَا
____________________

(5/231)


يَكُونُ ضَرَرًا مَعْنًى وَلَوْ بَاعَ أَحَدَهُمَا نَسَمَةً لِلْعِتْقِ يُكْرَهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُكْرَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْوَفَاءَ بِالْوَعْدِ من مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فَالظَّاهِرُ من حَالَةِ الْمُشْتَرِي إنْجَازُ ما وَعَدَ فَيَخْرُجُ التَّفْرِيقُ من أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ نَفْعٌ أَعْظَمُ منه وهو الْعِتْقُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْعِتْقَ ليس بِمَشْرُوطٍ في الْبَيْعِ وَلَوْ كان مَشْرُوطًا لَأَوْجَبَ فَسَادَ الْبَيْعِ فَبَقِيَ قَصْدُ الْإِعْتَاقِ وَتَنْفِيذُ هذا الْقَصْدِ ليس بِلَازِمٍ فَبَقِيَ الْبَيْعُ تَفْرِيقًا فَيُكْرَهُ حتى لو كان قال الْمُشْتَرِي إنْ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ قالوا لَا يُكْرَهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَعْتِقُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لَا مَحَالَةَ فَيَخْرُجُ الْبَيْعُ من أَنْ يَكُونَ ضَرَرًا



فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْبَيْعِ الذي يَحْصُلُ بِهِ التَّفْرِيقُ أَنَّهُ جَائِزٌ أَمْ لَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه فقال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْبَيْعُ جَائِزٌ مُفِيدٌ لِلْحُكْمِ بِنَفْسِهِ لَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَالْبَائِعُ بِالتَّفْرِيقِ آثِمٌ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَيْعُ فَاسِدٌ في الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وفي سَائِرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ جَائِزٌ
وقال الشَّافِعِيُّ الْبَيْعُ بَاطِلٌ في الْكُلِّ
وَاحْتَجَّ بِمَا رَوَيْنَا من الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ لِلنَّهْيِ عن التَّفْرِيقِ وما يَجْرِي مَجْرَى النَّهْيِ وَالْبَيْعُ تَفْرِيقٌ فَكَانَ منهي ( ( ( منهيا ) ) ) وَالنَّهْيُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ كَسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ التي وَرَدَ النَّهْيُ عنها على أَصْلِهِ
فَأَبُو يُوسُفَ إنَّمَا خَصَّ الْبَيْعَ في الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ بِالْفَسَادِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِتَغْلِيظِ الْوَعِيدِ بِالتَّفْرِيقِ فِيهِمْ وهو ما رَوَيْنَا
وَلَهُمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَنَحْوَهُ من نُصُوصِ الْبَيْعِ يَقْتَضِيَ شَرْعِيَّةَ الْبَيْعِ على الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ أو التَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ على النَّهْيِ عن غَيْرِ الْبَيْعِ وهو الْإِضْرَارُ فَلَا يَخْرُجُ الْبَيْعُ عن أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا كَالنَّهْيِ عن الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ على غَيْرِ الْبَيْعِ إمَّا حَمْلًا لِخَبَرِ الْوَاحِدِ على مُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَإِمَّا لِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَرِدُ عَمَّا عُرِفَ حُسْنُهُ عَقْلًا على ما عُرِفَ
وَمِنْهَا الْبَيْعُ وَقْتَ النِّدَاءِ وهو أَذَانُ الْجُمُعَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ من يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } أَمَرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ عِنْدَ النِّدَاءِ نَهْيًا عن الْبَيْعِ لَكِنْ لِغَيْرِهِ وهو تَرْكُ السَّعْيِ فَكَانَ الْبَيْعُ في ذَاتِهِ مَشْرُوعًا جَائِزًا لَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِأَنَّهُ اتَّصَلَ بِهِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وهو تَرْكُ السَّعْيِ
وَمِنْهَا بَيْعُ الْحَاضِرِ لِلْبَادِ وهو أَنْ يَكُونَ لِرَجُلٍ طَعَامٌ وَعَلَفٌ لَا يَبِيعُهُمَا إلَّا لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ بِثَمَنٍ غَالٍ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَبِيعُ حَاضِرٌ لِبَادٍ دَعُوا الناس يَرْزُقُ اللَّهُ بَعْضَهُمْ من بَعْضٍ وَلَوْ بَاعَ جَازَ الْبَيْعُ لِأَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى في غَيْرِ الْبَيْعِ وهو الْإِضْرَارُ بِأَهْلِ الْمِصْرِ فَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ كَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ
وَهَذَا إذَا كان ذلك يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كان أَهْلُهُ في قَحْطٍ من الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ فَإِنْ كَانُوا في خِصْبٍ وَسَعَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ
وَمِنْهَا بَيْعُ مُتَلَقِّي السِّلَعِ وَاخْتُلِفَ في تَفْسِيرِهِ
قال بَعْضُهُمْ هو أَنْ يَسْمَعَ خَبَرَ قُدُومِ قَافِلَةٍ بِمِيرَةٍ عظمة ( ( ( عظيمة ) ) ) فَيَتَلَقَّاهُمْ الرَّجُلُ وَيَشْتَرِي جَمِيعَ ما مَعَهُمْ من الْمِيرَةِ وَيَدْخُلُ الْمِصْرَ فَيَبِيعُ ما يَشَاءُ من الثَّمَنِ وَهَذَا الشِّرَاءُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا تَتَلَقَّوْا السِّلَعَ حتى تُبْسَطَ الْأَسْوَاقُ وَهَذَا إذَا كان يَضُرُّ بِأَهْلِ الْبَلَدِ بِأَنْ كان أَهْلُهُ في جَدْبٍ وَقَحْطٍ فَإِنْ كان لَا يَضُرُّهُمْ لَا بَأْسَ
وقال بَعْضُهُمْ تَفْسِيرُهُ هو أَنْ يَتَلَقَّاهُمْ فَيَشْتَرِيَ منهم بِأَرْخَصَ من سِعْرِ الْبَلَدِ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ سِعْرَ الْبَلَدِ وَهَذَا أَيْضًا مَكْرُوهٌ سَوَاءٌ تَضَرَّرَ بِهِ أَهْلُ الْبَلَدِ أَمْ لَا لِأَنَّهُ غَرَّهُمْ وَالشِّرَاءُ جَائِزٌ في الصُّورَتَيْنِ جميعا لِأَنَّ الْبَيْعَ مَشْرُوعٌ في ذَاتِهِ وَالنَّهْيُ في غَيْرِهِ وهو الأضرار بِالْعَامَّةِ على التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ وَتَغْرِيرُ أَصْحَابِ السِّلَعِ على التَّفْسِيرِ الثَّانِي
وَمِنْهَا بَيْعُ الْمُسْتَامِ على سَوْمِ أَخِيهِ وهو أَنْ يُسَاوِمَ الرَّجُلَانِ فَطَلَبَ الْبَائِعُ بِسِلْعَتِهِ ثَمَنًا وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَجَاءَ مُشْتَرٍ آخَرُ وَدَخَلَ على سَوْمِ الْأَوَّلِ فَاشْتَرَاهُ بِزِيَادَةٍ أو بِذَلِكَ الثَّمَنِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ على سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَخْطُبُ على خِطْبَةِ أَخِيهِ وَرُوِيَ لَا يَسُومُ الرَّجُلُ على سَوْمِ أَخِيهِ
وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى في غَيْرِ الْبَيْعِ وهو الْإِيذَاءُ فَكَانَ نَفْسُ الْبَيْعِ مَشْرُوعًا فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ
وَهَذَا إذَا جَنَحَ الْبَائِعُ لِلْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الذي طَلَبَهُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ فَإِنْ كان لم يَجْنَحْ له فَلَا بَأْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَشْتَرِيَهُ لِأَنَّ هذا ليس اسْتِيَامًا على سَوْمِ أَخِيهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ وَلِانْعِدَامِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ أَيْضًا بَلْ هو بَيْعُ من يَزِيدُ وإنه ليس بِمَكْرُوهٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم بَاعَ قَدَحًا وَحِلْسًا له بِبَيْعِ من يَزِيدُ وما كان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لِيَبِيعَ بَيْعًا مَكْرُوهًا
وَكَذَا في النِّكَاحِ إذَا خَطَبَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَرَكَنَ قَلْبُهَا
____________________

(5/232)


إلَيْهِ يُكْرَهُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَخْطِبَهَا لِمَا رَوَيْنَا وَإِنْ لم يَرْكُنْ فَلَا بَأْسَ بِهِ
2 وَمِنْهَا بَيْعُ السِّلَاحِ من أَهْلِ الْفِتْنَةِ وفي عَسَاكِرِهِمْ لِأَنَّ بَيْعَهُ منهم من بَابِ الْإِعَانَةِ على الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وإنه مَنْهِيٌّ وَلَا يُكْرَهُ بَيْعُ ما يُتَّخَذُ منه السِّلَاحُ منهم كَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهِ لِأَنَّهُ ليس مُعَدًّا لِلْقِتَالِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِعَانَةِ
وَنَظِيرُهُ بَيْعُ الْخَشَبِ الذي يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْمِزْمَارِ فإنه لَا يُكْرَهُ وَإِنْ كُرِهَ بَيْعُ الْمَزَامِيرِ
وَأَمَّا ما يُكْرَهُ مِمَّا يَتَّصِلُ بِالْبُيُوعِ فَمِنْهَا الِاحْتِكَارُ وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ الْكَلَامِ فيه في بَابِ الْكَرَاهِيَةِ وَإِلْحَاقُهُ بهذا الْمَوْضِعِ أَوْلَى
وَمِنْهَا النَّجْشُ وهو أَنْ يَمْدَحَ السِّلْعَةَ وَيَطْلُبَهَا بِثَمَنٍ ثُمَّ لَا يَشْتَرِيهِ بِنَفْسِهِ وَلَكِنْ لِيُسْمِعَ غَيْرَهُ فَيَزِيدَ في ثَمَنِهِ وَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن النَّجْشِ وَلِأَنَّهُ احْتِيَالٌ للأضرار بِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا إذَا كان الْمُشْتَرِي يَطْلُبُ السِّلْعَةَ من صَاحِبِهَا بِمِثْلِ ثَمَنِهَا فَأَمَّا إذَا كان يَطْلُبُهَا بِأَقَلَّ من ثَمَنِهَا فَنَجَشَ رَجُلٌ سِلْعَةً حتى تَبْلُغَ إلَى ثَمَنِهَا فَهَذَا ليس بِمَكْرُوهٍ وَإِنْ كان النَّاجِشُ لَا يُرِيدُ شِرَاءَهَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ



فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْبَيْعِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ على تَسْمِيَةِ الْبِيَاعَاتِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَيْعُ في حَقِّ الْحُكْمِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَوْقُوفًا وَالصَّحِيحُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فيه خِيَارٌ أو لَا خِيَارَ فيه
أَمَّا الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الذي لَا خِيَارَ فيه فَلَهُ أَحْكَامٌ لَكِنَّ بَعْضَهَا أَصْلٌ وَبَعْضَهَا من التَّوَابِعِ
أَمَّا الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ وَلِلْبَائِعِ في الثَّمَنِ لِلْحَالِ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الْبَيْعِ وَالْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في تَفْسِيرِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِمَا أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى
الْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا من الْأَسْمَاءِ الْمُتَبَايِنَةِ الْوَاقِعَةِ على مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْمَبِيعُ في الْأَصْلِ اسْمٌ لِمَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَالثَّمَنُ في الْأَصْلِ ما لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَإِنْ اُحْتُمِلَ تَغَيُّرُ هذا الْأَصْلِ بِعَارِضٍ بِأَنْ يَكُونَ ما لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ مَبِيعًا كَالْمُسْلَمِ فيه وما يَحْتَمِلُهُ ثَمَنًا كَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ إذَا كان عَيْنًا على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا على أَصْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالْمَبِيعُ وَالثَّمَنُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ على مُسَمًّى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ في الْأَحْكَامِ بِحَرْفِ الْبَاءِ
وإذا عُرِفَ هذا فَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَثْمَانٌ لَا تَتَعَيَّنُ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ عُيِّنَتْ حتى لو قال بِعْتُ مِنْك هذا الثَّوْبَ بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ أو بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ كان لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمُشَارَ إلَيْهِ وَيَرُدَّ مثله وَلَكِنَّهَا تَتَعَيَّنُ في حَقِّ ضَمَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ حتى يَجِبَ عليه رَدُّ مِثْلِ الْمُشَارِ إلَيْهِ جِنْسًا وَنَوْعًا وَقَدْرًا وَصِفَةً
وَلَوْ هَلَكَ الْمُشَارُ إلَيْهِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَعَلَى أَصْلِهِمَا يَتَعَيَّنُ حتى يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي الدَّرَاهِمَ الْمُشَارَ إلَيْهَا كما في سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمُشَارِ إلَيْهَا وَلَوْ هَلَكَ قبل الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ كما لو هَلَكَ سَائِرُ الْأَعْيَانِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْمَبِيعَ وَالثَّمَنَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا } سَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى المشتري وهو الْمَبِيعُ ثَمَنًا دَلَّ على أَنَّ الثَّمَنَ مَبِيعٌ وَالْمَبِيعَ ثَمَنٌ وَلِهَذَا جَازَ أَنْ يُذْكَرَ الشِّرَاءَ بِمَعْنَى الْبَيْعِ
يُقَالُ شَرَيْتُ الشَّيْءَ بِمَعْنَى بِعْتُهُ
قال اللَّهُ تَعَالَى { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ } أَيْ وَبَاعُوهُ وَلِأَنَّ ثَمَنَ الشَّيْءِ قِيمَتُهُ وَقِيمَةُ الشَّيْءِ ما يَقُومُ مَقَامَهُ وَلِهَذَا سُمِّيَ قِيمَةً لِقِيَامِهِ مَقَامَ غَيْرِهِ وَالثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَمَبِيعًا دَلَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ في اللُّغَةِ وَالْمَبِيعُ يَحْتَمِلُ التَّعَيُّنَ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَا الثَّمَنُ إذْ هو مَبِيعٌ على ما بَيَّنَّا
وَلَنَا أَنَّ الثَّمَنَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا في الذِّمَّةِ هَكَذَا نُقِلَ عن الْفَرَّاءِ وهو إمَامٌ في اللعة ( ( ( اللغة ) ) )
وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا يُسَمَّى ثَمَنًا وَالْآخَرَ مَبِيعًا في عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ
وَاخْتِلَافُ الإسامي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي في الْأَصْلِ
إلَّا أَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ أَحَدُهُمَا مَكَانَ صَاحِبِهِ تَوَسُّعًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ صَاحِبَهُ فَيُطْلَقُ اسْمُ أَحَدِهِمَا على الْآخَرِ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ
كما يُسَمَّى جَزَاءُ السَّيِّئَةِ سَيِّئَةً وَجَزَاءُ الِاعْتِدَاءِ اعْتِدَاءً فَأَمَّا الْحَقِيقَةُ فما ذَكَرْنَا
وإذا كان الثَّمَنُ اسْمًا لِمَا في الذِّمَّةِ لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْيِينِ بِالْإِشَارَةِ فلم يَصِحَّ التَّعْيِينُ حَقِيقَةً في حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ فَجُعِلَ كِنَايَةً عن بَيَانِ الْجِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ وَنَوْعِهِ وَصِفَتِهِ وَقَدْرِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِ الْعَاقِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّ كُلَّ عِوَضٍ يُطْلَبُ من الْمُعَيَّنِ في الْمُعَاوَضَاتِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ من مِثْلِهِ
____________________

(5/233)


فلم يَكُنْ التَّعْيِينُ في حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ مُفِيدًا فليعتو ( ( ( فيلغو ) ) ) في حَقِّهِ وَيُعْتَبَرُ في بَيَانِ حَقِّ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ في حَقِّهِ مُفِيدٌ ثُمَّ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ عِنْدَنَا أَثْمَانٌ على كل حَالٍ أَيُّ شَيْءٍ كان في مُقَابَلَتِهَا وَسَوَاءٌ دَخَلَهُ حَرْفُ الْبَاءِ فِيهِمَا أو فِيمَا يُقَابِلُهُمَا لأنها ( ( ( لأنهما ) ) ) لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِحَالٍ فَكَانَتْ أَثْمَانًا على كل حَالٍ
وَأَمَّا ما سِوَاهُمَا من الْأَمْوَالِ فَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له من الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ وَالذَّرْعِيَّاتِ فَهُوَ مَبِيعٌ على كل حَالٍ لِأَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بالتعين ( ( ( بالتعيين ) ) ) بَلْ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا إلَّا عَيْنًا إلَّا الثِّيَابَ الْمَوْصُوفَةَ الْمُؤَجَّلَةَ سَلَمًا فَإِنَّهَا تَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ مَبِيعَةً بِطَرِيقِ السَّلَمِ اسْتِحْسَانًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ الناس إلَى السَّلَمِ فيها وَكَذَا الْمَوْصُوفُ الْمُؤَجَّلُ فيها لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ ثَمَنًا اسْتِحْسَانًا وَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ فَإِنْ كان في مُقَابَلَةِ الْمَكِيلِ أو الْمَوْزُونِ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ فَهُوَ مَبِيعٌ وَإِنْ كان في مُقَابَلَتِهِ ما لَا مِثْلَ له من الْأَعْيَانِ التي ذَكَرْنَا فإنه يُنْظَرُ إنْ كان الْمَكِيلُ أو الْمَوْزُونُ مُعَيَّنًا فَهُوَ مَبِيعٌ وَإِنْ لم يَكُنْ مُعَيَّنًا يُحَكَّمُ فيه حَرْفُ الْبَاءِ فما دَخَلَهُ فَهُوَ ثَمَنٌ وَالْآخَرُ مَبِيعٌ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مُعَيَّنًا وَالْآخَرُ مَوْصُوفًا أو كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْصُوفًا فإنه يُحَكَّمُ فيه حَرْفُ الْبَاءِ فما صَحِبَهُ فَهُوَ الثَّمَنُ وَالْآخَرُ الْمَبِيعُ
وَأَمَّا الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ فَإِنْ قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَهِيَ أَثْمَانٌ وَكَذَا إنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَسَاوِيَةً في الْعَدَدِ وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا مُتَفَاضِلَةً في الْعَدَدِ فَهِيَ مَبِيعَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ أَثْمَانٌ على كل حَالٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَتَعَلَّقُ بِهِمَا من الْأَحْكَامِ فَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ بِالْإِجْمَاعِ وفي الْعَقَارِ اخْتِلَافٌ وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْأَثْمَانِ قبل الْقَبْضِ إلَّا الصَّرْفَ وَالسَّلَمَ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان الثَّمَنُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيها قبل الْقَبْضِ وَهَذَا على أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ عِنْدَهُ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ الْوَاقِعَةِ على مُسَمًّى وَاحِدٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَإِنْ كان دَيْنًا فَلَهُ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ فَيَتَنَاوَلُ الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ قال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ وَنَأْخُذُ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ الدَّنَانِيرَ وَمَكَانَ الدَّنَانِيرِ الدَّرَاهِمَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا بَأْسَ إذَا كان بِسِعْرِ يَوْمِهِمَا وَافْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا شَيْءٌ وَهَذَا نَصٌّ على جَوَازِ الِاسْتِبْدَالِ من ثَمَنِ الْمَبِيعِ وَلِأَنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لِأَنَّ قَبْضَ نَفْسِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن مَالٍ حُكْمِيٍّ في الذِّمَّةِ أو عِبَارَةٌ عن الْفِعْلِ وَكُلُّ ذلك لَا يُتَصَوَّرُ فيه قَبْضُهُ حَقِيقَةً فَكَانَ قَبْضُهُ بِقَبْضِ بَدَلِهِ وهو قَبْضُ الدين ( ( ( العين ) ) ) فَتَصِيرُ الْعَيْنُ الْمَقْبُوضَةُ مَضْمُونَةً على الْقَابِضِ وفي ذِمَّةِ الْمَقْبُوضِ منه مِثْلُهَا في الْمَالِيَّةِ فَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا
هذا هو طَرِيقُ قَبْضِ الدُّيُونِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ من جِنْسِ ما عليه أو من خِلَافِ جِنْسِهِ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِالْمَعْنَى وهو الْمَالِيَّةُ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا في مَعْنَى الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ من الحديث الْعَيْنُ لَا الدَّيْنُ لِأَنَّ النَّهْيَ عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ شيئا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ وَنَفْسُ الدَّيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَبْضَ على ما بَيَّنَّا فَلَا يَتَنَاوَلُهُ النَّهْيُ بِخِلَافِ السَّلَمِ وَالصَّرْفِ
أَمَّا الصَّرْفُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من بَدَلَيْ الصَّرْفِ مَبِيعٌ من وَجْهٍ وَثَمَنٌ من وَجْهٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا بُدَّ له من مَبِيعٍ إذْ هو من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِجَعْلِهِ مَبِيعًا أَوْلَى من الْآخَرِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعًا من وَجْهٍ وَثَمَنًا من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ هو ثَمَنٌ يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبل الْقَبْضِ كَسَائِرِ الْأَثْمَانِ وَمِنْ حَيْثُ هو مَبِيعٌ لَا يَجُوزُ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا
وَأَمَّا الْمُسْلَمُ فيه فَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ بِالنَّصِّ وَالِاسْتِبْدَالُ بِالْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَرَأْسُ الْمَالِ أُلْحِقَ بِالْمَبِيعِ الْعَيْنِ في حَقِّ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ شَرْعًا فَمَنْ ادَّعَى الْإِلْحَاقَ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَكَذَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْقَرْضِ قبل الْقَبْضِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَفَرَّقَ بين الْقَرْضِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ لَا مُبَادَلَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ فيه كما في الْعَارِيَّةِ وَلَوْ كان مُبَادَلَةً لَلَزِمَ فيه الْأَجَلُ وَكَذَا لَا يَمْلِكُهُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الْمُبَادَلَةَ وَلِأَنَّهُ لو جُعِلَ مُبَادَلَةً لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ فيه الرِّبَا وهو فَضْلُ الْعَيْنِ على الدَّيْنِ دَلَّ أَنَّهُ إعَارَةٌ وَالْوَاجِبُ في الْعَارِيَّةِ رَدُّ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِبْدَالِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إن الأقراض في الْحَقِيقَةِ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بمثله فإن
____________________

(5/234)


الْوَاجِبَ على الْمُسْتَقْرِضِ مِثْلُ ما اسْتَقْرَضَ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ لَا عَيْنُهُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلِاسْتِبْدَالِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَلِهَذَا اُخْتُصَّ جَوَازُهُ بِمَا له مِثْلٌ من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ دَلَّ أَنَّ الْوَاجِبَ على الْمُسْتَقْرِضِ تَسْلِيمُ مِثْلِ ما اسْتَقْرَضَ لَا تَسْلِيمُ عَيْنِهِ إلَّا أَنَّهُ أُقِيمَ تَسْلِيمُ الْمِثْلِ فيه مَقَامَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ انْتَفَعَ بِالْعَيْنِ مُدَّةً ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ فَأَشْبَهَ دَيْنَ الِاسْتِهْلَاكِ وَغَيْرَهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْبَائِعِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ في السَّلَمِ وَيَجُوزُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ ليس عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي اشْتَرَى من يَهُودِيٍّ طَعَامًا بِثَمَنٍ ليس عِنْدَهُ وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال اشْتَرَيْتُ مِنْك هذه الْحِنْطَةَ بِدِرْهَمٍ أو دينارا ( ( ( دينار ) ) ) إلَى شَهْرٍ أو قال اشْتَرَيْتُ مِنْك دِرْهَمًا أو دينار ( ( ( دينارا ) ) ) إلَى شَهْرٍ بِهَذِهِ الْحِنْطَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ على كل حَالٍ فَكَانَ ما يُقَابِلُهَا مَبِيعًا فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ ليس عِنْدَهُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ
وَلَوْ قال بِعْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ بهذا الدِّرْهَمِ أو بهذا الدِّينَارِ وَوَصَفَ الْحِنْطَةَ لَكِنَّهُ لم يذكر شَرَائِطَ السَّلَمِ أو قال بِعْتُ مِنْك هذا الدِّرْهَمَ أو هذا الدِّينَارَ بِقَفِيزٍ من حِنْطَةٍ وَوَصَفَهَا ولم يذكر شَرَائِطَ السَّلَمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ بِأَيِّ شَيْءٍ قُوبِلَتْ فَكَانَ ما في مُقَابَلَتِهَا مَبِيعًا فَيَكُونُ بَائِعًا ما ليس عِنْدَهُ
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَّا السَّلَمَ خَاصَّةً ولم يذكر شَرَائِطَ السَّلَمِ فَلَوْ ذَكَرَ في هذا الْبَيْعِ شَرَائِطَ السَّلَمِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَإِنْ لم يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ وَعِنْد زُفَرَ لَا يَجُوزُ مال لم يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ إلَّا أَنَّهُ بَيْعٌ اُخْتُصَّ بِشَرَائِطَ فإذا أتى بها فَقَدْ أتى بِالسَّلَمِ وَإِنْ لم يُتَلَفَّظْ بِهِ وَلَوْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِدِينَارٍ أو عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ أو دِينَارًا بِعَشَرَةٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ من ذلك فَاسْتَقْرَضَا في الْمَجْلِسِ ثُمَّ تَقَابَضَا وَافْتَرَقَا جَازَ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ على كل حَالٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ ليس عِنْدَهُ لَا بَائِعًا وَأَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من التَّقَابُضِ لِأَنَّهُ صَرْفٌ
وَلَوْ تَبَايَعَا تِبْرًا بِتِبْرٍ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا وَلَيْسَ عِنْدَهُمَا شَيْءٌ من ذلك ثُمَّ اسْتَقْرَضَا قبل الِافْتِرَاقِ فَتَقَابَضَا ثُمَّ افْتَرَقَا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَ في الصَّرْفِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ وَذَكَرَ في الْمُضَارَبَةِ وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ حَيْثُ قال لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ فَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُوَفَّقَ بين الرِّوَايَتَيْنِ بِأَنْ تُحْمَلَ رِوَايَةُ كِتَابِ الصَّرْفِ على مَوْضِعٍ يَرُوجُ التِّبْرُ فيه رَوَاجَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الْمَضْرُوبَةِ وَرِوَايَةُ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ على مَوْضِعٍ لَا يَرُوجُ رَوَاجَهَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال بِعْتُ مِنْك هذا الْعَبْدَ بِكَذَا كُرٍّ حِنْطَةً وَوَصَفَهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْحِنْطَةَ الْمَوْصُوفَةَ ثَمَنًا حَيْثُ أَدْخَلَ فيها حَرْفَ الْبَاءِ فَيَكُونُ الْآخَرُ مَبِيعًا فَكَانَ هذا بَيْعُ الْعَبْدِ بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ في الذِّمَّةِ فَيَجُوزُ
وَلَوْ قال اشْتَرَيْتُ مِنْك كَذَا كُرٍّ حِنْطَةً وَوَصَفَهَا بهذا الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَبْدَ ثَمَنًا بِدَلَالَةِ حَرْفِ الْبَاءِ فَكَانَتْ الْحِنْطَةُ مَبِيعَةً فَكَانَ بَائِعًا ما ليس عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرَائِطِ السَّلَمِ من الْأَجَلِ وَبَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَقَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ وَنَحْوِ ذلك عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ ما لم يذكر لَفْظَ السَّلَمِ على ما مَرَّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال بِعْتُ مِنْكَ هذه الْحِنْطَةَ على أنها قَفِيزٌ بِقَفِيزٍ حِنْطَةً وَوَصَفَهَا أو قال بِعْتُ مِنْك هذه الْحِنْطَةَ على أنها قَفِيزٌ بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ وَوَصَفَهُمَا ما أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْعَيْنَ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَالدَّيْنَ الْمَوْصُوفَ في الذِّمَّةِ ثَمَنًا بِإِدْخَالِ حَرْفِ الْبَاءِ عليه فَيَجُوزُ لَكِنَّ قَبْضَ الدَّيْنِ مِنْهُمَا قبل الِافْتِرَاقِ بشرط ( ( ( يشرط ) ) ) لِأَنَّ من شَرْطِ جَوَازِ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فيه عن عَيْنٍ بِعَيْنٍ وَذَلِكَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُمَا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ
وَلَوْ قَبَضَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا ثُمَّ افْتَرَقَا عن الْمَجْلِسِ قبل قَبْضِ الْعَيْنِ جَازَ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عن عَيْنٍ بِعَيْنٍ وَلَوْ قال اشْتَرَيْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَوَصَفَهَا بهذا الْقَفِيزِ من الْحِنْطَةِ أو قال اشْتَرَيْتُ مِنْك قَفِيزَيْ شَعِيرٍ وَوَصَفَهُمَا بِهَذِهِ الْحِنْطَةِ على أنها قَفِيزٌ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَحْضَرَ الْمَوْصُوفَ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَالْآخَرَ ثَمَنًا بِقَرِينَةِ حَرْفِ الْبَاءِ فَيَكُونُ بَائِعًا ما ليس عِنْدَهُ وَبَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهِ سَلَمًا لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ في الْمَكِيلِ لَا يَجُوزُ
وَلَوْ تَبَايَعَا مَكِيلًا مَوْصُوفًا بِمَكِيلٍ مَوْصُوفٍ أو مَوْزُونًا مَوْصُوفًا بِمَوْزُونٍ مَوْصُوفٍ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْك قَفِيزَ حِنْطَةٍ وَوَصَفَهَا بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ وَوَصَفَهَا أو بِقَفِيزَيْ شَعِيرٍ وَوَصَفَهُمَا أو قال بِعْتُ مِنْك من سُكَّرٍ وَوَصَفَهُ بِمِنْ سُكَّرٍ وَوَصْفَهُ وَلَيْسَ
____________________

(5/235)


عِنْدَهُمَا شَيْءٌ من ذلك ثُمَّ اسْتَقْرَضَا وَتَقَابَضَا ثُمَّ افْتَرَقَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الذي صَحِبَهُ مِنْهُمَا حَرْفُ الْبَاءِ يَكُونُ ثَمَنًا وَالْآخَرُ مَبِيعًا فَيَكُونُ بَائِعًا ما ليس عِنْدَهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا سَلَمًا وَالسَّلَمُ في مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إسْلَامُ الْمَكِيلِ في الْمَكِيلِ وَإِسْلَامُ الْمَوْزُونِ الذي يَتَعَيَّنُ في الْمَوْزُونِ الذي يَتَعَيَّنُ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عليه الدَّيْنُ شيئا بِعَيْنِهِ أو بِغَيْرِ عَيْنِهِ قَبَضَهُ أو لم يَقْبِضْهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو فُلُوسًا أو مَكِيلًا أو مَوْزُونًا أو قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كان دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ فَاشْتَرَى بِهِ شيئا بِعَيْنِهِ جَازَ الشِّرَاءُ وَقَبْضُ المشتري ليس بِشَرْطٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ افْتِرَاقًا عن عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَأَنَّهُ جَائِزٌ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ وَلَا يَتَضَمَّنُ هَهُنَا وَكَذَلِكَ إنْ كان الدَّيْنُ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا أو قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى بِدَيْنِهِ وهو دَرَاهِمُ شيئا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَنْ اشْتَرَى بها دِينَارًا أو فُلُوسًا أو هو فُلُوسٌ فَاشْتَرَى بها دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو فُلُوسًا جَازَ الشِّرَاءُ لَكِنْ يُشْتَرَطُ قَبْضُ المشتري في الْمَجْلِسِ حتى لَا يَحْصُلَ الِافْتِرَاقُ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ لِأَنَّ المشتري لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالْقَبْضِ
وَلَوْ كان دَيْنُهُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو فُلُوسًا فَاشْتَرَى بها مَكِيلًا مَوْصُوفًا أو مَوْزُونًا مَوْصُوفًا أو ثِيَابًا مَوْصُوفَةً مُؤَجَّلَةً لم يَجُزْ الشِّرَاءُ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ على كل حَالٍ
وَكَذَا الْفُلُوسُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فلم تَكُنْ مَبِيعَةً فَكَانَ الْآخَرُ مَبِيعًا بائعا ( ( ( بيع ) ) ) ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهِ بِطَرِيقِ السَّلَمِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَكَانَ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ ليس عِنْدَهُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ لَكِنْ لَا بُدَّ من التَّسْلِيمِ كيلا يَكُونَ الِافْتِرَاقُ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَإِنْ كان الدَّيْنُ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أو بِدَنَانِيرَ أو بِفُلُوسٍ أو اشْتَرَى هذه الْأَشْيَاءَ بِدَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ أَثْمَانٌ على كل حَالٍ
وَكَذَا الْفُلُوسُ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَكَانَ من عليه الدَّيْنُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ ليس عِنْدَهُ وَذَلِكَ جَائِزٌ لَكِنْ يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَلَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الذي هو مَكِيلٌ أو مَوْزُونٌ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا من خِلَافِ جِنْسِهِ يُنْظَرُ أن جَعَلَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا مَبِيعًا وَالْآخَرَ ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ فيه حَرْفَ الْبَاءِ وَإِنْ كان بِغَيْرِ عَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا بِثَمَنٍ ليس عِنْدَهُ إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ في الْمَجْلِسِ شَرْطٌ فَلَا يَكُونُ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَإِنْ جَعَلَ الدَّيْنَ مِنْهُمَا ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ حَرْفَ الْبَاءِ فيه وَالْآخَرَ مَبِيعًا لم يَجُزْ الشِّرَاءُ وَإِنْ أَحْضَرَ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بَائِعٌ ما ليس عِنْدَهُ وَبَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ وإذا كان رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ
وَإِنْ كان الدَّيْنُ قِيمَةَ الْمُسْتَهْلَكِ فَإِنْ كان الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا له مِثْلٌ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاسْتِهْلَاكِهِ مِثْلُهُ فإذا اشْتَرَى بِهِ شيئا من خِلَافِ جِنْسِهِ فَحُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له فَاشْتَرَى بِهِ شيئا بِعَيْنِهِ جَازَ وَقَبْضُ الْمُشْتَرِي ليس بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاسْتِهْلَاكِهِ الْقِيمَةَ وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أو دَنَانِيرُ فَصَارَ مُشْتَرِيًا بِدَيْنِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ شيئا بِعَيْنِهِ فَيَجُوزُ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ المشتري لِأَنَّهُ يَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ عن عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ
وَلَوْ اشْتَرَى بِهِ شيئا بِغَيْرِ عَيْنِهِ من الْمَكِيلِ أو الْمَوْزُونِ يُنْظَرُ إنْ جَعَلَ ما عليه مَبِيعًا وَهَذَا ثَمَنًا بِأَنْ أَدْخَلَ عليه حَرْفَ الْبَاءِ يَجُوزُ الشِّرَاءُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِثَمَنٍ ليس عِنْدَهُ فَيَجُوزُ لَكِنْ لَا بُدَّ من الْقَبْضِ في الْمَجْلِسِ وَإِنْ جَعَلَ ما عليه ثَمَنًا بِأَنْ صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ أَحْضَرَ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ بَاعَ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ السَّلَمِ وَلَا سَبِيلَ إلَيْهِ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ دَيْنٌ
وَلَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عن الْمُسْتَهْلَكِ على الدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ وَقَضَى بِهِ الْحَاكِمُ جَازَ وَلَا يَكُونُ الْقَبْضُ شَرْطًا لِأَنَّ هذا ليس شِرَاءً بِالدَّيْنِ بَلْ هو نَفْسُ حَقِّهِ
وَلَوْ صَالَحَ على دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أَكْثَرَ من قِيمَةِ الْمُسْتَهْلَكِ جَازَ الصُّلْحُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجُوزُ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ
وَالْفَضْلُ على الْقِيمَةِ بَاطِلٌ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْغَصْبِ نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِفُلُوسٍ بِأَعْيَانِهَا بِأَنْ قال بِعْتُ مِنْك هذا الثَّوْبَ أو هذه الْحِنْطَةَ بِهَذِهِ الْفُلُوسِ جَازَ وَلَا يَتَعَيَّنُ وَإِنْ عُيِّنَتْ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا حتى كان لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَرُدَّ مِثْلَهَا
وَلَوْ هَلَكَتْ قبل الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّهَا وَإِنْ لم تَكُنْ في الْوَضْعِ ثَمَنًا فَقَدْ صَارَتْ ثَمَنًا بإصلاح ( ( ( باصطلاح ) ) ) الناس وَمِنْ شَأْنِ الثَّمَنِ أَنْ لَا يَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ
وَكَذَا إذَا تَبَايَعَا دِرْهَمًا بِعَيْنِهِ أو دِينَارًا بِعَيْنِهِ بِفُلُوسٍ بِأَعْيَانِهَا فَإِنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ أَيْضًا كما لَا تَتَعَيَّنُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لِمَا قُلْنَا
إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ في الْمَجْلِسِ هَهُنَا شَرْطُ
____________________

(5/236)


بَقَاءِ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ حق ( ( ( حتى ) ) ) لو افْتَرَقَا من غَيْرِ تَقَابُضٍ أَصْلًا يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِحُصُولِ الِافْتِرَاقِ عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَلَوْ لم يُوجَدْ الْقَبْضُ إلَّا من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَافْتَرَقَا مَضَى الْعَقْدُ على الصِّحَّةِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ صَارَ عَيْنًا بِالْقَبْضِ فَكَانَ افْتِرَاقًا عن عَيْنٍ بِدَيْنٍ وإنه جَائِزٌ إذَا لم يَتَضَمَّنْ رِبَا النَّسَاءِ ولم يَتَضَمَّنْ هَهُنَا لِانْعِدَامِ الْقَدْرِ الْمُتَّفَقِ وَالْجِنْسِ
وَكَذَا إذَا تَبَايَعَا فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسٍ بِعَيْنِهِ فَالْفَلْسَانِ لَا يَتَعَيَّنَانِ وَإِنْ عُيِّنَا إلَّا أَنَّ الْقَبْضَ في الْمَجْلِسِ شَرْطٌ حتى يَبْطُلَ بِتَرْكِ التَّقَابُضِ في الْمَجْلِسِ لِكَوْنِهِ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَلَوْ قَبَضَ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ في الْمَجْلِسِ فَافْتَرَقَا قبل قَبْضِ الْآخَرِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ من الْجَانِبَيْنِ من خَصَائِصِ الصَّرْفِ وَهَذَا ليس بِصَرْفٍ فيكتفي فيه بِالْقَبْضِ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ بِهِ يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَذَكَرَ في بَعْضِ شُرُوحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ لَا لِكَوْنِهِ صَرْفًا بَلْ لِتَمَكُّنِ رِبَا النَّسَاءِ فيه لِوُجُودِ أَحْدِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ وهو الْجِنْسُ وهو الصَّحِيحُ وَلَوْ تَبَايَعَا فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ على أَنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ التَّقَابُضِ فَيَحْصُلُ الِافْتِرَاقُ لَا عن قَبْضٍ أَصْلًا فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ يَعْمَلُ في الْجَانِبَيْنِ جميعا عِنْدَهُ وَيَنْعَدِمُ الْقَبْضُ من الْجَانِبَيْنِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْمَلُ إلَّا من جَانِبٍ وَاحِدٍ فَيَنْعَدِمُ الْقَبْضُ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَهَذَا لا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ أَنَّ الْعَقْدَ في حَقِّ الْقَبْضِ على مَرَاتِبَ
منها ما يُشْتَرَطُ فيه التَّقَابُضُ وهو الْقَبْضُ من الْجَانِبَيْنِ وهو الصَّرْفُ وَمِنْهَا ما لَا يُشْتَرَطُ فيه الْقَبْضُ أَصْلًا كَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ مِمَّا سِوَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ مِمَّا لَا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ كَبَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَنَحْوِهَا وَمِنْهَا مما يُشْتَرَطُ فيه الْقَبْضُ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ كَبَيْعِ الدَّرَاهِمِ بِالْفُلُوسِ وَبَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ مِمَّا يَتَضَمَّنُ رِبَا النَّسَاءِ كَبَيْعِ الْمَكِيلِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِالْمَوْزُونِ إذَا كان الدَّيْنُ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَبَيْعِ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وهو السَّلَمُ
وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا جَازَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حتى لو هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ وَكَذَا إذَا رُدَّ بِالْعَيْبِ أو اُسْتُحِقَّ
وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَدْفَعَ مثله ليس له ذلك وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَعَيَّنُ وَلَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ مع دَلَائِلِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا أو عَيَّنَ أَحَدَهُمَا ولم يُعَيِّنْ الْآخَرَ لَا يَجُوزُ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْهُمْ وَعَنْ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْفَلْسَ في هذه الْحَالَةِ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ من الْعُرُوضِ أو من الْأَثْمَانِ فَإِنْ كان من الْعُرُوضِ فَالتَّعْيِينُ في الْعُرُوضِ شَرْطُ الْجَوَازِ ولم يُوجَدْ
وَإِنْ كان الْأَثْمَانِ فَالْمُسَاوَاةُ فيها شَرْطُ الْجَوَازِ ولم يُوجَدْ وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ هذا الْبَيْعِ يُؤَدِّي إلَى رِبْحِ ما لم يُضْمَنْ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ الْفَلْسَيْنِ يَقْبِضُهُمَا وَيَنْقُدُ أَحَدَهُمَا ويبقي الْآخَرُ عن غَيْرِ ضَمَانٍ فَيَكُونُ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ وَأَنَّهُ مَنْهِيٌّ
وَلَوْ تَبَايَعَا فَلْسًا بِفَلْسَيْنِ وَشَرَطَا الْخِيَارَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ على قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْفُلُوسَ في هذه الْحَالَةِ كَالْعُرُوضِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ فيها فلم يَكُنْ الْخِيَارُ مَانِعًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى شيئا بِفُلُوسٍ كَاسِدَةٍ في مَوْضِعٍ لَا تُنْفَقُ فَإِنْ كانت بِأَعْيَانِهَا جَازَ وَإِنْ لم تَكُنْ مُعَيَّنَةً لم يَجُزْ لِأَنَّهَا في ذلك الْمَوْضِعِ عروض ( ( ( عرض ) ) ) وَالتَّعْيِينُ شَرْطُ الْجَوَازِ في بَيْعِ الْعُرُوضِ
وَمِنْهَا أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حتى يَقْبِضَ الثَّمَنَ إذَا كان الثَّمَنُ حَالًّا وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ من تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ حتى يَقْبِضَ الْمَبِيعَ إذَا كان الْمَبِيعُ حَاضِرًا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْمُسَاوَاةُ في الْمُعَاوَضَاتِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ عَادَةً وَحَقُّ الْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ قد تعيين ( ( ( تعين ) ) ) بِالتَّعْيِينِ في الْعَقْدِ وَحَقُّ الْبَائِعِ في الثَّمَنِ لم يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ لِأَنَّ الثَّمَنَ في الذِّمَّةِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَيُسَلَّمُ الثَّمَنُ أَوَّلًا لِيَتَعَيَّنَّ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ
وَإِنْ كان الْمَبِيعُ غَائِبًا عن حَضْرَتِهِمَا فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَمْتَنِعَ عن التَّسْلِيمِ حتى يَحْضُرَ الْمَبِيعُ لِأَنَّ تَقْدِيمَ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِتَتَحَقَّقَ الْمُسَاوَاةُ وإذا كان الْمَبِيعُ غَائِبًا لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بِالتَّقْدِيمِ بَلْ يَتَقَدَّمُ حَقُّ الْبَائِعِ وَيَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي حَيْثُ يَكُونُ الثَّمَنُ بِالْقَبْضِ عَيْنًا مُشَارًا إلَيْهِ وَالْمَبِيعُ لَا وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ الْمَبِيعَ قد هَلَكَ وَسَقَطَ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي فَلَا يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَّا بَعْدَ الْمَبِيعِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ في ذلك الْمِصْرِ أو في مَوْضِعٍ آخَرَ بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالْإِحْضَارِ
فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الرَّهْنِ فإن الرَّاهِنَ إذَا
____________________

(5/237)


امْتَنَعَ من قَضَاءِ الدَّيْنِ لِإِحْضَارِ الرَّهْنِ يُنْظَرُ في ذلك إنْ كان الرَّهْنُ في ذلك الْمِصْرِ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ الْمُرْتَهِنَ مُؤْنَةٌ في الْإِحْضَارِ يُؤْمَرُ بِإِحْضَارِهِ أَوَّلًا كما في الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنَّ الرَّهْنَ قد هَلَكَ وَسَقَطَ الدَّيْنُ عن المرتهن ( ( ( الراهن ) ) ) بِقَدْرِهِ وَإِنْ كان في مَوْضِعٍ يَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ في الْإِحْضَارِ لَا يُؤْمَرُ الْمُرْتَهِنُ بِالْإِحْضَارِ أَوَّلًا بَلْ يُؤْمَرُ الرَّاهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوَّلًا إنْ كان مُقِرًّا أَنَّ الرَّهْنَ قَائِمٌ ليس بِهَالِكٍ وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ هَالِكٌ وقال الْمُرْتَهِنُ هو قَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ مع يَمِينِهِ فإذا حَلَفَ يُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَةِ على الْمُسَاوَاةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِالْإِحْضَارِ على ما مَرَّ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فإنه عَقْدٌ ليس بِمُعَاوَضَةٍ بَلْ هو عَقْدُ أَمَانَةٍ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ كان الْمَرْهُونَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُرْتَهِنِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عن الرَّاهِنِ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ على ما عُرِفَ وإذا لم يَكُنْ مُعَاوَضَةً لم يَكُنْ الدَّيْنُ عِوَضًا عن الرَّهْنِ فَلَا يَلْزَمُ تَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا بِإِحْضَارِ الرَّهْنِ إذَا كان بِحَيْثُ تَلْحَقُهُ الْمُؤْنَةُ بِالْإِحْضَارِ
وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ سَلَّمَا مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا إن الْمُسَاوَاةَ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةٌ لِلْمُتَعَاوِضَيْنِ عَادَةً وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ هَهُنَا في التَّسْلِيمِ مَعًا وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ مُسْتَحَقٌّ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِتَقْدِيمِ التَّسْلِيمِ أَوْلَى من الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ فَيُسَلِّمَانِ مَعًا
وَكَذَا لو تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ سَلَّمَا معا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ التي هِيَ مُقْتَضَى الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ وَلِاسْتِوَاءِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في اسْتِحْقَاقِ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ ما إذَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصِيرُ عَيْنًا إلَّا بِالْقَبْضِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَسْلِيمِهِ أَوَّلًا على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَمِنْهَا أَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا وهو الزَّوَائِدُ الْمُتَوَلِّدَةُ من الْمَبِيعِ فَإِنْ كان أَصْلًا فَلَا يَخْلُو إمَّا إن هَلَكَ كُلُّهُ وَإِمَّا إن هَلَكَ بَعْضُهُ وَلَا يَخْلُو إمَّا إن هَلَكَ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا إن هَلَكَ بَعْدَهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَإِمَّا إن هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ هَلَكَ كُلُّهُ قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ انْفَسَخَ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ لو بَقِيَ أَوْجَبَ مُطَالَبَةَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ
وإذا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ فَهُوَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَأَنَّهُ عَاجِزٌ عن التَّسْلِيمِ فَتَمْتَنِعُ الْمُطَالَبَةُ أَصْلًا فلم يَكُنْ في بَقَاءِ الْبَيْعِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخَ وإذا انْفَسَخَ الْبَيْعُ سَقَطَ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي لِأَنَّ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ من الْأَصْلِ كَأَنْ لم يَكُنْ
وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِأَنْ كان حَيَوَانًا فَقَتَلَ نَفْسَهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ على نَفْسِهِ هَدَرٌ فَكَأَنَّهُ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْطُلُ وَعَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ أو الْمِثْلِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَجِبُ عليه ضَمَانُ الْمِثْلِ أو الْقِيمَةِ كما لو أَتْلَفَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ في يَدِهِ
وَهَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَتْلَفَ الْمَرْهُونَ في يَدِهِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَبِيعَ في يَدِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِأَحَدِ الضَّمَانَيْنِ وهو الثَّمَنُ أَلَا تَرَى لو هَلَكَ في يَدِهِ سَقَطَ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِضَمَانٍ آخَرَ إذْ الْمَحَلُّ الْوَاحِدُ لَا يَقْبَلُ الضَّمَانَيْنِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ
فإن الْمَضْمُونَ بِالرَّهْنِ على الْمُرْتَهِنِ مَعْنَى الْمَرْهُونِ لَا عَيْنُهُ بَلْ عَيْنُهُ أَمَانَةٌ حتى كان كَفَنُهُ وَنَفَقَتُهُ على الرَّاهِنِ وَالْمَضْمُونُ بِالْإِتْلَافِ عَيْنُهُ فَإِيجَابُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ لَا يُؤَدِّي إلَى كَوْنِ الْمَحَلِّ الْوَاحِدِ مَضْمُونًا بِضَمَانَيْنِ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الضَّمَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَسَوَاءٌ كان الْبَيْعُ بَاتًّا أو بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ في يَدِ الْبَائِعِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ في الْحَالَيْنِ فَيُمْنَعُ كَوْنُهُ مَضْمُونًا بِضَمَانٍ آخَرَ
وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ بِالْإِتْلَافِ صَارَ قَابِضًا كُلَّ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ إتْلَافُهُ إلَّا بَعْدَ إثْبَاتِ يَدِهِ عليه وهو مَعْنَى الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ عليه الثَّمَنُ وَسَوَاءٌ كان الْبَيْعُ بَاتًّا أو بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْنَعُ زَوَالَ الْبَيْعِ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَبْضِ فَلَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ
وَإِنْ كان الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أو كان الْبَيْعُ فَاسِدًا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِهِ إنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ على حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أو الْقِيمَةِ
وَكَذَا الْمَبِيعُ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ أو الْقِيمَةِ وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ أَتْلَفَ مَالًا مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا يَدَ له عليه فَيَكُونُ مَضْمُونًا عليه بِالْمِثْلِ أو الْقِيمَةِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ فَيُضَمِّنُهُ
____________________

(5/238)


مثله إنْ كان من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَقِيمَتَهُ إنْ لم يَكُنْ من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَاتَّبَعَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد تَعَيَّنَ في ضَمَانِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ كان عَيْنًا فَصَارَ قِيمَةً وَتَعَيُّنُ الْمَبِيعِ في ضَمَانِ الْبَائِعِ يُوجِبُ الْخِيَارَ
ثُمَّ إنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ وَفَسَخَ وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَضَمَّنَهُ يُنْظَرُ إنْ كان الضَّمَانُ من جِنْسِ الثَّمَنِ وَفِيهِ فَضْلٌ على الثَّمَنِ لَا يَطِيبُ له الْفَضْلُ لِأَنَّ الْفَضْلَ رِبْحُ ما لم يُمْلَكْ لِزَوَالِ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَرِبْحُ ما لم يُضْمَنْ لَا يَطِيبُ لِنَهْيِ النبي عن رِبْحِ ما لم يُضْمَنْ وَلِمَا فيه من شُبْهَةِ الرِّبَا فَرِبْحُ ما لم يُضْمَنْ أَوْلَى وَإِنْ كان الضَّمَانُ من خِلَافِ جِنْسِ الثَّمَنِ طَابَ الْفَضْلُ لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَضَمَّنَهُ فَإِنْ كان الضَّمَانُ من جِنْسِ الثَّمَنِ لَا يَطِيبُ له الْفَضْلُ لِأَنَّهُ رِبْحُ ما لم يُضْمَنْ في حَقِّهِ لَا رِبْحُ ما لم يُمْلَكْ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُهُ وَإِنْ كان من خِلَافِ جِنْسِهِ طَابَ الْفَضْلُ له لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان المشتري عَبْدًا فَقَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ كان الْقَتْلُ خَطَأً لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَلِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا اخْتَارَ الْفَسْخَ وَفَسَخَ الْبَيْعَ اتَّبَعَ الْبَائِعُ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ فَأَخَذَ قِيمَتَهُ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ اخْتَارَ الْمَبِيعَ اتَّبَعَ الْعَاقِلَةَ بِقِيمَتِهِ في ثَلَاثِ سِنِينَ
وَلَوْ كان الْقَتْلُ عَمْدًا اخْتَلَفُوا فيه على ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ إنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقْتَصَّ الْقَاتِلَ بِعَبْدِهِ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَلَهُ أَنْ يَقْتَصَّ الْقَاتِلَ بِعَبْدِهِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْتَصَّ وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ من مَالِ الْقَاتِلِ الْقِيمَةَ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقْتَصَّ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا قِصَاصَ على الْقَاتِلِ بِحَالٍ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ الْقِيمَةَ من الْقَاتِلِ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْقَاتِلَ بِالْقِيمَةِ في ثَلَاثِ سِنِينَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَبْدَ لم يَكُنْ على مِلْكِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْقَتْلِ بَلْ كان على مِلْكِ الْمُشْتَرِي فلم يَنْعَقِدْ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِلْبَائِعِ وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي لم يَكُنْ مُسْتَقِرًّا بَلْ كان مُحْتَمِلًا لِلْعَوْدِ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ فَلَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ لِأَحَدِهِمَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِ وِلَايَةِ الِاقْتِصَاصِ لِلْبَائِعِ لِمَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ وهو أَنَّ الْقَتْلَ صَادَفَ مَحَلًّا ليس بِمَمْلُوكٍ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الْقَتْلِ فَأَمَّا الْمِلْكُ فَثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِي وَقْتَ الْقَتْلِ وقد لَزِمَ وَتَقَرَّرَ بِاخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي فَتَثْبُتُ له وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَمْكَنَ الْقَوْلُ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمَا على اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ وَعَلَى اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ
أَمَّا على اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ فَلِمَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ وَأَمَّا على اعْتِبَارِ اخْتِيَارِ الْفَسْخِ فَلِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ رَفْعُهُ من الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لم يَكُنْ
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ وَرَدَتْ على مِلْكِ الْبَائِعِ فتثبت ( ( ( فثبتت ) ) ) له وِلَايَةُ الِاقْتِصَاصِ
هذا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ قبل الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا هَلَكَ كُلُّهُ بعض الْقَبْضِ فَإِنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَالْهَلَاكُ على الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَقَرَّرَ بِقَبْضِ الْمَبِيعِ فَتَقَرَّرَ الثَّمَنُ وَكَذَلِكَ إنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لِمَا قُلْنَا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على الْأَجْنَبِيِّ بِضَمَانِهِ وَيَطِيبُ له الْفَضْلُ لِأَنَّ هذا الْفَضْلَ رِبْحُ ما قد ضُمِنَ
وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ لَكِنَّ الثَّمَنَ مَنْقُودٌ أو مُؤَجَّلٌ فَاسْتِهْلَاكُهُ وَاسْتِهْلَاكُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ وَإِنْ كان قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْبَيْعِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَحَصَلَ الِاسْتِهْلَاكُ في ضَمَانِهِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ كما لو اُسْتُهْلِكَ وهو في يَدِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ هذا إذَا هَلَكَ كُلُّ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ
فَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ وَهَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ يُنْظَرُ إنْ كان النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قَدْرٍ بِأَنْ كان مَكِيلًا أو مَوْزُونًا أو مَعْدُودًا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْهَالِكِ وَتَسْقُطُ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ لِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ من الْمُقَدَّرَاتِ مَعْقُودٌ عليه فَيُقَابِلُهُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَهَلَاكُ كل الْمَعْقُودِ عليه يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ في الْكُلِّ وَسُقُوطَ كل الثَّمَنِ
فَهَلَاكُ بَعْضِهِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ وَسُقُوطَ الثَّمَنِ بِقَدْرِهِ
وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ في الْبَاقِي إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قد تَفَرَّقَتْ عليه
وَإِنْ كان النُّقْصَانُ نُقْصَانَ وَصْفٍ وهو كُلُّ ما يَدْخُلُ في الْبَيْعِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ كَالشَّجَرِ وَالْبِنَاءِ في الْأَرْضِ وَأَطْرَافِ الْحَيَوَانِ وَالْجَوْدَةِ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ
____________________

(5/239)


أَصْلًا وَلَا يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي شَيْءٌ من الثَّمَنِ
لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لَا حِصَّةَ لها من الثَّمَنِ إلَّا إذَا وَرَدَ عليها الْقَبْضُ أو الْجِنَايَةُ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ وَالْجِنَايَةِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَعَيُّبِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ
وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ بِأَنْ جَرَحَ نَفْسَهُ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَلَا يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي شَيْءٌ من الثَّمَنِ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ على نَفْسِهِ هَدَرٌ فَصَارَ كما لو هَلَكَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَهَلَاكُ بَعْضِهِ نُقْصَانُ الْوَصْفِ وَالْأَوْصَافُ لَا تُقَابَلُ بِالثَّمَنِ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ
وَلَوْ كان المشتري حَيَوَانَيْنِ سِوَى بَنِي آدَمَ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قبل الْقَبْضِ تَسْقُطُ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى حَيَوَانَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ حَتْفَ أَنْفِهِ
وَلَوْ كان المشتري عَبْدَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قبل الْقَبْضِ أو كانت جَارِيَةً فَوَلَدَتْ قبل الْقَبْضِ فَكَبِرَ الْوَلَدُ ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ قبل الْقَبْضِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ لِأَنَّ الْفَسْخَ إعَادَةٌ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ في مِلْكِ الْبَائِعِ فَبَطَلَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَاتِلَ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَا يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي شَيْءٌ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لو أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لَصَارَ آخِذًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ في الِانْتِهَاءِ فَيُخَيَّرُ في الِابْتِدَاءِ قَصْرًا لِلْمَسَافَةِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْحَيَّ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
بيان ( ( ( وبيان ) ) ) ذلك أَنَّهُ لو أَخَذَ الْقَاتِلَ مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ في الْمَقْتُولِ وَانْفِسَاخُ الْبَيْعِ ارْتِفَاعُهُ من الْأَصْلِ وَعَوْدُهُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَبْدَ الْمُشْتَرِي قَتَلَ عَبْدَ الْبَائِعِ فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أو بِالْفِدَاءِ وَأَيُّهُمَا فَعَلَ قام مَقَامَ الْمَقْتُولِ فَيَحْيَا الْمَقْتُولُ مَعْنًى فَيَأْخُذُهُ بِبَقِيَّةِ الثَّمَنِ فَصَارَ في أَخْذِ الْبَاقِي مِنْهُمَا بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ في الْحَالِ آخِذًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ في الْمَآلِ فَخَيَّرْنَاهُ في الِابْتِدَاءِ لِلْأَخْذِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَالْفَسْخِ هذا
وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِقَدْرِهِ وَيَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي حِصَّةُ الْهَالِكِ من الثَّمَنِ وهو قَدْرُ النُّقْصَانِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ سَوَاءٌ كان النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قِيمَةٍ أو نُقْصَانَ وَصْفٍ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ عِنْدَ وُرُودِ الْجِنَايَةِ عليها لِأَنَّهَا تَصِيرُ أَصْلًا بِالْفِعْلِ فَتُقَابَلُ بِالثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ في الْبَاقِي إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عليه
وَلَوْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الْأَخْذَ فلم يَقْبِضْهُ حتى مَاتَ من تِلْكَ الْجِنَايَةِ أو من غَيْرِهَا مَاتَ على الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ إنَّمَا يَدْخُلُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ ولم يُوجَدْ فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي فَمَاتَ من جِنَايَةِ الْبَائِعِ أو غَيْرِهَا سَقَطَتْ عن الْمُشْتَرِي حِصَّةُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ وَلَزِمَهُ ما بَقِيَ من الثَّمَنِ
أَمَّا إذَا مَاتَ من الْجِنَايَةِ فَلِأَنَّ قَبْضَ الْبَاقِي وُجِدَ من الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ قَبْضُهُ فَتَقَرَّرَ عليه ثَمَنُهُ
وَكَذَا إذَا مَاتَ من جِنَايَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَ الْبَاقِيَ حَقِيقَةً وَقَبْضُ الْمَبِيعِ يُوجِبُ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ في الْأَصْلِ إلَّا إذَا وُجِدَ من الْبَائِعِ ما يُنْقِصُهُ فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا وَالسِّرَايَةُ لَيْسَتْ فِعْلَهُ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هِيَ صُنْعُ اللَّهِ تَعَالَى يَعْنِي مصنوعه فَبَقِيَ الْمَقْبُوضُ على حُكْمِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عليه ثَمَنُهُ وَلِأَنَّ قَبْضَ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ فيه لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شِبْهًا بِالْعَقْدِ وَإِنْشَاءُ الشِّرَاءِ قَاطِعٌ لِلسِّرَايَةِ كما لو اشْتَرَاهُ منه بَعْدَ جِنَايَتِهِ وَقَبَضَهُ ثُمَّ سَرَتْ إلَى النَّفْسِ وَمَاتَ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وإذا هَلَكَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَا يَسْقُطُ عنه شَيْءٌ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْكُلِّ بِإِتْلَافِ الْبَعْضِ أو لَا يَتَمَكَّنُ من إتْلَافِ الْبَعْضِ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ على الْكُلِّ وهو تَفْسِيرُ الْقَبْضِ أو صَارَ قَابِضًا قَدْرَ الْمُتْلَفِ بِالْإِتْلَافِ والناقي ( ( ( والباقي ) ) ) بِالتَّعْيِيبِ فَتَقَرَّرَ عليه كُلُّ الثَّمَنِ
وَلَوْ مَاتَ في يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ مَاتَ من تِلْكَ الْجِنَايَةِ مَاتَ على الْمُشْتَرِي وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ من جِنَايَتِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ فِعْلَهُ السَّابِقَ وَقَعَ إتْلَافًا لِلْكُلِّ فَتَقَرَّرَ عليه كُلُّ الثَّمَنِ سَوَاءٌ مَنَعَهُ الْبَائِعُ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي أو لم يَمْنَعْهُ لِأَنَّ مَنْعَ الْبَائِعِ بَعْدَ وُجُودِ الْإِتْلَافِ من الْمُشْتَرِي هَدَرٌ
وَإِنْ مَاتَ من غَيْرِ الْجِنَايَةِ فَإِنْ كان الْبَائِعُ لم يَمْنَعْهُ مَاتَ من مَالِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا وَعَلَيْهِ كُلُّ الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ بِالْجِنَايَةِ صَارَ قَابِضًا لِكُلِّ الْمَبِيعِ ولم يُوجَدْ ما يَنْقُضُ قَبْضَهُ فَبَقِيَ حُكْمُ ذلك الْقَبْضِ
وَإِنْ كان مَنَعَهُ لَزِمَ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ ما اسْتَهْلَكَ وَسَقَطَ عنه ثَمَنُ ما بَقِيَ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا مَنَعَ فَقَدْ نَقَضَ قَبْضَ الْمُشْتَرِي في قَدْرِ الْقَائِمِ فَصَارَ مُسْتَرِدًّا إيَّاهُ فإذا هَلَكَ فَقَدْ هَلَكَ في ضَمَانِهِ فَيَهْلِكُ عليه
وَلَوْ جَنَى عليه الْبَائِعُ ثُمَّ جَنَى عليه الْمُشْتَرِي سَقَطَ عن الْمُشْتَرِي حِصَّةُ جِنَايَةِ
____________________

(5/240)


الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا وَلَزِمَهُ ثَمَنُ ما بَقِيَ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلْبَاقِي بِجِنَايَتِهِ فَتَقَرَّرَ عليه ثَمَنُهُ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَعْيِيبِ الْبَائِعِ فَإِنْ ابْتَدَأَ الْمُشْتَرِي بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ قبل قَبْضِ الثَّمَنِ فَإِنْ برأ الْعَبْدُ من الْجِنَايَتَيْنِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَسَقَطَتْ عنه حِصَّةُ جِنَايَةِ الْبَائِعِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ لَكِنَّ الْجِنَايَةَ فيه قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ غَيْرُ مَنْقُودٍ فلما جَنَى عليه الْبَائِعُ فَقَدْ اسْتَرَدَّ ذلك الْقَدْرَ فَحَصَلَتْ جِنَايَتُهُ تَعْيِيبًا لِلْمَبِيعِ وَحُدُوثُ الْعَيْبِ في الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ وَسَقَطَتْ عنه جِنَايَةُ الْبَائِعِ من الثَّمَنِ وهو الرُّبُعُ لِأَنَّ النِّصْفَ هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عليه الثَّمَنُ وَرُبُعٌ منه قَائِمٌ فيأخذه ( ( ( يأخذه ) ) ) بِثَمَنِهِ أَيْضًا وَالرُّبُعُ هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ قبل الْقَبْضِ فَيَسْقُطُ عنه ثَمَنُهُ
وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ في يَدِ الْبَائِعِ بَعْدَ الْجِنَايَتَيْنِ بِأَنْ كان الْمُشْتَرِي قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ من خِلَافٍ ثُمَّ مَاتَ في يَدِ الْبَائِعِ من الْجِنَايَتَيْنِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَسَقَطَ عنه ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا قَطَعَ يَدَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ عليه نِصْفُ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالْقَطْعِ وَلَمَّا قَطَعَ الْبَائِعُ رِجْلَهُ فَقَدْ اسْتَرَدَّ نِصْفَ الْقَائِمِ من الْعَبْدِ وهو الرُّبُعُ فَبَقِيَ هُنَاكَ رُبُعٌ قَائِمٌ من الْعَبْدِ فإذا سَرَتْ الْجِنَايَةُ فَقَدْ هَلَكَ ذلك الرُّبُعُ من سِرَايَةِ الْجِنَايَتَيْنِ فَيَنْقَسِمُ ذلك الرُّبُعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَانْكَسَرَ الْحِسَابُ بِالْأَرْبَاعِ فَيُجْعَلُ كُلُّ سَهْمٍ أَرْبَعَةً فَيَصِيرُ ثَمَانِيَةً فَلِذَلِكَ جَعَلْنَا الْحِسَابَ من ثَمَانِيَةٍ فَهَلَكَ بِجِنَايَةِ الْمُشْتَرِي النِّصْفُ وهو أَرْبَعَةٌ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَيَتَقَرَّرُ عليهم ثُمُنُهُ فَذَلِكَ خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ وَهَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَهْمَانِ وَبِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ سَهْمٌ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ يَسْقُطُ عنه
لِأَنَّ هَلَاكَ هذا الْقَدْرِ يَسْقُطُ عنه
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا جَنَى الْمُشْتَرِي أَوَّلًا ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ فَبَرَأَتْ الْجِرَاحَةُ أو سَرَتْ
فَأَمَّا إذَا جَنَى الْبَائِعُ أَوَّلًا ثُمَّ الْمُشْتَرِي فَإِنْ برأ الْعَبْدُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي هَهُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ إقْدَامَهُ على الْجِنَايَةِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْبَائِعِ دَلِيلُ الرِّضَا بتعييبه ( ( ( بتعيينه ) ) ) فَبَطَلَ خِيَارُهُ وَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ ما بَقِيَ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِمَا بَقِيَ
وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ من الْجِنَايَتَيْنِ فَالْجَوَابُ هَهُنَا على الْقَلْبِ من الْجَوَابِ في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وهو أَنَّ على الْمُشْتَرِي ثَلَاثَةَ أَثْمَانٍ وَسَقَطَ عنه خَمْسَةُ أَثْمَانِ الثَّمَنِ فَحُكْمُ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي هَهُنَا كَحُكْمِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ هُنَاكَ لِمَا ذَكَرْنَا فَافْهَمْ
وَلَوْ كان الثَّمَنُ مَقْبُوضًا وَالْعَبْدُ في يَدِ الْبَائِعِ فَجَنَى عليه الْبَائِعُ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كان الْمُشْتَرِي جَنَى عليه أَوَّلًا ثُمَّ جَنَى الْبَائِعُ يَلْزَمُ الْبَائِعُ من الْقِيمَةِ ما يَلْزَمُ الْأَجْنَبِيَّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ نَقْضَ الْقَبْضِ وَالِاسْتِرْدَادَ هَهُنَا لِأَنَّ الثَّمَنَ مَقْبُوضٌ فَصَارَتْ جِنَايَتُهُ وَجِنَايَةُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ
وَلَوْ كان الْبَائِعُ جَنَى أَوَّلًا ثُمَّ جَنَى الْمُشْتَرِي فما هَلَكَ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ سَقَطَ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ وما هَلَكَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ ما هَلَكَ بِجِنَايَتِهِ بَعْدَ جِنَايَةِ الْمُشْتَرِي تَجِبُ قِيمَتُهُ على ما ذَكَرْنَا فَكَذَا ما هَلَكَ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ لَا شَكَّ فيه وَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِضَمَانِ ما جَنَى وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ فَالْحُكْمُ فيه بَعْدَ ذلك على ما ذَكَرْنَا في إتْلَافِ الْأَجْنَبِيِّ كُلَّ الْمَبِيعِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ
فَأَمَّا إذَا هَلَكَ بَعْضُ الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَالْهَلَاكُ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ خَرَجَ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي فَتَقَرَّرَ عليه الثَّمَنُ
وَكَذَا إذَا هَلَكَ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْهَلَاكُ على الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا وَيَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْأَجْنَبِيِّ لَا شَكَّ فيه
وَإِنْ هَلَكَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ لم يَكُنْ له حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِأَنْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ أو كان الثَّمَنُ مَنْقُودًا أو مُؤَجَّلًا فَهَذَا وما لو أَتْلَفَهُ أَجْنَبِيٌّ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَا حُكْمَهُ
وَإِنْ كان له حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ كان قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالثَّمَنُ حَالٌ غَيْرُ مَنْقُودٍ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ في قَدْرِ الْمُتْلَفِ وَيَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِذَلِكَ الْقَدْرِ بِالْإِتْلَافِ فَتَلِفَ ذلك الْقَدْرُ في ضَمَانِهِ فَيَسْقُطُ قَدْرُهُ من الثَّمَنِ وَلَا يَكُونُ مُسْتَرِدًّا لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه إتْلَافُ الْبَاقِي لِأَنَّهُ لو هَلَكَ الْبَاقِي في يَدِ الْمُشْتَرِي فَعَلَيْهِ حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ إلَّا إذَا هَلَكَ الْبَاقِي من سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَيَصِيرُ مُسْتَرِدًّا وَيَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّ تَلَفَ الْبَاقِي حَصَلَ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ فَصَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْكُلِّ فَتَلِفَ الْكُلُّ في ضَمَانِهِ فَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ
____________________

(5/241)


البياع وَالْمُشْتَرِي في هَلَاكِ الْمَبِيعِ فقال الْبَائِعُ هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَلِيَ عَلَيْك الثَّمَنُ
وقال الْمُشْتَرِي هَلَكَ قبل الْقَبْضِ وَلَا ثَمَنَ لَك عَلَيَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه الْقَبْضَ وَالثَّمَنَ وهو يُنْكِرُ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ كان في يَدِ الْبَائِعِ وَالظَّاهِرُ بَقَاءُ ما كان على ما كان وَالْبَائِعُ يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا وهو الزَّوَالُ وَالِانْتِقَالُ فَكَانَ الْمُشْتَرِي مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ الظَّاهِرِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ يقضي بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ وما شُرِعَتْ للبينات ( ( ( البينات ) ) ) إلَّا لِهَذَا وَلِأَنَّهَا أَكْثَرُ إظْهَارًا لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْقَبْضَ وَالثَّمَنَ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الِاسْتِهْلَاكِ فَادَّعَى الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي إنه اسْتَهْلَكَهُ وَادَّعَى الْمُشْتَرِي على الْبَائِعِ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا هذا إذَا لم يَكُنْ لِلْبَيِّنَتَيْنِ تَارِيخٌ
فَأَمَّا إذَا كان لَهُمَا تَارِيخٌ وَتَارِيخُ أحدهما ( ( ( إحداهما ) ) ) أَسْبَقُ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى بِالْهَلَاكِ وَالِاسْتِهْلَاكِ جميعا
هذا إذَا لم يَكُنْ قَبْضُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ ظَاهِرًا فَأَمَّا إذَا كان ظَاهِرًا فَادَّعَيَا الِاسْتِهْلَاكَ فَإِنْ لم يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له لِأَنَّ الْمَبِيعَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ هو الْمُدَّعِي
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدَّعِي أَمْرًا بَاطِنًا لِيُزِيلَ بِهِ ظَاهِرًا وهو الِاسْتِهْلَاكُ من الْبَائِعِ وَالْمَبِيعُ في يَدِهِ وَكَذَا الْمُشْتَرِي لوترك الدَّعْوَى يُتْرَكُ وَلَا يُجْبَرُ عليها وَالْبَائِعُ لو تَرَكَ الدَّعْوَى لَا يُتْرَكُ بَلْ يُجْبَرُ عليها وَهَذِهِ عِبَارَةُ مَشَايِخِنَا في تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه وإذا قَامَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كان في مَوْضِعٍ لِلْبَائِعِ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بِأَنْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ وَالثَّمَنُ حَالٌ غَيْرُ مَنْقُودٍ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ صَارَ مُسْتَرِدًّا وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ وَإِنْ كان في مَوْضِعٍ ليس له حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لِلْحَبْسِ بِأَنْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ لَكِنَّ الثَّمَنَ مَنْقُودٌ أو مُؤَجَّلٌ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ له حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لم يَكُنْ بِالِاسْتِهْلَاكِ مُسْتَرِدًّا وَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ فَلَا يَحْصُلُ الِاسْتِهْلَاكُ في ضَمَانِ الْبَائِعِ فَتَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ كما لو اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ نَافِقَةً ثُمَّ كَسَدَتْ قبل الْقَبْضِ انْفَسَخَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كان قَائِمًا وَقِيمَتِهِ أو مِثْلِهِ إنْ كان هَالِكًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْفُلُوسِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْفُلُوسَ في الذِّمَّةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يَحْتَمِلُ الْهَلَاكَ فَلَا يَكُونُ الْكَسَادُ هَلَاكًا بَلْ يَكُونُ عَيْبًا فيها فَيُوجِبُ الْخِيَارَ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَةَ الْفُلُوسِ كما إذَا كان الثمر ( ( ( الثمن ) ) ) رُطَبًا فَانْقَطَعَ قبل الْقَبْضِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفُلُوسَ بِالْكَسَادِ خَرَجَتْ عن كَوْنِهَا ثَمَنًا لِأَنَّ ثَمَنِيَّتَهَا ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ الناس فإذا تَرَكَ الناس التَّعَامُلَ بها عَدَدًا فَقَدْ زَالَ عنها صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ وَلَا بَيْعَ بِلَا ثَمَنٍ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً وَلَوْ لم تَكْسُدْ وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ قِيمَتُهَا أو غَلَتْ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا عَدَدًا وَلَا يَلْتَفِتُ إلَى الْقِيمَةِ هَهُنَا لِأَنَّ الرُّخْصَ أو الْغَلَاءَ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الثَّمَنِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ قد تَرْخُصُ وقد تَغْلُو وَهِيَ على حَالِهَا أَثْمَانٌ ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا في وَقْتِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَاعْتَبَرَ أبو يُوسُفَ وَقْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ وَقْتُ وُجُوبِ الثَّمَنِ وَاعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ وَقْتَ الْكَسَادِ وهو آخِرُ يَوْمٍ تَرَكَ الناس التَّعَامُلَ بها لِأَنَّهُ وَقْتُ الْعَجْزِ عن التَّسْلِيمِ وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فُلُوسًا نَافِقَةً وَقَبَضَهَا فَكَسَدَتْ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ ما قَبَضَ من الْفُلُوسِ عَدَدًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه قِيمَتُهَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَبْضِ الْقَرْضِ رَدُّ مِثْلِ الْمَقْبُوضِ وَبِالْكَسَادِ عَجْزٌ عن رَدِّ الْمِثْلِ لِخُرُوجِهَا عن رَدِّ الثَّمَنِيَّةِ وَصَيْرُورَتِهَا سِلْعَةً فَيَجِبُ عليه قِيمَتُهَا كما لو اسْتَقْرَضَ شيئا من ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَقَبَضَهُ ثُمَّ انْقَطَعَ عن أَيْدِي الناس
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ أَثَرَ الْكَسَادِ في بُطْلَانِ الثَّمَنِيَّةِ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الرَّدِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو اسْتَقْرَضَهَا بَعْدَ الْكَسَادِ جَازَ ثُمَّ اخْتَلَفَا في وَقْتِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ على ما ذَكَرْنَا وَلَوْ لم تَكْسُدْ وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ أو غَلَتْ فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِ ما قَبَضَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ بَاقِيَةٌ
وَلَوْ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْفُلُوسُ من يَدِهِ وَأَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ على قَبْضِ الدَّرَاهِمِ دُونَ الْفُلُوسِ
وَهَذَا لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْعَقْدِ

____________________

(5/242)


وَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَهَا
وَكَذَلِكَ إنْ اُسْتُحِقَّ بَعْضُهَا وَأَخَذَ قَدْرَ الْمُسْتَحَقِّ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِمَا قُلْنَا وَعَلَى بَائِعِ الْفُلُوسِ أَنْ يَنْقُدَ مِثْلَ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ
وَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْفُلُوسَ من الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِيمَا لَا يَتَضَمَّنُ يَكْفِي لِبَقَاءِ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ وقد وُجِدَ قَبْضُ أَحَدِهِمَا وهو الدَّرَاهِمُ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْفُلُوسَ ولم يَنْقُدْ الدَّرَاهِمَ وَافْتَرَقَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الْفُلُوسُ فَالْمُسْتَحِقُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ نَقْدَ الْبَائِعِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةِ الْعَقْدِ فَجَازَ النَّقْدُ وَالْعَقْدُ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَحِقُّ على بَائِعِ الْفُلُوسِ بِمِثْلِهَا وَيَنْقُدُ الْمُشْتَرِي بالدراهم ( ( ( الدراهم ) ) ) لِبَائِعِ الْفُلُوسِ وَإِنْ شَاءَ لم يُجِزْ وَأَخَذَ الْفُلُوسَ وَبَطَلَ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ لَمَّا يُجِزْ وَأَخَذَ الْفُلُوسَ فَقَدْ انْتَقَضَ الْقَبْضُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ افْتِرَاقَهُمَا حَصَلَ لَا عن قَبْضٍ أَصْلًا فَبَطَلَ الْعَقْدُ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْفُلُوسِ فَحُكْمُ الْبَعْضِ كَحُكْمِ الْكُلِّ وقد ذَكَرْنَاهُ وَلَوْ وَجَدَ الْفُلُوسَ كَاسِدَةً لَا تَرُوجُ بَطَلَ الْعَقْدُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُمَا افترقا ( ( ( تفرقا ) ) ) من غَيْرِ قَبْضٍ وَإِنْ وَجَدَهَا تَرُوجُ في بَعْضِ التِّجَارَةِ وَلَا تَرُوجُ في الْبَعْضِ أو يَأْخُذُهَا الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الدَّرَاهِمِ الزَّائِفَةِ إنْ تَجَوَّزَ بها الْمُشْتَرِي جَازَ لِأَنَّهَا من جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَإِنْ لم يَتَجَوَّزْ بها فَالْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ الْعَقْدُ في الْمَرْدُودِ قَلَّ أو كَثُرَ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ لم يَسْتَبْدِلْ في مَجْلِسِ الرَّدِّ يَبْطُلُ وَإِنْ اسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إنْ كان قَلِيلًا فَاسْتَبْدَلَ لَا يَبْطُلُ وَإِنْ كان كَثِيرًا يَبْطُلُ على ما ذَكَرْنَا في السَّلَمِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ صِفَة الْحُكْمِ فَلَهُ صِفَتَانِ إحْدَاهُمَا اللُّزُومُ حتى لَا يَنْفَرِدَ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ بِالْفَسْخِ سَوَاءٌ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ أو قَبْلَهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ عن الْمَجْلِسِ وقد ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فيه من الْجَانِبَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَالثَّانِيَةُ الْحُلُولُ وهو ثُبُوتَ الْمِلْكِ في الْبَدَلَيْنِ في الْحَالِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَيَمْنَعُ وُقُوعَهُ تَمْلِيكًا لِلْحَالِ وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فإن ثُبُوتَ الْمِلْكِ فيه مَوْقُوفٌ على الْقَبْضِ فَيَصِيرُ تَمْلِيكًا عِنْدَهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ التي هِيَ من التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ لِلْبَيْعِ
فَمِنْهَا وُجُوبُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في مَوَاضِعَ
أَحَدُهَا في بَيَانِ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الْبَدَلَيْنِ وما هو من تَوَابِعِ تَسْلِيمِهِمَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ وَقْتِ وُجُوبِ تَسْلِيمِهِمَا
وَالثَّالِثُ في تَفْسِيرِ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ
وَالرَّابِعُ في بَيَانِ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ من التَّصَرُّفَاتِ وما لَا يَصِيرُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْبَدَلَيْنِ وَاجِبٌ على الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْعَقْدَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ في الْبَدَلَيْنِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمِلْكَ ما ثَبَتَ لِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ وَسِيلَةً إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ وَلَا يَتَهَيَّأُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَكَانَ إيجَابُ الْمِلْكِ في الْبَدَلَيْنِ شَرْعًا إيجَابًا لِتَسْلِيمِهِمَا ضَرُورَةً وَلِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُبَادَلَةٍ وهو مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ وَحَقِيقَةُ الْمُبَادَلَةِ في التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ لِأَنَّهَا أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وَإِنَّمَا قَوْلُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ جعلا ( ( ( جعل ) ) ) دَلِيلًا عَلَيْهِمَا وَلِهَذَا كان التَّعَاطِي بَيْعًا عِنْدَنَا على ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ وَالْعَدَّادِ وَالذِّرَاعِ في بَيْعِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ وَالْمَذْرُوعِ مُكَايَلَةً وَمُوَازَنَةً وَمُعَادَدَةً وَمُذَارَعَةً أنها على الْبَائِعِ أَمَّا أُجْرَةُ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ فَلِأَنَّهَا من مُؤْنَاتِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِيمَا بيع ( ( ( يباع ) ) ) مُكَايَلَةً وَمُوَازَنَةً من تَمَامِ التَّسْلِيمِ على ما نَذْكُرُ
وَالتَّسْلِيمُ على الْبَائِعِ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ التَّسْلِيمِ عليه وَالْعَدَدُ في الْمَعْدُودِ الذي بِيعَ عَدَدًا بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ في الكيل ( ( ( المكيل ) ) ) وَالْمَوْزُونِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَكَانَ من تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَكَانَتْ على من عليه التَّسْلِيمُ
وَعِنْدَهُمَا هو من بَابِ تَأْكِيدِ التَّسْلِيمِ فَكَانَ من تَوَابِعِهِ كَالذَّرْعِ فِيمَا بِيعَ مُذَارَعَةً فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ على من عليه التَّسْلِيمُ وهو الْبَائِعُ وَكَذَا أُجْرَةُ وَزَّانِ الثَّمَنِ على الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا أُجْرَةُ نَاقِدِ الثَّمَنِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فيه رِوَايَتَانِ رَوَى إبْرَاهِيمُ بن رُسْتُمَ عنه أنها على البايع لِأَنَّ حَقَّهُ في الْجَيِّدِ وَالنَّقْدُ لِتَمْيِيزِ حَقِّهِ فَكَانَتْ مُؤْنَتُهُ عليه
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عنه أَنَّ البايع إنْ كان لم يَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عليه تَسْلِيمَ ثَمَنٍ جَيِّدٍ فَكَانَتْ مُؤْنَةُ تَسْلِيمِهِ عليه وَلَوْ كان قد قَبَضَهَا فَعَلَى البايع لِأَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ ظَاهِرًا فَإِنَّمَا يَطْلُبُ بِالنَّقْدِ إذَا أَدَّى فَكَانَ النَّاقِدُ عَامِلًا له فَكَانَتْ أُجْرَةُ عَمَلِهِ عليه
وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ الْوُجُوبِ فَالْوُجُوبُ على التَّوَسُّعِ ثَبَتَ عَقِيبَ==

ج16. بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587

العقل ( ( ( العقد ) ) ) بِلَا فَصْلٍ وَأَمَّا على التَّضْيِيقِ فَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَجَبَ تَسْلِيمُهُمَا مَعًا إذَا طَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالتَّسْلِيمِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسَاوَاةَ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَطْلُوبَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَادَةً وَتَحْقِيقُ التَّسَاوِي هَهُنَا في التَّسْلِيمِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى من الْآخَرِ وَكَذَلِكَ إنْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ يراعي فيه التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا فَيَجِبُ على الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الثَّمَنِ أَوَّلًا إذَا طَالَبَهُ البايع ثُمَّ يَجِبُ على البايع تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إذَا طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَحْقِيقَ التَّسَاوِي فيه على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ فَالتَّسْلِيمُ وَالْقَبْضُ عِنْدَنَا هو التَّخْلِيَةُ وَالتَّخَلِّي وهو أَنْ يُخَلِّيَ البايع بين الْمَبِيعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي بِرَفْعِ الْحَائِلِ بَيْنَهُمَا على وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي من التَّصَرُّفِ فيه فَيُجْعَلُ البايع مُسَلِّمًا لِلْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي قَابِضًا له
وَكَذَا تَسْلِيمُ الثَّمَنِ من الْمُشْتَرِي إلَى البايع
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَبْضُ في الدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالشَّجَرِ بِالتَّخْلِيَةِ
وَأَمَّا في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَتَنَاوُلُهُمَا بِالْبَرَاجِمِ وفي الثِّيَابِ بِالنَّقْلِ
وَكَذَا في الطَّعَامِ إذَا اشْتَرَاهُ مُجَازَفَةً فإذا اشْتَرَاهُ مُكَايَلَةً فَبِالْكَيْلِ وفي الْعَبْدِ وَالْبَهِيمَةِ بِالسَّيْرِ من مَكَانِهِ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ في الْقَبْضِ هو الْأَخْذُ بِالْبَرَاجِمِ لِأَنَّهُ الْقَبْضُ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْأَخْذَ بِالْبَرَاجِمِ أُقِيمَ النَّقْلُ مَقَامَهُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُهُ أُقِيمَ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ
وَلَنَا أَنَّ التَّسْلِيمَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا يُقَالُ سَلَّمَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ أَيْ خَلَّصَ له وقال اللَّهُ تَعَالَى { وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ } أَيْ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُشْرِكُهُ فيه أَحَدٌ فَتَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي هو جَعْلُ الْمَبِيعِ سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي أَيْ خَالِصًا بِحَيْثُ لَا يُنَازِعُهُ فيه غَيْرُهُ وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا من الْبَائِعِ وَالتَّخَلِّي قَبْضًا من الْمُشْتَرِي وَكَذَا هذا في تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ وَاجِبٌ وَمَنْ عليه الْوَاجِبُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ له سَبِيلُ الْخُرُوجِ عن عُهْدَةِ ما وَجَبَ عليه وَاَلَّذِي في وُسْعِهِ هو التَّخْلِيَةُ وَرَفْعُ الْمَوَانِعِ فَأَمَّا الأقباض فَلَيْسَ في وُسْعِهِ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِالْبَرَاجِمِ فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ لِلْقَابِضِ فَلَوْ تَعَلَّقَ وُجُوبُ التَّسْلِيمِ بِهِ لَتَعَذَّرَ عليه الْوَفَاءُ بِالْوَاجِبِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ في سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَاخْتَلَفُوا في أنها هل هِيَ قَبْضٌ تَامٌّ فيها أَمْ لَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا له مِثْلٌ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا مِثْلَ له فَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له من الْمَذْرُوعَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ فَالتَّخْلِيَةُ فيها قَبْضٌ تَامٌّ بِلَا خِلَافٍ حتى لو اشْتَرَى مَذْرُوعًا مُذَارَعَةً أو مَعْدُودًا مُعَادَدَةً وَوُجِدَتْ التَّخْلِيَةُ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قبل الذَّرْعِ وَالْعَدِّ بِلَا خِلَافٍ
وَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ فَإِنْ بَاعَهُ مُجَازَفَةً فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَةُ الْقَدْرِ في بَيْعِ الْمُجَازَفَةِ
وَإِنْ بَاعَ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَخَلَّى فَلَا خِلَافَ في أَنَّ الْمَبِيعَ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ البايع وَيَدْخُلُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي حتى لو هَلَكَ بَعْدَ التَّخْلِيَةِ قبل الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ يُمْلَكُ على الْمُشْتَرِي وَكَذَا لَا خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي بَيْعُهُ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ قبل الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ
وَكَذَا لو اكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي أو اتَّزَنَهُ من بَائِعِهِ ثُمَّ بَاعَهُ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً من غَيْرِهِ لم يَحِلَّ لمشتري ( ( ( للمشتري ) ) ) منه أَنْ يَبِيعَهُ أو ينتفع ( ( ( يمتنع ) ) ) بِهِ حتى يَكِيلَهُ أو يَزِنَهُ وَلَا يكتفي بِاكْتِيَالِ البايع أو اتِّزَانِهِ من بَائِعِهِ وَإِنْ كان ذلك بِحَضْرَةِ هذا الْمُشْتَرِي لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يجري فيه صَاعَانِ صَاعُ البايع وَصَاعُ الْمُشْتَرِي وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يُكَالَ لَكِنْ اخْتَلَفُوا في أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ قبل الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ لِانْعِدَامِ الْقَبْضِ بِانْعِدَامِ الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ أو شَرْعًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى مع حُصُولِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ بِالتَّخْلِيَةِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنه ( ( ( إنها ) ) ) تَثْبُتُ شَرْعًا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى
وقال بَعْضُهُمْ الْحُرْمَةُ لِمَكَانِ انْعِدَامِ الْقَبْضِ على التَّمَامِ بِالْكَيْلِ أو الْوَزْنِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بِدُونِ قَبْضِهِ أَصْلًا لَا يَجُوزُ بِدُونِ قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ لِأَنَّ المشتري يَصِيرُ سَالِمًا خَالِصًا لِلْمُشْتَرِي على وَجْهٍ يَتَهَيَّأُ له تَقْلِيبُهُ وَالتَّصَرُّفُ فيه على حَسَبِ مَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَلِهَذَا كانت التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا وَقَبْضًا فِيمَا لَا مِثْلَ له وَفِيمَا له مِثْلٌ إذَا بِيعَ مُجَازَفَةً وَلِهَذَا يَدْخُلُ الْمَبِيعُ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا بِلَا خِلَافٍ دَلَّ أَنَّ التَّخْلِيَةَ قَبْضٌ إلَّا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ مع وُجُودِ الْقَبْضِ بِتَمَامِهِ ثَبَتَ تَعَبُّدَا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِينَ تَعْلِيلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذه الْمَسْأَلَةِ في كِتَابِ الْبُيُوعِ فإنه قال وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه قبل الْكَيْلِ لِأَنَّهُ بَاعَهُ قبل
____________________

(5/244)


أَنْ يَقْبِضَهُ ولم يُرِدْ بِهِ أَصْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَمَامَ الْقَبْضِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الذي بِيعَ مُكَايَلَةً وَمُوَازَنَةً من تَمَامِ الْقَبْضِ أَنَّ الْقَدْرَ في الْمَكِيلِ الموزون ( ( ( والموزون ) ) ) مَعْقُودٌ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كِيلَ فَازْدَادَ لَا تَطِيبُ له الزِّيَادَةُ بَلْ تُرَدُّ أو يُفْرَضُ لها ثَمَنٌ وَلَوْ نَقَصَ يُطْرَحُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَلَا يُعْرَفُ الْقَدْرُ فِيهِمَا إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَبْضُ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَكَانَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فيه من تَمَامِ الْقَبْضِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل قَبْضِهِ بِتَمَامِهِ كما لَا يَجُوزُ قبل قَبْضِهِ أَصْلًا وَرَأْسًا بِخِلَافِ الْمَذْرُوعَاتِ لِأَنَّ الْقَدْرَ فيها ليس مَعْقُودًا عليه بَلْ هو جَارٍ مَجْرَى الْوَصْفِ وَالْأَوْصَافُ لَا تَكُونُ مَعْقُودًا عليها وَلِهَذَا سَلِمَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي بِلَا ثَمَنٍ وفي النُّقْصَانِ لَا يَسْقُطُ عنه شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فيها قَبْضًا تَامًّا فيكتفي بها في جَوَازِ التَّصَرُّفِ قبل الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ على ما بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ بِالتَّخْلِيَةِ نَفْسِهَا لِوُجُودِ الْقَبْضِ بِأَصْلِهِ وَالْخُرُوجُ عن ضَمَانِ الْبَائِعِ يَتَعَلَّقُ بِأَصْلِ الْقَبْضِ لَا بِوَصْفِ الْكَمَالِ فَأَمَّا جَوَازُ التَّصَرُّفِ فيه فَيَسْتَدْعِي قَبْضًا كَامِلًا لِوُرُودِ النَّهْيِ عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ وَالْقَبْضُ الْمُطْلَقُ هو الْقَبْضُ الْكَامِلُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا العدودات ( ( ( المعدودات ) ) ) الْمُتَقَارِبَةُ إذَا بِيعَتْ عَدَدًا لَا جُزَافًا فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى لَا يَجُوزَ بَيْعُهَا إلَّا بَعْدَ الْعَدِّ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَذْرُوعَاتِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قبل الْعَدِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَدِيَّ ليس من أَمْوَالِ الرِّبَا كَالذَّرْعِ وَلِهَذَا لم تَكُنْ الْمُسَاوَاةُ فيها شَرْطًا لِجَوَازِ الْعَقْدِ كما لَا تُشْتَرَطُ في الْمَذْرُوعَاتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمَذْرُوعِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَدْرَ في الْمَعْدُودِ مَعْقُودٌ عليه كَالْقَدْرِ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو عَدَّهُ فَوَجَدَهُ زَائِدًا لَا تَطِيبُ الزِّيَادَةُ له بِلَا ثَمَنٍ بَلْ يَرُدُّهَا أو يَأْخُذُهَا بِثَمَنِهَا وَلَوْ وَجَدَهُ نَاقِصًا يَرْجِعُ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ كما في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ دَلَّ أَنَّ الْقَدْرَ فيه مَعْقُودٌ عليه وَاحْتِمَالُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ في عَدَدِ الْمَبِيعِ ثَابِتٌ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه وَامْتِيَازِهِ من غَيْرِهِ وَلَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ إلَّا بِالْعَدِّ فَأَشْبَهَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ وَلِهَذَا كان الْعَدُّ فيه بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ في ضَمَانِ العدوان ( ( ( العد ) ) ) إلا أنه لم يَجُزْ فيه الرِّبَا لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بين وَاحِدٍ وَوَاحِدٍ في الْعَدِّ ثَبَتَتْ بِاصْطِلَاحِ الناس وَإِهْدَارِهِمْ التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ لَكِنْ ما ثَبَتَ بإصطلاح الناس جَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِاصْطِلَاحِهِمْ وَلَمَّا تَبَايَعَا وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ فَقَدْ أَهْدَرَا اصْطِلَاحَ الْإِهْدَارِ وَاعْتَبَرَا الْكِبَرَ لأنها ( ( ( لأنهما ) ) ) قصد ( ( ( قصدا ) ) ) الْبَيْعَ الصَّحِيحَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْكِبَرِ وَسُقُوطِ الْعَدِّ فَكَانَ أَحَدُهُمَا من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِمُقَابَلَةِ الْكَبِيرِ من الْجَانِبِ الْآخَرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا
أَمَّا هَهُنَا فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعَدِّ إذَا بِيعَ عَدَدًا وإذا اُعْتُبِرَ الْعَدُّ لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبل الْقَبْضِ كما في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِخِلَافِ الْمَذْرُوعِ فإن الْقَدْرَ فيه ليس بِمَعْقُودٍ عليه على ما بَيَّنَّا فَكَانَتْ التَّخْلِيَةُ فيه قَبْضًا تَامًّا فَكَانَ تَصَرُّفًا في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ بَعْدَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ كَالَهُ الْبَائِعُ أو وَزَنَهُ بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي كان ذلك كَافِيًا وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الْكَيْلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِكَيْلِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً بِحَضْرَةِ الْمُشْتَرِي وما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن بَيْعِ الطَّعَامِ حتى يجر ( ( ( يجري ) ) ) فيه صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي مَحْمُولٌ على مَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ وهو ما إذَا اشْتَرَى مَكِيلًا مُكَايَلَةً فَاكْتَالَهُ ثُمَّ بَاعَهُ من غَيْرِهِ مُكَايَلَةً لم يَجُزْ لِهَذَا الْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ فيه حتى يَكِيلَهُ وَإِنْ كان هو حَاضِرًا عِنْدَ اكْتِيَالِ بَائِعِهِ فَلَا يكتفي بِذَلِكَ
وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ في حِنْطَةٍ فلما حَلَّ الْأَجَلُ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ قَدْرَ الْمُسْلَمِ فيه من رَجُلٍ مُكَايَلَةً وَأَمَرَ رَبَّ السَّلَمِ بِاقْتِضَائِهِ فإنه لَا يَجُوزُ له التَّصَرُّفُ فيه ما لم يَكِلْهُ مَرَّتَيْنِ مَرَّةً لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمَرَّةً لِنَفْسِهِ بِالنَّصِّ وَلَوْ كان مَكَانَ السَّلَمِ قَرْضٌ بِأَنْ اسْتَقْرَضَ الْمُسْتَقْرِضُ كُرًّا من إنْسَانٍ وَأَمَرَ الْمُقْرِضَ بِقَبْضِ الْكُرِّ فإنه يكتفي فيه بِكَيْلٍ وَاحِدٍ لِلْمُشْتَرِي وَالْمُسْتَقْرِضِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ فِيمَا عُقِدَ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرْطُ جَوَازِ التَّصَرُّفِ فِيهِمَا لِأَنَّهُ من تَمَامِ الْقَبْضِ على ما بَيَّنَّا وَالسَّلَمُ عَقْدٌ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَا بُدَّ من أَنْ يَكِيلَ رَبُّ السَّلَمِ أَوَّلًا لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيَصِيرَ قَابِضًا له فجعل ( ( ( فيجعل ) ) ) كَأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ من الْبَائِعِ ثُمَّ يَكِيلُ لِنَفْسِهِ من الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَأَمَّا قَبْضُ بَدَلِ الْقَرْضِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فيه لِأَنَّ
____________________

(5/245)


الْقَبْضَ بِالْكَيْلِ في بَابِ الْبَيْعِ لِانْدِفَاعِ جَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عليه بِتَمَيُّزِ حَقِّ الْمُشْتَرِي عن حَقِّ الْبَائِعِ وَالْقَرْضُ يَقْبَلُ نَوْعَ جَهَالَةٍ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْقَبْضُ وَلِأَنَّ الْإِقْرَاضَ إعَارَةٌ عِنْدَنَا فَالْمَقْبُولُ من بَدَلِ الْقَرْضِ كَأَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ فَصَارَ كما لو أَعَارَ عَيْنًا ثُمَّ اسْتَرَدَّهَا فَيَصِحُّ قَبْضُهُ بِدُونِ الْكَيْلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ كَيْلٌ وَاحِدٌ لِلْمُشْتَرِي لَا غير وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَصِيرُ بِهِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِلْمَبِيعِ من التَّصَرُّفَاتِ وما لَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ فَأَتْلَفَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا له لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ فَبِالْإِتْلَافِ أَوْلَى لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ تَمْكِينٌ من التَّصَرُّفِ في الْمَبِيعِ وَالْإِتْلَافُ تَصَرُّفٌ فيه حَقِيقَةً وَالتَّمْكِينُ من التَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ التَّصَرُّفِ
وَكَذَلِكَ لو قَطَعَ يَدَهُ أو شَجَّ رَأْسَهُ وَكُلُّ تَصَرُّفٍ نَقَصَ شيئا لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ في الدَّلَالَةِ على التَّمْكِينِ فَوْقَ التَّخْلِيَةِ ثُمَّ بِالتَّخْلِيَةِ صَارَ قَابِضًا فيها ( ( ( فبها ) ) ) أَوْلَى وَكَذَلِكَ لو فَعَلَ الْبَائِعُ شيئا من ذلك بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إتْلَافٌ حُكْمًا فَيَلْحَقُ بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً وَكَذَا لو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ أَيْ أَقَرَّ أنها أُمُّ وَلَدٍ له لِأَنَّ التَّدْبِيرَ أو الِاسْتِيلَادَ تَنْقِيصٌ حُكْمًا فَكَانَ مُلْحَقًا بِالتَّنْقِيصِ حَقِيقَةً وَلَوْ زَوَّجَ الْمَبِيعَ بِأَنْ كان جَارِيَةً أو عَبْدًا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ التَّزَوُّجَ تَعْيِيبٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ عَيْبٌ يُرَدُّ بها وإذا كانت الزَّوْجِيَّةُ عَيْبًا كان التَّزَوُّجُ تَعْيِيبًا وَالتَّعْيِيبُ قَبْضٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمًا لَا حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ وَلَا نُقْصَانَ الْمِلْكِ فيه فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَكَذَا لو أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَصِيرَ قَابِضًا لِأَنَّ الدَّيْنَ عَيْبٌ حتى يُرَدَّ بِهِ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّهُ تَعْيِيبٌ حُكْمِيٌّ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ النُّقْصَانَ فَلَا يَكُونُ قَبْضًا
وَلَوْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ في يَدِ الْبَائِعِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لِأَنَّ الْوَطْءَ إثْبَاتُ الْيَدِ على الْمَوْطُوءَةِ وَأَنَّهُ حَصَلَ من الزَّوْجِ بِتَسْلِيطِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ من حَيْثُ أنه إثْبَاتُ الْيَدِ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ قَابِضًا من الْمُشْتَرِي
وَلَوْ أَعَارَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ للبايع ( ( ( للبائع ) ) ) أو أَوْدَعَهُ أو آجَرَهُ لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك قَبْضًا لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لم تَصِحَّ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ يَدَ الْحَبْسِ بِطَرِيقِ الإصالة ثَابِتَةٌ للبايع ( ( ( للبائع ) ) ) فَلَا يُتَصَوَّرُ إثْبَاتُ يَدِ النِّيَابَةِ له بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فلم تَصِحَّ وَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ وَلَوْ أَعَارَهُ أو أَوْدَعَهُ أَجْنَبِيًّا صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ إيَّاهُ صَحِيحٌ فَقَدْ أَثْبَتَ يَدَ النِّيَابَةِ لِغَيْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا
وَلَوْ أَرْسَلَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ الْمَبِيعَ إلَى حَاجَةٍ صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ إرْسَالَهُ في الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالٌ له بِدَلِيلِ أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِهِ وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ إثْبَاتُ يَدِهِ عليه وهو مَعْنَى الْقَبْضِ
وَلَوْ جَنَى أَجْنَبِيٌّ على الْمَبِيعِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ كان اخْتِيَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ حتى لو تَوَى الضَّمَانُ على الْجَانِي بِأَنْ مَاتَ مُفْلِسًا كان التَّوَى على الْمُشْتَرِي وَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَيَتَقَرَّرُ عليه الثَّمَنُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالتَّوَى على البايع وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي
وَكَذَا لو اسْتَبْدَلَ الْمُشْتَرِي الضَّمَانَ لِيَأْخُذَ مَكَانَهُ من الْجَانِي شيئا آخَرَ جَازَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وعن ( ( ( وعند ) ) ) مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هذا تَصَرُّفٌ في المعقود ( ( ( العقود ) ) ) عليه قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْعَيْنِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَالتَّصَرُّفُ في الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لَا من البايع وَلَا من غَيْرِهِ
وَكَذَا الْمَبِيعُ إذَا كان مَصُوغًا من فِضَّةٍ اشْتَرَاهَا بِدِينَارٍ فَاسْتَهْلَكَ الْمَصُوغَ أَجْنَبِيٌّ قبل الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِيَ بِالضَّمَانِ وَنَقَدَ الدِّينَارَ البايع فَافْتَرَقَا قبل قَبْضِ ضَمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ اخْتِيَارَهُ تَضْمِينَ الْمُسْتَهْلِكِ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْطُلُ الصَّرْفُ لِعَدَمِ الْقَبْضِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الضَّمَانَ حُكْمُ الْعَيْنِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْعَيْنِ قَائِمَةٌ مَقَامَهَا وَلِهَذَا بَقِيَ الْعَقْدُ على الْقِيمَةِ بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ ثُمَّ الْعَيْنُ لو كانت قَائِمَةً فَهَلَكَتْ قبل الْقَبْضِ كان الْهَلَاكُ على البايع وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي فَكَذَا الْقِيمَةُ وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ جِنَايَةَ الْأَجْنَبِيِّ حَصَلَتْ بِإِذْنِ الْمُشْتَرِي وَأَمْرِهِ دَلَالَةً فَيَصِيرُ قَابِضًا كما لو فَعَلَ بِنَفْسِهِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُشْتَرِي اتِّبَاعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ تَمْلِيكٌ من الْمَضْمُونِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ بِاخْتِيَارِ الضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ سَبَبِ الضَّمَانِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَيَصِيرُ
____________________

(5/246)


قَابِضًا لِأَنَّ فِعْلَ الْأَجْنَبِيِّ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ
وَلَوْ أَمَرَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَنْ يَعْمَلَ في الْمَبِيعِ عَمَلًا فَإِنْ كان عَمَلًا لَا يُنْقِصُهُ كَالْقِصَارَةِ وَالْغَسْلِ بِأَجْرٍ أو بِغَيْرِ أَجْرٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الذي لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْمَحَلِّ مِمَّا يَمْلِكُهُ الْبَائِعُ بِالْيَدِ الثَّابِتَةِ كما إذَا نَقَلَهُ من مَكَان إلَى مَكَان فَكَانَ الْأَمْرُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِمِلْكِ الْيَدِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا وَتَجِبُ الْأُجْرَةُ على الْمُشْتَرِي إنْ كان بِأَجْرٍ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قد صَحَّتْ لِأَنَّ الْعَمَلَ على الْبَائِعِ ليس بِوَاجِبٍ فَجَازَ أَنْ تُقَابِلَهُ الْأُجْرَةُ وَإِنْ كان عَمَلًا يُنْقِصُهُ يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ تَنْقِيصَهُ إتْلَافُ جُزْءٍ منه وقد حَصَلَ بِأَمْرِهِ فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ كَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَسْلَمَ في كُرِّ حِنْطَةٍ فلما حَلَّ الْأَجَلُ أَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ في غَرَائِرِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ أَنَّهُ إنْ كان رَبُّ السَّلَمِ حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخْلِيَةِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ التي يَكِيلُهَا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِلْكُهُ لَا مِلْكُ رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ حَقَّهُ في الدَّيْنِ لَا في الْعَيْنِ فلم يَصِحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي إيَّاهُ بِكَيْلِهَا فلم يَصِرْ وَكِيلًا له فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ سَوَاءٌ كانت الْغَرَائِرُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو لِرَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ يَدَ رَبِّ السَّلَمِ عن الْغَرَائِرِ قد زَالَتْ فإذا كَالَ فيها الْحِنْطَةُ لم تَصِرْ في يَدِ رَبِّ السَّلَمِ فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا وَكَذَا لو اسْتَقْرَضَ من رَجُلٍ كُرًّا وَدَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ لِيَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ وهو غَائِبٌ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يُمْلَكُ قبل الْقَبْضِ فَكَانَ الْكُرُّ على مِلْكِ الْمُقْرِضِ فلم يَصِحَّ أَمْرُ الْمُسْتَقْرِضِ إيَّاهُ بِكَيْلِهِ فَلَا يَصِيرُ وَكِيلًا له فَلَا تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ الْمُسْتَقْرِضِ كما في السَّلَمِ
وَلَوْ اشْتَرَى من إنْسَانٍ كُرًّا بِعَيْنِهِ وَدَفَعَ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَ فيها فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مُعَيَّنٌ وقد مَلَكَهُ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَحَّ أَمْرُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَنَاوَلَ عَيْنًا هو مِلْكُهُ فَصَحَّ أَمْرُهُ وَصَارَ البايع وَكِيلًا له وَصَارَتْ يَدُهُ يَدَ الْمُشْتَرِي وَكَذَلِكَ الطَّحْنُ إذَا طَحَنَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِأَمْرِ رَبِّ السَّلَمِ لم يَصِرْ قَابِضًا
وَلَوْ طَحَنَهُ الْبَائِعُ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي صَارَ قَابِضًا لِأَنَّ الطَّحْنَ بِمَنْزِلَةِ الْكَيْلِ في الْغَرَائِرِ
وَلَوْ اسْتَعَارَ الْمُشْتَرِي من الْبَائِعِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَكِيلَهُ فيها فَفَعَلَ فَإِنْ كان الْمُشْتَرِي حَاضِرًا يَصِيرُ قَابِضًا بِالتَّخَلِّي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَصِيرُ قَابِضًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ ما لم يُسَلِّمْ الْغَرَائِرَ إلَيْهِ سَوَاءٌ كانت الْغَرَائِرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا أو بِعَيْنِهَا
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كانت بِعَيْنِهَا صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِنَفْسِ الْكَيْلِ فيها وَإِنْ كانت بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِأَنْ قال أَعِرْنِي غِرَارَةً وَكِلْ فيها لَا يَصِيرُ قَابِضًا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْغَرَائِرَ عَارِيَّةٌ في الْوَجْهَيْنِ جميعا ولم يَقْبِضْهَا وَالْعَارِيَّةُ لَا حُكْمَ لها بِدُونِ الْقَبْضِ فَبَقِيَتْ في يَدِ الْبَائِعِ فَبَقِيَ ما فيها في يَدِ البايع أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ في يَدِ الْمُشْتَرِي قَابِضًا إلَّا بِتَسْلِيمِ الْغَرَائِرِ إلَيْهِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ الْفَرْقُ بين حَالَةِ التَّعْيِينِ وَعَدَمِ التَّعْيِينِ وهو أَنَّ الْغَرَائِرَ إذَا كانت مُعَيَّنَةً مُشَارًا إلَيْهَا فَإِنْ لم يُمْكِنْ تَصْحِيحُ التَّعْيِينِ من حَيْثُ كَوْنِهِ اسْتِعَارَةً يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ من حَيْثُ إقَامَتِهَا مَقَامَ يَدِهِ وإذا لم تَكُنْ مُتَعَيَّنَةٌ فَلَا وَجْهَ لِلْإِعَارَةِ بِوَجْهٍ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ أَظْهَرُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى كُرًّا بِعَيْنِهِ وَلَهُ على البايع كُرُّ دَيْنٍ فَأَعْطَاهُ جَوْلَقًا وقال له كِلْهُمَا فيه فَفَعَلَ صَارَ قَابِضًا لَهُمَا سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ أَوَّلًا أو الدَّيْنُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان الْمَبِيعُ أَوَّلًا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُمَا كما قال أبو يُوسُفَ وَإِنْ كان الدَّيْنُ أَوَّلًا لم يَصِرْ قَابِضًا لِلدَّيْنِ وكان قَابِضًا لِلْعَيْنِ وَكَانَا شركين ( ( ( شريكين ) ) ) فيه
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن نَفْسَ الْكَيْلِ في الدَّيْنِ ليس بِقَبْضٍ لِمَا ذَكَرْنَا فإذا بَدَأَ بِكَيْلِهِ لم يَصِرْ الْمُشْتَرِي قَابِضًا له فإذا كَالَهُ بَعْدَهُ فَقَدْ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَيَشْتَرِكَانِ في الْمَخْلُوطِ وَنَفْسُ الْكَيْلِ في الْعَيْنِ قَبْضٌ فإذا بَدَأَ بِكَيْلِهِ صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا له ثُمَّ إذَا كان ( ( ( كال ) ) ) الدَّيْنَ بَعْدَهُ فَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْعَيْنَ بِالْخَلْطِ فَقَامَ ذلك الدَّيْنُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَ قَابِضًا له
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْبَائِعَ خَلَطَ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِ نَفْسِهِ في الْحَالِ بِأَمْرِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ مُضَافًا إلَى الْمُشْتَرِي وَالْخَلْطُ من أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ في الْجُمْلَةِ فَيَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الدَّيْنَ بِالْخَلْطِ وقد جَعَلَهُ في غَرَائِرِهِ بِأَمْرِهِ فَصَارَ قَابِضًا له وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ بَاعَ قُطْنًا في فِرَاشٍ أو حِنْطَةً في سُنْبُلٍ وسلم كَذَلِكَ فَإِنْ أَمْكَنَ الْمُشْتَرِيَ قَبْضُ الْقُطْنِ أو الْحِنْطَةِ من غَيْرِ فَتْقِ الْفِرَاشِ أو دَقُّ السُّنْبُلِ صَارَ قَابِضًا له لِحُصُولِ مَعْنَى الْقَبْضِ وهو التَّخَلِّي وَالتَّمَكُّنُ من التَّصَرُّفِ وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ إلَّا بِالْفَتْقِ وَالدَّقِّ لم يَصِرْ قَابِضًا له لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْفَتْقَ أو الدَّقَّ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْبَائِعِ وهو لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مِلْكِهِ فلم يَحْصُلْ التَّمَكُّنُ وَالتَّخَلِّي فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا وَلَوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ على الشَّجَرَةِ وسلم كَذَلِكَ صَارَ قَابِضًا لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ الْجِذَاذُ من غَيْرِ تَصَرُّفٍ في مِلْكِ
____________________

(5/247)


الْبَائِعِ فَحَصَلَ التَّخَلِّي بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ قَبْضًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْقُطْنِ في الْفِرَاشِ وَالْحِنْطَةِ في السُّنْبُلِ وَلِهَذَا قالوا إنَّ أُجْرَةَ الْجِذَاذِ على الْمُشْتَرِي وَأُجْرَةَ الْفَتْقِ وَالدَّقِّ على الْبَائِعِ إذَا كان الْمُشْتَرِي لَا يُمْكِنُهُ الْقَبْضُ إلَّا بِهِ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِلثَّمَنِ بِتَسْلِيمِ الشَّجَرِ فَكَانَ الْجَاذُّ عَامِلًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ عليه ولم يَحْصُلْ الْقَبْضُ بِتَسْلِيمِ الْفِرَاشِ وَالسُّنْبُلِ فَكَانَ الْفَتْقُ وَالدَّقُّ على الْبَائِعِ مِمَّا يَتَحَقَّقُ بِهِ التَّسْلِيمُ فَكَانَتْ أُجْرَتُهُ عليه
هذا إذَا كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْبَائِعِ وَقْتَ الْبَيْعِ فَأَمَّا إذَا كان في يَدِ الْمُشْتَرِي فَهَلْ يَصِيرُ قَابِضًا لِلْبَيْعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ أَمْ يَحْتَاجُ فيه إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْمَوْجُودَ وَقْتَ الْعَقْدِ إنْ كان مِثْلَ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ يَنُوبُ مَنَابَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مثله فَإِنْ كان أَقْوَى من الْمُسْتَحَقِّ نَابَ عنه وَإِنْ كان دُونَهُ لَا يَنُوبُ لِأَنَّهُ إذَا كان مثله أَمْكَنَ تَحْقِيقُ التَّنَاوُبِ لِأَنَّ الْمُتَمَاثِلَيْنِ غَيْرَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ وأن كان أَقْوَى منه يُوجَدُ فيه الْمُسْتَحَقُّ وَزِيَادَةٌ وَإِنْ كان دُونَهُ لَا يُوجَدُ فيه إلَّا بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّ فَلَا يَنُوبُ عن كُلِّهِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيها أَنَّ يَدَ الْمُشْتَرِي قبل الشِّرَاءِ إمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ وَإِمَّا إن كانت يَدَ أَمَانَةٍ فَإِنْ كانت يَدَ ضَمَانٍ فَإِمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ وَإِمَّا إن كانت يَدَ ضَمَانٍ بِغَيْرِهِ فَإِنْ كانت يَدَ ضَمَانٍ بِنَفْسِهِ كيدا ( ( ( كيد ) ) ) لغاصب ( ( ( الغاصب ) ) ) يَصِيرُ الْمُشْتَرِي قَابِضًا لمبيع ( ( ( للمبيع ) ) ) بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَجْدِيدِ الْقَبْضِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ وَالْمَبِيعُ بَعْدَ الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فَتَجَانَسَ الْقَبْضَانُ فَنَابَ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ لِأَنَّ التَّجَانُسَ يَقْتَضِي التَّشَابُهَ وَالْمُتَشَابِهَانِ يَنُوبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنَابَ صَاحِبِهِ وَيَسُدُّ مَسَدَهُ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ في الْحَالَيْنِ يَدُ ضَمَانٍ وَإِنْ كان يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ لِغَيْرِهِ كَيَدِ الرَّهْنِ بِأَنْ بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ من الْمُرْتَهِنِ فإنه لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّهْنُ حَاضِرًا أو يَذْهَبَ إلَى حَيْثُ الرَّهْنِ وَيَتَمَكَّنُ من قَبْضِهِ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ ليس بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِغَيْرِهِ وهو الدَّيْنُ وَالْمَبِيعُ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فلم يَتَجَانَسْ الْقَبْضَانُ فلم يَتَشَابَهَا فَلَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ
وَلِأَنَّ الرَّهْنَ أَمَانَةٌ في الْحَقِيقَةِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ أَمَانَةٍ
وَإِنَّمَا يَسْقُطُ الدَّيْنُ بِهَلَاكِهِ لِمَعْنًى آخَرَ لَا لِكَوْنِهِ مَضْمُونًا على ما عُرِفَ
وإذا كان أَمَانَةً فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عن قَبْضِ الضَّمَانِ كَقَبْضِ الْعَارِيَّةِ والوديعة
وَإِنْ كانت يَدُ الْمُشْتَرِي يَدَ أَمَانَةٍ كَيَدِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَضْرَتِهِ أو يَذْهَبُ إلَى حَيْثُ يَتَمَكَّنُ من قَبْضِهِ بِالتَّخَلِّي
لِأَنَّ يَدَ الْأَمَانَةِ لَيْسَتْ من جِنْسِ يَدِ الضَّمَانِ فَلَا يَتَنَاوَبَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في قَبْضِ الْمَبِيعِ فقال الْبَائِعُ قَبَضْتَهُ
وقال الْمُشْتَرِي لم أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ البايع يَدَّعِي عليه وُجُودَ الْقَبْضِ وَتَقَرُّرَ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ وَلِأَنَّ عَدَمَ الْقَبْضِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ الْمُشْتَرِي تمسكا ( ( ( متمسكا ) ) ) بِالْأَصْلِ والبايع ( ( ( والبائع ) ) ) يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَكَذَا إذَا قَبَضَ بَعْضَهُ وَاخْتَلَفَا في قَدْرِ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اخْتَلَفَا في قَبْضِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا في قَبْضِ الْمَبِيعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي قَطَعْتَ يَدَهُ فَصِرْتَ قَابِضًا وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ أنت قَطَعْتَ يَدَهُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ فيه لم يُقْبَلْ قَوْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ وَيُجْعَلُ كأنه ( ( ( كأن ) ) ) يَدَهُ ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِتَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ وَانْعِدَامِ دَلِيلِ التَّرْجِيحِ لِأَحَدِهِمَا فَلَا يَكُونُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا بِالْقَبُولِ على صَاحِبِهِ أَوْلَى من قَوْلِ الْآخَرِ فَلَا يُقْبَلُ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهَا ذَهَبَتْ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ على الْبَائِعِ فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على دَعْوَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ
كَذَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ
أَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَلَا إشْكَالَ فيه لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ لِأَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَكَانَ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا
وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْمُشْتَرِي فَمُشْكِلٌ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ شيئا لِأَنَّهُ يَأْخُذُهُ بَعْدَ الْحَلِفِ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَهَذَا فِيمَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ على الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ بَلْ يَحْلِفُ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لِأَنَّ تَحْلِيفَ الْبَائِعِ لَا يُفِيدُهُ شيئا حَيْثُ يَرُدُّهُ عليه
وَكَذَلِكَ لو كان الْمَبِيعُ مِمَّا يُكَالُ أو يُوزَنُ فَذَهَبَ بَعْضُهُ فَاخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي أنت أَكَلْت وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ مِثْلَ ذلك إنه لَا يُقْبَلُ قَوْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ ذَهَبَ بَعْضُهُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا وَيُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ أ
____________________

(5/248)


خذ الْبَاقِيَ بِمَا بَقِيَ من الثَّمَنِ لِأَنَّ الْقَدْرَ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ مَعْقُودٌ عليه فَكَانَ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ وَالْأَطْرَافُ من الْحَيَوَانِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْأَوْصَافِ فَلَا يُقَابِلُهَا الثَّمَنُ إلَّا إذَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْقَبْضِ أو بِالْجِنَايَةِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَهُنَا أَيْضًا أَنَّهُ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على دَعْوَى صَاحِبِهِ وَيَأْخُذُ وَلَا إشْكَالَ هَهُنَا في تَحْلِيفِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ التَّحْلِيفَ مُفِيدٌ في حَقِّهِ لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه كُلَّ الثَّمَنِ وهو يُنْكِرُ فَيَنْدَفِعُ عنه لُزُومُ كل الثَّمَنِ بِالْحَلِفِ فَكَانَ مُفِيدًا
وَأَمَّا تَحْلِيفُ الْبَائِعِ فَفِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه سُقُوطَ بَعْضِ الثَّمَنِ وَذَا حَاصِلٌ له من غَيْرِ تَحْلِيفِهِ فلم يَكُنْ تَحْلِيفُهُ مُفِيدًا في حَقِّهِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ
وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ على الْبَائِعِ حَلَفَ الْمُشْتَرِي وَحْدَهُ دُونَ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهَا قَامَتْ على أَمْرٍ جَائِزِ الْوُجُودِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ
أَلَا تَرَى أنها تُوجِبُ دُخُولَ السِّلْعَةِ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَتُقَرِّرُ الثَّمَنَ عليه وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي نَافِيَةٌ فَالْمُثْبِتَةُ أَوْلَى
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا ثُبُوتُ حَقِّ الْحَبْسِ لِلْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَوْلٍ يُسَلَّمَانِ مَعًا وفي قَوْلٍ يُسَلَّمُ الْمَبِيعُ أَوَّلًا ثُمَّ يُسَلَّمُ الثَّمَنُ
أَمَّا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَبِنَاءً على أَصْلِهِ الذي ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ من الْأَسْمَاءِ الْمُتَرَادِفَةِ عِنْدَهُ وَيَتَعَيَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ كُلُّ ثَمَنٍ مَبِيعًا وَكُلُّ مبيعا ( ( ( مبيع ) ) ) ثَمَنًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ الثَّانِي وهو أَنَّ في تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ صِيَانَةَ الْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ وَلَيْسَ ذلك في تَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لو هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَإِنْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَكَانَ تَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ أَوْلَى صِيَانَةً لِلْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ ما أَمْكَنَ
وَلَنَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَصَفَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنَ بِكَوْنِهِ مَقْضِيًّا عَامًّا أو مُطْلَقًا فَلَوْ تَأَخَّرَ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ عن تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لم يَكُنْ هذا الدَّيْنُ مَقْضِيًّا وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال ثَلَاثٌ لَا يُؤَخَّرْنَ الْجِنَازَةُ إذَا حَضَرَتْ وَالْأَيِّمُ إذَا وَجَدَتْ لها كفء وَالدَّيْنُ إذَا وَجَدْتَ ما يَقْضِيهِ وَتَقْدِيمُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ تَأْخِيرُ الدَّيْنِ وإنه مَنْفِيٌّ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ مَبْنَاهَا على الْمُسَاوَاةِ عَادَةً وَحَقِيقَةً وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ إلَّا بِتَقْدِيمِ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مُتَعَيِّنٌ قبل التَّسْلِيمِ وَالثَّمَنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ على أَصْلِنَا فَلَا بُدَّ من تَسْلِيمِهِ أَوَّلًا تَحْقِيقًا لِلْمُسَاوَاةِ
وَقَوْلُهُ فِيمَا قُلْتَهُ صِيَانَةٌ لِلْعَقْدِ عن الِانْفِسَاخِ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ
قُلْنَا هَلَاكُهُ قبل تَسْلِيمِ الثَّمَنِ نَادِرٌ وَالنَّادِرُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ فَيَلْزَمُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ ثُمَّ الْكَلَامُ في هذا الْحُكْمِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ شَرْطِ ثُبُوتِ هذا الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ
أَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ عَيْنًا وَالْآخَرُ دَيْنًا فَإِنْ كَانَا عَيْنَيْنِ أو دَيْنَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ بَلْ يُسَلَّمَانِ مَعًا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ حَالًّا فَإِنْ كان مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْحَبْسِ تَثْبُتُ حَقًّا لِلْبَائِعِ لطلبة الْمُسَاوَاةَ عَادَةً لِمَا بَيَّنَّا وَلَمَّا بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَبَطَلَتْ الْوِلَايَةُ
وَلَوْ كان الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا في الْعَقْدِ فلم يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ حتى حَلَّ الْأَجَلُ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ بِالتَّأْجِيلِ وَالسَّاقِطُ متلاشي ( ( ( متلاش ) ) ) فَلَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ
وَكَذَلِكَ لو طَرَأَ الْأَجَلُ على الْعَقْدِ بِأَنْ أُخِّرَ الثَّمَنُ بَعْدَ الْعَقْدِ فلم يَقْبِضْ الْبَائِعُ حتى حَلَّ الْأَجَلُ له أَنْ يَقْبِضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فلم يَقْبِضْ الْمُشْتَرِي حتى حَلَّ الْأَجَلُ هل له أَجَلٌ آخَرُ في الْمُسْتَقْبَلِ
يُنْظَرُ إنْ ذَكَرَا أَجَلًا مُطْلَقًا بِأَنْ ذَكَرَا سَنَةً مُطْلَقَةً غير مُعَيَّنَةٍ فَلَهُ أَجَلٌ آخَرُ هو سَنَةٌ أُخْرَى من حِينِ يَقْبِضُ الْمَبِيعَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الثَّمَنُ حَالٌ وَلَيْسَ له أَجَلٌ آخَرُ
وَإِنْ ذَكَرَا أَجَلًا بِعَيْنِهِ بِأَنْ بَاعَهُ إلَى رَمَضَانَ فلم يَقْبِضْهُ الْمُشْتَرِي حتى مَضَى رَمَضَانُ صَارَ الثَّمَنُ حَالًا بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّنَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى سَنَةٍ تَعْقُبُ الْعَقْدَ بِلَا فَصْلٍ فإذا مَضَتْ انْتَهَى الْأَجَلُ كما لو عُيِّنَ الْأَجَلُ نَصًّا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ في الثَّمَنِ شُرِعَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي لِيَنْتَفِعَ بِالْمَبِيعِ في الْحَالِ مع تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ وَلَنْ يَحْصُلَ هذا الْغَرَضُ له إلَّا وَأَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ الْأَجَلِ من وَقْتِ قَبْضِ الْمَبِيعِ فَكَانَ هذا تَأْجِيلًا من هذا الْوَقْتِ دَلَالَةً بِخِلَافِ ما إذَا عَيَّنَ الْأَجَلَ لِأَنَّهُ نَصَّ على تَعَيُّنِهِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَنْصُوصِ عليه إذْ لَا دَلَالَةَ مع النَّصِّ بِخِلَافِهَا
وَلَوْ كان في الْبَيْعِ خِيَارُ الشَّرْطِ لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا وَالْأَجَلُ مُطْلَقٌ فَابْتِدَاءُ الْأَجَلِ من حِينِ وُجُوبِ الْعَقْدِ
____________________

(5/249)


وهو وَقْتُ سُقُوطِ الْخِيَارِ لَا من حِينِ وُجُودِهِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ هو تَأْخِيرُهُ عن وَقْتِ وُجُوبِهِ وَوَقْتُ وُجُوبِهِ هو وَقْتُ الْعَقْدِ وَانْبِرَامِهِ لَا قَبْلَهُ إذْ لَا وُجُوبَ لِلثَّمَنِ قَبْلَهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْحَبْسِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وما لَا يَبْطُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا أَخَّرَ الثَّمَنَ بَعْدَ الْعَقْدِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ حَقَّ نَفْسِهِ في قَبْضِ الثَّمَنِ فَلَا يَتَأَخَّرُ حَقُّ الْمُشْتَرِي في قَبْضِ الْمَبِيعِ
وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ أو أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عن كُلِّهِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ وَاسْتِيفَاءُ الثَّمَنِ وَلَا ثَمَنَ مُحَالٌ
وَلَوْ نَقَدَ الثَّمَنَ كُلَّهُ إلَّا دِرْهَمًا كان له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ جَمِيعِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ في اسْتِحْقَاقِ الْحَبْسِ بِالثَّمَنِ لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ كُلُّ الْمَبِيعِ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الثَّمَنِ
وَكَذَلِكَ لو بَاعَ شَيْئَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا فَنَقَدَ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ أَحَدِهِمَا كان لِلْبَائِعِ حَبْسُهُمَا حتى يَقْبِضَ حَقَّ الْآخَرِ لِمَا قُلْنَا وَلِأَنَّ قَبْضَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ في حَقِّ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ في حَقِّ الْقَبُولِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْإِيجَابَ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ في حَقِّ الْقَبْضِ أَيْضًا لِأَنَّ القبض ( ( ( للقبض ) ) ) شِبْهًا بِالْعَقْدِ
وَكَذَلِكَ لو أَبْرَأَهُ من حِصَّةِ أَحَدِهِمَا فَلَهُ حَبْسُ الْكُلِّ لِاسْتِيفَاءِ الْبَاقِي لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَلِكَ لو بَاعَ من اثْنَيْنِ فَنَقَدَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ كان له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حتى يَقْبِضَ ما على الْآخَرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا نَقَدَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الثَّمَنِ يَأْخُذُ نِصْفَ الْمَبِيعِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ فإذا أَدَّى النِّصْفَ فَقَدْ أَدَّى ما وَجَبَ عليه فَلَا مَعْنَى لِتَوَقُّفِ حَقِّهِ في قَبْضِ الْمَبِيعِ على أَدَاءِ صَاحِبِهِ وَلِأَنَّهُ لو تَوَقَّفَ وَصَاحِبُهُ مُخْتَارٌ في الْأَدَاءِ قد يُؤَدِّي وقد لَا يُؤَدِّي فَيَفُوتُ حَقُّهُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا جُعِلَ التَّخْلِيَةُ وَالتَّخَلِّي تَسْلِيمًا وَقَبْضًا في الشَّرْعِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ في حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ لِحَبْسِ الثَّمَنِ لَا يَحْتَمِلُ التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ بَعْضِهِ اسْتِحْقَاقَ كُلِّهِ وما ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّفْرِيقَ في الْبَعْضِ كما لَا تَحْتَمِلُهُ في الْقَبُولِ فَإِنْ غَابَ أَحَدُهُمَا لم يُجْبَرْ الْآخَرُ على تَسْلِيمِ كل الثَّمَنِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الثَّمَنِ لَا كُلُّهُ فَلَا يُؤَاخَذُ بِتَسْلِيمِ كُلِّهِ فَإِنْ اخْتَارَ الْحَاضِرُ ذلك وَنَقَدَ كُلَّ الثَّمَنِ وَقَبَضَ الْمَبِيعَ هل يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا تقدم ( ( ( نقد ) ) ) أَمْ لَا أخلف ( ( ( اختلف ) ) ) فيه قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عن الشَّرِيكِ الْغَائِبِ حتى يَسْتَوْفِيَ ما نَقَدَ عنه
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هو مُتَبَرِّعٌ في حِصَّتِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَهُمَا أَنَّهُ قَضَى دَيْنَ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا كما لو قَضَاهُ بِأَمْرِهِ نَصًّا
وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّهُ لَمَّا غَابَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ مع عِلْمِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ اسْتَحَقَّ قَبْضَ نَصِيبِهِ من الْمَبِيعِ بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِتَسْلِيمِ كل الثَّمَنِ كان إذْنًا له بِتَسْلِيمِ حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فَكَانَ قَاضِيًا دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ دَلَالَةً فلم يَكُنْ مُتَطَوِّعًا وَصَارَ هذا كَمَنْ أَعَارَ مَالَهُ إنْسَانًا لِيَرْهَنَهُ بِدَيْنِهِ فَرَهَنَ ثُمَّ أفتكه الْغَيْرُ من مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ تبرعا ( ( ( متبرعا ) ) ) وَيَرْجِعُ على الرَّاهِنِ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ عَلَّقَ مَالَ الْغَيْرِ بِدَيْنِهِ وَلَا يَزُولُ الْعُلُوقُ إلَّا بِانْفِكَاكِهِ فَكَانَ ادنا ( ( ( إذنا ) ) ) له بِالْفِكَاكِ دَلَالَةً كَذَا هذا وَلَهُ حَقُّ حَبْسِ الْعَبْدِ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ ما نَقَدَ عنه كما لو نَقَدَ بِأَمْرِهِ نَصًّا وَلَوْ أَدَّى جَمِيعَ الثَّمَنِ وَقَبَضَ الْعَبْدَ ثُمَّ هَلَكَ في يَدِهِ قبل الْحَبْسِ يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ أَدَّى عنه بِأَمْرِهِ دَلَالَةً على ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالرَّهْنُ بِالثَّمَنِ وَالْكَفَالَةُ بِهِ لَا يُبْطِلَانِ حَقَّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُمَا لَا يُسْقِطَانِ الثَّمَنَ عن ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَلَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَكَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِهِ بِالْقَبْضِ قَائِمَةً فَيَبْقَى حَقُّ الْحَبْسِ لِاسْتِيفَائِهِ وَأَمَّا الْحَوَالَةُ بِالثَّمَنِ فَهَلْ تُبْطِلُ حَقَّ الْحَبْسِ قال أبو يُوسُفَ تُبْطِلُ سَوَاءٌ كانت الْحَوَالَةُ من الْمُشْتَرِي بِأَنْ أَحَالَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ على إنْسَانٍ وَقَبِلَ الْمُحَالُ عليه الْحَوَالَةَ أو من الْبَائِعِ بِأَنْ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا له على الْمُشْتَرِي
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كانت الْحَوَالَةُ من الْمُشْتَرِي لَا تَبْطُلُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حتى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ من الْمُحَالِ عليه وَإِنْ كانت من الْبَائِعِ فَإِنْ كانت مُطْلَقَةً لَا تَبْطُلُ أَيْضًا وَإِنْ كانت مُقَيَّدَةً بِمَا عليه تَبْطُلُ فَأَبُو يُوسُفَ أَرَادَ بَقَاءَ الْحَبْسِ على بَقَاءِ الدَّيْنِ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَذِمَّتُهُ بَرِئْت من دَيْنِ الْمُحِيلِ بِالْحَوَالَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ بَقَاءَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْحَبْسِ وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لم يَبْطُلْ بِحَوَالَةِ
____________________

(5/250)


الْمُشْتَرِي
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يُطَالِبَ الْمُحَالَ عليه فلم يَبْطُلْ حَقُّ الْحَبْسِ وَبَطَلَتْ حَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كانت مُقَيَّدَةً بِمَا على الْمُحَالِ عليه فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ
وَالصَّحِيحُ اعْتِبَارُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ في الشَّرْعِ يَدُورُ مع حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا مع قِيَامِ الثَّمَنِ في ذَاتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الثَّمَنَ إذَا كان مُؤَجَّلًا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ وَالثَّمَنُ في ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي قَائِمٌ وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ دَلَّ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ يَتْبَعُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لَا قِيَامُ الثَّمَنِ في ذَاتِهِ وَحَقَّ الْمُطَالَبَةِ في حَوَالَةِ الْمُشْتَرِي وَحَوَالَةُ الْبَائِعِ إذَا كانت مُطْلَقَةً فَكَانَ حَقُّ الْحَبْسِ ثَابِتًا وفي حَوَالَةِ الْبَائِعِ إذَا كانت مُقَيَّدَةً يَنْقَطِعُ فلم يَنْقَطِعْ حَقُّ الْحَبْسِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَحَالَ الرَّاهِنُ الْمُرْتَهِنَ بِدَيْنِهِ على رَجُلٍ أو أَحَالَ الْمُرْتَهِنُ غَرِيمًا له بِدَيْنِهِ على الرَّاهِنِ حَوَالَةً مُطْلَقَةً أو مُقَيَّدَةً أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ في حَقِّ حَبْسِ الرَّهْنِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ في حَوَالَةِ الرَّاهِنِ
وَكَذَا في حَوَالَةِ الْمُرْتَهِنِ إذَا كانت مُطْلَقَةً وَإِنْ كانت مُقَيَّدَةً تَبْطُلُ
وَلَوْ أَعَارَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ لِلْمُشْتَرِي أو أَوْدَعَهُ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ عَقْدَ الْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ ليس بِعَقْدٍ لَازِمٍ فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا أَعَارَ الرَّهْنَ من الرَّاهِنِ أو أَوْدَعَهُ إيَّاهُ له أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِعَارَةَ وَالْإِيدَاعَ أَمَانَةٌ في يَدِ الْمُشْتَرِي وهو لَا يَصْلُحُ نَائِبًا عن الْبَائِعِ في الْيَدِ لِأَنَّهُ أَصْلٌ في الْمِلْكِ فَكَانَ أَصْلًا في الْيَدِ فإذا وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ أو الْوَدِيعَةُ في يَدِهِ وَقَعَتْ بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَهِيَ يَدُ الْمِلْكِ وَيَدُ الْمِلْكِ يَدٌ لَازِمَةٌ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهَا بِالِاسْتِرْدَادِ وَبِخِلَافِ الرَّهْنِ فإن الْمُرْتَهِنَ في الْيَدِ الثَّابِتَةِ بِعَقْدِ الرَّهْنِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ فَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْإِنَابَةِ وَيَدُ النِّيَابَةِ لَا تَكُونُ لَازِمَةً فَمَلَكَ الِاسْتِرْدَادَ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُ بِالْإِذْنِ بِالْقَبْضِ وَلَوْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لم يَبْطُلْ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عليه من غَيْرِ رِضَاهُ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فيه نُظِرَ في ذلك إنْ كان تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ والأمهار فَسَخَهُ وَاسْتَرَدَّهُ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّهُ وَإِنْ كان تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ وَالْإِعَارَةَ إلَى الْحَبْسِ إمَّا إن كان مع نَقْضِ هذه التَّصَرُّفَاتِ وَإِمَّا إن كان مع قِيَامِهَا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لَا تَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهَا إذَا بَقِيَتْ كانت الْإِعَادَةُ إلَى الْحَبْسِ حَبْسَ الْجُزْءِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ فَبَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ أَصْلًا وَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَوَجَدَهُ الْبَائِعُ زُيُوفًا أو سُتُّوقًا أو مُسْتَحَقًّا أو وَجَدَ بَعْضَهُ كَذَلِكَ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ الْمَبِيعَ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ لم يَقْبِضْ فَإِنْ كان لم يَقْبِضْهُ كان له حَقُّ الْحَبْسِ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما استوفي حَقَّهُ وَإِنْ كان قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ كان قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ في الْفُصُولِ كُلِّهَا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إنْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ تَصَرُّفَهُ وَيَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ إلَّا إذَا كان تَصَرُّفًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُفْسَخُ وَيُطَالَبُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ فَلَوْ نَقَدَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ قبل أَنْ يَفْسَخَ التَّصَرُّفَ الذي يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يُفْسَخُ لِأَنَّهُ لَمَّا نَقَدَ الثَّمَنَ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ في الْحَبْسِ فَبَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَالِاسْتِرْدَادِ وَإِنْ كان قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ يُنْظَرُ إنْ وَجَدَهُ زُيُوفًا فَرَدَّهَا لَا يَمْلِكُ اسْتِرْدَادَ الْمَبِيعِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْبَائِعَ ما رضي بِزَوَالِ حَقِّ الْحَبْسِ إلَّا بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ وَحَقُّهُ في الثَّمَنِ السَّلِيمِ لَا في الْمَعِيبِ فإذا وَجَدَهُ مَعِيبًا فلم يُسَلَّمْ له حَقُّهُ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَبِيعَ حتى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَالرَّاهِنِ إذَا قضي دَيْنَ الْمُرْتَهِنِ وَقَبَضَ الرَّهْنَ ثُمَّ إنَّ الْمُرْتَهِنَ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا كان له أَنْ يَرُدَّهُ وَيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُ الْمَبِيعَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ بَعْدَ ما اسْتَوْفَى حَقَّهُ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الزُّيُوفَ جِنْسُ حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ وَإِنَّمَا الْفَائِتُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَجَوَّزَ بِهِ في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ وَلَوْ لم يَكُنْ من جِنْسِ حَقِّهِ لَمَا جَازَ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ وإذا كان الْمَقْبُوضُ جِنْسَ حَقِّهِ فَتَسَلُّمُ الْمَبِيعِ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ جِنْسِ الْحَقِّ يَمْنَعُ من الِاسْتِرْدَادِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ لِأَنَّ الِارْتِهَانَ اسْتِيفَاءٌ لِحَقِّهِ من الرَّهْنِ وَالِافْتِكَاكَ إيفَاءٌ من مَالٍ آخَرَ فإذا وُجِدَ زُيُوفًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما استوفي حَقَّهُ
____________________

(5/251)


فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الرَّهْنِ وَالْبَيْعِ أَنَّهُ لو أَعَارَ الْمَبِيعَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ حَقُّ الْحَبْسِ حتى لَا يَمْلِكَ اسْتِرْدَادَهُ وَلَوْ أَعَارَ الْمَرْهُونَ الرَّاهِنُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَبْسِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا أو مُسْتَحَقًّا وَأَخَذَ منه له أَنْ يَرُدَّ بِخِلَافِ الزُّيُوفِ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَذِنَ لِلْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ على أَنَّهُ استوفي حَقَّهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ أَصْلًا وَرَأْسًا لِأَنَّ السَّتُّوقَ وَالرَّصَاصَ لَيْسَا من جِنْسِ حَقِّهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تَجَوَّزَ بها في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ على تَقْدِيرِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وقد تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ آذِنًا له بِالْقَبْضِ وَلَا رَاضِيًا بِهِ فَكَانَ له وِلَايَةُ الِاسْتِرْدَادِ
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي تَصَرَّفَ فيه فَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عليه سَوَاءٌ كان تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالْبَيْعِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِهَا أو لَا يَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ ما إذَا قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ وَتَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَنَّهُ يُفْسَخُ وَيُسْتَرَدُّ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ إبْطَالًا لِحَقِّهِ فَيُرَدُّ عليه إذَا كان مُحْتَمِلًا لِلرَّدِّ
وَهَهُنَا وُجِدَ الأذن بِالْقَبْضِ فَكَانَ تَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي حَاصِلًا عن تَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَنَفَذَ وَبَطَلَ حَقُّهُ في الِاسْتِرْدَادِ كَالْمَقْبُوضِ على وَجْهِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا تَصَرَّفَ فيه الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبْطُلُ حَقُّ الْبَائِعِ في الْفَسْخِ إلَّا أَنَّ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا أَجَّرَ الْمَبِيعَ تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ وَهَهُنَا لَا تُفْسَخُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ وقد تَحَقَّقَ الْعُذْرُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقُّ الْفَسْخِ حَقًّا لِلشَّرْعِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَجُعِلَ اسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْفَسَادِ عُذْرًا في فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَلَا فَسَادَ هَهُنَا فَلَا عُذْرَ في الْفَسْخِ فَلَا يُفْسَخُ
وَلَوْ كان مَكَانَ الْبَيْعِ كِتَابَةٌ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَعَتَقَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَوْلَى الْمَقْبُوضَ زُيُوفًا أو مُسْتَحَقًّا فَالْعِتْقُ مَاضٍ فَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا لَا يَعْتِقُ مما ذَكَرْنَا أَنَّ الزُّيُوفَ من جِنْسِ حَقِّهِ فَصَارَ بِقَبْضِهَا قَابِضًا أَصْلَ حَقِّهِ وَكَذَا قَبْضُ الدَّرَاهِمِ الْمُسْتَحَقَّةِ وَقَعَ صَحِيحًا ظَاهِرًا وَاحْتِمَالُ الْإِجَازَةِ بَعْدَ ظُهُورِ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ أَيْضًا وَالْعِتْقُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ ما إذَا وَجَدَهَا سُتُّوقًا أو رَصَاصًا لِأَنَّ ذلك ليس من جِنْسِ حَقِّهِ أَصْلًا وَرَأْسًا فلم يُوجَدْ أو أَبْدَلَ الْكِتَابَةَ فَلَا يَعْتِقُ يُحَقِّقُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غريمه حتى يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَقَبَضَ ثُمَّ وَجَدَ الْمَقْبُوضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ زُيُوفًا أو مُسْتَحَقًّا فَرَدَّ الزُّيُوفَ أو أَخَذَ الْمَالِكُ الْمُسْتَحَقَّةَ بَرَّ في يَمِينِهِ وَإِنْ وَجَدَهُ سُتُّوقًا أو رَصَاصًا حَنِثَ في يَمِينِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَفْلَسَ أو مَاتَ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ أو بَعْدَ ما نَقَدَ منه شيئا وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِأُنَاسٍ شَتَّى هل يَكُونُ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهِ من سَائِرِ الْغُرَمَاءِ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا يَكُونُ له بَلْ الْغُرَمَاءُ كلهم أُسْوَةٌ فيه فَيُبَاعُ وَيُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ قَبَضَهُ حتى أَفْلَسَ أو مَاتَ فَإِنْ كان الثَّمَنُ مُؤَجَّلًا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ وَإِنْ كان حَالًّا فَالْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال إذَا أَفْلَسَ الْمُشْتَرِي فَوَجَدَ الْبَائِعُ مَتَاعَهُ عِنْدَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عن تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي بِالْإِجْمَاعِ فإن من بَاعَ عَبْدًا فَأَبَقَ قبل الْقَبْضِ أو غُصِبَ أو كانت دَابَّةً فَضَلَّتْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ وَالْعَجْزُ عن تَسْلِيمِ الثَّمَنِ يُوجِبُ الْفَسْخَ لِلْبَائِعِ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمَبْنَى الْمُعَاوَضَاتِ على الْمُسَاوَاةِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من بَاعَ بَيْعًا فَوَجَدَهُ وقد أَفْلَسَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَالُهُ بين غُرَمَائِهِ وَهَذَا نَصٌّ وهو عَيْنُ مَذْهَبِنَا وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَكُنْ له حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ حَالَ كَوْنِ الْمُشْتَرِي حَيًّا مَلِيًّا فَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِثَمَنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِفْلَاسِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَاعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا مُفَارَقَةً في الْأَحْكَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ وَمِلْكَ الثَّمَنِ ليس بشرط ( ( ( شرطا ) ) ) فإنه لو اشْتَرَى شيئا بِدَرَاهِمَ لَا يَمْلِكُهَا جَازَ
وَلَوْ بَاعَ شيئا لَا يَمْلِكُهُ لَا يَجُوزُ وَكَذَا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ في الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ وَالتَّصَرُّفُ في الثَّمَنِ قبل الْقَبْضِ جَائِزٌ وَغَيْرُ ذلك من الْأَحْكَامِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الثَّمَنِ بِالْمَبِيعِ على الْإِطْلَاقِ فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ما إذَا قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ البايع وَعِنْدَنَا الْبَائِعُ أَحَقُّ بِهِ في هذه الْحَالَةِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِفْلَاسَ وَإِنْ كان حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ لِأَنَّ الْمَلِيءَ يَتَمَكَّنُ من دَفْعِ الِاسْتِرْدَادِ بِنَقْدِ الثَّمَنِ وَالْمُفْلِسُ لَا يَتَمَكَّنُ من ذلك فَكَانَ ذِكْرُ الْإِفْلَاسِ مفيدا ( ( ( مقيدا ) ) ) فَحَمَلْنَاهُ على ما قُلْنَا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ

____________________

(5/252)


وَمِنْهَا وُجُوبُ الِاسْتِبْرَاءِ في شِرَاءِ الْجَارِيَةِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ نَوْعَانِ نَوْعٌ هو مَنْدُوبٌ وَنَوْعٌ هو وَاجِبٌ
أَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ إذَا وطىء جَارِيَةً وَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَهَا أو يُخْرِجَهَا عن مِلْكِهِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هو وَاجِبٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ شَغْلُ الرَّحِمِ بِمَاءِ الْبَائِعِ فَيَلْزَمُهُ التَّعَرُّفُ عن ذلك بِالِاسْتِبْرَاءِ كما في جَانِبِ الْمُشْتَرِي
وَلَنَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لم يُوجَدْ في حَقِّ الْبَائِعِ على ما نَذْكُرُ وَالِاعْتِبَارُ بِالْمُشْتَرِي غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عليه لِصِيَانَةِ مَائِهِ عن الِاخْتِلَاطِ بِمَاءِ الْبَائِعِ وَالْخَلْطُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَتَجِبُ الصِّيَانَةُ عليه بِالِاسْتِبْرَاءِ لَا على الْبَائِعِ إلَّا أَنَّهُ يُنْدَبُ إلَيْهِ لِتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ رَحِمِهَا بِمَائِهِ فَيَكُونُ الْبَيْعُ قبل الِاسْتِبْرَاءِ مُبَاشَرَةً شَرْطَ الِاخْتِلَاطِ فَكَانَ الِاسْتِبْرَاءُ مُسْتَحَبًّا
وَكَذَا إذَا وطىء أَمَتَهُ أو مُدَبَّرَتَهُ أو أُمَّ ولد ( ( ( ولده ) ) ) له ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا من غَيْرِهِ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ حتى يَسْتَبْرِئَهَا لِمَا قُلْنَا وإذا زَوَّجَهَا قبل الِاسْتِبْرَاءِ أو بَعْدَهُ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَبُّ إلى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهُ عليه وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا رَأَى امْرَأَةً تَزْنِي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا له أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَطَأَهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا وَيَعْلَمَ فَرَاغَ رَحِمِهَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاسْتِبْرَاءُ الْوَاجِبُ فَهُوَ اسْتِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي وَكُلُّ من حَدَثَ له حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْجَارِيَةِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ مُطْلَقًا وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ وُجُوبِ هذا النَّوْعِ من الِاسْتِبْرَاءِ وفي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ ما يَقَعُ بِهِ من الِاسْتِبْرَاءُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ وَالنَّصُّ الْوَارِدُ في السَّبْيِ يَكُونُ وَارِدًا في سَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ دَلَالَةً لأن الِاسْتِبْرَاءَ طَلَبُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وإنه وَاجِبٌ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّ بِهِ يَقَعُ الصِّيَانَةُ عن الْخَلْطِ وَالْخَلْطُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من كان يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَسْقِيَنَّ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَالصِّيَانَةُ عن الْحَرَامِ تَكُونُ وَاجِبَةً وَلَا تَقَعُ الصِّيَانَةُ إلَّا بِالِاسْتِبْرَاءِ فَيَكُونُ وَاجِبًا ضَرُورَةً فَلَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا قبل الِاسْتِبْرَاءِ وَلَا أَنْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أو يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ لِأَنَّ كُلَّ ذلك دَاعٍ إلَى الْوَطْءِ وَالْوَطْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ كما في بَابِ الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحَائِضِ حَيْثُ لم تُحَرَّمْ الدَّوَاعِي منها
لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ ليس هو الْوَطْءُ بَلْ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى وَالْوَطْءُ حَرَامٌ لِغَيْرِهِ وهو اسْتِعْمَالُ الْأَذَى وَلَا يَجُوزُ ذلك في الدَّوَاعِي فَلَا يَجُوزُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَهُوَ
____________________

(5/253)


حُدُوثِ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ لهم قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَتَسَرَّى الْعَبْدُ وَلَا يُسَرِّيهِ مَوْلَاهُ وَلَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ وَلَا الْمُكَاتَبُ شيئا إلَّا الطَّلَاقَ
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً من عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ يَنْظُرُ إنْ لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ أَصْلًا أو عليه دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ لَا يَجِبُ عليه أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إذَا كانت حَاضَتْ عِنْدَ الْعَبْدِ ويجتزىء ( ( ( ويجتزئ ) ) ) بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ الذي لَا دَيْنَ عليه أو عليه دَيْنٌ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ مِلْكَ الْمَوْلَى فَقَدْ حَاضَتْ في مِلْكِ نَفْسِهِ فيجتزي ( ( ( فيجتزئ ) ) ) بها عن الِاسْتِبْرَاءِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ يَجِبُ عليه الِاسْتِبْرَاءُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ عليه بِنَاءً على أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا مُسْتَغْرِقًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ
وَلَوْ تَبَايَعَا بَيْعًا صَحِيحًا ثُمَّ تَقَايَلَا فَإِنْ كانت الْإِقَالَةُ قبل الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ وهو رِوَايَةُ أبي يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ وهو رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ في حَقِّهِ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ حَقِيقَةً وَإِنْكَارُ الْحَقَائِقِ مُكَابَرَةٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الأقالة قبل الْقَبْضِ فَسْخٌ وَالْفَسْخُ رَفْعٌ من الْأَصْلِ وَإِعَادَةٌ إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ كَأَنَّهُ لم يَزُلْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ فلم يُوجَدْ السَّبَبُ مع ما أَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ فلم يَتَكَامَلْ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي فلم يَحْدُثْ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْبَائِعِ على الْإِطْلَاقِ فلم يَتَكَامَلْ السَّبَبُ وَإِنْ كانت الْإِقَالَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ فَكَانَتْ اسْتِحْدَاثًا لِلْمِلْكِ مُطْلَقًا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنْ كان فَسْخًا لَكِنْ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَأَمَّا في حَقِّ ثَالِثٍ فَبَيْعٌ جَدِيدٌ وَالِاسْتِبْرَاءُ يَجِبُ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَاعْتُبِرَ حَقُّ الشَّرْعِ ثَالِثًا في حَقِّ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ احْتِيَاطًا
وَلَوْ رَدَّ الْجَارِيَةَ بِعَيْبٍ أو خِيَارِ رُؤْيَةٍ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارَ الْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي
وَأَمَّا الرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيُنْظَرُ فيه إنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ خِيَارَهُ لَا يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فلم يُوجَدْ حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ بِنَاءً على أَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ دُخُولَ السِّلْعَةِ في مِلْكِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وإذا لم تَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ خَرَجَتْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّهَا لم تَخْرُجْ وَبَقِيَتْ على مِلْكِهِ فلم يُوجَدْ سَبَبُ الْوُجُوبِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنْ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ لِأَنَّهَا زَالَتْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَدَخَلَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي فإذا رُدَّتْ عليه فَقَدْ وُجِدَ سَبَبُ الْوُجُوبِ في حَقِّ الْبَائِعِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ لِأَنَّ الرَّدَّ قبل الْقَبْضِ فَسْخٌ مَحْضٌ وَرَفْعٌ لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَإِنْ كان الْمَبِيعُ فَاسِدًا فَفُسِخَ وَرُدَّتْ الْجَارِيَةُ إلَى الْبَائِعِ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْبَائِعِ لِأَنَّهَا على مِلْكِهِ فلم يَحْدُثْ له الْحِلُّ وَإِنْ كان بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْإِجْمَاعِ لِوُجُودِ السَّبَبِ
ولو أَسَرَ الْعَدُوُّ الْجَارِيَةَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْمَالِكِ فَإِنْ كان قبل الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْمَالِكِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ الْحِلِّ بِحُدُوثِ الْمِلْكِ وَإِنْ كان بَعْدَ الأحراز بدراهم ( ( ( بدارهم ) ) ) وَجَبَ لِوُجُودِ السَّبَبِ وَلَوْ أبقيت ( ( ( أبقت ) ) ) من دَارِ الْإِسْلَامِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَأَخَذَهَا الْكُفَّارُ ثُمَّ عَادَتْ إلَى صَاحِبِهَا بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُمْ لم يَمْلِكُوهَا فلم يُوجَدْ السَّبَبُ وَعِنْدَهُمَا عليه الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ
وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً مع غَيْرِهِ فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وهو حُدُوثُ الْحِلِّ إذْ لَا تَحِلُّ لِأَحَدِهِمَا ولو اشْتَرَى جَارِيَةً وَلَهَا زَوْجٌ فَقَبَضَهَا وَطَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ السَّبَبُ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِحُدُوثِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَقْتَ الشِّرَاءِ لِقِيَامِ فِرَاشِ الزَّوْجِ وَبَعْدَ زَوَالِ الفراس ( ( ( الفراش ) ) ) لم يَحْدُثْ سَبَبُ حُدُوثِ الْحِلِّ وهو مِلْكُ الْيَمِينِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ على الْمُشْتَرِي
وَمِنْ هذا اسْتَخْرَجُوا لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ حِيلَةً وَهِيَ أَنْ يُزَوِّجَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ مِمَّنْ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا ولم يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوَ ذلك من الشَّرَائِطِ ثُمَّ يَبِيعُهَا وَيُسَلِّمُهَا إلَى
____________________

(5/254)


الْمُشْتَرِي ثُمَّ يُطَلِّقُهَا الزَّوْجُ قبل الدُّخُولِ بها فَتَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا
وَحِيلَةٌ أُخْرَى لِإِسْقَاطِ الِاسْتِبْرَاءِ أَنْ يُزَوِّجَهَا الْبَائِعُ من الْمُشْتَرِي قبل الشِّرَاءِ وَالْمُشْتَرِي مِمَّنْ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا بِأَنْ لم يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ وَنَحْوُ ذلك ثُمَّ يَشْتَرِيهَا فَيَفْسُدُ النِّكَاحُ وَيَحِلُّ له وَطْؤُهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ
وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّهُ يُسْقِطُ عنه جَمِيعَ الْمَهْرِ
وفي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ على الزَّوْجِ الْمُطَلِّقِ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلْبَائِعِ فَيَحْتَاجُ إلَى إبْرَائِهِ عنه
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ في عِدَّةٍ من زَوْجِهَا عِدَّةِ طَلَاقٍ أو عِدَّةِ وَفَاةٍ فَاشْتَرَاهَا وَقَبَضَهَا ثُمَّ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عليه لِأَنَّ قِيَامَ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِ النِّكَاحِ
وَلَوْ كانت مَنْكُوحَةً فَطَلَّقَهَا قبل الدُّخُولِ بها لم يَجِبْ الِاسْتِبْرَاءُ
كَذَا هذا
وَعَلَى ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ فَإِنْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا قبل الْقَبْضِ لم يُعْتَدَّ بِذَلِكَ وَلَا تَحِلُّ له حتى يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِذَلِكَ كما يُعْتَدُّ بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ عِنْدَهُ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ عَدَمُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ في النِّكَاحِ حتى أن من تَزَوَّجَ جَارِيَةً فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا من غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِأَنَّ السَّبَبَ لم يُوجَدْ وهو حُدُوثُ حِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وقال مُحَمَّدٌ أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ وَلَسْتُ أُوجِبُهَا عليه
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال لَا اسْتِبْرَاءَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وقال أبو يُوسُفَ اسْتَبْرَأَ بها الزَّوْجُ اسْتِحْسَانًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن الْمَعْنَى الذي له وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ في مِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ في مِلْكِ النِّكَاحِ وهو التَّعَرُّفُ عن بَرَاءَةِ الرَّحِمِ فَوَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ في الْمِلْكَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ جَوَازَ نِكَاحِهَا دَلِيلُ بَرَاءَةِ رَحِمِهَا شَرْعًا فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعَرُّفِ بِالِاسْتِبْرَاءِ
وما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ نَوْعُ احْتِيَاطٍ وهو حَسَنٌ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً فلم يَقْبِضْهَا حتى حَاضَتْ في يَدِ الْبَائِعِ حَيْضَةً أَنَّهُ لَا يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بها في الِاسْتِبْرَاءِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو قَبَضَهَا لَا تَحِلُّ له حتى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهُ لم يحد ( ( ( يحدث ) ) ) له حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ قبل الْقَبْضِ وَلَا حَدَثَ له مِلْكُ الْيَمِينِ على الْإِطْلَاقِ لِانْعِدَامِ الْيَدِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ وَالتَّأَكُّدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ فَكَانَ له حُكْمُ الْعَدَمِ من وَجْهٍ فلم يَجِبْ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يجتزيء ( ( ( يجتزئ ) ) ) بها وَلَا اسْتِبْرَاءَ لِأَنَّ الْحَيْضَةَ قبل الْقَبْضِ تَصْلُحُ دَلِيلًا على فَرَاغِ رَحِمِهَا فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ من الِاسْتِبْرَاءِ فيكتفي بها
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَقَعُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الْجَارِيَةُ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت مِمَّنْ تَحِيضُ وَإِمَّا إن كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَإِنْ كانت مِمَّنْ تَحِيضُ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعَنْ مُعَاوِيَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ اسْتِبْرَاءَهَا بِحَيْضَتَيْنِ لِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ أُخْتُ الْعِدَّةِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال في سَبَايَا أَوْطَاسٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حتى يَضَعْنَ وَلَا الحبالى ( ( ( الحيالى ) ) ) حتى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ
وَالْفَعْلَةُ لِلْمَرَّةِ وَالتَّقْدِيرُ الشَّرْعِيُّ يَمْنَعُ من الزِّيَادَةِ عليه إلَّا بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ ما شُرِعَ له الِاسْتِبْرَاءُ وهو حُصُولُ الْعِلْمِ بِطَهَارَةِ الرَّحِمِ يَحْصُلُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُشْتَرَطَ الْعَدَدُ في بَابِ الْعِدَّةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَإِنْ كانت مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن كانت لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أو لِكِبَرٍ وَإِمَّا إن كانت لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ وَهِيَ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا
وأما إن كانت لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ فَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أو لِكِبَرٍ فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِشَهْرٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْأَشْهُرَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الإقراء في حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ في الْعِدَّةِ فَكَذَا في بَابِ الِاسْتِبْرَاءِ
وَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِعِلَّةٍ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فيه قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَطَؤُهَا حتى يَعْلَمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ ولم يُوَقِّتْ في ذلك وَقْتًا
وقال أبو يُوسُفَ يَسْتَبْرِئُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أو أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ قال يَسْتَبْرِئُهَا بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ عِدَّةِ الْإِمَاءِ وفي رِوَايَةٍ قال يَسْتَبْرِئُهَا بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ مُدَّةِ عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وقال زُفَرُ يَسْتَبْرِئُهَا بِسَنَتَيْنِ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْجُودَ في الْبَطْنِ لَا يَبْقَى أَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ فإذا مَضَتْ سَنَتَانِ ولم يَظْهَرْ بها حَمْلٌ عَلِمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا تَفْسِيرَ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَطَؤُهَا حتى يَعْلَمَ أنها غَيْرُ حَامِلٍ وهو اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ما قَالَهُ أبو يُوسُفَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ لِأَنَّهَا مُدَّةٌ يَعْلَمُ فيها أنها لَيْسَتْ بِحَامِلٍ لِأَنَّ الْحَبَلَ يَظْهَرُ في مِثْلِ هذه الْمُدَّةِ لو كان لِظُهُورِ آثَارِهِ من انْتِفَاخِ الْبَطْنِ وَغَيْرِ ذلك فَيَدُلُّ عَدَمُ الظُّهُورِ على بَرَاءَةِ رَحِمِهَا
وَإِنْ كانت لَا تَحِيضُ لِحَبَلٍ بها فَاسْتِبْرَاؤُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بعض الْقَبْضِ حدوث حل الاستمتاع بحدوث ملك اليمين مطلقا يعني به ملك الرقبة واليد بأي سبب حدث الملك من الشراء والسبي والصدقة والهبة والأرث ونحوها فلا يجب الاستبراء على البائع لانعدام السبب وهو حدوث الحل ويجب على المشتري لوجود سببه سواء كان بائعه ممن يطأ أو ممن لا يطأ كالمرأة والصبي الذي لا يعقل وسواء كانت الجارية بكرا أو ثيبا في ظاهر الرواية لما قلنا
وروي عن أبي يوسف أنه إذا علم المشتري أنها لم توطأ لا يجب الاستبراء لأن الاستبراء طلب براءة الرحم وفراغها عما يشغلها ورحم البكر برية فارغة عن الشغل فلا معنى لطلب البراءة والفراغ
والجواب أن الوقوف على حقيقة الشغل والفراغ متعذر فتعلق الحكم بالسبب الظاهر وهو حدوث حل الاستمتاع بحدوث ملك اليمين مطلقا وقد وجد ولا يجب على من حرم عليه فرج أمته بعارض الحيض والنفاس والردة والكتابة والتزويج إذا زالت هذه العوارض بأن طهرت وأسلمت وعجزت فطلقها الزوج قبل الدخول بها لأن حل الاستمتاع لم يحدث بل كان ثابتا لكن منع منه لغيره وقد زال بزوال العوارض وكذا لم يحدث ملك اليمين فلم يوجد السبب ولا يجب بشراء جارية لا يحل فرجها بملك اليمين بأن وطئها أبوه أو ابنه أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها لا بشهوة أو كان هو وطىء أمها أو ابنتها أو نظر إلى فرجها عن شهوة أو كانت مرتدة أو مجوسية ونحو ذلك من الفروج التي لا تحل بملك اليمين لأن فائدة الاستبراء التمكن من الاستمتاع بعد حصول انعدام مانع معين منه وهو اختلاط الماءين والاستبراء في هذه المواضع لا يفيد التمكن من الاستمتاع لوجود مانع آخر وهو أن المحل لا يحتمل الحل ولا يجب على العبد والمكاتب والمدبر لانعدام
____________________

(5/255)


لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ في الدَّلَالَةِ على فَرَاغِ رَحِمِهَا فَوْقَ الْحَيْضَةِ فإذا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَلَّ له أَنْ يَسْتَمْتِعَ بها فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ ما دَامَتْ في نِفَاسِهَا كما في الْحَائِضِ فَإِنْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهَا لَا يَطَؤُهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا وَلَا يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِوَضْعِ الْحَمْلِ قبل الْقَبْضِ كما يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ وَعَلَى قِيَاسِ ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِهِ كما يجتزي ( ( ( يجتزئ ) ) ) بِالْحَيْضَةِ قبل الْقَبْضِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْحُكْمِ الأصل ( ( ( الأصلي ) ) ) لِلْبَيْعِ وما يَجْرِي مَجْرَى التَّوَابِعِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كما يَثْبُتُ في الْمَبِيعِ يَثْبُتُ في زَوَائِدِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ من ذلك في الزَّوَائِدِ وَالْكَلَامُ فيه مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وهو أَنَّ زَوَائِدَ الْمَبِيعِ مَبِيعَةٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كانت مُنْفَصِلَةً أو مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه إلَّا الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْكَسْبَ وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ السَّابِقِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في إثْبَاتِ هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْمَبِيعَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ الْبَيْعُ ولم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الزَّوَائِدِ لِكَوْنِهَا مُنْعَدِمَةً عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا تكون ( ( ( يكون ) ) ) مَبِيعَةً وَلِهَذَا لم يَكُنْ الْكَسْبُ مَبِيعًا وَلِأَنَّ الْمَبِيعَ ما يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ إذْ الْبَيْعُ مقابله الْمَبِيعِ بِالثَّمَنِ وَالزِّيَادَةُ لَا يُقَابِلُهَا ثَمَنٌ لِأَنَّ كُلَّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِالْأَصْلِ فلم تَكُنْ مَبِيعَةً كَالْكَسْبِ وَلِهَذَا لم تَجُزْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
وَلَنَا أَنَّ الْمَبِيعَ ما يَثْبُتُ فيه الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلْبَيْعِ يَثْبُتُ في الزَّوَائِدِ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلْبَيْعِ هو الْمِلْكُ وَالزَّوَائِدُ مَمْلُوكَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَالدَّلِيلُ على أنها مَمْلُوكَةٌ بِالْبَيْعِ السَّابِقِ أَنَّ الْبَيْعَ السَّابِقَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ في الْأَصْلِ وَمَتَى ثَبَتَ الْمِلْكُ في الْأَصْلِ ثَبَتَ في التَّبَعِ فَكَانَ مِلْكُ الزِّيَادَةِ بِوَاسِطَةِ مِلْكِ الْأَصْلِ مُضَافًا إلَى الْبَيْعِ السَّابِقِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعَةً
وَلَكِنْ تَبَعًا لِثُبُوتِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ فيها تَبَعًا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
منها أَنَّ لِلْبَائِعِ حَقَّ حَبْسِ الزَّوَائِدِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ كما له حَقُّ حَبْسِ الْأَصْلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس له أَنْ يَحْبِسَ الزَّوَائِدَ
وَمِنْهَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ سَقَطَتْ حِصَّتُهَا من الثَّمَنِ عن الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا كما لو أَتْلَفَ جُزْءًا من الْمَبِيعِ وَعِنْدَهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا كما أو أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ على ما مَرَّ
وَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْأَرْشَ أو الْعُقْرَ قبل الْقَبْضِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْجُزْءِ
وَلَوْ هَلَكَتْ الزِّيَادَةُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت مَبِيعَةً عِنْدَنَا لِأَنَّهَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْأُمِّ لَا مَقْصُودًا وَالْأَطْرَافُ كَالْأَوْصَافِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ من الثَّمَنِ إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَقْصُودَةً بِالْفِعْلِ من الْقَبْضِ أو الْجِنَايَةِ ولم يُوجَدْ وَلَا خِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لم تَتَفَرَّقْ عليه لِأَنَّ الْعَقْدَ ما أُضِيفَ إلَيْهَا
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْعَقْدِ فيها تَبَعًا
فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ إلَّا في وَلَدِ الْجَارِيَةِ إذَا هَلَكَ قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
فإنه يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِهَلَاكِ الزِّيَادَةِ بَلْ لِحُدُوثِ نُقْصَانٍ في الْأُمِّ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ
وَكَذَا لَا خِيَارَ بِحُدُوثِ زِيَادَةِ ما قبل الْقَبْضِ إلَّا في وَلَدِ الْجَارِيَةِ لِأَجْلِ نُقْصَانِ الْأُمِّ بِالْوِلَادَةِ لَا لِحُدُوثِ الزِّيَادَةِ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَبَضَ الزَّوَائِدَ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ عِنْدَنَا فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على قِيمَةِ الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يوم الْقَبْضِ
حتى لو اطَّلَعَ الْمُشْتَرِي على عَيْبٍ بِالْأَصْلِ فإنه يَرُدُّهُ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لِلزِّيَادَةِ من الثَّمَنِ بِحَالٍ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْبِ بِالْأَصْلِ يُرَدُّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَلَا يَكُونُ بِإِزَاءِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ
وَكَذَا إذَا وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا يَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ وَعِنْدَهُ لَا يَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ أَصْلًا
وَكَذَا الْمُشْتَرِي إذَا أَتْلَفَ الزِّيَادَةَ قبل الْقَبْضِ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا به بِالْإِتْلَافِ وَبِالْقَبْضِ يَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ على ما ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ لَا حِصَّةَ لها من الثَّمَنِ بِحَالٍ وَلَوْ هَلَكَ الْأَصْلُ وَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ يَبْقَى الْعَقْدُ في قَدْرِ الزِّيَادَةِ عِنْدَنَا وَيَصِيرُ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ الثَّمَنُ على الْأَصْلِ يوم الْعَقْدِ وَعَلَى الزِّيَادَةِ يوم الْهَلَاكِ فَيَبْطُلُ مِلْكُ الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَةِ الْأَصْلِ ويبقي بِحِصَّةِ الزِّيَادَةِ بِخِلَافِ ما إذَا هَلَكَ قبل حُدُوثِ الزِّيَادَةِ حَيْثُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا وَيَسْقُطُ كُلُّ الثَّمَنِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا فَائِدَةَ في بَقَاءِ الْعَقْدِ إذْ لو بَقِيَ لَطَلَبَ الْبَائِعُ من الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ فَيَطْلُبُ الْمُشْتَرِي منه تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَسْلِيمُهُ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً لِانْعِدَامِ فَائِدَةِ الْبَقَاءِ وإذا بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ كان في بَقَاءِ الْعَقْدِ في الزِّيَادَةِ فَائِدَةٌ لِإِمْكَانِ تَسْلِيمِهَا فَبَقِيَ الْعَقْدُ فيها وَصَارَ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ فَيَنْقَسِمُ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ على ما ذَكَرْنَا وَعِنْدَهُ إذَا هَلَكَ الْأَصْلُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا

____________________

(5/256)


وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَهَا أَجْنَبِيٌّ وَضَمِنَهَا بِلَا خِلَافٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ عِنْدَنَا إنْ شَاءَ اخْتَارَ الْفَسْخَ وَيَرْجِعُ الْبَائِعُ على الْجَانِي بِضَمَانِ الْجِنَايَةِ وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الْمَبِيعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ وَعَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ كما لو أَتْلَفَ الْأَصْلَ وَعِنْدَهُ عليه الضَّمَانُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى نَخْلًا بِكُرٍّ من تَمْرٍ فلم يَقْبِضْ النَّخْلَ حتى أَثْمَرَ النَّخْلُ كُرَّا فَقَبَضَ النَّخْلَ مع الْكُرِّ الْحَادِثِ لَا يَطِيبُ الْكُرُّ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عِنْدَنَا لِأَنَّ التَّمْرَ الْحَادِثَ عِنْدَنَا زِيَادَةٌ مُتَوَلَّدَةٌ من الْمَبِيعِ فَكَانَ مَبِيعًا وَلَهُ عِنْدَ الْقَبْضِ حِصَّةٌ من الثَّمَنِ كما لِغَيْرِهِ من الزَّوَائِدِ وَالثَّمَرُ من جِنْسِهِ زِيَادَةَ عليه فَلَوْ قُسِمَ على النَّخْلِ وَالْكُرِّ لحادث ( ( ( الحادث ) ) ) يَصِيرُ رِبًا فَيَفْسُدُ الْبَيْعَ في الْكُرِّ الْحَادِثِ وَلَا يَفْسُدُ في النَّخْلِ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ نَخْلًا وَكُرًّا من تَمْرٍ بِكُرٍّ من تَمْرٍ إن الْعَقْدَ يَفْسُدُ في التَّمْرِ وَالنَّخْلِ جميعا لِأَنَّ هُنَاكَ الرِّبَا دخل في الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِهِمَا وَصُنْعِهِمَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ مَالُ الرِّبَا وهو التَّمْرُ وَالتَّمْرُ مَقْسُومٌ عَلَيْهِمَا فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا وَإِدْخَالُ الرِّبَا في الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ كُلَّهُ وَهَهُنَا الْبَيْعُ كان صَحِيحًا في الْأَصْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ خِلَافُ جِنْسِ الْمَبِيعِ وهو النَّخْلُ وَحْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا زَادَ بَعْدَ الْعَقْدِ صَارَ مَبِيعًا في حَالِ الْبَقَاءِ لَا بِصُنْعِهِمَا فَيَفْسُدُ في الْكُرِّ الْحَادِثِ وَيَقْتَصِرُ الْفَسَادُ عليه
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَقُتِلَ قبل الْقَبْضِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ واتباع ( ( ( وابتاع ) ) ) الْجَانِي فَأَخَذَ قِيمَتَهُ أَلْفَيْنِ يَتَصَدَّقُ بِالْأَلْفِ الزَّائِدِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ رَبِحَ ما لم يَضْمَنْ وَعِنْدَهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا غَصَبَ كُرَّ حِنْطَةٍ فابتليت ( ( ( فابتلت ) ) ) في يَدِ الْغَاصِبِ وَانْتَفَخَتْ حتى صَارَتْ كُرًّا وَنِصْفَ كُرٍّ ضَمِنَ لِلْمَالِكِ كُرًّا مثله فإنه يَمْلِكُ ذلك الْكُرَّ وَنِصْفَ الْكُرِّ عِنْدَنَا لَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِنِصْفِ الْكُرِّ الزَّائِدِ وَطَابَ له ما بَقِيَ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ من وَقْتِ الْغَصْبِ بِالضَّمَانِ وَالزِّيَادَةُ بِالِانْتِفَاخِ حَصَلَتْ بَعْدَ ذلك فَتُعْتَبَرُ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الْفَصْلِ يُرَدُّ الْكُلُّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَهُ لَا تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ
وَمِنْهَا أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا حتى لو وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْأَصْلِ عَيْبًا فَالزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الرَّدَّ وَالْفَسْخَ بِالْعَيْبِ وَبِسَائِرِ أَسْبَابِ الْفَسْخِ على ما نَذْكُرُهُ في خِيَارِ الْعَيْبِ في بَيَانِ الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ في أَيِّ حَالٍ حَدَثَتْ وَلَا تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ بِكُلِّ الثَّمَنِ
وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فيها أَشْجَارٌ مُثْمِرَةٌ فَإِنْ كان عليها ثَمَرٌ وَسَمَّاهُ حتى دخل في الْبَيْعِ فَالثَّمَرُ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو كانت قِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الشَّجَرِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فإن الثَّمَنَ يُقْسَمُ على الْكُلِّ أَثْلَاثًا بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ الْكُلَّ مَعْقُودٌ عليه مقصودا ( ( ( مقصود ) ) ) لِوُرُودِ فِعْلِ الْعَقْدِ على الْكُلِّ فَإِنْ كان لِلثَّمَرِ حِصَّةٌ من الثَّمَنِ حتى لو هَلَكَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ أَكَلَهُ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَمَّا كان مَبِيعًا مَقْصُودًا بِهَلَاكِهِ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِنْ لم يَكُنْ الثَّمَرُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَحَدَثَ بَعْدَهُ قبل الْقَبْضِ فَأَكَلَهُ الْبَائِعُ فَقَدْ صَارَ له حِصَّةٌ من الثَّمَنِ عِنْدَنَا لِصَيْرُورَتِهِ مَبِيعًا مَقْصُورًا بِالْإِتْلَافِ على ما بَيَّنَّا لَكِنَّ الْكَلَامَ في كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْحِصَّةِ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيها
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ من الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ جميعا فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ على الشَّجَرِ وَالْأَرْضِ وَالثَّمَرِ أَثْلَاثًا فَيَسْقُطُ ثُلُثُ الثَّمَنِ بِإِتْلَافِ الْبَائِعِ وقال أبو يُوسُفَ يَأْخُذُ الْحِصَّةَ من الشَّجَرِ خَاصَّةً فَيَقْسِمُ الثَّمَنَ على قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالشَّجَرِ ثُمَّ ما أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عليه يوم الْعَقْدِ وَعَلَى قِيمَةِ الثَّمَرِ يوم الْإِتْلَافِ فَيَسْقُطُ بَيَانُهُ إذَا كانت قِيمَةُ الْأَرْضِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الْأَشْجَارِ أَلْفًا وَقِيمَةُ الثَّمَرِ كَذَلِكَ فَأَكَلَ الْبَائِعُ الثَّمَرَ قبل الْقَبْضِ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ عِنْدَهُمَا وَيَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالْأَشْجَارَ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ خَاصَّةً وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي رُبْعُ الثَّمَنِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على الْأَشْجَارِ وَالْأَرْضِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ ما أَصَابَ الشَّجَرَ يُقَسَّمُ عليه وَعَلَى الثَّمَرِ نِصْفَيْنِ فَكَانَ حِصَّةُ الثَّمَرِ رُبْعَ الثَّمَنِ فَيَسْقُطُ ذلك كُلُّهُ وَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْضَ وَالشَّجَرَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الثَّمَرَ تَابِعٌ لِلشَّجَرِ لِأَنَّ الثَّمَرَ مُتَوَلِّدٌ منها فَيَأْخُذُ الْحِصَّةَ منها كما لو اشْتَرَى جَارِيَةً مع وَلَدِهَا فَوَلَدَتْ مع وَلَدِهَا ولد ( ( ( ولدا ) ) ) آخَرَ فَالْوَلَدُ الثَّانِي يَكُونُ له حِصَّةٌ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّجَرَ تَابِعٌ لِلْأَرْضِ في الْبَيْعِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَدْخُلُ في الْأَرْضِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ
وَلَوْ هَلَكَتْ بعدما دَخَلَتْ قبل الْقَبْضِ
____________________

(5/257)


لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الثَّمَنِ دَلَّ أنها تَابِعَةٌ وما كان تَابِعًا لِغَيْرِهِ في حُكْمٍ لَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ من ذلك الْحُكْمِ فَكَانَ نَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا ما لو اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا قبل الْقَبْضِ ثُمَّ وَلَدَ وَلَدُهَا وَلَدًا لَا يَكُونُ لِلْوَلَدِ الثَّانِي حِصَّةٌ من الْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ في نَفْسِهِ تَابِعٌ فَلَا يَسْتَتْبِعُ غَيْرَهُ كَذَا هَهُنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَيَتَّصِلُ بِمَا ذَكَرْنَا الزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ وَالْحَطُّ عن الثَّمَنِ وَالْكَلَامُ فِيهِمَا في ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أحدها ( ( ( أحدهما ) ) ) في أَصْلِ الْجَوَازِ أَنَّهُمَا جَائِزَانِ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في شَرَائِطِ الْجَوَازِ
وَالثَّالِثُ في كَيْفِيَّةِ الْجَوَازِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ العامة ( ( ( العلماء ) ) ) فيه قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ الزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ جَائِزَةٌ مَبِيعًا وَثَمَنًا كَأَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ على الْمَزِيدِ عليه وَالزِّيَادَةِ جميعا من الِابْتِدَاءِ
وقال زُفَرُ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا وَلَكِنْ تَكُونُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَإِنْ قَبَضَهَا صَارَتْ مِلْكًا له وَإِلَّا تَبْطُلُ وَأَظْهَرُ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُ قَوْلِنَا إنْ كان في مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَإِنْ كان بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَوْلُهُ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي زِدْتُكَ خَمْسَمِائَةٍ أُخْرَى ثَمَنًا وَقَبِلَ الْبَائِعُ أو قال الْبَائِعُ زِدْتُكَ هذا الْعَبْدَ الْآخَرَ أو قال هذا الثَّوْبَ مَبِيعًا وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الزِّيَادَةُ كان الثَّمَنُ في الْأَصْلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَخَمْسَمِائَةٍ وَالْمَبِيعُ في الْأَصْلِ عَبْدَانِ أو عَبْدٌ وَثَوْبٌ سَوَاءٌ كان ذلك قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مِائَةَ دِرْهَمٍ جَازَتْ الزِّيَادَةُ كان الثَّمَنُ في الْأَصْلِ ألف ( ( ( ألفا ) ) ) وَمِائَةً تَنْقَسِمُ الزِّيَادَةُ على قِيمَتِهِمَا وَكَذَلِكَ لو كان لِعَبْدٍ ثَمَنٌ مُسَمًّى أو كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنٌ مُسَمًّى وزاد الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مِائَةً مُطْلَقًا انْقَسَمَتْ الزِّيَادَةُ على قَدْرِ الْقِيمَتَيْنِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الْقِيمَتَيْنِ من الْوَارِثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَلَفَ الْمُوَرِّثَ في مِلْكِهِ الْقَائِمِ بَعْدَ مَوْتِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عليه كأن الْوَارِثُ حي ( ( ( حيا ) ) ) قائم ( ( ( قائما ) ) ) فَزَادَ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ من الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِتَوْلِيَةٍ مُسْتَفَادَةٍ من قِبَلِ الْمُوَكِّلِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ من الْأَجْنَبِيِّ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَإِنْ زَادَ بِأَمْرِ الْعَاقِدِ جَازَ لِأَنَّهُ وَكِيلُهُ في الزِّيَادَةِ وَإِنْ زَادَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَقَفَتْ الزِّيَادَةُ على إجَازَتِهِ إنْ أَجَازَ جَازَتْ وَإِنْ رَدَّ بَطَلَتْ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الزَّائِدُ الزِّيَادَةَ فَيَجُوزُ وَلَا يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْعَاقِدِ وأن لم يَحْصُلْ لِلْأَجْنَبِيِّ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ شَيْءٌ وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنَّ خَمْسَمِائَةٍ سِوَى الْأَلْفِ على رَجُلٍ ضَمِنَهُ وَقَبِلَ فَالْعَبْدُ لِلْمُشْتَرِي وَالْخَمْسُمِائَةِ على الثَّالِثِ من غَيْرِ أَنْ يَسْتَحِقَّ شيئا بِالْخَمْسِمِائَةِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا قال الرَّجُلُ بِعْ هذه الدَّارَ من فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنِّي ضَامِنٌ لك من الثَّمَنِ خَمْسَمِائَةٍ إن الْبَيْعَ على هذا الشَّرْطِ صَحِيحٌ وَالْخَمْسُمِائَةِ على الْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ قال على أَنِّي ضَامِنٌ لك خَمْسَمِائَةٍ ولم يَقُلْ من الثَّمَنِ كان بَاطِلًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ الْمُسَمَّى في النِّكَاحِ وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الْمَنْكُوحَةِ بِالْمَهْرِ الْأَوَّلِ فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الْمُسْلَمِ فيه فَلَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في الرَّهْنِ
وَأَمَّا الزِّيَادَةُ في الدَّيْنِ فَلَا تَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ جَائِزٌ قِيَاسًا وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بين الزِّيَادَةِ في الرَّهْنِ وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ في الدَّيْنِ نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الرَّهْنِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ حَطُّ بَعْضِ الثَّمَنِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَالثَّمَنِ هذا الْقَدْرُ من الِابْتِدَاءِ حتى أن الْمَبِيعَ إذَا كان دَارًا فَالشَّفِيعُ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ بِمَا بَقِيَ بَعْدَ الْحَطِّ وَعِنْدَهُمَا هو هِبَةٌ مُبْتَدَأَةٌ إلَّا أَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عليه أو كَوْنَهُ قَابِلًا لِاسْتِئْنَافِ الْعَقْدِ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وفي الزِّيَادَةِ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إن الثَّمَنَ وَالْمَبِيعَ من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ الْمُتَقَابِلَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ مَبِيعٌ بِلَا ثَمَنٍ وَلَا ثَمَنٌ بِلَا مَبِيعٍ فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ مَبِيعًا وَثَمَنًا قَوْلٌ بِوُجُودِ الْمَبِيعِ وَلَا ثَمَنَ وَالثَّمَنِ وَلَا مَبِيعَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وهو الثَّمَنُ وَالثَّمَنُ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وهو الْمَبِيعُ فَالزِّيَادَةُ من الْبَائِعِ لو صَحَّتْ مَبِيعًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الثَّمَنِ
وَلَوْ صَحَّتْ من الْمُشْتَرِي ثَمَنًا لَا تُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ بَلْ تُقَابِلُ مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا لِانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ فَيُجْعَلُ منه هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَلِأَنَّ كُلَّ الْمَبِيعِ لَمَّا صَارَ مُقَابَلًا بِكُلِّ الثَّمَنِ وَكُلُّ الثَّمَنِ مُقَابَلٌ بِكُلِّ الْمَبِيعِ فَالزِّيَادَةُ لو صَحَّتْ مَبِيعًا وَثَمَنًا لَخَلَتْ عَمَّا يُقَابِلُهُ فَكَانَتْ فَضْلَ مَالٍ خَالٍ عن الْعِوَضِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا

____________________

(5/258)


وَلَنَا في الزِّيَادَةِ في الْمَهْرِ قَوْله تَعَالَى { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ من بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أَيْ من بَعْدِ تِلْكَ الْفَرِيضَةِ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ مَعْرِفَةً يزاد ( ( ( يراد ) ) ) بِالثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ
أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِإِيتَاءِ الْمُهُورِ الْمُسَمَّاةِ في النِّكَاحِ وَأَزَالَ الْجُنَاحَ في الزِّيَادَةِ على الْمُسَمَّى لِأَنَّ ما يَتَرَاضَاهُ الزَّوْجَانِ بَعْدَ التَّسْمِيَةِ هو الزِّيَادَةُ في الْمَهْرِ فَيَدُلُّ على جَوَازِ الزِّيَادَةِ
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لِلْوَازِنِ زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ وَهَذَا زِيَادَةٌ في الثَّمَنِ وقد نُدِبَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَيْهَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ الْجَوَازُ وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي لُزُومَ الْوَفَاءِ بِكُلِّ شَرْطٍ إلَّا ما خُصَّ بِدَلِيلٍ لِأَنَّهُ يقتضى أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُسْلِمٍ عِنْدَ شَرْطِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ كَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ إذَا صَحَّتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا وَثَمَنًا فَأَمَّا إذَا كانت هِبَةً مُبْتَدَأَةً فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَا الزِّيَادَةَ مَبِيعًا وَثَمَنًا كما لو تَبَايَعَا ابْتِدَاءً وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِنْسَانِ يَقَعُ على الْوَجْهِ الذي أَوْقَعَهُ إذَا كان أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ وَالْمَحَلُّ قَابِلًا وَلَهُ وِلَايَةٌ عليه وقد وُجِدَ
وَقَوْلُهُمَا إن الثَّمَنَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْبَائِعِ وَالْمَبِيعَ اسْمٌ لِمَالٍ يُقَابِلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي
قُلْنَا هذا مَمْنُوعٌ بَلْ الثَّمَنُ اسْمٌ لِمَا أَزَالَ الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ وَيَدَهُ عنه بِمُقَابَلَةِ مَالٍ أَزَالَ الْبَائِعُ مِلْكَهُ وَيَدَهُ عنه فَيَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَالَ الذي كان مِلْكَ صَاحِبِهِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ عنه شَرْعًا على ما عُرِفَ
ثُمَّ نَقُولُ ما ذَكَرَاهُ حَدُّ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَالزِّيَادَةِ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنُ مَبِيعٌ وَثَمَنٌ من حَيْثُ الصُّورَةُ وَالتَّسْمِيَةُ رِبْحٌ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقِيقَةُ ما يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِمُقَابَلَةِ ما هو مَالٌ حَقِيقَةً بَلْ من حَيْثُ الصُّورَةِ وَالتَّسْمِيَةُ وَالزِّيَادَةُ هَهُنَا كَذَلِكَ فَكَانَتْ رِبْحًا حَقِيقَةً فَكَانَ من شَرْطِهَا أَنْ لَا تَكُونَ مُقَابَلَةً بِمِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا تَسْمِيَةً وَشَرْطُ الشَّيْءِ كَيْفَ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ على أَنَّهُ أَمْكَنَ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ وَالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ في الْبَيْعِ هو قِيمَةُ الْمَبِيعِ وهو مَالِيَّتُهُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بِطَرِيقِ الْمُعَادَلَةِ عُرْفًا وَحَقِيقَةً وَالْمُقَابَلَةُ عِنْدَ التَّسَاوِي في الْمَالِيَّةِ وَلِهَذَا لو فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ تَجِبُ الْقِيمَةُ عِنْدَنَا وَالثَّمَنُ تَقْدِيرٌ لِمَالِيَّةِ الْمَبِيعِ بِاتِّفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ وإذا زَادَ في الْمَبِيعِ أو الثَّمَنِ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَخْطَأَ في التَّقْدِيرِ وَغَلِطَ فيه وما هو الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ قد ثَبَتَ بِالْبَيْعِ فإذا بَيَّنَّا التَّقْدِيرَ كان ذلك بَيَانًا لِلْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ إلَّا أَنَّهُ ابْتِدَاءُ إيجَابٍ فَكَانَ عِوَضًا عن مِلْكِ الْعَيْنِ لَا عن مِلْكِ نَفْسِهِ وَهَذَا الْكَلَامُ في الْمَهْرِ أَغْلَبُ لِأَنَّ الْمُوجِبَ الْأَصْلِيَّ فيه هو مَهْرُ الْمِثْلِ على ما عَرَفْتَ على أَنَّهُ إنْ كان لَا يُمْكِنُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ مع بَقَاءِ الْعَقْدِ على حَالِهِ يُمْكِنُ تَحْقِيقُهُ مع تَغْيِيرِ الْعَقْدِ من حَيْثُ الْوَصْفُ بِأَنْ يُجْعَلَ الْأَلْفُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِيَخْلُوَ النِّصْفُ عن الثَّمَنِ فَتَجْعَلُ الْأَلْفُ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ النِّصْفِ الْخَالِي وَهَذَا وَإِنْ كان تَغْيِيرًا وَلَكِنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ التَّصَرُّفِ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ التَّغْيِيرِ
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمَا وِلَايَةَ الْفَسْخِ وَأَنَّهُ فَوْقَ التَّغْيِيرِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْأَصْلَ وَالْوَصْفَ وَالتَّغْيِيرَ تَبْدِيلُ الْوَصْفِ مع بَقَاءِ أَصْلِ الْعَقْدِ فلما ثَبَتَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْفَسْخِ فَوِلَايَةُ التَّغْيِيرِ أَوْلَى وَلَهُمَا حَاجَةٌ إلَى التَّغْيِيرِ لِدَفْعِ الْغَبْنِ أو لِمَقْصُودٍ آخَرَ فَمَتَى اتَّفَقَا على الزِّيَادَةِ وَقَصَدَا الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ إلَّا بهذا الشَّرْطِ يُثْبِتُ هذا الشَّرْطُ مُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا له كما في قَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَمِنْهَا الْقَبُولُ من الْآخَرِ حتى لو زَادَ أَحَدُهُمَا ولم يَقْبَلْ الْآخَرُ لم تَصِحَّ الزِّيَادَةُ
وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ حتى لو افْتَرَقَا قبل الْقَبُولِ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ إيجَابُ الْبَيْعِ فِيهِمَا فَلَا بُدَّ من الْقَبُولِ في الْمَجْلِسِ كما في أَصْلِ الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ وَأَمَّا الْحَطُّ فَلَا يُشْتَرَطُ له الْمَجْلِسُ وَلَا الْقَبُولُ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ بِالْإِسْقَاطِ وَالْإِبْرَاءِ عن بَعْضِهِ فَيَصِحُّ من غَيْرِ قَبُولٍ إلَّا أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَالْإِبْرَاءِ عن الثَّمَنِ كُلِّهِ
وَأَمَّا كَوْنُ الزِّيَادَةِ وَالْمَزِيدِ عليه من غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ثَمَنًا وَمَبِيعًا وَكَذَا كَوْنُ الْحَطِّ من غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا هل هو شَرْطٌ لِصِحَّتِهِ حَطًّا وَهَلْ يُؤَثِّرَانِ في فَسَادِ الْعَقْدِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ ليس بِشَرْطٍ وَيُؤَثِّرَانِ فيه وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ شَرْطٌ فَيُبْطِلَانِ وَلَا يُؤَثِّرَانِ في الْعَقْدِ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ في الزِّيَادَةِ لَا في الْحَطِّ على ما نَذْكُرُ وَلَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَتَصِحُّ الزِّيَادَةُ سَوَاءٌ كانت قبل قَبْضِ الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ أو بَعْدَهُ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ لِأَنَّ دَلِيلَ جَوَازِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَأَمَّا قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الزِّيَادَةِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ
____________________

(5/259)


شَرْطٌ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عن أبي حَنِيفَةَ رحمهم ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ في غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَهُ حتى لو هَلَكَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي أو اسْتَهْلَكَهُ أو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهَا أو كان عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ أو أَخْرَجَهُ الْمُشْتَرِي عن مِلْكِهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ وَالْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ يعطي له حُكْمُ الْقِيَامِ لِقِيَامِ أَثَرِهِ وهو الْمِلْكُ ولم يَبْقَ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً أو حُكْمًا فلم يَبْقَ الْعَقْدُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ بِالزِّيَادَةِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَثْبُتُ عِنْدَنَا بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنِدُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْعَلَ شيئا من الْمَبِيعِ بِمُقَابَلَةِ الزِّيَادَةِ لِلْحَالِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِاسْتِنَادَ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ لها حِصَّةٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك بَعْدَ الْهَلَاكِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ في الثَّمَنِ وَالْمَبِيعِ لَا تَسْتَدْعِي الْمُقَابَلَةَ لِأَنَّهَا رِبْحٌ في الْحَقِيقَةِ وَإِنْ كانت مَبِيعًا وَثَمَنًا صُورَةً وَتَسْمِيَةً وَمِنْ شَأْنِ الرِّبْحِ أَنْ لَا يُقَابِلَهُ شَيْءٌ فَلَا يَكُونُ قِيَامُ الْمَبِيعِ شَرْطًا لِصِحَّتِهَا
وَقَوْلُهُ الْعَقْدُ مُنْعَدِمٌ عِنْدَ الزِّيَادَةِ قُلْنَا الزِّيَادَةُ عِنْدَنَا تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ عِنْدَ وُجُودِهِ يَحْتَمِلُ التَّغْيِيرَ إنْ كانت الزِّيَادَةُ تغيرا ( ( ( تغييرا ) ) ) على أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِبَقَاءِ الْبَيْعِ فإن الْبَيْعَ بَعْدَ هَلَاكِ الْمَبِيعِ يَحْتَمِلُ الانتقاض ( ( ( الانتفاض ) ) ) في الْجُمْلَةِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ فإن الْمُشْتَرِيَ إذَا اطَّلَعَ على عَيْبٍ كان بِهِ قبل الْهَلَاكِ يَرْجِعُ عليه بِالنُّقْصَانِ وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ فَسْخٌ لِلْبَيْعِ في قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ هَلَاكِهِ وَهَلَاكِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه دَلَّ أَنَّ الْعَقْدَ يَجُوزُ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ هَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه في الْجُمْلَةِ إذَا كان في بَقَائِهِ فَائِدَةٌ وَهَهُنَا في بَقَائِهِ فَائِدَةٌ فيبقي في حَقِّهِ كما في حَقِّ الرُّجُوعِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الزِّيَادَةُ في مَهْرِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا أنها جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا تَجُوزُ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ جَازَتْ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُمَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَالْعَقْدُ عِنْدَهُ إذَا وَقَعَ على عَيْنٍ بِعَيْنٍ فَهَلَاكُ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الزِّيَادَةِ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ قَائِمًا لَكِنْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ شيئا جَازَتْ الزِّيَادَةُ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه لَا يَمْنَعُ الزِّيَادَةَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه قَائِمٌ فَكَانَ الْعَقْدُ قَائِمًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلتَّغْيِيرِ بِالزِّيَادَةِ وَلَوْ رَهَنَ الْمَبِيعَ أو آجَرَهُ ثُمَّ زَادَ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ على ما ذَكَرْنَا وقال مُحَمَّدٌ لو اشْتَرَى جَارِيَةً وَقَبَضَهَا فَمَاتَتْ في يَدِهِ وزاد الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ جَارِيَةً أُخْرَى فَالزِّيَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْمَبِيعِ تَثْبُتُ بِمُقَابَلَةِ الثَّمَنِ وَالثَّمَنُ قَائِمٌ وَلَوْ زَادَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ لم يَجُزْ لِأَنَّ زِيَادَةَ الثَّمَنِ تَثْبُتُ مُقَابَلَةً بِالْمَبِيعِ وَأَنَّهُ هَالِكٌ
وَهَذَا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا أن قِيَامَ الْمَبِيعِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ فَهَلَاكُهُ يَكُونُ مَانِعًا أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالزِّيَادَةُ في الْحَالَيْنِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ قِيَامَ الْمَبِيعِ عِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَكُونُ هَلَاكُهُ مَانِعًا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا قِيَامُ الْمَعْقُودِ عليه فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَطِّ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الزِّيَادَةِ فَالْحَطُّ أَوْلَى
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ ليس من شَرْطِ صِحَّةِ الْحَطِّ أَنْ يَلْتَحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ عن جَمِيعِ الثَّمَنِ فَلَا يَلْتَحِقُ إذْ لو الْتَحَقَ لعرى الْعَقْدُ عن الثَّمَنِ فلم يَلْتَحِقْ وَاعْتُبِرَ حَطًّا لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الْحَطَّ ليس تَصَرُّفَ مُقَابَلَةٍ لِيُشْتَرَطَ له قِيَامُ الْمَحِلِّ الْقَابِلِ بَلْ هو تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ بِإِسْقَاطِ شَطْرِهِ فَلَا يُرَاعَى له قِيَامُ الْمَعْقُودِ عليه بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَا ثُمَّ الزِّيَادَةُ مع الْحَطِّ يَخْتَلِفَانِ في حُكْمٍ آخَرَ وهو أَنَّ الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ على قَدْرِ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَالْحَطُّ لَا يَنْقَسِمُ كما لو اشْتَرَى عَبْدَيْنِ من رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَزَادَهُ الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ فإن الزِّيَادَةَ تَنْقَسِمُ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا سَوَاءٌ اشْتَرَى ولم يُسَمِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا أو سَمَّى
وَإِنْ حَطَّ الْبَائِعُ عن الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ كان الْحَطُّ نِصْفَيْنِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ فإذا زَادَ في ثَمَنِ الْمَبِيعَيْنِ مُطْلَقًا فَلَا بُدَّ وَأَنْ تُقَابِلَهُمَا الزِّيَادَةُ كَأَصْلِ الثَّمَنِ وَالْمُقَابَلَةُ في غَيْرِ أَمْوَالِ الرِّبَا تَقْتَضِي الِانْفِسَاخَ من حَيْثُ الْقِيمَةُ حُكْمًا لِلْمُعَاوَضَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ كَمُقَابَلَةِ أَصْلِ الثَّمَنِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
بِخِلَافِ الْحَطِّ فإنه لَا تَعَلُّقَ له بِالْمَبِيعِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ خَاصَّةً بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ فإذا حَطَّ من ثَمَنِهِمَا مُطْلَقًا فَقَدْ سَوَّى بَيْنَهُمَا في الْحَطِّ فَكَانَ الْحَطُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كان
____________________

(5/260)


ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى زِيَادَةِ قَدْرِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْحَطَّ غَيْرُ مُقَابَلٍ بِالثَّمَنِ حتى تُعْتَبَرَ قِيمَةُ الْقَدْرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الْجَوَازِ فَالزِّيَادَةُ في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ عِنْدَنَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ كان الْعَقْدَ من الِابْتِدَاءِ وَرُدَّ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جميعا إذَا لم يَتَضَمَّنْ الِالْتِحَاقُ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَكَذَلِكَ الْحَطُّ فَأَمَّا إذَا تَضَمَّنَ ذلك بِأَنْ كانت الزِّيَادَةُ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَهَلْ يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُفْسِدُهُ أَمْ لَا يَلْتَحِقُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْحَطُّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في ذلك قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيُفْسِدَانِهِ وقال أبو يُوسُفَ يُبْطِلَانِهِ وَلَا يَلْتَحِقَانِ بِأَصْلٍ وَأَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحٌ على حَالِهِ
وقال مُحَمَّدٌ الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ وَالْعَقْدُ على حَالِهِ وَالْحَطُّ جَائِزٌ هِبَةً مُبْتَدَأَةً وَهَذَا بِنَاءً على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ الصَّحِيحِ إذَا أُلْحِقَ بِهِ هل يَلْتَحِقُ بِهِ وَيُؤَثِّرُ في فَسَادِهِ أَمْ لَا وهو على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّيَادَةَ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ فَاسِدٍ مُتَأَخِّرٍ عن الْعَقْدِ الصَّحِيحِ أُلْحِقَ بِهِ فَأَبُو يُوسُفَ يقول لَا تَصِحُّ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ في أَمْوَالِ الرِّبَا لِأَنَّ ذلك لو صَحَّ لَالْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ
وَلَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَأَوْجَبَ فَسَادَ أَصْلِ الْعَقْدِ لِتَحَقُّقِ الرِّبَا فلم يَصِحَّ فَبَقِيَ أَصْلُ الْعَقْدِ صَحِيحًا كما كان وَمُحَمَّدٌ يقول لَا يصلح ( ( ( تصح ) ) ) الزِّيَادَةُ لِمَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ فلم تُؤَثِّرْ في أَصْلِ الْعَقْدِ فَبَقِيَ على حَالِهِ وَيَصِحُّ الْحَطُّ لِأَنَّ الِالْتِحَاقَ من لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ فَأَمَّا ما ليس من لَوَازِمِ الزِّيَادَةِ فَلَا يَصِحُّ الْحَطُّ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وأبو حَنِيفَةَ يقول الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ صَحِيحَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا لِأَنَّ الْعَاقِدَيْنِ أَوْقَعَاهُمَا زِيَادَةً وَحَطًّا وَلَهُمَا وِلَايَةُ فَيَقَعَانِ زِيَادَةً وَحَطًّا وَمِنْ شَأْنِ الزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ الِالْتِحَاقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَلْتَحِقَانِ بِهِ فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ وَالْحَطُّ هَهُنَا إبْطَالًا لِلْعَقْدِ السَّابِقِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ بِالْفَسْخِ وَكَذَا بِالزِّيَادَةِ وَالْحَطِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيْعُ الذي فيه خِيَارٌ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ حُكْمِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْخِيَارَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْخِيَارَاتُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْطًا وَنَوْعٌ يَثْبُتُ شَرْعًا لَا شَرْطًا وَالشَّرْطُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ نَصًّا وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ دَلَالَةً
أَمَّا الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا يُسَمَّى خِيَارُ التَّعْيِينِ
وَالثَّانِي خِيَارُ الشَّرْطِ
أَمَّا خِيَارُ التَّعْيِينِ فَالْكَلَامُ فيه في جَوَازِ الْبَيْعِ الذي فيه خِيَارُ التَّعْيِينِ قد ذَكَرْنَاهُ في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ حُكْمِ هذا الْبَيْعِ وَإِلَى بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَحُكْمُهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غير عَيْنٍ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ أليه عُرِفَ ذلك بِنَصِّ كَلَامِهِمَا حَيْثُ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الثَّوْبَيْنِ أو هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أو الدَّابَّتَيْنِ أو غَيْرِهِمَا من الْأَشْيَاءِ الْمُتَفَاوِتَةِ على أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهُمَا شِئْت وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي
وَهَذَا يُوجِبُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا وَثُبُوتَ خِيَارِ التَّعْيِينِ له وَالْآخَرُ يَكُونُ مِلْكُ الْبَائِعِ أَمَانَةً في يَدِهِ ذا قَبَضَهُ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لَا على وَجْهِ التَّمْلِيكِ وَلَا على وَجْهِ الثُّبُوتِ فَكَانَ أَمَانَةً وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهُمَا جميعا لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْهَالِكُ هو الْمَبِيعُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَهُ فَلَا يَبْطُلُ وَالْبَيْعُ قد صَحَّ بِيَقِينٍ وَوَقَعَ الشَّكُّ في بُطْلَانِهِ فَلَا يَبْطُلُ بِالشَّكِّ وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِثَمَنِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد تَغَيَّرَ قب ( ( ( قبل ) ) ) الْقَبْضِ بِالتَّعْيِينِ فَيُوجِبُ الْخِيَارَ وَكَذَلِكَ لو كان اشْتَرَى أَحَدَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ فَهَلَكَ وَاحِدٌ منها وَبَقِيَ اثْنَانِ لَا يَبْطُلُ لِمَا قُلْنَا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَالِكَ إذَا لم يُعَيِّنْ الْمَبِيعَ كان أَحَدَ الْبَاقِينَ فَكَانَ له أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَهُمَا كما لو اشْتَرَى أَحَدَهُمَا من الِابْتِدَاءِ
وَلَوْ هَلَكَ الْكُلُّ قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد هَلَكَ بقين ( ( ( بيقين ) ) ) فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ الثبت ( ( ( الثابت ) ) ) بهذا الْبَيْعِ قبل الِاخْتِيَارِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ فَيَمْنَعُ لُزُومَ الْمِلْكِ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ هذا النَّوْعِ من الْبَيْعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَعَامُلِ الناس لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذلك لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَا تَنْعَدِمُ حَاجَتُهُمْ إلَّا بَعْدَ اللُّزُومِ
لِأَنَّهُ عَسَى لَا يُوَافِقُهُ كِلَاهُمَا جميعا فَيَحْتَاجَ إلَى رَدِّهِمَا
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَبْطُلُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا صَرِيحُ الِاخْتِيَارِ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وَالثَّانِي الِاخْتِيَارُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ
____________________

(5/261)


اخْتَرْت هذا الثَّوْبَ أو شِئْته أو رَضِيت بِهِ أو اخْتَرْته وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ عَيَّنَ مِلْكَهُ فيه فَيَسْقُطُ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَلَزِمَ الْبَيْعُ
وَأَمَّا الِاخْتِيَارُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ منه فِعْلٌ في أَحَدِهِمَا يَدُلُّ على تَعْيِينِ الْمِلْكِ فيه وهو كُلُّ تَصَرُّفٍ هو دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ في الشِّرَاءِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَسَنَذْكُرُ ذلك في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ تَعَيَّنَ ما تَصَرَّفَ فيه لِلْبَيْعِ لم يَنْفُذْ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَإِنْ تَعَيَّنَ ما تَصَرَّفَ فيه لِلْأَمَانَةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ إنه تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَبْطُلَ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِنْهُمَا تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَبِيعٌ وَالْآخَرُ أَمَانَةٌ وَالْأَمَانَةُ مِنْهُمَا مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وقد خَرَجَ الْهَالِكُ عن احْتِمَالِ الرَّدِّ فيه فَتَعَيَّنَ الْبَاقِي لِلرَّدِّ فَتَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلْبَيْعِ ضَرُورَةً
وَلَوْ هَلَكَا جميعا قبل الْقَبْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن هَلَكَا على التَّعَاقُبِ وَإِمَّا إن هَلَكَا مَعًا فَإِنْ هَلَكَا على التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ مَبِيعًا وَالْآخَرُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ ثَمَنُ نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا جميعا
وَلَوْ هَلَكَا على التَّعَاقُبِ لَكِنَّهُمَا اخْتَلَفَا في تَرْتِيبِ الْهَلَاكِ فَإِنْ كان ثَمَنُهُمَا مُتَسَاوِيًا فَلَا فَائِدَةَ في هذا الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ أَيَّهُمَا هَلَكَ أَوَّلًا فَثَمَنُ الْآخَرِ مِثْلُهُ فَلَا يُفِيدُ الِاخْتِلَافُ
وَإِنْ كان مُتَفَاوِتًا بِأَنْ كان ثَمَنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَادَّعَى الْبَائِعُ هَلَاكَ أَكْثَرِهِمَا ثَمَنًا وَادَّعَى الْمُشْتَرِي هَلَاكَ أَقَلِّهِمَا ثَمَنًا
كان أبو يُوسُفَ أَوَّلًا يقول يَتَحَالَفَانِ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ وَإِنْ حَلَفَا جميعا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا هَلَكَا مَعًا وَيَلْزَمُهُ ثَمَنُ نِصْفِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ثُمَّ رَجَعَ وقال الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَصْلِ الدَّيْنِ وَاخْتَلَفَا في قَدْرِهِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ بين صَاحِبِ الدَّيْنِ وَبَيْنَ الْمَدْيُونِ في قَدْرِ الدَّيْنِ أو في جِنْسِهِ أو نَوْعِهِ أو صِفَتِهِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَدْيُونِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ يَدَّعِي عليه زِيَادَةً وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ الْيَمِينُ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً
وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ لَا يَتَعَيَّنُ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لم يُوجَدْ لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً وَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّعْيِينِ أَيْضًا لِإِمْكَانِ الرَّدِّ وَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْآخَرَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا كما لو لم يَتَعَيَّبْ أَصْلًا فَإِنْ أَخَذَ الْمَعِيبَ مِنْهُمَا أَخَذَهُ بِجَمِيعِ ثَمَنِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هو الْمَبِيعُ من الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ لو تَعَيَّبَا جميعا فَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ تَعَيَّنَ الْمَعِيبُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْأَمَانَةِ كما إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّ تَعَيُّبَ الْمَبِيعِ هَلَاكُ بَعْضِهِ فَلِهَذَا مُنِعَ الرَّدُّ وَلَزِمَ الْبَيْعُ في الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ فَكَذَا في غَيْرِ الْمُعَيَّنِ يَمْنَعُ الرَّدَّ وَتَعَيَّنَ الْمَبِيعُ
وَلَوْ تَعَيَّبَا جميعا فَإِنْ كان على التَّعَاقُبِ تَعَيَّنَ الْأَوَّلُ لِلْبَيْعِ وَلَزِمَهُ ثَمَنُهُ وَيُرَدُّ الْآخَرُ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَغْرَمُ بِحُدُوثِ الْعَيْبِ شيئا لِمَا قُلْنَا إنَّهُ أَمَانَةٌ
وَإِنْ تَعَيَّبَا مَعًا لَا يَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ
وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِثَمَنِهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا لِلْبَيْعِ بَقِيَ الْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ إلَّا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا لِأَنَّ الْبَيْعَ قد لَزِمَ في أَحَدِهِمَا بِتَعْيِينِهِمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي وَبَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ
وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ من يقول من الْمَشَايِخِ إنَّ هذا الْبَيْعَ فيه خِيَارَانِ خِيَارُ التَّعْيِينِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ وَلَا بُدَّ له من رُتْبَةٍ مَعْلُومَةٍ إذْ لو لم يَكُنْ لَمَلَكَ رَدَّهُمَا جميعا كما لو لم يَتَعَيَّبْ أَحَدُهُمَا أَصْلًا لَكِنَّهُ لم يَمْلِكْ لِأَنَّ رَدَّهُمَا جميعا قبل التَّعْيِيبِ ثَبَتَ حُكْمًا لِخِيَارِ الشَّرْطِ وقد بَطَلَ خِيَارُ الشَّرْطِ بَعْدَ تَعَيُّنِهِمَا مَعًا فلم يَمْلِكْ رَدَّهُمَا وَبَقِيَ خِيَارُ التَّعْيِينِ فَيَمْلِكُ رَدَّ أَحَدِهِمَا
وَلَوْ ازْدَادَ عَيْبُ أَحَدِهِمَا أو حَدَثَ معه غَيْرُهُ لَزِمَهُ ذلك لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ لِلْمُزَاحَمَةِ وقد بَطَلَتْ بِزِيَادَةِ عَيْبِ أَحَدِهِمَا أو حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ معه وَلَا يَبْطُلُ هذا الْخِيَارُ بِمَوْتِ الْمُشْتَرِي بَلْ يُورَثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ خِيَارَ التَّعْيِينِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمُوَرِّثِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ له في أَحَدِهِمَا غير عَيْنٍ وقد قام الْوَارِثُ مَقَامَهُ في ذلك الْمِلْكِ فَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهُمَا شَاءَ دُونَ الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ ليس له أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا وقد كان لِلْمُوَرِّثِ ذلك
وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ أُولَئِكَ الْمَشَايِخِ أَنَّهُ لَا بُدَّ من خِيَارَيْنِ في هذا الْبَيْعِ وقد بَطَلَ أَحَدُهُمَا وهو خِيَارُ الشَّرْطِ بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَا يُورَثُ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَبَطَلَ الْحُكْمُ الْمُخْتَصُّ بِهِ وهو وِلَايَةُ رَدِّهِمَا جميعا
هذا إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً صَحِيحًا
____________________

(5/262)


فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى أَحَدَهُمَا شِرَاءً فَاسِدًا بِأَنْ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ بِكَذَا ولم يذكر الْخِيَارَ أَصْلًا فإن الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ وَاحِدًا مِنْهُمَا قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ
فَإِنْ قَبَضَهُمَا مَلَكَ أَحَدَهُمَا مِلْكًا فَاسِدًا
وَأَيُّهُمَا هَلَكَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ هلك ( ( ( هلكا ) ) ) أحدهما فَإِنْ كانت على التَّعَاقُبِ لَزِمَتْهُ قِيمَةُ الْهَالِكِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وإنه بَيْعٌ فَاسِدٌ فَيُفِيدُ الْمِلْكَ بِالْقِيمَةِ
ولو هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِتَعْيِينِهِ لِلْبَيْعِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَشَاعَ الْبَيْعُ فِيهِمَا وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُمَا جميعا
أَمَّا غَيْرُ الْمَعِيبِ فَلِأَنَّهُ أَمَانَةٌ وَأَمَّا الْمَعِيبُ فَلِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا وَاجِبُ الرَّدِّ فَيَرُدَّهُمَا وَيَرُدَّ مَعَهُمَا نِصْفَ نُقْصَانِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُتَعَيِّبَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هو الْمَبِيعُ فَيَجِبُ نُقْصَانُ الْعَيْبِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هو الْأَمَانَةُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ وَلَا دَلَالَةَ على التَّعْيِينِ فَيَتَنَصَّفَ الْوَاجِبُ
وَلَوْ تَعَيَّبَ الْآخَرُ بَعْدَ ذلك
وَكَذَا الْجَوَابُ في نُقْصَانِ الْآخَرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا أَمَانَةٌ وَالْآخَرَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ
وَلَوْ تَعَيَّبَا مَعًا فَكَذَلِكَ يَرُدُّهُمَا مع نِصْفِ نُقْصَانِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِأَوْلَى من الْآخَرِ في التَّعْيِينِ لِلْبَيْعِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في أَحَدِهِمَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فيه وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ في الْآخَرِ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ الْمُتَصَرَّفَ فيه تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا فَتَصَرُّفُهُ مَوْقُوفٌ إنْ رُدَّ ذلك عليه نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فيه لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَإِنْ لم يُرَدَّ عليه وَتَصَرَّفَ فيه الْمُشْتَرِي نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فيه وَلَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ وَبَطَلَ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ فيه وَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَالْأَصْلُ أَنَّ في كل مَوْضِعٍ يَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ الثَّمَنُ في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي أَمَّا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَلَا يَزُولُ أَحَدُهُمَا عن مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّ ثَوْبٍ شَاءَ قَبْضَهُ لِلْخِيَارِ وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ التَّرْكِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتَ في جَانِبِهِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يُلْزِمَهُمَا الْمُشْتَرِيَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ أَحَدُهُمَا وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيَهْلِكُ أَمَانَةً لِمَا ذَكَرْنَا في خِيَارِ الْمُشْتَرِي وَخِيَارُ الْبَائِعِ على حَالِهِ إنْ شَاءَ أَلْزَمَ الْمُشْتَرِيَ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فيه لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَيْسَ له أَنْ يُلْزِمَهُ الْهَالِكَ لِأَنَّهُ هَلَكَ أَمَانَةً
وَإِنْ هَلَكَا جميعا قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ بِيَقِينٍ
وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ كان الْهَالِكُ أَمَانَةً أَيْضًا كما لو هَلَكَ قبل الْقَبْضِ وَأَلْزَمَهُ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ فيه لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فَيَهْلِكُ على مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ هَلَكَا جميعا فَإِنْ كان هَلَاكُهُمَا على التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ يَهْلِكُ أَمَانَةً وَعَلَيْهِ قِيمَةُ آخَرِهِمَا هَلَاكًا لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ لِلْبَيْعِ وإنه مَبِيعٌ هَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَفِيهِ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ وَإِنْ هَلَكَا مَعًا لَزِمَهُ نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ ليس أَحَدُهُمَا بِالتَّعْيِينِ أَوْلَى من الْآخَرِ
وَلَوْ تَعَيَّبَ أَحَدُهُمَا أو تَعَيَّبَا مَعًا قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ فَخِيَارُ الْبَائِعِ على حَالِهِ لِأَنَّ الْمَعِيبَ لم يَتَعَيَّنْ لِلْعَيْبِ لِانْعِدَامِ الْمُعَيَّنِ فَكَانَ الْبَائِعُ على خِيَارِهِ له أَنْ يُلْزِمَ الْمُشْتَرِيَ أَيَّهُمَا شَاءَ كما قبل التَّعَيُّبِ
ثُمَّ إذَا لَزِمَهُ أَحَدُهُمَا يُنْظَرُ إنْ كان ذلك غير الْمُتَعَيَّبِ مِنْهُمَا لَزِمَهُ ما لَزِمَهُ وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي في تَرْكِهِ لِانْعِدَامِ التعين ( ( ( التعيين ) ) ) فيه
وَإِنْ كان ما لَزِمَهُ هو الْمُتَعَيَّبُ فَإِنْ تَعَيَّبَ قبل الْقَبْضِ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ قد تَغَيَّرَ قبل الْقَبْضِ وَتَغَيُّرُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ تَعَيَّبَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ التعين ( ( ( التعيب ) ) ) بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ إن شَاءَ الْبَائِعُ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاسْتَرَدَّهُمَا لِأَنَّ الْبَيْعَ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَهُ وِلَايَةُ الْفَسْخِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان تَعَيُّبُهُمَا في يَدِ الْبَائِعِ فَلَا شَيْءَ له لِأَنَّهُمَا تَعَيَّبَا لَا في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان تَعَيُّبُهُمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ من الْمُشْتَرِي نِصْفَ نُقْصَانِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مَضْمُونٌ عِنْدَهُ بِالْقِيمَةِ وَالْآخَرُ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ وَلَا يَعْلَمُ أَحَدَهُمَا من الْآخَرِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِمَا أو في أَحَدِهِمَا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا ليس بِمَبِيعٍ بِيَقِينٍ وَالْآخَرُ مَبِيعٌ لَكِنْ لِبَائِعِهِ فيه خِيَارٌ وَخِيَارُ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْبَائِعُ في أَحَدِهِمَا جَازَ تَصَرُّفُهُ فيه وَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْبَيْعِ وَلَهُ خِيَارُ الْإِلْزَامُ فيه وَالْفَسْخُ وَلَوْ تَصَرَّفَ فِيهِمَا جميعا جَازَ تَصَرُّفُهُ فِيهِمَا وَيَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِمَا دَلِيلُ إقْرَارِ الْمِلْكِ فِيهِمَا فَيَضْمَنُ فَسْخَ الْبَيْعِ كما في الْمَبِيعِ الْمُعَيَّنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَالْكَلَامُ في جَوَازِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ
____________________

(5/263)


وَشِرَائِهِ قد م ( ( ( مر ) ) ) في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ صِفَةِ هذا الْبَيْعِ وَإِلَى بَيَانِ حُكْمِهِ وَإِلَى بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَإِلَى بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ الْبَيْعُ
أَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّهُ بَيْعٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ
قال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْبَيْعُ صَفْقَةٌ أو خِيَارٌ
وَلِأَنَّ الْخِيَارَ هو التَّخْيِيرُ بين الْبَيْعِ وَالْإِجَازَةِ وَهَذَا يَمْنَعُ اللُّزُومَ كَخِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ
ثُمَّ الْخِيَارُ كما يَمْنَعُ لُزُومَ الصَّفْقَةِ فَعَدَمُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ مِلْكٌ غَيْرُ مُتَأَكِّدٍ وَإِنَّمَا التَّأَكُّدُ بِالْقَبْضِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ أَنَّهُ ليس لِمَنْ له الْخِيَارُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ سَوَاءً كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي وَسَوَاءً كان الْبَيْعُ مَقْبُوضًا أو غير مَقْبُوضٍ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ في اللُّزُومِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ أَصْلِ الصَّفْقَةِ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ إلَّا بِرِضَا الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ يَقْبَلَ الْبَيْعَ في بَعْضِ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ بَعْدَ إضَافَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ إلَى الْجُمْلَةِ وَيُوجَبُ الْبَيْعُ بَعْدَ إضَافَةِ الْقَبُولِ إلَى جُمْلَتِهِ لَا يَجُوزُ في وَصْفِهَا
وهو أَنْ يَلْزَمَ الْبَيْعُ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ إلَّا بِرِضَاهُمَا
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ في يَدِ الْبَائِعِ وَالْخِيَارُ له لم يَكُنْ له أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ في قَدْرِ الْهَالِكِ فَالْإِجَازَةُ في الْبَاقِي تَكُونُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَاهُ
وَلَوْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ وَلَيْسَ له أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي وَإِنْ كان الْمَبِيعُ بما ( ( ( مما ) ) ) له مِثْلٌ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَهَلَكَ بَعْضُهُ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ في الْبَاقِي بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِجَازَةَ هَهُنَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ التَّمْلِيكِ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ فَكَانَ لِلْإِجَازَةِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ وَالْهَالِكُ مِنْهُمَا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْإِنْشَاءِ وَالْإِنْشَاءُ في الْبَاقِي تَمْلِيكٌ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ فِيمَا لَا مِثْلَ له فلم يَحْتَمِلْ الْإِنْشَاءَ وَفِيمَا له مِثْلٌ مَعْلُومَةٌ فَاحْتَمَلَ الْإِنْشَاءَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن هذه الْإِجَازَةَ تُظْهِرُ أَنَّ الْعَقْدَ من حِينِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ في حَقِّ الْحُكْمِ فلم يَكُنْ الْهَلَاكُ مَانِعًا من الْإِجَازَةِ
وَقَوْلُهُ الْإِجَازَةُ هَهُنَا إنْشَاءٌ قُلْنَا مَمْنُوعٌ فإن الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ بِدُونِ الْإِجَازَةِ من انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبِمَوْتِ من له الْخِيَارُ
وَلَوْ كانت الْإِجَازَةُ إنْشَاءً لَتَوَقَّفَ حُكْمُ الْعَقْدِ على وُجُودِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْإِجَازَةِ ثُمَّ أَجَازَهُ الْمَالِكُ لم يَجُزْ وَهَهُنَا جَازَ فَهَلَاكُ الْمَبِيعِ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ يَمْنَعُ من الْإِجَازَةِ وَهَهُنَا لَا يَمْنَعُ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) الْفَرْقِ أَنَّ بِيعَ الْفُضُولِيِّ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدُ ظَاهِرٌ من وَجْهٍ مُقْتَصِرٌ من وَجْهٍ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إظْهَارًا من وَجْهٍ إنْشَاءً من وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ أنها إظْهَارٌ كان لَا يَقِفُ صِحَّتُهُ على قِيَامِ الْمَحِلِّ وَمِنْ حَيْثُ أنها إنْشَاءٌ يَقِفُ عليه
فَأَمَّا الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَالْحُكْمُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ فَكَانَتْ الْإِجَازَةُ إظهارا ( ( ( لإظهار ) ) ) أَنَّ الْعَقْدَ من وَقْتِ وُجُودِهِ انْعَقَدَ في حَقِّ الْحُكْمِ وَالْمَحِلُّ كان قَابِلًا وَقْتَ الْعَقْدِ فَهَلَاكُهُ بَعْدَ ذلك لَا يَمْنَعُ من الْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ في رَجُلَيْنِ اشْتَرَيَا شيئا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فيه ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَاخْتَارَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْبَيْعُ حتى لَا يَمْلِكَ الْآخَرُ الْفَسْخَ احْتِرَازًا عن تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ في اللُّزُومِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حُكْمُ هذا الْبَيْعِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا حُكْمَ لِلْحَالِ وَالْخِيَارُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في الْحُكْمِ لِلْحَالِ لِمَنْ له الْخِيَارُ بَلْ هو لِلْحَالِ مَوْقُوفٌ على مَعْنَى أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ حُكْمُهُ لِلْحَالِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ عِنْدَ سُقُوطِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ يَتَّصِلُ بِهِ الْفَسْخُ أو الْإِجَازَةُ فَيُتَوَقَّفُ في الْجَوَابِ لِلْحَالِ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّوَقُّفِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا وفي قَوْلٍ هو مُنْعَقِدٌ مُفِيدٌ لِلتَّمَلُّكِ لَكِنَّ مِلْكًا مُسَلَّطًا على فَسْخِهِ بِالْخِيَارِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُفَارِقُ الْبَيْعَ الْبَاتَّ إلَّا في الْخِيَارِ وَالْخِيَارُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ بِالْإِجْمَاعِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ على أَصْلِكُمْ
وَلَنَا أَنَّ جَوَازَ هذا الْبَيْعِ مع أَنَّهُ مَعْدُولٌ بِهِ عن الْقِيَاسِ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْغَبْنِ وَلَا انْدِفَاعَ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ إلَّا بِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْحَالِ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ المشتري قَرِيبَ الْمُشْتَرِي فَلَوْ مَلَكَهُ لِلْحَالِ لَعَتَقَ عليه لِلْحَالِ فَلَا تَنْدَفِعُ حَاجَتُهُ ثُمَّ الْخِيَارُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جميعا وَإِمَّا إنْ كان لِلْبَائِعِ وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كان لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ وَإِمَّا إنْ كان لِغَيْرِهِمَا بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِثَالِثٍ فَإِنْ كان الْخِيَارُ لَهُمَا فَلَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ في حَقِّ الْحُكْمِ في الْبَدَلَيْنِ جميعا فَلَا يَزُولُ الْمَبِيعُ عن
____________________

(5/264)


مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَكَذَا لَا يَزُولُ الثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الِانْعِقَادِ في حَقِّ الحكم ( ( ( حكم ) ) ) مَوْجُودٍ في الْجَانِبَيْنِ جميعا وهو الْخِيَارُ وَإِنْ كان البائع ( ( ( للبائع ) ) ) وَحْدَهُ فَلَا يَنْعَقِدُ في الْحُكْمِ في حَقِّهِ حتى لَا يَزُولَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِهِ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه وَيَخْرُجُ الثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في حَقِّهِ وَهَلْ يَدْخُلُ في مِلْكِ الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَدْخُلُ وَإِنْ كان لِلْمُشْتَرِي وَحْدَهُ لَا يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ في حَقِّهِ حتى لَا يَزُولَ الثَّمَنُ عن مِلْكِهِ
وَلَا يَجُوزُ لِلْبَائِعِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فيه إذَا كان عَيْنًا وَلَا يَسْتَحِقَّهُ على الْمُشْتَرِي إذَا كان دَيْنًا وَيَخْرُجَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ حتى لَا يَجُوزَ له التَّصَرُّفُ فيه لِأَنَّ لاالبيع ( ( ( البيع ) ) ) بَاتٌّ في حَقِّهِ وَهَلْ يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسْتَدْعِي هو الْأَصْلُ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضٍ وَالْمَانِعُ هَهُنَا هو الْخِيَارُ وَأَنَّهُ وُجِدَ في أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ لَا غَيْرُ فَيَعْمَلُ في الْمَنْعِ فيه لَا في الْجَانِبِ الْآخَرِ أَلَا تَرَى كَيْفَ خَرَجَ الْمَبِيعُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ إذَا كان الخيرا ( ( ( الخيار ) ) ) لِلْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي إذَا كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَدَلَّ أَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في حَقِّ من لَا خِيَارَ له فَيَعْمَلُ في بَتَاتِ هذا الْحُكْمِ الذي وُضِعَ له
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن الْخِيَارَ إذَا كان لِلْبَائِعِ فَالْمَبِيعُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وإذا كان لِلْمُشْتَرِي فَالثَّمَنُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وَهَذَا يَمْنَعُ دُخُولَ الثَّمَنِ في مِلْكِ الْبَائِعِ في الْأَوَّلِ وَدُخُولَ الْمَبِيعِ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَمَعَ بين الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في عَقْدِ الْمُبَادَلَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَالثَّانِي أن في هذا تَرْكَ التَّسْوِيَةِ بين الْعَاقِدَيْنِ في حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُمَا لَا يَرْضَيَانِ بِالتَّفَاوُتِ
وَقَوْلُهُمَا الْبَيْعُ بَاتٌّ في حَقِّ من لَا خِيَارَ له قُلْنَا هذا يُوجِبُ الْبَتَاتَ في حَقِّ الزَّوَالِ لَا في حَقِّ الثُّبُوتِ لِأَنَّ الْخِيَارَ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ له أَثَرٌ في الْمَنْعِ من الزَّوَالِ وَامْتِنَاعُ الزَّوَالِ من أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ يَمْنَعُ الثُّبُوتَ من الْجَانِبِ الْآخَرِ إنْ كان لَا يَمْنَعُ الزَّوَالَ لِمَا ذَكَرْنَا من الْوَجْهَيْنِ وَيَتَفَرَّعُ على هذا الْأَصْلِ بين أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مَسَائِلُ
ومنها إذَا اشْتَرَى ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَعْتِقُ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ وَلَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وهو على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فَإِنْ فَسَخَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْعَبْدَ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ أَجَازَهُ عَتَقَ لِأَنَّهُ سَقَطَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْعَقْدُ فَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ عليه بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَيَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِهِ وَلَوْ قال العبد ( ( ( لعبد ) ) ) الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَاشْتَرَاهُ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عَتَقَ عليه بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَوُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ فَعَتَقَ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَلَوْ نُجِزَ عِتْقُهُ بَعْدَ شِرَائِهِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ عَتَقَ وَسَقَطَ خِيَارُهُ لِكَوْنِ الْإِعْتَاقِ إجَازَةً وَاخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ على ما نَذْكُرُ
كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً قد وَلَدَتْ منه بِالنِّكَاحِ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ وهو على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَعَادَتْ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ وَعِنْدَهُمَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ فَبَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ الثَّمَنُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا فَسَدَ لِدُخُولِهَا في مِلْكِهِ وَمِلْكُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ رَقَبَةَ صَاحِبِهِ أو شِقْصًا منها يَرْفَعُ النِّكَاحَ فَإِنْ وَطِئَهَا في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنْ كانت بِكْرًا كان إجَازَةً بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ بِإِزَالَةِ الْبَكَارَةِ وَهِيَ الْعُذْرَةُ لَا لِأَجْلِ الْوَطْءِ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ قَائِمًا فَلَا حَاجَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَجْلِ النُّقْصَانِ وَالْوَطْءِ جميعا فَإِنْ كانت ثَيِّبًا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ بطلانه ( ( ( بطلان ) ) ) الْخِيَارِ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ قَائِمٌ فَكَانَ حِلُّ الْوَطْءِ ثَابِتًا فَلَا ضَرُورَةَ إلَى مِلْكِ الْيَمِينِ بِحِلِّ الْوَطْءِ فلم يَبْطُلْ الْخِيَارُ وعندهما يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِضَرُورَةِ حِلِّ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ بِخِلَافِ ما إذَا لم تَكُنْ الْجَارِيَةُ زَوْجَةً له وَوَطِئَهَا أَنَّهُ يَكُونُ إجَازَةً سَوَاءٌ كانت بِكْرًا أو ثَيِّبًا لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ هُنَاكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِانْعِدَامِ النِّكَاحِ فَكَانَ إقْدَامُهُ على الْوَطْءِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ فَيَبْطُلُ الْخِيَارُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَبَضَهَا فَحَاضَتْ عِنْدَهُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ حَيْضَةً
____________________

(5/265)


كَامِلَةً أو بَعْضَ حَيْضَةٍ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَاخْتَارَ الْبَيْعَ لَا تجزي تِلْكَ الْحَيْضَةُ في الِاسْتِبْرَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى لِأَنَّهَا لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ عِنْدَهُ ولم يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ وَعِنْدَهُمَا يَحْتَسِبُ بها لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ فَكَانَتْ الْحَيْضَةُ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ فَكَانَتْ مَحْسُوبَةً منه
وَلَوْ اخْتَارَ فَسْخَ الْبَيْعِ وَرَدَّ الْجَارِيَةَ فَلَا اسْتِبْرَاءَ على الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كان الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ وَعِنْدَهُمَا قبل الْقَبْضِ الْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجِبُ وَبَعْدَ الْقَبْضِ يَجِبُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا على ما ذَكَرْنَا في مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَفَسَخَ الْعَقْدَ لَا يَجِبُ عليه الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّهَا لم تَخْرُجْ عن مِلْكِهِ وَإِنْ أَجَازَهُ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَالْقَبْضِ بِحَيْضَةٍ أُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بَعْدَ الْإِجَازَةِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ مِلْكًا مُطْلَقًا
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى شيئا بِعَيْنِهِ على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَبَضَهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ ثُمَّ أَوْدَعَهُ الْبَائِعُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَلَكَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ أو بَعْدَهَا يَهْلِكُ على الْبَائِعِ وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلَمَّا دخل رَدُّهُ على الْبَائِعِ فَقَدْ ارْتَفَعَ قَبْضُهُ فَهَلَكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ وَعِنْدَهُمَا يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِهِ أَعْنِي الْمُشْتَرِيَ فَقَدْ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَيَدُ الْمُودَعِ يَدُهُ فَهَلَاكُهُ في يَدِهِ كَهَلَاكِهِ في يَدِ نَفْسِهِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِي أَوْدَعَهُ الْبَائِعَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَهَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ قبل جَوَازِ الْبَيْعِ أو بَعْدَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان الْبَيْعُ بَاتًّا فَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالثَّمَنُ مَنْقُودٌ أو مُؤَجَّلٌ وَلَهُ خِيَارُ رُؤْيَةٍ أو عَيْبٍ فَأَوْدَعَهُ الْبَائِعَ فَهَلَكَ عِنْدَ الْبَائِعِ يَهْلِكُ على الْمُشْتَرِي وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ مُودِعًا مِلْكَ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إذَا اشْتَرَى ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْعَقْدُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْمُسْلِمُ مَمْنُوعٌ عن تَمَلُّكِ الْخَمْرِ بِالْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ وَلَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ دخل في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ من إخْرَاجِهِ عن مِلْكِهِ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في جَانِبِهِ وَالْإِسْلَامُ في الْبَيْعِ الْبَاتِّ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَهُ إذَا كان بَعْدَ الْقَبْضِ وَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ فَإِنْ أَجَازَ الْبَيْعَ جَازَ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ وَإِنْ فَسَخَهُ انْفَسَخَ وَصَارَ الْخَمْرُ لِلْبَائِعِ حُكْمًا وَالْمُسْلِمُ من أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ حُكْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَلَّكُهَا بِالْمِيرَاثِ وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَسْلَمَ الْبَائِعُ بَطَلَ الْخِيَارُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الْخَمْرِ عن مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ
وَلَوْ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ بَاتٌّ في جَانِبِهِ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ فَإِنْ فَسَخَ الْبَيْعَ عَادَتْ الْخَمْرُ إلَيْهِ وَإِنْ أَجَازَهُ صَارَ الْخَمْرُ لِلْمُشْتَرِي حُكْمًا وَالْمُسْلِمُ من أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا حُكْمًا كما في الْإِرْثِ وَلَوْ كان الْبَيْعُ بَاتًّا فَأَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَقْبُوضٌ يُلَاقِيهِ بِالْعَفْوِ لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ لِثُبُوتِهَا بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ على الْكَمَالِ وَإِنَّمَا يُوجَدُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ دَوَامُ الْمِلْكِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِيه فإن الْمُسْلِمَ إذَا تَخَمَّرَ عَصِيرُهُ فَلَا يُؤْمَرُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ فيها
هذا كُلُّهُ إذَا أَسْلَمَا أو أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا كان قبل الْقَبْضِ بَطَلَ الْبَيْعُ كيف ما كان سَوَاءٌ كان الْبَيْعُ بَاتًّا أو بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا أو لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ مَتَى وَرَدَ وَالْحَرَامُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ يُمْنَعُ من قَبْضِهِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لِمَا في الْقَبْضِ من مَعْنَى إنْشَاءِ الْعَقْدِ من وَجْهٍ فَيُلْحَقُ بِهِ في بَابِ الْحُرُمَاتِ احْتِيَاطًا على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وقد تَظْهَرُ فَوَائِدُ هذا الْأَصْلِ في فُرُوعٍ أُخَرَ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَإِنْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فيها حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنْ كان لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمَبِيعَ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْمَبِيعُ وَإِنْ لم يَدْخُلْ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَكِنَّهُ قد زَالَ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْإِجْمَاعِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ يَعْتَمِدُ زَوَالَ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا ثُبُوتَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ تَبَايَعَا عَبْدًا بِجَارِيَةٍ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَأَعْتَقَ الْبَائِعُ الْعَبْدَ نَفَذَ إعْتَاقُهُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ الْعَبْدِ عن مِلْكِهِ فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَنَفَذَ وَإِنْ أَعْتَقَ الْجَارِيَةَ نَفَذَ أَيْضًا وَلَزِمَ الْبَيْعُ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مِلْكُهَا فَأَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ لم يَمْلِكْهَا بِالْعَقْدِ لَكِنَّ الْإِقْدَامَ على الْإِعْتَاقِ دَلِيلُ عَقْدِ الْمِلْكِ إذْ لَا وُجُودَ لِلْعِتْقِ إلَّا بِالْمِلْكِ وَلَا
____________________

(5/266)


مِلْكَ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فَتَضَمَّنَ إقْدَامُهُ على الْإِعْتَاقِ إسْقَاطَ الْخِيَارِ وَلَوْ أَعْتَقَهُمَا مَعًا نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا جميعا وَبَطَلَ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ وَعِنْدَهُمَا نَفَذَ إعْتَاقُهُمَا وَلَا شَيْءَ عليه أَمَّا نُفُوذُ إعْتَاقِهِمَا
أَمَّا الْعَبْدُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ لم يَخْرُجْ عن مِلْكِ الْبَائِعِ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَكَذَلِكَ على أَصْلِهِمَا لِأَنَّهَا دَخَلَتْ في مِلْكِهِ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ لم تَدْخُلْ في مِلْكِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَقَدْ دَخَلَتْ بِمُقْتَضَى الْإِقْدَامِ على إعْتَاقِهِمَا على ما بَيَّنَّا فَإِعْتَاقُهُمَا صَادَفَ مَحَلًّا مَمْلُوكًا لِلْمُعْتِقِ فَنَفَذَ
وَأَمَّا لُزُومُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ بَدَلُ الْجَارِيَةِ وقد هَلَكَ قبل التَّسْلِيمِ بِالْإِعْتَاقِ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قبل التَّسْلِيمِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ وإذا بَطَلَ الْبَيْعُ وَجَبَ رَدُّ الْجَارِيَةِ وقد عَجَزَ عن رَدِّهَا بِسَبَبِ الْعِتْقِ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا
وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ أو الْجَارِيَةَ لم يَنْفُذْ إعْتَاقُهُ
أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلِأَنَّهَا خَرَجَتْ عن مِلْكِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ فما يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُهُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ نَوْعَانِ من الْأَصْلِ أَحَدُهُمَا اخْتِيَارِيٌّ وَالْآخَرُ ضَرُورِيٌّ أَمَّا الِاخْتِيَارِيُّ فَالْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو لُزُومُ الْبَيْعِ وَالِامْتِنَاعُ بِعَارِضِ الْخِيَارِ وقد بَطَلَ بِالْإِجَازَةِ فَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَالْإِجَازَةُ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ الْبَائِعُ أَجَزْتُ الْبَيْعَ أو أَوْجَبْتُهُ أو أَسْقَطْتُ الْخِيَارَ أو أَبْطَلْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى سَوَاءٌ عَلِمَ الْمُشْتَرِي الْإِجَازَةَ أو لم يَعْلَمْ
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهِيَ أَنْ يُوجَدَ منه تَصَرُّفٌ في الثَّمَنِ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ وَإِيجَابِ الْبَيْعِ فَالْإِقْدَامُ عليه يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ دَلَالَةً
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال لِبَرِيرَةَ حين عَتَقَتْ مَلَكْتِ بُضْعَكِ فَاخْتَارِي وَإِنْ وَطِئَك زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ فَقَدْ جَعَلَ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَمْكِينَهَا من الْوَطْءِ دَلِيلَ بُطْلَانِ الْخِيَارِ فَصَارَ ذلك أَصْلًا لِأَنَّ الْخِيَارَ كما يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الثَّمَنُ عَيْنًا فَتَصَرَّفَ الْبَائِعُ فيه تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِأَنْ بَاعَهُ أو سَاوَمَهُ أو أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو كَاتَبَهُ أو آجَرَهُ أو رَهَنَهُ وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ ذلك يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ الثَّمَنَ دخل في مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ التَّصَرُّفُ فيه دَلِيلَ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ وَأَنَّهُ دَلِيلُ إجَازَةِ الْبَيْعِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْإِقْدَامُ على التَّصَرُّفِ يَكُونُ دَلِيلَ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ فيه وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ وَكَذَا لو كان الثَّمَنُ دَيْنًا فَأَبْرَأَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي من الثَّمَنِ أو اشْتَرَى بِهِ شيئا منه أو وَهَبَهُ من الْمُشْتَرِي فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ لِمَا قُلْنَا وَيَصِحُّ شِرَاؤُهُ وَهِبَتُهُ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ وَالشِّرَاءَ بِهِ مِمَّنْ عليه الدَّيْنُ وَأَنَّهُ جَائِزٌ وَكَذَا لو سَاوَمَهُ الْبَائِعُ بِالثَّمَنِ الذي في ذِمَّتِهِ شيئا لِأَنَّهُ قَصَدَ تَمَلُّكَ ذلك الشَّيْءِ وَلَا يُمْكِنُهُ التَّمَلُّكَ إلَّا بِثُبُوتِ مِلْكِهِ في الثَّمَنِ أو تَقَرُّرِهِ فيه
وَلَوْ اشْتَرَى بِالثَّمَنِ شيئا من غَيْرِهِ لم يَصِحَّ الشِّرَاءُ وكان إجَازَةً أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الشِّرَاءِ فَلِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِالدَّيْنِ من غَيْرِ من عليه الدَّيْنُ
وَأَمَّا كَوْنُهُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ فَلِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ من غَيْرِهِ وَإِنْ لم يَصِحَّ لَكِنَّهُ قَصَدَ التَّمَلُّكَ وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ كما إذَا سَاوَمَهُ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِهِ في الدَّلَالَةِ على قَصْدِهِ التَّمَلُّكَ فَوْقَ الْمُسَاوَمَةِ فلما كانت الْمُسَاوَمَةُ إجَازَةً فَالشِّرَاءُ أَوْلَى بِخِلَافِ ما إذَا كان الْبَائِعُ قَبَضَ الثَّمَنَ الذي هو دَيْنٌ فَاشْتَرَى بِهِ شيئا أَنَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلْبَيْعِ لِأَنَّ عَيْنَ الْمَقْبُوضِ ليس بِمُسْتَحَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ الْفَسْخِ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ عِنْدَنَا في الْفَسْخِ كما لَا يَتَعَيَّنَانِ في الْعَقْدِ فلم يَكُنْ الْمَقْبُوضُ فيه مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ التَّصَرُّفُ دَلِيلَ الْإِجَازَةِ بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى بِهِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الشِّرَاءَ إلَى عَيْنِ ما هو مُسْتَحَقٌّ بِالْعَقْدِ فَكَانَ دَلِيلَ الْقَصْدِ إلَى الْمِلْكِ أو تَقَرُّرِ الْمِلْكِ فيه على ما قُلْنَا
وَلَوْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَأَبْرَأَهُ الْبَائِعُ من الثَّمَنِ قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ خِيَارَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ وُجُوبَ الثَّمَنِ وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ ما ليس بِثَابِتٍ لَا يُتَصَوَّرُ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ نَفَذَ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كان وَاجِبًا فَكَانَ إبْرَاؤُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَيَنْفُذُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضرورية ( ( ( الضروري ) ) ) فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ أَحَدُهُمَا مُضِيُّ مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ مُؤَقَّتٌ بِهِ وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ لَكِنْ هل تَدْخُلُ الْغَايَةُ في شَرْطِ الْخِيَارِ بِأَنْ شَرَطَ الْخِيَارَ إلَى اللَّيْلِ أو إلَى الْغَدِ هل يَدْخُلُ اللَّيْلُ أو الْغَدُ قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ تَدْخُلُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا تَدْخُلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ كما في قَوْله تَعَالَى عز
____________________

(5/267)


شَأْنُهُ { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } حتى لَا يَجِبَ الصَّوْمُ في اللَّيْلِ وَكَمَا في التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ أَنَّ الْغَايَةَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْأَجَلِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن الْغَايَاتِ مُنْقَسِمَةٌ غَايَةُ إخْرَاجٍ وَغَايَةُ إثْبَاتٍ فَغَايَةُ الْإِخْرَاجِ تَدْخُلُ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ كما في قَوْله تَعَالَى { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ } وَالْغَايَةُ هَهُنَا في مَعْنَى غَايَةِ الْإِخْرَاجِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يذكر الْوَقْتَ أَصْلًا لَاقْتَضَى ثُبُوتَ الْخِيَارِ في الْأَوْقَاتِ كُلِّهَا حتى لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ يَكُونُ في مَعْنَى شَرْطِ خِيَارٍ مُؤَبَّدٍ بِخِلَافِ التَّأْجِيلِ إلَى غَايَةٍ فإنه لولا ذِكْرُ الْغَايَةِ لم يَثْبُتْ الْأَجَلُ أَصْلًا فَكَانَتْ الْغَايَةُ غَايَةَ إثْبَاتٍ فلم تَدْخُلْ تَحْتَ ما ضُرِبَتْ له الْغَايَةُ وَالثَّانِي مَوْتُ الْبَائِعِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ بِمَوْتِهِ بَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَقَبُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ هل يُوَرَّثُ أَمْ لَا عِنْدَنَا يُوَرَّثُ وَعِنْدَهُ لَا يُوَرَّثُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ خِيَارَ الْقَبُولِ لَا يُوَرَّثُ وَكَذَا خِيَارُ الْإِجَازَةِ في بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يُوَرَّثُ بِالْإِجْمَاعِ وَكَذَا الْأَجَلُ لَا يُوَرَّثُ بِالِاتِّفَاقِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ وَخِيَارَ التَّعْيِينِ يُوَرَّثُ
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فلم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ وَذَكَرَ في الْحِيَلِ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ وَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يُوَرَّثُ احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَوَاهِرِ آيَاتِ الْمَوَارِيثِ حَيْثُ أَثْبَتَ اللَّهُ عز وجل الْإِرْثَ في الْمَتْرُوكِ مُطْلَقًا وَالْخِيَارُ مَتْرُوكٌ فَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ وَبِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من تَرَكَ مَالًا أو حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ وَالْخِيَارُ حَقٌّ تَرَكَهُ فَيَكُونُ لِوَرَثَتِهِ وَلِأَنَّهُ حَقٌّ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ فَيَجْرِي فيه الْإِرْثُ كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْثَ كما يَثْبُتُ في الإملاك يَثْبُتُ في الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ بِالْبَيْعِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ في خِيَارِ الْعَيْبِ وَخِيَارِ التَّعْيِينِ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْخِيَارَ لو ثَبَتَ لِلْوَارِثِ لم يَخْلُ من أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاءً أو بِطَرِيقِ الْإِرْثِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لم يُوجَدْ من الْوَارِثِ ابْتِدَاءً وَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ له من غَيْرِ وُجُودِ شَرْطِ الْخِيَارِ منه خِلَافُ الْحَقِيقَةِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْوَارِثَ يَعْتَمِدُ الْبَاقِي بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ وَخِيَارُهُ لَا يبقي بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ خِيَارَهُ يُخَيِّرُهُ بين الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذلك منه بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُوَرَّثُ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ والمعيين ( ( ( والتعيين ) ) ) لِأَنَّ الْمَوْرُوثَ هُنَاكَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِرْثِ وهو الْعَيْنُ الْمَمْلُوكَةُ وَأَمَّا الْآيَةُ وَالْحَدِيثُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهِمَا لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْخِيَارَ مَتْرُوكٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ عَيْنٌ تَبْقَى وَالْخِيَارُ عَرَضٌ لَا يَبْقَى فلم يَكُنْ مَتْرُوكًا فَلَا يُوَرَّثُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالثَّالِثُ إجَازَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ تَبَايَعَا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ عِنْدَهُ حتى لَا يَمْلِكَ صَاحِبُهُ الْفَسْخَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَخِيَارُ الْآخَرِ على حَالِهِ وَسَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ
وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ في مُدَّةِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِلْأَبِ أو الْوَصِيِّ لِنَفْسِهِ في بَيْعِ مَالِ الصَّبِيِّ هل يَبْطُلُ الْخِيَارُ قال أبو يُوسُفَ يَبْطُلُ وَيَلْزَمُ الْعَقْدُ وقال مُحَمَّدٌ تُنْقَلُ الْإِجَازَةُ إلَى الصَّبِيِّ فَلَا يَمْلِكُ الْوَلِيُّ الْإِجَازَةَ لَكِنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْوَلِيَّ يَتَصَرَّفُ في مَالِ الصَّغِيرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عنه شَرْعًا لِعَجْزِهِ عن التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وقد زَالَ الْعَجْزُ بِالْبُلُوغِ فَتَنْتَقِلُ الْإِجَازَةُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ لِأَنَّهُ من بَابِ دَفْعِ الْحَقِّ فَيَمْلِكُهُ كَالْفُضُولِيِّ في الْبَيْعِ إنَّهُ يَمْلِكُ الْفَسْخَ قبل إجَازَةِ الْمَالِكِ وَإِنْ لم يَمْلِكْ الْإِجَازَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن الْخِيَارَ يَثْبُتُ لِلْوَلِيِّ وهو وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ وقد بَطَلَ بِالْبُلُوغِ فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ إلَى الصَّبِيِّ وَلِهَذَا لم يَنْتَقِلْ إلَى الْوَارِثِ بِمَوْتِ من له الْخِيَارُ وَلَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ في مُدَّةِ خِيَارِ شَرْطِهِ لِنَفْسِهِ في الْبَيْعِ بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لَمَّا عَجَزَ وَرُدَّ إلَى الرِّقِّ لم يَبْقَ له وِلَايَةُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَيَسْقُطُ الْخِيَارُ ضَرُورَةً كما يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا حَجَرَ عليه الْمَوْلَى في مُدَّةِ الْخِيَارِ بَطَلَ خياره عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن مُحَمَّدٍ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى الْأَبُ أو الْوَصِيُّ شيئا بِدَيْنٍ في الذِّمَّةِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ بَلَغَ الصَّبِيُّ جَازَ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا وَالصَّبِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ
أَمَّا الْجَوَازُ عَلَيْهِمَا فَلِأَنَّ وِلَايَتَهُمَا قد انْقَطَعَتْ بِالْبُلُوغِ فَلَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِالْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَيَبْطُلُ خِيَارُهُمَا وَجَازَ الْعَقْدُ في حَقِّهِمَا وَأَمَّا خِيَارُ الصَّبِيِّ فَلِأَنَّ الْجَوَازَ وَاللُّزُومَ لم يثبت ( ( ( يثبتا ) ) ) في حَقِّهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ في حَقِّهِمَا فَكَانَ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةُ
وَأَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَيَسْقُطُ بِمَا يُسْقِطُ خِيَارَ الْبَائِعِ وَبِغَيْرِهِ أَيْضًا فَيَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بموت ( ( ( وبموت ) ) ) من له الْخِيَارُ عِنْدَنَا وَإِجَازَةُ أَحَدِ الشركين ( ( ( الشريكين ) ) ) عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَالْإِجَازَةُ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى
____________________

(5/268)


الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ وهو أَنْ يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ كَالْبَيْعِ وَالْمُسَاوَمَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ والإجازة ( ( ( والإجارة ) ) ) وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ سُلِّمَ أو لم يُسَلَّمْ لِأَنَّ جَوَازَ هذه التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ فَالْإِقْدَامُ عليها يَكُونُ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو تَقَرُّرَ الْمِلْكِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَذَا دَلِيلُ الْإِجَازَةِ
وَكَذَا الْوَطْءُ منه وَالتَّقْبِيلُ بِشَهْوَةٍ وَالْمُبَاشَرَةُ لِشَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا لِشَهْوَةٍ يكن ( ( ( يكون ) ) ) إجَازَةً منه لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَحِلُّ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ
وَأَمَّا الْمَسُّ عن غَيْرِ شَهْوَةٍ وَالنَّظَرُ إلَى فَرْجِهَا بِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَلَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّ ذلك مُبَاحٌ في الْجُمْلَةِ بِدُونِ الْمِلْكِ لِلطَّبِيبِ وَالْقَابِلَةِ
وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً بِمَنْزِلَةِ الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ وَالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ عن شَهْوَةٍ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ لِيَنْظُرَ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا على أَنَّ فيه ضَرُورَةً لِأَنَّ الِاحْتِرَازَ عن ذلك غَيْرُ مُمْكِنٍ بِأَنْ يَسْأَلَهُ ثَوْبَهُ عِنْدَ إرَادَةِ الرَّدِّ فَيَرُدَّهُ أو يَسْتَسْرِجَهُ دَابَّتَهُ لِيَرْكَبَهَا فَيَرُدَّهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ
وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ أو بَاشَرَتْهُ فَإِنْ كان ذلك بِتَمْكِينٍ بِأَنْ عَلِمَ ذلك منها وَتَرَكَهَا حتى فَعَلَتْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ
وَكَذَا هذا في حَقِّ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ إذَا قَبَّلَتْهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَكَذَا في خِيَارِ الْعَيْبِ إذَا وَجَدَ بها عَيْبًا ثُمَّ قَبَّلَتْهُ
وَكَذَا في الطَّلَاقِ إذَا فَعَلَتْ ذلك كان رَجْعَةً وَإِنْ اخْتَلَسَتْ اخْتِلَاسًا من غَيْرِ تَمْكِينِ الْمُشْتَرِي وَالزَّوْجِ وهو كَارِهٌ لِذَلِكَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ذلك رَجْعَةً وَلَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَكُونُ فِعْلُهَا إجَازَةً لِلْبَيْعِ كيف ما كان وَأَجْمَعُوا على أنها لو بَاضَعَتْهُ وهو نَائِمٌ بِأَنْ أَدْخَلَتْ فَرْجَهُ فَرْجَهَا أَنَّهُ يَسْقُطُ الْخِيَارُ وَيَكُونُ رَجْعَةً
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنَّ الْخِيَارَ حَقُّ شَرْطٍ له ولم يُوجَدْ منه ما يُبْطِلُهُ نَصًّا وَلَا دَلَالَةً وهو فِعْلٌ يَدُلُّ عليه فَلَا يَبْطُلُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ الِاحْتِيَاطَ يُوجِبُ سُقُوطَ الْخِيَارِ
إذْ لو لم يَسْقُطْ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ لِتَبْيِينِ أَنَّ الْمَسَّ عن شَهْوَةٍ وَالتَّمْكِينُ من الْمَسِّ عن شَهْوَةٍ حَصَلَ في غَيْرِ مِلْكٍ وَكُلُّ ذلك حَرَامٌ فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ وَثُبُوتُ الرَّجْعَةِ بِطَرِيقِ الصِّيَانَةِ عن ارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ وَلِأَنَّ الْمَسَّ عن شَهْوَةٍ يُفْضِي إلَى الْوَطْءِ وَالسَّبَبُ الْمُفْضِي إلَى الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ خُصُوصًا في مَوْضِعِ الِاحْتِيَاطِ فَأُقِيمَ ذلك مَقَامَ الْوَطْءِ من الْمُشْتَرِي وَلِهَذَا يَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمَسِّ عن شَهْوَةٍ من الْجَانِبَيْنِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى الْوَطْءِ فَأُقِيمَ مَقَامَهُ كَذَا هذا
وَلَوْ قَبَّلَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ ثُمَّ قال قَبَّلْتُهَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَذَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْخِيَارَ كان ثَابِتًا له فَهُوَ بِقَوْلِهِ كان لِغَيْرِ شَهْوَةٍ يُنْكِرُ سُقُوطُهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ
وَكَذَلِكَ قال أبو حَنِيفَةَ في الْجَارِيَةِ إذ قَبَّلْت الْمُشْتَرِي بِشَهْوَةٍ أنه إنَّمَا يَسْقُطُ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْدُ إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي إنَّهَا فَعَلَتْ بِشَهْوَةٍ
فَأَمَّا إذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ ذلك بِشَهْوَةٍ فَلَا يَسْقُطُ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي بِسُقُوطِ حَقِّهِ فَيَتَوَقَّفُ على إقْرَارِهِ
وَلَوْ حَدَثَ في الْمَبِيعِ في يَدِ الْمُشْتَرِي ما يَمْنَعُ الرَّدَّ على الْبَائِعِ بَطَلَ خِيَارُهُ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْخِيَارِ هو التَّمَكُّنُ من الْفَسْخِ وَالرَّدِّ فإذا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الرَّدِّ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْخِيَارِ فَائِدَةٌ فَلَا يَبْقَى ذلك وَذَلِكَ نحو ما إذَا هَلَكَ في يَدِهِ أو انْتَقَصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ سَوَاءٌ كان ذلك فَاحِشًا أو يَسِيرًا وَسَوَاءٌ كان ذلك بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلٍ أَجْنَبِيٍّ
لِأَنَّ حُدُوثَ هذه الْمَعَانِي في يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ
أَمَّا الْهَلَاكُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا النُّقْصَانُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الرَّدِّ وهو أَنْ يَكُونَ ما قَبَضَ كما قَبَضَ لِأَنَّهُ إذَا انْتَقَصَ شَيْءٌ منه فَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْقَدْرِ الْفَائِتِ فَتَقَرَّرَ على الْمُشْتَرِي حِصَّتُهُ من الثَّمَنِ لِأَنَّ فَوَاتَهُ حَصَلَ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَلَوْ رَدَّ الْبَاقِي كان ذلك تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وإذا امْتَنَعَ الرَّدُّ بَطَلَ الْخِيَارُ لِمَا قُلْنَا وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ أَيْضًا إلَّا في خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ ما إذَا انْتَقَصَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ فإن الْمُشْتَرِي فِيهِمَا على خِيَارِهِ عِنْدَهُ إنْ شَاءَ رَدَّ عليه وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ
وَأَخَذَ الْأَرْشَ من الْبَائِعِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الِاخْتِلَافَ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَإِنْ كان الْعَيْبُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ كَالْمَرَضِ فَالْمُشْتَرِي على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ لِأَنَّ كُلَّ عَارِضٍ على أَصْلٍ إذ ارْتَفَعَ يَلْحَقُ بِالْعَدَمِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ
هذا هو الْأَصْلُ وَلَيْسَ له أَنْ يَفْسَخَ إلَّا أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَيْبُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ وَالْعَيْبُ قَائِمٌ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَلَزِمَ الْبَيْعُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ازْدَادَ
____________________

(5/269)


الْمَبِيعُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كما إذَا كان ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو كان أَرْضًا فَبَنَى عليها أو غَرَسَ فيها أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ مَانِعَةٌ من الرَّدِّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَانَتْ مُسْقِطَةً لِلْخِيَارِ وَلَوْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالسِّمَنِ وَالْبُرْءِ من الْمَرَضِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ من الْعَيْنِ وَنَحْوِ ذلك فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَبْطُلُ بِنَاءً على أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَمْنَعُ الرَّدَّ عِنْدَهُمَا كما في الْعَيْبِ في الْمَهْرِ في النِّكَاحِ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا أو كانت غير متولده من الْأَصْلِ لَكِنَّهَا بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ كَالْأَرْشِ أو بَدَلُ ما هو في مَعْنَى الْجُزْءِ كَالْعُقْرِ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهَا مَانِعَةٌ من الرَّدِّ عِنْدَنَا وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ وَلَا هِيَ بَدَلُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ أو ما هو في مَعْنَى الْجُزْءِ كَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فَلَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزَّوَائِدُ له مع الْأَصْلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أنها كَسْبٌ مَلَكَهُ فَكَانَتْ مِلْكَهُ
وَإِنْ اخْتَارَ الْفَسْخَ رَدَّ الْأَصْلَ مع الزَّوَائِدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزَّوَائِدُ تَكُونُ له بِنَاءً على أَنَّ مِلْكَ الْمَبِيعِ كان مَوْقُوفًا فإذا فُسِخَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَدْخُلْ في مِلْكِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَيَرُدُّهَا إلَيْهِ مع الْأَصْلِ وَعِنْدَهُمَا الْمَبِيعُ دخل في مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الزَّوَائِدُ حَاصِلَةً على مِلْكِهِ وَالْفَسْخُ يَظْهَرُ في الْأَصْلِ لَا في الزِّيَادَةِ فَبَقِيَتْ على حُكْمِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ كان إجَازَةً وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أو يَشْتَرِيَ لها عَلَفًا أو لِيَرُدَّهَا على بَائِعِهَا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ إجَازَةً لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذلك قَوْدًا وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إجَازَةً وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا بُدَّ منه خُصُوصًا إذَا كانت الدَّابَّةُ صَعْبَةً لَا تَنْقَادُ بِالْقَوْدِ فَكَانَ ذلك من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ فَلَا يُجْعَلُ إجَازَةً
وَلَوْ رَكِبَهَا لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ له من ذلك للاختبار ( ( ( للاختيار ) ) ) بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّهُ إذَا رَكِبَهَا بَعْدَمَا عَلِمَ بِالْعَيْبِ أَنَّهُ يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ له منه بُدًّا وَلَا حَاجَةَ إلَى الرُّكُوبِ هُنَاكَ لِمَعْرِفَةِ سَيْرِهَا فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ لِيَنْظُرَ إلَى قِصَرِهِ من طُولِهِ وَعَرْضِهِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهُ لِأَنَّ ذلك مِمَّا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ أَنَّهُ يُوَافِقُهُ أَمْ لَا فلم يَكُنْ منه بُدٌّ
وَلَوْ رَكِبَ الدَّابَّةَ لِيَعْرِفَ سَيْرَهَا ثُمَّ رَكِبَهَا مَرَّةً أُخْرَى يُنْظَرُ إنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ سَيْرٍ آخَرَ غَيْرِ الْأَوَّلِ بِأَنْ رَكِبَهَا مَرَّةً لِيَعْرِفَ أنها هِمْلَاجٌ ثُمَّ رَكِبَهَا ثَانِيًا لِيَعْرِفَ سُرْعَةَ عَدْوِهَا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ السَّيْرَيْنِ مَقْصُودَةٌ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَيْهَا في بَعْضِ الدَّوَابِّ
وَإِنْ رَكِبَهَا لِمَعْرِفَةِ السَّيْرِ الْأَوَّلِ قالوا يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَكَذَا في اسْتِخْدَامِ الرَّقِيقِ إذَا اسْتَخْدَمَهُ في نَوْعٍ ثُمَّ اسْتَخْدَمَهُ في ذلك النَّوْعِ قالوا يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا قالوا لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الِاخْتِبَارَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ لِجَوَازِ أَنَّ الْأَوَّلَ وَقَعَ اتِّفَاقًا فَيُحْتَاجُ إلَى التَّكْرَارِ لِمَعْرِفَةِ الْعَادَةِ وفي الثَّوْبِ إذَا لَبِسَهُ مَرَّةً لِمَعْرِفَةِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ ثُمَّ لَبِسَهُ ثَانِيًا يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَكْرَارِ اللُّبْسِ في الثَّوْبِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِاللُّبْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً
وَلَوْ حَمَلَ على الدَّابَّةِ عَلَفًا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ حَمْلُ الْعَلَفِ على غَيْرِهَا وَلَوْ قَصَّ حَوَافِرَهَا أو أَخَذَ من عُرْفِهَا شيئا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ إذْ هو من بَابِ إصْلَاحِ الدبة ( ( ( الدابة ) ) ) فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَيَكُونُ مَأْذُونًا فيه دَلَالَةً كما إذَا عَلَفَهَا أو سَقَاهَا
وَلَوْ وَدَجَهَا أو بَزَغَهَا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فيها بِالتَّنْقِيصِ فَإِنْ كان شَاةً فَحَلَبَهَا أو شَرِبَ لَبَنَهَا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالْمِلْكِ أو الْإِذْنِ من الْمَالِكِ ولم يُوجَدْ الْإِذْنُ فَكَانَ دَلِيلًا على قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو التَّقْرِيرِ فَيَكُونُ إجَازَةً
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَسَكَنَهَا الْمُشْتَرِي أو أَسْكَنَهَا غَيْرَهُ بِأَجْرٍ أو بِغَيْرٍ أَجْرٍ أو رَمَّ شيئا منها أو جَصَّصَهَا أو طَيَّنَهَا أو أَحْدَثَ فيها شيئا أو هَدَمَ فيها شيئا فَذَلِكَ كُلُّهُ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْمِلْكِ أو تَقْرِيرِهِ فَكَانَ إجَازَةً دَلَالَةً
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ في سُكْنَى الْمُشْتَرِي رِوَايَتَانِ وَوَفَّقَ بَيْنَهُمَا فَحَمَلَ إحْدَاهُمَا على ابْتِدَاءِ السُّكْنَى وَالْأُخْرَى على الدَّوَامِ عليه وَلَوْ كان فيها سَاكِنٌ بِأَجْرٍ فَبَاعَهَا الْبَائِعُ بِرِضَا الْمُسْتَأْجِرِ وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فَتَرَكَهُ الْمُشْتَرِي فيها أو اسْتَأْوَى الْغَلَّةَ فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ أَخْذُهَا دَلَالَةً قَصْدَ تَمَلُّكِ الْمَنْفَعَةِ أو تَقْرِيرَ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَذَلِكَ قَصَدَ تَمَلُّكَ الدَّارِ أو تَقَرَّرَ مِلْكِهِ فيها فَكَانَ إجَازَةً
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ أَرْضًا فيها حَرْثٌ فَسَقَاهُ أو حَصَدَهُ أو قَصَلَ منه شيئا فَهُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّ السَّقْيَ تَصَرُّفٌ في الْحَرْثِ بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَ دَلِيلِ اخْتِيَارِ الْبَيْعِ وَإِيجَابِهِ
____________________

(5/270)


وَكَذَلِكَ الْقَصْلُ تَصَرُّفٌ فيه بِالتَّنْقِيصِ فَكَانَ دَلِيلَ قَصْدِ التَّمَلُّكِ أو التَّقَرُّرِ وَلَوْ شَرِبَ من نَهْرِ تِلْكَ الْأَرْضِ أو سَقَى منه دَوَابَّهُ لَا يَكُونُ إجَازَةً لِأَنَّ هذا تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ لِأَنَّهُ مُبَاحٌ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ رَحًى فَطَحَنَ فيها فَإِنْ هو طَحَنَ لِيَعْرِفَ مِقْدَارَ طَحْنِهَا فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ ما شُرِعَ له الْخِيَارُ وَلَوْ دَامَ على ذلك كان إجَازَةً لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الزِّيَادَةِ لِلِاخْتِيَارِ فَكَانَ دَلِيلَ الرِّضَا بِوُجُوبِ الْبَيْعِ
وَأَمَّا خِيَارُ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي جميعا فَيَسْقُطُ بِمَا يَسْقُطُ بِهِ حَالَةَ الِانْفِرَادِ فَأَيَّهُمَا أَجَازَ صَرِيحًا أو ما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أو فَعَلَ ما يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ بَطَلَ خِيَارُهُ وَلَزِمَ الْبَيْعُ من جَانِبِهِ وَالْآخَرُ على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَجَازَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ وَأَيَّهُمَا فَسَخَ صَرِيحًا أو ما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أو فَعَلَ ما يَدُلُّ على الْفَسْخِ انْفَسَخَ أَصْلًا وَرَأْسًا وَلَا تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ من صَاحِبِهِ بَعْدَ ذلك وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالْإِبْطَالِ وَالْعَقْدُ بعدما بَطَلَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ لِأَنَّ الْبَاطِلَ متلاشي ( ( ( متلاش ) ) )
وَأَمَّا الْإِجَازَةُ فَهِيَ تَصَرُّفٌ في الْعَقْدِ بِالتَّغْيِيرِ وهو الْإِلْزَامُ لَا بِالْإِعْدَامِ فَلَا يُخْرِجُهُ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَلَوْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ انْفَسَخَ الْعَقْدُ سَوَاءٌ كان على التَّعَاقُبِ أو على الْقِرَانِ لِأَنَّ الْفَسْخَ أَقْوَى من الْإِجَازَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْحَقُ الْإِجَازَةَ فإن الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَمَّا الْإِجَازَةُ فَلَا تَلْحَقُ الْفَسْخَ فإن الْمَفْسُوخَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَكَانَ الْفَسْخُ أَقْوَى من الْإِجَازَةِ فَكَانَ أَوْلَى وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فقال أَحَدُهُمَا فَسَخْنَا الْبَيْعَ وقال الْآخَرُ لَا بَلْ أَجَزْنَا الْبَيْعَ جميعا فَاخْتِلَافُهُمَا لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ أو بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِنْ كان في الْمُدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْفَسْخَ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفَرِدُ بِالْفَسْخِ وَأَحَدَهُمَا لَا يَنْفَرِدُ بِالْإِجَازَةِ
وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ لِأَنَّهُ الْمُدَّعِي وَإِنْ كان بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فقال أَحَدُهُمَا مَضَتْ الْمُدَّةُ بَعْدَ الْفَسْخِ وقال الْآخَرُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ وهو ما بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ بِشَهَادَةِ الْحَالِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْفَسْخِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ أَمْرًا بِخِلَافِ الظَّاهِرِ وَالْبَيِّنَاتُ شُرِعَتْ له وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِأَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفَا في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من له الْخِيَارُ سَوَاءٌ ادَّعَى الْفَسْخَ أم الْإِجَازَةَ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْأَمْرَيْنِ جميعا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ هو الْمُدَّعِي وَلَوْ كان اخْتِلَافُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ من يَدَّعِي الْإِجَازَةَ أَيَّهُمَا كان لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ الْجَوَازِ وَهِيَ ما بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَوْ أُرِّخَتْ الْبَيِّنَاتُ في هذا كُلِّهِ فَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا أَوْلَى سَوَاءٌ قَامَتْ على الْفَسْخِ أو على الْإِجَازَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كان خِيَارُ الشَّرْطِ لِغَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ بِأَنْ شَرَطَ أَحَدُهُمَا الْخِيَارَ لِأَجْنَبِيٍّ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك جَائِزٌ وَلِلشَّارِطِ وَالْمَشْرُوطِ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ وَأَيُّهُمَا أَجَازَ جَازَ وَأَيُّهُمَا فَسَخَ انْفَسَخَ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِطًا لِنَفْسِهِ مُقْتَضَى الشَّرْطِ لِغَيْرِهِ وَصَارَ الْمَشْرُوطُ له بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لِلشَّارِطِ في الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَإِنْ أَجَازَ أَحَدُهُمَا وَفَسَخَ الْآخَرُ فَإِنْ كَانَا على التَّعَاقُبِ فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَى فَسْخًا كان أو إجَازَةً لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالشَّرْطِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فَأَيُّهُمَا سَبَقَ وُجُودُهُ بَطَلَ الْآخَرُ وَإِنْ كَانَا مَعًا ذُكِرَ في الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ عن وِلَايَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى نَقْضًا كان أو أجازة وَذَكَرَ في الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى من أَيِّهِمَا كان
وَجْهُ رِوَايَةِ الْبُيُوعِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ صَدَرَ عن وِلَايَةِ الْمِلْكِ فَلَا يُعَارِضُهُ الصَّادِرُ عن وِلَايَةِ النِّيَابَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْمَأْذُونِ أَنَّ النَّقْضَ أَوْلَى من الْإِجَازَةِ لِأَنَّ الْمُجَازَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ أَمَّا الْمَفْسُوخُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَكَانَ الرُّجْحَانُ في الْمَأْذُونِ لِلنَّقْضِ من أَيِّهِمَا كان
وَقِيلَ ما رُوِيَ في الْبُيُوعِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُقَدِّمُ وِلَايَةَ الْمِلْكِ على وِلَايَةِ النِّيَابَةِ وما ذُكِرَ في الْمَأْذُونِ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْدِيمَ وِلَايَةِ الْمِلْكِ وَأَصْلُهُ ما ذُكِرَ في النَّوَادِرِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ من إنْسَانٍ وَبَاعَ الْمَالِكُ من غَيْرِهِ وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مع أَنَّ بَيْعَ الْمُوَكِّلِ أَوْلَى عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُجْعَلُ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ من المشترين ( ( ( المشتريين ) ) ) وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ أَيْضًا صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوَ أَنْ يَقُولَ من له الْخِيَارُ فَسَخْتُ الْبَيْعَ أو نَقَضْتُهُ أو أَبْطَلْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى فَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو
____________________

(5/271)


لِلْمُشْتَرِي أو لَهُمَا أو لِغَيْرِهِمَا وَلَا يُشْتَرَطُ له التَّرَاضِي وَلَا قَضَاءُ الْقَاضِي لِأَنَّ الْفَسْخَ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عليه
وَأَمَّا الْفَسْخُ من طَرِيقِ الدَّلَالَةِ فَهُوَ أَنْ يَتَصَرَّفَ من له الْخِيَارُ تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ إنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وفي الثَّمَنِ إنْ كان عَيْنًا إذَا كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا كان لِلْبَائِعِ فَتَصَرُّفُهُ في الْمَبِيعِ تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فيه وإذا كان لِلْمُشْتَرِي فَتَصَرُّفُهُ في الثَّمَنِ إذَا كان عَيْنًا تَصَرُّفُ الْمُلَّاكِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ مِلْكِهِ فيه وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بِالْفَسْخِ فَالْإِقْدَامُ عليه يَكُونُ فَسْخًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً
وَالْحَاصِلُ أن وُجِدَ من الْبَائِعِ في الْمَبِيعِ ما لو وُجِدَ منه في الثَّمَنِ لَكَانَ إجَازَةً لِلْبَيْعِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وقد ذَكَرْنَا ذلك كُلَّهُ وَهَذَا النَّوْعُ من الْفَسْخِ لَا يَقِفُ على عِلْمِ صَاحِبِهِ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ هَهُنَا لَا يَثْبُتُ بِالْفَسْخِ مَقْصُودًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِغَيْرِهِ فَلَا يُشْتَرَطُ له ما يُشْتَرَطُ لِلْفَسْخِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَنَحْوَ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ سَوَاءٌ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي أو لَهُمَا جميعا لِأَنَّهُ لو كان بَاتًّا لَبَطَلَ فإذا كان فيه خِيَارُ الشَّرْطِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَضْعَفُ منه وَإِنْ هَلَكَ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَكِنْ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ وَالْمِثْلُ إنْ كان له مِثْلٌ إمَّا بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَلِأَنَّ الْمَبِيعَ صَارَ بِحَالٍ لَا يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ عليه فَلَا يَحْتَمِلُ الْإِجَازَةَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ ضَرُورَةً وَأَمَّا لُزُومُ الْقِيمَةِ فَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال ابن أبي لَيْلَى أنه يَهْلِكُ أَمَانَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخِيَارَ مَنَعَ انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ فَكَانَ الْمَبِيعُ على حُكْمِ مِلْكِ الْبَائِعِ أَمَانَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي فَيَهْلِكُ هَلَاكَ الْأَمَانَاتِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ لم يَنْعَقِدْ في حَقِّ الْحُكْمِ لَكِنَّ الْمَبِيعَ في قَبْضِ الْمُشْتَرِي على حُكْمِ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ بَلْ هو فَوْقَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ الْعَقْدُ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِحُكْمِهِ وَهَهُنَا إنْ لم يَثْبُتْ حُكْمُ الْعَقْدِ فَقَدْ وُجِدَ بِنَفْسِهِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أو بِالْمِثْلِ فَهَذَا أَوْلَى
وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ الْخِيَارُ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَعَلَيْهِ الثَّمَنُ أما على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَلَكَهُ بِالْعَقْدِ فإذا قَبَضَهُ فَقَدْ تَقَرَّرَ عليه الثَّمَنُ فإذا هَلَكَ يَهْلِكُ مَضْمُونًا بِالثَّمَنِ كما كان في الْبَيْعِ الْبَاتِّ
وأما على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْمُشْتَرِي وَإِنْ لم يَمْلِكْهُ فَقَدْ اعْتَرَضَ عليه في يَدِهِ قبل الْقَبْضِ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ وهو التَّعَيُّبُ بِعَيْبٍ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْهَلَاكَ في يَدِهِ لَا يَخْلُو عن تَقَدُّمِ عَيْبٍ عَادَةً لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عن سَبَبِ مَوْتِهِ في الْهَلَاكِ عَادَةً وَأَنَّهُ يَكُونُ عَيْبًا وَتَعَيُّبُ الْمَبِيعِ في يَدِ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فإذا هَلَكَ يَهْلِكُ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْمَبِيعَ أَجْنَبِيٌّ وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ لِأَنَّهُ يَهْلِكُ إلَى خَلَفٍ وهو الضَّمَانُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ لِلضَّمَانِ وهو إتْلَافُ مَالٍ مقوم ( ( ( متقوم ) ) ) مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ وَالْهَالِكُ إلَى خَلَفٍ قَائِمٌ مَعْنًى فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِجَازَةِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي أو في يَدِ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ في الْحَالَيْنِ جميعا فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْجَانِي بِالضَّمَانِ
وَكَذَلِكَ لو اسْتَهْلَكَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه بِالِاسْتِهْلَاكِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَالضَّمَانُ بَدَلُ الْمَضْمُونِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ فَكَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا مَعْنًى فَكَانَ الْخِيَارُ على حَالِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالضَّمَانِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَاتَّبَعَهُ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْبَائِعِ فَإِنْ كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ ما انْتَقَصَ منه من غَيْرِ فِعْلِهِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عليه حَيْثُ لَا يَسْقُطُ بِحِصَّتِهِ شَيْءٌ من الثَّمَنِ فَلَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ في قَدْرِ الضَّمَانِ بِإِبْقَاءِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي فَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ فَإِنْ أَجَازَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ لِأَنَّ ما انْتَقَصَ بِفِعْلِهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عليه حتى يَسْقُطَ عن الْمُشْتَرِي حِصَّةُ قَدْرِ النُّقْصَانِ من الثَّمَنِ فَالْإِجَازَةُ تَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ لم يَبْطُلْ الْبَيْعُ وهو على خِيَارِهِ لِأَنَّ قَدْرَ النُّقْصَانِ هَلَكَ إلَى خَلَفٍ وهو الضَّمَانُ فَكَانَ قَائِمًا مَعْنًى ولم يَبْطُلْ الْبَيْعُ في قَدْرِ الْهَالِكِ فَكَانَ الْبَائِعُ على خِيَارِهِ إنْ شاه ( ( ( شاء ) ) ) فَسَخَ الْبَيْعَ وأتبع الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ أَجَازَ وأتبع الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَتَّبِعُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ
وَكَذَلِكَ لو تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَالْبَائِعُ على
____________________

(5/272)


خِيَارِهِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ على مِلْكِ الْبَائِعِ فَكَانَ قَدْرُ النُّقْصَانِ مَضْمُونًا على الْمُشْتَرِي فَكَانَ هَلَاكًا إلَى خَلَفٍ فَكَانَ الْبَيْعُ على حَالِهِ وَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِيَ بِالضَّمَانِ
وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ وَاتَّبَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ
وَكَذَلِكَ إذَا تَعَيَّبَ في يَدِ الْمُشْتَرِي بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَالْبَائِعُ على خِيَارِهِ فَإِنْ شَاءَ أَجَازَ الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَهُ فَإِنْ أَجَازَ أَخَذَ من الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ جَازَ في الْكُلِّ وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي خِيَارُ الرَّدِّ بِحُدُوثِ التَّغَيُّرِ في الْمَبِيعِ لِأَنَّهُ حَدَثَ في يَدِهِ في ضامنه ( ( ( ضمانه ) ) ) غير أَنَّهُ إنْ كان التعييب ( ( ( التعيب ) ) ) بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَلَا سَبِيلَ له على أَحَدٍ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَّبِعَ الْجَانِي بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِإِجَازَةِ الْبَائِعِ من وَقْتِ الْبَيْعِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ وَإِنْ فَسَخَ يُنْظَرُ إنْ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فإن الْبَائِعَ يَأْخُذُ الْبَاقِي وَيَأْخُذُ أَرْشَ الْجِنَايَةِ من الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْعَبْدَ كان مَضْمُونًا على الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ في يَدِهِ لزمنه ( ( ( لزمته ) ) ) قِيمَتُهُ وَبِالْفَسْخِ وَجَبَ عليه رَدُّهُ وقد عَجَزَ عن رَدِّ قَدْرِ الْفَائِتِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ وَكَذَا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْأَجْنَبِيَّ بِالْأَرْشِ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْأَجْنَبِيِّ فَالْأَجْنَبِيُّ لَا يَرْجِعُ على أَحَدٍ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلِ نَفْسِهِ
وَإِنْ اخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمُشْتَرِي فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ بِمَا ضَمِنَ من الْأَرْشِ على الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قام مَقَامَ الْبَائِعِ في حَقِّ مِلْكِ بَدَلِ الْفَائِتِ وَإِنْ لم يَقُمْ مَقَامَهُ في حَقِّ مِلْكِ نَفْسِ الْفَائِتِ كَغَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قُتِلَ الْمُدَبَّرُ في يَدِهِ وَضَمِنَهُ لِلْمَالِكِ أَنَّ له أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ على القائل ( ( ( القاتل ) ) ) وَإِنْ لم يَمْلِكْ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا بَطَلَ فَقَدْ لَزِمَ الْبَيْعُ فَلَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حتى لو فُسِخَ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كان فَسْخُهُ مَوْقُوفًا عِنْدَهُمَا إنْ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِفَسْخِهِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ نَفَذَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ لَزِمَ الْعَقْدُ
وَكَذَا لو أَجَازَ الْفَاسِخُ الْعَقْدَ نَفَذَ فَسْخُهُ قبل عِلْمِ صَاحِبِهِ وَجَازَتْ إجَازَتُهُ وَلَزِمَ الْعُقَدُ وَبَطَلَ فَسْخُهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال عِلْمُ صَاحِبِهِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو فُسِخَ يَصِحُّ فَسْخُهُ عَلِمَ صَاحِبُهُ بِالْفَسْخِ أو لَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَلَ بين خِيَارِ الْبَائِعِ وَخِيَارِ الْمُشْتَرِي فلم يَشْتَرِطْ الْعِلْمَ في خِيَارِ الْبَائِعِ وَشَرَطَ في خِيَارِ الْمُشْتَرِي
وَأَمَّا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في خِيَارِ الْعَيْبِ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْفَسْخِ فيه شَرْطٌ سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ أو قَبْلَهُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ عَزْلَ الْمُوَكِّلِ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَإِنْ فَسَخَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ أو نهى رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ عن التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ بِتَسْلِيطِ صَاحِبِهِ عليه وَرِضَاهُ فَلَا مَعْنَى لِلتَّوَقُّفِ على عِلْمِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ من غَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْفَسْخَ لو نَفَذَ بِغَيْرِ عِلْمِ صَاحِبِهِ لَتَضَرَّرَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا يَنْفُذُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه كَالْمُوَكِّلِ إذَا عَزَلَ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ صَاحِبَهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِالْفَسْخِ فَتَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ على ظَنِّ أَنَّهُ مِلْكَهُ فَلَوْ جَازَ الْفَسْخُ من غَيْرِ عِلْمِهِ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ عَزْلُ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِهِ كَذَا هذا بِخِلَافِ الْإِجَازَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ من غَيْرِ عِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فيه وَكَذَا لَا ضَرَرَ في بَيْعِ الْوَكِيلِ بِغَيْرِ عِلْمِ الْمُوَكِّلِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْفَسْخِ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ حتى لَا يَمْلِكَ الْإِجَازَةَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّهُ تفرق ( ( ( تفريق ) ) ) الصَّفْقَةِ قبل تَمَامِهَا وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
وَأَمَّا الْخِيَارُ الثَّابِتُ بِالشَّرْطِ دَلَالَةً فَهُوَ خِيَارُ الْعَيْبِ وَالْكَلَامُ في بَيْعِ الْمَعِيبِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بين صفة الحكم وفي بَيَانِ تفسري ( ( ( صفة ) ) ) الْعَيْبِ الذي يُوجِبُ الْخِيَارَ وَتَفْصِيلِ الْمُفَسَّرِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وفي طَرِيقِ إثْبَاتِ الْعَيْبِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ من تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ في الْعَيْبِ وَمَنْ لَا تَلْزَمُهُ وفي بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وفي بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ وفي بَيَانِ طَرِيقِ الرُّجُوعِ
أَمَّا حُكْمُهُ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ لِلْحَالِ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ مُطْلَقٌ عن الشَّرْطِ وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ
____________________

(5/273)


النَّصِّ شَرْطُ السَّلَامَةِ لَا شَرْطُ السَّبَبِ وَلَا شَرْطُ الْحُكْمِ وَأَثَرُهُ في مَنْعِ اللُّزُومِ لَا في من ( ( ( منع ) ) ) أَصْلِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ عليه هُنَاكَ دخل على السَّبَبِ فَيَمْنَعُ انْعِقَادَهُ في حَقِّ الْحُكْمِ في مُدَّةِ الْخِيَارِ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ السَّلَامَةَ شَرْطٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً فما لم يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لَا يَلْزَمُ الْبَيْعُ فَلَا يَلْزَمُ حُكْمُهُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً أَنَّ السَّلَامَةَ في الْبَيْعِ مَطْلُوبَةُ الْمُشْتَرِي عَادَةً إلَى آخِرِهِ لِأَنَّ غَرَضَهُ الِانْتِفَاعُ بِالْمَبِيعِ وَلَا يَتَكَامَلُ انْتِفَاعُهُ إلَّا بِقَيْدِ السَّلَامَةِ وَلِأَنَّهُ لم يَدْفَعْ جَمِيعَ الثَّمَنِ إلَّا لِيُسَلَّمَ له جَمِيعُ الْمَبِيعِ فَكَانَتْ السَّلَامَةُ مَشْرُوطَةً في الْعَقْدِ دَلَالَةً فَكَانَتْ كَالْمَشْرُوطَةِ نَصًّا فإذا فَاتَتْ الْمُسَاوَاةُ كان له الْخِيَارُ كما إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً على أنها بِكْرٌ أو على أنها طَبَّاخَةٌ فلم يَجِدْهَا كَذَلِكَ
وَكَذَا السَّلَامَةُ من مُقْتَضَيَاتِ الْعَقْدِ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْمُعَاوَضَاتُ مَبْنَاهَا على الْمُسَاوَاةِ عَادَةً وَحَقِيقَةً وَتَحْقِيقُ الْمُسَاوَاةِ في مُقَابَلَةِ الْبَدَلِ بِالْمُبْدَلِ وَالسَّلَامَةِ بِالسَّلَامَةِ فَكَانَ إطْلَاقُ الْعَقْدِ مُقْتَضِيًا لِلسَّلَامَةِ فإذا لم يُسَلَّمْ الْمَبِيعُ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ له الْخِيَارُ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُطَالِبُهُ بِتَسْلِيمِ قَدْرِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وهو عَاجِزٌ عن تَسْلِيمِهِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلِأَنَّ السَّلَامَةَ لَمَّا كانت مَرْغُوبَةَ الْمُشْتَرِي ولم يَحْصُلْ فَقَدْ اخْتَلَّ رِضَاهُ وَهَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِأَنَّ الرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبَيْعِ قال اللَّهُ تَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَانْعِدَامُ الرِّضَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ وَاخْتِلَالُهُ يُوجِبُ الْخِيَارَ فيه إثْبَاتًا لِلْحُكْمِ على قَدْرِ الدَّلِيلِ
وَالْأَصْلُ في شَرْعِيَّةِ هذا الْخِيَارِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من اشْتَرَى شَاةً مُحَفَّلَةً فَوَجَدَهَا مُصَرَّاةً فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وفي رِوَايَةٍ فَهُوَ بِأَحَدِ النَّظَرَيْنِ إلَى ثَلَاثَةٍ أن شَاءَ أَمْسَكَ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ وَرَدَّ مَعَهَا صَاعًا من تَمْرٍ النظران ( ( ( والنظران ) ) ) الْمَذْكُورَانِ هُمَا نَظَرُ الْإِمْسَاكِ وَالرَّدِّ وَذِكْرُ الثَّلَاثِ في الحديث ليس لِلتَّوْقِيتِ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الْخِيَارِ ليس بِمُوَقَّتٍ بَلْ هو بِنَاءُ الْأَمْرِ على الْغَالِبِ الْمُعْتَادِ لِأَنَّ المشتري إنْ كان بِهِ عَيْبٌ يَقِفُ عليه الْمُشْتَرِي في هذه الْمُدَّةِ عَادَةً فيرضي بِهِ فَيُمْسِكُهُ أو لَا يرضي بِهِ فَيَرُدُّهُ وَالصَّاعُ من التَّمْرِ كَأَنَّهُ قِيمَةُ اللَّبَنِ الذي حَلَبَهُ الْمُشْتَرِي عَلِمَهُ رسول اللَّهِ بِطَرِيقِ الْمُشَاهَدَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا تَفْسِيرُ الْعَيْبِ الذي يُوجِبُ الْخِيَارَ وَتَفْصِيلُ الْمُفَسَّرِ فَكُلُّ ما يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا فَاحِشًا أو يَسِيرًا فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ وما لَا فَلَا نحو الْعَمَى وَالْعَوَرِ وَالْحَوَلِ وَالْقَبَلِ وهو نَوْعٌ من الْحَوْلِ مَصْدَرُ الْأَقْبَلِ وهو الذي كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى طَرَفِ أَنْفِهِ وَالسَّبَلِ وهو زِيَادَةٌ في الْأَجْفَانِ وَالْعَشَا مَصْدَرُ الْأَعْشَى وهو الذي لَا يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ وَالْخَوَصِ مَصْدَرُ الْأَخْوَصِ وهو غَائِرُ الْعَيْنِ والحوض ( ( ( والحوص ) ) ) مَصْدَرُ الْأَحْوَصِ وهو الضَّيِّقُ مُؤَخَّرِ الْعَيْنِ وَالْغَرَبِ وهو وَرَمٌ في الأماق وَهِيَ أَطْرَافُ الْعَيْنِ التي تَلِي الْأَنْفَ
وَقِيلَ هو دُرُورُ الدَّمْعِ دَائِمًا وَالظَّفَرَةُ وَهِيَ التي يُقَالُ لها بِالْفَارِسِيَّةِ ناخنه وَالشَّتَرِ وهو انْقِلَابُ جَفْنِ الْعَيْنِ وَالْبَرَصِ وَالْقَرَعِ وَالسَّلْعِ وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ وَالْفَدَعِ وهو إعوجاج في الرُّسْغِ من الْيَدِ أو الرِّجْلِ وَالْفَجَجِ مَصْدَرُ الْأَفْجَجُ وهو الذي يَتَدَانَى عَقِبَاهُ وَيَنْكَشِفُ سَاقَاهُ في الْمَشْيِ
وَالصَّكَكِ مَصْدَرُ الْأَصَكِّ وهو الذي يصكك ( ( ( تصطك ) ) ) رُكْبَتَاهُ وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ وهو الذي أَقْبَلَتْ إحْدَى إبْهَامِ رِجْلَيْهِ على الْأُخْرَى والبزي ( ( ( والبزا ) ) ) مَصْدَرُ الْأَبْزَى وهو خُرُوجُ الصَّدْرِ
وَالْعُسْرِ مَصْدَرُ الْأَعْسَرِ وهو الذي يَعْمَلُ بِشِمَالِهِ والأصبع الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّوْدَاءِ وَالنَّاقِصَةِ وَالظُّفْرِ الْأَسْوَدِ وَالْبَخَرِ وهو نَتْنُ الْفَمِ في الْجَوَارِي لَا في الْعَبِيدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عن دَاءٍ وَالزَّفَرِ وهو نَتْنُ الْإِبِطِ في الْجَارِيَةِ لَا في الْغُلَامِ إلَّا أَنْ يَفْحُشَ فَيَكُونُ عَيْبًا فِيهِمَا جميعا وَالْأَدَرِ مَصْدَرُ الإدرة وهو الذي بِهِ أُدْرَةٌ يُقَالُ لها بِالْفَارِسِيَّةِ فَتْحُ
وَالرَّتَقِ وهو انْسِدَادُ فَرْجِ الْجَارِيَةِ وَالْفَتْقِ وهو انْفِتَاحُ فَرْجِهَا وَالْقَرَنِ وهو في النِّسَاءِ كَالْأُدْرَةِ في الرِّجَالِ وَالشَّمَطِ وَالشَّيْبِ في الْجَوَارِي وَالْعَبِيدِ وَالسَّلُول وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَالْأَمْرَاضِ كُلِّهَا
وَالْحَبَلِ في الْجَوَارِي لَا في الْبَهَائِمِ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ في الْبَهِيمَةِ وَحَذْفِ الْحُرُوفِ في الْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ أو في بَعْضِهِ وَالزِّنَا في الْجَارِيَةِ لَا في الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْفِرَاشَ وقد يُقْصَدُ الْفِرَاشُ في الْإِمَاءِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ إلَّا إذَا فَحُشَ وَصَارَ اتِّبَاعُ النِّسَاءِ عَادَةً له فَيَكُونُ عَيْبًا فيه أَيْضًا لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَعْطِيلَ مَنَافِعِهِ على الْمَوْلَى وَكَذَا إذَا ظَهَرَ وُجُوبُ الْحَدِّ عليه فَهُوَ عَيْبٌ
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا بِبَلْخٍ الزِّنَا يَكُونُ عَيْبًا في الْغُلَامِ أَيْضًا لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَمَنُ على أَهْلِ ابيت ( ( ( البيت ) ) ) فَلَا يُسْتَخْدَمُ
____________________

(5/274)


وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْغُلَامَ الْكَبِيرَ لَا يُشْتَرَى لِلِاسْتِخْدَامِ في الْبَيْتِ بَلْ لِلْأَعْمَالِ الْخَارِجَةِ وَكَوْنُ المشتري وَلَدَ الزِّنَا في الْجَارِيَةِ لَا في الْعَبِيدِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قد يُقْصَدُ الْفِرَاشُ من الْجَوَارِي فإذا جَاءَتْ بِوَلَدٍ يُعَيَّرُ وَلَدُهُ بِأُمِّهِ بِخِلَافِ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ يشتري لخدمة ( ( ( للخدمة ) ) ) عَادَةً وَالْكُفْرُ في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ عَيْبٌ لِأَنَّ الطَّبْعَ السَّلِيمَ يَنْفِرُ عن صُحْبَةِ الْكَافِرِ
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ بِأَنْ اشْتَرَى نَصْرَانِيٌّ عَبْدًا فَوَجَدَهُ مُسْلِمًا لِأَنَّ الْإِسْلَامَ زِيَادَةٌ وَالنِّكَاحُ في الْجَارِيَةِ وَالْغُلَامِ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ مَمْلُوكَةٌ لِلزَّوْجِ وَالْعَبْدُ يُبَاعُ في الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَيُوجِبُ ذلك نُقْصَانًا في ثَمَنِهِمَا وَالْعِدَّةُ من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَا من طَلَاقٍ بَائِنٍ أو ثَلَاثٍ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ وَاحْتِبَاسُ الْحَيْضَةِ في الْجَارِيَةِ الْبَالِغَةِ مُدَّةً طَوِيلَةً شَهْرَانِ فَصَاعِدًا والإستحاضة لِأَنَّ ارْتِفَاعَ الْحَيْضِ في أَوَانِهِ لَا يَكُونُ إلَّا لِدَاءٍ عَادَةً
وَكَذَا اسْتِمْرَارُ الدَّمِ في أَيَّامِ الطُّهْرِ وَالْإِحْرَامُ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ إزَالَتَهُ فإن له أَنْ يُحَلِّلَهَا وَالْحُرْمَةُ بِالرَّضَاعِ أو الصِّهْرِيَّةِ ليس بِعَيْبٍ فيها لِأَنَّ الْجَوَارِيَ لَا يُشْتَرَيْنَ لِلِاسْتِمْتَاعِ عَادَةً بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ في الْبَيْتِ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ لَا تَقْدَحُ في ذلك بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَيْثُ يَكُونُ عَيْبًا وَإِنْ لم يَثْبُتْ بِهِ إلَّا حُرْمَةُ الِاسْتِمْتَاعِ لِأَنَّهُ يحل ( ( ( يخل ) ) ) بِالِاسْتِخْدَامِ
وَالثِّيَابَةُ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ اشْتَرَاهَا على شَرْطِ الْبَكَارَةِ فَيَرُدَّهَا بَعْدَ الشَّرْطِ وَالدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ لِأَنَّهُ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ وَيُبَاعُ بِالدَّيْنِ وَالْجَهْلُ بِالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ في الْجَارِيَةِ ليس بِعَيْبٍ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ بَلْ هو حِرْفَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَاطَةِ وَنَحْوِهَا فَانْعِدَامُهُ لَا يَكُونُ عَيْبًا إلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ فَيَرُدَّهَا لِفَوَاتِ الشَّرْطِ لَا لِلْعَيْبِ
وَلَوْ كانت تحس ( ( ( تحسن ) ) ) الطَّبْخَ والخيز ( ( ( والخبز ) ) ) في يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ نَسِيَتْ في يَدِهِ فَاشْتَرَاهَا فَوَجَدَهَا لَا تُحْسِنُ ذلك رَدَّهَا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك مَشْرُوطًا في الْعَقْدِ لِأَنَّهَا إذَا كانت تُحْسِنُ ذلك في يَدِ الْبَائِعِ وَهِيَ صِفَةٌ مَرْغُوبَةٌ تشتري لها الْجَارِيَةُ عَادَةً فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا رَغْبَةً فيها فَصَارَتْ مَشْرُوطَةً دَلَالَةً فَيَرُدُّهَا لِانْعِدَامِ الْمَشْرُوطِ كما لو شَرَطَ ذلك نَصًّا وَانْعِدَامُ الْخِتَانِ في الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ إذ كَانَا مَوْلُودَيْنِ كَبِيرَيْنِ فَإِنْ كانت ( ( ( كانا ) ) ) مَوْلُودَيْنِ صَغِيرَيْنِ فَلَيْسَ بِعَيْبٍ لِأَنَّ الْخِتَانَ في حَالَةِ الْكِبَرِ فيه زِيَادَةُ أَلَمٍ
وَهَذَا الذي ذُكِرَ في الْجَارِيَةِ في عُرْفِ بِلَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ يَخْتِنُونَ الْجَوَارِيَ فَأَمَّا في عُرْفِ دِيَارِنَا فَالْجَارِيَةُ لَا تُخْتَنُ فَعَدَمُ الْخِتَانِ فيها لَا يَكُونُ عَيْبًا أَصْلًا
وَإِنْ كان الْغُلَامُ كَبِيرًا حَرْبِيًّا لَا يَكُونُ عَيْبًا لأن فيه ضَرُورَةٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ الرَّقِيقِ يُؤْتَى بِهِ من دَارِ الْحَرْبِ وَأَهْلُ الْحَرْبِ لَا خِتَانَ لهم فَلَوْ جُعِلَ ذلك عَيْبًا يُرَدُّ بِهِ لَضَاقَ الْأَمْرُ على الناس وَلِأَنَّ الْخِتَانَ إذَا لم يَكُنْ من فِعْلِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَعَادَتِهِمْ وَمَعَ ذلك اشْتَرَاهُ كان ذلك منه دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَالْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ وَالْجُنُونُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها يُوجِبُ النُّقْصَانَ في الثَّمَنِ في عَادَةِ التُّجَّارِ نُقْصَانًا فَاحِشًا فَكَانَ عَيْبًا إلَّا أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ ثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِالْحُجَّةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فَسَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْحَنَفُ مَصْدَرُ الْأَحْنَفِ من الْخَيَلِ وهو الذي إحْدَى عَيْنَيْهِ زَرْقَاءُ وَالْأُخْرَى كَحْلَاءُ وَالصَّدَفِ مَصْدَرُ الْأَصْدَفِ وهو الدَّابَّةُ التي يَتَدَانَى فَخْذَاهَا وَيَتَبَاعَدُ حَافِرَاهَا وَيَلْتَوِي رُسْغَاهَا
وَالْعَزْلُ مَصْدَرُ الْأَعْزَلِ وهو من الدَّوَابِّ الذي يَقَعُ ذَنَبُهُ من جَانِبٍ عَادَةً لَا خِلْقَةً وَالْمَشَشُ وهو ارْتِفَاعُ الْعَظْمِ لِآفَةٍ أَصَابَتْهُ وَالْجَرَدُ مَصْدَرُ الْأَجْرَدِ وهو من الْإِبِلِ الذي أَصَابَهُ انْقِطَاعُ عَصَبٍ من يَدِهِ أو رِجْلِهِ فَهُوَ يُنْقِصُهَا إذَا سَارَ وَالْحَرَّانُ وَالْحَرُونُ مَصْدَرُ الْحَرُونِ وهو الذي يَقِفُ وَلَا يَنْقَادُ لِلسَّائِقِ وَلَا لِلْقَائِدِ
وَالْجِمَاحُ وَالْجُمُوحُ مَصْدَرُ الْجَمُوحِ وهو أَنْ يَشْتَدَّ الْفَرَسُ فَيَغْلِبُ رَاكِبَهُ وَخَلْعُ الرَّسَنِ ظَاهِرٌ وَبَلُّ الْمِخْلَاةِ كَذَلِكَ وَالْهَشْمُ في الْأَوَانِي وَالصَّدْعُ في الْحَوَائِطِ والجدوع ( ( ( والجذوع ) ) ) وَنَحْوِهَا من الْعُيُوبِ فَأَنْوَاعُ الْعُيُوبِ فيها كَثِيرَةٌ لَا وَجْهَ لِذِكْرِهَا هَهُنَا كُلِّهَا وَالتَّعْوِيلُ في الْبَابِ على عُرْفِ التُّجَّارِ فما نَقَصَ الثَّمَنَ في عُرْفِهِمْ فَهُوَ عَيْبٌ يُوجِبُ الْخِيَارَ ومالا فَلَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ
فَمِنْهَا ثُبُوتُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ أو بَعْدَهُ قبل التَّسْلِيمِ حتى لو حَدَثَ بَعْدَ ذلك لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وقد حُصِّلَتْ السِّلْعَةُ سَلِيمَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي
وَمِنْهَا ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ما قَبَضَ الْمَبِيعَ وَلَا يكتفي بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ في جَمِيعِ الْعُيُوبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْمَشَايِخِ وقال بَعْضُهُمْ فِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ من الأباق وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ في
____________________

(5/275)


الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي ليس بِشَرْطٍ بَلْ الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ كَافٍ وَبَعْضُهُمْ فَصَّلَ في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فقال لَا يُشْتَرَطُ في الْجُنُونِ وَيُشْتَرَطُ في غَيْرِهِ من الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ
وَجْهُ قَوْلِ من فَصَّلَ هذه الْعُيُوبَ الْأَرْبَعَةَ من سَائِرِهَا في اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ أَنَّ هذه الْعُيُوبَ عُيُوبٌ لَازِمَةٌ لَا زَوَالَ لها إذَا ثَبَتَتْ في شَخْصٍ إلَى أَنْ يَمُوتَ فَثُبُوتُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ يَدُلُّ على بَقَائِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَكَانَ له حَقُّ الرَّدِّ من غَيْرِ أَنْ يَظْهَرَ عِنْدَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ من فَرَّقَ بين الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ إن الْجُنُونَ لِفَسَادٍ في مَحَلِّ الْعَقْدِ وهو الدِّمَاغُ وَهَذَا مِمَّا لَا زَوَالَ له عَادَةً إذَا ثَبَتَ وَلِهَذَا قال مُحَمَّدٌ إنَّ الْجُنُونَ عَيْبٌ لَازِمٌ بِخِلَافِ الْإِبَاقِ وَالْبَوْلِ في الْفِرَاشِ أنها لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الزَّوَالَ لِزَوَالِ أَسْبَابِهَا
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ قَوْلُ مُحَمَّدٍ نَصًّا في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فإنه ذَكَرَ فيه أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهَا عِنْدَهُ فَكَانَ الْمَعْنَى فيه إن الثَّابِتَ عِنْدَ الْبَائِعِ مُحْتَمِلُ الزَّوَالِ قَابِلُ الِارْتِفَاعِ فَأَمَّا ما سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ لَا شَكَّ فيه
وَكَذَلِكَ الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ لِأَنَّ حُدُوثَهَا في الذَّاتِ لِلْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْحُدُوثِ وَهِيَ مُحْتَمِلَةٌ لِلزَّوَالِ فَكَانَتْ هِيَ مُحْتَمِلَةً لِلزَّوَالِ لِاحْتِمَالِ زَوَالِ أَسْبَابِهَا فَإِنْ بَقِيَتْ يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ وَإِنْ ارْتَفَعَتْ لَا يَثْبُتُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ من ثُبُوتِهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِيُعْلَمَ أنها قَائِمَةٌ
وَقَوْلُ الْقَائِلِ الْجُنُونُ إذَا ثَبَتَ لَا يَزُولُ عَادَةً مَمْنُوعٌ فإن الْمَجْنُونَ قد يُفِيقُ وَيَزُولُ جُنُونُهُ بِحَيْثُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ فما لم يُوجَدْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ كما في الْأَنْوَاعِ الْأُخَرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بين الْجُنُونِ وَغَيْرِهِ من الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ من وَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ هُنَاكَ يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ الْحَالَةِ لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وهو أَنْ يَكُونَ وُجُودُهَا عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي في حَالَةِ الصِّغَرِ أو في حَالِ الْكِبَرِ حتى لو أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ في الْفِرَاشِ عِنْدَ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ عَاقِلٌ
ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لَا يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ وفي الْجُنُونِ اتِّحَادُ الْحَالَةِ ليس بِشَرْطٍ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ السَّبَبِ لِأَنَّ السبب ( ( ( سبب ) ) ) الْبَوْلِ على الْفِرَاشِ في حَالِ الصِّغَرِ هو ضَعْفٌ في الْمَثَانَةِ وفي الْكِبَرِ هو دَاءٌ في الْبَاطِنِ وَالسَّبَبُ في الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ في الصِّغَرِ هو الْجَهْلُ وَقِلَّةُ التَّمْيِيزِ وفي الْكِبَرِ الشَّرَارَةُ وَخُبْثُ الطَّبِيعَةِ وَاخْتِلَافُ السَّبَبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ غير الْمَوْجُودِ في يَدِ الْبَائِعِ فَكَانَ عَيْبًا حَادِثًا وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الْجُنُونِ لِأَنَّ سَبَبَهُ في الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ وهو فَسَادٌ في مَحَلِّ الْعَقْلِ وهو الدِّمَاغُ فَكَانَ الْمَوْجُودُ في حَالَةِ الْكِبَرِ عَيْنَ الْمَوْجُودِ في حَالَةِ الصِّغَرِ وَهَذَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ مَعْنَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْكِتَابِ الْجُنُونُ عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا لَا ما قَالَهُ أُولَئِكَ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا عَقْلُ الصَّبِيِّ في الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ على الْفِرَاشِ حتى لو أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ على الْفِرَاشِ في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي وهو كَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ وَهَذَا إذَا فَعَلَ ذلك في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ لَا يَعْقِلُ ثُمَّ وُجِدَ ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بعدما عَقَلَ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ في يَدِ الْبَائِعِ ليس بِعَيْبٍ وَلَا بُدَّ من وُجُودِ الْعَيْبِ في يَدِهِ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ الْحَالِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَ لم يَثْبُتْ حَقُّ الرَّدِّ بِأَنْ أَبَقَ أو سَرَقَ أو بَالَ على الْفِرَاشِ في يَدِ الْبَائِعِ وهو صَغِيرٌ عَاقِلٌ ثُمَّ كان ذلك في يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْبُلُوغِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْحَالِ دَلِيلُ اخْتِلَافِ سَبَبِ الْعَيْبِ على ما بَيَّنَّا وَاخْتِلَافُ سَبَبِ الْعَيْبِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَيْبِ فَكَانَ الْمَوْجُودُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَيْبًا حَادِثًا عِنْدَ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا جَهْلُ الْمُشْتَرِي بوجوب ( ( ( بوجود ) ) ) الْعَيْبِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ فَإِنْ كان عَالِمًا بِهِ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على الشِّرَاءِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ رِضًا بِهِ دَلَالَةً وَكَذَا إذَا لم يَعْلَمْ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَهُ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ مُتَعَلِّقٌ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْعِلْمُ عِنْدَ الْقَبْضِ كَالْعِلْمِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَمِنْهَا عَدَمُ اشْتِرَاطِ الْبَرَاءَةِ عن الْعَيْبِ في الْبَيْعِ عِنْدَنَا حتى لو شَرَطَ فَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ شَرْطَ الْبَرَاءَةِ عن الْعَيْبِ في الْبَيْعِ عِنْدَنَا صَحِيحٌ فإذا أَبْرَأَهُ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَصَحَّ الاسقاط فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً ثُمَّ الْكَلَامُ في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في جَوَازِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ من الْعَيْبِ
أَمَّا الْكَلَامُ في جَوَازِهِ فَقَدْ مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى بَيَانِ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ من الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْبَرَاءَةُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت عَامَّةً بِأَنْ قال بِعْت على أَنِّي بَرِيءٌ من
____________________

(5/276)


الْعُيُوبِ أو قال من كل عَيْبٍ وإما إن كانت خَاصَّةً بِأَنْ قال من عَيْبِ كَذَا وَسَمَّاهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إن قَيَّدَ الْبَرَاءَةَ بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ وَإِمَّا إن أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا وَإِمَّا إن أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ يَحْدُثُ في الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ قَيَّدَهَا بِعَيْبٍ قَائِمٍ حَالَةَ الْعَقْدِ لَا يَتَنَاوَلُ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ سَوَاءٌ كانت الْبَرَاءَةُ عَامَّةً بِأَنْ قال أَبْرَأْتُك من كل عَيْبٍ بِهِ أو خَاصَّةً بِأَنْ قال أَبْرَأْتُك مِمَّا بِهِ من عَيْبِ كَذَا لِأَنَّ اللَّفْظَ الْمُقَيَّدَ بِوَصْفٍ لَا يَتَنَاوَلُ غير الْمَوْصُوفِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَإِنْ أَطْلَقَهَا إطْلَاقًا دخل فيه الْقَائِمُ وَالْحَادِثُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَدْخُلُ فيه الْحَادِثُ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الْعَيْبِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الْمَعْدُومِ لَا يُتَصَوَّرُ وَالْحَادِثُ لم يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْبَيْعِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِبْرَاءِ فَلَوْ دخل إنَّمَا يَدْخُلُ بِالْإِضَافَةِ إلَى حَالَةِ الْحُدُوثِ وَالْإِبْرَاءُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ حتى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ الْحَادِثُ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ نَصًّا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ نَصًّا وَدَلَالَةً أَمَّا النَّصُّ فإنه عَمَّ الْبَرَاءَةَ عن الْعُيُوبِ كُلِّهَا أو خَصَّهَا بِجِنْسٍ من الْعُيُوبِ على الاطلاق نَصًّا فَتَخْصِيصُهُ أو تَقْيِيدُهُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنَّ غَرَضَ الْبَائِعِ من هذا الشَّرْطِ هو انْسِدَادُ طَرِيقِ الرَّدِّ وَلَا يَنْسَدُّ إلَّا بِدُخُولِ الْحَادِثِ فَكَانَ دَاخِلًا فيه دَلَالَةً
وَأَمَّا قَوْلُ مُحَمَّدٍ أن هذا إبْرَاءٌ عَمَّا ليس بِثَابِتٍ فَعِبَارَةُ الْجَوَابِ عن هذا الْحَرْفِ من وَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ هذا مَمْنُوعٌ بَلْ هو إبْرَاءٌ عن الثَّابِتِ لَكِنْ تَقْدِيرًا وَبَيَانُهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ قبل الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ كما يَثْبُتُ بِالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَبْضَ حُكْمُ الْعَقْدِ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن حَقٍّ ثَابِتٍ تَقْدِيرًا
وَالثَّانِي أَنَّ سَبَبَ حَقِّ الرَّدِّ مَوْجُودٌ وهو الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَقْتَضِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عليه سَلِيمًا عن الْعَيْبِ فإذا عَجَزَ عن تَسْلِيمِهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ يَثْبُتُ له حَقُّ الرَّدِّ لِيُسَلَّمَ له الثَّمَنُ فَكَانَ وُجُودُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَالْبَيْعُ سَبَبٌ لِوُجُودِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَكَانَ ثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ بِهَذِهِ الْوَسَائِطِ حُكْمَ الْبَيْعِ السَّابِقِ وَالْبَيْعُ سَبَبٌ فَكَانَ هذا إبْرَاءً عن حَقِّ الرَّدِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وَسَبَبُ الشَّيْءِ إذَا وُجِدَ يُجْعَلُ هو ثُبُوتًا تَقْدِيرًا لِاسْتِحَالَةِ خُلُوِّ الْحُكْمِ عن السَّبَبِ فَكَانَ إبْرَاءً عن الثَّابِتِ تَقْدِيرًا وَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ عن الْجِرَاحَةِ لِكَوْنِ الْجُرْحِ سَبَبَ السِّرَايَةِ فَكَانَ إبْرَاءً عَمَّا يَحْدُثُ من الْجُرْحِ تَقْدِيرًا
وَكَذَا الْإِبْرَاءُ عن الْأُجْرَةِ قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَصِحُّ وَإِنْ كانت الْأُجْرَةُ لَا تُمَلَّكُ عِنْدَنَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنَّ هذا إبْرَاءٌ عن حَقٍّ ليس بِثَابِتٍ لَكِنْ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِهِ وهو الْبَيْعُ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ كَالْإِبْرَاءِ عن الْجُرْحِ وَالْإِبْرَاءِ عن الْأُجْرَةِ على ما بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ عن كل حَقٍّ له أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَادِثَ لِأَنَّ الْحَادِثَ مَعْدُومٌ لِلْحَالِ بِنَفْسِهِ وَبِسَبَبِهِ فَلَوْ انْصَرَفَ إلَيْهِ الْإِبْرَاءُ لَكَانَ ذلك إبْرَاءً عَمَّا ليس بِثَابِتٍ أَصْلًا لَا حَقِيقَةً وَلَا تَقْدِيرًا لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْحَقِّ فلم يَنْصَرِفْ إلَيْهِ
وَقَوْلُهُ لو تَنَاوَلَ الْحَادِثَ لَكَانَ هذا تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطٍ أو الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ مَمْنُوعٍ بَلْ هذا إبْرَاءٌ عن حَقٍّ ثَابِتٍ وَقْتَ الْإِبْرَاءِ تَقْدِيرًا لِمَا بَيَّنَّا من الْوَجْهَيْنِ فلم يَكُنْ هذا تَعْلِيقًا وَلَا إضَافَةً فَيَصِحُّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ أَضَافَهَا إلَى عَيْبٍ حَادِثٍ بِأَنْ قال على أَنِّي بَرِيءٌ من كل عَيْبٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الْبَيْعِ فَالْبَيْعُ بهذ ( ( ( بهذا ) ) ) الشَّرْطِ فَاسِدٌ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان إسْقَاطًا فَفِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الِارْتِدَادَ بِالرَّدِّ وَلَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى زَمَانٍ في الْمُسْتَقْبَلِ نَصَّا كما لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَانَ هذا بَيْعًا أَدْخَلَ فيه شَرْطًا فَاسِدًا فَيُوجِبُ فَسَادَ الْبَيْعِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في عَيْبٍ فقال الْبَائِعُ هو كان مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَدَخَلَ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ وقال الْمُشْتَرِي بَلْ هو حَادِثٌ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ فَإِنْ كانت الْبَرَاءَةُ مُطْلَقَةً فَهَذَا لَا يَتَفَرَّعُ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ دَاخِلٌ تَحْتَ الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَهُ فَأَمَّا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مع يَمِينِهِ وقال زُفَرُ وَالْحَسَنُ بن زِيَادٍ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ هو المبري ( ( ( المبرئ ) ) ) لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيمَا أَبْرَأَ قَوْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عَامَّةٌ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ بعد ( ( ( بعموم ) ) ) عموم الْبَرَاءَةِ عن حَقِّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كما لو أَبْرَأْهُ عن الدعاوي كُلِّهَا ثُمَّ ادَّعَى شيئا مِمَّا في يَدِهِ وهو يُنْكِرُ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ دُونَ الْمُشْتَرِي لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ كانت مُقَيَّدَةً بِعَيْبٍ يَكُونُ
____________________

(5/277)


عِنْدَ الْعَقْدِ فَاخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُقَيَّدَةَ بِحَالِ الْعَقْدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَوْجُودَ حَالَةَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي الْعَيْبَ لِأَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ وَالْبَائِعُ يَدَّعِيهِ لِأَبْعَدِهِمَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ عَدَمَ الْعَيْبِ أَصْلٌ وَالْوُجُودُ عَارِضٌ فَكَانَ إحَالَةُ الْمَوْجُودِ إلَى أَقْرَبِ الْوَقْتَيْنِ أَقْرَبُ إلَى الْأَصْلِ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذلك فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ فَسَاوَمَهُ رَجُلٌ فقال الْمُشْتَرِي اشتراه ( ( ( اشتره ) ) ) فإنه لَا عَيْبَ بِهِ ثُمَّ لم يَتَّفِقْ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ هذا الْعَيْبَ كان عِنْدَ الْبَائِعِ فقال له الْبَائِعُ إنَّك أَقْرَرْتَ أَنَّهُ لَا عَيْبَ بِهِ فَقَدْ أَكْذَبْت شُهُودَكَ لَا يَبْطُلُ بهذا الْكَلَامِ حَقُّهُ في الرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ في الْمُتَعَارَفِ لَا يُرَادُ بِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُذْكَرُ لِتَرْوِيجِ السِّلْعَةِ وَلِأَنَّ ظَاهِرَهُ كَذِبٌ لِأَنَّهُ نفي عنه الْعُيُوبَ كُلَّهَا وَالْآدَمِيُّ لَا يَخْلُو عن عَيْبٍ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَتَكَلَّمْ بِهِ
وَلَوْ عَيَّنَ نَوْعًا من الْعُيُوبِ بِأَنْ قال اشْتَرِهِ فإنه ليسي ( ( ( ليس ) ) ) بِهِ عَيْبُ كَذَا ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا وَأَرَادَ الرَّدَّ فَإِنْ كان ذلك نَوْعًا آخَرَ سِوَى النَّوْعِ الذي عَيَّنَهُ له أَنْ يَرُدَّهُ لِأَنَّهُ لَا إقْرَارَ منه بهذا النَّوْعِ وَإِنْ كان من النَّوْعِ الذي عَيَّنَ يُنْظَرُ إنْ كان مِمَّا يَحْدُثُ مِثْلُهُ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ ليس له حَقُّ الرَّدِّ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ في الْمُتَعَارَفِ لَا تَرْوِيجُ السِّلْعَةِ فَصَارَ مُنَاقِضًا وَلِأَنَّ الْآدَمِيَّ يَخْلُو عن عَيْبٍ مُعِينٍ فلم يَتَعَيَّنْ بِكَذِبِهِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ له حَقُّ الرَّدِّ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهِ حَقِيقَةً فَالْتَحَقَ كَلَامُهُ بِالْعَدَمِ
وَلَوْ أَبْرَأَهُ عن عَيْبٍ وَاحِدٍ شَجَّةٍ أو جُرْحٍ فَوَجَدَ شجين ( ( ( شجتين ) ) ) أو جُرْحَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ يَبْرَأُ من أَيِّهِمَا شَاءَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي يَرُدُّ أَيَّهمَا شَاءَ
وَفَائِدَةُ هذا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ عِنْدَ امْتِنَاعِ الرَّدِّ بِاعْتِرَاضِ أَسْبَابِ الِامْتِنَاعِ من هَلَاكِ الْمَبِيعِ أو حُدُوثِ عَيْبٍ آخَرَ في يدي ( ( ( يد ) ) ) الْمُشْتَرِي أو غَيْرِ ذلك من الْأَسْبَابِ الْمَانِعَةِ من الرَّدِّ وَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فَأَمَّا عِنْدَ إمْكَانِ الرَّدِّ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةٌ في هذا الِاخْتِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْإِبْرَاءَ يُسْتَفَادُ من قِبَلِ الْمُشْتَرِي وَالِاحْتِمَالُ جاء من قِبَلِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْبَرَاءَةَ إلَى شَجَّةٍ وَاحِدَةٍ غَيْرِ عَيْنٍ وإذا كان الْإِجْمَالُ منه كان الْبَيَانُ إلَيْهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِبْرَاءَ وَإِنْ كان من الْمُشْتَرِي لَكِنَّ مَنْفَعَةَ الْإِبْرَاءِ عَائِدَةٌ إلَى الْبَائِعِ فَصَارَ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ فَوَّضَ التَّعْيِينَ إلَيْهِ فَكَانَ الْخِيَارُ له
وَلَوْ أَبْرَأَهُ من كل دَاءٍ رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَقَعُ عن الْبَاطِنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُسَمَّى مَرَضًا لَا دَاءً
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَقَعُ عن الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ جميعا لِأَنَّ الْكُلَّ دَاءٌ وَلَوْ أَبْرَأَهُ من كل غَائِلَةٍ فَهِيَ على السَّرِقَةِ وَالْإِبَاقِ وَالْفُجُورِ وَكُلِّ ما كان من فِعْلِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْغَائِلَةَ هِيَ الْجِنَايَةُ وَهِيَ التي تُكْتَبُ في عُهْدَةِ الْمَمَالِيكِ لَا دَاءَ وَلَا غَائِلَةَ على ما كُتِبَ لِرَسُولِ اللَّهِ حِينَمَا اشْتَرَى عَبْدًا أو أَمَةً
وَهَذَا ما اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رسول اللَّهِ من القد ( ( ( العداء ) ) ) بن خَالِدِ بن هَوْذَةَ عَبْدًا أو أَمَةً لَا دَاءَ بِهِ وَلَا غَائِلَةَ بَيْعَ الْمُسْلِمِ من الْمُسْلِمِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا طَرِيقُ أثبات الْعَيْبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ أَقْسَامِ الْعُيُوبِ لِأَنَّ طَرِيقَ إثْبَاتِ الْعَيْبِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْعَيْبُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا شَاهِدًا يَقِفُ عليه كُلُّ أَحَدٍ كالأصبع الزَّائِدَةِ وَالنَّاقِصَةِ وَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَالسَّاقِطَةِ وَبَيَاضِ الْعَيْنِ وَالْعَوَرِ وَالْقُرُوحِ وَالشِّجَاجِ وَنَحْوِهَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاطِنًا خَفِيًّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْخَوَاصُّ من الناس وَهُمْ الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا النِّسَاءُ بِأَنْ كان على فَرْجِ الْجَارِيَةِ أو مَوَاضِعِ الْعَوْرَةِ منها
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه النِّسَاءُ بِأَنْ كان دَاخِلَ الْفَرْجِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ كَارْتِفَاعِ الْحَيْضِ وَالِاسْتِحَاضَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالِامْتِحَانِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ كَالْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ وَالْبَوْلِ على الْفِرَاشِ وَالْجُنُونِ وَالْمُشْتَرِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِ الْعَيْبِ في يَدِهِ لِلْحَالِ وَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ في يَدِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالْقَبْضِ
فَإِنْ أَرَادَ إثْبَاتَ كَوْنِهِ لِلْحَالِ فَإِنْ كان يُوقَفُ عليه بِالْحِسِّ وَالْعِيَانِ فإنه يَثْبُتُ بِنَظَرِ الْقَاضِي أو أَمِينِهِ
لِأَنَّ الْعَيَّانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ وَإِنْ كان لَا يَقِفُ عليه إلَّا الْأَطِبَّاءُ وَالْبَيَاطِرَةُ فَيَثْبُتُ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَهُمْ في هذا الْبَابِ من أَهْلِ الذِّكْرِ فيسئلون ( ( ( فيسألون ) ) )
وَهَلْ يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَوْلِ اثْنَيْنِ منهم من أَهْلِ
____________________

(5/278)


الشَّهَادَةِ وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِسْبِيجَابِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
وَذَكَرَ شَيْخِي الْإِمَامُ الزَّاهِدُ عَلَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدٌ بن أَحْمَدَ السَّمَرْقَنْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيَثْبُتُ بِقَوْلِ مُسْلِمٍ عَدْلٍ منهم وَكَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أبو الْمَعِينِ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ من تَصَانِيفِهِ
وَجْهُ هذا الْقَوْلِ إن هذه الشَّهَادَةَ لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا تَصِحُّ بها الْخُصُومَةُ فَقَطْ فَلَا يُشْتَرَطُ فيها الْعَدَدُ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ تثبت ( ( ( ثبت ) ) ) تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في خَبَرِ الْمُسْلِمِ لَا يَقِفُ على عَدَدٍ بَلْ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِهِ تَعَبُّدًا فَيُرَاعَى فيه مَوْرِدُ التَّعَبُّدِ وهو شَهَادَةٌ يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ فَبَقِيَتْ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ النُّصُوصُ الْمُقْتَضِيَةُ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ في عُمُومِ الشَّهَادَةِ وَالْمَعْقُولُ الذي ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَلِأَنَّ هذه الشَّهَادَةَ وَإِنْ كان لَا يَتَّصِلُ بها الْقَضَاءُ لَكِنَّهَا من ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ لَا وُجُودَ لِلْقَضَاءِ بِدُونِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ ما لم يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالرَّدِّ فَكَانَ من ضَرُورَاتِ الْقَضَاءِ فَيُشْتَرَطُ فيها الْعَدَدُ كما يُشْتَرَطُ في الشَّهَادَةِ على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ
وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا النِّسَاءُ فَالْقَاضِي يُرِيهُنَّ ذلك لِقَوْلِهِ عز وجل { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَالنِّسَاءُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ أَهْلُ الذِّكْرِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ مِنْهُنَّ بَلْ يكتفي بِقَوْلِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَدْلٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ حُجَّةٌ في الشَّرْعِ كَشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ في النَّسَبِ لَكِنْ لَا بُدَّ من الْعَدَالَةِ لِأَنَّ هذا يُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في الْخَبَرِ وَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ كان يَطَّلِعُ عليه لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْعَيْبِ له لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في هذا الْبَابِ وَلَا تُهْمَةَ فِيهِنَّ وَرُخْصَةُ النَّظَرِ ثَابِتَةٌ لَهُنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَيُلْحَقُ هذا بِمَا لَا يَطَّلِعُ عليه النِّسَاءُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ فَلَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهَا لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً وَإِنْ كان في دَاخِلِ فَرْجِهَا فَلَا طَرِيقَ لِلْوُقُوفِ عليه أَصْلًا فَكَانَ الطَّرِيقُ في هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ هو اسْتِحْلَافُ الْبَائِعِ بِاَللَّهِ عز وجل ليس بِهِ لِلْحَالِ هذا الْعَيْبُ
وَأَمَّا الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ وَالْجُنُونُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ هذا مِمَّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِالْخَبَرِ وَلَا ضَرُورَةَ فيه فَلَا بُدَّ من اعْتِبَارِ الْعَدَدِ فيه كما في سَائِرِ الشَّهَادَاتِ فَإِنْ لم يُقِمْ لِلْمُشْتَرِي حُجَّةً على إثْبَاتِ الْعَيْبِ لِلْحَالِ في هذه الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ هل يُسْتَحْلَفُ الْبَائِعُ لم يذكر في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَسَكَتَ عن قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عن الْمَشَايِخِ من قال يُسْتَحْلَفُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَهُمْ وَالتَّنْصِيصُ على قَوْلِهِمَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ مُخَالِفُهُمَا
وَمِنْهُمْ من قال الْمَسْأَلَةُ على الِاخْتِلَافِ ذُكِرَتْ في النَّوَادِرِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَيْضًا أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يُسْتَحْلَفُ وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ وَلَا يُمْكِنُهُ الرَّدُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ وَطَرِيقُ الْإِثْبَاتِ الْبَيِّنَةُ أو نُكُولُ الْبَائِعِ فإذا لم تَقُمْ له بَيِّنَةٌ يُسْتَحْلَفُ لِيَنْكُلَ الْبَائِعُ فَيَثْبُتُ العييب ( ( ( العيب ) ) ) عِنْدَ نَفْسِهِ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَكُونُ عَقِيبَ الدَّعْوَى على الْبَائِعِ وَلَا دَعْوَى له على الْبَائِعِ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْعَيْبِ عِنْدَ نَفْسِهِ ولم يَثْبُتْ فلم تَثْبُتْ دَعْوَاهُ على الْبَائِعِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ
وَقَوْلُهُمَا له طَرِيقُ الْإِثْبَاتِ وهو النُّكُولَ قُلْنَا النُّكُولُ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ وَانْعِدَامُ الدَّعْوَى يَمْنَعُ الِاسْتِحْلَافَ لِأَنَّ اسْتِحْلَافَ الْبَائِعِ في هذه الْعُيُوبِ على الْعِلْمِ لَا على البنات ( ( ( البتات ) ) ) بالله ( ( ( وبالله ) ) ) ما يَعْلَمُ إن هذا الْعَبْدَ أَبَقَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَا سَرَقَ وَلَا بَالَ على الْفِرَاشِ وَلَا جُنَّ وَلَا يَحْلِفُ على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ حَلَفَ على غَيْرِ فِعْلِهِ
وَمَنْ حَلَفَ على غَيْرِ فِعْلِهِ يَحْلِفُ على الْعِلْمِ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ له بِمَا ليس بِفِعْلِهِ وَمَنْ حَلَفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ يَحْلِفُ على الْبَتَاتِ أَصْلُهُ خَبَرُ الْمَثْنَوِيِّ فَإِنْ حَلَفَ لم يَثْبُتْ الْعَيْبُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَإِنْ نَكَلَ يَثْبُتُ عِنْدَهُ فَيُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَهُ
وإذا أَرَادَ إثْبَاتَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيُنْظَرُ إنْ كان الْعَيْبُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْحُدُوثَ أَصْلًا كالأصبع الزَّائِدَةِ وَنَحْوِهَا أو لَا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَالسِّنِّ الشَّاغِيَةِ وَنَحْوِهَا ثَبَتَ كَوْنُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ إذَا لم يَحْتَمِلْ الْحُدُوثَ أو لا يَحْتَمِلُ حُدُوثَ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَإِنْ كان مِمَّا يُحْتَمَلُ حُدُوثُ مِثْلِهِ في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا يكتفي بِثُبُوتِ كَوْنِهِ عِنْدَ
____________________

(5/279)


الْمُشْتَرِي بَلْ يَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إثْبَاتِ كَوْنِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ حُدُوثُ مثله في مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ اُحْتُمِلَ أَنَّهُ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ وَحَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِالِاحْتِمَالِ فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ بِالْبَيِّنَةِ وَهِيَ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أو رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ طَبِيبَتَيْنِ كَانَا أو غير طَبِيبَتَيْنِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الْعَدَدُ في هذه الشَّهَادَةِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ يقضي بها على الْخَصْمِ فَكَانَ الْعَدَدُ فيها شَرْطًا كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ التي يقض ( ( ( يقضى ) ) ) بها على الْخُصُومِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أن فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه إلَّا النِّسَاءُ يُرَدُّ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَلَا يُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَالْمَشْهُورُ من مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يكتفي بِالثُّبُوتِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بَلْ لَا بُدَّ من إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْلَ النِّسَاءِ في هذا الْبَابِ حُجَّةٌ ضَرُورَةً وَالضَّرُورَةُ في الْقَبُولِ في حَقِّ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَتَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَائِعِ لِاحْتِمَالِ الْحُدُوثِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُمَا في حَقِّ تَوَجُّهِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وإذا كان الثُّبُوتُ عِنْدَ الْبَائِعِ فِيمَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ شَرْطًا لِثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ فيقول الْقَاضِي هل كان هذا الْعَيْبُ عِنْدَكَ
فَإِنْ قال نعم رُدَّ عليه إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الرِّضَا أو الْإِبْرَاءَ وَإِنْ قال لَا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي عليه حَقَّ الرَّدِّ وهو يُنْكِرُ فَإِنْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ على ذلك رَدَّهُ على الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ الدَّفْعَ أو الْإِبْرَاءَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على ذلك فَتَنْدَفِعُ دَعْوَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ فَطَلَبَ يَمِينَ الْمُشْتَرِي حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ما رضي بهذا الْعَيْبِ وَإِلَّا أَبْرَأَهُ عنه وَلَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ مُنْذُ رَآهُ وَإِنْ لم يَدَّعِ الدَّفْعَ بِالرِّضَا وَالْإِبْرَاءَ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُشْتَرِيَ على الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ وَالْعَرْضِ على الْبَيْعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَفْسَخُ ما لم يَسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما رضي بهذا الْعَيْبِ وَلَا أَبْرَأَهُ عنه وَلَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ بعدما عَلِمَ بِهِ من الْعَيْبِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَاضِيَ لو قَضَى بِالْفَسْخِ قبل الِاسْتِحْلَافِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَدَّعِيَ الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي بِالدَّفْعِ بِدَعْوَى الرِّضَا وَالْإِبْرَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عليه فَيُفْسَخُ قَضَاؤُهُ فَكَانَ الِاسْتِحْلَافُ قبل الْفَسْخِ فيه صِيَانَةٌ لِلْقَضَاءِ عن النَّقْضِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْبَائِعَ إذَا لم يَطْلُبْ يَمِينَ الْمُشْتَرِي فتحلييف ( ( ( فتحليف ) ) ) الْقَاضِي من غَيْرِ طَلَبِ الْخَصْمِ إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ وَالْقَاضِي نُصِّبَ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا
وَقَوْلُ أبي يُوسُفَ أَنَّ في هذا صِيَانَةَ قَضَاءِ الْقَاضِي عن الْفَسْخِ فَنَقُولُ الصِّيَانَةُ حَاصِلَةٌ بِدُونِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَائِعَ لم يَعْلَمْ بِوُجُودِ الرِّضَا من الْمُشْتَرِي إذْ لو عَلِمَ لَادَّعَى الدَّفْعَ بِدَعْوَى وَلَمَّا سَكَتَ عن دَعْوَى الدَّفْعِ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ دَلَّ أَنَّهُ لم يَظْهَرْ له الرِّضَا من الْمُشْتَرِي فَلَا يَدَّعِي الدَّفْعَ بَعْدَ ذلك
وَإِنْ لم يُقِمْ الْمُشْتَرِي بَيِّنَةً على إثْبَاتِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ وَطَلَبَ الْمُشْتَرِي يَمِينَهُ فَفِيمَا سِوَى الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ يُسْتَحْلَفُ على الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لقد بِعْتُهُ وَسَلَّمْتُهُ وما بِهِ هذا الْعَيْبُ وَإِنَّمَا يُجْمَعُ بين الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ في الِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ على الْبَيْعِ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْمُشْتَرِي في بَعْضِ الْأَحْوَالِ لِجَوَازِ أَنْ يَحْدُثَ الْعَيْبُ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل التَّسْلِيمِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هو الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَمِنْهُمْ من قال لَا احْتِيَاطَ في هذا لِأَنَّهُ لو اُسْتُحْلِفَ على هذا الْوَجْهِ فَمِنْ الْجَائِزِ حُدُوثُ الْعَيْبِ بَعْدَ الْبَيْعِ قبل التَّسْلِيمِ فَيَكُونُ الْبَائِعُ صَادِقًا في يَمِينِهِ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ وُجُودُ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ جميعا فَلَا يَحْنَثُ بِوُجُودِهِ في أَحَدِهِمَا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْمُشْتَرِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ في هذا الِاسْتِحْلَافِ على حَاصِلِ الدَّعْوَى بِاَللَّهِ عز وجل ما له حَقُّ الرَّدِّ بهذا الْعَيْبِ الذي ذَكَرَهُ
وَمِنْهُمْ من قال يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى لقد سَلَّمْتُهُ وما بِهِ هذا الْعَيْبُ الذي يَدَّعِي وهو صَحِيحٌ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فيه الْمَوْجُودُ عِنْدَ الْبَيْعِ وَالْحَادِثُ قبل التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا لم يُسْتَحْلَفْ على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ اُسْتُحْلِفَ على فِعْلِ نَفْسِهِ وهو الْبَيْعُ وَالتَّسْلِيمُ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ
ثُمَّ إذَا حَلَفَ فَإِنْ حَلَفَ برىء وَلَا يُرَدُّ عليه وَإِنْ نَكَلَ يُرَدُّ عليه وَيُفْسَخُ الْعَقْدُ إلَّا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي الرِّضَا بِالْعَيْبِ أو الْإِبْرَاءَ عنه أو الْعَرْضَ على الْبَيْعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فَيَبْرَأُ وَلَا يُرَدُّ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ تَحْلِيفَ الْمُشْتَرِي يَحْلِفُ عليه وَإِنْ لم يَطْلُبْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ وَلَا يُحَلِّفْهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ على ما تَقَدَّمَ
وَأَمَّا في الْعُيُوبِ الْأَرْبَعَةِ فَفِي الثَّلَاثَةِ منها وَهِيَ الْإِبَاقُ وَالسَّرِقَةُ وَالْبَوْلُ في الْفِرَاشِ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما أَبِقَ عِنْدَكَ مُنْذُ بَلَغَ مَبْلَغَ الرِّجَالِ وفي الْجُنُونِ بِاَللَّهِ عز وجل ما جُنَّ عِنْدَك قَطُّ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتْ هذه الْعُيُوبُ في كَيْفِيَّةِ
____________________

(5/280)


الِاسْتِحْلَافِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ اتِّحَادَ الْحَالَةِ في الْعُيُوبِ الثَّلَاثَةِ شَرْطُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ في الْجُنُونِ بَلْ هو عَيْبٌ لَازِمٌ أَبَدًا
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الرَّدِّ وَالْفَسْخِ بِالْعَيْبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَالْمَبِيعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ الْبَائِعِ أو في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان في يَدِ الْبَائِعِ يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي رَدَدْتُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان في يَدِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْفَسِخُ بِقَوْلِهِ رَدَدْتُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ يَصِحُّ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ
وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ مُتَّصِلًا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا نَوْعُ فَسْخٍ فَلَا تَفْتَقِرُ صِحَّتُهُ إلَى الْقَضَاءِ وَلَا إلَى الرِّضَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ بِالْإِجْمَاعِ وَبِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ على أَصْلِكُمْ وَلِهَذَا لم يُفْتَقَرْ إلَيْهِ قبل الْقَبْضِ وَكَذَا بَعْدَهُ
وَلَنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ تَمَّتْ بِالْقَبْضِ وَأَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ تَمَامِهَا كَالْإِقَالَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ يَكُونُ على حَسَبِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ ثُمَّ الْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِأَحَدِهِمَا من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ من ( ( ( ومن ) ) ) وغير قَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ قبل الْقَبْضِ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ بَلْ تَمَامُهَا بِالْقَبْضِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ كَأَنَّهُ لم يَسْتَرِدَّ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ في حَقِّ الْحُكْمِ مع بَقَاءِ الْخِيَارِ فَكَانَ الرَّدُّ في مَعْنَى الدَّفْعِ وَالِامْتِنَاعِ من الْقَبُولِ وَبِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ مَنْعُ تَمَامِ الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ خَلَلًا في الرِّضَا فَكَانَ الرَّدُّ كَالدَّفْعِ أَمَّا هَهُنَا إذْ الصَّفْقَةُ قد تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ من غَيْرِ قَرِينَةِ الْقَضَاءِ أو الرِّضَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وأما بَيَانُ من تَلْزَمُهُ الْخُصُومَةُ في الْعَيْبِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْخُصُومَةُ في الْبَيْعِ تَلْزَمُ الْبَائِعَ سَوَاءً كان حُكْمُ الْعَقْدِ له أو لِغَيْرِهِ بَعْدَ أَنْ كان من أَهْلِ أَنْ تَلْزَمَهُ الْخُصُومَةُ إلَّا الْقَاضِيَ أو أَمِينَهُ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ في الْعَيْبِ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ في هذا الْبَابِ رَاجِعَةٌ إلَى الْعَاقِدِ إذَا كان أَهْلًا فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ كان صَبِيًّا أو مَحْجُورًا أو عَبْدًا مَحْجُورًا فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ وَإِنَّمَا تَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَأَمَّا الْقَاضِي أو أَمِينُهُ فَالْخُصُومَةُ لَا تَلْزَمُهُ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِلْقَاضِي إنَّمَا ثَبَتَتْ شَرْعًا نَظَرًا لِمَنْ وَقَعَ له الْعَقْدُ فَلَوْ لَزِمَهُ الْعُهْدَةُ لَامْتَنَعَ عن النَّظَرِ خَوْفًا من لُزُومِ الْعُهْدَةِ فَكَانَ الْقَاضِي في هذا الْبَابِ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فيه وَالْوَكِيلِ في بَابِ النِّكَاحِ وما يَلْزَمُ الْوَكِيلَ من الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بها على الْمُوَكِّلِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ لَا يَرْجِعَانِ على الْمَوْلَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ لِلْمُوَكِّلِ نِيَابَةً عنه وَتَصَرُّفُ النَّائِبِ كَتَصَرُّفِ الْمَنُوبِ عنه
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ فَإِنَّمَا يَتَصَرَّفَانِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِأَنْفُسِهِمَا لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الْمَوْلَى لِمَا عُرِفَ أَنَّ الأذن فَكُّ الْحَجْرِ وَإِزَالَةُ الْمَانِعِ فإذا زَالَ الْحَجْرُ بِالْإِذْنِ فَالْعَبْدُ يَتَصَرَّفُ بِمَالِكِيَّةِ نَفْسِهِ فَكَانَ عَاقِدًا لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ وَاَلَّذِي يَقَعُ لِلْمَوْلَى هو حُكْمُ التَّصَرُّفِ لَا غَيْرُ وإذا كان عَاقِدًا لِنَفْسِهِ كانت الْعُهْدَةُ عليه وَلَوْ رُدَّ الْمَبِيعُ على الْوَكِيلِ هل له أَنْ يَرُدَّهُ على مُوَكِّلِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ على الْعَيْبِ وأما أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِنُكُولِهِ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ عليه بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ
فَإِنْ رَدَّهُ علييه بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ على الْعَيْبِ يَرُدُّهُ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ وهو نَائِبٌ عنه فَيَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ وَإِنْ رَدَّهُ عليه بِنُكُولِهِ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ نُكُولَهُ مُضَافٌ إلَى الْمُوَكِّلِ لِكَوْنِهِ مُضْطَرًّا مُلْجَأً إلَيْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ في الْخُصُومَةِ وَإِنَّمَا جاء هذا الاضرار ( ( ( الاضطرار ) ) ) من نَاحِيَةِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ هو الذي أَوْقَعَهُ فيه فَكَانَ مُضَافًا إلَيْهِ
وَإِنْ رَدَّهُ عليه بِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْبِ يُنْظَرُ إنْ كان عَيْبًا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ يَرُدُّ على الْمُوَكِّلِ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِثُبُوتِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ بِيَقِينٍ
وَأَمَّا إنْ كان عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لَا يَرُدُّ على الْمُوَكِّلِ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كان رَدَّ عليه بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِإِقْرَارِهِ لَا يَرُدُّ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ يَلْزَمُهُ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَكَانَ حُجَّةً في حَقِّهِ خَاصَّةً لَا في حَقِّ مُوَكِّلِهِ
وَإِنْ رَدَّ عليه بِغَيْرِ قَضَاءٍ لَزِمَ الْوَكِيلَ خَاصَّةً سَوَاءٌ كان الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أو لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ لِأَنَّ الرَّدَّ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَإِنْ كان فَسْخًا في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَهُوَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الرَّدَّ على الْمُوَكِّلِ كما لو اشْتَرَاهُ
فَأَمَّا الْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ فَبِقَبُولِهِمَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ وَالشَّرِيكَ الْآخَرَ لِأَنَّ حُكْمَ شَرِكَتِهِمَا تَلْزَمُهُمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وما لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الرَّدُّ يَمْتَنِعُ بِأَسْبَابٍ منها
____________________

(5/281)


الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَمَّا رضي بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ دَلَّ أَنَّهُ ما شَرَطَ السَّلَامَةَ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه فإذا رضي بِالْعَيْبِ فلم يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ وَرَضِيَ بِالضَّرَرِ
ثُمَّ الرِّضَا نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ قَوْلِهِ رَضِيت بِالْعَيْبِ أو أَجَزْت هذا الْبَيْعَ أو أَوْجَبْته وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ من الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ
نَحْوُ ما إذَا كان ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أو قَطَعَهُ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو أَرْضًا فَبَنَى عليها أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو لَحْمًا فَشَوَاهُ وَنَحْوَ ذلك أو تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ وهو عَالِمٌ بِالْعَيْبِ أو ليس بِعَالِمٍ أو بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أو وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أو أَعْتَقَهُ أو كَاتَبَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهُ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على هذه التَّصَرُّفَاتِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَيَكُونُ الْعِلْمُ بِالْعَيْبِ وَكُلُّ ذلك يُبْطِلُ حَقَّ الرَّدِّ
وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رُدَّ عليه بِعَيْبٍ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ سَوَاءً كان الرَّدُّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان بِقَضَاءِ الْقَاضِي له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان قَبِلَهُ الْبَائِعُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمَانِعَ من الرَّدِّ خُرُوجُ السِّلْعَةِ عن مِلْكِهِ فإذا عَادَتْ إلَيْهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَصَارَ كَأَنَّهُ لم يَخْرُجْ وَلِهَذَا إذَا رُدَّ عليه بِقَضَاءٍ له أَنْ يَرُدَّهُ على بَائِعِهِ وَكَذَا إذَا رُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ على أَصْلِكُمْ
وَلَنَا أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَصَارَ كما لو عَادَ إلَيْهِ بِشِرَاءٍ وَلَوْ اشْتَرَاهُ لم يَمْلِكْ الرَّدَّ على بَائِعِهِ
كَذَا هذا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فَكَانَ شُبْهَةُ الشِّرَاءِ قَائِمَةً
فَكَانَ الرَّدُّ عِنْدَ التَّرَاضِي بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فيه إلَّا أَنَّهُ أعطى له حُكْمُ الْفَسْخِ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَبَقِيَ بَيْعًا جَدِيدًا في حَقِّ غَيْرِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ المبتدأ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ فيه مَعْنَى الْبَيْعِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ التَّرَاضِي فَكَانَ فَسْخًا وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَجَعْلُهُ كَأَنْ لم يَكُنْ وَلِهَذَا لم يَثْبُتْ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَبِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لها قبل الْقَبْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّ حُدُوثَ الْعَيْبِ قبل الْقَبْضِ كَوُجُودِهِ قبل الْبَيْعِ فَكَانَ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ في مَعْنَى الِامْتِنَاعِ عن الْقَبُولِ كَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رَدَّ إيجَابَ الْبَائِعِ ولم يَقْبَلْهُ
وَلِهَذَا لم يَفْتَقِرْ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ إلَى الْقَاضِي وَبِخِلَافِ ما إذَا رُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو رُؤْيَةٍ أَنَّهُ يَرُدُّهُ على بَائِعِهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ لم يُوجَدْ في هذا الرَّدِّ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرُدُّ على بَائِعِهِ من غَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ فَسْخًا وَرَفْعًا لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ وَكَذَا لو وطىء الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ أو لَمَسَهَا لِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كانت الْجَارِيَةُ بِكْرًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كانت ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا بِدُونِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قَبَّلَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرِيَ لِشَهْوَةٍ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه في شَرْطِ الْخِيَارِ وَلَوْ اسْتَخْدَمَ الْمُشْتَرِي بعدما عَلِمَ بِالْعَيْبِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَسْقُطُ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ كان المشتري دَابَّةً فَرَكِبَهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ
وَإِنْ رَكِبَهَا لِيَسْقِيَهَا أو لِيَرُدَّهَا على الْبَائِعِ أو لِيَشْتَرِيَ لها عَلَفًا فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ كما في الِاسْتِخْدَامِ وقد ذَكَرْنَا ذلك في خِيَارِ الشَّرْطِ وَلَوْ رَكِبَهَا لِيَنْظُرَ إلَى سَيْرِهَا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَكُونُ رِضًا يُسْقِطُ خِيَارَهُ وفي شَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُسْقِطُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا قد تَقَدَّمَ في خِيَارِ الشَّرْطِ
وَكَذَا لو اشْتَرَى ثَوْبًا فَلَبِسَهُ بَعْدَ الْعِلْمِ لِيَنْظُرَ إلَى طُولِهِ وَعَرْضِهِ بَطَلَ خِيَارُهُ وفي خِيَارِ الشَّرْطِ لَا يَبْطُلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا قد ذَكَرْنَاهُ في شَرْطِ الْخِيَارِ وَإِنْ كان المشتري دَارًا فَسَكَنَهَا بعدما عَلِمَ بِالْعَيْبِ أو رَمَّ منها شيئا أو هَدَمَ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَذُكِرَ في بَعْضِ شُرُوحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ في السُّكْنَى رِوَايَتَانِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُوجَدُ من الْمُشْتَرِي في المشتري بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إسْقَاطُ الْخِيَارِ صَرِيحًا أو ما هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمُشْتَرِي أَسْقَطْت الْخِيَارَ أو أَبْطَلْته أو أَلْزَمْتُ الْبَيْعَ أو أَوْجَبْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّ خِيَارَ الْعَيْبِ حَقُّهُ وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا
وَمِنْهَا إبْرَاءُ الْمُشْتَرِي عن
____________________

(5/282)


الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَلَهُ وِلَايَةُ الْإِسْقَاطِ لِأَنَّ الْخِيَارَ حَقُّهُ وَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلسُّقُوطِ أَلَا تَرَى كَيْفَ احْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِسْقَاطِ صَرِيحًا فإذا أَسْقَطَهُ يَسْقُطُ
وَمِنْهَا هَلَاكُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ الرَّدِّ وَمِنْهَا نُقْصَانُهُ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ نُقْصَانَ الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ فَهَذَا وما إذَا لم يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ وقد ذَكَرْنَا حُكْمَهُ في بَيْعِ الْبَاتِّ فِيمَا تَقَدَّمَ إن الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ
ثُمَّ إنْ كان النُّقْصَانُ نُقْصَانَ قَدْرٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَإِنْ كان نُقْصَانَ وَصْفٍ فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِمَا ذَكَرْنَا هُنَالِكَ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فيه وَفِيمَا إذَا لم يَكُنْ بِهِ عَيْبٌ سَوَاءٌ وهو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَطُرِحَ عنه قَدْرُ النُّقْصَانِ الذي حَصَلَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ كما إذَا لم يَجِدْ بِهِ عَيْبًا وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لَا خِيَارَ له وَيَصِيرُ قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ وَيَتَقَرَّرُ عليه جَمِيعُ الثَّمَنِ إنْ لم يَجِدْ بِهِ عَيْبًا كان عِنْدَ الْبَائِعِ على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ وَجَدَ عَيْبًا كان عِنْدَ الْبَائِعِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِ
وَإِنْ قال الْبَائِعُ أنا آخُذُهُ مع النُّقْصَانِ ليس لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَحْبِسَهُ وَيَرْجِعَ عليه بِالنُّقْصَانِ بَلْ يَرُدُّهُ عليه وَيَسْقُطُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَسَنَذْكُرُ الْأَصْلَ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ في بَيَانِ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ
هذا إذَا لم يُوجَدْ من الْبَائِعِ مَنْعُ الْمَبِيعِ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ بعدما صَارَ الْمُشْتَرِي قَابِضًا بِالْجِنَايَةِ فَأَمَّا إذَا وُجِدَ منه مَنْعٌ بَعْدَ ذلك ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّهُ على الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ عن الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ صَارَ مُسْتَرِدًّا لِلْمَبِيعِ نَاقِضًا ذلك الْقَبْضَ فَانْتَقَضَ وَجُعِلَ كَأَنْ لم يَكُنْ له فَكَانَ حَقُّ الرَّدِّ على الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ عنه جَمِيعُ الثَّمَنِ إلَّا قَدْرَ ما نَقَصَ بِفِعْلِهِ
وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ وَيَسْقُطُ عنه جَمِيعُ الثَّمَنِ وَاتَّبَعَ الْبَائِعُ الْجَانِيَ بِالْأَرْشِ كما إذَا لم يَجِدْ الْمُشْتَرِي بها عَيْبًا
هذا إذَا حَدَثَ النُّقْصَانُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَمَّا إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ حَدَثَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ وَيَرُدَّ معه أَرْشَ الْعَيْبِ الْحَادِثِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَقَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي
فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ نَظَرًا لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِ النَّظَرِ أَوْلَى من الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لم يُدَلِّسْ الْعَيْبَ وَالْبَائِعُ قد دَلَّسَ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ عِنْدَ الرَّدِّ على الصِّفَةِ التي كان عليها عِنْدَ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ خَرَجَ عن مِلْكِ الْبَائِعِ مَعِيبًا بِعَيْبٍ وَاحِدٍ وَيَعُودُ على مِلْكِهِ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَلَا يُرَدُّ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بها فَإِنْ كانت بِكْرًا لم يَرُدَّهَا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت ثَيِّبًا فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُرَدُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الرَّدِّ مع شَرْطِهِ وما بَعْدَ السَّبَبِ وَشَرْطِهِ ألا الْحُكْمُ أَمَّا السَّبَبُ فَهُوَ الْعَيْبُ وقد وُجِدَ
وَأَمَّا الشَّرْطُ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ كما كان وَقْتَ الْقَبْضِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ إذْ هو اسْتِيفَاءُ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِخْدَامَ بِخِلَافِ وَطْءِ الْبِكْرِ لِأَنَّ الْعُذْرَةَ عُضْوٌ منها وقد أَزَالَهَا بِالْوَطْءِ
وَلَنَا أَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لها حُكْمُ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ بِدَلِيلِ أنها مَضْمُونَةٌ بِالْعَيْنِ وَغَيْرُ الْعَيْنِ لَا يُضْمَنُ بِالْعَيْنِ هو الْأَصْلُ وَإِذْ قام الدَّلِيلُ على أَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا أَصْلًا فَكَانَ اسْتِيفَاؤُهَا في حُكْمِ إتْلَافِ الْأَجْزَاءِ وَالْأَعْيَانِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ كما إذَا قَطَعَ طَرَفًا منها وَكَمَا في وَطْءِ الْبِكْرِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ لِأَنَّهُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةٍ مَحْضَةٍ مالها حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ وَلِأَنَّهُ لو رَدَّ الْجَارِيَةَ وَفَسَخَ الْعَقْدَ رُفِعَ من الْأَصْلِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ صَادَفَ مِلْكَ الْبَائِعِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَكَانَ الْمَنْعُ من الرَّدِّ طَرِيقَ الصِّيَانَةِ عن الْحَرَامِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا اشترى ( ( ( اشترط ) ) ) رَجُلَانِ شيئا ثُمَّ اطَّلَعَا على عَيْبٍ بِهِ كان عِنْدَ الْبَائِعِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ دُونَ صَاحِبِهِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ وَعَلَى هذا الْخِلَافُ لو اشْتَرَيَا شيئا على أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ فيه ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أو اشْتَرَيَا شيئا لم يَرَيَاهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ رَدَّ المشتري كما اشْتَرَى فَيَصِحُّ كما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا على أَنَّهُ بِالْخِيَارِ في نِصْفِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَرَدَّ النِّصْفَ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اشْتَرَيَا الْعَبْدَ جُمْلَةً
____________________

(5/283)


وَاحِدَةً كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ وقد رَدَّ النِّصْفَ فَقَدْ رَدَّ ما اشْتَرَى كما اشْتَرَى
وَلِأَبِي حنيفة رحمه أنه لم يوجد شرط الرد وثبوت حق الرد عند انعدام شرطه ممتنع
ولأبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ وَثُبُوتُ حَقِّ الرَّدِّ عِنْدَ انْعِدَامِ شَرْطِهِ مُمْتَنِعٌ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ الرَّدِّ أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ على الْوَصْفِ الذي كان مَقْبُوضًا ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ غير مَعِيبٍ بِعَيْبٍ زَائِدٍ فَلَوْ رَدَّهُ لَرَدَّهُ وهو مَعِيبٌ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وهو عَيْبُ الشَّرِكَةِ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَيْنِ لَا يشتري بِالثَّمَنِ الذي يشتري بِهِ لو لم يَكُنْ مُشْتَرَكًا فلم يُوجَدْ رَدُّ ما اشْتَرَى فَلَا يَصِحُّ الرَّدُّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْبَائِعِ وَلِهَذَا لو أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ في عَبْدٍ لِاثْنَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْبَائِعَ لم يَرْضَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ إلَّا عن الْجُمْلَةِ فإذا قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَقَدْ فَرَّقَ الصَّفْقَةَ على الْبَائِعِ فلم يَصِحَّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عنه
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَهُ وَوَجَبَ الْأَرْشُ أو كانت جَارِيَةً فَوَطِئَهَا وَوَجَبَ الْعُقْرُ لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّ بِالْعَيْبِ لِمَا قُلْنَا وَلِمَعْنًى آخَرَ يَخْتَصُّ بِهِ وهو أَنَّ النُّقْصَانَ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ يُؤْخَذُ الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ لِلْمُشْتَرِي وَأَنَّهُ زِيَادَةٌ وَلِهَذَا يُمْنَعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ على ما نذكره ( ( ( سنذكره ) ) ) إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ اشْتَرَى مَأْكُولًا في جَوْفِهِ كَالْبِطِّيخِ وَالْجَوْزِ القثاء ( ( ( والقثاء ) ) ) وَالْخِيَارِ وَالرُّمَّانِ وَالْبَيْضِ وَنَحْوِهَا فَكَسَرَهُ فَوَجَدَهُ فَاسِدًا فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عن أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا وَإِمَّا إن وَجَدَ الْبَعْضَ فَاسِدًا وَالْبَعْضَ صَحِيحًا فَإِنْ وَجَدَهُ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَصْلًا فَالْمُشْتَرِي يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ بَيْعُ ما ليس بِمَالٍ وَبَيْعُ ما ليس بِمَالٍ لَا يَنْعَقِدُ كما إذَا اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حُرٌّ
وَإِنْ كان مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ في الْجُمْلَةِ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ له أَنْ يَرُدَّهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ منه فَقَدْ سَلَّطَهُ على الْكَسْرِ فَكَانَ الْكَسْرُ حَاصِلًا بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْنَعُ الرَّدَّ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ أَنْ يَكُونَ الْمَرْدُودُ وَقْتَ الرَّدِّ على الْوَصْفِ الذي كان عليه وَقْتَ الْقَبْضِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ بِالْكَسْرِ فَلَوْ رُدَّ عليه لَرُدَّ مَعِيبًا بِعَيْبَيْنِ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الرَّدِّ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الْبَائِعُ سَلَّطَهُ على الْكَسْرِ فَنَعَمْ لَكِنْ بِمَعْنَى أَنَّهُ مَكَّنَهُ من الْكَسْرِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ له فَيَكُونُ هو بِالْكَسْرِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ لَا في مِلْكِ الْبَائِعِ بِأَمْرِهِ لِيَكُونَ ذلك منه دَلَالَةَ الرِّضَا بِالْكَسْرِ
وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا دُونَ الْبَعْضِ يُنْظَرُ إنْ كان الْفَاسِدُ كَثِيرًا يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ في الْقَدْرِ الْفَاسِدِ بَاطِلًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ليس بِمَالٍ وإذا بَطَلَ في ذلك الْقَدْرِ يَفْسُدُ في الْبَاقِي كما إذَا جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ وَبَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً
وَإِنْ كان قَلِيلًا فَكَذَلِكَ في الْقِيَاسِ وفي الِاسْتِحْسَانِ صَحَّ الْبَيْعُ في الْكُلِّ وَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ وَلَا أَنْ يَرْجِعَ فيه بِشَيْءٍ لِأَنَّ قَلِيلَ الْفَسَادِ فيه مِمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عنه إذْ هذه الْأَشْيَاءُ في العبادات ( ( ( العادات ) ) ) لَا تَخْلُو عن قَلِيلِ فَسَادٍ فَكَانَ فيه ضَرُورَةً فَيَلْتَحِقُ ذلك الْقَدْرُ بِالْعَدَمِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ تَفْصِيلًا آخَرَ فقال إذَا وَجَدَ كُلَّهُ فَاسِدًا فَإِنْ لم يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ ما ليس بِمَالٍ وَإِنْ كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كَالرُّمَّانِ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ إذَا كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ كان الْقِشْرُ مَالًا وَلَكِنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِهِ نَاقِصًا وَقَبِلَ قِشْرَهُ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ لِأَنَّهُ تَعَيَّبَ بِعَيْبٍ زَائِدٍ وَرَدَّ على الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْمَعِيبِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُ فَاسِدًا فَعَلَى هذا التَّفْصِيلِ أَيْضًا لِأَنَّهُ إنْ لم يَكُنْ لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ على الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ كان لِقِشْرِهِ قِيمَةٌ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ دُونَ الْقِشْرِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ إلَّا إذَا كان الْفَاسِدُ منه قَلِيلًا قَدْرَ ما لَا يَخْلُو مِثْلُهُ عن مِثْلِهِ فَلَا يَرُدُّ وَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ من الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الزِّيَادَةِ أنها لَا تَخْلُو إمَّا إن حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا إن حَدَثَتْ بَعْدَهُ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ من الزِّيَادَتَيْنِ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَّصِلَةً أو مُنْفَصِلَةً وَالْمُتَّصِلَةُ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْحُسْنِ وَالْجَمَالِ وَالْكِبَرِ وَالسِّمَنِ وَالسَّمْعِ وإنجلاء بَيَاضِ إحْدَى الْعَيْنَيْنِ وَنَحْوِ ذلك أو غير مُتَوَلِّدَةٍ منه كَالصَّبْغِ في الثَّوْبِ وَالسَّمْنِ أو الْعَسَلِ الْمَلْتُوتِ بِالسَّوِيقِ وَالْبِنَاءِ في الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ الْمُنْفَصِلَةُ لَا تَخْلُو من أَنْ تَكُونَ مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَنَحْوِهَا أو غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالْكَسْبِ وَالصَّدَقَةِ وَالْغَلَّةِ وَالْبَيْعُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ صَحِيحًا أو فَاسِدًا
أَمَّا الزِّيَادَةُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَحُكْمُهَا نَذْكُرُهُ في بَيَانِ حُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ فَإِنْ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قبل الْقَبْضِ فَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً مُتَوَلَّدَةً من الْأَصْلِ
____________________

(5/284)


فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً لِقِيَامِهَا بِالْأَصْلِ فَكَانَتْ مَبِيعَةً تَبَعًا وَالْأَصْلُ أَنَّ ما كان تَابِعًا في الْعَقْدِ يَكُونُ تَابِعًا في الْفَسْخِ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفَعَ الْعَقْدَ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ بِالْفَسْخِ فيه مَقْصُودًا وَيَنْفَسِخُ في الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِلِانْفِسَاخِ في الْأَصْلِ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ فيها أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَوْ رَدَّ الْمَبِيعَ لَكَانَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَرُدَّهُ وَحْدَهُ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مع الزِّيَادَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مُتَعَذَّرٌ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ في الْعَقْدِ فَلَا تَكُونُ تَابِعَةً في الْفَسْخِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ قَابِضًا لِلْمَبِيعِ بِإِحْدَاثِ هذه الزِّيَادَةِ فَصَارَ كَأَنَّهَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ وَحُدُوثُهَا بَعْدَ الْقَبْضِ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَإِنْ كانت متفصلة ( ( ( منفصلة ) ) ) مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ فَإِنْ شَاءَ الْمُشْتَرِي رَدَّهُمَا جميعا وَإِنْ شَاءَ رضي بِهِمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْقَبْضِ عِنْدَنَا إنها تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ وَسَنَذْكُرُ الْفَرْقَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ لم يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ قبل الْقَبْضِ مَبِيعَةٌ تَبَعًا وَالْمَبِيعُ تَبَعًا لَا يُحْتَمَلُ فَسْخُ الْعَقْدِ فيه مَقْصُودًا إلَّا إذَا كان حُدُوثُ هذه الزِّيَادَةِ قبل الْقَبْضِ مِمَّا يُوجِبُ نُقْصَانًا في الْمَبِيعِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ فَلَهُ خِيَارُ الرَّدِّ لَكِنْ لَا لِلزِّيَادَةِ بَلْ لِلنُّقْصَانِ
وَلَوْ قَبَضَ الْأَصْلَ وَالزِّيَادَةَ جميعا ثُمَّ وَجَدَ بِالْأَصْلِ عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ بَعْدَمَا قَسَّمَ الثَّمَنَ على قَدْرِ الْأَصْلِ وَقْتَ الْبَيْعِ وَعَلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ وَقْتَ الْقَبْضِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَأْخُذُ قِسْطًا من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ كَذَلِكَ يُعْتَبَرُ قَبْضُهَا وَقْتَ الْقَبْضِ
وَلَوْ لم يَجِدْ بِالْأَصْلِ عَيْبًا وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا خَاصَّةً بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ صَارَ لها حِصَّةٌ من الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا بِحِصَّتِهَا من الثَّمَنِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيها وَإِنَّمَا هِيَ مَمْلُوكَةٌ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ أو بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيه مَقْصُودًا أو بِمِلْكِ الْأَصْلِ لَا بِالْبَيْعِ فَكَانَتْ رِبْحًا لَا رِبًا لِاخْتِصَاصِ الرِّبَا بِالْبَيْعِ لِأَنَّهُ فَضْلُ مَالٍ قُصِدَ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ في عُرْفِ الشَّرْعِ ولم يُوجَدْ ثُمَّ إذَا رَدَّ الْأَصْلَ فَالزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ ثَمَنٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ له لِأَنَّهَا حَدَثَتْ على مِلْكِهِ إلَّا أنها رِبْحٌ ما لم يَضْمَنْ فَلَا تَطِيبُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الزِّيَادَةُ تَكُونُ لِلْبَائِعِ لَكِنَّهَا لَا تَطِيبُ له وَهَذَا إذَا اخْتَارَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَإِنْ رضي بِالْعَيْبِ وَاخْتَارَ الْبَيْعَ فَالزِّيَادَةُ لَا تَطِيبُ له بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا رِبْحٌ ما لم يَضْمَنْ وَنَهَى رسول اللَّهِ عن ذلك وَلِأَنَّهَا زِيَادَةٌ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ في عَقْدِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ تَفْسِيرُ الرِّبَا
وَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مع هذه الزِّيَادَةِ ثُمَّ وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ هَالِكَةً له أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ خَاصَّةً بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت قَائِمَةً فَكَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرُدُّ معه الزِّيَادَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذه زِيَادَةٌ حَدَثَتْ قبل الْقَبْضِ فَيَرُدُّهَا مع الْأَصْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا تَتْبَعُ الْأَصْلَ في حُكْمِ الْعَقْدِ فَلَا تَتْبَعُهُ في حُكْمِ الْفَسْخِ وَلَوْ وَجَدَ بِالزِّيَادَةِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ من الثَّمَنِ فَلَا تَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهَا لو رُدَّتْ لَرُدَّتْ بِغَيْرِ شَيْءٍ
هذا إذَا حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ قبل الْقَبْضِ فَأَمَّا إذَا حَدَثَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ إنْ رضي الْمُشْتَرِي بِرَدِّهَا مع الْأَصْلِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ حَقِيقَةً وَقْتَ الْفَسْخِ فَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَيَنْفَسِخُ في الزِّيَادَةِ تَبَعًا
وَإِنْ أَبَى أَنْ يَرُدَّهُ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ من الْبَائِعِ وَأَبَى الْبَائِعُ إلَّا الرَّدَّ مع الْعَيْبِ وَدَفَعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وأبو يُوسُفَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ نُقْصَانَ الْعَيْبِ من الْبَائِعِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْبَى ذلك وبطلب ( ( ( ويطلب ) ) ) الرَّدَّ وَيَقُولَ لَا أُعْطِيك نُقْصَانَ الْعَيْبِ وَلَكِنْ رُدَّ عَلَيَّ الْمَبِيعَ مَعِيبًا لِأَدْفَعَ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ على الْبَائِعِ إذَا أَبَى ذلك وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ له رُدَّ على الْمَبِيعَ حتى أَرُدَّ إلَيْك الثَّمَنَ كُلَّهُ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ من الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ هل تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إذَا لم يَرْضَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ وهو الْمُشْتَرِي بِرَدِّ الزِّيَادَةِ وَيُرِيدُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ في النِّكَاحِ إذَا ازْدَادَ الْمَهْرُ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ بَعْدَ الْقَبْضِ ثُمَّ وَرَدَ الطَّلَاقُ قبل
____________________

(5/285)


الدُّخُولِ أنها هل تَمْنَعُ التَّنْصِيفَ عِنْدَهُمَا تَمْنَعُ وَعَلَيْهَا فصف ( ( ( نصف ) ) ) الْقِيمَةِ يوم قَبَضَتْ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَنَذْكُرُ الْمَسْأَلَةَ في النِّكَاحِ
وَإِنْ كانت مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْإِجْمَاعِ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لو رَدَّ الْأَصْلَ فَإِمَّا أَنْ يَرُدَّهُ مع الزِّيَادَةِ وَالرَّدُّ وَحْدَهُ لَا يُمْكِنُ وَالزِّيَادَةُ لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ في الْعَقْدِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَهَا تَابِعَةً في الْفَسْخِ إلَّا إذَا تَرَاضَيَا على الرَّدِّ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ بَيْعٍ جَدِيدٍ وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْأَصْلَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ وَكَذَلِكَ هذه الزِّيَادَةُ تَمْنَعُ الْفَسْخَ عِنْدَنَا من الْإِقَالَةِ وَالرَّدُّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ
وَالْكَلَامُ فيه مبنى على أَصْلٍ ذَكَرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّ الزِّيَادَةَ عِنْدَنَا مَبِيعَةٌ تَبَعًا لِثُبُوتِ حُكْمِ الْأَصْلِ فيه تَبَعًا وَبِالرَّدِّ بِدُونِ الزيدة ( ( ( الزيادة ) ) ) يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الْأَصْلِ مَقْصُودًا وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ في يَدِ الْمُشْتَرِي مَبِيعًا مَقْصُودًا بِلَا ثَمَنٍ لِيَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا في عُرْفِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهَا لَا تُرَدُّ بِدُونِ الْأَصْلِ أَيْضًا احْتِرَازًا عن الرِّبَا بَلْ تُرَدُّ مع الْأَصْلِ وَرَدُّهَا مع الْأَصْلِ لَا يَتَضَمَّنُ الرِّبَا ثُمَّ إنَّمَا لَا يُرَدُّ الْأَصْلُ مع الزِّيَادَةِ هَهُنَا وَرُدَّ هُنَاكَ إما امْتِنَاعُ رَدِّ الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَلِمَا قُلْنَا أنه يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا
وَأَمَّا رَدُّهُ مع الزِّيَادَةِ فَلِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ التَّابِعُ بَعْدَ الرَّدِّ رِبْحَ ما لم يَضْمَنْ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ في الزِّيَادَةِ وَيَعُودُ إلَى الْبَائِعِ ولم يَصِلْ إلَى الْمُشْتَرِي بمقابلته ( ( ( بمقابلة ) ) ) شَيْءٍ من الثَّمَنِ في الْفَسْخِ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ له من الثَّمَنِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِلْبَائِعِ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ لِأَنَّهُ حَصَلَ في ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا الْوَلَدُ قبل الْقَبْضِ فَقَدْ حَصَلَ في ضَمَانِ الْبَائِعِ فل ( ( ( فلو ) ) ) انْفَسَخَ الْعَقْدُ فيه لَا يَكُونُ رِبْحَ ما لم يُضْمَنْ بَلْ رِبْحَ ما ضُمِنَ وَإِنْ كانت مُنْفَصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ لَا يَمْتَنِعُ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ الْأَصْلُ على الْبَائِعِ وَالزِّيَادَةُ لِلْمُشْتَرِي طَيِّبَةٌ له لِمَا مَرَّ أَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ بِمَبِيعَةٍ أَصْلًا لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ حُكْمِ الْبَيْعِ فيها بَلْ مُلِكَتْ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ فَأَمْكَنَ إثْبَاتُ حُكْمِ الْفَسْخِ فيه بِدُونِ الزِّيَادَةِ فَيُرَدُّ الْأَصْلُ وَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فيه وَتَبْقَى الزِّيَادَةُ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِوُجُودِ سَبَبِ الْمِلْكِ فيها شَرْعًا فَتَطِيبُ له
هذا إذَا كانت الزِّيَادَةُ قَائِمَةً في يَدِ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا كانت هَالِكَةً فَهَلَاكُهَا لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أن بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنْ كان بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ له أَنْ يَرُدَّ الْأَصْلَ بِالْعَيْبِ وَتُجْعَلُ الزِّيَادَةُ كَأَنَّهَا لم تَكُنْ وَإِنْ كان بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَبِلَ وَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ لم يَقْبَلْ وَيَرُدَّ نُقْصَانَ الْعَيْبِ سَوَاءٌ كان حُدُوثُ ذلك أَوْجَبَ نُقْصَانًا في الْأَصْلِ أو لم يُوجِبْ نُقْصَانًا فيه لِأَنَّ إتْلَافَ الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ وَذَا يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلْبَائِعِ وَإِنْ كان بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ ليس له أَنْ يَرُدَّ لِأَنَّهُ يَجِبُ ضَمَانُ الزِّيَادَةِ على الْأَجْنَبِيِّ فَيَقُومُ الضَّمَانُ مَقَامَ الْعَيْنِ فكان عَيْنَهُ قَائِمَةٌ فَيَمْتَنِعُ الرَّدُّ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُفْسَخُ بِهِ الْعَقْدُ فَالْكَلَامُ هَهُنَا يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ الْفَسْخِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ فَالِاخْتِيَارِيُّ نَحْوُ قَوْلِهِ فَسَخْتُهُ أو نَقَضْتُهُ أو رَدَدْته وما هو في مَعْنَاهُ وَالضَّرُورِيُّ هَلَاكُ الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْفَسْخِ فَمِنْهَا سُقُوطُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَلْزَمُ بِسُقُوطِ الْخِيَارِ فَيَخْرُجُ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ
وَمِنْهَا عِلْمُ صَاحِبِهِ بِالْفَسْخِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا سَوَاءٌ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ أو قَبْلَهُ بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ له الْقَضَاءُ أو الرِّضَا إنْ كان قبل الْقَبْضِ لَا يُشْتَرَطُ له قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَا رِضَا الْبَائِعِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ يُشْتَرَطُ له الْقَضَاءُ أو الرِّضَا وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنَ الْفَسْخُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ فَإِنْ تَضَمَّنَ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ لِأَنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ إضْرَارٌ بِهِ على ما نَذْكُرُ وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ ما أَمْكَنَ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْبَائِعُ لِأَنَّ الضَّرَرَ الْمَرْضِيَّ بِهِ من جِهَةِ الْمُتَضَرِّرِ لا يَجِبُ دَفْعُهُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا وَجَدَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ مَعِيبًا فَأَرَادَ رَدَّ بَعْضِهِ دُونَ بَعْضٍ قبل الْقَبْضِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا كَالْعَبْدِ وَالثَّوْبِ وَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ الْمُتَقَارِبِ في وِعَاءٍ وَاحِدٍ أو صُبْرَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ مُتَعَدِّدَةً كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ وَالدَّابَّتَيْنِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْمَعْدُودِ في وِعَاءَيْنِ أو صُبْرَتَيْنِ وَكُلِّ شَيْئَيْنِ يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئَيْنِ حَقِيقَةً وَشَيْئًا وَاحِدًا تَقْدِيرًا كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَالْمُكَعَّبَيْنِ
____________________

(5/286)


وَمِصْرَاعَيْ الْبَابِ وَكُلُّ شَيْءٍ لَا يُنْتَفَعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَبَضَ كُلَّ الْمَبِيعِ وَإِمَّا إن لم يَقْبِضْ شيئا منه وَإِمَّا إن قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
وَالْحَادِثُ في الْمَبِيعِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا أو اسْتِحْقَاقًا
أَمَّا الْعَيْبُ فَإِنْ وَجَدَهُ بِبَعْضِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ لِشَيْءٍ منه فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رضي بِالْكُلِّ وَلَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَلَيْسَ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَمَامَ لها قبل الْقَبْضِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قبل تَمَامِهَا بَاطِلٌ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ قبل الْقَبْضِ أَنَّ الْمَوْجُودَ قبل الْقَبْضِ أَصْلُ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ لَا صِفَةَ التَّأْكِيدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الِانْفِسَاخُ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عليه وهو أَنَّهُ عَدَمُ التَّأْكِيدِ وإذا قَبَضَ وَقَعَ الْأَمْرُ عن الِانْفِسَاخِ بِالْهَلَاكِ فَكَانَ حُصُولُ التَّأْكِيدِ بِالْقَبْضِ وَالتَّأْكِيدُ إثْبَاتٌ من وَجْهٍ أو له شُبْهَةُ الْإِثْبَاتِ وَكَذَا مِلْكُ التَّصَرُّفِ يَقِفُ على الْقَبْضِ فَيَدُلُّ على نُقْصَانِ الْمِلْكِ قبل الْقَبْضِ وَنُقْصَانُ الْمِلْكِ دَلِيلُ نُقْصَانِ الْعَقْدِ
وَكَذَا المشتري إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ الرَّدِّ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا إلَى التَّرَاضِي
وَلَوْ كانت الصَّفْقَةُ تَامَّةً قبل الْقَبْضِ لَمَا احْتَمَلَ الِانْفِسَاخَ بِنَفْسِ الرَّدِّ كما بَعْدَ الْقَبْضِ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الدَّلَائِلِ أَنَّ الصَّفْقَةَ لَيْسَتْ بِتَامَّةٍ قبل الْقَبْضِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل تَمَامِهَا أَنَّ التَّفْرِيقَ إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ وَالضَّرَرُ وَاجِبُ الدَّفْعِ ما أَمْكَنَ وَبَيَانُ الضَّرَرِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ حَقِيقَةً شيئا وَاحِدًا تَقْدِيرًا وَالتَّفْرِيقُ تَضَمَّنَ الشَّرِكَةَ وَالشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ فَكَانَ التَّفْرِيقُ عَيْبًا وَأَنَّهُ عَيْبٌ زَائِدٌ لم يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَالتَّفْرِيقُ يَتَضَمَّنُ ضَرَرًا آخَرَ وهو لُزُومُ الْبَيْعِ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ لِأَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ وَالْجَمْعَ بَيْنَهُمَا في الصَّفْقَةِ من عَادَةِ التجارة ( ( ( التجار ) ) ) تَرْوِيجًا لِلرَّدِيءِ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَرَى الْمُشْتَرِي الْعَيْبَ بِالرَّدِيءِ فَيَرُدَّهُ فَيَلْزَمَ الْبَيْعُ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ فيضرر ( ( ( فيتضرر ) ) ) بِهِ الْبَائِعُ فَدَلَّ أَنَّ في التَّفْرِيقِ ضَرَرًا فَيَجِبُ دَفْعُهُ ما أَمْكَنَ وَلِهَذَا لم يَجُزْ التَّفْرِيقُ في الْقَبُولِ بِأَنْ أصاب ( ( ( أضاف ) ) ) الْإِيجَابَ إلَى جمله فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عن الْبَائِعِ بِلُزُومِ حُكْمِ الْبَيْعِ في الْبَعْضِ من غَيْرِ إضَافَةِ الْإِيجَابِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ما أَوْجَبَ الْبَيْعَ إلَّا في الْجُمْلَةِ فَلَا يَصِحُّ الْقَبُولُ إلَّا في الْجُمْلَةِ لِئَلَّا يَزُولَ مِلْكُهُ من غَيْرِ إزَالَتِهِ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ
على أَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْقَبْضِ كان الْقَبْضُ في مَعْنَى الْقَبُولِ من وَجْهٍ فَكَانَ رَدُّ الْبَعْضِ وَقَبْضُ الْبَعْضِ تَفْرِيقًا في الْقَبُولِ من ( ( ( ومن ) ) ) وَجْهٍ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ بِرَدِّ الْمَعِيبِ عليه فَيَأْخُذَهُ وَيَدْفَعَ حِصَّتَهُ من الثَّمَنِ فَيَجُوزَ وَيَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْبَاقِيَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ كان لِدَفْعِ الضَّرَرِ عنه نَظَرًا له فإذا رضي له ( ( ( به ) ) ) فلم يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ
وَإِنْ كان الْمُشْتَرِي قَبَضَ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ فَوَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ سَوَاءٌ كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ وَسَوَاءٌ وَجَدَ الْعَيْبَ بِغَيْرِ الْمَقْبُوضِ أو بِالْمَقْبُوضِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِقَبْضِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عليه فَكَانَ رَدُّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ قبل التَّمَامِ وإنه بَاطِلٌ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْعَيْبَ بِغَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا وَجَدَ بِالْمَقْبُوضِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فَهُوَ نَظَرَ إلَى الْمَعِيبِ مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كان وَاعْتَبَرَ الْآخَرَ بِهِ فَإِنْ كان الْمَعِيبُ غير الْمَقْبُوضِ اُعْتُبِرَ الْآخَرُ غير مَقْبُوضٍ فَكَأَنَّهُمَا لم يَقْبِضَا جميعا وَإِنْ كان الْمَعِيبُ مَقْبُوضًا اُعْتُبِرَ الْآخَرُ مَقْبُوضًا فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُمَا جميعا لَكِنَّ هذا الِاعْتِبَارَ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّهُ في حَدِّ التَّعَارُضِ إذْ ليس اعْتِبَارُ غَيْرِ الْمَعِيبِ بِالْمَعِيبِ في الْقَبْضِ وَعَدَمِهِ أَوْلَى من اعْتِبَارِ الْمَعِيبِ بِغَيْرِ الْمَعِيبِ في الْقَبْضِ بَلْ هذا أَوْلَى لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ وَالْعَمَلُ بِالْأَصْلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى
هذا إذَا كان الْمُشْتَرِي لم يَقْبِضْ شيئا من الْمَبِيعِ أو قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَإِنْ كان قَبَضَ الْكُلَّ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنْ كان الْمَبِيعُ شيئا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنْ شَاءَ رضي بِالْكُلِّ بِكُلِّ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْكُلَّ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ قَدْرَ الْمَعِيبِ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيه إلْزَامَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ وإنها عَيْبٌ حَادِثُ مَانِعٌ من الرَّدِّ
وَإِنْ كان أَشْيَاءَ حَقِيقَةً شيئا وَاحِدًا تَقْدِيرًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّ إفْرَادَ أَحَدِهِمَا بِالرَّدِّ إضرارا ( ( ( إضرار ) ) ) بِالْبَائِعِ إذْ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِأَحَدِهِمَا فِيمَا وُضِعَ له بِدُونِ الْآخَرِ فَكَانَا فِيمَا وُضِعَا له من الْمَنْفَعَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكَانَ الْمَبِيعُ شيئا
____________________

(5/287)


وَاحِدًا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَبِالرَّدِّ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَالشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ وإذا كان لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِأَحَدِهِمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ فِيمَا وُضِعَ له كان التَّفْرِيقُ تعييبا فَيَعُودُ الْمَبِيعُ إلَى الْبَائِعِ بِعَيْبٍ زَائِدٍ حَادِثٍ لم يَكُنْ عِنْدَهُ وَإِنْ كان أَشْيَاءَ حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا فَلَيْسَ له أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ إلَّا عِنْدَ التَّرَاضِي وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ الْمَعِيبَ خَاصَّةً بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ليس له ذلك بَلْ يَرُدُّهُمَا أو يُمْسِكُهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ في التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا في الرَّدِّ إضْرَارًا بِالْبَائِعِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ضَمَّ الرَّدِيءِ إلَى الْجَيِّدِ في الْبَيْعِ من عَادَةِ التُّجَّارِ لِيُرَوِّجَ الرَّدِيءَ بِوَاسِطَةِ الْجَيِّدِ وقد يَكُونُ الْعَيْبُ بِالرَّدِيءِ فَيَرُدُّهُ على الْبَائِعِ وَيَلْزَمُهُ الْبَيْعُ في الْجَيِّدِ بِثَمَنِ الرَّدِيءِ وَهَذَا إضْرَارٌ بِالْبَائِعِ وَلِهَذَا امْتَنَعَ الرَّدُّ قبل الْقَبْضِ فَكَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ ما ثَبَتَ له حَقُّ الرَّدِّ وُجِدَ في أَحَدِهِمَا فَكَانَ له أَنْ يَرُدَّ أَحَدَهُمَا وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ إنَّمَا يَثْبُتُ لِفَوَاتِ السَّلَامَةِ الْمَشْرُوطَةِ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وَالثَّابِتَةِ مُقْتَضَى الْعَقْدِ على ما بَيَّنَّا وَالسَّلَامَةُ فَاتَتْ في أَحَدِهِمَا فَكَانَ له رَدُّهُ خَاصَّةً فَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِتَضَمُّنِهِ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ بَاطِلٌ قبل التَّمَامِ لَا بَعْدَهُ وَالصَّفْقَةُ قد تَمَّتْ بِقَبْضِهِمَا فَزَالَ الْمَانِعُ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا يَتَضَرَّرُ الْبَائِعُ بِرَدِّ الرَّدِيءِ خَاصَّةً فَنَعَمْ لَكِنَّ هذا ضَرَرٌ مَرْضِيٌّ بِهِ من جِهَتِهِ لِأَنَّ إقْدَامَهُ على بَيْعِ الْمَعِيبِ وَتَدْلِيسِ الْعَيْبِ مع عِلْمِهِ أَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالْعَيْبِ دَلَالَةُ الرضي ( ( ( الرضا ) ) ) بِالرَّدِّ بِخِلَافِ ما قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا تَمَامَ لِلْعَقْدِ قبل الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ قبل الْقَبْضِ دَلَالَةَ الرِّضَا بِالرَّدِّ فَكَانَ الرَّدُّ ضَرَرًا غير مَرْضِيٍّ بِهِ فَيَجِبُ دَفْعُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَمْلِكُ رَدَّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْكُلَّ أو لم يَقْبِضْ شيئا أو قَبَضَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ وَسَوَاءٌ كان الْمَعْقُودُ عليه شيئا وَاحِدًا أو أَشْيَاءَ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرُدُّهُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ
وَلَوْ تَمَّتْ الصَّفْقَةُ لَمَا اُحْتُمِلَ الرَّدُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي دَلَّ أَنَّ هذا الْخِيَارَ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ وَلَا يَجُوزُ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قبل التَّمَامِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وَلَوْ قال الْمُشْتَرِي أنا أُمْسِكُ الْمَعِيبَ وَآخُذُ النُّقْصَانَ ليس له ذلك لِأَنَّ قَوْلَهُ أُمْسِكُ الْمَعِيبَ دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْمَعِيبِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمَبِيعُ أَشْيَاءَ فَوَجَدَ بِالْكُلِّ عَيْبًا فَأَرَادَ رَدَّ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ أَنَّ الْمَرْدُودَ إنْ كان مِمَّا لو كان الْعَيْبُ بِهِ وَحْدَهُ لَكَانَ له رَدُّهُ وَحْدَهُ كَالْعَبْدَيْنِ وَالثَّوْبَيْنِ فَلَهُ ذلك لِأَنَّهُ إذَا أَمْسَكَ الْبَعْضَ فَقَدْ رضي بعيبه ( ( ( بعينه ) ) ) فَبَطَل حَقُّ الرَّدِّ فيه لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لم تَكُنْ مَشْرُوطَةً وَلَا مُسْتَحَقَّةً بِالْعَقْدِ فيه فَصَارَ كَأَنَّهُ كان صَحِيحًا في الْأَصْلِ وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَيَرُدُّهُ وَإِنْ كان الْمَرْدُودُ مِمَّا لو كان الْعَيْبُ بِهِ وَحْدَهُ لَكَانَ لَا يَرُدُّهُ كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَنَحْوِهِمَا ليس له ذلك لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا تَعْيِيبٌ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَوَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا قبل الْقَبْضِ فَقَبَضَ الْمَعِيبَ وهو عَالِمٌ بِالْعَيْبِ لم يَكُنْ له أَنْ يَرُدَّ وَسَقَطَ خِيَارُهُ وَلَزِمَهُ الْعَبْدَانِ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَعِيبِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلِيلُ الرِّضَا وَلِلْقَبْضِ شَبَهٌ بِالْعَقْدِ فَكَانَ الرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ كَالرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ
وَلَوْ رضي بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فَلَزِمَاهُ جميعا كَذَا هذا وَلَوْ قَبَضَ الصَّحِيحَ مِنْهُمَا وَلَوْ كَانَا مَعِيبَيْنِ فَقَبَضَ أَحَدَهُمَا لم يَسْقُطْ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ قَبَضَ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عليه وَالصَّفْقَةُ لَا تَتِمُّ بِقَبْضِ بَعْضِ الْمَعْقُودِ عليه وَإِنَّمَا تَتِمُّ بِقَبْضِ الْكُلِّ فَلَوْ لَزِمَهُ الْعَقْدُ في الْمَقْبُوضِ دُونَ الْآخَرِ لَتَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ وَتَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ قبل التَّمَامِ بَاطِلٌ وَلَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ حَقِّهِ عن غَيْرِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ لم يَرْضَ بِهِ فَبَقِيَ له الْخِيَارُ على ما كان وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ فَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَ الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ ولم يجن ( ( ( يجز ) ) ) الْمُسْتَحَقُّ بَطَلَ الْعَقْدُ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ ذلك الْقَدْرَ لم يَكُنْ مِلْكَ الْبَائِعِ ولم تُوجَدْ الْإِجَازَةُ من الْمَالِكِ فَبَطَلَ وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ في الْبَاقِي إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ سَوَاءٌ كان اسْتِحْقَاقُ ما اسْتَحَقَّهُ يُوجِبُ الْعَيْبَ في الْبَاقِي أو لَا يُوجِبُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَرْضَ الْمُسْتَحِقُّ فَقَدَ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ على الْمُشْتَرِي قبل التَّمَامِ فَصَارَ كَعَيْبٍ ظَهَرَ بِالسِّلْعَةِ قبل الْقَبْضِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْخِيَارَ فَكَذَا هذا
وأن كان الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ قَبْضِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ سَوَاءٌ وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ على الْمَقْبُوضِ وَعَلَى غَيْرِ الْمَقْبُوضِ فَإِنْ كان قَبَضَ الْكُلَّ ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ بَطَلَ الْبَيْعُ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لِمَا قُلْنَا
ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كان اسْتِحْقَاقُ ما اسْتَحَقَّ يُوجِبُ الْعَيْبَ في الْبَاقِي بِأَنْ كان الْمَعْقُودُ عليه شيئا وَاحِدًا حَقِيقَةً وَتَقْدِيرًا
____________________

(5/288)


كَالدَّارِ وَالْكَرْمِ وَالْأَرْضِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهَا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ في الْبَاقِي إنْ شَاءَ رضي بِهِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ في الْأَعْيَانِ عَيْبٌ
وَكَذَلِكَ أن كان الْمَعْقُودُ عليه شَيْئَيْنِ من حَيْثُ الصُّورَةُ شيئا وَاحِدًا من حَيْثُ الْمَعْنَى فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا فَلَهُ الْخِيَارُ في الْبَاقِي وَإِنْ كان اسْتِحْقَاقُ ما اسْتَحَقَّ لَا يُوجِبُ الْعَيْبَ في الْبَاقِي بِأَنْ كان الْمَعْقُودُ عليه شَيْئَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى كَالْعَبْدَيْنِ فَاسْتَحَقَّ أَحَدَهُمَا أو كان صُبْرَةَ حِنْطَةٍ أو جُمْلَةَ وزنى فَاسْتَحَقَّ بَعْضَهُ فإنه يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ فلم يَكُنْ له خِيَارُ الرَّدِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ وما لَا يَمْنَعُ فَالْكَلَامُ في حَقِّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ هذا الْحَقُّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وما لَا يَبْطُلُ
أَمَّا الشَّرَائِطُ فَمِنْهَا امْتِنَاعُ الرَّدِّ وَتَعَذُّرُهُ فَلَا يَثْبُتُ مع إمْكَانِ الرَّدِّ حتى لو وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ثُمَّ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُمْسِكَ الْمَبِيعَ مع إمْكَانِ رَدِّهِ على الْبَائِعِ وَيَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ ليس له ذلك لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ كَالْخُلْفِ عن الرَّدِّ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخُلْفِ
وَلِأَنَّ إمْسَاكَ الْمَبِيعِ الْمَعِيبِ مع عِلْمِهِ بالعيب دَلَالَةُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ وَالرِّضَا بِالْعَيْبِ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ كما يَمْنَعُ الرَّدَّ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ امْتِنَاعُ الرَّدِّ لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان من قِبَلِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَابِسًا الْمَبِيعَ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ وَهَذَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الْحَقِّ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ أو انْتَقَصَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ في الْهَلَاكِ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ الْمَحَلِّ وفي النُّقْصَانِ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَى الْبَائِعِ وهو دَفْعُ ضَرَرٍ زَائِدٍ يَلْحَقُهُ بِالرَّدِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أنا أَقْبَلُهُ مع النُّقْصَانِ فَأَدْفَعُ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ وإذا كان امْتِنَاعُ الرَّدِّ لِأَمْرٍ يَرْجِعُ إلَيْهِ وهو لُزُومُ الضَّرَرِ إيَّاهُ بِالرَّدِّ فإذا دَفَعَ الضَّرَرَ عنه بِامْتِنَاعِ الرَّدِّ لَا بُدَّ من دَفْعِ الضَّرَرِ عن الْمُشْتَرِي بِالرُّجُوعِ بِالنُّقْصَانِ وَسَوَاءٌ كان النُّقْصَانُ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ من الْعَيْنِ أو لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً ثَيِّبًا فَوَطِئَهَا الْمُشْتَرِي أو قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ الرَّدَّ امْتَنَعَ لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الْبَائِعِ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يُقَبِّلَهَا موطوء ( ( ( موطوءة ) ) ) وَلَوْ كان لها زَوْجٌ عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَطِئَهَا زَوْجُهَا في يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كان زَوْجُهَا قد وَطِئَهَا في يَدِ الْبَائِعِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ هذا الْوَطْءَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ وَإِمْكَانُ الرَّدِّ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كان لم يَطَأْهَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَوَطِئَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنْ كانت بِكْرًا يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ وَطْءَ الْبِكْرِ يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعَيْنِ بِإِزَالَةِ الْعُذْرَةِ وَالِامْتِنَاعُ هَهُنَا ليس لِمَعْنًى من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الْبَائِعِ فَلَا يُمْنَعُ الرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كانت ثَيِّبًا لم يذكر في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الرَّدَّ أَمْ لَا وَقِيلَ لَا يَمْنَعُ فَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ مع إمْكَانِ الرَّدِّ
وَكَذَا لو كان الْمَبِيعُ قَائِمًا حَقِيقَةً هَالِكًا تَقْدِيرًا بِأَنْ أعطى له حُكْمُ الْهَلَاكِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو دَقِيقًا فَخَبَزَهُ أو لَحْمًا فَشَوَاهُ فإنه يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ في هذه الْمَوَاضِعِ من قِبَلِ الْبَائِعِ
وَلَوْ حَدَثَ في الْمَبِيعِ أو بِسَبَبِهِ زِيَادَةٌ مَانِعَةٌ من الرَّدِّ كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرَةِ وَاللَّبَنِ وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هَهُنَا لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الشَّرْعِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لو رَدَّ الْأَصْلَ بِدُونِ الزِّيَادَةِ لَبَقِيَتْ الزِّيَادَةُ مَبِيعًا مَقْصُودًا بِلَا ثَمَنٍ وَهَذَا تَفْسِيرُ الرِّبَا في مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ وَحُرْمَةُ الرِّبَا تَثْبُتُ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَلِهَذَا لو تَرَاضَيَا على الرَّدِّ لَا يقضي بِالرَّدِّ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ حَقًّا لِلشَّرْعِ لَا تَسْقُطُ بِرِضَا الْعَبْدِ
وإذا كان امْتِنَاعُ الرَّدِّ لِمَعْنًى يَرْجِعُ إلَى الشَّرْعِ لَا إلَى الْمُشْتَرِي بَقِيَ حَقُّ الْمُشْتَرِي في وَصْفِ السَّلَامَةِ وَاجِبَ الرِّعَايَةِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ جَبْرًا لِحَقِّهِ وَلَوْ كان الزِّيَادَةُ الْمَانِعَةُ سَمْنًا أو عَسَلًا لَتَّهُ بِسَوِيقٍ أو عصفر ( ( ( عصفرا ) ) ) أو زَعْفَرَانًا صَبَغَ بِهِ الثَّوْبَ أو بِنَاءً على الْأَرْضِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ التَّعَذُّرَ ليس من قِبَلِ الْمُشْتَرِي وَلَا من قِبَلِ الْبَائِعِ بَلْ من قِبَلِ الشَّرْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِلْبَائِعِ أَنْ يَقُولَ أنا آخُذُهُ كَذَلِكَ وَتَعَذُّرُ الرَّدِّ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أو وَهَبَهُ ثُمَّ عَلِمَ بِالْعَيْبِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ هَهُنَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ صَارَ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قام مَقَامَهُ فَصَارَ مُبْطِلًا لِلرَّدِّ الذي هو الْحَقُّ فَلَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ
وَكَذَلِكَ لو كَاتَبَهُ لِأَنَّهَا تُوجِبُ صَيْرُورَةَ الْعَبْدِ حُرًّا يَدًا فَصَارَ بِالْكِتَابَةِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَكَذَلِكَ لو أَعْتَقَهُ على مَالٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا
____________________

(5/289)


لِأَنَّ الاعتاق على مَالٍ في حَقِّ الْمُعْتِقِ في مَعْنَى الْبَيْعِ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعِوَضَ بِمُقَابَلَتِهِ وَالْبَيْعُ يَمْنَعُ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ
كَذَا هذا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وَلَوْ أَعْتَقَهُ على غَيْرِ مَالٍ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَرْجِعَ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَرْجِعُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّدَّ امْتَنَعَ بِفِعْلِهِ وهو الْإِعْتَاقُ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ أن الْكِتَابَةَ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ هَهُنَا ليس من قِبَلِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ ليس بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ بَلْ الْمِلْكُ يَنْتَهِي بِالْإِعْتَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْآدَمِيِّ عَدَمُ الْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ إذْ الْأَصْلُ فيه أَنْ يَكُونَ حُرًّا لِأَنَّ الناس كُلَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْمُتَوَلِّدُ من الْحُرَّيْنِ يَكُونُ حُرًّا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ ضَرَبَ الْمِلْكَ وَالْمَالِيَّةَ عليه بِعَارِضِ الْكُفْرِ مُؤَقَّتًا إلَى غَايَةِ الْإِعْتَاقِ وَالْمُؤَقَّتُ إلَى غَايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ فَيَنْتَهِي الْمِلْكُ وَالْمَالِيَّةُ عِنْدَ الْإِعْتَاقِ فَصَارَ كما لو انْتَهَى بِالْمَوْتِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ ليس بِحَبْسٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ ما أَخَذَ الْعِوَضَ فَقَدْ أَقَامَ الْمُشْتَرِي مَقَامَ نَفْسِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَبَقَاهُ على مِلْكِهِ فَصَارَ حَابِسًا إيَّاهُ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ فلم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ
وَكَذَلِكَ لو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الرَّدَّ لم يَمْتَنِعْ من قِبَلِ الْمُشْتَرِي بَلْ من قِبَلِ الشَّرْعِ
وَلَوْ قَتَلَهُ الْمُشْتَرِي لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ مَيِّتٌ بِأَجَلِهِ فَتَنْتَهِي حَيَاتُهُ عِنْدَ الْقَتْلِ كما تَنْتَهِي عِنْدَ الْمَوْتِ فَصَارَ كما لو مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ وَهُنَاكَ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ
كَذَا هَهُنَا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فَوَاتَ الْحَيَاةِ إنْ لم يَكُنْ أَثَرُ فِعْلِ الْقَاتِلِ حَقِيقَةً فَهُوَ أَثَرُ فِعْلِهِ عَادَةً فَجُعِلَ في حَقِّ الْقَاتِلِ كَأَنَّهُ تَفْوِيتُ الْحَيَاةِ حَقِيقَةً وَإِزَالَتُهَا وَإِنْ كان انْتِهَاءً حَقِيقَةً كَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ إنه أُلْحِقَ بِالْبَيْعِ في حَقِّ الْمُعْتِقِ وَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ في حَقِّ الْعَبْدِ فَصَارَ حَابِسًا لِلْعَبْدِ بِصُنْعِهِ مُمْسِكًا
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ طَعَامًا فَأَكَلَهُ الْمُشْتَرِي أو ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حتى تَخَرَّقَ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَرْجِعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَكْلَ الطَّعَامِ وَلُبْسَ الثَّوْبِ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ فِيمَا وُضِعَ له وإنه انْتِفَاعٌ لَا إتْلَافٌ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فإنه إزَالَةُ الْحَيَاةِ في حَقِّ الْقَاتِلِ فَكَانَ حَبْسًا وَإِمْسَاكًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يأكل ( ( ( بأكل ) ) ) الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ أَخْرَجَهُمَا عن مِلْكِهِ حَقِيقَةً إذْ الْمِلْكُ فِيهِمَا ثَبَتَ مُطْلَقًا لَا مُؤَقَّتًا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ الْقَتْلَ
وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ الطَّعَامُ أو الثَّوْبُ بِسَبَبٍ آخَرَ وَرَاءَ الْأَكْلِ وَاللُّبْسِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ اسْتِهْلَاكَهُمَا في غَيْرِ ذلك الْوَجْهِ إبْطَالٌ مَحْضٌ فَيُشْبِهُ الْقَتْلَ
وَلَوْ أَكَلَ بَعْضَ الطَّعَامِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا ليس له أَنْ يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ وقد امْتَنَعَ رَدُّ بَعْضِهِ بِمَعْنًى من قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَصْلًا في الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ كما لو بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ بَعْضٍ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِأَرْشِ الْكُلِّ الْمَأْكُولِ وَالْبَاقِي إلَّا إذَا رضي الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِيمَا أَكَلَ لِأَنَّهُ ليس في تَبْعِيضِ الطَّعَامِ ضَرَرٌ فَيُمْكِنُ رَدُّ الْبَعْضِ فيه دُونَ الْبَعْضِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن ذلك وَبِهِ كان يُفْتِي الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرُ وهو اخْتِيَارُ الْفَقِيهِ أبي اللَّيْثِ
ولو بَاعَ بَعْضَ الطَّعَامِ دُونَ الْبَعْضِ لم يَرُدَّ الْبَاقِي وَلَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَرُدُّ الْبَاقِي وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ إلَّا إذَا رضي الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ وَالرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ لِأَجْلِ الْبَيْعِ وَأَنَّهُ وُجِدَ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَمْتَنِعُ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الِامْتِنَاعُ بِقَدْرِ الْمَانِعِ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ الطَّعَامَ كُلَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ كَالْعَبْدِ فَالِامْتِنَاعُ في الْبَعْضِ لِمَعْنًى من قِبَلِ الْمُشْتَرِي يُوجِبُ الِامْتِنَاعَ في الْكُلِّ
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ دَارًا فَبَنَاهَا مَسْجِدًا ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَنَاهَا مَسْجِدًا فَقَدْ أَخْرَجَهَا عن مِلْكِهِ فَصَارَ كما لو بَاعَهَا
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَكَفَّنَ بِهِ مَيِّتًا ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ فَإِنْ كان الْمُشْتَرِي وَارِثَ الْمَيِّتِ وقد اشْتَرَى من التَّرِكَةِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْكَفَنِ لم يَثْبُتْ لِلْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ الْكَفَنَ من الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ لِلْمَيِّتِ وقد امْتَنَعَ رَدُّهُ بِالْعَيْبِ لَا من قِبَلِ الْمُشْتَرِي فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ كان الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا فَتَبَرَّعَ بِالْكَفَنِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في المشتري وَقَعَ له فإذا كَفَّنَ بِهِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ بِالتَّكْفِينِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ

____________________

(5/290)


وَمِنْهَا عَدَمُ وُصُولِ عِوَضِ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي مع تَعَذُّرِ الرَّدِّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ عِوَضُهُ بِأَنْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ في يَدِهِ خَطَأً لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ على الْبَائِعِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ لِأَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهِ حَقِيقَةُ الْعَيْبِ وَإِنَّمَا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَةُ الْمَعِيبِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِمِقْدَارِ الْعَيْبِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ قِيمَتُهُ قَامَتْ الْقِيمَةُ مَقَامَ الْعَيْنِ فَكَأَنَّهَا قَائِمَةٌ في يَدِهِ لَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ عِوَضُهُ فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ
وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ اطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ لم يَرْجِعْ بِالنُّقْصَانِ
كَذَا هذا
وَمِنْهَا عَدَمُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً وَهِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفًا يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ فإن ذلك يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ وَالرُّجُوعِ جميعا وقد ذَكَرْنَا التَّصَرُّفَاتِ التي هِيَ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ لم يَعْلَمْ بِالْعَيْبِ حتى تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا يَمْنَعُ الرَّدَّ ثُمَّ عَلِمَ فَإِنْ كان التَّصَرُّفُ مما لَا يُخْرِجُ السِّلْعَةَ عن مِلْكِهِ يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا الْكِتَابَةَ لِانْعِدَامِ دَلَالَةِ الرِّضَا وفي الْكِتَابَةِ يَرْجِعُ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْبَيْعِ على ما مَرَّ وَإِنْ كان التَّصَرُّفُ مِمَّا يُخْرِجُ السِّلْعَةَ عن مِلْكِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لَا يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ إلَّا الْإِعْتَاقُ لَا على مَالٍ اسْتِحْسَانًا على ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وما لَا يَبْطُلُ فَحَقُّ الرُّجُوعِ يَبْطُلُ بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ نحو قَوْلِهِ أَبْطَلْته أو أَسْقَطْته أو أَبْرَأْتُك عنه وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى لِأَنَّ خِيَارَ الرُّجُوعِ حَقُّهُ كَخِيَارِ الرَّدِّ لِثُبُوتِهِ بِالشَّرْطِ وَهِيَ السَّلَامَةُ الْمَشْرُوطَةُ في الْعَقْدِ دَلَالَةً بِخِلَافِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْإِنْسَانُ بِسَبِيلٍ من التَّصَرُّفِ في حَقِّهِ اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا وَيَسْقُطُ أَيْضًا بِالرِّضَا بِالْعَيْبِ وهو نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وَدَلَالَةٌ فَالصَّرِيحُ هو أَنْ يَقُولَ رَضِيت بِالْعَيْبِ الذي بِهِ أو اخْتَرْت أو أَجَزْت الْبَيْعَ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ وَالدَّلَالَةُ هِيَ أَنْ يَتَصَرَّفَ في الْمَبِيعِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ تَصَرُّفًا يَدُلُّ على الرِّضَا بِالْعَيْبِ كما إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَامْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ النُّقْصَانِ وَوَجَبَ الْأَرْشُ ثُمَّ تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ بِأَنْ بَاعَهُ أو وَهَبَ وسلم أو أَعْتَقَ أو دَبَّرَ أو اسْتَوْلَدَ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْمُخْرِجَ عن الْمِلْكِ مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ دَلَالَةُ الْإِمْسَاكِ عن الرَّدِّ وَذَا دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ
وَلَوْ امْتَنَعَ الرَّدُّ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَغَيْرِهِ أو الْحَاصِلَةِ بِسَبَبِ الْأَصْلِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ منه كَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ وَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ غَيْرِ الْمُتَوَلِّدَةِ كَالصَّبْغِ وَنَحْوِ ذلك ثُمَّ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا أَخْرَجَهُ عن مِلْكِهِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ بالإرش بَلْ يبقي الإرش على حَالِهِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ في هذه الصُّورَةِ لم يَقَعْ دَلَالَةً على الْإِمْسَاكِ عن الرَّدِّ لِأَنَّ امْتِنَاعَ الرَّدِّ كان ثَابِتًا قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِلْبَائِعِ خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ بِأَنْ يَقُولَ أنا أَقْبَلُهُ كَذَلِكَ مع الْعَيْبِ وَأَرُدُّ إلَيْك جَمِيعَ الثَّمَنِ وإذا كان الرَّدُّ مُمْتَنِعًا قبل التَّصَرُّفِ لم يَكُنْ هو بِالتَّصَرُّفِ مُمْسِكًا عن الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا فَبَقِيَ الْأَرْشُ وَاجِبًا كما كان بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَكُنْ الرَّدُّ مُمْتَنِعًا حَتْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْبَائِعِ أَنْ يَقْبَلَهُ نَاقِصًا مع الْعَيْبِ فَكَانَ الْمُشْتَرِي بِتَصَرُّفِهِ مُفَوِّتًا على نَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ فَكَانَ حَابِسًا لِلْمَبِيعِ بِفِعْلِهِ مُمْسِكًا إيَّاهُ عن الرَّدِّ وإنه دَلِيلُ الرِّضَا بِالْعَيْبِ فَيَبْطُلُ الرُّجُوعِ فَصَارَ الْأَصْلُ في هذا الْبَابِ أَنَّ وُجُوبَ الإرش إذَا لم يَكُنْ ثَابِتًا على سَبِيلِ الْحَتْمِ وَالْإِلْزَامِ بَلْ كان خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ لِلْبَائِعِ مع الْعَيْبِ فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذلك تَصَرُّفًا مُخْرِجًا عن الْمِلْكِ يُوجِبُ بُطْلَانَ الإرش وَإِنْ كان وجه ( ( ( وجوبه ) ) ) ثَابِتًا حَتْمًا بِأَنْ لم يَكُنْ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الِاسْتِرْدَادِ فَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي لَا يُبْطِلُ الْأَرْشَ
وَجْهُ الْفَرْقِ بين الْفَصْلَيْنِ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ مَعْرِفَةِ نُقْصَانِ الْعَيْبِ فَطَرِيقُهُ أَنْ تُقَوَّمَ السِّلْعَةُ وَلَيْسَ بها ذلك الْعَيْبُ وَتُقَوَّمَ بها ( ( ( وبها ) ) ) ذلك فَيُنْظَرُ إلَى نُقْصَانِ ما بين الْقِيمَتَيْنِ فَيُرْجَعُ على بَائِعِهِ بِقَدْرِ ما نَقَصَهُ الْعَيْبُ من حِصَّتِهِ من الثَّمَنِ إنْ كانت قِيمَتُهُ مِثْلَ ثَمَنِهِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا فَإِنْ كان النُّقْصَانُ قَدْرَ عُشْرِ الْقِيمَةِ يُرْجَعُ على بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ كان قَدْرَ خُمْسِهَا يُرْجَعُ بِخُمْسِ الثَّمَنِ
مِثَالُهُ إذَا اشْتَرَى ثَوْبًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ فَاطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ يُنْقِصُهُ عُشْرَ قِيمَتِهِ وهو دِرْهَمٌ يَرْجِعُ على بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وهو دِرْهَمٌ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ بِعَشَرَةٍ فَاطَّلَعَ على عَيْبٍ بِهِ يُنْقِصُهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ فإنه يَرْجِعُ على الْبَائِعِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ وَلَوْ كانت قِيمَتُهُ عَشَرَةً وقد اشْتَرَاهُ بِعِشْرِينَ وَالْعَيْبُ يُنْقِصُهُ عُشْرَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ يَرْجِعُ على بَائِعِهِ بِعُشْرِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ دِرْهَمَانِ على هذا الْقِيَاسِ فَافْهَمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْخِيَارُ
____________________

(5/291)


الثَّابِتُ شَرْعًا لَا شَرْطًا فَهُوَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ شَرْعِيَّةِ الْبَيْعِ الذي فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ وفي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وما لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ أما الْكَلَامُ في شَرْعِيَّتِهِ فَقَدْ مَرَّ في مَوْضِعِهِ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَهِيَ أَنَّ شِرَاءَ ما لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من اشْتَرَى شيئا لم يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْوَصْفِ تُؤَثِّرُ في الرِّضَا فَتُوجِبُ خَلَلًا فيه واختلال ( ( ( واختلاف ) ) ) الرِّضَا في الْبَيْعِ يُوجِبُ الْخِيَارَ وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ اعْتِرَاضَ النَّدَمِ لِمَا عَسَى لَا يَصْلُحُ له إذَا رَآهُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّدَارُكِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِإِمْكَانِ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ نَظَرًا له كما ثَبَتَ خِيَارُ الرَّجْعَةِ شَرْعًا نَظَرًا لِلزَّوْجِ تَمْكِينًا له من التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ كما قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلك أَمْرًا }
وَأَمَّا بَيْعُ ما لم يَرَهُ الْبَائِعُ فَهَلْ يَلْزَمُ رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كان يقول أَوَّلًا لَا يَلْزَمُ وَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ ثُمَّ رَجَعَ وقال يَلْزَمُ وَلَا يَثْبُتُ له الْخِيَارُ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ ما ثبت ( ( ( يثبت ) ) ) له في شِرَاءِ ما لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي وهو ما ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي مَوْجُودٌ في بَيْعِ ما لم يَرَهُ الْبَائِعُ فَوُرُودُ الشَّرْعِ بِالْخِيَارِ ثَمَّةَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ ما رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُثْمَانَ بن عَفَّانَ رضي اللَّهُ عنهما بَاعَ أَرْضًا له من طَلْحَةَ بن عبد ( ( ( عبيد ) ) ) اللَّهِ رضي اللَّهُ عنهما ولم يَكُونَا رَأَيَاهَا فَقِيلَ لِسَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه غُبِنْت فقال لي الْخِيَارُ لِأَنِّي بِعْت ما لم أَرَهُ وَقِيلَ لِطَلْحَةَ مِثْلُ ذلك فقال لي الْخِيَارُ لِأَنِّي اشْتَرَيْت ما لم أَرَهُ فَحَكَّمَا في ذلك جُبَيْرَ بن مُطْعِمٍ فَقَضَى بِالْخِيَارِ لِطَلْحَةَ رضي اللَّهُ عنه وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ منهم فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على ذلك وَالِاعْتِبَارُ بِجَانِبِ الْمُشْتَرِي ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ مُشْتَرِيَ ما لم يَرَهُ مشتري ( ( ( مشتر ) ) ) على أَنَّهُ خَيْرٌ مِمَّا ظَنَّهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مشتري ( ( ( مشتر ) ) ) شيء على أَنَّهُ جَيِّدٌ فإذا هو رَدِيءٌ
وَمَنْ اشْتَرَى شيئا على أَنَّهُ جَيِّدٌ فإذا هو رَدِيءٌ فَلَهُ الْخِيَارُ وَبَائِعُ شَيْءٍ لم يَرَهُ يَبِيعُ على أَنَّهُ أَدْوَنُ مِمَّا ظَنَّهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَائِعِ شَيْءٍ على أَنَّهُ رَدِيءٌ فإذا هو جَيِّدٌ وَمَنْ بَاعَ شيئا على أَنَّهُ رَدِيءٌ فإذا هو جَيِّدٌ لَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَحُكْمُ الْمَبِيعِ الذي لَا خِيَارَ فيه وهو ثُبُوتُ الْحَلِّ لِلْمُشْتَرِي في الْمَبِيعِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ في الثَّمَنِ لِلْحَالِّ لِأَنَّ رُكْنَ الْبَيْعِ صَدَرَ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ كان يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ الْخِيَارُ شَرْعًا لَا شَرْطًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ بِنَصِّ كَلَامِ الْعَاقِدَيْنِ فَأَثَّرَ في الرُّكْنِ بِالْمَنْعِ من الِانْعِقَادِ في حَقِّ الْحُكْمِ على ما مَرَّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَإِنْ كان مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يَثْبُتُ فيه الْخِيَارُ حتى أنهما لو تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَلَوْ تَبَايَعَا دَيْنًا بِدَيْنٍ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِدَيْنٍ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ وَلَا خِيَارَ لِلْبَائِعِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كان مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ لِلْعَقْدِ لَا يَتَعَيَّنُ لِلْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ وَقِيَامُ الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بمثله فإذا قَبَضَ برده ( ( ( يرده ) ) ) هَكَذَا إلَى ما لَا نِهَايَةَ له فلم يَكُنْ الرَّدُّ مُفِيدًا بِخِلَافِ ما إذَا كان عَيْنًا لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَيَتَعَيَّنُ في الْفَسْخِ أَيْضًا فَكَانَ الرَّدُّ مُفِيدًا وَلِأَنَّ الْفَسْخَ إنَّمَا يَرِدُ على الْمَمْلُوكِ بِالْعَقْدِ وما لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ لَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَلَا يَرِدُ عليه الْفَسْخُ وَلِهَذَا يَثْبُتُ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ في الْإِجَارَةِ وَالصُّلْحِ عن دَعْوَى الْمَالِ وَالْقِسْمَةِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ هذه الْعُقُودَ تَنْفَسِخُ بِرَدِّ هذه الْأَشْيَاءِ فَيَثْبُتُ فيها خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَثْبُتُ في الْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَنَحْوِ ذلك لِأَنَّ هذه الْعُقُودَ لَا تَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ بِرَدِّ هذه الْأَمْوَالِ فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فيه بِرَدِّهِ يَثْبُتُ فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وما لَا فَلَا وَالْفِقْهُ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا عَدَمُ الرُّؤْيَةِ فَإِنْ اشْتَرَاهُ وهو يَرَاهُ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْأَصْلَ هو لُزُومُ الْعَقْدِ وَانْبِرَامُهُ لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ وُجِدَ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ثُبُوتَ الْخِيَارِ شَرْعًا بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالْخِيَارِ فِيمَا لم يَرَهُ الْمُشْتَرِي لِقَوْلِهِ عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) ) والسلام من اشْتَرَى شيئا لم يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ فَبَقِيَ الْخِيَارُ عِنْدَ الرُّؤْيَةِ مَبْقِيًّا على الْأَصْلِ
وَإِنْ كان الْمُشْتَرِي لم يَرَهُ وَقْتَ الشِّرَاءِ وَلَكِنْ كان قد رَآهُ قبل ذلك نُظِرَ في ذلك إنْ كان الْمَبِيعُ وَقْتَ الشِّرَاءِ على حَالِهِ التي كان عليها لم تَتَغَيَّرْ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْخِيَارَ ثَبَتَ مَعْدُولًا بِهِ عن الْأَصْلِ بِالنَّصِّ الْوَارِدِ في شِرَاءِ ما لم يَرَهُ
____________________

(5/292)


وَهَذَا قد اشْتَرَى شيئا قد رَآهُ فَلَا يَثْبُتُ له الْخِيَارُ وَإِنْ كان قد تَغَيَّرَ عن حَالِهِ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ إذَا تَغَيَّرَ عن حَالِهِ فَقَدْ صَارَ شيئا آخَرَ فَكَانَ مُشْتَرِيًا شيئا لم يَرَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في التَّغَيُّرِ وَعَدَمِهِ فقال الْبَائِعُ لم يَتَغَيَّرْ وقال الْمُشْتَرِي قد تَغَيَّرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّغَيُّرِ وَالتَّغَيُّرُ عَارِضٌ فَكَانَ الْبَائِعُ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ وَالْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا أَمْرًا عَارِضًا فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ لَكِنْ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ أَمْرٌ يَجْرِي فيه الْبَدَلُ وَالْإِقْرَارُ فَيَجْرِي فيه الِاسْتِحْلَافُ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِدَعْوَى التَّغَيُّرِ يَدَّعِي حَقَّ الرَّدِّ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي رَأَيْته وَقْتَ الشِّرَاءِ وقال الْمُشْتَرِي لم أَرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ أَصْلٌ وَالرُّؤْيَةَ عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
وَلِأَنَّ الْبَائِعَ بِدَعْوَى الرُّؤْيَةِ يَدَّعِي عليه إلْزَامَ الْعَقْدِ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ فَاخْتَلَفَا فقال الْبَائِعُ ليس هذا الذي بِعْتُك وقال الْمُشْتَرِي هو ذَاكَ بِعَيْنِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أَنَّهُ بِعَيْنِهِ وَكَذَلِكَ هذا في خِيَارِ الشَّرْطِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ فإن الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ في خِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ بِقَوْلِهِ هذا مَالُك لَا يَدَّعِي ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ عليه لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ ثَابِتٌ له حتى يَرُدَّ عليه من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وَلَكِنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ هذا الذي قَبَضَهُ منه فَكَانَ اخْتِلَافُهُمَا في الْحَقِيقَةِ رَاجِعًا إلَى الْمَقْبُوضِ وَالِاخْتِلَافُ مَتَى وَقَعَ في تَعْيِينِ نَفْسِ الْمَقْبُوضِ فإن الْقَوْلَ فيه قَوْلُ الْقَابِضِ
وَإِنْ كان قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ كَقَبْضِ الْغَصْبِ فَفِي الْقَبْضِ الْحَقُّ أَوْلَى بِخِلَافِ الْعَيْبِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَنْفَرِدُ بِالرَّدِّ في خِيَارِ الْعَيْبِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّدَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي فَكَانَ هو بِقَوْلِهِ هذا مَالُك بِعَيْنِهِ مُدَّعِيًا حَقَّ الرَّدِّ في هذا الْمُعَيَّنِ وَالْبَائِعُ يُنْكَرُ ثُبُوتَ حَقِّ الرَّدِّ فيه فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
هذا إذَا كان الْمُشْتَرِي بَصِيرًا فَأَمَّا إذَا كان أَعْمَى فَشَرْطُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ له عَدَمُ الجس ( ( ( الحبس ) ) ) فِيمَا يجس ( ( ( يحبس ) ) ) وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ وَقْتَ الشِّرَاءِ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ في حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ في حَقِّ الْبَصِيرِ فَكَانَ انْعِدَامُهَا شَرْطًا لِثُبُوتِ الْخِيَارِ له فَإِنْ وُجِدَ شَيْءٌ منه وَقْتَ الشِّرَاءِ فَاشْتَرَاهُ فَلَا خِيَارَ له
وَكَذَا إذَا وُجِدَتْ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ وُجُودَ شَيْءٍ من ذلك عِنْدَ الْقَبْضِ في حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ وُجُودِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ كَالرُّؤْيَةِ في حَقِّ الْبَصِيرِ بِأَنْ رَآهُ قبل الْقَبْضِ ثُمَّ قَبَضَهُ لِأَنَّ كُلَّ ذلك دَلَالَةُ الرِّضَا بِلُزُومِ الْعَقْدِ على ما نَذْكُرهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا الذي ذَكَرْنَا إذَا رَأَى الْمُشْتَرِي كُلَّ الْمَبِيعِ وَقْتَ الشِّرَاءِ
فَأَمَّا إذَا رَأَى بَعْضَهُ دُونَ الْبَعْضِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَبِيعَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ شيئا وَاحِدًا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَشْيَاءَ فَإِنْ كان شيئا وَاحِدًا فَرَأَى بَعْضَهُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان ما رَآهُ منه مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ وما لم يَرَهُ منه تَبَعًا
وَإِمَّا إنْ كان كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ فَإِنْ كان ما لم يَرَهُ تَبَعًا لِمَا رَآهُ فَلَا خِيَارَ له سَوَاءٌ كان رُؤْيَةُ ما رَآهُ تُفِيدُ له الْعِلْمَ بِحَالِ ما لم يَرَهُ أو لَا تُفِيدُ لِأَنَّ حُكْمَ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَانَ رُؤْيَةُ الْأَصْلِ رُؤْيَةَ التَّبَعِ وَإِنْ كان مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ يُنْظَرُ في ذلك إنْ كان رُؤْيَةُ ما رَأَى تُفِيدُ له الْعِلْمَ بِحَالِ ما لم يَرَهُ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعِلْمُ بِحَالِ الْبَاقِي فَكَأَنَّهُ رَأَى الْكُلَّ وَإِنْ كان لَا يُفِيدُ له الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لم يَحْصُلْ بِرُؤْيَةِ ما رَأَى فَكَأَنَّهُ لم يَرَ شيئا منه أَصْلًا
فَعَلَى هذا الْأَصْلِ تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ
إذَا اشْتَرَى عَبْدًا أو جَارِيَةً فَرَأَى وَجْهَهُ دُونَ سَائِرِ أَعْضَائِهِ لَا خِيَارَ له وَإِنْ كانت رُؤْيَةُ الْوَجْهِ لَا تقيد ( ( ( تفيد ) ) ) له الْعِلْمَ بِمَا وَرَاءَهُ لِأَنَّ الْوَجْهَ أَصْلٌ في الرُّؤْيَةِ في بَنِي آدَمَ وَسَائِرُ الْأَعْضَاءِ تَبَعٌ له فيها
وَلَوْ رَأَى سَائِرَ أَعْضَائِهِ دُونَ الْوَجْهِ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ رُؤْيَةَ التَّبَعِ لَا تَكُونُ رُؤْيَةَ الْأَصْلِ فَكَأَنَّهُ لم يَرَ شيئا منه
وَلَوْ اشْتَرَى فَرَسًا أو بَغْلًا أو حِمَارًا أو نحو ذلك فَرَأَى وَجْهَهُ لَا غَيْرُ رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّقِيقِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ له الْخِيَارَ ما لم يَرَ وَجْهَهُ وَمُؤَخَّرَهُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْكَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُضْوٌ مَقْصُودٌ في الرُّؤْيَةِ في هذا الْجِنْسِ فما لم يَرَهُمَا فَهُوَ على خِيَارِهِ
وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً فَإِنْ كانت نَعْجَةً حَلُوبًا اشْتَرَاهَا لِلْقُنْيَةِ أو اشْتَرَى بَقَرَةً حَلُوبًا أو نَاقَةً حَلُوبًا اشْتَرَاهَا لِلْقُنْيَةِ لَا بُدَّ من النَّظَرِ إلَى ضَرْعِهَا وَإِنْ اشْتَرَى شَاةً لِلَّحْمِ لَا بُدَّ من الْجَسِّ حتى لو رَآهَا من بَعِيدٍ فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَقْصُودٌ من شَاةِ اللَّحْمِ وَالضَّرْعَ مَقْصُودٌ من الْحَلُوبِ وَالرُّؤْيَةُ من بَعِيدٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِهَذَيْنِ الْمَقْصُودَيْنِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبُسُطُ فَإِنْ كان مِمَّا يَخْتَلِفُ وَجْهُهُ وَظَهْرُهُ فَرَأَى وَجْهَهُ دُونَ ظَهْرِهِ كَالْمَغَافِرِ وَنَحْوِهَا لَا خِيَارَ له وَإِنْ رَأَى الظَّهْرَ دُونَ الْوَجْهِ فَلَهُ الْخِيَارُ كَذَا
____________________

(5/293)


رَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا وَاحِدًا فَرَأَى ظَاهِرَهُ مَطْوِيًّا ولم يَنْشُرْهُ فَإِنْ كان سَاذَجًا ليس بِمُنَقَّشٍ وَلَا بِذِي عَلَمٍ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ رُؤْيَةَ ظَاهِرِهِ مَطْوِيًّا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي وَإِنْ كان مُنَقَّشًا فَهُوَ على خِيَارِهِ ما لم يَنْشُرْهُ وَيَرَى نَقْشَهُ لِأَنَّ النَّقْشَ في الثَّوْبِ الْمُنَقَّشِ مَقْصُودٌ وَإِنْ لم يَكُنْ مُنَقَّشًا وَلَكِنَّهُ ذُو عَلَمٍ فَرَأَى عَلَمَهُ فَلَا خِيَارَ له وَإِنْ لم يَرَ كُلَّهُ وَلَوْ رَأَى كُلَّهُ إلَّا عَلَمَهُ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعَلَمَ في الثَّوْبِ الْمُعْلَمِ مَقْصُودٌ كَالنَّقْشِ في الْمُنَقَّشِ
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَرَأَى خَارِجَهَا أو بُسْتَانًا فَرَأَى خَارِجَهُ ورؤوس ( ( ( ورءوس ) ) ) الْأَشْجَارِ فَلَا خِيَارَ له كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الدَّارَ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَكَذَا الْبُسْتَانُ فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ رُؤْيَةَ الْكُلِّ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا قالوا إنَّ هذا مُؤَوَّلٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنْ لَا يَكُونَ في دَاخِلِ الدَّارِ بُيُوتٌ وَأَبْنِيَةٌ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْخَارِجِ فَأَمَّا إذَا كان دَاخِلَهَا أَبْنِيَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ ما لم يَرَ دَاخِلَهَا لِأَنَّ الدَّاخِلَ هو الْمَقْصُودُ من الدَّارِ وَالْخَارِجُ كَالتَّابِعِ له بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمُعَلَّمِ إذَا رَأَى كُلَّهُ إلَّا عَلَمَهُ كان له الْخِيَارُ لِأَنَّ الْعِلْمَ هو الْمَقْصُودُ منه
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَجَابَ على عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ في زَمَنِهِ فإن دُورَهُمْ في زَمَنِهِ كانت لَا تَخْتَلِفُ في الْبِنَاءِ وَكَانَتْ على تَقْطِيعٍ وَاحِدٍ وَهَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا كانت تَخْتَلِفُ في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْعِلْمُ بِهِ يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الْخَارِجِ وَأَمَّا الْآنَ فَلَا بُدَّ من رُؤْيَةِ دَاخِلِ الدَّارِ وهو الصَّحِيحُ لِاخْتِلَافِ الْأَبْنِيَةِ في دَاخِلِ الدُّورِ في زَمَانِنَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْخَارِجِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
هذا إذَا كان المشتري شيئا وَاحِدًا فَرَأَى بَعْضَهُ فَأَمَّا إنْ كان أَشْيَاءَ فَرَأَى وَقْتَ الشِّرَاءِ بَعْضَهَا دُونَ الْبَعْضِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان من الْمَكِيلَاتِ أو الْمَوْزُونَاتِ فَرَأَى بَعْضَهَا وَقْتَ الشِّرَاءِ فَإِنْ كان في وِعَاءٍ وَاحِدٍ فَلَا خِيَارَ له لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ فيها تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ كَرُؤْيَةِ الْكُلِّ إلَّا إذَا وَجَدَ الْبَاقِي بِخِلَافِ ما رآى فَيَثْبُتُ له الْخِيَارُ لَكِنْ خِيَارُ الْعَيْبِ لَا خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَإِنْ كان في وِعَاءَيْنِ فَإِنْ كان الْكُلُّ من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال مَشَايِخُ بَلْخٍ له الْخِيَارُ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْوِعَاءَيْنِ جَعَلَهُمَا كَجِنْسَيْنِ وقال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ لَا خِيَارَ له وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ من هذا الْجِنْسِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي سَوَاءٌ كان في وِعَاءٍ وَاحِدٍ أو في وِعَاءَيْنِ بَعْدَ إن كان الْكُلُّ من جِنْسٍ وَاحِدٍ وَعَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ كان من جِنْسَيْنِ أو من جِنْسٍ وَاحِدٍ على صِفَتَيْنِ فَلَهُ الْخِيَارُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ من جِنْسٍ وَعَلَى وَصْفٍ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِجِنْسٍ آخَرَ وَعَلَى وَصْفٍ آخَرَ وَإِنْ كان من الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالْعَبِيدِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ بِأَنْ اشْتَرَى جَمَاعَةَ عَبِيدٍ أو جواري ( ( ( جوار ) ) ) أو إبِلٍ أو بَقَرٍ أو قَطِيعَ غَنَمٍ أو جِرَابٍ هَرَوِيٌّ فَرَأَى بَعْضَهَا أو كُلَّهَا إلَّا وَاحِدًا فَلَهُ الْخِيَارُ بين أَنْ يَرُدَّ الْكُلَّ أو يُمْسِكَ الْكُلَّ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ من هذا الْجِنْسِ لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَا وَرَاءَهُ فَكَأَنَّهُ لم يَرَ شيئا منه بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ منه تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي
وَلَوْ اشْتَرَى جَمَاعَةَ ثِيَابٍ في جِرَابٍ وَرَأَى أَطْرَافَ الْكُلِّ أو طَيَّ الْكُلِّ لَا خِيَارَ له إلَّا إذَا كانت مُعْلَمَةً أو مُنَقَّشَةً لِأَنَّهَا إذَا لم تَكُنْ مُعْلَمَةً أو مُنَقَّشَةً لم ( ( ( ولم ) ) ) يَكُنْ الْبَعْضُ من كل وَاحِدٍ منها مَقْصُودًا وَالْبَعْضُ تَبَعًا وَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي فَكَانَ رُؤْيَةُ الْبَعْضِ رُؤْيَةَ الْكُلِّ كما إذَا اشْتَرَى الْبِطِّيخَ في السريجة وَالرُّمَّانَ في الْقُفَّةِ فَرَأَى الْبَعْضَ فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْبَعْضَ منها ليس تَبَعًا لِلْبَعْضِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ منها مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ منها لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِالْبَاقِي لِكَوْنِهَا مُتَفَاوِتَةً تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَكَانَ له الْخِيَارُ
وَإِنْ كان من الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ فَرَأَى الْبَعْضَ منها ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ له الْخِيَارُ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ لِاخْتِلَافِهَا في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ الإسبيجاني ( ( ( الإسبيجابي ) ) ) رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا خِيَارَ له وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بين صَغِيرِ الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ وَكَبِيرِهِمَا مُتَقَارِبٌ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ عُرْفًا وَعَادَةً وَشَرْعًا وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ في السَّلَمِ حتى جَازَ السَّلَمُ فيها عَدَدًا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ فَكَانَ رُؤْيَةُ بَعْضِهِ مُعَرِّفًا حَالَ الْبَاقِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ على ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ وَيُفَرَّقُ بين هذا وَبَيْنَ السَّلَمِ وهو أَنَّ الْبَيْضَ وَالْجَوْزَ مِمَّا يَتَفَاوَتُ في الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ حَقِيقَةً
وَالْأَصْلُ في الْحَقَائِقِ اعْتِبَارُهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَهْدَرَ هذا التَّفَاوُتَ وَأَلْحَقَهُ بِالْعَدَمِ في السَّلَمِ لِحَاجَةِ الناس وَلَا حَاجَةَ إلَى الْإِهْدَارِ في إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَبَقِيَ التَّفَاوُتُ فيه مُعْتَبَرًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ لَا تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ وهو الْعِلْمُ بِحَالِ الْبَاقِي فَبَقِيَ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اشْتَرَى دُهْنًا في قَارُورَةٍ فَرَأَى خَارِجَ الْقَارُورَةِ فَعَنْ مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ رَوَى ابن سِمَاعَةَ عنه أَنَّهُ
____________________

(5/294)


لَا خِيَارَ له لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ من الْخَارِجِ تفيد ( ( ( تقيد ) ) ) الْعِلْمَ بِالدَّاخِلِ فَكَأَنَّهُ رَآهُ وهو خَارِجٌ وَرُوِيَ عنه أَنَّ له الْخِيَارَ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِمَا في دَاخِلِ الْقَارُورَةِ لَا يَحْصُلُ بِالرُّؤْيَةِ من خَارِجِ الْقَارُورَةِ لِأَنَّ ما في الدَّاخِلِ يَتَلَوَّنُ بِلَوْنِ الْقَارُورَةِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ من هذه الرُّؤْيَةِ
وَقَالُوا في الْمُشْتَرِي إذَا رَأَى الْمَبِيعَ في الْمِرْآةِ أن له الْخِيَارَ وَكَذَا في الْمَاءِ وَقَالُوا لِأَنَّهُ لم يَرَ عَيْنَهُ وَإِنَّمَا رَأَى مِثَالَهُ
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَأَى عَيْنَ الْمَبِيعِ لَا أن غير الْمَبِيعِ في الْمِرْآةِ وَالْمَاءِ بَلْ يَرَاهُ حَيْثُ هو لَكِنْ لَا على الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فيه الرُّؤْيَةُ وَهَذَا ليس بِبَعِيدٍ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ لَيْسَتْ من شَرْطِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّا نَرَى اللَّهَ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بِلَا مُقَابَلَةٍ وَلَكِنْ قد لَا يَحْصُلُ له الْعِلْمُ بِهَيْئَتِهِ لِتَفَاوُتِ الْمِرْآةِ فَيَعْلَمُ بِأَصْلِهِ لَا بِهَيْئَتِهِ فَلِذَلِكَ يَثْبُتُ له الْخِيَارُ لَا لِمَا قالوا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ على أَنَّ في الْعُرْفِ لَا يَشْتَرِي الْإِنْسَانُ شيئا لم يَرَهُ لِيَرَاهُ في المرأة أو في الْمَاءِ لِيَحْصُلَ له الْعِلْمُ بهذا الطَّرِيقِ فَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ في الْمِرْآةِ وَإِنْ رَأَى عَيْنَهُ مُسْقِطَةً لِلْخِيَارِ
وَعَلَى هذا قالوا فِيمَنْ رَأَى فَرْجَ أُمِّ امْرَأَتِهِ في الْمَاءِ أو في الْمِرْآةِ فَنَظَرَ إلَيْهِ بِشَهْوَةٍ لَا تَثْبُتُ له حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَكَذَا لَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لِلْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا رَجْعِيًّا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى سَمَكًا في دَائِرَةٍ يُمْكِنُ أَخْذُهُ من غَيْرِ اصْطِيَادٍ وَحِيلَةٍ حتى جَازَ الْبَيْعُ فَرَآهُ في الْمَاءِ ثُمَّ أَخَذَهُ قال بَعْضُهُمْ لَا خِيَارَ له لِأَنَّهُ رَأَى عَيْنَ السَّمَكِ في الْمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ له الْخِيَارُ لِأَنَّ ما رَآهُ كما هو لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يُرَى في الْمَاءِ كما هو بَلْ يُرَى أَكْثَرَ مِمَّا هو فلم يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الرُّؤْيَةِ وهو مَعْرِفَتُهُ كما هو فَلَهُ الْخِيَارُ
وَأَمَّا بَيَانُ وَقْتِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَوَقْتُ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هو وَقْتُ الرُّؤْيَةِ لَا قَبْلَهَا حتى لو أَجَازَ قبل الرُّؤْيَةِ وَرَضِيَ بِهِ صَرِيحًا بِأَنْ قال أَجَزْتُ أو رَضِيتُ أو ما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى ثُمَّ رَآهُ له أَنْ يَرُدَّهُ لِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلَوْ ثَبَتَ له خِيَارُ الْإِجَازَةِ قبل الرُّؤْيَة وَأَجَازَ لم يَثْبُتْ له الْخِيَارُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه قبل الرُّؤْيَةِ مَجْهُولُ الْوَصْفِ وَالرِّضَا بِالشَّيْءِ قبل الْعِلْمِ بِهِ وَالْعِلْمُ بِوُجُودِ سَبَبِهِ مُحَالٌ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
وَأَمَّا الْفَسْخُ قبل الرُّؤْيَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا خِيَارَ قبل الرُّؤْيَةِ وَلِهَذَا لم تَجُزْ الْإِجَازَةُ فَلَا يَجُوزُ الْفَسْخُ وقال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ هذا عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ مَحَلَّ الْفَسْخِ كَالْعَقْدِ الذي فيه خِيَارُ الْعَيْبِ وَعَقْدِ الْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمْ إنَّهُ لَا خِيَارَ قبل الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ مِلْكَ الْفَسْخِ لم يَثْبُتْ حُكْمًا لِلْخِيَارِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِعَدَمِ لُزُومِ الْعَقْدِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ إنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ يَثْبُتُ مُطْلَقًا في جَمِيعِ الْعُمُرِ إلَى أَنْ يُوجَدَ ما يُبْطِلُهُ فَيَبْطُلُ حِينَئِذٍ وَإِلَّا فَيَبْقَى على حَالِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ بِإِمْكَانِ الْفَسْخِ وهو اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ هذا الْخِيَارِ هو اخْتِلَالُ الرِّضَا وَالْحُكْمُ يَبْقَى ما بَقِيَ سَبَبُهُ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهُ يَثْبُتُ مؤقتا إلَى غَايَةِ إمْكَانِ الْفَسْخِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ حتى لو رَآهُ وَأَمْكَنَهُ الْفَسْخُ ولم يَفْسَخْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ وَإِنْ لم تُوجَدْ الْأَسْبَابُ الْمُسْقِطَةُ لِلْخِيَارِ على ما نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ من الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لِلْخِيَارِ الرِّضَا وَالْإِجَازَةَ وَالِامْتِنَاعُ من الْفَسْخِ بَعْدَ الْإِمْكَانِ دَلِيلُ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا
وَاَللَّهُ سبحانه ( ( ( عز ) ) ) وتعالى ( ( ( وجل ) ) ) أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وما لَا يَسْقُطُ وَلَا يَلْزَمُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيٌّ وَضَرُورِيٌّ وَالِاخْتِيَارِيُّ نَوْعَانِ صَرِيحٌ وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ ودلالة ( ( ( دلالة ) ) )
أَمَّا الصَّرِيحُ وما في مَعْنَاهُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ أَجَزْتُ الْبَيْعَ أو رَضِيتُ أو اخْتَرْتُ أو ما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى سَوَاءٌ عَلِمَ الْبَائِعُ بِالْإِجَازَةِ أو لم يَعْلَمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ هو اللُّزُومُ وَالِامْتِنَاعُ لِخَلَلٍ في الرِّضَا فإذا أَجَازَ وَرَضِيَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيَلْزَمُ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهُوَ أَنْ يُوجَدَ من الْمُشْتَرِي تَصَرُّفٌ في الْمَبِيعِ بَعْد الرُّؤْيَةِ يَدُلُّ على الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا نَحْوُ ما إذَا قَبَضَهُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ الرِّضَا بِلُزُومِ الْبَيْعِ لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا بِالْعَقْدِ فَكَانَ الْقَبْضُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْعَقْدِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ وَذَاكَ دَلِيلُ الرِّضَا كَذَا هذا
وَسَوَاءٌ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ أو وَكِيلِهِ بِالْقَبْضِ بِأَنْ قَبَضَهُ الْوَكِيلُ وهو يَنْظُرُ إلَيْهِ وَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ كَرُؤْيَةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ مع رُؤْيَتِهِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الرَّسُولَ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَمْلِكُ وَكَانَتْ رؤية الْمُوَكِّلِ وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الرَّسُولَ بِالشِّرَاءِ
____________________

(5/295)


لَا يَمْلِكُ وَلَا تَكُونُ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْمُرْسَلِ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُرْسَلِ إذَا لم يَرَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ مُتَصَرِّفٌ بِحُكْمِ الْأَمْرِ وَالْمُتَصَرِّفُ بِحُكْمِ الْأَمْرِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَوْرِدِ الْأَمْرِ وهو وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَا بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِ الْعَيْبِ وَلَا خِيَارِ الشَّرْطِ وَكَذَا الرَّسُولُ لَا يَمْلِكُ فَكَذَا الْوَكِيلُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَكِنْ بِقَبْضٍ تَامٍّ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشَّيْءِ وَكِيلٌ بِإِتْمَامِ ذلك الشَّيْءِ وَلِهَذَا كان الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلًا بِالْقَبْضِ وَتَمَامُ الْقَبْضِ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْبُوضٍ
وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن قَوْلِهِمَا أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْقَبْضِ لَا بِإِبْطَالِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْخِيَارِ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْلِكُ ذلك فَكَيْفَ يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ في ضِمْنِ الْقَبْضِ بِأَنَّ قَبْضَهُ وهو يَنْظُرُ إلَيْهِ حتى لو قَبَضَهُ مَسْتُورًا ثُمَّ أَرَادَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ لَا يَمْلِكُهُ وَالشَّيْءُ قد يَثْبُتُ ضِمْنًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كان لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْقَبْضِ وَكَذَا الرَّدُّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ لم يَكُنْ رَفْعًا لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ بِخِلَافِ الرَّدِّ قبل الْقَبْضِ وَبِخِلَافِ خِيَارِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لِلِاخْتِبَارِ وَالْقَبْضُ وَسِيلَةٌ إلَى الِاخْتِبَارِ فلم يَصْلُحْ الْقَبْضُ دَلِيلَ الرِّضَا وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِخَلَلٍ في الرِّضَا وَالْقَبْضُ مع الرُّؤْيَةِ دَلِيلُ الرِّضَا على الْكَمَالِ فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ الْخِيَارِ وَبِخِلَافِ الرَّسُولِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ نَائِبٌ في الْقَبْضِ عن الْمُرْسَلِ فَكَانَ قَبْضُهُ قَبْضَ الْمُرْسَلِ فَكَانَ إتْمَامُ الْقَبْضِ إلَى الْمُرْسَلِ
وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَأَصْلٌ في نَفْسِ الْقَبْضِ وَإِنَّمَا الْوَاقِعُ لِلْمُوَكِّلِ حُكْمُ فِعْلِهِ فَكَانَ الْإِتْمَامُ إلَى الْوَكِيلِ وَكَذَا إذَا تَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ بِأَنْ كان ثَوْبًا فقط ( ( ( فقطعه ) ) ) أو صَبَغَهُ أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ أو سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ أو عَسَلٍ أو أَرْضًا فَبَنَى عليها أو غَرَسَ أو زَرَعَ أو جَارِيَةً فَوَطِئَهَا أو لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عن شَهْوَةٍ أو دَابَّةً فَرَكِبَهَا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَنَحْوَ ذلك لِأَنَّ الْإِقْدَامَ على هذه التَّصَرُّفَاتِ دَلَالَةُ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا بِلُزُومِ الْبَيْعِ وَالْمِلْكِ بِهِ إذْ لو لم يَكُنْ بِهِ وَفَسَخَ الْبَيْعَ لَتَبَيَّنَ أَنَّهُ تَصَرَّفَ في مِلْكِ الْغَيْرِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ وَأَنَّهُ حَرَامٌ فَجُعِلَ ذلك إجَازَةً منه صِيَانَةً له عن ارْتِكَابِ الْحَرَامِ
وَكَذَا إذَا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ بَاعَ أو لم يَبِعْ لِأَنَّهُ لَمَّا عَرَضَهُ على الْبَيْعِ فَقَدْ قَصَدَ إثْبَاتَ الْمِلْكِ اللَّازِمِ لِلْمُشْتَرِي وَمِنْ ضَرُورَتِهِ لُزُومُ الْمِلْكِ له لِيُمْكِنَهُ إثْبَاتُهُ لِغَيْرِهِ وَلَوْ عَرَضَ بَعْضَهُ على الْبَيْعِ سَقَطَ خِيَارُهُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَسْقُطُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ سُقُوطَ الْخِيَارِ وَلُزُومَ الْبَيْعِ بِالْعَرْضِ لِكَوْنِ الْعَرْضِ دَلَالَةَ الْإِجَازَةِ وَالرِّضَا وَدَلَالَةَ الْإِجَازَةِ دُونَ صَرِيحِ الْإِجَازَةِ ثُمَّ لو صَرَّحَ بِالْإِجَازَةِ في الْبَعْضِ لم يَجُزْ ولم يَسْقُطْ خِيَارُهُ لِمَا فيه من تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ فَلَأَنْ لَا يَسْقُطَ بِدَلَالَةِ الْإِجَازَةِ أَوْلَى
وَكَذَا لو وَهَبَهُ سَلَّمَ أو لم يُسَلِّمْ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْهِبَةِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ أو الرِّضَا فَكَانَ الْإِقْدَامُ عليها دَلَالَةَ قَصْدِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ اللَّازِمِ فَيَقْتَضِي لُزُومَ الْمِلْكِ لِلْوَاهِبِ وَكَذَا إذَا رَهَنَهُ وسلم أو آجَرَهُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدٌ لَازِمٌ في نَفْسِهِ وَالثَّابِتُ بِهِمَا حَقٌّ لَازِمٌ لِلْغَيْرِ
وَكَذَا إذَا كَاتَبَهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ لَازِمٌ في جَانِبِ الْمُكَاتِبِ وَالثَّابِتُ بها حَقٌّ لَازِمٌ في حَقِّهِ وَكَذَا إذَا بَاعَهُ أو وَهَبَهُ وسلم
وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهُ أو دَبَّرَهُ أو اسْتَوْلَدَهُ لِأَنَّ هذه تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ وَالثَّابِتُ بها مِلْكٌ لَازِمٌ أو حَقٌّ لَازِمٌ فَالْإِقْدَامُ عليها يَكُونُ إجَازَةً وَالْتِزَامًا لِلْعَقْدِ دَلَالَةً
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ في رِوَايَةٍ وفي رِوَايَةٍ يَسْقُطُ وَهِيَ الصَّحِيحَةُ لِأَنَّ الْبَيْعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يَكُونُ أَدْنَى من الْعَرْضِ على الْبَيْعِ بَلْ فَوْقَهُ ثُمَّ الْعَرْضُ على الْبَيْعِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ فَهَذَا أَوْلَى
وَكَذَا لو أَخْرَجَ بَعْضَهُ عن مِلْكِهِ يَسْقُطُ خِيَارُهُ عن الْبَاقِي وَلَزِمَ الْبَيْعُ فيه لِأَنَّ رَدَّ الْبَاقِي تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ قبل التَّمَامِ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ تَمَامَ الرِّضَا
وَكَذَا إذَا اُنْتُقِصَ الْمَعْقُودُ عليه بِفِعْلِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الضَّرُورِيُّ فَهُوَ كُلُّ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ من غَيْرِ صُنْعِهِ نَحْوُ مَوْتِ الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ في خِيَارِ الشَّرْطِ وَكَذَا إجَازَةُ أَحَدِ الشركين ( ( ( الشريكين ) ) ) فِيمَا اشْتَرَيَاهُ ولم يَرَيَاهُ دُونَ صَاحِبِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في خِيَارِ الْعَيْبِ
وَكَذَا إذَا هَلَكَ بَعْضُهُ أو اُنْتُقِصَ بِأَنْ تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أو ازداد ( ( ( زاد ) ) ) في يَدِ الْمُشْتَرِي زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً أو مُتَّصِلَةً مُتَوَلِّدَةً
____________________

(5/296)


أو غير مُتَوَلِّدَةٍ على التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقُ وَالِاخْتِلَافُ الذي ذَكَرْنَا في خِيَارِ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ ما يُبْطِلُ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يُبْطِلُ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ إلَّا أَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الْإِسْقَاطِ لَا قبل الرُّؤْيَةِ وَلَا بَعْدَهَا
أَمَّا قَبْلَهَا فَلِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا خِيَارَ قبل الرُّؤْيَةِ لِأَنَّ أَوَانَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ هو أَوَانُ الرُّؤْيَةِ فَقَبْلَ الرُّؤْيَةِ لَا خِيَارَ وَإِسْقَاطُ الشَّيْءِ قبل ثُبُوتِهِ وَثُبُوتِ سَبَبِهِ مُحَالٌ وَأَمَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ فَلِأَنَّ الْخِيَارَ ما ثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ لِأَنَّ رُكْنَ الْعَقْدِ مُطْلَقٌ عن الشَّرْطِ نَصًّا وَدَلَالَةً وَإِنَّمَا يَثْبُتُ شَرْعًا لحكمة فيه فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
وَأَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ وَالْعَيْبِ فَثَبَتَ بِاشْتِرَاطِ الْعَاقِدَيْنِ أَمَّا خِيَارُ الشَّرْطِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عليه في الْعَقْدِ
وَأَمَّا خِيَارُ الْعَيْبِ فَلِأَنَّ السَّلَامَةَ مَشْرُوطَةٌ في الْعَقْدِ دَلَالَةً وَالثَّابِتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ كَالثَّابِتِ بِصَرِيحِ النَّصِّ فَكَانَ ثَابِتًا حَقًّا لِلْعَبْدِ وما ثَبَتَ حَقًّا لِلْعَبْدِ يُحْتَمَلُ السُّقُوطُ بِإِسْقَاطِهِ مَقْصُودًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا اسْتِيفَاءً وَإِسْقَاطًا
فَأَمَّا ما ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه إسْقَاطًا مَقْصُودًا لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في حَقِّ غَيْرِهِ مَقْصُودًا لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا وَيَتَضَمَّنُ ذلك سُقُوطَ حَقِّ الشَّرْعِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّرْعِ في ضِمْنِ التَّصَرُّفِ في حَقِّ نَفْسِهِ كما إذَا أَجَازَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ وَرَضِيَ بِهِ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ نَصًّا أو دَلَالَةً بِمُبَاشَرَةِ تَصَرُّفٍ يَدُلُّ على الرِّضَا وَالْإِجَازَةِ لِأَنَّهُ وَإِنْ ثَبَتَ حَقًّا لِلشَّرْعِ لَكِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَهُ نَظَرًا لِلْعَبْدِ حتى إذَا رَآهُ وَصَلَحَ له أَجَازَهُ وَإِنْ لم يَصْلُحْ له رَدَّهُ إذْ الْخِيَارُ هو التَّخْيِيرُ بين الْفَسْخِ وَالْإِجَازَةِ فَكَانَ الْمُشْتَرِي بِالْإِجَازَةِ وَالرِّضَا مُتَصَرِّفًا في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا
ثُمَّ من ضَرُورَةِ الْإِجَازَةِ لُزُومُ الْعَقْدِ وَمِنْ ضَرُورَةِ لُزُومِ الْعَقْدِ سُقُوطُ الْخِيَارِ فَكَانَ سُقُوطُ الْخِيَارِ من طَرِيقِ الضَّرُورَةِ لَا بِالْإِسْقَاطِ مَقْصُودًا وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ الشَّيْءُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ
وَإِنْ كان لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا عَزَلَهُ الْمُوَكِّلُ ولم يَعْلَمْ بِهِ فإنه لَا يَنْعَزِلُ وَلَوْ بَاعَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ
كَذَا هُنَا
وَلَوْ بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ قبل الرُّؤْيَةِ أو عَرَضَهُ على الْبَيْعِ أو وَهَبَهُ ولم يُسَلِّمْ أو كان لِلْمُشْتَرِي دَارًا فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِهَا فَأَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ دَلَالَةُ الرِّضَا وَهَذَا الْخِيَارُ قبل الرُّؤْيَةِ لَا يَسْقُطُ بِصَرِيحِ الرِّضَا فَبِدَلَالَةِ الرِّضَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الْفَسْخِ بِأَنْ أَعْتَقَ أو دَبَّرَ أو بَاعَ أو آجَرَ أو رَهَنَ وسلم
أَمَّا الْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَعَ صَحِيحًا لِمُصَادَفَتِهِ مَحَلًّا مَمْلُوكًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ فَتَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ لِتَعَذُّرِ فَسْخِهِمَا
وَأَمَّا الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ فَلِأَنَّهَا تَصَرُّفَاتٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَ بها مِلْكًا لَازِمًا أو حَقًّا لَازِمًا لِلْغَيْرِ على وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ فَتَعَذَّرَ الْفَسْخُ وَتَعَذُّرُ فَسْخِ الْعَقْدِ يُوجِبُ لُزُومَهُ لِأَنَّ الْفَسْخَ إذَا تَعَذَّرَ لم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَلَوْ بَاعَ أو رَهَنَ أو آجَرَ ثُمَّ رُدَّ عليه بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو أفتك الرَّهْنَ أو انْقَضَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ
كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ بعدما سَقَطَ لَا يَعُودُ إلَّا بِسَبَبٍ جَدِيدٍ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ وَعَلَى هذا إذَا كَاتَبَهُ أو وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ أو بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي قبل الرُّؤْيَةِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ لِأَنَّ هذه عُقُودٌ لَازِمَةٌ أَوْجَبَتْ حُقُوقًا لَازِمَةً
أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ في حَقِّ الْمُكَاتِبِ حتى لَا يَمْلِكَ الْفَسْخَ من غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ وَكَذَا الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لَازِمٌ في جَانِبِ الْبَائِعِ
وَأَمَّا الْهِبَةُ فَلِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بها مِلْكٌ لَا يُحْتَمَلُ الْعَوْدُ إلَيْهِ إلَّا بِقَضَاءٍ أو رِضًا فَكَانَ في مَعْنَى اللازم ( ( ( اللزوم ) ) ) وإذا تَعَذَّرَ الْفَسْخُ بِسَبَبِ هذه التَّصَرُّفَاتِ وَتَعَذُّرُ الْفَسْخِ يُوجِبُ اللُّزُومَ وَيُسْقِطُ الْخِيَارَ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْفَائِدَةِ
بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ ليس بِتَصَرُّفٍ لَازِمٍ في حَقِّهِ وَكَذَا الْهِبَةُ من غَيْرِ تَسْلِيمٍ وَالْعَرْضُ على الْبَيْعِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من سُقُوطِ الْخِيَارِ وَلُزُومِ الْبَيْعِ بِرِضَا الْمُشْتَرِي إذَا رَأَى كُلَّ الْمَبِيعِ فَرَضِيَ بِهِ
فَأَمَّا إذَا رَأَى بَعْضَهُ دُونَ بَعْضٍ فَهَلْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ فَتَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه على النَّحْو الذي ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا رَأَى بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ بَعْضٍ وَقْتَ الشِّرَاءِ فَكُلُّ ما يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْخِيَارِ هُنَاكَ يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ هَهُنَا وما لَا فَلَا وَفِيمَا وَرَاءَ ذلك لَا يَخْتَلِفَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَعَلَى ذلك يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى مُغَيَّبًا في الْأَرْضِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالثُّومِ وَالسَّلْقِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا من الْمُغَيَّبَاتِ في الْأَرْضِ فَقَلَعَ بَعْضَهُ وَرَضِيَ بِالْمَقْلُوعِ إنه لَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ عِنْدَ
____________________

(5/297)


أبي حَنِيفَةَ حتى إنَّهُ إذَا قَلَعَ الْبَاقِي كان على خِيَارِهِ إنْ شَاءَ رَدَّ الكل وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الْكُلَّ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا قَلَعَ شيئا مِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ على الْبَاقِي في عظمة ورضى بِهِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ لَازِمٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنه إذَا قَلَعَ ما يُسْتَدَلُّ بِهِ على الْبَاقِي كان رُؤْيَةُ بَعْضِهِ كَرُؤْيَةِ كُلِّهِ فَكَأَنَّهُ قَلَعَ الْكُلَّ وَرَضِيَ بِهِ كما إذَا اشْتَرَى صُبْرَةً فَرَأَى ظَاهِرَهَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه الْمُغَيَّبَاتِ مِمَّا تَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ اخْتِلَافًا فَاحِشًا فَرُؤْيَةُ الْبَعْضِ منها لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَقِيَّةِ فَأَشْبَهَ الثِّيَابَ وَسَائِرَ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ
وَلَوْ قَطَعَ الْمُشْتَرِي الْكُلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ سَقَطَ خِيَارُهُ لِأَنَّهُ نَقَّصَ الْمَعْقُودُ عليه بِالْقَلْعِ لِأَنَّهُ كان يَنْمُو في الْأَرْضِ وَيَزِيدُ وَلَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَبَعْدَ الْقَلْعِ لَا يَنْمُو وَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ وَانْتِقَاصُ الْمَعْقُودُ عليه في يَدِ الْمُشْتَرِي بِغَيْرِ صُنْعِهِ يُسْقِطُ الْخِيَارَ وَيُلْزِمُ الْبَيْعَ فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى
وَكَذَا إذَا قَلَعَ بَعْضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ نَقَّصَ بَعْضَ الْمَبِيعِ وَانْتِقَاصُ بَعْضِ الْمَبِيعِ بِنَفْسِهِ يَمْنَعُ رَدَّ الْبَاقِي فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى
وَإِنْ قَلَعَ كُلَّهُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو بَعْضَهُ أو قَلَعَ الْبَاقِي بِنَفْسِهِ لم يذكر الْكَرْخِيُّ هذا الْفَصْلَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْتَلِفَ الْجَوَابُ فيه على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ كما في الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا انْتَقَصَ الْمَبِيعُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ إنه يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُمَا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وفي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَسْقُطُ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا قَلَعَ الْبَعْضَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ أو قَلَعَ الْبَائِعُ بَعْضَهُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان الْمُغَيَّبُ مِمَّا يُبَاعُ بِالْكَيْلِ أو الْوَزْنِ بَعْدَ الْقَلْعِ فَقَلَعَ قَدْرَ ما يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ أو الْوَزْنِ وَرَضِيَ بِهِ يَلْزَمُ الْبَيْعُ وَيَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّ الرِّضَا بِبَعْضِ الْمَكِيلِ بَعْدَ رُؤْيَتِهِ رِضًا بِالْكُلِّ لِأَنَّ رُؤْيَةَ بَعْضِهِ تُعَرِّفُ حَالَ الْبَاقِي إلَّا إذَا كان الْمَقْلُوعُ قَلِيلًا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْكَيْلِ فَلَا يَسْقُطُ خِيَارُهُ لِأَنَّ قَلْعَهُ وَالتَّرْكَ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَأَنَّهُ لم يَقْلَعْ منه شيئا
وَإِنْ كان مِمَّا يُبَاعُ عَدَدًا كَالسَّلْقِ وَالْفُجْلِ وَنَحْوِهَا فَقَلَعَ بَعْضًا منه فَهُوَ على خِيَارِهِ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَعْضِ منه لَا تُفِيدُ الْعِلْمَ بِحَالِ الْبَاقِي لِلتَّفَاوُتِ الْفَاحِشِ بين الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ من هذا الْجِنْسِ فَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِرُؤْيَةِ الْبَعْضِ فبقي ( ( ( فيبقى ) ) ) على خِيَارِهِ وقال أبو يُوسُفَ إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في الْقَلْعِ فقال الْمُشْتَرِي إنِّي أَخَافُ أن قَلَعْتُهُ لَا يَصْلُحُ لي وَلَا أَقْدِرُ على الرَّدِّ وقال الْبَائِعُ إنِّي أَخَافُ إنْ قطعته ( ( ( قلعته ) ) ) لَا تَرْضَى بِهِ فَمَنْ تَطَوَّعَ مِنْهُمَا بِالْقَلْعِ جَازَ وَإِنْ تَشَاحَّا على ذلك فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا إذَا تَشَاحَّا فَلَا سَبِيلَ إلَى الْإِجْبَارِ لِمَا في الْإِجْبَارِ من الْإِضْرَارِ فَتَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ فلم يَكُنْ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيُفْسَخُ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ هذا الذي ذَكَرْنَا بَيَانُ ما يَسْقُطُ بِهِ الْخِيَارُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ في حَقِّ الْبَصِيرِ فَأَمَّا الْأَعْمَى إذَا اشْتَرَى شيئا وَثَبَتَ له الْخِيَارُ فإن خِيَارَهُ يَسْقُطُ بِمَا ذَكَرْنَا من الْأَسْبَابِ الْمُسْقِطَةِ لَكِنْ بعدما وُجِدَ منه ما يَقُومُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ وهو الْجَسُّ فِيمَا يُجَسُّ وَالذَّوْقُ فِيمَا يُذَاقُ وَالشَّمُّ فِيمَا يُشَمُّ وَالْوَصْفُ فِيمَا يُوصَفُ كَالدَّارِ وَالْعَقَارِ وَالثِّمَارِ على رؤوس الْأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا إذَا كان الْمَوْصُوفُ على ما وُصِفَ وكان ذلك في حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الرُّؤْيَةِ في حَقِّ الْبَصِيرِ
وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُ قال يُوَكِّلُ بصير ( ( ( بصيرا ) ) ) بِالرُّؤْيَةِ وَتَكُونُ رُؤْيَةُ الْوَكِيلِ قَائِمَةً مَقَامَ رُؤْيَتِهِ
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقُومُ من الْمَبِيعِ في مَوْضِعٍ لو كان بَصِيرًا لَرَآهُ ثُمَّ يُوصَفُ له لِأَنَّ هذا أَقْصَى ما يُمْكِنُ وَلَوْ وَصَفَ له فَرَضِيَ بِهِ ثُمَّ أَبْصَرَ لَا يَعُودُ الْخِيَارُ لِأَنَّ الْوَصْفَ في حَقِّهِ كَالْخَلْفِ عن الرُّؤْيَةِ لِعَجْزِهِ عن الْأَصْلِ وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلْفِ لَا يُبْطِلُ حُكْمَ الْخَلْف كَمَنْ صلى بِطَهَارَةِ التَّيَمُّمِ ثُمَّ قَدَرَ على الْمَاءِ وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ اشْتَرَى الْبَصِيرُ شيئا لم يَرَهُ حتى ثَبَتَ له الْخِيَارُ ثُمَّ عَمِيَ فَهَذَا وَالْأَعْمَى عِنْدَ الشِّرَاءِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ له خِيَارُ الرُّؤْيَةِ وهو أَعْمَى فَكَانَتْ رُؤْيَتُهُ رُؤْيَةَ الْعُمْيَانِ وَهِيَ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ فَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ وَالثَّانِي في بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فما يَنْفَسِخُ بِهِ الْعَقْدُ نَوْعَانِ اخْتِيَارِيُّ وَضَرُورِيٌّ فالاختيار ( ( ( فالاختياري ) ) ) هو أَنْ يَقُولَ فَسَخْتُ الْعَقْدَ أو نَقَضْتُهُ أو رَدَدْتُهُ وما يَجْرِي هذا الْمَجْرَى وَالضَّرُورِيُّ أَنْ يَهْلِكَ الْمَبِيعُ قبل الْقَبْضِ
وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّتِهِ فَمِنْهَا قِيَامُ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ إذَا سَقَطَ لَزِمَ الْعَقْدُ وَالْعَقْدُ اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَتَضَمَّنُ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ على الْبَائِعِ وَإِنْ تَضَمَّنَ بِأَنْ رَدَّ بَعْضَ الْمَبِيعِ دُونَ الْبَعْضِ لم يَصِحَّ وَكَذَا إذَا رَدَّ الْبَعْضَ وَأَجَازَ الْبَيْعَ في الْبَعْضِ لم يَجُزْ سَوَاءٌ كان قبل قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه أو بَعْدَهُ لِأَنَّ خِيَارَ الرُّؤْيَةِ يَمْنَعُ تَمَامَ الصَّفْقَةِ فَكَانَ هذا تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ
____________________

(5/298)


على الْبَائِعِ قبل تَمَامِهَا وإنه بَاطِلٌ
وَمِنْهَا عِلْمُ الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ وقد ذَكَرْنَا دَلَائِلَ الْمَسْأَلَةِ في خِيَارِ الشَّرْطِ
وَأَمَّا قَضَاءُ الْقَاضِي أو التَّرَاضِي فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ كما لَا يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الْفَسْخِ بِخِيَارِ الشَّرْطِ فَيَصِحُّ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا قبل الْقَبْضِ وَبَعْدِهِ بِخِلَافِ خِيَارِ الْعَيْبِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بيما ( ( ( فيما ) ) ) تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وقد ذَكَرْنَا شَرَائِطَ الصِّحَّةِ في مَوَاضِعِهَا
وَأَمَّا حُكْمُهُ فَالْكَلَامُ في حُكْمِهِ يَقَعُ في ثَلَاثِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَتِهِ وَالثَّالِثُ في بَيَانِ شَرَائِطِهِ
أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ فَهُوَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ في الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا حُكْمَ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالْبَيْعُ عِنْدَهُ قِسْمَانِ جَائِزٌ وَبَاطِلٌ لَا ثَالِثَ لَهُمَا وَالْفَاسِدُ وَالْبَاطِلُ سَوَاءٌ وَعِنْدَنَا الْفَاسِدُ قِسْمٌ آخَرَ وَرَاءَ الْجَائِزِ وَالْبَاطِلِ وَهَذَا على مِثَالِ ما يقول في أَقْسَامِ الْمَشْرُوعَاتِ أَنَّ الْفَرْضَ وَالْوَاجِبَ سَوَاءٌ وَعِنْدَنَا هُمَا قِسْمَانِ حَقِيقَةً على ما عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا بَيْعٌ مَنْهِيٌّ عنه فَلَا يُفِيدُ الْمِلْك قِيَاسًا على بَيْعِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ نهى عن بَيْعٍ وَشَرْطٍ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لِعَتَّابِ بن أُسَيْدٍ حين بَعَثَهُ إلَى مَكَّةَ أنههم عن أَرْبَعٍ عن بَيْعٍ ما لم يَقْبِضُوا وَعَنْ رِبْحِ ما لم يَضْمَنُوا
وَعَنْ شَرْطَيْنِ في بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَنَحْوُ ذلك وَالْمَنْهِيُّ عنه يَكُونُ حَرَامًا وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِأَنَّ الْمِلْكَ نِعْمَةٌ وَالْحَرَامُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِاسْتِحْقَاقِ النِّعْمَةِ وَلِهَذَا بَطَلَ بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَكَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ هذا بَيْعٌ مَشْرُوعٌ فَيُفِيدُ الْمِلْك في الْجُمْلَةِ اسْتِدْلَالًا بِسَائِرِ الْبِيَاعَاتِ الْمَشْرُوعَةِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ بَيْعٌ أَنَّ الْبَيْعَ في اللُّغَةِ مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ مَالًا كان أو غير مَالٍ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } سمي مُبَادَلَةَ الضَّلَالَةِ بِالْهُدَى اشْتِرَاءً وَتِجَارَةً فقاله ( ( ( فقال ) ) ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فما رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ } وَالتِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ قال اللَّهُ عز شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى من الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لهم الْجَنَّةَ } سَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُبَادَلَةَ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ بِالْجَنَّةِ اشْتِرَاءً وَبَيْعًا حَيْثُ قال تَعَالَى في آخَرِ الْآيَةِ { فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ } وفي عُرْفِ الشَّرْعِ هو مُبَادَلَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وقد وُجِدَ فَكَانَ بَيْعًا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ مَشْرُوعٌ النُّصُوصُ الْعَامَّةُ الْمُطْلَقَةُ في بَابِ الْبَيْعِ من نَحْوُ قَوْله تَعَالَى عز وجل { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَنَحْوِ ذلك مِمَّا وَرَدَ من النُّصُوصِ في هذا الْبَابِ عَامًّا مُطْلَقًا فَمَنْ ادَّعَى التَّخْصِيصَ وَالتَّقْيِيدَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ
وَلَنَا الِاسْتِدْلَال بِدَلَالَةِ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا وهو أَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّ الْبَيْعَ الْخَالِي عن الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ وَقِرَانُ هذه الشُّرُوطِ بِالْبَيْعِ ذِكْرًا لم يَصِحَّ فَالْتُحِقَ ذِكْرُهَا بِالْعَدَمِ إذْ الْمَوْجُودُ الْمُلْحَقُ بِالْعَدَمِ شَرْعًا وَالْعَدَمُ الْأَصْلِيُّ سَوَاءٌ وإذا أُلْحِقَ بِالْعَدَمِ في نَفْسِ الْبَيْعِ خَالِيًا عن الْمُفْسِدِ وَالْبَيْعُ الْخَالِي عن الْمُفْسِدِ مَشْرُوعٌ وَمُفِيدٌ لِلْمِلْكِ بِالْإِجْمَاعِ وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ
وَأَمَّا النَّهْيُ فَالْجَوَابُ عن التَّعَلُّقِ بِهِ أَنَّ هذا نَهْيٌ عن غَيْرِ الْبَيْعِ لَا عن عَيْنِهِ لِوُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ أحدهما ( ( ( أحدها ) ) ) أَنَّ شَرْعِيَّةَ أَصْلِ الْبَيْعِ وَجِنْسِهِ ثَبْتٌ مَعْقُولُ الْمَعْنَى وهو أَنَّهُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَأَنَّهُ سَبَبُ بَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى حِينِ إذْ لَا قِوَامَ لِلْبَشَرِ إلَّا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْنَى وَاللِّبَاسِ وَلَا سَبِيلَ إلَى اسْتِبْقَاءِ النَّفْسِ بِذَلِكَ إلَّا بِالِاخْتِصَاصِ بِهِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ سَبَبُ الِاخْتِصَاصِ وَانْدِفَاعِ الْمُنَازَعَةِ وهو الْبَيْعُ
وَلَا يَجُوزُ وُرُودُ الشَّرْعِ عَمَّا عُرْفَ حُسْنُهُ أو حَسُنَ أَصْلُهُ بِالْعَقْلِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ وَلِهَذَا لم يَجُزْ النَّهْيُ عن الْإِيمَان بِاَللَّهِ عز وجل وَشُكْرِ النِّعَمِ وَأَصْلِ الْعِبَادَاتِ لِثُبُوتِ حُسْنِهَا بِالْعَقْلِ فَيُحْمَلُ النَّهْيُ الْمُضَافُ إلَى الْبَيْعِ على غَيْرِهِ ضَرُورَةً
وَالثَّانِي أن سُلِّمَ جَوَازُ وُرُودِ النَّهْيِ عن الْبَيْعِ في الْجُمْلَةِ لَكِنَّ حَمْلَهُ على الْغَيْرِ هَهُنَا أَوْلَى من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَمَلٌ بِالدَّلَائِلِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَالثَّانِي أَنَّ في الْحَمْلِ على الْبَيْعِ نَسْخَ الْمَشْرُوعِيَّةِ وفي الْحَمْلِ على غَيْرِهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَالْحَمْلِ على الْمَجَازِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْحَمْلَ على الْمَجَازِ أَوْلَى من الْحَمْلِ على التَّنَاسُخِ لِأَنَّ الْحَمْلَ على الْمَجَازِ من بَابِ نَسْخِ
____________________

(5/299)


الْكَلَامِ وَنَسْخُ الْمَشْرُوعِيَّةِ نَسْخُ الْحُكْمِ وَالْحُكْمُ هو الْمَقْصُودُ وَالْكَلَامُ وَسِيلَةٌ وَنَسْخُ الْوَسِيلَةِ أَوْلَى من نَسْخِ الْمَقْصُودِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَةُ هذا الْحُكْمِ فَنَقُولُ له صِفَاتٌ منها أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ بَلْ هو مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ في هذه الصِّفَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الثَّابِتَ بهذا الْبَيْعِ مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ وفي بَيَانِ من يَمْلِكُ الْفَسْخَ وفي بَيَانِ ما يَكُونُ فَسْخًا وفي بَيَانِ شَرْطِ صِحَّةِ الْفَسْخِ وفي بَيَانِ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الثَّابِتَ بهذا الْبَيْعِ أَوْجَبَ الْفَسْخَ فَهُوَ أَنَّ الْبَيْعَ وَإِنْ كان مَشْرُوعًا في ذَاتِهِ فَالْفَسَادُ مُقْتَرِنٌ بِهِ ذِكْرًا وَدَفْعُ الْفَسَادِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِنُ إلَّا بِفَسْخِ الْعَقْدِ فَيُسْتَحَقُّ فَسْخُهُ لَكِنْ لِغَيْرِهِ لَا لِعَيْنِهِ حتى لو أَمْكَنَ دَفْعُ الْفَسَادِ بِدُونِ فَسْخِ الْبَيْعِ لَا يُفْسَخُ كما إذَا كان الْفَسَادُ لِجَهَالَةِ الْأَجَلِ فَأَسْقَطَاهُ يَسْقُطُ ويبقي الْبَيْعُ مَشْرُوعًا كما كان وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الرِّبَا وَشَرْطَ الْخِيَارِ مَجْهُولٌ وَإِدْخَالُ الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ في الْبَيْعِ وَنَحْوُ ذلك مَعْصِيَةٌ وَالزَّجْرُ عن الْمَعْصِيَةِ وَاجِبٌ وَاسْتِحْقَاقُ الْفَسْخِ يَصْلُحُ زَاجِرًا عن الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَفْسَخُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ عن الْمُبَاشَرَةِ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْفَسَادُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ بِأَنْ بَاعَ بِالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَإِمَّا أَنْ لم يَكُنْ رَاجِعًا إلَيْهِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ أو إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ وَالْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ كان قبل الْقَبْضِ وَإِمَّا أَنْ كان بَعْدَهُ فَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ فَكُلُّ وَاحِدٍ من الْعَاقِدَيْنِ يَمْلِكُ الْفَسْخَ من غَيْرِ رِضَا الْآخَرِ كَيْفَ ما كان الْفَسَادُ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ لَا يُفِيدُ الْمِلْكَ قبل الْقَبْضِ فَكَانَ الْفَسْخُ قبل الْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الِامْتِنَاعِ عن الْقَبُولِ وَالْإِيجَابِ فَيَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ شَرْطِ الْعَاقِدَيْنِ
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ كان الْفَسَادُ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ فَالْجَوَابُ فيه وَفِيمَا قبل الْقَبْضِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْفَسَادَ الرَّاجِعَ إلَى الْبَدَلِ فَسَادٌ في صُلْبِ الْعَقْدِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِخِلَافِ هذا الْمُفْسِدِ لِمَا أَنَّهُ لَا قِوَامَ لِلْعَقْدِ إلَّا بِالْبَدَلَيْنِ فَكَانَ الْفَسَادُ قَوِيًّا فَيُؤَثِّرُ في صُلْبِ الْعَقْدِ بِسَلْبِ اللُّزُومِ عنه فَيَظْهَرُ عَدَمُ اللُّزُومِ في حَقِّهِمَا جميعا وَلَوْ لم يَكُنْ رَاجِعًا إلَى الْبَدَلِ
فَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ الإسبيجاني ( ( ( الإسبيجابي ) ) ) في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ وِلَايَةَ الْفَسْخِ لِصَاحِبِ الشَّرْطِ لَا لِصَاحِبِهِ ولم يَحْكِ خِلَافًا لِأَنَّ الْفَسَادَ الذي لَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ لَا يَكُونُ قَوِيًّا لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْحَذْفِ وَالْإِسْقَاطِ فَيَظْهَرُ في حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ لَا غَيْرُ وَيُؤَثِّرُ في سَلْبِ اللُّزُومِ في حَقِّهِ لَا في حَقِّ صاحب ( ( ( صاحبه ) ) )
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ الإختلاف في الْمَسْأَلَةِ فقال في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْفَسْخَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَنْ شُرِطَ له الْمَنْفَعَةُ لَا غَيْرُ
وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ من له شَرْطُ الْمَنْفَعَةِ قَادِرٌ على تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بِحَذْفِ الْمُفْسِدِ واسقاطه فَلَوْ فَسَخَهُ الْآخَرُ لا بطل حَقَّهُ عليه وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْعَقْدَ في نَفْسِهِ غَيْرُ لَازِمٍ لِمَا فيه من الْفَسَادِ بَلْ هو مُسْتَحِقُّ الْفَسْخِ في نَفْسِهِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ
وَقَوْلُهُ الْمُفْسِدُ مُمْكِنُ الْحَذْفِ فَنَعَمْ لَكِنَّهُ إلَى أَنْ يُحْذَفْ فَهُوَ قَائِمٌ وَقِيَامُهُ يَمْنَعُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْفَسْخَ من صَاحِبِهِ ليس بابطال لِحَقِّ صَاحِبِ الشَّرْطِ لِأَنَّ ابطال الْحَقِّ قبل ثُبُوتِهِ مُحَالٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَكُونُ فَسْخًا لِهَذَا الْعَقْدِ فَفَسْخُهُ بِطَرِيقَيْنِ قَوْلٍ وَفِعْلٍ فَالْقَوْلُ هو أَنْ يَقُولَ من يَمْلِكُ الْفَسْخَ فَسَخْتُ أو نَقَضْتُ أو رَدَدْتُ وَنَحْوَ ذلك فَيَنْفَسِخُ بِنَفْسِ الْفَسْخِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ القاضى وَلَا إلَى رِضَا الْبَائِعِ سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ لِأَنَّ هذا الْبَيْعَ إنَّمَا اسْتَحَقَّ الْفَسْخَ حَقًّا للهعز وجل لِمَا في الْفَسْخِ من رَفْعِ الْفَسَادِ وَرَفْعُ الْفَسَادِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى على الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ في حَقِّ الْكُلِّ فَكَانَ فَسْخًا في حَقِّ الناس كَافَّةً فَلَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على الْقَضَاءِ وَلَا على الرِّضَا وَالْفِعْلُ هو أَنْ يَرُدَّ الْمَبِيعَ على بَائِعِهِ على أى وَجْهٍ ما رَدَّهُ بِبَيْعٍ أو هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو إعَارَةٍ أو إيدَاعٍ بِأَنْ بَاعَهُ منه أو وهبة أو تَصَدَّقَ عليه أو أَعَارَهُ منه أو أَوْدَعَهُ إيَّاهُ يَبْرَأُ المشترى عن الضَّمَانِ لِأَنَّهُ حق يَسْتَحِقُّ الرَّدَّ على الْبَائِعِ فَعَلَى أى وَجْهٍ ما ورده ( ( ( رده ) ) ) يَقَعُ عن جهى ( ( ( جهة ) ) ) الإستحقاق بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْعَارِيَّةِ والوديعة أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا والوديعة بأى طَرِيقٍ كان الرَّدُّ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا وَكَذَا الوباعه المشترى من وَكِيلِ الْبَائِعِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ وهو الْبَائِعُ فكانه بَاعَهُ لِلْبَائِعِ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي من عبد بَائِعِهِ وهو مَأْذُونٌ له في التِّجَارَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ كان فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَلَا يَبْرَأُ عن المشترى ضَمَانُهُ حتى يَصِلَ إلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى فَكَانَ بَيْعًا من الْمَوْلَى وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لَا يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ على المشترى لِأَنَّهُ إذَا كان عليه دَيْنٌ فَحُكْمُ تَصَرُّفِهِ
____________________

(5/300)



لَا يَقَعُ لِلْمَوْلَى فلم يَكُنْ ذلك بَيْعًا من الْمَوْلَى فَصَارَ كما إذَا بَاعَهُ من أجنبى وَلَوْ اشْتَرَى من عَبْدٍ مَأْذُونٍ لانسان شيئا منه شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهُ ثُمَّ إنَّهُ بَاعَهُ من مَوْلَاهُ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ كان فَسْخًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا من الْمَوْلَى كانه اشْتَرَاهُ من مَوْلَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ منه فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لم يَكُنْ فَسْخًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا منه ولا من مَوْلَاهُ فكانه اشْتَرَى من أجنبى وَبَاعَهُ من مَوْلَاهُ وَلَوْ بَاعَهُ المشترى من مُضَارِبِ الْبَائِعِ لم يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَتَقَرَّرَ الضَّمَانُ على المشترى بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَهُ من وَكِيلِ بَائِعِهِ بِالشِّرَاءِ أَنَّهُ يَكُونُ فَسْخًا وَوَجْهُ الْفَرْقِ إن الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ يَتَصَرَّفُ لِمُوَكِّلِهِ لَا لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِهِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا له فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْبَيْعِ من الْمُوَكِّلِ وَذَلِكَ فَسْخٌ فَأَمَّا الْمُضَارِبُ فَمُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرِّبْحَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ إلا جنبى وَلَوْ كان الْبَائِعُ وَكِيلًا لِغَيْرِهِ بِالشِّرَاءِ فَاشْتَرَى المشترى شِرَاءً فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) لِمُوَكِّلِهِ لم يَكُنْ فَسْخًا لِلْبَيْعِ لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ يَقَعُ لِمُوَكِّلِهِ لَا له وَوَجَبَ عليه الثَّمَنُ للمشترى وَتَقَرَّرَ على المشترى ضَمَانُ الْقِيمَةِ وَيَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في الإستيفاء وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ أن كان في أَحَدِهِمَا فَضْلٌ الله ( ( ( والله ) ) ) عز وجل أَعْلَمُ وَأَمَّا شَرْطُ صِحَّةِ الْفَسْخِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْفَسْخُ بِمَحْضَرٍ من صَاحِبِهِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ ولم يذكر الإختلاف فيه وَذَكَرَ القاضى الْإِمَامُ الْإِسْبِيجَابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطحاوى إن هذا شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ وَجَعَلَهُ على الإختلاف في خِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وقد ذَكَرْنَا المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْفَسْخِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ وَيَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ وما لَا يَبْطُلُ وَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَتَقَرَّرُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْفَسْخُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ببطل ( ( ( يبطل ) ) ) بِصَرِيحِ الْإِبْطَالِ وَالْإِسْقَاطِ بِأَنْ يَقُولَ أَبْطَلْتُ أو أَسْقَطْتُ أو أَوْجَبْتُ الْبَيْعَ أو الزمته لِأَنَّ وُجُوبَ الْفَسْخِ عنه ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى دَفْعًا لِلْفَسَادِ وما ثَبَتَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ على إسْقَاطِهِ مَقْصُودًا كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَكِنْ قد يَسْقُطُ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ الْعَبْدُ في حَقِّ نَفْسِهِ مَقْصُودًا فَيَتَضَمَّنُ ذلك سُقُوطَ حَقِّ اللَّهِ عز وجل بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ أو يَفُوتَ مَحَلُّ الْفَسْخِ أو غَيْرُ ذلك وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلِ المشترى شِرَاءً فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) إذَا بَاعَ المشترى أو وهبة أو تَصَدَّقَ بِهِ بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَعَلَى المشترى الْقِيمَةُ أو الْمِثْلُ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ في مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ على بَعْضِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ عن تسليطمنه وَيَطِيبُ للمشترى الثَّانِي لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ بِخِلَافٍ المشترى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَا يَطِيبُ له لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا دخل مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بامان فَأَخَذَ شيأ من أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ اذنهم وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ بَاعَهُ أَنَّهُ يَصِحُّ بَيْعُهُ لَكِنْ لَا يَطِيبُ للمشترى كمالا يَطِيبُ لِلْآخِذِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ إن عَدَمَ الطِّيبِ في الْمَأْخُوذِ من الْحَرْبِيِّ بِغَيْرِ اذنه لِكَوْنِهِ مَأْخُوذًا على وَجْهِ الْغَدْرِ وَالْخِيَانَةِ وَالْمَأْخُوذُ على هذا الْوَجْهِ وَاجِبُ الرَّدِّ على صَاحِبِهِ رَدًّا اللخيانة ( ( ( للخيانة ) ) ) وَبِالْبَيْعِ لم يَخْرُجْ عن اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ على مَالِكِهِ لِحُصُولِهِ لَا بِتَسْلِيطٍ من جِهَتِهِ فبقى وَاجِبَ الرَّدِّ كما كان وَهَذَا يَمْنَعُ الطِّيبِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ انْعِدَامَ الطِّيبِ للمشترى هَهُنَا لقرآن الْفَسَادِ بِهِ ذِكْرًا لَا حَقِيقَةً ولم يُوجَدْ ذلك في الْبَيْعِ الثَّانِي وَخَرَجَ الْمَبِيعُ من أَنْ يَكُونَ متسحق ( ( ( مستحق ) ) ) الرَّدِّ على الْبَائِعِ لِحُصُولِ الْبَيْعِ من المشترى بِتَسْلِيطِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ بَاعَهُ فَرُدَّ عليه بِخِيَارِ شَرْطٍ أو رُؤْيَةٍ أو عَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ وَعَادَ على حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ عَادَ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّ الرَّدَّ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ فَسْخٌ مَحْضٌ فَكَانَ دَفْعًا لِلْعَقْدِ من الْأَصْلِ وَجَعْلًا له كان لم يَكُنْ وَلَوْ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أو عَادَ إلَيْهِ بِسَبَبٍ مبتدأ لَا يَعُودُ الْفَسْخُ لِأَنَّ الْمِلْكَ اخْتَلَفَ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ فَكَانَ اخْتِلَافُ الْمِلْكَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ وَلَوْ اعتقه المشترى أود بره ( ( ( دبره ) ) ) بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ لِمَا قُلْنَا ولان الْإِعْتَاقَ وَالتَّدْبِيرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَرُّفٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الإسترداد وَالْفَسْخَ ضَرُورَةً وَكَذَلِكَ لو اسْتَوْلَدَهَا لِمَا قُلْنَا وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِ المشترى لِأَنَّ الإستيلاد قد صَحَّ لِحُصُولِهِ في مِلْكِهِ وَعَلَى المشترى قِيمَةُ الْجَارِيَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ بالإستيلاد فَصَارَ كما لو هَلَكَتْ في يَدِهِ وَهَلْ يَغْرَمُ الْعُقْرَ ذَكَرَ في الْبُيُوعِ أَنَّهُ لَا يَغْرَمُ وفي الشُّرْبِ رِوَايَتَانِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْعُقْرَ لِأَنَّهُ وطىء مِلْكَ نَفْسِهِ وقد تَقَرَّرَ مِلْكُهُ بالإستيلاد لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ وَلَوْ وَطِئَهَا المشترى ولم يُعَلِّقْهَا لَا ببطل ( ( ( يبطل ) ) ) حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْجَارِيَةَ مع عُقْرِهَا بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ له وَأَعْلَقَهَا ثُمَّ رَجَعَ الْوَاهِبُ في هِبَتِهِ وَأَخَذَ الْجَارِيَةَ أَنَّ الْمَوْهُوبَ له لَا
____________________

(5/301)


يَضْمَنُ الْعُقْرَ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالْهِبَةِ مِلْكٌ مُحَلِّلٌ لِلْوَطْءِ وَبِالرُّجُوعِ لم يَتَبَيَّنْ أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لم يَكُنْ فَكَانَ مُسْتَمْتِعًا بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا عُقْرَ عليه بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِهِ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ حِلِّ الْوَطْءِ فَكَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ عنه لحد ( ( ( الحد ) ) ) لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْعَقْدُ وَكَذَلِكَ لو كَاتَبَهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قد صَحَّتْ لوجودهاى ( ( ( لوجودها ) ) ) في الْمِلْكِ وَلَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ إلَى نَقْضِهَا لِحُصُولِهَا من المشترى بستليط ( ( ( بتسليط ) ) ) الْبَائِعِ فَلَا يَكُونُ له حَقُّ النَّقْضِ عليه وَعَلَى المشترى فيمة ( ( ( قيمة ) ) ) الْعَبْدِ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ تَقَرَّرَ على المشترى ضَمَانُ الْقِيمَةِ وأن عَجَزَ وَرُدَّ في الرقى ( ( ( الرق ) ) ) يُنْظَرُ أن كان ذلك قبل الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ على المشترى فاللبائع ( ( ( فللبائع ) ) ) أَنْ يَسْتَرِدَّهُ لِأَنَّهُ كان مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ قبل الْكِتَابَةِ لِعَدَمِ لُزُومِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهُ أمتنع الرَّدُّ لِعَارِضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ عَجَزَ وَرَدَّ في الرِّقِّ قبل الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ على الْعَبْدِ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ والقيمة ( ( ( بالقيمة ) ) ) تَقَرَّرَ مِلْكُ المشترى في الْعَبْدِ وَلَزِمَ من وَقْتِ وُجُودِهِ فَيَعُودُ إلَيْهِ لَازِمًا الملك ( ( ( والملك ) ) ) اللَّازِمُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَكَذَلِكَ لو رَهَنَهُ المشترى بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَوِلَايَةُ الإسترداد لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ افْتَكَّهُ المشترى فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا في الْكِتَابَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ صَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ وَإِنْ كانت عَقْدًا لَازِمًا إلَّا إنها تُفْسَخُ بِالْعُذْرِ وَلَا عُذْرَ أَقْوَى من رَفْعِ الْفَسَادِ فَتَنْفَسِخُ بِهِ وَسُلِّمَتْ الإجرة للمشترى لِأَنَّ الْمَنَافِعَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وُجِدَ من المشترى فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ له وَهَلْ تَطِيبُ له ينظران كان قد أَدَّى ضَمَانَ الْقِيمَةِ ثُمَّ آجَرَ طَابَتْ الْأُجْرَةُ له لِأَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْمَضْمُونِ قَائِمٌ مقامة فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ رِبْحَ ما قد ضَمِنَ وَإِنْ آجَرَ ثُمَّ أَدَّى الضَّمَانَ لَا تَطِيبُ له لِأَنَّهَا رِبْحُ ما لم يَضْمَنْ وَلَوْ أَوْصَى بِهِ صَحَّتْ الْوَصِيَّةُ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إنْ كان الموصى حَيًّا بَعْدُ فَلِلْبَائِعِ حَقُّ الإسترداد لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَصَرُّفٌ غَيْرُ لَازِمٍ حَالَ حَيَاةِ الموصى بَلْ مُحْتَمَلٌ وَإِنْ مَاتَ بَطَلَ حَقُّهُ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْمُوصَى له مِلْكٌ جَدِيدٌ بِخِلَافِ الثَّابِتِ لِلْوَارِثِ بِأَنْ مَاتَ المشترى شِرَاءً فاسد ( ( ( فاسدا ) ) ) لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْفَسْخِ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ من وَرَثَتِهِ وَكَذَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فلو رثته وِلَايَةُ الإسترداد لِأَنَّ الثَّابِتَ لِلْوَارِثِ عَيْنُ ما كان لِلْمُوَرِّثِ وَإِنَّمَا هو خَلْفُهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلِهَذَا يَرُدُّ الْوَارِثُ بأن مات الإستيرداد لأن الثابت للوارث عين ما كان للمورث وإنما هو خلفه قائم مقامه ولهذا يرد الوارث بالغيب ( ( ( بالعيب ) ) ) وَيُرَدُّ عليه وَمِلْكُ الْمُوَرِّثِ مَضْمُونُ الرَّدِّ مستحقق ( ( ( مستحق ) ) ) الْفَسْخِ بِخِلَافِ الْمُوصَى له فإن الثَّابِتَ مِلْكٌ جَدِيدٌ حَصَلَ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَلِهَذَا لم يُرَدَّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُرَدُّ عليه وأنه لم يَكُنْ مُسْتَحَقَّ الْفَسْخِ ولو ازْدَادَ الْمَبِيعُ في يَدِ المشترى فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً متولده من الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالْجَمَالِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ حَقِيقَةً وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَلِكَ التَّبَعُ كما في الغضب ( ( ( الغصب ) ) ) وَإِنْ كانت غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ سَوِيقًا فَلَتَّهُ المشترى بِعَسَلٍ أو سَمْنٍ فَإِنَّهَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ لِأَنَّهُ لو فُسِخَ أما أَنْ يُفْسَخَ على الْأَصْلِ وَحْدَهُ وأما أَنْ يُفْسَخَ على الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ جمعيا ( ( ( جميعا ) ) ) لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِتَعَذُّرِ الْفَصْلِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لم تَدْخُلْ تَحْتَ الْبَيْعِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْفَسْخِ وأن كانت مُنْفَصِلَةً فَإِنْ كانت مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ وَاللَّبَنِ وَالثَّمَرَةِ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مع الزِّيَادَةِ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُتَوَلِّدَةً منه وَالْأَصْلُ مَضْمُونُ الرَّدِّ فَكَذَا الزِّيَادَةُ كما في بَابِ الغضب ( ( ( الغصب ) ) ) وَكَذَا لو كانت الزِّيَادَةُ أَرْشًا أو عُقْرًا لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ فَائِتٍ من الْأَصْلِ حَقِيقَةً كَالْمُتَوَلِّدِ من الْأَصْلِ وَالْعُقْرَ بَدَلُ حَالِهِ حُكْمُ الْجُزْءِ وَالْعَيْنِ فَكَأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ من الْعَيْنِ ثُمَّ في فصلب ( ( ( فصل ) ) ) الْوَلَدِ إذَا كانت الْجَارِيَةُ في يَدِ المشترى فَإِنْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ وَبِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ يَنْجَبِرُ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خلا ( ( ( خلافا ) ) ) فالزفر ( ( ( لزفر ) ) ) كما في الغضب ( ( ( الغصب ) ) ) وَسَنَذْكُرُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) في كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ لم تَنْقُصْهَا الْوِلَادَةُ اسْتَرَدَّهَا الْبَائِعُ وَلَا شَيْءَ على الْبَائِعِ وأن نَقَصَتْهَا وَلَيْسَ بِالْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ رَدَّهَا مع ضَمَانِ النُّقْصَانِ كما في الْغَصْبِ وأن هَلَكَ الْوَلَدُ قبل الرَّدِّ لَا ضَمَانَ على المشترى بِالزِّيَادَةِ كما في الْغَصْبِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَ المشترى الزِّيَادَةَ ضَمِنَ كما في الْغَصْبِ وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَالزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الزِّيَادَةَ وَيَضْمَنَ قِيمَةَ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْقَبْضِ لِأَنَّهُمَا كَانَا مضمونى الرَّدِّ إلَّا إنه تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْمَبِيعِ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ وَصَارَ مَضْمُونَ الْقِيمَةِ فبقى الْوَلَدُ على حال ( ( ( حاله ) ) ) مَضْمُونَ
____________________

(5/302)


الرَّدِّ كما كان وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْكَسْبِ فَإِنَّهَا لَا تَمْنَعُ الرَّدَّ والبائع ( ( ( وللبائع ) ) ) أَنْ يَسْتَرِدَّ الْأَصْلَ مع الزِّيَادَةِ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونُ الرَّدِّ وَبِالرَّدِّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ من الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ على مِلْكِهِ إلَّا إنها لَا تَطِيبُ له لِأَنَّهَا لم تَحْدُثْ في ضَمَانِهِ المشترى فَكَانَتْ في مَعْنَى رِبْحِ ما لم يُضْمَنْ وَلَوْ هَلَكَتْ هذه الزِّيَادَةُ في يَدِ المشترى لَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ لم يَرِدْ على الزِّيَادَةِ لَا أَصْلًا وَلَا تَبَعًا أَمَّا أَصْلًا فلا نعدامها عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَمَّا تَبَعًا فلانها لَيْسَتْ بِتَابِعَةٍ حَقِيقَةً بَلْ هِيَ أَصْلٌ بِنَفْسِهَا مُلِكَتْ بِسَبَبٍ على حِدَةٍ لَا بِسَبَبِ الْأَصْلِ وأن اسْتَهْلَكَهَا المشترى فَكَذَلِكَ لك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عليه وعندها ( ( ( وعندهما ) ) ) يَضْمَنُ وَأَصْلُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) في الْغَصْبِ إنه إذَا اسْتَهْلَكَ الْغَاصِبُ هذه الزِّيَادَةَ هل يَضْمَنُ عِنْدَهُ لَا يَضْمَنُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَنَذْكُرُ المسئلة ( ( ( المسألة ) ) ) في كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ قَائِمَةٌ في يَدِ المشترى تَقَرَّرَ عليه ضَمَانُ قِيمَةِ الْمَبِيعِ وَالزِّيَادَةُ للمشترى تَقَرَّرَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ الْمُتَوَلَّدِ كما في الْغَصْبِ وَالْفَرْقُ بين الزِّيَادَتَيْنِ يُذْكَرُ في الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هذا إذ زَادَ الْمَبِيعُ في يَدِ المشترى شِرَاءً فَاسِدًا فَأَمَّا إذَا انْتَقَصَ في يَدِهِ كان النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فإنه لَا يَمْنَعُ الإسترداد وَلِلْبَائِعِ أَنْ يأخذ ( ( ( يأخذه ) ) ) مع أَرْشِ النُّقْصَانِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ بَيْعًا فَاسِدًا يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْقَبْضُ وَرَدَ عليه بِجَمِيعِ اجزائه فَصَارَ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ اجزائه وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كانت لَا تُضْمَنُ بِالْعَقْدِ كما في قَبْضِ المغضوب ( ( ( المغصوب ) ) ) وَكَذَلِكَ إذَا كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ هذا وَالنُّقْصَانَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ سَوَاءٌ وأن كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ المشترى فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ لو انْتَقَصَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كان مَضْمُونًا عليه فَبِصُنْعِهِ أَوْلَى وأن كان بِفِعْلٍ أجنبى فَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ أن شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ من المشترى والمشترى يَرْجِعُ بِهِ على الجانى وَإِنْ شَاءَ اتَّبَعَ الجانى وهو لَا يَرْجِعُ على المشترى كما في الْغَصْبِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ من المشترى فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ في ذلك الْجُزْءِ من وَقْتِ الْبَيْعِ فيه فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ حَصَلَتْ على مِلْكٍ مُتَقَرِّرٍ له فَيَرْجِعُ عليه وإلا جنبى لم يَمْلِكْ فَلَا يَرْجِعُ وَلَوْ قَتَلَهُ أجنبى فَلِلْبَائِعِ أَنْ يُضَمِّنَ المشترى قِيمَتَهُ حَالَةَ الْقَبْضِ وَلَا سَبِيلَ له على الْقَاتِلِ وَيَرْجِعُ المشترى على عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِقِيمَتِهِ في ثَلَاثِ سِنِينَ فَرَّقَ هَهُنَا بين الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْغَصْبِ فإنه لو قَتَلَ الْمَغْصُوبَ قَاتِلٌ فالما لك بِالْخِيَارِ أن شَاءَ ضَمَّنَ الغاضب ( ( ( الغاصب ) ) ) قِيمَتَهُ حَالَةَ الْغَصْبِ وَالْغَاصِبُ يَرْجِعُ على عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ قِيمَتَهُ في ثَلَاثِ سِنِينَ وَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ على الْغَاصِبِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الاجنبى جَنَى على مِلْكِ المشترى لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَبِيعَ بِالْقَبْضِ وَتَقَرَّرَ مِلْكُهُ فيه بِالْجِنَايَةِ لَا على مِلْكِ الْبَائِعِ فَلَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ تَضْمِينَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ فإن الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ إلَّا بِتَضْمِينِ الْمَغْصُوبِ منه إيَّاهُ فَقَبْلَهُ لَا مِلْكَ له فيه فَكَانَ الْقَتْلُ جِنَايَةً على مِلْكِ الْمَالِكِ وَالْقَبْضُ جِنَايَةٌ على مِلْكِهِ أَيْضًا فَكَانَ له خِيَارُ التَّضْمِينِ وأن كان النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْبَائِعِ لَا شَيْءَ على المشترى لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَرِدًّا بِفِعْلِهِ وَإِنْ هَلَكَ لَا من سِرَايَةِ جِنَايَةِ الْبَائِعِ فَعَلَى المشترى ضَمَانُهُ لَكِنْ يُطْرَحُ منه حِصَّةُ النُّقْصَانِ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّ ذلك الْقَدْرَ بِجِنَايَتِهِ وَلَوْ قَتْلَهُ الْبَائِعُ لَا ضَمَانَ على المشترى لِأَنَّهُ اسْتَرَدَّهُ بِالْقَتْلِ وَكَذَلِكَ لو حَفَرَ الْبَائِعُ بِئْرًا فَوَقَعَ فيه وَمَاتَ لِأَنَّ ذلك في مَعْنَى الْقَتْلِ فَيَصِيرُ مُسْتَرَدًّا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ المشترى إذا ( ( ( وخاطه ) ) ) أحدث ( ( ( قميصا ) ) ) في المبيع ( ( ( بطنه ) ) ) صنعا ( ( ( وحشاه ) ) ) لو أحدثه بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ وَتَقَرَّرَ عليه قِيمَتُهُ يوم الْقَبْضِ وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ المشترى إذَا أَحْدَثَ في الْمَبِيعِ صُنْعًا لو أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ في الْمَغْصُوبِ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ ببطل ( ( ( يبطل ) ) ) حَقُّ الْفَسْخِ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ في ضَمَانِ الْقِيمَةِ أو الْمِثْلِ كما إذَا كان الْمَبِيعُ قُطْنًا فَغَزَلَهُ أو غَزْلًا فَنَسَجَهُ أو حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أو سِمْسِمًا أو عِنَبًا فَعَصَرَهُ أو سَاحَةً فَبَنَى عليها أو شَاةً فَذَبَحَهَا وَشَوَاهَا أو طَبَخَهَا وَنَحْوَ ذلك وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَبْضَ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ أو الْمِثْلِ حَالَ هلا كه فَكُلُّ ما يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ هُنَاكَ يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ هَهُنَا وَلَوْ كان الْمَبِيعُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ المشترى بصبغ ( ( ( بصبع ) ) ) يَزِيدُ من الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَنَحْوِهِمَا ذَكَرَ
____________________

(5/303)


الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ منقطع ( ( ( ينقطع ) ) ) حَقُّ الْبَائِعِ عنه إلَى الْقِيمَةِ وروى ( ( ( ووري ) ) ) عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَائِعَ أن شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَقَبْضِ الْغَصْبِ ثُمَّ الْجَوَابُ في الْغَصْبِ هَكَذَا أَنَّ الْمَالِكَ بِالْخِيَارِ أن شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَى الْغَاصِبَ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فَكَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ كان الْمَبِيعُ أَرْضًا فَبَنَى عليها بَطَلَ حَقُّ الْفَسْخِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعَلَى المشترى ضَمَانُ قِيمَتِهَا وَقْتَ الْقَبْضِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَبْطُلُ وَيُنْقَضُ الْبِنَاءُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ بِقَبْضِ الْغَصْبِ ثُمَّ هُنَاكَ يَنْقُضُ الْبِنَاءُ فَكَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ الْبِنَاءَ يُنْقَضُ بِحَقِّ الشَّفِيعِ بِالْإِجْمَاعِ وَحَقُّ الْبَائِعِ فَوْقَ حَقِّ الشَّفِيعِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَأْخُذُ إلَّا بِقَضَاءٍ وَالْبَائِعُ يَأْخُذُ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا فلما نقص ( ( ( نقض ) ) ) لِحَقِّ الشَّفِيعِ فَلِحَقِّ الْبَائِعِ أَوْلَى وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إنه لو ثَبَتَ لِلْبَائِعِ حَقُّ الإسترداد لَكَانَ لَا يَخْلُو ما ( ( ( إما ) ) ) أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مع الْبِنَاءِ أو بِدُونِ الْبِنَاءِ لَا سَبِيلَ إلَى الثانى لأن لَا يُمْكِنُ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ من المشترى تَصَرُّفٌ حَصَلَ بِتَسْلِيطِ الْبَائِعِ وإنه يَمْنَعُ النَّقْضَ كَتَصَرُّفِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ الْغَصْبِ وَالشُّفْعَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ التَّسْلِيطُ على الْبِنَاءِ وَكَذَا لَا يَمْنَعَانِ نَقْضَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَمِنْهَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ مِلْكٌ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ أو بِالْمِثْلِ لَا بِالْمُسَمَّى بِخِلَافِ الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ هِيَ الْمُوجِبُ الأصلى في الْبِيَاعَاتِ لِأَنَّهَا مِثْلُ الْمَبِيعِ في الْمَالِيَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُعْدَلُ عنها إلَى الْمُسَمَّى إذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ فإذا لم تَصِحَّ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الأصلى خُصُوصًا إذَا كان الْفَسَادُ من قِبَلِ الْمُسَمَّى لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إذَا لم تَصِحَّ لم يَثْبُتْ الْمُسَمَّى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ كان بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةٌ بِالْمَالِ فإذا لم يذكر الْبَدَلَ صَرِيحًا صَارَتْ الْقِيمَةُ أو الْمِثْلُ مَذْكُورًا دَلَالَةً فَكَانَ بَيْعًا بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ أو بمثله أن كان من قَبِيلِ الْأَمْثَالِ وَمِنْهَا أَنَّ هذا الْمِلْكَ يُفِيدُ المشترى انْطِلَاقَ تَصَرُّفٍ ليس فيه انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الملوك ( ( ( المملوك ) ) ) بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالرَّهْنِ وَالْإِجَارَةِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا ليس فيه انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَبِيعِ وَأَمَّا التَّصَرُّفُ الذى فيه انْتِفَاعٌ بِعَيْنِ الْمَمْلُوكِ كاكل الطَّعَامِ وَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَسُكْنَى الدَّارِ والإستمتاع بِالْجَارِيَةِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِأَنَّ الثَّابِتَ بهذا الْبَيْعِ مِلْكٌ خَبِيثٌ وَالْمِلْكُ الْخَبِيثُ لَا يُفِيدُ اطلاق الإنتفاع لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّفْعِ وفي الإنتفاع بِهِ تَقَرَّرَ له وَفِيهِ تقرر ( ( ( تقرير ) ) ) الْفَسَادِ وَلِهَذَا لم يُفْدِ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ تَحَرُّزًا عن تَقْرِيرِ الْفَسَادِ بِالتَّسْلِيمِ على ما نَذْكُرهُ في مَوْضِعِهِ أن شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كان الْمُشْتَرَى دَارًا لَا يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ فيها حَقُّ الشُّفْعَةِ وأن كان يُفِيدُ الْمِلْكَ للمشترى لِأَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ لم يَنْقَطِعْ وَالشُّفْعَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ لَا بِثُبُوتِ الْمِلْكِ للمشترى أَلَا تَرَى أَنَّ من أَقَرَّ بِبَيْعِ دَارِهِ من فُلَانٍ وَفُلَانٌ مُنْكِرٌ تَثْبُتُ الْمِلْكُ للمشترى لِانْقِطَاعِ حَقِّ الْبَائِعِ بِإِقْرَارِهِ وَهَهُنَا حَقُّ الْبَائِعِ غَيْرُ مُنْقَطِعٍ فَلَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ حتى لو وُجِدَ ما يُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّهِ تَجِبُ الشُّفْعَةُ ولو بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا اتثبت ( ( ( تثبت ) ) ) الشُّفْعَةُ لِأَنَّ هذا الشِّرَاءَ صَحِيحٌ فَيُوجِبُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ ولو وطىء الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَاةَ شِرَاءً فَاسِدًا فَإِنْ لم يُعَلِّقْهَا فَلَا عُقْرَ عليه قبل الْفَسْخِ وأن فَسَخَ الْعَقْدَ فَعَلَيْهِ العقروان أَعْلَقَهَا وَضَمِنَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ فَفِي وُجُوبِ الْعُقْرِ رِوَايَتَانِ على ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا شَرَائِطُهُ فَاثْنَانِ أَحَدُهُمَا الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الْفَسْخِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ وفي وُجُوبِ الْمِلْكِ قبل الْقَبْضِ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ الْمِلْكُ قبل الْقَبْضِ يَجِبُ على الْبَائِعِ تَسْلِيمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي وفي التَّسْلِيمِ تَقْرِيرُ الْفَسَادِ وَإِيجَابُ رَفْعِ الْفَسَادِ على وَجْهٍ فيه رَفْعُ الْفَسَادِ مُتَنَاقِضٌ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْبَائِعِ فَإِنْ قَبَضَ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَصْلًا لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِأَنْ نَهَاهُ عن الْقَبْضِ أو قَبَضَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ منه من غَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ لم يَنْهَهُ وَلَا أَذِنَ له في الْقَبْضِ صَرِيحًا فَقَبَضَهُ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ إنه لَا يَثْبُتُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إذَا قَبَضَهُ بِحَضْرَتِهِ ولم يَنْهَهُ كان ذلك إذْنًا منه بِالْقَبْضِ دَلَالَةً مع ما أَنَّ الْعَقْدَ الثَّابِتَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ له على الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِذْنِ بِالْقَبْضِ
وَالْإِذْنُ بِالْقَبْضِ قد يَكُونُ صَرِيحًا وقد يَكُونُ دَلَالَةً كما في بَابِ الْهِبَةِ إذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ له بِحَضْرَةِ الْوَاهِبِ فلم يَنْهَهُ صَحَّ قَبْضُهُ كَذَا هَهُنَا

____________________

(5/304)


وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ الْإِذْنَ بِالْقَبْضِ لم يُوجَدْ نَصًّا وَلَا سَبِيلَ إلَى إثْبَاتِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ في الْقَبْضِ تَقْرِيرَ الْفَسَادِ فَكَانَ الْإِذْنُ بِالْقَبْضِ إذْنًا بِمَا فيه تَقْرِيرُ الْفَسَادِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَقَعُ تَسْلِيطًا على الْقَبْضِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ من الْقَبْضِ على ما بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْهِبَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا مَانِعَ من الْقَبْضِ فأمكن إثْبَاتُهُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ ما دَامَ الْمَجْلِسُ قَائِمًا وَإِنَّمَا شُرِطَ الْمَجْلِسُ لِأَنَّ الْقَبْضَ في الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فَيُشْتَرَطُ له الْمَجْلِسُ كما يُشْتَرَطُ لِلْقَبُولِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيْعُ الْبَاطِلُ فَهُوَ كُلُّ بَيْعٍ فَاتَهُ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ من الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ وَغَيْرِهِمَا وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك في صَدْرِ الْكِتَابِ وَلَا حُكْمَ لِهَذَا الْبَيْعِ أَصْلًا لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْمَوْجُودِ وَلَا وُجُودَ لِهَذَا الْبَيْعِ إلَّا من حَيْثُ الصُّورَةُ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الشَّرْعِيَّ لَا وُجُودَ له بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ شَرْعًا كما لَا وُجُودَ لِلتَّصَرُّفِ الْحَقِيقِيِّ إلَّا من الْأَهْلِ في الْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَذَلِكَ نَحْوُ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَالْعَذِرَةِ وَالْبَوْلِ وَبَيْعِ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ وَكُلِّ ما ليس بِمَالٍ وَكَذَا بَيْعُ صَيْدِ الْحَرَمِ وَالْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ وَكَذَا بَيْعُ الْحُرِّ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَكَذَا بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ حُرَّةٌ من وَجْهٍ وَكَذَا الْمُدَبَّرُ فلم يَكُنْ مَالًا مُطْلَقًا وَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ يَدًا فلم يَكُنْ مَالًا على الْإِطْلَاقِ وَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَكَذَا بَيْعُ الْخِنْزِيرِ من الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا بَيْعُ الْخَمْرِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ في حَقِّ الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَسْقَطَ تَقَوُّمَهَا في حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ أَهَانَهَا عليهم فَيَبْطُلُ وَلَا يَنْعَقِدُ لِأَنَّهُ لو انْعَقَدَ إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْمُسَمَّى وَإِمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ بِالْقِيمَةِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لم تَصِحَّ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ له إذْ التَّقْوِيمُ يبنى ( ( ( ينبني ) ) ) عن الْعِزَّةِ وَالشَّرْعُ أَهَانَ الْمُسَمَّى على الْمُسْلِمِ فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ وَلَا قِيمَةَ له وإذا لم يَنْعَقِدْ يَبْطُلُ ضَرُورَةً
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ في بَيْعِ الْخَمْرِ تَفْصِيلًا فقال إنْ كان الثَّمَنُ دَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَإِنْ كان عَيْنًا بِأَنْ بَاعَهَا بِثَوْبٍ وَنَحْوِهِ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ في حَقِّ الثَّوْبِ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْعَاقِدَيْنِ ليس هو تَمَلُّكُ الْخَمْرِ وَتَمْلِيكُهَا لِأَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلتَّمَلُّكِ
وَالتَّمْلِيكُ في حَقِّ الْمُسْلِمِ مَقْصُودٌ بَلْ تَمْلِيكُ الثَّوْبِ وَتَمَلُّكُهُ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالتَّمَلُّكِ وَالتَّمْلِيكِ فَالتَّسْمِيَةُ إنْ لم تَظْهَرْ في حَقِّ الْخَمْرِ تَظْهَرُ في حَقِّ الثَّوْبِ وَلَا مُقَابِلَ له فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمُشْتَرِي بَاعَ الثَّوْبَ ولم يذكر الثَّمَنَ فَيَنْعَقِدُ بِقِيمَتِهِ بِخِلَافِ ما إذَا كان الثَّمَنُ دَيْنًا لِأَنَّ الثَّمَنَ يَكُونُ في الذِّمَّةِ وما في الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَتَصِيرُ الْخَمْرُ مَقْصُودَةً بِالتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكِ فَيَبْطُلُ أَصْلًا
وَأَمَّا بَيْعُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَبْطُلُ بَلْ يَفْسُدُ وَيَنْعَقِدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ
وَكَذَا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ في حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْخَمْرُ مَالٌ في حَقِّنَا إلَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لها شَرْعًا فإذا جَعَلَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ ثَمَنًا فَقَدْ ذَكَرَ ما هو مَالٌ وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا في الْجُمْلَةِ أو مَرْغُوبًا فيه عِنْدَ الناس بِحَيْثُ لَا يُؤْخَذُ مَجَّانًا بِلَا عِوَضٍ يَكْفِي لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ أو مُبَادَلَةُ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ إلَّا أَنَّ كَوْنَ الْمَعْقُودِ عليه مُتَقَوِّمًا شَرْطُ الِانْعِقَادِ وقد وُجِدَ وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ هذه الْأَمْوَالَ في الْجُمْلَةِ مَرْغُوبٌ فيها فَيَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَكَذَا بَيْعُ الْعَبْدِ بِمَا يَرْعَى إبِلَهُ من أَرْضِهِ من الْكَلَأِ أو بِمَا يَشْرَبُ من مَاءِ بِئْرِهِ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ ثَمَنًا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ إلَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ وَكَذَا هو مَجْهُولٌ أَيْضًا فَانْعَقَدَ بِوَصْفِ الْفَسَادِ بِقِيمَةِ الْمَبِيعِ
وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في بَيْعِ الْعَبْدِ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ قال عَامَّتُهُمْ يَبْطُلُ وقال بَعْضُهُمْ يَفْسُدُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَبْطُلُ لِأَنَّ الْمُسَمَّى ثَمَنًا ليس بِمَالٍ أَصْلًا وَكَوْنُ الثَّمَنِ مَالًا في الْجُمْلَةِ شَرْطُ الِانْعِقَادِ
وَكَذَا اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا قال بِعْتُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ قال بَعْضُهُمْ يَبْطُلُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ من أَصْحَابِنَا وقال بَعْضُهُمْ يَفْسُدُ وَلَا يَبْطُلُ كما إذَا بَاعَ وَسَكَتَ عن ذِكْرِ الثَّمَنِ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ كل وَاحِدٍ من الْقَوْلَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ إذَا بَاعَ مَالًا بِمَا ليس بِمَالٍ حتى بَطَلَ الْبَيْعُ فَقَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَالَ بِإِذْنِ الْبَائِعِ هل يَكُونُ مَضْمُونًا عليه أو يَكُونُ أَمَانَةً اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَكُونُ أَمَانَةً لِأَنَّهُ مَالٌ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ في عَقْدٍ وُجِدَ صُورَةً لَا مَعْنًى فَالْتَحَقَ الْعَقْدُ بِالْعَدَمِ وَبَقِيَ إذْنُهُ بِالْقَبْضِ وقال بَعْضُهُمْ يَكُونُ مَضْمُونًا عليه لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ على حُكْمِ هذا الْبَيْعِ لَا يَكُونُ دُونَ الْمَقْبُوضِ على ( ( ( بعلي ) ) ) سَوْمِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ مَضْمُونٌ فَهَذَا أَوْلَى
وَأَمَّا الْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ فَهُوَ بَيْعُ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وهو الْمُسَمَّى بِبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَلَا حُكْمَ له يُعْرَفُ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ الْإِجَازَةِ
____________________

(5/305)


وَالرَّدِّ من الْمَالِكِ فَيَتَوَقَّفُ في الْجَوَابِ في الْحَالِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّوَقُّفُ حُكْمًا شَرْعِيًّا وقد ذَكَرْنَا حُكْمَ تَصَرُّفَاتِ الْفُضُولِيِّ ما يَبْطُلُ منها ولا ( ( ( وما ) ) ) يُتَوَقَّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْفَعُ حُكْمَ الْبَيْعِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ الْبَيْعِ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْتَفِعُ بِالْفَسْخِ وهو الذي يَقُومُ بِرَفْعِهِ أَحَدُ الْعَاقِدَيْنِ وهو حُكْمُ كل بَيْعٍ غَيْرِ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ الذي فيه أَحَدُ الْخِيَارَاتِ الْأَرْبَعِ وَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَنَوْعٌ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بالإقالة ( ( ( بإقالة ) ) ) وهو حُكْمُ كل بَيْعٍ لَازِمٍ وهو الْبَيْعُ الصَّحِيحُ الْخَالَيْ عن الْخِيَارِ
وَالْكَلَامُ في الْإِقَالَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْإِقَالَةِ وفي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْإِقَالَةِ أَمَّا رُكْنُهَا فَهُوَ الْإِيجَابُ من أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ وَالْقَبُولُ من الْآخَرِ فإذا وُجِدَ الْإِيجَابُ من أَحَدِهِمَا وَالْقَبُولُ من الْآخَرِ بِلَفْظٍ يَدُلُّ عليه فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ لَكِنَّ الْكَلَامَ في صِيغَةِ اللَّفْظِ الذي يَنْعَقِدُ بِهِ الرُّكْنُ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن الْمَاضِي بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا أَقَلْتُ وَالْآخَرُ قَبِلْتُ أو رَضِيتُ أو هَوِيتُ وَنَحْوَ ذلك وَهَلْ تنعقد ( ( ( ينعقد ) ) ) بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِأَحَدِهِمَا عن الْمَاضِي وَبِالْآخَرِ عن الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ قال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَقِلْنِي فيقول أَقَلْتُكَ أو قال له جِئْتُكَ لِتُقِيلَنِي فقال أَقَلْتُ فقال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْعَقِدُ كما في النِّكَاحِ وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن الْمَاضِي كما في الْبَيْعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ رُكْنَ الْإِقَالَةِ هو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ كَرُكْنِ الْبَيْعِ ثُمَّ رُكْنُ الْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظَيْنِ يُعَبَّرُ بِهِمَا عن الْمَاضِي فَكَذَا رُكْنُ الْإِقَالَةِ وَلَهُمَا الْفَرْقُ بين الْإِقَالَةِ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وهو أَنَّ لَفْظَةَ الِاسْتِقْبَالِ لِلْمُسَاوَمَةِ حَقِيقَةً وَالْمُسَاوَمَةُ في الْبَيْعِ معتاد ( ( ( معتادة ) ) ) فَكَانَتْ اللَّفْظَةُ مَحْمُولَةً على حَقِيقَتِهَا فلم تَقَعْ إيجَابًا بِخِلَافِ الْإِقَالَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ اللَّفْظِ على ( ( ( بعلي ) ) ) حَقِيقَتِهَا لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ فيها لَيْسَتْ بِمُعْتَادَةٍ فَيُحْمَلُ على الْإِيجَابِ وَلِهَذَا حَمَلْنَاهَا على الْإِيجَابِ في النِّكَاحِ كَذَا هذا
وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّةِ الْإِقَالَةِ وعملتها ( ( ( وعملها ) ) ) فَقَدْ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في مَاهِيَّتِهَا قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ الْإِقَالَةُ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ ثَالِثٍ سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها فَسْخٌ قبل الْقَبْضِ بَيْعٌ بَعْدَهُ وقال أبو يُوسُفَ أنها بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ بَيْعًا فَتُجْعَلَ فَسْخًا قال مُحَمَّدٌ أنها فَسْخٌ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلَ بَيْعًا لِلضَّرُورَةِ وقال زُفَرُ أنها فَسْخٌ في حَقِّ الناس كَافَّةً
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أن الْإِقَالَةَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الرَّفْعِ يُقَالُ في الدُّعَاءِ اللَّهُمَّ أَقِلْنِي عَثَرَاتِي أَيْ ارْفَعْهَا وفي الحديث من أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَ اللَّهُ عثراته ( ( ( عثرته ) ) ) يوم الْقِيَامَةِ وَعَنْ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ إلَّا في حَدٍّ
وَالْأَصْلُ أَنَّ مَعْنَى التَّصَرُّفِ شَرْعًا ما ينبىء عنه اللَّفْظُ لُغَةً وَرَفْعُ الْعَقْدِ فَسْخُهُ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقَالَةَ اخْتَلَفَا اسْمًا فَيَخْتَلِفَانِ حُكْمًا هذا هو الْأَصْلُ فإذا كانت رَفْعًا لَا تَكُونُ بَيْعًا لِأَنَّ الْبَيْعَ إثْبَاتٌ وَالرَّفْعُ نَفْيٌ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ على هذا التَّقْدِيرِ فَسْخًا مَحْضًا فَتَظْهَرُ في حَقِّ كَافَّةِ الناس
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْأَصْلَ فيها الْفَسْخُ كما قال زُفَرُ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ فَسْخًا فَتُجْعَلُ بَيْعًا ضَرُورَةً
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ هو مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وهو أَخْذُ بَدَلٍ وَإِعْطَاءُ بَدَلٍ وقد وُجِدَ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا لِوُجُودِ مَعْنَى الْبَيْعِ فيها وَالْعِبْرَةُ لَلْمَعْنَى لَا لِلصُّورَةِ وَلِهَذَا أعطى حُكْمَ الْبَيْعِ في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ على ما نَذْكُرُ وَكَذَا اُعْتُبِرَ بَيْعًا في حَقِّ الثَّالِثِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَقْرِيرِ مَعْنَى الْفَسْخِ ما ذَكَرْنَاهُ لَزُفَرَ أَنَّهُ رَفْعٌ لُغَةً وَشَرْعًا وَرَفْعُ الشَّيْءِ فَسْخُهُ وَأَمَّا تَقْرِيرُ مَعْنَى الْبَيْعِ فيه فما ذَكَرْنَا لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَأْخُذُ رَأْسَ مَالِهِ بِبَدَلٍ وَهَذَا مَعْنَى الْبَيْعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ مَعْنَى الْبَيْعِ في الْفَسْخِ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ لِلتَّنَافِي فَأَظْهَرْنَاهُ في حَقِّ الثَّالِثِ فَجُعِلَ فَسْخًا في حَقِّهِمَا بَيْعًا في حَقٍّ ثَالِثٍ وَهَذَا ليس بِمُمْتَنِعٍ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُجْعَلَ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ من شَخْصٍ وَاحِدٍ طَاعَةً من وَجْهٍ وَمَعْصِيَةً من وَجْهٍ فَمِنْ شَخْصَيْنِ أَوْلَى
وَالدَّلِيلُ عليه أنها لَا تَصِحُّ من غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَثَمَرَةُ هذا الِاخْتِلَافِ إذَا تَقَايَلَا ولم يُسَمِّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ أو سَمَّيَا زِيَادَةً على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو أَنْقَصَ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو سَمَّيَا جِنْسًا آخَرَ سِوَى الْجِنْسِ الْأَوَّلِ قَلَّ أو كَثُرَ أو أَجَّلَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ فَالْإِقَالَةُ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَتَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْأَجَلِ وَالْجِنْسِ الْآخَرِ بَاطِلَةٌ سَوَاءٌ كانت الْإِقَالَةُ قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهَا وَالْمَبِيعُ مَنْقُولٌ أو غَيْرُ مَنْقُولٍ
____________________

(5/306)


لِأَنَّهَا فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَالْفَسْخُ رَفْعُ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ وقع ( ( ( رفع ) ) ) بالثمن ( ( ( الثمن ) ) ) الْأَوَّلَ فَيَكُونُ فَسْخُهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ فَسَخَ ذلك الْعَقْدَ وَحُكْمُ الْفَسْخِ لَا يَخْتَلِفُ بين ما قبل الْقَبْضِ وَبَيْنَ ما بَعْدَهُ وَبَيْنَ الْمَنْقُولِ وَغَيْرِ الْمَنْقُولِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالْأَجَلُ وَتَبْقَى الْإِقَالَةُ صَحِيحَةً لِأَنَّ إطْلَاقَ تَسْمِيَةِ هذه الْأَشْيَاءِ لَا يُؤَثِّرُ في الْإِقَالَةِ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ
وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ في الْبَيْعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الرِّبَا فيه وَالْإِقَالَةُ رَفْعُ الْبَيْعِ فَلَا يُتَصَوَّرُ تَمَكُّنُ الرِّبَا فيه فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وفي قَوْلِ أبي يُوسُفَ إنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ على ما سَمَّيَا لِأَنَّهَا بَيْعٌ جَدِيدٌ كَأَنَّهُ بَاعَهُ فيه ابْتِدَاءً وَإِنْ كان قبل الْقَبْضِ وَالْمَبِيعُ عَقَارًا فَكَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ قبل الْقَبْضِ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَإِنْ كان مَنْقُولًا فَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ على كل حَالٍ فَكُلُّ ما لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ إقَالَتُهُ فَعَلَى هذه الرِّوَايَةِ لَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُ في الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كان قبل الْقَبْضِ فَالْإِقَالَةُ تَكُونُ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ الزِّيَادَةِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَالْجِنْسُ الْآخَرُ وَالنُّقْصَانُ وَالْأَجَلُ يَكُونُ فَسْخًا كما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا قبل الْقَبْضِ بَيْعًا لَكِنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كان أو عَقَارًا
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَبْضِ فَإِنْ تَقَايَلَا من غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ أَصْلًا أو سَمَّيَا الثَّمَنَ الْأَوَّلَ من غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ أو نَقَصَا عن الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَالْإِقَالَةُ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَتَبْطُلُ تَسْمِيَةُ النُّقْصَانِ وَتَكُونُ فَسْخًا أَيْضًا كما قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها فَسْخٌ في الْأَصْلِ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا فَسْخًا فَتُجْعَلُ فَسْخًا وَإِنْ تَقَايَلَا عن الزِّيَادَةِ أو على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو على جِنْسٍ آخَرَ سِوَى جِنْسِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَلَّ أو كَثُرَ فَالْإِقَالَةُ على ما سَمَّيَا وَيَكُونُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا فَسْخًا هَهُنَا لِأَنَّ من شَأْنِ الْفَسْخِ أَنْ يَكُونَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وإذا لم يُمْكِنْ جَعْلُهَا فَسْخًا تُجْعَلُ بَيْعًا بِمَا سَمَّيَا بِخِلَافِ ما إذَا تَقَايَلَا على أَنْقَصَ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقَالَةَ تَكُونُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُ وَتُجْعَلُ فَسْخًا وَلَا تُجْعَلُ بَيْعًا عِنْدَهُ لِأَنَّ هذا سُكُوتٌ عن نَقْصِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ نَقْصُ الثَّمَنِ وَالسُّكُوتُ عن النَّقْصِ لَا يَكُونُ أَعْلَى من السُّكُوتِ عن الثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَهُنَاكَ يُجْعَلُ فَسْخًا لَا بَيْعًا فَهَهُنَا أَوْلَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَم
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الْمُشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فقضى له بِالشُّفْعَةِ ثُمَّ طَلَبَ منه الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ بِزِيَادَةٍ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو بِجِنْسٍ آخَرَ أَنَّ الزِّيَادَةَ بَاطِلَةٌ
وَكَذَا تَسْمِيَةُ الْجِنْسِ الْآخَرِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَمَّا قضى لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَقَدْ انْتَقَلَتْ الصَّفْقَةُ إلَيْهِ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَالتَّسْلِيمُ بِالزِّيَادَةِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو بِجِنْسٍ آخَرَ يَكُونُ إقَالَةً على الزِّيَادَةِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أو على جِنْسٍ آخَرَ فَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ وَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا اتَّفَقَ جَوَابُهُمَا هَهُنَا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ بَيْعِ الْمَبِيعِ الْعَقَارِ قبل الْقَبْضِ فَيَبْقَى فَسْخًا على الْأَصْلِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ الزِّيَادَةُ صَحِيحَةٌ
وَكَذَا تَسْمِيَةُ جِنْسٍ آخَرَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَيْعٌ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا بَيْعًا فَتَبْقَى بَيْعًا على الْأَصْلِ وَلَوْ تَقَايَلَا الْبَيْعَ في الْمَنْقُولِ ثُمَّ إنَّ الْبَائِعَ بَاعَهُ من الْمُشْتَرِي ثَانِيًا قبل أَنْ يَسْتَرِدَّهُ من يَدِهِ يَجُوزُ الْبَيْعُ وَهَذَا يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ أَمَّا على أَصْلِ زُفَرَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ مُطْلَقٌ في حَقِّ الْكُلِّ
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَالْمُشْتَرِي أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَانِعِ من جَعْلِهِ فَسْخًا وَلَا مَانِعَ هَهُنَا من جَعْلِهِ فَسْخًا بَلْ وُجِدَ الْمَانِعُ من جَعْلِهِ بَيْعًا لِأَنَّ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ فَسْخًا عِنْدَهُمْ فلم يَكُنْ هذا بَيْعَ
____________________

(5/307)


الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فَجَازَ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلَا يَطَّرِدُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا فَكَانَ هذا الْفِعْلُ حُجَّةً عليه إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عنه الْخِلَافُ فيه
وَلَوْ بَاعَهُ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي لَا يَجُوزُ وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ
أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا إلَّا لِمَانِعٍ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا بَيْعًا هَهُنَا لِأَنَّا لو جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَا تَفْسُدُ الْإِقَالَةُ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ فَتُجْعَلُ بَيْعًا فَكَانَ هذا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فلم يَجُزْ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَهِيَ وَإِنْ كانت فَسْخًا لَكِنْ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَأَمَّا في حَقِّ غَيْرِهِمَا فَهِيَ بَيْعٌ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُهُمَا فَكَانَ بَيْعًا في بَيْعِهِ فَيَكُونُ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ
وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ لِأَنَّهَا عِنْدَ زُفَرَ فَسْخٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَصْلُ فيها الْفَسْخُ إلَّا لِمَانِعٍ ولم يُوجَدْ الْمَانِعُ فَبَقِيَ فَسْخًا في حَقِّ الْكُلِّ ولم يَكُنْ هذا بَيْعُ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ غير مَنْقُولٍ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا جَازَ بَيْعُهُ من غَيْرِ الْمُشْتَرِي أَيْضًا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكَذَا على قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ على أَصْلِهِ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ في حَقِّ الْكُلِّ إلَّا أَنْ لَا يُمْكِنَ وَهَهُنَا يُمْكِنُ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ فَكَانَ هذا بَيْعُ الْمَبِيعِ الْعَقَارَ قبل الْقَبْضِ وَأَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا لِأَنَّهَا حَصَلَتْ بَعْدَ الْقَبْضِ على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَبَقِيَتْ فَسْخًا فلم يَكُنْ هذا بَيْعُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ بَلْ بَيْعُ الْمَفْسُوخِ فيه الْبَيْعُ قبل الْقَبْضِ وَهَذَا جَائِزٌ عِنْدَهُ مَنْقُولًا كان أو غير مَنْقُولٍ وَعِنْدَ زُفَرَ هو فَسْخٌ على الاطلاق فلم يَكُنْ بَيْعُهُ بَيْعَ الْمَبِيعِ الْمَنْقُولِ قبل الْقَبْضِ فَيَجُوزُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلَهَا شَفِيعٌ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ أو اشْتَرَاهَا ولم يَكُنْ بِجَنْبِهَا دَارٌ ثُمَّ بُنِيَتْ بِجَنْبِهَا دَارٌ ثُمَّ تَقَايَلَا الْبَيْعَ فإن الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقِّ الْكُلِّ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ وَلَا مَانِعَ من جَعْلِهَا بَيْعًا
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ غَيْرِ الْعَاقِدَيْنِ وَالشَّفِيعُ غَيْرُهُمَا فَيَكُونُ بَيْعًا في حَقِّهِ فَيَسْتَحِقُّ وَأَمَّا على قِيَاسِ أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشُّفْعَةِ لِأَنَّهَا فَسْخٌ مُطْلَقٌ على ( ( ( وعلى ) ) ) أَصْلِ زُفَرَ
وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَسْخٌ ما أَمْكَنَ وَهَهُنَا مُمْكِنٌ وَالشُّفْعَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْعِ لَا بِالْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَنَحْوُ ذلك وَلَوْ تَقَايَلَا ثُمَّ وُهِبَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ من الْمُشْتَرِي قبل الِاسْتِرْدَادِ وَقَبِلَ الْمُشْتَرِي جَازَتْ الْهِبَةُ وَمَلَكَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ وَلَوْ كان هذا في الْبَيْعِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ وَيَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِأَنْ وَهَبَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ من الْبَائِعِ وَقَبِلَهُ الْبَائِعُ وَهَذَا يُشْكَلُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ لِأَنَّهُ أَجْرَى الْإِقَالَةَ بَعْدَ الْقَبْضِ مَجْرَى الْبَيْعِ وَلَوْ كانت كَذَلِكَ لَمَا جَازَتْ الْهِبَةُ وَلَكَانَتْ فَسْخًا لِلْإِقَالَةِ كما كانت فَسْخًا لِلْبَيْعِ
ثُمَّ الْفَرْقُ على أَصْلِ من يَجْعَلُهَا فَسْخًا ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْفَسْخَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عن الْإِقَالَةِ فَلَا تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فإنه يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَأَمْكَنَ جَعْلُ الْهِبَةِ مَجَازًا عن إقَالَةِ الْبَيْعِ
وَلَوْ كان الْمَبِيعُ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا بِيعَ مُكَايَلَةً أو مُوَازَنَةً فَتَقَايَلَا الْبَيْعَ فَاسْتَرَدَّهُ الْبَائِعُ من غَيْرِ كَيْلٍ أو وَزْنٍ صَحَّ قَبْضُهُ وَهَذَا لَا يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لو كانت بَيْعًا لَمَا صَحَّ قَبْضُهُ من غَيْرِ كَيْلٍ أو وَزْنٍ كما في الْبَيْعِ وَلَوْ تَقَايَلَا قبل قَبْضِ الْمَبِيعِ أو بَعْدَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْبَائِعُ بِهِ عَيْبًا كان عِنْدَ بَائِعِهِ ليس له أَنْ يَرُدَّهُ عليه وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَطَّرِدُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ بَيْعٌ في حَقِّ الْكُلِّ وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ ثَالِثٍ فَكَانَ بَيْعًا في حَقِّهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا أو وَرِثَهُ من الْمُشْتَرِي
وَعَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يُشْكِلُ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ على أَصْلِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ الرَّدَّ وَلَوْ اشْتَرَى شيئا وَقَبَضَهُ قبل نَقْدِ الثَّمَنِ ثُمَّ بَاعَهُ من أَجْنَبِيٍّ ثُمَّ تَقَايَلَا وَعَادَ الْمَبِيعُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ إنَّ بَائِعَهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قبل النَّقْدِ يَجُوزُ وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ بَيْعٌ في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ وَغَيْرِهِمَا
وَعَلَى أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ بَيْعٌ في حَقِّ ثَالِثٍ وَالْبَائِعُ الْأَوَّلُ هَهُنَا ثَالِثٌ فَكَانَتْ الْإِقَالَةُ بَيْعًا في حَقِّهِ كأن الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ اشْتَرَاهُ ثَانِيًا ثُمَّ بَاعَهُ من بَائِعِهِ بِأَقَلَّ من الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قبل الْعَقْدِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَذَا هذا
وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلَا يَطَّرِدُ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ الْإِقَالَةَ فَسْخًا فَكَانَتْ إعَادَةً إلَى قَدِيمِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِيَ أَنْ لَا يَجُوزُ وَأَمَّا شَرَائِطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ فَمِنْهَا رِضَا الْمُتَقَايِلَيْنِ أَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُطْلَقٌ وَالرِّضَا شَرْطُ صِحَّةِ الْبِيَاعَاتِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ فَلِأَنَّهَا فَسْخُ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ لم يَنْعَقِدْ على الصِّحَّةِ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا أَيْضًا وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ مَعْنَى الْبَيْعِ مَوْجُودٌ فيها فَيُشْتَرَطُ لها الْمَجْلِسُ كما يُشْتَرَطُ لِلْبَيْعِ
وَمِنْهَا تَقَابُضُ بَدَلَيْ الصَّرْفِ في إقَالَةِ الصَّرْفِ وَهَذَا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ ظَاهِرٌ وَكَذَلِكَ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ قَبْضَ الْبَدَلَيْنِ إنَّمَا وَجَبَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَالْإِقَالَةُ على أَصْلِهِ وَإِنْ كانت فَسْخًا في حَقِّ الْعَاقِدَيْنِ فَهِيَ بَيْعٌ جَدِيدٌ في حَقٍّ ثَالِثٍ فَكَانَ حَقُّ الشَّرْعِ في حُكْمِ ثَالِثٍ فَيُجْعَلُ بَيْعًا في حَقِّهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بِمَحَلِّ الْفَسْخِ بِسَائِرِ أَسْبَابِ
____________________

(5/308)


الْفَسْخِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ ازْدَادَ زِيَادَةً تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تَصِحُّ الْإِقَالَةُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هذا ليس بِشَرْطٍ أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ عِنْدَهُمَا فَسْخٌ لِلْعَقْدِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ فإذا خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْفَسْخِ خَرَجَ عن احْتِمَالِ الْإِقَالَةِ ضَرُورَةً
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّهَا بَعْدَ الْقَبْضِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ وهو بَعْدَ الزِّيَادَةِ مُحْتَمِلٌ لِلْبَيْعِ فَبَقِيَ مُحْتَمِلًا لِلْإِقَالَةِ وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كانت فَسْخًا لَكِنْ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَلَا إمْكَانَ هَهُنَا لِأَنَّا لو جَعَلْنَاهَا فَسْخًا لم يَصِحَّ
وَلَوْ جَعَلْنَاهَا بَيْعًا لَصَحَّتْ فَجُعِلَ بَيْعًا لِضَرُورَةِ والصحة ( ( ( الصحة ) ) ) فَلِهَذَا اتَّفَقَ جَوَابُ مُحَمَّدٍ مع جَوَابِ أبي يُوسُفَ في هذا الْفَصْلِ
وَمِنْهَا قِيَامُ الْمَبِيعِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَإِنْ كان هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ لم تَصِحَّ فَأَمَّا قِيَامُ الثَّمَنِ وَقْتَ الْإِقَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إقَالَةَ الْبَيْعِ رَفْعُهُ فَكَانَ قِيَامُهَا بِالْبَيْعِ وَقِيَامُ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ هو الْمَعْقُودُ عليه على مَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عليه لَا على الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَرِدُ على الْمُعَيَّنِ وَالْمُعَيَّنُ هو الْمَبِيعُ لَا الثَّمَنُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْيِينَ وأن عَيَّنَ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِمَا في الذِّمَّةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إيرَادُ الْعَقْدِ عليه دَلَّ أَنَّ قِيَامَ الْبَيْعِ بِالْمَبِيعِ لَا بِالثَّمَنِ فإذا هَلَكَ لم يَبْقَ مَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ فَلَا يَبْقَى حُكْمُهُ فَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِقَالَةُ التي هِيَ رَفْعُ حُكْمِ الْبَيْعِ في الْحَقِيقَةِ وإذا هَلَكَ الثَّمَنُ فَمَحَلُّ حُكْمِ الْبَيْعِ قَائِمٌ فَتَصِحُّ الْإِقَالَةُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا تَبَايَعَا عَيْنًا بِدَيْنٍ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَيَّنَا أو لم يُعَيِّنَا وَالْفُلُوسِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيَّاتِ التقاربة ( ( ( المتقاربة ) ) ) الْمَوْصُوفَةِ في الذِّمَّةِ ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُمَا إنْ تَقَايَلَا وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ في يَدِ الْمُشْتَرِي صَحَّتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءٌ كان الثَّمَنُ قَائِمًا في يَدِهِ أو هَالِكًا لِقِيَامِ حُكْمِ الْبَيْعِ بِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عليه وَإِنْ تَقَايَلَا بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لم تَصِحَّ وَكَذَا إنْ كانت قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ قبل الرَّدِّ على الْبَائِعِ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ سَوَاءً كان الثَّمَنُ قَائِمًا أو هَالِكًا لِأَنَّ الْإِقَالَةَ فيها مَعْنَى الْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ الْإِقَالَةِ وَجَبَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَدُّ ما في يَدِهِ على صَاحِبِهِ فَكَانَ هَلَاكُ الْبَيْعِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قبل الْقَبْضِ كَهَلَاكِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْل الْقَبْضِ فإنه يُوجِبُ بُطْلَانَ الْبَيْعِ كَذَا هذا سَوَاءٌ بَقِيَ الثَّمَنُ أو هَلَكَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَتَعَيَّنْ فَقِيَامُهُ وَهَلَاكُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَكَذَا إذَا كان الْمَبِيعُ عَبْدَيْنِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَا ثُمَّ تَقَايَلَا أَنَّهُ لَا تَصِحَّ الْإِقَالَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه إذَا هَلَكَ لم يَبْقَ مَحَلُّ الْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ وَكَذَا لو كان أَحَدُهُمَا هَالِكًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ وَالْآخَرُ قَائِمًا وَصَحَّتْ الْإِقَالَةُ ثُمَّ هَلَكَ الْقَائِمُ قبل الرَّدِّ بَطَلَتْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّهُ هَلَكَ الْمَعْقُودُ عليه قبل الْقَبْضِ على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ تَبَايَعَا عَيْنًا بِعَيْنٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَتْ إحْدَاهُمَا في يَدِ مُشْتَرِيهَا ثُمَّ تَقَايَلَا صَحَّتْ الْإِقَالَةُ وَعَلَى مُشْتَرِي الْهَالِكِ قِيمَةَ الْهَالِكِ إنْ لم يَكُنْ له مِثْلٌ وَمِثْلُهُ إنْ كان له مِثْلُ فَيُسَلِّمُهُ إلَى صَاحِبِهِ وَيَسْتَرِدُّ منه الْعَيْنَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ على حِدَةِ لِقِيَامِ الْعَقْدِ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ خَرَجَ الْهَالِكُ من أَنْ يَكُونَ قِيَامُ الْعَقْدِ بِهِ فَيَقُومُ بِالْآخَرِ وإذا بَقِيَ الْمَبِيعُ بَقِيَ مَحَلُّ الْفَسْخِ فَيَصِحُّ أو نَقُولُ الْمَبِيعُ أَحَدُهُمَا وَالْآخَرُ ثَمَنٌ إذْ الْمَبِيعُ لَا بُدَّ له من الثَّمَنِ فإذا هَلَكَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْهَالِكُ لِلثَّمَنِ وَالْقَائِمُ لِلْمَبِيعِ لِمَا فيه من تَصْحِيحِ الْعَقْدِ وفي الْقَلْبِ إفْسَادُهُ فَكَانَ التَّصْحِيحُ أَوْلَى فَبَقِيَ الْبَيْعُ بِبَقَاءِ الْمَبِيعِ فَاحْتَمَلَ الْإِقَالَةَ
وَكَذَلِكَ لو تَقَايَلَا وَالْعَيْنَانِ قَائِمَتَانِ ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ قبل الرَّدِّ لَا تَبْطُلُ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ هَلَاكَ إحْدَاهُمَا قبل الْإِقَالَةِ لَمَّا لم يَمْنَعْ صِحَّةَ الْإِقَالَةِ فَهَلَاكُهَا بَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا على الصِّحَّةِ من طَرِيقِ الْأُولَى لِأَنَّ الْبَقَاءَ أَسْهَلُ من الِابْتِدَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ بِيعَ الْعَرْضِ بِالْعَرْضِ أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْعَرْضَيْنِ ابْتِدَاءً وإذا انْعَقَدَ بِهِمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا قبل الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فَلَا يَنْعَقِدُ بِأَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَيَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْعَرْضَيْنِ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْعَرْضَيْنِ مَبِيعٌ وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ
فَأَمَّا الْإِقَالَةُ فَرَفْعُ الْبَيْعِ فَتَسْتَدْعِي بَقَاءَ حُكْمِ الْبَيْعِ وقد بَقِيَ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هذا تَخْرُجُ إقَالَةُ السَّلَمِ قبل قَبْضِ الْمُسْلَمِ فيه أنها جَائِزَةٌ سَوَاءٌ كان رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا أو عَيْنًا وَسَوَاءٌ كان قَائِمًا في يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أو هَالِكًا لِأَنَّ الْمَبِيعَ هو الْمُسْلَمُ فيه وإنه قَائِمٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فيه وَإِنْ كان دَيْنًا حَقِيقَةً فَلَهُ حُكْمُ الْعَيْنِ حتى لَا يَجُوزَ اسْتِبْدَالُهُ قبل الْقَبْضِ فَكَانَ كَالْمَعْقُودِ عليه وإنه قَائِمٌ فَوُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْإِقَالَةِ وإذا صَحَّتْ فَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ عَيْنَ مَالٍ قَائِمَةٍ رَدَّهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ وَإِنْ كانت هَالِكَةً فَإِنْ كان مِمَّا له مِثْلٌ رَدَّ مثله وَإِنْ كان مِمَّا لَا مِثْلَ له رَدَّ قِيمَتَهُ وَإِنْ كان دَيْنًا رَدَّ مثله قَائِمًا كان أو هَالِكًا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ
____________________

(5/309)


فَهَلَاكُهُ وَقِيَامُهُ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لو كانت الْإِقَالَةُ بَعْدَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فيه وإنه قَائِمٌ في يَدِ رَبِّ السَّلَمِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْإِقَالَةُ ثَمَّةَ لِأَنَّهَا صَحَّتْ حَالَ كَوْنِهِ دَيْنًا حَقِيقَةً فَحَالُ صَيْرُورَتِهِ عَيْنًا بِالْقَبْضِ أَوْلَى
وإذا صَحَّتْ فَعَلَى رَبِّ السَّلَمِ رَدُّ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِعَقْدِ السَّلَمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ ما وَرَدَ عليه الْعَقْدُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً على رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُرَابَحَةُ بَيْعُ ما اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ رِبْحٍ وإذا كان الْمَقْبُوضُ عَيْنَ ما وَرَدَ عليه الْعَقْدُ في التَّقْدِيرِ وَالْحُكْمِ وَجَبَ رَدُّ عَيْنِهِ في الْإِقَالَةِ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِنُقْرَةٍ أو بِمَصُوغٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ في يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ تَقَايَلَا وَالْفِضَّةُ قَائِمَةٌ في يَدِ الْبَائِعِ صَحَّتْ الْإِقَالَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَبِيعٌ لِتَعَيُّنِهِ بِالتَّعْيِينِ فَكَانَ مَعْقُودًا عليه فَيَبْقَى الْبَيْعُ بِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ عَيْنِ الْفِضَّةِ وَيَسْتَرِدُّ من الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْعَبْدِ لَكِنْ ذَهَبًا لَا فِضَةً لِأَنَّ الْإِقَالَةَ وَرُدَّتْ على قِيمَةِ الْعَبْدِ فَلَوْ اسْتَرَدَّ قِيمَتَهُ فِضَّةً وَالْقِيمَةُ تَخْتَلِفُ فَتَزْدَادُ أو تَنْقُصُ فَيُؤَدِّي إلَى الرِّبَا وَلَوْ كان الْعَبْدُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقَالَةِ ثُمَّ هَلَكَ قبل الرَّدِّ على الْبَائِعِ فَعَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَرُدَّ الْفِضَّةَ وَيَسْتَرِدَّ قِيمَةَ الْعَبْدِ إنْ شَاءَ ذَهَبًا وَإِنْ شَاءَ فِضَّةً لِأَنَّ الْإِقَالَةَ هَهُنَا وَرَدَتْ على عَيْنِ الْعَبْدِ ثُمَّ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ على الْمُشْتَرِي بَدَلًا لِلْعَبْدِ وَلَا رَبَا بِينَ الْعَبْدِ وَقِيمَتِهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
____________________

(5/310)



كِتَابُ الْكَفَالَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْكَفَالَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْكَفَالَةِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ وفي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ هل يَرْجِعُ أَمْ لَا أَمَّا الرُّكْنُ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ من الْكَفِيلِ وَالْقَبُولُ من الطَّالِبِ وَهَذَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُف الْآخَرُ وفي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الرُّكْنُ هو الْإِيجَابُ فَحَسْبُ
فَأَمَّا الْقَبُولُ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ وهو أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أتى بِجِنَازَةِ رَجُلٍ من الْأَنْصَارِ فقال هل على صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقِيلَ نعم درهما ( ( ( درهمان ) ) ) أو دِينَارَانِ فَامْتَنَعَ من الصَّلَاةِ عليها فقال سَيِّدُنَا عَلِيٌّ أو أبو قَتَادَةَ رضي اللَّهُ عنهما هُمَا عَلَيَّ يا رَسُولَ اللَّهِ فَصَلَّى عليها ولم يُنْقَلْ قَبُولُ الطَّالِبِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ ضَمٌّ لُغَةً وَالْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا على الْأَصِيلِ شَرْعًا لَا تَمْلِيكٌ أَلَا يُرَى أَنَّهُ يُحْتَمَلُ الْجَهَالَةُ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ ذلك وَمَعْنَى الضَّمِّ وَالِالْتِزَامِ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَأَشْبَهَ النَّذْرَ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا قال عِنْدَ مَوْتِهِ لِوَرَثَتِهِ اضْمَنُوا عَنِّي ما عَلَيَّ من الدَّيْنِ لِغُرَمَائِي وَهُمْ غُيَّبٌ فَضَمِنُوا ذلك فَهُوَ جَائِزٌ وَيَلْزَمُهُمْ وَأَيُّ فَرْقٍ بين الْمَرِيضِ وَالصَّحِيحِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لَيْسَتْ بِالْتِزَامٍ مَحْضٍ بَلْ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا نَذْكُرُ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ كَالْبَيْعِ وَالْجَوَابُ عن مَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ نَذْكُرُهُ من بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فإذا عَرَفْت أَنَّ رُكْنَ الْكَفَالَةِ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ من الْكَفِيلِ أَنْ يَقُولَ أنا كَفِيلٌ أو ضَمِينٌ أو زَعِيمٌ أو غَرِيمٌ أو قَبِيلٌ أو حَمِيلٌ أو لَك عَلَيَّ أو لَك قِبَلِي أو لَك عِنْدِي
أَمَّا لَفْظُ الْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَصَرِيحَانِ وَكَذَلِكَ الزَّعَامَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ وَالْغَرَامَةُ بِمَعْنَى الضَّمَانِ قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الزَّعِيمُ غَارِمٌ أَيْ الْكَفِيلُ ضَامِنٌ وَكَذَلِكَ الْقُبَالَةُ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ أَيْضًا يُقَالُ قَبِلْت بِهِ أَقْبَلُ قُبَالَةً وَتَقَبَّلْت بِهِ أَيْ كَفَلَتْ قال اللَّهُ تَعَالَى { أو تَأْتِيَ بِاَللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا } أَيْ كَفِيلًا يَكْفُلُونِي بِمَا يقول وَالْحَمِيلُ بِمَعْنَى
____________________

(6/2)


الْمَحْمُولِ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ وإنه ينبىء عن تَحَمُّلِ الضَّمَانِ
وَقَوْلُهُ على كَلِمَةِ إيجَابٍ وَكَذَا قَوْلُهُ إلَيَّ
قال رسول اللَّهِ من تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ وَقَوْلُهُ قِبَلِي ينبىء عن الْقُبَالَةِ وَهِيَ الْكَفَالَةُ على ما ذَكَرْنَا
وَقَوْلُهُ عِنْدِي وَإِنْ كانت مُطْلِقَةً لِلْوَدِيعَةِ لَكِنَّهُ بِقَرِينَةِ الدَّيْنِ يَكُونُ كَفَالَةً لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْيَدَ وَيَحْتَمِلُ الذِّمَّةَ لِأَنَّهَا كَلِمَةُ قُرْبٍ وَحَضْرَةٍ وَذَلِكَ يُوجَدُ فِيهِمَا جميعا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ على الْيَدِ لِأَنَّهُ أَدْنَى وَعِنْدَ قَرِينَةِ الدَّيْنِ يُحْمَلُ على الذِّمَّةِ أَيْ في ذِمَّتِي لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَحْتَمِلُهُ إلَّا الذِّمَّةُ
وَأَمَّا الْقَبُولُ من الطَّالِبِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَبِلَتْ أو رَضِيَتْ أو هَوَيْت أو ما يَدُلُّ على هذا الْمَعْنَى ثُمَّ رُكْنُ الْكَفَالَةِ في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو عن أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا أو مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أو مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فَإِنْ كان مُطْلَقًا فَلَا شَكَّ في جَوَازِهِ إذَا اسْتَجْمَعَ شَرَائِطَ الْجَوَازِ وَهِيَ ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى غير أَنَّهُ إنْ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ حَالًّا كانت الْكَفَالَةُ حَالَّةً وَإِنْ كان الدَّيْنُ عليه مُؤَجَّلًا كانت الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَتَتَقَيَّدُ بِصِفَةِ الْمَضْمُونِ
وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَلَا يَخْلُو أما إنْ كان مُقَيَّدًا بِوَصْفِ التَّأْجِيلِ أو بِوَصْفِ الْحُلُولِ فَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَإِنْ كان التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ بِأَنْ كَفَلَ إلَى شَهْرٍ أو سَنَةٍ جَازَ ثُمَّ إنْ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى أَجَلٍ مِثْلِهِ يَتَأَجَّلُ إلَيْهِ في حَقِّ الْكَفِيلِ أَيْضًا وَإِنْ سمي الْكَفِيلُ أَجَلًا أَزْيَدَ من ذلك أو أَنْقَصَ جَازَ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ للطالب ( ( ( الطالب ) ) ) فَلَهُ أَنْ يَتَبَرَّعَ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَإِنْ كان الدَّيْنُ عليه حَالًّا جَازَ التَّأْجِيلُ إلَى الْأَجَلِ الْمَذْكُورِ وَيَكُونُ ذلك تَأْجِيلًا في حَقِّهِمَا جميعا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وروي ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أن يَكُونُ تَأْجِيلًا في حَقِّ الْكَفِيلِ خَاصَّةً
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ إن الطَّالِبَ خَصَّ الْكَفِيلَ بِالتَّأْجِيلِ فَيَخُصُّ بِهِ كما إذَا كَفَلَ حَالًّا أو مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ عنه بَعْدَ الْكَفَالَةِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّأْجِيلَ في نَفْسِ الْعَقْدِ يَجْعَلُ الْأَجَلَ صِفَةً لِلدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ وهو على الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ مُؤَجَّلًا عليه ضَرُورَةً بِخِلَافِ ما إذَا كان بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ الْمُتَأَخِّرَ عن الْعَقْدِ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وقد خُصَّ بِهِ الْكَفِيلُ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْأَصِيلِ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ فَكَفَلَ بِهِ مُؤَجِّلًا إلَى سَنَةٍ أو مُطْلِقًا ثُمَّ مَاتَ الْأَصِيلُ قبل تَمَامِ السَّنَةِ يَحِلُّ الدَّيْنُ في مَالِهِ وهو على الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ
وَكَذَا لو مَاتَ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ يَحِلُّ الدَّيْنُ في مَالِ الْكَفِيلِ وهو على الْأَصِيلِ إلَى أَجَلِهِ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلْأَجَلِ وُجِدَ في حَقِّ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ كان التَّأْجِيلُ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ فَإِنْ كان يُشْبِهُ آجَالَ الناس كَالْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ وَالنَّيْرُوزِ وَنَحْوِهِ فَكَفَلَ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا عَقْدٌ إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ فَلَا يَصِحُّ كَالْبَيْعِ
وَلَنَا أَنَّ هذا ليس بِجَهَالَةٍ فَاحِشَةٍ فَتَحْمِلُهَا الْكَفَالَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ من جَوَازِ الْعَقْدِ لِعَيْنِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى الْمُنَازَعَةِ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ وَجَهَالَةُ التقدير ( ( ( التقديم ) ) ) وَالتَّأْخِيرِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ في بَابِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ يُسَامَحُ في أَخْذِ الْعَقْدِ ما لَا يُسَامَحُ في غَيْرِهِ لِإِمْكَانِ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ من جِهَة الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ إلَى هذه الْآجَالِ مُتَعَارَفَةٌ وَلَوْ كانت الْكَفَالَةُ حَالَّةً فَأَخَّرَ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ جَازَ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان لَا يُشْبِهُ آجَالَ الناس كمجىء ( ( ( كمجيء ) ) ) الْمَطَرِ وَهُبُوبِ الرِّيحِ فَالْأَجَلُ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ هذه جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ فَلَا تَتَحَمَّلُهَا الْكَفَالَةُ فلم يَصِحَّ التَّأْجِيلُ فَبَطَلَ وَبَقِيَتْ الْكَفَالَةُ صَحِيحَةً
وَكَذَا لو كان على رَجُلٍ دَيْنٌ فَأَجَّلَهُ الطَّالِبُ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ جَازَ وَإِنْ كان ثَمَنُ مَبِيعٍ وَلَا يُوجِبُ ذلك فَسَادَ الْبَيْعِ لِأَنَّ تَأْجِيلَ الدَّيْنِ ابْتِدَاءً بِمَنْزِلَةِ التَّأْخِيرِ في الْكَفَالَةِ وَذَا لَا يُؤَثِّرُ في الْبَيْعِ فَكَذَا هذا هذا إذَا كانت الْكَفَالَةُ مُؤَجَّلَةً فَأَمَّا إذَا كانت حَالَّةً فَإِنْ شَرَطَ الطَّالِبُ الْحُلُولَ على الْكَفِيلِ جَازَ سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ على الْأَصِيلِ حَالًّا أو مُؤَجَّلًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ حَقُّ الْمَكْفُولِ له فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه بِالتَّعْجِيلِ وَالتَّأْجِيلِ وَلَوْ كَفَلَ حَالًّا ثُمَّ أَجَّلَهُ الطَّالِبُ بَعْدَ ذلك يَتَأَخَّرُ في حَقِّ الْكَفِيلِ إذَا قُبِلَ التَّأْخِيرُ دُونَ الْأَصْلِ بِخِلَافِ ما إذَا كان التَّأْجِيلُ في الْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْفَرْقِ
وَلَوْ كان الدَّيْنُ على الْأَصْلِ حَالًّا فَأَخَّرَهُ الطَّالِبُ إلَى مُدَّةٍ وَقَبِلَهُ الْمَطْلُوبُ جَازَ التَّأْخِيرُ وَيَكُونُ تَأْخِيرًا في حَقِّ الْكَفِيلِ
هذا إذَا كانت الكفالة مُقَيَّدَةً بِوَصْفٍ فَأَمَّا إذَا كانت مُعَلَّقَةً بِشَرْطٍ فَإِنْ كان الْمَذْكُورُ شَرْطًا سَبَبًا لِظُهُورِ
____________________

(6/3)


الْحَقِّ أو لِوُجُوبِهِ أو وَسِيلَةً إلَى الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ جَازَ بِأَنْ قال إنْ اسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَبِيعِ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إذَا قال إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ قُدُومَهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَكْفُولًا عنه أو يَكُونَ مُضَارَبَةً فَإِنْ لم يَكُنْ سَبَبًا لِظُهُورِ الْحَقِّ وَلَا لِوُجُوبِهِ وَلَا وَسِيلَةَ إلَى الْأَدَاءِ في الْجُمْلَةِ لَا يَجُوزُ بِأَنْ قال إذَا جاء الْمَطَرُ أو هَبَّتْ الرِّيحُ أو إنْ دخل زَيْدٌ الدَّارَ فَأَنَا كَفِيلٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ لِمَا ذَكَرْنَا وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يَجُوزَ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ إلَّا شَرْطًا أُلْحِقَ بِهِ تعقل ( ( ( تعلق ) ) ) بِالظُّهُورِ أو التَّوَسُّلِ إلَيْهِ في الْجُمْلَةِ فَيَكُونُ مُلَائِمًا لِلْعَقْدِ فَيَجُوزُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْعُرْفُ في مِثْلِ هذا الشَّرْطِ دُونَ غَيْرِهِ
وَلَوْ قال إنْ قَتَلَك فُلَانٌ أو إنْ شَجَّك فُلَانٌ أو إنْ أغصبك ( ( ( غصبك ) ) ) فُلَانٌ أو إنْ بَايَعْت فُلَانًا فَأَنَا ضَامِنٌ لِذَلِكَ جَازَ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَلَوْ قال إنْ غَصَبَك فُلَانٌ ضَيْعَتَك فَأَنَا ضَامِنٌ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَجَازَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ بِنَاءً على أَنَّ غَصْبَ الْعَقَارِ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَقَّقُ وَلَوْ قال من قَتَلَك من الناس أو من غَصَبَك من الناس أو من شَجَّك من الناس أو من بَايَعَكَ من الناس لم يَجُزْ لَا من قِبَلِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ بَلْ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عنه مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمَضْمُونِ عنه تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ
وَلَوْ قال ضَمِنَتْ لَك ما على فَلَانَ إنْ توى ( ( ( نوى ) ) ) جَازَ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِأَنَّهُ مُؤَكِّدٌ لِمَعْنَى التَّوَسُّلِ إلَى ما هو الْمَقْصُودُ وَكَذَا لو قال إنْ خَرَجَ من الْمِصْرِ ولم يُعْطِك فَأَنَا ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ شَرَطَ في الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ تَسْلِيمَ الْمَكْفُولِ بِهِ في وَقْتٍ بِعَيْنِهِ جَازَ لِأَنَّ هذا تَأْجِيلُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَيَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَكَذَا سَائِرُ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ في التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْكُلَّ في مَعْنَى الْكَفَالَةِ على السَّوَاءِ
وَلَوْ قال كَفَلَتْ لَك مَالَك على فُلَانٍ حَالًّا على أَنَّك مَتَى طَلَبْته فَلِيَ أَجَلُ شَهْرٍ جَازَ وإذا طَلَبْته منه فَلَهُ أَجَلُ ثُمَّ إذَا مَضَى الشَّهْرُ فَلَهُ أَنْ يأخذه ( ( ( يأخذ ) ) ) مَتَى شَاءَ
وَلَوْ شَرَطَ ذلك بَعْدَ تَمَامِ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ حَالًّا لم يَجُزْ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ مَتَى شَاءَ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَوْجُودَ هَهُنَا كَفَالَتَانِ إحْدَاهُمَا حَالَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَالثَّانِيَةُ مُؤَجَّلَةٌ إلَى شَهْرٍ مُعَلَّقَةٌ بِشَرْطِ الطَّلَبِ فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ ثَبَتَ التَّأْجِيلُ إلَى شَهْرٍ فإذا مَضَى الشَّهْرُ انْتَهَى حُكْمُ التَّأْجِيلِ فَيَأْخُذُهُ بِالْكَفَالَةِ الْحَالَّةِ هذا مَعْنَى قَوْلِهِ في الْكِتَابِ يَأْخُذُهُ مَتَى شَاءَ بِالطَّلَبِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ ما إذَا كان التَّأْجِيلُ بِالشَّرْطِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لِأَنَّ ذلك تَعْلِيقُ التَّأْجِيلِ بِالشَّرْطِ لَا تَعْلِيقُ الْعَقْدِ الْمُؤَجَّلِ بِالشَّرْطِ وَالتَّأْجِيلُ نَفْسُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَبَطَلَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ جَازَ وَلَوْ كَفَلَ مُطْلَقًا ثُمَّ أَخَّرَ إلَى قُدُومِ زَيْدٍ لم يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ على أَنَّهُ إنْ لم يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ ما عليه وهو الْأَلْفُ فَمَضَى الْوَقْتُ ولم يُوَافِ بِهِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ هُنَا كَفَالَتَانِ بِالنَّفْسِ وَبِالْمَالِ إلَّا أَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكُلُّ ذلك جَائِزٌ
أَمَّا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلَا شَكَّ فيها وَكَذَا الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ مُحَقِّقٌ لِمَا شُرِعَ له وهو الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ من جِهَةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ من قِبَلِ الْأَصِيلِ فإذا لم يُوجَدْ الشَّرْطُ لَزِمَهُ الْمَالُ وإذا أَدَّاهُ لَا يَبْرَأُ عن الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ لِجَوَازِ أَنْ يَدَّعِيَ عليه مَالًا آخَرَ فَيَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ وَكَذَا إذَا قال فَعَلَيْهِ ما عليه وَعَلَيْهِ أَلْفٌ ولم يُسَمِّ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَلْفِ لِأَنَّهُ أضف ( ( ( أضاف ) ) ) الْكَفَالَةَ إلَى ما عليه وَالْأَلْفُ عليه وَكَذَا لو كَفَلَ لِامْرَأَةٍ بِصَدَاقِهَا إنْ لم يُوَافِ الزَّوْجُ وَصَدَاقُهَا وَصِيفٌ فالوصيف ( ( ( فالوصف ) ) ) لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْوَصِيفِ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وهو الزَّوْجُ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ وقال إنْ لم أُوَافِك بِهِ غَدًا فعلى أَلْفُ دِرْهَمٍ ولم يَقُلْ الْأَلْفُ التي عليه أو الْأَلْفُ التي ادَّعَيْت وَالْمَطْلُوبُ يُنْكَرُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا إيجَابُ الْمَالِ مُعَلَّقًا بِالْخَطَرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْوَاجِبِ وَوُجُوبُ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا يَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ فَأَمَّا الْكَفَالَةُ بِمَالٍ ثَابِتٍ فَتَتَعَلَّقُ بِالْخَطَرِ ولم يُوجَدْ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن مُطْلَقَ الْأَلْفِ يَنْصَرِفُ إلَى الْأَلْفِ الْمَعْهُودَةِ وَهِيَ الْأَلْفُ الْمَضْمُونَةُ مع ما أَنَّ في الصَّرْفِ إلَى ابْتِدَاءِ الْإِيجَابِ فَسَادَ الْعَقْدِ وفي الصَّرْفِ إلَى ما عليه صِحَّتُهُ فَالصَّرْفُ إلَى ما فيه صِحَّةُ الْعَقْدِ أَوْلَى
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ على أَنْ يُوَافِيَ بِهِ إذَا ادَّعَى بِهِ فَإِنْ لم يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ التي عليه
____________________

(6/4)


جَازَ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ مُطْلَقًا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ طَلَبِ الْمُوَافَاةِ وَهَذَا شَرْطٌ مُلَائِمٌ لِلْعَقْدِ لِمَا ذَكَرْنَا فإذا طَلَبَ منه الْمَكْفُولُ له تَسْلِيمَ النَّفْسِ فَإِنْ سَلَّمَ مَكَانَهُ برىء لِأَنَّهُ أتى بِمَا الْتَزَمَ وَإِنْ لم يُسَلِّمْ فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِتَحَقُّقِ الشَّرْطِ وهو عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ عِنْدَ الطَّلَبِ وَلَوْ قال ائْتِنِي بِهِ عَشِيَّةً أو غَدْوَةً وقال الْكَفِيلُ أنا آتِيك بِهِ بَعْدَ غَدٍ فَإِنْ لم يَأْتِ بِهِ في الْوَقْتِ الذي طَلَبَ الْمَكْفُولُ له فَعَلَيْهِ الْمَالُ لِوُجُودِ شَرْطِ اللُّزُومِ وَإِنْ أَخَّرَ الْمُطَالَبَةَ إلَى ما بَعْدِ غَدٍ كما قَالَهُ الْكَفِيلُ فَأَتَى بِهِ فَهُوَ بَرِيءٌ من الْمَالِ لِأَنَّهُ بِالتَّأْخِيرِ أَبْطَلَ الطَّلَبَ الْأَوَّلَ فلم يَبْقَ التَّسْلِيمُ وَاجِبًا عليه وَصَارَ كَأَنَّهُ طَلَبَ منه من الِابْتِدَاءِ التَّسْلِيمَ بَعْدَ غَدٍ وقد وُجِدَ وبرىء من الْمَالِ وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ وقال إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا برىء ( ( ( بريء ) ) ) فَوَافَاهُ من الْغَدِ يَبْرَأُ من الْمَالِ في رِوَايَةٍ وفي رِوَايَةٍ لَا يَبْرَأُ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ إن قَوْلَهُ إنْ وَافَيْتُك بِهِ غَدًا فَأَنَا بَرِيءٌ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عن الْمَالِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ وَالْبَرَاءَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكَاتُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى إن هذا ليس بِتَعْلِيقِ الْبَرَاءَةِ بِشَرْطِ الْمُوَافَاةِ بَلْ هو جَعْلُ الْمُوَافَاةِ غَايَةً لِلْكَفَالَةِ بِالْمَالِ وَالشَّرْطُ قد يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْغَايَةِ لِمُنَاسِبَةٍ بَيْنَهُمَا وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ
وَلَوْ شَرَطَ في الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ في مَجْلِسِ الْقَاضِي جَازَ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ مُفِيدٌ وَيَكُونُ التَّسْلِيمُ في الْمِصْرِ أو في مَكَان يَقْدِرُ على إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي تَسْلِيمًا إلَى الْقَاضِي لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ في مِصْرٍ مُعَيَّنٍ يَصِحُّ التَّقْيِيدُ بِالْمِصْرِ بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَصِحُّ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ لَا يَتَقَيَّدُ بِهِ حتى لو دَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي أو عُزِلَ الْأَمِيرُ وولى غَيْرُهُ فَدَفْعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي جَازَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ لم يُوَافِ بِهِ فَعَلَيْهِ ما يَدَّعِيه الطَّالِبُ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ أَلْفًا فَإِنْ لم يَكُنْ عليه بَيِّنَةٌ لَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى شَيْءٌ فَقَدْ أَضَافَ الِالْتِزَامُ إلَى ما ليس بِسَبَبِ اللُّزُومِ وَكَذَا إذَا أَقَرَّ بها الْمَطْلُوب لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عليه لَا على غَيْرِهِ فَلَا يَصْدُقُ على الْكَفِيلِ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليها أو أَقَرَّ بها الْكَفِيلُ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ سَبَبٌ لِظُهُورِ الْحَقِّ وَكَذَا إقْرَارُ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيُؤَاخِذُ بِهِ
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ على أَنَّهُ إنْ لم يُوَافِ بِهِ إلَى شَهْرٍ فَعَلَيْهِ ما عليه فَمَاتَ الْكَفِيلُ قبل الشَّهْرِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ مَضَى الشَّهْرُ قبل أَنْ يَدْفَعَ وَرَثَةُ الْكَفِيلِ الْمَكْفُولَ بِهِ إلَى الطَّالِبِ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ وَيَضْرِبُ الطَّالِبُ مع الْغُرَمَاءِ أَمَّا لُزُومُ الْمَالِ فَلِأَنَّ الْحُكْمَ بَعْدَ الشَّرْطِ يَثْبُتُ مُضَافًا إلَى السَّبَبِ السَّابِقِ وهو عنده مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ وَلِهَذَا لو كَفَلَ وهو صَحِيحٌ ثُمَّ مَرِضَ تُعْتَبَرُ الْكَفَالَةُ من جَمِيعِ الْمَالِ لَا من الثُّلُثِ وَأَمَّا الضَّرْبُ مع الْغُرَمَاءِ فَلِاسْتِوَاءِ الدِّينَيْنِ وَكَذَا لو مَاتَ الْمَكْفُولُ بِهِ ثُمَّ مَاتَ الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ إذَا ما ( ( ( مات ) ) ) فَقَدْ عَجَزَ الْكَفِيلُ عن تَسْلِيمِ نَفْسِهِ فَوُجِدَ شَرْطُ لُزُومِ الْمَالِ بِالسَّبَبِ السَّابِقِ
هذا إذَا كانت الْكَفَالَةُ مُعَلَّقَةً بِالشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا كانت مُضَافَةً إلَى وَقْتٍ بِأَنْ ضَمِنَ ما أدان له على فُلَانٍ أو ما قَضَى له عليه أو ما دَايَنَ فُلَانًا أو ما أَقْرَضَهُ أو ما اسْتَهْلَكَ من مَالِهِ أو ما غَصَبَهُ أو ثَمَنَ ما بَايَعَهُ صَحَّتْ هذه الْكَفَالَةُ لِأَنَّهَا أُضِيفَتْ إلَى سَبَبِ الضَّمَانِ وَإِنْ لم يَكُنْ الضَّمَانُ ثَابِتًا في الْحَالِ وَالْكَفَالَةُ إنْ كان فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ مَحْضٍ فَجَازَ أَنْ تحتمل ( ( ( يحتمل ) ) ) الْإِضَافَةَ
وَلَوْ قال كُلَّمَا بَايَعْتَ فُلَانًا فَثَمَنُهُ عَلَيَّ أو ما بَايَعْتَ أو الذي بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِجَمِيعِ ما بَايَعَهُ
وَلَوْ قال إنْ بَايَعْتَ أو إذَا بَايَعْتَ أو مَتَى بَايَعْتَ يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ أَوَّلِ الْمُبَايَعَةِ لا يُؤَاخَذُ بِثَمَنِ ما بَايَعَهُ بَعْدَهَا لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّ لِعُمُومِ الْأَفْعَالِ وَكَذَا كَلِمَةُ ما وَاَلَّذِي لِلْعُمُومِ وقد دَخَلَتْ على الْمُبَايَعَةِ فَيَقْتَضِي تَكْرَارَ الْمُبَايَعَةِ ولم يُوجَدْ مِثْلُ هذه الدَّلَالَةِ في قَوْلِهِ إنْ بَايَعْتَ وَنَظَائِرِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فصل ( ( ( ركن ) ) ) وَأَمَّا شَرَائِطُ الْكَفَالَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ له وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ منها ما هو شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَمِنْهَا ما هو شَرْطُ النَّفَاذِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْكَفِيلِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وأنهما من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَلَا تَنْعَقِدُ كَفَالَةُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَلَا تَنْعَقِدُ مِمَّنْ ليس من أَهْلِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنَّ الْأَبَ أو الْوَصِيَّ لو اسْتَدَانَ دَيْنًا في نَفَقَةِ الْيَتِيمِ وَأَمَرَ الْيَتِيمَ أَنْ يَضْمَنَ الْمَالَ عنه جَازَ
وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عنه النَّفْسَ لم يَجُزْ لِأَنَّ ضَمَانَ الدَّيْنِ قد لَزِمَهُ من غَيْرِ شَرْطٍ فَالشَّرْطُ
____________________

(6/5)


لَا يَزِيدُهُ إلَّا تَأْكِيدًا فلم يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فَأَمَّا ضَمَانُ النَّفْسِ وهو تَسْلِيمُ نَفْسِ الْأَبِ أو الْوَصِيِّ فلم يَكُنْ عليه فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فيه فلم يَجُزْ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ وَهِيَ شَرْطُ نَفَاذِ هذا التَّصَرُّفِ فَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْعَبْدِ مَحْجُورًا كان أو مَأْذُونًا له في الجارة ( ( ( التجارة ) ) ) لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُهُ بِدُونِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَلَكِنَّهَا تَنْعَقِدُ حتى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ لِأَنَّ امْتِنَاعَ النَّفَاذِ ما كان لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ بَلْ لِحَقِّ الْمَوْلَى وقد زَالَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ منه لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ فَلَا تَحْتَمِلُ النَّفَاذَ بِالْبُلُوغِ
وَلَوْ أَذِنَ له الْمَوْلَى بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لم يَجُزْ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالتَّبَرُّعِ لم يَصِحَّ وَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ جَازَتْ كَفَالَتُهُ وَتُبَاعُ رَقَبَتُهُ في الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ من الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ على لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَسَوَاءٌ أَذِنَ له الْمَوْلَى أو لم يَأْذَنْ لِأَنَّ إذْن الْمَوْلَى لم يَصِحَّ في حَقِّهِ وَصَحَّ في حَقِّ الْقِنِّ وَلَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ حتى يُطَالَبَ بِهِ بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَلَوْ كَفَلَ الْمُكَاتَبُ أو الْمَأْذُونُ عن الْمَوْلَى جَازَ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ التَّبَرُّعَ عليه وَأَمَّا صِحَّةُ بَدَنِ الْكَفِيلِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْكَفَالَةِ فَتَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَرِيضِ لَكِنْ من الثُّلُثِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْأَصِيلِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا على تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا فصح ( ( ( تصح ) ) ) الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ عن مَيِّتٍ مُفْلِسٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَصِحُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَوْتَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مَالٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَفْتَقِرُ بَقَاؤُهُ إلَى الْقُدْرَةِ وَلِهَذَا بَقِيَ إذَا مَاتَ مَلِيًّا حتى تَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَكَذَا بَقِيَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا وإذا مَاتَ عن كفل ( ( ( كفيل ) ) ) تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عنه بِالدَّيْنِ فَكَذَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عنه وَالتَّبَرُّعُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الدَّيْنَ عِبَارَةٌ عن الْفِعْلِ وَالْمَيِّتُ عَاجِزٌ عن الْفِعْلِ فَكَانَتْ هذه كَفَالَةٌ بِدَيْنٍ سَاقِطٍ فَلَا تَصِحُّ كما كَفَلَ على إنْسَانٍ بِدَيْنٍ وَلَا دَيْنَ عليه إذا ( ( ( وإذا ) ) ) مَاتَ مَلِيًّا فَهُوَ قَادِرٌ بِنَائِبِهِ
وَكَذَا إذَا مَاتَ عن كَفِيلٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ في قَضَاءِ دَيْنِهِ
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ وَالتَّبَرُّعُ فَهُمَا في الْحَقِيقَةِ إبْرَاءٌ عن الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ الْمُمَاطَلَةِ في قَضَاءِ الدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ بِتَخْلِيصِ الْمَيِّتِ عن الْمُؤَاخَذَةِ بِسَبَبِ التَّقْصِيرِ بِوَاسِطَةِ إرْضَاءِ الْخَصْمِ بِهِبَةِ هذا الْقَدْرِ منه فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إبْرَاءً عن الدَّيْنِ وَتَبَرُّعًا بِقَضَائِهِ حَقِيقَةً فَلَا على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا بِأَنْ كَفَلَ ما على فُلَانٍ فَأَمَّا إذَا قال على أَحَدٍ من النَّاس أو بِعَيْنٍ أو بِنَفْسٍ أو بِفِعْلٍ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ عليه مَجْهُولٌ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ وَالْكَفَالَةُ على هذا الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْرُوفَةٍ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْأَصِيلِ وَعَقْلُهُ وَبُلُوغُهُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونِ ما على الْأَصْلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ وقد وُجِدَ
أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ وَاجِبٌ عليه وَيُطَالِبُ بِهِ في الْجُمْلَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفَالَةَ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلِأَنَّ الدَّيْنَ في ذِمَّتِهِمَا وَالْوَلِيُّ مُطَالِبٌ بِهِ في الْحَالِ وَيُطَالَبَانِ أَيْضًا في الْجُمْلَةِ وهو ما بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عن الْعَبْدِ وَإِنْ كان مَحْجُورًا وَعَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عليهم بِمَا أَدَّى وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ بِإِذْنِهِمْ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ حَضْرَتُهُ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ عن غَائِبٍ أو مَحْبُوسٍ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْكَفَالَةِ في الْغَالِبِ في مِثْلِ هذه الْأَحْوَالِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ فِيهِمَا أَجْوَزَ ما يَكُونُ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ له فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا حتى أَنَّهُ إذَا كَفَلَ لِأَحَدٍ من الناس لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ له إذَا كان مَجْهُولًا لَا يَحْصُلُ ما شُرِعَ له الْكَفَالَةُ وهو التَّوَثُّقُ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ في مَجْلِسِ الْعَقْدِ وَأَنَّهُ شَرَطَ الِانْعِقَادَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ إذَا لم يَقْبَلْ عنه حَاضِرٌ في الْمَجْلِسِ حتى إن من كَفَلَ لِغَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُمَا إذَا لم يَقْبَلْ عنه حَاضِرٌ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ وَظَاهِرُ إطْلَاقِ مُحَمَّدٍ في الْأَصْلِ أنها جَائِزَةٌ على قَوْلِهِ الْآخَرِ يَدُلُّ على أَنَّ الْمَجْلِسَ عِنْدَهُ ليس بشرط ( ( ( شرطا ) ) ) أَصْلًا لَا شَرْطَ النَّفَاذِ وَلَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ لِأَنَّ مُحَمَّدًا رُبَّمَا يُطْلِقُ الْجَوَازَ على النَّافِذِ فَأَمَّا الْمَوْقُوفُ فَنُسَمِّيه بَاطِلًا إلَّا أَنْ يُجِيزَ وَهَذَا الاطلاق صَحِيحٌ لِأَنَّ الْجَائِزَ هو النَّافِذُ في اللُّغَةِ يُقَالُ جَازَ السَّهْمُ إذَا نَفَذَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ الْآخَرِ ما ذَكَرْنَا في صَدْرِ الْكِتَابِ أَنَّ مَعْنَى هذا الْعَقْدِ لُغَةً وَشَرْعًا وهو الضَّمُّ وَالِالْتِزَامُ يَتِمُّ بِإِيجَابِ الْكَفِيلِ فَكَانَ إيجَابُهُ كُلَّ الْعَقْدِ وَالدَّلِيلُ عليه مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ فيه مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَكَانَ الْإِيجَابُ وَحْدَهُ شَطْرَ الْعَقَدِ فَلَا يَقِفُ على غَائِبٍ
____________________

(6/6)


عن الْمَجْلِسِ كَالْبَيْعِ مع ما أَنَّا نَعْمَلُ بِالشَّبَهَيْنِ جميعا فَنَقُولُ شبه ( ( ( لشبه ) ) ) الِالْتِزَامِ يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ وَلِشِبْهِ التَّمْلِيكِ لَا يَقِفُ على غَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ اعْتِبَارًا لِلشَّبَهَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَرِيضِ فَقَدْ قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا أن جَوَازَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِطَرِيقِ الْإِيصَاءِ بِالْقَضَاءِ عنه بَعْدَ مَوْتِهِ لَا بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ اضْمَنُوا عَنِّي إيصَاءً منه إلَيْهِمْ بِالْقَضَاءِ عنه حتى لو مَاتَ ولم يَتْرُكْ شيئا لَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ شَيْءٌ فَعَلَى هذا لَا يَلْزَمُ وَبَعْضُهُمْ أَجَازُوهُ على سَبِيلِ الْكَفَالَةِ
وَوَجْهُهُ ما أَشَارَ إلَيْهِ أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ في الْأَصْلِ وقال هو بِمَنْزِلَةِ الْمُعَبِّرِ عن غُرَمَائِهِ وَشَرْحُ هذه الْإِشَارَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ أَنَّ الْمَرِيضَ مَرَضَ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِمَالِهِ وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ عنه حتى لَا يَنْفُذَ منه التَّصَرُّفُ الْمُبْطِلُ لِحَقِّ الْغَرِيمِ
وَلَوْ قال أَجْنَبِيٌّ لِلْوَرَثَةِ اضْمَنُوا لِغُرَمَاءِ فُلَانٍ عنه فقلوا ( ( ( فقالوا ) ) ) ضَمِنَّا يكتفي بِهِ فَكَذَا الْمَرِيضُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا وهو تَفْرِيعٌ على مَذْهَبِهِمَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا يَصِحُّ قَبُولُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْقَبُولِ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ وَلِيِّهِمَا عنهما لِأَنَّ الْقَبُولَ يُعْتَبَرُ مِمَّنْ وَقَعَ له الْإِيجَابُ وَمَنْ وَقَعَ له الْإِيجَابُ ليس من أَهْلِ الْقَبُولِ وَمَنْ قَبِلَ لم يَقَعْ الْإِيجَابُ له فَلَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمَكْفُولِ له فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْعَبْدَ من أَهْلِ الْقَبُولِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَكْفُولِ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ سَوَاءٌ كان دَيْنًا أو عَيْنًا أو نَفْسًا أو فِعْلًا ليس بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ في الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً بِنَفْسِهَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ عَيْنٌ وَدَيْنٌ وَنَفْسٌ وَفِعْلٌ ليس بِدَيْنٍ وَلَا عَيْنٍ وَلَا نَفْسٍ
أَمَّا الْعَيْنُ فَنَوْعَانِ عَيْنٌ هِيَ أَمَانَةٌ وَعَيْنٌ هِيَ مَضْمُونَةٌ أَمَّا الْعَيْنُ التي هِيَ أَمَانَةٌ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بها سَوَاءٌ كانت أَمَانَةً غير وَاجِبَةِ التَّسْلِيمِ كَالْوَدَائِعِ وَمَالِ الشَّرِكَاتِ وَالْمُضَارَبَاتِ أو كانت أَمَانَةً وَاجِبَةَ التَّسْلِيمِ كَالْعَارِيَّةِ وَالْمُسْتَأْجَرِ في يَدِ الْأَجِيرِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى عَيْنِهَا وَعَيْنُهَا لَيْسَتْ بِمَضْمُونَةٍ وله كَفَلَ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ عن الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ جَازَ لِأَنَّهُمَا مَضْمُونَا التَّسْلِيمِ عَلَيْهِمَا فَالْكَفَالَةُ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وهو فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ
وَأَمَّا الْعَيْنُ الْمَضْمُونَةُ فَنَوْعَانِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَمَضْمُونٌ بِغَيْرِهِ كَالْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَالرَّهْنِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّ عَيْنِهِ حَالَ قِيَامِهِ وَرَدُّ مِثْلِهِ أو قِيمَتِهِ حَالَ هَلَاكِهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا على الْكَفِيلِ على هذا الْوَجْهِ أَيْضًا وَلَا تَصِحُّ بِالنَّوْعِ الثَّانِي لِأَنَّ الْمَبِيعَ قبل الْقَبْضِ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ لَا بِنَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ لَا يَجِبُ عليه شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الثَّمَنُ عن الْمُشْتَرِي
وَكَذَا الرَّهْنُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالدَّيْنِ أَلَا يرى أَنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا يَجِبُ على الْمُرْتَهِنِ شَيْءٌ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ عن الرَّاهِنِ بِقَدْرِهِ
وَأَمَّا الْفِعْلُ فَهُوَ فِعْلُ التَّسْلِيمِ في الْجُمْلَةِ فَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ على الْبَائِعِ وَالرَّهْنَ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ على الْمُرْتَهِنِ في الْجُمْلَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَكَانَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ وهو فِعْلُ التَّسْلِيمِ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ بِهِ لَكِنَّهُ إذَا هَلَكَ لَا شَيْءَ على الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ لم يَبْقَ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ فَلَا يَبْقَى على الْكَفِيلِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلْحَمْلِ فَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحَمْلِ فَإِنْ كانت الدَّابَّةُ بِعَيْنِهَا لم تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ وَإِنْ كانت بِغَيْرِ عَيْنِهَا جَازَتْ لِأَنَّ في الْوَجْهِ الْأَوَّلِ الْوَاجِبَ على الْآجِرِ فِعْلُ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ دُونَ الْحَمْلِ فلم تَكُنْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فلم تَجُزْ
وفي الْوَجْهِ الثَّانِي الْوَاجِبُ عليه فِعْلُ الْحَمْلِ دُونَ تَسْلِيمِ الدَّابَّةِ فَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالْحَمْلِ كَفَالَةً بِفِعْلٍ هو مَضْمُونٌ على الْأَصِيلِ فَجَازَتْ وَعَلَى هذا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ من عليه الْحَقُّ جَازَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةٌ بِالْفِعْلِ وهو تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَفِعْلُ التَّسْلِيمِ مَضْمُونٌ على الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَجَازَ وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِرَأْسِهِ أو بِوَجْهِهِ أو بِرَقَبَتِهِ أو بِرُوحِهِ أو بِنِصْفِهِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ كَالرَّأْسِ وَالْوَجْهِ وَالرَّقَبَةِ وَنَحْوِهَا جَازَتْ لِأَنَّ هذه الْأَجْزَاءَ يُعَبَّرُ بها عن جُمْلَةِ الْبَدَنِ فَكَانَ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِلْبَدَنِ كما في بَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ
وَكَذَا إذَا أَضَافَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ كَالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَنَحْوِهِمَا جَازَتْ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ بِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ وَالنَّفْسُ في حَقِّ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ لَا
____________________

(6/7)


تَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ بَعْضِ ما لَا يَتَجَزَّأُ شَرْعًا ذِكْرٌ لِكُلِّهِ كما في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وإذا أَضَافَهَا إلَى الْيَدِ أو الرِّجْلِ وَنَحْوِهِمَا من الْأَجْزَاءِ الْمُعَيَّنَةِ لَا تَجُوزُ لِأَنَّ هذه الْأَعْضَاءَ لَا يُعَبَّرُ بها عن جَمِيعِ الْبَدَنِ وَهِيَ في حُكْمِ الْكَفَالَةِ مُتَجَزِّئَةٌ فَلَا يَكُونُ ذِكْرُهَا ذِكْرًا لِجَمِيعِ الْبَدَنِ كما في الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَلَوْ قال في الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ هو عَلَيَّ جَازَ لِأَنَّ هذا صَرِيحٌ في الْتِزَامِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ
وَكَذَا إذَا قال أنا ضَامِنٌ لِوَجْهِهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ جُزْءٌ جَامِعٌ وَلَوْ قال أنا ضَامِنٌ لِمَعْرِفَتِهِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ لَا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً على الْأَصِيلِ وَلَوْ قال لِلطَّالِبِ أنا ضَامِنٌ لَك لم يَصِحَّ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَصْلًا
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنِ وَالْفِعْلِ أنها صَحِيحَةٌ وما ذَكَرْنَا من التَّفْرِيعَاتِ عليها مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها غَيْرُ صَحِيحَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهَا فَلَا تَصِحُّ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ فَكَانَ مَحِلَّهَا الدَّيْنُ فلم تُوجَدْ وَالتَّصَرُّفُ الْمُضَافُ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ بَاطِلٌ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ على تَسْلِيمِ الْمَكْفُولِ بِهِ شَرْطُ جَوَازِ الْكَفَالَةِ وَالْقُدْرَةُ على الْإِعْتَاقِ لَا تَتَحَقَّقُ
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ } أَخْبَرَ اللَّهُ عز شَأْنُهُ عن الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ عن الْأُمَمِ السَّالِفَةِ ولم يُغَيِّرْ وَالْحَكِيمُ إذَا حَكَى عن مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ وَلِأَنَّ هذا حُكْمٌ لم يُعْرَفْ له مُخَالِفٌ من عَصْرِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إلَى زَمَنِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ الْإِنْكَارُ خُرُوجًا عن الْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذه الْكَفَالَةَ أُضِيفَتْ إلَى مَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ أَصْلُهُ الْكَفَالَةُ بِالدَّيْنِ
وَقَوْلُهُ الْكَفَالَةُ الْتِزَامُ الدَّيْنِ مَمْنُوعٌ بَلْ هِيَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَضْمُونٍ على الأصلي ( ( ( الأصيل ) ) ) وقد يَكُونُ ذلك دَيْنًا وقد يَكُونُ عَيْنًا وَالْعَيْنُ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ في حَقِّ الْأَصِيلِ كَالدَّيْنِ
عَبْدٌ مُقَرٌّ بِالرِّقِّ في يَدِ رَجُلٍ فَأَخَذَ منه الْمَوْلَى كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فَأَبَقَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا ليس بِمَضْمُونٍ
وَكَذَا لو كَفَلَ بَعْدَ إبَاقِهِ لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو ادَّعَى رَجُلٌ على إنْسَانٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ وَأَنْكَرَ المدعي عليه وَزَعَمَ أَنَّهُ حُرٌّ وَكَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِهِ حتى لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عليه لَا شَيْءَ على الْأَصِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ كان المدعي في يَدِ ثَالِثٍ فقال أنا ضَامِنٌ لَك قِيمَةَ هذا إنْ استحقيته ( ( ( استحققته ) ) ) صَحَّتْ الْكَفَالَةُ حتى لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَاتَ الْمُدَّعَى عليه فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ كُلَّ قِيمَتِهِ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونِ صَبِيٍّ في يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَضَمِنَ له إنْسَانٌ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وقد مَاتَ الصَّبِيُّ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَضْمُونٍ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ ادَّعَى على إنْسَانٍ أَنَّهُ غَصَبَهُ عَبْدًا فَقَبْلَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ قال رَجُلٌ أنا ضَامِنٌ بِالْعَبْدِ الذي يَدَّعِي فَهُوَ ضَامِنٌ حتى يَأْتِيَ بِالْعَبْدِ فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عليه لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وهو إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي فَإِنْ هَلَكَ وَاسْتَحَقَّهُ بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ بِعَيْنٍ مضمون ( ( ( مضمونا ) ) ) بِنَفْسِهِ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ غصبه ( ( ( غضبه ) ) ) أَلْفَ دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكَهَا أو عَبْدًا وَمَاتَ في يَدِهِ فقال رَجُلٌ خَلِّهِ فَأَنَا ضَامِنُ الْمَالِ أو لَقِيمَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ ضَامِنٌ يَأْخُذُهُ بِهِ من سَاعَتِهِ وَلَا يَقِفُ على إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ أنا ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْقِيمَةِ وَاجِبَةً على الْأَصِيلِ فَقَدْ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَلَا يَقِفُ على الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ ما عُرِفَ وُجُوبُ الْقِيمَةِ بِإِقْرَارِهِ بَلْ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَتَوَقَّفَ عليها
وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ على الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وهو أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عن الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ ليس بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عن نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ بِمَضْمُونٍ
وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ من عليه الْقِصَاصُ في النَّفْسِ وما دُونَهَا وَبِحَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ إذَا بَذَلَهَا الْمَطْلُوبُ فَأَعْطَاهُ بها كَفِيلًا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَتَصِحُّ كَالْكَفَالَةِ بِتَسْلِيمِ نَفْسِ من عليه الدَّيْنُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ من إعْطَاءِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الطَّلَبِ هل يَجْبُرُهُ الْقَاضِي عليه قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَجْبُرُهُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجْبُرُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن نَفْسَ من عليه الْقِصَاصُ وَالْحَدُّ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ عليه عِنْدَ الطَّلَبِ كَنَفْسِ من عليه الدَّيْنُ ثُمَّ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِنَفْسِ من عليه الدَّيْنُ وَيُجْبَرُ عليها عِنْدَ الطَّلَبِ فَكَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ
____________________

(6/8)


وَثِيقَةً وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا على الدَّرْءِ فَلَا يُنَاسِبُهَا التَّوْثِيقُ بِالْجَبْرِ على الْكَفَالَةِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْحَبْسُ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ قبل تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ وَالْحَبْسُ تَوْثِيقٌ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتُّهْمَةِ لَا لِلتَّوْثِيقِ لِأَنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ أو شَاهِدٍ وَاحِدٍ لَا تَخْلُو عن إيرَاثِ تُهْمَةٍ فَكَانَ الْحَبْسُ لِأَجْلِ التُّهْمَةِ دُونَ التَّوْثِيقِ وَيَجُوزُ الْجَبْرُ على إعْطَاءِ الْكَفِيلِ في التَّعْزِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَالُ لِدَرْئِهِ لِكَوْنِهِ حَقَّ الْعَبْدِ
وَأَمَّا الدَّيْنُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ على الْأَصِيلِ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ
وَالنَّوْعُ الثالث ( ( ( الثاني ) ) ) أَنْ يَكُونَ الْمَكْفُولُ بِهِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مُفِيدًا فَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ من الْكَفِيلِ فَلَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ فَائِدَتَهَا وَهَهُنَا شَرْطٌ ثَالِثٌ لَكِنَّهُ يَخُصُّ الدَّيْنَ وهو أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عن الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ ليس بِدَيْنٍ لَازِمٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عن نَفْسِهِ بِالتَّعْجِيزِ لَا بِالْكَسْبِ فَلَوْ أَجَزْنَا الْكَفَالَةَ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَكَانَ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَمْلِكَ الْكَفِيلُ إسْقَاطَهُ عن نَفْسِهِ كما يَمْلِكُ الْأَصِيلُ وَإِمَّا أَنْ لَا يَمْلِكَ فَإِنْ مَلَكَ لَا تُفِيدُ الْكَفَالَةُ وَإِنْ لم يَمْلِكْ لم يَكُنْ هذا الْتِزَامَ ما على الْأَصِيلِ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّصَرُّفُ كَفَالَةً وَلِأَنَّا لو أَجَزْنَا هذه الْكَفَالَةَ لَكَانَ الدَّيْنُ على الْكَفِيلِ أَلْزَمَ منه على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عَاجِزًا بَطَلَ عنه الدَّيْنُ
وَلَوْ مَاتَ الْكَفِيلُ عَاجِزًا مُفْلِسًا لم يَبْطُلْ عنه الدَّيْنُ فَكَانَ الْحَقُّ على الْكَفِيلِ أَلْزَمَ منه على الْأَصِيلِ وَهَذَا خِلَافُ ما تُوجِبُهُ الْأُصُولُ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ جَوَازُهَا بِالْعُرْفِ فَلَا تَجُوزُ فِيمَا لَا عُرْفَ فيه وَلَا عُرْفَ في الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ
وَكَذَا لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عن الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ سِوَى دَيْنِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُ من الدُّيُونِ إنَّمَا وَجَبَ لِلْمَوْلَى عليه بِمَشِيئَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا لُزُومُ الْكِتَابَةِ عليه لَمَا وَجَبَ عليه دَيْنٌ آخَرُ فَكَانَ دَيْنُ الْكِتَابَةِ أَصْلًا لِوُجُوبِ دَيْنٍ آخَرَ عليه فلما لم تَجُزْ الْكَفَالَةُ بِالْأَصْلِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزَ بِالْفَرْعِ أَوْلَى وَأَحْرَى
وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ السِّعَايَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عليه دَيْنٌ وَكَوْنُ الْمَكْفُولِ بِهِ مَعْلُومَ الذَّاتِ في أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ أو مَعْلُومَ الْقَدْرِ في الدَّيْنِ ليس بِشَرْطٍ حتى لو كَفَلَ بِأَحَدِ شَيْئَيْنِ غير عَيْنٍ بِأَنْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أو بِمَا عليه وهو أَلْفٌ جَازَ وَعَلَيْهِ أَحَدُهُمَا أَيَّهُمَا شَاءَ لِأَنَّ هذه جَهَالَةٌ مَقْدُورَةُ الدَّفْعِ بِالْبَيَانِ فَلَا تَمْنَعُ جَوَازَ الْكَفَالَةِ
وَكَذَا إذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ أو بِمَا عليه أو بِنَفْسِ رَجُلٍ آخَرَ أو بِمَا عليه جَازَ وَيَبْرَأُ بِدَفْعِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الطَّالِبِ
وَلَوْ كَفَلَ عن رَجُلٍ بِمَا لِفُلَانٍ عليه أو بِمَا يُدْرِكُهُ في هذا الْبَيْعِ جَازَ لِأَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلِمَنْ جاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأنا بِهِ زَعِيمٌ } أَجَازَ اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ الْكَفَالَةَ بِحِمْلِ الْبَعِيرِ مع أَنَّ الْحِمْلَ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ ضَمِنَ رَجُلٌ بِالْعُهْدَةِ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ ضَمَانَ الْعُهْدَةِ في مُتَعَارَفِ الناس ضَمَانُ الدَّرْكِ وهو ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وَذَلِكَ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعُهْدَةَ تَحْتَمِلُ الدَّرْكَ وَتَحْتَمِلُ الصَّحِيفَةَ وهو الصَّكُّ وَأَحَدُهُمَا وهو الصَّكُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ فَدَارَتْ الْكَفَالَةُ بِالْعُهْدَةِ بين أَنْ تَكُونَ بِمَضْمُونٍ وَغَيْرِ مَضْمُونٍ فَلَا تَصِحُّ مع الشَّكِّ فلم يَكُنْ عَدَمُ الصِّحَّةِ عِنْدَهُ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ بِهِ بَلْ لِوُقُوعِ الشَّكِّ في وُجُودِ شَرْطِ الْجَوَازِ وهو كَوْنُهُ مَضْمُونًا على الْأَصِيلِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ هو ضَمَانُ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ وإذا اُسْتُحِقَّ الْمَبِيعُ يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ أَوَّلًا فإذا قَضَى عليه بِالثَّمَنِ يَكُونُ قَضَاءً على الْكَفِيلِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ من أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَيْسَ له أَنْ يُخَاصِمَ الْكَفِيلَ أَوَّلًا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال الْكَفِيلُ يَكُونُ خَصْمًا
هذا إذَا كان الْمَبِيعُ ما سِوَى الْعَبْدِ فَإِنْ كان عَبْدًا فَظَهَر أَنَّهُ حُرٌّ بِالْبَيِّنَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا سِوَى الِاسْتِحْقَاقِ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أو بِخِيَارِ الشَّرْطِ أو بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ لِأَنَّ ذلك ليس من الدَّرْكِ
وَلَوْ أَخَذَ الْمُشْتَرِي رَهْنًا بِالدَّرْكِ لَا يَصِحُّ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَالْفَرْقُ عُرِفَ في مَوْضِعِهِ وَلَوْ بَنَى الْمُشْتَرِي في الدَّارِ بِنَاءً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ وَنُقِضَ عليه الْبِنَاءُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ على بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ بِنَائِهِ مَبْنِيًّا إذَا سَلَّمَ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَإِنْ لم يُسَلِّمْ لَا يَرْجِعْ عليه إلَّا بِالثَّمَنِ خَاصَّةً في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالتَّالِفِ
وَلَوْ سَلَّمَ النَّقْضَ
____________________

(6/9)


إلَى الْبَائِعِ وَقَضَى عليه بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا له أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالثَّمَنِ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهمَا شَاءَ بِهِمَا جميعا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا من الْبَائِعِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا من الْكَفِيلِ بِالدَّرْكِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْبَائِعِ إنْ كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ جَعَلَ الطَّحَاوِيُّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ وهو غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ من الدَّرَكِ ضَمَانُ الْمُشْتَرِي في مُتَعَارَفِ الناس فَلَا تَكُونُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ دَاخِلَةً تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمَبِيعُ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَأَخَذَ منه قِيمَةَ الْجَارِيَةِ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ فإن الْمُشْتَرِيَ يَأْخُذُ الثَّمَنَ من أَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يُؤَاخَذُ الْكَفِيلُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الْوَلَدِ من الْبَائِعِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرْكِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وَلَوْ كَفَلَ بماله على فُلَانٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عليه بِأَلْفٍ ضَمِنَهَا الْكَفِيلُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وَإِنْ لم تَقُمْ الْبَيِّنَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ مع يَمِينِهِ في مِقْدَارِ ما يُقِرُّ بِهِ أَمَّا الْقَوْلُ قَوْلُهُ في الْمُقِرِّ بِهِ لِأَنَّهُ مَالٌ لَزِمَ بِالْتِزَامِهِ فَيُصَدَّقُ في الْقَدْرِ الْمُلْتَزَمِ كما إذَا أَقَرَّ على نَفْسِهِ بِمَالٍ مَجْهُولٍ
وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الزِّيَادَةَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ في الشَّرْعِ وَلَوْ أَقَرَّ الْمَكْفُولُ عنه بِأَكْثَرَ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ لم يُصَدِّقْهُ على كَفِيلِهِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ في حَقِّ نَفْسِهِ مُدَّعٍ في حَقِّ غَيْرِهِ وَلَا يَظْهَرُ صِدْقُ الْمُدَّعِي إلَّا بِحُجَّةٍ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْكَفَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لِلْكَفَالَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ بِمَا على الْأَصِيلِ عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَيَطَّرِدُ هذا الْحُكْمُ في سَائِرِ أَنْوَاعِ الْكَفَالَاتِ لِأَنَّ الْكُلَّ في احْتِمَالِ هذا الْحُكْمِ على السَّوَاءِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ مَحَلُّ الْحُكْمِ من الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ وَالْفِعْلِ فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ على الْأَصِيلِ لَا عليه فَالدَّيْنُ على وَاحِدٍ وَالْمُطَالَبُ بِهِ اثْنَانِ غير أَنَّ الْكَفِيلَ إنْ كان وَاحِدًا يُطَالَبُ بِكُلِّ الدَّيْنِ
وَإِنْ كان بِهِ كَفِيلَانِ وَالدَّيْنُ أَلْفٌ يُطَالَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ إذَا لم يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في الْكَفَالَةِ وَالْمَكْفُولِ بِهِ يَحْتَمِلُ الِانْقِسَامَ فَيَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا في حَقِّ الْمُطَالَبَةِ كما في الشِّرَاءِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ بِإِحْضَارِ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ إنْ لم يَكُنْ غَائِبًا
وَإِنْ كان غَائِبًا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ إلَى مُدَّةٍ يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ فيها فَإِنْ لم يَحْضُر في الْمُدَّةِ ولم يَظْهَرْ عَجْزُهُ لِلْقَاضِي حَبْسُهُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ عَجْزُهُ له فإذا عَلِمَ الْقَاضِي ذلك بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أو غَيْرِهَا أَطْلَقَهُ وَأَنْظَرَهُ إلَى حَالِ الْقُدْرَةِ على إحْضَارِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُفْلِسِ لَكِنْ لَا يَحُولُ بين الطَّالِبِ وَالْكَفِيلِ بَلْ يُلَازِمُهُ من الطَّالِبِ وَلَا يَحُولُ الطَّالِبُ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَشْغَالِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ من الْكَسْبِ وَغَيْرِهِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِالْعَيْنِ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إنْ كانت قَائِمَةً وَمِثْلِهَا أو قِيمَتِهَا إنْ كانت هَالِكَةً وَيُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَبِالْفِعْلِ بِهِمَا
وقال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالدَّيْنِ وُجُوبُ أَصْلِ الدَّيْنِ على الْكَفِيلِ وَالْمُطَالَبَةُ مرتبة ( ( ( مرتب ) ) ) عليه فَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ عليه لَا على الأصلي ( ( ( الأصيل ) ) ) كما يُطَالَبُ الْأَصِيلُ بِدَيْنٍ عليه لَا على الْكَفِيلِ فَيَتَعَدَّدُ الدَّيْنُ حَسْبَ تَعَدُّدِ الْمُطَالَبَةِ وَبِهِ أَخَذَ شَيْخُهُ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَزَعَمَ أَنَّ هذا يَمْنَعُ من صِحَّةِ الْكَفَالَةِ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ وَالنَّفْسِ وَالْفِعْلِ لِأَنَّ هذا الْحُكْمَ لَا يَتَحَقَّقُ في الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ الدَّيْنِ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكَفَالَاتِ أَنْوَاعٌ لِكُلِّ نَوْعٍ حُكْمٌ على حِدَةٍ فَانْعِدَامُ حُكْمِ نَوْعٍ منها لَا يَدُلُّ على انْعِدَامِ حُكْمِ نَوْعٍ آخَرَ فَأَمَّا بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ فَلَيْسَ حُكْمَ الْكَفَالَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَالَبَ الْأَصِيلَ وَإِنْ شَاءَ طَالَبَ الْكَفِيلَ إلَّا إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لِأَنَّهَا حَوَالَةٌ مَعْنًى أو كانت مُقَيَّدَةً بِمَا عليه من الدَّيْنِ لِأَنَّهَا في مَعْنَى الْحَوَالَةِ أَيْضًا
وقال ابن أبي لَيْلَى أن الْكَفَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تنبىء عن الضَّمِّ وهو ضَمُّ دمة ( ( ( ذمة ) ) ) إلَى ذِمَّةٍ في حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا على الْأَصِيلِ أو في حَقِّ أَصْلِ الدَّيْنِ وَالْبَرَاءَةُ تُنَافِي الضَّمَّ وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ لو كانت مُبَرِّئَةً لَكَانَتْ حَوَالَةً وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ لِأَنَّ تَغَايُرَ الْأَسَامِي دَلِيلُ تَغَايُرِ الْمَعَانِي في الْأَصْلِ وَأَيَّهمَا اخْتَارَ مُطَالَبَتَهُ لَا يَبْرَأُ الْآخَرُ بَلْ يَمْلِكُ مُطَالَبَتَهُ
فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إن لِلْمَالِكِ أَنْ يَضْمَنْ أَيَّهمَا شَاءَ فإذا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا لَا يَمْلِكُ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْآخَرِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فإذا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَقَدْ هَلَكَ الْمَضْمُونُ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الطَّالِبِ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا بِالْمَضْمُونِ
____________________

(6/10)


لَا يَتَضَمَّنُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ فَهُوَ الْفَرْقُ وَكَذَا فَرَّقُوا بين هذا وَبَيْنَ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وهو مُوسِرٌ حتى يَثْبُتَ لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ اخْتِيَارَ تَضْمِينِ الْمُعْتِقِ وَاسْتِسْعَاءِ الْعَبْدِ فَاخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا يُبْطِلُ اخْتِيَارَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ الضَّمَانَ صَارَ نَصِيبُهُ مَنْقُولًا إلَى الْمُعْتَقِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّ الْمَضْمُونَاتِ تُمَلَّكُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَلَوْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ يَسْعَى وهو رَقِيقٌ وَإِنَّمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَلَا تَنَافٍ هَهُنَا لِأَنَّ الطَّالِبَ لَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ بِاخْتِيَارِ الْمُطَالَبَةِ فَيَمْلِكُ مُطَالَبَةَ الْآخَرِ وَالثَّانِي ثُبُوتُ وِلَايَةِ مُطَالَبَةِ الْكَفِيلِ الْأَصِيلَ إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ في الْأَنْوَاعِ كُلِّهَا
ثُمَّ إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَطَالَبَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ إلَى الطَّالِبِ إذَا طَالَبَهُ وَإِنْ كانت بِالْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ يُطَالَبُ بِتَسْلِيمِ عَيْنِهَا إذَا كانت قَائِمَةً وَتَسْلِيمِ مِثْلِهَا أو قِيمَتِهَا إذَا كانت هَالِكَةً إذَا طُولِبَ بِهِ
وَإِنْ كانت بِفِعْلِ التَّسْلِيمِ وَالْحَمْلِ يُطَالَبُ بِهِمَا وَإِنْ كانت بِدَيْنٍ يُطَالِبُهُ بِالْخَلَاصِ إذَا طُولِبَ فَكَمَا طُولِبَ الْكَفِيلُ طَالَبَ هو الْمَكْفُولَ عنه بِالْخَلَاصِ وَإِنْ حَبَسَ فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْمَكْفُولَ عنه لِأَنَّهُ هو الذي أَوْقَعَهُ في هذه الْعُهْدَةِ فَكَانَ عليه تَخْلِيصُهُ منها
وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ مُلَازَمَةِ الْأَصِيلِ إذَا لُوزِمَ وَلَا حَقُّ الْحَبْسِ إذَا حُبِسَ وَلَيْسَ له أَنْ يُطَالِبَ بِالْمَالِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ هو وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْمُطَالَبَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ وَالتَّمْلِيكِ على ما نَذْكُرُهُ وَكُلُّ ذلك يَقِفُ على الْأَدَاءِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ أَنَّ له وِلَايَةَ مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ بِالثَّمَنِ بَعْدَ الشِّرَاءِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ هو من مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّمَنَ يُقَابِلُ الْمَبِيعَ وَالْمِلْكُ في الْمَبِيعِ كما وَقَعَ وَقَعَ لِلْمُوَكِّلِ فكأن الثَّمَنُ عليه فَكَانَ له أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ وَهُنَا الْمُطَالَبَةُ بِسَبَبِ الْقَرْضِ أو التَّمْلِيكِ ولم يُوجَدْ هُنَا وإذا أَدَّى كان له أَنْ يَرْجِعَ عليه إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالْأَمْرِ في حَقِّ الْمَطْلُوبِ اسْتِقْرَاضٌ وهو طَلَبُ الْقَرْضِ من الْكَفِيلِ وَالْكَفِيلُ بِأَدَاءِ الْمَالِ مُقْرِضٌ من الْمَطْلُوبِ وَنَائِبٌ عنه في الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ وفي حَقِّ الطَّالِبِ تَمْلِيكُ ما في ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ من الْكَفِيلِ بِمَا أُخِذَ من الْمَالِ وَالْمُقْرِضُ يَرْجِعُ على الْمُسْتَقْرِضِ بِمَا أَقْرَضَهُ وَالْمُشْتَرِي يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِالْبَيْعِ لَا غير هذا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ
أَمَّا الْكَفِيلُ بِالْمَالِ فَإِنَّمَا يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أو ما هو في مَعْنَى الْأَدَاءِ سَوَاءٌ كان الْأَدَاءُ من الْكَفِيلِ أو من الْأَصِيلِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ للتوصل ( ( ( للتوسل ) ) ) إلَى الْأَدَاءِ فإذا وُجِدَ فَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْعَقْدِ وَكَذَا إذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ من الْكَفِيلِ أو من الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ بِهِ على الْكَفِيلِ أو على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَمْلِيكٌ كَالْهِبَةِ فَكَانَ هو وَأَدَاءُ الْمَالِ سَوَاءً كَالْهِبَةِ
وَالثَّانِي الإبراه ( ( ( الإبراء ) ) ) وما هو في مَعْنَاهُ فإذا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ أو الْأَصِيلَ خَرَجَ عن الْكَفَالَةِ غير أَنَّهُ إذَا أَبْرَأَ الْكَفِيلَ لَا يَبْرَأُ الْأَصِيلُ وإذا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الدَّيْنَ على الْأَصِيلِ لَا على الْكَفِيلِ إنَّمَا عليه حَقُّ الْمُطَالَبَةِ فَكَانَ إبراه ( ( ( إبراء ) ) ) الْأَصِيلِ إسْقَاطَ الدَّيْنِ عن ذِمَّتِهِ فإذا سَقَطَ الدَّيِّنُ عن ذِمَّتِهِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ ضَرُورَةً لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ
فَأُمًّا إبراه ( ( ( إبراء ) ) ) الْكَفِيلِ فَإِبْرَاؤُهُ عن الْمُطَالَبَةِ لَا عن الدِّينِ إذْ لَا دَيْنَ عليه وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ إسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ عن الْكَفِيلِ سُقُوطِ أَصْلِ الدَّيْنِ عن الْأَصِيلِ لَكِنْ يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ عن الْكَفِيلِ فإذا سَقَطَ تَنْتَهِي إلَّا أَنَّ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَكَذَا الْهِبَةُ منه أو التَّصَدُّقُ عليه وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَالْهِبَةِ منه وَالتَّصَدُّقِ عليه وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا ارْتَدَّتْ هذه التَّصَرُّفَاتُ بِرَدِّ الْأَصِيلِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّتِهِ وَهَلْ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ بِالدَّيْنِ إلَى الْكَفِيلِ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلُ أو وَهَبَ منه بَعْدَ مَوْتِهِ فَرَدَّ وَرَثَتُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرْتَدُّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا بِمَنْزِلَةِ ما لو أَبْرَأَهُ حَالَ حَيَاتِهِ ثُمَّ مَاتَ قبل الرَّدِّ وَهُنَاكَ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ إبْرَاءَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إبْرَاءٌ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ من مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِبْرَاءُ الْوَرَثَةِ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِدَيْنِهِ بِوَجْهٍ فَاقْتَصَرَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ عليه فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْوَرَثَةِ
وَكَذَا لو قال الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ من الْمَالِ لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ غَايَةً لِبَرَاءَتِهِ وَالْبَرَاءَةُ التي هِيَ غَايَتُهَا
____________________

(6/11)


نَفْسُهُ هِيَ بَرَاءَةُ الْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَبَرِئَا جميعا
لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ يُوجِبُ بَرَاءَتَهُمَا جميعا فَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ إذَا كانت الْكَفَالَةُ بِأَمْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ قال بَرِئْتُ من الْمَالِ ولم يَقُلْ إلَيَّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَهَذَا وَقَوْلُهُ بَرِئْتُ إلى سَوَاءٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ وَهَذَا وَقَوْلُهُ أَبْرَأْتُكَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَرَاءَةَ عن الْمَالِ قد تَكُونُ بِالْأَدَاءِ وقد تَكُونُ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا تُحْمَلُ على الْأَدَاءِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ وقد وُجِدَ ذلك في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وهو قَوْلُهُ إلَيَّ لِأَنَّ ذلك ينبى عن مَعْنَى الْأَدَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا ولم يُوجَدْ هُنَا فيحمل ( ( ( فتحمل ) ) ) على الْإِبْرَاءِ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ في الْأَصْلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْبَرَاءَةَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمَالِ تُسْتَعْمَلُ في الْأَدَاءِ عُرْفًا وَعَادَةً فَتُحْمَلُ عليه وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ من الْكَفَالَةِ بِشَرْطٍ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَوْ أَحَالَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ بِمَالِ الْكَفَالَةِ على رَجُلٍ وَقَبِلَهُ الطَّالِبُ فَالْمُحْتَالُ عليه يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَكَذَا إذَا أَحَالَهُ الْمَطْلُوبُ بِمَالِ الْكَفَالَةِ على رَجُلٍ وَقَبِلَهُ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ عن الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جميعا عِنْدَ عَامَّةِ مَشَايِخِنَا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ مُبَرِّئَةٌ عن الْمُطَالَبَةِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ
وَالْأَصِيلِ مُخْرِجٌ عن الْكَفَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَخْرُجُ الْكَفِيلُ عن الْكَفَالَةِ بِالْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ عِنْدَهُ لَيْسَتْ بِمُبَرِّئَةٍ أَصْلًا لِمَا يَأْتِي في كِتَابِ الْحَوَالَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِالصُّلْحِ كما يَخْرُجُ بِالْحَوَالَةِ بِأَنْ يُصَالِحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ على بَعْضِ المدعي لِأَنَّ الصُّلْحَ على جِنْسِ المدعي إسْقَاطُ بَعْضِ الْحَقِّ فَكَانَ فيه مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَعَلَى خِلَافِ الْجِنْسِ مُعَاوَضَةٌ فَكَانَ في مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَكُلُّ ذلك يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ غير أَنَّ في حَالَيْنِ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جميعا وفي حَالٍ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ دُونَ الْأَصِيلِ
أَمَّا الْحَالَتَانِ اللَّتَانِ برىء فِيهِمَا الْكَفِيلُ وَالْأَصِيلُ جميعا
إحْدَاهُمَا أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُكَ من الْأَلْفِ على خَمْسِمِائَةٍ على أَنِّي وَالْمَكْفُولُ عنه بَرِئَانِ من الْخَمْسمِائَةِ الْبَاقِيَةِ وَيَكُونُ الطَّالِبُ في الْخَمْسمِائَةِ التي وَقَعَ عليها الصُّلْحُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أخدها ( ( ( أخذها ) ) ) من الْكَفِيلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ يرجع ( ( ( يرفع ) ) ) بها على الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهَا من الْأَصِيلِ
وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَقُولَ صَالِحَتُكَ على خَمْسِمِائَةٍ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْبَرَاءَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا قبل هذا أَنَّ الْإِبْرَاءَ الْمُضَافَ إلَى الْمَالِ الْمُجَرَّدِ عن شَرْطِ الْبَرَاءَةِ الْمُضَافَةِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءٌ عن الدَّيْنِ وَالدَّيْنُ وَاحِدٌ فإذا سَقَطَ عن الْأَصِيلِ سَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عن الْكَفِيلِ
وَأَمَّا الْحَوَالَةُ التي يَبْرَأُ الْكَفِيلُ فيها دُونَ الْأَصِيلِ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْكَفِيلُ لِلطَّالِبِ صَالَحْتُك على أَنِّي بَرِيءٌ من الْخَمْسمِائَةِ وقد بَيَّنَّا الْفَرْقَ من قَبْلُ وَالطَّالِبُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ جَمِيعَ دَيْنِهِ من الْأَصِيلِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكَفِيلِ خَمْسِمِائَةٍ وَمِنْ الْأَصِيلِ خَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ بِمَا أَدَّى إنْ كان الصُّلْحُ بِأَمْرِهِ
وَأَمَّا الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ فَيَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أحداها تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى الطَّالِبِ وهو التَّخْلِيَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ في مَوْضِعٍ يَقْدِرُ على إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ في مِثْلِ هذا الْمَوْضِعِ مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ من الْعَقْدِ وهو إمْكَانُ اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي فإذا حَصَلَ الْمَقْصُودُ يَنْتَهِي حُكْمُهُ فَيَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ
وَلَوْ سَلَّمَهُ في صَحْرَاءَ أو بَرِيَّةٍ لَا يَخْرُجُ لِأَنَّهُ لم يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ وَلَوْ سَلَّمَ في السُّوقِ أو في الْمِصْرِ يَخْرُجُ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْكَفَالَةَ أو قَيَّدَهَا بِالتَّسْلِيمِ في مَجْلِسِ الْقَاضِي أَمَّا إذَا أَطْلَقَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ يَقْدِرُ على إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْقَاضِي بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ وَكَذَا إذَا قَيَّدَ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ في هذه الْأَمْكِنَةِ تَسْلِيمٌ في مَجْلِسِ الْقَاضِي بِوَاسِطَةٍ وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يُسَلِّمَهُ في مِصْرٍ مُعَيَّنٍ فَسَلَّمَهُ في مِصْرٍ آخَرَ يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَخْرُجُ عنها إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ في الْمِصْرِ الْمَشْرُوطِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْمِصْرِ مُفِيدٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلطَّالِبِ بَيِّنَةٌ يَقْدِرُ على إقَامَتِهَا فيه دُونَ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فَيَتَقَيَّدُ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من تَسْلِيمِ النَّفْسِ هو الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ بِالْمُرَافَعَةِ إلَى الْقَاضِي وَهَذَا الْغَرَضُ مُمْكِنُ الِاسْتِيفَاءِ من كل قَاضٍ فَلَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ وَلَوْ سَلَّمَهُ في السَّوَادِ وَلَا قَاضِي فيه لَا يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ في مِثْلِ هذا الْمَكَانِ لَا يَصْلُحُ وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ فَكَانَ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ شَرَطَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْأَمِيرِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي يَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ
وَكَذَا إذَا عُزِلَ الْأَمِيرُ وَوُلِّيَ غَيْرُهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ عِنْدَ الثَّانِي لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عِنْدَ كل من وُلِّيَ ذلك مُحَصِّلٌ لِلْمَقْصُودِ فلم يَكُنْ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فَلَا يَتَقَيَّدُ وَلَوْ كَفَلَ جَمَاعَةً بِنَفْسِ
____________________

(6/12)


رَجُلٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً فَأَحْضَرَهُ أَحَدُهُمْ برؤوا ( ( ( برئوا ) ) ) جميعا وَإِنْ كانت الْكَفَالَةُ مُتَفَرِّقَةً لم يَبْرَأْ الْبَاقُونَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَةِ الْوَاحِدَةِ فِعْلٌ وَاحِدٌ وهو الْإِحْضَارُ وقد حَصَلَ ذلك بِوَاحِدٍ وَالدَّاخِلَ تَحْتَ الْكَفَالَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ أَفْعَالٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِإِحْضَارِ وَاحِدٍ الْإِبْرَاءُ بِهِ فَيَبْرَأُ هو دُونَ الْبَاقِينَ وَلَيْسَ هذا كما إذَا كَفَلَ جَمَاعَةً بِمَالِ وَاحِدٍ كَفَالَةً وَاحِدَةً أو مُتَفَرِّقَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمْ برىء الْبَاقُونَ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَسْقُطُ عن الْأَصِيلِ بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَبْقَى على الْكَفِيلِ لِمَا مَرَّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لم يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ ما عليه وهو كَذَا فَلَقِيَ الرَّجُلُ الطَّالِبَ فَخَاصَمَهُ الطَّالِبُ وَلَازَمَهُ فَالْمَالُ على الْكَفِيلِ وَإِنْ لَازَمَهُ إلَى آخِرِ الْيَوْمِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْكَفِيلِ الْمُوَافَاةُ بِهِ
وَلَوْ قال الرَّجُلُ لِلطَّالِبِ قد دَفَعْتُ نَفْسِي إلَيْكَ عن كَفَالَةٍ فلان يَبْرَأَ الْكَفِيلُ من الْمَالِ سَوَاءٌ كانت الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أو لَا لِأَنَّهُ أَقَامَ نَفْسَهُ مَقَامَ الْكَفِيلِ في التَّسْلِيمِ عنه فَيَصِحُّ التَّسْلِيمُ كَمَنْ تَبَرَّعَ بِقَضَاءِ دَيْنِ غَيْرِهِ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ على الْقَبُولِ وَهُنَا يُجْبَرُ عليه
وَالْفَرْقُ أَنَّ انْعِدَامَ الْجَبْرِ على الْقَبُولِ في بَابِ الْمَالِ لِلتَّحَرُّزِ عن لُحُوقِ الْمِنَّةِ الْمَطْلُوبَةِ من جِهَةِ الْمُتَبَرِّعِ لِأَنَّ نَفْسَهُ رُبَّمَا لَا تُطَاوِعُهُ بِتَحَمُّلِ الْمِنَّةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مَعْدُومٌ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ وَاجِبٌ عليه وَلَا مِنَّةَ في أَدَاءِ الْوَاجِبِ سَوَاءٌ كانت الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بِأَمْرِهِ أو بِغَيْرِ أَمْرِهِ لِأَنَّ نَفْسَهُ مَضْمُونُ التَّسْلِيمِ في الْحَالَيْنِ
وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ من الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ خَرَجَ عن الْكَفَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وقد أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عنه بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي الْحَقُّ ضَرُورَةً وَلَا يَكُونُ هذا الْإِبْرَاءُ لِلْأَصِيلِ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْمُطَالَبَةَ عنه دُونَ الْأَصِيلِ
وَلَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ بَرِئَا جميعا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وقد بَطَلَ الضَّمَانُ بِالْإِبْرَاءِ فَيَنْتَهِي حُكْمُ الْكَفَالَةِ
وَالثَّالِثُ مَوْتُ الْمَكْفُولِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ على الْأَصِيلِ وقد سَقَطَ الضَّمَانُ عنه فَيَسْقُطُ عن الْكَفِيلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكَفِيلُ بِالْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا وَالْأَفْعَالِ الْمَضْمُونَةِ تَخْرُجُ عن الْكَفَالَةِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا تَسْلِيمُ الْعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ بِنَفْسِهَا إنْ كانت قَائِمَةً وَتَسْلِيمُ مِثْلِهَا أو قِيمَتِهَا إنْ كانت هَالِكَةً وَيَحْصُلُ الْفِعْلُ الْمَضْمُونُ وهو التَّسْلِيمُ وَالْحَمْلُ
وَالثَّانِي الْإِبْرَاءُ فَلَا يَخْرُجُ بِمَوْتِ الْغَاصِبِ وَالْبَائِعِ وَالْمُكَارِي لِأَنَّ نَفْسَ هَؤُلَاءِ غَيْرُ مَكْفُولٍ بها حتى يَسْقُطَ بِمَوْتِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُجُوعُ الْكَفِيلِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الرُّجُوعِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في شَرَائِطِ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَرْجِعُ بِهِ أَمَّا الشَّرْطُ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ الْكَفَالَةُ بِأَمْرِ الْمَكْفُولِ عنه لِأَنَّ مَعْنَى الِاسْتِقْرَاضِ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِهِ وَلَوْ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَرْجِعُ عليه عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ تَبَرُّعٌ بِقَضَاءِ دَيْنِ الْغَيْرِ فَلَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ وهو إذْنُ من يَجُوزُ إقْرَارُهُ على نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ حتى أَنَّهُ لو كَفَلَ عن الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ بِإِذْنِهِ فَأَدَّى لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ إذْنَهُ بِالْكَفَالَةِ لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ من الْمَكْفُولِ عنه اسْتِقْرَاضٌ وَاسْتِقْرَاضُ الصَّبِيِّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الضَّمَانُ
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ فَإِذْنُهُ بِالْكَفَالَةِ صَحِيحٌ في حَقِّ نَفْسِهِ حتى يَرْجِعَ عليه بَعْدَ الْعَتَاقِ لَكِنْ لَا يَصِحُّ في حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ في الْحَالِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا إضَافَةُ الضَّمَانِ إلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ اضْمَنْ عَنِّي وَلَوْ قال اضْمَنْ كَذَا ولم يُضِفْ إلَى نَفْسِهِ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا لم يُضِفْ إلَيْهِ فَالْكَفَالَةُ لم تَقَعْ إقْرَاضًا إيَّاهُ فَلَا يَرْجِعُ عليه
وَمِنْهَا أَدَاءُ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أو ما هو في مَعْنَى الْأَدَاءِ إلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قبل الْأَدَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِقْرَاضِ وَالتَّمْلِيكِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَهُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَصِيلِ على الْكَفِيلِ دَيْنٌ مِثْلُهُ فَأَمَّا إذَا كان فَلَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ التقي الدَّيْنَانِ قِصَاصًا إذْ لو ثَبَتَ لِلْكَفِيلِ حَقُّ الرُّجُوعِ على الْأَصِيلِ لَثَبَتَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عليه أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ فَيَسْقُطَانِ جميعا
وَلَوْ وَهَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ في مَعْنَى الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَ منه فَقَدْ مَلَكَ ما في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ عليه كما إذَا مَلَكُهُ بِالْأَدَاءِ وإذا وَهَبَ الدَّيْنَ من الْأَصِيلِ برىء الْكَفِيلُ لِأَنَّ هذا وَأَدَاءَ الْمَالِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا وَهَبَهُ منه فَقَدْ مَلَكَ ما في ذِمَّتِهِ كما إذَا أَدَّى وَمَتَى برىء الْأَصِيلُ برىء الْكَفِيلُ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ
وَلَوْ مَاتَ الطَّالِبُ فَوَرِثَهُ الْكَفِيلُ
____________________

(6/13)


يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ وَلَوْ وَرِثَهُ الْأَصِيلُ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ لِأَنَّ الْإِرْثَ من أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَيَمْلِكُهُ الْأَصِيلُ وَمَتَى مَلَكَهُ برىء فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ كما إذَا أَدَّى
وَلَوْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ لَا يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وهو في حَقِّ الْكَفِيلِ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ وَلِهَذَا لَا تُوجِبُ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فلم يَكُنْ فيه مَعْنَى تَمْلِيكِ الدَّيْنِ أَصْلًا فَلَا يَرْجِعُ
وَلَوْ أَبْرَأَ للكفيل ( ( ( الكفيل ) ) ) الْمَكْفُولَ عنه مِمَّا ضَمِنَهُ بِأَمْرِهِ قبل أَدَائِهِ أو وَهَبَهُ منه جَازَ حتى لو أَدَّاهُ الْكَفِيلُ بَعْدَ ذلك لَا يَرْجِعُ عليه لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَقِّ له على الْأَصِيلِ وهو الْعَقْدُ بِإِذْنِهِ مَوْجُودٌ وَالْإِبْرَاءُ عن الْحَقِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قبل الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَالْإِبْرَاءِ عن الْأُجْرَةِ قبل مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ لم يُؤَدِّ الْكَفِيلُ ما كَفَلَ بِهِ حتى عَجَّلَ الْأَصِيلُ لِمَا كَفَلَ عنه وَدَفَعَ إلَى الْكَفِيلِ يُنْظَرُ إنْ دَفْعَهُ إلَيْهِ على وَجْهِ الْقَضَاءِ يَجُوزُ لِأَنَّ وِلَايَةَ الرُّجُوعِ على الْأَصِيلِ إنْ لم تَكُنْ ثَابِتَةً له في الْحَالِ لَكِنَّهَا ثَبَتَتْ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَأَشْبَهَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ إذَا عَجَّلَهُ الْمَطْلُوبُ قبل حِلِّ الْأَجَلِ أَنَّهُ يُقْبَلُ منه وَيَكُونُ قَضَاءً كَذَا هذا
وبرىء الْأَصِيلُ من دَيْنِ الْكَفِيلِ وَلَكِنْ لَا يَبْرَأُ عن دَيْنِ الْمَكْفُولِ له وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهمَا شَاءَ فَإِنْ أَخَذَ من الْأَصِيلِ كان له أَنْ يَرْجِعَ على الْكَفِيلِ بِمَا أَدَّى لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ قَضَاءً وَإِنْ كان الْكَفِيلُ تَصَرَّفَ في ذلك الْمُعَجَّلِ وَرَبِحَ هل يَطِيبُ له الرِّبْحُ يُنْظَرُ إنْ كان الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ يَطِيبُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا لَا يَتَعَيَّنَانِ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَحَصَلَ التَّمْلِيكُ بِإِذْنِ صَاحِبِهَا فَيَطِيبُ له الرِّبْحُ وَإِنْ كان الدَّيْنُ مَكِيلًا أو مَوْزُونًا مِمَّا يَتَعَيَّنُ في الْعَقْدِ يَطِيبُ له الرِّبْحُ أَيْضًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ ذَكَرَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَطِيبُ له الرِّبْحُ ولم يُذْكَرْ الْخِلَافُ وفي رِوَايَةٍ قال يَتَصَدَّقُ وفي رِوَايَةٍ قال أَحَبَّ إلَيَّ أَنْ يَرُدَّ الرِّبْحَ على الْمَكْفُولِ عنه
هذا إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ على وَجْهِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا دَفَعَهُ على وَجْهِ الرِّسَالَةِ لِيُؤَدِّيَ الدَّيْنَ مِمَّا دَفَعَهُ إلَيْهِ لَا على وَجْهِ الْقَضَاءِ فَتَصَرَّفَ فيه الْوَكِيلُ وَرَبِحَ لَا يَطِيبُ له الرِّبْحُ سَوَاءٌ كان الدَّيْنُ دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو غَيْرَهُمَا من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَطِيبُ وهو كَاخْتِلَافِهِمْ في الْمُودَعِ وَالْغَاصِبِ إذَا تَصَرَّفَ في الْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ وَرَبِحَ فِيهِمَا أَنَّهُ لَا يَطِيبُ له الرِّبْحُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَطِيبُ وَالْمَسْأَلَةُ تأتي في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ قال الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ بَرِئْتُ إلَيَّ من الْمَالِ يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِمَا نَذْكُرُ وفي قَوْلِهِ بَرِئْتُ من الْمَالِ اخْتِلَافٌ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هذا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ عن رَجُلٍ بِأَمْرِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حتى يَثْبُتَ لِلطَّالِبِ وَلَايَةُ مُطَالَبَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شيئا من مَالِ الْكَفَالَةِ فَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ على صَاحِبِهِ فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا أن كَفَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه وَقْتَ الْعَقْدِ أو بَعْدَهُ أو كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه دُونَ الْآخَرِ أو لم يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ أَصْلًا فَإِنْ لم يَكْفُلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ أَصْلًا لَا يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ أَدَّى عن نَفْسِهِ لَا عن صَاحِبِهِ أَصْلًا لِأَنَّهُ لم يَكْفُلْ عنه وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ على الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عنه بِأَمْرِهِ
وَإِنْ كَفَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه ولم يَكْفُلْ عنه صَاحِبُهُ بِمَا عليه فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِيمَا أَدَّى أَنَّهُ من كَفَالَةِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ أو من كَفَالَةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالْمَالِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا من جِهَةِ كَفَالَةِ نَفْسِهِ عن الْأَصِيلِ
وَالثَّانِي من جِهَةِ الْكَفَالَةِ عن صَاحِبِهِ وَلَيْسَ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ أَوْلَى من الْآخَرِ فَكَانَ له وَلَايَةُ الْأَدَاءِ عن أَيِّهِمَا شَاءَ فإذا قال أَدَّيْتُهُ عن كَفَالَةِ صَاحِبِي يُصَدَّقُ وَيُرْجَعُ عليه لِأَنَّهُ كَفَلَ عنه بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ أَدَّى الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ ثُمَّ قال ذلك أو قال ابْتِدَاءً إنِّي أودي عن كَفَالَةِ صَاحِبِي
وَكَذَا إذَا قال أَدَّيْتُهُ عن كَفَالَةِ الْأَصِيلِ فَقُبِلَ منه وَيَرْجِعُ عليه لِأَنَّهُ كَفَلَ عنه بِأَمْرِهِ سَوَاءٌ قال ذلك بَعْدَ أَدَاءِ الْمَالِ إلَى الطَّالِبِ أو عِنْدَهُ ابْتِدَاءً
وَإِنْ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه فما أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ عن نَفْسِهِ إلَى خَمْسِمِائَةٍ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فيه أَنَّهُ أَدَّى عن شَرِيكِهِ لَا عن نَفْسِهِ بَلْ يَكُونُ عن نَفْسِهِ إلَى هذا الْقَدْرِ فَلَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ
وَكَذَا إذَا قال ابْتِدَاءً أني أُؤَدِّي عن شَرِيكَيْ لَا عن نَفْسِي لَا يُقْبَلُ منه وَيَكُونُ عن نَفْسِهِ إلَى هذا الْقَدْرِ وَلَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ ما لم يَزِدْ المؤدي على خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّ الْمُؤَدِّي إلَى خَمْسِمِائَةٍ له مُعَارِضٌ وَالزِّيَادَةُ لَا مُعَارِضَ لها فإذا زَادَ على خَمْسِمِائَةٍ يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ إنْ شَاءَ على شَرِيكِهِ وَإِنْ شَاءَ على الْأَصِيلِ
وَكَذَا لو اشْتَرَى
____________________

(6/14)


رَجُلَانِ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فما أَدَّى أَحَدُهُمَا يَقَعُ عن نَفْسِهِ وَلَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ حتى يَزِيدَ على النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ الْمُتَفَاوِضَانِ إذَا افْتَرَقَا وَعَلَيْهِمَا دَيْنٌ فَلِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يُطَالِبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَيُّهُمَا أَدَّى شيئا لَا يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ حتى يَزِيدَ المؤدي على النِّصْفِ لِمَا ذَكَرْنَا
هذا إذَا كَفَلَا كَفَالَةً وَاحِدَةً ولم يَكْفُلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَأَمَّا إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَالَةً مُتَفَرِّقَةً بِجَمِيعِ الْمَالِ عن الْمَطْلُوبِ ثُمَّ كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ بِمَا عليه فما أَدَّى أَحَدُهُمَا شيئا يَرْجِعُ بِكُلِّ المؤدي على الْأَصِيلِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ على شَرِيكِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِجَمِيعِ الْمَالِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من وَجْهَيْنِ الْكَفَالَةُ عن نَفْسِهِ وَالْكَفَالَةُ عن صَاحِبِهِ على السَّوَاءِ فَيَقَعُ المؤدي نِصْفُهُ عن نَفْسِهِ وَنِصْفُهُ عن صَاحِبِهِ لِتَسَاوِيهِمَا في الْكَفَالَتَيْنِ بالمؤدي وإذا وَقَعَ نِصْفُ المؤدي عن صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عليه لِيُسَاوِيَهُ في الْأَدَاءِ كما سَاوَاهُ في الْكَفَالَةِ بالمؤدي بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصِيلٌ في نِصْفِ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ عن نَفْسِهِ كَفِيلٌ عن صَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ عنه فَيَكُونُ مُؤَدِّيًا عن نَفْسِهِ إلَى النِّصْفِ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِمَا مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّاهُ حتى لو كَفَلَ عن رَجُلٍ بِدَرَاهِمَ صِحَاحٍ جِيَادٍ فَأَعْطَاهُ مُكَسَّرَةً أو زُيُوفًا وَتَجُوزُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ يَرْجِعُ عليه بِالصِّحَاحِ الْجِيَادِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ مَلَكَ ما في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَرْجِعُ بالمؤدي وهو الصِّحَاحُ الْجِيَادُ وَلَيْسَ هذا كَالْمَأْمُورِ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ له أَنْ يَرْجِعَ بالمؤدي لَا بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ ما مَلَكَ الدَّيْن بَلْ أَقْرَضَ الْمُؤَدِّي من الْآمِرِ فَيَرْجِعُ عليه بِمَا أَقْرَضَهُ
وَكَذَلِكَ لو أَعْطَى بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ أو شيئا من الْمَكِيلِ أو الْمَوْزُونِ فإنه يَرْجِعُ عليه بِمَا كَفَلَ لَا بِمَا أَدَّى لِمَا ذَكَرْنَا بِخِلَافِ ما إذَا صَالَحَ من الْأَلْفِ على خَمْسِمِائَةٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِالْخَمْسِمِائَةِ لَا بِالْأَلْفِ لِأَنَّهُ بِأَدَاءِ الْخَمْسمِائَةِ ما مَلَكَ ما في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وهو الْأَلْفُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيقَاعُ الصُّلْحِ تَمْلِيكًا هَهُنَا لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا فَيَقَعُ إسْقَاطًا لِبَعْضِ الْحَقِّ وَالسَّاقِطُ لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ بِهِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَنْ كَفَلَ خمسة ( ( ( بخمسة ) ) ) دَنَانِيرَ فَصَالَحَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ على ثَلَاثَةٍ ولم يَقُلْ أَصَالِحُكَ على أَنْ تُبَرِّئَنِي فَالصُّلْحُ وَاقِعٌ عن الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جميعا وَبَرِئَا جميعا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ
وَلَوْ قال أُصَالِحُكَ على ثَلَاثَةٍ على أَنْ تُبَرِّئَنِي فَهَذَا بَرَاءَةٌ عن الْكَفِيلِ خَاصَّةً وَيَرْجِعُ الطَّالِبُ على الْمَطْلُوبِ بِدِينَارَيْنِ لِأَنَّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إيقَاعُ الصُّلْحِ على ثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ تَصَرُّفٌ في نَفْسِ الْحَقِّ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ فَكَانَ الصُّلْحُ وَاقِعًا عنهما جميعا فَيَبْرَآنِ جميعا وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ على الْأَصِيلِ بِثَلَاثَةِ دَنَانِيرَ لِأَنَّهُ مَلَكَ هذا الْقَدْرَ بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ بِهِ عليه
وَأَمَّا في الْفَصْلِ الثَّانِي فَإِضَافَةُ الصُّلْحِ إلَى ثَلَاثَةٍ مَقْرُونًا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ الْمُضَافِ إلَى الْكَفِيلِ إبْرَاءً لِلْكَفِيلِ عن الْمُطَالَبَةِ بِدِينَارَيْنِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ ويبقي الدِّينَارَانِ على الْأَصِيلِ فَيَأْخُذُهُ الطَّالِبُ مِنْهُمَا وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
كِتَابُ الْحَوَالَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ الْحَوَالَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عليه عن الْحَوَالَةِ وفي بَيَانِ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ هل يَرْجِعُ أَمْ لَا أَمَّا رُكْنُ الْحَوَالَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ الْإِيجَابُ من الْمُحِيلِ وَالْقَبُولُ من الْمُحَالِ عليه وَالْمُحَالِ جميعا فَالْإِيجَابُ أَنْ يَقُولَ الْمُحِيلُ لِلطَّالِبِ أَحَلْتُك على فُلَانٍ هَكَذَا وَالْقَبُولُ من الْمُحَالِ عليه وَالْمُحَالِ أَنْ يَقُولَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبِلْتُ أو رَضِيتُ أو نحو ذلك مِمَّا يَدُلُّ على الْقَبُولِ وَالرِّضَا وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لم يَكُنْ لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ فَكَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كان له عليه دَيْنٌ فَيَتِمُّ بِإِيجَابِ الْمُحِيلِ وَقَبُولِ الْمُحْتَالِ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْمُحِيلَ في هذه الصُّورَةِ مُسْتَوْفٍ حَقَّ نَفْسِهِ بِيَدِ الطَّالِبِ فَلَا يَقِفُ على قَبُولِ من عليه الْحَقُّ كما إذَا وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ وَلَيْسَ هو كَالْمُحَالِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ عليه بِنَقْلِ حَقِّهِ من ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ مع اخْتِلَافِ الذِّمَمِ فَلَا يَصِحُّ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ
وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ تَصَرُّفٌ على الْمُحَالِ
____________________

(6/15)


عليه بِنَقْلِ الْحَقِّ إلَى ذِمَّتِهِ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ وَرِضَاهُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ ليس تَصَرُّفًا عليه بِنَقْلِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً بَلْ هو تَصَرُّفٌ بِأَدَاءِ الْوَاجِبِ فَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ وَرِضَاهُ وَلِأَنَّ الناس في اقْتِضَاءِ الدُّيُونِ وَالْمُطَالَبَةِ بها على التَّفَاوُتِ بَعْضُهُمْ أَسْهَلُ مُطَالَبَةً وَاقْتِضَاءً وَبَعْضُهُمْ أَصْعَبُ فَلَا بُدَّ من قَبُولِهِ لِيَكُونَ لُزُومُ ضَرَرِ الصُّعُوبَةِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ
فصل وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحِيلِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تَصِحُّ حَوَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ كُلِّهَا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا وهو شَرْطُ النَّفَاذِ دُونَ الِانْعِقَادِ فَتَنْعَقِدُ حَوَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ مَوْقُوفًا نَفَاذُهُ على إجَازَةِ وَلِيِّهِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ بِحَالِهَا وَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بمالها خُصُوصًا إذَا كانت مُقَيَّدَةً فَتَنْعَقِدُ من الصَّبِيِّ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْمُحِيلِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ حتى تَصِحَّ حَوَالَةُ الْعَبْدِ مَأْذُونًا كان في التِّجَارَةِ أو مَحْجُورًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ بِالْتِزَامِ شَيْءٍ كَالْكَفَالَةِ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ غير أَنَّهُ إنْ كان مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ رَجَعَ عليه الْمُحَالُ عليه لِلْحَالِّ إذَا أَدَّى ولم يَكُنْ لِلْعَبْدِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ وَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَإِنْ كان مَحْجُورًا يَرْجِعُ عليه بَعْدَ الْعِتْقِ وَكَذَا الصِّحَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ لِأَنَّهَا من قِبَلِ الْمُحِيلِ لَيْسَتْ بِتَبَرُّعٍ فَتَصِحُّ من الْمَرِيضِ
وَمِنْهَا رِضَا الْمُحِيلِ حتى لو كان مُكْرَهًا على الْحَوَالَةِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءٌ فيها مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَتَفْسُدُ بِالْإِكْرَاهِ كَسَائِرِ التَّمْلِيكَاتِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ لِمَا ذَكَرْنَا وَلِأَنَّ قَبُولَهُ رُكْنٌ وَغَيْرُ الْعَاقِلِ لَا يَكُونُ من أَهْلِ الْقَبُولِ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَأَنَّهُ شَرْطُ النَّفَاذِ لَا شَرْطَ الِانْعِقَادِ فَيَنْعَقِدُ احْتِيَالُهُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ وَلِيِّهِ إنْ كان الثَّانِي أَمْلَأَ من الْأَوَّلِ وَكَذَا الْوَصِيُّ إذَا احْتَالَ بِمَالِ الْيَتِيمِ فلا تَصِحُّ إلَّا بِهَذِهِ الشَّرِيطَةِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عن قُرْبَانِ مَالِهِ إلَّا على وَجْهِ الْأَحْسَنِ لِلْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فيه { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَمِنْهَا الرِّضَا علي لو احْتَالَ مُكْرَهًا لَا تَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَا وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْحَوَالَةِ وهو شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ شَرْطُ النَّفَاذِ حتى إن الْمُحْتَالَ لو كان غَائِبًا عن الْمَجْلِسِ فَبَلَغَهُ الْخَبَرُ فَأَجَازَ لَا يَنْفُذُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَنْفُذُ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ قَبُولَهُ من أَحَدِ الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ كَلَامُهُمَا بِدُونِ شَرْطِ الْعَقْدِ فَلَا يَقِفُ على غَائِبٍ عن الْمَجْلِسِ كما في الْبَيْعِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ عليه فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها الْعَقْلُ فَلَا يَصِحُّ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ قَبُولَ الْحَوَالَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وإنه شَرْطُ الِانْعِقَادِ أَيْضًا فَلَا يَصِحُّ من الصَّبِيِّ قَبُولُ الْحَوَالَةِ أَصْلًا لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كان عَاقِلًا سَوَاءٌ كان مَحْجُورًا عليه أو مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ وَسَوَاءٌ كانت الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ أو بِأَمْرِهِ
أَمَّا إذَا كانت بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ على الْمُحِيلِ فَكَانَ تَبَرُّعًا بِابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت بِأَمْرِهِ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِابْتِدَائِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ مَحْجُورًا كان أو مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ كَالْكَفَالَةِ وَإِنْ قَبِلَ عنه وَلِيُّهُ لَا يَصِحُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَلِيُّ
وَمِنْهَا الرِّضَا حتى لو أُكْرِهَ على قَبُولِ الْحَوَالَةِ لَا يَصِحُّ
وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ وإنه شَرْطُ الِانْعِقَادِ عِنْدَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَا في جَانِبِ الْمُحِيلِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُحَالِ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ لِأَنَّهَا نَقْلُ ما في الذِّمَّةِ ولم يُوجَدْ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ لَازِمًا فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ من ( ( ( بدين ) ) ) غَيْرِ لَازِمٍ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ لِأَنَّ ذلك دَيْنٌ تَسْمِيَةً لَا حَقِيقَةً إذْ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ دَيْنٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ بِهِ
وَأَمَّا وُجُوبُ الدَّيْنِ على الْمُحَالِ عليه لِلْمُحِيلِ قبل الْحَوَالَةِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْحَوَالَةِ حتى تَصِحَّ الْحَوَالَةُ سَوَاءٌ كان لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ أو لم يَكُنْ وَسَوَاءٌ كانت الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً أو مُقَيَّدَةً
وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ الْحَوَالَةَ نَوْعَانِ مُطْلَقَةٌ وَمُقَيَّدَةٌ فَالْمُطْلَقَةُ أَنْ يُحِيلَ بِالدَّيْنِ على فُلَانٍ وَلَا يُقَيِّدُهُ بِالدَّيْنِ الذي عليه وَالْمُقَيَّدَةُ أَنْ يُقَيِّدَهُ بِذَلِكَ وَالْحَوَالَةُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ من النَّوْعَيْنِ جَائِزَةٌ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أُحِيلَ على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ من غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا أَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ تُخَالِفُ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ في أَحْكَامٍ منها إذَا أَطْلَقَ الْحَوَالَةَ ولم يَكُنْ له على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ فإن الْمُحَالَ يَطْلُبُ الْمُحَالَ عليه بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان له عليه دَيْنٌ فإن الْمُحَالَ عليه يُطَالَبُ بِدَيْنَيْنِ دَيْنِ الْحَوَالَةِ وَدَيْنِ الْمُحِيلِ فَيُطَالِبُهُ
____________________

(6/16)


الْمُحَالُ بِدَيْنِ الْحَوَالَةِ وَيُطَالِبُهُ الْمُحِيلُ بِالدَّيْنِ الذي له عليه وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحِيلِ بِدَيْنِهِ بِسَبَبِ الْحَوَالَةِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لم تَتَقَيَّدْ بِالدَّيْنِ الذي لِلْمُحَالِ عليه لِأَنَّهَا وُجِدَتْ مُطْلَقَةً عن هذه الشَّرِيطَةِ فَيَتَعَلَّقُ دَيْنُ الْحَوَالَةِ بِنَعْتِهِ وَدَيْنُ الْمُحِيلِ بَقِيَ على حَالِهِ وإذا قَيَّدَهَا بِالدَّيْنِ الذي عليه يَنْقَطِعُ حَقُّ مُطَالَبَةِ الْمُحِيلِ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بهذا الدَّيْنِ فَيَتَقَيَّدُ بِهِ وَيَكُونُ ذلك الدَّيْنُ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ عِنْدَهُ وَإِنْ لم يَكُنْ رَهْنًا على الْحَقِيقَةِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لو ظَهَرَتْ بَرَاءَةُ الْمُحَالِ عليه من الدَّيْنِ الذي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ بِأَنْ كان الدَّيْنُ ثَمَنَ مَبِيعٍ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ وَلَوْ سَقَطَ عنه الدَّيْنُ لِمَعْنًى عَارِضٍ بِأَنْ هَلَكَ الْمَبِيعُ عِنْدَ الْبَائِعِ قبل التَّسْلِيمِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ حتى سَقَطَ الثَّمَنُ عنه لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ عنه لَكِنْ إذَا أَدَّى الدَّيْنَ بَعْدَ سُقُوطِ الثَّمَنِ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى على الْمُحِيلِ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنَهُ بِأَمْرِهِ وَلَوْ ظَهَرَ ذلك في الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَبْطُلُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَقَدْ تَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِهِ فإذا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بِالدَّيْنِ وقد تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا دَيْنَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا حَوَالَةَ ضَرُورَةً وَهَذَا لَا يُوجَدُ في الْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِهِ يُوجِبُ تَقْيِيدَ الْحَوَالَةِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّيْنُ فَيَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ الْحَوَالَةَ كانت بَاطِلَةً
وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِأَلْفٍ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَهَلَكَتْ الْأَلْفُ عِنْدَ الْمُودَعِ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَلَوْ كانت الْأَلْفُ على الْمُحَالِ عليه مضمونه لَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ بِالْهَلَاكِ لِأَنَّهُ يَجِبُ عليه مِثْلُهَا
وَمِنْهَا إنه إذَا مَاتَ الْمُحِيلُ في الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عليه الدَّيْنَ إلَى الْمُحَالِ وَعَلَى الْمُحِيلِ دُيُونٌ سِوَى دَيْنِ الْمُحَالِ وَلَيْسَ له مَالٌ سِوَى هذا الدَّيْنِ لَا يَكُونُ الْمُحَالُ أَحَقَّ بِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَكُونُ أَحَقَّ بِهِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ كَالرَّهْنِ
وَلَنَا الْفَرْقُ بين الْحَوَالَةِ وَالرَّهْنِ وهو أَنَّ الْمُرْتَهِنَ اُخْتُصَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ من بَيْنِ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ يَسْقُطُ دَيْنُهُ خَاصَّةً وَلَمَّا اُخْتُصَّ بِغُرْمِهِ اُخْتُصَّ بِغُنْمِهِ لِأَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ فَأَمَّا الْمُحَالُ في الْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ فلم يَخْتَصَّ بِغُرْمِ ذلك الْمَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو توى لَا يَسْقُطُ دَيْنُهُ على الْمُحِيلِ وَالتَّوَى على الْمُحِيلِ دُونَهُ فلما لم يَخْتَصَّ بِغُرْمِهِ لم يَخْتَصَّ بِغُنْمِهِ أَيْضًا بَلْ يَكُونُ هو وَغُرَمَاءُ الْمُحِيلِ أُسْوَةً في ذلك وإذا أَرَادَ الْمُحِيلُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحَالَ عليه بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِ فَلَيْسَ له ذلك لِأَنَّ الْمَالَ الذي قُيِّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ اُسْتُحِقَّ من الْمُحَالِ عليه فَبَطَلَتْ الْحَوَالَةُ
وَلَوْ كانت الْحَوَالَةُ مُطْلَقَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا يُؤْخَذُ من الْمُحَالِ عليه جَمِيعُ الدَّيْنِ الذي عليه وَيُقْسَمُ بين غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ وَلَا يَدْخُلُ الْمُحَالُ في ذلك وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ من الْمُحَالِ عليه لِأَنَّ الْحَوَالَةَ لم تَتَعَلَّقْ بِهِ فَذَلِكَ مِلْكُ الْمُحِيلِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُحَالُ في ذلك لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ على الْمُحَالِ عليه وَلَا يَعُودُ إلَى الْمُحِيلِ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ من غُرَمَاءِ الْمُحِيلِ كَفِيلًا لِأَنَّهُ ثَبَتَ الرُّجُوعُ إلَيْهِمْ لِأَحَدِ رَجُلَيْنِ
أَمَّا الْمُحَالُ إذَا توى ما على الْآخَرِ وَأَمَّا الْمُحَالُ عليه إذَا أَدَّى الدَّيْنَ فَالْقَاضِي نُصِّبَ نَاظِرًا لِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَيُحْتَاطُ في ذلك بِأَخْذِ الْكَفِيلِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْحَوَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تعالى التَّوْفِيقُ الْحَوَالَةُ لها أَحْكَامٌ منها بَرَاءَةُ الْمُحِيلِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ الْحَوَالَةُ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمُحِيلِ وَالْحَقُّ في ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ على ما كان عليه قَبْلَهَا كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً
وَجْهُ قَوْلِهِ إن الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ كَالْكَفَالَةِ وَلَيْسَ من الْوَثِيقَةِ بَرَاءَةُ الْأَوَّلِ بَلْ الْوَثِيقَةُ في مُطَالَبَةِ الثَّانِي مع بَقَاءِ الدَّيْنِ على حَالِهِ في ذِمَّةِ الْأَوَّلِ من غَيْرِ تَغْيِيرٍ كما في الْكَفَالَةِ سَوَاءً
وَلَنَا أَنَّ الْحَوَالَةَ مُشْتَقَّةٌ من التَّحْوِيلِ وهو النَّقْلُ فَكَانَ مَعْنَى الِانْتِقَالِ لَازِمًا فيها وَالشَّيْءُ إذَا انْتَقَلَ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَبْقَى في الْمَحِلِّ الْأَوَّلِ ضَرُورَةٌ وَمَعْنَى الْوَثِيقَةِ يَحْصُلُ بِسُهُولَةِ الْوُصُولِ من حَيْثُ الْمَلَاءَةُ وَالْإِنْصَافُ وَلَوْ كَفَلَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ جَازَ وَتَكُونُ حَوَالَةً لِأَنَّهُ أتى بِمَعْنَى الْحَوَالَةِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ في كَيْفِيَّةِ النَّقْلِ مع اتِّفَاقِهِمْ على ثُبُوتِ أَصْلِهِ مُوجِبًا لِلْحَوَالَةِ قال بَعْضُهُمْ إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ وَالدَّيْنِ جميعا
وقال بَعْضُهُمْ إنَّهَا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ فَحَسْبُ
فَأَمَّا أَصْلُ الدَّيْنِ فَبَاقٍ في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ
وَجْهُ قَوْلِ الْأَوَّلِينَ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّهُ لو أَبْرَأَ الْمُحَالَ عليه من الدَّيْنِ أو وَهَبَ الدَّيْنَ منه صَحَّتْ الْبَرَاءَةُ وَالْهِبَةُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحِيلَ من الدَّيْنِ أو وَهَبَ الدَّيْنَ منه لَا يَصِحُّ وَلَوْلَا أَنَّ الدَّيْنَ انْتَقَلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عليه وَفَرَغَتْ ذِمَّةُ الْمُحِيلِ عن الدَّيْنِ لَمَا صَحَّ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن الدَّيْنِ وَهِبَةُ الدَّيْنِ وَلَا دَيْنَ مُحَالٌ وَلَصَحَّ الثَّانِي لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عن دَيْنٍ ثَابِتٍ وَهِبَتُهُ منه صَحِيحٌ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ الْمُطَالَبَةُ كَالْإِبْرَاءِ عن الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ النَّقْلَ لِأَنَّهَا
____________________

(6/17)


مُشْتَقَّةٌ من التَّحْوِيلِ وهو النَّقْلُ فَيَقْتَضِي نَقْلَ ما أُضِيفَ إلَيْهِ وقد أُضِيفَ إلَى الدَّيْنِ لَا إلَى الْمُطَالَبَةِ لِأَنَّهُ إذَا قال أَحَلْتُ بِالدَّيْنِ أو أَحَلْتُ فُلَانًا بِدَيْنِهِ فَيُوجِبُ انْتِقَالَ الدَّيْنِ إلَى الْمُحَالِ عليه إلَّا أَنَّهُ إذَا انْتَقَلَ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَيْهِ تَنْتَقِلُ الْمُطَالَبَةُ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ وَجْهُ قَوْلِ الْآخَرِينَ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فإن الْمُحِيلَ إذَا قضي دَيْنَ الطَّالِبِ بَعْدَ الْحَوَالَةِ قبل أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُحَالُ عليه لَا يَكُونُ مُتَطَوِّعًا وَيُجْبَرُ على الْقَبُولِ وَلَوْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ لَكَانَ مُتَطَوِّعًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْبَرَ على الْقَبُولِ كما إذَا تَطَوَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِقَضَاءِ دَيْنِ إنْسَانٍ على غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ لو أَبْرَأَ الْمُحَالَ عليه عن دَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ وَلَوْ وَهَبَهُ منه يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ كما إذَا أَبْرَأَ الطَّالِبَ الْكَفِيلُ أو وَهَبَ منه وَلَوْ انْتَقَلَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عليه لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ وَلَا ارْتَدَّا جميعا بِالرَّدِّ كما لو أَبْرَأَ الْأَصِيلَ أو وَهَبَ منه
وَكَذَلِكَ الْمُحَالُ لو أَبْرَأَ الْمُحَالَ عليه عن دَيْنِ الْحَوَالَةِ لَا يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ وَإِنْ كانت الْحَوَالَةُ بِأَمْرِهِ كما في الْكَفَالَةِ
وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ منه له أَنْ يَرْجِعَ عليه إذَا لم يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عليه دَيْنٌ كما في الْكَفَالَةِ وَلَوْ كان له عليه دَيْنٌ يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا كَالْكَفَالَةِ سَوَاءً فَدَلَّتْ هذه الْأَحْكَامُ على التَّسْوِيَةِ بين الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ثُمَّ إنَّ الدَّيْنَ في بَابِ الْكَفَالَةِ ثَابِتٌ في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَكَذَا في الْحَوَالَةِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْحَوَالَةَ شُرِعَتْ وَثِيقَةً لِلدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَلَيْسَ من الْوَثِيقَةِ إبْرَاءُ الْأَوَّلِ بَلْ الْوَثِيقَةُ في نَقْلِ الْمُطَالَبَةِ مع قِيَامِ أَصْلِ الدَّيْنِ في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ
وَمِنْهَا ثُبُوتُ وِلَايَةِ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ على الْمُحَالِ عليه بِدَيْنٍ في ذِمَّتِهِ أو في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ على حَسَبِ ما ذَكَرْنَا من اخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ فيه لِأَنَّ الْحَوَالَةَ أَوْجَبَتْ النَّقْلَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عليه بِدَيْنٍ في ذِمَّتِهِ إمَّا نَقْلُ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةِ جميعا وَإِمَّا نَقْلُ الْمُطَالَبَةِ لَا غَيْرُ وَذَلِكَ يُوجِبُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمُحَالِ على الْمُحَالِ عليه
وَمِنْهَا ثُبُوتُ حَقِّ الْمُلَازَمَةِ لِلْمُحَالِ عليه على الْمُحِيلِ إذَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ فَكُلَّمَا لَازَمَهُ الْمُحَالُ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ لِيَتَخَلَّصَ عن مُلَازَمَةِ الْمُحَالِ وإذا حَبَسَهُ له أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا كانت الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ ولم يَكُنْ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ لِلْمُحِيلِ لِأَنَّهُ هو الذي أَوْقَعَهُ في هذه الْعُهْدَةِ فَعَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ منها
وَإِنْ كانت الْحَوَالَةُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أو كانت بِأَمْرِهِ وَلَكِنْ لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ وَالْحَوَالَةُ مُقَيَّدَةٌ لم يَكُنْ لِلْمُحَالِ عليه أَنْ يُلَازِمَ الْمُحِيلَ إذَا لُوزِمَ وَلَا أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا حُبِسَ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كانت بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُحِيلِ كان الْمُحَالُ عليه مُتَبَرِّعًا وَإِنْ كان لِلْمُحِيلِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ وَقَيَّدَ الْحَوَالَةَ بِهِ فَلَوْ لَازَمَهُ الْمُحَالُ عليه لَكَانَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يُلَازِمَهُ أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْمُحَالُ عليه من الْحَوَالَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أنه يَخْرُجُ من الْحَوَالَةِ بِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْحَوَالَةِ وَحُكْمُ الْحَوَالَةِ يَنْتَهِي بِأَشْيَاءَ منها فَسْخُ الْحَوَالَةِ لِأَنَّ فيها مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً لِلْفَسْخِ وَمَتَى فُسِخَ تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ
وَمِنْهَا التَّوَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا وعن ( ( ( وعند ) ) ) الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ حُكْمُ الْحَوَالَةِ لَا يَنْتَهِي بِالتَّوَى وَلَا تَعُودُ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحِيلِ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال من أُحِيلَ على مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ ولم يُفَصِّلْ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَنَّ الْحَوَالَةَ مُبَرِّئَةٌ بِلَا خِلَافٍ وقد عُقِدَتْ مُطْلَقَةً عن شَرِيطَةِ السَّلَامَةِ فَتُفِيدُ الْبَرَاءَةَ مُطْلَقًا
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال في الْمُحَالِ عليه إذَا مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وقال لَا تَوًى على مَالِ امرىء مُسْلِمٍ وَعَنْ شُرَيْحٍ مِثْلُ ذلك ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ ولم يُنْقَلْ عن أَحَدٍ من الصَّحَابَةِ خِلَافُهُ فَكَانَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الدَّيْنَ كان ثَابِتًا في ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قبل الْحَوَالَةِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْقَضَاءِ قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ إلَّا أَنَّهُ أُلْحِقَ الْإِبْرَاءُ بِالْقَضَاءِ في السُّقُوطِ وَالْحَوَالَةُ لَيْسَتْ بِقَضَاءٍ وَلَا إبْرَاءٍ فَبَقِيَ الدَّيْنُ في ذِمَّتِهِ على ما كان قبل الْحَوَالَةِ إلَّا أَنَّ بِالْحَوَالَةِ انْتَقَلَتْ الْمُطَالَبَةُ إلَى الْمُحَالِ عليه لَكِنْ إلَى غَايَةِ التَّوَى لِأَنَّ حَيَاةَ الدَّيْنِ بِالْمُطَالَبَةِ فإذا توى لم تَبْقَ وَسِيلَةٌ إلَى الأحياء فَعَادَتْ إلَى مَحِلِّهَا الْأَصْلِيِّ وَلَا حُجَّةَ له في الحديث لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَّقَ الْحُكْمَ بِشَرِيطَةِ الْمَلَاءَةِ وقد ذَهَبَتْ بِالْإِفْلَاسِ ثُمَّ التَّوَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِشَيْئَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا أَحَدُهُمَا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ عليه مُفْلِسًا
وَالثَّانِي أَنْ يَجْحَدَ الْحَوَالَةَ وَيَحْلِفَ وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُحَالِ وقد قال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بِهِمَا وَبِثَالِثٍ وهو أَنْ يُفْلِسَ الْمُحَالُ عليه حَالَ حَيَاتِهِ وَيَقْضِيَ الْقَاضِي بِإِفْلَاسِهِ بِنَاءً على أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْإِفْلَاسِ حَالَ
____________________

(6/18)


حَيَاتِهِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا يَقْضِي بِهِ
وَمِنْهَا أَدَاءُ الْمُحَالِ عليه الْمَالَ إلَى الْمُحَالِ فإذا أَدَّى الْمَالَ خَرَجَ عن الْحَوَالَةِ إذْ لَا فَائِدَةَ في بَقَائِهَا بَعْدَ انْتِهَاءِ حُكْمِهَا
وَمِنْهَا أَنْ يَهَبَ الْمُحَالُ الْمَالَ لِلْمُحَالِ عليه وَيَقْبَلَهُ
وَمِنْهَا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عليه وَيَقْبَلَهُ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ في مَعْنَى الْإِبْرَاءِ وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْمُحَالُ فَيَرِثُهُ الْمُحَالُ عليه
وَمِنْهَا أَنْ يُبَرِّئَهُ من الْمَالِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ الرُّجُوعِ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في الرُّجُوعِ في مَوْضِعَيْنِ في بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّجُوعِ وفي بَيَانِ ما يَرْجِعُ بِهِ أَمَّا شَرَائِطُهُ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِ الْمُحِيلِ فَإِنْ كانت بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يَرْجِعُ بِأَنْ قال رَجُلٌ لِلطَّالِبِ أن لَك على فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا من الدَّيْنِ فَاحْتَلْ بها عَلَيَّ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الطَّالِبُ جَازَتْ الْحَوَالَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إذَا كانت بِأَمْرِ الْمُحِيلِ صَارَ الْمُحَالُ مُمَلَّكًا الدَّيْنَ من الْمُحَالِ عليه بِمَا أَدَّى إلَيْهِ من الْمَالِ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ على الْمُحِيلِ وَإِنْ كانت بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُوجَدُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَلَا تَثْبُتُ وَلَايَةُ الرُّجُوعِ
وَمِنْهَا أَدَاءُ مَالِ الْحَوَالَةِ أو ما هو في مَعْنَى الْأَدَاءِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ إذَا قَبِلَ الْمُحَالُ عليه وَكَذَا إذَا وَرِثَهُ الْمُحَالُ عليه لِأَنَّ الْإِرْثَ من أَسْبَابِ الْمِلْكِ فإذا وَرِثَهُ فَقَدْ مَلَكَهُ فَكَانَ له حَقُّ الرُّجُوعِ
وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عليه من الدَّيْنِ لَا يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطُ حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ فيه جَانِبُ التَّمْلِيكِ إلَّا عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالرَّدِّ فإذا لم يُوجَدْ بَقِيَ إسْقَاطًا مَحْضًا فلم يَمْلِكْ الْمُحَالُ عليه شيئا فَلَا يَرْجِعُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُحِيلِ على الْمُحَالِ عليه دَيْنٌ مِثْلُهُ فَإِنْ كان لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الدَّيْنَيْنِ الْتَقَيَا قِصَاصًا لِأَنَّهُ لو رَجَعَ على الْمُحِيلِ لَرَجَعَ الْمُحِيلُ عليه أَيْضًا فَلَا يُفِيدُ فَيَتَقَاصَّا الدَّيْنَيْنِ فَبَطَلَ حَقُّ الرُّجُوعِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَرْجِعُ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ أن الْمُحَالَ عليه يَرْجِعُ بِالْمُحَالِ بِهِ لَا بِالْمُؤَدَّى حتى لو كان الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ دَرَاهِمَ فَنَقَدَ الْمُحَالُ عليه دَنَانِيرَ عن الدَّرَاهِمِ أو كان الدَّيْنُ دَنَانِيرَ فَنَقَدَهُ دَرَاهِمَ عن الدَّنَانِيرِ فَتَصَارَفَا جَازَ وَيُرَاعَى فيه شَرَائِطُ الصَّرْفِ حتى لو افْتَرَقَا قبل الْقَبْضِ أو شَرَطَا فيه الْأَجَلَ وَالْخِيَارُ يُبْطِلُ الصَّرْفَ وَيَعُودُ الدَّيْنُ إلَى حَالِهِ
وإذا صَحَّتْ الْمُصَارَفَةُ فَالْمُحَالُ عليه يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ بِمَالِ الْحَوَالَةِ لَا بِالْمُؤَدَّى لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ دَيْنَ الْحَوَالَةِ لَا الْمُؤَدَّى بِخِلَافِ الْمَأْمُورِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْكَفَالَةِ وَكَذَا إذَا بَاعَهُ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ عَرَضًا يَرْجِعُ بِمَالِ الْحَوَالَةِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَكَذَا إذَا أَعْطَاهُ زُيُوفًا مَكَانَ الْجِيَادِ وَتَجَوَّزَ بها الْمُحَالُ رَجَعَ على الْمُحِيلِ بِالْجِيَادِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ صَالَحَ الْمُحَالُ الْمُحَالَ عليه فَإِنْ صَالَحَهُ على جِنْسِ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ عن الْبَاقِي يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُؤَدَّى لِأَنَّهُ مَلَكَ ذلك الْقَدْرَ من الدَّيْنِ فَيَرْجِعُ بِهِ
وَإِنْ صَالَحَ على خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ بِأَنْ صَالَحَهُ من الدَّرَاهِمِ على دَنَانِيرَ أو على مَالٍ آخَرَ يَرْجِعُ على الْمُحِيلِ بِكُلِّ الدَّيْنِ لِأَنَّ الصُّلْحَ على خِلَافِ جِنْسِ الْحَقِّ مُعَاوَضَةً وَالْمُؤَدَّى يَصْلُحُ عِوَضًا على كل الدَّيْنِ
وَلَوْ قَبَضَ الْمُحَالُ مَالَ الْحَوَالَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فقال الْمُحِيلُ لم يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَإِنَّمَا أنت وَكِيلِي في الْقَبْضِ وَالْمَقْبُوضُ لي وقال الْمُحَالُ لَا بَلْ أَحَلْتنِي بِأَلْفٍ كانت لي عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمُحَالَ يَدَّعِي عليه دَيْنًا وهو يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ مع يَمِينِهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الْوَكَالَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَعْنَى التَّوْكِيلِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ رُكْنِ التَّوْكِيلِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي حُكْمِ التَّوْكِيلِ وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّوْكِيلُ إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَالْوَكَالَةُ في اللُّغَةِ تُذْكَرُ وَيُرَادُ بها الْحِفْظُ قال اللَّهُ عز وجل { وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } أَيْ الْحَافِظُ وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَا إلَهَ إلَّا هو فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا }
قال الْفَرَّاءُ أَيْ حَفِيظًا وَتُذْكَرُ وَيُرَادُ بها الِاعْتِمَادُ وَتَفْوِيضُ الْأَمْرِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ } وقال اللَّهُ تَعَالَى عز وجل خَبَرًا عن سَيِّدِنَا هُودٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنِّي تَوَكَّلْتُ على اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ } أَيْ اعْتَمَدْتُ على اللَّهِ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إلَيْهِ وفي الشَّرِيعَةِ يُسْتَعْمَلُ في هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ أَيْضًا على تَقْرِيرِ الْوَضْعِ اللُّغَوِيِّ وهو تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ وَالْحِفْظِ إلَى الْوَكِيلِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا إنَّ من قال لِآخَرَ وَكَّلْتُكَ في كَذَا أن يَكُونُ وَكِيلًا في الْحِفْظِ
____________________

(6/19)


لِأَنَّهُ أَدَّى ما يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فَيُحْمَلُ عليه
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ رُكْنِ التَّوْكِيلِ فَهُوَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَالْإِيجَابُ من الْمُوَكِّلِ أَنْ يَقُولَ وَكَّلْتُكَ بِكَذَا أو افْعَلْ كَذَا أو أَذِنْتُ لك أَنْ تَفْعَلَ كَذَا وَنَحْوُهُ وَالْقَبُولُ من الْوَكِيلِ أَنْ يَقُولَ قَبِلْتُ وما يَجْرِي مَجْرَاهُ فما لم يُوجَدْ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ لَا يَتِمُّ الْعَقْدُ وَلِهَذَا لو وَكَّلَ إنْسَانًا بِقَبْضِ دَيْنِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ثُمَّ ذَهَبَ الْوَكِيلُ فَقَبَضَهُ لم يَبْرَأْ الْغَرِيمُ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ قبل وُجُودِ الْآخَرِ كما في الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ ثُمَّ رُكْنُ التَّوْكِيلِ قد يَكُونُ مُطْلَقًا وقد يَكُونُ مُعَلَّقًا بِالشَّرْطِ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ إنْ قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ وَكِيلِي في بَيْعِ هذا الْعَبْدِ وقد يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ وَكَّلْتُكَ في بَيْعِ هذا الْعَبْدِ غَدًا وَيَصِيرُ وَكِيلًا في الْغَدِ فما بَعْدَهُ وَلَا يَكُونُ وَكِيلًا قبل الْغَدِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إطْلَاقُ التَّصَرُّفِ وَالْإِطْلَاقَاتُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَإِذْنِ الْعَبْدِ في التِّجَارَةِ وَالتَّمْلِيكَاتُ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْإِبْرَاءِ عن الدُّيُونِ وَالتَّقْيِيدَاتُ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرِ على الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالرَّجْعَةُ وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يَحْتَمِلُ ذلك
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكَّلِ بِهِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَمْلِكُ فِعْلَ ما وَكَّلَ بِهِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ ما يَمْلِكُهُ من التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِهِ فما لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ كَيْفَ يَحْتَمِلُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ أَصْلًا لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ الْأَهْلِيَّةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ بِأَنْفُسِهِمَا وَكَذَا من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِمَا لَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ وَيَصِحُّ بِالتَّصَرُّفَاتِ النَّافِذَةِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ من غَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ مِمَّا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ بِدُونِ إذْنِ وَلِيِّهِ فيلك ( ( ( فيملك ) ) ) تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ وَأَمَّا التَّصَرُّفَاتُ الدَّائِرَةُ بين الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَإِنْ كان مَأْذُونًا له في التِّجَارَةِ يَصِحُّ منه التَّوْكِيلُ بها لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِنَفْسِهِ وَإِنْ كان مَحْجُورًا يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ وَلِيِّهِ وَعَلَى إذْنِ وَلِيِّهِ بِالتِّجَارَةِ أَيْضًا كما إذَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ في انْعِقَادِهِ فَائِدَةً لِوُجُودِ الْمُجِيزِ لِلْحَالِ وهو الْوَلِيُّ وَلَا يَصِحُّ من الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ وَيَصِحُّ من الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ بِالتَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِمَا بِخِلَافِ الْمَحْجُورِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ من الْمُرْتَدِّ فَمَوْقُوفٌ أن أَسْلَمَ يَنْفُذُ وَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ على الرِّدَّةِ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يَبْطُلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هو نَافِذٌ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ لِوُقُوفِ أَمْلَاكِهِ وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ لِثُبُوتِ أَمْلَاكِهِ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ من الْمُرْتَدَّةِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهَا نَافِذَةٌ بِلَا خِلَافٍ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا فَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَا بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ فَتَصِحُّ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْعَبْدِ مَأْذُونَيْنِ كَانَا أو مَحْجُورَيْنِ وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَالَةُ الصَّبِيِّ غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ وَلَا تَصِحُّ وَكَالَةُ الْمَجْنُونِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا خَطَبَ أُمَّ سَلَمَةَ قالت إنَّ أَوْلِيَائِي غُيَّبٌ يا رَسُولَ اللَّهِ فقال ليس فِيهِمْ من يَكْرَهُنِي ثُمَّ قال لعمر ( ( ( لعمرو ) ) ) ابْنِ أُمِّ سَلَمَةَ قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّكَ مِنِّي فَزَوَّجَهَا من رسول اللَّهِ وكان صَبِيًّا وَالِاعْتِبَارُ بِالْمَجْنُونِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْعَقْلَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وقد انْعَدَمَ هُنَاكَ وَوُجِدَ هُنَا فَتَصِحُّ وَكَالَتُهُ كَالْبَالِغِ إلَّا أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ من الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ إذَا كان بَالِغًا وإذا كان صَبِيًّا تَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ لِمَا ذكرنا ( ( ( نذكر ) ) ) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا رِدَّةُ الْوَكِيلِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ فَتَجُوزُ وَكَالَةُ الْمُرْتَدِّ بِأَنْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ مُرْتَدًّا لِأَنَّ وُقُوفَ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ لِوُقُوفِ مِلْكِهِ وَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِ الْمُوَكِّلِ وأنه نَافِذُ التَّصَرُّفَاتِ وَكَذَا لو كان مُسْلِمًا وَقْتَ التَّوْكِيلِ ثُمَّ ارْتَدَّ فَهُوَ على وَكَالَتِهِ لِمَا قُلْنَا إلَّا أَنْ يَلْحَقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَتَبْطُلُ وَكَالَتُهُ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ
وَأَمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْوَكَالَةِ لَا خِلَافَ في أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ في الْجُمْلَةِ شَرْطٌ أما عِلْمُ الْوَكِيلِ وأما عِلْمُ من يُعَامِلُهُ حتى أَنَّهُ لو وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ من رَجُلٍ قبل عِلْمِهِ وَعَلِمَ الرَّجُلُ بِالتَّوْكِيلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ حتى
____________________

(6/20)


يُجِيزَهُ الْمُوَكِّلُ أو الْوَكِيلُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْوَكَالَةِ لِأَنَّ حُكْمَ الْآمِرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ أو الْقُدْرَةِ على اكْتِسَابِ سَبَبِ الْعِلْمِ بِالْمَأْمُورِ بِهِ كما في أَوَامِرِ الشَّرْعِ
وَأَمَّا عِلْمُ الْوَكِيلِ على التَّعْيِينِ بِالتَّوْكِيلِ فَهَلْ هو شَرْطٌ ذُكِرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ شَرْطٌ وَذُكِرَ في الْوَكَالَةِ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ فإنه قال إذَا قال الْمُوَكِّلُ لِرَجُلٍ اذْهَبْ بِعَبْدِي هذا إلَى فُلَانٍ فَيَبِيعُهُ فُلَانٌ مِنْكَ فَذَهَبَ الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّ صَاحِبَ الْعَبْدِ أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ منه فَاشْتَرَاهُ منه صَحَّ شِرَاؤُهُ وَإِنْ لم يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَجَعَلَ عِلْمَ الْمُشْتَرِي بِالتَّوْكِيلِ كَعِلْمِ الْبَائِعِ الْوَكِيلَ
وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ في الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ وَذَكَرَ في الْمَأْذُونِ الْكَبِيرِ ما يَدُلُّ على جَوَازِ اليبع ( ( ( البيع ) ) ) فإنه قال إذَا قال الْمَوْلَى لِقَوْمٍ بَايِعُوا عَبْدِي فَإِنِّي قد أَذِنْتُ له في التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ جَازَ وَإِنْ لم يَعْلَمْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى لهم بِالْمُبَايَعَةِ وَلَيْسَ التَّوْكِيلُ كَالْوِصَايَةِ فإن من أَوْصَى إلَى رَجُلٍ غَائِبٍ أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ثُمَّ أن الْوَصِيَّ بَاعَ شيئا من تَرِكَةِ الْمَيِّتِ قبل عِلْمِهِ بِالْوِصَايَةِ وَالْمَوْتِ فإن بَيْعَهُ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَيَكُونُ ذلك قَبُولًا منه لِلْوِصَايَةِ حتى لَا يَمْلِكَ إخْرَاجَ نَفْسِهِ منها وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَصِيَّ خَلَفٌ عن الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَهُ كَالْوَارِثِ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ
وَلَوْ بَاعَ الْوَارِثُ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وهو لَا يَعْلَمُ مَوْتَهُ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَا الْوَصِيُّ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ لِأَنَّهُ أَمْرٌ من الْمُوَكِّلِ وَحُكْمُ الْأَمْرِ لَا يَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ أو سَبَبِهِ على ما مَرَّ فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالتَّوْكِيلِ شَرْطٌ فَإِنْ كان التَّوْكِيلُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ أو كَتَبَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ كِتَابًا إلَيْهِ فَبَلَغَهُ وَعَلِمَ ما فيه أو أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ أو أخبره بِالتَّوْكِيلِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ صَارَ وَكِيلًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ أخبره بِذَلِكَ رَجُلٌ وَاحِدٌ غَيْرُ عَدْلٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ صَارَ وَكِيلًا أَيْضًا وَإِنْ لم يُصَدِّقْهُ يبغي ( ( ( ينبغي ) ) ) أَنْ يَكُونَ على الِاخْتِلَافِ في الْعَدْلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَكُونُ وَكِيلًا كما في الْعَزْلِ على ما نَذْكُرهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ فإنه يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ ما يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ وما لَا يَجُوزُ وَالْجُمْلَةُ فيه أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ اللَّهِ عز وجل وَهِيَ الْحُدُودُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ وَالتَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ اللَّهِ عز وجل نَوْعَانِ أَحَدُهُمَا بِالْإِثْبَاتِ
وَالثَّانِي بِالِاسْتِيفَاءِ
أَمَّا التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْحُدُودِ فَإِنْ كان حَدًّا لَا يُحْتَاجُ فيه إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ الزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يَتَقَدَّرُ التَّوْكِيلُ فيه بِالْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ أو الْإِقْرَارِ من غَيْرِ خُصُومَةٍ
وَإِنْ كان مِمَّا يُحْتَاجُ فيه إلَى الْخُصُومَةِ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِمَا إلَّا من الْمُوَكِّلِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِإِثْبَاتِ الْقِصَاصِ على هذا الْخِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ كما يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيه بِالِاسْتِيفَاءِ فَكَذَا بِالْإِثْبَاتِ لِأَنَّ الْإِثْبَاتَ وَسِيلَةٌ إلَى الِاسْتِيفَاءِ وَلَهُمَا الْفَرْقُ بين الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ وهو إن امْتِنَاعَ التَّوْكِيلِ في الِاسْتِيفَاءِ لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ مُنْعَدِمَةٌ في التَّوْكِيلِ بِالْإِثْبَاتِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالسَّرِقَةِ فَإِنْ كان الْمَقْذُوفُ وَالْمَسْرُوقُ منه حَاضِرًا وَقْتَ الِاسْتِيفَاءِ جَازَ لِأَنَّ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ إلَى الأمام وَأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على أَنْ يَتَوَلَّى الِاسْتِيفَاءَ بِنَفْسِهِ على كل حَالٍ
وَإِنْ كان غَائِبًا اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ يَجُوزُ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ لِاحْتِمَالِ الْعَفْوِ وَالصُّلْحِ وَأَنَّهُ لايحتملهما
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ إنْ كان لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ فَيَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ وَالتَّصْدِيقَ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ حَدِّ الْقَذْفِ كيف ما كان
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا حَقُّهُ فَكَانَ بِسَبِيلٍ من اسْتِيفَائِهِ بِنَفْسِهِ وَبِنَائِبِهِ كما في سَائِرِ الْحُقُوقِ
وَلَنَا الْفَرْقُ على قَوْلِ بَعْضِ الْمَشَايِخِ وهو ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لو كان حاضر ( ( ( حاضرا ) ) ) الصدق ( ( ( لصدق ) ) ) الرَّامِيَ فِيمَا رَمَاهُ أو يَتْرُكُ الْخُصُومَةَ فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مع الشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ لَا تَمْنَعُ من اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الْحُقُوقِ
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالتَّعْزِيرِ إثْبَاتًا وَاسْتِيفَاءً بِالِاتِّفَاقِ وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ سَوَاءٌ كان الْمُوَكِّلُ غَائِبًا أو حَاضِرًا لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَلَا يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ والاختصاص ( ( ( والقصاص ) ) ) وَلِهَذَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فَأَشْبَهَ سَائِرَ الْحُقُوقِ بِخِلَافِ الْحَدِّ وَالْقِصَاصِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَإِنْ كان الْمُوَكِّلُ وهو الْمَوْلَى حَاضِرًا جَازَ لِأَنَّهُ قد لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ وَإِنْ كان غَائِبًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْعَفْوِ قَائِمٌ لِجَوَازِ أَنَّهُ لو كان حَاضِرًا
____________________

(6/21)


لَعَفَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مع قِيَامِ الشُّبْهَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْعَدِمٌ حَالَةَ الْحَضْرَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ وَإِنْ كان غَائِبًا وَالْكَلَامُ في الطَّرَفَيْنِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في حَدِّ الْقَذْفِ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُقُوقُ الْعِبَادِ على نَوْعَيْنِ نَوْعٌ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مع الشُّبْهَةِ كَالْقِصَاصِ وقد مَرَّ حُكْمُ التَّوْكِيلِ بِإِثْبَاتِهِ وباستيفائه ( ( ( واستيفائه ) ) ) وَنَوْعٌ يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ وَأَخْذُهُ مع الشُّبْهَةِ كَالدُّيُونِ وَالْإِعْتَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ سِوَى الْقِصَاصِ فَنَقُولُ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ في إثْبَاتِ الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ بِرِضَا الْخَصْمِ حتى يَلْزَمَ الْخَصْمَ جَوَابُ التَّوْكِيلِ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن جَعْفَرٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه كان لَا يَحْضُرُ الْخُصُومَةَ وكان يقول إنَّ لها لَحْمًا يَحْضُرُهَا الشَّيَاطِينُ فَجَعَلَ الْخُصُومَةَ إلَى عَقِيلٍ رضي اللَّهُ عنه فلما كَبِرَ وَرَقَّ حَوَّلَهَا إلَيَّ وكان عَلِيٌّ يقول ما قضى لِوَكِيلِي فَلِيَ وما قضى على وَكِيلِي فَعَلَيَّ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه لم يَكُنْ مِمَّنْ لَا يَرْضَى أَحَدٌ بِتَوْكِيلِهِ فَكَانَ تَوْكِيلُهُ بِرِضَا الْخَصْمِ فَدَلَّ على الْجَوَازِ بِرِضَا الْخَصْمِ وَاخْتُلِفَ في جَوَازِهِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَجُوزُ من غَيْرِ عُذْرِ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا فَصْلَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بين الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْبِكْرِ وَالثَّيِّبِ لَكِنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِنَا اسْتَحْسَنُوا في الْمَرْأَةِ إذَا كانت مُخَدَّرَةً غير بَرِيزَةٍ فَجَوَّزُوا تَوْكِيلَهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ في مَوْضِعِهِ
وقال ابن أبي لَيْلَى لَا يَجُوزُ إلَّا تَوْكِيلُ الْبِكْرِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِمَا يُذْكَرُ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ إن التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ صَادَفَ حَقَّ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَقِفُ على رِضَا الْخَصْمِ كَالتَّوْكِيلِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ الدَّعْوَى حَقُّ الْمُدَّعِي وَالْإِنْكَارُ حَقُّ المدعي عليه فَقَدْ صَادَفَ التَّوْكِيلُ من الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَقِفُ على رِضَا خَصْمِهِ كما لو كان خَاصَمَهُ بِنَفْسِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَقَّ هو الدَّعْوَى الصَّادِقَةُ وَالْإِنْكَارُ الصَّادِقُ وَدَعْوَى الْمُدَّعِي خَبَرٌ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَالسَّهْوَ وَالْغَلَطَ وَكَذَا إنْكَارُ الْمُدَّعَى عليه فَلَا يَزْدَادُ الِاحْتِمَالُ في خَبَرِهِ بِمُعَارَضَةِ خَبَرِ الْمُدَّعِي فلم يَكُنْ كُلُّ ذلك حَقًّا فَكَانَ الْأَصْلُ أَنْ لَا يَلْزَمَ بِهِ جَوَابٌ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَ الْجَوَابَ لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى الْفَسَادِ وَإِحْيَاءِ الْحُقُوقِ الْمَيِّتَةِ وَحَقُّ الضَّرُورَةِ يَصِيرُ مَقْضِيًّا بِجَوَابِ الْمُوَكِّلِ فَلَا تَلْزَمُ الْخُصُومَةُ عن جَوَابِ الْوَكِيلِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ مع ما أَنَّ الناس في الْخُصُومَاتِ على التَّفَاوُتِ بَعْضُهُمْ أَشَدُّ خُصُومَةً من الْآخَرِ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْوَكِيلُ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ فَيَعْجِزُ من يُخَاصِمُهُ عن إحْيَاءِ حَقِّهِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَيُشْرَطُ رِضَا الْخَصْمِ لِيَكُونَ لُزُومُ الضَّرَرِ مُضَافًا إلَى الْتِزَامِهِ
وإذا كان الْمُوَكِّلُ مَرِيضًا أو مُسَافِرًا فَهُوَ عَاجِزٌ عن الدَّعْوَى وَعَنْ الْجَوَابِ بِنَفْسِهِ فَلَوْ لم يَمْلِكْ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّوْكِيلِ لَضَاعَتْ الْحُقُوقُ وَهَلَكَتْ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَكَذَلِكَ إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً لِأَنَّهَا تستحي ( ( ( تستحيي ) ) ) عن الْحُضُورِ لِمَحَافِلِ الرِّجَالِ وَعَنْ الْجَوَابِ بَعْدَ الْخُصُومَةِ بِكْرًا كانت أو ثَيِّبًا فَيَضِيعُ حَقُّهَا
وَأَمَّا في مَسْأَلَتِنَا فَلَا ضَرُورَةَ
وَلَوْ وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ وَتَزْكِيَةَ الشُّهُودِ في عَقْدِ التَّوْكِيلِ بِكَلَامٍ مُنْفَصِلٍ جَازَ وَيَصِيرُ وَكِيلًا بِالْإِنْكَارِ سَوَاءٌ كان التَّوْكِيلُ من الطَّالِبِ أو من الْمَطْلُوبِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ الطَّالِبُ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ يَجُوزُ وَإِنْ وَكَّلَ الْمَطْلُوبُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ اسْتِثْنَاءَ الْإِقْرَارِ في عَقْدِ التَّوْكِيلِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على مُوَكِّلِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وَلَوْ أَطْلَقَ التَّوْكِيلَ من غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ لَتَضَرَّرَ بِهِ الْمُوَكِّلُ
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين التَّوْكِيلِ من الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ
هذا إذَا وَكَّلَ بِالْخُصُومَةِ وَاسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ في الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ مُطْلَقًا ثُمَّ اسْتَثْنَى الْإِقْرَارَ في كَلَامٍ مُنْفَصِلٍ يَصِحُّ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِحُّ
وَأَمَّا التَّوْكِيلُ بِالْإِقْرَارِ فذكر في الْأَصْلِ إنه يَجُوزُ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ من الْمُضَارِبِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعِنَانِ وَالْمُفَاوَضَةِ وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ بِأَنْفُسِهِمْ فَيَمْلِكُونَ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِمْ بِالتَّوْكِيلِ وَيَجُوزُ من الذِّمِّيِّ كما يَجُوزُ من الْمُسْلِمِ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ مَصُونَةٌ مَرْعِيَّةٌ عن الضَّيَاعِ كَحُقُوقِنَا وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قد لَا يَقْدِرُ على الِاسْتِيفَاءِ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ
____________________

(6/22)


إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ إلَّا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ إنَّمَا يَجُوزُ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ فيه لَا في غَيْرِهِ
وإذا قَبَضَ الدَّيْنَ من الْغَرِيمِ بريء الْغَرِيمُ لِأَنَّ الْقَبْضَ الصَّحِيحَ يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ وَتَجُوزُ الوكابة ( ( ( الوكالة ) ) ) بِقَضَاءِ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ وقد لَا يَتَهَيَّأُ له الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّفْوِيضِ إلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ كان الْمُوَكِّلُ حُرًّا أو عَبْدًا مَأْذُونًا أو مُكَاتَبًا لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ الْقَضَاءَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِمَا أَيْضًا وَيَجُوزُ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ هذه حُقُوقٌ يَتَوَلَّاهَا الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَوْلِيَتَهَا غَيْرَهُ
وَيَجُوزُ بِالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ وَالصُّلْحِ على إنْكَارٍ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ هذه التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهَا إلَى غَيْرِهِ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ وَالْإِعَارَةُ وَالْإِيدَاعُ وَالرَّهْنُ وَالِاسْتِعَارَةُ وَالِاسْتِيهَابُ وَالِارْتِهَانُ لِمَا قُلْنَا
وَيَجُوزُ بِالشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ لِمَا قُلْنَا وَيَجُوزُ بِالْإِقْرَاضِ وَالِاسْتِقْرَاضِ إلَّا أَنَّ في التَّوْكِيلِ بِالِاسْتِقْرَاضِ لَا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ ما اسْتَقْرَضَهُ الْوَكِيلُ إلَّا إذَا بَلَغَ على وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ يَقُولَ أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ لِيَسْتَقْرِضَ كَذَا
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالصُّلْحِ وَبِالْإِبْرَاءِ وَيَجُوزُ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِئْجَارِ لِمَا قُلْنَا
وَيَجُوزُ بِالسَّلَمِ وَالصَّرْفِ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمَا بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُمَا إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ قَبْضَ الْبَدَلِ في الْمَجْلِسِ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ على الصِّحَّةِ وَالْعِبْرَةُ لِبَقَاءِ الْعَاقِدَيْنِ وَافْتِرَاقِهِمَا لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ رَاجِعَةٌ إلَيْهِمَا لِمَا نَذْكُرُ فإذا تَقَابَضَ الْوَكِيلَانِ في الْمَجْلِسِ فَقَدْ وُجِدَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ قبل الِافْتِرَاقِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ على الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الرَّسُولَيْنِ إذَا تَقَابَضَا في الْمَجْلِسِ ثُمَّ افْتَرَقَا أَنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ لَا تَرْجِعُ إلَى الرَّسُولِ فَلَا يَقَعُ قَبْضُهُمَا عن الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فإذا افْتَرَقَا فَقَدْ حَصَلَ الِافْتِرَاقُ لَا عن قَبْضٍ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ على ما مَرَّ وَلَا تُعْتَبَرُ مُفَارَقَةُ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الْحُقُوقَ لَا تَرْجِعُ إلَيْهِ بَلْ هو أَجْنَبِيٌّ عنها فَبَقَاؤُهُ وَافْتِرَاقُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّهُمَا مِمَّا يَمْلِكُ الْمُوَكِّلُ مُبَاشَرَتَهُمَا بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ إلَّا أَنَّ لِجَوَازِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ شرط ( ( ( شرطا ) ) ) وهو الْخُلُوُّ عن الْجَهَالَةِ الْكَثِيرَةِ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْوَكَالَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالشِّرَاءِ نَوْعَانِ عَامٌّ وَخَاصٌّ فَالْعَامُّ أَنْ يَقُولَ له اشْتَرِ لي ما شِئْتَ أو ما رَأَيْتَ أو أَيَّ ثَوْبٍ شِئْتَ أو أَيَّ دَارٍ شِئْتَ أو ما تَيَسَّرَ لك من الثِّيَابِ وَمِنْ الدَّوَابِّ وَيَصِحُّ مع الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ من غَيْرِ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالثَّمَنِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الرَّأْيَ إلَيْهِ فَيَصِحُّ مع الْجَهَالَةِ الْفَاحِشَةِ كَالْبِضَاعَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَالْخَاصُّ أَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لي ثَوْبًا أو حَيَوَانًا أو دَابَّةً أو جَوْهَرًا أو عَبْدًا أو جَارِيَةً أو فَرَسًا أو بَغْلًا أو حِمَارًا أو شَاةً
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْجَهَالَةَ إنْ كانت كَثِيرَةً تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ وَإِنْ كانت قَلِيلَةً لَا تَمْنَعُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ يُمْنَعَ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا وَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَمِقْدَارِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَا يَصِحَّانِ مع الْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِمَا أَيْضًا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ ما روى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بن حِزَامٍ لِيَشْتَرِيَ له بِهِ أُضْحِيَّةً وَلَوْ كانت الْجَهَالَةُ الْقَلِيلَةُ مَانِعَةً من صِحَّةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ لَمَا فَعَلَهُ رسول اللَّهِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لَا تَرْتَفِعُ بِذِكْرِ الْأُضْحِيَّةَ وَبِقَدْرِ الثَّمَنِ وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ في بَابِ الْوَكَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ مَبْنَى التَّوْكِيلِ على الْفُسْحَةِ وَالْمُسَامَحَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا تَجُوزُ الْمُنَازَعَةُ فيه عِنْدَ قِلَّةِ الْجَهَالَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ مَبْنَاهُ على الْمُضَايَقَةِ وَالْمُمَاكَسَةِ لِكَوْنِهِ معاونة ( ( ( معاوضة ) ) ) الْمَالِ بِالْمَالِ فَالْجَهَالَةُ فيه وَإِنْ قَلَّتْ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَتُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وإذا ثَبَتَ أَنَّ الْجَهَالَةَ الْقَلِيلَةَ غَيْرُ مَانِعَةٍ فَفِي كل مَوْضِعٍ قَلَّتْ الْجَهَالَةُ صَحَّ التَّوْكِيلُ بِالشِّرَاءِ وَإِلَّا فَلَا ينظر ( ( ( فينظر ) ) ) إنْ كان اسْمُ ما وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ مِمَّا يَقَعُ على أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ لَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ النَّوْعِ وَذَلِكَ نَحْوُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لي ثَوْبًا لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَقَعُ على أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ من ثَوْبِ الْإِبْرَيْسَمِ وَالْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ وغيرهما ( ( ( وغيرهم ) ) ) فَكَانَتْ الْجَهَالَةُ كَثِيرَةً فَمَنَعَتْ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَا تَقِلُّ إلَّا بِذِكْرِ النَّوْعِ بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لي ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَإِنْ سَكَتَ عنه كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ فلم يَصِحَّ التَّوْكِيلُ
وَكَذَا إذَا قال اشْتَرِ لي حَيَوَانًا أو قال اشْتَرِ لي دَابَّةً أو أَرْضًا أو مَمْلُوكًا أو جَوْهَرًا أو حُبُوبًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منها اسْمُ جِنْسٍ يَدْخُلُ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلِفَةٌ فَلَا بُدَّ من ذِكْرِ النَّوْعِ بِأَنْ يَقُولَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فإذا سَكَتَ عنه كَثُرَتْ الْجَهَالَةُ فلم يَصِحَّ التَّوْكِيلُ
وَكَذَا إذَا قال
____________________

(6/23)


اشْتَرِ لي دَارًا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ بين الدَّارِ وَالدَّارِ تَفَاوُتًا فَاحِشًا فَإِنْ عَيَّنَ الدَّارَ يَجُوزُ وَإِنْ لم يُعَيِّنْ وَلَكِنَّهُ بَيَّنَ الثَّمَنَ جَازَ أَيْضًا وَيَقَعُ على دُورِ الْمِصْرِ الذي وَقَّعَ فيه الْوَكِيلُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ حق ( ( ( حتى ) ) ) يُعَيِّنَ مِصْرًا من الْأَمْصَارِ وَلَوْ قال اشْتَرِ لي دَارًا في مَوْضِعِ كَذَا أو حَبَّةَ لُؤْلُؤٍ أو يَاقُوتٍ أَحْمَرَ ولم يُسَمِّ الثَّمَنَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ مُتَفَاحِشٌ وَالصِّفَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ الثَّمَنِ وَإِنْ كان اسْمُ ما وَقَعَ التَّوْكِيلُ بِشِرَائِهِ لَا يَقَعُ إلَّا على نَوْعٍ وَاحِدٍ يكتفي فيه بِذِكْرِ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا الصِّفَةُ بِأَنْ قال اشْتَرِ لي عَبْدًا تُرْكِيًّا أو مِقْدَارُ الثَّمَنِ بِأَنْ قال اشْتَرِ لي عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَقِلُّ بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا وَبِحَالِ الْمُوَكِّلِ لِأَنَّ الصِّفَةَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الثَّمَنِ وَإِنْ لم يَذْكُرْهَا وإذا ذَكَرَ الصِّفَةَ يَصِيرُ الثَّمَنُ مَعْلُومًا بِحَالِ الْآمِرِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ أَمْثَالُهُ عَادَةً حتى إنَّهُ لو خَرَجَ الْمُشْتَرِي عن عَادَةِ أَمْثَالِهِ لَا يَلْزَمُ الْمُوَكِّلَ كَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال اشْتَرِ لي خَادِمًا من جِنْسِ كَذَا إن ذلك يَقَعُ على ما يَتَعَامَلُهُ الناس من ذلك الْجِنْسِ فَإِنْ كان الثَّمَنُ كَثِيرًا لَا يَتَعَامَلُ الناس بِهِ لم يَجُزْ على الْآمِرِ
وَكَذَا الْبَدَوِيُّ إذَا قال اشْتَرِ لي خَادِمًا حَبَشِيًّا فَهُوَ على ما يَعْتَادُهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ وَهَذَا كُلُّهُ اعْتِبَارُ حَالِ الْمُوَكِّلِ
فَإِنْ لم يذكر أَحَدَهُمَا أَصْلًا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ فَحُشَتْ بِتَرْكِ ذَكَرِهِمَا جميعا فَمَنَعَتْ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي حِمَارًا أو بَغْلًا أو فَرَسًا أو بَعِيرًا ولم يذكر له صِفَةً وَلَا ثَمَنًا قالوا إنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَعِيرِ وَالصِّفَةُ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَكَذَا الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ إنْ اشترا ( ( ( اشترى ) ) ) حِمَارًا بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو بِأَقَلَّ أو بِأَكْثَرَ قَدْرَ ما يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ جَازَ على الْمُوَكِّلِ إذَا كان الْحِمَارُ مِمَّا يشترى مثله الْمُوَكِّلُ وَإِنْ كان مِمَّا لَا يَشْتَرِي مثله الْمُوَكِّلُ لَا يَجُوزُ على الْمُوَكِّلِ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ نَحْوُ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ مُكَارِيًا فَاشْتَرَى الْوَكِيلُ حِمَارًا مِصْرِيًّا يَصْلُحُ لِلرُّكُوبِ لِأَنَّ مثله يَشْتَرِي الْحِمَارَ لِلْعَمَلِ وَالْحَمْلِ لَا لِلرُّكُوبِ
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي شَاةٌ أو بَقَرَةٌ ولم يذكر صِفَةً وَلَا ثَمَنًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الشَّاةَ وَالْبَقَرَةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةَ الصِّفَةِ بِحَالِ الْمُوَكِّلِ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مَعْلُومًا لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ قال اشْتَرِ لي حِنْطَةً لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ ما لم يذكر أَحَدَ شَيْئَيْنِ إمَّا قَدْرُ الثَّمَنِ وَإِمَّا قَدْرُ الْمُثَمَّنِ وهو الْمَكِيلُ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا وَعَلَى هذا جَمِيعُ الْمُقَدَّرَاتِ من الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَلَوْ وَكَّلَهُ لِيَشْتَرِيَ له طَيْلَسَانًا لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ الثَّمَنِ وَالنَّوْعِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَقِلُّ إلَّا بَعْدَ بَيَانِ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ التَّوْكِيلِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ التَّوْكِيلِ صَيْرُورَةُ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَكِيلًا لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إثْبَاتُ الْوَكَالَةِ وَلِلْوَكَالَةِ أَحْكَامٌ
منها ثُبُوتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ الذي تَنَاوَلَهُ التَّوْكِيلُ فَيُحْتَاجُ إلَى بَيَانِ ما يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ من التَّصَرُّفِ بِمُوجَبِ التَّوْكِيلِ بَعْدَ صِحَّتِهِ وما لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على مُوَكِّلِهِ في الْجُمْلَةِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَمْلِكُ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ وَأَمِينُ الْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ على الصَّغِيرِ بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْمُنَازَعَةِ وَالْإِقْرَارُ مُسَالَمَةٌ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ
وَلَنَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ وَكِيلٌ بِالْجَوَابِ الذي هو حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل وقد يَكُونُ ذلك إنْكَارًا وقد يَكُونُ إقْرَارًا فإذا أَقَرَّ على مُوَكِّلِهِ دَلَّ أَنَّ الْحَقَّ هو الْإِقْرَارُ فَيَنْفُذُ على الْمُوَكِّلِ كما إذَا أَقَرَّ على مُوَكِّلِهِ وَصَدَّقَهُ الْمُوَكِّلُ ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَصِحُّ إقْرَارُهُ في مَجْلِسِ الْقَاضِي لَا في غَيْرِهِ وقال أبو يُوسُفَ يَصِحُّ فيه وفي غَيْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّوْكِيلَ تَفْوِيضُ ما يَمْلِكُهُ الْمُوَكِّلُ إلَى غَيْرِهِ وَإِقْرَارُ الْمُوَكِّلِ لَا تَقِفُ صِحَّتُهُ على مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَذَا إقْرَارُ الْوَكِيلِ
وَلَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ لَكِنْ في مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ أو بِجَوَابِ الْخُصُومَةِ وَكُلُّ ذلك يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي أَلَا يرى أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَلْزَمُ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَكَذَا الْخُصُومَةُ لَا تَنْدَفِعُ بِالْيَمِينِ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَتَتَقَيَّدُ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي إلَّا أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي يَخْرُجُ عن الْوَكَالَةِ وَيَنْعَزِلُ لِأَنَّهُ لو بَقِيَ وَكِيلًا لَبَقِيَ وَكِيلًا بِالْإِقْرَارِ عَيْنًا لِأَنَّ الْإِنْكَارَ لَا يُسْمَعُ منه لِلتَّنَاقُضِ وَالْإِقْرَارُ عَيْنًا غَيْرُ مُوَكَّلٍ بِهِ وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ في مَالٍ إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ يَمْلِكُ قَبْضَهُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَمْلِكُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ
____________________

(6/24)


الْمَطْلُوبَ من الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ الِاهْتِدَاءُ وَمِنْ الْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ الْأَمَانَةُ وَلَيْسَ كُلُّ من يَهْتَدِي إلَى شَيْءٍ يُؤْتَمَنُ عليه فَلَا يَكُونُ التَّوْكِيلُ بِالْخُصُومَةِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ
وَلَنَا أَنَّهُ لَمَّا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ في مَالٍ فَقَدْ ائْتَمَنَهُ على قَبْضِهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فيه لَا تَنْتَهِي إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّوْكِيلُ بها تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ وَالْوَكِيلُ بِتَقَاضِي الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ حَقَّ التَّقَاضِي لَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ التَّوْكِيلُ بِهِ تَوْكِيلًا بِالْقَبْضِ وَلِأَنَّ التَّقَاضِيَ وَالِاقْتِضَاءَ وَالِاسْتِيفَاءَ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ الْمُتَأَخِّرِينَ من أَصْحَابِنَا قالوا إنَّهُ لَا يَمْلِكُ في عُرْفِ دِيَارِنَا لِأَنَّ الناس في زَمَانِنَا لَا يَرْضَوْنَ بِقَبْضِ الْمُتَقَاضِي كَالْوُكَلَاءِ على أَبْوَابِ الْقُضَاةِ لِتُهْمَةِ الْخِيَانَةِ في أَمْوَالِ الناس وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ في إثْبَاتِ الدَّيْنِ إذَا أَنْكَرَ الْغَرِيمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ أَيْضًا فَيَمْلِكُ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ
وَكَذَا لو أَقَامَ المدعي عليه الْبَيِّنَةَ أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ اسْتَوْفَى منه أو أَبْرَأَهُ عنه قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَمْلِكُ وَأَجْمَعُوا في الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ إذَا أَنْكَرَ من في يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ حتى لَا يَمْلِكَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ
وَلَوْ أَقَامَ المدعي عليه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا من الذي وَكَّلَهُ بِالْقَبْضِ لَا تُسْمَعُ منه بَيِّنَتُهُ في إثْبَاتِ الشِّرَاءِ وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ لِدَفْعِ خُصُومَةِ الْوَكِيلِ في الْحَالِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ وَقَالُوا في الْوَكِيلِ بِطَلَبِ الشُّفْعَةِ وَبِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَبِالْقِسْمَةِ أنه يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْخُصُومَةِ كَالتَّوْكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ تَوْكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ وَالْحُقُوقُ في مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ كما في الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَدَلَالَةُ ذلك أَنَّ اسْتِيفَاءَ عَيْنِ الدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ لِأَنَّ الدَّيْنَ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن الْفِعْلِ وهو فِعْلُ تَسْلِيمِ الْمَالِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عن مَالٍ حُكْمِيٍّ في الذِّمَّةِ وَكُلُّ ذلك لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ وَلَكِنَّ اسْتِيفَاءَ الدَّيْنِ عِبَارَةٌ عن نَوْعِ مُبَادَلَةٍ وهو مُبَادَلَةُ الْمَأْخُوذِ الْعَيْنِ بِمَا في ذِمَّةِ الْغَرِيمِ وَتَمْلِيكُهُ بهذا الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ من الْمَالِ فَأَشْبَهَ الْبَيْعَ وَالْخُصُومَةَ في حُقُوقِ مُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ فَيَمْلِكُهُ الْوَكِيلُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ لِأَنَّ ذلك تَوْكِيلٌ بِاسْتِيفَاءِ عَيْنِ الْحَقِّ لَا بِالْمُبَادَلَةِ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ فيها إلَّا بِأَمْرٍ جَدِيدٍ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ فإذا لم يَمْلِكْ الْخُصُومَةَ لَا تُسْمَعُ بَيِّنَةُ المدعي عليه على الشِّرَاءِ من الْمُوَكَّلِ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ قَامَتْ لَا على خَصْمٍ وَلَكِنَّهَا تُسْمَعُ في دَفْعِ قَبْضِ الْوَكِيلِ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ مَسْمُوعَةً من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ كَمَنْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِنَقْلِ زَوْجَتِهِ إلَى حَيْثُ هو فَطَالَبَهَا الْوَكِيلُ بِالِانْتِقَالِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا تُسْمَعُ هذه الْبَيِّنَةُ في انْدِفَاعِ حَقِّ الْوَكِيلِ في النَّقْلِ وَلَا تُسْمَعُ في إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِأَخْذِ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَكَذَا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَالْقِسْمَةُ فيها مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ فيها من حُقُوقِهَا فَيَمْلِكُهَا الْوَكِيلُ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ
هذا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ كانت الْوَكَالَةُ عَامَّةً بِأَنْ قال له وَقْتَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ اصْنَعْ ما شِئْتَ أو ما صَنَعْتَ من شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيَّ أو نحو ذلك وَإِمَّا إن كانت خَاصَّةً بِأَنْ لم يَقُلْ ذلك عِنْدَ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ فَإِنْ كانت عَامَّةً يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَخْرُجُ مَخْرَجَ الْعُمُومِ إجْرَاؤُهُ على عُمُومِهِ
وَإِنْ كانت خَاصَّةً فَلَيْسَ له أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَتَصَرَّفُ بِتَفْوِيضِ الْمُوَكِّلِ فَيَمْلِكُ قَدْرَ ما فَوَّضَ إلَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ ذلك وَقَبَضَ الْوَكِيلُ الثَّانِي لم يَبْرَأْ الْغَرِيمُ من الدَّيْنِ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ إذَا لم يَصِحَّ فَقَبْضُهُ وَقَبْضُ الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ فَإِنْ وَصَلَ إلَى يَدِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ برىء الْغَرِيمُ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِ من هو نَائِبُ الْمُوَكِّلِ في الْقَبْضِ
وَإِنْ هَلَكَ في يَدِهِ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ضَمِنَ الْقَابِضُ لِلْغَرِيمِ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَالْقَبْضُ بِجِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ قَبْضٌ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ على ما مَرَّ وَالْمَقْبُوضُ بِجِهَةِ الْمُبَادَلَةِ مَضْمُونٌ على الْقَابِضِ كَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وكان له أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ على الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ بِتَوْكِيلِهِ بِالْقَبْضِ فَيَرْجِعُ عليه إذْ كُلُّ غَارٍّ ضَامِنٌ لِلْمَغْرُورِ بِمَا لَحِقَهُ من الْعُهْدَةِ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَبْرَأُ الْغَرِيمُ من الدَّيْنِ لِمَا قُلْنَا إنَّ تَوْكِيلَهُ بِالْقَبْضِ لم يَصِحَّ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْغَرِيمَ بِدَيْنِهِ وإذا أَخَذَ منه رَجَعَ الْغَرِيمُ على الْوَكِيلِ الثَّانِي لِمَا قُلْنَا وَيَرْجِعُ الْوَكِيلُ الثَّانِي على الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْغُرُورِ لِمَا قُلْنَا إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لِلْمُوَكِّلِ على إنْسَانٍ مُعَيَّنٍ أو في بَلَدٍ
____________________

(6/25)



____________________

(5/243)


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...