ج7.كتاب الأغاني-أبو الفرج الأصفهاني {ج7. صفحة : 1800.}
قال هارون بن الزيات: وجدت في كتاب القاسم بن يوسف: حدثني الهيثم بن عدي، عن أشعب، قالال: تزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان سكينة، وكان أبخل قرشي رأيته، فخرج حاجا وخرجت سكينة معه، فلم تدع إوزة ولا دجاجة ولا خبيصا ولا فاكهة إلا حملته معها، وأعطتني مائة دينار، وقالت : يا بن أم حميدة اخرج معنا . فخرجت ومعنا طعام عللى خمسة أجمال، فلما أتينا السيالة نزلنا، وأمرت بالطعام أن يقدم، فلما جيء بالأطباق، أقبل أغيلمة من الأنصار يسلمون على زيد، فلما رآهم قال: أوه. خاصرتي. باسم الله، ارفعوا الطعام، وهاتوا الترياق والماء الحار، فأتي به فجعل يتوجرهما حتى انصرفوا، ورحلنا وقد هلكت جوعا، فلم آكل إلا مما اشتريته من السويق فلما كان من الغد أصبحت وبي من الجوع ما لله أعلم به، ودعا بالطعام وأتي به. قال: فأمر بإسخانه، وجاءته مشيخة من قريش يسلمون عليه، فلما رآهم اعتل بالخاصرة، ودعا بالترياق والماء الحار، فتوجره ورفع الطعام، فلما ذهبوا أمر بإعادته، فأتي به وقد برد، فقال لي: يا أشعب، هل إلى إسخان هذا الجاج سبيل? فقلت له أخبرني عن دجاجك هذا? أمن آل فرعون، فهو يعرض على النار غدوا وعشيا.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، عن محمد بن الحكم، عن عوانة، قال: جاء قوم من أهل الكوفة يسلمون على سكينة فقالت لهم: الله يعلم أني أبغضكم: قتلتم جدي عليا، وأبي الحسين، وأخي عليا، وزوجي مصعبا، فبأي وجه تلقونني، أيتمتعوني صغيرة، وأملتموني كبيرة.
أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن المدائني قال: بينما سكينة ذات ليلة تسير، إذ سمعت حاديا يحدو في الليل يقول:
لولا ثلاث هن عيش الدهر فقالت لقائد قطارها. ألحق بنا هذا الرجل، حتى نسمع منه ما هذه الثلاث. فطال طلبه لذلك حتى أتعبها. فقالت لغلام لها: سر أنت حتى تسمع منه، فرجع إليها فقال: سمعته يقول:
الماء والنوم وأم عمرو فقالت: قبحه الله أتعبني منذ الليلة.
قال: وحدثني المدائني أن أشعب حج مع سكينة، فأمرت له بجمل قوي يحمل أثقاله، فأعطاه القيم جملا ضعبفا، فلما جاء إلى سكينة قالت له: أعطوك ما أردت? قال: عرسه الطلاق، لو انه حمل قتبا على الجمل لما حمله، فكيف يحمل محملا .
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة، عن نعيم بن سالم بن علي النصاري، عن سفيان بن حرب، قال: رأيت سكينة بنت الحسين عليه السلام ترمي الجمار، فسقطت من يدها الحصاة السابعة، فرمت بخاتمها مكانها.
وقال هارون بن الزيات: حدثني أبو حذافة السهمي قال: أخبرني غير واحد، منهم محمد بن طلحة: أن سكينة ناقلت بمالها بالزوراء، إلى قصر يقال له البريدي بلزق الجماء، فلما سال العقيق، خرجت ومعها جواريها تمشي، حتى جاءت السيل، فجلست على جوفه، ومالت برجليها في السيل، ثم قالت: هذا في است المغبون . والله لهذه الساعة من هذا القصر خير من الزوراء. قال : وكان البريدي قصرا لا غلة له، وإنما يتنزه فيه، وكانت غلة الزوراء غلة وارة عظيمة .
وقال هارون: وحدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه، وعمه وغيرهما من مشايخ الهاشميين والطالبيين: أن سكينة بنت الحسين عليه السلام، خرجت بها سلعة في أسفل عينها، فكبرت حتى اخذت وجهها وعينها، وعظم شانها، وكان بدراقس منقطعا إليها في خدمتها، فقالت له: ألا ترى ما قد وقعت فيه? فقال: لها أتصبرين على ما يمسك من الأ لم حتى أعالجك? قالت نعم. فاضجعها، وشق حلد وحهها حتى ظهرت السلعة، ثم كشط الجلد عنها أحمع، وسلخ اللحم من تحتها حتى ظهرت عروق السلعة، وكان منها شيء تحت الحدقة، فرفع الحدقة عنه، حتى جعلها ناحية، ثم سل عروق السلعة من تحتها. فاخرجها أجمع، ورد العين إلى موضعها، وعالجها وسكينة مضطجعة لا تتحرك ولا تئن، حتى فرغ مما أراد، فزال ذلك عنها، وبرئت منها، وبقي أثر تلك الجراحة في مؤخر عينها، فكان أحسن شيء في وجهها، وكان أحسن على وجهها من كل حلي وزينة، ولم يؤثر ذلك في نظرها، ولا في عينها.
صفحة : 1801
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: أخبرني عيسى بن إسماعيل، عن محمد بن سلام، عن جرير المذيني، عن المدائني. وأخبرني به محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن محمد بن سلام. وأخبرني به احمد بن عبد العزيز الجوهري، عن عمر بن شبة موقوفا عليه، قالوا: اجتمع في ضيافة سكينة بنت الحسين عليه السلام، جرير والفرزدق وكثير وجميل ونصيب، فمكثوا أياما، ثم أذنت لهم، فدخلوا عليها، فقعدت حيث تراهم ولا يرونها، وتسمع كلامهم، ثم أخرجت وصيفة لها وضيئة وقد روت الأشعار والأحاديث، فقالت: أيكم الفرزدق? فقال لها: هأنذا. فقالت: أنت القائل:
هما دلتاني مـن ثـمـانـين قـامة كما انحط باز أقتم الريش كاسـره
فلما اتوت رجلاي بالأرض قالـتـا أحي يرجى أم قـتـيل نـحـاذره
فقلت ارفعوا الأمراس لا يشعروا بنا وأقبلت في أعجـاز لـيل أبـادره
أبادر بـوابـين قـد وكـلا بـنـا وأحمر من ساج تبض مسـامـره قال: نعم. قالت: فما دعاك إلى إفشاء سرها وسرك? هلا سترتها وسترت نفسك ? خذ هذه الألف، والحق بأهلك.
ثم دخلت على مولاتها وخرجت، فقالت: أبكم جرير? فقال لها: هأنذا. فقالت: أنت القائل:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسـلام
تجرى السواك على أغر كأنه برد تحدر من متون غـمـام
لو كان عهدك كالذي حدثتـنـا لوصلت ذلك فكان غير رمام
إني أواصل من أردت وصاله بحبال لاصـلـف ولا لـوام قال: نعم. قالت أفلا أخذت بيدها، ورحبت بها، وقلت لها ما يقال لمثلها? أنت عفيف وفيك ضعف. خذ هذه الأ لف والحق بأهلك. ثم دخلت على مولاتها وخرجت، فقالت: أيكم كثير? فقال: هأنذا. فقالت: أنت القائل:
وأعجبني يا عز مـنـك خـلائق كرام إذا عد الـخـلائق أربـع
دونك حتى يطمع الطالب الصبـا ودفعك أسباب الهوى حين يطمع
وقطعك أسباب الكريم ووصلك ال لئيم وخلات المكـارم تـرفـع
فوالله ما يدري كريم مـمـاطـل أينساك إذا باعدت أم يتـضـرع قال: نعم. قالت: ملحت وشكلت. خذ هذه الثلاثة الآلاف، والحق بأهلك.
ثم دخلت إى مولاتها وخرجت فقالت: أيكم نصيب? قال: هأنذا. قالت:أأنت القائل:
ولولا أن يقال صبا نصـيب لقلت بنفسي النشأ الصغار
بنفسي كل مهضوم حشاهـا إذا ظلمت فليس لها انتصار قال: نعم. قالت: ربيتنا صغارا، ومدحتنا كبارا. خذ هذه الأربعة الآ لا ف، والحق بأهلك.
ثم دخلت على مولاتها وخرجت، فقالت: يا جميل، مولاتي تقرئك السلام، وتقول لك: والله مازلت مشتاقة لرؤيتك منذ سمعت قولك:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادي القرى إني إذا لسعيد
لكل حديث بينهن بـشـاشة وكل قتيل عندهن شـهـيد جعلت حديثنا بشاشة، وقتلانا شهداء، خذ هذه الأربعة الآ لا ف الدينار، والحق باهلك أخبرني ابن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد عن أبيه، عن أبي عبد الله الزبيري، قال: اجتمع بالمدينة راوية جرير وراوية كثير وراوية جميل وراوية نصيب وراوية الأحوص، فافتخر كل واحد منهم بصاحبه، وقال: صاحبي أشعر. فحكموا سكينة بنت الحسن بن علي عليهما السلام، لما يعرفونه من عقلها وبصرهابالشعر، فخرجوا يتقادون ، حتى استأذنوا عليها، فاذنت لهم، فذكروا لها الذي كان من أمرهم، فقالت لراوية جرير: أليس صاحبك الذي يقول:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسـلام وأي ساعة أحلى للزيارة من الطروق، قبح الله صاحبك، وقبح شعره ألا قال: فادخلي بسلام ثم قالت لراوية كثير: أليس صاحبك الذي يقول:
يقر بعيني ما يقر بـعـينـهـا وأحسن شيء ما به العين قرت فليس شيء أقر لعينها من النكاح، أفيحب صاحبك أن ينكح? قبح الله صاحبك، وقبح شعره ثم قالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فو تركت عقلي معب ما طلبتها ولكن طلابيها لما فات من عقلي
صفحة : 1802
فما أرى بصاحبك من هوى، إنما يطلب عقله، قبح الله صاحبك وقبح شعره ثم قالت لراوية نصيب: أليس صاحبك الذي يقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فيا حربا من ذا يهيم بها بعدي فما أرى له همة إلا من يعشقها بعده قبحه الله وقبح شعره ألا قال:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي ثم قالت لراوية الأحوص: اليس صاحبك الذي يقول:
من عاشقين تواعدا وتراسـلا ليلا إذا نجم الثريا حـلـقـا
باتا بأنـعـم لـيلة وألـذهـا حتى إذا وضح الصباح تفرقا قال: نعم، قالت: قبحه الله وقبح شعره ألا قال: تعانقا.
قال إسحاق في خبره: فلم تثن على أحد منهم في ذلك اليوم، ولم تقدمه.
قال: وذكر لي الهيثم بن عدي مثل ذلك في جميعهم إلا جميلا، فإنه خالف هذه الرواية، وقال: فقالت لراوية جميل: أليس صاحبك الذي يقول:
فيا ليتني أعمى أصم تقودني بثينة لا يخفى علي كلامها قال: نعم. قالت: رحم الله صاحبك كان صادقا في شعره، كان جميلا كاسمه، فحكمت له.
وفي الأشعار المذكورة في الأخبار أغان تذكرها هنا نسبتها.
فمنها:
هما دلتاني من ثـمـانـين قـامة كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالتا أحي يرجى أم قتـيل نـحـاذره عروضه الطويل. الشعر للفرزدق، والغناء للحجي، رمل بالبنصر عن الهشامي وحبش .
وأخبرني: ابو خليفة في كتابه إلي قال: حدثنا محمد بن سلام عن يونس، وحدثنا به اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا محمد بن سلام عن يونس قال: كان للفرزدق غلامان، يقال لأحدهما وقاع، وللآخر زنقطة. قال: ولوقاع يقول الفرزدق:
تغلغل وقاع إليها فـأقـبـلـت تخوض خداريا من الليل أخضر
لطيف إذا ما انغل أدرك ما ابتغى إذا هو للظبي المروع تقـتـرا وله يقول أيضا:
فأبلغهن وحي القول عنـي وأدخل رأسه تحت القرام
أسيد ذو خريطة نـهـارا من المتلقطي قرد القمـام
فقلن له نواعدك الـثـريا وذاك إليه مجتمع الرجام
ثلاث واثنتان فهن خمـس وسادسة تميل مع السنـام
خرجن إلي لم يطمثن قبلي فهن أصح من بيض النعام
فبتن بجانبي مصـرعـات وبت أفض أغلاق الختام في هذه الأبيات الثلاثة لا بن جامع، خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي، وفيها هزج بمان بالوسطى عن عمروبن بانة. وذكر حبش أن الهزج لفليح، وأن لحن ابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى.
أخبرني أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: قال الفرزدق وهو بالمدينة:
هما دلتاني مـن ثـمـانـين قـامة كما انقض باز أقتم الريش كاسـره
فلما استوت رجلاي بالأرض قالـتـا أحي يرجـى أم قـتـيل نـحـاذره
فقلت ارفعوا الأسباب لا بفطنوا بنـا ووليت في أعـجـاز لـيل أبـادره
أبـادر بـوابـين قـد وكـلا بـنـا وأحمر من ساج تبص مـسـامـره
وأصبحت في القوم الجلوس وأصبحت معلقة دوني عـلـيهـا دسـاكـره قال: فانكرت ذلك قريش عليه، وأزعجه مروان عن المدينة وهو واليها المعاوية، وأجله ثلاثة أيام، فقال:
يا مرو إن مطيتي محـبـوسة ترجو الحباء وربها لـم ييأس
واتيتني بصحيفة مـخـتـومة أخشى علي بها حباء النقرس
ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن نكداء مثل صحيفة المتلمـس وقال في ذلك:
وأخرجنى وأجلني ثلاثا كما وعدت لملكها ثمود وذكر ذلك جرير في مناقضة إياه، فقال:
وشبهت نفسك أشقى ثمود فقالوا ضللت ولم تهتـد يعني تاجيل مروان له ثلاثا. وقال فيه أيضا جرير:
تدليت تزني من ثمـانـين قـامة وقصرت عن باع العلا والمكارم وهما قصيدتان.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق: انشدني أجود شعر قلته، فأنشده قوله:
صفحة : 1803
عزفت بأعشاش وما كدت تعـزف وانكرت من حدراء ما كنت تعرف فقال له: زدني. فأنشده قوله:
ثلاث واثنتان فهن خمس وسادسة تميل إلى الشمام فقال له سليمان: ما أظنك إلا قد أحللت بنفسك العقوبة؛ أقررت بالزنا عندي وانا إمام، ولا بد لي من إقامة الحد عليك. قال: إن اخذت في بقول الله عز وجل لم تفعل. قال: وما قال الله عز وجل? قال: قال ) والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم ترأنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون مالا يفعلون( . فضحك سليمان، وقال: تلافيتها ودرأت عن نفسك، وأمر له بجائزة سنية، وخلع عليه.
أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا أبو غسان دماذ؛ عن أبي عبيدة، قال: نزل الفرزدق هو ومن معه بقوم من العرب، فأنزلوه وأكرموه، وأحسنوا قراه، فلما كان في الليل دب إلى جارية منهم، فراودها عن نفسها، فصصاحت، فتبادر القوم إليها، فأخذوها من يده وأنبوه، فجعل يفكر واهتم، فقال له الرجل الذي نزل به: مالك? أتحب أن أزوجك من هذه الجارية. فقال لا، والله. ما ذلك بي، ولكني كأني يأبن المراغة قد بلغه هذا الخبر، فقال في:
وكنت إذا حللت بدار قـوم رحلت بخزية وتركت عارا فقال له الرجل: لعله لا يفطن لهذا. فقال: عسى أن يكون ذلك. قال: فوالله ما لبثوا أن مر بهم راكب ينشد هذاالبيت، فسألوه عنه، فأنشدهم قصيدة لجرير بعيره بذلك الفعل، وفيها هذا البيت بعينه.
ومنها:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا حين الزيارة فارجعي بسـلام
تجري السواك على أغر كأنه برد تحدر من متون غـمـام
هيهات منزلنا بـجـو سـويقة ممن يحل بـواطـن الآجـام
إقر السلام على سعاد وقل لها لوما ترد رسولنـا بـسـلام الشعر لجرير. والغناء لابن سريج: ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن ابن المكي. وذكره إسحاق في هذه الطريقة أيضا ولم ينسبه إلى أحد، وأظنه من منحول يحيى. وذكره عمرو بن بانة أيضا لابن سريج في الثاني والرابع في هذه الطريقة، وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج ثقيل أول في الثاني والثالث، وأنكر ذلك حبش ، وقال:هو بالوسطى. قال علي بن يحيى: ومن الناس من ينسبه إلى سياط. وذكر حبش أن فيه للهذلي خفيف ثقيل بالبنصر، وللغريض ثاني ثقيل بالوسطى. ومنها :
من عاشقين تراسلا وتواعـدا بلقا إذا نجم الثريا حـلـقـا
بعثا أمامهما مخـافة رقـبة رصدا فمزق عنهما ما مزقا
باتا بأنـعـم لـيلة وألـذهـا حتى إذا وضح الصباح تفرقا الشعر للأحوص. والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالبنصر، عن يونس والهشامي.
رجع الحديث إلى أخبار سكينة
وروى أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني، عن أبي يعقوب الثقفي، عن عامر الشعبي، وذكر أيضا أبو عبيدة معمر بن المثنى: أن الفرزدق خرج حاجا، فلما قضى حجه خرج إلى المدينة، فدخل على سكينة بنت الحسين عليه السلام مسلما، فقالت له: يا فرزدق، من أشعر الناس? قال: أنا. قالت: كذبت. أشعر منك الذي يقول:
بنفسي من تجنبـه عـزيز علي ومن زيارته لمـام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ويطرقني إذا هجع النيام قال: والله لئن أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. قالت: أقيموه، فأخرج . ثم عاد إليها من الغد، فدخل عليها، فقالت: يافرزدق، من أشعر الناس? قال: أنا. قالت: كذبت. صاحبك أشعر منك حيث يقول:
لولا الحياء لعادني استعـبـار ولزرت قبرك والحبيب يزار
كانت إذا هجر الضجيع فراشها كتم الحديث وعفت الأسـرار
لا يلبث القرناء أن يتفـرقـوا ليل يكر علـيهـم ونـهـار فقال: والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه. فأمرت به فأخرج؛ ثم عاد إليها في اليوم الثالث، وحولها مولدات كأنهن التماثيل، فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن، فأعجب بها. فقالت: يافرزدق، من أشعر الناس? قال: أنا.
فقالت: كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول:
إن العيون التي في طرفها مرض قتلننا ثم لـم يحـيين قـتـلانـا
يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به وهن أضعف خلق الله أركـانـا
صفحة : 1804
فقال: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن لي عليك حقا عظيما. ضربت إليك من مكة أريد التسليم عليك، فكان في دخولي إليك تكذيبي ومنعك إياي أن أسمعك ، وبي ما قد عيل معه صبري، وهذه المنايا تغدو وتروح، ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت، فإن أنا من فمري أن أدرج في كفني، وأدفن في حر تلك الجارية، يعني الجارية التي أعجبته، فضحكت سكينة، وأمرت له بالجارية، فخرج بها آخذا بريطتها، وأمرت الجواري أن يدفعن في أقفائهما، ثم قالت: يا فرزدق، أحسن صحبتها، فإني آثرتك بها على نفسي.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، وأحمد بن العزيز الجوهري، قالا: حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: حدثني أبي عن أبيه وعمومته وجماعة من شيوخ بني هاشم: أنه لم يصل على أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إمام إلا سكينة بن الحسين عليه اللام، فغنها ماتت وعلى المدينة خالد بن عبد الملك، فأرسلوا إيه، فآذنوه بالجنازة، وذلك في أول النهار في حر شديد، فأرسل إليهم: لا تحدثوا حدثا حتى أجيء فأصلي عليها، فوضع النعش في موضع المصلى على الجنائز، وجلسوا ينظرونه حتى جاءت الظهر، فأرسلوا إليه، فقال: لا تحدثوا فيها شيئا حتى أجيء فجاءت العصر، ثم لم يزالوا ينتظرونه حتى صليت العشاء، كل ذلك يرسلون إليه، فلا يأذن لهم حتى صليت العتمة ولم يجيء، ومكث الناس جلوسا حتى غلبهم النعاس، فقالموا فأقبلوا يصلون عليها جمعا جمعا وينصرفون، فقال علي بن الحسين عليه السلام: من أعان بطيب رحمه الله قال: وإنما أراد خالد بن عبد الملك، فيما ظن قوم، أن تنتن. قال: فأتي بالمجامر، فوضعت حول النعش، ونهض ابن أختها محمد بن عبد الله العثماني، فأتى عطارا كان يعرف عنده عودا، فاشتراه منه بأربعمائة دينار، ثم أتى به، فسجر حول السرير، حتى أصبح وقد فرغ منه، فلما صليت الصبح أرسل إليهم: صلوا عليها وادفنوها. فصلى عليها شيبة بن نصاح .
وذكر يحيى بن الحسين في خبره: أن عبد الله بن حسن ه الذي ابتاع لها العود بأربعمائة دينار.
وأنا الأخضر من يعرفـنـي أخضر الجلدة من بيت العرب
من يساجلني يساجل مـاجـدا يملأ الدلو إلى عقد الكـرب
إنما عبد مـنـاف جـوهـر زين الجوهر عبد المطـلـب
كل قوم صبيغة مـن فـضة وبنو عبد مناف مـن ذهـب
نحن قوم قد بنى الـلـه لـنـا شرفا فوق بيوتات الـعـرب
بنبي اللـه وابـنـي عـمـه وبعباس بن عبد المـطـلـب الشعر للفضل بن العباس اللهبي، والغناء لمعبد، ثقيل أول بالبنصر، في الأول والثاني والثالث. ولابن محرز في الأول والثاني خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر. وذكر يونس أن فيهما لمعبد ومالك وأبن محرز وابن مسجح وابن سريج خمسة ألحان. وذكر الهشامي أن لحن ابن سريج رمل، ولحن مالك خفيف رمل، ولحن معبد خفيف ثقيل، ولحن ابن محرز ثقيل أول. وذكر ابن المكي أن الثقيل الأول المالك. وذكر عمرو بن بانة في كتابه الثاني أن لابن مسجح أو لابن محرز فيه خفيف رمل. وذكر الهشامي أن فيه رملا آخر بالوسطى لأبي سعيد مولى فائد، ولأبي الحسن مولى سكينة، في الثالث والرابع، خفيف ثقيل . وذكر حبش أن لابن صاحب الوضوء الأول والثاني ثاني ثقيل بالبنصر، ولابن سريج ثقيل أول بالبنصر. وذكر حماد عن أبيه: أن لابن عائشة فيهما لحنا، ووافقه ابن المكي. وذكر أنه خفيف رمل. قال: وقيل إنه لدحمان . وذكر ابن خرداذبه أن الخليدة المكية في الرابع والثالث خفيف رمل، وفي الخامس والسادس والأول رمل، يقال إنه لإبراهيم، ويقال إنه لإسحاق. والخامس والسادس من هذه الأبيات، وإن كان شعر الفضل بن العباس اللهي، فليس من القصيدة التي فيها:
وأنا الأخضر من يعرفني لكن من قصيدة له أولها:
شاب رأسي ولداتي لم تشـب بعد لهو وشـبـاب ولـعـب
شيب المفـرق مـنـي وبـدا في حفافي لحيتي مثل العطب في هذين البيتين لهاشم ونفيلة خفيف رمل بالوسطى، والقصيدة التي فيها:
وأنا الأخضر من يعـرفـنـي أخضر الجلدة من نسل العرب أولها قوله:
طرب الشيخ ولا حين طرب وتصابي وصبا الشيخ عجب
أخبار الفضل بن العباس اللهبي ونسبه
صفحة : 1805
الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، واسمه عبد العزى بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وكان أحد شعراء بني هاشم المذكورين وفصحائهم. وكان شديد الأدمة. لذلك قال:
أنا الأخضر من يعرفني وهو هاشمي الأبوين؛ وامه بنت العباس بن عبد المطلب.
أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيدي، عن عمه عبيد الله، عن ابن حبيب. وإنما أتاه السواد من قبل أمه: جدته ، وكانت حبشية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم زوج عتبة إحدى بناته. فلما بعثه الله تعالى نبيا، أقسمت عليه أم حميل أن يطلقها. فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد، أشهد من حضر أني قد كفرت بربك، وطلقت ابنتك. فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث الله عليه كلبا من كلابه يقتله. فبعث الله عز وجل عليه أسدا فافترسه .
أخبرني الحسن بن القاسم البجلي الكوفي قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن المعلى قال: حدثني الوليد بن وهب، عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة قال: لما نزلت: ) والنجم إذا هوى( ، قال عبتة للنبي صلى الله عليه وسلم: أنا أكفر برب النجم إذا هوى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أرسل عليه كلبا من كلابك. قال: فقال ابن عباس: فخرج إلى الشأم في ركب فيهم هبار بن الأسود، حتى إذا كانوا بوادي الغاضرة، وهي مسبعة، نزلوا ليلا، فافترشوا صفا واحدا، فقال عتبة: أتريدون أن تجعلوني حجرة? لا، والله، لا أبيت إلا وسطكم. فبات وسطهم. قال هبار: فما أنبهني إلا السبع يشم رؤوسهم رجلا رجلا، حتى انتهى إليه، فأنشب أنيابه في صدغيه، فصاح: أي قوم قتلني دعوة محمد ، فأمسكوه، فلم يلبث أن مات في أيديهم.
أخبرني الحسن بن الهيثم قال: حدثنا علي بن إبراهيم قال: حدثني الوليد بن وهب، عن أبي حمزة، عن هشام بن عروة، عن أبيه مثله. إلا أنه قال: عتبة: أنا بريء من الذي)دنا فتدلى(. قال: وقال هبار: فضغمه الأسد ضغمة، فالتقت أنيابه عليه.
نسخت من كتاب أبن النطاح عن العهيثم بن عدي. وقد أخبرنا به ممحمد بن العباس اليزيدي في الكتاب الجوابات قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المائني، إلا أن رواية ابن النطاح أتم، واللفظ له، قال: مر الفضل اللبي بالأحوص وهوينشد، وقد اجتمع الناس عليه، فحسده، فقال له: يا أحوص إنك لشاعر، ولكنك لا تعرف الغريب، ولا تعرب. قال: لى، والله إني لأ بصر الناس بالغريب والإعراب، فأسألك ? قال: نعم قال:
ما ذات حبل يراها الناس كلهـم وسط الجحيم فلا تخفى على أحد
كل الحبال الناس مـن شـعـر وحبلها وسط أهل النار من مسد فقال له الفضل بن العباس:
ماذا أردت إلى شتمي ومنقصتي ماذا أردت إلى حمالة الحطب?
أذكرت بنت قروم سادة نجـب كانت حليلة شيخ ثاقب النسـب فانصرف عنه.
قال ابن النطاح: وحدثت أن الحزين الديلي مر بالفضل يوم جمعه، وعنده قوم ينشدهم، فقال له الحزين: أتنشد الشعر والناس يروحون إلى الصلاة? فقال الفضل: ويلك يا حزين أتتعرض لي، كأنك لا تعرفني. قال: بلى والله، إني لأعرفك،، ويعرفك معي كل من قرأ سورة)تبت يدا أبي لهب( . وقال يهجوه:
إذا ما كنت مفتخرا بـجـد فعرج هن أبي لهب قليلا
فقد أخزى الإ له أباك دهرا وقلد عرسه حبلا طـويلا فأعرض عنه الفضل، وتكرم عن جوابه. وكان الحزين مغرى به وبهجائه.
حدثني الحسن بن علي قال: حدثنا القاسم بن محمد الأنباري قال: حدثنا أبو عكرمة عامر بن عمران، قال: دخل الفرزدق المدينة، فنظر إلى الفضل بن العباس بن عتبة ينشد:
من ساجلني يساجل ما جدا يملأ الدلو إلى عقد الكرب فقال الفرزدق: من المنشد? فاخبر به، فقال: ما يساجلك إلا من عض بظر أمه.
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا محمد بن الحكم، قال: قدم الوليد بن عبد الملك حاجا إلى مكة وهو خليفة، فدخل عليه الفضل بن العباس بن عتبة، فشكا إليه كثرة العيال، وسأله فأعطاه مالا وإبلا ورقيقا. فلما مات الوليد ولي سليمان فحج، فأتاه فسأله، فلم يعطه شيئا، فقال:
يا صاحب العيس التي رحلت محبوسة لعشية الـنـفـر
صفحة : 1806
امرر على قبر الوليد فقل له صلى الإ له عليك من قبـر
با واصل الرحم التي قطعت وأصابها الجفوات في الدهر
إني وجدت الخل بعدك كاذبا فبرئت من كذب ومن غدر
ولقد مرر بنسوة ينـد بـنـه بيض السواعد من بني فهر
تبكي لسيدهـا الأجـل ومـا يبكين من ناب ولا بـكـر
يبكينـه ويقـلـن: سـيدنـا ضاع الخلافة آخر الدهـر
ماذا لقيت، جزيت صالـحة من جفوة الإ خوان لو تدري أخبرني وكيع بهذا الخبر، قال: حدثني محمد بن علي بن حمزة قال: حدثنا أو غسان قال: أخبرنا أبو عبيدة عن عبد العزيز بن أبي ثابت، قال: كان الفضل بن العباس منقطعا إلى الوليد بن عبد الملك، فلما مات الوليد جفاه سليمان وحرمه، فقال:
يا راكب العيس التي وقفت للنفر يوم صبيحة النحـر وذكر الأبيات. قال : وكان الوليد فرض له فريضة يعطاها كل سنة، فقال: يا أمير المؤمنين، بقي شارب الريح.
قال: وما شارب الريح? قال: حماري، افرض له شيئا. ففرض له خمسة دنانير، فأخذها ولم يكن يطعمه، فعمد رجل فكتب رقعة يذكر فيها قصة الحمار، وعلقها في عنقه ، وجاء بها إلى القاضي، فأضحك منه الناس.
حدثنا اليزيدي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثني أبو الشكر مولى بن هاشم، كوفي ظريف، قال: كان الفضل بن العباس بخيلا، فقدم علي بن عبد الله بن العباس حاجا، فاتاه في منزله مسلما عليه، فقال له: كيف أنت، وكيف حالك? قال: بخير، نحن في عافية. قال: فهل من حاجة? قال: لا والله، وإني لأشتهي هذا العنب، وقد أغلاه علينا هؤلاء العلوج. فغمز غلاما له، فذهب فأتاه بسلة عظيمة من عنب، فجعل يغسل له عنقودا عقودا ويناوله، فكلما فعل ذلك قال: برتك رحم.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدثنا الزبير بن بكار عن عمه، قال: كان الفضل بن العباس بخيلا، وكان ثقيل البدن، إذا أراد أن يمضي في حاجة استعار مركوبا، فطال ذلك عليه وعلى أهل المدينة من فعله، فقال له بعض بني هاشم: انا أشتري لك حمارا تركبه، وتستغني عن العارية. ففعل، وبعث به إليه، فكان يستعير له سرجا إذا أراد أن يركبه، فتواصى الناس بالأ يعيره أحد سرجا. فلما طال عليه ذلك، اشترى سرجا بخمسة دراهم، وقال:
ولما رأيت المال مألف أهـلـه وصان ذوي الأخطار أن يتبذلوا
رجعت إلى مالي فأعتبت بعضه فأعتبني إن يكـذلـك أفـعـل ثم قال للذي اشترى له الحمار: إني لا أطيق علفه، فإما أن تبعث إلي علفه وإلا رددته. فكان يبعث إليه بعلف كل ليلة وشعير، ولا يدع هو أيضا أن يطلب من كل أحد يأنس به علفا لحماره، فبعث به إليه، فيعلفه التبن دون الشعير، حتى هزل وعطب. فرفع الحزين الكناني إلى ابن حزم أو عبد العزيز بن عبد المطلب رقعة، وكتب في رأسها قصة حمار الفضل اللهبي، وذكر فيها أنه يركبه ويأخذ علفه وقضيمه من الناس، ويعلفه التبن، ويبيع الشعير، ويأخذ ثمنه، ويسأل أن ينصف منه. فضحك لما قرأ الرقعة، وقال: لئن كنت ما زحا إني لأراك صادقا. وأمر بتحويل حمار اللهبي إلى أصطبله، ليعلفه ويقضمه، فإذا أراد ركوبه دفع إليه.
أخبرني وكيع قال: حدثني محمد بن سعد الشامي، عن ابن عائشة، قال: كان الفضل اللهبي بغير سرج، فاستعار سرجا، فمطله الرجل، حتى خاف أن تفوته حاجته، فاشترى سرجا ومضى لحاجته، وأنشأ يقول:
ولما رأيت المال مألف أهله وذكر البيتين ولم يزد عليهما شيئا.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد النوفلي قال: كان أبي عن إسحاق بن عيسى وهو والي البصرة، وعنده وجوه أهل البصرة، وقد كانت فيهم بقية حسنة في ذلك الدهر، فأفاضوا في ذكر بني هاشم، وما أعطاهم الله من الفضل بنبيه صلى الله عليه وسلم، فمن منشد شعرا ومتحدث حديثا، وذاكر فضيلة من فضائل بن هاشم. فقال أبي: قد جمع هذا الكلام الفضل بن العباس اللهبي في بيت قاله، ثم أنشد قوله:
ما بات قوم كرام يدعـون يدا إلا لقومي عليهـم مـنة ويد
نحن السنام الذي طالت شظيته فما يخالطه الأدواء والعمـد
صفحة : 1807
فمن صلى صلاتنا، وذبح ذبيحتنا، عرف أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بما هداه الله عز وجل إلى الإسلام به، ونحن قومه، فتلك منة لنا على الناس.
وفي هذين البتين غناء لابن محرز، هزج بالبنصر في رواية عمرو بن بانة. وقوله وطالت شظيته، الشظية: الشظى ، قال دريد بن الصمة.
سليم الشظى عبل الشوى شنج النسا أمين القوى نهد طويل المقـلـد والعمد: داء يصيب البعير من مؤخر سنامه إلى عجزه، فلا يلبثه أو يقتله .
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، وأحمد بن عبد العزيز الجوهري، قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران، قالا: أخبرني أحمد بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، قال: قدم الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، على عبد الملك بن مروان، فأنشده وعنده ابن لعبيد الله بن زياد، فقال الزيادي: والله ما أسمع شعرا، فلما كان العشي راح إليه الفضل، فوقف بين يديه، ثم قال: يا أمير المؤمنين:
أتيتك حـالا وابـن عـم عـمة ولم أك شعبا لاطه بك مشعـب
فصل واشجات بيننا من قـرابة ألا صلة الأرحام أبقى وأقرب
ولا تجعلني كامرىء ليس بينـه وبينكم قربى ولا منـتـسـب
أتحدب من دون العشيرة كلهـا فأنت على مولاك أحنى وأحدب فقال الزيادي: هذا والله ياأمير المؤمنين، الشعر فقال عبد الملك: النخس يكفيك البطيء . وجعل يضحك من استرسال الزيادي في يده ، وأحسن صلته.
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني النوفلي قال: حدثني عمي قال: لما قدم الفضل اللهبي على عبد المك بن مروان أمر له بعشرة آلاف درهم، ثم حج الوليد فأمر له بمثلها.
فلما قدم الأحيحي على المهدي فمدحه، قال المهدي لم حضر: كم كان عبد الملك أعطى الفضل اللهبي لما مدحه، فما أعلم هاشميا مدحه غيره? فقيل له: أعطاه عشرة آلاف درهم. قال: فكم أعطاه الوليد? قالوا: مثل عطية أبيه فأمر للأحيحي بثلاثين ألف درهم.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني أحمد بن معاوية، عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي، قال: خرج علي بن عبد الله بن العباس بالفضل اللهبي إلى عبد الملك بن مروان بالام، فخرج عبد الملك يوما رائحا على نجيب له، ومعه بغلة تجنب، فحدا حادي عبد الملك به، فقال:
يأيها الـبـكـر الـذي أراكـا عليك سهل الأرض في ممشاكا
ويلك هل تعلـم مـن عـلاكـا إن ابن مروان علـى ذراكـا
خليفة الله الذي امـتـطـاكـا لم يعل بكرا مثل من عـلاكـا فعارضه الفضل اللهبي، فحدا بعلي بن عبد الله بن عباس، فقال:
يأييها السائل عن عـلـي سألت عن بدر لنا بدري
أغلب في العلياء غالبـي ولين الشمسة هاشـمـي
جاء على بكر له مهري فنظر عبد الملك إلى علي فقال: أهذا مجنون آل أبي لهب? قال: نعم. فلما أعطى قريشا مر به اسمه فحرمه، وقال: يعطيه علي. هكذا رواية عمر بن شبة.
وأخبرني ابن عمار بهذا الخبر عن علي بن محمد بن النوفلي عن عمه: أن سليمان بن عبد الملك حج في خلافة الوليد، فجاء إلى زمزم فجلس عندها، ودخل الفضل اللهبي يستقي، فجعل يرتجز ويقول:
يأيها السائل عن عـلـي سألت عن بدر لنا بدري
مقدم في الخير أبطحـي ولين الشيمة هاشـمـي
زمزمنا بوركت من ركي بوركت للساقي وللمسقي فغضب سليمان، وهم بالفضل. فكفه عنه علي بن عبد الله، ثم أتاه بقدح فيه نبيذ من نبيذ السقاية، فأعطاه إياه، وسأله أن يشربه، فاخذه من يده كالمتعجب، ثم قال: نعم إنه يستحب، ووضعه في يده ولم يشربه. فلما ولي الخلافة وحج لقيه الفضل، فلم يعطه شيئا.
نسخت من كتاب ابن النطاح، قال: ذكر أبو الحسن المدائني أن الحارث بن خالد المخزومي، كان يحسد الفضل اللهبي على شعره ويعاديه، لأن أبا لهب كان قامر جده العاصي بن هشام على ماله فقمره، ثم قامره على رقة فقمره ، فأسلمه قينا، ثم بعث به بديلا يوم بدر، فقتله علي بن أبي طالب عليه السلام، فكان إذا أنشد شيئا من شعر ابن حمالة الحطب. فقال الفضل في ذلك:
صفحة : 1808
ماذا تحاول من شتمي ومنقصـتـي ماذا تعير من حمالة الـحـطـب
غراء سائلة في المجـد غـرتـهـا كانت حليلة شيخ ثاقب الـنـسـب
إنا وإن رسـول الـلـه جـاءبـنـا شيخ عظيم شئون الرأس والنشـب
يالعن الله قـومـا أنـت سـيدهـم في جلدة بين أصل الثيل والـذنـب
أبا لقيون توافينـي تـفـاخـرنـي وتدعي المجد قد أفرطت في الكذب
وفي ثلاثة رهط أنـت رابـعـهـم توعدني واسطا جرثـومة الـعـب
في أسرة من قريش هم دعائمـهـا تشفي دماؤهم للخـيل والـكـلـب
أما أبوك فعبد لـسـت تـنـكـره وكان ما لكه جـدي أبـو لـهـب
النبع عيداننا والمجـد شـيمـتـنـا لسنا كقومك من مرخ ولا غـرب أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله بن محمد، عن ابن حبيب، عن ابن الأعرابي قال: كان رجل من بني كنانة يقال له عقرب حناط قد داين الفضل اللهبي فمطله، ثم مر به الفضل وهو يبيع حنطة له، ويقول:
جاءت بها ضابطة التجار صافيه كقطع الأوتـار فقال الفضل:
قد تجرت عقرب في سوقنا ياعجبا للعقرب التـاجـره
قد صافت العقرب واستقينت أن مالها دنـيا ولا آخـره
فإن تعد عادة لما سـاءهـا وكانت النعل لها حاضـره
إن عدوا كيده فـي إسـتـه لغير ذي كـيد ولا نـائره
كل عدو يتقـى مـقـبـلا وعقرب تخشى من الدابره
كأنها إذ خرجـت هـودج شدت قواه رفعة بـاكـره أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا دماذ أبو غسان، عن أبي عبيدة. ووجدته في بعض الكتب عن الرياشي عن زكويه العلائي عن ابن عائشة عن أبيه، والروايتان كالمتفقتين: أن عمر بن أبي ربيعة وفد على عبد المك بن مروان، فأدخل عليه، فسأله عن نسبه، فانتسب، فقال له:
لا أنعم الله بقين عينـا تحية السخط إذا التقينا أأنت لا أم لك القائل:
نظرت إليها بالمحصب من منـى ولي نظر لولا التـحـرج عـارم
فقلت: أشمس أم مصابـيح بـيعة بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
بعيدة مهرى القرط إما لـنـوفـل أبوها وإما عبد شمـس وهـاشـم الغناء لابن سريج: رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة، ومن رواية حماد بن إسحاق عن أبيه. ولمعبد فيه لحن من رواية إسحاق: ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر ، أوله:
بعيدة مهوى القرط إما النوفل وفي لحن معبد خاصة قوله:
ومد عليها السجف يوم لقيتها على عجل تباعها والخوادم وتمام الشعر:
فلم أستطعها غير أن قد بـدا لـنـا عشية راحت كفها والمـعـاصـم
معاصم لم تضرب على الهم بالضحى عصاها، ووجه لم تلحه السـمـائم نرجع إلى سياقة الخبر: ثم قال له عبد الملك: قالتلك الله ما ألأمك أما كنت لك في بنات العرب مندوحة عن بنات عمك فقال عمر: بئست والله هذه التحية يا أمير المؤمنين لابن العم، على شحط الدار، ونأي المزار. فقال له عبد الملك: أراك مرتدعا عن ذلك? فقال: إني إلى الله تعالى تائب. فقال عبد الملك: إذن يتوب الله عليك، وسيحسن جائزتك.
ولكن أخبرني عن منازعتك اللهبي في المسجد الجامع، فقد أتاني نبأ ذلك، وكنت أحب أن سمعه منك. قال عمر: نعم يا أمير المؤمنين، بينا أنا جالس في المسجد الحرام، في جماعة من قريش، إذ دخل علينا الفضل بن العباس بن عتبة، فسلم وجلس، ووافقني وأنا أتمثل بهذا البيت:
وأصبح بطن مكة مقشعـرا كأن الأرض ليس بها هشام فأقبل علي وقال: يا أخا بني مخزوم، والله إن بلدة تبحبح بها عبد المطلب، وبعث منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقر بها بيت الله عز وجل، لحقيقة ألا تقشعر لهشام، وإن أشعر من هذا البيت وأصدق قول من يقول:
إنما عبد مناف جـوهـر زين الجوهر عبد المطلب فأقبلت عليه فقلت: يا أخا بني هاشم، إن أشعر من صاحبك الذي يقول:
إن الدليل على الخيرات أجمعها أبناء مخزوم ، للخيرات مخزوم
صفحة : 1809
فقال لي: أشعر والله من صاحبك الذي يقول:
جبريل أهدى لنا الخيرات أجمعها إذ أم هاشم لا أبنـاء مـخـزوم فقلت في نفسي: غلبني والله. ثم حملني الطمع في انقطاعه علي، فخاطبته فقلت: بل أشعر منه الذي يقول:
أبناء مخزوم الـحـريق إذا حركته تارة ترى ضرمـا
يخرج منه الشرار مع لهب من حاد عن حره فقد سلما فو الله ما تعلثم أن أقبل علي بوجهه فقال: يا أخا بني مخزوم، أشعر من صاحبك وأصدق الذي يقول:
هاشم بحر إذا سما وطـمـا أحمد حر الحريق واضطرما
واعلم وخير المقال أصدقـه بأن من رام هاشما هشـمـا قال: فتمنيت والله يا أمير المؤمنين أن الأرض ساخت بي، ثم تجلدت عليه فقلت: يا أخا بني هشام، أشعر من صاحبك الذي يقول:
أبناء مخزوم أنجم طلعـت للناس تجلو بنورها الظلما
نجود بالنيل قبل تـسـألـه جودا هنيئا وتضرب البهما فأقبل علي بأسرع من اللحظ ، ثم قال: أشعر من صاحبك وأصدق الذي يقول:
هاشم شمس بالسعد مطلعها إذا بدت أخفت النجوم معا
اختار منها ربي النبي فمن قارعها بعد أحمد قرعـا فاسودت الدنيا في عيني ، وديربي، وانقطعت، فلم أحر جوابا. ثم قلت له: يا أخا بني هاشم، إن كنت تفخر علينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يسعنا مفاخرتك. فقال: كيف? لا أم لك، والله لو كان منك لفخرت به علي. فقلت: صدقت وأستغفر الله، إنه لموضع الفخار. وداخلني السرور لقطعه الكلام، ولئلا ينالني عوز عن إجابته فأفتضح. ثم إنه ابتأ بالمناقضة، فأفكر هنيهة، ثم قال: قد قلت فلم أجد بدا من الاستماع، فقلت: هات. فقال:
نحن الذين إذا سما لفـخـارهـم ذو الفخر أقعده هناك القـعـدد
افخر بنا إن كنت يوما فـاخـرا تلق الألى فخروا بفخرك أفردوا
قل يا بن مخزوم لكل مفـاخـر منا المبارك ذو الرسالة أحمـد
ماذا يقول ذوو الفخار هنا لكـم هيهات ذلك هل ينال الفـرقـد فحصرت واله وتبلدت، وقلت له: إن لك عندي جوابا فأنظرني. وأفكرت مليا، ثم أنشأت أقول:
لا فخر إلا قد عـلاه مـحـمـد فإذا فخرت به فـإنـي أشـهـد
أن قد فخرت وفقت كل مفاخـر وإليك في الشرف الرفيع المعمد
ولنا دعـائم قـد بـنـاهـا أول في المكرمات جرى عليها المولد
من رامها حاشى النبي وأهـلـه بالفخر غطمطه الخليج المزبـد
دع ذا ورح لغنـاء خـود بـضة مما نطقت به وعنى مـعـبـد
مع فتية تندى بطـون أكـفـهـم جودا إذا هر الزمـان الأنـكـد
يتـنـاولـون سـلافة عـانـية طابت لشاربها وطاب المقـعـد فوالله يا أمير المؤمنين، لقد أجابني بجواب كان أشد علي من الشعر. قال لي: يا أخا بني مخزوم، أريك السها وتريني القمر-قال أبو عبد الله اليزيدي : أدلك على الأمر الغامض، وأنت لم تبلغ أن ترى الأمر الواضح. هذا مثل- أتخرج من المفاخرة إلى شرب الراح، وهي الخمر المحرمة? فقلت له: أما علمت أصلحك الله أن الله عز وجل يقول في الشعراء:)وأنهم يقولون مالا يفعلون( . فقال: صدقت، وقد استثنى الله قوما منهم، فقال )إلا الذين آمنو وعملوا الصالحات( ، فإن كنت منهم فقد دخلت تحت الاستثناء، وقد استحققت العقوبة بدعائك إليها؛ وإن لم تكن منهم فالشرك بالله عليك أعظم من شرب الخمر. فقلت: أصلحك الله، لا أجد للمستخذي شيئا أصلح من السكوت. فضحك وقال: أستغفر الله. وقام عني.
قال: فضحك بعبد الملك حتى استلقى، وقال يا بن أبي ربيعة، أما علمت أن لبني عبد مناف ألسنة ل تطاق، ارفع حوائجك. قال: فرفعتها فقضاها، وأحسن جائزتي وصرفني .
واللفظ في هذا الخبر لمحمد بن العباس .
ذكر خبر من لم يمض له خبر ولا يأتي ممن ذكرت صنعته في هذا الخبر منهم خليدة المكية، وهي مولاة لابن شماس، كانت هي وعقيلة وربيحة يعرفن بالشماسيات، وقد أخذن الغناء عن ابن سريج ومعبد ومالك.
فأخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا: حدثنا الزبير بن بكار، عن عمه قال:
صفحة : 1810
كانت لهشام بن عروة جفنية يصيب منها هو وبنوه ناحية ، وكان محمد بن هشام يصنع الطعام الرقيق، فيشير إليهم، فيمسكون عن الأكل، فيفطن هشام، فيقول: لقد حدث شيء، ثم يقوم محمد، فيتسلل القوم إله، وجاءت خليدة المكية، فصعدوا غرفة، فلما غنت إذا حفز ونفس، فإذا هو هشام قد طلع وهو ينشد:
يا قدمي ألحقاني بالقـوم لا تعداني كسلا بعد اليوم فلما رآهم، قال: أحسبه قد جلس معهم. وقال الخليدة: غني. فغنت. فقال لها: أكتبي في صدرك)قل هو الله أحد والمعوذتين( لا تصيبك العين.
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب، عن ابن خرداذبه قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن الفضل بن الربيع قال: مارأيت ابن جامع يضرب لقناء كا يطرب لغناء خليدة المكية، وكانت سوداء، وفيها يقول الشاعر:
فتنت كاتب الأمير رياحا يا لقوم خليدة المكـية أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة، ونسخت هذا الخبر بعينه من كتاب جعفر بن قدامة بخطه، قال: حدثني عمر بن شبة قال: بلغني أن محمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان أرسل إلى خليدة المكية أبا عون مولاه بخطبها عليه.
فاستأذن فأذنت له وعليها ثياب رقاق لا تسترها، ثم وثبت، فقالت: إنما ظننتك بعض سفهائك، ولكني أبس لك ثياب مثلك، ثم أخرج إليك. ففعلت. وقالت: قل. قال: أرسلني إليك مولاي، وهو من تعلمين بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين علي وعثمان، وهو ابن عم أمير المؤؤمنين، يخطبك. وقالت: قد نسبته فأبلغت، فاسمع نسبي أنا، بأبي أنت.
إن أبي بيع على غير عقد الإسلام ولا عهده، فعاش عبدا، ومات وفي رجله قيد، وفي عنقه سلسلة، وعلى الإباق والسرقة؛ وولدتني أمي على غير رشدة، وماتت وهي آبقة، فأنا من تعلم. فإن أراد صاحبك نكاحا مباحا، أو زنا صراحا، فهلم إليه، فنحن له. فقال: إنه لا يدخل في الحرام. قالت: ولا ينبغي أن يستحس من الحلال. فأما نكاح اسر فلا. والله لا فعلته، ولا كنت عارا على القيان. قال: فاتيت محمدا فأخبرته، فقال: ويلك أتزوجها معلنا وعندي بنت طلحة بن عبيد الله لا. ولكن ارجع إليها، فقل لها تختلف إلي أردد بصري فيها، لعلي أسلو. فرجعت فأبلغتها الرسالة، فضحكت، وقالت: اما هذا فنعم. لسنا نمنعه منه.
رب لـيل نـاعـم أحـييتـه في عفاف عند قباء الحشـى
ونهار قد لهـونـا بـالـتـي لا نرى شبها لها فيمن مشى
لطلوع الشمس حتـى آذنـت بغروب عن إبان الـعـشـا
لسليمى ما دعـت قـمـرية بهديل فوق غصن من غضى
وعقار قهـوة بـاكـرتـهـا في ندامى كمصابيح الدجـى
وجواد سابـح أقـحـمـتـه حومة الموت على زرق القنا الشعر للمهاجر بن خالد بن الوليد، فيما ذكر الزبير بن بكار. وذكر أبو عمر الشيباني وخالد بن كلثوم: أنه لابنه خالد بن المحاجر. والغناء لابن محرز، ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق؛ وفيه لإبراهيم الموصلي لحنان، أحدهما هزج خفيف بالسبابة، في مجرى البنصر، عن إسحاق وابن المكي، والآخر رمل بالبنصر، عن عمرو وابن المكي والهشامي. وفيه لمعبد خفيف ثقيل بالخنصر والبنصر، عن ابن المكي. قال: وفيه لمالك خفيف ثقيل آخر، نشيد ، ووافقه عمرو الهشامي، وذكر عمرو في نسخته الأولى أنه لابن محرز، والمعمول عليه الرواية الثانية.
أخبار المهاجر بن خالد ونسبه
وأخبار ابنه خالد
المهاجر بن خالد بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وكان الوليد بن المغيرة سيدا من سادات قريش، وجوادا من جوادئها . وكان يلقب بالوحيد. وامه صخرةبنت الحارث بن عبد الله بن عبد شمس، امرأة من بجيلة، ثم من قسر. ولما مات الوليد بن المغيرة أرخت قريش بوفاته مدة، لإعظامها إياه، حتى كان عام الفيل، فهلوه تاريخا. هكذا ذكر ابن دأب.
وأما الزبير بن بكار فذكر عن عمرو بن أبي بكر المؤملي، أنها كانت تؤرخ بوفاة هشام بن المغيرة تسع سنين، إلى أن كانت السنة التي بنوا فيها الكعبة، فأرخوا بها.
صفحة : 1811
ولخالد بن الوليد من الشهرة بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والغناء في حروبه المحل المشهور، ولقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله، وهاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح وبعد الحديبية هو وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة. فقال: النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم: رمتكم مكة بأفلاذ كبدها. وشهد فتح مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم؛ فكان أول من دخلها في مهاجرة العرب من أسفل مكة، وشهد يوم مؤته. فلما قتل زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، ورأى الا طاقة للمسلمين بالقوم، انحاز بهم، وحامى عليهم حتى سلموا، فلقبه يومئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيف الله.
حدثنا بذلك أجمع الحرمي بن أبي العلاء والطوسي عن الزبير بن بكار.
وكان خالد يوم حنين في مقدمة رسول الله صلى اله عليه وسلم ومعه بنو سليم، فأصابته جراح كثيرة، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هزيمة المشركين، فنفث على جراحه، فاندنلت ونهض. وله آثار في قتال أهل الردة، في أيام أبي بكر رضي الله عنه مشهورة، يطول ذكرها. وهو فتح الحيرة، بعث إليه أهلها عبد المسيح بن عمرو بن بقيلة، فكلمه خالد، فقال له: من أين أقبلت? قال: من ورائي. قال: وأين تريد? قال: أمامي. قال: ابن كم أنت? قال: ابن رجل وامرأة.
قال: فأين أقصى أثرك? قال: منهى عمري. قال: أتعقل? قال: نعم، وأفيد. قال: ما هذه الحصون? قال: بنيناها نتقي بها السفيه حتى يردعه الحليم. قال: لأمر ما اختارك قومك، ما هذا في يدك? قال: سم ساعة. قال: وما تصنع به? قال: أردت أن أنظر ما تردني به: فإن بلغت ما فيه صلاح لقومي عدت إليهم، وإلا شربته، فقتلت نفسي، ولم أرجع إلى قومي بما يكرهون. فقال له خالد: أرنيه. فناوله إياه. فقال خالد باسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثم أكله، فتجللته غشية، ثم أفاق يمسح العرق عن وجهه.
فرجع ابن بقيلة إلى قومه، فأخبرهم بذلك، وقال: ما هؤلاء القوم إلا من الشياطين، وما لكم بهم طاقة، فصالحوعم هلى ما يريدون. ففعلوا.
أخبرني بذلك إبراهيم بن السري، عن يحيى التميمي، عن أبيه، عن شعيب بن سيف، وأخبرني به الحسن بن علي عن الحارث بن محمد عن محمد بن سعد، عن الواقدي.
وأمره أبو بكر على جنيع الجيوش التي بعثها إلى الشام لحرب الروم، وفيهم أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، فرضوا به وبإمارته.
قالوا: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حلق رأسه ذات يوم، فأخذ خالد شعره، فجعله في قلنسوة له، فكان لا يلقى جيشا وهي عليه إلا هزمه.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم الحديث، وحمل عنه. ورآه النبي صلى الله عليه وسلم متدليا من هرشى فقال: نعم الرجل خالد بن الوليد.
أخبرنا بذلك الطوسي والحرمي قالا: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني يعقوب بن محمد عن عبد العزيز بن محمد، عن عبد الواحد بن أبي عون، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك له.
قال الزبير: وحدثني محمد بن سلام، عن أبان بن عثمان قال: لما مات خالد بن الوليد لم تبق امرأة من بني المغيرة إلا وضعت لمتها على قبره، يعني حلقت رأسها، ووضعت شعرها على قبره.
قال ابن سلام: وقال يونس النحوي: إن عمر رضي الله عنه قال حينئذ: دعوا نساء بني المغيرة يبكين أبا سليمان، ويرقن من دموعهن سجلا أو سجلين، ما لم يكن نقع أو لقلقة قال: والنقع: مد الصوت بالنحيب. واللقلقة: حركة اللسان بالولولة ونحوها.
قال الزبير، فيما ذكره لي من رويت عنه: حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أشبه الناس بخالد بن الوليد، فخرج عمر سحرا، فلقيه شيخ، فقال له: مرحباأ بك يا أبا سليمان، فنظر إليه عمر، فإذا هو علقمة بن علاثة، فرد عليه السلام. فقال له علقمة: عزلك عمر بن الخطاب? فقال له عمر: نعم. قال: ما شبع، لا أشبع الله بطنه قال له عمر: فما عندك? قال: ما عندي إلا السمع والطاعة.
صفحة : 1812
فلما أصبح عمر دعا بخالد، وحضره علقمة بن علاثة، فأقبل على خالد، فقال له: ماذا قال لك علقمة? قال: ما قال لي شيئا. قال: اصدقني. فحلف خالد بالله ما لقيه، ولا قال له شيئا. فقال له علقمة: حلا أبا سليمان. فتبسم عمر، فعلم خالد أن علقمة قد غلط، فنظر إليه، وفطن علقمة، فقال له: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين، فاعف عني، عفا الله عنك. فضحك عمر وأخبره الخبر.
أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن الحارث الخراز قال: حدثنا المدائني، عن شيخ من أهل الحجاز، عن زيد بن رافع مولى المهاجر بن خالد بن الوليد، وعن أبي ذئب ، عن أبي سهيل أو ابن سهيل: أن معاوية لما أراد أن يظهر العهد ليزيد، قال لأهل الشام: إن أمير المؤمنين قد كبرت سنة، ورق جلده، ودق عظمه، واقترب أجله، ويريد أن يستخلف عليكم، فمن ترون? فقالوا: عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. فسكت وأضمرها، ودرس ابن أثال الطبيب إليه، فسقاه سما فمات. وبلغ ابن أخيه خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد خبره وهو بمكة، وكان أسوأ الناس رأيا في عمه، لأن أباه المهاجر كان مع علي السلام بصفين، وكان عبد الرحمن بن خالد بن الوليد مع معاوية، وكان خالد بن المهاجر على رأي أبيه: هاشمي المذهب، ودخل مع بني هاشم الشعب، فاضطغن ذلك ابن الزبير عليه، فألقى عليه زق خمر، وصب بعضه على رأسه، وشنع عليه بأنه وجده ثملا من الخمر، فضربه الحد. فلما قتل عمه عبد الرحمن مربه عروة بن الزبير، فقال له: يا خالد: أتدع ابن أثال ينقي أوصال عمك بالشأم وأنت بمكة مسبل إزارك، تجره وتخطر فيه متخايلا? فحمي خالد، ودعا مولى له يدعى نافعا، فأعلمه الخبر، وقال له: لا بد من قتل ابن أثال؛ وكان نافع جلدا شهما.
فخرجا حتى قدما دمشق، وكان ابن أثال يمسي عند معاوية، فجلس له في مسجد دمشق إلى أسطوانة، وجلس غلامه إلى أخرى، حتى خرج. فقال خالد لنافع: إياك أن تعرض له أنت، فإني أضربه، ولكن احفظ ظهري، واكفني من ورائي، فإن رابك شيء يريدني من ورائي فشأنك. فلما حاذاه وثب عليه فقتله، وثار إليه من كان معه. فصاح بهم نافع فانفرجوا، ومضى خالد ونافع، وتبعهما من كان معه، فلما غشوهما حملا عليهم، فتفرقوا، حتى دخل خالد ونافع زقاقا ضيقا، فففاتا القوم. وبلغ معاوية الخر، فقال: هذا خالد بن المهاجر، اقبلوا الزقاق الذي دخل فيه. ففتش عليه، فأتي به. فقال: لا جزاك الله من زائر خيرا، قتلت طبيبي. قال: قتلت المأمور وبقي الآمر. فقال له: عليك لعنة الله لو كان تشهد مرة واحد لقتلتك به، أمعك نافع? قال: لا. قال: بلى والله ما اجترأت إلا به. ثم أمر بطلبه فوجد، فأتي به، فضربه مئة سوط. ولم يهج خالدا بشيء أكثر من أن حبسه، وألزم بني مخزوم دية ابن أثال، اثني عشر ألف درهم. أدخل بيت المال منها ستة آلاف درهم، وأخذ ستة آلاف درهم، ولم يزل ذلك يجري في دية المعاهد، حتى ولي عمر بن عبد العزيز، فأبطل الذي يأخذه السلطان لنفسه، وأثبت الذي يدخل بيت المال.
وخالد بن المهاجر الذي يقول:
يا صاح يا ذا الضامر العنس والرحل ذي الأنساع والحلس
سير النهار ولست تـاركـه وتجد سيرا كلما تـمـسـي في هذين البيتين وبيت ثالث لم أجده في شعر المهاجر، ولا أدري أهو له أم ألحقه به المغنون، لحنان: ثقيل أول، وخفيف ثقيل. ذكر يونس أن أحدهما لمالك، ولم يذكر طريقة لحنه، ووجدته في جامع غناء معبد، عن الهشامي.
ويحيى المكي له فيه خفيف ثقيل. وهكذا ذكر علي بن يحيى أيضا، ولعله رواه عن ابن المكي. وإن كان هذا لمعبد صحيحا، فلحن مالك هو الثقيل الأول. وذكر حبش، وهو ممن لا يحصل قوله: أن لحن معبد ثقيل أول بالوسطى.
رجع الخبر إلى سياقة خبر خالد
خالد يحرض عروة بن الزبير على قتل بن جرموز قال: ولما حبس معاوية خالد بن المهاجر قال في الحبس:
إما خـطـاي تـقـاربـت مشى المقيد في الحصـار
فبما أمـشـي فـي الأبـا طح يقتفي أثـري إزاري
دع ذا ولكـن هـل تـرى نارا تشـب بـذي مـرار
ما إن تـشـب لـقـــرة للمصطـلـين ولا قـتـار
ما بـال لـيلـك لـيس ين قص طوله طول النهـار
لتـقـاصـر الأزمـان أم غرض الأسير من الإسار?
صفحة : 1813
قال: فبلغت أبياته معاوية، فرق له وأطلقه. فرجع إلى مكة. فلما قدمها لقي عروة بن الزبير، فقال له: أما ابن أثال فقد قتلته، وذاك ابن جرموز ينقي أوصال الزبير بالبصرة، فاقتله إن كنت ثائرا. فشكاه عروة إلى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأقسم عليه أن يمسك عنه، ففعل.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني يعقوب بن نعيم قال: حدثني إسحاق بن محمد قال: حدثني عيسى بن محمد القحطبي قال: حدثني محمد بن الحارث بن يسخنر قال: غنى إبراهيم بن المهدي يوما بحضرة المأمون وأنا حاضر:
يا صاح يا ذا الضامر العنس والرحل ذي الأقتاب والحلس قال: وكانت لي جائزة قد خرجت، فقلت: تأمر سيدي يا أمير المؤمنين بإلقاء هذا الصوت علي مكان جائزتي، فهو أحب إلي منها? فقال له: يا عم، ألق هذا الصوت على محمد. فألقاه علي حتى إذا كدت أن أخذه قال: اذهب فأنت أحذق الناس به. فقلت: إنه لم يصلح لي بعد. قال: فاغد غدا علي. فغدوت عليه، فأعاده ملتويا ، فقلت له: أيها الأمير، لك في الخلافة ما ليس لأحد؛ أنت ابن الخليفة، وأخو الخليفة، وعم الخليفة، تجود بالرغائب، وتبخل علي بصوت? فقال: ما أحمقك إن المأمون لم يستبقني محبة لي، ولا صلة لرحمي، ولا ليرب المعروف عندي، ولكنه سمع من هذا الجرم ما لم يسمعه من غيره. قال: فاعلمت المأمون بمقالته. فقال: إنا لا نكدر على أبي إسحاق عفونا عنه، فدعه. فلما كانت أيام المعتصم نشط للصبوح يوما، فقال: أحضروا عمي. فجاء في دراعة بغير طيلسان، فأعلمت المعتصم بخبر الصوت سرا، فقال: يا عم غنني: فغناه. فقال: ألقه على محمد، فقال: قد فعلت، وقد سبق مني قول الآ أعيده عليه. ثم كان يتجنب أن يغنيه حيث أحضر.
أقفر بعد الأحـبة الـبـلـد فهو كان لم يكن بـه أحـد
شجاك نؤي عفت معالمـه وهامد في العراص ملتبـد
أمك عـنـسـية مـهـذبة طابت لها الأمهات والقصد
تدعى زهيرية إذا انتسبـت حيث تلاقى الأنساب والعدد الشعر لحمزة بن بيض، والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لا بن عباد ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وعمرو وابن المكي.
أخبار حمزة بن بيض ونسبه
حمزة بن بيض الحنفي: شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، كوفي خليع ماجن، من فحول طبقته. وكان كالمنقطع إلى المهلب بن أبي صفرة وولده، ثم إلى أبان بن الوليد، وبلال بن أبي بردة. واكتسب بالشعر من هؤلاء مالا عظيما، ولم يدرك الدولة العباسية.
أخبرني عمي قال: حدثنا أبو هفان قال: أخبرني أبو محلم عن المفضل قال: أخذ حمزة بن بيض الحنفي بالشعر ألف ألف درهم، من مال وحملان وثياب ورقيق غير ذلك.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أبو توبة، قال: قدم حمزة بن بيض على بلال بن أبي برده، فلما وصل إلى بابه قال لحاجبه: استأذن لحمزة بن بيض الحنفي، فدخل الغلام إلى بلال، فقال: حمزة لن بيض بالباب. وكان بلال كثير المزح معه، فقال: اخرج إليه فقل: حمزة بن بيض ابن من? فخرج الحاجب إليه، فقال له ذلك. فقال: ادخل فقل له: الذي جئت إليه إلى بنيان الحمام وأنت أمرد، تسأله أن يهب لك طائرا، فأدخلك وناكك، ووهب لك طائرا . فشتمه الحاجب. فقال له: ما أنت وذا? بعثك برسالة، فأخبره بالجواب. فدخل الحاجب وهو مغضب، فلما رأه بلال ضحك، وقال: ما قال لك قبحه الله? قال: ما كنت لأخبر الأمير بما قال:. فقال: يا هذا، أنت رسول فأد الجواب. قال: فأبى. فأقسم عليه حتى أخبره. فضحك حتى فحص برجله، وقال: قل له: قد عرفنا العلامة فادخل، فدخل فأكرمه، ورفعه، وسمع مديحه، واحسن صلته.
قال: وأراد بقوله)ابن بيض ابن من?( قول الشاعر فيه:
أنت ابن بيض لعمري لست أنكره وقد صدقت، ولكن من أبو بيض? أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن الحسن الأحول، عن الأثرم، عن أبي عمرو، وأخبرني وكيع قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن عبيد بن سفيان، قال: حدثني أبو الحسن الشيباني قال: حدثني شعيب بن صفوان، قال: قدم حمزة بن بيض على مخلد بن يزيد بن المهلب وعنده الكميت، فأنشده قوله فيه:
صفحة : 1814
أتيناك في حاجة فاقضـهـا وقل مرحبا يجب المرحـب
ولا تكلنا إلـى مـعـشـر متى يعدوا عـدة يكـذبـوا
فإنك في الفرع مـن أسـرة لهم خضع الشرق والمغرب
وفي أدب منهم ما نـشـأت ونعم لعمـرك مـا أدبـوا
بلغت لعشر مضت من سني ك ما يبلغ السـيد الأشـيب
فهمك فيها جسـام الأمـور وهم لداتـك أن يلـعـبـوا
وجدت فقـلـت ألا سـائل فيعطى ولا راغب يرغـب
فمنك العطية لـلـسـائلـين وممن ينوبك أن يطلـبـوا فأمر له بمئة ألف درهم، فقبضها. قال وكيع في خبره: وسأله عن حوائجه، فأخبره بها، فقضى جميعها. وقال أيضا في خبرة: فحسده الكميت. فقال له: يا حمزة، أنت كمهدي التمر إلى هجر، قال: نعم، ولكن تمرنا أطيب من تمر هجر.
أخبرني علي بن سليمان قال: حدثني محمد بن يزيد النحوي، قال: قال الجاحظ: أصاب حمزة بن بيض حصر ، فدخل عليه قوم يعودونه وهو في كرب القولنج، إذ ضرط رجل منهم، فقال حمزة: من هذا المنعم عليه? أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهروية قال: قال علي بن الصباح: حدثني هشام بن محمد، عن الشرقي، قال: زعم هشام بن عروة أن عبد الحمن بن عنبسة مر فإذا هو بغلام أصبح الغلمان وأحسنهم، ولم يكن لعبد الرحمن ولد، فسأل عنه، فقيل له: يتيم من اهل الشام، قدم أبوه العراق في بعث فقتل، وبقي الغلام هاهنا فضمه ابن عنبسة إليه، وتبناه. فوقع الغلام فيما شاء من الدنيا، ومر يوما على برذون ومعه خدم على ابن بيض،وحول ابن بيض عياله في يوم شات، وهم شعث غبر عراة، فقال ابن بيض: من هذا? فقيل: صدقة يتيم ابن عنبسة فقال:
يشعث صبياننا ومـا يتـمـوا وانت صافي الأديم والحدقـه
فليت صبيانـنـا إذا يتـمـوا يلقون ما قد لقيت يا صدقـه
عوضك الله من أبـيك ومـن أمك في الشام بالعراق مقـه
كفاك عبد الرحمن فقدهـمـا فأنت في كسوة وفي نفـقـه
تظل في درمـك وفـاكـهة زولحم طير ماشئت أو مرقه
تأوي إلى حاضن وحـاضـنة زادا على والديك في الشفقـه
فكل هينيئا مـا عـاش ثـم إذا مات فلغ في الدماء والسرقه
وخالف المسلمين قبـلـتـهـم وضل عنهم وخادن الفسـقـه
واشتر نهد التليل ذا خـصـل لصوته في الصهيل صهصلقه
واقطع عليه الطريق تلف غدا رب دنـانـي جـمة ورقـه فلما مات عبد الرحمن، اصابه ما قال ابن بيض أجمع: من الفساد والسرقة وصحبة اللصوص، ثم كان آخر ذلك أنه قطع الطريق، فأخذ وصلب.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني النوفلي عن أبيه. قال ابن عمار: واخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثني أبي عن أبي شفيان الحميري قال: خرج حمزة بن بيض يرد سفرا، فاضطره الليل إلى قرية عامرة، كثيرة الأهل والمواشي، من الشاء والبقر، كثيرة الزرع، فلم يصنعوا به خيرا، فغدا عليهم، وقال:
لعن الإ له قرية يمـمـتـهـا فاضافني ليلا إليها المـغـرب
الزارعين وليس لي زرع بهـا والحالبين وليس لي ما أحلـب
فلعل ذاك الزرع يودي أهـلـه ولعل ذاك الشاء يوما يجـرب
ولعل طاعونا يصيب علوجهـا ويصيب ساكنها الزمان فتخرب قال: فلم يمر بتلك القرية سنة حتى أصابها الطاعون، فأباد أهلها، وخرجت إلى اليوم، فمر بها ابن بيض، فقال: كلا، زعمت أني لا أعطى منيتي. قالوا: وأبيك لقد أعطيتها، فو كنت تمنيت الجنة كان خيرا لك. قال: أنا أعلم بنفسي، لا أتمنى ما لست له بأهل، ولكني أرجو رحمة ربي عز وجل.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن زكرياء الغلابي قال: قال ابن عائشة: خرج ابن بيض في سفر، فنزل بقوم، فلم يحسنوا ضيافته، وأتوه بخبز يابس، وأقوا لبغلته تبنا، فأعرض عنهم، وأقبل على بغلته، فقال:
أحسبيها ليلة أدلـجـتـهـا فكلي إن شئت تبنا أو ذري
قد أتى ربك خبـز يابـس فتعزي معه واصطبـري
صفحة : 1815
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال: حدثنا المدائني، قال: قال حمزة بن بيض يوما للفرزدق: أيما أحب إليك، تسبق الخير أو يسبقك? قال: لا أسبقه ولا يسبقني، ولكن نكون معا. فأيما أحب إليك، وأن تدخل إلى بيتك، فتجدرجلا قابضا على حر امرأتك، أو تجد امرأتك قابضه على أيره? فقال: كلام لابد من جوابه، والبادي أظلم، بل أجدها قابضة على أيره، قد أغبته عن نفسها.
نسخت من كتاب أبي إسحاق الشايميني : قال ابن الأعرابي: وقع بين بين حنيفة بالكوفة، وبين بني تميم شر، حتى نشبت الحرب بينهم، فقال رجل لحمزة بن بيض: ألا تأتي هؤلاء القوم، فتدفعهم عن قومك، فإنك ذو بيان وعارضة? فقال:
ألا لا تلمني يا بن ماهان إننـي أخاف على فخارتي أن تحطما
ولوأنني أبتاع في السوق مثلها وجدك ما باليت أن أتقـدمـا قال: وكان لابن بيض صديق عامل من عمال ابن هبيرة، فاستودع رجلا نا سكا ثلاثين ألف درهم، واسودع مثلها رجلا نبيذيا، فأما الناسك فبنى بها داره، تزوج النساء، وأنفقها وجحده. واما النبيذي فأدى إليه الأمامة في ماله فقال حمزة بن بيض فيهما:
ألا لا يغـرنــك ذو ســـجـــدة يظـل بـهــا دائبـــا يخـــدع
كأن بجبتها جلبة يسبح طورا ويسترجع
وما لتقى لزمت وجهه ولـكـن لـيغـتـر مـسـتــودع
فلا تـنـفـرن مـن أهـل الـنـبـيذ وغـن قـيل يشـرب لا يقـلـــع
فعـنـك عـلـم بـمـا قـد خـبـر ت إن كـان عـلـم بـهـم ينـفـع
ثلاثون ألـفـا حـواهـا الـسـجـود فلـيسـت إلـى أهـلـهـا تـرجـع
بنـى الـدار مـن غـيرمـا مـالـه وأصـبـح فـي بـيتــه أربـــع
مهـائر مـن غـير مـال حـــواه يقـاتـون أرزاقـهـــم جـــوع وأخبرني بهذا الخبر الحسين بن محمد بن زكريا الصحاف، قال: حدثنا قعنب بن المحرز، قال: حدثنا أبو عبيدة والأصمعي، وكيسان بن المعروف، فذكروا نحو هذا الخبر، إلا أنه حكى أن حمزة بن بيض هو الذي استودع الرجلين المال، وقال:
وأدى أخو الكأس ما عنده وما كنت في ردها أطمع أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثني أحمد بن محمد ب عن ابن داجة، قال: اختصم أبو الجون السحيمي وحمزة بن بيض، إلى المهاجر بن عبد الله الكلابي، وهو على اليمامة، فوثب عليه حمزة وقال:
غمضت في حاجة كانت تؤرقني لولا الذي قلت فيها قل تغميضي فقال: وما الذي قلت لك? قال:
حلفت بالله لي أن سوف تنصفـنـي فساغ في الحلق ربقي بعد تجريضي
قال: وأنا أحلف لأنصفـك. قـال:
سل هؤلاء إلى ماذا شهادتهم أم كيف أنت وأصحاب المعـاريض قال: أوجعهم ضربا. فقال:
وسل سحيما إذا وافاك أجمـعـهـم هل كان بالشر حوض قبل تحويضي قال: فقضى له. فانشأ السحيمي يقول:
أنت ابن بيض لعمري لست انكـره حقا يقينا، ولكن من أبـو بـيض?
إن كنت أنبضت لي قوسا لنرمينـي فقد رميتك رميا غـير تـنـبـيض
أو كنت خضخضت لي وطبا لتسقيني فقد سقيتك محضا غير ممخـوض قال: فوجم حمزة وقطع به. فقيل له: ويلك مالك لا تجيبه? قال: وبم أجيبه? والله لو قلت له: عبد المطلب بن هاشم أبو بيض ما نفعني ذلك، بعد قوله: ولكن من أبو بيض? وأخبرني بهذا الخبر ابن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة بمثله. وقال فيه: إن المخاصم له أبو الحويرث السحيمي.
أخبرني محمد بن دريد قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، قال: دخل حمزة بن بيض على يزيد بن المهلب السجن، فأنشده:
أغلق دون السماح والجود والنجدة باب حديده أشب
ابن ثلاث وأربعين مضت لا ضـــرع واهـــن ولا نـــكــــب
لا بـطـر إن تـتـابــعـــت نـــعـــم وصـابـر فـي الـبـلاء مـحـتــســـب
برزت سـبـق الـجـواد فــي مـــهـــل وقـصـرت دون سـعــيك الـــعـــرب
صفحة : 1816
فقال: والله يا حمزة لقد أسأت، إذ نوهت باسمي في غير وقت تنويه، ولا منزل لك، ثم رفع مقعدا تحته، فرمى إليه بخرقة مصرورة، وعليه صاحب خبر واقف، فقال: خذ هذا الدينار، فوالله ما أملك ذهبا غيره. فأخذه حمزة، وأراد أن يرده، فقال له سرا: خذه ولا تخدع عنه. فقال حمزة: فلما قال لي: لا تخدع عنه، قلت: والله ما هذا بدينار، فقال لي صاحب الخبر: ما أعطاك يزيد? فقلت: أعطاني دينارا، فاردت أن أرده عليه، فاستحييت منه. فلما صرت إلى منزلي حللت الصرة، فإذا فص ياقوت أحمر، كأنه سقط زند، فقلت: والله لئن عرضت هذا بالعراق، ليعلمن أني أخذته من يزيد، فيؤخذ مني، فخرجت به إلى خراسان، فبعته من رجل يهودي بثلاثين ألا، فلما قبضت المال وصار الفص في يده، قال لي: والله لو أبيت إلا خمسين ألف درهم، لأخذته منك، فكأنما قذف في قلبي جمرة، فلما رأى تغير وجهي قال: إني رجل تاجر، ولست أشك أني قد غممتك. قلت: إي والله قتلتني. فأخرج إلي مائة دينار، فقال: أنفق هذه في طريقك، لتتوفر عليك تلك.
أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد بن إسحاق: قرأت على أبي: دخل حمزة بن بيض على يزيد عن المهلب، وهو في حبس عمر بن عبد العزيز، فأنشده قوله فيه:
أصبح في قيدك السماحة والحامل للمعضلات والحسب
لا بطر إن تتابعت نعم وصـابـر فـي الـلاء مــحـــتـــســـب فقال له: ويحك أتمدحني على هذه الحال? قال: نعم، لئن كنت هكذا لطالما أثبت على الثناء، فأحسنت الثواب والرفد، فهل بأس أن نسلفك الآن. قال: أما إذا جعلته سلفا فاقنع بما حضر، إلى أن يمكن قضاء دينك. وأمر غلامه، فدفع إليه أربعة آلاف درهم، وبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز، فقال: قاتله الله يعطي في الباطل، ويمنع الحق، يعطي الشعراء، ويمنع الأمراء.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الأول بن مزيد، قال: حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال: أخبرني مخلد بن حمزة بن بيض قال: قدم أبي على يزيد المهلب وهو عند سليمان بن عبد الملك، فأدخله إليه، فانشده:
ساس الخلافة والداك كلاهمـا من بين سخطة ساخط او طائع
أبواك ثم أخوك أصبح ثـالـثـا وعلى جبينك نور ملك الرابع
سريت خوف بني المهلب بعدما نظروا إليك بسم موت نـاقـع
ليس الذي ولاك ربك منـهـم عند الإله وعندهم بالـضـائع فأمر له بخمسين ألفا.
أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن عمرو قال: حدثني جعفر بن محمد العاصمي قال: حدثني عيينة بن المنهال قال: حدثني الهيثم بن عدي قال: حدثني أبةو يعقوب الثقفي قال: قال لي حمزة بن بيض: لما وفد الكميت بن زيد إلى مخلد بن يزيد بن المهلب وهو يخلف أباه على خراسان، وكان واليها وله ثماني عشرة سنة، وقد مدحه بقصيدته التي أولها:
هلا سألت معالم الأطلال وهي التي يقول فيها:
يمشين مشي قطا البطاح تأودا قب البطون رواجح الكفـال وقصيدته التي يقول فيها:
هلا سألت منازلا بالأبرق أعطاه مئة ألف درهم، سوى العروض والحملان، فقدم الكوفة في هيئة لم ير ميلها، فقلت في نفسي: والله لأنا أولى من الكميت بما ناله من مخلد بن يزيد، وإني لحليفه وناصره في العصبية على الكميت، وعلى مضر جميعا. فهيأت لمخلد مديحا على روي قصيدتي الكميت وقافيتيهما، ثم شخصت إيه، فلما كان قبل خروجي إليه بيوم، أتتني جماعة من ربيعة في خمس ديات عليهم لمضر في البدو، فقالوا: إنك تأتي مخلدا وهو فتى العرب، ونحن نعلم أنك لا تؤثر على نفسك، ولكن إذا فرغ من أمرك، فاعلمه ممشانا إليك، وسمأتنا إياك كلامه، فنرجو أن تكون عند ظننا. فلما قدمت على مخلد خراسان أنزلني، وفرش لي، وأخدمني، وحملني، وكساني، وخلطني بنفسه، فكنت أسمر معه، فقال ليلة: أعليك دين يابن بيض? قلت: دعني من مسئلتك إياي عن الدين، إنك قد أعطيت الكميت عطية لست أرضى بأقل منها، وإلا لم أدخل الكوفة، ولم أعير بتقصيرك بي عنه. فضحك، ثم قال لي: بل أزيدك على ما أعطيت الكميت. فأمر لي بمئة ألف درهم، كما أعطي الكميت، وزادني عليه، وصنع بي في سائر الألطاف كما صنع به، فلما فرغت من حاجتي أتيته يوما ومعي تذكرة بحاجة القوم في الديات، فلما جلس أنشدته:
صفحة : 1817
أتيناك في حاجة فاقضـهـا وقل مرحبا يجب المرحـب
ولا تكلنا إلـى مـعـشـر متى بعدوا عـدة يكـذبـوا
فإنك في الفرع مـن أسـرة لهم خضع الشرق والمغرب
وفي أدب منهم ما نـشـأت ونعم لعمـرك مـا أدبـوا
لغت لعشر مصت من سني ك ما يبلغ السـيد الأشـيب
فهمك فيها جسـام الأمـور وهم لداتـك أن يلـعـبـوا فقال:مرحبا بك وبحاجتك، فما هي? فأخرجت إليه رقعة القوم، وقلت: حمالات في ديات. فتبسم، ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم. فقلت: أو غير ذلك أيها الأمير? قال: وما هو? قلت: أدل على قبر المهلب، حتى أشكو إليهقطيعة ولده. فتبسم، ثم قال: زده يا غلام عشرة آلاف أخرى، فأبيت، وقلت: بل أدل على قبر المهلب، فقال: زده يا غلام عشرة آلاف أخرى، فما زلت أكررها ويزيدني عشرة آلاف، حتى بلغت سبعين ألفا. فخشيت والله أن يكون يلعب أو يهزأ بي، فقلت: وصلك الله أيها الأمير، وآجرك، وأحسن جزاءك. فقال مخلد: أما والله لو أقمت على كلامك، ثم أتى ذلك على خراج خراسان لأعطيتكه.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني النضر بن شميل، قال: دخلت على امير المؤمنين المأمون بمرو وعلي أطمار متر عبلة ؛ فقال لي: يا نضر، تدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب? فقلت: إن حر مرو لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق، فقال: لا. ولكنك رجل متقشف. فتجارينا الحديث، فقال المأمون: حدثني هشيم بن بشير ، عن مجالد، عن الشعبي، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز. هكذا قال: سداد بالفتح.
فقلت: صدق، يا أمير المؤمنين. حدثني عوف الأعرابي عن الحسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان في سداد من عوز وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا، وقال: السداد لحن يا نضر عندك? قلت نعم: هاهنا يا امير المؤمنين؛ وإنما هشيم لحن، وكان لحانة، فقال: ما الفرق بينهما? قلت: السداد: القصد في الدين والطريقة والسبل. ةالسداد: البلغة، وكل ما سددت به شيئا فهو سداد. وقد قال العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثـغـر قال: فأطرق المامون مليا، ثم قال: قبح الله من لا أدب له ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب. قال: قلت: قول حمزة بن بيض يا امير المؤمنين:
تقول لي والعيون هاجـعة: أقم علينا يوما، فـلـم أقـم
قالت: فأي الوجوه? قلت لها: لأي وجه إلا إلى الحكـم?
متى يقل حاجبا سـرادقـه: هذا ابن بيض بالباب، يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبـلا فهات إذ حل أعطني سلمي فقال المأمون: لله درك، كأنما شق لك عن قلبي فأنشدني أنصف بيت للعرب. قال: قلت: قول أبي عروبة المدني :
إني وإن كان ابن عمي عاتبـا لمزاحم من خلـفـه وورائه
ومفيده نصري وإن كنت أمرأ متزحزحا عن أرضه وسمائه
وأكون والي سره وأصونـه حتى يحين علي وقـت أدائه
وإذا الحوادث أجحفت بسوامه قرنت صحيحتنا إلى جربائه
وإذا دعا باسمي ليركب مركبا صعبا قعدت له على سيسائه
وإذا أتى من وجهه بطـريفة لم أطلع مما ورراء خبـائه
وإذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقلك يا ليت أن علي حسـن ردائه فقال: احسنت يا نضر؛ أنشدني الآن أقنع بيت قالته العرب. فأنشدته قول ابن عبدل الأسدي:
إنـي امــرؤ لـــم أزل، وذاك مـــن الـــل ه قـــديمـــا، أعـــلـــم الأدبــــــا
أقـيم بـالـدار مـا اطـمـأنــت بـــي الـــدا ر وإن كـنــت مـــازحـــا طـــربـــا
لا أجـــتـــوي خـــلة الـــصـــديق ولا أتـبـع نـفـســـي شـــيئا إذا ذهـــبـــا
أطلب ما يطلب الكريم من الرزق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرة الصفي ولا أجـهـد أخـلاف غـيرهــا حـــلـــبـــا
إنـي رأيت الــفـــتـــى الـــكـــريم إذا رغـبـتـه فـي صـــنـــيعة رغـــبـــا
صفحة : 1818
و العبد لا يطلب العـلاء ولا يعطيك شيئا إلا إذا رهـبـا
مثل الحمار الموقع السـوء لا يحسن مشيا إلا إذا ضـربـا
قد يرزق الخافض المقيم وما شد بعيس رحلا ولا قـتـبـا
ويحرم الرزق ذو المطية والر حل ومن لا يزال مغتـربـا
ولم أجد عـدة الـخـلائق إلا الدين لما اعتبرت والحسـبـا فقال: أحسنت يا نضر وكتب لي إلى الحسن بن سهل بخمسين ألفا، وأمر خادما بإيصال رقعة، وتنجيز ما أمر به لي، فمضيت معه إليه، فلما قرأ التوقيع ضحك، وقال لي: يا نضر، أنت الملحن لأمير المؤمنين? قلت: لا، بل لهشيم. قال: فذاك إذن، وأطلق لي الخمسين ألف درهم، وأمر لي بثلاثين ألفا.
أخبرني الحسين بن يحيى، قال: حدثنا حماد عن أبيه قال: بلغني أن حمزة بن بيض الحنفي كان يسامر عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان عبد الملك يعبث به عبثا شديدا، فوجه إليه ليلة برسول، وقال: خذه على أي حال وجدته عليها، ولا تدعه يغيرها، وحلفه على ذلك، وغلظ الأيمان عليه. فمضى الرسول، فهجم عليه، فوجده يريد أن يدخل الخلاء، فقال: أجب الأمير. فقال: ويحك، إني أكلت طعاما كثيرا، وشربت نبيذا حلوا، وقد أخذني بطني. قال: والله لا تفارقني أو امضي بك إليه، ولو سلحت في ثيابك. فجهد في الخلاص، فلم يقدر عليه، فمضى به إلى عبد الملك، فوجده قاعدا في طارمة له، وجارية جميلة كان يتحظاها جالسة بين يديه، تسجر الن في طارمنه، فجلس يحادثه وهو يعالج ما هو فيه.
قال: فعرضت لي ريح، فقلت: أسرحها واستريح، فلعل ريحها لا يتبين مع هذا البخور، فأطلقتها، فغلبت والله ريح الند وغمرته، فقال: ما هذا ياحمزة قلت: علي عهد الله وميثاقه، وعلي المشي والهدي إن كنت فعلتها.
وما هذا إلا عمل هذه الفاجرة. فغضب واحتفظ وخجلت الجارية، فما قدرت على الكلام، ثم جاءتني أخرى فسرحتها، وسطع واله ريحها. فقال: ما هذا ويلك أنت والله الآفة. فقلت: امرأتي فلانة طالق ثلاثا إن كنت فعلتها. قال: وهذه اليمين لا زمة لي إن كنت فعلتها، وما هو إلا عمل هذه الجارية، فقال: ويلك ما قصتك? قومي إلى الخلاء إن كنت تجدين حسا، فزاد خجلها وأطرقت. وطمعت فيها، فسرحت الثالثة، وسطع من ريحها ما لم يكن في الحساب، فغضب عبد الملك، حتى كاد يخرج من جله، ثم قال:خذ يا حمزة بيد الزانية، فقد وهبتها لك وامض فقد نغصت علي ليلتي.
فأخذ والله بيدها، وخرجت، فلقيني خادم له، فقال: ما تريد أن تصنع? قلت أمضي بهذه قال: لا تفعل، فوالله لئن فعلت ليبغضنك بغضا لا تنتفع به بعدها أبدا، وهذه مئة دينار، فخذها ودع الجارية فإنه يتحظاها، وسندم على هبته إياها لك. قلت: والله لا نقصتك من خمس مئة دينار. فلم يزل يزايدني حتى بلغ مئتي دينار، ولم تطب نفسي أن أضيعها، فقلت: هاتها، فأعطانيها، وأخذها الخادم.
فلما كان بعد ثلاث دعاني عبد الملك، فلما قربت من داره لقيني الخادم، فقال: هل لك في مئة دينار وتقول ما لا يضرك، ولعله أن ينفعك? قلت: وما ذاك? قال: إذا دخلت إليه اعيت عنده الثلاث الفسوات، ونسبتها إلى نفسك، وتنفح عن الجارية ما قرفتها به. قلت: هاتها. فدفعها إلي، ودخلت على عبد الملك، فلما وقفت بين يديه قلت: ألي الأمان حتى اخبرك بخبر يسرك، وتضحك منه? قال: لك الأمان. قلت: أرأيت ليلة حضوري وما جرى? قال: نعم. فقلت: فعلي وعلي إن كان فسا تلك الفسوات غيري. فضحك حتى سقط على قفاه،. ثم قال: ويلك فلم لم تخبرني? قلت: أردت بذلك خصالا، منها أن قمت فقضيت حاجتي، وقد كان رسولك منعني منها، ومنها أني أخذت جاريتك، ومنها أن كا فأتك على أذاك لي بمثله. فقال: فأين الجارية? قلت: ما برحت من دارك ولا خرجت حتى سلمتها إى فلان الخادم، وأخذت مائتي دينار. فسر بذلك، وأمر لي بمئتي دينار أخرى، وقال: هذه لجميل فعلك بي، وتركك أخذ الجارية.
صفحة : 1819
قال حمزة بن بيض: ودخلت إليه يوما وكان له غلام لم ير الناس أنتن إبطا منه، فقال لي: يا حمزة، سأبق غلامي حتى يفوح صنانكما، فأيكما كان صنانته أنتن، فله مئة دينار. فطمعت في المائة، ويئست منها لما أعلمه من نتن إبط الغلام، فقلت: افعل . وتعادينا، فسبقني، فسلحت في يدي، ثم لطخت إبطي بالسلاح، وقد كان عبد الملك جعل بيننا حكما يخبره بالقصة، فلما دنا الغلام منه فشمه، وثب، وقال هذا والله لا يساجله شيء .
فصحت به: لا تعجل بالحكم، مكانك. ثم دنوت منه، فألقمت أنفه إلطي حتى علمت أن قد خالط دماغه، وأنا ممسك رأسه تحت يدي. فصاح: الموت والله هذا بالكنف أشبه منه بالآبط فضحك عبد الملك، ثم قال: أفحكمت له? قال: نعم. فأخذت الدنانير.
أخبرني عمي قال: حدثني جعفر العاصمي قال: حدثنا عيينة بن المنهال، عن اليثم بن عدي، عن أبي يعقوب الثقفي، قال: قال حمزة بن بيض: دخلت يوما على مخلد بن يزيد، فقلت:
أن المشارق والمغارب كلها تجبى وأنت أميرها وإمامها فضحك ثم قال: مه? فقلت:
أعفيت قبل الصبح نوم مسهد في ساعة ما كنت قبل أنامها قال: ثم ماذا كان? قلت:
فرأيت أنك جدت لي بوصيفة موسومة حسن علي قيامها قال: قد فعلت. فقلت:
ويبدرة حملت إلي وبغـلة سفواء ناجية يصل لجامها قال: حقق الله رؤياك. ثم أمر لي بذلك كله، وما علم الله أني رأيت من ذلك شيئا.
قال مؤلف هذا الكتاب: وقد روي هذا الخبر بعينه لا بن عبدل الأسدي، وذكرته في أخباره.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا أبو حاتم، قال: حدثنا عمار بن عيقيل بن بلال بن جرير، قال: حج حمزة بن بيض الحنفي، فقال له ابن عم له: أحجج بي معك. فأخرجه معه، فحوقل عليه بعد نشاكه فقال ابن بيض فيه:
وذي سـنة لـم يدر مـا الـسـير قـبـلــهـــا ولـم يعـنـف خـرقـا مـن الأرض مـجـهـلا
ولـم يدر مـا حـل الـحـبـال وعـقـــدهـــا إذ الـبـرد لـن تـبـرك لـكـفـيه مـعـمــلا
ولـم يقـر مــأجـــورا ولا حـــج حـــجة فيضـرب سـهـمـا أو بـصـاحـب مـكـتــلا
غدونـا بـه كـالـبـعـل ينـفـــض رأســـه نشـاطـا بـنـاء الـخـبـر حـتـى تـفـتـــلا
ترى الـمـحـمـل الـمـحـسـور نـاء عـرامـه وبـابـا إذا أمـسـى مـن الـشـر مـقـفـــلا
وإن قـلـت لــيلا: أين أنـــت لـــحـــاجة أجـاب بـأن لـبـيك عـشــرا وأقـــبـــلا
يسـوق مـطـي الـقــوم طـــورا وتـــارة يقـود وإن شـئنـا حـدا ثـم جــلـــجـــلا
فأجـلـتـه خـمـسـا وقـلـت لـه: انـتـنـظـر رويدا؛ وأجـلـنـا الـمـطـــي لـــيدبـــلا
فلـمـا صـدرنـا عـن زبـالة وارتـــمـــت بنـا الـعـيس مـنـهـا مـقـلا ثـم مـنـقــلا
ترامـت بـه الـمـومـاة حـتـى كـانــمـــا يسـف بـمـعـسـول الـخـزيرة حـنـظـــلا
وحتـى نـبـا عـلـى مـزود الـقـوم ضـرسـه وعـادى مـن الـجـهـد الـثـريد الـمـرعـبـلا
وحـتـى لـو ان الـلـيث لــيث خـــفـــية يحـاولـه عـن نـفـسـه مـا تـحـلــحـــلا
وحـتـى لـو ان الـلـه أعـطـاه ســـؤلـــه وقبل لـه: مـا تـشـتـهـي? قـال: مـحـمـلا
فقـلـت لـه لــمـــا رأيت الـــذي بـــه وقـد خـفـت أن ينـضـى لـدينــا ويهـــزلا
أطـعـنـي وكـل شـيئا، فـقـال مـــعـــذرا من الـجـهـد، أطـعـمـنـي تـرابـا وجـنـدلا
فلـلـمـوت خـير مـنـك جـارا وصـاحـبـــا فدعـنـي فـلا لـبــيك ثـــم تـــجـــدلا
وقـال: اقـلـنـي عـثـرتـي وارع حـرمـتــي وقـد فـر مـنـي مـرتـين لــيقـــفـــلا
فقلت له: لا والذيأنا أعبدهأقبلك حتى تمسح الركن أولا أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن سعد قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم الهاشمي، قال: حدثني أبو عمر العمري، قال: حدثني عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان قال: قدم حمزة بن بيض على مخلد بن يزيد بن المهلب، فوعده أن يصنع به خيرا، ثم شغل عنه، فاختلف إليه مرارا، قلم يصل إليه، وأبطأت عليه عدته، فقال ابن بيض:
أمخلد إن الله ما شاء يصنـع يجود فيعطي من يشاء ويمنع
وإني قد أملت منك سـحـابة فحالت سرابا فوق بيداء تلمع
فأجمعت صرما ثم قلت: لعله يثوب إلى أمر جميل فيرجع
صفحة : 1820
فأيأسني من خـير مـخـلـد أنـه على كل حال ليس لي فيه مطمع
يجـود لأقـــوام يودون أنـــه من البغض والشنأن أمسى يقطـع
ويبخل بالمـعـروف عـمـن يوده فو الله ما أدري به كيف أصنـع?
أأرمه فالـصـرم شـر مـغـبة ونفسي إليه بالوصـال تـطـلـع
وشتان بيني في الوصـال وبـينـه على كل حال أستقـيم ويظـلـع
وقد كان دهرا واصلا لـي مـودة ويمنعني من صرف دهري أضرع
وأعقبني صرما على غـير إحـنة ويخلا وقدما كـان لـي يتـبـرع
وغيره ما غير الـنـاس قـبـلـه فنفسي بما يأتي به ليس تـقـنـع ثم كتبها في قرطاس وختمه، وبعث به مع رجل، فدفعه إلى غلامه، فدفعه الغلام إليه، فلما قرأه سأل الغلام: من صاحب الكتاب? قال: لا أعرفه. فادخل إليه الرجل، فقال: من أعطاك هذا الكتاب? ومن بعث به معك? قال: لا أدري، ولكن من صفته كذا وكذا، ووصف ابن بيض، فأمر به فضرب عشرين سوطا على رأسه، وأمر له بخمس مئة درهم، وكساه، وقال: إنما ضربناك أدبا لك، لأنك حملت كتابا لا تدري ما فيه، لمن لا تعرف، فإياك أن تعود لمثلها. قال الرجل: لا والله، أصلحك الله، لا أحمل كتابا لم أعرف، ولا لمن لا أعرف. قال له مخلد: احذر، فليس كل أحد يصنع بك صنيعي؛ وبعث إلى ابن بيض، فقال له: أتعرف ما لحق صاحبك الرجل? قال: لا فحدثه مخلد بقصته، فقال ابن بيض: والله، أصلحك الله، لا تزال نفسه تتوق إلى العشرين سوطا مع الخمس مائة أبدا. فضحك مخلد، وأمر له بخمسة آلاف درهم، وخمسة أثواب، وقال: وأنت والله لا تزال نفسك تتوق إلى عتاب إخواتك أبدا. قال: أجل والله، ولكن من لي بمثلك يعتبني إذا استعتبة، ويفعل بي مثل فعلك? ثم قال:
وأبيض بهـلـول إذا جـئت داره كفاني وأعطاني الذي جئت أسأل
ويعتبني يوما إذا كنـت عـاتـبـا وإن قلت، زدني: قال: حقا سأفعل
رتاه إذا ما جئة تطلـب الـنـدى كأنك تعطيه الذي جئت تـسـأل
فا لله أبناء الـمـهـلـب فـتـية إذا لقحت حرب هـوان تـأكـل
هم يصطلون الحرب والموت كانع بسمر القنا و المشرفية من عـل
ترى الموت تحت الخافقات أمامهم إذا وردوا علو الرماح وأنهـلـوا
يجودون حتى يحسب الناس أنهـم لجودهم نذر عـلـيهـم يحـلـل
غيوث لمن يرجو نداهم وجودهـم سمـام لأقـوام ذعـاف يثـمـل
وفى لي أبناء المهـلـب إنـهـم إذا سئلوا المعروف لم يتسعـلـوا
فذلك ميراث الـمـهـلـب إنـه كريم نمـاه لـلـمـكـارم أول
جرى وجرت أباؤه فـتـحـرزوا عن الذم في عبطاء لا تـتـوقـل فلما أنشده ابن بيض هذه الأبيات، أمر له بعشرة آلاف درهم، وعشرة أثواب، وقال: نزيدك ما زدتنا، ونضعف لك. فقال:
أمـــخـــلـــد لـــم تـــتـــرك لـــنــــفـــــــســـــــي بـــــــغـــــــية وزدت عـــــــلـــــــى مـــــــاكـــــــنـــــــت أرجـــــــو وآمــــــــل
فكـــنـــت كـــمـــا قـــــد قـــــــال مـــــــعـــــــن فـــــــإنـــــــه بصــــير بـــــــمـــــــا قـــــــد قـــــــال إذ يتـــــــمـــــــثـــــــل
وجـــدت كـــثـــير الــــــمـــــــال إذ ضـــــــن مـــــــعـــــــدمـــــــا يذم ويلـــــــحـــــــاه الـــــــصـــــــديق الـــــــمـــــــؤمــــــــــل
وإن أحـــــــق الـــــــنـــــــاس بـــــــالـــــــجـــــــود مــــــــن رأى أبـــــــاه جـــــــوادا لـــــــلـــــــمـــــــكـــــــارم يجـــــــــــزل
ترب الـــــــذي قـــــــد كـــــــــان قـــــــــــــــدم والـــــــــــــــد أغـــــــر إذا مـــــــا جـــــــئتـــــــه يتـــــــهـــــــلــــــــــــل
وجـــــــدت يزيدا والـــــــمـــــــهـــــــلـــــــــب بـــــــــــــــرزا فقـــلـــت: فــــإنـــــــي مـــــــثـــــــل ذلـــــــك أفـــــــعـــــــل
ففـــــــزت كـــــــمـــــــا فـــــــازا وجـــــــاوزت غـــــــــــــــاية يقـــصـــر عـــنـــهـــا الـــســـابـــق الـــمــــتـــــــمـــــــهـــــــل
فأنـــــــت غـــــــياث لـــــــلـــــــيتـــــــامـــــــى وعـــــــــــمة إلـــيك جـــمـــال الـــطـــالـــبـــي الـــــــخـــــــير تـــــــرحـــــــل
أصـــــــاب الـــــــذي رجـــــــى نـــــــداك مــــــــخـــــــــــــــيلة تصـــب عـــز الـــيهـــــــا عـــــــلـــــــيه وتـــــــهـــــــطـــــــل
ولـــم تــــــلـــــــف إذ رجـــــــوا نـــــــوالـــــــك بـــــــاخـــــــلا تضـــن عـــلـــى الـــمـــعـــــروف والـــــــمـــــــال يعـــــــقـــــــل
وموت الفتى خير له من حياتهإذا كان ذا مال يضن ويبخلفقال له مخلد: احتكم. فأعطاه عشرة آلاف دينار وجارية وغلاما وبرذونا. أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، قال:
صفحة : 1821
كان حمزة بن بيض شارعا ظريفا، فشاتم حماد بن الزبرقان، وكان من ظرفاء أهل الكوفة، وكلاهما صاحب شراب، وكان حماد يتهم بالزندقة، فمشى الرجال بينهما حتى اصطلحا، فدخلا يوما على بعض ولاة الكوفة، فقال لابن بيض: أراك قد صالحت حمادا، فقال ابن بيض: نعم، أصلحك الله، على ألا آمره بالصلاة، ولا ينهاني عنها.
أخبرني محمد بن زكريا الصحاف قال: حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي قال: حدثني الهيثم بن عدي قال: قدم حمزة بن بيض البصرة زائا لبلال بن أبي بردة بن أبي موسى، وبينهما مودة منذ الصبا، فطال مقامه عنده، فشتاق إلى أهله وولده، فكتب إلى بلال
كلت رحالي وأعواني وأحـراسـي إلى الأمير وإدلاجي زإمـلاسـي
إلى امرىء مشبع مجدا ومـكـرمة عادية فهو حال منهمـا كـاسـي
فلست منك ولا مما مـنـنـت بـه من فضل ودك كالمرمي في راسي
إنـي وإياك والإخـوان كـلـهـم في العسر واليسر لو قيسوا بمقياس
وذاك مما ينوب الدهر مـن حـدث كلورد في المثل المضروب والآس
يبيد هذا فيلـبـى بـعـد جـدتـه غضـا وآخـره رهـن بـإينـاس
وأنت لي دائم بـاق بـشـاشـتـه يهتز في عودلا عش ولا عـاسـي فعجل له بلال صلته، وسرحه إلى الكوفة.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثنا أبو المعارك الضبي قال: حدثني أبو مسكين قال: دخل حمزة بن بيض على سليمان بن عبد الملك، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
رأيتك في المنام شننت خزا علي بنفسجا وقضيت ديني
فصدق يا فدتك النفس رؤيا رأتها في المنام لديك عيني فقال سليمان: يا غلام أدخله خزانة الكسوة، واشنن عليه كل ثوب خز بنفسجي فيها: فخرج كأنه مشجب . ثم قال له: كم دينك? قال: عشرة آلاف درهم. فأمر له بها.
من سره ضرب يرعبل بعضه بعضا كمعمعة الأباء المحرق
فليأت مأسدة تسن سيوفـهـا بين المذاد وبين جزع الخندق ويروي: يمعمع بعضه بعضا. والمعمعة: وتسن: اختلاف الأصوات وسدة زجلها. والمأسدة: الموضع الذي تجتمع فيه الأسد. وتسن: تحد. يقال: سيف مسنون. والمذاد: موضع بالمدينة. والخندق: يعني به الخندق الذي احتفره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة. والشعر لكعب بن مالك الأنصاري. والغناء لابن محرز: خفيف رمل، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، عن إسحاق وعمرو.
أخبار كعب بن مالك الأنصاري ونسبه
هو كعب بن مالك بن أبي كعب. واسم أبي كعب: عمرو بن القين بن كعب بن سواد. وقيل: القين بن سواد )هكذا قال ابن الكلبي( بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن شاردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث.
وكان كعب بن مالك من شعراء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعدودين، وهو بدري عقبي. وأبوه مالك بن أبي كعب بن القين شارع، وله في حروب الأوس والخزرج، التي كانت بينهم قبل الإسلام آثار وذكر. وعمه قيس بن أبي كعب شهد بدرا، وهو شارع أيضا، وهو الذي حالف جهينة على الأوس. وخبره في ذلك يذكر في موضعه، يعد أخبار كعب وأبيه.
ولكعب بن مالك أصل عريق ، وفرع طويل في الشعر: ابنه عبد الرحمن شاعر، وابن ابنه بشير بن عبد الرحمن شارع ، والزبير بين خارجة بن عبد الله بن كعب شاعر، ومعن بن عمرو بن عبد الله بن كعب شاعر، وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب أبو الخطاب شارع، ومعن بن وهب بن كعب شارع، وكلهم مجيد مقدم.
وعمر كعب بن مالك، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا كثيرا، وكل بني كعي بن مالك قد روى عنه الحديث.
فما رواه ابن ابنه بشير عن أبيه عنه: حدثني أحمد بن الجعد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أحمد بن عبد الملك قال: حدثنا عتاب بن سلمة عن إسحاق بن راشد عن الزهري قال: كان بشير بن عبد الرحمن بن كعب يحدث عن أبيه: أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده، لكأنما تنضحونهم بالنبل بما تقولون من الشعر.
صفحة : 1822
ومما رواه عنه ابنه عبد الله: أخبرني أحمد بن الجعد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا بكر بن عبد الرحمن قال: حدثنا عيسى بن المختار، عن ابن أبي ليلى، عن إسماعيل بن أمية، عن محمد بن مسلم، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن ابيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي المغرب، ثم يرجع الناس إلى أهاليهم وهم يبصرون مواقع النبل حين يرمون.
ومما رواه ابنه محمد: أخبرني أحمد بن الجعد قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا إبراهيم بن طهمان، عن أبي الزبير، عن محمد بن كعب، عن أبيه، أنه حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه وأوس بن الحدثان أيام التشريق، فنادى: إنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وأيام منى أيام أكل وشرب.
ويقال: كان كعب بن مالك عثمانيا، وهو أحد من قعد عن علي بن أبي طالب عليه السلام، فلم يشهد معه حروبه، وخاطبه في أمر عثمان وقتلته خطابا نذكره بعد هذا في أخباره، ثم اعتزله. وله مراث في عثمان بن عف6ان رحمه الله، وتحريض لأنصار على نصرته قبل قتله، وتأنيب لهم على خدلانه بعد ذلك، منها قوله:
فلو حلتم من دونه لم يزل لـكـم يد الدهر عز لا يبوخ ولا يسري
ولم تقعدوا والدار كاب دخانهـا يحرق فيها بالسعير وبالجـمـر
فلم أر يوما كان أكثـر ضـيعة وأقرب منه للغوابة والنـكـر أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال: كان كعب بن مالك الأنصاري أحد من عاون عثمان على المصريين، وشهر سلاحه، فلما ناشد عثمان الناس أن يغمدوا سيوفهم انصرف، ولم ير أن الأمر يخلص إليه، ولا يجري القوم إلى قتله؛ فلما قتل وقف كعب نب مالك على مجلس الأنصار، في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنشدهم:
من مبلغ الأنصار عـنـي آية رسلا تقص عليهم التـبـيانـا
أن قد فعلتم فعـلة مـذكـورة كست الفضوح وأبدت الشانأنا
بقعودكم في دوركم وأميركـم تخشى ضواحي داره النيرانـا
بينا يرجي دفعكـم عـن داره ملثت حريقا كابـيا ودخـانـا
حتى إذا خلصوا إلى أبـوابـه دخلوا عليه صائما عطشـانـا
يعلون قلته السـيوف وأنـتـم متلبثون مكانكـم رضـوانـا
الله يعلم أنـنـي لـم أرضـه لكم صنيعا يوم ذاك وشـانـا
يا لهف نفسي إذ يقول: ألا أرى نفرا من الأنصار لي أعوانـا
والله لو شهد ابن قيس ثـابـت ومعاشر كانوا لـه إخـوانـا يعني ثابت بن قيس بن شماس.
وأبو دجانة وابن أرقم ثـابـت وأخو المشاهد من بني عجلانا أبو دجانة: سماك بن خرشة. وابن أرقم: ثابت البلوي. وأخو المشاهد من بني عجلان: معن بن عدي، عقبي.
ورفاعة العمري وابن معاذهم وأخو معاوي لم يخف خذلانا رفاعة: ابن عبد المنذر العمري. وابن معاذ: سعد بن معاذ. وأخو معاوية: المنذر بن عمرو الساعدي، عقبى بدري.
قوم يرون الحق نصر أميرهـم ويرون طاعة أمـره إيمـانـا
إن يتركوا فوضى يروا في دينهم أمرا يضيق عنهم الـبـلـدانـا
فليعلين الـلـه كـعـب ولـيه وليجعـلـن عـدوه الـدلانـا
إني رأيت محـمـدا إخـتـاره صهرا وكان يعده خلـصـانـا
محض الضرائب ماجدا أعرقـه من خير خندق منصبا وكـانـا
عرفت له عليا معـد كـلـهـا بعد النبي الملك والسلـطـانـا
من معشر لا يغدرون بجارهـم كانوا بمكة يرتعـون زمـانـا
يعطون سائلهم يأمن جـارهـم فيهم ويردون الكماة طـعـانـا
فلو انكم مع نصركم لنـبـكـم يوم اللقاء نصرتم عثـمـانـا
أنسبتم عهد الـنـبـي إلـيكـم ولقـد ألـظ ووكـد الأيمـانـا قال: فجعل القوم يبكون، وستغفرون الله عز وجل.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وحبيب بن نصر المهلبي قاللا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو عامر، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال:
صفحة : 1823
رجز راجز من قريش برسول الله صلى الله عليه وآله، فقال:
لم يغـذهـا مـد ولا نـصــيف ولا تـمـيرات ولا تـجـــيف
لكن غذاها الـلـبـن الـحـريف والمخض والقارص من الصريف قال: فاحتفظت الأنصار حيث ذكر المد والتمر، فقالوا لكعب بن مالك: انزل، فنزل، فقال:
لم يغذها مد ولا نـصـيف لكن غذاها الحنظل النقيف
ومذقة كطرة الـخـنـيف تبيت بين الزرب والكنيف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اركبا.
أخبرني الجوهري والمهلي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا هوذة بن خليفة قال: حدثنا عوف بن محمد، عن محمد بن سيرين، في حديث طويل قال: كان يهجوهم يعني قريشا، ثلاثة نفر من الأنصار يجيبونهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم، بالوقائع والأيام والماثر، ويعيرانهم بالمثالب، وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر، ونسبهم إليه، ويعلم أن ليس فيهم شيء شر من الكفر، فكانوا في ذلك الزمان أشد شيء عليهم قول حسان وكعب، وأهون شيء عليهم قول ابن رواحة، فلما أسلموا وفقهو الإسلام، كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة.
أخبرني الجوهير والمهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا عبد الله بن بكر السهمي قال: حدثني حاتم بن أبي صغيرة قال: حدثنا سماك بن حرب قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: إن سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يهجوك فقام ابن رواحة، فقال: يا رسول الله ائذن لي فيه. فقال له. أنت الذي تقول: فثبت الله? قال: نعم يا رسول الله، انا الذي أقول:
فثبت الله ما أعطاك مـن حـسـن تثبيت موسى، ونصرا كالذي نصرا فقال: وأنت فعل الله بك مثل ذلك. قال: فوثب كعب بن مالك فقال: يا رسول الله ، ائذن لي فيه. فقال: أنت الذي تقول: همت? قال: نعم يا رسول الله، أنا الذي أقول:
همت سخينة أن تغالب ربها وليغلبن مغالب الـغـلاب فقال: أما إن الله لم ينسى لك ذلك.
أخبرني الجوهري والمهلي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا عبد الله بن يحيى مولى ثقيف قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدثنا مجالد، عن الشعبي قال: لما انهزم المشركون يوم الأحزاب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المشركين لن يغزوكم بعد اليوم، ولكنكم تغزونهم، وتسمعون منهم أذى ويهجونكم، فمن يحمي أعراض المسلمين? فقام عبد الله بن رواحة، فقال: أنا فقال: إنك لحسن الشعر. ثم قام كعب فقال: أنا. فقال: وإنك لحسن الشعر.
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني محمد بن منصور قال: حدثني سعيد بن عامر قال: حدثني جويرية بن أسماء قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أمرت عبد الله بن رواحة، فقال وأحسن، وأمرت حسانا فشفى واشتفى.
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا: حدثنا عمر بن سبة قال: حدثني أحمد بن عيسى قال: حدثني عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث: أن يحيى بن سعيد حدثه عن عبد الله بن أنيس عن أمه، وهي بنت كعب بن مالك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج على كعب وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ينشد، فلما رآه انقبض، فقال: ما كنتم فيه? فقال كعب: كنت أنشد. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فانشد، فأنشد، حتى أتى على قوله
مقاتلنا عن جذمنا كل فخمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقل عن جذمنا، ولكن قل: مقاتلنا عن ديننا.
قال أبو زيد: وحدثني سعيد بن عامر قال: حدثنا أبو عون عن ابن سيرين قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بباب كعب بن مالك، فخرج فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إيه، فأنشده ، ثم قال: إيه فأنشده، ثم قال: إيه فأنشده) ثلاث مرات(. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لهذا أشد عليهم من مواقع النبل.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن منصور الربعي، وذكر أنه إسناد شآم، هكذا قال، قال ابن عمار في الخبر، وذكر حديثا فيه طول، لحسان بن ثابت، والنعمان بن بشير، وكعب بن مالك، فذكرت ما كان لكعب فيه، قال:
صفحة : 1824
لما بويع لعلي بن أبي طالب عليه السلام، بلغه عن حسان بن ثابت وكعب بن مالك والنعمان بن بشير-وكانوا عثمانية- أنهم يقدمون بني أمية على بني هاشم، ويقولون: الشأم خير من المدينة. واتصل بهم أن ذلك قد بلغه، فدخلوا عليه، فقال له كعب بن مالك: يا أمير المؤمنين؛ أخبرنا عن عثمان: اقتل ظالما، فنقول بقولك? أم قتل مظلوما، فنقول بقولنا، وكلك إلى الشبهة فيه، فالعجب من تيقننا وشكك، وقد زعمت العرب أن عندك علم ما اختلفنا فيه، فهاته نعرفه، ثم قال:
كيف يديه ثـم أغـلـق بـابـه وأيقن أن اللـه لـيس يغـافـل
وقال لمن في داره: لا تقاتلـوا عفا الله عن كل امرىء لم يقاتل
فكيف رأيت الله صب عليهم ال عداوة والبغضاء بعد التواصـل
وكيف رأيت الخير أدبر عنهـم وولى كإدبار النعام الجـوافـل فقال لهم علي عليه السلام: لكم عندي ثلاثة أشياء: استأثر عثمان فأساء الأثرة، وجزعتم فأساتم الجزع وعند الله ما تختلفون فيه إلى يوم القيامة. فقالوا: لا ترضى بهذا العرب، ولا تعذرنا به. فقال علي عليه السلام: أتردون علي بني ظهراني المسلمين، بلا بينة صادقة، ولا حجة واضحة? اخرجوا عني، ولا تجاوروني في بلد أنا فيه أبدا. فخرجوا من يومهم، فساروا حتى أتوا معاوية، فقال لهم: لكم الولاية والكفاية. فأعطى حسان بن ثابت ألف دينار، وكعب بن مالك ألف دينار، وولى النعمان بن بشير حمص، ثم نقله إلى الكوفة بعد.
أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا المدائني عن عبد الأعلى القرشي قال: قال معاوية يوما لجلسائه: أخبروني بأشجع بيت وصف به رجل قومه. فقال له روح بن زنباع: قول كعب بن مالك:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا قدما ولحقها إذا لـم تـلـحـق فقال له معاوية: صدقت.
وأما أبوه مالك بن أبي كعب، أبو كعب بن مالك، فإني أذكر قبل أخباره شيئا مما يغنى فيه من شعره، فمن ذلك قوله:
لعمر أبيها لا تقول حـلـيلـتـي: ألا فر عني مالك بن أبي كعـب
وهم يضربون الكبش يبرق بيضـه ترى حوله الأبطار في حلق شهب الشعر لمالك بن أبي كعب. والغناء لمالك، ثقيل أول بالبنصر، عن يونس والهشامي. وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى، جميعا عن الهشامي. وزعم ابن المكي أن خفيف الثقيل هو لحن مالك.
وهذا الشعر يقوله مالك بن أبي كعب في حرب كانت بينه وبين رجل من بني ظفر، يقال له يرذع بن عدي.
وكان السبب فيما ذكره جعفر العاصمي عن عيينة بن المنهال، ونسخته من كتاب أعطانيه علي بن سليمان الأخفش: أن رجلا من طبىء قدم يثرببإبل له بيعها، فنزل في جوار برذع بن عدي أخي بني ظفر، فباع إبله، واقتضى أثمانها، وكان مالك بن أبي كعب بن القين أخو بني سلمة، اشترى منه جملا، فجعله ناضحا، فمطله مالك بن أبي كعب بثمن جمله، وحضر شخوص الطائي، فشكا ذلك إلى برذع، فمشى معه إلى منزل مالك، ليكلمه أن يوفيه ثمن جمله، أو يرده عليه، فلم يجدا مالكا في منزله، ووجدا الجمل باركا بالفناء، فبعثه برذع، وقال للطائي: انطلق بجملك، ثم خرجا مسرعين حتى دخلا في دار النبيت، فامنا، فارتحل الطائي بالجمل إلى بلاده، وبلغ مالكا ما صنع برذع، فكره أن ينشب بين قومه وبين النبيت حرب، فكف وقد أغضبه ذلك، وجعل يسفه برذعا في جراءته عليه وما صنع، فقال برذع بن عدي في ذلك:
أمن شحط دار من لبابة تـجـزع وصرف النوى مما يشت ويجمع
وليس بهـا إلا ثـلاث كـأنـهـا مسفعة أو قـد عـلاهـن أيدع
قد اقتربت لوكان في قرب دارها جداء ولكن قد تضن وتـمـنـع
وكان لها بالمنحنـى وجـنـوبـه مصيف ومشتى قبل ذاك ومربع
أتاني وعيد الخزرجي كـأنـنـي ذليل له عند اليهودي مـضـرع
متى تلقني لا تلق نـهـزة واجـد وتعلم أني في الهـزاهـز أروع
معي سمحة صفراء من فرع نبعة ولين إذا مس الضريبة يقـطـع
ومطرد لـدن إذا هـزمـتـنـه متين كخرص الذابلات وأهـزع
فلا وإلهي لا يقول مـجـاوري: ألا إنني قد خانني الـيوم بـرذع
صفحة : 1825
وأحفظ جاري أن أخاتل عـرسـه ومولاي بالنكـراء لا أتـطـلـع
وأجعل مالي دون عرضـي إنـه على الوجد والإعدام عرض ممنع
وأصبر نفسي في الكـريهة إنـه لذي كل نفس مستقر ومصـرع
وإني بحمد الله لا ثـوب فـاجـر لبست ولا من خـزية أتـقـنـع فأجابه مالك بن أبي كعب، فقال:
هل للفؤاد لدى سنباء تـنـويل أم لا نوال فإعراض وتحـيل
إن النساء كأشجار نبتن مـعـا منهن مر وبعض المر مأكول
إن النساء ولو صورن من ذهب فيهن من هفوات الجهل تخبيل الغناء لسليم، هزج بالوسطى عن الهشامي وبذل.
إنك إن تنه إحداهن عن خـلـق فإنه واجب لا بـد مـفـعـول
ونعجة من نعاج الرمـل خـاذلة كأن مأقيها بالحسن مـكـحـول
ودعتها في مقامي ثم قلت لهـا: حياك ربك إني عنك مشـغـول
وليلة من جمادى قد شربت بهـا والزق بيني وبين الشرج معدول
ومرجحن على عمد دلفـت بـه كأنه رجل في الصف مقـتـول
ولا أهاب إذا ما الحرب حرشهاال أبطال واضطربت فيها البهالـيل
أمضي أمامهم والموت مكتـنـع قدما إذا ما كبا فيها التـنـابـيل
علي فضفاضة كالنهى سـابـغة وصارم مثل لون الملح مصقول
ولدنه في يدي صفراء تعلبـهـا بعامل كثهاب النار مـوصـول
إني من الخزرج الغر الذين هـم أهل المكارم لا يلفى لهم جـيل
في الحرب أنهك منهم للعـدو إذا شبت وأعظم نبلا إن هم سيلـوا
أشبهت من والدي عزا ومكـرمة ويرذع مدغم في الأوس مجهول
نبئته يدعـي عـزا ويوعـدنـي نوكا وعندي له بالسيف تنـكـيل قال: ثم إن مالك بن كعب خرج يوما لبعض حاجته، فبينا هو يمشي وحده، إذ لقيه برذع ومعه رجلان من بني ظفر، فلما رأوا مالكا أقبلوا نحوه، فبدرهم مالك إلى مكان من الحرة كثير الحجارة مشرف، فقام عليه، وأخذ في يده أحجارا، وأقبلوا حتى دنوا منه، فشاتموه وراموه بالحجارة؛ وجعل مالك يلتفت إلى الكريق الذي جاء منه، كأنه يستبطىء ناسا، فلما رآه برذع وصاحباه يكثر الالتفات، ظنوا أنه ينتظر ناسا كانوا معه، وخشوا أن يأتوهم على تلك الحال، فانصرفوا عنه، فقال مالك بن أبي كعب في ذلك:
لعمر أبيها لا تقول حـلـيلـتـي: ألا فر عني مالك بن أبي كعـب
أقاتل حتى لا أرى لي مـقـاتـلا وأنجو إذا غم الجبان من الكـرب
أبى لي أن أعطى الصغار ظلامة جدودي زآبائي الكرام أولو السلب
هم يضربون الكبش يبرق بيضـه ترى حوله الأبطال في حلق شهب
وهم أورثوني مجدهم وفعـالـهـم فأقسم لا يزري بهم أبدا عقـبـي ويروى: لا يخزيهم.
وأرعى لجاري ما حـييت ذمـامـه وأعرف ما حق الرفيق على الصحب
ولا أسمع الـنـدمـان شـيئا يريبـه إذا الكأس دارت بالمدام على الشرب
إذا ما اعترى بعض الندامى لـحـاجة فقولي له: أهلا وسهلا وفي الرحب
إذا أنفذوا الزق الـروي وصـرعـوا نشاوى فلم أنقع بقولهم: حـسـبـي
بعثت إلى حانوتها فـاسـتـبـأتـهـا بغير مكاس في الوام ولا غـصـب
وقلت: اشربوا ريا هـنـيئا فـإنـهـا كماء القليب في اليسارة والـقـرب
يطاف عليهم بالسـديف وعـنـدهـم قيان يلهين المزاهـر بـالـضـرب
فإن يصبروا لي الدهر أصبرهم بهـا ويرحب لهم باعي ويغزر لهم شربي
وكان أبي في المحل يطعم ضـيفـه ويروي نداماه ويصبر في الـحـرب
ويمـنـع مـولاه ويدرك تـبـلــه ولو كان ذاك التبل في مركب صعب
إذا ما منعت المال منـكـم لـثـروة فلا يهنني مالي ولا ينم لي كسـبـي
صفحة : 1826
وقد روي أن الشعر المنسوب إلى مالك بن أبي كعب، لرجل من مراد، يقال له مالك بن أبي كعب، وذكر له خبر في ذلك.
أخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان. قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن عبد الله بن عباس، عن مجالد عن الشعبي، قال: كان رجل من مراد يكنى أبا كعب، وكان له ابن يدعى مالكا، وبنت يقال لها طريفة، فزوج ابنه مالكا امرأة من أرحب، فلم تزل معه حتى مات أبو كعب، فقالت الأرحبية لمالك: إني قد استقت إلى أهلي ووطني، ونحن هاهنا في جدب وضيق عيش، فلو ارتحلت بأهلك وبي، فنزلت على أهلي، لكان عيشنا أرغد، وشملنا أجمع؛ فأطاعها، وارتحل بها وبأمه وبأخته إلى بلاد أرحب، فمر بحي كان بينهم وبين أبيه ثأر، فعرفوا فرسه، فخرجوا إليه، وأحدقوا به، وقالوا له: استسلم وسلم الظعينة. فقال: أما وسيفي بيدي وفرسي تحتي فلا، وقاتلهم حتى صرع، فقال وهو يجود بنفسه:
لعمر أبيها لا تقول حلـيلـتـي ألا فر عني مالك بن أبي كعب وذكر باقي الأبيات التي تقدم ذكرها قبل هذا الخبر.
قال مؤلف هذا الكتاب: وأحسب هذا الخبر مصنوعا، وأن الصحيح هو الأول.
خيرت أمرين ضاع الحزم بينهما إما الضياع وإما فتـنة عـمـم
فقد هممت مرارا أن أساجلهـم كأس المنية لولا الله والـرحـم الشعر لعيسى بن موسى الهاشمي، والغناء لمتيم الهاشمية، خفيف رمل، من روايتي ابن المعتز والهشامي.
أخبار عيسى بن موسى ونسبه
عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وقد مضى في عدة مواضع من هذا الكتاب ما تجاوزه نسب هاشم إلى أقصى مدى الأنساب. وأمه وأم سائر إخوته وأخواته أم ولد.
وعيسى ممن ولد ونشأ بالحميمة من أرض الشام، وكان من فحول أهله وشجعانهم، وذوي النجدة والرأي والبأس والسودد منهم. وقبل أن أذكر أخباره، فإني أبدأ بالرواية في أن الشعر له، إذ كان الشعر ليس من شأنه، ولعل منكرا أن ينكر ذلك إذا قرأه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي قالا: حدثنا عبد الله بن أبي سعد. ورأيت هذا الخبر بعد ذلك في بعض كتب ابن أبي سعد، فقابلت به ما روياه؛ فوجدته موافقا.
قال ابن أبي سعد: حدثني علي بن النطاح قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن عيسى بن موسى قال: لما خلع أبو جعفر عيسى بن موسى، وبايع للمهدي، قال عيسى بن موسى:
خيرت أمرين ضاع الحزم بينهما إما صغار وإما فتـنة عـمـم
وقد هممت مرارا أن أساقيهـم كأس المنية لولا الله والـرحـم
ولو فعلت لزالت عنهـم نـعـم بكفر أمثالها تستنزل الـنـقـم هلى هذه الواية في الشعر، روى من ذكرت. وعلى ما صدرت من الخلاف في الألفاظ يغنى.
أنشدني طاهر بن عبد الله الهاشمي قال: أنشدني بريهة المنصوري هذه الأبيات، وحكى أن ناقدا خادم عيسى كان واقفا بين يديه ليلة ظأتاه خبر المنصور وما دبره عليه من الخلع، قال: فجعل يتململ على فراشه ويهمهم، ثم جلس فأنشد هذه الأبيات، فعلمت أنه كان يهمهم بها، وسألت الله أن يلهمه العزاء والصبر على ما جرى، شفقة عليه.
قال ابن أبي سعد في الخبر الذي قدمت ذكره عنهم: وحدثني محمد بن يوسف الهاشمي قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحم قال: حدثتني ملثم بنت عيسى قال: قال موسى بن علي بن عبد الله بن العباس: رأيت في المنام كأني دخلت بستانا، فلم آخذ منه إلا عنقودا واحدا، عليه من الحب المرصف ما الله به عليم، فولد له عيسى بن موسى، ثم ولد لعيس من قد رأيت.
قال ابن أبي سعد في خبره هذا: وحدثني علي بن مسلم الهاشمي قال: حدثني عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن مالك، مولى عيسى بن موسى، قال: حدثني أبي قال:
صفحة : 1827
كنا مع عيسى بن موسى لما سكن الحيرة، فأرسل إلي ليلة من الليالي، فأخرجني من منزلي، فجئت إليه، فإذا هو جالس على كرسي، فقال لي: يا عبد الرحمن، لقد سمعت الليلة في داري شيئا ما دخل سمعي قط إلا ليلة بالحميمة والليلة، فانظر ما هو. فدخلت أستقري الصوت، فإذا هو في المطبخ، وإذا الطباخون قد اجتموا، وعندهم رجل من اهل الحيرة يغنيهم بالعود، فكسرت العود، واخرجت الرجل، وعدت إليه فأخبرته، فحلف لي أنه ما سمعه قط إلا تلك الليلة بالحميمة وليلته هذه.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي، قالا: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الله بن محمد بن المنذر عن صفية بنت الزبير بن هشام بن عروة عن أبيه قال: كان عيسى بن موسى إذا حج، يحج ناس كثير من أهل المدينة: يتعرضون لمعروفه فيصلهم؛ قالت: فمر أبي بأبي الشدائد الفرازي، وهو ينشد بالمصلى:
عصابة إن حج عيسى حجوا
وإن أقام بالعراق دجوا
قد لعقوا لعيقة بفلجوا
فالقوم قوم حجهم موج
ما هكذا كان يكون الحج قال: ثم لقي أبو الشدائد بعد ذلك أبي، فسلم عليه، فلم يردد عليه، فقال له: مالك يا أبا عبد الله لا ترد السلام علي? فقال: ألم أسمعك تهجو حاج بيت الله الحرام? فقال أبو الشدائد:
إني ورب الكعبة المبنية
والله ما هجوت من ذي نيه
ولا امرىء ذي رعة نقيه
لكنني أرعي على البريه
من عصبة أغلوا على الرعية
بغير أخلاق لهم سريه
آثار ربع قدما أعيا جوابـا صـمـمـا
سحـت عـلـــيه ديم بمائهـا فـانـهـدمـا
كان لسعـدى عـلـمـا فصار وحشـا رمـمـا
أيام سـعـدى سـقــم وهي تداوي السـقـمـا الشعر للرقاشي، والغناء لابن المكي، رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانه.
أخبار الرقاشي ونسبه
هو الفضل بن عبد الصمد مولى رقاش. وهو من ربيعة، وكان مطبوعا سهل الشعر، نقي الكلام، وقد ناقض أبا نواس، وفيه يقول أبو نواس:
وجدنا الفضل أكرم من رقاش لأن الفضل مولاه الرسـول أراد أبو نواس بهذا نفيه عن ولائه، لأنه كان أكرم ممن ينتمي إليه، وذهب أبو نواس إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم انا مولى من لا مولى له.
وذكر إبراهيم بن تميم، عن العلى بن حميد: أن الرقاشي كان ما العجم من اهل الري.
وقد مدح الرقاشي الرشيد وأجازه إلا انقطاعه كان إلى آل برمك، فأغنوه عن سواهم.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثني أبي، قال: كان الفضل الرقاشي منقطعا إلى آل برمك، مستغنيا بهم عن يواهم، وكانوا يصولون به على الشعراء، ويروون أولادهم أشعاره، ويدونون القليل والكثير منها، قصبا له، وحفظا لخدمته، وتنويها باسمه، وتحريكا لنشاطه، فحفظ ذلك لهم، فلما نكبوا صار إليهم في حبسهم، فأقام معهم مدة أيامهم، ينشدهم ويسامرهم، حتى ماتوا، ثم رثاهم فأكثر ، ونشر محاسنهم وجودهم ومآثرهم فأفرط، حتى نشر منها ما كان مطوبا، وأذاع منها ما مان مستورا؛ وحرى على شاكلته بعدهم، وكان كالموقوف المديح على جميعهم، صغيرهم وكبيرهم. ثم انقطع إلى طاهر وخرج معه إلى خراسان، فلم يزل بها معه حتى مات.
وكان مع تقدمه في الشعر ماجنا خليعا، متهاونا بمروءته ودينه، وقصيدته التي يوصي فيها بالخلاعة والمجون مشهورة، سائرة في الناس، مبتذلة في أيدي الخاصة والعامة، وهي التي أولها
أوصى الرقاشي إلى إخوانه وصية المحمد في ندمانـه وقد رأيت هذه القصيدة بعينها بخط الجاحظ في شعر أبي نعامة، من جملة قصيدة له طويلة، يهجو فيها جماعة ويأتي في وسطها بقصيدة الرقاشي.
وقال عبد الله بن المعتز: حدثني أبن أي الخنساء، عن أبيه، قال: لما قال أو دلف:
ناوليني الرمح قد طـا ل عن الحرب جمامي
مر لي شهران مذ لـم أرم قوما بسهـامـي قال الرقاشي يعارضه:
جنبيني الدرع قـد طـا ل عن القصف جمامي
وأكسري المطرد والب يض وأثني بالحـسـام
واقذفي في لجة البـح ر بقوسي وسهـامـي
وبترسي وبـرمـحـي وبسرجي ولجـامـي
صفحة : 1828
فبحسبي أن تـرينـي بين فـتـيان كـرام
سادة نـغـدو مــدي ن على حرب المـدام
واصطفاق العود والنا يات في جوف الظلام
هزم أرواح دنـــان لم ننلها باصـطـلام
نهزم الـراح إذا مـا هم قوم بالـنـهـزام
ثم خل الضرب والطع ن لأجـسـاد وهـام
لشقي قال: قـد طـا ل عن الحرب جمامي أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن موسى، عن ابن النطاح، قال: توفي العباس بن محمد بن خالد بن برمك بالخلد، والرشيد بالرصافة، في يوم جمعة، فأخرجت جنازته مع العصر، وحضر الرشيد والأمين، وأخرجت المضارب إلى مقابر البرامكة بباب البردان، وفرش للرشيد في مسجد هناك، وجاء الرشيد في الحلق با لأعلام والحراب، فصلى عليه، ووقف على قبره حتى دفن؛ فلما خرج يحيى ومحمد أخواه من القبر، قبلا يد الرشيد، وسألاه الا نصراف، فقال: لا، حتى يسوى عليه التراب، ولم يزل قائما حتى فرغ من أمره، وعزاهما وأمرهما بالركوب، فقال الرقاشي يرثي العباس بن محمد بن خالد بن برمك:
أتحسبني بـاكـرت بـعـدك لـذة أبا الفضل أو رفعت عن عاتق سترا
أو انتفعت عيناي بعـد بـنـظـرة أو ادنيت من كأس بمشمولة ثغـرا
جفاني إذن يوما إلى الليل مؤنـسـي وأضحت يميني من ذخائها صفـرا
ولكنني استشعرت ثوب اسـتـكـانة وبت كأن الموت يحفر لي قـبـرا غنى في الأول والثاني من هذه الأبيات الرف، ثاني ثقيل بالبنصر، عن الهشامي وعبد الله بن موسى. وفيه ثقيل أول مجهول، أحسبه لبعض جواري البرامكة. وفيهما لإبراهيم بن المهدي خفيف رمل، عن عبد الله بن موسى.
ومن ذلك قوله في جعفر .
كم هاتف بك من باك وبـاكـية يا طيب للضيف إذ تدعى وللجار
إن يعدم القطر كنت المزن بارقه لمع الدنانير لا ماخيل السـاري وقوله:
لعمرك ما بالموت عار على الفتى إذا لم تصبه في الحياة المعـابـر
وما أحد حي وإن كان سـالـمـا بأسلم ممن غيبتـه الـمـقـابـر
ومن كان مما يحدث الدهر جازعا فلا بد يوما أن يرى وهوصـابـر
وليس لذي عيش عن الموت مقصر ولبس على الأيام والدهر غـابـر
وكل سباب أو جديد إلى الـبـلـى وكل امرىء يوما إلى الله صـائر
فلا يبعدنك الله عنـي جـعـفـرا بروحي ولو دارت علي الـدوائر
فآليت لا أنفك أبكـيك مـا دعـت علي فنن ةورقاء أو طار طـائر أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أو غسان، عن عبد العزيز بن أبي ثابت، عن محمد بن عبد العزيز: أن الرقاشي الشاعر فني في حب البرامكة حتى خيف عليه.
اخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي عن أبي عكرمة، قال: وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن موسى، عن إسماعيل بن مجمع، عن أحمد بن الحارث، عن المدائني .
أنه لما دارت الدوائر على آل برمك، وأمر بقتل جعفر بن يحيى وصلب، اجتاز به الرقاشي الشاعر وهو على الجذع، فوقف يبكي أحر بكاء، ثم أنشأ يقول:
أما والله لـولا خـوف واش وعين للخـلـيفة لا تـنـام
لطفنا حول جذعك واستلمنـا كما للناس بالحجر استـلام
فما أبصرت قبلك يا بن يحيى حساما قده السيف الحسـام
على اللذات والدنيا جمـيعـا ودولة آل برمك الـسـلام فكتب أصحاب الأخبار بذلك إلى الرشيد، فأحضره، فقال له: ما حملك على ما قلت? فقال: يا أمير المؤمنين، كا إلي محسنا، فلما رأيته على الحال التي هو عليها حركني إحسانه، فما ملكت نفسي حتى قلت الذي قلت. قال: وكم كان يجري عليك? قال: ألف دينار في كل سنة. قال: فإنا قد أضعفناها لك.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أو دلف، قال: حدثنا الرياشي قال:
صفحة : 1829
كان الفضل الرقاشي يجلس إلى إخوان له يحادثهم، ويألفونه ويأنسون به، فتفرقوا في طلب المعاش، وترامت بهم الأسفار، فمر الرقاشي بنجلسهم الذي كانوا يجلسون فيه، فوقف فيه طويلا، ثم استعبر وقال:
لولا التطير قلت غيركـم ريب الزمان فخنتم عهدي
درست معالم كنت آلفهـا من بعدكم وتغيرت عندي أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: حدثني أبو هفان، عن يوسف بن الداية قال: كان أبو نواس والفضل الرقاشي جالسين، فجاءهما عمرو الوراق، فقال: رأيت جارية خرجت من دور آل سليمان بن علي، فما رأيت جارية أحسن منها، هيفاء نجلاء، زجاء دعجاء، كأنها خوط بان، أو جدل عنان، فخاطبتها فأجابتني بأحلى لفظ، وأحسن لسان، وأجمل خطاب. فقال الرقاشي: قد والله عشقتها، فقال أبو نواس: أو تعرفها? قال: لا والله، ولكن بالصفة، ثم أنشأ يقول:
صفات وظن أورثا القلب لوعة تضرم في أحشاء قلب متـيم
تمثلها نفسي لعيني فأنـثـنـي إليها بطرف الناظر المتوسـم
يحملني حبي لها فوق طاقتـي من الشوق دأب الحائر المتقسم اخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد الحراني قال: قيل لابن دراج الطفيلي أتتطفل على الرؤوس? قال: وكيف لي بها? قيل: إن فلانا قد استرياها، ودخلا بستان ابن بزيع، فخرج يحضر خوفا من فوتهما، فوجدهما قد لوحا بالعظام فوقف عليها ينظر، ثم استعبر وتمثل قول الرقاشي:
آثار ربع قـدمـا أعيا جوابي صمما وابن دراج هذا يقال له عثمان، وهو مولى لكندة، وكان في زمن المأمون، وله شعر مليح، وأدب صالح، وأخبار طيبة، يجري ذكرها ههنا.
أخبار ابن دراج الطفيلي
أخبرني الجوهري عن ابن مهروية، عن أبيه قال: قيل لعثمان بن دراج: اتعرف بستان فلان? قال: إي والله، وإنه للجنة الحاضرة في الدنيا. قيل له: فلم لا تدخل إليه، فتأكل من ثماره، تحت أشجاره، وتسبح في أنهاره? قال: لأن فيه كلبا لا يتمضمض إلا بدماء عراقيب الرجال.
أخبرني الجوهري قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الرحيم بن احمد بن زيد الحراني قال: كان عثمان بن دراج يلزم سعيد بن عبد الكريم الخطابي، أحد ولد زيد بن الخطاب، فقال له: ويحك إني أبخل بأدبك وعلمك، وأصونك وأضن بك عما أنت فيه من التطفيل، ولي وظيفة راتبة في كل يوم، فالزمني وكن مدعوا أصلح لك مما تفعل. فقال: رحمك الله أين يذهب بك؛ فأين لذة الجديد، وطيب التنقل كل يوم من مكان إلى مكان? وأين نيلك ووظيفتك من احتفال الأعراس? وأين ألوانك من ألوان الوليمة? قال: فأما إذ أبيت ذاك، فإذا ضاقت عليك المذاهب فإني فيئة لك. قال: أما هذا فنعم.
فبينا هو عنده ذات يوم إذ أتت الخطابي مولاة له، فقالت له: جعلت فداك. زوجت ابنتي من ابن عم لها، ومنزلي بين قوم طفيليين، لا آمنهم أن يهجموا علي، فيأكلوا ما صنعت، ويبقى من دعوت، فوجه معي بمن يمنعهم. فقال: نعم، هذا أبو سعيد، قم معها يا أبا سعيد. فقال: مري بين يدي، وقام وهو يقول:
ضجت تميم أن تقتل عامر يوم النسار فأعتبوا بالصليم قال: وقال الخطابي هذا لابن دراج: كيف تصنع بأهل العرس إذا لم يدخلوك? قال: أنوح على بابهم، فيتطيرون بذلك، فيدخلوني.
قال: وقال له رجل: ما هذه الصفرة في لونك? قال: من الفترة بين القصفين، ومن خوفي كل يوم من نفادالطعام قبل أن أشبع.
أخبرني أحمد قال: حدثنا ابن مهرويه، عن عبد الرحيم بن أحمد:
صفحة : 1830
أن ابن دراج صار إلى باب علي بن زيد، أيام كان يكتي للعباس بن المأمون، فحجبه الحاجب، وقال: ليس هذا وقتك، قد رأيت القواد يحجبون، فكيف يؤذن لك أنت? قال: ليست سبيلي سبيلهم، لأنه يحب أن يراني، ويكره أن يراهم، فلم يأذن له. فبيناهما على ذلك إذ خرج علي بن زيد، فقال: ما منعك يا أبا سعيد أن تدخل? فقال: منعني هذا البغيض. فالتفت إلى الحاجب، فقال: بلغ بك بغضك أن تحجب هذا? ثم قال: يا أبا سعيد، ما أهديت إلي من النوادر? قال: مرت بي جنازة ومعي ابني، ومع الجنازة امرأة تبكيه تقول: بك يذهبون ألى بيت لا فرش فيه ولا وطاء، ولا ضيافة ولا عطاء؛ ولا خبز فيه ولا ماء. فقال لي ابني: يا أبة إلى بيتنا والله يذهبون بهذه الجنازة. فقلت له: وكيف ويلك قال: لأن هذه صفة بيتنا. فضجك علي وقال: قد أمرت لك بثلاثة مئة درهم.
قال: قد وفر الله عليك نصفها على أن أتغدى معك. قال: وكان عثمان مع تطفيله أشره الناس، فقال: هي عليك موفرة كلها، وتتغدى معنا.
وعثمان ابن دراج الذي يقول:
لذة التطفيل دومي وأقيمي لا تريمي
أنت تشفين غليلي وتسلين همومي عود إلى الرقاشي: أخبرني محمد بن الحسن دريد قال: حدثنا العكلي قال: دخل الرقاشي على بعض أمراء الصدقة، فقال له: قد أصبح خضابك قانيا. قال: لأني أمسيت له معانيا.
قال: وكيف تفعله? قال: انعم الحناء عجنا، وأجعل ماء سخنا، وأروي شعري قبله دهنا، فإن با قنا ، وإن لم يفعل أغنى.
من لعين رأت خيالا مطيفـا واقفا هكذا علينا وقـوفـا
طارقا موهنا ألـم فـحـيا ثم ولى فهاج قلبا ضعيفـا
ليت نفسي وليت أنفس قومي يا يزيد الندى تقيك الحتوفـا
عتكي مـهـلـبـي كـريم حاتمي قد نال فرعا منيفـا عروضه من الخفيف، والشعر لربيعة الرقي يمدح يزيد بن حاتم المهلبي، والغناء لعبد الرحيم الرف ، خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو.
أخبار ربيعة الرقي ونسبه
هو ربيعة بن ثابت الأنصاري، ويكنى أبا شبابة. وقيل إنه كان يكنى أبا ثابت، وكان ينزل الرقة، وبها مولده ومشؤه، فأشخصه المهدي إليه، فمدحه بعدة قصائد، وأثابه عليها ثوابا كثيرا، وهو من المكثرين المجيدين، وكان ضريرا، وإنما أخمل ذكره وأسقطه عن طبقته، بعده عن العراق، وتركه خدمة الخلفاء، ومخالطة الشعراء، وعلى ذلك فما عدم مفضلا لشعره، مقدما له.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا محمد بن دواد، عن ابن أبي خيثمة عن دعبل قال: قلت لمروان بن أبي حفصة: من أشعركم جماعة المحدثين يا أبا السمط?. قال: أشعرنا أيرنا بيتا. قلت: ومن هو? قال: ربيعة الرقي الذي يقول:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حـاتـم وهذا البيت من قصيدة له مدح بها يزيد بن حاتم المهلبي، وهجا يزيد بن أسيد السلمي، وبعد البيت الذي ذكره مروان:
يزيد سليم سالم المال والـفـتـى أخو الأزد للأموال غير مسالـم
فهم الفتى الأزدي إتلاف مـالـه وهم الفتى القيسي حجمع الدراهم
فلا يحسب التمتام أني هجـوتـه ولكنني فضلت أهل المـكـارم
فيا بن أسيد لا تسام ابـن حـاتـم فتقرع إن سامـيتـه سـن نـادم
هو البحر إن كلفت نفسك خوضه تهالكت في موج له متـلاطـم أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني أسيد بن خالد الأنصاري، قال: قلت لأبي زيد النحوي: إن الأصمعي قال: لا يقال: شتان ما بينهما، إنما يقال: شتان ما هما، وأنشد قول الأعشى:
شتان ما يومي على كورها فقال: كذب الأصمعي، يقال: شتان ما هما، وشتان مابينهما، وأنشدني لربيعة الرقي، واحتج به:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حـاتـم وفي استشهاد مثل أبي زيد على دفع مثل قول الأصمعي بشعر ربيعة الرقي، كفاية له في تفضيله.
وذكره عبد الله بن المعتز فقال: كان ربيعة أشعر غزلا من أبي نواس، لأن في غزل أبي نواس بردا كثيرا، وغزل هذا سليم سهل عذب.
صفحة : 1831
نسخت من كتاب لعمي: حدثنا ابن أبي فنن قال: اشتهى جواري المهدي أن يسمعن ربيعة الرق، فوجه إليه المهدي من أخذه من مسجده بالرقة، وحمل على البريد حتى قدم به على المهدي، فأدخل عليه، فسمع ربيعة حسا من وراء الستر، فقال: إني أسمع حسا يا أمير المؤمنين، فقال: اسكت يا بن اللخناء، واستنشده ما أراد، فضحك وضحكن منه. قال: وكان فيه لين، وكذلك كان أبو العتاهية، ثم أجازه جائزة سنية، فقال له:
يا أمي المؤمنين الله سماك الأمينا
سرقوني من بلادي يا أمـير الـمـؤمـنــينـــا
سرقـونـي فـاقـض فـيهــم بجـزاء الـسـارقـــينـــا قال: قد قضيت فيهم أن يردك إلى حيث أخذوك. ثم أمر به فحمل على البريد من ساعته إلى الرقة.
وفي يزيد بن حاتم يقول أيضا:
يزيد الأزد إن يزيد قومـي سميك لا يجود كما تجـود
يقود جماعة وقود أخـرى فترزق من تقود ومن يقود
فما تسعون يحقرها ثـلاث يقيم حسابها رجـل شـديد
وكف ششنة جمعت لوجء بأنكد من عطـائك يا يزيد أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: امتدح ربيعة الرقي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، بقصيدة لم يسبق إليها حسنا، وهي طويلة يقول فيها:
لو قيل للعباس يا بن محمـد قل: لا وأنت مخلد ما قالهـا
ما إن أعد من المكارم خصلة إلا وجدتك عمها أو خالهـا
وإذا الملوك تسايروا في بلدة كانوا كوكبها وكنت هلالهـا
إن المكارم لم تزل معقـولة حتى حللت براحتيك عقالها في البيت الأول والبيت الأخير خفيف رمل بالوسطى، يقال إنه لإبراهيم. ويقال إنه للحسين بن محرز.
قال: فبعث إليه بدينارين، وكان يقدر فيه ألفين، فلما نظر إلى الدينارين كاد يجن غيظا، وقال للرسول: خذ الدينارين، فهما لك، على أن ترد الرقعة من حيث لا يدري العباس، ففعل الرسول ذلك، فأخذها ربيعة، وأمر من كتب في ظهرها:
مدحتك مدحة السيف المحلـى لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضـياعـا كذبت عليك فيها وافـتـريت
فأنت المرء ليس لـه وفـاء كأني إذ مدحتك قـد رثـيت ثم دفعها إلى الرسول، وقال له ضعها في الموضع الذي أخذتهامنه. فردها الرسول في موضعها. فلما كان من الغد اخذها العباس، فنظر فيها، فلما قرأ الأبيات غضب، وقام من وقته، فركب إلى الرشيد، وكان أثيرا عنده، يبجله ويقدمه، وكان قد هم أن يخطب إليه ابنته، فرأى الكراهة في وجهه، فقال: ما سأنك? قال: هجاني ربيعة الرقي. فأحضر، فقال له الرشيد: يا ماص كذا وكذا من أمه، أتهجو عمي، وآثر الخلق عندي، لقد هممت أن أضرب عنقك. فقال: والله يا امير المؤمنين، لقد مدحته بقصيدة ما قال مثلها أحد من الشعراء، في أحد من الشعراء، في أحد من الخلفاء، ولقد بالغت في الثناء، وأكثرت في الوصف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمره بإحضارها. فلما سمع الرشيد ذلك منه سكن غضبه، وأحب أن ينظر في القصيدة، فأمر العباس بإحضار الرقعة، فتلكأ عليه العباس ساعة، فقال له الرشيد: شألتك بحق أمير المؤمنين إلا أمرت بإحضارها، فعلم العباس أنه قد اخطأ وغلط، فأمر بإحضارها فأحضرت، فأخذها الرشيد وإذا فيها القصيدة بعينها، فاستحسنها واستجادها، واعجب بها، وقال: والله ما قال أحد مكن الشعراء في أحد من الخلفاء مثلها، لقد صدق ربيعة وبر. ثم قال للعباس: كم أثبته عليها? فسكت العباس: وتغير لونه، وجرض بريقه، فقال ربيعة: أثابني عليها يا أمير المؤمنين بدينارين، فتوهم الرشيد أنه قال ذلك من الموجدة على العباس، فقال: بحياتي يا رقي، كم أثابك? قال: وحياتك يا أمير المؤمنين ما أثابني إلا بدينارين.
فغضب الرشيد غضبا شديدا، ونظر في وجه العباس بن محمد، وقال: سوءة لك أية حال قعدت بك عن إثابته أقلة مال? فو الله لقد مولتك جهدي؛ أم انقطاع المادة عنك? فوا لله ما انقطعت عنك، أم أصلك? فهو الأصل لا يدانيه شيء، أم نفسك? فلا ذنب لي، بل نفسك فعلت ذلك بك، حتى فضحت أباك وأجدادك، وفضحتني ونفسك.
صفحة : 1832
فتكس العباس رأسه ولم ينطق. فقال الرشيد: يا غلام، أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم وخلعة، واحمله على بغلة، فلما حمل المال بين يديه، وألبس الخلعة، قال له الرشيد: بحياتي يا رقي لا تذكره في شيء من شعرك تعريضا ولا تصريحا، وفتر الرشيد عما كان هم به أن يتزوج إليه، وظهر منه له بعد ذلك جفاء كثير واطراح.
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال: حدثني أحمد بن أبي فنن الشاعر، قال: حدثني من لا أحصي من الجلساء أن ربيعة الرقي كان لا يزال يعبث بالعباس بن محمد بحضرة الرشيد، العبث الذي يبلغ منه، منذ جرى بينهما في مديحه إياه ما جرى، من حيث لا يتعلق عليه فيه بشيء، فجاء العباس يوما إلى الرشيد ببرنية فيها غاليه، فوضعها بين يديه، ثم قال: هذه يا أمير المؤمنين غالية، صنعتها لك بيدي، اختير عنبرها من شحر عمان، ومسكها من مفاوز التبت، وبانها من قعر تهامة؛ فالفضائل كلها مجموعة فيها، والنعت يقصر عنها.
فاعترضه ربيعة، فقال: ما رأيت أعجب منك، ومن صفتك لهذه الغالية، عند من إليه كل موصوف يجلب، وفي سوقه ينفق، وبه إليه يتقرب، وما قدر غاليتك هذه، أعزك الله، حتى بلغ في وصفها ما بلغت، أأجريت بها إليه نهرا، ام حملت إليه منها وقرا إن تعظيمك هذا عند من تحببى إليه خزائن الأرض وأموالها من كل بلدة، وتذل لهيبته جبابرة الملوك المطيعة والخالفة، وتتحفه بطرف بلدانها، وبدائع ممالكها، حتى كأنك قد فقت به على كل ما عنده، أو أبدعت له ما لا يعرفه، أو خصصته بما لم يحوه ملكه، لا تخلو فيه من ضعف أو قصر همة. أنشدك الله يا أمير المؤمنين، إلا جعلت حظي من كل جائزة وفائدة توصلها إلي مدة سنتي هذه الغالية، حتى أتلقاها بحقها.
فقال: أدفعوها إليه، فدفعت إليه. فأدخل يده فيها، وأخرج ملئها، رحل سراويله، وأدخل يدع فطلى بها استه، وأخذ حفنة اخرى، وطلى بها ذكره وأنثييه، وأخرج حفنتين، فجعلهما تحت إبطيه، ثم قال: يا أمير المؤمنين، مر غلامي أن يدخل إلي، فقال: ادخلوه إليه، وهو يضحك، فأدخلوه إليه فدفع إليه البرنية غير مختومة، وقال أذهب إلى جارتي فلانة بهذه البرنية، وقل لها: طيبي بها حرك واستك وإبطيك، حتى أحيء الساعة وأنيكك، فأخذها الغلام ومضى وضحك الرشيد حتى غشي عليه، وكاد العباس يموت غيظا، ثم قام فانصرف، وأمر الرشيد لربيعة بثلاثين ألف درهم .
وذكر علي بن الحسين بن عبد الأعلى، انه رأى قصيدة لربيعة الرقي مكتوبة في دور بساط من بسط السلطان قديم، وكان مبسوطا في دار العامة بسر من رأى، فنسخها منه، وهي قوله:
وتزعم أني قد تـبـدلـت خـلة سواها وهذا الباطل المتـقـول
لحا الله من باع الصديق بغـيره فقالت نعم حاشاك إن كنت تفعل
ستصرم إنسانا إذا صرمتـنـي يحبك فانظر بعده من تـبـدل في هذه الثلاثة الأبيات لحن من الثقيل الأول، ينسب إلى إبراهيم الموصلي، وإلى إبراهيم بن المهدي، وفيه لعريب رمل من رواية ابن المعتز.
وكان سبب إغراق ربيعة في هجاء يزيد بن أسيد، انه زاره يستميحه، لقضاء دين كان عليه ، فلم يجد عنده ما أحب، وبلغ ذلك يزيد بن حاتم المهلبي، فطفل على قضاء دينه وبره، فاسفرغ بيعة جهده في مدحه، وله فيه عدة قصائد مختارة، يطول ذكرها، وقد كان أبو الشمقمق عارضه في قوله:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حـاتـم في قصيدة مدح بها يزيد بن مزيد، وسلخ بيت الرقي، بل نقله وقال:
لشتان ما بين اليزيدين في الـنـدى إذا عد في الناس المكارم والمجـد
يزيد بني شيبان أكرم مـنـهـمـا وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد
فتى لم تلده مـن رعـين قـبـيلة ولا لخم تنميه ولم تنـمـه نـهـد
ولكن نمتـه الـغـر مـن آل وائل وبرة تنميه ومن بعـدهـا هـنـد ولم يسر في هذا المعنى شيء كما يار بيت ربيعة.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا محمد بن دواد بن الجراح قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال: عرض نخاس على أحمد بن يزيد بن أسيد الذي هجاه ربيعة جواري، فاختار جاريتين منهن، ثم قال للنخاس: أيتهما أحب إليك? قال: بينهما أعز الله الأمير كما قال الشاعر:
صفحة : 1833
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والغر ابـن حـات فأمر بجر رجله وجواريه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: لما حج الرشيد لقيه قبل دخوله مكة رجلان من قريش، فانتسب له أحدهما، ثم قال: يا أمير المؤمنين، نهكتنا النوائب، وأجحفت بأموالنا المصائب، ولنا بك رحم أنت أولى من وصلها، وأمل أنت أحق من صدقه، فما بعدك مكلب، ولا عنك مذعب، ولا فوقك مسئول، ولا مثلك مأمول. وتكلم الآخر، فلم يأت بشيء فوصلهما، وفضل الأول تفضيلا كثيرا، ثم أقبل على الفضل بن الربيع فقال: يا فضل:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد سليم والأغر ابن حـاتـم قال أحمد بن أبي طاهر: حدثني أبو دعامة علي بن زيد بن عطاء الملط قال: لما هجا ربيعة يزيد بن أسيد السلمي، وكان جليلا عن المنصور والمهدي، وفضل عليه يزيد بن حاتم، قلت لربيعة: يا أبا شبابة، ما حملك على أن هجوت رجلا من قومك، وفضلت عليه رجلا من الأزد? فقال: أخبرك.
أملقت فلم يبق لي شيء إلا داري، فرهنتها على خمس مئة درهم، ورحلت إليه إلى ارمينية، فأعلمته ذلك ومدحته، وأقمت عنده حولا، فوهب لي خمس مئة درهم، فتحملت وصرت بها إلى منزلي، فلم يبق معي كبير شيء، فنزلت في دار بكراء، فقلت: لو أتيت يزيد بن حاتم، ثم قلت: هذا ابن عمي فعل بي هذا الفعل، فكيف غيره? ثم حملت نفسي على أن أتيته، فاعلم بمكاني، فتركني شهرا حتى ضجرت، فأكريت نفسي من الحمالين، وكتبت بيتا في رقعة وطرحتها في دهليزه، والبيت:
أراني ولا كفران لله راجعـا يخفي حنين من يزيد بن حاتم فوقعت الرقعة في يد حاجبه، فأولها إليه من غير علمي ولا امري، فبعث خلفي، فلما دخلت عليه قال: هيه، أنشدني ما قلت. فتمنعت، فقال: والله لتنشدني، فأنشدته فقال: والل لا ترجع كذلك، ثم قال: انزعوا خفيه، فنزعا فحشاهما دنانير، وأمر لي بغلمان وجوار وكسا، أفلا ترى لي أن أمدح هذا وأهجو ذاك قلت: بلى والله. ثم قال: وسار شعري حتى بلغ المهدي فكان سبب دخولي إليه.
أخبرني الحسن بن علي الأدمي قال: حدثني محمد بن الحسن بن عباد بن الشهيد القرقيسياني قال: حدثني عمي عبد الله بن عباد: أن ربيعة بن ثابت الرقي الأسدي كان يلقب الغاوي، وكان يهوى جارية يقال لها عثمة، أمة لرجل من أهل قرقيسياء، يقال له ابن مرار، وكان بنو هاشم في سلطانهم قد ولوه مصر، فأصاب بها مالا عظيما، وبلغه خبر ربيعة مع جاريته، فأحضره، وعرض عليه أن يهبها له، فقال: لا تهبها لي، فإن كل مبذول مملول، وأكره أن يذهبحبها من قلبي؛ ولكن دعني أواصلها هكذا، فهو أحب إلي.
قال: وقال فيها:
اعتاد قلبك من حبيبـك عـيده شوق عراك فأنت عنه تـذوده
والشوق قد غلب الفؤاد فقـاده والشوق يغلب ذا الهوى فيقوده
في دار مرار غزال كـنـيسة عطر عليه خزوزه وبـروده
ريم أغر كأنه من حـسـنـه صنم يحج ببيعة مـعـبـوده
عيناه عينا جـؤذر بـصـريمة وله من الظبي المريب جـيده
ما ضر عثمة أن تلم بعـاشـق دنف الفؤاد متيم فـتـعـوده
وتلده من ريقها فـلـربـمـا نفع السقيم من السقام لـدوده وهي طويلة مده فيها بعض ولد يزيد بن المهلب.
أخبرني يحيى بن علي قال: حدثني أبي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن أبي بشر الفزاري قال: لقى ربيعة الرقي معن بن زائدة في قدمه قدمها إلى العراق، فامتدحه بقصيدة، وأنشده إياها راويته، فلم يهش له معن، ولا رضي ربيعة لقائه إياه، وأثابه ثوابا نزرا، فرده ربيعة، وهجاه هجاء كثيرا، فمما هجاه به قوله:
معن يا معن يا بن زائدة الكـل ب التي في الذراع لا في البنان
لا تفاخر إذا فـخـرت بـآبـا ئك وافخر بعمك الحو فـزان
فهشام من وائل فـي مـكـان أنت ترضى بدون ذاك المكـان
ومتى كنت يا بن ظبية تـرجـو أن تثني على ابنة الغضـبـان
وهي حوراء كالمهاة هـجـان لهجان وأنت غـير هـجـان
صفحة : 1834
وبنات السليل عند بن ظـب ية، أف لكم بني شـيبـان
قيل: معن لنا فلما اختبرنـا كان مرعى وليس كالسعدان قال أبو بشر: ظبية التي عيره بها أمة كانت لبني نهار بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، لقيها عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك، وكانت راعية لأهلها، وهي في غنمها، فسرقها ووقع عليها، فولدت له زائدة بن عبد الله أبا معن بن رائدة، ودجاجة بنت عبد الله. قال: وبنت السليل التي عناها: امرأة من ولد الحوفزان.
أخبرني يحيى عن أبيه إسحاق عن أبي بشر الفزاري، قال: كان ربيعة الرقي يهوى جارية لرجل من اهل الكوفة، يقال لها عثمة، وكان أهلها ينزلون في جوار جعفي، فقال فيها في أبيات له:
جعفي جيرانها فقد عطرت جعفي من نشرها ورياها فقال له رجل من جعفي: وأنا جار لها بيت بيت، والله ما شممت من دراهم ريحا طيبة قط. فتشمم ربيعة رائحته وقال: وما ذنبي إذا كنت أخشم ، والله إني لأجد ريحها وريح طيبها منك، وأنت لا تجده من نفسك.
أخبرني يحيى عن أبيه عن إسحاق عن أبي بشر قال: كنت حاضرا ربيعة الرقي يوما وجاءته امرأة من منزل هذه الجارية، فقالت: تقول لك فلاننة: إن بنت مولاي محمومة، فإن كانت تعرف عوذة تكتبها لها فافعل. فقال: أكتب لها يا أبا بسر هذه العوذة:
تفو تفو باسم إلـهـي الـذي لا يعرض السقم لمن قد شفى
أعيذ مولاتـي ومـولاتـهـا وانتها بوذة المصـطـفـى
من شر ما يعرض عن عـلة في الصبح والليل إذا أشدفـا قال: فقلت له: يا أبا ثابت، لست أحسن أن أكتب: تفو تفو، فكيف أكتبها? قال: انضح المداد من رأس القلم في موضعين، حتى يكون كالنفث، وافع العوذة إليها، فإنها نافعة. ففعلت ودفعتها إليها، قلم تلبث أن جائنا الجارية وهي لا تتمالك ضحكا. فقالت له: يا مجنون، ما فعلت بنا? كدنا والله نفتضخ بما صنعت. قال: فما أصنع بك? أشاعر أنا أم صاحب تعاويذ?
ألا من بين الأخـوي ن أمها هي الثكلى
تسائل من رأى ابنيها وتشفي فما تشفـى
فلما استيأست رجعت بعبرة واله حـرى
تتابـع بـين ولـولة وبين مدامع تتـرى عروضه من الهزيج ، الشعر لجورية بنت خالد بن قارظ الكنانية، وتكنى أم حكيم، زوجة عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، في ابنيها اللذين قتلهما بسر بن لؤي باليمن.
والغناء لا بن سريج، ولحنه من القدر الأوسط، من الثقيل الأول، بالخنصر في مجرى البنصر. وفيه لحنين الحيري، ثاني ثقيل عن الهشامي. وفيه لأبي سعيد مولى فائد، خفيف ثقيل الأول، مطلق في مجرى الوسطى.
خبر مقتل ابني عبيد الله بن العابس
ابن عبد المطلب
أخبرني بالسبب في ذلك محمد بن أحمد بن الطلاس قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال: حدثنا علي بن محمد المدائني، عن أبي مخنف، عن جويرية بن أسماء، والصقعب بن زهير، وأبي بكر الهذلي، عن أبي عمرو الوقاصي:
صفحة : 1835
أن معاوية بن أبي سفيان بعث بسر بن أرطاة، أحد بني عامر بن لؤي، بعد تحكيم الحكمين، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ حي، وبعث معه جيشا، ووجه برجل من غامد ضم إليه جيشا آخر. ووجه الضحاك بن قيس الفهري في جيش آخر، وأمرهم أن يسيروا في البلاد، فيقتلوا كل من وجدوه من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام وأصحابه، وأن يغيروا على سائر أعماله، ويقتلوا أصحابه، ولا يكفو أيديهم عن النساء والصبيان. فمضى بسر لذلك على وجهه، حتى انتهى إلى المدينة، فقتل بها ناسا من أصحاب علي عليه السلام، وأهل هواه، وهدم بها دورا من دور القوم. ومضى إلى مكة، فقتل نفرا من آل أبي لهب، ثم أتى السراة، فقتل من بها من أصحابه. وأتى نجران، فقتل عبد الله بن عبد المدان الحارثي وابنه، وكانا من أصهار بني العباس، ثم أتى اليمن وعليها عبيد الله بن العباس، عاملا لعلي بن أبي طالب، وكانه غائبا، وقيل بل هرب لما بلغه خبر بسر، فلم يصادفه بسر، ووجد ابنين له صبيين، فأخذهما بسر لعنه الله، وذبحهما بيده، بمدية كانت معه، ثم اكفأ راجعا إلى معاوية، وفعل مثل ذلك سائر من بعث به. فقصد الغامدي إلى الأنبار، فقتل ابن حسان البكري، وقتل رجالا ونساء من الشيعة.
فحدثني العباس بن علي بن العباس النسائي قال: حدثنا محمد بن حسان الأزرق، قال: حدثنا شبابة بن سوار قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن عمرو بن قيس، عن أبي صادق، قال: أغارت خيل لمعاوية على الأنبار، فقتلوا عاملا لعلي عليه السلام، يقال له حسان بن حسان ، وقتلوا رجالا كثرا ونساء، فبلغ ذلك علي بن طالب صلوات الله عليه، فخرج حتى أتى المنبر، فرقيه، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فمن تركه ألبسه الله ثوب الذلة وشمله البلاء، وديث بالصغار، وسيم الخسف. وقد قلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فإنه لم يغز قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم، وتركتم قولي وراءكم ظهيا، حتى شئت عليكم الغارات. هذا أخو غامد قد جاء الأنبار، فقتل عاملي عليها حسان بن حسان، وقتل رجالا كثيرا ونساء. والله لقد بلغني أنه كانيأتي المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينزع حجلها ورعائها ، ثم ينصرفون موفورين، ولم يكلم أحد منهم كلما، فلو أن امرأ مسالما مات من دون هذا أسفا، لم يكن عليه ملوما، بل كان به جديرا، يا عجبا، عجبا بميت القلب، ويشعل الأحزان، من اجتماع هؤلاء القوم على ضلالتهم وباطلهم، وفشلكم عن حقكم، حتى صرتم غرضا، ترمون ولا ترمون، وتغزون ةلا تغزون، ويعصى الله وترضون. إذا قلت لكم اغزوهم في الحر، قلتم هذه حمارة القيظ فأمهلنا، وإذا قلت لكم اغزوهم في البرد، قلتم هذا أوان قر وصر فأمهلنا، فإذا كنتم من الحر والبرد تفرون، فأنتم والله من السيف أشد فرارا . يا أشباه الرجال ولا رجال، ويا طغام الأحلام، وعقول ربات الحجال ، وددت والله أني لم أعرفكم، بل وددت أني لم أركم، معرفة والله جرعت بلاء وندما، وملأتم جوفي غيظا بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قريش: إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له لالحرب. ويحهم هل فيهم أشد مراسا لها مني? والله لقد دخلت فيها وأنا ابن عشرين، وأنا الآن قد نيفت على الستين، ولكن لا رأي لمن لا يطاع.
فقام إليه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، أنا كما قال الله تعالى:)لا أملك إلا نفسي وأخي( فمرنا بأمرك، فوالله لنطيعنك ولو حال بيننا وبينك جمر الغضى ، وشوك القتاد. قال: وأين تبلغان مما أريد؛ هذا أو نحوه، ثم نزل.
حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله بن محمد قال: حدثني جعفر بتن بشير قال: حدثني صالح بن يزيد الخراساني، عن أبي مخنف، عن سليمان بن أبي راشد، عن أبن أبي الكنود عبد الرحمن بن عبيد قال: كتب عقيل بن أبي طالب إلى أخيه علي بن أبي طالب عليه السلام:
صفحة : 1836
أما بعد، فإن الله عز وجل جارك من كل سوء، وعاصمك من المكروه. وإني خرجت معتمرا، فلقيت عبد الله بن أبي سرح في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، فقلت لهم، وعرفت المنكر في وجوهم: يا أبناء الطلقاء، العداوة والله لنا منكم غير مستنكرة قديما، تريدون بها إطفاء نور الله، وتغيير أمره، فأسمعني القوم وأسمعتهم. ثم قدمت مكة وأهلها يتحثون أن الضحاك بن قيس أغار على الحيرة، فاحتمل من أموال أهلها ما شاء، ثم انكفأ راجعا، فأف لحياة في دهر جرأ هليك اضحاك. وما الضحاك? وهل هو إلا فقع بقرقرة ، وقد ظننت وبلغني أن نصارك قد خذلوك، فاكتب إلي يا بن أم برأيك، فإن كنت الموت تريد، تحملت إليك ببني أبيك وولد أخيك، فعشنا ما عشت، ومتنا معك، فوالله ما أحب أن أبقى بعدك فواقا ، وأقسم باللله الأعز الأجل، أن عيشا أعيشه في هذه الدنيا بعدك، لعيش غير هنيء ولا مريء ولا نجيع . والسلام.
فأجابه علي بن أبي طالب، عليه السلام: بسم الله الرحمن الرحيم: أما بعد، كلأنا الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب، إنه حميد مجيد، فقد قدم علي عبد الرحمن بن عبيد الأزدي بكتابك، تذكر فيه أنك لقيت ابن أبي سرح مقبلا من قديد، في نحو من أربعين شابا من أبناء الطلقاء، وإن بني أبي سرح طال ما كاذ الله ورسوله وكتابه، وصد عن سبيله، وبغاها عوجا، فدع بني أبي سرح عنك، ودع قريشا وتركاضهم في الضلالة، وتجوالهم في الشقاق، فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك، إجماعها على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقه، وحجدوا فضله، وبادوه لاعداوة، نونصبوا له الحرب، وجهدوا عليه كل الجهد، وساقوا إليه جيش الأمرين. اللهم فاجز عني قريشا الجوازي، فقد قطعت رحمي، وتظاهرت علي، والحمد الله على كل حال.
وأما ما ذكرت من غارة الضحاك بن قيس على الحيرة، فهو أقل وأذل من أن يقرب الحيرة، ولكنه جاء في خيل جريدة، فلزم الظهر، وأخذ على السماوة، فمر بواقصة وشراف وما والى ذلك الصقع، فسرحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين، فلما بلغه ذلك جاز هاربا، فاتبعوه فلحقوه ببعض الطريق وقد أمعن في السير، وقد طفلت الشمس للإياب، فاقتتتلوا شيئا كلا ولا ، فولى ولم يصبر، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا جريضا بعدما أخذ منه بالمخنق، فلأيا بلأى مانجا واما ما سألت عنه أن أكتب إليك فيه برأيي، فإن رأيي قتال المحلين حتى ألقى الله، لا يزيدني كثرة الناس حولي عزة، ولا تفرقهم عني وحشة، لأني محق، والله مع الحق وأهله، وما أكره الموت على الحق، وما الخير كله إلا بعد الموت لمن مان محقا.
وأما عرضته علي من مسيرك إلي ببنيك وبني أبيك ، فلا حاجة لي في ذلك، فأقم راشدا مهديا، فوالله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت، ولا تحسبن ابن أبيك لو أسلمه الزمان والناس متضرعا متخشعا، ولكن أقول كما قال أخو بني سليم:
فإن تسأليني كيف أنت فإنـنـي صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن تـرى بـي كـآبة فيشمت عاد أو يسـاء حـبـيب والسلام.
رجع الخبر إلى سياقة مقتل الصبيين
ثم إن بس بن أرطاة كر راجعا، وانتهى خبره إلى علي عليه السلام، أنه قتل عبد الرحمن وقثم ابني عبد الله بن العباس، فسرح حارثة بن قدامه السعدي في طلبه، وأمره أن يغد السير، فخرج مسرعا، فلما وصل إلى المدينة، وانتهى إليه قتل علي بن أبي طالب عليه السلام، وبيعة الحسن رضي الله تعالى عنه، ركب في السلاح، ودعا أهل المدينة إلى البيعة للحسن، فامتنعوا، قال: والله لتبايعن ولو بأستاهكم. فلما رأى أهل المدينة الجد منه بايعوا للحسن، وك راجعا إلى الكوفة، فأصاب أم حكيم بنت قارظ ولهى على انيها، فكانت لا تعقل ولا تصغي إلى قول من أعلمها أنهما قد قتلا، ولا تزال تطوف في المواسم، تنشد الناس ابنيها بهذه الأبيات:
يا من أحين بنيي الـلـذين هـمـا كالدرتين تشظى عنهما الـصـدف
يا من أحس بنيي الـلـذين هـمـا سمعي وقلبي، فقلبي اليوم مختطف
يا من أحس بنيي الـلـذين هـمـا مخ العظام فمخى اليوم مزدهـف
نبئت بسرا وما صدقت ما زعمـوا من قولهم ومن الإفك الذي اقترفوا
صفحة : 1837
أنحي على ودجى إبني مـرهـفة مشحوذة وكذاك الإثم يقـتـرف
حتى لقيت رجالا من أرومـتـه شم الأنوف لهم في قومهم شرف
فالآن لأعن بسرا حق لعـنـتـه هذا لعمر أبي بسر هو السـرف
من دل والـهة حـرى مـدلـهة على صبيين ضلا إذ هوى السلف الغناء لأبي سعيد مولى فائد، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، وفيه خفيف ثقيل، يقال إنه له أيضا. وفيه لعريب رمل نشيد.
قالوا: ولما بلغ علي بن أبي طالب عليه السلام قتل بسر الصبيين، جزع لذلك جزعا شديدا، ودعا على بسر لعنه اله، فقال: اللهم اسلبه دينه، ولا تخرجه من الدنيا حتى تسلبه علقله فأصابه ذلك، وفقد عقله، فكان يهذي بالسيف ويطلبه، فيؤتي بسيف من خشب، ويجعل بين يديه زق منفوخ، فلا يزال يضربه حتى يسأم ، ثم مات لعنه الله.
ولما كانت الجماعة واستقر المر على معاوية، دخل عليه عبيد الله بن العباس وعنده بسر بن أرطاة، فقال له عبيد الله: أأنت قاتل الصبيين أيها الشيخ? قال بسر: نعم أنا قاتلهما. فقال عبيد الله: أما والله لوددت أن الأرض كانت أنبتتني عنك. فقال بسر: فقد أنبتتك الآن عندي. فقال عبيد الله: ألا سيف فقال له بسر: هاك سيفي.فلما أهوى عبيد الله إلى السيف ليتناوله، أخذه معاوية، ثم قال لبسر: أخزاك الله شيخا قد كبرت وذهب عقلك، تعمد إلى رجل من بني هاشم قد وترته وقتلت ابنيه، تدفع إليه سيفك، إنك لغافل عن قلوب بني هاشم، والله لو تمكن منه لبأ بي قبلك. فقال عبيد الله: أجل، والله، ثم إذن لثنيت به.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: أخبرني محمد بن مسروق قال: قال الأصمعي: سمع رجل من أهل اليمن وقد قدم مكة امرأة عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب تندب ابنيها اللذين قتلهما بسر بن أرطاة بقولها:
يا من أحس بنيي اللذين هـمـا كالدرتين تشظى عنهما الصدف فرق لها، فاتصل ببسر حتى وثق به، ثم اختال لقتل ابنيه، فخرج بهما إلى وادي أوطاس، فقتلهما وهرب، وقال:
يا بسر بسر بني أرطاة ما طلعـت شمس النهار ولا غابت على ناس
خير من الهاشـمـيين الـذين هـم عين الهدى وسمام الأشوش القاسي
ماذا أردت إلى طلفـي مـدلـهة بكي وتندب من أثكلت في النـاس
إما قتلتهما ظلما فـقـد شـرقـت في صاحبيك قناتي يوم أوطاسـي
فاشرب بكأسهما ثكلا كما شربـت أم الطبيين أو ذاق ابـن عـبـاس
ألا فاسقياني من شرابكما الـوردي وإن كنت قد أنفذت فاسترهنا بردي
سواري دملوجي وما ملكـت يدي مباح لكم نهب فلا تقطعوا وردي عروضه من الطويل. والشعر لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس. والغناء لإبراهيم الموصلي، رمل بالوسطى، من رواية عمرو بن بانة.
ذكر أم حكيم وأخبارها
قد مضى ذكر نسبها.
وأمها زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وكانت عي وأمها من أجمل نساء قريش، فكانت قريش تقول لأم حكيم: الواصلة بنت الواصلة، وقيل: الموصلة بنت الموصلة، لأنهما وصلتا الجمال بالكمال.
وأم زينب بنت عبد الرحمن بن الحارث بن هاشم: سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي خارجة بن عوف بن أبي حارثة بن لأم الطائي. وكانت سعدى بنت عوف عند عبد الله بن الوليد بن المغيرة، فولدت له سلمة وريطة. ثم توفي عنها، فخلف عليها طلحة بن عبيد الله، فولدت له يحيى وعيسى، ثم قتل عنها، فخطبها عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فتكلم بنوها، فتكلم بنوها، وكرهوا أن تتزوج وقد صاروا رجالا، فقالت: إنه قد بقي في رحم أمكم فضلة شريفة، لا بد من خروجها، فنزوجها. فولدت له المغيرة بن عبد الرحمن الفقيه، وزينب، وهي أم أم حكيم.
وكان المغيرة أحد أجواد قريش والمطعمين منهم، وقد قدم الكوفة على عبد الملك بن بشر بن مروان، وكان صديقه، وبها جماعة يطعمون الناس من قريش وغيرهم، فلما قدم تغيبوا، فلم يظهر أحد منهم حتى خرج، وبث المغيرة الجفان في السكك والقبائل يطعم الناس، فقال فيه شاعر من أهل الكوفة:
أتاك البحر طم على قريش مغيري فقد راغ ابن بشر
صفحة : 1838
قال مصعب الزبيري: هو- يعني المغيرة- مطعم الجيش بمنى، وهو إلى الآن يطعم عنه. قال: وكانت أخته زينب أحسن الناس وجها وقدا، وكأن أعلاها قضيب، وأسفلها كثيب، فكانت تسمى الموصلة. وسميت بنتها أم حكيم بذلك، لأنها أشبهتها.
أخبرني عمي قال: حدثني ابن أبي سعد قال: حدثني علي بن محمد بن يحيى الكناني عن أبيه قال: كانت زينب بنت عبد الرحمن من لين جسدها يقال لها الموصلة : قال مصعب: فتزوج زينب أبان بن مروان بن الحكم، فولدت له عبد العزيز بن أبان، ثم مات عنها، فخطبها يحيى بن الحكم وعبد الملك بن مروان، فمالوا إلى عبد الملك، فأرسل يحيى إلى المغيرة بن عبد الرحمن: كم الذي تأمل من عبد الملك? والله لا يزيدها على ألف دينار، ولا يزيدك على خمس مئة دينار، ولها عندي خمسون ألف دينار، ولك عندي عشرة آلاف دينار إن زوجتنيها، فزوجه إياها على ذلك. فغضب عليه عبد الملك. وقال: دخل علي في خطبتي. والله لا يخطب على منبر ما دمت حيا، ولا رأى مني ما يحب، فأسقطه. فقال يحيى: لا أبالي، كعكتان وزينب.
قال ابن أبي سعد: وأخبرت عن محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثني عبد الملك بن إبراهيم الطلحي: أنها لما خطبت قالت: لا أتزوج والله أبدا إلا من يغني أخي المغيرة. فأرسل إليها يحيى بن الحكم: أيغنيه خمسون ألف دينار? قالت: نعم. قال: فهي له، ولك مثلها. فقالت: ما بعد هذا شيء. أرسل إلى أهلك شيئا من طيب، وشيئا من كسوة.
قال: ويقال إن عبد الملك لما تزوجها يحيى قال: لقد تزوجت أفوه غليظ الشفتين. فقالت زينب: هو خير من أبي الذبان فما، فما له يعيبه بفمه? وقال يحيى: قولوا له أقبح من فمي ما كرهت من فمك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو غسان، عن عبد العزيز بن أبي ثابت، عن عمه محمد بن عبد العزيز: أن عبد الملك خطب زينب إلى المغيرة أخيها، وكتب إليه أن يلحق به، وكان بفلسطين أو بالأردن، فعرض له يحيى بن الحكم، فقال له: أين تريد? قال: أريد أمير المؤمنين. قال: وما تصنع به? فوالله لا يزيدك على ألف دينار يكرمك بها، وأربعة مئة دينار لزينب، ولك عندي ثلاثون ألف دينار، سوى صداق زينب. فقال المغيرة: أو تنقل إلي المال قبل عقد النكاح? قال: نعم، فنقل إليه المال. فتجهز المغيرة، وسير ثقله، ثم دخل على يحيى فزوجه، وخرج إلى المدينة، فجعل عبد الملك ينتظر المغيرة، فلما أبطأ عليه قيل له: يا أمير المؤمنين، إنه زوج يحيى بن الحكم زينب بنت عبد الرحمن، بثلاثين ألف دينار، وأعطاها إياها، ورجع إلى منزله. فغضب على يحيى، وخلعه عن ماله، وعزله عن عمله، فجعل يحيى يقول:
ألا لا أبالي اليوم ما فعل الدهر إذا بقيت لي كعكتان وزينـب قال: وكانت زينب تسمى الموصلة، من حسن جسدها، وكانت أم حكيم تحت عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، تزوجها في حياة جده عبد الملك، ولما عقد النكاح بينهما، عقد في مجلس عبد الملك، وأمر بإدخال الشعراء ليهنئوهم بالعقد، ويقولوا في ذلك أشعارا كثيرة يرويها الناس، فاختير منهم جرير وعدي بن الرقاع، فدخلا، وبدأ عدي لموضعه منهم، فقال:
قمر السماء وشمسها اجتمعا بالسعد ما غابا وما طلـعـا
ما وارت الأستار مثلهـمـا من ذا رأى هذا ومن سمعا?
دام السرور له بهـا ولـهـا وتهنيا طول الحـياة مـعـا وقال جرير:
جمع الأمير إليه أكـرم حـرة في كل ما حال من الأحـوال
حكمية علت الروابي كـلـهـا بمفاخر الأعمـام والأخـوال
وإذا النساء تفاخرت ببـعـولة فخرتهم بالسيد المـفـضـال
عبد العزيز ومن يكلف نفسـه أخلاقه يلبث بأكـسـف بـال
هنأتكـم بـمـودة ونـصـيحة وصدقت في نفسي لكم ومقالي
فلتهنك النعم التي خولـتـهـا يا خير مأمول وأفـضـل وال
صفحة : 1839
فأمر له عبد الملك بعشرة آلاف درهم، ولعدي بن الرقاع بمثلها، وقضى لأهله ومواليه يومئذ مئة حاجة، وأمر لجميع من حضر من الحرس والكتاب بعشرة دنانير عشرة دنانير. فلم تزل أم حكيم عند عبد العزيز مدة، ثم تزوج ميمونة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، فملكته وأحبها، وذهبت بقلبه كل مذهب، فلم ترض منه إلا بطلاق أم حكيم، فطلقها، فتزوجها هشام بن عبد الملك، ثم مات عبد العزيز، فتزوج هشام ميمونة أيضا، وكان شديد المحبة لأم حكيم، فطلق لها ميمونة، اقتصاصا لها منها فيما فعلته بها في اجتماعهما عند عبد العزيز، وقال لها: هل أرضينك منها? فقالت: نعم. فولدت أم حكيم من هشام ابنه يزيد بن هشام، وكان من رجالات بني أمية، وكان أحد من يطعن على الوليد بن يزيد بن عبد الملك، ويغري الناس به.
وكانت أم حكيم منهومة بالشراب، مدمنة عليه، لا تكاد تفارقه. وكأسها الذي كانت تشرب فيه مشهور عند الناس إلى اليوم، وهو في خزائن الخلفاء حتى الآن، وفيه يقول الوليد بن يزيد:
عللاني بعاتقات الـكـروم واسقياني بكأس أم حـكـيم
إنها تشرب المدامة صرفـا في إناء من الزجاج عظيم
جنبـونـي أذاة كـل لـئيم إنه ما علمـت شـر نـديم
ثم إن كان في الندامى كريم فأذيقوه مس بعض النعـيم
ليت حظي من النساء سليمى إن سلماي جنتي ونعيمـي
فدعوني من الملامة فيهـا إن من لامني لغير حـلـيم عروضه من الخفيف. غناء عمر الوادي من رواية يونس وفي رواية إسحاق: غناه العزيل أبو كامل: خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر.
فيقال إن هذا الشعر بلغ هشاما، فقال لأم حكيم: أتفعلين ما ذكره الوليد? أو تصدقه الفاسق في شيء، فتصدقه في هذا? قال: لا. قالت: فهو كبعض كذبه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: كان يزيد بن هشام هجا الوليد بن يزيد ين عبد الملك، فقال:
فحسب أبي العباس كأس وقـينة وزق إذا دارت به في الـذوائب
ومن جلساء الناس مثل ابن مالـك ومثل ابن جزء والغلام ابن غالب فقال الوليد يهجوه، ويعيره بشرب أمه الشراب:
إن كأس العجوز كأس وراء ليس كأس ككأس أم حكـيم
إنها تشرب الرساطون صرفا في إناء من الزجاج عظـيم
لو به يشرب البعير أو الـف ل لظل في سكرة وغمـوم
ولدته سكرى فلم تحسن الطل ق فوافى لذلك غير حلـيم وكان لهشام منها ابن يقال له مسلمة، ويكنى أبا شاكر، وكان هشام ينوه باسمه، وأراد أن يوليه العهد بعده، وولاه الحج، فحج بالناس، وفيه يقول عروة بن أذينة لما وفد على هشام وفرق في الحجاز على أهلها مالا كثيرا، وأحبه الناس ومدحوه:
أتيتنا نمت بأرحامنـا وجئنا بأمر أبي شاكر وفيه يقول الوليد بن يزيد بن عبد الملك في حياة أبيه، وأشاع ذلك وغنى فيه، وأراد أن يعيره بذلك:
يأيها السائل عن دينـنـا نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفا وممزوجة بالسخن أحيانا وبالفاتـر فقال بعض شعراء أهل الحجاز يجيبه:
يا أيها السائل عن ديننـا نحن على دين أبي شاكر
الواهب البزل بأرسانهـا ليس بزنديق ولا كافـر فذكر أحمد بن الحارث عن المدائني: أن هشاما لما أراد أن يوليه العهد، كتب بذلك إلى خالد بن عبد الله القسري، فقال خالد: أنا بريء من خليفة يكنى أبا شاكر. فبلغ قوله هشاما، فكان سبب إيقاعه به.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن موسى قمطر، عن إسماعيل بن مجمع قال: كنا نخرج ما في خزائن المأمون من الذهب والفضة، فنزكي عنه، فكان فيما يزكى عنه، قائم كأس أم حكيم، وكان فيه من الذهب ثمانون مثقالا. قال محمد بن موسى: سألت إسماعيل بن مجمع عن صفته، فقال: كأس كبير من زجاج أخضر، مقبضه من ذهب. هكذا ذكر إسماعيل.
صفحة : 1840
وقد حدثني علي بن صالح بن الهيثم بمثله، قال: حدثنا إبراهيم بن أحمد المادرائي قال: لما أخرج المعتمد ما في الخزائن ليباع، في أيام ظهور الناجم بالبصرة، أخرج إلينا كأس أم حكيم، فكان كأسا مدورا على هيئة القحف، يسع ثلاثة أرطال، فقوم بأربعة دراهم، فعجبنا من حصول مثله في الخزانة، مع خساسة قدره، فسألنا الخازن عنه. فقال: هذا كأس أم حكيم، فرددناه إلى الخزانة. ولعل الذهب الذي كان عليه أخذ منه حينئذ، ثم أخرج ليباع.
قال محمد بن موسى: وذكر لي عبيد الله بن محمد عن أبي الأغر، قال: كنا مع محمد بن الجنيد الختلي أيام الرشيد، فشرب ذات ليلة، فكان صوته:
عللاني بعاتقات الكروم واسقياني بكأس أم حكيم فلم يزل يقترحه ويشرب عليه حتى السحر، فوافاه كتاب خليفته في دار الرشيد: إن الخليفة على الركوب. وكان محمد أحد أصحاب الرشيد، ومن يقدم دابته، فقال: ويحكم كيف أعمل والرشيد لا يقبل لي عذرا وأنا سكران.
فقالوا: لا بد من الركوب، فركب على تلك الحال، فلما قدم إلى الرشيد دابته، قال له: يا محمد، ما هذه الحال التي أراك عليها? قال: لم أعلم برأي أمير المؤمنين في الركوب، فشربت ليلى أجمع. قال: فما كان صوتك? فأخبره.
فقال له: عد إلى منزلك، فلا فضل فيك، فرجع إلينا وخبرنا بما جرى، وقال: خذوا بنا في شأننا، فجلسنا على سطح، فلما متع النهار إذا خادم من خدم أمير المؤمنين قد أقبل إلينا على برذون، في يده شيء مغطى بمنديل، قد كاد ينال الأرض، فصعد إلينا، وقال لمحمد: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: قد بعثنا إليك بكأس أم حكيم، لتشرب فيه، وبألف دينار تنفقها في صبوحك. فقام محمد، فأخذ الكأس من يد الخادم، وقبلها، وصب فيها ثلاثة أرطال، وشربها قائما، وسقانا مثل ذلك، ووهب للخادم مئتي دينار، وغسل الكأس، وردها إلى موضعها، وجعل يفرق علينا تلك الدنانير، حتى بقي معه أقلها.
علقم ما أنت إلـى عـامـر الناقض الأوتـار والـواتـر
إن تسد الحوص فلم تعـدهـم وعامر ساد بنـي عـامـر
عهدي بها في الحي قد درعت صفراء مثل المهرة الضامر
قد حجم الثدي على صدرهـا في مشرق ذي بهجة ناضـر
لو أسندت ميتا إلى نحـرهـا عاش ولم يحمل إلى قـابـر
حتى يقول الناس مـمـا رأوا يا عجبا للمـيت الـنـاشـر عروضه من السريع. والشعر للأعشى: أعشى بني قيس بن ثعلبة، يمدح عامر بن الطفيل، ويهجو علقمة بن علاثة. والغناء لمعبد في الثالث وما بعده، خفيف ثقيل الأول بالبنصر. وفي الأبيات لحنين ثقيل أول مطلق، في مجرى البنصر، عن إسحاق. وفيها أيضا لحن آخر ذكره في المجرد ولم يجنسه، ولم ينسبه إلى أحد.
سبب منافرة عامر وعلقمة
وخبر الأعشى وغيره معهما فيها
أخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد إجازة، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة.
ونسخت من روايات ابن الكلبي. عن أبيه، ومن رواية دماذ والأثرم عن أبي عبيدة والأصمعي، ومن رواية ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل، ومن رواية أبي عمرو الشيباني عن أصحابه، فجمعت رواياتهم، ولكل امرئ منهم زيادة على صاحبه، ونقصان عنه، واللفظ مشترك في الروايات، إلا ما حكيته مفردا.
قال ابن الكلبي: حدثني أبي ومحرز بن جعفر، وجعفر بن كلاب الجعفري، عن بشر بن عبد الله بن حبان بن سلمى بن مالك بن جعفر، عن أبيه، عن أشياخه وذكر بعضه أبو مسكين، قالوا: أول ما هاج النفار بين عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر، وبين علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص.
صفحة : 1841
وأم عامر: كبشة بنت عروة الرحال بن عتبة بن جعفر، وأمها أم الظباء بنت معاوية، فارس الهرار، ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة، وأمها خالدة بنت جعفر بن كلاب، وأمها فاطمة بنت عبد شمس بن عبد مناف. وأم أبيه الطفيل: أم البنين بنت ربيعة بن عمرو بن عامر بن صعصعة. فال أبو الحسن الأثرم: وكانت أم علقمة ليلى بنت أبي سفيان بن هلال بن النخع سبية، وأم أبيه ماوية بنت عبد الله بن الشيطان بن بكر بن عوف بن النخع مهيرة أن علقمة كان قاعدا ذات يوم يبول، فبصر به عامر، فقال: لم أر كاليوم عورة رجل أقبح. فقال علقمة: أما والله ما تثب على جاراتها، ولا تنازل كناتها، يعرض بعامر. فقال عامر: وما أنت والقروم والله لفرس أبي حنوة أذكر من أبيك، ولفحل أبي غيهب أعظم ذكرا منك في نجد. قال: وكان فرسه فرسا جوادا، نجا عليه يوم بني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، وكان فحله فحلا لبني حرملة بن الأشعر بن صرمة بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان.
قال الأثرم: وأخبرني رجل من جهينة بدمشق، قال: هو الأشعر بن صرمة.
قال: الأثرم: سمى صرمة غيهب لسواده.
قال ابن الكلبي: فاستعاره منهم يستطرقه، فغلبهم عليه، فقال علقمة: أما فرسكم فعارة، وأما فحلكم فغدرة. ولكن إن شئت نافرتك. فقال: قد شئت.
فقال عامر: والله لأنا أكرم منك حسبا، وأثبت منك نسبا، وأطول منك قصبا.
فقال علقمة: لأنا خير منك ليلا ونهارا.
فقال عامر: لأنا أحب إلى نسائك أن أصبح فيهن منك.
فقال علقمة: على ماذا تنافرني يا عامر? فقال عامر: أنافرك على أني أنحر منك للقاح، وخير منك في الصباح، وأطعم منك في السنة الشياح. فقال علقمة: أنت رجل تقاتل والناس يزعمون أني جبان، ولأن تلقى العدو وأنا أمامك، أعز لك من أن تلقاهم وأنا خلفك. وأنت جواد والناس يزعمون أني بخيل، ولست كذلك، ولكن أنافرك أني خير منك أثرا، وأحد منك بصرا، وأعز منك نفرا، وأسرح منك ذكرا.
فقال عامر: ليس لبني الأحوص فضل على بني مالك في العدد، وبصري ناقص، وبصرك صحيح، ولكني أنافرك على أني أنشر منك أمة، وأطول منك قمة، وأحسن منك لمة، وأجعد منك جمة، وأبعد منك همة.
قال علقمة: أنت رجل جسيم، وأنا رجل قضيف، وأنت جميل، وأنا قبيح، ولكني أنافرك بآبائي وأعمامي. فقال عامر: آباؤك أعمامي ولم أكن لأنافرك بهم، ولكني أنافرك أني خير منك عقبا، وأطعم منك جدبا.
قال علقمة: قد علمت أن لك عقبا في العشيرة، وقد أطعمت طيبا إذ سارت، ولكني أنافرك أني خير منك، وأولى بالخيرات منك، وقد أكثرنا المراجعة منذ اليوم.
قال: فخرجت أم عامر، وكانت تسمع كلامهما، فقالت: يا عامر، نافره أيكما أولى بالخيرات.
قال أبو المنذر: قال أبو مسكين: قال عامر في مراجعته: والله لأنا أركب منك في الحماة، وأقتل منك للكماة، وخير منك للمولى والمولاة.
فقال له علقمة: والله إني أعز منك. إني لبر وإنك لفاجر، وإني لوفي وإنك لغادر، ففيم تفاخرني يا عامر? فقال عامر: والله إني لأنزل منك للقفرة، وأنحر منك للبكرة، وأطعم منك للهبرة، وأطعن منك للثغرة. فقال علقمة: الله إنك لكليل البصر، نكد النظر، وثاب على جاراتك بالسحر.
فقال بنو خالد بن جعفر، وكانوا يدا مع بني الأحوص على بني مالك بن جعفر: لن تطيق عامرا، ولكن قل له: أنافرك بخيرنا وأقربنا إلى الخيرات، وخذ عليه بالكبر. فقال له علقمة هذا القول.
فقال عامر: عنز وتيس، وتيس وعنز، فذهبت مثلا. نعم على مئة من الإبل، إلى مئة من الإبل يعطاها الحكم، أينا نفر عليه صاحبه أخرجها، ففعلوا ذاك، ووضعوا بها رهنا من أبنائهم، على يدي رجل من بني الوحيد، فسمي الضمين إلى الساعة، وهو الكفيل.
قال: وخرج علقمة ومن معه من بني خالد، وخرج عامر فيمن معه من بني مالك، وقد أتى عامر بن الطفيل عمه عامر بن مالك، وهو أبو براء، فقال: يا عماه، أعني. فقال: يا بن أخي، سبني. فقال: لا أسبك وأنت عمي. قال: فسب الأحوص. فقال عامر: ولا أسب والله الأحوص وهو عمي، فقال: فكيف إذن أعينك، ولكن دونك نعلي، فإني قد ربعت فيها أربعين مرباعا، فاستعن بها في نفارك.
صفحة : 1842
وجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية، فلم يقل بينهما شيئا، وكره ذلك لحالهما وحال عشيرتهما، وقال: أنتما كركبتي البعير الأدرم، تقعان بالأرض. قالا: فأينا اليمين? فقال: كلاكما اليمين. وأبى أن يقضي بينهما. فانطلقا إلى أبي جهل بن هشام، فأبى أن يحكم بينهما، فوثب مروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص بن جعفر، فقال:
يآل قريش بينوا الكلامـا إنا رضينا منكم الأحكاما
فبينوا إن كنتم حـكـامـا كان أبونا لهـم إمـامـا
وعبد عمر ومنع الفئامـا في يوم فخر معلم إعلاما
ودعلج أقدمـه إقـدامـا لولا الذي أجشمهم إجشاما
لا تخذتهم مذحج نعامـا قال: فأبوا أن يقولوا بينهما شيئا. وقد كانت العرب تحاكم إلى قريش، فأتيا عيينة بن حصن بن حذيفة، فأبى أن يقول بينهما شيئا. فأتيا غيلان بن سلمة بن معتب الثقفي، فردهما إلى حرملة بن الأشعر المري، فردهما إلى هرم بن قطبة بن سنان بن عمرو الفزاري، فانطلقا حتى نزلا به.
وقال بشر بن عبد الله بن حبان بن سلمى: إنهما ساقا الإبل معهما، حتى أشتت وأربعت، لا يأتيان أحدا إلا هاب أن يقضي بينهما، فقال هرم: لعمري لأحكمن بينكما، ثم لأفصلن، ثم لست أثق بواحد منكما، فأعطياني موثقا أطمئن إليه أن ترضيا بما أقول، وتسلما لما قضيت بينكما، وأمرهما بالانصراف، ووعدهما ذلك اليوم من قابل. فانصرفا حتى إذا بلغ الأجل من قابل، خرجا إليه، فخرج علقمة ببني الأحوص، فلم يتخلف منهم أحد، معهم القباب والجزر والقدور، ينحرون في كل منزل ويطعمون، وجمع عامر بني مالك، فقال: إنما تخاطرون عن أحسابكم، فأجابوه وساروا معه، ولم ينهض أبو براء معهم، وقال لعامر: والله لا تطلع ثنية إلا وجدت الأحوص منيخا بها، وكره أبو براء ما كان من أمرهما، فقال عامر فيما كره من منافرتهما، ودعاء عامر إياه أن يسير معه:
أأومر أن أسب أبا شريح ولا والله أفعل ما حييت
ولا أهدي إلى هرم لقاحا فيحيي بعد ذلك أو يميت
أكلف سعي لقمان بن عاد فيآل أبي شريح ما لقيت قال: وأبو شريح: هو الأحوص. فكره كل واحد من البطنين ما كان بينهما. وقال عبد عمرو بن شريح بن الأحوص:
لحى الله وفدينا وما ارتحلا بـه من السوءة الباقي عليهم وبالها
ألا إنما بردى صفاق مـتـينة أبى الضيم أعلاها وأثبت حالها قال: فسار عامر وبنو عامر على الخيل مجنبي الإبل، وعليهم السلاح، فقال رجل من غني: يا عامر، ما صنعت? أخرجت بني مالك تنافر بني الأحوص ومعهم القباب والجزر، وليس معك شيء تطعمه الناس ما أسوأ ما صنعت فقال عامر لرجلين من بني عمه: أحصيا كل شيء مع علقمة من قبة أو قدر أو لقحة. ففعلا. فقال عامر: يا بني مالك، إنها المقارعة عن أحسابكم، فاشخصوا بمثل ما شخصوا به، ففعلوا وثار مع عامر لبيد بن ربيعة والأعشى، ومع علقمة الحطيئة وفتيان من بني الأحوص، منهم السندري بن يزيد بن شريح، ومروان بن سراقة بن قتادة بن عمرو بن الأحوص، وهم يرتجزون، فقال لبيد:
يا هرما وأنت أهـل عـدل إن نفر الأحوص يوما قبلي
ليذهبن أهلـه بـأهـلـي لا تجمعن شكلهم وشكلـي
ونسل آبائهم ونـسـلـي وقال أيضا:
إني امرؤ من مالك بن جعفـر علقم قد نافرت غير مـنـفـر
نافرت سقبا من سقاب العرعر فقال قحافة بن عوف بن الأحوص:
نهنه إليك الشعر يا لـبـيد واصدد فقد ينفعك الصدود
ساد أبونا قبل أن تسـودوا سؤددكم مطرف زهـيد وقال أيضا:
إني إذا ما نسي الـحـياء وضاع يوم المشهد اللواء
أنمى وقد حق لي النمـاء إلى ذكور ذكرها سنـاء
إذ لا تزال جلدة كـومـاء مبقورة لسقبـهـا دعـاء
لم ينهنا عن نحرها الصفاء لنا عليكـم سـورة ولاء
المجد والسؤدد والعطاء
أنتم هزلتم عامر بن مالك في شتوات مضر الهوالك
يا شر أحياء وشر هالك قال: وأنشدها السندري يومئذ، ورفع صوته، فقيل: من هذا? فقال:
صفحة : 1843
أنا لمن أنكر صوتي السـنـدري أنا الفتى الجعد الطويل الجعفري
من ولد الأحوص أخوالي غني فقال عامر: أجب يا لبيد. فرغب لبيد عن إجابته، وذلك لأن السندري كانت جدته أمة اسمها عيساء، فقال:
لما دعاني عامـر لأسـبـهـم أبيت وإن كان ابن عيساء ظالما
لكيما يكون السندري نـديدتـي وأشتم أعماما عموما عماعمـا
وأنشر من تحت القبـور أبـوة كراما هم شدوا علي التمائمـا
لعبت على كتافهم وحجورهـم وليدا وسموني مفيدا وعاصمـا
ألا أينا ما كان شرا لـمـالـك فلا زال في الدنيا ملوما ولائما قال: ووثب الحطيئة، فقال:
ما يحبس الحكام بالفصل بعدما بدا سابق ذو غرة وحجـول وقال أيضا:
يا عام قد كنت ذا باع ومكـرمة لو أن مسعاة من جاريته أمـم
جاريت قرما أجاد الأحوصان به سمح اليدين وفي عرنينه شمـم
لا يصعب الأمر إلا ريث يركبه ولا يبيت على مال له قـسـم
هابت بنو مالك مجدا ومكـرمة وغاية كان فيها الموت لو قدموا
وما أساءوا فرارا عن مجلـحة لا كاهن يمتري فيها ولا حكـم قال: وأقام القوم عنده أياما، وأرسل إلى عامر، فأتاه سرا، لا يعلم به علقمة فقال: يا عامر، قد كنت أرى لك رأيا، وأن فيك خيرا، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك. أتنافر رجلا لا تفخر أنت وقومك إلا بآبائه? فما الذي أنت به خير منه? قال عامر: أنشدك الله والرحم أن لا تفضل علي علقمة، فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبدا. هذه ناصيتي فاجززها. واحتكم في مالي، فإن كنت لا بد فاعلا فسو بيني وبينه. قال: انصرف، فسوف أرى رأيي. فخرج عامر وهو لا يشك أنه ينفره عليه.
ثم أرسل إلى علقمة سرا، لا يعلم به عامر، فأتاه فقال: يا علقمة، والله إن كنت لأحسب فيك خيرا، وأن لك رأيا، وما حبستك هذه الأيام إلا لتنصرف عن صاحبك. أتفاخر رجلا هو ابن عمك في النسب? وأبوه أبوك، وهو مع هذا أعظم قومك غناء، وأحمدهم لقاء? فما الذي أنت به خير منه? فقال له علقمة: أنشدك الله والرحم ألا تنفر علي عامرا. اجزز ناصيتي، واحتكم في مالي، وإن كنت لا بد أن تفعل فسو بيني وبينه. فقال: انصرف فسوف أرى رأيي. فخرج وهو لا يشك أنه سيفضل عليه عامرا.
قال أبي: وسمعت أن هرما قال لعامر حين دعاه: يا عامر، كيف تفاضل علقمة? فقال عامر: ولم يا هرم? قال: لأنه أنجل منك عينا في النساء، وكثر منك نفيرا عند ثورة الدعاء. قال عامر: هل غير هذا? قال: نعم. هو كثر منك نائلا في الثراء، وأعظم منك حقيقة عند الدعاء. ثم قال لعلقمة: كيف تفاضل عامرا? قال: ولم يا هرم? قال: هو أنفد منك لسانا، وأمضى منك سنانا. قال علقمة: فهل غير هذا? قال: نعم. هو أقتل منك للكماة، وأفك منك للعناة.
قال: ثم إن هرما أرسل إلى بنيه وبني أبيه: إني قائل غدا بين هذين الرجلين مقالة، فإذا فعلت فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة، ويطرد بعضكم عشر جزائر، فلينحزها عن عامر، وفرقوا بين الناس، لا تكون لهم جماعة.
وأصبح هرم، فجلس مجلسه، وأقبل الناس، وأقبل علقمة وعامر حتى جلسا، فقام لبيد فقال:
يا هرم ابن الأكرمين منصبـا إنك قد وليت حكما معجـبـا
فاحكم وصوب رأس من تصوبا إن الذي يعلو علينا تـرتـبـا
لخيرنـا عـمـا وأمـا وأبـا وعامر خيرهمـا مـركـبـا
وعامر أدنى لقيس نـسـبـا فقام هرم فقال: يا بني جعفر، قد تحاكمتما عندي، وأنتما كركبتي البعير الأدرم: تقعان إلى الأرض معا، وليس فيكما أحد إلا وفيه ما ليس في صاحبه، وكلاكما سيد كريم.
وعمد بنو هرم وبنو أخيه إلى تلك الجزر، فنحروها حيث أمرهم هرم عن علقمة عشرا، وعن عامرا عشرا، وفرقوا الناس، فلم يفضل هرم واحدا منهما على صاحبه، وكره أن يفعل وهما ابنا عم، فيجلب بذلك عداوة، ويوقع بين الحيين شرا.
صفحة : 1844
قال: وكان الأعشى حين رجع من عند قيس بن معد يكرب بما أعطاه طلب الجوار والخفرة من علقمة، فلم يكن عنده ما طلب، وأجاره وخفره عامر، حتى إذا أداه وماله إلى أهله قال:
علقم ما أنت إلى عامر الناقض الأوتار والواتر ثم أتمها بعد النفار. فلما بلغ علقمة ما قال الأعشى، وأشاع في العرب أن هرما قد فضل عامرا، توعد الأعشى، فقال الأعشى:
لعمري لئن أمسى من الحي شاخصا قال ابن الكلبي: حدثني أبي قال: فعاش هرم حتى أدرك سلطان عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فسأله عمر فقال: يا هرم، أفي الرجلين كنت مفضلا لو فضلت? فقال: لو قلت ذاك يا أمير المؤمنين لعادت جذعة، ولبلغت شعاف هجر. فقال عمر: نعم مستودع السر ومسند الأمر إليه أنت يا هرم، مثل هذا فليسد العشيرة. وقال: إلى مثلك فليستبضع القوم أحكامهم.
قال مؤلف الكتاب: وقد أدرك علقمة بن علاثة الإسلام، فأسلم، ثم ارتد فيمن ارتد من العرب. فلما وجه أبو بكر خالد بن الوليد المخزومي إلى بني كلاب ليوقع بهم، وعلقمة يومئذ رئيسهم، هرب وأسلم، ثم أتى أبا بكر رضي الله عنه، فأعلمه أنه قد نزع عما كان عليه، فقبل إسلامه وأمنه. هكذا ذكر المدائني. وأما سيف بن عمر فإنه روى عن الكوفيين غير ذلك.
حدثنا محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا السري بن يحيى، قال: حدثنا شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن سهل بن يوسف، قال: كان علقمة بن علاثة على كلاب ومن لافها، وقد كان علقمة أسلم ثم ارتد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم خرج بعد فتح الطائف، حتى لحق بالشام مرتدا، فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أقبل مسرعا، حتى عسكر في بني كعب، مقدما رجلا ومؤخرا أخرى، وبلغ ذلك أبا بكر رضي الله عنه، فبعث إليه سرية، وأمر عليها القعقاع بن عمرو، وقال: يا قعقاع، سر حتى تغير على علقمة بن علاشة، لعلك تأخذه لي أو تقتله. واعلم أن شفاء النفس الحوص، فاصنع ما عندك. فخرج في تلك السرية حتى أغار على الماء الذي عليه علقمة، وكان لا يبرح أن يكون على رحل، فسابقهم على فرسه مراكضة، وأسلم أهله وولده، واستبى القعقاع امرأة علقمة وبناته ونساءه ومن أقام من الرجال، فاتقوه بالإسلام، فقدم بهم على أبي بكر رضي الله عنه، فجحدت زوجته وولده أن يكونوا مالئوا علقمة على أمره، وكانوا مقيمين في الدار، ولم يكن بلغه عنهم غير ذلك. وقالوا لأبي بكر: ما ذنبنا نحن فيما صنع علقمة? فأرسلهم، ثم أسلم علقمة، فقبل ذلك منه.
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا عمرو بن عثمان قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ربما حدث أصحابه، وربما تركهم يتحدثون ويصغي إليهم ويبتسم، فبينا هم يوما على ذلك يتذاكرون الشعر وأيام العرب، إذ سمع حسان بن ثابت ينشد هجاء أعشى بني قيس بن ثعلبة، علقمة بن علاثة، ومديحه عامر بن الطفيل:
علقم ما أنت إلى عامـر الناقض الأوتار والواتـر
إن تسد الحوص فلم تعدهم وعامر ساد بني عامـر
ساد وألفى رهطه سـادة وكابرا سادوك عن كابر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كف عن ذكره يا حسان، فإن أبا سفيان لما شعث مني عند هرقل، رد عليه علقمة، فقال حسان بن ثابت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، من نالتك يده فقد وجب علينا شكره.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال: حدثنا المدائني، عن أبي بكر الهذلي قال: لما أطلق عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحطيئة من حبسه، قال له: يا أمير المؤمنين، اكتب لي كتابا إلى علقمة بن علاثة، لأقصده به، فقد منعتني التكسب بشعري. فقال: لا أفعل. فقيل له: يا أمير المؤمنين، وما عليك من ذلك? إن علقمة ليس بعاملك، فتخشى أن تأثم، وإنما هو رجل من المسلمين، تشفع له إليه. فكتب له بما أراد، فمضى الحطيئة بالكتاب، فصادف علقمة قد مات والناس منصرفون عن قبره، فوقف عليه، ثم أنشد قوله:
لعمري لنعم المرء من آل جعفر بحوران أمسى أعلقته الحبـائل
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت فما في حياة بعد موتـك طـائل
وما كان بيني لو لقيتك سالـمـا وبين الغنـى إلا لـيال قـلائل
صفحة : 1845
فقال له ابنه: يا حطيئة، كم ظننت أن علقمة يعطيك? قال: مئة ناقة. قال: فلك مئة ناقة يتبعها مئة من أولادها. فأعطاه إياها.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمر بن أبي بكر قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد والضحاك بن عثمان قالا: لما قدم علقمة بن علاثة المدينة، وكان قد ارتد عن الإسلام، وكان لخالد بن الوليد صديقا، لقيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المسجد في جوف الليل، وكان عمر يشبه بخالد، وذلك أن أمه حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، فسلم عليه، وظن أنه خالد، فقال: أعزلك? قال: كان ذلك. قال: والله ما هو إلا نفاسة عليك، وحسد لك. فقال له عمر: فما عندك معونة على ذلك? قال: معاذ الله، إن لعمر علينا سمعا وطاعة، وما نخرج إلى خلافه. فلما أصبح عمر رضي الله عنه أذن للناس، فدخل خالد وعلقمة، فجلس علقمة إلى جنب خالد، فالتفت عمر إلى علقمة فقال: إيه يا علقمة، أأنت القائل لخالد ما قلت? فالتفت علقمة إلى خالد، فقال: يا أبا سليمان، أفعلتها? قال: ويحك والله ما لقيتك قبل ما ترى، وإني لأراك لقيت الرجل. قال: أراه والله. ثم التفت إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، ما سمعت إلا خيرا. قال: أجل. فهل لك أو أوليك حوران? قال: نعم. فولاه إياها، فمات بها.
فقال الحطيئة يرثيه:
لعمري لنعم الحي من آل جعفر بحوران أمسى أقصدته الحبـائل
لقد أقصدت جودا ومجدا وسؤددا وحلما أصيلا خالفته المجاهـل
فإن تحي لا أملل حياتي وإن تمت فما في حياة بعد موتـك طـائل وفي أول هذه القصيدة التي رثى بها الحطيئة علقمة غناء نسبته:
أرى العيس تخدي بين قو فضـارج كما لاح في الصبح الأشاء الحوامل
فأتبعتهم عيني حـتـى تـفـرقـت مع الليل عن ساق الفريد الجمـائل
فلأيا قصرت الطرف عنهم بجسرة أمون إذا واكلـتـهـا لا تـواكـل غنى في هذه الأبيات سائب خاثر ثاني ثقيل بالوسطى، من رواية حماد بن إسحاق والهشامي.
ليت شعري أفاح رائحة المس ك وما إن إحال بالخيف إنسي
حين غابت بنو أمـية عـنـه والبهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فـرسـا ن عليها وقالة غير خـرس إخال: أظن. خلت كذا وكذا، فأنا إخاله: إذا ظننته، وخال علي الشيء يخيل: إذا شككت فيه. وليت شعري: كلمة تقولها العرب عند الشيء تحب علمه، وتسأل عنه.
وأخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثني عمر بن شبه قال: سأل رجل أبا عبيدة: ما أصل ليت شعري? فقال: كأنه قال: ليتني شعرت بكذا وكذا، ليتني علمت حقيقته.
الشعر لأبي العباس الأعمى، والغناء لابن سريج، رمل بالبنصر في مجراها
أخبار أبي العباس الأعمى
هو السائب بن فروخ مولى بني ليث. وقيل إنه مولى بني الذيل، وهذا القول هو الصحيح.
ذكر محمد بن معاوية الأسدي، عن المدائني والواقدي: أن أبا العباس الأعمى الذي يروي عنه حبيب بن أبي ثابت، مولى جذيمة بن علي بن الديل بن بكر بن عبد مناة، وكان من شعراء بني أمية المعدودين، المقدمين في مدحهم والتشيع لهم، وانصباب الهوى إليهم، وهو الذي يقول في أبي الطفيل عامر بن واثلة، صاحب على بن أبي طالب عليه السلام:
لعمرك إنني وأبا طفيل لمختلفان، والله الشهـيد
أرى عثمان مهتديا ويأبى متابعتي وآبى مـا يريد أخبرني بذلك وكيع عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن أبيه، عن عبد الله بن أبي سعد.
وقد روى أبو العباس الأعمى عن صدر من الصحابة الحديث، وروى عنه عطاء، وعمرو بن دينار، وحبيب بن أبي ثابت. أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج عن عطاء عن أبي العباس الأعمى الشاعر، عن عبد الله بن عمر، قال: إنما جمع منزل تدلج منه إذا شئت.
قال: حدثنا أحمد بن محمد بن دلان الخيشي، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل قال: حدثنا أبو ضمرة قال: حدثني أبو الحارث بن عبد الرحمن، عن أبي ذئب، عن أبي العباس، عن سعيد بن المسيب قال: قال علي بن أبي طالب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
صفحة : 1846
إسباغ الوضوء على المكاره، وإعمال الأقدام إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، يغسل الخطايا غسلا.
حدثني: أحمد بن محمد بن سعيد الكوفي قال: حدثنا أبو قلابة قال: حدثنا بشر بن عمر قال: حدثنا شعبة، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: سمعت أبا العباس السائب بن فروخ الأعمى الشاعر يحدث عن عبد الله بن عمر، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: أحي والداك? قال: نعم. قال: فيهما فجاهد.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال: حدثنا الفضل بن عبد الله الخلنجي بجرجان قال: حدثني مسلم بن الوليد الأنصاري قال: سمعت يزيد بن مزيد يقول: سمعت هارون الرشيد يقول: سمعت المهدي يقول: سمعت المنصور يقول: خرجت أريد الشأم أيام مروان بن محمد، فصحبني في الطريق رجل ضرير، فسألته عن مقصده، فأخبرني أنه يريد مروان بشعر امتدحه به، فاستنشدته إياه، فأنشدني:
ليت شعري أفاح رائحة المس ك وما إن إخال بالخيف إنسي
حين غابت بنو أمـية عـنـه والبهاليل من بني عبد شمس
خطباء على المنابر فـرسـا ن عليها وقالة غير خـرس
لا يعابون صامتـين وإن قـا لوا أصابوا ولم يقولوا بلبـس
بحلوم إذا الحلوم تـقـضـت ووجوه مثل الدنانير مـلـس ويروى مكان تقضت: اضمحلت. قال: فوالله ما فرغ من إنشاده حتى توهمت أن العمى قد أدركني، وافترقنا.
فلما أفضت الخلافة إلي خرجت حاجا، فنزلت أمشي بجبلي زرود، فبصرت بالضرير، ففرقت من كان معي، ثم دنوت منه فقلت: أتعرفني? قال: لا. فقلت: أنا رفيقك وأنت تريد الشام أيام مروان. فقال: أوه:
آمت نساء بني أمية منـهـم وبناتهم بمـضـيعة أيتـام
نامت جدودهم وأسقط نجمهم والنجم يسقط والجدود تنـام
خلت المنابر والأسرة منهـم فعليهم حتى الممات سـلام فقلت: وكم كان مروان أعطاك بأبي أنت? قال: أغناني أن أسأل أحدا بعده. فهممت بقتله، ثم ذكرت حق الاسترسال والصحبة، فأمسكت عنه، وغاب عن عيني، فبدا لي فيه، فأمرت بطلبه، فكأنما البيداء بادت به.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثني عمر بن شبة قال: قال أبو عبيدة: هوي أبو العباس الأعمى امرأة ذات بعل، فراسلها، فأعلمت زوجها، فقال: أطمعيه. فأطمعته. ثم قال: أرسلي إليه فليأتك. فأرسلت إليه، فأتاها، وجلس زوجها إلى جانبها، فقال لها أبو العباس: إنك قد وصفت لنا وما نراك، فألمسينا. فأخذت يده، فوضعتها على أير زوجها، فنفر، وعلم أن قد كيد، فنهض من عندها، وقال:
علي ألـية مـادمـت حـيا أمسك طائعـا إلا بـعـود
ولا أهدي لأرض أنت فيهـا سلام الله إلا مـن بـعـيد
رجوت غنيمة فوضعت كفي على أيبر أشد من الحـديد
فخير منك من لا خير فـيه وخير من زيارتكم قعـودي وقرأت هذه الحكاية مروية عن الأصمعي غير مذكور راويها عنه. وزعم أن بشارا صاحب القصة، وأنه كان له مجلس يسميه البردان، يجتمع إليه فيه النساء، فعشق هذه المرأة وقد سمع كلامها. ثم ذكر الخبر بطوله، وقال فيه: فلما وصل إليها أنشأ يقول:
مليكة قد وصفت لنا بحسن وإنا لا نراك فألمسـينـا فأخذ زوجها يده، فوضعها على أيره.
ذكر إسحاق أن في البيتين الأولين والرابع من هذه الأبيات، لحنا من خفيف الثقيل، بالسبابة في مجرى الوسطى، ولم ينسبه إلى أحد. ووجدته في غناء عمرو بن بانة في هذه الطريقة منسوبا إليه، فلا أدري هو ذلك اللحن أو غيره.
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أيوب بن عمر أبو سلمة قال: قال أبو العباس الأعمى، مولى بني الديل بن بكر، يحض بني أمية على عبد الله بن الزبير:
أبني أمـية لا أرى لـكـم شبها إذا ما التفت الشـيع
سعة وأحلاما إذا نـزعـت أهل الحلوم فضرها النزع
وحفيظة فـي كـل نـائبة شهباء لا ينهى لها الربـع
الله أعطاكم وإن رغـمـت من ذاك أنف معاشر رتعوا
صفحة : 1847
أبني أمـية غـير أنـكـم والناس فيما أطمعوا طمعوا
أطمعتم فـيكـم عـدوكـم فسما بهم في ذاكم الطمـع
فلو أنكم كنتم لـقـولـكـم مثل الذي كانوا لكم رجعوا
عما كرهتـم أو لـردهـم حذر العقوبة إنهـا تـزع وله أشعار كثيرة في مدائح بني أمية، وهجاء آل الزبير، وأكثرها في هجاء عمرو بن الزبير، ليس ذكرها مما قصدنا له.
ونسخت من كتاب قعنب بن المحرز قال: حدثنا المدائني، عن جويرية بن أسماء: أن ابن الزبير رأى رجلا من حلفاء بني أسد بن عبد العزى في حالة رثة، فكساه ثوبين، وأمر له ببر وتمر، فقال أبو العباس الأعمى في ذلك:
كست أسد إخوانها ولو أننـي ببلدة إخواني إذا لـكـسـيت
فلم تر عيني مثل حي تحملوا إلى الشأم مظلومين منذ بريت غنى في هذين البيتين دحمان ثقيل أول بالبنصر، من رواية ابن المكي، ورأيت في بعض الكتب لزرزور غلام المارقي فيهما صنعة أيضا.
وقال محمد بن معاوية: حدثني المدائني قال: قدم البعيث المجاشعي مكة، وكان أبو العباس الأعمى الشاعر لا يكاد يفارقها، وكانت جوائز أمية تأتيه من الشام، وكانت قريش كلها تبره للسانه، وتقربا إلى بني أمية ببره. قال: فصلى البعيث مع الناس، وسأل في حمالة كانت عليه، وكان سؤولا ملحا شديد الطمع، وكان الرجل من قريش يأتيه بالشيء يتحمله عنه، فيقول: لا أقبله إلا أن تجيء معي إلى الصراف حتى ينقده ويزنه، فإن لم يفعل ذمه وهجاه. فشكوه إلى أبي العباس الأعمى، فقال: قودوني إليه، ففعلوا. فلما عرف مجلسه رفع عصاه، فضرب بها رأسه، ثم قال له:
فهل أنت إلا ملصق في مجاشـع نفاك جرير فاضطررت إلى نجد
نفاك جرير بالهجاء إلى نـجـد ويروى:
تظل إذا أعطيت شيئا سـألـتـه تطالب من أعطاك بالوزن والنقد
فلا تطمعن من بعد ذا في عطية وثق بقبيح المنع والدفع والـرد
فلست بمبق في قـريش خـزاية تذم ولو أبعدت فيه مدى الجهـد قال فتضاحك به من حضر، واستحيا ولم يحر جوابا. فلما جن الليل عليه هرب من مكة.
وقال قعنب بن المحرز: حدثني المدائني قال: قال عبد الملك بن مروان لأبي العباس الأعمى مولى بني الديل: أنشدني مديحك مصعبا. فاستعفاه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنما رثيته بذلك لأنه كان صديقي، وقد علمت أن هواي أموي. قال: صدقت، ولكن أنشدني ما قلته. فانشده:
يرحم الله مصعبا فلقـد مـا ت كريما ورام أمرا جسيما فقال عبد الملك: أجل، لقد مات كريما، ثم تمثل:
ولكنه رام التي لا يرومـهـا من الناس إلا كل خرق معمم أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان. قال حدثني إسحاق بن محمد الأموي قال: لما حج عبد الملك بن مروان جلس للناس بمكة، فدخلوا إليه على مراتبهم، وقامت الشعراء والخطباء فتكلموا، ودخل أبو العباس الأعمى، فلما رآه عبد الملك قال: مرحبا مرحبا بك يا أبا العباس، أخبرني بخبر الملحد المحل حيث كسا أشياعه ولم يكسك، وأنشدني ما قلت في ذلك.
فأخبره بخبر ابن الزبير، وأنه كسا بني أسد وأحلافها ولم يكسه، وأنشده الأبيات. فقال عبد الملك: أقسم على كل من حضرني من بني أمية وأحلافهم ومواليهم، ثم على كل من حضرني من أوليائي وشيعتي على دعوتهم، إلا كسا أبا العباس.
فخلعت والله حلل الوشي والخز والقوهي، وجعلت ترمى عليه، حتى إذا غطته نهض فجلس فوق ما اجتمع منها وطرح عليه، قال: حتى رأيت في الدار من الثياب ما ستر عني عبد الملك وجلساءه، وأمر له عبد الملك بمئة ألف درهم.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي. قال: حدثني أبي وأهلي: أن عبد الله بن الزبير لما غلب على الحجاز، جعل يتتبع شيعة بني مروان، فينفيهم عن المدينة ومكة، حتى لم يبق بهما أحد منهم، ثم بلغه عن أبي العباس الأعمى الشاعر نبذ من كلام، وأنه يكاتب بني مروان بعوراته، ويمدح عبد الملك، وتجيئه جوائزه وصلاته، فدعا به، ثم أغلظ له، وهم به، ثم كلم فيه، وقيل له: رجل مضرور. فعفا عنه، ونفاه إلى الطائف، فأنشأ يقول يهجوه ويهجو آل الزبير:
صفحة : 1848
بني أسد لا تذكروا الفخر إنـكـم متى تذكروه تكذبوا وتحمـقـوا
بعيدات بين خيركم لصـديقـكـم وشركم يغدو عـلـيه ويطـرق
متى تسألوا فضلا تضنوا وتبخلوا ونيرانكم بالشر فيهـا تـحـرق
إذا استبقت يوما قريش خرجتـم بني أسد سكتا وذو المجد يسبـق
تجيئون خلف القوم سودا وجوهكم إذا ما قريش للأضاميم أصفقوا
وما ذاك إلا أن للؤم طـابـعـا يلوح عليكم وسمه ليس يخلـق أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني عمي مصعب قال: قال عمر بن أبي ربيعة لأبي العباس الأعمى الشاعر مولى بني الديل بن بكر:
أفتني إن كنت ثقـفـا شـاعـرا عن فتى أعرج أعمى مختلـف
سيء السـحـنة كـاب لـونـه مثل عود الخروع البالي القصف فقال أبو العباس يرد عليه:
أنت الفتى وابن الفتى وأخو الفتى وسيدنـا لـولا خـلائق أربـع
نكولك في الهيجا وتقوالك الخنـا وشتمك للمولى وأنـك تـبـع قال الزبير: يقال رجل تبع نساء وتبع نساء: إذا كان كلفا بهن. أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني عمي قال: حدثني المكيون: أن عمر بن أبي ربيعة كان يرامي جارية لأبي العباس الأعمى ببنادق الغالية، فبلغ ذلك أبا العباس، فقال لقائده: قفني على باب بني مخزوم، فإذا مر عمر بن أبي ربيعة، فضع يدي عليه، فلما مر عمر وضع يده عليه فأخذ بحجزته، وقال:
ألا من يشتري جارا لئوما بجـار لا ينـام ولا ينـيم
ويلبس بالنهار ثياب نـاس وشطر الليل شيطان رجيم فنهضت إليه بنو مخزوم، فأمسكو فمه، وضمنوا له عن عمر أن لا يعاود ما يكرهه.
ألا حي من أجل الحبيب المغانبا لبسن البلى لما لبسن اللـيالـيا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا الشعر لأبي حية النميري. والغناء لأحمد بن يحيى المكي، خفيف رمل بالبنصر، عن الهشامي.
أخبار أبي حية النميري ونسبه
أبو حية: الهيثم بن الربيع بن زرارة بن كثير بن جناب بن كعب بن مالك بن عامر بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.
وكان يقال لمالك الأصقع. وقال قوم: إن الأصقع هو الأصم بن مالك بن جناب بن كعب.
وأبو حية شاعر مجيد مقدم، من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية، وقد مدح الخلفاء فيهما جميعا، وكان فصيحا مقصدا راجزا، من ساكني البصرة، وكان أهوج جبانا بخيلا كذابا، معروفا بذلك أجمع. وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه. وقيل إنه كان يصرع.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثني محمد بن سلام الجمحي. وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد. وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، قالوا: كان لأبي حية سيف يسميه لعاب المنية، ليس بينه وبين الخشبة فرق، وكان من أجبن الناس.
قال: فحدثني جار له قال: دخل ليلة إلى بيته كلب، فظنه لصا، فأشرفت عليه وقد انتضى سيفه لعاب المنية، وهو واقف في وسط الدار وهو يقول: أيها المغتر بنا، والمجترئ علينا، بئس والله ما اخترت لنفسك، خير قليل، وسيف صقيل، لعاب المنية الذي سمعت به، مشهورة ضربته، لا تخاف نبوته. اخرج بالعفو عنك، قبل أن أدخل بالعقوبة عليك. إني والله إن أدع قيسا إليك لا تقم لها، وما قيس? تملأ والله الفضاء خيلا ورجلا، سبحان الله ما أكثرها وأطيبها فبينا هو كذلك إذ خرج الكلب، فقال: الحمد لله الذي مسخك كلبا، وكفاني حربا.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني محمد بن علي بن حمزة قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: حدثني سعيد بن مسعدة الأخفش قال: قال أبو حية النميري: أتدري ما يقول القدريون? قلت: لا. قال: يقولون: الله لا يكلف العباد ما لا يطيقون، ولا يسألهم ما لا يجدون، وصدق والله القدريون، ولكني لا أقول كما يقولون. قال محمد بن علي بن حمزة: وحدثني أبو عثمان قال: قال سلمة بن عياش لأبي حية النميري: أتدري ما يقول الناس? قال: وما يقولون? قال: يقولون إني أشعر منك. قال: إنا لله هلك والله الناس
صفحة : 1849
قال: وكان أبو حية النميري مجنونا يصرع، وقد أدرك هشام بن عبد الملك.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثتا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي قال: سمعت عمي يقول: أبو حية في الشعراء كالرجل الربعة، لا يعد طويلا ولا قصيرا.
قال: وسمعت أبا عمرو يقول: هو أشعر في عظم الشعر من الراعي.
أخبرني الحسن بن علي وعلي بن سليمان الأخفش، قالا: حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل. وأخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن مسلم، قالوا: كان أبو حية النميري من أكذب الناس، فحدث يوما أنه يخرج إلى الصحراء، فيدعو الغربان فتقع حوله، فيأخذ منها ما شاء. فقيل له: يا أبا حية، أرأيت إن أخرجناك إلى الصحراء فدعوتها فلم تأتك، فما نصنع بك? قال: أبعدها الله إذن قال: وحدثنا يوما قال: عن لي ظبي يوما فرميته، فراغ عن سهمي، فعارضه السهم، ثم راغ، فعارضه السهم، فما زال والله يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات.
قال: وقال يوما: رميت والله ظبية، فلما نفذ سهمي عن القوس، ذكرت بالظبية حبيبة لي، فعدوت خلف السهم، حتى قبضت على قذذه قبل أن يدركها.
وذكر يحيى بن علي عن الحسن بن عليل العنزي قال: قال الرياشي، عن الأصمعي قال: وفد أبو حية النميري على المنصور وقد امتدحه، وهجا بني حسن بقصيدته التي أولها:
عوجا نحي ديار الحي بالسنـد وهل بتلك الديار اليوم من أحد يقول فيها:
أحين شيم فلم يترك لهـم تـرة سيف تقلده الرئبال ذو اللـبـد
سللتموه عليكم يا بني حـسـن ما إن لكم من فلاح آخر الأبد
قد أصبحت لبني العباس صافية لجدع آناف أهل البغي والحسد
وأصبحت كلهاة الليث في فمه ومن يحاول شيئا في فم الأسد? فوصله أبو جعفر بشيء دون ما كان يؤمل، فاحتجن لعياله أكثره، وصار إلى الحيرة، فشرب عند خماره بها، فأعجبه الشرب، فكره إنفاد ما معه، وأحب أن يدوم له ما كان فيه، فسأل الخمارة أن تبيعه بنسيئة، وأعلمها أنه مدح الخليفة وجماعة من القواد، ففعلت وشرهت إلى فضل النسيئة، وكان لأبي حية أير كعنق الظليم، فأبرز لها عنه، فتدلهت، وكانت كلما سقته خطت في الحائط، فأنشأ أبو حية يقول:
إذا أسقيتـنـي كـوزا بـخـط فخطي ما بدا لك في الجـدار
فإن أعطيتنـي عـينـا بـدين فهاتي العين وانتظري ضماري
خرقت مقدما من جنب ثوبـي حيال مكـان ذاك مـن الإزار
فقالت ويلها: رجل ويمـشـي بما يمشي به عجر الحـمـار
وقالت: ما تريد? فقلت: خـيرا نسيئة ما علي إلـى يسـاري
فصدت بعدما نـظـرت إلـيه وقد ألمحتها عنـق الـحـوار أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال: لقى ابن مناذر أبا حية، فقال له: أنشدني بعض شعرك. فأنشده:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا فقال له ابن مناذر: وهذا شعر? فقال أبو حية: ما في شعري عيب هو شر من أنك تسمعه. ثم أنشده ابن مناذر شيئا من شعره، فقال له أبو حية: قد عرفتك ما قصتك? وهذه القصيدة يفخر فيها أبو حية، ويذكر يوم النشاش، وهو يوم لبني نمير.
أخبار أحمد بن يحيى المكي
أحمد بن يحيى بن مروزق المكي، ويكنى أبا جعفر. وكان يلقب ظنينا. وقد تقدم ذكر أبيه وأخباره. وهو أحد المحسنين المبرزين، الرواة للغناء، المحكمي الصنعة. وكان إسحاق يقدمه ويؤثره، ويشيد بذكره، ويجهر بتفضيله، وكتابه المجرد في الأغاني ونسبها أصل من الأصول المعمول عليها، وما أعرف كتابا بعد كتاب إسحاق الذي ألفه لشبحا، يقارب كتابه، ولا يقاس به، وكان مع جودة غنائه وحسن صنعته، أحد الضراب الموصوفين المتقدمين.
أخبرني عمي قال: حدثني أبو عبد الله الهشامي، عن محمد بن أحمد المكي: أن أباه جمع لمحمد بن عبد الله بن طاهر ديوانا للغناء ونسبه وجنسه، فكان محتويا على أربعة عشر ألف صوت.
صفحة : 1850
أخبرني جحظة قال: حدثني علي بن يحيى، ونسخت من بعض الكتب: حدثني محمد بن أحمد المكي قال: حدثني علي بن يحيى قال: فلت لإسحاق بن إبراهيم الموصلي وقد جرى ذكر أحمد بن يحيى المكي: يا أبا محمد، لو كان أبو جعفر أحمد بن يحيى المكي مملوكا، كم كان يساوي? فقال: أخبرك عن ذلك.
أنصرفت ليلة من دار الواثق، فاجتزت بدار الحسن بن وهب، فدخلت إليه، فإذا أحمد عنده، فلما قام لصلاة العشاء الآخرة، قال لي الحسن بن وهب: كم يساوي أحمد لو كان مملوكا? قلت: يساوي عشرين ألف دينار. قال: ثم رجع فغنى صوتا، فقال لي الحسن بن وهب: يا أبا محمد، أضعفها. قال: ثم تغنى صوتا آخر، فقلت للحسن: يا أبا علي أضعفها. ثم أردت الانصراف، فقلت لأحمد: غنني:
لولا الحياء وأن الستر من خلـقـي إذن قعدت إليك الدهـر لـم أقـم
أليس عندك شكر للتـي جـعـلـت ما ابيض من قادمات الرأس كالحمم الغناء فيه لمعبد، خفيف ثقيل أول في مجرى البنصر، عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أنه لمالك، وليس كما قال، لحن مالك ثقيل أول ذكره الهشامي ودنانير وغيرهما.
قال: فغناه أحمد بن يحيى المكي، فأحسن فيه كل الإحسان. فلما قمت للانصراف قلت للحسن: يا ألا علي، أضعف الجميع. فقال له أحمد: ما هذا الذي أسمعكما تقولانه، ولست أدري ما معناه. قال: نحن نبيعك ونشتريك منذ الليلة وأنت لا تدري.
وأخبرنا بهذا الخبر يحيى بن علي بن يحيى، عن أخيه أحمد بن علي، عن عافية بن شبيب، عن أبي حاتم، كان إسحاق عندنا في منزل أبي علي الحسن بن وهب، وعندنا ظنين بن المكي، وذكر الحديث مثله، وقال فيه: إنه قومه مئة ألف درهم، وذكر أن الصوت الذي غناه آخرا:
أمن دمن وخـيم بـالـيات وسفع كالحمائم جاثمـات
أرقت لهن شطر الليل حتى طلعن من المناقب منجدات وأن إسحاق لما سمعه قال: كم كنت قومته? قال: مئة ألف درهم. قال: أضعفوا القيمة. قيمته مئتا ألف درهم. في هذين البيتين لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأول، بالسبابة في مجرى الوسطى، ينسب إلى ابن مسجح، وإلى ابن محرز. وفيه لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، عن عمرو. وللغريض خفيف ثقيل عن الهشامي.
أخبرني جحظة قال: حدثني محمد بن أحمد المكي قال: ناظر أبي بعض المغنين ذات ليلة بين يدي المعتصم، وطال تلاحيهما في الغناء، فقال أبي للمعتصم، يا أمير المؤمنين، من شاء منهم فليغن عشرة أصوات لا أعرف منها ثلاثة، وأنا أغني عشرة وعشرة وعشرة، لا يعرف أحد منهم صوتا منها. فقال إسحاق: صدق يا أمير المؤمنين. واتبعه ابن بسخنر وعلويه، فقالا: صدق يا أمير المؤمنين إسحاق فيما يقوله. فأمر له بعشرين ألف درهم.
قال محمد: ثم عاد ذلك الرجل إلى مماظته يوما، فقال له: قد دعوتك إلى النصفة، فلم تقبل، وأنا أدعوك وأبدأ بما دعوتك إليه، فاندفع فغنى عشرة أصوات، فلم يعرف أحد منهم منها صوتا واحدا، كلها من الغناء القديم، والغناء اللاحق به من صنعة المكيين الحذاق الخاملي الذكر، فاستحسن المعتصم منها صوتا، وأسكت المغنين له، واستعاده مرات عدة، ولم يزل يشرب عليه سحابة يومه، وأمر ألا يراجع أحدا من المغنين كلاما، ولا يعارضه أحد منهم، إذ كان قد أبر عليهم، وأوضح الحجة في انقطاعهم، وإدحاض حججهم.
كان الصوت الذي اختاره المعتصم عليه، وأمر له لما سمعه بألفي دينار:
لعن الله من يلـوم مـحـبـا ولحى الله من يحب فـيابـى
رب إلفين أضمرا الحب دهرا فعفا الله عنهما حـين تـابـا الغناء ليحيى المكي رمل.
قال محمد، قال أبي: وكان المعتصم قد خلع علينا في ذلك اليوم مماطر لها شأن من ألوان شتى، فسألني عبد الوهاب بن علي أن أرد عليه هذا الصوت، وجعل لي ممطره، فغنته إياه، فلما خرجنا للانصراف إلى منازلنا، أمر غلمانه بدفع الممطر إلى غلماني، فسلموه إليهم.
صفحة : 1851
أخبرني عبد الله بن الربيع، عن أبيه، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال: سألني إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما: من بقي من المغنين? قلت: وجه القرعة محمد بن عيسى، مولى عيسى بن جعفر. فقال: صالح كيس. ومن أيضا? قلت: أحمد بن يحيى المكي. قال بخ بخ ذاك المحسن المجمل الضارب المغني القائم بمجلسه، لا يحوج أهل المجلس إلى غيره. ومن بأبي أنت? قلت: ابن مقامرة. قال: لا والله ما سمعت بهذا قط. فمن مقامره هذه? زامرة أم نائحة أم مغنية? قلت: لا. ولكنها من الناس، وليست من أهل صناعته. قال: ومن أيضا بأبي أنت? قلت: يحيى بن القاسم ابن أخي سلمة. قال: الذي كان له أخ يغني مرتجلا? قلت: نعم. قال: لم يحسن ذاك ولا أبوه شيئا قط، ولا أشك أن هذا كذلك، لأنهما مؤدباه.
وذكر ابن المكي عن أبيه قال: قال المعتصم يوما لجلسائه ونحن عنده: خلعت اليوم على فتى شريف ظريف نظيف، حسن الوجه، شجاع القلب، ووليته المصيصة ونواحيها. فقلنا: من هذا يا أمير المؤمنين? فقال: خالد بن يزيد بن مزيد. فقال علونه: يا أحمد غن أمير المؤمنين صوتك في مدح خالد، فأمسكت عنه. فقال المعتصم: مالك لا تجيبه? فقلت: يا أمير المؤمنين، ليس هو مما يغنى بحضرة الخليفة. فقال: ما من أن تغنيه بد. قال: فغنيته صنعة لي في هذا الشعر:
علم الناس خالد بـن يزيد كل حلم وكل بأس وجود
فترى الناس هيبة حين يبدو من قيام وركع وسجـود فقال المعتصم: يا سمانة، خذ أحمد بإلقاء هذا الصوت على الجواري في غد، وأمر لي بعشرة آلاف درهم.
قال: وغنى أبي يوما محمدا الأمين:
فعش عمر نوح في سرور وغبـطة وفي خفض عيش ليس في طوله إثم
تساعدك الأقدار فـيه وتـنـثـنـي إليك وترعى فضلك العرب والعجم فأمر له بخمس مئة دينار.
وتوفى أحمد بن يحيى المكي في خلافة المستعين في أولها. أخبرني بذلك جحظة البرمكي، عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي: أن أباه توفي في هذا الوقت. انقضت أخباره.
إن الذين غدوا بلبك غـادروا وشلا بعينك ما يزال معينـا
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ماذا لقيت من الهوى ولقينا? غادروا: تركوا. والوشل: الماء القليل. والمعين: الماء الصافي الجاري. وغيضن من عبراتهن: أي كففنها ومسحنها حتى تغيض.
الشعر لجرير، والغناء لإسحاق، رمل بالوسطى، عن عمرو. وهو من طريف أرمال إسحاق وعيونها. وفيه لابن سريج ثقيل أول بالبنصر، عن الهشامي وعمرو. وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج رملا آخر. وذكر عيسى أن الثقيل الأول لإبراهيم، وأن فيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى، ولإبراهيم أيضا ماخوري بالبنصر.???? وقد أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب الصائغ قال: حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة: أن هذين البيتين للمعلوط، وأن جريرا سرقهما منه، وأدخلهما في شعره.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي وغيره قالوا: غدا عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي على أبي السائب المخزومي في منزله، فلما خرج إليه أبو السائب أنشده قول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معينا البيتين. فحلف أبو السائب ألا يرد على أحد سلاما، ولا يكلمه إلا بهذين البيتين، حتى يرجع إلى منزله. فخرجا، فلقيهما عبد العزيز بن المطلب وهو قاض، وكانا يدعيان القرينين لملازمتهما، فلما رآهما قال: كيف أصبح القرينان? فغمز أبو السائب بن جندب: أن أخبره بالقصة، وابن جندب يتغافل، فقال لابن جندب: ما لأبي السائب? فجعل أبو السائب يغمزه، أي أخبره بيميني. قال ابن جندب: أحمد الله إليك، ما زلت منكرا لفعله منذ خرجنا. فانصرف ابن المطلب إلى منزله والخصوم ينتظرونه، فصرفهم ودخل منزله مغتما. فلما أتى أبو السائب منزله، وبزت يمينه، خرج إلى ابن جندب فقال: اذهب بنا إلى ابن المطلب، فإني أخاف أن يرد شهادتي. فاستأذنا عليه، فأذن لهما فقال له أبو السائب: قد علمت أعزك الله غرامي بالشعر، وإن هذا الضال جاءني حين خرجت من منزلي، فأنشدني بيتين، فحلفت ألا أرد على أحد سلاما، ولا أكلمه إلا بهما. حتى أرجع إلى منزلي. فقال ابن المطلب: اللهم غفرا ألا تترك المجون يا أبا السائب.
صفحة : 1852
أخبرني: الحرمي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد المطلب بن عبد العزيز قال: أنشدت أبا السائب قول جرير:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينـا فقال: يا بن أخي، أتدري ما التغييض? قلت: لا. قال: هكذا، وأشار بأصبعه إلى جفنه، كأنه يأخذ الدمع ثم ينضحه.
أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا المدائني. وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، عن أحمد بن زهير، عن الزبير بن بكار قال: عن المدائني قال: شهد رجل عند قاض بشهادة، فقيل له: من يعرفك? قال: ابن أبي عتيق. فبعث إليه يسأله عنه. فقال: عدل رضا. فقيل له: أكنت تعرفه قبل اليوم? قال: لا. ولكني سمعته ينشد:
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ماذا لقيت من الهوى ولقينـا فعلمت أن هذا لا يرسخ إلا في قلب مؤمن، فشهدت له بالعدالة.
أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثنا محمد بن الحسن ومحمد بن الضحاك قالا: كان أبو السائب المخزومي واقفا على رأس بئر، فأنشده ابن جندب:
إن الذين غدوا بلبك غادروا وشلا بعينك لا يزال معينا فرمى بنفسه في البئر بثيابه، فبعد لأي ما أخرجوه.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا محمد بن الحسن الزرقي قال: حدثنا العلاء بن عمرو الزبيري، من ولد عمرو بن الزبير، قال: حدثنا يحيى بن أبي قتيلة قال: حدثني إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي عليهم السلام، عن أشعب قال: جاءني فتية من قريش، فقالوا لي: نحب أن تسمع سالم بن عبد الله بن عمر صوتا من الغناء، وتعلمنا ما يقول لك، وجعلوا لي في ذلك جعلا. فدخلت عليه، فقلت: يا أبا عمروا، لي مجالسة وحرمة، ومودة وسن، وأنا مولع بالترنم. قال: وما الترنم? قلت: الغناء. قال: وفي أي وقت? قلت: في الخلوة، ومع الإخوان في الخارج. وأحب أن أسمعك، فإن كرهته أمسكت عنه. ثم غنيته، فقال: ما أرى بأسا. فخرجت إليهم، فأعلمتهم، فقالوا: وما غنيته? فقلت: غنيته:
قربا مربط النعامة مـنـي لقحت حرب وائل عن حيال قالوا: هذا بارد لا حركة فيه، ولسنا نرضى. فلما رأيت دفعهم أياي، وخفت ذهاب ما جعلوا لي، رجعت إليه، فقلت: يا أبا عمرو، آخر. قال: مالي ولك? ولم أملكه أمره حتى غنيت، فقال: ما أرى بأسا. فخرجت إليهم فأعلمتهم. قالوا: وما غنيته? قلت:
لم يطيقوا أن ينزلوا ونـزلـنـا وأخو الحرب من أطاق النزولا قالوا: وليس هذا بشيء. فرجعت إليه، فقلت: آخر. فاستكفني، فلم أملكه القول حتى غنيته:
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ماذا لقيت من الهوى ولقينا? فقال: مهلا مهلا. قلت: لا والله إلا بذاك الذي فيه تمر عجوة من صدقة عمر. فقال: هو لك. فخرجت عليهم به، وأنا أخطر. فقالوا: مه. فقلت: أطربت الشيخ حتى أعطاني هذا، وقال مرة أخرى: حتى فرض لي هذا. قال: ووالله ما فعل، وإنما كان فدية لأصمت، وأخذت منهم الجعل.
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال: حدثت عن حماد بن إسحاق قال: حدثني علويه الأعسر قال: أتيت أباك في داره هذه يوما وقد بنى إيوانها وسائرها خراب، فجلسنا على تل من تراب، فغناني لحنه في:
غيضن من عبراتهن وقلن لي: ماذا لقيت من الهوى ولقينـا فسألته أن يعيده علي، ففعل. وأتانا رسول أبيه بطبق رطب، فقال للرسول: قل له: سأرسل إليك برطب أطيب من الرطب الذي بعثت به إلي، فأبلغه الرسول ذلك، فقال له: ومن عنده? فأخبره أنني عنده. فقال: ما أخلقه أن يكون قد أتانا بآبدة، ثم أتانا رسوله بعد ساعة فقال: ما آن لرطبكم أن يأتينا? فأرسلني إليه وقد أخذت الصوت، فغنيته إياه، فقال: أجاد والله. أألام على هذا وحبه، والله لو لم يكن بيني وبينه قرابة لأحببته، فكيف وهو ابني?
ألست ترى يا ضب بالله أنني مصاحبة نحو المدينة أركبا
إذا قطعوا حزنا نخب ركابهم كما حركت ريح يراعا مثقبا عروضه من الطويل. والشعر لنائله بنت الفرافصة. والغناء لابن عائشة، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى. ووجدت في كتاب بخط عبيد الله بن عبد الله بن طاهر أنه مما نحله يحيى المكي لابن عائشة.
أخبار نائلة بنت الفرافصة ونسبها
صفحة : 1853
هي نائلة بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو، وقيل: ابن عفر بن ثعلبة، وقيل: عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبية، زوجة عثمان بن عفان رضي الله عنه، تقوله لأخيها لما نقلها إلى عثمان.
أخبرني بخبره وخبرها أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثتا عبد الله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال: تزوج سعيد بن العاص وهو على الكوفة هند بنت الفرافصة بن الأحوص بن عمرو بن ثعلبة، فبلغ ذلك عثمان، فكتب إليه.
بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد، فإنه قد بلغني أنك تزوجت امرأة من كلب، فاكتب إلي بنسبها وجمالها.
فكتب إليه: أما بعد، فإن نسبها أنها بنت الفرافصة بن الأحرص. وجمالها أنها بيضاء مديدة القامة. فكتب إليه: إن كانت لها أخت فزوجنيها.
فبعث سعيد إلى الفرافصة، يخطب إحدى بناته على عثمان. فأمر الفرافصة ابنه ضبا، فزوجها إياه. وكان ضب مسلما، وكان الفرافصة نصرانيا، فلما أرادوا حملها إليه، قال لها أبوها: يا بنية، إنك تقدمين على نساء من نساء قريش، هن أقدر على الطيب منك، فاحفظي عني خصلتين، تكحلي، وتطيبي بالماء، حتى يكون ريحك ريح شن أصابه مطر.
فلما حملت كرهت الغربة، وحزنت لفراق أهلها، فأنشأت تقول:
ألست ترى يا ضب باللـه أنـنـي مصاحبة نحو الـمـدينة أركـبـا
إذا قطعوا حزنا تخب ركـابـهـم كما زعزعت ريح يراعا مثقـبـا
لقد كان في أبناء حصن بن ضمضم لك الويل ما يغني الخباء المطنبـا فلما قدمت على عثمان رضي الله عنه، قعد على سريره، ووضع لها سريرا حياله، فجلست عليه، فوضع عثمان قلنسيته، فبدا الصلع، فقال: يا بنة الفرافصة، لا يهولنك ما ترين من صلعي، فإن وراءه ما تحبين. فسكتت. فقال: إما أن تقومي إلي، وإما أن أقوم إليك. فقالت: أما ما ذكرت من الصلع، فإني من نساء أحب بعولتهن إليهن السادة الصلع. وأما قولك: إما أن تقومي إلي، وإما أن أقوم إليك، فوالله ما تجشمت من جنبات السماوة أبعد مما بيني وبينك، بل أقوم إليك. فقامت، فجلست إلى جنبه، فمسح رأسها، ودعا لها بالبركة، ثم قال لها: اطرحي عنك رداءك، فطرحته، ثم قال لها: اطرحي خمارك، فطرحته، ثم قال لها: انزعي درعك، فنزعته، ثم قال: حلي إزارك. فقالت: ذاك إليك. فحل إزارها، فكانت من أحظى نسائه عنده.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا علي بن محمد بن عيسى بن يزيد، عن عبد الواحد بن عمير، عن أبي الجراح مولى أم حبيبة، قال: كنت مع عثمان رضي الله عنه في الدار، فما شعرت وقد خرج محمد بن أبي بكر، ونحن نقول: هم في الصلح، إذ أنا بالناس قد دخلوا من الخوخة، ونزلوا بأمراس الحبال من سور الدار، معهم السيوف، فرميت بسيفي، وجلست عليه، وسمعت صياحهم، فكأني أنظر إلى مصحف في يد عثمان، وإلى حمرة أديمه، فنشرت نائلة بنت الفرافصة شعرها، فقال لها عثمان: خذي خمارك، فلعمري لدخولهم علي أعظم من حرمة شعرك.
وأهوى رجل إليه رضي الله عنه بالسيف، فاتقته نائلة بيدها، فقطع إصبعين من أصابعها، ثم قتلوه، وخرجوا يكبرون، ومر بي محمد بن أبي بكر، فقال: مالك يا عبد أم حبيبة? ومضى فخرجت.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شمة قال: حدثنا عبد الله بن حكيم الطائي، عن خالد بن سعيد، عن أبيه قال: لما قتل عثمان رحمة الله عليه، قالت نائلة بنت الفرافصة:
ألا إن خير الناس بـعـد ثـلاثة قتيل التجيبي الذي جاء من مصر
ومالي لا أبكي وتبكي قرابـتـي وقد غيبت عنا فضول أبي عمرو هكذا في هذه الرواية. وقد قيل إن هذين البيتين للوليد بن عقبة.
أخبرني أحمد قال: حدثني عمر قال: حدثنا علي بن محمد، عن أبي مخنف، عن نمير بن وعلة، عن الشعبي مسلمة بن محارب، عن حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية: أن نائلة بنت الفرافصة كتبت إلى معاية بن أبي سفيان، وبعثت بقميص عثمان مع النعمان بن بشير، أو عبد الرحمن بن حاطب بن أبي بلتعة: من نائلة بنت الفرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان.
صفحة : 1854
أما بعد، فإني أذكركم بالله الذي أنعم عليكم، وعلمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم من الكفر، ونصركم على العدو، وأسبغ النعمة، وأنشدكم بالله، وأذكركم حقه وحق خليفته الذي لم تنصروه، وبعزمة الله عليكم، فإنه عز وجل يقول: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . وإن أمير المؤمنين بغي عليه، ولو لم يكن له عليكم حق ألا حق الولاية، ثم أتي إليه بما أتي، لحق على كل مسلم يرجو أيام الله أن ينصره، لقدمه في الإسلام، وحسن بلائه، وأنه أجاب داعي الله، وصدق كتابه، والله أعلم به إذ انتجبه، فأعطاه شرف الدنيا وشرف الآخرة.
وإني أقص عليكم خبره، لأني كنت مشاهدة أمره كله، حتى أفضي إليه: وإن أهل المدينة حصروه في داره، يحرسنه ليلهم ونهارهم. قيام على أبوابه بسلاحهم، يمنعونه كل شيء قدروا عليه، حتى منعوه الماء، يحضرونه الأذى، ويقولون له الإفك. فمكث هو ومن معه خمسين ليلة، وأهل مصر قد أسندوا أمرهم إلى محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر، وكان علي مع المحرضين من أهل المدينة، ولم يقاتل مع أمير المؤمنين، ولم ينصره، ولم يأمر بالعدل الذي أمر الله تبارك وتعالى به. فظلت تقاتل خزاعة وسعد بن بكر وهذيل، وطوائف من مزينة وجهينة، وأنباط يثرب، ولا أرى سائرهم، ولكني سميت لكم الذين كانوا أشد الناس عليه في أول أمره وآخره. ثم إنه رمي بالنبل والحجارة، فقتل ممن كان في الدار ثلاثة نفر، فأتوه يصرخون إليه، ليأذن لهم في القتال، فنهاهم عنه، وأمرهم أن يردوا عليهم نبلهم، فردوها إليهم، فلم يزدهم ذلك على القتال إلا جراءة، وفي الأمر إلا إغراء. ثم أحرقوا باب الدار، فجاءه ثلاثة نفر من أصحابه، فقالوا: إن في المسجد ناسا يريدون أن يأخذوا أمر الناس بالعدل، فاخرج إلى المسجد حتى يأتوك، فانطلق فجلس فيه ساعة، وأسلحة القوم مطلة عليه من كل ناحية، وما أرى أحدا يعدل، فدخل الدار، وقد كان نفر من قريش على عامتهم السلاح، فلبس درعه، وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لبست درعا، فوثب عليه القوم، فكلمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقا في صحيفة، بعث بها إلى عثمان: إن عليكم عهد الله وميثاقه ألا تعروه بشيء، فكلموه وتحرجوا، فوضع السلاح، فلم يكن إلا وضعه، حتى دخل عليه القوم يقدمهم ابن أبي بكر، حتى أخذوا بلحيته، ودعوه باللقب. فقال: أنا عبد الله وخليفته، فضربوه على رأسه ثلاث ضربات، وطعنوه في صدره ثلاث طعنات، وضربوه على مقدم الجبين فوق الأنف ضربة أسرعت في العظم، فسقطت عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يريدون قطع رأسه، ليذهبوا به، فأتتني بنت شيبة بن ربيعة، فألقت نفسها معي عليه، فوطئنا وطئا شديدا، وعرينا من ثيابنا، وحرمة أمير المؤمنين أعظم. فقتلوه رحمة الله عليه في بيته، وعلى فراشه. وقد أرسلت إليكم بثوبه، وعليه دمه، وإنه والله لئن كان أثم من قتله، لما يسلم من خذله. فانظروا أين أنتم من الله جل وعز، فإنا نشكي ما مسنا إليه، ونستنصر وليه وصالح عباده. ورحمة الله على عثمان، ولعن الله من قتله، وصرعهم في الدنيا مصارع الخزي والمذلة، وشفى منهم الصدور.
فحلف رجال من أهل الشام ألا يطأوا النساء حتى يقتلوا قتلته، أو تذهب أرواحهم.
فيا راكبا إما عرضت فبلـغـن نداماي من نجران أن لا تلاقيا
أبا كرب والأيهمين كلـيهـمـا وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا
وتضحك مني شيخة عبشـمـية كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانـيا
أقول وقد شدوا لساني بنـسـعة أمعشر تيم أطلقوا عن لسانـيا الشعر لعبد يغوث بن صلاءة الحارثي. والغناء لإسحاق، ثقيل أول.
أخبار عبد يغوث ونسبه
هو عبد يغوث بن صلاءة. وقيل: بل هو عبد يغوث بن الحارث بن وقاص بن صلاءة وهو قول ابن الكلبي بن المغفل، واسم المغفل: ربيعة بن كعب الأرت بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بن خالد بن مالك بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
صفحة : 1855
قال ابن الكلبي: قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح. قال: وكان يقال ليعرب: المرعف. وكان عبد يغوث بن صلاءة شاعرا من شعراء الجاهلية، فارسا سيدا لقومه من بني الحارث بن كعب، وهو كان قائدهم في يوم الكلاب الثاني، إلى بني تميم، وفي ذلك اليوم أسر فقتل. وعبد يغوث من أهل بيت شعر معرق لهم في الجاهلية والإسلام، منهم اللجلاج الحارثي، وهو طفيل بن يزيد بن عبد يغوث بن صلاءة، وأخوه مسهر فارس شاعر، وهو الذي طعن عامر بن الطفيل في عينه يوم فيف الريح. ومنهم ممن أدرك الإسلام جعفر بن علبة بن ربيعة بن الحارث بن عبد يغوث بن الحارث بن معاوية بن صلاءة، وكان فارسا شاعرا صعلوكا، أخذ في دم، فحبس بالمدينة، ثم قتل صبرا. وخبره يذكر منفردا، لأن له شعرا فيه غناء.
والشعر المذكور في هذا الموضع لعبد يغوث بن صلاءة، يقوله في يوم الكلاب الثاني جمع فيه قومه وغزا بني تميم، فظفرت به بنو تميم، وأسروه وقتل يومئذ.
وكان من حديث هذا اليوم، فيما ذكر أبو عبيدة، عن أبي عمرو بن العلاء، وهشام بن الكلبي عن أبيه، والمفضل بن محمد الضبي، وإسحاق بن الجصاص عن العنبري، قالوا: لما أوقع كسرى ببني تميم يوم الصفا بالمشقر، فقتل المقاتلة، وبقيت الأموال والذراري، بلغ ذلك مذحجا، فمشى بعضهم إلى بعض، وقالوا: اغتنموا بني تميم، ثم بعثوا الرسل في قبائل اليمن وأحلافها من قضاعة، قالت مذحج للمأمور الحارثي، وهو كاهن: ما ترى? فقال لهم: لا تغزوا بني تميم، فإنهم يسيرون أغبابا، ويردون مياها جبابا، فتكون غنيمتكم ترابا. قال أبو عبيدة: فذكر أنه اجتمع من مذحج ولفها اثنا عشر ألفا، وكان رئيس مذحج عبد يغوث بن صلاءة، ورئيس همدان يقال له مسرح، ورئيس كندة البراء بن قيس بن الحارث. فأقبلوا إلى تميم، فبلغ ذلك سعدا والرباب، فانطلق ناس من أشرافهم إلى أكثم بن صيفي، وهو قاضي العرب يومئذ، فاستشاروه، فقال لهم: أقلوا الخلاف على أمرائكم، واعلموا أن كثرة الصياح من الفشل، والمرء يعجز لا محالة. يا قوم تثبتوا، فإن أحزم الفريقين الركين، ورب عجلة تهب ريثا. واتزروا للحرب، وادرعوا الليل، فإنه أخفى للويل، ولا جماعة لمن اختلف.
فلما انصرفوا من عند أكثم تهيئوا، واستعدوا للحرب، وأقبل أهل اليمن، من بني الحارث من أشرافهم يزيد بن عبد المدان ويزيد بن مخرم، ويزيد بن الطيثم بن المأمور، ويزيد بن هوبر، حتى إذا كانوا بتيمن نزلوا قريبا من الكلاب، ورجل من بني زيد بن رياح بن يربوع، يقال له مشمت بن زنباع في إبل له، عند خال له من بني سعد، يقال له زهير بن بو، فلما أبصرهم المشمت قال لزهير: دونك الإبل، وتنح عن طريقهم، حتى آتي الحي فأنذرهم. قال: فركب المشمت ناقة، ثم سار حتى أتى سعدا والرباب وهم على الكلاب، فأنذرهم، فأعدوا للقوم، وصبحوهم، فأغاروا على النعم فطردوها، وجعل رجل من أهل اليمن، يرتجز ويقول:
في كل عام نعم ننتابـه على الكلاب غيبا أربابه قال: فأجابه غلام من بني سعد كان في النعم، على فرس له، فقال:
عصا قليل سترى أربابه صلب القناة حازما شبابه
على جياد ضمر عيابه قال: فأقبلت سعد والرباب، ورئيس الرباب النعمان بن جساس، ورئيس بني سعد قيس بن عاصم المنقري. قال أبو عبيدة: اجتمع العلماء على أن الرئيس كان يومئذ قيس بن عاصم. فقال ضبي حين دنا من القوم:
في كل عام نعم تحـوونـه يلقحه قوم وتنتـجـونـه
أربابه نوكى فلا يحمونـه ولا يلاقون طعانـا دونـه
أنعم الأبناء تحـسـبـونـه هيهات هيهات لما ترجونه فقال ضمرة بن لبيد الحماسي: أنظروا إذا سقتم النعم، فإن أتتكم الخيل عصبا عصبا، وثبتت الأولى للأخرى، حتى تلحق، فإن أمر القوم هين. وإن لحق بكم القوم، فلم ينظروا إليكم حتى يردوا وجوه النعم، ولا ينتظر بعضهم بعضا، فإن أمر القوم شديد. وتقدمت سعد والرباب، فالتقوا في أوائل الناس، فلم يلتفتوا إليهم، واستقبلوا النعم من قبل وجوهها، فجعلوا يصرفونها بأرماحهم، واختلط القوم، فاقتتلوا قتالا شديدا يومهم، حتى إذا كان من آخر النهار قتل النعمان بن جساس، قتله رجل من أهل اليمن، كانت أمه من بني حنظلة، يقال له عبد الله بن كعب،
صفحة : 1856
وهو الذي رماه، فقال للنعمان حين رماه: خذها وأنا ابن الحنظلية. فقال النعمان: ثكلتك أمك، رب حنظلية قد غاظتني. فذهبت مثلا، وظن أهل اليمن أن بني تميم سيهدهم قتل النعمان، فلم يزدهم ذلك إلا جراءة عليهم، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، فباتوا يحرس بعضهم بعضا، فلما أصبحوا غدوا على القتال، فنادى قيس بن عاصم: يال سعد، ونادى عبد يغوث: يال سعد. قيس بن عاصم يدعو سعد بن زيد مناة بن تميم، وعبد يغوث يدعو سعد العشيرة. فلما سمع ذلك قيس نادى: يال كعب، فنادى عبد يغوث: يال كعب. قيس يدعو كعب بن سعد، وعبد يغوث يدعو كعب بن عمرو. فلما رأى ذلك قيس من صنيع عبد يغوث، قال: ما لهم أخزاهم الله ما ندعو بشعار إلا دعوا بمثله. فنادى قيس: يال مقاعس، يعني بني الحارث بن عمرو بن كعب، وكان يلقب مقاعسا، فلما سمع وعلة بن عبد الله الجرمي الصوت، وكان صاحب اللواء يومئذ، طرحه، وكان أول من انهزم من اليمن، وحملت عليهم بنو سعد والرباب، فهزموهم أفظع هزيمة، وجعل رجل منهم يقول:
يا قوم لا يفلتكم اليزيدان مخرما أعني به والديان وجعل قيس بن عاصم ينادي: يال تميم: لا تقتلوا إلا فارسا، فإن الرجالة لكم. وجعل يرتجز ويقول:
لما تولوا عصـبـا شـوازبـا أقسمت لا أطعن إلا راكـبـا
إني وجدت الطعن فيهم صائبا وجعل يأخذ الأسارى، فإذا أخذ أسيرا قال له: ممن أنت? فيقول: من بني زعبل، وهو زعبل بن كعب، أخو الحارث بن كعب، وهم أنذال، فكأن الأسارى يريدون بذلك رخص الفداء، فجعل قيس إذا أخذ أسيرا منهم، دفعه إلى من يليه من بني تميم، ويقول: أمسك حتى أصطاد لك زعبلة أخرى، فذهبت مثلا. فما زالوا في آثارهم يقتلون ويأسرون، حتى أسر عبد يغوث، أسره فتى من بني عمير بن عبد شمس. وقتل يومئذ علقمة بن سباع القريعي، وهو فارس هبود، وهبود فرس عمرون الجعيد المرادي وكان علقمة قتل عمرا وأخذ فرسه من تحته، وأسر الأهتم، واسمه سنان بن سمي بن خالد بن منقر، ويومئذ سمي الأهتم رئيس كندة البراء بن قيس، وقتلت التيم الأوبر الحارثي، وآخر من بني الحارث يقال له معاوية، قتلهما النعمان بن جساس، وقتل يومئذ من أشرافهم خمسة، وقتلت بنو ضبة ضمرة بن لبيد الحماسي الكاهن، قتله قبيصة بن ضرار بن عمرو الضبي.
وأما عبد يغوث فانطلق به العبشمي إلى أهله، وكان العبشمي أهوج، فقالت له أمه ورأت عبد يغوث عظيما جميلا جسيما: من أنت? قال: أنا سيد القوم. فضحكت، وقالت: قبحك الله من سيد قوم حين أسرك هذا الأهوج. فقال عبد يغوث:
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم ترا قبلي أسيرا يمانيا ثم قال لها: أيتها الحرة، هل لك إلى خير? قالت: وما ذاك? قال: أعطي ابنك مئة من الإبل وينطلق بي إلى الأهتم، فإني أتخوف أن تنتزعني سعد والرباب منه، فضمن له مئة من الإبل، وأرسل إلى بني الحارث، فوجهوا بها إليه، فقبضها العبشمي، فانطلق به إلى الأهتم، وأنشأ عبد يغوث يقول:
أأهتـم يا خـير الـبـرية والـدا ورهطا إذا ما الناس عدوا المساعيا
تدارك أسيرا عانيا فـي بـلادكـم ولا تثقفني التيم ألقـى الـدواهـيا فمشت سعد والرباب فيه. فقالت الرباب: يا بني سعد، قتل فارسنا ولم يقتل لكم فارس مذكور، فدفعه الأهتم إليهم، فأخذه عصمة بن أبير التيمي، فانطلق به إلى منزله، فقال عبد يغوث: يا بني تيم، اقتلوني قتلة كريمة. فقال له عصمة: وما تلك القتلة? قال: اسقوني الخمر، ودعوني أنح على نفسي، فقال له عصمة: نعم. فسقاه الخمر، ثم قطع له عرقا يقال له الأكحل، وتركه ينزف، ومضى عنه عصمة، وترك مع ابنين له، فقالا: جمعت أهل اليمن وجئت لتصطلمنا، فكيف رأيت الله صنع بك? فقال عبد يغوث في ذلك:
ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بـيا فما لكما في اللوم نفع ولا لـيا
ألم تعلما أن الملامة نفـعـهـا قليل وما لومي أخي من شماليا
فيا راكبا إما عرضت فبلـغـن ندامي من نجران أن لا تلاقـيا
أبا كرب والأيهمين كلـيهـمـا وقيسا بأعلى حضرموت اليمانيا
جزى الله قومي بالكلاب ملامة صريحهم والآخرين المـوالـيا
صفحة : 1857
ولو شئت نجتني من الخيل نـهـدة ترى خلفهما الحو الجياد تـوالـيا
ولكنني أحـمـي ذمـار أبـيكـم وكان الرماح يختطفن المحـامـيا
وتضحك مني شيخة عبـشـمـية كأن لم ترا قلبي أسـيرا يمـانـيا
وقد علمت عرسي مليكة أنـنـي أنا اليث معـدوا عـلـيه وعـاديا
أقول وقد شدوا لساني بـنـسـعة أمعشر تيم أطلقوا لي لـسـانـيا
أمعشر تيم قد ملكتم فأسـجـحـوا فإن أخاكم لم يكـن مـن بـوائيا
فإن تقتلوني تقتـلـوا بـي سـيدا وإن تطلقوني تحربوني بمـا لـيا
أحقا عباد الله أن لست سـامـعـا نشيد الرعاء المعزبين المـتـالـيا
وقد كنت نحار الجزور ومعمل ال مطي وأمضي حيث لا حي ماضيا
وأنحر للشرب الكرام مـطـيتـي وأصدع بين الـقـينـتـين ردائيا
وعادية سوم الجـراد وزعـتـهـا بكفي وقد أنحوا إلي الـعـوالـيا
كأني لم أركب جـوادا ولـم أقـل لخيلي كري نفسي عن رجـالـيا
ولم أسبأ الزق الـروي ولـم أقـل لأيسار صدق أعظموا ضوء ناريا قال: فضحكت العبشمية، وهم آسروه. وذلك أنه لما أسروه شدوا لسانه بنسعة، لئلا يهجوهم، وأبوا إلا قتله، فقتلوه بالنعمان بن جساس. فقالت صفية بنت الخرع ترثي النعمان:
نطاقه هـنـدوانـي وجـبـتـه فضفاضة كأضاة النهي موضونه
لقد أخذنا شفاء النفس لو شفـيت وما قتلنا بـه إلا أمـرا دونـه وقال علقمة بن سباع لعمرو بن الجعيد:
لما رأيت الأمر مخـلـوجة أكرهت فيه ذابلا مـارنـا
قلت له: خذها فإنـي امـرؤ يعرف رمحي الرجل الكاهنا قوله: يعرف رمحي الرجل الكاهنا يريد: أن عمرو بن الجعيد كان كاهنا. وهو أحد بني عامر بن الديل بن شن بن أفصى بن عبد القيس، ولم يزل ذلك في ولده. ومنهم الرباب بن البراء، كان يتكهن، ثم طلب خلاف أهل الجاهلية، فصار على دين المسيح عليه السلام، فذكر أبو اليقظان أن الناس سمعوا في زمانه مناديا ينادي في الليل، وذلك قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم: خير أهل الأرض رباب الشني، وبحيرا الراهب، وآخر لم يأت بعد. قال: وكان لا يموت أحد من ولد الرباب إلا رأوا على قبره طشا. ومن ولده مخربة، وهو أحد أجواد العرب، وإنما سمي مخربة لأن السلاح خربه، لكثرة لبسه إياه، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم، فأرسله إلى ابن الجلندى العماني. وابنه المثنى بن مخربة أحد وجوه أصحاب المختار، وكان قد وجهه إلى البصرة ليأخذها، فحاربه عباد بن الحصين فهزمه، وكان ابنه بلج بن المثنى جوادا، وفيه يقول بعض شعراء عبد القيس:
ألا يا بلج بلج بني المثـنـى وأنت لكل مكرمة كـفـاء
ألومك طائعا مادمـت حـيا علي إذن من الله العـفـاء
كفى قوما مكارم ضيعوهـا وأحسن حين أبصرهم أساءوا قال: فأما وعلة بن عبد الله الجرمي، فإنه لحقه رجل من بني سعد، فعقر به، فنزل، وجعل يحضر على رجليه، فلحق رجلا من بني نهد يقال له سليط بن قتب، من بني رفاعة، فقال له لما لحقه: أردفني، فأبى، فطرحه، عن فرسه، وركب عليها، وأدركت الخيل النهدي فقتلوه، فقال وعلة في ذلك:
ولما سمعت الخيل تدعو مقاعسـا علمت بأن اليوم أغبر فـاجـر
نجوت نجاء لـيس فـيه وتـيرة كأني عقاب دون تيمن كـاسـر
خدارية صقعاء لـبـد ريشـهـا بطخفة يوم ذو أهاضيب ماطـر
وقد قلت للنهدي: هل أنت مردفي وكيف رداف الفل أمك عـاثـر
فإن أستطع لا تبتئس بي مقاعس ولا يرني باديهم والحـواضـر
فدى لكما رجلي أمي وخالـتـي غداة الكلاب إذ تحز الحنـاجـر
فمن كان يرجو في تميم هـوادة فليست لجرم في تميم أواصـر وقالت نائحة عمرو بن الجعيد:
أشاب قذال الرأس مصرع سيد وفارس هبود أشاب النواصيا وقال محرز بن مكعبر الضبي:
صفحة : 1858
فدى لقومي ما جمعت من نشب إذ ساقت الحرب أقواما لأقوام
قد حدثت مذحج عنا وقد كذبـت أن لا يورع عن نسواننا حـام
دارت رحاهم قليلا ثم واجههـم ضرب يصبح منهم مسكن الهام
ساروا إلينا وهم صيد رؤوسهـم فقد جعلنا لهـم يومـا كـأيام
ظلت ضباع مجيرات يعدنـهـم وألحموهن منهـم أي إلـحـام
ظلت تدوس بني كعب بكلكلهـا وهم يوم بني نهـد بـإظـلام وقال أوس بن مغراء:
وفي يوم الكلاب إذ اعترتنا قبائل أقبلوا متناسـبـينـا
قبائل مذحج اجتمعت وجرم وهمدان وكندة أجمعـينـا
وحمير ثم ساروا في لهـام على جرد جميعا قادرينـا
فلما أن أتونا لـم نـكـذب ولم نسألهم أن يمهلـونـا
قتلنا منهم قتـلـى وولـى شريدهم شعاعا هاربينـا
وفاظت منهم فينا أسـارى لدينا منهم متخشـعـينـا وقال ذو الرمة غيلان بن عقبة في ذلك:
وعمي الذي قاد الرباب جماعة وسعدهم الرأس الرئيس المؤمر
عشية أعطتنـا أزمة أمـرهـا ضرار بنو القرم الأغر ومنقر
وعبد يغوث تحجل الطير حوله قد احتز عرشيه الحسام المذكر العرشان: عرقان في العنق:
عشية فر الحـارثـيون بـعـدمـا قضى نحبه في معرك الخيل هوبر
وقـال أخـو جـرم ألا لا هـوادة ولا وزر إلا النجاء الـمـشـمـر
أبى اللـه إلا أنـنـا آل خـنـدف بنا يسمع الصوت الأنام ويبـصـر
إذا ما تمضرنا فلا نـاس غـيرنـا ونضعف أحيانا ولا نـتـمـضـر وقال أيضا:
فما شهدت خيل امرئ القيس غـارة بثهلان تحمي عن ثغور الحـقـائق
آثرنا به نـقـع الـكـلاب وأنـتـم تثيرون نقع الملتقى بـالـمـعـازق
أدرنا على جزم وأفـنـاء مـذحـج رحى الموت فوق العاملات الخوافق
صدمناهـم دون الأمـانـي صـدمة عماسا بأطـواد طـوال شـواهـق
إذا نطحت شهباء شهبـاء بـينـهـا شعاع القنا والمشرفـي الـبـوارق وقال براء بن قيس الكندي:
قتلتـنـا تـمـيم يومـا جـديدا قتل عـاد وذاك يوم الـكـلاب
يوم جئنا يسوقنا الحـين سـوقـا نحو قوم كأنهـم أسـد غـاب
سرت في الأزد والمذاحج طرا بين صـل وكـاشـر الأنـياب
وبني كندة المـلـوك ولـخـم وجـذام وحـمـير الأربـاب
ومـراد وخـثـعـم وزبــيد وبني الحارث الطوال الرغاب
وحشدنا الصميم نرجو نـهـابـا فلقينا البـوار دون الـنـهـاب
لقيتنا أسـود سـعـد وسـعـد خلقت في الحروب سوط عذاب
تركوني مسـهـدا فـي وثـاق أرقب النجم ما أسيغ شـرابـي
خائفا للردى ولـولا دفـاعـي بمئين عن مهجتي كالضـبـاب
لسقيت الردى وكنت كقـومـي في ضريح مغيبا في التـراب
تذرف الدمع بالعويل نـسـائي كنساء بكت قـتـيل الـربـاب
فلعيني على الألى فارقـونـي درر من دموعها بانـسـكـاب
كيف أبغي الحياة بعـد رجـال قتلوا كالأسود قتـل الـكـلاب
منهم الحارثـي عـبـد يغـوث ويزيد الفتيان وابـن شـهـاب
في مـئين نـعـدهـا ومـئين بعد ألف منوا بقوم غـضـاب
برجال من الـعـرانـين شـم أسد حرب ممحوضة الأنسـاب قال وعلة بن عبد الله الجزمي:
عذلتني نهد فقـلـت لـنـهـد حين حاست على الكلاب أخاها
يوم كنا علـيهـم طـير مـاء وتميم صقـورهـا وبـزاهـا
لا تلوموا على الفرار فسـعـد يال نهد يخافهـا مـن يراهـا
إنما همها الـطـعـان إذا مـا كره الطعن والضراب سواها
تركوا مذحجا حديثا مـشـاعـا مثل طسم وحمير وصـداهـا
صفحة : 1859
يال قحطان وادعـوا حـي سـعـد وابتغوا سلمها وفـضـل نـداهـا
إن سعد السـعـود أسـد غـياض باسل بـأسـهـا شـديد قـواهـا
فضحت بالكلاب حار بن كـعـب وبنو كنـدة الـمـلـوك أبـاهـا
أسلموا للمـنـون عـبـد يغـوث ولعض الكـبـول حـولا يراهـا
بعد ألف سقوا المـنـية صـرفـا فأصابت في ذاك سعد مـنـاهـا
ليت نهـدا وجـرمـهـا ومـرادا والمـذاحـيج ذو أنـاة نـهـاهـا
عن تميم فلم تـكـن فـقـع قـاع تبتدرهـا ربـابـهـا ومـنـاهـا
قل لبكر العراق تسـتـر عـمـرا عمرو قيس فرأي عمرو قـراهـا
عن تميم ولو غزتـهـا لـكـانـت مثل قحطان مستباحـا حـمـاهـا
ما بال شمس أبي الخطاب قد حجبت أظن يا صاحبي الساعة اقتـربـت
أولا فما بال ريح كنـت آنـسـهـا عادت علي بصر بعدما جـنـبـت
أشكو إليك أبا الخـطـاب جـارية غريرة بفؤادي اليوم قد لـعـبـت
وأنت قيمها فانظر لـعـاشـقـهـا يا ليت قد قربت مني وما بـعـدت عروضه من البسيط. الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالبنصر، عن الهشامي وعلي بن يحيى. وذكر محمد بن الحارث بن بسخنر أن فيه هزجا بالبنصر لإبراهيم بن المهدي، وذكر عمرو بن بانة أنه لإبراهيم الموصلي أيضا.
وأبو الخطاب الذي عناه إبراهيم الموصلي في شعره هذا: رجل نخاس يعرف بقرين، مولى العباسة بنت المهدي، وكان إبراهيم يهوى جارية له، يقال لها خنث، وكانت من أجمل النساء وأكملهن، وكان لها خال فوق شفتها العليا، وكانت تعرف بذات الخال، ولإبراهيم ولغيره فيها أشعار كثيرة. نذكر منها كل ما كان فيه غناء بعد خبرها إن شاء الله.
أخبار ذات الخال
أخبرني بخبرها الحسين بن يحيى قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي: أن جدي كان يتعشق جارية لقرين، المكنى بأبي الخطاب النخاس، وكان يقول فيها الشعر ويغني فيه، فشهرها بشعره وغنائه، وبلغ الرشيد خبرها، فاشتراها بسبعين ألف درهم. فقال لها ذات يوم: أسألك عن شيء، فإن صدقتني وإلا صدقني غيرك وكذبتك. قالت له: بل أصدقك. قال: هل كان بينك وبين إبراهيم الموصلي شيء قط، وأنا أحلفه أن يصدقني. قال: فتلكأت ساعة، ثم قالت: نعم، مرة واحدة. فأبغضها وقال يوما في مجلسه: أيكم لا يبالي أن يكون كشخانا، حتى أهب له ذات الخال. فبدر حمويه الوصيف، فقال: أنا. فوهبها له، وفيها يقول إبراهيم:
أتحسب ذات الخال راجـية ربـا وقد فتنت قلبا يهيم بـهـا حـبـا
وما عذرها نفسي فداها ولم تـدع على أعظمي لحما ولم تبق لي لبا الشعر والغناء لإبراهيم، خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى.
وذكر أحمد بن أبي طاهر: أن الرشيد اشتراها بسبعين ألف درهم، وذكر قصة حمويه كما ذكرها حماد، وقال في خبره: فاشتاقها الرشيد يوما بعد ما وهبها لحمويه، فقال له: ويلك يا حمويه، وهبنا لك الجارية على أن تسمع غناءها وحدك? فقال: يا أمير المؤمنين، مر فيها بأمرك. قال: نحن عندك غدا. فمضى فاستعد لذلك، واستأجر لها من بعض الجوهريين بدنة وعقودا ثمنها اثنا عشر ألف دينار. فأخرجها إلى الرشيد وهو عليها، فلما رآها أنكره. وقال: ويلك يا حمويه ومن أين لك هذا وما وليتك عملا تكسب فيه مثله، ولا وصل إليك مني هذا القدر فصدقه عن أمره، فبعث الرشيد إلى أصحاب الجوهر فأحضرهم، واشترى الجوهر منهم، ووهبه لها، ثم حلف ألا تسأله يومه ذلك شيئا إلا أعطاها، ولا حاجة إلا قضاها، فسألته أن يولي حمويه الحرب والخراج بفارس سبع سنين، ففعل ذلك، وكتب له عهده به، وشرط على ولي العهد بعده أن يتمها له إن لم تتم في حياته.
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني محمد بن عبد الله العاصمي قال: حدثني أحمد بن عبد الله طماس، عن عبد الله وإبراهيم ابني العباس الصولي قالا:
صفحة : 1860
كانت للرشيد جارية تعرف بذات الخال، فدعته يوما، فوعدها أن يصير إليها، وخرج يريدها، فاعترضته جارية، فسألته أن يدخل إليها، فدخل وأقام عندها، فشق ذلك على ذات الخال، وقالت: والله لأطلبن له شيئا أغيظه به، وكانت أحسن الناس وجها، ولها خال على خدها لم ير الناس أحن منه في موضعه، فدعت بمقراض، فقصت الخال الذي كان في خدها، وبلغ ذلك الرشيد، فشق عليه، وبلغ منه، فخرج من موضعه، وقال للفضل بن الربيع: انظر من بالباب من الشعراء، فقال: الساعة رأيت العباس بن الأحنف. فقال: أدخله. فأدخله، فعرفه الرشيد القصة وقال: اعمل في هذا شيئا، على معنى رسمه له، فقال:
تخلصت ممن لم يكن ذا حفـيظة وملت إلى من لا يغـيره حـال
فإن كان قطع الخال لما تطلعت إلى غيرها نفسي فقد ظلم الخال غناه إبراهيم. فنهض الرشيد إلى ذات الخال مسرعا مسترضيا لها، وجعل هذين البيتين سببا، وأمر للعباس بألفي دينار، وأمر إبراهيم الموصلي فغناه في هذا الشعر.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني محمد بن الفضل قال: كان محمد بن موسى المنجم يعجبه التقسيم في الشعر، ويشغف بجيد الأشعار، فكان مما يعجبه قول نصيب:
أبا بعل ليلى كيف تجمع سلمـهـا وحربي وفيما بيننا شبت الحـرب
لها مثل ذنبي اليوم إن كنت مذنبـا ولا ذنب لي إن كان ليس لها ذنب عروضه من الطويل. والشعر لنصيب، ويروى للمجنون، ويروى لكعب بن مالك الخثعمي. والغناء لمالك، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.
قال: وكان محمد بن موسى ينشد كثيرا للعباس بن الأحنف:
ألا ليت ذات الخال تلقى من الهوى عشير الذي ألقى فيلتئم الشـعـب
إذا رضيت لم يهنني ذلك الرضـا لعلمي به أن سوف يتبعه العتـب
وأبكي إذا ما أذنبت خوف صدهـا وأسألها مرضاتها ولها الـذنـب
وصالكم صرم وحبـكـم قـلـى وعطفكم صد وسلمكـم حـرب ويقول: ما أحسن ما قسم، حتى جعل بإزاء كل شيء ضده، والله إن هذا لأحسن من تقسيمات إقليدس. الغناء في هذه الأبيات الأربعة لإبراهيم الموصلي، ثاني ثقيل بالوسطى، عن الهشامي.
وكانت ذات الخال إحدى الثلاث الجواري اللواتي كان الرشيد يهواهن، ويقول الشعر فيهن، وهن سحر، وضياء، وخنث، وفيهن يقول الرشيد:
إن سحرا وضياء وخنث هن سحر وضياء وخنث
أخذت سحر ولا ذنب لها ثلثي قلبي وترباها الثلث حدثني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا أحمد بن محمد الأسدي قال: حدثنا احمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف السدوسي قال: حدثني محمد بن إسماعيل بن صبيح قال: وجه الرشيد إلى جاريته سحر لتصير إليه، فاعتلت عليه ذلك اليوم بعلة، ثم جاءته من الغد، فقال الرشيد:
أيا مــن رد ودي أم س لا أعطيكه اليوما
ولا والله لا أعـطـي ك إلا الصد واللومـا
وإن كان بقلبـي مـن ك حب يمنع النومـا
أيا من سمته الوصـل فأغلى المهر والسوما قال: وفيهن يقول، وقد قيل أن العباس بن الأحنف قالها على لسانه:
ملك الثلاث الآنسات عنانـي وحللن من قلبي بكل مكـان
ما لي تطاوعني البرية كلهـا وأطيعهن وهن في عصياني
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى وبه عززن أعز من سلطاني غنته عريب خفيف ثقيل الأول بالوسطى.
وروى أحمد بن أبي طاهر عن إسحاق فال: وجه الرشيد إلى ذات الخال ليلة وقد مضى شطر الليل، فحضرت، فأخرج إلي جارية كأنها المهاة، فأجلسها في حجره، ثم قال: غنني، فغنته:
جئن من الروم وقـالـيقـلا يرفلن في المرط ولين الملا
مقرطقات بصنوف الحلـى يا حبذا البيض وتلك الحلـى
صفحة : 1861
فاستحسنه وشرب عليه، ثم استؤذن للفضل بن الربيع، فأذن له، فلما دخل قال: ما وراءك في هذا الوقت? قال: كل خير يا أمير المؤمنين، ولكن حرى الساعة لي سبب لم يجز لي كتمانه أمير المؤمنين. قال: وما ذاك? قال: أخرج إلي في هذا الوقت ثلاث جوار لي: مكية، ومدينية، وعراقية. فقبضت المدينية على ذكري، فلما أنعظت وثبت المكية فقعدت عليه، فقالت لها المدينية: ما هذا التعدي? ألم تعلمي أن مالكا حدثنا عن الزهري عن عبد الله بن ظالم، عن سعيد بن زيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحيا أرضا ميتة فهي له فقالت الأخرى: أو لم تعلمي أن سفيان حدثنا، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصيد لمن صاده لا لمن أثاره . فدفعتهما العراقية عنه، ووثبت عليه، وقالت: هدا لي، وفي يدي حتى تصطلحا. فضحك الرشيد، وأمره لحملهن إليه، ففعل، وحظين عنده، وفيهن يقول:
ملك الثلاث الآنسات عناني وحللن من قلبي بكل مكان حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني مهدي بن سابق قال: حججنا مع الرشيد آخر حجة، فكان الناس يتناشدون له في جواريه:
ثلاث قد حللن حمى فـؤادي ويعطين الرغائب من ودادي
نظمت قلوبهن بخيط قلبـي فهن قرابتي حتى التنـادي
لمن يك حل من قلب محـلا فهن مع النواظر والسـواد ومما قاله إبراهيم وغيره في ذات الخال وغنى فيه:
أذات الخال أقصيت محبا بكـم صـبـا
فلا أنسى حياتي مـا عبدت الدهر لي ربا
وقد قلت أنيلـينـي فقالت أفرق الذنبـا الشعر والغناء لإبراهيم، هزج بالوسطى عن عمرو. ومنها:
أذات الخال قـد طـال بمن أسقمته الـوجـع
وليس إلى سواكم في ال لذي يلقى لـه فـزع
أما يمنـعـك الإسـلا م من قتلي ولا الورع
وما ينفـك لـي فـيك هوى تغـتـره خـدع الشعر والغناء لإبراهيم، هزج بالوسطى، عن عمرو. ومنها:
ثعلب يا هذا الكثير العـبـث بالله لما قلت لي عن خنـث
عن ظبية تميس في مشيتهـا أحسن من أبصرته في شعث
فقال: قالت قل له أنت امرؤ موكل فيما ترى بالعـبـث
والله لولا خصلة أرقـبـهـا لقل في الدنيا لما بي لبثـي الشعر لإبراهيم، وله فيه لحنان: أحدهما ثقيل الأول، عن أبي العنبس. والآخر هزج بالبنصر عن عمرو. وفيه لعريب ثقيل أول آخر. وذكر حبش أن فيه لابن جامع هزجا آخر بالوسطى.
وذكر هارون بن الزيات أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه: أن ثعلبا هذا، كان مملوكا لإبراهيم، فقال هذه الأبيات في خنث جارية جزء بن مغول الموصلي، وكانت مغنية محسنه، وخاطب ثعلبا فيها مستخبرا له.
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه: أنه قال في خنث جارية جزء بن مغول الموصلي، وخاطب في شعره غلاما يقال له ثعلب، وكانت خنث مغنية محسنة، وكانت تعرف بذات الخال.
ثعلب يا هذا الكثير الخبث بالله إلا قلت لي عن خنث وذكر الأبيات. قال: وقال له أيضا:
أبد لذات الخـال يا ثـعـلـب قول امرئ في الحب لا يكذب
إني أقول الحق فاستـيقـنـي كل امرئ في حبه يلـعـب الشعر والغناء لإبراهيم، له فيه لحنان: رمل وخفيف ثقيل، عن ابن المكي. ومنها:
جزى الله خيرا من كلفت بـحـبـه وليس به إلا المموه مـن حـبـي
وقالوا: قلوب العاشـقـين رقـيقة فما بال ذات الخال قاسية القلـب?
وقالوا لها هذا محبك مـعـرضـا فقالت: أرى إعراضه أيسر الخطب
فما هـو إلا نـظـرة بـتـبـسـم فتنشسب رجلاه ويسقط للجـنـب ومنها:
إن لم يكن حب ذات الخال عناني إذن فحولت في مسك ابن زيدان
فإن هذي يمين ما حلفـت بـهـا إلا على الحق في سري وإعلاني الشعر والغناء لإبراهيم، هزج بالبنصر. ومنها:
لقد أخلو بذات الـخـا ل والحراس قد هجعوا
صفحة : 1862
فمن يبصر أبا الخطا ب يطلبها ويتـبـع
ألا لم تر محزونـا تسنم صبره الجزع
وقارعني ففزت بها وحازتها لي القرع غناه إبراهيم، من رواية بذل عنه، ولم تذكر طريقته.
قال علي بن محمد الهشامي: حدثني جدي، يعني ابن حمدون، قال: حدثني مخارق قال: كنت عند إبراهيم الموصلي ومعي ابن زيدان صاحب البرامكة، وإبراهيم يلاعبه بالشطرنج، فدخل علينا إسحاق، فقال له أبوه: ما أفدت اليوم? فقال: أعظم فائدة. سألني رجل ما أفخم كلمة في الفم? فقلت: لا إله إلا الله. فقال له أبوه إبراهيم: أخطأت. هلا قلت: دنيا ودينا. فأخذ ابن زيدان الشاه، فضرب به رأس إبراهيم، وقال له: يا زنديق، أتكفر بحضرتي? فأمر إبراهيم غلمانه فضربوا ابن زيدان ضربا شديدا، فانصرف من ساعته إلى جعفر بن يحيى، فحدثه بخبره. قال: وعلم إبراهيم أنه قد أخطأ وجنى، فركب إلى الفضل بن يحيى، فاستجار به، فاستوهبه الفضل من جعفر، فوهبه له، فانصرف وهو يقول:
إن لم يكن حب ذات الخال عنانـي إذا فحولت في مسـك ابـن زيدان
فإن هذي يمين ما حلـفـت بـهـا إلا على الصدق في سري وإعلاني قال: وله في هذين البيتين صنعة، وهي هزج. منها:
من يرحم محـزونـا بذات الخال مفتونـا
أبى فيها فما يسـلـو وكل الناس يسلونـا
فقد أودى به السقـم وقد أصبح مجنونـا
فإن دام علـى هـذا ثوى في اللحد مدفونا الشعر والغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل، عن الهشامي. ومنها:
لذات الخال أرقنـي خيال بات يلثمـنـي
بكى وجرى له دمـع لما بالقلب من حزن
فلا أنساه أو أنـسـى إذا أدرجت في كفني الشعر والغناء لإبراهيم، خفيف رمل بالوسطى، عن الهشامي. ومنها:
هل علمت اليوم يا عـا صم يا خـير خـدين
أن ذات الخال تـأتـي ني على رغم قـرين
لا تلمنـي إن ذات ال خال دنـياي ودينـي
وإلى حفص خلـيلـي ووزيري وأمـينــي
بحت لا أكتمـه شـي ئا من الداء الـدفـين
إن بي من حب ذات ال خال شيئا كالجـنـون فيه لإبراهيم هزج بالوسطى، عن ابن المكي. ومنها:
تقول ذات الـخـال لي: يا خلي البـال
فقلت: حاشاك من أن يكون حالك حالـي
أعرضت عني لمـا أوقعتني في الحبال
إن الخلي هو الغـا فل الذي لا يبالـي لإبراهيم من كتابه عن حبش فيه لحن. وذكر ابن المكي أنه رمل. ومنها:
أما تعلـم ذات الـخـا ل فوق الشفة العـلـيا
بأني لست أهوى غـي رها شيئا من الـدنـيا
وأني عن جمـيع الـن اس إلا عنهم أعـمـى
وأني لو سـقـيت الـد هر من ريقك لا أروى الشعر والغناء لإبراهيم، رمل بالوسطى، عن عمرو وابن المكي وغيرهما. وقد روى أما تعلم يا ذا الخال، وهذا هو الصحيح. ومنها:
يا ليت شعري كيف ذات الخال أم أين تحسب حالها من حالي
هل أنسين منها وضمت مـرة رأسي إليها ثم قالت: مالـي
ألزلة أقصيتني نفسي الـفـدا لك أم أطعت مقالة الـعـذال
والله ما استحسنت شيئا مونقـا ألتذه إلا خطـرت بـبـالـي الشعر والغناء لإبراهيم، وله فيه لحنان: هزج بالأصابع كلها، عن ابن المكي، وثقيل أول بالوسطى، عن حبش. ومنها:
يا ليت شعري والنساء غـوادر خلف العدات وفاؤهن قـلـيل
هل وصل ذات الخال يوما عائد فتزول لوعاتي وحر غليلـي
أم قد تناست عهدنا وأحالـهـا عن ذاك ملك حال دون خليل الشعر والغناء لإبراهيم من كتابه، ثقيل أول بالبنصر، عن إسحاق بن إبراهيم، وابن المكي والهشامي. انقضت أخبارها.
إن من غره النساء بشـيء بعد هند لجاهل مـغـرور
حلوة القول واللسـان ومـر كل شيء أجن منها الضمير
صفحة : 1863
كل أنثى وإن بدا لك منها آية الحب حبها خيتعور الشعر لحجر بن عمرو آكل المرار. والغناء لحنين، ثاني ثقيل بالبنصر، عن الهشامي. وفيه لنبيه ثقيل أول بالوسطى، عن حبش. وفيه رمل له.
نسب حجر بن عمرو
والسبب الذي من أجله قال هذا الشعر
هو حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع، واسمه عمرو بن ثور، وقيل: ابن معاوية بن ثور، وهو كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن ادد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
أخبرني بخبره محمد بن الحسن بن دريد إجازة، قال: حدثني عمي، عن ابن الكلبي، عن أبيه، عن الشرقي بن القطامي قال: أقبل تبع أيام سار إلى العراق، فنزل بأرض معد، فاستعمل عليهم حجر بن عمرو، وهو آكل المرار، فلم يزل ملكا حتى خرف، وله من الولد عمرو ومعاوية وهو الجون. ثم إن زياد بن الهبولة بن عمرو بن عوف بن ضجعم بن حماطة بن سعد بن سليح القضاعي، أغار عليه وهو ملك في ربيعة بن نزار، ومنزله بغمر ذي كندة، وكان قد غزا بربيعة البحرين. فبلغ زيادا غزاته، فأقبل حتى أغار في مملكة حجر، فأخذ مالا كثيرا، وسبى امرأة حجر، وهي هند ابنة ظالم بن وهب، بن الحارث بن معاوية، وأخذ نسوة من نساء بكر بن وائل.
فلما بلغ حجرا وبكر بن وائل مغاره وما أخذ أقبلوا معه، ومعه يومئذ أشراف بكر بن وائل، منهم عوف بن محلم بن ذهل بن شيبان، وصليع بن عبد غنم بن ذهل بن شيبان، وسدوس بن شيبان بن ذهل، وضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وعامر بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة. فتعجل عمرو بن معاوية وعوف بن محلم، قالا لحجر: إنا متعجلان إلى الرجل، لعلنا نأخذ منه بعض ما أصاب منا. فلقياه دون عين أباغ، فكلمه عوف بن محلم، وقال: يا خير الفتيان، اردد علي ما أخذته مني. فأعطاه إياه. وكلمة عمرو بن معاوية في فحل إبله، فقال: خذه، فأخذه عمرو؛ وكان قويا. فجعل الفحل ينزع إلى الإبل، فاعتقله عمرو، فصرعه. فقال له ابن الهبولة: أما والله يا بني شيبان، لو كنتم تعتقلون الرجال كما تعتقلون الإبل لكنتم أنتم أنتم. فقال عمرو: أما والله لقد وهبت قليلا، وشتمت جليلا. ولقد جررت على نفسك شرا، ولتجدني عند ما ساءك. ثم ركض حتى صار إلى حجر، فأخبره الخبر.
صفحة : 1864
فأقبل حجر في أصحابه، حتى إذا كان بمكان يقال له الحفير ، بالبر، وهو دون عين أباغ، بعث سدوسا وصليعا يتجسسان له الخبر، ويعلمان له علم العسكر. فخرجا حتى هجما على عسكره، وقد أوقد نارا، ونادى مناد له: من جاء بحزمة من حطب فله فدرة من تمر. وكان ابن الهبولة قد أصاب في عسكر حجر تمرا كثيرا، فضرب قبابه، وأجج ناره، ونثر التمر بين يديه، فمن جاء بحطب أعطاه تمرا. فاحتطب سدوس وصليع، ثم أتيا به ابن الهبولة، فطرحاه بين يديه، فناولهما من التمر، وجلسا قريبا من القبة. فأما صليع فقال: هذه آية وعلم ما يريد، فانصرف إلى حجر، فأعلمه بعسكره، وأراه التمر. وأما سدوس فقال: لا أبرح حتى آتيه بأمر جلي. فلما ذهب هزيع من الليل أقبل ناس من أصحابه يحرسونه، وقد تفرق أهل العسكر في كل ناحية، فضرب سدوس بيده إلى جليس له، فقال له: من أنت? مخافة أن يستنكر. فقال: أنا فلان ابن فلان. قال: نعم. ودنا سدوس من القبة، فكان حيث يسمع الكلام، فدنا ابن الهبولة من هند امرأة حجر، فقبلها وداعبها، ثم قال لها فيما يقول: ما ظنك الآن بحجر لو علم بمكاني منك? قالت: ظني به والله أنه لن يدع طلبك حتى يطالع القصور الحمر، وكأني أنظر إليه في فوارس من بني شيبان يذمرهم ويدمرونه، وهو شديد الكلب، سريع الطلب، يزبد شدقاه كأنه بعير آكل مرار. فسمى حجر آكل المرار يومئذ. قال: فرفع يده فلطمها. ثم قال: ما قلت هذا إلا من عجبك به، وحبك له. فقالت: والله ما أبغضت ذا نسمة قط بغضي له، ولا رأيت رجلا قط أحزم منه نائما ومستيقظا، إن كان لتنام عيناه وبعض أعضائه حي لا ينام، وكان إذا أراد النوم أمرني أن أجعل عنده عسا مملوءا لبنا، فبينا هو ذات ليلة نائم وأنا قريبة منه أنظر إليه، إذ أقبل أسود سالخ إلى رأسه، فنحى رأسه، فمال إلى يديه، وإحداهما مقبوضة، والأخرى مبسوطة، فأهوى إليها فقبضها، فمال إلى رجليه وقد قبض واحدة، وبسط الأخرى، فأهوى إليها، فقبضها، فمال إلى العس: شربه ثم مجه، فقلت: يستيقظ فيشرب فيموت، فأستريح منه. فانتبه من نومه، فقال: علي بالإناء، فناولته، فشمه فاضطربت يداه، حتى سقط الإناء فأهريق. وذلك كله باذن سدوس. فلما نامت الأحراس خرج يسري ليلته، حتى صبح حجرا. فقال:
أتاك المرجفون برجم غيب على دهش وجئتك باليقين
فمن يك قدأتاك بأمرلبـس فقد آتي بأمر مستـبـين ثم قص عليه جميع ماسمع.
فأسف ونادى في الناس: الرحيل. فساروا حتى انتهوا إلى عسكر ابن الهبولة، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم أصحاب ابن الهبولة، وعرفه سدوس، فحمل عليه، فاعتنقه وصرعه فقتله. وبصر به عمرو بن معاوية، فشد عليه، فأخذ رأسه منه، وأخذ سدوس سلبه، وأخذ حجر هندا فربطها بين فرسين، ثم ركضا بها حتى قطعاها قطعا.
هذه رواية ابن الكلبي.
وأما أبو عبيدة فإنه ذكر أن ابن الهبولة لما غنم عسكر حجر، غنم مع ذلك زوجته هند بنت ظالم، وأم أناس بنت عوف بن محلم الشيباني، وهي أم الحارث بن حجر وهند بنت حجر، ولابنها الحارث ابن يقال له عمرو، وله يقول بشر بن أبي خازم:
فإلى ابن أم أناس أعمل ناقتـي عمرو فتنجح حاجتي أم ترجف
ملك إذا نزل الوفود بـبـابـه غرفوا غوارب مزبد ما ينزف قال: وبنتها هند هي التي تزوجها المنذر بن ماء السماء اللخمي. قال: وكان ابن الهبولة بعد أن غنم يسوق ما معه من السبايا والنعم، ويتصيد في المسير، ولا يمر بواد إلا أقام به يوما أو يومين، حتى أتى على ضرية، فوجدها معشبة، فأعجبته، فأقام بها أياما. وقالت له أم أناس: إني لأرى ذات ودك، وسوء درك، كأني قد نظرت إلى رجل أسود أدلم، كأن مشافره مشافر بعير آكل مرار قد أخذ برقبته، فسمى حجر آكل المرار بذلك. وذكر باقي القصة نحو ما مضى.
وقال في خبر ابن الهبولة: إن سدوسا أسره، وإن عمرو بن معاوية لما رآه معه حسده، فطعنه فقتله: فغضب سدوس لذلك، وقال: قتلت أسيري وديته دية الملوك. وتحاكما إلى حجر، فحكم لسدوس على عمرو وقومه بدية ملك؛ وأعانهم في ذلك بماله. وقال سدوس في ذلك يعاتب بني شيبان:
مابعدكم عيش ولامعـكـم عيش لذي ألف ولاحسب
لولا بنو ذهل وجمع بنـي قيس وما جمعت من نشب
صفحة : 1865
ما سمتموني خطة غبنـا وعلى ضرية رمتم غلبي قال: وقد روي أن حجرا ليس بآكل المرار، وإنما أبوه الحارث آكل المرار. وروي أيضا أنه إنما سمي آكل المرار لأن سدوسا لما أتاه بخبر ابن الهبولة ومداعبته لهند، وأن رأسه كان في حجرها، وحدثه بقولها وقوله، فجعل يسمع ذلك وهو يعبث بالمرار، وهو نبت شديد المرارة، وكان جالسا في موضع فيه منه شيء كثير، فجعل يأكل من ذلك المرار غضبا وهو يسمع من سدوس ولا يعلم أنه يأكله من شدة الغضب، حتى انتهى سدوس إلى آخر الحديث، فعلم حينئذ بذلك، ووجد طعمه، فسمي يومئذ آكل المرار.
قال ابن الكلبي: وقال حجر في هند:
لمن النار أوقدت بحـفـير لم تنم عند مصطل مقرور
أوقدتها إحدى الهنود وقالت أنت ذا موثق وثاق الأسير
إن من غره النساء بشـيء بعد هند لجاهل مغـرور وبعده باقي الأبيات المذكورة متقدما وفيها الغناء.
طرب الفؤاد وعاودت أحزانه وتفرقت فرقا به أشـجـانـه
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى برق تألق موهنا لمـعـانـه
يبدو كحاشية الـرداء ودونـه صعب الذرى متمنع أركانـه
فالنارما اشتملت عليه ضلوعه والماء ما جادت به أجفـانـه الشعر لمحمد بن صالح العلوي. والغناء لرذاذ، ويقال إنه لبنان. خفيف ثقيل. وفيه ثقيل أول. يقال إنه لأبي العنبس، ويقال إنه للقاسم بن زرزور. وفيه لعمرو الميداني رمل طنبوري؛ وهو لحن مشهور.
أخبار محمد بن صالح العلوي ونسبه
هو محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب. ويكنى أبا عبد الله، شاعر حجازي ظريف، صالح الشعر، من شعراء أهل بيته المتقدمين. وكان جده موسى بن عبد الله أخا محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن الحجازيين الخارجين في أيام المنصور، أمهم جميعا هند بنت أبي عبيدة.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء الطوسي قالا: حدثنا الزبير بن بكار، وأخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال: حدثنا يحيى بن الحسن العلوي. قال: حدثني الزبير بن بكار: أن هندا حملت بموسى بن عبد الله ولها ستون سنة. قال: ولا تحمل لستين إلا قرشية، ولا تحمل لخمسين إلا عربية. قال: وكان موسى آدم شديد الأدمة، وله تقول أمه هند:
إنك أن تكون جونا أنـزعـا أجدر أن تضرهم وتنفـعـا
وتسلك العيش طريقا مهيعـا فردا من الأصحاب أو مشيعا وكان موسى أستتر بعد قتل أخويه زمانا، ثم ظفر به أبو جعفر، فضربه بالسوط، وحبسه مدة، ثم عفا عنه وأطلقه. وله أخبار كثيرة ليس هذا موضعها.
وكان محمد بن صالح خرج على المتوكل مع من بيض في تلك السنة، فظفر به وبجماعة من أهل بيته أبو الساج، فأخذهم وقيدهم، وقتل بعضهم، وأخرب سويقة، وهي منزل للحسنيين، ومن جملة صدقات أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، وقعر بها نخلا كثيرا، وحرق منازل لهم بها، وأثر فيهم وفيها أثارا قبيحة، وحمل محمد بن صالح فيمن حمل منهم إلى سر من رأى، فحبس ثلاث سنين، ثم مدح المتوكل، فأنشده الفتح قصيدته بعد أن غني في شعره المذكور، فطرب، وسأل عن قائله فعرفه، وتلا ذلك إنشاد الفتح قصيدته، فأمر بإطلاقه.
وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال: أنكر موسى بن عبد الله بن موسى على ابن أخيه محمد بن صالح بن عبد الله بن موسى، بعض ما ينكره العمومة على بني أخيهم، في شيء من أمور السلطان، وكان محمد بن صالح قد خرج بسويقة، فصار أبو الساج إلى سويقة، فأسلمه عمه موسى وبنوه بعد أن أعطاه أبو الساج الأمان، فطرح سلاحه، ونزل إليه فقيده، وحمله إلى سر من رأى، فلم يزل محبوسا بها ثلاث سنين، ثم أطلق، وأقام بها إلى أن مات. وكان سبب موته أنه جدر، فمات في الجدري، وهو الذي يقول في الحبس:
طرب الفؤاد وعاودت أحزانه وتشعبت شعبا به أشـجـانـه
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى برق تألق مؤهنا لمـعـانـه
يبدو كحاشية الـرداء ودونـه صعب الدرا متمنع أركـانـه
صفحة : 1866
فدنا لينظر كيف لاح فلم يطـق نظـرا إلـيه ورده سـجـانـه
فالنار ما اشتملت عليه ضلوعـه والماء ماسحت به أجـفـانـه
ثم استعاذ مـن الـقـبـيح ورده نحو العزاء عن الصبا إيقـانـه
وبدا لـه أن الـذي قـد نـالـه ما كـان قـدره لـه ديانــه
حتى اطمأن ضميره وكـأنـمـا هتك العلائق عامل وسـنـانـه
يا قلب لا يذهب بحلمك بـاخـل بالنيل بـاذل تـافـه مـنـانـه
يعد القضاء وليس ينجز موعـدا ويكون قبل قـضـائه لـيانـه
خدل الشوى حسن القوام مخصر عذب لـمـاه طـيب أردانـه
وأقنع بما قسم الإلـه فـأمـره ما لا يزال على الفتى إتـيانـه
والبؤس ماض ما يدوم كما مضى عصر النعيم وزال عنك أوانـه أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: كنت مع أبي عبد الله محمد بن صالح في منزل بعض إخواننا، فأقمنا إلى أن أنتصف الليل، وأنا أرى أنه يبيت، فإذا هو قد قام، فتقلد سيفه، وخرج، فأشفقت عليه من خروجه في ذلك الوقت، وسألته المقام والمبيت، وأعلمته خوفي عليه، فألتفت إلي مبتسما وقال:
إذا ما اشتملت السيف والليل لم أهل لشيء ولم تقرع فؤادي القـوارع أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: مر محمد بن صالح بقبر لبعض ولد المتوكل، فرأى الجواري يلطمن عنده، فأنشدني لنفسه:
رأيت بسامرا صبيحة جـمـعة عيونا يروق الناظرين فتورهـا
تزور العظام الباليات لدى الثرى تجاوز عن تلك العظام غفورها
فلولا قضاء الله أن تعمر الثرى إلى أن ينادي يوم ينفخ صورها
لقلت عساها أن تعيش وأنـهـا ستنشر من جراعيون تزورهـا
أسيلات مجرى الدامع إما تهللت شؤون المآقي ثم سح مطيرهـا
بوبل كأتوام الجمـان يفـيضـه على نحرها أنفاسها وزفيرهـا
فيا رحمة ما قد رحمت بواكيها ثقالا تواليها لطافا خصورهـا أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني إبارهيم بن المدبر قال: جاءني محمد بن صالح الحسني، فسألني أن أخطب عليه بنت موسى بن أبي خالد الحري،? أو أخته حمدونة ففعلت ذلك، وصرت إلى عيسى فسألته أن يجيبه، فأبى، وقال لي: لا أكذبك، والله ما أرده لأني لا أعرف أشرف وأشهر منه لمن يصاهره، ولكني أخاف المتوكل وولده عبده على نعمتي ونفسي، فرجعت إليه، فأخبرته بذلك، فأضرب عن ذلك مدة، ثم عاودني بعد ذلك، وسألني معاودته ورفقت به، حتى أجاب فزوجه أخته، فأنشدني بعد ذلك:
خطب إلى عيسى بن موسى فردني فلله وإلى حـرة وعـلـيقـهـا
لقد ردني عيسى ويعـلـم أنـنـي سليل بنات المصطفى وعريقهـا
وإن لنـا عـبـد الـولادة نـبـعة نبي الإله صنوها وشـقـيقـهـا
فلما أبى بخلا بهـا وتـمـنـعـا وصيرني ذا خـلة لا يطـيقـهـا
سمي خلـيل الـلـه وابـن ولـيه وحمال أعباء العلا وطـريقـهـا
ويا نعمة لابن المدبـر عـنـدنـا يجد على كر الزمـان أنـيقـهـا قال ابن مهرويه: قال لي إبراهيم بن المدبر فلما نقلت حمدونة إليه شغف بها، وكانت امرأة جميلة عاقلة، فأنشدني لنفسه فيها:
لعمر حـمـدونة إنـي بـهـا لمغرم القلب طويل السـقـام
مجاوز للقدر فـي حـبـهـا مباين فيهـا لأهـل الـمـلام
مطرح للعذل مـاض عـلـى مخافة النفس وهول المـقـام
مشايعي قلب يخاف الـخـنـا وصارم يقطع صم العـظـام
جشمني ذلـك وجـدي بـهـا وفضلها بين النساء الـوسـام
ممـكـورة الـسـاق ردينـية مع الشوى الخدل وحسن القوام
صامتة الحجل خفوق الحـشـا مائرة الساق ثـقـال الـقـيام
صفحة : 1867
ساجية الطرف نئوم الضحى منيرة الوجه كبرق الغمام
زينها الله ومـا شـانـهـا وأعطيت منيتها من تمـام
تلك التي لولا غرامي بهـا كنت بسامرا قليل المقـام هكذا روى ابن مهرويه عن ابن المدبر، في خبر محمد بن صالح وتزويجه حمدونة.
وحدتني عمي عن أبي جعفر بن الدهقانة النديم قال: حدثني إبراهيم بن المدبر قال: جاءني يوما محمد بن صالح الحسني العلوي بعد أن أطلق من الحبس، فقال لي: إني أريد المقام عندك اليوم على خلوة، لأبثك من أمري شيئا لا يصلح أن يسمعه غيرنا. فقلت: أفعل. فصرفت من كان بحضرتي، وخلوت معه، وأمرت برد دابته، وأخذ ثيابه؛ فلما اطمأن وأكلنا واضطجعنا، قال لي: أعلمك أني خرجت في سنة كذا وكذا ومعي أصحابي على القافلة الفلانية، فقاتلنا من كان فيها، فهزمناهم وملكنا القافلة، فبينا أنا أحوزها وأنيخ الجمال، إذ طلعت علي امرأة من العمارية، ما رأيت قط أحسن منها وجها، ولا أحلى منطقا، فقالت: يا فتى، إن رأيت أن تدعو لي بالشريف المتولي أمر هذا الجيش، فقلت: وقد رأيته وسمع كلامك. فقالت: سألتك بحق الله وحق رسوله صلى الله عليه وسلم أنت هو? فقلت: نعم وحق الله وحق رسوله إني لهو. فقالت: أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحري، ولأبي محل من سلطانه، ولنا نعمة، إن كنت ممن سمع بها فقد كفاك ما سمعت، وإن كنت لم تسمع بها فسل عنها غيري، ووالله لا استأثرت عنك بشيء أملكه، ولك بذلك عهد الله وميثاقه علي، وما أسألك إلا أن تصونني وتسترني، وهذه ألف دينار معي لنفقتي، فخذها حلالا، وهذا حلي علي من خمس مئة دينار، فخذه وضمني ما شئت بعده، آخذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم، فليس منهم أحد يمنعني شيئا أطلبه، وادفع عني، واحمني من أصحابك، ومن عار يلحقني. فوقع قولها من قلبي موقعا عظيما؛ فقلت لها: قد وهب الله لك مالك وجاهك وحالك، ووهب لك القافلة بجميع ما فيها. ثم خرجت فناديت في أصحابي، فاجتمعوا، فناديت فيهم: إني قد أجرت هذه القافلة وأهلها، وخفرتها وحميتها، ولها ذمة الله وذمة رسوله وذمتي، فمن أخذ منها خيطا أو عقالا فقد أذنته بحرب. فانصرفوا معي، وانصرفت.
فلما أخذت وحبست، بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجان وقال لي: إن بالباب امرأتين تزعمان أنهما من أهلك، وقد حظر علي أن يدخل عليك أحد، إلا أنهما أعطتاني دملج ذهب، وجعلتاه لي إن أوصلتهما إليك، وقد أذنت لهما، وهما في الدهليز، فاخرج إليهما إن شئت. ففكرت فيمن يجيئني في هذا البلد وأنا به غريب، لا أعرف أحدا، ثم قلت: لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي، فخرجت إليهما، فإذا بصاحبتي، فلما رأتني بكت لما رأت من تغير خلقي، وثقل حديدي، فأقبلت عليها الأخرى فقالت: أهو هو? فقالت: إي والله، إنه لهو هو، ثم أقبلت علي فقالت: فداك أبي وأمي، والله لو استطعت أن أقيك مما أنت فيه بنفسي وأهلي لفعلت، وكنت بذلك مني حقيقا، ووالله لا تركت المعاونة لك، والسعي في حاجتك، وخلاصك بكل حيلة ومال وشفاعة، وهذه دنانير وثياب وطيب، فاستعن بها على موضعك، ورسولي يأتيك في كل يوم بما يصلحك، حتى يفرج الله عنك. ثم أخرجت إلي كسوة وطيبا ومائتي دينار، وكان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف، وتواصل برها بالسجان، فلا يمتنع من كل شيء أريده.
فمن الله بخلاصي، ثم راسلتها فخطبتها، فقالت: أما من جهتي فأنا لك متابعة مطيعة، والأمر إلى أبي، فأتيته، فخطبتها إليه، فردني، وقال: ما كنت لأحقق عليها ما قد شاع في الناس عنك في أمرها، وقد صيرتها فضيحة، فقمت من عنده منكسا مستحيا، وقلت له في ذلك:
رموني وإياها بشنعاء هم بها أحق أدال الله منهم فعجـلا
بأمر تركناه ورب محـمـد عيانا فإما عفة أو تجمـلا فقلت له: إن عيسى صنيعة أخي، وهو لي مطيع، وأنا أكفيك أمره.
فلما كان من الغد لقيت عيسى في منزله، وقلت له: قد جئتك في حاجة لي? فقال: مقضية، ولو كنت استعملت ما أحبه لأمرتني فجئتك، وكان أسر إلي. فقلت له: قد جئتك خاطبا إليك ابنتك. فقال: هي لك أمة، وأنا لك عبد، وقد أجبتك. فقلت: إني خطبتها على من هو خير مني أبا
صفحة : 1868
وأما، وأشرف لك صهرا ومتصلا، محمد بن صالح العلوي. فقال لي: يا سيدي، هذا رجل قد لحقتنا بسببه ظنة، وقيلت فينا أقوال. فقلت: أفليست باطلة? قال: بلى، والحمد لله. قلت: فكأنها لم تقل، وإذا وقع النكاح زال كل قول وتشنيع، ولم أزل أرفق به حتى أجاب، وبعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته، وما برحت حتى زوجته، وسقت الصداق عنه.
قال أبو الفرج الأصبهاني: وقد مدح محمد بن صالح إبراهيم بن المدبر مدائح كثيرة، لما أولاه من هذا الفعل، ولصداقة كانت بينهما، فمن جيد ما قاله فيه قوله:
أتخبر عنهم الدمن الدثور وقد ينبي إذا سئل الخبير
وكيف تبين الأنبـاء دار تعاقبها الشمائل والدبور يقول فيها في مدحه:
فهلا في الذي أولاك عرفـا تسدي من مقالك ما تـنـير
ثناء غير مختلـق ومـدحـا مع الركبان يتجد أو يغـور
أخ واساك في كلب الليالـي وقد خذل الأقارب والنصير
حفاظا حين أسلمك الموالـي وضن بنفسه الرجل الصبور
فإن تشكر فقد أولى جمـيلا وإن تكفر فإنك للكـفـور
وما في آل خاقان اعتصـام إذا ما عمم الخطب الكبـير
لئام الناس إثـراء وفـقـرا وأعجزهم إذاحمى القتـير
قويم لايزوجـهـم كــريم ولا تسنى لنسوتهم مـهـور وانما ذكر آل خاقان ههنا لأن عبيد الله بن يحيى قصر به وتحامل عليه، وكان يقول ما يكره، ويؤكد ما يوجب حبسه، وكا فيه وفي ولده نضب شديد.
ولمحمد بن صالح في آل المدبر مدائح كثيرة، لا معنى لذكرها في هذا الكتاب.
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال: حدثني عبد الله بن طالب الكاتب قال: كان محمد بن صالح العلوي حلو اللسان، ظريفا أديبا، فكان بسر من رأى مخالطا لسراة الناس، ووجوه أهل البلد، وكان لا يكاد يفارق سعيد بن حميد، وكانا يتقارضان الأشعار، ويتكاتبان بها. وفي سعيد يقول محمد بن صالح العلوي:
أصاحب من صاحبت ثمت أنثنـي إليك أبا عثمان عطشان صـاديا
أبى القلب أن يزوى بهم وهو حائم إليك وإن كانوا الفروع العوالـيا
ولكن إذا جئناك لم نبغ مشـربـا سواك وروينا العظام الصمـواديا قال عبد الله بن طالب: وكان بعض بني هاشم دعاه، فمض إليه، وكتب سعيد إليه يسأله المصير إليه، فأخبر بموضعه عند الهاشمي، فلما عاد عرف خبر سعيد وإرساله إليه، فكتب إليه بهذه الأبيات.
قال عبد الله: وشرب يوما هو وسعيد بن حميد، فسكر محمد بن صالح قبله، فقام لينصرف، والتفت إلى سعيد وقال له:
لعمرك إنني لما افترقنـا أخو ضن بخلصاني سعيد
تبقته المدام وأزعجتـنـي إلى رحلي بتعجل الورود قال: وتوفى محمد بن صالح بسر من رأى، وكان يجهد في أن يؤذن له في الرجوع إلى الحجاز، فلا يجاب إلىذلك، فقال سعيد يرثيه:
بأي يد أسطو على الدهر بعـدمـا أبان يدي عضب الدنابين قاضـب
وهاض جناحي حادث جل خطبـه وسدت عن الصبرالجميل المذاهب
ومن عادة الأيام أن صـروفـهـا إذا سر منها جانب ساء جـانـب
لعمري لقد غال التجـلـد أنـنـا فقدناك فقد الغيث والعام جـادب
فمـا أعـرف الأيام إلا ذمــيمة ولا الدهر إلا وهو بالثأر طالـب
ولا لي من الإخوان إلا مكـاشـر فوجه له راض ووجه مغاضـب
فقدت فتى قد كان لـلأرض زينة كما زينت وجه السماء الكواكـب
لعمري لئن كان الردى بك فاتنـي وكل امرىء يوما إلى الله ذاهـب
لقد أخذت مني النوانب حكمـهـا فما تركت حقا علـي الـنـوائب
ولا تركتني أرهب الدهـربـعـده لقد كل عني نابه والمـخـالـب
سقى جدثا أمسى الكريم ابن صالح يحل به دان من المزن سـاكـب
إذا بشر الرواد بالغـيث بـرقـه مرته الصبا واستحلبته الجـنـائب
فغادر باقي الدهر تأثير صـوبـه ربيعا زهت منه الربا والمذانـب
صفحة : 1869
أخبرني أحمد بن جعفر جخظة قال: حذثني المبرد قال: لم يزل محمد بن صالح محبوسا حتى توصل بنان له، بأن غنى بين يدي المتوكل في شعره:
وبدا له من بعد ما اندمل الهوى برق تألق موهنا لمـعـانـه فاستحسن المتوكل الشعر واللحن، وسأل عن قائله، فأخبر به، وكلم في أمره، وأحسنت الجماعة رقده، وقام الفتح بأمره قياما تاما. فأمر بإطلاقه من حبسه، على أن يكون عند الفتح وفي يده، حتى يقيم كفيلا بنفسه ألا يبرح من سر من رأى، فأطلق، وأخذ عليه الفتح الأيمان الموثقة ألا يبرح من سر من رأى إلا بإذنه، ثم أطلقه.
ولمحمد بن صالح في المتوكل والمنتصر مدائح جياد كثيرة، منها قوله في المتوكل:
ألف التقى ووفى بنذر الـنـاذر وأبى الوقوف على المحل الداثر
ولقد تهيج له الـديار صـبـابة حينا وتكلف بالخليط الـسـائر
فرأى الهـداية أن أنـاب وأنـه قصر المديح على الإمام العاشر
يا بن الخلائف والذين بهـديهـم ظهر الوفاء وبان غدر الغـادر
وابن الذين حووا تراث محـمـد دون الأقارب بالنصيب الوافـر
نطق الكتاب لكم بذاك مصـدقـا ومضت به سنن النبي الطاهـر
ووصلت أسبساب الخلافة بالهدى إذ نلتها وأنمت عين السـاهـر
أحييت سنة من مضى فتجـددت وأبنت بدعة ذي الضلال الخاسر
فافخر بنفسك أو بجدك معلـنـا أو دع فقد جاوزت فخر الفاخر
ما للمكارم غـيركـم مـن أول بعد النبي وما لهـا مـن اخـر
إني دعوتك فاستجبت لدعـوتـي والموت مني قيد شبر الشابـر
فانتشتني من قعر موردة الردى أمنا ولم تسمع مقـالة زاجـر
وفككت أسري والبلاء مـوكـل وجبرت كسرا ما له من جابـر
وعطفت بالرحم التي ترجو بهـا قرب المحل من المليك القـادر
وأنا أعوذ بفضل عفوك أن أرى غرضا ببابك للملم الـفـاقـر
أو أن أضيع بعدما أنقـذتـنـي من ريب مهلكة وجد عـاثـر
ولقد مننت فكنت غير مـكـدر ولقد نهضت بها نهوض الشاكر أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، ومحمد بن خلف وكيع قالا: حدثنا الفضل بن سعيد بن أبي حرب قال: حدثني أبو عبد الله الجهني قال: دخلت على محمد بن صالح الحسني في حبس المتوكل، فأنشدني لنفسه يهجو أبا الساج:
ألم يحزنك يا ذلـفـاء أنـي سكنت مساكن الأموات حيا
وأن حمائلي ونجاد سـيفـي علون مجدعا أشروسـنـيا
فقصرهن لما طلن حتى اس توين عليه لا أمسى سـويا
أما والراقصات بذات عرق تريد البيت تحسبها قـسـيا
لو أمكنني غـداتـئذ جـلاد لألفوني به سمحا سـخـيا قال ابن عمار: وأنشدني عبيد الله بن طاهر أبو محمد لمحمد بن صالح أيضا:
نظرت ودوني ماء دجله موهـنـا بمطروفة الإنسان محسورة جـدا
لتؤنس لي نارا بـلـيل تـوقـدت وتالله ماكلفتها نـظـرا قـصـدا
فلو أنها منها لمقلـت كـأنـنـي أرى النار قد أمست تضيء لناهندا
تضيء لنا منها جبينا ومـحـجـرا ومبتسما عذبا وذا غـدر جـعـدا انقضت أخباره.
ياعديا لقلبك الـمـهـتـاج أن عفا رسم منزل بالنبـاج
غيرته الصبا وكـل مـلـث دائم الودق ذي أهاضيب داج
وحملنا غلامنا ثـم قـلـنـا هاجر العيس ليس منك بناج
فانتحى مثل ما انتحى بازدجن جوعته القناص لـلـدراج الشعر لأبي دواد الإيادي. والغناء لحنين، ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها، عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أنه لابن عائشة. وفيه لعريب هزج. وفيه ثقيل أول، ينسب إلى يزيد الحذاء، وإلى أحمد النصيبي.
ذكر أخبار أبي دواد الإيلدي ونسبه
صفحة : 1870
هو فيما ذكر يعقوب بن السكيت: جارية بن الحجاج. وكان الحجاج يلقب حمران بن بحر بن عصام بن منبه بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار بن معد. وقال ابن حبيب هو جارية بن الحجاج أحد بني برد بن دعمي بن إياد بن نزار. شاعر قديم من شعراء الجاهلية، وكان وصافا للخيل، وأكثر أشعاره في وصفها، وله في غير وصفها تصرف بين مدح وفخر وغير ذلك، إلا أن شعره في وصف الفرس كثر.
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال: حدثني الهيثم بن عدي وابن الكلبي، عن أبيه، والشر قي: أن أبا دواد الإيادي مدح الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، فأعطاه عطايا كثيرة، ثم مات ابن لأبي دواد وهو في جواره فوداه، فمدحه أبو دواد، فحلف له الحارث أنه لا يموت له ولد إلا وداه، ولا يذهب له مال إلا أخلفه، فضربت العرب المثل بجار أبي دواد، وفيه يقول قيس بن زهير:
أطوف ما أطوف ثم آوي إلى جار كجار أبي دواد هذه رواية هؤلاء؛ وأبو عبيدة يخالف ذلك.
أخبرني ابن دريد قال: أخبرني أبو حاتم، عن أبي عبيدة قال: جاور أبو دواد الإيادي كعب بن مامة الإيادي، فكان إذا هلك له بعير أو شاة أخلفها، وفيه يقول طرفة يمدح عمرو بن هند:
جار كجار الحذاقي الذي انتصفا وكان لأبي دواد ابن يقال له دواد شاعر، وهو الذي يقول يرثي أباه:
فبات فينا وأمسى تحـت هـائرة ما بعد يومك من ممسى وإصباح
لا يدفع السـقـم إلا أن نـفـديه ولو ملكنا مسكنا السقم بالـراح أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح قال: أخبرنا أبو المنذر، عن أبيه قال: تزوج أبو دواد امرأة من قومه، فولدت له دوادا ثم ماتت، ثم تزوج أخرى، فأولعت بدواد، وأمرت أباه أن يجفوه ويبعده، وكان يحبها، فلما أكثرت عليه قالت: أخرجه عني، فخرج به وقد أردفه خلفه، إلى أن انتهى إلى أرض جرداء ليس فيها شيء، فألقى سوطه متعمدا، وقال: أي دواد، انزل فناولني سوطي. فنزل، فدفع بعيره وناداه:
أدواد إن الأمر أصبح ما ترى فانظر دواد لأي أرض تعمد? فقال له دواد: على رسلك. فوقف له فناداه:
وبأي ظنك أن أقيم ببلـدة جرداء ليس بغيرها متلدد فرجع إليه وقال له: أنت والله ابني حقا، ثم رده إلى منزله، وطلق امرأته.
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن أبي عمرو الشيباني قال: كانت لأبي دواد امرأة يقال لها أم حبتر، وفيها يقول:
في ثلاثين ذعذعتها حقـوق أصبحت أم حبتر تشكونـي
زعمت لي بأنني أفسد المـا ل وأزويه عن قضاء ديوني
املت أن أكون عبد المالـي وتهنا بنافع المـال دونـي وهي طويلة. قال: ولها يقول وقد عاتبته على سماحته بماله فلم يعتبها ، فصرمته:
حاولت حين صرمتنـي والمرء يعجز لا محاله
والدهر يلعب بالفـتـى والدهر أروغ من ثعاله
والمرء يكسـب مـالـه والشح يورثه الكـلالـه
والعبد يقرع بالـعـصـا والحر تكفيه المقـالـه
والسكت خير للـفـتـى فالحين من بعض المقاله أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال: حدثني أبي عن إسحاق، عن الأصمعي قال: ثلاثة كانوا يصفون الخيل، لا يقاربهم أحد: طفيل، وأبو دواد، والجعدي. فأما أبو دواد فإنه كان على خيل المنذر بن النعمان بن المنذر . وأما طفيل فإنه كان يركبها وهو أغرل إلى أن كبر. وأما الجعدي فإنه سمع ذكرها من أشعار الشعراء ، فأخذ عنهم.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني أبو حاتم، عن أبي عبيدة قال: دواد أوصف الناس للفرس في الجاهلية والإسلام، وبعده طفيل الغنوي والنابغة الجعدي.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن ابن الأعرابي قال: لم يصف أحد قط الخيل إلا احتاج إلى أبي دواد، ولا وصف الخمر إلا أحتاج إلى أوس بن حجر، ولا وصف أحد نعامة إلا احتاج إلى علقمة بن عبدة، ولا اعتذر أحد في شعره إلا أحتاج إلى النابغة الذبياني.
صفحة : 1871
أخبرني عمي قال: حدثني جعفر بن محمد العاصمي قال: حدثنا عيينة بن المنهال قال: حدثنا شداد بن عبيد الله قال: حدثني عبيد الله بن الحر العنزي القاضي، عن أبي عرادة قال: كان علي صلوات الله عليه يفطر الناس في شهر رمضان، فإذا فرغ من العشاء تكلم، فأقل وأوجز، فأبلغ. فاختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس، فقال علي عليه السلام لأبي الأسود الدؤلي: قل يا أبا الأسود. فقال أبو الأسود، وكان يتعصب لأبي دواد الإيادي: أشعرهم الذي يقول:
ولقد أغتدي يدافع ركـنـي أحوذي ذو ميعة إضـريج
مخلط مزيل مكر مـفـر منفح مطرح سبوح خروج
سلهب شرجب كأن رماحـا حملته وفي السراة دمـوج وكان لأبي الأسود رأي في أبي دواد، فأقبل علي على الناس، فقال: كل شعرائكم محسن، ولو جمعهم زمان واحد، وغاية واحدة، ومذهب واحد في القول، لعلمنا أيهم أسبق إلى ذلك، وكلهم قد أصاب الذي أراد، وأحسن فيه، وإن يكن أحد فضلهم، فالذي لم يقل رغبة ولا رهبة امرؤ القيس بن حجر، فإنه كان أصحهم بادرة، وأجودهم نادرة.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى، عن أبيه عن إسحاق، عن الأصمعي قال: كانت الرواة لا تروي شعر أبي دواد ولا عدي بن زيد، لمخالفتها مذاهب الشعراء، قال: وكان أبو داود على خيل المنذر بن ماء السماء فأكثر وصفه للخيل.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني ابن أبي الهيذام قال: اسم أبي دواد الإيادي جويرية بن الحجاج. وكانت له ناقة يقال لها الزباء، فكانت بنو إياد يتبركون بها. فلما أصابتهم السنة تفرقوا ثلاث فرق، فرقة سلكت في البحر فهلكت، وفرقة قصدت اليمن فسلمت، وفرقة قصدت أرض بكر بن وائل، فنزلوا على الحارث بن همام.
وكان السبب في ذلك أنهم أرسلوا الزباء، وقالوا إنها ناقة ميمونة، فخلوها، فحيث توجهت فاتبعوها. وكذلك كانوا يفعلون إذا أرادوا نجعة. فخرجت تخوض العرب، حتى بركت بفناء الحارث بن همام، وكان أكرم الناس جوارا، وهو جار أبي دواد المضروب به المثل. فقال أبو دواد يمدح الحارث، ويذكر ناقته الزباء:
فإلى ابن همام بن مرة أصعدت ظعن الخليط بهم فقل زيالهـا
أنعمت نعمة ماجـد ذي مـنة نصبت عليه من العلا أظلالها
وجعلنا دون الولي فأصبحـت زباء منقطعا إليك عقـالـهـا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثنا يحى بن سعيد قال: كانت إياد تفخر على العرب، تقول: منا أجود الناس كعب بن مامة، ومنا أشعر الناس أبو دواد، ومنا أنكح الناس ابن ألغز .
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال: حدثني القحذمي قال: كان ابن ألغز أيرا، فكان إذا أنعظ احتكت الفصال بأيره، قال: وكان في إياد امرأة تستصغر أيور الرجال، فجامعها ابن ألغز، فقالت: يا معشر إياد، أبالركب تجامعون النساء? قال: فضرب بيده على أليتها وقال: ما هذا? فقالت وهي لا تعقل ما تقول: هذا القمر. فضرب العرب بها المثل: أريها استها وتريني القمر . وأنشد وقد كان الحجاج منع من لحوم البقر خوفا من قلة العمارة في السواد، فقيل فيه:
شكونا إليه خراب السـواد فحرم فينا لحوم البـقـر
فكنا كمن قال من قبلـنـا أريها استها وتريني القمر أخبرني عمي عن الكراني، عن العمري، عن الهيثم بن عدي بنحوه.
وأخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدثني العمري عن لقيط قال: أخبرني التوزي عن أبي عبيدة قال: كان الحطيئة عند سعيد بن العاص ليلة، فتذاكروا الشعراء، وفضوا بعضهم على بعض وهو ساكت، فقال له: يا أبا مليكة ما تقول? فقال: ما ذكرتم والله أشعر الشعراء، ولا أنشدتم أجود الشعر. فقالوا: فمن أشعر الناس? فقال الذي يقول:
لا أعد الإقتار عدما ولكن فقد من قد رزئته الإعدام والشعر لأبي دواد الإيادي. قالوا: ثم من? قال: ثم عبيد بن الأبرص. قالوا: ثم من? قال: كفاكم والله بي إذا أخذتني رغبة أو رهبة، ثم عويت في إثر القوافي عواء الفصيل في إثر أمه.
صفحة : 1872
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حذثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، قال: حدثني عمي، وأخبرنا أبو حاتم قال: أخبرنا الأصمعي، عن أبي عمرو بن العلاء، عن هجاس بن مرير الإيادي، عن أبيه، وكان قد أدرك الجاهلية، قال: بينا أبو دواد وزوجته وابنه وابنته على ربوة، وإياد إذ ذاك بالسواد، إذ خرج ثور من أجمة، فقال أبو دواد:
وبدت له أذن توجس حرة وأحم وارد
وقوائم عوج لها من خـلـفـهــا زمـــع زوائد
كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم نواهد ثم قال: أنفذي يا أم دواد، فقالت:
وبدت له أذن توجس حرة وأحم مولق
وقوائم عوج لها من خـلـفـهـا زمـع مـعـلـق
كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم تألـق ثم قال: أنفذ يا دواد. فقال:
وبدت له أذن توجس حرة وأحم مرهف
وقوائم عوج لها من خـلـفـهـا زمـع مـلـفــف
كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم تلقـف ثم قال: أنفذي يا دوادة. قالت: وما أقول مع من أخطأ. قالوا: ومن أين أخطأناه? قالت: جعلتم له قرنا واحدا، وله قرنان. قالوا: فقولي. قالت:
وبدت له أذن توجس حرة وأحم مرهف ????????????وقوائم عوج لها من خلفها زمع ثمان
كمقاعد الرقباء للضرباء أيديهم دوان أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرني عمي عن العباس بن هشام، عن أبيه قال: كان أبو دواد الإيادي الشاعر جارا للمنذر بن ماء السماء. وإن أبا دواد نازع رجلا بالحيرة من بهراء، يقال له رقبة بن عامر بن كعب بن عمرو، فقال له رقبة: صالحني وحالفني. فقال أبو دواد: فمن أين تعيش إياد إذا، فوالله لولا ما تصيب من بهراء لهلكت، وانصرفا على تلك الحال.
ثم إن أبا دواد أخرج بنين له ثلاثة في تجارة إلى الشام، فبلغ ذلك رقبة البهراني، فبعث إلى قومه فأخبرهم بما قاله له أبو دواد عند المنذر، وأخبرهم أن القوم ولد أبي دواد، فخرجوا إلى الشام، فلقوهم فقتلوهم. وبعثوا برؤوسهم إلى رقبة، فلما أتته الرؤوس صنع طعاما كثيرا، ثم أتى المنذر، فقال له: قد اصطنعت لك طعاما كثيرا، فأنا أحب أن تتغدى عندي، فأتاه المنذر وأبو دواد معه، فبينا الجفان ترفع وتوضع، إذ جاءته جفنة عليها بعض رؤوس بني أبي دواد، فوثب وقال: أبيت اللعن إني جارك، وقد ترى ما صنع بي، وكان رقبة أيضا جارا للمنذر. فوقع المنذر منهما في سوءة، وأمر برقبة فحبس، وقال لأبي دواد: أما يرضيك توجيهي بكتيبتي الشهباء والدوسر إليهم? قال: بلى. قال: قد فعلت. فوجه إليهم بالكتيبتين.
فلما بلغ ذلك رقبة قال لامرأته: ويحك الحقي بقومك فأنذريهم. فعمدت إلى بعض إبل زوجها فركبته، ثم خرجت حتى أتت قومها، فلما قربت منهم تعرت من ثيابها، وصاحت وقالت: أنا النذير العريان. فأرسلتها مثلا. فعرف القوم ما تريد، فصعدوا إلى أعالي الشأم، وأقبلت الكتيبتان فلم تصيبا منهم أحدا، فقال المنذر لأبي دواد: قد رأيت ما كان منهم، وأنا أدي كل ابن لك بمئتي بعير، فأمر له بست مئة بعير، فرضي بذلك، فقال فيه قيس بن زهير العبسي:
سأفعل ما بدا لي ثم آوي إلى جار كجار أبي دواد وهذا شعر لأبي تمام فيه غناء:
وركب كأطراف الأسنة عرسوا على مثلها والليل داج غياهبه
لأمرعليهم أن تـتـم صـدوره وليس عليهم أن تتم عواقـبـه الشعر لأبي تمام الطائي. والغناء للقاسم بن زرزور، ثاني ثقيل بالوسطى في مجرى البنصر. وفيه لجعفر بن رفعة خفيف ثقيل.
أخبرني: إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه، وحدثني المظفر بن كيغلغ عن القاسم أيضا: أن المكتفي بالله أخرج إليهم هذين البيتين بالرقة في رقعة، وهو أمير، وأمر أن يصنع فيهما لحن. فصنع القاسم هذا اللحن، وصنع جعفر خفيف الثقيل.
أخبار أبي تمام ونسبه
صفحة : 1873
أبو تمام حبيب بن أوس الطائي، من نفس طيىء صليبة . مولده ومنشؤه منبج، بقرية منها يقال لها جاسم. شاعر مطبوع، لطيف الفطنة، دقيق المعاني، غواص على ما يستصعب منها، ويعسر متناوله على غيره. وله مذهب في المطابق، هو كالسابق إليه جميع الشعراء، وإن كانوا قد فتحوه قبله، وقالوا القليل منه، فإن له فضل الإكثار فيه، والسلوك في جميع طرقه. والسليم من شعره النادر شيء لا يتعلق به أحد. وله أشياء متوسطة، ورديئة رذلة جدا.
وفي عصرنا هذا من يتعصب له فيفرط، حتى يفضله على كل سالف وخالف، وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه، ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك، ليقول الجاهل بهم: إنهم لم يبلغوا علم هذا وتمييزه إلا بأدب فاضل، وعلم ثاقب. وهذا مما يتكسب به كثير من أهل هذا الدهر، ويجعلونه وما جرى مجراه من ثلب الناس، وطلب معايبهم، سببا للترفع، وطلبا للرياسة. وليست إساءة من أساء في القليل، وأحسن في الكثير، مسقطة إحسانه؛ ولو كثرت إساءته أيضا ثم أحسن، لم يقل له عند الإحسان أسأت، ولا عند الصواب أخطأت، والتوسط في كل شيء أجمل، والحق أحق أن يتبع.
وقد روي عن بعض الشعراء أن أبا تمام أنشده قصيدة له أحسن في جميعها، إلا في بيت واحد، فقال له: يا أبا تمام، لو ألقيت هذا البيت ما كان في قصيدتك عيب. فقال له: أنا والله أعلم منه مثل ما تعلم، ولكن مثل شعر الرجل عنده مثل أولاده، فيهم الجميل والقبيح، والرشيد والساقط، وكلهم حلو في نفسه، فهو وإن أحب الفاضل، لم يبغض الناقص، وإن هوي بقاء المتقدم، لم يهو موت المتأخر.
واعتذاره بهذا ضد لما وصف به نفسه في مدحه الواثق، حيث يقول:
جاءتك من نظم اللسان قلادة سمطان فيها اللؤلؤ المكنون
أحذاكها صنع اللسان يمـده جفر إذانضب الكلام معـين
ويسيء بالإحسان ظنا لا كمن هو بابنه وبشعره مفـتـون فلو كان يسيء بالإساءة ظنا ولا يفتتن بشعره، كنا في غنى عن الاعتذار له.
وقد فضل أبا تمام من الرؤساء والكبراء والشعراء، من لا يشق الطاعنون عليه غباره، ولا يدركون وإن جدوا آثاره، وما رأى الناس بعده إلى حيث انتهوا له في جيده نظيرا ولا شكلا? ولولا أن الرواة قد أكثروا في الاحتجاج له وعليه، وأكثر متعصبوه الشرح لجيد شعره، وأفرط معادوه في التسطير لرديئه، والتنبيه على رذله ودنيئه، لذكرت منه طرفا، ولكن قد أتى من ذلك مالا مزيد عليه.
أخبرني عمي قال: حدثني أبي قال: سمعت محمد بن عبد الملك الزيات يقول: أشعر الناس طرا الذي يقول:
وما أبالي وخير القـول أصـدقـه حقنت لي ماء وجهي أو حقنت دمي فأحببت أن أستثبت إبراهيم بن العباس ، وكان في نفسي أعلم من محمد وآدب، فجلست إليه، وكنت أجري عنده مجرى الولد، فقلت له: من أشعر أهل زماننا هذا? فقال: الذي يقول:
مطـر أبـوك أبـو أهـلة وائل ملأ البـسـيطة عـدة وعـديدا
نسب كأن عليه من شمس الضحى نورا ومن فلق الصباح عمـودا
ورثوا الأبوة والحظوظ فأصبحوا جمعوا جدودا في العلا وجـدودا فاتفقا على أن أبا تمام أشعر أهل زمانه.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي، وعلي بن سليمان الأخفش قالا: حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال: قدم عمارة بن عقيل بغداد، فاجتمع الناس إليه، فكتبوا شعره وشعر أبيه، وعرضوا عليه الأشعار. فقال بعضهم: ها هنا شاعر يزعم قوم أنه أشعر الناس طرا، ويزعم غيرهم ضد ذلك. فقال: أنشدوني قوله. فأنشدوه:
غدت تستجير الدمع خوف نوى غد وعاد قتادا عندها كـل مـرقـد
وأنقذها من غمرة الـمـوت أنـه صدود فراق لا صدود تـعـمـد
فأجرى لها الإشفاق دمعا مـوردا من الدم يجري فوق خـد مـورد
هي البدر يغنيها تودد وجـهـهـا إلى كل من لاقت وإن لـم تـودد ثم قطع المنشد. فقال له عمارة: زدنا من هذا. فوصل نشيده وقال:
ولكنني لم أحو وفرا مجمعا ففزت به إلا بشمل مبـدد
ولم تعطني الأيام نوما مسكنا ألد به إلا بنـوم مـشـرد
صفحة : 1874
فقال عمارة: لله دره لقد تقدم في هذا المعنى من سبقه إليه، على كثرة القول فيه، حتى لقد حبب إلي الاغتراب، هيه. فأنشده:
وطول مقام المرء في الحي مخلق لديباجتيه فاغـتـرب تـتـجـدد
فإني رأيت الشمس زيدت محـبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد فقال عمارة: كمل والله، لئن كان الشعر بجودة اللفظ، وحسن المعاني، واطراد المراد، واتساق الكلام، فإن صاحبكم هذا أشعر الناس.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: سمعت علي بن الجهم يصف أبا تمام ويفضله، فقال له رجل: والله لو كان أبو تمام أخاك مازدت على مدحك هذا. فقال: إن لم يكن أخا بالنسب، فإنه أخ بالأدب والمودة؛ أما سمعت ما خاطبني به حيث يقول:
إن يكد مطرف الإخاء فإننـا نغدو ونسري في إخاء تالـد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننـا أدب أقمناه مقـام الـوالـد أخبرني محمد قال: حدثني هارون بن عبد الله المهلبي قال: كنا في حلقة دعبل، فجرى ذكر أبي تمام، فقال دعبل: كان يتتبع معاني فيأخذها. فقال له رجل في مجلسه: وأي شيء من ذلك، أعزك الله? قال: قولي:
وإن امرأ أسدى إلـي بـشـافـع إليه ويرجو الشكر مني لأحمـق
شفيعك فاشكر في الحـوائج إنـه يصونك عن مكروهها وهو يخلق فقال الرجل: فكيف قال أبو تمام? فقال: قال:
فلقيت بين يديك حلو عطائه ولقيت بين يدي مر لسؤاله
وإذا امرؤ أسدى إليك صنيعة من جاهه فكأنها من مالـه فقال له الرجل: أحسن والله. فقال: كذبت قبحك الله. فقال: والله لئن كان أخذه منك، لقد أجاد، فصار أولى به منك. وإن كنت أخذته منه فما بلغت مبلغه. فغضب دعبل وانصرف.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن محمد بن جرير قال: سمعت محمد بن حازم الباهلي يقدم أبا تمام ويفضله، ويقول: لو لم يقل إلا مرثيته التي أولها:
أصم بك الناعي وإن كان أسمعا وقوله:
لو يقدرون مشوا على وجناتهم وجباههم فضلا عن الأقـدام لكفتاه.
أخبرني عمي قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: كان عمارة بن عقيل عندنا يوما، فسمع مؤدبا كان لولد أخي يرويهم قصيدة أبي تمام:
الحق أبلج والسيوف عوار فلما بلغ إلى قوله:
سود اللباس كأنما نسجت لـهـم أيدي السموم مدارعا من قـار
بكروا وأسروا في متون ضوامر قيدت لهم من مربط النـجـار
لا يبرحون ومن رآهم خالـهـم أبدا على سفر من الأسـفـار فقال عمارة: لله دره ما يعتمد معنى إلا أصاب أحسنه، كأنه موقوف عليه.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني أبو ذكوان قال: قال لي إبراهيم بن العباس: ما اتكلت في مكاتبتي قط إلا على ما جاش به صدري، وجلبه خاطري، إلا أني قد استحسنت قول أبي تمام:
فإن باشر الإصحار فالبيض والقنا قراه وأحواض المنايا مناهـلـه
وإن يبن حيطانا عليه فـإنـمـا أولئك عقالاته لا مـعـاقـلـه
وإلا فأعلمـه بـأنـك سـاخـط عليه، فإن الخوف لا شك قاتلـه فأخذت هذا المعنى في بعض رسائلي، فقلت: فصار ما كان يحرزهم يبرزهم، وكان كان يعقلهم يعتقلهم . قال: ثم قال لي إبراهيم: إن أبا تمام اخترم وما استمتع بخاطره، ولا نزح ركي فكره، حتى انقطع رشاء عمره.
أخبرني محمد قال: حدثني أبو الحسين بن السخي قال: حدثني الحسين بن عبد الله قال: سمعت عمي إبراهيم بن العباس يقول لأبي تمام، وقد أنشد شعرا له في المعتصم: يا أبا تمام، أمراء الكلام رعية لإحسانك.
أخبرني محمد قال: حدثني هارون بن عبد الله قال: قال لي محمد بن جابر الأزدي، وكان يتعصب لأبي تمام: أنشدت دعبل بن علي شعرا لأبي تمام ولم أعلمه أنه له، ثم قلت له: كيف تراه? قال: أحسن من عافية بعد يأس. فقلت: إنه لأبي تمام. فقال: لعله سرقه أخبرني محمد قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال:
صفحة : 1875
ما كان أحد من الشعراء يقدر على أن يأخذ درهما بالشعر في حياة أبي تمام، فلما مات اقتسم الشعراء ما كان يأخذه.
أخبرني عمي والحسن بن علي ومحمد بن يحيى وجماعة من أصحابنا، وأظن أيضا جحظة حدثنا به، قالوا: حدثنا عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: لما قدم أبو تمام إلى خراسان اجتمع الشعراء إليه، وسألوه أن ينشدهم، فقال: قد وعدني الأمير أن أنشده غدا، وستسمعوني . فلما دخل على عبد الله أنشده:
هن عوادي يوسف وصواحبـه فعزما فقدما أدرك السؤل طالبه فلما بلغ إلى قوله:
وقلقل نأي من خراسان جـأشـهـا فقلت اطمئني أنضر الروض عازبه
وركب كأطراف الأسنة عـرسـوا على مثلها والليل تسطو غياهـبـه
لأمر علـيهـم أن تـتـم صـدوره وليس عليهم أن تـتـم عـواقـبـه فصاح الشعراء بالأمير أبي العباس: ما يستحق مثل هذا الشعر غير الأمير أعزه الله وقال شاعر منهم يعرف بالرياحي: لي عند الأمير أعزه الله جائزة وعدني بها، وقد جعلتها لهذا الرجل جزاء عن قوله للأمير. فقال له: بل نضعفها لك، ونقوم له بما يجب له علينا. فلما فرغ من القصيدة نثر عليه ألف دينار، فلقطها الغلمان، ولم يمس منها شيئا، فوجل عليه عبد الله وقال: يترفع عن بري، ويتهاون بما أكرمته به. فلم يبلغ ما أراده منه بعد ذلك.
أخبرني أبو مسلم محمد بن بحر الكاتب وعمي، عن الحزنبل، عن سعيد بن جابر الكرخي، عن ابيه: أنه حضر أبا دلف القاسم بن عيسى وعنده أبو تمام الطائي، وقد أنشده قصيدته:
على مثلها من أربع ومـلاعـب أذيلت مصونات الدموع السواكب فلما بلغ إلى قوله:
إذا افتخرت يوما تميم بـقـوسـهـا وزادت على ما وطدت من مناقـب
فأنتم بذي قار أمالـت سـيوفـكـم عروش الذين استرهنوا قوس حاجب
محاسن من مجد متى تقرنوا بـهـا محاسن أقوام تكن كـالـمـعـايب فقال أبو دلف: يا معشر ربيعة، ما مدحتم بمثل هذا الشعر قط، فما عندكم لقائله? فبادروه بمطارفهم يرمون بها إليه. فقال أبو دلف: قد قبلها وأعاركم لبسها، وسأنوب عنكم في ثوابه. تمم القصيدة يا أبا تمام. فتممها، فأمر له بخمسين ألف درهم، وقال: والله ما هي بإزاء استحقاقك وقدرك. فاعذرنا، فشكره وقام ليقبل يده، فحلف ألا يفعل، ثم قال له: أنشدني قولك في محمد بن حميد:
وما مات حتى مات مضرب سـيفـه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
وقد كان فوت الموت سهـلا فـرده إليه الحفاظ المر والخلـق الـوعـر
فأثبت في مستنقع المـوت رجـلـه وقال لها من تحت أخمصك الحشـر
غدا غدوة والـحـمـد نـسـج ردائه فلم ينصرف إلا وأكفـانـه الأجـر
كأن بني نـبـهـان يوم مـصـابـه نجوم سماء خرمن بينـهـا الـبـدر
يعزون عن ثاو يعزى به الـعـلـى ويبكى عليه البأس والجود والشعـر فأنشده إياها، فقال: والله لوددت أنها في. فقال: بل أفدي الأمير بنفسي وأهلي، وأكون المقدم، فقال: إنه لم يمت من رثي بهذا الشعر، أو مثله.
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني إسحاق بن يحيى الكاتب قال: قال الواثق لأحمد بن أبي دواد: بلغني أنك أعطيت أبا تمام الطائي في قصيدة مدحك بها ألف دينار. قال: لم أفعل ذلك يا أمير المؤمنين، ولكني أعطيته خمس مئة دينار رعاية للذي قاله للمعتصم:
فاشدد بهارون الخلافة إنه سكن لوحشتها ودار قرار
ولقد علمت بأن ذلك معصم ما كنت تتركه بغير سوار فابتسم وقال: إنه لحقيق بذلك.
أخبرني علي بن سليمان قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال:
صفحة : 1876
خرج أبو تمام إلى خالد بن يزيد بن مزيد وهو بأرمينية، فامتدحه، فأعطاه عشرة آلاف درهم ونفقة لسفره، وقال: تكون العشرة الآلات موفورة، فإن أردت الشخوص فاعجل، وإن أردت المقام عندنا فلك الحباء والبر. قال: بل أشخص. فودعه? ومضت أيام، وركب خالد يتصيد، فرآه تحت شجرة، وبين يديه زكرة فيها شراب، وغلام يغنيه بالطنبور. فقال: أبو تمام? قال: خادمك وعبدك. قال: ما فعل المال? فقال:
علمني جودك السماح فـمـا أبقيت شيئا لدي من صلتـك
مامرشهرحتى سمحـت بـه كأن لي قدرة كمـقـدرتـك
تنفق في اليوم بالهبات وفي ال ساعة ما تجتنيه في سنـتـك
فلست أدري من أين تنفق لـو لا أن ربي يمد في هبـتـك فأمر له بعشرة أخرى، فأخذها وخرج.
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا عون بن محمد الكندي قال: حدثنا محمد بن سعد أبو عبد الله الرقي، وكان يكتب للحسن بن رجاء? قال: قدم أبو تمام مادحا للحسن بن رجاء، فرأيت منه رجلا عقله وعلمه فوق شعره، فاستنشده الحسن ونحن على نبيذ قصيدته اللامية التي امتدحه بها، فلما انتهى إلى قوله:
أنا من عرفت فإن عرتك جهالة فأنا المقـيم قـيامة الـعـذال
عادت لـه أيامـه مـســودة حتى تـوهـم أنـهـن لـيال فقال الحسن: والله لا تسود عليك بعد اليوم. فلما قال:
لاتنكري عطل الكريم من الغنى فالسيل حرب للمكان العـالـي
وتنظري حيث الركاب ينصهـا محيى القريض إلى مميت المال فقام الحسن بن رجاء على رجليه، وقال: والله لا أتممتها إلا وأنا قائم. فقام أبو تمام لقيامه، وقال:
لما بـلـغـنـا سـاحة الـحـسـن انـقـضـى عنـا تـمـــلـــك دولة الإمـــحـــال
بسـط الـرجـاء لـنـا بـرغـــم نـــوائب كثـرت بـهـن مـــصـــارع الآمـــال
أغـلـى عـذارى الـشـعـر إن مـهـورهــا عنـد الـكـرام وإن رخـصـــن غـــوال
ترد الـظـنـون بـنـا عـلـى تـصـديقـهــا ويحـكـــم الآمـــال فـــي الأمـــوال
أضـحـى سـمـي أبـيك فـيك مـصـدقـــا بأجـــل فـــائدة وأيمـــن فــــــال
ورأيتـنـي فـسـألـت نـفـسـك سـيبـهــا لي ثـم جـدت ومـا انـتـظـرت سـؤالــي
كالغيث ليس له أريد غمامهأولم يرد بد من التهطال فتعانقا وجلسا. وقال له الحسن: ما أحسن ما جلوت هذه العروس فقال: والله لو كانت من الحور العين لكان قيامك لها أوفى مهورها.
قال محمد بن سعد: وأقام شهرين، فأخذ على يدي عشرة آلاف درهم، وأخذ غير ذلك مما لم أعلم به? على بخل كان في الحسن بن رجاء.
أخبرني الصولي قال: حدثني عون بن محمد قال: شهدت دعبلا عند الحسن بن رجاء وهو يضع من أبي تمام، فاعترضه عصابة الجرجرائي، فقال: يا أبا علي، اسمع مني ما قاله، فإن أنت رضيته فذاك? وإلا وافقتك على ما تذمه منه، وأعوذ بالله فيك من ألا ترضاه، ثم أنشده قوله:
أما إنه لولا الخلـيط الـمـودع ومغنى عفا منه مصيف ومربع فلما بلغ إلى قوله:
هو السيل إن واجهته انقدت طوعه وتقتاده من جانـبـيه فـيتـبـع
ولم أر نفعا عند من ليس ضـائرا ولم أرضرا عند من ليس ينـفـع
معاد الورى بعد الممات وسـيبـه معاد لنا قبل الممات ومـرجـع فقال له دعبل: لم ندفع فضل هذا الرجل، ولكنكم ترفعونه فوق قدره، وتقدمونه علىمن يتقدمه، وتنسبون إليه ما قد سرقه. فقال له عصابة: إحسانه صيرك له عائبا، وعليه عاتبا.
أخبرني الصولي قال: حدثنا الحسن بن وداع كاتب الحسن بن رجاء قال: حضرت أبا الحسين محمد بن الهيثم بالجبل وأبو تمام ينشده:
أسقى ديارهم أجش هزيم وغدت عليهم نضرة ونعيم قال: فلما فرغ أمر له بألف دينار، وخلع عليه خلعة حسنة، وأقمنا عنده يومنا، فلما كان من غد كتب إليه أبو تمام:
قد كسانا من كسـوة الـصـيف خرق مكتس من مكارم ومساع
حلة ســـابــــرية ورداء كسحا القيض أورداء الشجـاع
كالسراب الرقراق في الحسن إلا أنه ليس مثلـه فـي الـخـداع
قصبيا تسترجف الريح مـتـف ه بأمر من الهبـوب مـطـاع
صفحة : 1877
رجفانا كأنـه الـدهـرمـنـه كبد الضب أوحشا الـمـرتـاع
لازما مايليه تـحـسـبـه جـز ءا من المتنـتـين والأضـلاع
يطرد اليوم ذا الهجير ولو شـب ه فـي حـره بـيوم الــوداع
خلعة من أغر أروع رحب الص در رحب الفؤاد رحب الـذراع
سوف أكسوك مايعفي علـيهـا من ثناء كالبرد برد الصـنـاع
حسن هاتيك في العـيون وهـذا حسنه في القلوب والأسـمـاع فقال محمد بن الهيثم: ومن لا يعطي على هذا ملكه? والله لا بقي في داري ثوب إلا دفعته إلى أبي تمام، فأمر لى بكل ثوب كان يملكه في ذلك الوقت.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل قال: لما شخص أبو تمام إلى عبد الله بن طاهر وهو بخراسان، أقبل الشتاء وهو هناك، فاستثقل البلد، وقد كان عبد الله وجد عليه، وأبطأ بجائزته، لأنه نثر عليه ألف دينار فلم يمسسها بيده، ترفعا عنها، فأغضبه وقال: يحتقر فعلي، ويترفع علي. فكان يبعث إليه بالشيء بعد الشيء كالقوت، فقال أبو تمام:
لم يبق للصـيف لارسـم ولاطـلـل ولا قشيب فيستكسـى ولا سـمـل
عدل من الدمع أن يبكي المصيف كما يبكى الشباب، ويبكي اللهو والغـزل
يمنى الزمان انقضى معروفها وغدت يسراه وفي لنا من بـعـدهـا بـدل فبلغت الأبيات أبا العميثل شاعر آل عبد الله بن طاهر، فأتى أبا تمام، واعتذر إليه لعبد الله بن طاهر، وعاتبه على ما عتب عليه من أجله، وتضمن له ما يحبه. ثم دخل إلى عبد الله، فقال: أيها الأمير، أتتهاون بمثل أبي تمام وتجفوه? فوالله لو لم يكن له ماله من النباهة في قدره، والإحسان في شعره، والشائع من ذكره، لكان الخوف من شره، والتوقي لذمه، يوجب على مثلك رعايته ومراقبته، فكيف وله بنزوعه إليك من الوطن، وفراقه السكن، وقد قصدك عاقدا بك أمله، معملا إليك ركابه، متعبا فيك فكره وجسمه، وفي ذلك ما يلزمك قضاء حقه، حتى ينصرف راضيا، ولو لم يأت بفائدة، ولا سمع فيك منه ما سمع إلا قوله:
تقول في قومس صحبي وقد أخذت منا الشرى وخطا المهرية القـود
أمطلع الشمس تبغي أن تؤم بنـا، فقلت كلآ ولكن مطلع الـجـود فقال له عبد الله: لقد نبهت فأحسنت، وشفعت فلطفت، وعاتبت فأوجعت، ولك ولأبي تمام العتبى، ادعه يا غلام. فدعاه، فنادمه يومه، وأمر له بألفي دينار، وما يحمله من الظهر، وخلع عليه خلعة تامة من ثيابه، وأمر ببذرقته إلى آخر عمله.
أخبرني جخظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: مر أبو تمام بمخنث يقول لآخر: جئتك أمس فاحتجبت عني، فقال له: السماء إذا احتجبت بالغيم رجي خيرها. فتبينت في وجه أبي تمام أنه قد أخذ المعنى، ليضمنه في شعره، فما لبثنا إلا أياما حتى أنشدت قوله:
ليس الحجاب بمقص عنك لي أملا إن السماء ترجى حين تحتجـب أخبرني أبو العباس أحمد بن وصيف، وأبو عبد الله أحمد بن الحسن بن محمد الأصبهاني ابن عمي، قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: كنا عند دعبل أنا والقاسم ، في سنة خمس وثلاثين ومئتين، بعد قدومه من الشأم، فذكرنا أبا تمام، فثلبه، وقال: هو سروق للشاعر. ثم قال لغلامه: يا ثقيف، هات تلك المخلاة. فجاء بمخلاة فيها دفاتر، فجعل يمرها على يده، حتى أخرج منها دفترا، فقال: اقرءوا هذا. فنظرنا فيه، فإذا فيه: قال مكنف أبو سلمى، من ولد زهير بن أبي سلمى، وكان هجا ذفافة العنسي بأبيات منها:
إن الضراط به تصاعد جدكـم فتعاظموا ضرطا بني القعقاع قال ثم مات ذفافة بعد ذلك، فرثاه فقال:
أبعد أبي العباس يستعذب الدهـر فما بعده للدهر حسن ولا عـذر
ألا أيها الناعي ذفـافة والـنـدى تعست وشلت من أناملك العشـر
أتنعى لنا من قيس عيلان صخرة تفلق عنها من جبال العدا الصخر
إذا ما أبوالعباس خلى مـكـانـه فلا حملت أنثى ولانالها طـهـر
ولا أمطرت أرضا سماء ولاجرت نجوم ولا لذت لشاربها الخـمـر
كأن بني القعقاع يوم مـصـابـه نجوم سماء خرمن بينها الـبـدر
صفحة : 1878
توفـيت الآمـال يوم وفـاتــه وأصبح في شغل عن السفرالسفر ثم قال: سرق أبو تمام أكئر هذه القصيدة، فأدخلها في قصيدته:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر وليس لعين لم يفض ماؤها عذر أخبرني الصولي قال: حدثني محمد بن موسى قال: كان أبو تمام يعشق غلاما خزريا للحسن بن وهب، وكان الحسن يتعشق غلاما روميا لأبي تمام، فرآه أبو تمام يوما يعبث بغلامه، فقال له: والله لئن أعنقت إلى الروم، لنركضن إلى الخزر. فقال له الحسن: لو شئت حكمتنا واحتكمت. فقال أبو تمام: أنا أشبهك بداود عليه السلام، وأشبه نفسي بخصمه، فقال الحسن: لو كان هذا منظوما خفناه، فأما وهو منثور فلا، لأنه عارض لا حقيقة له، فقال أبو تمام:
أبا علي لصرف الدهـر والـغـير وللـحـوادث والأيام والـعـبـر
أذكرتني أمر داود وكنـت فـتـى مصرف القلب في الأهواء والفكر
أعندك الشمس لم يحظ المغيب بهـا وأنت مضطرب الأحشاء للقـمـر
إن أنت لم تترك السيرالحثيث إلـى جاذرالروم أعنقنا إلـى الـخـزر
إن القطوب له مني محـل هـوى يحل مني محل السمع والبـصـر
ورب أمنع منه جانـبـا وحـمـى أمسى وتكته مني علـى خـطـر
جردت فيه جنود العزم فانكشفـت منه غيابتهـا عـن نـيكة هـدر
سبحان من سبحتـه كـل جـارحة ما فيك من الأطمحان الأير والنظر
أنت المقيم فما تـغـدو رواحـلـه وأيره أبدا منـه عـلـى سـفـر أخبرني الصولي قال: حدثني عبد الله بن الحسين قال: حدثني وهب بن سعيد قال: جاء دعبل إلى الحسن بن وهب في حاجة بعد موت أبي تمام، فقال له رجل في المجلس: يا أبا علي، أنت الذي تطعن على من يقول:
شهدت لقد أقوت مغانيكم بعـدي ومحت كما محت وشائع من برد
وأنجدتم من بعد إتـهـام داركـم فما دمع أنجدني على ساكني نجد فصاح دعبل: أحسن والله وجعل يردد فيا دمع أنجدني على ساكني نجد ثم قال: رحمه الله، لو كان ترك لي شيئا من شعره لقلت إنه أشعر الناس.
أخبرني علي بن سليمان ومحمد بن يحمى قالا: حدثنا محمد بن يزيد قال: مات لعبد الله بن طاهر ابنان صغيران في يوم واحد، فدخل عليه أبو تمام فأنشده:
ما زالت الأيام تخـبـر سـائلا أن سوف تفجع مسهلا أوعاقلا
مجد تأوب طارقـا حـتـى إذا قلنا أقام الدهرأصبـح راحـلا
نجمان شاء اللـه ألايطـلـعـا إلا أرتداد الطرف حتى يأفـلا
إن الفجيعة بالرياض نواضـرا لأجل منها بالـرياض ذوابـلا
لو ينسبان لكان هـذا غـاربـا للمكرمات وكان هذا كاهـلا
لهفي على تلك المخايل منهمـا لوأمهلت حى تكون شـمـائلا
لغدا سكونهما حجى وصباهمـا حلما وتلـك الأريحـية نـائلا
إن الـهـلال إذارأيت نـمـوه أيقنت أن سيكون بدرا كامـلا شعر لأبي الشيص فيه غناه:
بالله قل ياطـلـل أهلك ماذا فعلـوا
فإن قلبـي حـذر من أن يبينوا وجل عروضه من الرجز. الشعر لأبي الشيص. والغناء لأحمد بن يحيى المكي. خفيف ثقيل بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية. ومن رواية الهشامي.
????أخبار أبي الشيص ونسبه
اسمه محمد بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل- وقيل: أبن بهيش- أبن خراش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفضى بن حارثة بن عمرو مزيقيا ابن عامر بن ثعلبة.
وكان أبو الشيص لقبا غلب عليه. وكنيته أبو جعفر، وهو ابن عم دعبل بن علي بن رزين لحا. وكان أبو الشيص من شعراء عصره، متوسط المحل فيهم، غير نبيه الذكر، لوقوعه بين مسلم بن الوليد وأشجع وأبي نواس، فخمل وأنقطع إلى عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي، وكان أميرا على الزقة، فمدحه بأكثر شعره، فقلما يروى له في غيره. وكان عقبة جوادا فأغناه عن غيره.
صفحة : 1879
ولأبي الشيص ابن يقال له عبد الله شاعر أيضا، صالح الشعر، وكان منقطعا إلى محمد بن طالب، فأخذ منه جامع شعر أبيه، ومن جهته خرج إلى الناس.
وعمي أبو الشيص في آخر عمره، وله مراث في عينيه قبل ذهابهما وبعده، نذكر منها مختارها مع أخباره.
وكان سريع الهاجس جدا، فيما ذكر عنه. فحكى عبد الله بن المعتز أن أبا خالد العامري قال له: من أخبرك أنه كان في الدنيا أشعر من أبي الشيص فكذبه. والله لكان الشعر عليه أهون من شرب الماء على العطشان. وكان من أوصف الناس للشراب، وأمدحهم للملوك.
وهكذا ذكر ابن المعتز، وليس توجد هذه الصفات كما ذكر في ديوان شعره، ولا هو بساقط، ولكن هذا سرف شديد.
أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن النضر بن عمر قال: قال لي أبو الشيص: لما مدحت عقبة بن جعفر بقصيدتي التي أولها:
تنكري صدي ولا أعراضـي ليس المقل عن الزمان براض أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال: أنشدت إبراهيم بن المهدي أبيات أبي يعقوب الريمي التي يرثي بها عينه، يقول فيها:
إذا ما مات بعضك فابك بعضا فإن البعض من بعض قريب فأنشدني لأبي الشيص يبكي عينيه:
يا نفس بكي بأدمع هـتـن وواكف كالجمان في سنن
على دليلي وقـائدي ويدي ونور وجهي وسائس البدن
أبكي عليها بها مخـافة أن تقرنني والظلام في قرن وقال أبو هفان: حدثني دعبل أن امرأة لقيت أبا الشيص، فقالت: يا أبا الشيص: عميت بعدي. فقال: قبحك الله، دعوتني باللقب، وعيرتني بالضرر.
أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي، عن أحمد بن عبيد قال: اجتمع مسلم بن الوليد وأبو نواس وأبو الشيص ودعبل في مجلس، فقالوا: لينشد كل واحد منكم أجود ما قاله من الشعر. فاندفع رجل كان معهم فقال: اسمعوا مني أخبركم بما ينشد كل واحد منكم قبل أن ينشد. قالوا: هات فقال لمسلم: أما أنت يا أبا الوليد فكأني بك قد أنشدت:
إذا ما عـلـت مـنـا ذؤابة واحـد وإن كان ذا حلم دعته إلى الجهـل
هل العيش إلا أن تروح مع الصبـا وتغدو صريع الكأس والأعين النجل قال: وبهذا البيت لقب صريع الغواني، لقبه به الرشيد، فقال له مسلم: صدقت.
ثم أقبل على أبي نواس فقال له: كأني بك يا أبا علي قد أنشدت:
لا تبك ليلى ولا تطـرب إلـى هـنـد واشرب على الورد من حمراء كالورد
تسقيك من عينها خمـرا ومـن يدهـا خمرا فمالك من سـكـرين مـن بـد فقال له: صدقت.
ثم أقبل على دعبل فقال له: وأنت يا أبا علي، فكأني بك تثشد قولك:
أين الشباب وأية سـلـكـا لا أين يطلب ضل بل هلكا
لا تعجبي ياسلم مـن رجـل ضحك المشيب برأسه فبكى فقال: صدقت. ثم أقبل على أبي الشيص، فقال له: وأنت يا أبا جعفر، فكأني بك وقد أنشدت قولك:
لا تنكري صدي ولا إعراضي ليس المقل عن الزمان براض فقال له: لا. ما هذا أردت أن أنشد، ولا هذا بأجود شيء قلته. قالوا: فأنشدنا ما بدا لك. فأنشدهم قوله:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متـأخـرعـنـه ولا مـتـقـدم
أجد المـلامة فـي هـواك لـذيذة حبا لذكرك فليلـمـنـي الـلـوم
أشبهت أعدائي فصرت أحـبـهـم إذكان حظي منك حظي منـهـم
وأهنتني فأهنت نفسـي صـاغـرا ما من يهون عليك ممـن يكـرم لعريب في هذا الشعر لحنان: ثقيل أول، ورمل.
قال: فقال أبو نواس، أحسنت والله وجودت، وحياتك لأسرقن هذا المعنى منك، ثم لأغلبنك عليه، فيشتهر ما أقول، ويموت ما قلت. قال: فسرق قوله:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متـأخـرعـنـه ولا مـتـقـدم سرقا خفيا، فقال في الخصيب:
فما جازه جود ولا حل دونه ولكن يسير الجود حيث يسير فسار بيت أبي نواس، وسقط بيت أبي الشيص.
نسخت من كتاب جدي لأمي يحمى بن محمد بن ثوابة بخطه: حدثني الحسن بن سعد قال: حدثني رزين بن علي الخزاعي أخو دعبل قال:
صفحة : 1880
كنا عند أبي نواس أنا ودعبل وأبو الشيص ومسلم بن الوليد الأنصاري، فقال أبو نواس لأبي الشيص: أنشدني قصيدتك المخزية. قال: وما هي? قال: الضادية. فما خطر بخلدي قولك:
ليس المقل عن الزمان براض إلا أخزيتك استحسانا لها، فإن الأعشى كان إذا قال القصيدة عرضها على ابنته، وقد كان ثقفها وعلمها ما بلغت به استحقاق التحكيم والاختيار لجيد الكلام، ثم يقول لها: عدي لي المخزيات، فتعد قوله:
أغر أروع يستسقى الغمـام بـه لو قارع الناس عن أحسابهم قرعا وما أشبهها من شعره. قال أبو الشيص: لا أفعل. إنها ليست عندي عقد در مفصل، ولكني أكاثر بغيرها، ثم أنشده قوله:
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متـأخـرعـنـه ولا مـتـقـدم الأبيات المذكورة، فقال له أبو نواس: قد أردت صرفك عنها، فأبيت أن تخلى عن سلبك، أو تدرك في هربك قال: بل أقول في طلبي، فكيف رأيت هذا الطراز? قال: أرى نمطا خسروانيا مذهبا حسنا، فكيف تركت:
في رداء من الصفيح صقيل وقميص من الحديد مـذال قال: تركته كما ترك مختار الدرتين إحداهما، بما سبق في ألحاظه، وزين في ناظره.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني أبي قال: حدثني من قال لأبي نواس: من أشعر طبقات المحدثين? قال: الذي يقول:
يطوف علينا بهـا أحـور يداه من الكأس مخضوبتان والشعر لأبي الشيص.
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني الفضل بن موسى بن معروف الأصبهاني قال: حدثني أبي قأل: دخل أبو الشيص على أبي دلف وهو يلاعب خادما له بالشطرنج، فقيل له: يا أبا الشيص، سل هذا الخادم أن يحل أزرار قميصه. فقال أبو الشيص: الأمير أعزه الله أحق بمسألته. قال: قد سألنه، فزعم أنه يخاف العين على صدره، فقل فيه شيئا. فقال:
وشادن كالبدر يجلو الـدجـى في الفرق منه المسك مذرور
يحاذرالعين عـلـى صـدره فالجيب منه الدهر مـزرور فقال أبو دلف: وحياتي لقد أحسنت، وأمر له بخمسة آلاف درهم. فقال الخادم: قد والله أحسن كما قلت، ولكنك أنت ما أحسنت، فضحك، وأمر له بخمسة آلاف أخرى.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني علي بن سعد بن إياس الشيباني قال: تعشق أبو الشيص محمد بن رزين قينة لرجل من أهل بغداد، فكان يختلف إليها، وينفق عليها في منزل الرجل، حتى أتلف مالا كثيرا. فلما كف بصره، وأخفق، جعل إذا جاء إلى مولى الجارية حجبه، ومنعه من الدخول، فجاءني أبو الشيص، فشكا إلي وجده بالجارية، واستخفاف مولاها به، وسألني المضي معه إليه، فمضيت معه، فاستؤذن لنا عليه، فأذن، فدخلت أنا وأبو الشيص، فعاتبته في أمره، وعالمت عليه حقه، وخوفته من لسانه ومن إخوانه، فجعل له يوما في الجمعة يزورها فيه، فكان يأكل في بيته، ويحمل معه نبيذه ونقله، فمضيت معه ذات يوم إليها، فلما وقفنا على بابهم، سمعنا صراخا شديدا من الدار، فقال لي: ما لها تصرخ? أتراه قد مات لعنه الله.
فما زلنا ندق الباب حتى فتح لنا، فإذا هو قد حسر كميه وبيده سوط، وقال لنا: ادخلا، فدخلنا، وإنما حمله على الإذن لنا الفرق مني، فدخلنا وعاد الرجل إلى داخل يضربها، فاستمعنا عليه واطلعنا، فإذا هي مشدودة على سلم وهو يضربها أشد ضرب، وهي تصرخ، وهو يقول: وأنت أيضا فاسرقي الخبز. فاندفع أبو الشيص على المكان يقول في ذلك:
يقول والسوط على كـفـه قد حرفي جلدتهـا حـزا
وهي على السلم مشـدودة وأنت أيضا فاسرقي الخنزا قال: وجعل أبو الشيص يرددهما، فسمعهما الرجل، فخرج إلينا مبادرا، وقال له: أنشدني البيتين اللذين قلتهما، فدافعه، فحلف أنه لا بد من إنشادهما، فأنشده إياهما، فقال لي: يا أبا الحسن، أنت كنت شفيع هذا، وقد أسعفتك بما تحب، فإن شاع هذان البيتان فضحتني، فقل له يقطع هذا، ولا يسمعهما، وله علي يومان في الجمعة. ففعلت ذلك، ووافقته عليه، فلم يزل يتردد إليه يومين في الجمعة حتى مات.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن عبد الرحمن الكاتب، عن أبيه قال: كانت لأبي الشيص جارية سوداء اسمها تبر، وكان يتعشقها، وفيها يقول:
صفحة : 1881
لم تتصفي ياسمـية الـذهـب تتلف نفسي وأنت في لعـب
يابنة عم المسك الذكـي ومـن لولاك لم يتخـذ ولـم يطـب
ناسبك المسك في السـواد وف ي الريح فأكرم بذاك من نسب أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي، عن عمه قال: كان أبو الشيص صديقا لمحمد بن إسحاق بن سليمان الهاشمي، وهما حينئذ مملقان، فنال محمد بن إسحاق مرتبة عند سلطانه، واستغنى، فجفا أبا الشيص، وتغير له، فكتب إليه:
الحمد لله رب العالمـين عـلـى قربي وبعدك مني يابن إسحـاق
يا ليت شعري متى تجدي علي وقد أصبحت رب دنـانـير وأوراق
تجدي علي إذا ما قـيل مـن راق والتفت الساق عند الموت بالساق
يوم لعمري تهم الناس أنفـسـهـم وليس ينفع فيه رقـية الـراقـي حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أبو العباس بن الفرات قال: كنت أسير مع عبيد الله بن سليمان، فاستقبله جعفر بن حفص على دابة هزيل، وخلفه غلام له، وشيخ على بغل له هرم، وما فيهم إلا نضو، فأقبل علي عبيد الله بن سليمان فقال: كأنهم والله صفة أبي الشيص حيث يقول:
أكل الوجيف لحومها ولحومهم فأتوك أنقاضا على أنقـاض وقال عبد الله بن المعتز: حدثني أبو مالك عبد الله قال: قال لي عبد الله بن الأعمش: كان أبو الشيص عند عقبة بن جعفر بن الأشعث الخزاعي يشرب، فلما ثمل نام عنده، ثم انتبه في بعض الليل، فذهب يدب إلى خادم له، فوجأه بسكين، فقال له: ويحك، قتلتني والله، وما أحب والله أن أفتضح أني قتلت في مثل هذا، ولا تفضح أنت بي، ولكن خذ دستيجة فاكسرها ولوثها بدمي، واجعل زجاجها في الجرح، فإذا سئلت عن خبري، فقل: إني سقطت في سكري على الدستيجة فانكسرت، فقتلتني، ومات من ساعته. ففعل الخادم ما أمره به، ودفن أبو الشيص، وجزع عقبة عليه جزعا شديدا. فلما كان بعد أيام سكر الخادم، فصدق عقبة عن خبره، وأنه هو قتله، فلم يلبثه أن قام إليه بسيفه، فلم يزل يضربه حتى قتله.
مدح الكميت مخلد بن يزيد بن المهلب وفيه غناء:
هلا سألت معالـم الأطـلال والرسم بعد تقادم الأحـوال
دمنا تهيج رسومها بعد البلـى طربا وكيف سؤال أعجم بال
يمشين مشي قطا البطاح تأودا قب البطون رواجح الأكفال
من كل آنسة الحـديث حـيية ليست بفاحشة ولامـتـفـال
أقصى مذاهبها إذا لاقيتـهـا في الشهربين أسرة وحجال
وتكون ريقتها إذا نبهـتـهـا كالشهد أوكسلافة الـجـريال المتفال: المنتنة الريح. والجريال فيما قيل: اسم للون الخمر. وقيل: بل هو من أسمائها. والدليل على أنه لونها قول الأعشى:
وسلافة مما تعتق بابـل كدم الذبيح سلبتها جريالها قال سماك بن حرب: حدثني يحنس بن متى الحيري راوية الأعشى: أنه سأله عن هذا البيت فقال: سلبتها لونها: شربتها حمراء، وبلتها بيضاء.
الشعر في هذا الغناء المذكور للكميت بن زيد، والغناء لابن سريج، ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو بن بانة. وذكر المكي أنه لابن محرز. وفيه لعطرد خفيف ثقيل. وهذا الشعر من قصيدة للكميت، يمدح بها مخلد بن يزيد بن المهلب، يقول فيها:
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة ولداته عن ذاك في أشـغـال
قعدت بهم هماتهم وسمت بـه همم الملوك وسورة الأبطـال
فكأنماعاش المهلب بـينـهـم بأغر قاس مثالـه بـمـثـال
في كفه قصبات كل مـقـلـد يوم الرهان وفوزكل نصـال
ومتى أزنك بمعشر وأزنـهـم بك ألف وزنك أرجح الأثقـال
الجزء السابع عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر الكميت ونسبه وخبره
نسبه
صفحة : 1882
هو الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن وهيب بن عمرو بن سبيع. وقيل: الكميت بن زيد بن خنيس بن مجالد بن ذؤيبة بن قيس بن عمرو بن سبيع بن مالك بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. شاعر مقدم، عالم بلغات العرب، خبير بأيامها، من شعراء مضر وألسنتها، والمتعصبين على القحطانية، المقارنين المقارعين لشعرائهم، العلماء بالمثالب والأيام، المفاخرين بها. وكان في أيام بني أمية، ولم يدرك الدولة العباسية، ومات قبلها.
تشيعه لبني هاشم
وكان معروفا بالتشيع لبني هاشم، مشهورا بذلك، وقصائده الهاشميات من جيد شعره ومختاره.
مناقضة دعبل وابن أبي عيينة لقصيدته المذهبة ولم تزل عصبيته للعدنانية ومهاجاته شعراء اليمن متصلة، والمناقضة بينه وبينهم شائعة في حياته وبعد وفاته، حتى ناقض دعبل وابن أبي عيينة قصيدته المذهبة بعد وفاته، وأجابهما أبو البلقاء البصري مولى بني هاشم عنها، وذلك يذكر في موضع آخر يصلح له من هذا الكتاب إن شاء الله .
كان معلم صبيان
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم، عن الأصمعي، عن خلف الأحمر: أنه رأى الكميت يعلم الصبيان في مسجد الكوفة.
مودته للطرماح مع اختلاف المذهب والعصبية
قال ابن قتيبة في خبره خاصة: وكانت بينه وبين الطرماح خلطة ومودة وصفاء لم يكن بين اثنين ، قال : فحدثني بعض أصحابه عن محمد بن سهل راوية الكميت، قال: أنشدت الكميت قول الطرماح:
إذا قبضت نفس الطرماح أخلقـت عرا المجد واسترخى عنان القصائد قال: إي والله وعنان الخطابة والرواية. قال: وهذه الأحوال بينهما على تفاوت المذاهب والعصبية والديانة؛ كان الكميت شيعيا عصبيا عدنانيا من شعراء مضر، متعصبا لأهل الكوفة، والطرماح خارجي صفري قحطاني عصبي لقحطان، من شعراء اليمن، متعصب لأهل الشام، فقيل لهما: ففيم اتفقتما هذا الاتفاق مع اختلاف سائر الأهواء ? قالا: اتفقنا على بغض العامة.
علمه بأيام العرب وأشعارها
أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن سعد الكراني، قال: حدثنا أبو عمر العمري، عن لقيط، قال: اجتمع الكميت بن زيد وحماد الراوية في مسجد الكوفة، فتذاكرا أشعار العرب وأيامها، فخالفه حماد في شيء ونازعه، فقال له الكميت: أتظن أنك أعلم مني بأيام العرب وأشعارها? قال: وما هو إلا الظن هذا والله هو اليقين. فغضب الكميت ثم قال له: لكم شاعر بصير، يقال له عمرو ابن فلان، تروي? ولكم شاعر أعور أو أعمى اسمه فلان ابن عمرو، تروي? فقال حماد قولا لما يحفظه: فجعل الكمي يذكر رجلا رجلا من صنف صنف، ويسأل حمادا: هل يعرفه? فإذا قال: لا، أنشده من شعره جزءا منه حتى ضجرنا.
مساءلته حمادا عن شيء من الشعر
ثم قال له الكميت: فإني سائلك عن شيء من الشعر، فسأله عن قول الشاعر :
طرحوا أصحابهم في ورطة قذفك المقلة شطر المعترك فلم يعلم حماد تفسيره، فسأله عن قول الآخر:
تدريننا بالقول حتى كأنمـا تدرين ولدانا تصيد الرهادنا فأفحم حماد، فقال له: قد أجلتك إلى الجمعة الأخرى، فجاء حماد ولم يأت بتفسيرهما، وسأل الكميت أن يفسرهما له، فقال: المقلة: حصاة أو نواة من نوى المقل يحملها القوم معهم إذا سافروا، وتوضع في الإناء ويصب عليها الماء حتى يغمرها، فيكون ذلك علامة يقتسمون بها الماء. والشطر: النصيب: والمعترك: الموضع الذي يختصمون فيه في الماء، فيلقونها هناك عند الشر. وقوله: تدريننا ، يعني النساء، أي ختلننا فرميننا. والرهادن: طير بمكة كالعصافير.
سبب حفيظة خالد القسري عليه
وكان خالد بن عبد الله القسري - فيما حدثني به عيسى بن الحسين الوراق، قال: أخبرنا أحمد بن الحارث الفزاري عن ابن الأعرابي، وذكره محمد بن أنس السلامي عن المستهل بن الكميت، وذكره ابن كناسة عن جماعة من بني أسد - وقد بلغه أن الكميت أنشد قصيدته التي يهجو فيها اليمن، وهي:
ألا حييت عنا يا مدينا احتيال خالد لإثارة هشام عليه فأحفظته عليه، فروى جارية حسناء قصائده الهاشميات، وأعدها ليهديها إلى هشام، وكتب إليه بأخبار الكميت وهجائه بني أمية، وأنفذ إليه قصيدته التي يقول فيها:
صفحة : 1883
فيا رب هل إلا بك النصر يبتغى ويا رب هل إلا عليك المعول حبسه وكتاب أبان بن الوليد إليه بطريقة هروبه وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي، وابنه الحسين بن زيد، ويمدح بني هاشم. فلما قرأها أكبرها وعظمت عليه، واستنكرها، وكتب إلى خالد يقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده. فلم يشعر الكميت إلا والخيل محدقة بداره، فأخذ وحبس في المخيس ، وكان أبان بن الوليد عاملا على واسط، وكان الكميت صديقه، فبعث إليه بغلام على بغل، وقال له: أنت حر إن لحقته، والبغل لك. وكتب إليه: قد بلغني ما صرت إليه، وهو القتل، إلا أن يدفع الله عز وجل، وارى لك أن تبعث إلى حبي - يعني زوجة الكميت وهي بنت نكيف بن عبد الواحد، وهي ممن يتشيع أيضا - فإذا دخلت إليك تنقبت نقابها، ولبست ثيابها وخرجت، فإني أرجو إلا يؤبه لك.
فأرسل الكميت إلى أبي وضاح حبيب بن بديل وإلى فتيان من بني عمه من مالك بن سعيد، فدخل عليه حبيب فأخبره الخبر، وشاوره فيه، فسدد رأيه، ثم بعث إلى حبي امرأته، فقص عليها القصة، وقال لها: أي ابنة عم، إن الوالي لا يقدم عليك، ولا يسلمك قومك، ولو خفته عليك لما عرضتك له. فألبسته ثيابها وإزارها وخمرته ، وقالت له: أقبل وأدبر؛ ففعل، فقالت: ما أنكر منك شيئا إلا يبسا في كتفك، فاخرج على اسم الله.
امرأته حبى مكانه في السجن وأخرجت معه جارية لها، فخرج وعلى باب السجن أبو وضاح، ومعه فتيان من أسد، فلم يؤبه له، ومشى والفتيان بين يديه إلى سكة شبيب بناحية الكناسة ، فمر بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل ورب الكعبة. وأمر غلامه فاتبعه، فصاح به أبو الوضاح: يا كذا وكذا، لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم. وأومأ إليه بنعله، فولى العبد مدبرا، وأدخله أبو الوضاح منزله.
كشف أمره ولما طال على السجان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك، لا أم لك فشق ثوبه، ومضى صارخا إلى باب خالد، فأخبره الخبر، فأحضر حبي فقال لها: يا عدوة الله، احتلت على أمير المؤمنين، وأخرجت عدوه، لأمثلن بك ولأصنعن ولأفعلن. فاجتمعت بنو أسد إليه، وقالوا: ما سبيلك على امرأة منا خدعت. فخافهم فخلى سبيلها.
خبرته بزجر الطير
قال: وسقط غراب على الحائط فنعب، فقال الكميت لأبي وضاح: إني لمأخوذ، وإن حائطك لساقط. فقال سبحان الله هذا ما لا يكون إن شاء الله. فقال له: لابد من أن تحولني. فخرج به إلى بني علقمة - وكانوا يتشيعون - فأقام فيهم ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب.
خروجه إلى الشام
قال ابن الأعرابي: قال المستهل: وأقام الكميت مدة متواريا، حتى إذا أيقن أن الطلب قد خف عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد، على خوف ووجل، وفيمن معه صاعد غلامه، قال: وأخذا الطريق على القطقطانة - وكان عالما بالنجوم مهتديا بها - فلما صار سحير صاح بنا: هوموا يا فتيان، فهومنا، وقام يصلي.
أطعم ذئبا فهداه الطريق قال المستهل: فرأيت شخصا فتضعضعت له، فقال: مالك? قلت: أرى شيئا مقبلا، فنظر إليه فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض ناحية، فأطعمناه يد جزور، فتعرقها، ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه، وارتحلنا، فجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ما له ويله ألم نطعمه ونسقه وما أعرفني بما يريد هو يعلمنا أنا لسنا على الطريق؛ تيامنوا يا فتيان، فتيامنا فسكن عواؤه.
تواريه وسعي رجالات قريش في خلاصه فلم نزل نسير حتى جئنا بالشام، فتوارى في بني أسد وبني تميم، وأرسل إلى أشراف قريش - وكان سيدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص - فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض، وأتوا عنبسة، فقالوا: يا أبا خالد، هذه مكرمة قد أتاك الله بها، هذا الكميت بن زيد لسان مضر، وكان أمير المؤمنين كتب في قتله، فنجا حتى تخلص إليك وإلينا. قال: فمروه أن يعوذ بقبر معاوية بن هشام بدير حنيناء. فمضى الكميت، فضرب فسطاطه عند قبره، ومضى عنبسة فأتى مسلمة بن هشام، فقال له: يا أبا شاكر، مكرمة أتيتك بها تبلغ الثريا إن اعتقدتها، فإن علمت أنك تفي بها وإلا كتمتها. قال: وما هي? فأخبره الخبر، وقال: إنه قد مدحكم عامة، وإياك خاصة بما لم يسمع بمثله. فقال: علي خلاصه.
مسلمة بن هشام يطلب الأمان له
صفحة : 1884
فدخل على أبيه هشام وهو عند أمه في غير وقت دخول، فقال هشام: أجئت لحاجة? قال: نعم، قال: هي مقضية إلا أن يكون الكميت. فقال: ما أحب أن تستثني علي في حاجتي، وما أنا والكميت فقالت أمه: والله لتقضين حاجته كائنة ما كانت. قال: قد قضيتها ولو أحاطت بما بين قطريها. قال: هي الكميت يا أمير المؤمنين، وهو آمن بأمان الله عز وجل وأماني، وهو شاعر مضر، وقد قال فينا قولا لم يقل مثله، قال: قد أمنته، وأجزت أمانك له، فاجلس له مجلسا ينشدك فيه ما قال فينا.
هشام يعقد له مجلسا يسمع فيه مدائحه في بني أمية فعقد له، وعنده الأبرش الكلبي، فتكلم بخطبة ارتجلها ما سمع بمثلها قط، وامتدحه بقصيدته الرائية، ويقال إنه قالها ارتجالا، وهي قوله:
قف بالديار وقوف زائر فمضى فيها حتى انتهى إلى قوله:
ماذا عليك مـن الـوقـو ف بها وأنك غير صاغر
درجت علـيهـا الـغـاديا ت الرائحات من الأعاصر وفيها يقول:
فالآن صرت إلى أمية والأمور إلى المصاير وجعل هشام يغمز مسلمة بقضيب في يده، فيقول: اسمع، اسمع.
ثم استأذنه في مرثية ابنه معاوية، فأذن له، فأنشده قوله :
سأبكيك للدنيا وللـدين إنـنـي رأيت يد المعروف بعدك شلت
فدامت عليك بالسـلام تـحـية ملائكة الله الكرام وصـلـت فبكى هشام بكاء شديدا، فوثب الحاجب فسكته.
ثم جاء الكميت إلى منزله آمنا، فحشدت له المضرية بالهدايا، وأمر له مسلمة بعشرين ألف درهم، وأمر له هشام بأربعين ألف درهم. وكتب إلى خالد بأمانه وأمان أهل بيته، وأنه لا سلطان له عليهم.
قال: وجمعت له بنو أمية بينها مالا كثيرا. قال: ولم يجمع من قصيدته تلك يومئذ إلا ما حفظه الناس منها فألف. وسئل عنها، فقال: ما أحفظ منها شيئا؛ إنما هو كلام ارتجلته.
فقال: وودع هشاما، وأنشده قوله فيه:
ذكر القلب إلفة المذكورا سبقه الشعراء إلى معنى في صفة الفرس
قال محمد بن كناسة: وكان الكميت يقول: سبقت الناس في هذه القصيدة من أهل الجاهلية والإسلام إلى معنى ما سبقت إليه في صفة الفرس حين أقول:
يبحث الترب عن كواسر في المش رب لا يجشم السقاة الصـفـيرا هذه رواية ابن عمار. وقد روى فيه غير هذا.
رواية أخرى في سبب المنافرة بينه وبين خالد وقيل في سبب المنافرة بين خالد والكميت غير هذا، نسخته من كتاب محمد بن يحيى الخراز، قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الحاسب، قال: حدثني عبد الرحمن بن داود بن أبي أمية البلخي، قال: كان حكيم بن عياش الأعور الكلبي ولعا بهجاء مضر، فكانت شعراء مضر تهجوه ويجيبهم، وكان الكميت يقول: هو والله أشعر منكم. قالوا: فأجب الرجل. قال: إن خالد بن عبد الله القسري محسن إلي فلا أقدر أن أرد عليه، قالوا: فاسمع بأذنك ما يقول في بنات عمك وبنات خالك من الهجاء، وأنشدوه ذلك؛ فحمي الكميت لعشيرته، فقال المذهبة :
ألا حييت عنا يا مدينا فأحسن فيها، وبلغ خالدا خبرها. فقال: لا أبالي ما لم يجر لعشيرتي ذكر، فأنشدوه قوله:
ومن عجب علي لعمـر أم غذتك وغير هاتيا يمـينـا
تجاوزت المياه بـلا دلـيل ولا علم تعسف مخطئينـا
فإنك والتحول مـن مـعـد كهيلة قبلنا والحالـبـينـا
تخطت خيرهم حلبا ونسـئا إلى المولى المغادر هاربينا
كعنز السوء تنطح عالفيهـا وترميها عصي الذابحينـا
صفحة : 1885
فبلغ ذلك خالدا، فقال: فعلها والله لأقتلنه. ثم اشترى ثلاثين جارية بأغلى ثمن، وتخيرهن نهاية في حسن الوجوه والكمال والأدب، فرواهن الهاشميات، ودسهن مع نخاس إلى هشام بن عبد الملك، فاشتراهن جميعا، فلما أنس بهن استنطقهن، فرأى فصاحة وأدبا، فاستقرأهن القرآن، فقرأن، واستنشدهن الشعر، فأنشدنه قصائد الكميت الهاشميات. فقال: ويلكن من قائل هذا الشعر? قلن: الكميت بن زيد الأسدي. قال: وفي أي بلد هو? قلن: في العراق، ثم بالكوفة. فكتب إلى خالد وهو عامله على العراق: ابعث إلي برأس الكميت بن زيد، فبعث خالد إلى الكميت في الليل، فأخذه وأودعه السجن. ولما كان من الغد أقرأ من حضره من مضر كتاب هشام، واعتذر إليهم من قتله، وآذنهم في إنفاذ الأمر فيه في غد، فقال لأبان بن الوليد البجلي - وكان صديقا للكميت -: انظر ما ورد في صديقك. فقال: عز علي والله ما به، ثم قام أبان، فبعث إلى الكميت فأنذره، فوجه إلى امرأته.
مسلمة بن هشام يجيره ويحتال في خلاصه ثم ذكر الخبر في خروجه ومقامها مكانه، كما ذكر من تقدمه. وقال فيه: فأتى مسلمة بن عبد الملك فاستجار به، فقال: إني أخشى ألا ينفعك جواري عنده، ولكن استجر بابنه مسلمة بن هشام. فقال: كن أنت السفير بيني وبينه في ذلك، ففعل مسلمة، وقال لابن أخيه: قد أتيتك بشرف الدهر، واعتقاد الصنيعة في مضر، وأخبره الخبر؛ فأجاره مسلمة بن هشام. وبلغ ذلك هشاما فدعا به، ثم قال: أتجير على أمير المؤمنين بغير أمره? فقال: كلا، ولكني انتظرت سكون غضبه. قال: أحضرنيه الساعة، فإنه لا جوار لك. فقال مسلمة للكميت: يا أبا المستهل، إن أمير المؤمنين أمرني بإحضارك. قال: أتسلمني يا أبا شاكر? قال: كلا، ولكني أحتال لك، ثم قال له: إن معاوية بن هشام مات قريبا، وقد جزع عليه جزعا شديدا، فإذا كان من الليل فاضرب رواقك على قبره، وأنا أبعث إليك بنيه يكونون معك في الرواق، فإذا دعا بك تقدمت إليهم أن يربطوا ثيابهم بثيابك، ويقولوا: هذا استجار بقبر أبينا، ونحن أحق من أجاره.
فأصبح هشام على عادته متطلعا من قصره إلى القبر، فقال: من هذا? فقالوا: لعله مستجير بالقبر فقال: يجار من كان إلا الكميت؛ فإنه لا جوار له. فقيل: فإنه الكميت، قال: يحضر أعنف إحضار. فلما دعي به ربط الصبيان ثيابهم بثيابه. فلما نظر هشام إليهم اغرورقت عيناه واستعبر، وهم يقولون: يا أمير المؤمنين، استجار بقبر أبينا، وقد مات، ومات حظه من الدنيا، فاجعله هبة له ولنا، ولا تفضحنا فيمن استجار به. فبكى هشام حتى انتحب، ثم أقبل على الكميت فقال له: يا كميت، أنت القائل:
وإلا تقولوا غيرها تتعـرفـوا نواصيها تردي بنا وهي شزب خطبته بين يدي هشام وإنشاده بعض مدائحه في بني أمية فقال: لا، والله، ولا أتان من أتن الحجاز وحشية، فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه، ثم قال: أما بعد فإني كنت أتدهدى في غمرة، وأعوم في بحر غواية، أخنى علي خطلها، واستفزني وهلها ؛ فتحيرت في الضلالة، وتسكعت في الجهالة، مهرعا عن الحق، جائرا عن القصد، أقول الباطل ضلالا، وأفوه بالبهتان وبالا، وهذا مقام العائذ مبصر الهدى، ورافض العمى فاغسل عني يا أمير المؤمنين الحوبة بالتوبة، واصفح عن الزلة، واعف عن الجرمة ، ثم قال:
كم قال قائلـكـم: لـعـا لك، عند عثرته لعـاثـر
وغفرتم لـذوي الـذنـو ب من الأكابر والأصاغر
أبـنـي أمـية إنـكــم أهل الوسائل والأوامـر
ثقتـي لـكـل مـلـمة وعشيرتي دون العشـائر
أنتم مـعـادن لـلـخـلا فة كابرا من بعد كابـر
بالتسعة المتـتـابـعـي ن خلائفا وبخير عاشـر
وإلى الـقـيامة لا تـزا ل لشافع منكـم وواتـر ثم قطع الإنشاد وعاد إلى خطبته، فقال: إغضاء أمير المؤمنين وسماحته وصباحته، ومناط المنتجعين بحبله، من لا تحل حبوته لإساءة المذنبين، فضلا عن استشاطة غضبه بجهل الجاهلين.
محاورة بينه وبين هشام في شعر قاله في بني أمية فقال له: ويلك يا كميت من زين لك الغواية، ودلاك في العماية? قال: الذي أخرج أبانا من الجنة، وأنساه العهد، فلم يجد له عزما. فقال: إيه أنت القائل:
صفحة : 1886
فيا موقدا نارا لغيرك ضوءهـا ويا حاطبا في غير حبلك تحطب فقال: بل أنا القائل :
إلى آل بيت أبـي مـالـك مناخ هو الأرحب الأسهـل
نمت بأرحامـنـا الـداخـلا ت من حيث لا ينكر المدخل
ببرة والنضر والمـالـكـي ن رهط هم الأنبل الأنبـل
ويا بني خزيمة بدر السـمـا ء والشمس مفتاح ما نأمـل
وجدنا قريشا قريش البطـاح على ما بنـى الأول الأول
بهم صلح الناس بعد الفسـاد وحيص من الفتق ما رعبلوا قال له: وأنت القائل :
لا كعبد الملـيك أو كـولـيد أو سليمان بعد أو كهـشـام
من يمت لا يمت فقيدا ومن يح ي فـلا ذو إل ولا ذو ذمـام ويلك يا كميت جعلتنا ممن لا يرقب في مؤمن إلا ولا ذمة، فقال: بل أنا القائل يا أمير المؤمنين :
فالآن صرت إلـى أمـي ة والأمور إلى المصـاير
والآن صرت بها المصي ب كمهتد بالأمس حـائر
يابن العقـائل لـلـعـقـا ئل والجحاجحة الأخـاير
من عبد شـمـس والأكـا بر من أمية فالأكـابـر
إن الـخـــلافة والإلا ف برغم ذي حسد وواغر
دلفا من الشرف التـلـي د إليك بالرفد المـوافـر
فحللت معتلـج الـبـطـا ح وحل غيرك بالظواهر قال له: إيه، فأنت القائل :
فقل لبين أمية حيث حلـوا وإن خفت المهند والقطيعا
أجاع الله من أشبعتـمـوه وأشبع من بجوركم أجيعا
بمرضي السياسة هاشمي يكون حيا لأمته ربـيعـا فقال: لا تثريب يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تمحو عني قولي الكاذب. قال: بماذا? قال: بقولي الصادق :
أورثته الحصان أم هشـام حسبا ثاقبا ووجها نضيرا
وتعاطى به ابن عائشة البد ر فأمسى له رقيبا نظيرا
وكساه أبو الخلائف مروا ن سني المكارم المأثورا
لم تجهم له البطاح ولكـن وجدتها له مغارا ودورا إعجاب هشام بشعره ورضاؤه عنه وكان هشام متكئا فاستوى جالسا، وقال: هكذا فليكن الشعر - يقولها لسالم بن عبد الله بن عمر، وكان إلى جانبه - ثم قال: قد رضيت عنك يا كميت؛ فقبل يده، وقال: يا أمير المؤمنين، إن رأيت أن تزيد في تشريفي، ولا تجعل لخالد علي إمارة قال: قد فعلت. وكتب له بذلك، وأمر له بأربعين ألف درهم وثلاثين ثوبا هشامية. وكتب إلى خالد أن يخلي سبيل امرأته ويعطيها عشرين ألفا وثلاثين ثوبا. ففعل ذلك.
خالد يضربه مائة سوط وله مع خالد أخبار بعد قدومه الكوفة بالعهد الذي كتب له، منها أنه مر به خالد يوما، وقد تحدث الناس بعزله عن العراق، فلما جاز تمثل الكميت:
أراها وإن كانت تحب كأنهاسحابة صيف عن قليل تقشع فسمعه خالد، فرجع وقال: أما والله لا تنقشع حتى يغشاك منها شؤبوب برد. ثم أمر به فجرد، فضربه مائة سوط، ثم خلى عنه ومضى. هذه رواية ابن حبيب.
ينذر هشاما بخالد وقد أخبرني أحمد بن عبد الله بن عمار قال: حدثنا النوفلي علي بن محمد بن سليمان أبو الحسن، قال: حدثني أبي، قال: كان هشام بن عبد الملك قد اتهم خالد بن عبد الله - وكان يقال - إنه يريد خلعك - فوجد بباب هشام يوما رقعة فيها شعر، فدخل بها على هشام فقرئت عليه، وهي :
تألـق بـرق عـنــدنـــا وتـــقـــابـــلـــت أثـاف لـقـدر الـحـرب أخـشـى اقـتـبـالــهـــا
فدونـك قـدر الــحـــرب وهـــي مـــقـــرة لكـفـيك واجـعـل دون قـدر جــعـــالـــهـــا
ولـن تـنـتـهـي أو يبـــلـــغ الأمـــر حـــده فنـلـهـا بـرسـل قـبـل ألا تـــنـــالـــهـــا
فتـجـشـم مـنـهـا مـا جـشـمـت مـن الــتـــي بسـوراء هـرت نـحـو حـالــك حـــالـــهـــا
تلاف أمـور الـنـاس قـــبـــل تـــفـــاقـــم بعـقـدة حـزم لا تـخـاف انـــحـــلالـــهـــا
فمـــا أبـــرم الأقـــوام يومـــا لـــحـــيلة من الأمـر إلا قـلـــدوك احـــتـــيالـــهـــا
وقد تخبر الحرب العوان بسرهاوإن لم تبح من لا يريد سؤالها
صفحة : 1887
فأمر هشام أن يجمع له من بحضرته من الرواة، فجمعوا. فأمر بالأبيات فقرئت عليهم، فقال: شعر من تشبه هذه الأبيات? فأجمعوا جميعا من ساعتهم أنه كلام الكميت بن زيد الأسدي، فقال هشام: نعم، هذا الكميت ينذرني بخالد بن عبد الله. ثم كتب إلى خالد يخبره، وكتب إليه بالأبيات، وخالد يومئذ بواسط.
هاشميته اللامية
فكتب خالد إلى واليه بالكوفة يأمره بأخذ الكميت وحبسه، وقال لأصحابه: إنه بلغني أن هذا يمدح بني هاشم ويهجو بني أمية، فأتوني من شعره هذا بشيء. فأتي بقصيدته اللامية التي أولها :
ألا هل عم في رأيه متأمـل وهل مدبر بعد الإساءة مقبل فكتبها وأدرجها في كتاب إلى هشام، يقول: هذا شعر الكميت؛ فإن كان قد صدق في هذا فقد صدق في ذاك.
فلما قرئت على هشام اغتاظ، فلما قال :
فيا ساسة هاتوا لنا من جوابكم ففيكم لعمري ذو الفانين مقول اشتد غيظه. فكتب إلى خالد يأمره أن يقطع يدي الكميت ورجليه، ويضرب عنقه ويهدم داره، ويصلبه على ترابها.
ابن عنبسة ينذره ليتخلص من الحبس فلما قرأ خالد الكتاب كره أن يستفسد عشيرته، وأعلن الأمر رجاء أن يتخلص الكميت، فقال: لقد كتب إلي أمير المؤمنين، وإني لأكره أن أستفسد عشيرته، وسماه، فعرف عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد ما أراد، فأخرج غلاما له مولدا ظريفا، فأعطاه بغلة له شقراء فارهة من بغال الخليفة، وقال: إن أنت وردت الكوفة، فأنذرت الكميت لعله أن يتخلص من الحبس، فأنت حر لوجه الله، والبغلة لك، ولك علي بعد ذلك إكرامك والإحسان إليك.
فركب البغلة وسار بقية يومه وليلته من واسط إلى الكوفة فصبحها، فدخل الحبس متنكرا، فخبر الكميت بالقصة، فأرسل إلى امرأته وهي ابنة عمه يأمرها أن تجيئه ومعها ثياب من لباسها وخفان، ففعلت، فقال: ألبسيني لبسة النساء، ففعلت، ثم قالت له: أقبل، فأقبل، وأدبر، فأدبر. فقالت: ما أرى إلا يبسا في منكبيك، اذهب في حفظ الله.
فخرج فمر بالسجان، فظن أنه المرأة، فلم يعرض له فنجا، وأنشا يقول :
خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل على الرغم من تلك النوابح والمشلي
علي ثياب الغانـيات وتـحـتـهـا عزيمة أمر أشبهت سلة النـصـل وورد كتاب خالد على والي الكوفة يأمره فيه بما كتب به إليه هشام، فأرسل إلى الكميت ليؤتى به من الحبس فينفذ فيه أمر خالد، فدنا من باب البيت فكلمتهم المرأة، وخبرتهم أنها في البيت ، وأن الكميت قد خرج؛ فكتب بذلك إلى خالد فأجابه: حرة كريمة آست ابن عمها بنفسها، وأمر بتخليتها، فبلغ الخبر الأعور الكلبي بالشام، فقال قصيدته التي يرمي فيها امرأة الكميت بأهل الحبس، ويقول: أسودين وأحمرينا .
هجاؤه أحياء اليمن فهاج الكميت ذلك حتى قال:
ألا حييت عنا يا مدينا وهي ثلاثمائة بيت لم يترك فيها حيا من أحياء اليمن إلا هجاهم. وتوارى، وطلب، فمضى إلى الشام، فقال شعره الذي يقول فيه:
قف بالديار وقوف زائر في مسلمة بن عبد الملك، ويقول:
يا مسلم ابن أبي الولـي د لميت إن شئت ناشـر
اليوم صرت إلى أمـي ة والأمور إلى المصاير قال أبو الحسن: قال أبي: إنما أراد اليوم صرت إلى أمية والأمور إلى مصايرها؛ أي بني هاشم. وبذلك احتج ابنه المستهل على أبي العباس حين عيره بقول أبيه هذا الشعر.
فأذن له ليلا، فسأله أن يجيره على هشام، فقال: إني قد أجرت على أمير المؤمنين فأخفر جواري، وقبيح برجل مثلي أن يخفر في كل يوم، ولكني أدلك فاستجر بمسلمة بن هشام وبأمه أم الحكم بنت يحيى بن الحكم؛ فإن أمير المؤمنين قد رشحه لولاية العهد.
فقال الكميت: بئس الرأي أضيع دمي بين صبي وامرأة فهل غير هذا? قال: نعم، مات معاوية ابن أمير المؤمنين وكان يحبه، وقد جعل أمير المؤمنين على نفسه أن يزور قبره في كل أسبوع يوما - وسمى يوما بعينه - وهو يزوره في ذلك اليوم، فامض فاضرب بناءك عند قبره، واستجر به، فإني سأحضر معه وأكلمه بأكثر من الجوار.
استجارته بقبر معاوية بن هشام
صفحة : 1888
ففعل ذلك الكميت في اليوم الذي يأتيه فيه أبوه، فجاء هشام ومعه مسلمة، فنظر إلى البناء، فقال لبعض أعوانه: انظر ما هذا، فرجع فقال: الكميت بن زيد مستجير بقبر معاوية ابن أمير المؤمنين. فأمر بقتله، فكلمه مسلمة وقال: يا أمير المؤمنين، إن إخفار الأموات عار على الأحياء، فلم يزل يعظم عليه الأمر حتى أجاره.
خروج الجعفرية على خالد وهو يخطب وتحريفهم فحدثنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا حجر بن عبد الجبار، قال: خرجت الجعفرية على خالد بن عبد الله القسري وهو يخطب على المنبر وهو لا يعلم بهم، فخرجوا في التبابين ، ينادون: لبيك جعفر، لبيك جعفر وعرف خالد خبرهم، وهو يخطب على المنبر، فدهش فلم يعلم ما يقول فزعا، فقال: أطعموني ماء، ثم خرج الناس إليهم فأخذوا، فجعل يجيء بهم إلى المسجد ويؤخذ طن قصب فيطلى بالنفط، ويقال للرجل احتضنه، ويضرب حتى يفعل، ثم يحرق، فحرقهم جميعا.
تعريضه بخالد فلما قدم يوسف بن عمر دخل عليه الكميت وقد مدحه بعد قتله زيد بن علي، فأنشده قوله فيه:
خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن كمن حصنه فيه الرتاج المضبب
وما خالد يستطعم الماء فـاغـرا بعدلك والداعي إلى الموت ينعب الجند يقتلونه تعصبا لخالد قال: والجند قيام على رأس يوسف بن عمر، وهم يمانية، فتعصبوا لخالد، فوضعوا ذباب سيوفهم في بطن الكميت، فوجئوه بها، وقالوا: أتنشد الأمير ولم تستأمره فلم يزل ينزفه الدم حتى مات.
اعتذاره لهشام من ذنبه وأخبرني عمي، قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي عن محمد بن سلمة بن أرتبيل، قال: لما دخل الكميت بن زيد على هشام، سلم ثم قال: يا أمير المؤمنين، غائب آب، ومذنب تاب، محا بالإنابة ذنبه، وبالصدق كذبه، والتوبة تذهب الحوبة، ومثلك حلم عن ذي الجريمة، وصفح عن ذي الريبة.
فقال له هشام: ما الذي نجاك من القسري? قال: صدق النية في التوبة. قال: ومن سن لك الغي وأورطك فيه? قال: الذي أغوى آدم فنسي ولم يجد له عزما، فإن رأيت يا أمير المؤمنين - فدتك نفسي - أن تأذن لي بمحو الباطل بالحق، بالاستماع لما قلته فأنشده :
ذكر القلب إلفه المذكورا وتلافى من الشباب أخيرا حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني أحمد بن بكير الأسدي، قال: حدثني محمد بن أنس، قال: حدثني محمد بن سهل الأسدي، قال: ابنه المستهل وعبد الصمد بن علي دخل المستهل بن الكميت على عبد الصمد بن علي، فقال له: من أنت? فأخبره؛ فقال: لا حياك الله ولا حيا أباك، هو الذي يقول:
فالآن صرت إلى أمـي ة والأمور إلى المصاير قال: فأطرقت استحياء مما قال، وعرفت البيت. قال: ثم قال لي: ارفع رأسك يا بني، فلئن كان قال هذا، فلقد قال:
بخاتمكم كرها تجوز أمورهـم فلم أر غصبا مثله حين يغصب قال: فسلى بعض ما كان بي، وحادثني ساعة، ثم قال: ما يعجبك من النساء يا مستهل? قلت:
غراء تسحب من قيام فرعها جثلا يزينه سواد أسـحـم
فكأنها فيه نهار مـشـرق وكأنه ليل عليها مـظـلـم قال: يا بني؛ هذه لا تصاب إلا في الفردوس، وأمر له بجائزة.
شعره يصلح بين هشام وجاريته صدوف أخبرني عمي قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله الخصاف الطلحي، عن محمد بن أنس السلامي قال: كان هشام بن عبد الملك مشغوفا بجارية له يقال لها صدوف مدنية اشتريت له بمال جزيل، فعتب عليها ذات يوم في شيء وهجرها، وحلف ألا يبدأها بكلام، فدخل عليه الكميت وهو مغموم بذلك، فقال: ما لي أراك مغموما يا أمير المؤمنين، لا غمك الله فأخبره هشام بالقصة، فأطرق الكميت ساعة ثم أنشأ يقول :
أعتبت أم عتبت عليك صدوف وعتاب مثلك مثلها تشـريف
لا تقعدن تلوم نفسـك دائبـا فيها وأنت بحبها مشغـوف
إن الصريمة لا يقوم بثقلهـا إلا القوي بها، وأنت ضعيف فقال هشام: صدقت والله، ونهض من مجلسه، فدخل إليها، ونهضت إليه فاعتنقته. وانصرف الكميت، فبعث إليه هشام بألف دينار، وبعثت إليه بمثلها.
صفحة : 1889
وفوده على يزيد بن عبد الملك قال الطلحي: أخبرني حبيش بن الكميت أخو المستهل بن الكميت بن زيد، قال: وفد الكميت بن زيد على يزيد بن عبد الملك، فدخل عليه يوما وقد اشتريت له سلامة القس، فأدخلها إليه والكميت حاضر فقال له: يا أبا المستهل؛ هذه جارية تباع، أفترى أن نبتاعها? قال: إي والله يا أمير المؤمنين؛ وما أرى أن لها مثلا في الدنيا فلا تفوتنك، قال: فصفها لي في شعر حتى أقبل رأيك؛ فقال الكميت : شعره في سلامة القس
هي شمس النهار في الحسن إلا أنها فضلت بقتل الـظـراف
غضة بضة رخـيم لـعـوب وعثة المتن شخته الأطـراف
زانها دلهـا وثـغـر نـقـي وحديث مرتل غـير جـافـي
خلقت فوق منية المتـمـنـي فاقبل النصح يا بن عبد منـاف فضحك يزيد، وقال: قد قبلنا نصحك يا أبا المستهل، وأمر له بجائزة سنية.
لقاؤه بالفرزدق وهو صبي
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: أخبرني إبراهيم بن أيوب، عن ابن قتيبة، قال: مر الفرزدق بالكميت وهو ينشد - والكميت يومئذ صبي - فقال له الفرزدق: يا غلام، أيسرك أني أبوك? فقال: لا، ولكن يسرني أن تكون أمي فحصر الفرزدق، فأقبل على جلسائه وقال: ما مر بي مثل هذا قط.
إنشاده أبا عبد الله جعفر بن محمد أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني بن عقدة، قال: أخبرنا علي بن محمد الحسيني، قال: حدثنا جعفر بن محمد بن عيسى الحمال، قال: حدثنا مصبح بن الهلقام، قال: حدثنا محمد بن سهل صاحب الكميت.
دخلت مع الكميت على أبي عبد الله جعفر بن محمد، فقال له: جعلت فداك ألا أنشدك? قال: إنها أيام عظام، قال: إنها فيكم، قال: هات - وبعث أبو عبد الله إلى بعض أهله فقرب - فأنشده، فكثر البكاء حتى أتى على هذا البيت :
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخرا سـدى لـه الـغـي أول فرفع أبو عبد الله يديه فقال: اللهم اغفر للكميت ما قدم وما أخر، وما أسر وما أعلن، وأعطه حتى يرضى.
إنشاده أبا جعفر محمد بن علي أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: قال محمد بن كناسة: حدثني صاعد مولى الكميت، قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن علي فأنشده الكميت قصيدته التي أولها:
من لقلب متيم مستهام? فقال: اللهم اغفر للكميت، اللهم اغفر للكميت.
قبوله كسوة أبي جعفر ورده المال قال: ودخلنا يوما على أبي جعفر محمد بن علي، فأعطانا ألف دينار وكسوة، فقال له الكميت: والله ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة؛ فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأما المال فلا أقبله، فرده وقبل الثياب.
فاطمة بنت الحسين تحتفي به قال: ودخلنا على فاطمة بنت الحسين فقالت: هذا شاعرنا أهل البيت، وجاءت بقدح فيه سويق، فحركته بيدها وسقت الكميت، فشربه، ثم أمرت له بثلاثين دينارا ومركب، فهملت عيناه، وقال: لا والله لا أقبلها؛ إني لم أحبكم للدنيا.
احتجاج بني أسد على المستهل بن الكميت ببيت لأبيه أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: أخبرني عمي، عن عبيد الله بن محمد بن حبيب، عن ابن كناسة، قال: لما جاءت المسودة سخروا بالمستهل بن الكميت، وحملوا عليه حملا ثقيلا، وضربوه، فمر ببني أسد، فقال: أترضون أن يفعل بي هذا الفعل? قالوا له: هؤلاء الذين يقول أبوك فيهم :
والمصيبون باب ما أخطأ النا س ومرسو قواعد الإسلام قد أصابوا فيك، فلا نكذب أباك.
المستهل وأبو مسلم قال: ودخل المستهل على أبي مسلم، فقال له: أبوك الذي كفر بعد إسلامه، فقال: كيف وهو الذي يقول:
بخاتمكم كرها تجوز أمورهـم فلم أر غصبا مثله حين يغصب فأطرق أبو مسلم مستحييا منه.
المستهل يشكو إلى أبي جعفر أخبرني عمي، قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني، قال: حدثنا الحسن بن بشر السعدي، قال: أخذ العسس المستهل بن الكميت في أيام جعفر، وكان الأمر صعبا، فحبس، فكتب إلى أبي جعفر يشكو حاله، وكتب في آخر الرقعة:
لئن نحن خفنا في زمان عدوكم وخفناكم إن البـلاء لـراكـد فلما قرأها أبو جعفر قال: صدق المستهل، وأمر بتخليته.
صفحة : 1890
خبر لدعبل في رؤياه النسبي حدثني علي بن محمد بن علي إمام مسجد الكوفة، قال: أخبرنا إسماعيل بن علي الخزاعي - ابن أخي دعبل - قال: حدثني عمي دعبل بن علي قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فقال لي: ما لك وللكميت بن زيد? فقلت: يا رسول الله، ما بيني وبينه إلا كما بين الشعراء، فقال: لا تفعل، أليس هو القائل:
فلا زلت فيهم حيث يتهمونني ولا زلت في أشياعهم أتقلب فإن الله قد غفر له بهذا البيت. قال: فانتهيت عن الكميت بعدها.
خبر لسعد الأسدي في رؤياه النبي حدثني علي بن محمد، قال: حدثني إسماعيل بن علي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد الأسدي، قال: سمعت أبي يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال: من أي الناس أنت? قلت: من العرب، قال: أعلم، فمن أي العرب? قلت: من بني أسد، قال: من أسد بن خزيمة? قلت: نعم، قال لي: أهلالي أنت? قلت: نعم، قال: أتعرف الكميت بن زيد? قلت: يا رسول الله، عمي ومن قبيلتي، قال: أتحفظ من شعره شيئا? قلت: نعم، قال: أنشدني :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب قال: فأنشدته حتى بلغت إلى قوله :
فما لي إلا آل أحـمـد شـيعة وما لي إلا مشعب الحق مشعب فقال لي: إذا أصبحت فاقرأ عليه السلام، وقل له: قد غفر الله لك بهذه القصيدة.
نصر بن مزاحم يراه في نومه ينشد بين يدي النبي وجدت في كتاب بخط المرهبي الكوفي: حدثني سليمان بن الربيع بن هشام النهدي الخراز، قال: حدثني نصر بن مزاحم المنقري، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم وبين يديه رجل ينشده:
من لقلب متيم مستهام? قال: فسألت عنه، فقيل لي: هذا الكميت بن زيد الأسدي، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول له: جزاك الله خيرا وأثنى عليه.
نقد الفرزدق شعره
أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني أحمد بن بكير الأسدي، قال: حدثني محمد بن أنس السلامي، قال: حدثني محمد بن سهل راوية الكميت، قال: جاء الكميت إلى الفرزدق لما قدم الكوفة، فقال له: إني قد قلت شيئا فأسمعه مني يا أبا فراس. قال: هاته، فأنشده قوله :
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب ولا لعبا مني وذو الشيب يلـعـب
ولكن إلى أهل الفضائل والنـهـى وخير بني حواء والخير يطـلـب فقال له: قد طربت إلى شيء ما طرب إليه أحد قبلك، فأما نحن فما نطرب، ولا طرب من كان قبلنا إلا إلى ما تركت أنت الطرب إليه.
يعرض شعره على الفرزدق قبل إذاعته أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا محمد بن علي النوفلي، قال: سمعت أبي يقول: لما قال الكميت بن زيد الشعر كان أول ما قال الهاشميات، فسترها، ثم أتى الفرزدق بن غالب، فقال له: يا أبا فراس، إنك شيخ مضر وشاعرها، وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسدي. قال له: صدقت، أنت ابن أخي، فما حاجتك? قال: نفث على لساني فقلت شعرا، فأحببت أن أعرضه عليك؛ فإن كان حسنا أمرتني بإذاعته، وإن كان قبيحا أمرتني بستره، وكنت أولى من ستره علي. فقال له الفرزدق: أما عقلك فحسن، وإني لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك، فأنشدني ما قلت، فأنشده:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب قال: فقال لي: فيم تطرب يابن أخي? فقال:
ولا لعبا مني وذو الشيب يلعب فقال: بلى يابن أخي، فالعب، فإنك في أوان اللعب، فقال:
ولم يلهني دار ولا رسم منزل ولم يتطربني بنان مخضـب فقال: ما يطربك يابن أخي? فقال:
ولا السانحات البارحات عشـية أمر سليم القرن أم مر أعضب? فقال: أجل، لا تتطير، فقال:
ولكن إلى أهل الفضائل والنهى وخير بني حواء والخير يطلب فقال: ومن هؤلاء? ويحك فقال:
إلى النفر البيض الذين بحبهم إلى الله فيما نابني أتقـرب قال: أرحني ويحك من هؤلاء? قال:
بني هاشم رهط النبي فـإنـنـي بهم ولهم أرضى مرارا وأغضب
خفضت لهم مني جناحـي مـودة إلى كنف عطفاه؛ أهل ومرحب
وكنت لهم مـن هـؤلاء وهـؤلا محبا ، على أني أذم وأقـصـب
صفحة : 1891
وأرمى وأرمي بالعداوة أهلها وإني لأوذى فيهـم وأؤنـب فقال له الفرزدق: يابن أخي، أذع ثم أذع، فأنت والله أشعر من مضى، وأشعر من بقى.
معارضته قصيدة لذي الرمة
أخبرني الحسن، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني أحمد بن بكير، قال: حدثني محمد بن أنس، قال: حدثني محمد بن سهل راوية الكميت عن الكميت، قال: لما قدم ذو الرمة أتيته فقلت له: إني قد قلت قصيدة عارضت بها قصيدتك:
ما بال عينك منها الماء ينسكب فقال لي: وأي شيء قلت? قال: قلت:
هل أنت على طلب الأيفاع منقـلـب أم كيف يحسن من ذي الشيبة اللعب? حتى أنشدته إياها، فقال لي: ويحك إنك لتقول قولا ما يقدر إنسان أن يقول لك أصبت ولا أخطأت، وذلك أنك تصف الشيء فلا تجيء به، ولا تقع بعيدا منه، بل تقع قريبا. قلت له: أوتدري لم ذلك? قال: لا، قلت: لأنك تصف شيئا رأيته بعينك، وأنا أصف شيئا وصف لي، وليست المعاينة كالوصف. قال: فسكت .
علمه بالبادية عن وصف جدتيه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثني إسماعيل بن عبد الله الطلحي، عن محمد بن سلمة بن أرتبيل، عن حماد الراوية، قال: كانت للكميت جدتان أدركتا الجاهلية، فكانتا تصفان له البادية وأمورها وتخبرانه بأخبار الناس في الجاهلية، فإذا شك في شعر أو خبر عرضه عليهما فيخبرانه عنه، فمن هناك كان علمه.
أخبرني الحسن بن القاسم البجلي الكوفي، قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن المعلى، قال: حدثنا محمد بن فضيل - يعني الصيرفي - عن أبي بكر الحضرمي، قال: استأذنت للكميت على أبي جعفر محمد بن علي في أيام التشريق بمنى، فأذن له، فقال له الكميت: جعلت فداك إني قلت فيكم شعرا أحب أن أنشدكه. فقال: يا كميت، اذكر الله في هذه الأيام المعلومات، وفي هذه الأيام المعدودات، فأعاد عليه الكميت القول، فرق له أبو جعفر فقال: هات، فأنشده قصيدته حتى بلغ :
يصيب به الرامون عن قوس غيرهم فيا آخرا سـدى لـه الـغـي أول فرفع أبو جعفر يديه إلى السماء وقال: اللهم اغفر للكميت.
استئذانه أبا جعفر في مدح بني أمية أخبرني جعفر بن محمد بن مروان الغزال الكوفي، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أرطاة بن حبيب، عن فضيل الرسان، عن ورد بن زيد أخي الكميت، قال: أرسلني الكميت إلى أبي جعفر، فقلت له: إن الكميت أرسلني إليك، وقد صنع بنفسه ما صنع، فتأذن له أن يمدح بني أمية? قال: نعم، هو في حل فليقل ما شاء.
أخبرني محمد بن العباس، قال: أخبرني عمي عن عبيد الله بن محمد بن حبيب، عن ابن كناسة، قال: مات ورد أخو الكميت، فقيل للكميت: ألا ترثي أخاك? فقال: مرثيته ومرزيته عندي سواء، وإني لا أطيق أن أرثيه جزعا عليه.
روايته للحديث
وقد روى الكميت بن زيد الحديث، وروي عنه.
أخبرني جعفر بن محمد بن عبيد بن عتبة في كتابه إلي، قال: حدثني الحسين بن محمد بن علي الأزدي، قال: حدثني الوليد بن صالح، قال: حدثني محمد بن سعيد بن عمير الصيداوي، عن أبيه، عن الكميت بن زيد، قال: حدثني عكرمة أن عبد الله بن عباس بعثه مع الحسين بن علي فجعل يهل حتى رمى جمرة العقبة، أو حين رمى جمرة العقبة، فسألته عن ذلك، فأخبرني أن أباه فعله، فحدثت به ابن عباس، فقال لي: لا أم لك أتسالني عن شيء أخبرك به الحسين بن علي عن أبيه والله إنها لسنة.
أخبرنا أبو الحسن بن سراج الجاحظ، قال: حدثنا مسروق بن عبد الرحمن أبو صالح، عن الحسن بن محمد بن أعين، عن حفص بن محمد الأسدي، قال: حدثنا الكميت بن زيد عن مذكور مولى زينب، عن زينب، قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا فضل ، قالت: فقلت بيدي هكذا - واستترت - قالت: فقال لي: إن الله عز وجل زوجنيك.
روايته للتفسير
حدثني أبو العباس أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة، قال: حدثني أحمد بن سراج، قال: حدثني الحسن بن أيوب الخثعمي، قال: حدثنا فرات بن حبيب الأسدي قال: حدثني أبي حبيب بن أبي سليمان، قال: حدثني الكميت بن زيد، قال: سألت أبا جعفر عن قول الله عز وجل: )إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد( . قال: دخلت أنا وأبي إلى أبي سعيد الخدري، فسأله أبي عنها، فقال: معاد آخرته: الموت.
صفحة : 1892
يعتذر إلى أبي جعفر محمد بن علي أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني إسحاق بن محمد بن أبان، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مهران، قال: حدثني ربعي بن عبد الله بن الجارود بن أبي سبرة، عن أبيه، قال: دخل الكميت بن زيد الأسدي على أبي جعفر محمد بن علي، فقال له: يا كميت أنت القائل:
فالآن صرت إلى أمـي ة والأمور إلى المصاير قال: نعم، قد قلت، ولا والله ما أردت به إلا الدنيا، ولقد عرفت فضلكم، قال: أما أن قلت ذلك فإن التقية لتحل.
رأي معاذ الهراء في شعره أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الحسن بن عبد الرحمن الربعي، قال: حدثنا أحمد بن بكير الأسدي قال: حدثنا محمد بن أنس السلامي الأسدي قال: سئل معاذ الهراء: من أشعر الناس? قال: أمن الجاهليين أم من الإسلاميين? قالوا: بل من الجاهليين. قال: امرؤ القيس، وزهير، وعبيد بن الأبرص. قالوا: فمن الإسلاميين? قال: الفرزدق، وجرير، والأخطل، والراعي. قال: فقيل له: يا أبا محمد، ما رأيناك ذكرت الكميت فيمن ذكرت. قال: ذاك أشعر الأولين والآخرين.
لم يخرج مع زيد بن علي أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي، قال: حدثنا العباس بن بكار، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، قال: لما خرج زيد بن علي كتب إلى الكميت: اخرج معنا يا أعيمش، ألست القائل :
ما أبالي إذا حفظت أبا القاسم فيكم ملامة اللوام فكتب إليه الكميت:
تجود لكم نفسي بما دون وثـبة تظل لها الغربان حولي تحجل أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمي عن عبيد الله بن محمد بن حبيب، عن محمد بن كناسة، قال: لما أنشد هشام بن عبد الملك قول الكميت :
فبهم صرت للبعـيد ابـن عـم واتهمت القـريب أي اتـهـام
مبديا صفحتي على الموقف المع لم، بالله قوتي واعتـصـامـي قال: استقتل المرائي.
مدحه خالد القسري قال: ودخل الكميت على خالد القسري، فأنشده قوله فيه :
لو قيل للجود: من حليفك? مـا إن كان إلا إلـيك ينـتـسـب
أنت أخوه وأنـت صـورتـه والرأس منه، وغيرك الذنـب
أحرزت فضل النضال في مهل فكل يوم بكفـك الـقـصـب
لو أن كعبا وحاتـمـا نـشـرا كانا جميعا من بعض ما تهب
لا تخلف الوعد إن وعـدت ولا أنت عن المعتفين تحتـجـب
ما دونك اليوم مـن نـوال، ولا خلفك للراغبين مـنـقـلـب فأمر له بمائة ألف درهم.
المستهل وعيسى بن موسى قال: وحضر المستهل بن الكميت باب عيسى بن موسى - وكان يكرمه - فبلغه أنه قد غاب عليه الشراب، فاستخف به، وكان آخر من يدخل إلى عيسى بن موسى قوم يقال لهم الراشدون يؤذن لهم في القعود، فأدخل المستهل معهم، فقال:
ألم تر أني لما حضـرت دعيت فكنت مع الراشدينا
ففزت بأحسن أسمـائهـم وأقبح منزلة الداخلـينـا إنشاده مخلد بن يزيد بن المهلب أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: دخل الكميت على مخلد بن يزيد بن المهلب، فأنشده :
قاد الجيوش لخمس عشرة حجة ولداته عن ذاك في أشـغـال
قعدت بهم هماتهم وسمت بـه همم الملوك وسورة الأبطـال قال: وقدام مخلد دراهم يقال لها الرويجة، فقال: خذ وقرك منها. فقال له: البغلة بالباب، وهي أجلد مني، فقال: خذ وقرها، فأخذ أربعة وعشرين ألف درهم، فقيل لأبيه في ذلك، فقال: لا أرد مكرمة فعلها ابني.
إذا قال أحب أن يحسن أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أبو بكر الأموي، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: سمعت ابن شبرمة، قال: قلت للكميت: إنك قلت في بني هاشم فأحسنت، وقلت في بني أمية أفضل، قال: إني إذا قلت أحببت أن أحسن.
طويل أصم لا يجيد الإنشاد أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي، قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثنا محمد بن معاوية، عن ابن كناسة، قال: كان الكميت بن زيد طويلا أصم، ولم يكن حسن الصوت ولا جيد الإنشاد، فكان إذا استنشد أمر ابنه المستهل فأنشد، وكان فصيحا حسن الإنشاد .
صفحة : 1893
سبب هجائه أهل اليمن
أخبرني عمي وابن عمار، قالا: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي، عن محمد بن سلمة بن أرتبيل: أن سبب هجاء الكميت أهل اليمن، أن شاعرا من أهل الشام يقال له حكيم بن عياش الكلبي كان يهجو علي بن أبي طالب وبني هاشم جميعا، وكان منقطعا إلى بني أمية، فانتدب له الكميت فهجاه وسبه، فأجابه ولج الهجاء بينهما، وكان الكميت يخاف أن يفتضح في شعره عن علي لما وقع بينه وبين هشام، وكان يظهر أن هجاءه إياه في العصبية التي بين عدنان وقحطان، فكان ولد إسماعيل بن الصباح بن الأشعث بن قيس وولد علقمة بن وائل الحضرمي يروون شعر الكلبي، فهجا أهل اليمن جميعا إلا هذين، فإنه قال في آل علقمة:
ولولا آل علقمة اجتدعنا بقايا من أنوف مصلمينا وقال في إسماعيل:
فإن لإسماعـيل حـقـا، وإنـنـا له شاعبو الصدع المقارب للشعب وكانت لآل علقمة عنده يد؛ لأن علقمة آواه ليلة خرج إلى الشام، وأم إسماعيل من بني أسد، فكف عنهما لذلك.
قال الطلحي: قال أبو سلمة: حدثني محمد بن سهل، قال: قال الكلبي:
ما سرني أن أمي من بني أسد وأن ربي نجاني من الـنـار
وأنهم زوجوني من بناتـهـم وأن لي كل يوم ألف دينـار فأجابه الكميت:
يا كلب مالك أم من بني أسـد معروفة فاحترق يا كلب بالنار
لكن أمك من قوم شنئت بـهـم قد قنعوك قناع الخزي والعار قال: فقال له الكلبي:
لن يبرح اللؤم هذا الحي من أسد حتى يفرق بين السبت والأحـد قال محمد بن أنس: حدثني المستهل بن الكميت، قال: قلت لأبي: يا أبت، إنك هجوت الكلبي، فقلت:
ألا يا سلم يا تـربـي أفي أسماء من ترب? وغمزت عليه فيها، ففخرت ببني أمية، وأنت تشهد عليها بالكفر، فألا فخرت بعلي وبني هاشم الذين تتولاهم فقال: يا بني، أنت تعلم انقطاع الكلبي إلى بني أمية، وهم أعداء علي، فلو ذكرت عليا لترك ذكري، وأقبل على هجائه، فأكون قد عرضت عليا له، ولا أجد له ناصرا من بني أمية، ففخرت عليه ببني أمية، وقلت: إن نقضها علي قتلوه، وإن أمسك عن ذكرهم قتلته غما وغلبته؛ فكان كما قال، أمسك الكلبي عن جوابه، فغلب عليه، وأفحم الكلبي.
وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته.
صوت
ألا يا سلـم يا تـربـي أفي أسماء من ترب?
ألا يا سـلـم حــييت سلي عني وعن صحبي
ألا يا سـلـم غـنـينـا وإن هيجتمـا حـبـي
علـى حـــادثة الأيا م لي نصبا من النصب الغناء لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن عمرو.
يحاول إطلاق سراح أبان بن الوليد البجلي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: أخبرني أبو سعيد السكري، عن محمد بن حبيب، عن إبراهيم بن عبد الله الطلحي، قال: قال محمد بن سلمة: كان الكميت مداحا لأبان بن الوليد البجلي، وكان أبان له محبا وإليه محسنا، فمدح الكميت الحكم بن الصلت، وهو يومئذ يخلف يوسف بن عمر، بقصيدته التي أولها:
طربت وهاجك الشوق الحثيث فلما أنشده إياها وفرغ، دعا الحكم بخازنه ليعطيه الجائزة، ثم دعا بأبان بن الوليد، فأدخل إليه وهو مكبل بالحديد، فطالبه بالمال، فالتفت الكميت فرآه، فدمعت عيناه، وأقبل على الحكم، فقال: أصلح الله الأمير اجعل جائزتي لأبان، واحتسب بها له من هذا النجم. فقال له الحكم: قد فعلت، ردوه إلى السجن. فقال له أبان: يا أبا المستهل، ما حل علي شيء بعد. فقال الكميت للحكم: أبي تسخر أصلح الله الأمير فقال الحكم: كذب، قد حل عليه المال، ولو لم يحل لاحتسبنا له مما يحل.
تعريضه بحوشب بن يزيد الشيباني
فقال له حوشب بن يزيد الشيباني - وكان خليفة الحكم -: أصلح الله الأمير، أتشفع حمار بني أسد في عبد بجيلة? فقال له الكميت: لئن قلت ذاك فوالله ما فررنا عن آبائنا حتى قتلوا، ولا نكحنا حلائل آبائنا بعد أن ماتوا - وكان يقال إن حوشبا فر عن أبيه في بعض الحروب، فقتل أبوه ونجا هو، ويقال: إنه وطىء جارية لأبيه بعد وفاته - فسكت حوشب مفحما خجلا، فقال له الحكم: ما كان تعرضك للسان الكميت.
قال: وفي حوشب يقو الشاعر:
صفحة : 1894
نجى حشاشته وأسلم شيخـه لما رأى وقع الأسنة حوشب ابنته ريا وفاطمة بنت أبان بن الوليد
قال الطلحي في هذا الخبر: وحدثني إبراهيم بن علي الأسدي قال: التقت ريا بنت الكميت بن زيد، وفاطمة بنت أبان بن الوليد بمكة، وهما حاجتان، فتساءلتا حتى تعارفتا، فدفعت بنت أبان إلى بنت الكميت خلخالي ذهب كانا عليها، فقالت لها بنت الكميت: جزاكم الله خيرا يا آل أبان، فما تتركون بركم بنا قديما ولا حديثا فقالت لها بنت أبان: بل أنتم، فجزاكم الله خيرا؛ فإنا أعطيناكم ما يبيد ويفنى، وأعطيتمونا من المجد والشرف ما يبقى أبدا ولا يبيد، يتناشده الناس في المحافل فيحيي ميت الذكر، ويرفع بقية العقب.
مولده وموته ومبلغ شعره
أخبرني عمي وابن عمار، قالا: حدثنا يعقوب بن نعيم، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن زيد الخصاف الطليحي، قال: قال محمد بن سلمة بن أرتبيل: ولد الكميت أيام مقتل الحسين بن علي سنة ستين، ومات في سنة ست وعشرين ومائة، في خلافة مروان بن محمد، وكان مبلغ شعره حين مات خمسة آلاف ومائتين وتسعة وثمانين بيتا.
وقال يعقوب بن إسرائيل في رواية عمي خاصة عنه: حدثت عن المستهل بن الكميت أنه قال: حضرت أبي عند الموت وهو يجود بنفسه، ثم أفاق ففتح عينيه، ثم قال: اللهم آل محمد، اللهم آل محمد، اللهم آل محمد - ثلاثا - ثم قال لي: يا بني؛ وددت أني لم أكن هجوت نساء بني كلب بهذا البيت:
مع العضروط والعسفاء ألقوا برادعهن غير محصنـينـا وصيته لابنه في دفنه
فعممتهن قذفا بالفجور، والله ما خرجت بليل قط إلا خشيت أن أرمى بنجوم السماء لذلك. ثم قال: يا بني؛ إنه بلغني في الروايات أنه يحفر بظهر الكوفة خندق يخرج فيه الموتى من قبورهم وينبشون منها، فيحولون إلى قبور غير قبورهم، فلا تدفني في الظهر، ولكن إذا مت فامض بي إلى موضع يقال له مكران، فادفني فيه. فدفن في ذلك الموضع وكان أول من دفن فيه، وهي مقبرة بني أسد إلى الساعة.
قال المستهل: ومات أبي في خلافة مروان بن محمد سنة ست وعشرين ومائة.
صوت
شعر لعمر بن أبي ربيعة
أستعين الذي بكفيه نفـعـي ورجائي على التي قتلتنـي
ولقد كنت قد عرفت وأبصر ت أمورا لو أنها نفعتـنـي
قلت: إني أهوى شفا ما ألاقي من خطوب تتابعت فدحتنـي عروضه من السريع ، يقال: إن الشعر لعمر، والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى، عن حماد عن أبيه، وفيه لحن للهذلي. وقيل: بل لحن ابن سريج للهذلي، ذكر ذلك حبش. وقيل: بل هو مما نسب من غناء ابن سريج إلى الهذلي.
خبر ابن سريج مع سكينة بنت الحسين
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن مصعب الزبيري، قال: حدثني شيخ من المكيين، ووجدت هذا الخبر أيضا في بعض الكتب مرويا عن محمد بن سعد كاتب الواقدي، عن مصعب، عن شيخ من المكيين، والرواية عنهما متفقة، قال: امتناعه من الغناء وقدومه المدينة للاستشفاء
كان ابن سريج قد أصابته الريح الخبيثة، وآلى يمينا ألا يغني، ونسك ولزم المسجد الحرام حتى عوفي. ثم خرج وفيه بقية من العلة، فأتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وموضع مصلاه.
فلما قدم المدينة نزل على بعض إخوانه من أهل النسك والقراءة، فكان أهل الغناء يأتونه مسلمين عليه، فلا يأذن لهم في الجلوس والمحادثة، فأقام بالمدينة حولا حتى لم يحس من علته بشيء، وأراد الشخوص إلى مكة.
سكينة ترغب في الاستماع منه
وبلغ ذلك سكينة بنت الحسين، فاغتمت اغتماما شديدا، وضاق به ذرعها، وكان أشعب يخدمها، وكانت تأنس بمضاحكته ونوادره، وقالت لأشعب: ويلك إن ابن سريج شاخص، وقد دخل المدينة منذ حول، ولم أسمع من غنائه قليلا ولا كثيرا، ويعز ذلك علي، فكيف الحيلة في الاستماع منه، ولو صوتا واحدا? فقال لها أشعب: جعلت فداك وأنى لك بذلك والرجل اليوم زاهد ولا حيلة فيه? فارفعي طمعك، والحسي تورك تنفعك حلاوة فمك.
صفحة : 1895
فأمرت بعض جواريها فوطئن بطنه حتى كادت أن تخرج أمعاؤه، وخنقنه حتى كادت نفسه أن تتلف، ثم أمرت به فسحب على وجهه حتى أخرج من الدار إخراجا عنيفا. فخرج على أسوأ الحالات، واعتم أشعب غما شديدا، وندم على ممازحتها في وقت لم ينبغ له ذلك؛ فأتى منزل ابن سريج ليلا فطرقه، فقيل: من هذا? فقال: أشعب، ففتحوا له، فرأى على وجهه ولحيته التراب، والدم سائلا من أنفه وجبهته على لحيته، وثيابه ممزقة، وبطنه وصدره وحلقه قد عصرها الدوس والخنق، ومات الدم فيها، فنظر ابن سريج إلى منظر فظيع هاله وراعه، فقال له: ما هذا ويحك? فقص عليه القصة.
امتناعه من الذهاب إليها
فقال ابن سريج: إنا لله وإنا إليه راجعون ماذا نزل بك? والحمد لله الذي سلم نفسك، لا تعودن إلى هذه أبدا. قال أشعب: فديتك هي مولاتي ولابد لي منها، ولكن هل لك حيلة في أن تصير إليها وتغنيها؛ فيكون ذلك سببا لرضاها عني? قال ابن سريج: كلا والله لا يكون ذلك أبدا بعد أن تركته.
قال أشعب: قد قطعت أملي ورفعت رزقي، وتركتني حيران بالمدينة، لا يقبلني أحد وهي ساخطة علي، فالله الله في، وأنا أنشدك الله إلا تحملت هذا الإثم في، فأبى عليه.
حيلة أشعب لإرغامه
فلما رأى أشعب أن عزم ابن سريج قد تم على الامتناع قال في نفسه: لا حيلة لي، وهذا خارج، وإن خرج هلكت، فصرخ صرخة آذن أهل المدينة لها، ونبه الجيران من رقادهم، وأقام الناس من فرشهم، ثم سكت، فلم يدر الناس ما القصة عند خفوت الصوت بعد أن قد راعهم.
فقال له ابن سريج: ويلك ما هذا? قال: لئن لم تصر معي إليها لأصرخن صرخة أخرى لا يبقى بالمدينة أحد إلا صار بالباب، ثم لأفتحنه ولأرينهم ما بي، ولأعلمنهم أنك أردت تفعل كذا وكذا بفلان - يعني غلاما كان ابن سريج مشهورا به - فمنعتك، وخلصت الغلام من يدك حتى فتح الباب ومضى؛ ففعلت بي هذا غيظا وتأسفا، وأنك إنما أظهرت النسك والقراءة لتظفر بحاجتك منه، وكان أهل مكة والمدينة يعلمون حاله معه. فقال ابن سريج: اغرب، أخزاك الله. قال أشعب: والله الذي لا إله إلا هو، وإلا فما أملك صدقة ، وامرأته طالق ثلاثا، وهو نحير في مقام إبراهيم، والكعبة، وبيت النار، والقبر قبر أبي رغال إن أنت لم تنهض معي في ليلتي هذه لأفعلن.
قبوله الذهاب إلى منزل سكينة فلما رأى ابن سريج الجد منه قال لصاحبه: ويحك أما ترى ما وقعن فيه? وكان صاحبه الذي نزل عنده ناسكا؛ فقال: لا أدري ما أقول فيما نزل بنا من هذا الخبيث. وتذمم ابن سريج من الرجل صاحب المنزل فقال لأشعب: اخرج من منزل الرجل. فقال: رجلي مع رجلك، فخرجا.
فلما صارا في بعض الطريق قال ابن سريج لأشعب: امض عني. قال: والله لئن لم تفعل ما قلت لأصيحن الساعة حتى يجتمع الناس، ولأقولن: إنك أخذت مني سوارا من ذهب لسكينة على أن تجيئها فتغنيها سرا، وإنك كابرتني عليه وجحدتني، وفعلت بي هذا الفعل.
فوقع ابن سريج فيما لا حيلة له فيه. فقال: أمضي، لا بارك الله فيك. فمضى معه.
استعفاؤه وإباء سكينة فلما صار إلى باب سكينة قرع الباب، فقيل: من هذا? فقال: أشعب قد جاء بابن سريج، ففتح الباب لهما، ودخلا إلى حجرة خارجة عن دار سكينة، فجلسا ساعة، ثم أذن لهما فدخلا إلى سكينة، فقالت: يا عبيد، ما هذا الجفاء? قال: قد علمت بأبي أنت ما كان مني. قالت: أجل، فتحدثا ساعة، وقص عليها ما صنع به أشعب، فضحكت، وقالت: لقد أذهب ما كان في قلبي عليه، وأمرت لأشعب بعشرين دينارا وكسوة. ثم قال لها ابن سريج: أتأذنين بأبي أنت? قالت: وأين? قال: المنزل، قالت: برئت من جدي إن برحت داري ثلاثا، وبرئت من جدي إن أنت لم تغن إن خرجت من داري شهرا، وبرئت من جدي إن أقمت في داري شهرا إن لم أضربك لكل يوم تقيم فيه عشرا، وبرئت من جدي إن حنثت في يميني أو شفعت فيك أحدا.
فقال عبيد: واسخنة عيناه واذهاب دنياه ثم اندفع يغني:
أستعين الذي بكفيه نفعـي ورجائي على التي قتلتني دملج سكينة في يده الصوت المذكور آنفا. فقالت له سكينة: فهل عندك يا عبيد من صبر? ثم أخرجت دملجا من ذهب كان في عضدها وزنه أربعون مثقالا، فرمت به إليه، ثم قالت: أقسمت عليك لما أدخلته في يدك، ففعل ذلك.
استدعاء عزة الميلاء
صفحة : 1896
ثم قالت لأشعب: اذهب إلى عزة فاقرئها مني السلام، وأعلمها أن عبيدا عندنا، فلتأتنا متفضلة بالزيارة. فأتاها أشعب فأعلمها، فأسرعت المجيء، فتحدثوا باقي ليلتهم. ثم أمرت عبيدا وأشعب فخرجا فناما في حجرة مواليها.
مجلس غناء
فلما أصبحت هيئ لهم غداؤهم، وأذنت لابن سريج فدخل فتغذى قريبا منها مع أشعب ومواليها، وقعدت هي مع عزة وخاصة جواريها، فلما فرغوا من الغداء قالت: يا عز، إن رأيت أن تغنينا فافعلي. قالت: إي وعيشك. فتغنت لحنها في شعر عنترة العبسي :
حييت من طلل تقادم عهـده أقوى وأقفر بعد أم الهيثـم
إن كنت أزمعت الفراق فإنما زمت ركابكم بليل مظـلـم فقال ابن سريج: أحسنت والله يا عزة وأخرجت سكينة الدملج الآخر من يدها فرمته إلى عزة، وقالت: صيري هذا في يدك، ففعلت. ثم قالت لعبيد: هات غننا. فقال: حسبك ما سمعت البارحة. فقالت: لابد أن تغنينا في كل يوم لحنا. فلما رأى ابن سريج أنه لا يقدر على الامتناع مما تسأله غنى:
قالت: من أنت? على ذكر فقلت لها:أنا الذي ساقه للحين مقدار
قد حان منك فلا تبعد بك الداربين وفي البين للمتبول إضرار ثم قالت لعزة في اليوم الثاني: غني، فغنت لحنها في شعر الحارث بن خالد - ولابن محرز فيه لحن -، ولحن عزة أحسنهما:
وقرت بها عيني، وقد كنت قبلها كثير البكاء مشفقا من صدودها
وبشرة خود مثل تمثـال بـيعة تظل النصارى حوله يوم عيدها قال ابن سريج: والله ما سمعت مثل هذا قط حسنا ولا طيبا.
ثم قالت لابن سريج: هات، فاندفع يغني:
أرقت فلم أنم طربـا وبت مسهدا نصـبـا
لطيف أحب خلق الل ه إنسانا وإن غضبـا
فلم أردد مقالـتـهـا ولم أك عاتبا عتـبـا
ولكن صرمت حبلـي فأمسى الحبل منقضبا فقالت سكينة: قد علمت ما أردت بهذا، وقد شفعناك، ولم نردك. وإنما كانت يميني على ثلاثة أيام، فاذهب في حفظ الله وكلاءته.
ثم قالت لعزة: إذا شئت. ودعت لها بحلة، ولابن سريج بمثلها. فانصرفت عزة، وأقام ابن سريج حتى انقضت ليلته، وانصرف، فمضى من وجهه إلى مكة راجعا.
أشعار وأصواتها
نسبة الأصوات التي في هذا الخبر
منها: صوت
حييت من طلل تقادم عهده أقوى وأقفر بعد أم الهيثم الشعر لعنترة بن شداد العبسي، والغناء لعزة الميلاء، وقد كتب ذلك في أول هذه القصيدة وسائر ما يغني فيها.
ومنها:
أرقت فلم أنم طربـا وبت مسهدا نصبـا
لطيف أحب خلق الل ه إنسانا وإن غضبـا
إلى نفسي، وأوجههم وإن أمسى قد احتجبا
وصرم حبلنا ظلمـا لبلغة كاشح كـذبـا عروضه من الوافر. الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج، ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر.
ومنها قوله: صوت
قد حان منك فلا تبعد بك الدار بين وفي البين للمتبول إضرار
قالت: من أنت? على ذكر فقلت لها:أنا الذي ساقني للحين مقدار الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى.
ومنها الصوت الذي أوله:
وقرت بها عيني وقد كنت قبلها أوله قوله: صوت
لبشرة أسرى الطيف والخبت دونها وما بيننا من حزن أرض وبيدهـا
وقرت بها عيني وقد كنت قبلهـا كثيرا بكائي مشفقا من صدودهـا
وبشرة خود مثل تمـثـال بـيعة تظل النصارى حولها يوم عيدهـا الشعر للحارث بن خالد المخزومي، والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى.
وذكر إسحاق هذه الطريقة في هذا الصوت ولم ينسبها إلى أحد، ولابن محرز في هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى، وفيها لعزة الميلاء خفيف رمل.
الحارث بن خالد المخزومي وبشرة
وبشرة هذه - التي ذكرها الحارث بن خالد - أمة كانت لعائشة بنت طلحة، وكان الحارث يكنى عن ذكر عائشة بها، وله فيها أشعار كثيرة.
منها مما يغني فيه قوله: صوت
يا ربع بشرة بالجناب تكلم وابن لنا خبرا ولا تستعجم
صفحة : 1897
مالي رايتك بعد أهلك موحـشـا خلقا كحوض الباقر المتـهـدم
تسقي الضجيع إذا النجوم تغورت طوع الضجيع وغاية المتوسـم
قب البطون أوانس شبه الدمـى يخلطن ذاك بـعـفة وتـكـرم عروضه من الكامل، والشعر للحارث بن خالد، والغناء لمعبد، ولحنه من خفيف الرمل بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق.
وفيه أيضا ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق في رواية عمرو، ومنها: صوت
يا ربع بشرة إن أضر بك البلى فلقد عهدتك آهلا معـمـورا
عقب الرذاذ خلافه فكأنـمـا بسط الشواطب بينهن حصيرا غناه ابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى، عن إسحاق، وفيه لحن لمالك، وقيل: بل هو لابن محرز. وعروضه من الكامل.
وقوله: عقب الرذاذ خلافه يقول: جاء الرذاذ بعده، ومنه يقال: عقب لفلان غنى بعد فقر. وعقب الرجل أباه، إذا قام بعده مقامه. وعواقب الأمور مأخوذة منه، واحدتها عاقبة. والرذاذ: صغار المطر. وقوله خلافه: أي بعده. قال متمم بن نويرة:
وفقيد بني أم تداعوا فلم أكن خلافهم أن استكين وأضرعا أي بعدهم. والشواطب: النساء اللواتي يشطبن لحاء السعف يعملن منه الحصر، ومنه السيف المشطب. والشطيبة: الشعبة من الشيء، ويقال: بعثنا إلى فلان شطيبة من خيلنا، أي قطعة.
مغنية وبيت شعر للحارث المخزومي
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال: كانت مغنية تختلف إلى صديق لها، فأتته يومان فوجدته مريضا لا حراك به، فدعت بالعود وغنت:
يا ربع بشرة إن أضربك البلى فلقد عهدتك آهلا معمـورا ومما يغني به فيه من هذه الأبيات الرائية: صوت
أعرفت أطلال الرسوم تنكرت بعدي وغـير آيهـن دثـورا
وتبدلت بعد الأنيس بأهـلـهـا عفر البواقر يرتعين وعـورا
من كل مصبية الحديث ترى لها كفلا كرابية الكثـيب وثـيرا الأطلال: ما شخص من آثار الديار. الرسوم: البقايا من الديار، وهي دون الأطلال وأخفى منها. وتنكرت: تغيرت. والدائر: الدارس. والعفر: الظباء، واحدها أعفر. والوعور: المواضع التي لا أنيس فيها. والرابية: الأرض المشرفة، وهي دون الجبل. والكثيب: القطعة العالية المرتفعة من الرمل، جمعها كثب. والوثير: التام المرتفع، يقال: فراش وثير إذا كان مرتفعا عن الأرض.
لإسحاق الموصلي في البيتين الأولين ثاني ثقيل بالبنصر، ولإبراهيم فيهما خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى، ولطويس فيهما خفيف ثقيل. وقيل: إنه ليس له. ولابن سريج في الثالث ثم الأول خفيف رمل، وقيل: بل هو لخليدة المكية. وفي البيت الأول والثاني لمالك رمل بالوسطى، وقيل: الرمل لطويس، وخفيف الثقل لمالك. ولمعبد في هذا الصوت لحنان: أحدهما ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى، والآخر خفيف ثقيل أول.
ومنها: صوت
يا دار حسرها البلى تحـسـيرا وسفت عليها الريح بعدك مورا
دق التراب بخيلها فـمـخـيم بعراصها ومسـير تـسـييرا غنى في هذين البيتين ابن مسجح خفيف ثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى. وللغريض في: أعرفت أطلال الرسوم وما بعده ثقيل أول بالبنصر، وللغريض أيضا ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى.
حسرها: أذهب معالمها، ومنه حسر الرجل عن ذراعه وعن رأسه إذا كشفهما. وحسر الصلع شعر الرأس، إذا حصة . والمور: التراب، والمخيم: المقيم.
ومنها صوت، أوله:
من كل مـصـبـية الـحـديث تـرى لـهـا كفـلا كـرابـية الـكـثـــيب وثـــيرا
يفتن لا يألون كل مغفليملأنه بحديثهن سرورا ومنها: صوت
دع ذا ولكن هل رأيت ظعائنا قربن أجمالا لهن قحورا?
قربن كل مخيس متحـمـل بزلا تشبه هامهن قـبـورا القحور: واحدها قحر، وهو المسن. والمخيس: المحبوس للرحلة. والمتحمل: معتاد الحمل.
وفي هذه الأربعة الأبيات للغريض اللحن الذي ذكرناه. ولابن جامع في:
دع ذا ولكن هل رأيت ظعائنا والذي بعده ثاني ثقيل بالوسطى.
ومنها: صوت
إن يمس حبلك بعد طول تواصل خلقا ويصبح بيتكم مهـجـورا
صفحة : 1898
فلقد أراني والجديد إلى بلى زمنا بوصلك راضيا مسرورا
جذلا بمالي عندكم لا أبتغي للـنـفـس بــعـــدك خـــلة وعـــشـــيرا
كنـت الـهـوى وأعـز مـن وطـىء الـحـصـــا عنـدي، وكـنـت بــذاك مـــنـــك جـــديرا لإبراهيم الموصلي، ويحيى المكي في هذه الأبيات لحنان، كلاهما من الثقيل الثاني؛ فلحن إبراهيم بالوسطى، ولحن يحيى بالبنصر، ولإسحاق فيهما رمل. وقيل: إن لابن سريج فيهما أيضا لحنا آخر.
مغنية تعبر عن حالها ببيتين من شعر الحارث أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال: حدثني رجل من أهل البصرة، قال: اشتريت جارية مغنية، فأقامت عندي زمنا وهويتني، وكرهت أن يراها أهلي، فعرضتها للبيع، فجزعت، وقالت: لقد اشتريتني وأنا لك كارهة، وإنك لتبيعني وأنا لذلك كارهة. فقال أخ لي: أرنيها، فقلت: هي عند فلانة، فانظر إليها، فأتاها فنظر إليها وأنا حاضر، فلما اعترضها وفرغ من ذلك غنت:
إن يمـس حـبـلـك بـعـد طــول تـــواصـــل خلـقـا ويصـبـح بـيتـكـم مـــهـــجـــورا
فلقد أراني والجديد إلى بلى زمنا بوصلك راضيا مسرورا ثم بكت، وضربت بالعود الأرض فكسرته، فخيرتها بين أن أعتقها أو أبيعها ممن شاءت، فاختارت البيع، وطلبت موضعا ترضاه حتى أصابته، فصيرتها إليه.
أخبرني يحيى بن علي، قال: حدثني أبو أيوب المدائني، قال: حدثني إبراهيم بن علي بن هشام، قال: حدثتني جارية يقال لها طباع - جارية محمد بن سهل بن فرخند - قالت: غنيت إسحاق في لحنه:
أعرفت أطلال الرسول تنكرت بعــــــــــــدي إسحاق ينكر على مخارق في أداء لحن له فأنكر علي في مقاطعة شيئا، وقال: ممن أخذته? فقلت: من مخارق، فقال لي: تعثر الجواد بل هو كما أقول لك، ورده علي، فهو يقال كما يقول مخارق، وكما غيره إسحاق.
صوت
أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسـد
فجعني الرعد والصواعق بال فارس يوم الكريهة النـجـد
يا عين هلا بـكـيت أربـد إذ قمنا وقام الخصوم في كـبـد
إن يشغبوا لا يبال شغـبـهـم أو يقصدوا في الخصام يقتصد عروضه من المنسرح.
النجد: البطل ذو النجدة. وقال الأصمعي في النجد مثل ذلك. وقال: النجد - بكسر الجيم -: الذي قد عرق جدا. والكبد: الثبات والقيام.
الشعر للبيد بن ربيعة، والغناء للأبجر، رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة. ولإبراهيم فيها رمل آخر بالوسطى في مجراها عن إسحاق، أوله الثالث والرابع ثم الأول والثاني، وذكرت بذل أن في الثالث والرابع لحنا لحنين بن محرز.
خبر لبيد في مرثية أخيه
نسب أربد
وقد تقدم من خبر لبيد ونسبه ما فيه كفاية. يرثي أخاه لأمه أربد بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر بن كلاب، وكانت أصابته صاعقة فأحرقته.
أخبرنا بالسبب في ذلك محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن عاصم، عن عمرو بن قتادة، قال: وفد بني عامر بن صعصعة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد بني عامر بن صعصعة، فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس وجبار بن سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب، وكان هؤلاء الثلاثة رؤوس القوم وشياطينهم، فهم عامر بن الطفيل بالغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال له قومه: يا عامر؛ إن الناس قد أسلموا فأسلم، فقال: والله لقد كنت أليت ألا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي، فأتبع أنا عقب هذا الفتى من قريش.
تآمر عمر وأربد على قتل رسول الله ثم قال لأربد: إذا أقبلنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه، فإذا فعلت ذلك فاعله أنت بالسيف.
محادة عامر لرسول الله فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له عامر: يا محمد، خالني قال: لا والله، حتى تؤمن بالله وحده. قال: يا محمد، خالني، وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما كان أمره، فجعل أربد لا يحير شيئا. فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال: يا محمد، خالني. قال: لا، والله، حتى تؤمن بالله وحده لا تشرك به. فلما أبى عليه رسول الله قال: أما والله لأملأنها عليك خيلا حمرا، ورجالا سمرا.
دعاء الرسول عليه
صفحة : 1899
فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اكفني عامر بن الطفيل. فلما خرجوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد: ويلك يا أربد أين ما كنت أوصيتك به والله ما كان على ظهر الأرض رجل هو أخوف عندي على نفسي منك، وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبدا. قال: لا تعجل علي لا أبا لك والله ما هممت بالذي أمرتني به من مرة إلا دخلت بيني وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف فقال عامر:
بعث الرسول بما ترى فكأنما عمدا أشد على المقانب غارا
ولقد وردن بنا المدينة شزبـا ولقد قتلن بجوها الأنصـارا إصابة عامر بالطاعون وموته قبل عودته وخرجوا راجعين إلى بلادهم، حتى إذا كانوا ببعض الطريق بعث الله على عامر الطاعون في عنقه، فقتله الله، وإنه لفي بيت امرأة من بني سلول، فجعل يقول: يا بني عامر، أغدة كغدة البكر ، وموت في بيت امرأة من بني سلول فمات.
صاعقة تحرق أربد ثم خرج أصحابه حين واروه حتى قدموا أرض بني عامر، فلما قدموا أتاهم قومهم فقالوا: ما وراءك يا أربد? فقال: لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فارميه بنبلي هذه حتى أقتله. فخرج بعد مقالته هذه بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه، فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة فأحرقتهما.
وفود لبيد إلى الرسول نسخت من كتاب يحيى بن حازم، قال: حدثنا علي بن صالح صاحب المصلى، قال: حدثنا ابن دأب، قال: كان أبو براء عامر بن مالك قد أصابته دبيلة ، فبعث لبيد بن ربيعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهدى له رواحل، فقدم بها لبيد، وأمره أن يستشفيه من وجعه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو قبلت من مشرك لقبلت منه، وتناول من الأرض مدرة فتفل عليها، ثم أعطاها لبيدا، وقال: دفها له بماء ثم اسقه إياه.
يقرأ القرآن ويكتب سورة الرحمن وأقام عندهم لبيد يقرأ القرآن وكتب منهم: )الرحمن. علم القرآن( فخرج بها، ولقيه أخوه أربد على ليلة من الحي، فقال له: انزل فنزل، فقال: يا أخي، أخبرني عن هذا الرجل؛ فإنه لم يأته رجل أوثق عندي فيه قولا منك. فقال: يا أخي، ما رأيت مثله - وجعل يذكر صدقه وبره وحسن حديثه. فقال له: هل معك من قوله شيء? قال: نعم، فأخرجها له فقرأها عليه، فلما فرغ منها قال له أربد: لوددت أني ألقى الرحمن بتلك البرقة ، فإن لم أضربه بسيفي فعلي وعلي...
قال: ونشأت سحابة وقد خليا عن بعيريهما، فخرج أربد يريد البعيرين، حتى إذا كان عند تلك البرقة غشيته صاعقة فمات.
وقدم لبيد على أبي براء فأخبره خبر سول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره، قال: فما فعل فيما استشفيته? قال: تالله ما رأيت منه شيئا كان أضعف عندي من ذلك، وأخبره بالخبر. قال: فأين هي? قال: ها هي ذه معي. قال: هاتها، فأخرجها له فدافها، ثم شربها فبرأ.
رواية أخرى في وفوده على الرسول قال ابن دأب: فحدثني حنظلة بن قطرب بن إياد، أحد بني بكر بن كلاب، قال: لما أصاب عامر بن الطفيل ما أصابه، بعث بنو عامر لبيدا، وقالوا له: اقدم لنا على هذا الرجل فاعلم لنا علمه. فقدم عليه، فأسلم، وأصابه وجع هناك شديد من حمى، فرجع إلى قومه بفضل تلك الحمى، وجاءهم بذكر البعث والجنة والنار، فقال سراقة بن عوف بن الأحوص:
لعــمـــر لـــبـــيد إنـــه لابـــن أمـــه ولـكـن أبـوه مـســه قـــدم الـــعـــهـــد
دفـعـنـاك فـي أرض الـحـجـاز كــأنـــمـــا دفـعـنـاك فـحـلا فـوقـه قـزع الــلـــبـــد
فعـالـجـت حــمـــاه وداء ضـــلـــوعـــه وتـرنـيق عـيش مـسـه طـرف الــجـــهـــد
وجـئت بـدين الـصــابـــئين تـــشـــوبـــه بألـواح نـجـد بـعـد عـهـدك مـن عـــهـــد
وإن لنا دارا زعمت ومرجعاوثم إياب القارظين وذي البرد قال: فكان عمر يقول: وايم الله، إياب القارظين وذي البرد.
وفود عامر بن الطفيل على رسول الله أخبرني عبد العزيز بن أحمد عم أبي، وحبيب بن نصر المهلبي، وغيرهما، قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثتني ظمياء بنت عبد العزيز بن مولة، قالت :
صفحة : 1900
حدثني أبي، عن جدي مولة بن كثيف، أن عامر بن الطفيل أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوسده وسادة، ثم قال: أسلم يا عامر. قال: على أن لي الوبر ولك المدر، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام عامر مغضبا فولى، وقال: لأملأنها عليك خيلا جردا، ورجالا مردا، ولأربطن بكل نخلة فرسا. فسألته عائشة: من هذا? فقال: هذا عامر بن الطفيل، والذي نفسي بيده لو أسلم فأسلمت بنو عامر معه لزاحموا قريشا على منابرهم. قال: ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا قوم، إذا دعوت فأمنوا، فقال: اللهم اهد بني عامر، واشغل عني عامر بن الطفيل بما شئت، وكيف شئت، وأنى شئت.
موت عامر بن الطفيل
فخرج فأخذت غدة مثل غدة البكر، فجعل يثب وينزو في السماء ويقول: يا موت ابرز لي، ويقول: غدة مثل غدة البكر، وموت في بيت سلولية? ومات.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد إجازة، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، قال: أخبرني أسعد بن عمرو الجعفي، قال: أخبرني خالد بن قطن الحارثي، قال: لما مات عامر بن الطفيل خرجت امرأة من بني سلول كأنها نخلة حاسرا، وهي تقول:
أنعى عامر بن الطفيل وأبقى وهل يموت عامر من حقا?
وما أرى عامرا مات حقا قال: فما رئي يوم أكثر باكيا وباكية، وخمش وجوه، وشق جيوب من ذلك اليوم.
بنو عامر تحمي قبر عامر بالأنصاب وقال أبو عبيدة عن الحرمازي، قال: لما مات عامر بن الطفيل بعد منصرفه عن النبي صلى الله عليه وسلم، نصبت عليه بنو عامر أنصابا ميلا في ميل، حمى على قبره لا تنشر فيه ماشية، ولا يرعى، ولا يسلكه راكب ولا ماش. وكان جبار بن سلمى بن عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب غائبا، فلما قدم قال: ما هذه الأنصاب? قالوا: نصبناها حمى لقبر عامر بن الطفيل، فقال: ضيقتم على أبي علي، إن أبا علي بان من الناس بثلاث: كان لا يعطش حتى يعطش الجمل، وكان لا يضل حتى يضل النجم، وكان لا يجبن حتى يجبن السيل.
ثلاث خلال فضل عامر بهن الناس قال أبو عبيدة: وقدم عامر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن بضع وثمانين سنة.
مراثي لبيد لأخيه
ومما رثى به لبيد أخاه أربد قوله :
ألا ذهب المحافظ والمحامي ودافع ضيمنا يوم الخصـام
وأيقنت التفرق يوم قالـوا: تقسم مال أربد بالسـهـام
وأربد فارس الهيجا إذا مـا تقعرت المشاجر بالـفـئام وهي طويلة يقول فيها:
فودع بالسلام أبا حزيز وقل وداع اربد بالسلام قال: وكانت كنية أربد أبا حزاز، فصغره ضرورة.
وقال فيه أيضا :
ما إن تعدى المنون مـن أحـد لا والد مـشـفـق ولا ولـد
أخشى على أربد الحتـوف ولا أرهب نوء السمـاك والأسـد
فجعني الرعد والصواعق بـال فارس يوم الكريهة الـنـجـد
الحارب الجابر الـحـريب إذا جاء نكـيبـا وإن يعـد يعـد
يعفو على الجهد والسؤال كمـا أنزل صوب الربيع ذي الرصد
لم تبلغ العين كل نهـمـتـهـا ليلة تمسي الجياد كـالـقـدد
كل بني حـرة مـصـيرهـم قل، وأن أكثرت من الـعـدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمـروا يوما يصيروا للهلك والنـفـد
يا عين هلا بـكـيت أربـد إذ قمنا وقام الخصوم في كـبـد
يا عين هلا بـكـيت أربـد إذ ألوت رياح الشتاء بالعـضـد
واصبحت لاقحـا مـصـرمة حين تقضت غوابـر الـمـدد
إن يشغبوا لا يبال شغـبـهـم أو يقصدوا في الخصام يقتصد
حلو كـريم، وفـي حـلاوتـه مر، لطيف الأحشاء والكـبـد أبو بكر الصديق رضي الله عنه ينشد شعرا له في رثاء أخيه أربد نسخت من كتاب ابن النطاح، عن المدائني، عن علي بن مجاهد، قال: أنشد أبو بكر الصديق رضي الله عنه قول لبيد في أخيه أربد :
لعمري لئن كان المخبر صـادقـا لقد رزئت في حادث الدهر جعفر
أخر لي، أما كل شيء سـألـتـه فيعطي، وأما كل ذنب فيغـفـر
صفحة : 1901
فقال أبو بكر رضوان الله عليه: ذلك رسول الله، لا أربد بن قيس.
وقد رثاه بعد ذلك بقصائد يطول الخبر بذكرها.
ومما رثاه به، وفيه غناء، قوله : صوت
بلينا وما تبلى النجوم الطـوالـع وتبقى الجبال بعدنا والمصـانـع
وقد كنت في أكناف دار مضـنة ففارقني جار بـأربـد نـافـع
فلا جزع إن فرق الدهر بينـنـا فكل فتى يوما به الدهر فاجـع
وما المرء إلا كالشهاب وضـوئه يحور رمادا بعد إذ هو ساطـع
أليس ورائي إن تراخت منـيتـي لزوم العصا تحنى عليها الأصابع
أخبر أخبار القرون التي مضـت أدب كأني كلما قـمـت راكـع
فأصبحت مثل السيف أخلق جفنه تقادم عهد القين والنصل قاطـع
فلا تبعدن إن المـنـية مـوعـد علينا فدان للطلـوع وطـالـع
أعاذل مـا يدريك، إلا تـظـنـيا إذا رحل السفار من هو راجع?
أتجزع مما أحدث الدهر للفتـى وأي كريم لم تصبه الـقـوارع غنى في الأول والخامس والسادس والسابع حنين الحيري خفيف ثقيل أول بالبنصر، عن الهشامي وابن المكي وحماد، وفيها ثقيل أول بالوسطى، يقال إنه لحنين أيضا، ويقال إنه لأحمد النصبي ، ويقال: إنه منحول.
ومما رثاه به قوله، وهي من مختار مراثيه :
طرب الفؤاد وليته لـم يطـرب وعناه ذكرى خلة لم تصـقـب
سفها، ولو أني أطعت عواذلـي فيما يشرن به بسفح المـذنـب
لزجرت قلبا لا يريع لـزاجـر إن الغوي إذا نهي لم يعـتـب
فتعز عن هذا، وقل في غـيره واذكر شمائل من أخيك المنجب
يا أربد الخير الـكـريم جـدوده أفردتني أمشي بقرن أعضـب
إن الرزية لا رزية مـثـلـهـا فقدان كل أخ كضوء الكوكـب
ذهب الذين يعاش في أكنافـهـم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
يتـأكـلـون مـغـالة وخـيانة ويعاب قائلهم وإن لم يشـغـب
ولقد أراني تارة من جـعـفـر في مثل غيث الوابل المتحلـب
من كل كهل كالسـنـان وسـيد صعب المقادة كالفنيق المصعب
من معشر سنت لهـم آبـاؤهـم والعز قد يأتي بغير تـطـلـب
فبرى عظامي بعد لحمي فقدهم والدهر إن عاتبت ليس بمعتـب حدثنا محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا أبو السائب سالم بن جنادة، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، أنها كانت تنشد بيت لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهـم وبقيت في خلف كجلد الأجرب ثم تقول: رحم الله لبيدا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم.
قال عروة: رحم الله عائشة، فكيف بها لو أدركت من نحن بين ظهرانيهم.
قال هشام: رحم الله أبي، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم وقال وكيع: رحم الله هشاما، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم قال أبو السائب: رحم الله وكيعا، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم قال أبو جعفر: رحم الله أبا السائب، فكيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم.
قال أبو الفرج الأصبهاني: ونحن نقول: الله المستعان، فالقصة أعظم من أن توصف.
صوت
فإن كان حقا مـا زعـمـت أتـيتـه إليك فقام النائحات عـلـى قـبـري
وإن كان ما بلغـتـه كـان بـاطـلا فلا مت حتى تسهري الليل من ذكري عروضه من الطويل. والشعر للعباس بن الأحنف يقوله في فوز، وخبرهما يأتي ها هنا، والغناء لبذل، خفيف رمل بالبنصر، وفيه لبنان بن عمرو ثاني ثقيل بالبنصر، وفيه لحن لابن جامع من كتاب إبراهيم. وزعم أبو العباس أن لمعبد اليقطني فيه خفيف رمل، وذكر حبش أن لإبراهيم خفيف الرمل بالوسطى. وذكر علي بن يحيى المنجم أنه لعلية. وقيل: إن خفيف الرمل بالبنصر للقاسم بن زنقطة. والصحيح أنه لبذل.
ذكر خبر العباس وفوز
كانت جارية لمحمد بن منصور
صفحة : 1902
أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن إسحاق الخراساني، قال: حدثنا محمد بن النضر، قال: كانت فوز جارية لمحمد بن منصور، وكان يلقب فتى العسكر، ثم اشتراها بعض شباب البرامكة فدبرها وحج بها. فلما قدمت قال العباس :
ألا قد قدمـت فـوز فقرت عين عبـاس
لمن بشرني البشرى على العينين والرأس
أيا ديباجة الحـسـن ويا رامشـنة الآس
يلوموني على الحب وما بالحب من باس تشبهه في شعره بأبي العتاهية
أخبرني محمد، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن جعفر الأنباري - وهو أبو عاصم بن محمد الكاتب - قال: حدثني علي بن محمد النوفلي قال: كانت فوز لرجل جليل من أسباب السلطان، وكان العباس يتشبه في أشعاره وذكر فوز بما قاله أبو العتاهية في عتبة، فحج بها مولاها، فقال العباس :
يا رب رد عـلـينـا من كان أنسا وزينـا
من لا تسر بـعـيش حتى يكون لـدينـا
يا من أتاح لقلـبـي هواه شؤما وحـينـا
مازلت مذ غبت عني من أسخن الناس عينا
ما كان حجك عنـدي إلا بـلاء عـلـينـا فلما قدمت قالت:
ألا قد قدمت فوز فقرت عين عباس وذكر الأبيات المتقدمة.
معابه بينه وبين الأصمعي
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، أنه دخل على الفضل بن الربيع يوما، والعباس بن الأحنف بين يديه، فقال العباس للفضل: دعني أعابث الأصمعي. قال: لا تفعل، فليس المزاح من شأنه. قال: إن رأى الأمير أن يفعل. قال: ذاك إليك. قال: فلما دخلت قال لي العباس: يا أبا سعيد من الذي يقول :
إذا أحببـت أن تـص نع شيئا يعجب الناسا
فصورها ها هنا فوزا وصور ثم عبـاسـا
فإن لم يدنوا حـتـى ترى رأسيهما راسـا
فكذبها بما قـاسـت وكذبه بما قـاسـى فقال لي ابن أبي السعلاء الشاعر: إنه أراد العبث بك، وهو نبطي، فأجبه على هذا. قال: فقلت له: لا أعرف هذا، ولكني أعرف الذي يقول:
إذا أحببت أن تبـص ر شيئا يعجب الخلقا
فصورها هنا زورا وصور ههنا فلقـا
فإن لم يدنوا حـتـى ترى خلقيهما خلقـا
فكذبها بمـا لاقـت وكذبه بما يلـقـى فعرض بالعباس أنه نبطي، فضحك الفضل، فوجم العباس، فقال له الفضل: قد كنت نهيتك عنه، فلم تقبل.
فوز تجد صداعا
أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني محمد بن الفضل الهاشمي، قال: حدثني أبو توبة الحنفي، قال: وجه العباس بن الأحنف رسولا إلى فوز، فعاد فأخبره أنها تجد صداعا، وأنه رآها معصوبة الرأس؛ فقال العباس:
عصبت راسها فليت صداعا قد شكته إلي كان براسـي
ثم لا تشتكي، وكان لها الأج ر، وكنت السقام عنها أقاسي
ذاك حتى يقول لي من رآني: هكذا يفعل المحب المواسي قال: فبرئت ثم نكست، فقال :
إن التي هامت بها النفس عاودها من عارض نكس
كانت إذا ما جاءها المبتلى أبرأه من كفها اللـمـس
وابأبي الوجه المليح الذي قد عشقته الجن والإنـس
إن تكن الحمى أضرت به فربما تنكسف الشـمـس فوز ساهرة ذاكرة له أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثني أبو العباس الخلنجي، قال: حدثني أبو عبد كان الكاتب ، قال: حدثني أبو توبة الحنفي، قال: لما قاله العباس بن الأحنف :
أما والذي أبلى الـمـحـب وزادنـي بلاء، لقد أسرفت في الظلم والهجـر
فإن كان حقا مـازعـمـت أتـيتـه إليك، فقام النائحات علـى قـبـري
وإن كان عدوانـا عـلـي وبـاطـلا فلا مت حتى تسهري الليل من ذكري بعثت إليه فوز: أظننا ظلمناك يا أبا الفضل، فاستجيب لك فينا مازلت البارحة ساهرة ذاكرة لك.
في خلقه شدة
صفحة : 1903
أخبرني جحظة البرمكي، قال: حدثني أبو عبد الله بن حمدون، عن أحمد بن إبراهيم، قال: حدثني محمد بن سلام، قال: كان في خلق العباس بن الأحنف شدة، فضرب غلاما له، وحلف أنه يبيعه، فمضى الغلام إلى فوز فاستشفع بها عليه، فكتبت إليه فيه؛ فقال :
يا من أتانا بالشفـاعـات من عند من فيه لجاجاتي
إن كنت مولاك فإن التي قد شفعت فيك لمولاتي
إرسالها فيك إلينـا لـنـا كرامة فوق الكرامـات ورضي عنه ووصله، وأعتقه.
اكتئابه من قولة فوز له: يا شيخ أخبرني جحظة، قال: حدثنا أبو عبد الله بن حمدون، عن أبيه حمدون بن إسماعيل، عن أخيه إبراهيم بن إسماعيل، قال: جاءنا العباس بن الأحنف يوما وهو كئيب، فنشطناه فأبى أن ينشط، فقلنا: ما دهاك? فقال: لقيتني فوز اليوم، فقالت لي: يا شيخ وما قالت ذلك إلا من حادث ملال. فقلنا له: هون عليك؛ فإنها امرأة لا تثبت على حال، وما أرادت إلا العبث بك والمزاح معك. فقال: إني والله قد قلت أقبح مما قالت، ثم أنشدنا :
هزئت إذ رأت كئيبا معنـى أقصدته الخطوب فهو حزين
هزئت بي ونلت ما شئت منها يا لقومي فأينا المغـبـون فقلت له: قد انتصفت وزدت.
يمن جارية فوز تزعم أنه راودها أخبرني محمد بن يحيى، قال: حدثنا علي بن الصباح، قال: حدثنا أبو ذكوان، قال: كانت لفوز جارية يقال لها يمن، وكانت تجيء إلى العباس برسالتها، فمضت إلى فوز، وقد طلبت من العباس شيئا فمنعها إياه، وزعمت أنه أرادها ودعاها إلى نفسه، فغضبت فوز من ذلك، فكتب إليها :
لقد زعمت يمن بـأنـي أردتـهـا على نفسها، تبا لذلك من فـعـل
سلوا عن قميصي مثل شاهد يوسف فإن قميصي لم يكن قد من قبـل معاتبة فوز له في جفائه ورده عليها أخبرني محمد، قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل، قال: حدثني سعيد بن حميد، قال: كانت فوز قد مالت إلى بعض أولاد الجند، وبلغ ذلك العباس، فتركها ولم ترض هي البديل بعد ذلك، فعادت إلى العباس، وكتبت إليه تعاتبه في جفائه؛ فكتب إليها:
كتبت تلوم وتستـريب زيارتـي وتقول لست لنا كعهد العـاهـد
فأجبتها ودموع عـينـي جـمة تجري على الخدين غير جوامد
يا فوز لم أهجركـم لـمـلالة مني ولا لمقال واش حـاسـد
لكنني جربتكـم فـوجـدتـكـم لا تصبرون على طعام واحـد سرقته شعر أبي نواس وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات، وقال: سرقها من أبي نواس حيث يقول: صوت
ومظهرة لخلق الـلـه ودا وتلقى بالتحية والـسـلام
أتيت فؤادها أشـكـو إلـيه فلم أخلص إليه من الزحام
فيا من ليس يكفيه مـحـب ولا ألفا محب كـل عـام
أظنك من بقية قوم موسـى فهم لا يصبرون على طعام غنت فيه عريب لحنا ذكره ابن المعتز، ولم يذكر طريقته.
ومما يغنى فيه من شعر العباس في فوز قوله: صوت
يا فوز ما ضر من يمسي وأنت له ألا يفـوز بـدنـيا آل عـبــاس
أبصرت شيبا بمولاها فواعـجـبـا منه يراها ويبدو الشيب في الراس غناه سليم، رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي.
وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن الفضل بن الأسود، قال: قرأت على أحمد بن أبي فنن شعر العباس بن الأحنف، وكان مشغوفا به، فسمعته يقول: وددت أن أبياته التي يقول فيها:
يا فوز ما ضر من يمسي وأنت له لي بكل شعري.
وفي بذل يقول عبد الله بن العباس الربيعي يخاطب عمرا في بذل بقوله: صوت
تسمع بحق الله يا عمرو من بذل فقد أحسنت والله واعتمدت قتلي
كأني أرى حبيك يرجح كلـمـا تغنت لإعجابي وأفقد من عقلي غناه عبد الله بن العباس الربيعي، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، وغنى فيه عمرو بن بانة خفيف رمل بالبنصر عن حبش.
ذكر بذل وأخبارها
من مولدات المدينة ولها كتاب أغان
صفحة : 1904
كانت بذل صفراء مولدة من مولدات المدينة، وربيت بالبصرة، وهي إحدى المحسنات المتقدمات، الموصوفات بكثرة الرواية، يقال: إنها كانت تغني ثلاثين ألف صوت. ولها كتاب في الأغاني منسوب الأصوات غير مجنس، يشتمل على اثني عشر ألف صوت، يقال: إنها عملته لعلي بن هشام. وكانت حلوة الوجه ظريفة، ضاربة متقدمة، وابتاعها جعفر بن موسى الهادي، فأخذها منه محمد الأمين، وأعطاه مالا جزيلا، فولدهما جميعا يدعون ولاءها. فأخذت بذل عن أبي سعيد مولى فائد ودحمان وفليح وابن جامع وإبراهيم، وطبقتهم.
أروى خلق الله للغناء
وقرأت على جحظة، عن أبي حشيشة في كتابه الذي جمعه من أخباره وما شاهده، قال: كانت بذل من أحسن الناس غناء في دهرها، وكانت أستاذة كل محسن ومحسنة، وكانت صفراء مدنية، وكانت أروى خلق الله تعالى للغناء، ولم يكن لها معرفة.
احتيال الأمين في أخذها
وكانت لجعفر بن موسى الهادي، فوصفت لمحمد بن زبيدة، فبعث إلى جعفر يسأله أن يريه إياها، فأبى، فزاره محمد إلى منزله، فسمع شيئا لم يسمع مثله، فقال لجعفر: يا أخي، بعني هذه الجارية. فقال: يا سيدي، مثلي لا يبيع جارية، قال: فهبها لي، قال: هي مدبرة . فاحتال عليه محمد حتى أسكره، وأمر ببذل فحملت معه إلى الحراقة، وانصرف بها.
فلما انتبه سأل عنها فأخبر بخبرها، فسكت، فبعث إليه محمد من الغد، فجاءه وبذل جالسة فلم يقل شيئا. فلما أراد جعفر أن ينصرف قال: أوقروا حراقة ابن عمي دراهم، فأوقرت.
قال: فحدثني عبد الله بن الحنينى - وكان أبوه على بيت مال جعفر بن موسى - أن مبلغ ذلك المال كان عشرين ألف ألف درهم.
قال: وبقيت بذل في دار محمد إلى أن قتل، ثم خرجت، فكان ولد جعفر وولد محمد يدعون ولاءها. فلما ماتت ورثها ولد عبد الله بن محمد بن زبيدة.
وهب لها الأمين من الجوهر ما لم يملك مثله أحد وقد روى محمد بن الحسن الكاتب هذا الخبر، عن ابن المكي، عن أبيه، وقال فيه: إن محمدا وهب لها من الجوهر شيئا لم يملك أحد مثله، فسلم لها، فكانت تخرج منه الشيء بعد الشيء فتبيعه بالمال العظيم، فكان ذلك معتمدها مع ما يصل إليها من الخلفاء إلى أن ماتت وعندها منه بقية عظيمة.
إباؤها الزواج حتى موتها قال: ورغب إليها وجوه القواد والكتاب والهاشميين في التزويج، فأبت وأقامت على حالها حتى ماتت.
علي بن هشام في موكبه إليها قال أبو حشيشة في خبره: وكنت عند بذل يوما وأنا غلام، وذلك في أيام المأمون ببغداد، وهي في طارمة لها تمشط، ثم خرجت إلى الباب، فرأيت الموكب، فظننت أن الخليفة يمر في ذلك الموضع، فرجعت إليها فقلت: يا ستي ؛ الخليفة يمر على بابك? فقالت: انظروا أي شيء هذا? إذ دخل بوابها فقال: علي بن هشام بالباب. فقالت: وما أصنع به فقامت إليها وشيكة جاريتها - وكانت ترسلها إلى الخليفة وغيره في حوائجها - فأكبت على رجلها، وقالت: الله، الله أتحجبين علي بن هشام فدعت بمنديل فطرحته على رأسها ولم تقم إليه، فقال: إني جئتك بأمر سيدي أمير المؤمنين، وذلك أنه سألني عنك، فقلت: لم أرها منذ أيام. فقال: هي عليك غضبى، فبحياتي لا تدخل منزلك حتى تذهب إليها فتسترضيها.
تكتب اثني عشر ألف صوت
فقالت: إن كنت جئت بأمر الخليفة فأنا أقوم. فقامت فقبلت رأسه ويديه وقعد ساعة وانصرف، فساعة خرج قالت: يا وشيكة، هاتي دواة وقرطاسا، فجعلت تكتب فيه يومها وليلتها حتى كتبت اثني عشر ألف صوت - وفي بعض النسخ: رؤوس سبعة آلاف صوت - ثم كتبت إليه: يا علي بن هشام، تقول: قد استغنيت عن بذل بأربعة آلاف صوت أخذناها منها، وقد كتبت هذا وأنا ضجرة، فكيف لو فرغت لك قلبي كله وختمت الكتاب، وقالت لها: امضي به إليه.
فما كان أسرع من جاء رسوله - خادم أسود يقال له مخارق - بالجواب يقول فيه: يا ستي، لا والله ما قلت الذي بلغك، ولقد كذب علي عندك؛ إنما قلت: لا ينبغي أن يكون في الدنيا غناء أكثر من أربعة آلاف صوت، وقد بعثت إلي بديوان لا أؤدي شكرك عليه أبدا. وبعث إليها عشرة آلاف درهم، وتخوتا فيها خز ووشي وملح، وتختا مطبقا فيه ألوان الطيب.
علي بن هشام يعاتبها في جفوة نالته منها أنشدني علي بن سليمان الأخفش لعلي بن هشام يعاتب بذلا في جفوة نالته منها:
صفحة : 1905
تغـيرت بـــعـــدي والـــزمـــان مـــغـــير وخـسـت بـعـهـدي والـمــلـــوك تـــخـــيس
وأظـهـرت لـي هـجـرا وأخـفـــيت بـــغـــضة وقـربـت وعـدا والـــلـــســـان عـــبـــوس
ومـمـا شـجـانــي أنـــنـــي يوم زرتـــكـــم حجـــبـــت وأعـــدائي لـــديك جـــلـــوس
وفـي دون ذا مـا يسـتــدل بـــه الـــفـــتـــى علـى الـغـدر مـــن أحـــبـــابـــه ويقـــيس
كفرت بدين الحب إن طرت بابكموتلك يمين ما علمت غموس
فإن ذهبت نفسي عليكم تشوقا فقـد ذهـبـت لـلـعــاشـــقـــين نـــفـــوس
ولـو كـان نـجـمـي فـي الـسـعـود وصـلـــتـــم ولـكـن نـجـوم الـعـاشـــقـــين نـــحـــوس وأخبرني أبو العباس الهشامي المشك، عن أهله: أن علي بن هشام كان يهوى بذلا ويكتم ذلك، وأنها هجرته مدة، فكتب إليها بهذه الأبيات.
تروي ثلاثين ألف صوت
وذكر محمد بن الحسن أن أبا حارثة حدثه عن أخيه أن معاوية قال: قالت لي بذل: كنت أروي ثلاثين ألف صوت، فلما تركت الدرس أنسيت نصفها، فذكرت قولها لزرزر الكبير، فقال: كذبت الزانية.
تغني مائة صوت لم يعرفها ابن المهدي
قال: وحدثني أحمد بن محمد الفيزران ، عن بعض أصحابه - أن إبراهيم بن المهدي كان يعظمها ويتوافى لها، ثم تغير بعد ذلك استغناء عند نفسه عنها ، فصارت إليه، فدعا بعود فغنت - في طريقة واحدة وإيقاع واحد وأصبع واحدة - مائة صوت، لم يعرف إبراهيم منها صوتا واحدا، ووضعت العود وانصرفت، فلم تدخل داره حتى طال طلبه لها وتضرعه إليها في الرجوع إليه.
تخجل إسحاق بن إبراهيم الموصلي لجهله أصوات أبيه وقال محمد بن الحسن، وذكر أحمد بن سعيد المالكي أن إسحاق بن إبراهيم الموصلي خالف بذلا في نسبة صوت غنته بحضرة المأمون، فأمسكت عنه ساعة، ثم غنت ثلاثة أصوات في الثقيل الثاني واحدا بعد واحد، وسألت إسحاق عن صانعها فلم يعرفه، فقالت للمأمون: يا أمير المؤمنين، هي والله لأبيه، أخذتها من فيه، فإذا كان هذا لا يعرف غناء أبيه فكيف يعرف غناء غيره فاشتد ذلك على إسحاق حتى رئي ذلك فيه.
أخبرني أبو الحسن الأسدي، قال: حدثني حماد بن إسحاق قال: غنت بذل يوما بين يدي أبي:
إن تريني ناحل البـدن فلطول الهم والحزن
كان ما أخشى بواحدتي ليته واللـه لـم يكـن إسحاق يطرب ويشرب على غنائها فطرب أبي والله طربا شديدا، وشرب رطلا، وقال لها: أحسنت يا بنتي، والله لا تغنين صوتا إلا شربت عليه رطلا.
قال أبو الفرج: والغناء في هذا الشعر لبذل خفيف رمل بالوسطى.
في مجلس شراب المأمون وذكر أحمد بن أبي طاهر أن محمد بن علي بن طاهر بن الحسين حدثه أن المأمون كان يوما قاعدا يشرب وبيده قدح إذ غنت بذل:
ألا لا أرى شيئا ألذ من الوعد فجعلته:
ألا لا أرى شيئا ألذ من السحق فوضع المأمون القدح من يده والتفت إليها، وقال: بلى يا بذل، النيك ألذ من السحق ، فتشورت وخافت غضبه، فأخذ قدحه، ثم قال: أتمي صوتك وزيدي فيه:
ومن غفلة الواشي إذا ما أتيتهـا ومن زورتي أبياتها خاليا وحدي
ومن صيحة في الملتقى ثم سكتة وكلتاهما عندي ألذ من الخلـد نسبة هذا الصوت
ألا لا أرى شيئا ألذ من الـوعـد ومن أملي فيه وإن كان لا يجدي الغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر في رواية عمرو بن بانة.
صوت
بانت سعاد فقلبي اليوم مـتـبـول متيم عندها لم يجـز مـكـبـول
وما سعاد غداة البين إذ رحـلـوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول الشعر لكعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، والغناء لابن محرز، ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو بن بانة والهشامي.
أخبار كعب بن زهير
نسب أم كعب
كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، وقد تقدم خبر أبيه ونسبه. وأم كعب امرأة من بني عبد الله بن غطفان يقال لها كبشة بنت عمار بن عدي بن سحيم، وهي أم سائر أولاد زهير.
وهو من المخضرمين، ومن فحول الشعراء.
وسأله الحطيئة أن يقول شعرا يقدم فيه نفسه، ثم يثني به بعده، ففعل.
الحطيئة يسأله أن يذكره في شعره
أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، قالا:
صفحة : 1906
أتى الحطيئة كعب بن زهير - وكان الحطيئة راوية زهير وآل زهير - فقال له: يا كعب، قد علمت روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعا بعدك وقال أبو عبيدة في خبره: تبدأ بنفسك فيه وتثني بي؛ فإن الناس لأشعاركم أروى، وإليها أسرع، فقال كعب :
فمن للقوافي شانها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفوز جرول
يقول فلا تعيا بشيء يقـولـه ومن قائليها من يسيء ويعمل
كفيتك لا تلفى من الناس واحدا تنخل منها مثل ما يتـنـخـل
يثقفها حتى تلين مـتـونـهـا فيقصر عنها كل ما يتمـثـل يجيز نصف بيت عجز عنه النابغة أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا علي بن الصباح، عن هشام، عن إسحاق بن الجصاص، قال: قال زهير بيتا ونصفا ثم أكدى ، فمر به النابغة، فقال له: أبا أمامة، أجز، فقال: وما قلت? قال: قلت :
تزيد الأرض إما مت خـفـا وتحيا إن حييت بها ثـقـيلا
نزلت بمستقر العرض منها. أجز، قال: فأكدى والله النابغة، وأقبل كعب بن زهير، وإنه لغلام، فقال أبوه: أجز يا بني، فقال: وما أجيز? فأنشده، فأجاز النصف بيت، فقال:
وتمنع جانبيها أن يزولا فضمه زهير إليه، وقال: أشهد أنك ابني.
زهير ينهاه عن الشعر قبل أن يستحكم وقال ابن الأعرابي: قال حماد الراوية: تحرك كعب بن زهير وهو يتكلم بالشعر، فكان زهير ينهاه مخافة أن يكون لم يستحكم شعره، فيروى له ما لا خير فيه، فكان يضربه في ذلك، فكلما ضربه يزيد فيه فغلبه، فطال عليه ذلك، فأخذه فحبسه، فقال: والذي أحلف به لا تتكلم ببيت شعر إلا ضربتك ضربا ينكلك عن ذلك. فمكث محبوسا عدة أيام، ثم أخبر أنه يتكلم به، فدعاه فضربه ضربا شديدا، ثم أطلقه وسرحه في بهمه وهو غليم صغير، فانطلق فرعى ثم راح عشية، وهو يرتجز:
كأنما أحدو ببهمي عـيرا من القرى موقرة شعيرا زهير يثيره ليعلم تمكنه من الشعر فخرج إليه زهير وهو غضبان، فدعا بناقته فكفلها بكسائه، ثم قعد عليها حتى انتهى إلى ابنه كعب، فأخذ بيده فأردفه خلفه، ثم خرج فضرب ناقته وهو يريد أن يبعث ابنه كعبا ويعلم ما عنده من الشعر، فقال زهير حين برز إلى الحي:
إني لتعديني على الحي جسرة تخب بوصال صروم وتعنق ثم ضرب كعبا، وقال له: أجز يا لكع، فقال كعب:
كبنيانة القرئي موضع رحلها وآثار نسغيها من الدف أبلق فقال زهير:
على لاحب مثل المجرة خـلـتـه إذا ما علا نشزا من الأرض مهرق أجز يا لكع، فقال كعب:
منير هداه ليلـه كـنـهـاره جميع، إذا يعلو الحزونة أفرق زهير يتعسفه ليعلم ما عنده قال: فتبدى زهير في نعت النعام، وترك الإبل، يتعسفه عمدا ليعلم ما عنده، قال:
وظل بوعساء الكثيب كـأنـه خباء على صقبي بوان مروق صقبى عمودي، بوان: عمود من أعمدة البيت، فقال كعب:
تراخى به حب الضحاء وقد رأى سماوة قشراء الوظيفين عوهق فقال زهير:
تحن إلى مثل الحبابير جثـم لدى منتج من قيضها المتفلق الحبابير: جمع حبارى ، وتجمع أيضا حباريات، فقال كعب:
تحطم عنها قيضها عن خراطم وعن حدق كالنبخ لم يتفتـق الخراطم ها هنا: المناقير، والنبخ: الجدري، شبه أعين ولد النعامة به.
إذنه له في قول الشعر قال: فأخذ زهير بيد ابنه كعب، ثم قال له: قد أذنت لك في الشعر يا بني.
فلما نزل كعب وانتهى إلى أهله - وهو صغير يومئذ - قال :
أبيت فلا أهجو الصديق ومن يبع بعرض أبيه في المعاشر ينفق قال: وهي أول قصيدة قالها.
خروجه وبجير إلى رسول الله
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثني الحجاج بن ذي الرقيبة بن عبد الرحمن بن مضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى، عن أبيه، عن جده قال:
صفحة : 1907
خرج كعب وبجير ابنا زهير بن أبي سلمى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغا أبرق العزاف ، فقال كعب لبجير: الحق الرجل، وأنا مقيم ها هنا، فانظر ما يقول لك.
إسلام بجير
فقدم بجير على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمع منه وأسلم، وبلغ ذلك كعبا، فقال :
ألا أبلغا عني بـجـيرا رسـالة على أي شيء عوتب غيرك دلكا
على خلق لم تلف أمـا ولا أبـا عليه ولم تدرك عليه أخا لـكـا
قاك أبو بـكـر بـكـأس روية فأنهلك المأمون منها وعـلـكـا إهدار الرسول دمه
ويروى المأمور . قال: فبلغت أبياته هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهدر دمه، وقال: من لقي منكم كعب بن زهير فليقتله.
بجير ينذره ويحثه على الإسلام فكتب إليه أخوه بجير بخبره، وقال له: انجه وما أراك بمفلت. وكتب إليه بعد ذلك يأمره أن يسلم ويقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له: إن من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل صلى الله عليه وسلم منه، وأسقط ما كان قبل ذلك. فأسلم كعب، وقال القصيدة التي اعتذر فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم عندها لم يجز مكبـول إسلامه
قال: ثم أقبل حتى أناخ راحلته بباب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان مجلسه من أصحابه مكان المائدة من القوم حلقة ثم حلقة ثم حلقة، وهو وسطهم، فيقبل على هؤلاء يحدثهم، ثم على هؤلاء، ثم على هؤلاء، فأقبل كعب حتى دخل المسجد فتخطى حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، الأمان. قال: ومن أنت? قال: كعب بن زهير. قال: أنت الذي يقول... كيف قال يا أبا بكر? فأنشده حتى بلغ إلى قوله:
سقاك أبو بكر بكـأس روية وأنهلك المأمون منها وعلكا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مأمون والله. ثم أنشده - يعني كعبا -:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول قال عمر بن شبة: فحدثني الحزامي، قال: حدثني محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، وأخبرني بمثل ذلك أحمد بن الجعد، قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي، قال: حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، قال: أنشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده، فلما بلغ إلى قوله :
إن الرسول لسيف يستضاء بـه مهند من سيوف الله مسلـول
في فتية من قريش قال قائلهـم ببطن مكة لما أسلموا: زولـوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا خور معـازيل أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحلق أن يسمعوا شعر كعب بن زهير.
قال الحزامي: قال علي بن المديني: لم أسمع قط في خبر كعب بن زهير حديثا قط أتم ولا أحسن من هذا، ولا أبالي ألا أسمع من خبره غير هذا.
رواية أخرى في إسلام بجير وكعب قال أبو زيد عمر بن شبة: ومما يروى من خبره أن زهيرا كان نظارا متوقيا، وأنه رأى في منامه آتيا أتاه، فحمله إلى المساء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض، فلما احتضر قص رؤياه على ولده، وقال: إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي شيء، فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه.
فلما بعث النبي عليه السلام خرج إليه بجير بن زهير فأسلم، ثم رجع إلى بلاد قومه، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه بجير بالمدينة - وكان من خيار المسلمين - وشهد يوم الفتح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويوم خيبر ويوم حنين وقال في ذلك :
صبحناهم بألف من سلـيم وألف من بني عثمان واف
فرحنا والجياد تجول فيهـم بأرماح مثقـفة خـفـاف
وفي أكتافهم طعن وضرب ورشق بالمريشة اللطاف ثم ذكر خبره وخبر أخيه كعب مثل ما ذكر الحزامي، وزاد في الأبيات التي كتب بها كعب إليه:
فخالفت أسباب الهدى وتـبـعـتـه فهل لك فيما قلت بالخيف هل لكا?
صفحة : 1908
ثم قال في خبره أيضا: إن كعبا نزل برجل من جهينة، فلما أصبح أتى النبي عليه السلام، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن أتيتك بكعب بن زهير مسلما أتؤمنه? قال: نعم، قال: فأنا كعب بن زهير، فتواثبت الأنصار تقول: يا رسول الله، ائذن لنا فيه. فقال: وكيف، وقد أتاني مسلما وكف عنه المهاجرون ولم يقولوا شيئا، فأنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم قصيدته:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول حتى انتهى إلى قوله :
لا يقع الطعن إلا في نحورهـم وما بهم من حياض الموت تهليل هكذا في رواية عمر بن شبة، ورواية غيره: تعليل .
فعند ذلك أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحلق حوله أن تسمع منه. قال: وعرض بالأنصار في قصيدته في عدة مواضع، منها قوله:
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا وما مواعيدها إلا الأباطـيل وعرقوب: رجل من الأوس .
مدحه الأنصار
فلما سمع المهاجرون بذلك قالوا: ما مدحنا من هجا الأنصار، فأنكروا قوله، وعوتب على ذلك فقال :
من سره كرم الحياة فـلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار
الباذلين نفوسهـم لـنـبـيهـم عند الهياج وسطوة الجـبـار
والناظرين بأعين مـحـمـرة كالجمر غير كليلة الإبـصـار
والضاربين الناس عن أديانهـم بالمشرفي وبالقنا الـخـطـار
يتطهرون يرونه نسكـا لـهـم بدماء من علقوا من الكـفـار
صدموا الكتيبة يوم بدر صـدمة ذلت لوقعتهـا رقـاب نـزار عرقوب المضروب به المثل
قال أبو زيد: الذي عناه كعب من الأوس كان وعد رجلا ثمر نخلة، فلما أطلعت أتاه فقال: دعها حتى تلقح ، فلما لقحت قال: دعها حتى تزهي ، فلما أزهت أتاه فقال: دعها حتى ترطب، ثم أتاه فقال: دعها حتى تتمر، فلما أتمرت عدا عليها ليلا فجدها، فضرب به في الخلف المثل، وذلك قول الشماخ :
وواعدني ما لا أحاول نفعـه مواعيد عرقوب أخاه بيترب وقال المتلمس لعمرو بن هند:
من كان خلف الوعد شيمته والغدر عرقوب له مثـل وما قالته الشعراء في ذكر عرقوب يكثر.
قال إبراهيم بن المنذر: حدثني معن بن عيسى، قال: حدثني الأوقص محمد بن عبد الرحمن المخزومي، قال: حدثني علي بن زيد أن كعب بن زهير أنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه القصيدة في المسجدة الحرام، لا في مسجد المدينة.
قال إبراهيم: حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه، قال: عنى كعب بن زهير بقوله:
في فتية من قريش قال قائلهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
صوت
أبيني أفي يمنى يديك جعلتـنـي فأفرح أم صيرتني في شمالك
أبيت كأني بين شقين من عصـا حذار الردى أو خيفة من زيالك
تعاللت كي اشجى وما بك عـلة تريدين قتلي، قد ظفرت بذلـك عروضه من الطويل، الشعر لابن الدمينة بعضه، وبعضه ألحقه المغنون به، وهو لغيره. والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى، وفيه لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر.
أخبار ابن الدمينة ونسبه
نسبه
الدمينة أمه، وهي الدمينة بنت حذيفة السلولية، واسم ابن الدمينة عبد الله بن عبيد الله، أحد بني عامر بن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أفتل وهو خثعم بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك.
وقيل: إن أكلب هو ابن ربيعة بن نزار ليس ابن ربيعة بن عفرس، وإنهم حالفوا خثعم ونزلوا فيها فنسبوا إليهم.
ويكنى ابن الدمينة أبا السري.
وكان بلغه أن رجلا من أخواله من سلول يأتي امرأته ليلا فرصده حتى أتاها فقتله، ثم قتلها بعده، ثم اغتالته سلول بعد ذلك فقتلته.
أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أبو سعيد السكري، عن محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة وابن الأعرابي، وأضفت إلى ذلك ما رواه الزبير بن بكار عن أصحابه، وما اتفقت الروايتان فيه، فإذا اختلفتا نسبت كل خبر إلى راويه.
سلولي يرمي بامرأته
صفحة : 1909
قال الزبير: حدثني موهوب بن رشيد الكلابي، وإبراهيم بن سعد السلمي، وعمر بن إبراهيم السعدي، عن ميناس بن عبد الصمد، عن مصعب بن عمرو السلولي، أخي مزاحم بن عمرو، قالوا جميعا: إن رجلا من سلول يقال له مزاحم بن عمرو كان يرمى بامرأة ابن الدمينة، وكان اسمها حماء، قال السكري: كان اسمها حمادة، فكان يأتيها ويتحدث إليها حتى اشتهر ذلك، فمنعه ابن المدينة من إتيانها، واشتد عليها.
مزاحم يشهر به
فقال مزاحم يذكر ذلك - وهذا من رواية ابن حبيب، وهي أتم وأصح -:
يابن الدمينة والأخبار يرفـعـهـا وخد النجائب والمحقور يخفـيهـا
يابن الدمينة إن تغضب لما فعلـت فطال خزيك أو تغضب مواليهـا
أو تبغضوني فكم من طعنة نـفـذ يغذو خلال اختلاج الجوف غاذيها
جاهدت فيها لكم إني لـكـم أبـدا أبغي معايبكم عـمـدا فـآتـيهـا
فذاك عندي لكم حتى تـغـيبـنـي غبراء مظلمة هـار نـواحـيهـا
أغشى نساء بني تيم إذا هجـعـت عني العيون ولا أبغي مقـاريهـا
كم كاعب من بني تيم قعدت لـهـا وعانس حين ذاق النوم حامـيهـا
كقعدة الأعسر العلفوف منتـحـيا متينة من متون النبـل ينـحـيهـا
وشهقة عند حس الماء تشهـقـهـا وقول ركبتها: قض ، حين تثنيهـا
علامة كية ما بـين عـانـتـهـا وبين سبتـهـا لا شـل كـاويهـا
وتعدل الأير إن زاغت فتبـعـثـه حتى يقيم برفق صـدره فـيهـا
بين الصفوقين في مستهدف ومـد ذي حرة ذاق طعم الموت صاليها
ماذا ترى ابن عبيد الله في امـرأة ليست بمحصنة عذراء حـاويهـا
أيام أنت طـريد لا تـقـاربـهـا وصادف القوس في الغرات باريها
ترى عجوز بني تـيم مـلـفـعة شمطا عوارضها ربدا دواهـيهـا
إذ تجعل الدفنس الورهاء عذرتهـا قشارة مـن أديم ثـم تـفـريهـا
حتى يظل هدان القوم يحسـبـهـا بكرا وقبل هوى في الدار هاويها يستدرج مزاحما ويقتله قال الزبير عن رجاله، وابن حبيب عن ابن الأعرابي: لما بلغ ابن الدمينة شعر مزاحم أتى امرأته فقال لها: قد قال فيك هذا الرجل ما قال، وقد بلغك قالت: والله ما أرى ذلك مني قط. قال: فمن أين له العلامات? قالت: وصفهن له النساء. قال: هيهات والله أن يكون ذلك كذلك. ثم أمسك مدة وصبر حتى ظن أن مزاحما قد نسي القصة، ثم أعاد عليها القول، وأعادت الحلف أن ذلك مما وصفه له النساء. فقال لها: والله لئن لم تمكنين منه لأقتلنك. فعلمت أنه سيفعل ذلك، فبعثت إليه وواعدته ليلا، وقعد له ابن الدمينة وصاحب له، فجاءها للموعد، فجعل يكلمها وهي مكانها فلم تكلمه، فقال لها: يا حماء، ما هذا الجفاء الليلة? قال: فتقول له هي بصوت ضعيف: ادخل، فدخل فأهوى بيده ليضعها عليها، فوضعها على ابن الدمينة، فوثب عليه هو وصاحبه، وقد جعل له حصى في ثوب، فضرب بها كبده حتى قتله، وأخرجه فطرحه ميتا، فجاء أهله فاحتملوه، ولم يجدوا به أثر السلاح، فعلموا أن ابن الدمينة قتله.
يهجو سلولا قال الزبير في حديثه: وقد قال ابن الدمينة في تحقيق ذلك :
قالوا: هجتك سلول اللؤم مخـفـية فاليوم أهجو سلولا لا أخـافـيهـا
قالوا: هجاك سلولي، فقلت لـهـم: قد أنصف الصخرة الصماء راميها
رجالهم شر من يمشي ونسوتـهـم شر البرية واست ذل حـامـيهـا
يحككن بالصخر أستاها بها نـقـب كما يحك نقاب الجرب طالـيهـا قال: وقال أيضا يذكر دخول مزاحم ووضعه يده عليه:
لك الخير إن واعدت حماء فالقها نهارا، ولا تدلج إذا الليل أظلما
فإنك لا تدري أبيضاء طـفـلة تعانق أم ليثا من القوم قشعمـا
فلما سرى عن ساعدي ولحيتـي وأيقن أني لست حماء جمجمـا يقتل امرأته وصغيرة له منها
قالوا جميعا: ثم أتى ابن الدمينة امرأته، فطرح على وجهها قطيفة، ثم جلس عليها حتى قتلها، فلما ماتت قال :
صفحة : 1910
إذا قعدت على عرنين جـارية فوق القطيفة فادعوا لي بحفار فبكت بنية له منها، فضرب بها الأرض فقتلها، وقال متمثلا: لا تتخذن من كلب سوء جروا .
أخو المقتول يستعدي الوالي قال الزبير في خبره، عن عمه مصعب، عن حميد بن أنيف، قال: فخرج جناح أخو المقتول إلى أحمد بن إسماعيل فاستعداه على ابن الدمينة، فبعث إليه فحبسه.
أم المقتول تحضض أخويه على الثأر وقالوا جميعا: قالت أم أبان والدة مزاحم بن عمرو المقتول، وهي من خثعم، ترثي ابنها، وتحضض مصعبا وجناحا أخويه :
بأهلي ومالي، بل بجل عشـيرتـي قتيل بنـي تـيم بـغـير سـلاح
فهلا قتلتم بالسلاح ابن أخـتـكـم فتظهر فيه للـشـهـود جـراح
فلا تطعموا في الصلح ما دمت حية وما دام حيا مصـعـب وجـنـاح
ألم تعلمـوا أن الـدوائر بـينـنـا تدور، وأن الطالـبـين شـحـاح اشتداد الشر بين خثعم وبني سلول
قالوا: فلما طال حبسه، ولم يجد عليه أحمد بن إسماعيل سبيلا ولا حجة خلاه، وقتلت بنو سلول رجلا من خثعم مكان المقتول، وقتلت خثعم بعد ذلك نفرا من سلول. ولهم في ذلك قصص وأشعار كثيرة.
مقتله
قالوا: وأقبل ابن الدمينة حاجا بعد مدة طويلة، فنزل بتبالة ، فعدا عليه مصعب أخو المقتول لما رآه، وقد كانت أمه حرضته عليه، وقالت: اقتل ابن الدمينة، فإنه قتل أخاك، وهجا قومك، وذم أختك، وقد كنت أعذرك قبل هذا، لأنك كنت صغيرا، وقد كبرت الآن. فلما أكثرت عليه خرج من عندها، وبصر بابن الدمينة واقفا ينشد الناس، فغدا إلى جزار فأخذ شفرته، وعدا على ابن الدمينة، فجرحه جراحتين، فقيل: إنه مات لوقته. وقيل: بل سلم تلك الدفعة، ومر به مصعب بعد ذلك وهو في سوق العبلاء ينشد، فعلاه بسيفه حتى قتله، وعدا وتبعه الناس حتى اقتحم دارا وأغلقها على نفسه، فجاءه رجل من قومه فصاح به: يا مصعب، إن لم تضع يدك في يد السلطان قتلتك العامة فاخرج، فلما عرفه قال له: أنا في ذمتك حتى تسلمني إلى السلطان? قال: نعم، فخرج إليه ووضع يده في يده، فسلمه إلى السلطان، فقذفه في سجن تبالة.
يحرض قومه ويوبخهم
قال السكري في خبره: ومكث ابن الدمينة جريحا ليلته، ومات في غد، فقال في تلك الليلة يحرض قومه ويوبخهم:
هتفت بأكلب ودعوت قيسـا فلا خذلا دعوت ولا قلـيلا
ثأرت مزاحما وسررت قيسا وكنت لما هممت به فعولا
فلا تشلـل يداك ولا تـزالا تفيدان الغنائم والـجـزيلا
فلو كان ابن عبد اللـه حـيا لصبح في منازلها سلـولا مصعب السلولي يحرض قومه لإنقاذه قال: وبلغ مصعبا أن قوم ابن الدمينة يريدون أن يقتحوا عليه سجن تبالة فيقتلوه به غيلة؛ فقال يحرض قومه:
لقيت أبا السري وقد تـكـالا له حق العداوة في فـؤادي
فكاد الغيظ يفرطنـي إلـيه بطعن دونه طعن الـسـداد
إذا نبحت كلاب السجن حولي طمعت هشاشة وهفا فؤادي
طماعة أن يدق السجن قومي وخوفا أن يبيتنـي الأعـادي
فما ظني بقومي شـر ظـن ولا أن يسلموني في البـلاد
وقد جدلت قاتلهم فأمـسـى يمج دم الوتين على الوسـاد هروب مصعب السلولي إلى صنعاء فجاءت بنو عقيل إليه ليلا، فكسروا السجن، وأخرجوه منه.
قال مصعب: فلما أفلت من السجن هرب إلى صنعاء، فقدم علينا وأبى بها يومئذ وال، فنزل على كاتب لأبي كان مولى لهم، فرأيته حينئذ ولم يكن جلدا من الرجال.
مما يغني به من شعره
ومما يغنى به من شعر ابن الدمينة قوله من قصيدة أولها :
اقمت على زمان يومـا ولـيلة لأنظر ما واشي أميمة صانـع
فقصرك مني كل عام قصـيدة تخب بها خوص المطي النزائع وهذه القصيدة ذكر أحمد بن يحيى ثعلب أن عبد الله بن شبيب أنشده إياها، عن محمد بن عبد الله الكراني لابن الدمينة. والذي يغنى به منها قوله : صوت
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامـع
نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا لي الليل شاقتني إليك المضاجع
صفحة : 1911
لقد ثبتت في القلب منك محـبة كما ثبتت في الراحتين الأصابع غناه إبراهيم رملا بالوسطى، عن عمرو بن بانة.
يحب أميمة ويتزوجها
نسخت من كتاب أبي سعد، قال: حدثنا ابن أبي السري، عن هشام، قال: هوي ابن الدمينة امرأة من قومه يقال لها أميمة، فهام بها مدة، فلما وصلته تجنى عليها، وجعل ينقطع عنها، ثم زارها ذات يوم فتعاتبا طويلا، ثم أقبلت عليه فقالت : صوت
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتنـي وأشمت بي من كان فيك يلـوم
وأبرزتني للناس ثم تركتـنـي لهم غرضا أرمى وأنت سلـيم
فلو أن قوما لا يكلم الجسم قد بدا بجسمي من قول الوشاة كلـوم الشعر لأميمة: امرأة ابن الدمينة، والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو والهشامي. وذكر حبش أن لإبراهيم أيضا فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى، وذكر حكم الوادي أن هذا اللحن ليعقوب الوادي، وفيه لعريب خفيف ثقيل.
قال: فأجابها ابن الدمينة، فقال :
وأنت التي قطعت قلبي حزازة ومزقت قرح القلب فهو كليم
وأنت التي كلفتني دلج السـرى وجون القطا بالجلهتين جثـوم
وأنت التي أحفظت قومي فكلهم بعيد الرضا داني الصدود كظيم قال: ثم تزوجها بعد ذلك، وقتل وهي عنده.
قصة عاشقين
فأخبرني الحسين بن يحيى، قال: قال حماد بن إسحاق: حدثني أبي، قال: حدثنا سعيد بن سلم، عن أبي الحسن الينبعي، قال: بينا أنا وصديق لي من قريش نمشي بالبلاط ليلا إذا بظل نسوة في القمر، فالتفتنا فإذا بجماعة نسوة، فسمعت واحدة منهن وهي تقول: أهو هو? فقالت الأخرى: نعم، والله إنه لهو هو. فدنت مني ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:
ليست لياليك في خاخ بعائدة كما عهدت ولا أيام ذي سلم فقلت له: أجب، فقد سمعت. فقال: قد والله قطع بي، وأرتج علي، فأجب عني، فالتفت إليها ثم قلت:
فقلت لها: يا عز كل مصـيبة إذا وطنت يوما لها النفس ذلت فقالت المرأة: أوه ثم مضت ومضينا، حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله، ومضيت أنا إلى منزلي؛ فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي، فالتفت إليها، فقالت: المرأة التي كلمتك تدعوك. فمضيت معها حتى دخلت دارا، ثم صرت إلى بيت فيه حصير، وثنيت لي وسادة فجلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، وجاءت المرأة فجلست عليها، وقالت: أنت المجيب? قلت: نعم. قالت: ما كان أفظ جوابك وأغلظه قلت: والله ما حضرني غيره. فبكت، ثم قالت لي: والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من إنسان كان معك. قلت: أنا الضامن لك عنه ما تحبين. قالت: أو تفعل. قلت: نعم. فوعدتها أن آتيها به في الليلة القابلة. وانصرفت، فإذا الفتى ببابي، فقلت: ما جاء بك? قال: علمت أنها سترسل إليك، وسألت عنك فلم أجدك فعلمت أنك عندها، فجلست أنتظرك. فقتل: فقد كان كل ما ظننت، ووعدتها أن آتيها بك في الليلة القابلة. فمضى ثم أصبحنا فتهيأنا، ورحنا فإذا الجارية تنتظرنا، فمضت أمامنا، حتى دخلنا الدار، فإذا برائحة الطيب، وجاءت فجلست مليا، ثم أقبلت عليه فعاتبته طويلا، ثم قالت: صوت
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني وأشمت بي من كان فيك يلوم
وابرزتني للناس ثم تركتنـي لهم غرضا أرمي وأنت سليم
فلو أن قولا يكلم الجسم قد بدا بجسمي من قول الوشاة كلوم ثم سكتت، فسكت الفتى هنيهة، ثم قال:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن وفي دون هذا للمحـب عـزاء
جزيتك ضعف الود ثم صرمتني فحبك في قلـبـي إلـيك أداء فالتفتت إلي وقالت: ألا تسمع ما يقول? قد أخبرتك قال: فغمزته فكف، ثم قالت : صوت
تجاهلت وصلي حين لجت عمايتي وهلا صرمت الحبل إذ أنا مبصر
ولي من قوى الحبل الذي قطعتـه نصيب وإذ رايي جميع مـوفـر
ولكنما آذنت بـالـصـرم بـغـتة ولست على مثل الذي جئت أقـدر غنى في هذه الأبيات إبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، وذكر حبش أن فيها ثاني ثقيل بالبنصر.
صفحة : 1912
قال: فقال الفتى مجيبا لها :
لقد جعلت نفسي وأنت اجترمتهوكنت أحب الناس عنك تطيب فبكت، ثم قالت: أو قد طابت نفسك لا والله ما فيك خير بعدها، فعليك السلام. ثم قامت والتفتت إلي، وقالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك عنه، وانصرفنا.
العباس بن الأحنف ينشد شعرا له
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، قال: حدثني أبي، قال: كان العباس بن الأحنف إذا سمع شيئا يستحسنه أطرفني به، وافعل مثل ذلك، فجاءني يومان فوقف بين البابين، وأنشد لابن الدمينة : صوت
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجـد فقد زادني مسراك وجدا على وجد
أإن هتفت ورقاء في رونق الضحى على فنن غض النبات من الرنـد
بكيت كما يبكي الحـزين صـبـابة وذبت من الشوق المبرح والصـد
بكيت كما يبكي الوليد، ولم تـكـن جزوعا وأبديت الذي لم تكن تبـدي
وقد زعموا أن المـحـب إذا دنـا يمل وأن النأي يشفى من الـوجـد
بكل تداوينا فلـم يشـف مـا بـنـا على أن قرب الدار خير من البعد وزيد على ذلك بيت، وهو:
ولكن قرب الدار ليس بنافـع إذا كان من تهواه ليس بذي ود ثم ترنح ساعة، وترجح أخرى، ثم قال: أنطح العمود برأسي من حسن هذا فقلت: لا، ارفق بنفسك.
الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم له فيه لحنان: أحدهما ماخوري بالبنصر أوله البيت الثاني، والآخر خفيف ثقيل بالوسطى أوله البيت الأول.
ابن هرمة وصديق له أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي، قال: حدثني أحمد بن سعيد عن ابن زبنج راوية ابن هرمة، قال: لقي ابن هرمة بعض أصدقائه بالبلاط، فقال له: من أين أقبلت? قال: من المسجد، قال: فأي شيء صنعت هناك? قال: كنت جالسا مع إبراهيم بن الوليد المخزومي، قال: فأي شيء قال لك? قال: أمرني أن أطلق امرأتي. قال: فأي شيء قلت له? قال: ما قلت له شيئا. قال: فوالله ما قال لك ذلك إلا لأمر أظهرته عليه وكتمتنيه، أفرأيت إن أمرته بطلاق امرأته، أيطلقها? قال: لا، والله، قال: فابن الدمينة كان أنصف منك، كان يهوى امرأة من قومه، فأرسلت إليه: إن أهلي قد نهوني عن لقائك ومراسلتك، فأرسل إليها : صوت
أطعت الآمريك بقطع حـبـلـي مريهم في أحـبـتـهـم بـذاك
فإن هم طاوعوك فطـاوعـيهـم وإن عاصوك فاعصي من عصاك
أما والراقـصـات بـكـل فـج ومن صلى بـنـعـمـان الأراك
لقد أضمرت حبـك فـي فـؤادي وما أضمت حـبـا مـن سـواك في هذه الأبيات لإسحاق رمل، وفيها لشارية خفيف رمل بالوسطى، ولعريب خفيف ثقيل، ابتداؤه ينشد في الثالث والرابع ثم الثاني والأول، وفيه لمتيم خفيف رمل آخر.
رد عاشق على صاحبته ببيتين له وحدثني بعض أصدقائنا، عن أبي بكر بن دريد - ولم أسمعه منه - قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، ووجدته أيضا في بعض الكتب بغير هذا الإسناد عن الأصمعي، فجمعت الحكايتين، قال: مررت بالكوفة، وإذا أنا بجارية تطلع من جدار إلى الطريق، وفتى واقف وظهره إلي، وهو يقول لها: أسهر فيك وتنامين عني، وتضحكين مني وأبكي، وتستريحين وأتعب، وأمحضك المودة وتمذقينها لي، وأصدقك وتنافقيني، ويأمرك عدوي بهجري فتطيعينه، ويأمرني نصيحي بذلك فأعصيه ثم تنفس وأجهش باكيا. فقالت له: إن أهلي يمنعونني منك، وينهونني عنك؛ فكيف أصنع? فقال لها:
أطعت الآمريك بصرم حـبـلـي مريهم في أحـبـتـهـم بـذاك
فإن هم طاوعوك فطـاوعـيهـم وإن عاصوك فاعصي من عصاك ثم التفت فرآني، فقال يا فتى؛ ما تقول أنت فيما قلت? قلت له: والله لو عاش ابن أبي ليلى ما حكم إلا بمثل حكمك.
تمت أخبار ابن الدمينة
صوت
وإن الذي بيني وبين بـنـي أبـي وبين بني عمي لمختـلـف جـدا
فما أحمل الحقد القـديم عـلـيهـم وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
وليسوا إلى نصري سراعا وإن هم دعوني إلى نصر أتيتـهـم شـدا
إذا أكلوا لحمي وفرت لحومـهـم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجـدا
صفحة : 1913
يعاتبني في الدين قومي وإنما تدينت في أشياء تكسبهم حمدا عروضه من الطويل. الشعر للمقنع الكندي، والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه من روايته أيضا لمالك خفيف رمل بالوسطى. وذكر علي بن يحيى أن لحن ابن سريج خفيف ثقيل. وذكر إبراهيم أن فيه لقفا النجار لم يذكر طريقته، وأظنه من خفيف الثقيل.
نسب المقنع الكندي وأخباره
سبب تلقيبه بالمقنع
المقنع لقب غلب عليه؛ لأنه كان أجمل الناس وجها، وكان إذا سفر اللثام عن وجهه أصابته العين.
قال الهيثم: كان المقنع أحسن الناس وجها، وأمدهم قامة، وأكملهم خلقا، فكان إذا أسفر لقع - أي أصابته أعين الناس - فيمرض، ويلحقه عنت ؛ فكان لا يمشي إلا مقنعا.
نسبه
واسمه محمد بن ظفر بن عمير بن أبي شمر بن فرعان بن قيس بن الأسود بن عبد الله بن الحارث الولادة - سمي بذلك لكثرة ولده - بن عمرو بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية، وكان له محل كبير، وشرف ومروءة وسؤدد في عشيرته.
قال الهيثم بن عدي: كان عمير جده سيد كندة، وكان عمه عمرو بن أبي شمر ينازع أباه الرياسة ويساجله فيها، فيقصر عنه.
أتلف ماله في عطاياه
ونشأ محمد بن عمير المقنع، فكان متخرقا في عطاياه، سمح اليد بماله، لا يرد سائلا عن شيء حتى أتلف كل ما خلفه أبوه من مال، فاستعلاه بنو عمه عمرو بن أبي شمر بأموالهم وجاههم.
بنو عمه لم يزوجوه أختهم لفقره ودينه وهوي بنت عمه عمرو فخطبها إلى إخوتها، فردوه وعيروه بتخرقه وفقره وما عليه من الدين؛ فقال هذه الأبيات المذكورة.
شاعر يفضل شعرا له تعريضا ببخل خليفة وأخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني محمد بن زكريا الغلابي، عن العتبي، قال: حدثني أبو خالد من ولد أمية بن خلف، قال: قال عبد الملك بن مروان - وكان أول خليفة ظهر منه بخل -: أي الشعراء أفضل? فقال له: كثير بن هراسة، يعرض ببخل عبد الملك: أفضلهم المقنع الكندي حيث يقول:
إني أحرض أهل البخل كلـهـم لو كان ينفع أهل البخل تحريضي
ما قل مالي إلا زادنـي كـرمـا حتى يكون برزق الله تعويضـي
والمال يرفع من لولا دراهـمـه أمسى يقلب فينا طرف مخفوض
لن تخرج البيض عفوا من أكفهم إلا على وجع منهم وتـمـريض
كأنها من جلود الباخـلـين بـهـا عند النوائب تحذى بالمقـاريض فقال عبد الملك - وعرف ما أراد -: الله أصدق من المقنع حيث يقول: )والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا( .
صوت
يابن هشام يا علـي الـنـدى فدتك نفسي ووقتـك الـردى
نسيت عهدي أو تناسـيتـنـي لما عداني عنك صرف النوى الشعر والغناء لإسحاق الموصلي رمل بالبنصر.
خبر لإسحاق وابن هشام
وهذا الشعر يقوله في علي بن هشام أيام كان إسحاق بالبصرة، وله إليه رسالة حسنة، هذا موضع ذكرها، أخبرنا بها علي بن يحيى المنجم، عن أبيه، ووقعت إلينا من عدة وجوه: رسالته إلى علي بن هشام
أن إسحاق كتب إلى علي بن هشام: جعلت فداك بعث إلي أبو نصر مولاك بكتاب منك إلي يرتفع عن قدري، ويقصر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه لظننت أن الرسول غلط بي فيه، فما لنا ولك يا عبد الله، تدعنا حتى إذا أنسينا الدينا وأبغضناها، ورجونا السلامة من شرها، أفسدت قلوبنا وعلقت أنفسنا، فلا أنت تريدنا، ولا أنت تتركنا؛ فبأي شيء تستحل هذا فأما ما ذكرته من شوقك إلي فلولا أنك حلفت عليه لقلت:
يا من شكا عبثا إلينا شـوقـه شكوى المحب وليس بالمشتاق
لو كنت مشتاقا إلي تـريدنـي ما طبت نفسا ساعة بفراقـي
وحفظتني حفظ الخليل خليلـه ووفيت لي بالعهد والميثـاق
هيهات قد حدثت أمور بعدنـا وشغلت باللذات عن إسحـاق
صفحة : 1914
وقد تركت - جعلت فداك - ما كرهت من العتاب في الشعر وغيره، وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد، واستقبل الشمال، وأتنسم أرواحكم فيها، ثم يكون ما الله أعلم به، وإن كنت تكرهها تركتها إن شاء الله:
ألا قد أرى أن الثـواء قـلـيل وأن ليس يبقى للخليل خـلـيل
وإني وإن مكنت في العيش حقبة كذي سفر قد حان منه رحـيل
فهل لي إلي أن تنظر العين مرة إلى ابن هشام في الحياة سبيل?
فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة وفي النفس منه حاجة وغلـيل وأما بعد، فإني أعلم أنك - وإن لم تسل عن حالي - تحب أن تعلمها وأن تأتيك عني سلامة؛ فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن، مريض القلب.
وبعد: فأنا - جعلت فداك - في صنعة كتاب مليح ظريف، فيه تسمية القوم ونسبهم وبلادهم، وأسبابهم وأزمنتهم، وما اختلفوا فيه من غنائهم، وبعض أحاديثهم، وأحاديث قيان الحجاز والكوفة والبصرة المعروفات والمذكورات، وما قيل فيهن من الأشعار، ولمن كن، وإلى من صرن، ومن كان يغشاهن، ومن كان يرخص في السماع من الفقهاء والأشراف، فأعلمني رايك فيما تشتهي لأعمل على قدر ذلك، إن شاء الله.
وقد بعثت إليك بأنموذج، فإن كان كما قال القائل: قبح الله كل دن أوله دردي ، لم نتجشم إتمامه، وربحنا العناء فيه، وإن كان كما قال العربي: إن الجواد عينه فراره أعلمتنا؛ فأتممناه مسرورين بحسن رأيك فيه، إن شاء الله .
وهذا مما يدل على أن كتاب الأغاني المنسوب إلى إسحاق ليس له؛ وإنما ألف ما رواه حماد ابنه عنه من دواوين القدماء، غير مختلط بعضها ببعض.
وحشة بعد ألفة وكان إسحاق يألف عليا وأحمد ابني هشام وسائر أهلهما إلفا شديدا، ثم وقعت بينهم نبوة ووحشة في أمر لم يقع إلينا لمعا غير مشروحة، فهجاهم هجاء كثيران وانفرجت الحال بينه وبينهم.
شعره في مصعب وصباح فأخبرني محمد بن خلف وكيع ويحيى بن علي بن يحيى وغيرهما، عن أبي أيوب سليمان المديني، عن مصعب، قال: قال لي أحمد بن هشام: أما تستحي أنت وصباح بن خاقان، وأنتما شيخان من مشايخ المروءة والعلم والأدب أن شبب بذكركما إسحاق في الشعر، وهو مغن مذكور، فيقول:
قد نهانا مصعب وصباح فعصينا مصعبا وصباحا
عذلا ما عذلا أم مـلامـا فاسترحنا منهما فاستراحا ويروى:
علما في العذل أم قد ألاما ويروى:
عذلا عذلهما ثم أناما فقلت: إن كان فعل فما قال إلا خيرا، إنما ذكر أنا نهيناه عن خمر شربها، وامرأة عشقها، وقد أشاد باسمك في الشعر بأشد من هذا، قال: وما هو? قلت: قوله: شعره في عي أحمد بن هشام
وصافية تغشى العيون رقـيقة رهينة عام في الدنـان وعـام
أدرنا بها الكأس الروية موهنـا من الليل حتى انجاب كل ظلام
فما ذر قرن الشمس حتى كأننا من العي نحكي أحمد بن هشام قال: أو قد فعل العاض بظر أمه قلت : إي والله لقد فعل.
إلى ها هنا رواية مصعب.
أحمد بن هشام يتوعده ووجدت هذا الخبر في غير روايته، وفيه زيادة قد ذكرتها، قال: فآلى أحمد بن هشام أن يبلغ فيه كل مبلغ يقدر عليه، وأن يجتهد في اغتياله.
علي بن هشام يصلح بينه وبين أخيه محمد قال إسحاق: حضرت بدار الخليفة، وحضر علي بن هشام، فقال لي: أتهجو أخي وتذكره بما بلغني من القبيح? فقلت: أو يتعرض أخوك لي ويتوعدني فوالله ما أبالي بما يكون منه؛ لأني أعلم أنه لا يقدر لي على ضر، والنفع فلا أريده منه، وأنا شاغر مغن، والله لأهجونه بما أفرى به جلده، وأهتك مروءته، ثم لأغنين في أقبح ما أقوله فيه غناء تسري به الركبان. فقال لي: أو تهب لي عرضه، وأصلح بينكما? فقلت: ذاك إليك. وإن فعلته فلك لا له. ففعل ذلك، وما فعلته به.
ابن عائشة يهجو مصعبا وصباحا أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني محمد بن يزيد النحوي، قال: كان صباح بن خاقان المنقري نديما لمصعب الزبيري، فقال عبد الرحمن بن أبي عبد الرحمن بن عائشة - وكان خليعا من أهل البصرة -:
من يكن إبطه كآباط ذا الخل ق فإبطاي في عداد الفقاح
صفحة : 1915
لي أبطان يرميان جليسـي بشبيه السلاح بل بالسلاح
فكأني من نتن هـذا وهـذا جالس بين مصعب وصباح ينشد الفضل بن الربيع أخبرني علي بن يحيى المنجم، قال: حدثني أبي، قال: حدثني إسحاق، قال: دخلت على الفضل بن الربيع يوما، فقال: ما عندك? قلت: بيتان أرجو أن يكونا فيما يستطرف، وأنشدته:
سنغضي عن المكروه من كل ظالم ونصبر حتى يصنع الله بالفضـل
فتنتصر الأحرار ممن يصيمـهـا وتدرك أقصى ما تطالب من ذحل قال: فدمعت عينه، وقال: من آذاك لعنه الله? فقلت: بنو هاشم، وأخبرته الخبر.
قال يحيى بن علي: ولم يذكر بأي شيء أخبره.
صوت
قد حصت البيضة رأسي فما أطعم نوما غير تهـجـاع
أسعى على جل بني مالـك كل امرىء في شأنه سـاع
من يذق الحرب يجد طعمها مرا، وتتركه بجـعـجـاع
لا نألم القتل ونجزي به الأع داء كيل الصاع بالـصـاع الشعر لأبي قيس بن الأسلت، والغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل أول. وقيل: بل هو لمعبد.
نسب أبي قيس بن الأسلت وأخباره
نسبه
أبو قيس لم يقع إلي اسمه غير ابن الأسلت ، والأسلت لقب أبيه ، واسمه عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عمارة بن مرة بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.
وهو شاعر من شعراء الجاهلية، وكانت الأوس قد أسندت إليه حربها، وجعلته رئيسا عليها، فكفى وساد. وأسلم ابنه عقبة بن أبي قيس، واستشهد يوم القادسية.
وكان يزيد بن مرداس السلمي أخو عباس بن مرداس الشاعر قتل قيس بن أبي قيس بن الأسلت في بعض حروبهم، فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت، حتى تمكن من يزيد بن مرداس، فقتله بقيس بن أبي قيس، وهو ابن عمه.
ولقيس يقول أبوه أبو قيس بن الأسلت:
أقيس إن هلكت وأنت حي فلا تعدم مواصلة الفقير وهذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله أبو قيس في حرب بعاث .
رأي الأوس في حربها قال هشام بن الكلبي: كانت الأوس قد أسندوا أمرهم في يوم بعاث إلى أبي قيس بن الأسلت الوائلي ، فقام في حربهم وآثرها على كل أمر حتى شحب وتغير، ولبث أشهرا لا يقرب امرأة. ثم إنه جاء ليلة فدق على امرأته، وهي كبشة بنت ضمرة بن مالك بن عدي بن عمرو بن عوف، ففتحت له؛ فأهوى إليها بيده فدفعته، وأنكرته، فقال: أنا أبو قيس فقالت: والله ما عرفتك حتى تكلمت. فقال في ذلك أبو قيس هذه القصيدة، وأولها :
قالت ولم تقصد لقـيل الـخـنـا : مهلا فقد أبلـغـت أسـمـاعـي
استنكرت لـونـا لـه شـاحـبـا والـحـرب غـول ذات أوجـاع
من يذق الحرب الحرب يجد طعمها مرا وتـتـركـه بـجـعـجـاع يوم بعاث
يوم بعاث وسببه فأما السبب في هذا اليوم - وهو يوم بعاث - فيما أخبرني به محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، وأضفت إليه ما ذكره ابن الكلبي عن أبيه، عن أبي صالح، عن أبي عبيدة، عن محمد بن عمار بن ياسر، وعن عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة الغسيل ابن أبي عامر الراهب: الأوس تطلب عون بني قريظة والنضير أن الأوس كانت استعانت ببني قريظة والنضير في حروبهم التي كانت بينهم وبين الخزرج، وبلغ ذلك الخزرج، فبعثت إليهم: إن الأوس فيما بلغنا قد استعانت بكم علينا، ولن يعجزنا أن نستعين بأعدادكم وأكثر منكم من العرب، فإن ظفرنا بكم فذاك ما تكرهون، وإن ظفرتم لم ننم عن الطلب أبدا، فتصيروا إلى ما تكرهون، ويشغلكم من شأننا ما أنتم الآن منه خالون، وأسلم لكم من ذلك أن تدعونا وتخلوا بيننا وبين إخواننا.
الخزرج تحتفظ برهائن من قريظة والنضير فلما سمعوا ذلك علموا أنه الحق؛ فأرسلوا إلى الخزرج: إنه قد كان الذي بلغكم، والتمست الأوس نصرنا، وما كنا لننصرهم عليكم أبدا. فقالت لهم الخزرج: فإن كان ذلك فابعثوا إلينا برهائن تكون بين أيدينا. فبعثوا إليهم أربعين غلاما منهم، ففرقهم الخزرج في دورهم فمكثوا بذلك مدة.
صفحة : 1916
ثم إن عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه بياضة: إن عامرا أنزلكم منزل سوء بين سبخة ومفازة، وإنه والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة والنضير على عذب الماء وكريم النخل. ثم راسلهم: إما أن تخلوا بيننا وبين دياركم نسكنها، وإما أن نقتل رهنكم، فهموا أن يخرجوا من ديارهم، فقال لهم كعب بن أسد القرظي: يا قوم، امنعوا دياركم، وخلوه يقتل الرهن، والله ما هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته حتى يولد له غلام مثل أحد الرهن.
غدر عمرو بن النعمان بالرهن فاجتمع رأيهم على ذلك، فأرسلوا إلى عمرو بألا نسلم لكم دورنا، وانظروا الذي عاهدتمونا عليه في رهننا، فقوموا لنا به، فعدا عمرو بن النعمان على رهنهم هو ومن أطاعه من الخزرج، فقتلوهم وأبى عبد الله بن أبي - وكان سيدا حليما - وقال: هذا عقوق ومأثم وبغي؛ فلست معينا عليه، ولا أحد من قومي أطاعني. وكان عنده في الرهن سليم بن أسد القرظي - وهو جد محمد بن كعب القرظي - فخلى عنه، وأطلق ناس من الخزرج نفرا فلحقوا بأهليهم، فناوشت الأوس الخزرج يوم قتل الرهن شيئا من قتال غير كبير.
اجتماع قريظة والنضير على معاونة الأوس على الخزرج واجتمعت قريظة والنضير إلى كعب بن أسد، أخي بني عمرو بن قريظة، ثم توامروا أن يعينوا الأوس على الخزرج؛ فبعث إلى الأوس بذلك.
بنو قريظة والنضير يؤوون النبيت في دورهم ثم أجمعوا عليه، على أن ينزل كل أهل بيت من النبيت على بيت من قريظة والنضير، فنزلوا معهم في دورهم، وأرسلوا إلى النبيت يأمرونهم بإتيانهم، وتعاهدوا ألا يسلموهم أبدا، وأن يقاتلوا معهم حتى لا يبقى منهم أحد. فجاءتهم النبيت فنزلوا مع قريظة والنضير في بيوتهم، ثم أرسلوا إلى سائر الأوس في الحرب والقيام معهم على الخزرج، فأجابوهم إلى ذلك. فاجتمع الملأ منهم، واستحكم أمرهم، وجدوا في حربهم، ودخلت معهم قبائل من أهل المدينة، منهم بنو ثعلبة - وهم من غسان - وبنو زعوراء، وهم من غسان.
مشاورة الخزرج عبد الله بن أبي في حرب الأوس فلما سمعت بذلك الخزرج اجتمعوا، ثم خرجوا، وفيهم عمرو بن النعمان البياضي، وعمرو بن الجموح السلمي، حتى جاءوا عبد الله بن أبي، وقالوا له: قد كان الذي بلغك من أمر الأوس وأمر قريظة والنضير واجتماعهم على حربنا، وإنا نرى أن نقاتلهم، فإن هزمناهم لم يحرز أحد منهم معقله ولا ملجأه حتى لا يبقى منهم أحد.
فلما فرغوا من مقالتهم قال عبد الله بن أبي خطيبا وقال: إن هذا بغي منكم على قومكم وعقوق، ووالله ما أحب أن رجلا من جراد لقيناهم.
تحذير عبد الله بن أبي عاقبة الغدر وقد بلغني أنهم يقولون: هؤلاء قومنا منعونا الحياة أفيمنعوننا الموت والله إني أرى قوما لا ينتهون أو يهلكوا عامتكم، وإني لأخاف إن قاتلوكم أن ينصروا عليكم لبغيكم عليهم، فقاتلوا قومكم كما كنتم تقاتلونهم، فإذا ولوا فخلوا عنهم، فإذا هزموكم فدخلتم أدنى البيوت خلوا عنكم. فقال له عمرو بن النعمان: انتفخ والله سحرك يا أبا الحارث حين بلغك حلف الأوس قريظة والنضير فقال عبد الله: والله لا حضرتكم أبدا، ولا أحد أطاعني أبدا، ولكأني أنظر إليك قتيلا تحملك أربعة في عباءة .
توليه الخزرج عمرو بن النعمان أمر حربهم وتابع عبد الله بن أبي رجال من الخزرج، منهم عمرو بن الجموح الحرامي. واجتمع كلام الخزرج على أن رأسوا عليهم عمرو بن النعمان البياضي، وولوه أمر حربهم، ولبثت الأوس والخزرج أربعين ليلة يتصنعون للحرب، ويجمع بعضهم لبعض، ويرسلون إلى حلفائهم من قبائل العرب.
حضير الكتائب يحرض الأوس على القتال فأرسلت الخزرج إلى جهينة وأشجع، فكان الذي ذهب إلى أشجع ثابت بن قيس بن شماس، فأجابوه، وأقبلوا إليهم، وأقبلت جهينة إليهم أيضا. وأرست الأوس إلى مزينة، وذهب حضير الكتائب الأشهلي إلى أبي قيس بن الأسلت، فأمره أن يجمع له أوس الله، فجمعهم له أبو قيس، فقام حضير، فاعتمد على قوسه، وعليه نمرة تشف عن عورته، فحرضهم وأمرهم بالجد في حربهم، وذكر ما صنعت بهم الخزرج من إخراج النبيت وإذلال من تخلف من سائر الأوس، في كلام كثير.
استجابة الأوس لما أراده حضير
صفحة : 1917
فجعل كلما ذكر ما صنعت بهم الخزرج وما ركبوه منهم يستشيط ويحمى، وتقلص خصيتاه، حتى تغيبا، فإذ كلموه بما يجب تدلتا حتى ترجعا إلى حالهما. فأجابته أوس الله بالذي يجب من النضرة والموازرة والجد في الحرب.
قال هشام: فحدثني عبد المجيد بن أبي عيسى، عن خير ، عن أشياخ من قومه: أن الأوس اجتمعت يومئذ إلى حضير بموضع يقال له الجباة ، فأجالوا الرأي، فقالت الأوس: إن ظفرنا بالخزرج لم نبق منهم أحدا ولم نقاتلهم كما كنا نقاتلهم. فقال حضير: يا معشر الأوس؛ ما سميتم الأوس إلا لأنكم تؤوسون الأمور الواسعة. ثم قال:
يا قوم قد أصبحـتـم دوارا لمعشر قد قتلوا الخـيارا
يوشك أن يستأصلوا الديار قال: ولما اجتمعت بالجباة طرحوا بين أيديهم تمرا، وجعلوا يأكلون وحضير الكتائب جالس، وعليه بردة له قد اشتمل بها الصماء ، وما يأكل معهم، ولا يدنو إلى التمر غضبا وحنقا.
عقد الرياسة له فقال: يا قوم، اعقدوا لأبي قيس بن الأسلت. فقال لهم أبو قيس: لا أقبل ذلك؛ فإني لم أرأس على قوم في حرب قط إلا هزموا وتشاءموا برياستي. وجعلوا ينظرون إلى حضير واعتزاله أكلهم واشتغاله بما هم فيه من أمر الحرب، وقد بدت خصيتاه من تحت البرد، فإذا رأى منهم ما يكره من الفتور والتخاذل تقلصتا غيظا وغضبا، وإذا رأى منهم ما يحب من الجد والتشمير في الحرب عادتا لحالهما.
وأجابت إلى ذلك أوس مناة، وجدوا في الموازرة والمظاهرة. وقدمت مزينة على الأوس، فانطلق حضير وأبو عامر الراهب بن صيفي إلى أبي قيس بن الأسلت، فقالا: قد جاءتنا مزينة، واجتمع إلينا من أهل يثر ما لا قبل للخزرج به، فما الرأي إن نحن ظهرنا عليهم: الإنجاز أم البقية? فقال أبو قيس: بل البقية، فقال أبو عامر: والله لوددت أن مكانهم ثعلبا ضباحا . فقال أبو قيس: اقتلوهم حتى يقولوا: بزا بزا - كلمة كانوا يقولونها إذا غلبوا - فتشاجروا في ذلك، وأقسم حضير ألا يشرب الخمر أو يظهر ويهدم مزاحما أطم عبد الله بن أبي.
حضير الكتائب يقسم على هدم مزاحم أطم عبد الله بن أبي فلبثوا شهرين يعدون ويستعدون، ثم التقوا ببعاث، وتخلف من الأوس بنو حارثة بن الحارث، فبعثوا إلى الخزرج: إنا والله ما نريد قتالكم. فبعثوا إليهم أن ابعثوا إليها برهن منكم يكونون في أيدينا، فبعثوا إليهم اثني عشر رجلا، منهم خديج، أبو رافع بن خديج.
وبعاث: من أموال بني قريظة، فيها مزرعة يقال لها قورى؛ فلذلك تدعى بعاث الحرب .
حشد القوات وحشد الحيان فلم يتخلف عنهم إلا من لا ذكر له. ولم يكونوا حشدوا قبل ذلك في يوم التقوا فيه، فلما رأت الأوس الخزرج أعظموهم، وقالوا لحضير: يا أبا أسيد، لو حاجزت القوم، وبعثت إلى من تخلف من حلفائك من مزينة فطرح قوسا كانت في يده، ثم قال: أنتظر مزينة، وقد نظر إلي القوم ونظرت إليهم الموت قبل ذلك.
فرار الأوس من المعركة ثم حمل وحملوا، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت الأوس حين وجدوا مس السلاح، فولوا مصعدين في حرة قورى نحو العريض ، وذلك وجه طريق نجد.
الخزرج يعيرون الأوس فنزل حضير، وصاحت بهم الخزرج: أين الفرار? ألا إن نجدا سنة - أي مجدب - يعيرونهم.
حضير يعقر نفسه ليثبت قومه فلما سمع حضير طعن بسنان رمحه فخذه، ونزل وصاح: واعقراه والله لا أريم حتى أقتل، فإن شئتم يا معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا.
فتعطفت عليه الأوس، وقام على رأسه غلامان من بني عبد الأشهل، يقال لهما: محمود ولبيد - ابنا خليفة بن ثعلبة - وهما يومئذ معرسان ذوا بطش، فجعلا يرتجزان ويقولان:
أي غلامـي مـلـك تـرانـا في الحرب إذا دارت بنا رحانا
وعدد الناس لنـا مـكـانـا مقتل عمرو بن النعمان فقاتلا حتى قتلا، وأقبل سهم حتى أصاب عمرو بن النعمان رأس الخزرج فقتله، لا يدرى من رمى به، إلا أن بني قريظة تزعم أنه سهم رجل يقال له أبو لبابة، فقتله.
فبينا عبد الله بن أبي يتردد على بغلة له قريبا من بعاث، يتحسس أخبار القوم، إذ طلع عليه بعمرو بن النعمان ميتا في عباءة، يحمله أربعة إلى داره. فلما رآه عبد الله بن أبي قال: من هذا? قالوا: عمرو بن النعمان. قال: ذق وبال العقوق.
انهزام الخزرج
صفحة : 1918
وانهزمت الخزرج، ووضعت الأوس فيهم السلاح، وصاح صائح: يا معشر الأوس، اسجحوا ولا تهلكوا إخوتكم فجوارهم خير من جوار الثعالب.
قريظة والنضير تسلبان الخزرج فتناهت الأوس، وكفت عن سلبهم بعد إثخان فيهم، وسلبتهم قريظة والنضير، وحملت الأوس حضيرا من الجراح التي به، وهم يرتجزون حوله ويقولون:
كتيبة زينها مـولاهـا لا كهلها هد ولا فتاها تحريق الأوس نخل الخزرج ودورهم وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها؛ فخرج سعد بن معاذ الأشهلي حتى وقف على باب بني سلمة، وأجارهم وأموالهم جزاء لهم بيوم الرعل وكان للخزرج على الأوس يوم يقال له يوم مغلس ومضرس. وكان سعد بن معاذ حمل يومئذ جريحا إلى عمرو بن الجموح الحرامي، فمن عليه وأجاره وأخاه يوم رعل، وهو على الأوس، من القطع والحرق، فكافأه سعد بمثل ذلك في يوم بعاث.
وأقسم كعب بن أسد القرظي ليذلن عبد الله بن أبي، وليحلقن رأسه تحت مزاحم؛ فناداه كعب: انزل يا عدو الله. فقال له عبد الله: أنشدك الله وما خذلت عنكم. فسأل عما قال، فوجده حقا، فرجع عنه.
العدول عن هدم أطم عبد الله بن أبي وأجمعت الأوس على أن تهدم مزاحما أطم عبد الله بن أبي، وحلف حضير ليهدمنه، فكلم فيه، فأمرهم أن يريثوا فيه، فحفروا فيه كوة. وأفلت يومئذ الزبير بين إياس بن باطا ثابت بن قيس بن شماس أخا بني الحارث بن الخزرج، وهي النعمة التي كافأه بها ثابت في الإسلام يوم بني قريظة.
أبو قيس بن الأسلت لا يوافق على هدم دور الخزرج وخرج حضير الكتائب وأبو عامر الراهب حتى أتيا قيس بن الأسلت بعد الهزيمة، فقال له حضير: يا أبا قيس؛ إن رأيت أن تأتي الخزرج قصرا قصرا ودارا دارا، نقتل ونهدم، حتى لا يبقى منهم أحد فقال أبو قيس: والله لا نفعل ذلك؛ فغضب حضير، وقال: ما سميتم الأوس إلا لأنكم تؤوسون الأمر أوسا. ولو ظفرت منا الخزرج بمثلها ما أقالوناها. ثم انصرف إلى الأوس، فأمرهم بالرجوع إلى ديارهم.
موت حضير من جروحه وكان حضير جرح يومئذ جراحة شديدة، فذهب به كليب بن صيفي بن عبد الأشهل إلى منزله في بني أمية بن زيد، فلبث عنده أياما ثم مات من الجراحة التي كانت به، فقبره اليوم في بني أمية بن زيد.
يهودي أعمى يتتبع سير القتال وكان يهودي أعمى من بني قريظة يومئذ في أطم من آطامهم، فقال لابنة له: أشرفي على الأطم، فانظري ما فعل القوم، فأشرفت، فقالت: أسمع الصوت قد ارتفع في أعلى قورى، وأسمع قائلا يقول: اضربوا يا آل الخزرج. فقال: الدولة إذا على الأوس، لا خير في البقاء. ثم قال: ماذا تسمعين? قالت: أسمع رجالا يقولون: يا آل الأوس، ورجالا يقولون: يا آل الخزرج. قال: الآن حمي القتال. ثم لبث ساعة، ثم قال: أشرفي فاسمعي، فأشرفت، فقالت: اسمع قوما يقولون:
نحن بنو صخرة أصحاب الرعل قال: تلك بنو عبد الأشهل، فظفرت والله الأوس - وصخرة أمهم بنت مرة بن ظفر أم بني عبد الأشهل - ثم وثب فرحا نحو باب الأطم فضرب رأسه بحلق بابه ، وكان من حجارة فسقط فمات.
وكان أبو عامر قد حلف ليركزن رمحه في أصل مزاحم أطم عبد الله بن أبي، فخرجت جماعة من الأوس حتى أحاطوا به، وكانت تحت أبي عامر جميلة بنت عبد الله بن أبي، وهي أم حنظلة الغسيل بن أبي عامر، فأشرف عليهم عبد الله، فقال: إني والله ما رضيت هذا الأمر، ولا كان عن رأيي، وقد عرفتم كراهتي له، فانصرفوا عني، فقال أبو عامر: لا والله، لا أنصرف حتى أركز لوائي في أصل أطمك.
فلما رأى حنظلة أنه لا ينصرف، قال لهم: إن ابي شديد الوجد بي، فأشرفوا بي عليه، ثم قولوا: والله لئن لم تنصرف عنا لنرمين برأسه إليك. فقالوا ذلك له، فركز رمحه في أصل الأطم ليمينه ثم انصرف، فذلك قول قيس بن الخطيم :
صبحنا به الآطام حول مزاحم قوانس أولى بيضنا كالكواكب أبو قيس بن الأسلت يأسر مخلد بن الصامت ثم يخلي سبيله وأسر أبو قيس بن الأسلت يومئذ مخلد بن الصامت الساعدي أبا مسلمة بن مخلد، اجتمع إليه ناس من قومه من مزينة ومن يهود، فقالوا: اقتله، فأبى، وخلى سبيله، وأنشأ يقول:
أسرت مخلدا فعفوت عنه وعند الله صالح ما أتيت
مزينة عنده ويهود قورى وقومي كل ذلكم كفـيت خفاف بن ندبة يرثي حضير الكتائب
صفحة : 1919
وقال خفاف بن ندبة، يرثي حضير الكتائب - وكان نديمه وصديقه -:
لو أن المنايا حدن عن ذي مهابة لهبن حضيرا يوم أغلق واقمـا
أطاف به حتى إذا الليل جـنـه تبوا منه منزلا متـنـاعـمـا وقال أيضا يرثيه:
أتاني حديث فـكـذبـتـه وقيل: خليلك في المرمس
فيا عين بكي حضير الندى حضير الكتائب والمجلـس
ويوم شـديد أوار الـحـديد تقطع منه عرى الأنفـس
صليت به وعليك الـحـدي د ما بين سلع إلى الأعرس
فأودى بنفسك يوم الوغـى ونقى ثيابك لـم تـدنـس أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني داود بن محمد بن جميل، عن ابن الأعرابي، قال: قال لي الهيثم بن عدي: كنا جلوسا عند صالح بن حسان، فقال لنا: وأخبرني عمي عن الكراني، عن النوشجاني، عن العمري، عن الهيثم بن عدي، قال: قال لناصالح بن حسان، وأخبرني به الأخفش عن المبرد، قال: قال لي صالح بن حسان: بيت خفر في امرأة خفرة شريفة أنشدوني بيتا خفرا في امرأة خفرة شريفة، فقلنا: قول حاتم:
يضيء لنا البيت الظليل خصاصه إذا هي يوما حاولت أن تبسمـا فقال: هذه من الأصنام، أريد أحسن من هذا. قلنا: قول الأعشى :
كأن مشيتها من بيت جارتهـا مر السحابة لا ريث ولا عجل فقال: هذه خراجة ولاجة كثيرة الاختلاف. قلنا: بيت ذي الرمة :
تنوء بأخراها فلأيا قـيامـهـا وتمشي الهوينا من قريب فتبهر فقال: هذا ليس ما أردت، إنما وصف هذه بالسمن، وثقل البدن. فقلنا: ما عندنا شيء. فقال: قول أبي قيس بن الأسلت :
ويكرمها جاراتها فيزرنها وتعتل عن إتيانهن فتعذر
وليس لها أن تستهين بجارة ولكنها منهن تحيا وتخفر أحسن بيت وصفت به الثريا ثم قال: أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا. قلنا: بيت ابن الزبير الأسدي:
وقد لاح في القور الثريا كأنما به راية بيضاء تخفق للطعن قال: أريد أحسن من هذا، قلنا: بيت امرىء القيس:
إذا ما الثريا في السماء تعرضت تعرض أثناء الوشا المفـصـل قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: بيت ابن الطثرية:
إذا ما الثريا في السماء كأنهـا جمان وهي من سلكه فتسرعا قال: أريد أحسن من هذا. قلنا: ما عندنا شيء. قال: قول أبي قيس بن الأسلت:
وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى كعنقود مـلاحـية حـين نـورا أبو قبيس يحكم له بالتقدم في المعنيين السابقين قال: فحكم له عليهم في هذين المعنيين بالتقدم.
استشهاد عبد الملك بشعره في خطبته بعد مقتل مصعب بن الزبير أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الحسين بن أحمد بن طالب الديناري، قال: حدثني أبو عدنان، قال: حدثني الهيثم بن عدي، قال: حدثني الضحاك بن زميل السكسكي، قال: لما قتل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير خطب الناس بالنخيلة، فقال في خطبته: أيها الناس، دعوا الأهواء المضلة، والآراء المشتتة، ولا تكلفونا أعمال المهاجرين وأنتم لا تعملون بها؛ فقد جاريتمونا إلى السيف، فرأيتم كيف صنع الله بكم، ولا أعرفنكم بعد الموعظة تزدادون جراءة؛ فإني لا أزداد بعدها إلا عقوبة، وما مثلي ومثلكم إلا كما قال أبو قيس بن الأسلت:
من يصل ناري بلا ذنب ولا تـرة يصل بنار كـريم غـير غـدار
أنا النذير لكم منـي مـجـاهـرة كي لا ألام على نهـي وإعـذار
فإن عصيتم مقالي اليوم فاعترفـوا أن سوف تلقون خزيا ظاهر العار
لتتـركـن أحـاديثـا مـلـعـنة عند المقيم وعند المدلج السـاري
وصاحب الوتر ليس الدهر مدركه عندي وإنـي لـطـلاب لأوتـار
أقيم عوجتـه إن كـان ذا عـوج كما يقوم قدح النبـعة الـبـاري
صوت
ترفع أيها القمر المـنـير لعلك أن ترى حجرا يسير
يسير إلى معاوية بن حرب ليقتله كما زعـم الأمـير
ألا يا حجر حجر بني عدي تلقتك السلامة والسـرور
صفحة : 1920
تنعمت الجبابر بعد حـجـر وطاب لها الخورنق والسدير الشعر لامرأة من كندة ترثي حجر بن عدي صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، والغناء لحكم الوادي رمل بالوسطى، وفيه لحنين هزج خفيف بالوسطى عن ابن المكي والهشامي.
خبر مقتل حجر بن عدي
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا محمد بن الحكم، قال: حدثنا أبو مخنف، قال: حدثنا خالد بن قطن، عن المجالد بن سعيد الهمداني، والصقعب بن زهير، وفضيل بن خديج ، والحسن بن عقبة المرادي، وقد اختصرت جملا من ذلك يسيرة؛ تحرزا من الإطالة: استنكاره ذم علي بن أبي طالب ولعنه
أن المغيرة بن شعبة لما ولي الكوفة كان يقوم على المنبر فيذم علي بن أبي طالب وشيعته، وينال منهم، ويلعن قتلة عثمان، ويستغفر لعثمان ويزكيه، فيقوم حجر بن عدي فيقول: )يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم( ، وإني أشهد أن من تذمون أحق بالفضل ممن تطرون، ومن تزكون أحق بالذم ممن تعيبون.
المغيرة بن شعبة يحذره
فيقول له المغيرة: يا حجر، ويحك اكفف من هذا، واتق غضبة السلطان وسطوته؛ فإنها كثيرا ما تقتل مثلك. ثم يكف عنه.
صرخة ثائرة منه
فلم يزل كذلك حتى كان المغيرة يوما في آخر أيامه يخطب على المنبر، فنال من علي بن أبي طالب، ولعنه، ولعن شيعته، فوثب حجر فنعر نعرة أسمعت كل من كان في المسجد وخارجه. فقال له: إنك لا تدري أيها الإنسان بمن تولع، أو هرمت مر لنا بأعطياتنا وأرزاقنا؛ فإنك قد حبستها عنا، ولم يكن ذلك لك ولا لمن كان قبلك، وقد أصبحت مولعا بذم أمير المؤمنين وتقريظ المجرمين.
استجابة لصرخة الثائر فقام معه أكثر من ثلاثين رجلا يقولون: صدق والله حجر مر لنا بأعطياتنا؛ فإنا لا ننتفع بقولك هذا، ولا يجدي علينا، وأكثروا في ذلك.
قوم المغيرة يلومونه في احتماله إياه فنزل المغيرة ودخل القصر، فاستأذن عليه قومه، ودخلوا ولاموه في احتماله حجرا، فقال لهم: إني قد قتلته. قالوا: وكيف ذلك? قال: إنه سيأتي أمير بعدي فيحسبه مثلي فيصنع به شبيها بما ترونه، فيأخذه عند أول وهلة فيقتله شر قتلة. إنه قد اقترب أجلي، وضعف عملي، وما أحب أن أبتدىء أهل هذا المصر بقتل خيارهم وسفك دمائهم، فيسعدوا بذلك وأشقى، ويعز معاوية في الدنيا ويذل المغيرة في الآخرة، سيذكرونني لو قد حربوا العمال.
قال الحسن بن عقبة: فسمعت شيخا من الحي يقول: قد والله جربناهم فوجدناه خيرهم.
زياد يذكره بصداقته ويحذره ما كان يفعل مع المغيرة قال: ثم هلك المغيرة سنة خمسين، فجمعت الكوفة والبصرة لزياد، فدخلها، ووجه إلى حجر فجاءه، وكان له قبل ذلك صديقا، فقال له: قد بلغني ما كنت تفعله بالمغيرة فيحتمله منك؛ وإني والله لا أحتملك على مثل ذلك أبدا، أرأيت ما كنت تعرفني به من حب علي ووده، فإن الله قد سلخه من صدري فصيره بغضا وعداوة، وما كنت تعرفني به من بغض معاوية وعداوته فإن الله قد سلخه من صدري وحوله حبا ومودة وإني أخوك الذي تعهد، إذا أتيتني وأنا جالس للناس فاجلس معي على مجلسي، وإذا أتيت ولم أجلس للناس فاجلس حتى أخرج إليك، ولك عندي في كل يوم حاجتان: حاجة غدوة، وحاجة عشية، إنك إن تستقم تسلم لك دنياك ودينك، وإن تأخذ يمينا وشمالا تهلك نفسك وتشط عندي دمك، إني لا أحب التنكيل قبل التقدمة، ولا آخذ بغير حجة، اللهم اشهد. فقال حجر: لن يرى الأمير مني إلا ما يحب، وقد نصح، وأنا قابل نصيحته.
ثم خرج من عنده، فكان يتقيه ويهابه، وكان زياد يدنيه ويكرمه ويفضله، والشيعة تختلف إلى حجر وتسمع منه.
زياد ينذره قبل خروجه إلى البصرة
صفحة : 1921
وكان زياد يشتو بالبصرة، ويصيف بالكوفة، ويستخلف على البصرة سمرة بن جندب، وعلى الكوفة عمرو بن حريث، فقال له عمارة بن عقبة: إن الشيعة تختلف إلى حجر، وتسمع منه، ولا أراه عند خروجك إلا ثائرا، فدعاه زياد فحذره ووعظه. وخرج إلى البصرة، واستعمل عمرو بن حريث، فجعلت الشيعة تختلف إلى حجر، ويجيء حتى يجلس في المسجد فتجتمع إليه الشيعة، حتى يأخذوا ثلث المسجد أو نصفه، وتطيف بهم النظارة، ثم يمتلىء المسجد، ثم كثروا، وكثر لغطهم، وارتفعت أصواتهم بذم معاوية وشتمه ونقص زياد. وبلغ ذلك عمرو بن حريث، فصعد المنبر، واجتمع إليه أشراف أهل المصر فحثهم على الطاعة والجماعة. وحذرهم الخلاف؛ فوثب إليه عنق من أصحاب حجر يكبرون ويشتمون، حتى دنوا منه، فحصبوه وشتموه حتى نزل ودخل القصر، وأغلق عليه بابه، وكتب إلى زياد بالخبر، فلما أتاه أنشد يتمثل بقول كعب بن مالك:
فلما غدوا بالعرض قال سراتنا: علام إذا لم نمنع العرض نزرع ما أنا بشيء إن لم أمنع الكوفة من حجر، وأدعه نكالا لمن بعده، ويل أمك حجر لقد سقط بك العشاء على سرحان .
عودة زياد إلى الكوفة ثم أقبل حتى أتى الكوفة، فدخل القصر، ثم خرج وعليه قباء سندس، ومطرف خز أخضر، وحجر جالس في المسجد، وحوله أصحابه ما كانوا. فصعد المنبر فخطب وحذر الناس، ثم قال لشداد بن الهيثم الهلالي أمير الشرط: اذهب فائتني بحجر، فذهب إليه فدعاه، فقال أصحابه: لا يأتيه ولا كرامة. فسبوا الشرط، فرجعوا إلى زياد فأخبروه، فقال: يا أشراف أهل الكوفة أتشجون بيد وتأسون بأخرى ? أبدانكم عندي، وأهواؤكم مع هذه الهجاجة المذبوب . أنتم معي وإخوتكم وأبناؤكم وعشيرتكم مع حجر.
استعداء زياد أشراف الكوفة عليه فوثبوا إلى زياد فقالوا: معاذ الله أن يكون لنا فيما ها هنا رأي إلا طاعتك وطاعة أمير المؤمنين، وكل ما ظننت أن يكون فيه رضاك فمرنا به. قال: ليقم كل امرىء منكم إلى هذه الجماعة التي حول حجر، فليدع الرجل أخاه وابنه وذا قرابته ومن يطيعه من عشيرته، حتى تقيموا عنه كل من استطعتم. ففعلوا، وجعلوا يقيمون عنه أصحابه حتى تفرق أكثرهم وبقي أقلهم.
أمر زياد بإحضاره فلما رأى زياد خفة أصحابه قال لصاحب شرطته: اذهب فائتني بحجر، فإن تبعك وإلا فمر من معك أن ينتزعوا غمد السيوف ، ثم يشدوا عليه حتى يأتوا به، ويضربوا من حال دونه.
أصحابه يمنعونه من الذهاب إلى زياد فلما أتاه شداد قال له: أجب الأمير، فقال أصحاب حجر: لا والله ولا نعمة عين، لا يجيبه. فقال لأصحابه: علي بعمد السيوف ، فاشتدوا إليها، فأقبلوا بها، فقال عمير بن زيد الكلبي أبو العمرطة : إنه ليس معك رجل معه سيف غيري، فما يغني سيفي قال: فما ترى? قال: قم من هذا المكان، فالحق بأهلك يمنعك قومك.
موت عمرو بن الحمق من ضربة عمود فقام زياد ينظر على المنبر إليهم فغشوا حجرا بالعمد، فضرب رجل من الحمراء يقال له: بكر بن عبيد رأس عمرو بن الحمق بعمود فوقع.
توارى حجر في منازل الأزد وأتاه أبو سفيان بن العويمر والعجلان بن ربيعة - وهما رجلان من الأزد - فحملاه، فأتيا به دار رجل من الأزد يقال له عبيد الله بن موعد ، فلم يزل بها متواريا حتى خرج منها.
الثأر من ضارب عمرو بن الحمق قال أبو مخنف: فحدثني يوسف بن زياد، عن عبيد الله بن عوف ، قال: لما انصرفنا عن عروة باجميرى قبل قتل عبد الملك مصعبا بعام، فإذا أنا بالأحمري الذي ضرب عمرو بن الحمق يسايرني؛ ولا والله ما رأيته منذ ذلك اليوم، وما كنت أرى لو رأيته أن أعرفه، فلما رأيته ظننته هو هو، وذلك حين نظرنا إلى أبيات الكوفة، فكرهت أن أسأله: أنت ضارب عمرو بن الحمق، فيكابرني، فقلت له: ما رأيتك منذ اليوم الذي ضربت فيه رأس عمرو بن الحمق بالعمود في المسجد فصرعته حتى يومي، ولقد عرفتك الآن حين رأيتك.
فقال لي: لا تعدم بصرك، ما أثبت نظرك كان ذلك أمر السلطان أما والله لقد بلغني أنه قد كان أمرا صالحا، ولقد ندمت على تلك الضربة، فأستغفر الله.
فقلت له: الآن ترى، لا والله لا أفترق أنا وأنت حتى أضربك في رأسك مثل الضربة التي ضربتها عمرو بن الحمق وأموت أو تموت.
صفحة : 1922
قال: فناشدني وسألني بالله. فأبيت عليه، ودعوت غلاما يدعى رشيدا من سبي أصبهان معه قناة له صلبة، فأخذته منه ثم أحمل عليه ، فنزل عن دابته، فألحقه حين استوت قدماه على الأرض، فأصفق بها هامته، فخر لوجهه، وتركته ومضيت، فبرأ بعد ذلك، فلقيته مرتين من دهري، كل ذلك يقول لي: الله بيني وبينك. فأقول له: الله بينك وبين عمرو بن الحمق.
رجع الحديث إلى سياقه الأول أمر زياد بعض القبائل أن يأتوه به قال: فقال زياد - وهو على المنبر - لتقم همدان وتميم وهوازن وأبناء بغيض ومذحج وأسد وغطفان فليأتوا جبانة كندة، وليمضوا من ثم إلى حجر، فليأتوني به. ثم كره أن تسير مضر مع اليمن، فيقع شغب واختلاف، أو تنشب الحمية فيما بينهم. فقال: لنقم تميم وهوازن وأبناء بغيض وأسد وغطفان، ولتمض مذحج وهمدان إلى جبانة كندة، ثم ليمضوا إلى حجر فليأتوني به، وليسر أهل اليمن حتى ينزلوا جبانة الصيداويين ، وليمضوا إلى صاحبهم فليأتوني به.
فخرجت الأزد وخثعم والأنصار وقضاعة وخزاعة، فنزلوا جبانة الصيداويين، ولم تخرج حضرموت مع اليمن لمكانهم من كندة.
عبد الرحمن بن مخنف يشير على أهل اليمن برأي قال أبو مخنف: فحدثني سعيد بن يحيى بن مخنف، عن محمد بن مخنف، قال: فإني لمع أهل اليمن وهم يتشاورون في أمر حجر، فقال لهم عبد الرحمن بن مخنف: أنا مشير عليكم برأي، فإن قبلتموه رجوت أن تسلموا من اللائمة والإثم: أن تلبثوا قليلا حتى تكفيكم عجلة في شباب مذحج وهمدان ما تكرهون أن يكون من مساءة قومكم في صاحبكم.
فأجمع رأيهم على ذلك، فلا والله ما كان إلا كلا ولا حتى أتينا فقيل لنا: إن شباب مذحج وهمدان قد دخلوا، فأخذوا كل ما وجدوا في بني بجيلة.
حجر يشير على أصحابه أن ينصرفوا عنه قال: فمر أهل اليمن على نواحي دور كندة معذرين، فبلغ ذلك زيادا، فأثنى على مذحج وهمدان، وذم أهل اليمن. فلما انتهى حجر إلى داره ورأى قلة من معه قال لأصحابه: انصرفوا، فوالله ما لكم طاقة بمن اجتمع عليكم من قومكم، وما أحب أن أعرضكم للهلاك. فذهبوا لينصرفوا، فلحقتهم أوائل خيل مذحج وهمدان، فعطف عليهم عمير بن يزيد، وقيس بن يزيد، وعبيدة بن عمرو، وجماعة، فتقاتلوا معهم، فقاتلوا عنه ساعة فجرحوا، وأسر قيس بن يزيد، وأفلت سائر القوم، فقال لهم حجر: لا أبا لكم تفرقوا لا تقتلوا؛ فإني آخذ في بعض هذه الطرق.
يدخل دار سليمان بن يزيد ثم يخرج منها إلى دور بني العنبر ثم أخذ نحو طريق بني حرب من كندة، حتى أتى دار رجل منهم يقال له سليمان بن يزيد، فدخل داره، وجاء القوم في طلبه، ثم انتهوا إلى تلك الدار، فأخذ سليمان بن يزيد سيفه، ثم ذهب ليخرج إليهم، فبكت بناته، فقال له حجر: ما تريد? لا أبا لك فقال له: أريد والله أن ينصرفوا عنك؛ فإن فعلوا وإلا ضاربتهم بسيفي هذا ما ثبت قائمه في يدي دونك. فقال له حجر: بئس والله إذن ما دخلت به على بناتك أما في دارك هذه حائط أقتحمه أو خوخة أخرج منها، عسى الله أن يسلمني منهم ويسلمك؛ فإن القوم إن لم يقدروا علي في دارك لم يضرك أمرهم. قال: بلى، هذه خوخة تخرجك إلى دور بني العنبر من كندة، فخرج معه فتية من الحي يقصون له الطريق، ويسلكون به الأزقة، حتى أفضى إلى النخع، فقال عند ذلك: انصرفوا، رحمكم الله.
يدخل دار عبد الله بن الحارث ثم يخرج منها إلى دار ربيعة بن ناجذ فانصرفوا عنه، وأقبل إلى دار عب الله بن الحارث أخي الأشتر، فدخلها، فإنه لكذلك قد ألقى له عبد الله الفرش، وبسط له البسط، وتلقاه ببسط الوجه وحسن البشر إذ أتي فقيل له: إن الشرط تسأل عنك في النخع وذلك أن أمة سوداء يقال لها أدماء لقيتهم فقالت لهم: من تطلبون? قالوا: نطلب حجرا، فقالت: هو ذا قد رأيته في النخع، فانصرفوا نحو النخع؛ فخرج متنكرا، وركب معه عبد الله ليلا حتى أتى دار ربيعة بن ناجذ الأزدي، فنزل بها، فمكث يوما وليلة.
زياد يأمر محمد بن الأشعث أن يأتيه بحجر
صفحة : 1923
فلما أعجزهم أن يقدروا عليه دعا زياد محمد بن الأشعث فقال: أما والله لتأتيني بحجر أو لا أدع لك نخلة إلا قطعتها، ولا دارا إلا هدمتها، ثم لا تسلم مني بذلك حتى أقطعك إربا إربا. فقال له: امهلني أطلبه. قال: قد أمهلتك ثلاثا، فإن جئت به وإلا فاعدد نفسك من الهلكى. وأخرج محمد نحو السجن وهو منتقع اللون يتل تلا عنيفا . فقال حجر بن يزيد الكندي من بني مرة لزياد: ضمنيه وخل سبيله ليطلب صاحبه، فإنه مخلى سربه أحرى أن يقدر عليه منه إذا كان محبوسا. قال: أتضمنه لي? قال: نعم. قال: أما والله لئن حاص عنك لأوردنك شعوب، وإن كنت الآن علي كريما. قال: إنه لا يفعل. فخلى سبيله.
ثم إن حجر بن يزيد كلمه في قيس بن يزيد، وقد أتي به أسيرا، فقال: ما عليه من بأس، قد عرفنا رأيه في عثمان رضي الله عنه، وبلاءه مع أمير المؤمنين بصفين، ثم أرسل إليه فأتي به، فقال: قد علمت أنك لم تقاتل مع حجر أنك ترى رأيه، ولكن قاتلت معه حمية، وقد غفرنا لك لما نعلمه من حسن رأيك، ولكن لا أدعك حتى تأتيني بأخيك عمير. قال: آتيك به إن شاء الله. قال: هات من يضمنه معك. قال: هذا حجر بن يزيد. قال حجر: نعم، على أن تؤمنه على ماله ودمه. قال: ذلك لك.
فانطلقا فأتيا به، فأمر به فأوقر حديدا، ثم أخذته الرجال ترفعه، حتى إذا بلغ سررها ألقوه، فوقع على الأرض، ثم رفعوه فألقوه، ففعل به ذلك مرارا، فقام إليه حجر بن يزيد، فقال: أو لم تؤمنه? قال: بلى، لست أهريق له دما، ولا آخذ له مالا. فقال: هذا يشفي به على الموت.
وقام كل من كان عنده من أهل اليمن، فكلموه فيه، فقال: أتضمنونه لي بنفسه متى أحدث حدثا أتيتموني به? قالوا: نعم. فخلى سبيله.
يطلب من ابن الأشعث أن يسأل زيادا الأمان له حتى يأتي معاوية ومكث حجر في منزل ربيعة بن ناجذ يوما وليلة، ثم بعث إلى ابن الأشعث غلاما يدعى رشيدا من سبي أصبهان، فقال له: إنه قد بلغني ما استقبلك به هذا الجبار العنيد، فلا يهولنك شيء من أمره؛ فإني خارج إليك، فاجمع نفرا من قومك، وادخل عليه، واساله أن يؤمنني حتى يبعثني إلى معاوية، فيرى في رأيه.
زياد يأمر بحبسه فخرج محمد إلى حجر بن يزيد، وجرير بن عبد الله، وعبد الله أخي الأشتر، فدخلوا إلى زياد فطلبوا إليه فيما سأله حجر، فأجاب، فبعثوا إليه رسولا يعلمونه بذلك. فأقبل حتى دخل على زياد، فقال له: مرحبا يا أبا عبد الرحمن، حرب في أيام الحرب، وحرب وقد سالم الناس على نفسها تجني براقش ، فقال له: ما خلعت يدا على طاعة، ولا فارقت جماعة، وإني لعلى بيعتي. فقال: هيهات يا حجر، أتشج بيد وتأسو بأخرى، وتريد إذا أمكننا الله منك أن ترضى هيهات والله فقال : ألم تؤمنني حتى آتي معاوية، فيرى في رأيه. قال: بلى، انطلقوا به إلى السجن.
زياد يطلب رؤوس أصحاب حجر فلما مضي به قال: أما والله لولا أمانه ما برح حتى يلقط عصبه . فأخرج وعليه برنس في غداة باردة، فحبس عشر ليال، وزياد ما له عمل غير الطلب لرؤوس أصحاب حجر.
عمرو بن الحمق ورفاعة بن شداد يكمنان في جبل بالموصل فخرج عمرو بن الحمق، ورفاعة بن شداد حتى نزلا المدائن، ثم ارتحلا حتى أتيا الموصل، فأتيا جبلا فكما فيه، وبلغ عامل ذلك الرستاق - وهو رجل من همدان يقال له عبيد الله بن أبي بلتعة - خبرهما، فسار إليهما في الخيل، ومعه أهل البلد، فلما انتهى إليهما خرجا، فأما عمرو فكان بطنه قد استسقى ، فلم يكن عنده امتناع.
عمرو بن الحمق يقع أسيرا ورفاعة ينجو بنفسه وأما رفاعة فكان شابا قويا فوثب على فرس له جواد، وقال لعمرو: أقاتل عنك. قال: وما ينفعني أن تقتل? انج بنفسك، فحمل عليهم، فأفرجوا له حتى أخرجه فرسه، وخرجت الخيل في طلبه، وكان راميا فلم يلحقه فارس إلا رماه، فجرحه أو عقره، فانصرفوا عنه؛ فأخذ عمرو بن الحمق، فسألوه: من أنت? فقال: من إن تركتموه كان أسلم لكم، وإن قتلتموه كان أضر عليكم، فسألوه فأبى أن يخبرهم، فبعثوا به إلى عبد الرحمن بن عثمان، وهو ابن أم الحكم، الثقفي، فلما رأى عمرا عرفه.
معاوية يأمر بقتل عمرو بن الحمق فكتب إلى معاوية بخبره. فكتب إليه معاوية: إنه زعم أنه طعن عثمان تسع طعنات، وإنه لا يتعدى عليه، فأطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان.
رأس ابن الحمق يحمل إلى معاوية
صفحة : 1924
فأخرج فطعن تسع طعنات، فمات في الأولى منهن أو في الثانية، وبعث برأسه إلى معاوية؛ فكان رأسه أول رأس حمل في الإسلام.
زياد يطلب من صيفي بن فسيل أن يعلن عليا فيأبى وجد زياد في طلب أصحاب حجر وهم يهربون منه، ويأخذ من قدر عليه منهم، فجاء قيس بن عباد الشيباني إلى زياد، فقال له: إن امرأ منا يقال له صيفي بن فسيل ، من رؤوس أصحاب حجر، وهو أشد الناس عليك؛ فبعث إليه فأتي به، فقال له زياد: يا عدو الله، ما تقول في أبي تراب? فقال: ما أعرف أبا تراب، قال: ما أعرفك به أما تعرف علي بن أبي طالب قال: بلى، قال: فذاك أبو تراب، قال: كلا، فذاك أبو الحسن والحسين. فقال له صاحب الشرطة: أيقول لك الأمير هو أبو تراب وتقول أنت: لا قال: أفإن كذب الأمير أردت أن أكذب وأشهد له بالباطل كما شهد قال له زياد: وهذا أيضا مع ذنبك، علي بالعصي فأتي بها، فقال: ما قولك في علي قال: أحسن قول أنا قائله في عبد من عبيد الله أقوله في أمير المؤمنين. قال: اضربوا عاتقه بالعصي حتى يلصق بالأرض، فضرب حتى لصق بالأرض. ثم قال: أقلعوا عنه، ما قولك فيه? قال: والله لو شرحتني بالمدي والمواسي ما زلت عما سمعت. قال: لتلعننه أو لأضربن عنقك. قال: إذا والله تضربها قبل ذلك، فأسعد وتشقى إن شاء الله، قال: أوقروه حديدا واطرحوه في السجن.
زياد يأمر رؤوس الأرباع أن يشهدوا على حجر وأصحابه وجمع زياد من أصحاب حجر بن عدي اثني عشر رجلا في السجن، وبعث إلى رؤوس الأرباع فأشخصهم، فحضروا، وقال: اشهدوا على حجر بما رأيتموه، وهم عمرو بن حريث، وخالد بن عرفطة، وقيس بن الوليد بن عبد شمس بن المغيرة، وأبو بردة بن أبي موسى، فشهدوا أن حجرا جمع إليه الجموع، وأظهر شتم الخليفة، وعيب زياد، وأظهر عذر ابي تراب والترحم عليه، والبراءة من عدوه، وأهل حربه، وأن هؤلاء الذين معه رؤوس أصحابه، وعلى مثل رأيه.
فنظر زياد في الشهادة فقال: ما أظن هذه شهادة قاطعة، وأحب أن يكون الشهود أكثر من أربعة.
فكتب أبو بردة بن أبي موسى: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما شهد عليه أبو بردة بن أبي موسى لله رب العالمين، شهد أن حجر بن عدي خلع الطاعة، وفارق الجماعة، ولعن الخليفة، ودعا إلى الحرب والفتنة، وجمع إليه الجموع يدعوهم إلى نكث البيعة، وخلع أمير المؤمنين معاوية، وكفر بالله كفرة صلعاء .
فقال زياد: على مثل هذه الشهادة فاشهدوا، والله لأجهدن في قطع عنق الخائن الأحمق، فشهد رؤوس الأرباع الثلاثة الآخرون على مثل ذلك، ثم دعا الناس، فقال: اشهدوا على مثل ما شهد عليه رؤوس الأرباع.
فقام عثمان بن شرحبيل التيمي أول الناس، فقال: اكتبوا اسمي. فقال زياد: ابدءوا بقريش، ثم اكتبوا اسم من نعرفه ويعرفه أمير المؤمنين بالصحة والاستقامة. فشهد إسحاق وموسى وإسماعيل بنو طلحة بن عبيد الله، والمنذر بن الزبير، وعمارة بن عقبة، وعبد الرحمن بن هبار، وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وشهد عنان ، ووائل بن حجر الحضرمي، وضرار بن هبيرة، وشداد بن المنذر أخو الحضين بن المنذر، وكان يدعى ابن بزيعة.
فكتب شداد بن بزيعة، فقال: أما لهذا أب ينسب إليه، ألغوا هذا من الشهود. فقيل له: إنه أخو الحضين بن المنذر، فقال: انسبوه إلى أبيه، فنسب، فبلغ ذلك شدادا، فقال: والهفاه على ابن الزانية? أو ليست أمه أعرف من أبيه؛ فوالله ما ينسب إلا إلى أمه سمية.
وشهد حجار بن ابجر العجلي، وعمرو بن الحجاج، ولبيد بن عطارد، ومحمد بن عمير بن عطارد، وأسماء بن خارجة، وشمر بن ذي الجوشن، وزحر بن قيس الجعفي، وشبث بن ربعي، وسماك بن مخرمة الأسدي صاحب مسجد سماك، ودعا المختار بن أبي عبيد ، وعروة بن المغيرة بن شعبة إلى الشهادة فراغا، وشهد سبعون رجلاز وائل بن حجر وكثير بن شهاب يذهبان إلى معاوية بكتاب زياد ومعهما جماعة من أصحاب حجر ودفع ذلك إلى وائل بن حجر، وكثير بن شهاب، وبعثهما عليهما وأمرهما أن يخرجوهم.
وكتب في الشهود شريح بن الحارث، وشريح بن هانىء. فأما شريح بن الحارث فقال: سألني عنه فقلت: أما إنه كان صواما قواما. وأما شريح بن هانىء فقال: بلغني أن شهادتي كتبت فأكذبته، ولمته.
صفحة : 1925
وجاء وائل بن حجر وكثير بن شهاب فأخرجا القوم عشية، وسار معهم أصحاب الشرط حتى أخرجوهم، فلما انتهوا إلى جبانة عرزم نظر قبيصة بن ضبيعة العبسي إلى داره في جبانة عرزم، فإذا بناته مشرفات، فقال لوائل وكثير: أدنياني أوص أهلي، فأدنياه. فلما دنا منهن بكين، فسكت عنهن ساعة، ثم قال: اسكتن، فسكتن، فقال: اتقين الله واصبرن، فإني أرجو من ربي في وجهي هذا خيرا: إحدى الحسنيين؛ إما الشهادة فنعم سعادة، وإما الانصراف إليكن في عافية؛ فإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مؤنتكن هو الله تبارك وتعالى وهو حي لا يموت، وأرجو ألا يضيعكن، وأن يحفظني فيكن. ثم انصرف، فجعل قومه يدعون له بالعافية.
وجاء شريح بن هانىء بكتاب، فقال: بلغوا هذا عني أمير المؤمنين، فتحمله وائل بن حجر.
ومضوا بهم حتى انتهوا إلى مرج عذراء ، فحبسوا به وهم على أميال من دمشق، وهم: حجر بن عدي الكندي، والأرقم بن عبد الله الكندي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، وكريم بن عفيف الخثعمي، وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي ، وكدام بن حيان، وعبد الرحمن بن حسان العنزيان، ومحرز بن شهاب المنقري، وعبد الله بن جؤية التميمي، وأتبعهم زياد برجلين، وهما عتبة بن الأخنس السعدي، وسعيد بن نمران الهمداني الناعطي، فكانوا أربعة عشر.
كتاب زياد إلى معاوية فبعث معاوية إلى وائل بن حجر وكثير، فأدخلهما، وفض كتابهما، وقرأه على أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله معاوية بن أبي سفيان أميرالمؤمنين، من زياد بن أبي سفيان.
أما بعد، فإن الله قد أحسن عند أمير المؤمنين البلاء فأداله من عدوه، وكفاه مؤونة من بغى عليه، إن طواغيت الترابية السابة رأسهم حجر بن عدي، خلعوا أمير المؤمنين، وفارقوا جماعة المسلمين، ونصبوا لنا حربا فأطفأها الله عليهم، وأمكننا منهم، وقد دعوت خيار أهل المصر وأشرافهم وذوي النهى والدين، فشهدوا عليهم بما رأوا وعلموا، وقد بعثت إلى أمير المؤمنين، وكتبت شهادة صلحاء أهل المصر وخيارهم في أسفل كتابي هذا .
فلما قرأ الكتاب قال: ما ترون في هؤلاء? فقال يزيد بن أسد البجلي: أرى أن تفرقهم في قرى الشام، فتكفيكهم طواغيتها .
كتاب شريح بن هانىء إلى معاوية ودفع وائل كتاب شريح إليه، فقرأه وهو: بسم الله الرحمن الرحيم.
لعبد الله معاوية أمير المؤمنين، من شريح بن هانىء.
أما بعد؛ فقد بلغني أن زيادا كتب إليك بشهادتي على حجر، وإن شهادتي على حجر أنه ممن يقيم الصلاة، ويؤتي الزكاة، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، حرام المال والدم، فإن شئت فاقتله، وإن شئت فدعه .
معاوية يكتب إلى زياد بحيرته في أمر حجر وأصحابه، وزياد يرد عليه بطلب عقابهم فقرأ كتابه على وائل، وقال: ما أرى هذا إلا قد أخرج نفسه من شهادتكم. فحبس القوم بعد هذا، وكتب إلى زياد: فهمت ما اقتصصت من أمر حجر وأصحابه والشهادة عليهم، فأحيانا أرى أن أقتلهم أفضل، وأحيانا أرى أن العفو أفضل من قتلهم .
فكتب زياد إليه مع يزيد بن حجية التيمي: قد عجبت لاشتباه الأمر عليك فيهم مع شهادة أهل مصرهم عليهم، وهم أعلم بهم؛ فإن كانت لك حاجة في هذا المصر فلا تردن حجرا وأصحابه إليه.
حجر يطلب إبلاغ معاوية تمسكه ببيعته فمر يزيد بحجر وأصحابه فأخبرهم بما كت به زياد، فقال له حجر: أبلغ أمير المؤمنين أنا على بيعته لا نقيلها ولا نستقيلها، وإنما شهد علينا الأعداء والأظناء .
فقدم يزيد بن حجية على معاوية بالكتاب، وأخبره بقول حجر. فقال معاوية: زياد أصدق عندنا من حجر.
وكتب جرير بن عبد الله في أمر الرجلين اللذين من بجيلة، فوهبهما له وليزيد بن أسد، وطلب وائل بن حجر في الأرقم الكندي، فتركه، وطلب أبو الأعور في عتبة بن الأخنس فوهبه له، وطلب حمزة من مالك الهمداني في سعيد بن نمران فوهبه له، وطلب حبيب بن مسلمة في عبد الله بن جؤية التميمي فخلى سبيله.
صفحة : 1926
فقام مالك بن هبيرة، فسأله في حجر فلم يشفعه؛ فغضب وجلس في بيته. وبعث معاوية هدبة بن فياض القضاعي والحصين بن عبد الله الكلابي، وآخر معهما يقال له أبو صريف البدري، فأتوهم عند المساء، فقال الخثعمي حين رأى الأعور: يقتل نصفنا وينجو نصفنا. فقال سعيد بن نمران: اللهم اجعلني ممن ينجو، وأنت عني راض. فقال عبد الرحمن بن حسان العنزي: اللهم اجعلني ممن يكرم بهوانهم وأنت عني راض، فطالما عرضت نفسي للقتل، فأبى الله إلا ما أراد.
رسول معاوية يطلب من أصحاب حجر لعن علي فيأبون فجاء رسول معاوية إليهم فإنه لمعهم إذ جاء رسول بتخلية ستة منهم وبقي ثمانية. فقال لهم رسول معاوية: إنا قد أمرنا أن نعرض عليكم البراءة من علي واللعن له، فإن فعلتم هذا تركناكم، وإن أبيتم قتلناكم، وأمير المؤمنين يزعم أن دماءكم قد حلت بشهادة أهل مصركم عليكم، غير أنه قد عفا عن ذلك فابرءوا من هذا الرجل يخل سبيلكم. قالوا: لسنا فاعلين؛ فأمر بقيودهم فحلت، وأتي بأكفانهم فقاموا الليل كله يصلون. فلما أصبحوا قال أصحاب معاوية: يا هؤلاء، قد رأيناكم البارحة أطلتم الصلاة، وأحسنتم الدعاء، فأخبرونا ما قولكم في عثمان، قالوا: هو أول من جار في الحكم، وعمل بغير الحق. فقالوا: أمير المؤمنين كان أعرف بكم. ثم قاموا إليهم وقالوا: تبرءون من هذا الرجل? قالوا: بل نتولاه.
فأخذ كل رجل منهم رجلا يقتله، فوقع قبيصة في يدي أبي صريف البدري، فقال له قبيصة: إن الشر بين قومي وقومك أمين ، أي آمن فليقتلني غيرك، فقال: برتك رحم. فأخذ الحضرمي فقتله.
وقتل القضاعي صاحبه، ثم قال لهم حجر: دعوني أصلي ركعتين، فإني والله ما توضأت قط إلا صليت، فقالوا له: صل، فصلى ثم انصرف، فقال: والله ما صليت صلاة قط أقصر منها، ولولا أن يروا أن ما بي جزع من الموت لأحببت أن أستكثر منها، ثم قال: اللهم إنا نستعديك على أمتنا، فإن أهل الكوفة قد شهدوا علينا، وإن أهل الشام يقتلوننا، أما والله لئن قتلتمونا فإني أول فارس من المسلمين سلك في واديها، وأول رجل من المسلمين نبحته كلابها، فمشى إليه هدبة بن الفياض الأعور بالسيف، فأرعدت خصائله ، فقال: كلا، زعمت أنك لا تجزع من الموت، فإنا ندعك، فابرأ من صاحبك. فقال: ما لي لا أجزع، وأنا أرى قبرا محفورا، وكفنا منشورا، وسيفا مشهورا، وإني والله إن جزعت لا أقول ما يسخط الرب، فقتله.
أمر عبد الرحمن بن حسان وكريم بن عفيف مع معاوية وأقبلوا يقتلونهم واحدا واحدا حتى قتلوا ستة نفر، فقال عبد الرحمن بن حسان وكريم بن عفيف : ابعثوا بنا إلى أمير المؤمنين، فنحن نقول في هذا الرجل مثل مقالته. فبعثوا إلى معاوية فأخبروه، فبعث: ائتوني بهما. فالتفتا إلى حجر، فقال له العنزي: لا تبعد يا حجر، ولا يبعد مثواك؛ فنعم أخو الإسلام كنت، وقال الخثعمي نحو ذلك. ثم مضى بهما، فالتفت العنزي، فقال متمثلا:
كفى بشفاة القبر بعدا لهالـك وبالموت قطاعا لحبل القرائن فلما دخل عليه الخثعمي قال له: الله الله يا معاوية إنك منقول من هذه الدار الزائلة إلى الدار الآخرة الدائمة، ومسؤول عما أردت بقتلنا، وفيما سفكت دماءنا. فقال: ما تقول في علي? قال: أقولفيه قولك، أتبرأ من دين علي الذي كان يدين الله به وقام شمر بن عبد الله الخثعمي فاستوهبه، فقال: هو لك، غير أني حابسه شهرا، فحبسه، ثم أطلقه على ألا يدخل الكوفة ما دام له سلطان. فنزل الموصل، فكان ينتظر موت معاوية ليعود إلى الكوفة، فمات قبل معاوية بشهر.
وأقبل على عبد الرحمن بن حسان، فقال له: يا أخا ربيعة، ما تقول في علي? قال: أشهد أنه من الذاكرين الله كثيرا والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، والعافين عن الناس. قال: فما تقول في عثمان? قال: هو أول من فتح أبواب الظلم، وأرتج أبواب الحق. قال: قتلت نفسك. قال: بل إياك قتلت، لا ربيعة بالوادي؛ يعني أنه ليس ثم أحد من قومه فيتكلم فيه.
فبعث به معاوية إلى زياد، وكتب إليه: إن هذا شر من بعثت به، فعاقبه بالعقوبة التي هو أهلها واقتله شر قتلة.
فلما قدم به على زياد بعث به إلى قس الناطف ، فدفنه حيا.
صفحة : 1927
قال أبو مخنف، عن رجاله: فكان من قتل منهم سبعة نفر: حجر بن عدي، وشريك بن شداد الحضرمي، وصيفي بن فسيل الشيباني، وقبيصة بن ضبيعة العبسي، ومحرز بن شهاب المنقري، وكدام بن حيان العنزي وعاصم بن عوف البجلي، وورقاء بن سمي البجلي، وأرقم بن عبد الله الكندي، وعتبة بن الأخنس السعدي من هوازن، وسعيد بن نمران الهمذاني.
وبعث معاوية إلى مالك بن هبيرة لما غضب بسبب حجر مائة ألف درهم، فرضي.
قال أبو مخنف: فحدثني ابن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، قال: أدركت الناس يقولون: أول ذلك دخل الكوفة قتل حجر، ودعوة زياد، وقتل الحسين.
قال: وجعل معاوية يقول عند موته: أي يوم لي من ابن الأدبر طويل.
عائشة تبعث عبد الرحمن بن الحارث إلى معاوية في أمر حجر وأصحابه قال أبو مخنف: وحدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق من بني عامر بن لؤي أن عائشة بعثت عبد الرحمن بن الحارث بن هشام إلى معاوية في حجر وأصحابه، فقدم عليه وقد قتلهم، فقال له: أين غاب عنك حلم أبي سفيان? فقال: حين غاب عني مثلك من حلماء قومي، وحملني ابن سمية فاحتملت.
قال: وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: لولا أنا لم نغير شيئا قط إلا آلت بنا الأمور إلى أشد مما كنا فيه لغيرنا قتل حجر، أما والله إن كان لمسلما ما علمته حاجا معتمرا.
رثاء حجر وقالت امرأة من كندة ترثي حجرا :
ترفع أيها القمر الـمـنـير لعلك أن ترى حجرا يسـير
يسير إلى معاوية بن حـرب ليقتله كمـا زعـم الأمـير
ألا يا ليت حجرا مات موتـا ولم ينحر كما نحر البعـير
ترفعت الجبابر بعد حـجـر وطاب لها الخورنق والسدير
وأصبحت البلاد له مـحـولا كأن لم يحيها مزن مطـير
ألا يا حجر حجر بني عـدي تلقتك السلامة والـسـرور
أخاف عليك سطوة آل حرب وشيخا في دمشق لـه زئير
يرى قتل الخيار عليه حـقـا له من شـر أمـتـه وزير
فإن تهلك فكل زعـيم قـوم إلى هلك من الدنيا يصـير صوت
أحن إذا رأيت جمال سعدى وأبكي إن رايت لها قرينـا
وقد أفد الرحيل فقل لسعدى: لعمرك خبري ما تأمرينـا الشعر لعمر بن أبي ربيعة، يقوله في سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف. والغناء لابن سريج، رمل بالوسطى، عن حبش. وقد قيل: إن عمر قال هذا البيت في بيت آخر في ليلى بنت الحارث بن عوف المري. وفيه أيضا غناء، وهو: صوت
ألا يا ليل إن شفاء نفسـي نوالك إن بخلت فزودينـا
وقد أفد الرحيل وحان منا فراقك فانظري ما تأمرينا غنى به الغريض ثقيلا أول بالبنصر، عن عمرو وحبش، وفيه خفيف ثقيل يقال إنه أيضا للغريض. ومن الناس من ينسبه إلى ابن سريج.
أخبار لعمر بن أبي ربيعة
سعدى بنت عبد الرحمن تبعث إليه تعظه
أخبرني حرمي، عن الزبير، عن طارق بن عبد الواحد، قال: قال عبد الرحمن المخزومي: كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد، فرأت عمر بن أبي ربيعة في الطواف، فأرسلت إليه: إذا قضيت طوافك فائتنا، فلما قضى طوفه أتاها فحادثها، وأنشدها، فقالت: ويحك يابن أبي ربيعة. ماتزال سادرا في حرم الله منتهكا، تتناول بلسانك ربات الحجال من قريش? فقال: دعي هذا عنك، أما سمعت ما قلت فيك? قالت: وما قلت في? فأنشدها:
أحن إذا رأيت جمال سعدى وأبكي إن رأيت لها قرينا
أسعدى إن أهلك قد أجدوا رحيلا فانظري ما تأمرينا فقالت: آمرك بتقوى الله، وترك ما أنت عليه.
ابن أبي عتيق ينشد سعدى قول عمر
قال الزبير: وحدثني عبد الله بن مسلم، قال: أنشد عمر بن أبي ربيعة بن أبي عتيق قوله:
أحن إذا رأيت جمال سعدى قال: فركب ابن أبي عتيق فأتى سعدى بالجناب من أرض بني فزارة. فأنشدها قول عمر، وقال لها: ما تأمرين? فقالت: آمره بتقوى الله يابن الصديق.
يستوقف ليلى بنت الحارث وينشدها
قال الزبير: وحدثني طارق بن عبد الواحد، عن أبي عبيدة، عن عبد الرحمن المخزومي، قال:
صفحة : 1928
لقي عمر بن أبي ربيعة ليلى بنت الحارث بن عوف المري، وهو يسير على بغلة، فقال لها: قفي أسمعك بعض ما قلت فيك? فوقفت، فقال:
ألا يا ليل إن شفاء نفسي نوالك إن بخلت فنولينا قال: فما بلغت أنها ردت عليه شيئا، ومضت.
وقد روى هذا الخبر إبراهيم بن المنذر، عن محمد بن معن، فذكر أن ابن أبي عتيق إنما مضى إلى ليلى بنت الحارث بن عوف، فأنشدها هذا البيت، وهو الصحيح؛ لأن حلولها بالجناب من أرض فزارة أشبه بها منه بسعدى بنت عبد الرحمن بن عوف. ورواية الزبير فيما أروى وهم لاختلاط الشعرين في سعدى وليلى.
خبر آخر لسعدى معه
أخبرني حرمي، عن الزبير، عن محمد بن سلام، قال: كانت سعدى بنت عبد الرحمن بن عوف جالسة في المسجد الحرام، فرأت عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، فأرسلت إليه: إذا فرغت من طوافك، فائتنا، فأتاها، فقالت: ألا اراك يابن أبي ربيعة إلا سادرا في حرم الله أما تخاف الله ويحك إلى متى هذا السفه قال: أي هذه، دعي عنك هذا من القول. أما سمعت ما قلت فيك? قالت: لا، فما قلت? فأنشدها قوله : صوت
قالت سعيدة والدموع ذوارف منها على الخدين والجلبـاب
ليت المغيري الذي لم أجـزه فيما أطال تصيدي وطلابـي
كانت ترد لنا المنـى أيامـنـا إذ لا نلام على هوى وتصابي
أسعيد ما ماء الفرات وطيبـه مني على ظمأ وحب شراب
بألذ منك وإن نأيت وقـلـمـا يرعى النساء أمانة الغـياب عروضه من الكامل، غناه الهذلي رملا بالوسطى، عن الهشامي، وغناه الغريض خفيف ثقيل بالوسطى، عن عمرو.
فقالت: أخزاك الله يا فاسق، ما علم الله أنى قلت مما قلت حرفا، ولكنك إنسان بهوت .
وهذا الشعر تغني فيه:
قالت سكينة والدموع ذوارف وفي موضع:
أسعيد ما ماء الفرات وبرده أسكين. وإنما غيره المغنون: ولفظ عمر ما ذكر فيه في الخبر.
إسحاق يغني الرشيد شعر عمر في سكينة
وقد أخبرني إسماعيل بن يونس، عن ابن شبة، عن إسحاق، قال: غنيت الرشيد يوما بقوله:
قالت سكينة والدموع ذوارف منها على الخدين والجلباب فوضع القدح من يده وغضب غضبا شديدا، وقال: لعنه الله الفاسق، ولعنك معه. فسقط في يدي، وعرف ما بي، فسكن، ثم قال: ويحك أتغنيني بأحاديث الفاسق ابن أبي ربيعة في بنت عمي، وبنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تتحفظ في غنائك وتدري ما يخرج من رأسك عد إلى غنائك الآن، وانظر بين يديك. فتركت هذا الصوت حتى أنسيته، فما سمعه مني أحد بعده. والله أعلم.
صوت
فلا زال قبر تبنى وجـاسـم عليه من الوسمي جود ووابل
فينبت حوذانا وعوفا منـورا سأتبعه من خير ما قال قائل عروضه من الطويل، والشعر لحسان بن ثابت الأنصاري. وهذا القبر الذي ذكره حسان فيما يقال قبر الأيهم بن جبلة بن الأيهم الغساني. وقيل: إنه قبر الحارث بن مارية الجفني، وهو منهم أيضا. والغناء لعزة الميلاء، خفيف ثقيل، أول بالوسطى، مما لا يشك فيه من غنائها. وقد نسبه قوم إلى ابن عائشة، وذلك خطأ.
أخبار عزة الميلاء
كانت عزة مولاة للأنصار، ومسكنها المدينة، وهي أقدم من غنى الغناء الموقع من النساء بالحجاز، وماتت قبل جميلة، وكانت من أجمل النساء وجها، وأحسنهن جسما، وسميت الميلاء؛ لتمايلها في مشيها.
سبب تسميتها الميلاء
وقيل: بل كانت تلبس الملاء، وتشبه بالرجال، فسميت بذلك. وقيل: بل كانت مغرمة بالشراب، وكانت تقول: خذ ملئا واردد فارغا - ذكر ذلك حماد بن إسحاق، عن أبيه.
والصحيح أنها سميت الميلاء لميلها في مشيتها.
مكانتها في الموسيقى والغناء
صفحة : 1929
قال إسحاق: ذكر لي ابن جامع، عن يونس الكاتب، عن معبد، قال: كانت عزة الميلاء ممن أحسن ضربا بعود، وكانت مطبوعة على الغناء، لا يعيبها أداؤه ولا صنعته ولا تأليفه، وكانت تغني أغاني القيان من القدائم، مثل سيرين ، وزرنب، وخولة، والرباب، وسلمى، ورائقة، وكانت رائقة أستاذتها. فلما قدم نشيط وسائب خاثر المدينة غنيا أغاني بالفارسية، فلقنت عزة عنهما نغما، وألفت عليها ألحانا عجيبة، فهي أول من فتن أهل المدينة بالغناء، وحرض نساءهم ورجالهم عليه.
رأي مشايخ أهل المدينة فيها
قال إسحاق: وقال الزبير: إنه وجد مشايخ أهل المدينة إذا ذكروا عزة قالوا: لله درها ما كان أحسن غناءها، ومد صوتها، وأندى حلقها، وأحسن ضربها بالمزاهر والمعازف وسائر الملاهي، وأجمل وجهها، وأظرف لسانها، وأقرب مجلسها، وأكرم خلقها، وأسخى نفسها، وأحسن مساعدتها.
قال إسحاق: وحدثني أبي، عن سياط، عن معبد، عن جميلة، بمثل ذلك من القول فيها.
أخذ عنها ابن سريج وابن محرز قال إسحاق: وحدثني أبي، عن يونس، قال: كان ابن سريج في حداثة سنه يأتي المدينة، فيسمع من عزة ويتعلم غناءها، ويأخذ عنها، وكان بها معجبا، وكان إذا سئل: من أحسن الناس غناء? قال: مولاة الأنصار المفضلة على كل من غنى وضرب بالمعازف والعيدان من الرجال والنساء.
قال: وحدثني هشام بن المرية أن ابن محرز كان يقيم بمكة ثلاثة أشهر، ويأتي المدينة فيقيم بها ثلاثة أشهر من أجل عزة، وكان يأخذ عنها.
رأي طويس فيها قال إسحاق: وحدثني الجمحي، عن جرير المغني المديني، أن طويسا كان أكثر ما يأوي إلى منزل عزة الميلاء، وكان في جوارها، وكان إذا ذكرها يقول: هي سيدة من غنى من النساء، مع جمال بارع، وخلق فاضل وإسلام لا يشوبه دنس؛ تأمر بالخير وهي من أهله، وتنهى عن السوء وهي مجانبة له، فناهيك ما كان أنبلها وأنبل مجلسها.
ثم قال: كانت إذا جلست جلوسا عاما فكأن الطير على رؤوس أهل مجلسها، من تكلم أو تحرك نقر رأسه.
قال ابن سلام: فما ظنك بمن يقول: فيه طويس هذا القول ومن ذلك الذي سلم من طويس.
سمعها معبد وقد أسنت فأعجب بها
قال إسحاق: وحدثني أبو عبد الله الأسلمي، عن معبد: أنه أتى عزة يوما وهي عند جميلة وقد أسنت، وهي تغني على معرفة في شعر ابن الإطنابة، قال:
عللاني وعللا صاحـبـيا واسقياني من المروق ريا قال: فما سمع السامعون قط بشيء أحسن من ذلك. قال معبد: هذا غناؤها، وقد أسنت، فكيف بها وهي شابة.
ابن أبي ربيعة يغشى عليه حين سمعها
قال إسحاق: وذكر لي عن صالح بن حسان الأنصاري، قال: كانت عزة مولاة لنا، وكانت عفيفة جميلة، وكان عبد الله بن جعفر، وابن أبي عتيق، وعمر بن أبي ربيعة يغشونها في منزلها فتغنيهم. وغنت يوما عمر بن أبي ربيعة لحنا لها في شيء من شعره، فشق ثيابه، وصاح صيحة عظيمة صعق معها، فلما أفاق قال له القوم: لغيرك الجهل يا أبا الخطاب قال: إني سمعت والله ما لم أملك معه نفسي ولا عقلي.
وقال إسحاق: وحدثني أبو عبد الله الأسلمي المدني، قال: كان حسان بن ثابت معجبا بعزة الميلاء، وكان يقدمها على سائر قيان المدينة.
غنت شعرا لحسان بن ثابت فبكى
أخبرني حرمي، عن الزبير، عن محمد بن الحسن المخزومي، عن محرز بن جعفر، قال: ختن زيد بن ثابت الأنصاري بنته، فأولم؛ فاجتمع إليه المهاجرون والأنصار وعامة أهل المدينة، وحضر حسان بن ثابت وقد كف بصره يومئذ، وثقل سمعه، وكان يقول إذا دعي: أعرس أم عذار ? فحضر ووضع بين يديه خوان ليس عليه إلا عبد الرحمن ابنه، فكان يسأله: أطعام يد أم يدين? فلم يزل يأكل حتى جاءوا بالشواء، فقال: طعام يدين؛ فأمسك يده حتى إذا فرغ من الطعام ثنيت وسادة، وأقبلت الميلاء، وهي يومئذ شابة، فوضع في حجرها مزهر، فضربت به، ثم تغنت، فكان أول ما ابتدأت به شعر حسان، قال:
فلا زال قبر بين بصرى وجلق عليه من الوسمي جود ووابل فطرب حسان، وجعلت عيناه تنضحان، وهو مصغ لها.
أخبرني ابن عبد العزيز الجوهري، عن ابن شبة، عن الأصمعي، عن أبي الزناد، قال: قلت لخارجة بن زيد: أكان يكون هذا الغناء عندكم? قال: كان يكون في العرسات ولم يكن يشهد بما يشهد به اليوم من السعة.
صفحة : 1930
وكان في إخواننا بني نبيط مأدبة، فدعينا، وثم قينة أو قينتان تنشدان شعر حسان بن ثابت، قال :
انظر خليلي بباب جلـق هـل تبصر دون البلقاء من أحد? ? قال: وحسان يبكي، وابنه يومىء إليهما أن زيدا؛ فإذا زادتا بكى حسان، فأعجبني ما يعجبه من أن تبكيا أباه، وقد كف بصر حسان بن ثابت يومئذ.
أخبرنا وكيع، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الواقدي، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، قال: سمعت خارجة بن زيد يقول: دعينا إلى مأدبة في آل نبيط، قال خارجة: فحضرتها، وحسان بن ثابت قد حضرها، فجلسنا جميعا على مائدة واحدة، وهو يومئذ قد ذهب بصره، ومعه ابنه عبد الرحمن، فكان إذا أتى طعام سأل ابنه: أطعام يد أم يدين? يعني باليد الثريد وباليدين الشواء؛ لأنه ينهش نهشا، فإذا قال: طعام يدين أمسك يده. فلما فرغوا من الطعام أتوا بجاريتين: إحداهما رائقة والأخرى عزة، فجلستا وأخذتا مزهريهما، وضربتا ضربا عجيبا، وغنتا بقول حسان:
انظر خليلي بباب جلق هل تبصر دون البلقاء من أحد فأسمع حسانا يقول:
قد أراني بها سميعا بصيرا وعيناه تدمعان، فإذا سكنتا سكت عنه البكاء، وإذا غنتا بكى، فكنت أرى ابنه عبد الرحمن إذا سكتتا يشير إليهما أن تغنيا، فيبكي أبوه، فأقول: ما حاجته إلى إبكاء أبيه.
قال الواقدي: فحدثت بهذا الحديث يعقوب بن محمد الظفري، فقال: سمعت سعيد بن عبد الرحمن بن حسان يقول: لما انقلب حسان من مأدبة بني نبيط إلى منزله استلقى على فراشه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: لقد أذكرتني رائقة وصاحبتها أمرا ما سمعته أذناي بعيد ليالي جاهليتنا مع جبلة بن الأيهم فقلت: يا أبا الوليد أكان القيان يكن عند جبلة?، فتبسم ثم جلس، فقال: لقد رأيت عشر قيان: خمس روميات يغنين بالرومية بالبرابط، وخمس يغنين غناء أهل الحيرة، وأهداهن إليه إياس بن قبيصة، وكان يفد إليه من يغنيه من العرب من مكة وغيرها، وكان إذا جلس للشرب فرش تحته الآس والياسمين وأصناف الرياحين، وضرب له العنبر والمسك في صحاف الفضة والذهب، وأتي بالمسك الصحيح في صحاف الفضة، وأوقد له العود المندى إن كان شاتيا، وإن كان صائفا بطن بالثلج، وأتي هو وأصحابه بكسا صيفية يتفضل هو وأصحابه بها في الصيف، وفي الشتاء الفراء الفنك ، وما أشبهه، ولا والله ما جلست معه يوما قط إلا خلع علي ثيابه التي عليه في ذلك اليوم، وعلى غيري من جلسائه، هذا مع حلم عمن جهل، وضحك وبذل من غير مسألة، مع حسن وجه وحسن حديث، ما رأيت منه خنى قط ولا عربدة، ونحن يومئذ على الشرك، فجاء الله بالإسلام فمحا بل كل كفر، وتركنا الخمر وما كره، وأنتم اليوم مسلمون تشربون هذا النبيذ من التمر، والفضيخ من الزهر والرطب، فلا يشرب أحدكم ثلاثة أقداح حتى يصاحب صاحبته ويفارقها، وتضربون فيه كما تضرب غرائب الإبل فلا تنتهون.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، عن أبي أيوب المديني، عن مصعب الزبيري، عن الضحاك، عن عثمان بن أبي الزناد، عن أبيه، عن خارجة بن زيد مثله، وزاد فيه: فلما فرغنا من الطعام ثقل علينا جلوس حسان، فأومأ ابنه إلى عزة الميلاء فغنت:
انظر خليلي بباب جلق هل تبصر دون البلقاء من أحد فبكى حسان حتى سدر ، ثم قال: هذا عمل الفاسق، أما لقد كرهتم مجالستي، فقبح الله مجلسكم سائر اليوم، وقام فانصرف.
أخبرني حرمي، عن الزبير، عن عمه مصعب، قال: ذكر هشام بن عروة، عن أبيه: أنه دعي إلى مأدبة في زمن عثمان، ودعي حسان ومعه ابنه عبد الرحمن، ثم ذكر نحو ما ذكره عمر بن شبة عن الأصمعي في الحديث الأول، قال : نسبة هذا الصوت
انظر خليلي بباب جـلـق هـل تؤنس دون البلـقـاء مـن أحـد
أجمال شعثا إن هبطـن مـن ال محبس بين الكثبان فـالـسـنـد
يملن حورا حور المدامع فـي ال ريط وبيض الوجوه كـالـبـرد
من دون بصرى ودونها جبل الثل ج عليه السـحـاب كـالـقـرد
إني وأيدي المـخـيسـات ومـا يقطعن من كل سـربـخ جـدد
أهوى حديث الندمـان فـي فـل ق الصبح وصوت المسامر الغرد
صفحة : 1931
تقول شعثا بعد ما هـبـطـت بصور حسنى من احتدى بلدي
لا أخدش الخدش بالحبـيب ولا يخشى نديمي إذا انتشيت يدي الشعر لحسان بن ثابت، والغناء لعزة الميلاء، رمل بالبنصر، وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن محرز، وإلى عزة الميلاء. وإلى الهذلي في:
تقول شعثاء بعد ما هبطت وما بعده من الأبيات، ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيها لعبد الرحيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.
نسب شعثاء التي شبب بها حسان بن ثابت وشعثاء هذه التي شبب بها حسان - فيما ذكر الواقدي ومصعب الزبيري - امرأة من أسلم، تزوجها حسان، وولدت منه بنتا يقال لها أم فراس تزوجها عبد الرحمن بن أم الحكم. وذكر أبو عمرو الشيباني مثل ما ذكره في نسبهان ووصف أنه خطبها إلى قومها من أسلم فردوه، فقال يهجوهم :
لقـد أتـى عـن بـنـي الـجـربـاء قــولـــهـــم ودونـهـم قـف جـمـــدان فـــمـــوضـــوع
قد عـلـمــت أســـلـــم الأرذال أن لـــهـــا جارا سـيقـتــلـــه فـــي داره الـــجـــوع
وأن سيمنعهم مما نووا حسب لن يبلغ المجد والعلياء مقطوع
وقد علوا زعموا عنى بأختهموفي الذرا حسبي والمجد مرفوع
ويل أم شعثاء شيئا تستغيث به إذا تـجـلـلـهـا الــنـــعـــظ الأفـــاقـــيع
كأنــه فـــي صـــلاهـــا وهـــي بـــاركة ذراع بـكـر مـــن الـــنـــياط مـــنـــزوع <H6 وكانت بنت رئيس اليهود</H6 أخبرني حرمي، عن الزبير، عن إبراهيم بن المنذر، عن أبي القاسم بن أبي الزناد، عن أخيه عبد الرحمن، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، قال: شعثاء هذه بنت عمرو، من بني ماسكة من يهود، وكانت مساكن بني ماسكة بناحية القف، وكان أبو شعثاء قد رأس اليهود التي تلي بيت الدراسة للتوراة، وكان ذا قدر فيهم، فقال حسان يذكر ذلك: <H6 من شعر حسان في شعثاء</H6
هل في تصابي الكريم من فند أم هل لمدى الأيام من نفـد
تقول شعثاء: لو أفقت عن الكا س لألفيت مثـري الـعـدد
يأبى لي السيف واللسان وقـو م لم يضاموا كـبـدة الأسـد وذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء.
ومما قاله حسان بن ثابت في شعثاء، وغني به قوله :
ما هاج حسان رسوم المـقـام ومظعن الحي ومبنى الخـيام
والنؤي قـد هـدم أعـضـاده تقادم العهـد بـوادي تـهـام
قد أدرك الواشون ما حاولـوا والحبل من شعثاء رث رمـام
جنـية أرقـنـي طـيفـهـا يذهب صبحا ويرى في المنام
هل هي إلا ظبية مـطـفـل مألفها السدر بنعـفـي بـرام
ترعى غزالا فاترا طـرفـه مقارب الخطو ضعيف البغام
كأن فـاهـا ثـغـب بــارد في رصف تحت ظلال الغمام
شج بصهبـاء لـهـا سـورة من بنت كرم عتقت في الخيام
تدب في الكأس دبيبـا كـمـا دب دبى وسط رفـاق هـيام
من خمر بيسان تخـيرتـهـا درياقة توشك فتر العـظـام
يسعى بها أحمر ذو بـرنـس محتلق الذفرى شديد الحـزام يقول فيها :
قومي بنو النجار إذ أقبـلـت شهباء ترمي أهلها بالقـتـام
لا تخذل الجار ولا تسلم المول ى ولا تخصم يوم الخصـام الشعر لحسان، والغناء لمعبد، خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى في البيت الأول من الأبيات، والرابع والتاسع والحادي عشر. وذكر الهشامي أن فيه لحنا لابن سريج من الرمل بالوسطى.
وهذه الأبيات يقولها حسان في حرب كانت بينهم وبين الأوس، تعرف بحرب مزاحم، وهو حصن من حصونهم.
شعر لحسان في حرب بين الأوس والخزرج
أخبرني بخبره حرمي عن الزبير، عن عمه مصعب، قال: جمعت الأوس وحشدت بأحلافها، ورأسوا عليهم أبا قيس بن الأسلت يومئذ، فسار بهم حتى كان قريبا من مزاحم. وبلغ ذلك الخزرج، فخرجوا يومئذ وعليهم سعد بن عبادة؛ وذلك أن عبد الله بن أبي كان مريضا أو متمارضا، فاقتتلوا قتالا شديدا، وقتلت بينهم قتلى كثيرة، وكان الطول يومئذ للأوس؛ فقال حسان في ذلك:
ما هاج حسان رسوم المقام ومظعن الحي ومبنى الخيام
صفحة : 1932
وذكر الأبيات كلها.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن عمر بن القاسم بن الحسن، عن محمد بن سعد، عن الواقدي، عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي، قال: قال رجل من أهل المدينة: ما ذكر بيت حسان بن ثابت :
أهوى حديث الندمـان فـي فـل ق الصبح وصوت المسامر الغرد إلا عدت في الفتوة كما كنت. قال: وهذا البيت من قصيدته التي يقول فيها:
أنظر خليلي بباب جلق هل تؤنس البلقاء مـن أحـد وقد روى أيضا في هذا الخبر غير الروايتين اللتين ذكرتهما.
عبد الرحمن يحتال لإبعاد أبيه
عن مجلس أصحابه
أخبرني بذلك حرمي، عن الزبير، عن وهب بن جريرن عن جويرية بن أسماء، عن عبد الوهاب بن يحيى، عن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن شيخ من قريش، قال: إني وفتية من قريش عند قينة من قيان المدينة، ومعنا عبد الرحمن بن حسان بن ثابت إذ استأذن حسان، فكرهنا دخوله، وشق ذلك علينا؛ فقال لنا عبد الرحمن: أيسركم ألا يجلس? قلنا: نعم. قال: فمروها إذا نظرت إليه أن ترفع عقيرتها وتغني:
أولاد جفنة عند قبـر أبـيهـم قبر ابن مارية الكريم المفضل
يغشون حتى ما تهر كلابـهـم لا يسألون عن السواد المقبـل قال: فوالله لقد بكى حتى ظننا أنه سقطت نفسه، ثم قال: أفيكم الفاسق لعمري لقد كرهتم مجلسي سائر اليوم، وقام فانصرف، والله تعالى أعلم.
نسبة هذا الصوت وسائر ما يغنى فيه من القصيدة التي هو منها.
صوت
أولاد جفنة عند قبـر أبـيهـم قبر ابن مارية الجواد المفضل
يسقون من ورد البريص عليهم كأسا تصفق بالرحيق السلسل البريص: موضع بدمشق.
بيض الوجوه كريمة أحسابهم شم الأنوف من الطراز الأول
يغشون حتى ما تهر كلابهـم لا يسألون عن السواد المقبل ذكر حبش أن فيه لسيرين قينة حسان بن ثابت لحنا ثقيلا أول ابتداؤه نشيد ، وفيه لعريب ثقيل أول لا يشك فيه.
ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله : صوت
كلتاهما حلب العصير فعاطنـي بزجاجة أرخاهما للمـفـصـل
بزجاجة رقصت بما في قعرهـا رقص القلوص براكب مستعجل غناه إبراهيم الموصلي رملا مطلقا في مجرى الوسطى، عن إسحاق وعمرو وغيرهما، ويروى: كلتاهما حلب العصير ، بجعل الفعل للعصير. ويروى للمفصل، بكسر الميم وفتح الصاد، وللمفصل، بفتح الميم وكسر الصاد، وهو اللسان.
أخبرنا بذل علي بن سليمان الأخفش، عن المبرد، حكاية عن أصحابه، عن الأصمعي.
رجع الحديث إلى أخبار عزة الميلاء
عبد الله بن جعفر وناسك بالمدينة قال إسحاق: حدثني مصعب الزبيري، عن محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، عن أبيه، عن جده، قال: كان بالمدينة رجل ناسك من أهل العلم والفقه، وكان يغشى عبد الله بن جعفر، فسمع جارية مغنية لبعض النخاسين تغني:
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا فاستهتر بها وهام، وترك ما كان عليه، حتى مشى إليه عطاء وطاووس فلاماه؛ فكان جوابه لهما أن تمثل بقول الشاعر:
يلومني فيك أقوام أجالسهـم فما أبالي أطار اللوم أم وقعا
صفحة : 1933
وبلغ عبد الله بن جعفر خبره، فبعث إلى النخاس، فاعترض الجارية، وسمع غناءها بهذا الصوت، وقال لها: ممن أخذته? قالت: من عزة الميلاء. فابتاعها بأربعين ألف درهم، ثم بعث إلى الرجل فسأله عن خبره، فأعلمه إياه وصدقه عنه، فقال له: أتحب أن تسمع هذا الصوت ممن أخذته عنه تلك الجارية? قال: نعم، فدعا بعزة وقال لها: غنيه إياه، فغنته؛ فصعق الرجل، وخر مغشيا عليه. فقال ابن جعفر: أثمنا فيه، الماء، الماء فنضح على وجهه، فلما أفاق قال له: أكل هذا بلغ بك عشقها? قال: وما خفي عنك أكثر. قال: أفتحب أن تسمعه منها? قال: قد رأيت ما نالني حين سمعته من غيرها، وأنا لا أحبها، فكيف يكون حالي إن سمعته منها، وأنا لا أقدر على ملكها قال: أفتعرفها إن رأيتها? قال: أو أعرف غيرها فأمر بها فأخرجت، وقال: خذها فهي لك، والله ما نظرت إليها إلا عن عرض. فقبل الرجل يديه ورجليه، وقال: أنمت عيني، وأحييت نفسي، وتركتني أعيش بين قومي، ورددت إلي عقلي، ودعا له دعاء كثيرا. فقال: ما أرضى أن أعطيكها هكذا، يا غلام احمل معها مثل ثمنها لكيلا تهتم به ويهتم بها.
نسبة هذا الصوت
صوت
بانت سعاد وأمسى حبلها انقطعا واحتلت الغور فالجدين فالفرعا
وأنكرتني وما كان الذي نكـرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا عروضه من البسيط، والشعر للأعشى، أعشى بني قيس بن ثعلبة.
الأصمعي ينحل الأعشى بيتا من الشعر
وزعم الأصمعي أن البيت الثاني هو صنعه ونحله الأعشى.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، عن عمه، عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، قال: ما نحلت أحدا من الشعراء شيئا قط لم يقله إلا بيتا واحدا نحلته الأعشى، وهو:
وأنكرتني وما كان الذي نكـرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا الغناء لعزة الميلاء، خفيف ثقيل أول بالوسطى؛ وذكر عمور بن بانة أنه لمعبد، وأنكر إسحاق ذلك ودفعه، وفيه للغريض ثقيل أول بالبنصر، وقيل: إنه لجميلة.
ابن جعفر يطلب ألا تمنع عزة من الغناء
قال إسحاق: وحدثني ابن سلام، عن ابن جعدبة، قال: كان ابن أبي عتيق معجبا بعزة الميلاء، فأتى يوما عند عبد الله بن جعفر، فقال له: بأبي أنت وأمي هل لك في عزة، فقد اشتقت إليها قال: لا، أنا اليوم مشغول. فقال: بأبي أنت وأمي إنها لا تنشط إلا بحضورك، فأقسمت عليك إلا ساعدتني وتركت شغلك، ففعل، فأتياها ورسول الأمير على بابها يقول لها: دعي الغناء، فقد ضج أهل المدينة منك، وذكروا أنك قد فتنت رجالهم ونساءهم. فقال له ابن جعفر: ارجع إلى صاحبك فقل له عني: أقسم عليك إلا ناديت في المدينة: أيما رجل فسد أو امرأة فتنت بسبب عزة إلا كشف نفسه بذلك لنعرفه، ويظهر لنا ولك أمره. فنادى الرسول بذلك، فما أظهر أحد نفسه. ودخل ابن جعفر إليها وابن أبي عتيق معه، فقال لها: لا يهولنك ما سمعت، وهاتي فغنينا، فغنته بشعر القطامي :
إنا محيوك فاسلم أيها الطـلـل وإن بليت، وإن طالت بك الطيل فاهتز ابن أبي عتيق طربا، فقال عبد الله بن جعفر: ما أراني أدرك ركابك بعد أن سمعت هذا الصوت من عزة.
وقد مضت نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني في مواضع أخر.
صوت
من كان مسرورا بمقتل مالك فليأت نسوتنا بوجه نـهـار
يجد النساء حواسرا يندبـنـه قد قمن قبل تبلج الأسحـار عروضه من الكامل. قوله:
قد قمن قبل تبلج الأسحار يعني أنهن يندبنه في ذلك الوقت؛ وإنما خصه بالندبة لأنه وقت الغارة. يقول: فهن يذكرنه حينئذ؛ لأنه من الأوقات التي ينهض فيها للحرب والغارات. قال الله تبارك وتعالى: )فالمغيرات صبحا( . وأما قول الخنساء :
ذكرني طلوع الشمس صخرا وأذكره لكل غروب شمس فإنما ذكرته عند طلوع الشمس للغارة، وعند غروبها للضيف.
الشعر للربيع بن زياد العبسي، والغناء لابن سريج، رمل بالخنصر في مجرى البنصر، عن إسحاق، والله أعلم.
ذكر نسب الربيع بن زياد
وبعض أخباره، وقصة هذا الشعر، والسبب الذي قتل من أجله نسبه
صفحة : 1934
هو الربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن ناشب بن هدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار?.
وأمه فاطمة بنت الخرشب، واسم الخرشب عمرو بن النضر بن حارثة بن طريف بن أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان، وهي إحدى المنجبات، كان يقال لبنيها الكملة، وهم: الربيع، وعمارة، وأنس.
أمه إحدى المنجبات
ولما سال معاوية علماء العرب عن البيوتات والمنجبات، وحظر عليهم أن يتجاوزوا في البيوتات ثلاثة، وفي المنجبات ثلاثا، عدوا فاطمة بنت الخرشب فيمن عدوا، وقبلها حيية بنت رباح الغنوية أم الأحوص وخالد ومالك وربيعة بني جعفر بن كلاب، وماوية بنت عبد مناة بن مالك بن زيد بن عبد الله بن دارم بن عمرو بن تميم، وهي أم لقيط وحاجب وعلقمة بني زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم.
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد، قال: حدثني محمد بن موسى اليزيدي، قال: حدثني محمد بن صالح بن النطاح، واللفظ له، وخبره أتم، وأخبرني به أبو الحسن الأسدي، قال: حدثنا محمد بن صالح بن النطاح، قال: ولدت فاطمة بنت الخرشب من زياد بن عبد الله العبسي سبعة؛ فعدت العرب المنجبين منهم ثلاثة، وهم خيارهم.
قال محمد بن موسى: قال محمد بن صالح: وحدثني موسى بن طلحة، والوليد بن هشام القحذمي بمثل ذلك، قال: فمنهم: الربيع ويقال له الكامل، وعمارة وهو الوهاب، وأنس وهو أنس الفوارس وهو الواقعة، وقيس وهو البرد، والحارث وهو الحرون، ومالك وهو لاحق، وعمرو وهو الدارك.
سئلت أمه عن بنيها فلم تدر أيهم أفضل
قال محمد بن موسى: قال ابن النطاح: وحدثني أبو عثمان العمري : أن عبد الله بن جدعان لقي فاطمة بنت الخرشب وهي تطوف بالكعبة فقال لها: نشدتك برب هذه البنية، أي بنيك أفضل? قالت: الربيع، لا بل عمارة، لا بل أنس، ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل.
قال ابن النطاح: وحدثني أبو اليقظان سحيم بن حفص العجيفي، قال: حدثني أبو الخنساء، قال: سئلت فاطمة عن بنيها أيهم أفضل? فقالت: الربيع، لا بل عمارة، لا بل أنس، لا بل قيس، وعيشي ما أدري، أما والله ما حملت واحدا منهم تضعا، ولا ولدته يتنا، ولا أرضعته غيلا، ولا منعته قيلا، ولا أبته على ماقة .
قال أبو اليقظان: أما قولها ما حملت واحدا منهم تضعا، فتقول: لم أحمله في دبر الطهر وقبل الحيض. وقولها: ولا ولدته يتنا، وهو أن تخرج رجلاه قبل رأسه. ولا أرضعته غيلا، أي ما أرضعته قبل أن أحلب ثديي. ولا منعته قيلا، أي لم أمنعه اللبن عند القائلة. ولا أبته على ماقة، أي وهو يبكي.
أمه تصفه وتصف إخوته
قال ابن النطاح: وحدثني أبو اليقظان، قال: حدثني أبو صالح الأسدي قال: سئلت فاطمة بنت الخرشب عن بنيها، فوصفتهم، وقالت في عمارة: لا ينام ليلة يخاف، ولا يشبع ليلة يضاف. وقالت في الربيع: لا تعد مآثره ولا تخشى في الجهل بوادره. وقالت في أنس: إذا عزم أمضى، وإذا سئل أرضى، وإذا قدر أغضى. وقالت في الآخرين اشياء لم يحفظها أبو اليقظان.
حكمته وبعد نظره
وقال ابن النطاح: وحدثني القحذمي، قال: حدثني أبي، قال: حدثني ابن عياش ، عن رجل من بني عبس، قال: ضاف فاطمة ضيف، فطرحت عليه شملة من خز وهي مسك كما هي، )فلما وجد رائحتها واعتم دنا منها، فصاحت به، فكف عنها، ثم إنه تحرك أيضا فأرادها عن نفسها( ، فصاحت، فكف، ثم إنه لم يصبر فواثبها فبطشت به، فإذا هي من أشد الناس، فقبضت عليه ثم صاحت: يا قيس، فأتاها، فقالت: إن هذا أرادني عن نفسي، فما ترى فيه? فقال: أخي أكبر مني، فعليك به، فنادت: يا أنس، فأتاها، فقالت: إن هذا أرادني عن نفسي فما ترى فيه? فقال لها: أخي أكبر مني فسليه، فنادت: يا عمارة، فأتاها فذكرت ذلك له، فقال لها: السيف، وأراد قتله، فقالت له: يا بني، لو دعونا أخاك فهو أكبر منك، فدعت الربيع، فذكرت ذلك له، فقال: أفتطيعونني يا بني زياد? قالوا: نعم، قال: فلا تزنوا أمكم، ولا تقتلوا ضيفكم، وخلوه يذهب، فذهب.
شعر قيل في مدحه ومدح إخوته قال ابن النطاح: وقال بعض الشعراء يمدح بني زيادة من فاطمة، يقال: إنه قيس بن زهير، ويقال: حاتم طيىء :
بنو جنية ولدت سـيوفـا قواطع كلهم ذكر صنيع
صفحة : 1935
وجارتهم حصان لم تزنـى وطاغمة الشتاء فما تجوع
شرى ودي ومكرمتي جميعا طوال زمانه مني الربـيع وقال سلمة ابن الخرشب خالهم فيهم يخاطب قوما منهم أرادوا حربه:
أتيتم إلينا تـرجـفـون جـمـاعة فأين أبـو قـيس وأين ربـــيع
وذاك ابن أخت زانه ثوب خـالـه وأعمامه الأعـمـام وهـو نـزيع
رفيق بداء الحرب طب بصعبـهـا إذا شئت رأي القوم فهو جـمـيع
عطوف على المولى ثقيل على العدا أصم عن العوراء وهـو سـمـيع وقال رجل من طيىء، ويقال له الربيع بن عمارة:
فإن تكن الحوادث أفظعتني فلم أر هالكا كابنـي زياد
هما رمحان خطيان كانـا من السمر المثقفة الجـياد
تهاب الأرض أن يطأ عليها بمثلهما تسالم أو تـعـادي أمه تقتل نفسها خوفا من العار
وقال الأثرم: حدثني أبو عمرو الشيباني، قال: أغار حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر الفزاري على بني عبس، فظفر بفاطمة بنت الخرشب أم الربيع بن زياد وأخوته راكبة على جمل لها، فقادها بجملها، فقالت له: أي رجل ، ضل حلمك والله لئن أخذتني فصارت هذه الأكمة بي وبك التي أمامنا وراءنا لا يكون بينك وبين بني زياد صلح أبدا؛ لأن الناس يقولون في هذه الحال ما شاءوه، وحسبك من شر سماعه. قال: فإني أذهب بك حتى ترعي علي إبلي. فلما أيقنت أنه ذاهب بها رمت بنفسها على رأسها من البعير، فماتت خوفا من أن يلحق بنيها عار فيها.
لبيد يحاول الإيقاع بينه وبين النعمان
وحدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمي عبد الله بن محمد، قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي، قال: وفد أبو براء ملاعب الأسنة - وهو عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب - وإخوته طفيل ومعاوية وعبيدة، ومعهم لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر، وهو غلام، على النعمان بن المنذر، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي، وكان الربيع ينادم النعمان مع رجل من أهل الشام تاجر، يقال له: سرجون بن نوفل، وكان حريفا للنعمان - يعني سرجون - يبايعه، وكان أديبا حسن الحديث والمنادمة، فاستخفه النعمان، وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي - متطبب كان له - وإلى الربيع بن زياد، وكان يدعى الكامل.
فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فإذا خلا الربيع بالنعمان طعن فيهم، وذكر معايبهم، ففعل ذلك بهم مرارا، وكانت بنو جعفر له أعداء، فصده عنهم، فدخلوا عليه يوما فرأوا منه تغيرا وجفاء، وقد كان يكرمهم قبل ذلك ويقرب مجلسهم، فخرجوا من عنده غضابا، ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم، ويغدو بإبلهم كل صباح، فيرعاها، فإذا أمسى انصرف بإبلهم، فأتاهم ذات ليلة فألفاهم يتذاكرون أمر الربيع، وما يلقون منه؛ فسالهم فكتموه، فقال لهم: والله لا أحفظ لكم متاعا، ولا أسرح لكم بعيرا أو تخبروني.
وكانت أم لبيد امرأة من بني عبس، وكانت يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك، وصد عنا وجهه، فقال لهم لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بينه وبيني فأزجره عنكم بقول ممض، ثم لا يلتف النعمان إليه بعده أبدا. فقالوا: وهل عندك من ذلك شيء? قال: نعم، قالوا: فإنا نبلوك بشتم هذه البقلة - لبقلة قدامهم دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة فروعها بالأرض، تدعى التربة - فقال: هذه التربة التي لا تذكى نارا، ولا تؤهل دارا، ولا تسر جارا، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، بلدها شاسع، ونبتها خاشع، وآكلها جائع، والمقيم عليها ضائع، أقصر البقول فرعا، وأخبثها مرعى، وأشدها قلعا، فتعسا لها وجدعا، القوا بي أخا بني عبس، أرجعه عنكم بتعس ونكس، وأتركه من أمره في لبس.
فقالوا: نصبح فنرى فيك رأينا. فقال لهم عامر: انظروا غلامكم؛ فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء، وإنما يتكلم بما جاء على لسانه، ويهذي بما يهجس في خاطره، وإذا رأيتموه ساهرا فهو صاحبكم. فرمقوه بأبصارهم، فوجدوه قد ركب رحلا، فهو يكدم بأوسطه حتى أصبح.
صفحة : 1936
فلما اصبحوا قالوا: أنت والله صاحبنا، فحلقوا رأسه، وتركوا ذؤابتين، وألبسوه حلة، ثم غدوا به معهم على النعمان، فوجدوه يتغذى ومعه الربيع وهما يأكلان، ليس معه غيره، والدار والمجالس مملوءة من الوفود.
فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان تقارب أمرهم، فذكروا للنعمان الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع في كلامهم، فقام لبيد يرتجز، ويقول :
يا رب هـيجـا هـــي خـــير مـــن دعـــه أكـل يوم هــامـــتـــي مـــقـــزعـــه
نحـن بـنـو أم الــبـــنـــين الأربـــعـــه ومـن خـيار عـامـر بـن صـعــصـــعـــه
الـمـطـعـمـون الـجـفـنة الـمـدعـــدعـــه والـضـاربـون الـهـام تـحـت الـخـيضـعـــه
يا واهـب الـخـير الـكـثـير مــن ســـعـــه إلـيك جـاوزنـا بــلادا مـــســـبـــعـــه
يخبر عن هذا خيبر فاسمعهمهلا أبيت اللعن لا تأكل معه
إن استه من برص ملمعه وإنـه يدخــل فـــيهـــا إصـــبـــعـــه
يدخـلـهـا حــتـــى يواري أشـــجـــعـــه كأنـمـا يطـلــب شـــيئا أطـــعـــمـــه فلما فرغ من إنشاده التفت النعمان إلى الربيع شزرا يرمقه، فقال: أكذا أنت? قال: لا، والله، لقد كذب علي ابن الحمق اللئيم. فقال النعمان: أف لهذا الغلام، لقد خبث علي طعامي. فقال: أبيت اللعن، أما إني قد فعلت بأمه. فقال لبيد: أنت لهذا الكلام أهل، وهي من نساء غير فعل ، وأنت المرء فعل هذا بيتيمة في حجره.
فأمر النعمان ببني جعفر فأخرجوا. وقام الربيع فانصرف إلى منزله، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به، وأمره بالانصراف إلى أهله.
وكتب إليه الربيع: إني قد تخوفت أن يكون قد وقر في صدرك ما قاله لبيد، ولست برائم حتى تبعث من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال. فأرسل إليه: إنك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا، ولا قادرا على ما زلت به الألسن، فالحق بأهلك. فقال الربيع :
لئن رحلت جمالي إن لي سـعة ما مثلها سعة عرضا ولا طـولا
بحيث لو وزنت لخم بأجمعـهـا لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا
ترعى الروائم أحرار البقول بهـا لا مثل رعيكم ملحا وغـسـويلا
فابرق بأرضك يا نعمان متـكـئا مع النطاسي يومأ وابن توفـيلا فكتب إليه النعمان :
شرد برحلك عـنـي حـيث شـئت ولا تكثر علـي ودع عـنـك الأبـاطـيلا
فقد ذكرت بـه والـركـب حـامـلـه وردا يعلـل أهـل الـشـام والـنـيلا
فما انتفاؤك منه بـعـد مـا جـزعـت هوج المطي بـه إبـراق شـمـلـيلا
قد قـيل ذلـك إن حـقـا وإن كـذبـا فما اعتـذارك مـن شـيء إذا قـيلا
فالحق بـحـيث رأيت الأرض واسـعة وانشر بها الطرف إن عرضا وإن طولا داحس والغبراء
وأما الشعر الذي فيه الغناء فإن الربيع بن زياد يقوله في مقتل مالك بن زهير. وكان قتله في بعض تلك الوقائع التي يعرف مبدؤها بداحس والغبراء.
حرب داحس والغبراء وكان السبب في ذلك، فيما أخبرني بن علي بن سليمان الأخفش، ومحمد بن العباس اليزيدي، قالا: حدثنا أبو سعيد السكري، عن محمد بن حبيب وأبي غسان دماذ، عن أبي عبيدة، وإبراهيم بن سعدان، عن أبيه، قال: كان من حديث داحس أن أمه فرس كانت لقرواش بن عوف بن عاصم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع يقال لها: جلوى، وكان أبوه يسمى ذا العقال، وكان لحوط بن أبي جابر بن أوس بن حميري بن رياح؛ وإنما سمي داحسا لأن بني يربوع احتملوا ذات يوم سائرين في نجعة، وكان ذو العقال مع ابنتي حوط بن أبي جابر بن أوس تجنبانه، فمرتا به على جلوى فرس قرواش وديقا ؛ فلما رآها الفرس ودى وصهل، فضحك شبان من الحي رأوه، فاستحيت الفتاتان فأرسلتاه فنزا على جلوى، فوافق قبولها فأقصت ، ثم أخذه لهما بعض الحي، فلحق بهما حوط، وكان رجلا شريرا سيىء الخلق، فلما نظر إلى عين الفرس قال: والله لقد نزا فرسي؛ فأخبراني ما شأنه، فأخبرتاه الخبر، فقال: يا آل رياح، لا والله لا أرضى ابدا حتى أخرج ماء فرسي، فقال له بنو ثعلبة: والله ما استكرهنا فرسك؛ إنما كان منفلتا، فلم يزل الشر بينهما حتى عظم.
صفحة : 1937
فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا: دونكم ماء فرسكم؛ فسطا عليها وأدخل يده في ماء وتراب، ثم أدخلها في رحمها حتى ظن أنه قد أخرج الماء، واشتملت الرحم على ما كان فيها، فنتجها قرواش مهرا، فسماه داحسا لذلك، وخرج كأنه أبوه ذو العقال. وفيه يقول جرير :
إن الجياد يبتن حول خبائنـا من آل أعوج أو لذي العقال وأعوج: فرس لبني هلال.
فلما تحرك المهر سام مع أمه وهو فلو يتبعها، وبنو ثعلبة سائرون، فرآه حوط فأخذه، فقالت بنو ثعلبة: يا بني رياح، ألم تفعلوا فيه أول مرة ما فعلتم ثم هذا الآن فقالوا: هو فرسنا، ولن نترككم أو نقاتلكم عنه أو تدفعوه إلينا.
فلما رأى ذلك بنو ثعلبة قالوا: إذا لا نقاتلكم عنه، أنتم أعز علينا، هو فداؤكم، ودفعوه إليهم.
فلما رأى ذلك بنو رياح قالوا: والله لقد ظلمنا إخوتنا مرتين، ولقد حلموا وكروموا، فأرسلوا به إليهم مع لقوحين.
فمكث عند قرواش ما شاء الله، وخرج أجود خيول العرب.
ثم إن قيس بن زهير بن جذيمة العبسي أغار على بني يربوع، فلم يصب أحدا غير ابنتي قرواش بن عوف ومائة من الإبل لقرواش، وأصاب الحي وهم خلوف، ولم يشهد من رجالهم غير غلامين من بني أزنم بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع، فجالا في متن الفرس مرتدفيه وهو مقيد بقيد من حديد فأعجلهما القوم عن حل قيده، واتبعهما القوم، فضبر بالغلامين ضبرا حتى نجوا به، ونادتهما إحدى الجاريتين: إن مفتاح القيد مدفون في مذود الفرس بمكان كذا وكذا، أي بجنب مذود، وهو مكان، أي لا تنزلا عنه إلا في ذلك المكان، فسبقا إليه حتى أطلقاه ثم كرا راجعين.
فلما رأى ذلك قيس بن زهير رغب في الفرس، فقال لهما: لكما حكمكما، وادفعا إلي الفرس، فقالا: أو فاعل أنت? قال: نعم، فاستوثقا منه، على أن يرد ما أصاب من قليل وكثير، ثم يرجع عوده على بدئه ، ويطلق الفتاتين، ويخلي عن الإبل، وينصرف عنهم راجعا. ففعل ذلك قيس، فدفعا إليه الفرس.
فلما رأى ذلك أصحاب قيس قالوا: لا نصالحك أبدا، أصبنا مائة من الإبل وامرأتين ، فعمدت إلى غنيمتنا فجعلتها في فرس لك تذهب به دوننا؛ فعظم في ذلك الشر حتى اشترى منهم غنيمتهم بمائة من الإبل.
فلما جاء قرواش قال للغلامين الأزنميين: أين فرسي? فأخبراه، فأبى أن يرضى إلا أن يدفع إليه فرسه، فعظم في ذلك الشر حتى تنافروا فيه، فقضي بينهم أن ترد الفتاتان والإبل إلى قيس بن زهير، ويرد عليه الفرس. فلما رأى ذلك قرواش رضي بعد شر، وانصرف قيس بن زهير، ومعه داحس، فمكث ما شاء الله.
وزعم بعضهم أن الرهان إنما هاجه بين قيس بنز هير وحذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار - أن قيسا دخل على بعض الملوك وعنده قينة لحذيفة بن بدر تغنيه بقول امرىء القيس:
دار لهند والرباب وفرتني ولميس قبل حوادث الأيام وهن - فيما يذكر - نسوة من بني عبس، فغضب قيس بن زهير، وشق رداءها، وشتمها؛ فغضب حذيفة، فبلغ ذلك قيسا، فأتاه يسترضيه، فوقف عليه، فجعل يكلمه وهو لا يعرفه من الغضب، وعنده أفراس له، فعابها، وقال: ما يرتبط مثلك مثل هذه يا أبا مسهر فقال حذيفة: أتعيبها? قال: نعم، فتجاريا حتى تراهنا.
وقال بعض الرواة: إن الذي هاج الرهان أن رجلا من بني عبد الله بن غطفان ثم أحد بني جوشن - وهم أهل بيت شؤم، أتى حذيفة زائرا - )ويقال إن الذي أتاه الورد العبسي أبو عروة بن الورد( - قال: فعرض عليه حذيفة خيله، فقال: ما أرى فيها جوادا مبرا، والمبر؛ الغالب، قال ذو الرمة :
أبر على الخصوم فليس خصم ولا خصمان يغلبـه جـدالا فقال له حذيفة: فعند من الجواد المبر? فقال: عند قيس بن زهير فقال له: هل لك أن تراهنني عنه? قال: نعم، قد فعلت، فراهنه على ذكر من خيله وأنثى.
ثم إن العبدي أتى قيس بن زهير، وقال: إني قد راهنت عنك على فرسين من خيلك ذكر وأنثى وأوجبت الرهان.
فقال قيس: ما أبالي من راهنت غير حذيفة، فقال: ما راهنت غيره، فقال له قيس: إنك ما علمت لأنكد.
صفحة : 1938
ثم ركب قيس حتى أتى حذيفة، فوقف عليه، فقال له: ما غدا بك قال: غدوت لأواضعك الرهان، قال: بل غدوت لتغلقه، قال: ما أردت ذلك. فأبى حذيفة إلا الرهان، فقال قيس: أخيرك ثلاث خلال، فإن بدأت فاخترت قبلي فلي خلتان، ولك الأولى، وإن بدأت فاخترت قبلك فلك خلتان ولي الأولى.
قال حذيفة: فابدأ، قال قيس: الغاية من مائة غلوة - والغلوة: الرمية بالنشابة - قال حذيفة: فالمضمار أربعون ليلة، والمجرى: من ذات الإصاد .
ففعلا ووضعا السبق على يدي غلاق أو ابن غلاق، أحد بني ثعلبة بن سعد بن ثعلبة.
فأما بنو عبس فزعموا أنه أجرى الخطار والحنفاء. وزعمت بنو فزارة أنه أجرى قرزلا والحنفاء، وأجرى قيس داحسا والغبراء.
ويزعم بعضهم أن الذي هاج الرهان أن رجلا من بني المعتمر بن قطيعة بن عبس يقال له سراقة راهن شابا من بني بدر - وقيس غائب - على اربع جزائر من خمسين غلوة، فلما جاء قيس كره ذلك، وقال له: لم ينته رهان قط إلا إلى شر. ثم أتى بني بدر، فسألهم المواضعة، فقالوا: لا، حتى نعرف سبقنا؛ فإن أخذنا فحقنا، وإن تركنا فحقنا.
فغضب قيس ومحك ، وقال: أما إذ فعلتم فأعظموا الخطر، وأبعدوا الغاية، قالوا: فذلك لك. فجعلوا الغاية من واردات إلى ذات الإصاد، وذلك مائة غلوة، والثنية فيما بينهما، وجعلوا القصبة في يدي رجل من بني ثعلبة بن سعد، يقال له حصين، ويقال: رجل من بني العشراء من بني فزارة، وهو ابن أخت لبني عبس، وملئوا البركة ماء، وجعلوا السابق أول الخيل يكرع فيها.
ثم إن حذيفة بن بدر وقيس بن زهير أتيا المدى الذي أرسلن منه ينظران إلى الخيل كيف خروجها منه. فلما أرسلت عارضاها ، فقال حذيفة: خدعتك يا قيس، قال: ترك الخداع من أجرى من مائة؛ فأرسلها مثلا.
ثم ركضا ساعة فجعلت خيل حذيفة تبر وخيل قيس تقصر، فقال حذيفة: سبقتك يا قيس، فقال: جري المذكيات غلاب ، فأرسلها مثلا. ثم ركضا ساعة، فقال حذيفة: إنك لا تركض مركضا، فأرسلها مثلا. وقال: سبقت خيلك يا قيس، فقال قيس: رويدا يعلون الجدد، فأرسلها مثلا.
قال: وقد جعل بنو فزارة كمينا بالثنية، فاستقبلوا داحسا فعرفوه فأمسكوه وهو السابق، ولم يعرفوا الغبراء وهي خلفه مصلية، حتى مضت الخيل واستهلت الثنية، ثم أرسلوه فتمطر في آثارها؛ أي أسرع، فجعل يبدرها فرسا فرسا حتى سبقها إلى الغاية مصليا، وقد طرح الخيل غير الغبراء، ولو تباعدت الغاية لسبقها؛ فاستقبلها بنو فزارة فلطموها، ثم حلثوها عن البركة، ثم لطموا داحسا وقد جاءا متواليين. وكان الذي لطمه عمير بن نضلة، فجسأت يده؛ فسمي جاسئا.
فجاء قيس وحذيفة في آخر الناس، وقد دفعتهم بنو فزارة عن سبقهم، ولطموا أفراسهم، ولم تطقهم بنو عبس يقاتلونهم، وإنما كان من شهد ذلك من بني عبس أبياتا غير كثيرة، فقال قيس بن زهير: يا قوم، إنه لا يأتي قوم إلى قومهم شرا من الظلم، فأعطونا حقنا، فأبت بنو فزارة أن يعطوهم شيئا - وكان الخطر عشرين من الإبل - فقالت بنو عبس: أعطونا بعض سبقنا، فأبوا، فقالوا: أعطونا جزورا ننحرها نطعمها أهل الماء؛ فإنا نكره القالة في العرب. فقال رجل من بني فزارة: مائة جزور وجزور واحد سواء، والله ما كنا لنقر لكم بالسبق علينا، ولم نسبق.
فقام رجل من بني مازن بن فزارة فقال: يا قوم، إن قيسا كان كارها لأول هذا الرهان، وقد أحسن في آخره، وإن الظلم لا ينتهي إلا إلى الشر؛ فأعطوه جزورا من نعمكم، فأبوا، فقام إلى جزور من إبله فعقلها ليعطيها قيسا ويرضيه، فقام ابنه فقال: إنك لكثير الخطأ؛ أتريد أن تخالف قومك وتلحق بهم خزاية بما ليس عليهم? فأطلق الغلام عقالها، فلحقت بالنعم. فلما رأى ذلك قيس بن زهير احتمل عنهم هو ومن معه من بني عبس، فاتى على ذلك ما شاء الله.
ثم إن قيسا أغار عليهم، فلقي عوف بن بدر فقتله وأخذ إبله، فبلغ ذلك بني فزارة، فهموا بالقتال، وغضبوا فحمل الربيع بن زياد أحد بني عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس دية عوف بن بدر مائة عشراء متلية.
)العشراء:لا التي أتى عليها من حملها عشرة أشهر من ملقحها. والمتالي: النتي نتج بعضها والباقي يتلوها في النتاج(.
وأم عوف وأم حذيفة ابنة نضلة بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة.
واصطلح الناسن فمكثوا ما شاء الله.
صفحة : 1939
ثم إن مالك بن زهير أتى امرأة يقال لها: مليكة بنت حارثة من بني عوذ بن فزارة، فابتنى بها باللقاطة قريبا من الحاجر، فبلغ ذلك حذيفة بن بدر، فدس له فرسانا على أفراس من مسان خيله، وقال: لا تنظروا مالكا إن وجدتموه أن تقتلوه، والربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن ناشب العبسي مجاور حذيفة بن بدر، وكانت تحت الربيع بن زياد معاذة ابنة بدر، فانطلق القوم، فلقوا مالكا فقتلوه، ثم انصرفوا عنه، فجاءوا عشية وقد جهدوا أفراسهم، فوقفوا على حذيفة ومعه الربيع بن زياد، فقال حذيفة: أقدرتم على حماركم قالوا: نعم، وعقرناه.
فقال الربيع: ما رأيت كاليوم قط، أهلكت أفراسك من أجل حمار فقال حذيفة لما أكثر عليه من الملامة، وهو يحسب أن الذي أصابوا حمارا: إنا لم نقتل حمارا، ولكنا قتلنا مالك بن زهير بعوف بن بدر. فقال الربيع: بئس لعمر الله القتيل قتلت ، أما والله إني لأظنه سيبلغ ما نكره .
الربيع يغضب لقتل مالك فتراجعا شيئا من كلام ثم تفرقا، فقام الربيع يطأ الأرض وطأ شديدا، وأخذ يومئذ حمل بن بدر ذا النون، سيف مالك بن زهير.
قال أبو عبيدة: فزعموا أن حذيفة لما قام الربيع بن زياد أرسل إليه بمولدة له فقال لها: اذهبي إلى معاذة بنت بدر امرأة الربيع فانظري ما ترين الربيع يصنع. فانطلقت الجارية حتى دخلت البيت، فاندست بين الكفاء والنضد - والكفاء: شقة في آخر البيت، والنضد: متاع يجعل على حمار من خشب - فجاء الربيع فنفذ البيت حتى أتى فرسه فقبض بمعرفته، ثم مسح متنه حتى قبض بعكوة ذنبه - العكوة: أصل الذنب - ثم رجع إلى البيت ورمحه مركوز بفنائه، فهزه هزا شديدا، ثم ركزه كما كان، ثم قال لامرأته: اطرحي لي شيئا، فطرحت له شيئا، فاضطجع عليه، وكانت قد طهرت تلك الليلة، فدنت منه، فقال: إليك قد حدث أمر، ثم تغنى، وقال : الربيع يرثي مالكا
نام الخلي ومـا أغـمـض حـار من سيىء النبأ الجليل الـسـاري
من مثله تمسي النساء حـواسـرا وتقوم معـولة مـع الأسـحـار
من كان مسرورا بمقتـل مـالـك فليأت نسوتنـا بـوجـه نـهـار
يجد النساء حـواسـرا ينـدبـنـه يبكين قبل تـبـلـج الأسـحـار
قد كن يخبأن الوجـوه تـسـتـرا فاليوم حين بـدون لـلـنـظـار
يخمشن حرات الوجوه على امرىء سهل الخلـيقة طـيب الأخـبـار
أفبعد مقتل مـالـك بـن زهـير ترجو النساء عواقب الأطـهـار
ما إن أرى في قتله لذوي الحجـا إلا المطـي تـشـد بـالأكـوار
ومجنـبـات مـا يذقـن عـذوفة يقذفن بالمـهـرات والأمـهـار العذوف والعدوف واحد، وهو ما أكلته.
ومساعرا صدأ الحديد عليهم فكأنما طلي الوجوه بقـار
يا رب مسرور بمقتل مالك ولسوف نصرفه بشر محار فرجعت المرأة فأخبرت حذيفة الخبر، فقال: هذا حين اجتمع أمر إخوتكم، ووقعت الحرب.
وقال الربيع لحذيفة وهو يومئذ جاره: سيرني، فإني جاركم، فسيره ثلاث ليال، ومع الربيع فضلة من خمر، فلما سار الربيع دس حذيفة في أثره فوارس، فقال: اتبعوه، فإذا مضت ثلاث ليال فإن معه فضلة من خمر، فإن وجدتموه قد أهراقها فهو جاد وقد مضى، فانصرفوا، وإن لم تجدوه قد أراقها فاتبعوه؛ فإنكم تجدونه قد مال لأدنى منزل، فرتع وشرب فاقتلوه، فتبعوه فوجدوه قد شق الزق ومضى، فانصرفوا.
صفحة : 1940
فلما أتى الربيع قومه، وقد كان بينه وبين قيس بن زهير شحناء؛ وذلك أن الربيع ساوم قيس بن زهير في درع كانت عنده، فلما نظرإليها وهو راكب وضعها بين يديه، ثم ركض بها فلم يردها على قيس، فعرض قيس لفاطمة ابنة الخرشب الأنمارية - من أنمار بن بغيض، وهي إحدى منجبات قيس، وهي أم الربيع - وهي تسير في ظعائن من عبس، فاقتاد جملها، يريد أن يرتهنها بالدرع حتى يرد عليه، فقالت: ما رأيت كاليوم فعل رجل أي قيس، ضل حلمك أترجو أن تصطلح أنت وبنو زياد وقد أخذت أمهم فذهبت بها يمينا وشمالا فقال الناس في ذلك ما شاءوا وحسبك من شر سماعه، فأرسلتها مثلا. فعرف قيس بن زهير ما قالت له، فخلى سبيلها، وأطرد إبلا لبني زياد، فقدم بها مكة، فباعها من عبد الله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة القرشي، وقال في ذلك قيس بن زهير :
ألم يبلغك والأنباء تـنـمـي بما لاقت لبون بـنـي زياد
ومحبسها على القرشي تشرى بأدراع وأسـياف حـــداد
كما لاقيت من حمل بن بـدر وإخوته على ذات الإصـاد
هم فخروا علي بغير فخـر وذادوا دون غايتـه جـوادي
وكنت إذا منيت بخصم سـوء دلفـت لـه بـداهـية نـاد
بداهية تدق الصلـب مـنـه فتقصم أو تجوب عن الفؤاد
وكنت إذا أتاني الدهر ربـق بداهية شددت لها نـجـادي الربق: ما يتقلده.
ألم تعلم بنو الميقاب أنى كريم غير منغلث الزناد الوقب: الأحمق، والميقاب: التي تلد الحمقى، والمنغلث: الذي ليس بمنتقى.
أطوف ما أطوف ثم آوي إلى جار كجار أبي داود جاره: يعنيربيعة الخير بن قرط بن سلمة بن قشير، وجار أبي داود يقال له: الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان، وكان أبو داود في جواره، فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير، فغمس الصبيان ابن أبي داود فيه فقتلوه، فخرج الحارث فقال: لا يبقى صبي في الحي إلا غرق في الغدير أو يرضى أبو داود، فودي ابن أبي داود عشر ديات فرضي، وهو قول أبي داود:
إبلي الإبل لا يحوزها الـرا عون ومج الندى عليها المدام قال أبو سعيد: حفظي: لا يحوزها الراعي ومج الندى.
إليك ربيعة الخير بن قـرط وهوبا للطريف وللـتـلاد
كفاني ما أخاف أبو هـلال ربيعة فانتهت عني الأعادي
تظل جياده يحدين حـولـي بذات الرمث كالحدإ الغوادي
كأني إذ أنخت إلى ابن قرط عقلت إلى يلملم أو نضـاد وقال أيضا قيس بن زهير:
إن تك حرب فلم أجـنـهـا جنتهـا خـيارهـم أو هـم
حذار الردى إذ رأوا خيلنـا مقدمـهـا سـابـح أدهـم
عليه كـمـي وسـربـالـه مضاعفة نسجها مـحـكـم
فإن شمرت لك عن ساقهـا فويها ربيع ولـم يسـأمـوا
نهيت ربيعا فـلـم يزدجـر كما انزجر الحارث الأضجم قال أبو عبد الله: الحارث الأضجم: رجل من بين ضبيعة بن ربيعة بن نزار، وهو صاحب المرباع.
قال: فكانت تلك الشحناء بين بني زياد وبين بني زهير، فكان قيس يخاف خذلانهم إياه، فزعموا أن قيسا دس غلاما له مولدا، فقال: انطلق كأنك تطلب إبلا؛ فإنهم سيسألونك، فاذكر مقتل مالك، ثم احفظ ما يقولون: فأتاهم العبد، فسمع الربيع يتغنى بقوله:
أفبعد مقتل مالك بـن زهـير ترجو النساء عواقب الأطهار فلما رجع العبد إلى قيس فأخبره بما سمع من الربيع بن زياد، عرف قيس أن قد غضب، فاجتمعت بنو عبس على قتال بني فزارة، فأرسلوا إليهم أن ردوا علينا إبلنا التي ودينا بها عوفا أخا حذيفة بن بدر لأمه، فقال: لا أعطيكم دية ابن أمي، وإنما قتل صاحبكم حمل بن بدر، وهو ابن الأسدية، وأنتم وهو أعلم.
صفحة : 1941
فزعم بعض الناس أنهم كانوا ودوا عوف بن بدر بمائة من الإبل متلية؛ أي قد دنا نتاجها، وأنه أتى على تلك الإبل أربع سنين، وأن حذيفة بن بدر أراد أن يردها بأعيانها، فقال له سنان بن خارجة المري: أتريد أن تلحق بنا خزاية فنعطيهم أكثر مما أعطونا، فتسبنا العرب بذلك? فأمسها حذيفة، وأبى بنو عبس أن يقبلوا إلا إبلهم بعينها فمكث القوم ما شاء الله أن يمكثوا.
جندب يقتل مالك بن بدر ثم إن مالك بن بدر خرج يطلب إبلا له، فمر على بني رواحة، فرماه جندب - أحد بني رواحة - بسهم فقتله، فقالت ابنة مالك بن بدر في ذلك :
لله عينا من رأى مثل مالـك عقيرة قوم أن جرى فرسان
فليتهما لم يشربا قط قـطـرة وليتهما لم يرسلا لـرهـان
أحل به من جندب أمس نذره فأي قتيل كان في غطفـان
إذا سجعت بالرقمتين حمـامة أو الرس تبكي فارس الكتفان فرس له كانت تسمى الكتفان.
الأسلع بن عبد الله بن ناشب يمشي في الصلح بين عبس وذبيان ثم إن الأسلع بن عبد الله بن ناشب بن زيد بن هدم بن أد بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس مشى في الصلح، ورهن بني ذبيان ثلاثة من بنيه وأربعة من بني أخيه حتى يصطلحوا، جعلهم على يدي سبيع بن عمرو من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان. فمات سبيع وهم عنده.
سبيع بن عمرو يوصي مالكا ابنه فلما حضرته الوفاة قال لابنه مالك بن سبيع: إن عندك مكرمة لا تبيد إن أنت احتفظت بهؤلاء الأغيلمة، وكأني بك لو قد مت قد أتاك حذيفة خالك - وكانت أم مالك هذا ابنة بدر - فعصر عينيه، وقال: هلك سيدنا، ثم خدعك عنهم حتى تدفعهم إليه فيقتلهم، فلا شرف بعدها فإن خفت ذلك فاذهب بهم إلى قومهم.
فلما ثقل جعل حذيفة يبكي ويقول: هلك سيدنا، فوقع ذلك له في قلب مالك.
مالك دفع الرهن إلى حذيفة فلما هلك سبيع أطاف بابنه مالك فأعظمه، ثم قال له: يا مالك، إني خالك، وإني أسن منك، فادفع إلي هؤلاء الصبيان ليكونوا عندي إلى أن ننظر في أمرنا. ولم يزل به حتى دفعهم إلى حذيفة باليعمرية، واليعمرية: ماء بواد من بطن نخل من الشربة لبني ثعلبة.
فلما دفع مالك إلى حذيفة الرهن جعل كل يوم يبرز غلاما فينصبه غرضا ويرمي بالنبل، ثم يقول: ناد أباك، فينادي أباه حتى يمزقه النبل، ويقول لواقد بن جنيدب: ناد أباك فجعل ينادي: يا عماه، خلافا عليهم، ويكره أن يأبس أباه بذلك - والأبس: القهر والحمل على المكروه - وقال لابن جنيدب بن عمرو بن عبد الأسلع: ناد جنيبة وكان جنيبة لقب ابيه - فجعل ينادي: يا عمراه ، باسم أبيه حتى قتل. وقتل عتبة بن قيس بن زهير.
ثم إن بني فزارة اجتمعوا هم وبنو ثعلبة وبنو مرة، فالتقوا هم وبنو عبس، فقتلوا منهم مالك بن سبيع بن عمرو الثعلبي - قتله مروان بن زنباع العبسي - وعبد العزى بن حذار الثعلبي، والحارث بن بدر الفزاري، وهرم بن ضمضم المري - قتله ورد بن حابس العبسي، ولم يشهد ذلك اليوم حذيفة بن بدر، فقالت ناجية أخت هرم بن ضمضم المري :
يا لهف نفسي لهفة المفجوع ألا أرى هرما على مودوع
من أجل سيدنا ومصرع جنبه علق الفؤاد بحنظل مجدوع مودوع: فرسه.
بين ذبيان وعبس
ثم إن حذيفة بن بدر جمع وتأهب ، واجتمع معه بنو ذبيان بن بغيض فبلغ بني عبس أنهم قد ساروا إليهم، فقال قيس: أطيعوني، فوالله لئن لم تفعلوا لأتكئن على سيفي حتى يخرج من ظهري، قالوا: فإنا نطيعك، فأمرهم فسرحوا السوام والضعاف بليل وهو يريدون أن يظعنوا من منزلهم ذلك، ثم ارتحلوا في الصبح، وأصبحوا على ظهر العقبة، وقد مضى سوامهم وضعفاؤهم. فلما أصبحوا طلعت عليهم الخيل من الثنايا، فقال قيس: خذوا غير طريق المال؛ فإنه لا حاجة للقوم أن يقعوا في شوكتكم، ولا يريدون بكم في أنفسكم شرا من ذهاب أموالكم، فأخذوا غير طريق المال.
فلما أدرك حذيفة الأثر ورآه قال: أبعدهم الله وما خيرهم بعد ذهاب أموالهم فاتبع المال.
صفحة : 1942
وسارت ظعن بني عبس والمقاتلة من ورائهم، وتبع حذيفة وبنو ذبيان المال. فلما أدركوه ردوه أوله على آخره، ولم يفلت منهم شيء، وجعل الرجل يطرد ما قدر عليه من الإبل، فيذهب بها. وتفرقوا، واشتد الحر، فقال قيس بن زهير: يا قوم، إن القوم قد فرق بينهم المغنم، فاعطفوا الخيل في آثارهم، فلم تشعر بنو ذبيان إلا والخيل دوائس ، فلم يقاتلهم كبير أحد، وجعل بنو ذبيان إنما همة الرجل في غنيمته أن يحوزها، ويمضي بها.
فوضعت بنو عبس فيهم السلاح حتى ناشدتهم بنو ذبيان البقية، ولم يكن لهم هم غير حذيفة، فأرسلوا خيلهم مجتهدين في أثره، وأرسلوا خيلا تقص الناس ويسألونهم، حتى سقط خبر حذيفة من الجانب الأيسر على شداد بن معاوية العبسي، وعمرو بن ذهل بن مرة بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة العبسي، وعمرو بن الأسلع، والحارث بن زهير، وقرواش بن هني بن أسيد بن جذيمة، وجنيدب.
وكان حذيفة قد استرخى حزام فرسه، فنزل عنه فوضع رجله على حجر مخافة أن يقتص أثره، ثم شد الحزام فوقع صدر قدمه على الأرض فعرفوه، وعرفوا حنف فرسه - والحنف: أن تقبل إحدى اليدين على الأخرى، وفي الناس أن تقبل إحدى الرجلين على الأخرى، وأن يطأ الرجل وحشيهما ، وجمع الأحنف حنف - فاتبعوه، ومضى حتى استغاث بجفر الهباءة وقد اشتد الحر، فرمى بنفسه، ومعه حمل بن بدر، وحنش بن عمرو، ووقعوا في الماء، وتمعكت دوابهم، وقد بعثوا ربيئة فجعل يطلع فينظر، فإذا لم ير شيئا رجع، فنظر نظرة فقال: إني قد رأيت شخصا كالنعامة أو كالطائر فوق القتادة من قبل مجيئنا. فقال حذيفة: هنا وهنا، هذا شداد على جروة، وجروة: فرس شداد، والمعنى دع ذكر شداد عن يمينك وعن شمالك، واذكر غيره لما كان يخاف من شداد.
فبينا هم يتكلمون إذا هم بشداد بن معاوية واقفا عليهم، فحال بينهم وبين الخيل، ثم جاء عمرو بن الأسلع، ثم جاء قرواش حتى تتاموا خمسة، فحمل جنيدب على خيلهم فاطردها، وحمل عمرو بن الأسلع، فاقتحم هو وشداد عليهم في الجفر، فقال حذيفة: يا بني عبس فأين العقول والأحلام فضربه أخوه حمل بن بدر بين كتفيه، وقال: اتق مأثور القول بعد اليوم، فأرسلها مثلا.
وقتل قرواش بن هني حذيفة، وقتل الحارث بن زهير حمل بن بدر وأخذ منه ذا النون سيف مالك بن زهير، وكان حمل أخذه من مالك بن زهير يوم قتله، فقال الحارث بن زهير في ذلك :
تركت على الهباءة غير فخر حذيفة حوله قصد العوالـي
سيخبر عنهم حنش بن عمرو إذا لاقاهـم وابـنـا بـلال
ويخبرهم مكان النون منـي وما أعطيته عرق الخـلال العرق: المكافأة، والخلال: المودة، يقول: لم يعطوني السيف عن مكافأة ومودة، ولكني قتلت وأخذت.
فأجابه حنش بن عمرو أخو بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان :
سيخبرك الحديث بن خـبـير يجاهرك العداوة غيرى آلـي
بداءتها لقـرواش وعـمـرو وأنت تجول جوبك في الشمال الجوب: الترس، يقول: بداءة الأمر لقرواش وعمرو بن الأسلع، وهما اقتحما الجفر وقتلا من قتلا، وأنت ترسك في يدك يجول لم تغن شيئا. ويقال: لك البداءة ولفلان العودة.
وقال قيس بن زهير :
تعلم أن خير الـنـاس مـيت على جفر الهباءة مـا يريم
ولولا ظلمه مازلت أبـكـي عليه الدهر ما طلع النجـوم
ولكن الفتى حمل بـن بـدر بغى، والبغي مرتعه وخـيم
أظن الحلم دل علي قـومـي وقد يستجهل الرجل الحلـيم
فلا تغش المظالم لـن تـراه يمتع بالغنى الرجل الظلـوم
ولا تعجل بأمرك واستـدمـه فما صلى عصاك كمستـديم
ألاقي من رجال منـكـرات فأنكرها وما أنا بالغـشـوم
ولا يعيبك عرقـوب بـلأي إذا لم يعطك النصف الخصيم
ومارست الرجال ومارسوني فمعوج علي ومسـتـقـيم قوله: فما صلى عصاك كمستديم، يقول: عليك بالتأني والرفق، وإياك والعجلة؛ فإن العجول لا يبرم أمرا أبدا، كما أن الذي يثقف العود إذا لم يجد تصليته على النار لم يستقم له.
وقال في ذلك شداد بن معاوية العبسي :
من يك سائلا عني فإنـي وجروة لا نرود ولا نعار
صفحة : 1943
مقربة النساء ولا تـراهـا أمام الحي يتبعها المهـار
لها في الصيف آصرة وجل وست من كرائمها غـزار آصرة: حشيش، وست: أي ست أينق تسقى لبنها.
ألا أبلغ بني العشراء عني علانية وما يغني السـرار
قتلت سراتكم وحسلت منكم حسيلا مثل ما حسل الوبار حسالة الناس وحفالتهم ورعاعهم وخمانهم وشرطهم وحثالتهم وخشارتهم وغثاؤهم واحد؛ وهم السفلة يقول: قتلت سراتكم وجعلتكم بعدهم حسالة، كما خلقت الوبار حسالة.
وكان ذلك اليوم يوم ذي حسا، ويزعم بعض بني فزارة أن حذيفة كان أصاب يومئذ فيمن أصاب من بني عبس تماضر ابنة الشريد السلمية أم قيس فقتلها، وكانت في المال، وقال:
ولم أقتلكم سرا ولـكـن علانية وقد سطع الغبار
صوت
جاء البريد بقرطـاس يخـب بـه فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل، ماذا في صحيفتكم? قال: الخليفة أمسى مثبتا وجـعـا عروضه من الكامل . الشعر ليزيد بن معاوية، والغناء لابن محرز، هزج بالوسطى عن عمرو.
وهذا الشعر يقوله يزيد في علة أبيه التي مات فيها، وكان يزيد يومئذ غازيا غزاة الصائفة.
خبر ليزيد بن معاوية
جيش معاوية يغزو الصائفة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني السكري والمبرد، عن دماذ أبي غسان - واسمه رفيع بن سلمة - عن أبي عبيدة: أن معاوية وجه جيشا إلى بلد الروم ليغزو الصائفة، فأصابهم جدري فمات أكثر المسلمين، وكان ابن يزيد مصطبحا بدير مران مع زوجته أم كلثوم، فبلغه خبرهم، فقال :
إذا ارتفقت على الأنماط مصطبحا بدير مران عندي أم كـلـثـوم
فما أبالي بما لاقت جـنـودهـم بالغذقذونة من حمى ومن مـوم فبلغ شعره أباه، فقال: أجل ، والله ليلحقن بهم فليصيبنه ما أصابهم.
يزيد يضرب باب القسطنطينية
فخرج حتى لحق بهم، وغزا حتى بلغ القسطنطينية، فنظر إلى قبتين مبنيتين عليهما ثياب الديباج، فإذا كانت الحملة للمسلمين ارتفع من إحداهما أصوات الدفوف والطبول والمزامير، وإذا كانت الحملة للروم ارتفع من الأخرى، فسأل يزيد عنهما فقيل له: هذه بنت ملك الروم، وتلك بنت جبلة بن الأيهم، وكل واحدة منهما تظهر السرور بما تفعله عشيرتها، فقال: أما والله لأسرنها، ثم صف العسكر، وحمل حتى هزم الروم، فأحجرهم في المدينة، وضرب باب القسطنطينية بعمود حديد كان في يده، فهشمه حتى انخرق، فضرب عليه لوح من ذهب، فهو عليه إلى اليوم.
نسخت من كتاب محمد بن موسى اليزيدي: حدثني العباس بن ميمون طابع ، قال: حدثني ابن عائشة، عن أبيه، وحدثني القحذمي: أن ميسون بنت بحدل الكلبية كانت تزين يزيد بن معاوية، وترجل جمته، قال: فإذا نظر إليه معاوية قال:
فإن مات لم تفلح مزينة بعده فنوطي عليه يا مزين التمائما يزيد وعنبسة في حضرة معاوية وهو يحتضر
فلما احتضر معاوية حضره يزيد بن معاوية، وعنبسة بن أبي سفيان، فبكى يزيد إلى عنبسة، وقال:
لو فات شيء يرى لفات أبو حيان لا عاجز ولا وكـل
الحول القلب الأريب ولـن يدفع زوء المنية الـحـيل فسمعهما معاوية بعد أن رددهما مرارا، فقال: يا بني، إن أخوف ما أخاف على نفسي شيء صنعته قبل ذلك، إني كنت أوضىء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكساني قميصا، وأخذت شعرا من شعره، فإذا مت فكفني في قميصه، واجعل الشعر في منخري وأذني وفمي، وخل بيني وبين ربي، لعل ذلك ينفعني شيئا.
قال العباس بن ميمون: فقلت للقحذمي: هذا غلط، والدليل على ذلك أن أبا عدنان حدثني - وها هو حي فاسأله - عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش، عن الشعبي: أن معاوية مات ويزيد بالصائفة، فأتاه البريد بنعيه، فأنشأ يقول:
جاء البريد بقرطـاس يخـب بـه فأوجس القلب من قرطاسه فزعا
قلنا: لك الويل، ماذا في صحيفتكم? قال: الخليفة أمسى مثبتا وجـعـا
مادت بنا الأرض أو كادت تميد بنا كأن ما عز من أركانها انقلـعـا
صفحة : 1944
من لم تزل نفسه توفي على وجل توشك مقادير تلك النفس أن تقعا
لما وردت وباب القصر منطبـق لصوت رملة هد القلب فانصدعا الضحاك بن قيس يتولى غسل معاوية ودفنه
وكان الذي تولى غسله ودفنه الضحاك بن قيس، فخطب الناس، فقال: إن ابن هند قد توفي، وهذه أكفانه على المنبر، ونحن مدرجوه فيها، ومخلون بينه وبين ربه، ثم هو البرزخ إلى يوم القيامة. ولو كان يزيد حاضرا لم يكن للضحاك ولا غيره أن يفعل من هذا شيئا.
قال العباس: فسكت القحذمي، وما رد علي شيئا.
عبد الله بن الزبير يرثي معاوية
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثني الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي، عن جدي، عن هشام بن عروة، عن أبيه ، قال: صلى بنا عبد الله بن الزبير يوما، ثم انفتل من الصلاة، فنشج ، وكان قد نعي له معاوية، ثم قال: رحم الله معاوية إن كنا لنخدعه فيتخادع لنا، وما ابن أنثى بأكرم منه، وإن كنا لنعرفه يتفارق لنا، وما الليث المحرب بأجرأ منه؛ كان والله كما قال بطحاء العذري:
ركوب المنابر وثابـهـا معن بخطبته يجـهـر
تريع إليه عيون الكـلام إذا حصر الهذر المهمر كان والله كما قالت رقيقة، أو قال: بنمت رقيقة:
ألا ابكيه ألا ابكيه ألا كل الفتى فيه والله لودي أنه بقي بقاء أبي قبيس، لا يتخون له عقل، ولا تنقص له قوة.
قال: فعرفنا أن الرجل قد استوجس .
ابن عباس يرثي معاوية أيضا
أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: قال محمد بن إسحاق المسيبي: حدثني جماعة من أصحابنا: أن ابن عباس أتاه نعي معاوية وولاية يزيد، وهو يعشى أصحابه ويأكل معهم، وقد رفع إلى فيه لقمة، فالقاها وأطرق هنيهة ثم قال: جبل تدكدك، ثم مال بجميعه في البحر، واشتملت عليه الأبحر، لله در ابن هند ما كان أجمل وجهه، وأكرم خلقه، وأعظم حلمه.
فقطع عليه الكلام رجل من أصحابه، وقال: أتقول هذا فيه? فقال: ويحك إنك لا تدري من مضى عنك، ومن بقي عليك، وستعلم. ثم قطع الكلام.
صوت
إذا زينب زارها أهـلـهـا حشدت وأكرمت زوارهـا
وإن هي زارتهم زرتـهـم وإن لم أجد لي هوى دارها
فسلمي لمن سالمت زينـب وحربي لمن أشعلت نارها
ومازلت أرعى لما عهدهـا ولم أتبع ساعة عـارهـا عروضه من المتقارب. الشعر لشريح القاضي في زوجته زينب بنت حدير التميمية، والغناء لعمرو بن بانة، ثاني ثقيل بالبنصر، عنه على مذهب إسحاق. وذكر إسحاق في كتاب الأغاني المنسوب إليه أنه لابن محرز.
ذكر شريح ونسبه وخبره
هو فيما أخبرني به الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا أبو سعيد، عن هشام بن السائب. وأخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني علي بن عبد الله بن معاوية بن ميسرة بن شريح، كلاهما اتفق في الرواية لنسبه: نسبه
أنه شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم بن معاوية بن عامر بن الرائش بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندي. قال هشام في خبره خاصة: وليس بالكوفة من بني الرائش غيرهم، وسائرهم من هجر وحضرموت.
وقد اختلف الرواة بعد هذا في نسبه؛ فقال بعضهم: شريح بن هانىء - وهذا غلط - ذاك شريح بن هانىء الحارثي، واعتل من قال هذا بخبر روي عن مجالد، عن الشعبي، أنه قرأ كتابا من عمر إلى شريح: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى شريح بن هانىء. وقد يجوز أن يكون كتب عمر رضي الله عنه هذا الكتاب إلى شريح بن هانىء الحارثي، وقرأه الشعبي، وكلا هذين الرجلين معروف، والفرق بينهما النسب والقضاء؛ فإن شريح بن هانىء لم يقض، وشريح بن الحارث قد قضى لعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. وقيل: شريح بن عبد الله، وشريح بن شراحيل، والصحيح ابن الحارث. وابنه أعلم به.
وقد أخبرنا وكيع، قال: حدثنا أحمد بن عمر بن بكير، قال: حدثني أبي عن الهيثم بن عدي، عن أبي ليلى: أن خاتم شريح كان نقشه شريح بن الحارث. وقيل: إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع سيف بن ذي يزن، وعداده في كندة، وقد روى عنه شيبة بذلك.
صفحة : 1945
أخبرنا وكيع، قال: حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي، قال: حدثنا عبدان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن ابن أبي السفر، عن الشعبي، قال: جاء أعرابي إلى شريح، فقال: ممن أنت? قال: أنا من الذين أنعم الله عليهم، وعدادي في كندة.
قال وكيع: وقيل: إنما خرج إلى المدينة ثم إلى العراق؛ لأن أمه تزوجت بعد أبيه فاستحيا.
سنه
وقد اختلف أيضا في سنه؛ فقيل: مائة وعشرون سنة، وقيل: مائة وعشر، وقيل: أقل من ذلك وأكثر.
فممن ذكر أنه عمر مائة وعشرين سنة أشعث بن سوار، روى ذلك يحيى بن معين، عن المحاربي، عن أشعث، وأبو سعيد الجعفي، روى ذلك عنه أبو إبراهيم الزهري. وممن قال أقل من ذلك أبو نعيم.
أخبرنا الحسن بن علي، عن الحارث، عن ابن سعد، عن أبي نعيم، قال: بلغ شريح مائة وثمانين سنة.
سنة وفاته
قال الحارث: وأخبرني ابن سعد، عن الواقدي، عن أبي سبرة، عن عيسى، عن الشعبي، قال: توفي شريح في سنة ثمانين، أو تسع وسبعين.
قال أبو سعيد : وقال إبراهيم: في سنة ست وسبعين. وقال أبو إبراهيم الزهري، عن أبي سعيد الجعفي: إن شريحا مات في زمن عبد الملك بن مروان.
أخبرني وكيع، قال: حدثنا الكراني، عن سهل، عن الأصمعي، قال: ولد لشريح وهو ابن مائة سنة.
وروى إسماعيل بن أبان الوراق، عن علي بن صالح، قال: قيل لشريح: كيف أصبحت? قال: أصبحت ابن ست ومائة، قضيت منها ستين سنة.
عمر يستقضيه
وأخبرني وكيع بخبر عمر حين استقصاه، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أيوب، قال: حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت سيارا قال: سمعت الشعبي يقول: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ من رجل فرسا على سوم، فحمل عليه رجلا، فعطب الفرس، فقال عمر: اجعل بيني وبينك رجلا، فقال له الرجل: اجعل بيني وبينك شريحا العراقي. فقال: يا أمير المؤمنين أخذته صحيحا سليما على سوم، فعليك أن ترده كما أخذته. قال: فأعجبه ما قال، وبعث به قاضيا، ثم قال: ما وجدته في كتاب الله فلا تسأل عنه أحدا، وما لم تستبن في كتاب الله فالزم السنة، فإن لم يكن في السنة، فاجتهد رأيك .
أخبرني وكيع، قال: أخبرني عبد الله بن الحسن، عن النميري، عن حاتم بن قبيصة المهلبي، عن شيخ من كنانة، قال: قال عمر لشريح، حين استقضاه: لا تشار ولا تضار، ولا تشتر ولا تبع . فقال عمرو بن العاص: يا أمير المؤمنين:
إن القضـاة إن أرادوا عـدلا وفصلوا بين الخصوم فصـلا
وزحزحوا بالحكم منهم جهـلا كانوا كمثل الغيث صاب محلا وله أخبار في قضايا كثيرة يطول ذكرها، وفيها ما لا يستغنى عن ذكره، منها محاكمة أمير المؤمنين علي إليه في الدرع.
قضي بين علي وبين يهودي
حدثني به عبد الله بن محمد بن إسحاق بن أخت داهر بن نوح بالأهواز، قال: حدثنا أبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي، قال: حدثني حكيم بن حزام، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، قال: عرف علي درعا مع يهودي، فقال: يا يهودي، درعي سقطت مني يوم كذا وكذا، فقال اليهودي: ما أدري ما تقول درعي وفي يدي، بيني وبينك قاضي المسلمين.
فانطلقا إلى شريح، فلما رآه شريح قام له عن مجلسه، فقال له علي: اجلس. فجلس شريح، ثم قال: إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تساؤوهم في المجلس، ولا تعودوا مرضاهم، ولا تشيعوا جنائزهم، واضطروهم إلى أضيق الطرق، وإن سبوكم فاضربوهم، وإن ضربوكم فاقتلوهم. ثم قال: درعي عرفتها مع هذا اليهودي.
فقال شريح لليهودي: ما تقول? قال: درعي وفي يدي.
قال شريح: صدقت والله يا أمير المؤمنين، إنها لدرعك كما قلت، ولكن لابد من شاهد؛ فدعا قنبرا فشهد له، ودعا الحسن بن علي، فشهد له، فقال: أما شهادة مولاك فقد قبلتها، وأما شهادة ابنك لك فلا. فقال علي: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.
قال: اللهم نعم، قال: أفلا تجيز شهادة أحد سيدي شباب أهل الجنة والله لتخرجن إلى بانقيا فلتقضين بين أهلها أربعين يوما. ثم سلم الدرع إلى اليهودي.
صفحة : 1946
فقال اليهودي: أمير المؤمنين مشى معي إلى قاضيه، فقضى عليه، فرضي به، صدقت إنها لدرعك، سقطت منك يوم كذا وكذا عن جمل أورق فالتقطتها، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. فقال علي: هذه الدرع لك، وهذه الفرس لك، وفرض له في تسعمائة، فلم يزل معه حتى قتل يوم صفين.
خبر زينب بنت حدير وتزويج شريح إياها
شريح يصح الشعبي بأن يتزوج من نساء بني تميم أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا أحمد بن زهير بن حرب ، قال: حدثنا أبو همام الوليد بن شجاع، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، وأبو محمد رجل ثقة، قال: حدثنا مجالد، عن الشعبي، قال: قال لي شريح: يا شعبي، عليكم بنساء بني تميم، فإذا امرأة جالسة في سقيفة على وسادة وتجاهها جارية رؤد - يعني التي قد بلغت - ولها ذؤابة على ظهرها جالسة على وسادة، فاستسقيت، فقالت لي: أي الشرب أعجب إليك: النبيذ، أم اللبن، أم الماء? قلت: أي ذلك يتيسر عليكم، قالت: اسقوا الرجل لبنا؛ فإني أخاله غريبا.
فلما شربت نظرت إلى الجارية فأعجبتني، فقلت: من هذه? قالت: ابنتي، قالت: وممن? قالت: زينب بنت حدير، إحدى نساء بني تميم، ثم إحدى نساء بني حنظلة، ثم إحدى نساء بني طهية، قلت: أفارغة أم مشغولة? قالت: بل فارغة، قلت: أتزوجينيها? قالت: نعم إن كنت كفيا، ولها عم فاقصده.
فانصرفت فامتنعت من القائلة، فأرسلت إلى إخواني القراء الأشراف: مسروق بن الأجدع، والمسيب بن نجبة، وسليمان بن صرد الخزاعي، وخالد بن عرفطة العذري، وعروة بن المغيرة بن شعبة، وأبي بردة بن أبي موسى، فوافيت معهم صلاة العصر، فإذا عمها جالس، فقال: يا أبا أمية، حاجتك? قلت: إليك، قال: وما هي? قلت: ذكرت لي بنت أخيك زينب بنت حدير، قال: ما بها عنك رغبة، ولا بك عنها مقصر، وإنك لنهزة.
فتكلمت فحمد الله جل ذكره، وصليت على النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت حاجتي، فرد الرجل علي وزوجني، وبارك القوم لي، ثم نهضنا.
فما بلغت منزلي حتى ندمت، فقلت: تزوجت إلى أغلظ العرب وأجفاها فهممت بطلاقها، ثم قلت: أجمعها إلي، فإن رأيت ما أحب وإلا طلقتها.
فأقمت أياما، ثم أقبل نساؤها يهادينها، فلما أجلست في البيت أخذت بناصيتها فبركت، وأخلى لي البيت، فقلت: يا هذه، إن من السنة إذا دخلت المرأة على الرجل أن يصلي ركعتين وتصلي ركعتين، ويسألا الله خير ليلتهما، ويتعوذا بالله من شرها. فقمت أصلي ثم التفت، فإذا هي خلفي فصليت، ثم التفت فإذا هي على فراشها، فممدت يدي، فقالت لي: على رسلك، فقلت: إحدى الدواهي منيت بها، فقالت: إن الحمد لله أحمده وأستعينه إني امرأة غريبة، ولا والله ما سرت مسيرا قط أشد علي منه، وأنت رجل غريب لا أعرف أخلاقك، فحدثني بما تحب فآتيه، وما تكره فأنزجر عنه. فقلت: الحمد لله وصلى الله على محمد، قدمت خير مقدم، قدمت على أهل دار زوجك سيد رجالهم، وأنت سيدة نسائهم، أحب كذا وأكره كذا.
قالت: أخبرني عن أختانك أتحب أن يزوروك? فقلت: إني رجل قاض، وما أحب أن تملوني.
أم زينب تسأله عن ابنتها فيثني عليها قال: فبت بأنعم ليلة، وأقمت عندها ثلاثا، ثم خرجت إلى مجلس القضاء، فكنت لا أرى يوما إلا هو أفضل من الذي قبله، حتى إذا كان عند رأس الحول دخلت منزلي، فإذا عجوز تأمر وتنهى، قلت: يا زينب، من هذه? فقالت: أمي فلانة. قلت: حياك الله بالسلام، قالت: أبا أمية كيف أنت وحالك? قلت: بخير أحمد الله، قالت: أبا أمية؛ كيف زوجك? قلت: كخير امرأة، قالت: إن المرأة لا ترى في حال أسوأ خلقا منها في حالين: إذا حظيت عند زوجها، وإذا ولدت غلاما؛ فإن رابك منها ريب فالسوط؛ فإن الرجال والله ما حازت إلى بيوتها شرا من الورهاء المتدللة.
قتل: أشهد أنها ابنتك، قد كفيتنا الرياضة، وأحسنت الأدب.
قال: فكانت في كل حول تأتينا فتذكر هذا، ثم تنصرف.
يعالج زينب من لسعة عقرب
صفحة : 1947
قال شريح: فما غضبت عليها قط إلا مرة كنت لها ظالما فيها؛ وذاك أني كنت أمام قومي فسمعت الإقامة، وقد ركعت ركعتي الفجر، فأبصرت عقربا، فعجلت عن قتلها، فأكفأت عليها الإنياء، فلما كنت عند الباب قلت: يا زينب لا تحركي الإناء حتى أجيء، فعجلت فحركت الإناء فضربتها العقرب، فجئت فإذا هي تلوى. فقتل: ما لك? قالت: لسعتني العقرب. فلو رأيتني يا شعبي وأنا أعرك أصبعها بالماء والملح، وأقرأ عليها لامعوذتين وفاتحة الكتاب.
كان له جار يضرب امرأته فقال
وكان لي يا شعبي جار يقال له ميسرة بن عرير من الحي، فكان لا يزال يضرب امرأته، فقلت:
رأيت رجالا يضربون نساءهم فشلت يميني يوم أضرب زينبا يا شعبي، فوددت أني قاسمتها عيشي.
ومما يغنى فيه من الأشعار التي قالها شريح في امرأته زينب:
رأيت رجالا يضربون نساءهـم فشلت يميني يوم أضرب زينبا
أأضربها في غير جرم أتت به إلي، فما عذري إذا كنت مذنبا
فتاة تزين الحلي إن هي حليت كأن بفيها المسك خالط محلبـا والغناء ليونس الكاتب من كتابه غير مجنس.
صوت
أمن رسم دار مربع ومصـيف لعينك من ماء الشؤون وكـيف
تذكرت فيها الجهل حتى تبادرت دموعي وأصحابي علي وقوف عروضه من مصرع الطويل. الشعر للحطيئة من قصيدة يمدح بها سعيد بن العاص لما ولى الكوفة لعثمان. والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو.
أخبار الحطيئة مع سعيد بن العاص
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، عن أبيه، قال: لقيني إياس بن الحطيئة، فقال لي: يا أبا عثمان، مات أبي، وفي كسر بيته عشرون ألفا أعطاه إياه أبوك، وقال فيه خمس قصائد، فذهب والله ما أعطيتمونا وبقي ما أعطيناكم، فقلت: صدقت والله.
شعره في مدح سعيد بن العاص
قال أبو زيد: فمما قال فيه قوله:
أمن رسم دار مـربـع ومـصـيف لعينك من مـاء الـشـؤون وكـيف
إليك سعيد الخير جبت مـهـامـهـا يقـابـلـنـي آل بـهـا وتـنـوف
ولولا أصيل اللب غـض شـبـابـه كريم لأيام الـمـنـون عـــروف
إذا هم بالأعـداء لـم يثـن هـمـه كعاب علـيهـا لـؤلـؤ وشـنـوف
حصان لها في البـيت زي وبـهـجة ومشي كما تمشي القطاة قـطـوف
ولو شاء وارى الشمس من دون وجهه حجاب ومطوي الـسـراة مـنـيف ينشد شعرا لأبي الإيادي وعبيد
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، وأحمد بن عبد العزيز الجوهري، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي، عن خالد بن سعيد بن العاص، عن أبيه، قال: كان سعيد بن العاص في المدينة زمن معاوية، وكان يعشي الناس، فإذا فرغ من العشاء قال الآذن: أجيزوا إلا من كان من أهل سمره. قال: فدخل الحطيئة فتعشى مع الناس، ثم أقبل فقال الآذن: أجيزوا، حتى انتهى إلى الحطيئة، فقال: أجز، فأبى، فأعاد عليه فأبى، فلما رأى سعيد إباءه قال: دعه، وأخذ في الشعر والحطيئة مطرق لا ينطق، فقال الحطيئة: والله ما أصبتم جيد الشعر، ولا شاعر الشعراء. قال سعيد: من أشعر العرب يا هذا? فقال: الذي يقول:
لا أعد الإقتار عدما ولـكـن فقد من قد رزئته الإعـدام
من رجال من الأقارب بانوا من جذام هم الرؤوس الكرام
سلط الموت والمنون عليهـم فلهم في صوى المقابر هام
وكذاكم سبـيل كـل أنـاس سوف حقا تبـلـيهـم الأيام قال: ويحك من يقول هذا الشعر? قال: أبو داود الإيادي، قال: أو ترويه? قال: نعم، قال: فأنشدنيه، فأنشده الشعر كله، قال: ومن الثاني? قال: الذي يقول :
أفلح بما شئت فقد يبلغ بالض عف وقـد يخـدع الأريب
صفحة : 1948
قال: ومن يقول هذا? قال: عبيد، قال: أو ترويه? قال: نعم، فأنشدنيه، فأنشده، ثم قال له: ثم من? قال: والله لحسبك بي عند رهبة أو رغبة، إذا وضعت إحدى رجلي على الأخرى، ثم رفعت عقيرتي بالشعر، ثم عويت على أثر القوافي عواء الفيصل الصادر عن الماء.
قال: ومن أنت? قال: الحطيئة، قال: ويحك قد علمت تشوقنا إلى مجلسك، وأنت تكتمنا نفسك منذ اللية قال: نعم لمكان هذين الكلبين عندك، وكان عنده كعب بن جعيل، وأخوه. وكان عنده سويد بن مشنوء النهدي، حليف بني عدي بن جناب الكلبيين، فأنشده الحطيئة قوله :
ألست بجاعلي كابني جعيل هداك الله أو كابني جنـاب
أدب فلا اقدر أن تـرانـي ودونك بالمدينة ألف بـاب
وأحبس بالعراء المحل بيتي ودونك عازب ضخم الذباب العازب: الكلأ الذي لم يرع، وقد التف نبته.
فقال له سعيد: لعمر الله لأنت أشعر عندي منهم، فأنشدني، فأنشده :
سعيد وما يفعل سعيد فـإنـه نجيب فلاه في الرباط نجيب
سعيد فلا يغررك قلة لحمـه تخدد عنه اللحم فهو صليب ويروى: خفة لحمه.
إذا غاب عنا غاب عنا ربيعنـا ونسقى الغمام الغر حين يؤوب
فنعم الفتى تعشو إلى ضوء ناره إذا الريح هبت والمكان جديب فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم عاد فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
أمن رسم دار مربع ومصيف يقول فيها:
إذا هم بالأعداء لم يئن عزمه كعاب عليها لؤلؤ وشنـوف فأعطاه عشر آلاف أخرى.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة بهذا الحديث نحو ما رواه خالد بن سعيد، وزاد فيه: فانتهى الشرط إلى الحطيئة فرأوه أعرابيا قبيح الوجه، كبير السن، سيىء الحال، رث الهيئة، فأرادوا أن يقيموه، فأبى أن يقوم، وحانت من سعيد التفاتة، فقال: دعوا الرجل، وباقي الخبر مثله.
خالد بن سعيد يأمر له بكسوة وحملان
قال أبو عبيدة في هذا الخبر: وأخبرني رجل من بني كنانة، قال: أقبل الحطيئة في ركب من بني عبس، حتى قدم المدينة، فأقام مدة، ثم قال له من في رفقته: إنا قد أرذينا وأخلينا، فلو تقدمت إلى رجل شريف من أهل هذه القرية فقرانا وحملنا. فأتى خالد بن سعيد بن العاص، فسأله فاعتذر إليه، وقال: ما عندي شيء فلم يعد عليه الكلام، وخرج من عنده، فارتاب به خالد، فبعث يسأل عنه، فأخبر أنه الحطيئة، فرده. فأقبل الحطيئة، فقعد لا يتكلم، فأراد خالد أن يستفتحه الكلام، فقال: من أشعر الناس? فقال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الـشـتـم يشـتـم فقال خالد لبعض جلسائه: هذه بعض عقاربه، وأمر بكسوة وحملان، فخرج بذلك من عنده.
صوت
حبذا ليلتي بتـل بـونـى حين نسقى شرابنا ونغنى
إذ رأينا جواريا عطـرات وغناء وقرقفا فنـزلـنـا
ما لهم لا يبارك الله فيهـم إذ يسألون: ويحنا ما فعلنا عروضه الضرب الأول من الخفيف. الشعر لمالك بن أسماء بن خارجة، والغناء لحنين، رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبار مالك بن أسماء بن خارجة ونسبه
نسبه
هو مالك بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري، وقد مضى هذا النسب في أخبار عويف القوافي، وقد مضت أخباره، وذكر هذا البيت من فزارة وشرفه فيها وسائر قصصه هناك.
الحجاج يتزوج أخته هندا ويوليه أصبهان
ثم يأمر بحبسه لخيانة ظهرت عليه وكان الحجاج بن يوسف ولى مالك بن أسماء بعد أن تزوج أخته هندا بأصبهان، بعد حبس طويل في خيانة ظهرت عليه، ثم خلاه بعد ذلك، وطالت أيامه بأصبهان، فظهرت عليه خيانة أخرى، فحبسه وناله بكل مكروه.
أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن عيسى بن موسى، قال: حدثني هشام بن محمد الهلالي، قال:
صفحة : 1949
اختلف الحجاج وهند بنت أسماء زوجته في وقعة بنات قين، فبعث إلى مالك بن أسماء بن خارجة ، فأخرجه من السجن، وكان محبوسا بمال عليه للحجاج، فسأله عن الحديث فحدثه به، ثم أقبل على هند فقال: قومي إلى أخيك، فقالت: لا أقوم إليه، وأنت ساخط عليه. فأقبل الحجاج عليه، فقال: إنك والله ما علمت للخائن أمانته، اللئيم حسبه، الزاني فرجه، فقال: إن أذن الأمير تكلمت، قال: قل، قال: أما قول الأمير الزاني فرجه، فوالله لأنا أحقر عند الله عز وجل وأصغر في عين الأمير من أن يجب لله علي حد فلا يقيمه، وأما قوله: اللئيم حسبه، فوالله لو علم الأمير مكان رجل أشرف مني لم يصاهرني، وأما قوله: إني خؤون، فلقد ائتمنني فوفرت، فأخذني بما أخذني به، فبعت ما كان وراء ظهري، ولو ملكت الدنيا بأسرها لافتديت بها من مثل هذا الكلام.
قال: فنهض الحجاج، وقال: شأنك يا هند بأخيك.
قال مالك بن أسماء: فوثبت هند إلي فأكبت علي، ودعت بالجواري، ونزعت عني حديدي، وأمرت بي إلى الحمام، وكستني، وانصرفت.
فلبثت أياما، ثم دخلت على الحجاج وبين يديه عهود، وفيها عهدي على أصبهان. قال: خذ هذا العهد، وامض إلى عملك، فأخذته ونهضت. قال: وهي ولايته التي عزله عنها، وبلغ به ما بلغ من الشر.
قال أبو زيد: ويقال إنه كان في الحبس في الدفعة الثانية مضيقا عليه في كل أحواله، حتى كان يشاب له الماء الذي كان يشربه بالرماد والملح، فاشتاق الحجاج إلى حديثه يوما، فأرسل إليه، فأحضر، فبينا هو يحدثه إذ استسقى ماء فأتي به، فلما نظر إليه الحجاج قال: لا، هات ماء السجن، فأتي به وقد خلط بالملح والرماد، فسقيه.
قال: ويقال: إنه هرب من الحبس ، فلم يزل متواريا حتى مات الحجاج.
يكتب إليه أبيه أن يشفع له عند الحجاج
قال: وكتب إليه بعض أهله أن يمضي إلى الشام فيستجير ببعض بني أمية حتى يأمن، ثم يعود إلى مصره.
وقد كان خالد بن عتاب الرياحي فعل ذلك، واستجار بزفر بن الحارث الكلابي، فأجاره، فراجعه عبد الملك في أمره، ثم أجاره، فكتب مالك إلى أبيه يسأله أن يدخل إلى الحجاج ويسأله في أمره، فقال أسماء في ذلك:
أبني فزارة لا تعنوا شيخـكـم ما لي وما لزيارة الحـجـاج
شبهته شبهلا غـداة لـقـيتـه يلقي الرؤوس شواخب الأوداج
تجري الدماء على النطاع كأنها راح شمول غير ذات مـزاج
لا تطلبوا حاجـا إلـيه فـإنـه بئس المؤمل في طلاب الحاج
يا ليت هندا أصبحت مرمـوسة أو ليتها جلست عـن الأزواج خالد بن عتاب والحجاج يتسابان
قال أبو زيد: فأما خبر خالد بن عتاب الرياحي، فإن الحجاج كان استعمله على الري، وكانت أمه أم ولد، فكتب إليه الحجاج يلخن أمه، ويقول يابن اللخناء ، أنت الذي هربت عن أبيك حتى قتل، وقد كان حلف ألا يسب أحد أمه إلا أجابه كائنا من كان.
فكتب إليه خالد: كتبت إلي تلخنني، وتزعم أني فررت عن أبي حين قتل، ولعمري لقد فررت عنه، ولكن بعد أن قتل، وحين لم أجد لي مقاتلا، ولكن أخبرني عنك يابن اللخناء المستفرمة بعجم زبيب الطائفن حين فررت أنت وأبوك يوم الحرة على جمل ثفال ، أيكما كان أمام صاحبه، فقرأ الحجاج الكتاب، وقال: صدق:
أنا الذي فررت يوم الحره ثم ثنيت كـرة بـفـره
والشيخ لا يفر إلا مره ثم طلبه، وهرب إلى الشام، وسلم بيت المال ولم يأخذ منه شيئا.
خالد بن عتاب يستجير بروح بن زنباع فلا يجيره، ويجيره زفر بن الحارث وكتب الحجاج إلى عبد الملك بما كان منه، وقدم خالد الشام، فسأل عن خاصة عبد الملك، فقيل له: روح بن زنباع، فأتاه حين طلعت الشمس، فقال: إني جئتك مستجيرا، فقال: إنني قد أجرتك إلا أن تكون خالدا، قال: فإني خالد، فتغير وقال: أنشدك الله إلا خرجت عني؛ فإني لا آمن عبد الملك، فقال: أنظرني حتى تغرب الشمس. فجعل روح يراعيها حتى خرج خالد.
فأتى زفر بن الحارث الكلابي فقال: إني جئتك مستجيرا، قال: قد أجرتك، قال: أنا خالد بن عتاب، قال: وإن كنت خالدا.
صفحة : 1950
فلما أصبح دعا ابنين له فتهادى بينهما وقد أسن، فدخل على عبد الملك وقد أذن للناس، فلما رآه دعا له بكرسي، فجعل عند فراشه، فجلس، ثم قال: يا أمير المؤمنين، إني قد أجرت عليك رجلا، فأجره، قال: قد أجرته إلا أن يكون خالدا، قال: فهو خالد، قال: لا، ولا كرامة، فقال زفر لابنيه: أنهضاني.
فلما ولى قال: يا عبد الملك، أما والله لو كنت تعلم أن يدي تطيق حمل القناة ورأس الجواد لأجرت من أجرت، فضحك، وقال: يا أبا الهذيل، قد أجرناه، فلا أرينه. وأرسل إلى خالد بألفي درهم، فأخذها، ودفع إلى رسوله أربعة آلاف درهم.
رجع الخبر إلى حديث مالك بن أسماء
مالك وأخوه عيينة يعشقان جارية لأختهما هند
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: أخبرنا محمد بن يزيد النحوي، وأخبرنا إبراهيم بن محمد بن أيوب، قال: حدثنا عبد الله بن مسلم، قالا: عشق مالك بن أسماء جارية لأخته هند، وعشقها أخوه عيينة بن أسماء بن خارجة، فاستعان بأخيها مالك، وهو لا يعلم ما يجد بها، يشكو إليها حبها، فقال مالك :
أعيين هلا إذ كلفـت بـهـا كنت استغثت بفارغ العقـل
أرسلت تبغي الغوث من قبلي والمستغاث إليه في شغـل مالك يعشق جارية من بني أسد
قال ابن قتيبة خاصة: وهوي مالك بن أسماء جارية من بني أسد، وكانت تنزل دارا من قصب، وكانت دار مالك في بني أسد دارا سرية مبنية بالجص والآجر فقال:
يا ليت لي خصا يجاورها بدلا بداري في بني أسد
الخص فيه تقر أعينـنـا خير من الآجر والكمـد ينشد عمر بن أبي ربيعة بعض شعره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي ويعقوب بن عيسى، وأخبرني علي بن صالح بن الهيثم، قال: حدثنا أبو هفان عن إسحاق الموصلي، عن الزبير: أن عمر بن أبي ربيعة رأى مالك بن أسماء. قال أبو هفان في خبره: وهو يطوف بالبيت، وقد بهرالناس جماله وكماله، فأعجب عمر ما رأى منه، فسأل عنه فعرفه، فعانقه وسلم عليه وقال له: أنت أخي حقا، فقال له مالك: ومن أنا ومن أنت? فقال: أما أنا فستعرفني، وأما أنت فالذي تقول:
إن لي عند كل نفحة بسـتـا ن من الورد أو من الياسمينا
نظرا والتـفـاتة أتـرجـى أن تكوني حللت فيما يلينـا غنت فيه علية بنت المهدي خفيف رمل بالوسطى.
وقال أبو هفان في حديثه: قال له عمر: مازلت أحبك منذ سمعت هذا الشعر لك، فقال له مالك: أنت عمر بن أبي ربيعة، قال: نعم. قال الزبير في خبره خاصة: وحدثني ابن أبي كناسة: أن عمر لما لقي مالكا استنشده، فأنشده مالك شيئا من شعره، فقال له عمر: ما أحسن شعرك لولا أسماء القرى التي تذكرها فيه، قال: مثل ماذا? قال: مثل قولك:
إن في الرفقة التي شيعتنا بجوير سما لزين الرفاق ومثل قولك:
أشهدتنا أم كنت غـائبة عن ليلتي بحديثة القسب ومثل قولك:
حبذا ليلتي بتـل بـونـى حين نسقى شرابنا ونغني فقال له مالك: هي قرى البلد الذي أنا فيه، وهو مثل ما تذكره في شعرك من أرض بلادك، قال: مثل ماذا? قال: مثل قولك :
حي المنازل قد دثرن خرابا بين الجوين وبين ركن كسابا ومثل قولك:
ما على الرسم بالبليين لو بي ن رجع السلام أولو أجابـا فأمسك عنه عمر بن أبي ربيعة.
ومالك بن أسماء الذي يقول :
وحـديث ألـذه هـو مـمـا ينعت الناعتون يوزن وزنـا
منطق صائب وتلحـن أحـيا نا وأحلى الحديث ما كان لحنا أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم، قال:
صفحة : 1951
حدثني أبي، قلت للجاحظ: إني قرأت في فصل من كتابك المسمى بكتاب البيان والتبيين : إنما يستحسن من النساء اللحن في الكلام، واستشهدت ببيتي مالك بن أسماء - يعني هذين البيتين - قال: هو كذاك، فقال: أما سمعت بخبر هند ابنة أسماء بن خارجة مع الحجاج حين لحنت في كلامها، فعاب ذلك عليها، فاحتجت ببيتي أخيها، فقال لها: إن أخاك أراد أن المرأة فطنة، فهي تلحن بالكلام إلى غير الظاهر بالمعنى لتستر معناه، وتورى عنه، وتفهمه من أرادت بالتعريض، كما قال الله عز وجل : )ولتعرفنهم في لحن القول( ولم يرد الخطأ من الكلام، والخطأ لا يستحسن من أحد. فوجم الجاحظ ساعة، ثم قال: لو سقط إلي هذا الخبر أولا لما قلت ما تقدم، فقلت له: فأصلحه، فقال: الآن وقد سار به الكتاب في الآفاق، وهذا لا يصلح، أو كلاما نحو ما ذكرنا، فإن أبا أحمد أخبرنا به على سبيل المذاكرة فحفظته عنه.
المتوكل يطلب أن يبتاع له تل بوني
أخبرني الحسين بن يحيى، وجعفر بن قدامة، قالا: قال حماد: حدثني أحمد بن داود السدي، قال: ورد علي كتاب أمير المؤمنين المتوكل، وأنا على سواد الكوفة: أن ابتع لي تل بونى بما بغت، فابتعتها له، فإذا قرية صغيرة على تل، قد خرب ما حواليها من الضياع، فابتعتها له بعشرة آلاف درهم، قال: فظننته حركه على طلبها أنه غني:
حبذا ليلتي بتل بونى فسألت عن ذلك، فعرفت أن جاريته مكتومة غنته هذا الصوت.
قال حماد: ومكتومة هذه جارية أهداها أبي إليه لما ولى الخلافة، فإنه سأل عنه، فعرف أنه قد كف بصره، فكتب له بمائة ألف درهم، وأمر بإشخاصه إليه مركما، فأشخص إليه، وأهدى إليه عدة جوار هذه فيهن.
الحجاج يعاتب مالكا ويستتيبه وروى الهيثم بن عدي ابن عياش أن الحجاج دعا يوما بمالك بن أسماء، فعاتبه عتابا طويلا، ثم قال له: أنت والله كما قال أخو بني جعدة :
إذا ما سوأة غراء ماتـت أتيت بسوءة أخرى بهـيم
وما تنفك ترحص كل يوم من السوآت كالطفل النهيم
أكل الدهر سعيك في تباب تناغي كل مومـسة أثـيم فقال له: لست كما قال الجعدي، ولكني كما قلت:
لكل جواد عثرة يسـتـقـيلـهـا وعثرة مثلي لا تقال مدى الدهـر
فهبنى يا حجاج أخـطـأت مـرة وجرت عن المثلى وغنيت بالشعر
فهل لي إذا ما تبت عنـدك تـوبة تدارك ما قد فات في سالف العمر فقال له الحجاج: بلى والله، لئن تبت لأقبلن توبتك ولأعفين على ما كان من ذنبك ومن لي بذلك يا مالك? قال له: لك الله به، قال: حسبي الله ونعم الوكيل، فانظر ما تقول، قال: الحق أصلحك الله لا يخفى على أحد.
مالك يعود إلى الشراب
قال: فترك مالك الشراب، ووفى بعهده وأظهر النسك، ثم طما به الشعر، وطال عليه ترك اللذات والشراب، فقال:
وندمان صدق قال لي بـعـد هـدأة من الليل: قم نشرب، فقلت له: مهلا
فقال: أبخلا يابن أسمـاء هـاكـهـا كميتا كريم المسك تزدهف العقـلا
فتابعـتـه فـيمـا أراد ولـم أكـن بخيلا على الندمان أو شكسا وغـلا
ولكنني جلد القـوى أبـذل الـنـدى وأشرب ما أعطى ولا أقبل العـذلا
ضحوك إذا ما دبت الكأس في الفتى وغيره سكر وإن أكثر الـجـهـلا قال: فبلغ الحجاج أن مالكا قد راجع الشراب، فقال: لا يأتي مالك بخير سجيس الأوجس ، قاتل الله أيمن بن خريم حيث يقول:
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن له دون ما يأتي حجاب ولا ستر
فدعه وما يأتي ولا تعـذلـنـه وإن مد أسباب الحياة له العمر وأنشدنا علي بن سليمان الأخفش أبيات أيمن هذه الرائية، وقال: أخذ معناها من قول ابن عباس: إذا بلغ المرء أربعين سنة ولم يتب أخذ إبليس بناصيته، وقال: حبذا من لا يفلح أبدا. وأول الأبيات هذه:
وصهباء جرجانية لم يطف بـهـا حنيف ولم تنغر بها سـاعة قـدر
ولم يشهد القس المهينـم نـارهـا طروفا ولا صلى على طبخها حبر
أتاني بها يحيى وقد نـمـت نـومة وقد غابت الجوزاء وانحدر النسر
صفحة : 1952
فقلت: اصطبحها أو لغيري سقها فما أنا بعد الشيب ويحج والخمر
إذا المرء وفى الأربعين ولم يكن له دون ما يأتي حجاب ولا ستر
فدعه ولا تنفس عليه الذي أتـى ولو مد أسباب الحياة له العمـر
صوت
تلك عرسي تروم هجري سفاها وجفتني فما توافي عـنـاقـي
زعمت أنها تواتي مـع الـمـا ل وأنى محـالـف إمـلاقـي
وتنـاسـت رزية بـدمـشـق أشخصت مهجتي فويق التراقي
يوم نلقى نعش ابن عروة مـح مولا بأيدي الرجال والأعنـاق
مستحثا به سباقا إلـى الـقـب ر وما إن لحثهم من سـبـاق
ثم وليت موجعا قد شـجـانـي قرب عهد بهم وبـعـد تـلاق عروضه من الخفيف . الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي يرثي محمد بن عروة بن الزبير. والغناء لدحمان، خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيه لابن محرز ثقيل أول بالبنصر عن حبش.
من أخبار عروة بن الزبير
غضبه لوقوع قوم في أخيه
عبد الله بمجلس عبد الملك بن مروان
أخبرنا الطوسي والحرمي بن أبي العلاء، قالا: حدثنا الزبير، قال: حدثنا مصعب بن عثمان، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة، قال: قدم عروة بن الزبير على عبد الملك بن مروان، فدخل فأجلسه معه على السرير، فجاء قوم فوقعوا في عبد الله بن الزبير، فخرج عروة فقال للآذن: إن عبد الله بن الزبير ابن أمي وأمبي، فإذا أردتم أن تقعوا فيه فلا تأذنوا لي عليكم.
فذكر ذلك لعبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: قد أخبرني الآذن بما قلت، وإن أخاكم لم يكن قتلنا إياه لعداوة، ولكنه طلب أمرا وطلبناه فقتل دونه، وإن الشام قوم من أخلاقهم ألا يقتلوا أحدا إلا شتموه، فإذا أذنا لأحد قبل فقد جاء من يشتمه فلا تدخل، وإذا أنا لأحد وأنت جالس فانصرف.
قدومه على الوليد حين شلت رجله
ثم قدم عروة على الوليد بن عبد الملك حين شلت رجله، فقيل له: اقطعها، قال: إني لأكره أن أقطع مني طابقا، فارتفعت إلى الركبة، فقيل له: إنها إن وقعت في الركبة قتلتك، فقطعت، ولم يقبض وجهه. وقيل له قبل أن يقطعها: نسقيك دواء لا تجد معه ألما، فقال: ما يسعني أن هذا الحائط وقاني أذاها.
مقتل ابنه محمد
قال الزبير: وحدثني مصعب بن عثمان بن عامر، عن صالح، عن هشام بن عروة، قال: سقط محمد بن عروة بن الزبير - وأمه بنت الحكم بن أبي العاص بن أمية - من سطح في اصطبل دواب الوليد بن عبد الملك، فضربته بقوائمها حتى قتلته، فأتى عروة رجل يعزيه، فقال عروة: إن كنت تعزيني برجلي فقد احتسبتها، فقال: بل أعزيك بمحمد، قال: وما له? فخبره بشأنه؛ فقال :
وكنت إذا الأيام أحدثـن نـكـبة أقول شوى ما لم يصبن صميمي اللهم أخذت عضوا وتركت أعضاء، وأخذت ابنا وتركت أبناء، فإنك إن كنت أخذت لقد أبقيت، وإن كنت ابتليت لقد عافيت.
فلما قدم المدينة نزل قصره بالعقيق، فأتاه ابن المنكدر، وقال: كيف كنت? فقال: )لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا( .
عيسى بن طلحة يعزيه أكرم عزاء قال الزبير: وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز، عن ابن الماجشون: أن عيسى بن طلحة جاء إلى عروة بن الزبير حين قدم من عند الوليد بن عبد الملك، وقد قطعت رجله، فقال عروة لبعض بنيه: اكشف لعمك عن رجلي ينظر إليها، ففعل، فقال له عيسى: إنا لله وإنا إليه راجعون، يا أبا عبد الله، ما أعددناك للصراع ولا للسباق، ولقد أبقى الله لنا منك ما كنا نحتاج إليه منك: رأيك وعلمك. فقال عروة: ما عزاني أحد عن رجلي مثلك.
الوليد بن عبد الملك يبعث إليه بمن هو أعظم بلاء منه قال الزبير: وحدثني مصعب بن عثمان، عن عامر بن صالح، عن هشام بن عروة:
صفحة : 1953
أنه قدم على الوليد رجل من عبس ضرير محطوم الوجه، فسأله عن سبب ذلك، فقال: بت ليلة في بطن واد، ولا أعلم في الأرض عبسيا يزيد ماله على مالي، فطرقنا سيل، فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد إلا صبيا مولودا وبعيرا ضعيفا، فند البعير والصبي معي، فوضعته، واتبعت البعير، فما جاوزت ابني قليلا إلا ورأس الذئب في بطنه، فتركته، واتبعت البعير، فرمحني رمحة حطم بها وجهي، وأذهب عيني، فأصبحت لا ذا لامال ولا ذا ولد ولا ذا بصر.
فقال الوليد بن عبد الملك: اذهبوا به إلى عروة ليعلم أن في الناس من هو أعظم بلاء منه.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، وعمر بن عبد العزيز بن أحمد ، ومحمد بن العباس اليزيدي، وجماعة أخبروني قالوا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي، عن جدي، عن هشام بن عروة قال: خرجت مع أبي عروة بن الزبير حاجا، ومعنا أخي محمد بن عروة، وكان من أحسن الناس وجها، فلما كنا في بعض الطريق إذا نحن بعمر بن أبي ربيعة يكلم بعضنا، فقلنا: هذا أبو الخطاب لو سايرناه، فرآنا عروة، فقال: فيم أنتم? قلنا: هذا عمر بن أبي ربيعة، فضرب عروة إليه راحلته، فلما رآها عمر عدل إليه فسلم عليه، ثم قال: وأين زين المواكب? - يعني محمد بن عروة - فقال: قد تقدم، فعدل عن عروة واتبع محمدا، فقال له عروة: نحن أكفى لك وأولى أن تسايرنا، فقال: إني رجل موكل بالجمال أتبعه حيث كان، وضرب راحلته ومضى.
صوت
يا بني الصيداء ردوا فرسي إنما يفعل هذا بـالـذلـيل
عودوا مهري الذي عودتـه دلج الليل وإبطاء القـتـيل
واستباء الزق من حانـاتـه شائل الرجلين معصوبا يميل عروضه من ثاني الرمل.
بنو الصيداء: بطن من بني أسد. والدلج: السير في آخر الليل، يقال: دلج يدلج - مخففة - إذا سار من آخر الليل، وادلج يدلج، إذا سار الليل كله. واستباء الزق، أراد استباء الخمر فيه؛ أي ابتاعها من حاناتها. والحانات: جمع حانة، وهي الموضع الذي تباع فيه الخمر. وشائل الرجلين: رافعهما.
وروى الأصمعي وأبو عمرو:
أحمل الزق على منسجـه فيظل الضيف نشوانا يميل الشعر لزيد الخيل الطائي. والغناء لابن محرز، خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، عن يحيى المكي. وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد، وفيه لعاذل لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس، وذكر حبش أن فيه لنبيه لحنا من الثقيل الثاني بالوسطى.
أخبار زيد الخيل ونسبه
نسبه
هو زيد بن مهلهل بن يزيد بن منهب بن عبد رضا - ورضا: صنم كان لطيىء - ابن محلس بن ثور بن عدي بن كنانة بن مالك بن نائل بن نبهان، - وهو أسود بن عمرو بن الغوث بن جلهمة - وهو طيىء؛ سمي بذلك لأنه كان يطوى المناهل في غزواته - ابن أدد بن مذحج بن زيد بن يشجب الأصفر بن عريب بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن عابر، وهو هود النبي صلى الله عليه وسلم. كذا نسبه النسابون، والله أعلم.
وأم طيىء مدلة بنت ذي منحسان بن عريب بن الغوث بن زهير بن وائل بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ومدلة هذه هي مذحج، وهو لقبها، وهي أم مالك بن أدد، وكانت مدلة عند أدد أيضا، فولدت له الأشعر واسمه نبت، ومرة، ابني أدد. ومن الناس من يقول مذحج ظرب صغير اجتمعوا عليه، وليس بأم ولا أب، والله أعلم.
سماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير
وكان زيد الخيل فارسا مغوارا مظفرا شجاعا بعيد الصيت في الجاهلية، وأدرك الإسلام ووفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولقيه وسر به وقرظه، وسماه زيد الخير.
شاعر فارس
وهو شاعر مقل مخضرم معدود في الشعراء والفرسان، وإنما كان يقول الشعر في غاراته ومفاخراته ومغازيه وأياديه عند من مر عليه وأحسن في قراه إليه .
سبب تسميته زيد الخيل
وإنما سمي زيد الخيل لكثرة خيله، وأنه لم يكن لأحد من قومه ولا لكثير من العرب إلا الفرس والفرسان، وكانت له خيل كثيرة، منها المسماة المعروفة التي ذكرها في شعره وهي ستة، وهي: الهطال، ولاكميت، والورد، وكامل، ودؤول ، ولاحق.
قال شعرا في خيله وفي الهطال يقول:
أقرب مربط الهطال إنـي أرى حربا ستلقح عن حيال
صفحة : 1954
وفي الورد يقول:
أبت عادة للورد أن يكره القنـا وحاجة نفسي في نمير وعامر وفي دؤول يقول:
فاقسم لا يفارقـنـي دؤول أجول به إذا كثر الضراب هذا ما حضرني من تسمية خيله في شعره، وقد ذكرها.
له ثلاثة بنين شعراء
وكان لزيد الخيل ثلاثة بنين كلهم يقول الشعر، وهم عروة، وحريث، ومهلهل. ومن الناس من ينكر أن يكون له من الولد إلا عروة وحريث.
وهذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله في فرس من خيله ظلع في بعض غزواته بني أسد، فلم يتبع الخيل ووقف، فأخذته بنو الصيداء، فصلح عندهم واستقل.
وقيل: بل أغزى عليه بعض بني نبهان، فنكس عنه وأخذ. وقيل: إنه خلفه في بعض أحياء العرب ظالعاص ليستقل، فأغارت عليهم بنو أسد، فأخذوا الفرس فيما استاقوه لهم، فقال في ذلك زيد الخيل:
يا بني الصيداء ردوا فرسـي إنما يفعل هـذا بـالـذلـيل
لا تذيلوه فـإنـي لـم أكـن يا بني الصيدا لمهري بالمذيل
عودوه كـالـذي عـودتــه دلج الليل وإبطاء الـقـتـيل
أحمل الزق على منـسـجـه فيظل الضيف نشواناص يميل قال أبو عمرو الشيباني: وكان زيد الخيل ملحا على بني أسد بغاراته، ثم على بني الصيداء منهم، ففيهم يقول :
ضجت بنو الصيداء من حربنا والحرب من يحلل بها يضجر
بتنا نرجي نحوهـم ضـمـرا معروفة الأنساب من منسـر
حتى صبحناهم بـهـا غـدوة نقتلهم قسرا علـى ضـمـر
يدعون بالويل وقد مـسـهـم منا غداة الشعب ذي الهيشـر
ضرب يزيل الهام ذو مصدق يعلو على البيضة والمغفـر الهيشر: شجر كثير الشوك تأكله الإبل.
نسخت من كتاب لأبي المحلم، قال: حدثني أضبط بن الملوح، قال لي أبي: أنشد حبيب بن خالد بن نضلة الفقعسي قول زيد الخيل:
عودوا مهري الذي عودته فضحك ثم قال: قولوا له: إن عودناه ما عودته دفعناه إلى أول من يلقانا، وهربنا.
وفد على النبي في جماعة من طيىء
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة، قال: حدثني علي بن حرب، قال: أنبأني هشام بن الكلبي أبو المنذر، قال: حدثني عباد بن عبد الله النبهاني عن أبيه عن جده، وأضفت إلى ذلك ما رواه أبو عمرو الشيباني، قالا: وفد زيد الخيل بن مهلهل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعه وزر بن سدوس النبهاني، وقبيصة بن الأسود بن عامر بن جوين الجرمي ، ومالك بن جبير المغني، وقعين بن خليل الطريفي، في عدة من طيىء، فأناخوا ركابهم بباب المسجد، ودخلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فلما رآهم قال: إني خير لكم من العزى، ومما حازت مناع من كل ضار غير يفاع، ومن الجبل الأسود الذي تعبدونه من دون الله عز وجل.
قال أبو المنذر: يعني بمناع : جبل طيىء.
إسلامه
فقام زيد، وكان من أجمل الرجال وأتمهم، وكان يركب الفرس المشرف ورجلاه تخطان الأرض كأنه على حمار، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك محمد رسول الله. قال: ومن أنت? قال: أنا زيد الخيل بن مهلهل. فقال رسول الله: بل أنت زيد الخير، وقال: الحمد لله الذي جاء بك من سهلك وجبلك، ورقق قلبك على الإسلام، يا زيد، ما وصف لي رجل قط فرأيته إلا كان دون ما وصف به إلا أنت؛ فإنك فوق ما قيل فيك.
أصابته الحمى ومات بها
فلما ولى قام النبي صلى الله عليه وسلم: أي رجل إن سلم من آطام المدينة فأخذته الحمى، فأنشأ يقول:
أنخت بـآطـام الـمـدينة أربـعـا وخمسا يغني فوقها الـلـيل طـائر
شددت عليها رحلهـا وشـلـيلـهـا من الدرس والشعراء والبطن ضامر فمكث سبعا، ثم اشتدت الحمى به فخرج، فقال لأصحابه: جنبوني بلاد قيس؛ فقد كان بيننا حماسات في الجاهلية، ولا والله لا أقاتل مسلما حتى ألقى الله. فنزل بماء لحي من طيىء يقال له فردة، واشتدت به الحمى، فأنشأ يقول:
أمرتحل صحبي المشارق غدوة وأترك في بيت بفردة منجـد
سقى الله ما بين القفيل فطـابة فما دون أرمام فما فوق منشد
هنالك لو أني مرضت لعادنـي عوائد من لم يشف منهن يجهد
صفحة : 1955
فليت اللواتي عدنني لم يعدنني وليت اللواتي غبن عني عودي قال: وكتب معه رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني نبهان بفيدك كتابا مفردا، وقال له: أنت زيد الخير، فمكث بالفردة سبعة أيام ثم مات. فأقام عليه قبيصة بن الأسود المناحة سبعا، ثم بعث راحلته ورحله، وفيه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظرت امرأته - وكانت على الشرك - إلى الراحلة ليس عليها زيد ضربتها بالنار وقالت:
ألا إنما زيد لكـل عـظـيمة إذا أقبلت أوب الجراد رعالها
لقاهم فما طاشت يداه بضربهم ولا طعنهم حتى تولى سجالها قال: فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه ضرب امرأة زيد الراحلة بالنار، واحتراق الكتاب، قال: بؤسا لبني نبهان.
وقال ابو عمرو الشيباني: لما وفد زيد الخيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل إليه، طرح له متكأ فأعظم أن يتكىء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرد المتكأ، فأعاده عليه ثلاثا، وعلمه دعوات كان يدعو بها فيعرف الإجابة، ويستسقى فيسقى، وقال: يا رسول الله، أعطني ثلاثمائة فارس أغير بهم على قصور الروم، فقال له: أي رجل أنت يا زيد ولكن أم الكلبة تقتلك - يعني الحمى - فلم يلبث زيد بعد انصرافه إلا قليلا حتى حم ومات.
قال أبو عمرو: وأسلموا جميعا إلا وزر؛ فإنه قال لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم إني لأرى رجلا ليملكن رقاب العرب، ووالله لا يملك رقبتي أبدا؛ فلحق بالشام، فتنصر وحلق رأسه، فمات على ذلك.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثني السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي قال: أقبل زيد الخيل الطائي حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان زيد رجلا جسيما طويلا جميلا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أنت? قال: أنا زيد الخيل. قال: بل أنت زيد الخير، أما إني لم أخبر عن رجل خبرا إلا وجدته دون ما أخبرت به عنه غيرك؛ إن فيك لخصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله، قال: وما هما يا رسول الله? قال: الأناة والحلم، فقال زيد: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
عمر يسأله عن طيىء وأصحاب مرابعها
قال: ودخل زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر رضي الله عنه، فقال عمر لزيد: أخبرنا يا أبا مكنف عن طيىء وملوكها نجدتها وأصحاب مرابعها، فقال زيد: في كل يا عمر نجدة وبأس وسيادة، ولكل رجل من حيه مرباع، أما بنو حية فملوكنا وملوك غيرنا، وهم القداميس القادة، والحماة الذادة، والأنجاد السادة، أعظمنا خميسا ، وأكرمنا رئيسا، وأجملنا مجالس، وأنجدنا فوارس.
فقال له عمر رضي الله عنه: ما تركت لمن بقي من طيىء شيئا، فقال: بلى والله؛ أما بنو ثعل وبنو نبهان وجرم ففوارس العدوة وطلاعو كل نجوة، ولا تحل حبوة، ولا تراع لهم ندوة، ولا تدرك لهم نبوة، عمود البلاد، وحية كل واد، وأهل الأسل الحداد، والخيل الجياد، والطارف والتلاد.
وأما بنو جديلة فأسهلنا قرارا، وأعظمنا أخطارا، وأطلبنا للأوتار، وأحمانا للذمار، وأطعمنا للجار.
فقال له عمر: سم لنا هؤلاء الملوك، قال: نعم، منهم عفير المجير على الملوك، وعمرو المفاخر، ويزيد شارب الدماء، والغمر ذو الجود، ومجير الجراد، وسراج كل ظلام ولامة ، وملحم بن حنظلة؛ هؤلاء كلهم من بني حية.
وأما حاتم بن عبد الله الثعلي الجواد فلا يجاري، والسمح فلا يباري ، والليث الضرغامة، قراع كل هامة، جوده في الناس علامة، لا يقر على ظلامة. فاعترض رجل من بني ثعل لما مدح زيد حاتما، فقال: ومنا زيد بن مهلهل النبهاني رئيس قومه وسيد الشيب والشبان، وسم الفرسان، وآفة الأقران، والمهيب بكل مكان، أسرع إلى الإيمان، وآمن بالفرقان، رئيس قومه في الجاهلية وقائدهم إلى أعدائهم، على شحط المزار، وطموس الآثار، وفي الإسلام رائدنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومجيبه من غير تلعثم ولاتلبث.
ومنا زيد بن سدوس النبهاني عصمة الجيران، والغيث بكل أوان، ومضرم النيران، ومطعم الندمان، وفخر كل يمان.
ومنا الأسد الرهيص، سيد بني جديلة، ومدوخ كل قبيلة، قاتل عنترة فارس بني عبس، ومكشف كل لبس.
صفحة : 1956
فقال عمر لزيد الخيل: لله درك يا أبا مكنف فلو لم يكن لطيء غيرك وغير عدي بن حاتم لقهرت بكما العرب.
قصته مع الشيباني
أخبرني ابن دريد، قال: أخبرني عمي، عن أبيه، عن ابن الكلبي، عن أبيه، قال: أخبرني شيخ من بني نبهان، قال: أصابت بني شيبان سنة ذهبت بالأموال، فخرج رجل منهم بعياله، حتى أنزلهم الحيرة، فقال لهم: كونوا قريبا من الملك يصبكن من خيره حتى أرجع إليكن، وآلى ألية لا يرجع حتى يكسبهن خيرا أو يموت. فتزود زادا، ثم مشى يوما إلى الليل، فإذا هو بمهر مقيد يدور حول خباء. فقال: هذا أول الغنيمة، فذهب يحله ويركبه، فنودي: خل عنه واغنم نفسك، فتركه، ومضى سبعة أيام حتى انتهى إلى عطن إبل مع تطويل الشمس، فإذا خباء عظيم وقبة من أدم، فقال في نفسه: ما لهذا الخباء بد من أهل، وما لهذه القبة بد من رب، وما لهذا العطن بد من إبل، فنظر في الخباء، فإذا شيخ كبير قد اختلفت ترقوتاه، كأنه نسر.
قال: فجلست خلفه، فلما وجبت الشمس إذا فارس قد أقبل لم أر فارسا قط أعظم منه ولا أجسم، على فرس مشرف ومعه أسودان يمشيان جنبيه، وإذا مائة من الإبل مع فحلها، فبرك الفحل، وبركت حوله، ونزل الفارس، فقال لأحد عبديه: احلب فلانة، ثم اسق الشيخ، فحلب في عس حتى ملأه، ووضعه بين يدي الشيخ وتنحى، فكرع منه الشيخ مرة أو مرتين، ثم نزع، فثرت إليه فشربته، فرجع إليه العبد. فقال: يا مولاي، قد أتى على آخره، ففرح بذلك، وقال: احلب فلانة، فحلبها، ثم وضع العس بين يدي الشيخ، فكرع منه واحدة، ثم نزع، فثرت إليه فشربت نصفه، وكرهن أن آتي على آخره، فأتهم ، فجاء العبد فأخذه وقال لمولاه: قد شرب وروي، فقال: دعه، ثم أمر بشاة فذبحت، وشوى للشيخ منها، ثم أكل هو وعبداه، فأمهلت حتى إذا ناموا وسمعت الغطيط ثرت إلى الفحل، فحللت عقاله وركبته، فاندفع بي وتبعته الإبل، فمشيت ليلتي حتى الصباح، فلما أصبحت نظرت فلم أر أحدا، فشللتها إذا شلا عنيفا حتى تعالى النهار، ثم التفت التفاتة فإذا أنا بشيء كأنه طائر، فما زال يدنو حتى تبينته، فإذا هو فارس على فرس، وإذا هو صاحبي بالأمس، فعقلت الفحل، ونثلت كنانتي، ووقفت بينه وبين الإبل، فقال: احلل عقال الفحل، فقلت: كلا والله، لقد خلفت نسيات بالحيرة، وآليت إلية لا أرجع حتى أفيدهن خيرا أو أموت. قال: فإنك لميت، حل عقاله، لا أم لك فقلت: ما هو إلا ما قلت لك، فقال: إنك لمغرور: انصب لي خطامه، واجعل فيه خمس عجر ففعلت، فقال: أين تريد أن أضع سهمي? فقلت: في هذا الموضع، فكأنما وضعه بيده، ثم أقبل يرمي حتى أصاب الخمسة بخمسة أسهم، فرددت نبلي، وحططت قوسي، ووقفت مستسلما؛ فدنا مني وأخذ السيف والقوس، ثم قال: ارتدف خلفي، وعرف أني الرجل الذي شربت اللبن عنده، فقال: كيف ظنك بي? قلت: أسوأ الظن . قال: وكيف? قلت: لما لقيت من تعب ليلتك، وقد أظفرك الله بي، فقال: أترانا كنا نهيجك، وقد بت تنادم مهلهلا? قلت: أزيد الخيل أنت? قال: نعم، أنا زيد الخيل، فقلت: كن خير آخذ، فقال: ليس عليك بأس.
فمضى إلى موضعه الذي كان فيه، ثم قال: أما لو كانت هذه الإبل لي لسلمتها إليك، ولكنها لبنت مهلهل، فأقم علي؛ فإني على شرف غارة.
فأقمت أياما، ثم أغار على بني نمير بالملح، فأصاب مائة بعير، فقال: هذه أحب إليك أم تلك? قلت: هذه، قال: دونكها. وبعث معي خفراء من ماء إلى ماء، حتى وردوا بي الحيرة، فلقيني نبطي: فقال لي: يا أعرابي، أيسرك أن لك بإبلك بستانا من هذه البساتين? قلت: وكيف ذاك? قال: هذا قرب مخرج نبي يخرج فيملك هذه الأرض، ويحول بين أربابها وبينها، حتى إن أحدهم ليبتاع البستان من هذه البساتين بثمن بعير.
قال: فاحتملت بأهلي حتى انتهيت إلى موضع الشيطين فبينما نحن في الشيطين على ماء لنا، وقد كان الحوفزان بن شريك أغار على بني تميم، فجاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلمنا، وما مضت الأيام حتى شربت بثمن بعير من إبلي بستانا بالحيرة. فقال في يوم الملح زيد الخيل:
ويوم الملح ملح بني نمير أصابتكم بأظفار ونـاب يسأل النبي ما تصيده الكلاب من الوحش
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرني عمي عن ابن الكلبي، عن أبيه، والشرقي:
صفحة : 1957
أن زيد الخيل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن في الحي رجلين لهما كلاب مضريات تصيد الوحش، أفنأكل مما أمسكته ولم تدرك ذكاته? فقال: إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله عليه وكل مما أمسك ، أو كما قال عليه السلام.
حفيدته ليلى تنشد شعرا لأبيها
في يوم محجر أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه إسحاق، عن الهيثم بن عدي، عن حماد الراوية، عن ابن أبي ليلى، قال: أنشدتني ليلى بنت عروة بن زيد الخيل الطائي شعر أبيها في يوم محجر :
بني عامر هل تعرفون إذا غـدا أبو مكنف قد شد عقد الدوابـر
بجيش تضل البلق في حجراتـه ترى الأكم فيه سجدا للحوافـر
وجمع كمثل الليل مرتجز الوغى كثير حواشيه سريع الـبـوادر قالت ليلى: فقلت لأبي: يا أبه، أشهدت ذلك اليوم مع أبيك? قال: إي والله يا بنية، لقد شهدته، قلت: كم كانت خيل أبيك هذه التي وصفت? قال: ثلاثة أفراس .
غزا بني عامر
نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني بخطه عن أبيه: أن زيد الخيل بن مهلهل جمع طيئا وأخلاطا لهم، وجموعا من شذاذ العرب، فغزا بهم بني عامر ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس، وسار إليهم فصبحهم من طلوع الشمس، فنذروا به وفزعوا إلى الخيل وركبوها، وكان أول من نذر بهم، فلقي جمعهم غني بن أعصر وإخوتهم: الحارث وهو الطفاوة، واسمه مالك بن سعد بن قيس بن عيلان، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو عامر، فاستحر القتل بغني، وفيهم يومئذ فرسان وشعراء، فملأت طيىء أيديهم من غنائمهم .
اسر الحطيئة وأطلقه
وأسر زيد الخيل يومئذ الحطيئة الشاعر، فجز ناصيته وأطلقه.
ثم إن غنيا تجمعت بعد ذلك مع لف من بني عامر فغزوا طيئا في أرضهم، فغنموا وقتلوا وأدركوا ثأرهم منهم.
وقد كان زيد الخيل قال في وقعته لبني عامر قصيدته التي يقول فيها:
وخيبة من يخيب على غني وباهلة بن أعصر والكلاب فلما أدركوا ثأرهم أجابه طفيل الغنوي، فقال:
سمونا بالجياد إلى أعـاد مغورة بجد واعتصـاب
نؤمهم على وعث وشحط بقود يطلعن من النقاب وهي طويلة يقول فيها:
أخذنا بالمخطم مـن أتـاهـم من السود المزنمة الرغاب
وقتلنا سراتـهـم جـهـارا وجئنا بالسبايا والـنـهـاب
سبايا طيىء أبرزن قـسـرا وأبدلن القصور من الشعاب
سبايا طيىء من كـل حـي نما في الفرع منها والنصاب
وما كانت بناتـهـم سـبـيا ولا رغبا يعد من الرغـاب
ولا كانت دمـاؤهـم وفـاء لنا فيما يعد من الـعـقـاب عروة بن زيد الخيل
أخبرني الحسن بن يحيى، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان لزيد الخيل ابن يقال له عروة، وكان فارسا شاعرا، فشهد القادسية، فحسن فيها بلاؤه، وقال في ذلك يذكر حسن بلائه:
برزت لأهل القـادسـية مـعـلـمـا وما كل من يغشى الكـريهة يعـلـم
ويوم بأكناف الـنـخـيلة قـبـلـهـا شهدت فلـم أبـرح أدمـي وأكـلـم
وأقعصت منهم فارسا بـعـد فـارس وما كال من يلقى الفـوارس يسـلـم
ونجانـي الـلـه الأجـل وجـيرتـي وسيف لأطراف المـرازب مـخـذم
وأيقـنـت يوم الـديلـمـيين أنـنـي متى ينصرف وجهي عن القوم يهزموا
فما رمت حتى مزقوا بـرمـاحـهـم ثيابي وحتى بـل أخـمـصـي الـدم
محافـظة إنـي امـرؤ ذو حـفـيظة إذا لم أجـد مـسـتـأخـرا أتـقـدم قال: وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه صفين، وعاش إلى إمارة معاوية، فأراده على البراءة من علي، فامتنع عليه، وقال:
يحاولني معاوية بن حـرب وليس إلى الذي يهوى سبيل
على جحدي أبا حسن علـيا وحظي من أبي حسن جليل قال: وله أشعار كثيرة.
قتله رئيس تغلب
صفحة : 1958
قال أبو عمرو: كان لتغلب رئيس يقال له الجرار، وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم، وأبى الإسلام، وامتنع منه، فيقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه زيد الخيل، وأمره بقتاله، فمضى زيد فقاتله فقتله لما أبى الإسلام، وقال في ذلك:
صبحـت حـي بـنـي الـجـرار داهـية ما إن لـتـغـلـب بـعـد الـيوم جـرار
نحوي الـنـهـاب ونـحـوي كـل جـارية كأن نقبتها في الخد دينارأغار على بني عامر قال مؤرج: خرج رجل من طيىء يقال له: ذؤاب بن عبد الله إلى صهر له من هوازن، فأصيب الرجل - وكان شريفا ذا رياسة في حيه - فبلغ ذلك زيدا، فركب في نبهان ومن تبعه من ولد الغوث، وأغار على بني عامر، وجعل كلما أخذ أسيرا قال له: ألك علم بالطائي المقتول? فإن قال: نعم، قتله، وإن قال: لا، خلى سبيله ومن عليه. وأصاب رجالا من بني الوحيد والضباب وبني نفيل. ثم رجع زيد إلى قومه، فقالوا: ما صنعت? فقال: ما أصبت بثأر ذؤاب، ولا يبوء به إلا عامر بن مالك ملاعب الأسنة، فأما ابن الطفيل فلا يبوء به، وأنشأ زيد يقول:
لا أرى بالـقـتـيل قـتـيلا عامريا يفي بـقـتـل ذؤاب
ليس من لاعب الأسنة في الن قع وسمي ملاعبـا بـأراب
عامر ليس عامر بن طفـيل لكن العمر رأس حي كلاب
ذاك إن ألقه أنال بـه الـوت ر وقرت به عيون الصحاب
أو يفتني فقد سبقت بـوتـر مذحجي وجد قومي كأبـي
قد تقنصت للضبـاب رجـالا وتكرمت عن دماء الضباب
وأصبنا من الوحـيد رجـالا ونفيل فما أساغوا شـرابـي فبلغ عامر بن الطفيل قول زيد الخيل وشعره، فأغضبه وقال مجيبا له:
قل لزيد قد كنت تؤثر بالـحـل م إذا سفهت حلوم الـرجـال
ليس هذا القتيل من سلف الـح ي كلاع ويحصـب وكـلال
أو بني آكل المرار ولا صـي د بني جفنة الملوك الـطـوال
وابن ماء السماء قد علم الـنـا س ولا خير في مقالة غالـي
إن في قتل عامر بن طـفـيل لبـواء لـطـيىء الأجـبـال
إنني والذي يحـج لـه الـنـا س قليل في عامر الأمـثـال
يوم لا مال للمحارب في الحر ب سوى نصل أسمر عسـال
ولجام في راس أجرد كالـجـذ ع طوال وأبـيض قـصـال
ودلاص كالنهي ذات فضـول ذاك في حلبة الحوادث مالـي
ولعمي فضل الـرياسة والـس ن وجد على هوازن عـالـي
غير أني أولي هوازن في الحر ب بضرب المتوج المخـتـال
وبطعن الكمي في حمس النـق ع على متن هـيكـل جـوال أغار على بني مرة قال أبو عمرو الشيباني: لما بلغ زيد الخيل ما كان من الحارث بن ظالم وعمرو بن الإطنابة الخزرجي وهجائه إياه، غضب زيد لذلك، فأغار على بني مرة بن غضفان، فأسر الحارث بن ظالم وامرأته في غارته، ثم من عليهما، وقال يذكر ذلك:
ألا هل أتى غوثا ورومان أنـنـا صبحنا بني ذبيان إحدى العظـائم
وسقنا نساء الحي مرة بالـقـنـا وبالخيل تردي قد حوينا ابن ظالم
جنيبا لأعضاد النواجـي يقـدنـه على تعب بين النواجي الرواسـم
يقول: اقبلوا مني الفداء وأنعمـوا علي وجزوني مكان الـقـوادم
قود مس حد الرمح قوارة استـه فصارت كشدق الأعلم المتضاجم
وسائل بنا جار ابن عوف فقد رأى حليلته جالت عليها مقـاسـمـي
تلاعب وحدان العضاريط بعدمـا جلاها بسهميه لقيط بـن حـازم
أغرك أن قيل ابن عوف ولا ارى عزيمك إلا واهيا في الـعـزائم
غداة سبينا من خفاجة سـبـيهـا ومرت لهم منا نحـوس الأشـائم
فمن مبلغ عني الخزارج غـارة على حي عوف موجفا غير نائم غارته على بني فزارة
صفحة : 1959
وبني عبد الله بن غطفان
وقال أبو عمرو: أغار زيد على بني فزارة وبني عبد الله بن غطفان ورئيسهم يومئذ أبوضب، ومع زيد الخيل من بني نبهان بطنان يقال لهما: بنو نصر وبنو مالك، فأصاب وغنم، وساقوا الغنيمة، وانتهى إلى العلم، فاقتسموا النهاب، فقال لهم زيد: أعطوني حق الرياسة، فأعطاه بنو نصر، وأبى بنو مالك، فغضب زيد، وانحدر إلى بني نصر، فبينما بنو مالك يقتسمون إذ غشيتهم فزارة وغطفان، وهم حلفاء، فاستنقذوا ما بأيديهم. فلما رأى زيد ذلك شد على القوم فقتل رئيسهم أبا ضب، وأخذ ما في أيديهم، فدفعه إلى بني مالك، وكانوا نادوه يومئذ: يا زيداه أغثنا فكر على القوم حتى استنفذ ما في أيديهم، ورده، وقال يذكر ذلك:
كررت على أبطال سعد ومـالـك ومن يدع الداعـي إذا هـو نـددا
فلأيا كررت الورد حتى رأيتـهـم يكبون في الصحراء مثنى وموحدا
وحتى نبذتم بالصعـيد رمـاحـكـم وقد ظهرت دعوى زنيم وأسـعـدا
فما زلت أرميهم بـغـرة وجـهـه وبالسيف حتى كل تحـت وبـلـدا
إذا شك أطراف العوالي لـبـانـه أقدمه حتى يرى الـمـوت أسـودا
علالتها بالأمس ما قد عـلـمـتـم وعل الجواري بيننا أن تـسـهـدا
لقد علمت نبهان أني حـمـيتـهـا وأنى منعت السـبـي أن يتـبـددا
عشية غادرت ابن ضب كـأنـمـا هوى عن عقاب من شماريخ صنددا
بذي شطب أغشي الكتيبة سلـهـبـا أقب كسر حان الظـلام مـعـودا زيد وعامر بن الطفيل
قال أبو عمرو: وخرج زيد الخيل يطلب نعما من بني بدر، وأغار عامر بن الطفيل على بني فزارة، فأخذ امرأة يقال لها هند، واستاق نعما لهم، فقالت بنو بدر لزيد: ما كنا قط إلى نعمك أحوج منا اليوم، فتبعه زيد الخيل، وقد مضى، وعامر يقول: يا هند، ما ظنك بالقوم? فقالت: ظني بهم أنهم سيطلبونك، وليسوا نياما عنك.
قال: فحطأ عجزها، ثم قال: لا تقول استها شيئا، فذهبت مثلا.
فأدركه زيد الخيل، فنظر إلى عامر فأنكره لعظمه وجماله، وغشيه زيد فبرز له عامر، فقال: يا عامر؛ خل سبيل الظعينة والنعم. فقال عامر: من أنت? قال: فزاري أنا. قال عامر: والله ما أنت من القلح أفواها. فقال زيد: خل عنها، قال: لا، والله أو تخبرني فاصدقني ، قال: أنا زيد الخيل، قال: صدقت؛ فما تريد من قتالي، فوالله لئن قتلتني لتطلبنك بنو عامر، ولتذهبن فزارة بالذكر. فقال له زيد: خل عنها، قال: تخلى عني وأدعك والظعينة والنعم? قال: فاستأسر، قال: أفعل، فجز ناصيته، وأخذ رمحه، وأخذ هندا والنعم، فردها إلى بني بدر، وقال في ذلك:
إنا لنكثر في قيس وقـائعـنـا وفي تميم وهذا الحي من أسـد
وعامر بن طفيل قد نحوت لـه صدر القناة بماضي الحد مطرد
لما أحس بأن الورد مـدركـه وصارما وربيط الجأش ذا لبـد
نادى إلي بسلم بعد مـا أخـذت منه المنية بالحيزوم واللـغـد
ولو تصبر لي حتى أخالـطـه أسعرته طعنة تكتار بالـزبـد قال: فانطلق عامر إلى قومه مجزورا ، وأخبرهم الخبر، فغضبوا لذلك، وقالوا: لا ترأسنا أبدا، وتجهزوا ليغيروا على طيىء، ورأسوا عليهم علقمة بن علاثة، فخرجوا ومعهم الحطيئة وكعب بن زهير.
أسر الحطيئة وكعب بن زهير ثم أطلقهما فبعث عامر إلى زيد الخيل دسيسا ينذره، فجمع زيد قومه، فلقيهم بالمضيق فقاتلهم، فأسر الحطيئة وكعب بن زهير وقوما منهم، فحبسهم فلما طال عليهم الأسر قالوا: يا زيد، فادنا. قال: الأمر إلى عامر بن الطفيل، فأبوا ذلك عليه، فوهبهم لعامر إلا الحطيئة وكعبا، فأعطاه كعب فرسه الميت، وشكا الحطيئة الحاجة، فمن عليه، فقال زيد:
أقول لعبدي جـرول إذ أسـرتـه أثبني ولا يغررك أنك شـاعـر
أنا الفارس الحامي الحقيقة والذي له المكرمات واللهى والمـآثـر
وقومي رؤوس الناس والرأس قائد إذا الحرب شبتها الأكف المساعر
فلست إذا ما الموت حـوذر ورده وأترع حوضاه وحمـج نـاظـر
بوقافة يخشى الحتوف تـهـيبـا يباعدني عنها من القب ضامـر
صفحة : 1960
ولكنني أغشى الحتوف بصعدتي مجاهرة إن الكـريم يجـاهـر
وأروي سناني من دماء غـزيرة على أهلها إذ لا ترجى الأياصر شعر الحطيئة لزيد
فقال الحطيئة لزيد:
إن لم يكن مالـي بـآت فـإنـنـي سيأتي ثنائي زيدا بن مـهـلـهـل
فأعطيت منا الـود يوم لـقـيتـنـا ومن آل بدر شـدة لـم تـهـلـل
فما نلتنا غدرا ولكن صبـحـتـنـا غداة التقينا في المضيق بـأخـيل
تفادى حماة القوم من وقع رمحـه تفادي ضعاف الطير من وقع أجدل وقال فيه الحطيئة أيضا :
وقعت بعبس ثم أنعـمـت فـيهـم ومن آل بدر قد أصبت الأخـايرا
فإن يشكروا فالشكر أدنى إلى التقى وإن يكفروا لا ألف يا زيد كافـرا
تركت المياه من تمـيم بـلاقـعـا بما قد ترى منهم حلولا كراكـرا
وحي سليم قد أثـرت شـريدهـم وبالأمس ما قتلت يا زيد عامـرا فرضي عنه زيد ومن عليه لما قال هذا فيه، وعد ذلك ثوابا من الحطيئة وقبله.
امتناع الحطيئة عن هجائه
فلما رجع الحطيئة إلى قومه قام فيهم حامدا لزيد، شاكرا لنعمته، حتى أسرت طيىء بني بدر، فطلبت من فزارة وأفناء قيس إلى شعراء العرب أن يهجوا بني لأم وزيدا، فتحامتهم شعراء العرب، وامتنعت من هجائهم، فصاروا إلى الحطيئة فأبى عليهم، وقال: اطلبوا غيري فقد حقن دمي، وأطلقني بغير فداء؛ فلست بكافر نعمته أبدا، قالوا: فإنا نعطيك مائة ناقة، قال: والله لو جعلتموها ألفا ما فعلت ذلك. وقال الحطيئة:
كيف الهجاء وما تنفك صـالـحة من آل لأم بظهر الغيب تأتـينـا
المنعمين أقام العـز وسـطـهـم بيض الوجوه وفي الهيجا مطاعينا وقد أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: خرج بجير بن زهير والحطيئة ورجل من فزارة يتقنصون الوحش، فلقيهم زيد الخيل فأسرهم، فافتدى بجير نفسه بفرس كان لكعب أخيه، وكعب يومئذ مجاور في بني ملقط من طيىء، وشكا إليه الحطيئة الفاقة فأطلقه.
غزا فزارة مع بني نبهان
وقال أبو عمرو: غزت بنو نبهان فزارة وهم متساندون ومعهم زيد الخيل، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت فزارة، وساقت بنو نبههان الغنائم من النساء والصبيان. ثم إن فزارة حشدت واستعانت بأحياء من قيس، وفيهم رجل من سليم شديد البأس سيد يقال له: عباس بن انس الرعلي، كانت بنو سليم قد أرادوا عقد التاج على رأسه في الجاهلية، فحسده ابن عم له فلطم عينه، فخرج عباس من أعمال بني سليم في عدة من أهل بيته وقومه، فنزل في بني فزارة، وكان معهم يومئذ، ولم يكن لزيد المرباع حينئذ، وأدركت فزارة بني نبهان، فاقتتلوا قتالا شديدا، فلما رأى زيد ما لقيت بنو نبهان: يا بني نبهان؛ أأحمل ولي المرباع? قالوا: نعم، فشد على بني سليم فهزمهم، وأخذ أم الأسود امرأة عباس بن أنس، ثم شد على فزارة والأخلاط فهزمهم، وقال في ذلك:
ألا ودعـــت جـــيرانـــهـــا أم أســـــودا وضــنـــت عـــلـــي ذي حـــاجة أن يزودا
وأبـغـض أخـــلاق الـــنـــســـاء أشـــده إلـي فـلا تـولـــن أهـــلـــي تـــشـــددا
وسـائل بـنـي نـبـهـان عـنـا وعـــنـــدهـــم بلاء كـحـد الــســـيف إذ قـــطـــع الـــيدا
دعـوا مـالـكـا ثـم اتـصـلـنـا بـــمـــالـــك فكـل ذكـا مـصـبــاحـــه فـــتـــوقـــدا
وبـشـر بـن عـمـرو قـد تـركـنـا مـجــنـــدلا ينـوء بـخـطـار هــنـــاك ومـــعـــبـــدا
تمـــطـــت بـــه قـــوداء ذات عـــــلالة إذا الـصـلـدم الـخـنـــذيذ أعـــيا وبـــلـــدا
لقـينـاهـم نـسـتـنـقـذ الـخـيل كـالـقـــنـــا ويسـتـسـلـبـون الـمـسـهـري الـمـقــصـــدا
فيا رب قـدر قـد كـــفـــأنـــا وجـــفـــنة بذي الـرمـث إذ يدعـون مـثـنــى ومـــوحـــدا
على أنني أثوي سناني وصعدتي بساقين زيدا أن يبوء ومعبدا زيد وقيس بن عاصم
صفحة : 1961
قال أبو عمرو: وقعت حرب بين أخلاط طيىء، فنهاهم زيد عن ذلك وكرهه فلم ينتهوا، فاعتزل وجاور بني تميم، ونزل على قيس بن عاصم، فغزت بنو تميم بكر بن وائل وعليهم قيس، وزيد معه، فاقتتلوا قتالا شديدا، وزيد كاف. فلما رأى ما لقيت تميم ركب فرسه، وحمل على القوم، وجعل يدعو بالتميم، ويتكنى بكنية قيس إذا قتل رجلا أو أذراه عن فرسه، أو هزم ناحية، حتى هزمت بكر، وظفرت تميم، فصارت فخرا لهم في العرب، وافتخر بها قيس.
فلما قدموا قال له زيد: أقسم لي يا قيس نصيبي، فقال: وأي نصيب? فوالله ما ولي القتال غيري وغير أصحابي، فقال زيد:
ألا هل أتاها والأحـاديث جـمة مغلغلة أنباء جيش الـلـهـازم
فلست بوقاف إذا الخيل أحجمـت ولست بكذاب كقيس بن عاصـم
تخبر من لاقيت أن قد هزمتهـم ولم تدر ما سيماهم والعـمـائم
بل الفارس الطائي فض جموعهم ومكة والبيت الذي عند هـاشـم
إذا ما دعوا عجلا عجلنا عليهـم بمأثورة تشفي صداع الجماجـم فبلغ المكشر بن حنظلة العجلي أحد بني سنان قول زيد، فخرج في ناس من عجل حتى أغار على بني نبهان، فأخذمن نعمهم ما شاء، وبلغ ذلك زيد الخيل، فخرج على فرسه في فوارس من نبهان، حتى اعترض القوم، فقال: ما لي ولك يا مكشر? فقال: قولك:
إذا ما دعوا عجلا عجلنا عليهم فقاتلهم زيد حتى استنقذ بعض ما كان في أيديهم، ورجع المكشر ببقية ما أصاب. فأغار زيد على بني تيم الله بن ثعلبة، فغنم وسبى، وقال في ذلك:
إذا عركت عجل بنا ذنب غيرنـا عركنا بتيم اللات ذنب بني عجل حريث بن زيد الخيل
وقال أبو عمرو: كان حريث بن زيد الخيل شاعرا، فبعث عمر بن الخطاب رجلا من قريش يقال له أبو سفيان يستقرىء أهل البادية، فمن لم يقرأ شيئا من القرآن عاقبه، فأقبل حتى نزل بمحلة بني نبهان، فاستقرأ ابن عم لزيد الخيل يقال له أوس بن خالد بن زيد بن منهب، فلم يقرأ شيئا، فضربه، فمات.
فأقامت بنته أم أوس تندبه، وأقبل حريث بن زيد الخيل فأخبرته، فأخذ ارمح فشد على أبي سفيان فطعنه فقتله، وقتل ناسا من أصحابه، ثم هرب إلى الشام، وقال في ذلك:
ألا بكر الناعي بـأوس بـن خـالـد أخي الشتوة الغبراء والزمن المحل
فلا تـجـزعـي يا أم أوس فـإنـه يلاقي المنمايا كل حاف وذي نعـل
فإن يقتلوا أوسا عـزيزا فـإنـنـي تركت أبا سفيان ملتـزم الـرحـل
ولولا الأسى ما عشت في الناس بعده ولكن إذا ما شئت جاوبني مثـلـي
أصبنا به من خيرة القـوم سـبـعة كراما ولم نأكل به حشف النـخـل
صوت
بشر الظبي والغراب بسعدى مرحبا بالذي يقول الغراب
اذهبي فاقرئي السلام عليهم ثم ردي جوابنـا يا ربـاب عروضه من الخفيف . الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيات، والغناء لفند المخنث - مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص - خفيف رمل بالبنصر. وذكر حبش أن هذا اللحن ليحيى المكي، وليس ممن يحصل قوله.
خبر لابن قيس الرقيات
أخبرني بالسبب الي قال فيه ابن قيس هذا الشعر الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي الحارث الكاتب، مولى بني عامر بن لؤي، وأبو الحارث هذا هو الذي يقول فيه عمر بن أبي ربيعة :
يا أبا الحارث قلبي طائر فائتمر أمر رشيد مؤتمن وقوفه إلى جانب عبد العزيز بن مروان
قال: حدثني عمرو بن عبد الرحمن بن عمرو بن سهل، قال: حدثني سليمان بن نوفل بن مساحق، عن أبيه، عن جده، قال: أراد عبد الملك بن مروان البيعة لابنه الوليد بعد عبد العزيز بن مروان، وكتب إلى عبد العزيز يسأله ذلك، فامتنع عليه، وكتب إليه يقول له: لي ابن ليس ابنك أحب إلي منه؛ فإن استطعت ألا يفرق بيننا الموت وأنت لي قاطع فافعل. فرق له عبد الملك، وكف عن ذلك، فقال عبيد الله بن قيس في ذلك - وكان عند عبد العزيز -:
يخلفك البيض من بنيك كـمـا يخلف عود النضار في شعبه
ليسوا من الخروع الضعاف ولا أشباه عـيدانـه ولا غـربـه
صفحة : 1962
نحن على بيعة الرسول الـتـي أعطيت في عجمه وفي عربـه
نأتي إذا ما دعوت في الزغف الم سرود أبدانـه وفـي جـنـبـه
نهدي رعـيلا أمـام أرعـن لا يعرف وجه البلقاء في لجـبـه فقال عبد الملك: لقد دخل ابن قيس الرقيات مدخلا ضيقا، وتهدده وشتمه. وقال: أليس هو القائل:
كيف نومي على الفراش ولما تشمل الشام غارة شـعـواء
تذهل الشيخ عن بنيه وتبـدي عن خدام العقيلة الـعـذراء هو القائل أيضا:
على بيعة الإسلام بايعن مصعـبـا كراديس من خيل وجمعاص مباركا
تدارك أخرانا ويمضـي أمـامـنـا ويتبع ميمون النـقـيبة نـاسـكـا
إذا فرغت أظفـاره مـن كـتـيبة أمال على أخرى السيوف البواتكـا قال: فلما بلغ عبيد الله قول عبد الملك وشتمه إياه قال:
بشر الظبي والغراب بسعـدى مرحبا بالذي يقول الـغـراب
قال لي: إن خير سعدي قـريب قد أنى أن يكون منه اقتـراب
قلت: أنى تكون سعدى قـريبـا وعليها الحصـون والأبـواب
حبذا الريم ذو الوشاحين والخص ر الـذي لا ينـالـه الأثـواب
إن في القصر لو دخلت غزالا مصفقا موصدا عليه الحجـاب
أرسلت أن فدتك نفسي فاحـذر ها هنا شرطة عليك غضـاب
أقسموا إن رأوك لا تطعم المـا ء وهم حـين يقـدرون ذئاب
قلت: قد يغفل الرقيب ويغفـي شرطة أو يحين منه انقـلاب
أو عسى أن يوري اللـه أمـرا ليس في غيبه علينا ارتـقـاب
اذهبي فاقرئي السلام علـيهـا ثم ردي جـوابـنـا يا ربـاب
حدثيها ما قد لقـيت وقـولـي حق للعاشق الـكـريم ثـواب
رجل أنت همه حين يمـسـي خامرته من أجلك الأوصـاب
لا أشم الـريحـان إلا بـعـي ني كرما إنما يشم الـكـلاب
رب زار علي لـم ير مـنـي عثرة وهو مـومـس كـذاب
خادع الله حين جللـه الـشـي ب فأضحى قد بان منه الشباب
يأمر الناس أن يبروا ويمـسـي وعليه من عيبـه جـلـبـاب
لا تعبني فليس عنـدك عـلـم لا تنامن أيهـا الـمـغـتـاب
تختل الناس بالكتـاب فـهـلا حين تغتابني نهاك الـكـتـاب
لست بالمخبت التقي ولا المـح ضيه من مقالتي الاحتـسـاب
إنني والتي رمت بك كـرهـا ساقطا ملصقا عليك الـتـراب
لتـذوقـن غـب رأيك فـينـا حين تبدو بعرضـك الأنـداب قال الزبير: معنى قوله:
لا أشم الريحان إلا بعـي ني كرما إنما يشم الكلاب يعرض بعبد الملك؛ لأنه كان متغير الفم يؤذيه رائحته، فكان في يده أبدا ريحان، أو تفاحة، أو طيب يشمه.
ما أحفظ عبد الملك عليه
أخبرني الحرمي، قال: حدثنا الزبير، عن عمه: أن ابن قيس قال في عبد العزيز بن مروان:
يلتفت الناس عند منبره إذا عمود البرية انهدما يعني إذا مات عبد الملك؛ لأن العهد كان إليه بعده.
قال الزبير: فأخبرني مصعب بن عثمان، قال: لما بلغ عبد الملك هذا البيت أحفظه، وقال: بفيه الحجر، وحينئذ قال: لقد دخل ابن قيس مدخلا ضيقا.
الحجاج يبعث إلى عبد الملك بعمران
ابن عصام العنزي
أخبرني الحرمي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني كثير بن جعفر، عن أبيه، قال: قال الحجاج يوما لأهل ثقته من جلسائه: ما من أحد من بني أمية أشد نصبا لي من عبد العزيز بن مروان، وليس يوم من الأيام إلا وأنا أتخوف أن تأتيني منه قارعة، فهل من رجل تدلوني عليه، له لسان وشعر وجلد? قالوا: نعم، عمران بن عصام العنزي، فدعاه فأخلاه، ثم قال: اخرج بكتابي هذا إلى أميرالمؤمنين، فاقدح في قلبه من ابنه شيئا في الولاية، فقال له عمران: دس أيها الأمير إلي دسا، فقال له الحجاج: إن العوان لا تعلم الخمرة .
صفحة : 1963
فخرج بكتاب الحجاج، فلما دخل على عبد الملك دفع إليه الكتاب، وسأله عن الحجاج، وأمر العراق، فاندفع يقول:
أمير المؤمنين إلـيك أهـدي على الشحط التحية والسلاما
أمير من بنيك يكن جوابـي لهم أكرومة ولنا نظـامـا
فلو أن الولـيد أطـاع فـيه جعلت له الإمامة والذمامـا فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز في ذلك. ثم ذكر من خبرهما في المكاتبة مثل الخبر الذي قبله، وقال فيه: فرق عبد الملك رقة شديدة، وقال: لا يكون إلى الصلة أسرع مني، فكف عن ذلك، وما لبث عبد العزيز إلا ستة أشهر حتى مات.
الحجاج يقتل ابن الأشعث وعمران بن عصام فلما كان زمان ابن الأشعث خرج عمران بن عصام معه على الحجاج، فأتى به حين قتل ابن الأشعث فقتله، فبلغ ذلك عبد الملك فقال: قطع الله يدي الحجاج أقتله وهو الذي يقول:
وبعث4ت من ولد الأغر معتب صقرا يلوذ حمامه بالعوسـج
وإذا طبخت بناره أنضجتـهـا وإذا طبخت بغيرها لم تنضج
ذكر فند وأخباره
كان خليعا متهتكا
هو فند أبو زيد مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، ومنشؤه المدينة، وكان خليعا متهتكا ، يجمع بين الرجال والنساء في منزله، ولذلك يقول فيه ابن قيس الرقيات.
صوت
قل لفند يشيع الأظـعـانـا طالما سر عيشنا وكفـانـا
صادرات عشية مـن قـديد واردات من الضحى عسفانا
زودتنـا رقـية الأحـزانـا يوم جازت حمولها السكرانا عروضه من الخفيف . غناه مالك بن أبي السمح من روايتي إسحاق وعمرو بن بانة. ولحنه من خفيف الثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.
وقد اختلف في اسمه، فقيل: قند بالقاف، وفند بالفاء أصح. وبه يضر المثل في الإبطاء، فيقال: تعست العجلة.
أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال: كانت عائشة بنت سعد أرسلته ليجيئها بنار، فخرج لذلك، فلقي عيرا خارجا إلى مصر، فخرج معهم، فلما كان بعد سنة رجع فأخذ نارا، ودخل على عائشة وهو يعدو فسقط وقد قرب منها، فقال: تعست العجلة، فقال بعض الشعراء في رجل ذكر بمثل هذه الحال:
ما رأينا لعبـيد مـثـلا إذ بعثناه يجي بالمسلـه
غير فند بعثوه قـابـسـا فثوى حولا وسب العجله أخبرني الحسين، قال: قال حماد: قرأت على أبي الهيثم بن عدي، قال: كان فند أبو زيد مولى لسعد بن أبي وقاص، فضربه سعد بن إبراهيم ضربا مبرحا، فحلفت عائشة بنت سعد أنها لا تكلمه أبدا أو يرضى عنه - وكانت خالته - فصار إليه سعد طاعة لخالته، فوجده وجعا من ضربه، فسلم عليه فحول وجهه عنه إلى الحائط ولم يكلمه؛ فقال له: أبا زيد، إن خالتي حلفت إلا تكلمني حتى ترضى، ولست ببارح حتى ترضى عني. فقال: أما أنا فأشهد أنك مقيت سمج مبغض، وقد رضيت عنك على هذه الحال لتقوم عني، وتريحني من وجهك ومن النظر إليك.
فقام من عنده، فدخل على عائشة، وأخبرها بما قال له فند، فقالت: قد صدق، وأنت كذلك ورضيت عنه.
قال: وكان سعد مضطرب الخلق سمجا.
أخبرني الحسن قال: قال حماد: قرأت على أبي بكر: وذكر عوانة أن معاوية كان يستعمل مروان بن الحكم على المدينة سنة، ويستعمل سعيد بن العاص سنة، فكانت ولاية مروان شديدة يهرب فيها أهل الدعارة والفسوق، وولاية سعيد لينة يرجعون إليها، فبينا مروان يأتي المسجد وفي يده عكازة له، وهو يومئذ معزول، إذا هو بفند يمشي بين يديه، فوكزه بالعكازة، وقال له: ويلك هيه:
قل لفند يشيع الأظعانا أتشيع الأظعان للفساد - لا أم لك - إلى أهل الريبة ستعلم ما يحل بك مني، فالتفت إليه فند، وقال: نعم، أنا ذلك وسبحان الله ما أسمجك واليا ومعزولا فضحك مروان، وقال له: تمتع، إنما هي أيام قلائل ثم تعلم ما يمر بك مني.
صوت
حي الدويرة إذ نأت منا على عدوائها
لا بالفراق تنيلـنـا شيئا ولا بلقائهـا عروضه من الكامل الشعر لنبيه بن الحجاج السهمي، والغناء لابن سريج، رمل بالوسطى عن عمرو.
أخبار نبيه ونسبه
نسبه
صفحة : 1964
هو نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب؛ وأمه وأم أخيه منبه أروى بنت عميلة بن السباق بن عبد الدار بن قصي.
قتل هو وأخوه يوم بدر مشركين
وكان نبيه بن الحجاج وأخوه من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم، وقتلا جميعا يوم بدر مشركين، ولهما يقول أعشى بني تميم - وهو ابن النباش بن زرارة، وكان أخوه أبو هالة بن النباش زوج خديجة أم المؤمنين في الجاهلية، ولها منه أولاد عقب إلى الآن - وكان الأعشى مداحا لهم، وفيهم يقول، وهي قصيدة طويلة :
لله در بني الحـجـاج إذ نـدبـوا لا يشتكي فعلهم ضيف ولا جـار
إن يكسبوا يطعموا من فضل كسبهم وأوفياء بعقـد الـجـار أحـرار وفي نبيه يقول أيضا :
إن نبيها أبا الرزام أفضـلـهـم حلما وأجودهم، والجود تفضيل
ليس لفعل نبيه إن مضى خلـف ولا لقول أبي الرزام تـبـديل
ثقف كلقمان، عدل في حكومته سيف إذا قام وسط القوم مسلول
وإن بيت نبيه منـهـج فـلـج مخضر بالندى ما عاش مأهول
من لا يعر ولا يؤذي عشيرتـه ولا نداه عن المعتر مـعـدول وله أيضا فيهما مراث قالها فيهما لما قتلا ببدر لم أستجز ذكرها؛ لأنهما قتلا مشركين محاربين الله ورسوله.
شعره في زوجتيه وقد سألتاه الطلاق
وكان نبيه من شعراء قريش، وهو القائل وقد سألته زوجتاه الطلاق، ذكر ذلك الزبير بن بكار :
تلك عرساي تنطقان بهـجـر وتقولان قـول زور وهـتـر
تسألاني الطلاق أن رأتـانـي قل مالي، قد جئتماني بنـكـر
فلعلي أن يكثر المال عـنـدي ويخلى من المغارم ظـهـري
ويرى أعـبـد لـنـا وجـياد ومناصيف من ولائد عـشـر
ويكأن من يكن لن نشب يحـب ب ومن يفتقر بعش عيش ضر
ويجنب يسر الأمـور ولـكـن ذوي المال حضر كـل يسـر شعر آخر له أخبرني الطوسي والحرمي، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني علي بن صالح: أن عامر بن صالح أنشده لنبيه بن الحجاج:
قصر العدم بي ولو كنت ذا ما ل كثير لأجلب الناس حولي
ولقالوا: أنت الكريم علـينـا ولحطوا إلى هواي وميلـي
ولكلت المعروف كيلا هنـيا يعجز الناس أن يكيلوا ككيلي قال الزبير: قال علي بن صالح: وأنشدني عامر بن صالح لنبيه بن الحجاج أيضا:
قالت سليمى إذ طرقت أزورها: لا أبتغي إلا امـرأ ذات مـال
لا أبتغـي إلا امـرأ ذا ثـروة كيما يسد مفاقري وخـلالـي
فلأحرصن على اكتساب محبب ولأكسبن في عـفة وجـمـال أخبرني الطوسي والحرمي، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمي مصعب، قال: نزل نبيه بن الحجاج قديدا يريد الشام، فغيب بعض بني بكر ناقته، يريد أخذ الجعالة عليها منه، فقال نبيه في ذلك:
وردت قديدا فالتوى بذراعها ذؤبان بكر كل أطلس أفحج
رجل صديق ما بدت لك عينه فإذا تغيب فاحتفظ من دعلج قال الزبير: الدعلج: الكلب والذئب، وكل مختلس من السباع فهو دعلج، ويقال لاختلاسه: الدعلجة، وأنشد :
باتت كلاب الحي تسري بيننا يأكلن دعلجة ويشبع من ثوى يعني بالدعلجة السرقة.
قال الزبير: ولا عقب للحجاح أبي نبيه ومنبه إلا من ولد نبيه؛ فإن العقب من ولد أبي سلمة إبراهيم بن عبد الله بن عفيف بن نبيه، وفي ريطه بنت منبه؛ فإن عمرو بن العاص تزوجها فولدت له عبد الله بن عمرو .
انتزع امرأة من أبيها فلجأ إلى حلف الفضول
فخلصوها منه
وهذا الشعر الذي فيه الغناء يقوله في امرأة كان غلب أباها عليها، فاستغاث أبوها بالحلفاء من قريش، والحلف المعروف بحلف الفضول؛ فانتزعوها من نبيه وردوها إلى أبيها.
أخبرني الطوسي، قال حدثني الزبير بن بكار، قال: حدثني غير واحد من قريش، منهم عبد العزيز بن عمر العنبسي عن مغن ، واسمه عيينة بن عبد الله بن عنبسة:
صفحة : 1965
أن رجلا من خثعم قدم مكة تاجرا، ومعه ابنة له يقال لها القتول، أوضأ نساء العالمين وجها، فعلقها نبيه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم، فلم يبرح حتى نقلها إليه، وغلب أباها عليها، فقيل لأبيها: عليك بحلف الفضول؛ فأتاهم فشكا ذلك إليهم، فأتوا نبيه بن الحجاج، فقالوا: أخرج ابنة هذا الرجل، وهو يومئذ متبد بناحية مكة وهي معه، فقال: لا أفعل، قالوا: فإنا من قد عرفت، فقال: يا قوم متعوني بها الليلة، فقالوا: قبحك الله، ما أجهلك لا والله ولا شخب لقحة، وهي أوسع أحابيك من السائل، فأخرجها إليهم فأعطوها أباها، وركبوا، وركب معهم الخثعمي، فلذلك يقول نبيه بن الحجاج : شعره في ذلك:
راح صحبي ولم أحي القتولا لم أودعهم وداعـا جـمـيلا
إذ أجد الفضول أن يمنعوهـا قد أراني ولا أخاف الفضولا
لا تخالي أني عشية راح الرك ب هنتم عـلـي ألا أقـولا
إنني والذي تحج له شـمـط إياد وهـلـلـوا تـهـلـيلا
لا تبرأت من قتـيلة بـالـنـا س وهل تبتغون إلا القتـولا
لم أخبر عن الحـديث ولا أب دأ رس الحديث والتقـبـيلا
ومبيتا بذي المجـاز ثـلاثـا ومتى كان حجنا تـحـلـيلا
لن أذيع الحديث عنهـا ولا أن قاد لو أبيت فـيهـا فـتـيلا
أتلوى بها كـمـا تـتـلـوى حية الماء بـالأبـاء طـويلا
ثم عدوا عداء نـخـلة مـا يد رك منهم أدنى رعيل رعيلا
وبنو غالب أولـئك قـومـي ومتى يفزعوا تراهم قـبـيلا
وندامى بيض الوجوه كهـول وشباب أسهرت ليلا طـويلا
غير هجم ولا لـئام ولا تـع رف منهم إلا فتى بهـلـولا وفي ذلك يقول نبيه بن الحجاج :
حي الدوييرة إذ نأت منا على عدوائهـا
لا بالفراق تنيلـنـا شيئا ولا بلقـائهـا
أخذت حشاشة قلبـه ونأت فكيف بنائهـا
حلت تهـامة خـلة من بيتها ووطائهـا
ولها بمكة مـنـزل من سهلها وحرائها
رفعوا المحلة فوقها واستعذبوا من مائها
تدعو شهابا حولهـا وتعم في حلفائهـا
لولا الفضول وأنـه لا أمن من عدوائها
لدنوت من أبياتـهـا ولطفت حول خبائها
ولجئتها أمشي بـلا هاد لدى ظلمائهـا
فشربت فضلة ريقها ولبت في أحشائهـا
فسلي بمكة تخبـري أنا من أهل وفائهـا
قدما وأفضل أهلهـا منا على أكفـائهـا
نمشي بألوية الوغى ونموت في أودائها حلف الفضول
سبب حلف الفضول أخبرنا به الطوسي، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة قال: كان سبب حلف الفضول أن رجلا من أهل اليمن قدم مكة ببضاعة فاشتراها رجل من بني سهم، فلوى الرجل بحقه؛ فسأله متاعه فأبى عليه، فقام في الحجر، فقال:
يال قصي لمظلوم بضاعـتـه ببطن مكة نائي الدار والنفـر
وأشعث محرم لم يقض حرمته بين المقام وبين الركن والحجر وروى بعض الثقات تماما لهذين البيتين، وهو:
أقائم من بني سهم بـذمـتـهـم أم ذاهب في ضلال مال معتمر
إن الحرام لمن تمت حرامـتـه ولا حرام لثوب الفاجر الغـدر قال: وقال بعض العلماء: إن قيس بن شيبة السلمي باع متاعا من أبي بن خف، فلواه وذهب بحقه، فاستجار برجل من بني جمح، فلم يقم بجواره، فقال:
يال قصي كيف هذا في الحرم وحرمة البيت وأعلاق الكرم
أظلم لا يمنع مني من ظلـم قال: وبلغ الخبر العباس بن مرداس السلمي، فقال:
إن كان جارك لم تنفعك ذمـتـه وقد شربت بكأس الغل أنفـاسـا
فائت البيوت وكن من أهلها صددا لا تلف ناديهم فحشا ولا بـاسـا
صفحة : 1966
وثم كن بفناء البيت معتـصـمـا تلق ابن حرب وتلق المرء عباسا
قرمى قريش وحلا في ذؤابتهـا بالمجد والحزم ما حازا وما ساسا
ساقي الحجيج وهذا ياسر فـلـج والمجد يورث أخماسا وأسداسـا فقام العباس وأبو سفيان حتى ردا عليه. واجتمعت بطون قريش، فتحالفوا على رد الظلم بمكة، وألا يظلم رجل بمكة إلا منعوه، وأخذوا له بحقه، وكان حلفهم في دار ابن جدعان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقد شهدت حلفا في دار ابن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو دعيت به لأجبت .
فقال قوم من قريش: هذا والله فضل من الحلف؛ فسمى حلف الفضول.
قال: وقال آخرون: تحالفوا على مثل حلف تحالف عليه قوم من جرهم في هذا الأمر ألا يقروا ظلما ببطن مكة إلا غيروه، وأسماؤهم الفضل بن شراعة، والفضل بن قضاعة، والفضل بن سماعة .
قال: وحدثني محمد بن فضالة، عن عبد الله بن سمعان، عن ابن شهاب، قال: كان شأن حلف الفضول أن بدء ذلك أن رجلا من بني زبيد قدم مكة معتمرا في الجاهلية ومعه تجارة له، فاشتراها منه رجل من بني سهم، فأواها إلى بيته، ثم تغيب، فابتغى متاعه الزبيدي، فلم يقدر عليه، فجاء إلى بني سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا عليه، فعرف أن لا سبيل إلى ماله؛ فطوف في قبائل قريش يستعين بهم، فتخاذلت القبائل عنه، فلما رأى ذلك أشرف على أبي قبيس حين أخذت قريش مجالسها في المسجد، ثم قال:
يا آل فهر لمظلوم بضاعـتـه ببطن مكة نائي الدار والنفـر
ومحرم شعث لم يقض عمرتـه يا إل فهر وبين الحجر والحجر
أقائم من بني سهم بخفرتـهـم فعادل أم ضلال مال معـتـم الحلف ينعقد في دار عبد ابن جدعان ورسول الله معهم فلما نزل أعظمت قريش ذلك، فتكلموا فيه، فقال المطيبون: والله لئن قمنا في هذا ليغضبن الأحلاف، وقال الأحلاف: والله لئن تكلمنا في هذا ليغضبن المطيبون، وقال ناس من قريش: تعالوا فليكن حلفا فضولا دون المطيبين ودون الأحلاف، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، وصنع لهم طعاما يومئذ كثيرا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ معهم، قبل أن يوحي الله إليه، وهو ابن خمس وعشرين سنة. فاجتمعت بنو هاشم وأسد وزهرة وتيم، وكان الذي تعاقد عليه القوم: تحالفوا على ألا يظلم بمكة غريب ولا قريب ولا حر ولا عبد إلا كانوا معه، حتى يأخذوا له بحقه، ويؤدوا إليه مظلمته من أنفسهم ومن غيرهم، ثم مدوا إلى ماء من زمزم فجعلوه في جفنة، ثم بعثوا، به إلى البيت، فغسلت به أركانه، ثم أتوا به فشربوه.
النبي يشيد بحلف الفضول قال: فحدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، أما لو دعيت إليه اليوم لأجبت، وما أحب أن لي به حمر النعم، وأني نقضته .
قال: وحدثني عمر بن عبد العزيز العنبسي أن الذي اشترى من الزبيدي المتاع العاص بن وائل السهمي.
أهل الحلف وعلى أي شيء تحالفوا وقال: أهل حلف الفضول بنو هاشم، وبنو المطلب، وبنو أسد بن عبد العزى، وبنو زهرة، وبنو تيم، تحالفوا بينهم ألا يظلم بمكة أحد إلا كنا جميعا مع المظلوم على الظالم، حتى نأخذ له مظلمته ممن ظلمه شريفا أو وضيعا، منا أو من غيرنا.
ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل، ثم قالوا: والله لا نفارقك حتى تؤدي إليه حقه، فأعطى الرجل حقه، فمكثوا كذلك لا يظلم أحد حقه بمكة إلا أخذوه له. وكان عتبة بن ربيعة بن عبد شمس يقول: لو أن رجلا وحده خرج من قومه لخرجت من عبد شمس، حتى أدخل في حلف الفضول. وليس عبد شمس في حلف الفضول.
وحدثني محمد بن حسن، عن محمد بن طلحة، عن موسى بن عبد الله بن إبراهيم، عن أبيه، وعن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، وعن إبراهيم بن محمد، وعن أبي عبد الله بن الهاد:
صفحة : 1967
أن بني هاشم وبني المطلب وبني أسد بن عبد العزى وتيم بن مرة اختلفوا على ألا يدعوا بمكة كلها، ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه، حتى يرجوا عليه مظلمته، أو يبلوا في ذلك عذرا، أو على ألا يتركوا لأحد عند أحد فضلا إلا أخذوه، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - وبذلك سمي حلف الفضول - بالله الغالب أن اليد على الظالم حتى يأخذوا للمظلوم حقه ما بل بحر صوفة ، وعلى التأسي في المعاش.
قال محمد بن الحسن: قال محمد بن طلحة في حديثه، عن موسى بن محمد عن أبيه، وعن محمد بن فضالة، عن أبيه، قال: لم يكن بنو أسد بن عبد العزى في حلف الفضول، قال: وكان بعد عبد المطلب.
قال: وحدثني محمد بن الحسن، عن عيسى بن يزيد بن دأب، قال: أهل حلف الفضول: هاشم، وزهرة، وتيم. قال: وقيل له: فهل لذلك شاهد من الشعر? قال: نعم، قال: أنشدني بعض أهل العلم قول بعض الشعراء:
تيم بن مرة إن سالـت وهـاشـم وزهرة الخير في دار ابن جدعان
متحالفون على الندى ما غـردت ورقاء في فنن من جزع كتمـان فقيل له: وأين كتمان? فقال: واد بنجران ؛ فجاء بيتين مضطربين مختلفي النصفين.
وحدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال: تداعى بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة بن كلاب وتيم بن مرة إلى حلف الفضول، فاجتمعوا في دار عبد الله بن جدعان، فتحالفوا عنده، وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ولا من غيرهم إلا قاموا معه على من ظلمه حتى يردوا مظلمته. وشهد النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحلف قبل أن يبعث، فهذا حلف الفضول.
قال: وحدثني إبراهيم بن حمزة عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه، قال: إنما سمي حلف الفضول لأنه كان في جرهم رجال يردون المظالم يقال لهم: فضيل وفضال وفضل ومفضل قال: فلذلك سمي حلف الفضول، تعاقدوا أن يردوا المظالم.
قال: فتحالفوا بالله الغالب لنأخذن للمظلوم من الظالم، وللمقهور من القاهر، وما بل بحر صوفة.
قال: وقال أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فشهدت حلفا في دار عبد الله بن جدعان لم يزده الإسلام إلا شدة، ولهو أحب إلي من حمر النعم ، قال: وقال غيره: لو دعيت إليه لأجبت .
رواية أخرى في سبب تسميته قال: وحدثني محمد بن حسن، عن نوفل بن عمارة عن إسحاق بن الفضل قال: إنما سمت قريش هذا الحلف حلف الفضول؛ لأن نفرا من جرهم يقال لهم: الفضل وفضال والفضيل، تحالفوا على مثل ما تحالفت عليه هذه القبائل.
قال: وحدثني رجل عن محمد بن حسن، عن محمد بن فضالة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لقد شهدت في دار ابن جدعان حلف الفضول، أما لو دعيت إليه لأجبت، وما أحب أني نقضته، وأن لي حمر النعم .
قال الزبير: وحدثين علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده، لقد شهدت في الجاهلية حلفا - يعني حلف الفضول - أما لو دعيت إليه لأجبت، لهو أحب إلي من حمر النعم، لا يزيده الإسلام إلا شدة .
قال: وحدثني أبو الحسن الأثرم، عن أبي عبيدة، قال: حدثني رجل عن محمد بن يزيد الليثي، قال: سمعت طلحة بن عبد الله بن عوف الزبيري، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت .
قال: وحدثني محمد بن حسن، عن نصر بن مزاحم، عن معروف بن خربوذ، قال: تداعت بنو هاشم وبنو المطلب وأسد وتيم، فاختلفوا على ألا يدعوا بمكة كلها ولا في الأحابيش مظلوما يدعوهم إلى نصرته إلا أنجدوه، حتى يردوا إليه مظلمته، أو يبلوا في ذلك عذرا. وكره ذلك سائر المطيبين والأحلاف من أمره ، وسموه حلف الفضول، عيبا له، وقالوا: هذا من فضول القوم، فسموه حلف الفضول.
قال: وحدثني محمد بن حسن، عن إبراهيم بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، قال: كان حلف الفضول بين بني هاشم وبني أسد وبني زهرة وبني تيم.
قال: فحدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، قال: حدثني إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن محمد بن حبيب، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، قال:
صفحة : 1968
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شهدت مع عمومتي حلف المكيين، فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه .
قال: وحدثني محمد بن الحسن، عن محمد بن طلحة، عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي: أنه بلغه أن الذي بدأ بحلف الفضول من هذه القبائل أمر الغزال الذي سرق من الكعبة.
ابن جبير بن مطعم وعبد الملك حدثني محمد بن الحسن، قال: حدثنا محمد بن طلحة، عن موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، عن أبيه، قال: قدم ابن جبير بن مطعم على عبد الملك بن مروان، وكان من حلفاء قريش.
بنو عبد شمس وبنو نوفل لم يدخلاه فقال له عبد الملك: يا أبا سعيد، لم يكن بنو عبد شمس وأنتم - يعني بني نوفل - في حلف الفضول، قال: وأنتم أعلم يا أمير المؤمنين، قال: لتحدثني بالحق من ذلك، قال: لا والله يا أمير المؤمنين، لقد خرجنا نحن وأنتم منه، ولم تكن يدنا ويدكم إلا جميعا في الجاهلية والإسلام.
الوليد بن عتبة ينصف الحسين بن علي قال: وحدثني محمد بن حسن، عن إبراهيم بن محمد بن يزيد بن عبد الله بن الهاد الليثي أن محمد بن الحارث التيمي أخبره: أنه كان بين الحسين بن علي وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان كلام - والوليد يومئذ أمير المدينة في زمن معاوية بن أبي سفيان - في مال كان بينهما بذي المروة ، فقال الحسين بن علي: استطال علي الوليد بن عتبة في حقي بسلطانه، فقلت: اقسم بالله لتنصفني في حقي أو لآخذن سيفي، ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم لأدعون بحلف الفضول، قال: فقال عبد الله بن الزبير - وكان عند الوليد لما قال الحسين ما قال -: وأنا أحلف بالله لئن دعا به لآخذن سيفي ثم لأقومن معه حتى ينصف من حقه أو نموت جميعا. فبلغت المسور بن مخرمة بن نوفل الزهري، فقال مثل ذلك، فبلغت عبد الرحمن بن عثمان بن عبيد الله التيمي، فقال مثل ذلك. فلما بلغ الوليد بن عتبة أنصف الحسين من حقه حتى رضي.
قال: وحدثني أبو الحسن الأثرم علي بن المغيرة، عن أبي عبيدة، قال: حدثني رجل عن يزيد بن عبد الله بن أسامة الليثي: أن محمد بن إبراهيم التيمي حدثه مثل حديث محمد بن حسن الذي قبل هذا.
الحسين ينازع معاوية في أرض له قال: وحدثني إبراهيم بن حمزة، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه أن الحسين بن علي كان بينه وبين معاوية كلام في أرض له، فقال له الحسين: اختر خصلة من ثلاث خصال: إما أن تشتري مني حقي، وإما أن ترده علي، أو تجعل بيني وبينك ابن الزبير وابن عمر، والرابعة الصيلم، قال: وما الصيلم? قال: أن أهتف بحلف الفضول، قال: فلا حاجة لنا بالصيلم.
قال: فخرج وهو مغضب، فمر بعبد الله بن الزبير فأخبره، فقال: والله لئن لم ينصفني لأهتفن بحلف الفضول، فقال عبد الله بن الزبير: والله لئن هتفت به وأنا مضطجع لأقعدن أو قاعد لأقومن، ولئن هتفت به وأنا ماش لأسعين، ثم لينفدن روحي مع روحك، أو لينصفنك.
قال: فخرج عبد الله بن الزبير فدخل على معاوية فباعه منه، وخرج عبد الله فجاء إلى الحسين، فقال: أرسل فانتقد مالك، فقد بعته لك.
قال: وحدثني علي بن صالح، عن جدي عبد الله بن مصعب، عن أبيه، قال: خرج الحسين من عند معاوية، فلقي عبد الله بن الزبير، والحسين مغضب، فذكر الحسين أن معاوية ظلمه في حق له، فقال الحسين: أخيره في ثلاث خصال، والرابعة الصيلم: أن يجعلك أو ابن عمر بيني وبينه، أو يقر بحقي، ثم يسألني فأهبه له، أو يشتريه مني، فإن لم يفعل فوالذي نفسي بيده لأهتفن بحلف الفضول.
قال ابن الزبير: والذي نفسي بيده لئن هتفت به وأنا قاعد لأقومن أو قائم لأمشين، أو ماش لأشتدن، حتى تفنى روحي مع روحك أو ينصفك.
قال: ثم ذهب ابن الزبير إلى معاوية، فقال: لقيني الحسين فخيرك في ثلاث خصال، والرابعة الصيلم. قال معاوية: لا حاجة لنا بالصيلم؛ إنك لقيته مغضبا، فهات الثلاث، قال: تجعلني أو ابن عمر بينك وبينه، قال: فقد جعلتك بيني وبينه أو ابن عمر أو جعلتكما، قال: أو تقر له بحقه وتسأله إياه، قال: أنا أقر له بحقه وأسأله إياه، قال: أو تشتريه منه، قال: وأنا أشتريه منه، قال: فلما انتهى إلى الرابعة قال لمعاوية كما قال للحسين: إن دعاني إلى حلف الفضول لأجبته، فقال معاوية: لا حاجة لنا بهذا.
صفحة : 1969
رجل من ثمالة يشكو حلف الفضول قال: وبلغني أن عبد الرحمن بن أبي بكرة والمسور بن مخرمة قالا للحسين بن علي مثل ما قال ابن الزبير، فبلغ ذلك معاوية وعنده جبير بن مطعم ، فقال له معاوية: يا أبا محمد، أكنا في حلف الفضول? قال: لا، قال: فكيف كان? قال: قدم رجل من ثمالة فباع سلعة له من أبي بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح، فظلمه، وكان يسيء المخالطة فآتى الثمالي إلى أهل حلف الفضول فأخبرهم، فقالوا: اذهب فأخبره أنك أتيتنا، فإن أعطاك حقك وإلا فارجع إلينا، فأتاه فأخبره بما قال له أهل حلف الفضول، قال: فأخرج إليه ماله، وأعطاه إياه بعينه، وقال:
أيأخذني في بطـن مـكة ظـالـمـا أبي ولا قومي لدي ولا صـحـبـي
وناديت قومي صارخا لـيجـيبـنـي وكم دون قومي من فياف ومن سهب
ويأبى لكم حلف الفضول ظلامـتـي بني جمح والحق يؤخذ بالغـصـب القيني يستصرخ عبد الله بن جدعان وقد روى إبراهيم بن المنذر الحزامي في أمر حلف الفضول غير ما رواه الزبير، قال إبراهيم: حدثني عبد العزيز بن عمران، قال: قدم أبو الطمحان القيني الشاعر، واسمه حنظلة بن الشرقي، فاستجار عبد الله بن جدعان التيمي ومعه مال له من الإبل، فعدا عليه قوم من بني سهم فانتحروا ثلاثة من إبله، وبلغه ذلك فأتاهم بمثلها، فقال: أنتم لها ولأكثر منها أهل، فأخذوها فانتحروها، ثم أمسكوا عنه زمانا، ثم جلسوا على شراب لهم، فلما انتشوا غدوا على إبله فأساقوها كلها، فأتى عبد الله بن جدعان يستصرخه، فلم يكن فيه ولا في قومه قوة ببني سهم، فأمسك عنهم ولم ينصره، فقال أبو الطمحان :
ألا حنت المرقال واشتاق ربهـا تذكر أرماما وأذكر معشـري
ولو علمت صرف البيوع لسرها بمكة أن تبتاع حمضا بـإذخـر
أجدبني الشرفـي أن أخـاهـم متى يعتلق جارا وإن عز يغدر
إذا قلت واف أدركتـه دروكـه فيا موزع الجيران بالغي أقصر ثم ارتحل عنهم.
لميس بن سعد يستجير بقريش من ظلم أبي بن خلف ووفد لميس بن سعد البارقي مكة، فاشترى منه أبي بن خلف سلعة، فظلمه إياها، فمشى في قريش فلم يجزه أحد، فقال:
أيظلمنـي مـالـي أبـي سـفـاهة وبغيا ولا قومي لدي ولا صحـبـي
وناديت قومي بارقا لـتـجـيبـنـي وكم دون قومي من فياف ومن سهب رجل آخر من زبيد يستجير بقريش ثم قدم رجل من بني زبيد، فاشترى منه رجل من بين سهم يقال له: حذيفة سلعة، وظلمه حقه، فصعد الزبيدي على أبي قبيس، ثم نادى بأعلى صوته:
يا آل فهر لمظلوم بضاعـتـه ببطن مكة نائي الحي والنفـر
يا آل فهر لمظلوم ومضطهـد بين المقام وبين الركن والحجر
إن الحرام لمن تمت حرامتـه ولا حرام لثوب الفاجر الغدر فأعظم الزبير بن عبد المطلب ذلك، وقال: يا قوم، إني والله لأخشى أن يصيبنا ما أصاب الأمم السالفة من ساكني مكة، فمشى إلى ابن جدعان، وهو يومئذ شيخ قريش، فقال له في ذلك، وأخبره بظلم بني سهم وبغيهم، وقد كان أصاب بني سهم أمران لا يشك أنهما للبغي: احتراق المقاييس منهم، وهم قيس ومقيس وعبد قيس بصاعقة، وأقبل منهم ركب من الشام، فنزلوا بماء يقال له القطيعة ، فصبوا فضلة خمر لهم في إناء، وشربوا ثم ناموا، وقد بقيت منهم بقية فكرع منها حية أسود، ثم تقيأ في الإناء، فهب القوم فشربوا منه، فماتوا عن آخرهم، فأذكره هذا ومثله، فتحالف بنو هاشم وبنو المطلب وبنو زهرة وبنو تيم: بالله الغالب ، إنا ليد واحدة على الظالم، حتى يرد الحق.
وخرج سائر قريش من هذا الحلف. إلا أن ابن الزبير ادعاه لبني أسد في الإسلام. قال: فأخبرني الواقدي وغيره أن محمد بن جبير بن مطعم دخل على عبد الملك بن مروان، فسأله عن حلف الفضول فقال: أما أنت وأنت يا أمير المؤمنين فلسنا فيه، فقال: صدقت والله، إني لأعرفك بالصدق، قال: فإن ابن الزبير يدعيه، فقال: ذاك هو الباطل.
قال: وكان عتبة بن ربيعة يقول: لو أن رجلا خرج عن قومه إلى غيرهم لكرم حلف لخرجت عن قومي إلى حلف الفضول.
أقوال أخرى في سبب تسمية الحلف
صفحة : 1970
قال الواقدي: قد اختلف فيه، لم سمي حلف الفضول؛ فقيل: إنه سمي بذلك لأنهم قالوا: لا ندع لأحد عند أحد فضلا إلا أخذناه منه، وقيل: بل سمع بهذا بعض من لم يدخل فيه، فقال: هذا فضول من الأمر.
وقال الواقدي: والصحيح أن قوما من جرهم يقال لهم فضل وفضالة وفضال ومفضل تحالفوا على مثل هذا في أيامهم، فلما تحالفت قريش هذا الحلف سموا بذلك.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
يا للرجال لمظلوم بضاعتـه ببطن مكة نائي الدار والنفر
إن الحرام لمن تمت حرامته ولا حرام لثوبي لابس الغدر غناه ابن عائشة، ثقيل أول بالبنصر، عن حبش.
يزيد أول من سن الملاهي في الإسلام أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا المدائني، عن ابن أبي سبرة، عن لقيط بن نصر المحاربي، قال: كان يزيد بن معاوية أول من سن الملاهي في الإسلام من الخلفاء، وآوى المغنين، وأظهر الفتك وشرب الخمر، وكان ينادم عليها سرجون النصراني مولاه والأخطل، وكان يأتيه من المغنين سائب خاثر فيقيم عنده، فيخلع عليه ويصله، فغناه يوما:
يا للرجال لمظلوم بضاعتـه ببطن مكة نائي الأهل والنفر فاعترته أريحية، فرقص حتى سقط، ثم قال: اخلعوا عليه خلعا يغيب فيها حتى لا يرى منه شيء، فطرحت عليه الثياب والجباب والمطارف والخز حتى غاب فيها.
صوت
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفـقـا في رأس غمدان دارا منك محلالا
تلك المكارم لا قعبان مـن لـبـن شيبا بماء فعـادا بـعـد أبـوالا عروضه من البسيط.
المرتفق: المتكىء على مرفقه. وغمدان: اسم قصر كان لسيف بن ذي يزن باليمن. والمحلال. الدار التي يحل فيها، أي يقيم فيها. وشيبا: معناه خلطا. والشوب: الخلط، يقال: شاب كذا بكذا إذا خلطهما.
الشعر لأمية بن أبي الصلت الثقفي ، وقيل: بل هو للنابغة الجعدي، وهذا خطأ من قائله؛ وإنما أدخل النابغة البيت الثاني من هذه الأبيات في قصيدة له على جهة التضمين. والغناء لسائب خائر خفيف رمل بالوسطى، من رواية حماد عن أبيه، وفيه لطويس من كتاب يونس الكاتب غير مجنس .
نسب أمية بن أبي الصلت
وخبره في قوله هذا الشعر نسبه
أبو الصلت عبد الله بن أبي ربيعة بن عمرو بن عقدة بن عنزة بن عوف بن قسي ، وهو ثقيف. شاعر من شعراء الجاهلية قديم. وهذا الشعر يقوله في سيف بن ذي يزن لما ظفر بالحبشة يهنيه بذلك ويمدحه.
سيف بن ذي يزن يستنجد كسرى
وكان السبب في قدوم الحبشة اليمن وغلبتهم عليها وخروج سيف بن ذي يزن إلى كسرى يستنجد عليهم أن ملكا من ملوك اليمن يقال له: ذو نواس غزا أهل نجران، وكانوا نصارى، فحصرهم؛ ثم إنه ظفر بهم فخدد لهم الأخاديد، وعرضهم على اليهودية فامتنعوا من ذلك، فحرقهم بالنار، وحرق الإنجيل، وهدم بيعتهم، ثم انصرف إلى اليمن، وأفلت منه رجل يقال له دوس ذو ثعلبان على فرس، فركضه حتى أعجزهم في الرمل.
دوس ذو ثعلبان يستنجد قيصر
ومضى دوس إلى قيصر ملك الروم يستغيثه ويخبره بما صنع ذو نواس بنجران، ومن قتل من النصارى، وأنه خرب كنائسهم، وبقر النساء، وهدم الكنائس، فما فيها ناقوس يضرب به. فقال له قيصر: بعدت بلادي عن بلادكم، ولكن أبعث إلى قوم من أهل ديني، أهل مملكته قريب منكم فينصرونكم. قال دوس ذو ثعلبان؛ فذاك إذا، قال قيصر: إن هذا الذي أصنعه بكم أذل للعرب أن يطأها سودان ليس ألوانهم على ألوانهم، ولا ألسنتهم على ألسنتهم، فقال الملك: أنظر لأهل دينه إنما هو خوله.
قيصر يكتب إلى ملك الحبشة بنصرة دوس فكتب إلى ملك الحبشة أن انصر هذا الرجل الذي جاء يستنصرني، واغضب للنصرانية، فأوطىء بلادهم الحبشة.
أرباط يخرج في جيش كبير إلى اليمن فخرج دوس ذو ثعلبان بكتاب قيصر إلى ملك الحبشة، فلما قرأ كتابه أمر أرياط - وكان عظيما من عظمائهم - أن يخرج معه فينصره. فخرج أرياط في سبعين ألفا من الحبشة، وقود على جنده قوادا من رؤسائهم، وأقبل بفيله، وكان معه أبرهة بن الصباح. وكان في عهد ملك الحبشة إلى أرياط: إذا دخلت اليمن فاقتل ثلث رجالها، وخرب ثلث بلادها، وابعث إلي بثلث نسائها.
صفحة : 1971
فخرج أرياط في الجنود فحملهم في السفن في البحر، وعبر بهم حتى ورد اليمن، وقد قدم مقدمات الحبشة، فرأى أهل اليمن جندا كثيرا، فلما تلاحقوا قام أرياط في جنده خطيبا فقال: يا معشر الحبشة، قد علمتم أنكم لن ترجعوا إلى بلادكم أبدا، هذا البحر بين أيديكم إن دخلتموه غرقتم، وإن سلكتم البر هلكتم، واتخذتكم العرب عبيدا، وليس لكم إلا الصبر حتى تموتوا أو تقتلوا عدوكم.
انتصار أرياط على ذي نواس فجمع ذو نواس جمعا كثيرا، ثم سار إليهم فاقتتلوا قتالا شديدا، فكانت الدولة للحبشة، فظفر أرياط، وقتل أصحاب ذي نواس، وانهزموا في كل وجه. فلما تخوف ذو نواس أن سيؤسر ركض فرسه، واستعرض به البحر، وقال: الموت بالبحر أحسن من إسار أسود، ثم أقحم فرسه لجة البحر، فمضى به فرسه، وكان آخر العهد به.
ثم خرج إليهم ذو جدن الهمذاني في قومه، فناوشهم، وتفرقت عنه همدان، فلما تخوف على نفسه قال: ما الأمر ما صنع ذو نواس، فأقحم فرسه البحر، فكان آخر العهد به.
ودخل أرياط اليمن، فقتل ثلثا، وبعث ثلث السبي إلى ملك الحبشة، وخرب ثلثا، وملك اليمن، وقتل أهلها، وهدم حصونها، وكانت تلك الحصون بنتها الشياطين في عهد سليمان لبلقيس، واسمها بلقمة، وكان مما خرب من حصونهم: سلحون، وبينون، وغمدان، حصونا لم ير مثلها. فقال الحميري ، وهو بذكر ما دخل على حمير من الذل:
هونك أين ترد العين ما فاتـا لا تهلكن أسفا في إثر من فاتا
أبعد بينون لا عـين ولا أثـر وبعد سلحون يبني الناس أبياتا قال: فلما ظفر أرياط أخذ الأموال، وأظهر العطاء في أهل الشرف، فغضبت الحبشة حين أعطى أشرافهم، وترك أهل الفقر منهم، واستذلهم وأجاعهم وأعراهم وأتعبهم في العمل، وكلفهم ما لا يطيقون، فجزع من ذلك الفقراء، وشكا ذلك بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما نرانا إلا أذلة أشقياء أينما كنا، إن كان قتال قدمنا في نحور العدو، وإن كان قتل قتلنا، وإن كان عمل فعلينا، والبلايا علينا، والعطايا لغيرنا، مع ما يقصينا ويجفونا.
أبرهة يحرض فقراء الحبشة على أرياط
فقال لهم عند ذلك رجل من الحبشة يقال له أبرهة من قواد أرياط: لو أن رجلا غضب لغضبكم إذا لأسلمتموه حتى يذبح كما تذبح الشاة. قالوا: لا والمسيح، ما كنا نسلمه أبدا، فواثقوه بالإنجيل ألا يسلموه حتى يموتوا عن آخرهم.
فنادى مناديه فيهم، فاجتمعوا إليه فبلغ ذلك أرياط أن أصحم أبرهة جمع لك الجموع، ودعا الناس إلى قتالك. قال: أو قد فعل ذلك أبرهة، وهو ممن لا بيت له في الحبشة وغضب أرياط غضبا شديدا، وقال: هو أدنى من ذلك نفسا وبيتا، هذا باطل.
قالوا: فأرسل إليه؛ فإن أتاك فهو باطل، وإن لم يأتك فاعلم أنه كما يقال، فأرسل إليه: أجب الملك أرياط. فجثا أبرهة على ركبتيه وخر لوجهه، وأخذ عودا من الأرض فجعله في فيه، وقال للرسول: اذهب إلى الملك فأخبره بما رأيت مني، أنا أخلعه? أنا أشد تعظيما له من ذلك وأنا آتيه على أربع قوائم بحساب البهيمة.
فرجع الرسول إلى الملك فأخبره بالخبر، فقال: ألم أقل لكم? قالوا: الملك أعقل وأعلم منا.
فلما ولى الرسول من عند أبرهة وتوارى عنه صاح أبرهة في الفقراء من الحبشة، فاجتمعوا إليه معهم السلاح، والآلة التي كانوا يعملون بها ويهدمون بها مدن اليمن: المعاول والكرازين والمساحي، ثم صفوا صفا، وصفوا خلفه آخر بإزائه. فلما أبطأ أبرهة على الملك وهو يرى أنه يأتيه على أربع قوائم كما قال، وأتى الرسول أرياط فأخبره بما صنع أبرهة، ركب في الملوك ومن تبعه من أتباعهم، فلبسوا السلاح وجاءوا بالفيلة، وكان معه سبعة فيلة، حتى إذا دنا بعضهم من بعض برز أبرهة بين الصفين، فنادى بأعلى صوته: يا معشر الحبشة، الله ربنا، والإنجيل كتابنا، وعيسى نبينا، والنجاشي ملكنا، علام يقتل بعضنا بعضا في مذهب النصرانية? هذا رجل وأنا رجل فخلوا بيني وبينه، فإن قتلني عاد الملك إلى ما كان عليه من أثرة الأغنياء وإهلاك الفقراء، وإن قتلته سلمتم وعملت فيكم بالإنصاف بينكم ما بقيت.
صفحة : 1972
فقال الملوك لأرياط: قد أخبرناك أنه صنع ما قد ترى، وقد أبيت إلا حسن الرأي فيه، وقد أنصفك. وكان أرياط قد عرف بالشجاعة والنجدة، وكان جميلا، وكان أبرهة قصيرا دميما قبيحا منكر الجمة ، فاستحيا أرياط من الملوك أن يجبن، فبرز بين الصفين، ومشى أحدهما إلى صاحبه، وحمل عليه أرياط فضرب أبرهة ضربة وقع منها حاجباه وعامة أنفه، ووقع بين رجلي أرياط، فعمد أبرهة إلى عمامته فشد بها وجهه، فسكن الدم والتأم الجرح، وأخذ عودا وجعله في فيه، وقال: أيها الملك، إنما أنا شاة فاصنع ما أردت، فقد أبصرت أمري. ففرح أرياط بما صنع، وكان أبرهة قد سم خنجرا، وجعله في بطن فخذه، كأنه خافية نسر.
أبرهة يقتل أرياط ويتولى ملك اليمن
فلما رأى أبرهة أن أرياط قد أفلت عنه، وهو ينظر يمينا وشمالا؛ لئلا تراه ملوك الحبشة، استل خنجره فطعنه طعنة في فرج درعه فأثبته ، وخر أرياط على قفاه، وقعد أبرهة على صدره فأجهز عليه. فسمى أبرهة الأشرم بتلك الضربة التي شرمت وجهه وأنفه.
فملك أبرهة عشرين سنة، ثم ملك بعد أبرهة ابنه يسكوم، ثم أخوه مسروق بن أبرهة، وأمه ريحانة امرأة ذي يزن أم سيف بن ذي يزن الحميري.
سيف يسعى لتخليص اليمن من الحبشة
فلما طال على أهل اليمن البلاء مشوا إلى سيف بن ذي يزن الحميري، فكلموه في الخروج، وقالوا إنا نجد فيما روت حمير عن خبر لسطيح أنه يوشك أن هذا البلاء يفرج بيد رجل من أهل بيتك ابن ذي يزن، وقد رجونا أن ندرك بثأرنا، فأنعم لهم. فخرج إلى قيصر ملك الروم، فكلمه أن ينصره على الحبشة، فأبى، وقال: الحبشة على ديني ودين أهل مملكتي، وأنتم على دين يهود، فخرج من عنده يائسا.
النعمان يصحب سيفا إلى كسرى
فخرج عامدا إلى كسرى، فانتهى إلى النعمان بن المنذر بالحيرة فدخل عليه، فأخبره بما لقي قومه من الحبشة، فقال: أقم؛ فإن لي على الملك كسرى إذنا في كل سنة، وقد حان ذلك.
فلما خرج أخرج معه سيف بن ذي يزن فأدخله على كسرى، فقال: غلبنا على بلادنا، وغلب الأحابيش علينا، وأنا أقرب إليك منهم، لأني أبيض وأنت أبيض، وهم سودان. فقال: بلادك بلاد بعيدة، ولا أبعث معك جيشا في غير منفعة، ولا أمر أخافه على ملكي.
فلما أيأسه من النصر أمر له بعشرة آلاف درهم واف، وكساه كسا.
فلما خرج بها من باب كسرى نثرها على الصبيان والعبيد، فرأى ذلك أصحاب كسرى، فقالوا ذلك له؛ فأرسل إليه: لم صنعت بجائزة الملك? تنثرها للصبيان والناس? فقال سيف: وما أعطاني الملك جبال أرضى ذهب وفضة، جئت إلى الملك ليمنعني من الظلم، ولم آته ليعطيني الدراهم، ولو أردت الدراهم كان ذلك في بلدي كثيرا.
فقال كسرى: أنظر في أمرك. فخرج سيف على طمع، وأقام عنده فجعل سيف كلما ركب كسرى عرض له، فجمع له كسرى مرازبنه، وقال: ما ترون في هذا العربي، وقد رأيته رجلا جلدا? فقال قائل منهم: إن في السجون قوما قد سجنهم الملك في موجدة عليهم، فلو بعثهم الملك معه فإن قتلوا استراح منهم، وإن ظفروا بما يريد هذا العربي فهو زيادة في ملك الملك. فقال كسرى: هذا الرأي.
كسرى يعين سيفا بجيش يقوده وهرز
وأمر بهم كسرى فأحضروا فوجد ثمانمائة رجل، فولى أمرهم رجلا معهم يقال له وهرز، وكان راميا شجاعا مع مكانة في الفرس، وجهزهم، وأعطاهم سلاحا، وحملهم في البحر في ثماني سفن، فغرقت سفينتان، وبقي من بقي وهم ستمائة رجل؛ فأرسلوا إلى ساحل عدن، فلما ارسوا قال وهرز لسيف: ما عندك، فقد جئنا بلادك? فقال: ما شئت من رجل عربي وفرس عربي، ثم اجعل رجلي مع رجلك حتى نموت جميعا أو نظرف جميعا.
قال وهرز: أنصفت. فاستجلب سيف من استطاع من اليمن، ثم زحفوا إلى مسروق بن أبرهة، وقد سمع بهم مسروق وبتعيبتهم، فجمع إليه جنده من الحبشة، وسار إليهم، والتقى العسكران، وجعلت أمداد اليمن تثوب إلى سيف، وبعث وهرز ابنا له كان معه على جريدة خيل، فقال: ناوشوهم القتال، حتى ننظر قتالهم، فناوشهم ابنه، وناوشوه شيئا من قتال، ثم تورط ابنه في هلكة لم يستطع التخلص منها؛ فاشتملوا عليه فقتلوه، فازداد وهرز عليهم حنقا. وسيء العرب، وفرحت الحبشة، فأظهروا الصليب، فوتر وهرز قوسه، وكان لا يقدر أن يوترها غيره.
وهرز يقتل مسروقا
صفحة : 1973
وقال وهرز والناس في صفوفهم: انظروا أين ترون ملكهم? قال سيف : أرى رجلا قاعدا على فيل تاجه على رأسه، بين عينيه ياقوتة حمراء. قال: ذلك ملكهم. وقال وهرز: اتركوه. ثم وقف طويلا، ثم قال: انظروا هل تحول? قالوا: قد تحول على فرس. قال: هذا منه اختلاط. ثم وقف طويلا، وقال: انظروا هل تحول? قالوا: قد تحول على بغلة، فقال: ابنة الحمار، ذل الأسود وذل ملكه، ثم قال لأصحابه: نقتله في هذه الرمية، تأملوا النشابة، وأخذ النشابة وجعل فوقها في الوتر، ثم نزع فيها حتى ملأها، وكان أيدا ، ثم أرسلها فصحكت الياقوتة التي بين عيني ملكهم مسروق، فتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه، وحملت عليهم الفرس، فانهزمت الحبشة في كل وجه، وجعلت حمير تقتل من أدركوا منهم، وتجهز على جريحهم.
وهرز يدخل صنعاء ويملك اليمن
وأقبل وهرز يريد أن يدخل صنعاء، وكان موضعهم الذي التقوا فيه خارج صنعاء، وكان اسم صنعاء: أزال ، فلما قدمت الحبشة بنوها وأحكموها، فقالت: صنعة؛ فسميت صنعاء، وكانت صنعاء مدينة لها باب صغير يدخل منه، فلما دنا وهرز من باب المدينة رآه صغيرا، فقال: لا تدخل رايتي منكسة، اهدموا الباب، فهدم باب صنعاء، ودخل ناصبا رايته وسير بها بين يديه. فقال سيف بن ذي يزن: ذهب ملك حمير آخر الدهر، لا يرجع إليهم أبدا.
فملك وهرز اليمن، وقهر الحبشة، وكتب إلى كسرى يخبره: إني قد ملكت للملك اليمن، وهي أرض العرب القديمة التي تكون فيها ملوكهم، وبعث بجوهر، وعنبر، ومال، وعود، وزباد ، وهو جلود لها رائحة طيبة.
كسرى يأمر وهرز أن يملك سيفا اليمن
فكتب كسرى يأمره أن يملك سيفا، ويقدم وهرز إلى كسرى.
فخلف على اليمن سيفا، فلحا خلا سيف باليمن وملكها عدا على الحبشة، فجعل يقتل رجالها ويبقر نساءها عما في بطونها، حتى أفناها إلا بقايا منها أهل ذلة وقلة، فاتخذهم خولا، واتخذ منهم جمازين بحرابهم بين يديه.
الحبشة يغتالون سيفا
فمكث كذلك غير كثير، وركب يوما وتلك الحبشة معه، ومعهم حرابهم يسعون بها بين يديه، حتى إذا كان وسطا منهم مالوا عليه بحرابهم فطعنوه بها حتى قتلوه.
وكان سيف قد آلى ألا يشرب الخمر، ولا يمس امرأة حتى يدرك ثأره من الحبشة، فجعلت له حلتان واسعتان فأتزر بواحدة، وارتدى الأخرى، وجلس على رأس غمدان يشرب، وبرت يمينه. وخرج بعد ذلك يتصيد فقتلته الحبشة.
وكان ملك أرياط عشرين سنة، وملك أبرهة ثلاثا وعشرين سنة، وملك يكسوم تسع عشرة سنة، وملك مسروق اثنتي عشرة سنة، فهذه أربع وسبعون سنة.
وكان قدوم أهل فارس اليمن مع وهرز بعد الفجار بعشر سنين، وقبل بنيان قريش البيت بخمس سنين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة أو نحوها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد بعد قدوم الفيل بخمس وخمسين ليلة.
وفود العرب تقدم على سيف لتهنئته بالنصر ونسخت خبر مديحه سيفا بهذا الشعر من كتاب عبد الأعلى بن حسان، قال: حدثنا الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، وحدثني به محمد بن عمران المؤدب بإسناد لست أحفظ الاتصال بينه وبين الكلبي فيه، فاعتمدت هذه الرواية، قال: لما ظفر سيف بن ذي يزن بالحبشة، وذلك بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين أتته وفود العرب وأشرافها لتهنيه وتمدحه، وتذكر ما كان من بلائه وطلبه بثأر قومه؛ فأتته وفود العرب من قريش، فأتوه بصنعاء، وهو على رأس قصر له يقال له: غمدان، فأخبره الآذن بمكانهم، فأذن لهم، فدخلوا عليه وهو على شرابه، وعلى رأس غلام واقف ينثر في مفرقه المسك، وعن يمينه ويساره الملوك والمقاول، وبين يديه أمية بن الصلت الثقفي ينشده قوله فيه هذه الأبيات : أمية يمدح سيفا والفرس
لا يطلب الثأر إلا كابن ذي يزن في البحر خيم للأعداء أحـوالا
أتى هرقل وقد شالت نعامـتـه فلم يجد عنده النصر الذي سـالا
ثم انتحى نحو كسرى بعد عاشرة من السنين يهين النفس والمـالا
حتى أتى ببني الأحرار يقدمهـم تخالهم فوق متن الأرض أجبالا
لله درهم من فـتـية صـبـروا ما إن رايت لهم في الناس أمثالا
صفحة : 1974
بيض مـرازبة غـلـب أسـاورة أسد تربت في الغيضات أشـبـالا
فالتط من المسك إذ شالت نعامتهم وأسبل اليوم في برديك إسـبـالا
واشرب هنيئا عليك التاج مرتفقـا في رأس غمدان دارا منك محلالا
تلك المكارم لا قعبان مـن لـبـن شيبا بماء فعـادا بـعـد أبـوالا بنو الأحرار الذين عناهم أمية في شعره هم الفرس الذين قدموا مع سيف بن ذي يزن، وهم إلى الآن يسمون بني الأحرار بصنعاء، ويسمون باليمن الأبناء، وبالكوفة الأحامرة؛ وبالبصرة الأساورة، وبالجزيرة الخضارمة، وبالشام الجراجمة.
عبد المطلب يهنىء سيفا
وسيف يرحب به وبمن معه
فبدأ عبد المطلب فاستأذن في الكلام، فقال له سيف بن ذي يزن: إن كنت ممن يتكلم بين يدي الملوك، فقد أذنا لك، فقال عبد المطلب: إن الله قد أحلك أيها الملك محلا رفيعا، صعبا منيعا، شامخا باذخا، وأنبتك منبتا طابت أرومته، وعزت جرثومته، في أكرم موطن، وأطيب معدن؛ فأنت - أبيت اللعن - ملك العرب، وربيعها الذي به تخصب، وأنت أيها الملك رأس العرب الذي له تنقاد، وعمودها الذي عليه العماد، ومعقلها الذي إليه يلجأ العباد، فسلفك لنا خير سلف، وأنت لنا منهم خير خلف، فلم يحمل من أنت خلفه، ولن يهلك من أنت سلفه نحن أهل حرم الله وسدنة بيته، أشخصنا إليك الذي أبهجنا؛ لكشفك الكرب الذي فدحنا، فنحن وفود التهنية لا وفود المرزية.
قال: وأيهم أنت أيها المتكلم? قال: أنا عبد المطلب بن هاشم، قال: ابن أختنا? قال: نعم. فأدناه حتى أجلسه إلى جنبه، ثم أقبل على القوم وعليه، فقال: مرحبا وأهلا، وناقة ورحلا، ومستناخا سهلا، وملكا ربحلا ، يعطى عطاء جزلا، قد سمع الملك مقالتكم، وعرف قرابتكم، وقبل وسيلتكم، وأنتم أهل الشرف والنباهة، ولكم الكرامة ما أقمتم، والحباء إذا ظعنتم.
سيف يسر اه أمارات ظهور النبي ثم استنهضوا إلى دار الضيافة والوفود، فأقاموا فيها شهرا لا يصلون إليه، ولا يؤذن لهم في الإنصراف، وأجرى لهم الأنزال . ثم انتبه لهم انتباهة، فأرسل إلى عبد المطلب، فأدناه، وأخلى مجلسه، ثم قال: يا عبد المطلب، إني مفوض إليك من سر علمي أمرا لو يكون غيرك لم أبح به إليه، ولكني رأيتك موضعه، فأطلعتك طلعه؛ فليكن عندك مطويا حتى يأذن الله فيه، فإن الله بالغ أمره.
إني أجد في الكتاب المكنون، والعلم المخزون، الذي اخترناه لأنفسنا، واحتجناه دون غيرنا، خبرا عظيما، وخطرا جسيما، فيه شرف الحياة، وفضيلة الوفاء للناس عامة، ولرهطك كافة، ولك خاصة.
قال عبد المطلب: مثلك أيها الملك من سر وبر، فما هو فداك أهل الوبر، زمرا بعد زمر? قال ابن ذي يزن: إذا ولد غلام بتهامة، بين كتفيه شامة، كانت له الإمامة، ولكم به الزعامة، إلى يوم القيامة.
قال عبد المطلب: أيها الملك، لقد أبت بخير ما آب بمثله وافد، ولولا هيبة الملك وإكرامه وإعظامه لسألته أن يزيدني في البشارة ما أزداد به سرورا. قال ابن ذي يزن: هذا حينه الذي يولد فيه، أو قد ولد? اسمه محمد صلى الله عليه وسلم، يموت أبوه وأمه، ويكلفه جده وعمه، قد ولدناه مرارا، والله باعثه جهارا، وجاعل له منا أنصارا، يعز بهم أولياءه، ويذل بهم أعداءه، يضرب بهم الناس عن عرض، ويستبيح بهم كرائم الأرض، يخمد النيران، ويدحر الشيطان، ويكسر الأوثان، ويعبد الرحمن، قوله فصل، وحكمه عدل، يأمر بالمعروف ويفعله، وينهى عن المنكر ويبطله.
فقال عبد المطلب: أيها الملك، عز جدك، وعلا كعبك، ودام ملكك، وطال عمرك، فهل الملك مخبري بإفصاح، فقد أوضح لي بعض الإيضاح.
فقال ابن ذي يزن: والبيت ذي الحجب، والعلامات على النصب، إنك يا عبد المطلب، لجده غير الكذب.
صفحة : 1975
فخر عبد المطلب ساجدا، فقال له: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك؛ فهل أحسست شيئا مما ذكرته لك? فقال عبد المطلب: أيها الملك كان لي ابن، وكنت به معجبا، وعليه رفيقا، زوجته كريمة من كرائم قومي، اسمها آمنة بنت وهب؛ فجاءت بغلام سميته محمدا، مات أبوه وأمه؛ وكفلته أنا وعمه. قال: الأمر ما قلت لك؛ فاحتفظ بابنك، واحذر عليه من اليهود؛ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلا، واطو ما ذكرت لك عن هؤلاء الرهط الذين معك؛ فإني لا آمن أن تدخلهم النفاسة من أن تكون له الرياسة؛ فينصبون له الحبائل، ويطلبون له الغوائل، وهم فاعلون وأبناؤهم، وبطيء ما يجيبه قومه؛ وسيلقى منهم عننا، والله مبلج حجته؛ ومظهر دعوته، وناصر شيعته، ولولا أني أعلم أن الموت مجتاحي قبل مبعثه لسرت بخيلي ورجلي؛ حتى أصير يثر دار ملكي؛ فإن أجد في الكتاب المكنون أن بيثرب استحكام أمره، وأهل نصرته، وموضع قبره؛ ولولا أن أتوقى عليه الآفات، وأحذر عليه العاهات، لأعلنت على حداثة سنه أمره، ولكني صارف ذلك إليك من غير تقصير مني بمن معك.
يجزل العطاء لعبد المطلب وصحبه قال: ثم أمر لكل رجل بعشرة أعبد، وعشرة إماء، ومائة من الإبل وحلتين برودا، وخمسة أرطال ذهبا، وعشرة أرطال فضة، وكرش مملوءة عنبرا، ثم أمر لعبد المطلب بعشرة أضعاف ذلك.
وقال: يا عبد المطلب، إذا حال الحول فائتني. فمات ابن ذي يزن قبل أن يحول الحول.
وكان عبد المطلب كثيرا ما يقول: يا معشر قريش، لا يغبطني رجل منكم بجزيل عطاء الملك، وإن كثر؛ فإنه إلى نفاد، ولكن ليغبطني بما بقي لي شرفه وذكره إلى يوم القيامة. فإذا قيل له: وما ذاك? قال: ستعلمون نبأ ما أقول، ولو بعد حين.
وفي ذلك يقول أمية بن عبد شمس :
جلبنا النصح تحمله المطـايا إلى أكوار أجمـال ونـوق
مغلغلة مرافقـهـا ثـقـالا إلى صنعاء من فج عمـيق
تؤم بنا ابن ذي يزن ونهـدي مخاليها إلى أمم الطـريق
فلما وافقت صنعاء صارت بدار الملك والحسب العريق المالكي يغني طاهرا بشعر أمية في سيف
أخبرني علي بن عبد العزيز، قال: حدثني عبد الله بن عبد الله بن خرداذبة، قال: كان أحمد بن سعيد بن قادم المعروف بالمالكي، أحد القواد مع طاهر بن الحسين بن عبد الله بن طاهر، فكان معه بالري، وكان مع محله من خدمة السلطان مغنيا حسن الغناء، وله صنعة، فحضر مجلس طاهر بن عبد الله، وهو متنزه بظاهر الري بموضع يعرف بشاذمهر، وقيل: بل حضره بقصره بالشاذياخ ، فغنى هذا الصوت:
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا في رأس غمدان.....البـيت فقال ابن عباد الرازي في وقته من الشعر مثل ذلك المعنى، وصنع فيه، وغنى فيه أحمد بن سعيد لحنا من خفيف الرمل وهو : صوت
اشرب هنيئا عليك التاج مرتفقـا بالشاذياخ ودع غمدان للـيمـن
فأنت أولى بتاج الملك تلبـسـه من هوذة بن علي وابن ذي يزن فطرب طاهر، فاستعاده مرات، وشرب عليه حتى سكر، وأسنى لأحمد بن سعيد الجائزة.
هوذة بن علي ويوم الصفقة
أما ذكره هوذة بن علي ولبسه التاج؛ فإن السبب في ذلك أن كسرى توج هوذة بن علي الحنفي، وضم إليه جيشا من الأساورة، فأوقع ببني تميم يوم الصفقة .
يوم الصفقة أخبرني بالسبب في ذلك علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أبو سعيد السكري، قال: حدثنا ابن حبيب ودماذ، عن أبي عبيدة، قال ابن حبيب: قال أبو سعيد: وأخبرنا إبراهيم بن سعدان، عن أبيه، عن أبي عبيدة، قال ابن حبيب: وأخبرني ابن الأعرابي، عن المفضل، قال أبو سعيد، قالوا جميعا:
صفحة : 1976
كان من حديث يوم الصفقة أن باذام عامل كسرى باليمن بعث إلى كسرى عيرا تحمل ثيابا من ثياب اليمن، ومسكا وعنبرا، وخرجين فيهما مناطق محلاة، وخفراء تلك العير فيما يزعم بعض الناس بنو الجعيد المراديون. فساروا من اليمن لا يعرض لهم أحد، حتى إذا كان بحمض من بلاد بني حنظلة بن يربوع وغيرهم، أغاروا عليها فقتلوا من فيها من بني جعيد والأساورة، واقتسموها، وكان فيمن فعل ذلك ناجية بن عقال، وعتبة بن الحارث بن شهاب، وقعنب بن عتاب، وجزء بن سعد، وأبو مليل عبد الله بن الحارث، والنطف بن جبير، وأسيد بن جنادة، فبلغ ذلك الأساورة الذين بهجر مع كزارجر المكعبر، فساروا إلى بني حنظلة بن يربوع، فصادفوهم على حوض، فقاتلوهم قتالا شديدان فهزمت الأساورة، وقتلوا قتلا شديدا ذريعا، ويومئذ أخذ النطف الخرجين اللذين يضرب بهما المثل .
فلما بلغ كسرى استشاط غضبان وأمر بالطعام فادخر بالمشقر ومدينة اليمامة، وقد أصابت الناس سنة شديدة، ثم قال: من دخلها من العرب فأميروه ما شاء .
فبلغ ذلك الناس، قال: وكان أعظم من أتاهم بنو سعد، فنادى منادي الأساورة: لا يدخلها عربي بسلاح، فأقيم بوابون على باب المشقر، فإذا جاء الرجل ليدخل قالوا: ضع سلاحك، وامتر، واخرج من الباب الآخر؛ فيذهب به إلى رأس الأساورة فيقتله، فيزعمون أن خيبري بن عبادة بن النوال بن مرة بن عبيد - وهو مقاعس - قال: يا بني تميم؛ ما بعد السلب إلا القتل، وأرى قوما يدخلون ولا يخرجون، فانصرف منهم من انصرف من بقيتهم، فقتلوا بعضهم وتركوا بعضا محتبسين عندهم. هذا حديث المفضل.
وأما ما وجد عن ابن الكلبي في كتاب حماد الراوية، فإن كسرى بعث إلى عامله باليمن بعير، وكان باذام على الجيش الذي بعثه كسرى إلى اليمن، وكانت العير تحمل نبعا ، فكانت تبذرق من المدائن حتى تدفع إلى النعمان، ويبذرقها النعمان بخفراء من بني ربيعة ومضر حتى يدفعها إلى هوذة بن علي الحنفي، فيبذرقها حتى يخرجها من أرض بني حنيفة، ثم تدفع إلى سعد، وتجعل لهم جعالة، فتسير فيها، فيدفعونها إلى عمال باذام باليمن.
فلما بعث كسرى بهذه العير قال هوذة للأساورة: انظروا الذي تجعلونه لبني تميم فأعطونيه؛ فأنا أكفيكم أمرهم، وأسير فيها معكم، حتى تبلغوا مأمنكم، فخرج هوذة والأساورة والعير معهم من هجر، حتى إذا كانو ابنطاع بلغ بني سعد ما صنع هوذة، فساروا إليهم، وأخذوا ما كان معهم، واقتسموه وقتلوا عامة الأساورة، وسلبوهم، وأسروا هوذة بن علي، فاشترى هوذة نفسه بثلاثمائة بعير، فساروا معه إلى هجر، فأخذوا منه فداءه، ففي ذلك يقول شاعر بني سعد:
ومنا رئيس القوم ليلة أدلجـوا بهوذة مقرون اليدين إلى النحر
وردنا به نخل اليمامة عـانـيا عليه وثاق القد والحلق السمر فعمد هوذة عند ذلك إلى الأساورة الذين أطلقهم بنو سعد، وكانوا قد سلبوا، فكساهم وحملهم، ثم انطلق معهم إلى كسرى، وكان هوذة رجلا جميلا شجاعا لبيبا، فدخل عليه فقص أمر بني تميم وما صنعوا، فدعا كسرى بكأس من ذهب فسقاه فيها، وأعطاه إياها وكساه قباء ديباج منسوجا بالذهب واللؤلؤ، وقلنسوة قيمتها ثلاثون ألف درهم، وهو قول الأعشى :
له أكاليل بالياقوت فصـلـهـا صواغها لا ترى عيبا ولا طبعا وذكر أن كسرى سأل هوذة عن ماله ومعيشته فأخبره أنه في عيش رغد، وأنه يغزو المغازي المغازي فيصيب.
فقال له كسرى في ذلك: كم ولدك? قال: عشرة، قال: فأيهم أحب إليك? قال: غائبهم حتى يقدم، وصغيرهم حتى يكبر، ومريضهم حتى يبرأ. قال كسرى: الذي أخرج منك هذا العقل حملك على أن طلبت مني الوسيلة. وقال كسرى لهوذة: رأيت هؤلاء الذين قتلوا أساورتي، وأخذوا مالي، أبينك وبينهم صلح?.
قال هوذة: أيها الملك بيني وبينهم حساء الموت، وهم قتلوا أبي. فقال كسرى: قد أدركت ثأرك، فكيف لي بهم. قال هوذة: إن أرضهم لا تطيقها أساورتك، وهم يمتنعون بها، ولكن احبس عنهم الميرة، فإذا فعلت ذلك بهم سنة أرسلت معي جندا من أساورتك، فأقيم لهم السوق؛ فإنهم يأتونها، فتصيبهم عند ذلك خيلك.
صفحة : 1977
ففعل كسرى ذلك، وحبس عنهم الأسواق في سنة مجدبة، ثم سرح إلى هوذة فأتاه، فقال: ائت هؤلاء فاشفني منهم، واشتف. وسرح معهم جوار بودار ورجلا من أردشير خره. فقال لهوذة: سر مع رسولي هذا، فسار في ألف أسوار حتى نزلوا المشقر من أرض البحرين، هو حصن هجر.
وبعث هوذة إلى بني حنيفة فأتوه، فدنوا من حيطان المشقر، ثم نودي: إن كسرى قد بلغه الذي أصابكم في هذه السنة، وقد أمر لكم بميرة، فتعالوا، فامتاروا. فانصب عليهم الناس، وكان أعظم من أتاهم بنو سعد، فجعلوا إذا جاءوا إلى باب المشقر أدخلوا رجلا رجلا، حتى يذهب به إلى المكعبر فتضرب عنقه، وقد وضع سلاحه قبل أن يدخل، فيقال له: ادخل من هذا الباب واخرج من الباب الآخر، فإذا مر رجل من بني سعد بينه وبين هوذة إخاء، أو رجل يرجوه، قال للمكعبر: هذا من قومي فيخليه له.
فنظر خيبري بن عبادة إلى قومه يدخلون ولا يخرجون، وتؤخذ أسلحتهم، وجاء ليمتار، فلما رأى ما رأى قال: ويلكم أين عقولكم فوالله ما بعد السلب إلا القتل.
وتناول سيفا من رجل من بني سعد يقال له مصاد، وعلى باب المشقر سلسلة ورجل من الأساورة قابض عليها، فضربها فقطعها ويد الأسوار، فانفتح الباب، فإذا الناس يقتلون، فثارت بنو تميم.
ويقال: إن الذي فعل هذا رجل من بني عبس يقال له: عبيد بن وهب، فلما علم هوذة أن القوم قد نذروا به أمر المكعبر فأطلق منهم مائة من خيارهم، وخرج هاربا من الباب الأول هو والأساورة، فتبعتهم بنو سعد والرباب، فقتل بعضهم، وأفلت من أفلت.
صوت
إذا سلكت حوران من رمل عالج فقولا لها: ليس الطريق هنالك
دعوا فلجات الشام قد حيل دونها بضرب كأفواه العشار الأوارك عروضه من الطويل. الشعر لحسان بن ثابت، والغناء لابن محرز، ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول، مطلق في مجرى البنصر.
وهذا الشعر يقوله حسان بن ثابت لقريش حين تركت الطريق الذي كانت تسلكه إلى الشام بعد غزوة بدر، واستأجرت فرات بن حيان العجلي دليلا، فأخذ بهم غيرها، وبلغ النبي صلى الله عليه وسلم الخبر، فأرسل زيد بن حارثة في سرية إلى العير فظفر بها، وأعجزه القوم.
ذكر الخبر في سرية زيد بن حارثة
أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة، قال: حدثنا محمد بن سعد، عن الواقدي، قال: كان سبب هذه الغزوة أن قريشا قالت: قد عور علينا محمد متجرنا ، وهو على طريقنا. وقال أبو سفيان وصفوان بن أمية: إن أقمنا بمكة أكلنا رؤوس أموالنا. فقال زمعة بن الأسود: وأنا أدلكم على رجل يسلك بكم النجدة ، ولو سلكها مغمض العين لاهتدى. فقال صفوان: من هو? قال: فرات بن حيان العجلي، فاساجراه، فخرج بهم في الشتاء، فسلك بهم ذات عرق، ثم سلك بهم على غمرة، فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبر العير، فخرج وفيها مال كثير، وآنية من فضة حملها صفوان بن أمية.
فخرج زيد بن حارثة فاعترضها، فظفر بالعير، وأفلت أعيان القوم، وكان الخمس عشرين ألفا، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسم الأربعة الأخماس على السرية ، وأتى بفرات بن حيان العجلي أسيرا، فقيل له: إن أسلمت لم يقتلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما دعا به رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم، فأرسله.
حدثنا محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق في خبر هذه السرية بمثل رواية الواقدي، وزاد فيها فيما رواه: إن قريشا لما خافت طريقها إلى الشام أخذت على طريق العراق، وذكر أن الوقعة كانت على القردة : ماء من مياه نجد.
إبراهيم بن هشام يكتب بدعوة بني مخزوم
أخبرني حرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني يعقوب بن محمد الزهري، قال: كتب إبراهيم بن هشام إلى هشام بن عبد الملك: إن رأى أمير المؤمنين إذا فرغ من دعوة أعمامه بني عبد مناف أن يبدأ بدعوة أخواله بني مخزوم. فكتب: إن رضي بذلك آل الزبير فافعل. فلما فرغ من إعطاء بني عبد مناف نادى مناديه ببني مخزوم، فناداه عثمان بن عروة، وقال :
إذا هبطت حوران من أرض عالج فقولا لها: ليس الطريق هنالـك فأمر مناديه فنادى بني أسد بن عبد العزى، ثم مضى على الدعوة.
صفحة : 1978
النبي يقطع فرات بن حيان أرضا بالبحرين
أخبرني محمد بن عبد الله الحضرمي إجازة، قال: حدثنا ضرار بن صرد، قال: حدثنا علي بن هشام، عن عمار بن زريق، عن أبي إسحاق، عن عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بفرات بن حيان فقال: إني مسلم، فقال لعلي: إن منكم من أكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيان، وأقطعه أرضا بالبحرين تعل ألفا ومائتين.
حدثني أحمد بن يوسف بن سعيد، قال: حدثنا محمد عبيد الله بن عتبة، قال: حدثنا موسى بن زياد الزيات، قال: حدثنا عبد الرحمن بن سليمان الأشل ، عن زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عن جارية بن مضرب، عن أمير المؤمنين علي، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بفرات بن حيان يوم الخندق، وكان عينا للمشركين، فأمر بقتله، فقال: إني مسلم، فقال: إن منكم من أتألفه على الإسلام وأكله إلى إيمانه، منهم فرات بن حيان.
صوت
إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسـه شكى الفقر أو لام الصديق فأكثرا
وصار على الأدنين كلا وأوشكت صلات ذوي القربى له أن تنكرا
فسر في بلاد الله والتمس الغنـى تعش ذا يسار أو تموت فتعـذرا
ولا ترض من عيش بدون ولا تنم وكيف ينام الليل من كان معسرا عروضه من الطويل، الشعر لأبي عطاء السندي. والغناء لإبراهيم. خفيف ثقيل بالوسطى، من نسخة عمرو الثانية.
ذكر أبي عطاء السندي
أبو عطاء، اسمه أفلح بن يسار، مولى بني أسد، ثم مولى عنبر بن سماك بن حصين الأسدي، منشؤه الكوفة، وهو من مخضرمي الدولتين. مدح بني أمية وبني هاشم، وكان أبوه يسار سنديا أعجميا لا يفصح. وكان في لسان أبي عطاء لكنة شديدة ولثغة، فكان لا يفصح . وكان له غلام فصيح سماه عطاء، وتكنى به، وقال: قد جعلتك ابني، وسميتك بكنيتي، فكان يرويه شعره، فإذا مدح من يجتديه أو ينتجعه أمره بإنشاده ما قاله . وكان ابن كناسة يذكر أنه كاتب مواليه، وأنهم لم يعتقوه.
يكاتب مواليه
أخبرني بذلك محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن ابن كناسة، قال: كثر مال أبي عطاء السندي بعد أن أعتق، فأعنته مواليه وطمعوا فيه، وادعوا رقه، فشكا ذلك إلى إخوانه، فقالوا له: كاتبهم ، فكاتبوه على أربعة آلاف، وسعى له أهل الأدب والشعر فيها فتركهم، وأتى الحر بن عبد الله القرشي، وهو حليف لقريش لا من أنفسهم، فقال فيه: شعره في الحر بن عبد الله القرشي
أتيتك لا من قربة هي بـينـنـا ولا نعمة قدمتها أستـثـيبـهـا
ولكن مع الراجين أن كنت موردا إليه بغاة الدين تهفو قلـوبـهـا
أغثني بسجل من نداك يكفـنـي وقال الردى مرد الرجال وشيبها
تسمى ابن عبد الله حرا لوصفـه وتلك العلا يعنى بها من يصيبها فأعطاه أربعة آلاف درهم، فأداها في مكاتبته وعتق .
وشعره في سليمان بن سليم
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه، قال: كان أبو عطاء السندي يجمع بين لثغة ولكنة، وكان لا يكاد يفهم كلامه، فأتى سليمان بن سليم فأنشده:
أعوزتني الرواة يابن سـلـيم وأبى أن يقيم شعري لسانـي
وغلى بالذي أجمجم صـدري وجفاني بعجمتي سلطـانـي
وازدرتني العيون إذ كان لوني حالكا مجتوى مـن الألـوان
فضربت الأمور ظهرا لبطن كيف أحتال حيلة للسـانـي
وتمنيت أنني كنـت بـالـش عر فإن البيان قد أعـيانـي
فاعتمدني بالشكر يابن سلـيم في بلادي وسائر البـلـدان
ستوافـيهـم قـصـائد غـر فيك سباقة لـكـل لـسـان
فقديما جعلت شكري جـزاء كل ذي نعمة بمـا أولانـي
لم تزل تشتري المحامد قدمـا بالربيح الغالي من الأثمـان فأمر له بوصيف بربري فصيح، فسماه عطاء، وتكنى به، ورواه شعره؛ فكان إذا أراد إنشاد مديح لمن يجتديه، أو مذاكرة لشعره أنشده.
هجاؤه مولاه عنبر بن سماك الأسدي
صفحة : 1979
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا ثعلب، عن أبي العالية الحر بن مالك الشامي، قال: لما أثرى أبو عطاء أعنته مولاه عنبر بن سماك الأسدي، حتى ابتاع نفسه منه، فقال يهجوه:
إذا ما كنت متخذا خـلـيلا فلا تثقن بكل أخي إخـاء
وإن خيرت بينهم فألصـق بأهل العقل منهم والحـياء
فإن العقل ليس له إذا مـا تذوكرت الفضائل من كفاء
وإن النوك للأحساب غـول به تأوي إلـى داء عـياء
فلا تثقن من النوكى بشيء ولو كانوا بني ماء السماء
كعنبر الوثيق بـنـاء بـيت ولكن عقله مثل الهـبـاء
وليس بقابل أدبـا فـدعـه وكن منه بمنقطع الرجـاء كان من شعراء بني أمية ومداحهم
قال: وكان أبو عطاء من شعراء بني أمية ومداحهم والمنصبي الهوى إليهم، وأدرك دولة بني العباس فلم تكن له فيها نباهة، فهجاهم. وفي آخر أيام المنصور مات. وكان مع ذلك من أحسن الناس بديهة، وأشدهم عارضة وتقدما، وشهد أبو عطاء حرب بني أمية وبني العباس فأبلى، وقتل غلامه عطاء مع ابن هبيرة، وانهزم هو، وقيل: بل كان أبو عطاء المقتول معه لا غلامه.
شعره في أبي زيد المري
وقد أعطاه فرسه فهرب به
أخبرني الحسن بن علي، عن أحمد بن الحارث، عن المدائني، قال: كان أبو عطاء يقاتل المسودة ، وقدامه رجل من بني مرة يكنى أبا يزيد، وقد عقر فرسه، فقال لأبي عطاء: أعطني فرسك حتى أقاتل عني وعنك، وقد كانا أيقنا بالهلاك، فأعطاه أبو عطاء فرسه، فركبه المري، ثم مضى وترك أبا عطاء، فقال أبو عطاء في ذلك:
لعمـرك إنـنـي وأبـا يزيد لكالساعي إلى وضح السراب
رأيت مخيلة فطمعت فـيهـا وفي الطمع المذلة للرقـاب
فما أعياك من طلـب ورزق كما يعييك في سرق الدواب
وأشهد أن مرة حـي صـدق ولكن لست منهم في النصاب أخبرني الحسن، عن أحمد بن الحارث، عن المدائني: أن يحيى بن زياد الحارثي وحمادا الراوية كان بينهما وبين معلى بن هبيرة ما يكون مثله بين الشعراء والرواة من النفاسة، وكان معلى بن هبيرة يحب أن يطرح حمادا في لسان شاعر يهجوه.
أبو عطاء وحماد الراوية
قال حماد الراوية: فقال لي يوما بحضرة يحيى بن زياد: أتقول لأبي عطاء السندي أن يقول في زج وجرادة ومسجد بني شيطان? قال: فقلت له: فما تجعله لي على ذلك? قال: بغلتي بسرجها ولجامها. قلت: فعدلها على يدي يحيى بن زياد، ففعل، وأخذت عليه موثقا بالوفاء.
وجاء أبو عطاء السندي فجلس إلينا، وقال: مرهبا مرهبا، هياكم الله. فرحبت به، وعرضت عليه العشاء، فقال: لا هاجة لي به، فقال: أعندكم نبيذ? فأتيناه بنبيذ كان عندنا فشرب حتى احمرت عيناه، واسترخت علابيه ، ثم قلت: يا أبا عطاء، إن إنسانا طرح علينا أبياتا فيها لغز، ولست أقدر على إجابته البتة، ومنذ أمس إلى الآن ما يستوي لي منها شيء، ففرج عني. قال: هات، فقلت:
أبن لي إن سئلت أبا عطاء يقينا كيف علمك بالمعاني فقال:
خبير عالم فاسأل تجدتي بها طبا وآيات المثاني فقلت:
فما اسم حديدة في رأس رمح دوين الكعب ليست بالسنان? فقال أبو عطاء:
هو الزز الذي إن بات ضيفا لصدرك لم تزل لك عولتان قلت: فرج الله عنك، تعني الزج. وقلت:
فما صفراء تدعى أم عوف كأن رجيلتيها منجـلان? فقال:
أردت زرادة وأزن زنــا بأنك ما أردت سوى لساني قلت: فرج الله عنك، وأطال بقاءك تريد جرادة، وأظن ظنا. وقلت:
أتعرف مسجدا لبني تمـيم فويق الميل دون بني أبان? فقال:
بنو سيطان دون بني أبـان كقرب أبيك من عبد المدان قال حماد: فرأيت عينيه قد احمرتا، وعرفت الغضب في وجهه وتخوفته، فقلت: يا أبا عطاء، هذا مقام المستجير بك، ولك النصف مما أخذته، قال: فاصدقني، قال: فأخبرته. فقال لي: أولى لك قد سلمت وسلم لك جعلك، خذه بورك لك فيه، ولا حاجة لي فيه. فأخذته، وانقلب يهجو معلى بن هبيرة.
مدح أبا جعفر فلم يثبه
صفحة : 1980
أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني: أن أبا عطاء مدح أبا جعفر فلم يثبه، فأظهر الانحراف عنه لعلمه بمذهبه في بني أمية، فعاوده بالمدح، فقال له: يا ماص كذا من أمه، ألست القائل في عدو الله الفاجر نصر بن سيار ترثيه:
فاضت دموعي على نصر وما ظلمت عين تفيض على نصر بـن سـيار
يا نصر من للقاء الحرب إن لقحـت يا نصر بعدك أو للضيف والـجـار
الخندفي الذي يحمـي حـقـيقـتـه في كل يوم مخوف الشر والـعـار
والقائد الخيل قبا فـي أعـنـتـهـا بالقوم حتى تلف القـار بـالـقـار
من كل أبيض كالمصباح من مضـر يجلو بسنته الظلـمـاء لـلـسـاري
ماض على الهول مقدام إذا اعترضت سمر الرمـاح وولـى كـل فـرار
إن قال قولا وفى بالقـول مـوعـده إن الكـنـانـي واف غـير غـدار هجاؤه أبا جعفر
والله لا أعطيك بعد هذا شيئا أبدا. قال: فخرج من عنده، وقال عدة قصائد يذمه فيها منها:
فليت جور بني مروان عاد لنـا وليت عدل بني العباس في النار وقال أيضا:
أليس الله يعلم أن قـلـبـي يحب بني أمية ما استطاعا
وما بي أن يكونوا أهل عدل ولكني رأيت الأمر ضاعا شعهر في ابن هبيرة حين لم يصله بشيء أخبرني الحسن، قال: حدثني الخراز ، عن المدائني، قال: كان أبو عطاء مع ابن هبيرة، وهو يبني مدينته التي على شاطىء الفرات، فأعطى ناسا كثيرا صلات ولم يعطه شيئا، فقال:
قصائد حكتهن ليوم فـخـر رجعن إلى صفرا خاليات
رجعن وما افأن علي شـيئا سوى أني وعدت الترهات
أقام على الفرات يزيد حولا فقال الناس: أيهما الفراتي
فيا عجبا لبحر بات يسقـي جميع الخلق لم يبلل لهاتي شعره في مدح يزيد بن عمر بن هبيرة
فقال له يزيد بن عمر بن هبيرة: وكم يبل لهاتك يا أبا عطاء? قال: عشرة آلاف درهم، فأمر ابنه بدفعها إليه، ففعل، فقال يمدح ابنه:
أما أبوك فعين الجود تعرفـه وأنت أشبه خلق الله بالجـود
لولا يزيد ولولا قبله عـمـر ألقت إليك معد بالمـقـالـيد
ما ينبت العود إلا في أرومته ولا يكون الجنى إلا من العود وهب له نصر بن سيار جارية فقال في ذلك شعرا أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائني، قال: وهب نصر بن سيار لأبي عطاء جارية، فلما أصبح غدا على نصر، فقال: ما فعلت أنت وهي? فقال: وقد كان شيء مني منعني من بعض حاجتي - يعني النوم - فقال: وهل قلت في ذلك شعرا? قال: نعم، وأنشد:
إن النكاح وإن هرمت لصالح خلف لعينك من لذيذ المرقد فقال نصر:
ذاك الشقاء فلا تظنـن غـيره ليس المشاهد مثل من لم يشهد فقال: أصلحك الله، إني قد امتدحتك فائذن لي أن أنشدك، قال: إني لفي شغل، ولكن ائت تميما، فأتاه فأنشده، فحمله على برذون أبلق، فقال له نصر من الغد: ما فعل بك تميم? فقال:
لئن كان أغلق باب الندى فقد فتح الباب بالأبلـق ثم أنشده قوله:
وهيكل يقال فـي جـلالـه تقصر أيدي الناس عن قذاله
جعلت أوصالي على أوصاله إنك حمال على أمـثـالـه لبس السواد وقال شعرا في ذلك أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني، قال: لما أمر أبو جعفر الناس بلبس السواد، لبسه أبو عطاء فقال:
كسيت ولم أكفر من الله نعمة سوادا إلى لوني ودنا ملهوجا
وبايعت كرها بيعة بعد بـيعة مبهرجة إن كان أمر مبهرجا يضيف بيتين من الشعر إلى بيتين بعث بهما إليه إبراهيم بن الأشتر أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائني، قال: بعث إبراهيم بن الأشتر إلى أبي عطاء ببيتين من شعر، وسأله أن يضيف إليهما بيتين من رويهما وقافيتهما، وهما:
وبلدة يزدهي الجنان طارقها قطعتها بكناز اللحم معتاطه
صفحة : 1981
وهنا وقد حلق النسران أو كربا وكانت الدلو بالجوزاء منتاطه فقال أبو عطاء:
فانجاب عنها قميص الليل فابتكرت تسير كالفحل تحت الكور لطاطه
في أينق كلما حث الحـداة لـهـا بدت مناسمها هوجاء حطـاطـه يهجو بغلة أبي دلامة
أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائني، قال: كان سبب هجاء ابي دلامة بغلته أن أبا عطاء السندي هجاها، فخاف أبو دلامة أن تشتهر بذلك، وتعره، فباعها وهجاها بقصيدته المشهورة. قال: وأبيات أبي عطاء فيها:
أبغل أبي دلامة مت هزلا عليه بالسخاء تعـولـينـا
دواب الناس تقضم ملمخالي وأنت مهانة لا تقضمينـا
سليه البيع واستعدي علـيه فإنك إن تباعي تسمنـينـا شعره في مدح نهيك بن معبد
أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، عن المدائني، قال: كان أبو عطاء منقطعا في طريق مكة، وخباؤه مطروح، فمر به نهيك بن معبد العطاردي، فقال: لمن هذا الخباء الملقى? فقيل: لأبي عطاء السندي، فبعث غلمانا له، فضربوا له خباء، وبعث إليه بألطاف وكسوة، فقال: من صنع هذا? قالوا: نهيك بن معبد، فنادى بأعلى صوته يقول:
إذا كنت مرتاد الرجال لنفعهم فناد بصوت: يا نهيك بن معبد فبعث إليه نهيك: لا، زدنا يا أبا عطاء.
فقال أبو عطاء: إنما أعطيناك على قدر ما أعطيتنا، فإن زدتنا زدناك، والله أعلم.
أنشده حماد بيتا فلم يعجبه
فقال شعرا يصحح معناه
نسخت من كتاب ابن الطحان : قال الهيثم بن عدي: أخبرنا حماد الراوية، قال: أنشدت أبا عطاء السندي في أثناء حديث هذا البيت:
إذا كنت في حاجة مرسلا فأرسل حكيما ولا توصه فقال أبو عطاء: بئس ما قال فقلت: كيف تقول أنت? قال: أقول:
إذا أرسلت في أمر رسولا فأفهمه وأرسـلـه أديبـا
وإن ضيعت ذاك فلا تلمـه على أن لم يكن علم الغيوبا شعره في مدح سليمان بن سليم
نسخت من كتاب عبيد الله بن محمد اليزيدي: قال الهيثم بن عدي، عن حماد بن سلمة الكلبي، قال: دخل أبو عطاء السندي على سليمان بن سليم بن بشار ، فقال له:
أعوزتني الرواة يابن سـلـيم وأبى أن يقيم شعري لسانـي
وغلا بالذي أجمجم صـدري وشكاني من عجمتي شيطاني
وعدتني العيون أن كان لوني حالكا مظلما مـن الألـوان
وضربت الأمور ظهرا لبطن كيف أحتال حيلة لبـيانـي
فتمنيت أنني كنت بـالـشـع ر فصيحا وبان بعض بناني
ثم أصبحت قد أنخت ركابـي عند رحب الفناء والأعطـان
فإلى من سواك يابن سـلـيم أشتكي كربتي وما قد عناني
فاكفني ما يضيق عنه ذراعي بفصيح من صالحي الغلمان
يفهم الناس ما أقول من الشع ر فإن البيان قـد أعـيانـي
ثم خذني بالشكر يابن سـلـيم حيث كانت داري من البلدان فأمر له بوصيف فصيح كان حسن الإنشاد، فقال أبو عطاء أيضا:
فأقبلوا نحوي معا بالـقـنـا وكلهم يسأل: ما شـأنـي?
فقلت: شأني كلـه أنـنـي في تعب من لفظ جردانـي
يابن سليم أنت لي عـصـمة من حديث أفزع جـيرانـي
فقد رماني الدهر عن فقـره بسهم فقر غير لـغـبـان
صاد فؤادي بعد ما قد سـلا فصرت كالمقتبل العـانـي
فانعش فدتك النفس مني ومن أطاعني من جل إخـوانـي
وهب فدتك النفس لي طفلة يقمع حرها رأس شيطانـي
فإن أيري قد عتا واعـتـدى وصار يبغي بغية الزانـي
فالله ثم الله فـي قـمـعـه من قبل أن أمنى بسلطـان
يتركني أضحوكة بعـد مـا أضرب في سـر وإعـلان فأمر له بجارية قندهارية فارهة، فقال:
أحصنني الله بكفي فتى مهذب من سر قحطان
صفحة : 1982
من حمي أهل السدي والندى وعصمة الخائف والجانـي
يا خير خلق الله أنت الـذي أيأست من فسقي شيطانـي يغضب لخطأ راويته في شعر قاله
أخبرني أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، قال: كنت جالسا مع سليمان بن مجالد وعنده أبو عطاء السندي، إذ قام راوية أبي عطاء ينشد سليمان مديحا لأبي عطاء، وأبو عطاء جالس لا يتكلم، إذ قال الراوية في إنشاده:
فما فضلت يمينك من يمـين ولا فضلت شمالك عن شمال هكذا بالرفع، فغضب أبو عطاء، وقال: ويلك فما مدهته إذا، إنما هزوته، يريد فما مدحته إذا إنما هجوته، ثم أنشده أبو عطاء:
فما فدلت يمينك من يمـين ولا فدلت شمالك عن شمال فكدت أضحك، ولم أجسر، لأني رأيت القوم جميعا بهم ما بي وهم لا يضحكون؛ خوفا منه.
ينشد نصر بن سيار فيأمر له بجائزة
حدثنا وكيع، قال: أخبرنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا سليمان بن منصور، قال: حدثني صالح بن سليمان، قال: وفد أبو عطاء السندي على نصر بن سيار فأنشده:
قالت تريكة بيتي وهي عـاتـبة : إن المقام على الإفلاس تـعـذيب
ما بال هم دخيل بات محتـضـرا رأس الفؤاد فنوم العين تـوجـيب
إني دعاني إليك الخير من بـلـدي والخير عند ذوي الأحساب مطلوب فأمر له بأربعين ألف درهم.
يغضب لأن ضيفه يرقب جاريته
أخبرني محمد بن خلف وكيع والحسن بن علي، قالا: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني سليمان بن أبي شيخ، عن صالح بن سليمان، قال: دخل إلى أبي عطاء السندي ضيف، فأتاه بطعام، فأكل، وأتاه بشراب وجلسا يشربان، فنظر أبو عطاء إلى رجل يلاحظ جاريته، فأنشأ يقول :
كل هنيئا وما شربت مريئا ثم قم صاغرا وأنت ذمـيم
لا أحب النديم يومض بالطر ف إذا ما خلا لعرس النديم
صوت
تجول خلاخيل النساء ولا أرى لرملة خلخالا يجول ولا قلبـا
أحب بني العوام طرا لحبهـا ومن أجلها أحببت أخوالها كلبا
فإن تسلمي نسلم، وإن تنتصـر تخط رجال بين أعينهم صلبـا عروضه من الطويل. الشعر لخالد بن يزيد بن معاوية يقوله في زوجته رملة بنت الزبير. والغناء ليحيى المكي، ثاني ثقيل أول بالوسطى، من رواية ابنه وأبي العبيس ، وفيه لعبيد الله بن أبي غسان رمل، وفيه لسعيد بن جابر خفيف رمل بالبنصر، عن حبش.
ذكر خالد ورملة
وأخبارهما وأنسابهما نسبه
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وكان من رجالا قريش سخاء وعارضة وفصاحة، وكان قد شغل نفسه بطلب الكيمياء فأفنى بذلك عمره، وأسقط نفسه. وأم خالد بن يزيد أم هاشم بنت هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف.
كان عالما شاعرا
أخبرني الطوسي وحرمي، قالا: حدثنا الزبير، قال: حدثني عمي مصعب، قال: كان خالد بن يزيد بن معاوية يوصف بالعلم، ويقول الشعر، وزعموا أنه هو الذي وضع خبر السفياني وكبره، وأراد أن يكون للناس فيه طمع حين غلبه مروان بن الحكم على الملك، وتزوج أمه أم هاشم، وهذا وهم من مصعب؛ فإن السفياني قد رواه غير واحد، وتتابعت فيه رواية الخاصة والعامة. وذكر خبر أمره أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين، وغيره من أهل البيت.
حدثني أبو عبد الله الصيرفي، قال: حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار، قال: حدثنا الحسن بن صالح، عن أبي الأسود، قال: حدثنا صالح بن أبي الأسود - يعني أباه - عن عبد الجبار بن العباس الهمداني، عن عمار الدهني، قال: قال أبو جعفر محمد بن علي: كم تعدون بقاء السفياني فيكم? قلت: حمل امرأة تسعة أشهر، قال: ما أعلمكم يا أهل الكوفة.
حدثني أبو عبد الله قال: حدثنا محمد بن علي، قال: حدثنا الحسن بن صالح، قال: حدثنا منصور بن الأسود، قال: أتيت جابرا الجعفي أنا والأسود أخي، فقلنا له: إنا قوم نضرب في هذه التجارات، وقد بلغنا أن الرايات قد قطع بها الفرات، فماذا تشير علينا? وماذا تأمرنا? قال: اذهبوا حيث شئتم من أرض الله تعالى، حتى إذا خرج السفياني فأقبلوا عودكم على بدئكم.
صفحة : 1983
أمه تكتنى باسمه
أخبرني الطوسي وحرمي، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، عن عمه، قال: لما ولدت أم هاشم خالد بن يزيد بن معاوية تركت كنيتها، واكتنت بخالد، وقال فيها يزيد بن معاوية:
وما نحن يوم استعبرت أم خالد بمرضى ذوي داء ولا بصحاح ولها يقول، وقد قدم من المدينة، وقد تزوج أم مسكين بنت عمر بن عاصم بن عمر بن الخطاب فحملت إليه بالشام، فأعجب بها، وجفا أم خالد، ودخل عليها وهي تبكي، فقال :
مالـك أم خـالـد تـبـكـين من قدر حل بكم تضـجـين
باعت على بيعك أم مسـكـين ميمونة من نسـوة مـيامـين
حلت محلك الذي تـحـلـين زارتك من يثرب في جوارين
في منزل كنت به تكونـين رملة تزوجت عثمان بن عبد الله
قبل زواجها من خالد
أخبرني الطوسي وحرمي، قالا: حدثنا الزبير بن بكار، عن عمه: أن رملة بنت الزبير كانت أخت مصعب بن الزبير لأمه ، كانت أمهما الرباب بنت أنيف بن عبيد بن مصاد بن كعب بن عليم بن عتاب بن ذهل من كلب، وإنما كانت قبل خالد بن يزيد عند عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، فولدت له عبد الله بن عثمان، وهو زوج سكينة بنت الحسين بن علي.
الحجاج يعاتب خالدا لخطبته رملة
فبرد عليه ردا عنيفا
قال الزبير: فحدثني رجل، عن عمر بن عبد العزيز، وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: لما قتل ابن الزبير حج خالد بن يزيد بن معاوية، فخطب رملة بنت الزبير بن العوام، فأرسل إليه الحجاج حاجبه عبيد الله بن موهب، وقال له: ما كنت أراك تخطب إلى آل الزبير حتى تشاورني، وكيف خطبت إلى قوم ليسوا لك بأكفاء وكذلك قال جدك معاوية، وهم الذين قارعوا أباك على الخلافة، ورموه بكل قبيحة، وشهدوا عليه وعلى جدك بالضلالة.
فنظر إليه خالد طويلا، ثم قال له: لولا أنك رسول، والرسول لا يعاقب لقطعتك إربا إربا، ثم طرحتك على باب صاحبك، قل له: ما كنت أرى أن الأمور بلغت بك إلى أن أشاورك في خطبة النساء.
وأما قولك لي: قارعوا أباك وشهدوا عليه بكل قبيح، فإنها قريش يقارع بعضها بعضا، فإذا أقر الله عزل وجل الحق قراره، كان تقاطعهم وتراحمهم على قدر أحلامهم وفضلهم.
وأما قولك: إنهم ليسوا بأكفاء فقاتلك الله يا حجاج، ما أقل علمك بأنساب قريش أيكون العوام كفؤا لعبد المطلب بن هاشم بتزوجه صفية، وبتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد، ولا تراهم أهلا لأبي سفيان فرجع الحاجب إليه فأعلمه.
شعره في رملة
قال: وقال عمر بن شبة في خبره، قال خالد بن يزيد بن معاوية فيها :
أليس يزيد السير في كـل لـيلة وفي كل يوم من أحبتنا قـربـا
أحن إلى بنت الزبير وقد علـت بنا العيس خرقا من تهامة أو نقبا
إذا نزلت أرضا تحبب أهلـهـا إلينا وإن كانت منازلها حـربـا
وإن نزلت ماء وإن كان قبلـهـا مليحا وجدنا ماءه باردا عـذبـا
تجول خلاخيل النسـاء ولا أرى لرملة خلخالا يجول ولا قلـبـا
أقلوا علي اللوم فيها فـإنـنـي تخيرتها منهم زبـيرية قـلـبـا
أحب بني العوام طرا لحـبـهـا ومن حبها أحببت أخوالها كلبـا قال أبو زيد: وزادوا في الأبيات:
فإن تسلمي نسلم وإن تنتصري تخط رجال بين أعينهم صلبا فقال له عبد الملك: تنصرت يا خالد، قال: وما ذاك? فأنشده هذا البيت، فقال له خالد: على من قاله ومن نحلنيه لعنة الله.
يثير غضب الحجاج فيعنفه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني موسى بن سعيد بن سلم ، قال:
صفحة : 1984
قدم الحجاج على عبد الملك، فخر بخالد بن يزيد بن معاوية، ومعه بعض أهل الشام، فقال الشامي لخالد: من هذا? فقال خالد كالمستهزىء: هذا عمرو بن العاصي، فعدل إليه الحجاج، فقال: إني والله ما أنا بعمرو بن العاصي ولا ولدت عمرا ولا ولدني؛ ولكني ابن الغطاريف من ثقيف والعقائل من قريش، ولقد ضربت بسيفي هذا أكثر من مائة ألف، كلهم يشهد أنك وأباك من أهل النار، ثم لم أجد لذلك عندك أجرا ولا شكرا، وانصرف عنه، وهو يقول: عمرو بن العاصي، عمرو بن العاصي.
محمد بن عمرو يتنقصه
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز ، قال: حدثنا المدائني، قال: حدثنا عبد الله بن مسلم القرشي، عن مطر مولى يزيد بن عبد الملك: أن محمد بن عمرو بن سعيد بن العاصي قدم الشام غازيا، فأتى عمته أمية بنت سعيد، وهي عند خالد بن يزيد بن معاوية، فدخل خالد فرآه، فقال: ما يقدم علينا أحد من أهل الحجاز إلا اختار المقام عندنا على المدينة، فظن محمد أنه يعرض به، فقال له: وما يمنعهم من ذلك، وقد قدم قوم من أهل المدينة على النواضح ، فنكحوا أمك وسلبوك ملكك، وفرغوك لطلب الحديث وقراءة الكتب، وعمل الكيميا الذي لا تقدر عليه. انتهى.
أمه تقتل زوجها مروان بن الحكم
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال حدثنا الخراز عن المدائني، عن أبي أيوب القرشي، عن يزيد بن حصين بن نمير: أن مروان بن الحكم تزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، فناظر خالدا يوما وأراد أن يضع منه في شيء جرى بينهما، فقال له: يابن الرطبة، فقال له خالد: إنك لأمي مختبر ، وأنت بهذا أعلم. ثم أتى أمه فأخبرها، وقال: أنت صنعت بي هذا، فقالت له: دعه، فإنه لا يقولها لك بعد اليوم.
فدخل مروان عليها فقال لها: هل أخبرك خالد بشيء? فقالت: يا أمير المؤمنين خالد أشد تعظيما لك من أن يذكر لي خبرا جرى بينك وبينه.
فلما أمسى وضعت مرفقة على وجهه، وقعدت عليها هي وجواريها حتى مات.
وأراد عبد الملك قتلها، وبلغها ذلك، فقالت: أما إنه أشد عليك أن يعلم الناس أن أباك قتلته امرأة؛ فكف عنها.
رملة تشكو سكينة إلى عبد الملك
أخبرني محمد قال: حدثني الخراز، عن المدائني قال: وأخبرني الطوسي، عن الزبير، عن المدائني، عن جويرية قال: نشزت سكينة بنت الحسين بن علي على زوجها عبد الله بن عثمان - وأمه رملة بنت الزبير - فدخلت رملة على عبد الملك بن مروان، وهو عند خالد بن يزيد بن معاوية، فقالت: يا أمير المؤمنين، لولا أن يبتز أمرنا ما كانت لنا رغبة فيمن لا يرغب فينا، سكينة بنت الحسين قد نشزت على ابني، قال: يا رملة، إنها سكينة، قالت: وإن كانت سكينة، فوالله لقد ولدنا خيرهم، ونكحنا خيرهم، وأنكحنا خيرهم، تعني بمن ولدوا فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن نكحوا صفية بنت عبد المطلب، ومن أنكحوا النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال: يا رملة، غرني منك عروة بن الزبير، فقالت: ما غرك، ولكن نصح لك؛ لأنك قتلت أخي مصعبا فلم يأمني عليك.
شعر خالد في بنت عبد الله بن جعفر
أخبرني الطوسي، قال: حدثني عمي مصعب، قال: تزوج خالد بن يزيد بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقال فيها:
جاءت بها دهم البغال وشبهها مقنعة في جوف حدج مخدر
مقابلة بين النبـي مـحـمـد وبين علي والحواري وجعفر
منافية جادت بخالص ودهـا لعبد منافي أغر مـشـهـر قال مصعب: ومن الناس من ينكر تزويجه إياها.
شديد بن شداد يعير عبد الملك بخالد
ومما يثبته قول شديد بن شداد بن عامر بن لقيط بن جابر بن وهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي لعبد الملك بن مروان هذا يعيره بخالد في تزويجه بنت الزبير وبنت عبد الله بن جعفر، قال:
لا يستوي الحبلان حبل تلبست قواه وحبل قـد أمـر شـديد
عليك أمير المؤمنين بخـالـد ففي خالد عما تريد صـدود
إذا ما نظرنا في مناكح خالـد عرفنا الذي يهوى وحيث يريد خالد يشكو الوليد إلى أبيه عبد الملك
صفحة : 1985
أخبرنا الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني مصعب بن عثمان، قال: دخل عبد الله بن يزيد بن معاوية على أخيه خالد، فقال: لقد هممت اليوم بقتل الوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس ما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين، قال: إنه لقي خيلي فنفرها، وتلعب بها، فشق ذلك على عبد الله، فنكس عبد الملك رأسه، وقرع الأرض بقضيب في يده، ثم رفع رأسه إليه، فقال: )إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون( ، فقال له خالد: )وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا( ، فقال له عبد الملك: أتكلمني فيه، وقد دخل علي لا يقيم لسانا لحنا، فقال له خالد: يا أمير المؤمنين، أفعلى الوليد تعول في اللحن? فقال عبد الملك: إن يكن الوليد لحانا فأخوه سليمان، قال خالد: وإن يكن عبد الله لحانا فأخوه خالد، قال الوليد لخالد: أتكلمني ولست في عير ولا نفير قال: ألا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول هذا? أنا والله ابن العير والنفير، سيد العير جدي أبو سفيان، وسيد النفير جدي عتبة بن ربيعة ، ولكن لو قلت: حبيلات - يعني حبلة العنب - وغنيمات والطائف لقلنا: صدقت، ورحم الله عثمان.
هذا آخر الحديث. قال مؤلف هذا الكتاب: يعيره بأم مروان، وأنها من الطائف، ويعيره بالحكم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرده إلى الطائف، وترحم على عثمان لرده إياه.
حماقة معاوية بن مروان حدثني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، عن إسحاق بن أيوب: أن معاوية بن مروان كان ضعيفا، فقال له خالد بن يزيد: يا أبا المغيرة ما الذي هونك على أخيك فلا يوليك ولاية ، قال: لو أردت لفعل، قال: كلا، قال: بلى والله، قال: فسله أن يوليك بيت لهيا ، قال: نعم.
فغدا على عبد الملك، فقال له معاوية: يا أمير المؤمنين ألست أخاك? قال: بلى والله، إنك لأخي وشقيقي، قال: فولني بيت لهيا، قال: متى عهدك بخالد? قال: عشية أمس، قال: إياك أن تكلمه.
ودخل خالد فقال له: كيف أصبحت يا أبا المغيرة? قال: قد نهانا هذا عن كلامك، فغلب على عبد الملك الضحك، فقام وتفرق الناس.
قال: وأفلت لمعاوية هذا باز فصاح: أغلقوا أبواب المدينة لا يخرج، قال: وقال له رجل: أنت الشريف ابن أمير المؤمنين، وأخو أمير المؤمنين، وابن عم أمير المؤمنين عثمان، وأمك عائشة بنت معاوية، قال: فأنا إذا مردد في بني اللخناء تردادا .
خالد يتعصب لكلب على قيس
أخبرني الطوسي، عن الزبير، عن عمه، قال: كان خالد بن يزيد يتعصب لكلب على قيس في الحرب التي كانت بينهم؛ لأن كلبا أخوال أبيه يزيد، وأخوال زوجته، فقال شاعر قيس:
يا خالد بن أبي سفيان قد قرحـت منا القلوب وضاق السهل والجبل
أأنت تأمر كلبا أن تـقـاتـلـنـا جهلا وتمنعهم منا إذا قـتـلـوا
ها إن ذا لا يقر الطير سـاكـنة ولا تبرك من نـكـرائه الإبـل
صوت
خمس دسسن إلي في لطف حور العيون نواعم زهـر
فطرقتهن مع الجري وقـد نام الرقيب وحلق النسـر عروضه من الكامل. الشعر للأحوص، والغناء لمعبد، رمل بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق.
خبر للأحوص
نسوة من أهل المدينة يعقدن له مجلسا
فيقول في ذلك شعرا
أخبرني حرمي بن أبي العلاء، قال: حدثني الزبير بن بكار، قال: أخبرني إبراهيم بن عبد الرحمن، قال: حدثني إسماعيل بن محمد المخزومي، قال: اجتع نسوة عند امرأة من أهل المدينة فقلن: أرسلي إلى الأحوص، فإنا نحب أن نتحدث معه ونسمع من شعره، فقالت لهن: إذا لا يزيدكن على أن يخرج إذا عرفكن، فيشهركن وينظم الشعر فيكن، فلم يزلن بها حتى أرسلت إليه رسولا يذكر له أمرهن ولا يسميهن، ويقول له أن يأتيهن مخمر الرأس، ففعل، وتحدث معهن وأنشدهن. فلما أراد الخروج وضع يده في تور بين أيديهن فيه خلوق، فغطى رأسه، وخرج ووضع يده على الباب، ثم تفقد الموضع الذي كان فيه، فغدا إليه، وطاف حتى وجد أثر يده في الباب، فقال:
خمس دسسن إلي في لطف حور العيون نواعم زهـر
فطرقتهن مع الجري وقـد نام الرقيب وحلق النسـر
صفحة : 1986
مستبطنا للحـي إذ قـرعـوا عضبا يلوح بمـتـنـه أثـر
فعكفن ليلـتـهـن نـاعـمة ثم استفقن وقد بدا الفـجـر
بأشم معسـول فـكـاهـتـه غض الشباب رداؤه غـمـر
رزن بعيد الصوت مشتـهـر جيبت له جوب الرحى عمرو
قامت تخاصره لكـلـتـهـا تمشي تـأود غـادة بـكـر
فتنازعا من دون نسـوتـهـا كلما يسر كـأنـه سـحـر
كل يرى أن الـشـبـاب لـه في كل غاية صبـوة عـذر
سيفانة أمر الشـبـاب بـهـا رقراقة لم يبلهـا الـدهـر
حتى إذا أبـدى هـواه لـهـا وبدا هواها ما لـه سـتـر
سفرت وما سفرت لمعـرفة وجها أغر كـأنـه الـبـدر قال إسماعيل بن محمد: فخرجت وأنا شاب ومعي شباب نريد مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرنا حديث الأحوص وشعره، وقدامنا عجوز عليها بقايا من الجمال، فلما بلغنا المسجد وقفت علينا والتفتت إلينا، وقالت: يا فتيان، أنا والله إحدى الخمس، كذب ورب هذا القبر ولمنبر ما خلت معه واحدة منا، ولا راجعته دون نسوتها كلاما.
رواية أخرى في سبب هذا الشعر
قال الزبير: وحدثني غير إبراهيم بن عبد الرحمن: أن نسوة من أهل المدينة نذرن مشيا إلى قباء وصلاة فيه، فخرجن ليلا، فطال عليهن الليل فنمن، فجاءهن الأحوص متكئا على عرجون بن طاب ، فتحدث معهن حتى أصبح، ثم انصرف وانصرفن، فقال قصيدته:
خمس دسسن إلي في لطف حور العيون نواعم زهـر وحدثني عمي، عن أبيه، قال: قال حبيب بن ثابت: صدرت إلى العقيق، فخلا لي الطريق، فأنشدت أبيات الأحوص هذه، وعجوز سوداء قاعدة ناحية تسمع ما أقول ولا أشعر بها، فقالت: كذب والله يا سيدي؛ إن سيفه ليلتئذ لعرجون ابن طاب يتحضر به، وإني لرسولهن إليه.
قال الزبير: وحدثني عمي، عن أبيه، عن الزبير بن حبيب، قال: كنت أنشد قول الأحوص:
خمس دسسن إلي في لطف قال: فإذا نسوة فيهن عجوز سوداء، فأقبلن على العجوز، فقلن لها: لمن هذا الشعر? قالت: للأحوص، فقلت : للأحوص لعمري، فقالت لهن: أنا والله الجريء، خرج نسوة يصلين في مسجد قباء، ثم تحدثن في رحبة المسجد، في ليلة مقمرة، فقلن: لو كان عندنا الأحوص فخرجت حتى أتيتهن به، وهو متخصر بعرجون ابن طاب، فتحدث معهن حتى دنا الصبح، فقلن له: لا تذكر خبرنا، ولا تذكر إليه خيرا، قال: قد فعلت، وأنشدهن تلك الساعة من الليلة تلك الأبيات، ثم استمرت بأفواه الناس تغني:
خمس دسسن إلي في لطف الأبيات كلها، والله ما قامت عه امرأة ولا كان بينه وبين واحدة منهن سر .
صوت
يابنة الجودي قلبي كـئيب مستهام عندها مـا ينـيب
ولقد قالوا فقلت: دعوهـا إن من تنهون عنه حبـيب
إنما أبلى عظامي وجسمي حبها، والحب شيء عجيب عروضه من الرمل. الشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه، والغناء لمعبد، ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر، عن إسحاق، وفيه لمالك خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر، عن إسحاق، وفيه رمل بالسبابة في مجرى الوسطى، لم ينسبه إسحاق إلى أحد. وذكر أحمد بن يحيى المكي أنه لأبيه يحيى. والله أعلم.
ذكر عبد الرحمن بن أبي بكر وخبره
وقصة بنت الجودي
نسبه
عبد الرحمن بن أبي بكر، واسم أبي بكر رضي الله عنه عبد الله - وكان اسمه في الجاهلية عتيقا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله - بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.
وكان اسم عبد الرحمن عبد العزى، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن.
وأمه وأم عائشة أم رومان بنت عامر بن عويمر بن عبد شمس بن عتاب بن أذينة بن سبيع بن دهمان بن الحارث بن غنم بن مالك بن كنانة بن خزيمة.
هذا قول الزبير، وعمه.
وحكى إبراهيم بن موسى أنها بنت عويمر بن عتاب بن دهمان بن الحارث بن غنم.
وروى عن محمد بن عبد الرحمن المرواني أنها بنت عامر بن عويمر بن أذينة بن سبيع بن الحارث بن دهمان بن غنم بن مالك بن كنانة.
صفحة : 1987
له صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم
ولعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولم يهاجر مع أبيه صغرا عن ذلك، فبقي بمكانه؛ ثم خرج قبل الفتح مع فتية من قريش. وقيل: بل كان إسلامه في يوم الفتح وإسلام معاوية بن أبي سفيان في وقت واحد غير مدفوع. انتهى.
أخبرني الطوسي وحرمي بن أبي العلاء، قالا: حدثنا الزبير، قال: حدثني إبراهيم بن حمزة، عن سفيان بن عيينة، عن علي بن زيد بن جدعان: أن عبد الرحمن بن أبي بكر خرج في فتية من قريش مهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل الفتح، قال: وأحسبه قال: إن معاوية كان معهم .
موقفه من أخذ البيعة ليزيد بن معاوية
قال الزبير: وحدثني عمي مصعب قال: وقف محكم اليمامة على ثلمة فحماها فلم يجز عليه أحد، فرماه عبد الرحمن بن أبي بكر فقتله - وكان أحد الرماة - فدخل المسلمون من تلك الثلمة، وهو المخاطب لمروان يوم دعا إلى بيعة يزيد، والقائل: إنما تريدون أن تجعلوها كسروية أو هرقلية، كلما هلك كسرى أو هرقل ملك كسرى أو هرقل، فقال مروان: أيها الناس، هذا الذي قال لوالديه: أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي، فصاحت به عائشة: ألعبد الرحمن تقول هذا? كذبت والله، ما هو به، ولو شئت أن أسمي من أنزلت فيه لسميته، ولكن أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أباك، وأنت في صلبه، فأنت فضض من لعنة الله.
حدثنا بذلك أحمد بن الجعد، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا وهب بن جرير، عن جويرية بن أسماء، وفي غير رواية: أن عائشة قالت له: يا مروان؛ أفينا تتأول القرآن، وإلينا تسوق اللعن? والله لأقومن يوم الجمعة بك مقاما تود أني لم أقمه. فأرسل إليها بعد ذلك وترضاها واستعفاها، وحلف ألا يصلي بالناس أو تؤمنه، ففعلت.
شعره في ليلى بنت الجودي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، عن عبد الله بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. وأخبرني الطوسي، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا محمد بن الضحاك، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: استهيم عبد الرحمن بن أبي بكر بليلى بنت الجودي بن عدي بن عمرو بن أبي عمرو الغساني، فقال فيها :
تذكرت ليلى والسماوة دونهـا وما لابنة الجودي ليلى وماليا
وأنى تعاطي قلبـه حـارثـية تحل ببصرى أو تحل الجوابيا
وكيف يلاقيها، بلى، ولعلـهـا إذا الناس حجوا قابلا أن تلاقيا قال أبو زيد: وقال فيها:
يابتة الجودي قلبي كئيب مستهام عندها ما ينـيب
جاورت أخوالها حي عك فلعلك من فؤادي نصيب وقد ذكرنا باقي الأبيات فيما تقدم.
قال الزبير في خبره: وكان قدم في تجارة، فرآها هناك على طنفسة حولها ولائد، فأعجبته.
وقال أبو زيد في خبره: فقال له عمر: ما لك ولها يا عبد الرحمن فقال: والله ما رأيتها قط إلا ليلة في بيت المقدس في جوار ونساء يتهادين، فإذا عثرت إحداهن قالت: يابنة الجودي، فإذا حلفت إحداهن حلفت بابنة الجودي.
عمر يأمر بأن تكون له إذا فتحت دمشق
فكتب عمر إلى صاحب الثغر الذي هي به: إذا فتح الله عليكم دمشق فقد غنمت عبد الرحمن بن أبي بكر ليلى بنت الجودي. فلما فتح الله عليهم غنموه إياها.
قالت عائشة: فكنت أكلمه فيما يصنع بها، فيقول: يا أخية، دعيني، فوالله لكأني أرشف من ثناياها حب الرمان. ثم ملها وهانت عليه، فكنت أكلمه فيما يسيء إليها كما كنت أكلمه في الإحسان إليها، فكان إحسانه أن ردها إلى أهلها.
يردها إلى أهلها قال الشيخ في خبره: فقالت له عائشة: يا عبد الرحمن لقد أحببت ليلى فأفرطت، وأبغضت ليلى فأفرطت، فإما أن تنصفها، وإما أن تجهزها إلى أهلها؛ فجهزها إلى أهلها.
ليلى بنت ملك دمشق
قال الزبير: وحدثني عبد الله بن نافع الصائغ: عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب نفل عبد الرحمن بن أبي بكر بنت الجودي، حين فتح دمشق، وكانت بنت ملك دمشق.
روايتان أخريان في أمر عبد الرحمن مع ليلى
صفحة : 1988
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا الصلت بن مسعود، قال: حدثنا محمد بن شيرويه، عن سليمان بن صالح، قال: قرأت على عبد الله بن المبارك، عن مصعب بن ثابت، عن عبد الله بن الزبير، عن عائشة بنت مصعب، عن عروة بن الزبير، قال: كانت ليلى بنت الجودي بنت ملك من ملوك الشام، فشبب بها عبد الرحمن بن أبي بكر، وكان قد رآها فيما تقدم بالشام، فلما فتح الله عز وجل على المسلمين، وقتلوا أباها أصابوها، فقال المسلمون لأبي بكر: يا خليفة رسول الله أعط هذه الجارية عبد الرحمن، فقد سلمناها له، قال أبو بكر: أكلكم على هذا? قالوا: نعم، فأعطاه إياها، وكان لها بساط في بلدها لا تذهب إلى الكنيف ولا إلى الحاجة إلا بسط لها، ورمي بين يديها برمانتين من ذهب تتلهى بهما في طريقها. فكان عبد الرحمن إذا خرج من عندها، ثم رجع إليها رأى في عينيها أثر البكاء، فيقول: ما يبكيك? اختاري خصالا أيها شئت فعلت بك: إما أن أعتقك وأنكحك، فتقول: لا أشتهيه، وإن شئت رددتك على قومك، قالت: ولا أريد، وإن أحببت رددتك على المسلمين، قالت: لا أريد، قال: فأخبريني ما يبكيك? قالت: أبكي الملك من يوم البؤس.
أخبرني أحمد، قال: حدثني أبو زيد، قال: حدثني هارون بن إبراهيم بن معروف، قال: حدثني حمزة بن ربيعة، عن العلاء بن هارون، عن عبد الله بن عون ، عن يحيى بن يحيى الغساني: أن عبد الرحمن قدم على يعلى بن منبه، وهو على اليمن، فوجدها في السبي، فسأله أن يدفعها إليه.
شعر آخر له في ليلى
أخبرني أحمد، قال: حدثنا عمر، قال: كتب إلي محمد بن زياد بن عبيد الله يذكر أن عبد الرحمن قال فيها:
فإما تصبحي بعد اقـتـراب بسلع أو ثـنـيات الـوداع
فلم ألفظك من شبع ولـكـن لأقضي حاجة النفس الشعاع
كأن جوانح الأضلاع منـي بعيد النوم مبطـنة الـيراع عائشة ترثيه
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عبد الله بن لاحق، عن أبي مليكة، قال: مات عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه بالحبشي - جبل من مكة على أميال - فحمل فدفن بمكة، فقدمت عائشة فوقفت على قبره، ثم قالت :
وكنا كندماني جـذيمة حـقـبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأنـي ومـالـكـا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا أما والله لو حضرتك لدفنتك حيث مت، ولو شهدتك لزرتك .
صوت
أماوي إن الـمـال غـاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكر
وقد علم الأقوام لو أن حـاتـمـا أراد ثراء المال أمسى له وفـر
أماوي إن يصبح صداي بقـفـرة من الأرض لا ماء لدي ولا خمر
تري أن ما أنفقت لم يك ضائري وأن يدي مما بخلت به صـفـر عروضه من الطويل.
الثراء: الكثرة في المال، وفي عدد القوم أيضا. والوفر: الغنى، ووفور المال. والصدى ها هنا: كان أهل الجاهلية يذكرون أن طائرا يخرج من جسم الإنسان أو من رأسه، فإذا قتل أقبل يصوت على قبره، حتى يدرك بثأره. والصفر: الخالي. والصدى: العطش، والصدى: ما يجيب إذا صوت في المكان الخالي. وصدأ الحديد مهموز.
الشعر لحاتم الطائي. والغناء لإسحاق، رمل بالسبابة في مجرى البنصر. وذكر الهشامي أن فيه ثقيلا أول، ولمالك خفيفا، وذكر حبش أن فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، وذكر عمرو بن بانة أن فيه لابن جامع خفيف رمل بالوسطى.
أخبار حاتم ونسبه
نسبه
ذكر ابن الأعرابي، عن المفضل ، والأثرم، عن أبي عمرو الشيباني، وابن الكلبي، عن أبيه والسكري، عن يعقوب بن السكيت: أنه حاتم بن عبد اللهب سعد بن الحشرج بن امرىء القيس بن عدي بن أخزم بن أبي أخزم، واسمه هزومة بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيىء.
صفحة : 1989
وقال يعقوب بن السكيت: إنما سمي هزومة؛ لأنه شج أو شج؛ وإنما سمي طيىء طيئا - واسمه جلهمة - لأنه أول من طوى المناهل ، وهو ابن أدد بن زيد بن يشحب بن يعرب بن قحطان. ويكنى حاتم أبا سفانة ، وأبا عدي؛ كني بذلك بابنته سفانة، وهي أكبر ولده، وبابنه عدي بن حاتم. وقد أدركت سفانة وعدي الإسلام فأسلما، وأتي بسفانة النبي صلى الله عليه وسلم في أسرى طيىء فمن عليها.
علي يروي خبر لقاء ابنته بالنبي
صلى الله عليه وسلم
أخبرني بذلك أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد، قال: حدثني سليمان بن الربيع بن هشام الكوفي - ووجدته في بعض نسخ الكوفيين: عن سليمان بن الربيع - أتم من هذا فنسخته وجمعتهما. قال: حدثنا عبد الحميد بن صالح الموصلي البرجمي، قال: حدثنا زكريا بن عبد الله بن يزيد الصهباني، عن أبيه، عن كميل بن زياد النخعي، عن علي، قال: يا سبحان الله ما أزهد كثيرا من الناس في الخير عجبت لرجل يجيئه أخوه في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلا، فلو كنا لا نرجو جنة، ولا نخاف نارا، ولا ننتظر ثوابا، ولا نخشى عقابا، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق؛ فإنها تدل على سبيل النجاة.
فقام رجل، فقال: فداك أبي وأمي يا أمير المؤمنين، أسمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم? قال: نعم، وما هو خير منه؛ لما أتينا بسبايا طيىء كانت في النساء جارية حماء حوراء العينين، لعساء لمياء عيطاء شماء الأنف، معتدلة القامة، درماء الكعبين، خدلجة الساقين، لفاء الفخذين، خميصة الخصر، ضامرة الكشحين، مصقولة المتنين.
فلما رأيتها أعجبت بها، فقلت: لأطلبنها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليجعلها من فيئي. فلما تكلمت أنسيت جمالها؛ لما سمعت من فصاحتها، فقالت: يا محمد، هلك الوالد، وغاب الوافد؛ فإن رأيت أن تخلي عني، فلا تشمت بي أحياء العرب؛ فإني بنت سيد قومي، كان أبي يفك العاني، ويحمي الذمار، ويقري الضيف ويشبع الجائع، ويفرج عن المكروب، ويطعم الطعام، ويفشي السلام، ولم يرد طالب حاجة قط؛ أنا بنت حاتم طيىء.
فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جارية، هذه صفة المؤمن، لو كان أبوك إسلاميا لترحمنا عليه، خلوا عنها؛ فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله يحب مكارم الأخلاق .
نسب أم حاتم
وأم حاتم عتبة بنت عفيف بن عمرو بن امرىء القيس بن عدي بن أخزم. وكانت في الجود بمنزلة حاتم، لا تدخر شيئا ولا يسألها أحد شيئا فتمنعه.
بلغ من سخائها أن حجر عليها إخوتها أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: أخبرنا الحرمازي ، عن العباسي بن هشام، عن أبيه، قال: كانت عتبة بنت عفيف، وهي أم حاتم ذات يسار، وكانت من أسخى الناس، وأقراهم للضيف، وكانت لا تليق شيئا تملكه. فلما رأى إخوتها إتلافها حجروا عليها، ومنعوها مالها، فمكثت دهرا لا يدفع إليها شيء منه، حتى إذا ظنوا أنها قد وجدت ألم ذلك أعطوها صرمة من إبلها، فجاءتها امرأة من هوازن كانت تأتيها في كل سنة، فقالت لها: دونك هذه الصرمة فخذيها، فوالله لقد عضني من الجوع ما لا أمنع منه سائلا أبدا، ثم أنشأت تقول : من شعرها وقد سألتها امرأة من هوازن
لعمري لقدما عضني الجوع عضة فآليت ألا أمنع الدهـر جـائعـا
فقولا لهذه اللائمي اليوم: أعفنـي فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
فماذا عساكم تقولـوا لأخـتـكـم سوى عذلكم أو عذل من كان مانعا
وماذا تـرون الـيوم إلا طـبـيعة فكيف بتركي يابن أم الطبـائعـا سفانة ابنته من أجود نساء العرب
قال ابن الكلبي: وحدثني أبو مسكين قال: كانت سفانة بنت حاتم من أجود نساء العرب، وكان أبوها يعطيها الصرمة بعد الصرمة من إبله، فتنهبها وتعطيها الناس، فقال لها حاتم: يا بنية، إن القرنين إذا اجتمعا في المال أتلفاه، فإما أن أعطي وتمسكي، أو أمسك وتعطي؛ فإنه لا يبقى على هذا شيء.
شعره يشبه جوده
صفحة : 1990
كان حاتم من شعراء العرب، وكان جوادا يشبه شعره جوده، ويصدق قوله فعله، وكان حيثما نزل عرف منزله، وكان مظفرا، إذا قاتل غلب، وإذا غنم أنهب، وإذا سئل وهب، وإذا ضرب بالقداح فاز، وإذا سابق سبق، وإذا أسر أطلق، وكان يقسم بالله ألا يقتل واحد أمه.
وكان إذا أهل الشهر الأصم الذي كانت مضر تعظمه في الجاهلية ينحر في كل يوم عشرا من الإبل، فأطعم الناس واجتمعوا إليه، فكان ممن يأتيه من الشعراء الحطيئة، وبشر بن أبي خازم.
فذكروا أن أم حاتم أوتيت وهي حبلى في المنام، فقيل لها: أغلام سمح يقال له: حاتم أحب إليك أم عشرة غلمة كالناس، ليوث ساعة البأس، ليسوا بأوغال ولا أنكاس ، فقالت: بل حاتم، فولدت حاتما.
لا يأكل إلا إذا وجد من يأكل معه
فلما ترعرع جعل يخرج طعامه، فإن وجد من يأكله معه أكل، وإن لم يجد طرحه. فلما رأى أبوه أنه يهلك طعامه قال: له الحق بالإبل، فخرج إليها، ووهب له جارية وفرسا وفلوها ، فلما أتى الإبل طفق يبغي الناس فلا يجدهم، ويأتي الطريق فلا يجد عليه أحدا.
عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني يمتدحونه فيهب لهم إبل جده كلها فبينا هو كذلك إذ بصر بركب على الطريق، فأتاهم فقالوا: يا فتى هل من قرى? فقال: تسألوني عن القرى وقد ترون الإبل? وكان الذين بصر بهم عبيد بن الأبرص، وبشر بن خازم، والنابغة الذبياني؛ وكانوا يريدون النعمان، فنحر لهم ثلاثة من الإبل، فقال عبيد: إنما أردنا بالقرى اللبن، وكانت تكفينا بكرة إذا كنت لابد متكلفا لنا شيئا، فقال حاتم: قد عرفت، ولكني رأيت وجوها مختلفة، وألوانا متفرقة، فظننت أن البلدان غير واحدة؛ فأردت أن يذكر كل واحد منكم ما رأى إذا أتى قومه، فقالوا فيه أشعارا امتدحوه بها، وذكروا فضله. فقال حاتم: أردت أن أحسن إليكم فكان لكم الفضل علي، وأنا أعاهد الله أن أضرب عراقيب إبلي عن آخرها أو تقدموا إليها فتقتسموها. ففعلوا، فأصاب الرجل تسعة وتسعين بعيرا ، ومضوا على سفرهم إلى النعمان. وإن أبا حاتم سمع بما فعل، فأتاه، فقال له: أين الإبل? فقال: يا أبت؛ طوقتك بها طوق الجمامة مجد الدهر، وكرما لا يزال الرجل يحمل بيت شعر أثنى به علينا عوضا من إبلك.
فلما سمع أبوه ذلك قال: أبإبلي فعلت ذلك قال: نعم، قال: والله لا أساكنك أبدا. فخرج أبوه بأهله، وترك حاتما، ومعه جاريته وفرسه وفلوها، فقال يذكر تحول أبيه عنه :
وإني لعف الفقر مشترك الـغـنـى وتارك شكل لا يوافقـه شـكـلـي
وشكلي شكـل لا يقـوم لـمـثـلـه من الناس إلا كل ذي نيقة مـثـلـي
وأجعل مالي دون عـرضـي جـنة لنفسي وأستغني بما كان من فضلـي
وما ضرني أن سار سعد بـأهـلـه وأفردني في الدار ليس معي أهلـي
سيكفي ابتنائي المجد سعد بن حشرج وأحمل عنكم كل ما ضاع من ثقـل
ولي مع بذل المال في المجد صـولة إذا الحرب أبدت عن نواجذها العصل وهذا شعر يدل على أن جده صاحب هذه القصة معه لا أنها قصة أبيه. وهكذا ذكر يعقوب بن السكيت، ووصف أن أبا حاتم هلك وحاتم صغير، فكان في حجر جده سعد بن الحشرج، فلما فتح يده بالعطاء وأنهب ماله ضيق عليه جده ورحل عنه بأهله، وخلفه في داره، فقال يعقوب خاصة: فبينا حاتم يوما بعد أن أنهب ماله وهو نائم إذ انتبه، وإذا حوله مائتا بعير أو نحوها تجول ويحطم بعضها بعضا، فساقها إلى قومه، فقالوا: يا حاتم، أبق على نفسك فقد رزقت مالا، ولا تعودن إلى ما كنت عليه من الإسراف، قال: فإنها نهبى بينكم، فانتهبت، فأنشأ حاتم يقول:
تداركني مجدي بسفح متالع فلا ييأسن ذو نومة أن يغنما قال: ولم يزل حاتم على حاله في إطعام الطعام وإنهاب ماله حتى مضى لسبيله.
حاتم وبنو لأم
قال ابن الأعرابي، ويعقوب بن السكيت، وسائر من ذكرنا من الرواة:
صفحة : 1991
خرج الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، ومعه عطر يريد الحيرة ، وكان بالحيرة سوق يجتمع إليه الناس كل سنة. وكان النعمان بن المنذر قد جعل لبني لأم بن عمرو بن طريف بن عمرو بن ثمامة بن مالك بن جدعان بن ذهل بن رومان بن حبيب بن خارجة بن سعد بن قطنة بن طيىء ربع الطريق طعمة لهم؛ وذلك لأن بنت سعد بن حارثة بن لأم كانت عند النعمان، وكانوا أصهاره، فمر الحكم بن أبي العاصي بحاتم بن عبد الله، فسأله الجوار في أرض طيىء حتى يصير إلى الحيرة، فأجاره، ثم أمر حاتم بجزور فنحرت، وطبخت أعضاء، فأكلوا، ومع حاتم ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج وهو ابن عمه، فلما فرغوا من الطعام طيبهم الحكم من طيبة ذلك. فمر حاتم بسعد بن حارثة بن لأم؛ وليس مع حاتم من بني أبيه غير ملحان، وحاتم على راحلته، وفرسه تقاد، فأتاه بنو لأم فوضع حاتم سفرته وقال: اطعموا حياكم الله، فقالوا: من هؤلاء معك يا حاتم? قال: هؤلاء جيراني، قال له سعد: فأنت تجير علينا في بلادنا? قال له: أنا ابن عمكم وأحق من لم تخفروا ذمته، فقالوا: لست هناك. وأرادوا أن يفضحوه كما فضح عامر بن جوين قبله، فوثبوا إليه، فتناول سعد بن حارثة بن لأم حاتما، فأهوى له حاتم بالسيف فأطار أرنبة أنفه، ووقع الشر حتى تحاجزوا، فقال حاتم في ذلك :
وددت وبيت اللـه لـو أن أنـفـه هواء فما مت المخاط عن العظم
ولكنما لاقاه سيف ابـن عـمـه فآب ومر السيف منه على الخطم فقالوا لحاتم: بيننا وبينك سوق الحيرة فنماجدك ونضع الرهن، ففعلوا، ووضعوا تسعة أفراس هنا على يدي رجل من كلب يقال له: امرؤ القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن جناب، وهو جد سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب، ووضع حاتم فرسه. حتى خرجوا حتى انتهوا إلى الحيرة، وسمع بذلك إياس بن قبيصة الطائي، فخاف أن يعينهم النعمان بن المنذر يقويهم بماله وسلطانه؛ للصهر الذي بينهم وبينه، فجمع إياس رهطه من بني حية، وقال: يا بني حية، إن هؤلاء القوم قد أرادوا أن يفضحوا ابن عمكم في مجاده، أي مماجدته فقال رجل من بني حية : عندي مائة ناقة سوداء ومائة ناقة حمراء أدماء، وقام آخر فقال: عندي عشرة حصن، على كل حصان منها فارس مدجج لا يرى منه إلا عيناه. وقال حسان بن جبلة الخير: قد علمتم أن أبي قد مات وترك كلا كثيرا، فعلي كل خمر أو لحم أو طعام ما أقاموا في سوق الحيرة. ثم قام إياس فقال: علي مثل جميع ما أعطيتم كلكم.
قال: وحاتم لا يعلم بشيء مما فعلوا، وذهب حاتم إلى مالك بن جبار، ابن عم له بالحيرة كان كثير المال، فقال: يابن عم، أعني على مخايلتي . قال: والمخايلة المفاخرة، ثم أنشد :
يا مال إحدى خطوب الدهر قد طرقت يا مال ما أنتم عنـهـا بـزحـزاح
يا مال جاءت حياض المـوت واردة من بين غمر فخضناه وضحـضـاح فقال له مالك: ما كنت لأحرب نفسي ولا عيالي وأعطيك مالي.
فانصرف عنه، وقال مالك في ذلك قوله:
إنا بنو عمكم لا أن نباعلكـم ولا نجاوركم إلا على ناح
وقد بلوتك إذ نلت الثراء فلم ألقك بالمال إلا غير مرتاح قال أبو عمرو الشيباني في خبره: ثم أتى حاتم ابن عم له يقال له: وهم ابن عمرو، وكان حاتم يومئذ مصارما له لا يكلمه، فقالت له امرأته: أي وهم، هذا والله أبو سفانة حاتم قد طلع، فقال: ما لنا ولحاتم أثبتي النظر، فقالت: ها هو، قال: ويحك هو لا يكلمني، فما جاء به إلي? فنزل حتى سلم عليه ورد سلامه وحياه، ثم قال له: ما جاء بك يا حاتم? قال: خاطرت على حسبك وحسبي، قال: في الرحب والسعة، هذا مالي - قال: وعدته يومئذ تسعمائة بعير - فخذها مائة مائة حتى تذهب الإبل أو تصيب ما تريد. فقالت امرأته: يا حاتم، أنت تخرجنا من مالنا، وتفضح صاحبنا - تعني زوجها - فقال: اذهبي عنك؛ فوالله ما كان الذي غمك ليردني عما قبلي. وقال حاتم :
إلا أبلغا وهم بن عمرو رسـالة فإنك أنت المرء بالخير أجـدر
رأيتك أدنى الناس منـا قـرابة وغيرك منهم كنت أحبو وأنصر
إذا ما أتى يوم يفـرق بـينـنـا بموت فكن يا وههم ذو يتأخـر ذو في لغة طيىء : الذي.
صفحة : 1992
قالوا: ثم قال إياس بن قبيصة: احملوني إلى الملك، وكان به نقرس، فحمل حتى أدخل عليه، فقال: أنعم صباحا أبيت اللعن، فقال النعمان: وحياك إلهك، فقال إياس: أتمد أختانك بالمال والخيل، وجعلت بني ثعل في قعر الكنانة أظن أختانك أن يصنعوا بحاتم كما صنعوا بعامر بن جوين ، ولم يشعروا أن بني حية بالبلد؛ فإن شئت والله ناجزناك حتى يسفح الوادي دما، فليحضروا مجادهم غدا بمجمع العرب.
فعرف النعمان الغضب في وجهه وكلامه، فقال له النعمان: يا أحلمنا لا تغضب؛ فإني سأكفيك.
وأرسل النعمان إلى سعد بن حارثة وإلى أصحابه: انظروا ابن عمكم حاتما، فأرضوه، فوالله ما أنا بالذي أعطيكم مالي تبذرونه، وما أطيق بني حية.
فخرج بنو لأم إلى حاتم فقالوا له: أعرض عن هذا المجاد ندع أرش أنف ابن عمنا، قال: لا والله لا أفعل حتى تتركوا أفراسكم، ويغلب مجادكم. فتركوا أرش أنف صاحبهم وأفراسهم، وقالوا: قبحها الله وأبعدها؛ فإنما هي مقارف ، فعمد إليها حاتم، وأطعمها الناس، وسقاهم الخمر، وقال حاتم في ذلك :
أبلغ بنـي لأم فـإن خـيولـهـم عقرى وإن مجادهم لم يمـجـد
ها إنما مطرت سمـاؤكـم دمـا ورفعت رأسك مثل رأس الأصيد
ليكون جيراني أكـالا بـينـكـم نحلا لكندي وسـبـي مـزبـد
وابن النجود إذا غدا متـلاطـمـا وابن العذور ذي العجان الأبـرد
ولثابت عيني جـذ مـتـمـاوت وللعمظ أوس قد عوى لمقـلـد
أبلغ بني ثعل بـأنـي لـم أكـن أبدا لأفعلها طوال الـمـسـنـد
لاجئتهم فلا وأترك صحـبـتـي نهبا ولم تغـدر بـقـائمـه يدي وخرج حاتم في نفر من أصحابه في حاجة لهم، فسقطوا على عمرو بن أوس بن طريف بن المثنى بن عبد الله بن يشجب بن عبد ود في فضاء من الأرض، فقال لهم أوس بن حارثة بن لأم: لا تعجلوا بقتله؛ فإن أصبحتم وقد أحدق الناس بكم استجرتموه، وإن لم تروا أحدا قتلتموه. فأصبحوا وقد أحدق الناس بكم استجرتموه، وإن لم تروا أحدا قتلتموه. فأصبحوا وقد أحدق الناس بهم، فاستجاروه فأجارهم، فقال حاتم :
عمرو بن أوس إذا أشياعه غضبوا فأحرزوه بـلا غـرم ولا عـار
إن بني عبد ود كلمـا وقـعـت إحدى الهنات أتوها غير أغمـار
خبر لأبي الخيبري عند قبر حاتم
أخبرني أحمد بن محمد البزار الأطروش، عن علي بن حرب، عن هشام بن محمد، عن أبي مسكين بن جعفر بن المحرز بن الوليد، عن أبيه، قال: قال الوليد جده، وهو مولى لأبي هريرة: سمعت محرز بن أبي هريرة يتحدث، قال: كان رجل يقال له أبو الخيبري مر في نفر من قومه بقبر حاتم، وحوله أنصاب متقابلات من حجارة كأنهن نساء نوائح. قال: فنزلوا به، فبات أبو الخيبري ليلته كلها ينادي: أبا جعفر أقر أضيافك. قال: فيقال له: مهلا؛ ما تكلم من رمة بالية فقال: إن طيئا يزعمون أنه لم ينزل به أحد إلا قراه.
قال: فلما كان من آخر الليل نام أبو الخيبري، حتى إذا كان في السحر وثب فجعل يصيح: وارحلتاه فقال له أصحابه: ويلك ما لك قال: خرج والله حاتم بالسيف وأنا أنظر إليه حتى عقر ناقتي، قالوا: كذبت، قال: بلى، فنظروا إلى راحلته فإذا هي منخزلة لا تنبعث، فقالوا: قد والله قراك. فظلوا يأكلون من لحمها، ثم أردفوه، فانطلقوا فساروا ما شاء الله، ثم نظروا إلى راكب فإذا هو عدي بن حاتم راكبا قارنا جملا أسود، فلحقهم، فقال: أيكم أبو الخيبري? فقالوا: هو هذا، فقال: جاءني أبي في النوم، فذكر لي شتمك إياه، وأنه قرى راحلتك لأصحابك ، وقد قال في ذلك أبياتا، ورددها حتى حفظتها؛ وهي :
أبا خيبري وأنـت امـرؤ ظلوم العشيرة شتامهـا
فمـاذا أردت إلـى رمة ببادية صخب هامـهـا
تبغي أذاها وإعسـارهـا وحولك غوث وأنعامهـا
وإنا لنطعم أضـيافـنـا من الكوم بالسيف نعتامها وقد أمرني أن أحملك على جمل فدونكه، فأخذه وركبه، وذهبوا .
حاتم يطلق قومه من أسر الحارث بن عمرو
صفحة : 1993
أغارت طيىء على إبل للنعمان بن الحارث بن أبي شمر الجفني، ويقال: هو الحارث بن عمرو، رجل من بني جفنة، وقتلوا ابنا له. وكان الحارث إذا غضب حلف ليقتلن وليسبين الذراري، فحلف ليقتلن من بني الغوث أهل بيت على دم واحد، فخرج يريد طيئا، فاصاب من بني عدي بن أخزم سبعين رجلا رأسهم وهم بن عمرو من رهط حاتم - وحاتم يومئذ بالحيرة عند النعمان - فأصابتهم مقدمات خيله. فلما قدم حاتم الجبلين جعلت المرأة تأتيه بالصبي من ولدها فتقول: يا حاتم أسر أبو هذا. فلم يلبث إلا ليلة حتى سار إلى النعمان ومعه ملحان بن حارثة، وكان لا يسافر إلا وهو معه، فقال حاتم :
ألا إنني قد هاجني الليلة الـذكـر وما ذاك من حب النساء ولا الأشر
ولكنه مما أصـاب عـشـيرتـي وقومي بأقران حواليهم الـصـير الأقران: الحبال. والصير: الحظائر، واحدها صيرة.
ليالي نمشي بين جـو ومـسـطـح نشـاوى لـنـا مـن كـل جـزر
فيا ليت خبر النـاس حـيا ومـيتـا يقول لنا خيرا ويمضي الذي ائتمـر
فإن كان شرا فالـعـزاء فـإنـنـا على وقعات الدهر من قبلها صبـر
سقى الله رب النـاس سـحـا وديمة جنوب السراة من مآب إلى زغـر
بلاد امرىء لا يعرف الـذم بـيتـه له المشرب الصافي ولا يطعم الكدر
تذكرت من وهم بن عمرو وجـلادة وجرأة مغزاه إذا صـارخ بـكـر
فأبشر وقر العين منـك فـإنـنـي أحيي كريما لا ضعيفا ولا حصـر فدخل حاتم على النعمان فأنشده، فأعجب به، واستوهبهم منه؛ فوهب له بني امرىء القيس بن عدي، ثم أنزله فأتي بالطعام والخمر، فقال له ملحان: أتشرب الخمر وقومك في الأغلال? قم إليه فسله إياهم، فدخل عليه فأنشده
إن امرأ القيس أضحت من صنيعكموعبد شمس أبيت اللعن فاصطنعوا
إن عديا إذا ملكت جانبها من أمـر غـوث عـلـى مــرأى ومـــســـتـــمـــع
أتـبـع بـنـي عـبـد شـمـس أمـر صــاحـــبـــهـــم أهـلـــي فـــداؤك إن ضـــروا وإن نـــفـــعـــوا
لا تجعلنا أبيت اللعن ضاحيةكمعشر صـلـمـوا الآذان أو جـدعـوا
أو كالجناح إذا سلت قوادمه صار الـجـنـاح لــفـــضـــل الـــريش يتـــبـــع فأطلق له بني عبد شمس بن عدي بن أخزم، وبقي قيس بن جحدر بن ثعلبة بن عبد رضي بن مالك بن ذبيان بن عمرو بن ربيعة بن جرول الأجئي ، وهو من لخم، وأمه من بني عدي، وهو جد الطرماح بن حكيم بن نفر بن قيس بن جحدر، فقال له النعمان: أفبقي أحد من أصحابك? فقال حاتم :
فككت عديا كلها من إسـارهـا فأفضل وشفعني بقيس بن جحدر
أبوه أبي والأمهات أمـهـاتـنـا فأنعم فدتك اليوم نفسي ومعشري فقال: هو لك يا حاتم، فقال حاتم :
أبلغ الحارث بن عمرو بـأنـي حافظ الود مرصد للـثـواب
ومجيب دعـاءه إن دعـانـي عجلا واحـدا وذا أصـحـاب
إنما بيننا وبـينـك فـاعـلـم سير تسع للعاجل المـنـتـاب
فثلاث من السراة إلى الـحـلة للخيل جـاهـدا والـركـاب
وثلاث يوردن تـيمـاء رهـوا وثلاث يقربن بـالأعـجـاب
فإذا ما مررن في مسبـطـر فاجمح الخي مثل جمع الكعاب اجمح: ارم بهم كما يرمى بالكعاب، ويقال: إذا انتصب لك أمر فقد جمح.
بينما ذاك أصبحت وهي عضدي من سبي مجموعة ونـهـاب عضدى: مكسورة الأعضاء.
ليت شعري متى أرى قبة ذا ت قلاع للحارث الحـراب
بيفاع وذاك منـهـا مـحـل فوق ملك يدين بالأحـسـاب
أيها الموعدي فإن لـبـونـي بين حقل وبين هضب دبـاب
حيث لا أرهب الجراة وحولي ثعليون كالليوث الغـضـاب وقال حاتم أيضا :
لم تنسنـي إطـلال مـاوية يأسـي ولا الزمن الماضي الذي مثله ينسي
إذا غربت شمس النهار وردتـهـا كما يرد الظمآن آتية الـخـمـس حاتم وماوية بنت عفزر
صفحة : 1994
قال: وكنا عند معاوية ، فتذاكرنا ملوك العرب، حتى ذكرنا الزباء وابنة عفزر، فقال معاوية: إني لأحب أن أسمع حديث ماوية وحاتم، وماوية بنت عفزر، فقال رجل من القوم: أفلا أحدثك يا أمير المؤمنين? فقال: بلى، فقال: إن ماوية بنت عفزر كانت ملكة، وكانت تتزوج من أرادت، وإنها بعثت غلمانا لها وأمرتهم أن يأتوها بأوسم من يجدونه بالحيرة، فجاءوها بحاتم، فقالت له: استقدم إلى الفراش، فقال: حتى أخبرك، وقعد على الباب، وقال: إني أنتظر صاحبين لي، فقالت: دونك أستدخل المجمر. فقال: استي لم تعود المجمر، فأرسلها مثلا.
فارتابت منه، وسقته خمرا ليسكر، فجعل يهريقه بالباب فلا تراه تحت الليل، ثم قال: ما أنا بذائق قرى ولا قار حتى أنظر ما فعل صاحباي. فقالت: إنا سنرسل إليهما بقري، فقال حاتم: ليس بنافعي شيئا أو آتيهما. قال: فأتاهما، فقال: أفتكونان عبدين لابنة عفزر، ترعيان غنمها أحب إليكما أم تقتلكما ? فقالا: كل شيء يشبه بعضه بعضا، وبعض الشر أهون من بعض، فقال حاتم: الرحيل والنجاة. وقال يذكر ابنة عفزر، وأنه ليس بصاحب ريبة :
حننت إلى الأجـبـال أجـبـال طـيىء وحنت قلوصي أن رأت سوط أحمـرا
فقلت لهـا: إن الـطـريق أمـامـنـا وإنا لمـحـيو ربـعـنـا إن تـيسـرا
فيا راكـبـي عـلـيا جـديلة إنـمــا تسامان ضيما مستبيناص فـتـنـظـرا
فما نكـراه غـير أن ابـن مـلـقـط أراه وقد أعطى الـظـلامة أو جـرا
وإني لمزج للمطـي عـلـى الـوجـا وما أنا من خـلانـك ابـنة عـفـزرا
وما زلـت أسـعـى بـين نـاب ودارة حصانين سيالـين جـونـا وأشـقـرا
لشعـب مـن الـريان أمـلـك بـابـه أنادي به آل الـكـبـير وجـعـفـرا
أحـب إلـي مـن خـطـيب رأيتــه إذا قلت معروفـا تـبـدل مـنـكـرا
تنادي إلى جـاراتـهـا: إن حـاتـمـا أراه لعمري بـعـدنـا قـد تـغـيرا
تغـيرت إنـي غــير آت لـــريبة ولا قائل يوما لذي العرف مـنـكـرا
فلا تسألـينـي واسـألـي أي فـارس إذا بادر القوم الكنـيف الـمـسـتـرا
ولا تسألـينـي واسـألـي أي فـارس إذا الخيل جالت في قنا قد تـكـسـرا
فلا هي ما ترعى جميعا عـشـارهـا ويصبح ضيفي ساهم الوجـه أغـبـرا
متى ترني أمشي بسيفـي وسـطـهـا تخفني وتضمر بينـهـا أن تـجـزرا
وإني ليغشى أبعد الحـي جـفـنـتـي إذا ورق الطلح الطـوال تـحـسـرا
فلا تسأليني واسألي بـه صـحـبـتـي إذا ما المطـي بـالـفـلاة تـضـورا
وإني لوهاب قـطـوعـي ونـاقـتـي إذا ما انتشيت، والكميت الـمـصـدرا
وإني كأشـلاء الـلـجـام ولـن تـري أخا الحرب إلا ساهم الوجـه أغـبـرا
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها وإن شمرت عن ساقها الحرب شمـرا
وإني إذا مـا الـمـوت لـم يك دونـه قدى الشبر أحمى الأنـف أن أتـأخـرا
متى تـبـغ ودا مـن جـديلة تـلـقـه مع الشنء مـنـه بـاقـيا مـتـأثـرا
فالإيفـادونـا جـهـارا نـلاقـهــم لأعـدائنـا رداءا دلـيلا ومـنــذرا
إذا حال دوني مـن سـلامـان رمـلة وجدت توالي الوصل عنـدي أبـتـرا وذكروا أن حاتما دعته نفسه إليها بعد انصرافه من عندها، فأتاها يخطبها فوجد عندها النابغة ورجلا من الأنصار من النبيت ، فقالت لهم: انقلبوا إلى رحالكم، وليقل كل واحد منكم شعرا يذكر فيه فعاله ومنصبه، فإني أتزوج أكرمكم وأشعركم.
صفحة : 1995
فانصرفوا ونحر كل واحد منهم جزورا، ولبست ماوية ثيابا لأمة لها وتبعتهم، فأتت النبيتي فاستطعمته من جزوره فأطعمها ثيل جمله فأخذته، ثم أتت نابغة بني ذبيان فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته، ثم أتت حاتما وقد نصب قدره فاستطعمته، فقال لها: قفي حتى أعطيك ما تنتفعين به إذا صار إليك، فانتظرت فأطعمها قطعا من العجز والسنام، ومثلها من المخدش، وهو عند الحارك ، ثم انصرفت، وأرسل كل واحد منهم إليها ظهر جمله، وأهدى حاتم إلى جاراتها مثل ما أرسل إليها،لا ولم يكن يترك جاراته إلا بهدية. وصبحوها فاستنشدتهم فانشدها النبيتي :
هلا سألت النبيتيين مـا حـسـبـي عند الشتاء إذا ما هـبـت الـريح
ورد جازرهم حـرفـا مـصـرمة في الرأس منها وفي الأصلاء تمليح
وقال رائدهـم : سـيان مـا لـهـم مثلان مثل لمن يرعى وتـسـريح
إذا اللقاح غدت ملقى أصـرتـهـا ولا كريم من الولدان مـصـبـوح فقالت له: لقد ذكرت مجهدة .
ثم استنشدت النابغة، فأنشدها يقول :
هلا سألت بني ذبيان مـا حـسـبـي إذا الدخان تغشى الأشمط الـبـرمـا
وهبت الريح من تـلـقـاء ذي أرل تزجي مع الليل من صرادها الصرما
إني أتمـم أيسـاري وأمـنـحـهـم مثنى الأيادي وأكسو الجفـنة الأدمـا فلما أنشدها قالت: ما ينفك الناس بخير ما ائتدموا.
ثم قالت: يا أخا طيىء أنشدني، فأنشدها :
أماوي قد طال التجنب والـهـجـر وقد عذرتني في طلابكـم الـعـذر
أمـاوي إن الـمـال غــاد ورائح ويبقى من المال الأحاديث والذكـر
أمـاوي إنـي لا أقـول لـســائل إذا جاء يوما: حل في مالنا الـنـذر
أمـاوي إمـا مـانـع فـمـبــين وإما عطاء لا ينهنـهـه الـزجـر
أماوي ما يغني الثراء عن الفـتـى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
إذا أنـا دلانـي الـذين أحـبـهـم بملحودة زلج جوانـبـهـا غـبـر
وراحوا سراعا ينفضون أكـفـهـم يقولون: قد دمى أناملنا الـحـفـر
أماوي إن يصبح صداي بـقـفـرة من الأرض لا ماء لدي ولا خمـر
تري أن ما أنفقت لم يك ضـرنـي وأن يدي مما بخلـت بـه صـفـر
أمـاوي إنـي رب واحـد أمـــه أخذت فلا قتـل عـلـيه ولا أسـر
وقد علم الأقـوام لـو أن حـاتـمـا أراد ثراء المـال كـان لـه وفـر
فإني لا آلو بـمـالـي صـنـعـية فأولـه زاد وآخـــره ذخـــر
يفك به العـانـي ويؤكـل طـيبـا وما إن تعرته القداح ولا الخـمـر
ولا أظلم ابن العم إن كان إخـوتـي شهودا وقد أودى بإخوتـه الـدهـر
غنينا زمانا بالتصعلـك والـغـنـى وكلا سقاناه بكأسهمـا الـعـصـر
فما زادنا بغـيا عـلـى ذي قـرابة غنانا ولا أزرى بأحسابنا الـفـقـر
وما ضر جارا يابنة القوم فاعلـمـي يجاورنـي ألا يكـون لـه سـتـر
بعيني عن جارات قومـي غـفـلة وفي السمع مني عن حديثهم وقـر فلما حاتم من إنشاده دعت بالغداء، وكانت قد أمرت إماءها أن يقدمن إلى كل رجل منهم ما كان أطعمها، فقدمن إليهم ما كانت أمرتهن أن يقدمنه إليهم، فنكس النبيتي رأسه والنابغة، فلما نظر حاتم إلى ذلك رمى بالذي قدم إليهما ، وأطعمهما مما قدم إليه، فتسللا لواذا، وقالت: إن حاتما أكرمكم وأشعركم.
فلما خرج النبيتي والنابغة قالت لحاتم: خل سبيل امرأتك، فأبى، فزودته وردته. فما انصرف دعته نفسه إليها، وماتت امرأته، فخطبها فتزوجته، فولدت عديا.
إسلام عدي بن حاتم
وقد كان عدي أسلم وحسن إسلامه، فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له، وقد سأله عدي: يا رسول الله، إن أبي كان يعطي ويحمل، ويوفي بالذمة، ويأمر بمكارم الأخلاق؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أباك خشبة من خشبات جهنم.
صفحة : 1996
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الكآبة في وجهه، فقال له: يا عدي إن أباك وأبي وأبا إبراهيم في النار.
ماوية وحاتم وابن عمه مالك
وكانت ماوية عنده زمانا، وإن ابن عم لحاتم كان يقال له: مالك قال لها: ما تصنعين بحاتم? فوالله لئن وجد شيئا ليتلفنه، وإن لم يجد ليتكلفن، وإن مات ليتركن ولده عيالا على قومك، فقالت ماوية: صدقت، إنه كذلك.
وكان النساء - أو بعضهن - يطلقن الرجال في الجاهلية، وكان طلاقهن أنهن إن كن في بيت من شعر حولن الخباء؛ فإن كان بابه قبل المشرق حولنه قبل المغرب، وإن كان بابه قبل اليمن حولنه قبل الشام؛ فإذا رأى ذلك الرجل علم أنها قد طلقته فلم يأتها. وإن ابن عم حاتم قال لماوية - وكانت أحسن نساء الناس -: طلقي حاتما، وأنا أنكحك وأنا خير لك منه، وأكثر مالا، وأنا أمسك عليك وعلى ولدك؛ فلم يزل بها حتى طلقت حاتما، فأتاها حاتم وقد حولت باب الخباء، فقال: يا عدي، ما ترى أمك عدي عليها? قال: لا أدري، غير أنها قد غيرت باب الخباء، وكأنه لم يلحن لما قال، فدعاه فهبط به بطن واد، وجاء قوم فنزلوا على باب الخباء كما كانوا ينزلون، فتوافوا خمسين رجلا، فضاقت بهم ماوية ذرعا، وقالت لجاريتها: اذهبي إلى مالك فقولي له: إن أضيافا لحاتم قد نزلوا بنا خمسين رجلا فأرسل بناب نقرهم ولبن نغبقهم ، وقالت لجاريتها: انظري إلى جبينه وفمه فإن شافهك بالمعروف فاقبلي منه، وإن ضرب بلحيته على زوره، وأدخل يده في رأسه فاقفلي ودعيه، وإنها لما أتت مالكا وجدته متوسدا وطبا من لبن وتحت بطنه آخر، فأيقظته فأدخل يده في رأسه وضرب بلحيته على زوره، فأبلغته من أرسلتها به ماوية، وقالت: إنما هي الليلة حتى يعلم الناس مكانه.
فقال لها: اقرئي عليها السلام، وقولي لها: هذا الذي أمرتك أن تطلقي حاتما فيه، فما عندي من كبيرة قد تركت العمل، وما كنت لأنحر صفية غزيرة بشحم كلاها، وما عندي لبن يكفي أضياف حاتم.
فرجعت الجارية فأخبرتها بما رأت منه، وما قال؛ فقالت: ائت حاتما فقولي: إن أضيافك قد نزلوا الليلة بنا، ولم يعلموا بمكانك. فأرسل إلينا بناب ننحرها ونقرهم وبلبن نسقهم؛ فإنما هي الليلة حتى يعرفوا مكانك.
فأتت الجارية حاتما فصرخت به.
فقال حاتم: لبيك، قريبا دعوت. فقالت: إن ماوية تقرأ عليك السلام وتقول لك: إن أضيافك قد نزلوا بنا الليلة، فأرسل إليهم بناب ننحرها ولبن نسقهم. فقال: نعم وأبي. ثم قام إلى الإبل فأطلق ثنيتين من عقاليهما، ثم صاح بهما حتى أتى الخباء فضرب عراقيبهما، فطفقت ماوية تصيح وتقول: هذا الذي طلقتك فيه، تترك ولدك وليس لهم شيء، فقال حاتم :
هل الدهر إلا اليوم أو أمس أو غد كذاك الزمـان بـينـنـا يتـردد
يرد علينا لـيلة بـعـد يومـهـا فلا نحن ما نبقى ولا الدهر ينفـد
لنا أجل إما تـنـاهـى أمـامـه فنحن عـلـى آثـاره نـتـورد
بنو ثعل قومي فـمـا أنـا مـدع سواهم إلى قوم وما أنا مسـنـد
بدرئهم أغشى دروء مـعـاشـر ويحنف عني الأبلخ المتـعـمـد
فمهلا فداك اليوم أمي وخالـتـي فلا يأمرنـي بـالـدنـية أسـود
على حين أن ذكيت واشتد جانبـي أسام التي أعـييت إذ أنـا أمـرد
فهل تركت قبلي حضور مكانهـا وهل من أتى ضيما وخسفا مخلد
ومعتسف بالرمح دون صحـابـه تعسفته بالسيف والقـوم شـهـد
فخر على حر الـجـبـين وذاده إلى الموت مطرور الوقيعة مذود
فما رمته حتى أزحت عـويصـه وحتى علاه حالك اللـون أسـود
فأقسمت لا أمشي على سر جارتي يد الدهر ما دام الحـمـام يغـرد
ولا أشتري مالا بغدر علـمـتـه ألا كل مال خالط الغدر أنـكـد
إذا كان بعض المال ربا لأهـلـه فإني بحمد الله ما لـي مـعـبـد
يفك به العانـي ويؤكـل طـيبـا ويعطى إذا ضن البخيل المصرد
إذا ما البخيل الخب أخمـد نـاره أقول لمن يصلى بناري: أوقـدوا
صفحة : 1997
توسع قليلا أو يكن ثم حسبنـا وموقدها البادي أعف وأحمـد
كذاك أمور الناس راض دنـية وسامس إلى فرع العلا متورد
فمنهم جواد قد تلفت حـولـه ومنهم لئيم دائم الطرف أقـود
واع دعاني دعوة فأجـبـتـه وهل يدع الداعين إلا اليلنـدد حاتم ونساء من عنتزة
أسرت عنزة حاتما، فجعل نساء عنزة يدارئن بعيرا ليفصدنه فصعفن عنه، فقلن: يا حاتم، أفاصده أنت إن أطلقنا يديك? قال: نعم. فأطلقن إحدى يديه، فوجأ لبته فاستدمينه . ثم إن البعير عضد، أي لوى عنقه، أي خر، فقلن: ما صنعت? قال: هكذا فصادتي، فجرت مثلا. قال: فلطمته إحداهن، فقال: ما أنتن نساء عنزة بكرام، ولا ذوات أحلام. وإن امرأة منهن يقال لها: عاجزة أعجبت به، فأطلقته؛ ولم ينقموا عليه ما فعل، فقال حاتم يذكر البعير الذي فصده :
كذلك فصدي إن سألت مطيتي دم الجوف إذ كل الفصاد وخيم جوده وهو غلام
أقبل ركب من بني أسد ومن قيس يريدون النعمان، فلقوا حاتما، فقالوا له: إنا تركنا قومنا يئنون عليك خيرا، وقد أرسلوا إليك رسولا برسالة. قال: وما هي? فأنشده الأسديون شعرا لعبيد ولبشر يمدحانه، وأنشد القيسيون شعرا للنابغة، فلما أنشدوه قالوا: إنا نستحي أن نسألك شيئا، وإن لنا لحاجة، قال: وما هي? قالوا: صاحب لنا قد أرجل ، فقال حاتم: خذوا فرسي هذه فاحملوا عليها صاحبكم. فأخذوها وربطت الجارية فلوها بثوبها، فأفلت، فاتبعته الجارية، فقال حاتم: ما تبعكم من شيء فهو لكم، فذهبوا بالفرس والفلو والجارية.
وإنهم وردوا على أبي حاتم، فعرف الفرس والفلو، فقال: ما هذا معكم? فقالوا: مررنا بغلام كريم فسألناه، فأعطى الجسيم.
رواية أخرى في خبر أبي الخيبري
قال: وكنا عند معاوية فتذاكرنا الجود، فقال رجل من القوم: أجود الناس حيا وميتا حاتم، فقال معاوية: وكيف ذلك؛ فإن الرجل من قريش ليعطى في المجلس ما لم يملكه حاتم قط ولا قومه، فقال: أخبرك يا أمير المؤمنين، أن نفرا من بني أسد مروا بقبر حاتم، فقالوا: لنبخلنه ولنخبرن العرب أنا نزلنا بحاتم، فلم يقرنا، فجعلوا ينادون: يا حاتم ألا تقري أضيافك وكان رئيس القوم رجل يقال له: أبا الخيبري، فإذا هو بصوت ينادي في جوف الليل:
أبا خيبري وأنت امرؤ ظلوم العشيرة شتامها إلى آخرها، فذهبوا ينظرون؛ فإذا ناقة أحدهم تكوس على ثلاثة أرجل عقيرا. قال: فعجب القوم من ذلك جميعا.
حاتم وأوس بن سعد
وكان أوس بن سعد قال للنعمان بن المنذر: أنا أدخلك بين جبلي طيىء حتى يدين لك أهلهما، فبلغ ذلك حاتما، فقال :
ولقد بغى بخـلاد أوس قـومـه ذلا وقد علمت بذلك سـنـبـس
حاشا بني عمرو بن سنبس إنـهـم منعوا ذمار أبيهـم أن يدنـسـوا
وتواعـدوا ورد الـقـرية غـدوة وحلفت بالله العزيز لنـحـبـس
والله يعلم لو أتـى بـسـلافـهـم طرف الجريض لظل يوم مشكس
كالنار والشمس التي قالت لـهـا بيد اللويسم عالمـا مـا يلـمـس
لا تطعمن المـاء إن أوردتـهـم لتمام ظمئكم ففوزوا واحلـسـوا
أو ذو الحصين وفارس ذو مـرة بكتـيبة مـن يدركـوه يفـرس
وموطأ الأكناف غـير مـلـعـن فيالحي مشاء إليه الـمـجـلـس شعره في مدح بني بدر
قال: وجاور في بني بدر زمن احتربت جديلة وثعل، وكان ذلك زمن الفساد، فقال يمدح بني بدر :
إن كنت كارهة معيشـتـنـا هاتي فحلي في بنـي بـدر
جاورتهم زمن الفساد فـنـع م الحي في العوصاء واليسر
فسقيت بالماء النمـير ولـم ينظر إلي بـأعـين جـزر
الضاربين لدى أعنتـهـمـه والطاعنين وخيلهم تجـري
الخالطين نحيتهم بنضارهـم وذوي الغنى منهم بذي الفقر يقيم مكان أسير في قيده ويطلقه
صفحة : 1998
وزعموا أن حاتما خرج في الشهر الحرام يطلب حاجة، فلما كان بأرض عنزة ناداه أسير لهم: يا أبا سفانة؛ أكلني الإسار والقمل، قال: ويلك والله ما أنا في بلاد قومي، وما معي شيء، وقد أسأت بي إذ نوهت باسمي، ومالك مترك. فساوم به العنزيين فاشتراه منهم، فقال: خلوا عنه وأنا أقيم مكانه في قيده حتى أؤدي فداءه، ففعلوا، فأتي بفدائه.
ماوية تتحدث عن كرمه
وحدث الهيثم بن عدي، عمن حدثه، عن ملحان ابن أخي ماوية امرأة حاتم، قال: قلت لماوية: يا عمة، حدثيني ببعض عجائب حاتم، فقالت: كل أمره عجب، فعن أية تسأل? قال: قلت: حدثيني ما شئت، قالت: أصابت الناس سنة، فأذهبت الخف والظلف، فإني وإياه ليلة قد أسهرنا الجوع، قالت: فأخذ عديا وأخذت سفانة، وجعلنا نعللهما حتى ناما، ثم أقبل علي يحدثني ويعللني بالحديث كي أنام، فرققت له لما به من الجهد، فأمسكت عن كلامه لينام، فقال لي: أنمت? مرارا، فلم أجب، فسكت فنظر في فتق الخباء فإذا شيء قد أقبل، فرفع رأسه فإذا امرأة، فقال: ما هذا? قالت: يا أبا سفانة؛ أتيتك نم عند صبية يتعاوون كالذئاب جوعا، فقال: أحضريني صبيانك، فوالله لأشبعنهم. قالت: فقمت سريعا فقلت: بماذا يا حاتم فوالله ما نام صبيانك من الجوع إلا بالتعليل فقال: والله لأشبعن صبيانك مع صبيانها.
فلما جاءت قام إلى فرسه فذبحها، ثم قدح نارا ثم أججها، ثم دفع إليها شفرة، فقال: اشتوي وكلي، ثم قال: أيقظي صبيانك. قالت: فأيقظتهم ، ثم قال: والله إن هذا للؤم، تأكلون وأهل الصرم حالهم مثل حالكم فجعل يأتي الصرم بيتا بيتا فيقول: انهضوا عليكم بالنار. قال: فاجتمعوا حول تلك الفرس، وتقنع بكسائه فجلس ناحية، فما أصبحوا ومن الفرس على الأرض قليل ولا كثير إلا عظم وحافر، وإنه لأشد جوعا منهم، وما ذاقه.
حاتم ومحرق
أتى حاتم ومحرقا فقال له محرق: بايعني، فقال له: إن لي أخوين ورائي، فإن يأذنا لي أبايعك وإلا فلا، قال: فاذهب إليهما، فإن أطاعاك فأتني بهما، وإن أبيا فأذن بحرب. فلما خرج حاتم قال :
أتاني من الريان أمس رسـالة وعدوى وغي ما يقول مواسل
هما سألاني: ما فعلت? وإننـي كذلك عما أحدثـا أنـا سـائل
فقلت: ألا كيف الزمان عليكما? فقالا: بخير كل أرضك سـائل فقال محرق: ما أخواه? قال : طرفا الجبل، فقال: ومحلوفه لأجللن مواسلا الريط مصبوغات بالزيت، ثم لأشعلنه بالنار. فقال رجل من الناس: جهل مرتقى بين مداخل سبلات . فلما بلغ ذلك محرقا قال: لأقدمن عليك قريتك . ثم إنه أتاه رجل، فقال له: إنك إن تقدم القرية تهلك. فانصرف ولم يقدم.
حاتم وأسير له
غزت فزارة طيئا وعليهم حصين بن حذيفة، وخرجت طيىء في طلب القوم، فلحق حاتم رجلا من بدر ، فطعنه ثم مضى، فقال: إن مر بك أحد فقل له: أنا أسير حاتم. فمر به أبو حنبل، فقال: من أنت? قال: أنا أسير حاتم. فقال له: إنه يقتلك، فإن زعمت لحاتم أو لمن سألك أني أسرتك، ثم صرت في يدي خليت سبيلك، فلما رجعوا قال حاتم: يا أبا حنبل خل سبيل أسيري، فقال أبو حنبل: أنا أسرته، فقال حاتم: قد رضيت بقوله، فقال: أسرني أبو حنبل، فقال حاتم :
إن أباك الجون لم يك غادرا ألا من بني بدر أتتك الغوائل
صوت
وهاجرة من دون مـية لـم تـقـل قلوصي بها والجندب الجون يرمـح
بتيهاء مقفار يكـاد ارتـكـاضـهـا بآل الضحى والهجر بالطرف يمصح - الهجر ها هنا مرفوع بفعله، كأنه قال: يكاد ارتكاضها بالآل يمصح بالطرف، هو والهجر. ويمصح: يذهب بالطرف -:
كأن الفرند المحض معصوبة بـه ذرا قورها ينقد عنها وينـصـح
إذا ارفض أطراف السياط وهللت جروم المهاري عد منهن صيدح عروضه من الطويل.
صفحة : 1999
الهاجرة: تكون وقت الزوال. والجندب: الجرادة. والجون: الأسود. والجون: الأبيض أيضا: وهو من الأضداد. وقوله: يرمح، أي ينزو من شدة الحر لا يكاد يستقر على الأرض. والتيهاء من الأرض: التي يتاه فيها. والمقفار: التي لا أحد فيها ولا ساكن بها. ذكر ذلك أبو نصر عن الأصمعي. وارتكاضها؛ يعني ارتكاض هذه التيهاء، وهو نزوها بالآل، والآل: السراب. والهجر والهاجرة واحد. وقوله: الهجر بالطرف يمصح، رفع الهجر بفعله كأنه قال: يكاد ارتكاضها بالآل يمصح بالطرف، هو والهجر. يمصح: يذهب بالطرف. والفرند: الحرير الأبيض. والمحض: الخالص. يقول: كأن هذا السراب حرير أبيض، وقد عصبت به ذرى قورها، وهي الجبال الصغار والواحدة قارة، فتارة يغطيها وتارة ينجاب عنها وينكشف، فكأنه إذا انكشف عنها ينقد عنها، وكأنه إذا غطاها ينصح عنها ؛ أي يخاط. ويقال : نصحت الثوب، إذا خطته، والناصح: الخياط، والنصاح: الخيط. وقوله: ارفض أطراف السياط، يعني أنها انفتحت أطرافها من طول السفر؛ وأصل الارفضاض التفرق. والجروم: الأبدان، واحدها جرم، بالكسر. وقوله: هللت جروم المطايا، يعني أنها صارت كالأهلة في الدقة . وصيدح: اسم ناقته.
الشعر لذي الرمة، والغناء لإبراهيم الموصلي ماخوري بالوسطى.
الجزء الثامن عشر
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر ذي الرمة وخبره
نسبه
اسمه غيلان بن عقبة بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ملكان بن عدي بن عبد مناة بن أد طابخة بن إلياس بن مضر.
أقوال في سبب تلقيبه ذا الرمة
وقال ابن سلام: هو غيلان بن عقبة بن بهيش بن مسعود بن حارثة بن عمرو بن ربيعة بن ملكان.
ويكنى أبا الحارث وذو الرمة لقب. يقال: لقبته به مية وكان اجتاز بخبائها وهي جالسة إلى جنب أمها فاستسقاها ماء قالت لها أمها: قومي فاسقيه. وقيل: بل خرق أدواته لما رآها وقال لها: اخرزي لي هذه فقالت: والله ما أحسن ذلك فإني لخرقاء. قال: والخرقاء التي لا تعمل بيدها شيئا لكرامتها على قومها فقال لأمها: مريها أن تسقيني ماء فقالت لها: قومي يا خرقاء فاسقيه ماء فقامت فأتته بماء وكانت على كتفه رمة وهي قطعة من حبل فقالت: اشرب يا ذا الرمة فلقب بذلك.
وحكى ابن قتيبة أن هذه القصة جرت بينه وبين خرقاء العامرية.
وقال ابن حبيب: لقب ذا الرمة لقوله: أشعث باقي رمة التقليد وقيل: بل كان يصيبه في صغره فزع فكتبت له تميمة فعلقها بحبل فلقب بذلك ذا الرمة.
ونسخت من كتاب محمد بن داود بن الجراح: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن محمد بن صالح العدوي عن أبيه وعن أشياخه وعدة من أهل البادية من بني عدي منهم زرعة بن أذبول وابنه سليمان وأبو قيس وتميم وغيرهم من علمائهم: أن أم ذي الرمة جاءت إلى الحصين بن عبدة بن نعيم العدوي وهو يقرىء الأعراب بالبادية احتسابا بما يقيم لهم صلاتهم فقالت له: يا أبا الخليل إن ابني هذا يروع بالليل فاكتب لي معاذة أعلقها على عنقه فقال لها: ائتيني برق أكتب فيه قالت: فإن لم يكن فهل يستقيم في غير رق أن يكتب له قال: فجيئيني بجلد فأتته بقطعة جلد غليظ فكتب له معاذة فيه فعلقته في عنقه فمكث دهرا. ثم إنها مرت مع ابنها لبعض حوائجها بالحصين وهو جالس في ملأ من أصحابه ومواليه فدنت منه فسلمت عليه وقالت: يا أبا الخليل ألا تسمع قول غيلان وشعره قال: بلى. فتقدم فأنشده وكانت المعاذة مشدودة على يساره في حبل أسود فقال الحصين: أحسن ذو الرمة فغلبت عليه.
كان له إخوة كلهم شعراء
وقال الأصمعي: أم ذي الرمة امرأة من بني أسد يقال لها ظبية وكان له إخوة لأبيه وأمه شعراء منهم مسعود وهو الذي يقول يرثي أخاه ذا الرمة ويذكر ليلى بنته:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني وليلى كلانا موجع مات وافده ولمسعود يقول ذو الرمة: صوت
أقول لمسعود بجرعاء مالك وقد هـم دمـعـي أن تـسـح أوائلـه
ألا هل ترى الأظعان جاوزن مشرفا من الرمل أو سالت بهن سلاسله غنى فيه يحيى بن المكي ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو.
ومسعود الذي يقول يرثي أخاه أيضا ذا الرمة ويرثي أوفى بن دلهم ابن عمه وأوفى هذا أحد من يروى عنه الحديث.
صفحة : 2000
وقال هارون بن الزيات: أخبرني ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال: كان لذي الرمة إخوة ثلاثة : مسعود وجرفاس وهشام كلهم شعراء وكان الواحد منهم يقول الأبيات فيبني عليها ذو الرمة أبياتا أخر فينشدها الناس فيغلب عليها لشهرته وتنسب إليه:
نعى الركب أوفى حين آبت ركابهم لعمري لقد جاءوا بشر فأوجـعـوا
نعوا باسق الأخلاق لا يخلفونه تكاد الجبال الـصـم مـنـه تـصـدع
خوى المسجد المعمور بعد ابن دلهم فأضحى بأوفى قومه قد تضعضعوا
تعزيت عن أوفى بغيلان بعده عزاء وجفن الـعـين مـلآن مـتـرع
ولم تنسني أوفى المصيبات بعده ولكن نكاء القرح بـالـقـرح أوجـع وأخوه الآخر هشام وهو رباه وكان شاعرا. ولذي الرمة يقول:
أغيلان إن ترجع قوى الود بيننا فكل الذي ولى من العـيش راجـع
فكن مثل أقصى الناس عندي فإنني بطول التنائي من أخي السوء قانع وقال ذو الرمة لهشام أخيه:
أغر هشاما من أخيه ابن أمـه قـوادم ضـأن أقـبـلـت وربـيع
وهل تخلف الضأن الغزار أخا الندى إذا حل أمر في الصدور فظيع فأجابه هشام فقال:
إذا بان مالي من سوامك لم يكن إليك ورب العالـمـين رجـوع
فأنت الفتى ما اهتز في الزهر الندى وأنت إذا اشتد الزمان منوع ذو الرمة وأخوه مسعود وشعرهما في ظبية
سنحت لهما
وذكر المهلبي عن أبي كريمة النحوي قال: خرج ذو الرمة يسير مع أخيه مسعود بأرض الدهناء فسنحت لهما ظبية فقال ذو الرمة:
أقول لدهناوية عوهج جرت لنا بين أعلى برقة بالصرائم
أيا ظبية الوعساء بني جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سالم وقال مسعود:
جعلت لها قرنين فوق قصاصها وظلفين مسودين تحت القوائم وقال ذو الرمة:
هي الشبه لولا مذرواها وأذنها سواء ولولا مشقة في القوائم وكان طفيليا
وكان ذو الرمة كثيرا ما يأتي الحضر فيقيم بالكوفة والبصرة وكان طفيليا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثني الحسن بن علي قال: حدثني ابن سعيد الكندي قال: سمعت ابن عياش يقول: حدثني من رأى ذا الرمة طفيليا يأتي العرسات.
بعض صفاته
نسخت من كتاب محمد بن داود بن الجراح: حدثني هارون بن الزيات قال: أخبرني محمد بن صالح العدوي قال: قال أبو زرعة بن أذبول: كان ذو الرمة مدور الوجه حسن الشعرة جعدها أقنى أنزع خفيف العارضين أكحل حسن الضحك مفوها إذا كلمك أبلغ الناس يضع لسانه حيث يشاء.
قال حماد بن إسحاق: حدثني إدريس بن سليمان بن يحيى بن أبي حصفة عن عمته عافية وغيرها من أهله: أنهم رأوا ذا الرمة باليمامة عند المهاجر بن عبد الله شيخا أجنا سناطا متساقطا.
وقال هارون بن الزيات: حدثني علي بن أحمد الباهلي قال: حدثني ربيح النميري قال: اجتمع الناس مرة وتحلقوا على ذي الرمة وهو ينشدهم فجاءت أمه فاطلعت من بينهم فإذا رجل قاعد وهو ذو الرمة. وكان دميما شختا أجنأ فقالت أمه: استمعوا إلى شعره ولا تنظروا إلى وجهه. قال هارون: وأخبرني يعقوب بن السكيت عن أبي عدنان قال: أخبرني أسيد الغنوي قال: سمعت بباديتنا من قوم هضبوا في الحديث أن ذا الرمة كان ترعية وكان كناز اللحم مربوعا قصيرا وكان أنفه ليس بالحسن.
الفرزدق وجرير يحسدانه
أخبرني ابن عمار عن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن صالح بن سليمان قال: كان الفرزدق وجرير يحسدان ذا الرمة وأهل البادية يعجبهم شعره.
قال: وكان صالح بن سليمان رواية لشعر ذي الرمة فأنشد يوما قصيدة له وأعرابي من بني عدي يسمع فقال: أشهد عنك - أي أنك - لفقيه تحسن ما تتلوه وكان يحسبه قرآنا.
إعجاب الكميت بشعره
نسخت من كتاب محمد بن داود: وحدثني هارون بن الزيات عن محمد بن صالح العدوي قال: قال حماد الراوية: قال الكميت حين سمع قول ذي الرمة:
أعاذل قد أكثرت من قول قائل وعيب على ذي الود لوم العواذل هذا والله ملهم وما علم بدوي بدقائق الفطنة وذخائر كنز العقل المعد لذوي الألباب أحسن ثم أحسن.
قال محمد بن صالح: وحدثني محمد بن كناسة بذلك عن الكميت وقال: لما أنشده قوله في هذه القصيدة:
دعاني وما داعي الهوى من بلادها إذا ما نأت خرقاء عني بغافل فقال الكميت: لله بلاد هذا الغلام وما أحسن قوله وما أجود وصفه ولقد شفع البيت قال ابن كناسة: وقال لي حماد الراوية: ما أخر القوم ذكره إلا لحداثة سنه وأنهم حسدوه.
صفحة : 2001
آراء قيلت في شعره
قال محمد بن صالح: وقال لي خالد بن كلثوم وأبو عمرو: قال أبو حزام وأبو المطرف: لم يكن أحد من القوم في زمانه أبلغ من ذي الرمة ولا أحسن جوابا كان كلامه أكثر من شعره.
وقال الأصمعي: ما أعلم أحدا من العشاق الحضريين وغيرهم شكا حبا أحسن من شكوى ذي الرمة مع عفة وعقل رصين.
قال: وقال أبو عبيدة: ذو الرمة يخبر فيحسن الخبر ثم يرد على نفسه الحجة من صاحبه فيحسن الرد ثم يعتذر فيحسن التخلص مع حسن إنصاف وعفاف في الحكم.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أبو أيوب المديني قال: حدثنا الفضل بن إسحاق الهاشمي عن مولى لجده قال: رأيت ذا الرمة بسوق المربد وقد عارضه رجل يهزأ به فقال له: يا أعرابي أتشهد بما لم تر قال: نعم قال: بماذا قال: أشهد أن أباك ناك أمك.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله عن ابن حبيب عن عمارة بن عقيل قال: كان جرير عند بعض الخلفاء فسأله عن ذي الرمة فقال: أخذ من طريف الشعر وحسنه ما لم يسبقه إليه أحد غيره.
أخبرني وكيع عن حماد بن إسحاق قال: قال حماد الراوية: قدم علينا ذو الرمة الكوفة فلم أر أفصح ولا أعلم بغريب منه.
نسخت من كتاب ابن النطاح: حدثني أبو عبيدة عن أبي عمرو قال: ختم الشعر بذي الرمة وختم الرجز برؤبة.
قال: فما تقول في هؤلاء الذين يقولون قال: كل على غيرهم إن قالوا حسنا فقد سبقوا إليه وإن قالوا قبيحا فمن عندهم.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن بعض أصحابه عن حماد الراوية قال: أحسن الجاهلية تشبيها امرؤ القيس وذو الرمة أحسن أهل الإسلام تشبيها.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب عن عمارة بن عقيل: أن جريرا والفرزدق اتفقا عند خليفة من خلفاء بني أمية فسأل كل واحد منهما على انفراد عن ذي الرمة فكلاهما قال: أخذ من طريف الشعر وحسنه ما لم يسبقه إليه غيره فقال الخليفة: أشهد لاتفاقكما فيه أنه أشعر منكما جميعا.
أخبرني جحظة عن حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي قال: أنشد الصقيل شعر ذي الرمة فاستحسنه وقال: ماله قاتله الله ما كان إلا ربيقة هلا عاش قليلا.
وقال هارون بن محمد: أخبرني علي بن أحمد الباهلي قال: حدثني محمد بن إسحاق البلخي عن سفيان ابن عيينة عن ابن شبرمة قال: سمعت ذا الرمة يقول: إذا قلت: كأنه ثم لم أجد مخرجا فقطع الله لساني.
قال هارون: وحدثني العباس بن ميمون طائع قال: قال الأصمعي: كان ذو الرمة أشعر الناس إذا شبه ولم يكن بالمفلق.
وحدثني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان لذي الرمة حظ في حسن التشبيه لم يكن لأحد من الإسلاميين كان علماؤنا يقولون: أحسن الجاهلية تشبيها امرؤ القيس وأحسن أهل الإسلام تشبيها ذو الرمة.
أخبرني محمد بن يزيد قال: حدثنا حماد عن أبيه عن أبي عقيل عمارة بن عقيل عن عمته أم القاسم ابنة بلال بن جرير عن جارية كانت لأم مي قالت: كنا نازلين بأسفل الدهناء وكان رهط ذي الرمة مجاورين لنا فجلست مية - وهي حينئذ فتاة حين نهد ثدياها أحسن من رأيته - تغسل ثيابا لها ولأمها في بيت منفرد وكان بيتا رثا قد أخلق ففيه خروق فلما فرغت ولبست ثيابها جاءت فجلست عند أمها فأقبل ذو الرمة حتى دخل إلينا ثم سلم ونشد ضالة وجلس ساعة ثم خرج.
فقالت مية: إني لأرى هذا العدوي قد رآني منكشفة واطلع علي من حيث لا أدري فإن بني عدي أخبث قوم في الأرض فاذهبي فقصي أثره فخرجت فوجدته ما يثبت مقامه فقصصت أثره ثانية حتى رأيته وقد تردد أكثر من ثلاثين طرقة كل ذلك يدنو فيطلع إليها ثم يرجع على عقبيته ثم يعود فيطلع إليها فأخبرتها بذلك ثم لم تنشب أن جاءنا شعره فيها من كل وجه ومكان.
رواية أخرى في ذلك وذكر علي بن سعيد بن بشر الرازي: أن هارون بن مسلم بن سعد حدثه عن حسين بن براق الأسدي عن عمارة بن ثقيف قال: حدثني ذو الرمة أن أول ما قاد المودة بينه وبين مية أنه خرج هو وأخوه وابن عمه في بغاء إبل لهم قال: بينا نحن نسير إذ وردنا على ماء وقد أجهدنا العطش فعدلنا إلى حواء عظيم فقال لي أخي وابن عمي: ائت الحواء فاستسق لنا فأتيته وبين يديه في رواقه عجوز جالسة. قال: فاستسقيت فالتفتت وراءها فقالت: يا مي اسقي هذا الغلام فدخلت عليها فإذا هي تنسج علقة لها وهي تقول:
صفحة : 2002
يا من يرى برقا يمر حينا زمزم رعدا وانتحى يمينا
كأن في حافاته حنينا أو صوت خيل ضمر يردينـا قال: ثم قامت تصب في شكوتي ماء وعليها شوذب لها فلما انحطت على القربة رأيت مولى لم أر أحسن منه فلهوت بالنظر إليها وأقبلت تصب الماء في شكوتي والماء يذهب يمينا وشمالا. قال: فأقبلت علي العجوز وقالت: يا بني ألهتك مي عما بعثك أهلك له أما ترى الماء يذهب يمينا وشمالا فقلت: أما والله ليطولن هيامي بها.
قال: وملأت شكوتي وأتيت أخي وابن عمي ولففت راسي فانتبذت ناحية وقد كانت مي قالت: لقد كلفك أهلك السفر على ما أرى من صغرك وحداثة سنك فأنشأت أقول:
قد سخرت أخت بني لبيد مني ومن سلم ومن وليد مثل ادراع اليلمق الجديد قال: وهي أول قصيدة قلتها ثم أتممتها: هل تعرف المنزل بالوحيد ثم مكثت أهيم بها في ديارها عشرين سنة.
ذو الرمة وزوج مي
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن النوفلي قال: سمعت أبي يقول: ضاف ذو الرمة زوج مي في ليلة ظلماء وهو طامع في ألا يعرفه زوجها فيدخله بيته فيراها ويكلمها ففطن له الزوج وعرفه فلم يدخله وأخرج إليه قراه وتركه بالعراء وقد عرفته مية فلما كان في جوف الليل تغني غناء الركبان قال:
أراجعة يا مي أيامنا الألى بذي الأثل أم لا ما لهن رجوع فغضب زوجها وقال: قومي فصيحي به: يابن الزانية وأي أيام كانت لي معك بذي الأثل فقالت: يا سبحان الله ضيف والشاعر يقول فانتضى السيف وقال: والله لأضربنك به حتى آتي عليك أو تقولي فصاحت به كما أمرها زوجها فنهض على راحلته فركبها وانصرف قال شعرا في خرقاء يغيظ به ميا فمر بلفج في ركب وبعض أصحابه يريد أن يرقع خفه فإذا هو بجوار خارجات من بيت يردن آخر وإذا خرقاء فيهن - وهي امرأة من بني عامر - فإذا جارية حلوة شهلاء فوقعت عين ذي الرمة عليها فقال لها: يا جارية أترقعين لهذا الرجل خفه فقالت تهزأ به: أنا خرقاء لا أحسن أن أعمل فسماها خرقاء وترك ذكر مي يريد أن يغيظ بذلك ميا. فقال فيها قصيدتين أو ثلاثا ثم لم يلبث أن مات.
لقاءه بجرير والمهاجر بن عبد الله
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن الأصمعي عن عمارة بن عقيل قال: قال جرير: خرجت مع المهاجر بن عبد الله إلى حجة فلقينا ذا الرمة فاستنشده المهاجر فأنشده:
ومن حاجتي لولا التنائي وربما منحت الهوى من ليس بالمتقارب
عطابيل بيض من ربيعة عامر عذاب الثنايا مثقلات الحـقـائب
يقظن الحمى والرمل منهن محضر ويشربن ألبان الهجان النجائب رأي لجرير في بيت قاله
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: أخبرنا أبو البيداء الرياحي قال: قال جرير: قاتل الله ذا الرمة حيث يقول:
ومنتزع من بين نسعيه جرة نشيج الشجا جاءت إلى ضرسه نزرا أما والله لو قال: ما بين جنبيه لما كان عليه من سبيل.
جرير وأبو عمرو بن العلاء يصفان شعره
أخبرني الطوسي وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن أبي غزالة عن هشام بن محمد الكلبي عن رجل من كندة قال: سئل جرير عن شعر ذي الرمة فقال: بعر ظباء ونقط عروس يضمحل عن قليل.
أخبرني أبو خليفة عن ابن سلام قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: إنما شعر ذي الرمة نقط عروس يضمحل عن قليل وأبعار لها مشم في أول شمة ثم تعود إلى أرواح البعر.
الفرزدق يعجب بشعره ولا يعده من الفحول
قال أبو زيد بن شبة: قال أبو عبيدة:
إذا ارفض أطراف السياط وهللت جروم المطايا عذبتهن صيدح فقال ذو الرمة: كيف تسمع يا أبا فراس قال: أسمع حسنا قال: فما لي لا أعد في الفحول من الشعراء قال: يمنعك من ذلك ويباعدك ذكرك الأبعار وبكاؤك الديار ثم قال:
ودوية لو ذو الرميمة رامها لقصر عنها ذو الرميم وصيدح
قطعت إلى معروفها منكراتها إذا اشتد آل الأمعز المتوضح وقال عمر بن شبة في هذا الخبر: فقام إليه ذو الرمة فقال: أنشدك الله أبا فراس أن تزيد عليهما شيئا فقال: إنهما بيتان ولن أزيد عليهما شيئا.
قال: وكان عمر بن شبة يقول عمن أخبره عن أبي عمرو: إنما شعره نقط عروس تضمحل عما قليل وأبعار ظباء لها مشم في أول شمها ثم تعود إلى أرواح الأبعار.
كان هواه مع الفرزدق على جرير
صفحة : 2003
وكان هوى ذي الرمة مع الفرزدق على جرير وذلك لما كان بين جرير وابن لجأ التيمي وتيم وعدي أخوان من الرباب وعكل أخوهم ولذلك يقول جرير لعكل:
فلا يضـغـمـن الـلـيث عـكـلا بـغـرة وعـكـــل يشـــمـــون الـــقـــريس الـــمـــنـــيبـــا
الفريس ها هنا ابن لجأ وكذلك يفعل السبع إذا ضغم شاة ثم طرد عنها أو سبقته أقبلت وقلت نضاحة لبني عدي ثيابكم ونضح دم القتيل يحذر عديا ما لقي ابن لجأ.
الفرزدق ينتحل أبياتا له أخبرني أبو خليفة عن ابن سلام أن أبا يحيى الضبي قال: قال ذو الرمة يوما: لقد قلت أبياتا إن لها لعروضا وإن لها لمرادا ومعنى بعيدا. قال له الفرزدق: ما هي قال: قلت:
أحين أعاذت بي تميم نساءها وجردت تجريد اليماني من الغمـد
ومدت بضبعي الرباب ومالك وعمرو وشالت من ورائي بنو سعد
ومن آل يربوع زهاء كأنه زها الليل محمود الكنـاية والـرفـد فقال له الفرزدق: لا تعودن فيها فأنا أحق بها منك قال: والله لا أعود فيها ولا أنشدها أبدا إلا لك فهي قصيدة الفرزدق التي يقول فيها:
وكنا إذا القيسي نب عتوده ضربناه فوق الأنثيين على الكرد - الأنثيان: الأذنان. والكرد: العنق -.
وروى هذا الخبر حماد عن أبيه عن أبي عبيدة عن الضحاك الفقيمي قال: بينا أنا بكاظمة وذو الرمة ينشد قصيدته التي يقول فيها: إذا راكبان قد تدليا من نقب كاظمة مقنعان فوقفا فلما فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن وجهه وقال لراويته: يا عبيد اضمم إليك هذه الأبيات. قال له ذو الرمة: نشدتك الله يا أبا فراس فقال له: أنا أحق بها منك وانتحل منها هذه الأربعة الأبيات.
المهاجاة بينه وبين هشام المرئي حدثنا محمد قال: حدثنا أبو الغراف قال: مر ذو الرمة بمنزل لامرىء القيس بن زيد مناة يقال له: مرأة به نخل فلم ينزلوه ولم يقروه فقال :
نزلنا وقد طال النهار وأوقدت علينا حصى المعزاء شمس تنالها
أنخنا فظللنا بأبراد يمنة عتاق وأسـياف قـديم صـقـالـهـا
فلما رآنا أهل مرأة أغلقوا مخادع لم ترفع لخير ظـلالـهـا
وقد سميت باسم امرىء القيس قرية كرام صواديها لئام رجالها فلج الهجاء بين ذي الرمة وبين هشام المرئي فمر الفرزدق بذي الرمة وهو ينشد: <H6 صوت</H6
وأسقيه حتى كاد مما أبثه تكلمني أحجاره وملاعبه غنى فيه إبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وسيأتي خبره بعد لئلا ينقطع هذا الخبر. فقال له الفرزدق: ألهاك البكاء في الديار والعبد يرتجز بك في المقابر يعني هشاما.
وكان ذو الرمة مستعليا هشاما حتى لقي جرير هشاما فقال: غلبك العبد يعني ذا الرمة قال: فما أصنع يا أبا حرزة وأنا راجز وهو يقصد والرجز لا يقوم للقصيد في الهجاء ولو رفدتني فقال جرير - لتهمته ذا الرمة بالميل إلى الفرزدق -: قل له:
غضبت لرجل من عدي تشمسوا وفي أي يوم لم تشمس رجالها
وفيم عدي عند تيم من العلا وأيامنا اللاتي تعـد فـعـالـهـا
وضبة عمي يابن جل فلا ترم مساعي قوم ليس منك سجالهـا
يماشي عديا لؤمها لا تجنه من الناس ما مست عديا ظلالـهـا
فقل لعدي تستعن بنسائها علي فقـد أعـيا عـديا رجـالـهـا
إذا الرم قد قلدت قومك رمة بطيئا بأمر المطلقين انحلالـهـا قال أبو عبد الله: فحدثني أبو الغراف قال: لما بلغت الأبيات ذا الرمة قال: والله ما هذا بكلام هشام ولكنه ابن الأتان.
لما سمعها قال: هو والله ينتمي شعر حنظلي عذري وغلب هشام على ذي الرمة بها. نسخت من كتاب ابن النطاح: حدثني أبو عبيدة قال: حدثني فلان المرئي قال: أتانا جرير على حمار وأنا لا أعرفه فأتي بنبيذ فشرب فلما أخذ فيه قال: أين هشام فدعي فقال له: أنشدني ما قلت في ذي الرمة فأنشده فجعل كلما أنشده قصيدة قال: لم تصنع شيئا ثم قال له: قد دنا رواحي فاردد هذه الأبيات ومر شبانكم بروايتها وذكر الأبيات التي أولها قوله: غضبت لرجل من تميم تشمسوا قال: فغلبه هشام بها فلما كان بعد ذلك لقي ذو الرمة جريرا فقال: تعصبت على خالك للمرئي. فقال جرير: حيث فعلت ماذا قال: حين تقول للمرئي كذا وكذا فقال جرير: لأنك ألهاك البكاء في دار مية حتى استقبحته محارمك.
قال: قول ذي الرمة: تعصبت على خالك أن النوار بنت جل أم حنظلة بن مالك وهي من رهط ذي الرمة وكذلك عنى جرير بقوله:
ولولا أن تقول بنو عدي ألم تك أم حنظلة النوار
صفحة : 2004
أتتكم يا بني ملكان مني قصائد لا تعاورها البحار فقال ذو الرمة: لا ولكن اتهمتني بالميل مع الفرزدق عليك قال: كذلك هو قال: فوالله ما فعلت وحلف له بما يرضيه قال: فأنشدني ما هجوت به المرئي فأنشده قوله:
نبت عيناك عن طلل بحزوى عفته الريح وامتضح القطارا فأطال جدا فقال له جرير: ما صنعت شيئا أفأرفدك قال: نعم قال: قل:
يعد الناسبون إلى تميم بيوت المجد أربـعة كـبـارا
يعدون الرباب وآل سعد وعمرا ثم حنظلة الـخـيارا
ويهلك بينها المرئي لغوا كما ألغيت في الدية الحوارا ويروى: ويذهب بينها .
فغلبه ذو الرمة بها.
قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: حدثني جماعة من أهل العلم أن ذا الرمة مر بالفرزدق فقال له: أنشدني أحدث ما قلت في المرئي فأنشده هذه الأبيات فأطرق الفرزدق ساعة ثم قال: أعد فأعاد فقال: كذبت وايم الله ما هذا لك ولقد قاله أشد لحيين منك وما هذا إلا شعر ابن الأتان.
فلما سمعها المئي جعل يلطم رأسه ويصرخ ويدعو بويله ويقول: قتلني جرير قتله الله هذا فلما استعلى ذو الرمة على هشام أتى هشام وقومه جريرا فقالوا: يا أبا حزرة عادتك الحسنى فقال: هيهات ظلمت أخوالي قد أتاني ذو الرمة فاعتذر إلي وحلف فلست أعين عليهم.
فلما يئسوا من عنده أتوا لهذا المكاتب وقد طلع بمكاتبته فأعطوه عشرة أعنز وأعانوه على مكاتبته فقال أبياتا في عيينة يفضل فيها بني امرىء القيس على بني عدي وهشاما على ذي الرمة ومات ذو الرمة في تلك الأيام فقال الناس: غلبه هشام.
قال ابن النطاح: إنما مات ذو الرمة بعقب إرفاد جرير إياه على المرئي فقال الناس: غلبه ولم يغلبه إنما مات قبل الجواب.
يتحدث عن شعره أخبرني اليزيدي عن محمد بن الحسن الأحول عن بعض أصحابه عن الشبو بن قسيم العذري قال: سمعت ذا الرمة يقول: من شعري ما طاوعني فيه القول وساعدني ومنه ما أجهدت نفسي فيه ومنه ما جننت به جنونا فأما ما طاوعني القول فيه فقولي: خليلي عوجا من صدور الرواحل أأن توسمت من خرقاء منزلة أما ما جننت به جنونا فقولي: ما بال عينك منها الدمع ينسكب جرير يتمنى أن ينسب إليه شعره أخبرني علي بن سليمان عن محمد بن يزيد عن عمارة بن عقيل قال: كان جرير يقول: ما أحببت أن ينسب إلي من شعر ذي الرمة إلا قوله: ما بال عينك منها الماء ينسكب فإن شيطانه كان له فيها ناصحا.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: قال حماد الراوية: ما تمم ذو الرمة قصيدته التي يقول فيها: ما بال عينك منها الماء ينسكب حتى مات كان يزيد فيها منذ قالها حتى توفي.
ذو الرمة وخياط في سوق المربد أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبي عدنان قال: أخبرنا جابر بن عبد الله بن جامع بن بينا ذو الرمة ينشد بالمربد والناس مجتمعون إليه إذا هو بخياط يطالعه ويقول:
يا غيلان أأنت الذي تستنطق الدار واقفا من الجهل هل كانت بكن حلول فقام ذو الرمة وفكر زمانا ثم عاد فقعد في المربد ينشد فإذا الخياط قد وقف عليه ثم قال:
أأنت الذي شبهت عنزا بقفرة لها ذنب فوق استها أم سالـم
وقرنان إما يلزقا بك يتركا بجنبيك يا غيلان مثل المواسـم
جعلت لها قرنين فوق شواتها ورابك منها مشقة في القوائم فقام ذو الرمة فذهب ولم ينشد بعدها في المربد حتى مات الخياط. قال: وأراد الخياط بقوله هذا قول ذي الرمة:
أقول لدهناوية عوهج جرت لنا بين أعلى برقة في الصرائم
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل وبين النقا آأنت أم أم سـالـم
هي الشبه لولا مدرياها وأذنها سواء وإلا مشقة في القوائم فانتبه ذو الرمة لذلك فقال:
أقول بذي الأرطى عشية أرشقت إلى الركب أعناق الظباء الخواذل
لأدماء من آرام بين سويقة وبين الجبال العفـر ذات الـسـلاسـل
فعيناك عيناها وجيدك جيدها ولونك لولا أنـهـا غـير عـاطـل في البيتين الأخيرين من هذه الأبيات رمل بالوسطى لإبراهيم.
رؤبة يعجز عن تفسير بيت قاله الراعي
فيفسره له ذو الرمة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري عن يعقوب بن السكيت عن محمد بن سلام عن أبي الغراف قال: قال ذو الرمة لرؤبة: ما عنى الراعي بقوله:
أناخا بأسوأ الظن ثمت عرسا قليلا وقد أبقى سهيل فعردا
صفحة : 2005
فجعل رؤبة يقول: هي كذا هي كذا لأشياء لا يقبلها ذو الرمة فقال له رؤبة: فمه ويحك قال: هي الأرض بين المكلئة وبين المجدبة.
الوليد بن عبد الملك يسأل الفرزدق وجريرا عن ذي الرمة أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبي عدنان عن إبراهيم بن نافع: أن الفرزدق دخل على الوليد بن عبد الملك أو غيره فقال له: من أشعر الناس قال: أنا قال: أفتعلم أحدا أشعر منك قال: لا إلا غلاما من بني عدي بن كعب يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات. ثم أتاه جرير فسأله فقال له مثل ذلك. ثم أتاه ذو الرمة فقال له: ويحك أنت أشعر الناس قال: لا ولكن غلام من بني عقيل يقال لهه: مزاحم: يسكن الروضات يقول وحشيا من الشعر لا نقدر على أن نقول مثله.
كثيرة تقول شعرا في مي وتنحله ذا الرمة
قال: وكان ذو الرمة يتشبب بمي بنت طلبة بن قيس بن عاصم المنقري وكانت كثيرة أمة ولدة لآل قيس بن عاصم وهي أم سهم بن بردة اللص الذي قتله سنان بن مخيس القشيري أيام محمد بن سليمان فقالت كثيرة:
على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب الخزي لو كان باديا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه ولو كان لون الماء في العين صافـيا ونحلتها ذا الرمة فامتعض من ذلك وحلف بجهد أيمانه ما قالها.
قال: وكيف أقول هذا وقد قطعت دهري وأفنيت شبابي أشبب بها وأمدحها ثم أقول هذا ثم اطلع على أن كثيرة قالتهما ونحلتهما إياه.
وقال هارون بن محمد: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله قال: حدثني هارون بن سعيد قال: حدثني أبو المسافر الفقعسي عن أبي بكر بن جبلة الفقعسي قال: وقف ذو الرمة في ركب معه على مية فسلموا عليها فقالت: وعليكم إلا ذا الرمة فأحفظه ذلك وغمه ما سمع منها بحضرة القوم فغضب وانصرف وهو يقول:
أيا مي قد أشمت بي ويحك العدا وقطعت حبلا كان يا مي باقـيا
فيا مي لا مرجوع للوصل بيننا ولكن هجرا بينـنـا وتـقـالـيا
ألم تر أن الماء يخبث طعمه وإن كان لون الماء في العين صافيا محمد بن الحجاج الأسيدي يلتقي بمية وهي عجوز
أخبرني الحسن بن علي الأدمي عن ابن مهرويه عن ابن النطاح عن محمد بن الحجاج الأسيدي من بني أسيد بن عمرو بن تميم قال: مررت على مية وقد أسنت فوقفت عليها وأنا يومئذ شاب فقلت: يا مية ما أرى ذا الرمة قد ضيع فيك قوله حيث يقول: صوت
أما أنت عن ذكراك مية مقصر ولا أنت ناسي العهد منها فتذكر قال: فضحكت وقالت: رأيتني يابن أخي وقد وليت وذهبت محاسني ويرحم الله غيلان فلقد قال هذا في وأنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة في عين المقرور ولن تبرح حتى أقيم عندك عذره ثم صاحت: يا أسماء اخرجي فخرجت جارية كالمهاة ما رأيت مثلها فقالت: أما لمن شبب بهذه وهويها عذر فقلت: بلى فقالت: والله لقد كنت أزمان كنت مثلها أحسن منها ولو رأيتني يومئذ لازدريت هذه ازدراءك إياي اليوم انصرف راشدا.
في هذين البيتين لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى.
أبو سوار الغنوي يصف مية أخبرني أبو خليفة قال: قال محمد بن سلام: قال أبو سوار الغنوي: رأيت مية وإذا معها بنون لها صغار فقلت: صفها لي فقال: مسنونة الوجه طويلة الخد شماء الأنف عليها وسم جمال فقالت: ما القيت بأحد من بني هؤلاء إلا في الإبل قلت: أفكانت تنشدك شيئا مما قاله ذو الرمة فيها قال: نعم كانت تسح سحا ما رأى أبوك مثله.
مية تنذر أن تنحر بدنة يوم تراه فأما ابن قتيبة فقال في خبره: مكثت مية زمانا لا ترى ذا الرمة وهي تسمع مع ذلك شعره فجعلت لله عليها أن تنحر بدنة يوم تراه فلما رأته رجلا دميما أسود وكانت من أجمل الناس قالت: واسوأتاه وابؤساه واضيعة بدنتاه فقال ذو الرمة:
على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب الشين لو كان باديا قال: فكشفت ثوبها عن جسدها ثم قالت: أشينا ترى لا أم لك فقال:
ألم تر أن الماء يخبث طعمه وإن كان لون الماء أبيض صافيا فقالت: أما ما تحت الثياب فقد رأيته وعلمت أن لا شين فيه ولم يبق إلا أن أقول لك: هلم حتى تذوق ما وراءه ووالله لا ذقت ذاك أبدا فقال:
فيا ضيعة الشعر الذي لج فانقضى بمي ولم أملك ضلال فؤاديا قال: ثم صلح الأمر بينهما بعد ذلك فعاد لما كان عليه من حبها.
الجبيري وابنة مية يتذاكران شعرا لذي الرمة
صفحة : 2006
وذكر محمد بن علي بن حفص الجبيري الحنفي - من ولد أبي جبيرة - أن النوار بنت عاصم المنقرية - وأمها مية صاحبة ذي الرمة - أخبرته وقد ذكر عندها ذا الرمة وأنشدها قوله في أمها:
هي البرء والأسقام والهم والمنى وموت الهوى في القلب مني المبرح يربح أي يزيد الربح. هكذا ذكره الأصمعي.
إذا غير النأي المحبين لم أجد رسيس الهوى من حب مية يبرح فلما سمعت قوله: غذا غير النأي المحبين...
قالت: قبحه الله هو الذي يقول أيضا:
على وجه مي مسحة من ملاحة وتحت الثياب الشين لو كان باديا فقلت لها: أكانت مية جدتك قالت: لا بل أمي فقلت لها: كم تعدين قالت: ستين سنة.
أخبرني الحسين بن يحيى قال حماد: قرأت على أبي عن محمد بن سلام قال: كانت مي صاحبة ذي الرمة من ولد طلبة بن قيس بن عاصم المنقري وكانت لها بنت عم من ولد قيس يقال لها: كثيرة أم سلهمة فقالت على لسان ذي الرمة: على وجه مي مسحة من ملاحة الأبيات. فكان ذو الرمة إذا ذكر له ذلك يمتعض منه ويحلف أنه ما قالها قط.
أخبرني بهذا الخبر أبو خليفة عن محمد بن سلام عن أبي الغراف الضبي بمثله وقال فيه: أخبرنا أحمد بن عبد العزيز وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن المدائني عن سلمة عن محارب قال: كان ذو الرمة يقرأ ويكتب ويكتم ذلك فقيل له: كيف تقول: عزير ابن الله أو عزير بن الله فقال: أكثرهما حروفا.
ذو الرمة يكتب
أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال: قال عيسى بن عمر: قال لي ذو الرمة: ارفع هذا الحرف فقلت له: أتكتب فقال بيده على فيه: اكتم علي فإنه عندنا عيب.
رؤبة يتهمه بسرقة شعره
أخبرني ابن دريد عن أبي حاتم عن الأصمعي عن محمد بن أبي بكر المخزومي قال: قال رؤبة: كما قلت شعرا سرقه ذو الرمة فقيل له: وما ذاك قال: قلت: حي الشهيق ميت الأنفاس فقال هو: حي الشهيق ميت الأوصال فقلت له: فقوله والله أجود من قولك وإن كان سرقه منك فقال: ذلك أغم لي.
يحدثنا عن منزلته من الراعي
أخبرني ابن عبد العزيز عن ابن شبة قال: قيل لذي الرمة: إنما أنت راوية الراعي. فقال: أما والله لئن قيل ذاك ما مثلي ومثله إلا شاب صحب شيخا فسلك به طرقا ثم فارقه فسلك الشاب بعده شعابا وأودية لم يسلكها الشيخ قط.
لا يحسن الهجاء والمدح
أخبرني محمد بن أحمد بن الطلاس عن الخراز عن المدائني وأخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم عن ابن أخي الأصمعي عن عمه دخل حديث بعضهم في حديث بعض قال: إنما وضع من ذي الرمة أنه كان لا يحسن أن يهجو ولا يمدح وقد مدح بلال بن أبي بردة فقال:
رأيت الناس ينتجعون غيثا فقلت لصيدح: انتجعي بلالا أخبرني أبو خليفة عن ابن سلام قال: حدثني أبو الغراف قال: عاب الحكم بن عوانة الكلبي ذا الرمة في بعض قوله فقال فيه:
فلو كنت من كلب صميما هجوتكم جميعا ولكن لا إخالك من كلب
ولكنما أخبرت أنك ملصق كما ألصقت من غيرها ثلمة القعـب
تدهدى فخرت ثلمة من صميمه فكيف بأخرى بالغراء وبالشعـب ذو الرمة وبلال بن أبي بردة
يحتكمان إلى أبي عمرو بن العلاء في رواية شيء من شعر حاتم:
أخبرني أبو خليفة عن ابن سلام قال: وحدثني أبو الغراف قال: دخل ذو الرمة على بلال بن أبي بردة وكان بلال راوية فصيحا أديبا فأنشده بلال أبيات حاتم طيىء قال:
لحا الله صعلوكا مناه وهمه من العيش أن يلقى لبوسا ومطعما
يرى الخمس تعذيبا وإن نال شبعة يبت قلبه من شدة الهم مبهما هكذا أنشد بلال فقال ذو الرمة: يرى الخمص تعذيبا وإنما الخمس للإبل وإنما خمص البطن فمحك بلال - وكان محكا - وقال: هكذا أنشدنيه رواه طيىء فرد عليه ذو الرمة فضحك ودخل أبو عمرو بن العلاء فقال له بلال: كيف تنشدهما وعرف أبو عمرو الذي به فقال: كلا الوجهين جائز فقال: أتأخذون عن ذي الرمة فقال: إنه لفصيح وإنا لنأخذ عنه بتمريض.
وخرجا من عنده فقال ذو الرمة لأبي عمرو: والله لولا أني أعلم أنك حطبت في حبله وملت مع هواه لهجوتك هجاء لا يقعد إليك اثنان بعده.
أجود شعره في رأي بلال بن جرير
نسخت من كتاب محمد بن داود بن الجراح: حدثني هارون بن محمد الزيات قال: حدثني حماد بن إسحاق عن عمارة بن عقيل قال: قيل لبلال بن جرير: أي شعر ذي الرمة أجود فقال: هل حبل خرقاء بعد اليوم مرموم إنها مدينة الشعر.
صفحة : 2007
رأي لابن سلام في ذي الرمة
حدثنا أبو خليفة عن ابن سلام قال: كان ذو الرمة من جرير والفرزدق بمنزلة قتادة من الحسن وابن سيرين كان يروي عنهما ويروي جماعة من الكوفة يصنعون له أبياتا أخبرني الجوهري قال: حدثنا ابن شبة عن ابن معاوية قال: قال حماد الراوية: قدم علينا ذو الرمة الكوفة فلم نر أحسن ولا أفصح ولا أعلم بغريب منه فغم ذلك كثيرا من أهل المدينة فصنعوا له أبياتا وهي قوله:
رأى جملا يوما ولم يك قبلها من الدهر يدري كيف خلق الأباعر
فقال: شظايا مع ظبايا ألا لنا وأجفل إجفال الظلـيم الـمـبـادر
فقلت له: لا ذهل ملكيل بعدما ملا نيفق التبان مـنـه بـعـاذر قال: فاستعادها مرتين أو ثلاثا ثم قال: ما أحسب هذا من كلام العرب.
ذو الرمة وعنبسة النحوي أخبرني أبو الحسن الأسدي عن العباس بن ميمون طائع قال: حدثنا أبو عثمان المازني عن الأصمعي عن عنبسة النحوي قال: قلت لذي الرمة وسمعته ينشد ويقول:
وعينان قال الله كونا فكانتا فعولين بالألباب ما تفعل الخمر قال: فقلت له: فهلا قلت: فعولان فقال: لو قلت: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر كان خيرا لك أي أنك أردت القدر وأراد ذو الرمة كونا فعولين بالألباب وأراد عنبسة: وعينان فعولان.
وروى هذا الخبر ابن الزيات عن محمد بن عبادة عن الأصمعي عن العلاء بن أسلم فذكر مثله.
يغير شعره لرأي قاله ابن شبرمة
وحكى أن إسحاق بن سويد المعارض له قال: وأخبرني الأخفش قال: حدثني محمد بن يزيد النحوي قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل قال: حدثني أبي عن أبيه قال: قدم ذو الرمة الكوفة فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته الحائية حتى أتى على قوله:
إذا غير النأي المحبين لم يكد رسيس الهوى من حب مية يبرح فناداه ابن شبرمة: يا غيلان أراه قد برح. فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويفكر. ثم عاد فأنشد قوله: إذا غير النأي المحبين لم أجد قال: فلما انصرفت حدثت أبي فقال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة ما أنشد وأخطأ ذو الرمة حين غير شعره لقول ابن شبرمة إنما هذا مثل قول الله عز وجل: ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها وإنما معناه لم يرها ولم يكد.
بلال يأمر له بعشرة آلاف درهم
أخبرني الجوهري عن ابن شبرمة عن يحيى بن نجيم قال: قال رؤبة لبلال بن أبي بردة: علام تعطي ذا الرمة فوالله إنه ليعمد إلى مقاطعتنا فيصلها فيمدحك بها فقال: والله لو لم أعطه إلا على تأليفه لأعطيته وأمر له بعشرة آلاف درهم.
رجل بمربد البصرة يراجعه في شعر
أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة حدثنا إسحاق الموصلي عن الأصمعي قال: قال رجل: رأيت ذا الرمة بمربد البصرة وعليه جماعة مجتمعة وهو قائم وعليه برد قيمته مائتا دينار وهو ينشد ودموعه تجري على لحيته: ما بال عينك منها الماء ينسكب فلما انتهى إلى قوله: قلت: يا أخا بني تميم ما هكذا قال عمك قال: وأي أعمامي يرحمك الله قلت: الراعي قال: وما قال قال: قلت: قوله:
ولا تعجل المرء قبل الورو ك وهي بركبته أبصر
وهي إذا قام في غرزها كمثل السفينة إذا تـوقـر
ومصغية خدها بالزما م فالرأس منها له أصـعـر
حتى إذا ما استوى طبقت كما طبق المسحل الأغبر قال: فأرتج عليه ساعة ثم قال: إنه نعت ناقة ملك ونعت ناقة سوقة. فخرج منها على رؤوس الناس.
روايات في سبب تشبيبه بخرقاء
فأما السبب بين ذي الرمة وخرقاء فقد اختلف فيه الرواة فقيل: إنه كان يهواها وقيل: بل كاد بها مية وقيل: بل كانت كحالة فداوت عينه فشبب بها.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن النوفلي عن أبيه: أن زوج مية أمرها أن تسب ذا الرمة غيرة عليها فامتنعت فتوعدها بالقتل فسبته فغضب أخبرني حبيب بن نصر عن ابن شبة عن العتبي عن هارون بن عتبة قال: شبب ذو الرمة بخرقاء العامرية بغير هوى وإنما كانت كحالة فداوت عينه من رمد كان بها فزال فقال لها: ما تحبين حتى أعطيك فقالت: عشرة أبيات تشبب بي ليرغب الناس في إذا سمعوا أن في بقية للتشبيب ففعل.
كان الحاج يمرون بخرقاء
صفحة : 2008
أخبرنا أبو خليفة عن ابن سلام قال: كان ذو الرمة شبب بخرقاء إحدى نساء بني عامر بن ربيعة وكانت تحل فلجا ويمر بها الحاج فتقعد لهم وتحادثهم وتهاديهم وكانت تجلس معها فاطمة بنتها - فحدثني من رآهما - فلم تكن فاطمة مثلها وكانت تقول: أنا منسك من مناسك الحج لقول ذي الرمة فيها:
تمام الحج أن تقف المطايا على خرقاء واضعة اللثام خرقاء تسأل القحيف العقيلي أن يتشبب بها قال ابن سلام في خبره: وأرسلت خرقاء إلى القحيف العقيلي تسأله أن يشبب بها فقال: صوت
لقد أرسلت خرقاء نحوي جريها لتجعلني خرقاء فيمن أضلت خرقاء تسقي ذا الرمة وهي لاتعرفه
حدثني حبيب بن نصر عن الزبير عن موهوب بن رشيد عمن حدثه قال: نزل ركب بأبي خرقاء العامرية فأمر لهم بلبن فسقوه وقصر عن شاب منهم فأعطته خرقاء صبوحها هي لا تعرفه فشربه ومضوا فركبوا فقال لها أبوها: أتعرفين الرجل الذي سقيت صبوحك قالت: لا والله قال: هو ذو الرمة القائل فيك الأقاويل فوضعت يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه وابؤساه ودخلت بيتها فما رآها أبوها ثلاثا.
المفضل الضبي يزور خرقاء حدثني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال: قال الضبي: كنت أنزل على بعض الأعراب إذا حججت فقال لي يوما: هل لك إلى أن أريك خرقاء صاحبة ذي الرمة فقلت: إن فعلت فقد بررت. فتوجهنا جميعا نريدها فعدل بي عن الطريق قدر ميل ثم أتينا أبيات شعر فاستفتح بيتا ففتح له وخرجت امرأة طويلة حسنة بها قوة فسلمت وجلست فتحدثنا ساعة ثم قالت لي: هل حججت قط قلت: غير مرة. قالت: فما منعك من زيارتي أما علمت أن منسك من مناسك الحج قلت: وكيف ذاك قالت:
أما سمعت تمام الحج أن تقف المطايا على خرقاء واضعة اللثام أخبرني وكيع عن أبي أيوب المدائني عن مصعب الزبيري قال: شبب ذو الرمة بخرقاء ولها ثمانون سنة.
رواية أخرى في لقاء ذي الرمة بخرقاء قال هارون بن الزيات: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن إبراهيم عن محمد بن يعقوب عن أبيه قال: رأيت خرقاء بالبصرة وقد ذهبت أسنانها وإن في ديباجة وجهها لبقية فقلت: أخبريني عن السبب بينك وبين ذي الرمة فقالت: اجتاز بنا في ركب ونحن عدة جوار على بعض المياه فقال: أسفرن فسفرن غيري فقال: لئن لم تسفري لأفضحنك فسفرت فلم يزل يقول حتى أزيد ثم لم أره بعد ذلك.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني موهوب بن رشيد قال: حدثني جدي قال: كنت مع خرقاء ذي الرمة إذ نزل ببابها ركب من بني تميم فأمر لهم بلبن فسقوه وقصر اللبن عن شاب منهم فأمرت له خرقاء بغبوقها فلما أن رحل عنهم الركب قال لها أبوها: يا خرقاء أتعرفين من سقيت غبوقك اليوم قالت: لا والله ما أعرفه قال: ذاك ذو الرمة فوضعت يدها على رأسها وقالت: واسوأتاه ودخلت خدرها.
قال الزبير: وحدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال: حدثنا أبو الشبل المعدي قال: كانت خرقاء البكائية أصبح من القبس وبقيت بقاء طويلا حتى شبب بها القحيف العقيلي.
خرقاء وصباح بن الهذيل أخبرنا أبو الحسن الأسدي عن أحمد بن سليمان عن أبي شيخ عن أبيه عن علي بن صالح بن سليمان عن صباح بن الهذيل أخي زفر بن الهذيل قال: خرجت أريد الحج فمررت بالمنزل الذي تنزله خرقاء فأتيتها فإذا امرأة جزلة عندها سماطان من الأعراب تحدثهم وتناشدهم فسلمت فردت ونسبتني فانتسبت لها وهي تنزلني حتى انتسبت إلى أبي فقالت: حسبك أكرمت ما شئت ما اسمك قلت: صباح قالت: وأبو من قلت: أبو المغلس قالت: أخذت أول الليل وآخره قال: فما كان لي همة إلا الذهاب عنها.
الحجاج الأسدي يزور خرقاء وتنشده شعرا لها في ذي الرمة
صفحة : 2009
نسخت من كتاب محمد بن صالح بن النطاح: حدثني محمد بن الحجاج الأسدي التميمي - وما رأيت تميميا أعلم منه - قال: حججت فلما صرت بمران منصرفا فإذا أنا بغلام أشعث الذؤابة قد أورد غنيمات له فجئته فاستنشتدته فقال لي: إليك عني فإني مشغول عنك. وألححت عليه فقال: أرشدك إلى ما بعض ما تحب انظر إلى ذلك البيت الذي يلقاك فإن فيه حاجتك هذا بيت خرقاء ذي الرمة فمضيت نحوه فطوحت بالسلام من بعيد فقالت: ادنه فدنوت فقالت: إنك لحضري فمن أنت قلت: من بني تميم - وأنه أحسب أنها لا معرفة لها بالناس - قالت: من أي تميم فأعلمتها فلم تزل تنزلني حتى انتسبت إلى أبي فقالت: الحجاج بن عمير بن يزيد قلت: نعم قالت: رحم الله أبا المثنى قد كنا نرجو أن يكون خلفا من عمير بن يزيد قلت: نعم فعاجلته المنية شابا قالت: حياك الله يا بني وقربك من أين أقبلت قلت: من الحج. قالت: فما لك لم تمر بي وأنا أحد مناسك الحج إن حجك ناقص فأقم حتى تحج أو تكفر بعتق. قلت: وكيف ذلك قالت: أما سمعت قول غيلان عمك:
تمام الحج أن تقف المطايا على خرقاء واضعة اللثام قال: وكانت وهي قاعدة بفناء البيت كأنها قائمة من طولها بيضاء شهلاء فخمة الوجه. قال: فسألتها عن سنها فقالت: لا أدري إلا أني كنت أذكر شمر بن ذي الجوشن حين قتل الحسين مر بنا وأنا جارية ومعه كسوة فقسمها في قومه قالت: وكان أبي قد أدرك الجاهلية وحمل فيها حمالات قال: ولما أنشدتني خرقاء بيت ذي الرمة فيها قلت: هيهات يا عمة قد ذهب ذلك منك قالت: لا تقل يا بني أما سمعت قول قحيف في:
وخرقاء لا تزداد إلا ملاحة ولو عمرت تعمير نوح وجلت ثم قالت: رحم الله ذا الرمة فقد كان رقيق البشرة عذب المنطق حسن الوصف مقارب الرصف عفيف الطرف فقلت لها: لقد أحسنت الوصف فقالت: هيهات أن يدركه وصف رحمه الله ورحم من سماه اسمه.
فقلت: ومن سماه قالت: سيد بني عدي الحصين بن عبدة بن نعيم ثم أنشدتني لنفسها في ذي الرمة:
لقد أصبحت في فرعي معد مكان النجم في فلك السماء
إذا ذكرت محاسنه تدرت بحار الجود من نحو السمـاء
حصين شاد بإسمك غير شك فأنت غياث محل بالفنـاء
إذا ضنت سحابة ماء مزن تثج بحار جودك بـارتـواء فقلت: أحسنت يا خرقاء فهل سمع ذلك منك ذو الرمة قالت: إي وربي قلت: فماذا قال قالت: قال: شكر الله لك يا خرقاء نعمة ربيت شكرها من ذكرها فقالت: أثقلنا حقها ثم قالت: اللهم غفرا هذا في اللفظ ونحتاج إلى العمل.
مع رجل من بني النجار يمر ببيت خرقاء ويحادث ابنتها أخبرني جحظة عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن كناسة عن خيثم بن حجية العجلي قال: حدثني رجل من بني النجار قال: خرجت أمشي في ناحية البادية فمررت على فتاة قائمة على باب بيت فقمت أكلمها فنادتني عجوز من ناحية الخباء: ما يقيمك على هذا الغزل النجدي فوالله ما تنال خيرا منه ولا ينفعك قال: وتقول هي: دعيه يا أماه يكن كما قال ذو الرمة:
وإن لم يكن إلا معرس ساعة قليلا فإني نافع لي قليلها فسألت عنهما فقيل لي: العجوز خرقاء ذي الرمة والفتاة بنتها.
ذو الرمة يموت وله أربعون سنة
وتوفي ذو الرمة في خلافة هشام بن عبد الملك وله أربعون سنة. وقد اختلفت الرواة في سبب وفاته.
روايات مختلفة عن وفاته أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري عن يعقوب بن السكيت: أنه بلغ أربعين سنة وفيها توفي وهو خارج إلى هشام بن عبد الملك ودفن بحزوى وهي الرملة التي كان يذكرها في شعره.
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: حدثني ابن أبي عدي قال: قال ذو الرمة: بلغت نصف الهرم وأنا ابن أربعين سنة.
قال ابن سلام: وحدثني أبو الغراف أنه مات وهو يريد هشاما وقال في طريقه في ذلك:
بلاد بها أهلون لست ابن أهلها وأخرى بها أهلون ليس بها أهل وقال هارون بن محمد بن عبد الملك: حدثني القاسم بن محمد الأسدي قال: حدثني جبر بن رياط قال: أنشد ذو الرمة الناس شعرا له وصف فيه الفلاة بالثعلبية فقال له حلبس الأسدي: إنك لتنعت الفلاة نعتا لا تكون منيتك إلا بها.
قال: وصدر ذو الرمة على أحد جفري بني تميم وهما على طريق الحاج من البصرة فلما أشرف على البصرة قال:
وإني لعاليها وإني لخائف لما قال يوم الثعلبية حلبس
صفحة : 2010
قال: ويقال: إن هذا آخر شعر قاله. فلما توسط الفلاة نزل عن راحلته فنفرت منه ولم تكن تنفر منه وعليها شرابه وطعامه فلما دنا منها نفرت حتى مات فيقال: إنه قال عند ذلك:
ألا أبلغ الفتيان عني رسالة أهينوا المطايا هن أهل هوان
فقد تركتني صيدح بمضلة لساني ملتاث من الطـلـوان قال هارون: وأخبرني أحمد بن محمد الكلابي بهذه القصة وذكر أن ناقته وردت على أهله في مياههم فركبها أخوه وقص أثره حتى وجده ميتا وعليه خلع الخليفة ووجد هذين البيتين مكتوبين على قوسه.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن الرياشي عن الأصمعي عن أبي الوجيه قال: دخلت على ذي الرمة وهو يجود بنفسه فقلت له: كيف تجدك قال: أجدني والله أجد ما لا أجد أيام أزعم أني ما لم أجد حيث أقول:
كأني غداة الزرق يا مي مدنف يجود بنفس قد أحم حمامها قال: وكان آخر ما قاله:
يا رب قد أشرفت نفسي وقد علمت علما يقينـا لـقـد أحـصـيت آثـاري
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت وفارج الكرب زحزحني عن النار قال أبو الوجيه: وكانت منيته هذه في الجدري وفي ذلك يقول:
الم يأتها أني تلبست بعدها مفوفة صواغها غير أخرق نسخت من كتاب هارون بن الزيات: حديثني عبد الوهاب بن إبراهيم الأزدي قال: حدثني جهم بن مسعدة قال: حدثني محمد بن الحجاج الأسدي عن أبيه قال: وردت حجرا وذو الرمة به فاشتكى شكايته التي كانت منها منيته وكرهت أن أخرج حتى أعلم بما يكون في شكاته وكنت أتعهده وأعوده في اليوم واليومين فأتيته يوما وقد ثقل فقلت: يا غيلان كيف تجدك فقال: أجدني والله يا أبا المثنى اليوم في الموت لا غداة أقول:
كأني غداة الزرق يا مي مدنف يكيد بنفس قد أحم حمامها فأنا والله الغداة في ذلك لا تلك الغداة.
قال هارون بن الزيات: حدثني موسى بن عيسى الجعفري قال: أخبرني أبي قال: أخبرني رجل من بني تميم قال:
ألفت كلاب الحي حتى عرفنني ومدت نساج العنكبوت على رحلي قال: ثم قال لمسعود أخيه: يا مسعود: قد أجدني تماثلت وخفت الأشياء عندنا واحتجنا إلى زيارة بني مروان فهل لك بنا فيهم فقال: نعم فأرسله إلى إبله يأتيه منها بلبن يتزوده وواعده مكانا وركب ذو الرمة ناقته فقمصت به وكانت قد أعفيت من الركوب وانفجرت النوطة التي كانت به. قال: وبلغ موعد صاحبه وجهد وقال: أردنا شيئا وأراد الله شيئا وإن العلة التي كانت بي انفجرت. فأرسل إلى أهله فصلوا عليه ودفن برأس حزوى وهي الرملة التي كان يذكرها في شعره.
قبره بالدهناء نسخت من كتاب عبيد الله بن محمد اليزيدي: قال أبو عبيدة وذكر هارون بن الزيات عن محمد بن علي بن المغيرة عن أبيه عن أبي عبيدة عن المنتجع بن نبهان قال: لما احتضر ذو الرمة قال: إني لست ممن يدفن في الغموض والوهاد قالوا: فكيف نصنع بك ونحن في رمال الدهناء قال: فأين أنتم من كثبان حزوى - قال: وهما رملتان مشرفتان على ما حولهما من الرمال - قالوا: فكيف نحفر لك في الرمل وهو هائل قال: فأين الشجر والمدر والأعواد قال: فصلينا عليه في بطن الماء ثم حملنا له الشجر والمدر على الكباش وهي أقوى على الصعود في الرمل من الإبل. فجعلوا قبره هناك وزبروه بذلك الشجر والمدر ودلوه في قبره فأنت إذا عرفت موضع قبره رأيته قبل أن تدخل الدهناء وأنت بالدو على مسيرة ثلاث.
قال هارون: وحدثني محمد بن صالح العدوي قال: ذكر أبو عمرو المرادي: إن قبر ذي الرمة بأطراف عناق من وسط الدهناء مقابل الأواعس وهي أجبل شوارع يقابلن الصريمة صريمة النعام وهذا الموضع لبني سعد ويختلط معهم الرباب.
قال هارون: وحدثني هارون بن مسلم عن الزيادي عن العلاء بن برد قال: ما كان شيء أحب إلى ذي الرمة إذا ورد ماء من أن يطوي ولا يسقي فأخبرني مخبر أنه مر بالجفر وقد جهده العطش قال: فسمعته يقول:
يا مخرج الروح من جسمي إذا احتضرت وفارج الكرب زحزحني عن النار ثم قضى.
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه عن عيسى بن عمر قال: كان ذور الرمة ينشد الشعر فإذا فرغ قال: والله لأكسعنك بشيء ليس في حسابك: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
أخبرني الحسن بن علي ووكيع عن أبي أيوب قال: حدثني أبو معاوية الغلابي قال:
صفحة : 2011
كان ذو الرمة حسن الصلاة حسن الخشوع فقيل له: ما أحسن صلاتك فقال: إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يخشع.
أخوه مسعود يرثيه
نسخت من كتاب عبيد الله اليزيدي قال: حدثني عبد الرحمن عن عمه عن أبي عمرو بن العلاء قال: كان مسعود أخو ذي الرمة يمشي معي كثيرا إلى منزلي فقال لي يوما وقد بلغ قريبا من منزلي: أنا الذي أقول في أخي ذي الرمة:
إلى الله أشكو لا إلى الناس أنني وليلى كلانا موجع مات وافده فقلت له: من ليلى فقال: بنت أخي ذي الرمة.
خبر إبراهيم في هذه الأصوات الماخورية
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة عن إسحاق الموصلي عن أبيه قال: صنعت لحنا فأعجبني وجعلت أطلب له شعرا فعسر ذلك علي فأريت في المنام كأن رجلا لقيني فقال لي: يا إبراهيم أو قد أعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به قلت: نعم. قال: فأين أنت من قول ذي الرمة:
ألا يا اسلمى يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجر عائك القطر قال: فانتهيت فرحا بالشعر فدعوت من ضرب علي فغنيته فإذا هو أوفق ما خلق الله فلما عملت هذا الغناء في شعر ذي الرمة نبهت عليه وعلى شعره فصنعت فيه ألحانا ماخورية منها :
أمنزلتي مي سلام عليكما هل الأزمن اللائي مضين رواجع وغنيت بها الهادي فاستحسنها وكاد يطير فرحا وأمر لكل صوت بألف دينار.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلى ولا زال منهلا بجرعائك القطر
ولو لم تكوني غير شام بقفرة تجربـهـا الأذيال صـيفـية كـدر عروضه من الطويل. وقوله: يا اسلمي ها هنا نداء كأنه قال: يا دار مي اسلمي ويا هذه اسلمي يدعو لها بالسلامة. ومثله قول الله عز وجل: ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض فسره أهل اللغة هكذا كأنه قال: يا قوم اسجدوا لله. ومي ترخيم مية إلا أنه أقامه ها هنا مقام الاسم الذي لم يرخم فنونه. وقوله: على البلى أي اسلمي وإن كنت قد بليت. والمنهل: الجاري يقال: انهل المطر انهلالا إذا سال.
والجرعاء والأجرع من الرمل: الكثير الممتد. والشام: موضع يخالف لون الأرض وهو جمع واحدته شامة. والقفر: ما لم يكن فيه نبات ولا ماء تجر بها الأذيال صيفية يعني الرياح الصيفية الحارة. وأذيالها: مآخيرها التي تسفي التراب على وجه الأرض شبهها بذيل المرأة وعنى بها أوائلها. والكدر: التي فيها الغبرة من القتام والفجاج فهي تعفي الآثار وتدفنها. غناه إبراهيم الموصلي ماخوريا بالوسطى. ومنها: صوت
أمنزلتي مي سلام عليكما هل الأزمن اللائي مضـين رواجـع
وهل يرجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والديار البلاقع
توهمتها يوما فقلت لصاحبي وليس لها إلا الظباء الـخـواضـع
وموشية سحم الصياصي كأنها مجللة حو علـيهـا الـبـراقـع عروضه من الطويل. غناه إبراهيم ماخوريا بالوسطى. والأزمن والأزمان جمع زمان. والعمى: الجهالة. والأثافي الثلاث هي الحجارة التي تنصب عليها القدر واحدتها أثفية. والخواضع من الظباء: اللاتي قد طأطأت رؤوسها. والموشية: يعني البقر. والصياصي: القرون واحدتها صيصية. والمجللة: التي كأن عليها جلالا سودا. والحوة: حمرة في سواد. ومما يغني فيه من هذه القصيدة قوله: صوت
قف العنس ننظر نظرة في ديارها وهل ذاك من داء الصبابة نافع
فقال: أما تغشى لمية منزلا من الأرض إلا قلت: هل أنـا رابـع
وقل لأطلال لمي تحية تحـيا بـهـا أو أن تـرش الـمـدامـع العنس: الناقة. والرابع: المقيم. وقل لأطلال أي ما أقل لهذه الأطلال مما أفعله. وترش المدامع أي تكثر نضحها الدموع. غناه إبراهيم الموصلي ماخوريا.
وذكر ابن الزيات عن محمد بن صالح العذري عن الحرمازي قال: مر الفرزدق على ذي الرمة وهو ينشد: أمنزلتي مي سلام عليكما فلما فرغ قال له: يا أبا فراس كيف ترى قال: أراك شاعرا. قال: فما أقعدني عن غاية الشعراء قال: بكاؤك على الدمن ووصفك القطا وأبوال الإبل.
ذو الرمة وعصمة بن مالك يزوران مية
حدثني ابن عمار والجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن إسحاق الموصلي عن مسعود بن قند قال:
صفحة : 2012
تذاكرنا ذا الرمة يوما فقال عصمة بن مالك: إياي فاسألوا عنه قال: كان حلو العينين حسن النغمة إذا حدث لم تسأم حديثه وإذا أنشدك بربر وجش صوته جمعني وإياه مربع مرة فقال لي: هيا عصمة إن مية من منقر ومنقر أخبث حي وأقفاه لأثر وأثبته في نظر وأعلمه بشر وقد عرفوا آثار إبلي فهل عندك من ناقة نزدار عليها مية قلت: إي والله عند الجؤذر بنت يمانية الجدلي قال: فعلي بها. فأتيته بها فركب وردفته فأتينا محلة مية والقوم خلوف والنساء في الرحال فلما رأين ذا الرمة اجتمعن إلى مي وأنخنا قريبا وأتيناهن فجلسنا إليهن فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة. فقال لي: أنشدهن يا عصمة. فأنشدت قصيدته التي يقول فيه :
فاسبلت العينان والقلب كاتم بمغرورق نمت عليه سواكبه
بكاء فتى خاف الفراق ولم تجل جوائلها اسراره ومعاتبه قالت الظريفة: فالآن فلتجل ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
وقد حلفت بالله مية ما الذي أحـدثـهـا إلا الـذي أنـا كـاذبـه
إذا فرماني الله من حيث لا أرى ولا زال في ارضي عدو أحاربه فقالت مية: ويحك يا ذا الرمة خف الله وعواقبه. ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
إذا سرحت من حب مي سوارح على القلب أبته جميعا عوازبه فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله فقالت مية: ما أصحه وهنيئا له فتنفس ذو الرمة تنفيسة كاد حرها يطير بلحيتي ثم أنشدت حتى أتيت على قوله:
إذا نازعتك القول مية أو بدا لك الوجه منها أو نضا الدرع سالبه
فما شئت من خد أسيل ومنطق رخيم ومن خلق تعلل جـادبـه فقالت الظريفة: فقد بدا لك الوجه وتنزع القول فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه فقالت لها مية: قاتلك الله فماذا تأتين به فتضاحكت الظريفة وقالت: إن لهذين لشأنا فقوموا بنا عنهما فقامت وقمن معها وقمت فخرجت وكنت قريبا حيث أراهما وأسمع ما ارتفع من كلاميهما فوالله ما رأيته تحرك من مكانه الذي خلفته فيه حتى ثاب أوائل الرجال فأتيته فقلت: انهض بنا فقد ثاب القوم فودعها فركب وردفته وانصرفنا.
ومنها: صوت
إذا هبت الأرواح من أي جانب به أهل مي هاج قلبي هبوبها
هوى تذرف العينان منه وإنما هوى كل نفس حيث كان حبيبها الغناء لإبراهيم ماخوري بالوسطى عن الهشامي.
صوت
إني تذكرني الزبير حمامة تدعو بمجمع نخلـتـين هـديلا
أفتى الندى وفتى الطعان قتلتم وفتى الرياح إذا تهب بلـيلا
لو كنت حرا يابن قين مجاشع شيعت ضيفك فرسخا أو ميلا وفي أخرى: فرسخين وميلا:
قالت قريش: ما أذل مجاشعا جارا وأكرم ذا القتيل قتيلا الشعر لجرير يهجو الفرزدق ويعيره بقتل عشيرته الزبير بن العوام يوم الجمل والغناء للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.
ذكر مقتل الزبير وخبره
الزبير وعلي بن أبي طالب
حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة قالا: حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي عن قتادة قال: سار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة وصاروا من الفرضة يريدونه فالتقوا عند قصر عبيد الله بن زياد يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس وعليه سلاحه فقيل لعلي: هذا الزبير فقال: أما والله إنه أحرى الرجلين إن ذكر بالله أن يذكره وخرج طلحة وخرج علي غليهما فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال لهما: لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتقيا الله ولا تكونا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دماءكما فهل من حدث أحل لكما دمي فقال له طلحة: ألبت الناس على عثمان فقال: يا طلحة أتطلبني بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان يا زبير أتذكر يوم مررت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله في بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه فقلت: لا يدع ابن أبي طالب زهوه فقال: مه ليس بمزهو ولتقاتلنه وأنت له ظالم فقال: اللهم نعم ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا والله لا أقاتلك أبدا.
وانصرف علي إلى أصحابه وقال: أما الزبير فقد أعطى الله عهدا ألا يقاتلني.
صفحة : 2013
قال: ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنت في موطن مذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا قالت: وما تريد أن تصنع قال: أدعهم وأذهب فقال له ابنه عبد الله: أجمعت بين هذين الغارين حتى إذا حدد بعضهم لبعض اردت أن تذهب وتتركهم أخشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد. فأحفظه فقال: إني حلفت ألا أقاتله: قال: كفر عن يمينك وقاتله فدعا غلاما له يدعى مكحولا فأعتقه فقال عبد الرحمن بن سليمان التيمي:
لم ار كاليوم أخا إخوان أعجب من مكفر الأيمان بالعتق في معصية الرحمن وقال بعض شعرائهم:
يعتق مكحولا لصون دينه كفارة لله عن يمينه والنكث قد لاح على جبينه حدثني ابن عمار والجوهري قال: حدثنا ابن شبة عن علي بن محمد النوفلي عن الهذلي عن قتادة قال: وقف الزبير على مسجد بني مجاشع فسال عن عياض بن حماد فقال له النعمان بن زمام: هو بوادي السباع فمضى يريده.
حدثني ابن عمار والجوهري عن عمر قال: حدثني المدائني عن أبي مخنف عمن حدثه عن الشعبي قال: خرج النعمان مع الزبير حتى بلغ النجيب ثم رجع.
قال: وحدثنا عن مسلمة بن محارب عن عوف وعن أبي اليقظان قالا: مر الزبير ببني حماد فدعوه إلى أنفسهم فقال: اكفوني خيركم وشركم فوالله ما كفوه خيرهم وشرهم. ومضى ابن فرتنى إلى الأحنف وهو بعرق سويقه فقال: هذا الزبير قد مر فقال الأحنف: ما أصنع به جمع بين غارين من المسلمين فقتل بعضهم بعضا ثم مر يريد أن يلحق بأهله. فقام عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع بن كعب أحد بني عوف - ويقال نفيع بن عمير - فلحقوه بالعرق فقتل قبل أن ينتهي إلى عياض قتله عمرو بن جرموز.
حدثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي الكوفي وجعفر بن محمد بن الحسن العلوي الحسني والعباس بن علي بن العباس وأبو عبيد الصيرفي قالوا: حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار قال: حدثنا عمرو بن عبد الغفار عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين قال: حدثني ابن عباس قال: قال لي علي: ائت الزبيرفقل له: يقول لك علي بن أبي طالب نشدتك الله ألست قد بايعتني طائعا غير مكره. فما الذي أحدثت فاستحللت به قتالي وقال أحمد بن يحيى في حديثه: قل لهما: إن أخاكما يقرأ عليكما السلام ويقول: هل نقمتما علي جورا في حكم أو استئثارا بفيء فقالا: لا ولا واحدة منهما ولكن الخوف وشدة الطمع.
وقال محمد بن خلف في خبره: فقال الزبير: مع الخوف شدة المطامع فأتيت عليا فأخبرته بما قال الزبير فدعا بالبغلة فركبها وركبت معه فدنوا حتى اختلفت أعناق دابتيهما فسمعت عليا يقول: نشدتك الله يا زبيرن أتعلم أني كنت أنا وأنت في سقيفة بني فلان تعالجني وأعالجك فمر بي - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - فقال: كأنك تحبه فقلت: وما يمنعني قال: أما إنه ليقاتلنك وهو لك ظالم. فقال الزبير: اللهم نعم ذكرتني ما نسيت وولى راجعا. ونادى منادي علي: ألا لا تقاتلوا القوم حتى يستشهدوا منكم رجلا فما لبث أن أتي برجل يتشحط في دمه فقال علي: اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد. وأمر الناس فشدوا عليهم وأمر الصراخ حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المخزومي عن سعيد بن محمد الجرمي عن أبي الأحوص عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش ولا أحسبه إلا قال: كنت قاعدا عند علي فأتاه آت فقال: هذا ابن جرموز قاتل الزبير بن العوام يستأذن على الباب قال: ليدخلن قاتل ابن صفية النار إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير .
أخبرني الطوسي وحرمي عن الزبير عن علي بن صالح عن سالم بن عبد الله بن عروة عن أبيه: أن عمرا أو عويمر بن جرموز قاتل الزبير أتى مصعبا حتى وضع يده في يده فقذفه في السجن وكتب إلى عبد الله بن الزبير يذكر له أمره فكتب إليه عبد الله: بئس ما صنعت أظننت أني أقتل أعرابيا من بني تميم بالزبير خل سبيله فخلاه.
عاتكة ترثي الزبير
أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه قال: قتل الزبير وهو ابن سبع وستين سنة أو ست وستين سنة فقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثيه:
غدر ابن جرموز بفارس بهمة يوم اللقاء وكان غير معرد
شلت يمينك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة المستشهد
إن الزبير لذو بلاء صادق سمح سجيته كريم المـشـهـد
صفحة : 2014
كم غمرة قد خاضها لم يثنه عنها طرادك يابن فقع الـقـردد
فاذهب فما ظفرت يداك بمثله فيمن مضى ممن يروح ويغتدي وكانت عاتكة قبل الزبير عند عمر وقبل عمر عند عبد الله بن أبي بكر.
عبد الله بن أبي بكر وعاتكة
أخبرني بخبرها محمد بن خلف وكيع عن أحمد بن عمرو بن بكر قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الهيثم بن عدي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأخبرنا وكيع قال: حدثني إسماعيل بن مجمع عن المدائني.
وأخبرني الطوسي والحرمي قالا: حدثنا الزبير عن عمه عن أبيه وأخبرني اليزيدي عن الخليل بن أسد عن عمرو بن سعيد عن الوليد بن هشام بن يحيى الغساني.
وأخبرني الجوهري عن ابن شبة قال: حدثنا محمد بن موسى الهذلي وكل واحد منهم يزيد في الرواية وينقص منها وقد جمعت رواياتهم قالوا: تزوج عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت امرأة لها جمال وكمال وتمام في عقلها ومنظرها وجزالة رأيها وكانت قد غلبته على رأيه فمر عليه أبو بكر أبوه وهو في علية يناغيها في يوم جمعة وأبو بكر متوجه إلى الجمعة ثم رجع وهو يناغيها فقال: يا عبد الله أجمعت قال: أو صلى الناس قال: نعم: قال: وقد كانت شغلته عن سوق وتجارة كان فيها - فقال له أبو بكر: قد شغلتك عاتكة عن المعاش والتجارة وقد ألهتك عن فرائض الصلاة طلقها فطلقها تطليقة وتحولت إلى ناحية فبينا أبو بكر يصلي على سطح له في الليل إذ سمعه وهو يقول:
أعاتك لا أنساك ما ذر شارق وما ناح قمري الحمام المطـوق
أعاتك قلبي كل يوم وليلة لديك بما تخفي النفـوس مـعـلـق
لها خلق جزل ورأي ومنطق وخلق مصون في حياء ومصدق
فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ولا مثلها في غير شيء تطلـق فسمع أبو بكر قوله فأشرف عليه وقد رق له فقال: يا عبد الله راجع عاتكة فقال: أشهدك أني قد راجعتها. وأشرف على غلام له يقال له أيمن فقال له: يا أيمن أنت حر لوجه الله تعالى أشهدك أني قد راجعت عاتكة ثم خرج إليها يجري إلى مؤخر الدار وهو يقول:
كذلك أمر الله غاد ورائح على الناس فيه ألـفة وتـبـاين
وما زال قلبي للتفرق طائرا وقلبي لما قد قرب الله ساكـن
ليهنك أني لا أرى فيك سخطة وأنك قد تمت عليك المحاسن
فإنك ممن زين الله وجهه وليس لوجه زانه الـلـه شـائن قال: وأعطاها حديقة له حين راجعها على ألا تتزوج بعده فلما مات من السهم الذي أصابه بالطائف أنشأت تقول:
فلله عينا من رأى مثله فتى أكر وأحمى في الهـياج وأصـبـرا
إذا شرعت فيه الأسنة خاضها إلى الموت حتى يرتك الرمح أحمرا
فأقسمت لا تنفك عيني سخينة عليك ولا ينفك جـلـدي أغـبـرا
مدى الدهر ما غنت حمامة أيكة وما طرد الليل الصباح المنـورا عمر بن الخطاب وعاتكة
فخطبها عمر بن الخطاب فقالت: قد أعطاني حديقة على ألا أتزوج بعده قال: فاستفتي فاستفتت علي بن أبي طالب فقال: ردي الحديقة على أهله وتزوجي. فتزوجت عمر فسرح عمر إلى عدة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن ابي طالب - يعني دعاهم - لما بنى بها فقال له علي: إن لي إلى عاتكة حاجة أريد أن أذكرها إياها فقل لها تستتر حتى أكلمها فقال لها عمر: استتري يا عاتكة فإن ابن أبي طالب يريد أن يكلمك فأخذت عليها مرطها فلم يظهر منها إلا ما بدا من براجمها فقال: يا عاتكة:
فأقسمت لا تنفك عيني سخينة عليك ولا ينفك جلدي أغبرا فقال له عمر: ما أردت إلى هذا فقال: وما أرادت إلى أن تقول ما لا تفعل وقد قال الله تعالى: كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وهذا شيء كان في نفسي أحببت والله أن يخرج. فقال عمر: ما حسن الله فهو حسن فما قتل عمر قالت ترثيه:
عين جودي بعبرة ونحيب لا تملي على الإمـام الـنـجـيب
فجعتنا المنون بالفارس المع لم يوم اليهـاج والـتـلـبـيب
عصمة الله والمعين على الده ر غياث المنتاب والمحـروب
قل لأهل الضراء والبؤس موتوا قد سقته المنون كأس شعوب وقالت ترثيه أيضا: صوت
يا ليلة حبست علي نجومها فسهرتها والشامتون هجود
قد كان يسهرني حذارك مرة فاليوم حق لعيني التسهيد
أبكي أمير المؤمنين ودونه للزائرين صفائح وصعـيد غنى فيه طويس خفيف رمل عن حماد والهشامي.
صفحة : 2015
الزبير بن العوام وعاتكة
فلما انقضت عدتها خطبها الزبير بن العوام فتزوجها فلما ملكها قال: يا عاتكة لا تخرجي إلى المسجد وكانت امرأة عجزاء بادنة.. فقالت: يابن العوام أتريد أن أدع لغيرتك مصلى صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فيه قال: فإني لا أمنعك فلما سمع النداء لصلاة الصبح توضأ وخرج فقام لها في سقيفة بني ساعدة فلما مرت به ضرب بيده على عجيزتها فقالت: مالك قطع الله يدك ورجعت فلما رجع من المسجد قال: يا عاتكة ما لي لم أرك في مصلاك قالت: يرحمك الله أبا عبد الله فسد الناس بعدك الصلاة اليوم في القيطون أفضل منها في البيت وفي البيت أفضل منها في الحجرة. فلما قتل عنها الزبير بوادي السباع رثته فقالت:
يا عمرو لو نبهته لوجدته لا طائشا رعش اللسان ولا اليد
هبلتك أمك إن قتلت لمسلما حلت عليك عقوبة المتعمـد الحسين بن علي وعاتكة
فلما انقضت عدتها تزوجها الحسين بن علي فكانت أول من رفع خده من التراب وقالت ترثيه:
وحسينا فلا نسيت حسينا أقـصـدتـه أسـنة الأعـداء
غادروه بكربلاء صريعا جادت المزن في ذرى كربلاء ثم تأيمت بعده فكان عبد الله بن عمر يقول: من أراد الشهادة فليتزوج بعاتكة. ويقال: إن مروان خطبها بعد الحسين فامتنعت عليه وقالت: ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الخليل بن أسد قال: حدثني العمري قال: حدثنا أسامة بن زيد عن القاسم بن محمد قال: لم يزل السهم الذي أصاب عبد الله بن أبي بكر عند أبي بكر حتى قدم وفد ثقيف فأخرجه إليهم فقال: من يعرف هذا منكم فقال سعيد بن عبيد من بني علاج: هذا سهمي وأنا بريته وأنا رشته وأنا عقبته وأنا رميت به يوم الطائف فقال أبو بكر: فهذا السهم الذي قتل عبد الله والحمد لله الذي أكرمه بيدك ولم يهنك بيده.
طويس يغني شعرا لعاتكة
أخبرني اليزيدي عن الزبيرن عن أحمد بن عبيد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير قال: لما قتل الزبير وخلت عاتكة بنت زيد خطبها علي بن أبي طالب فقالت له: إني لأضن بك على القتل يابن عم رسول الله.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام قال: حدثني أبي قال: بينا فتية من قريش ببطن محس يتذاكرون الأحاديث ويتناشدون الأشعار إذ أقبل طويس وعليه قميص قوهي وحبرة قد ارتدى بها وهو يخطر في مشيته فسلم ثم جلس فقال له القوم: يا أبا عبد الله غننا شعرا مليحا له حديث ظريف فغناهم بشعر عاتكة بنت زيد ترثي عمر بن الخطاب:
منع الرقاد فعاد عيني عيد مما تضمن قلبي المعمود الأبيات. فقال القوم: لمن هذه الأبيات يا طويس قال لأجمل خلق الله وأشأمهم فقالوا: بأنفسنا أنت من هذه قال: هي والله من لا يجهل نسبها ولا يدفع شرفها تزوجت بابن خليفة نبي الله وثنت بخليفة خليفة نبي الله وثلثت بحواري نبي الله وربعت بابن بنت رسول الله وكلا قتلت.
قالوا جميعا: جعلنا فداك إن أمر هذه لعجيب بآبائنا أنت من هذه قال: عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل. فقالوا: نعم هي على ما وصفت قوموا بنا لا يدرك مجلسنا شؤمها. قال طويس: إن شؤمها قد مات معها قالوا: أنت والله أعلم منا.
صوت
يا دنانير قد تنكر عقلي وتحيرت بين وعد ومـطـل
شغفي شافعي إليك وإلا فاقتليني إن كنت تهوين قتلي الشعر والغناء لعقيد مولى صالح بن الرشد خفيف ثقيل وفيه لعريب رمل بالوسطى وهذا الشعر يقوله في دنانير مولاة البرامكة وكان خطبها فلم تحبه وقيل: بل قاله أحد اليزيدين ونحله إياه.
ذكر أخبار دنانير وأخبار عقيد
كانت مولاة ليحيى بن خالد البرمكي
كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكي وكانت صفراء مولدة وكانت من أحسن الناس وجها وأظرفهن وأكملهن أدبا وأكثرهن رواية للغناء والشعر وكان الرشيد لشغفه بها يكثر مصيره إلى مولاها ويقيم عندها ويبرها ويفرط حتى شكته زبيدة إلى أهله وعمومته فعاتبوه على ذلك.
لها كتاب في الأغاني
ولها كتاب مجرد في الأغاني مشهور وكان اعتمادها في غناءها على ما أخذته من بذل وهي خرجتها وقد أخذت أيضا عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل: فليح وإبراهيم وابن جامع وإسحاق ونظرائهم.
أخبرني جحظه قال: حدثني المكي عن أبيه قال:
صفحة : 2016
كنت أنا وابن جامع نعايي دنانير جارية البرامكة فكثيرا ما كانت تغلبنا.
عرضت على الموصلي صوتا لها فأعجبه
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي عن ابن شبة قال: حدثني إسحاق الموصلي قال: قال لي أبي: قال لي يحيى بن خالد: إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا اختارته وأعجبت به فقلت لها: لا يشتد إعجابك حتى تعرضيه على شيخك فإن رضيه فارضيه لنفسك وإن كرهه فاكرهيه فامض حتى تعرضه عليك. قال: فقال لي أبي: فقلت له: أيها الوزير فكيف إعجابك أنت به فإنك والله ثاقب الفطنة صحيح التمييز قال: أكره أن أقول لك: أعجبني فيكون عندك غير معجب إذ كنت عندي رئيس صناعتك تعرف منها ما لا أعرف وتقف من لطائفها على ما لا أقف وأكره أن أقول لك: لا يعجبني وقد بلغ من قلبي مبلغا محمودا وإنما يتم السرور به إذا صادف ذلك منك استجادة وتصويبا. قال: فمضيت إليها وقد تقدم إلى خدمه يعلمهم أنه سيرسل بي إلى داره وقال لدنانير: إذا جاءك إبراهيم فاعرضي عليه الصوت الذي صنعته واستحسنته فإن قال لك: أصبت سررتني بذلك وإن كره فلا تعلميني. لئلا يزول سروري بما صنعت. قال إسحاق: قال أبي: فحضرت الباب فأدخلت وإذا الستارة قد نصبت فسلمت على الجارية من وراء الستارة فردت السلام وقالت: يا أبت أعرض عليك صوتا قد تقدم لاشك إليك خبره وقد سمعت الوزير يقول: إن الناس يفتنون بغنائهم فيعجبهم منه ما لا يعجب غيرهم وكذلك يفتنون بأولادهم فيحسن في أعينهم منهم ما ليس يحس وقد صوت
نفسي أكنت عليك مدعيا أم حين أزمع بينهم خنت
إن كنت مولعة بذكرهم فعلى فراقهـم ألا مـت قال: فأعجبني والله غاية العجب واستخفني الطرب حتى قلت لها: أعيديه فأعادته وأنا أطلب لها فيه موضعا أصلحه وأغيره عليها لتأخذه عني فلا والله ما قدرت على ذلك ثم قلت لها: أعيديه الثالثة فأعادته فإذا هو كالذهب المصفى فقلت: أحسنت يا بنية وأصبت وقد قطعت عليك بحسن إحسانك وجودة إصابتك أنك قائدة للمعلمين إذ قد صرت تحسنين الاختيار وتجيدين الصنعة قال: ثم خرج فلقيه يحيى بن خالد فقال: كيف رأيت صنعة ابنتك دنانير قال: أعز الله الوزير والله ما يحسن كثير من حذاق المغنين مثل هذه الصنعة ولقد قلت لها: أعيديه وأعادته علي مرات كل ذلك أريد إعناتها لأجتلب لنفسي مدخلا يؤخذ عني وينسب إلي فلا والله ما وجدته فقال لي يحيى: وصفك لها يقوم مقام تعليمك إياها وقد - والله - سررتني وسأسرك فوجه إلي بمال عظيم.
اشتراها يحيى بن خالد
وذكر محمد بن الحسن الكاتب قال: حدثني ابن المكي قال: كانت دنانير لرجل من أهل المدينة وكان خرجها وأدبها وكانت أروى الناس للغناء القديم وكانت صفراء صادقة الملاحة فلما رآها يحيى وقعت بقلبه فاشتراها.
الرشيد يعجب بها فتعلم أم جعفر
وتشكوه إلى عمومته
وكان الرشيد يسير إلى منزله فيسمعها حتى ألفها واشتد عجبه بها فوهب لها هبات سنية منها أنه وهب لها في ليلة عيد عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار فرد عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك. وعلمت أم جعفر خبره فشكته إلى عمومته فصاروا جميعا إليه فعاتبوه فقال: ما لي في هذه الجارية من أرب في نفسها وإنما أربى في غنائها فاسمعوها فإن استحقت أن يؤلف غناؤها وإلا فقولوا ما شئتم فأقاموا عنده ونقلهم إلى يحيى حتى سمعوها عنده فعذروه وعادوا إلى أم جعفر فأشاروا عليها ألا تلح في أمرها فقبلت ذلك وأهدت إلى الرشيد عشر جوار منهن: ماردة أم المعتصم ومراجل أم المأمون وفاردة أم صالح.
وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات: أخبرني محمد بن عبد الله الخزاعي قال: حدثني عباد البشري قال: مررت بمنزل من منازل طريق مكة يقال له النباج فإذا كتاب على حائط في المنزل فقرأته فإذا هو: النيك أربعة فالأول شهوة والثاني لذة والثالث شفاء والرابع داء وحر إلى أيرين أحوج من أير إلى حرين وكتبت دنانير مولاة البرامكة بخطها.
أخبرني إسماعيل بن يونس عن ابن شبة: أن دنانير أخذت عن إبراهيم الموصلي حتى كانت تغني غناءه فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق وكان إبراهيم يقول ليحيى: متى فقدتني ودنانير باقية فما فقدتني.
دنانير تصاب بالعلة الكلبية
صفحة : 2017
قال: وأصابتها العلة الكلبية فكانت لا تصبر على الأكل ساعة واحدة فكان يحيى يتصدق عنها في كل يوم من شهر رمضان بألف دينار لأنها كانت لا تصومه وبقيت عند البرامكة مدة طويلة.
الرشيد يأمر بصفع دنانير حتى تغني
أخبرني ابن عمار وابن عبد العزيز وابن يونس عن ابن شبة عن إسحاق: وأخبرني جحظة عن أحمد بن الطيب: أن الرشيد دعا بدنانير البرمكية بعد قتله إياهم فأمرها أن تغني فقالت: يا أمير المؤمنين إني آليت ألا أغني بعد سيدي أبدا فغضب وأمر بصفعها فصفعت وأقيمت على رجليها وأعطيت العود وأخذته وهي تبكي أحر بكاء واندفعت فغنت: صوت
يا دار سلمى بنازح السند بين الثنايا ومسقط اللبد
لما رأيت الديار قد درست أيقنت أن النعيم لم يعد الغناء للهذلي خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وذكر علي بن يحيى المنجم وعمرو أنه لسياط في هذه الطريقة.
قال: فرق لها الرشيد وأمر بإطلاقها وانصرفت ثم التفت إلى إبراهيم بن المهدي فقال له: كيف رأيتها قال: رأيتها تختله برفق وتقهره بحذق.
خطبها عقيد فردته
وبقيت على حالها إلى أن ماتت
قال علي بن محمد الهشامي: حدثني أبو عبد الله بن حمدون أن عقيدا مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير البرمكية وكان هويها وشغف بذكرها فردته واستشفع عليها مولاه صالح بن الرشيد وبذل والحسين بن محرز فلم تجبه وأقامت على الوفاء لمولاها فكتب إليها عقيد قوله:
يا دنانير قد تنكر عقلي وتحيرت بين وعـد ومـطـل
شفعي شافعي إليك وإلا فاقتليني إن كنت تهوين قتلـي
أنا بالله والأمير وما آ مل من موعد الحـسـين وبـذل
ما أحب الحياة يا حب إن لم يجمع الله عاجلا بك شملي فلم يعطفها ذلك على ما يحب ولم تزل على حالها إلى أن ماتت.
وكان عقيد حسن الغناء والضرب قليل الصنعة ما سمعنا منه بكبير صنعة ولكنه كان بموضع من الحذق والتقدم.
قال محمد بن الحسين: حدثني أبو حارثة عن أخيه أبي معاوية قال: شهدت إسحاق يوما وعقيد يغنيه: صوت
هلا سألت ابنة العبسي ما حسبي عند الطعان إذا ما احمرت الحدق
وجالت الخيل بالأبطال عابسة شعث النواصي عليها البيض تأتلـق الشعر يقال: إنه لعنترة ولم يصح له والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى. قال: فجعل إسحاق يستعيده ويشرب ويصفق حتى والى بين أربعة أرطال وسأله بعض من حضر: من أحسن الناس غناء قال: من سقاني أربعة أرطال.
أبو حفص الشطرنجي يقول فيها شعرا يغنيه ابن جامع وفي دنانير يقول أبو حفص الشطرنجي.
صوت
أشبهك المسك وأشبهته قائمة في لونه قاعده
لاشك إذ لونكما واحد أنكما من طينة واحده غناه ابن جامع هزجا بالبنصر وقيل: إنه لأبي فارة.
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن علي بن محمد النوفلي عن مولاة بن جامع أن مولاها كان يهوى جارية صفراء. فقال فيها هذا الشعر وغنى فيه وأظن هذا وهما لأنا لم نسمع لابن جامع بشعر قط ولعله غناه في شعر أبي حفص الشطرنجي. فظننته له.
ومما غناه عقيد في دنانير والشعر للموصلي إلا البيت الأول فليس له.
صوت
هذي دنانير تنساني فأذكرها وكيف تنسى محبا ليس ينساها
والله والله لو كانت إذا برزت نفس المتيم في كفيه ألقاهـا والشعر والغناء لعقيد ولحنه من الرمل المطلق في مجرى الوسطى وفيه هزج خفيف محدث.
المغنون والجواري يغنون بشعر عقيد فيها قال أحمد بن أبي طاهر: حدثني علي بن محمد قال: حدثني جابر بن مصعب عن مخارق قال: مرت بي ليلة ما مر بي قط مثلها. جاءني رسول محمد الأمين وهو خليفة فأخذني وركض بي إليه ركضا فحين وافيت أتي بإبراهيم بن المهدي على مثل حالي فنزلنا وإذا هو في صحن لم أر مثله قد ملىء شمعا من شمع محمد الأمين الكبار وإذا به واقف ثم دخل في الكرح والدار مملوءة بالوصائف يغنين على الطبول والسرنايات ومحمد في وسطهن يرتكض في الكرح فجاءنا رسوله فقال: قوما في هذا الباب مما يلي الصحن فارفعا أصواتكما مع السرناي أين بلغ وإياكما أن أسمع في أصواتكما تقصيرا عنه قال: فأصغينا فإذا الجواري والمخنثون يزمرون ويضربون:
هذي دنانير تنساني وأذكرها وكيف تنسى محبا ليس ينسـاهـا
قد أكمل الحسن في تركيب صورتها فارتج أسفلها واهتز أعلاها
قامت تمشي فليت الله صيرني ذاك التراب الذي مسته رجلاهـا
صفحة : 2018
والله والله لو كانت إذا برزت نفس المتيم في كفيه ألقاها فما زلنا نشق حلوقنا مع السرناي ونتبعه حذرا من أن نخرج عن طبقته أو نقتصر عنه إلى الغداة ومحمد يجول في الكرح ما يسأمه يدنو إلينا مرة في جولانه ويتباعد مرة وتحول الجواري بيننا وبينه حتى أصبحنا.
صوت
ألا طرقت أسماء لا حين مطرق وأنى إذا حلت بنجران نلتقي
بوج وما بالي بوج وبالها ومن يلق يوما جدة الحب يخـلـق عروضه من الطويل الشعر لخفاف بن ندبة والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسباب في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا وذكر عمرو بن بانة أن فيه لحنا لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لعلويه خفيف رمل بالوسطى وفيه للقاسم بن زرزور خفيف رمل آخر صحيح في غنائه وفيه لابن مسجح ثقيل اول عن إبراهيم ويحيى المكي والهشامي وفيه لمخارق رمل بالبنصر.
أخبار خفاف ونسبه
هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهئة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار وندبة أمه وهي أمة سوداء وكان خفاف أسود أيضا وهو شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانهم وجعله ابن سلام في الطبقة الخامسة من الفرسان مع مالك بن نويرة ومع ابني عمه صخر ومعاوية ابني عمرو بن الشريد ومالك بن حمار الشمخي.
أحد فرسان العرب وأغربتهم
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال: كان خفاف بن ندبة - وهي أمه - فارسا شجاعا شاعرا وهو أحد أغربة العرب وكان هو ومعاوية بن الحارث بن الشريد أغار على بني ذبيان يوم حوزة فلما قتلوا معاوية بن عمرو قال خفاف: والله لا أريم اليوم أو أقيد به سيدهم فحمل على مالك بن حمار وهو يومئذ فارس بني فزارة وسيدهم فطعنه فقتله وقال:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عيني تيممت مالكا
أقول له والرمح يأطر متنه: تأمل خفافا إنـنـي أنـا ذلـكـا قال ابن سلام: وهو الذي يقول:
يا هند يا أخت بني الصارد ما أنا بالباقي ولا الخالد
إن أمس لا أملك شيئا فقد أملك أمر المنسر الحارد في هذين البيتين لعبيد الله بن أبي غسان خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي.
ينال من العباس بن مرداس
والعباس يرد عليه
أخبرني عمي عن عبد الله بن سعد عن أحمد بن عمر عن عمر بن خالد بن عاصم بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الحجاج السلمي قال: كان بدء ما كان بين خفاف بن ندبة والعباس بن مرداس أن خفافا كان في ملأ من بني سليم فقال لهم: إن عباس بن مرداس يريد أن يبلغ فينا ما بلغ عباس بن أنس ويأبى ذلك عليه خصال قعدن به فقال له فتى من رهط العباس: وما تلك الخصال يا خفاف قال: اتقاؤه بخيله عند الموت واستهانته بسبايا العرب وقتله الأسرى ومكالبته للصعاليك على الأسلاب ولقد طالت حياته حتى تمنينا موته فانطلق الفتى إلى العباس فأخبره الخبر فقال العباس: يابن أخي إن لم يكن كالأصم في فضله فلست كخفاف في جهله وقد مضى الأصم بما في أمس وخلفني بما في غد فلما أمسى تغنى وقال:
خفاف ما تزال تجر ذيلا إلى الأمر المفارق للرشاد
إذا ما عاينتك بنو سليم ثنيت لـهـم بـداهـية نـاد
وقد علم المعاشر من سليم بأني فيهم حسـن الأيادي
فأورد يا خفاف فقد بليتم بني عوف بحية بطن وادي قال: ثم أصبح فأتى خفافا. وهو في ملأ من بني سليم فقال: قد بلغني مقالتك يا خفاف والله لا أشتم عرضك ولا أسب أباك وأمك ولكني رام سوادك بما فيك وإنك لتعلم أني أحمي المصاف وأتكرم على السلب وأطلق الأسير وأصون السبية. وأما زعمك أني أتقي بخيلي الموت فهات من قومك رجلا اتقيت به. وأما استهانتي بسبايا العرب فإني أحذو القوم في نسائهم بفعالهم في نسائنا وأما قتلي الأسرى فإني قتلت الزبيدي بخالك إذ عجزت عن ثأرك. وأما مكالبتي الصعاليك على الأسلاب فوالله ما أتيت على مسلوب قط إلا لميت سالبه. وأما تمنيك موتي. فإن مت قبلك فأغن غنائي وإن سليما لتعلم أني أخف عليهم مؤونة وأثقل على عدوهم وطأة منك وإنك لتعلم أني أبحت حمى بني زبيد وكسرت قرني الحارث وأطفأت جمرة خثعم وقلدت بني كنانة قلائد العار ثم انصرف. فقال خفاف أبياتا لم يحفظ الشيخ منها إلا قوله:
صفحة : 2019
ولم تقتل أسيرك من زبيد بخالي بل غدرت بمستفاد
فزندك في سليم شر زند وزادك في سليم شر زاد فأجابه العباس بقوله:
ألا من مبلغ عني خفافا فإني لا أحاشي مـن خـفـاف
نكحت وليدة ورضعت أخرى وكان أبوك تحمله قطاف
فلست لحاصن إن لم نزرها تثير النقع من ظهر النعاف
سراعا قد طواها الأين دهما وكمتا لونها كالورس صاف ابن عم للعباس يحرضه على الحرب
قال: ثم كف العباس وخفاف حتى أتى ابن عم للعباس يكنى أبا عمرو بن بدر وكان غائبا فقال: يا عباس ما نقول فيك خيرا إلا وهو باطل قال: وكيف ذلك ويحك قال: أخبرني عنك أكل الذي أقررت به من خفاف في نفيه أباك وتهجينه عرضك ليأس من نصر قومك أو ضعف من نفسك قال: لا ولا واحدة منهما ولكني أحببت البقيا قال: فاسمع ما قلته قال: هات فأنشأ يقول:
أرى العباس ينفض مذرويه دهين الرأس تقليه النساء
وقد أزرى بوالده خفاف ويحسب مثله الداء العـياء
فلا تهد السباب إلى خفاف فإن السب تحسنه الإمـاء
ولا تكذب وأهد إليه حربا معجلة فإن الـحـرب داء
أذل الله شر كما قبيلا ولا سقت له رسمـا سـمـاء العباس وخفاف يلتقيان ويقتتلان
قال العباس: قد آذنت خفافا بحرب ثم أصبحا فالتقيا بقومهما فاقتتلوا قتالا شديدا يوما إلى الليل وكان الفضل للعباس على خفاف فركب إليه مالك بن عوف ودريد بن الصمة الجشمي في وجوه هوازن فقام دريد خطيبا فقال: يا معشر بني سليم إنه أعجلني إليكم صدر واد ورأي جامع وقد ركب صاحباكم شر مطية وأوضعا إلى أصعب غاية فالآن قبل أن يندم دريد ومالك بن عوف يحذرانهما عاقبة الحرب
فقام مالك بن عوف فقال: يا معشر بني سليم إنكم نزلتم منزلا بعدت فيه هوازن وشبعت منكم فيه بنو تميم وصالت عليكم فيه بكر بن وائل ونالت فيه منكم بنو كنانة فانزعوا وفيكم بقية قبل أن تلقوا عدوكم بقرن أعضب وكف جذماء قال: فلما أمسينا تغنى دريد بن الصمة فقال:
سليم بن منصور ألما تخبروا بما كان من حربي كليب وداحـس
وما كان في حرب اليحابر من دم مباح وجذع مؤلم للمعاطـس
وما كان في حربي سليم وقبلهم بحرب بعاث من هلاك الفوارس
تسافهت الأحلام فيها جهالة وأضرم فيها كـل رطـب ويابـس
فكفوا خفافا عن سفاهة رأيه وصاحبه العباس قبل الـدهـارس
وإلا فأنتم مثل من كان قبلكم ومن يعقل الأمثال غـير الأكـايس وقال مالك بن عوف النضري:
سليم بن منصور دعوا الحرب إنما هي الهلك للأقصين أو للأقارب
تفرقت الأحياء منهم لجاجة وهم بين مغـلـوب ذلـيل وغـالـب
فما لسليم ناصر من هوازن ولو نصروا لم تغن نـصـرة غـائب دريد بن الصمة يعاهدهما على الكف عن الحرب وتهادي الشعر من غير شتم قال: ثم أصبحنا فاجتمعت بنو سليم وجاء العباس وخفاف فقال لهما دريد بن الصمة ولمن حضر من قومهما: يا هؤلاء إن أولكم كان خير أول وكل حي سلف خير من الخلف فكفوا صاحبيكم عن لجاج الحرب وتهاجي الشعر قال: فاستحيا العباس فقال: فإنا نكف عن الحرب ونتهادى الشعر قال: فقال دريد: فإن كنتما لابد فاعلين فاذكرا ما شئتما ودعا الشتم فإن الشتم طريق الحرب فانصرفا على ذلك. فقال العباس بن مرداس:
فأبلغ لديك بني مالك فأنتم بـأنـبـائنـا أخـبـر
فأما النخيل فليست لنا نخيل تسـقـى ولا تـؤبـر
ولكن جمعا كجذل الحكا ك فيه المقنع والحـسـر
مغاوير تحمل أبطالنا إلى الموت ساهمة ضـمـر
وأعددت للحرب خيفانة تديم الجراء إذا تخـطـر
صنيعا كقارورة الزعفرا ن مما تصان ولا تؤثـر
أعباس إن استعار القصي د في غير معشره منكر
علام تناول ما لا تنال فتقطع نفسك أو تـخـسـر
فإن الرهان إذا ما أريد فصاحبه الشامخ المخطـر
تخاوص لم تستطع عدة كأنك من بغضنـا أعـور
فقصرك مأثورة إن بقي ت أصحو بهالك أو أسكر
لساني وسيفي معا فانظرن إلى تلك أيهما تـبـدر قال: فلما طال الأمر بينهما من الحرب والتهاجي قال عباس: إني والله ما رأيت لخفاف مثلا إلا شبام بني زبيد فإنه كان يلقى من ابن عمه ثروان بن مرة من الشتم والأذى ما ألقى من خفاف فلما لج في شتمه تركه وما هو فيه فقال:
وهبت لثروان بن مرة نفسه وقد أمكنتني من ذؤابته يدي
صفحة : 2020
وأحمل ما في اليوم من سوء رأيه رجاء التي يأتي بها الله في غد فقال خفاف: إني والله ما وجدت لعباس مثلا إلا ثروان بني زبيد فإنه كان يلقي من شبام ما ألقى من العباس من الأذى فقال ثروان:
رأيت شباما لا يزال يعيبني فلله ما بالـي وبـال شـبـام
فتقصر عني يا شبام بن مالك وما عض سيفي شاتمي بحرام فقال عباس: جزاك الله عني يا خفاف شرا فقد كنت أخف بني سليم من دمائها ظهرا وأخمصها بطنا فأصبحت العرب تعيرني بما كنت أعيب عليها من الاحتمال وأكل الأموال وصرت ثقيل الظهر من دمائها منفضج البطن من أموالها وأنشأ يقول:
ألم تر أني تركت الحروب وأني ندمت على ما مضى
ندامة زار على نفسه لتلك التـي عـارهـا يتـقـى
فلم أوقد الحرب حتى رمى خفاف بأسهمه من رمى
فإن تعطف القوم أحلامهم فيرجع من ودهم ما نـأى
فلست فقيرا إلى حربهم وما بي عن سلمهم من غنى فقال خفاف:
أعباس إما كرهت الحروب فقد ذقت من عضها ما كفى
أألقحت حربا لها شدة زمانا تسعـرهـا بـالـلـظـى
فلما ترقيت في غيها دحضت وزل بك الـمـرتـقـى
فلا زلت تبكي على زلة وماذا يرد عـلـيك الـبـكـا
وإن كنت تطمع في سلمنا فزوال ثبيرا وركنـي حـرا أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني مسعود بن عيسى العبدي عن يحيى بن عبد الله بن الفضل الفزاري وكان علامة بأمر قيس قال: كان خفاف بن ندبة في جماعة من قومه فقال: إن عباس بن مرداس ليريد أن يبلغ فينا مبلغ عباس بن أنس وتأبى عليه خصال قعدن به عن ذلك فقال فتى من رهط عباس: ما تلك الخصال يا خفاف فقال: اتقاؤه بخيله عند الموت ومكالبة الصعاليك على الأسلاب وقتله الأسرى واستهانته بسبايا العرب وايم الله لقد طالت حياته حتى تمنينا موته فانطلق الفتى إلى العباس فحدثه الحديث فقال العباس: يابن أخي إلا أكن كالأصم في فضله فلست كخفاف في جهله وقد مضى الأصم بما في أمس وخلفني لما في غد فلما أمسى تغنى فقال:
خفاف أما تزال تجر ذيلا إلى الأمر المقرب للفـسـاد
وقد علم المعاشر من سليم بأني فيهم حـسـن الأيادي
وأني يوم جمع بني عطيف حملت بحالك وهج المرادي
وأني لا أعير في سليم برد الخيل سالـمة الـهـوادي
وأني في ملمة كل يوم أقي صحبي وفي خيلي تعـادي
في القلب يقدح والحشا فالقلب مجروح الـنـواحـي قال: صدقت والله قال: فما يمنعك عن منادمته يا أمير المؤمنين قال: يمنعني قوله:
قلت لساقينا على خلوة أدن كذا رأسك من راسـي
ونم على صدرك لي ساعة إني امرؤ أنكح جلاسي أفتريد أن نكون من جلاسه على هذه الشريطة.
قال شعرا في أبي نواس
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة: حدثني عبد الله بن مسلم بن قتيبة ووجدته في بعض الكتب عن ابن قتيبة وروايته أتم فجمعتهما قال: حدثني الدعلجي غلام أبي نواس قال: أنشدت يوما بين يدي أبي نواس قوله:
يا شقيق النفس من حكم نمت عن ليلي ولم أنم وكان قد سكر فقال: أخبرك بشيء على أن تكتمه قلت: نعم قال: أتدري من المغني بقوله: يا شقيق النفس من حكم قلت: لا قال: أنا والله المعني بذلك والشعر لوالبة بن الحباب قال: وما علم بذلك غيرك وأنت أعلم فما حدثت بهذا حتى مات.
قال: وقال الجاحظ: كان والبة بن الحباب ومطيع بن إياس ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي وحفص بن أبي وردة وابن المقفع ويونس بن أبي فروة وحماد بن عجرد وعلي بن الخليل وحماد بن أبي ليلى الراوية وابن الزبرقان وعمارة بن حمزة ويزيد بن الفيض وجميل بن محفوظ وبشار المرعث وأبان اللاحقي ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا وكلهم متهم في دينه.
والبة وأبو العتاهية يتهاجيان
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني محمد بن القاسم قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن محمد السالمي الكوفي التيمي قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي فقال له: إن والبة بن الحباب قد هجاني ومن أنا منه أنا جرار مسكين وجعل يرفع من والبة ويضع من نفسه فأحب أن تكلمه أن يمسك عني. قال:
صفحة : 2021
فكلم أبي والبة وعرفه أن أبا العتاهية جاءه وسأله ذلك فلم يقبل وجعل يشتم أبا العتاهية فتركه ثم جاء أبو العتاهية فسأله عما عمل في حاجته فأخبره بما رد عليه والبة فقال لأبي: لي الآن إليك حاجة قال: وما هي قال: لا تكلمني في أمره قال: قلت له: هذا أول ما يجب ذلك قال: فقال أبو العتاهية يهجوه:
أوالب أنت في العرب كمثل الشيص في الرطب
هلم إلى الموالي الصي د في سعة وفي رحـب
فأنت بنا لعمر الل ه أشبه مـنـك بـالـعـرب
غضبت عليك ثم رأي ت وجهك فانجلى غضبي
لما ذكرتني مـن لـون أج دادي ولـون أبـي
فقل ما شئت أقبله وإن أطنبـت فـي الـكـذب
لقد أخبرت عنك وعن أبيك الخالص العـربـي
فقال العارفون به مصاص غـير مـؤتـشـب
أتانا من بلاد الرو م معتجـرا عـلـى قـتـب
خفيف الحاذ كالصمصا م أطلس غير ذي نشـب
أوالب ما دهاك وأن ت في الأعراب ذو نسـب
فجئت أقيشر الخدي ن أزرق عـارم الـذنـب
لقد أخطأت في شتمي فخبـرنـي ألـم أصـب وقال في والبة أيضا:
نطقت بنو أسد ولم تجهر وتكلمت خفيا ولم تظـهـر
وأما ورب البيت لو نطقت لتركتها وصباحها أغـبـر
أيروم شتمي منهم رجل في وجهه عبر لمن فـكـر
وابن الحباب صليبة زعموا ومن المحال صليبة أشقر
ما بال من آباؤه عرب الأل وان يحسب من بني قيصر
أترون أهل البدو قد مسخوا شقرا أما هذا من المنكـر وقال: وأول هذه القصيدة:
صرح بما قد قلته واجهر لابن الحباب وقل ولا تحصر
ما لي رايت أباك أسود غر بيب القذال كأنـه زرزر
وكأن وجهك حمرة رئة وكأن رأسك طائر اصـفـر قال: وبلغ الشعر والبة فجاء إلى أبي فقال: قد كلمتني في أبي العتاهية وقد رغبت في الصلح قال له أبي: هيهات إنه قد أكد علي إن لم تقبل ما طلب أن أخلي بينك وبينه وقد فعلت فقال له والبة: فما الرأي عندك فإنه فضحني قال: تنحدر إلى الكوفة فركب زورقا ومضى من بغداد إلى الكوفة وأجود ما قاله والبة في أبي العتاهية قوله:
كان فينا يكنى أبا إسحاق وبها الركب سار في الآفاق
فتكنى معتوهنا بعتاه يا لها كنـية أتـت بـاتـفـاق
خلق الله لحية لك لا تن فك معقودة لدى الـحـلاق وله فيه وهو ضعيف سخيف من شعره:
قل لابن بائعة القصار وابن الدوارق والجرار
تهوى عتيبة ظاهرا وهواك في أير الحمـار
تهجو مواليك الألى فكوك مـن ذل الإسـار والبة وعلي بن ثابت
أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني ابن أبي فنن قال: كان والبة بن الحباب خليلا لعلي بن ثابت وصديقا ودودا وفيه يقول:
وقاسما نفسي فدت قاسما من حدث الموت وريب الزمان قال: ولما مات والبة رثاه فقال:
بكت البرية قاطبه جزعا لمصرع والبـه
قامت لموت أبي أسا مة في الرفاق النادبه يقصد أبا بجير الأسدي بالأهواز ويلتقي بأبي نواس قال: وكان والبة أستاذ أبي نواس وعنه أخذ ومنه اقتبس قال: وكان والبة قد قصد أبا بجير الأسدي وهو يتولى للمنصور الأهواز فمدحه وأقام عنده فألفى أبا نواس هناك وهو أمرد فصحبه وكان حسن الوجه فلم يزل معه فيقال: إنه كشف ثوبه ليلة فرأى حمرة أليتيه وبياضهما فقبلهما فضرط عليه أبو نواس فقال له: لم فعلت هذا ويلك قال: لئلا يضيع قول القائل: ما جزاء من يقبل الإست إلا ضرطة.
والبة وأبو سلهب الشاعر أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل قال: حدثني أبو سلهب الشاعر قال: كان والبة بن الحباب صديقي وكان ماجنا طبعا خفيف الروح خبيث الدين وكنا ذات يوم
شربت وفاتك مثلي جموح بغمى بالكؤوس وبالبواطـي
يعاطيني الزجاجة أريحي رخيم الدل بورك من معاطي
أقول له على طرب: ألطني ولو بمؤاجر علج نباطـي
فما خير الشراب بغير فسق يتابع بالزناء وبالـلـواط
جعلت الحج في غمى وبنا وفي قطربل أبدا رباطـي
فقل للخمس آخر ملتقانا إذا ما كان ذاك على الصراط يعني الصلوات.
قال: وحدثني أنه كان ليلة نائما وأبو نواس غلامه إلى جانبه نائم إذ أتاه آت في منامه فقال له:
صفحة : 2022
أتدري من هذا النائم إلى جانبك قال: لا قال: هذا أشعر منك وأشعر من الجن والإنس أما والله لأفتتن بشعره الثقلين ولأغرين به أهل المشرق والمغرب قال: فعلمت أنه إبليس فقلت له: فما عندك قال: عصيت ربي في سجدة فأهلكني ولو أمرني أن أسجد له ألفا لسجدت.
حكم الوادي يغني شعر والبة
أخبرني الحسين بن يحيى قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: قرأت على أبي عن أبيه أن حكم الوادي أخبره أنه دخل على محمد بن العباس يوما بالبصرة وهو يتململ خمارا وبيده كأس وهو يجتهد في شربها فلا يطيقه وندماؤه بين يديه في أيديهم أقداحهم وكان يوم نيروز فقال لي: يا حكم غنني فإن أطربتني فلك كل ما أهدي إلي اليوم قال: وبين يديه من الهدايا أمر عظيم فاندفعت أغني في شعر والبة بن الحباب: صوت
قد قابلتنا الكؤوس ودابرتنا النـحـوس
واليوم هر مزروز قد عظمته المجوس
لم نخطه في حساب وذاك مما نسوس فطرب واستعاده فأعدته ثلاث مرات فشمرت قدحه واستمر في شربه وأمر بحمل كان ما كان بين يديه إلي فكانت قيمته ثلاثين ألف درهم.
لحن حكم الوادي في هذا الشعر هزج بالبنصر عن الهشامي وإبراهيم وغيرهما.
صوت
لقد زاد الحياة إلي حبا بناتي إنـهـن مـن الـضـعـاف
مخافة أن يذقن البؤس بعدي وأن يشربن رنقا بعد صـاف
وأن يرين إن كسي الجواري فيبدي الصر عن هزل عجاف
ولولاهن قد سومت مهري وفي الرحمان للضعفاء كـاف الشعر لعمران بن حطان فيما ذكر أبو عمرو الشيباني وذكر المدائني أنه لعيسى الحبطي وكلاهما من الشراة والغناء لمحمد بن الأشعث الكوفي خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة.
أخبار عمران بن حطان ونسبه
نسبه
هو عمران بن حطان بن ظبيان بن لوذان بن عمرو بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكرة بن وائل.
من شعراء الشراة
وقال ابن الكلبي: هو عمران بن حطان بن ظبيان بن معاوية بن الحارث بن سدوس.
ويكنى أبا شهاب. شاعر فصيح من شعراء الشراة ودعاتهم والمقدمين في مذهبهم وكان من القعدة لأن عمره طال فضعف عن الحرب وحضورها فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه.
من رواة الحديث
كان قبل أن يفتن بالشراة مشتهرا بطلب العلم والحديث ثم بلي بذلك المذهب فضل وهلك لعنه الله وقد أدرك صدرا من الصحابة وروى عنهم وروى عنه أصحاب الحديث. فما روي عنه ما أخبرنا به محمد بن العباسي اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا أبو الوليد الطيالسي عن أبي عمرو بن العلاء عن أبي صالح بن سرح اليشكرين عن عمران بن حطان قال: كنت عند عائشة فتذاكروا القضاة فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يؤتى بالقاضي العدل فلا يزال به ما يرى من شدة الحساب حتى يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة .
وكان أصله من البصرة فلما اشتهر بهذا المذهب طلبه الحجاج فهرب إلى الشام فطلبه عبد الملك فهرب إلى عمان وكان يتنقل إلى أن مات في تواريه.
تزوج امرأة من الشراة فأضلته
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا منيع بن أحمد السدوسي عن أبيه عن جده قال: كان عمران بن حطان من أهل السنة والعلم فتزوج امرأة من الشراة من عشيرته وقال: أردها عن مذهبها إلى الحق فأضلته وذهبت به.
طلبه الحجاج فهرب منه إلى الشام وأخبرني بخبره في هربه من الحجاج عمر بن عبد الله بن جميل العتكي ومحمد بن العباس طلب الحجاج عمران بن حطان السدوسي وكان من قعدة الخوارج فكتب فيه إلى عماله وإلى عبد الملك.
وأخبرني بهذا الخبر أيضا الحسن بن علي الخفاف ومحمد بن عمران الصيرفي قالا: حدثنا العنزي قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد الدارع قال: حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى عن أخيه يزيد بن المثنى: أن عمران بن حطان خرج هاربا من الحجاج فطلبه وكتب فيه إلى عماله وإلى عبد الملك فهرب ولم يزل يتنقل في أحياء العرب وقال في ذلك:
حللنا في بني كعب بن عمرو وفي رعل وعامر عوثبان
وفي جرم وفي عمرو بن مر وفي زيد وحي بني الغدان
صفحة : 2023
عمران وروح بن زنباع ثم لحق بالشام فنزل بروح بن زنباع الجذامي فقال له روح: ممن أنت قال: من الأزد أزد السراة قال: وكان روح يسمر عند عبد الملك فقال له ليلة: يا أمير المؤمنين إن في أضيافنا رجلا ما سمعت منك حديثا قد إلا حدثني به وزاد فيما ليس عندي قال: ممن هو قال: من الأزد قال: إني لأسمعك تصف صفة عمران بن حطان لأنني سمعتك تذكر لغة نزارية وصلاة وزهدا ورواية وحفظا وهذه صفته فقال روح: وما أنا وعمران أما بعد فإن رجلا من أهل الشقاق والنفاق قد كان أفسد علي أهل العراق وحببهم بالشراية ثم إني طلبته فلما ضاق عليه عملي تحول إلى الشام فهو ينتقل في مدائنها وهو رجل ضرب طوال أفوه أروق قال: قال روح: هذه والله صفة الرجل الذي عندي. ثم أنشد عبد الملك يوما قول عمران يمدح عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله - بقتله علي بن أبي طالب:
يا ضربة من كريم ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأفكر فيه ثم أحسبه أوفى البرية عـنـد الـلـه مـيزانـا ثم قال عبد الملك: من يعرف منك قائلها فسكت القوم جميعا فقال لروح: سل ضيفك عن قائلها قال: نعم أنا سائله وما أراه يخفى على ضيفي ولا سألته عن شيء قط فلم أجده إلا عالما به. وراح روح إلى أضيافه فقال: إن أمير المؤمنين سألنا عن الذي يقول: يا ضربة من كريم ما أراد بها.........
ثم ذكر الشعر وسألهم عن قائله فلم يكن عند أحد منهم علم فقال له عمران: هذا قول عمران بن حطان في ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب قال: فهل فيها غير هذين البيتين تفيدنيه قال: نعم:
لله در المرادي الذي سفكت كفاه مهجة شر الخلق إنسانا فغدا روح فأخبر عبد الملك فقال: من أخبرك بذلك فقال: ضيفي قال: أظنه عمران بن حطان فأعلمه أني قد أمرتك أن تأتيني به قال: أفعل فراح روح إلى أضيافه فأقبل على عمران فقال له: إني ذكرتك لعبد الملك فأمرني أن آتيه بك قال: كنت أحب ذلك منك وما منعني من ذكره إلا الحياء منك وأنا متبعك فانطلق. فدخل روح على عبد الملك فقال له: أين صاحبك فقال: قال لي: أنا متبعك قال: أظنك والله سترجع فلا تجده فلما رجع روح إلى منزله إذا عمران قد مضى وإذا هو قد خلف رقعة في كوة عند فراشه وإذا فيها يقول:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد ظن ظنك من لخـم وغـسـان
حتى إذا خفته فارقت منزله من بعد ما قيل: عـمـران بـن حـطـان
قد كنت ضيفك حولا لا تروعني فيه الطـوارق مـن إنـس ولا جـان
حتى أردت بي العظمى فأوحشني ما أوحش الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له في الـحـادثـات هـنـات ذات ألـوان
يوما يمان إذا لاقـيت ذا يمـن وإن لـقـيت مـعـديا فـعـدنـانـي
لو كنت مستغفرا يوما لطاغية كنت المقـدم فـي سـري وإعـلانـي
لكن أبت ذاك آيات مطهرة عـنـد الـتـلاوة فـي طـه وعـمـران قال: ثم أتى عمران بن حطان الجزية فنزل بزفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا فجعل شباب بني عامر يتعجبون من صلاته وطولها وانتسب لزفر أوزاعيا فقدم على زفر رجل من أهل الشام قد كان رأى عمران بن حطان بالشام عند روح بن زنباع فصافحه وسلم عليه فقال زفر للشامي: أتعرفه قال: نعم هذا شيخ من الأزد فقال له زفر: أزدي مرة وأوزاعي أخرى إن كنت خائفا آمناك وإن كنت عائلا أغنيناك فقال: إن الله هو المغني وخرج من عنده وهو يقول:
إن التي أصبحت يعيا بها زفر أعيت عياء على روح بن زنبـاع
أمسى يسائلني حولا لأخبره والناس من بين مـخـدوع وخـداع
حتى إذا انجذمت مني حبائله كف السؤال ولم يولع بإهـلاعـي
فاكفف كما كف روح إنني رجل إما صريح وإما فقعة القـاع
أما الصلاة فإني غير تاركها كل امرىء للذي يعنى به ساعـي
فاكفف لسانك عن هزي ومسألتي ماذا تريد إلى شـيخ لأوزاع
أكرم بروح بن زنباع وأسرته قوما دعا أوليهم للـعـلا داعـي
جاورتهم سنة فيما دعوت به عرضي صحيح ونومي غير تهجاع هروبه من الحجاج إلى روذ ميسان ووفاته بها ثم خرج فنزل بعمان بقوم يكثرون ذكر أبي بلال مرداس بن أدية ويثنون عليه ويذكرون فضله فأظهر فضله ويسر أمره عندهم وبلغ الحجاج مكانه فطلبه فهرب فنزل في روذميسان -
صفحة : 2024
طسوج من طساسيج السواد إلى جانب الكوفة - فلم يزل به حتى مات وقد كان نازلا هناك على رجل من الأزد فقال في ذلك:
نزلت بحمد الله في خير أسرة أسر بما فيهم من الإنس والخفر
نزلت بقوم يجمع الله شملهم وما لهم عود سوى المجد يعتصر
من الأزد إن الأزد أكرم أسرة يمانية قربوا إذا نسب البـشـر قال اليزيدي: الإنس بالكسر: الاستئناس. وقال الرياشي: أراد قربوا فخفف قال:
وأصبحت فيهم آمنا لا كمعشر بدوني فقالوا من ربيعة أو مضر
أو الحي قحطان وتلك سفاهة كما قال لي روح وصاحبه زفر
وما منهم إلا يسر بنسبة تقربني منـهـم وإن كـان ذا نـفـر
فنحن بنو الإسلام والله واحد وأولي عباد الله بالله مـن شـكـر أخبرنا اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي عن المعتمر بن سليمان قال: كان عمران بن حطان رجلا من أهل السنة فقدم عليه غلام من عمان كأنه نصل فقلبه عن مذهبه في مجلس واحد.
أخبرني اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا مسدد بن مسرهد قال: حدثنا بشر بن المفضل عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا عمرو بن علي القلاس وعباس العنبري ومحمد بن عبد الله المخزومي قالوا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن بشر بن المفضل عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال: تزوج عمران بن حطان امرأة من الخوارج فقيل له فيها فقال: أردها عن مذهبها فذهبت هي به.
خارجي يتخلف عن الخروج ويتمثل بشعر لعمران نسخت عن بعض الكتب: حدثنا المدائني عن جويرية قال: كتب عيسى الحبطي إلى رجل منهم يقال له أبو خالد كان تخلف عن الخروج مع قطري أو غيره منهم:
أبا خالد أنفر فلست بخالد وما ترك الفرقان عذرا لقاعد فكتب إليه: ما منعني عن الخروج إلا بناتي والحدب عليهن حين سمعت عمران بن حطان يقول:
لقد زاد الحياة إلي حبا بناتي إنهـن مـن الـضـعـاف
ولولا ذاك قد سومت مهري وفي الرحمن للضعفاء كاف قال: فجلس عيسى يقرأ الأبيات ويبكي ويقول: صدق أخي إن في ذلك لعذرا له وإن في الرحمن للضعفاء كافيا.
الأخطل يرى أن عمران أشعر الشعراء
وقال هارون: أخذت من خط أبي عدنان: أخبرني أبو ثروان الخارجي قال: سمعت أشياخ الحي يقولون: اجتمعت الشعراء عند عبد الملك بن مروان فقال لهم: أبقي أحد أشعر منكم قالوا: لا. فقال الأخطل: كذبوا يا أمير المؤمنين قد بقي من هو أشعر منهم قال: ومن هو قال عمران بن حطان قال: وكيف صار أشعر منهم قال: لأنه قال وهو صادق ففاتهم فكيف لو كذب كما كذبوا.
الحجاج يتحصن من غزالة الحرورية وعمران يتهكم عليه أخبرنا الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد عن أحمد بن محمد بن علي بن حمزة الخراساني عن محمد بن يعقوب بن عبد الوهاب عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن القارىء عن الزهري عن أبيه: أن غزالة الحرورية لما دخلت على الحجاج هي وشبيب الكوفة تحصن منها وأغلق عليه قصره فكتب إليه عمران بن حطان وقد كان الحجاج لج في طلبه قال:
أسد علي وفي الحروب نعامة ربداء تجفل من صفير الصافـر
هلا برزت إلى غزالة في الوغى بل كان قلبك في جناحي طائر
صدعت غزالة قلبه بفوارس تركت مدابره كـأمـس الـدابـر ثم لحق بالشام فنزل على روح بن زنباع.
عمران يصير حروريا
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا محمد بن خالد أبو حرب قال: حدثنا محمد بن عباد المهلبي قال: حدثنا جرير بن حازم قال: كان عمران بن حطان أشد الناس خصومة للحرورية حتى لقيه أعرابي حروري فخاصمه قال جرير بن حازم: كان الفرزدق يقول: لقد أحسن بنا ابن حطان حيث لم يأخذ فيما أخذنا فيه ولو أخذ فيما أخذنا فيه لأسقطنا يعني لجودة شعره.
لا يقول أحد شعرا إلا نسب إليه لشهرته
نسخت من كتاب ابن سعد قال: أخبرني الحسن بن عليل العنزي قال: أخبرني أحمد بن عبد الله بن سويد بن منجوف السدوسي قال: أخبرني أحمد بن مؤرج عن أبيه قال: حدثني به تميمي بن سوادة وهو ابن أخت مؤرج قال: حدثني أبو العوام السدوسي قال: كان مالك المذموم رجلا من بني عامر بن ذهل وكان من الخوارج وكان الحجاج يطلبه. قال أبو العوام: فدخلت عليه يوما وهو في تواريه فأنشدني يقول:
صفحة : 2025
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الصبا وأن أزجر النفس اللجوج عن الهوى
وما عذر من يعمى وقد شاب رأسه ويبصر أبواب الضلالة والهـدى
ولو قسم الذنب الذي قد أصبته على الناس خاف الناس كلهـم الـردى
فإن جن ليل كنت بالليل نائما وأصبح بطال العشـيات والـضـحـى قال: فلما فرغ من إنشادها قال: سيغلبني عليها صاحبكم يعني عمران بن حطان فكان كذلك فما شاعت رواها الناس لعمران وكان لا يقول أحد من الشعراء شعرا إلا نسب إليه لشهرته إلا من كان مثله في الشهرة مثل قطري وعمرو القنا وذويهما قال: ثم هرب إلى اليمامة من الحجاج فنزل بحجر فأتاه آل حكام الحنفيون فقال:
طيروني من البلاد وقالوا مالك النصف من بني حـكـام
ناق سيري قد جد حقا بنا الس ير وكوني جوالة في الزمام
فمتى تعلقي يد الملك الأس ود تستيقني بألا تـضـامـي
قد أراني ولي من الحاكم الن صف بحد السنان أو بالحسام قال: والملك الأسود إبراهيم بن عربي والي اليمامة لعبد الملك وكان ابن حكام على شرطته قال:
ومنينا بطمطم حبشي حالك الوجنتين من آل حام
لا يبالي إذا تضلع خمرا أبحل رماك أم بحرام قال العنزي: فأخبرني محمد بن إدريس بن سليمان بن أبي حفصة عن أبيه قال: كان مالك المذموم من أحسن الناس قراءة للقرآن فقرأ ذات ليلة فسمعت قراءته امرأة من آل حكام فرمت بنفسها من فوق سطح كانت عليه فسمع الصوت أهلها فأتوه فضربوه ضربات فاستعدى عليهم إبراهيم بن عربي وكان عبد الله بن حكام على شرطته فلم يعده عليهم فهجاه بالأبيات الماضية وهجاه بقصيدة التي أولها:
دار سلمى بالجزع ذي الآطام خبرينا سقيت صوب الغمام وهي طويلة ينسبونها أيضا إلى عمران بن حطان.
الفرزدق يعترف بتفوقه ونبوغه
أخبرني أحمد بن الحسين الأصبهاني ابن عمي قال: حدثني أبو جعفر بن رستم الطبري النحوي قال: حدثنا أبو عثمان المازني قال: حدثنا عمرو بن مرة قال: مر عمران بن حطان على الفرزدق وهو ينشد والناس حوله فوقف عليه ثم قال:
أيها المادح العباد ليعطى إن لله مـا بـأيدي الـعـبـاد
فاسأل الله ما طلبت إليهم وارج فضل المقسم الـعـواد
لا تقل في الجواد ما ليس فيه وتسمي البخيل باسم الجواد فقال الفرزدق: لولا أن الله عز وجل شغل عنا هذا برأيه للقينا منه شرا.
مسلمة بن عبد الملك يبكيه شعر لعمران
وقال هارون بن الزيات: أخبرني عبد الرحمن بن موسى الرقي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان بن حفص بن عبد الله بن أبي جهم بن حذيفة بن غانم العدوي قال: حدثنا يزيد بن مرة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عن عيسى بن يزيد بن بكر المدني قال: اجتمع عند مسلمة بن عبد الملك ناس من سماه فيهم عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر فقال مسلمة: أي بيت قالته العرب أوعظ وأحكم فقال له عبد الله قوله:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه فلما علاه قال للباطل ابعد فقال مسلمة: إنا والله ما وظني شعر قط كما وعظني شعر ابن حطان حيث يقول:
فيوشك يوم أن يقارن ليلة يسوقان حتفا راح نحوك أو غدا فقال بعض من حضر: والله لقد سمعته أجل الموت ثم أفناه وما صنع هذا غيره فقال مسلمة: وكيف ذاك. قال:
لا يعجز الموت شيء دون خالقه والموت فان إذا ما ناله الأجل
وكل كرب أمام الموت متضع للموت والموت فيما بعده جلـل فبكى مسلمة حتى اخضلت لحيته ثم قال: رددهما علي فرددهما عليه حتى حفظهما.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا منيع بن أحمد بن تزوج عمران بن حطان حمزة بنت عمه ليردها عن مذهب الشراية فذهبت به إلى رأيهم فجعل يقول فيها الشعر فمما قال فيها:
يا حمز إني على ما كان من خلقي مثن بخلات صدق كلها فيك
الله يعلم أني لم أقل كذبا فيمـا عـلـمـت وأنـي لا أزكـيك امرأته تتهمه بالكذب فيرد اتهامها
أخبرني الحسن قال: حدثنا محمد بن موسى وحدثني بعض أصحابنا عن العمري عن الهيثم بن عدي: أن امرأة عمران بن حطان قالت له: ألم تزعم أنك لا تكذب في شعرك. قال: بلى قالت: أفرأيت قولك:
وكذاك مجزأة بن ثو ر كان أشجع من أسامه أيكون رجل أشجع من الأسد قال: نعم إن مجزأة بن ثور فتح مدينة كذا والأسد لا يقدر على فتح مدينة.
صوت
صفحة : 2026
نديمي قد خف الشراب ولم أجد له سورة في عظم رأسي ولا جلدي
نديمي هذي غبهم فاشربا بها ولا خير في شرب يكون على صـرد الشعر لعمار بن الوليد بن المغيرة المخزومي والغناء لابن سريج خفيف ثقيل.
أخبار عمارة بن الوليد ونسبه
نسبه
عمارة بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو أحد أزواد الركب ويقال له الوحيد وكان أزواد الركب لا يمر عليهم أحد إلا قروه وأحسنوا ضيافته وزودوه ما يحتاج إليه لسفره وكان عمارة بن الوليد فخورا معنا متعرضا لكل ذي عارضة من قريش فأخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثنا الزبير بن بكار عن الحزامي قال: مر عمارة بن الوليد بمسافر بن عمرو فوقف عليه وهو منتش فقال:
خلق البيض الحسان لنا وجياد الريط والأزر
كابرا كنا أحق به حين صيغ الشمس والقمر فأجابه مسافر بن عمرو بن أمية فقال:
أعمار بن الوليد لقد يذكر الشاعر من ذكره
هل أخو كأس مخففها وموق صحبه سكره
خلق البيض الحسان لنا وجياد الريط والحبره
كابرا كنا أحق به كل حـي تـابـع أثـره يعود إلى الشراب بعد أن عاهد امرأته
على تركه
أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية: أن عمارة بن الوليد خطب امرأة من قومه فقالت: لا أتزوجك أو تترك الشراب والزنا قال: أما الزنا فأتركه وأما الشراب فلا أتركه ولا أستطيع. ثم اشتد وجده بها فحلف ألا يشرب فتزوجها ومكث حينا لا يشرب ثم إنه لبس ذات يوم حلته وركب ناقته وخرج يسير فمر بخمار وعنده شرب يشربون فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم فقال للخمار: أطعمهم ويلك فقال: ليس عندي شيء فنحر لهم ناقته فأكلوا منها فقال: اسقهم ولم يكن معهم شيء يشربون به فسقاهم ببردته ومكثوا أياما ذوات عدد ثم خرج فأتى أهله فلما رأته امرأته قالت له: ألم تحلف ألا تشرب ولامته فقال:
ولسنا بشرب أم عمرو إذا انتشوا ثياب الندامى عندهم كالغنائم
أسرك لما صرع القوم نشوة أن اخرج منها سالما غير غارم
خليا كأني لم أكن كنت فيهم وليس الخداع مرتضى في التنادم ملاحاة بينه وبين عمرو بن العاص
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن محمد بن قادم مولى بني هاشم قال: حدثني عمي: أحمد بن جعفر عن ابن دأب قال: قدم رجل من تجار الروم بحلة من لباس قيصر على أهل مكة فأتى بها عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي فعرضها عليه بمائة حق من الإبل فاستغلاها فأتى بها عمرو بن العاص فقال له: هل أتيت بها أحدا قال: نعم عمارة بن الوليد فاستغلاها وقال: لن تعدم لها غويا من بني سهم قال: قد أخذتها فاشتراها بمائة حق يعني مائة بعير ثم أقبل يخطر فيها حتى أتى بني مخزوم فناداه عمارة: أتبيع الحلة يا عمرو فغضب والتفت إلى عمارة فقال:
عليك بجز رأس أبيك إنا كفيناك المسهمة الرقاقـا
زووها عنكم وغلت عليكم وأعطينا بها مائة حقاقـا
وقلتم: لا نطيق ثياب سهم وكل سوف يلبس ما أطاقا قال: فغضب عمارة وقلا: يا عمرو ما هذا التهور إنك لست بعتبة بن ربيعة ولا بأبي سفيان بن حرب ولا الوليد بن المغيرة ولا سهيل بن عمر ولا أبي بن خلف فقال عمرو: إلا أكن بعضهم فإن كل واحد منهم خير ما فيه في: من عتبة حلمه ومن أبي سفيان رأيه ومن سهيل جوده ومن أبي بن خلف نجدته وأما الوليد فوالله ما أحب أن في كل ما فيه من خير وشر ولكنك والله مالك عقل الوليد ولا بأس الحارث بن هشام وخالد بن الوليد ولا لسان أبي الحكم يعني أبا جهل. وانصرف فأمر عمارة بجزور فنحرت على طريق عمرو وأقبل عمرو فقال: لمن هذه الجزور قيل: لعمارة فقال له: أطعمنا منها يا عمارة فضحك منه ثم قال:
عليك بجزر أير أبيك إنا كفيناك المشاشة والعـراقـا
ومنسبة الأطايب من قريش ولم تر كأسنا إلا دهـاقـا
ونلبس في الحوادث كل زغف وعند الأمن أبرادا رقاقا فوقع الشر بينهم فقال عمر:
لعمر أبيك والأخبار تنمي لقد هيجتني يابـن الـولـيد
فلا تعجل عمارة إن سهما لمخزوم بن يقظة في العديد فأجابه عمارة فقال:
ألا يا عمرو هل لك في قريش أب مثل المغيرة والوليد
صفحة : 2027
وجد مثل عبد الله ينمي إلى عمرو بن مـخـزوم بـعـود
إذا ما عدت الأعواد نبعا فمالي في الأبـاطـح مـن نـديد
وقد علمت سراة بني لؤي بأني غير مـؤتـشـب زهـيد
وإني للمنابذ من قريش شجا في الحلق مـن دون الـوريد
أحوط ذمارهم وأكف عنهم وأصبر في وغا اليوم الشـديد
وأبذل ما يضن به رجال وتطعمني المروءة في الـمـزيد
وإنك من بني سهم بن عمرو مكان الردف من عجز القعود
وكان أبوك جزارا... وكانت له فاس وقـدر مـن حـديد أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن العمري عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير أن عمر بن الخطاب قسم برودا في المهاجرين.
عمر بن الخطاب يتمثل بشعره
قال العمري: هكذا ذكر أبو عوانة وقد حدثني الهيثم عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير قال: أخبرني من شهد ذلك: أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعث إلى عمر بن الخطاب بحلل من اليمن فقال عمر: علي بالمحمدين فأتي بمحمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن طلحة بن عبدي الله ومحمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة ومحمد بن حطاب أخي حاطب وكلهم سماه النبي صلى الله عليه وسلم محمدا فأقبلوا فاطلع محمد بن حطاب فيها فقال له عمر: يا شيبة معمر - يعني عما له قتل يوم بدر - اكفف وكان زيد بن ثابت الأنصاري عنده فقال له عمر: أعطهم حلة حلة فنظر إلى أفضلها وكانت أم أحدهم عنده فقال عمر: ما هذا فقال: هذه لفلان الذي هو ربيبه فقال عمر: اردده وتمثل بقول عمار بن الوليد:
أسرك لما صرع القوم نشوة أن اخرج منها سالما غير غارم
خليا كأني لم أكن كنت فيهم وليس الخداع مرتضى في التنادم وقال أبو عوانة..... من تصافي التنادم.
ثم أمر بالبرود فغطيت بثوب ثم خلطها ثم قال: ليدخل كل امرىء يده فليأخذ حلته وما
صوت
قد يجمع المال غير آكله ويأكل المال غير من جمعـه
فاقبل من الدهر ما أتاك به من قر عينا بعيشه نفـعـه
لكل هم من الهموم سعه والصبح والمسي لا فلاح معه الشعر للأضبط بن قريع والغناء لأحمد بن يحيى المكي ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر من روايته وسمعناه يغني في طريقة خفيف رمل فسألت عنه ذكاء وجه الرزة فذكر أنه سمعه من محمد بن يحيى المكي في هذه الطريقة ولم يعرف صانعه ولا سأل عنه.
أخبار الأضبط ونسبه
كان الأضبط مفركا
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني عبد الله بن طاهر قال: قال أبو محلم: أخبرني ضرار بن عيينة أحد بني عبد شمس قال: كان الأضبط بن قريع مفركا وكان إذا لقي في الحرب تقدم أمام الصف ثم قال:
أنا الذي تفركه حلائله ألا فتى معشق أنازله قال: فاجتمع نساؤه ذات ليلة يسمرن فتعاقدن على أن يصدقن الخبر عن فرك الأضبط فأجمعن أن ذلك لأنه بارد الكمرة فقالت لإحداهن خالتها: أتعجز إحداكن إذا كانت ليلته منها أن تسخن كمرته بشيء من دهن فلما سمع قولها صاح: يا آل عوف يا آل عوف فثار الناس وظنوا أنه قد أتي فقال: أوصيكم بأن تسخنوا الكمرة فإنه لا حظوة لبارد الكمرة فانصرفوا يضحكون وقالوا: تبا لك ألهذا دعوتنا.
شعره فيمن خالفوه
قال أبو محلم: كانت أم الأضبط عجيبة بنت دارم بن مالك بن حنظلة وخالته الطموح بنت دارم أم جشم وعبشمس ابني كعب بن سعد فحارب بنو الطموح قوما من بني سعد فجعل الأضبط يدس إليهم الخليل والسلاح ولا يصرح بنصرتهم خوفا من أن يتحزب قومه حزبين معه وعليه وكان يشير عليهم بالرأي فإذا أبرمه نقضوه وخالفوا عليه وأوره مع ذلك أنهم على رأيه فقال في ذلك:
لكل هم من الهموم سعه والمسي والصبح لا فـلاح مـعـه
لا تحقرن الفقير علك أن تركع يوما والدهـر قـد رفـعـه
وصل حبال البعيد إن وصل الحب ل وأقص القريب إن قطعه
قد يجمع المال غير آكله ويأكل المال غير مـن جـمـعـه
ما بال من غيه مصيبك لا يملك شـيئا مـن أمـره وزعـه
حتى إذا ما انجلت غوايته أقبل يلـحـى وغـيه فـجـعـه
أذود عن نفسه ويخدعني يا قوم من عاذري من الـخـدعـه
فاقبل من الدهر ما أتاك به من قر عينا بعـيشـه نـفـعـه نشوز امرأته عليه وشعره في ذلك
كان الأضبط بن قريع قد تزوج امرأة على مال ووصيفة فنشزت عليه ففارقها ولم يعطها ما كان ضمن لها فلما احتملت أنشأ يقول:
صفحة : 2028
ألم ترها بانت بغير وصيفة إذا ما الغواني صاحبتها الوصائف
ولكنها بانت شموس بزية منعمة الأخلاق حـدبـاء شـارف
لو أن رسول اللهو سلم واقفا عليها لرامت وصله وهو واقف أبو عبيدة وخلف لا يعرفان إلا بيتا وعجز بيت من قصيدة له أخبرنا وكيع قال: حدثنا ابن أبي سعيد قال: حدثنا الجماز قال: أنشدت أبا عبيدة وخلفا الأحمر شعر الأضبط:
وصل حبال البعيد إن وصل الحب ل وأقص القريب إن قطعه فما عرفا منه إلا بيتا وعجز بيت فالبيت الذي عرفاه: فاقبل من الدهر ما أتاك به.....................
والعجز: يا قوم من عاذري من الخدعه والخدعة: قوم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم.
صوت
وما أنا في أمري ولا في خصومتي بمهتضم حقي ولا قارع سني
ولا مسلم مولاي عند جناية ولا خائف مولاي من شر ما أجنـي الشعر لأعشى بني ربيعة والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو.
أخبار الأعشى ونسبه
نسبه
الأعشى اسمه عبد الله بن خارجه بن حبيب بن قيس بن عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة الحصين بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بين جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار: شاعر إسلامي من ساكني الكوفة وكان مرواني المذهب شديد التعصب لبني أمية.
قدومه على عبد الملك
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا عمي محمد بن عبيد الله عن محمد بن حبيب وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عمه العباس بن هشام عن أبيه قالا: قدم أعشى بني ربيعة على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: ما الذي بقي منك قال: أنا الذي أقول:
وما أنا في أمري ولا في خصومتي بمهتضم حقي ولا قارع سـنـي
ولا مسلم مولاي عند جناية ولا خائف مولاي من شر مـا أجـنـي
وفضلني في الشعر واللب أنني أقول على علم وأعرف من أعـنـي
فأصبحت إذ فضلت مروان وابنه على الناس قد فضلت خير أب وابن فقال عبد الملك: من يلومني على هذا وأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وعشر فرائض من الإبل وأقطعه ألف جريب وقال له: امض إلى زيد الكاتب يكتب لك بها وأجرى له على ثلاثين عيلا فأىى زيدا فقال له: ائتني غدا فأتاه فجعل يردده فقال له:
يا زيد يا فداك كل كاتب في الناس بين حاضر وغـائب
هل لك في حق عليك واجب في مثله يرغب كل راغب
وأنت عف طيب المكاسب مبرأ من عيب كـل عـائب
ولستإن كفيتنـي وصـاحـبـيطـول غـدو ورواح دائب
وسدة الباب وعنف الحاجب من نعمة أسديتها بـخـائب فأبطأ عليه زيد فأتى سفيان بن الأبرد الكلبي فكلمه سفيان فأبطأ عليه فعاد إلى سفيان فقال له:
عد إذ بدأت أبا يحيى فأنت لها ولا تكن حين هاب الناس هيابا
واشفع شفاعة أنف لم يكن ذنبا فإن من شفعاء الناس أذنابـا يحث عبد الملك على محاربة ابن الزبير
قال محمد بن حبيب: دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك وهو يتردد في الخروج لمحاربة ابن الزبير ولا يجد فقال له: يا أمير المؤمنين ما لي أراك متلوما ينهضك الحزم ويقعدك العزم وتهم بالإقدام وتجنح إلى الإحجام انقد لبصيرتك وأمض رأيك وتوجه إلى عدوك فجدك مقبل وجده مدبر وأصحابه له ماقتون ونحن لك محبون وكلمتهم مفترقة وكلمتنا عليك مجتمعة والله ما تؤتى من ضعف جنان ولا قلة أعوان ولا يثبطك عنه ناصح ولا يحرضك عليه غاش وقد قلت في ذلك أبياتا فقال: هاتها فإنك تنطق بلسان ودود وقلب ناصح فقال:
آل الزبير من الخلافة كالتي عجل النتاج بحملها فأحـالـهـا
أو كالضعاف من الحمولة حملت ما لا تطيق فضيعت أحمالها
قوموا إليهم لا تناموا عنهم كم للغواة أطنتمـوا إمـهـالـهـا
إن الخلافة فيكم لا فيهم مازلتم أركـانـهـا وثـمـالـهـا
أمسوا على الخيرات قفلا مغلقا فانهض بيمنك فافتتح أقفالهـا فضحك عبد الملك وقال: صدقت يا أبا عبد الله إن أبا خبيب لقفل دون كل خير ولا نتأخر عن مناجزته إن شاء الله ونستعين الله عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل وأمر له بصلة سنية.
جفاء الحجاج ثم سر بكلامه
صفحة : 2029
قال ابن حبيب: كان الحجاج قد جفا الأعشى واطرحه لحالة كانت عند بشر بن مروان فلما فرغ الحجاج من حرب الجماجم ذكر فتنة ابن الأشعث وجعل يوبخ أهل العراق ويؤنبهم فقال من حضر من أهل البصرة: إن الريب والفتنة بدآ من أهل الكوفة وهم أول من خلع الطاعة وجاهر بالمعصية فقال أهل الكوفة: لا بل أهل البصرة أول من أظهر المعصية مع جرير بن هميان السدوسي إذ جاء مخالفا من السند. وأكثروا من ذلك فقام أعشى بني أبي ربيعة فقال: أصلح الله الأمير لا براءة من ذنب ولا ادعاء على الله في عصمة لأحد من المصرين قد والله اجتهدوا جميعا في قتالك فأبى الله إلا نصرك ذلك أنهم جزعوا وصبرت وكفروا وشكرت وغفرت إذ قدرت فوسعهم عفو الله وعفوك فنجوا فلولا ذلك لبادوا وهلكوا فسر الحجاج بكلامه وقال له جميلا وقال: تهيأ للوفادة إلى أمير المؤمنين حتى يسمع هذا منك شفاها انتهى.
اعتذاره للحجاج من رثائه ابن الجارود
أخبرني محم دبن خلف وكيع قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: بلغ الحجاج أن أعشى بني أبي ربيعة رثى عبد الله بن الجارود فغضب عليه فقال يعتذر إليه:
أبيت كأني من حذار ابن يوسف طريد دم ضاقت عليه المسالك
ولو غير حجاج أراد ظلامتي حمتني من الضيم السيوف الفواتك
وفتيان صدق من ربيعة قصرة إذا اختلفت يوم اللقاء الـنـيازك
يحامون عن أحسابهم بسيوفهم وأرماحهم واليوم أسـود حـالـك مدحه عبد الملك بن مروان
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثني أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف عن ابن مؤرج عن أبيه قال: دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك بن مروان فأنشده قوله:
رأيتك أمس خير بني معد وأنت اليوم خير منـك أمـس
وأنت غدا تزيد الضعف ضعفا كذاك تزيد سادة عبد شمس فقال له: من أي بني أبي ربيعة أنت قال: فقلت له: من بني أمامة قال: فإن أمامة ولد رجلين: قيسا وحارثة فأحدهما نجم والآخر خمل. فمن أيهما أنت قال: قلت: أنا من ولد حارثة وهو الذي كانت بكر بن وائل توجته قال: فقام بمخصرة في يده فغمز بها في بطني ثم قال: يا أخا بني أبي ربيعة هموا ولم يفعلوا فإذا حدثتني فلا تكذبني فجعلت له عهدا ألا أحدث قرشيا بكذب أبدا.
مدحه أسماء بن خارجة
أخبرني عمي قال: حدثنا ابن أبي سعد قال: حدثني أحمد بن الهيثم السلمي قال: حدثني أبو فراس محمد بن فراس عن الكبي قال: أتى أعشى بني أبي ربيعة أسماء بن خارجة فامتدحه فأعطاه وكساه فقال:
لأسماء بن خارجة بن حصن على عبء النوائب والغرامه
اقل تعللا يوما وبخلا على السؤال من كعب بن مـامـه
ومصقلة الذي يبتاع بيعا ربيحا فوق ناجية بـن سـامـه قال الكلبي: جعل ناجية رجلا وهي امرأة لضرورة الشعر.
مدحه سليمان بن عبد الملك
دخل أعشى بني أبي ربيعة على سليمان بن عبد الملك وهو ولي عهد فقال:
أتينا سليمان الأمير نزوره وكان أمـرأ يحـبـى ويكـرم زائره
إذا كنت في النجوى به متفردا فلا الجود مخليه ولا البخل حاضره
كلا شافعي سؤاله من ضميره على البخل ناهيه وبالجـود آمـره فأعطاه وأكرمه وأمر كل من كان بحضرتهه من قومه ومواليه بصلته فوصلوه فخرج وقد ملأ يديه.
صوت
نأتك أمامة إلا سؤالا وإلا خـيالا يوافـي خـيالا
يوافي مع الليل ميعادها ويأبى مع الصبح إلا زيالا
فذلك يبذل من ودها ولو شهدت لم توات النـوالا
فقد ريع قلبي إذ أعلنوا وقيل أجد الخليط احتمـالا الشعر لعمرو بن قميئة والغناء لحنين خفيف رمل بالوسطى من رواية أحمد بن يحيى المكي وذكر الهشامي وغيره أنه من منحول يحيى إلى حنين.
أخبار عمرو بن قميئة ونسبه
نسبه
هو فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عن أبي برزة: عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار.
قال ابن الكلبي: ليس من العرب من له ولد كل واحد منهم قبيلة مفردة قائمة بنفسها غير ثعلبة بن عكابة فإنه ولد أربعة كل واحد منهم قبيلة: شيبان بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وقيس بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وذهل بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وتيم الله بن ثعلبة وهو أبو قبيلة.
صفحة : 2030
وكان عمرو بن قميئة من قدماء الشعراء في الجاهلية ويقال: إنه أول من قال الشعر من نزار وهو أقدم من امرىء القيس ولقيه امرؤ القيس في آخر عمره فأخرجه معه إلى قيصر لما توجه إليه فمات معه في طريقه وسمته العرب عمرا الضائع لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب.
بعض صفاته
نسخت خبره من روايتي أبي عمرو الشيباني ومؤرج وأخبرني ببعضه الحسن بن علي عن أبيه عن ابن أبي سعد عن ابن الكلبي فذكرت ذلك في مواضعه ونسبته إلى رواته قالوا جميعا: كان عمرو بن قميئة شاعرا فحلا متقدما وكان شابا جميلا حسن الوجه مديد القامة حسن الشعر ومات أبوه وخلفه صغيرا فكفله عمه مرثد بن سعد وكانت سبابتا قدميه ووسطياهما ملتصقتين وكان عمه محبا له معجبا به رقيقا عليه.
مراودة امرأة عمه له وامتناعه عليها
وأخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا أبوعمر العمري عن لقيط وذكر مثل ذلك سائر الرواة: أن مرثد بن سعد بن مالك عم عمرو بن قميئة كانت عنده امرأة ذات جمال فهويت عمرا وشغفت به ولم تظهر له ذلك فغاب مرثد لبعض أمره - وقا لقيط في خبره: مضى يضرب بالقداح - فبعثت امرأته إلى عمرو تدعوه على لسان عمه وقالت للرسول: ائتني به من وراء البيوت ففعل فلما دخل أنكر شأنها فوقف ساعة ثم راودته عن نفسه فقال: لقد جئت بأمر عظيم وما كان مثلي ليدعى لمثل هذا والله لو لم أمتنع من ذلك وفاء لأمتنعن منه خوف الدناءة والذكر القبيح الشائع عني في العرب قالت: والله لتفعلن أو لأسوأنك قال: إلى المساءة تدعينني. ثم قام فخرج من عندها وخافت أن يخبر عمه بما جرى فأمرت بجفنة فكفئت على أثر عمرو فلما رجع عمه وجدها متغضبة فقال لها: ما لك قالت: إن رجلا من قومك قريب القرابة جاء يستامني نفسي ويريد فراشك منذ خرجت قال: من هو قالت: أما أنا فلا أسميه ولكن قم فافتقد أثره تحت الجفنة فلما رأى الأثر عرفه.
هروبه من عمه إلى الحيرة قال مؤرج في خبره: فحدثني أبو برزة وعلقمة بن سعد وغيرهما من بني قيس بن ثعلبة قالوا: وكان لمرثد سيف يسمى ذا الفقار فأتى ليضربه به فهرب فأتى الحيرة فكان عند اللخميين ولم يكن يقوى على بني مرثد لكثرتهم وقال لعمرو بن هند: إن القوم اطردوني فقال له: ما فعلوا إلا وقد أجرمت وأنا أفحص عن أمرك فإن كنت مجرما ما رددتك إلى قومك فغضب وهم بهجائه وهجاء مرثد ثم أعرض عن ذلك ومدح عمه واعتذر إليه انتهى.
وأما أبو عمرو فإنه قال: لما سمع مرثد بذلك هجر عمرا وأعرض عنه ولم يعاقبه لموضعه من قلبه فقال عمرو يعتذر إلى عمه:
فما لبثي يوما بسائق مغنم ولا سرعـتـي يومـا بـسـائقة الـردى
وإن تنظراني اليوم أقض لبانة وتستوجبا منـي عـلـي وتـحـمـدا
لعمرك ما نفس بجد رشيدة تؤامـرنـي سـوءا لأصـرم مـرثـدا
وإن ظهرت مني قوارص جمة وأفرع من لومي مزارا وأصـعـدا
على غير جرم أن أكون جنيته سوى قول باغ كادنـي فـتـجـهـدا
لعمري لنعم المرء تدعو بخيله إذا ما المنادي في الـمـقـامة نـددا
عظيم رماد القدر لا متعبس ولا مـؤيس مـنـهـا إذا هـو أوقـدا
وإن صرحت كحل وهبت عرية من الريح لم تترك من المال مرفدا
صبرت على وطء الموالي وخطبهم إذا ضن ذو القربي عليهم وأخمدا يعني أخمد ناره بخلا وروى: أجمدا المجمد: البخيل.
ولم يحم فرج الحي إلا محافظ كريم المحيا ماجد غير أجردا الأجرد: الجعد اليد البخيل.
حماد الراوية يرى أنه أشعر الناس
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل بن إسحاق عن الهيثم بن عدي قال: سأل رجل حمادا الراوية بالبصرة وهو عند بلال بن أبي بردة: من أشعر الناس قال الذي يقول:
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فما بال من يرمى وليس برام قال: والشعر لعمرو بن قميئة.
بلوغه التسعين وقوله في ذلك
قال علي بن الصباح في خبره عن ابن الكلبي: وعمر ابن قميئة تسعين سنة فقال لما بلغها
كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عني عنان لـجـامـي
على الراحتين مرة وعلى العصا أنوء ثلاثا بـعـدهـن قـيامـي
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فما بال من يرمى وليس برام
فلو أن ما أرمى بنبل رميتها ولكنـمـا أرمـى بـغـير سـهـام
إذا ما رآني الناس قالوا: ألم يكن حديثا جديد البري غـير كـهـام
صفحة : 2031
وأهلكني تأميل يوم وليلة وتأميل عام بعد ذاك وعام عبد الملك بن مروان يتمثل بشعر له
أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد بن إسحاق: قرأت على أبي: حدثنا الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي قال: دخلت على عبد الملك بن مروان في علته التي مات فيها فقلت: كيف تجدك يا أمير المؤمنين فقال: أصبحت كما قال عمرو بن قميئة:
كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عني عـنـان لـجـام
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنها نبل إذا لاتقيتها ولـكـنـمـا أرمـى بـغـير سـهـام
وأهلكني تأمـيل يوم ولـيلة وتـأمـيل عـام بـعـد ذاك وعـام فقلت: لست كذلك يا أمير المؤمنين ولكنك كما قال لبيد:
قامت تشكى إلي الموت مجهشة وقد حملتك سبعا بعد سبعينا
فإن تزادي ثلاثا تبلغي أملا وفي الثلاث وفاء للثمـانـينـا
كأني وقد جاوزت تسعين حجة خلعت بها عن منكبي ردائيا فعاش حتى بلغ عشرا ومائة سنة فقال:
أليس في مائة قد عاشها رجل وفي تكامل عشر بعدها عبر فعاش والله حتى بلغ مائة وعشرين سنة فقال:
وغنيت سبتا قبل مجرى داحس لو كان للنفس اللجوج خلود ويروى: دهرا قبل مجرى داحس فعاش حتى بلغ مائة وأربعين سنة فقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد فتبسم عبد الملك وقال: لقد قويت من نفسي بقولك يا عامر وإني لأجد خفا وما بي من بأس وأمر لي بصلة وقال لي: اجلس يا شعبي فحدثني ما بينك وبين الليل فجلست فحدثته حتى أمسيت وخرجت من عنده فما أصبحت حتى سمعت الواعية في داره.
خروجه مع امرىء القيس إلى قيصر
أخبرني عمي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان السلمي عن إسحاق بن مرار الشيباني قال: نزل امرؤ القيس بن حجر ببكر بن وائل وضرب قبته وجلس إليه وجوه بكر بن وائل فقال لهم: هل فيكم أحد يقول الشعر فقالوا: ما فينا شاعر إلا شيخ قد خلا من عمره وكبر قال: فأتوني به فأتوه بعمرو بن قميئة وهو شيخ فأنشده فأعجب به فخرج به معه إلى قيصر وإياه عنى امرؤ القيس بقوله:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول ملكا أو نموت فنـعـذرا وقال مؤرج في هذا الخبر: إن امرأ القيس قال لعمرو بن قميئة في سفره: ألا تركب إلى الصيد فقال عمرو:
شكوت إليه أنني ذو جلالة وأني كبـير ذو عـيال مـجـنـب
فقال لنا: أهلا وسهلا ومرحبا إذا سركم لحم من الوحش فاركبوا
صوت
يا آح من حر الهوى إنما يعرف حر الحب من جربا
أصبحت للحب أسيرا فقد صعدني الحب وقد صوبـا
لا شك أني ميت حسرة إن لم أزر قبل غد زينـبـا
تلك التي إن نلتها لم أبل من شرق الدهر أو غربـا الشعر للمؤمل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة بن عمرو بن مروان بن أبي حفصة والغناء لابن جامع رمل بالوسطى عن إبراهيم والهشامي.
أخبار المؤمل بن جميل
كان أبوه جميل يلقب قتيل الهوى
قد مضى نسب أبي حفصة في أخبار مروان وكان يحيى بن أبي حفصة يكنى أبا جميل.
والمؤمل بن جميل يكنى أبا جميل. وأم جميل أميرة بنت زياد بن هوذة بن شماس بن لؤي من بني أنف الناقة الذين يمدحهم الحطيئة.
وأم المؤمل شريفة بنت المذلق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري وكان جميل يلقب قتيل الهوى ولقب بذلك لقوله:
قلن: من ذا فقلت: هذا اليم اني قتيل الهوى أبو الخطاب
قلن: بالله أنت ذاك يقينا لا تقل قـول مـازح لـعـاب
إن تكن أنت هو فأنت منانا خاليا كنت أو مع الأصحاب أخبار له مع غلامه المطرز
أخبرني بذلك يحيى بن علي إجازة عن محمد بن إدريس بن سليمان عن أبيه وحكى أبو أحمد - رحمه الله - عن محمد بهذا الإسناد: أن أبا جميل اشترى غلاما مدنيا مغنيا مجلوبا من مولدي السند على البراءة من كل عيب يقال له المطرز فدعا أصحابا له ذات يوم ودعا شيخين من أهل اليمامة مغنيين يقال لأحدهما السائب وللآخر شعبة فلما أخذ القوم مجلسهم ومعهم المطرز اندفع الشيخان فغنيا فقال المطرز لأبي جميل مولاه: ويلك يا أبا جميل يابن الزانية أتدري ما فعلت ومن عندك فقال له: ويلك أجننت ما لك قال: أما أنا فأشهد أنك تأمن مكر الله حين أدخلت منزلك هذين.
صفحة : 2032
قال: وبعثه يوما يدعو أصدقاء له فوجدهم عند رجل من أهل اليمامة يقال له بهلول وهو في بستان له فقال لهم: مولاي أبو جميل قد أرسلني أدعوكم وقد بلغتكم رسالته وإن شاورتموني أشرت عليكم فقالوا: أشر علينا قال: أرى ألا تذهبوا إليه فمجلسكم والله أنزه من مجلسه وأحسن فقالوا له: قد أطعناك قال: وأخرى قالوا: وما هي قال: تحلفون علي ألا أبرح ففعلوا فأقام عندهم.
وغضب عليه أبو جميل يوما فبطحه يضربه وهو يقول: ويلك أبا جميل اتق الله في الله الله في أمري أما علمت ويلك خبري قبل أن تشتريني قال: وكان يبعثه إلى بئر لهم عذبة في بستان له يسقي منها لهم ماء فكان يستقيه ثم يصبه لجيران لهم في حيهم ثم يستقي مكانه من بئر لهم غليظة فإذا أنكر مولاه قال له: سل الغلمان إذا أتيت البستان: هل استقيت منه فيسألهم انقطاعه إلى جعفر ثم عبد الله بن مالك
حدثنا يحيى بن محمد بن إدريس عن أبيه: أن يحيى بن أبي حفصة زوج ابنه جميلا شريفة بنت المذلق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم فولدت له المؤمل بن جميل وكان شاعرا ظريفا غزلا وكان منقطعا إلى جعفر بن سليمان بالمدينة ثم قدم العراق فكان مع عبد الله بن مالك وذكره للمهدي فحظي عنده وهو الذي يقول في شكاة اشتكاها عبد الله بن مالك:
ظلت علي الأرض مظلمة إذ قيل عبد الله قد وعكا
يا ليت ما بك بي وإن تلفت نفسي لذاك وقل ذاك لكا وهو الذي يقول:
يا آح من حر الهوى إنما يعرف حر الحب من جربا وذكر الأبيات التي تقدم ذكرها والغناء فيها.
صوت
إني وهبت لظالمي ظلمي وغفرت ذاك له على علم
مازال يظلمني وأرحمه حتى رثيت له من الظـلـم الشعر لمساور الوراق والغناء لإبراهيم بن أبي العبيس ثاني ثقيل بالوسطى أخبرني بذلك ذكاء وغيره.
أخبار مساور ونسبه
نسبه
هو مساور بن سوار بن عبد الحميد من آل قيس بن عيلان بن مضر ويقال: إنه مولى خويلد بن عدوان كوفي قليل الشعر من أصحاب الحديث ورواته وقد روى عن صدر من التابعين وروى عنه وجوه أصحاب الحديث.
أخبرني علي بن طيفور بن غالب النسائي قال: حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال: حدثنا حماد بن أسامة عن مساور الوراق قال: حدثني جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال: كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته يخطب وعليه عمامة سوداء قد أرخاها بين كتفيه.
خبره مع ابن أبي ليلى
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرني الأشنانداني عن الأصمعي قال: كان قوم يجلسون إلى ابن أبي ليلى فكتب قوما منهم لعيسى بن موسى وأشار عليه أن يشغلهم ويصلهم فأتى مساور الوراق فكلمه أن يجعله فيهم فلم يفعل فأنشأ يقول:
كثير العيال قليل السؤا ل عف مطاعمه معـدم
يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة وقد حلق العام بالموسم
وأصبح والله في قومه وأمسى وليس بذي درهم قال: فقال ابن أبي ليلى: لا حاجة لنا فيه فقال فيه مساور أبياتا قال أبو بكر بن دريد: كرهنا ذكرها صيانة لابن أبي ليلى.
هجا ابن أبي بدرة لعيبه شعرا للمرقش
أخبرني محمد قال: حدثني التوزي قال: كان مساور الوراق وحماد عجرد وحفص بن أبي بردة مجتمعين فجعل حفص يعيب شعر المرقش الأكبر فأقبل عليه مساور فقال:
لقد كان في عينيك يا حفص شاغل وأنف كثيل العود عما تتبع
تتبعت لحنا في كلام مرقش ووجهك مبني على اللحن أجمع فقام حفص من المجلس خجلا وهاجره مدة.
وصيته لابنه
نسخت من كتاب عبيد الله اليزيدي بخطه: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: كان مساور الوراق من جديلة قيس ثم من عدوان مولى لهم فقال لابنه يوصيه:
شمر ثيابك واستعد لقائل واحكك جبينك للعـهـود بـثـوم
إن العهود صفت لكل مشمر دبر الجبين مصفر موسـوم
أحسن وصاحب كل قار ناسك حسن التعهد للصلاة صؤوم
من ضرب حماد هناك ومسعر وسماك العتكي وابن حكيم
وعليك بالغنوي فاجلس عنده حتى تصـيب وديعة لـيتـيم
تغنيك عن طلب البيوع نسيئة وتكف عنك لسان كل غـريم
وإذا دخلت على الربيع مسلما فاخصص شبابة منك بالتسليم ولاه عيسى بن موسى عملا فانكسر عليه الخراج
صفحة : 2033
قال: ففعل ما أوصاه به أبوه فلم يلبث مساور أن ولاه عيسى بن موسى عملا ودفع إليه عهده فانكسر عليه الخراج فدفع إلى بطين صاحب عذاب عيسى يستأديه فقال مساور:
وجدت دواهر البقال أهنى من الفرني والجدي السمين
فكن يا ذا المطيف بقاضيينا غدا من علم ذاك على يقين
وقل لهما إذا عرضا بعهد: برئت إلى عرينه من عرين
فإنك طالما بهرجت فيها بمثل الخنفساء على الجنـين مر بمقبرة صديقه حميد الطوسي فقال
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: مر مساور الوراق بمقبرة حميد الطوسي وكان له صديقا فوقف عليها مستعبرا وأنشأ يقول:
أبا غانم أما ذراك فواسع وقبرك معمور الجوانب محكم
وما ينفع المقبور عمران قبره إذا كان فيه جسمه يتهدم شعر له في أصحاب أبي حنيفة
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة ونسخت هذا الخبر أيضا من بعض الكتب: أن حامد بن يحيى البلخي حدث عن سفيان بن عيينة وهذه الرواية أتم قال: لما سمع مساور الوراق لغط أصحاب أبي حنيفة وصياحهم أنشأ يقول:
قوم إذا اجتمعوا ضجوا كأنهم ثعالب ضجت بين النواويس فبلغ ذلك أبا حنيفة وأصحابه فشق عليهم وتوعدوه فقال أبياتا ترضيهم وهي:
إذا ما الناس يوما قايسونا بآبدة من الفتيا ظـريفـه
أتيناهم بمقياس ظريف مصيب من قياس أبي حنيفه
إذا سمع الفقيه بها وعاها وأثبتها بحبر في صحيفه فبلغ أبا حنيفة فرضي. قال مساور: ثم دعينا إلى وليمة بالكوفة في يوم شديد الحر فدخلت فلم أجد لرجلي موضعا من الزحام وإذا أبو حنيفة في صدر البيت فلما رآني قال: إلي يا مساور فجئت فإذا مكان واسع وقال لي: اجلس فجلست فقلت في نفسي: نفعتني أبياتي اليوم. قال: وكان إذا رآني بعد ذلك يقول لي: ها هنا ها هنا ويوسع لي إلى جنبه ويقول: إن هذا من أهل الأدب والفهم انتهى.
حفظ حقوق جيرانه وضيعوا حقه فهجاهم
أخبرني محمد بن الحسين بن دريد قال: حدثنا أبو المعمر عبد الأول بن مزيد أحد بني أنف الناقة قال: كان مساور الوراق لا يضيع حقا لجار له فماتت بنته فلم يشهدها من جيرانه إلا نفر يسير فقال مساور في ذلك:
تغيب عني كل جاف ضرورة وكل طفيلي من القوم عاجز
سريع إذا يدعى ليوم وليمة بطيء إذا ما كان حمل الجنائز أخبرني محمد بن الحسن قال: حدثنا عبد الأول قال: قدم جار لمساور الوراق من سفر فجاءه يسلم عليه فقال: يا جارية هاتي لأبي القاسم غداء فجاءت برغيق فوضعته على الخوان فمد يده يأكل مع مساور وقال له: يا أبا القاسم كل من هذا الخبز فما أكلت خبزا أطيب منه فقال مساور في ذلك:
ما كنت أحسب أن الخبز فاكهة حتى رأيتك يا وجه الطبرزين
كأن لحيته في وجهه ذنب أو شعرة فوق بظر غير مختـون يعود أبا العيص الجرمي ويسمع منه شعرا في مرض موته أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: دخل مساور الوراق على أبي العيص الجرمي يعوده وكان صديقه فكلمه فلم يجبه فبكى مساور جزعا عليه وأدنى رأسه منه يكلمه فقال أبو العيص:
سيوشك يوم أن يجيء وليلة يسوقان حتفا راح نـحـوك أو غـدا
فتمسي صريعا لا تجيب لدعوة ولا تسمع الداعي وإن جد في الدعا ثم لم يلبث أن مات رحمه الله.
صوت
تنامين عن ليلي وأسهره وحدي وأنهى جفوني أن تبثك ما عندي
فإن كنت ما تدرين ما قد فعلته بنا فانظري ماذا على قاتل العمد الشعر لسعيد بن حميد الكاتب والغناء لعريب خفيف ثقيل مطلق بالسبابة في مجرى الوسطى.
أخبار سعيد بن حميد ونسبه
نسبه
سعيد بن حميد بن سعيد بن حميد بن بحر يكنى أبا عثمان من أولاد الدهاقين وأصله من النهروان الأوسط وكان هو يقول: إنه مولى بني سامة بن لؤي من أهل بغداد بها ولد ونشأ ثم كان ينتقل في السكنى بينه وبين سر من رأى.
كان كاتبا شاعرا
كاتب شاعر مترسل حسن الكلام فصيح وكان أبوه وجها من وجوه المعتزلة فخالف أحمد بن أبي داود في بعض مذهبه فأغرى به المعتصم وقال: إنه شعوبي زنديق فحبسه مدة طويلة ثم بانت براءته له أو للواثق بعده فخلى سبيله وكان شاعرا أيضا فكان يهجو أحمد بن أبي داود وأنشدنيها جماعة من أصحابنا قال:
صفحة : 2034
أبوه يهجو أحمد بن أبي دواد
لقد اصبحت تنسب في إياد بأن يكنـى أبـوك أبـا دواد
فلو كان اسمه عمرو بن معدي دعيت إلى زبيد أو مراد
وإن تك قد أصبت طريف مال فبخلك باليسير من التلاد قوة حافظته
فذكر محمد بن موسى أن أبا يوسف بن الدقاق اللغوي أخبره أن حميد بن سعيد بن حميد دفع إليه ابنه سعيدا وهو صبي فقال له: امض به معك إلى مجلس ابن الأعرابي قال: فحضرناه ذات يوم فأنشدنا أرجوزة لبعض العرب فاستحسنتها ولم تكن معنا محبرة نكتبها منها فلما انصرفنا قلت له: فائتنا هذه الأرجوزة فقال: لم تفتك أتحب أن أنشدكها قلت: نعم فأنشدنيها وهي نيف وعشرون بيتا قد حفظها عنه وإنما سمعها مرة واحدة فلقيت أباه من غد فقال لي: كيف رأيت سعيدا قلت له: إنك أوصيتني به وأنا أسألك الآن أن توصيه بي فضحك وسألني عن الخبر فأعلمته فسر به.
خبره مع أبي العباس بن ثوابة
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال: حدثني ابن أبي المدور قال: دخل سعيد بن حميد يوما على أبي العباس بن ثوابة وكان أبو العباس يعاتبه على الشغف بالغلمان المرد فرأى على رأسه غلاما حسن الوجه عليه منطقة وثياب حسان فقال له:
يا أبا أزعمت أنك لا تلوط فقل لنا هذا المقرطق قائما ما يصنع
شهدت ملاحته عليك بريبة وعلى المريب شواهـد لا تـدفـع فضحك أبو العباس وقال: خذه لا بورك لك فيه حتى نستريح من عتبك.
حيلة له مع غلام من أولاد الموالي
أخبرني عمي رحمه الله قال: قال لي محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات الكاتب: كان سعيد بن حميد يهوى غلاما له من أولاد الموالي فغاب عنه مدة ثم جاءه مسلما فقال له: غبت عني هذه المدة ثم تجيئني فلا تقيم عندي فقال له: قد أمسينا فقال: تبيت قال: لا والله لا أقدر ولم يزل به حتى اتفقا على أنه إذا سمع أذان العتمة انصرف فقال له: قد رضيت.
ووضع النبيذ فجعل سعيد يحث السقي بالأرطال فلما قرب وقت العتمة أخذ رقعة فكتب فيه إلى إمام المسجد وهو مؤذنه قوله:
قل لداعي الفراق أخر قليلا قد قضينا حق الصلاة طويلا
أخر الوقت في الأذان وقدم بعدها الوقت بكرة وأصـيلا
ليس في ساعة تؤخرها وز ر فنحيا بها وتأتي جـمـيلا فلما قرأ المؤذن الرقعة ضحك وكتب إليه يحلف أنه لا يؤذن ليلته تلك العتمة وجعل الفتى ينتظر الأذان حتى أمسى وسمع صوت الحارث فعلم أنها حيلة وقعت عليه وبات في موضعه وقال سعيد في ذلك:
عرضت بالحب له وعرضا حتى طوى قلبي على جمر الغضـى
وأظهرت نفسي عن الدهر الرضا ثم جفاني وتولـى مـعـرضـا
لم ينقض الحب بلى صبري انقضى فداك من ذاق الكرى أو غمضا
حتى طرقت فنسيت ما مضى سـألـتـه حـويجة فـأعـرضـا
وقال: لا قول مجيب برضا فكان ما كان وكـابـرنـا الـقـضـا في هذه الأبيات هزج لأحمد بن صدقة أخبرني بذلك ذكاء وجه الرزة.
وجدت في بعض الكتب: حدثني أحمد بن سليمان بن وهب أنه كان في مجلس فيه سعيد بن حميد فلما سكروا قام سعيد قومة بعد العصر فلم نشعر إلا وقد أخذ ثيابه فلبسها وأخذ بعضدتي الباب وأنشأ يقول:
سلام عليكم حالت الراح بيننا وألوت بنا عن كل مرأى ومسمع فقام له أهل المجلس وقالوا: يا سيدنا اذهب في حفظ الله وفي ستره فانصرف وودعهم.
كتب لفضيل الشاعرة يعتذر إليها
حدثني محمد بن الطلاس أبو الطيب قال: حدثني عبد الله بن طالب الكاتب قال: قرأت رقعة بخط سعيد بن حميد إلى فضل الشاعرة يعتذر إليها من تغير ظنته به وفي آخرها:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم بديلا وبعض الظن إثم ومنـكـر
إذا كان قلبي في يديك رهينة فكيف بلا قلب أصافي وأهجر في هذين البيتين لابن القصار الطنبوري رمل وفيهما لمحمد قريض خفيف رمل.
خبره مع كعب جارية أبي عكل المقين
أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال: حدثني أبو علي المادراني أنه كان في مجلس فيه كعب جارية أبي عكل المقين وكان بعض أهل المجلس يهواها قال: فدخل إلينا سعيد بن حميد فقام إليه أهل المجلس جميعا سوى الجارية والفتى فأخذ سعدي الدواة فكتب رقعة وألقاها في حجرها فإذا فيها قوله:
ما على أحسن خل ق الله أن يحسن فعله
وبخيل بالهوى لو كان يسلى عنه بخلـه
أكثر العاذل في حب ك لو ينفع عذلـه
فهو مشغول بعذلي وفؤادي بكل شغلـه
صفحة : 2035
أكثر الشكوى وأستع دي على من قل بذله فوثبت الجارية فقبلت رأسه وجلست إلى جنبه فقال الرجل الذي كان يهواها: هذا والله كلام الشياطين ورقية الزنا وبهذا يتم الأمر أما أنا فإني أشهدكم لا قرأت اليوم في صلاتي غير هذه الأبيات لعلها تنفعني فضحك سعيد وقال: بحياتي قومي فارجعي إليه حتى تكون الأبيات قد نفعته قبل أن يقرأها في صلاته وسريني بذلك فقامت فرجعت إلى موضعها.
خبره مع جارية زارته على غير وعد
قال علي بن العباس: وحدثني أبو علي المارداني: أنه كان عنده يوما فدخلت إليه جارية - كان يهواها - غفلة على غير وعد فسر بذلك وقال لها: قد كنت على عتابك فأما الآن فلا فقالت: أما العتاب فلا طاقة لي به ووالله ما جئتك إلا عند غفلة البواب فقال سعيد في ذلك:
زارك زور على ارتقاب مغتنما غفلة الحـجـاب
كالشمس تبدو وقد طواها دونك ستر من السحـاب
قد كان في النفس منك عتب يدعو إلى شدة اجتناب
فملت بالعتب عن حبيب يضعف عن موقف العتاب
والذنب منه وأنت تخشى في هجره صولة العقاب عبد الله بن داود يستحسن شعرا له
أخبرني عمي قال: حدثني ابن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن داود قال: كان أبي يستحسن قول سعيد بن حميد:
تظنون أني قد تبدلت بعدكم بديلا وبعض الظن إثم ومنـكـر
غذا كان قلبي في يديك رهينة فكيف بلا قلب أصافي وأهجر ويقول: لئن عاش هذا الغلام ليكونن له في الشعر شأن.
في هذين البيتين غناء من خفيف الرمل وذكر قريض أنه له.
زارته فضل الشاعرة فجأة
أثناء ذهابها إلى القصر فقال في ذلك شعرا
أخبرني ابن أبي طلحة قال: حدثني إسحاق بن مسافر أنه كان عند سعيد بن حميد يوما إذ دخلت عليه فضل الشاعرة على غفلة فوثب إليها وسلم عليها وسألها أن تقيم عنده فقالت: قد جاءني وحياتك رسول من القصر فليس يمكنني الجلوس وكرهت أن أمر ببابك ولا أراك فقال سعيد من وقته على البديهة:
قربت ولا نرجو اللقاء ولا نرى لنا حيلة يدنيك منا احتيالـهـا
قأصبحت كالشمس المنيرة ضوؤها قريب ولكن أين منا منالها
كظاعنة ضنت بها غربة النوى علينا ولكن قد يلم خـيالـهـا
تقربها الآمال ثم تعوقها مماطلة الدنيا بـهـا واعـتـلالـهـا
ولكنها أمنية فلعلها يجود بها صرف النوى وانـتـقـالـهـا تغاضب فضل وسعيد
أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال: تغاضب سعيد بن حميد وفضل الشاعرة أياما ثم كتب إليها:
ونجري على سنة العاشقين ونضمن عني وعنك الرضا
ويبذل هذا لهذا هواه ويصبر في حبـه لـلـقـضـا
ونخضع ذلا خضوع العبيد لمولى عزيز إذا أعرضـا
فإني مذ لج هذا العتاب كأني أبطنت جمر الغـضـى فصارت إليه وصالحته.
في هذه الأبيات لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى وفيها لابن القصار خفيف رمل.
رسول الحسن بن مخلد يدعوه فيقول
أخبرني ابن أبي طلحة قال: حدثنا أبو العباس بن أبي المدور قال: بات سعيد بن حميد عند أبي الفضل بن أحمد بن إسرائيل واصطبحا على غناء حسن كان عندهما فجاءه رسول الحسن بن مخلد وقد أمر ألا يفارقه لأمر مهم فقام فلبس ثيابه وأنشأ يقول:
يا ليلة بات النحوس بعيدة عنها على رغم الرقيب الراصد
تدع العوازل لا يقمن لحاجة وتقوم بهجتها بعذر الحاسـد
والدمع ينطق للضمير مصدقا قول المقر مكذبا للجاحـد أبو العباس بن ثوابة يعاتبه فيجيبه
أخبرني ابن أبي طلحة قال: حدثني أبو العباس بن أبي المدور قال: كان سعيد بن حميد صديقا لأبي العباس بن ثوابة فدعاه يوما وجاءه رسول فضل الشاعرة يسأله المصير إليها فمضى معه وتأخر عن أبي العباس فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها معاتبة فيها بعض الغلظة فكتب إليه سعيد:
أقلل عتابك فالبقاء قليل والدهـر يعـدل تـارة ويمـيل
لم أبك من زمن ذممت صروفه إلا بكيت عليه حين يزول
ولكل نائبة ألمت مدة ولكل حـال أقـبـلـت تـحـويل
والمنتمون إلى الإخاء جماعة إن حصلوا أفناهم التحصيل
ولعل أحداث الليالي والردى يوما ستصدع بيننا وتـحـول
فلئن سبقت لتبكين بحسرة وليكثرن علي مـنـك عـويل
ولتفجعن بمخلص لك وامق حبل الوفاء بحبله موصـول
صفحة : 2036
ولئن سبقت ولا سبقت ليمضين من لا يشاكله لدي عليل
وأراك تكلف بالعتاب وودنا باق عليه من الوفاء دلـيل
ود بدا لذوي الإحاء جميله وبدت عليه بهجة وقـبـول
ولعل أيام الحياة قصيرة فعلام يكثر عتبـنـا ويطـول مظلومة جارية الدقيقي تعاتبه فيرد عليها
أخبرني الطلحي قال: حدثني أبو علي بن أبي الرعد: أن سعيد بن حميد كان يهوى مظلومة جارية الدقيقي فبلغه أنها تواصل بعض أعدائه فهجرها مدة فكتبت إليه تعاتبه وتتشوقه فكتب إليها:
أمري وأمرك شيء غير متفق والهجر أفضل من وصل على ملق
لا أكذب الله ما نفسي بسالية ولا خليقة أهل الغدر من خـلـقـي
فإن وثقت بود كنت أبذله فعاودي سوء ظـن بـي ولا تـثـقـي اعتذر إلى هبة المغنية فقبلت رأسه
وذكر اليوسفي الكاتب أنه حضر سعيدا في منزل بعض إخوانه وعندهم هبة المغنية وكان سعيد يتعشقها ويهيم بها فغضبت عليه يوما لبعض الكلام على النبيذ ودخلت بعد ذلك وهو في القوم فسلمت عليهم سواه فقالوا لها: أتهجرين أبا عثمان فقالت: أحب أن تسألوه ألا يكلمني فقال سعيد:
اليوم أيقنت أن الهجر متلفة وأن صاحبه منه عـلـى خـطـر
كيف الحياة لمن أمسى على شرف من المنية بين الخوف والحذر
يلوم عينيه أحيانا بذنبهما ويحمل الذنب أحيانـا عـلـى الـقـدر
تنأون عنه وينأى قلبه معكم فقلبه أبدا مـنـه عـلـى سـفـر فوثبت إليه وقبلت رأسه وقالت: لا أهجرك والله أبدا ما حييت.
غضبت عليه فضل فكتب إليها
أخبرني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: غضبت فضل الشاعرة على سعيد بن حميد فكتب إليها:
يا أيها الظالم ما لي ولك أهكذا تهـجـر مـن واصـلـك
لا تصرف الرحمة عن أهلها قد يعطف المولى على من ملك
تبارك الله فما أعلم اللـه بـم ا ألـقـى ومـا أغـفـلـك فراجعت وصله وصارت إليه جوابا للرقعة.
في هذه الأبيات لعريب ثاني ثقيل وهزج عن ابن المعتز وأخبرني ذكاء الرزة أن الثقيل الثاني لأحمد بن أبي العلاء.
فضل الشاعرة تشكو شدة شوقها إليه أخبرني الطوسي الطلحي قال: حدثنا محمد بن السري: أن سعيد بن حميد كان في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه الغلام برقعة فضل الشاعرة تشكو فيها شدة شوقها فقرأها وضحك - فقال له الحسن بن مخلد: بحياتي عليك أقرئنيها فدفعها إليه فقرأها وضحك وقال له: قد وحياتي ملحت فأجب فكتب إليها:
يا واصف الشوق عندي من شواهده قلب يهيم وعين دمعها يكف
والنفس شاهدة بالود عارفة وأنفس الناس بالأهـواء تـأتـلـف
فكن على ثقة مني وبينة إني على ثقة من كـل مـا تـصـف عدلت فضل عنه إلى بنان بن عمرو فقال لما عشقت فضل الشاعرة بنان بن عمرو المغني وعدلت عن سعيد بن حميد إليه أسف عليها وأظهر تجلدا ثم قال فيها:
قالوا: تعز وقد بانوا فقلت لهم: بان العزاء على آثار من بـانـا
وكيف يملك سلوانا لحبهم من لم يطق للهوى سترا وكتمـانـا
كانت عزائم صبري أستعين بها صارت علي بحمد الله أعوانـا
لا خير في الحب لا تبدو شواكله ولا ترى منه في العينين عنوانا قال أبو الحسن جحظة: وغنى فيه بعض المحدثين لحنا حسنا وأظنه عنى نفسه.
كتب إلى أبي هفان يتبرأ
من طعن فيه نسب إليه ظلما
أخبرني الطلحي قال: حدثني أبو عيسى الكاتب: أن أبا هفان بلغه عن سعيد بن حميد كلام فيه جفاء وطعن على شعره فتوعده بالهجاء وكان الحاكي عن ذلك كاذبا فبلغ سعيدا ما جرى فكتب إلى أبي هفان:
أمسى يخوفني العبدي صولته وكيف آمن بأس الضيغم الهـصـر
ولا أبارزه بالأمر يكرهه ولو أعنت بـأنـصـار مـن الـغـير
له سهام بلا ريش ولا عقب وقوسه أبدا عـطـل مـن الـوتـر
وكيف آمن من نحري له غرض وسهمه صائب يخفى عن البصر عاتبته فضل الشاعرة فزارها وقال
فيها شعرا
أخبرني الطلحي قال: حدثني محمد بن السري: أنه سار إلى سعيد بن حميد وهو في دار الحسن بن مخلد في حاجة له قال: فإني عنده إذ جاءته رقعة فضل الشاعرة وفيها هذان البيتان: صوت
الصبر ينقص والسقام يزيد والدار دانية وأنت بـعـيد
أشكوك أم أشكو إليك فإنه لا يستطيع سواهما المجهود أنا يا أبا عثمان في حال التلف ولم تعدني ولا سألت عن خبري.
صفحة : 2037
فأخذ بيدي فمضينا إليها فسأل عن خبرها فقالت: هو ذا أموت وتستريح مني فأنشأ يقول:
لا مت قبلي بل أحيا وأنت معا ولا أعيش إلى يوم تموتـينـا
حتى إذا قدر الرحمن ميتتنا وحان من أمرنا ما ليس يعدونـا
متنا جميعا كغصني بانة ذبلا من بعد ما نضرا واستوسقا حينا
ثم السلام علينا في مضاجعنا حتى نعود إلى ميزان منشينـا أخبرني إبراهيم بن القاسم بن زرزور قال: قال لي أبي: كانت فضل الشاعرة تتعشق سعيد بن حميد مدة طويلة ثم تعشقت بنانا وعدلت عنه فقال فيها قصيدته الدالية التي يقول فيها: تنامين عن ليلي وأسهره وحدي فلم تتعطف عليه وبلغها بعد ذلك أنه قد عشق جارية من جواري القيان فكتبت إليه:
يا عالي السن سيىء الأدب شبت وأنت الغلام في الطرب
ويحك إن القيان كالشرك الم نصوب بين الغرور والعطب
لا تصدين للفقير ولا يطـلـبـن إلا مـعـادن الـذهـب
بينا تشكى هواك إذ عدلت عن زفرات الشكوى إلى الطلب
تلحظ هذا وذاك وذا لحظ محب وفـعـل مـكـتـسـب عادته فضل في مرضه وأهدته هدايا كثيرة افتصد سعيد بن حميد فسألتني فضل الشاعرة وسألت عريب أن نمضي إليه ففعلنا وأهدت إليه هدايا فكان منها ألف جدي وحمل وألف دجاجة فائقة وألف طبق ريحان وفاكهة ومع ذلك طيب كثير وشراب وتحف حسان فكتب إليها سعيد: إن سروري لا يتم إلا بحضورك فجاءته في آخر النهار وجلسنا نشرب فاستأذن غلامه لبنان فأذن له فدخل إلينا وهو يومئذ شاب طرير حسن الوجه حسن الغناء نظيف الثياب شكل فذهب بها كل مذهب وأقبلت عليه بحديثها ونظرها فتشمز سعيد واستطير غضبا وتبين بنان القصة فانصرف وأقبل عليها سعيد يعذلها ويؤنبها ساعة ثم أمسك فكتبت إليه:
يا من أطلت تفرسي في وجهه وتنفـسـي
أفديك من متدلل يزهى بقـتـل الأنـفـس
هبني أسأت وما أسأ ت بلى أقر أنا المسي
أحلفتني ألا أسا رق نظرة في مجلـسـي
فنظرت نظرة مخطىء أتبعتها بتـفـرس
ونسيت أني قد حلف ت فما عقوبة من نسي فقام سعيد فقبل رأسها وقال: لا عقوبة عليه بل نحتمل هفوته ونتجافى عن إساءته وغنت عريب في هذا الشعر هزجا فشربنا عليه بقية يومنا ثم افترقنا. وأثر بنان في قلبها وعلقت به فلم تزل حتى واصلته وقطعت سعيدا.
وجدت في بعض الكتب عن عبد الله بن المعتز قال: قال لي إبراهيم بن المهدي: كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطا وأفصحهم كلاما وأبلغهم في مخاطبة وأثبتهم في محاورة فقلت يوما لسعيد بن حميد: أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتقيدها وتخرجها فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك فقال لي وهو يضحك: ما أخيب ظنك ليتها تسلم مني ولا آخذ كلامها ورسائلها والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وأماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك.
صوت
كل حي لاقي الحمام فمودي ما لحي مؤمل من خلود
لا تهاب المنون شيئا ولا تب قي على والد ولا مولود الشعر لابن مناذر والغناء لبنان ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى من كتابه الذي جمع فيه صنعته وفيه لساجي جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ثقيل أول أيضا على مذهب النوح ابتداؤه نشيد.
أخبار ابن مناذر ونسبه
نسبه وكنيته
هو محمد بن مناذر بني صبير بن يربوع ويكنى أبا جعفر وقيل: إنه كان يكنى أبا عبد الله.
ووجدت في بعض الكتب رواية عن ابن حبيب أنه كان يكنى أبا ذريح وقد كان له ابن يسمى ذريحا فمات وهو صغير وإياه عنى بقوله:
كأنك للمنايا يا ذريح الله صـوركـا
فناط بوجهك الشعرى وبالإكليل قلدكا ولعله اكتنى به قبل وفاته.
وقال الجاحظ: كان محمد بن مناذر مولى سليمان القهرمان وكان سليمان مولى عبيد الله بن أبي بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكرة عبدا لثقيف ثم ادعى عبيد الله بن أبي بكرة أنه ثقفي وادعى سليمان القهرمان أنه تميمي وادعى ابن مناذر أنه صليبة من بني صبير بن يربوع فابن مناذر مولى مولى مولى وهو دعي مولى دعي وهذا ما لا يجتمع في غيره قط ممن عرفناه وبلغنا خبره.
صفحة : 2038
ومحمد بن مناذر شاعر فصيح مقدم في العلم باللغة وإمام فيها وقد أخذ عنه أكابر أهلها وكان في أول أمره يتأله ثم عدل عن ذلك فهجا الناس وتهتك وخلع وقذف أعراض أهل البصرة حتى نفي عنها إلى الحجاز فمات هناك. وهذه الأبيات يرثي بها ابن مناذر عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي وكان عبد الوهاب محدثا جليلا وقد روى عنه وجوه المحدثين وكبراء الرواة وكان ابن مناذر يهوى عبد المجيد هذا. فكان في أيام حياته مستورا متألها جميل الأمر فلما مات عبد المجيد حال عن جميع ما كان عليه وأخبارهما تذكر في مواضعهما.
فتنته بعبد المجيد بن عبد الوهاب
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال: كان ابن مناذر مولى صبير بن يربوع وكان إماما في علم اللغة وكلام العرب وكان في أول أمره ناسكا ملازما للمسجد كثير النوافل جميل الأمر إلى أن فتن بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك بعد ستره وفتك بعد نسكه ثم ترامى به الأمر بعد موت عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي إلى أن شتم الأعراض وأظهر البذاء وقذف المحصنات ووجبت عليه حدود فهرب إلى مكة وبقي بها حتى مات.
وكان يجالس سفيان بن عيينة عن معاني حديث النبي صلى الله عليه وسلم فيخبره بها ويقول له: كذا وكذا مأخوذ من كذا فيقول سفيان: كلام العرب بعضه يأخذ برقاب بعض. قال: وأدرك المهدي ومدحه ومات في أيام المأمون.
أخبرني علي بن سليمان قال: حدثني محمد بن يزيد وغيره: أن محمد بن مناذر كان إذا قيل له: ابن مناذر - بفتح الميم - يغضب ثم يقول: أمناذر الصغرى أم مناذر الكبرى وهما كورتان من كور الأهوار إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر فهو مناذر مثل ضارب فهو مضارب وقاتل فهو مقاتل.
وعظته المعتزلة فلم يتعظ ومنعوه دخول المسجد فنابذهم وهجاهم قال محمد بن يزيد: ولما عدل محمد بن مناذر عما كان عليه من النسك والتآله وعظته المعتزلة فلم يتعظ وأوعدته بالمكروه فلم يزدجر ومنعوه دخول المسجد فنابذهم وطعن عليهم وهجاهم وكان يأخذ المداد بالليل فيطرحه في مطاهرهم فإذا توضئوا به سود وجوههم وثيابهم وقال في توعد المعتزلة إياه:
أبلغ لديك بني تميم مألكا عني وعرج في بنـي يربـوع
أني أخ لكم بدار مضيعة بوم وغربـان عـلـيه وقـوع
هبوا له فلقد أراه بنصركم يأوي إلى جبل أشـم مـنـيع
وإذا تحزبت القبائل كنتم ثقتي لكـل مـلـمة وفـظـيع
إن أنتم لم تثأروا لأخيكم حتى يباء بوتـره الـمـتـبـوع
فخذوا المغازل بالأكف وأيقنوا ما عشتم بمذلة وخضـوع
إن كنتم حدبا على أحسابكم سمعا فقد أسمعت كل سمـيع
أين الصبيريون لم أر مثلهم في النائبات وأين رهط وكيع قال: ثم استحيا من قوله: أين الصبيريون لقلة عددهم فقال: أين الرياحيون.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني الحسن بن علي قال: حدثني مسعود بن بشر قال: قال لي ابن مناذر: ولع بي قوم من المعتزلة ففرقت منهم قال: وكان مولى صبير بن يربوع فقلت: بنو صبير نفسان ونصف فمن أدعو منهم فقلت: ليس إلا إخوتهم بنو رياح فقلت أبياتا حرضتهم فيها وحضضت بنو رياح فقلت:
أين الرياحيون لم أر مثلهم في النائبات وأين رهط وكيع قال: فجاء خمسون شيخا من بني رياح فطردوهم عني.
أخبرني علي بن سليمان قال: حدثني محمد بن يزيد قال: حدثنا الجاحظ عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال: ما زادت بنو صبير بن يربوع قط على سبعة نفر كلما ولد منهم مولود مات منهم ميت.
كان من أهل عدن
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني يعقوب بن نعيم قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني أبو عثمان المازني قال: كان ابن مناذر من أهل عدن وإنما صار إلى البصرة في طلب الأدب لتوافر العلماء فيها فأقام فيها مدة ثم شغل بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتطاول أمره إلى أن خرج عنها وكان مقيما بمكة فلما مات عبد المجيد نسك. وقوم يقولون: إنه كان دهريا.
كره الناس إمامته بعد تهتكه فرد عليهم
وذكر أبو دعامة عن عطاء الملط قال: كان ابن مناذر يؤم الناس في المسجد الذي في قبيلته فلما أظهر ما أظهره من الخلاعة والمجون كرهوا أن يصلي بهم وأن يأتموا به فقالوا شعرا وذكروا ذلك فيه وهجوه وألقوا الرقعة في المحراب
صفحة : 2039
نبئت قافية قيلت تناشدها قوم سأتر في أعراضهم ندبا
ناك الذين رووها أم قائلها وناك قائلها أم الذي كتبـا ثم رمى بها إليهم ولم يعد إلى الصلاة بهم.
أول لقاء له بأبي نواس
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا أبو الفضل بن عبدان بن أبي حرب الصفار قال: حدثني الفضل بن موسى مولى بني هاشم قال: دخل ابن مناذر المسجد الجامع بالبصرة فوقعت عينه على غلام مستند إلى سارية فخرج والتمس غلاما ورقعة ودواة فكتب أبياتا مدحه بها وسأل الغلام الذي التمسه أن يوصل الرقعة إلى الفتى المستند إلى السارية فذهب بها إلى الغلام فلما قرأها قلبها وكتب على ظهرها يقول:
مثل امتداحك لي بلا ورق مثل الجدار بني على خص
وألذ عندي من مديحك لي سود النعال ولين القمـص فلما قرأها ابن مناذر قام غليه فقال له: ويلك أأنت أبو نواس قال: نعم فسلم عليه وتعانقا وكان ذلك أول المودة بينهما.
خبره مع أبي العتاهية
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني أبو حاتم قال: اجتمع أبو العتاهية ومحمد بن مناذر فقال له أبو العتاهية: يا أبا عبد الله كيف أنت في الشعر قال: أقول في الليلة إذا سنح القول لي واتسعت القوافي عشرة أبيات إلى خمسة عشر فقال له أبو العتاهية: لكني لو شئت أن أقول في الليلة ألف بيت لقلت فقال ابن مناذر: أجل والله إذا أردت أن أقول مثل قولك:
ألا يا عتبة الساعه أموت الساعة الساعه قلت: ولكني لا أعود نفسي مثل هذا الكلام الساقط ولا أسمح لها به فخجل أبو العتاهية وقام يجر رجله.
أخبرني به الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني سهل بن محمد أبو حاتم وأحمد بن يعقوب بن المنير ابن أخت أبي بكر الأصم. قال ابن مهرويه: وحدثني به يحيى بن اجتمع أبو العتاهية وابن مناذر فاجتمع الناس إليهما وقالوا: هذان شيخا الشعراء فقال أبو العتاهية لابن مناذر: يا أبا عبد الله كم تقول في اليوم من الشعر وذكر باقي الخبر مثل المتقدم سواء.
مع خلف الأحمر
أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس بن ميمون طائع قال: سمعت الأصمعي يقول: حضرنا مأدبة ومعنا أبو محرز خلف الأحمر وحضرها ابن مناذر فقال لخلف الأحمر: يا أبا محرز إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهير قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة فقس شعري إلى شعرهم واحكم فيها بالحق فغضب خلف ثم أخذ صحفة مملوءة مرقا فرمى بها عليه فملأه فقام ابن مناذر مغصبا وأظنه هجاه بعد ذلك.
الحكم بين شعره وشعر عدي بن زيد
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا خلاد الأرقط قال: لقيني ابن مناذر بمكة فأنشدني قصيدته: كل حي لاقي الحمام فمودي ثم قال لي: أقرىء ابا عبيدة السلام وقل له: يقول لك ابن مناذر اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي بن زيد ولا تقل ذلك جاهلي وهذا إسلامي وذاك قديم وهذا محدث فتحكم بين العصرين ولكن احكم بين الشعرين ودع العصبية قال: وكان ابن مناذر ينحو نحو عدي بن زيد في شعره ويميل إليه ويقدمه.
ينحو نحو عدي بن زيد في شعره أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن عثمان الكزبري قال: أخبرني محمد بن الحجاج الجراداني قال: قلت لابن مناذر: من أشعر الناس قال: من كنت في شعره فقلت له: ومن ذاك فقال: عدي بن زيد وكان ينحو نحوه في شعره ويقدمه ويتخذه إماما.
كان أبو عبد المجيد لا ينكر صحبة ابنه له
والأبيات التي فيها الغناء أول قصيدة لمحمد بن مناذر رثى بها عبد المجيد بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وكان يهواه وكان عبد المجيد هذا فيما يقال من أحسن الناس وجها وأدبا ولباسا وأكملهم في كل حال وكان على غاية المحبة لابن مناذر والمساعدة له والشغف به.
وكان يبلغ خبره أباه على جلالته وسنه وموضعه من العلم فلا ينكر ذلك لأنه لم تكن تبلغه عنه ريبة وكان ابن مناذر حينئذ حميد الأمر حسن المروءة عفيفا.
فحدثني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن حدان قال: حدثني قدامة بن نوح قال: قيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي: إن ابن مناذر قد أفسد ابنك وذكره في شرعه وشبب به فقال عبد الوهاب: أو لا يرضى ابني أن يصحبه مثل ابن مناذر ويذكره في شعره.
خروجه إلى قبر أم عبد المجيد
صفحة : 2040
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: أم عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي الذي كان يشبب به ابن مناذر بانة بنت أبي العاصي وهي مولاة جنان التي يشبب بها أبو نواس قال: فحدثني من رأى محمد بن مناذر يوم ثالث بانة هذه وقد خرج جواريها إلى قبرها فخرج معهن نحو الجبانة بالبصرة قال: فقلت له: يا أبا عبد الله أين تريد فقال:
الــــيوم يوم الـــــــثـــــــلاثـــــــا ويوم ثـــــــالـــــــث بـــــــانـــــــه
الـــيوم تـــكـــثـــر فـــيه الـــظـــبـــا ء فـــي الـــجـــــــبـــــــانـــــــه
قال أبو الحسن: ولدت بانة من عبد الوهاب بن عبد المجيد أولاده: عبد المجيد وأبا العاصي جفن عيني قد كاد يس قط من طول ما اختلج
وفـــؤادي مـــن حـــــــر حـــــــب ك قـــــــد كـــــــاد أو نـــــــضـــــــج
خبـــرينـــي فـــدتـــك نـــف ســـي وأهـــلـــي مـــتـــــى الـــــــفـــــــرج
كان مـــــــيعـــــــادنـــــــا خـــــــرو ج زياد فـــــــقـــــــد خــــــــرج قال ابن عمار: قال لي النوفلي: في هذه الأبيات غناء حلو مليح لو سمعته لشربت عليه أربعة أرطال.
قال النوفلي: وكان لعبد الوهاب ابن يقال له: محمد كان أسن ولده ويقال: إنه كان يتعشق بانة ابنة أبي العاصي هذه امرأة أبيه وإن زياد بن عبد الوهاب منه وكان أشبه الناس به.
حدثني ابن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبي قال: خرج ابن مناذر يوما من صلاة التراويح وهو في المسجد بالبصرة وخرج عبد المجيد بن عبد الوهاب خلفه فلم يزل يحدثه إلى الصبح وهما قائمان إذا انصرف عبد المجيد شيعه ابن مناذر إلى منزله فإذا بلغه وانصرف محمد بن مناذر شيعه عبد المجيد لا يطيب أحدهما نفسا بفراق صاحبه حتى أصبحا. فقيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد: ابن مناذر قد أفسد ابنك فقال: أو ما يرضى ابني أن يرضى بما يرضى به ابن مناذر.
وفي عبد المجيد يقول ابن مناذر يمدحه وهو من مختار ما قال فيه أنشدنيها علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن زيد من قصيدة أولها:
شيب ريب الزمان رأسي لهفي على ريب ذا الزمان
يقدح في الصم من شرورى ويحدر الصم من أبـان يقول فيها يمدح عبد المجيد:
مني إلى الماجد المرجى عبد المجيد الفتى الهجان
خير ثقيف أبا ونفسا إذا التقت حلقتا الـبـطـان
نفسي فداء له وأهلي وكل ما تـمـلـك الـيدان
كأن شمس الضحى وبدر الدجى عليه معلـقـان
نيطا معا فوق حاجبيه والبدر والشمس يضحكـان
مشمر همه المعالي لـيس بـرث ولا بـوانـي
بنى له عزة ومجدا في أول الـدهـر بـانـيان
بان تلقاه من ثقيف ومن ذرا الأزد خير بـانـي
فاسأله مما حوت يداه يهتز كالصارم اليمـانـي أخبرني عمي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أبو توبة صالح بن محمد قال: مرض عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي مرضا شديدا بالبصرة وكان ابن مناذر ملازما له يمرضه ويخدمه ويتولى أمره بنفسه لا يكله إلى أحد. فحدثني بعض أهلهم قال: حضرت يوما عنده وقد أسخن له ماء حار ليشربه واشتد به الأمر فجعل يقول: آه بصوت ضعيف فغمس ابن مناذر يده في الماء الحار وجعل يتأوه مع عبد المجيد ويده تحترق حتى كادت يده تسقط فجذبناها وأخرجناها من الماء وقلنا له: أمجنون أنت أي شيء هذا أينتفع به ذاك فقال: أساعده وهذا جهد من مقل ثم استقل من علته تلك وعوفي مدة طويلة ثم تردى من سطح فمات فجزع عليه جزعا شديدا حتى كاد يفضل أهله وإخوته في البكاء والعويل وظهر منه من الجزع ما عجب الناس له ورثاه بعد ذلك بقصيدته المشهورة فرواها أهل البصرة ونيح بها على عبد المجيد وكان الناس يعجبون بها ويستحسنونها.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم النوشجاني قال: سمعت أبي يقول: حضرت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر: أنشدني ما قلت في عبد المجيد فأنشده قصيدته الطويلة الدالية.
قال سفيان: بارك الله فيك فلقد تفردت بمراثي أهل العراق.
فأخبرني عمي قال: حدثني أبو هفان قال: قال جماز: تزوج عبد المجيد امرأة من أهله فأولم عليها شهرا يجتمع عنده في كل يوم وجوه أهل البصرة وأدباؤها وشعراؤها فصعد ذات يوم إلى السطح فرأى طنبا من أطناب الستارة قد انحل فأكب عليه ليشده فتردى على رأسه ومات من سقطته فما رأيت مصيبة قط كانت أعظم منها ولا أنكأ للقلوب.
صفحة : 2041
طارح محمد بن عمر الخراز رثاءه في عبد المجيد وناحا عليه به بعد أن وضعا فيه لحنا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان قال: حدثني محمد بن عمر الخراز قال: قال لي ابن مناذر: ويحك ولست أرى نساء ثقيف ينحن على عبد المجيد نياحة على استواء قلت: فما تحب قال: تخرج معي حتى أطارحك فطارحني القصيدة التي يقول فيها:
إن عبد المجيد يوم تولى هد ركنا ما كان بالمـهـدود
هد عبد المجيد ركني وقد كن ت بركن أبوء منه شديد قال: فما زلت حتى حفظتها ووعيتها ووضعنا فيها لحنا فلما كان في الليلة التي يناح بها على عبد المجيد فيها صلينا العشاء الآخرة في المسجد الجامع ثم خرجنا إلى دارهم وقد صعد النساء على السطح ينحن عليه فسكتن سكتة لهن فاندفعنا أنا وهو ننوح عليه فلما سمعتنا أقبلن يلطمن ويصحن حتى كدن ينقلبن من السطح إلى أسفل من شدة تشرفهن علينا وإعجابهن بما سمعنه منا وأصبح أهل المسجد ليس لهم حديث غيرنا وشاع الخبر بالبصرة وتحدث به الناس حتى نقل من مجلس إلى مجلس.
أم عبد المجيد تبر قسمه وتصيح صياحا يقال إنه أول ما قيل في الإسلام وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال لي: حدثني موسى بن حماد بن عبد الله القرشي قال: حدثني محمد بن النعمان بن جبلة الباهلي قال: لما قال ابن مناذر:
لأقيمن مأتما كنجوم الليل زهرا يلطمن حر الخدود
موجعات يبكين للكبد الحرى عليه وللفؤاد العمـيد قالت أم عبد المجيد: والله لأبرن قسمه فأقامت مع أخوات عبد المجيد وجواريه مأتما عليه قامت تصيح عليه: واي ويه واي ويه فيقال: إنها أول من فعل ذلك وقاله في الإسلام.
رثاء له في عبد المجيد أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد عن محمد بن عامر النخعي قال: أنشدني محمد بن مناذر لنفسه يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب يقول:
يا عين حق لك البكا ء لحادث الرزء الجلـيل
فابكي على عبد المجي د وأعولي كل العويل
لا يبعد الله الفتى ال فياض ذا الباع الـطـويل
عجل الحمام به فودع نـا وآذن بـالـرحـيل
لهفي على الشعر المعف ر منك والخد الأسيل كسفت لفقدك شمسنا والبدر آذن بالأفول عرض قصيدته على أبي عبيدة فلم تعجبه
حدثني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثني النضر بن عمرو عن المازني قال: حدثنا حيان: أن ابن مناذر دفع قصيدته الدالية إليه وقال: اعرضها على أبي عبيدة فأتيته وهو على باب أبي عمرو بن العلاء فقرأت عليه منها خمسة أبيات فلم تعجبه وقال: دعني من هذا فإني قد تشاغلت بحفظ القرآن عنه وعن مثله قال: وكان أبو عبيدة يبغضه ويعاديه لأنه هجاه.
هبود وعبود
أخبرني محمد بن مزبد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: قال ابن مناذر: قلت: يقدح الدهر في شماريخ رضوى ثم مكثت حولا لا أدري بم أتممه فسمعت قائلا يقول: هبود قلت: وما هبود فقال لي: جبيل في بلادنا فقلت: ويحط الصخور من هبود قال إسحاق: وسمع أعرابي هذا البيت فقال: ما أجهل قائله بهبود والله أنها لأكيمة ما توارى الخارىء فكيف يحط منها الصخور.
أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثني أبو حاتم قال: سمعت أبا مالك عمرو بن كركرة يقول:
يقدح الدهر في شماريخ رضوى ويحط الصخور من هبود قلت له: هبود أي شيء هو فقال: جبل فقلت: سخنت عينك هبود والله بئر باليمامة ماؤها ملح لا يشرب منه شيء خلقه الله وقد والله خريت فيها مرات فلما كان بعد مدة وقفت عليه في مسجد البصرة وهو ينشدها فلما بلغ هذا البيت أنشدها: ويحط الصخور من عبود فقلت له: عبود أي شيء هو ذا فقال: جبل بالشام فلعلك يابن الزانية خريت عليه أيضا فضحكت ثم قلت: لا ما خريت عليه ولا رأيته وانصرفت عنه وأنا أضحك.
أخبرني عمي قال: حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال: كان يحيى بن زياد يرمى بالزندقة وكان من أظرف الناس وأنظفهم فكان يقال: أظرف من الزنديق.
شعر له في محمد بن زياد
وكان الحاركي واسمه محمد بن زياد يظهر الزندقة تظارفا فقال فيه ابن مناذر:
يابن زياد يا أبا جعفر أظهرت دينا غير ما تخفي
لست بزنديق ولكنما أردت أن توسم بالظـرف وقال فيه أيضا:
صفحة : 2042
يا أبا جعفر كأنك قد صر ت على أجرد طويل الجـران
من مطايا ضوامر ليس يصهل ن إذا ما ركبن يوم رهان
لم يذللن بالسروج ولا أق رح أشداقهن جذب العـنـان
قائمات مسومات لدى الجس ر لأمثالكم من الـفـتـيان انصرف الناس عن حلقته
إلى حلقة عتبة النحوي فقال شعرا في ذلك
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة عن ابن عائشة قال: كان عتبة النحوي من أصحاب سيبويه وكان صاحب نحو فهما بما يشرحه ويفسره على مذاهب أصحابه وكان ابن مناذر يتعاطى ذلك ويجلس إليه قوم يأخذونه عنه فجلس عتبة قريبا من حلقته فتقوض الناس إليه وتركوا ابن مناذر فلما كان في يوم الجمعة الأخرى قام ابن مناذر من حلقته فوقف على عتبة ثم أنشأ يقول:
تجمعن للشقاء إلى عتبة الخـسـار
ما لي وما لعتب ة إذ يبتغي ضراري قال: فقام عتبة إليه فناشده ألا يزيد ومنع من كان يجلس إلى ابن مناذر من حضور حلقته وجلس هو بعيدا من ابن مناذر بعد ذلك.
كان جاره ابن عمير يغري به المعتزلة فهجاه حدثني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال: كان لابن مناذر جار يقال له ابن عمير من المعتزلة فكان يسعى بابن مناذر إليهم ويسبه ويذكره بالفسق ويغريهم به فقال يهجوه:
بنو عمير مجدهم دارهم وكل قوم فلهم مجد
كأنهم فقع بدوية وليس لهم قبل ولا بـعـد
بث عمير لؤمه فيهم فكلهم من لؤمه جعـد وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن النوفلي بمثله وزاد فيه: وعبد الله بن عمير - أبو هؤلاء الذين هجاهم - أخو عبد الله بن عامر لأمه أمهما دجاجة بنت إسمايل بن الصلت السلمي.
أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا الخليل بن أسد قال: كان ابن مناذر من أحضر الناس جوابا قال له رجل: ما شأنك قال: عظم في أنفي.
قال: وسأله رجل يوما: ما الجرباء فأومأ بيده إلى الأرض قال: هذه يهزأ به وإنما الجرباء السماء.
خبره مع الخليل بن أحمد
أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني جعفر بن محمد عن دماذ قال: دار بين الخليل بن أحمد وبين ابن مناذر كلام فقال له الخليل: إنما أنتم معشر الشعراء تبع لي وأنا سكان السفينة إن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم فقال ابن مناذر: والله لأقولن في الخليفة قصيدة أمتدحه بها ولا أحتاج إليك فيها عنده ولا إلى غيرك.
يمدح الرشيد فيجيزه
فقال في الرشيد قصيدته التي أولها:
ما هيج الشوق من مطوقة أوفت على بانة تغنـينـا
ولو سألنا بحسن وجهك يا هارون صوب الغمام أسقينا قال: وأراد أن يفد بها إلى الرشيد فلم يلبث أن قدم الرشيد البصرة حاجا ليأخذ على طريق النباج
وكان الطريق قديما فدخلها وعديله إبراهيم الحراني فتحمل عليه ابن مناذر بعثمان بن الحكم الثقفي وأبي بكر السلمي حتى أوصلاه إلى الرشيد فأنشده إياها فلما بلغ آخرها كان فيها بيت يفتخر فيه وهو:
قومي تميم عند السماك لهم مجد وعز فما ينالونا فلما أنشده هذا البيت تعصب عليه قوم من الجلساء فقال له بعضهم: يا جاهل أتفخر في قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين. وقال آخر: هذه حماقة بصرية فكفهم عنه الرشيد ووهب له عشرين ألف درهم.
الرشيد يستشهد بشعره ويبعث له بجائزة أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدثني سهيل السلمي: أن الرشيد استسقى في سنة قحط فسقي الناس فسر بذلك وقال: لله در ابن مناذر حيث يقول:
ولو سألنا بحسن وجهك يا هارون صوب الغمام أسقينا وسأل عن خبره فأخبر أنه بالحجاز فبعث إليه بجائزة.
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا العنزي قال: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: حدثني محمد بن عباد المهلبي قال: شهد بكر بن بكار عند عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن الحر العنزي بشهادة فتبسم ثم قال له: يا بكر ما لك ولابن مناذر حيث يقول:
أعوذ بالله من النار ومنك يا بكر بن بكار فقال: أصلح الله القاضي ذاك رجل ماجن خليع لا يبالي ما قال فقال له: صدقت وزاد تبسمه وقبل شهادته وقام بكر وقد تشور وخجل. قال العنزي: فحدثني أبو غسان دماذ قال: أنشدني ابن مناذر هذا الشعر الذي قاله في بكر بن بكار وهو:
أعوذ بالله من النار ومنك يا بكر بن بكار
صفحة : 2043
يا رجلا ما كان فيما مضى لآل حـمـران بـزوار
ما منزل أحدثته رابعا معتزلا عـن عـرصة الـدار
ما تبرح الدهر على سوأة تطرح حبا للخشـنـشـار
يا معشر الأحداث يا ويحكم تعوذوا بالخالق الـبـاري
من حربة نيطت على حقوه يسعى بها كالبطل الشاري قال ابن مهرويه في خبره: والخشنشار هو معاوية الزيادي المحدث ويكنى أبا الخضر وكان جميل الوجه.
وقال العنزي في حديثه: حدثني إسحاق بن عبد الله الحمراني وقد سألته عن معنى هذا الشعر فقال: الخشنشار: غلام أمرد جميل الوجه كان في محلتنا وهذا لقبه وكان بكر بن بكار يتعشقه فكان يجيء إلى أبي فيذاكره الحديث ويجالسه وينظر إلى الخشنشار.
قال العنزي: حدثني عمر بن شبة قال: بلغني أن عبيد الله بن الحسن لقي ابن مناذر فقال له: ويحك ما أردت إلى بكر بن بكار ففضحته وقلت فيه قولا لعلك لم تتحققه فبدأ ابن مناذر يحلف له بيمين ما سمعت قط أغلظ منها أن الذي قاله في بكر شيء يقوله معه كل من يعرف بكرا ويعرف الخشنشار ويجمع عليه ولا يخالفه فيه فانصرف عبيد الله مغموما بذلك قد بان فيه فلما بعد عنا قلت لابن مناذر: برىء الله منك ويلك ما أكذبك أكل من يعرف بكر بن بكار يقول فيه مثل قولك حتى حلفت بهذه اليمين فقال: سخنت عينيك فإذا كنت أعمى القلب أي شيء أصنع أفتراني كنت أكذب نفسي عند القاضي إنما موهت عليه وحلفت له أن كل من يعرفها يقول مثل قولي وعنيت ما ابتدأت به من الشعر وهو قولي: أفتعرف أنت أحدا يعرفها أو يجهلهما إلا يقول كما قلت: أعوذ بالله من النار إنما موهت على القاضي وأردت تحقيق قولي عنده.
قال مؤلف هذا الكتاب: وبكر بن بكار رجل محدث قد روى عن ورقاء عن ابن أبي نجيح تفسير مجاهد وروى حديثا صالحا.
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا بكر بن بكار عن عبد الله بن المحرز عن قتادة عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: زينوا القرآن بأصواتكم .
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني الأحوص بن الفضل البصري قال: حدثنا ابن معاوية الزيادي وأبوه الخشنشار الذي يقول فيه ابن مناذر: تطرح حبا للخشنشار قال: حدثني من لقي ابن مناذر بمكة فقال: ألا تشتاق إلى البصرة فقال له: أخبرني عن شمس الوزانين أعى حالها قال: نعم قال: وثيق بن يوسف الثقفي حي قال: نعم قال: فغسان بن الفضل الغلابي حي قال: نعم قال: لا والله لا دخلتها ما بقي فيها واحد من الثلاثة. قال: وشمس الوزانين في طرف المربد بحضرة مسجد الأنصار في موضع كان محمد بن عبد الوهاب أخو عبد المجيد يعاديه أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبه قال: كان محمد بن عبد الوهاب الثقفي أخو عبد المجيد يعادي محمد بن مناذر بسبب ميله إلى أخيه عبد المجيد وكان ابن مناذر يهجوه ويسبه ويقطعه وكل واحد منهما يطلب لصاحبه المكروه ويسعى عليه فلقي محمد بن عبد الوهاب ابن مناذر في مسجد البصرة ومعه دفتر فيه كتاب العروض بدوائره ولم يكن محمد بن عبد الوهاب يعرف العروض فجعل يلحظ الكتاب ويقرؤه فلا يفهمه وابن مناذر متغافل عن فعله ثم قال له: ما في كتابك هذا فخبأه في كمه وقال: وأي شيء عليك مما فيه فتعلق به ولببه فقال له ابن مناذر: يا أبا الصلت الله الله في دمي فطمع فيه وصاح يا زنديق في كمك الزندقة فاجتمع الناس إليه فأخرج الدفتر من كمه وأراهم إياه فعرفوا براءته مما قذفه به ووثبوا على محمد بن عبد الوهاب واستخفوا به وانصرف بخزي وقال ابن مناذر يهجوه:
إذا أنت تعلقت بحبل من أبي الـصـلـت
تعلقت بحبل وا هـن الـقـوة مـنـبـت
إذا ما بلغ المجد ذوو الأحساب بـالـمـت
فلا تسمو إلى المجد فما أمرك بالـثـبـت
ولا فرعك في العيدا ن عود ناضر النبـت
وما يبقي لكم يا قو م من أثلتكم نـحـتـي
فها فاسمع قريضا من رقيق حسن النعـت
يقول الحق إن قال ولا يرميك بالـبـهـت
وفي نعت لوجعاء قد استرخت من الفـت
فعندي لك يا مأبو ن مثل الفالج البخـتـي
عتل يعمل الكوم من السبت إلى السـبـت
له فيشله إن أد خلـت واسـعة الـخـرت
وإلا فاطل وجعاء ك بالخضخاض والزفت
ألم يبلغك تسآلي لدى العـلامة الـمـرت
فقال الشيخ سرجوي ه: داء المرء من تحت
فخذ من ورق الدفلى وخذ من ورق القـت
صفحة : 2044
وخذ من جعر كيسان ومن أظفار نسخت قال: ونسخت: لقب أبي عبيدة وهو اسم من أسماء اليهود لقب به تعريضا بأن جده كان يهوديا وكان أبو عبيدة وسخا طويل الأظفار أبدا والشعر وكان يغضب من هذا اللقب.
فأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن محمد النوفلي قال: لما قال ابن مناذر هذه الأبيات:
إذا أنت تعلقت بحبل من أبي الـصـلـت
تعلقت بحبل وا هـن الـقـوة مـنـبـت
وقال الشيخ سرجوي ه: داء المرء من تحت فبلغ ذلك سرجويه فجاء إلى محمد بن عبد الوهاب فوقف عليه في مجلسه وعنده جماعة من أهله وإخوته وجيرانه فسلم عليه وكان أعجميا لا يفصح ثم قال: بركست كمن كفتم أن كسر مناذر كفت: داء المرء من تحت فكاد القوم أن يفتضحوا من الضحك وصاح به محمد: اعزب قبحك الله فظن أنه لم يقبل عذره فأقبل يحلف له مجتهدا ما قال ذاك ومحمد يصيح به: ويلك اغرب عني وهو في الموت منه وكلما زاده من الصياح إليه زاده في العذر واجتهد في الأيمان وضحك الناس حتى غلبوا وقام محمد خجلا فدخل منزله وتفرقوا.
قال أبو الحسن النوفلي: ثم مضى لذلك زمان وهجا أبو نعامة أبا عبد الله عريسة الكاتب
روى شـيخ تـمـيم خـالـد أن هـريسـه
يدخل الأصلع ذا الخر جين في جوف الكنيسة فلقي خالد بن الصباح هذا هريسة وكان يعاديه وأراد أن يخجله فحلف له مجتهدا أنه لم يقل فيه ما قاله أبو نعامة فقال هريسة: يا بارد لم ترد أن تعتذر إنما أردت أن تتشبه بابن مناذر ومحمد بن عبد الوهاب وبأبي الشمقمق وأحمد بن المعذل ولست من هؤلاء في شيء.
شعر له في ضرير وأخرس جالسين عنده قرأت في بعض الكتب عن ابن أبي سعد قال: حدثني أبو الخطاب الحسن بن محمد عن محمد بن إسحاق البلخي قال: دخلت على ابن مناذر يوما وعنده رجل ضرير جالس عن يمينه ورجل بصير جالس عن شماله ساكت لا ينطق قال: فقلت له: ما خبرك فقال:
بين أعمى وأخرس أخرس الل ه لسان الأعمى وأعمى البصيرا قال: فوثبا فخرجا من عنده وهما يشتمانه.
خبره مع سفيان بن عيينة
ونسخت من كتاب ابن أبي الدنيا: حدثني أبو محمد التيمي قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله عن الحسن بن علي قال: كنا عند باب سفيان بن عيينة وقد هرب منا وعنده الحسن بن علي التختاخ ورجل من الحجبة ورجل من أصحاب الرشيد فدخل بهم وليس يأذن لنا فجاء ابن مناذر فقرب من الباب ثم رفع صوته فقال:
بعمرو وبالزهري والسلف الأولى بهم ثبتت رجلاك عند المقاوم
جعلت طوال الدهر يوما لصالح ويوما لصباح ويوما لحـاتـم
وللحسن التختاخ يوما ودونهم خصصت حسينا دون أهل المواسم
نظرت وطال الفكر فيك فلم أجد رحاك جرت إلا لأخذ الدراهم فخرج سفيان وفي يده عصا وصاح: خذوا الفاسق فهرب ابن مناذر منه وأذن لنا فدخلنا.
رثاؤه سفيان بن عيينة أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبو بكر المؤدب قال: حدثني محمد بن قدامة قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر: يا أبا عبد الله ما بقي أحد أخافه غيرك وكأني بك
راحوا بسفيان على نعشه والعلم مكسوين أكفانا
إن الذي غودر بالمنحنى هد من الإسلام أركانا
لا يبعدنك الله من ميت ورثنا علما وأحـزانـا سفيان بن عيينة يتكلم بكلام لابن مناذر أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال حدثني شيخ من أهل الكوفة يقال له عوام قال: سمعت سفيان بن عيينة وقد تكلم بكلام استحسن فسأله محمد بن مناذر أن يمليه عليه فتبسم سفيان وقالل ه: هذا كلام سمعتك تتكلم به فاستحسنته فكتبته عنك قال: وعل ذلك أحب أن تمليه علي فإني إذا رويته عنك كان أنفق له من أن أنسبه إلى نفسي.
قال عوام: وأنشدني ابن عائشة لابن مناذر يرثي سفيان بن عيينة بقوله:
يجني من الحكمة نوارها ما تشتهي الأنفس ألوانـا
يا واحد الأمة في علمه لقيت من ذي العرش غفرانا
راحوا بسفيان على نعشه والعلم مكسوين أكفـانـا أخبرني علي بن سليمان قال: حدثنا محمد بن يزيد عن محمد بن عامر الحنفي قال:
صفحة : 2045
لما مات عبد المجيد بن عبد الوهاب خرج ابن مناذر إلى مكة وترك النسك وعاد للمجون والخلع وقال في هذا المعنى شعرا كثيرا حتى كان إذا مدح أو فخر لم يجعل افتتاح شعره ومباديه إلا المجون وحتى قال في مدحه للرشيد:
هل عندكم رخصة عن الحسن الب صري في العشق وابن سيرينا
إن سفاهـا بـذي الـجـلالة والـش يبة ألا يزال مـفـتـونـا وقال أيضا في هذا المعنى:
ألا يا قمر المسج د هل عندك تنـويل
شفائي منك إننولتنـيشـم وتـقـبـيل
سلا كل فؤاد و فؤادي بك مشـغـول
لقد حملت من حبي ك ما لايحمل الفيل خبره مع يونس النحوي
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثنا العباس بن الفضل الربعي قال: قال ابن مناذر ليونس النحوي يعرض به: أخبرني عن جبل أتنصرف أم لا وكان يونس من أهلها فقال له: قد عرفت ما أردت يابن الزانية. فانصرف ابن مناذر: فأعد شهودا يشهدون عليه بذلك وصار إليه وسأله هل تنصرف جبل وعلم يونس ما أراد فقال له: الجواب ما سمعته أمس.
خبر زيارة حجاج الصواف له بمكة
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني إسحاق بن عمرو السعدي قال: حدثني الحجاج الصواف. وأخبرني الحسن بن علي أيضا قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني إسحاق بن محمد قال: حدثني أمية بن أبي مروان قال: حدثني حجاج الصواف الأعور قال: خرجت إلى مكة فكان خجيراي في الطريق ابن مناذر وكان لي إلفا وخدنا وصديقا فدخلت مكة فسألت عنه فقالوا: لا يبرح المسجد فدخلت المسجد فالتمسته فوجدته بفناء زمزم وعنده أصحاب الأخبار والشعراء يكتبون عنه فسلمت وأنا أقدر أن يكون عنده من الشوق إلي مثل ما عندي فرفع رأسه فرد السلام ردا ضعيفا ثم رجع إلى القوم يحدثهم ولم يحفل بي فقلت في نفسي: أتراه ذهبت عنه معرفتي فبينا أنا أفكر إذ طلع أبو الصلت بن عبد الوهاب الثقفي من باب بني شيبة داخلا المسجد فرفع رأسه فنظر إليه ثم أقبل علي فقال: أتعرف هذا فقلت: نعم هذا الذي يقول فيه من قطع الله لسانه:
إذا أنت تعلقت بحبل من أبي الصلت
تعلقت بحبل وا هن القوة منـبـت قال: فتغافل عني وأقبل عليهم ساعة ثم أقبل علي فقال: من أي البلاد أنت قلت: من أهل البصرة قال: وأين تنزل منها قلت: بحضرة بني عائش الصوافين قال: أتعرف هناك ابن زانية يقال له: حجاج الصواف قلت: نعم تركته ينيك أم ابن زانية يقال له: ابن مناذر فضحك وقام إلي فعانقني.
هجاؤه حجاج الصواف قال مؤلف هذا الكتاب: ولابن مناذر هجاء في حجاج الصواف على سبيل العبث وهو قوله:
إن ادعاء الحجاج في العرب عند ثقيف من أعجب العـجـب
وهو ابن زان لألف زانية وألف علج معلـهـج الـنـسـب
ولو دعاه داع فقال لـه: يا ألأم الـنـاس كـلـهـم أجـب
ولو دعاه داع فقال له: من المعلى في الـلـؤم قـال: أبـي
أبوه زان والأم زانية بنت زنـاة مـهـتـوكة الـحـجـب
تقول: عجل أدخل لنائكها اتركه في استي إن شئت أو ركبـي
من ناكني فيهما فأوسعني رهزا دراكا أعطـيتـه سـلـبـي
هم حري النيك فابتغوا لحري أير حمار أقضـي بـه أربـي
أحب أير الحمار وابأبـي فـيشة أير الـحـمـار وابـأبـي
إذا رأته قالت: فديتك يا قرة عيني ومنـتـهـى طـلـبـي
إذا سمعت النهيق هاج حري شوقا إليه وهاج لي طـربـي
يأخذني في أسافلي وحري مثل اضطرام الحريق في الحطب
شكت إلي نسوة فقلن لها وهي تنادي بـالـويل والـحـرب:
كفي قليلا قالت: وكيف وبي في جوف صدعي كحكة الجرب
أرى أيور الرجال من عصب ليت أيور الرجال من خـشـب هجاء إسكاف بالبصرة فهرب منها
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني أحمد بن محمد الرازي أبو عبد الله قال: حدثني أبو بجير قال: كان ابن مناذر يجلس إلى إسكاف بالبصرة فلا يزال يهجوه بالأبيات فيصيح من ذلك ويقول له: أنا صديقك فاتق الله وأبق على الصداقة وابن مناذر يلح فقال الإسكاف: فإني أستعين الله عليك وأتعاطى الشعر فلما أصبح غدا عليه ابن مناذر كما كان يفعل فأخذ يعبث به ويهجوه فقال الإسكاف:
كثرت أبوته وقل عديده ورمى القضاء به فراش مـنـاذر
عبد الصبيريين لم تك شاعرا كيف ادعيت اليوم نسبة شاعر
صفحة : 2046
فشاع هذان البيتان بالبصرة ورواهما أعداؤه وجعلوا يتناشدونهما إذا رأوه فخرج من البصرة إلى مكة وجاور بها فكان هذا سبب هربه من البصرة.
أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن أبي حاتم قال: قال ابن مناذر: ما مر بي شيء قط أشد علي مما مر بي من قول أبي العسعاس في:
كثرت أبوته وقل عديده ورمى القضاء به فراش مناذر انظر بكم صنف قد هجاني في هذا البيت قبحه الله ثم منعني من مكافأته أني لم أجد له نباهة فأغضها ولا شرفا فأهدمه ولا قدرا فأضعه.
أخبرني عمي قال: حدثني الكراني قال: حدثني بشر بن دحية الزيادي أبو معاوية قال: سمعت ابن مناذر يقول: إن الشعر ليسهل علي حتى لو شئت ألا أتكلم إلا بشعر لفعلت. أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس بن ميمون طايع قال: حدثني بعض أصحابنا قال: رأيت ابن مناذر بمكة وهو يتوكأ على رجل يمشي معه وينشد:
إذا ما كدت أشكوها إلى قلبي لها شفعا
ففرق بيننا دهر يفرق بين ما اجتمعـا فقلت: إن هذا لا يشبه شعرك فقال: إن شعري برد بعدك.
ذم امرأة محمد بن عبد الوهاب الثقفي أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا أبو أيوب المديني قال: حدثنا بعض أصحابنا أن محمد بن عبد الوهاب الثقفي تزوج امرأة من ثقيف يقال لها عمارة وكان ابن مناذر يعاديه فقال في ذلك:
لما رأيت القصف والشاره والبز ضاقت به الحـاره
والآس والريحان يرمى به من فوق ذي الدارة والداره
قلت: لمن ذا قيل: أعجوبة محـمـد زوج عـمـاره
ويحك فري واعصبي فاك لي فهذه أخـتـك فـراره قال: فوالله ما لبثت عنده إلا مديدة حتى هربت وكانت لها أخت قبلها متزوجة إلى بعض أهل البصرة ففركته وهربت منه فكانوا يعجبون من موافقة فعلها قول ابن مناذر.
شعر له في أبي أمية خالد
قال أبو أيوب: وحدثت أن أبا أمية واسمه خالد - وهو الذي يقول فيه أبو نواس:
أيها المقبلان من حكمان كيف خلفتما أبا عثـمـان
وابا أمية المهذب والما جد والمرتجى لريب الزمان - كان خطب امرأة من ثقيف ثم ولد عثمان بن أب العاصي فرد عنها وتصدى للقاضي أن يضمنه مالا من أموال اليتامى فلم يجبه إلى ذلك ولم يثق به فقال فيه ابن مناذر:
أبا أمية لا تغضب علي فما جزاء ما كان فيما بيننا الغضـب
إن كان ردك قوم عن فتاتهم ففي كثير من الخطاب قد رغبوا
قالوا: عليك ديور ما تقوم بها في كل عام تستحدث الكـتـب
وقد تقحم من خمسين غايتها مع أنه ذو عيال بعد ما انشعبـوا
أردت أموال أيتام تضمنها وما يضمن إلا مـن لـه نـشـب بلغه عن ابن دأب قول قبيح فهجاه أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني أحمد بن زهير قال: سمعت إبراهيم بن المنذر الخزامي يقول: بلغ ابن مناذر عن ابن دأب قول قبيح قال: فدعاني وقال: اكتب:
فمن يبغ الوصاة فإن عندي وصاة للكهول وللـشـبـاب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ولا ترووا أحاديث ابن داب
ترى الغاوين يتبعون منها ملاهي مـن أحـاديث كـذاب
إذا التمست منافعها اضمحلت كما يرفض رقراق السحاب قال: فرويت وافتضح بها ابن دأب. قال الحزامي: فلما قدمت العراق وجدتهم قد جعلوها: خذوا عن يونس وعن ابن عون رثاؤه الرشيد
أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا أبو حاتم قال:
من كان يبكي للعلا ملكا وللهمم الشريفه
فليبك هارون الخلي فة للخليفة والخليفه هجاؤه خالد بن طليق
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن سلام قال: كان محمد بن طليق وسائر بني طليق أصدقاء لابن مناذر فلما ولي المهدي الخلافة استقصى خالد بن طليق وعزل عبيد الله بن الحسن بن الحر فقال ابن مناذر يهجو خالدا مجونا وخبثا منه:
أصبح الحاكم يالن اس من آل طليق
جالسا يحكم في النا س بحكم الجاثليق
يدع القصد ويهوي في بنيات الطريق
يا أبا الهيثم ما كن ت لهذا بخـلـيق
لا ولا كنت لما حمل لت منه بمطيق
حبله حبل غرور عنده غـير وثـيق قال ابن سلام: فقلت لابن مناذر: ويحك إذا بلغ إخوانك وأصدقاءك من آل طليق أنك هجوتهم ما يقولون لك وبأي شيء تعتذر إليهم فقال: لا يصدقون إذا بلغهم أني هجوتهم بذلك لأنهم يثقون بي.
مدح بني مخزوم لأنهم زاروه في مرضه
صفحة : 2047
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني الحسن بن عليل عن مسعود بن بشر قال: حدثنا محمد بن مناذر قال: كنت بمكة فاشتكيت فلم يعدني من قريش غلا بنو مخزوم وحدهم فقلت أمدحهم:
جاءت قريش تعودني زمرا فقد وعى أحرها لها الحفظه
ولم تعدني تيم وإخوتها وزارني الغر من بنـي يقـظـه
لن يبرح العز منهم أبدا حتى تزول الجبال من قـرظـه ابن عائشة يطلب سماع مرثيته في عبد المجيد
أخبرني الحسن عن ابن مهرويه عن إسحاق بن محمد النخعي قال:
كنا عند ابن عائشة فقال لعبد الرحمن ابنه: أنشدني مرثية ابن مناذر عبد المجيد فجعل ينشدها لأقيمن مأتما كنجوم الليل زهرا يخمشن حر الخدود فقال ابن عائشة: هذا كلام لين كأنه من كلام المخنثين فلما أتى على هذا البيت:
كنت لي عصمة وكنت سماء بك تحيا أرضي ويخضر عودي فقال: هذا بيتها ثم أنشد:
إن عبد المجيد يوم تولى هد ركنا ما كان بـالـمـهـدود
ما درى نعشه ولا حاملوه ما على النعش من عفاف وجود
وأرانا كالزرع يحصدنا الده ر فمن بين قـائم وحـصـيد فقال ابن عائشة: أجعله زرعا يحصدنا الله فليس هذا من كلام المسلمين ألا ترى إلى قوله: إنه يقول:
يحكم الله ما يشاء فيمضي ليس حكم الإله بالمردود عاقبه الرشيد على رثائه البرامكة
أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني محمد بن موسى ولم يتجاوزه بالإسناد.
ونسخت هذا الخبر من كتاب ابن أبي مريم الحاسب: حدثني ابن القداح وعبد الله بن إبراهيم حج الرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة وحج معه الفضل بن الربيع وكنت مضيقا مملقا فهيأت فيه قولا أجدت تنميقه وتنوقت فيه فدخلت إليه في يوم التروية وإذا هو يسأل عني ويطلبني فبدرني الفضل بن الربيع قبل أن أتكلم فقال: يا أمير المؤمنين هذا شاعر البرامكة ومادحهم وقد كان البشر ظهر لي في وجهه لما دخلت فتنكر وعبس في وجهي فقال الفضل: مره يا أميرالمؤمنين أن ينشدك قوله فيهم: أتانا بنو الأملاك من آل برمك فقال لي: أنشد فأبيت فتوعدني وأكرهني فأنشدته:
أتانا بنو الأملاك من آل برمك فيا طيب أخبار ويا حسن منظـر
إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغداد ويجلو لنا الدجى بمكة ما حجـوا ثـلاثة أقـمـر
فما صلحت إلا لجود أكفهم وأرجلهـم إلا لأعـواد مـنـبـر
إذا راض يحيى الأمر ذلت صعابه وحسبك من راع له ومدبـر
ترى الناس إجلالا له وكأنهم غرانيق ماء تحت باز مصرصـر ثم أتبعت ذلك بأن قلت: كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين أيام مدحتهم وفي طاعتك لم يلحقهم سخطك ولم تحلل بهم نقمتك ولم أكن في ذلك مبتدعا ولا خلا أحد من نظرائي من مدحهم وكانوا قوما قد أظلني فضلهم وأغناني رفدهم فأثنيت بما أولوا فقال: يا غلام الطم وجهه فلطمت والله حتى سدرت وأظلم ما كان بيني وبين أهل المجلس ثم قال: اسحبوه على وجهه ثم قال: والله لأحرمنك ولا تركت أحدا يعطيك شيئا في هذا العام فسحبت حتى أخرجت وانصرفت وأنا أسوأ الناس حالا في نفسي وحالي وما جرى علي ولا والله ما عندي ما يقيم يومئذ قوت عيالي لعيدهم فإذا بشاب قد وقف علي ثم قال: أعزز علي والله يا كبيرنا بما جرى عليك ودفع إلي صرة وقال: تبلغ بما في هذه فظننتها دراهم فإذا هي مائة دينار - قال الصولي في خبره: فإذا هي ثلاثمائة دينار - فقلت له: من أنت جعلني الله فداءك قال: أنا أخوك أبو نواس فاستعن بهذه الدنانير واعذرني فقبلتها وقلت: وصلك الله يا أخي وأحسن جزاءك.
كافأه جعفر بن يحيى على القراءة بعد تركه الشعر أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا يحيى بن الحسن الربيعي قال: حدثنا أبو معاوية الغلابي قال: قال سفيان بن عيينة: كلمني ابن مناذر في أن أكلم له جعفر بن يحيى فكلمته له وقد كان ابن مناذر ترك الشعر فقال: إن أحب أن يعود إلى الشعر أعطيته خمسين ألفا وإن أحب أن أعطيه على القراءة أعطيته عشرة آلاف فذكرت ذلك له فقال لي: خذ لي على القراءة فإني لا آخذ على الشعر وقد تركته.
أخبرني عمي عن الكراني عن الرياشي قال: قال العتبي: جاءت قصيدة لا يدرى من قائلها فقال ابن مناذر:
هذه الدهماء تجري فيكم أرسلت عمدا تجر الرسنا قال يصف الألفة بين الرشيد وجعفر
صفحة : 2048
قال الكراني: وحدثني الرياشي قال: سمعت خلف بن خليفة يقول: قال لي ابن مناذر: قال لي جعفر بن يحيى: قل في وفي الرشيد شعرا تصف فيه الألفة بيننا فقلت:
قد تقطع الرحم القريب وتكفر الن عمى ولا كتقارب القلبين
يدني الهوى هذا ويدني ذا الهوى فإذا هما نفس ترى نفسين قال مؤلف هذا الكتاب: هذا أخذه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم نقلا فإن ابن عيينة روى عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الرحم تقطع وإن النعم تكفر ولن ترى مثل تقارب القلوب .
أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا العباس بن ميمون قال: حدثنا سليمان الشاذكوني قال: كنا عند سفيان بن عيينة فحدث عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل: قالوا سلاما قالوا سدادا فقال ابن مناذر وهو إلى جنبي: التنزيل أبين من التفسير.
خبره مع أبي حية النميري
أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن أبي حاتم وعن العتبي عن أبي معبد قال: مر بنا أبو حية النميري ونحن عند ابن مناذر فقال لنا: علام اجتمعتم فقلنا: هذا شاعر المصر فقال له: أنشدني فأنشده ابن مناذر فلما فرغ قال له أبو حية: ألم أقل لك: أنشدني فقالوا له: أنشدنا أنت يا أبا حية فأنشدهم قوله:
ألا حي من أجل الحبيب المغانيا لبسن البلى مما لبسن اللياليا
إذا ما تقاضى المرء يوم وليلة تقاضاه شيء لا يمل التقاضيا فلما فرغ قال له ابن مناذر ما أرى في شعرك شيئا يستحسن فقال له ما في شعري شيءهجا خالد بن طليق وعيسى بن سليمان
أخبرني عمي قال: حدثني الكراني عن ابن عائشة قال: ولي خالد بن طليق القضاء بالبصرة وعيسى بن سليمان الإمارة بها فقال محمد بن مناذر يهجوهما بقوله:
الحمد لله على ما أرى خالد القاضي وعيسى أمير
لكن عيسى نوكه ساعة ونوك هذا منجنـون يدور وقال في شيرويه الزيادي وشيرويه لقب واسمه أحمد وسأله حاجة فأبى أن يقضيها إلا على أن يمدحه:
يا سمي النبي بالعربيه وسمي الليوث بالفـارسـيه
إن غضبنا فأنت عبد ثقيف أو رضينا فأنت عبد أميه فغضب شيرويه وجعل يشتمه وشاع الشعر بالبصرة فكان بعد ذلك إذا قيل لشيرويه: ابن مناذر عليك غضبان أو عنك راض يشتم من يقول له ذلك.
أخبرني الحسن بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: سمعت محمد بن قدامة سمعت سفيان بن عيينة يقول لمحمد بن مناذر: كأنك بي قد مت فرثيتني فلما مات قال ابن مناذر يرثيه:
إن الذي غودر بالمنحنى هد من الإسلام أركانا
راحوا بسفيان على نعشه والعلم مكسوين أكفانا
لا يبعدنك الله من هالك ورثتنا علما وأحزانـا يفسر كلمات لعبد الله بن مروان
أخبرنا عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا عبد الله بن مروان بن معاوية الفزاري قال: حدثنا سفيان قال: سمعت أعرابية تقول: من يشتري مني الحزاة فقلت لها: وما الحزاة قالت: تشتريها النساء للطشة والخافية والإقلات. قال عبد الله بن مروان: فسألت ابن مناذر عن تفسير ذلك فقال: الطشة: وجع يصيب الصبيان في رؤوسهم كالزكام. والخافية: ما خفي من العلل المنسوبة إلى أذى الجن. والإقلات: قلة الولد. وأنشدني ابن مناذر بعقب ذلك:
بغاث الطير أكثرها فراخا وأم الصقر مقلات نزور أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني أبو حاتم قال: سمعت محمد بن مناذر يقول: العذراء: البتول والبتور والبتيل واحد وهي المنقطعة إلى ربها.
قال: وسأله - يعني 0 - أبو هريرة الصيرفي بحضرتي فقال: كيف تقول: أما لا أو إما لا فقال له مستهزئا به: أما لا ثم التفت إلي فقال أسمعت أعجب من هذه المسألة.
يجيب على سؤال لم يجب عنه أبو عبيدة أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني ان مهرويه قال: حدثني العباس بن الفضل الربعي قال: حدثنا التوزي قال: سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر: ما كانت العرب تسميه قال: ليس عندي من ذلك علم. فلقيت ابن مناذر بمكة فأخبرته بذلك فعجب وقال: أيسقط هذا عن مثل أبي عبيدة هي أربعة أيام متواليات كلها على الراء: أولها يوم النحر والثاني يوم القر والثالث يوم النفر والرابع يوم الصدر. فحدثته - يعني أبا عبيدة - فكتبه عن ابن مناذر وقد روى ابن مناذر الحديث المسند ونقله عنه المحدثون.
بعض روايات له
صفحة : 2049
أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا الخليل بن أسد عن محمد بن مسعدة الدارع حدثني محمد بن مناذر الشاعر قال: حدثني سفيان الثوري عن الأغر عن وهب بن منبه قال: كان يقال: الحياء من الإيمان والمذى - مكسور الميم مقصور - من النفاق فقلت: إن الناس يقولون: المذاء فقال: هو كما أخبرتك فقلت له: وما المذا قال: اللين في أمر النساء ومنه درع ماذي وعسل ماذي.
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال: حدثني حامد بن يحيى البلخي قال: حدثني محمد بن مناذر الشاعر قال: حدثني يحيى بن عبد الله بن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال: لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر إلى القتلى وهم مصرعون قال لأبي بكر: لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأماثل يعني قول أبي طالب:
كذبتم وبيت الله إن جد ما أرى لتلتبسن أسيافنا بالأماثل أخبرني محمد بن خلف قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثنا ابن مناذر قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: قال علي: ما قام بي من النساء إلا الحارقة أسماء . قال ابن مناذر: الحارقة: التي أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن العباس بن عبد الواحد عن محمد بن عمرو عن محمد بن مناذر عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة قال: جاء الشيطان إلى عيسى قال: ألست تزعم أنك صادق قال: بلى قال: فأوف على هذه الشاهقة فألق نفسك منها فقال: ويلك ألم يقل الله: يابن آدم لا تبلني بهلاكك فإني أفعل ما أشاء.
كتب رقعة فيها شعر لغلام في مسجد البصرة أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: نظر محمد بن مناذر إلى غلام حسن الوجه في مسجد البصرة فكتب إليه بهذه الأبيات:
وجدت في الآثار في بعض ما حدثنا الأشياخ في المسند
مما روى الأعمش عن جابر وعامر الشعبي والأسـود
وما روى شعبة عن عاصم وقاله حماد عـن فـرقـد
وصية جاءت إلى كل ذي خد خلا من شـعـر أسـود
أن يقبلوا الراغب في وصلهم فاقبل فإني فيك لم أزهد فلما قرأها الفتى ضحك وقلب الرقعة وكتب على ظهرها: لست شاعرا فأجيبك ولا فاتكا فأساعدك وأنا أعوذ بالله ربك من شرك.
رواية أخرى في خبره مع أبي العتاهية أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليلي العنزي قال: حدثنا محمد بن عبد الله العبدي: قال: حدثنا علي بن المبارك الأحمر قال: لقي أبو العتاهية ابن مناذر بمكة فجعل يمازحه ويضاحكه ثم دخل على الرشيد فقال: يا أمير المؤمنين هذا ابن مناذر شاعر البصرة يقول قصيدة في سنة وأنا أقول في سنة مائتي قصيدة فقال الرشيد: أدخله إلي فأدخله إليه وقدر أنه يضعه عنده فدخل فسلم ودعا فقال: ما هذا الذي يحكيه عنك أبو العتاهية فقال ابن مناذر: وما ذاك يا أمير المؤمنين قا: زعم أنك تقول قصيدة في سنة وأنه يقول كذا وكذا قصيدة في السنة فقال: يا أمير المؤمنين لو كنت أقول كما يقول:
ألا يا عتبة الساعه أموت الساعة الساعه لقلت منه كثيرا ولكني الذي أقول:
إن عبد المجيد يوم تولى هد ركنا ما كان بالمهدود فقال له الرشيد: هاتها فأنشدنيها فأنشده فقال الرشيد: ما كان ينبغي أن تكون هذه القصيدة إلا في خليفة أو ولي عهد ما لها عيب إلا أنك قلتها في سوقة وأمر له بعشرة آلاف درهم فكاد أبو العتاهية يموت غما وأسفا.
سئل عنه يحيى بن معين فذمه أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال: سألت يحيى بن معين عن محمد بن مناذر الشاعر فقال: لم يكن بثقة ولا مأمون رجل سوء نفي من البصرة ووصفه بالمجون والخلاعة فقلت: إنما تكتب شعره وحكايات عن الخليل بن أحمد فقال: هذا نعم. وأما الحديث فلست أراه موضعا له.
وفاته بعد أن كف بصره
أخبرني الحسن قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني علي بن محمد النوفلي قال: رأيت ابن مناذر في الحج سنة ثمان وتسعين ومائة قد كف بصره تقوده جويرية حرة وهو واقف يشتري ماء قربة فرأيته وسخ الثوب والبدن فلما صرنا إلى البصرة أتتنا وفاته في تلك الأيام.
صفحة : 2050
تذاكرنا ابن مناذر في حلقة يونس فقدح فيه أكثر أهل الحلقة حتى نسبوه إلى الزندقة فلما صرت في السقيفة التي في مقدم المسجد سمعت قراءة قريبة من حائط القبلة فدنون فإذا ابن مناذر قائم يصلي فرجعت إلى الحلقة فقلت لأهلها: قلتم في الرجل ما قلتم وها هو قائم يصلي حيث لا يراه إلا الله عز وجل.
خبره مع أبي خيرة
أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال: حدثنا أحمد بن القاسم البرقي قال: حدثنا أحمد بن يعقوب قال: حدثني أحمد بن يحيى الهذلي التمار عن عبد الله بن عبد الصمد الضبي قال: كنا يوما جلوسا في حلقة هبيرة بن جرير الضبي إذ أقبل محمد بن مناذر في برد قد كسته إياه بانة بنت أبي العاص فسلم علي وحدي ولم يعرف منهم أحدا ثم قام فجلس إلى أبي خيرة فخاطبه مخاطبة خفيفة وقام مغضبا فقال لي هبيرة: من هذا فقلت: محمد بن مناذر فقال:
إنا لله قوموا بنا فقام إلى أبي خيرة فقال له: ماذا قال لك ابن مناذر قال: سألني عن شيء وكنت مشغولا عنه فقال: يا أبا خيرة إن العشائر تغبطنا لعلمك وما جعل الله عندك فنشدناك عرادة من بقية قوم لوط ألا تبا لما فعلوا تبابا أتدري من كان عندك آنفا قال: لا قال: ابن مناذر وما تعرض لأعراض قوم قط إلا هتكها وهتكهم فإذا جاءك يسألك عن شيء فأجبه ولا تعتل عليه بالبول ولا تطلب منه شيئا وكل ما أردت من جهته ففي مالي قال: أفعل. قال: وكان أبو خيرة إذا سأله إنسان عن شيء ولم يعطه شيئا يعتل عليه بالبول. فما شعرنا من غد إلا بابن مناذر وقد أقبل فعلمنا أنه قصد أبا خيرة فأتيناه فلما رأى جمعنا استحيا منا وسلم علينا وتبسم ثم قال: يا أبا خيرة قد قلت شعرا وقبيح بمثلي أن يسأل عنه فلا يدري ما فيه وإني ذكرت فيه إنسانا فشبهته بالأفار فأي شيء هو فاحمر وجه أبي خيرة واضطرب وقال: هو التيس الوثاب الذي ينزو وقضيبه رخو فلا يصل فقال: جزيت خيرا ووثب وهو يضحك فقمنا إليه وقلنا: قد علمنا أنك عنيت هذا الشيخ فإن رأيت أن تهبه لنا فافعل فإنه شيخنا قال: والله ما عنيت غيره وقد وهبته لكم وكرامة والله لا يسمع مني أحد ما قلت فيه ولا أذكره إلا بخير أبدا وإن كان قد أساء العشرة أمس.
صوت
لا زلت تنشر أعيادا وتطويها تمضي بها لك أيام وتمضيهـا
ولا تقضت بك الدنيا ولا برحت تطوي لك الدهر أياما وتفنيها الشعر لأشجع السلمي والغناء لإبراهيم الموصلي ثاني مطلق في مجرى البنصر وفيه لمحمد قريض لحن من الثقيل الأول وهو من مشهور غنائه ومختاره.
نسب أشجع وأخباره
نسبه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني علي بن الفضل السلمي قال: كان أشجع بن عمرو السلمي يكنى أبا الوليد من ولد الشريد بن مطرود السلمي تزوج أبوه امرأة من أهل اليمامة فشخص معها إلى بلدها فولدت له هناك أشجع ونشأ باليمامة ثم مات أبوه.
كان يعد من فحول الشعراء
فقدمت به أمه البصرة تطلب ميراث أبيه وكان له هناك مال فماتت بها وربي أشجع ونشأ بالبصرة فكان من لا يعرفه يدفع نسبه ثم كبر وقال الشعر وأجاد وعد في الفحول وكان الشعر يومئذ في ربيعة واليمن ولم يكن لقيس شاعر معدود فلما نجم أشجع وقال الشعر افتخرت به قيس وأثبتت نسبه وكان له أخوان: أحمد وحريث ابنا عمرو وكان أحمد شاعرا ولم يكن يقارب أشجع ولم يكن لحريث شعر ثم خرج أشجع إلى الرقة والرشيد بها فنزل على بني سليم فتقبلوه وأكرموه ومدح البرامكة وانقطع إلى جعفر خاصة وأصفاه مدحه فأعجب به ووصله إلى الرشيد ومدحه فأعجب به أيضا فأثرى وحسنت حاله في أيامه وتقدم عنده.
شخص إلى الرقة لينشد الرشيد قصيدته
أخبرني محمد بن عمران قال: حدثني العنزي قال: حدثني صخر بن أسد السلمي قال: حدثني أبي أسد بن جديلة قال: حدثني أشجع السلمي قال: شخصت من البصرة إلى الرقة فوجدت الرشيد غازيا ونالتني خلة فخرجت حتى لقيته منصرفا من الغزو وكنت قد اتصلت ببعض أهل داره فصاح صائح ببابه: من كان هاهنا من الشعراء فليحضر يوم الخميس فحضرنا سبعة وأنا ثامنهم وأمرنا بالبكور في يوم الجمعة فبكرنا وأدخلنا وقدم واحد منا ينشد على الأسنان وكنت أحدث القوم سنا وأرثهم حالا فما بلغ إلي حتى كادت الصلاة أن تجب فقدمت والرشيد على كرسي وأصحاب الأعمدة بين يديه سماطان.
صفحة : 2051
خاف وجوب الصلاة فبدأ إنشاد الرشيد بما جاء في قصيدته من مدح فقال لي: أنشدني فخفت أن أبتدىء من أول قصيدتي بالتشبيب فتجب الصلاة ويفوتني ما أردت فتركت التشبيب وأنشدته من موضع المديح في قصيدتي التي أولها:
تذكر عهد البيض وهو لها ترب وأيام يصبي الغانيات ولا يصبو فابتدأت قولي في المديح:
إلى ملك يستغرق المال جوده مكارمه نثر ومعـروفـه سـكـب
وما زال هارون الرضا بن محمد له من مياه النصر مشربها العذب
متى تبلغ العيس المراسيل بابه بنا فهناك الرحب والمنزل الرحـب
لقد جمعت فيك الظنون ولم يكن بغيرك ظن يستريح له الـقـلـب
جمعت ذوي الأهواء حتى كأنهم على منهج بعد افتراقهـم ركـب
بثثت على الأعداء أبناء دربة فلم يقهم منهـم حـصـون ولا درب
وما زلت ترميهم بهم متفردا أنيساك حزم الرأي والصارم العضـب
جهدت فلم أبلغ علاك بمدحة وليس على من كان مجتهدا عـتـب فضحك الرشيد وقال لي: خفت أن يفوت وقت الصلاة فينقطع المديح عليك فبدأت به وتركت التشبيب وأمرني بأن أنشده التشبيب فأنشدته إياه فأمر لكل واحد من الشعراء بعشرة أنشد الرشيد فقال هكذا تمدح الملوك أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أحمد بن سيار الجرجاني وكان راوية شاعرا مداحا ليزيد بن مزيد قال: دخلت أنا وأشجع والتيمي وابن رزين الخراساني على الرشيد في قصر له بالرقة وكان قد ضرب أعناق قوم في تلك الساعة فجعلنا نتخلل الدماء حتى وصلنا إليه فأنشده أبو محمد التيمي قصيدة له يذكر فيها نقفور ووقعته ببلاد الروم فنثر عليه مثل الدر من جودة شعره وأنشده أشجع قوله:
قصر عليه تحية وسلام ألـقـت عـلـيه جـمـالـهـا الأيام
قصرت سقوف المزن دون سقوفه فيه لأعلام الهـدى أعـلام
تثني على أيامـك الأيام والـشـاهـدان الـحـل والإحـرام
نتك من ظل النبـي وصـية بة وشـجـت بـهـا الأرحـام
برقت سماؤك في العدو وأمطرت هاما لها ظل السيوف غمام
وإذا سيوفك صافحت هام العدى طارت لهن عن الرؤوس الهام
وعلى عدوك يابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظـلام وأنشدته أنا قولي: زمن بأعلى الرقمتين قصير حتى انتهيت إلى قولي:
لا تبعد الأيام إذ ورق الصبا خضل وإذ غض الشباب نضير فاستحسن هذا البيت ومضيت في القصيدة حتى أتممتها فوجه إلي الفضل بن الربيع: أنفذ إلي قصيدتك فإني أريد أن أنشدها الجواري من استحسانه إياها.
قال: وركب الرشيد يوما قبة وسعيد بن سالم معه في القبة فقال: أين محمد البيذق وكان رجلا حسن الصوت ينشد الشعر فيطرب بحسن صوته اشد من إطراب الغناء فحضر فقال: أنشدني قصيدة الجرجاني فأنشده فقال: الشعر في ربيعة سائر اليوم فقال له سعيد بن سالم: يا أمير المؤمنين استنشده قصيدة أشجع بن عمرو فأبى فلم يزل به حتى أجاب إلى استماعها فلما أنشده هذين البيتين: وعلى عدوك يابن عم محمد والذي بعده قال له سعيد بن سالم: والله يا أمير المؤمنين لو خرس بعد هذين لكان أشعر الناس.
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبي قال: بلغني أن أشجع لما أنشد الرشيد هذين البيتين: وعلى عدوك يابن عم محمد والذي بعده طرب الرشيد وكان متكئا فاستوى جالسا وقال: أحسن والله هكذا تمدح الملوك.
أخبرني أحمد بن إسحاق العسكري والحسن بن علي قالا: حدثنا أحمد بن سعيد بن سالم الباهلي عن أبيه قال: كنت عند الرشيد فدخل إليه أشجع ومنصور النمري فأنشده أشجع قوله:
وعلى عدوك يابن عم محمد رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبه رعنه وإذا غفا سلت علـيه سـيوفـك الأحـلام فاستحسن ذلك الرشيد وأومأت إلى أشجع أن يقطع الشعر وعلمت أنه لا يأتي بمثلهما فلم يفعل ولما أنشده ما بعدهما فتر الرشيد وضرب بمحضرة كانت بيده الأرض واستنشد منصورا النمري فأنشده قوله:
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع إذا ذكرت شبابا ليس يرتجع فمر والله في قصيدة قل ما تقول العرب مثلها فجعل الرشيد يضرب بمخصرته الأرض ويقول: الشعر في ربيعة سائر اليوم فلما خرجنا قلت لأشجع: غمزتك أن تقطع فلم تفعل ويلك ولم تأت بشيء فهلا مت بعد البيتين أو خرست فكنت تكون أشعر الناس.
مدح جعفر بن يحيى
صفحة : 2052
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني موسى بن عيسى قال: اشترى جعفر بن يحيى المرغاب من آل الرشيد بعشرين ألف ألف درهم ورده على أصحابه فقال أشجع السلمي يمدحه بذلك ويقول:
رد السباخ ندى يديه وأهلها منها بمنزلة السـمـاك الأعـزل
قد أيقنوا بذهابها وهلاكهم والدهر يوعدهم بـيوم أعـضـل
فافتكها لهم وهم من دهرهم بين الجران وبين حد الكلـكـل
ما كان يرجى غيره لفكاكها يرجى الكريم لكل خطب معضل أنشد جعفر بن يحيى مديحا له لوقته على وزن قصيدة لحميد بن ثور وقافيتها جلس جعفر بن يحيى بالصالحية يشرب على مستشرف له فجاءه أعرابي من بني هلال فاشتكى واستماح بكلام فصيح ولفظ مثله يعطف المسؤول فقال له جعفر بن يحيى: أتقول الشعر يا هلالي فقال: قد كنت أقوله وأنا حدث أتملح به ثم تركته لما صرت شيخا قال: فأنشدنا لشاعركم حميد بن ثور فأنشده قوله:
لمن الديار بجانب الحمس كمحط ذي الحاجات بالنفس حتى أتى على آخرها فاندفع أشجع فأنشده مديحا له فيه قاله لوقته على وزنها وقافيتها فقال:
ذهبت مكارم جعفر وفعاله في الناس مثل مذاهب الشمس
ملك تسوس له المعالي نفسه والعقل خير سياسة النفـس
فإذا تراءته الملوك تراجعوا جهر الكلام بمنطق همـس
ساد البرامك جعفر وهم الألى بعد الخلائف سادة الإنـس ما ضر من قصد ابن يحيى راغبا بالسعد حل به أم النحس طلب منه جعفر وصف مكانه شعرا فقال وأجاد فقال له جعفر: صف موضعنا هذا فقال:
مطلات على بطن كسته أيادي الماء وشيا نسج غـرس
إذا ما الطل أثر في ثراء تنفس نوره من غير نـفـس
فتغبقه السماء بصبغ ورس وتصبحه بأكؤس عين شمس فقال جعفر للأعرابي: كيف ترى صاحبنا يا هلالي فقال: أرى خاطره طوع لسانه وبيان الناس تحت بيانه وقد جعلت له ما تصلني به قال: بل نقرك يا أعرابي ونرضيه وأمر للأعرابي بمائة دينار ولأشجع بمائتين.
أنس بن أبي شيخ يعجب بشعره
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أبو عامة قال: حدثني أشجع السلمي قال: كنت ذات يوم في مجلس بعض إخواني أتحدث وأنشد إذ دخل عليهم أنس بن أبي شيخ النصري صاحب جعفر بن يحيى فقام له جميع القوم غيري ولم أعرفه فأقوم له فنظر إلي وقال: من هذا الرجل قالوا: أشجع السلمي الشاعر قال: أنشدني بعض قولك فأنشدته. فقال: إنك لشاعر فما يمنعك من جعفر بن يحيى فقلت: ومن لي بجعفر بن يحيى فقال: أنا فقل أبياتا ولا تطل فإنه يمل الإطالة فقلت: لست بصاحب إطالة فقلت أبياتا على نحو ما رسم لي وصرت إلى أنس فقال: تقدمني إلى الباب فتقدمت فلم يلبث أن جاء فدخل وخرج أبو رمح الهمذاني حاجب جعفر بن يحيى فقال أشجع: فقمت فقال: ادخل فدخلت فاستنشدني فأنشدته أقول:
وترى الملوك إذا رأيتهم كل بعيد الصـوت والـجـرس
فإذا بدا لهم ابن يحيى جعفر رجعوا الكلام بمنطق همس
ذهبت مكارم جعفر وفعاله في الناس مثل مذاهب الشمس قال: فأمر له بعشرة آلاف درهم قال: وكان أشجع يحب الثياب وكان يكتري الخلعة كل يوم بدرهمين فيلبسها أياما ثم يكتري غيرها فيفعل بها مثل ذلك قال: فابتعت أثوابا كثيرة بباب الكرخ فكسوت عيالي وعيال إخوتي حتى أنفقتها.
الفضل بن يحيى يهب له ضعف ما وهبه إياه جعفر ثم لقيت المبارك مؤدب الفضل بن يحيى بعد أيام فقال لي: أنشدني ما قلته في جعفر فأنشدته فقال: ما يمنعك من الفضل فقلت: ومن لي بالفضل فقال: أنا لك به فأدخلني عليه فأنشدته:
لقد أرهب الأعداء حتى كأنما على كل ثغر بالمنية قائم فقال لي: كم أعطاك جعفر فقلت: عشرة آلاف درهم فقال: أعطوه عشرين ألفا.
جعفر بن يحيى يجري عليه في كل جمعة مائة دينار أخبرني علي بن صالح قال: حدثني أحمد بن أبي فنن قال: حدثني داود بن مهلهل قال: لما خرج جعفر بن يحيى ليصلح أمر الشام نزل في مضربه وأمر بإطعام الناس فقام أشجع فأنشده قوله:
فئتان باغية وطاغية جلت أمورهما عن الخطـب
قد جاءكم بالخيل شازبة ينقلن نحوكم رحى الحرب
لم يبق إلا أن تدور بكم قد قام هاديها على القطب
صفحة : 2053
قال: فأمر له بصلة ليست بالسنية وقال له: دائم القليل خير من منقطع الكثير فقال له: ونزره أكثر من جزيل غيره فأمر له بمثلها قال: وكان يجري عليه في كل جمعة مائة دينار مدة مقامه ببابه.
إسحاق الموصلي ينشد له قصيدة في الخمر أمام الرشيد وجعفر بن يحيى أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثنا دخلت إلى الرشيد يوما وهو يخاطب جعفر بن يحيى بشيء لم أسمع ابتداءه وقد علا صوته فلما رآني مقبلا قال لجعفر بن يحيى: أترضى بإسحاق قال جعفر: والله ما في علمه مطعن إن أنصف فقال لي: أي شيء تروي للشعراء المحدثين في الخمر أنشدني من أفضل ما عندك وأشده تقدما فعلمت أنهما كانا يتماريان في تقديم أبي نواس فعدلت عنه إلى غيره لئلا أخالف أحدهما فقلت: لقد أحسن أشجع في قوله:
وقد طعنت الليل في أعجازه بالكأس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون على النعيم كأنهم قضب من الهندي لم تـتـثـلـم
وسعى بها الظبي العزير يزيدها طيبا ويغشمها إذا لم تغشم
والليل منتقب بفضل ردائه قد كاد يحسر عن أغـر أرثـم
فإذا أدارتها الأكف رأيتها تثني الفصيح إلى لسان الأعجـم
وعلى بنان مديرها عقيانة من سكبها وعلى فضول المعصم
تغلي إذا ما الشعريان تلظيا صيفا وتسكن في طلوع المرزم
ولقد فضضناها بخاتم ربها بكرا وليس البكر مـثـل الأيم
ولها سكون في الإناء وخلفها شغب يطوح بالكمي المعلـم الرشيد يفضل أبا نواس عليه في الخمر
فقال لي الرشيد: قد عرفت تعصبك على أبي نواس وإنك عدلت عنه متعمدا ولقد أحسن أشجع ولكنه لا يقول أبدا مثل قول أبي نواس:
يا شقيق النفس من حكم نمت عن ليلي ولم أنم فقلت له: ما علمت ما كنت فيه يا أمير المؤمنين وإنما أنشدت ما حضرني فقال: حسبك قد سمعت الجواب.
قال الفضل: وكان في إسحاق تعصب على أبي نواس لشيء جرى بينهما.
الواثق يطرب لشعر أشجع ويستعيده
أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: اصطبح الواثق في يوم مطير واتصل شربه وشربنا معه حتى سقطنا لجنوبنا صرعى وهو معنا على حالنا فما حرك أحد منا عن مضجعه وخدم الخاصة يطوفون علينا ويتفقدوننا وبذلك أمرهم وقال: لا تحركوا أحدا عن موضعه فكان هو أول من أفاق منا فقام وأمر بإنباهنا فأنبهنا فقمنا فتوضأنا وأصلحنا من شأننا وجئت إليه وهو جالس وفي يده كأس وهو يروم شربها والخمار يمنعه فقال لي: يا إسحاق أنشدني في هذا المعنى شيئا فأنشدته قول أشجع السلمي:
ولقد طعنت الليل في أعجازه بالكأس بين غطارف كالأنجم
يتمايلون عن النعيم كأنهم قضب من الهندي لم تـتـثـلـم
وسعى بها الظبي الغرير يزيدها طيبا ويغشمها إذا لم تغشم
والليل منتقب بفضل ردائه قد كاد يحسر عن أغـر أرثـم
وإذا أدارتها الأكف رأيتها تثني الفصيح إلى لسان الأعجـم
وعلى بنان مديرها عقيانة من لونها وعلى فضول المعصم
تغلي إذا ما الشعريان تلظيا صيفا وتسكن في طلوع المرزم
ولقد فضضناها بخاتم ربها بكرا وليس البكر مـثـل الأيم
ولها سكون في الإناء وخلفها شغب يطوح بالكمي المعلـم
تعطي على الظلم الفتى بقيادها قسرا وتظلمه إذا لم يظلـم فطرب وقال: أحسن والله أشجع وأحسنت يا أبا محمد أعد بحياتي فأعدتها وشرب كأسه وأمر لي بألف دينار.
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثنا أبو هفان قال: ذكر أبو دعامة أن أشجع دخل على الفضل بن الربيع وقد توفي ابنه العباس والناس يعزونه فعزاه فأحسن ثم استأذنه في إنشاد مرثية قالها فيه فأذن له فأنشده:
لا تبكين بعين غير جائدة وكل ذي حزن يبكي كـمـا يجـد
أي امرىء كان عباس لنائبة إذا تقنع دون الـوالـد الـولـد
لم يدنه طمع من دار مخزية ولم يعز له من نـعـمة بـلـد
قد كنت ذا جلد في كل نائبة فبان مني عليك الصبر والجلـد
لما تسامت بك الآمال وابتهجت بك المروءة واعتدت بك العدد
ولم يكن لفتى في نفسه أمل إلا إليك به مـن أرضـه يفـد
وحين جئت أمام السابقين ولم يبلل عـذارك مـيدان ولا أمـد
وافاك يوم على نكراء مشتمل لم ينج من مثله عاد ولا لـبـد
فما تكشف إلا عن مولولة حرى ومكتئب أحـشـاؤه تـقـد
صفحة : 2054
قال: فبكى الفضل وبكى الناس معه وما انصرفوا يومئذ يتذاكرون غير أبيات أشجع.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال: حدثني علي بن الجهم قال: دخل أشجع على الرشيد وقد مات ابن له والناس يعزونه فأنشده قوله:
نقص من الدين ومن أهله نقص المنايا من بني هاشم
قدمتهفاصبر على فقده إلـى أبـيه وأبـي الـقـاسـم فقال الرشيد: ما عزاني اليوم أحد أحسن من تعزية أشجع وأمر له بصلة.
أذن له جعفر بن يحيى بالوصول إليه وحده دون سائر الناس أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا العنزي قال: حدثني عبد الرحمن بن النعمان السلمي قال: كنا بباب جعفر بن يحيى وهو عليل فقال لنا الحاجب: إنه إذن عليه فكتب إليه أشجع:
لما اشتكى جعفر بن يحيى فارقني النوم والقـرار
ومر عيشي علي حتى كأنما طعـمـه الـمـرار
خوفا على جعفر بن يحيى لا حقق الخوف والحذار
إن يعفه الله لا نحاذر ما أحدث الليل والـنـهـار قال: فأوصل الحاجب رقعته ثم خرج فأمره بالوصول وحده وانصرف سائر الناس.
أخبرني الحسن قال: حدثنا العنزي قال: حدثني محمد بن الحسين عن عمرو بن علي: أن أشجع السلمي كتب إلى الرشيد وقد أبطأ عنه شيء أمر له به:
أبلغ أمير المؤمنين رسالة لها عنق بين الـرواة فـسـيح
بأن لسان الشعر ينطقه الندى ويخرسه الإبطاء وهو فصيح فضحك الرشيد وقال له: لن يخرس لسان شعرك وأمر بتعجيل صلته.
مدح محمد بن منصور بشعر كان أحب مدائحه إليه أخبرني الحسن ومحمد بن يحيى الصولي قالا: حدثنا العنزي قال: حدثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد وكان يقال لأبيه فتى العسكر قال: أقبل أشجع إلى باب أبي فرأى ازدحام الناس عليه فقال:
على باب ابن منصور علامات من البذل
جماعات وحسب البا ب نبلا كثرة الأهل فبلغ ابي بيتاه هذان فقال: هما والله أحب مدائحه إلي.
هنأ جعفر بن يحيى بولاية خراسان أخبرني عمي والحسن بن علي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثنا إسحاق بن لما ولى الرشيد جعفر بن يحيى خراسان جلس للناس فدخلوا عليه يهنئونه ثم دخل الشعراء فأنشدوه فقام أشجع آخرهم فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده قوله:
أتصبر للبين أم تجزع فإن الديار غدا بلقـع
غدا يتفرق أهل الهوى ويكثر باك ومسترجع حتى انتهى إلى قوله:
ودوية بين أقطارها مقاطيع أرضين لا تـقـطـع
تجاوزتها فوق عيرانة من الريح في سيرها أسرع
إلى جعفر نزعت رغبة وأي فتى نحـوه تـنـزع
فما دونه لامرىء مطمع ولا لامرىء غيره مقنـع
ولا يرفع الناس من حطه ولا يضعون الذي يرفـع
يريد الملوك مدى جعفر ولا يصنعون كما يصنـع
وليس بأوسعهم في الغنى ولكن معروفـه أوسـع
تلوذ الملوك بآرائه إذا نالها الـحـدث الأفـظـع
بديهته مثل تدبيره متى رمته فهو مسـتـجـمـع
غدا في ظلال ندى جعفر يجر ثياب الغنى أشجـع
فقل لخراسان تحيا فقد أتاها ابن يحيى الفتى الأروع فأقبل عليه جعفر بن يحيى ضاحكا واستحسن شعره وجعل يخاطبه مخاطبة الأخ أخاه ثم أمر له بألف دينار.
يهون على جعفر بن يحيى عزله عن خراسان قال: ثم بدا للرشيد في ذلك التدبير فعزل جعفرا عن خراسان بعد أن أعطاه العهد والكتب وعقد له العقد وأمر ونهى فوجم لذلك جعفر فدخل عليه أشجع فأنشده يقول:
أمست خراسان تعزى بما أخطأها من جعفر المرتجى
كان الرشيد المعتلى أمره ولى عليها المشرق الأبلجـا
ثم أراه رأيه أنه أمسـى إلـيه مـنـهـم أحـوجـا
فكم به الرحمن من كربة في مدة تقصر قد فـرجـا فضحك جعفر ثم قال: لقد هونت علي العزل وقمت لأمير المؤمنين بالعذر فسلني ما شئت فقال: قد كفاني جودك ذلة السؤال فأمر له بألف دينار آخر.
يمدح محمد الأمين وهو ابن أربع سنين دخلت على محمد الأمين حين أجلس مجلس الأدب للتعليم وهو ابن أربع سنين وكان يجلس فيه ساعة ثم يقوم فأنشدته:
ملك أبوه وأمه من نبعة منها سراج الأمة الـوهـاج
شربت بمكة في ربا بطحائها ماء النبوة ليس فيه مزاج يعني النبعة. قال: فأمرت له زبيدة بمائة ألف درهم قال: ولم يملك الخلافة أحد أبوه وأمه من بني هاشم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه ومحمد بن زبيدة.
صفحة : 2055
يمدح إبراهيم بن عثمان بن نهيك أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا المهزمي قال: لما ولي إبراهيم بن عثمان بن نهيك الشرطة دخل عليه أشجع فأنشده قوله فيه:
لمن المنازل مثل ظهر الأرقم قدمت وعهد أنيسها لم يقـدم
فتكت بها سنتان تعتورانها بالمعصفات وكل أسحـم مـرزم
دمن إذا استثبت عينك عهدها كرت إليك بنظرة المتـوهـم
ولقد طعنت الليل في أعجازه بالكأس بيد غطارف كالأنجـم
والليل مشتمل بفضل ردائه قد كاد يحسر عن أغـر أرثـم
لبني نهيك طاعة لو أنها زحمت بهضب متالع لم تـكـلـم
قوم إذا غمزوا قناة عدوهم حطموا جوانبها ببأس محـطـم
في سيف إبراهيم خوف واقع لذوي النفاق وفيه أمن المسلم
ويبيت يكلأ والعيون هواجع مال المضيع ومهجة المستسلـم
ليل يواصله بضوء نهاره يقظان لـيس يذوق نـوم الـنـوم
شد الخطام بأنف كل مخالف حتى استقام له الذي لم يخطـم
لا يصلح السلطان إلا شدة تغشى البريء بفضل ذنب المجرم
منعت مهابتك النفوس حديثها بالشيء تكرهه وإن لم تعـلـم
ونهجت في سبل السياسة مسلكا ففهمت مذهبها الذي لم يفهم فوصله وحمله وخلع عليه.
يراجع جعفر بن يحيى في تقليل عطائه فيزيده أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا الغلابي قال: حدثنا مهدي بن سابق قال: أعطى جعفر بن يحيى مروان بن أبي حفصة - وقد مدحه - ثلاثين ألف درهم وأعطى أبا البصير عشرين ألفا وأعطى أشجع - وقد أنشده معهما - ثلاثة آلاف درهم وكان ذلك في أول اتصاله به فكتب إليه أشجع يقول:
أعطيت مروان الثلا ثين الـتـي دلـت رعـاثـه
وأبا البصير وإنما أعطيتـنـي مـنـهـم ثـلاثـه
ما خانني حوك القري ض ولا اتهمت سوى الحداثه فأمر له بعشرين ألف درهم أخرى.
العباس بن محمد ينشد الرشيد شعرا لأشجع ويدعيه لنفسه حدثني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري قال: حدثني أبو هفان قال: حدثني سعيد بن هريم وأبو دعامة قالا: كان انقطاع أشجع إلى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فقال الرشيد للعباس يوما: يا عم إن الشعراء قد أكثروا في مدح محمد بسببي وبسبب أم جعفر ولم يقل أحد منهم في المأمون شيئا وأنا أحب أن أقع على شاعر فطن ذكي يقول فيه فذكر العباس ذلك لأشجع وأمره أن يقول فيه فقال:
بيعة المأمون آخذة بعنان الحق في أفـقـه
لن يفك المرء ربقتها أو يفك الدين من عنقه
وله من وجه والده صورة تمت ومن خلقه قال: فأتى بها العباس الرشيد وأنشده إياها فاستحسنها وسأله: لمن هي فقال: هي لي فقال: قد سررتني مرتين: بإصابتك ما في نفسي وبأنها لك وما كان لك فهو لي وأمر له بثلاثين ألف دينار فدفع إلى أشجع منها خمسة آلاف درهم وأخذ باقيها لنفسه.
يستعجل عطاء يحيى بن خالد ثم يمدحه أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال: وعد يحيى بن خالد أشجع السلمي وعدا فأخره عنه فقال له قوله:
رأيتك لا تستلذ المطال وتوفي إذا غدر الخـائن
فماذا تؤخر من حاجتي وأنت لتعجيلها ضامـن
ألم تر أن احتباس النوال لمعروف صاحبه شائن فلم يتعجل ما أراد فكتب إليه:
رويدك إن عز الفقر أدنى إلي من الثراء مع الهوان
وماذا تبلغ الأيام مني بريب صروفها ومعي لسانـي فبلغ قوله جعفرا فقال له: ويلك يا أشجع هذا تهدد فلا تعد لمثله ثم كلم أباه فقضى حاجته فقال:
كفاني صروف الدهر يحيى بن خالد فأصبحت لا أرتاع للحدثان
كفانيكفاه الـلـه كـل مـلـمة طـلاب فـلان مـرة وفـلان
فأصبحت في رغد من العيش واسع أقلب فيه ناظري ولساني جعفر بن يحيى يوليه عملا ثم يصرفه عنه أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا العنزي عن ابن النطاح قال: ولى جعفر بن يحيى أشجع عملا فرفع إليه أهله رفائع كثيرة وتظلموا منه وشكوه فصرفه جعفر عنهم فلما رجع إليه من عمله مثل بين يديه ثم أنشأ يقول:
أمفسدة سعاد علي ديني ولائمتي على طول الـحـنـين
وما تدري سعاد إذا تخلت من الأشجان كيف أخو الشجون
تنام ولا أنام لطول حزني وأين أخو السرور من الحزين
لقد راعتك عند قطين سعدى رواحل غاديات بالقـطـين
صفحة : 2056
كأن دموع عيني يوم بانوا عيانا سح مـطـرد مـعـين
هم جازوا حجابك يابن يحيى فقالوا بالذي يهوون دونـي
أطافوا بي لديك وغبت عنهم ولو أدنيتني لتجنـبـونـي
وقد شهدت عيونهم فمالت علي وغيبت عنهم عـيونـي
ولما أن كتبت بما أرادوا تدرع كل ذي غـمـز دفـين
كففت عن المقاتل باديات وقد هيأت صخرة منجـنـون
ولو أرسلتها دمغت رجالا وصالت في الأخشة والشؤون
وكنت إذا هززت حسام قول قطعت بحجتي علق الوتين
لعل الدهر يطلق من لساني لهم يوما ويبسط من يمينـي
فأقضي دينهم بوفاء قول وأثقلهم لصـدقـي بـالـديون
وقد علموا جميعا أن قولي قريب حين أدعوه يجـينـي
وكنت إذا هجوت رئيس قوم وسمت على الذؤابة والجبين
بخط مثل حرق النار باق يلوح على الحواجب والعـيون
أماثلة بودك يابن يحيى رجالات ذوو ضـغـن كـمـين
يشيمون السيوف إذا رأوني فإن وليت سلت من جفـون
علاموأنت تعلم نصح جنبيوأخذي منك بالسبـب الـمـتـين
وعسفي كل مهمهة خلاء إليك بكـل يعـمـلة أمـون
وإحيائي الدجى لك بالقوافي أقيم صدورهن على المتون
تقرب منك أعدائي وأنأى ويجلس مجلسي من لايلينـي
ولو عاتبت نفسك في مكاني إذا لنزلت عندك بالـيمـين
ولكن الشكوك نأين عني بودك والمصير إلـى الـيقـين
فإن أنصفتني أحرقت منهم بنضج الكي أثباج البـطـون أول ما نجم به أشجع اتصاله بجعفر بن المنصور أخبرني محمد بن يحيى الصولي والحسن بن علي قالا: حدثنا العنزي قال: حدثنا علي بن الفضل السلمي قال: أول ما نجم به أشجع أنه اتصل بجعفر المنصور وهو حدث وصله به أحمد بن يزيد السلمي وابنه عوف فقال أشجع في جعفر بن المنصور قوله:
اذكروا حرمة العواتك منا يا بني هاشم بن عبد مـنـاف
قد ولدناكم ثلاث ولادا ت خلطن الأشراف بـالأشـراف
إن أرماح بهثة بن سليم لعجاف الأطراف غير عـجـاف
ولأسيافهم فري غير لذ راجع في مـراجـع الأكـتـاف
معشر يطعمون من ذروة الشو ل ويسقون خمرة الأقحاف
يضربون الجبار في أخدعيه ويسقونه نـقـيع الـذعـاف فشاع شعره وبلغ البصرة ولم يزل أمره يتراقى إلى أن وصلته زبيدة بعد وفاة أبيها بزوجها هارون الرشيد فأسنى جوائزه وألحقه بالطبقة العليا من الشعراء.
الفضل بن الربيع يصله بالرشيد
أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن المرزبان قال: حدثني شيبة بن أحمد بن هشام قال: حدثني أحمد بن العباس الربيعي: أن الذي أوصل أشجع لسلمي إلى الرشيد جده الفضل بن الربيع وأنه أوصله له وقال له: هو أشعر شعراء أهل هذا الزمان وقد اقتطعته عنك البرامكة فأمره بإحضاره وإيصاله مع الشعراء ففعل فلما وصل إليه أنشده قوله:
قصر عليه تحية وسلام نـثـرت عـلـيه جـمـالـهـا الأيام
قصر سقوف المزن دون سقوفه فيه لأعلام الـهـدى أعـلام
نشرت عليه الأرض كسوتها التي نسج الربيع وزخرف الإرهام
أنتك من ظل النبي وصية وقرابة وشـجـت بـهـا الأرحـام
برقت سماؤك في العدو وأمطرت هاما لها ظل السيوف غمام
وإذا سيوفك صافحت هام العدا طارت لهن عن الرؤوس الهـام
أثنى على أيامـك الأيام والـشـاهـدان: الـحـل والإحـرام
وعلى عدوك يابن عم محمد رصدان: ضوء الصبح والإظـلام
فإذا تنبه رعته وإذا غفا سـلـت عـلـيه سـيوفـك الأحـلام قال: فاستحسنها الرشيد وأمر له بعشرين ألف درهم فمدح الفضل بن الربيع وشكر له إيصاله إياه إلى الرشيد فقال فيه قصيدته التي أولها:
غلب الرقاد على جفون المسهد وغرقت في سهر وليل سرمد
قد جد بي سهر فلم أرقد له والنوم يلعب في جفـون الـرقـد
ولطالما سهرت لحبي أعين أهدى السهاد لها ولـمـا أسـهـد
أيام أرعى في رياض بطالة ورد الصبا منها الـذي لـم يورد
وخفيفة الأحشاء غير خفيفة مجدولة جدل العـنـان الأجـرد
غضبت على أعطافها أردافها فالحرب بين إزارها والمجسـد
خالفت فيه عاذلا لي ناصحا فرشدت حين عصيت قول المرشد
أأقيم محتملا لضيم حوادث مع همة موصـولة بـالـفـرقـد
وأرى مخايل ليس يخلف نوؤها للفضل إن رعدت وإن لم ترعد
للفضل أموال أطاف بها الندى حتى جهدن وجوده لم يجـهـد
يابن الربيع حسرت شكري بالتي أوليتني في عود أمرك والبدي
صفحة : 2057
أوصلتني ورفدتني وكلاهما شرف فقأت به عيون الحسـد
ووصفتني عند الخليفة غائبا وأذنت لي فشهدت أفخر مشهد
وكفيتني منن الرجال بنائل أغنى يدي عن أن تمد إلـى يد يسأل جعفر بن يحيى ابتياع غلام جميل فيجيبه أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا العنزي قال: حدثني صخر بن أحمد السلمي عن أبيه قال:
كنت أنا وأشجع بالرقة جلوسا فمر بنا غلام أمرد رومي جميل الوجه فكلمه أشجع وسأله ومضطرب الوشاح لمقلتيه علائق ما لوصلتها انقطاع
تعـــرض لـــي بـــنـــظـــرة ذي دلال يريع بـــمـــــــقـــــــلـــــــتـــــــيه ولا يراع
لحـــاظ لـــيس تـــحـــجـــب عـــن قـــلـــوب وأمـــر فـــي الـــذي يهـــوى مـــطــــاع
ووســـعـــي ضـــيق عـــنـــه ومـــالـــي وضـــيق الأمـــر يتـــبـــعـــه اتـــســـــــاع
وتـــعـــويلـــي عـــلـــى مـــال ابـــن يحـــيى إلـــيه حـــســـن شـــوقـــي والـــنـــزاع
وثــقـــت بـــجـــعـــفـــر فـــي كـــل خـــطـــب فـــلا هـــلـــك يخـــاف ولا ضـــياع فأمر له بخمسة آلاف درهم وقال: اشتره بها فإن لم تكفك فازدد.
يذكر جاريته ريم في قصيدة رثى بها الرشيد أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث قال: كانت لأشجع جارية يقال لها: ريم وكان يجد بها وجدا شديدا فكانت تحلف له إن بقيت بعده لم تعرض لغيره وكان يذكرها في شعره فمن ذلك قوله في قصيدته التي يرثي بها الرشيد:
وليس لأحزان النساء تطاول ولكن أحزان الرجال تطـول
فلا تبخلي بالدمع عني فإن من يضن بدمع عن هوى لبخيل
فلا كنت ممن يتبع الريح طرفه دبورا إذا هبت له وقبول قال: وقال فيهما أيضا:
إذا غمضت فوقي جفون حفيرة من الأرض فابكيني بما كنت أصنع
تعزك عني عند ذلك سلوة وأن ليس فيمن وارت الأرض مطمـع
إذا لم تري شخصي وتغنك ثروتي ولم تسمعي مني ولا منك أسمع
فحينئذ تسلين عني وإن يكن بكاء فأقصـى مـا تـبـكـين أربـع
قليل ورب البيت يا ريم ما أرى فتاة بمن ولى به الموت تـقـنـع
بمن تدفعين الحادثات إذا رمى عليك بها عام من الجـدب يطـلـع
فحينئذ تدرين من قد رزيته إذا جعلـت أركـان بـيتـك تـنـزع أحمد أخوه يجيبه بشعر ينسبه إلى جاريته ريم قال: فشكته ريم إلى أخيه أحمد بن عمرو فأجابه عنها بشعر نسبه إليها ومدح فيه الفضل أيضا فاختير شعره على شعر أخيه وهو:
ذكرت فراقا والفراق يصدع وأي حـياة بـعـد مـوتـك تـنـفـع
إذا الزمن الغرار فرق بيننا فما لي في طيب من العـيش مـطـمـع
ولا كان يوم يابن عمرو ولـيلة يبـدد فـيهـا شـمـلـنـا ويصـدع
وألطم وجها كنت فيك أصونه وأخشع مما لم أكـن مـنـه أخـشـع
ولو أنني غيبت في اللحد لم تبل ولم تـزل الـراؤون لـي تـتـوجـع
وهل رجل أبصرته متوجعا على امرأة أو عينـه الـدهـر تـدمـع
ولكن إذا ولت يقول لها: اذهبي فمثلك أخرى سوف أهـوى وأتـبـع
ولو أبصرت عيناك ما بي لأبصرت صبابة قلب غيمها لـيس يقـشـع
إلى الفضل فارحل بالمديح فإنه منيع الحمى معروفـه لـيس يمـنـع
وزره تزر حلما وعلما وسوددا وبأسا بـه أنـف الـحـوادث يجـدع
وأبدع إذا ما قلت في الفضل مدحة كما الفضل في بذل المواهب يبـدع
إذا ما حياض المجد قلت مياهها فحوض أبي العباس بالجـود مـتـرع
وإن سنة ضنت بخصب على الورى ففي جوده مرعى خصيب ومشرع
وما بعدت أرض بها الفضل نازل ولا خاب من في نائل الفضل يطمع
فنعم المنادي الفضل عند ملمة لدفع خطوب مـثـلـهـا لـيس يدفـع
إليك أبا العباس سارت نجائب لها هـمـم تـسـمـو إلـيك وتـنـزع
بذكرك نحدوها إذا ما تأخرت فتمضي على هول المضـي وتـسـرع
إليك أبا العباس أحمل مدحة مطـيتـهـاحـتـى تـوافـيكـأشـجـع
فزعت إلى جدواك فيها وإنما إلى مفـزع الأمـلاك يلـجـأ ويفـزع قال: فأنشدها أشجع الفضل وحدثه بالقصة فوصل أخاه وجاريته ووصله.
وقال أحمد بن الحارث: فقيل لأحمد بن عمرو أخي أشجع: ما لك لا تمدح الملوك كما يمدحهم أخوك فقال: إن أخي بلاء علي وإن كان فخرا لأني لا أمدح أحدا ممن يرضيه دون شعري ويثيب عليه بالكثير من الثواب إلا قال: أين هذا من قول أشجع فقد امتنعت من مدح أحد لذلك.
أحمد أخو أشجع يهجوه قال أحمد بن الحارث: وقال أحمد بن عمرو يهجو أخاه أشجع وقد كان أحمد مدح محمد بن جميل بشعر قال فيه فسأل أخاه أشجع إيصاله ودفع القصيدة إليه فتوانى عن ذلك فقال يهجوه - أخبرني بذلك أحمد بن محمد بن جميل -:
صفحة : 2058
وسائلة لي: ما أشجع فقـلـت: يضـر ولا ينـفـع
قريب من الشر واع له أصم عن الخير ما يسـمـع
بطيء عن الأمر أحظى به إلى كل ما ساءني مسرع
أسب بأني شقيق لـه فـأنـفـي بـه أبـدا أجـدع الفضل بن يحيى يطرب لشعر أشجع ويكافىء منشده أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت على الفضل بن يحيى وقد بلغ الرشيد إطلاقه يحيى بن عبد الله بن حسن وقد كان أمره بقتله فلم يظهر له أنه بلغه إطلاقه فسأله عن خبره: هل قتلته فقال: لا فقال له: فأين هو قال: أطلقته قال: ولم قال: لأنه سألني بحق الله وبحق رسوله وقرابته منه ومنك وحلف لي أنه لا يحدث حدثا وأنه يجيبني متى طلبته.
فأطرق ساعة ثم قال: امض بنفسك في طلبه حتى تجيئني به واخرج الساعة فخرج. قال: فدخلت عليه مهنئا بالسلامة فقلت له: ما رأيت أثبت من جنانك ولا أصح من رأيك فيما جرى. وأنت والله كما قال أشجع:
بديهته وفكرته سواء إذا ما نابه الخطب الـكـبـير
وأحزم ما يكون الدهر رأيا إذا عي المشاور والمشير
وصدر فيه للهم اتساع إذا ضاقت بما تحوي الصدور فقال الفضل: انظروا كم أخذ أشجع على هذه القصيدة فاحملوا إلى أبي محمد مثله. قال: يرثي صديقا له من بغداد أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال: حدثني محمد بن عجلان قال: حدثنا ابن خلاد عن حسين الجعفي قال: كان أشجع إذا قدم بغداد ينزل على صديق له من أهلها فقدمها مرة فوجده قد مات والنوح والبكاء في داره فجزع لذلك وبكى وأنشأ يقول:
ويحها هل درت على من تنوح أسقيم فؤادها أم صحيح
قمر أطبقوا عليه ببغدا د ضريحا ماذا أجن الضـريح
رحم الله صاحبي ونديمي رحمة تغتدي وأخرى تـروح وهذه القصيدة التي فيها الأبيات المذكورة والغناء فيها من قصيدة يمدح بها أشجع الرشيد ويهنئه بفتح هرقلة وقد مدحه بذلك وهنأه جماعة من الشعراء وغني في جميعها فذكرت خبر فتح هرقلة لذكر ذلك.
سبب غزاة الرشيد هرقلة أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان من خبر غزاة الرشيد هرقلة أن الروم كانت قد ملكت امرأة لأنه لم يكن بقي في أهل زمانها من أهل بيتها - بيت المملكة - غيرها وكانت تكتب إلى المهدي والهادي والرشيد أول خلافته بالتعظيم والتبجيل وتدر عليه الهدايا حتى بلغ ابن لها فحاز الملك دونها وعاث وأفسد وفاسد الرشيد فخافت على ملك الروم أن يذهب وعلى بلادهم أن تعطب لعلمها بالرشيد وخوفها من سطوته فاحتالت لابنها فسملت عينيه فبطل منه الملك وعاد إليها فاستنكر ذلك أهل المملكة وأبغضوها من أجله فخرج عليها نقفور وكان كاتبها فأعانوه وعضدوه وقام بأمر الملك وضبط أمر الروم فلما قوي على أمره وتمكن من ملكه كتب إلى الرشيد: كتاب نقفور إلى الرشيد من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك العرب أما بعد فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك ووضعت نفسها موضع السوقة وإني واضعك بغير ذلك الموضع وعامل على تطرق بلادك والهجوم على أمصارك أو تؤدي إلي ما كانت المرأة تؤدي إليك والسلام .
رد الرشيد عليه فلما ورد كتابه على الرشيد كتب إليه: بسم الله الرحمن الرحيم - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك وجوابك عندي ما تراه عيانا لا ما تسمعه . ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم في جمع لم يسمع بمثله وقواد لا يجارون نجدة ورأيا فلما بلغ ذلك نقفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت وشاور في أمره.
أبو العتاهية يذكر هزيمة نقفور ويمدح الرشيد وجد الرشيد يتوغل في بلاد الروم فيقتل ويغنم ويسبي ويخرب الحصون ويعفي الآثار حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينية فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمي به في تلك الطرق وألقيت فيه النار فكان أول من لبس ثياب النفاطين محمد بن يزيد بن مزيد فخاضها ثم اتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا وخضع له أشد الخضوع وأدى إليه الجزية عن رأسه فضلا عن أصحابه فقال في ذلك أبو العتاهية:
إمام الهدى أصبحت بالدين مغنيا وأصبحت تسقي كل مسـتـمـطـر ريا
لك اسمان شقا من رشاد ومن هدى فأنت الذي تدعى رشـيدا ومـهـديا
إذا ما سخطت الشيء كان مسخطا وإن ترض شيئا كان في الناس مرضيا
صفحة : 2059
بسطت لنا شرقا وغربا يد العلا فأوسعت شرقيا وأوسـعـت غـربـيا
ووشيت وجه الأرض بالجود والندى فأصبح وجه الأرض بالجود موشيا
قضى الله أن يبقى لهارون ملكه وكان قضاء الله في الخلق مقـضـيا
تجللت الدنيا لهارون ذي الرضا وأصبح نـقـفـور لـهـارون ذمـيا شاعر من أهل جدة يعلم الرشيد بغدر نقفور فرجع الرشيد - لما أعطاه نقفور ما أعطاه - إلى الرقة فلما سقط الثلج وأمن نقفور أن يغزى اغتر بالمهلة ونقض ما بينه وبين الرشيد ورجع إلى حالته الأولى فلم يجتزىء ييى بن خالد - فضلا عن غيره - على إخبار الرشيد بغدر نقفور فبذل هو وبنوه الأموال للشعراء على أن يقولوا أشعارا في إعلام الرشيد بذلك فكلهم كع وأشفق إلا شاعرا من أهل جدة كان يكنى أبا محمد وكان مجيدا قوي النفس قوي الشعر وكان ذو اليمينين اختصه في أيام المأمون ورفع قدره جدا فإنه أخذ من يحيى وبنيه مائة ألف درهم ودخل على الرشيد فأنشده:
نقض الذي أعطاكه نقفور فعلـيه دائرة الـبـوار تـدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه فتـح أتـاك بـه الإلـه كـبـير
فلقد تباشرت الرعية أن أتى بالنقض عنه وافـد وبـشـير
ورجت بيمنك أن تعجل غزوة تشفي النفوس نكالها مذكـور
أعطاك جزيته وطأطأ خذه حذر الصوارم والردى محـذور
وصرفت في طول العساكر قافلا عنه وجارك آمن مسرور
نقفور إنك حين تغدر أن نأى عنك الإمام لجاهل مـغـرور
أظننت حين غدرت أنك مفلت هبلتك أمك ما ظننت غرور
ألقاك حينك في زواخر بحره فطمت عليك من الإمام بحور
إن الإمام على اقتسارك قادر قربت ديارك أو نأت بك دور
ليس الإمام وإن غفلنا غافلا عما يسوس بـحـزمـه ويدير
ملك تجرد للجهاد بنفسه فـعـدوه أبـدا بـه مـقـهـور
يا من يريد رضا الإله بسعيه والله لا يخفى عليه ضـمـير
لا نصح ينفع من يغش إمامه والنصح من نصحائه مشكور
نصح الإمام على الأنام فريضة ولأهله كفـارة وطـهـور فتح هرقلة قال: فلما أنشده قال الرشيد: أو قد فعل وعلم أن الوزراء احتالوا في إعلامه ذلك فغزاه في بقية من الثلج فافتتح هرقلة في ذلك الوقت فقال أبو العتاهية في فتحه إياها:
ألا نادت هرقلة بالخراب من الملك الموفق للصواب
ورايات يحل النصر فيها تمر كأنها قطع السحـاب
أمير المؤمنين ظفرت فاسلم وأبشر بالغنيمة والإياب
صفحة : 2060
قال محمد: وجعل الرشيد قبل وصوله إلى هرقلة يفتح المدن والحصون ويخربها حتى أناخ على هرقلة وهي أوثق حصن وأعزه جانبا وأمنعه ركنا فتحصن أهلها وكان بابها يطل على واد ولها خندق يطيف بها فحدثني شيخ من مشايخ المطوعة وملازمي الثغور يقال له علي بن عبد الله قال: حدثني جماعة أن الرشيد لما حصر أهل هرقلة وغمهم وألح بالمجانيق والسهام والعرادات فتح الباب فاستشرف المسلمون لذلك فإذا برجل من أهلها كأكمل الرجال قد خرج في أكمل السلاح فنادى: قد طالت مواقعتكم إيانا فليبرز إلي منكم رجلان ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين رجلا فلم يجبه أحد فدخل وأغلق باب الحصن وكان الرشيد نائما فلم يعلم بخبره إلا بعد انصرافه فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه وتأسف لفوته فقيل له: إن امتناع الناس منه سيغويه ويطغيه وأحر به أن يخرج في غد فيطلب مثل ما طلب فطالت على الرشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له ثم إذا هو بالباب قد فتح وخرج طالبا للمبارزة وذلك في يوم شديد الحر وجعل يدعو بأنه يثبت لعشرين منهم فقال الرشيد: من له فابتدره جلة القواد كهرثمة ويزيد بن مزيد وعبد الله بن مالك وخزيمة بن حازم وأخيه عبد الله وداود بن يزيد وأخيه فعزم على إخراج بعضهم فضجت المطوعة حتى سمع ضجيجهم فأذن لعشرين منهم فاستأذنوه في المشورة فأذن لهم فقال قائلهم: يا أمير المؤمنين قوادك مشهورون بالبأس والنجدة وعلو الصوت ومداوسة الحروب ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذلك وإن قتله العلج كانت وضيعة على العسكر عجيبة وثلمة لا تسد ونحن عامة لم يرتفع لأحد منا صوت إلا كما يصلح للعامة فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلا فنخرجه إليه فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين قد ظفر بأعزهم على يد رجل من العامة ومن أفناء الناس ليس ممن يوهن قتله ولا يؤثر وإن قتل الرجل فإنما استشهد رجل ولم يؤثر ذهابه في العسكر ولم يثلمه وخرج إليه رجل بعده مثله حتى يقضي الله ما شاء قال الرشيد: قد استصوبت رأيكم هذا. فاختاروا رجلا منهم يعرف بابن الجزري وكان معروفا في الثغر بالبأس والنجدة فقال الرشيد: أتخرج قال: نعم وأستعين الله فقال: أعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا فقال: يا أمير المؤمنين أنا بفرسي أوثق ورمحي بيدي أشد ولكني قد قبلت السيف والترس فلبس سلاحه واستدناه الرشيد فودعه واستتبعه الدعاء وخرج معه عشرون رجلا من المطوعة فلما انقض في الوادي قال لهم العلج وهو يعدهم واحدا واحدا: إنما كان الشرط عشرين وقد زدتم رجلا ولكن لابأس فنادوه: ليس يخرج إليك منا إلا رجل واحد فلما فصل منهم ابن الجزري تأمله الرومي وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن حتى ظنوا أنه لم يبق في الحصن أحد إلا أشرف فقال الرومي: أتصدقني عما أستخبرك قال: نعم فقال: أنت بالله ابن الجزري قال: اللهم نعم فكفر له ثم أخذ في شأنهما فاطعنا حتى طال الأمر بينهما وكاد الفرسان أن يقوما وليس يخدش واحد منهما صاحبه ثم تحاجزا بشيء فزج كل واحد منهما برمحه وأصلت سيفه فتجالدا مليا واشتد الحر عليهما وتبلد الفرسان وجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يرى أنه قد بلغ فيها فيتقيها الرومي وكان ترسه حديدا فيسمع لذلك صوت منكر ويضربه الرومي ضرب معذر لأن ترس ابن الجزري كان درقة فكان العلج يخاف أن يعض بالسيف فيعطب فلما يئس من وصول كل واحد منهما إلى صاحبه انهزم ابن الجزري فدخلت المسلمين كآبة لم يكتئبوا مثلها قط وعطعط المشركون اختيالا وتطاولا وإنما كانت هزيمته حيلة منه فأتبعه العلج وتمكن منه ابن الجزري فرماه بوهق فوقع في عنقه وما أخطأه وركض فاستل عن فرسه ثم عطف عليه فما وصل إلى الأرض حيا حتى فارقه رأسه فكبر المسلمون أعلى تكبير وانخذل المشركون وبادروا الباب يغلقونه واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد: اجعلوا النار في المجانيق وارموها فليس عند القوم دفع ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة وأضرموا فيها النار ورموا بها السور فكانت النار تلصق به وتأخذ الحجارة وقد تصدع فتهافتت فلما أحاطت بها النيران فتحوا الباب مستأمنين ومستقبلين فقال الشاعر المكي الذي كان ينزل جدة: صوت
هوت هرقلة لما أن رأت عجبا حوائما ترتمي بالنفط والنار
صفحة : 2061
كأن نيراننا في جنب قلعتهم مصبغات على أرسان قصار في هذين البيتين لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر.
قال محمد بن يزيد: وهذا كلام ضعيف لين ولكن قدرة عظيم في ذلك الموضع والوقت وغنى فيه المغنون بعد ذلك. وأعظم الرشيد الجائزة للجدي والشاعر وصبت الأموال على ابن الجزري وقود فلم يقبل التقويد إلا بغير رزق ولا عوض وسأل أن يعفى وينزل بمكانه من الثغر فلم يزل به طول عمره.
ابن جامع يغني الرشيد بهرقلة أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا أحمد بن علي بن أبي نعيم المروزي قال: خرج الرشيد غازيا بلاد الروم فنزل بهرقلة فدخل عليه ابن جامع فغناه: فنظر الرشيد إلى ماشية قد جيء بها فظن أن الطاغية قد أتاه فخرج يركض على فرس له وفي يده الرمح وتبعه الناس فلما تبين له أنها ماشية رجعوا فغناه ابن جامع: صوت
رأى في السما رهجا فيمم نحوه يجر ردينيا وللرهج يستقري
تناولت أطراف البلاد بقدرة كأنك فيها تقتفي أثر الخـضـر الغناء لابن جامع ثاني ثقيل عن بذل وابن المكي.
أشجع يهنىء الرشيد بفتح هرقلة أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال: حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق الموصلي قال: لما انصرف الرشيد من غزاة هرقلة قدم الرقة في آخر شهر رمضان فلما عيد جلس للشعراء فدخلوا عليه وفيهم أشجع فبدرهم وأنشأ يقول:
لازلت تنشر أعيادا وتطويها تمضي بها لك أيام وتـثـنـيهـا
مستقبلا زينة الدنيا وبهجتها أيامنا لك لا تفنـى وتـفـنـيهـا
ولا تقضت بك الدنيا ولا برحت يطوي لك الدهر أياما وتطويها
أمست هرقلة تهوي من جوانبها وناصر الله والإسلام يرميهـا
ملكتها وقتلت الناكثين بها بنصر من يملك الدنيا ومـا فـيهـا
ما روعي الدين والدنيا على قدم بمثل هارون راعيه وراعيها قال: فأمر له بألف دينار وقال: لا ينشدني أحد بعده فقال أشجع: والله لآمره بألا ينشده أحد بعدي أحب إلي من صلته.
حدثني أحمد بن وصيف ومحمد بن يحيى الصولي قالا: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني عبد الله بن عمرو الوراق قال: حدثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد عن أبيه قال: دخل أشجع على الرشيد ثاني يوم الفطر فأنشده: صوت
استقبل العيد بعمر جديد مدت لك الأيام حبل الخـلـود
مصعدا في درجات العلا نجمك مقرون بسعد السعود
واطو رداء الشمس ما أطلعت نورا جديدا كل يوم جديد
تمضي لك الأيام ذا غبطة إذا أتى عيد طوى عمر عيد يصف فتح طبرستان ويمدح الرشيد أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني أبو عبد الله النخعي قال: دخل أشجع على الرشيد فأنشده قوله:
أبت طبرستان غير الذي صدعت به بين أعضائها
ضممت مناكبها ضمة رمتك بما بين أحشـائهـا
سموت إليها بمثل السماء تدلى الصواعق في مائها
فلما نظرت إلى جرحها وضعت الدواء على دائها
فرشت الجهاد ظهور الجياد بأبنائه وبـأبـنـائهـا
بنفسك ترميهم والخيول كرمي العقاب بأفـلائهـا
نظرت برأيك لما همم ت دون الرجال وآرائهـا قال: فأمر له بألف دينار.
يمدح الرشيد بعد قدومه من الحج وقد مطر الناس أخبرني محمد بن جعفر قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثني أبو عمرو الباهلي البصري دخل أشجع بن عمرو السلمي على هارون الرشيد حين قدم من الحج وقد مطر الناس يوم قدومه فأنشده يقول:
إن يمن الإمام لما أتانا جلب الغيث من متون الغـمـام
فابتسام النبات في أثر الغي ث بنواره كسرج الظـلام
ملك من مخافة الله مغض وهو مغضى له من الإعظام
ألف الحج والجهاد فما ين فك من سفرتين في كل عام
سفر للجهاد نحو عدو والمطـايا لـسـفـرة الإحـرام
طلب الله فهو يسعى إليه بالمطايا وبالجياد السـوامـي
فيداه يد بمكة تدعو ه وأخـرى فـي دعـوة الإسـلام يذكر حفر نهر ويمدح الرشيد أخبرني محمد بن جعفر قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد قال: أخبرني أبو عبد الله النخعي قال: أمر الرشيد بحفر نهر لبعض أهل السواد وقد كان خرب وبطل ما عليه فقال أشجع السلمي يمدحه:
أجرى الإمام الرشيد نهرا عاش بعمرانه الموات
ألقمه درة لقوحا يرضع أخلافهـا الـنـبـات حلم الرشيد حلما مزعجا ومات بعده فرثاه أشجع
صفحة : 2062
أخبرني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: رأى الرشيد فيما يرى النائم كأن امرأة وقفت عليه وأخذت كف تراب ثم قالت له: هذه تربتك عن قليل فأصبح فزعا وقص رؤياه فقال له أصحابه: وما هذا قد يرى الناس أكثر مما رأيت وأغلظ ثم لا يضر. فركب وقال: والله إني لأرى الأمر قد قرب فبينا هو يسير إذ نظر إلى امرأة واقفة من وراء شباك حديد تنظر إليه فقال: هذه والله المرأة التي رأيتها ولو رأيتها بين ألف امرأة ما خفيت علي ثم أمرها أن تأخذ كف تراب فتدفعه إليه فضربت بيدها إلى الأرض التي كانت عليها فأعطته منها كف تراب فبكى ثم قال: هذه والله التربة التي أريتها وهذه المرأة بعينها. ثم مات بعد مدة فدفن في ذلك الموضع بعينه اشتري له ودفن فيه وأتى نعيه بغداد فقال أشجع يرثيه:
غربت بالمشرق الشم س فقل للعين تدمع
ما رأينا قط شمسا غربت من حيق تطلع يتغزل في جارية حرب الثقفي ويذمه أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال: كان حرب بن عمرو الثقفي نخاسا وكانت له جارية مغنية وكان الشعراء والكتاب وأهل الأدب ببغداد يختلفون إليها يسمعونها وينفقون في منزله النفقات الواسعة ويبرونه ويهدون إليه فقال أشجع:
جارية تهتز أردافها مشبعة الخـلـخـال والـقـلـب
أشكو الذي لاقيت من حبها وبغض مولاها إلى الـرب
من بغض مولاها ومن حبها سقمت بين البغض والحب
فاختلجا في الصدر حتى استوى أمرهما فاقتسما قلبـي
تعجل الله شفائي بها وعجل الـسـقـم إلـى حـرب قال مؤلف هذا الكتاب: فأخذ هذا المعنى بعض المحدثين من أهل عصرنا فقال في مغنية تعرف بالشاة:
بحب الشاة ذبت ضنى وطال لزوجها مقتي
فلو أني ملكتهما لأسعد في الهوى بختـي يهنىء يحيى بن خالد بسلامته من المرض أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني صالح بن سليمان قال: اعتل يحيى بن خالد ثم عوفي فدخل الناس يهنئونه بالسلامة ودخل أشجع فأنشده:
لقد قرعت شكاة ابن علي قلوب معاشر كانوا صحاحـا
فإن يدفع لنا الرحمن عنه صروف الدهر والأجل المتاحا
فقد أمسى صلاح أبي علي لأهل الدين والدنيا صلاحـا
إذا ما الموت أخطأه فلسنا نبالي الموت حيث غدا وراحا قال: فما أذن يومئذ لأحد سواه في الإنشاء لاختصاص البرامكة إياه.
يعود علي بن شبرمة في مرضه أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا محمد بن عمران الضبي قال: سمعت محمد بن أبي مالك الغنوي يقول: دخل أشجع السلمي على علي بن شبرمة يعوده فأنشأ يقول:
إذا مرض القاضي مرضنا بأسرنا وإن صح لم يسمع لنا بمريض
فأصبحت لما اعتل يوماكطائرسما بجناح للنهـوض مـهـيض منعه حاجب أبان بن الوليد من الدخول عليه فهجاه أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن عمران قال: سمعت محمد بن أبي مالك يقول: جاء أشجع ليدخل على أبان بن الوليد البجلي فمنعه حاجبه وانتهره غلمانه فقال فيه:
ألا أيها المشلي علي كلابهولـيغـير أن لـم اشـلـهـنـكـلاب
رويدك لا تعجل علي فقد جرى بخزيك ظبي أعضب وغـراب
علام تسد الباب والسر قد فشا وقد كنت محجوبا ومالـك بـاب
فلو كنت ممن يشرب الخمر سادرا إذا لم يكن دوني عليك حجاب
ولكنه يمضي لي الحول كاملا وما لي إلا الأبـيضـين شـراب
من الماء أو من شخب دهماء ثرة لها حالب لا يشتكي وحـلاب مر بقبري الوليد بن عقبة وأبي زبيد الطائي فقال شعرا أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: حدثنا علي بن الجهم قال: حدثني ابن أشجع السلمي قال: لما مر أبي وعماي أحمد ويزيد - وقد شربوا حتى انتشوا - بقبر الوليد بن عقبة وإلى جانبه قبر أبي زبيد الطائي - وكان نصرانيا - والقبران مختلفان كل واحد منهما متوجه إلى قبله ملته وكان أبو زبيد أوصى لما احتضر أن يدفن إلى جنب الوليد بالبليخ قال: فوقفوا على القبرين وجعلوا يتحدثون بأخبارهما ويتذاكرون أحاديثهما فأنشأ أبي يقول:
مررت على عظام أبي زبيد وقد لاحت ببلقعة صلود
وكان له الوليد نديم صدق فنادم قبره قبـر الـولـيد
أنيسا ألفة ذهبت فأمست عظامهما تآنس بالصـعـيد
صفحة : 2063
وما أدري بمن تبدا المنايا بأحمد أو بأشجع أو يزيد قال: فماتوا والله كما رتبهم في الشعر أولهم أحمد ثم أشجع ثم يزيد.
صوت
حي ذا الزور وانهه أن يعودا إن بالباب حارسين قعـودا
من أساوير ما ينون قياما وخلاخيل تذهـل الـمـولـودا
لا ذعرت السوام في فلق الص بح مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما والمنايا يرصدنني أن أحيدا الشعر ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري والغناء لسياط خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر أحمد بن المكي أنه لأبيه يحيى وذكر الهشامي أنه لفليح. قال: ومن هذا الصوت سرق لحن: تلك عرسي تلومني في التصابي
أخبار ابن مفرغ ونسبه
نسبه وسبب تلقيب جده مفرغا
هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ولقب جده مفرغا لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله فشربه كله حتى فرغه فلقب مفرغا ويكنى أبا عثمان وهو من حمير فيما يزعم أهله وذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة أن مفرغا كان شعابا بتبالة فادعى أنه من حمير. وقال علي بن محمد النوفلي: ليس أحد بالبصرة من حمير إلا آل الحجاج بن ناب الحميري وبيتا آخر ذكره ودفع بيت ابن مفرغ.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: أخبرني أحمد بن الهيثم القرشي قال: أخبرني العمري عن لقيط بن بكر المحاربي قال: هو يزيد بن ربيعة ابن مفرغ الحميري حليف قريش ثم حليف آل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس. قال العمري: وكان ابن المكي يقول: كان مفرغ عبدا للضحاك بن عبد عوف الهلالي فأنعم عليه.
قال محمد بن خلف: أخبرني محمد بن عبد الرحمن الأسدي عن محمد بن رزين قال: قال كان ربيعة ابن مفرغ شعابا بالمدينة وكان ينسب إلى حمير وإنما سمي مفرغا لتفريغه العس وكان شاعرا غزلا محسنا والسيد من ولده.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو العيناء قال: سئل الأصمعي عن شعر تبع وقصته ومن وضعهام فقال: ابن مفرغ وذلك أن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عباد بن زياد أنزله الجزيرة وكان مقيما برأس عين وزعم أنه من حمير ووضع سيرة تبع وأشعاره وكان النمر بن قاسط يدعي أنه منهم.
وقال الهيثم بن عدي: هو يزيد بن زياد بن ربيعة ابن مفرغ اليحصبي من حمير يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.
أخبرني بخبره جماعة من مشايخنا منهم أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة ومحمد بن خلف بن المرزبان عن جماعة من أصحابه وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه فما اتفقت رواياتهم من خبره جمعتها في ذكره وما اختلفت أفردت كل منفرد منهم بروايته.
ووصيته سعيد بن عثمان
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن مسلمة بن محارب وأخبرني الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال: قرأت على محمد بن الحسن بن دريد عن ابن الأعرابي وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثنا العمري عن لقيظ بن بكير قالوا جميعا: لما ولي سعيد بن عثمان بن عفان خراسان استصحب يزيد بن ربيعة بن مفرغ واجتهد به أن يصحبه فأبى عليه وصحب عباد بن زياد فقال له سعيد بن عثمان: أما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت عبادا فاحفظ ما أوصيك به إن عبادا رجل لئيم فإياك والدالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه فإنها خدعة منه لك عن نفسك وأقلل زيارته فإنه طرف ملول ولا تفاخره وإن فاخرك فإنه لا يحتمل لك ما كنت أحتمله. ثم دعا سعيد بمال فدفعه إلى ابن مفرغ وقال: استعن به على سفرك فإن صلح لك مكانك من عباد وإلا فمكانك عندي ممهد فائتني ثم سار سعيد إلى خراسان وتخلف ابن مفرغ عنه وخرج معه عباد.
قال ابن دريد في خبره عن مسلمة بن محارب: فلما بلغ عبيد الله بن زياد صحبة ابن مفرغ أخاه عبادا شق عليه فلما سار أخوه عباد شيعه وشيع الناس معه وجعلوا يودعونه ويودع الخارجون مع عباد عبيد الله بن زياد فلما أراد عبيد الله أن يودع أخاه دعا ابن مفرغ فقال له:
صفحة : 2064
إنك سألت عبادا أن تصحبه وأجابك إلى ذلك وقد شق علي فقال له ابن مفرغ: ولم أصلحك الله قال: لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض لأنه يظن فيجعل الظن يقينا ولا يعذر في موضع العذر وإن عبادا يقدم على أرض حرب فيشتغل بحروبه وخراجه عنك فلا تعذره أنت وتكسبنا شرا وعارا فقال له: لست كما ظن الأمير وإن لمعروفه عندي لشكرا كثيرا وإن عندي - إن أغفل أمري - عذرا ممهدا قال: لا ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبه إلا تعجل عليه حتى تكتب إلي قال: نعم قال: امض إذا على الطائر الميمون: قال: فقدم عباد خراسان واشتغل بحربه وخراجه فاستبطأه ابن مفرغ ولم يكتب إلى عبيد الله بن زياد يشكوه كما ضمن له ولكنه بسط لسانه فذمه وهجاه.
يهجو عبادا ببيت من الشعر
وكان عباد عظيم اللحية كأنها جوالق فسار يزيد بن مفرغ يوما مع عباد فدخلت الريح فنفشتها فضحك ابن مفرغ وقال لرجل من لخم كان إلى جنبه قوله:
ألا ليت اللحى كانت حشيشا فنعلفها خيول المسلمينا فسعى به اللخمي إلى عباد فغضب من ذلك غضبا شديدا وقال: لا يجمل بي عقوبته في هذه الساعة مع الصحبة لي وما أؤخرها إلا لأشفي نفسي منه لأنه كان يقوم فيشتم أبي في عدة مواطن وبلغ الخبر ابن مفرغ فقال: إني لأجد ريح الموت من عباد.
يطلب من عباد الإذن في الرجوع ثم دخل عليه فقال له: أيها الأمير إني كنت مع سعيد بن عثمان وقد بلغك رأيه في ورأيت جميل أثره علي وإني اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل وأريد أن تأذن لي في الرجوع فلا حاجة لي في صحبتك فقال له: أما اختيارك إياي فإني اخترتك كما اخترتني واستصحبتك حين سألتني وقد أعجلتني عن بلوغ محبتي فيك وقد طلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني فيهم وأنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقك فأقام. وبلغ عبادا أنه يسبه ويذكره وينال من عرضه وأجرى عباد الخيل فجاء سابقا فقال ابن مفرغ: سبق عباد وصلت لحيته وطلب عليه العلل ودس إلى قوم كان لهم عليه دين فأمرهم أن يقدموه إليه ففعلوا فحبسه وأضر به فبعث إليه أن بعني الأراكة وبردا وكانت الأراكة قينة لابن مفرغ. وبرد غلامه رباهما وكان شديد الضن بهما فبعث إليه ابن مفرغ مع الرسول: أيبيع المرء نفسه أو ولده فأضر به عباد حتى أخذهما منه. هذه رواية مسلمة.
وأما لقيط وعمر بن شبة فإنهما ذكرا أنه باعهما عليه فاشتراهما رجل من أهل خراسان. قال لقيط: فلما دخلا منزله قال له برد وكان داهية أريبا: أتدري ما اشتريت قال: نعم اشتريتك وهذه الجارية. قال: لا والله ما اشتريت إلا العار والدمار والفضيحة أبدا ما حييت فجزع الرجل وقال له: كيف ذلك ويلك قال: نحن ليزيد بن ربيعة بن مفرغ والله ما أصاره إلى هذه الحال إلا لسانه وشره أفتراه يهجو ابن زياد - وهو أمير خراسان وأخوه أمير العراقين وعمه الخليفة - في أن استبطأه ويمسك عنك وقد ابتعتني وابتعت هذه الجارية وهي نفسه التي بين جنبيه والله ما أرى أحدا أدخل بيته أشأم على نفسه وأهله مما أدخلته منزلك فقال: فاشهد أنك وإياها له فإن شئتما أن تمضيا إليه فامضيا على أني أخاف على نفسي إن بلغ ذلك ابن زياد وإن شئتما أن تكونا له عندي فافعلا قال: فاكتب إليه بذلك. فكتب الرجل إلى ابن مفرغ في الحبس بما فعله فكتب إليه يشكر فعله وسأله أن يكونا عنده حتى يفرج الله عنه.
قال: وقال عباد لحاجبه: ما أرى هذا - يعني ابن مفرغ - يبالي بالمقام في الحبس فبع فرسه وسلاحه وأثاثه واقسم ثمنها بين غرمائه ففعل ذلك وقسم الثمن بينهم وبقيت عليه بقية حبسه بها. فقال ابن مفرغ يذكر غلامه بردا وجاريته الأراكة وبيعهما:
شريت بردا ولو ملكت صفقته لما تطلبت في بـيع لـه رشـدا
لولا الدعي ولولا ما تعرض لي من الحوادث ما فارقتـه أبـدا
يا برد ما مسنا برد أضر بنا من قبل هذا ولا بعـنـا لـه ولـدا
ا الأراك فكانت من محارمنا عيشا لذيذا وكانـت جـنة رغـدا
كانت لنا جنة كنا نعيش بها نغنى بها إن خشينا الأزل والنـكـدا
يا ليتني قبل ما ناب الزمان به أهلي لقيت على عدوانه الأسـدا
قد خاننا زمن لم نخش عثرته من يأمن اليوم أم من ذا يعيش غدا
لامتني النفس في برد فقلت له لا تهلكي إثر برد هكذا كـمـدا
كم من نعيم أصبنا من لذاذته قلنا له إذ تـولـى لـيتـه خـلـدا
صفحة : 2065
خروجه من السجن وهروبه إلى البصرة قالوا: وعلم ابن مفرغ أنه إن أقام على ذم عباد وهجائه وهو في محبسه زاد نفسه شرا فكان يقول للناس إذا سألوه عن حسبه ما سببه: رجل أدبه أميره ليقوم من أوده أو يكف من غربه وهذا لعمري خير من جر الأمير ذيله على مداهنة لصاحبه فلما بلغ عبادا قوله رق له وأخرجه من السجن فهرب حتى أتى البصرة ثم خرج منها إلى الشام وجعل يتنقل في مدنها هاربا ويهجو زيادا وولده.
وقال المدائني في خبره: لما بلغ عباد بن زياد أن ابن مفرغ قال: سبق عباد وصلت لحيته هجاء فيه ينشده ابنه في مجلس عباد
دعا ابنه والمجلس حافل فقال له: أنشدني هجاء أبيك الذي هجي به فقال: أيها الأمير ما كلف أحد قط ما كلفتني فأمر غلاما له أعجميا وقال له: قم على رأسه فإن أنشد ما أمرته به وإلا فصب السوط على رأسه أبدا أو ينشده فأنشده أبياتا هجي بها أبوه أولها:
قبــح الإلـــه ولا يقـــبـــح غـــيره وجـــه الـــحـــمـــار ربـــيعة بـــن مـــفـــرغ
وجعل عباد يتضاحك به فخرج ابن ابن مفرغ من عنده وهو يقول: والله لا يذهب شتم أصرمت حبلك من أمامه من بعد أيام برامه
فالـريح تـبـكـي شـــجـــوهـــا والـــبـــرق يضـــحـــك فـــي الـــغـــمـــامـــه
لهـــفـــي عـــلـــى الأمـــر الـــذي كـــانـــت عـــواقـــبـــه نــــدامـــــــه
تركـــي ســـعـــيدا ذا الـــنـــدى والـــبـــيت تـــرفـــعـــه الـــدعـــامـــــــه
فتـحــت ســـمـــرقـــنـــد لـــه وبـــنـــى بـــعـــرصـــتـــهـــا خـــيامـــه
وتـــبـــعـــت عـــبـــد بـــنـــي عـــلا ج تـــلـــك أشـــراط الـــقـــيامــــه
جاءت بـــه حـــبـــشـــية ســـكـــاء تـــحـــســـبـــهـــا نـــعــــامـــــــه
وشـــريت بـــردا لـــيتـــنـــي مـــن بـــعـــد بـــرد كـــنـــت هــــامـــــــه
أو بـــومة تـــدعـــو صـــدى بـــين الـــمـــشـــقـــر والـــيمـــــــامـــــــه
فالـــهـــول يركـــبـــه الـــفـــتـــى حـــذر الـــمـــخـــازي والـــســـآمــــه
والـعـبـــد يقـــرع بـــالـــعـــصـــا والـــحـــر تـــكـــفـــيه الـــمـــلامـــه قال: ثم لج في هجاء بني زياد حتى تغنى أهل البصرة في أشعاره فطلبه عبيد الله طلبا شديدا حتى كاد يؤخذ فلحق بالشام.
واختلفت الرواة فيمن رده إلى ابن زياد فقال بعضهم: معاوية وقال بعضهم: يزيد والصحيح أنه يزيد لأن عباد بن زياد إنما ولي سجستان في أيام يزيد. وقال بعضهم: بل الذي ولاه معاوية وهو الذي ولى سعيد بن عثمان خراسان.
معاتبة معاوية لجعله البيعة ليزيد
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي وعبيد الله بن محمد الرازي قالا: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: دخل سعيد بن عثمان على معاوية بن أبي سفيان فقال: علام جعلت يزيد ولي عهدك دوني فوالله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه وأنا خير منه وقد وليناك فما عزلناك وبنا نلت ما نلت فقال له معاوية: أما قولك: إن أباك خير من أبيه فقد صدقت لعمر الله إن عثمان لخير مني وأما قولك: إن أمك خير من أمه فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها وأن يرضاها بعلها وأن ينجب ولدها. وأما قولك: إنك خير من يزيد فوالله يا بني ما يسرني أن لي بيزيد ملء الغوطة مثلك. وأما قولك: إنكم وليتموني فما عزلتموني فما وليتموني وإنما ولأني من هو خير منكم عمر فأقررتموني وما كنت بئس الوالي لكم لقد قمت بثأركم وقتلت قتلة أبيكم وجعلت الأمر فيكم وأغنيت فقيركم ورفعت الوضيع منكم فكلمه يزيد في أمره فولاه رجع الحديث إلى سياقه أخبار ابن مفرغ
ينتقل في قرى الشام هاجيا بني زياد قالوا: فلم يزل ينتقل في قرى الشام ونواحيها ويهجو بني زياد وأشعاره فيهم ترد البصرة وتنتشر وتبلغهم فكتب عبيد الله بن زياد إلى معاوية وقال الآخرون: إنه كتب إلى يزيد وهو الصحيح يقول له: إن ابن مفرغ هجا زيادا وبنى زياد بما هتكه في قبره وفضح بنيه طول الدهر وتعدى ذلك إلى أبي سفيان فقذفه بالزنا وسب ولده فهرب من خراسان إلى البصرة وطلبته حتى لفظته الأرض فلجأ إلى الشام يتمضغ لحومنا بها ويهتك أعراضنا وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه. ثم بعث بجميع ما قاله ابن مفرغ فيهم.
فأمر يزيد بطلبه فجعل ينتقل من بلد إلى بلد فإذا شاع خبره انتقل حتى لفظته الشام فأتى البصرة ونزل على الأحنف بن قيس فالتجأ به واستجار فقال له الأحنف: إني لا أجير على ابن سمية فأعزل وإنما يجير الرجل على عشيرته فأما على سلطانه فلا فإن شئت أجرتك من بني سعد وشعرائهم فلا يريبك أحد منهم فقال له ابن مفرغ: بأستاه بني سعد وما عساهم أن يقولوا في هذا ما لا حاجة لي فيه.
صفحة : 2066
ثم أتى خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فاستجار به فأبى أن يجيره فأتى عمر بن عبيد الله بن معمر فوعده وأتى طلحة فوعده وأتى المنذر بن الجارود العبدي فأجاره وكانت بحرية بنت المنذر تحت عبيد الله.
المنذر بن الجارود العبدي يجيره وكان المنذر من أكرم الناس عليه فاغتر بذلك وأدل بموضعه منه وطلبه عبيد الله وقد بلغه وروده البصرة فقيل له: أجاره المنذر بن الجارود فبعث عبيد الله إلى المنذر فأتاه فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشرط فكبسوا داره وأتوه بابن مفرغ فلم يشعر المنذر إلا بابن مفرغ قد أقيم على رأسه فقام المنذر إلى عبيد الله فكلمه فيه فقال: أذكرك الله - أيها الأمير - أن تخفر جواري فإني قد أجرته فقال عبيد الله: يا منذر ليمدحن أباك وليمدحنك ولقد هجاني وهجا أبي ثم تجيره علي لا ها الله لا يكون ذلك أبدا ولا أغفرها له فغضب المنذر فقال له: لعلك تدل بكريمتك عندي إن شئت والله لأبيننها بتطليق البتة فخرج المنذر من عنده وأقبل عبيد الله على ابن مفرغ فقال له: بئسما صحبت به عبادا. قال: بئسما صحبني به عباد اخترته على سعيد وأنفقت على صحبته كل ما أفدته وكل ما أملكه وظننت أنه لا يخلو من عقل زياد وحلم معاوية وسماحة قريش فعدل عن ظني كله. ثم عاملين بكل قبيح وتناولني بكل مكروه من حبس وغرم وشتم وضرب فكنت كمن شام برقا خلبا في سحاب جهام فأراق ماءه طمعا فيه فمات عطشا وما هربت من أخيك إلا لما خفت من أن يجري في إلى ما يندم عليه وقد صرت الآن في يدك فشأنك فاصنع بي ما أحببت فأمر بحبسه.
عبيد الله يستأذن يزيد بن معاوية في قتله وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتله فكتب إليه: إياك وقتله ولكن عاقبه بما ينكله ويشد سلطانك ولا تبلغ نفسه فإن له عشيرة هي جندي وبطانتي ولا ترضى بقتله مني ولا تقنع إلا بالقود منك فاحذر ذلك واعلم أنه الجد منهم ومني وأنك مرتهن بنفسه ولك في دون تلفها مندوحة تشفي من الغيظ. فورد الكتاب على عبيد الله بن زياد فأمر بابن مفرغ فسقي نبيذا حلوا قد خلط معه الشبرم فأسهل بطنه وطيف به وهو في تلك الحال وقرن بهرة وخنزرة فجعل يسلح والصبيان يتبعونه ويقولون له بالفارسية: أين جلست فيقول: آبست نبيذ است - عصارات زبيست - سمية روسبيد است: وجعل كلما جر الخنزيرة ضجت فجعل يقول:
ضجت سمية لمالزها قرني لا تجزعي إن شر الشيمة الجزع فجعل يطاف به في أسواق البصرة والصبيان خلفه يصيحون به وألح عليه ما يخرج منه حتى أضعفه فسقط فعرف ابن زياد ذلك فقيل: إنه لما به لا نأمن أن يموت فأمر به أن يغسل ففعلوا ذلك به فلما اغتسل قال:
يغسل الماء ما فعلت وقولي راسخ منك في العظام البوالي عبد الله يرده إلى الحبس فرده عبيد الله إلى الحبس وأمر أن يسلم محجما وقدموا له علوجا وأمر بأن يحجمهم فكان يأخذ المشارط فيقطع بها رقابهم فيتوارون منه فتركه ورده إلى محبسه وقامت الشرط على رأسه تصب عليه السياط ويقولون له: احجمهم فقال:
وما كنت حجاما ولكني أحلني بمنزلة الحجام نأيي عن الأهل عباد بن زياد يجمع ما هجاه به ويرسله إلى معاوية وقال عمر بن شبة في خبره: جمع عباد بن زياد كل شيء هجاه بن ابن مفرغ وكتب به إلى أخيه عبيد الله وهو يومئذ وافد على معاوية فكان فيما كتب إليه قوله:
إذا أودى معاوية بن حرب فبشر شعب قعبك بانصداع
فأشهد أن أمك لم تباشر أبا سفيان واضعة الـقـنـاع وقوله:
ألا ابلغ معاوية بن حرب مغلغلة من الرجل اليمـانـي
أتغضب أن يقال أبوك عف وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولـد الأتـان
وأشهد أنها ولدت زيادا وصخر من سمية غـير دانـي فدخل عبيد الله بن زياد على معاوية فأنشده هذه الأشعار واستأذنه في قتله فلم يأذن له وقال: أدبه أدبا وجيعا منكلا ولا تتجاوز ذلك إلى القتل وذكر باقي الحديث كما ذكره من تقدم.
قالوا جميعا: وقال ابن مفرغ يذكر جوار المنذر بن الجارود إياه وأمانه:
تركت قريشا أن أجاور فيهم وجاورت عبد القيس أهل المشقر
أناس أجارونا فكان جوارهم أعاصير من قسو العراق المبذر
فأصبح جاري من خزيمة قائما ولا يمنع الجيران غير المشمر يذكر ما فعله ابن زياد ويستشير قومه وقال أيضا في ذلك:
صفحة : 2067
ولم تكلم قريش في حليفهم إذ غاب ناصره بالشام واحـتـضـروا
والله يعلم ما تخفي النفوس وما سرى أمية أو ما قال لي عـمـر
وقال لي خالد قولا قنعت به لو كنت أعلم أنى يطلـع الـقـمـر
لو أنني شهدتني حمير غضبت دوني فكان لهم فيمـا رأوا عـبـر
أو كنت جار بني هند تداركني عوف بن نعمان أو عمران أو مطر وقال أيضا يذكر ذلك وما فعل به ابن زياد:
دار سلمى بالخبث ذي الأطلال كيف نوم الأسير في الأغـلال
أين مني السلام من بعد نأي فارجعي لي تحيتـي وسـؤالـي
أين مني نجائبي وجيادي وغزالي سـقـى الإلـه غـزالـي
أين لا أين جنتي وسلاحي ومطايا سيرتـهـا لارتـحـالـي
هدم الدهر عرشنا فتداعى قبلـينـا إذ كـل عـيش بـالـي
إذ دعانا زوالـه فـأجـبـنـا كـل دنـيا ونـعـمة لـزوال
أم قضينا حاجاتنا فإلى المو ت مصير الـمـلـوك والأقـيال
لا وصومي لربنا وزكاتي وصلاتي أدعو بها وابـتـهـالـي
أيها المالك المرهب بالقت ل بلغت النكـال كـل الـنـكـال
فاخش نارا تشوي الوجوه يوما يقذف الناس بالدواهي الثقـال
قد تعديت في القصاص وأدرك ت ذحولا لمعـشـر أقـتـال
وكسرت السن الصحيحة مني لا تذلن فـمـنـكـر إذلالـي
وقرنتم مع الخنازير هرا ويميني مـغـلـولة وشـمـالـي
وكلابا ينهشنني من ورائي عجب الناس ما لهـن ومـالـي
وأطلتم مع العقوبة سجنا فكم السجن أو مـتـى إرسـالـي
يغسل الماء ما صنعت وقولي راسخ منك في العظام البوالـي
لو قبلت الفداء أو رمت مالي قلت: خذه فداء نفسي مـالـي
لو بغيري من معشري لعب الده ر لما ذم نصرتي واحتيالـي
كم بكاني من صاحب وخليل حافظ الغيب حامد للـخـصـال
ليت أني كنت الحليف للخـم وجـذام أو طـيىء الأجـمـال
بدلا من عصابة من قريش أسلموني للخصم عند الـنـضـال
البهاليل من بني عبد شمس فضلوا الناس بالعلا والـفـعـال
منعوا البيت بيت مكة ذا الحج ر إذ الطير عكف في الظـلال
والبهاليل خالد وسعيد شمـس دجـن ووضـح كـالـهـلال
في الأرومات والذرى من بني العي ص قروم إذا تعد المعالي
كنت منهم ما حرموا فحرام لم يراموا وحلهـم مـن حـلال
وذوو المجد من خزاعة كانوا أهل ودي في الخصب والإمحال
خذلوني وهم لذاك دعوني ليس حامي الـذمـار بـالـخـذال
لا تدعني فداك أهلي ومالي إن حبليك من متـين الـجـبـال
حسرتا إذ أطعت أمر غواتي وعصيت النصيح ضل ضلالـي يهجو عبادا ويذكر سعيد بن عثمان وقال يهجو عباد بن زياد ويذكر سعيد بن عثمان:
أيها الشاتم جهلا سعيدا وسعيد في الحوادث نـاب
ما أبوكم مشبها لأبيه فاسألوا الناس بذاكم تجابـوا
ساد عباد وملك جيشا سبحت من ذاك صم صلاب
إن عاما صرت فيه أميرا تملك الناس لعام عجاب قال: واتصل هجاؤه زيادا وولده وهو في الحبس فرده عبيد الله إلى أخيه عباد بسجستان ووكل به رجالا ووجههم معه وكان لما هرب من عباد يهجوه ويكتب كل ما هجاه به على حيطان الخانات وأمر عبيد الله الموكلين به أن يأخذوه بمحو ما كتبه على الحيطان بأظافيره وأمرهم ألا يتركوه يصلي إلا إلى قبلة الناصرى إلى المشرق فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئا مما كتبه من الهجاء أخذوه بأن يمحوه بأظافره فكان يفعل ذلك ويحكه حتى ذهبت أظافره فكان يمحوه بعظام أصابعه ودمه حتى سلموه إلى عباد فحبسه وضيق عليه. قال عمر بن شبة في خبره: فقال ابن مفرغ:
سرت تحت أقطاع من الليل زينب سلام عليكم هل لما فات مطلب ويروى: ألا طرقتنا آخر الليل زينب
أصاب عذابي اللون فاللون شاحب كما الرأس من هول المنية أشيب
قرنت بخنزير وهر وكلبة زمانا وشان الجلـد ضـرب مـشـذب
وجرعتها صهباء من غير لذة تصعد في الجثمـان ثـم تـصـوب
وأطعمت ما إن لا يحل لآكل وصليت شرقا بيت مـكة مـغـرب
فلو أن لحمي إذ هوى لعبت به كرام المـلـوك أو أسـود وأذؤب
لهون وجدي أو لزادت بصيرتي ولكنما أودت بلحـمـي أكـلـب
أعباد ما للوم عنـك مـحـول ولا لـك أم فـي قـريش ولا أب
سينصرني من ليس تنفع عنده رقاك وقرم من أمـية مـصـعـب
وقل لعبيد الله: ما لك والد بحق ولا يدري امرؤ كيف تـنـسـب في أول هذا الشعر غناء نسبته.
صوت
صفحة : 2068
ألا طرقتنا آخر الليل زينب سلام عليكم هل لما فات مطلب
وقالت: تجنبنا ولا تقربننا فكيف وأنتم حاجتـي أتـجـنـب الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي.
استثارته قومه ببيتين يقرآن على المصلين بجامع دمشق وقالوا جميعا: فلما طال مقام ابن مفرغ في السجن استأجر رسولا إلى دمشق وقال له: إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق ثم اقرأ هذين البيتين بأرفع ما يمكنك من صوتك وكتبهما في رقعة وهما:
أضحى دعي زياد فقع قرقرة يا للعجائبيلهو بابن ذي يزن ففعل الرسول ما أمره به فحميت اليمانية وغضبوا له ودخلوا على معاوية فسألوه فيه فدفعهم عنه فقاموا غضابا وعرف معاوية ذلك في وجوههم فردهم ووهبه لهم ووجه رجلا من بني أسد يقال له خمخام - ويقال: جهثام - بريدا إلى عباد وكتب له عهدا وأمره بأن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ منه ويطلقه قبل أن يعلم عباد فيم قدم فيغتاله ففعل ذلك به فلما خرج من الحبس قربت إليه بغلة من بغال البريد فركبها فلما استوى على ظهرها قال:
عدس ما لعباد عليك إمارة نجوت وهذا تحـمـلـين طـلـيق
فإن الذي نجى من الكرب بعد ما تلاحم في درب عليك مضيق
أتاك بخمخام فأنجاك فالحقي بأهلك لا تحبس علـيك طـريق
لعمري قد أنجاك من هوة الردى إمام وحبل لـلأنـام وثـيق
سأشكر ما أوليت من حسن نعمة ومثلي بشكر المنعمين حقيق معاوية يعفو عنه قال عمر بن شبة في خبره ووافقه لقيط بن بكير: فلما أدخل على معاوية بكى وقال: ركب مني ما لم يركب من مسلم قط على غير حدث في الإسلام ولا خلع يد من طاعة ولا جرم
ألا أبلغ معاوية بن حرب مغلغلة من الرجل اليمـانـي
أتغضب أن يقال أبوك عف وترضى أن يقال أبوك زان
فأشهد أن رحمك من زياد كرحم الفيل من ولـد الأتـان
وأشهد أنها ولدت زيادا وصخر من سـمـية غـير دان فقال: لا والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين ما قلته ولقد بلغني أن عبد الرحمن بن الحكم قاله ونسبه إلي. قال: أفلم تقل:
شهدت بأن أمك لم تباشر أبا سفيان واضعة القناع
ولكن كان أمر فيه لبس على وجل شديد وارتياع أو لست القائل:
إن زيادا ونافعا وأبا بكرة عندي من أعجب العجب
إن رجالا ثلاثة خلقوا في رحم أنثى ما كلهم لأب
ذا قرشي كما يقول وذا مولى وهذا بزعمه عربي في أشعار كثيرة قلتها في هجاء زياد وبنيه اذهب فقد عفوت عن جرمك ولو أيانا تعامل لم يكن شيء مما كان فاسكن أي أرض شئت. فاختار الموصل فنزلها ثم ارتاح إلى البصرة فقدمها فدخل على عبيد الله بن زياد واعتذر إليه وسأله الصفح والأمان فأمنه وأقام بها مدة ثم دخل عليه بعد أن أمنه فقال: اصلح الله الأمير إني قد ظننت أن نفسك لا تطيب لي بخير أبدا ولي أعداء لا آمن سعيهم علي بالباطل وقد رأيت أن أتباعد فقال له: إلى أين شئت فقال: كرمان فكتب له إلى شريك بن الأعور وهو عليها بجائزة وقطيعة وكسوة فشخص فأقام بها حتى هرب عبيد الله من البصرة فعاد إليها. هذه رواية عمر بن شبة.
رواية أخرى في سبب إنقاذه من ابني زياد وقال محمد بن خلف في روايته عن أحمد بن الهيثم عن المدائني وعن العمري عن لقيط: أن ابن مفرغ لما طال حبسه وبلاؤه ركب طلحة الطلحات إلى الحجاز ولقي قريشا - وكان ابن مفرغ حليفا لبني أمية - فقال لهم طلحة: يا معشر قريش إن أخاكم وحليفكم ابن مفرغ قد ابتلي بهذه الأعبد من بني زياد وهو عديدكم وحليفكم ورجل منكم ووالله ما أحب أن يجري الله عافيته على يدي دونكم ولا أفوز بالمكرمة في أمره وتخلوا منها فانهضوا معي بجماعتكم إلى يزيد بن معاوية فإن أهل اليمن قد تحركوا بالشام فركب خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله أخوه وعمر بن عبيد الله بن معمر ووجوه خزاعة وكنانة وخرجوا إلى يزيد فبينا هم يسيرون ذات ليلة إذ سمعوا راكبا يتغنى في سواد الليل بقول ابن مفرغ ويقول:
واتباعي أخا الضراعة واللؤ م لنقص وفوت شأو بعـيد
قلت والليل مطبق بعراه: ليتني مت قبل ترك سـعـيد
ليتني مت قبل تركي أخا النج دة والحزم والفعال السديد
عبشمي أبوه عبد مناف فاز منها بتاجها الـمـعـقـود
ثم جود لو قيل: هل من مزيد قلت للسائلين: ما من مزيد
صفحة : 2069
قل لقومي لدى الأباطح من آ ل لؤي بن غالب ذي الجود:
سامني بعدكم دعي زياد خطة الغادر الـلـئيم الـزهـيد
كان ما كان في الأراكة واجت ب ببرد سنام عيسى وجيدي
أوغل العبد في العقوبة والشت م وأودى بطارفي وتلـيدي
فارحلوا في حليفكم وأخيكم نحو غوث المستصرخين يزيد
فاطلبوا النصف من دعي زياد وسلوني بما ادعيت شهودي قال: فدعا القوم بالراكب فقالوا له: ما هذا الذي سمعناه منك تغني به فقال: هذا قول رجل والله إن أمره لعجب رجل ضائع بين قريش واليمن وهو رجل بالناس قالوا: ومن هو قال:
ابن مفرغ قالوا: والله ما رحلنا إلا فيه وانتسبوا له فضحك وقال: أفلا أسمعكم من قوله لعمري لو كان الأسير ابن معمر وصاحبه أو شكله ابن أسيد
ولـو أنــهـــم نـــالـــوا أمـــية أرقـــلـــت بـــراكـــبـــهـــا الـــوجـــنـــاء نـــحـــو يزيد
فأبـلـغـت عـذرا فـي لـــؤي بـــن غـــالـــب وأتـــلـــفـــت فـــيهـــم طـــارفـــي وتـــلـــيدي
فإن لـــم يغـــيرهـــا الإمـــام بـــحـــقـــهـــا عـــدلـــت إلـــى شـــم شـــوامـــخ صــــيد
فنـــاديت فـــيهـــم دعـــوة يمـــنـــية كـــمـــا كـــان آبــــــائي دعـــــــوا وجـــــــدودي
ودافـعـت حـتـى أبـلـغ الـجـهـــد عـــنـــهـــم دفـــاع امـــرىء فـــي الـــخـــير غـــير زهـــيد
فإن لـم تـكـونـوا عـنـد ظـنـي بـــنـــصـــركـــم فـــلـــيس لـــهـــا غـــير الأغـــر ســـعـــيد
بنــفـــســـي وأهـــلـــي ذاك حـــيا ومـــيتـــا نـــضـــار وعـــود الـــمـــرء أكـــرم عـــود
فكـــم مـــن مـــقـــام فـــي قـــريش كـــفـــيتـــه ويوم يشـــيب الـــكـــاعـــبـــات شـــديد
وخـصـم تـحـــامـــاه لـــؤي بـــن غـــالـــب شـــبـــبـــت لـــه نـــاري فـــهـــاب وقـــودي
وخـــير كـــثـــير قـــد أفـــأت عـــلـــيكـــم وأنـــتـــم رقـــود أو شـــبـــــيه رقـــــــود قال: فاسترجع القوم لقوله وقالوا: والله لا نغسل رؤوسنا في العرب إن لم نغسلها بفكه. فأغذ القوم السير حتى قدموا الشام.
وفد اليمانية يذهب إلى يزيد بن معاوية وبعث ابن مفرغ رجلا من بني الحارث بن كعب فقام على سور حمص فنادى بأعلى صوته الحصين ابن نمير - وكان والي حمص - بهذه الأبيات وكان عظيم الجبهة:
أبلغ لديك بني قحطان قاطبة عضت بأير أبيها سادة الـيمـن
أمس دعي زياد فقع قرقرة يا للعجائب يلهو بابـن ذي يزن
والحميري طريح وسط مزبلة هذا لعمركم غبن من الغـبـن
والأجبه ابن نمير فوق مفرشه يدنو إلى أحور العينين ذي غنن
قوموا فقولوا: أمير المؤمنين لنا حق عليك ومن ليس كالمنـن
فاكفف دعي زياد عن أكارمنا ماذا يريد على الأحقاد والإحن فاجتمعت اليمانية إلى حصين فعيروه بما قاله ابن مفرغ فقال الحصين: ليس لي رأي دون يزيد بن أسد ومخرمة بن شرحبيل فأرسل إليهما فاجتمعوا في منزل الحصين فقال لهما الحصين: اسمعا ما أهدى إلي شاعركم وقاله لكم في أخيكم - يعني نفسه - وأنشدهم فقال يزيد بن أسد: قد جئتكم بأعظم من هذا وهو قوله:
وما كنت حجاما ولكن أحلني بمنزلة الحجام نأيي عن الأصل فقال الحصين: والله لقد أساء إلينا أمير المؤمنين في صاحبنا مرتين إحداهما أنه هرب إليه فلم يجره وأخرى أنه أمر بعذابه غير مراقب لنا فيه وقال يزيد بن أسد: إني لأظن أن طاعتنا ستفسد ويمحوها ما فعل بابن مفرغ ولقد تطلع من نفسي شيء للموت أحب إلي منه. وقال مخرمة بن شرحبيل: أيها الرجلان اعقلا فإنه لا معاوية لكما واعرفا أن صاحبكما لا تقدح فيه الغلظة فاقصدا التضرع فركب القوم إلى دمشق وقدموا على يزيد بن معاوية وقد سبقهم الرجل فنادى بذلك الشعر يوم الجمعة على درج مسجد دمشق فثارت اليمانية وتكلموا ومشى بعضهم إلى بعض وقدم وفد القرشيين في أمره مع طلحة الطلحات فسبقوا القرشيين ودخلوا على يزيد بن معاوية فتكلم الحصين بن نمير فذكرر بلاءه وبلاء قومه وطاعتهم وقال: يا أمير المؤمنين إن الذي أتاه ابن زياد إلى صاحبنا لا قرار عليه وقد سامنا عبيد الله وعباد خطة خسف وقلدانا قلادة عار فأنصف كريمنا من صاحبه فوالله لئن قدرنا لنعفون ولئن ظلمنا لننتصرن. وقال يزيد بن أسد: يا أمير المؤمنين إنا لو رضينا بمثلة ابن زياد بصاحبن وعظيم ما انتهك منه لم يرض الله عز ذكره بذلك ولئن تقربنا إليك بما يسخط الله ليباعدننا الله منك وإن يمانيتك قد نفرت لصاحبها نفرة طار غرابها وما أدري متى يقع وكل نائرة تقدح في الملك وإن صغرت لم يؤمن أن تكبر وإطفاؤها خير من إضرامها لا سيما إذا كانت في أنف ل يجدع ويد لا تقطع فأنصفنا من ابني زياد.
صفحة : 2070
وقال مخرمة بن شرحبيل: وكان متألها عظيما لطاعة في أهل اليمن: إنه لا يد تحجزك عن هواك ولو مثلت بأخينا وتوليت ذلك منه بنفسك لم يقم فيه قائم ولم يعاتبك فيه معاتب ولكن ابني زياد استخفانا بما يثقل عليك من حقنا وتهاونا بما تكرمه منا وأنت بيننا وبين الله ونحن بينك وبين الناس فأنصفنا من صاحبيك ولينفعنا بلاؤنا عندك.
فقال يزيد: إن صاحبكم أتى عظيما نفى زيادا من أبي سفيان ونفى عبادا وعبيد الله من زياد وقلدهم طوق الحمامة وما شجعه على ذلك إلا نسبه فيكم وحلفه في قريش فأما إذ بلغ الأمر ما أرى وأشفى بكم على ما أشفى فهو لكم وعلي رضاكم.
وفد القرشيين يقابل يزيد بن معاوية قال: وانتهى القرشيون إلى الحاجب فاستأذن لهم وقال لليمانيين: قد أتتكم برى الذهب من أهل العراق فدخلوا وسلموا والغضب يتبين في وجوههم فظن يزيد الظنون وقال لهم: ما لكم انفتق فتق أو حدث حدث فيكم قالوا: لا فسكن.
فقال طلحة الطلحات: يا أمير المؤمنين أما كفى العرب ما لقيت من زياد حتى استعملت عليها ولده يستكثرون لك أحقادها ويبغضونك إليها إن عبيد الله وأخاه أتيا إلى ابن مفرغ ما قد بلغك فأنصفنا منهما إنصافا تعلم العرب أن لنا منك خلفا من أبيك فوالله لقد خبأ لك فعلهما خبثا عند أهل اليمن لا تحمده لك ولا تحمده لنفسك.
وتكلم خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فقال: يا أمير المؤمنين إن زيادا ربي في شر حجر ونشأ في أخبث نشء فأثبتم نصابه في قريش وحملتموه على رقاب الناس فوثب ابناه على أخينا وحليفنا وحليفك ففعلا به الأفاعيل التي بلغتك وقد غضبت له قريش والحجاز ويمن الشام ممن لا أحب والله لك غضبه فأنصفنا من ابني زياد.
وتكلم أخوه أمية بنحو ما تكلم أخوه وقال: والله يا أمير المؤمنين لا أحط رحلي ولا أخلع ثياب سفري أو تنصفنا من ابني زياد أو تعلم العرب أنك قد قطعت أرحامنا ووصلت ابني زياد بقطعنا وحكمت بغير الحق لهما علينا.
وقال ابن معمر: يا أمير المؤمنين إن ابن مفرغ طالما ناضل عن عرضك وعرض أبيك وأعراض قومك ورمى عن جمرة أهلك وقد أتى بنو زياد فيه ما لو كان معاوية حيا لم يرض به وهذا رجل له شرف في قومه وقد نفروا له نفرة لها ما بعدها فأعتبهم وأنصف الرجل ولا تؤثر مرضاة ابني زياد على مرضاة الله عز وجل.
فقال يزيد: مرحبا بكم وأهلا والله لو أصابه خالد ابني بما ذكرتم لأنصفته منه ولو رحلتم في جميع ما تحيط به العراق لوهبته لكم وما عندي إلا إنصاف المظلوم ولكن صاحبكم أسرف على القوم. وكتب يزيد ببناء داره ورد ماله وتخلية سبيله وألا إمرة لأحد من بني زياد عليه وقال: لولا أن في القود بعدما جرى منه فسادا في الملك لأقدته من عباد.
وسرح يزيد رجلا من حمير يقال له خمخام وكتب معه إلى عباد بن زياد: نفسك نفسك وأن تسقط من ابن مفرغ شعرة فأقيدك والله به ولا سلطان لك ولا لأخيك ولا لأحد غيري عليه فجاء خمخام حتى انتزعه جهارا من الحبس بمحضر الناس وأخرجه.
دخوله على يزيد وما دار بينهما قالوا: فلما دخل على يزيد قال له: يا أمير المؤمنين اختر مني خصلة من ثلاث خصال في كلها لي فرج إما أن تقيدني من ابن زياد وإما أن تخلي بيني وبينه وإما أن تقدمني فتضرب عنقي.
فقال له يزيد: قبح الله ما اخترته وخيرتنيه أما القود من ابن زياد فما كنت لأقيدك من عامل كان عليك ظلمته وشتمت عرضه وعرضي معه وأما التخلية بينك وبينه فلا ولا كرامة ما كنت لأخلي بينك وبين أهلي تقطع أعراضهم وأما ضرب عنقك فما كنت لأضرب عنق مسلم من غير أن يستحق ذلك ولكني أفعل ما هو خير لك مما اخترته لنفسك أعطيك ديتك فإنهم قد عرضوك للقتل واكفف عن ولد زياد فلا يبلغني أنك ذكرتهم وانزل أي البلاد شئت وأمر له بعشرة آلاف درهم.
اعتذاره لعبيد الله بن زياد فخرج حتى أتى الموصل وأقام بها ما شاء الله ثم خرج ذات يوم يتصيد فلقي دهقانا على حمار له فقال: من أين أقبلت قال: من العراق قال: من أيها قال: من البصرة ثم من الأهواز قال: فما فعل المسرقان قال: على حاله قال: أفتعرف أناهيد بنت أعنق قال: نعم قال: ما فعلت قال: على أحسن ما عهدت.
قال: فضرب برذونه وسار حتى أتى الأهواز ولم يعلم أهله ولا غيرهم بمسيره.
ثم أتى عبيد الله بن زياد فدخل عليه واعتذر إليه وسأله الأمان فأمنه ثم سأله أن يكتب له إلى شريك بن الأعور فكتب له ووصله.
صفحة : 2071
عودته إلى البصرة وهجاؤه بني زياد وخرج فأقام بكرمان حتى غلب ابن الزبير على العراق وهرب ابن زياد وكان أهل البصرة قد أجمعوا على قتله فخرج عن البصرة هاربا فعاد ابن مفرغ إلى البصرة وعاود هجاء بني زياد فقال يذكر هرب عبيد الله وتركه أمه بقوله:
أسلمت أمك والرماح تنوشها يا لـيتـنـي لـك لـيلة الإفـزاع
إذ تستغيث وما لنفسك مـانـع عـبـد تـردده بـدار ضـياع
هلا عجوزك إذ تمد بثديها وتصيح ألا تـنـزعـن قـنـاعـي
أنقذت من أيدي العلوج كأنها ربداء مجفلة بـبـطـن الـقـاع
فركبت رأسك ثم قلت: أرى العدا كثروا وأخلف موعدي أشياعي
فانجي بنفسك وابتغي نفقا فما لي طاقة بك والـسـلام وداعـي
ليس الكريم بمن يخلف أمه وفتاته في المنـزل الـجـعـجـاع
حذر المنية والرماح تنوشـه لـم يرم دون نـسـائه بـكـراع
متأبطا سيفا عليه يلمق مـثـل الـحـمـار أثـرتـه بـيفـاع
لا خير في هذر يهز لسانه بكلامه والقـلـب غـير شـجـاع
لابن الزبير غداة يذمر منذرا أولـى بـغـاية كـل يوم وقـاع
وأحق بالصبر الجميل من امرىء كز أنامله قـصـير الـبـاع
جعد اليدين عن السماحة والندى وعن الضريبة فاحـش مـنـاع
كم يا عبيد الله عندك من دم يسعى ليدركـه بـقـتـلـك سـاع
اذكر حسينا وابن عروة هانئا وابني عقيل فـارس الـمـربـاع وقال أيضا يذكر هربه:
أقر بعيني أنه عق أمهه دعته فولاها اسـتـه وهـو يهـرب
وقال: عليك الصبر كوني سبية كما كنت أو موتي فذلك أقرب
وقد هتفت هند: بماذا أمرتني أبن لي وحدثني إلى أين أذهـب
فقال: اقصدي للأزد في عرصاتها وبكر فما إن عنهم متجنب
أخاف تميما والمسالح دونها ونيران أعدائي علـي تـلـهـب
وولى وماء العين يغسل وجهها كأن لم يكن والدهر بالناس قلب
بما قدمت كفاك لا لك مهرب إلى أي قوم والدماء تصـبـب
فكم من كريم قد جررت جريرة عليه فمقبور وعـان يعـذب
ومن حرة زهراء قامت بسحرة تبكي قتيلا أو صدى يتـأوب
فصبرا عبيد بن العبيد فإنما يقاسي الأمور المستعد المـجـرب
وذق كالذي قد ذاق منك معاشر لعبت بهم إذ أنت بالناس تلعب
فلو كنت حرا أو حفظت وصية عطفت على هند وهند تسحب
وقلت لأم العبد أمك: إنني وإن كثر الأعـداء حـام مـذبـب
ولكن أبى قلب أطيرت بناته وعرق لكم في آل ميسان يضرب وقال في ذلك أيضا:
ألا أبلغ عبيد الله عني عبيد اللؤم عـبـد بـنـي عـلاج
علي لكم قلائد باقيات يثرن عليكـم نـقـع الـعـجـاج
تدعيت الخضارم من قريش فما في الدين بعدك من حجاج
أبن لي هل بيثرب زند ورد قرى آبائك النبط العـجـاج وقال فيه أيضا:
عبيد الله بني علاج كذاك نسبته وكـذاك كـانـا
أعبد الحارث الكندي ألا جعلت لإست أمك ديدبانا
فتستر عورة كانت قديما وتمنع أمك النبط البطانا وقال يهجو عبيد الله وعبادا أنشدناه جماعة منهم هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة وهذا من قصيدة له طويلة أولها:
جرت أم الظباء ببين ليلى وكل وصال حبـل لانـقـطـاع
وما لاقيت من أيام بؤس ولا أمـر يضـيق بـه ذراعـي
ولم تك شيمتي عجزا ولؤما ولم أك بالمضلل في المساعـي
سوى يوم الهجين ومن يصاحب لئام الناس يغض على القذاع حلفت برب مكة لو سلاحي بكفي إذ تنازعني متاعي
لباشر أم رأسك مشرفي كـذاك دواؤنـا وجـع الـصـداع
أفي أحسابنا تزري علينا هـبـلـت وأنـت زائدة الـكـراع
تبغيت الذنوب علي جهلا جنونا ما جننـت ابـن الـلـكـاع
فما أسفي على تركي سعيدا وإسحاق بن طلحة واتـبـاعـي
ثنايا الوبر عبد بني علاج عبـيدة فـقـع قـرقـرة بـقـاع
إذا ما راية رفعت لمـجـد وودع أهـلـهـا خـير الـوداع
فأير في است أمك من أمير كذاك يقال للـحـمـق الـيراع
ولا بلت سماؤك من أمير فبئس معرس الـركـب الـجـياع
ألم تر إذ تحالف حلف حرب عليك غدوت من سقط المـتـاع
وكدت تموت أن صاح ابن آوى ومثلك مات من صوت السباع
إذا أودى معاوية بن حرب فبشر شعب قعبـك بـانـصـداع
فأشهد أن أمك لم تباشر أبـا سـفـيان واضـعة الـقـنـاع
ولكن كان أمرا فيه لبس عـلـى عـجـل شـديد وارتـياع
صفحة : 2072
قال: وكان عباد في بعض حروبه ذات ليلة نائما في عسكره فصاحت بنات آوى فثارت الكلاب إليها ونفر بعض الدواب ففزع عباد وظنها كبسة من العدو فركب فرسه ودهش فقال: افتحوا سيفي فعيره بذلك ابن مفرغ.
ومما قاله ابن مفرغ في هجاء بني زياد وغني فيه: صوت
كم بالدروب وأرض الهند من قدم ومن جماجم قتلى ما هم قـبـروا
ومن سرابيل أبطال مضرجة ساروا إلى الموت ما خاموا ولا ذعروا
بقندهار ومن تحتم منيته بـقـنـدهـار يرجـم دونـه الـخـبـر غنى في هذه الأبيات ابن جامع:
أجد أهلك لا يأتيهم خبـر مـنـا ولا مـنـهـم عـين ولا أثـر
ولم تكلم قريش في حليفهم إذ غاب أنصاره بالشام واحتـضـروا
رهط الأغر شراحيل بن ذي كلع ورهط ذي فائش ما فوقهم بشر
قولا لطلحة ما أغنت صحيفتكم وهل لجارك إذ أوردته صـدر
فمن لنا بشقيق أو بأسرته ومن لنا ببنـي ذهـل إذا خـطـروا
هم الذين سموا والخيل عابسة والناس عند زياد كـلـهـم حـذر
لولاهم كان سلام بمنزلتي أولى لهم ثم أولى بعد مـا ظـفـروا أخبرني محمد بن خلف عن أبي بكر العامري عن إسحاق بن محمد عن القحذمي قال: هجا سلام الرافعي مقاتل بن مسمع فقال فيه:
ابى لك يا ذا المجد أن مقاتلا زنى واستحل الفارسي المشعشعا في أبيات هجاه بها فحبسه مقاتل بالعربة فركب شقيق بن ثور في جماعة من بني ذهل إلى الحبس فأخرجه فضرب به ابن مفرغ المثل في الشعر الماضي.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو عبد الله اليماني قال: حدثنا الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: قال لي عبيد الله بن زياد: ما هجيت بشيء أشد علي من قول ابن مفرغ:
فكر ففي ذاك إن فكرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأمير وروى اليزيدي في روايته عن الأحول: قال أبو عبيدة: كان زياد يزعم أن أمه سمية بنت الأعور من بني عبد شمس بن زيد مناة بن تميم فقال ابن مفرغ يرد ذلك عليه:
فأقسم ما زياد من قريش ولا كانت سمية من تـمـيم
ولكن نسل عبد من بغي عريق الأصل في النسب اللئيم يتابع هجاء ابن زياد ويرميه بالأبنة أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا أبو غسان دماذ قال: أنشدني أبو عبيدة لابن مفرغ يهجو ابن زياد ويرميه بالأبنة:
أبلغ قريشا قضها وقضيضها أهل السماحة والحلوم الراجحه
أني ابتليت بحية ساورته بيد لعمري لم تكن لـي رابـحـه
صفق المبخل صفقة ملعونة جرت عليه من البلايا فادحـه
شتان من بطحاء مكة داره وبنو المضاف إلى السباخ المالحه
جعدت أنامله ولام نجاره وبذاك تخبرنا الظباء السـانـحـه
فإذا أمية صلصلت أحسابها فبنو زياد في الكلاب النابـحـه
لم يبق أير أسود أو أبيض إلا له استك في الخلاء مصافحـه مقتل عبيد الله وشعر ابن مفرغ فيه
وأخبرني إبراهيم بن السري بن يحيى قال: حدثني أبي عن شعيب عن سيف قال: لما قتل عبيد الله بن زياد يوم الزاب قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد ويقال: إن إبراهيم بن الأشتر حمل على كتيبته فانهزموا ولقي عبيد الله فضربه فقتله وجاءه إلى أصحابه فقال: إني ضربت رجلا فقددته نصفين فشرقت يداه وغربت رجلاه وفاح منه المسك وأظنه ابن مرجانة وأومأ لهم إلى موضعه فجاءوا إليه وفتشوا عليه فوجدوه كما ذكر وإذا هو ابن زياد فقال ابن مفرغ يهجوه:
إن الذي عاش ختارا بذمته وعاش عبدا قتيل الـلـه بـالـزاب
العبد للعبد لا أصل ولا طرف ألوت به ذات أظفـار وأنـياب
إن المنايا إذا ما زرن طاغية هتكن عنه ستـورا بـين أبـواب
هلا جموع نزار إذا لقيتهم كنت امرأ من نزار غير مـرتـاب
لا أنت زاحمت عن ملك فتمنعه ولا مددت إلى قوم بأسـبـاب
لا يترك الله أنفا تعطسون بها بني العبيد شهودا غـير غـياب
أقول بعدا وسحقا عند مصرعه لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي الحسين بن علي يتمثل بالبيتين الأخيرين والقصيدة المذكورة بها غناء فيه منها وقال:
حي ذا الزور وانهه أن يعودا إن بالباب حارسين قعودا
من أساوير ما ينون قياما وخلاخيل تذهل المـولـودا
وطماطيم من مشايخ جون ألبسوني مع الصباح قـيودا
أي بلوى معيشة قد بلونا فنعمنا وما رجونـا خـلـودا
ودهور لقينا موجعات وزمان يكسـر الـجـلـمـودا
صفحة : 2073
فصبرنا على مواطن ضيق وخطوب تصير البيض سـودا
ظل فيها النصيح يرسل سرا لا تهالن إن سمعت الوعـيدا
أفإنس ما هكذا صبر إنس أم من الجن أم خلقـت حـديدا
لا ذعرت السوام في فلق الصب ح مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما والمنايا يرصدنني أن أحيدا وتمثل الحسين بن علي بهذين البيتين لما خرج من المدينة إلى مكة عند بيعة يزيد:
لا ذعرت السوام في فلق الصب ح مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي مخافة الموت ضيما والمنايا يرصدنني أن أحيدا حدثني أحمد بن عيسى أبو موسى العجلي العطار بالكوفة قال: حدثني الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري قال: حدثني أبي قال: حدثنا عمر بن سعد عن أبي مخنف قال: حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبي سعيد المقبري قال: والله لرأيت حسينا وهو يمشي بين رجلين يعتمد على هذا مرة وعلى هذا مرة حتى دخل المسجد وهو يقول: لا ذعرت السوام.... البيتين.
قال: فقلت عند ذلك إنه لا يلبث إلا قليلا حتى يخرج فما لبث أن خرج فلحق بمكة فلما خرج من المدينة قال: فخرج منها خائفا يترقب قال: رب نجني من القوم الظالمين . ولما توجه نحو مكة قال: ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل .
مروان بن الحكم يعطيه ويكسوه
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: لما قدم ابن مفرغ إلى معاوية مع خمخام الذي وجهه غليه فانتزعه من عباد بن زياد نزل على مروان بن الحكم وهو يومئذ عند معاوية فأعطاه وكساه وقام بأمره واسترفد له كل من قدر عليه من بني أبي العاص بن أمية فقال ابن مفرغ يمدحه من قصيدته:
وأقمتم سوق الثناء ولم تكن سوق الثناء تقام في الأسواق
فكأنما جعل الإله إليكم قبض النفوس وقسـمة الأرزاق كان يهوى أناهيد بنت الأعنق أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: كان ابن مفرغ يهوى أناهيد بنت الأعنق وكان الأعنق دهقانا من الأهواز له ما بين الأهواز وسرق ومناذر والسوس وكان لها أخوات يقال لهن أسماء والجمانة وأخرى قد سقط عن دماذ فكان يذكرهن جميعا في شعره فمن ذلك قوله في صاحبته أناهيد من أبيات:
سيري أناهيد بالعيرين آمنة قد سلم الله من قـوم بـهـم طـبـع
لا بارك الله فيهم معشرا جبنا ولا سقى دارهم قطرا ولا ربـعـوا
لا تأمنن حزاميا نزلت به قوم لديهم تناهـى الـلـؤم والـصـرع
جاور بني خلف تحمد جوارهم الأعظمين دفاعا كلـمـا دفـعـوا
والمطعمين إذا ما شتوة أزمت فالناس شتى إلى أبوابـهـم شـرع
هم خير قومهم إن حدثوا صدقوا أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
المانعين من المخزاة جارهم والرافعين من الأدنين ما صـنـعـوا
انزل بطلحة يوما إن منزله سهل المباءة بالعـلـياء مـرتـفـع وفي اسماء أختها يقول:
تعلق من أسماء ما قد تعلقا ومثل الذي لاقى مـن الـحـب أرقـا
وحسبك من اسماء نأي وأنها إذا ذكرت هاجت فـؤادا مـعـلـقـا
سقى هزم الإرعاد منبجس العرى منازلها بالمسرقـان فـسـرقـا
وتستر لازالت خصيبا جنابها إلى مدفع السلان من بطـن دورقـا
إلى الكوثج الأعلى إلى رامهرمز إلى قريات الشيح من فوق سفسقا رامهرمز: بلد من أعمال الأهواز معروف.
بلاد بنات الفارسية إنها سقتنا على لوح شرابا معتقا أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرنا هاشم بن محمد قال: حدثنا دماذ أبو غسان عن أبي عبيدة قالا: لما فصل ابن مفرغ من عند معاوية نزل بالموصل على أقواله من آل ذي العشراء من حمير قال الهيثم في روايته: فزوجوه امرأة منهم - ولم يذكر ذلك أبو عبيدة - فلما كان اليوم الذي يكون البناء في ليلته خرج يتصيد ومعه غلامه برد فإذا هو بدهقان على حمار يبيع عطرا وأدهانا.
فقال له ابن مفرغ: من اين أقبلت قال: من الأهواز قال: ويحك كيف خلفت المسرقان وبرد مائه قال: على حاله قال: ما فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق قال: أصديقة ابن مفرغ قال: نعم قال: ما تجف جفونها من البكاء عليه فقال لغلامه: أي برد أما تسمع قال:
صفحة : 2074
بلى قال: هو بالرحمن كافر إن لم يكن هذا وجهي إليها فقال له برد: أكرمك القوم وقاموا دونك وزوجوك كريمتهم ثم تصنع هذا بهم وتقدم على ابن زياد بعد خلاصك منه من غير أمره ولا عهد منه ولا عقد أبق أيها الرجل على نفسك وأقم بموضعك وابن بأهلك وانظر في أمرك فإن جد عزمك كنت حينئذ وما تختاره. قال: دع ذاك عنك هو بالرحمن كافر إن عدل عن الأهواز ولا عرج على شيء غيرها ومضى لوجهه من غير أن يعلم أهله وقال قصيدته:
سما برق الجمانة فاستطارا لعل البرق ذاك يحور نـارا
ديار للجمانة مقفرات بلين وهجن لـلـقـلـب اذكـارا
فلم أملك دموع العين مني ولا النفس التي جاشت مرارا
بسرق فالقرى من صهرتاج فدير الراهب الطلل القفارا
فقلت لصاحبي: عرج قليلا نذاكر شوقنا الدرس البـوارا
بآية ما غدوا وهم جميع فكاد الصب ينتحر انـتـحـارا
فقال: بكوا لفقدك منذ حين زمانا ثم إن الـحـي سـارا
بدجلة فاستمر بهم سفين يشق صدورها اللجج الغـمـارا
كأن لم أغن في العرصات منها ولم أذعر بقاعتها صوارا
ولم أسمع غناء من خليل وصوت مقرطق خلع العـذارا قال: فقدم البصرة فذكر لعبيد الله بن زياد مقدمه فلم يعرض له وأرسل إليه أن أقم آمنا فأقام بالبصرة أشهرا يختلف من البصرة إلى الأهواز فيزور أناهيد ويقيم عندها.
ثم أتى عبيد الله بن زياد فقال له: إني امرؤ لي أعداء ولست آمن بعضهم أن يقول شيئا على لساني يحفظ الأمير علي وأحب أن يأذن لي أن أتنحى عنه فقال له: حل حيث شئت فخرج حتى قدم على شريك بن الأعور الحارثي وهو يومئذ عامل عبيد الله بن زياد على فارس ذهب إلى عبيد الله بن أبي بكر فأعطاه وأكرمه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني محمد بن الحكم عن عوانة: أن عبيد الله بن أبي بكرة كتب إلى يزيد بن مفرغ: إني قد توجهت إلى سجستان فالحق بي فلعلك إن قدمت علي ألا تندم ولا يذم رأيك. فتجهز ابن مفرغ وخرج حتى قدم سجستان ممسيا فدخل عليه فشغله بالحديث وأمر له بمنزل وفرش وخدم وجعل يطاوله حتى علم انه قد استتم له ما أمر له به ثم صرفه إلى المنزل الذي قد هيىء له ثم دعا به في اليوم الثاني فقال له: يابن مفرغ إنك قد تجشمت إلي شقة بعيدة واتسع لك الأمل فرحلت إلي لأقضي عنك دينك ولأغنيك عن الناس وقلت: أبو حاتم بسجستان فمن لي بالغنى بعده فقال: والله ما أخطأت أيها الأمير ما كان في نفسي فقال عبيد الله: أما والله لأفعلن ولأقلن لبثك عندي ولأحسنن صلتك وأمر له بمائة ألف درهم ومائة وصيفة ومائة نجيبة وأمر له بما ينفقه إلى أن يبلغ بلده سوى المائة ألف وبمن يكفيه الخدمة من غلمانه وأعوانه وقال له: إن من خفة السفر ألا تهتم بخف ولا حافر وكان مقامه عنده سبعة أيام.
ثم ارتحل وشيعه عبيد الله إلى قرية على أربعة فراسخ يقال لها: زالق ثم قال له: يابن مفرغ إنه ينبغي للمودع أن ينصرف وللمتكلم أن يسكت وأنا من قد عرفت فأبق على الأمل وحسن ظنك بي ورجائك في وإذا بدا لك أن تعود فعد والسلام.
قال: وسار ابن مفرغ حتى أتى رامهرمز فنزل بقرية أبجر فنزلت عليه بنت الأبجر فقالت: يابن مفرغ لمن هذا المال قال: لابنة أعنق دهقانة الأهواز وإذا رسولها في القافلة بكتابها: إنك لو كنت على العهد الأول لتعجلت إلي ولم تساير ثقلك ولكن قد علمت أن المال الذي أعطاكه عبيد الله قد شغلك عني قال: فأعطى رسولها مالا على أن يقول فيه خيرا وقد قال لابنة أبجر في جواب قولها له:
حباني عبيد الله يابنة أبجر بهذا وهذا للـجـمـانة أجـمـع
يقر بعيني أن أراها وأهلها بأفضل حال ذاك مرأى ومسمع
وخبرتها قالت: لقد حال بعدنا فقد جعلت نفسي إليها تطلـع
وقلت لها لما أتاني رسولها وأي رسول لا يضـر وينـفـع
أحبك ما دامت بنجد وشيجة وما رفعت يوما إلى الله إصبـع
وإني مليء يا جمانة بالهوى وصدق الهوى إن كان ذلك يقنع
صفحة : 2075
قال: فلما انتهت رسل عبيد الله بن أبي بكرة معه إلى الأهواز قالوا له: قد بلغنا حيث أمرنا يمدح عبيد الله بن أبي بكرة وأقام بالأهواز ودعا ندماء كانوا له من فتيان العرب فلم يبق ظريف ولا مغن إلا أتاه واستماحه جماعة قصدوه من أهل البصرة والكوفة والشام فأعطاهم ولم يفارق أناهيد ومعه شيء من المال وجعل القوم يسألونه عن عبيد الله بن أبي بكرة وكيف هو وأخلاقه فقال:
يسائلني أهل العراق عن الندى فقلت: عبيد الله حلف المكارم
فتى حاتمي في سجستان رحله وحسبك جودا أن يكون كحاتم
سما لينال المكرمات فنالها بشدة ضرغام وبـذل الـدراهـم
وحلم إذا ما سورة الحقد أطلقت حبا القوم عند الفادح المتفاقم
وإن له في كل حي صنيعة يحدثها الركبان أهل المـواسـم
دعاني إليه جوده ووفاؤه ومن دون مسراه عداة الأعـاجـم
فلم أبق إلا جمعة في جواره ويومين حـلا مـن ألـية آثـم
إلى أن دعاني زانه الله بالعلا فأنبت ريشي من صميم القوادم
وقال: إذا ما شئت يابن مفرغ فعد عودة ليست كأضغاث حالم
فقلت له لا يبعد الله داره :أعود إذا ما جئتكم غـير حـاشـم
فأصبح لا يرجو العراق وأهله سواه لنفع أو لدفع العظـائم
وإن عبيد الله هنأ رفده سراحا وأعطى رفده غـير غـانـم يخدع عمه في أناهيد وقال الهيثم في خبره: كان عمرو بن مفرغ عم يزيد بن ربيعة بن مفرغ رجلا له جاه وقدر عند السلطان وكان ذا مال وثروة وذا دين وفضل وصلاح فكان يعنف ابن أخيه في أمر أناهيد عشيقته ويعذله ويعيره بها فلما أكثر عليه أتاه يوما فقال له: يا عم جعلت فداك إن لي بالأهواز حاجة ولي على قوم بها نحو من ثلاثين ألف درهم قد خفت أن تتوى علي فإن رأيت أن تتجشم العناء معي إليها حتى تطالب لي بحقي وتعينني بجاهك على غرمائي. وكان عمرو بن مفرغ قد استخلفه ابن عباس عليها إذ كان عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه على البصرة وكان عامل الأهواز - حين سأل ابن مفرغ عمه أن يخرج معه - ميمون بن عامر أخو بني قيس بن ثعلبة الذي يقال لدراهمه اليوم الميمونية. فلم يزل ابن مفرغ بعمه حتى أجابه إلى الخروج فاستأجر سفينة وتوجه إلى الأهواز وكتب إلى أناهيد أن تهيئي وتزيني بأحسن زينتك واخرجي إلي مع جواريك فإني موافيك ومنزلها يومئذ بين سرق ورامهرمز.
فلما نزلوا منزلها خرجت إليهم. وجلست معهم في هيئتها وزيها وحليها وآلتها فلما رآها عمه قال له: قبحك الله أفهلا إذ فعلت ما فعلت كنت علقت مثل هذه فقال: يا عم أو قد عجبتك فقال: ومن لا تعجبه هذه قال: ألجد هكذا منك قال: نعم والله قال: فإنها والله هذه بعينها فقال: يا خبيث إنما أشخصتني لهذا يا غلام ارحل بنا. فانصرف عمه إلى البصرة وأقام هو معها ولم يزل يتردد كذلك حتى مات في الطاعون في أيام مصعب بن الزبير.
لزوم غرمائه له لديون ركبته واحتياله لقضائها أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا القحذمي قال: لزم يزيد بن مفرغ غرماؤه بدين فقال لهم: انطلقوا نجلس على باب الأمير عسى أن يخرج الأشراف من عنده فيروني فيقضوا عني فانطلقوا به فكان أول من خرج إما عمر بن عبيد الله بن معمر وإما طلحة الطلحات فلما رآه قال: أبا عثمان ما أقعدك ها هنا قال: غرمائي هؤلاء لزموني بدين لهم علي قال: وكم هو قال: سبعون ألفا قال: علي منها عشرة آلاف درهم.
ثم خرج الآخر على الأثر فسأله ما سأل صاحبه فقال: هل خرج أحد قبلي قالوا: نعم فلان قال: فما صنع قالوا: ضمن عشرة آلاف درهم قال: فعلي مثلها.
قال: ثم جعل الناس يخرجون فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذاك حتى ضمنوا أربعين ألفا.
وكان يأمل عبيد الله بن أبي بكرة فلم يخرج حتى غربت الشمس فخرج مبادرا فلم يره حتى كاد يبلغ بيته فقيل له: إنك مررت بابن مفرغ ملزوما وقد مر به الأشراف فضمنوا عنه فقال: واسوأتاه إني أخاف أن يظن أني تغافلت عنه فكر راجعا فوجده قاعدا فقال له: أبا عثمان ما يجلسك ها هنا قال: غرمائي هؤلاء يلزمونني قال: كم عليك قال: سبعون ألفا قال: وكم ضمن عنك قال: أربعون ألفا قال: فاستمتع بها وعلي دينك أجمع فقال فيه يخاطب نفسه:
لو شئت لم تغني ولم تنصبي عشت بأسباب أبي حاتم
صفحة : 2076
عشت بأسباب الجواد الذي لا يختم الأموال بالخاتـم
من كف بهلول له عدة ما إن لمن عاداه من عاصم
المطعم الناس إذ حاردت نكباؤها في الزمن العارم
والفاصل الخطة يوم اللجا للأمر عند الكربة اللازم
جاورته حينا فأحمدته أثني وما الحامـد كـالـلائم
أذقته الموت على غرة بأبيض ذي رونق صـارم بديح يغني شعرا لابن مفرغ فيصله ويكسوه أخبرني عمي قال: حدثني أبو أيوب المديني قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: قدم بديح الكوفة فغنى بها دهرا وأصاب مالا كثيرا ثم خرج إلى البصرة ثم أتى الأهواز ثم عاد إلى البصرة فصحب ابن مفرغ في سفينة حتى إذا كان في نهر معقل تغنى وهو لا يعرف ابن مفرغ بقوله:
سما برق الجمانة فاستطارا لعل البرق ذاك يعود نارا فطرب ابن مفرغ وقال: يا ملاح كر بنا إلى الأهواز فكر وهو يغنيه ثم كر راجعا إلى البصرة وكروا معه وهو يعيد هذا الصوت. قال: ووصل ابن مفرغ بديحا وكساه.
صوت
رضيت الهوى إذ حل بي متخيرا نديما وما غيري له من ينادمه
أعاطيه كأس الصبر بيني وبينه يقاسمنيها مـرة وأقـاسـمـه يقال: إن الشعر لبشار والغناء للزبير بن دحمان هزج بالوسطى عن الهشامي وأحمد بن المكي.
أخبار الزبير بن دحمان
قدم على الرشيد والمغنون حزبان
قد مضت أخبار أبيه ونسبه وولاؤه في متقدم الكتاب وكان الزبير أحد المحسنين المتقنين الرواة الضراب المتقدمين في الصنعة وقدم على الرشيد من الحجاز وكان المغنون في أيامه حزبين: أحدهما في حزب إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق والآخر في حزب ابن جامع وابن المهدي وكان إبراهيم بن المهدي أوكد أسباب هذا التحزب والتعصب لما كان بينه وبين إسحاق وكان الزبير بن دحمان في حزب إسحاق وأخوه عبيد الله في حزب إبراهيم المهدي.
يغني الرشيد فيفضل أخاه
فأخبرني محمد بن مزيد قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: لما قدم الزبير بن دحمان على الرشيد من الحجاز قدم رجل ما شئت من رجل عقلا ونبلا ودينا وأدبا وسكونا ووقارا وكان أبوه قبله كذلك وقدم معه أخوه عبيد الله فما وصلا إلى الرشيد وجلسا معنا تخيلت في الزبير الفضل فقلت لأبي: يا أبت أخلق بالزبير أن يكون أفضل من أخيه فقال: هذا لا يجيء بالظن والتخيل والجواد إنما يمتحن في الميدان فقلت له: فالجواد عينه فراره فضحك وقال: ننظر في فراستك فلما غنيا بان فضل الزبير وتقدمه فاصطفاه أبي واصطفيته لأنفسنا وقرظناه ووصفناه وصار في حيزنا.
الرشيد يستعيده صوتا ثلاث مرات
وغنى الرشيد غناء كثيرا من غناء المتقدمين فأجاد وأحسن وسأله الرشيد أن يغنيه شيئا من صنعته فالتوى بعض الالتواء وقال: قد سمع أمير المؤمنين غناء الحذاق من المتقدمين وغناء من بحضرته من خدمه ومن وفد عليه من الحجازيين وما عسى أن يأتي من صعنتي فأقسم عليه أن يغنيه شيئا من صنعته وجد به في ذلك فكان أول صوت غناه منها:
ارحلا صاحبي حان الرحيل وابكياني فليس تبكي الطلول
قد تولى النهار وانقضت الشم س يمينا وحان منها أفول لحن هذا الصوت خفيف ثقيل.
قال: فسمعت والله صنعة حسنة متقنة لا مطعن عليها فطرب الرشيد واستعاده هذا الصوت ثلاث مرات وأمر له بثلاثين ألف درهم ولأخيه بعشرين ألف درهم. ثم لم يزل زبير معنا كواحد منا وانحاز عبيد الله إلى جنبة إبراهيم المهدي فكان معه. قال حماد: فقلت لأبي: كيف كانت صنعة عبيد الله قال: أنا أجمل لك القول لو كان زبير مملوكا لاشتريته بعشرين ألف دينار ولو كان عبيد الله مملوكا ما طابت نفسي على أن أشتريه بأكثر من عشرين دينارا فقلت أجبتني بما يكفيني.
يغني الرشيد بشعر مدحه به
حدثني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال: حدثنا يوسف بن إبراهيم قال: حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي ومحمد بن الحارث بن بسختر: أن الرشيد كتب في إشخاص الزبير بن دحمان إلى مدينة السلام فوافاها واتفق قدومه في وقت خروج الرشيد إلى الري لمحاربة بندار هرمز أصبهبد طبرستان فأقام الزبير بمدينة السلام إلى أن دخل الرشيد فلما قدم دخل عليه بالخيزرانة وهو المومضع الذي يعرف بالشماسية فغناه في أول غنائه صوتا في شعر قاله هو أيضا في الرشيد مدحه به وذكرلا خروجه إلى طبرستان وهو: صوت
ألا إن حزب الله ليس بمعجز وأنصاره في منعة المتحرز
صفحة : 2077
إذا الراية السوداء راحت أو اغتدت إلى هارب منها فليس بمعجز
لطاعت لهارون العداة لدى الوغا وكبر للإسلام بندار هـرمـز لم أجد هذا الصوت منسوبا في شيئ من الكتب إلا في كتاب بذل وهو فيه غير مجنس.
وذكر إبراهيم بن المهدي أن الشعر للزبير بن دحمان وهذا خطأ الشعر لأبي العتاهية وهو موجود في شعره من قصيدة طويلة مدح بها الرشيد.
قال أبو إسحاق: فاستحسن الرشيد الشعر والغناء وأمر له بألف دينار فدفعت إليه ومكث ساعة ثم غنى صوتا ثانيا وهو: صوت
وأحور كالغصن يشفي السقام ويحكي الغزال إذا مارنا
شربت المدام على وجهه وعاطيته الكأس حتى انثنـى
وقلت مديحا أرجي به من الأجر حظا ونيل الغـنـى
وأعني بذاك الإمام الذي به الله أعطى العباد المـنـى لحن هذا الصوت ثاني ثقيل مطلق.
قال: فما فرغ من الصوت حتى أمر له بألف دينار آخر فقبضه وخف على قلبه واستظرفه يغني الرشيد بشعر يزيد ندمه على البرامكة
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أبو توبة عن القطراني عن محمد بن حبيب قال: كان الرشيد بعد قتله البرامكة شديد الأسف عليهم والتندم على ما فعله بهم ففطن لذلك الزبير بن دحمان فكان يغنيه في هذا المعنى ويحركه فغناه يوما والشعر لامرأة من بني أسد:
من للخصوم إذا جد الخصام بهم يوم النزال ومن للضمر الـقـود
وموقف قد كفيت الناطقين به في مجمع من نواصي الناس مشهود
فرجته بلسان غير ملتبس عند الحـفـاظ وقـول غـير مـردود فقال له الرشيد: أعد فأعاد فقال له: ويحك كأن قائل هذا الشعر يصف به يحيى بن خالد وجعفر بن يحيى وبكى حتى جرت دموعه ووصل الزبير صلة سنية.
إسحاق يفضل الزبير على أبيه وأخيه
في الغناء
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال: كان أبي يقول: ما كان دحمان يساوي على الغناء أربعمائة درهم وأشبه خلق الله به غناء ابنه عبيد الله وكان يفضل الزبير بن دحمان على أبيه وأخيه تفضيلا بعيدا. وفي الزبير يقول إسحاق وله فيه غناء وهو:
أسعد بدمعك يا أبا العوام صبا صريع هوى ونضو سقام
ذكر الأحبة فاستجن وهاجه للشوق نوح حمامة وحمام
لم يبد ما في الصدر إلا أنه حيا العراق وأهل بسـلام
ودعاه داع للهوى فأجابه شوقا عليه وقـاده بـزمـام الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وهذا الشعر قاله إسحاق وهو بالرقة مع الرشيد يتشوق إلى العراق.
إسحاق يغني الرشيد بالرقة
شعرا يحن فيه إلى بغداد
أخبرني عمي قال: حدثني علي بن محمد بن نصر قال: حدثني جدي حمدون بن إسماعيل قال: قال لي إسحاق: كنا مع الرشيد بالرقة وخرج يوما إلى ظهرها يصيد وكنت في موكبه أساير الزبير بن دحمان فذكرني بغداد وطيبها وأهلي وإخواني وحرمي فتشوقت لذلك شوقا شديدا وعرض لي هم وفكر حتى أبكاني فقال لي الزبير: ما لك يا أبا محمد فشكوت إليه ما عرض لي وقلت:
أسعد بدمعك يا أبا العوام صبا صريع هوى ونضو سقام وذكر باقي الأبيات وعلمت أن الخبر سينمي إلى الرشيد فصنعت في الأبيات لحنا فلما جلس الرشيد للشرب ابتدأت فغنيته إياه فقال لي: تشوقت والله يا إسحاق وشوقت وبلغت ما أردت وأمر لي بثلاثين ألف درهم وللزبير بعشرين ألفا ورحل إلى بغداد بعد أيام.
الفضل بن الربيع يغضب من إسحاق أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال: أخبرني أبي قال: قال لي إسحاق وأخبرني به الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال: جاءني الزبير بن دحمان ذات يوم مسلما فاحتسبته فقال: قد أمرني الفضل بن الربيع بأن أصير إليه فقلت:
أقم يا أبا العوام ويحك نشرب ونلهو مع اللاهين يوما ونطرب قال: فأقام عندي فشربنا باقي يومنا ثم سار الزبيرإلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه بالحديث وأنشده الشعر فغضب وحول وجهه عني وأمر عونا حاجبه ألا يدخلني اليوم ولا يستأذن عليه ولا يوصل لي رقعة إليه قال: فقلت:
حرام علي الكأس ما دمت غضبانا وما لم يعد عني رضاك كما كانا
فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل تعودني عند الإسـاءة إحـسـانـا قال: وأنشدته إياهما فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه.
صفحة : 2078
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكره الآخران وزاد فيه: وقلت في عون حاجبه:
عون يا عون ليس مثلك عون أنت لي عدة إذا كان كـون
لك عندي والله إن رضي الفض ل غلام يرضيك أو برذون فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا فلما قرأهما ضحك وقال له: ويلك إنما عرض لك بقوله: غلام يرضيك بالسوأة فقال: قد وعدني ما سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي وأتاني رسوله فصرت إليه ورضي عني.
إسحاق والزبير يحكمان حبشيا في غنائهما أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال: حدثني إسحاق قال: كان عندي الزبير بن دحمان يوما فغنيت لحن أبي:
أشاقك من أرض العراق طلول تحمل منها جيرة وحمول فقال لي الزبير: أنت الأستاذ وابن الأستاذ السيد وقد أخذت عن أبيك هذا الصوت وأنا أغنيه أحسن فقلت له: والله إني لا أحب أن يكون ذلك كذلك فغضب. وقال: فأنا والله أحسن غناء منك. وتلاحينا طويلا فقلت له: هلم نخرج إلى صحراء الرقة فيكون أكلنا وشربنا هناك ونرضى في الحكم بأول من يطلع علينا قال: أفعل.
فأخرجنا طعامنا وشرابنا وجلسنا نشرب على الفرات فاقبل حبشي يحفر الأرض بالبال فقلت له: أترضى بهذا قال: نعم فدعوناه فأطعمناه وسقيناه وبدرني الزبير بالغناء فغنى الصوت فطرب الحبشي وحرك رأسه حتى طمع الزبير في ثم أخذت العود فغنيته فتأملني الحبشي ساعة ثم صاح وأي شيطان هو ومد بها صوته فما أذكر أني ضحكت مثل ضحكي يومئذ وانخزل الزبير.
نسبة هذا الصوت شعر لأبي العتاهية يمدح به الفضل بن الربيع وفيه غناء
أشاقك من أرض العراق طلول تحمل منها جيرة وحمول
وكيف ألد العيش بعد معاشر بهم كنت عند النائبات أصول الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن أحمد بن المكي وفيه للحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى.
وهذان البيتان من قصيدة مدح بها أبو العتاهية الفضل بن الربيع قال: أنشدنيها عبد الله بن الربيع الربيعي قال: أنشدنيها أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية لجده يمدح الفضل بن الربيع وإنما ذكرت ذلك ها هنا لأن من الناس من ينسبهما إلى غيره فذكرت الأبيات الأول وفيها يقول في مدح الفضل بن الربيع:
قبائل من أقصى وأدنى تجمعت فهن على آل الربيع كلـول
تمر ركاب السفر تثني عليهم عليها من الخير الكثير حمول
إليك أبا العباس حنت بأهلها مغان وحنت ألسـن وعـقـول
وأنت جبين الملك بل أنت سمعه وأنت لسان الملك حين تقول
وللملك ميزان يدك تقيمه يزول مع الإحسـان حـيث يزول حدثني الصولي قال: حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني رجل من ثقيف قال: غضب الرشيد على أم جعفر ثم ترضاها فأبت أن ترضى عنه فأرق ليلته ثم قال: افرشوا لي على دجلة ففعلوا فقعد ينظر إلى الماء وقد رأى زيادة عجيبة فسمع غناء في هذا الشعر: صوت
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلتي غروب
وما ذاك إلا حين خبرت أنـه يمـر بـواد أنـت مـنـه قـريب
يكون أجاجا ماؤه فإذا انتهى إليكم تلـقـى طـيبـكـم فـيطـيب
فيا ساكني شرقي دجلة كلكم إلى القلب من أجل الحبـيب حـبـيب الشعر للعباس بن الأحنف والغناء للزبير بن دحمان خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي.
فسأل عن الناحية التي فيها الغناء فقيل دار ابن المسيب فبعث إليه أن ابعث بالمغني فإذا هو الزبير بن دحمان فسأله عن الشعر فقال هو للعباس بن الأحنف فأحضر واستنشده فأنشده إياه وجعل الزبير يغنيه وعباس ينشده وهو يستعيدهما حتى أصبح وقام فدخل إلى أم جعفر فسألت عن سبب دخوله فعرفته فوجهت إلى العباس بألف دينار وإلى الزبير بألفالرشيد يفضل لحنه على عشرين لحنا
صنعها زملاؤه
أخبرني عمي قال: حدثني علي بن محمد عن جده حمدون قال: تشوق الرشيد بغداد وهو بالرقة فانحدر إليها وأقام بها مدة وخلف هناك بعض جواريه وكانت حظية له فيهن خلفها لمغاضبة كانت بينه وبينها فتشوقها تشوقا شديدا وقال فيها: صوت
سلام على النازح المغترب تحية صب به مكتئب
غزال مراتعه بالبليخ إلى دير زكى فجسر الخشب
أيا من أعان على نفسه بتخليفه طائعا من أحـب
صفحة : 2079
سأستر والستر من شيمتي هوى من أحب لمن لا أحب وجمع المغنين فحضر إبراهيم الموصلي وابن جامع وفليح وزبير بن دحمان والمعلى بن طريف وحسين بن محرز وسليم بن سلام ويحيى المكي وابنه وإسحاق وأبو زكار الأعمى وأعطاهم الشعر وقال: ليعمل كل واحد منكم فيه لحنا. قال: فلقد عملوا فيه عشرين لحنا فما أعجب منها إلا بلحن الزبير وحده أعجب به إعجابا شديدا وأجازه خاصة دون الجماعة بجائزة سنية.
غنى إبراهيم في هذه الأبيات ولحنه ماخوري بالوسطى ولفليح فيها ثاني ثقيل بالوسطى ولابن جامع رمل بالبنصر ولابن المكي ثقيل أول بالوسطى وللزبير بن دحمان خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر وللمعلى خفيف رمل بالوسطى ولإسحاق رمل بالوسطى وللحسين بن محرز هزج بالوسطى.
صوت
يا ناعش الجد إذا الجد عثر وجابر العظم إذا العظم انكسر
أنت ربيعي والربيع ينتظر وخير أنواء الربيع ما بـكـر الشعر للعماني الراجز والغناء لشارية خفيف رمل من كتاب ابن المعتز وروايته.
نسب العماني وخبره
نسبه
اسمه محمد بن ذؤيب بن محجن بن قدامة بن بلهية الحنظلي ثم الدارمي صلبية وقيل له: العماني وهو بصري لأنه كان شديد صفرة اللون وليس هو ولا أبوه من أهل عمان وكان شاعرا راجزا متوسطا من شعراء الدولة العباسية ليس من نظراء الشعراء الذين شاهدهم في عصره مثل أشجع وسلم ومروان ولكنه كان لطيفا داهيا مقبولا فأفاد بشعره أموالا جليلة.
يدخل على الرشيد وينشده فيجزل صلته
أخبرني ابن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جبر بن رياط الأسدي: أن عبد الملك بن صالح أدخل العماني على الرشيد فأنشده:
يا ناعش الجد إذا الجد عثر وجابر العظم إذا العظم انكسر
أنت ربيعي والربيع ينتظر وخير أنواء الربيع ما بـكـر فقال له الرشيد: إذا يبكر عليك ربيعنا يا فضل أعطه خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبا.
قال إسحاق: قال جبر: لما دخل الرشيد الرقة استقبله العماني فلما بصر به ناداه:
من أرض بغداد تؤم المغربا طابت لنا ريح الجنوب والصبا
ونزل الغيث لنا حتى ربا ما كان من نشز وما تـصـوبـا فمرحبا ومرحبا ومرحبا فقال له الرشيد: وبك مرحبا يا عماني وأهلا وأجزل صلته.
ينشد الرشيد أرجوزة طويلة أثناء قعوده للبيعة لابنه محمد
أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد المعروف بابن الصيدلاني قال: حدثنا محمد بن موسى عن حماد قال: قال العتبي: لما وجه الفضل بن يحيى الوفد من خراسان إلى الرشيد يحضونه على البيعة لابنه محمد قعد لهم الرشيد وتكلم القوم على مراتبهم وأظهروا السرور بما دعاهم إليه من البيعة لابنه وكان فيمن حضر محمد بن ذؤيب العماني فقام بين صفوف القواد ثم أنشأ يقول:
لما أتانا خبر مشهر أغر لا يخفـى عـلـى مـن يبـصـر
جاء به الكوفي والمبصر والراكب المنـجـد والـمـغـور
وللرجال: حسبكم لا تكثروا فاز بها محـمـد فـأقـصـروا
قد كان هذا قبل هذا يذكر في كتب العلم التـي تـسـطـر
فقل لمن كان قديما يتجر: قد نشر العدل فبيعوا واشـتـروا
وشرقوا وغربوا وبشروا فقد كفى اللـه الـذي يسـتـقـدر
بمنه أفعال ما قد يحذر والسيف عنا مغـمـد مـا يشـهـر
وقلد الأمر الأغر الأزهر نوء السماكين الذي يستـمـطـر
بوجهه إن كان عام أغبـر سـرت بـه أسـرة ومـنـبـر
وابتهج الناس به واستبشروا وهللـوا لـربـهـم وكـبـروا
شكرا ومن حقهم أن يشكروا إذ ثبتت أوتاد مـلـك يعـمـر
من هاشم في حيث طاب العنصر وطاح من كان عليها يزفر
إن بني العباس لم يقصروا إذ نهضوا لملكهـم فـشـمـروا
وعقدوا ونزعوا وأمروا ودبروا فأحـكـمـوا مـا دبـروا
وأوردوا بالحزم ثم أصدروا والحزم رأي مثلـه لا ينـكـر
إذا الرجال في الرجال خيروا يا أيها الخليفة الـمـطـهـر
ما الناس إلا غنم تنشر إن لم تـداركـهـم بـراع يخـطـر
على قواصي طرقها ويستر ويمنـع الـذئب فـلا ينـفـر
فامنن علينا بيد لا تكفر مشهـورة مـا دام زيت يعـصـر
وانظر لنا وخل من لا ينظر واجسر كما كان أبوك يجـسـر
لا خير في مجمجم لا يظهر ولا كتـاب بـيعة لا ينـشـر
وقد تربصت فليس تعذر فليت شعري ما الذي تنـتـظـر
أأنت قائم به أم تسخر ما لك فـي مـحـمـد لا تـعـذر
صفحة : 2080
وليت شعري والحديث يؤثر أترقد الليل ونحن نسـهـر
خوفا على أمورنا ونضجر والله والله الذي يستـغـفـر
لأن يموت معشر ومعشر خير لنا من فتـنة تـسـعـر
يهلك فيها دينهم ويوزروا وقد وفى القوم الذين انتصـروا
لصاحب الروم وذاك أصغر منه وهذا البحـر لا يكـدر
وذاكم العلج وهذا الجوهر ينمي به محمـد وجـعـفـر
والخلفاء والنبي الأكبر ونبعة من هاشـم وعـنـصـر
منا ذوي العسرة حتى يوسروا أن الرجال إن ولوها آثروا
ذوي القرابات بها واستأثروا بها وضل أمرهم واستكبروا
والملك لا رحم له فيأصر ذا رحم والناس قد تـغـيروا
فأحكم الأمر وأنت تقدر فمثـل هـذا الأمـر لا يؤخـر فلما فرغ من أرجوزته قال له الرشيد: أبشر يا عماني بولاية محمد العهد فقال: إي والله يا أمير المؤمنين بشرى الأرض المجدبة بالغيث والمرأة النزور بالولد والمريض المدنف بالبرء قال: ولم ذاك قال: لأنه نسيج وحده وحامي مجده وموري زنده. قال: فما لك في عبد الله قال: مرعى ولا كالسعدان فتبسم الرشيد وقال: قاتله الله من أعرابي ما أعرفه بمواضع الرغبة وأسرعه إلى أهل البذل والعائدة وأبعده من أهل الحزم والعزم والذين لا يستمنح ما لديهم بالثناء أما والله إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور ونسك المهدي وعز نفس الهادي ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابعة لنسبته إليها.
يرشح القاسم لولاية العهد في أرجوزة ينشدها للرشيد
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا علي بن الحسن الشيباني وأخبرني به محمد بن جعفر عن محمد بن موسى عن حماد عن أبي محمد المطبخي عن علي بن الحسن الشيباني قال: أخبرني أبو خالد الطائي عن جبير بن ضبينة الطائي قال: أخبرني الفضل قال: حضرت الرشيد يوما وجلس للشعراء فدخل عليه الفضل بن الربيع وخلفه العماني فأدناه الرشيد واستنشده فأنشده أرجوزة له فيه حتى انتهى إلى هذا الموضع:
قل للإمام المقتدى بأمه: ما قاسم دون مدى ابن أمه وقد رضيناه فقم فسمه قال: فتبسم الرشيد ثم قال: ويحك أما رضيت أن أوليه العهد وأنا جالس حتى أقوم على رجلي فقال له العماني: ما أردت يا أمير المؤمنين قيامك على رجليك إنما أردت قيام العزم قال: فإنا قد وليناه العهد وأمر بالقاسم أن يحضر. ومر العماني في أرجوته يهدر حتى أتى على آخرها وأقبل القاسم فأومأ إليه الرشيد فجلس مع أخويه فقال له: يا قاسم عليك جائزة هذا الشيخ فقد سألنا أن نوليك العهد وقد فعلنا فقال: حكمك يا أمير المؤمنين فقال: وما أنا وهذا بل حكمك وأمر له الرشيد بجائزة وأمر له القاسم بجائزة أخرى مفردة.
أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخل محمد بن ذؤيب العماني على أبي الحر التميمي بالبصرة فأطعمه وسقاه وجلله بكساء فقال فيه:
إن أبا الحر لعين الحر يدفع عنا سبرات الـقـر
باللحم والشحم وخبز البر ونطفة مكنونة في الجر
يشربها أشياخنا في السر حتى نرى حديثنا كالدر ويمدح عبد الملك بن صالح فيثيبه
أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد عن أبيه قال: قصد العماني عبد الملك بن صالح الهاشمي متوسلا به إلى الرشيد في الوصول إليه مع الشعراء ومدح عبد الملك بقصيدته التي يقول فيها:
نمته العرانين من هاشم إلى النسب الأوضح الأصرح
إلى نبعة فرعها في السماء ومغرسها سرة الأبطـح فأدخله عبد الملك إلى الرشيد بالرقة فأنشده:
من أرض بغداد تؤم المغربا طابت لنا ريح الجنوب والصبا
ونزل الغيث لنا حتى ربا ما كان من نشز وما تـصـوبـا فمرحبا ومرحبا ومرحبا فأعطاه خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبا.
يصف طعاما قدمه له محمد بن سليمان أخبرني عمي والحسين بن القاسم الكوكبي قالا: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله الأزدي عن محمد بن عبد الله العامري القرشي عن العماني الشاعر: أنه تغدى مع محمد بن سليمان بن علي فكان أول ما قدم إليهم فرنية في لبن عليها سكر ثم تتابع الطعام فقال له: قل فيما أكلت شعرا تصفه فقال:
جاءوا بفرنى لهم ملبون بات يسقى خالص السـمـون
مصومع أكوم ذي غصون قد حشيت بالسكر المطحون
ولونوا ما شئت من تلوين من بارد الطعام والسـخـين
صفحة : 2081
ومن شراسيف ومن طردين ومن هلام ومصوص جون
ومن إوز فائق سمين ومن دجاج قـيت بـالـعـجـين
وبالخبيص الرطب واللوزين وفكهوا بـعـنـب وتـين
والرطب الأزاذ والهيرون محمـد يا سـيد الـبـنـين
وبكر بنت المصطفى الأمين الصادق المبارك الميمون
وابن ولاة البيت والحجون اسمع لنعت غير ذي تغنـين
يخرج من فن إلى فنون إن الحديث فيك ذو شـجـون سبب تسميته العماني
أخبرنا الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أحمد بن أبي كامل قال: حدثني أبو هاشم القيني قال: كان محمد بن ذؤيب العماني الراجز من أهل البصرة ويكنى أبا عبد الله وإنما قيل له العماني لأنه أقبل يوما وقد خرج من علة ووجهه أصفر فقال له بعض أصحابنا: يا أبا عبد الله قد خرجت من هذه العلة كأنك جمل عماني قال: وكانت جمال عمان تحمل الورس من اليمن إلى عمان فتصفر قال: وهو من بني تميم ثم من بني فقيم.
يمدح عيسى بن موسى فيصله
قال: فقدم على عيسى بن موسى فلما وصل إليه أنشده مديحا له وفد إليه به فاستحسنه ووصله واقتطعه إليه وخصه وجعله في جلسائه فقال العماني فيه:
ما كنت أدري ما رخاء العيش ولا لبست الوشي بعد الخيش
حتى تمدحت فتى قريش عيسى وعيسى عند وقت الهـيش
حين يخف غيره للطيش زين المقيمـين وعـز الـجـيش راش جناحي وفوق الريش ينشد الرشيد قصيدة أثناء حصاره هرقلة
يذكر فيها بغداد
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أحمد بن علي بن أبي نعيم قال: حدثنا موسى بن صبيح المروزي قال: خرج الرشيد غازيا بلاد الروم فنزل بهرقلة ونصب الحرب عليها فدخل عليه العماني وهو يذكر بغداد وطيبها وما فيه أهلها من النعمة فأنشده العماني قصيدة له في هذا المعنى يذكر فيها طيب العيش ببغداد وسعة النعم وكثرة اللذات يقول فيها:
وبعبيط ليس بالملهوج فدق دق الكـودنـي الـديرج
حتى ملا أعفاج بطن نفج وقال للقينة: صبي وامزجي قال: فوهب له على القصيدة ثلاثين ألف درهم.
ابن جامع يغني شعرا في ضرب هرقلة ثم دخل إليه ابن جامع وقد أمر الرشيد أن يوضع الكبريت والنفط الأبيض على الحجارة وتلف بالمشاقة وتوقد فيها النار ثم توضع في كفة المنجنيق ويرمى بها السور ففعلوا ذلك وكانت النار تثبت في السور وتصدعه حتى طلبوا الأمان حينئذ فغناه ابن جامع وقال:
هوت هرقلة لما أن رأت عجبا حوائما ترتمي بالنفط والنار
كأن نيراننا في جنب قلعتهم مصبغات على أرسان قصـار فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى.
يرتجل شعرا في فرس للمهدي فيجيزه
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني أبو هفان قال: حدثني أحمد بن سليمان قال: قال يزيد بن عقال: كنا وقوفا والمهدي قد أجرى الخيل فسبقها فرس له يقال له الغضبان فطلب الشعراء فلم يحضر أحد منهم إلا أبو دلامة فقال له: قلده يا زند فلم يفهم ما أراد فقلده عمامته فقال له المهدي: يابن اللخناء أنا أكثر عمائم منك إنما أردت أن تقلده شعرا ثم قال: يا لهفي على العماني فلم يتكلم بها حتى أقبل العماني فقيل له: ها هو ذا قد أقبل الساعة يا أمير المؤمنين فقال: قدموه فقدموه فقال: قلد فرسي هذا فقال غير متوقف:
قد غضب الغضبان إذ جد الغضب وجاء يحمي حسبا فوق الحسب
من إرث عباس بن عبد المطلب وجاءت الخيل به تشكو التعـب له عليها ما لكم على العرب فقال له المهدي: أحسنت والله وأمر له بعشرة آلاف درهم.
صوت
لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبـه ولـو قـعـدت أتـانـي لا يعـنـينـي الشعر لعروة بن أذينة والغناء لمخارق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو.
أخبار عروة بن أذينة ونسبه
نسبه
هو عروة بن أذينة وأذينة لقبه واسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو بن عبد الله بن زحل بن يعمر وهو الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وسمي يعمر بالشداخ لأنه تحمل ديات قتلى كانت بين قريش وخزاعة وقال: قد شدخت هذه الدماء تحت قدمي فسمي الشداخ.
قال ابن الكلبي: الشداخ بضم الشين.
شاعر وفقيه ومحدث
صفحة : 2082
ويكنى عروة بن أذينة أبا عامر وهو شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة وهو معدود في الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس وعبيد الله بن عمر العدوي. أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة وروى جده مالك بن الحارث عن علي بن أبي طالب.روى قصة عن جده مالك
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن خرج مع علي بن أبي طالب رجل من قومي كان مصطلما فخرجت في أثره وخشيت انقراض أهل بيته فأردت أن أستأذن له من علي فأدركت عليا بالبصرة وقد هزم الناس ودخل البصرة فجئته فقال: مرحبا بك يابن الفقيمة أبدا لك فينا بداء قلت: والله إن نصرتك لحق وإني لعلى ما عهدت أحب العزلة ثم ذاكرته أمر ابن عمي ذلك فلم يبعد عنه فكنت آتيه أتحدث إليه. فركب يوما يطوف وركبت معه فإني لأسير إلى جانبه إذ مررنا بقبر طلحة فنظر إليه نظرا شديدا ثم أقبل علي فقال: أمسى والله أبو محمد بهذا المكان غريبا ثم تمثل:
وما تدري وإن أزمعت أمرا بأي الأرض يدركك المقيل والله إني لأكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب. قال: فوقع العراقيون يشتمون طلحة وسكت علي وسكت حتى إذا فرغوا أقبل علي علي فقال: إيه يابن الفقيمة والله إنه وإن قالوا ما سمعت لكما قال أخو جعفي:
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر ثم أردت أن أكلمه بشيء فقلت: يا أميرالمؤمنين فقال: وما منعك أن تقول: يا أبا الحسن فقلت: أبيت فقال: والله إنها لأحبهما إلي ولولا الحمقى لوددت أني خنقت بحبل حتى أموت قبل أن يفعل عثمان ما فعل وما أعتذر من قيام بحق ولكن العافية مما ترى كانت خيرا.
حدثنا محمد خلف وكيع والحسن بن علي الخفاف قالا: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن يزيد عن عروة بن أذينة قال: قدمت مع أبي مكة يوم احترقت الكعبة فرأيت الخشب وقد خلصت إليه النار ورأيت الكعبة متجردة من الحريق ورأيت الركن قد اسود وتصدع من ثلاثة أمكنة فقلت: ما أصاب الكعبة فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير فقالوا: هذا احترقت بسببه أخذ قبسا في رأس رمح فطيرت الريح منه شيئا فضربت أستار الكعبة فيما بين اليماني إلى الأسود.
وفد على هشام فذكره بشعره في القناعة
ولامه ثم ندم فأرسل إليه جائزة
حدثني محمد بن جرير الطبري وحفظته وأخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني عمر بن محروس الوراق بن أقيصر السلمي قال: حدثنا يحيى بن عروة بن أذينة قال: أتى أبي وجماعة من الشعراء هشام بن عبد الملك فنسبهم فلما عرف أبي قال له: أنت القائل:
أسعى له فيعنيني تطلبه ولو جلست أتاني لا يعنيني هذان البيتان فقط ذكرهما المهلبي والجوهري وذكر محمد بن جرير في خبره الأبيات كلها:
وأن حظ امرىء غيري سيبلغه لابـد لابـد أن يحـتـازه دونـي
لا خير في طمع يدني لمنقصة وغفة من قوام العيش تكـفـينـي
لا أركب الأمر تززي بي عواقبه ولا يعاب به عرضي ولا دينـي
كم من فقير غني النفس تعرفه ومن غني فقير النفس مـسـكـين
ومن عدو رماني لو قصدت له لم يأخذ النصف مني حين يرمينـي
ومن أخ لي طوى كشحا فقلت له: إن انطواءك عني سوف يطويني
إني لأنطق فيما كان من أربي وأكثر الصمت فيما ليس يعنـينـي
لا أبتغي وصل من يبغي مفارقتي ولا ألين لمن لا يشتهي لـينـي فقال له ابن أذينة: نعم أنا قائلها قال: أفلا قعدت في بيتك حتى يأتيك رزقك.
وغفل عنه هشام فخرج من وقته وركب راحلته ومضى منصرفا ثم افتقده هشام فعرف خبره فأتبعه بجائزة وقال للرسول: قل له: أردت تكذبنا وتصدق نفسك. فمضى الرسول فلحقه وقد نزل على ماء يتغدى عليه فأبلغه رسالته ودفع الجائزة. فقال: قل له: صدقني ربي قال يحيى بن عروة: وفرض له فريضتين فكنت أنا في إحداهما.
أخبرنا وكيع قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني أبو غزية قال: حدثني أنس بن حبيب قال: خرج ابن أذينة إلى هشام بن عبد الملك في قوم من أهل المدينة وفدوا عليه وكان ابنه مسلمة بن هشام سنة حج أذن لهم في الوفود عليه فلما دخلوا على هشام انتسبوا له وسلموا عليه فقال: ما جاء بك يابن أذينة فقال:
صفحة : 2083
أتينا نمت بأرحامنا وجئنـا بـإذن أبـي شـاكـر
فإن الذي سار معروفه بنجد وغار مـع الـغـائر
إلى خير خندف في ملكها لباد من الناس أو حاضر فقال له هشام: ما أراك إلا قد أكذبت نفسك حيث تقول:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه ولو جـلـسـت أتـانـي لا يعـنـينـي فقال له ابن أذينة: ما أكذبت نفسي يا أمير المؤمنين ولكني صدقتها وهذا من ذاك. ثم خرج من عنده فركب راحلته إلى المدينة فلما أمر لهم هشام بجوائزهم فقده فقال: أين ابن أدينة فقالوا: غضب من تقريعك له يا أمير المؤمنين فانصرف راجعا إلى المدينة فبعث إليه هشام بجائزته.
مر بغنمه وراعيه نائم فضربه وقال شعرا أخبرنا وكيع قال: حدثنا هارون بن محمد قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي عن عروة بن عبيد الله قال: كان عروة بن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق وخرج أبي يوما يمشي وأنا معه وابن أذينة ونظر إلى غنم كانت له في يدي راع يقال له كعب وهي مهملة وكعب نائم حجرة فجعل ابن أذينة ينزو حوله وهو يضربه ويقول:
لو يعلم الذئب بنوم كعب إذا لأمسى عندنا ذا ذنـب
أضربه ولا يقول حسبي لابد عند ضيعة من ضرب غنى ابن عائشة بشعره
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي وإسماعيل بن يونس الشيعي قالوا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو غسان محمد بن يحيى عن بعض أصحابه قال: مر ابن عائشة المغني بعروة بن أذينة فقال له: قل لي أبياتا هزجا أغني فيها فقال له: اجلس فجلس فقال: صوت
سليمى أجمعت بيننا فأين تقولـهـا أينـا
وقد قالت لأتراب لها زهر تـلاقـينـا:
تعالين فقد طاب لنا العيش تـعـالـينـا
وغاب البرم اللي لة والعين فـلا عـينـا
فأقبلن إليها مـس رعـات يتـهـادينـا
إلى مثل مهاة الرم ل تكسو المجلس الزينا
تمنين مناهن فـكـنـا مـا تـمـنـينـا قال أبو غسان: فحدثت أن ابن عائشة رواها ثم ضحك لما سمع قوله:
تمنين مناهن فكنا ما تمنينا ثم قال: يا أبا عامر تمنيتك لما أقبل بخرك وأدبر ذكرك.
قال عمر بن شبة: قال أبو غسان: فحدثني حماد الحسيني قال: ذكر ابن أذينة عند عمر بن عبد العزيز فقال: نعم الرجل أبو عامر على أنه الذي يقول:
وقد قالت لأتراب لها زهر تلاقينا وأخبرني بهذا الخبر وكيع قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن الزبير عن محمد بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن قسطاس قال: مر ابن عائشة بابن أذينة ثم ذكر الخبر مثل الذي قبله.
اعتراض سكينة على ادعائه العفة
مع شعر قاله
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي والحرمي بن أبي العلاء قالا: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني أبو معاوية عبد الجبار بن سعيد المساحقي وأخبرنا بن وكيع قال: حدثنا أبو أيوب المديني عن الحارث بن محمد العوفي قال: وقفت سكينة بنت الحسين بن علي على عروة بن أذينة في موكبها ومعها جواريها فقالت: يا أبا عامر أنت الذي تزعم أن لك مروءة وأن غزلك من وراء عفة وأنك تقي قال: نعم صوت
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به: قد كنت عندي تحب السر فاسـتـتـر
ألست تبصر من حولي فقلت لها: غطى هواك وما ألقى على بصري قال لها: بلى قالت: هن حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم أو قالت: من قلب صحيح.
في هذين البيتين لعلوية رمل بالبنصر وفيهما لإسحاق هزج بالوسطى وفيهما لمخارق ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وعمرو بن بانة وذكر حبش أن الثقيل الأول لمعبد اليقطيني.
تمثل المتوكل للمنتصر بشعره
وذكر علي بن محمد بن نصر البسامي أن خاله أبا عبد الله بن حمدون بن إسماعيل قال: كنت جالسا بين يدي المتوكل وبين يديه المنتصر فأحضر المعتز وهو صبي صغير فلعب فأفرط في اللعب والمنتصر يرمقه كالمنكر لفعله فنظر إليه المتوكل عدة دفعات ثم التفت إلى المنتصر فقال: يا محمد:
قالت وأبثثتها وجدي فبحت به: قد كنت عندي تحب الستر فاستتر
صفحة : 2084
قال: فاعتذر إليه المنتصر عذرا قبله وهو مقطب معرض. قال: وكان المنتصر أشد خلق الله بغضا للمعتز وطعنا عليه. ولقد دخلت إليه يوما ودخل إليه أبو خالد المهلبي بعد قتل المتوكل وإفضاء الخلافة إليه ومع المهلبي درع كأنها فضة فقال: يا أمير المؤمنين هذه درع المهلب فأخذها وقام فلبسها ورأى المعتز وعليه وشيء مثقل وما أشبه ذلك فتمثل ببيت جرير:
لبست سلاحي والفرزدق لعبة عليه وشاحا كرج وجلاجله اعترضت امرأة على شعر قاله
أخبرني وكيع قال: حدثني هارون بن محمد قال: حدثني عبد الله بن شعيب الزبيري قال: حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة قال: مرت امرأة بابن أذينة وهو بفناء داره فقالت له: أأنت ابن أذينة قال: نعم قالت: أأنت الذي يقول الناس إنك امرؤ صالح وأنت الذي تقول:
إذا وجدت أوار الحب في كبدي عمدت نحو سقاء القوم أبترد
هبني بردت ببرد الماء ظاهره فمن لحر على الأحشاء يتقد أبو السالب المخزومي يطلب إنشاده شعرا قاله عروة أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي عن عروة بن عبد الله وأخبرنا به وكيع عن هارون بن الزيات عن الزبيري عن عمه عن عروة بن عبد الله وذكره حماد عن أبيه عن الزبيري عن عروة هذا قال: كان عروة بن أذينة في دار أبي بالعقيق فسمعه ينشد: صوت
إن التي زعمت فؤادك ملها جعلت هواك كما جعلت هوى لها
فيك الذي زعمت بها وكلاكما يبدي لصاحبه الصبابة كلـهـا
ويبيت بين جوانحي حب لها لو كان تحت فراشها لأقـلـهـا
ولعمرها لو كان حبك فوقها يوما وقد ضحيت إذا لأظلـهـا
وإذا وجدت لها وساوس سلوة شفع الفؤاد إلى الضمير فسلهـا
بيضاء باكرها النعيم فصاغها بلباقة فـأدقـهـا وأجـلـهـا
لما عرضت مسلما لي حاجة أرجو معونتها وأخشى دلـهـا
منعت تحيتها فقلت لصاحبي: ما كان أكثرها لنـا وأقـلـهـا
فدنا فقال: لعلها معذورة من أجل رقبتها فقلت: لـعـلـهـا قال: فأتاني أبو السائب المخزومي وأنا في داري بالعقيق فقلت له بعد الترحيب: هل بدت لك حاجة فقال: نعم أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعتها منه فقلت له: وأية أبيات فقال: وهل يخفى القمر قوله: إن التي زعمت فؤادك ملها فأنشدته إياها فلما بلغت إلى قوله: فقلت: لعلها . قال: أحسن والله هذا والله الدائم العهد الصادق الصبابة لا الذي يقول:
إن كان أهلك يمنعونك رغبة عني فأهلي بي أضن وأرغب اذهب لا صحبك الله ولا وسع عليك - يعني قائل هذا البيت - لقد عدا الأعرابي طوره وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك - يعني عروة - لحسن ظنه بها وطلبه العذر لها. قال: فعرضت عليه الطعام فقال: لا والله ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاما إلى الليل وانصرف.
ذكر ما في هذا الخبر من الغناء
في الشعر المذكور فيه لعروة في البيت الأول والرابع من الأبيات خفيف رمل بالوسطى نسبه ابن المكي إلى ابن مسجح وقيل: إنه من منحوله إليه وفيهما وفي البيت الثالث من شعر ابن أذينة
ويبيت بين جوانحي حب لها لو كان تحت فراشها لأقلها رأي لأبي السائب في شعر قاله
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي قال: أخبرنا عبد الله بن أبي عبيدة قال: قلت: لأبي السائب المخزومي: ما أحسن عروة بن أذينة حيث يقول: صوت
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة وهم على غرض لعمرك ما هم
متجاورين بغير دار إقامة لو قد أجد رحيلهـم لـم ينـدمـوا
ولهن بالبيت العتيق لبانة والبيت يعرفـهـن لـو يتـكـلـم
لو كان حيا قبلهن ظعائنا حيا الحطيم وجـوهـهـن وزمـزم
وكأنهن وقد حسرن لواغبا بيض بأكناف الحـطـيم مـركـم في هذه الأبيات الثلاثة لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو.
قال: فقال: لا والله ما أحسن ولا أجمل ولكنه أهجر وأخطل في صفتهن بهذه الصفة ثم لا صوت
تفرق أهواء الحجيج على منى وصدعهم شعب النوى صبح أربع
فريقان: منهم سالك بطن نخلة وآخر منهم سالك بطن تـضـرع - في هذين البيتين للدلال ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش -.
فلم أر دارا مثلها غبطة وملقى إذا التف الحجيج بمجمع
أقل مقيما راضيا بمكانه وأكثر جارا ظاعنـا لـم يودع
صفحة : 2085
انظر إليه كيف تقدمت شهادته علمه وكبا لسانه ببيانه وهل يغتبط عاقل بمقام لا يرضى به ولكن مكره أخوك لا بطل والعرجي كان أوفى بالعهد منهما وأولى بالصواب حيت تعرض لها نافرة من منى فقال لها عاتبا مستكينا:
عوجي علي فسلمي جبر فيم الصدود وأنتم سفر
ما نلتقي إلا ثلاث منى حتى يفرق بيننا النـفـر في هذين البيتين غناء قد تقدمت نسبته في أخبار ابن جامع في أول الكتاب.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني جعفر بن موسى اللهبي قال: كان عبد الملك بن مروان إذا قدم مكة أذن للقرشيين في السلام عليه فإذا أراد الخروج لم يأذن لأحد منهم وقال: أكذبنا إذا قول الملحى - يعني كثيرا - حيث يقول:
تفرق أهواءالحجيج على منى وصدعهم شعب النوى صبح أربع وذكر الأبيات الأربعة.
خالد صامة يغني شعره بين يدي الوليد
أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حدث الزبيري عن خالد صامة وكان أحد المغنين قال: قدمت على الوليد بن يزيد فدخلت إليه وهو في مجلس ناهيك به وهو على سرير وبين يديه معبد ومالك وابن عائشة وأبو كامل فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي فغنيته: صوت
سرى همي وهم المرء يسري وغار النجم إلا قيس فتر
أراقب في المجرة كل نجم تعرض للمجرة كيف يجري
لهم ما أزال له مديما كأن القلب أضرم حـر جـمـر فقال لي الوليد: أعد يا صام ففعلت فقال لي: من يقول هذا الشعر قلت: عروة بن أذينة يرثي أخاه بكرا. فقال لي: وأي العيش لا يصفو بعده هذا العيش والله الذي نحن فيه على رغم أنفه والله لقد تحجر واسعا.
لابن سريج في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو ابن المكي وغيرهما وفيها رمل ينسب إلى ابن عباد الكاتب وإلى حاجب الحزور وإلى مسكين بن صدقة.
حدثنا الأخفش عن محمد بن يزيد قال: قال الزبيري: حدثت أن سكينة بنت الحسين أنشدت هذا الشعر فقالت: من بكر هذا أليس هو الأسود الدحداح الذي كان يمر بنا قالوا: نعم فقالت: لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت.
اعترض ابن أبي عتيق على شعره
في رثاء أخيه فخاصمه
وأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي قال: لقي ابن أبي عتيق عروة بن أذينة فأنشده قوله: حتى فرغ منها ثم أنشده: سرى همي وهم المرء يسري حتى بلغ إلى قوله: وأي العيش يصلح بعد بكر فقال له ابن أبي عتيق: كل العيش والله يصلح بعده حتى الخبز والزيت. فغضب عروة من قوله وقام عن مجلسه وحلف ألا يكلمه أبدا فماتا متهاجرين.
ذكر مخارق وأخباره
نسبه
هو مخارق بن يحيى بن ناووس الجزار مولى الرشيد بل ناووس لقب أبيه يحيى ويكنى أبا المهنأ كناه الرشيد بذلك.
وكان قبله لعاتكة بنت شهدة وهي من المغنيات المحسنات المتقدمات في الضرب ذكر ذلك مخارق واعترف به. ونشأ بالمدينة وقيل: بل كان منشؤه بالكوفة.
بان طيب صوته فعلمته مولاته الغناء
وكان أبوه جزارا مملوكا وكان مخارق وهو صبي ينادي على ما يبيعه أبوه من اللحم فلما بان طيب صوته علمته مولاته من الغناء ثم أرادت بيعه فاشتراه إبراهيم الموصلي منها وأهداه للفضل بن يحيى فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه.
اشتراه إبراهيم الموصلي ثم وهبه الفضل
ابن يحيى ثم صار إلى الرشيد
أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: حدثني زكريا مولاهم وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن زكريا مولاهم قال: قدمت مولاة مخارق به من الكوفة فنزلت المخرم وصار إبراهيم إلى جدي الأصبغ بن سنان المقين وسيرين بن طرخان النخاس فقالا له: إن ها هنا امرأة من أهل الكوفة قد قدمت ومعها غلام يتغنى فأحب أن تنفعها فيه قال: فوجهني مع مولاته لأحمله فوجدته متمرغا في رمل الجزيرة التي بإزاء المخرم وهو يلعب فحملته خلفي وأتيت به إبراهيم فتغنى بين يديه فقال لها:
صفحة : 2086
كم أمللك فيه قالت: عشرة آلاف درهم قال: قد أخذته بها وهو خير منها. فقالت: والله ما تطيب نفسي أن أمتنع من عشرين ألف درهم بكبد رطبة فهل لك في خصلة تعطيني به ثلاثين ألف درهم ولا أستقيلك بعدها فقال: قد فعلت وهو خير منها فصفقت على يده وبايعته وأمر بالمال فأحضر وأمر بثلاثة آلاف درهم فزيدت عليه وقال: تكون هذه لهدية تهدينها أو كسوة تكتسينها ولا تثلمين المال.
وراح إلى الفضل بن يحيى فقال له: ما خبر غلام بلغني أنك اشتريت قال: هو ما بلغك قال: فأرنيه فأحضره فلما تغنى بين يدي الفضل قال له: ما أرى فيه الذي رأيت قال: أنت تريد أن يكون في الغناء مثلي في ساعة واحدة ولم يكن مثله في الدنيا ولا يكون أبدا. فقال: بكم تبيعه فقال: اشتريته بثلاثة وثلاثين ألف درهم وهو حر لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار فغضب الفضل وقال: إنما أردت أن تمنعنيه أو تجعله سببا لأن تأخذ مني ثلاثة وثلاثين ألف دينار فقال له: أنا أصنع بك خصلة أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه وأعلمه فإن أعجبك إذا علمته أتممت لي باقي المال. وإلا بعته بعد ذلك وكان الربح بيني وبينك. فقال له الفضل: إنما أردت أن تأخذ مني المال الذي قدمت ذكره فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه.
وغضب فقال له إبراهيم: فأنا أهبه لك على أنه يساوي ثلاثة وثلاثين آلف دينار قال: قد قبلته قال: قد وهبته لك وغدا إبراهيم على الرشيد فقال له: يا إبراهيم ما غلام بلغني أنك وهبته للفضل قال: فقلت: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله ولا يكون مثله أبدا قال: فوجه إلى الفضل فأمره بإحضاره فوجه به إليه فتغنى بين يديه فقال لي: كم يساوي قال: قلت: يساوي خراج مصر وضياعها.
فقال لي: ويلك أتدري ما تقول مبلغ هذا المال كذا وكذا فقلت: وما مقدار هذا المال في شيء لم يملك أحد مثله قط قال: فالتفت إلى مسرور الكبير وقال: قد عرفت يميني ألا أسأل أحدا من البرامكة شيئا بعد فنفنة فقال مسرور فأنا أمضي إلى الفضل فأستوهبه منه فإذا وهبه لي وكان عبدي فهو عبدك فقال له: شأنك. فمضى مسرور إلى الفضل فقال له: قد عرفتم ما وقعتم فيه من أمر فنفنة وإن منعتموه هذا الغلام قامت القيامة واستوهبه منه فوهبه له فبلغ ما رأيت. فكان علوية إذا غضب على مخارق يقول له - حيث يقول: أنا مولى أمير المؤمنين - متى كنت كذلك إنما أنت عبد الفضل بن يحيى أو مولى مسرور.
سبب تلقيب أبيه بناووس
أخبرني ابن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان مخارق بن ناووس الجزار وإنما لقب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضي إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج فطرح رهنه بذلك فدس الرجل الذي راهنه رجلا فألقى في نفسه في الناووس بين الموتى فلما فرغ من الطبيخ مد الرجل يده من بين الموتى وقال له: أطعمني فغرف ملء المغرفة من المرقة فصبها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أولا ثم نتفرغ للموتى فلقب بناووس لذلك فنشأ ابنه مخارق وكان ينادي عليه إذا باع الجزور فخرج له صوت عجيب فاشتراه أبي وأهداه للرشيد فأمره بتعليمهغنى لرشيد بعد ابن جامع ففاقه
وكان يقف بين يدي الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغني وهو واقف فغنى ابن جامع ذات يوم بين يدي الرشيد:
كأن نيراننا في جنب قلعتهم مصبغات على أرسان قصـار
هوت هرقلة لما أن رأت عجبا حوائما ترتمي بالنفط والنار فطرب الرشيد واستعاده عدة مرات وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة وأقبل يومئذ على ابن جامع دون غيره فغمز مخارق إبراهيم بعينه وتقدمه إلى الخلاء فلما جاءه قال له: ما لي أراك منكسرا قال: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت فقال:
صفحة : 2087
قد والله أخذته فقال له: ويحك إنه الرشيد وابن جامع من تعلم ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت وقال: دعني وخلاك ذم وعرفه أني أغني به فإن أحسنت فإليك ينسب وإن أسأت فإلي يعود. فقال للرشيد: يا أمير المؤمنين أراك متعجبا من هذا الصوت بغير ما يستحقه وأكثر مما يستوجبه فقال: لقد أحسن ابن جامع ما شاء قال: أو لابن جامع هو قال: نعم كذا ذكر قال له: فإن عبدك مخارقا يغنيه فنظر إلى مخارق فقال: نعم يا أمير المؤمنين فقال: هاته فغناه وتحفظ فيه فأتى بالعجائب فطرب الرشيد حتى كاد يطير فرحا وشرب ثم أقبل على ابن جامع فقال له: ويلك ما هذا فابتدأ يحلف له بالطلاق وكل محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قط إلا منه ولا صنعه غيره وأنها حيلة جرت عليه فأقبل على إبراهيم وقال: أصدقني بحياتي فصدقه عن قصة مخارق فقال له: أكذلك هو يا مخارق قال: نعم يا مولاي فقال: اجلس إذن مع أصحابك فقد تجاوزت مرتبة من يقوم وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعة ومنزلا.
كان سبب عتقه لحنا غناه أمام الرشيد
أخبرني محمد بن خلف وكيع وحدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال وكيع: حدثني هارون بن مخارق وقال ابن المرزبان: ذكر هارون بن مخارق قال: كان أبي إذا غنى هذا الصوت:
يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا زدت الفؤاد على علاته وصبا
ربع تبدل ممن كان يسكنه عفر الظباء وظلمانا بـه عـصـبـا يبكي ويقول: أنا مولى هذا الصوت فقلت له: وكيف ذاك يا أبت فقال: غنيته مولاي الرشيد فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال: أحسنت يا مخارق فسلني حاجتك فقلت: أن تعتقني يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار فقال: أنت حر لوجه الله فأعد الصوت فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر لي بمنزل وفرش وخادم قال: ذلك لك أعد الصوت فأعدته فبكى وقال: سل حاجتك فقبلت الأرض بين يديه وقلت: حاجتي أن يطيل الله بقاءك ويديم عزك ويجعلني من كل سوء فداءك فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي.
المأمون يسأل إسحاق عنه وعن ابن المهدي
وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن أبان بن سعيد حدثه: أن المأمون سأل إسحاق عن إبراهيم بن المهدي وخارق فقال: يا أمير المؤمنين إذا تغنى إبراهيم بن المهدي بعلمه فضل مخارقا وإذا تغنى مخارق بطبعه وفضل صوته فضل إبراهيم فقال له: صدقت.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا المبرد بهذا الخبر فقال: حدثني بعض حاشية السلطان: أن إبراهيم الموصلي غنى الرشيد يوما هذا الصوت فأعجب به وطرب له واستعاده مرارا فقال له: فكيف و سمعته من عبدك مخارق فإنه أخذه عني وهو يفضل فيه الخلق جميعا ويفضلني فدعا بمخارق فأمره أن يغنيه وذكر باقي الخبر مثل الذي تقدم.
كناه الرشيد أبا المهنأ لإحسانه في الغناء
أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن أبي الدنيا عن إسحاق بن محمد النخعي عن الحسين بن الضحاك عن مخارق: أن الرشيد قال يوما للمغنين وهو مصطبح من منكم يغني: يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا فقمت فقلت: أنا يا أمير المؤمنين فقال: هاته فغنيته فطرب وشرب ثم قال: علي بهرثمة بن أعين فقلت في نفسي: ما يريد منه فجاءوا بهرثمة فأدخل إليه وهو يجر سيفه فقال له: يا هرثمة مخارق الشاري الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته فقال: أبو المهنأ فقال: انصرف فانصرف ثم أقبل علي وقال: قد كنيتك أبا المهنأ لإحسانك وأمر لي بمائة ألف درهم فانصرفت بها وبالكنية.
الواثق يعذر غلمانه تركوا قصره لسماعه
أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني علي بن محمد بن نصر البسامي قال: حدثني خالي أبو عبد الله بن حمدون قال: رحنا إلى الواثق وأمه عليلة فلما صلى المغرب دخل إلى أمه وأمر بألا نبرح وكان في الصحن حصر غير مفروشة. فقال لي مخارق: امض بنا حتى نفرش حصيرا من هذه الحصر فنجلس على بعضه ونتكىء على المدرج منه وكانت ليلة مقمرة فمضينا ففرشنا بعض تلك الحصر واستلقينا وتحدثنا وأبطأ الواثق عند أمه فاندفع مخارق فغنى:
أيا بيت ليلى إن ليلى عربية براذان لا خال لديها ولا ابن عم
صفحة : 2088
فاجتمع علينا الغلمان وخرج الواثق فصاح: يا غلام فلم يجبه أحد ومشى من المجلس إلى أن توسط الدار فلما رأيته بادرت إليه فقال لي: ويلك هل حدث في داري شيء فقلت: لا يا سيدي فقال: فما لي أصيح فلا أجاب فقلت: مخارق يغني والغلمان قد اجتمعوا عليه فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه منه فقال: عذر والله لهم يابن حمدون وأي عذر ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر.
الموصلي يعرف جودة طبعه فيخصه بالتعليم
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أن مخارقا كان ينادي على اللحم الذي يبيعه أبوه فيسمع له صوت عجيب فاشترته عاتكة بنت شهدة وعلمته شيئا من الغناء ليس بالكثير ثم باعته من آل الزبير فأخذه منهم الرشيد وسلمه إلى إبراهيم الموصلي فأخذ عنه وكان إبراهيم يقدمه ويؤثره ويخصه بالتعليم لما تبينه منه ومن جودة طبعه.
كان عبدا لعاتكة بنت شهدة الحاذقة بالغناء
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب قال: حدثني ابن خرداذبه قال: كان مخارق بن يحيى بن ناووس الجزار وكان عبدا لعاتكة بنت شهدة وكانت عاتكة أحذق الناس بالغناء وكان ابن جامع يلوذ منها بالترجيع الكثير فتقول له: أين يذهب بك هلم إلى معظم الغناء ودعني من جنونك قال: فحدثني من حضرهما أن عاتكة أفرطت يوما في الرد على ابن جامع بحضرة الرشيد فقال لها: أي أم العباس أنا - يشهد الله - أحب أن تحتك شعرتي بشعرتك فقالت له: اسكت قطع الله لسانك ولم تعاود بعد ذلك أذيته قال: وكانت شهدة أم عاتكة نائحة. هكذا ذكر ابن خرداذبه وليس الأمر في ذلك كما ذكره.
ابن داود يغني بلحن لشهدة فيفوق المغنين
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني علي بن محمد النوفلي عن عبد الله بن العباس الربيعي أنه كان هو وابن جامع وإبراهيم الموصلي وإسماعيل بن علي عند الرشيد ومعهم محمد بن داود بن علي فغنى المغنون جميعا ثم اندفع محمد بن داود فغناه: صوت
أم الوليد سلمتني حلمي وقتلتني فتحللي إثـمـي
بالله يا أم الوليد أما تخشين في عواقب الظلـم
وتركتني أبغي الطبيب وما لطبيبنا بالداء من علم قال: فاستحسنه الرشيد وكل من حضر وطربوا له فسأله الرشيد: عمن أخذته فقال: أخذته عن شهدة جارية الوليد بن يزيد قال عبد الله بن العباس وهي أم عاتكة بنت شهدة.
الأبيات المذكورة التي فيها الغناء لعبيد الله بن قيس الرقيات وتمامها:
لله درك في ابن عمك قد زودته سقما على سقم
في وجهها ماء الشباب ولم تقبل بمكروه ولا جهم والغناء فيه لابن محرز لحنان كلاهما له أحدهما ثقيل الأول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل الأول بالبنصر عن عمرو بن بانة وفيه لمالك ثاني ثقيل عنالواثق يوزان بين جماعة من المغنين
ويذكر أثر غناء مخارق
وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال أبي: قال الواثق أمير المؤمنين: خطأ مخارق كصواب علوية وخطأ إسحاق كصواب مخارق وما غناني مخارق قط إلا قدرت أنه من قلبي خلق ولا غناني إسحاق إلا ظننت أنه قد زيد في ملكي ملك آخر.
قال: وكان يقول: أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه: انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السماط. فكانوا يتفقدونهم وهم وقوف فكلهم يسمع الغناء من المغنين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه فإذا تغنى مخارق خرجوا عن صورهم فتحركت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم وازدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه.
يستوقف الناس بحسن صوته في الأذان
قال هارون: وحدثت أنه خرج مرة إلى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرتحلون للخروج إلى مكة فنظر غليهم واجتماعهم وازدحامهم فقال لأصحابه الذين خرجوا معه: قد جاء في الخبر أن ابن سريج كان يتغنى في أيام الحج والناس بمنى فيستوقفهم بغنائه وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعا لتعلموا أنه لم يكن ليفضلني إلا بصنعته دون صوته ثم اندفع يؤذن فاستوقف أولئك الخلق واستلهاهم حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا وهو كالأعمى عنها لما خامر قلبه من الطرب لحسن ما يسمع.
أبو العتاهية يعجب بغنائه إعجابا شديدا
صفحة : 2089
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني ابن أخت الحاركي وأبو سعيد الرامهرمزي وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد الأزدي عن أحمد بن عيسى الجلودي عن محمد بن سعيد الترمذي - وكان إسحاق إذا ذكر محمدا وصفه بحسن الصوت ثم قال: قد أفلتنا منه فلو كان يغني لتقدمنا جميعا بصوته - قالوا: جاء أبو العتاهية إلى باب مخارق فطرقه واستفتح فإذا مخارق قد خرج إليه فقال له أبو العتاهية: يا حسان هذا الإقليم يا حكيم أرض بابل اصبب في أذني شيئا يفرح به قلبي وتنعم به نفسي فقال: انزلوا فنزلنا فغنانا قال محمد بن سعيد: فكدت أسعى على وجهي طربا. قال: وجعل أبو العتاهية يبكي ثم قال له: يا دواء المجانين لقد رققت حتى كدت أحسوك فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما ولو كان شرابا لكان ماء الحياة.
أبو العتاهية يشتهي سماعه عند موته
نسخت من كتاب ابن أبي الدنيا حدثني بعض خدم السلطان قال: قال رجل لأبي العتاهية وقد حضرته الوفاة: هل في نفسك شيء تشتهيه قال: أن يحضر مخارق الساعة فيغنيني:
سيعرض عن ذكري وتنسى مودتي ويحدث بعدي للخليل خليل
إذا ما انقضت عني من الدهر مدتي فإن غناء الباكيات قلـيل سأل أبا العتاهية عن شعره في تبخيل الناس
أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن علي بن حمزة العلوي قال: حدثنا علي بن الحسين بن الأعرابي قال: لقي مخارق أبا العتاهية فقال له: يا أبا إسحاق أأنت القائل: قال له: نعم. قال: بخلت الناس جميعا. قال: فاصرف بطرفك يا أبا المهنأ فانظر فإنك لن ترى إلا بخيلا وإلا فأكذبني بجواد واحد فالتفت مخارق يمينا وشمالا ثم أقبل عليه فقال: صدقت يا أبا إسحاق فقال له أبو العتاهية: فديتك لو كنت مما يشرب لذررت على الماء وشربت.
غنى بين قبرين فترك الناس أعمالهم
والتفوا حوله
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني بعض آل نوبخت قال: كان أبي وعبد الله بن أبي سهل وجماعة من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكتاسة الدواب في الجانب الغربي من بغداد يتحثون فإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود وعليه قميص رقيق ورداء مسهم قال: فيمن كنتم فأخبروه فقال: دعوني من وسواسكم هذا أي شيء لي عليكم إن رميت بنفسي بين قبرين من هذه القبور وغطيت وجهي وغنيت صوتا فلم يبق أحد بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادر ولا وارد إلا ترك عمله وقرب مني واتبع صوتي فقال له عبد الله: إني لأحب أن أرى هذا فقل ما شئت فقال: فرسك الأشقر الذي طلبته منك فمنعتنيه قال: هو لك إن فعلت ما قلت ثم دخلها ورمى بنفسه بين قبرين وتغطى بردائه ثم اندفع يغني فغنى في شعر أبي العتاهية:
نادت بوشك رحيلك الأيام أفلست تسمع أم بك استصمام قال: فرأيت الناس يتقوضون إلى المقبرة أرسالا من بين راكب وراجل وصاحب شول وصاحب جدي ومار بالطريق حتى لم يبق بالطريق أحد ثم قال لنا من تحت ردائه: هل بقي أحد قلنا: لا وقد وجب الرهن فقام فركب حماره وعاد الناس إلى صنائعهم فقال لعبد الله: أحضر الفرس فقال: على أن تقيم اليوم عندي قال: نعم فانصرفنا معهما وسلم الفرس إليه وبره وأحسن إليه وأحسن رفده.
نسبة هذا الصوت صوت
نادت بوشك رحيلك الأيام أفلست تسمع أم بك استصمام
ومض أمامك من رأيت وأنت لل باقين حتى يلحقوك إمام
ما لي أراك كأن عينك لاترى عبرا تمر كأنهن سـهـام
تمضي الخطوب وأنت منتبه لها فإذا مضت فكأنها أحلام الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى وفيه لمخارق هزج بالوسطى كلاهما عن عمرو وفيه رمل يقال: إنه لعلوية ويقال: إنه لمخارق عن الهشامي.
بكى أبو العتاهية حين سمع لحنه
أخبرني جحظة قال: ذكر ابن المكي المرتجل عن أبيه: أن أبا العتاهية دخل يوما إلى صديق له وعنده جارية تغني فقال: يا أبا إسحاق إن هذه الجارية تغني صوتا حسنا في شعر لك أفتنشط إلى سماعه قال: هاتيه فغنته لحنا لعمرو بن بانة في قوله: نادت بوشك رحيلك الأيام فعبس وبسر وقال: لا جزى الله خيرا من صنع هذه الصنعة في شعري قال: فإنها تغني فيه لحنا لمخارق قال: فلتغنه فغنته فأعجبه وطرب حتى بكى ثم قال: جزا الله هذا عني خيرا وقام فانصرف.
صفحة : 2090
وقد روى هذا الخبر هارون بن الزيات عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن غزوان: أنه كان وعبيد الله بن أبي غسان وأبو العتاهية ومحمد بن عمر الرومي عند ابن مريم ومعهم مغنية نادت بوشك رحيلك الأيام فلم يستحسنه أبو العتاهية ثم غنى فيه لحنا لإبراهيم بن المهدي فأطربه وقال: جزى الله عني هذا خيرا.
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: بلغني أن المتوكل دخل إلى جارية من جواريه وهي تغني: صوت
أمن قطر الندى نظم ت ثغرك أم من الـبـرد
وريقك من سلاف الكر م أم من صفوة الشهد
أيا من قد جرى مني كمجرى الروح في الجسد
ضميرك شاهدي فيما أقاسيه مـن الـكـمـد والغناء لمخارق رمل فقال لها: ويحك لمن هذا الغناء فقالت: أخذته من مخارق قال: فألقيه على الجواري جميعا ففعلت فلما أخذته عنها أمر بإخراجهن إليه ودعا بالنبيذ وأمر بألا يغنيه غيره ثلاثة أيام متوالية وكان ذلك بعد وفاة مخارق.
أدخل أبا المضاء الأسدي بيته وسقاه وغناه وكساه فقال فيه شعرا سألت أبا المضا الأسدي أن ينشدني فقال: أنشدك من شعري شيئا قلته لرجل لقيته على الجسر ببغداد فأعجبه مني ما يرى من دماثتي وأقبلت أحدثه وهو ينصت لي وأنشده وهو يحسن الإصغاء إلى إنشادي ويحدثني فيحسن الحديث حتى بلغنا منزله فأدخلني فغداني ثم لم يرم حتى كساني وسقاني فرواني ثم أسمعني والله شيئا ما طار في مسامعي شيء قط أحسن منه فلما خرجت سألت عنه فقال لي غلمانه: هذا أبو المهنأ مخارق فقلت فيه:
أعاد الله يوم أبي المهنأ علينـا إنـه يوم نـضـير
تغيب نحسه عنا وأرخى علينا وابل جود مـطـير
فلما أن رأيت القطر فوقي وأقداحا يحث بها المدير
وأسعدنا بصوت لو وعاه ولي العهد خف به السرير تذكرت الحبيب وأهل نجد وروضا نبته غض نضير قال: فقلت له: ولم ذكرت نجدا مع ما كنت فيه وكان ينبغي لك أن تنساه قال: كلا إن المرء إذا كان فيما يحب تذكر أهله قلت: فما غناك قال: غناني:
وما روضة جاد الربيع بهطله عليها فرواها ورقت غصونـهـا
وهبت عليه الريح حتى تبسمت وحتى بدت فوق الغصون عيونها
وقد أنطقته والشمال جرية على عقد ما تلقي عليها يمـينـهـا قال: فلم يزل يردده علي حتى قضيت وطري من لذتي وحفظته عنه.
غنى لإبراهيم الموصلي فنشج أحر نشيج
أخبرني جحظة قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دخلت على جدك إبراهيم وهو جالس بين بابين له ومخارق بين يديه يغنيه:
يا ربع بشرة إن أضربك البلى فلقد رأيتك آهلا معمورا قال: واللحن الذي كان يغنيه لمالك وفيه عدة ألحان مشتركة فرأيت دموع أبي تجري على خديه من أربعة أماكن وهو ينشج أحر نشيج فلما رآني قال: ياإسحاق هذا والله صاحب اللواء غدا إن مات أبوك.
رأى رؤيا فسرها إبراهيم الموصلي
بأن إبليس قد عقد له لواء صنعة الغناء
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال: رأيت وأنا حدث كأن شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة قد دعاني فقال لي: غنني يا مخارق فقلت: أصوتا تقترحه أم ما حضر فقال: ما حضر فغنيته بصنعتي في: صوت
دعي القلب لا يزدد خبالا مع الذي به منك أو داوي جواه المكتما
وليس بتزويق اللسان وصوغه ولكنه قد خالط اللحـم والـدمـا ولحن مخارق فيه ثقيل أول وفيه لابن سريج رمل.
قال: فقال لي: أحسنت يا مخارق ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفه على المضراب ودفعه إلي فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة عليه وصار في يدي علما ثم انتبهت فحدثت برؤياي إبراهيم الموصلي فقال لي: الشيخ بلا شك إبليس وقد عقد لك لواء صنعتك فأنت ما حييت رئيس أهلها.
قال مؤلف هذا الكتاب: وأظن أن الشاعر الذي مدح مخارقا إنما عنى هذه الرؤيا بقوله:
لقد عقد الشيخ غر آدما وأخرجـه مـن جـنة وحـدائق
لواءي فنون للقريض وللغنا وأقسم لا يعطيهما غير حاذق وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن هارون بن مخارق حدثه فقال:
صفحة : 2091
كان الواثق شديد الشغف بأبي وكان قد اقتطعه عنا وأمر له بحجرة في قصره وجعل له يوما في الأسبوع لنوبته في منزله وكان جواريه يختلفن لذلك اليوم قال: فانصرف إلينا مرة في نوبته فصلى الغداة مع الفجر على أسرة في صحن الدار في يوم صائف وجلس يسبح فما راعنا إلا خدم بيض قد دخلوا فسلموا عليه وقالوا: إن أمير المؤمنين قد دعا بنا في هذه الساعة فأعدنا عليه الصوت الذي طرحته علينا فلم يرضه من أحد منا وأمرنا بالمصير إليك لنصححه عليك قال: فأمر غلمانه فطرحوا لهم عدة كراسي فجلسوا عليها ثم قال لهم: ردوا الصوت فردوه فلم يرضه من أحد منهم فدعا بجاريته عميم فردته عليهم فلم يرضه منها قال: فتحول إليهم ثم اندفع فرد الصوت على الخدم فخرج الوصائف من حجر جواريه حتى وقفن حوالي الأسرة ودخل غلام من غلمانه وكان يستقي الماء فهجم على الصحن بدلوه وجاءت جارية على كتفها جرة من جرار المزملات حتى وقفت بالقرب منه قال: وسبقتني عيناي فما كففت دموعها حتى فاضت.
ثم قطع الصوت حين استوفاه فرجع الوصائف الأصاغر سعيا إلى حجر الجواري وخرج الغلام السقاء يشتد إلى بغلة ورجعت الجارية الحاملة الجرة المزملة شدا إلى الموضع الذي خرجت منه فتبسم أبي وقال: ما شأنك يا هارون فقلت: يا أبت جعلني الله فداءك ما ملكت عيني قال: وأبوك أيضا لم يملك عينه.
نام في بيت ابن المهدي وهو يغني
ثم انتبه وأكمل الغناء
وذكر هارون بن الزيات عن أصحابه قال: جمع إبراهيم بن المهدي المغنين ذات يوم في منزله فأقاموا فلما دخلوا في الليل ثمل مخارق وسكر سكرا شديدا فسألوه أن يغني صوتا فغنى هذا البيت من شعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
قال: ساروا وأمعنوا واستقلوا وبرغمي لو استطعت سبيلا فانتهى منه إلى قوله: واستقلوا. وانثنى نائما فقال إبراهيم بن المهدي: مهدوه ولا تزعجوه فمهدوه ونام حتى مضى أكثر الليل ثم استقل من نومه فانتبه وهو يغني تمام البيت: وبرغمي لو استطعت سبيلا وهو تمام البيت من حيث قطعه وسكت عليه من صوته.
قال: فجعل إبراهيم يتعجب منه ويعجب منه من حضره من جودة طبعه وذكائه وصحة محمد بن الحسن بن مصعب يسأل إسحاق عنه وعن إبراهيم بن المهدي: أيهما أحذق غناء حدثنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: قال محمد بن الحسن بن مصعب: قلت لإسحاق يوما: أسألك بالله إلا صدقتني في مخارق وإبراهيم بن المهدي أيهما أحذق وأحسن غناء فقال لي إسحاق: أجاد أنت والله ما تقاربا قط والدليل على فضل مخارق عليه أن إبراهيم لا يؤدي صوتا قديما ثقيلا جيدا أبدا ولا يستوفيه وإنما يغني الأهزاج والغناء الخفيف وأما الذي فيه عمل شديد فلا يصيبه.
طلب منه سعيد بن سم الغناء
في شعر ضعيف
أخبرني يحيى قال: حدثنا أبو أيوب المديني قال: حدثني بعض ولد سعيد بن سلم قال: دخل مخارق على سعيد بن سلم فسأله حاجة فلما خرج قيل له: أما تعرف هذا هذا مخارق فقال ويحكم دخل ولم نعرفه وخرج ولم نعرفه فردوه فقال له: دخلت علينا ولم نعرفك فلما عرفناك أحببنا إلا تخرج حتى نسمعك فقال له: أي شيء تشتهي أن أسمعك فقال:
يا ريح ما تصنعين بالدمن كم لك من محو منظر حسن فغناه مخارق فلما خرج قال لبعض بنيه: أبوكم هذا نكس يتشهى على مثلي: يا ريح ما تصنعين بالدمن أخبرنا يحيى بن علي قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني عمي محمد قال: سمعت أبي يقول وقد غنى مخارق: نعم الفسيلة غرس إبليس في الأرض.
جاريته تغني صوتا له بحضرته فتحسن
أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن محمد قال: سمع محمد بن سعيد القارىء مهدية جارية يعقوب بن الساحر تغني صوتا لمخارق بحضرته وقد كانت أخذته عنه وهو:
ما لقلبي يزداد في اللهو غيا والليالي قد أنضجتني كـيا
سهلت بعدك الحوادث حتى لست أخشى ولا أحاذر شيئا فأحسنت فيه ما شاءت وانصرف محمد بن سعيد وقرأ على لحنه: يا يحيى خذ الكتاب بقوة .
قصة رجل حلف بالطلاق أن يسمعه ثلاث مرات حدثني عمي قال: حدثنا عبد الله قال: حدثني محمد قال: كنت عند مخارق أنا وهارون بن أحمد بن هشام فلعب مع هارون بالنرد فقمره مخارق مائتي رطل باقلا طريا فقال مخارق: وأنتم عندي أطعمكم من لحم جزور من الصناعة يعني من صناعة أبيه يحيى بن ناووس الجزار.
صفحة : 2092
قال: ومر بهارون بن أحمد فصيل ينادى عليه فاشتراه بأربعة دنانير ووجه به إلى مخارق وقال: يكون ما تطعمنا من هذا الفصيل فاجتمعنا وطبخ مخارق بيده جزورية وعمل من سنامه وكبده ولحمه غضائر شويت في التنور وعمل من لحمه لونا يشبه الهريسة بشعير مقشر في نهاية الطيب فأكلنا وجلسنا نشرب فإذا نحن بامرأة تصيح من الشط: يا أبا المهنأ الله الله في حلف زوجي علي بالطلاق أن يسمع غناءك ويشرب عليه فقال: اذهبي وجيئي به فجاء فجلس فقال له: ما حملك على ما صنعت فقال له: يا سيدي كنت سمعت صوتا من صنعتك فطربت عليه حتى استخفني الطرب فحلفت أن أسمعه منك ثقة بإيجابك حق زوجتي صوت
بكرت علي فهيجت وجدا هوج الرياح وأذكرت نجدا
أتحن من شوق إذا ذكرت نجد وأنت تركتها عـمـدا الشعر لحسين بن مطير والغناء لمخارق ثقيل أول وفيه لإسحاق ثقيل أول آخر فغناه إياه رطلا وأمره بالانصراف ونهاه أن يعاود وخرج. فما لبثنا أن عادت المرأة تصرخ: الله الله في يا أبا المهنأ قد أعاد زوجي المشؤون اليمين أنك تغنيه صوتا آخر فقال لها: أحضريه فأحضرته أيضا فقال له: ويلك ما لي ولك أي شيء قصتك فقال له: يا سيدي أنا رجل طروب وكنت قد سمعت صوتا لك آخر فاستفزني الطرب إلى أن حلفت بالطلاق ثلاثا أني أسمعه منك قال: وما هو قال لحنك:
أبلغ سلامة أن البين قد أفدا وأن صحبك عنها رائحون غـدا
هذا الفراق يقينا إن صبرت له أو لا فإنك منها ميت كـمـدا
لا شك أن الذي بي سوف يهلكني إن كان أهلك حب قبله أحدا فغناه إياه مخارق وسقاه رطلا وقال له: احذر ويلك أن تعاود فانصرف. ولم تلبث أن عاودت الصياح تصرخ: يا سيدي قد عاود اليمين ثلاثة الله الله في وفي أولادي قال: هاتيه فأحضرته فقال لها: انصرفي أنت فإن هذا كلما انصرف حلف وعاد فدعيه يقيم يومه كله فتركته وانصرفت فقال له مخارق: ما قصتك أيضا قال: قد عرفتك يا سيدي أنني رجل طروب وكنت سمعت صوتا من صنعتك فاستخفني الطرب له فحلفت أني أسمعه منك قال: وما هو قال:
ألف الظبي بعادي ونفى الهـم رقـادي
وعدا الهجر على الوص ل بأسياف حداد
قل لمن زيف ودي: لست أهلا لـوادي قال: فغناه إياه وسقاه رطلا ثم قال: يا غلام مقارع فجيء بها فأمر به فبطح وأمر بضربه فضرب خمسين مقرعة وهو يستغيث فلا يكلمه ثم قال له: احلف بالطلاق أنك لا تذكرني أبدا وإلا كان هذا دأبك إلى الليل فحلف بالطلاق ثلاثا على ما أمره به ثم أقيم فأخرج عن الدار فجعلنا نضحك بقية يومنا من حمقه.
أشرف من بيته على القبوروغنى باكيا أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا أحمد بن محمد قال: حدثني إسحاق بن عمر بن بزيع قال: أتيت مخارقا ذات يوم ومعي زرزور الكبير لنقيم عنده فوجدته قد أخرج رأسه من جناح له وهو مشرف على المقابر يغني هذا البيت ويبكي: أين الملوك التي كانت مسلطة قال: فاستحسنا ما سمعناه منه استحسان من لم يسمع قط غناء غيره فقال لنا: انصرفوا فليس في فضل اليوم بعد ما رأيتم. قال محمد: وكان والله مخارق ممن لو تنفس لأطرب من يسمعه استماع نفسه.
سمعت الظباء غناءه فوقفت
بالقرب منه مصغية
وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن محمد بن أحمد بن يحيى المكي حدثه عن أبيه قال: خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزهات فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأن المسؤول ضن بها. قال: وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنيت صوتا فعطفت عليك به خدود هذه الظباء أتدفع إلي هذه القوس قال: نعم فاندفع يغني.
ماذا تقول الظباء أفرقة أم لقـاء
أم عهدها بسليمى وفي البيان شفاء
مرت بنا سانحات وقد دنا الإمسـاء
فما أحارت جوابا وطال فيها العناء في هذه الأبيات ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى.
قال: فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرقة تنظر إليه مصغية تسمع صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها.
غنى وسط دجلة فتسابق الناس لسماعه
قال ابن المكي: وحدثني رجل من أهل البصرة كان يألف مخارقا ويصحبه قال:
صفحة : 2093
كنت معه مرة في طيار ليلا وهو سكران فلما توسط دجلة اندفع بأعلى صوته فغنى فما بقي أحد في الطيار من ملاح ولا غلام ولا خادم إلا بكى من رقة صوته ورأيت الشمع والسرج من جانبي دجلة في صحون القصور والدور يتساعون بين يدي أهلها يستمعون غناءه.
حدثني الصولي قال: حدثني محمد بن عبد الله التميمي الحزنبل قال: كنا في مجلس ابن الأعرابي إذ أقبل رجل من ولد سعيد بن سلم كان يلزم ابن الأعرابي وان يحبه ويأنس به فقال له: ما أخرك عني فاعتذر بأشياء منها أنه قال: كنت مع مخارق عند بعض بني الرشيد فوهب له مائة ألف درهم على صوت غناه إياه فاستكثر ابن الأعرابي ذلك واستهوله وعجب منه وقال له: بأي شيء غناه قال: غناه بشعر العباس بن الأحنف: صوت
بكت عيني لأنواع من الحزن وأوجـاع
وإني كل يوم عن دكم يحظى بي الساعي فقال ابن الأعرابي: أما الغناء فما أدري ما هو ولكن هذا والله كلام قريب مليح.
لحن مخارق في هذين البيتين ثقيل أول من جامع صنعته وفيهما لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة. وذكر حبش أن فيهما لإبراهيم بن المهدي لحنا ماخوريا.
نصح ابن المهدي شارية بألا تتشبه به
في تزايده وإلا هلكت
غنت شارية يوما بحضرة أبي صوتا فأحد النظر إليها وصبر حتى قطعت نفسها ثم قال لها: أمسكي فأمسكت فقال لها: قد عرفت إلى أي شيء ذهبت أردت أن تتشبهي بمخارق في تزايده قالت: نعم يا سيدي.
قال: إياك ثم إياك أن تعودي فإن مخارقا خلقه الله وحده في طبعه وصوته ونفسه يتصرف في ذلك أجمع كيف أحب ولا يلحقه في ذلك أحد وقد أراد غيرك أن يتشبه به في هذه الحال فهلك وافتضح ولم يلحقه فلا أسمعنك تتعرضين لمثل هذا بعد وقتك هذا غلمان المعتصم يتركونه لسماع مخارق
أخبرني عمي قال: حدثني علي بن محمد بن نصر البسامي قال: حدثني خالي أبو عبد الله عن أبيه قال: كنا بين يدي المعتصم ذات ليلة نشرب إلى أن سكرنا جميعا فقام فنام وتوسدنا بأيدينا ونمنا في مواضعنا ثم انتبه فصاح فلم يجبه أحد وسمعنا صياحه فتبادرنا نسأل عن الغلمان فإذا مخارق قد انتبه قبلنا فخرج إلى الشط يتنسم الهواء واندفع يغني فتلاحق به الغلمان جميعا فجئت إلى المعتصم فأخبرته وقلت: مخارق على الشط يغني والغلمان قد اجتمعوا عليه فليس فيهم فضل لشيء غير استماعه فقال لي: يابن حمدون عذر والله وأي عذر ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر.
المأمون يسأل إسحاق عن غناء مخارق
وإبراهيم بن المهدي
وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن أبان بن سعيد حدثه: أن المأمون سأل إسحاق بن إبراهيم المهدي ومخارق فقال: يا أمير المؤمنين إذا تغنى إبراهيم بعلمه فضل مخارقا وإذا تغنى مخارق بطبعه وفضل صوته فضل إبراهيم فقال له: صدقت.
غنى الأمين فخلع عليه جبة ثم ندم حين رآها عليه
نسخت من كتاب هارون بن الزيات: حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال: دعاني محمد الأمين يوما وقد اصطبح فاقترح علي:
استقبلت ورق الريحان تقطفه وعنبر الهند والوردية الجددا
ألست تعرفني في الحي جارية ولم أخنك ولم ترفع إلي يدا فغنيته إياه فطرب طربا شديدا وشرب عليه ثلاثة أرطال ولاء وأمر لي بألف دينار وخلع علي جبة وشي كانت عليه مذهبة ودراعة مثلها وعمامة مثلها تكاد تعشي البصر من كثرة الذهب فلما لبست ذلك ورآه علي ندم وكن كثيرا ما يفعل ذلك فقال لبعض الخدم: قل للطباخ يأتينا بمصلية معقودة الساعة فأتى بها فقال لي: كل معي وكنت أعرف الناس بمذهبه وبكراهته لذلك فامتنعت. فحلف أن آكل معه فحين أدخلت يدي في الغضارة رفع يده ثم قال: أف نغصتها علي والله وقذرتها عندي بإدخالك يدك فيها ثم رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري وودكها يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي فقمت مبادرا فنزعتها وبعثت بها إلى منزلي وغيرت ثيابي وعدت وأنا مغموم منها وهو يضحك فلما رجعت إلى منزلي جمعت كل صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر منها فلم يخرج ولم أنتفع بها حتى أحرقتها فأخذت ذهبها وضرب الدهر بعد ذلك ضرباته.
يؤاكل المأمون ويغنيه فيعبس في وجهه ثم يدعوه ثانية ويكافئه ثم دعاني المأمون يوما فدخلت إليه وهو جالس وبين يديه مائدة عليها رغيفان ودجاجتان فقال لي: تعال فكل فامتنعت فقال لي: تعال ويلك فساعدني. فجلست فأكلت معه حتى أقول
صفحة : 2094
التماس العذر لما ظلمتني وحملتني ذنبا وما كنت مذنبا فقلت: نعم يا سيدي قال: غنه فغنيته فعبس في وجهي ثم قال: قبحك الله أهكذا يغنى هذا ثم أقبل على علوية فقال: أتغنيه قال: نعم يا سيدي قال: غنه فغناه فوالله ما قاربني فيه فقال: أحسنت والله وشرب رطلا وأمر له بعشرة آلاف درهم واستعاده ثلاثا وشرب عليه ثلاثة أرطال يعطيه مع كل عشرة آلاف درهم ثم خذف بإصبعه وقال: برق يمان وكان إذا أراد قطع الشراب فعل ذلك وقمنا فعلمت من أين أتيت.
فلما كان بعد أيام دعاني فدخلت إليه وهو جالس في ذلك الموضع بعينه يأكل هناك فقال لي: تعال ويلك فساعدني فقلت: الطلاق لي لازم إن فعلت فضحك ثم قال: ويلك أتراني بخيلا على الطعام لا والله ولكنني أردت أن أؤدبك إن السادة لا ينبغي لعبيدها أن تؤاكلها أفهمت فقلت: نعم قال: فتعال الآن فكل على الأمان فقلت: أكون إذا أول من أضاع تأديبك إياه واستحق العقوبة من قريب فضحك حتى استغرب ثم أمر لي بألف دينار ومضيت إلى حجرتي المرسومة لي للخدمة وأتيت هناك بطعام فأكلت ووضع النبيذ ودعاني وبعلوية فلما جلسنا قال له: يا علي أتغني:
ألم تقولي: نعم قالت: أرى وهما مني وهل يؤخذ الإنسان بالوهم فقال: نعم يا سيدي فقال: هاته فغناه فعبس في وجهه وبسر وقال: قبحك الله أتغني هذا هكذا ثم أقبل علي فقال: أتغنيه يا مخارق فقلت: نعم يا سيدي وعلمت أنه أراد أن يستقيد لي من علوية ويرفع مني وإلا فما أتى علوية بما يعاب فيه فغنيته فطرب وشرب رطلا وأمر لي بعشرة آلاف درهم وفعل ذلك ثلاث مرات كما فعل به.
ثم أمر بالانصراف فانصرفنا وما عاودت بعد ذلك مؤاكلة خليفة إلى وقتنا هذا.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت
استقبلت ورق الريحان تقطفه وعنبر الهند والوردية الجددا
ألست تعرفني في الحي جارية ولم أخنك ولم تمدد إلي يدا الشعر - فيما يقال - لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وأصله يماني وفيه لابن جامع هزج.
صوت
أقول التماس العذر لما ظلمتني وحملتني ذنبا وما كنت مذنبا
هبيني أمرا إما بريئا ظلمته وإما مسيئا قد أناب وأعـتـبـا صوت
ألم تقولي: نعم قالت: أرى وهما مني وهل يؤخذ الإنسان بالوهم
قولي: نعم إن لا إن قلتقاتلتيماذا تريدين من قتلي بـغـير دم الغناء لسياط خفيف رمل بالبنصر عن عمرو ولم يقع إلي لمن الشعر.
يتنافس هو وعلوية في غناء صوت فيسبق علوية قال هارون: وحدثني أبو معاوية الباهلي قال: حضرت علوية ومخارقا مجتمعين في مجلس فغنى علوية صوتا فأحسن فيه وأجاده فأعاده مخارق وبرز عليه وزاد فرده عليوة وتعمل فيه واجتهد فزاد على مخارق فجثا مخارق على ركبتيه وغناه وصاح فيه حتى اهتز منكباه فما ظننا إلا أن الأرض قد زلزلت بنا وغلب والله ما سمعنا على عقولنا ونظرت إلى لون علوية وقد امتقع وطار دمه فلما فرغ مخارق توقعنا أن يغني علوية فما فعل ولا غنى بقية يومه. قال: وكان مخارق إذا صاح قطع أصحاب النايات.
سأله الأمين أن يغنيه أصواتا فلم يحسن فأرسله إلى إسحاق ليعلمه أخبرني وسواسة بن الموصلي وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا حماد بن قال لي مخارق: دعاني يوما محمد المخلوع فدخلت عليه وعنده إبراهيم بن المهدي فقال: غنني يا مخارق فغنيته أصواتا عديدة فلم يطرب لها وقال: هذا كله معاد فغنني: قد أزمعت للبين هند زيالها فقلت: لا والله ما أحسنه فقال: غنني: لا والذي نحرت له البدن فقلت: لا والله ما أحسنه فقال: غنني: يا دار سعدى سقى أطلالك الديما فقلت: لا والله لا أحسنه فغضب وقال: ويلك أسألك عن ثلاثة أصوات فلا تحسن منها واحدا فقال له إبراهيم بن المهدي: وما ذنبه إسحاق أستاذه وعليه يعتمد وهو يضايقه في صوت يعلمه إياه فقلت: قد والله صدق ما يعطيني شيئا ولا يعلمنيه قال: فما دواؤه فقد والله أعياني فقال له إبراهيم: توكل به من يصب على رأسه العذاب حتى يعلمه مائة صوت قال: أما بعد فبعيد ولكن اذهب إيه عني فمره أن يعلمك هذه الثلاثة الأصوات فإن فعل وإلا فصب السوط على رأسه حتى يعلمك.
يذهب إلى إسحاق ليعلمه فيكله إلى جارية له فدخلت إلى إسحاق فجلست بغير أمره وسلمت سلاما منكرا. ثم أقبلت عليه فقلت:
صفحة : 2095
يأمرك أمير المؤمنين أن تعلمني كذا وكذا قال: ما أحسنه فقلت: إني أنفذ فيك ما أمرني به فقال: تنفذ في ما أمرت به ألا تستحي ويحك مني ومن تربيتي إياك قلت: فلا بد من أن تعلمني ما أمرك به أمير المؤمنين قال: فإني لست أحسنه ولكن فلانة تحسنه هاتوها. فجاءت وجعلت تطارحني حتى أخذت الأصوات الثلاثة وجعل كل من جاء يومئد لا يحجبه ليروني وجاريته تطارحني.
فلما أخذت الأصوات رجعت إلى محمد وأخبرته الخبر وحضر إسحاق فغنيته إياها فطرب وجعل إبراهيم بن المهدي يقول: أحسن والله أحسن والله فلما فرغت قال إسحاق: لا والله ما أحسن ولا أصاب هو ولا إبراهيم في استحسانه ولقد جهدت الجارية جهدها أن يأخذه عنها لفم يتوجه له ثم اندفع فغناها فكأني والله كنت ألعب عندما سمعت.
ثم أقبل على إبراهيم بن المهدي فقال له: كم أقول لك: ليس هذا من علمك ولا مما تحسنه وأنت تكابر وتدخل نفسك فيما لا تحسنه فقال: ألا تراه يا أمير المؤمنين يصيرني مغنيا فقال له إسحاق: ولم تجحد ذلك أو أسررت إلي منه شيئا لم تظهره للناس وتعلمهم إياه ومتى صرت تأنف من هذا وأنت تتبحبح به فليتك تحسنه والله ما تفرق بين الخطأ والصواب فيه وإن شئت الآن ألقيت عليك ثلاثين مسألة من أي علم شئت فإن أجبت واحدة منهن وإلا علمت أنك متكلف. فقال: يا أمير المؤمنين يستقبلني بهذا بين يديك قال: وما هذا مما لا أستقبلك به فقال له محمد: نعم اختر ما شئت حتى نسألك عنه فقال: إنما يفعل هذا الصبيان وانكسر حتى رحمته فقلت لمحمد: يا أمير المؤمنين لعلك ترى مع هذا القول أنه لا يحسن بلى والله إنه ليحسن كل شيء ما يقدر أحد أن يقول هذا غيري وإنه ليتقدم كثيرا من الناس في كل شيء فجعل محمد يضحك وهو يقول تشجه بيد وتدهنه بيد وتجرحه بيد وتأسوه بيد.
نسبة هذه الأصوات صوت
لقد أزمعت للبين هند زيالها وزموا إلى أرض العراق جمالها
فما ظبية أدماء واضحة القرا تنص إلى برد الظلال غزالهـا
تحت بقرنيها برير أراكة وتعطو بظلفيها إذا الغصن طالهـا
بأحسن منها مقلة ومقلدا وجيدا إذا دنت تنـوط شـكـالـهـا الشعر لكثير والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لابن سريج في الثالث والثاني ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ولإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو في الثاني ثم في الثالث وفي كتاب حكم: لحكم فيه خفيف ثقيل وعن حبش لطويس فيه رمل بالوسطى وذكر أيضا أن لحن معبد ثاني ثقيل.
صوت
يا دار سعدى سقى أطلالك الديما مسقي الروايا وإن هيجت لي سقما
دار خلت وعفت منها معالمها إلا الثمام وإلا النؤي والـحـمـمـا الغناء لقفا النجار ثقيل أول بالوسطى عن عمرو والهشامي وإبراهيم.
صوت
لا والذي نحرت له البدن وله بمكة قبل الـركـن
ما زلت يا سكني أخا أرق متكنفا بي الهم والحزن
أخشى عليك وبعضه شفق أن يفتنوك وأنت مفتتن الغناء لابن سريج رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر الهشامي أنه لسليمان الوادي أوله فيه لحن ونسبه إبراهيم إلى ابن عباد ولم يجنسه.
أخبرني عمي: حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني عبد الوهاب المؤذن قال: انحدرنا مع المعتصم من السن ونحن في حراقته وحضر وقت الأذان فأذنت فلما فرغت من الأذان اندفع مخارق بعدي فأذن وهو جاث على ركبتيه فتمنيت والله أن دجلة أهرقت لي فغرقت فيها.
غضب عليه المعتصم ثم صالحه وأعاده إلى مرتبته أخبرني عمي قال: حدثني عبد الله بن عبد الله بن حمدون قال: حدثني أبي قال: غضب المعتصم على مخارق فأمر به أن يجعل في المؤذنين ويلزمهم ففعل ذلك وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب وأذنت العصر فدخل هو إلى الستر حيث يقف المؤذن للسلام ثم رفع صوته جهده وقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله فبكى حتى جرت دموعه وبكى كل من حضره ثم قال: أدخلوه إلي ثم أقبل علينا وقال: سمعتم هكذا قط هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه فأمر به فأدخل إليه فقبل الأرض بين يديه فدعاه المعتصم إليه وأعطاه يده فقبلها وأمره بإحضار عوده فأحضر فأعاده إلى مرتبته.
إسحاق الموصلي يبدي رأيه في علوية ومخارق وجدت في بعض الكتب عن علي بن محمد البسامي عن جده حمدون بن إسماعيل قال: غنى علوية يوما بين يدي إسحاق الموصلي:
صفحة : 2096
هجرتك إشفاقا عليك من الأذى وخوف الأعادي واتقاء النمائم فقال له إسحاق: أحسنت يا أبا الحسن أحسنت واستعاده ثلاثا وشرب فقال له علوية: يا أستاذ أين أنا الآن من صاحبي - يعني مخارقا - مع قولك هذا لي فقال: لا ترد أن تعرف هذا قال: بي والله إلى معرفته أعظم الحاجة فقال: إذا غنيتما ملكا اختاره عليك وأعطاه الجائزة دونك فضجر علوية وقال لإسحاق: أف من رضاك وغضبك.
نسبة هذا الصوت صوت
هجرتك إشفاقا عليك من الأذى وخوف الأعادي وإتقاء النمائم
وإني وذاك الهجر لو تعلمينه كسالية عن طفلها وهـي رائم الشعر لهلال بن عمرو الأسدي والغناء لعلوية ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.
رأي الخريمي في علوية ومخارق
وقال الجاحظ: قال أبو يعقوب الخريمي: ما رأيت كثلاثة رجال كانوا يأكلون الناس أكلا حتى إذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الرصاص على النار: كان هشام بن الكلبي علامة نسابة ورواية للمثالب عيابة فإذا رأى الهيثم بن عدي ذاب كما يذوب الرصاص وكان علي بن الهيثم جونقا مفقعا نيا صاحب تقعر يستولي على كل كلام لا يحفل بخطيب ولا شاعر فإذا رأى موسى الضبي ذاب كما يذوب الرصاص وكان علوية واحد الناس في الغناء رواية وحكاية ودراية وصنعة وجودة ضرب وأضراب وحسن خلق فإذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص على النار.
حج سنة حجت أم جعفر بسبب جاريتها
أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب عن ابن خرداذبه قال: هوي مخارق جارية لأم جعفر فحج في السنة التي حجت فيها أم جعفر بسبب الجارية فقال أحمد بن هشام فيه:
يحج الناس من بر وتقوى وحج أبي المهنا للتصابي وهب المعتصم دار مخارق ليونازة خليفة الأفشين فقال عيسى ابن زينب شعرا في ذلك قال: وكان المعتصم قد وهب دار مخارق لما قدم بغداد ليونازة خليفة الأفشين فقال عيسى ابن زينب في ذلك:
يا دار غير رسمها يونازه وبقي مخارق قاعدا في فازه أم جعفر تهب له جاريتها بهار أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال: وجدت بخط عبد الله بن الحسين: حدثني الحسن بن إبراهيم بن رياح قالا: كان مخارق يهوى جارية لأم جعفر يقال لها بهار ويستر ذلك عن أم جعفر حتى بلغها ذلك فأقصته ومنعته من المرور ببابها وكان بها كلفا. قال الصولي في خبره: فلما علم أن الخبر قد بلغ أم جعفر قطعها وتجافاها إجلالا لأم جعفر وطمعا في السلو عنها وضاق ذرعه بذلك فبينا هو ذات ليلة في زلال وقد انصرف من دار المأمون وأم جعفر تشرب على دجلة إذ حاذى دارها فرأى الشمع يزهر فيها فلما صار بمسمع منها ومرأى اندفع فغنى: صوت
إن تمنعوني ممري قرب دارهم فسوف أنظر من بعد إلى الـدار
سيما الهوى شهرت حتى عرفت بها أني محب وما بالحب من عار
ما ضر جيرانكم والله يصلحهملولا شـقـائيإقـبـالـي وإدبـاري
لا يقدرون على منعي ولو جهدوا إذا مررت وتسليمي بإضمـاري فقالت أم جعفر: مخارق والله ردوه فصاحوا بملاحه: قدم فقدم وأمره الخدم بالصعود فصعد وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها نبيذ فشرب وخلعت عليه وأمرت الجواري فغنين ثم ضربن عليه فغنى فكان أول ما غنى: صوت
أغيب عنك بود ما يغيره نأي المحل ولا صرف مـن الـزمـن
فإن أعش فلعل الدهر يجمعنا وإن أمت فقتيل الهـم والـحـزن
قد حسن الله في عيني ما صنعت حتى أرى حسنا ما ليس بالحسن الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لمخارق رمل.
قال: فاندفعت بهار فغنت كأنها تباينه وإنما أجابته عن مغنى ما عرض لها به:
تعتل بالشغل عنا ما تلم بنا والشغل للقلب ليس الشغل للبدن ففطنت أم جعفر أنها خاطبته في نفسها فضحكت وقالت: ما سمعنا بأملح مما صنعتما وقال إسماعيل بن يونس في خبره: ووهبتها له.
غنى المأمون حين قدم مكة أحدث صوت صنعه وقال هارون بن الزيات: حدثني هارون بن مخارق عن أبيه: أن المأمون سأله لما قدم مكة عن أحدث صوت صنعه فغناه: صوت
أقبلت تحصب الجمار وأقبل ت لرمي الجمار من عـرفـات
ليتني كنت في الجمار أنا المح صوب من كف زينب حصيات الشعر للنميري والغناء لمخارق خفيف رمل بالبنصر قال: فضحك ثم قال: لعمري إن هذا لأحدث ما صنعت ولقد قنعت بيسير وما أظن بهار كانت تبخل عليك بأن تحصبك بحصاة كما تحصب الجمار. واستعاده الصوت مرات.
صفحة : 2097
غنى بشعر للمأمون في جارية له فابكاه أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني هارون بن مخارق قال: حدثني أبي قال: كنا عند المأمون يوما فجاءه الخادم الحرمي فأسر إليه شيئا فوثب فدخل معه ثم أبطأ علينا ساعة وعاود وعينه تذرف فقال لنا: دخلت الساعة إلى جارية لي كنت أتحظاها فوجدتها في الموت فسلمت عليها فلم تستطع رد السلام إلا إيماء بإصبعها فقلت هذين البيتين:
فما اسطعت توديعا له بسوى البكا وذلك جهد المستهام المعذب ثم قال: إن فيها يا مخارق ففعلت فما استعادني ذلك الغناء قط إلا بكى.
حج رجل معه وغناه فوهب له حجته
أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال: حدثني أحمد بن أبي العلاء قال: حدثني أبي قال: حج رجل مع مخارق فلما قضيا الحج وعادا قال له الرجل في بعض طريقه: بحقي عليك غنني صوتا فغناه:
رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا ففاضت لروعات الفراق عيون فرفع الرجل يده إلى السماء وقال: اللهم إني أشهدك أني قد وهبت حجتي له.
وفاته
وتوفي مخارق في أول خلافة المتوكل وقيل: بل في آخر خلافة الواثق وذكر ابن خرداذبه أن سبب وفاته أنه كان أكل قنبيطية باردة فقتلته من فوره.
صوت
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة تروي مشاشي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالفلاة فإنني أخاف إذا ما مت ألا أذوقها عروضه من الطويل ويروى: إذا رحت مدفونا فلست أذوقها الشعر لأبي محجن الثقفي والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لحنين لحن ذكره إبراهيم ولم يجنسه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الجزء التاسع عشر
ذكر أبي محجن ونسبه
نسبه
أبو محجن عبد الله بن حبيب بن عمر بن عمير بن عوف بن عقدة بن عنزة بن عوف بن قسي وهو ثقيف، وقد مضى نسبه في عدة مواضع.
وأبو محجن من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، وهو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس والنجدة، وكان من المعاقرين للخمر المحدودين في شربها.
نفاه عمر بجزيرة حضوضي مع ابن جهراء
ففر منه.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن الحسن الأحول، عن ابن الأعرابي، عن المفضل، قال: لما كثر شرب أبي محجن الخمر، وأقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه الحد مرارا وهو لا ينتهي، نفاه إلى جزيرة في البحر يقال لها حضوضى ، وبعث معه حرسيا يقال له ابن جهراء، فهرب منه على ساحل البحر، ولحق بسعد بن أبي وقاص، وقال في ذلك يذكر هربه من ابن جهراء:
الحمد لله نجـانـي وخـلـصـنـي من ابن جهراء والبوصي قد حبسـا
من يجشم البحر والبوصي مركـبـه إلى حضوضى فبئس المركب التمسا
أبلغ لديك أبا حفـص مـغـلـغـلة عبد الإله إذا ما غار أو جـلـسـا
أني أكر على الأولـى إذا فـزعـوا يوما وأحبس تحت الراية الفـرسـا
أغشى الهياج وتغشاني مضـاعـفة من الحديد إذا ما بعضهم خـنـسـا أحب الشموس الأنصارية فشكاه زوجها لعمر
هذه رواية ابن الأعرابي عن المفضل، قال ابن الأعرابي: وحدثني ابن دأب بسبب نفي عمر إياه، فذكر أن أبا محجن هوي امرأة من الأنصار يقال لها شموس، فحاول النظر إليها بكل حيلة، فلم يقدر عليها، فآجر نفسه من عامل يعمل في حائط إلى جانب منزلها، فأشرف من كوة في البستان، فرآها فأنشأ يقول:
وقد نظرت إلى الشموس ودونها حرج من الرحمن غير قلـيل
قد كنت أحسبني كأغنى واحـد ورد المدينة عن زراعة فـول رجع إلى حديث فراره من ابن جهراء
فاستعدى زوجها عليه عمر بن الخطاب، فنفاه إلى حضوضى، وبعث معه رجلا يقال له ابن جهراء قد كان أبو بكر رضي الله عنه يستعين به، قال له عمر: لا تدع أبا محجن يخرج معه سيفا، فعمد أبو محجن إلى سيفه فجعل نصله في غرارة وجعل جفنة في غرارة أخرى، فيهما دقيق له.
فلما انتهى به إلى الساحل وقرب البوصي اشترى أبو محجن شاة وقال لابن جهراء: هلم نتغد ووثب إلى الغرارة كأنه يخرج منها دقيقا فأخذ السيف، فلما رآه ابن جهراء والسيف في يده خرج يعدو حتى ركب بعيره راجعا إلى عمر، فأخبر الخبر.
قاتل العجم يوم أرماث
بعد أطلقته امرأة سعد بن أبي وقاص
صفحة : 2098
وأقبل أبو محجن إلى سعد بن أبي وقاص وهو يقاتل العجم يوم القادسية، وبلغ عمر خبره، فكتب إلى سعد بحبسه، فلما كان يوم أرماث ؛ والتحم القتال سأل أبو محجن امرأة سعد أن تعطيه فرس سعد وتحل قيده ليقاتل المشركين، فإن استشهد فلا تبعة عليه، وإن سلم عاد حتى يضع رجله في القيد، فأعطته الفرس، وخلت سبيله، وعاهدها على الوفاء، فقاتل فأبلى بلاء حسنا إلى الليل، ثم عاد إلى حبسه.
حدثني بهذا الحديث عمي عن الخزاز، عن المدائني، عن إبراهيم بن حكيم، عن عاصم بن عروة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غرب رجلا من ثقيف وهو أبو محجن، وكان يدمن الخمر وأمر ابن جهراء النصري ورجلا آخر أن يحملاه في البحر، وذكر الخبر مثل الذي قبله، وزاد فيه: وقال أبو محجن أيضا:
صاحبا سوء صحبتهما صاحباني يوم ارتحل
ويقولان: ارتحل معنا فأنادي : إنني ثمـل
إنني باكرت متـرعة مزة راووقها خضل الغناء في البيتين الأخيرين لنشو خفيف رمل وأوله:
ويقولان اصطبح معنا قال الأصبهاني: وهذه القصة كانت لأبي محجن في يوم من أيام حرب القادسية يقال له: يوم أرماث، وكانت أيامها المشهورة يوم أغواث ويوم أرماث ويوم الكتائب وخبرها يطول جدا؛ وليس في كلها كان لأبي محجن خبر، وإنما ذكرنا ها هنا خبره، فذكرنا منها مان كان اتصاله بخبر أبي محجن.
حدثنا بذلك محمد بن جرير الطبري، قال: كتب إلي السري بن يحيى؛ ذكر عن شعيب، عن سيف، عن محمد بن طلحة وزياد وابن مخراق، عن رجل من طيء قال: لما كان يوم الكتائب اقتتل المسلمون والفرس منذ أصبحوا إلى أن انتصف النهار، فلما غابت الشمس تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل؛ وهذه الليلة التي كان في صبيحتها يوم أرماث، وقد كان المسلمون يوم أغواث أشرفوا على الظفر وقتلوا عامة أعلام الفرس، وجالت خيلهم في القلب، فلولا أن رجلهم ثبتوا حتى كرت الخيل لكان رئيسهم قد أخذ؛ لأنه كان ينزل عن فرسه؛ ويجلس على سريره، ويأمر الناس بالقتال؛ قالوا: فلما انتصف الليل تحاجز الناس، وبات المسلمون ينتمون منذ لدن أمسوا.
وسمع ذلك سعد فاستلقى لينام، وقال لبعض من عنده: إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوهم؛ وإن سكتوا وسكت العدو فلا تنبهني فإنهم على السواء؛ وإن سمعت العدو ينتمون وهؤلاء سكوت فأنبهني فإن انتماء العدو من السوء.
قالوا: ولما اشتد القتال في تلك الليلة، وكان أبو محجن قد حبسه سعد بكتاب عمر، وقيده فهو في القصر، صعد أبو محجن إلى سعد يستغفيه ويستقيله، فزبره ورده، فنزل فأتى سلمى بنت أبي حفصة فقال: يا بنت آل حفصة، هل لك إلى خير? قالت: وما ذاك? قال: تخلين عني وتعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجلي في قيدي. فقالت: وما أنا وذاك? فرجع يرسف في قيوده ويقول:
كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنـا وأترك مشدودا علـي وثـاقـيا
إذا قمت عناني الحديد وغلـقـت مصاريع من دوني تصم المنـاديا
وقد كنت ذا مال كثـيرة وإخـوة فقد تركوني واحدا لا أخـا لـيا
وقد شف جسمي أنني كل شـارق أعالج كبلا مصمتا قـد بـرانـيا
فلله دري يوم أتـرك مـوثـقـا وتذهل عني أسرتي ورجـالـيا
حبسيا عن الحرب العوان وقد بدت وإعمال غيري يوم ذاك العوالـيا
ولله عهـد لا أخـيس بـعـهـده لئن فرجت ألا أزور الحـوانـيا
صفحة : 2099
فقالت له سلمى: إني قد استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته وقالت: أما الفرس فلا أعيرها، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها أبو محجن وأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق، فركبها ذم دب عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة، وأضاء النهار، وتصاف الناس، كبر، ثم حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه وسلاحه بين الصفين، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبدر أمام الناس، فحمل على القوم فلعب بين الصفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفا منكرا؛ فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالأمس، فقال بعض القوم: هذا من أوائل أصحاب هشام بن عتبة أو هشام بنفسه. وقال قوم: إن كان الخضر يشهد الحروب فهو صاحب البلقاء. وقال آخرون: لولا أن الملائكة لا تباشر القتال ظاهرا لقلنا هذا ملاك بيننا؛ وجعل سعد يقول -وهو مشرف ينظر إليه-: الطعن طعن أبي محجن، والضبر ضبر البلقاء . ولولا محبس أبي محجن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء، فلم يزل يقاتل حتى انتصف الليل، فتحاجز أهل العسكرين وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر، ووضع عن نفسه ودابته، وأعاد رجليه في القيد، وأنشأ يقول:
لقد علمت ثقيف غير فخـر بأنا نحن أكرمهـم سـيوفـا
وأكثرهم دروعا سابـغـات وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنا رفدهـم فـي كـل يوم فإن جحدوا فسل بهم عريفا
وليلة قادس لم يشعروا بـي ولم أكره بمخرجي الزحوفا
فإن أحبس فقد عرفوا بلائي وإن أطلق أجرعهم حتوفـا فقالت له سلمى: يا أبا محجن؛ في أي شيء حبسك هذا الرجل? فقال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فينفثه أحيانا، فحبسني لأني قلت:
إذا مت فادفني إلى أصل كـرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفـلاة فـإنـنـي أخاف إذا ما مـت ألا أذوقـهـا
ليروى بخمر الحص لحمي فإنني أسير لها من بعد ما قد أسوقهـا سعد بن أبي وقاص يعلم خبر إطلاقه وصدق قتاله فيفرج عنه قال: وكانت سلمى قد رأت في المسلمين جولة، وسعد بن أبي وقاص في القصر لعلة كانت به، لم يقدر معها على حضور الحرب، وكانت قبله عند المثنى بن حارثة الشيباني فلما قتل خلف عليها سعد، فلما رأت شدة اليأس صاحت: وامثنياه ولا مثنى لي اليوم، فلطمها سعد، فقالت: أف لك، أجبنا وغيرة? وكانت مغاضبة لسعد عشية أرماث وليلة الهدأة وليلة السواد، حتى إذا أصبحت أتته وصالحته، وأخبرته خبر أبي محجن، فدعا به وأطلقه وقال: اذهب فلست مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم، والله إن لا أجبت لساني إلى صفة قبيح أبدا.
خرج مع سعد لحرب الأعاجم أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وحبيب بن نصر المهلبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن حاتم، قال: حدثنا محمد بن حازم، قال: حدثنا عمرو بن المهاجر، عن إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه، وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم، عن ابن الأعرابي عن المفضل، وروايته أتم، قالوا: كان أبو محجن الثقفي فيمن خرج مع سعد بن أبي وقاص لحرب الأعاجم فكان سعد يؤتى به شاربا فيتهدده فيقول له: لست تاركها إلا لله عز وجل؛ فأما لقولك فلا. قالوا: فأتي به يوم القادسية وقد شرب الخمر؛ فأمر به إلى القيد، وكانت بسعد جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس؛ فاستعمل على الخيل خالد بن عرفطة، فلما التقى الناس قال أبو محجن:
كفى حزنا أن تردي الخيل بالقنا وأترك مشدودا علي وثـاقـيا يقسم على ألا يشرب الخمر بعد أن عفا عنه سعد وذكر والأبيات وسائر خبره مثل ما ذكره محمد بن جرير، وزاد فيه: فجاءت زبراء امرأة سعد -هكذا قال: والصحيح أنها سلمى- فأخبرت سعدا بخبره؛ فقال سعد: أما والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى الله المسلمين على يده ما أبلاهم، فخلى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ كان الحد يقام علي وأطهر منها، فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبدا. وقال ابن الأعرابي في خبره: وقال أبو محجن في ذلك:
صفحة : 2100
إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت وحال من دونها الإسلام والحـرج
فقد أباكرها صرفـا وأمـزجـهـا ريا وأطرب أحـيانـا وأمـتـزج
وقد تقوم على رأسـي مـنـعـمة خود إذا رفعت في صوتها غنـج
ترفع الصوت أحيانا وتخـفـضـه كما يطم ذباب الروضة الـهـزج يرد على امرأة ظنت أنه فر من المعركة أخبرني الجوهري والمهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة وقال: لما انصرف أبو محجن ليعود إلى محبسه رأته امرأة فظنته منهزما؛ فأنشأت تعيره بفراره:
من فارس كره الطعان يعيرني رمحا إذا نزلوا بمن الصفـر فقال لها أبو محجن:
إن الكرام على الجياد مبيتـهـم فدعي الرماح لأهلها وتعطري يرثي أبا عبيد بعد أن قتله الفيل
وذكر السري، عن شعيب، عن سيف في خبره، ووافقته رواية ابن الأعرابي عن المفضل: أن الناس لما التقوا مع العجم يوم قس الناطف، كان مع الأعاجم فيل يكر عليهم؛ فلا تقوم له الخيل؛ فقال أبو عبيد بن مسعود: هل له مقتل? فقيل له: نعم؛ خرطومه إلا أنه لا يفلت منه من ضرب؛ قال: فأنا أهب نفسي لله، وكمن له حتى إذا أقبل وثب إليه فضرب خرطومه بالسيف؛ فرمى به، ثم شد عليه الفيل فقتله، ثم استدار فطحن الأعاجم وانهزموا، فقال أبو محجن الثقفي يرثي أبا عبيد:
أنى تسـدت نـحـونـا أم يوسـف ومن دون مسراها فياف مجاهـل
إلى فتية بالطف نيلت سـراتـهـم وغودر أفراس لـهـم ورواحـل
وأضحى أبو جبر خـلاء بـيوتـه وقد كان يغشاها الضعاف الأرامل
وأضحى بنو عمرو لدى الجسر منهم إلى جانب الأبـيات جـود ونـائل
وما لمت نفسي فيهم غـير أنـهـا لها أجل لم يأتهـا وهـو عـاجـل
وما رمت حتى خرقوا بسلاحـهـم إهابي وجادت بالدمـاء الأبـاجـل
وحتى رأيت مهـرتـي مـزوئرة من النبل يدمى نحرها والشواكـل
وما رحت حتى كنـت آخـر رائح وصرع حولي الصالحون الأماثـل
مررت على الأنصار وسط رحالهم فقلت: ألا هل منكم اليوم قـافـل?
وقربت رواحا وكورا ونـمـرقـا وغودر في ألـيس بـكـر ووائل
ألا لعـن الـلـه الـذين يسـرهـم رداي وما يدرون ما الله فـاعـل يقسم أن لا يشرب الخمر أبدا
قال الأخفش في روايته، عن الأحول، عن ابن الأعرابي، عن المفضل: قال أبو محجن في تركه الخمر:
رأيت الخمر صالحة وفيها مناقب تهلك الرجل الحليما
فلا والله أشربها حـياتـي ولا أسقي باه أبدا نـديمـا معاوية وابن أبي محجن
أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدثنا العمري، عن لقيط، عن الهيثم بن عدي. وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا: دخل ابن أبي محجن على معاوية، فقال له: أليس أبوك الذي يقول:
إذا مت فادفني إلى أصل كـرمة تروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني بالـفـلاة فـإنـنـي أخاف إذا ما مـت ألا أذوقـهـا فقال ابن أبي محجن: لو شئت لذكرت ما هو أحسن من هذا من شعره؛ قال: وما ذاك? قال: قوله:
لا تـسـألـي الـنـاس عـن مـالـي وكـثـــرتـــه وسـائلـي الـنـاس مـا فـعـلـي ومـا خـلـقـــي
أعـطـي الـسـنـان غـداة الـروع حــصـــتـــه وعـامـل الـرمـح أرويه مــن الـــعـــلـــق
وأطـعـن الـطـعـنة الـنـجـلاء عـــن عـــرض وأحـفـظ الـسـر فـيه ضــربة الـــعـــنـــق
عف المطالب عما لست نائلهوإن ظلرمت شديد الحق والحنق
وقد أجود وما لي بذي فنع وقـد أكـر وراء الـمـحـــجـــر الـــبـــرق
والـقـوم أعـلـم أنـي مـــن ســـراتـــهـــم إذا سـمـا بـصـر الـرعــديدة الـــشـــفـــق
قد يعـسـر الـمـرء حـينـــا وهـــو ذو كـــرم وقـد يثـوب سـوام الـعـاجــز الـــحـــمـــق
سيكـثـر الـمـال يومـا بـعـــد قـــلـــتـــه ويكـتـسـي الـعـود بـن الـيبــس بـــالـــورق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق