ج11.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
لِئَلَّا
يَفْعَلَ مثله في الْمُسْتَقْبَلِ فَلَا يَجِبُ لها شَيْءٌ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ
الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ لِأَنَّ فِعْلَهَا جِنَايَةٌ في الْحَالَيْنِ
وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِمَا أَدَّى على الْكَبِيرَةِ إنْ كانت تَعَمَّدَتْ
الْفَسَادَ وَإِنْ كانت لم تَتَعَمَّدْ لم يَرْجِعْ عليها كَذَا ذَكَرَ
الْمَشَايِخُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ له أَنْ يَرْجِعَ عليها سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ
الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ وهو قَوْلُ زُفَرَ وَبِشْرٍ الْمَرِيسِيِّ
وَالشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هذا ضَمَانُ الاتلاف وَأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ
بِالْعَمْدِ وَالْخَطَأِ وَالدَّلِيلُ على أَنَّ هذا ضَمَانُ الاتلاف أَنَّ
الْفُرْقَةَ حَصَلَتْ من قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا وَلِهَذَا لم تَسْتَحِقَّ
الْمَهْرَ أَصْلًا وَرَأْسًا سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أو لم تَتَعَمَّدْ
وإذا كان حُصُولُ الْفُرْقَةِ من قِبَلِهَا بِإِرْضَاعِهَا صَارَتْ بِالْإِرْضَاعِ
مُؤَكِّدَةً نِصْفَ الْمَهْرِ على الزَّوْجِ لِأَنَّهُ كان مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ
بِرِدَّتِهَا أو تَمْكِينِهَا من ابْنِ الزَّوْجِ أو تَقْبِيلِهَا إذَا كَبُرَتْ
فَهِيَ بِالْإِرْضَاعِ أَكَّدَتْ نِصْفَ الْمَهْرِ بِحَيْثُ لَا يتحمل ( ( ( يحتمل
) ) ) السُّقُوطَ فَصَارَتْ مُتْلِفَةً عليه مَالَهُ فَتَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أنها وَإِنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَهِيَ صَاحِبَةُ
شَرْطٍ في ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ لِأَنَّ عِلَّةَ الْفُرْقَةِ هِيَ الِارْتِضَاعُ
لِلصَّغِيرَةِ لِمَا بَيَّنَّا وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى
الشَّرْطِ على أَنَّ إرْضَاعَهَا إنْ كان سَبَبَ الْفُرْقَةِ فَهُوَ سَبَبٌ مَحْضٌ
لِأَنَّهُ طَرَأَ عليه فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ وهو ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ
وَالسَّبَبُ إذَا اعْتَرَضَ عليه فِعْلٌ اخْتِيَارِيٌّ يَكُونُ سَبَبًا مَحْضًا
وَالسَّبَبُ الْمَحْضُ لَا حُكْمَ له وَإِنْ كان صَاحِبُ السَّبَبِ مُتَعَمِّدًا
في مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ كَفَتْحِ بَابِ الاصطبل وَالْقَفَصِ حتى خَرَجَتْ
الدَّابَّةُ وَضَلَّتْ أو طَارَ الطَّيْرُ وَضَاعَ وَلِأَنَّ الضَّمَانَ لو وَجَبَ
عليها إمَّا أَنْ يَجِبَ بِإِتْلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ أو بِإِتْلَافِ الصَّدَاقِ
أو بِتَأْكِيدِ نِصْفِهِ على الزَّوْجِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ مِلْكَ
النِّكَاحِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بالاتلاف على أَصْلِنَا وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي
لِأَنَّهَا ما أَتْلَفَتْ الصَّدَاقَ بَلْ أَسْقَطَتْ نِصْفَهُ الْبَاقِي بَقِيَ
وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ السَّابِقِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّالِثِ لِأَنَّ التَّأْكِيدَ
لَا يُمَاثِلُ التَّفْوِيتَ فَلَا يَكُونُ اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْكَبِيرَةَ وَإِنْ كانت مُحَصِّلَةً شَرْطَ
الْفُرْقَةِ وَعِلَّةُ الْفُرْقَةِ من الصَّغِيرَةِ كما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ
لَكِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الشَّرْطَ مع الْعِلَّةِ إذَا اشْتَرَكَا في الْحَظْرِ
وَالْإِبَاحَةِ أَيْ في سَبَبِ الْمُؤَاخَذَةِ وَعَدَمِهِ فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ
إلَى الْعِلَّةِ أَوْلَى من إضَافَتِهِ إلَى الشَّرْطِ
فَأَمَّا إذَا كان الشَّرْطُ مَحْظُورًا وَالْعِلَّةُ غير مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ
فَإِضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى من إضَافَتِهِ إلَى الْعِلَّةِ كما
في حَقِّ الْبِئْرِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَالْكَبِيرَةُ إذَا لم تَكُنْ
تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ
فَقَدْ اسْتَوَى الشَّرْطُ وَالْعِلَّةُ في عَدَمِ الْحَظْرِ فَكَانَتْ
الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ ارْتِضَاعُهَا وَإِنْ كانت
تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ كان الشَّرْطُ مَحْظُورًا وهو إرْضَاعُ الْكَبِيرَةِ
وَالْعِلَّةُ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِالْحَظْرِ وَهِيَ ارْتِضَاعُ الصَّغِيرَةِ
فَكَانَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى الشَّرْطِ أَوْلَى
وإذا أُضِيفَتْ الْفُرْقَةُ إلَى الْكَبِيرَةِ عِنْدَ تَعَمُّدِهَا الْفَسَادَ
وَوَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ لِلصَّغِيرَةِ على الزَّوْجِ ابْتِدَاءً مُلَازِمًا
لِلْفُرْقَةِ صَارَتْ الْفُرْقَةُ الْحَاصِلَةُ منها كَأَنَّهَا عِلَّةُ لِوُجُوبِهِ
لَا أَنَّهُ بَقِيَ النِّصْفُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَاجِبًا بِالنِّكَاحِ
السَّابِقِ لِأَنَّ ذلك قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لأن قَوْلٌ بِبَقَاءِ
نِصْفِ الْمَهْرِ على وُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُسْقِطَةِ لِكُلِّهِ وانه بَاطِلٌ
فَصَارَتْ الْكَبِيرَةُ مُتْلِفَةً هذا الْقَدْرَ من الْمَالِ على الزَّوْجِ إذْ
الْأَدَاءُ مَبْنِيٌّ على الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ له حَقُّ الرُّجُوعِ عليها
وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ الضَّمَانُ على شُهُودِ الطَّلَاقِ قبل الدُّخُولِ
إذَا رَجَعُوا بِالْإِجْمَاعِ بِخِلَافِ ما إذَا لم تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ
لِأَنَّ عِنْدَ عَدَمِ التَّعَمُّدِ لَا تَكُونُ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى
فِعْلِ الْكَبِيرَةِ فلم يُوجَدْ منها عِلَّةُ وُجُوبِ نِصْفِ الْمَهْرِ على
الزَّوْجِ فَلَا يَرْجِعُ عليها
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ فَتْحِ بَابِ الْإِصْطَبْلِ وَالْقَفَصِ فَكَمَا يلزمهما ( (
( يلزمها ) ) ) يَلْزَمُ مُحَمَّدًا لِأَنَّ عِنْدَهُ يَضْمَنُ الْفَاتِحُ وَإِنْ
اعْتَرَضَ على الْفَتْحِ فعل ( ( ( فعلا ) ) ) اختياري ( ( ( اختياريا ) ) )
فَقَدْ خَرَجَ الْجَوَابُ عن الْبَاقِي فَافْهَمْ
ثُمَّ تَعَمُّدُ الْفَسَادِ يَثْبُتُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِعِلْمِهَا بِنِكَاحِ
الصَّغِيرَةِ وَعِلْمِهَا بِفَسَادِ النِّكَاحِ بِإِرْضَاعِهَا وَعَدَمِ
الضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ خَوْفِ الْهَلَاكِ على الصَّغِيرَةِ لو لم
تُرْضِعْهَا وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا في أنها لم تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ مع
يَمِينِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ بِدَعْوَى تَعَمُّدِ الْفَسَادِ يَدَّعِي عليها
الضَّمَانَ وَهِيَ تُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا
وَعَلَى هذا حُكْمُ الْمَهْرِ وَالرُّجُوعِ في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ من
الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَصَغِيرَتَيْنِ
فارضعتهما الْكَبِيرَةُ
فَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا حُرِّمْنَ عليه لِأَنَّهُمَا جميعا صَارَتَا
بِنْتَيْنِ لِلْمُرْضِعَةِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ نِكَاحًا فَحُرِّمْنَ
عليه وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَبَدًا سَوَاءٌ كان دخل بها
أو لم يَدْخُلْ بها لِأَنَّهَا أُمُّ مَنْكُوحَتِهِ فَتَحْرُمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ
على الْبِنْتِ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَجْمَعَ بين الصَّغِيرَتَيْنِ نِكَاحًا
أَبَدًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ من الرَّضَاعِ وَيَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ
باحداهما إنْ كان لم يَدْخُلْ
____________________
(4/12)
بِالْكَبِيرَةِ
لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ من الرَّضَاعِ فَلَا تَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ على
الْأُمِّ كما في النَّسَبِ وَإِنْ كان قد دخل بها لَا يَجُوزُ كما في النَّسَبِ
وَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا على التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى فَقَدْ
حَرُمَتْ الْكَبِيرَةُ مع الصَّغِيرَةِ الْأُولَى
لِأَنَّهَا لَمَّا أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لها فجعل ( ( ( فحصل ) )
) الْجَمْعُ بين الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فَبَانَتَا منه
وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّمَا أَرْضَعَتْهَا بعدما بَانَتْ
الْكَبِيرَةُ فلم يَصِرْ جَامِعًا لَكِنَّهَا رَبِيبَتُهُ من الرَّضَاعِ فَإِنْ
كان قد دخل بِأُمِّهَا تَحْرُمُ عليه وَإِلَّا فَلَا وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ
الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذلك وَلَا الْجَمْعُ بين الصَّغِيرَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً وَثَلَاثَ صَبِيَّاتٍ فَأَرْضَعَتْهُنَّ على
التَّعَاقُبِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى حَرُمْنَ عليه جميعا لِأَنَّهَا لَمَّا
أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ بِنْتًا لها فَحَصَلَ الْجَمْعُ بين الْأُمِّ
وَالْبِنْتِ فَحُرِّمَتَا عليه ولما أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا
وَالْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى مُبَانَتَانِ فَلَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ
الْجَمْعِ لِعَدَمِ الْجَمْعِ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كان قد دخل بِالْكَبِيرَةِ
تَحْرُمُ عليه لِلْحَالِ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ وقد دخل بِأُمِّهَا وَإِنْ كان لم
يَدْخُلْ بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ عليه لِلْحَالِ حتى تُرْضِعَ الثَّالِثَةَ فإذا
ارتضعت ( ( ( أرضعت ) ) ) الثَّالِثَةَ حُرِّمَتَا عليه لِأَنَّهُمَا صَارَتَا
أُخْتَيْنِ وَالْحُكْمُ في تَزَوُّجِ الْكَبِيرَةِ بَعْدَ ذلك وَالْجَمْعُ بين
صَغِيرَتَيْنِ وَتَزَوُّجِ إحْدَى الصَّغَائِرِ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَتَيْنِ وَكَبِيرَتَيْنِ فَعَمَدَتْ الْكَبِيرَتَانِ إلَى
إحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتَاهَا إحْدَاهُمَا بَعْدَ أُخْرَى ثُمَّ
أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الثَّانِيَةَ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى بَانَتْ
الْكَبِيرَتَانِ وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ
امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَرْضَعَتَا الصَّغِيرَةَ الْأُولَى صَارَتْ
كُلُّ وَاحِدَةٍ من الْكَبِيرَتَيْنِ أُمَّ امْرَأَتِهِ وَصَارَتْ الصَّغِيرَةُ
بِنْتَ امْرَأَتِهِ فَصَارَ جَامِعًا بَيْنَهُنَّ فَحُرِّمْنَ عليه فلما
أَرْضَعَتَا الثَّانِيَةَ فَقَدْ أَرْضَعَتَاهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْبَيْنُونَةِ
فلم يَصِرْ جَامِعًا فَلَا تَحْرُمُ هذه الصَّغِيرَةُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ
وَلَكِنَّهَا ابْنَةُ مَنْكُوحَةٍ كانت له فَإِنْ كان لم يَدْخُلْ بها لَا
تَحْرُمُ عليه وَإِنْ كان قد دخل بها تَحْرُمُ وَلَا يَجُوزُ له نِكَاحُ وَاحِدَةٍ
من الْكَبِيرَتَيْنِ بَعْدَ ذلك بِحَالٍ وَالْأَمْرُ في جَوَازِ نِكَاحِ
الصَّغِيرَةِ الْأُولَى على التَّفْصِيلِ الذي مَرَّ
وَلَوْ كانت إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً
بَعْدَ الْأُخْرَى ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى الصَّغِيرَتَيْنِ
وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى يُنْظَرُ إنْ كانت الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ
بَدَأَتْ بِاَلَّتِي بَدَأَتْ بها الْكَبِيرَةُ الْأُولَى بَانَتْ الْكَبِيرَتَانِ
وَالصَّغِيرَةُ الْأُولَى وَالصَّغِيرَةُ الْأُخْرَى امْرَأَتُهُ وَإِنْ كانت
بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لم تَبْدَأْ بها الْأُولَى حُرِّمْنَ عليه جميعا وَإِنَّمَا
كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ الْأُولَى لَمَّا أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ
الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتَهَا فَحَصَلَ الْجَمْعُ بين الْأُمِّ وَالْبِنْتِ
فَحُرِّمَتَا عليه فلما أَرْضَعَتْ الْأُخْرَى أَرْضَعَتْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ
فلم يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ لَكِنْ صَارَتْ الْأُخْرَى رَبِيبَتَهُ فَإِنْ كان لم
يَدْخُلْ بِأُمِّهَا لَا تَحْرُمُ وَإِنْ كان قد دخل بها تَحْرُمُ فلما جَاءَتْ
الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ
أُمَّ مَنْكُوحَتِهِ فَحُرِّمَتْ عليه فلما أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ الْأُخْرَى
فَقَدْ أَرْضَعَتْهَا وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَصَارَتْ رَبِيبَتَهُ فَلَا تَحْرُمُ
إذَا كان لم يَدْخُلْ بِأُمِّهَا وَإِنْ كان قد دخل بِأُمِّهَا تَحْرُمُ وإذا كانت
الْكَبِيرَةُ الْأَخِيرَةُ بَدَأَتْ بِاَلَّتِي لم تَبْدَأْ بها الْكَبِيرَةُ
الْأُولَى فَقَدْ صَارَتْ بِنْتًا لها فَصَارَ جَامِعَهَا مع أُمِّهَا
فَحُرِّمَتَا عليه كما حُرِّمَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُولَى مع الصَّغِيرَةِ
الْأُولَى فَحُرِّمْنَ جميعا
وَلَوْ كان تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ
الصَّغِيرَةَ بَانَتَا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَكَذَا إذَا أَرْضَعَتْ
أُخْتُ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ أُخْتِ إمرأته
وَالْجَمْعُ بين الْمَرْأَةِ وَبَيْنَ بِنْتِ أُخْتِهَا لَا يَجُوزُ في الرَّضَاعِ
كما لَا يَجُوزُ في النَّسَبِ وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا عَمَّةُ الْكَبِيرَةِ أو
خَالَتُهَا لم تَبِنْ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِنْتَ عَمَّةِ امْرَأَتِهِ أو بِنْتَ
خَالَتِهَا وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَجْمَعَ بين امْرَأَةٍ وَبَيْنَ بِنْتِ
عَمَّتِهَا أو بِنْتِ خَالَتِهَا في النَّسَبِ فَكَذَا في الرَّضَاعِ
وَلَوْ طَلَّقَ رَجُلٌ امْرَأَته ثَلَاثًا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْمُطَلَّقَةُ قبل
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا امْرَأَةً له صَغِيرَةً بَانَتْ الصَّغِيرَةُ لِأَنَّهَا
صَارَتْ بِنْتًا له فَحَصَلَ الْجَمْعُ في حَالِ الْعِدَّةِ وَالْجَمْعُ في حَالِ
قِيَامِ الْعِدَّةِ كَالْجَمْعِ في حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ
وَلَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ وهو صَغِيرٌ امْرَأَةً لها لَبَنٌ فَارْتَدَّتْ وَبَانَتْ
من الصَّبِيِّ ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ فَحَبِلَتْ منه ثُمَّ
أَرْضَعَتْ بِلَبَنِهَا ذلك الصَّبِيَّ الذي كان زَوْجَهَا حُرِّمَتْ على
زَوْجِهَا الثَّانِي كَذَا رَوَى بِشْرُ بن الْوَلِيدِ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ ذلك
الصَّبِيَّ صَارَ إبنا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَنْكُوحَةَ ابْنِهِ من
الرَّضَاعِ فَحُرِّمَتْ عليه
وَلَوْ زَوَّجَ رَجُلٌ أُمَّ وَلَدِهِ مَمْلُوكًا له صَغِيرًا فَأَرْضَعَتْهُ
بِلَبَنِ السَّيِّدِ حُرِّمَتْ على زَوْجِهَا وَعَلَى مَوْلَاهَا لِأَنَّ
الزَّوْجَ صَارَ إبنا لِزَوْجِهَا فَصَارَتْ هِيَ مَوْطُوءَةَ أبيه فَتَحْرُمُ
عليه وَلَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّهَا
____________________
(4/13)
مَنْكُوحَةُ
إبنه وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ كَبِيرَةً لها
لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْهَا حُرِّمَتْ عليه لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ مَنْكُوحَةٍ كانت
له فَتَحْرُمُ بِنِكَاحِ الْبِنْتِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ أَيْ يَظْهَرُ بِهِ
فَالرَّضَاعُ يَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْإِقْرَارُ
وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ
أَمَّا الْإِقْرَارُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا هِيَ أُخْتِي
من الرَّضَاعِ أو أُمِّي من الرَّضَاعِ أو بِنْتِي من الرَّضَاعِ وَيَثْبُتُ على
ذلك وَيَصْبِرُ عليه فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبُطْلَانِ ما
يَمْلِكُ إبْطَالَهُ لِلْحَالِ فَيُصَدَّقُ فيه على نَفْسِهِ وإذا صُدِّقَ لَا
يَحِلُّ له وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بها فَلَا يَكُونُ في إبْقَاءِ النِّكَاحِ
فَائِدَةٌ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ صَدَّقَتْهُ أو كَذَّبَتْهُ لِأَنَّ
الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ في زَعْمِهِ ثُمَّ إنْ كان قبل الدُّخُولِ بها فَلَهَا
نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَذَّبَتْهُ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُصَدِّقٌ على نَفْسِهِ لَا
عليها بِإِبْطَالِ حَقِّهَا في الْمَهْرِ وإنه كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها فَلَهَا
كَمَالُ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ
بِإِبْطَالِ حَقِّهَا فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قال أَوْهَمْت أو أَخْطَأْت
أو غَلِطْت أو نَسِيت أو كَذَبْت فَهُمَا على النِّكَاحِ وَلَا يُفَرَّقُ
بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا
وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ على
الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنه أَقَرَّ بِسَبَبِ الْفُرْقَةِ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ
كما لو أَقَرَّ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعَ بِأَنْ قال لِامْرَأَتِهِ كُنْت
طَلَّقْتُك ثَلَاثًا ثُمَّ قال وهمت ( ( ( أوهمت ) ) ) وَالدَّلِيلُ عليه إنه لو
قال لِأَمَتِهِ هذه امْرَأَتِي أو أُمِّي أو أُخْتِي أو ابْنَتِي ثُمَّ قال
أَوْهَمْت إنه لَا يُصَدَّقُ وَتَعْتِقُ كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ فَقَوْلُهُ هذه أُخْتِي إخْبَارٌ منه أنها لم
تَكُنْ زَوْجَتَهُ قَطُّ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عليه على التَّأْبِيدِ
فإذا قال أَوْهَمْت صَارَ كَأَنَّهُ قال ما تَزَوَّجْتهَا ثُمَّ قال تَزَوَّجْتهَا
وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَوْ قال ذلك يُقَرَّانِ على النِّكَاحِ كَذَا هذا
بِخِلَافِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُنْت طَلَّقْتُك ثَلَاثًا إقْرَارٌ منه
بِإِنْشَاءِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ من جِهَتِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ إنْشَاءُ
الطَّلَاقِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فإذا أَقَرَّ ثُمَّ رَجَعَ عنه لم
يُصَدَّقْ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ لِأَمَتِهِ هذه أُمِّي أو ابْنَتِي لِأَنَّ ذلك
لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْمِلْكِ في الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أنها لو كانت أُمَّهُ أو
ابْنَتَهُ حَقِيقَةً جَازَ دُخُولُهَا في مِلْكِهِ حتى يَقَعَ الْعِتْقُ عليها من
جِهَتِهِ فَتَضَمَّنَ هذا اللَّفْظُ منه إنْشَاءَ الْعِتْقِ عليها فإذا قال
أَوْهَمْت لَا يُصَدَّقُ كما لو قال هذه حُرَّةٌ ثُمَّ قال أَوْهَمْت
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بهذا قبل النِّكَاحِ فقال هذه أُخْتِي من
الرَّضَاعِ أو أُمِّي أو ابْنَتِي وَأَصَرَّ على ذلك وَدَاوَمَ عليه لَا يَجُوزُ
له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَلَوْ تَزَوَّجَهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ قال وهمت ( ( ( أوهمت ) ) ) أو غَلِطْت جَازَ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَلَوْ جَحَدَ الْإِقْرَارَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ على
إقْرَارِهِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ فقال هذه أُمِّي من النَّسَبِ أو بنتي ( ( (
ابنتي ) ) ) أو أُخْتِي وَلَيْسَ لها نَسَبٌ مَعْرُوفٌ وإنها تَصْلُحُ بِنْتًا له
أو أُمًّا له فإنه يسئل ( ( ( يسأل ) ) ) مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ أَصَرَّ على ذلك
وَثَبَتَ عليه يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِظُهُورِ النَّسَبِ بِإِقْرَارِهِ مع
إصْرَارِهِ عليه
وَإِنْ قال وهمت ( ( ( أوهمت ) ) ) أو أَخْطَأْت أو غَلِطْت يُصَدَّقُ وَلَا
يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ كان لها نَسَبٌ مَعْرُوفٌ
أو لَا تَصْلُحُ أُمًّا أو بِنْتًا له لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ دَامَ على
ذلك لِأَنَّهُ كَاذِبٌ في إقْرَارِهِ بِيَقِينٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَهِيَ أَنْ يَشْهَدَ على الرَّضَاعِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ وَلَا يُقْبَلُ على الرَّضَاعِ أَقَلُّ من ذلك وَلَا شَهَادَةُ
النِّسَاءِ بِانْفِرَادِهِنَّ وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَجْهُ قَوْلِهِ إن
الشَّهَادَةَ على الرَّضَاعِ شَهَادَةٌ على عَوْرَةٍ إذْ لَا يُمْكِنُ تَحَمُّلُ
الشَّهَادَةِ إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ إلَى الثَّدْيِ وأنه عَوْرَةٌ فَيُقْبَلُ فيه
شَهَادَةُ النِّسَاءِ على الِانْفِرَادِ كَالْوِلَادَةِ
وَلَنَا ما رَوَى مُحَمَّدٌ عن عِكْرِمَةَ بن خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عن عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لَا يُقْبَلُ على الرَّضَاعِ أَقَلُّ من شَاهِدَيْنِ
وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يَظْهَرْ النَّكِيرُ من أَحَدٍ فَيَكُونَ
إجْمَاعًا وَلِأَنَّ هذا بَابٌ مِمَّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ
فيه شَهَادَةُ النِّسَاءِ على الِانْفِرَادِ كَالْمَالِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك
لِأَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ
أَمَّا ثَدْيُ الْأَمَةِ فَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَجَانِبِ النَّظَرُ إلَيْهِ
وَأَمَّا ثَدْيُ الْحُرَّةِ فَيَجُوزُ لِمَحَارِمِهَا النَّظَرُ إلَيْهِ فَثَبَتَ
أَنَّ هذه شَهَادَةٌ مِمَّا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ فَلَا يُقْبَلُ فيه
شَهَادَةُ النِّسَاءِ على الِانْفِرَادِ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَتِهِنَّ
بِانْفِرَادِهِنَّ في أُصُولِ الشَّرْعِ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ
اطِّلَاعِ الرِّجَالِ على الْمَشْهُودِ بِهِ فإذا جَازَ الِاطِّلَاعُ عليه في
الْجُمْلَةِ لم تَتَحَقَّقْ الضَّرُورَةُ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فإنه لَا يَجُوزُ
لِأَحَدٍ فيها من الرِّجَالِ الِاطِّلَاعُ عليها فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى
الْقَبُولِ
وإذا شَهِدَتْ امْرَأَةٌ على الرَّضَاعِ فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ
يُفَارِقَهَا لِمَا رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ عُقْبَةَ بن الحرث ( ( ( الحارث ) )
) قال تَزَوَّجْت بِنْتَ أبي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فقالت إن ( ( (
إني ) ) ) أَرْضَعْتُكُمَا فَذَكَرَتْ ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ
____________________
(4/14)
صلى
اللَّهُ عليه وسلم فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم فَارِقْهَا فَقُلْت إنَّهَا
امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَإِنَّهَا كَيْت وَكَيْت فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم كَيْفَ
وقد قِيلَ
وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قال عُقْبَةُ فَذَكَرْت ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم فَأَعْرَضَ ثُمَّ ذَكَرْتُهُ فَأَعْرَضَ حتى قال في
الثَّالِثَةِ أو الرَّابِعَةِ فَدَعْهَا إذًا
وَقَوْلُهُ فَارِقْهَا أو فَدَعْهَا إذًا نَدْبٌ إلَى الْأَفْضَلِ وَالْأَوْلَى
أَلَا تَرَى أَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا بَلْ
أَعْرَضَ وَلَوْ كان التَّفْرِيقُ وَاجِبًا لَمَا أَعْرَضَ فَدَلَّ قَوْلُهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم فَارِقْهَا على بَقَاءِ النِّكَاحِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَزَعَمَتْ أنها
أَرْضَعَتْهُمَا فَسَأَلَ الرَّجُلُ عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه فقال هِيَ إمرأتك
ليس أَحَدٌ يُحَرِّمُهَا عَلَيْك فَإِنْ تَنَزَّهْت فَهُوَ أَفْضَلُ وَسَأَلَ ابن
عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما فقال له مِثْلَ ذلك وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ
تَكُونَ صَادِقَةً في شَهَادَتِهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ هو الْمُفَارَقَةَ فإذا
فَارَقَهَا فَالْأَفْضَلُ له أَنْ يُعْطِيَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ إنْ كان قبل
الدُّخُولِ بها لِاحْتِمَالِ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهَا في
الشَّهَادَةِ وَالْأَفْضَلُ لها أَنْ لا تَأْخُذَ شيئا منه لِاحْتِمَالِ فَسَادِ
النِّكَاحِ لِاحْتِمَالِ صِدْقِهَا في الشَّهَادَةِ وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ
فَالْأَفْضَلُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا كَمَالَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ
وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ جَوَازِ النِّكَاحِ وَالْأَفْضَلُ لها أَنْ تَأْخُذَ
الْأَقَلَّ من مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُسَمَّى وَلَا تَأْخُذُ النَّفَقَةَ
وَالسُّكْنَى لِاحْتِمَالِ الْفَسَادِ وَإِنْ لم يُطَلِّقْهَا فَهُوَ في سَعَةٍ من
الْمُقَامِ مَعَهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ في الْحُكْمِ
وَكَذَا إذَا شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ أو رَجُلَانِ غَيْرُ
عَدْلَيْنِ أو رَجُلٌ وإمرأتان غَيْرُ عُدُولٍ لِمَا قُلْنَا
وإذا شَهِدَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا
فَإِنْ كان قبل الدُّخُولِ بها فَلَا شَيْءَ لها لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ
النِّكَاحَ كان فَاسِدًا وَإِنْ كان بَعْدَ الدُّخُولِ بها يَجِبُ لها الْأَقَلُّ
من الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى في
سَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ النَّفَقَةِ النَّفَقَةُ أَنْوَاعٌ أَرْبَعَةٌ نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ
وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَنَفَقَةُ الرَّقِيقِ وَنَفَقَةُ الْبَهَائِمِ
وَالْجَمَادَاتِ
أَمَّا نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ فَالْكَلَامُ فيها يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
وُجُوبِهَا وفي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي
بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا وَبَيَانِ
سَبَبِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا
دَيْنًا في الذِّمَّةِ
أَمَّا وُجُوبُهَا فَقَدْ دَلَّ عليه الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ
وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عز وجل { أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ
سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ } أَيْ على قَدْرِ ما يَجِدُهُ أحدكم من السَّعَةِ
وَالْمَقْدِرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْإِسْكَانِ أَمْرٌ بِالْإِنْفَاقِ لِأَنَّهَا لَا
تَصِلُ إلَى النَّفَقَةِ إلَّا بِالْخُرُوجِ وَالِاكْتِسَابِ وفي حَرْفِ عبد
اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه < أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ
وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ من وُجْدِكُمْ > وهو نَصٌّ وَقَوْلُهُ عز وجل { وَلَا
تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ } أَيْ لَا تُضَارُّوهُنَّ في
الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ النَّفَقَةَ فَيَخْرُجْنَ أو
لَا تُضَارُّوهُنَّ في الْمَسْكَنِ فَتَدْخُلُوا عَلَيْهِنَّ من غَيْرِ
اسْتِئْذَانٍ فَتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ الْمَسْكَنَ فَيَخْرُجْنَ
وَقَوْلُهُ عز وجل { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حتى
يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَقَوْلُهُ عز وجل { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَوْلُهُ عز وجل { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من
سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ }
وَقَوْلُهُ عز وجل { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ } قِيلَ هو
الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ
قال اتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عوار ( ( ( عوان ) )
) لَا يَمْلِكْنَ لِأَنْفُسِهِنَّ شيئا وَإِنَّمَا أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ
اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ
حَقٌّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا وَلَا يَأْذَنَّ في بُيُوتِكُمْ
لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ خِفْتُمْ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ في الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غير مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ
عَلَيْكُمْ كِسْوَتُهُنَّ وَرِزْقُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ثُمَّ قال ثَلَاثًا أَلَا
هل بَلَّغْت وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هذا الْحَدِيثُ تَفْسِيرًا لِمَا أَجْمَلَ
الْحَقُّ في قَوْلِهِ { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
فَكَانَ الْحَدِيثُ مُبَيِّنًا لِمَا في الْكِتَابِ أَصْلُهُ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقال ما
حَقُّ الْمَرْأَةِ على الزَّوْجِ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم يُطْعِمُهَا إذَا
طَعِمَ وَيَكْسُوهَا إذَا كسى وَأَنْ لَا يَهْجُرَهَا إلَّا في الْمَبِيتِ وَلَا
يَضْرِبَهَا وَلَا يُقَبِّحْ وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِهِنْدٍ إمرأة أبي
سُفْيَانَ خُذِي من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيك وَوَلَدَك
____________________
(4/15)
بِالْمَعْرُوفِ
وَلَوْ لم تَكُنْ النَّفَقَةُ وَاجِبَةً لم يُحْتَمَلْ أَنْ يَأْذَنَ لها
بِالْأَخْذِ من غَيْرِ إذْنِهِ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على هذا
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ بِحَبْسِ النِّكَاحِ
حَقًّا لِلزَّوْجِ مَمْنُوعَةٌ عن الِاكْتِسَابِ بِحَقِّهِ فَكَانَ نَفْعُ
حَبْسِهَا عَائِدًا إلَيْهِ فَكَانَتْ كِفَايَتُهَا عليه كَقَوْلِهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِأَنَّهَا إذَا كانت مَحْبُوسَةً بحبسه
مَمْنُوعَةٍ عن الْخُرُوجِ لِلْكَسْبِ بِحَقِّهِ فَلَوْ لم يَكُنْ كِفَايَتُهَا
عليه لَهَلَكَتْ وَلِهَذَا جُعِلَ لِلْقَاضِي رِزْقٌ في بَيْتِ مَالِ
الْمُسْلِمِينَ لِحَقِّهِمْ لِأَنَّهُ مَحْبُوسٌ لِجِهَتِهِمْ مَمْنُوعٌ عن
الْكَسْبِ فَجُعِلَتْ نَفَقَتُهُ في مَالِهِمْ وهو بَيْتُ الْمَالِ كَذَا هَهُنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ
فيه قال أَصْحَابُنَا سَبَبُ وُجُوبِهَا اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ الثَّابِتِ
بِالنِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عليها وقال الشَّافِعِيُّ السَّبَبُ هو الزَّوْجِيَّةُ
وهو كَوْنُهَا زَوْجَةً له وَرُبَّمَا قالوا مِلْكُ النِّكَاحِ لِلزَّوْجِ عليها
وَرُبَّمَا قالوا القوامية ( ( ( القوامة ) ) ) وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ على النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ على
بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا من أَمْوَالِهِمْ } أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عليهم
لِكَوْنِهِمْ قَوَّامِينَ والقوامية ( ( ( والقوامة ) ) ) تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ
فَكَانَ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ النِّكَاحُ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ على
الْمَمْلُوكِ من بَابِ إصْلَاحِ الْمِلْكِ وَاسْتِبْقَائِهِ فَكَانَ سَبَبَ
وُجُوبِهِ الْمِلْكُ كَنَفَقَةِ الْمَمَالِيكِ
وَلَنَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ
مُؤَثِّرٌ في اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ لها عليه لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا
الْمِلْكُ فَلَا أَثَرَ له لِأَنَّهُ قد قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً وهو الْمَهْرُ
فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ إذْ الْعِوَضُ الْوَاحِدُ لَا يُقَابَلُ
بِعِوَضَيْنِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ لِأَنَّ فيها إثْبَاتَ القوامية ( ( (
القوامة ) ) ) بِسَبَبِ النَّفَقَةِ لَا إيجَابَ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ القوامية (
( ( القوامة ) ) ) وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يبني ( ( ( ينبني ) ) ) أَنَّهُ لَا
نَفَقَةَ على مُسْلِمٍ في نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو
حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِأَنَّ حَقَّ
الْحَبْسِ لَا يَثْبُتُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَكَذَا النِّكَاحُ الْفَاسِدُ
ليس بِنِكَاحٍ حَقِيقَةً وَكَذَا في عِدَّةٍ منه إنْ ثَبَتَ حَقُّ الْحَبْسِ
لِأَنَّهُ لم يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِانْعِدَامِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ
لِتَحْصِينِ الْمَاءِ وَلِأَنَّ حَالَ الْعِدَّةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى من حَالِ
النِّكَاحِ فلما لم تَجِبْ في النِّكَاحِ فَلَأَنْ لَا تَجِبَ في الْعِدَّةِ
أَوْلَى وَتَجِبُ في الْعِدَّةِ من نِكَاحٍ صَحِيحٍ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ
وهو اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِأَنَّ
النِّكَاحَ قَائِمٌ من وَجْهٍ فَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كما كانت تَسْتَحِقُّهَا
قبل الْفُرْقَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ
تَأَكَّدَ بِحَقِّ الشَّرْعِ وَتَأَكُّدُ السَّبَبِ يُوجِبُ تَأَكُّدَ الْحُكْمِ
فلما وَجَبَتْ قبل الْفُرْقَةِ فَبَعْدَهَا أَوْلَى سَوَاءٌ كانت الْعِدَّةُ عن
فُرْقَةٍ بِطَلَاقٍ أو عن فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَسَوَاءٌ كانت الْفُرْقَةُ
بِغَيْرِ طَلَاقٍ من قِبَلِ الزَّوْجِ أو من قِبَلِ الْمَرْأَةِ إلَّا إذَا كانت
من قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا
وشرح هذه الْجُمْلَةِ أَنَّ الْفُرْقَةَ إذَا كانت من قِبَلِ الزَّوْجِ بِطَلَاقٍ
فَلَهَا النَّفَقَةُ والسكن ( ( ( والسكنى ) ) ) سَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ
رَجْعِيًّا أو بَائِنًا وَسَوَاءٌ كانت حَامِلًا أو حَائِلًا بَعْدَ أَنْ كانت
مَدْخُولًا بها عِنْدَنَا لِقِيَامِ حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ إنْ كانت مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا أو بَائِنًا وَهِيَ
حَامِلٌ فَكَذَلِكَ
فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ إذَا كانت حَامِلًا فَلَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ
لها لِزَوَالِ النِّكَاحِ بِالْإِبَانَةِ وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ لها
السُّكْنَى إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ في السُّكْنَى بِالنَّصِّ وَعِنْدَ
ابْنِ أبي لَيْلَى لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ وَلَا سُكْنَى لها
وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ في كِتَابِ الطَّلَاقِ وفي بَيَانِ أَحْكَامِ الْعِدَّةِ
وَسَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ بِبَدَلٍ أو بِغَيْرِ بَدَلٍ وهو الْخُلْعُ وَالطَّلَاقُ
على مَالٍ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ خَالَعَهَا على أَنْ يَبْرَأَ من النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى يَبْرَأُ من
النَّفَقَةِ وَلَا يَبْرَأُ من السُّكْنَى لَكِنَّهُ يَبْرَأُ عن مُؤْنَةِ
السُّكْنَى لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا على الْخُلُوصِ وَكَذَا مُؤْنَةُ السُّكْنَى
فَتَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عن حَقِّهَا فَأَمَّا السُّكْنَى فَفِيهَا حَقُّ اللَّهِ
عز وجل فَلَا تَمْلِكُ الْمُعْتَدَّةُ إسْقَاطَهُ وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عن
النَّفَقَةِ من غَيْرِ قَطْعٍ لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ
إسْقَاطُ الْوَاجِبِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الْوُجُوبِ وَالنَّفَقَةُ تَجِبُ
شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ مُرُورِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا قبل
الْوُجُوبِ فلم يَصِحَّ بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَعَتْ نَفْسَهَا على نَفَقَتِهَا
لِمَا ذَكَرْنَاهُ في الْخُلْعِ وَلِأَنَّهَا جَعَلَتْ الْإِبْرَاءَ عن
النَّفَقَةِ عِوَضًا عن نَفْسِهَا في الْعَقْدِ وَلَا يَصِحُّ ذلك إلَّا بَعْدَ
سَابِقَةِ الْوُجُوبِ فَيُثْبِتُ الْوُجُوبُ مُقْتَضَى الْخُلْعِ
بِاصْطِلَاحِهِمَا كما لو اصْطَلَحَا على النَّفَقَةِ إنها تَجِبُ وَتَصِيرُ
دَيْنًا في الذِّمَّةِ كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ إذَا كانت من قِبَلِهِ فَلَهَا
النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى سَوَاءٌ كانت بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْبُلُوغِ أو
بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ كَالرِّدَّةِ وَوَطْءِ أُمِّهَا أو ابْنَتِهَا أو
تَقْبِيلِهِمَا بِشَهْوَةٍ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ بها لِقِيَامِ
السَّبَبِ وهو حَقُّ
____________________
(4/16)
الْحَبْسِ
لِلزَّوْجِ عليها بِسَبَبِ النِّكَاحِ وإذا كانت من قِبَلِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ
كانت بِسَبَبٍ مُبَاحٍ كَخِيَارِ الْإِدْرَاكِ وَخِيَارِ الْعِتْقِ وَخِيَارِ
عَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَكَذَلِكَ لها النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى وَإِنْ كانت
بِسَبَبٍ مَحْظُورٍ بِأَنْ ارْتَدَّتْ أو طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو أَبَاهُ أو
لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ فَلَا نَفَقَةَ لها اسْتِحْسَانًا وَلَهَا السُّكْنَى
وَإِنْ كانت مُسْتَكْرَهَةً وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لها النَّفَقَةُ
وَالسُّكْنَى في ذلك كُلِّهِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قَائِمٌ وَتَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كما
إذَا كانت الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَكَمَا إذَا كانت
الْفُرْقَةُ من قِبَلِ الزَّوْجِ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ أو مَحْظُورٍ
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ قد بَطَلَ
بِرِدَّتِهَا أَلَا تَرَى أنها تُحْبَسُ بَعْدَ الرِّدَّةِ جَبْرًا لها على
الْإِسْلَامِ لِثُبُوتِ بَقَاءِ حَقِّ النِّكَاحِ فلم تَجِبْ النَّفَقَةُ
بِخِلَافِ ما إذَا كانت الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مُبَاحٍ لِأَنَّ هُنَاكَ حَبْسَ
النِّكَاحِ قَائِمٌ فَبَقِيَتْ النَّفَقَةُ وَكَذَا إذَا كانت من قِبَلِ الزَّوْجِ
بِسَبَبٍ هو مَعْصِيَةٌ
لِأَنَّهَا لَا تُحْبَسُ بِرِدَّةِ الزَّوْجِ فَيَبْقَى حَبْسُ النِّكَاحِ
فَتَبْقَى الْعِدَّةُ لَكِنْ هذا يُشْكَلُ بِمَا إذَا طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا
أو قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ إنها لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَإِنْ بَقِيَ حَبْسُ
النِّكَاحِ ما دَامَتْ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَلَا إشْكَالَ في الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّ هُنَاكَ عَدَمَ الِاسْتِحْقَاقِ لِانْعِدَامِ شَرْطٍ من شَرَائِطِ
الِاسْتِحْقَاقِ وهو أَنْ لَا يَكُونَ الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا خَاصَّةً بِفِعْلٍ
هو مَحْظُورٌ مع قِيَامِ السَّبَبِ وهو حَبْسُ النِّكَاحِ فَانْدَفَعَ
الْإِشْكَالُ بِحَمْدِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالثَّانِي أَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ إنَّمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عليه صِلَةً
لها فإذا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِفِعْلِهَا اللذي ( ( ( الذي ) ) ) هو مَعْصِيَةٌ
لم تَسْتَحِقَّ الصِّلَةَ إذْ الْجَانِي لَا يَسْتَحِقُّ الصِّلَةَ بَلْ
يَسْتَحِقُّ الزَّجْرَ وَذَلِكَ في الْحِرْمَانِ لَا في الِاسْتِحْقَاقِ كَمَنْ
قَتَلَ مُوَرِّثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ إنه يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِمَا قُلْنَا كَذَا
هذا بِخِلَافِ ما إذَا كانت مُسْتَكْرَهَةً على الْوَطْءِ لِأَنَّ فِعْلَهَا ليس
بِجِنَايَةٍ فَلَا يُوجِبُ حِرْمَانَ الصِّلَةِ وَكَذَا إذَا كانت الْفُرْقَةُ
بِسَبَبٍ مُبَاحٍ وَبِخِلَافِ الزَّوْجِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا قِبَلَ
الزَّوْجِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِعْلُهُ الذي هو مَعْصِيَةٌ في إسْقَاطِ حَقِّ
الْغَيْرِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْفَصْلَيْنِ وَإِنَّمَا لم تُحْرَمْ السُّكْنَى
بِفِعْلِهَا الذي هو مَعْصِيَةٌ لِمَا قُلْنَا أن في السُّكْنَى حَقَّ اللَّهِ
تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِفِعْلِ الْعَبْدِ وَلَوْ ارْتَدَّتْ في
النِّكَاحِ حتى حُرِمَتْ النَّفَقَةَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ في الْعِدَّةِ لَا
تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَلَوْ ارْتَدَّتْ في الْعِدَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَهِيَ
في الْعِدَّةِ تَعُودُ النَّفَقَةُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ في الْفَصْلِ الثَّانِي بَقِيَتْ وَاجِبَةً
بَعْدَ الْفُرْقَةِ قبل الرِّدَّةِ لِبَقَاءِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو حَبْسُ
النِّكَاحِ وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ ثُمَّ امْتَنَعَ وُجُوبُهَا من بَعْدِ
تَعَارُضِ الرِّدَّةِ فإذا عَادَتْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَدْ زَالَ الْعَارِضُ
فَتَعُودُ النَّفَقَةُ وَأَمَّا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَالنَّفَقَةُ لم تَبْقَ
وَاجِبَةً وَقْتَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لِبُطْلَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا بِالرِّدَّةِ
في حَقِّ حَبْسِ النِّكَاحِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ أَوْجَبَتْ بُطْلَانَ ذلك
الْحَبْسِ فَلَا يَعُودُ من غَيْرِ تَجْدِيدِ النِّكَاحِ فَلَا تَعُودُ
النَّفَقَةُ بِدُونِهِ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ لم تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ
ثُمَّ بَطَلَتْ في الْعِدَّةِ لِعَارِضٍ منها ثُمَّ زَالَ الْعَارِضُ في
الْعِدَّةِ تَعُودُ نَفَقَتُهَا وَكُلُّ من بَطَلَتْ نَفَقَتُهَا بِالْفُرْقَةِ
لَا تَعُودُ النَّفَقَةُ في الْعِدَّةِ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ الْفُرْقَةِ في
الْعِدَّةِ بِخِلَافِ ما إذَا نَشَزَتْ ثُمَّ عَادَتْ إنها تَسْتَحِقُّ
النَّفَقَةَ لِأَنَّ النُّشُوزَ لم يُوجِبْ بُطْلَانَ حَقِّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ
بِالنِّكَاحِ وَإِنَّمَا فَوَّتَ التَّسْلِيمَ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ فإذا
عَادَتْ فَقَدْ سَلَّمَتْ نَفْسَهَا فَاسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ
وَلَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا أو أَبَاهُ في الْعِدَّةِ أو لَمَسَتْهُ
بِشَهْوَةٍ فَإِنْ كانت مُعْتَدَّةً من طَلَاقٍ وهو رَجْعِيٌّ فَلَا نَفَقَةَ لها
لِأَنَّ الْفُرْقَةَ ما وَقَعَتْ بِالطَّلَاقِ وَإِنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبٍ
وُجِدَ منها وهو مَحْظُورٌ وَإِنْ كان الطَّلَاقُ بَائِنًا أو كانت مُعْتَدَّةً عن
فُرْقَةٍ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِخِلَافِ ما إذَا
ارْتَدَّتْ في الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها إلَى أَنْ تَعُودَ إلَى
الْإِسْلَامِ وَهِيَ في الْعِدَّةِ لِأَنَّ حَبْسَ النِّكَاحِ يَفُوتُ
بِالرِّدَّةِ وَلَا يَفُوتُ بِالْمُطَاوَعَةِ وَالْمَسِّ
وَلَوْ ارْتَدَّتْ في الْعِدَّةِ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَتْ
وَأَسْلَمَتْ أو سُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ أو لم تُعْتَقْ فَلَا نَفَقَةَ لها لِأَنَّ
الْعِدَّةَ قد بَطَلَتْ بِاللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مع
اللَّحَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ طَلَاقًا بَائِنًا وقد كان الْمَوْلَى
بَوَّأَهَا مع زَوْجِهَا بَيْتًا حتى وَجَبَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَخْرَجَهَا
الْمَوْلَى لِخِدْمَتِهِ حتى سَقَطَتْ النَّفَقَةُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُعِيدَهَا
إلَى الزَّوْجِ وَيَأْخُذَ النَّفَقَةَ كان له ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ بَوَّأَهَا
الْمَوْلَى بَيْتًا حتى طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُبَوِّئَهَا مع
الزَّوْجِ في الْعِدَّةِ لِتَجِبَ النَّفَقَةُ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّفَقَةَ كانت وَاجِبَةً في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ
لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الِاحْتِبَاسُ وَشَرْطِهِ وهو التَّسْلِيمُ إلَّا
أَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهَا إلَى خِدْمَتِهِ فَقَدْ فَوَّتَ على الزَّوْجِ
الِاحْتِبَاسَ الثَّابِتَ حَقًّا له وَالتَّسْلِيمَ فَامْتَنَعَ وُجُوبُ
النَّفَقَةِ حقا له فإذا أَعَادَهَا إلَى الزَّوْجِ عَادَ حَقُّهُ فَيَعُودُ حَقُّ
____________________
(4/17)
الْمَوْلَى
في النَّفَقَةِ
فَأَمَّا في الْفَصْلِ الثَّانِي فَالنَّفَقَةُ ما كانت وَاجِبَةً في الْعِدَّةِ
لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أو شَرْطِ الْوُجُوبِ وهو التَّسْلِيمُ
فَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ يُرِيدُ إلْزَامَ الزَّوْجِ النَّفَقَةَ ابْتِدَاءً في
الْعِدَّةِ فَلَا يَمْلِكُ ذلك
وَالْأَصْلُ في ذلك أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ كانت لها النَّفَقَةُ يوم الطَّلَاقِ
ثُمَّ صَارَتْ إلَى حَالٍ لَا نَفَقَةَ لها فيها فَلَهَا أَنْ تَعُودَ وَتَأْخُذَ
النَّفَقَةَ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَا نَفَقَةَ لها يوم الطَّلَاقِ فَلَيْسَ لها
نَفَقَةٌ أَبَدًا إلَّا النَّاشِزَةَ وَتَفْسِيرُ ذلك وَالْوَجْهُ فيه ما
ذَكَرْنَا
وَيَسْتَوِي في نَفَقَةِ الْمُعْتَدَّةِ عِدَّةُ الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ
الْأَشْهُرِ وَعِدَّةُ الْحَمْلِ لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ
فَيُنْفِقُ عليها ما دَامَتْ في الْعِدَّةِ
وَإِنْ تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ لِعُذْرِ الْحَبَلِ أو لِعُذْرٍ آخَرَ وَيَكُونُ
الْقَوْلُ في ذلك قَوْلَهَا لِأَنَّ ذلك أَمْرٌ يُعْرَفُ من قِبَلِهَا حتى لو
ادَّعَتْ أنها حَامِلٌ أَنْفَقَ عليها إلَى سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا لِأَنَّ
الْوَلَدَ يَبْقَى في الْبَطْنِ إلَى سَنَتَيْنِ فَإِنْ مَضَتْ سَنَتَانِ ولم
تَضَعْ فقالت كنت أَتَوَهَّمُ إني حَامِلٌ ولم أَحِضْ إلَى هذه الْغَايَةِ
وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ لِعُذْرِ امْتِدَادِ الطُّهْرِ وقال الزَّوْجُ إنَّك
ادَّعَيْت الْحَمْلَ فَإِنَّمَا تَجِبُ على النَّفَقَةُ لِعِلَّةِ الْحَمْلِ
وَأَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَمْلِ سَنَتَانِ وقد مَضَى ذلك فَلَا نَفَقَةَ عَلَيَّ
فإن الْقَاضِيَ لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِهِ وَيُلْزِمُهُ النَّفَقَةَ إلَى أَنْ
تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ وَتَدْخُلَ في عِدَّةِ الْإِيَاسِ لِأَنَّ
أَحَدَ الْعُذْرَيْنِ إنْ بَطَلَ وهو عُذْرُ الْحَمْلِ فَقَدْ بَقِيَ الْآخَرُ وهو
عُذْرُ امْتِدَادِ الطُّهْرِ إذْ الْمُمْتَدُّ طُهْرُهَا من ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ
وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ في ذلك فَإِنْ لم تَحِضْ حتى دَخَلَتْ في حَدِّ الْإِيَاسِ
أَنْفَقَ عليها ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ في الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ
وَاسْتَقْبَلَتْ الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا
مُعْتَدَّةٌ
وَكَذَلِكَ لو كانت صَغِيرَةً يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَطَلَّقَهَا بعدما دخل بها
أَنْفَقَ عليها ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ حَاضَتْ في الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ
وَاسْتَقْبَلَتْ عِدَّةَ الْأَقْرَاءِ أَنْفَقَ عليها حتى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا
لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ طَالَبَتْهُ امرأت ( ( ( امرأة ) ) ) بِالنَّفَقَةِ وَقَدَّمَتْهُ إلَى
الْقَاضِي فقال الرَّجُلُ لِلْقَاضِي قد كنت طَلَّقْتهَا مُنْذُ سَنَةٍ وقد
انْقَضَتْ عِدَّتُهَا في هذه الْمُدَّةِ وَجَحَدَتْ الْمَرْأَةُ للطلاق ( ( ( الطلاق
) ) ) فإن الْقَاضِيَ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ الزَّوْجِ أنه طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ
وَلَكِنْ يَقَعُ الطَّلَاقُ عليها مُنْذُ أَقَرَّ بِهِ عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ
يُصَدَّقُ في حَقِّ نَفْسِهِ لَا في إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَإِنْ أَقَامَ
شَاهِدَيْنِ على أَنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُهُمَا
أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالنَّفَقَةِ وَفَرَضَ لها عليه النَّفَقَةَ لِأَنَّ
الْفُرْقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ لم تَظْهَرْ بَعْدُ
فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَادِلَةً أو أَقَرَّتْ هِيَ أنها قد حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ
في هذه السَّنَةِ فَلَا نَفَقَةَ لها على الزَّوْجِ وَإِنْ كانت أَخَذَتْ منه شيئا
تَرُدُّهُ عليه لِظُهُورِ ثُبُوتِ الْفُرْقَةِ مُنْذُ سَنَةٍ وَانْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ
وَإِنْ قالت لم أَحِضْ في هذه السَّنَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَهَا
النَّفَقَةَ لِأَنَّ الْقَوْلَ في انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَوْلُهَا
فَإِنْ قال الزَّوْجُ قد أَخْبَرَتْنِي أَنَّ عِدَّتَهَا قد انْقَضَتْ لم يُقْبَلْ
قَوْلُهُ في إبْطَالِ نَفَقَتِهَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عليها في إبْطَالِ
حَقِّهَا
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أو بَائِنًا فَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى
سَنَتَيْنِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ وقد كان الزَّوْجُ أَعْطَاهَا
النَّفَقَةَ إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ فإنه يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قبل
الْوِلَادَةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَيَسْتَرِدُّ
نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ قبل الْوِلَادَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَسْتَرِدُّ
شيئا من النَّفَقَةِ وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ في حَالِ الْمَرَضِ
فَامْتَدَّ مَرَضُهُ إلَى سَنَتَيْنِ وَامْتَدَّتْ عِدَّتُهَا إلَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ
وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِشَهْرٍ وقد كان أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ
إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ وَيَسْتَرِدُّ منها نَفَقَةَ
سِتَّةِ أَشْهُرٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَرِثُ
وَلَا يَسْتَرِدُّ شيئا من النَّفَقَةِ وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَتَانِ في كِتَابِ
الطَّلَاقِ
وَلَا نَفَقَةَ في الْفُرْقَةِ قبل الدُّخُولِ بِأَيِّ سَبَبٍ كانت لِارْتِفَاعِ
النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ فَيَنْعَدِمُ السَّبَبُ وهو الْحَبْسُ الثَّابِتُ
بِالنِّكَاحِ
وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَوَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ لَا
نَفَقَةَ لها وَإِنْ كانت مَحْبُوسَةً مَمْنُوعَةً عن الْخُرُوجِ لِأَنَّ هذا
الْحَبْسَ لم يَثْبُتْ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِتَحْصِينِ
الْمَاءِ فَأَشْبَهَتْ الْمُعْتَدَّةَ من النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلِأَنَّ
نَفَقَتَهَا قبل الْعِتْقِ إنَّمَا وَجَبَتْ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا بالإحتباس
وقد زَالَ بِالْإِعْتَاقِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ إنَّمَا وَجَبَتْ
بِالِاحْتِبَاسِ وأنه قَائِمٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ فَلِوُجُوبِهَا شَرْطَانِ
أَحَدُهُمَا يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ جميعا أَعْنِي نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَنَفَقَةَ
الْعِدَّةِ
وَالثَّانِي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا وهو نَفَقَةُ الْعِدَّةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَتَسْلِيمُ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ وَقْتَ
وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ التَّخْلِيَةَ وَهِيَ أَنْ تخلى
بين نَفْسِهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِرَفْعِ الْمَانِعِ من وَطْئِهَا أو
الِاسْتِمْتَاعِ بها حَقِيقَةً إذَا كان الْمَانِعُ من قِبَلِهَا أو من قِبَلِ
غَيْرِ الزَّوْجِ فَإِنْ لم يُوجَدْ التَّسْلِيمُ على هذا التَّفْسِيرِ وَقْتَ
وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَا نَفَقَةَ لها
وَعَلَى هذا تخرج ( ( ( يخرج ) ) ) مَسَائِلُ إذَا
____________________
(4/18)
تَزَوَّجَ
بَالِغَةً حُرَّةً صَحِيحَةً سَلِيمَةً وَنَقَلَهَا إلَى بَيْتِهِ فَلَهَا
النَّفَقَةُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وَكَذَلِكَ إذَا لم
يَنْقُلْهَا وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْنَعُ نَفْسَهَا وَطَلَبَتْ النَّفَقَةَ ولم
يُطَالِبْهَا بِالنُّقْلَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ
الْوُجُوبِ وهو اسْتِحْقَاقُ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وهو التَّسْلِيمُ على التَّفْسِيرِ
الذي ذَكَرْنَا فَالزَّوْجُ بِتَرْكِ النُّقْلَةِ تَرَكَ حَقَّ نَفْسِهِ مع
إمْكَانِ الِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهَا في النَّفَقَةِ فَإِنْ
طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ فَامْتَنَعَتْ فَإِنْ كان امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ بِأَنْ
امْتَنَعَتْ لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا الْعَاجِلِ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ
لَا يَجِبُ عليها التَّسْلِيمُ قبل اسْتِيفَاءِ الْعَاجِلِ من مَهْرِهَا فلم
يُوجَدْ منها الِامْتِنَاعُ من التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَعَلَى
هذا قالوا لو طَالَبَهَا بِالنُّقْلَةِ بعدما أَوْفَاهَا الْمَهْرَ إلَى دَارٍ
مَغْصُوبَةٍ فَامْتَنَعَتْ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا بِحَقٍّ فلم
يَجِبْ عليها التَّسْلِيمُ فلم تَمْتَنِعْ من التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ
التَّسْلِيمِ
وَلَوْ كانت سَاكِنَةً مَنْزِلَهَا فَمَنَعَتْهُ من الدُّخُولِ عليها لَا على
سَبِيلِ النُّشُوزِ فَإِنْ قالت حَوِّلْنِي إلَى مَنْزِلِك أو أكتر لي مَنْزِلًا
أَنْزِلُهُ فَإِنِّي أَحْتَاجُ إلَى مَنْزِلِي هذا آخُذُ كِرَاءَهُ فَلَهَا
النَّفَقَةُ لِأَنَّ امْتِنَاعَهَا عن التَّسْلِيمِ في بَيْتِهَا لِغَرَضِ
التَّحْوِيلِ إلَى مَنْزِلِهِ أو إلَى مَنْزِلِ الْكِرَاءِ امْتِنَاعٌ بِحَقٍّ فلم
يُوجَدْ منها الِامْتِنَاعُ من التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ
كان بِغَيْرِ حَقٍّ بِأَنْ كان الزَّوْجُ قد أَوْفَاهَا مَهْرَهَا أو كان
مُؤَجَّلًا فَلَا نَفَقَةَ لها لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ حَالَ وُجُوبِ
التَّسْلِيمِ فلم يُوجَدْ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا تَجِبُ وَلِهَذَا لم تَجِبْ
النَّفَقَةُ لِلنَّاشِزَةِ وَهَذِهِ نَاشِزَةٌ
وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عن زَوْجِهَا بعدما دخل بها بِرِضَاهَا لِاسْتِيفَاءِ
مَهْرِهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ مَنْعٌ بِحَقٍّ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا نَفَقَةَ لها لِكَوْنِهِ مَنْعًا بِغَيْرِ حَقٍّ
عِنْدَهُمَا
وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا عن زَوْجِهَا بعدما دخل بها على كُرْهٍ منها فَلَهَا
النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مُحِقَّةٌ في الْمَنْعِ وَإِنْ كانت صَغِيرَةً يُجَامَعُ
مِثْلُهَا فَهِيَ كَالْبَالِغَةِ في النَّفَقَةِ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ
لِلنَّفَقَةِ يَجْمَعُهُمَا وَإِنْ كانت لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَلَا نَفَقَةَ
لها عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لها النَّفَقَةُ بِنَاءً على أَنَّ سَبَبَ
الْوُجُوبِ عِنْدَهُ النِّكَاحُ
وَشَرْطُهُ عَدَمُ النُّشُوزِ وقد وُجِدَ أو ( ( ( وشرط ) ) ) شرط الْوُجُوبِ
عِنْدَنَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ في الصَّغِيرَةِ
إلى ( ( ( التي ) ) ) لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا لَا منها وَلَا من غَيْرِهَا لِقِيَامِ
الْمَانِعِ في نَفْسِهَا من الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ لِعَدَمِ قَبُولِ
الْمَحَلِّ لِذَلِكَ فَانْعَدَمَ شَرْطُ الْوُجُوبِ فَلَا يَجِبُ
وقال أبو يُوسُفَ إذَا كانت الصَّغِيرَةُ تَخْدُمُ الزَّوْجَ وَيَنْتَفِعُ
الزَّوْجُ بها بِالْخِدْمَةِ فَسَلَّمَتْ نَفْسَهَا إلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا
وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا
فَلَا نَفَقَةَ لها لِأَنَّهَا إذا لم تَحْتَمِلْ الْوَطْءَ لم يُوجَدْ
التَّسْلِيمُ الذي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَكَانَ له أَنْ يَمْتَنِعَ من الْقَبُولِ
فَإِنْ أَمْسَكَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهُ حَصَلَ له منها نَوْعُ
مَنْفَعَةٍ وَضَرْبٌ من الِاسْتِمْتَاعِ وقد رضي بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ وَإِنْ
رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لها حتى يَجِيءَ حَالٌ يَقْدِرُ فيها على جِمَاعِهَا
لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ الذي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَعَدَمِ رِضَاهُ
بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ
وَإِنْ كان الزَّوْجُ صَغِيرًا وَالْمَرْأَةُ كَبِيرَةً فَلَهَا النَّفَقَةُ
لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ منها على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا عَجَزَ
الزَّوْجُ عن الْقَبْضِ وأنه ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ وَكَذَلِكَ لو
كان الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أو عِنِّينًا أو مَحْبُوسًا في دَيْنٍ أو مَرِيضًا لَا
يَقْدِرُ على الْجِمَاعِ أو خَارِجًا لِلْحَجِّ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كانت الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً قبل النُّقْلَةِ مَرَضًا يَمْنَعُ من
الْجِمَاعِ فَنُقِلَتْ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ
وَقَبْلَهَا أَيْضًا فإذا طَلَبَتْ النَّفَقَةَ فلم يَنْقُلْهَا الزَّوْجُ وَهِيَ
لَا تَمْتَنِعُ من النُّقْلَةِ لو طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَإِنْ كانت تَمْتَنِعُ
فَلَا نَفَقَةَ لها كَالصَّحِيحَةِ
كَذَا ذَكَرَ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها قبل النُّقْلَةِ فإذا نُقِلَتْ
وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لم
يُوجَدْ التَّسْلِيمُ إذا هو تَخْلِيَةٌ وَتَمْكِينٌ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك مع
الْمَانِعِ وهو تبوؤ ( ( ( تبوء ) ) ) الْمَحَلِّ فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ
كَالصَّغِيرَةِ التي لَا تَحْتَمِلُ الْوَطْءَ وإذا سلمت ( ( ( أسلمت ) ) )
نَفْسَهَا وَهِيَ مَرِيضَةٌ له أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الذي
أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وهو التَّسْلِيمُ الْمُمَكِّنُ من الْوَطْءِ لَمَّا لم
يُوجَدْ كان له أَنْ لَا يَقْبَلَ التَّسْلِيمَ الذي لم يُوجِبْهُ الْعَقْدُ
وَهَكَذَا قال أبو يُوسُفَ في الصَّغِيرَةِ التي لم يُجَامَعُ مِثْلُهَا أَنَّ له
أَنْ يَرُدَّهَا لِمَا قُلْنَا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التَّسْلِيمَ في حَقِّ التَّمْكِينِ من
الْوَطْءِ إنْ لم يُوجَدْ فَقَدْ وُجِدَ في حَقِّ التَّمْكِينِ من الِاسْتِمْتَاعِ
وَهَذَا يَكْفِي لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ كما في الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ
وَالصَّائِمَةِ صَوْمَ رَمَضَانَ
وإذا امْتَنَعَتْ فلم يُوجَدْ منها التَّسْلِيمُ رَأْسًا فَلَا تَسْتَحِقُّ
النَّفَقَةَ
وقال أبو يُوسُفَ إذَا كانت الْمَرِيضَةُ تُؤْنِسُهُ وَيَنْتَفِعُ بها في غَيْرِ
الْجِمَاعِ فَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَإِنْ أَمْسَكَهَا
فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ رَدَّهَا فَلَا نَفَقَةَ لها لِمَا ذَكَرْنَا في
الصَّغِيرَةِ وَإِنْ نُقِلَتْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ ثُمَّ مَرِضَتْ في بَيْتِ
الزَّوْجِ مَرَضًا لَا تَسْتَطِيعُ معه الْجِمَاعَ لم تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا بِلَا
خِلَافٍ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ وهو التَّسْلِيمُ
____________________
(4/19)
الْمُمَكِّنُ
من الْوَطْءِ وَالِاسْتِمْتَاعِ قد حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ لِأَنَّهَا كانت
صَحِيحَةً كَذَا الِانْتِقَالُ ثُمَّ قَصُرَ التَّسْلِيمُ لِعَارِضٍ يَحْتَمِلُ
الزَّوَالَ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ أو نَقُولُ التَّسْلِيمُ الْمُسْتَحَقُّ
بِالْعَقْدِ في حَقِّ الْمَرِيضَةِ التي لَا تَحْتَمِلُ الْجِمَاعَ قبل
الِانْتِقَالِ وَبَعْدَهُ هو التَّسْلِيمُ في حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ لَا في حَقِّ
الْوَطْءِ كما في حَقِّ الْحَائِضِ وَكَذَا إذَا نَقَلَهَا ثُمَّ ذَهَبَ عَقْلُهَا
فَصَارَتْ مَعْتُوهَةً مَغْلُوبَةً أو كَبِرَتْ فَطَعَنَتْ في السِّنِّ حتى لَا
يَسْتَطِيعَ زَوْجُهَا جِمَاعَهَا أو أَصَابَهَا بَلَاءٌ فَلَهَا النَّفَقَةُ
لِمَا قُلْنَا وَلَوْ حُبِسَتْ في دَيْنٍ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنْ
لَا نَفَقَةَ لها ولم يُفَصِّلْ بين ما إذَا كان الْحَبْسُ قبل الإنتقال أو
بَعْدَهُ وَبَيْنَ ما إذَا كانت قَادِرَةً على التَّخْلِيَةِ أو لَا لِأَنَّ
حَبْسَ النِّكَاحِ قد بَطَلَ بأعراض حَبْسِ الدَّيْنِ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ
أَحَقُّ بِحَبْسِهَا بِالدَّيْنِ وَفَاتَ التَّسْلِيمُ أَيْضًا بِمَعْنًى من
قِبَلِهَا وهو مطلها ( ( ( مطلبها ) ) ) فَصَارَتْ كالناشزة ( ( ( كالناشز ) ) )
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أنها إذَا كانت مَحْبُوسَةً في دَيْنٍ من قَبْلِ
النُّقْلَةِ فَإِنْ كانت تَقْدِرُ على أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهَا
فَلَهَا النَّفَقَةُ وَإِنْ كانت في مَوْضِعٍ لَا تَقْدِرُ على التَّخْلِيَةِ
فَلَا نَفَقَةَ لها وَهَذَا تَفْسِيرُ ما أَجْمَلَهُ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ
لِأَنَّهَا إذَا كانت تَقْدِرُ على أَنْ تُوصِلَهُ إلَيْهَا فَالظَّاهِرُ منها
عَدَمُ الْمَنْعِ لو طَالَبَهَا الزَّوْجُ وَهَذَا تَفْسِيرُ التَّسْلِيمِ فَإِنْ
لم يُطَالِبْهَا فَالتَّقْصِيرُ جاء من قِبَلِهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهَا وَإِنْ
كانت لَا تَقْدِرُ على التَّخْلِيَةِ فَالتَّسْلِيمُ فَاتَ بِمَعْنًى من قِبَلِهَا
وهو مُمَاطَلَتُهَا فَلَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ وَلَوْ حُبِسَتْ بَعْدَ
النُّقْلَةِ لم تَبْطُلْ نَفَقَتُهَا لِمَا قُلْنَا في الْمَرِيضَةِ وَذَكَرَ
الْقُدُورِيُّ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ في الْحَبْسِ مَحْمُولٌ على ما إذَا
كانت مَحْبُوسَةً لَا تَقْدِرُ على قَضَائِهِ فإما إذَا كانت قَادِرَةً على الْقَضَاءِ
فلم تَقْضِ فَلَا نَفَقَةَ لها وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّهَا إذَا لم تَقْضِ مع
الْقُدْرَةِ على الْقَضَاءِ صَارَتْ كَأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا فَتَصِيرُ
بِمَعْنَى النَّاشِزَةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لها النَّفَقَةَ ثُمَّ أَخَذَهَا
رَجُلٌ كَارِهَةً فَهَرَبَ بها شَهْرًا أو غَصَبَهَا غَاصِبٌ لم يَكُنْ لها
نَفَقَةٌ في الْمُدَّةِ التي مَنَعَهَا لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ لَا لِمَعْنًى من
جِهَةِ الزَّوْجِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ لها النَّفَقَةَ لِأَنَّ الْفَوَاتَ ما جاء من
قِبَلِهَا وَالرَّتْقَاءُ وَالْقَرْنَاءُ لَهُمَا النَّفَقَةُ بَعْدَ النُّقْلَةِ
وَقَبْلَهَا إذَا طَلَبَتَا ولم يَظْهَرْ مِنْهُمَا الإمتاع ( ( ( الامتناع ) ) )
في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ لَهُمَا النَّفَقَةَ
بَعْدَ الإنتقال فَأَمَّا قبل الإنتقال فَلَا نَفَقَةَ لَهُمَا
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الذي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لم
يُوجَدْ في حَقِّهِمَا قبل الإنتقال وَبَعْدَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا قَبِلَهُمَا
مع الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَقَدْ رضي بِالتَّسْلِيمِ الْقَاصِرِ كما قال في
الْمَرِيضَةِ إلَّا أَنَّ هَهُنَا قال لَا يَجُوزُ له أَنْ يَرُدَّهُمَا وقال في
الصَّغِيرَةِ التي يَنْتَفِعُ بها في الْخِدْمَةِ وَالْمَرِيضَةِ التي
يَسْتَأْنِسُ بها أَنَّ له أَنْ يَرُدَّهُمَا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ في حَقِّهِمَا مُوجِبًا
تَسْلِيمَ مِثْلِهِمَا وهو التَّمْكِينُ من الِاسْتِمْتَاعِ دُونَ الْوَطْءِ
وَهَذَا النَّوْعُ من التَّسْلِيمِ يَكْفِي لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ
كَتَسْلِيمِ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالْمُحْرِمَةِ وَالصَّائِمَةِ مع ما
أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ يُتَصَوَّرُ مِنْهُمَا بِوَاسِطَةِ إزَالَةِ
الْمَانِعِ من الرَّتَقِ وَالْقَرَنِ بِالْعِلَاجِ فَيُمْكِنُ الإنتفاع بِهِمَا
وطأ وَلَوْ حَجَّتْ الْمَرْأَةُ حَجَّةَ فَرِيضَةٍ فَإِنْ كان ذلك قبل النُّقْلَةِ
فَإِنْ حَجَّتْ بِلَا مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ فَهِيَ نَاشِزَةٌ وَإِنْ حَجَّتْ مع
مَحْرَمٍ لها دُونَ الزَّوْجِ فَلَا نَفَقَةَ لها في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهَا
امْتَنَعَتْ من التَّسْلِيمِ بَعْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَصَارَتْ
كَالنَّاشِزَةِ وَإِنْ كانت انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ حَجَّتْ مع
مَحْرَمٍ لها دُونَ الزَّوْجِ فَقَدْ قال أبو يُوسُفَ لها النَّفَقَةُ وقال
مُحَمَّدٌ لَا نَفَقَةَ لها
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّسْلِيمَ قد فَاتَ بِأَمْرٍ من قِبَلِهَا وهو
خُرُوجُهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ كَالنَّاشِزَةِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ التَّسْلِيمَ الْمُطْلَقَ قد حَصَلَ بِالِانْتِقَالِ إلَى
مَنْزِلِ الزَّوْجِ ثُمَّ فَاتَ بِعَارِضِ أَدَاءِ فَرْضٍ وَهَذَا لَا يُبْطِلُ
النَّفَقَةَ كما لو انْتَقَلَتْ إلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا ثُمَّ لَزِمَهَا صَوْمُ
رَمَضَانَ أو نَقُولُ حَصَلَ التَّسْلِيمُ الْمُطْلَقُ بِالِانْتِقَالِ ثُمَّ
فَاتَ لِعُذْرٍ فَلَا تَسْقُطُ النَّفَقَةُ كَالْمَرِيضَةِ ثُمَّ إذَا وَجَبَتْ
لها النَّفَقَةُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ يَفْرِضُ لها الْقَاضِي نَفَقَةَ
الْإِقَامَةِ لَا نَفَقَةَ السَّفَرِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا
نَفَقَةُ الْحَضَرِ فَأَمَّا زِيَادَةُ المؤونة ( ( ( المؤنة ) ) ) التي تَحْتَاجُ
إلَيْهَا الْمَرْأَةُ في السَّفَرِ من الْكِرَاءِ وَنَحْوِ ذلك فَهِيَ عليها لَا
عليه لِأَنَّهَا لِأَدَاءِ الْفَرْضِ وَالْفَرْضُ عليها فَكَانَتْ تِلْكَ المؤونة
( ( ( المؤنة ) ) ) عليها لَا عليه كما لو مَرِضَتْ في الْحَضَرِ كانت
الْمُدَاوَاةُ عليها لَا على الزَّوْجِ فَإِنْ جَاوَرَتْ بِمَكَّةَ أو أَقَامَتْ
بها بَعْدَ أَدَاءِ الْحَجِّ إقَامَةً لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا سَقَطَتْ
نَفَقَتُهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْذُورَةٍ في ذلك فَصَارَتْ كَالنَّاشِزَةِ
فَإِنْ طَلَبَتْ نَفَقَةَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ قَدْرَ الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ لم
يَكُنْ على الزَّوْجِ ذلك وَلَكِنْ يُعْطِيهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ وَاحِدٍ فإذا
عَادَتْ أَخَذَتْ ما بَقِيَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه لها نَفَقَةُ الْإِقَامَةِ
لَا نَفَقَةُ السَّفَرِ وَنَفَقَةُ الْإِقَامَةِ تُفْرَضُ لها كُلَّ شَهْرٍ
فَشَهْرٍ
____________________
(4/20)
وَهَذِهِ
الْجُمْلَةِ لَا تَتَفَرَّعُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ هذا إذَا لم يَخْرُجْ الزَّوْجُ
مَعَهَا إلَى الْحَجِّ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ فَلَهَا النَّفَقَةُ بِلَا خِلَافٍ
لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ الْمُطْلَقِ لِإِمْكَانِ الِانْتِفَاعِ بها وطأ
وَاسْتِمْتَاعًا في الطَّرِيقِ فَصَارَتْ كَالْمُقِيمَةِ في مَنْزِلِهِ
وَلَوْ آلَى منها أو ظَاهَرَ منها فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّ حَقَّ الْحَبْسِ
قَائِمٌ وَالتَّسْلِيمَ مَوْجُودٌ وَلِتَمَكُّنِهِ من وَطْئِهَا والإستمتاع بها
بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ في الْإِيلَاءِ وَبِوَاسِطَةِ تَقْدِيمِ الْكَفَّارَةِ في
الظِّهَارِ فَوُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِهَا فَتَجِبُ
وَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أو عَمَّتَهَا أو خَالَتَهَا ولم يَعْلَمْ
بِذَلِكَ حتى دخل بها فُرِّقَ بينهما ( ( ( بينهم ) ) ) وَوَجَبَ عليه أَنْ
يَعْتَزِلَهَا مُدَّةَ عِدَّةِ أُخْتِهَا فَلِامْرَأَتِهِ النَّفَقَةُ لوجد ( ( (
لوجود ) ) ) سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وهو التَّسْلِيمُ إلَّا أَنَّهُ
امْتَنَعَ الِانْتِفَاعُ بها بِعَارِضٍ يَزُولُ فَأَشْبَهَ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ
وَصَوْمَ رَمَضَانَ وَلَا نَفَقَةَ لِأُخْتِهَا وَإِنْ وَجَبَتْ عليها الْعِدَّةُ
لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ من نِكَاحٍ فَاسِدٍ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ ما إذَا تَزَوَّجَ حُرٌّ أو عَبْدٌ أَمَةً أو
قِنَّةً أو مُدَبَّرَةً أو أُمَّ وَلَدٍ أَنَّهُ إنْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى تَجِبُ
النَّفَقَةُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ وهو حَقُّ الْحَبْسِ
وَشَرْطُهُ وهو التَّسْلِيمُ لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ التَّبْوِئَةِ لِأَنَّ
التَّبْوِئَةَ هو أَنْ يُخَلِّيَ الْمَوْلَى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا في
مَنْزِلِ زَوْجِهَا لَا يَسْتَخْدِمُهَا فإذا كانت مَشْغُولَةً بِخِدْمَةِ
الْمَوْلَى لم تَكُنْ مَحْبُوسَةً عِنْدَ الزَّوْجِ وَلَا مُسَلَّمَةً إلَيْهِ
وَلَا يُجْبَرُ الْمَوْلَى على التَّبْوِئَةِ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى
فَلَا يُجْبَرُ الْإِنْسَانُ على إيفَاءِ حَقِّ نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ فَإِنْ
بَوَّأَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ بَدَا له أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَلَهُ ذلك لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى لِأَنَّ مَنَافِعَ سَائِرِ
الْأَعْضَاءِ بَقِيَتْ على مِلْكِهِ وَإِنَّمَا أَعَارَهَا لِلزَّوْجِ
بِالتَّبْوِئَةِ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ عَارِيَّتَهُ وَلَا نَفَقَةَ على
الزَّوْجِ مُدَّةَ الِاسْتِخْدَامِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ فيها من جِهَةِ
الْمَوْلَى وَلَوْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا بَيْتَ الزَّوْجِ فَكَانَتْ تَجِيءُ في
أَوْقَاتٍ إلَى مَوْلَاهَا فَتَخْدُمُهُ من غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا قالوا لَا
تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا لِأَنَّ الِاسْتِرْدَادَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالِاسْتِخْدَامِ
ولم يُوجَدْ وَلِأَنَّ هذا الْقَدْرَ من الْخِدْمَةِ لَا يَقْدَحُ في التَّسْلِيمِ
كَالْحُرَّةِ إذَا خَرَجَتْ إلَى مَنْزِلِ أَبِيهَا وَإِنْ كانت مُكَاتَبَةً
تَزَوَّجَتْ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حتى جَازَ الْعَقْدُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَلَا
يُشْتَرَطُ التَّبْوِئَةُ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا لَيْسَتْ حَقَّ الْمَوْلَى إذْ لَا
حَقَّ لِلْمَوْلَى في مَنَافِعِهَا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ في
مَنَافِعِهَا كَالْحُرَّةِ فَيُجْبَرُ الْمَوْلَى على التَّسْلِيمِ وَيَجِبُ على
الزَّوْجِ النَّفَقَةُ وَالْعَبْدُ إذَا تَزَوَّجَ بِإِذْنِ الْمَوْلَى حُرَّةً أو
أَمَةً فَهُوَ في وُجُوبِ النَّفَقَةِ كَالْحُرِّ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ
الْوُجُوبِ وهو حَقُّ الْحَبْسِ وَشَرْطُهُ وهو التَّسْلِيمُ وَلِهَذَا اسْتَوَيَا
في وُجُوبِ الْمَهْرِ إلَّا أَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ إذَا
صَارَتْ مَفْرُوضَةً على الْعَبْدِ تَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ يُبَاعُ
فيها إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى فَيَسْقُطَ حَقُّ الْغَرِيمِ كَسَائِرِ
الدُّيُونِ وَيَبْدَأُ بها قبل الْغَلَّةِ لِمَوْلَاهُ فَإِنْ كان الْمَوْلَى
ضَرَبَ عليه ضَرِيبَةً فإن نَفَقَةَ امْرَأَتِهِ تُقَدَّمُ على ضَرِيبَةِ مَوْلَاهُ
لِأَنَّهَا بِالْفَرْضِ صَارَتْ دَيْنًا في رَقَبَتِهِ حتى يُبَاعَ بها فَأَشْبَهَ
سَائِرَ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْغَلَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ لِلْمَوْلَى على
عَبْدِهِ دَيْنٌ في الْحَقِيقَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قبل الْبَيْعِ بَطَلَتْ
النَّفَقَةُ وَلَا يُؤْخَذُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ لِفَوَاتِ مَحَلِّ التَّعْلِيقِ
فَيَبْطُلُ التَّعْلِيقُ كَالْعَبْدِ الْمَرْهُونِ إذَا هَلَكَ يَبْطُلُ الدَّيْنُ
الذي تَعَلَّقَ بِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
أَنَّهُ إذَا قُتِلَ كانت النَّفَقَةُ في قِيمَتِهِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ أَنَّ الْقِيمَةَ قَامَتْ مَقَامَ الْعَبْدِ
لِأَنَّهَا بَدَلُهُ فَتَقُومُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو كما في سَائِرِ الدُّيُونِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِيمَةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ
الرَّقَبَةِ في الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ لَا فِيمَا يَجْرِي مَجْرَى الصِّلَاتِ
وَالنَّفَقَةُ تَجْرِي مَجْرَى الصلاة ( ( ( الصلات ) ) ) على أَصْلِ أَصْحَابِنَا
لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قبل الْقَبْضِ
كَسَائِرِ الصلاة ( ( ( الصلات ) ) ) وَلِهَذَا لو كان الزَّوْجُ حُرًّا فَقُتِلَ
خَطَأً سَقَطَتْ عِنْدَنَا وَلَا تُقَامُ الدِّيَةُ مَقَامَهُ فَكَذَا إذَا كان
عَبْدًا وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِمَا قُلْنَا غير أَنَّ
هَؤُلَاءِ لَا يُبَاعُونَ لِأَنَّ دُيُونَهُمْ تَتَعَلَّقُ بِأَكْسَابِهِمْ لَا
بِرِقَابِهِمْ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَائِهَا من رِقَابِهِمْ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ
بِالْبَيْعِ وَرِقَابُهُمْ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ
وَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَعِنْدَنَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ
كَالْقِنِّ لقصور ( ( ( لتصور ) ) ) الِاسْتِيفَاءِ من رَقَبَتِهِ لِاحْتِمَالِ
الْعَجْزِ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ يَعُودُ قِنًّا فَيَسْعَى فيها ما دَامَ
مُكَاتَبًا فإذا قضى بِعَجْزِهِ وَصَارَ قِنًّا يُبَاعُ فيها إلَّا أَنْ
يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى كما في الْكِتَابَةِ
وَأَمَّا الْمُعْتَقُ الْبَعْضِ فَهُوَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ
الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ فيه الْعَجْزُ وَالْبَيْعُ في
الدَّيْنِ فَيَسْعَى في نَفَقَتِهَا وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَلَا
يَجِبُ على الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كان من امْرَأَةٍ حُرَّةٍ أو
أَمَةٍ لِأَنَّهُ إنْ كان من حُرَّةٍ يَكُونُ حُرًّا فَلَا يَجِبُ على الْعَبْدِ
نَفَقَةُ
____________________
(4/21)
الْحُرِّ
وَتَكُونُ على الْأُمِّ نَفَقَتُهُ إنْ كانت غَنِيَّةً وَإِنْ كانت مُحْتَاجَةً
فَعَلَى من يَرِثُ الْوَلَدَ من الْقَرَابَةِ وَإِنْ كان من أَمَةٍ فَيَكُونُ
عَبْدًا لِمَوْلَاهَا فَلَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ نَفَقَتُهُ
وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً فَوَلَدَتْ له أَوْلَادًا فَنَفَقَةُ
الْأَوْلَادِ على مولى الْأَمَةِ لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ
في ذلك سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ في هذا كَالْأَمَةِ
الْقِنَّةِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان مولى الْأَمَةِ في هذه الْمَسَائِلِ فَقِيرًا وَالزَّوْجُ أَبَ
الْوَلَدِ غَنِيًّا لَا يُؤْمَرُ الْأَبُ بِالنَّفَقَةِ على وَلَدِهِ بَلْ إمَّا
أَنْ يَبِيعَهُ مَوْلَاهُ أو يُنْفِقَ عليه إنْ كان من أَمَةٍ قِنَّةٍ وَإِنْ كان
من مُدَبَّرَةٍ أو أُمِّ وَلَدٍ يُنْفِقُ الْأَبُ عليه ثُمَّ يَرْجِعُ على
الْمَوْلَى إذَا أَيْسَرَ لِتَعَذُّرِ الْجَبْرِ على الْبَيْعِ هَهُنَا لِعَدَمِ
قَبُولِ الْمَحَلِّ
فإما إذَا كانت مُكَاتَبَةً فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهَا لَا تَجِبُ على زَوْجِهَا
وَإِنَّمَا تَجِبُ على الْأُمِّ الْمُكَاتَبَةِ سَوَاءٌ كان الْأَبُ حُرًّا أو
عَبْدًا لِأَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً وهو حَقُّ
الْمُكَاتَبَةِ كَسْبًا أَلَا تَرَى أنها تَسْتَعِينُ بإكسابه في رَقَبَتِهَا
وَعِتْقِهَا وإذا كانت أَكْسَابُهُ حَقًّا لها كانت نَفَقَتُهُ عليها لِأَنَّ
نَفَقَةَ الْإِنْسَانِ تَتْبَعُ كَسْبَهُ قال النبي إنَّ أَطْيَبَ ما يَأْكُلُ
الرَّجُلُ من كَسْبِهِ وَإِنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ من عَبْدِهِ فَلَهَا النَّفَقَةُ
على الْعَبْدِ لِأَنَّ الْبِنْتَ يَجِبُ لها على أَبِيهَا دَيْنٌ فَيَجُوزُ أَنْ
يَجِبَ على عبد أَبِيهَا
وَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ من عَبْدِهِ فَنَفَقَتُهُمَا جميعا على الْمَوْلَى
لِأَنَّهُمَا جميعا مِلْكُ الْمَوْلَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَالْكِتَابِيَّةُ في اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ على زَوْجِهَا الْمُسْلِمِ
كَالْمُسْلِمَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَشَرْطِهِ
وَالذِّمِّيُّ في وُجُوبِ النَّفَقَةِ عليه لِزَوْجَتِهِ التي لَيْسَتْ من
مَحَارِمِهِ كَالْمُسْلِمِ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ
وَلِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من دَلَائِلِ الْوُجُوبِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين
الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ في النَّفَقَةِ وَلِقَوْلِ النبي وإذا قَبِلُوا عَقْدَ
الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على
الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فَهَكَذَا على
الذِّمِّيِّ
وَأَمَّا إذَا كانت من مَحَارِمِهِ فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ أنها إذَا طَلَبَتْ
النَّفَقَةَ فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالنَّفَقَةِ لها
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَقْضِي بِنَاءً
على أَنَّ هذا النِّكَاحَ فَاسِدٌ عِنْدَهُمْ وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
فَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ صَحِيحٌ عِنْدَهُمْ حتى قال إنَّهُمَا
يُقَرَّانِ عليه وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِمَا قبل أَنْ يَتَرَافَعَا أو يُسْلِمَ
أَحَدُهُمَا
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا النِّكَاحَ فَاسِدٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا
أَوْجَبَ أبو حَنِيفَةَ النَّفَقَةَ مع فَسَادِ هذا النِّكَاحِ لِأَنَّهُمَا
يُقَرَّانِ عليه مع فَسَادِهِ عِنْدَهُ فإن أَبَا حَنِيفَةَ قال إنِّي أَفْرِضُ
عليه النَّفَقَةَ لِكُلِّ إمرأة أُقِرَّتْ على نِكَاحِهَا جَائِزًا كان النِّكَاحُ
عِنْدِي أو بَاطِلًا
وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّهُ على نِكَاحِهَا فَقَدْ أَلْحَقَ هذا
النِّكَاحَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ في حَقِّ وُجُوبِ النَّفَقَةِ وقد يُلْحَقُ
النِّكَاحُ الْفَاسِدُ بِالصَّحِيحِ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ من النَّسَبِ
وَالْعِدَّةِ وَغَيْرِ ذلك وَيَسْتَوِي في اسْتِحْقَاقِ هذه النَّفَقَةِ
الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ فَتَسْتَحِقُّ الزَّوْجَةُ النَّفَقَةَ على
زَوْجِهَا وَإِنْ كانت مُوسِرَةً لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ
وَشَرْطِهِ وَلِأَنَّ هذه النَّفَقَةَ لها شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي فيها
الْفَقِيرُ وَالْغَنِيُّ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ
الْمَحَارِمِ إنها لَا تَجِبُ لِلْغَنِيِّ لِأَنَّهَا تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً
لِمَكَانِ الْحَاجَةِ فَلَا تَجِبُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ وَتَجِبُ هذه
النَّفَقَةُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَكِنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا في
الذِّمَّةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أو رِضًا على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
بِخِلَافِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ من غَيْرِ قَضَاءِ
الْقَاضِي وَنَفَقَةُ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ من غَيْرِ قَضَاءِ
الْقَاضِي وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ يُذْكَرُ في نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ لِفَوَاتِ التَّسْلِيمِ
بِمَعْنًى من جِهَتِهَا وهو النُّشُوزُ وَالنُّشُوزُ في النِّكَاحِ أَنْ تَمْنَعَ
نَفْسَهَا من الزَّوْجِ بِغَيْرِ حَقٍّ خَارِجَةً من مَنْزِلِهِ بِأَنْ خَرَجَتْ
بِغَيْرِ إذْنِهِ وَغَابَتْ أو سَافَرَتْ فَأَمَّا إذَا كانت في مَنْزِلِهِ
وَمَنَعَتْ نَفْسَهَا في رِوَايَةٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ
لِحَقِّهِ مُنْتَفِعٌ بها ظَاهِرًا وَغَالِبًا فَكَانَ مَعْنَى التَّسْلِيمِ
حَاصِلًا وَالنُّشُوزُ في الْعِدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ من بَيْتِ الْعِدَّةِ
مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا أو تَخْرُجَ لِمَعْنًى من قِبَلِهَا وقد روى أَنَّ
فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ كانت تبذو ( ( ( تبدو ) ) ) على أَحْمَائِهَا فَنَقَلَهَا
النبي إلَى بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ولم يَجْعَلْ لها نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى
لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ كان بِمَعْنًى من قِبَلِهَا فَصَارَتْ كَأَنَّهَا خَرَجَتْ
بِنَفْسِهَا مُرَاغِمَةً لِزَوْجِهَا
وَأَمَّا الثَّانِي وهو الشَّرْطُ الذي يَخُصُّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ فَهُوَ أَنْ
لَا يَكُونَ وُجُوبُ الْعِدَّةِ بِفُرْقَةٍ حَاصِلَةٍ من قِبَلِهَا بِسَبَبٍ
مَحْظُورٍ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ وقد مَرَّ وَجْهُ
الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَكُلُّ إمرأة لها النَّفَقَةُ
فَلَهَا الْكِسْوَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَغَيْرِ ذلك من النُّصُوصِ التي ذَكَرْنَاهَا
فِيمَا تَقَدَّمَ وَلِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِهِمَا لَا يَخْتَلِفُ وَكَذَا شَرْطُ
الْوُجُوبِ وَيَجِبَانِ على الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْوُجُوبِ
لَا يَفْصِلُ وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَكُلُّ امْرَأَةٍ لها النَّفَقَةُ لها السُّكْنَى لِقَوْلِهِ عز وجل {
أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ من وُجْدِكُمْ }
____________________
(4/22)
وَقَرَأَ
ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه < أَسْكِنُوهُنَّ من حَيْثُ سَكَنْتُمْ
وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ من وُجْدِكُمْ > وَلِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في سَبَبِ
الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ وهو ما ذَكَرْنَا فَيَسْتَوِيَانِ في الْوُجُوبِ
وَيَسْتَوِي في وُجُوبِهِمَا أَصْلُ الْوُجُوبِ الْمُوسِرُ وَالْمُعْسِرُ لِأَنَّ
دَلَائِلَ الْوُجُوبِ لَا تُوجِبُ الْفَصْلَ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في
مِقْدَارِ الْوَاجِبِ مِنْهُمَا وَسَنُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى في
مَوْضِعِهِ
وَلَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ أَنْ يُسْكِنَهَا مع ضَرَّتِهَا أو مع أَحْمَائِهَا
كَأُمِّ الزَّوْجِ وَأُخْتِهِ وَبِنْتِهِ من غَيْرِهَا وَأَقَارِبِهِ فَأَبَتْ ذلك
عليه أَنْ يُسْكِنَهَا في مَنْزِلٍ مُفْرَدٍ لِأَنَّهُنَّ رُبَّمَا يُؤْذِينَهَا
ويضرون ( ( ( ويضررن ) ) ) بها في الْمُسَاكَنَةِ وَإِبَاؤُهَا دَلِيلُ الْأَذَى
وَالضَّرَرِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُجَامِعَهَا وَيُعَاشِرَهَا في
أَيِّ وَقْتٍ يَتَّفِقُ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك إذَا كان مَعَهُمَا ثَالِثٌ حتى لو
كان في الدَّارِ بُيُوتٌ فَفَرَّغَ لها بَيْتًا وَجَعَلَ لِبَيْتِهَا غَلْقًا على
حِدَةٍ قالوا إنَّهَا ليس لها أَنْ تُطَالِبَهُ بِبَيْتٍ آخَرَ
وَلَوْ كانت في مَنْزِلِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ يُسَاكِنُهَا فَشَكَتْ
إلَى الْقَاضِي أَنَّ الزَّوْجَ يَضْرِبُهَا وَيُؤْذِيهَا سَأَلَ الْقَاضِي
جِيرَانَهَا فَإِنْ أَخْبَرُوا بِمَا قالت وَهُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ فَالْقَاضِي
يُؤَدِّبُهُ وَيَأْمُرُهُ بِأَنْ يُحْسِنَ إلَيْهَا وَيَأْمُرَ جِيرَانَهُ أَنْ
يَتَفَحَّصُوا عنها
وَإِنْ لم يَكُنْ الْجِيرَانُ قَوْمًا صَالِحِينَ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ
يُحَوِّلَهَا إلَى جِيرَانٍ صَالِحِينَ فَإِنْ أَخْبَرُوا الْقَاضِي بِخِلَافِ ما
قالت أَقَرَّهَا هُنَاكَ ولم يُحَوِّلْهَا وَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَ أَبَاهَا
وَأُمَّهَا وَوَلَدَهَا من غَيْرِهِ وَمَحَارِمَهَا من الدُّخُولِ عليها لِأَنَّ
الْمَنْزِلَ مَنْزِلُهُ فَكَانَ له أَنْ يَمْنَعَ من شَاءَ وَلَيْسَ له أَنْ
يَمْنَعَهُمْ من النَّظَرِ إلَيْهَا وَكَلَامِهَا خَارِجِ الْمَنْزِلِ لِأَنَّ ذلك
ليس بِحَقٍّ له إلَّا أَنْ يَكُونَ في ذلك فِتْنَةٌ بِأَنْ يَخَافَ عليها
الْفَسَادَ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ من ذلك أَيْضًا
فصل وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها فَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما تُقَدَّرُ بِهِ هذه النَّفَقَةُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ من تُقَدَّرُ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ فيه
قال أَصْحَابُنَا هذه النَّفَقَةُ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ
بِكِفَايَتِهَا
وقال الشَّافِعِيُّ مُقَدَّرَةٌ بِنَفْسِهَا على الْمُوسِرِ مُدَّانِ وَعَلَى
الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ وَعَلَى الْمُعْسِرِ نِصْفُ مُدٍّ وَاحْتَجَّ
بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ } أَيْ قَدْرَ
سَعَتِهِ فَدَلَّ أنها مُقَدَّرَةٌ وَلِأَنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ فَيَجِبُ أَنْ
يَكُونَ مُقَدَّرًا كَالْإِطْعَامِ في الْكَفَّارَاتِ
وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ بَدَلًا لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ عِنْدِي
وَمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ عِنْدَكُمْ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً كَالثَّمَنِ في البيع (
( ( المبيع ) ) ) وَالْمَهْرِ في النِّكَاحِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } مُطْلَقًا عن التَّقْدِيرِ فَمَنْ قَدَّرَ فَقَدْ خَالَفَ
النَّصَّ وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَهَا بِاسْمِ الرِّزْقِ وَرِزْقُ الْإِنْسَانِ
كِفَايَتُهُ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالْمُضَارِبِ
وَرُوِيَ أَنَّ هِنْدَ امْرَأَةَ أبي سُفْيَانَ قالت يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ
أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وأنه لَا يُعْطِينِي ما يَكْفِينِي وَوَلَدِي فقال
صلى اللَّهُ عليه وسلم خُذِي من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما يَكْفِيك وَوَلَدَك
بِالْمَعْرُوفِ نَصَّ عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ على الْكِفَايَةِ
فَدَلَّ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ وَلِأَنَّهَا
وَجَبَتْ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِحَقِّ الزَّوْجِ مَمْنُوعَةً عن الْكَسْبِ
لِحَقِّهِ فَكَانَ وُجُوبُهَا بِطَرِيقِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْقَاضِي
وَالْمُضَارِبِ
وَأَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ حُجَّةٌ عليه لِأَنَّ فيها أَمْرَ الذي عِنْدَهُ
السَّعَةُ بِالْإِنْفَاقِ على قَدْرِ السَّعَةِ مُطْلَقًا عن التَّقْدِيرِ
بِالْوَزْنِ فَكَانَ التَّقْدِيرُ بِهِ تَقْيِيدًا لِمُطْلَقٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا
بِدَلِيلٍ وَقَوْلُهُ إنَّهُ إطْعَامٌ وَاجِبٌ يَبْطُلُ بِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
فإنه إطْعَامٌ وَاجِبٌ وَهِيَ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِالْكِفَايَةِ
وَالتَّقْدِيرُ بِالْوَزْنِ في الْكَفَّارَاتِ ليس لِكَوْنِهَا نَفَقَةً وَاجِبَةً
بَلْ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً لِوُجُوبِهَا على وَجْهِ الصَّدَقَةِ
كَالزَّكَاةِ فَكَانَتْ مُقَدَّرَةً بِنَفْسِهَا كَالزَّكَاةِ وَوُجُوبُ هذه
النَّفَقَةِ ليس على وَجْهِ الصَّدَقَةِ بَلْ على وَجْهِ الْكِفَايَةِ
فَتَتَقَدَّرُ بِكِفَايَتِهَا كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنها وَجَبَتْ بَدَلًا مَمْنُوعٌ وَلَسْنَا نَقُولُ أنها تَجِبُ
بِمُقَابَلَةِ الْحَبْسِ بَلْ تَجِبُ جَزَاءً على الْحَبْسِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ
تَكُونَ وَاجِبَةً بِمُقَابَلَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَا وإذا كان
وُجُوبُهَا على سَبِيلِ الْكِفَايَةِ فَيَجِبُ على الزَّوْجِ من النَّفَقَةِ
قَدْرُ ما يَكْفِيهَا من الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ لِأَنَّ الْخُبْزَ
لَا يُؤْكَلُ عَادَةً إلَّا مَأْدُومًا وَالدُّهْنُ لَا بُدَّ منه لِلنِّسَاءِ
وَلَا تُقَدَّرُ نَفَقَتُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ على أَيِّ سِعْرٍ
كانت لِأَنَّ فيه إضْرَارًا بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذْ السِّعْرُ قد يَغْلُو وقد
يَرْخُصُ بَلْ تُقَدَّرُ لها على حَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ غَلَاءً
وَرُخْصًا رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ وَيَجِبُ عليه من الْكِسْوَةِ في كل سَنَةٍ
مَرَّتَيْنِ صَيْفِيَّةً وَشَتْوِيَّةً لِأَنَّهَا كما تَحْتَاجُ إلَى الطَّعَامِ
وَالشَّرَابِ تَحْتَاجُ إلَى اللِّبَاسِ
____________________
(4/23)
لِسَتْرِ
الْعَوْرَةِ وَلِدَفْعِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَيَخْتَلِفُ ذلك بِالْيَسَارِ
وَالْإِعْسَارِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَذَكَرَ في كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُعْسِرَ يُفْرَضُ عليه خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ في الشَّهْرِ وَالْمُوسِرَ عَشَرَةٌ وَذَلِكَ مَحْمُولٌ على اعْتِبَارِ
قَرَارِ السِّعْرِ في الْوَقْتِ وَلَوْ جاء الزَّوْجُ بِطَعَامٍ يَحْتَاجُ إلَى
الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فَأَبَتْ الْمَرْأَةُ الطَّبْخَ وَالْخَبْزَ يَعْنِي بِأَنْ
تَطْبُخَ وَتَخْبِزَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
قَسَمَ الْأَعْمَالَ بين عَلِيٍّ وَفَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنهما فَجَعَلَ
أَعْمَالَ الْخَارِجِ على عَلِيٍّ وَأَعْمَالَ الدَّاخِلِ على فَاطِمَةَ رضي
اللَّهُ عنهما وَلَكِنَّهَا لَا تُجْبَرُ على ذلك إنْ أَبَتْ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ
أَنْ يَأْتِيَ لها بِطَعَامٍ مُهَيَّأٍ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ
وَالْخَبْزِ لم يَجُزْ وَلَا يَجُوزُ لها أَخْذُ الْأُجْرَةِ على ذلك لِأَنَّهَا لو
أَخَذَتْ الْأُجْرَةَ لَأَخَذَتْهَا على عَمَلٍ وَاجِبٍ عليها في الْفَتْوَى
فَكَانَ في مَعْنَى الرِّشْوَةِ فَلَا يَحِلُّ لها الْأَخْذُ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ أَنَّ هذا إذَا كان بها عِلَّةٌ لَا تَقْدِرُ
على الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ أو كانت من بَنَاتِ الْأَشْرَافِ فَأَمَّا إذَا كانت
تَقْدِرُ على ذلك وَهِيَ مِمَّنْ تَخْدُمُ بِنَفْسِهَا تُجْبَرُ على ذلك وَإِنْ
كان لها خَادِمٌ يَجِبُ لِخَادِمِهَا أَيْضًا النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ إذَا كانت
مُتَفَرِّغَةً لِشُغُلِهَا وَلِخِدْمَتِهَا لَا شُغْلَ لها غَيْرُهَا لِأَنَّ
أُمُورَ الْبَيْتِ لَا تَقُومُ بها وَحْدَهَا فَتَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ وَلَا
يَجِبُ عليه لِأَكْثَرَ من خَادِمٍ وَاحِدٍ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
وعند أبي يُوسُفَ يَجِبُ لِخَادِمَيْنِ وَلَا يَجِبُ أَكْثَرُ من ذلك وَرُوِيَ عنه
رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كانت يَجِلُّ مِقْدَارُهَا عن خِدْمَةِ
خَادِمٍ وَاحِدٍ وَتَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ من ذلك يَجِبُ لِأَكْثَرَ من ذلك
بِالْمَعْرُوفِ وَبِهِ أَخَذَ الطَّحَاوِيُّ
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أن خِدْمَةَ امْرَأَةٍ لَا تَقُومُ بِخَادِمٍ
وَاحِدٍ بَلْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى خَادِمَيْنِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مُعِينًا
لِلْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزَّوْجَ لو قام بِخِدْمَتِهَا بِنَفْسِهِ لَا
يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمٍ أَصْلًا وَخَادِمٌ وَاحِدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ فَلَا
يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ إذَا قام مَقَامَهُ صَارَ كَأَنَّهُ خَدَمَ
بِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْخَادِمَ الْوَاحِدَ لَا بُدَّ منه وَالزِّيَادَةُ على ذلك
ليس له حَدٌّ مَعْلُومٌ يُقَدَّرُ بِهِ فَلَا يَكُونُ اعْتِبَارُ الْخَادِمَيْنِ
أَوْلَى من الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ فَيُقَدَّرَ بِالْأَقَلِّ وهو الْوَاحِدُ
هذا إذَا كان الزَّوْجُ مُوسِرًا فَأَمَّا إذَا كان مُعْسِرًا فَقَدْ رَوَى
الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ ليس عليه نَفَقَةُ خَادِمٍ وَإِنْ كان لها
خَادِمٌ وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان لها خَادِمٌ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَإِلَّا فَلَا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَمَّا كان لها خَادِمٌ عُلِمَ أنها لَا تَرْضَى
بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَكَانَ على الزَّوْجِ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَإِنْ لم
يَكُنْ لها خَادِمٌ دَلَّ أنها رَاضِيَةٌ بِالْخِدْمَةِ بِنَفْسِهَا فَلَا
يُجْبَرُ على اتِّخَاذِ خَادِمٍ لم يَكُنْ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَاجِبَ على الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ من
النَّفَقَةِ أَدْنَى الْكِفَايَةِ وقد تكفي الْمَرْأَةُ بِخِدْمَةِ نَفْسِهَا
فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْخَادِمِ وَإِنْ كان لها خَادِمٌ وَأَمَّا الثَّانِي
وهو بَيَانُ من يُقَدَّرُ بِهِ هذه النَّفَقَةَ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه أَيْضًا
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ قَدْرَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ
الزَّوْجِ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ لَا بِحَالِهَا وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ
أَيْضًا
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِحَالِهِمَا جميعا حتى لو كَانَا
مُوسِرَيْنِ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ
فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْإِعْسَارِ وَكَذَلِكَ إذَا كان الزَّوْجُ مُعْسِرًا
وَالْمَرْأَةُ مُوسِرَةً وَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ فَأَمَّا إذَا كان
الزَّوْجُ مُوسِرًا وَالْمَرْأَةُ مُعْسِرَةً فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْيَسَارِ على
ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ
وَعَلَى قَوْلِ الْخَصَّافِ عليه أَدْنَى من نَفَقَةِ الْمُوسِرَاتِ وَأَوْسَعُ من
نَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ حتى لو كان الزَّوْجُ مُفْرِطًا في الْيَسَارِ يَأْكُلُ
خُبْزَ الحواري وَلَحْمَ الجمل ( ( ( الحمل ) ) ) وَالدَّجَاجِ وَالْمَرْأَةُ
مُفْرِطَةً في الْفَقْرِ تَأْكُلُ في بَيْتِهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ لَا يَجِبُ عليه
أَنْ يُطْعِمَهَا ما يَأْكُلُهُ وَلَا يُطْعِمُهَا ما كانت تَأْكُلُ في بَيْتِ
أَهْلِهَا أَيْضًا وَلَكِنْ يُطْعِمُهَا خُبْزَ الْحِنْطَةِ وَلَحْمَ الشَّاةِ
وَكَذَلِكَ الْكِسْوَةُ على هذا الِاعْتِبَارِ
وَجْهُ قَوْلِ الْخَصَّافِ إنَّ في اعْتِبَارِ حَالَتِهِمَا في تَقْدِيرِ
النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ نَظَرًا من الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى من
اعْتِبَارِ حَالِ أَحَدِهِمَا وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه رِزْقُهُ
فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا ما
آتَاهَا } وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا كان الزَّوْجُ مُعْسِرًا يُنْفِقْ عليها أَدْنَى
ما يَكْفِيهَا من الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ وَالدُّهْنِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ
الْكِسْوَةِ أَدْنَى ما يَكْفِيهَا من الصَّيْفِيَّةِ وَالشِّتْوِيَّةِ وَإِنْ كان
مُتَوَسِّطًا يُنْفِقْ عليها أَوْسَعَ من ذلك بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ
أَرْفَعَ من ذلك بِالْمَعْرُوفِ وَإِنْ كان غَنِيًّا يُنْفِقْ عليها أَوْسَعَ من
ذلك كُلِّهِ بِالْمَعْرُوفِ وَمِنْ الْكِسْوَةِ أَرْفَعَ من ذلك كُلِّهِ
بِالْمَعْرُوفِ وَإِنَّمَا كانت النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ بِالْمَعْرُوفِ لِأَنَّ
دَفْعَ الضَّرَرِ عن الزَّوْجَيْنِ وَاجِبٌ وَذَلِكَ في إيجَابِ الْوَسَطِ من
الْكِفَايَةِ وهو تَفْسِيرُ الْمَعْرُوفِ فَيَكْفِيهَا من الْكِسْوَةِ في
الصَّيْفِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ
____________________
(4/24)
وَمِلْحَفَةٌ
وَسَرَاوِيلُ أَيْضًا في عُرْفِ دِيَارِنَا على قَدْرِ حَالِهِ من الْخَشِنِ
وَاللَّيِّنِ وَالْوَسَطِ وَالْخَشِنُ إذَا كان من الْفُقَرَاءِ وَاللَّيِّنُ إذَا
كان من الْأَغْنِيَاءِ وَالْوَسَطُ إذَا كان من الْأَوْسَاطِ وَذَلِكَ كُلُّهُ من
الْقُطْنِ أو الْكَتَّانِ على حَسَبِ عَادَاتِ الْبُلْدَانِ إلَّا الْخِمَارُ فإنه
يُفْرَضُ على الْغَنِيِّ خِمَارٌ حَرِيرٌ وفي الشِّتَاءِ يُزَادُ على ذلك
حَشْوِيًّا وَفَرْوَةً بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْبِلَادِ في الْحَرِّ وَالْبَرْدِ
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْخَادِمِ فَقَدْ قِيلَ أن الزَّوْجَ الْمُوسِرَ يَلْزَمُهُ
نَفَقَةُ الْخَادِمِ كما يَلْزَمُ الْمُعْسِرَ نَفَقَةُ إمرأته وهو أَدْنَى
الْكِفَايَةِ وَكَذَا الْكِسْوَةُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقالت الْمَرْأَةُ أنه مُوسِرٌ وَعَلَيْهِ نَفَقَةُ
الْمُوسِرِينَ وقال الزَّوْجُ إنِّي مُعْسِرٌ وَعَلَيَّ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ
وَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ بِحَالِهِ ذكر ( ( ( ذكره ) ) ) في كِتَابِ النِّكَاحِ
أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ مع يَمِينِهِ وَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي
وَالْخَصَّافُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَرْأَةِ مع
يَمِينِهَا وَأَصْلُ هذا أَنَّهُ مَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بين الطَّالِبِ
وَبَيْنَ الْمَطْلُوبِ في يَسَارِ الْمَطْلُوبِ وَإِعْسَارِهِ في سَائِرِ
الدُّيُونِ فَالْمَشَايِخُ اخْتَلَفُوا فيه منهم من جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ
الْمَطْلُوبِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ
مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ من حَكَّمَ فيه رَأْيَ الْمَطْلُوبِ وَمُحَمَّدٌ فَصَلَ بين
الْأَمْرَيْنِ فَجَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الطَّالِبِ في الْبَعْضِ وَقَوْلَ
الْمَطْلُوبِ في الْبَعْضِ وَذَكَرَ في الفضل ( ( ( الفصل ) ) ) أَصْلًا يُوجِبُ
أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ في النَّفَقَةِ قَوْلَ الْمَرْأَةِ وَكَذَا فَصَلَ
الْخَصَّافُ لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَصْلًا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ في
النَّفَقَةِ قَوْلَ الزَّوْجِ وَبَيَانُ الْأَصْلَيْنِ وَذِكْرُ الْحُجَجِ يَأْتِي
في كِتَابِ الْحَبْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ على يَسَارِهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا
وَإِنْ أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهَا لِأَنَّهَا
مُثْبِتَةٌ وَبَيِّنَةُ الزَّوْجِ لَا تُثْبِتُ شيئا وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لها
نَفَقَةَ شَهْرٍ وهو مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ قبل تَمَامِ الشَّهْرِ يَزِيدُهَا في
الْفَرْضِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
وَكَذَلِكَ لو فَرَضَ لها فَرِيضَةً لِلْوَقْتِ وَالسِّعْرُ رَخِيصٌ ثُمَّ غَلَا
فلم يَكْفِهَا ما فَرَضَ لها فإنه يَزِيدُهَا في الْفَرْضِ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ كِفَايَةُ الْوَقْتِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
السِّعْرِ وَلَوْ فَرَضَ لها نَفَقَةَ شَهْرٍ فَدَفَعَهَا الزَّوْجُ إلَيْهَا
ثُمَّ ضَاعَتْ قبل تَمَامِ الشَّهْرِ فَلَيْسَ عليه نَفَقَةٌ أُخْرَى حتى يَمْضِيَ
الشَّهْرُ وَكَذَا إذَا كَسَاهَا الزَّوْجُ فَضَاعَتْ الْكِسْوَةُ قبل تَمَامِ
الْمُدَّةِ فَلَا كِسْوَةَ لها عليه حتى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ التي أَخَذَتْ لها
الْكِسْوَةَ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ فإن هُنَاكَ يُجْبَرُ على نَفَقَةٍ أُخْرَى
وَكِسْوَةٍ أُخْرَى لِتَمَامِ الْمُدَّةِ التي أَخَذَ لها الْكِسْوَةَ إذَا حَلَفَ
أنها ضَاعَتْ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ تِلْكَ النَّفَقَةَ تَجِبُ لِلْحَاجَةِ أَلَا تَرَى أنها
لَا تَجِبُ إلَّا لِلْمُحْتَاجِ وقد تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَفَقَةٍ أُخْرَى
وَكِسْوَةٍ أُخْرَى وَوُجُوبُ هذه النَّفَقَةِ ليس مَعْلُولًا بِالْحَاجَةِ
بِدَلِيلِ أنها تَجِبُ لِلْمُوسِرَةِ إلَّا أَنَّ لها شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ وقد
جُعِلَتْ عِوَضًا عن الِاحْتِبَاسِ في جَمِيعِ الشَّهْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ
آخَرُ في هذه الْمُدَّةِ وَلَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لها نَفَقَةً أو كِسْوَةً
فَمَضَى الْوَقْتُ الذي أَخَذَتْ له وقد بَقِيَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ أو
الْكِسْوَةُ بِأَنْ أَكَلَتْ من مَالٍ آخَرَ أو لَبِسَتْ ثَوْبًا آخَرَ فَلَهَا
عليه نَفَقَةٌ أُخْرَى وَكِسْوَةٌ أُخْرَى بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
وَالْفَرْقُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ تَجِبُ بِعِلَّةِ
الْحَاجَةِ صِلَةً مَحْضَةً وَلَا حَاجَةَ عِنْدَ بَقَاءِ النَّفَقَةِ
وَالْكِسْوَةِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ لَا تَجِبُ لِمَكَانِ الْحَاجَةِ
وَإِنَّمَا تَجِبُ جَزَاءً على الِاحْتِبَاسِ لَكِنْ لها شُبْهَةُ الْعِوَضِيَّةِ
عن الِاحْتِبَاسِ وقد جُعِلَتْ عِوَضًا في هذه الْمُدَّةِ وَهِيَ مُحْتَبِسَةٌ
بَعْدَ مُضِيِّ هذه الْمُدَّةِ بِحَبْسٍ آخَرَ فَلَا بُدَّ لها من عِوَضٍ آخَرَ
وَلَوْ نَفِدَتْ نَفَقَتُهَا قبل مُضِيِّ الْمُدَّةِ التي لها أُخِذَتْ أو
تَخَرَّقَ الثَّوْبُ فَلَا نَفَقَةَ لها على الزَّوْجِ وَلَا كِسْوَةَ حتى
تَمْضِيَ الْمُدَّةُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَكِسْوَتِهِمْ وَالْفَرْقُ
نَحْوُ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ في كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا قال أَصْحَابُنَا أنها تَجِبُ على وَجْهٍ
لَا يَصِيرُ دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو
بِتَرَاضِي الزَّوْجَيْنِ فَإِنْ لم يُوجَدْ أَحَدُ هَذَيْنِ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ
وقال الشَّافِعِيُّ أنها تَصِيرُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ من غَيْرِ قَضَاءِ
الْقَاضِي وَلَا رِضَاهُ وَلَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَيَقَعُ الْكَلَامُ
في هذا الْفَصْلِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الْفَرْضَ من الْقَاضِي أو
التَّرَاضِي هل هو شَرْطُ صَيْرُورَةِ هذه النَّفَقَةِ دَيْنًا في ذِمَّةِ
الزَّوْجِ أَمْ لَا وفي بَيَانِ شَرْطِ جَوَازِ فَرْضِهَا من الْقَاضِي على
الزَّوْجِ إذَا كان شَرْطًا وفي بَيَانِ حُكْمِ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا في ذِمَّةِ
الزَّوْجِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا احْتَجَّ
الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ عز وجل { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وعلى كَلِمَةُ إيجَابٍ فَقَدْ أَخْبَرَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ مُطْلَقًا عن
الزَّمَانِ
وَقَوْلِهِ عز وجل { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ من سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عليه
رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } أَمَرَ تَعَالَى بِالْإِنْفَاقِ
____________________
(4/25)
مُطْلَقًا
عن الْوَقْتِ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ قد وَجَبَتْ
وَالْأَصْلُ أَنَّ ما وَجَبَ على إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْإِيصَالِ أو
بالإبراء ( ( ( الإبراء ) ) ) كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ وَلِأَنَّهَا وَجَبَتْ
عِوَضًا لِوُجُوبِهَا بِمُقَابَلَةِ الْمُتْعَةِ فَبَقِيَتْ في الذِّمَّةِ من
غَيْرِ قَضَاءٍ كَالْمَهْرِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الزَّوْجَ يُجْبَرُ على تَسْلِيمِ النَّفَقَةِ وَيُحْبَسُ
عليها وَالصِّلَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْحَبْسَ وَالْجَبْرَ
وَلَنَا أَنَّ هذه النَّفَقَةَ تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَإِنْ كانت تُشْبِهُ
الْأَعْوَاضَ لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِعِوَضٍ حَقِيقَةً لِأَنَّهَا لو كانت عِوَضًا
حَقِيقَةً فَأَمَّا إنْ كانت عِوَضًا عن نَفْسِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ
الِاسْتِمْتَاعُ وإما إنْ كانت عِوَضًا عن مِلْكِ الْمُتْعَةِ وَهِيَ
الِاخْتِصَاصُ بها لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَكَ
مُتْعَتَهَا بِالْعَقْدِ فَكَانَ هو بِالِاسْتِمْتَاعِ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ
نَفْسِهِ بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ له وَمَنْ تَصَرَّفَ في مِلْكِ
نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ عِوَضٌ لِغَيْرِهِ وَلَا وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ
مِلْكَ الْمُتْعَةِ قد قُوبِلَ بِعِوَضٍ مَرَّةً فَلَا يُقَابَلُ بِعِوَضٍ آخَرَ
فَخَلَتْ النَّفَقَةُ عن مُعَوَّضٍ فَلَا يَكُونُ عِوَضًا حَقِيقَةً بَلْ كانت
صِلَةً وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى رِزْقًا بِقَوْلِهِ عز وجل {
وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ }
وَالرِّزْقُ اسْمٌ لِلصِّلَةِ كَرِزْقِ الْقَاضِي وَالصِّلَاتُ لَا تُمْلَكُ
بِأَنْفُسِهَا بَلْ بِقَرِينَةٍ تَنْضَمُّ إلَيْهَا وَهِيَ الْقَبْضُ كما في
الْهِبَةِ أو قَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ الْقَاضِيَ له وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ في
الْجُمْلَةِ أو التَّرَاضِي لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْسَانِ على نَفْسِهِ أَقْوَى
من وِلَايَةِ الْقَاضِي عليه بِخِلَافِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ أُوجِبَ بِمُقَابَلَةِ
مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَكَانَ عِوَضًا مُطْلَقًا فَلَا يَسْقُطُ بِمُضِيِّ
الزَّمَانِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الْمُطْلَقَةِ وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَتَيْنِ
لِأَنَّ فِيهِمَا وُجُوبَ النَّفَقَةِ لَا بَقَاؤُهَا وَاجِبَةً لِأَنَّهُمَا لَا
يَتَعَرَّضَانِ لِلْوَقْتِ فَلَوْ ثَبَتَ الْبَقَاءُ إنَّمَا يَثْبُتُ
بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وإنه لَا يَصْلُحُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْأَصْلَ فِيمَا وَجَبَ على إنْسَانٍ لَا يَسْقُطُ إلَّا
بِالْإِيصَالِ أو الْإِبْرَاءِ فَنَقُولُ هذا حُكْمُ الْوَاجِبِ مُطْلَقًا لَا
حُكْمَ الْوَاجِبِ على طَرِيقِ الصِّلَةِ بَلْ حُكْمُهُ أَنَّهُ يَسْقُطُ
بِمُضِيِّ الزَّمَانِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَأُجْرَةِ الْمَسْكَنِ وقد خَرَجَ
الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إنَّهَا وَجَبَتْ عِوَضًا
وَأَمَّا الْجَبْرُ وَالْحَبْسُ فَالصِّلَةُ تَحْتَمِلُ ذلك في الْجُمْلَةِ فإنه
يُجْبَرُ على نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَيُحْبَسُ بها وَإِنْ كانت صِلَةً وَكَذَا من
أَوْصَى بِأَنْ يُوهَبَ عَبْدُهُ من فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَمَاتَ الْمُوصِي
فَامْتَنَعَ الْوَارِثُ من تَنْفِيذِ الْهِبَةِ في الْعَبْدِ يُجْبَرُ عليه
وَيُحْبَسُ بِأَنَّهُ وَإِنْ كانت الْهِبَةُ صِلَةً فَدَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ
وَالْحَبْسَ لَا يَنْفِيَانِ مَعْنَى الصِّلَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اسْتَدَانَتْ على الزَّوْجِ قبل الْفَرْضِ أو
التَّرَاضِي فَأَنْفَقَتْ أنها لَا تَرْجِعُ بِذَلِكَ على الزَّوْجِ بَلْ تَكُونُ
مُتَطَوِّعَةً في الْإِنْفَاقِ سَوَاءٌ كان الزَّوْجُ غَائِبًا أو حَاضِرًا لأنها
( ( ( أنها ) ) ) لم تَصِرْ دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ لِعَدَمِ شَرْطِ
صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا في ذِمَّتِهِ فَكَانَتْ الِاسْتِدَانَةُ إلْزَامَ
الدَّيْنِ الزَّوْجَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَمْرِ من له وِلَايَةُ الْأَمْرِ فلم
يَصِحَّ وَكَذَا إذَا أَنْفَقَتْ من مَالِ نَفْسِهَا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا لو أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا من النَّفَقَةِ قبل فَرْضِ الْقَاضِي
وَالتَّرَاضِي لَا يَصِحُّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّهُ إبْرَاءٌ عَمَّا ليس بِوَاجِبٍ
وَالْإِبْرَاءُ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ ما ليس بِوَاجِبٍ مُمْتَنِعٌ وَكَذَا لو
صَالَحَتْ زَوْجَهَا على نَفَقَةٍ وَذَلِكَ لَا يَكْفِيهَا ثُمَّ طَلَبَتْ من
الْقَاضِي ما يَكْفِيهَا فإن الْقَاضِيَ يَفْرِضُ لها ما يَكْفِيهَا لِأَنَّهَا
حَطَّتْ ما ليس بِوَاجِبٍ وَالْحَطُّ قبل الْوُجُوبِ بَاطِلٌ كَالْإِبْرَاءِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِوُجُوبِ الْفَرْضِ على الْقَاضِي وَجَوَازِهِ منه شَرْطَانِ
أَحَدُهُمَا طَلَبُ الْمَرْأَةِ الْفَرْضَ منه لِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْرِضُ
النَّفَقَةَ على الزَّوْجِ حَقًّا لها فَلَا بُدَّ من الطَّلَبِ من صَاحِبِ
الْحَقِّ
وَالثَّانِي حَضْرَةُ الزَّوْجِ حتى لو كان الزَّوْجُ غَائِبًا فَطَلَبَتْ
الْمَرْأَةُ من الْقَاضِي أَنْ يَفْرِضَ لها عليه نَفَقَةً لم يَفْرِضْ وَإِنْ كان
الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وهو
قَوْلُ شُرَيْحٍ وقد كان أبو حَنِيفَةَ أَوَّلًا يقول وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ
النَّخَعِيّ أن هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَفْرِضُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ على الْغَائِبِ
وَحُجَّةُ هذا الْقَوْلِ ما رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
أَنَّهُ قال لِهِنْدٍ امْرَأَةِ أبي سُفْيَانَ خُذِي من مَالِ أبي سُفْيَانَ ما
يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ وَذَلِكَ من النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
فَرْضًا لِلنَّفَقَةِ على أبي سُفْيَانَ وكان غَائِبًا وَحُجَّةُ الْقَوْلِ
الْأَخِيرِ أَنَّ الْفَرْضَ من الْقَاضِي على الْغَائِبِ قَضَاءٌ عليه وقد صَحَّ
من أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ على الْغَائِبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عنه
خَصْمٌ حَاضِرٌ ولم يُوجَدْ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم إنَّمَا قال لِهِنْدٍ على سَبِيلِ الْفَتْوَى لَا على طَرِيقِ
الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لم يُقَدِّرْ لها ما تَأْخُذُهُ من مَالِ أبي
سُفْيَانَ وَفَرْضُ النَّفَقَةِ من الْقَاضِي تَقْدِيرُهَا فإذا لم تُقَدَّرْ لم
تَكُنْ فَرْضًا فلم تَكُنْ قَضَاءً تَحْقِيقُهُ إن من يُجَوِّزُ الْقَضَاءَ على
الْغَائِبِ فَإِنَّمَا يُجَوِّزُهُ إذَا كان غَائِبًا
____________________
(4/26)
غَيْبَةَ
سَفَرٍ فَأَمَّا إذَا كان في الْمِصْرِ فإنه لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ
لَا يُعَدُّ غَائِبًا وأبو سُفْيَانَ لم يَكُنْ مُسَافِرًا فَدَلَّ أَنَّ ذلك كان
إعَانَةً لَا قَضَاءً فَإِنْ لم يَكُنْ الْقَاضِي عَالِمًا بِالزَّوْجِيَّةِ
فَسَأَلَتْ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْمَعَ بَيِّنَتَهَا بِالزَّوْجِيَّةِ وَيَفْرِضَ
على الْغَائِبِ قال أبو يُوسُفَ لَا يَسْمَعُهَا وَلَا يَفْرِضُ وقال زُفَرُ
يَسْمَعُ وَيَفْرِضُ لها وَتَسْتَدِينُ عليه فإذا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَنْكَرَ
يَأْمُرُهَا بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ في وَجْهِهِ فَإِنْ فَعَلَتْ نُفِّذَ
الْفَرْضُ وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ وَإِنْ لم يَفْعَلْ لم يُنَفَّذْ ولم يَصِحَّ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَسْمَعُ هذه الْبَيِّنَةَ لَا
لِإِثْبَاتِ النِّكَاحِ على الْغَائِبِ لِيُقَالَ أن الْغَيْبَةَ تَمْنَعُ من ذلك
بَلْ لِيَتَوَصَّلَ بها إلَى الْفَرْضِ وَيَجُوزُ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ في حَقِّ
حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ كَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ على السَّرِقَةِ وإنها
تُقْبَلُ في حَقِّ الْمَالِ وَلَا تُقْبَلُ في حَقِّ الْقَطْعِ كَذَا هَهُنَا
تُقْبَلُ هذه الْبَيِّنَةُ في حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ لَا في إثْبَاتِ النِّكَاحِ
فإذا حَضَرَ وانكر إستعاد منها الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَعَادَتْ نُفِّذَ الْفَرْضُ
وَصَحَّتْ الِاسْتِدَانَةُ عليه وَإِلَّا فَلَا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا
لَا تُسْمَعُ إلَّا على خَصْمٍ حَاضِرٍ وَلَا خَصْمَ فَلَا تُسْمَعُ وما ذَكَرَهُ
زُفَرُ أَنَّ بَيِّنَتَهَا تُقْبَلُ في حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ صِحَّةَ الْفَرْضِ مَبْنِيَّةٌ على ثُبُوتِ الزَّوْجِيَّةِ فإذا لم يَكُنْ
إلَى إثْبَاتِ الزَّوْجِيَّةِ بِالْبَيِّنَةِ سبل ( ( ( سبيل ) ) ) لِعَدَمِ
الْخَصْمِ لم يَصِحَّ فَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَبُولِ في حَقِّ صِحَّةِ الْفَرْضِ
ضَرُورَةً
هذا إذَا كان الزَّوْجُ غَائِبًا ولم يَكُنْ له مَالٌ حَاضِرٌ فَأَمَّا إذَا كان
له مَالٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كان الْمَالُ في يَدِهَا وهو من جِنْسِ النَّفَقَةِ
فَلَهَا أَنْ تُنْفِقَ على نَفْسِهَا منه بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لِحَدِيثِ أبي
سُفْيَانَ فَلَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ من الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ في ذلك
الْمَالِ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِالزَّوْجِيَّةِ وَبِالْمَالِ فَرَضَ لها
النَّفَقَةَ لِأَنَّ لها أَنْ تَأْخُذَهُ فَتُنْفِقَ على نَفْسِهَا من غَيْرِ
فَرْضِ الْقَاضِي فلم يَكُنْ الْفَرْضُ من الْقَاضِي في هذه الصُّورَةِ قَضَاءً
بَلْ كان إعَانَةً لها على اسْتِيفَاءِ حَقِّهَا وَإِنْ كان في يَدِ مُودِعِهِ أو
مُضَارِبِهِ أو كان له دَيْنٌ على غَيْرِهِ فَإِنْ كان صَاحِبُ الْيَدِ مُقِرًّا
بالوديعة وَالزَّوْجِيَّةِ أو كان من عليه الدَّيْنُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ
وَالزَّوْجِيَّةِ أو كان الْقَاضِي عَالِمًا بِذَلِكَ فَرَضَ لها في ذلك الْمَالِ
نَفَقَتَهَا في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَفْرِضُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن هذا قَضَاءٌ على الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ
حَاضِرٌ إذْ الْمُودِعُ ليس بِخَصْمٍ عن الزَّوْجِ وَكَذَا الْمَدْيُونُ فَلَا
يَجُوزُ
وَلَنَا أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ وهو الْمُودِعُ إذَا أَقَرَّ بالوديعة
وَالزَّوْجِيَّةِ أو أَقَرَّ الْمَدْيُونُ بِالدَّيْنِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَقَدْ
أَقَرَّ أَنَّ لها حَقَّ الْأَخْذِ وَالِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ لِلزَّوْجَةِ أَنْ
تَمُدَّ يَدَهَا إلَى مَالِ زَوْجِهَا فَتَأْخُذَ كِفَايَتَهَا منه لِحَدِيثِ
امْرَأَةِ أبي سُفْيَانَ فلم يَكُنْ الْقَاضِي فَرَضَ لها النَّفَقَةَ في ذلك
الْمَالِ قَضَاءً بَلْ كان إعَانَةً لها على أَخْذِ حَقِّهَا وَلَهُ على إحْيَاءِ
زَوْجَتِهِ فَكَانَ له ذلك وَإِنْ جَحَدَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ وَلَا عِلْمَ
لِلْقَاضِي بِهِ لم ( ( ( ولم ) ) ) يَسْمَعْ الْبَيِّنَةَ ولم يَفْرِضْ لِأَنَّ
سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ وَالْفَرْضِ يَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ من غَيْرِ
خَصْمٍ حَاضِرٍ لِأَنَّهُ إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجِيَّةَ لَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ على الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّ الْمُودِعَ ليس بِخَصْمٍ عنه في
الزَّوْجِيَّةِ وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَدِيعَةَ أو الدَّيْنَ لَا يُمْكِنُهَا
إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ على الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَصْمٍ
عن زَوْجِهَا في إثْبَاتِ حُقُوقِهِ فَكَانَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ على ذلك قَضَاءً
على الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ وَذَلِكَ غَيْرُ
جَائِزٍ عِنْدَنَا
هذا إذَا كانت الْوَدِيعَةُ وَالدَّيْنُ من جِنْسِ النَّفَقَةِ بِأَنْ كانت
دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو طَعَامًا أو ثِيَابًا من جِنْسِ كِسْوَتِهَا فَأَمَّا
إذَا كان من جِنْسٍ آخَرَ فَلَيْسَ لها أَنْ تَتَنَاوَلَ شيئا من ذلك وَإِنْ
طَلَبَتْ من الْقَاضِي فَرَضَ النَّفَقَةَ فيه فَإِنْ كان عَقَارًا لَا يَفْرِضُ
الْقَاضِي النَّفَقَةَ فيه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ
النَّفَقَةِ فيه إلَّا البيع ( ( ( بالبيع ) ) ) وَلَا يُبَاعُ الْعَقَارُ على
الْغَائِبِ في النَّفَقَةِ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كان مَنْقُولًا من الْعُرُوضِ
فَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ فيه
فقال الْقَاضِي لَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا له أَنْ يَبِيعَهَا عليه وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ على الْحُرِّ
الْعَاقِلِ الْبَالِغِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ الْمَسْأَلَةَ على الِاتِّفَاقِ فقال الْقَاضِي إنَّمَا
يَبِيعُ على أَصْلِهِمَا على الْحَاضِرِ الْمُمْتَنِعِ عن قَضَاءِ الدَّيْنِ
لِكَوْنِهِ ظَالِمًا في الِامْتِنَاعِ دَفْعًا لِظُلْمِهِ وَالْغَائِبُ لَا
يُعْلَمُ امْتِنَاعُهُ فَلَا يُعْلَمُ ظُلْمُهُ فَلَا يُبَاعُ عليه وإذا فَرَضَ
الْقَاضِي لها النَّفَقَةَ في شَيْءٍ من ذلك وَأَخَذَ منها كَفِيلًا فَهُوَ حَسَنٌ
لِاحْتِمَالِ أَنْ يَحْضُرَ الزَّوْجُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على طَلَاقِهَا أو
على إيفَاءِ حَقِّهَا في النَّفَقَةِ عَاجِلًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوْثِقَ
فِيمَا يُعْطِيهَا بِالْكَفَالَةِ ثُمَّ إذَا رَجَعَ الزَّوْجُ يُنْظَرُ إنْ كان
لم يُعَجِّلْ لها النَّفَقَةَ فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ وَإِنْ كان قد عَجَّلَ
وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك أو لم يُقِمْ له بَيِّنَةً واستخلفها ( ( (
واستحلفها ) ) ) فَنَكَلَتْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ من الْمَرْأَةِ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ من
____________________
(4/27)
الْكَفِيلِ
وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أنها كانت قد تَعَجَّلَتْ النَّفَقَةَ من الزَّوْجِ
فإن الزَّوْجَ يَأْخُذُ منها وَلَا يَأْخُذُ من الْكَفِيلِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ
حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فَيَظْهَرُ في حَقِّهَا لَا في حَقِّ الْكَفِيلِ وَلَوْ
طَلَبَتْ الزَّوْجَةُ من الْحَاكِمِ أَنْ يَدْفَعَ مَهْرَهَا وَنَفَقَتَهَا من
الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ لم يَفْعَلْ ذلك وَإِنْ كان عَالِمًا بِهِمَا لِأَنَّ
الْقَضَاءَ بِالنَّفَقَةِ في الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ كان نَظَرًا لِلْغَائِبِ
لِمَا في الْإِنْفَاقِ من إحْيَاءِ زَوْجَتِهِ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عنها
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَرْضَى بِذَلِكَ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في
الْمَهْرِ وَالدَّيْنِ وَلَوْ كان الْحَاكِمُ فَرَضَ لها على الزَّوْجِ
النَّفَقَةَ قبل غَيْبَتِهِ فَطَلَبَتْ من الْحَاكِمِ أَنْ يَقْضِيَ لها
بِنَفَقَةٍ مَاضِيَةٍ في الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ قَضَى لها بِذَلِكَ لِأَنَّهُ
لَمَّا جَازَ الْقَضَاءُ بِالنَّفَقَةِ في الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَوِي فيه
الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلُ لِأَنَّ طَرِيقَ الْجَوَازِ لَا يَخْتَلِفُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان لِلْغَائِبِ مَالٌ حَاضِرٌ وهو من جِنْسِ النَّفَقَةِ وَلَهُ
أَوْلَادٌ صِغَارٌ فُقَرَاءُ وَكِبَارٌ ذُكُورٌ زمني فُقَرَاءُ أو أناث فَقِيرَاتٌ
وَوَالِدَانِ فَقِيرَانِ فَإِنْ كان الْمَالُ في أَيْدِيهِمْ فَلَهُمْ أَنْ
يُنْفِقُوا منه على أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ طَلَبُوا من الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ
منه فَرَضَ لِأَنَّ الْفَرْضَ منه يَكُونُ إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ كان
الْمَالُ في يَدِ مُودِعِهِ أو كان دَيْنًا على إنْسَانٍ فَرَضَ الْقَاضِي
نَفَقَتَهُمْ منه
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الْمُودِعُ وَالْمَدْيُونُ بالوديعة وَالدَّيْنِ
وَالنَّسَبِ أو عَلِمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَالِدِينَ
وَالْمَوْلُودِينَ تَجِبُ بِطَرِيقِ الاحياء لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْضَى
بِإِحْيَاءِ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ من مَالِهِ وَلِهَذَا كان لِأَحَدِهِمَا أَنْ
يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ الْآخَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَأْخُذَهُ من غَيْرِ
قَضَاءٍ وَلَا رِضًا وقد تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ هَهُنَا فَكَانَ لِلْقَاضِي أَنْ
يَفْرِضَ ذلك من طَرِيقِ الْإِعَانَةِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ وأن جَحَدَهُمَا أو
أَحَدَهُمَا وَلَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ لم يَفْرِضْ لِمَا ذَكَرْنَا في
الزَّوْجَةِ وَلَا يُفْرَضُ لِغَيْرِهِمَا وَلَا من ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
نَفَقَتُهُمْ في مَالِ الْغَائِبِ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ من طَرِيقِ الصِّلَةِ
الْمَحْضَةِ إذْ ليس لهم حَقٌّ في مَالِ الْغَائِبِ أَصْلًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِأَحَدٍ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِ صَاحِبِهِ
فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ مَسَّتْ حَاجَتُهُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ
الْفَرْضُ قَضَاءً على الْغَائِبِ من غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ فَلَا يَجُوزُ وَإِنْ
لم يَكُنْ الْمَالُ من جِنْسِ النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لهم أَنْ يَبِيعُوا
بِأَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ على الْغَائِبِ في النَّفَقَةِ
على هَؤُلَاءِ الْعَقَارَ بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُكْمُ في الْعُرُوضِ ما بَيَّنَّا
من الِاتِّفَاقِ أو الِاخْتِلَافِ
وفي بَيْعِ الْأَبِ الْعُرُوضَ خِلَافٌ نَذْكُرُهُ في نَفَقَةِ الْمَحَارِمِ
وَأَمَّا يَسَارُ الزَّوْجِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْفَرْضِ حتى لو كان
مُعْسِرًا وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ الْفَرْضَ من الْقَاضِي فَرَضَ عليه إذَا كان
حَاضِرًا وَتَسْتَدِينُ عليه فَتُنْفِقُ على نَفْسِهَا لِأَنَّ الاعسار لَا
يَمْنَعُ وُجُوبَ هذه النَّفَقَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْفَرْضَ وإذا طَلَبَتْ
الْمَرْأَةُ من الْقَاضِي فَرْضَ النَّفَقَةِ على زَوْجِهَا الْحَاضِرِ فَإِنْ كان
قبل النُّقْلَةِ وَهِيَ بِحَيْثُ لَا تَمْتَنِعُ من التَّسْلِيمِ لو طَالَبَهَا
بِالتَّسْلِيمِ أو كان امْتِنَاعُهَا بِحَقٍّ فَرَضَ الْقَاضِي لها إعَانَةً لها
على الْوُصُولِ إلَى حَقِّهَا الْوَاجِبِ لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وَشَرْطِهِ
وَإِنْ كان بَعْدَمَا حَوَّلَهَا إلَى مَنْزِلِهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ ليس يُنْفِقُ
عليها أو شَكَتْ التَّضْيِيقَ في النَّفَقَةِ فَلَا يَنْبَغِي له أَنْ يُعَجِّلَ
بِالْفَرْضِ وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُهُ بِالنَّفَقَةِ وَالتَّوْسِيعِ فيها لِأَنَّ
ذلك من بَابِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ وأنه مَأْمُورٌ بِهِ وَيَتَأَتَّى في
الْفَرْضِ وَيَتَوَلَّى الزَّوْجُ الْإِنْفَاقَ بِنَفْسِهِ قبل الْفَرْضِ إلَى
أَنْ يَظْهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّرْكِ وَالتَّضْيِيقِ في النَّفَقَةِ فَحِينَئِذٍ
يَفْرِضُ عليه نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَدْفَعَ النَّفَقَةَ
إلَيْهَا لِتُنْفِقَ هِيَ بِنَفْسِهَا على نَفْسِهَا
وَلَوْ قالت أَيُّهَا الْقَاضِي أنه يُرِيدُ أَنْ يَغِيبَ فَخُذْ لي منه كَفِيلًا
بِالنَّفَقَةِ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي على إعْطَاءِ الْكَفِيلِ لِأَنَّ نَفَقَةَ
الْمُسْتَقْبَلِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ لِلْحَالِ فَلَا يُجْبَرُ على الْكَفِيلِ مما (
( ( بما ) ) ) ليس بِوَاجِبٍ
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على التَّكْفِيلِ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَكَيْفَ
بِغَيْرِ الْوَاجِبِ وَإِلَى هذا أَشَارَ أبو حَنِيفَةَ فقال لَا أُوجِبُ عليه كَفِيلًا
بِنَفَقَةٍ لم تَجِبْ لها بَعْدُ
وقال أبو يُوسُفَ أَسْتَحْسِنُ أَنْ آخُذَ لها منه كَفِيلًا بِنَفَقَةِ أَشْهُرٍ
لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّ هذا الْقَدْرَ يَجِبُ في السَّفَرِ لِأَنَّ
السَّفَرَ يَمْتَدُّ إلَى شَهْرٍ غَالِبًا وَالْجَوَابُ أَنَّ نَفَقَةَ الشَّهْرِ
لَا تَجِبُ قبل الشَّهْرِ فَكَانَ تَكْفِيلًا بِمَا ليس بِوَاجِبٍ فَلَا يُجْبَرُ
عليه وَلَكِنْ لو أَعْطَاهَا كَفِيلًا جَازَ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَا يذوب ( (
( ينوب ) ) ) على فُلَانٍ جَائِزَةٌ
وَأَمَّا الثَّالِثُ وهو بَيَانُ حُكْمِ صَيْرُورَةِ هذه النَّفَقَةِ دَيْنًا في
ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَنَقُولُ إذَا فَرَضَ الْقَاضِي لها نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ أو
تَرَاضَيَا على ذلك ثُمَّ مَنَعَهَا الزَّوْجُ قبل ذلك أَشْهُرًا غَائِبًا كان أو
حَاضِرًا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ ما مَضَى لِأَنَّهَا لما صَارَتْ
دَيْنًا بِالْفَرْضِ أو التَّرَاضِي صَارَتْ في اسْتِحْقَاقِ الْمُطَالَبَةِ بها
كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ ولم
تُؤْخَذْ أنها تَسْقُطُ لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ دَيْنًا رَأْسًا لِأَنَّ
وُجُوبَهَا
____________________
(4/28)
لِلْكِفَايَةِ
وقد حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ فِيمَا مَضَى فَلَا يَبْقَى الْوَاجِبُ كما لو
اسْتَغْنَى بِمَالِهِ فَأَمَّا وُجُوبُ هذه النَّفَقَةِ فَلَيْسَ لِلْكِفَايَةِ
وَإِنْ كانت مُقَدَّرَةً بِالْكِفَايَةِ
أَلَا تَرَى أنها تَجِبُ مع الِاسْتِغْنَاءِ بِأَنْ كانت مُوسِرَةً وَلَيْسَ في
معنى ( ( ( مضي ) ) ) الزَّمَانِ إلَّا الِاسْتِغْنَاءَ فَلَا يُمْنَعُ بَقَاءُ
الْوَاجِبِ وَلَوْ انفقت من مَالِهَا بَعْدَ الْفَرْضِ أو التَّرَاضِي لها أنه
تَرْجِعَ على الزَّوْجِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ صَارَتْ دَيْنًا عليه
وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَدَانَتْ على الزَّوْجِ لِمَا قُلْنَا سَوَاءٌ كانت
اسْتِدَانَتُهَا بِإِذْنِ الْقَاضِي أو بِغَيْرِ إذْنِهِ غير أنها إنْ كانت
بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي كانت الْمُطَالَبَةُ عليها خاضة ( ( ( خاصة ) ) ) ولم
يَكُنْ لِلْغَرِيمِ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِمَا اسْتَدَانَتْ وَإِنْ كانت
بِإِذْنِ الْقَاضِي لها أَنْ تُحِيلَ الْغَرِيمَ على الزَّوْجِ فَيُطَالِبَهُ
بِالدَّيْنِ وهو فَائِدَةُ إذْنِ الْقَاضِي بِالِاسْتِدَانَةِ وَلَوْ فَرَضَ
الْحَاكِمُ النَّفَقَةَ على الزَّوْجِ فَامْتَنَعَ من دَفْعِهَا وهو مُوسِرٌ
وَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ لها أَنْ تَحْبِسَهُ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لَمَّا
صَارَتْ دَيْنًا عليه بِالْقَضَاءِ صَارَتْ كَسَائِرِ الدُّيُونِ إلَّا أَنَّهُ
لَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْبِسَهُ في أَوَّلِ مَرَّةٍ تَقَدَّمَ إلَيْهِ بَلْ
يُؤَخِّرُ الْحَبْسَ إلَى مَجْلِسَيْنِ أو ثَلَاثَةٍ يَعِظُهُ في كل مَجْلِسٍ
يُقَدَّمُ إلَيْهِ
فَإِنْ لم يَدْفَعْ حَبَسَهُ حِينَئِذٍ كما في سَائِرِ الدُّيُونِ لِمَا نَذْكُرُ
فيك تاب ( ( ( كتاب ) ) ) الْحَبْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وإذا حُبِسَ لِأَجْلِ النَّفَقَةِ فما كان من جِنْسِ النَّفَقَةِ سَلَّمَهُ
الْقَاضِي إلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ بِالْإِجْمَاعِ وما كان من خِلَافِ الْجِنْسِ
لَا يَبِيعُ عليه شيئا من ذلك وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبِيعَ بِنَفْسِهِ
وَكَذَا في سَائِرِ الدُّيُونِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ يَبِيعُ عليه وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ على الْحُرِّ الْعَاقِلِ
الْبَالِغِ نَذْكُرُهَا في كِتَابِ الْحَجْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ قد أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ وَأَنْكَرَتْ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مع يَمِينِهَا لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي قَضَاءَ دَيْنٍ
عليه وَهِيَ مُنْكِرَةٌ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مع يَمِينِهَا كما في
سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَوْ أَعْطَاهَا الزَّوْجُ مَالًا فَاخْتَلَفَا فقال
الزَّوْجُ هو من الْمَهْرِ وَقَالَتْ هِيَ هو من النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الزَّوْجِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ منه
فَكَانَ هو أَعْرَفَ بِجِهَةِ التَّمْلِيكِ كما لو بَعَثَ إلَيْهَا شيئا فقالت هو
هَدِيَّةٌ وقال هو من الْمَهْرِ أَنَّ الْقَوْلَ فيه قَوْلُهُ إلَّا في الطَّعَامِ
الذي يُؤْكَلُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَلَوْ كان لِلزَّوْجِ عليها دَيْنٌ فَاحْتَسَبَتْ عن نَفَقَتِهَا جَازَ لَكِنْ
بِرِضَا الزَّوْجِ لِأَنَّ التقاص ( ( ( التقاصر ) ) ) إنَّمَا يَقَعُ بين
الدَّيْنَيْنِ المماثلين ( ( ( المتماثلين ) ) ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقَعُ
بين الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ وَدَيْنُ الزَّوْجِ أَقْوَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا
يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَدَيْنُ النَّفَقَةِ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فأشبه ( ( (
فاشتبه ) ) ) الْجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ فَلَا بُدَّ من الْمُقَاصَّةِ بِخِلَافِ
غَيْرِهَا من الدُّيُونِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُهَا بَعْدَ وُجُوبِهَا وَصَيْرُورَتِهَا
دَيْنًا في ذِمَّةِ الزَّوْجِ فَالْمُسْقِطُ لها بَعْدَ الْوُجُوبِ قبل ( ( ( قيل
) ) ) صَيْرُورَتُهَا دَيْنًا في الذِّمَّةِ وَاحِدٌ وهو مُضِيُّ الزَّمَانِ من
غَيْرِ فَرْضِ الْقَاضِي وَالتَّرَاضِي
وَأَمَّا الْمُسْقِطُ لها بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا في الذِّمَّةِ فَأُمُورٌ
منها الْإِبْرَاءُ عن النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا صَارَتْ دَيْنًا
في ذِمَّتِهِ كان الْإِبْرَاءُ إسْقَاطًا لِدَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ كما في
سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَوْ أَبْرَأَتْهُ عَمَّا يُسْتَقْبَلُ من النَّفَقَةِ
الْمَفْرُوضَةِ لم يَصِحَّ الْإِبْرَاءُ لِأَنَّهَا تَجِبُ شيئا فَشَيْئًا على
حَسَبِ حُدُوثِ الزَّمَانِ فَكَانَ الْإِبْرَاءُ منها إسْقَاطَ الْوَاجِبِ قبل الْوُجُوبِ
وَقَبْلَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ أَيْضًا وهو حَقُّ الْحَبْسِ لِأَنَّهُ لَا
يَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الزَّمَانِ فلم يَصِحَّ وَكَذَا يَصِحُّ هِبَةُ
النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ يَكُونُ إبْرَاءً عنه
فَيَكُونُ إسْقَاطَ دَيْنٍ وَاجِبٍ فَيَصِحُّ وَلَا تَصِحُّ هِبَةُ ما
يُسْتَقْبَلُ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا مَوْتُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حتى لو مَاتَ الرَّجُلُ قبل إعْطَاءِ
النَّفَقَةِ لم يَكُنْ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْخُذَهَا من مَالِهِ وَلَوْ مَاتَتْ
الْمَرْأَةُ لم يَكُنْ لِوَرَثَتِهَا أَنْ يَأْخُذُوا لِمَا ذَكَرْنَا أنها
تَجْرِي مَجْرَى الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قبل الْقَبْضِ
كَالْهِبَةِ فَإِنْ كان الزَّوْجُ أَسَلَفَهَا نَفَقَتَهَا وَكِسْوَتَهَا ثُمَّ
مَاتَ قبل مُضِيِّ ذلك الْوَقْتِ لم تَرْجِعْ وَرَثَتُهُ عليها بِشَيْءٍ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ سَوَاءٌ كان قَائِمًا أو مُسْتَهْلَكًا وَكَذَلِكَ
لو مَاتَتْ هِيَ لم يَرْجِعْ للزوج ( ( ( الزوج ) ) ) في تَرِكَتِهَا عِنْدَهُمَا
وقال مُحَمَّدٌ لها حِصَّةُ ما مَضَى من النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَيَجِبُ رَدُّ
الْبَاقِي إنْ كان قَائِمًا وَإِنْ كان هَالِكًا فَلَا شَيْءَ بِالْإِجْمَاعِ
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أنها إنْ كانت قَبَضَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ فما
دُونَهُ لم يَرْجِعْ عليها بِشَيْءٍ وَإِنْ كان الْمَفْرُوضُ أَكْثَرَ من ذلك
يَرْفَعُ عنها نَفَقَةَ شَهْرٍ وَرَدَّتْ ما بَقِيَ وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ
الشَّهْرَ فما دُونَهُ في حُكْمِ الْقَلِيلِ فَصَارَ كَنَفَقَةِ الْحَالِ وما
زَادَ عليه في حُكْمِ الْكَثِيرِ فَيَثْبُتُ بِهِ الرُّجُوعُ كَالدَّيْنِ
وَجْهُ ظَاهِرِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذه النَّفَقَةَ تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ
فَتَسْلَمُ لها بِقَدْرِ ما سَلِمَ لِلزَّوْجِ من الْمُعَوَّضِ كَالْإِجَارَةِ
إذَا عَجَّلَ الْمُسْتَأْجِرُ الْأُجْرَةَ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا
____________________
(4/29)
قبل
تَمَامِ الْمُدَّةِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذه صِلَةٌ اتَّصَلَ بها الْقَبْضُ فَلَا يَثْبُتُ فيها
الرُّجُوعُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَسَائِرِ الصِّلَاتِ الْمَقْبُوضَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنها تُشْبِهُ الْأَعْوَاضَ فَنَعَمْ لَكِنْ بِوَصْفِهَا لَا
بِأَصْلِهَا بَلْ هِيَ صِلَةٌ بِأَصْلِهَا أَلَا تَرَى أنها تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ
قبل الْقَبْضِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصِّلَةِ
فيراعى فيها الْمَعْنَيَانِ جميعا فَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْأَصْلِ بَعْدَ
الْقَبْضِ فَقُلْنَا أنها لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا
يَثْبُتُ فيها الرُّجُوعُ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ
قبل الْقَبْضِ فَقُلْنَا أنها تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قبل الْقَبْضِ كَالصِّلَاتِ
وَرَاعَيْنَا مَعْنَى الْوَصْفِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَقُلْنَا لَا يَثْبُتُ فيها
الرُّجُوعُ كَالْأَعْوَاضِ اعْتِبَارًا لِلْأَصْلِ وَالْوَصْفِ جميعا على ما هو
الْأَصْلُ في الْعَمَلِ بِالشَّبَهَيْنِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَاَللَّهُ
الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ فَالْكَلَامُ فيها أَيْضًا يَقَعُ في
الْمَوَاضِعِ التي ذَكَرْنَاهَا في نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَهِيَ بَيَانُ وُجُوبِ
هذه النَّفَقَةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهَا وَشَرْطُ الْوُجُوبِ وَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ
وَكَيْفِيَّةُ الْوُجُوبِ وما يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ وهو بَيَانُ الْوُجُوبِ فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ
إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ الْقَرَابَاتِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ الْقَرَابَةُ في الْأَصْلِ نَوْعَانِ قَرَابَةُ الْوِلَادَةِ
وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ
وَقَرَابَةُ غَيْرِ الْوِلَادَةِ نَوْعَانِ أَيْضًا قَرَابَةٌ مُحَرِّمَةٌ
لِلنِّكَاحِ كَالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَةِ وَقَرَابَةٌ غَيْرُ
مُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَالْأَخْوَالِ
وَالْخَالَاتِ وَلَا خِلَافَ في وُجُوبِ النَّفَقَةِ في قَرَابَةِ الولاد ( ( (
الولادة ) ) )
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَالِدَيْنِ فَلِقَوْلِهِ عز وجل { وَقَضَى رَبُّك ألا
تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } أَيْ أَمَرَ رَبُّك
وَقَضَى أَنْ لَا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ
أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَوَصَّى بِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا والانفاق
عَلَيْهِمَا حَالَ فَقْرِهِمَا من أَحْسَنِ الْإِحْسَانِ وَقَوْلُهُ عز وجل {
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } وقَوْله تَعَالَى { أَنْ
اُشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْك } وَالشُّكْرُ لِلْوَالِدَيْنِ هو الْمُكَافَأَةُ
لَهُمَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْوَلَدَ أَنْ يكافىء ( ( ( يكافئ ) ) )
لَهُمَا وَيُجَازِيَ بَعْضَ ما كان مِنْهُمَا إلَيْهِ من التَّرْبِيَةِ وَالْبِرِّ
وَالْعَطْفِ عليه وَالْوِقَايَةِ من كل شَرٍّ وَمَكْرُوهٍ وَذَلِكَ عِنْدَ
عَجْزِهِمَا عن الْقِيَامِ بِأَمْرِ أَنْفُسِهِمَا وَالْحَوَائِجِ لَهُمَا
وَإِدْرَارُ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمَا حَالَ عَجْزِهِمَا وَحَاجَتِهِمَا من بَابِ
شُكْرِ النِّعْمَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَقَوْلُهُ عز وجل { وَصَاحِبْهُمَا في
الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَهَذَا في الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
فَالْمُسْلِمَانِ أَوْلَى وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الْحَاجَةِ من
أَعْرَفِ الْمَعْرُوفِ وَقَوْلُهُ عز وجل { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا
تَنْهَرْهُمَا } وَأَنَّهُ كِنَايَةٌ عن كَلَامٍ فيه ضَرْبُ إيذَاءٍ وَمَعْلُومٌ
أَنَّ مَعْنَى التَّأَذِّي بِتَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا عِنْدَ عَجْزِهِمَا
وَقُدْرَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرُ فَكَانَ النَّهْيُ عن التَّأْفِيفِ نَهْيًا عن
تَرْكِ الانفاق دَلَالَةً كما كان نَهْيًا عن الشَّتْمِ وَالضَّرْبِ دَلَالَةً
وَرُوِيَ عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا جاء إلَى رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمَعَهُ أَبُوهُ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ لي
مَالًا وَإِنَّ لي أَبًا وَلَهُ مَالٌ وَإِنَّ أبي يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ مَالِي
فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أنت وَمَالُكَ لِأَبِيك أَضَافَ مَالَ
الِابْنِ إلَى الْأَبِ بلام التَّمْلِيكِ وَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ
لِلْأَبِ في مَالِ ابْنِهِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فَإِنْ لم تَثْبُتْ الْحَقِيقَةُ
فَلَا أَقَلَّ من أَنْ يَثْبُتَ له حَقُّ التَّمْلِيكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال إنَّ أَطْيَبَ ما يَأْكُلُ
الرَّجُلُ من كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ من كَسْبِهِ فَكُلُوا من كَسْبِ
أَوْلَادِكُمْ إذَا احْتَجْتُمْ إلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ
بِأَوَّلِهِ وَآخِرِهِ أَمَّا بِآخِرِهِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ صلى اللَّهُ عليه
وسلم أَطْلَقَ لِلْأَبِ الْأَكْلَ من كَسْبِ وَلَدِهِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ مُطْلَقًا
عن شَرْطِ الْإِذْنِ وَالْعِوَضِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ
وَأَمَّا بِأَوَّلِهِ فَلِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ من كَسْبِهِ
أَيْ كَسْبُ وَلَدِهِ من كَسْبِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ كَسْبَ الرَّجُلِ أَطْيَبَ
الْمَأْكُولِ وَالْمَأْكُولُ كَسْبُهُ لَا نَفْسُهُ وإذا كان كَسْبُ وَلَدِهِ
كَسْبَهُ كانت نَفَقَتُهُ فيه لِأَنَّ نَفَقَةَ الانسان في كَسْبِهِ وَلِأَنَّ
وَلَدَهُ لَمَّا كان من كَسْبِهِ كان كَسْبُ وَلَدِهِ كَكَسْبِهِ وَكَسْبُ كَسْبِ
الْإِنْسَانِ كَسْبُهُ كَكَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فيه
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَلَدِ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ
أَوْلَادَهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ } أَيْ رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ كان
الْمُرَادُ من الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ الْمُنْقَضِيَاتِ
الْعِدَّةِ فَفِيهَا إيجَابُ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ على الْمَوْلُودِ له وهو الْأَبُ
لِأَجْلِ الْوَلَدِ كما في قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَإِنْ كان الْمُرَادُ منهن الْمَنْكُوحَاتِ أو
الْمُطَلَّقَاتِ الْمُعْتَدَّاتِ فَإِنَّمَا ذَكَرَ النَّفَقَةَ وَالْكِسْوَةَ في
حَالِ الرَّضَاعِ وَإِنْ كانت الْمَرْأَةُ تَسْتَوْجِبُ ذلك من غَيْرِ وَلَدٍ
لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى فَضْلِ إطْعَامٍ وَفَضْلِ كِسْوَةٍ لِمَكَانِ
الرَّضَاعِ
أَلَا تَرَى أَنَّ لها أَنْ تُفْطِرَ لِأَجْلِ الرَّضَاعِ إذَا كانت صَائِمَةً
لِزِيَادَةِ حَاجَتِهَا إلَى الطَّعَامِ بِسَبَبِ
____________________
(4/30)
الْوَلَدِ
وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عِنْدَ الْحَاجَةَ من بَابِ إحْيَاءِ الْمُنْفَقِ عليه
وَالْوَلَدُ جُزْءُ الْوَالِدِ وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ كَذَا إحْيَاءُ
جُزْئِهِ وَاعْتِبَارُ هذا الْمَعْنَى يُوجِبُ النَّفَقَةَ من الْجَانِبَيْنِ
وَلِأَنَّ هذه الْقَرَابَةَ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ
بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِنْفَاقُ من بَابِ الصِّلَةِ فَكَانَ وَاجِبًا وَتَرْكُهُ مع
الْقُدْرَةِ لِلْمُنْفِقِ وَتَحَقُّقِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عليه يُؤَدِّي إلَى
الْقَطْعِ فَكَانَ حَرَامًا
وَاخْتُلِفَ في وُجُوبِهَا في الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلنِّكَاحِ سِوَى
قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ قال أَصْحَابُنَا تَجِبُ وقال مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا
تَجِبُ غير أَنَّ مَالِكًا يقول لَا نَفَقَةَ إلَّا على الْأَبِ لِلِابْنِ
وَالِابْنِ لِلْأَبِ حتى قال لَا نَفَقَةَ على الْجَدِّ لِابْنِ الِابْنِ وَلَا
على ابْنِ الِابْنِ لِلْجَدِّ
وقال الشَّافِعِيُّ تَجِبُ على الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ وَالْكَلَامُ في
هذه الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً على أَنَّ هذه الْقَرَابَةَ مُفْتَرَضَةُ الْوَصْلِ
مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ عِنْدَنَا خِلَافًا لَهُمَا
وَعَلَى هذا ينبغي ( ( ( ينبني ) ) ) الْعِتْقُ عِنْدَ الْمِلْكِ وَوُجُوبُ
الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْعَتَاقِ نَذْكُرُهَا هُنَاكَ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ثُمَّ الْكَلَامُ في الْمَسْأَلَةِ على سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ احْتَجَّ
الشَّافِعِيُّ فقال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ النَّفَقَةَ على الْأَبِ لَا
غَيْرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } فَمَنْ كان مِثْلَ حَالِهِ في الْقُرْبِ
يَلْحَقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا وَلَا يُقَالُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قال { وَعَلَى
الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك } لِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه صَرَفَ قَوْلَهُ
ذلك إلَى تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَا إلَى النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ فَكَانَ
مَعْنَاهُ لَا يُضَارُّ للوارث ( ( ( الوارث ) ) ) بِالْيَتِيمِ كما لَا تُضَارُّ
الْوَالِدَةُ وَالْمَوْلُودُ له بِوَلَدِهِمَا
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك } وروى عن عُمَرَ بن
الْخَطَّابِ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنهما وَجَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ
أَنَّهُ مَعْطُوفٌ على النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ لَا غَيْرُ لَا على تَرْكِ
الْمُضَارَّةِ مَعْنَاهُ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ما على الْمَوْلُودِ له من
النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَمِصْدَاقُ هذا التَّأْوِيلِ أَنَّهُ لو جُعِلَ
عَطْفًا على هذا لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ على الِاسْمِ وأنه شَائِعٌ وَلَوْ عُطِفَ
على تَرْكِ الْمُضَارَّةِ لَكَانَ عَطْفَ الِاسْمِ على الْفِعْلِ فَكَانَ
الْأَوَّلُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ لو جُعِلَ عَطْفًا على قَوْلِهِ لَا تُضَارَّ
لَكَانَ من حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ وَالْوَارِثُ مِثْلُ ذلك وَجَمَاعَةٌ من
أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَطَفُوا على الْكُلِّ من النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَتَرْكِ
الْمُضَارَّةِ
لِأَنَّ الْكَلَامَ كُلَّهُ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ على بَعْضٍ بِحَرْفِ الْوَاوِ وأنه
حَرْفُ جَمْعٍ فَيَصِيرُ الْكُلُّ مَذْكُورًا في حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْصَرِفُ
قَوْلُهُ ذلك إلَى الْكُلِّ أَيْ على الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك من النَّفَقَةِ
وَالْكِسْوَةِ وَأَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا وَلَا تُضَارُّهُ في النَّفَقَةِ
وَغَيْرِهَا وَبِهِ تَبَيَّنَ رُجْحَانُ هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ على تَأْوِيلِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما على أَنَّ ما قَالَهُ ابن عَبَّاسٍ وَمَنْ
تَابَعَهُ لَا يَنْفِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ على الْوَارِثِ بَلْ يُوجِبُ لِأَنَّ
قَوْله تَعَالَى { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } نهى سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى عن الْمُضَارَّةِ مُطْلَقًا في النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا
فإذا كان مَعْنَى إضْرَارِ الْوَالِدِ الْوَالِدَةَ بِوَلَدِهَا بِتَرْكِ
الْإِنْفَاقِ عليها أو بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ منها وقد أُمِرَ الْوَارِثُ
بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك } أَنَّهُ لَا يُضَارُّهَا
فَإِنَّمَا يَرْجِعُ ذلك إلَى مِثْلِ ما لَزِمَ الْأَبَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ
يَجِبَ على الْوَارِثِ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الْوَالِدَةَ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا وَلَا
يُخْرِجُ الْوَلَدَ من يَدِهَا إلَى يَدِ غَيْرِهَا إضْرَارًا بها
وإذا ثَبَتَ هذا فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ
على كل وَارِثٍ أو على مُطْلَقِ الْوَارِثِ إلَّا من خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَأَمَّا الْقَرَابَةُ التي ليست بِمُحَرِّمَةٍ لِلنِّكَاحِ فَلَا نَفَقَةَ فيها
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِابْنِ أبي لَيْلَى
وَاحْتَجَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك } من
غَيْرِ فَصْلٍ بين وَارِثٍ وَوَارِثٍ وأنا نَقُولُ الْمُرَادُ من الْوَارِثِ
الْأَقَارِبُ الذي له رَحِمٌ مَحْرَمٌ لَا مُطْلَقُ الْوَارِثِ
عَرَفْنَا ذلك بِقِرَاءَةِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه على ( ( (
وعلى ) ) ) الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذلك وَلِأَنَّ وُجُوبَهَا
في الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَعْلُولًا بِكَوْنِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ صِيَانَةً لها
عن الْقَطِيعَةِ فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهَا بِقَرَابَةٍ يَجِبُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ
قَطْعُهَا ولم تُوجَدْ فَلَا تَجِبُ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَ
الْمِلْكِ وَلَا يَحْرُمُ النِّكَاحُ وَلَا يُمْنَعُ وُجُوبُ الْقَطْعِ
بِالسَّرِقَةِ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ أَمَّا نَفَقَةُ الْوِلَادَةِ
فَسَبَبُ وُجُوبِهَا هو الْوِلَادَةُ لِأَنَّ بِهِ تَثْبُتُ الْجُزْئِيَّةُ
وَالْبَعْضِيَّةُ وَالْإِنْفَاقُ على الْمُحْتَاجِ إحْيَاءٌ له وَيَجِبُ على
الْإِنْسَانِ إحْيَاءُ كُلِّهِ وَجُزْئِهِ وَإِنْ شِئْت قُلْت سَبَبُ نَفَقَةِ
الْأَقَارِبِ في الولاد ( ( ( الولادة ) ) ) وَغَيْرِهَا من الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
هو الْقَرَابَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقَطْعِ لِأَنَّهُ إذَا حَرُمَ قَطْعُهَا
يَحْرُمُ كُلُّ سَبَبٍ مُفْضٍ إلَى الْقَطْعِ وَتَرْكُ الْإِنْفَاقِ من ذِي
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مع قُدْرَتِهِ وَحَاجَةِ المنفق عليه تفضي إلى القطع وترك
الإنفاق من ذي الرحم المحرم مع قدرته وحاجة الْمُنْفَقِ عليه تُفْضِي إلَى قَطْعِ
الرَّحِمِ فَيَحْرُمُ التَّرْكُ وإذا حَرُمَ التَّرْكُ وَجَبَ الْفِعْلُ ضَرُورَةً
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ الْحَالُ في الْقَرَابَةِ الْمُوجِبَةِ لِلنَّفَقَةِ
لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت حَالَ الإنفراد وأما إنْ كانت حَالَ
____________________
(4/31)
الِاجْتِمَاعِ
فَإِنْ كانت حَالَ الِانْفِرَادِ بِأَنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ مِمَّنْ تَجِبُ عليه
النَّفَقَةُ إلَّا وَاحِدًا تَجِبُ كُلُّ النَّفَقَةِ عليه عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ
شَرَائِطِ الْوُجُوبِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ كل النَّفَقَةِ عليه وهو الولاد (
( ( الولادة ) ) ) وَالرَّحِمُ الْمَحْرَمُ وَشَرْطُهُ من غَيْرِ مُزَاحِمٍ وَإِنْ
كانت حَالَ الِاجْتِمَاعِ فَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ الْأَقْرَبُ
وَالْأَبْعَدُ فَالنَّفَقَةُ على الْأَقْرَبِ في قَرَابَةِ الولاد ( ( ( الولادة )
) ) وَغَيْرِهَا من الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنْ اسْتَوَيَا في الْقُرْبِ فَفِي
قَرَابَةِ الولاد ( ( ( الولادة ) ) ) يُطْلَبُ التَّرْجِيحُ من وَجْهٍ آخَرَ
وَتَكُونُ النَّفَقَةُ على من وُجِدَ في حَقِّهِ نَوْعُ رُجْحَانٍ فَلَا
تَنْقَسِمُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَإِنْ كان كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثًا وَإِنْ لم يُوجَدْ التَّرْجِيحُ فَالنَّفَقَةُ
عَلَيْهِمَا على قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا وَأَمَّا في غَيْرِهَا من الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ فَإِنْ كان الْوَارِثُ أَحَدَهُمَا وَالْآخَرُ مَحْجُوبًا
فَالنَّفَقَةُ على الْوَارِثِ وَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا وَإِنْ كان كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ الْمِيرَاثِ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَقَةَ في قَرَابَةِ الولاد ( ( ( الولادة )
) ) تَجِبُ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ لَا بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } عَلَّقَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَهَا بِاسْمِ الْوِلَادَةِ وفي غَيْرِهَا من
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ تَجِبُ بِحَقِّ الوارثة ( ( ( الوراثة ) ) ) لِقَوْلِهِ عز
وجل { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك } عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الِاسْتِحْقَاقَ
بِالْإِرْثِ فَتَجِبُ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا إنَّ من
أَوْصَى لِوَرَثَةِ فُلَانٍ وَلَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ فَالْوَصِيَّةُ بَيْنَهُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَلَوْ أَوْصَى لِوَلَدِ فُلَانٍ كان
الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فيه سَوَاءً فَدَلَّ بِهِ ما ذَكَرْنَا
وَبَيَانُ هذا الْأَصْلِ إذَا كان له ابْنٌ وابن ابْنٍ فَالنَّفَقَةُ على الِابْنِ
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَلَوْ كان الِابْنُ مُعْسِرًا وابن الِابْنِ مُوسِرًا
فَالنَّفَقَةُ على الِابْنِ أَيْضًا إذَا لم يَكُنْ زَمِنًا لِأَنَّهُ هو
الْأَقْرَبُ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ النَّفَقَةِ على الْأَبْعَدِ مع قِيَامِ
الْأَقْرَبِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ ابْنَ الِابْنِ بأنه ( ( ( بأن ) ) )
يُؤَدِّيَ عنه على أَنْ يَرْجِعَ عليه إذَا أَيْسَرَ فَيَصِيرُ الْأَبْعَدُ نَائِبًا
عن الْأَقْرَبِ في الْأَدَاءِ وَلَوْ أَدَّى بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لم
يَرْجِعْ وَلَوْ كان له أَبٌ وَجَدٌّ فَالنَّفَقَةُ على الْأَبِ لَا على الْجَدِّ
لِأَنَّ الْأَبَ أَقْرَبُ
وَلَوْ كان الْأَبُ مُعْسِرًا وَالْجَدُّ مُوسِرًا فَنَفَقَتُهُ على الْأَبِ أَيْضًا
إذَا لم يَكُنْ زَمِنًا لَكِنْ يُؤْمَرُ الْجَدُّ بِأَنْ يُنْفِقَ ثُمَّ يَرْجِعَ
على الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ وَلَوْ كان له أَبٌ وابن ابْنٍ فَنَفَقَتُهُ على
الْأَبِ
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان الْأَبُ مُعْسِرًا غير زَمِنٍ وابن
الِابْنِ مُوسِرًا فإنه يُؤَدِّي عن الْأَبِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَرْجِعُ
عليه إذَا أَيْسَرَ
وَلَوْ كان له أَبٌ وَابْنٌ فَنَفَقَتُهُ على الِابْنِ لَا على الْأَبِ وَإِنْ
اسْتَوَيَا في الْقُرْبِ وَالْوِرَاثَةِ ويرجح ( ( ( ويرجع ) ) ) الِابْنُ
بِالْإِيجَابِ عليه لِكَوْنِهِ كَسْبَ الْأَبِ فَيَكُونُ له حَقًّا في كَسْبِهِ
وَكَوْنِ مَالِهِ مُضَافًا إلَيْهِ شَرْعًا لقول ( ( ( لقوله ) ) ) صلى اللَّهُ
عليه وسلم أنت وَمَالُك لِأَبِيك وَلَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ في نَفَقَةِ وَالِدِهِ
أَحَدٌ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا في نَفَقَة وَالِدَتِهِ لِعَدَمِ الْمُشَارَكَةِ في السَّبَبِ وهو
الْوِلَادَةُ وَالِاخْتِصَاصُ بِالسَّبَبِ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ بِالْحُكْمِ
وَكَذَا لَا يُشَارِكُ الْإِنْسَانَ أَحَدٌ في نَفَقَةِ جَدِّهِ وَجَدَّتِهِ
عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ
عِنْدَ عَدَمِهِ وَالْجَدَّةُ تَقُومُ مَقَامَ الْأُمِّ عِنْدَ عَدَمِهَا وَلَوْ
كان له ابْنَانِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا على السَّوَاءِ وَكَذَا إذَا كان له
ابْنٌ وَبِنْتٌ وَلَا يُفَضِّلُ الذَّكَرَ على الْأُنْثَى في النَّفَقَةِ
لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الولاد ( ( ( الولادة ) ) )
وَلَوْ كان له بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَالنَّفَقَةُ على الْبِنْتِ لِأَنَّ الولاد ( ( (
الولادة ) ) ) لها وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تُعْتَبَرُ
بِالْمِيرَاثِ لِأَنَّ الْأُخْتَ تَرِثُ مع الْبِنْتِ وَلَا نَفَقَةَ عليها مع
الْبِنْتِ وَلَا تَجِبُ على الِابْنِ نَفَقَةُ مَنْكُوحَةِ أبيه لِأَنَّهَا
أَجْنَبِيَّةٌ عنه إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مُحْتَاجًا إلَى من يَخْدُمُهُ
فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عليه نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِخِدْمَةِ
الْأَبِ بِنَفْسِهِ أو بِالْأَجِيرِ وَلَوْ كان لِلصَّغِيرِ أَبَوَانِ
فَنَفَقَتُهُ على الْأَبِ لَا على الْأُمِّ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ اسْتَوَيَا في
الْقُرْبِ والولاد ( ( ( والولادة ) ) ) وَلَا يُشَارِكُ الْأَبَ في نَفَقَةِ
وَلَدِهِ أَحَدٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ الْأَبَ بِتَسْمِيَتِهِ
بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا له وَأَضَافَ الْوَلَدَ إلَيْهِ بلام الْمِلْكِ وَخَصَّهُ
بِإِيجَابِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ عليه بِقَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ
له رِزْقُهُنَّ } أَيْ رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ سَمَّى الْأُمَّ
وَالِدَةً وَالْأَبَ مَوْلُودًا له وقال عز وجل { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } خَصَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَبَ بِإِيتَاءِ
أَجْرِ الرَّضَاعِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَكَذَا أَوْجَبَ في الْآيَتَيْنِ كُلَّ
نَفَقَةِ الرَّضَاعِ على الْأَبِ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَلَيْسَ وَرَاءَ الْكُلِّ
شَيْءٌ وَلَا يُقَالُ إنَّ اللَّهَ عز وجل قال { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له
رِزْقُهُنَّ } ثُمَّ قال { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك } وَالْأُمُّ وَارِثَةٌ
فَيَقْتَضِي أَنْ تُشَارِكَ في النَّفَقَةِ كَسَائِرِ الْوَرَثَةِ من الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ وَكَمَنْ قال أَوْصَيْت لِفُلَانٍ من مَالِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
وَأَوْصَيْت لِفُلَانٍ مِثْلَ ذلك ولم تَخْرُجْ الْوَصِيَّتَانِ من الثُّلُثِ
أَنَّهُمَا يَشْتَرِكَانِ فيه كَذَا هذا لِأَنَّا نَقُولُ لَمَّا جَعَلَ اللَّهُ
عز وجل كُلَّ النَّفَقَةِ على الْأَبِ بِقَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له
رِزْقُهُنَّ } تَعَذَّرَ إيجَابُهَا على الْأُمِّ
____________________
(4/32)
حَالَ
قِيَامِ الْأَبِ فَيُحْمَلُ على حَالِ عَدَمِهِ لِيَكُونَ عَمَلًا بِالنَّصِّ من
كل وَجْهٍ في الْحَالَيْنِ ولم يُوجَدْ مِثْلُ هذا في سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ وفي بَابِ الْوَصِيَّةِ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ من
الْوَصِيَّتَيْنِ في حَالَيْنِ وقد ضَاقَ الْمَحَلُّ عن قَبُولِهِمَا في حَالَةٍ
وَاحِدَةٍ فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالشَّرِكَةِ ضَرُورَةً
وَلَوْ كان الْأَبُ مُعْسِرًا غير عَاجِزٍ عن الْكَسْبِ وَالْأُمُّ مُوسِرَةً
فَالنَّفَقَةُ على الْأَبِ لَكِنْ تُؤْمَرُ الْأُمُّ بِالنَّفَقَةِ ثُمَّ تَرْجِعُ
بها على الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ لِأَنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ إذَا
أَنْفَقَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي وَلَوْ كان لِلصَّغِيرِ أَبٌ وَأُمُّ أُمٍّ
فَالنَّفَقَةُ على الْأَبِ وَالْحَضَانَةُ على الْجَدَّةِ لِأَنَّ الْأُمَّ لَمَّا
لم تُشَارِكْ الْأَبَ في نَفَقَةِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ مع قُرْبِهَا فَالْجَدَّةُ
مع بُعْدِهَا أَوْلَى
هذا إذَا كان الْوَلَدُ صَغِيرًا فَقِيرًا وَلَهُ أَبَوَانِ موسوران ( ( ( موسران
) ) ) فَأَمَّا إذَا كان كَبِيرًا وهو ذَكَرٌ فَقِيرٌ عَاجِزٌ عن الْكَسْبِ فَقَدْ
ذُكِرَ في كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ نَفَقَتَهُ أَيْضًا على الْأَبِ خَاصَّةً
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ على الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا على
الْأَبِ وَثُلُثُهَا على الْأُمِّ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا خُصَّ بِإِيجَابِ
النَّفَقَةِ عليه لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْوِلَايَةِ وقد زَالَتْ
وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ فَيَزُولُ الِاخْتِصَاصُ فَتَجِبُ عَلَيْهِمَا على
قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَبِ بِالْإِيجَابِ حَالَ
الصِّغَرِ لِاخْتِصَاصِهِ بِتَسْمِيَتِهِ بِكَوْنِهِ مَوْلُودًا له وَهَذَا
ثَابِتٌ بَعْدَ الْكِبَرِ فَيَخْتَصُّ بِنَفَقَتِهِ كالصغير ( ( ( كالصغر ) ) )
وَاعْتِبَارُ الْوِلَايَةِ وَالْإِرْثِ في هذه النَّفَقَةِ غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّهَا تَجِبُ مع اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا وِلَايَةَ وَلَا إرْثَ عِنْدَ
اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا يُشَارِكُ الْجَدَّ أَحَدٌ في نَفَقَةِ وَلَدِ وَلَدِهِ
عِنْدَ عَدَمِ وَلَدِهِ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ وَلَدِهِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَلَا
يُشَارِكُ الزَّوْجَ في نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ أَحَدٌ لِأَنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ
أَحَدٌ في سَبَبِ وُجُوبِهَا وهو حَقُّ الْحَبْسِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ حتى لو
كان لها زَوْجٌ مُعْسِرٌ وَابْنٌ مُوسِرٌ من غَيْرِ هذا الزَّوْجِ أو أَبٌ مُوسِرٌ
أو أَخٌ مُوسِرٌ فَنَفَقَتُهَا على الزَّوْجِ لَا على الْأَبِ وَالِابْنِ
وَالْأَخِ لَكِنْ يُؤْمَرُ الْأَبُ أو الِابْنُ أو الْأَخُ بِأَنْ يُنْفِقَ عليها
ثُمَّ يَرْجِعَ على الزَّوْجِ إذَا أَيْسَرَ وَلَوْ كان له جَدٌّ وابن ابْنٍ
فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا لأنهما في الْقَرَابَةِ
وَالْوِرَاثَةِ سَوَاءٌ وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا على الْآخَرِ من وَجْهٍ
آخَرَ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ الْمِيرَاثِ السُّدُسُ على الْجَدِّ
وَالْبَاقِي على ابْنِ الِابْنِ كَالْمِيرَاثِ
وَلَوْ كان له أُمٌّ وَجَدٌّ كانت النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا الثُّلُثُ
على الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ على الْجَدِّ على قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا وَكَذَلِكَ
إذَا كان له أُمٌّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو ابن أَخٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ أو
لِأَبٍ أو عَمٌّ لِأُمٍّ وَأَبٍ أو لِأَبٍ كانت النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا
أَثْلَاثًا ثُلُثُهَا على الْأُمِّ وَالثُّلُثَانِ على الْأَخِ وَابْنِ الْأَخِ
وَالْعَمِّ
وَكَذَلِكَ إذَا كان له أَخٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأُخْتٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ كانت
النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا على قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا وَلَوْ كان له أَخٌ
لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخٌ لِأُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا سُدُسُهَا
على الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ أسدادها ( ( ( أسداسها ) ) ) على الْأَخِ لِأَبٍ
وَأُمٍّ
وَلَوْ كان له جَدٌّ وَجَدَّةٌ كانت النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَسْدَاسًا على
قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَوْ كان له عَمٌّ وَعَمَّةٌ فَالنَّفَقَةُ على الْعَمِّ
لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في الْقَرَابَةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقَطْعِ وَالْعَمُّ هو
الْوَارِثُ فَيُرَجَّحُ بِكَوْنِهِ وَارِثًا
وَكَذَلِكَ لو كان له عَمٌّ وَخَالٌ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ كان له عَمَّةٌ
وَخَالَةٌ أو خَالٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا على
الْعَمَّةِ وَالثُّلُثُ على الْخَالِ أو الْخَالَةِ وَلَوْ كان له خَالٌ وابن
عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ على الْخَالِ لَا على ابْنِ الْعَمِّ لِأَنَّهُمَا ما
اسْتَوَيَا في سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو الرَّحِمُ الْمُحَرِّمُ لِلْقَطْعِ إذا
الْخَالُ هو ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ لِلتَّرْجِيحِ
وَالتَّرْجِيحُ يَكُونُ بَعْدَ الِاسْتِوَاءِ في رُكْنِ الْعِلَّةِ ولم يُوجَدْ
وَلَوْ كان له عَمَّةٌ وَخَالَةٌ وابن عَمٍّ فَعَلَى الْخَالَةِ الثُّلُثُ وَعَلَى
الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا في سَبَبِ اسْتِحْقَاقِ الْإِرْثِ
فَيَكُونُ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَا شَيْءَ على ابْنِ
الْعَمِّ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ في حَقِّهِ وهو الْقَرَابَةُ
الْمُحَرِّمَةُ الْقَطْعِ وَلَوْ كان له ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ وابن
عَمٍّ فَالنَّفَقَةُ على الْأَخَوَاتِ على خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ
على الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَسَهْمٌ على الْأُخْتِ لِأُمٍّ وَسَهْمٌ على
الْأُخْتِ لِأَبٍ على قَدْرِ الْمِيرَاثِ وَلَا يُعْتَدُّ بِابْنِ الْعَمِّ في
النَّفَقَةِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ في حَقِّهِ فَيُلْحَقُ
بِالْعَدَمِ كَأَنَّهُ ليس له إلَّا الْأَخَوَاتُ وَمِيرَاثُهُ لَهُنَّ على
خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَذَا النَّفَقَةُ عَلَيْهِنَّ وَلَوْ كان له ثَلَاثَةُ أخوة
مُتَفَرِّقِينَ فَالنَّفَقَةُ على الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ وَعَلَى الْأَخِ
لِلْأُمِّ على قَدْرِ الْمِيرَاثِ أَسْدَاسًا لِأَنَّ الْأَخَ لَا يَرِثُ
مَعَهُمَا فَيُلْحَقُ بِالْعَدَمِ
وَلَوْ كان له عَمٌّ وَعَمَّةٌ وَخَالَةٌ فَالنَّفَقَةُ على الْعَمِّ لِأَنَّ
الْعَمَّ مُسَاوٍ لَهُمَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو الرَّحِمُ المحرم
وَفَضَلَهُمَا بِكَوْنِهِ وَارِثًا إذْ الْمِيرَاثُ له لَا لَهُمَا فَكَانَتْ
النَّفَقَةُ عليه لَا عَلَيْهِمَا وَإِنْ كان الْعَمُّ مُعْسِرًا فَالنَّفَقَةُ
عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ كُلَّ من كان يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ
____________________
(4/33)
وهو
مُعْسِرٌ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ وإذا جُعِلَ كَالْمَيِّتِ كانت النَّفَقَةُ على
الْبَاقِينَ على قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ وَكُلُّ من كان يَحُوزُ بَعْضَ الْمِيرَاثِ
لَا يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ على قَدْرِ مَوَارِيثِ من يَرِثُ
معه بَيَانُ هذا الْأَصْلِ رَجُلٌ مُعْسِرٌ عَاجِزٌ عن الْكَسْبِ وَلَهُ ابْنٌ مُعْسِرٌ
عَاجِزٌ عن الْكَسْبِ أو هو صَغِيرٌ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أخوة مُتَفَرِّقِينَ
فَنَفَقَةُ الْأَبِ على أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَعَلَى أَخِيهِ لِأُمِّهِ
أَسْدَاسًا سُدُسُ النَّفَقَةِ على الْأَخِ لِأُمٍّ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهَا على
الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ على الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً
لِأَنَّ الْأَبَ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَيُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ فَيَكُونُ
نَفَقَةُ الْأَبِ على الْأَخَوَيْنِ على قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا منه وَمِيرَاثِهِمَا
من الْأَبِ هذا فَأَمَّا الِابْنُ فَوَارِثُهُ الْعَمُّ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا
الْعَمُّ لِأَبٍ وَلَا الْعَمُّ لِأُمٍّ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ على عَمِّهِ لِأَبٍ
وَأُمٍّ
وَلَوْ كان لِلرَّجُلِ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ كانت نَفَقَتُهُ
عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهَا على الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ
وَخُمْسٌ على الْأُخْتِ لِأَبٍ وَخُمْسٌ على الْأُخْتِ لِأُمٍّ على قَدْرِ
مَوَارِيثِهِنَّ وَنَفَقَةُ الِابْنِ على عَمَّتِهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهَا
هِيَ الْوَارِثَةُ منه لَا غَيْرُ وَلَوْ كان مَكَانَ الِابْنِ بِنْتٌ
وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَنَفَقَةُ الْأَبِ في الْإِخْوَةِ الْمُتَفَرِّقِينَ
على أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وفي الْأَخَوَاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ على أُخْتِهِ
لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَحُوزُ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فَلَا
حَاجَةَ إلَى أَنْ تُجْعَلَ كَالْمَيِّتَةِ فَكَانَ الْوَارِثُ مَعَهَا الْأَخَ
لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لَا غَيْرُ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لَا غَيْرُ لِأَنَّ
الْأَخَ وَالْأُخْتَ لِأُمٍّ لَا يَرِثَانِ مع الْوَلَدِ وَالْأَخُ لِأَبٍ لَا
يَرِثُ مع الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ لَا تَرِثُ مع الْبِنْتِ وَالْأُخْتِ
لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّ الْأَخَوَاتِ مع الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ وفي الْعَصَبَاتِ
تقدم ( ( ( يقدم ) ) ) الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ
عَلَيْهِمَا
وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْبِنْتِ على الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ أو على الْعَمَّةِ
لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهُمَا وَارِثَاهَا بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
هُنَاكَ لَا يُمْكِنُ الْإِيجَابُ لِلنَّفَقَةِ على الأخوة وَالْأَخَوَاتِ إلَّا
بِجَعْلِ الِابْنِ كَالْمَيِّتِ لِأَنَّهُ يجوز ( ( ( يحوز ) ) ) جَمِيعَ
الْمِيرَاثِ فَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ مَيِّتًا حُكْمًا وَلَوْ كان
الِابْنُ مَيِّتًا كان مِيرَاثُ الْأَبِ لِلْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَلِلْأَخِ
لِأُمٍّ أَسْدَاسًا وَلِلْأَخَوَاتِ أَخْمَاسًا فَكَذَا النَّفَقَةُ وَعَلَى هذا
الْأَصْلِ مَسَائِلُ
فصل وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْمُنْفَقِ عليه خَاصَّةً وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفِقِ خَاصَّةً
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إليهما ( ( ( إليهم ) ) ) وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
غَيْرِهِمَا أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُنْفَقِ عليه خَاصَّةً فَأَنْوَاعٌ
ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا إعْسَارُهُ فَلَا تَجِبُ لِمُوسِرٍ على غَيْرِهِ نَفَقَةٌ في
قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَغَيْرِهَا من الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا
مَعْلُولٌ بِحَاجَةِ الْمُنْفَقِ عليه فَلَا تَجِبُ لِغَيْرِ الْمُحْتَاجِ
وَلِأَنَّهُ إذَا كان غَنِيًّا لَا يَكُونُ هو بِإِيجَابِ النَّفَقَةِ له على
غَيْرِهِ أَوْلَى من الْإِيجَابِ لِغَيْرِهِ عليه فَيَقَعُ التَّعَارُضُ
فَيَمْتَنِعُ الْوُجُوبُ بَلْ إذَا كان مستغني بِمَالِهِ كان إيجَابُ النَّفَقَةِ
في مَالِهِ أَوْلَى من إيجَابِهَا في مَالِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ
الزَّوْجَاتِ إنها تَجِبُ لِلزَّوْجَةِ الْمُوسِرَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ تِلْكَ
النَّفَقَةِ لَا يَتْبَعُ الْحَاجَةَ بَلْ لها شَبَهٌ بِالْأَعْوَاضِ فَيَسْتَوِي
فيها الْمُعْسِرَةُ وَالْمُوسِرَةُ كَثَمَنِ الْبَيْعِ وَالْمَهْرِ
وَاخْتُلِفَ في حَدِّ الْمُعْسِرِ الذي يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ قِيلَ هو الذي
يَحِلُّ له أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَلَا تَجِبُ عليه الزَّكَاةُ وَقِيلَ هو
الْمُحْتَاجُ وَلَوْ كان له مَنْزِلٌ وَخَادِمٌ هل يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ على
قَرِيبِهِ الْمُوسِرِ فيه اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ في رِوَايَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ
حتى لو كان أُخْتًا لَا يُؤْمَرُ الْأَخُ بِالْإِنْفَاقِ عليها وَكَذَلِكَ إذَا
كانت بِنْتًا له أو أُمًّا وفي رِوَايَةٍ يَسْتَحِقُّ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ
الْمُحْتَاجِ وَهَؤُلَاءِ غَيْرُ مُحْتَاجِينَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ الِاكْتِفَاءُ
بِالْأَدْنَى بِأَنْ يَبِيعَ بَعْضَ الْمَنْزِلِ أو كُلَّهُ وَيَكْتَرِيَ
مَنْزِلًا فَيَسْكُنَ بِالْكِرَاءِ أو يَبِيعَ الْخَادِمَ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ بَيْعَ الْمَنْزِلِ لَا يَقَعُ إلَّا
نَادِرًا وَكَذَا يُمْكِنُ لِكُلِّ أَحَدٍ السُّكْنَى بِالْكِرَاءِ أو
بِالْمَنْزِلِ الْمُشْتَرَكِ وَهَذَا هو الصَّوَابُ أَنْ لَا يُؤْمَرَ أَحَدٌ
بِبَيْعِ الدَّارِ بَلْ يُؤْمَرُ الْقَرِيبُ بِالْإِنْفَاقِ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِهَؤُلَاءِ وَلَا يُؤْمَرُونَ بِبَيْعِ
الْمَنْزِلِ ثُمَّ الْوَلَدُ للصغير ( ( ( الصغير ) ) ) إذَا كان له مَالٌ حتى
كانت نَفَقَتُهُ في مَالِهِ لَا على الْأَبِ وَإِنْ كان الْأَبُ مُوسِرًا فَإِنْ
كان الْمَالُ حَاضِرًا في يَدِ الْأَبِ أَنْفَقَ منه عليه وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْهِدَ
على ذلك إذْ لو لم يُشْهِدْ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُنْكِرَ الصَّبِيُّ إذَا
بَلَغَ فيقول لِلْأَبِ إنَّك أَنْفَقْت من مَالِ نَفْسِك لَا من مَالِي
فَيُصَدِّقُهُ الْقَاضِي لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الرَّجُلَ الْمُوسِرَ يُنْفِقُ
على وَلَدِهِ من مَالِ نَفْسِهِ وَإِنْ كان لِوَلَدِهِ مَالٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ
شَاهِدًا لِلْوَلَدِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْأَبِ وَإِنْ كان الْمَالُ غَائِبًا
يُنْفِقُ من مَالِ نَفْسِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي إيَّاهُ بِالْإِنْفَاقِ لِيَرْجِعَ
أو يُشْهِدَ على أَنَّهُ يُنْفِقُ من مَالِ نَفْسِهِ لِيَرْجِعَ بِهِ في مَالِ
وَلَدِهِ لِيُمْكِنَهُ الرُّجُوعُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ
الْإِنْسَانَ يَتَبَرَّعُ بِالْإِنْفَاقِ من مَالِ نَفْسِهِ على وَلَدِهِ فإذا
أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ من مَالِهِ لِيَرْجِعَ أو أَشْهَدَ
____________________
(4/34)
على
أَنَّهُ يُنْفِقُ لِيَرْجِعَ فَقَدْ بَطَلَ الظَّاهِرُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ
إنَّمَا أَنْفَقَ من مَالِهِ على طَرِيقِ الْقَرْضِ وهو يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ
من الصَّبِيِّ فَيُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ وَهَذَا في الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَيَسَعُهُ أَنْ يَرْجِعَ من غَيْرِ أَمْرِ
الْقَاضِي وَالْإِشْهَادِ بَعْدَ أَنْ نَوَى بِقَلْبِهِ أَنَّهُ يُنْفِقُ
لِيَرْجِعَ لِأَنَّهُ إذَا نَوَى صَارَ ذلك دَيْنًا على الصَّغِيرِ وهو يَمْلِكُ
إثْبَاتَ الدَّيْنِ عليه لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إقْرَاضَ مَالِهِ منه وَاَللَّهُ عز
وجل عَالِمٌ بِنِيَّتِهِ فَجَازَ له الرُّجُوعُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي عَجْزُهُ عن الْكَسْبِ بِأَنْ كان بِهِ زَمَانَةٌ أو قَعَدٌ أو فَلَجٌ
أو عَمًى أو جُنُونٌ أو كان مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أو أَشَلَّهُمَا أو مَقْطُوعَ
الرِّجْلَيْنِ أو مَفْقُوءَ الْعَيْنَيْنِ أو غير ذلك من الْعَوَارِضِ التي
تَمْنَعُ الْإِنْسَانَ من الِاكْتِسَابِ حتى لو كان صَحِيحًا مُكْتَسِبًا لَا يقضي
له بِالنَّفَقَةِ على غَيْرِهِ
وَإِنْ كان مُعْسِرًا إلَّا لِلْأَبِ خَاصَّةً وَالْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِهِ فإنه
يقضي بِنَفَقَةِ الْأَبِ وَإِنْ كان قَادِرًا على الْكَسْبِ بَعْدَ أَنْ كان
مُعْسِرًا على وَلَدِهِ الْمُوسِرِ وَكَذَا نَفَقَةُ الْجَدِّ على وَلَدِ وَلَدِهِ
إذَا كان مُوسِرًا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنْفَقَ عليه إذَا كان
قَادِرًا على الْكَسْبِ كان مستغنيا ( ( ( مستغنى ) ) ) بِكَسْبِهِ فَكَانَ
غِنَاهُ بِكَسْبِهِ كَغِنَاهُ بِمَالِهِ فَلَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ على غَيْرِهِ
إلَّا الْوَلَدَ لِأَنَّ الشَّرْعَ نهى الْوَلَدَ عن إلْحَاقِ أَدْنَى الْأَذَى
بِالْوَالِدَيْنِ وهو التَّأْفِيفُ بِقَوْلِهِ عز وجل { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا
أُفٍّ } وَمَعْنَى الْأَذَى في إلْزَامِ الْأَبِ الْكَسْبَ مع غِنَى الْوَلَدِ
أَكْثَرُ فَكَانَ أَوْلَى بِالنَّهْيِ ولم يُوجَدْ ذلك في الِابْنِ وَلِهَذَا لَا
يُحْبَسُ الرَّجُلُ بِدَيْنِ ابْنِهِ وَيُحْبَسُ بِدَيْنِ أبيه وَلِأَنَّ
الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الِابْنِ إلَى الْأَبِ بلام الْمِلْكِ فَكَانَ مَالُهُ
كَمَالِهِ وَكَذَا هو كَسْبُ كَسْبِهِ فَكَانَ كَكَسْبِهِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ
فيه
وَالثَّالِثُ أَنَّ الطَّلَبَ وَالْخُصُومَةَ بين يَدَيْ الْقَاضِي في أَحَدِ
نَوْعَيْ النَّفَقَةِ وَهِيَ نَفَقَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ فَلَا تَجِبُ بِدُونِهِ
لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَضَاءُ لَا بُدَّ له من
الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى المتفق ( ( ( المنفق ) ) ) خَاصَّةً فَيَسَارُهُ في
قَرَابَةِ غَيْرِ الْوِلَادِ من الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا يَجِبُ على غَيْرِ
الْمُوسِرِ في هذه الْقَرَابَةِ نَفَقَةٌ وَإِنْ كان قَادِرًا على الْكَسْبِ
لِأَنَّ وُجُوبَ هذه النَّفَقَةِ من طَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ تَجِبُ على الْأَغْنِيَاءِ
لَا على الْفُقَرَاءِ وإذا كان يَسَارُ الْمُنْفِقِ شَرْطَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ
عليه في قَرَابَةِ ذِي الرَّحِمِ فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ حَدِّ الْيَسَارِ الذي
يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُوبُ هذه النَّفَقَةِ
رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فيه أَنَّهُ اعْتَبَرَ نِصَابَ الزَّكَاةِ
قال ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ سَمِعْت أَبَا يُوسُفَ قال لَا أُجْبِرُ على
نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ من لم يَكُنْ معه ما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ
وَلَوْ كان معه مِائَتَا دِرْهَمٍ إلَّا دِرْهَمًا وَلَيْسَ له عِيَالٌ وَلَهُ
أُخْتٌ مُحْتَاجَةٌ لم أُجْبِرْهُ على نَفَقَتِهَا وَإِنْ كان يَعْمَلُ بيده
وَيَكْتَسِبُ في الشَّهْرِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال إذَا كان له نَفَقَةُ شَهْرٍ وَعِنْدَهُ
فَضْلٌ عن نَفَقَةِ شَهْرٍ له وَلِعِيَالِهِ أُجْبِرُهُ على نَفَقَةِ ذِي
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
قال مُحَمَّدٌ وَأَمَّا من لَا شَيْءَ له وهو يَكْتَسِبُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا
يَكْتَفِي منه بِأَرْبَعَةِ دَوَانِيقَ فإنه يَرْفَعُ لِنَفْسِهِ وَلِعِيَالِهِ ما
يَتَّسِعُ بِهِ وَيُنْفِقُ فَضْلَهُ على من يُجْبَرُ على نَفَقَتِهِ
وَجْهُ رِوَايَةِ هِشَامٍ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ من كان عِنْدَهُ كِفَايَةُ شَهْرٍ
فما زَادَ عليها فَهُوَ غَنِيٌّ عنه في الْحَالِ وَالشَّهْرُ يَتَّسِعُ
لِلِاكْتِسَابِ فَكَانَ عليه صَرْفُ الزِّيَادَةِ إلَى أَقَارِبِهِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ
إنَّمَا تَجِبُ على الْأَغْنِيَاءِ كَالصَّدَقَةِ وَحَدُّ الغنا في الشَّرِيعَةِ
ما تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ وما قَالَهُ مُحَمَّدٌ أَوْفَقُ وهو أَنَّهُ إذَا كان له
كَسْبٌ دَائِمٌ وهو غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى جَمِيعِهِ فما زَادَ على كِفَايَتِهِ
يَجِبُ صَرْفُهُ إلَى أَقَارِبِهِ كَفَضْلِ مَالِهِ إذَا كان له مَالٌ وَلَا
يُعْتَبَرُ النِّصَابُ لِأَنَّ النِّصَابَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ في وُجُوبِ حُقُوقِ
اللَّهِ تَعَالَى الْمَالِيَّةِ وَالنَّفَقَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا مَعْنَى
لِلِاعْتِبَارِ بِالنِّصَابِ فيها وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فيها إمْكَانُ الْأَدَاءِ
وَلَوْ طَلَبَ الْفَقِيرُ الْعَاجِزُ عن الْكَسْبِ من ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
منه نَفَقَةً فقال أنا فَقِيرٌ وَادَّعَى هو أَنَّهُ غَنِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو الْفَقْرُ والغنا ( ( ( والغنى ) ) ) عَارِضٌ
فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَمُحَمَّدٌ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْفَرْقُ له أَنَّ الْإِقْدَامَ على النِّكَاحِ
دَلِيلُ الْقُدْرَةِ فَبَطَلَتْ شَهَادَةُ الظَّاهِرِ
وَأَمَّا قَرَابَةُ الْوِلَادِ فَيُنْظَرُ إنْ كان الْمُنْفِقُ هو الْأَبَ فَلَا
يُشْتَرَطُ يَسَارُهُ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ عليه بَلْ قُدْرَتُهُ على الْكَسْبِ
كَافِيَةٌ حتى تَجِبَ عليه النَّفَقَةُ على أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ وَالْكِبَارِ
الذُّكُورِ الزَّمْنَى الْفُقَرَاءِ وَالْإِنَاثِ الْفَقِيرَاتِ وَإِنْ كُنَّ
صَحِيحَاتٍ وَإِنْ كان مُعْسِرًا بَعْدَ أَنْ كان قَادِرًا على الْكَسْبِ لِأَنَّ
الْإِنْفَاقَ عليهم عِنْدَ حَاجَتِهِمْ وَعَجْزِهِمْ عن الْكَسْبِ إحْيَاؤُهُمْ
وَإِحْيَاؤُهُمْ إحْيَاءُ نَفْسِهِ لِقِيَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ
وَإِحْيَاءُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ وَلَوْ كان لهم جَدٌّ مُوسِرٌ لم يُفْرَضْ
النَّفَقَةُ على الْجَدِّ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ
____________________
(4/35)
الْجَدُّ
بِالْإِنْفَاقِ عليهم عِنْدَ حَاجَتِهِمْ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ على ابْنِهِ لِأَنَّ
النَّفَقَةَ لَا تَجِبُ على الْجَدِّ مع وُجُودِ الْأَبِ إذَا كان الْأَبُ
قَادِرًا على الْكَسْبِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه نَفَقَةُ ابْنِهِ فَنَفَقَةُ أَوْلَادِهِ
أَوْلَى
وَإِنْ لم يَكُنْ الْأَبُ قَادِرًا على الْكَسْبِ بِأَنْ كان زَمِنًا قضى بِنَفَقَتِهِمْ
على الْجَدِّ لِأَنَّ عليه نَفَقَةَ أَبِيهِمْ فَكَذَا نَفَقَتُهُمْ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال في صَغِيرٍ له وَالِدٌ مُحْتَاجٌ وهو زَمِنٌ
فُرِضَتْ نَفَقَتُهُ على قَرَابَتِهِ من قِبَلِ أبيه دُونَ قَرَابَتِهِ من قِبَلِ
أُمِّهِ كُلُّ من أَجْبَرْته على نَفَقَةِ الْأَبِ أَجْبَرْته على نَفَقَةِ
الْغُلَامِ إذَا كان زَمِنًا لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كان زَمِنًا كانت نَفَقَتُهُ
على قَرَابَتِهِ فَكَذَا نَفَقَةُ وَلَدِهِ لِأَنَّهُ جُزْؤُهُ قال فَإِنْ لم
يَكُنْ له قَرَابَةٌ من قِبَلِ أبيه قَضَيْت بِنَفَقَتِهِ على أبيه وَأَمَرْت
الْخَالَ أَنْ يُنْفِقَ عليه وَيَكُونَ ذلك دَيْنًا على الْأَبِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين قَرَابَةِ الْأَبِ وَقَرَابَةِ الْأُمِّ أَنَّ قَرَابَةَ
الْأَبِ تَجِبُ عليهم نَفَقَةُ الْأَبِ إذَا كان زَمِنًا فَكَذَا نَفَقَةُ
وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَأَمَّا قَرَابَةُ الْأُمِّ فَلَا يَجِبُ عليهم نَفَقَةُ
الْأَبِ وَلَا نَفَقَةُ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ في
نَفَقَةِ وَلَدِهِ وَإِنْ كان الْمُنْفِقُ هو الِابْنَ وهو مُعْسِرٌ مُكْتَسِبٌ
يُنْظَرُ في كَسْبِهِ فَإِنْ كان فيه فَضْلٌ عن قُوتِهِ يُجْبَرُ على الْإِنْفَاقِ
على الْأَبِ من الْفَضْلِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ على إحْيَائِهِ من غَيْرِ خَلَلٍ
يَرْجِعُ إلَيْهِ
وَإِنْ كان لَا يَفْضُلُ من كَسْبِهِ شَيْءٌ يُؤْمَرُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ عز وجل أَنْ يُوَاسِيَ أَبَاهُ إذْ لَا يَحْسُنُ أَنْ يَتْرُكَ أَبَاهُ
ضَائِعًا جَائِعًا يَتَكَفَّفُ الناس وَلَهُ كَسْبٌ وَهَلْ يُجْبَرُ على أَنْ
يُنْفِقَ عليه وَتُفْرَضَ عليه النَّفَقَةُ إذَا طَلَبَ الْأَبُ الْفَرْضَ أو
يَدْخُلَ عليه في النَّفَقَةِ إذَا طَلَبَ الْأَبُ ذلك
قال عَامَّةُ الْفُقَهَاءِ إنَّهُ لَا يُجْبَرُ على ذلك وقال بَعْضُهُمْ يُجْبَرُ
عليه وَاحْتَجُّوا بِمَا روى عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لو أَصَابَ
الناس السَّنَةُ لَأَدْخَلْت على أَهْلِ كل بَيْتٍ مِثْلَهُمْ فإن الناس لم
يَهْلِكُوا على أَنْصَافِ بُطُونِهِمْ
وقال النبي طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ أَنَّ الْجَبْرَ على الْإِنْفَاقِ وَالْإِشْرَاكِ في
نَفَقَةِ الْوَلَدِ الْمُعْسِرِ يُؤَدِّي إلَى إعْجَازِهِ عن الْكَسْبِ لِأَنَّ
الْكَسْبَ لَا يَقُومُ إلَّا بِكَمَالِ الْقُوَّةِ وَكَمَالُ الْقُوَّةِ بِكَمَالِ
الْغِذَاءِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ نِصْفَيْنِ لم يَقْدِرْ على الْكَسْبِ وَفِيهِ
خَوْفُ هَلَاكِهِمَا جميعا
وَذَكَرَ في الْكِتَابِ أَرَأَيْت لو كان الِابْنُ يَأْكُلُ من طَعَامِ رَجُلٍ
غَنِيٍّ يُعْطِيهِ كُلَّ يَوْمٍ رَغِيفًا أو رَغِيفَيْنِ أَيُؤْمَرُ الِابْنُ أَنْ
يُعْطِيَ أَحَدَهُمَا أَبَاهُ
قال لَا يُؤْمَرُ بِهِ
وَلَوْ قال الْأَبُ لِلْقَاضِي إنَّ ابْنِي هذا يَقْدِرُ على أَنْ يَكْتَسِبَ ما
يَفْضُلُ عن كَسْبِهِ مِمَّا يُنْفِقُ عَلَيَّ لَكِنَّهُ يَدَعُ الْكَسْبَ عَمْدًا
يَقْصِدُ بِذَلِكَ عُقُوقِي يَنْظُرُ الْقَاضِي في ذلك فَإِنْ كان الْأَبُ
صَادِقًا في مَقَالَتِهِ أَمَرَ الِابْنَ بِأَنْ يَكْتَسِبَ فَيُنْفِقَ على أبيه
وَإِنْ لم يَكُنْ صَادِقًا بِأَنْ عَلِمَ أَنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ على اكْتِسَابِ
زِيَادَةٍ تَرَكَهُ هذا إذَا كان الْوَلَدُ وَاحِدًا فَإِنْ كان له أَوْلَادٌ
صِغَارٌ وَزَوْجَةٌ وَلَا يَفْضُلُ من كَسْبِهِ شَيْءٌ يُنْفِقُ على أبيه فَطَلَبَ
الْأَبُ من الْقَاضِي أَنْ يُدْخِلَهُ في النَّفَقَةِ على عِيَالِهِ يُدْخِلُهُ
الْقَاضِي هَهُنَا لِأَنَّ إدْخَالَ الْوَاحِدِ على الْجَمَاعَةِ لَا يُخِلُّ بِطَعَامِهِمْ
خَلَلًا بَيِّنًا بِخِلَافِ إدْخَالِ الْوَاحِدِ على الْوَاحِدِ هذا إذَا لم
يَكُنْ الْأَبُ عَاجِزًا عن الْكَسْبِ فَأَمَّا إذَا كان عَاجِزًا عنه بِأَنْ كان
زَمِنًا يُشَارِكُ الِابْنَ في قُوتِهِ وَيَدْخُلُ عليه فَيَأْكُلُ معه وَإِنْ لم
يَكُنْ له عِيَالٌ لِأَنَّهُ ليس في الْمُشَارَكَةِ خَوْفُ الْهَلَاكِ وفي تَرْكِ
الْمُشَارَكَةِ خَوْفُ هَلَاكِ الْأَبِ فَتَجِبُ الْمُشَارَكَةُ
وَكَذَلِكَ الْأُمُّ إذَا كانت فَقِيرَةً تَدْخُلُ على ابْنِهَا فَتَأْكُلُ معه
لَكِنْ لَا يُفْرَضُ لَهُمَا عليه نَفَقَةٌ على حِدَةٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا اتِّحَادُ
الدِّينِ في غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادِ من الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَجْرِي
النَّفَقَةُ بين الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ في هذه الْقَرَابَةِ فَأَمَّا في قَرَابَةِ
الْوِلَادِ فَاتِّحَادُ الدِّينِ فيها ( ( ( فيهما ) ) ) ليس بِشَرْطٍ فَيَجِبُ
على الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ آبَائِهِ وَأُمَّهَاتِهِ من أَهْلِ الذِّمَّةِ وَيَجِبُ
على الذِّمِّيِّ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الَّذِينَ أعطى لهم حُكْمُ
الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ أُمِّهِمْ وَنَفَقَةُ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ
الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ هُمْ من أَهْلِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ على ما
نَذْكُرُهُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ هذه النَّفَقَةِ على
طَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا تَجِبُ صِلَةُ رَحِمِ غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ عِنْدَ
اخْتِلَافِ الدِّينِ وَتَجِبُ صِلَةُ رَحِمِ الْوَالِدَيْنِ مع اخْتِلَافِ
الدِّينِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يبتدىء بِقَتْلِ أَخِيهِ
الْحَرْبِيِّ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يبتدىء بِقَتْلِ أبيه الْحَرْبِيِّ وقد قال
سُبْحَانَهُ في الْوَالِدَيْنِ الْكَافِرَيْنِ { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا
مَعْرُوفًا } ولم يَرِدْ مِثْلُهُ في غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ
وَالثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ في قَرَابَةِ الْوِلَادِ بِحَقِّ
الْوِلَادَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوِلَادَةَ تُوجِبُ الْجُزْئِيَّةِ
وَالْبَعْضِيَّةَ بين الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الدِّينِ فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ وَالْوُجُوبُ في
غَيْرِهَا من الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ وَلَا وِرَاثَةَ عِنْدَ
اخْتِلَافِ الدِّينِ
____________________
(4/36)
فَلَا
نَفَقَةَ
وَلَوْ كان لِلْمُسْلِمِ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ ذِمِّيٌّ
فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا على السَّوَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ نَفَقَةَ
الْوِلَادَةِ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ
وَالثَّانِي إتحاد الدَّارِ في غَيْرِ قَرَابَةِ الْوِلَادَةِ من الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ فَلَا تَجْرِي النَّفَقَةُ بين الذِّمِّيِّ الذي في دَارِ
الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ في دَارِ الْحَرْبِ لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
وَلَا بين الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ في دَارِ الْإِسْلَامِ
لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ وَإِنْ كان مُسْتَأْمَنًا في دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ من
أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ لِحَوَائِجَ يَقْضِيهَا ثُمَّ
يَعُودُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يُمَكِّنُهُ من الرُّجُوعِ إلَى دَارِ
الْحَرْبِ وَلَا يُمَكِّنُهُ من إطَالَةِ الْإِقَامَةِ في دَارِ الْإِسْلَامِ
فَاخْتَلَفَ الدَّارَانِ وَكَذَا لَا نَفَقَةَ بين الْمُسْلِمِ الْمُتَوَطِّنِ في
دَارِ الْإِسْلَامِ وَبَيْنَ الْحَرْبِيِّ الذي أَسْلَمَ في دَارِ الْحَرْبِ ولم
يُهَاجِرْ إلَيْنَا لِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَهَذَا ليس بِشَرْطٍ في قَرَابَةِ
الْوِلَادِ
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ هذه النَّفَقَةِ
في هذه الْقَرَابَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا تَجِبُ هذه الصِّلَةُ عِنْدَ
اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَتَجِبُ في قَرَابَةِ الْوِلَادِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْوُجُوبَ هَهُنَا بِحَقِّ الْوِرَاثَةِ وَلَا وِرَاثَةَ
عِنْدَ اخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ وَالْوُجُوبُ هُنَاكَ بِحَقِّ الْوِلَادَةِ وأنه
لَا يَخْتَلِفُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى غَيْرِهِمَا فَقَضَاءُ الْقَاضِي في أَحَدِ نَوْعَيْ
النَّفَقَةِ وَهِيَ نَفَقَةُ غَيْرِ الْوِلَادِ من الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا
تَجِبُ هذه النَّفَقَةُ من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يُشْتَرَطُ ذلك في
نَفَقَةِ الْوِلَادِ حتى تَجِبَ من غَيْرِ قَضَاءٍ كما تَجِبُ نَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ نَفَقَةَ الْوِلَادِ تَجِبُ بِطَرِيقِ الأحياء لِمَا
فيها من دَفْعِ الْهَلَاكِ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ
بين الْمُنْفِقِ وَالْمُنْفَقِ عليه وَيَجِبُ على الْإِنْسَانِ إحْيَاءُ نَفْسِهِ
بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عن نَفْسِهِ وَلَا يَقِفُ وُجُوبُهُ على قَضَاءِ الْقَاضِي
فَأَمَّا نَفَقَةُ سَائِرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَيْسَ وُجُوبُهَا من
طَرِيقِ الأحياء لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ وَإِنَّمَا تَجِبُ صِلَةً
مَحْضَةً فَجَازَ أَنْ يَقِفَ وُجُوبُهَا على قَضَاءِ الْقَاضِي وَبِخِلَافِ
نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِأَنَّ لها شَبَهًا بِالْأَعْوَاضِ فَمِنْ حَيْثُ هِيَ
صِلَةٌ لم تَصِرْ دَيْنًا من غَيْرِ قَضَاءٍ وَرِضًا وَمِنْ حَيْثُ هِيَ عِوَضٌ
تَجِبُ من غَيْرِ قَضَاءٍ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا كان الرَّجُلُ غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَنَّ
الْقَاضِيَ لَا يَأْمُرُ أَحَدًا بِالنَّفَقَةِ من مَالِهِ إلَّا الْأَبَوَيْنِ
الْفَقِيرَيْنِ وَأَوْلَادَهُ الْفُقَرَاءَ الصِّغَارَ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ
وَالْكِبَارَ الذُّكُورَ الْفُقَرَاءَ الْعَجَزَةَ عن الْكَسْبِ وَالْإِنَاثَ
الْفَقِيرَاتِ وَالزَّوْجَةَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ في مَالِهِ إلَّا
لِهَؤُلَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ليس لِغَيْرِهِمْ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ إلَى مَالِهِ
فَيَأْخُذَهُ وَإِنْ كان فَقِيرًا مُحْتَاجًا وَلَهُمْ ذلك فَكَانَ الْأَمْرُ من
الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ من مَالِهِ لِغَيْرِهِمْ قَضَاءً على الْغَائِبِ من
خَصْمٍ غير حَاضِرٍ وَلَا يَكُونُ لهم قَضَاءً بَلْ يَكُونُ إعَانَةً ثُمَّ إنْ
كان الْمَالُ حَاضِرًا عِنْدَ هَؤُلَاءِ وكان النَّسَبُ مَعْرُوفًا أو عَلِمَ
الْقَاضِي بِذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالنَّفَقَةِ منه لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ وَاجِبَةٌ
من غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ الْأَمْرُ من الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ
إعَانَةً لَا قَضَاءً وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِالنَّسَبِ فَطَلَبَ بَعْضُهُمْ أَنْ
يُثْبِتَ ذلك عِنْدَ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ لَا تُسْمَعُ منه الْبَيِّنَةُ
لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ
حَاضِرٌ
وَكَذَلِكَ إنْ كان مَالُهُ وَدِيعَةً عِنْدَ إنْسَانٍ وهو مُقِرٌّ بها أَمَرَهُمْ
الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ منها وَكَذَا إذَا كان له دَيْنٌ على إنْسَانٍ وهو
مُقِرٌّ بِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ دَفَعَ صَاحِبُ الْيَدِ أو الْمَدْيُونُ
إلَيْهِمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي يَضْمَنُ وإذا وَقَعَ بِإِذْنِهِ لَا يَضْمَنُ
وَاسْتَوْثَقَ الْقَاضِي منهم كَفِيلًا إنْ شَاءَ وَكَذَا لَا يَأْمُرُ الْجَدَّ
وَوَلَدَ الْوَلَدِ حَالَ وُجُودِ الْأَبِ وَالْوَلَدِ لِأَنَّهُمَا حَالَ
وُجُودِهِمَا بِمَنْزِلَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَيَأْمُرُهُمَا حَالَ عَدَمِهِمَا
لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ حَالَ عَدَمِهِ وَوَلَدَ الْوَلَدِ
يَقُومُ مَقَامَ الْوَلَدِ حَالَ عَدَمِهِ وَإِنْ كان صَاحِبُ الْيَدِ أو
الْمَدْيُونُ مُنْكِرًا فَأَرَادُوا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ لم يَلْتَفِتْ
الْقَاضِي إلَى ذلك لِمَا ذَكَرْنَا
فَإِنْ أَنْفَقَ الْأَبُ من مَالِ ابْنِهِ ثُمَّ حَضَرَ الِابْنُ فقال لِلْأَبِ
كُنْت مُوسِرًا وقال الْأَبُ كُنْت مُعْسِرًا يُنْظَرُ إلَى حَالِ الْأَبِ وَقْتَ
الْخُصُومَةِ فَإِنْ كان مُعْسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كان مُوسِرًا
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ اسْتِمْرَارُ حَالِ الْيَسَارِ
وَالْإِعْسَارِ وَالتَّغَيُّرُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَيُحَكَّمُ الْحَالُ وَصَارَ
هذا كَالْآجِرِ مع الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا في جَرَيَانِ الْمَاءِ
وَانْقِطَاعِهِ أَنَّهُ بحكم ( ( ( يحكم ) ) ) الْحَالُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الِابْنِ لِأَنَّهَا
تُثْبِتُ أَمْرًا زَائِدًا وهو الْغِنَى هذا إذَا كان الْمَالُ من جِنْسِ
النَّفَقَةِ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَإِنْ
كان من غَيْرِ جِنْسِهَا فَالْقَاضِي لَا يَبِيعُ على الْغَائِبِ الْعَقَارَ
لِأَجْلِ الْقَضَاءِ بِالْإِنْفَاقِ وَكَذَا الْأَبُ إلَّا إذَا كان الْوَلَدُ
صَغِيرًا فَلْيَبِعْ الْعَقَارَ
وَأَمَّا الْعُرُوض فَهَلْ يَبِيعُهَا الْقَاضِي فَالْأَمْرُ فيه على ما ذَكَرْنَا
من الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَهَلْ يَبِيعُهَا الْأَبُ
قال أبو حَنِيفَةَ يَبِيعُ مِقْدَارَ ما يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا الزِّيَادَةَ على
ذلك وهو
____________________
(4/37)
اسْتِحْسَانٌ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَبِيعُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْأُمَّ لَا
تَبِيعُ مَالَ وَلَدِهَا الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَكَذَا الْأَوْلَادُ لَا
يَبِيعُونَ مَالَ الْأَبَوَيْنِ
وَجْهٌ قَوْلِهِمَا وهو الْقِيَاسُ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ على الْوَلَدِ
الْكَبِيرِ فَكَانَ هو وَغَيْرُهُ من الْأَقَارِبِ سَوَاءً وَلِهَذَا لَا يَبِيعُ
الْعَقَارَ وَكَذَا الْعُرُوض
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ في بَيْعِ الْعُرُوضِ نَظَرًا لِلْوَلَدِ الْغَائِبِ
لِأَنَّ الْعُرُوضَ مِمَّا يُخَافُ عليه الْهَلَاكُ فَكَانَ بَيْعُهَا من بَابِ
الْحِفْظِ وَالْأَبُ يَمْلِكُ النَّظَرَ لِوَلَدِهِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَغَيْرِ ذلك
بِخِلَافِ الْعَقَارِ فإنه مَحْفُوظٌ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حِفْظِهِ
بِالْبَيْعِ فَيَبْقَى بَيْعُهُ تَصَرُّفًا على الْوَلَدِ الْكَبِيرِ فَلَا
يَمْلِكُهُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَضَافَ مَالَ الْوَلَدِ إلَى الْوَالِدِ
وَسَمَّاهُ كَسْبًا له فَإِنْ لم يَظْهَرْ ذلك في حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَلَا
أَقَلَّ من أَنْ يَظْهَرَ في وِلَايَةِ بَيْعِ عَرَضِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ من هذه النَّفَقَةِ فَنَفَقَةُ
الْأَقَارِبِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا تَجِبُ
لِلْحَاجَةِ فَتَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ وَكُلُّ من وَجَبَتْ عليه نَفَقَةُ
غَيْرِهِ يَجِبُ عليه له الْمَأْكَلُ وَالْمَشْرَبُ وَالْمَلْبَسُ وَالسُّكْنَى
وَالرَّضَاعُ إنْ كان رَضِيعًا لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِلْكِفَايَةِ وَالْكِفَايَةُ
تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَإِنْ كان لِلْمُنْفَقِ عليه خَادِمٌ
يَحْتَاجُ إلَى خِدْمَتِهِ تُفْرَضُ له أَيْضًا لِأَنَّ ذلك من جُمْلَةِ
الْكِفَايَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا فَهَذِهِ النَّفَقَةُ تَجِبُ على
وَجْهٍ لَا تَصِيرُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ أَصْلًا سَوَاءٌ فَرَضَهَا الْقَاضِي أو
لَا بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ فَإِنَّهَا تَصِيرُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ
بِفَرْضِ الْقَاضِي أو بِالتَّرَاضِي حتى لو فَرَضَ الْقَاضِي لِلْقَرِيبِ
نَفَقَةَ شَهْرٍ فَمَضَى الشَّهْرُ ولم يَأْخُذْ ليس له أَنْ يُطَالِبَهُ بها بَلْ
تَسْقُطُ وفي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا
مَضَى من النَّفَقَةِ في مُدَّةِ الْفَرْضِ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ الْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا في نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ فَيَقَعُ الْفَرْقُ بين النَّفَقَتَيْنِ في
أَشْيَاءَ منها ما وَصَفْنَاهُ آنِفًا أَنَّ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ تَصِيرُ دَيْنًا
بِالْقَضَاءِ أو بِالرِّضَا وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا أَصْلًا
وَرَأْسًا
وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ أو كِسْوَتَهُمْ لَا تَجِبُ لِغَيْرِ
الْمُعْسِرِ وَنَفَقَةُ الزَّوْجَاتِ أو كِسْوَتُهُنَّ تَجِبُ لِلْمُعْسِرَةِ
وَالْمُوسِرَةِ
وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ أو كِسْوَتَهُمْ إذَا هَلَكَتْ قبل مُضِيِّ
مُدَّةِ الْفَرْضِ تَجِبُ نَفَقَةٌ أُخْرَى وَكِسْوَةٌ أُخْرَى وفي نَفَقَةِ
الزَّوْجَاتِ لَا تَجِبُ
وَمِنْهَا أَنَّ نَفَقَةَ الْأَقَارِبِ أو كِسْوَتَهُمْ إذَا تعينت ( ( ( تعيبت )
) ) بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَا تَجِبُ أُخْرَى وفي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ
تَجِبُ وقد مَرَّ الْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ في فَصْلِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا عَجَّلَ نَفَقَةَ مُدَّةٍ في الْأَقَارِبِ فَمَاتَ
الْمُنْفَقُ عليه قبل تَمَامِ الْمُدَّةِ لَا يَسْتَرِدُّ شيئا منها بِلَا خِلَافٍ
وفي نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ خِلَافٌ مُحَمَّدٌ وَيُحْبَسُ في نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
كما يُحْبَسُ في نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ أَمَّا غَيْرُ الْأَبِ فَلَا شَكَّ فيه
وَأَمَّا الْأَبُ فَيُحْبَسُ في نَفَقَةِ الْوَلَدِ أَيْضًا وَلَا يُحْبَسُ في
سَائِرِ دُيُونِهِ لِأَنَّ إيذَاءَ الْأَبِ حَرَامٌ في الْأَصْلِ وفي الْحَبْسِ
إيذَاؤُهُ إلَّا أَنَّ في النَّفَقَةِ ضَرُورَةً وَهِيَ ضَرُورَةُ دَفْعِ
الْهَلَاكِ عن الْوَلَدِ إذْ لو لم يُنْفِقْ عليه لَهَلَكَ فَكَانَ هو
بِالِامْتِنَاعِ من الْإِنْفَاقِ عليه كَالْقَاصِدِ إهْلَاكَهُ فَدُفِعَ قَصْدُهُ
بِالْحَبْسِ وَيَحْمِلُ هذا الْقَدْرَ من الْأَذَى لِهَذِهِ الضَّرُورَةِ وَهَذَا
الْمَعْنَى لم يُوجَدْ في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلِأَنَّ هَهُنَا ضَرُورَةً أُخْرَى
وَهِيَ ضَرُورَةُ اسْتِدْرَاكِ هذا الْحَقِّ أَعْنِي النَّفَقَةَ لِأَنَّهَا
تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الِاسْتِدْرَاكِ
بِالْحَبْسِ لِأَنَّ الْحَبْسَ يَحْمِلُهُ على الْأَدَاءِ فَيَحْصُلُ
الِاسْتِدْرَاكُ وَلَوْ لم يُحْبَسْ يَفُوتُ حَقُّهُ رَأْسًا فَشُرِعَ الْحَبْسُ
في حَقِّهِ لِضَرُورَةِ اسْتِدْرَاكِ الْحَقِّ صِيَانَةً له عن الْفَوَاتِ وَهَذَا
الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في سَائِرِ الدُّيُونِ لِأَنَّهَا لَا تَفُوتُ بِمُضِيِّ
الزَّمَانِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الِاسْتِدْرَاكِ بِالْحَبْسِ وَلِهَذَا قال
أَصْحَابُنَا أن الْمُمْتَنِعَ من النَّفَقَةِ يضرب ( ( ( يضر ) ) ) وَلَا
يُحْبَسُ بِخِلَافِ الْمُمْتَنِعِ من سَائِرِ الْحُقُوقِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
اسْتِدْرَاكُ هذا الْحَقِّ بِالْحَبْسِ لِأَنَّهُ يَفُوتُ بِمُضِيِّ الزَّمَانِ
فَيُسْتَدْرَكُ بِالضَّرْبِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبَ
الْأَبِ وَإِنْ عَلَا لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ الْمُسْقِطِ لها بَعْدَ الْوُجُوبِ فَالْمُسْقِطُ لها
بَعْدَ الْوُجُوبِ هو مُضِيُّ الزَّمَانِ من غَيْرِ قَبْضٍ وَلَا اسْتِدَانَةٍ حتى
لو فَرَضَ الْقَاضِي نَفَقَةَ شَهْرٍ لِلْقَرِيبِ فلم يَقْبِضْ وَلَا اسْتَدَانَ
عليه حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذه
النَّفَقَةَ تَجِبُ صِلَةً مَحْضَةً فَلَا يَتَأَكَّدُ وُجُوبُهَا إلَّا
بِالْقَبْضِ أو ما يَقُومُ مَقَامَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا نَفَقَةُ الرَّقِيقِ فَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ وُجُوبِ هذه النَّفَقَةِ وفي بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِهَا وفي بَيَانِ
شَرْطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ
الْوُجُوبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَوُجُوبُهَا ثَابِتٌ
____________________
(4/38)
بِالْكِتَابِ
وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عز وجل { أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } مَعْطُوفًا
على قَوْلِهِ { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } أَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إلَى
الْمَمَالِيكِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ يُحْمَلُ على الْوُجُوبِ وَالْإِنْفَاقُ عليهم
إحْسَانٌ بِهِمْ فَكَانَ وَاجِبًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَمْرًا
بِالْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ أَمْرًا بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ عليهم لِأَنَّ
الْمَرْءَ لَا يَتْرُكُ أَصْلَ النَّفَقَةِ على مَمْلُوكِهِ إشْفَاقًا على
مِلْكِهِ وقد يُقَتِّرُ في الْإِنْفَاقِ عليه لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا في يَدِهِ
فَأَمَرَ اللَّهُ عز وجل السَّادَاتِ بِتَوْسِيعِ النَّفَقَةِ على مَمَالِيكِهِمْ
شُكْرًا لِمَا أَنْعَمَ عليهم حَيْثُ جَعَلَ من هو من جَوْهَرِهِمْ
وَأَمْثَالِهِمْ في الْخِلْقَةِ خَدَمًا وَخَوَلًا أَذِلَّاءَ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ
يَسْتَخْدِمُونَهُمْ وَيَسْتَعْمِلُونَهُمْ في حَوَائِجِهِمْ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم كان
يُوصِي بِالْمَمْلُوكِ خَيْرًا وَيَقُولُ أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ
وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ ما لَا يُطِيقُونَ فإن
اللَّهَ تَعَالَى يقول { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا }
وَعَنْ أَنَسٍ رضي اللَّهُ عنه قال كان آخِرُ وَصِيَّةِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم حين حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ الصَّلَاةَ وما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَجَعَلَ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُغَرْغِرُ بها في صَدْرِهِ وما يَقْبِضُ بها
لِسَانَهُ
وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَمْلُوكِ وَاجِبَةٌ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ فَلَوْ لم
تُجْعَلْ نَفَقَتُهُ على مَوْلَاهُ لَهَلَكَ
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهَا فَالْمِلْكُ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ
بِالْمَمْلُوكِ انْتِفَاعًا وَتَصَرُّفًا وهو نَفْسُ الْمِلْكِ فإذا كانت
مَنْفَعَتُهُ لِلْمَالِكِ كانت مُؤْنَتُهُ عليه إذْ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ
وَعَلَى هذا يبني أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الْعَبْدِ نَفَقَةُ وَلَدِهِ لِعَدَمِ
الْمِلْكِ لِأَنَّ أُمَّهُ إنْ كانت حُرَّةً فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ كانت مَمْلُوكَةً
فَهُوَ مِلْكُ مَوْلَاهَا فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ على الْمَوْلَى وَلِأَنَّ
الْعَبْدَ لَا مَالَ له بَلْ هو وما في يَدِهِ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى
أَجْنَبِيٌّ عن هذا الْوَلَدِ فَكَيْفَ تَجِبُ النَّفَقَةُ في مَالِ الْغَيْرِ
لِمِلْكِ الْغَيْرِ وَكَذَا لَا يَجِبُ على الْحُرِّ نَفَقَةُ وَلَدِهِ
الْمَمْلُوكِ بِأَنْ تَزَوَّجَ حُرٌّ أَمَةَ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا
لِأَنَّهُ مِلْكُ غَيْرِهِ فَلَا تَجِبُ عليه نَفَقَةُ مَمْلُوكِ غَيْرِهِ وَلَوْ
أَعْتَقَ عَبْدَهُ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ لِبُطْلَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ وهو
الْمِلْكُ ثُمَّ إنْ كان بَالِغًا صَحِيحًا فَنَفَقَتُهُ في كَسْبِهِ وَإِنْ كان
صَغِيرًا أو زَمِنًا قالوا أن نَفَقَتَهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ من
الْمُسْلِمِينَ حُرٌّ عَاجِزٌ لَا يُعْرَفُ له قَرِيبٌ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ
الْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فيه وَكَذَا اللَّقِيطُ إذَا لم يَكُنْ معه
مَالٌ فَنَفَقَتُهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا
وَقَالُوا في الصَّغِيرِ في يَدِ رَجُلٍ قال لِرَجُلٍ هذا عَبْدُك أو دعتنيه
فَجَحَدَ قال مُحَمَّدٌ أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ عز وجل ما أَوْدَعْته فَإِنْ
حَلَفَ قَضَيْت بِنَفَقَتِهِ على الذي هو في يَدِهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِرِقِّهِ
ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ وقد رَدَّ الْغَيْرُ إقْرَارَهُ فَبَقِيَ في يَدِهِ
وَالْيَدُ دَلِيلُ الْمِلْكِ فَيَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ
قال مُحَمَّدٌ وَلَوْ كان كَبِيرًا لم أَسْتَحْلِفْ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّهُ
إذَا كان كَبِيرًا كان في يَدِ نَفْسِهِ وكان دَعْوَاهُ هَدَرًا فَيَقِفُ
الْأَمْرُ على دَعْوَى الْكَبِيرِ فَكُلُّ من ادَّعَى عليه أَنَّهُ عَبْدُهُ
وَصَدَّقَهُ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَوْ كان الْعَبْدُ بين شَرِيكَيْنِ
فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا على قَدْرِ مِلْكَيْهِمَا وَكَذَلِكَ لو كان في
أَيْدِيهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ له وَلَا بَيِّنَةَ
لَهُمَا فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا وَقَالُوا في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بين
اثْنَيْنِ أَتَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَيَانِ أن نَفَقَةَ هذا الْوَلَدِ
عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْوَلَدِ إذَا كَبِرَ نَفَقَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَبٌ كَامِلٌ في حَقِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهَا فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مَمْلُوكَ الْمَنَافِعِ
وَالْمَكَاسِبِ لِلْمَوْلَى فَإِنْ لم يَكُنْ فَلَا تَجِبُ عليه نَفَقَتُهُ
فَيَجِبُ على الْإِنْسَانِ نَفَقَةُ عَبْدِهِ الْقِنِّ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ
الْوَلَدِ لِأَنَّ أَكْسَابَهُمْ مِلْكُ الْمَوْلَى وَلَا تَجِبُ عليه نَفَقَةُ
مُكَاتَبِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكِ الْمَكَاسِبِ لِمَوْلَاهُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ من مَوْلَاهُ فَكَانَ في مَكَاسِبِهِ
كَالْحُرِّ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ في كَسْبِهِ كَالْحُرِّ وَكَذَا مُعْتَقُ
الْبَعْضِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَالْعَبْدُ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ
وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ نَفَقَتُهُ على صَاحِبِ الْخِدْمَةِ لَا على صَاحِبِ
الرَّقَبَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ وَنَفَقَةُ عبد الرَّهْنِ
على الرَّاهِنِ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ وَالْمَنْفَعَةِ له وَنَفَقَةُ عبد
الْوَدِيعَةِ على الْمُودِعِ لِمَا قُلْنَا وَنَفَقَةُ عبد الْعَارِيَّةِ على
الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ في زَمَنِ الْعَارِيَّةِ له إذْ
الْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَنَفَقَةُ عبد الْغَصْبِ قبل الرَّدِّ على
الْغَاصِبِ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ تَحْدُثُ على مِلْكِهِ على بَعْضِ طُرُقِ
أَصْحَابِنَا حتى لو لم تَكُنْ مَضْمُونَةً على الْغَاصِبِ فَكَانَتْ نَفَقَتُهُ
عليه وَلِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ على الْغَاصِبِ وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ عليه لِكَوْنِهَا
من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ وَالنَّفَقَةُ من ضَرُورَاتِ الرَّدِّ لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُهُ إلَّا بِاسْتِبْقَائِهِ وَلَا يَبْقَى عَادَةً إلَّا بِالنَّفَقَةِ
فَكَانَتْ النَّفَقَةُ من مُؤْنَاتِ الرَّدِّ لِكَوْنِهَا من ضَرُورَاتِهِ
فَكَانَتْ على الْغَاصِبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
____________________
(4/39)
فَصْلٌ
وَأَمَّا مِقْدَارُ الْوَاجِبِ منها فَمِقْدَارُ الْكِفَايَةِ لِأَنَّ وُجُوبَهَا
لِلْكِفَايَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ وُجُوبِهَا فَإِنَّهَا تَجِبُ على وَجْهٍ يُجْبَرُ
عليها عِنْدَ الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ في الْجُمْلَةِ بَيَانُ ذلك أَنَّ
الْمَمْلُوكَ إذَا خَاصَمَ مَوْلَاهُ في النَّفَقَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فإن
الْقَاضِيَ يأمر ( ( ( يأمره ) ) ) بِالنَّفَقَةِ عليه فَإِنْ أَبَى يَنْظُرُ
الْقَاضِي فَكُلُّ من يَصْلُحُ لِلْإِجَارَةِ يُؤَاجِرُهُ وَيُنْفِقُ عليه من
أُجْرَتِهِ أو يَبِيعُهُ إنْ كان مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْقِنِّ ورأى الْبَيْعِ
أَصْلَحُ وَلَا يُجْبَرُ على الْإِنْفَاقِ وَإِنْ لم يَصْلُحْ لِلْإِجَارَةِ
بِأَنْ كان صَغِيرًا أو جَارِيَةً وَلَا مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْمُدَبَّرِ
وَأُمِّ الْوَلَدِ يُجْبِرُهُ على الْإِنْفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ
وَلَا إجَارَتُهُ وَتَرْكُهُ جَائِعًا تَضْيِيعٌ إلَى آدَمِيٍّ فَيُجْبَرُ
الْمَوْلَى على الْإِنْفَاقِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا نَفَقَةُ الْبَهَائِمِ فَلَا يُجْبَرُ عليها في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَلَكِنَّهُ يفتي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُنْفِقَ عليها
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ يُجْبَرُ عليها لِأَنَّ في تَرْكِهِ جَائِعًا
تَعْذِيبَ الْحَيَوَانِ بِلَا فَائِدَةٍ وَتَضْيِيعَ الْمَالِ وَنَهَى رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عن ذلك كُلِّهِ وَلِأَنَّهُ سَفَهٌ لِخُلُوِّهِ عن
الْعَاقِبَةِ الْحَمِيدَةِ وَالسَّفَهُ حَرَامٌ عَقْلًا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجَبْرَ على الْحَقِّ يَكُونُ عِنْدَ
الطَّلَبِ وَالْخُصُومَةِ من صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا خَصْمَ فَلَا يُجْبَرُ
وَلَكِنْ تَجِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَا قَالَهُ أبو
يُوسُفَ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْجَمَادَاتِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ فَلَا يُجْبَرُ
عليها لِمَا قُلْنَا وَلَا يفتي أَيْضًا بِالْوُجُوبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان
هُنَاكَ تَضْيِيعَ الْمَالِ فَيُكْرَهُ له ذلك وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الْحَضَانَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ
الْحَضَانَةِ وفي بَيَانِ من له الْحَضَانَةُ وفي بَيَانِ مُدَّةِ الْحَضَانَةِ
وفي بَيَانِ مَكَانِ الْحَضَانَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْحَضَانَةُ في اللُّغَةِ تُسْتَعْمَلُ في مَعْنَيَيْنِ
أَحَدُهُمَا جَعْلُ الشَّيْءِ في نَاحِيَةٍ يُقَالُ حَضَنَ الرَّجُلُ الشَّيْءَ
أَيْ اعْتَزَلَهُ فَجَعَلَهُ في نَاحِيَةٍ منه
وَالثَّانِي الضَّمُّ إلَى الْجَنْبِ يُقَالُ حَضَنْته وَاحْتَضَنْته إذَا
ضَمَمْته إلَى جَنْبِك وَالْحَضْنُ الْجَنْبُ فَحَضَانَةُ الْأُمِّ وَلَدَهَا هِيَ
ضَمُّهَا إيَّاهُ إلَى جَنْبِهَا وَاعْتِزَالُهَا إيَّاهُ من أبيه لِيَكُونَ
عِنْدَهَا فَتَقُومَ بِحِفْظِهِ وَإِمْسَاكِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَلَا تُجْبَرُ
الْأُمُّ على إرْضَاعِهِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ من تُرْضِعُهُ فَتُجْبَرَ عليه
وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ إنْ كانت شَرِيفَةً لم تُجْبَرْ وَإِنْ كانت دَنِيَّةً تُجْبَرْ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ عز وجل { لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ
بِوَلَدِهَا } قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ أَيْ لَا تُضَارَّ
بِإِلْزَامِ الْإِرْضَاعِ مع كَرَاهَتِهَا وَقَوْلِهِ عز وجل في الْمُطَلَّقَاتِ {
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } جَعَلَ تَعَالَى أَجْرَ الرَّضَاعِ
على الْأَبِ لَا على الْأُمِّ مع وُجُودِهَا فَدَلَّ أَنَّ الرَّضَاعَ ليس على
الْأُمِّ
وَقَوْلِهِ عز وجل { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ
بِالْمَعْرُوفِ } أَيْ رِزْقُ الْوَالِدَاتِ الْمُرْضِعَاتِ فَإِنْ أُرِيدَ بِهِ
الْمُطَلَّقَاتُ فَفِيهِ أَنَّهُ لَا إرْضَاعَ على الْأُمِّ حَيْثُ أَوْجَبَ
بَدَلَ الْإِرْضَاعِ على الْأَبِ مع وُجُودِ الْأُمِّ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ
الْمَنْكُوحَاتُ كان الْمُرَادُ منه وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ إيجَابَ زِيَادَةِ
النَّفَقَةِ على الْأَبِ لِلْأُمِّ الْمُرْضِعَةِ لِأَجْلِ الْوَلَدِ وَإِلَّا
فَالنَّفَقَةُ تَسْتَحِقُّهَا الْمَنْكُوحَةُ من غَيْرِ وَلَدٍ وَلِأَنَّ
الْإِرْضَاعَ إنْفَاقٌ على الْوَلَدِ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ يَخْتَصُّ بها
الْوَالِدُ لَا يُشَارِكُهُ فيها الْأُمُّ كَنَفَقَتِهِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ فَكَمَا
لَا تَجِبُ عليها نَفَقَتُهُ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ لَا تَجِبُ عليها قَبْلَهُ
وهو إرْضَاعُهُ
وَهَذَا في الْحُكْمِ
وَأَمَّا في الْفَتْوَى فَتُفْتَى بِأَنَّهَا تُرْضِعُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } قِيلَ في بَعْضِ تَأْوِيلَاتِ الْآيَةِ أَيْ
لَا تُضَارَّ بِوَلَدِهَا بِأَنْ تَرْمِيَهُ على الزَّوْجِ بَعْدَ ما عَرَفَهَا
وَأَلِفَهَا وَلَا تُرْضِعَهُ فَيَتَضَرَّرَ الْوَلَدُ وَمَتَى تَضَرَّرَ
الْوَلَدُ تَضَرَّرَ الْوَالِدُ لِأَنَّهُ يَتَأَلَّمُ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وقد قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا مَوْلُودٌ له بِوَلَدِهِ } أَيْ لَا يُضَارَّ
الْمَوْلُودُ له بِسَبَبِ الْإِضْرَارِ بِوَلَدِهِ كَذَا قِيلَ في بَعْضِ وُجُوهِ
التَّأْوِيلِ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ سَكَنٍ وَازْدِوَاجٍ وَذَلِكَ لَا
يَحْصُلُ إلَّا بِاجْتِمَاعِهِمَا على مَصَالِحِ النِّكَاحِ
وَمِنْهَا إرْضَاعُ الْوَلَدِ فَيُفْتَى بِهِ وَلَكِنَّهَا إنْ أَبَتْ لَا
تُجْبَرُ عليه لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا كان لَا يُوجَدُ من يُرْضِعُهُ
فَحِينَئِذٍ تُجْبَرُ على إرْضَاعِهِ إذْ لو لم تُجْبَرْ عليه لَهَلَكَ الْوَلَدُ
وَلَوْ الْتَمَسَ الْأَبُ لِوَلَدِهِ مُرْضِعًا فَأَرَادَتْ الْأُمُّ أَنْ
تُرْضِعَهُ بِنَفْسِهَا فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عليه وَلِأَنَّ في
انْتِزَاعِ الْوَلَدِ منها إضْرَارًا بها وأنه مَنْهِيٌّ عنه لِقَوْلِهِ عز وجل {
لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } قِيلَ في بَعْضِ الْأَقَاوِيلِ أَيْ لَا
يُضَارَّهَا زَوْجُهَا بِانْتِزَاعِ الْوَلَدِ منها وَهِيَ تُرِيدُ إمْسَاكَهُ
وَإِرْضَاعَهُ فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ على ذلك أَجْرًا في صُلْبِ
النِّكَاحِ لم يَجُزْ لها ذلك لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ وَإِنْ لم يَكُنْ مُسْتَحَقًّا
عليها في الْحُكْمِ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ في الْفَتْوَى وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ
____________________
(4/40)
الْأَجْرِ
على أَمْرٍ مُسْتَحَقٍّ لِأَنَّهُ يَكُونُ رِشْوَةً وَلِأَنَّهَا قد اسْتَحَقَّتْ
نَفَقَةَ النِّكَاحِ وَأُجْرَةَ الرَّضَاعِ وَأُجْرَةُ الرَّضَاعِ بِمَنْزِلَةِ
النَّفَقَةِ فَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَتَيْنِ وَلِأَنَّ أَجْرَ الرَّضَاعِ يَجِبُ
لِحِفْظِ الصَّبِيِّ وَغُسْلِهِ وهو من نَظَافَةِ الْبَيْتِ وَمَنْفَعَةُ
الْبَيْتِ تَحْصُلُ لِلزَّوْجَيْنِ فَلَا يَجُوزُ لها أَنْ تَأْخُذَ عِوَضًا عن
مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لها حتى لو اسْتَأْجَرَهَا على إرْضَاعِ وَلَدِهِ من
غَيْرِهَا جَازَ لِأَنَّ ذلك غَيْرُ وَاجِبٍ عليها فَلَا يَكُونُ أَخْذُ
الْأُجْرَةِ على فِعْلٍ وَاجِبٍ عليها وَكَذَا ليس في حِفْظِهِ مَنْفَعَةٌ تَعُودُ
إلَيْهَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليها أَنْ تُسْكِنَهُ مَعَهَا
وَكَذَلِكَ إذَا كانت مُعْتَدَّةً من طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَا يَحِلُّ لها أَنْ
تَأْخُذَ الْأُجْرَةَ كما لَا يَجُوزُ في صُلْبِ النِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ
بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ قَائِمٌ من كل وَجْهٍ
وَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا يَجُوزُ لها أَنْ
تَأْخُذَ الْأَجْرَ لِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى في حَالِ
قِيَامِ الْعِدَّةِ فَلَا يَحِلُّ لها الْأُجْرَةُ كما لَا يَحِلُّ لِلزَّوْجَةِ
وفي رِوَايَةٍ يَجُوزُ لِأَنَّ النِّكَاحَ قد زَالَ بِالْإِبَانَةِ فَصَارَتْ
كَالْأَجْنَبِيَّةِ
وَأَمَّا إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَالْتَمَسَتْ أُجْرَةَ الرَّضَاعِ وقال
الْأَبُ أنا أَجِدُ من يُرْضِعُهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ أو بِأَقَلَّ من ذلك فَذَلِكَ
له لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ له أُخْرَى }
وَلِأَنَّ في إلْزَامِ الْأَبِ بِمَا تَلْتَمِسُهُ الْأُمُّ إضْرَارًا بِالْأَبِ
وقد قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا مَوْلُودٌ له بِوَلَدِهِ } أَيْ
لَا يُضَارَّ الْأَبُ بِالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ على ما تَلْتَمِسُهُ
الْأَجْنَبِيَّةُ كَذَا ذُكِرَ في بَعْضِ التَّأْوِيلَاتِ وَلَكِنْ تُرْضِعُهُ
عِنْدَ الْأُمِّ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِمَا فيه من إلْحَاقِ الضَّرَرِ
بِالْأُمِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من له الْحَضَانَةُ فَالْحَضَانَةُ تَكُونُ لِلنِّسَاءِ
في وَقْتٍ وَتَكُونُ لِلرِّجَالِ في وَقْتٍ وَالْأَصْلُ فيها النِّسَاءُ
لِأَنَّهُنَّ أَشْفَقُ وَأَرْفَقُ وَأَهْدَى إلَى تَرْبِيَةِ الصِّغَارِ ثُمَّ
تُصْرَفُ إلَى الرِّجَالِ لِأَنَّهُمْ على الْحِمَايَةِ وَالصِّيَانَةِ
وَإِقَامَةِ مَصَالِحِ الصِّغَارِ أَقْدَرُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ
فَلَا بُدَّ من بَيَانِ شَرْطِ الْحَضَانَتَيْنِ وَوَقْتِهِمَا أَمَّا التي
لِلنِّسَاءِ فَمِنْ شَرَائِطِهَا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ
من الصِّغَارِ فَلَا حَضَانَةَ لِبَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْخَالِ وَبَنَاتِ
الْعَمَّةِ وَبَنَاتِ الْخَالَةِ لِأَنَّ مَبْنَى الْحَضَانَةِ على بالشفقة ( ( (
الشفقة ) ) ) وَالرَّحِمُ الْمَحْرَمُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بالنفقة ( ( ( بالشفقة
) ) ) ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فيها الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ فَأَحَقُّ النِّسَاءِ من
ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بِالْحَضَانَةِ الْأُمُّ لِأَنَّهُ لَا أَقْرَبَ
منها ثُمَّ أُمُّ الْأُمِّ ثُمَّ أُمُّ الْأَبِ لِأَنَّ الْجَدَّتَيْنِ وَإِنْ
اسْتَوَيَتَا في الْقُرْبِ لَكِنْ إحْدَاهُمَا من قِبَلِ الْأُمِّ أَوْلَى
وَهَذِهِ الْوِلَايَةُ مُسْتَفَادَةٌ من قِبَلِ الْأُمِّ فَكُلُّ من يُدْلِي
بِقَرَابَةِ الْأُمِّ كان أَوْلَى لِأَنَّهَا تَكُونُ أَشْفَقَ ثُمَّ الْأَخَوَاتُ
فَأُمُّ الْأَبِ أَوْلَى من الْأُخْتِ لِأَنَّ لها وِلَادًا فَكَانَتْ أَدْخَلَ في
الْوِلَايَةِ وَكَذَا هِيَ أَشْفَقُ وَأَوْلَى الْأَخَوَاتِ الْأُخْتُ لِأَبٍ
وَأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأُمٍّ ثُمَّ الْأُخْتُ لِأَبٍ لِأَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ
وَأُمٍّ تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ فَتُرَجَّحُ على الْأُخْتِ لِأُمٍّ بِقَرَابَةِ
الْأَبِ وَتُرَجَّحُ الْأُخْتُ لِأُمٍّ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ
فَكَانَتْ أَوْلَى من الْأُخْتِ لِأَبٍ
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عن أبي حَنِيفَةَ في الْأُخْتِ لِأَبٍ مع الْخَالَةِ
أَيَّتُهُمَا أَوْلَى روى عنه في كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْخَالَةَ أَوْلَى وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ وروى عنه في كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ
أَوْلَى
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى ما رُوِيَ أَنَّ بِنْتَ حَمْزَةَ لَمَّا رَأَتْ
عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه تَمَسَّكَتْ بِهِ وَقَالَتْ ابْنَ عَمِّي فَأَخَذَهَا
فَاخْتَصَمَ فيها عَلِيٌّ وَجَعْفَرٌ وَزَيْدُ بن حَارِثَةَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
فقال رضي اللَّهُ عنه بِنْتُ عَمِّي وقال جَعْفَرٌ بِنْتُ عَمِّي وَخَالَتُهَا
عِنْدِي وقال زَيْدُ بن حَارِثَةَ رضي اللَّهُ عنه بِنْتُ أَخِي آخَيْت بَيْنِي
وَبَيْنَ حَمْزَةَ يا رَسُولَ اللَّهِ فَقَضَى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
بها لِخَالَتِهَا وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَالَةُ وَالِدَةٌ فَقَدْ سَمَّى
الْخَالَةَ وَالِدَةً فَكَانَتْ أَوْلَى
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْأُخْتَ لِأَبٍ بِنْتُ الْأَبِ
وَالْخَالَةَ بِنْتُ الْجَدِّ فَكَانَتْ الْأُخْتُ أَقْرَبَ فَكَانَتْ أَوْلَى
وَبِنْتُ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى من الْخَالَةِ لِأَنَّهَا من وَلَدِ
الْأَبَوَيْنِ وَكَذَا بِنْتُ الْأُخْتِ لِأُمٍّ لِأَنَّهَا من وَلَدِ الْأُمِّ
وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ وَكَذَا بِنْتُ الْأُخْتِ لِأَبٍ أَوْلَى من
الْخَالَةِ على الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ لِأَنَّهَا من وَلَدِ الْأَبِ وَالْخَالَةُ
وَلَدُ الْجَدِّ فَكَانَتْ أَوْلَى
وَأَمَّا على الرِّوَايَةِ الْأُولَى فَلَا شَكَّ أَنَّ الْخَالَةَ تَتَقَدَّمُ
عليها لِأَنَّهَا تَتَقَدَّمُ على أُمِّهَا وَهِيَ الْأُخْتُ لِأَبٍ فَلَأَنْ
تَتَقَدَّمَ على بِنْتِهَا وَهِيَ أَبْعَدُ من أُمِّهَا أَوْلَى وَبَنَاتُ
الْأُخْتِ أَوْلَى من بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ الْأَخَ لَا حَقَّ له في
الْحَضَانَةِ وَالْأُخْتُ لها حَقٌّ فيها فَكَانَ وَلَدُ الْأُخْتِ أَوْلَى
وَالْخَالَاتُ أَوْلَى من بَنَاتِ الْأَخِ لِأَنَّ بِنْتَ الْأَخِ تُدْلِي
بِقَرَابَةِ الذَّكَرِ وَالْخَالَةُ تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَكَانَتْ
الْخَالَةُ أَوْلَى وَبَنَاتُ الْأَخِ أَوْلَى من الْعَمَّاتِ
وَإِنْ كانت كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَعْنِي بِنْتَ الْأَخِ وَالْعَمَّةَ
تُدْلِي بِذَكَرٍ لَكِنَّ بِنْتَ الْأَخِ أَقْرَبُ لِأَنَّهَا وَلَدُ الْأَبِ
وَالْعَمَّةُ وَلَدُ الْجَدِّ فَكَانَتْ بِنْتُ الْأَخِ أَقْرَبَ فَكَانَتْ
أَوْلَى ثُمَّ الْخَالَاتُ أَوْلَى من
____________________
(4/41)
الْعَمَّاتِ
وَإِنْ تَسَاوَيْنَ في الْقُرْبِ
لِأَنَّ الْخَالَاتِ يُدْلِينَ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَكُنَّ أَشْفَقَ وَأَوْلَى
الْخَالَاتِ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ ثُمَّ
الْخَالَةُ لِأُمٍّ لِإِدْلَائِهَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ثُمَّ الْخَالَةُ لِأَبٍ
ثُمَّ الْعَمَّاتُ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ أَوْلَى
من الْخَالَةِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وقال زُفَرُ الْخَالَةُ أَوْلَى وَجْهُ
قَوْلِ زُفَرَ قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْخَالَةُ وَالِدَةٌ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ أُمَّ الْأَبِ لها ولاد ( ( ( أولاد ) ) )
وَالْوِلَايَةُ في الْأَصْلِ مُسْتَفَادَةٌ بِالْوِلَادِ وَأَوْلَى الْعَمَّاتِ
الْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَتَيْنِ ثُمَّ الْعَمَّةُ
لِأُمٍّ لِاتِّصَالِهَا بِجِهَةِ الْأُمِّ ثُمَّ الْعَمَّةُ لِأَبٍ
وَأَمَّا بَنَاتُ الْعَمِّ وَالْخَالِ وَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ فَلَا حَقَّ
لَهُنَّ في الْحَضَانَةِ لِعَدَمِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونَ ذَاتَ زَوْجٍ أَجْنَبِيٍّ من الصَّغِيرِ فَإِنْ كانت
فَلَا حَقَّ لها في الْحَضَانَةِ وَأَصْلُهُ ما رَوَى عَمْرُو بن شُعَيْبٍ عن أبيه
عن جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت
يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنِي هذا كان بَطْنِي له وِعَاءً وَحِجْرِي له حِوَاءً
وَثَدْيِي له سِقَاءً وَيَزْعُمُ أَبُوهُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنِّي فقال رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ منه ما لم تَنْكِحِي
وَرُوِيَ عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قال طَلَّقَ عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه
أُمَّ ابْنِهِ عَاصِمٍ رضي اللَّهُ عنه فَلَقِيَهَا وَمَعَهَا الصَّبِيُّ
فَنَازَعَهَا وَارْتَفَعَا إلَى أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه فَقَضَى
أبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه بِعَاصِمِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما ( ( ( عنهم ) )
) لِأُمِّهِ ما لم يَشِبَّ أو تَتَزَوَّجْ وقال إنَّ رِيحَهَا وَفِرَاشَهَا خَيْرٌ
له حتى يَشِبَّ أو تَتَزَوَّجَ وَذَلِكَ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَ يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ وَالْمَذَلَّةُ من قِبَلِ
الْأَبِ لِأَنَّهُ يَبْغَضُهُ لِغَيْرَتِهِ وَيَنْظُرُ إلَيْهِ نَظَرَ
الْمَغْشِيِّ عليه من الْمَوْتِ وَيُقَتِّرُ عليه النَّفَقَةَ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ
حتى لو تَزَوَّجَتْ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الصَّبِيِّ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا في
الْحَضَانَةِ كَالْجَدَّةِ إذَا تَزَوَّجَتْ بِجَدِّ الصَّبِيِّ أو الْأُمِّ
تَزَوَّجَتْ بِعَمِّ الصَّبِيِّ أَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ مِنْهُمَا
لِوُجُودِ الْمَانِعِ من ذلك وهو الْقَرَابَةُ الْبَاعِثَةُ على الشَّفَقَةِ
وَلَوْ مَاتَ عنها زَوْجُهَا أو أَبَانَهَا عَادَ حَقُّهَا في الْحَضَانَةِ
لِأَنَّ الْمَانِعَ قد زَالَ فَيَزُولُ الْمَنْعُ وَيَعُودُ حَقُّهَا وَتَكُونُ
هِيَ أَوْلَى مِمَّنْ هِيَ أَبْعَدُ منها كما كانت
وَمِنْهَا عَدَمُ رِدَّتِهَا حتى لو ارْتَدَّتْ عن الْإِسْلَامِ بَطَلَ حَقُّهَا
في الْحَضَانَةِ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُحْبَسُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الصَّبِيُّ
وَلَوْ تَابَتْ وَأَسْلَمَتْ يَعُودُ حَقُّهَا لِزَوَالِ الْمَانِعِ وَسُئِلَ
مُحَمَّدٌ عن النِّسَاءِ إذَا اجْتَمَعْنَ وَلَهُنَّ أَزْوَاجٌ قال يَضَعُهُ الْقَاضِي
حَيْثُ شَاءَ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُنَّ فَصَارَ كَمَنْ لَا قَرَابَةَ له
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ حُرَّةً فَلَا حَقَّ لِلْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ في
حَضَانَةِ الْوَلَدِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْحَضَانَةَ ضَرْبٌ من الْوِلَايَةِ
وَهُمَا لَيْسَتَا من أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَأَمَّا إذَا أُعْتِقَتَا فَهُمَا في
الْحَضَانَةِ كَالْحُرَّةِ لِأَنَّهُمَا اسْتَفَادَتَا الْوِلَايَةَ بِالْعِتْقِ
وَأَهْلُ الذِّمَّةِ في هذه الْحَضَانَةِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ
لِأَنَّ هذا الْحَقَّ إنَّمَا يَثْبُتُ نَظَرًا لِلصَّغِيرِ وأنه لَا يَخْتَلِفُ
بِالْإِسْلَامِ وَالْكُفْرِ وَكَذَا اتِّحَادُ الدِّينِ ليس بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ
هذا الْحَقِّ حتى لو كانت الْحَاضِنَةُ كِتَابِيَّةً وَالْوَلَدُ مُسْلِمٌ كانت في
الْحَضَانَةِ كَالْمُسْلِمَةِ كَذَا ذُكِرَ في الْأَصْلِ لِمَا قُلْنَا وكان أبو
بَكْرٍ أَحْمَدُ بن عَلِيٍّ الرَّازِيّ يقول إنَّهَا أَحَقُّ بِالصَّغِيرِ
وَالصَّغِيرَةِ حتى يَعْقِلَا فإذا عَقَلَا سَقَطَ حَقُّهَا لِأَنَّهَا
تُعَوِّدُهُمَا أَخْلَاقَ الْكَفَرَةِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ عز
وجل الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَقْتُ الْحَضَانَةِ التي من قِبَلِ النِّسَاءِ فَالْأُمُّ
وَالْجَدَّتَانِ أَحَقُّ بِالْغُلَامِ حتى يَسْتَغْنِيَ عَنْهُنَّ فَيَأْكُلَ
وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ وَذَكَرَ أبو دَاوُد بن رَشِيدٍ عن مُحَمَّدٍ وَيَتَوَضَّأُ وَحْدَهُ
يُرِيدُ بِهِ الِاسْتِنْجَاءَ أَيْ وَيَسْتَنْجِي وَحْدَهُ ولم يُقَدِّرْ في ذلك
تَقْدِيرًا
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ سَبْعَ سِنِينَ أو ثَمَانِ سِنِينَ أو نحو ذلك
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَهِيَ أَحَقُّ بها حتى تَحِيضَ كَذَا ذُكِرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَحَكَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ حتى تَبْلُغَ أو تشتهى وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ حُكْمُ
الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَتَوَقَّتَ الْحَضَانَةُ
بِالْبُلُوغِ في الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ جميعا لِأَنَّهَا ضَرْبُ وِلَايَةٍ
وَلِأَنَّهَا ثَبَتَتْ لِلْأُمِّ فَلَا تَنْتَهِي إلَّا بِالْبُلُوغِ كَوِلَايَةِ
الْأَبِ في الْمَالِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ في الْغُلَامِ بِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
الصِّدِّيقَ رضي اللَّهُ عنه قَضَى بِعَاصِمِ بن عُمَرَ لِأُمِّهِ ما لم يَشِبَّ
عَاصِمٌ أو تَتَزَوَّجْ أُمُّهُ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ في
الْغُلَامِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَبَقِيَ الْحُكْمُ في
الْجَارِيَةِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا اسْتَغْنَى
يَحْتَاجُ إلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّخَلُّقِ بِأَخْلَاقِ الرِّجَالِ وَتَحْصِيلِ
أَنْوَاعِ الْفَضَائِلِ وَاكْتِسَابِ أَسْبَابِ الْعُلُومِ وَالْأَبُ على ذلك
أَقْوَمُ وَأَقْدَرُ مع ما أَنَّهُ لو تُرِكَ في يَدِهَا لَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ
النِّسَاءِ وَتَعَوَّدَ بِشَمَائِلِهِنَّ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا
يُوجَدُ في الْجَارِيَةِ فَتُتْرَكُ في يَدِ الْأُمِّ بَلْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ
إلَى التَّرْكِ في يَدِهَا إلَى
____________________
(4/42)
وَقْتِ
الْبُلُوغِ لِحَاجَتِهَا إلَى تَعَلُّمِ آدَابِ النِّسَاءِ وَالتَّخَلُّقِ
بِأَخْلَاقِهِنَّ وَخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا وَأَنْ تَكُونَ
عِنْدَ الْأُمِّ ثُمَّ بَعْدَ ما حَاضَتْ أو بَلَغَتْ عِنْدَ الْأُمِّ حَدَّ
الشَّهْوَةِ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى حِمَايَتِهَا وَصِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا
عَمَّنْ يَطْمَعُ فيها لِكَوْنِهَا لَحْمًا على وَضَمٍ فَلَا بُدَّ مِمَّنْ
يَذُبُّ عنها وَالرِّجَالُ على ذلك أَقْدَرُ
وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ من ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ من الْأَخَوَاتِ
وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ إذَا كان الصَّغِيرُ عِنْدَهُنَّ فَالْحُكْمُ في
الْجَارِيَةِ كَالْحُكْمِ في الْغُلَامِ وهو أنها تُتْرَكُ في أَيْدِيهِنَّ إلَى
أَنْ تَأْكُلَ وَحْدَهَا وَتَشْرَبَ وَحْدَهَا وَتَلْبَسَ وَحْدَهَا ثُمَّ
تُسَلَّمَ إلَى الْأَبِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهَا وَإِنْ كانت تَحْتَاجُ
بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ إلَى تَعَلُّمِ آدَابِ النِّسَاءِ لَكِنْ في تَأْدِيبِهَا
اسْتِخْدَامُهَا وَوِلَايَةُ الِاسْتِخْدَامِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ لِغَيْرِ
الْأُمَّهَاتِ من الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ وَالْعَمَّاتِ فَتُسَلِّمُهَا إلَى
الْأَبِ احْتِرَازًا عن الْوُقُوعِ في الْمَعْصِيَةِ
وَأَمَّا التي لِلرِّجَالِ فَأَمَّا وَقْتُهَا فما بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ في
الْغُلَامِ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ وَبَعْدَ الْحَيْضِ في الْجَارِيَةِ إذَا كانت
عِنْدَ الْأُمِّ أو الْجَدَّتَيْنِ وَإِنْ كَانَا عِنْدَ غَيْرِهِنَّ فما بَعْدَ
الِاسْتِغْنَاءِ فِيهِمَا جميعا إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ لِمَا ذَكَرْنَا من
الْمَعْنَى وَإِنَّمَا تَوَقَّتَ هذا الْحَقُّ إلَى وَقْتِ بُلُوغِ الصَّغِيرِ
وَالصَّغِيرَةِ لِأَنَّ وِلَايَةَ الرِّجَالِ على الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ
تَزُولُ بِالْبُلُوغِ كَوِلَايَةِ الْمَالِ غير أَنَّ الْغُلَامَ إذَا كان غير
مَأْمُونٍ عليه فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ وَلَا يُخَلِّيَ
سَبِيلَهُ كيلا يَكْتَسِبَ شيئا عليه وَلَيْسَ عليه نَفَقَتُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ
فَأَمَّا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا وَاجْتَمَعَ رَأْيُهُ وَاسْتَغْنَى عن الْأَبِ وهو
مَأْمُونٌ عليه فَلَا حَقَّ لِلْأَبِ في إمْسَاكِهِ كما ليس له أَنْ يَمْنَعَهُ من
مَالِهِ فَيُخَلِّيَ سَبِيلَهُ فَيَذْهَبَ حَيْثُ شَاءَ وَالْجَارِيَةُ إنْ كانت
ثَيِّبًا وَهِيَ غَيْرُ مَأْمُونَةٍ على نَفْسِهَا لَا يُخَلِّيَ سَبِيلَهَا
وَيَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كانت مَأْمُونَةً على نَفْسِهَا فَلَا حَقَّ له
فيها وَيُخَلِّي سَبِيلَهَا وَتُتْرَكُ حَيْثُ أَحَبَّتْ وَإِنْ كانت بِكْرًا لَا
يُخَلِّي سَبِيلَهَا وَإِنْ كانت مَأْمُونَةً على نَفْسِهَا لِأَنَّهَا مَطْمَعٌ
لِكُلِّ طَامِعٍ ولم تَخْتَبِرْ الرِّجَالَ فَلَا يُؤْمَنُ عليها الْخِدَاعُ
وَأَمَّا شَرْطُهَا فَمِنْ شَرَائِطِهَا الْعُصُوبَةِ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا
لِلْعَصَبَةِ من الرِّجَالِ وَيَتَقَدَّمُ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ الْأَبُ
ثُمَّ الْجَدُّ أَبُوهُ وَإِنْ عَلَا ثُمَّ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْأَخُ
لِأَبٍ ثُمَّ ابن الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ ابن الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ الْعَمُّ
لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ الْعَمُّ لِأَبٍ ثُمَّ ابن الْعَمِّ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ
ابن الْعَمِّ لِأَبٍ إنْ كان الصَّبِيُّ غُلَامًا وَإِنْ كان جَارِيَةً فَلَا
تُسَلَّمُ إلَيْهِ لِأَنَّهُ ليس بِمَحْرَمٍ منها لِأَنَّهُ يَجُوزُ له نِكَاحُهَا
فَلَا يؤتمن ( ( ( يؤمن ) ) ) عليها
وَأَمَّا الْغُلَامُ فإنه عَصَبَةٌ وَأَحَقُّ بِهِ مِمَّنْ هو أَبْعَدُ منه ثُمَّ
عَمُّ الْأَبِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ لِأَبٍ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ
لِأَبٍ وَأُمٍّ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ لِأَبٍ وَلَوْ كان لها ثَلَاثَةُ أخوة كلهم
على دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ كَانُوا كلهم لِأَبٍ وَأُمٍّ أو لِأَبٍ أو
ثَلَاثَةُ أَعْمَامٍ كلهم على دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَفْضَلُهُمْ صَلَاحًا
وَوَرَعًا أَوْلَى فَإِنْ كَانُوا في ذلك سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا أَوْلَى
بِالْحَضَانَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ لِلْجَارِيَةِ من عَصَبَاتِهَا غَيْرُ ابْنِ
الْعَمِّ اخْتَارَ لها الْقَاضِي أَفْضَلَ الْمَوَاضِعِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ في
هذه الْحَالَةِ إلَيْهِ فَيُرَاعِي الْأَصْلَحَ فَإِنْ رَآهُ أَصْلَحَ ضَمَّهَا
إلَيْهِ وَإِلَّا فَيَضَعْهَا عِنْدَ امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَمِينَةٍ وَكُلُّ
ذَكَرٍ من قِبَلِ النِّسَاءِ فَلَا حَقَّ له في الْوَلَدِ مِثْلُ الْأَخِ لِأُمٍّ
وَالْخَالِ وأبو ( ( ( وأبي ) ) ) الْأُمِّ لِانْعِدَامِ الْعُصُوبَةِ
وقال مُحَمَّدٌ إنْ كان لِلْجَارِيَةِ ابن عَمٍّ وَخَالٌ وَكِلَاهُمَا لَا بَأْسَ
بِهِ في دِينِهِ جَعَلَهَا الْقَاضِي عِنْدَ الْخَالِ لِأَنَّهُ مَحْرَمٌ وابن
الْعَمِّ ليس بِمَحْرَمٍ فَكَانَ الْمَحْرَمُ أَوْلَى وَالْأَخُ من الْأَبِ
أَحَقُّ من الْخَالِ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وهو أَيْضًا أَقْرَبُ لِأَنَّهُ من
أَوْلَادِ الْأَبِ وَالْخَالُ من أَوْلَادِ الْجَدِّ
وَذَكَرَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا لم يَكُنْ له قَرَابَةٌ من
قِبَلِ النِّسَاءِ فَالْعَمُّ أَوْلَى بِهِ من الْخَالِ وأبو ( ( ( وأبي ) ) )
الْأُمِّ لِأَنَّهُ عَصَبَتُهُ وَالْأَخُ لِأَبٍ أَوْلَى من الْعَمِّ وَكَذَلِكَ
ابن الْأَخِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فَإِنْ لم تَكُنْ له قَرَابَةٌ أَشْفَقُ من جِهَةِ
أبيه من الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فإن الْأُمَّ أَوْلَى من الْخَالِ وَالْأَخِ
لِأُمٍّ لِأَنَّ لها وِلَادًا وَهِيَ أَشْفَقُ مِمَّنْ لَا وِلَادَ له من ذَوِي
الْأَرْحَامِ
وَمِنْهَا إذَا كان الصَّغِيرُ جَارِيَةً أَنْ تَكُونَ عَصَبَتُهَا مِمَّنْ
يُؤْتَمَنُ عليها فَإِنْ كان لَا يُؤْتَمَنُ لِفِسْقِهِ وَلِخِيَانَتِهِ لم يَكُنْ
له فيها حَقٌّ لِأَنَّ في كَفَالَتِهِ لها ضرر ( ( ( ضررا ) ) ) عليها وَهَذِهِ
وِلَايَةُ نَظَرٍ فَلَا تَثْبُتُ مع الضَّرَرِ حتى لو كانت الْإِخْوَةُ
وَالْأَعْمَامُ غير مَأْمُونِينَ على نَفْسِهَا وَمَالِهَا لَا تُسَلَّمُ
إلَيْهِمْ وَيَنْظُرُ الْقَاضِي امْرَأَةً من الْمُسْلِمِينَ ثِقَةً عَدْلَةٌ
أَمِينَةٍ فَيُسَلِّمُهَا إلَيْهَا إلَى أَنْ تَبْلُغَ فَتُتْرَكَ حَيْثُ شَاءَتْ
وَإِنْ كانت بِكْرًا
وَمِنْهَا اتِّحَادُ الدِّينِ فَلَا حَقَّ لِلْعَصَبِيَّةِ في الصَّبِيِّ إلَّا
أَنْ يَكُونَ على دِينِهِ كَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وقال هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وَقِيَاسُهُ لِأَنَّ هذا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ إلَّا لِلْعَصَبَةِ وَاخْتِلَافُ
الدِّينِ يَمْنَعُ التَّعْصِيبَ
وقد قالوا في الْأَخَوَيْنِ إذَا كان أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ
يَهُودِيًّا وَالصَّبِيُّ يَهُودِيٌّ أن الْيَهُودِيَّ أَوْلَى بِهِ لِأَنَّهُ
عَصَبَةٌ لَا الْمُسْلِمَ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ وَلَا خِيَارَ
لِلْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ إذَا اخْتَلَفَ الْأَبَوَانِ فِيهِمَا قبل
____________________
(4/43)
الْبُلُوغِ
عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيّ يُخَيَّرُ الْغُلَامُ إذَا عَقَلَ التَّخْيِيرَ
وَاحْتَجَّ بِمَا روى عن أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ
رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فقالت زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يَنْتَزِعَ ابن
( ( ( ابنه ) ) ) مِنِّي وأنه قد نَفَعَنِي وَسَقَانِي من بِئْرِ أبي عتبة ( ( (
عنبة ) ) ) فقال اسْتَهِمَا عليه فقال الرَّجُلُ من يستاقني ( ( ( يشاقني ) ) ) في
ابْنِي فقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم لِلْغُلَامِ اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْت
فَاخْتَارَ أُمَّهُ فَأَعْطَاهَا إيَّاهُ وَلِأَنَّ في هذا نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ
لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ الْأَشْفَقَ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال لِلْأُمِّ
أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ ما لم تَنْكِحِي ولم يُخَيِّرْ وَلِأَنَّ تَخْيِيرَ
الصَّبِيِّ ليس بِحِكْمَةٍ لِأَنَّهُ لِغَلَبَةِ هَوَاهُ يَمِيلُ إلَى اللَّذَّةِ
الْحَاضِرَةِ من الْفَرَاغِ وَالْكَسَلِ وَالْهَرَبِ من الْكُتَّابِ وَتَعَلُّمِ
آدَابِ النَّفْسِ وَمَعَالِمِ الدِّينِ فَيَخْتَارُ شَرَّ الْأَبَوَيْنِ وهو الذي
يُهْمِلُهُ وَلَا يُؤَدِّبُهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه فَالْمُرَادُ منه التَّخْيِيرُ
في حَقِّ الْبَالِغِ لِأَنَّهَا قالت نَفَعَنِي وَسَقَانِي من بِئْرِ أبي عتبة ( (
( عنبة ) ) )
وَمَعْنَى قَوْلِهَا نَفَعَنِي أَيْ كَسَبَ عَلَيَّ وَالْبَالِغُ هو الذي يَقْدِرُ
على الْكَسْبِ وقد قِيلَ إنَّ بِئْرَ أبي عتبة ( ( ( عنبة ) ) ) بِالْمَدِينَةِ
لَا يُمْكِنُ للصغير ( ( ( الصغير ) ) ) الِاسْتِقَاءَ منه فَدَلَّ على أَنَّ
الْمُرَادَ منه التَّخْيِيرُ في حَقِّ الْبَالِغِ وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ إنَّ
الصَّبِيَّ إذَا بَلَغَ يُخَيَّرُ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ عن عمار ( ( ( عمارة ) ) ) بن رَبِيعَةَ
الْمَخْزُومِيِّ أَنَّهُ قال غَزَا أبي نحو الْبَحْرَيْنِ فَقُتِلَ فَجَاءَ عَمِّي
لِيَذْهَبَ بِي فَخَاصَمَتْهُ أُمِّي إلَى عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ رضي اللَّهُ عنه
وَمَعِي أَخٌ لي صَغِيرٌ فَخَيَّرَنِي عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه ثَلَاثًا
فَاخْتَرْت أُمِّي فَأَبَى عَمِّي أَنْ يَرْضَى فَوَكَزَهُ عَلِيٌّ رضي اللَّهُ
عنه بيده وَضَرَبَهُ بِدِرَّتِهِ وقال لو بَلَغَ هذا الصَّبِيُّ أَيْضًا خُيِّرَ
فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ التَّخْيِيرَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْحَضَانَةِ فَمَكَانُ الْحَضَانَةِ مَكَانُ
الزَّوْجَيْنِ إذَا كانت الزَّوْجِيَّةُ بَيْنَهُمَا قَائِمَةً حتى لو أَرَادَ
الزَّوْجُ أَنْ يَخْرُجَ من الْبَلَدِ وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهُ
الصَّغِيرَ مِمَّنْ له الْحَضَانَةُ من النِّسَاءِ ليس ذلك حتى يَسْتَغْنِيَ عنها
لِمَا ذَكَرْنَا أنها أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ منه فَلَا يَمْلِكُ انْتِزَاعَهُ من
يَدِهَا لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّهَا فَضْلًا عن الْإِخْرَاجِ من الْبَلَدِ
وَإِنْ أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَخْرُجَ من الْمِصْرِ الذي هِيَ فيه إلَى
غَيْرِهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا من الْخُرُوجِ سَوَاءٌ كان مَعَهَا وَلَدٌ
أو لم يَكُنْ لِأَنَّ عليها الْمُقَامَ في بَيْتِ زَوْجِهَا وَكَذَلِكَ إذَا كانت
مُعْتَدَّةً لَا يَجُوزُ لها الْخُرُوجُ مع الْوَلَدِ وَبِدُونِهِ وَلَا يَجُوزُ
لِلزَّوْجِ إخْرَاجُهَا لِقَوْلِهِ عز وجل { لَا تُخْرِجُوهُنَّ من بُيُوتِهِنَّ
وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ }
وَأَمَّا إذَا كانت مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ فَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ
بِوَلَدِهَا من الْبَلَدِ الذي هِيَ فيه إلَى بَلَدٍ فَهَذَا على أَقْسَامٍ
إنْ أَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ إلَى بَلَدِهَا وقد وَقَعَ النِّكَاحُ فيه فَلَهَا
ذلك مِثْلُ أَنْ تَزَوَّجَ كُوفِيَّةً بِالْكُوفَةِ ثُمَّ نَقَلَهَا إلَى الشَّامِ
فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَانْقَضَتْ
الْعِدَّةُ فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ أَوْلَادَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَلَهَا ذلك
لِأَنَّ الْمَانِعَ هو ضَرَرُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَلَدِهِ وقد رضي
بِهِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا وهو التَّزَوُّجُ بها في بَلَدِهَا لِأَنَّ من
تَزَوَّجَ امْرَأَةً في بَلَدِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُقِيمُ فيه وَالْوَلَدُ
من ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فَكَانَ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ في ذلك البلد
فَكَانَ رَاضِيًا بِالتَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ ما دَامَ قَائِمًا
يَلْزَمُهَا اتِّبَاعُ الزَّوْجِ فإذا زَالَ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ وَإِنْ
وَقَعَ النِّكَاحُ في غَيْرِ بَلَدِهَا لم يَكُنْ لها أَنْ تَنْتَقِلَ بِوَلَدِهَا
إلَى بَلَدِهَا بِأَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً كُوفِيَّةً بِالشَّامِ فَوَقَعَتْ
الْفُرْقَةُ فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ وَلَدَهَا إلَى الْكُوفَةِ لم يَكُنْ لها
ذلك لِأَنَّهُ إذَا لم يَقَعْ النِّكَاحُ في بَلَدِهَا لم تُوجَدْ دَلَالَةُ
الرِّضَا بِالْمُقَامِ في بَلَدِهَا فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ
فيه فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِضَرَرِ التَّفْرِيقِ وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَنْقُلَ
الْوَلَدَ إلَى بَلَدٍ ليس ذلك بِبَلَدِهَا وَلَكِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ فيه كما
إذَا تَزَوَّجَ كُوفِيَّةً بِالشَّامِ فَنَقَلهَا إلَى الْبَصْرَةِ فَوَقَعَتْ
الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَأَرَادَتْ أَنْ تَنْتَقِلَ بِأَوْلَادِهَا إلَى
الشَّامِ ليس لها ذلك كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ ذلك الْبَلَدَ الذي
وَقَعَ فيها ( ( ( فيه ) ) ) النِّكَاحُ ليس بِبَلَدِهَا وَلَا بَلَدِ الزَّوْجِ
بَلْ هو دَارُ غُرْبَةٍ لها كَالْبَلَدِ الذي فيه الزَّوْجُ فلم يَكُنْ النِّكَاحُ
فيه دَلِيلَ الرِّضَا بِالْمُقَامِ فيه فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِحَضَانَةِ الْوَلَدِ
الذي هو من ثَمَرَاتِ النِّكَاحِ فيه فلم يَكُنْ رَاضِيًا بِضَرَرِ التَّفْرِيقِ
فَاعْتَبَرَ في الْأَصْلِ شَرْطَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ الذي
تُرِيدُ أَنْ تَنْقُلَ إلَيْهِ الْوَلَدَ بَلَدَهَا
وَالثَّانِي وُقُوعُ النِّكَاحِ فيه فما لم يُوجَدَا لَا يَثْبُتُ لها وِلَايَةُ
النَّقْلِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ لها ذلك وَاعْتَبَرَ مَكَانَ الْعَقْدِ
فقد ( ( ( فقط ) ) )
وَإِلَيْهِ أَشَارَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فقال وَإِنَّمَا أَنْظُرُ
في هذا إلَى عُقْدَةِ النِّكَاحِ أَيْنَ وَقَعَتْ وَهَكَذَا اعْتَبَرَ
الطَّحَاوِيُّ وَالْخَصَّافُ اتِّبَاعًا لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ في الْجَامِعِ وَهَذَا
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ مُحَمَّدًا وَإِنْ أَجْمَلَ الْمَسْأَلَةَ في الْجَامِعِ
فَقَدْ فَصَّلَهَا في الْأَصْلِ على الْوَجْهِ الذي وَصَفْنَا وَالْمُجْمَلُ
يُحْمَلُ على الْمُفَسَّرِ وقد يَكُونُ الْمُفَسَّرُ بَيَانًا لِلْمُجْمَلِ
كَالنَّصِّ
____________________
(4/44)
الْمُجْمَلِ
من الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ إذَا لَحِقَ بِهِ التَّفْسِيرُ أَنَّهُ يَصِيرُ
مُفَسَّرًا من الْأَصْلِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
هذا إذَا كانت الْمَسَافَةُ بين الْبَلَدَيْنِ بَعِيدَةً فَإِنْ كانت قَرِيبَةً
بِحَيْثُ يَقْدِرُ الْأَبُ أَنْ يَزُورَ وَلَدَهُ وَيَعُودَ إلَى مَنْزِلِهِ قبل
اللَّيْلِ فَلَهَا ذلك لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ الْأَبَ كَبِيرُ ضَرَرٍ بِالنَّقْلِ
بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ إلَى أَطْرَافِ الْبَلَدِ
وَأَمَّا أَهْلُ السَّوَادِ فَالْحُكْمُ في السَّوَادِ كَالْحُكْمِ في الْمِصْرِ
في جَمِيعِ الْفُصُولِ إلَّا في فَصْلٍ وَاحِدٍ وَبَيَانُهُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا
وَقَعَ في الرُّسْتَاقِ فَأَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تَنْقُلَ الصَّبِيَّ إلَى
قَرْيَتِهَا فَإِنْ كان أَصْلُ النِّكَاحِ وَقَعَ فيها فَلَهَا ذلك كما في
الْمِصْرِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان وَقَعَ في غَيْرِهَا فَلَيْسَ لها نَقْلُهُ إلَى قَرْيَتِهَا وَلَا
إلَى الْقَرْيَةِ التي وَقَعَ فيها النِّكَاحُ إذَا كانت بَعِيدَةً لِمَا
ذَكَرْنَا في الْمِصْرِ وَإِنْ كانت قَرِيبَةً على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا
فَلَهَا ذلك كما في الْمِصْرِ
وَإِنْ كان الْأَبُ مُتَوَطِّنًا في الْمِصْرِ فَأَرَادَتْ نَقْلَ الْوَلَدِ إلَى
الْقَرْيَةِ فَإِنْ كان تَزَوَّجَهَا فيها وَهِيَ قَرْيَتُهَا فَلَهَا ذلك وَإِنْ
كانت بَعِيدَةً عن الْمِصْرِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمِصْرِ وَإِنْ لم تَكُنْ
تِلْكَ قَرْيَتَهَا فَإِنْ كانت قَرْيَتَهُ وَوَقَعَ فيها أَصْلُ النِّكَاحِ
فَلَهَا ذلك كما في الْمِصْرِ وَإِنْ كان لم يَقَعْ النِّكَاحُ فيها فَلَيْسَ لها
ذلك
وَإِنْ كانت قَرِيبَةً من الْمِصْرِ بِخِلَافِ الْمِصْرَيْنِ لِأَنَّ أَخْلَاقَ
أَهْلِ السَّوَادِ لَا تَكُونُ مِثْلَ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْمِصْرِ بَلْ تَكُونُ
أَجْفَى فَيَتَخَلَّقُ الصَّبِيُّ بِأَخْلَاقِهِمْ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ولم يُوجَدْ
من الْأَبِ دَلِيلُ الرِّضَا بهذا الضَّرَرِ إذْ لم يَقَعْ أَصْلُ النِّكَاحِ في الْقَرْيَةِ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَنْقُلَ وَلَدَهَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كان
قد تَزَوَّجَهَا هُنَاكَ وَكَانَتْ حَرْبِيَّةً بَعْدَ أَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا
مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا لِأَنَّ في ذلك إضْرَارًا بِالصَّبِيِّ لِأَنَّهُ
يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِ الْكَفَرَةِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَإِنْ كان كِلَاهُمَا
حَرْبِيَّيْنِ فَلَهَا ذلك لِأَنَّ الصَّبِيَّ تَبَعٌ لَهُمَا وَهُمَا من أَهْلِ
دَارِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وهو الْمُوَفِّقُ
كِتَابُ الْإِعْتَاقِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ أَنْوَاعِ الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ حُكْمِ
الْإِعْتَاقِ وفي بَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
الْإِعْتَاقُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِعْتَاقُ في الْقِسْمَةِ الْأُولَى يَنْقَسِمُ إلَى
أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ وَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمُبَاحٌ وَمَحْظُورٌ
أَمَّا الْوَاجِبُ فَالْإِعْتَاقُ في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ
وَالْيَمِينِ وَالْإِفْطَارِ إلَّا أَنَّهُ في بَابِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ
وَالْإِفْطَارِ وَاجِبٌ على التَّعْيِينِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عليه وفي الْيَمِينِ
وَاجِبٌ على التَّخْيِيرِ قال اللَّهُ تَعَالَى في كَفَّارَةِ الْقَتْلِ
وَالظِّهَارِ { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } وفي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ { أو تَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ } وأنه أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ كَقَوْلِهِ عز وجل { فَضَرْبَ
الرِّقَابِ } وَقَوْلِهِ عز وجل { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ }
وقَوْله تَعَالَى { وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } وَنَحْوِ
ذلك
وقال النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في كَفَّارَةِ الْإِفْطَارِ أَعْتِقْ رَقَبَةً
وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ إلَيْهِ فَهُوَ الْإِعْتَاقُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى من
غَيْرِ إيجَابٍ لِأَنَّ الشَّرْعَ نَدَبَ إلَى ذلك لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ
رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أنه قال أَيُّمَا
مُؤْمِنٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا في الدُّنْيَا أَعْتَقَ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ
عُضْوٍ منه عُضْوًا منه من النَّارِ
وَعَنْ وَاثِلَةَ بن الْأَسْقَعِ قال أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
في صَاحِبٍ لنا قد أَوْجَبَ فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم أَعْتِقُوا عنه يُعْتِقْ
اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ منه عُضْوًا منه من النَّارِ
وَعَنْ أبي نَجِيحٍ السُّلَمِيُّ قال كنا مع رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِالطَّائِفِ فَسَمِعْته يقول من رَمَى بِسَهْمٍ في سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُ
دَرَجَةٌ في الْجَنَّةِ من ( ( ( ومن ) ) ) شَابَ شَيْبَةً في الْإِسْلَامِ كانت
له نُورًا يوم الْقِيَامَةِ وَأَيُّمَا رَجُلٍ مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلًا
مُسْلِمًا كان بِهِ وِقَاءُ كل عَظْمٍ من عِظَامِ محررة من النَّارِ وَأَيُّمَا
امْرَأَةٍ مُسْلِمَةٍ أَعْتَقَتْ امْرَأَةً مُسْلِمَةً كان بها وِقَاءُ كل عَظْمٍ
من عِظَامِ مُحَرَّرَتِهَا من النَّارِ
وَعَنْ الْبَرَاءِ بن عَازِبٍ قال جاء أَعْرَابِيٌّ إلَى النبي صلى اللَّهُ عليه
وسلم فقال يا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي عَمَلًا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فقال صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَعْتِقْ النَّسَمَةَ وَفُكَّ الرَّقَبَةَ فقال أَوَ لَيْسَا
وَاحِدًا فقال صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ
بِعِتْقِهَا وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ في إفْكَاكِهَا وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ
أَنْ تُعِينَ في ثَمَنِهَا
وَأَمَّا الْمُبَاحُ فَهُوَ الْإِعْتَاقُ من غَيْرِ نِيَّةٍ لِوُجُودِ مَعْنَى
الْإِبَاحَةِ فيه وَهِيَ تَخْيِيرُ الْعَاقِلِ بين تَحْصِيلِ الْفِعْلِ وَتَرْكِهِ
شَرْعًا
وَأَمَّا الْمَحْظُورُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ لِوَجْهِ
الشَّيْطَانِ
____________________
(4/45)
وَيَقَعُ
الْعِتْقُ لِوُجُودِ رُكْنِ الْإِعْتَاقِ وَشَرْطِهِ
وَقَوْلُهُ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ لِبَيَانِ الْغَرَضِ وَنُقَسِّمُهُ أَيْضًا
أَقْسَامًا أُخَرَ نَذْكُرُهَا في مَوَاضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْإِعْتَاقِ فَهُوَ اللَّفْظُ الذي جُعِلَ دَلَالَةً على
الْعِتْقِ في الْجُمْلَةِ أو ما يَقُومُ مَقَامَ اللَّفْظِ فَيُحْتَاجُ فيه إلَى
بَيَانِ الْأَلْفَاظِ التي يَثْبُتُ بها الْعِتْقُ في الْجُمْلَةِ إمَّا مع
النِّيَّةِ أو بِدُونِ النِّيَّةِ وَإِلَى بَيَانِ ما لَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ
من الْأَلْفَاظِ رَأْسًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَلْفَاظُ التي يَثْبُتُ بها الْعِتْقُ في الْجُمْلَةِ
فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ صَرِيحٌ وَمُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ وَكِنَايَةٌ
أَمَّا الصَّرِيحُ فَهُوَ اللَّفْظُ الْمُشْتَقُّ من الْعِتْقِ أو الْحُرِّيَّةِ
أو الْوَلَاءِ نَحْوُ قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك أو حَرَّرْتُك أو أنت عَتِيقٌ أو
مُعْتَقٌ أو أنت مَوْلَايَ لِأَنَّ الصَّرِيحَ في اللُّغَةِ اسْمٌ لِمَا هو
ظَاهِرُ الْمَعْنَى مَكْشُوفُ الْمُرَادِ عِنْدَ السَّامِعِ وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ
بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَمَّا لَفْظُ الْعِتْقِ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا شَكَّ فيه
لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا في الْعِتْقِ فَكَانَ ظَاهِرَ الْمُرَادِ عِنْدَ
السَّامِعِ فَكَانَ صَرِيحًا فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ كَصَرِيحِ
الطَّلَاقِ إذْ النِّيَّةُ لِتَعْيِينِ الْمُحْتَمَلِ وَأَمَّا لَفْظُ الْوَلَاءِ
فَالْمَوْلَى وَإِنْ كان من الْأَلْفَاظِ الْمُشْتَرَكَةِ في الْأَصْلِ
لِوُقُوعِهِ على مُسَمَّيَاتٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُدُودِ وَالْحَقَائِقِ
بِمَنْزِلَةِ اسْمِ الْعَيْنِ وَالْقُرْءِ وَغَيْرِهِمَا فإنه يَقَعُ على
النَّاصِرِ قال اللَّهُ تَعَالَى { ذلك بِأَنَّ اللَّهَ مولى الَّذِينَ آمَنُوا
وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مولى لهم } وَيَقَعُ على ابْنِ الْعَمِّ قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عن نَبِيِّهِ زَكَرِيَّا عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ { وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ من وَرَائِي } وَيَقَعُ على
الْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ لَكِنْ هَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى للناصر ( ( (
الناصر ) ) ) لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَنْصِرُ بِعَبْدِهِ وَلَا ابْنَ
الْعَمِّ إذَا كان الْعَبْدُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَلَا الْمُعْتَقِ إذْ الْعَبْدُ
لَا يُعْتِقُ مَوْلَاهُ فَتَعَيَّنَ الْمُعْتِقُ مُرَادًا بِهِ وَاللَّفْظُ
الْمُشْتَرَكُ يَتَعَيَّنُ بَعْضَ الْوُجُوهِ الذي يَحْتَمِلُهُ مُرَادُهُ
بِدَلِيلٍ مُعَيَّنٍ فَكَانَ صَرِيحًا في الْعِتْقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى
النِّيَّةِ كَقَوْلِهِ أنت حُرٌّ أو عَتِيقٌ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ هذه الْأَلْفَاظَ
بِصِيغَةِ النِّدَاءِ بِأَنْ قال يا حُرُّ يا عَتِيقُ يا مُعْتَقُ لِأَنَّهُ
نَادَاهُ بِمَا هو صَرِيحٌ في الدَّلَالَةِ على الْعِتْقِ لِكَوْنِ اللَّفْظِ
مَوْضُوعًا لعتق ( ( ( للعتق ) ) ) وَالْحُرِّيَّةِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى
بِالْمَوْضُوعَاتِ فَيَثْبُتُ الْعِتْقُ من غَيْرِ نِيَّةٍ كَقَوْلِهِ أنت حُرٌّ
أو عَتِيقٌ أو مُعْتَقٌ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لو كان اسْمُ الْعَبْدِ حُرًّا وَعُرِفَ بِذَلِكَ
الِاسْمِ فقال له يا حُرُّ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ إذَا كان مُسَمًّى بِذَلِكَ
الِاسْمِ مَعْرُوفًا بِهِ لِنِدَائِهِ يُحْمَلُ على الِاسْمِ الْعَلَمِ لَا على
الصِّفَةِ فَلَا يَعْتِقُ وَكَذَا إذَا قال له يا مَوْلَايَ يَعْتِقُ عليه عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ لَا يَعْتِقُ من غَيْرِ نِيَّةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ قَوْلَهُ يا مَوْلَايَ يَحْتَمِلُ للتعظيم ( ( ( التعظيم )
) ) وَيَحْتَمِلُ الْعِتْقَ فَلَا يُحْمَلُ على التَّحْقِيقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ
كَقَوْلِهِ يا سَيِّدِي وَيَا مَالِكِي
وَلَنَا أَنَّ النِّدَاءَ لِلْعَبْدِ بِاسْمِ الْمَوْلَى لَا يُرَادُ بِهِ
التَّعْظِيمُ لِلْعَبْدِ وَإِكْرَامُهُ عَادَةً وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ
الْإِعْتَاقُ فَيُحْمَلُ عليه كَأَنْ قال أنت مَوْلَايَ وَلَوْ قال ذلك يَعْتِقُ
عليه كَذَا هذا بِخِلَافِ قَوْلِهِ يا سَيِّدِي وَيَا مَالِكِي لِأَنَّ هذا قد
يُذْكَرُ على وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالْإِكْرَامِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ
من غَيْرِ قَرِينَةٍ وَعَلَّلَ مُحَمَّدٌ لِهَذَا فقال لِأَنَّا إنَّمَا
أَعْتَقْنَاهُ في قَوْلِهِ يا مَوْلَايَ لِأَجْلِ الْوَلَاءِ لَا لِأَجْلِ
الْمِلْكِ وَمَعْنَاهُ ما ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قال في شَيْءٍ من هذه الْأَلْفَاظِ من قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك أو نَحْوِهِ
عَنَيْت بِهِ الْخَبَرَ كَذِبًا لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِعُدُولِهِ عن
الظَّاهِرِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ في إنْشَاءِ الْعِتْقِ في عُرْفِ اللُّغَةِ
وَالشَّرْعِ كما يُسْتَعْمَلُ في الأخبار فإن الْعَرَبَ قبل وُرُودِ الشَّرْعِ
كَانُوا يُعْتِقُونَ عَبِيدَهُمْ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ وفي الْحَمْلِ على الْخَبَرِ
حَمْلٌ على الْكَذِبِ وَظَاهِرُ حَالِ الْعَاقِلِ بِخِلَافِهِ فَلَا يُصَدَّقُ في
الْقَضَاءِ كما لو قال لِامْرَأَتِهِ طَلَّقْتُك وَنَوَى بِهِ الْإِخْبَارَ
كَذِبًا لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
الْإِخْبَارَ وَإِنْ كان إرَادَتُهُ الْخَبَرَ خِلَافَ الظَّاهِرِ
وَلَوْ قال عَنَيْت بِهِ أَنَّهُ كان خَبَرًا فَإِنْ كان مُوَكَّدًا لَا يُصَدَّقُ
أَصْلًا لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ وَإِنْ كان إنشاءا ( ( ( إنشاء ) ) ) لَا
يُصَدَّقُ قضاءا ( ( ( قضاء ) ) ) لِأَنَّ الظَّاهِرَ إرَادَةُ الْإِنْشَاءِ من هذه
الْأَلْفَاظِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْعُدُولِ عن الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ دِيَانَةً
لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ الْإِخْبَارَ عن الْمَاضِي
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ من عَمَلِ كَذَا أو أنت حُرٌّ الْيَوْمَ من هذا الْعَمَلِ
عَتَقَ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَعْمَالِ
وَالْأَزْمَانِ لَا يَتَجَزَّأُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَعْتِقَ الْيَوْمَ
وَيُسْتَرَقَّ غَدًا أو يَعْتِقَ في عَمَلٍ وَيُرَقَّ في عَمَلٍ فَكَانَ
الْإِعْتَاقُ في عَمَلٍ دُونَ عَمَلٍ وفي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ إعْتَاقًا من
الْأَعْمَالِ كُلِّهَا وفي الْأَزْمَانِ بِأَسْرِهَا فإذا نَوَى بَعْضَ
الْأَعْمَالِ وَالْأَزْمَانِ فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدِّقُهُ
الْقَاضِي وَكَذَا إذَا قال أنت مَوْلَايَ وقال عَنَيْت بِهِ الْمُوَالَاةَ في
الدِّينِ لَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ إذْ هو
يُسْتَعْمَلُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ ظَاهِرًا
____________________
(4/46)
وَيُصَدَّقُ
دِيَانَةً لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ ما نَوَى
وَلَوْ قال ما أنت إلَّا حُرٌّ عَتَقَ لِأَنَّ قَوْلَهُ ما أنت إلَّا حُرٌّ آكَدُ
من قَوْلِهِ أنت حُرٌّ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ بَعْدَ النَّفْيِ كَقَوْلِنَا لَا إلَهَ
إلَّا اللَّهُ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى عَتَقَ لِأَنَّ اللَّامَ في
قَوْلِهِ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى لَامُ الْغَرَضِ فَقَدْ نَجَّزَ الْحُرِّيَّةَ
وَبَيَّنَ أَنَّ غَرَضَهُ من التَّحْرِيرِ وَجْهُ اللَّهِ عز وجل وَكَذَا لو قال
لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ عَتَقَ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ في
الْأَصْلِ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِقَوْلِهِ أنت حُرٌّ وَبَيَّنَ غَرَضَهُ
الْفَاسِدَ من الْإِعْتَاقِ فَلَا يَقْدَحُ في الْعِتْقِ وَلَوْ دعى ( ( ( دعا ) )
) عَبْدَهُ سَالِمًا فقال يا سَالِمُ فَأَجَابَهُ مَرْزُوقٌ فقال أنت حُرٌّ وَلَا
نِيَّةَ له عَتَقَ الذي أَجَابَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أنت حُرٌّ خِطَابٌ
وَالْمُتَكَلِّمُ أَوْلَى بِصَرْفِ الْخِطَابِ إلَيْهِ من السَّاكِتِ
وَلَوْ قال عَنَيْت سَالِمًا عَتَقَا في الْقَضَاءِ أَمَّا مَرْزُوقٌ فَلِأَنَّ
الْإِشَارَةَ مَصْرُوفَةٌ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يُصَدَّقُ في أَنَّهُ ما
عَنَاهُ وَأَمَّا سَالِمٌ فَبِإِقْرَارِهِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَعْتِقُ الذي عَنَاهُ خَاصَّةً لِأَنَّ اللَّهَ
تَعَالَى يَطَّلِعُ على سِرِّهِ
وَلَوْ قال يا سَالِمُ أنت حُرٌّ فإذا هو عَبْدٌ آخَرُ له أو لِغَيْرِهِ عَتَقَ
سَالِمُ لِأَنَّهُ لَا مُخَاطَبَ هَهُنَا إلَّا سَالِمٌ فَيُصْرَفُ قَوْلُهُ أنت
حُرٌّ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي هو مُلْحَقٌ بِالصَّرِيحِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ وَهَبْت
لَك نَفْسَك أو وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أو بِعْت نَفْسَك مِنْك وَيَعْتِقُ سَوَاءٌ
قَبِلَ أو لم يَقْبَلْ نَوَى أو لم يَنْوِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ من الْوَاهِبِ أو
الْبَائِعِ إزَالَةُ الْمِلْكِ من الْمَوْهُوبِ أو الْمَبِيعِ وَإِنَّمَا
الْحَاجَةُ إلَى الْقَبُولِ من الْمَوْهُوبِ له وَالْمُشْتَرِي لِثُبُوتِ
الْمِلْكِ لَهُمَا وَهَهُنَا لَا يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ في نَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَا
يَصْلُحُ مَمْلُوكًا لِنَفْسِهِ فَتَبْقَى الْهِبَةُ وَالْبَيْعُ إزَالَةُ
الْمِلْكِ عن الرَّقِيقِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الْإِعْتَاقِ وَلِهَذَا
لَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ أَيْضًا لِأَنَّ
اللَّفْظَ صَرِيحٌ في الدَّلَالَةِ على زَوَالِ الْمِلْكِ عن الْمَوْهُوبِ وَالْمَبِيعِ
وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وقد قال أبو حَنِيفَةَ إذَا قال لِعَبْدِهِ
وَهَبْت لَك نَفْسَك وقال أَرَدْت وَهَبْت له عِتْقَهُ أَيْ لَا أَعْتِقُهُ لم
يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْهِبَةَ وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ عن
الْمَوْهُوبِ وَهِبَةُ الْعِتْقِ اسْتِبْقَاءُ الْمِلْكِ على الْمَوْهُوبِ فَقَدْ
عَدَلَ عن ظَاهِرِ الْكَلَامِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِعَبْدِهِ أنت مولى فُلَانٍ أو عقيق ( ( (
عتيق ) ) ) فُلَانٍ أَنَّهُ يَعْتِقُ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ
مُعْتَقُ فُلَانٍ وَلَا يَكُونُ مُعْتَقَ فُلَانٍ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا
لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَهُ فَإِنْ أَعْتَقَك فُلَانٌ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ
قَوْلَهُ أَعْتَقَك فُلَانٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ فُلَانًا أَنْشَأَ
الْعِتْقَ فِيك وَلَا يَكُونُ ذلك إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ
أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ قال لَك لِلْحَالِ أنت حُرٌّ وَلَا مِلْكَ له فيه فَلَا
يَعْتِقُ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ أو أُمَّهُ أو ابْنَهُ عَتَقَ عليه
نَوَى أو لم يَنْوِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّ شِرَاءَهُ جُعِلَ اعتاقا
شَرْعًا حتى تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ إذَا اشْتَرَى أَبَاهُ نَاوِيًا عن
الْكَفَّارَةِ في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ
وَالشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من يَمْلِكُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه بِالشِّرَاءِ أو
بِقَبُولِ الْهِبَةِ أو الصَّدَقَةِ أو الْوَصِيَّةِ أو بِالْإِرْثِ يَعْتِقُ عليه
وقال مَالِكٌ لَا يَعْتِقُ ما لم يُعْتِقْهُ وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَعْتِقُ
بِالْمِلْكِ إلَّا من له ولاد ( ( ( أولاد ) ) ) فَأَمَّا من لَا ولاد ( ( ( أولاد
) ) ) له فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِإِعْتَاقٍ مُبْتَدَأٍ
أَمَّا مَالِكٌ فإنه احْتَجَّ بِمَا رَوَى أبو دَاوُد في سُنَنِهِ بِإِسْنَادِهِ
عن أبي هُرَيْرَةَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ
إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ حَقَّقَ الْإِعْتَاقَ
عَقِيبَ الشِّرَاءِ وَلَوْ كان الشِّرَاءُ نَفْسُهُ إعْتَاقًا لم يَتَحَقَّقْ
الْإِعْتَاقُ عَقِيبَهُ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمُعْتَقِ لَا يُتَصَوَّرُ فَدَلَّ
أَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ ليس بِإِعْتَاقٍ لأن الشِّرَاءَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ
وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ الْمِلْكِ وَبَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ فَكَيْفَ يَكُونُ
اللَّفْظُ الْوَاحِدُ إثْبَاتًا وَإِزَالَةً
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه
فَهُوَ حُرٌّ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما قال جاء رَجُلٌ إلَى النبي فقال يا
رَسُولَ اللَّهِ إنِّي دَخَلْت السُّوقَ فَوَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فَاشْتَرَيْته
وأنا أُرِيدُ أَنْ أُعْتِقَهُ فقال له إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قد أَعْتَقَهُ
وَالْحَدِيثَانِ حُجَّةٌ على مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَمَعْنَى قَوْلِ النبي في
حديث أبي هُرَيْرَةَ فَتُعْتِقَهُ أَيْ تُعْتِقَهُ بِالشِّرَاءِ يُحْمَلُ على هذا
عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الشِّرَاءُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَالْإِعْتَاقُ إزَالَةُ
الْمِلْكِ فَنَعَمْ وَلَكِنَّ الْمُمْتَنَعَ إثْبَاتُ حُكْمٍ وَضِدِّهِ بِلَفْظٍ
وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ وَأَمَّا في زَمَانَيْنِ فَلَا لِأَنَّ عِلَلَ
الشَّرْعِ في الْحَقِيقَةِ دَلَائِلُ وَأَعْلَامٌ على الْمَحْكُومَاتِ
الشَّرْعِيَّةِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ الشِّرَاءِ السَّابِقِ عَلَمًا على
ثُبُوتِ الْمِلْكِ في الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ اللَّفْظُ بِعَيْنِهِ
عَلَمًا على ثُبُوتِ الْعِتْقِ في الزَّمَانِ الثَّانِي إذْ لَا تَنَافِيَ عِنْدَ
اخْتِلَافِ الزَّمَانِ
وَأَمَّا
____________________
(4/47)
الْكَلَامُ
مع الشَّافِعِيِّ فَمَبْنِيٌّ على أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُحَرِّمَةَ لِلنِّكَاحِ
فِيمَا سِوَى الْوِلَادِ وَهِيَ قَرَابَةُ الْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ
وَالْخُؤُولَةِ حَرَامَ الْقَطْعِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَحْرُمُ قَطْعُهَا
وَعَلَى هذا يبني وُجُوبُ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ في هذه
الْقَرَابَةِ أَنَّهُ لَا يَقْطَعُ وَيَجِبُ النَّفَقَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا له
وَلَا خِلَافَ في أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ حَرَامُ الْقَطْعِ وَلَا خِلَافَ
أَيْضًا في أَنَّ الْقَرَابَةَ التي لَا تُحَرِّمُ النِّكَاحَ كَقَرَابَةِ بَنِي
الْأَعْمَامِ غَيْرُ مُحَرَّمَةِ الْقَطْعِ فَالشَّافِعِيُّ يُلْحِقُ هذه
الْقَرَابَةَ بِقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ وَنَحْنُ نُلْحِقُهَا بِقَرَابَةِ
الْوِلَادِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْعِتْقَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ لِكَوْنِ
الْعِتْقِ صِلَةً وَكَوْنِ الْقَرَابَةِ مُسْتَدْعِيَةً لِلصِّلَةِ وَالْإِحْسَانُ
إلَى الْقَرِيبِ وَالْعِتْقُ من أَعْلَى الصِّلَاتِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا
بِأَعْلَى الْقَرَابَاتِ وَهِيَ قَرَابَةُ الْوِلَادِ لِمَا فيها من
الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَلَا يُوجَدُ ذلك في هذه الْقَرَابَةِ فَلَا
يُلْحَقُ بها بَلْ يُلْحَقُ بِالْقَرَابَةِ الْبَعِيدَةِ وَهِيَ قَرَابَةُ بَنِي
الْأَعْمَامِ وَلِهَذَا أُلْحِقَ بها في كَثِيرٍ من الْأَحْكَامِ وَهِيَ جَرَيَانُ
الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَالطَّرَفِ وَقَبُولُ الشَّهَادَةِ وَالْحَبْسُ
بِالدَّيْنِ وَجَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ وَنِكَاحُ الْحَلِيلَةِ وَعَدَمُ التَّكَاتُبِ
وَلَنَا أَنَّ قَرَابَةَ الْوِلَادِ إنَّمَا أَوْجَبَتْ الْعِتْقَ عِنْدَ
الْمِلْكِ لِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةَ الْقَطْعِ وَإِبْقَاءُ الْمِلْكِ في الْقَرِيبِ
يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ لِأَنَّ الْمِلْكَ نَفْسَهُ من بَابِ الذُّلِّ
وَالْهَوَانِ فَيُورِثُ وَحْشَةً وأنها تُوجِبُ التَّبَاعُدَ بين الْقَرِيبِينَ
وهو تَفْسِيرُ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَشَرْعُ السَّبَبِ الْمُفْضِي إلَى الْقَطْعِ
مع تَحْرِيمِ الْقَطْعِ مُتَنَاقِضٌ فَلَا يَبْقَى الْمِلْكُ دَفْعًا
لِلتَّنَاقُضِ فَلَا يَبْقَى الرِّقُّ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لم يُشْرَعْ بَقَاؤُهُ
في الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ إلَّا لِأَجْلِ الْمِلْكِ الْمُحْتَرَمِ لِلْمَالِكِ
الْمَعْصُومِ وإذا زَالَ الرِّقُّ ثَبَتَ الْعِتْقُ ضَرُورَةً وَالْقَرَابَةُ
الْمُحَرِّمَةُ لِلنِّكَاحِ مُحَرَّمَةُ الْقَطْعِ لِأَنَّ النُّصُوصَ الْمُقْتَضِيَةَ
لِحُرْمَةِ قَطْعِ الرَّحِمِ عَامَّةٌ أو مُطْلَقَةٌ قال اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ }
مَعْنَاهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ الذي تَسَاءَلُونَ بِهِ فَلَا تَعْصُوهُ وَاتَّقُوا
الْأَرْحَامَ فَلَا تَقْطَعُوهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَاتَّقُوا
اللَّهَ وَصِلُوا الْأَرْحَامَ وقد رُوِيَ في الْأَخْبَارِ عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال صِلُوا الْأَرْحَامَ فإنه أَبْقَى لَكُمْ في الدُّنْيَا وَخَيْرٌ
لَكُمْ في الْآخِرَةِ وَالْأَمْرُ بِالْوَصْلِ يَكُونُ نَهْيًا عن الْقَطْعِ
لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَالْأَمْرُ بِالْفِعْلِ نَهْيٌ عن ضِدِّهِ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من اللَّهِ تَعَالَى مُعَلَّقَةٌ
بِالْعَرْشِ تَقُولُ يا رَبِّ هذا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ قُطِعْتُ ولم أُوصَلْ
فيقول اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَمَا يَكْفِيك أَنِّي شَقَقْت لَك اسْمًا من
اسْمِي أنا الرَّحْمَنُ وَأَنْتِ الرَّحِمُ فَمَنْ وَصَلَك وَصَلْته وَمِنْ
قَطَعَك بَتَتُّهُ وَمِثْلُ هذا الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِارْتِكَابِ
الْمُحَرَّمِ فَدَلَّ أَنَّ قَطْعَ الرَّحِمِ حَرَامٌ وَالرَّحِمُ هو الْقَرَابَةُ
سُمِّيَتْ الْقَرَابَةُ رَحِمًا اما بِاعْتِبَارِ أَنَّ الرَّحِمَ مُشْتَقٌّ من
الرَّحْمَةِ كما جاء في الحديث وَالْقَرَابَةُ سَبَبُ الرَّحْمَةِ وَالشَّفَقَةِ
على الْقَرِيبِ طَبْعًا وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْعُضْوِ الْمَخْصُوصِ من النِّسَاءِ
الْمُسَمَّى بِالرَّحِمِ مَحَلُّ السَّبَبِ الذي يَتَعَلَّقُ بِهِ وُجُودُ
الْقَرَابَاتِ فَكَانَ كُلُّ قَرَابَةٍ أو مُطْلَقُ الْقَرَابَةِ مُحَرَّمَةَ
الْقَطْعِ بِظَاهِرِ النُّصُوصِ إلَّا ما خُصَّ أو قُيِّدَ بِدَلِيلٍ ثُمَّ
نُخْرِجُ الْأَحْكَامَ أَمَّا جَرَيَانُ الْقِصَاصِ فَلَا يُفْضِي إلَى قَطْعِ
الرَّحِمِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ جَزَاءُ الْفِعْلِ وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يُضَافُ إلَى
الْفَاعِلِ فَكَانَ الْأَخُ الْقَاتِلُ أو الْقَاطِعُ هو قَاطَعَ الرَّحِمِ
فَكَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ أو قَطَعَ طَرَفَهُ بِاخْتِيَارِهِ وَكَذَا الْحَبْسُ
بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْمَطْلِ الذي هو جِنَايَةٌ فَكَانَ مُضَافًا
إلَيْهِ
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَهِيَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وهو تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ
بِالْمَالِ وأنه حَصَلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُفْضِي إلَى الْقَطْعِ إلَّا
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَبِ ابْنَهُ في الْخِدْمَةِ التي يَحْتَاجُ
إلَيْهَا الْأَبُ لَا لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَلْ لِأَنَّ
ذلك يُسْتَحَقُّ على الِابْنِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْأَجْرَ
في مُقَابَلَتِهِ فَلَا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الِابْنُ
أَبَاهُ يَصِحُّ وَلَكِنْ يُفْسَخُ احْتِرَامًا لِلْأَبِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ
لِلْأَبِ زِيَادَةَ احْتِرَامٍ شَرْعًا يَظْهَرُ في حَقِّ هذا وفي حَقِّ
الْقِصَاصِ وَالْحَبْسِ وَلَا كَلَامَ فيه
وَأَمَّا نِكَاحُ الْحَلِيلَةِ فإنه وَإِنْ كان فيه نَوْعُ غَضَاضَةٍ لَكِنَّ هذا
النَّوْعَ من الْغَضَاضَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ في تَحْرِيمِ الْقَطْعِ فَلِأَنَّ
الْجَمْعَ بين الاختين حُرِّمَ لِلصِّيَانَةِ عن قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ثُمَّ
يَجُوزُ نِكَاحُ الْأُخْتِ بَعْدَ طَلَاقِ أُخْتِهَا وَانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا
وَإِنْ كان لَا يَخْلُو عن نَوْعِ غَضَاضَةٍ
وَأَمَّا التَّكَاتُبُ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَتَكَاتَبُ الْأَخُ كما
في قَرَابَةِ الْوِلَادِ وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ ثُمَّ نَقُولُ
عَدَمُ تَكَاتُبِ الْأَخِ لَا يُفْضِي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ لِأَنَّ مِلْكَهُ
لَا يَصْلُحُ لِلتَّكَاتُبِ لِأَنَّهُ من بَابِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ وَمِلْكُ
الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ في حَقِّ التَّبَرُّعِ وَالْعِتْقِ
فإذا لم يُتَكَاتَبْ عليه لم يَقْدِرْ الْأَخُ على إزَالَةِ الذُّلِّ عنه وهو
الْمِلْكُ فَلَا يُفْضِي إلَى الْغَضَاضَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ لِأَنَّ مِلْكَ
الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كان ضَرُورِيًّا لم يُشْرَعْ إلَّا في حَقِّ حُرِّيَّةِ
نَفْسِهِ لَكِنَّ
____________________
(4/48)
حُرِّيَّةَ
أبيه وَابْنِهِ في مَعْنَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمَرْءَ يَسْعَى
لِحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ وَآبَائِهِ مِثْلَ ما يَسْعَى لِحُرِّيَّةِ نَفْسِهِ
فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَسَوَاءٌ كان الْمَالِكُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ بَالِغًا أو صَبِيًّا عَاقِلًا
أو مَجْنُونًا يَعْتِقُ عليه إذَا مَلَكَهُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ من مَلَكَ ذَا
رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَهُوَ حُرٌّ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْحُكْمَ وهو
الْحُرِّيَّةُ بِالْمِلْكِ فَيَقْتَضِي أَنَّ كُلَّ من كان من أَهْلِ الْمِلْكِ
كان من أَهْلِ هذا الْحُكْمِ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ من أَهْلِ الْمِلْكِ
فَكَانَا من أَهْلِ هذا الْحُكْمِ فَإِنْ قِيلَ إنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ إذَا
اشْتَرَى أَبَاهُ يَعْتِقُ عليه وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا حتى تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ وَالصَّبِيُّ وَإِنْ كان عَاقِلًا
فَلَيْسَ من أَهْلِ الْإِعْتَاقِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ أو لَا يَكُونَ
الشِّرَاءُ إعْتَاقًا قِيلَ إنَّ كَوْنَ شِرَاءِ الْأَبِ إعْتَاقًا عَرَفْنَاهُ
بِالنَّصِّ وهو ما رَوَيْنَاهُ من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَالنَّصُّ
قَابِلٌ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّقْيِيدِ وقد قام الدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّبِيَّ
ليس بِمُرَادٍ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الاعتاق فَلَا يَكُونُ الشِّرَاءُ من
الصَّبِيِّ وَإِنْ كان عَاقِلًا إعْتَاقًا بَلْ يَكُونُ تَمْلِيكًا فَقَطْ
فَيَعْتِقُ عليه بِالْمِلْكِ شَرْعًا لِقَوْلِ النبي من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ
مَحْرَمٍ منه فَهُوَ حُرٌّ لَا بالاعتاق وَلَوْ مَلَكَ حَلِيلَةَ ابْنِهِ أو
مَنْكُوحَةَ أبيه أو أمة من الرَّضَاعِ لَا يَعْتِقُ عليه
وَكَذَا إذَا مَلَكَ ابْنَ الْعَمِّ أو الْعَمَّةِ أو ابْنَتَهَا أو ابْنَ
الْخَالِ أو الْخَالَةِ أو بِنْتَيْهِمَا لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ
مِلْكُ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَا بُدَّ من وُجُودِهِمَا أَعْنِي الرَّحِمَ
الْمَحْرَمَ فَفِي الْأَوَّلِ وحد الْمَحْرَمُ بِلَا رَحِمٍ وفي الثَّانِي وُجِدَ
الرَّحِمُ بِلَا مَحْرَمٍ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ
وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ في ذلك سَوَاءٌ لِاسْتِوَائِهِمْ في
حُرْمَةِ قَطْعِ الرَّحِمِ وَأَهْلِيَّةِ الاعتاق وَأَهْلِيَّةِ الْمِلْكِ
وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ من مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَهُوَ حُرٌّ وَوَلَاءُ
الْمُعْتَقِ لِمَنْ عَتَقَ عليه لِأَنَّ الْعِتْقَ إنْ وَقَعَ بِالشِّرَاءِ
فَالشِّرَاءُ إعْتَاقٌ
وقد قال النبي الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَإِنْ وَقَعَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا
فَالْمِلْكُ لِلْمُعْتَقِ عليه فَكَانَ الْوَلَاءُ له وَلَوْ اشْتَرَى أَمَةً
وَهِيَ حُبْلَى من أبيه وَالْأَمَةُ لِغَيْرِ الْأَبِ جَازَ الشِّرَاءُ وَعَتَقَ
ما في بَطْنِهَا وَلَا تَعْتِقُ الْأَمَةُ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا قبل أَنْ
تَضَعَ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا إذَا وَضَعَتْ
أَمَّا جَوَازُ الشِّرَاءِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ شِرَاءَ الْأَخِ جَائِزٌ
كَشِرَاءِ الْأَبِ وَسَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
وَأَمَّا عِتْقُ الْحَمْلِ فَلِأَنَّهُ أَخُوهُ وقد مَلَكَهُ فَيَعْتِقُ عليه
وَلَا تَعْتِقُ الْأُمُّ عليه لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ عنه لِعَدَمِ الْقَرَابَةِ
بَيْنَهُمَا
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لو مَلَكَهَا أَبُوهُ لَا تَعْتِقُ عليه فَابْنُهُ أَوْلَى
وَأَمَّا عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِهَا مادام الْحَمْلُ قَائِمًا فلان في بَطْنِهَا
وَلَدًا حُرًّا وَلِأَنَّ بَيْعَ الْحَامِلِ بِدُونِ الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو بَاعَهَا وَاسْتَثْنَى الْحَمْلَ يَفْسُدُ الْبَيْعُ فإذا كان
الْوَلَدُ حُرًّا وَالْحُرُّ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ
اسْتَثْنَى الْوَلَدَ وإذا وَضَعَتْ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ الْمَانِعَ قد زَالَ
وإذا مَلَكَ شِقْصًا من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه عَتَقَ عليه قَدْرُ ما مَلَكَ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ يَعْتِقُ كُلُّهُ كما لو اعتق شِقْصًا
من عَبْدٍ له أَجْنَبِيٍّ
لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يَتَجَزَّأُ
وَلَوْ مَلَكَ رَجُلَانِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدِهِمَا حتى عَتَقَ عليه فَهَذَا
لَا يَخْلُو أما إن مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَهُمَا فيه صَنِيعٌ وَإِمَّا إنْ
مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَا صَنِيعَ لَهُمَا فيه فَإِنْ مَلَكَاهُ بِسَبَبٍ لَهُمَا
فيه صُنْعٌ بِأَنْ مَلَكَاهُ بِالشِّرَاءِ أو بِقَبُولِ الْهِبَةِ أو الصَّدَقَةِ
أو الْوَصِيَّةِ لَا يَضْمَنُ من عَتَقَ عليه لِشَرِيكِهِ شيئا مُوسِرًا كان أو
مُعْسِرًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَلَكِنْ يَسْعَى له الْعَبْدُ في نَصِيبِهِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَضْمَنُ الذي عَتَقَ عليه نَصِيبَهُ إنْ كان
مُوسِرًا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا بَاعَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ
من عَبْدِهِ أو وَهَبَهُ له حتى عَتَقَ عليه لَا يَضْمَنُ الْمُشْتَرِي نَصِيبَ
الْبَائِعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ مُوسِرًا كان الْقَرِيبُ أو مُعْسِرًا وَلَكِنْ
يَسْعَى الْعَبْدُ في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ ان كان
مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا يَسْعَى الْعَبْدُ
وَلَوْ قال الرَّجُلُ لِعَبْدٍ ليس بِقَرِيبٍ له إنْ مَلَكْته فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ
اشْتَرَاهُ الْحَالِفُ وَغَيْرُهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ
على هذا الْخِلَافِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عليه في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنِّي لَا أَعْرِفُ الرِّوَايَةَ
في هذه الْمَسْأَلَةِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كان بين اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا
نَصِيبَهُ من قَرِيبِ الْعَبْدِ حتى عَتَقَ عليه أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْمَنُ
نَصِيبَ للشريك ( ( ( الشريك ) ) ) السَّاكِتِ إنْ كان مُوسِرًا وَلَا يَضْمَنُ
الْبَائِعُ شيئا
وَالْكَلَامُ في هذه الْمَسَائِلِ بِنَاءً على أَنَّ الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا
الْأَصْلِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لم يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا
وَشِرَاءُ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ فَكَانَ شِرَاءُ نَصِيبِهِ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ
وَإِعْتَاقُ نَصِيبِهِ إعْتَاقٌ لِنَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَعْتِقُ كُلُّهُ كَالْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وهو مُوسِرٌ وَلَمَّا كان
مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ كان شِرَاءُ نَصِيبِهِ
____________________
(4/49)
إعْتَاقًا
لِنَصِيبِهِ خَاصَّةً فلم يَكُنْ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ وَلَا تَمْلِيكًا
لِنَصِيبِهِ أَيْضًا لِأَنَّ ذلك ثَبَتَ لِضَرُورَةِ تَكْمِيلِ الْإِعْتَاقِ
لِضَرُورَةِ عَدَمِ التَّجْزِئَةِ فإذا كان مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَلَا ضَرُورَةَ
إلَى التَّكْمِيلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّمْلِيكِ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لَا ضَمَانَ إذَا كان مُعْسِرًا وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ
وَالتَّمْلِيكِ لَا يَسْقُطُ بالأعسار وكان يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الضَّمَانُ
على الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ ثَمَّةَ
مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ بِالنَّصِّ نَظَرًا لِلشَّرِيكِ السَّاكِتِ وهو
مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظَرِ إذْ لم يُوجَدْ منه الرِّضَا بِمُبَاشَرَةِ الْإِعْتَاقِ
من الشَّرِيكِ وَلَا بِمُبَاشَرَةِ شَرْطِهِ وَهَهُنَا وُجِدَ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ من الْمُشْتَرِيَيْنِ رَاضٍ بِشِرَاءِ صَاحِبِهِ وَكَيْفَ لَا يَكُونُ
رَاضِيًا بِهِ وأن شِرَاءَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ شِرَاءِ
صَاحِبِهِ حتى لو أَوْجَبَ الْبَائِعُ لَهُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ
صَاحِبِهِ لم يَصِحَّ
وَكَذَا الْبَائِعُ نِصْفَ عَبْدِهِ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ رَاضٍ بِشِرَائِهِ
وَمَنْ رضي بِالضَّرَرِ لَا يُنْظَرُ له فلم تَكُنْ هذه الْمَوَاضِعُ نَظِيرَ
الْمَنْصُوصِ عليه فَبَقِيَ الْحُكْمُ فيها على الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ
الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ
منه لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ دَلِيلُ الرِّضَا من الشَّرِيكِ السَّاكِتِ بِشِرَاءِ
الْقَرِيبِ أَصْلًا حتى يُوجِبَ سُقُوطَ حَقِّهِ في الضَّمَانِ فَكَانَ في مَعْنَى
الْمَنْصُوصِ عليه فَيَلْحَقُ بِهِ ثُمَّ وَجْهُ الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ على
طَرِيقِ الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ وَإِنْ سَلَّمَ أَنَّ شِرَاءَ نَصِيبِهِ إعْتَاقٌ
لِنَصِيبِهِ وَإِفْسَادٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ لَكِنَّ هذا إفْسَادٌ مَرْضِيٌّ بِهِ
من جِهَةِ الشَّرِيكِ لِأَنَّهُ رضي بِشِرَاءِ نَفْسِهِ وَإِثْبَاتِ الْمِلْكِ له
في نَصِيبِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ ذلك بِدُونِ شِرَاءِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْخِلَافَ
فِيمَا إذَا أَوْجَبَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ لَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً فَلَا
بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُوَافِقًا لِلْإِيجَابِ إذْ الْبَائِعُ ما رضي
إلَّا بِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال بِعْت مِنْكُمَا فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا ولم يَقْبَلْ
الْآخَرُ لم يَصِحَّ الْبَيْعُ فَكَانَ الرِّضَا بِشِرَاءِ نَفْسِهِ رِضًا
بِشِرَاءِ صَاحِبِهِ فَكَانَ شِرَاءُ الْقَرِيبِ إفْسَادًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ
بِرِضَا الشَّرِيكِ فَلَا يُوجِبَ الضَّمَانَ كما إذَا كان الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا
بين اثْنَيْنِ فقال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَعْتِقْ نَصِيبَك أو رَضِيت بِإِعْتَاقِ
نَصِيبِك فَأَعْتَقَ لَا يَضْمَنُ كَذَا هذا
فَإِنْ قِيلَ هذه النُّكْتَةُ لَا تَتَمَشَّى في الْهِبَةِ فإن أَحَدَهُمَا إذَا
قَبِلَ الْهِبَةَ دُونَ الْآخَرِ يَثْبُتُ له الْمِلْكُ فلم يَكُنْ الرِّضَا
بِقَبُولِ الْهِبَةِ في نَصِيبِهِ رِضًا بِقَبُولِ صَاحِبِهِ فلم يَكُنْ هذا
إفْسَادًا مَرْضِيًّا بِهِ من جِهَةِ الشَّرِيكِ وَكَذَا لَا تَتَمَشَّى فِيمَا
إذَا لم يَعْلَمْ الشَّرِيكُ الأجنبى أَنَّ شَرِيكَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ
إذَا لم يَعْلَمْ بِهِ لم يَعْلَمْ كَوْنَ شِرَاءِ الشَّرِيكِ إعْتَاقًا لِنَصِيبِهِ
فَلَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَلَا يَثْبُتُ رِضَاهُ
بِالْإِفْسَادِ لِأَنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ بِدُونِ الْعِلْمِ بِهِ مُحَالٌ
فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا من بَابِ عَكْسِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ أَرَاهُ الْحُكْمَ
مع عَدَمِ الْعِلَّةِ
وَهَذَا تَفْسِيرُ الْعَكْسِ وَالْعَكْسُ ليس بِشَرْطٍ في الْعِلَلِ
الشَّرْعِيَّةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِحُكْمٍ وَاحِدٍ شَرْعِيٍّ عِلَلٌ
فَنَحْنُ نَفَيْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ في بَعْضِ الصُّوَرِ بِمَا ذَكَرْنَا
وَنُبْقِيهِ في غَيْرِهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى
ثُمَّ نَقُولُ أَمَّا فَصْلُ الْهِبَةِ فَنَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنْ
لم يَكُنْ قَبُولُهُ شَرْطَ صِحَّةِ قَبُولِ الْآخَرِ حتى يَنْفَرِدَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَبُولِ لَكِنَّهُمَا إذَا قَبِلَا جميعا كان قَبُولُهُمَا
بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ جَوَابُ إيجَابٍ وَاحِدٍ
مِثَالُهُ إذَا قَرَأَ الْمُصَلِّي آيَةً وَاحِدَةً قَصِيرَةً أو طَوِيلَةً على
الِاخْتِلَافِ يَتَعَلَّقُ بِهِ الْجَوَازُ وَلَوْ قَرَأَ عَشْرَ آيَاتٍ أو
أَكْثَرَ يَتَعَلَّقُ الْجَوَازُ بِالْكُلِّ وَيُجْعَلُ الْكُلُّ كَآيَةٍ
وَاحِدَةٍ كَذَا هذا
وَأَمَّا فَصْلُ الْعِلْمِ فَتَخْرِيجُهُ على جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو
أَنَّ عِنْد أبي حَنِيفَةَ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ
وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ نَصَّ عليه في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الضَّمَانَ عِنْدَهُمَا يَجِبُ مع
الْعِلْمِ فَمَعَ الْجَهْلِ أَوْلَى
وَأَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ سُقُوطَ ضَمَانِ الاتلاف عِنْدَ
الْإِذْنِ وَالرِّضَا بِهِ لَا يَقِفُ على الْعِلْمِ فإن من قال لِرَجُلٍ كُلْ هذا
الطَّعَامَ وَالْآذِنُ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُ نَفْسِهِ فَأَكَلَهُ
الرَّجُلُ لَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ عليه وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ وَهَذَا
لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عليها
بَلْ الْمُعْتَبَرُ هو سَبَبُ حُصُولِ الْعِلْمِ وَالطَّرِيقِ الموصول ( ( (
الموصل ) ) ) إلَيْهِ وَيُقَامُ ذلك مَقَامَ حَقِيقَةِ الْعِلْمِ كما يُقَامُ
سَبَبُ الْقُدْرَةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَطَرِيقُ حُصُولِ الْعِلْمِ
هَهُنَا في يَدِهِ وهو السُّؤَالُ وَالْفَحْصُ عن حَقِيقَةِ الْحَالِ فإذا لم
يَفْعَلْ فَقَدْ قَصَّرَ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّمَانَ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَصَلَ بين الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ فقال إنْ
كان الْأَجْنَبِيُّ يَعْرِفُ ذلك فإن الْعَبْدَ يَعْتِقُ وَيَسْعَى للأجنبى في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِنْ كان لَا يَعْلَمُ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نقص ( ( ( نقض ) ) ) الْبَيْعَ وَإِنْ شَاءَ تَمَّ عليه
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَوَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الشِّرَاءَ مع شَرِكَةِ الْأَبِ عَيْبٌ فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُيُوبِ أَنَّهُ إنْ عَلِمَ بِهِ الْمُشْتَرِي يَلْزَمُهُ
الْبَيْعُ كما في سَائِرِ الْعُيُوبِ
وَإِنْ لم يَعْلَمْ بِهِ لم يَلْزَمْهُ مع الْعَيْبِ وإذا لم يَلْزَمْهُ الْعَقْدُ
____________________
(4/50)
في
حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لم يَلْزَمْ في حَقِّ الْآخَرِ فَلَا يَعْتِقُ
الْعَبْدُ وَيَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لو اشْتَرَى رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدٍ ثُمَّ
اشْتَرَى أَبَ الْعَبْدِ النِّصْفَ الْبَاقِيَ وهو مُوسِرٌ فَالْمُشْتَرِي
بِالْخِيَارِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا
فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْمُشْتَرِي الْأَجْنَبِيِّ
ما هو دَلِيلُ الرِّضَا في سُقُوطِ الضَّمَانِ عن الْأَبِ فَلَا يَسْقُطُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال لو أَنَّ عَبْدًا اشْتَرَى نَفْسَهُ هو
وَأَجْنَبِيٌّ من مَوْلَاهُ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ في حِصَّةِ الْأَجْنَبِيِّ
لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْعِتْقُ وَالْبَيْعُ في عَقْدٍ وَاحِدٍ في زَمَانٍ وَاحِدٍ
لِأَنَّ بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ منه إعْتَاقٌ على مَالٍ فَلَا يصبح ( ( ( يصح ) )
) الْبَيْعُ بِخِلَافِ الرَّجُلَيْنِ اشْتَرَيَا ابْنَ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ
يَصِحُّ
وَإِنْ اجْتَمَعَ الشِّرَاءُ وَالْعِتْقُ في عَقْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ شِرَاءَ
الْقَرِيبِ تَمَلُّكٌ في الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَإِعْتَاقٌ في الزَّمَانِ
الثَّانِي وأنه جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال إنْ مَلَكْت من هذا الْعَبْدِ شيئا
فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْحَالِفُ وَأَبُوهُ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَتَقَ
على الْأَبِ وَهَذَا على أَصْلِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ وقد
اجْتَمَعَ العتق ( ( ( للعتق ) ) ) سَبَبَانِ الْقَرَابَةُ وَالْيَمِينُ إلَّا
أَنَّ الْقَرَابَةَ سَابِقَةٌ على الْيَمِينِ
فإذا مَلَكَاهُ صَارَ كَأَنَّ عِتْقَ الْأَبِ أَسْبَقُ فَيَعْتِقُ النَّصِيبَانِ
عليه وَلِهَذَا قال في رَجُلٍ قال إنْ اشْتَرَيْت فُلَانًا أو بَعْضَهُ فَهُوَ
حُرٌّ فَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ ثُمَّ اشْتَرَيَاهُ عَتَقَ
عَلَيْهِمَا وَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ وهو ابْنٌ لِلَّذِي ادَّعَاهُ
لِأَنَّ النَّسَبَ هَهُنَا لم يَسْبِقْ الْيَمِينَ فَيَعْتِقُ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عليه وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ عَتَقَ عَلَيْهِمَا
وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ
وَإِنْ مَلَكَ اثْنَانِ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدِهِمَا بِسَبَبٍ لَا صُنْعَ
لَهُمَا فيه بِأَنْ وَرِثَا عَبْدًا وهو قَرِيبُ أَحَدِهِمَا حتى عَتَقَ عليه لَا
يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا وَلَكِنْ يَسْعَى الْعَبْدُ
في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْعِتْقَ هَهُنَا
ثَبَتَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا من غَيْرِ إعْتَاقٍ من جِهَةِ أَحَدٍ من الْعِبَادِ
إذْ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ من الْعِبَادِ في الْإِرْثِ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ على
الْمَرْءِ يَعْتَمِدُ شَرْعًا صُنْعًا من جِهَتِهِ ولم يُوجَدْ من الْقَرِيبِ
فَلَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ أَلْفَاظُ النَّسَبِ وَذِكْرُهَا لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ على وَجْهِ الصِّفَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ على سَبِيلِ الْفِدَاءِ
فَإِنْ ذَكَرَهَا على طَرِيقِ الصِّفَةِ بِأَنْ قال لِمَمْلُوكِهِ هذا ابْنِي
فَهُوَ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان يَصْلُحُ ابْنًا له بِأَنْ كان يُولَدُ مِثْلُهُ
لِمِثْلِهِ وَإِمَّا أن كان لَا يَصْلُحُ وَلَا يَخْلُو إمَّا أن كان مَجْهُولَ
النَّسَبِ أو مَعْرُوفَ النَّسَبِ من الْغَيْرِ فَإِنْ كان يَصْلُحُ ابْنًا له
فَإِنْ كان مَجْهُولَ النَّسَبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِتْقُ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان مَعْرُوفَ النَّسَبِ من الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ
وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَثْبُتُ
الْعِتْقُ
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْعِتْقَ بِنَاءٌ على النَّسَبِ فَإِنْ ثَبُتَ
النَّسَبُ ثَبُتَ الْعِتْقُ وَإِلَّا فَلَا وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ ابْنًا له
فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَهَلْ يَعْتِقُ قال أبو حَنِيفَةَ يَعْتِقُ
سَوَاءٌ كان مَجْهُولَ النَّسَبِ أو مَعْرُوفَ النَّسَبِ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ لَا يَعْتِقُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ الْعِتْقَ مَبْنِيٌّ على
تَصَوُّرِ النَّسَبِ وَاحْتِمَالِ ثُبُوتِهِ فَإِنْ تُصُوِّرَ ثُبُوتُهُ ثَبَتَ
الْعِتْقُ وَإِلَّا فَلَا
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِتْقِ لَا يَقِفُ على ثُبُوتِ
النَّسَبِ وَلَا على قصور ( ( ( تصور ) ) ) ثُبُوتِهِ وَكَذَلِكَ لو قال
لِمَمْلُوكَتِهِ هذه بِنْتِي فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ وَالِاتِّفَاقِ
وَالِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في الِابْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ الْعِتْقَ لو ثَبَتَ لَا يَخْلُو إمَّا أن ثَبَتَ
ابْتِدَاءً أو بِنَاءً على ثُبُوتِ النَّسَبِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لم
يُوجَدْ الاعتاق ابْتِدَاءً وَلَا سَبِيلَ لِلثَّانِي أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
فَلِأَنَّ النَّسَبَ لم يَثْبُتْ في الْمَسْأَلَتَيْنِ جميعا فَلَا يَثْبُتُ
الْعِتْقُ بِنَاءً عليه وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ في الْمَسْأَلَةِ
الثَّانِيَةِ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ وفي الْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ النَّسَبِ منه حَقِيقَةً بِالزِّنَا
وَالِاشْتِهَارِ من غَيْرِهِ بِنَاءً على النَّسَبِ الظَّاهِرِ فَيَعْتِقُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ الْمُتَدَيِّنِ يُحْمَلُ على
الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ لِاعْتِبَارِ عَقْلِهِ وَدِينِهِ دَلَالَةً
وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ هذا الْكَلَامِ من وَجْهَيْنِ الْكِنَايَةُ وَالْمَجَازُ
أَمَّا الْكِنَايَةُ فَلِوُجُودِ طَرِيقِ الْكِنَايَةِ في اللُّغَةِ وهو
الْمُلَازَمَةُ بين الشَّيْئَيْنِ أو الْمُجَاوَرَةُ بَيْنَهُمَا غَالِبًا على
وَجْهٍ يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَعَلُّقُ الْوُجُودِ بِهِ أو عِنْدَهُ أو تَعَلُّقُ
الْبَقَاءِ وَتَكُونُ الْكِنَايَةُ كَالتَّابِعِ للمكني والمكني هو الْمَقْصُودُ
فَيُتْرَكُ اسْمُ الْأَصْلِ صَرِيحًا وَيُكَنَّى عنه بِاسْمِ الْمُلَازِمِ إيَّاهُ
التَّابِعِ له كما في قَوْلِهِ عز وجل { أو جاء أَحَدٌ مِنْكُمْ من الْغَائِطِ }
وَالْغَائِطُ اسْمٌ لِلْمَكَانِ الْخَالِي الْمُطْمَئِنِّ من الْأَرْضِ كَنَّى
بِهِ عن الْحَدَثِ لِمُلَازَمَةٍ بين هذا الْمَكَانِ وَبَيْنَ الْحَدَثِ غَالِبًا
وَعَادَةً إذْ الْعَادَةُ أَنَّ الْحَدَثَ يُوجَدُ في مِثْلِ هذا الْمَكَانِ
تَسَتُّرًا عن الناس
وَكَذَا الِاسْتِنْجَاءُ وَالِاسْتِجْمَارُ كِنَايَةٌ عن تَطْهِيرِ مَوْضِعِ
الْحَدَثِ إذْ الِاسْتِنْجَاءُ طَلَبُ النَّجْوِ وَالِاسْتِجْمَارُ طَلَبُ
الْجِمَارِ
____________________
(4/51)
وَكَذَا
الْعَرَبُ تَقُولُ ما زلنا نَطَأُ السَّمَاءَ حتى أَتَيْنَاكُمْ أَيْ نَطَأُ
الْمَطَرَ إذْ الْمَطَرُ يَنْزِلُ من السَّمَاءِ وَنَحْوِ ذلك من مَوَاضِعِ
الِاسْتِعْمَالِ وَالْبُنُوَّةُ في الْمِلْكِ مُلَازِمَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ فَجَازَ
أَنْ يكنى بِقَوْلِهِ هذا ابْنِي عن قَوْلِهِ هذا مُعْتَقِي وَذِكْرُ الصَّرِيحِ
وَالْكِنَايَةِ في الْكَلَامِ سَوَاءٌ وَلَوْ صَرَّحَ فقال هذا مُعْتَقِي عَتَقَ
فَكَذَا إذَا كَنَّى بِهِ
وَأَمَّا الْمَجَازُ فَلِأَنَّ من طُرُقِهِ الْمُشَابَهَةَ بين الذَّاتَيْنِ في
الْمَعْنَى الْمُلَازِمِ الْمَشْهُورِ في مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ فَيُطْلَقُ اسْمُ
الْمُسْتَعَارِ عنه على الْمُسْتَعَارِ له لِإِظْهَارِ الْمَعْنَى الذي هو ظَاهِرٌ
في الْمُسْتَعَارِ عنه خَفِيٌّ في الْمُسْتَعَارِ له كما في الْأَسَدِ مع
الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ مع الْبَلِيدِ وَنَحْوِ ذلك وقد وُجِدَ هذا الطَّرِيقُ
هَهُنَا من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الِابْنَ في اللُّغَةِ اسْمٌ
لِلْمَخْلُوقِ من مَاءِ الذَّكَرِ والانثى وَفِيهِ مَعْنًى ظَاهِرٌ لَازِمٌ وهو
كَوْنُهُ مُنْعَمًا عليه من جِهَةِ الْأَبِ بالاحياء لِاكْتِسَابِ سَبَبِ
وُجُودِهِ وَبَقَائِهِ بِالتَّرْبِيَةِ وَالْمُعْتَقُ مُنْعَمٌ عليه من جِهَةِ
الْمُعْتِقِ إذْ الاعتاق انعام على الْمُعْتَقِ وقال اللَّهُ عز وجل { وَإِذْ
تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه } قِيلَ في
التَّفْسِيرِ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عليه بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْتَ عليه
بالاعتاق فَكَانَ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ في هذا الْمَعْنَى وأنه مَعْنًى لَازِمٌ
مَشْهُورٌ فَيَجُوزُ اطلاق اسْمِ الِابْنِ على الْمُعْتَقِ مَجَازًا لِإِظْهَارِ
نِعْمَةِ الْعِتْقِ كَإِطْلَاقِ اسْمِ الْأَسَدِ على الشُّجَاعِ وَالْحِمَارِ على
الْبَلِيدِ
وَالثَّانِي أَنَّ بين مُعْتِقِ الرَّجُلِ وَبَيْنَ ابْنِهِ الدَّاخِلِ في
مِلْكِهِ مُشَابَهَةً في مَعْنَى الْحُرِّيَّةِ وهو مَعْنًى لَازِمٌ لِلِابْنِ
الدَّاخِلِ في مِلْكِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْفَكُّ عنه وأنه مَشْهُورٌ فيه فَوُجِدَ
طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ فَصَحَّتْ الِاسْتِعَارَةُ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن
قَوْلِهِمْ أن الْعِتْقَ إمَّا إنْ ثَبَتَ ابْتِدَاءً أو بِنَاءً على النَّسَبِ
لِأَنَّا نَقُولُ ابْتِدَاءً لَكِنْ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وهو الْكِنَايَةُ أو
الْمَجَازُ على ما بَيَّنَّا وَلَا يَلْزَمُ على أبي حَنِيفَةَ ما إذَا قال
لِامْرَأَتِهِ هذه بِنْتِي وَمِثْلُهُ لَا يَلِدُ مِثْلَهَا أَنَّهُ لَا تَقَعُ
الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ اقراره بِكَوْنِهَا بِنْتًا له نفي النِّكَاحَ
لِأَجْلِ النَّسَبِ وَهَهُنَا لم يَثْبُتْ النَّسَبُ فَلَا يَنْتَفِي النِّكَاحُ
فَأَمَّا ثُبُوتُ الْعِتْقِ فَلَيْسَ يَقِفُ على ثُبُوتِ النَّسَبِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ أَنَّهُ لو قال
لِزَوْجَتِهِ وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ من الْغَيْرِ هذه بِنْتِي لم تَقَعْ
الْفُرْقَةُ
وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ هذه بِنْتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ تَعْتِقُ وما
افْتَرَقَا إلَّا لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لو قال لِزَوْجَتِهِ هذه بِنْتِي وَهِيَ
تَصْلُحُ بِنْتًا له ثُمَّ قال أَوْهَمْت أو أَخْطَأْت لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ
وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ هذه بِنْتِي وَهِيَ تَصْلُحُ بِنْتًا له ثُمَّ قال
أَوْهَمْت أو أَخْطَأْت يَقَعُ الْعِتْقُ فَدَلَّ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا
وَكَذَلِكَ لو قال هذا أبي فَإِنْ كان يَصْلُحُ أَبًا له وَلَيْسَ لِلْقَائِلِ
أَبٌ مَعْرُوفٌ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَالْعِتْقُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان يَصْلُحُ
أَبًا له وَلَكِنْ لِلْقَائِلِ أَبٌ مَعْرُوفٌ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَعْتِقُ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ أَبًا له لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ
يَعْتِقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ
وَكَذَلِكَ لو قال هذه أُمِّي فَالْكَلَامُ فيه كَالْكَلَامِ في الْأَبِ وَأَمَّا
الْكَلَامُ في الْحُرِّيَّةِ بِأَنْ كان الْمَمْلُوكُ أَمَةً فَفِي كل مَوْضِعٍ
يَثْبُتُ النَّسَبُ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ
هذه بِنْتِي أو قال لِأَمَتِهِ هذا ابْنِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال
بَعْضُهُمْ يَعْتِقُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَعْتِقُ
وَلَوْ قال لِمَمْلُوكِهِ هذا عَمِّي أو خَالِي يَعْتِقُ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا وَلَوْ قال هذا أَخِي أو أُخْتِي ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا
يَعْتِقُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ هذا ابْنِي أو أبي أو عَمِّي أو خَالِي وَرَوَى
الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ كما في قَوْلِهِ عَمِّي أو خَالِي
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ وَصَفَ مَمْلُوكَهُ بِصِفَةِ من يَعْتِقُ عليه
إذَا مَلَكَهُ فَيَعْتِقُ عليه كما إذَا قال هذا عَمِّي أو خَالِي
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ قَوْلَهُ هذا أَخِي يَحْتَمِلُ تَحْقِيقَ
الْعِتْقِ وَيَحْتَمِلُ الْإِكْرَامَ وَالتَّخَفِّي بِهِ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ
في ذلك عُرْفًا وَشَرْعًا
قال اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ لم تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ في
الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } فَلَا يُحْمَلُ على الْعِتْقِ من غَيْرِ نِيَّةٍ
بِخِلَافِ اسْمِ الْخَالِ وَالْعَمِّ فإنه لَا يُسْتَعْمَلُ في الْإِكْرَامِ
عُرْفًا وَعَادَةً فَلَا يُقَالُ هذا خَالِي أو عَمِّي على إرَادَةِ الْإِكْرَامِ
فَكَانَ ذِكْرُهُ لِلتَّحْقِيقِ وَبِخِلَافِ قول هذا ابْنِي أو هذا أبي لِأَنَّهُ
لَا يُسْتَعْمَلُ في الْإِكْرَامِ عُرْفًا وَشَرْعًا وقد مَنَعَ الشَّرْعُ من ذلك
قال اللَّهُ تَعَالَى { وما جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } وقال
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هو أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
فَإِنْ لم تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ في الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ }
وَرُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ زَيْدَ بن حَارِثَةَ زَيْدَ بن مُحَمَّدٍ
فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { ما كان مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ من رِجَالِكُمْ
وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } فَكَفُّوا عن ذلك وَإِنْ لم
يَكُنْ مُسْتَعْمَلًا في الْإِكْرَامِ يُحْمَلُ على التَّحْقِيقِ
وَأَمَّا النِّدَاءُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ يا ابني ( ( ( بني ) ) ) يا أبي يا
ابْنَتِي يا أُمِّي يا خَالِي يا عَمِّي أو يا أُخْتِي أو يا أَخِي على رِوَايَةِ
الْحَسَنِ لَا يَعْتِق في هذه الْفُصُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ بِذِكْرِ اسْمِ
النِّدَاءِ هو اسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى لَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الِاسْمِ فيه إلَّا
إذَا كان الِاسْمُ مَوْضُوعًا له على ما بَيَّنَّا
____________________
(4/52)
فَاحْتَمَلَ
أَنَّهُ أَرَادَ به النِّدَاءَ على طَرِيقِ الْإِكْرَامِ دُونَ تَحْقِيقِ
الْعِتْقِ فَلَا يُحْمَلُ على الْعِتْقِ من غَيْرِ نِيَّةٍ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ يا ابن أو لِأَمَتِهِ يا ابْنَةُ لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ
الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ وَلَوْ قال يا بُنَيَّ أو يا بُنَيَّةُ يَعْتِقُ
لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ
وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَنَحْوُ قَوْلِهِ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك أو لَا مِلْكَ لي
عَلَيْك أو خَلَّيْت سَبِيلَك أو خَرَجْت من مِلْكِي فَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ
يَعْتِقُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ من هذه الْأَلْفَاظِ يَحْتَمِلُ
الْعِتْقَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَهُ فإن قَوْلَهُ لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك يَحْتَمِلُ
سَبِيلَ اللَّوْمِ وَالْعُقُوبَةِ أَيْ ليس لي عَلَيْك سَبِيلُ اللَّوْمِ
وَالْعُقُوبَةِ لِوَفَائِك بِالْخِدْمَةِ وَالطَّاعَةِ وَيَحْتَمِلُ لَا سَبِيلَ
لي عَلَيْك لِأَنِّي كَاتَبْتُك فَزَالَتْ يَدِي عَنْكَ وَيَحْتَمِلُ لَا سَبِيلَ
لي عَلَيْك لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَلَا يُحْمَلُ على الْعِتْقِ إلَّا بِالنِّيَّةِ
وَيُصَدَّقُ إذَا قال عَنَيْت بِهِ غير الْعِتْقِ إلَّا إذَا قال لَا سَبِيلَ لي
عَلَيْك إلَّا سَبِيلُ الْوَلَاءِ فإنه يَعْتِقُ في الْقَضَاءِ وَلَا يُصَدَّقُ
أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غير الْعِتْقِ لِأَنَّهُ نَفَى كُلَّ سَبِيلٍ وَأَثْبَتَ
سَبِيلَ الْوَلَاءِ وَإِطْلَاقُ الْوَلَاءِ يُرَادُ بِهِ وَلَاءُ الْعِتْقِ
وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ
وَلَوْ قال إلَّا سَبِيلَ الْمُوَالَاةِ دَيْنٌ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ مُطْلَقَ
الْمُوَالَاةِ يُرَادُ بها الْمُوَالَاةُ في الدَّيْنِ أو يُسْتَعْمَلُ في وَلَاءِ
الدَّيْنِ وَوَلَاءِ الْعِتْقِ فَأَيُّ ذلك نَوَى يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
وَقَوْلُهُ لَا مِلْكَ لي عَلَيْك يَحْتَمِلُ مِلْكَ الْيَدِ أَيْ كَاتَبْتُك
فَزَالَتْ يَدِي عَنْك وَيَحْتَمِلُ لَا مِلْكَ لي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك
وَيَحْتَمِلُ لَا مِلْكَ لي عَلَيْك لِأَنِّي أَعْتَقْتُك فَتَقِفُ على النِّيَّةِ
وَقَوْلُهُ خَلَّيْت سَبِيلَك يَحْتَمِلُ سَبِيلَ الِاسْتِخْدَامِ أَيْ لَا
أَسْتَخْدِمُك وَيَحْتَمِلُ أَعْتَقْتُك وَلَوْ قال له أَمْرُك بِيَدِك أو قال له
اخْتَرْ وَقَفَ على النِّيَّةِ
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ وَغَيْرَهُ فَكَانَ كِنَايَةً
وَلَوْ قال له أَمْرُ عِتْقِك بِيَدِك أو جَعَلْت عِتْقَك في يَدِك أو قال له
اخْتَرْ الْعِتْقَ أو خَيَّرْتُك في عِتْقِك أو في الْعِتْقِ لَا يَحْتَاجُ فيه
إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ وَلَكِنْ لَا بُدَّ من اخْتِيَارِ الْعَبْدِ
الْعِتْقَ وَيَقِفُ على الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ
وَقَوْلُهُ خَرَجْت عن مِلْكِي يَحْتَمِلُ مِلْكَ التَّصَرُّفِ فَيَكُونُ
بِمَعْنَى كَاتَبْتُك وَيَحْتَمِلُ اعتقتك وَلَوْ قال لِمَمْلُوكِهِ نَسَبُك حُرٌّ
أو أَصْلُك حُرٌّ فَإِنْ كان يَعْلَمُ أَنَّهُ سُبِيَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ لم
يَكُنْ سُبِيَ يَعْتِقُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْأَبَوَيْنِ
تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْمُتَوَلَّدَ من الْحُرَّيْنِ يَكُونُ
حُرًّا إلَّا أَنَّ حُرِّيَّةَ الْمَسْبِيِّ بَطَلَتْ بِالسَّبْيِ فَبَقِيَ
الْحُكْمُ في غَيْرِ الْمَسْبِيِّ على الْأَصْلِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ أنت لِلَّهِ تَعَالَى لم يَعْتِقْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ
وَجْهُ قَوْلِهِ إن قَوْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ بَيَانَ
جِهَةِ الْقُرْبَةِ لِلْإِعْتَاقِ الْمَحْذُوفِ فإذا نَوَى الْعِتْقَ يَعْتِقُ كما
لو قال أنت حُرٌّ لِلَّهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ صِفَةٍ
للمملوك ( ( ( لمملوك ) ) ) لم تَكُنْ ثَابِتَةً قبل الْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ
إثْبَاتُ الْعِتْقِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ كَوْنَهُ لِلَّهِ تَعَالَى كان ثَابِتًا
قبل الْإِعْتَاقِ فلم يَكُنْ ذلك إعْتَاقًا فَلَا يَعْتِقُ
وَلَوْ قال له أنت عبد اللَّهِ لم يَعْتِقْ بِلَا خِلَافٍ أَمَّا على قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْشَاءُ الْعِتْقِ
فَيَقْتَضِي أَنْ لَا يَكُونَ ثَابِتًا قَبْلَهُ وَكَوْنُهُ عبدا لله صِفَةٌ
ثَابِتَةٌ له قبل هذه الْمَقَالَةِ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ عبدا لله لَا يَحْتَمِلُ أَنْ
يَكُونَ جِهَةَ الْقُرْبَةِ لِلْإِعْتَاقِ وَقَوْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى يَحْتَمِلُ
ذلك
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال لِعَبْدِهِ قد جَعَلْتُك لِلَّهِ
تَعَالَى في صِحَّتِهِ أو مَرَضِهِ وقال لم أَنْوِ الْعِتْقَ ولم يَقُلْ شيئا حتى
مَاتَ قبل أَنْ يُبَيِّنَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ نَوَى الْعِتْقَ عَتَقَ
وَكَذَلِكَ إذَا قال هذا في مَرَضِهِ فَمَاتَ قبل أَنْ يُبَيِّنَ فَهُوَ عَبْدٌ
أَيْضًا لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بهذا اللَّفْظِ النَّذْرَ
وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْعِتْقَ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ
وَلَا يَلْزَمُ الْوَرَثَةَ بَعْدَ الْمَوْتِ الصَّدَقَةُ لِأَنَّ النَّذْرَ
يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ عِنْدَنَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال لِأَمَتِهِ أَطْلَقْتُك يُرِيدُ
بِهِ الْعِتْقَ تَعْتِقُ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ إزَالَةُ الْيَدِ وَالْمَرْءُ
يُزِيلُ يَدَهُ عن عَبْدِهِ بِالْعِتْقِ وَبِغَيْرِ الْعِتْقِ بِالْكِتَابَةِ فإذا
نَوَى بِهِ الْعِتْقَ تَعْتِقُ كما لو قال لها خَلَّيْت سَبِيلَك
وَلَوْ قال لها طَلَّقْتُك يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ لَا تَعْتِقُ عِنْدَنَا لِمَا
نَذْكُرُ وَلَوْ قال فَرْجُك عَلَيَّ حَرَامٌ يُرِيدُ الْعِتْقَ لم تَعْتِقْ
لِأَنَّ حُرْمَةَ الْفَرْجِ مع الرِّقِّ يَجْتَمِعَانِ كما لو اشْتَرَى أُخْتَهُ
من الرَّضَاعَةِ أو جَارِيَةً قد وطىء أُمَّهَا أو بِنْتَهَا أو جَارِيَةً
مَجُوسِيَّةً أنها لَا تَعْتِقُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال لِعَبْدِهِ ( أ ( ( ( أنت ) ) ) ن (
( ( حر ) ) ) ت ح ر ) أو قال لِزَوْجَتِهِ ( أ ( ( ( أنت ) ) ) ن ( ( ( طالق ) ) )
ت ط ا ل ق ) فَتَهَجَّى ذاك ( ( ( ذلك ) ) ) هِجَاءً إنْ نَوَى الْعِتْقَ أو
الطَّلَاقَ وَقَعَ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ من هذه الْحُرُوفِ عِنْدَ انْفِرَادِهَا ما
يُفْهَمُ عِنْدَ التَّرْكِيبِ وَالتَّأْلِيفِ إلَّا أنها لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ في الدَّلَالَةِ
على الْمَعْنَى لِأَنَّهَا عِنْدَ انْفِرَادِهَا لم تُوضَعْ لِلْمَعْنَى فَصَارَتْ
بِمَنْزِلَةِ الْكِنَايَةِ فَتَقِفُ على النِّيَّةِ وَأَمَّا ما يَقُومُ مَقَامَ
اللَّفْظِ في الدَّلَالَةِ على الْعِتْقِ فالكنابة ( ( ( فالكتابة ) ) )
الْمُسْتَبِينَةُ لِأَنَّهَا في الدَّلَالَةِ على الْمُرَادِ بِمَنْزِلَةِ
اللَّفْظِ إلَّا أَنَّ فيها ضَرْبَ اسْتِتَارٍ وَإِبْهَامٍ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ
قد يَكْتُبُ ذلك لِإِرَادَةِ الْعِتْقِ وقد
____________________
(4/53)
يَكْتُبُ
لِتَجْوِيدِ الْخَطِّ فَالْتُحِقَ بِسَائِرِ الْكِنَايَاتِ فَافْتَقَرَ إلَى
النِّيَّةِ وَالْكَلَامُ في هذا كَالْكَلَامِ في الطَّلَاقِ وقد ذَكَرْنَاهُ في
الطَّلَاقِ وَكَذَا الْإِشَارَةُ من الْأَخْرَسِ إذَا كانت مُعْلَمَةً مَفْهُومَةَ
الْمُرَادِ لِأَنَّهَا في الدَّلَالَةِ على الْمُرَادِ في حَقِّهِ كَالْعِبَارَةِ
في الطَّلَاقِ
وَالْأَصْلُ في قِيَامِ الْإِشَارَةِ مَقَامَ الْعِبَارَةِ قَوْله تَعَالَى
خِطَابًا لِمَرْيَمَ عليها السَّلَامُ فَقُولِي إنِّي نَذَرْت لِلرَّحْمَنِ
صَوْمًا أَيْ صَمْتًا وَإِمْسَاكًا وَذَلِكَ على الْإِشَارَةِ لَا على الْقَوْلِ
منها وقد سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى قَوْلًا فَدَلَّ أنها تَعْمَلُ عَمَلَ
الْقَوْلِ
وَأَمَّا الْأَلْفَاظُ التي يَقَعُ بها الْعِتْقُ أَصْلًا نَوَى أو لم يَنْوِ
فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ قُمْ أو اُقْعُدْ أو اسْقِنِي وَنَوَى بِهِ
الْعِتْقَ لِأَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ لَا تَحْتَمِلُ الْعِتْقَ فَلَا تَصِحُّ فيها
نِيَّةُ الْعِتْقِ
وَكَذَا لو قال لَا سُلْطَانَ لي عَلَيْك لِأَنَّ السَّلْطَنَةَ عِبَارَةٌ عن
نَفَاذِ الْمَشِيئَةِ على وَجْهِ الْقَهْرِ فَانْتِفَاؤُهَا لَا يَقْتَضِي
انْتِفَاءَ الرِّقِّ كَالْمُكَاتَبِ فَلَا يَقْتَضِي الْعِتْقَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ
لَا سَبِيلَ لي عَلَيْك لِأَنَّهُ نَفَى السبيل ( ( ( السبل ) ) ) كُلَّهَا وَلَا
يَنْتَفِي السيل ( ( ( السبيل ) ) ) عليها مع قِيَامِ الرِّقِّ أَلَا تَرَى أَنَّ
لِلْمَوْلَى على مُكَاتَبِهِ سَبِيلَ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ
وَكَذَا للسلطان ( ( ( السلطان ) ) ) يَحْتَمِلُ الْحُجَّةَ أَيْضًا فَقَوْلُهُ
لَا سُلْطَانَ لي عَلَيْك أَيْ لَا حُجَّةَ لي عَلَيْك وَانْتِفَاءُ حُجَّتِهِ على
عَبْدِهِ لَا يُوجِبُ حُرِّيَّتَهُ وَكَذَا لو قال لِعَبْدِهِ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت
أو تَوَجَّهْ حَيْثُ شِئْت من بِلَادِ اللَّهِ تَعَالَى يُرِيدُ بِهِ الْعِتْقَ أو
قال له أنت طَالِقٌ أو طَلَّقْتُك أو أنت بَائِنٌ أو ابنتك أو قال لِأَمَتِهِ
أَنْتِ طَالِقٌ أو طَلَّقْتُك أو أَنْتِ بَائِنٌ أو ابنتك أو أَنْتِ عَلَيَّ
حَرَامٌ أو حَرَّمْتُك أو أَنْتِ خَلِيَّةٌ أو بَرِّيَّةٌ أو بَتَّةٌ أو اذْهَبِي
أو اُخْرُجِي أو اُعْزُبِي أو تَقَنَّعِي أو اسْتَبْرِئِي أو اخْتَارِي وَنَوَى
الْعِتْقَ فَاخْتَارَتْ وَغَيْرَ ذلك مِمَّا ذَكَرْنَا في الطَّلَاقِ وَهَذَا
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقَعُ الْعِتْقُ بها إذَا نَوَى وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ
أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ وَكِنَايَاتِهِ لَا يَقَعُ بها الْعَتَاقُ عِنْدَنَا
خِلَافًا له
وَجْهُ قَوْلِهِ أن قَوْلَهُ لِمَمْلُوكَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أو طَلَّقْتُك
إثْبَاتُ الِانْطِلَاقِ أو إزَالَةُ الْقَيْدِ وَأَنَّهُ نَوْعَانِ كَامِلٌ
وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ وهو تَفْسِيرُ الْعِتْقِ وَنَاقِصٌ
وَذَلِكَ بِزَوَالِ الْيَدِ لَا غَيْرُ كما في الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ فإذا
نَوَى بِهِ الْعِتْقَ فَقَدْ نَوَى أَحَدَ النَّوْعَيْنِ فَنَوَى ما يَحْتَمِلُهُ
كَلَامُهُ فَصَحَّتْ نِيَّتُهُ وَلِهَذَا إذَا قال لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ
وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ هذه الْأَلْفَاظَ الْمُضَافَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ عِبَارَاتٌ عن
زَوَالِ يَدِ الْمَالِكِ عنه أَمَّا قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ فَلِأَنَّ الطَّلَاقَ
عِبَارَةٌ عن رَفْعِ الْقَيْدِ وَالْقَيْدُ عِبَارَةٌ عن الْمَنْعِ عن الْعَمَلِ
لَا عن الْمِلْكِ وَالْمَانِعُ يَدُ الْمَالِكِ فَرَفْعُ الْمَانِعِ يَكُونُ
بِزَوَالِ يَدِهِ زوال ( ( ( وزوال ) ) ) يَدِ الْمَالِكِ عن الْمَمْلُوكِ لَا
يَقْتَضِي الْعِتْقَ كَالْمُكَاتَبِ وَكَذَا قَوْلُهُ اذْهَبْ حَيْثُ شِئْت أو
تَوَجَّهْ إلَى أَيْنَ شِئْت لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن رَفْعِ الْيَدِ عنه وَأَنَّهُ
لَا يَنْفِي الرِّقَّ كَالْمُكَاتَبِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَيْدَ ليس
بِمُتَنَوِّعٍ بَلْ هو نَوْعٌ وَاحِدٌ وَزَوَالُهُ عن الْمَمْلُوكِ لَا يَقْتَضِي
زَوَالَ الْمِلْكِ كَالْمُكَاتَبِ
وَكَذَا قَوْلُهُ أنت بَائِنٌ أو ابنتك لِأَنَّهُ ينبىء عن الْفَصْلِ
وَالتَّبْعِيدِ وَكَذَا التَّحْرِيمُ يجامع ( ( ( بجامع ) ) ) الرِّقِّ
كَالْأُخْتِ من الرَّضَاعَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ
قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ تَخْلِيصٌ
وَالْقَيْدُ ثُبُوتٌ فَيُنَافِيهِ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ لَا يَثْبُتُ
بِلَفْظِ النِّكَاحِ وما لَا يُمْلَكُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ
عنه بِلَفْظِ الطَّلَاقِ كَسَائِرِ الْأَعْيَانِ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ
رَفْعُ ما يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فإذا لم يَثْبُتْ مِلْكُ الْيَمِين بِلَفْظِ
النِّكَاحِ لَا يُتَصَوَّرُ رَفْعُهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ
لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ
لَا يَخْتَصُّ ثُبُوتُهُ بِلَفْظِ النِّكَاحِ فإنه كما يَثْبُتُ بِغَيْرِ
النِّكَاحِ يَثْبُتُ بِغَيْرِهِ من الشِّرَاءِ وَغَيْرِهِ فَلَا يَخْتَصُّ
زَوَالُهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَزُولُ بِرِدَّةِ الْمَرْأَةِ وَكَذَا بِشِرَائِهَا بِأَنْ
اشْتَرَى الزَّوْجُ امْرَأَتَهُ فَجَازَ أَنْ يَزُولَ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ رَأْسُك رَأْسُ حُرٍّ أو بَدَنُك بَدَنُ حُرٍّ أو فَرْجُك
فَرْجُ حُرٍّ لم يَعْتِقْ لِأَنَّ هذا تَشْبِيهٌ لَكِنْ بِحَذْفِ حَرْفِ
التَّشْبِيهِ وأنه جَائِزٌ من بَابِ الْمُبَالَغَةِ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَهِيَ
تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أَيْ كَمَرِّ السَّحَابِ وقال الشَّاعِرُ وَعَيْنَاكِ
عَيْنَاهَا وَجِيدُكَ جِيدُهَا سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْكِ دَقِيقُ
فَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ بَيْنَهُمَا في
جَمِيعِ الصِّفَاتِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ كَلَامُ التَّشْبِيهِ لَا عُمُومَ
له قال اللَّهُ عز وجل { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } وقال تَعَالَى
{ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ } فَلَا يَعْتِقُ وَلَوْ نوى ( ( ( نون ) ) )
فقال رَأْسُك رَأْسٌ حُرٌّ وَبَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ وَفَرْجُك فَرْجٌ حُرٌّ فَهُوَ
حُرٌّ لأن هذا ليس بِتَشْبِيهٍ بَلْ هو وَصْفٌ وقد وُصِفَ جُمْلَةً أو ما
يُعَبَّرُ بِهِ عن جُمْلَةٍ بِالْحُرِّيَّةِ فَيَعْتِقُ
وَلَوْ قال ما أنت إلَّا مِثْلُ الْحُرِّ أو أنت مِثْلُ الْحُرِّ لم يَعْتِقْ في
الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى كَذَا ذَكَرَ في
الْأَصْلِ
____________________
(4/54)
لِأَنَّ
هذا تَشْبِيهٌ بِحَرْفِ التَّشْبِيهِ وَالتَّشْبِيهُ لَا يَقْتَضِي الْمُشَارَكَةَ
في جَمِيعِ الصِّفَاتِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ما أنت إلَّا حُرٌّ لِأَنَّ ذلك ( ( (
ذاك ) ) ) ليس بِتَشْبِيهٍ بَلْ هو تَحْرِيرٌ لِأَنَّهُ نَفَى وَأَثْبَتَ
وَالنَّفْيُ ما زَادَهُ إلَّا تَأْكِيدًا كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ ما أنت
إلَّا فَقِيهٌ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا قال كُلُّ مَالِي حُرٌّ وَلَهُ عَبِيدٌ
لم يَعْتِقُوا لِأَنَّهُ جَمَعَ بين الْعَبِيدِ وَغَيْرِهِمْ من الْأَمْوَالِ
وَوَصَفَ الْكُلَّ بِالْحُرِّيَّةِ بِقَوْلِهِ كُلُّ مَالِي حُرٌّ وَمَعْلُومٌ
أَنَّ غير الْعَبِيدِ من الْأَمْوَالِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالْحُرِّيَّةِ
التي هِيَ الْعِتْقُ فَيَنْصَرِفُ الْوَصْفُ بِالْحُرِّيَّةِ إلَى الْحُرِّيَّةِ
التي يَحْتَمِلُهَا الْكُلُّ وَهِيَ أَنْ تَكُونَ جَمِيعُ أَمْوَالِهِ خَالِصَةً
صَافِيَةً له لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فيها فَلَا تَعْتِقُ عَبِيدُهُ وَاَللَّهُ عز وجل
الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمُعْتِقِ خَاصَّةً وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَقِ خَاصَّةً وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا وَبَعْضُهَا يَرْجِعْ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ أَمَّا
الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتِقِ خَاصَّةً فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا
حَقِيقَةً أو تَقْدِيرًا حتى لَا يَصِحَّ الْإِعْتَاقُ من الصَّبِيِّ الذي لَا
يَعْقِلُ وَالْمَجْنُونِ كما لَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ منها ( ( ( منهما ) ) )
وَأَمَّا الْمَجْنُونُ الذي يُجَنُّ في حَالٍ وَيُفِيقُ في حَالٍ فما يُوجَدُ منه
في حَالَ إفَاقَتِهِ فَهُوَ فيه بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْعُقَلَاءِ وما يُوجَدُ
منه في حَالِ جُنُونِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ اعْتِبَارًا
لِلْحَقِيقَةِ وَأَمَّا السَّكْرَانُ فَإِعْتَاقُهُ كَطَلَاقِهِ وقد مَرَّ ذلك في
كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعْتُوهًا وَلَا مَدْهُوشًا وَلَا
مُبَرْسَمًا وَلَا مُغْمًى عليه وَلَا نَائِمًا حتى لَا يَصِحَّ الْإِعْتَاقُ من
هَؤُلَاءِ كما لَا يَصِحُّ الطَّلَاقُ منهم لِمَا ذَكَرْنَا في الطَّلَاقِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَلَا يَصِحُّ الْإِعْتَاقُ من الصَّبِيِّ وَإِنْ
كان عَاقِلًا كما لَا يَصِحُّ الطَّلَاق منه وَلَوْ قال رَجُلٌ اعتقت عَبْدِي وأنا
صَبِيٌّ أو قال وأنا نَائِمٌ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ إذَا
أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى حَالٍ مَعْلُومِ الْكَوْنِ وهو ليس من أَهْلِ
الْإِعْتَاقِ فيها يُصَدَّقُ بِأَنْ قال أَعْتَقْته وأنا صَبِيٌّ أو وأنا نَائِمٌ
أو مَجْنُونٌ وقد عُلِمَ جُنُونُهُ أو وأنا حَرْبِيٌّ في دَارِ الْحَرْبِ على
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقد عُلِمَ ذلك منه لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ
الْإِعْتَاقَ إلَى زَمَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ منه الْإِعْتَاقُ عُلِمَ أن أَرَادَ
بِهِ صِيغَةَ الْإِعْتَاقِ لَا حَقِيقَةَ الْإِعْتَاقِ فلم يَصِرْ مُعْتَرِفًا
بِالْإِعْتَاقِ
وَلَوْ قال أَعْتَقْته وأنا مَجْنُونٌ ولم يُعْلَمْ له جُنُونٌ لَا يُصَدَّقُ
لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَهُ إلَى حَالَةٍ لَا يُتَيَقَّنُ وُجُودُهَا فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ منه وَلَوْ قال
أَعْتَقْتُهُ قبل أَنْ أُخْلَقَ أو قبل أَنْ يُخْلَقَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ
زَمَانَ ما قبل انْخِلَاقِهِ وَانْخِلَاقُ الْعَبْدِ مَعْلُومٌ فَقَدْ أَضَافَ
الْإِعْتَاقَ إلَى زَمَانٍ مَعْلُومِ الْكَوْنِ وَلَا يُتَصَوَّرُ منه فيه
الْإِعْتَاقُ فَلَا يَعْتِقُ
وَأَمَّا كَوْنُهُ طَائِعًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَكَوْنُهُ جَادًّا ليس بِشَرْطٍ
بِالْإِجْمَاعِ حتى يَصِحَّ إعْتَاقُ الْهَازِلِ وَكَذَا كَوْنُهُ عَامِدًا حتى
يَصِحَّ إعْتَاقُ الخاطىء لِمَا ذَكَرْنَا في الطَّلَاقِ وَكَذَا التَّكَلُّمُ
بِاللِّسَانِ ليس بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ الْإِعْتَاقُ بِالْكِتَابَةِ
الْمُسْتَبِينَةِ وَالْإِشَارَةِ الْمَفْهُومَةِ وَكَذَا الْخُلُوُّ عن شَرْطِ
الْخِيَارِ ليس بِشَرْطٍ في الْإِعْتَاقِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ إذَا كان
الْخِيَارُ لِلْمَوْلَى حتى يَقَعَ الْعِتْقُ وَيَبْطُلَ الشَّرْطُ
أَمَّا إذَا كان بِغَيْرِ عِوَضٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ
لِفَائِدَةِ الْفَسْخِ وَالْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ الْعِوَضِ لَا يَحْتَمِلُ
الْفَسْخَ وَكَذَا إنْ كان بِعِوَضٍ لِأَنَّ الْعِوَضَ من جَانِبِ الْمَوْلَى هو
الْعِتْقُ وأنه لَا يَقْبَلُ الْفَسْخَ فَلَا مَعْنَى لِلْخِيَارِ فيه وَإِنْ كان
الْخِيَارُ لِلْعَبْدِ فَخُلُوُّهُ عن خِيَارِهِ شَرْطُ صِحَّتِهِ حتى لو رَدَّ
الْعَبْدُ الْعَقْدَ في مُدَّةِ الْخِيَارِ فَيَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَلَا يَعْتِقُ
لِأَنَّ الْعِوَضَ في جَانِبِهِ هو الْمَالُ فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلْفَسْخِ
فَيَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فيه كما في الطَّلَاقِ على مَالٍ وقد ذَكَرْنَاهُ في
كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَعَلَى هذا الصُّلْحُ من دَمِ الْعَمْدِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وإن الْخِيَارَ إنْ
كان مَشْرُوطًا لِلْمَوْلَى يَبْطُلُ الْخِيَارُ وَيَصِحُّ الصُّلْحُ لِأَنَّ
الْخِيَارَ لِثُبُوتِ الْفَسْخِ وَاَلَّذِي من جَانِبِ الْمَوْلَى وهو الْعَفْوُ
لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَإِنْ كان الْخِيَارُ لِلْقَاتِلِ جَازَ لِأَنَّ ما هو
الْعِوَضُ من جَانِبِهِ وهو الْمَالُ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ ثُمَّ إذَا جَازَ الْخِيَارُ
وَفَسَخَ الْقَاتِلُ الْعَقْدَ هل يَبْطُلُ الْعَفْوُ
فَالْقِيَاسُ أَنْ يَبْطُلَ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِشَرْطِ الْمَالِ ولم يَسْلَمْ
الْمَالُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَبْطُلُ وَيَلْزَمُ الْقَاتِلَ الدِّيَةُ كَذَا رُوِيَ
عن مُحَمَّدٍ
أَمَّا صِحَّةُ الْعَفْوِ وَسُقُوطُ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّ عَفْوَ الْوَلِيِّ
يَصِيرُ شُبْهَةً وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ وَأَمَّا وُجُوبُ
الدِّيَةِ فَلِأَنَّ الْوَلِيَّ لم يَرْضَ بِإِسْقَاطِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا
عِوَضَ إلَّا الدِّيَةُ إذْ هِيَ قِيمَةُ النَّفْسِ ثُمَّ فَرَّقَ بين
الْإِعْتَاقِ على مَالٍ وَبَيْنَ الْكِتَابَةِ فإنه يَجُوزُ فيها شَرْطُ
الْخِيَارِ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَلْحَقُهَا الْفَسْخُ
فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ في طَرَفَيْهَا كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ
على مَالٍ وَاَللَّهُ عز وجل
____________________
(4/55)
الْمُوَفِّقُ
وَكَذَا إسْلَامُ الْمُعْتِقِ ليس بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ الْإِعْتَاقُ من الْكَافِرِ
إلَّا أَنَّ إعْتَاقَ الْمُرْتَدِّ لَا يَنْفُذُ في الْحَالِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ بَلْ هو مَوْقُوفٌ وَعِنْدَهُمَا نَافِذٌ وَإِعْتَاقُ الْمُرْتَدِّ
نَافِذٌ بِلَا خِلَافٍ وَالْمَسْأَلَةُ نَذْكُرُهَا في كِتَابِ السِّيَرِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا صِحَّةُ الْمُعْتِقِ فَيَصِحُّ الْإِعْتَاقُ من الْمَرِيضِ مَرَضَ
الْمَوْتِ لِأَنَّ دَلِيلَ الْجَوَازِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ إلَّا أَنَّ
الْإِعْتَاقَ من الْمَرِيضِ يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يَكُونُ وصيه
وَمِنْهَا النِّيَّةُ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْإِعْتَاقِ هو الْكِنَايَةُ دُونَ
الصَّرِيحِ وَيَسْتَوِي في صَرِيحِ الْإِعْتَاقِ وَكِنَايَاتِهِ أَنْ يَكُونَ ذلك
بِمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ على طَرِيقِ الْأَصَالَةِ أو بِغَيْرِهِ على
طَرِيقِ النِّيَابَةِ عن الْمَوْلَى بِإِذْنِهِ وَأَمْرِهِ وَذَلِكَ أَنْوَاعٌ
ثَلَاثَةٌ تَفْوِيضٌ وَتَوْكِيلٌ وَرِسَالَةٌ فَالتَّفْوِيضُ هو التَّخْيِيرُ
وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ صَرِيحًا وَكِنَايَةً على ما بَيَّنَّا وَالْأَمْرُ
بِالْإِعْتَاقِ كَقَوْلِهِ أَعْتِقْ نَفْسَك وَقَوْلِهِ أنت حُرٌّ إنْ شِئْت
وَالتَّوْكِيلُ هو أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِالْإِعْتَاقِ بِأَنْ يَقُولَ
لِغَيْرِهِ أَعْتِقْ عَبْدِي فُلَانًا من غَيْرِ التَّقْيِيدِ بِالْمَشِيئَةِ
وَالرِّسَالَةُ مَعْرُوفَةٌ وقد فَسَّرْنَاهَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْحُكْمُ
في هذه الْفُصُولِ في الْعَتَاقِ كَالْحُكْمِ فيها في الطَّلَاقِ وقد
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فيها في كِتَابِ الطَّلَاقِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ عز وجل
وَمِنْهَا عَدَمُ الشَّكِّ في الْإِعْتَاقِ وهو شَرْطُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ
الْعِتْقِ فَإِنْ كان شَاكًّا فيه لَا يَحْكُمُ بِثُبُوتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا في
الطَّلَاقِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمُعْتَقِ خَاصَّةً فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا
الْإِضَافَةُ فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْجُودًا
بِيَقِينٍ فَإِنْ لم يَكُنْ لم تَصِحَّ الْإِضَافَةُ بِأَنْ قال لِجَارِيَةٍ
مَمْلُوكَةٍ له حَمْلُ هذه الْجَارِيَةِ حُرٌّ أو ما في بَطْنِ هذه الْجَارِيَةِ
حُرٌّ فَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ التَّكَلُّمِ
عَتَقَ وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لم يَعْتِقْ لِأَنَّهَا
إذَا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ الْيَمِينِ تَيَقَّنَّا
بِوُجُودِهِ في ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَلِدُ لأقل من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ فَإِنْ وَلَدَتْ وَاحِدًا لِأَقَلَّ منها بِيَوْمٍ ثُمَّ وَلَدَتْ آخَرَ
لِأَكْثَرَ منها بِيَوْمٍ عَتَقَا جميعا لِأَنَّ الْأَوَّلَ عَتَقَ لِكَوْنِهِ في
الْبَطْنِ يوم الْكَلَامِ فإذا عَتَقَ الْأَوَّلُ عَتَقَ الثَّانِي لِأَنَّهُمَا
تَوْأَمَانِ وَأَمَّا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا من وَقْتِ
التَّكَلُّمِ فَلَا نَسْتَيْقِنُ بِوُجُودِهِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ لِاحْتِمَالِ
حُدُوثِهِ بَعْدَ ذلك فَوَقَعَ الشَّكُّ في ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ
مع الشَّكِّ
وَمِنْهَا الْإِضَافَةُ إلَى بَدَنِ الْمُعْتَقِ أو إلَى جُزْءٍ جَامِعٍ منه وهو
الذي يُعَبَّرُ بِهِ عن جَمِيعِ الْبَدَنِ أو إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ عِنْدَنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حتى لو أَضَافَ إلَى جُزْءٍ مُعَيَّنٍ لَا يُعَبَّرُ بِهِ
عن جَمِيعِ الْبَدَنِ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يَصِحُّ كما في الطَّلَاقِ
غير أَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ منه لَا يَعْتِقُ كُلُّهُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنَّمَا يَعْتِقُ قَدْرُ ما أَضَافَ إلَيْهِ لَا غَيْرُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ كُلُّهُ وفي الطَّلَاقِ تَطْلُقُ
كُلُّهَا بِلَا خِلَافٍ بِنَاءً على أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَالطَّلَاقُ لَا يَتَجَزَّأُ
بِالْإِجْمَاعِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يُرَادُ بِهِ إلَّا الْوَطْءُ
وَالِاسْتِمْتَاعُ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَلَا
يَكُونُ إثْبَاتُ حُكْمِ الطَّلَاقِ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مُفِيدًا
فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالتَّكَامُلِ فَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فلم يُوضَعْ
لِلِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ فإنه يَثْبُتُ مع حُرْمَةِ الْوَطْءِ
وَالِاسْتِمْتَاعِ كَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَالْمُحَرَّمَةِ بِالرَّضَاعِ
وَالْمُصَاهَرَةِ وَإِنَّمَا وُضِعَ لِلِاسْتِرْبَاحِ أو الِاسْتِخْدَامِ وَذَلِكَ
يَتَحَقَّقُ مع قِيَامِ الْمِلْكِ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَانَ ثُبُوتُ
الْعِتْقِ في الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ مُفِيدًا فَهُوَ الْفَرْقُ فَلَا
ضَرُورَةَ إلَى التَّكَامُلِ وَأَمَّا كَوْنُ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْعِتْقَ
مَعْلُومًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
فَيَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْمَجْهُولِ بِأَنْ قال لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا
حُرٌّ أو قال هذا حُرٌّ أو هذا أو قال ذلك لِأَمَتَيْهِ
وقال نُفَاةُ الْقِيَاسُ شَرْطٌ حتى لَا تَصِحَّ الْإِضَافَةُ إلَى الْمَجْهُولِ
عِنْدَهُمْ وَالْكَلَامُ في الْعَتَاقِ على نَحْوِ الْكَلَامِ في الطَّلَاقِ وقد
ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَسَوَاءٌ كانت الْجَهَالَةُ مُقَارِنَةً أو
طَارِئَةً بِأَنْ عَتَقَ وَاحِدًا من عَبِيدِهِ عَيْنًا ثُمَّ نَسِيَ الْمُعْتَقَ
لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمِنْهَا قَبُولُ الْعَبْدِ في الْإِعْتَاقِ
على مَالٍ فما لم يُقْبَلْ لَا يَعْتِقُ وَمِنْهَا الْمَجْلِسُ وهو مَجْلِسُ
الْإِعْتَاقِ إنْ كان الْعَبْدُ حَاضِرًا وَمَجْلِسُ الْعِلْمِ إنْ كان غَائِبًا
لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا فَهُوَ الْمِلْكُ إذْ الْمَالِكُ
وَالْمَمْلُوكُ من الْأَسْمَاءِ الْإِضَافِيَّةِ وَالْعَلَاقَةُ التي تَدُورُ
عليها الْإِضَافَةُ من الْجَانِبَيْنِ هِيَ الْمِلْكُ فَكَوْنُ الْمُعْتَقِ
مَمْلُوكَ الْمُعْتِقِ رَقَبَةً وَقْتَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ شَرْطُ ثُبُوتِهِ
فَيَحْتَاجُ في هذا الْفَصْلِ إلَى بَيَانِ كَوْنِ الْمُعْتَقِ مَمْلُوكَ
الْمُعْتِقِ رَقَبَةً وَقْتَ ثُبُوتِ الْعِتْقِ شَرْطَ ثُبُوتِهِ وَإِلَى بَيَانِ
أَنَّهُ هل يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكَهُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ وهو
التَّكَلُّمُ بِالْعِتْقِ أَمْ لَا وَإِلَى بَيَانِ من
____________________
(4/56)
يَدْخُلُ
تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ في الْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَمَنْ
لَا يَدْخُلُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالدَّلِيلُ على اعْتِبَارِ هذا الشَّرْطِ قَوْلُ النبي لَا
عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابن آدَمَ وَلِأَنَّ زَوَالَ مِلْكِ الْمَحَلِّ
شَرْطُ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فيه وَلَا بُدَّ لِلزَّوَالِ من سَابِقَةِ الثُّبُوتِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ إعْتَاقُ عبد الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إذْ لَا يَنْفُذُ
لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْمَالِكِ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَوَقَّفُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ تَصَرُّفَاتِ
الْفُضُولِيِّ وَمَوْضِعُهَا كِتَابُ الْبُيُوعِ
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ
لِانْعِدَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَكَذَا لو اشْتَرَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أو
الْمُكَاتَبُ ذَا رَحِمٍ منه لَا يَعْتِقُ عليه لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اشْتَرَى
الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من مَوْلَاهُ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ عَتَقَ عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه
دَيْنٌ فَقَدْ مَلَكَهُ الْمَوْلَى فَيَعْتِقُ عليه كما لو اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ
وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لِرَقَبَتِهِ لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ بِنَاءً على أَنَّ
الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ وَلَوْ اشْتَرَى
الْمُكَاتَبُ ابْنَهُ من مَوْلَاهُ أو ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ من مَوْلَاهُ لم
يَعْتِقُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ الْمَوْلَى لم يَمْلِكْهُ لِأَنَّهُ من
كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ اكساب مُكَاتَبِهِ فَلَا يَعْتِقُ
ولا اشْتَرَتْ الْمُكَاتَبَةُ ابْنَهَا من سَيِّدِهَا عَتَقَ لِأَنَّ إعْتَاقَ
الْمَوْلَى يَنْفُذُ في الْمُكَاتَبَةِ وَوَلَدِهَا فَيَعْتِقُ من طَرِيقِ
الْحُكْمِ لِأَجْلِ النَّسَبِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَ
وَالْعَبْدَ الْمَأْذُونَ والمشتري قبل الْقَبْضِ وَالْمَرْهُونَ
وَالْمُسْتَأْجَرَ لِقِيَامِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَكَذَا الْعَبْدُ الموصي
بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ إذَا أَعْتَقَهُ الْمُوصَى له
بِالرَّقَبَةِ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ في الْحَرْبِيِّ إذَا أَعْتَقَ
عَبْدًا حَرْبِيًّا له في دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ يَعْتِقُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَعْتِقُ وَلَا خِلَافَ في
أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهُ يَعْتِقُ منهم من قال لَا خِلَافَ في
الْعِتْقِ أَنَّهُ يَعْتِقُ وَإِنَّمَا الْخِلَافُ في الْوَلَاءِ أَنَّهُ هل
يَثْبُتُ منه أَمْ لَا ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ لِلْعَبْدِ
أَنْ يُوَالِيَ من شَاءَ وَلَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمُعْتِقِ
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ في الْعِتْقِ فَإِنَّهُمْ قالوا في
الْحَرْبِيِّ إذَا دخل إلَيْنَا وَمَعَهُ مَمَالِيكُ فقال هُمْ مُدَبَّرُونَ أنه
لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ وَإِنْ قال هُمْ أَوْلَادِي أو هُنَّ أُمَّهَاتُ أَوْلَادِي
قُبِلَ قَوْلُهُ فَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَثْبُتُ في دَارِ
الْحَرْبِ
وَرِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ عن أبي حَنِيفَةَ مَحْمُولَةٌ على ما إذَا خَرَجَ إلَى
دَارِ الْإِسْلَامِ وإذا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا وَلَاءَ له عليه
عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ لم يَعْتِقْ بِإِعْتَاقِهِ وَإِنَّمَا عَتَقَ بِخُرُوجِهِ
إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ عَتَقَ بِإِعْتَاقِ مَوْلَاهُ له
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ في مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ أَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ
نَفْسِهِ فَيَعْتِقُ كما لو بَاعَهُ وَكَمَا لو كان في دَارِ الْإِسْلَامِ
فَأَعْتَقَ عَبْدًا له حَرْبِيًّا أو مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا وَكَالْمُسْلِمِ إذَا
أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ في دَارِ الْحَرْبِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ
مِلْكَ نَفْسِهِ لِأَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ أَمْلَاكُهُمْ حَقِيقَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَرِثُونَ وَيُورَثُ عَنْهُمْ وَلَوْ كانت جَارِيَةٌ
يَصِحُّ من الْحَرْبِيِّ اسْتِيلَاؤُهَا إلَّا أَنَّهُ مِلْكٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ
وَلَهُمَا أَنَّ إعْتَاقَ الْحَرْبِيِّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ في دَارِ الْحَرْبِ
بِدُونِ التَّخْلِيَةِ لَا يُفِيدُ مَعْنَى الْعِتْقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِبَارَةٌ
عن قُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ تَثْبُتُ لِلْمَحَلِّ يَدْفَعُ بها يَدَ الِاسْتِيلَاءِ
وَالتَّمَلُّكِ عن نَفْسِهِ وَهَذَا لَا يَحْصُلُ بهذا الْإِعْتَاقِ بِدُونِ
التَّخْلِيَةِ لِأَنَّ يَدَهُ عليه تَكُونُ قَائِمَةً حَقِيقَةً وَمِلْكُ أَهْلِ
الْحَرْبِ في دَارِ الْحَرْبِ في دِيَانَتِهِمْ بِنَاءً على الْقَهْرِ الْحِسِّيِّ
وَالْغَلَبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ حتى أن الْعَبْدَ إذَا قَهَرَ مَوْلَاهُ
فَاسْتَوْلَى عليه مَلَكَهُ وإذا لم تُوجَدْ التَّخْلِيَةُ كان تَحْتَ يَدِهِ
وَقَهْرِهِ حَقِيقَةً فَلَا يَظْهَرُ مَعْنَى الْعِتْقِ هذا مَعْنَى قَوْلِ
الْمَشَايِخِ مُعْتَقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرَقٌّ بيده بِخِلَافِ ما إذَا أُعْتِقَ
في دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ يَدَ الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَلُّكِ تَنْقَطِعُ
بِثُبُوتِ الْعِتْقِ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَظْهَرُ مَعْنَى الْعِتْقِ وهو
الْقُوَّةُ الدَّافِعَةُ يَدَ الِاسْتِيلَاءِ وَبِخِلَافِ الْمُسْلِمِ إذَا
أَعْتَقَ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا
يُدِينُ الْمِلْكَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالْغَلَبَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَلَوْ كان
عَبْدُهُ حَرْبِيًّا فَأَعْتَقَهُ الْمُسْلِمُ في دَارِ الْحَرْبِ يَعْتِقُ من
غَيْرِ تَخْلِيَةٍ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ عِنْدَهُمَا كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَعْتَقَ
عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ في دَارِ الْحَرْبِ وَمِنْهُمْ من جَعَلَ الْمَسْأَلَةَ على
الِاخْتِلَافِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا مَلَكَ الْحَرْبِيُّ في دَارِ الْحَرْبِ ذَا رَحِمٍ
مَحْرَمٍ منه أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ يَعْتِقُ لِأَنَّ مِلْكَ الْقَرِيبِ يُوجِبُ الْعِتْقَ فَكَانَ الْخِلَافُ
فيه كَالْخِلَافِ في الْإِعْتَاقِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْإِعْتَاقُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ تَنْجِيزًا
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إضَافَةً إلَى
وَقْتٍ فَإِنْ كان تَنْجِيزًا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ وُجُودِهِ
لِأَنَّ التَّنْجِيزَ إثْبَاتُ
____________________
(4/57)
الْعِتْقِ
لِلْحَالِ وَلَا عِتْقَ بِدُونِ الْمِلْكِ وَإِنْ كان تَعْلِيقًا فَالتَّعْلِيقُ
في الْأَصْلِ نَوْعَانِ تَعْلِيقٌ مَحْضٌ ليس فيه مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
وَتَعْلِيقٌ فيه مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ تَعْلِيقًا من وَجْهٍ
وَمُعَاوَضَةً من وَجْهٍ وَالتَّعْلِيقُ الْمَحْضُ نَوْعَانِ أَيْضًا تَعْلِيقٌ
بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ من الشُّرُوطِ وَتَعْلِيقٌ بِالْمِلْكِ أو
بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على ضَرْبَيْنِ تَعْلِيقٌ صُورَةً
وَمَعْنًى وَتَعْلِيقٌ مَعْنًى لَا صُورَةً فَيَقَعُ الْكَلَامُ فيه الْحَاصِلِ في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَنْوَاعِ التَّعْلِيقِ ما يُشْتَرَطُ
لِصِحَّتِهِ قِيَامُ الْمِلْكِ وَقْتَ وُجُودِهِ وما لَا يُشْتَرَطُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ وُجُودُ الشَّرْطِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالتَّعْلِيقُ الْمَحْضُ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ من
الشُّرُوطِ فَنَحْوُ التَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَقُدُومِ
عَمْرٍو وَنَحْوِ ذلك بِأَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ
حُرٌّ أو إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أو إذَا قَدِمَ فُلَانٌ وَنَحْوُ ذلك فإنه
تَعْلِيقٌ صُورَةً وَمَعْنًى لِوُجُودِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ وَالْجَزَاءِ وَهَذَا
النَّوْعُ من التَّعْلِيقِ لَا يَصِحُّ إلَّا في الْمِلْكِ حتى لو قال لِعَبْدٍ لَا
يَمْلِكُهُ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ
الدَّارَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ ليس إلَّا
إثْبَاتَ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا مَحَالَةَ وَلَا عِتْقَ بِدُونِ
الْمِلْكِ وَلَا يُوجَدُ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إلَّا إذَا كان
مَوْجُودًا عِنْدَ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ
الشَّرْطِ وإذا لم يَكُنْ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ كان الظَّاهِرُ عَدَمَهُ
عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ عِنْدَ وُجُودِهِ لَا
مَحَالَةَ وَلِأَنَّ الْيَمِينَ بِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل شَرْطٌ وَجَزَاءٌ
وَالْجَزَاءُ ما يَكُونُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أو
مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِهِ لِتَحْصِيلِ مَعْنَى الْيَمِينِ وهو
التقوى على الِامْتِنَاعِ أو على التَّحْصِيلِ فإذا كان الْمِلْكُ ثَابِتًا وَقْتَ
التَّعْلِيقِ كان الْجَزَاءُ غَالِبَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ بَقَاءُ الْمِلْكِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى
الْيَمِينِ
وَكَذَا إذَا أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى الْمِلْكِ أو سَبَبِهِ كان الْجَزَاءُ
مُتَيَقَّنَ الْوُجُودِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَحْصُلُ مَعْنَى الْيَمِينِ
فَتَنْعَقِدُ الْيَمِينُ ثُمَّ إذَا وُجِدَ التَّعْلِيقُ في الْمِلْكِ حتى صَحَّ
فَالْعَبْدُ على مِلْكِهِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ وإذا
وُجِدَ الشَّرْطُ وهو في مِلْكِهِ يَعْتِقُ وَإِنْ لم يَكُنْ في مِلْكِهِ تَنْحَلُ
الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ حتى لو قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ
حُرٌّ فَبَاعَهُ قبل دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَ الدَّارَ وهو ليس في مِلْكِهِ يَبْطُلُ
الْيَمِينُ وَلَوْ لم يَدْخُلْ حتى اشْتَرَاهُ ثَانِيًا فَدَخَلَ الدَّارَ عَتَقَ
لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ لِأَنَّ في بَقَائِهَا
فَائِدَةً لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ بِالشِّرَاءِ وَغَيْرِهِ من أَسْبَابِ الْمِلْكِ
إلَّا أَنَّهُ لم يَنْزِلْ الْجَزَاءُ عِنْدَ الشَّرْطِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فإذا
عَادَ الْمِلْكُ وَالْيَمِينُ قَائِمٌ عَتَقَ على ما ذَكَرْنَا في الطَّلَاقِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ بَيْعًا صَحِيحًا لَا
يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ له فيه عِنْدَ الشَّرْطِ وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا
فَاسِدًا وهو في يَدِهِ حَنِثَ لِوُجُودِ الْمِلْكِ له فيه وَلَوْ كان
التَّعْلِيقُ في الْمِلْكِ بِشَرْطَيْنِ يُرَاعَى قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ
وُجُودِ الشَّرْطِ الْأَخِيرِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ حتى لو قال لِعَبْدِهِ
إنْ دَخَلْت هَذَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ قبل الدُّخُولِ
فَدَخَلَ إحْدَى الدَّارَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ الْأُخْرَى
يَعْتِقُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَعْتِقُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في
كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا
يُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا لِأَنَّهُ جَعَلَ
الدُّخُولَ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ بِالْعَتَاقِ لَا
تَنْعَقِدُ إلَّا في الْمِلْكِ أو مُضَافَةً إلَى الْمِلْكِ أو بِسَبَبِهِ
كَأَنَّهُ قال له عِنْدَ الدُّخُولِ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ إنْ شِئْت أو أَحْبَبْت أو رَضِيت أو هَوَيْت أو
قال لِأَمَتِهِ إنْ كُنْتِ تُحِبِّينِي أو تُبْغِضِينِي أو إذَا حِضْت فَأَنْتِ
حُرَّةٌ فَالْجَوَابُ فيه كَالْجَوَابِ في الطَّلَاقِ وقد ذَكَرْنَا هذه
الْمَسَائِلَ وأخوانها ( ( ( وأخواتها ) ) ) في كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ إنْ لم يَشَأْ فُلَانٌ فَإِنْ قال فُلَانٌ شِئْت في مَجْلِسِ
عِلْمِهِ لَا يَعْتِقْ لِعَدَمِ شَرْطِهِ وَإِنْ قال لَا أَشَاءُ يَعْتِقْ لَكِنْ
لَا يقول ( ( ( بقول ) ) ) لَا أَشَاءُ لِأَنَّ له أَنْ يَشَاءَ في الْمَجْلِسِ
بَلْ لِبُطْلَانِ الْمَجْلِسِ بِإِعْرَاضِهِ وَاشْتِغَالِهِ بِشَيْءٍ آخَرَ
بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قال إنْ لم يَشَأْ فُلَانٌ
الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فقال فُلَانٌ شِئْت لَا يَعْتِقُ وَلَوْ قال لَا أَشَاءُ
لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ له أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذلك ما دَامَتْ الْمُدَّةُ بَاقِيَةً
إلَّا إذَا مَضَى الْيَوْمُ ولم يَشَأْ فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ وَلَوْ عَلَّقَ
بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ فقال أنت حُرٌّ إنْ شِئْت أنا فما لم تُوجَدْ الْمَشِيئَةُ
منه في عُمُرِهِ لَا يَعْتِقُ وَلَا يُقْتَصَرُ على الْمَجْلِسِ لِأَنَّ هذا ليس
بِتَفْرِيقٍ إذْ الْعَتَاقُ بيده
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ إنْ لم تَشَأْ فَإِنْ قال شِئْت لَا يَعْتِقُ لِعَدَمِ
الشَّرْطِ وَإِنْ قال لَا أَشَاءُ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْعَدَمَ لَا يَتَحَقَّقُ
بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ إذْ له أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذلك إلَى أَنْ يَمُوتَ
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ اقْتَصَرَ على الْمَجْلِسِ فإذا
قال لَا أَشَاءُ فَقَدْ أَعْرَضَ عن الْمَجْلِسِ وَهَهُنَا لَا يَقْتَصِرُ على
____________________
(4/58)
الْمَجْلِسِ
فَلَهُ أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذلك حتى يَمُوتَ فإذا مَاتَ فَقَدْ تَحَقَّقَ
الْعَدَمُ فَيَعْتِقُ قبل مَوْتِهِ بِلَا فَصْلٍ وَيُعْتَبَرُ من ثُلُثِ الْمَالِ
كَوُقُوعِ الْعِتْقِ في الْمَرَضِ إذْ الْمَوْتُ لَا يَخْلُو عن مُقَدَّمَةِ
مَرَضٍ وَلَوْ قال أنت حُرٌّ غَدًا إنْ شِئْت فَالْمَشِيئَةُ في الْغَدِ فَإِنْ
شَاءَ في الْحَالِ لَا يَعْتِقُ ما لم يَشَأْ في الْغَدِ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ إنْ شِئْت غَدًا فَالْمَشِيئَةُ إلَيْهِ في الْحَالِ فإذا
شَاءَ في الْحَالِ عَتَقَ غَدًا لِأَنَّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عُلِّقَ
الْإِعْتَاقُ الْمُضَافُ إلَى الْغَدِ بِالْمَشِيئَةِ فَيَقْتَضِي الْمَشِيئَةَ في
الْغَدِ وفي الْفَصْلِ الثَّانِي أَضَافَ الْإِعْتَاقَ الْمُعَلَّقَ
بِالْمَشِيئَةِ إلَى الْغَدِ فَيَقْتَضِي تَقَدُّمَ الْمَشِيئَةِ على الْغَدِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ قال الْمَشِيئَةُ في الْغَدِ في الْفَصْلَيْنِ
جميعا وقال زُفَرُ الْمَشِيئَةُ إلَيْهِ لِلْحَالِ في الْفَصْلَيْنِ جميعا وَمِنْ
هذا الْقَبِيلِ قَوْلُ الرَّجُلِ لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ
حُرٌّ لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ صُورَةً وَمَعْنًى لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ
فَيَصِحُّ في الْمِلْكِ وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو
الْأَدَاءُ إلَيْهِ في مِلْكِهِ فإذا جاء بِأَلْفٍ وهو في مِلْكِهِ وَخَلَّى
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَلْفِ شَاءَ الْمَوْلَى أو أَبَى وهو تَفْسِيرُ الْجَبْرِ
على القبول ( ( ( القول ) ) ) إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَجْبُرُهُ على الْقَبْضِ
بِالْحَبْسِ كَذَا فَسَّرَهُ مُحَمَّدٌ فقال إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَحْضَرَ
الْمَالَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى من الْقَبْضِ عَتَقَ وَهَذَا
اسْتِحْسَانٌ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ ما لم يَقْبِضْ أو يَقْبَلْ وهو
قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ إلَيْهِ وَلَا
يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ إلَيْهِ إلَّا بِالْقَبْضِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَعْتِقُ كما
لو قال إنْ أَدَّيْت إلَيَّ عَبْدًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَجَاءَ بِعَبْدٍ رَدِيءٍ
وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لَا يَعْتِقُ وَلَوْ قَبِلَ يَعْتِقُ وَكَذَا إذَا
قال إنْ أَدَّيْت إلَيَّ كُرًّا من حِنْطَةٍ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى كُرًّا من حِنْطَةٍ
رَدِيئَةٍ وَلَوْ قَبِلَ يَعْتِقُ وَكَذَا إذَا قال إنْ أَدَّيْت إلَيَّ ثَوْبًا
أو دَابَّةً فَأَتَى بِثَوْبٍ مُطْلَقٍ أو دَابَّةٍ مُطْلَقَةٍ لَا يَعْتِقُ
بِدُونِ الْقَبُولِ وَكَذَا إذَا قال إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا أَحُجُّ بها أو
حَجَجْت بها لَا يَعْتِقُ بِتَسْلِيمِ الْأَلْفِ ما لم يَقْبَلْ وَكَذَا إذَا قال
إنْ أَدَّيْت إلَيَّ هذا الدَّنَّ من الْخَمْرِ لَا يَعْتِقُ بِالتَّخْلِيَةِ
بِدُونِ الْقَبُولِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ أَدَاءَ الْمَالِ إلَى الْإِنْسَانِ عِبَارَةٌ عن
تَسْلِيمِهِ إلَيْهِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } أَيْ تُسَلِّمُوا
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَبَرًا عن نَبِيِّهِ مُوسَى عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنْ أَدُّوا إلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ أَيْ سَلِّمُوا وَتَسْلِيمُ
الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عن جَعْلِهِ سَالِمًا خَالِصًا لَا يُنَازِعُهُ فيه أَحَدٌ
وَهَذَا يَحْصُلُ بِالتَّخْلِيَةِ وَلِهَذَا كانت التَّخْلِيَةُ تَسْلِيمًا في
الْكِتَابَةِ
وَكَذَا في الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ فَلَا يُحْتَاجُ فيه إلَى الْقَبْضِ كما
لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ في الْكِتَابَةِ وَالْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ مع ما
أَنَّ التَّخْلِيَةَ تَتَضَمَّنُ الْقَبْضَ لِأَنَّهَا تُفِيدُ التَّمَكُّنَ من
التَّصَرُّفِ وهو تَفْسِيرُ الْقَبْضِ لَا الْجَعْلِ في الْبَرَاجِمِ كما في
سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَأَمَّا الْمَسَائِلُ فَهُنَاكَ لم يُوجَدْ الشَّرْطُ
أَمَّا مَسْأَلَةُ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ ذُكِرَ الْعَبْدُ مُطْلَقًا
فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ وهو الْعَبْدُ الْمَرْغُوبُ فيه لَا ما
يَنْطَلِقُ عليه اسْمُ الْعَبْدِ
عُلِمَ ذلك بِدَلَالَةِ حَالِهِ فَلَا يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الرَّدِيءِ فإذا قَبِلَ
يَعْتِقُ لِأَنَّهُ إذَا قَبِلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ما أَرَادَ بِهِ الْمُقَيَّدَ
بَلْ الْمُطْلَقَ وَعُلِمَ أَنَّ له فيه غَرَضًا آخَرَ في الْجُمْلَةِ فَلَا
تُعْتَبَرُ الدَّلَالَةُ مع الصَّرِيحِ بِخِلَافِهِ حتى لو أتى بِعَبْدٍ جَيِّدٍ
أو وَسَطٍ وَخَلَّى يَعْتِقُ وهو الْجَوَابُ في مَسْأَلَةِ الْكُرِّ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الثَّوْبِ فَثَمَّ لَا يَعْتِقُ ما لم يَقْبَلْ وَلَا
يَعْتِقُ بِأَدَاءِ الْوَسَطِ لِأَنَّ الثِّيَابَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ
وَأَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ وَاسْمُ الثَّوْبِ يَقَعُ على كل ذلك على الِانْفِرَادِ
من الدِّيبَاجِ وَالْخَزِّ وَالْكَتَّانِ وَالْكِرْبَاسِ وَالصُّوفِ وَكُلِّ
جِنْسٍ تَحْتَهُ أَنْوَاعٌ فَكَانَ الْوَسَطُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً
وَلَا يَقَعُ على أَدْنَى الْوَسَطِ من هذه الْأَجْنَاسِ كما لَا يَقَعُ على
أَدْنَى الرَّدِيءِ لِأَنَّ قِيمَةَ أَدْنَى الْوَسَطِ وهو الْكِرْبَاسُ وهو
ثَوْبٌ تُسْتَرُ بِهِ الْعَوْرَةُ مِمَّا لَا يُرْغَبُ فيه بِمُقَابَلَةِ إزَالَةِ
الْمِلْكِ عن عَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَمَتَى بَقِيَ مَجْهُولًا لَا تَنْقَطِعُ
الْمُنَازَعَةُ فَلَا يَتَحَقَّقُ التَّسْلِيمُ وَالتَّخْلِيَةُ حتى لو قال إنْ
أَدَّيْت إلَيَّ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَأَنْتَ حُرٌّ يَقَعُ على الْوَسَطِ وإذا جاء
بِهِ يُجْبَرُ على الْقَبُولِ وَكَذَا الْجَوَابُ عن مَسْأَلَةِ الدَّابَّةِ
لِأَنَّ الدَّوَابَّ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ تَحْتَهَا أَنْوَاعٌ مُتَفَاوِتَةٌ
وَاسْمُ الدَّابَّةِ يَقَعَ على كل ذلك على الِانْفِرَادِ حتى لو قال إنْ أَدَّيْت
إلَيَّ فَرَسًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَدْ قالوا أنه يَقَعُ على الْوَسَطِ وَيُجْبَرُ
على الْقَبُولِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَجِّ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ إنْ قال إنْ أَدَّيْت إلَيَّ
أَلْفًا فَحَجَجْت بها أو قال وَحَجَجْت بها فَأَتَى بِالْأَلْفِ لَا يَعْتِقُ
لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطَيْنِ فَلَا يَعْتِقُ بِوُجُودِ أَحَدِهِمَا
وَلَوْ قال إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا أَحُجُّ بها يَعْتِقُ إذَا خَلَّى
وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَحُجُّ بها لِبَيَانِ الْغَرَضِ تَرْغِيبًا لِلْعَقْدِ في
الْأَدَاءِ حَيْثُ يَصِيرُ كَسْبُهُ مَصْرُوفًا إلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا
على سَبِيلِ الشَّرْطِ
وَمَسْأَلَةُ الْخَمْرِ لَا رِوَايَةَ فيها وَلَكِنْ ذُكِرَ في الْكِتَابَةِ
أَنَّهُ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ على دَنٍّ من خَمْرٍ أو على كَذَا عَدَدٍ من
الْخَنَازِيرِ على أَنَّهُ مَتَى أتى
____________________
(4/59)
بها
فَهُوَ حُرٌّ فَقَبِلَ يَكُونُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَلَوْ جاء بها الْمُكَاتَبُ
وَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا يَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ
نَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عليه وَيُقَالَ يَعْتِقُ هَهُنَا بِالتَّخْلِيَةِ
أَيْضًا وقال بَعْضُ الْمَشَايِخِ إنَّ الْعِتْقَ في هذا الْفَصْلِ ثَبَتَ من
طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً كما في الْكِتَابَةِ
وَالصَّحِيحُ إنه ثَبَتَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً كما في سَائِرِ
التَّعْلِيقَاتِ بِشُرُوطِهَا لَا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمَسَائِلُ
تَدُلُّ عليها فإنه ذُكِرَ عن بِشْرِ بن الْوَلِيدِ أَنَّهُ قال سَمِعْت أَبَا
يُوسُفَ قال في رَجُلٍ قال لِعَبْدِهِ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ
حُرٌّ أو مَتَى أَدَّيْت أو إنْ أَدَّيْت فإن أَبَا حَنِيفَةَ قال ليس هذا
بِمُكَاتَبٍ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَبِيعَهُ وَكَذَا قال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
فَإِنْ أَدَّى قبل أَنْ يَبِيعَهُ فإن أَبَا حَنِيفَةَ وَأَبَا يُوسُفَ
وَمُحَمَّدًا قالوا يُجْبَرُ الْمَوْلَى على قَبُولِهِ وَيَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا
فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَلْفَ كالعبد ( ( ( فالعبد ) ) )
رَقِيقٌ يُورَثُ مع أَكْسَابِهِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ
قبل الْأَدَاءِ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى وَلَا يُؤَدِّي عنه
فَيَعْتِقُ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ وَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ الْأَدَاءِ في يَدِهِ
مَالٌ مِمَّا اكْتَسَبَهُ فَهُوَ لِلْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ
في يَدِ نَفْسِهِ وَلَا سَبِيلَ لِلْمَوْلَى على أَكْسَابِهِ مع بَقَاءِ
الْكِتَابَةِ فَبَعْدَ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى
وَقَالُوا إنَّ الْمَوْلَى لو بَاعَهُ قبل الْأَدَاءِ صَحَّ كما في قَوْلِهِ
لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حرب ( ( ( حر ) ) ) بِخِلَافِ
الْمُكَاتَبِ فإنه لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ من غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتِبِ وإذا رضي
تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ وَلَوْ قال لِعَبْدَيْنِ له إنْ أَدَّيْتُمَا إلَيَّ
أَلْفًا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ فَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ لم يَعْتِقْ
أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَدَاءِ الْأَلْفِ ولم يُوجَدْ وَكَذَا
إذَا أَدَّى أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ كُلَّهَا من عِنْدِهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ
عِتْقِهِمَا أَدَاءَهُمَا جميعا الْأَلْفَ ولم يُوجَدْ الْأَلْفُ فَلَا
يَعْتِقَانِ كما إذَا قال لَهُمَا إنْ دَخَلْتُمَا هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ
فَأَنْتُمَا حُرَّانِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ ما لم يَدْخُلْ الْآخَرُ
وَإِنْ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْأَلْفَ كُلَّهَا وقال خَمْسُمِائَةٍ من عِنْدِي
وَخَمْسُمِائَةٍ أُخْرَى بَعَثَ بها صَاحِبِي لِيُؤَدِّيَهَا إلَيْك عَتَقَا
لِوُجُودِ الشَّرْطِ وهو أَدَاءُ الْأَلْفِ مِنْهُمَا حِصَّةُ أَحَدِهِمَا
بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ وَحِصَّةُ الْآخَرِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لِأَنَّ هذا
بَابٌ تجزىء فيه النِّيَابَةُ فَقَامَ أَدَاؤُهُ مَقَامَ أَدَاءِ صَاحِبِهِ وَلَوْ
أَدَّى عنهما رَجُلٌ آخَرُ لم يَعْتِقَا لِعَدَمِ الشَّرْطِ وهو أَدَاؤُهُمَا
وَأَمَّا إذَا أَدَّى الْأَجْنَبِيُّ الْأَلْفَ وقال أُؤَدِّيهَا إلَيْك على
أَنَّهُمَا حُرَّانِ فَقَبِلَهَا الْمَوْلَى على ذلك عَتَقَا لِأَنَّ هذا
بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ آخَرَ مع الْأَجْنَبِيِّ كَأَنَّهُ قال له إنْ
أَدَّيْت ألي أَلْفًا فَعَبْدِي حُرٌّ وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ
الْمَوْلَى لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ قبل الْغَيْرِ
وَلِأَنَّ مَنْفَعَةَ هذا الْعِتْقِ تَحْصُلُ له فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ
بِذَلِكَ على الْغَيْرِ مَالًا بِخِلَافِ ما إذَا قال لِآخَرَ طَلِّقْ امْرَأَتَك
على أَلْفِي هذه وَدَفَعَ إلَيْهِ فَطَلَّقَ أَنَّ الْأَلْفَ تَكُونُ
لِلْمُطَلِّقِ لِأَنَّ الزَّوْجَ لم يَحْصُلْ له بِالطَّلَاقِ مَنْفَعَةٌ إذْ هو
إسْقَاطُ حَقِّ والأجنبي ( ( ( الأجنبي ) ) ) صَارَ مُتَبَرِّعًا عنها بِذَلِكَ
فَأَشْبَهَ ما إذَا قَضَى عنها دَيْنًا بِخِلَافِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ
لِلْمَوْلَى مَنْفَعَةٌ وهو الْوَلَاءُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَدَلًا
على الْغَيْرِ
وَلَوْ أَدَّاهَا الْأَجْنَبِيُّ وقال هُمَا أَمَرَانِي أَنْ أُؤَدِّيَهَا عنهما
فَقَبِلَهَا الْمَوْلَى عَتَقَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الرَّجُلُ رَسُولًا عنهما فَأَدَاءُ الرَّسُولِ أَدَاءُ الْمُرْسِلِ
فَإِنْ أعتق ( ( ( أدى ) ) ) الْعَبْدُ من مَالٍ اكْتَسَبَهُ قبل الْقَبُولِ عَتَقَ
لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى عليه بمثله لِأَنَّ الْمَوْلَى ما
أَذِنَ له بِالْأَدَاءِ من هذا الْكَسْبِ لِأَنَّ الْإِذْنَ ثَبَتَ بِمُقْتَضَى
الْقَبُولِ
وَالْكَسْبُ كان قبل الْقَبُولِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ بِأَنْ غَصَبَ
أَلْفًا من رَجُلٍ وَأَدَّى ولم يُجِزْ الْمَغْصُوبُ منه أَدَاءَهُ فإن الْعَبْدَ
يَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلِلْغَاصِبِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَغْصُوبَ
وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ على الْعَبْدِ بِمِثْلِهَا
وَإِنْ أَدَّى من مَالٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْقَبُولِ صَحَّ الْأَدَاءُ وَعَتَقَ
الْعَبْدُ وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ بمثله بَعْدَ الْعِتْقِ
اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّهُ أَدَّى مَالَ الْمَوْلَى فَيَرْجِعُ عليه
كما لو اكْتَسَبَهُ قبل الْقَبُولِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ أَدَّى من
مَالِ نَفْسِهِ لِأَنَّ اكْتِسَابَهُ مِلْكُهُ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا
فَقَالُوا أنه لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ أَدَّى بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَكَانَ
إقْدَامُهُ على هذا الْقَبُولِ إذْنًا له بِالتِّجَارَةِ دَلَالَةً لِأَنَّهُ لَا
يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الْأَلْفِ إلَّا بِالتِّجَارَةِ فَيَصِيرُ مأوذنا ( ( (
مأذونا ) ) ) في التِّجَارَةِ فَقَدْ حَصَلَ الآداء من كَسْبٍ هو مَأْذُونٌ في
الْأَدَاءِ منه من جِهَةِ الْمَوْلَى فَلَا يَسْتَحِقُّ الرُّجُوعَ عليه أو
نَقُولُ الْكَسْبُ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْقَبُولِ ليس على حُكْمِ مِلْكِ الْمَوْلَى
في الْقَدْرِ الذي يؤدى كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَصَارَ من هذا الْوَجْهِ
كَالْمُكَاتَبِ وَلَوْ كانت هذه أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ لم يَعْتِقْ
وَلَدُهَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ إذَا وَلَدَتْ ثُمَّ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ
أَنَّهُ يَعْتِقُ وَلَدُهَا
وَلَوْ قال الْعَبْدُ لِلْمَوْلَى حُطَّ عَنِّي مِائَةً فَحَطَّ عنه فَأَدَّى
تِسْعَمِائَةٍ لم يَعْتِقْ لِأَنَّ الشَّرْطَ لم يُوجَدْ بِخِلَافِ
____________________
(4/60)
الْكِتَابَةِ
فإن الْعِتْقَ فيها يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْحَطُّ يُلْتَحَقُ
بِأَصْلِ الْعَفْوِ في الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَكَذَا لو أَدَّى مَكَانَ
الدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ قَبِلَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ إنْ خَدَمْتَنِي سَنَةً فَأَنْتَ حُرٌّ فَخَدَمَهُ أَقَلَّ
من سَنَةٍ لم يَعْتِقْ حتى يُكْمِلَ خِدْمَتَهُ وَكَذَا إنْ صَالَحَهُ من
الْخِدْمَةِ على دَرَاهِمَ أو من الدَّرَاهِمِ التي جَعَلَ عليه على دَنَانِيرَ
وَكَذَا إذَا قال أخدم أَوْلَادِي سَنَةً وَأَنْتَ حُرٌّ فَمَاتَ بَعْضُهُمْ قبل
تَمَامِ السَّنَةِ لم يَعْتِقْ وَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلٌ على أَنَّ الْعِتْقَ
ثَبَتَ بِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً فَلَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فيه بِالرِّضَا
وَعَدَمِهِ وَإِسْقَاطِ بَعْضِ الشَّرْطِ كما في سَائِرِ الْأَزْمَانِ أَلَا يَرَى
أَنَّهُ إذَا قال له إنْ دَخَلْت هَاتَيْنِ الدَّارَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ
إحْدَاهُمَا وقال الْمَوْلَى أَسْقَطْت عَنْك دُخُولَ الْأُخْرَى لَا يَسْقُطُ
كَذَا هذا
وَلَوْ أَبْرَأَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ من الْأَلْفِ لم يَعْتِقْ لِعَدَمِ
الشَّرْطِ وهو الْأَدَاءُ وَلَوْ أَبْرَأَ الْمُكَاتَبَ عن بَدَلِ الْكِتَابَةِ
يَعْتِقُ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ إذَا قال إنْ أَدَّيْت لي أَلْفًا في
كِيسٍ أَبْيَضَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّاهَا في كِيسٍ أَسْوَدَ لَا يَعْتِقُ وفي
الْكِتَابَةِ يَعْتِقُ وَهَذَا نَصٌّ على أَنَّ العتق هَهُنَا يَثْبُتُ بِوُجُودِ
الشَّرْطِ لَا من طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ بَاعَ هذا
الْعَبْدَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَأَدَّى إلَيْهِ يُجْبَرُ على الْقَبُولِ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ لَا يُجْبَرُ على قَبُولِهَا فَإِنْ قَبِلَهَا
عَتَقَ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ لَا
يُجْبَرُ على الْقَبُولِ ولم يذكر الْخِلَافَ
وَعَلَى هذا إذَا رَدَّهُ عليه بِعَيْبٍ أو خِيَارٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ ظَاهِرٌ مُطَّرِدٌ على الْأَصْلِ لأنه عتق ( ( ( عتقه )
) ) تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَالْجَزَاءُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ
فَكَانَ حُكْمُهُ في الْمِلْكِ الثَّانِي كَحُكْمِهِ في الْمِلْكِ الْأَوَّلِ كما
في قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ
فَدَخَلَ
وَأَمَّا الْوَجْهُ لِمُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ دَلَالَةَ الْحَالِ دَلَّتْ على
التَّقْيِيدِ بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ ظَاهِرًا لِأَنَّ غَرَضَهُ من التَّعْلِيقِ
بِالْأَدَاءِ تَحْرِيضُهُ على الْكَسْبِ لِيَصِلَ إلَيْهِ الْمَالُ وَذَلِكَ في
الْمَالِ الْقَائِمِ وَأَكَّدَ ذلك بِوُجُودِ الْعِتْقِ الْمُرَغِّبِ له في
الْكَسْبِ مع احْتِمَالِ أَنَّ الْمُرَادَ منه مُطْلَقُ الْمِلْكِ فإذا أتى
بِالْمَالِ بعدما بَاعَهُ وَاشْتَرَاهُ فلم يَقْبَلْ لَا يَعْتِقُ لِتَقَيُّدِهِ
بِالْمِلْكِ الْقَائِمِ ظَاهِرًا بِدَلَالَةِ الْحَالِ وإذا قَبِلَ يَعْتِقُ
لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ منه الْمُطْلَقُ وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ إذَا
أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا كُلَّ شَهْرٍ مِائَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَقَبِلَتْ ذلك
فَلَيْسَ هذا بِكِتَابَةٍ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا ما لم تُؤَدِّ وَإِنْ كَسَرَتْ
شَهْرًا لم تُؤَدِّ إلَيْهِ ثُمَّ أَدَّتْ إلَيْهِ في غَيْرِ ذلك الشَّهْرِ لم
تَعْتِقْ كَذَا ذَكَرَ في رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ وَهِشَامٍ وَذَكَرَ في رِوَايَةٍ
أُخْرَى وقال هذه مُكَاتَبَةٌ وَلَيْسَ له أَنْ يَبِيعَهَا وَإِنْ كَسَرَتْ
شَهْرًا وَاحِدًا ثُمَّ أَدَّتْ في غَيْرِ ذلك الشَّهْرِ كان جَائِزًا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ فيه الْأَجَلَ فَدَلَّ أَنَّهُ
كِتَابَةٌ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي حَفْصٍ أَنَّ هذا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ في وَقْتٍ
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على أَنَّهُ كِتَابَةٌ كما لو قال لها إنْ دَخَلْت دَارَ
فُلَانٍ الْيَوْمَ أو دَارَ فُلَانٍ غَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ لَا يَكُونُ ذلك
كِتَابَةً وَإِنْ أَدْخَلَ الْأَجَلَ فيه
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصَّحِيحَ هذه الرِّوَايَةُ أَنَّهُ إذَا قال لها إذَا
أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا في هذا الشَّهْرِ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فلم تُؤَدِّهَا في ذلك
الشَّهْرِ وَأَدَّتْهَا في غَيْرِهِ لم تَعْتِقْ وَلَوْ كان ذلك كِتَابَةً لَمَا
بَطَلَ ذلك إلَّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ أو بِتَرَاضِيهِمَا فَدَلَّ أَنَّ هذا ليس
بِكِتَابَةٍ بَلْ هو تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لَكِنْ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ثُمَّ
التَّعْلِيقُ بِالْأَدَاءِ هل يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ فَإِنْ قال مَتَى
أَدَّيْت أو مَتَى ما أَدَّيْت أو إذَا ما أَدَّيْت فَلَا شَكَّ أَنَّ هذا كُلَّهُ
لَا يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ لِأَنَّ في هذه الْأَلْفَاظِ مَعْنَى الْوَقْتِ
وَإِنْ قال إنْ أَدَّيْت إلى ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يُقْتَصَرُ على
الْمَجْلِسِ وَظَاهِرُ ما رَوَاهُ بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ يَدُلُّ أَنَّهُ لَا
يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ فإنه قال في رِوَايَةٍ عن أبي يُوسُفَ أنه قال في
رَجُلٍ قال لِعَبْدِهِ إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ أو مَتَى
أَدَّيْت أو إنْ أَدَّيْت فَقَدْ سَوَّى بين هذه الْكَلِمَاتِ ثُمَّ في كَلِمَةِ
إذَا أو مَتَى لَا يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ فَكَذَا في كَلِمَةِ إنْ
وَكَذَا ذَكَرَ بِشْرٌ ما يَدُلُّ عليه فإنه قال عَطْفًا على رِوَايَتِهِ عن أبي
يُوسُفَ أن الْمَوْلَى إذَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَأَدَّى الْمَالَ عَتَقَ
وَيَبْعُدُ أَنْ يَنْفُذَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ وَأَدَاءُ الْمَالِ في مَجْلِسٍ
وَاحِدٍ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ في
الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا وَالْوَجْهُ فيه ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ عِتْقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ
فَلَا يَقِفُ على الْمَجْلِسِ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ من قَوْلِهِ
إنْ دَخَلَتْ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ وَغَيْرِ ذلك
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّ الْعِتْقَ الْمُعَلَّقَ بِالْأَدَاءِ مُعَلَّقٌ
بِاخْتِيَارِ الْعَبْدِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قال أنت حُرٌّ إنْ شِئْت وَلَوْ قال إنْ
شِئْت يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ وَلَوْ قال إذَا شِئْت أو مَتَى شِئْت لَا
يَقْتَصِرُ على الْمَجْلِسِ كَذَا هَهُنَا وَسَوَاءٌ أَدَّى الْأَلْفَ جُمْلَةً
وَاحِدَةً أو على التَّفَارِيقِ خَمْسَةٍ وَعَشَرَةٍ وَعِشْرِينَ أَنَّهُ يُجْبَرُ
على الْقَبُولِ حتى إذَا تَمَّ الْأَلْفُ يَعْتِقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ
____________________
(4/61)
الْعِتْقَ
بِأَدَاءِ الْأَلْفِ مُطْلَقًا وقد أَدَّى
وَرَوَى ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال لِعَبْدِهِ في مَرَضِهِ إذَا
أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ فَأَدَّاهَا
من مَالٍ اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْقَوْلِ فإنه يَعْتِقُ من جَمِيعِ الْمَالِ
اسْتَحْسَنَ أبو حَنِيفَةَ ذلك
وقال زُفَرُ يَعْتِقُ من الثُّلُثِ وهو الْقِيَاسُ ووجه ( ( ( ووجهه ) ) ) أَنَّ
الْكَسْبَ حَصَلَ على مِلْكِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فإذا أَسْقَطَ
حَقَّهُ عن الرَّقَبَةِ كان مُتَبَرِّعًا فَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ كما لو
أَعْتَقَهُ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ
اكساب الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ فَكَانَ كَسْبُهُ عِوَضًا عن الرَّقَبَةِ فَيَعْتِقُ
من جَمِيعِ الْمَالِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَدْرَ الذي يؤدي من
الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْقَوْلِ ليس على مِلْكِ الْمَوْلَى كَكَسْبِ
الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَطْمَعَهُ الْعِتْقَ بِأَدَائِهِ إلَيْهِ فَصَارَ
تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِهِ سَبَبًا دَاعِيًا إلَى تَحْصِيلِهِ فَصَارَ كَسْبُهُ من
هذا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ
وَلَوْ قال له أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ فما لم يُؤَدِّ لَا يَعْتِقُ
لِأَنَّهُ أتى بِجَوَابِ الْأَمْرِ لِأَنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِالْوَاوِ
فَيَقْتَضِي وُجُوبَ ما تَعَلَّقَ بِالْأَمْرِ وهو الْأَدَاءُ
وَلَوْ قال أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَا رِوَايَةَ في هذا وَقِيلَ
هذا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ إلَيْهِ لِأَنَّ
جَوَابَ الْأَمْرِ قد يَكُونُ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَلَوْ قال أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا
أنت حُرٌّ يَعْتِقُ لِلْحَالِ أَدَّى أو لم يُؤَدِّ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ هَهُنَا
ما يُوجِبُ تَعَلُّقَ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ حَيْثُ لم يَأْتِ بِحَرْفِ
الْجَوَابِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ إذَا قال لِأَمَتِهِ إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ أو
قال إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَيُعْتَبَرُ لِصِحَّةِ قِيَامِ الْمِلْكِ
في الْأَمَةِ وَقْتُ التَّعْلِيقِ كما في قَوْلِهِ إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ
حُرَّةٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ إذَا كان ثَابِتًا في الْأَمَةِ وَقْتَ التَّصَرُّفِ
فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إضَافَةِ
الْوِلَادَةِ إلَى الْمِلْكِ فَيَصِحُّ فإذا صَحَّ التَّعْلِيقُ فَكُلُّ وَلَدٍ
تَلِدُهُ في مِلْكِهِ يَعْتِقُ وَإِنْ وَلَدَتْ في غَيْرِ مِلْكِهِ لَا يَعْتِقُ
وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ بِأَنْ وَلَدَتْ بعدما مَاتَ الْمَوْلَى أو بعدما بَاعَهَا
وَلَوْ ضَرَبَ ضَارِبٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كان فيه ما في
جَنِينِ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَحْصُلُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَالضَّرْبُ
حَصَلَ قبل الْوِلَادَةِ فَكَانَ عَبْدًا فَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْحُرِّ
وَلَوْ قال إذَا حَمَلْت بِوَلَدٍ فَهُوَ حُرٌّ كان فيه ما في جَنِينِ الْحُرَّةِ
لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَحْصُلُ منها لِلْحَمْلِ فَالضَّرْبُ صَادَفَهُ وهو حُرٌّ
إلَّا أَنَّا لَا نَحْكُمُ بِهِ ما لم تَلِدْ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ بِوُجُودِهِ
فإذا أَلْقَتْ فَقَدْ عَلِمْنَا بِوُجُودِهِ وَقْتَ الضَّرْبِ
فَإِنْ قِيلَ الْحُرِّيَّةُ لَا تَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ الْحَيَاةِ فيه
وَلَا نَعْلَمُ ذلك فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا
حَكَمَ الشَّرْعُ بِالْأَرْشِ على الضَّارِبِ فَقَدْ صَارَ مَحْكُومًا بِحُدُوثِ
الْحَيَاةِ فيه لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِتْلَافِ الْحَيِّ
وَلَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قبل مُضِيِّ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ كان الْوَلَدُ حُرًّا وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ
بَاعَهَا وَالْحَمْلُ مَوْجُودٌ وَالْحُرِّيَّةُ ثَابِتَةٌ فيه وَحُرِّيَّةُ
الْحَمْلِ تَمْنَعُ جَوَازَ بَيْعِ الْأُمِّ لِمَا مَرَّ وَإِنْ ولدتها ( ( (
ولدته ) ) ) لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لم يَعْتِقْ لِأَنَّا لم نَتَيَقَّنْ
بِحُصُولِ الْوَلَدِ يوم الْبَيْعِ فَلَا يَجُوزُ فَسْخُ الْبَيْعِ وَإِثْبَاتُ
الْحُرِّيَّةِ
وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ إنْ كان أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ
حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَوْجُهٍ إمَّا
أن عُلِمَ أَيُّهُمَا ولدا ( ( ( ولد ) ) ) أَوَّلًا بِأَنْ اتَّفَقَ الْمَوْلَى
وَالْأَمَةُ على أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ ذلك وَإِمَّا أن لم يُعْلَمْ بِأَنْ
اتَّفَقَا على أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ وأما إنْ اخْتَلَفَا في ذلك فَإِنْ
عُلِمَ أَيُّهُمَا وُلِدَ أَوَّلًا فَإِنْ كان الْغُلَامُ هو الْأَوَّلُ فَهُوَ
رَقِيقٌ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِوِلَادَتِهِ عِتْقُ الْأُمِّ وَهِيَ إنَّمَا
تَعْتِقُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَكَانَ انْفِصَالُ الْوَلَدِ على حُكْمِ الرِّقِّ
فَلَا يُؤَثِّرُ فيه عِتْقُ الْأُمِّ وَتَعْتِقُ الْأُمُّ بِوُجُودِ الشَّرْطِ
وَتَعْتِقُ الْجَارِيَةُ بِعِتْقِهَا
وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ هِيَ الْأُولَى لم يَعْتِقْ وَاحِدٌ منهم لِعَدَمِ
شَرْطِ الْعِتْقِ وَإِنْ لم يُعْلَمْ فَالْغُلَامُ رَقِيقٌ على كل حَالٍ لِأَنَّهُ
لَا حَالَ له في الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا سَوَاءٌ كان مُتَقَدِّمًا في الْوِلَادَةِ
أو مُتَأَخِّرًا لِأَنَّهُ إنْ كان أَوَّلًا فَذَاكَ شَرْطُ عِتْقِ أُمِّهِ لَا
شَرْطُ عِتْقِهِ وَعِتْقُ أُمِّهِ لَا يُؤَثِّرُ فيه لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ أَوَّلًا فَوِلَادَتُهَا لم تَجْعَلْ شَرْطَ الْعِتْقِ
في حَقِّ أَحَدٍ فلم يَكُنْ لِلْغُلَامِ حَالٌ في الْحُرِّيَّةِ رَأْسًا فَكَانَ
رَقِيقًا على كل حَالٍ وَأَمَّا الْجَارِيَةُ وَالْأُمُّ فَيَعْتِقُ من كل
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَتَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا تَعْتِقُ في حَالٍ وَتُرَقُّ في حَالٍ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كان
أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ أَمَّا الْأُمُّ فَلِوُجُودِ شَرْطِ
الْعِتْقِ فيها وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلِعِتْقِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْأُمَّ إذَا
عَتَقَتْ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ بِعِتْقِ الْأُمِّ تَبَعًا لها فَعَتَقَتَا جميعا
وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ أَوَّلًا لَا يَعْتِقَانِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ
الْعِتْقِ في الْأُمِّ وإذا لم تَعْتِقْ الْأُمُّ لَا تَعْتِقُ الْجَارِيَةُ
لِأَنَّ عِتْقَهَا بِعِتْقِهَا فَإِذًا هُمَا يَعْتِقَانِ في حَالٍ وَيُرَقَّانِ
في حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ الْعِتْقُ فِيهِمَا فَيَعْتِقُ من كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
نِصْفُهَا على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ لِأَصْحَابِنَا في اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ
عِنْدَ اشْتِبَاهِهَا وَالْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ
____________________
(4/62)
الْمَوْلَى
على عِلْمِهِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما يَعْلَمُ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا فَإِنْ
نَكَلَ عن الْيَمِينِ عَتَقَتْ الْأُمُّ وَابْنَتُهَا وكان الْغُلَامُ عَبْدًا وَإِنْ
حَلَفَ كَانُوا جميعا أَرِقَّاءَ وَكَذَلِكَ إذَا لم يُخَاصِمْ الْمَوْلَى حتى
مَاتَ وَخُوصِمَ وَارِثُهُ بَعْدَهُ فَأَقَرَّ أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَحَلَفَ
بِاَللَّهِ تَعَالَى ما يَعْلَمُ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا رُقُّوا
وَوَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَحْوَالَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ
تَعَذُّرِ الْبَيَانِ وَالْبَيَانُ هَهُنَا مُمْكِنٌ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ
الْحَالِفِ فَلَا تُعْتَبَرُ الْأَحْوَالُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى
الْبَيَانِ بِالْيَمِينِ هَهُنَا لِأَنَّ الْخَصْمَيْنِ مُتَّفِقَانِ على
أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا فَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ
يُكَلِّفَ الْمَوْلَى الْحَلِفَ على أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا مع
تَصَادُقِهِمَا على ذلك وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى أن
الْجَارِيَةَ هِيَ الْأُولَى لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْعِتْقَ
وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ إنْ كان أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَأَنْتِ
حُرَّةٌ وَإِنْ كانت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً
فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْغُلَامَ كان أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ
لَا غَيْرُ
أَمَّا الْأُمُّ فَلِوُجُودِ الشَّرْطِ
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلِعِتْقِ الْأُمِّ
وَأَمَّا رِقُّ الْغُلَامِ فَلِانْفِصَالِهِ على حُكْمِ الرِّقِّ فَلَا يُؤَثِّرُ
فيه عِتْقُ الْأُمِّ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْجَارِيَةَ كانت هِيَ الْأُولَى
عَتَقَتْ هِيَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِوِلَادَتِهَا عِتْقُهَا لَا
غَيْرُ وَعِتْقُهَا لَا يُؤَثِّرُ في غَيْرِهَا وَإِنْ لم يُعْلَمُ أَيُّهُمَا
أَوَّلٌ فَالْجَارِيَةُ حُرَّةٌ على كل حَالٍ وَالْغُلَامُ عَبْدٌ على كل حَالٍ
وَيَعْتِقُ نِصْفُ الْأُمِّ وَتَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهَا
أَمَّا حُرِّيَّةُ الْجَارِيَةِ على كل حَالٍ فَلِأَنَّهُ لَا حَالَ لها في
الرِّقِّ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كان أَوَّلًا عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِأَنَّ
أُمَّهَا تَعْتِقُ فَتُعْتَقُ هِيَ بِعِتْقِ الْأُمِّ وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ
أَوَّلًا فَقَدْ عَتَقَتْ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ في حَقِّهَا فَكَانَتْ
حُرَّةً على كل حَالٍ
وَأَمَّا رِقُّ الْغُلَامِ على كل حَالٍ فَلِأَنَّهُ ليس له حَالٌ في
الْحُرِّيَّةِ سَوَاءٌ وُلِدَ أَوَّلًا أو آخِرًا وَأَمَّا الْأُمُّ فَإِنَّمَا
يَعْتِقُ نِصْفُهَا لِأَنَّهَا تَعْتِقُ في حَالٍ وَتُرَقُّ في حَالٍ لِأَنَّ
الْغُلَامَ إنْ كان هو الْأَوَّلُ تَعْتِقُ الْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ أَيْضًا
بِعِتْقِ الْأُمِّ وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ أَوَّلًا تَعْتِقُ الْجَارِيَةُ لَا
غَيْرُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِهِ عِتْقُهَا لَا غَيْرُ وَعِتْقُهَا لَا
يَتَعَدَّى إلَى عِتْقِ الْأُمِّ فَإِذًا تَعْتِقُ الْأُمُّ في حَالٍ وَلَا
تَعْتِقُ في حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا اعْتِبَارًا لِلْأَحْوَالِ وَإِنْ
اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا
وَلَوْ قال لها إنْ كان أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ غُلَامًا فَهُوَ حُرٌّ وَإِنْ
كان جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَإِنْ عُلِمَ
أَنَّ الْغُلَامَ وُلِدَ أَوَّلًا عَتَقَ هو لَا غَيْرُ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ
الْجَارِيَةَ وُلِدَتْ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ وَالْغُلَامُ لَا غَيْرُ وَإِنْ
لم يُعْلَمْ أَيُّهُمَا وُلِدَ أَوَّلًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ على كل حَالٍ
لِأَنَّهُ لَا حَالَ له في الرِّقِّ سَوَاءٌ كان أَوَّلًا أو آخِرًا
وَالْجَارِيَةُ رَقِيقَةٌ على كل حَالٍ لِأَنَّهُ لَا حَالَ لها في الْحُرِّيَّةِ
تَقَدَّمَتْ في الْوِلَادَةِ أو تَأَخَّرَتْ لِأَنَّ الْغُلَامَ إنْ كان هو
الْأَوَّلَ لَا يَعْتِقُ إلَّا هو وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ هِيَ الْأُولَى لَا
تَعْتِقُ إلَّا الْأُمُّ وَالْغُلَامُ فلم يَكُنْ لِلْجَارِيَةِ حَالٌ في
الْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَتْ رَقِيقَةً وَالْأُمُّ يَعْتِقُ منها نِصْفُهَا وَتَسْعَى
في نِصْفِ قِيمَتِهَا لِأَنَّ الْجَارِيَةَ إنْ كانت هِيَ الْأُولَى تَعْتِقُ
الْأُمُّ كُلُّهَا وَإِنْ كان الْغُلَامُ هو الْأَوَّلُ لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ منها
فَتَعْتِقُ في حَالٍ وَلَا تَعْتِقُ في حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَتَسْعَى في
النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْحَالَيْنِ وَعَمَلًا بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا
هذا إذَا وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ
وَجَارِيَتَيْنِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ عُلِمَ أَوَّلُهُمْ أَنَّهُ
ابْنٌ يَعْتِقُ هو لَا غَيْرُ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ عِتْقُهُ لَا غَيْرُ يَعْتِقُ
هو لَا غَيْرُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ جَارِيَةٌ فَهِيَ
رَقِيقَةٌ وَمَنْ سِوَاهَا أَحْرَارٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ وِلَادَتَهَا أَوَّلًا
شَرْطَ حُرِّيَّةِ الْأُمِّ فإذا وُجِدَ الشَّرْطُ عَتَقَتْ الْأُمُّ وَيَعْتِقُ
كُلُّ من وُلِدَ بَعْدَ ذلك بِعِتْقِ الْأُمِّ تَبَعًا لها وَإِنْ لم يُعْلَمْ من
كان أَوَّلَهُمْ يَعْتِقُ من الْغُلَامَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ
أَرْبَاعِهِ وَيَسْعَى في رُبُعِ قِيمَتِهِ وَيَعْتِقُ من الْأُمِّ نِصْفُهَا
وَتَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهَا وَيَعْتِقُ من الْبِنْتَيْنِ من كل وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا رُبُعُهَا وَتَسْعَى في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا وَإِنَّمَا كان
كَذَلِكَ وأما الْغُلَامَانِ فَلِأَنَّ أَوَّلَ من وَلَدَتْ إنْ كان غُلَامًا
عَتَقَ الْغُلَامُ كُلُّهُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ كان جَارِيَةً عَتَقَ
الْغُلَامَانِ لِأَنَّ الْأُمَّ تَعْتِقُ وَيَعْتِقُ كُلُّ من وُلِدَ بَعْدَ ذلك
وَهُمْ الْغُلَامَانِ وَالْجَارِيَةُ الْأُخْرَى وقد تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ
أَحَدِ الْغُلَامَيْنِ وَشَكَكْنَا في الْآخَرِ وَلَهُ حَالَتَانِ يَعْتِقُ في
حَالٍ وَلَا يَعْتِقُ في حَالٍ فَيُجْعَلُ ذلك نِصْفَيْنِ فَيَعْتِقُ غُلَامٌ
وَاحِدٌ وَنِصْفٌ من الْآخَرِ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا عَتَقَ كُلُّهُ
وَأَيُّهُمَا عَتَقَ نِصْفُهُ فَاسْتَوَيَا في ذلك وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا في ذلك
بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَيَعْتِقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ
وَيَسْعَى في رُبُعِ قِيمَتِهِ
وَأَمَّا الْأَمُّ فَإِنَّهَا تَعْتِقُ في حَالٍ وَلَا تَعْتِقُ في حَالٍ لِأَنَّ
أَوَّلَ ما وَلَدَتْ إنْ كان غُلَامًا لَا تَعْتِقُ أَصْلًا وَإِنْ كان جَارِيَةً
تَعْتِقُ فَتَعْتِقُ في حَالٍ وَتُرَقُّ في حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَتَسْعَى
في نِصْفِهَا
وَأَمَّا الْجَارِيَتَانِ فَإِحْدَاهُمَا أَمَةٌ بِلَا شَكٍّ لِأَنَّ أَوَّلَ ما
وَلَدَتْ إنْ كان غُلَامًا فَهُمَا رَقِيقَانِ
____________________
(4/63)
وَإِنْ
كانت جَارِيَةً فإن الْأُولَى لَا تَعْتِقُ وَتَعْتِقُ الْأُخْرَى بِعِتْقِ
الْأُمِّ فَإِذًا في حَالَةٍ لَهُمَا حُرِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ وفي حَالَةٍ لَا شَيْءَ
لَهُمَا فَيَثْبُتُ لَهُمَا نِصْفُ ذلك وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى من
الآخرى فَيَصِيرَ ذلك بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وهو رُبُعُ الْكُلِّ فَيَعْتِقُ من
كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رُبُعُهَا وَتَسْعَى في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ إنْ وَلَدْت غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً فَأَنْتِ حُرَّةٌ
وَإِنْ وَلَدْت جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا فَالْغُلَامُ حُرٌّ فَوَلَدَتْ غُلَامًا
وَجَارِيَةً فَإِنْ كان الْغُلَامُ أَوَّلًا عَتَقَتْ الْأُمُّ لِوُجُودِ شَرْطِ
عِتْقِهَا وَالْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ رَقِيقَانِ لِانْفِصَالِهِمَا على حُكْمِ
الرِّقِّ وَعِتْقُ الْأُمِّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ
أَوَّلًا عَتَقَ الْغُلَامُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْأُمُّ وَالْجَارِيَةُ
رَقِيقَتَانِ لِأَنَّ عِتْقَ الْغُلَامِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِمَا وَإِنْ لم
يُعْلَمْ أَيُّهُمَا أَوَّلًا وَاتَّفَقَا على أَنَّهُمَا لَا يَعْلَمَانِ ذلك
فَالْجَارِيَةُ رَقِيقَةٌ لِأَنَّهُ لَا حَالَ لها في الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهَا
تُرَقُّ في جَمِيعِ الْأَحْوَالِ
وَأَمَّا الْغُلَامُ وَالْأُمُّ فإنه يَعْتِقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ
وَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعْتِقُ في حَالٍ
وَيُرَقُّ في حَالٍ فَيَعْتِقُ نِصْفُهُ وَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ وإذا
اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مع يَمِينِهِ على عِلْمِهِ هذا إذَا
وَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ وجارتين ( ( (
وجاريتين ) ) ) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامَيْنِ ثُمَّ
جَارِيَتَيْنِ عَتَقَتْ الْأُمُّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَعَتَقَتْ الْجَارِيَةُ
الثَّانِيَةُ بِعِتْقِهَا وَبَقِيَ الْغُلَامَانِ وَالْجَارِيَةُ الْأُولَى
أَرِقَّاءَ وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ غُلَامًا عَتَقَتْ
الْأُمُّ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَارِيَةُ الثَّانِيَةُ وَالْغُلَامُ الثَّانِي
بِعِتْقِ الْأُمِّ وَإِنْ وَلَدَتْ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا ثُمَّ
جَارِيَةً عَتَقَتْ الْأُمُّ بوجود ( ( ( لوجود ) ) ) الشَّرْطِ وَالْغُلَامُ
الثَّانِي وَالْجَارِيَةُ الثَّانِيَةُ بِعِتْقِ الْأُمِّ وَإِنْ وَلَدَتْ
جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ غُلَامَيْنِ عَتَقَ الْغُلَامُ الْأَوَّلُ لِوُجُودِ
الشَّرْطِ وَالْغُلَامُ الثَّانِي وَالْجَارِيَةُ الثَّانِيَةُ بِعِتْقِ الْأُمِّ
وَإِنْ وَلَدَتْ جَارِيَتَيْنِ ثُمَّ غُلَامَيْنِ عَتَقَ الْغُلَامُ الْأَوَّلُ
لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَبَقِيَ من سِوَاهُ رَقِيقًا
وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامَيْنِ ثُمَّ جَارِيَةً عَتَقَ
الْغُلَامُ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ في حَقِّهِ لَا
غَيْرُ
وَكَذَلِكَ إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةً ثُمَّ غُلَامًا ثُمَّ جَارِيَةً ثُمَّ
غُلَامًا عَتَقَ الْغُلَامُ الْأَوَّلُ لَا غَيْرُ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ لم يُعْلَمْ بِأَنْ اتَّفَقُوا على أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ أنهم ( ( (
أيهم ) ) ) الْأَوَّلَ يَعْتِقُ من الْأَوْلَادِ من كل وَاحِدٍ رُبُعُهُ لِأَنَّ
أَحَدَ الْغُلَامَيْنِ مع إحْدَى الْجَارِيَتَيْنِ رَقِيقَانِ على كل حَالٍ
لِأَنَّهُ ليس لَهُمَا حَالٌ في الْحُرِّيَّةِ وَالْجَارِيَةُ الْأُخْرَى وَالْغُلَامُ
الْآخَرُ يَعْتِقُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا في حَالٍ وَيُرَقُّ في حَالٍ
فَيَعْتِقُ من كل وَاحِدٍ نِصْفُهُ فما أَصَابَ الْجَارِيَةَ يَكُونُ بينهما ( ( (
بينها ) ) ) وَبَيْنَ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى نِصْفَيْنِ إذْ لَيْسَتْ
إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى من الْأُخْرَى فَيَعْتِقُ من كل وَاحِدَةٍ رُبُعُهَا
وَكَذَلِكَ ما أَصَابَ الْغُلَامَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُلَامِ الْآخَرِ
نِصْفَيْنِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الْأُمُّ فَيَعْتِقُ منها نِصْفُهَا لِأَنَّهُ إنْ سَبَقَ وِلَادَةُ
الْغُلَامِ فَتَعْتِقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ سَبَقَتْ وِلَادَةُ
الْجَارِيَةِ لَا تَعْتِقُ فَيَعْتِقُ نِصْفُهَا وَتَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهَا
وَإِنْ اخْتَلَفُوا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مع يَمِينِهِ على عِلْمِهِ
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال لها إنْ وَلَدْت ما في بَطْنِك فَهُوَ حُرٌّ فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ
لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من يَوْمِ خلف ( ( ( حلف ) ) ) عَتَقَ ما في
بَطْنِهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا يَعْتِقُ
لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقَّنَّا
بِكَوْنِهِ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يُولَدُ
لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَتَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ دَاخِلًا تَحْتَ
الْإِيجَابِ وإذا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لم نَتَيَقَّنْ
بِوُجُودِهِ بَلْ يَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونَ مَوْجُودًا ثُمَّ وُجِدَ بَعْدُ
فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْإِيجَابِ مع الشَّكِّ وَكَذَا إذَا قال لها ما في
بَطْنِك حُرٌّ إلَّا أَنَّ هَهُنَا يَعْتِقُ من يَوْمِ حَلَفَ وفي الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ يوم تَلِدُ لِأَنَّ هُنَاكَ شُرِطَ الْوِلَادَةُ ولم تُشْتَرَطْ
هَهُنَا
وَلَوْ قال لها إذَا حَمَلْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سَنَتَيْنِ
أو لِسَنَتَيْنِ من وَقْتِ الْكَلَامِ لَا تَعْتِقُ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ من
سَنَتَيْنِ تَعْتِقْ لِأَنَّ يَمِينَهُ يقع ( ( ( تقع ) ) ) على حَمْلٍ يَحْدُثُ
بَعْدَ الْيَمِينِ فإذا وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سَنَتَيْنِ أو لِسَنَتَيْنِ
يُحْتَمَلُ أنها كانت حُبْلَى من وَقْتِ الْكَلَامِ لَا تَعْتِقُ وَإِنْ وَلَدَتْ
لِأَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ أو لِسَنَتَيْنِ يُحْتَمَلُ أنها كانت حُبْلَى وَقْتَ
الْيَمِينِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَدَثَ الْحَمْل بَعْدَ الْيَمِينِ فَيَقَعُ
الشَّكُّ في شَرْطِ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ مع
الشَّكِّ فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا
أَنَّ الْحَمْلَ حَصَلَ بَعْدَ الْيَمِينِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا يَبْقَى في
الْبَطْنِ أَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْعِتْقِ وهو الْحَمْلُ
بَعْدَ الْيَمِينِ فَيَعْتِقُ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ من أَصْلِكُمْ أَنَّ الْوَطْءَ إذَا كان مُبَاحًا
تُقَدَّرُ مُدَّةُ الْحَبَلِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَلَّا قَدَّرْتُمْ هَهُنَا
كَذَلِكَ فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا من أَصْلِنَا فِيمَا لم يَكُنْ فيه إثْبَاتُ
رَجْعَةٍ أو إعْتَاقٍ بِالشَّكِّ وَلَوْ جَعَلْنَا مُدَّةَ الْحَمْلِ هَهُنَا
سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَكَانَ فيه إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِالشَّكِّ وَهَذَا لَا يَجُوزُ
ثُمَّ إنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْمَقَالَةِ لِأَكْثَرَ من سَنَتَيْنِ
____________________
(4/64)
حتى
عَتَقَتْ وقد كان وَطِئَهَا قبل الْوِلَادَةِ فَإِنْ وَطِئَهَا قبل الْوِلَادَةِ
لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ وَإِنْ وَطِئَهَا قبل
الْوِلَادَةِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَا عُقْرَ عليه لِأَنَّهَا إذَا
وَلَدَتْ لِأَقَلِّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ وَطِئَهَا عُلِمَ أَنَّهُ
وَطِئَهَا وَهِيَ حَامِلٌ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ فإذا وَضَعْت لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْوَطْءِ عُلِمَ أَنَّ
الْعُلُوقَ حَصَلَ قبل هذا الْوَطْءِ فَيَجِبُ عليه الْعُقْرُ لِأَنَّهُ عُلِمَ
أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فإذا وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
فَصَاعِدًا من وَقْتِ الْوَطْءِ يُحْتَمَل أَنَّ الْحَمْلَ حَصَلَ بِذَلِكَ
الْوَطْءِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لم يُصَادِفْ الْحُرِّيَّةَ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ حَصَلَ بِوَطْءٍ قَبْلَهُ فَيَجِبُ الْعُقْرُ فَيَقَعُ
الشَّكُّ في وُجُوبِ الْعُقْرِ فَلَا يَجِبُ مع الشَّكِّ وَيَنْبَغِي في الْوَرَعِ
وَالتَّنَزُّهِ إذَا قال لها هذه الْمَقَالَةَ ثُمَّ وَطِئَهَا أَنْ يَعْتَزِلَهَا
حتى يَعْلَمَ أَحَامِلٌ أَمْ لَا فَإِنْ حَاضَتْ وَطِئَهَا بعدما طَهُرَتْ من
حَيْضِهَا لِجَوَازِ أنها قد حَمَلَتْ بِذَلِكَ الْوَطْءِ فَعَتَقَتْ فإذا
وَطِئَهَا بَعْدَ ذلك كان وَطْءَ الْحُرَّةِ فَيَكُونُ حَرَامًا فَيَعْتَزِلُهَا صِيَانَةً
لِنَفْسِهِ عن الْحَرَامِ
فإذا حَاضَتْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَمْلَ لم يُوجَدْ إذْ الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ
وَلِهَذَا تُسْتَبْرَأُ الْجَارِيَةُ المشترات ( ( ( المشتراة ) ) ) بِحَيْضَةٍ
لِدَلَالَتِهَا على فَرَاغِ الرَّحِمِ
وَلَوْ بَاعَ هذه الْجَارِيَةَ قبل أَنْ تَلِدَ ثُمَّ وَلَدَتْ في يَدِ
الْمُشْتَرِي يُنْظَرُ إنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سَنَتَيْنِ أو لِسَنَتَيْنِ
بَعْدَ الْيَمِينِ يَصِحُّ الْبَيْعُ لِجَوَازِ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ بَعْدَ
الْيَمِينِ فَلَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِالشَّكِّ وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من
سَنَتَيْنِ بَعْدَ الْيَمِينِ يُنْظَرُ إنْ كان ذلك لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
قبل الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّهُ حَدَثَ الْوَلَدُ قبل الْبَيْعِ
فَعَتَقَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا وَبَيْعُ الْحُرِّ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كان ذلك
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا من وَقْتِ الْبَيْعِ فَإِنَّهَا لَا تَعْتِقُ
لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْبَيْعُ قد
صَحَّ فَلَا يُفْسَخُ بِالشَّكِّ
وَلَوْ قال لها إنْ كان حَمْلُك غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ كان جَارِيَةً
فَهِيَ حُرَّةٌ فَكَانَ حَمْلُهَا غُلَامًا وَجَارِيَةً لم يَعْتِقْ أَحَدٌ منهم
لِأَنَّ الْحَمْلَ اسْمٌ لِجَمِيعِ ما في الرَّحِمِ قال اللَّهُ تَعَالَى {
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَالْمُرَادُ
منه جَمِيعُ ما في الْبَطْنِ حتى لَا تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ إلَّا بِوَضْعِ
جَمِيعِ ما في الرَّحِمِ وَلَيْسَ كُلُّ الْحَمْلِ الْغُلَامَ وَحْدَهُ وَلَا
الْجَارِيَةَ وَحْدَهَا بَلْ بَعْضُهُ غُلَامٌ وَبَعْضُهُ جَارِيَةٌ فَصَارَ
كَأَنَّهُ قال إنْ كان كُلُّ حَمْلِك غُلَامًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ وَإِنْ كان كُلُّ
حَمْلِك جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ غُلَامًا وَجَارِيَةً فَلَا يَعْتِقُ
أَحَدُهُمْ وَكَذَلِكَ لو قال إنْ كان ما في بَطْنِك لِأَنَّ هذا عِبَارَةٌ عن
جَمِيعِ ما في بَطْنِهَا
وَلَوْ قال إنْ كان في بَطْنِك عَتَقَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ لِأَنَّ قَوْلَهُ
إنْ كان في بَطْنِك غُلَامٌ ليس عِبَارَةً عن جَمِيعِ ما في الْبَطْنِ بَلْ
يَقْتَضِي وُجُودَهُ وقد وُجِدَ غُلَامٌ وَوُجِدَ أَيْضًا جَارِيَةٌ فَعَتَقَا
وَلَوْ قال لها إنْ كُنْت حُبْلَى فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ من
سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهِيَ حُرَّةٌ وَوَلَدُهَا وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
أو أَكْثَرَ لم يَعْتِقْ لِأَنَّ أَقَلَّ مُدَّةٍ الْحَمْلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فإذا
أَتَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ عُلِمَ أَنَّ الْحَمْلَ كان مَوْجُودًا
وَقْتَ الْيَمِينِ فَتَعْتِقُ الْأُمُّ لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهَا وهو كَوْنُهَا
حَامِلًا وَقْتَ الْيَمِينِ وَيَعْتِقُ الْحَمْلُ بِعِتْقِهَا تَبَعًا لها وإذا
أَتَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أو أَكْثَرَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِحَمْلٍ حَادِثٍ
بَعْدَ الْيَمِينِ فَلَا يَعْتِقُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِحَمْلٍ مَوْجُودٍ
وَقْتَ الْيَمِينِ فَيَعْتِقُ فَوَقَعَ الشَّكُّ في الْعِتْقِ فَلَا يَعْتِقُ مع
الشَّكِّ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ الْمَوْتِ إلَّا أَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقٌ
بِالشَّرْطِ قَوْلًا وَالِاسْتِيلَادُ تَعْلِيقٌ بِالشَّرْطِ فِعْلًا لَكِنْ
الشَّرْطُ فِيهِمَا يَدْخُلُ على الْحُكْمِ لَا على السَّبَبِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الْمَحْضُ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ مَعْنًى لَا
صُورَةً فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِأَمَتِهِ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ
وَهَذَا ليس بِتَعْلِيقٍ من حَيْثُ الصُّورَةُ لِانْعِدَامِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ
وهو إنْ وإذا وَنَحْوُ ذلك لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ لَيْسَتْ كَلِمَةَ تَعْلِيقٍ
بَلْ هِيَ كَلِمَةُ الْإِحَاطَةِ بِمَا دَخَلَتْ عليه لَكِنَّهُ تَعْلِيقٌ من
حَيْثُ الْمَعْنَى لِوُجُودِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فيه لِأَنَّهُ أَوْقَعَ
الْعِتْقَ على مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وهو الْوَلَدُ الذي تَلِدُهُ فَيَتَوَقَّفُ
وُقُوعُ الْعِتْقِ على انصافه ( ( ( اتصافه ) ) ) بِتِلْكَ الصِّفَةِ كما
يَتَوَقَّفُ على وُجُودِ الشَّرْطِ الْمُعَلَّقِ بِهِ صَرِيحًا في قَوْلِهِ إنْ
وَلَدْت وَلَدًا أو إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَنَحْوِ ذلك فَكَانَ مَعْنَى
التَّعْلِيقِ مَوْجُودًا فيه فَلَا يَصِحُّ إلَّا إذَا كانت الْأَمَةُ في مِلْكِهِ
وَقْتَ التَّعْلِيقِ حتى لو قال لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا كُلُّ وَلَدٍ
تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ حتى لو اشْتَرَاهَا فَوَلَدَتْ منه وَلَدًا
لَا يَعْتِقُ الْوَلَدُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَعَدَمِ
الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ وَيَصِحُّ إذَا كانت الْأَمَةُ في
مِلْكِهِ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَقِيَامُ الْمِلْكِ في الْأَمَةِ يَكْفِي
لِصِحَّتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ إضَافَةُ الْوِلَادَةِ إلَى الْمِلْكِ لِلصِّحَّةِ
بِأَنْ يَقُولَ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ وَأَنْتِ في مِلْكِي فَهُوَ حُرٌّ لِمَا
بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
ثُمَّ إنْ وَلَدَتْ في مِلْكِهِ يَعْتِقُ الْوَلَدُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ في
الْمِلْكِ وَإِنْ وَلَدَتْ في غَيْرِ مِلْكِهِ
____________________
(4/65)
لَا
يَعْتِقُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَتَبْطُلُ الْيَمِينُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ كما إذَا
قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ فَدَخَلَ الدَّارَ
يَبْطُلُ الْيَمِينُ حتى لو اشْتَرَاهُ ثَانِيًا فَدَخَلَ الدَّارَ لَا يَعْتِقُ
كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا قال لِعَبْدٍ يَمْلِكُهُ أو لَا يَمْلِكُهُ كُلُّ وَلَدٍ يُولَدُ
لَك فَهُوَ حُرٌّ فَوُلِدَ له وَلَدٌ من أَمَةٍ فَإِنْ كانت الْأَمَةُ مِلْكَ
الْحَالِفِ يوم حَلِفَ عَتَقَ الْوَلَدُ وَإِلَّا فَلَا وَيُنْظَرُ في ذلك إلَى
مِلْكِ الْأَمَةِ لَا إلَى مِلْكِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ في الرِّقِّ
وَالْحُرِّيَّةِ يَتْبَعُ الْأُمَّ لَا الْأَبَ فإذا كانت الْأَمَةُ على مِلْكِهِ
وَقْتَ التَّكَلُّمِ فَالظَّاهِرُ بَقَاءُ الْمِلْكِ فيها إلَى وَقْتِ
الْوِلَادَةِ وَمِلْكُ الْأُمِّ سَبَبُ ثُبُوتِ مِلْكِ الْوَلَدِ فَصَارَ
كَأَنَّهُ قال كُلُّ وَلَدٍ يُولَدُ لَك من أَمَةٍ لي فَهُوَ حُرٌّ فإذا لم تَكُنِ
الْأَمَةُ مَمْلُوكَةً له في الْحَالِ فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ على الْعَدَمِ لَا
يُوجَدُ مِلْكُ الْوَلَدِ وَقْتَ الْوِلَادَةِ ظَاهِرًا فلم يُوجَدْ التَّعْلِيقُ
في الْمِلْكِ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فَلَا يَصِحُّ هذا إذَا وُلِدَ
الْوَلَدُ من أَمَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْحَالِفِ من نِكَاحٍ فَأَمَّا إذَا وُلِدَ
منها من سِفَاحٍ بِأَنْ زَنَى الْغُلَامُ بها فَوَلَدَتْ منه هل يَعْتِقُ أَمْ لَا
فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَهِيَ من مَسَائِلِ الْجَامِعِ
وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ أَوَّلُ وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَهُوَ حُرٌّ أو إن وَلَدَتْ
وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا
لَا شَكَّ في أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ الْوَلَدُ الْمَيِّتُ وَإِنْ كان الْوَلَدُ
الْمَيِّتُ وَلَدًا حَقِيقَةً وَهَلْ يَعْتِقُ الْوَلَدُ الْحَيُّ قال أبو حَنِيفَةَ
يَعْتِقُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَعْتِقُ
وَحَاصِلُ الْكَلَامِ يَرْجِعُ إلَى كَيْفِيَّةِ الشَّرْطِ أَنَّ الشَّرْطَ
وِلَادَةُ وَلَدٍ مُطْلَقٍ أو وِلَادَةُ وَلَدٍ حَيٍّ فَعِنْدَهُمَا الشَّرْطُ
وِلَادَةُ وَلَدٍ مُطْلَقٍ فإذا وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا فَقَدْ وُجِدَ
الشَّرْطُ فَيَنْحَلُّ الْيَمِينُ فَلَا يُتَصَوَّرُ نُزُولُ الْجَزَاءِ بَعْدَ
ذلك وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الشَّرْطُ وِلَادَةُ وَلَدٍ حَيٍّ فلم يَتَحَقَّقْ
الشَّرْطُ بِوِلَادَةِ وَلَدٍ مَيِّتٍ فَيَبْقَى الْيَمِينُ فَيَنْزِلُ الْجَزَاءُ
عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وهو وِلَادَةُ وَلَدٍ حَيٍّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَالِفَ جَعَلَ الشَّرْطَ وِلَادَةَ وَلَدٍ مُطْلَقٍ
لِأَنَّهُ أَطْلَقَ اسْمَ الْوَلَدِ ولم يُقَيِّدْهُ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ
وَالْمَوْتِ وَالْوَلَدُ الْمَيِّتُ وُلِدَ حَقِيقَةً حتى تَصِيرَ الْمَرْأَةُ
بِهِ نُفَسَاءَ وَتَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ وَتَصِيرَ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ
له وَلِهَذَا لو كان الْمُعَلَّقُ عِتْقَ عَبْدٍ آخَرَ أو طَلَاقَ امْرَأَةٍ
نَزَلَ عِنْدَ وِلَادَةِ وَلَدٍ مَيِّتٍ
وَكَذَا إذَا قال لها إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَعَبْدِي فُلَانٌ
فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا عَتَقَ عَبْدُهُ وَلَوْ لم تَكُنْ هذه الْوِلَادَةُ
شَرْطًا لَمَا عَتَقَ فإذا وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ
لَكِنْ الْمَحَلُّ غَيْرُ قَابِلٍ لِلْجَزَاءِ فَيَنْحَلُّ الْيَمِينِ لَا إلَى
جَزَاءٍ وَتَبْطُلُ كما إذَا قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ
فَبَاعَهُ قبل الدُّخُولِ ثُمَّ دخل تَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَكِنْ لَا إلَى جَزَاءٍ
حتى لو اشْتَرَاهُ وَدَخَلَ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ أَمْكَنَ تَقْيِيدُ التَّعْلِيقِ
بِالْمِلْكِ كَأَنَّهُ قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ وَأَنْتَ في مِلْكِي مع ذلك لم
يَتَقَيَّدْ بِهِ كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن الْإِيجَابَ أُضِيفَ إلَى مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْحُرِّيَّةِ
إذْ الْعَاقِلُ الذي لَا يَقْصِدُ إيجَابَ الْحُرِّيَّةِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْحُرِّيَّةَ
لِأَنَّهُ سَفَهٌ وَالْقَابِلُ لِلْحُرِّيَّةِ هو الْوَلَدُ الْحَيُّ
فَيَتَقَيَّدُ بِهِ كَأَنَّهُ قال أَوَّلُ وَلَدٍ وَلِدَتَيْهِ حَيًّا فَهُوَ
حُرٌّ كما إذَا قال لِآخَرَ إنْ ضَرَبْتُك فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ يَتَقَيَّدُ
بِحَالِ الْحَيَاةِ لِلْمَضْرُوبِ حتى لو ضَرَبَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَحْنَثُ
لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ لِلضَّرْبِ كَذَا هَهُنَا وَلَا فَرْقَ سِوَى أَنَّ
هَهُنَا تَقَيَّدَ لِنُزُولِ الْجَزَاءِ وَهُنَاكَ تَقَيَّدَ لِتَحَقُّقِ
الشَّرْطِ بِخِلَافِ ما إذَا عَلَّقَ بِالْوِلَادَةِ عِتْقَ عَبْدٍ آخَرَ أو
طَلَاقَ إمرأته لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَحَلَّ الْمُضَافَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ
قَابِلٌ لِلْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى التَّقْيِيدِ بِحَيَاةِ
الْوَلَدِ كما إذَا قال لها إنْ وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ أو قال أَوَّلُ
وَلَدٍ تَلِدِينَهُ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا عَتَقَتْ
وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ وهو الْجَوَابُ عن قَوْلِهِ إذَا وَلَدْت وَلَدًا فَهُوَ
حُرٌّ وَعَبْدِي فُلَانٌ إن وِلَادَةَ الْوَلَدِ الْمَيِّتِ تَصْلُحُ شَرْطًا في
عِتْقِ عَبْدٍ آخَرَ لِكَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلتَّعْلِيقِ وَلَا تَصْلُحُ
شَرْطًا في عِتْقِ الْوَلَدِ لِعَدَمِ قَبُولِ الْمَحَلِّ
وَيَجُوزُ أَنْ يُعَلَّقَ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ جزآن ( ( ( جزاءان ) ) ) ثُمَّ
يُنْزَلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِمَانِعٍ كَمَنْ قال
لِامْرَأَتِهِ إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانَةُ مَعَك فقالت حِضْت
فَكَذَّبَهَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عليها وَلَا يَقَعُ على الْأُخْرَى وَإِنْ كان
الشَّرْطُ وَاحِدًا كَذَا هذا
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِدُخُولِ الدَّارِ فَإِنَّمَا لم يَتَقَيَّدْ بِالْمِلْكِ
لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لِلتَّصْحِيحِ وَالْإِيجَابِ هُنَاكَ صَحِيحٌ بِدُونِ
الْمِلْكِ لِقَبُولِ الْمَحَلِّ الْعِتْقَ عِنْد وُجُودِ الشَّرْطِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ يَقِفُ على إجَازَةِ الْمَالِكِ وَالْبَاطِلُ لَا يَقِفُ على الْإِجَازَةِ
وَإِنَّمَا الْمِلْكُ شَرْطُ النَّفَاذِ أَمَّا هَهُنَا فَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ
الْإِيجَابِ في الْمَيِّتِ رَأْسًا لِعَدَمِ احْتِمَالِ الْمَحَلِّ إذْ لَا
سَبِيلَ إلَى إعْتَاقِ الْمَيِّتِ بِوَجْهٍ فَدَعَتْ الضَّرُورَةُ إلَى
التَّقْيِيدِ بِصِفَةِ الْحَيَاةِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ إذَا قال أَوَّلُ عَبْدٍ يَدْخُلُ علي فَهُوَ
حُرٌّ فَأُدْخِلَ عليه عَبْدٌ مَيِّتٌ ثُمَّ حَيٌّ عَتَقَ الْحَيُّ ولم يذكر
خِلَافًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ خَاصَّةً لِأَنَّ
ما أُضِيفَ إلَيْهِ الْإِيجَابُ وهو الْعَبْدُ لَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ إلَّا
بِصِفَةِ الْحَيَاةِ فَصَارَ
____________________
(4/66)
كَأَنَّهُ
قال أَوَّلُ عَبْدٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ حَيًّا فَهُوَ حُرٌّ كما في الْوِلَادَةِ
فَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْحَالِفَ أَطْلَقَ اسْمَ
الْعَبْدِ فَيَجْرِي على إطْلَاقِهِ وَلَا يُقَيَّدُ بِحَيَاةِ الْعَبْدِ كما في
الْوِلَادَةِ
وَمِنْهُمْ من قال هذا قَوْلُهُمْ جميعا
قال الْقُدُورِيُّ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِاسْمِ الْعَبْدِ
وَالْعَبْدُ اسْمٌ لِلْمَرْقُوقِ وقد بَطَلَ الرِّقُّ بِالْمَوْتِ فلم يُوجَدْ
الشَّرْطُ بِإِدْخَالِهِ عليه فَيَعْتِقُ الثَّانِي لِوُجُودِ الشَّرْطِ في
حَقِّهِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْوَلَدَ اسْمٌ لِلْمَوْلُودِ وَالْمَيِّتُ
مَوْلُودٌ حَقِيقَةً
فَإِنْ قِيلَ الرِّقُّ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ على الْمَوْلَى
كَفَنُ عَبْدِهِ الْمَيِّتِ فَالْجَوَابُ أن وُجُوبَ الْكَفَنِ لَا يَدُلُّ على
الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ من مَاتَ ولم يَتْرُكْ شيئا فَكَفَنُهُ على
أَقَارِبِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ مِلْكٌ وإذا زَالَ مِلْكُهُ عن الْمَيِّتِ
صَارَ الثَّانِي أَوَّلَ عَبْدٍ من عَبِيدِهِ أُدْخِلَ عليه فَوُجِدَ الشَّرْطُ
فعتق ( ( ( فيعتق ) ) )
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ قَوْلُ الرَّجُلِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فَهُوَ حُرٌّ وَيَقَعُ
على ما في مِلْكِهِ في الْحَالِ حتى لو لم يَكُنْ يَمْلِكُ شيئا يوم الْحَلِفِ كان
الْيَمِينُ لَغْوًا حتى لو مَلَكَهُ في الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ هذا
الْكَلَامَ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا لِلْحَالِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ عِتْقُ ما
ليس بِمَمْلُوكٍ له في الْحَالِ
وَكَذَا إذَا عُلِّقَ بِشَرْطٍ قُدِّمَ الشَّرْطُ أو أُخِّرَ بِأَنْ قال إنْ
دَخَلْت هذه الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ أو قال إذَا دَخَلْت أو إذَا ما
دَخَلْت أو مَتَى دَخَلْت أو مَتَى ما دَخَلْت أو قال كُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ
إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَهَذَا كُلُّهُ على ما في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ وَكَذَا إذَا
قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ وَلَا نِيَّةَ له
لِأَنَّ صِيغَةَ أَفْعَلَ وَإِنْ كانت تُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ
لَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ عُرْفًا وَشَرْعًا وَلُغَةً
أَمَّا الْعُرْفُ فإن من قال فُلَانٌ يَأْكُلُ أو يَفْعَلُ كَذَا يُرِيدُ بِهِ
الْحَالَ أو يقول الرَّجُلُ أنا أَمْلِكُ أَلْفَ دِرْهَمٍ يُرِيدُ بِهِ الْحَالَ
وَأَمَّا الشَّرْعُ فإن من قال أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ يَكُونُ
مُؤْمِنًا
وَلَوْ قال أَشْهَدُ أَنَّ لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا يَكُونُ شَاهِدًا وَلَوْ
قال أُقِرُّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ وَأَمَّا اللُّغَةُ
فإن هذه الصِّيغَةَ مَوْضُوعَةٌ لِلْحَالِ على طَرِيقِ الْأَصَالَةِ لِأَنَّهُ ليس
لِلْحَالِ صِيغَةٌ أُخْرَى وَلِلِاسْتِقْبَالِ السِّينُ وَسَوْفَ فَكَانَتْ
الْحَالُ أَصْلًا فيها وَالِاسْتِقْبَالُ دَخِيلًا فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُصْرَفُ
إلَى الْحَالِ
وَلَوْ قال عَنَيْت بِهِ ما اُسْتُقْبِلَ مِلْكُهُ عَتَقَ ما في مِلْكِهِ
لِلْحَالِ وما اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فيه لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ هذه
الصِّيغَةِ لِلْحَالِ فإذا قال أَرَدْت بِهِ الِاسْتِقْبَالَ فَقَدْ أَرَادَ
صَرْفَ الْكَلَامِ عن ظَاهِرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فيه وَيُصَدَّقُ في قَوْلِهِ
أَرَدْت ما يَحْدُثُ مَلِكِي فيه في الْمُسْتَقْبَلِ فَيَعْتِقُ عليه
بِإِقْرَارِهِ كما إذَا قال زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بهذا
الِاسْمِ ثُمَّ قال لي امْرَأَةٌ أُخْرَى بهذا الِاسْمِ عَنَيْتهَا طَلُقَتْ
الْمَعْرُوفَةُ بِظَاهِرِ هذا اللَّفْظِ وَالْمَجْهُولَةُ بِاعْتِرَافِهِ كَذَا
هَهُنَا
وَكَذَا لو قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ السَّاعَةَ فَهُوَ حُرٌّ إن هذا يَقَعُ
على ما في مِلْكِهِ وَقْتَ الْحَلِفِ وَلَا يعتني ( ( ( يعتق ) ) ) ما
يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَ ذلك إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى ذلك فَيَلْزَمُهُ ما نَوَى
لِأَنَّ الْمُرَادَ من السَّاعَةِ الْمَذْكُورَةِ هِيَ السَّاعَةُ الْمَعْرُوفَةُ
عِنْدَ الناس وَهِيَ الْحَالُ لَا السَّاعَةُ الزَّمَانِيَّةُ التي يَذْكُرُهَا
الْمُنَجِّمُونَ فَيَتَنَاوَلُ هذا الْكَلَامُ من كان في مِلْكِهِ وَقْتَ
التَّكَلُّمِ لَا من يَسْتَفِيدُهُ بَعْدَهُ فَإِنْ قال أَرَدْت بِهِ من
أَسْتَفِيدُهُ في هذه السَّاعَةِ الزَّمَانِيَّةِ يُصَدَّقُ فيه لِأَنَّ اللَّفْظَ
يَحْتَمِلُهُ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ في صَرْفِهِ
اللَّفْظَ عَمَّنْ يَكُونُ في مِلْكِهِ لِلْحَالِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أو عَلَّقَ
بِشَرْطٍ قَدَّمَ الشَّرْطَ أو أَخَّرَ بِأَنْ قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ
مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ أو قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ في أَنَّ الْيَمِينَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ
بِمَا في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ فَيَتَنَاوَلُ
ما في مِلْكِهِ لَا ما يَسْتَفِيدُهُ كما إذَا قال كُلُّ عَبْدٍ يَدْخُلُ الدَّارَ
فَهُوَ حُرٌّ فَإِنْ قال أَرَدْت بِهِ ما اُسْتُحْدِثَ مِلْكُهُ عَتَقَ ما في
مِلْكِهِ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ بِالْيَمِينِ وما يُسْتَحْدَثُ بِإِقْرَارِهِ
لِأَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ في صَرْفِ الْكَلَامِ عن ظَاهِرِهِ وَيَصَدَّقُ في
التَّشْدِيدِ على نَفْسِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ مَمْلُوكٌ
فَالْيَمِينُ لَغْوٌ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ الْحَالَ فإذا لم يَكُنْ له مَمْلُوكٌ
لِلْحَالِ لَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ لِانْعِدَامِ الْمَحْلُوفِ عليه بِخِلَافِ
قَوْلِهِ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أو إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ اشتريه
فَهُوَ حُرٌّ أو كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ
أَشْتَرِي أو أَتَزَوَّجُ لَا يَحْتَمِلُ الْحَالَ فَاقْتَضَى مِلْكًا
مُسْتَأْنَفًا وقد جَعَلَ الْكَلَامَ أو الدُّخُولَ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ
فِيمَنْ يَشْتَرِي أو يَتَزَوَّجُ فَيُعْتَبَرُ ذلك بَعْدَ الْيَمِينِ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ الْيَوْمَ فَهُوَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ له
وَلَهُ مَمْلُوكٌ فَاسْتَفَادَ في يَوْمِهِ ذلك مَمْلُوكًا آخَرَ عَتَقَ ما في
مِلْكِهِ وما اسْتَفَادَ مِلْكُهُ في الْيَوْمِ لو قال هذا الشَّهْرَ أو هذه
السَّنَةَ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَّتَ بِالْيَوْمِ أو الشَّهْرِ أو السَّنَةِ فَلَا
بُدَّ وأن يَكُونَ التَّوْقِيتُ مُقَيَّدًا وَلَوْ لم يَتَنَاوَلْ إلَّا ما في
مِلْكِهِ يوم الْحَلِفِ لم يَكُنْ مُقَيَّدًا فَإِنْ قال عَنَيْت بِهِ أَحَدَ
الصِّنْفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ
____________________
(4/67)
نَوَى
تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وَأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْقَضَاءِ
وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ
على نِيَّتِهِ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ غَدًا فَهُوَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ له
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْجَامِعِ أَنَّهُ يَعْتِقُ من مِلْكِهِ في غَدٍ وَمَنْ كان
في مِلْكِهِ قَبْلَهُ وهو قَوْلُهُ في الْإِمْلَاءِ أَيْضًا وهو إحْدَى
رِوَايَتَيْ ابن ( ( ( أبي ) ) ) سِمَاعَةَ عنه
وقال أبو يُوسُفَ لَا يَعْتِقُ إلَّا من اسْتَفَادَ مِلْكُهُ في غَدٍ وَلَا
يَعْتِقُ من جاء غَدٌ وهو في مِلْكِهِ وهو إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ عن
مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِكُلِّ من يُضَافُ إلَيْهِ
الْمِلْكُ في غَدٍ فَيَتَنَاوَلُ الذي مَلَكَهُ في غَدٍ وَاَلَّذِي مَلَكَهُ قبل
الْغَدِ كَأَنَّهُ قال في الْغَدِ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ الْيَوْمَ فَهُوَ
حُرٌّ فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُ إنْ كان لِلْحَالِ عِنْدَ
الْإِطْلَاقِ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى زَمَانٍ في
الْمُسْتَقْبَلِ أنصرف إلَى الِاسْتِقْبَالِ بِهَذِهِ الْقَرِينَةِ كما يَنْصَرِفُ
إلَيْهِ بِقَرِينَةِ السير ( ( ( السين ) ) ) فَلَا يَتَنَاوَلُ الْحَالَ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
فَهُوَ حُرٌّ وَرَأْسُ الشَّهْرِ اللَّيْلَةُ التي يَهِلُّ فيها الْهِلَالُ وَمِنْ
الْغَدِ إلَى اللَّيْلِ وكان الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الشَّهْرِ أَوَّلَ
سَاعَةٍ منه لِأَنَّ رَأْسَ كل شَهْرٍ ما رَأَسَ عليه وهو أَوَّلُهُ إلَّا
أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ اسْمًا لِمَا ذَكَرْنَا لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإنه يُقَالُ
في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِأَوَّلِ يَوْمٍ من الشَّهْرِ هذا رَأْسُ الشَّهْرِ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ يوم
الْجُمُعَةِ فَهُوَ حُرٌّ قال ليس هذا على ما في مِلْكِهِ إنَّمَا هو على ما
يَمْلِكُهُ يوم الْجُمُعَةِ فَهَذَا على أَصْلِ أبي يُوسُفَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ
أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى زَمَانٍ مُسْتَقْبَلٍ فَإِنْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ
يوم الْجُمُعَةِ فَهَذَا على من في مِلْكِهِ يَعْتِقُونَ يوم الْجُمُعَةِ ليس هو
على من يُسْتَقْبَلُ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ على من في مِلْكِهِ في الْحَالِ
وَجَعَلَ عِتْقَهُمْ مُوَقَّتًا بِالْجُمُعَةِ فَلَا يَدْخُلُ فيه الِاسْتِقْبَالُ
فَأَمَّا إذَا قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا جاء غَدٌ فهو حُرٌّ فَهَذَا
على ما في مِلْكِهِ في قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَجِيءَ الْغَدِ شَرْطًا
لِثُبُوتِ الْعِتْقِ لَا غَيْرُ فَيَعْتِقُ من في مِلْكِهِ لَكِنْ عِنْدَ مَجِيءِ
غَدٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ الْإِعْتَاقُ للمضاف ( ( ( المضاف ) ) ) إلَى الْمَجْهُولِ
عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ مَعْنًى لَا صُورَةً وَلَا
يَثْبُتُ الْعِتْقُ في أَحَدِهِمَا قبل الِاخْتِيَارِ وَإِنَّمَا ثَبَتَ عِنْدَ
الِاخْتِيَارِ في أَحَدِهِمَا عَيْنًا وهو الذي يُخْتَارُ الْعِتْقُ فيه
مَقْصُورًا على الْحَالِ كَأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا بِشَرْطِ
اخْتِيَارِ الْعِتْقِ فيه كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ وَمِنْ دُخُولِ
الدَّارِ وَغَيْرِ ذلك إلَّا أَنَّهُ ثَمَّةَ الشَّرْطُ يَدْخُلُ على السَّبَبِ
وَالْحُكْمِ جميعا وَهَهُنَا يَدْخُلُ على الْحُكْمِ لَا على السَّبَبِ
كَالتَّدْبِيرِ وَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ كَذَا قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا في
كَيْفِيَّةِ الْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمَجْهُولِ وَبَعْضُهُمْ نَسَبَ هذا
الْقَوْلَ لِأَبِي يُوسُفَ وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ أَيْضًا
وقال بَعْضُهُمْ هو تَنْجِيزُ للعتق ( ( ( العتق ) ) ) في غَيْرِ الْعِتْقِ
لِلْحَالِ وَاخْتِيَارُ الْعِتْقِ في أَحَدِهِمَا بَيَانٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ
وَقَعَ عليه الْعِتْقُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ من حِينِ وُجُودِهِ وَبَعْضُهُمْ
نَسَبَ هذا الْقَوْلَ إلَى مُحَمَّدٍ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخِلَافَ في كَيْفِيَّةِ هذا التَّصَرُّفِ على الْوَجْهِ
الذي وَصَفْنَا غَيْرُ مَنْصُوصٍ عليه من أَصْحَابِنَا لَكِنَّهُ مَدْلُولٌ عليه
وَمُشَارٌ إلَيْهِ
أَمَّا الدَّلَالَةُ فإنه ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ في
الطَّلَاقِ فِيمَنْ قال لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ أَنَّ الْعِدَّةَ
تُعْتَبَرُ من وَقْتِ الِاخْتِيَارِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَالْعِدَّةُ إنَّمَا
تَجِبُ من وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ فَيَدُلُّ على أَنَّ الطَّلَاقَ لم يَكُنْ
وَاقِعًا وَإِنَّمَا يَقَعُ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ مَقْصُورًا عليه وفي قَوْلِ
مُحَمَّدٍ تُعْتَبَرُ من وَقْتِ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
الطَّلَاقَ قد وَقَعَ من حين ( ( ( حيث ) ) ) وُجُودُهُ وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ
بَيَانٌ وَتَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عليها الطَّلَاقُ
وَأَمَّا الْإِشَارَةُ فإنه رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا أَعْتَقَ
أَحَدَ عَبْدَيْهِ تَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِذِمَّتِهِ وَيُقَالُ له أَعْتِقْ وَهَذَا
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ في الْمَحَلِّ إذْ لو كان نَازِلًا
لَمَا كان مُعَلَّقًا بِالذِّمَّةِ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ يُقَالُ له أَعْتِقْ أَيْ اخْتَرْ الْعِتْقَ لِإِجْمَاعِنَا
على أَنَّهُ لَا يُكَلَّفُ بِإِنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ يُقَالُ له بَيِّنْ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى
الْوُقُوعِ في غَيْرِ الْمُعَيَّنِ لِأَنَّ الْبَيَانَ لِلْمَوْجُودِ لَا
لِلْمَعْدُومِ وَإِلَى هذا ذَهَبَ الْكَرْخِيُّ وَالْقُدُورِيُّ وَحَقَّقَا
الِاخْتِلَافَ بين أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إلَّا أَنَّ الْقُدُورِيَّ حَكَى عن
الْكَرْخِيِّ أَنَّهُ كان يُفَرِّقُ بين الْعَتَاقِ وَالطَّلَاقِ فَيَجْعَلُ
الِاخْتِيَارَ بَيَانًا في الطَّلَاقِ بِالْإِجْمَاعِ من قِبَلِ أَنَّ الْعَتَاقِ
يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ في الذِّمَّةِ وَالطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ قال وكان
غَيْرُهُ من أَصْحَابِنَا يُسَوِّي بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ أَيْضًا
يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ في الذِّمَّةِ في الْجُمْلَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ وَاجِبَةٌ على الْعِنِّينِ وَإِنَّمَا يَقُومُ
الْقَاضِي مَقَامَهُ في التَّفْرِيقِ وهو الصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ
لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْعِتْقِ بِالذِّمَّةِ ليس مَعْنَاهُ إلَّا انْعِقَادَ سَبَبِ
الْوُقُوعِ من غَيْرِ وُقُوعٍ وهو مَعْنَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ دُونَ
____________________
(4/68)
الْحَقِيقَةِ
وَهُمَا في هذا الْمَعْنَى مُسْتَوِيَانِ
وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ تَنْجِيزُ
الْحُرِّيَّةِ في أَحَدِهِمَا وَلَيْسَ بِتَعْلِيقٍ حَقِيقَةً لِانْعِدَامِ حَرْفِ
التَّعْلِيقِ إلَّا أَنَّهُ تَنْجِيزٌ في غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَتَعَيَّنُ
بِالِاخْتِيَارِ
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنَّ الْعِتْقَ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِاخْتِيَارِ
الْعِتْقِ وَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ وَالثَّانِي لَا
سَبِيلَ إلَيْهِ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ لم يُعْرَفْ إعْتَاقًا في الشَّرْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال لِعَبْدِهِ اخْتَرْت عِتْقَك لَا يَعْتِقُ فَلَا بُدَّ
وَأَنْ يَثْبُتَ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَثْبُتَ حَالَ
وُجُودِهِ في أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ بِاخْتِيَارِهِ وَإِمَّا
أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ وُجُودِ الِاخْتِيَارِ في أَحَدِهِمَا عَيْنًا وهو تَفْسِيرُ
التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ لَا وَجْهَ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رُبَّمَا
يَخْتَارُ غير الْحُرِّ فَيَلْزَمُ الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ الْحُرِّيَّةِ من
الْحُرِّ إلَى الرَّقِيقِ أو انْتِقَالِ الرِّقِّ من الرَّقِيقِ إلَى الْحُرِّ أو
اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ وَالْأَوَّلُ مُحَالٌ وَالثَّانِي غَيْرُ مَشْرُوعٍ
فَتَعَيَّنَ الثَّانِي ضَرُورَةً وَهِيَ أَنْ يَثْبُتَ الْعِتْقُ عِنْدَ وُجُودِ
الِاخْتِيَارِ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ مَقْصُورًا على حَالِ الِاخْتِيَارِ وهو
تَفْسِيرُ التَّعْلِيقِ ثُمَّ الْقَائِلُونَ بِالْبَيَانِ اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ
الْبَيَانِ منهم من قال الْبَيَانُ إظْهَارٌ مَحْضٌ وَمِنْهُمْ من قال هو إظْهَارٌ
من وَجْهٍ وَإِنْشَاءٌ من وَجْهٍ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ في مَوْضِعٍ يُقَالُ له
بَيِّنْ وفي مَوْضِعٍ يُقَالُ له أَعْتِقْ وَزَعَمُوا أَنَّ الْمَسَائِلَ
تَتَخَرَّجُ عليه وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْقَوْلَ الْوَاحِدَ لَا
يَكُونُ إظْهَارًا وَإِنْشَاءً إذْ الْإِنْشَاءُ إثْبَاتُ أَمْرٍ لم يَكُنْ
وَالْإِظْهَارُ إبْدَاءُ أَمْرٍ قد كان وَبَيْنَهُمَا تَنَافٍ وَثَمَرَةُ هذا
الِاخْتِلَافِ تَظْهَرُ في الْأَحْكَامِ وَإِنَّهَا في الظَّاهِرِ مُتَعَارِضَةٌ
بَعْضُهَا يَدُلُّ على صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهَا يَدُلُّ على
صِحَّةِ الْقَوْلِ الثَّانِي وَنَحْنُ نُشِيرُ إلَى ذلك إذَا انْتَهَيْنَا إلَى
بَيَانِ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ وَبَيَانِ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ فَأَمَّا
تَرْجِيحُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ على الْآخَرِ وَتَخَرُّجُ الْمَسَائِلِ عليه
فَمَذْكُورَانِ في الْخِلَافِيَّاتِ
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ أو بِسَبَبِهِ صُورَةً وَمَعْنًى فَنَحْوُ أَنْ
يَقُولَ لِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ أو إنْ
اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ وأنه صَحِيحٌ عِنْدَنَا حتى لو مَلَكَهُ أو
اشْتَرَاهُ يَعْتِقُ وَإِنْ لم يَكُنِ الْمِلْكُ مَوْجُودًا وَقْتَ التَّعْلِيقِ
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ وَلَا يَعْتِقُ
وقال بِشْرُ الْمَرِيسِيِّ يَصِحُّ التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ وَلَا يَصِحُّ
بِسَبَبِ الْمِلْكِ وهو الشِّرَاءُ أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ فَعَلَى
نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَأَمَّا مع بِشْرٍ فَوَجْهُ قَوْلِهِ
أَنَّ الْيَمِينَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَا يَصِحُّ إلَّا في الْمِلْكِ أو
مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ ولم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ لِأَنَّ
الشِّرَاءَ قد يُفِيدُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي وقد لَا يُفِيدُ كَالشِّرَاءِ
بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَشِرَاءِ الْوَكِيلِ فلم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ إلَى
الْمِلْكِ فَلَا يَصِحُّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ مَلَكْتُك
وَلَنَا أَنَّ مُطْلَقَ الشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ الْمُتَعَارَفِ وهو
الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَمِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ وأنه من أَسْبَابِ
الْمِلْكِ فَكَانَ ذِكْرُهُ ذِكْرًا لِلْمِلْكِ وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ إضَافَةٌ
إلَى الْمِلْكِ كَأَنَّهُ قال إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ وَلِأَنَّهُ لَمَّا
عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالشِّرَاءِ وَلَا بُدَّ من الْمِلْكِ عِنْدَ الشِّرَاءِ
لِثُبُوتِ الْعِتْقِ كان هذا تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشِّرَاءِ الْمُوجِبِ
لِلْمِلْكِ كَأَنَّهُ قال إنْ اشْتَرَيْتُك شِرَاءً مُوجِبًا لِلْمِلْكِ فَأَنْتَ
حُرٌّ فإذا اشْتَرَاهُ شِرَاءً مُوجِبًا لِلْمِلْكِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ
فَيَعْتِقُ
وَلَوْ قال إنْ تَسَرَّيْت جَارِيَةً فَهِيَ حُرَّةٌ فَاشْتَرَى جَارِيَةً
فَتَسَرَّاهَا لَا تَعْتِقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
تَعْتِقُ وَلَوْ تَسَرَّى جَارِيَةً كانت في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ عَتَقَتْ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ لِأَنَّ
التَّسَرِّيَ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى
التَّسَرِّي إضَافَةً إلَى الْمِلْكِ فَيَصِحُّ التَّعْلِيقُ
وَلَنَا أَنَّهُ لم يُوجَدْ الْمِلْكُ وَقْتَ التَّعْلِيقِ وَلَا الْإِضَافَةُ
إلَى الْمِلْكِ وَالْكَلَامُ فيه وَلَا إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ لِأَنَّ
التَّسَرِّيَ ليس من أَسْبَابِ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ في
غَيْرِ الْمِلْكِ كَالْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْيَمِينُ بِالْعَتَاقِ
وَالطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ إلَّا في الْمِلْكِ أو مُضَافًا إلَى الْمِلْكِ أو
سَبَبِهِ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ التَّسَرِّيَ لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الْمِلْكِ فَهَذَا
مُسَلَّمٌ أَنَّ الْمِلْكَ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسَرِّي وَجَوَازِهِ لَكِنْ
الْحَالِفُ جَعَلَ وُجُودَهُ شَرْطَ الْعِتْقِ وَالتَّسَرِّي نَفْسُهُ يُوجَدُ من
غَيْرِ مِلْكٍ فلم يَكُنْ التَّعْلِيقُ بِهِ تَعْلِيقًا بِسَبَبِ الْمِلْكِ فلم
يَصِحَّ ثُمَّ اُخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ التَّسَرِّي قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ
هو أَنْ يَطَأَهَا وَيُحَصِّنَهَا وَيَمْنَعَهَا من الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ
سَوَاءٌ طَلَبَ منها الْوَلَدَ أو لم يَطْلُبْ وقال أبو يُوسُفَ طَلَبُ الْوَلَدِ
مع التَّحْصِينِ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْإِنْسَانَ يَطَأُ جَارِيَتَهُ وَيُحَصِّنُهَا وَلَا يُقَالُ
لها سَرِيَّةٌ وَإِنَّمَا يُقَالُ ذلك إذَا كان يَطْلُبُ منها الْوَلَدَ أو
تَكُونُ أُمَّ وَلَدِهِ
هذا هو الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ
وَلَهُمَا أَنَّهُ ليس في لَفْظِ التَّسَرِّي ما يَدُلُّ على طَلَبِ الْوَلَدِ
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا من السَّرْوِ وهو الشَّرَفُ
فَتُسَمَّى الْجَارِيَةُ سَرِيَّةً بِمَعْنَى أَنَّهُ أَسْرَى الْجَوَارِي أَيْ
أَشْرَفُهُنَّ وَإِمَّا
____________________
(4/69)
أَنْ
يَكُونَ مَأْخُوذًا من السِّرِّ وهو الْجِمَاعُ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَلَكِنْ
لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا } قِيلَ جِمَاعًا وَلَيْسَ في أَحَدِهِمَا ما ينبي عن
طَلَبِ الْوَلَدِ وَلَوْ وطىء جَارِيَةً كانت في مِلْكِهِ يوم الْحَلِفَ
فَعَلِقَتْ منه لم تَعْتِقْ لِعَدَمِ التَّسَرِّي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه إلَّا
الْوَطْءُ وَالْوَطْءُ وَحْدَهُ لَا يَكُونُ تَسَرِّيًا بِلَا خِلَافٍ فلم يُوجَدْ
شَرْطُ الْعِتْقِ فَلَا تَعْتِقُ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ أو قال لها إنْ
اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَارْتَدَّتْ عن الْإِسْلَامِ وَلَحِقَتْ بِدَارِ
الْحَرْبِ ثُمَّ سببت ( ( ( سبيت ) ) ) فَاشْتَرَاهَا الْحَالِفُ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ
في الْجَامِعِ أَنَّ على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا تَعْتِقُ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَعْتِقُ يَعْنِي بِهِ قِيَاسَ قَوْلِهِ في الْمُكَاتَبِ
وَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا قال كُلُّ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ
فَهُوَ حُرٌّ أو قال كُلُّ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَيَعْتِقُ ثُمَّ
مَلَكَ عَبْدًا أو أشترى عَبْدًا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَعْتِقُ وَعَلَى
قَوْلِهِمَا يَعْتِقُ وَالْمَسْأَلَةُ تَأْتِي في مَوْضِعِهَا
وَلَوْ قال لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ
مَوْتِي فَاشْتَرَاهَا صَارَتْ مُدَبَّرَةً لِأَنَّهُ عَلَّقَ تَدْبِيرَهَا
بِسَبَبِ الْمِلْكِ وهو الشِّرَاءُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ
مَوْتِي صُورَةُ التَّدْبِيرِ وقد عَلَّقَهُ بِالشِّرَاءِ فَيَصِيرُ عِنْدَ
الشِّرَاءِ قَائِلًا أَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ بِالْمِلْكِ أو بِسَبَبِهِ مَعْنًى لَا صُورَةً فَهُوَ أَنْ
يَقُولَ الْحُرُّ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ فَهُوَ حُرٌّ
وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِمِلْكٍ يَسْتَفِيدُهُ لِأَنَّهُ نَصَّ على
الِاسْتِقْبَالِ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في النَّوَادِرِ إذَا قال
كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ حُرَّةٌ فَكُلُّ جَارِيَةٍ
يَشْتَرِيهَا إلَى سَنَةٍ فَهِيَ حُرَّةٌ سَاعَةَ يَشْتَرِيهَا قال وَإِنْ قال
كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ إلَى سَنَةٍ فأشترى جَارِيَةً لم
تَعْتِقْ إلَى سَنَةٍ لأنه في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ عَقَدَ يَمِينَهُ على
الشِّرَاءِ في السَّنَةِ فَتَعْتِقُ كُلُّ جَارِيَةٍ يَشْتَرِيهَا في السَّنَةِ
سَاعَةَ الشِّرَاءِ كَأَنَّهُ قال عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنْتِ حُرَّةٌ فَتَعْتِقُ
وفي الْفَصْلِ الثَّانِي جَعَلَ الشِّرَاءُ شَرْطًا لِعِتْقٍ مُؤَقَّتٍ
بِالسَّنَةِ فَكَأَنَّهُ قال بَعْدَ الشِّرَاءِ أَنْتِ حُرَّةٌ إلَى سَنَةٍ
قال وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ غَدًا فَهَذَا عِنْدِي
على كل مَمْلُوكٍ يَشْتَرِيهِ قبل الْغَدِ وَإِنْ اشْتَرَى مَمْلُوكًا غَدًا لَا
يَعْتِقُ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشِّرَاءَ شَرْطًا لِزَوَالِ حُرِّيَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ
بِوُجُودِ الْغَدِ فَلَا بُدَّ من تَقَدُّمِ الْمِلْكِ على الْغَدِ لِيَنْزِلَ
الْعِتْقُ الموقت بِهِ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً فَهَذَا على ما
يُسْتَقْبَلُ مِلْكُهُ في الثَّلَاثِينَ سَنَةٍ أَوَّلُهَا من حِينِ حَلَفَ بَعْدَ
سُكُوتِهِ في قَوْلِهِمْ جميعا وَلَا يَكُونُ على ما في مِلْكِهِ قبل ذلك
لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ تَعَيَّنَ اللَّفْظُ
لِلْمُسْتَقْبَلِ وإذا انْصَرَفَ إلَى الِاسْتِقْبَالِ لَا يُحْمَلُ على الْحَالِ
إذْ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَنْتَظِمُ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِخِلَافِ
قَوْلِهِ غَدًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ ذَاكَ ليس أَصْلًا إلَى الِاسْتِقْبَالِ
بَلْ هو إيقَاعُ عِتْقٍ على مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ من كان على
تِلْكَ الصِّفَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ ثَلَاثِينَ سَنَةً أو في
ثَلَاثِينَ سَنَةً أو قال أَمْلِكُهُ إلَى سَنَةٍ أو سَنَةً أو في سَنَةٍ أو قال
أَمْلِكُهُ أَبَدًا أو إلَى أَنْ أَمُوتَ فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ يَدْخُلُ
فيه ما يُسْتَقْبَلُ دُونَ ما كان في مِلْكِهِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحُرِّيَّةَ
إلَى الْمُسْتَقْبَلِ فَإِنْ قال أَرَدْت بِقَوْلِي كُلَّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ
سَنَةً أَنْ يَكُونَ ما في مِلْكِهِ يوم حَلَفَ مُسْتَدَامًا سَنَةً دُيِّنَ
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ولم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ إنَّمَا وَقَّتَ السَّنَةَ لِاسْتِفَادَةِ الْمِلْكِ لَا
لِاسْتِمْرَارِ الْمِلْكِ الْقَائِمِ فَلَا يُصَدَّقُ في الْعُدُولِ عن الظَّاهِرِ
وَلَوْ قال إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ يَوْمَئِذٍ فَهُوَ
حرا ( ( ( حر ) ) ) أو قال إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ
يَوْمَئِذٍ فَهُوَ حُرٌّ وَلَا نِيَّةَ له عَتَقَ ما في مِلْكِهِ يوم دخل الدَّارَ
لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَ كل عَبْدٍ يَكُونُ مَمْلُوكًا له يوم الدُّخُولِ
بِالدُّخُولِ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ يَوْمَئِذٍ أَيْ يوم الدُّخُولِ هذا هو
مُقْتَضَى اللُّغَةِ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ يوم إذَا دخل الدَّارَ لِأَنَّهُ حَذَفَ
الْفِعْلَ وَعَوَّضَ عنه بِالتَّنْوِينِ فَيَعْتِقُ كُلُّ ما كان مَمْلُوكًا له
يوم الدُّخُولِ فَكَأَنَّهُ قال عِنْدَ الدُّخُولِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فَهُوَ حُرٌّ
وَسَوَاءٌ دخل الدَّارَ لَيْلًا أو نَهَارًا لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ
بِهِ الْوَقْتُ الْمُطْلَقُ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ
يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا
إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ من اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ
الْمَصِيرُ } وَهَذَا الْوَعْدُ يَلْحَقُ المولى دُبُرَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا
وَلِأَنَّ غَرَضَ الْحَالِفِ الِامْتِنَاعُ من تَحْصِيلِ الشَّرْطِ فَلَا
يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ إنْ كَلَّمْت أو إذَا
كَلَّمْت فُلَانًا أو إذَا جاء غَدٌ وَلَا نِيَّةَ له فَهَذَا يَقَعُ على ما
يَشْتَرِيهِ قبل الْكَلَامِ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ اشْتَرَاهُ قبل الْكَلَامِ ثُمَّ
تَكَلَّمَ عَتَقَ وما اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَعْتِقُ وَلَوْ قَدَّمَ
الشَّرْطَ فقال إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أو إذَا كَلَّمْت فُلَانًا أو إذَا جاء غَدٌ
فَكُلُّ مَمْلُوكٍ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا على ما يَشْتَرِيهِ بَعْدَ
الْكَلَامِ لَا قَبْلَهُ حتى لو كان اشْتَرَى مَمَالِيكَ قبل الْكَلَامِ ثُمَّ كَلَّمَ
لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ منهم وما اشْتَرَى بَعْدَهُ يَعْتِقُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ في
____________________
(4/70)
الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ جَعَلَ الْكَلَامَ شَرْطَ انْحِلَالِ الْيَمِينِ لِأَنَّ قَوْلَهُ
كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ يَمِينٌ تَامَّةٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ
وَالْجَزَاءِ فإذا قال إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَقَدْ جَعَلَ كَلَامَ فُلَانٍ
غَايَةً لِانْحِلَالِهَا فإذا كَلَّمَهُ انْحَلَّتْ فَلَا يَدْخُلُ ما بَعْدَ
الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ
وفي الْفَصْلِ الثَّانِي جَعَلَ كَلَامَ فُلَانٍ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ
فإذا كَلَّمَهُ الْآنَ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ فَيَدْخُلُ فيه ما بَعْدَهُ لَا ما
قَبْلَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قال عِنْدَ الْكَلَامِ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ
فَهُوَ حُرٌّ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الْمُسْتَقْبَلَ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه إذَا دَخَلْت الدَّارَ فَهُوَ حُرٌّ أو قال
إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَهَذَا على ما يَشْتَرِي بَعْدَ الْفِعْلِ الذي حَلَفَ عليه
وَلَا يَعْتِقُ ما أشترى قبل ذلك إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُمْ لِأَنَّهُ جَعَلَ
دُخُولَ الدَّارِ شَرْطًا لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فَيَصِيرُ عَنْدَ دُخُولِ
الدَّارِ كَأَنَّهُ قال كُلُّ مَمْلُوكٌ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ شَرْطَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ
أَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ شَرْطٌ وَقَوْلُهُ إذَا دَخَلْت
الدَّارَ شَرْطٌ آخَرُ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَا شَرْطًا وَاحِدًا لِعَدَمِ
حَرْفِ الْعَطْفِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إلْغَاءِ الشَّرْطِ الثَّانِي لِأَنَّ
إلْغَاءَ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ مع إمْكَانِ تَصْحِيحِهِ خَارِجٌ عن الْعَقْلِ وَلِتَصْحِيحِهِ
وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُجْعَلَ الشَّرْطُ الثَّانِي مع جَزَائِهِ يَمِينًا
وَجَزَاءُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ وَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ من إدْرَاجِ حَرْفِ
الْفَاءِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ الْمُتَعَقِّبَ لِلشَّرْطِ لَا يَكُونُ بِدُونِ
حَرْفِ الْفَاءِ وَفِيهِ تَغْيِيرٌ
وَالثَّانِي أَنْ يُجْعَلَ شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَفِيهِ تَغْيِيرٌ أَيْضًا يجعل (
( ( بجعل ) ) ) الْمُقَدَّمِ من الشَّرْطَيْنِ مُؤَخَّرًا إلَّا أَنَّ
التَّغْيِيرَ فيه أَقَلُّ لِأَنَّ فيه تَبْدِيلَ مَحَلِّ الْكَلَامِ لَا غَيْرُ
وفي الْأَوَّلِ إثْبَاتُ ما ليس بِثَابِتٍ فَكَانَ الثَّانِي أَقَلَّ تَغْيِيرًا
فَكَانَ التَّصْحِيحُ بِهِ أَوْلَى وَتُسَمَّى هذه الْيَمِينُ الْيَمِينَ
الْمُعْتَرِضَةَ لِاعْتِرَاضِ شَرْطٍ بين الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَلَوْ نَوَى
الْوَجْهَ الْأَوَّلَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ لِأَنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُهُ وَلِهَذَا
قال مُحَمَّدٌ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ غير ذلك فَيَكُونَ على ما عَنَى
وَلَوْ قال الْمُكَاتَبُ أو الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ كُلُّ عَبْدٍ أَمْلِكُهُ
فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ ثُمَّ مَلَكَ عَبْدًا لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ
أَمْلِكُ لِلْحَالِ لِمَا يَتَنَاوَلُهُ لِلْحَالِ نَوْعَ مِلْكٍ إلَّا أَنَّهُ
غَيْرُ صَالِحٍ لِلْإِعْتَاقِ فَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ لَا إلَى جَزَاءٍ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا أَعْتَقْت فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ
فَمَلَكَ عَبْدًا عَتَقَ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمِلْكِ الْحَاصِلِ له
بَعْدَ عِتْقِهِ وَإِنَّهُ مِلْكٌ صَالِحٌ لِلْإِعْتَاقِ فَصَحَّتْ الْإِضَافَةُ
بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ
فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ بَلَغَ فَمَلَكَ عَبْدًا أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ
الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ الْإِعْتَاقِ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا لِكَوْنِهِ من
التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ الْمَحْضَةِ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَهُوَ من أَهْلِهِ
لِكَوْنِهِ عَاقِلًا بَالِغًا إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ تَنْجِيزُ الْعِتْقِ منه
لِعَدَمِ شرط ( ( ( شرطه ) ) ) وهو الْمِلْكُ الصَّالِحُ فإذا عُلِّقَ بِمِلْكٍ
يَصْلُحُ شَرْطًا له صَحَّ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ فَهُوَ حُرٌّ أو قال
كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ فَمَلَكَ بَعْدَ ذلك عَبْدًا
أو أشترى عَبْدًا لَا يَعْتِقُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُهُ فِيمَا اُسْتُقْبِلَ يَتَنَاوَلُ
كُلَّ ما يَمْلِكُهُ إلَى آخِرِ عُمُرِهِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ كما في
الْحُرِّ وَلِأَنَّ في الْحَمْلِ على الِاسْتِقْبَالِ تَصْحِيحَ تَصَرُّفِهِ وفي
الْحَمْلِ على الْحَالِ إبْطَالٌ فَكَانَ الْحَمْلُ على الِاسْتِقْبَالِ أَوْلَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ لَلْمُكَاتَبِ نَوْعَ مِلْكٍ ضَرُورِيٍّ يُنْسَبُ
إلَيْهِ في حَالَةِ الرِّقِّ في حَالَةِ الْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ
لِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِ النبي ? < من
بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ > ? الحديث أَضَافَ الْمَالَ إلَيْهِ بلام
الْمِلْكِ دَلَّ أَنَّ له نَوْعَ مِلْكٍ فَهُوَ مُرَادٌ بهذا الْإِيجَابِ بِالْإِجْمَاعِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو قال إنْ مَلَكْتُ هذا الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ في
الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ حُرٌّ فَمَلَكَهُ في حَالِ الْكِتَابَةِ فَبَاعَهُ ثُمَّ
اشْتَرَاهُ بَعْدَمَا صَارَ حُرًّا لَا يَعْتِقُ وَتَنْحَلُّ الْيَمِينُ
بِالشِّرَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمَجَازِيَّ مُرَادٌ فَخَرَجَتْ
الْحَقِيقَةُ عن الْإِرَادَةِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْجَمْعِ بين الْحَقِيقَةِ
وَالْمَجَازِ في لَفْظٍ وَاحِدٍ وقد قالوا في عَبْدٍ قال لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ
عِتْقُ نَسَمَةٍ أو إطْعَامُ مِسْكِينٍ لَزِمَهُ ذلك وكان عليه إذَا عَتَقَ
لِأَنَّ هذا إيجَابُ الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامُ في الذِّمَّةِ وَذِمَّتُهُ
تَحْتَمِلُ الْإِيجَابَ فَيَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ عنه بَعْدَ الْعِتْقِ
وَلَوْ قال إنْ اشْتَرَيْت هذا الْعَبْدَ فَهُوَ حُرٌّ أو إنْ اشْتَرَيْت هذه
الشَّاةَ فَهِيَ هَدْيٌ لم يَلْزَمْهُ ذلك في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ حتى
يُضِيفَ إلَى ما بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَقُولَ إنْ اشْتَرَيْته بَعْدَ الْعِتْقِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَلْزَمَانِهِ لِأَنَّ من أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
أَنَّ الْعَبْدَ يُضَافُ إلَيْهِ الشِّرَاءُ في الْحَالِ وَإِنْ كان بِمَنْزِلَةِ
الْمَجَازِ بِمُقَابَلَةِ الشِّرَاءِ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمَجَازُ مُرَادٌ
فَلَا تَكُونُ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ هذا يَتَنَاوَلُ
ما يُسْتَقْبَلُ من الشِّرَاءِ في عُمُرِهِ وَتَصْحِيحُ الْيَمِينِ أَيْضًا
أَوْلَى من إبْطَالِهَا وقد قالوا جميعا في مُكَاتَبٍ أو عَبْدٍ قال إنْ دَخَلْت
هذه الدَّارَ فَعَبْدِي هذا حُرٌّ ثُمَّ أُعْتِقَ فَدَخَلَ الدَّارَ لم يَعْتِقْ
الْعَبْدُ لِأَنَّ هذا الْمِلْكَ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْعِتْقِ ولم تُوجَدْ
____________________
(4/71)
الْإِضَافَةُ
إلَى ما يَصْلُحُ وَقَالُوا في حُرٍّ قال لِامْرَأَةٍ حُرَّةٍ إذَا مَلَكْتُك
فَأَنْتِ حُرَّةٌ أو إذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ
بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا الْحَالِفُ أنها لَا تَعْتِقُ في قِيَاسِ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَعْتِقُ بِنَاءً على أَنَّ من أَصْلِ أبي
حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُحْمَلُ الْمِلْكُ أو الشِّرَاءُ على ما يَقْبَلُهُ الْمَحَلُّ
في الْحَالِ وهو مِلْكُ النِّكَاحِ هَهُنَا وَالشِّرَاءُ أَيْضًا يَصْلُحُ
عِبَارَةً عن سَبَبِ هذا الْمِلْكِ وهو النِّكَاحُ وَالْحُرِّيَّةُ أَيْضًا
تَصْلُحُ عِبَارَةً عَمَّا يُبْطِلُهُ وهو الطَّلَاقُ
وَكَلَامُ أبي حَنِيفَةَ في هذا الْفَصْلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُحْمَلُ
على ما يَسْبِقُ إلَى الْأَوْهَامِ وَلَا تَنْصَرِفُ الْأَوْهَامُ إلَى ارْتِدَادِهَا
وَلُحُوقِهَا بِدَارِ الْحَرْبِ وَسَبْيِهَا لِأَنَّ ذلك غَيْرُ مَظْنُونٍ
بِالْمُسْلِمَةِ فَكَانَ صَرْفُ كَلَامِهِ إلَى ما ذَكَرْنَا أَوْلَى من صَرْفِهِ
إلَى ما تَسْبِقُ إلَيْهِ الْأَوْهَامُ وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْمَلُ
مُطْلَقُ الْمِلْكِ على الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ الصَّالِحِ لِلْإِعْتَاقِ وهو
الذي يُوجَدُ بَعْدَ السَّبْيِ
وَلَوْ قال لها إذَا ارتدت ( ( ( ارتددت ) ) ) وَسُبِيت فَمَلَكْتُك أو
اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَكَانَ ذلك عَتَقَتْ في قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ
أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمِلْكِ الْحَقِيقِيِّ فَيُضَافُ إلَيْهِ وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
وَمِنْ هذا الْقَبِيلِ إذَا قال أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ
فَاشْتَرَى عَبْدًا عَتَقَ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْمٌ لِفَرْدٍ سَابِقٍ وقد وُجِدَ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا لم يَعْتِقْ أَحَدُهُمَا لِأَنَّهُ إنْ وُجِدَ
مَعْنَى السَّبْقِ فلم يُوجَدْ مَعْنَى التَّفَرُّدِ فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ
مَعًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرَ لم يَعْتِقْ الثَّالِثُ لِأَنَّهُ إنْ وُجِدَ فيه
مَعْنَى التَّفَرُّدِ فَقَدْ انْعَدَمَ مَعْنَى السَّبْقِ وقد اسْتَشْهَدَ
مُحَمَّدٌ في الْكِتَابِ لِبَيَانِ الثَّالِثِ ليس بِأَوَّلٍ أَنَّهُ لو قال آخِرُ
عَبْدٍ اشْتَرَيْته فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدَيْنِ مَعًا ثُمَّ اشْتَرَى
آخَرَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى أَنَّهُ يَعْتِقُ الثَّالِثُ فَدَلَّ أَنَّهُ آخِرٌ
وإذا كان آخِرًا لَا يَكُونُ أَوَّلًا ضَرُورَةً لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِهِ ذات ( (
( ذاتا ) ) ) وَاحِدَةً من الْمَخْلُوقِينَ أَوَّلًا وَآخِرًا
وَلَوْ قال أَوَّلُ عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ وَاحِدًا فَهُوَ حُرٌّ عَتَقَ الثَّالِثُ
لِأَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا يَتَّصِفُ بِكَوْنِهِ فَرْدًا سَابِقًا في حَالِ
الشِّرَاءِ وقد وُجِدَ هذا الْوَصْفُ في الْعَبْدِ الثَّالِثِ وَلَوْ قال آخِرُ
عَبْدٍ أَشْتَرِيهِ فَهُوَ حُرٌّ فَاشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ لم يَشْتَرِ غَيْرَهُ
حتى مَاتَ الْمَوْلَى لم يَعْتِقْ لِأَنَّ الْآخِرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ وَهَذَا
فَرْدٌ سَابِقٌ فَكَانَ أَوَّلًا لَا آخِرًا وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ
عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ الثَّانِي لِأَنَّهُ آخِرُ عَبْدٍ
اشْتَرَاهُ
وَاخْتُلِفَ في وَقْتِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَعْتِقُ يوم
اشْتَرَاهُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يوم مَاتَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِصِفَةِ الْآخِرِيَّةِ وَإِنَّمَا
يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ إذَا لم يَشْتَرِ آخرا ( ( ( آخر ) ) ) أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لو اشْتَرَى بَعْدَهُ عَبْدًا آخَرَ حُرِمَ هو من أَنْ يَكُونَ آخِرًا
فَيَتَوَقَّفُ اتِّصَافُهُ بِكَوْنِهِ آخِرًا على عَدَمِ الشِّرَاءِ بَعْدَهُ
وَلَا يَتَحَقَّقُ ذلك إلَّا بِالْمَوْتِ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا لم
يَشْتَرِ آخَرَ بَعْدَهُ حتى مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان آخِرًا يوم اشْتَرَاهُ
إلَّا أَنَّا كنا لَا نَعْرِفُ ذلك لِجَوَازِ أَنْ يَشْتَرِيَ آخَرَ بَعْدَهُ
فَتَوَقَّفْنَا في تَسْمِيَتِهِ آخِرًا فإذا لم يَشْتَرِ آخَرَ حتى مَاتَ زَالَ
التَّوَقُّفُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كان آخِرًا من وَقْتِ الشِّرَاءِ وَلَوْ
اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ عَبْدَيْنِ مَعًا لم يَعْتِقْ أَحَدُهُمْ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ أَوَّلٌ فَلَا يَكُونُ آخِرًا
وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَلِأَنَّ الْآخِرَ اسْمٌ لِفَرْدٍ لَاحِقٍ ولم يُوجَدْ
مَعْنَى التَّفَرُّدِ فَلَا يَعْتِقْ أَحَدُهُمَا وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ
بِهِ وُجُودُ الشَّرْطِ فَالْحَالِفُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا
بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُنْكِرًا وُجُودَهُ فَإِنْ كان
مُقِرًّا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ كَائِنًا ما كان من الشَّرْطِ وَإِنْ كان
مُنْكِرًا فَإِنْ كان الشَّرْطُ مِمَّا لَا يُعْرَفُ إلَّا من قِبَلِ الْمَحْلُوفِ
بِعِتْقِهِ كَمَشِيئَةٍ وَمَحَبَّةٍ وَبُغْضَةٍ وَالْحَيْضِ وَنَحْوِ ذلك يَظْهَرُ
بِقَوْلِهِ
وإذا اخْتَلَفَا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ إذَا كان أَمْرًا لَا يُعْرَفُ
إلَّا من قِبَلِهِ كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَإِنْ
كان أَمْرًا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ من قِبَلِ غَيْرِهِ كَدُخُولِ الدَّارِ
وَكَلَامِ زَيْدٍ وَقُدُومِ عَمْرٍو وَنَحْوِ ذلك إذَا اخْتَلَفَا لَا يَظْهَرُ
إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عليه من الْعَبْدِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ
قَوْلَ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ يَدَّعِي عليه الْعِتْقَ وهو يُنْكِرُ
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مع يَمِينِهِ وَلَوْ كان الشَّرْطُ
وِلَادَةَ الْأَمَةِ بِأَنْ قال لها إنْ وَلَدْت فَأَنْتِ حُرَّةٌ فقالت وَلَدْت
فَكَذَّبَهَا الْمَوْلَى فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ على الْوِلَادَةِ لَا تَعْتِقُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى يَشْهَدَ بِالْوِلَادَةِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ وَعِنْدَهُمَا تَعْتِقُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ثِقَةٍ
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في فُصُولِ الْعِدَّةِ من كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَأَمَّا الثَّالِثُ وهو بَيَانُ من يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ
في الْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَمَنْ لَا يَدْخُلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ يَدْخُلُ تَحْتَهُ عبد الرَّهْنِ والوديعة وَالْآبِقُ وَالْمَغْصُوبُ
وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى لِانْعِدَامِ الْخَلَلِ في
الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ
وَلَوْ قال عَنَيْت بِهِ الذُّكُورَ دُونَ الْإِنَاثِ لم يُدَيَّنْ في الْقَضَاءِ
لِأَنَّهُ أَدْخَلَ كَلِمَةَ الْإِحَاطَةِ على الْمَمْلُوكِ فإذا نَوَى بِهِ الْبَعْضَ
فَقَدْ نَوَى تَخْصِيصَ الْعُمُومِ وأنه خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا
____________________
(4/72)
يُصَدَّقُ
في الْقَضَاءِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ
نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ وَيَدْخُلُ فيه الْمُدَبَّرُ وَالْمُدَبَّرَةُ
وَأُمُّ الْوَلَدِ وَوَلَدَاهُمَا لِمَا قُلْنَا
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَ الْمُدَبَّرَةَ وَأُمَّ الْوَلَدِ مع
أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ مَنْفِيٌّ شَرْعًا إلَّا بِأَحَدِ نَوْعَيْ الْمِلْكِ
مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
إلَّا على أَزْوَاجِهِمْ أو ما مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ
مَلُومِينَ } وَلَا يَدْخُلُ فيه الْمُكَاتَبُ إلَّا أَنْ يُعَيِّنَهُ لِأَنَّهُ
خَرَجَ عن يَدِهِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ وَصَارَ حُرًّا يَدًا فَاخْتَلَّ الْمِلْكُ
وَالْإِضَافَةُ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ إطْلَاقِ اسْمِ الْمَمْلُوكِ وَلِهَذَا لَا
يَحِلُّ له وَطْؤُهَا وَلَوْ وَطِئَهَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَإِنْ عَنَى
الْمُكَاتِبِينَ عَتَقُوا لِأَنَّ الِاسْمَ يَحْتَمِلُ ما عَنَى وَفِيهِ تَشْدِيدٌ
على نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ وَكَذَا لَا يَدْخُلُ فيه الْعَبْدُ الذي أُعْتِقَ
بَعْضُهُ لِأَنَّهُ حُرٌّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ
وَيَدْخُلُ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو لم يَكُنْ لِمَا
قُلْنَا
وَأَمَّا عَبِيدُ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَهَلْ
يَدْخُلُونَ
قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ لَا يَدْخُلُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ
وقال مُحَمَّدٌ يَدْخُلُونَ من غَيْرِ نِيَّةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ إنه إذَا لم يَكُنْ على الْعَبْدِ دَيْنٌ فَعَبْدُ عَبْدِهِ
مِلْكُهُ بِلَا خِلَافٍ فَيَعْتِقُ وَلَهُمَا أَنَّ في الْإِضَافَةِ إلَيْهِ قصور
( ( ( قصورا ) ) ) أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ هذا عبد فُلَانٍ وَهَذَا عبد
عَبْدِهِ فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُطْلَقِ الْإِضَافَةِ إلَّا بِالنِّيَّةِ
لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى فَقَدْ اُعْتُبِرَ الْمِلْكُ دُونَ الْإِضَافَةِ
وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَعْتَبِرُ نَفْسَ الْمِلْكِ وَلَا خَلَلَ في
نَفْسِهِ وَهُمَا يَعْتَبِرَانِ معه الْإِضَافَةَ وفي الْإِضَافَةِ خَلَلٌ
وَاعْتِبَارُهُمَا أَوْلَى لِأَنَّ الْحَالِفَ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ جميعا
بِقَوْلِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي فما لم يُوجَدَا على الْإِطْلَاقِ لَا يَعْتِقُ
وَإِنْ كان على عَبْدِهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا في يَدِهِ لم
يَعْتِقْ عَبِيدُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ نَوَاهُمْ بِنَاءً على أَصْلِهِ
أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ عَبْدَ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ دَيْنًا
مُسْتَغْرِقًا لِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ نَوَاهُمْ عَتَقُوا لِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُهُ إلَّا
أَنَّهُمْ لَا يُضَافُونَ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فإذا نَوَى وَفِيهِ
تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ عَتَقُوا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعْتِقُونَ وَإِنْ لم
يَنْوِهِمْ بِنَاءً على ما ذَكَرْنَا أَنَّ مُحَمَّدًا لَا يَنْظُرُ إلَّا إلَى
الْمِلْكِ وَهُمَا يَنْظُرَانِ إلَى الْمِلْكِ وَالْإِضَافَةِ جميعا وَلَا
يَدْخُلُ فيه مَمْلُوكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَجْنَبِيٍّ كَذَا قال أبو يُوسُفَ
لِأَنَّ بَعْضَ الْمَمْلُوكِ لَا يُسَمَّى مَمْلُوكًا حَقِيقَةً وَإِنْ نَوَاهُ
عَتَقَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ نَوَى ما يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ في الْجُمْلَةِ
وَفِيهِ تَشْدِيدٌ على نَفْسِهِ فَيُصَدَّقُ وَهَلْ يَدْخُلُ فيه الْحَمْلُ إنْ
كان أَمَةً في مِلْكِهِ يَدْخُلُ وَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَإِنْ كان في مِلْكِهِ
الْحَمْلُ دُونَ الْأَمَةِ بِأَنْ كان موصي له بِالْحَمْلِ لم يَعْتِقْ لِأَنَّهُ
لَا يُسَمَّى مَمْلُوكًا على الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ في وُجُودِهِ خَطَرًا وَلِهَذَا
لَا يَجِبُ على الْمَوْلَى صَدَقَةُ الْفِطْرِ عنه
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ لو قال إنْ اشْتَرَيْت مَمْلُوكَيْنِ فَهُمَا حُرَّانِ
فَاشْتَرَى جَارِيَةً حَامِلًا لم يَعْتِقَا لِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ شِرَاءُ
مَمْلُوكَيْنِ وَالْحَمْلُ لَا يُسَمَّى مَمْلُوكًا على الْإِطْلَاقِ وَكَذَا لو
قال لِأَمَتِهِ كُلُّ مَمْلُوكٍ لي غَيْرِك حُرٌّ لم يَعْتِقْ حَمْلُهَا فَثَبَتَ
أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَمْلُوكِ لَا يَتَنَاوَلُ الْحَمْلَ فَلَا يَعْتِقُ
إلَّا إذَا كانت أَمَةً في مِلْكِهِ فَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا لِأَنَّهُ في حُكْمِ
أَجْزَائِهَا
وَأَمَّا التَّعْلِيقُ الذي فيه مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَهُوَ الْكِتَابَةُ
وَالْإِعْتَاقُ على مَالٍ أَمَّا الْكِتَابَةُ فَلَهَا كِتَابٌ مُفْرَدٌ
وَأَمَّا الْإِعْتَاقُ على مَالٍ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
أَلْفَاظِهِ وفي بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْإِعْتَاقِ على مَالٍ
وفي بَيَانِ ما يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فيه من الْبَدَلِ وما لَا يَصِحُّ وفي
بَيَانِ حُكْمِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ على أَلْفِ
دِرْهَمٍ أو بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو على أَنْ تُعْطِينِي أَلْفًا أو على أَنْ
تُؤَدِّيَ إلَيَّ أَلْفًا أو على أَنْ تَجِيئنِي بِأَلْفٍ أو على أَنَّ لي عَلَيْك
أَلْفًا أو على أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ
وَكَذَا لو قال بِعْتُ نَفْسَكَ مِنْكَ على كَذَا أو ( ( ( ووهبت ) ) ) وهبت لك
نَفْسَكَ على أَنْ تُعَوِّضَنِي كَذَا فَهَذَا وَقَوْلُهُ أنت حُرٌّ على كَذَا أو
أُعْتِقَك على كَذَا سَوَاءٌ إذَا قَبِلَ عَتَقَ لِمَا ذُكِرَ فِيمَا تَقَدَّمَ
أَنَّ الْبَيْعَ إزَالَةُ مِلْكِ الْبَائِعِ عن الْمَبِيعِ وَالْهِبَةُ إزَالَةُ
مِلْكِ الْوَاهِبِ عن الْمَوْهُوبِ
ثُمَّ لو كان الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ له مِمَّنْ يَصِحُّ له الْمِلْكُ في
الْمَبِيعِ وَالْمَوْهُوبِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لَهُمَا وَالْعَبْدُ مِمَّنْ لَا
يَصِحُّ أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ فَنَفْيُ الْبَيْعِ
وَالْهِبَةِ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ بِبَدَلٍ على الْعَبْدِ وَهَذَا
تَفْسِيرُ الْإِعْتَاقِ على مَالٍ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ وَعَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ يَعْتِقُ من غَيْرِ قَبُولٍ وَلَا
يَلْزَمُهُ الْمَالُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ إلَّا بِالْقَبُولِ فإذا قَبِلَ عَتَقَ وَلَزِمَهُ
الْمَالُ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا قال الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ اعتقني وَلَك
أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ في كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَأَمَّا بَيَانُ مَاهِيَّتِهِ فَالْإِعْتَاقُ على مَالٍ من جَانِبِ الْمَوْلَى
تَعْلِيقٌ وهو تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ قَبُولِ الْعِوَضِ فيراعي فيه من
جَانِبِهِ أَحْكَامُ التَّعْلِيقِ حتى لو ابْتَدَأَ الْمَوْلَى فقال أنت حُرٌّ على
أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عنه قبل قَبُولِ الْعَبْدِ لَا
يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عنه
____________________
(4/73)
وَلَا
الْفَسْخَ وَلَا النَّهْيَ عن الْقَبُولِ وَلَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ عن
الْمَجْلِسِ قبل قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْعَبْدِ حتى لو كان
غَائِبًا عن الْمَجْلِسِ يَصِحُّ وَيَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِشَرْطٍ وَإِضَافَتُهُ
إلَى وَقْتٍ بِأَنْ يَقُولَ له إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ وَإِنْ كَلَّمْت فُلَانًا
فَأَنْتَ حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ أو يَقُولَ إنْ دَخَلْت أو إنْ كَلَّمْت
فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا
وَنَحْوَ ذلك وَلَا يَصِحُّ شَرْطُ الْخِيَارِ فيه بِأَنْ قال أنت حُرٌّ على
أَلْفٍ على أَنِّي بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمِنْ جَانِبِ الْعَبْدِ
مُعَاوَضَةٌ وهو مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْعِتْقِ لِأَنَّهُ من جَانِبِهِ
تَمْلِيكُ الْمَالِ بِالْعِوَضِ وَهَذَا مَعْنَى مُعَاوَضَةِ الْمَالِ فَيُرَاعَى
فيه من جَانِبِهِ أَحْكَامُ مُعَاوَضَةِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ حتى لو
ابْتَدَأَ الْعَبْدُ فقال اشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْكَ بِكَذَا فَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ عنه وَيُبْطِلَ بِقِيَامِهِ عن الْمَجْلِسِ قبل قَبُولِ الْمَوْلَى
وَبِقِيَامِ الْمَوْلَى أَيْضًا وَلَا يَقِفُ على الْغَائِبِ عن الْمَجْلِسِ وَلَا
يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى الْوَقْتِ بِأَنْ قال
اشْتَرَيْتُ نَفْسِي مِنْكَ بِكَذَا إذَا جاء غَدٌ أو قال عِنْدَ رَأْسِ شَهْرِ
كَذَا
وَلَوْ قال إذَا جاء غَدٌ فَأَعْتِقْنِي على كَذَا جَازَ لِأَنَّ هذا تَوْكِيلٌ
منه بِالْإِعْتَاقِ حتى يَمْلِكَ الْعَبْدُ عَزْلَهُ قبل وُجُودِ الشَّرْطِ
وَبَعْدَهُ وَقَبْلَ أَنْ يَعْتِقَ وَلَوْ لم يَعْزِلْهُ حتى أَعْتَقَهُ نَفَذَ
إعْتَاقُهُ وَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ على ما
ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ في فَصْلِ الْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ على مَالٍ
وَلَا يَصِحُّ الْإِعْتَاقُ على مَالٍ إلَّا في الْمِلْكِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ
بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ من الشُّرُوطِ لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الْمِلْكِ
وَكَذَا الْمُعَاوَضَةُ
وَيَعْتِقُ الْعَبْدُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ من جَانِبِهِ تَعْلِيقُ
الْعِتْقِ بِشَرْطِ قَبُولِ الْعِوَضِ وقد وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْزِلُ
الْمُعَلَّقُ كَالتَّعْلِيقِ بِدُخُولِ الدَّارِ وَغَيْرِهِ وَمِنْ جَانِبِ
الْعَبْدِ مُعَاوَضَةٌ وَزَوَالُ الْمِلْكِ عن الْمُعَوِّضِ يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ
قَبُولِ الْعِوَضِ في الْمُعَاوَضَاتِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ
إنْ أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ لِأَنَّهُ ليس فيه مَعْنَى
الْمُعَاوَضَةِ رَأْسًا بَلْ هو تَعْلِيقٌ مَحْضٌ وقد عَلَّقَهُ بِشَرْطِ
الْأَدَاءِ فَلَا يَعْتِقُ قَبْلَهُ وَالْعِتْقُ هَهُنَا تَعَلَّقَ بِالْقَبُولِ
فإذا قَبِلَ عَتَقَ
وَلَوْ قال الْمَوْلَى أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فلم يَقْبَلْ وقال
الْعَبْدُ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ من
جَانِبِ الْمَوْلَى تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وَالْعَبْدُ يَدَّعِي وُجُودَ
الشَّرْطِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى كما لو قال
لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ اليوم فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ
وَالْعَبْدُ يَدَّعِي الدُّخُولَ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى كان الْقَوْلُ قَوْلَ
الْمَوْلَى كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ كان الِاخْتِلَافُ في الْبَيْعِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي بِأَنْ
قال الْبَائِعُ بِعْتُك عَبْدِي أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فلم تَقْبَلْ وقال
الْمُشْتَرِي بَلْ قَبِلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَالْفَرْقُ أَنَّ
الْبَيْعَ لَا يَكُونُ بَيْعًا إلَّا بَعْدَ قَبُولِ الْمُشْتَرِي فإذا قال
بِعْتُك فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَبُولِ فَبِقَوْلِهِ لم تَقْبَلْ يُرِيدُ الرُّجُوعَ
عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَإِبْطَالَ ذلك فلم يَقْبَلْ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ على
مَالٍ لأنه كَوْنَهُ تَعْلِيقًا لَا يَقِفُ على وُجُودِ الْقَبُولِ من الْعَبْدِ
إنَّمَا ذَاكَ شَرْطُ وُقُوعِ الْعِتْقِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ وَاقِعًا في
ثُبُوتِ الْعِتْقِ وَعَدَمِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ في مِقْدَارِ الْبَدَلِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ هو الْمُسْتَحَقُّ عليه الْمَالُ فَكَانَ الْقَوْلُ
قَوْلَهُ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلِأَنَّهُ لو
وَقَعَ الِاخْتِلَافُ في أَصْلِ الدَّيْنِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكَرِ
فَكَذَا إذَا وَقَعَ في الْقَدْرِ وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ
بَيِّنَةُ الْمَوْلَى لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ
بِالْأَدَاءِ إذَا اخْتَلَفَا في مَبْلَغِ الْمَالِ أَنَّ الْقَوْلَ فيه قَوْلُ
الْمَوْلَى لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَاكَ وَقَعَ في شَرْطِ ثُبُوتِ الْعِتْقِ إذْ
هو تَعْلِيقٌ مَحْضٌ فَالْعَبْدُ يَدَّعِي الْعِتْقَ على الْمَوْلَى وهو يُنْكِرُ
فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ
بَيِّنَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ ما
أَمْكَنَ إذْ هو عَمَلٌ بِالدَّلِيلَيْنِ وَهَهُنَا أَمْكَنَ الْجَمْعُ
بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي لِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ
عِتْقَهُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الشَّرْطَيْنِ على حِيَالِهِ فَأَيُّهُمَا وُجِدَ عَتَقَ
ثُمَّ إذَا قَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ وَصَارَ الْبَدَلُ الْمَذْكُورُ دَيْنًا في
ذِمَّتِهِ إذَا كان مِمَّا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ في الذِّمَّةِ في الْجُمْلَةِ
على ما تَبَيَّنَ وَيَسْعَى وهو حُرٌّ في جَمِيعِ أَحْكَامِهِ
وَذَكَرَ عَلِيٌّ الرَّازِيّ أَصْلًا فقال الْمُسْتَسْعَى على ضَرْبَيْنِ كُلُّ من
يَسْعَى في تَخْلِيصِ رَقَبَتِهِ فَهُوَ في حُكْمِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَكُلُّ من يَسْعَى في بَدَلِ رَقَبَتِهِ الذي لَزِمَهُ بِالْعِتْقِ أو
في قِيمَةِ رَقَبَتِهِ لِأَجْلِ بَدَلِ شَرْطٍ عليه أو لِدَيْنٍ ثَبَتَ في
رَقَبَتِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ في أَحْكَامِهِ مِثْلُ أَنْ يَعْتِقَ
الرَّاهِنُ عَبْدَهُ الْمَرْهُونَ وهو مُعْسِرٌ
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا اعتق وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَذَلِكَ أَمَةٌ
أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا على أَنْ تَتَزَوَّجَهُ فَقَبِلَتْ ثُمَّ أَبَتْ
فَإِنَّهَا تَسْعَى في قِيمَتِهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ وَكَذَلِكَ إذَا
قال لِعَبْدِهِ أنت حُرُّ رَقَبَتِكَ فَقَبِلَ ذلك فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ السِّعَايَةَ في هذه الْفُصُولِ لَزِمَتْ بَعْدَ
ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قبل ثُبُوتِهَا وَإِنَّمَا
يَسْعَى لِيَتَوَسَّلَ بِالسِّعَايَةِ إلَى الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعَلَى هذا لو أَبْرَأَ الْمَوْلَى
____________________
(4/74)
الْمُكَاتَبَ
من مَالِ الْكِتَابَةِ فلم يَقْبَلْ فَهُوَ حُرٌّ وَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ
الْكِتَابَةَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَصِحُّ من غَيْرِ قَبُولٍ إلَّا أَنَّهُ
يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لَكِنْ فِيمَا يَحْتَمِلَ الرَّدَّ وَالْعِتْقُ لَا
يَحْتَمِلُ الرَّدَّ فلم يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ الرَّدَّ
فَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيَعْتِقُ وَيَلْزَمُهُ الْمَالُ
وَلَوْ قال لِأَمَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَتْ ثُمَّ
وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ لم يَكُنْ على الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى في شَيْءٍ مِمَّا
أُعْتِقَتْ عليه لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِالْقَبُولِ وَدَيْنُ الْحُرَّةِ لَا
يَلْزَمُ وَلَدَهَا وَسَوَاءٌ أَعْتَقَ عَبْدَهُ على عِوَضٍ فَقَبِلَ أو نِصْفَ
عَبْدِهِ على عِوَضٍ فَقَبِلَ أَنَّهُ يَصِحُّ غير أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ
على عِوَضٍ فَقَبِلَ يُعْتَقُ نِصْفُهُ بِالْعِوَضِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ في نِصْفِ
قِيمَتِهِ عن النِّصْفِ الْآخَرِ فإذا أَدَّى بِالسِّعَايَةِ عَتَقَ بَاقِيهِ وهو
قبل الْأَدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ في جَمِيعِ أَحْكَامِهِ إلَّا أَنَّهُ
لَا يُرَدُّ في الرِّقِّ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَعْتِقُ كُلُّهُ وَلَا سِعَايَةَ عليه
بِنَاءً على أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَعِتْقُ الْبَعْضِ يُوجِبُ
عِتْقَ الْبَاقِي فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يتجرأ ( ( ( يتجزأ ) ) ) فَكَانَ عِتْقُ الْبَعْضِ بعوض عِتْقًا
لِلْكُلِّ بِذَلِكَ الْعِوَضِ وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ فِيمَنْ قال
لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ أنت حُرٌّ على مِائَةِ دِينَارٍ فقال
الْعَبْدُ قد قَبِلْت عَتَقَ وكان عليه الْمَالَانِ جميعا
وَكَذَا لو قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا على أَلْفِ دِرْهَمٍ أَنْتِ
طَالِقٌ ثَلَاثًا على مِائَةِ دِينَارٍ فقالت قد قَبِلْت طَلُقَتْ ثَلَاثًا
بِالْمَالَيْنِ جميعا وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ في مَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ الْقَبُولُ على الْكَلَامِ الْأَخِيرِ
وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا بِمِائَةِ دِينَارٍ قال الْكَرْخِيُّ وَكَذَلِكَ قِيَاسُ
قَوْلِهِ في الْعِتْقِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْعِتْقَ بِعِوَضٍ
ثُمَّ أَوْجَبَهُ بِعِوَضٍ آخَرَ فَقَدْ انْفَسَخَ الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ
فَتَعَلَّقَ الْقَبُولُ بِالثَّانِي كما في الْبَيْعِ وَلِمُحَمَّدٍ أَنَّ الاعتاق
وَالطَّلَاقَ على مَالٍ تَعْلِيقٌ من جَانِبِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ وَأَنَّهُ
لَا يَحْتَمِلُ الِانْفِسَاخَ فلم يَتَضَمَّنْ الْإِيجَابُ الثَّانِي انْفِسَاخَ
الْأَوَّلِ فَيَصِحُّ الْإِيجَابَانِ وَيَنْصَرِفُ الْقَبُولُ إلَيْهِمَا جميعا
إذْ هو يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُمَا جميعا فَيَلْزَمُ الْمَالَانِ جميعا بِخِلَافِ
الْبَيْعِ لِأَنَّ إيجَابَ الْبَيْعِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَتَضَمَّنُ
الثَّانِي انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ
وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ من نَفْسِهِ أو وَهَبَ له نَفْسَهُ على عِوَضٍ
فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعِوَضَ قبل الْقَبْضِ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ بِسَبَبٍ لَا
يَنْفَسِخُ بِهَلَاكِهِ فَجَازَ التَّصَرُّفُ فيه قبل قَبْضِهِ كَالْمِيرَاثِ
وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَهُ على مَالٍ مُؤَجَّلٍ وَيَكُونُ ذلك دَيْنًا عليه
مُؤَجَّلًا وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ منه شيئا يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فيه
نَسِيئَةً لِأَنَّ من أَصْلِ أَصْحَابِنَا أَنَّ جَمِيعَ الدُّيُونِ يَجُوزُ
التَّصَرُّفُ فيها قبل الْقَبْضِ كاثمان الْبِيَاعَاتِ وَالْعُرُوضِ وَالْغُصُوبِ
إلَّا بَدَلَ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من الْقَبْضِ في
الملجس ( ( ( المجلس ) ) ) لِئَلَّا يَكُونَ افْتِرَاقًا عن دَيْنٍ بِدَيْنٍ
وَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْمَالِ الذي أَعْتَقَهُ عليه فَهُوَ جَائِزٌ
لِأَنَّهُ صَارَ حُرًّا بِالْقَبُولِ وَالْكَفَالَةِ بِدَيْنٍ على حُرٍّ جَائِزَةٌ
كَالْكَفَالَةِ بِسَائِرِ الدُّيُونِ وَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ
عَتَقَ على مِلْكِهِ وَالْمَالُ دَيْنٌ على الْعَبْدِ لِأَنَّهُ في جَانِبِهِ
مُعَاوَضَةٌ وَالْمَوْلَى أَيْضًا لم يَرْضَ بِخُرُوجِهِ عن مِلْكِهِ إلَّا بِبَدَلٍ
وقد قَبِلَهُ الْعَبْدُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ من الْبَدَلِ وما لَا تَصِحُّ وَبَيَانُ
حُكْمِ التَّسْمِيَةِ وَفَسَادِهَا فَالْبَدَلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
عَيْنَ مَالٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَنْفَعَةً وَهِيَ الْخِدْمَةُ فَإِنْ كان
عَيْنَ مَالٍ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِعَيْنِهِ بِأَنْ كان مُعَيَّنًا مُشَارًا
إلَيْهِ وأما إنْ كان بِغَيْرِ عنيه ( ( ( عينه ) ) ) بِأَنْ كان مُسَمًّى غير
مُشَارٍ إلَيْهِ فَإِنْ كان بِعَيْنِهِ عَتَقَ إذَا قَبِلَ لِأَنَّ عَدَمَ
مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَسْمِيَتِهِ عِوَضًا لِأَنَّهُ مَالٌ مَعْصُومٌ
مُتَقَوِّمٌ مَعْلُومٌ ثُمَّ إنْ أَجَازَ الْمَالِكُ سَلَّمَ عَيْنَهُ إلَى
الْمَوْلَى وَإِنْ لم يَجُزْ فَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ الْعَيْنِ لِأَنَّ
تَسْمِيَتَهُ قد صَحَّتْ ثُمَّ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ فَتَجِبُ
قِيمَتُهُ إذْ الْإِعْتَاقُ على الْقِيمَةِ جَائِزٌ كما إذَا قال أَعْتَقْتُك على
قِيمَةِ رَقَبَتِك أو على قِيمَةِ هذا الشَّيْءِ فَقَبِلَ يَعْتِقُ وَكَذَا عَدَمُ
الْمِلْكِ في بَابِ الْبَيْعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ أَيْضًا حتى لو
اشْتَرَى شيئا بِعَبْدٍ مَمْلُوكٍ لِغَيْرِهِ صَحَّ الْعَقْدُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ
إنْ لم يُجِزْ الْمَالِكُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى إيقَاعِهِ على
الْقِيمَةِ إذْ الْبَيْعُ على الْقِيمَةِ بَيْعٌ فَاسِدٌ وَهَهُنَا لَا يُفْسَخُ
لِإِمْكَانِ الْإِيقَاعِ على الْقِيمَةِ إذْ الْإِعْتَاقُ على الْقِيمَةِ إعْتَاقٌ
صَحِيحٌ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ كما في النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ على مَالٍ
وَإِنْ كان بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كان الْمُسَمَّى مَعْلُومَ الْجِنْسِ
وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى
وَإِنْ كان مَعْلُومَ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ مَجْهُولَ الصِّفَةِ كَالثِّيَابِ
الْهَرَوِيَّةِ وَالْحَيَوَانِ من الْفَرَسِ وَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ
فَعَلَيْهِ الْوَسَطُ من ذلك وإذا جاء بِالْقِيمَةِ يُجْبَرُ الْمَوْلَى على
الْقَبُولِ لِأَنَّ جَهَالَةَ الصِّفَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ
فِيمَا وَجَبَ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَبَدَلُ الْخُلْعِ
وَالصُّلْحِ من دَمِ الْعَمْدِ
وَإِنْ كان مَجْهُولَ الْجِنْسِ كَالثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ فَعَلَيْهِ
قِيمَةُ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ فَفَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ
____________________
(4/75)
جَهَالَةٍ
تَزِيدُ على جَهَالَةِ الْقِيمَةِ تُوجِبُ فَسَادَ التَّسْمِيَةِ كَالْجَهَالَةِ
الزَّائِدَةِ على جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ في بَابِ النِّكَاحِ وَالْكَلَامُ
فيه كَالْكَلَامِ في الْمَهْرِ وقد ذَكَرْنَاهُ على سَبِيلِ الِاسْتِقْصَاءِ في
كِتَابِ النِّكَاحِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا فَسَدَتْ التَّسْمِيَةُ يَجِبُ
مَهْرُ الْمِثْلِ وَهَهُنَا تَجِبُ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ
الْأَصْلِيَّ هُنَاكَ مَهْرُ الْمِثْلِ لأنه قِيمَةَ الْبِضْعِ وهو الْعَدْلُ
وَالْمَصِيرُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ فإذا فَسَدَتْ
صُيِّرَ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ وَالْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ هَهُنَا قِيمَةُ
الْعَبْدِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ على مَالٍ معاوضه من جَانِبِ الْعَبْدِ وَمَبْنَى
الْمُعَاوَضَةِ على الْمُعَادَلَةِ وَقِيمَةُ الشَّيْءِ هِيَ التي تُعَادِلُهُ
إلَّا أَنَّ عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ يُعْدَلُ عنها إلَى الْمُسَمَّى فإذا
فَسَدَتْ وَجَبَ الْعِوَضُ الْأَصْلِيُّ وهو قِيمَةُ نَفْسِ الْعَبْدِ وَإِنْ كان
الْبَدَلُ مَنْفَعَةً وَهِيَ خِدْمَتُهُ بِأَنْ قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ على أَنْ
تَخْدُمَنِي سَنَةً فَقَبِلَ فَهُوَ حُرٌّ حين قَبِلَ ذلك وَالْخِدْمَةُ عليه
يُؤْخَذُ بها لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخِدْمَةِ قد صَحَّتْ فَيَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى
كما إذَا أَعْتَقَهُ على مَالِ عَيْنٍ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل الْخِدْمَةِ
بَطَلَتْ الْخِدْمَةُ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْخِدْمَةَ لِلْمَوْلَى وقد مَاتَ
الْمَوْلَى لَكِنْ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَأْخُذُوا الْعَبْدَ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ
وَإِنْ كان قد خَدَمَ بَعْضَ السَّنَةِ فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِقَدْرِ ما
بَقِيَ من الْخِدْمَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وقال
مُحَمَّدٌ يُؤْخَذُ الْعَبْدُ بِقِيمَةِ تَمَامِ الْخِدْمَةِ إنْ كان لم يَخْدُمْ
وَإِنْ كان قد خَدَمَ بَعْضَ الْخِدْمَةِ يُؤْخَذُ بِقِيمَةِ ما بَقِيَ من
الْخِدْمَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال أنت حُرٌّ على أَنْ تَخْدُمَنِي أَرْبَعَ سِنِينَ فَمَاتَ
الْمَوْلَى قبل الْخِدْمَةِ على قَوْلِهِمَا على الْعَبْدِ قِيمَةُ نَفْسِهِ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه قِيمَةُ خِدْمَتِهِ أَرْبَعُ سِنِينَ وَلَوْ كان
الْعَبْدُ خَدَمَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِهِمَا على الْعَبْدِ
ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَةِ نَفْسِهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ عليه قِيمَةُ
خِدْمَتِهِ ثَلَاثُ سِنِينَ
وَكَذَلِكَ لو مَاتَ الْعَبْدُ وَتَرَكَ مَالًا يقضي لِمَوْلَاهُ في مَالِهِ
بِقِيمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يقضي بِقِيمَةِ الْخِدْمَةِ وَأَصْلُ
الْمَسْأَلَةِ أَنَّ من بَاعَ الْعَبْدَ من نَفْسِهِ بِجَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا
ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ الْجَارِيَةُ فَعَلَى قَوْلِهِمَا يَرْجِعُ على الْعَبْدِ
بِقِيمَةِ نَفْسِهِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَرْجِعُ عليه بِقِيمَةِ
الْجَارِيَةِ وَكَذَلِكَ لو لم تَسْتَحِقَّ وَلَكِنَّهُ وَجَدَ بها عَيْبًا
فَرَدَّهَا فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَبَضَ الْعِوَضَ ثُمَّ
اُسْتُحِقَّ من يَدِهِ فَإِنْ كان الْعِوَضُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَالْمَكِيلِ
وَالْمَوْزُونِ الْمَوْصُوفَيْنِ في الذِّمَّةِ أو الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ
كَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ وَالْفَرَسِ وَالْعَبْدِ وَالْجَارِيَةِ فَعَلَى
الْعَبْدِ مِثْلُهُ في الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْوَسَطِ في الْفَرَسِ
وَالْحَيَوَانِ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ على مَالٍ في الذِّمَّةِ وَإِنَّمَا
الْمَقْبُوضُ عِوَضٌ عَمَّا في الذِّمَّةِ فإذا اُسْتُحِقَّ الْمَقْبُوضُ فَقَدْ
انْفَسَخَ فيه الْقَبْضُ فَبَقِيَ مُوجِبُ الْعَقْدِ على حَالِهِ فَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ على الْعَبْدِ بِذَلِكَ وَإِنْ كان عَيْنًا في الْعَقْدِ وهو مَكِيلٌ أو
مَوْزُونٌ فَكَذَلِكَ يَرْجِعُ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ بمثله لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان عَرَضًا أو حَيَوَانًا فَقَدْ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ يَرْجِعُ
على الْعَبْدِ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ وقال مُحَمَّدٌ يَرْجِعُ عليه بِقِيمَةِ
الْمُسْتَحَقِّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ إن الْعَقْدَ لم يُفْسَخْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ
لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيَبْقَى مُوجِبًا لِتَسْلِيمِ الْعِوَضِ وقد
عَجَزَ عن تَسْلِيمِهِ فَيَرْجِعُ عليه بِقِيمَتِهِ كَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن
دَمِ الْعَمْدِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ قد انْفَسَخَ في حَقِّ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ وهو
الْمُسْتَحَقُّ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ على عَيْنٍ هِيَ مِلْكُ
الْمُسْتَحَقِّ ولم يُجِزْ
وإذا انْفَسَخَ الْعَقْدُ في حَقِّهِ لم يَبْقَ مُوجِبًا على الْعَبْدِ
تَسْلِيمُهُ فَلَا يَجِبُ عليه قِيمَتُهُ وَانْفِسَاخُهُ في حَقِّ أَحَدِ
الْعِوَضَيْنِ يَقْتَضِي انْفِسَاخَهُ في حَقِّ الْعِوَضِ الْآخَرِ وهو نَفْسُ
الْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ إظْهَارُهُ في صُورَةِ الْعَبْدِ فَيَجِبُ
إظْهَارُهُ في مَعْنَاهُ وهو قِيمَتُهُ فَتَجِبُ عليه إذْ قِيمَتُهُ قَائِمَةٌ
مَقَامَ رَدِّ عَيْنِهِ كَمَنْ بَاعَ عَبْدًا بِجَارِيَةٍ فَأَعْتَقَهَا وَمَاتَ
الْعَبْدُ قبل التَّسْلِيمِ أَنَّهُ يَجِبُ على الْبَائِعِ رَدُّ قِيمَةِ الْعَبْدِ
لَا رَدُّ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ كَذَا هَهُنَا
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من الِاخْتِلَافِ في الْعَيْبِ إذَا كان الْعَيْبُ فَاحِشًا
لِأَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ في هذا الْبَابِ يُوجِبُ الرَّدَّ بِلَا خِلَافٍ كما
في بَابِ النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا كان غير فَاحِشٍ فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَمْلِكُ رَدَّهَا لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ
الْمَالِ بِمَالٍ ليس بِمَالٍ فَأَشْبَهَ النِّكَاحَ وَالْمَرْأَةُ في بَابِ
النِّكَاحِ لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْمَهْرِ إلَّا في الْعَيْبِ الْفَاحِشِ وَكَذَا
الْمَوْلَى هَهُنَا وَلَوْ قال عبد رَجُلٍ لِرَجُلٍ اشْتَرِ لي نَفْسِي من
مَوْلَايَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهُ فَالْوَكِيلُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يُبَيَّنَ وَقْتَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ يَشْتَرِي نَفْسَ الْعَبْدِ لِلْعَبْدِ وإما
أن لم يُبَيِّنْ فَإِنْ بَيَّنَ جاز ( ( ( الشراء ) ) ) للشراء وَعَتَقَ الْعَبْدُ
بِقَبُولِ الْوَكِيلِ وَيَجِبُ الثَّمَنُ لِأَنَّهُ أتى بِمَا وُكِّلَ بِهِ
فَنَفَذَ على الْمُوَكَّلِ
ثُمَّ ذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّ الْمَوْلَى يُطَالِبُ الْوَكِيلَ ثُمَّ
الْوَكِيلُ يُطَالِبُ الْعَبْدَ فَقَدْ جُعِلَ هذا التَّصَرُّفَ في حُكْمِ
مُعَاوَضَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لِأَنَّ حُقُوقَ
الْعَبْدِ إنَّمَا تَرْجِعُ إلَى الْوَكِيلِ في مِثْلِ هذه
____________________
(4/76)
الْمُعَاوَضَةِ
وَذَكَرَ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ أَنَّهُ يُطَالِبُ الْعَبْدَ وَلَا يُطَالِبُ
الْوَكِيلَ وَاعْتَبَرَهُ مُعَاوَضَةَ الْمَالِ بِمَا ليس بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ
وَالْخُلْعِ وَالطَّلَاقِ على مَالٍ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَإِنْ لم
يُبَيِّنْ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لَا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ إذَا لم يُبَيِّنْ
فَالْبَائِعُ رضي بِالْبَيْعِ لَا بالاعتاق فَلَوْ قُلْنَا أنه يَصِيرُ
مُشْتَرِيًا لِلْعَبْدِ وَيُعْتَقُ لَكَانَ فيه إثْبَاتُ الْوِلَايَةِ على
الْبَائِعِ من غَيْرِ رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ لو بَيَّنَ
لَكِنَّهُ لو خَالَفَ في الثَّمَنِ بِأَنْ اشْتَرَى بِزِيَادَةٍ يَكُونَ
مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا
هذا إذَا أَمَرَ الْعَبْدُ رَجُلًا فَأَمَّا إذَا أَمَرَ رَجُلٌ الْعَبْدَ بِأَنْ
يَشْتَرِيَ نَفْسَهُ من مَوْلَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى فَإِنْ بَيَّنَ
وَقْتَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ يَشْتَرِي لِلْآمِرِ فَيَكُونُ لِلْآمِرِ وَلَا
يَعْتِقُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لِلْآمِرِ لَا لِنَفْسِهِ فَيَقَعُ الشِّرَاءُ
لِلْآمِرِ وَيَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ في يَدِ
نَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَهُ لِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ
صَارَ مُسَلِّمًا إيَّاهُ حَيْثُ عَقَدَ على شَيْءٍ هو في يَدِهِ وهو نَفْسُهُ
وَلَوْ وَجَدَ الآمر ( ( ( الآخر ) ) ) بِهِ عَيْبًا له أَنْ يَرُدَّهُ وَلَكِنَّ
الْعَبْدَ هو الذي يَتَوَلَّى الرَّدَّ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ وَحُقُوقُ هذا الْعَقْدِ
تَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَإِنْ لم يُبَيِّنْ وقال لِمَوْلَاهُ بِعْ نَفْسِي
مِنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَ صَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَعَتَقَ لِأَنَّ
بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ منه إعْتَاقٌ وَكَذَا إذَا بَيَّنَ وَخَالَفَ أَمَرَهُ
يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَيَعْتِقُ
وَلَوْ قال لِعَبْدٍ وَاحِدٍ أنت حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبْلَ أَنْ
يَقْبَلَ قال له أنت حُرٌّ على مِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ قال قَبِلْت
بِالْمَالَيْنِ عَتَقَ وَيَلْزَمُهُ الْمَالَانِ جميعا بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ قال
قَبِلْت مُبْهَمًا ولم يُبَيِّنْ فَكَذَلِكَ في قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَكَذَلِكَ لو قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا على أَلْفِ دِرْهَمٍ
أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا على مِائَةِ دِينَارٍ أنها إنْ قالت قَبِلْت
بِالْمَالَيْنِ طَلُقَتْ بِالْمَالَيْنِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ أَبْهَمَتْ بِأَنْ
قالت قبلت طَلُقَتْ ثَلَاثًا بِالْمَالَيْنِ جميعا في قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا
عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَالْقَبُولُ على الْكَلَامِ الْأَخِيرِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَبُولَ خَرَجَ عَقِبَ الْإِيجَابِ الْأَخِيرِ فَيَنْصَرِفُ
إلَيْهِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ بِعِوَضٍ ثُمَّ أَوْجَبَ بِعِوَضٍ آخَرَ
تَضَمَّنَ الثَّانِي انْفِسَاخَ الْأَوَّلِ كما في الْبَيْعِ فَيَتَعَلَّقُ
الْقَبُولُ بِالثَّانِي كما في الْبَيْعِ وَلِمُحَمَّدٍ الْفَرْقُ بين الاعتاق
وَالطَّلَاقِ على مَالٍ وَبَيْنَ الْبَيْعِ وهو أَنَّ الاعتاق وَالطَّلَاقَ على
مَالٍ تَعْلِيقٌ من جَانِبِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ
الِانْفِسَاخَ فلم يُوجِبْ الثَّانِي رَفْعَ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الرَّفْعَ وَالْفَسْخَ فَيُوجِبُ الثَّانِي ارْتِفَاعَ الْأَوَّلِ
هذا إذَا قَبِلَ بِالْمَالَيْنِ أو قَبِلَ على الْإِبْهَامِ فَأَمَّا إذَا قَبِلَ
بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ بِأَنْ قال قَبِلْت بِالدَّرَاهِمِ أو قال قَبِلْت
بِالدَّنَانِيرِ ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّهُ
لَا يُعْتَقُ وَعَلَّلَ بِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ اعتقتك بِالْمَالَيْنِ
جميعا فَلَا يُعْتَقُ بِقَبُولِ أَحَدِهِمَا مع الشَّكِّ وَذَكَرَ أبو يُوسُفَ في
الْأَمَالِي أَنَّهُ يَعْتِقُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَوْلَى أتى بِإِيجَابَيْنِ
مُخْتَلِفَيْنِ فَكَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَقْبَلَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ أو مِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ قَبِلَ
بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ عَيْنًا عَتَقَ بِأَنْ قال قَبِلْت بِالدَّرَاهِمِ أو قال
قَبِلْت بِالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ وَإِنْ
قَبِلَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ غير عَيْنٍ عَتَقَ أَيْضًا لِوُجُودِ الشَّرْطِ
وَيَلْزَمُهُ أَحَدُ الْمَالَيْنِ وَالْبَيَانُ إلَيْهِ كما إذَا قال لِفُلَانٍ
عَلِيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أو مِائَةُ دِينَارٍ يَلْزَمُهُ أَحَدُهُمَا وَالْبَيَانُ
إلَيْهِ كَذَا
وَلَوْ قال قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ لَا شَكَّ أَنَّهُ يَعْتِقُ لِأَنَّ في قَبُولِ
الْمَالَيْنِ قَبُولَ أَحَدِهِمَا فَوُجِدَ شَرْطُ الْعِتْقِ فَيَعْتِقُ
وَيَلْزَمُهُ أَحَدُ الْمَالَيْنِ لِأَنَّهُ أَعْتَقَهُ على أَحَدِ الْمَالَيْنِ
فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ وَالْبَيَانُ إلَى الْعَبْدِ يَخْتَارُ أَيَّهُمَا
شَاءَ وَكَذَلِكَ إذَا قال قَبِلْت ولم يُبَيِّنْ يَعْتِقُ وَيَلْزَمُهُ أَحَدُ
الْمَالَيْنِ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَبِلْتُ يَصْلُحُ
جَوَابَ الْإِيجَابِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قال قَبِلْتُ بِأَحَدِهِمَا ولم
يُعَيِّنْ أو قَبِلْتُ بِهِمَا وَهُنَاكَ يَعْتِقُ وَخِيَارُ التَّعْيِينِ إلَيْهِ
كَذَا هَهُنَا
وَعَلَى هذا إذَا قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ على أَلْفِ دِرْهَمٍ أو على
مِائَةِ دِينَارٍ فَقَبِلَتْ بِأَحَدِهِمَا عَيْنًا أو غير عَيْنٍ أو قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ
أو أَبْهَمَتْ لِمَا قُلْنَا في الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ لو قال أنت حُرٌّ على أَلْفِ
دِرْهَمٍ أو على أَلْفَيْنِ إلَّا أَنَّ هَهُنَا إذَا قَبِلَ بِالْمَالَيْنِ
يَعْتِقُ بِأَلْفٍ وَلَا يُخَيَّرُ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُتَّحِدٌ وَالتَّخْيِيرُ
بين الْأَكْثَرِ وَالْأَقَلِّ في الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ لَا
يَخْتَارُ إلَّا الْأَقَلَّ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ
اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا هذا كُلُّهُ إذَا أَضَافَ
الْعِتْقَ إلَى مُعَيَّنٍ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى مَجْهُولٍ بِأَنْ قال
لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
ما لم يَقْبَلَا جميعا حتى لو قَبِلَ أَحَدُهُمَا ولم يَقْبَلْ الْآخَرُ لَا
يَعْتِقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا كما يَقَعُ على الْقَابِلِ يَقَعُ على غَيْرِ
الْقَابِلِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَنَى بِهِ غير الْقَابِلِ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَقُولَ عَنَيْت بِهِ غير الْقَابِلِ فَلَوْ حَكَمْنَا
بِعِتْقِ الْقَابِلِ لَكَانَ فيه إثْبَاتُ الْعِتْقِ بِالشَّكِّ وَإِنْ قَبِلَا
جميعا فَإِنْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَةٍ لَا يَعْتِقُ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا بِأَلْفٍ لَا بِخَمْسِمِائَةٍ
وَإِنْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
____________________
(4/77)
بِأَلْفِ
بِأَنْ قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبِلْت بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو قال قَبِلْت ولم
يَقُلْ بِأَلْفٍ أو قَالَا ما قَبِلْنَا بِأَلْفٍ أو قَالَا قَبِلْنَا ولم
يَذْكُرَا الْأَلْفَ عَتَقَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وهو
قَبُولُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَلْفَ وَيُقَالُ لِلْمَوْلَى اخْتَرْ الْعِتْقَ
في أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ هو الذي أَجْمَلَ الْعِتْقَ فَكَانَ الْبَيَانُ إلَيْهِ
فإيهما اخْتَارَ عَتَقَ وَلَزِمَتْهُ الْأَلْفُ فَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ
يَعْتِقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ وَيَسْعَى في نِصْفِ
قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ قبل الْبَيَانِ وقد شَاعَ عِتْقُ رَقَبَةٍ
فِيهِمَا فَيُقْسَمُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ
وَلَوْ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبِلَا ثُمَّ قال أَحَدُكُمَا
حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَاللَّفْظُ
الثَّانِي لَغْوٌ لِأَنَّهُمَا لَمَّا قَبِلَا الْعِتْقَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ
فَقَدْ نَزَلَ الْعِتْقُ في أَحَدِهِمَا لِوُجُودِ شَرْطِ النُّزُولِ وهو
قَبُولُهُمَا فَالْإِيجَابُ الثَّانِي يَقَعُ جَمْعًا بين حُرٍّ وَعَبْدٍ فَلَا
يَصِحُّ وَلَوْ لم يَقْبَلَا ثُمَّ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ عَتَقَ
أَحَدُهُمَا بِاللَّفْظِ الثَّانِي بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُمَا لَمَّا لم
يَقْبَلَا لم يَنْزِلْ الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فَصَحَّ الْإِيجَابُ
الثَّانِي وهو تَنْجِيزُ الْعِتْقِ على أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ فَيُقَالُ
لِلْمَوْلَى اصْرِفْ اللَّفْظَ الثَّانِيَ إلَى أَحَدِهِمَا فإذا صَرَفَهُ إلَى
أَحَدِهِمَا عَتَقَ ذلك بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ التَّنْجِيزَ حَصَلَ بِغَيْرِ
بَدَلٍ
وَأَمَّا الْآخَرُ فَإِنْ قَبِلَ الْبَدَلَ في الْمَجْلِسِ يَعْتِقُ وَإِلَّا
فَلَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ وَقَعَ صَحِيحًا لِحُصُولِهِ بين عَبْدَيْنِ
وَتَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وقد وُجِدَ فيه ضَرْبُ إشْكَالٍ وهو
أَنَّ شَرْطَ وُجُوبِ الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا هو قَبُولُهُمَا ولم يُوجَدْ
هَهُنَا إلَّا قَبُولُ أَحَدِهِمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ الْعَبْدُ
الْآخَرُ
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْإِيجَابَ أُضِيفَ إلَى أَحَدِهِمَا أَلَا ترى ( ( ( يرى ) )
) أَنَّهُ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ وقد وُجِدَ الْقَبُولُ من أَحَدِهِمَا هَهُنَا
إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يُنْجِزْ عِتْقَ أَحَدِهِمَا يَتَوَقَّفُ عِتْقُ
أَحَدِهِمَا على قَبُولِهِمَا جميعا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْآخَرَ
فإذا عَيَّنَهُ في التَّخْيِيرِ عُلِمَ أَنَّهُ ما أَرَادَهُ بِالْإِيجَابِ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ من الْمُعْتَقِ لَا يُتَصَوَّرُ فَتَعَيَّنَ
الْآخَرُ لِلْقَبُولِ وقد قيل ( ( ( قبل ) ) ) فَيَعْتِقُ وَلَوْ قَبِلَا جميعا
قبل الْبَيَانِ عَتَقَا لِأَنَّ الْعِتْقَ لم يَنْزِلْ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِشَرْطِ الْقَبُولِ فَلَا يَنْزِلُ قبل وُجُودِ
الشَّرْطِ فَيَصِحُّ الْإِيجَابُ الثَّانِي فإذا قَبِلَا جميعا فَقَدْ تَيَقَّنَا
بِعِتْقِهِمَا لِأَنَّ أَيَّهُمَا أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ عَتَقَ
بِالْقَبُولِ وَأَيَّهُمَا أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي عَتَقَ من غَيْرِ
قَبُولٍ لِأَنَّهُ إيجَابٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ عِتْقُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُتَيَقَّنًا بِهِ لَكِنَّ عِتْقَ أَحَدِهِمَا بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَعِتْقَ
الْآخَرِ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي فَيُعْتَقَانِ وَلَا يقضي عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ
لِأَنَّ أَحَدَهُمَا وَإِنْ عَتَقَ بِالْإِيجَابِ يبدل ( ( ( ببدل ) ) ) إلَّا
أَنَّهُ مَجْهُولٌ وَالْقَضَاءُ بِإِيجَابِ الْمَالِ على الْمَجْهُولِ مُتَعَذَّرٌ
كَرَجُلَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ لك على أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُمَا بهذا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ لِكَوْنِ الْمَقْضِيِّ عليه مَجْهُولًا
كَذَا هذا
وَلَوْ لم يَقْبَلَا جميعا وَلَكِنْ قيل ( ( ( قبل ) ) ) أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ
إلَّا أَحَدُهُمَا لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِ أَحَدِهِمَا وهو قَبُولُ أَحَدِهِمَا
في هذه الصُّورَةِ لِمَا بَيَّنَّا من الْفِقْهِ ثُمَّ إنْ صَرَفَ الْمَوْلَى
اللَّفْظَ الثَّانِيَ إلَى غَيْرِ الْقَابِلِ عَتَقَ غَيْرُ الْقَابِلِ بِغَيْرِ
شَيْءٍ وَعَتَقَ الْقَابِلُ بِأَلْفٍ وَإِنْ صَرَفَ اللَّفْظَ الثَّانِيَ إلَى
الْقَابِلِ عَتَقَ الْقَابِلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَعَتَقَ غَيْرُ الْقَابِلِ
بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ بِأَلْفٍ إنْ قَبِلَ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْقَابِلَ
مِنْهُمَا يَعْتِقُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وأنه إيجَابٌ بِبَدَلٍ فَيَعْتِقُ
بِبَدَلٍ وَغَيْرُ الْقَابِلِ يَعْتِقُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي وَإِنَّهُ إيجَابٌ
بِغَيْرِ بَدَلٍ فَيَعْتِقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ
وَلَوْ قال لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ ثُمَّ قال أَحَدُكُمَا
حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْكَلَامُ الثَّانِي لَغْوٌ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا
عَتَقَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ تَنْجِيزِ الْعِتْقِ في احدهما
فَالثَّانِي يَقَعُ جَمْعًا بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَيَبْطُلُ
وَلَوْ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبْلَ أَنْ يَقْبَلَا قال
أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْعِتْقَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ بِأَنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
وَقَبِلَ الْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ أو قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالَيْنِ ولم
يَقْبَلْ الْآخَرُ أو قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالَيْنِ وَقَبِلَ الْآخَرُ
بِمَالٍ وَاحِدٍ لَا يُعْتَقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ
يَجْمَعَ الْمَالَيْنِ على أَحَدِهِمَا فَيَقُولَ عَنَيْتُك بِالْمَالَيْنِ أو يَقُولَ
عَنَيْت غَيْرَك فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ مع الشَّكِّ فَإِنْ قَبِلَا جميعا
بِالْمَالَيْنِ بِأَنْ قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ أو
قَالَا جميعا قد قَبِلْنَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فَيُقَالُ له إمَّا أَنْ تَصْرِفَ
اللَّفْظَيْنِ جميعا إلَى أَحَدِهِمَا فَتَجْمَعَ الْمَالَيْنِ عليه فَيَعْتِقُ
بِالْمَالَيْنِ وَيَبْقَى الْآخَرُ رَقِيقًا وَإِمَّا أَنْ تَصْرِفَ أَحَدَ
اللَّفْظَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرَ إلَى صَاحِبِهِ فَيَعْتِقُ أَحَدُهُمَا
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةِ دِينَارٍ لِأَنَّ الْإِيجَابَيْنِ وَقَعَا
صَحِيحَيْنِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فيه وَلِأَنَّهُ أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ
وَكَذَا الثَّانِي لِأَنَّ الْإِيجَابَ الْأَوَّلَ لم يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبُولُ
وَالْعِتْقُ مُعَلَّقٌ بِالْقَبُولِ فَالْإِيجَابُ الثَّانِي حَصَلَ مُضَافًا إلَى
أَحَدِ عَبْدَيْنِ فَيَصِحُّ وَمَتَى صَحَّ الْإِيجَابُ الثَّانِي فَيُحْتَمَلُ
أَنَّهُ عَنَى بِهِ من عَنَاهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ
عَنَى بِهِ الْعَبْدَ الْآخَرَ لِذَلِكَ
____________________
(4/78)
خُيِّرَ
الْمَوْلَى فَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ عَتَقَ من كل وَاحِدٍ ثَلَاثَةُ
أَرْبَاعِهِ بِنِصْفِ الْمَالَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ لِأَنَّهُ
أَرَادَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي غير من أَرَادَهُ بِالْأَوَّلِ فَكَانَ
الثَّابِتُ بِالْكَلَامَيْنِ عِتْقَيْنِ بِكُلِّ كَلَامٍ عِتْقٌ وَإِنْ أَرَادَ
بِالثَّانِي عَيْنَ من أَرَادَهُ بِالْأَوَّلِ كان الثَّابِتُ بِالْكَلَامَيْنِ
عِتْقَ وَاحِدٍ فإذا عَتَقَ وَاحِدٌ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وَالْعِتْقُ الْآخَرُ
يَثْبُتُ في حَالٍ وَلَا يَثْبُتُ في حَالٍ فَيُنَصَّفُ فَثَبَتَ عِتْقٌ وَنِصْفُ
عِتْقٍ بِالْمَالَيْنِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِكَمَالِ الْعِتْقِ بِأَوْلَى من
الْآخَرِ فَيَنْقَسِمُ عِتْقٌ وَنِصْفُ عِتْقٍ بَيْنَهُمَا فَيُصِيبُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِتْقِ بِنِصْفِ الْمَالَيْنِ وَيَسْعَى
في رُبُعِ قِيمَتِهِ
وَلَوْ قال لِعَبْدٍ له بِعَيْنِهِ أنت حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَبْلَ أَنْ
يَقْبَلَ جَمَعَ بين عَبْدٍ له آخَرَ وَبَيْنَهُ فقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِمِائَةِ
دِينَارٍ فَقَالَا قَبِلْنَا يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ
اللَّفْظَيْنِ إلَى الْمُعَيَّنِ وَعَتَقَ بِالْمَالَيْنِ جميعا وَإِنْ شَاءَ
صَرَفَ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرَ إلَى الْآخَرِ وَعَتَقَ
الْمُعَيَّنُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ بِمِائَةِ دِينَارٍ لِأَنَّ
الْإِيجَابَيْنِ صَحِيحَانِ لِمَا قُلْنَا فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ
بِالثَّانِي الْمُعَيَّنَ أَيْضًا وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غير
الْمُعَيَّنِ فَيُقَالُ له بَيِّنِ فَأَيُّهُمَا بَيَّنَ فَالْحُكْمُ لِلْبَيَانِ
فَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ عَتَقَ الْمُعَيَّنُ كُلُّهُ لِأَنَّهُ دخل تَحْتَ الْإِيجَابَيْنِ
جميعا
أَمَّا الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ خَصَّهُ بِهِ فَلَا
يُشَارِكُهُ فيه غَيْرُهُ
وَأَمَّا الْإِيجَابُ الثَّانِي فَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا يَقَعُ على كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فإذا قَبِلَ الْإِيجَابَيْنِ وُجِدَ شَرْطُ عِتْقِهِ فَيَعْتِقُ
فَيَلْزَمُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَخَمْسُونَ دِينَارًا أَمَّا الْأَلْفُ فَلِأَنَّهُ
لَا مُشَارَكَةَ لِلثَّانِي فِيهِمَا وَأَمَّا نِصْفُ الْمِائَةِ الدِّينَارِ
فَلِأَنَّهُ في حَالٍ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِينَارٍ وَهِيَ ما عَنَاهُ بِاللَّفْظَيْنِ
وفي حَالٍ لَا يَلْزَمُهُ منها شَيْءٌ وَهِيَ ما إذَا عَنَى بِاللَّفْظِ الثَّانِي
غَيْرَهُ فَيَتَنَصَّفُ ذلك فَيَلْزَمُهُ خَمْسُونَ دِينَارًا
وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَيَّنِ فإنه يُعْتَقُ نِصْفُهُ بِنِصْفِ الْمِائَةِ
لِأَنَّهُ يُعْتَقُ في حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ في حَالٍ لِأَنَّهُ إنْ عَنَاهُ
بِالْإِيجَابِ الثَّانِي يُعْتَقُ كُلُّهُ بِكُلِّ الْمِائَةِ وَإِنْ لم يَعْنِهِ
لَا يَعْتِقُ شَيْءٌ منه وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَيَعْتِقُ في حَالٍ ولم
يَعْتِقْ في حَالٍ فتغير ( ( ( فتعبر ) ) ) الْأَحْوَالُ وَيَعْتِقُ نِصْفُهُ
بِنِصْفِ الْمِائَةِ وهو خَمْسُونَ
هذا إذَا عُرِفَ الْمُعَيَّنُ من غَيْرِ الْمُعَيَّنِ فَإِنْ لم يُعْرَفْ وقال
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أنا الْمُعَيَّنُ يَعْتِقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ بِنِصْفِ الْمَالَيْنِ وهو نِصْفُ الْأَلْفِ وَنِصْفُ
الْمِائَةِ الدِّينَارِ لِاسْتِوَائِهِمَا في ذلك وَالثَّابِتُ عِتْقٌ وَنِصْفُ
عِتْقٍ فَيُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعِتْقِ
وَيَسْعَى في رُبُعِ قِيمَتِهِ
وَلَوْ قال لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرُ على
خَمْسِمِائَةٍ فَإِنْ قَالَا جميعا قَبِلْنَا أو قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
قَبِلْتُ بِالْمَالَيْنِ أو قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبِلْتُ بِأَكْثَرِ
الْمَالَيْنِ عَتَقَا جميعا فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسُمِائَةٍ
أَمَّا عِتْقُهُمَا فَلِأَنَّ الْإِيجَابَيْنِ خَرَجَا على الصِّحَّةِ بِخُرُوجِ
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بين عَبْدَيْنِ وَالْمُرَادُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي
هَهُنَا غَيْرُ الْمُرَادِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فإذا قَبِلَا فَقَدْ وُجِدَ
شَرْطٌ نزول ( ( ( بزوال ) ) ) الْعِتْقِ فِيهِمَا جميعا وَانْقَطَعَ خِيَارُ
الْمَوْلَى هَهُنَا فَيُعْتَقَانِ جميعا وَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا عَتَقَ بِأَلْفٍ وَالْآخَرَ بِخَمْسِمِائَةٍ
لَكِنَّا لَا نَدْرِي الذي عليه الْأَلْفُ وَاَلَّذِي عليه خَمْسُمِائَةٍ إلَّا
أَنَّا تَيَقَّنَّا بِوُجُوبِ خَمْسِمِائَةٍ على كُلٍّ واحد مِنْهُمَا وفي
الْفَصْلِ الثَّانِي شَكٌّ فَيَجِبُ الْمُتَيَقَّنُ وَلَا يَجِبُ الْمَشْكُوكُ فيه
كَاثْنَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ لَك على أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَى الْآخَرِ
خَمْسُمِائَةٍ لَا يُطَالِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِخَمْسِمِائَةٍ لِمَا
قُلْنَا فَكَذَا هذا
وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ وَالْآخَرُ بِأَكْثَرِ
الْمَالَيْنِ عَتَقَ الذي قَبِلَ الْعِتْقَ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ لِأَنَّهُ لَا
يَخْلُو إمَّا أن عَنَاهُ الْمَوْلَى بِالْإِيجَابِ بِالْأَقَلِّ أو بِالْإِيجَابِ
بِالْأَكْثَرِ فَتَيَقَّنَّا بِعِتْقِهِ ثُمَّ في الْأَكْثَرِ قَدْرُ الْأَقَلِّ
وَزِيَادَةٌ فَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ كَأَنَّهُ قال قَبِلْتُ بِالْمَالَيْنِ
فَيَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ وهو خَمْسُمِائَةٍ وَيَصِيرُ بَعْدَ الْعِتْقِ كَأَنَّهُ
قال لك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أو خَمْسُمِائَةٍ وَلَوْ قال ذلك لَزِمَهُ
الْأَقَلُّ كَذَا هَهُنَا
وَلَوْ قَبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَقَلِّ الْمَالَيْنِ لَا يُعْتَقَانِ
لِأَنَّ حُجَّةَ الْمَوْلَى لم تَنْقَطِعْ لِأَنَّ له أَنْ يَقُولَ لم أَعْتِقْكَ
بهذا الْمَالِ بِخِلَافِ ما إذَا قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ
لِأَنَّ الْأَقَلَّ دَاخِلٌ في الْأَكْثَرِ
وَلَوْ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ فَإِنْ قبل ( ( (
قبلا ) ) ) بِأَنْ قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ أو قَالَا
قَبِلْنَا عَتَقَا لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهِمَا وَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَلْفٌ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرَ بِأَلْفَيْنِ
فَتَيَقَّنَّا بِوُجُوبِ الْأَلْفِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَرَجُلَيْنِ قَالَا
لِرَجُلٍ لَك على أَحَدِنَا أَلْفٌ وَعَلَى الْآخَرِ أَلْفَانِ يَلْزَمُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِكَوْنِ الْأَلْفِ تَيَقَّنَّا بها كَذَا هذا
وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْمَالَيْنِ جميعا بِأَنْ قال قَبِلْت بِالْمَالَيْنِ
أو قال قَبِلْت أو قَبِلَ بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ بِأَنْ قال قَبِلْت
بِالْمَالَيْنِ أو قال قَبِلْت بِأَلْفَيْنِ يَعْتِقُ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ
وهو الْقَبُولُ
____________________
(4/79)
أَمَّا
إذَا قَبِلَ بِالْمَالَيْنِ أو قال قَبِلْت فَلَا شَكَّ فيه وَكَذَا إذَا قَبِلَ
بِأَكْثَرِ الْمَالَيْنِ لِوُجُودِ الْقَبُولِ الْمَشْرُوطِ بِيَقِينٍ فَيَعْتِقُ
وَقِيلَ هذا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتِقَ وهو الْقِيَاسُ على مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ
بِالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَعْتِقُ بِلَا خِلَافٍ وإذا
عَتَقَ لَا يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ دِرْهَمٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ
وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَالْآخَرُ أَكْثَرُ وَالْجِنْسُ مُتَّحِدٌ فَيَتَعَيَّنُ
بِالْأَقَلِّ لِلْوُجُوبِ وَلَا يُخَيَّرُ الْعَبْدُ هَهُنَا لِأَنَّ التَّخْيِيرَ
بين الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ غَيْرُ مُفِيدٍ
لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا
الْأَلْفَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَصْرِفَ الْعِتْقَ إلَى الْآخَرِ
كما إذَا قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا
وَلَوْ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفٍ أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِمِائَةِ دِينَارٍ
فَإِنْ قَبِلَا عَتَقَا لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا
لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عليه مَجْهُولٌ إذْ لَا يدري الذي عليه الْأَلْفُ مِنْهُمَا
وَاَلَّذِي عليه الْمِائَةُ الدِّينَارُ كَاثْنَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ لك على
أَحَدِنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَى الْآخَرِ مِائَةُ دِينَارٍ أَنَّهُ لَا
يَلْزَمُ أَحَدَهُمَا شَيْءٌ كَذَا هذا وَكَذَا هذا في الطَّلَاقِ بِأَنْ قال
لِامْرَأَتَيْهِ إحْدَاكُمَا طَالِقٌ بِأَلْفٍ وَالْأُخْرَى بِمِائَةِ دِينَارٍ
فَقَبِلَتَا جميعا طَلُقَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا طَلْقَةً بَائِنَةً وَلَا
يَلْزَمُهُمَا شَيْءٌ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو بِمِائَةِ دِينَارٍ أو
قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْعِتْقَ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ وَالْآخَرُ بِالْمَالِ
الْآخَرِ لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ لم
أَعْنِكَ بهذا الْمَالِ الذي قَبِلْت
وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالَيْنِ عَتَقَ وَيَلْزَمُهُ أَيُّ الْمَالَيْنِ
اخْتَارَهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَحَدُهُمَا وَهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ
فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا فَيُخَيَّرُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنْ
قَبِلَ الْآخَرُ في الْمَجْلِسِ عَتَقَا وَسَقَطَ الْمَالُ عن الْقَابِلِ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عليه مَجْهُولٌ هذا إذَا كان قبل قَبِلَ الْبَيَانَ من
الْأَوَّلِ فَإِنْ قَبِلَ بَعْدَ الْبَيَانِ عَتَقَ الثَّانِي بِغَيْرِ شَيْءٍ
وَعَتَقَ الْأَوَّلُ بِالْمَالَيْنِ لِأَنَّ بَيَانَهُ في حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ
وفي حَقِّ الْآخَرِ لم يَصِحَّ
وَلَوْ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ حُرٌّ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَإِنْ
قَبِلَا جميعا عَتَقَا لِوُجُودِ شَرْطِ عِتْقِهِمَا وهو قَبُولُهُمَا وَلَا
شَيْءَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الذي عليه الْبَدَلُ مَجْهُولٌ وَلَا يُمْكِنُ
الْقَضَاءُ على الْمَجْهُولِ كَرَجُلَيْنِ قَالَا لِرَجُلٍ لَك على أَحَدِنَا
أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلَا شَيْءَ على الْآخَرِ لَا يَجِبُ على أَحَدِهِمَا شَيْءٌ
لِجَهَالَةِ من عليه الْوَاجِبُ كَذَا هَهُنَا وَإِنْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ
ولم يَقْبَلْ الْآخَرُ يُقَالُ لِلْمَوْلَى اصْرِفْ اللَّفْظَ الذي هو إعْتَاقٌ
بِغَيْرِ بَدَلٍ إلَى أَحَدِهِمَا فَإِنْ صَرَفَهُ إلَى غَيْرِ الْقَابِلِ عَتَقَ
غَيْرُ الْقَابِلِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَعَتَقَ الْقَابِلُ بِأَلْفٍ وَإِنْ صَرَفَهُ
إلَى الْقَابِلِ عَتَقَ الْقَابِلُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَعْتِقُ الْآخَرُ
بِالْإِيجَابِ الذي هو يُبَدَّلُ إذَا قَبِلَ في الْمَجْلِسِ وَكَذَا لو لم
يَقْبَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حتى صُرِفَ الْإِيجَابُ الذي هو بِغَيْرِ بَدَلٍ إلَى
أَحَدِهِمَا يَعْتِقُ هو وَيَعْتِقُ الْآخَرُ إنْ قَبِلَ الْبَدَلَ في الْمَجْلِسِ
وَإِلَّا فَلَا
وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل الْبَيَانِ عَتَقَ الْقَابِلُ كُلُّهُ وَعَلَيْهِ
خَمْسُمِائَةٍ وَعَتَقَ نِصْفُ الذي لم يَقْبَلْ وَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ
أَمَّا عِتْقُ الْقَابِلِ كُلِّهِ فَلِأَنَّ عِتْقَهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ لِأَنَّهُ
إنْ أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ عَتَقَ وَإِنْ أُرِيدَ بِالْإِيجَابِ
الثَّانِي عَتَقَ فَكَانَ عِتْقُهُ مُتَيَقَّنًا بِهِ وَأَمَّا لُزُومُ
خَمْسِمِائَةٍ لِأَنَّهُ إنْ أُعْتِقَ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ يُعْتَقُ بِأَلْفٍ
وَإِنْ أُعْتِقَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي يُعْتَقُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَيُنَصَّفُ
الْأَلْفُ فَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ
وَأَمَّا عِتْقُ النِّصْفِ من غَيْرِ الْقَابِلِ فَلِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ
بِاللَّفْظِ الْأَوَّلُ لَا يَعْتِقُ وَإِنْ أُرِيدَ بِاللَّفْظِ الثَّانِي
يَعْتِقُ فَيَعْتِقُ في حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ عِتْقُهُ فَيَعْتِقُ
نِصْفُهُ وَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ
هذا إذَا كان الْإِعْتَاقُ تَنْجِيزًا أو تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ فَأَمَّا إذَا كان
أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا أن أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ
وَإِمَّا أن أَضَافَهُ إلَى وَقْتَيْنِ فَإِنْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ وَاحِدٍ
فَإِمَّا أن أَضَافَهُ إلَى مُطْلَقِ الْوَقْتِ وَإِمَّا أن أَضَافَهُ إلَى وَقْتٍ
مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ وفي الْوُجُوهِ كُلِّهَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمِلْكِ وَقْتَ
الْإِضَافَةِ لِأَنَّ إضَافَةَ الْإِعْتَاقِ إلَى وَقْتِ إثْبَاتِ الْعِتْقِ في
ذلك الْوَقْتِ لَا مَحَالَةَ وَلَا ثُبُوتَ لِلْعِتْقِ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا
يُوجَدُ الْمِلْكُ في ذلك الْوَقْتِ إلَّا إذَا كان مَوْجُودًا وَقْتَ
الْإِضَافَةِ لِأَنَّهُ إنْ كان مَوْجُودًا وَقْتَ الْإِضَافَةِ فَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ يَبْقَى إلَى الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ فَيَثْبُتُ الْعِتْقُ وإذا لم
يَكُنْ مَوْجُودًا كان الظَّاهِرُ بَقَاءَهُ على الْعَدَمِ فَلَا يَثْبُتُ
الْعِتْقُ في الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ خِلَافَ
تَصَرُّفِهِ
وَالْأَصْلُ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ على الْوَجْهِ الذي أَوْقَعَهُ
أَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ مُطْلَقٍ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ أنت
حُرٌّ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فَيَعْتِقُ إذَا جاء غَدٌ أو رَأْسُ الشَّهْرِ
لِأَنَّهُ جَعَلَ الْغَدَ أو رَأْسَ الشَّهْرِ ظَرْفًا لِلْعِتْقِ فَلَا بُدَّ من
وُقُوعِ الْعِتْقِ عِنْدَهُ لِيَكُونَ ظَرْفًا له وَلَيْسَ هذا تَعْلِيقًا
بِشَرْطٍ لِانْعِدَامِ أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ وَهِيَ كَلِمَاتُ الشَّرْطِ
وَلِهَذَا لو حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فقال
____________________
(4/80)
هذه
الْمَقَالَةَ لَا يَحْنَثُ بِخِلَافِ ما إذا قال أنت حُرٌّ إذَا جاء غَدٌ لِأَنَّ
ذلك تَعْلِيقٌ بِشَرْطٍ لِوُجُودِ كَلِمَةِ التَّعْلِيقِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ وَالشَّرْطُ ما في وُجُودِهِ
خَطَرٌ وَمَجِيءُ الْغَدِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ قِيلَ له من مَشَايِخِنَا من قال
إنَّ الْغَدَ في مَجِيئِهِ خَطَرٌ لِاحْتِمَالِ قِيَامِ السَّاعَةِ في كل سَاعَةٍ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وما أَمْرُ السَّاعَةِ إلَّا كَلَمْحِ
الْبَصَرِ أو هو أَقْرَبُ } فَيَصْلُحُ مَجِيءُ الْغَدِ شَرْطًا لَكِنْ هذا
الْجَوَابُ ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ
أَشْرَاطِهَا من خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَدَابَّةِ الْأَرْضِ وَخُرُوجِ
الدَّجَّالِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ من مَغْرِبِهَا وَنَحْوِ ذلك مِمَّا دَلَّ عليه
الْكِتَابُ وَوَرَدَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ أن مَجِيءَ الْغَدِ وَإِنْ كان مُتَيَقَّنَ
الْوُجُودِ يُمْكِنُ كَوْنُهُ شَرْطًا لِوُقُوعِ الْعِتْقِ وَلَيْسَ بِمُتَيَقَّنِ
الْوُجُودِ بَلْ له خَطَرُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ مَوْتِ الْعَبْدِ
قبل مَجِيءِ الْغَدِ أو مَوْتِ الْمَوْلَى أو مَوْتِهِمَا وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ
شَرْطًا لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الْجَزَاءِ على أَنَّ الشَّرْطَ اسْمٌ لِمَا جُعِلَ
عِلْمًا لِنُزُولِ الْجَزَاءِ سَوَاءٌ كان مَوْهُومَ الْوُجُودِ أو مُتَيَقَّنَ
الْوُجُودِ
وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ مَوْصُوفٍ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ لِعَبْدِهِ
أنت حُرٌّ قبل دُخُولِكَ الدَّارَ بِشَهْرٍ أو قبل قُدُومِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ أو
قبل مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ قبل وُجُودِ
الْوَقْتِ الْمَوْصُوفِ حتى لو وُجِدَ شَيْءٌ من هذه الْحَوَادِثِ قبل تَمَامِ
الشَّهْرِ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْوَقْتِ الْمَوْصُوفِ
فَلَا يَثْبُتُ قَبْلَهُ وَيُشْتَرَطُ تَمَامُ الشَّهْرِ وَقْتَ التَّكَلُّمِ
وَإِنْ كان الْعَبْدُ في مِلْكِهِ قبل ذلك بِشُهُورٍ بَلْ بِسِنِينَ لِأَنَّ
إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى وَقْتِ إيجَابِ الْعِتْقِ فيه غَيْرُ إيجَابِ الْعِتْقِ
في الزَّمَانِ الْمَاضِي وَإِيجَابُ الْعِتْقِ في الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا
يُتَصَوَّرُ فَلَا يُحْمَلُ كَلَامُ الْعَاقِلِ عليه وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعِتْقَ
ثَبَتَ عِنْدَ وُجُودِ هذه الْحَوَادِثِ لِتَمَامِ الشَّهْرِ
وَاخْتُلِفَ في كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِهِ فقال زُفَرُ يَثْبُتُ من أَوَّلِ الشَّهْرِ
بِطَرِيقِ الظُّهُورِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَثْبُتُ مُقْتَصِرًا على
حَالِ وُجُودِ الْحَوَادِثِ وأبو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بين الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ
وَبَيْنَ الْمَوْتِ فقال في الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ كما قَالَا وفي الْمَوْتِ كما
قال زُفَرُ حتى لو كان الْمَمْلُوكُ أَمَةً فَوَلَدَتْ في وَسَطِ الشَّهْرِ
يَعْتِقُ الْوَلَدُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَعْتِقُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَوْقَعَ الْعِتْقَ في وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ
مُتَقَدِّمًا على هذه الْحَوَادِثِ بِشَهْرٍ فإذا وُجِدَتْ بَعْدَ شَهْرٍ
مُتَّصِلَةً بِهِ عُلِمَ أَنَّ الشَّهْرَ من أَوَّلِهِ فإن مَوْصُوفًا
بِالتَّقَدُّمِ عليها لَا مَحَالَةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ كان وَاقِعًا في
أَوَّلِ الشَّهْرِ كما إذَا قال أنت حُرٌّ قبل رَمَضَانَ بِشَهْرٍ وَلَا فَرْقَ
سِوَى أَنَّ هُنَاكَ يَحْكُمُ بِالْعِتْقِ من أَوَّلِ هِلَالِ شَعْبَانَ وَلَا
يَتَوَقَّفُ على مَجِيءِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَهَهُنَا لَا يَحْكُمُ بِالْعِتْقِ من
أَوَّلِ الشَّهْرِ لِأَنَّ ثَمَّةَ رَمَضَانُ يَتَّصِلُ بِشَعْبَانَ لَا مَحَالَةَ
وَهَهُنَا وُجُودُ هذه الْحَوَادِثِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَتَّصِلَ بهذا الشَّهْرِ
وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَّصِلَ لِجَوَازِ أنها لَا تُوجَدُ أَصْلًا فَأَمَّا في
ثُبُوتِ الْعِتْقِ في الْمَسْأَلَتَيْنِ من ابْتِدَاءِ الشَّهْرِ فَلَا
يَخْتَلِفَانِ وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِطَرِيقِ
الظُّهُورِ في الْمَوْتِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا في الْحَقِيقَةِ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِهَذِهِ
الْحَوَادِثِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ الْعِتْقَ في شَهْرٍ مُتَّصِفٍ بِالتَّقَدُّمِ
على هذه الْحَوَادِثِ وَلَا يَتَّصِفُ بِالتَّقَدُّمِ عليها إلَّا بِاتِّصَالِهَا
بِهِ وَلَا تَتَّصِلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا فَكَانَ ثُبُوتُ الْعِتْقِ على
هذا التَّدْرِيجِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ هذه الْحَوَادِثِ فَيُقْتَصَرُ على حَالِ
وُجُودِهَا وَلِهَذَا قال أبو حَنِيفَةَ هَكَذَا في الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ كَذَا
في الْمَوْتِ بِخِلَافِ شَعْبَانَ لِأَنَّ إتصاف شَعْبَانَ بِكَوْنِهِ
مُتَقَدِّمًا على رَمَضَانَ لَا يَقِفُ على مَجِيءِ رَمَضَانَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ بين الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ وَبَيْنَ
الْمَوْتِ أَنَّ في مَسْأَلَةِ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ بَعْدَ ما مَضَى شَهْرٌ من
وَقْتِ التَّكَلُّمِ يَبْقَى الشَّهْرُ الذي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ هو
مَوْهُومُ الْوُجُودِ قد يُوجَدُ وقد لَا يُوجَدُ لِأَنَّ قُدُومَ فُلَانٍ
مَوْهُومُ الْوُجُودِ قد يُوجَدُ وقد لَا يُوجَدُ فَإِنْ وُجِدَ يُوجَدُ هذا
الشَّهْرُ وَإِلَّا فَلَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا الشَّهْرَ لَا وُجُودَ له
بِدُونِ الإنصاف ( ( ( الاتصاف ) ) ) وَلَا اتِّصَافَ بِدُونِ الِاتِّصَالِ وَلَا
اتِّصَالَ بِدُونِ الْقُدُومِ إذْ الِاتِّصَالُ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ بين
مَوْجُودَيْنِ لَا بين مَوْجُودٍ وَمَعْدُومٍ فَصَارَ الْعِتْقُ وَإِنْ كان
مُضَافًا إلَى الشَّهْرِ مُتَعَلِّقًا بِوُجُودِ الْقُدُومِ فَكَانَ هذا
تَعْلِيقًا ضَرُورَةً فَيُقْتَصَرُ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ على حَالِ
وُجُودِ الشَّرْطِ كما في سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ فَأَمَّا في مَسْأَلَةِ
الْمَوْتِ فَبَعْدَ ما مَضَى شَهْرٌ من زَمَنِ الْكَلَامِ لم يَبْقَ ذَاتُ
الشَّهْرِ الذي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْهُومَ الْوُجُودِ بَلْ هو كَائِنٌ
لَا مَحَالَةَ لِأَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ فَصَارَ هذا الشَّهْرُ
مُتَحَقِّقَ الْوُجُودِ بِلَا شَكٍّ بِخِلَافِ الشَّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ على
الدُّخُولِ وَالْقُدُومِ غير أَنَّهُ مَجْهُولُ الذَّاتِ فَلَا يُحْكَمُ
بِالْعِتْقِ قبل وُجُودِ الْمَوْتِ وإذا وُجِدَ فَقَدْ وُجِدَ الْمُعَرِّفُ
لِلشَّهْرِ بِخِلَافِ الشَّهْرِ
____________________
(4/81)
الْمُتَقَدِّمِ
على شَهْرِ رَمَضَانَ فإنه مَعْلُومُ الذَّاتِ لِأَنَّهُ كما وُجِدَ شَعْبَانُ
عُلِمَ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِالتَّقَدُّمِ على رَمَضَانَ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
وَبِخِلَافِ الْقُدُومِ وَالدُّخُولِ فإن بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ من وَقْتِ
الْكَلَامِ بَقِيَ ذَاتُ الشَّهْرِ الذي أُضِيفَ إلَيْهِ الْعِتْقُ مَوْهُومَ
الْوُجُودِ فلم يَكُنِ الْقُدُومُ مُعَرِّفًا لِلشَّهْرِ بَلْ كان مُحَصِّلًا
لِلشَّهْرِ الْمَوْصُوفِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِحَيْثُ لَوْلَا وُجُودُهُ لَمَا
وُجِدَ هذا الشَّهْرُ أَلْبَتَّةَ فَكَانَ الْمَوْتُ مُظْهِرًا مُعَيِّنًا
لِلشَّهْرِ فَيَظْهَرُ من الْأَصْلِ من حِينِ وُجُودِهِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في كَيْفِيَّةِ الظُّهُورِ على مَذْهَبِ أبي
حَنِيفَةَ
قال بَعْضُهُمْ هو ظُهُورٌ مَحْضٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ كان وَاقِعًا من
أَوَّلِ الشَّهْرِ من غَيْرِ اعْتِبَارِ حَالَةِ الْمَوْتِ وهو أَنْ يُعْتَبَرَ
الْوُقُوعُ أولا ثُمَّ يَسْرِي إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ
اعْتِبَارُ التَّصَرُّفِ على الْوَجْهِ الذي أَثْبَتَهُ الْمُتَصَرِّفُ
وَالْمُتَصَرِّفُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى أَوَّلَ الشَّهْرِ الْمُتَقَدِّمِ على
الْمَوْتِ فَيَقَعُ في أَوَّلِ الشَّهْرِ لَا في آخِرِهِ فَكَانَ وَقْتُ وُقُوعِ
الطَّلَاقِ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْعِتْقَ وَقَعَ من ذلك الْوَقْتِ
كما إذَا قال إنْ كان فُلَانٌ في الدَّارِ فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَمَضَتْ مُدَّةٌ
ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كان في الدَّارِ يوم التَّكَلُّمِ يَقَعُ الْعِتْقُ من
وَقْتِ التَّكَلُّمِ لَا من وَقْتِ الظُّهُورِ
وَهَؤُلَاءِ قالوا لو كان مَكَانُ الْعَتَاقِ طَلَاقَ ثَلَاثٍ فَالْعِدَّةُ
تُعْتَبَرُ من أَوَّلِ الشَّهْرِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ حتى لو حَاضَتْ في
الشَّهْرِ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ كانت الْحَيْضَتَانِ مَحْسُوبَتَيْنِ
من الْعِدَّةِ وَلَوْ كان قال أَنْتِ طَالِقٌ قبل مَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرَيْنِ أو
ثَلَاثَةٍ أَشْهُرٍ ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ لِتَمَامِ الْمُدَّةِ أو كانت الْمَرْأَةُ
رَأَتْ ثَلَاثَةَ حِيَضٍ في الْمُدَّةِ تَبَيَّنَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ
الطَّلَاقَ كان وَاقِعًا وَأَنَّ الْعِدَّةَ قد انْقَضَتْ كما لو قال إنْ كان
زَيْدٌ في الدَّارِ فَامْرَأَتِي طَالِقٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَمَا حَاضَتْ
الْمَرْأَةُ ثَلَاثَةَ حِيَضٍ أَنَّهُ كان في الدَّارِ يوم التَّكَلُّمِ بِهِ
تَبَيَّنَ أنها قد طَلُقَتْ من ذلك الْوَقْتِ وَأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو قال إنْ كان حَمْلُ فُلَانَةَ غُلَامًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ
غُلَامًا يَقَعُ الطَّلَاقُ على طَرِيقِ التَّبْيِينِ كَذَا هذا
وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ ما قُلْنَا أن رَجُلًا لو قال آخِرُ امْرَأَةٍ
أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَتْ
طَلُقَتْ الثَّانِيَةُ على وَجْهِ التَّبْيِينِ الْمَحْضِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَإِنْ كان لَا يُحْكَمُ بِطَلَاقِهَا ما لم يَمُتْ كَذَا هَهُنَا
وَقَالُوا لو خَالَعَهَا في وَسَطِ الشَّهْرِ ثُمَّ مَاتَ فُلَانٌ لِتَمَامِ
الشَّهْرِ فَالْخُلْعُ بَاطِلٌ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ الْخُلْعِ سَوَاءٌ
كانت عِنْدَ الْمَوْتِ مُعْتَدَّةٌ أو مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ أو كانت مِمَّنْ
لَا عِدَّةَ عليها بِأَنْ كانت غير مَدْخُولٍ بها وَهَؤُلَاءِ طَعَنُوا فِيمَا
ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْكِتَابِ لِتَخْرِيجِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إنْ
مَاتَ فُلَانٌ وَهِيَ في الْعِدَّةِ بحكم ( ( ( يحكم ) ) ) يبطلان ( ( ( ببطلان )
) ) الْخُلْعِ وَيُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدٍّ بَدَلِ الْخُلْعِ وَإِنْ كانت غير
مُعْتَدَّةٍ وَقْتَ مَوْتِ فُلَانٍ بإن كان بَعْدَ الْخُلْعِ قبل مَوْتِ فُلَانٍ
أَسْقَطَتْ سِقْطًا أو كانت غير مَدْخُولٍ بها لَا يَبْطُلُ الْخُلْعُ وَلَا
يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ الْخُلْعِ
وَقَالُوا هذا التَّخْرِيجُ لَا يَسْتَقِيمُ على قول على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّ هذا ظُهُورٌ مَحْضٌ فَتَبَيَّنَ عِنْدَ وُجُودِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ
أَنَّ هذا الشَّهْرَ من ابْتِدَاءِ وُجُودِهِ مَوْصُوفٌ بِالتَّقَدُّمِ
فَتَبَيَّنَ أَنَّ المطلقات ( ( ( الطلقات ) ) ) الثَّلَاثَ كانت وَاقِعَةً من ذلك
الْوَقْتِ سَوَاءٌ كانت مُعْتَدَّةً أو غير مُعْتَدَّةٍ كما لو قال إنْ كان
فُلَانٌ في الدَّارِ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ ثُمَّ خَالَعَهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ كان يوم الْحَلِفِ في الدَّارِ أَنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْخُلْعَ كان
بَاطِلًا على الْإِطْلَاقِ سَوَاءٌ كانت مُعْتَدَّةً أو لم تَكُنْ كَذَا هَهُنَا
وَالْفِقْهُ أَنَّ وَقْتَ الْمَوْتِ إذَا لم يَكُنْ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ لَا
يُعْتَبَرُ فيه قِيَامُ الْمِلْكِ وَالْعِدَّةِ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا
إنَّ الْعِتْقَ أو الطَّلَاقَ يَقَعُ وَقْتَ الْمَوْتِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ إلَى
أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَّا أَنَّهُ يَظْهَرُ أَنَّهُ كان وَاقِعًا من أَوَّلِ
الشَّهْرِ
وَوَجْهُهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ إلَّا بِمُقَدِّمَةٍ وَهِيَ
أَنَّ ما كان الدَّلِيلُ على وُجُودِهِ قَائِمًا يُجْعَلُ مَوْجُودًا في حَقِّ
الْأَحْكَامِ لِأَنَّ إقَامَةَ الدَّلِيلِ مَقَامَ الْمَدْلُولِ أَصْلٌ في
الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْخِطَابَ يَدُورُ مع دَلِيلِ الْقُدْرَةِ وَسَبَبِهَا دُونَ
حَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ وَمَعَ دَلِيلِ الْعِلْمِ وَسَبَبِهِ دُونَ حَقِيقَةِ
الْعِلْمِ حتى لَا يُعْذَرُ الْجَاهِلُ بِاَللَّهِ عز وجل لِقِيَامِ الْآيَاتِ
الدَّالَّةِ على وُجُودِ الصَّانِعِ وَلَا بِالشَّرَائِعِ عِنْدَ إمْكَانِ
الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَتِهَا بِدَلِيلِهَا ثُمَّ الدَّلِيلُ وَإِنْ خَفِيَ
بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَيْهِ يكتفي بِهِ إذَا كان مُمْكِنَ الْحُصُولِ
في الْجُمْلَةِ إذْ الدَّلَائِلُ تَتَفَاوَتُ في نَفْسِهَا في الْجَلَاءِ
وَالْخَفَاءِ وَالْمُسْتَدِلُّونَ أَيْضًا يَتَفَاوَتُونَ في الْغَبَاوَةِ
وَالذَّكَاءِ فَالشَّرْعُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ هذا التَّفَاوُتِ فَكَانَتْ
الْعِبْرَةُ لِأَصْلِ الْإِمْكَانِ في هذا الْبَابِ وَأَمَّا ما كان الدَّلِيلُ في
حَقِّهِ مُنْعَدِمًا فَهُوَ في حَقِّ الْأَحْكَامِ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ الشَّهْرُ الذي يَمُوتُ فُلَانٌ في آخِرِهِ فَإِنْ
اتَّصَفَ بِالتَّقَدُّمِ من وَقْتِ وُجُودِهِ لَكِنْ كان دَلِيلُ اتِّصَافِهِ
مُنْعَدِمًا أَصْلًا فلم يَكُنْ لِهَذَا الِاتِّصَافِ عِدَّةٌ وَيَبْقَى مِلْكُ
النِّكَاحِ إلَى آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الشَّهْرِ فَيُعْلَمُ
____________________
(4/82)
كَوْنُهُ
مُتَقَدِّمًا على مَوْتِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ اتِّصَافِ هذا الْجُزْءِ
بِالتَّقَدُّمِ إنصاف ( ( ( اتصاف ) ) ) جَمِيعِ الْأَجْزَاءِ الْمُتَقَدِّمَةِ
عليه إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ وَلَا يَظْهَرُ أَنَّ دَلِيلَ الِاتِّصَافِ كان
مَوْجُودًا في أَوَّلِ الشَّهْرِ إذْ الدَّلِيلُ هو آخِرُ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ
الشَّهْرِ وَوُجُودُ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ من الشَّهْرِ مُقَارِنًا لِأَوَّلِ
الشَّهْرِ مُحَالٌ فلم يَكُنْ دَلِيلُ اتِّصَافِ الشَّهْرِ بِكَوْنِهِ
مُتَقَدِّمًا مَوْجُودًا فلم يُعْتَبَرْ هذا الِاتِّصَافُ فَبَقِيَ مِلْكُ
النِّكَاحِ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الْجُزْءِ الْأَخِيرِ فَيُحْكَمُ في هذا الْجُزْءِ
بِكَوْنِهَا طَالِقًا
وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا طَالِقًا في هذا الْجُزْءِ ثُبُوتُ الِانْطِلَاقِ من
الْأَصْلِ لِأَنَّهَا تَكُونُ طَالِقًا بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى
أَوَّلِ الشَّهْرِ الْمَوْصُوفِ بِالتَّقَدُّمِ على الْمَوْتِ فَلِأَجْلِ هذه
الضَّرُورَةِ حُكِمَ بِالطَّلَاقِ من أَوَّلِ الشَّهْرِ لَكِنْ بعدما كان
النِّكَاحُ إلَى هذا الْوَقْتِ قَائِمًا لِعَدَمِ دَلِيلِ الِاتِّصَافِ
بِالتَّقَدُّمِ على ما بَيَّنَّا ثُمَّ لَمَّا حُكِمَ بِكَوْنِهَا طَالِقًا
لِلْحَالِ وَثَبَتَ الِانْطِلَاقُ فِيمَا مَضَى من أَوَّلِ الشَّهْرِ ضَرُورَةً
جُعِلَ كَأَنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ لِلْحَالِ ثُمَّ بَعْدَ وُقُوعِهِ يَسْرِي إلَى
أَوَّلِ الشَّهْرِ هَكَذَا يُوجِبُ ضَرُورَةَ ما بَيَّنَّا من الدَّلِيلِ وإذا
جُعِلَ هَكَذَا يُخَرَّجُ عليه الْمَسَائِلُ
أَمَّا الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاةِ
فُلَانٍ الْمَيِّتِ لِأَنَّهَا مِمَّا يُحْتَاطُ في إيجَابِهَا فَوَجَبَتْ
لِلْحَالِ وَجُعِلَ كَأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ لِلْحَالِ
وَأَمَّا الْخُلْعُ فَإِنْ كانت الْعِدَّةُ بَاقِيَةً وَقْتَ الْمَوْتِ لم يَصِحَّ
وَإِنْ كانت مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ صَحَّ لِأَنَّهَا إذَا كانت بَاقِيَةً كان
النِّكَاحُ بَاقِيًا من وَجْهٍ وَيُحْكَمُ بِبَقَائِهِ إلَى هذه الْحَالَةِ
لِضَرُورَةِ عَدَمِ الدَّلِيلِ ثُمَّ يُحْكَمُ لِلْحَالِ بِكَوْنِهَا طَالِقًا
بِذَلِكَ الطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَسَرَى وَاسْتَنَدَ إلَى أَوَّلِ الشَّهْرِ
عُلِمَ أَنَّهُ خَالَعَهَا وَهِيَ بَائِنَةٌ عنه فلم يَصِحَّ الْخُلْعُ وَيُؤْمَرُ
الزَّوْجُ بِرَدٍّ بَدَلِ الْخُلْعِ وإذا كانت مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ وَقْتَ
الْمَوْتِ فَالنِّكَاحُ الذي كان يَبْقَى إلَى آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ
حَيَاتِهِ لِضَرُورَةِ عَدَمِ الدَّلِيلِ لَا يَبْقَى لِارْتِفَاعِهِ بِالْخُلْعِ فَبَقِيَ
النِّكَاحُ إلَى وَقْتِ الْخُلْعِ ولم يَظْهَرْ أَنَّهُ كان مُرْتَفِعًا عِنْدَ
الْخُلْعِ فَحُكِمَ بِصِحَّةِ الْخُلْعِ وَلَا يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِرَدِّ بَدَلِ
الْخُلْعِ بِخِلَافِ ما إذَا قال إنْ كان زَيْدٌ في الدَّارِ لِأَنَّ دَلِيلَ
الْوُقُوفِ على كَوْنِ زَيْدٍ في الدَّارِ مَوْجُودٌ حَالَةَ التَّكَلُّمِ
فَانْعَقَدَ الطَّلَاقُ تَنْجِيزًا لو كان هو في الدَّارِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ
بِالْمَوْجُودِ تَحَقَّقَ وَبِخِلَافِ ما إذَا قال إنْ كان حَمْلُ فُلَانَةَ
غُلَامًا لِأَنَّ الْوَلَدَ في الْبَطْنِ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ في الْجُمْلَةِ على
صِفَةِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ فإنه ما من سَاعَةٍ إلَّا وَيَجُوزُ أَنْ
يَسْقُطَ الْحَمْلُ فَانْعَقَدَ الطَّلَاقُ تَنْجِيزًا ثُمَّ عَلِمْنَا بَعْدَ ذلك
وَبِخِلَافِ ما إذَا قال آخِرُ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ
امْرَأَةً ثُمَّ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ على الثَّانِيَةِ
من طَرِيقِ التَّبْيِينِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمَّا تَزَوَّجَ الثَّانِيَةَ
اتَّصَفَتْ بِكَوْنِهَا آخِرَ الْوُجُودِ حد ( ( ( حدا ) ) ) الآخر ( ( ( لآخر ) )
) وهو الْفَرْدُ اللَّاحِقُ وَهِيَ فَرْدٌ وَهِيَ لَاحِقَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
يقول امْرَأَتِي الْأُولَى وَامْرَأَتِي الْأَخِيرَةُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ
بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ بِثَالِثَةٍ
فَتُسْلَبُ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ عن الثَّانِيَةِ فإذا مَاتَ قبل أَنْ يَتَزَوَّجَ
بِثَالِثَةٍ تَقَرَّرَتْ صِفَةُ الْآخِرِيَّةِ لِلثَّانِيَةِ من الْأَصْلِ
فَحُكِمَ بِوُقُوعِ الطَّلَاقِ من ذلك الْوَقْتِ وَهَهُنَا دَلِيلُ اتِّصَافِ
الشَّهْرِ بِالتَّقَدُّمِ مُنْعَدِمٌ في أَوَّلِ الشَّهْرِ وما لَا دَلِيلَ عليه
يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ وهو هذا بِخِلَافِ ما إذَا قال لِامْرَأَتِهِ إنْ لم
أَتَزَوَّجْ عَلَيْك فَأَنْتِ طَالِقٌ ولم يَتَزَوَّجْ حتى مَاتَ أَنَّهُ يَقَعُ
الطَّلَاقُ على امْرَأَتِهِ مُقْتَصِرًا على الْحَالِ لِأَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ
الطَّلَاقَ صَرِيحًا بِعَدَمِ التَّزَوُّجِ وَالْعَدَمُ يَسْتَوْعِبُ الْعُمُرَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو تَزَوَّجَ في الْعُمُرِ مَرَّةً لَا يُوصَفُ بِعَدَمِ
التَّزَوُّجِ لِأَنَّ الْوُجُودَ قد تَحَقَّقَ وَالْعَدَمُ يُقَابِلُ الْوُجُودَ
فَلَا يَتَحَقَّقُ مع الْوُجُودِ فَيَتِمُّ ثُبُوتُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ
وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ يَنْزِلُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ بِتَمَامِهِ
فَوَقَعَ مُقْتَصِرًا على حَالِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَأَمَّا هذا فَلَيْسَ
بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِشَرْطٍ بَلْ وهو إضَافَةُ الطَّلَاقِ إلَى وَقْتٍ
مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ فَيَتَحَقَّقُ الطَّلَاقُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الصِّفَةِ
بِدَلِيلِهِ على التَّقْدِيرِ الذي ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ قبل مَوْتِي بِشَهْرٍ أو قبل مَوْتِك
بِشَهْرٍ فَمَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ أو مَاتَتْ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَقَعُ فَهُمَا فَرَّقَا بين الطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ فَقَالَا الْعَتَاقُ يَقَعُ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ لِأَنَّ
عِنْدَهُمَا هذا تَصَرُّفُ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالشَّرْطِ
وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالزَّوْجُ بَعْدَ
الْمَوْتِ ليس من أَهْلِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَلَا الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا
مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عليها بِخِلَافِ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ
الْمَوْتِ كما في التَّدْبِيرِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ قبل مَوْتِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ أو قبل
قُدُومِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ بِشَهْرٍ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أو قَدِمَ قبل
مُضِيِّ شَهْرٍ لَا يَعْتِقُ أَبَدًا لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى شَهْرٍ
مَوْصُوفٍ بِالتَّقَدُّمِ على مَوْتَيْهِمَا أو قُدُومِهِمَا ولم يُوجَدْ وَلَا
يُتَصَوَّرُ
____________________
(4/83)
وُجُودُهُ
بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ لو تَمَّ الشَّهْرُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا أو قُدُومِ
أَحَدِهِمَا كان مَوْصُوفًا بِالتَّقَدُّمِ على مَوْتِ أَحَدِهِمَا أو قُدُومِ
أَحَدِهِمَا وهو ما أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى هذا الشَّهْرِ بَلْ إلَى شَهْرٍ
مَوْصُوفٍ بِالتَّقَدُّمِ على مَوْتَيْهِمَا أو قُدُومِهِمَا جميعا وَهَذَا غَيْرُ
ذَاكَ
وَإِنْ مَضَى شَهْرٌ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ الْعَبْدُ وَإِنْ لم يَمُتْ
الْآخَرُ يعد بِخِلَافِ ما إذَا قال أنت حُرٌّ قبل قُدُومِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ
بِشَهْرٍ ثُمَّ قَدِمَ أَحَدُهُمَا لِتَمَامِ الشَّهْرِ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ ما
لم يَقْدُمُ الْآخَرُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ على ما بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وهو أَنَّهُ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا
تَحَقَّقَ كَوْنُ الشَّهْرِ سَابِقًا على مَوْتِهِمَا وإذا قَدِمَ أَحَدُهُمَا لم
يَتَحَقَّقْ كَوْنُ الْأَوَّلِ سَابِقًا على قُدُومِهِمَا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ
عِنْدَ وُجُودِ قُدُومِهِمَا جميعا فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ ما لم
يَمُوتَا جميعا في لَحْظَةٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ فَكَذَا في
الْقُدُومِ
وهو قَوْلُ عَلِيٍّ الرَّازِيّ لِأَنَّ الْعِتْقَ أُضِيفَ إلَى شَهْرٍ مَوْصُوفٍ
بِالتَّقَدُّمِ على مَوْتِهِمَا أو قُدُومُهُمَا مُتَّصِلٌ بِهِمَا لِأَنَّهُ
أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى شَهْرٍ مُتَقَدِّمٍ على مَوْتِهِمَا أو قدومها ( ( (
قدومهما ) ) ) وَمَنْ ضَرُورَةِ ذلك وُجُودُ مَوْتِهِمَا أو قُدُومِهِمَا جميعا
وَعِنْدَ ثُبُوتِ التَّرَاخِي فِيمَا بين الْمَوْتَيْنِ أو الْقَدُومَيْنِ يَكُونُ
الْعِتْقُ وَاقِعًا قبل مَوْتِ أَحَدِهِمَا أو قُدُومِ أَحَدِهِمَا بِشَهْرٍ
وَقَبْلَ مَوْتِ الْآخَرِ أو قُدُومِ الْآخَرِ بِشَهْرٍ وَأَنَّهُ خِلَافُ ما
أَضَافَ فَلَا يَقَعُ بِخِلَافِ ما إذَا قال أنت حُرٌّ قبل يَوْمِ الْفِطْرِ
وَالْأَضْحَى بِشَهْرٍ حَيْثُ يَعْتِقُ كما أَهَلَّ هِلَالُ رَمَضَانَ لِأَنَّ
وُجُودَ وَقْتٍ مُتَّصِفٍ بِالتَّقَدُّمِ عَلَيْهِمَا بِشَهْرٍ مُسْتَحِيلٌ
وَالْعَاقِلُ لَا يَقْصِدُ بِكَلَامِهِ الْمُسْتَحِيلَ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ
بِهِ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى وَقْتٍ مَوْصُوفٍ بِالتَّقَدُّمِ على أَحَدِ
الْيَوْمَيْنِ بِشَهْرٍ وَعَلَى الْآخَرِ بِمُدَّةٍ غَيْرِ مُقَدَّرَةٍ وَفِيمَا
نَحْنُ فيه لَا اسْتِحَالَةَ فَيُرَاعَى عَيْنُ ما أَضَافَ إلَيْهِ وُجُوبَ
الِاسْتِحَالَةِ عن هذا أَنَّ الْأَصْلَ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ أَنَّ
الْمُسْتَحِيلَ عَادَةً يَلْحَقُ بِالْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وَقُدُومُ شَخْصٍ في
جُزْءٍ لَا يَتَجَزَّأُ من الزَّمَانِ بِحَيْثُ لَا يَتَقَدَّمُ أَحَدُهُمَا على
صَاحِبِهِ مُسْتَحِيلٌ عَادَةً وَكَذَا مَوْتُ شَخْصَيْنِ على هذا الْوَجْهِ
وَالْجَوَابُ في الْمُسْتَحِيلِ حَقِيقَةً وهو مَسْأَلَةُ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى
هَكَذَا فَكَذَا في الْمُسْتَحِيلِ عَادَةً
وَكَذَا لو قال أنت حُرٌّ قبل قُدُومِ فُلَانٍ وَمَوْتِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ فَإِنْ
مَاتَ أَحَدُهُمَا أو قَدِمَ أَحَدُهُمَا قبل مُضِيِّ الشَّهْرِ لَا يَعْتِقُ
أَبَدًا لِمَا قُلْنَا وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا لِتَمَامِ الشَّهْرِ لَا يَعْتِقُ
حتى يَقْدُمَ الْآخَرُ وَإِنْ قَدِمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ عَتَقَ
وَلَا يُنْتَظَرُ مَوْتُ الْآخَرِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَدَلُّ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْمَوْتَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَالْقُدُومُ مَوْهُومُ الْوُجُودِ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ السَّاعَةَ إنْ كان في عِلْمِ اللَّهِ عز وجل أَنَّ فُلَانًا
يَقْدُمُ إلَى شَهْرٍ فَهَذَا وَقَوْلُهُ قبل قُدُومِ فُلَانٍ بِشَهْرٍ سَوَاءٌ
لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بهذا عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى الْأَزَلِيُّ الْقَائِمُ
بِذَاتِهِ عز وجل وَإِنَّمَا يُرَادُ بِهِ ظُهُورَ هذا الْقُدُومِ الْمَعْلُومِ
لنا وقد يَظْهَرُ لنا وقد لَا يَظْهَرُ فَكَانَ شَرْطًا فَيُقْتَصَرُ الْعِتْقُ
على حالة ( ( ( حال ) ) ) وُجُودِ الشَّرْطِ كما في سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ
بِشُرُوطِهَا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي بِشَهْرٍ فَكَاتَبَهُ في نِصْفِ الشَّهْرِ
ثُمَّ مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ فَإِنْ كان اسْتَوْفَى بَدَلَ الْكِتَابَةِ ثُمَّ
مَاتَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ كان الْعِتْقُ حَاصِلًا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ
كان لم يَسْتَوْفِ بَعْدُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ بِالْإِعْتَاقِ السَّابِقِ
وَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
الْعِتْقَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ عِنْدَهُ وقال أبو الْقَاسِمِ
الصَّفَّارُ أنه تَبْطُلُ الْكِتَابَةُ من الْأَصْلِ سَوَاءٌ كان اسْتَوْفَى
بَدَلَ الْكِتَابَةِ أو لم يَسْتَوْفِ وهو قِيَاسُ قَوْلِ من يقول بِثُبُوتِ
الْعِتْقِ من طَرِيقِ الظُّهُورِ الْمَحْضِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعِتْقَ
يَثْبُتُ من أَوَّلِ الشَّهْرِ فَيَتَبَيَّنَ أَنَّ الْكِتَابَةَ لم تَصِحَّ وقد
ذَكَرْنَا تَصْحِيحَ ما ذُكِرَ في الْكِتَابِ وهو الْعِتْقُ بِطَرِيقِ
الِاسْتِنَادِ فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا نُعِيدُهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ اسْتَوْفَى
بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَالْأَمْرُ مَاضٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا يَثْبُتُ
مُقْتَصِرًا على حَالِ الْمَوْتِ وهو حُرٌّ في هذه الْحَالَةِ لِوُصُولِهِ إلَى الْحُرِّيَّةِ
بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ وَإِنْ كان لم يَسْتَوْفِ بَعْدُ
بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَإِنْ كان الْعَبْدُ يَخْرُجُ من الثُّلُثِ عَتَقَ من
جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ
بِالتَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ مُدَبَّرٌ مُقَيَّدٌ لِأَنَّ عِتْقَهُ عُلِّقَ بِمَوْتٍ
مَوْصُوفٍ بِصِفَةٍ قد يُوجَدُ على تِلْكَ الصِّفَةِ وقد لَا يُوجَدُ وَيَسْعَى في
الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَمِنْ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَسْعَى في الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ بَدَلِ
الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ من دَبَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ ثُمَّ مَاتَ
الْمَوْلَى وَلَا مَالَ له غَيْرُهُ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ مَجَّانًا بِالتَّدْبِيرِ
ثُمَّ يَسْعَى في الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَمِنْ جَمِيعِ بَدَلِ
الْكِتَابَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ في
الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَمِنْ ثُلُثَيْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا
على ذَاكَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُخَيَّرُ بين أَنْ يَسْعَى في هذا
وَبَيْنَ أَنْ يَسْعَى في ذَاكَ وَعِنْدَهُمَا يَسْعَى في الْأَقَلِّ
____________________
(4/84)
منها
بِدُونِ التَّخْيِيرِ ثُمَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ في مَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ
يَعْتَبِرُ صِحَّةَ الْمَالِكِ وَمَرَضِهِ في أَوَّلِ الشَّهْرِ
هَكَذَا ذَكَرَ في النَّوَادِرِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعْتَقًا من ذلك الْوَقْتِ
وَقِيلَ هذا هو الْحِيلَةُ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُدَبِّرَ عَبْدَهُ وَيَعْتِقَ من
جَمِيعِ الْمَالِ
وَإِنْ كان لَا يَخْرُجُ من الثُّلُثِ بِأَنْ يَقُولَ أنت حُرٌّ قبل مَوْتِي
بِشَهْرٍ أو شَهْرَيْنِ أو ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ أو ما شَاءَ من الْمُدَّةِ
لِيَعْتِقَ من ذلك الْوَقْتِ وهو فيه صَحِيحٌ فَيَعْتِقُ من جَمِيعِ الْمَالِ
وَعِنْدَهُمَا كَيْفَ ما كان يُعْتَبَرُ عِتْقُهُ من الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ
عِنْدَهُمَا مُعْتَقًا بَعْدَ الْمَوْتِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُسْتَعَانُ
وَأَمَّا الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتَيْنِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْمُضَافَ إلَى
وَقْتَيْنِ يَنْزِلُ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا وَالْمُعَلَّقُ بِشَرْطَيْنِ يَنْزِلُ
عِنْدَ آخِرِهِمَا وَالْمُضَافُ إلَى أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ
فَيَنْزِلُ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَالْمُعَلَّقُ بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ
يَنْزِلُ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا وَلَوْ جَمَعَ بين فِعْلٍ وَوَقْتٍ يَعْتَبِرُ فيه
الْفِعْلَ وَيَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِهِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وروى عن أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ يَنْزِلُ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا أَيُّهُمَا كان
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ الْيَوْمَ وَغَدًا
يُعْتَقُ في الْيَوْمِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْوَقْتَيْنِ جميعا ظَرْفًا لِلْعِتْقِ
فَلَوْ تَوَقَّفَ وُقُوعُهُ على أَحَدِهِمَا لَكَانَ الظَّرْفُ وَاحِدًا لِوَقْتَيْنِ
لَا كِلَاهُمَا وَأَنَّهُ إيقَاعُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ لَا على الْوَجْهِ الذي
أَوْقَعَهُ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ الْيَوْمَ غَدًا أُعْتِقَ في الْيَوْمِ لِأَنَّهُ أَضَافَ
الْإِعْتَاقَ إلَى الْيَوْمِ ثُمَّ وَصَفَ الْيَوْمَ بِأَنَّهُ غَدٌ وَأَنَّهُ
مُحَالٌ وَيَبْطُلُ وَصْفُهُ وَبَقِيَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْيَوْمِ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ غَدًا الْيَوِمَ يُعْتَقُ في الْغَدِ لِأَنَّهُ أَضَافَ
الْعِتْقَ إلَى الْغَدِ وَوَصَفَ الْغَدَ بِالْيَوْمِ وهو مُحَالٌ فلم يَصِحَّ
وَصْفُهُ وَبَقِيَتْ إضَافَتُهُ للمعتق ( ( ( العتق ) ) ) إلَى الْغَدِ فَيُعْتَقُ
في الْغَدِ وَلَوْ قال أنت حُرٌّ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ فما لم يُقْدِمَا
جميعا لَا يَعْتِقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطَيْنِ فَلَا يَنْزِلُ إلَّا
عِنْدَ آخِرِهِمَا إذْ لو نَزَلَ عِنْدَ أَوَّلِهِمَا لَبَطَلَ التَّعْلِيقُ
بِهِمَا وَلَكَانَ ذلك تَعْلِيقًا بِأَحَدِهِمَا وهو عَلَّقَ بِهِمَا جميعا لَا
بِأَحَدِهِمَا
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ الْيَوْمَ أو غَدًا يُعْتَقُ في الْغَدِ لِأَنَّهُ جَعَلَ
أَحَدَ الْوَقْتَيْنِ ظَرْفًا فَلَوْ عَتَقَ في الْيَوْمِ لَكَانَ الْوَقْتَانِ
جميعا ظَرْفًا وَهَذَا خِلَافُ تَصَرُّفِهِ
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ أو غَدًا فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ قبل مجىء
( ( ( مجيء ) ) ) الْغَدِ عَتَقَ وَإِنْ جاء الْغَدُ قبل قُدُومِ فُلَانٍ لَا
يُعْتَقُ ما لم يَقْدُمْ في جَوَابِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ أَيَّهُمَا سَبَقَ مجيؤه ( ( ( مجيئه ) ) )
يُعْتَقُ عِنْدَ مَجِيئِهِ وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ ذَكَرَ شَرْطًا وَوَقْتًا في
تَصَرُّفٍ وَاحِدٍ وَلَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِمَا بين التَّعْلِيقِ
بِشَرْطٍ وَبَيْنَ الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ من التَّنَافِي فَلَا بُدَّ من
اعْتِبَارِ أَحَدِهِمَا وَتَرْجِيحِهِ على الْآخَرِ فَأَبُو يُوسُفَ رَجَّحَ
جَانِبَ الشَّرْطِ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا وَالظَّرْفُ قد
يَصْلُحُ شَرْطًا فَكَانَ الرُّجْحَانُ لِجَانِبِ الشَّرْطِ فَاعْتَبَرَهُ
تَعْلِيقًا بِأَحَدِ الشَّرْطَيْنِ فَيَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَوَّلِهِمَا أنهما
( ( ( أيهما ) ) ) كان كما إذَا نَصَّ على ذلك وَنَحْنُ رَجَّحْنَا السَّابِقَ
مِنْهُمَا في اعْتِبَارِ التَّعْلِيقِ وَالْإِضَافَةِ فَإِنْ كان الْفِعْلُ هو
السَّابِقُ يَعْتَبِرُ التَّصَرُّفَ تَعْلِيقًا وَاعْتِبَارُهُ تَعْلِيقًا
يَقْتَضِي نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَ أَوَّلِ الشَّرْطَيْنِ كما إذَا عَلَّقَهُ
بِأَحَدِ شَرْطَيْنِ نَصًّا وَإِنْ كان الْوَقْتُ هو السَّابِقُ يَعْتَبِرُ
إضَافَتَهُ وَاعْتِبَارُهَا يَقْتَضِي نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَ آخِرِ
الْوَقْتَيْنِ كما إذَا أَضَافَ إلَى آخِرِ الْوَقْتَيْنِ نَصًّا وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ فَهُوَ ما ذَكَرْنَا في الطَّلَاقِ
وهو أَنْ يَكُونَ الرُّكْنُ عَارِيًّا عن الِاسْتِثْنَاءِ رَأْسًا كَيْفَمَا كان
الِاسْتِثْنَاءُ وَضْعِيًّا كان أو عُرْفِيًّا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَالْكَلَامُ في الِاسْتِثْنَاءِ في الْعَتَاقِ وَبَيَانِ أَنْوَاعِهِ
وَمَاهِيَّةِ كل نَوْعٍ وَشَرَائِطِ صِحَّتِهِ على نَحْوِ الْكَلَامِ في بَابِ
الطَّلَاقِ وقد ذَكَرْنَا ذلك كُلَّهُ في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَلَا يَخْتَلِفَانِ
إلَّا في شَيْءٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْعَدَدِ
في الطَّلَاقِ وَلَا يُتَصَوَّرُ في الْعَتَاقِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ ذُو عَدَدٍ
فَيُتَصَوَّرُ فيه اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْعَدَدِ وَالْعِتْقُ لَا عَدَدَ له فَلَا
يُتَصَوَّرُ فيه اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْعَدَدِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ
اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْجُمْلَةِ الْمَلْفُوظَةِ نحو أَنْ يَقُولَ لِعَبِيدِهِ
أَنْتُمْ أَحْرَارٌ إلَّا سَالِمًا لِأَنَّ نَصَّ الِاسْتِثْنَاءِ مع نَصِّ
الْمُسْتَثْنَى منه تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي
وَلَوْ اسْتَثْنَى عِتْقَ بَعْضِ الْعَبْدِ يَصِحُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا
يَصِحُّ عِنْدَهُمَا بِنَاءً على أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَكُونُ
اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ من الْكُلِّ فَيَصِحُّ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ
فَيَكُونُ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ من الْكُلِّ فَلَا يَصِحُّ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال غُلَامَايَ
حُرَّانِ سَالِمٌ وَبَرِيعٌ إلَّا بَرِيعًا أَنَّ اسْتِثْنَاءَهُ جَائِزٌ
لِأَنَّهُ ذَكَرَ جُمْلَةً ثُمَّ فَصَّلَهَا بِقَوْلِهِ سَالِمٌ وَبَرِيعٌ
فَانْصَرَفَ الِاسْتِثْنَاءُ إلَى الْجُمْلَةِ الملفوظة ( ( ( الملفوظ ) ) ) بها
فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْبَعْضِ من الْجُمْلَةِ المفوظة ( ( ( الملفوظة ) ) )
فَصَحَّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ ما إذَا قال سَالِمٌ حُرٌّ وَبَرِيعٌ إلَّا سَالِمًا لِأَنَّهُ
لَمَّا ذَكَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ كان هذا اسْتِثْنَاءً عن كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَانَ اسْتِثْنَاءُ الْكُلِّ من الْكُلِّ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ قال
____________________
(4/85)
أنت
حُرٌّ وَحُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَطَلَ الِاسْتِثْنَاءُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الِاسْتِثْنَاءُ جَائِزٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن هذا كَلَامٌ وَاحِدٌ مَعْطُوفٌ بَعْضُهُ على بَعْضٍ
بِحَرْفِ الْعَطْفِ فَلَا يَقَعُ بِهِ الْفَصْلُ بين الْمُسْتَثْنَى
وَالْمُسْتَثْنَى منه كما لو قال أنت حُرٌّ لِلَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن قَوْلَهُ حُرٌّ وَحُرٌّ لَغْوٌ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ
بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ فَكَانَ فَاصِلًا بِمَنْزِلَةِ السُّكُوتِ بِخِلَافِ
قَوْلِهِ أنت حُرٌّ لِلَّهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى لأن قوله لله تَعَالَى ليس
بِلَغْوٍ فَلَا يَكُونُ فَاصِلًا
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ له خَمْسَةٌ من
الرَّقِيقِ فقال عَشْرَةٌ من مَمَالِيكِي إلَّا وَاحِدًا أَحْرَارٌ أَنَّهُ
يُعْتِقُ الْخَمْسَةَ جميعا لِأَنَّهُ لَمَّا قال عَشْرَةٌ من مَمَالِيكِي
أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا فَقَدْ اسْتَثْنَى الْوَاحِدَ من الْعَشَرَةِ
وَالِاسْتِثْنَاءُ تَكَلُّمٌ بِالْبَاقِي فَصَارَ كَأَنَّهُ قال تِسْعَةٌ من
مَمَالِيكِي أَحْرَارٌ وَلَهُ خَمْسَةٌ وَلَوْ قال ذلك عَتَقُوا جميعا كَذَا هذا
وَلَوْ قال مَمَالِيكِي الْعَشَرَةُ أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا عَتَقَ منهم
أَرْبَعَةً لِأَنَّ هذا رَجُلٌ ذَكَرَ مَمَالِيكَهُ وَغَلَطَ في عَدَدِهِمْ
بِقَوْلِهِ الْعَشَرَةُ فَيَلْغُو هذا الْقَوْلُ وَيَبْقَى قَوْلُهُ مَمَالِيكِي
أَحْرَارٌ إلَّا وَاحِدًا وَلَوْ قال ذلك وَلَهُ خَمْسَةُ مَمَالِيكَ يُعْتِقُ
أَرْبَعَةً منهم كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْإِعْتَاقِ فَهِيَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ هل يَتَجَزَّأُ
أَمْ لَا وقد اُخْتُلِفَ فيه قال أبو حَنِيفَةَ يَتَجَزَّأُ سَوَاءٌ كان
الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أو مُعْسِرًا وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَتَجَزَّأُ
كيفما كان الْمُعْتِقُ وقال الشَّافِعِيُّ إنْ كان مُعْسِرًا يَتَجَزَّأُ وَإِنْ
كان مُوسِرًا لَا يَتَجَزَّأُ وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بين الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ قال بَعْضُهُمْ فِيمَنْ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدٍ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ أنه يُعْتِقُ نِصْفَهُ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا يَجِبُ
تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ وهو مَذْهَبُ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ
عنه وقال بَعْضُهُمْ يُعْتِقُ كُلَّهُ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إلَّا الضَّمَانُ
وقال عَلِيٌّ وابن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما عَتَقَ ما عَتَقَ وَرَقَّ ما رَقَّ
هُمَا احْتَجَّا بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ وَالْأَحْكَامِ
أَمَّا النَّصُّ فما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من أَعْتَقَ شِقْصًا له
من عَبْدٍ عَتَقَ كُلُّهُ ليس لِلَّهِ فيه شَرِيكٌ وَهَذَا نَصٌّ على عَدَمِ
التجزىء ( ( ( التجزي ) ) ) وفي رِوَايَةٍ من أَعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ
فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ ليس لِلَّهِ فيه شَرِيكٌ وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ
أَنَّ الْعِتْقَ في الْعُرْفِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ دَافِعَةٍ يَدَ
الِاسْتِيلَاءِ وَالرِّقُّ اسْمٌ لِضَعْفٍ حُكْمِيٍّ يَصِيرُ بِهِ الْآدَمِيُّ
مَحِلًّا لِلتَّمَلُّكِ فَيُعْتَبَرُ الْحُكْمِيُّ بِالْحَقِيقِيِّ وَثُبُوتُ
الْقُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالضَّعْفِ الْحَقِيقِيِّ في النِّصْفِ شَائِعًا
مُسْتَحِيلٌ فَكَذَا الْحُكْمِيُّ وَلِأَنَّ لِلْعِتْقِ آثَارًا من
الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ وَنَحْوِهَا وَثُبُوتُ
هذه الْآثَارِ لَا يَحْتَمِلُ التجزىء ( ( ( التجزي ) ) ) وَلِهَذَا لم
يَتَجَزَّأْ في حَالِ الثُّبُوتِ حتى لَا يَضْرِبَ الْإِمَامُ الرِّقَّ في إنصاف
السَّبَايَا وَيَمُنُّ عليهم بِالْإِنْصَافِ كَذَا في حَالَةِ الْبَقَاءِ
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فإن إعْتَاقَ النِّصْفِ قد تَعَدَّى إلَى النِّصْفِ
الْبَاقِي في الْأَحْكَامِ حتى امْتَنَعَ جَوَازُ التَّصَرُّفَاتِ النَّاقِلَةِ
لِلْمِلْكِ فيه من الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَكَذَا يَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى عِتْقِ الْكُلِّ بِالضَّمَانِ أو
بِالسِّعَايَةِ حتى يُجْبِرَهُ الْقَاضِي على ذلك وَهَذَا من آثَارِ عَدَمِ
التجزىء ( ( ( التجزي ) ) ) وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ حتى لو
اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَادَّعَاهُ تَصِيرُ كُلُّهَا
أُمَّ وَلَدٍ له بِالضَّمَانِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لَا حَقِيقَةَ
الْحُرِّيَّةِ فَالْحَقُّ إذَا لم يَتَجَزَّأْ فَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى وَكَذَا لو
عَتَقَ نِصْفَ أُمِّ وَلَدِهِ أو أُمَّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَتَقَ
كُلَّهَا وإذا لم يَكُنْ الْإِعْتَاقُ مُتَجَزِّئًا لم يَكُنْ الْمَحِلُّ في حَقِّ
الْعِتْقِ مُتَجَزِّئًا وَإِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إلَى بَعْضِ ما لَا يَتَجَزَّأُ
في حَقِّهِ يَكُونُ إضَافَةً إلَى الْكُلِّ كَالطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عن
الْقِصَاصِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ وَالْحُكْمُ أَمَّا النَّصُّ فما
رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من
أَعْتَقَ نَصِيبًا له من مَمْلُوكٍ كُلِّفَ عِتْقَ بَقِيَّتِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ
عِنْدَهُ ما يُعْتِقُهُ فيه جَازَ ما صَنَعَ وَرُوِيَ كُلِّفَ عِتْقَ ما بَقِيَ
وَرُوِيَ وَجَبَ عليه أَنْ يُعْتِقَ ما بَقِيَ وَذَلِكَ كُلُّهُ نَصٌّ على
التَّجَزِّي لِأَنَّ تَكْلِيفَ عِتْقِ الْبَاقِي لَا يُتَصَوَّرُ بَعْدَ ثُبُوتِ
الْعِتْقِ في كُلِّهِ وَقَوْلُهُ جَازَ ما صَنَعَ إشَارَةٌ إلَى عِتْقِ الْبَعْضِ
إذْ هو الذي صَنَعَهُ لَا غَيْرُ
وَرُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَيْضًا عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال من أَعْتَقَ شِرْكًا له في عَبْدٍ وكان له مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ
الْعَبْدِ قُوِّمَ عليه قِيمَةَ عَدْلٍ وأعطي شركاؤه ( ( ( شركاءه ) ) )
حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عليه الْعَبْدُ وَإِلَّا عَتَقَ ما عَتَقَ وَالْحَدِيثُ
يَدُلُّ على تَعَلُّقِ عِتْقِ الْبَاقِي بِالضَّمَانِ إذَا كان الْمُعْتِقُ
مُوسِرًا وَعَلَى عِتْقِ الْبَعْضِ إنْ كان مُعْسِرًا فَيَدُلُّ على التجزيء ( ( (
التجزي ) ) ) في حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
وَرُوِيَ عن أبي هُرَيْرَةَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ
____________________
(4/86)
قال
من كان له شِقْصٌ في مَمْلُوكٍ فَأَعْتَقَهُ فَعَلَيْهِ خَلَاصُهُ من مَالِهِ إنْ
كان له مَالٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ استسعي الْعَبْدَ في رَقَبَتِهِ غير
مَشْقُوقٍ عليه وفي رِوَايَةٍ من أَعْتَقَ شِقْصًا له من مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ
أَنْ يُعْتِقَهُ كُلَّهُ إنْ كان له مَالٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ اسْتَسْعَى
الْعَبْدَ غير مَشْقُوقٍ عليه
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْ كان تَصَرُّفًا في الْمِلْكِ
وَالْمَالِيَّةِ بِالْإِزَالَةِ فَالْمِلْكُ متجزىء وَكَذَا الْمَالِيَّةُ بِلَا
شَكٍّ حتى تَجْرِيَ فيه سِهَامُ الْوَرَثَةِ وَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بين جَمَاعَةٍ
كَثِيرَةٍ من الْغَانِمِينَ وَغَيْرِهِمْ وَإِنْ كان تَصَرُّفًا في الرِّقِّ
فَالرِّقُّ متجزىء أَيْضًا لِأَنَّ مَحِلَّهُ متجزىء وهو الْعَبْدُ وإذا كان
مَحِلُّهُ مُتَجَزِّئًا كان هو مُتَجَزِّئًا ضَرُورَةً وَأَمَّا حُكْمُ
الِاثْنَيْنِ إذَا أَعْتَقَا عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كان الْوَلَاءُ
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ الولاء ( ( ( والولاء ) ) ) من أَحْكَامِ الْعِتْقِ
فَدَلَّ تَجَزُّؤُهُ على تجزي ( ( ( تجزؤ ) ) ) الْعِتْقِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ أنه غَيْرُ مَرْفُوعٍ بَلْ هو مَوْقُوفٌ على
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وقد رُوِيَ عنه خِلَافَهُ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ قال في
عَبْدٍ بين صَبِيٍّ وَبَالِغٍ أَعْتَقَ الْبَالِغُ نَصِيبَهُ قال يَنْتَظِرُ
بُلُوغَ الصَّبِيِّ فإذا بَلَغَ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَلَئِنْ
ثَبَتَ رَفْعُهُ فَتَأْوِيلُهُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ
عَتَقَ كُلُّهُ أَيْ اسْتَحَقَّ عِتْقَ كُلِّهِ لِأَنَّهُ يَجِبُ تَخْرِيجُ
الْبَاقِي إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ فَيُعْتِقُ الْبَاقِي لَا مَحَالَةَ
بِالِاسْتِسْعَاءِ أو بِالضَّمَانِ وما كان مُسْتَحَقُّ الْوُجُودِ يُسَمَّى
بِاسْمِ الْكَوْنِ وَالْوُجُودِ قال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّكَ مَيِّتٌ
وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }
وَالثَّانِي أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ منه عِتْقُ كُلِّهِ لِلْحَالِ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ منه عِتْقُ كُلِّهِ عِنْدَ الِاسْتِسْعَاءِ
وَالضَّمَانِ فَنَحْمِلُهُ على هذا عَمَلًا بِالْأَحَادِيثِ كُلِّهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ الْعِتْقَ قُوَّةٌ حُكْمِيَّةٌ فَيُعْتَبَرُ
بِالْقُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَثُبُوتُهَا في الْبَعْضِ شَائِعًا مُمْتَنِعٌ فَكَذَا
الْحُكْمِيَّةُ فَنَقُولُ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ اعْتِبَارَ الْحُكْمِ بِالْحَقِيقَةِ
لَازِمٌ أَلَيْسَ إن الْمِلْكَ عِبَارَةٌ عن الْقُدْرَةِ الْحُكْمِيَّةِ
وَالْقُوَّةُ وَالْقُدْرَةُ سَوَاءٌ ثُمَّ الْمِلْكُ يَثْبُتُ في النِّصْفِ
شَائِعًا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمْرَ الشَّرْعِيَّ يُعْرَفُ بِدَلِيلِ الشَّرْعِ
وهو النَّصُّ وَالِاسْتِدْلَالُ لَا بِالْحَقَائِقِ وما ذَكَرَ من الْآثَارِ
فَلَيْسَتْ من لَوَازِمِ الْعِتْقِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْعِتْقِ بِدُونِهَا كما في الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ بَلْ هِيَ من الثَّمَرَاتِ وَفَوَاتُ الثَّمَرَةِ لَا يُخِلُّ
بِالذَّاتِ ثُمَّ إنَّهَا من ثَمَرَاتِ حُرِّيَّةِ كل الشَّخْصِ لَا من ثَمَرَاتِ
حُرِّيَّةِ الْبَعْضِ فإن الْوِلَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ شُرِعَتْ قَضَاءَ حَقِّ
الْعَاجِزِينَ شُكْرًا لِنِعْمَةِ الْقُدْرَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ كَمَالِ
النِّعْمَةِ وهو أَنْ يَنْقَطِعَ عنه حَقُّ الْمَوْلَى لِيَصِلَ إلَى إقَامَةِ
حُقُوقِ الْغَيْرِ
وَقَوْلُهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتُهُ كَذَا زَوَالُهُ من مَشَايِخِنَا من
مَنَعَ وقال إنَّ الْإِمَامَ إذَا ظَهَرَ على جَمَاعَةٍ من الْكَفَرَةِ وَضَرَبَ
الرِّقَّ على أَنْصَافِهِمْ وَمَنَّ على الإنصاف جَازَ وَيَكُونُ حُكْمُهُمْ
حُكْمَ مُعْتَقِ الْبَعْضِ في حَالَةِ الْبَقَاءِ ثُمَّ إنْ سَلَّمْنَا فَالرِّقُّ
متجزىء في نَفْسِهِ حَالَةَ الثُّبُوتِ لَكِنَّهُ تَكَامَلَ لِتَكَامُلِ سَبَبِهِ
وهو الِاسْتِيلَاءُ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُهُ على بَعْضِ الْمَحِلِّ دُونَ
بَعْضٍ وفي حَالَةِ الْبَقَاءِ وُجُودُ سَبَبِ زَوَالِهِ كَامِلًا وَقَاصِرًا
فَيَثْبُتُ كَامِلًا وَقَاصِرًا على حَسْبِ السَّبَبِ
وَأَمَّا التَّخْرِيجُ إلَى الْإِعْتَاقِ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ التَّصَرُّفَاتِ
فَلَيْسَ لِعَدَمِ التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ نَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَمَمْنُوعٌ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ بَلْ هو متجزىء فإن
الْأَمَةَ للمشتركة ( ( ( المشتركة ) ) ) بين اثْنَيْنِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ
فَادَّعَيَاهُ جميعا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى
أَحَدَهُمَا صَارَتْ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ له لِوُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ وهو
نِسْبَةُ كل أُمِّ الْوَلَدِ إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ على ما نَذْكُرُهُ في
كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ وما من متجزىء إلَّا وَلَهُ حَالُ الْكَمَالِ إذَا وُجِدَ
السَّبَبُ بِكَمَالٍ يَتَكَامَلُ وإذا وُجِدَ قَاصِرًا لَا يَتَكَامَلُ بَلْ
يَثْبُتُ بِقَدْرِهِ وفي مَسْأَلَتِنَا وُجِدَ قَاصِرًا فلم يَتَكَامَلْ
وَكَذَا إعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ متجزىء وَالثَّابِتُ له عِتْقُ النِّصْفِ
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ له الْعِتْقُ في النِّصْفِ الْبَاقِي لَا بِإِعْتَاقِهِ بَلْ
لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في بَقَاءِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ كما في الطَّلَاقِ
وَالْعَفْوِ على الْقِصَاصِ على ما عُرِفَ في مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ يُبْنَى عليه مَسَائِلُ عَبْدٌ بين رَجُلَيْنِ أَعْتَقَ
أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يُعْتَقُ نَصِيبُهُ لَا غَيْرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُ متجزىء ( ( ( متجرئ ) ) ) وَإِعْتَاقُ الْبَعْضِ
لَا يُوجِبُ إعْتَاقَ الْكُلِّ بَلْ يُعْتِقُ بِقَدْرِ ما أَعْتَقَ وَيَبْقَى
الْبَاقِي رَقِيقًا وَلِلشَّرِيكِ السَّاكِتُ خَمْسُ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ
أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَهُ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ
اسْتَسْعَاهُ مُعْسِرًا كان الْمُعْتَقُ أو مُوسِرًا وَيَسْعَى وهو رَقِيقٌ وَإِنْ
شَاءَ ضَمَّنَ الْمُعْتَقَ قِيمَةَ نَصِيبَهُ إنْ كان مُوسِرًا وَلَيْسَ له
خِيَارُ التَّرْكِ على حَالِهِ لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ مع
ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ في جُزْءٍ منه وَتَرْكُ الْمَالِ من غَيْرِ انْتِفَاعِ
أَحَدٍ بِهِ سيب ( ( ( سبب ) ) ) له وأنه حَرَامٌ فَلَا بُدَّ من تَخْرِيجِهِ إلَى
الْعِتْقِ وَلَهُ الْخِيَارُ في ذلك من الْوُجُوهِ التي وَصَفْنَا أَمَّا خِيَارُ
الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ
____________________
(4/87)
على
مِلْكِهِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ لِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ كما في حَالِ
الِابْتِدَاءِ
وَأَمَّا خِيَارُ السِّعَايَةِ فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ صَارَ مُحْتَسَبًا عِنْدَ
الْعَبْدِ لِحَقِّهِ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ له في نِصْفِهِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عليه
كما إذَا انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانٍ بِصَبْغِ غَيْرِهِ من غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ
فَاخْتَارَ صَاحِبُ الثَّوْبِ الثَّوْبَ أَنَّهُ يَجِبُ عليه ضَمَانُ الصَّبْغِ
لِصَيْرُورَةِ الصَّبْغِ مُحْتَسَبًا عِنْدَهُ لِقِيَامِهِ بِثَوْبٍ مَمْلُوكٍ له
لَا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّ في السِّعَايَةِ سَلَامَةَ
نَفْسِهِ وَرَقَبَتِهِ له وَإِنْ لم تَصِرْ رَقَبَتُهُ مَمْلُوكَةً له
وَيَجُوزُ إيجَابُ الضَّمَانِ بِمُقَابَلَةِ سَلَامَةِ الرَّقَبَةِ من غَيْرِ
تَمَلُّكٍ كَالْمُكَاتَبِ وَشِرَاءِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ من مَوْلَاهُ وَلِأَنَّ
مَنْفَعَةَ الْإِعْتَاقِ حَصَلَتْ فَكَانَ عليه ضَمَانُهُ لِقَوْلِهِ الْخَرَاجُ
بِالضَّمَانِ ثُمَّ خِيَارُ السِّعَايَةِ مَذْهَبُنَا وقال الشَّافِعِيُّ لَا
أَعْرِفُ السِّعَايَةَ في الشَّرِيعَةِ
وَالْوَجْهُ لِقَوْلِهِ أن ضَمَانَ السِّعَايَةِ إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ
إتْلَافٍ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانُ تَمَلُّكٍ وَلَا إتْلَافَ من الْعَبْدِ
بِوَجْهٍ إذْ لَا صُنْعَ له في الْإِعْتَاقِ رَأْسًا وَلَا مِلْكَ يَحْصُلُ
لِلْعَبْدِ في نَفْسِهِ بِالضَّمَانِ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على
عَبْدِهِ دَيْنٌ لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ
وَاجِبًا عليه وَلَهُ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مُعْسِرٌ وَالضَّمَانُ في هذا الْبَابِ
لَا يَجِبُ على الْمُعْسِرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الْمُعْتَقِ إذَا
كان مُعْسِرًا مع وُجُودِ الْإِعْتَاقِ منه فَالْعَبْدُ أَوْلَى
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنه وَرَوَى محمد بن
الْحَسَنِ عن أبي يُوسُفَ عن الْحَجَّاجِ بن أَرْطَاةَ عن نَافِعٍ عن ابْنِ عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ شَرِيكِهِ يُقَوَّمُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَإِنْ كان
مُوسِرًا ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ وَإِنْ كان مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ غَيْرُ
مَشْقُوقٍ عليه فَدَلَّ أَنَّ الْقَوْلَ بِالسِّعَايَةِ لَازِمٌ في الْجُمْلَةِ
عَرَفَهَا الشَّافِعِيُّ أو لم يَعْرِفْهَا وَكَذَا ما ذَكَرْنَا من الْمَعَانِي
وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ ضَمَانَ السِّعَايَةِ ليس ضَمَانَ إتْلَافٍ وَلَا
ضَمَانَ تَمَلُّكٍ بَلْ هو ضَمَانُ احْتِبَاسٍ وَضَمَانُ سَلَامَةِ النَّفْسِ
وَالرَّقَبَةِ وَحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك من أَسْبَابِ الضَّمَانِ
على ما بَيَّنَّا
وَقَوْلُهُ لَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ
قُلْنَا وقد يَجِبُ كالماكتب ( ( ( كالمكاتب ) ) ) وَالْمُسْتَسْعَى في حُكْمِ
الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ إلَى الشَّرِيكِ
السَّاكِتِ إذَا اخْتَارَ السِّعَايَةَ أو إلَى الْمُعْتَقِ إذَا ضَمِنَهُ
الشَّرِيكُ السَّاكِتُ لِأَنَّهُ يَسْعَى لِتَخْلِيصِ رَقَبَتِهِ عن الرِّقِّ
كَالْمُكَاتَبِ وَتَثْبُتُ فيه جَمِيعُ أَحْكَامِ الْمُكَاتَبِ من الْإِرْثِ
وَالشَّهَادَةِ وَالنِّكَاحِ فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَلَا يَشْهَدُ وَلَا
يَتَزَوَّجُ إلَّا اثْنَتَيْنِ لَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا في وَجْهٍ وَاحِدٍ وهو
أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا عَجَزَ يُرَدُّ في الرِّقِّ وَالْمُسْتَسْعَى لَا يُرَدُّ
في الرِّقِّ إذَا عَجَزَ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلسِّعَايَةِ مَوْجُودٌ قبل
الْعَجْزِ وَبَعْدَهُ وهو ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ في جُزْءٍ منه وَلِأَنَّ رَدَّهُ
في الرِّقِّ هَهُنَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّا لو رَدَدْنَاهُ إلَى الرِّقِّ
لَاحْتَجْنَا إلَى أَنْ نَجْبُرَهُ على السِّعَايَةِ عليه ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ
الرِّقُّ
فَإِنْ قِيلَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ إلَّا بِرِضَاهُ
وَالسِّعَايَةُ تَلْزَمُهُ من غَيْرِ رِضَاهُ فَأَنَّى يَسْتَوِيَانِ فَالْجَوَابُ
أَنَّهُ إنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ يَجِبُ بِحَقِيقَةِ
الْعَقْدِ إذْ الْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةٌ من وَجْهٍ فَافْتَقَرَتْ إلَى
التَّرَاضِي وَالسِّعَايَةُ لَا تَجِبُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ حَقِيقَةً بَلْ
بِكِتَابَةٍ حُكْمِيَّةٍ ثَابِتَةٍ بِمُقْتَضَى اخْتِيَارِ السِّعَايَةِ فَلَا
يَقِفُ وُجُوبُهَا على الرِّضَا لِأَنَّ الرِّضَا إنَّمَا شُرِطَ في الْكِتَابَةِ
للمبتدأة ( ( ( المبتدأة ) ) ) لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَرْضَى بها الْعَبْدُ
وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَرْضَى بها وَيَخْتَارُ الْبَقَاءَ على الرِّقِّ فَوَقَفَتْ
على الرِّضَا وَهَهُنَا لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِبْقَائِهِ على الرِّقِّ شَرْعًا إذْ
لَا يَجُوزُ ذلك فلم يَشْرِطْ رِضَاهُ لِلُزُومِ السِّعَايَةِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فقال أبو حَنِيفَةَ هذا الْخِيَارُ يَثْبُتُ
لِلشَّرِيكِ الذي لم يُعْتِقْ سَوَاءٌ كان الْمُعْتِقُ مُعْسِرًا أو مُوسِرًا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا كان مُعْسِرًا لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ لَمَّا لم يَكُنْ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا كان الْمُعْتَقُ
مُتْلِفًا نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَوَجَبَ عليه الضَّمَانُ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ
يَمْنَعُ وُجُوبَ السِّعَايَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ حَالَ
الْإِعْسَارِ أَيْضًا وَأَنْ لَا يَكُونَ الْوَاجِبُ إلَّا الضَّمَانَ في
الْحَالَيْنِ جميعا وهو قَوْلُ بِشْرِ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وهو الْقِيَاسُ
لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ إلَّا
أَنَّا عَرَفْنَا وُجُوبَهَا على خِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ الذي رَوَيْنَا
وَالنَّصُّ وَرَدَ فيها في حَالِ الْإِعْسَارِ فَحَالُ الْيَسَارِ يَقِفُ على
أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلَمَّا كان مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ لم يَكُنْ الْإِعْتَاقُ
إتْلَافًا لِنَصِيبِ الشَّرِيكِ حتى يُوجِبَ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَكِنْ بَقِيَ
نَصِيبُهُ مُحْتَسَبًا عِنْدَ الْعَبْدِ بِحَقِّهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ
اسْتِخْلَاصُهُ منه وَهَذَا يُوجِبُ الضَّمَانَ على ما بَيَّنَّا وَهَذَا
الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين حَالِ الْيَسَارَ وَبَيْنَ حَالِ
الْإِعْسَارَ فَيَثْبُتُ خِيَارُ السِّعَايَةِ في الْحَالَيْنِ وإذا عَتَقَ
بِالْإِعْتَاقِ أو بِالسِّعَايَةِ أو بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَالْوَلَاءُ
بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ وَالْإِعْتَاقُ حَصَلَ مِنْهُمَا
وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ حَالَ يَسَارِ
____________________
(4/88)
الْمُعْتِقِ
فَأَمْرٌ ثَبَتَ شَرْعًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى بِالْأَحَادِيثِ التي
رَوَيْنَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا كان مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فإن الْمُعْتِقُ
مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ على طَرِيقِ الِاقْتِصَارِ وَمَنْ تَصَرَّفَ في
مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يُؤَاخَذُ بِمَا حَدَثَ في مِلْكِ غَيْرِهِ عِنْدَ
تَصَرُّفِهِ لَا بِتَصَرُّفِهِ كَمَنْ أَحْرَقَ دَارَ نَفْسِهِ فَاحْتَرَقَتْ
دَارُ جَارِهِ أو أسقى ( ( ( سقى ) ) ) أَرْضَ نَفْسِهِ فَنَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ
أو حَفَرَ بِئْرًا في دَارِ نَفْسِهِ فَوَقَعَ فيها إنْسَانٌ وَنَحْوُ ذلك إلَّا
أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ حَالَةَ الْيَسَارِ ثَبُتَ بِالنُّصُوصِ تَعَبُّدًا
غَيْرُ مَعْقُولٍ فَتَبْقَى حَالَةُ الْإِعْسَارِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ أو ثَبَتَ
مَعْقُولًا بِمَعْنَى النَّظَرِ لِلشَّرِيكِ كَيْ لَا يَتْلَفَ مَالُهُ بِمُقَابَلَةِ
مَالٍ في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ من غَيْرِ صُنْعٍ من الْمُعْتِقِ في نَصِيبِ
شَرِيكِهِ فَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ
في مُقَابَلَتِهِ عِوَضٌ فَيَكُونُ ضَمَانَ صِلَةٍ وَتَبَرُّعٍ كَنَفَقَةِ
الْمَحَارِمِ وَضَمَانُ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ إنَّمَا يَجِبُ حَالَةَ
الْيَسَارِ كما في نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ أو وَجَبَ نَظَرًا لِلْعَبْدِ لانه
تَبَرَّعَ عليه بِإِعْتَاقِ نِصْفِهِ فلم يَتِمَّ غَرَضُهُ في إيصَالِ ثَمَرَاتِ
الْعِتْقِ إلَى الْعَبْدِ فَوَجَبَ عليه الضَّمَانُ تَتْمِيمًا لِغَرَضِهِ
فَيَخْتَصُّ وُجُوبُهُ بِحَالَةِ الْيَسَارِ وَمِنْ مَشَايِخِنَا من سَلَكَ
طَرِيقَةً أُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ في ضَمَانِ الْعِتْقِ فقال هذا ضَمَانُ
إفْسَادٍ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ بِإِعْتَاقِهِ نَصِيبَهُ أَفْسَدَ نَصِيبَ
شَرِيكِهِ حَيْثُ أَخْرَجَهُ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ في حَقِّهِ حتى لَا
يَمْلِكَ فيه سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ عَقِيبَ فِعْلِهِ
وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ وَالسِّعَايَةَ وَالْحُكْمَ مَتَى ثَبَتَ
عَقِيبَ وَصْفٍ مُؤَثِّرٍ يُضَافُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ على
الْمُعْسِرِ نَصًّا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ
وَمِنْهُمْ من قال هو ضَمَانُ تَمَلُّكٍ لِأَنَّهُ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ على
الْمُعْتِقِ يَصِيرُ نَصِيبُ شَرِيكِهِ مِلْكًا له حتى كان له أَنْ يُعْتِقَ
نَصِيبَهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَهَذَا
تَفْسِيرُ ضَمَانِ التَّمَلُّكِ أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ مِلْكَ
الْعِوَضِ وَهَذَا كَذَلِكَ وَلِهَذَا كان ضَمَانُ الْغَصْبِ ضَمَانَ تَمَلُّكٍ
وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْإِتْلَافِ كَضَمَانِ الْغَصْبِ
فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَكُونُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ وَالْمَضْمُونُ وهو نَصِيبُ
الشَّرِيكِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ من مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ قِيلَ يُحْتَمَلُ
النَّقْلُ إلَى مِلْكِ الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ إنْ كان لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ
إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ
وَيَجُوزُ بَيْعُهُ منه أَيْضًا في الْقِيَاسِ هَكَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال
إنْ بَاعَ الذي لم يُعْتِقْ نَصِيبَهُ من الْمُعْتَقِ أو وَهَبَهُ له على عِوَضٍ
أَخَذَهُ منه وَهَذَا وَاخْتِيَارُهُ الضَّمَانَ سَوَاءٌ في الْقِيَاسِ غير أَنَّ
هذا أَفْحَشُهُمَا وَالْبَيْعُ هو نَقْلُ الْمِلْكِ بِعِوَضٍ إلَّا أَنَّ في
الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ من الْمُعْتَقِ كما لَا يَجُوزُ من غَيْرِهِ
لَكِنَّ هذا لَا يَنْفِي جَوَازَ النَّقْلِ لَا على وَجْهِ الْبَيْعِ فإن
الشَّيْءَ قد يَحْتَمِلُ النَّقْلَ إلَى إنْسَانٍ بِالضَّمَانِ وَإِنْ كان لَا
يَحْتَمِلُهُ بِجِهَةِ الْبَيْعِ فإن الْخَمْرَ تَنْتَقِلُ إلَى الْمُسْلِمِ
بِالضَّمَانِ بِأَنْ أَتْلَفَ على ذِمِّيٍّ خمرة
وَإِنْ كانت لَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِالْبَيْعِ على أَنَّ قَبُولَ الْمَحَلِّ
لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فيه بِشَرْطِ حَالِ انْعِقَادِ السَّبَبِ لَا حَالِ
أَدَاءِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ من ذلك الْوَقْتِ فَيُرَاعَى قَبُولُ
الْمَحَلِّ في ذلك الْوَقْتِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من غَصَبَ من آخَرَ عَبْدًا فَهَلَكَ في يَدِهِ ثُمَّ أَدَّى
الضَّمَانَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْهَالِكَ لَا يَقْبَلُ
الْمِلْكَ لَكِنْ لَمَّا كان قَابِلًا وَقْتَ انْعِقَادِ السَّبَبِ وَالْمِلْكُ
يَثْبُتُ من ذلك الْوَقْتِ يُعْتَبَرُ قَبُولُ الْمَحَلِّ فيه وَكَذَا هَهُنَا
ثُمَّ إذَا ضَمِنَ الذي أَعْتَقَ فَالْمُعْتَقُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ
ما بَقِيَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى
لِمَا ذَكَرْنَا في الشَّرِيكِ الذي لم يُعْتِقْ لِأَنَّ نَصِيبَهُ انْتَقَلَ
إلَيْهِ فَقَامَ مَقَامَهُ وَبِأَيِّ وَجْهٍ عَتَقَ من الْإِعْتَاقِ أو السِّعَايَةِ
فَوَلَاءُ الْعَبْدِ كُلُّهُ له لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ على مِلْكِهِ
هذا إذَا كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَأَمَّا إنْ كان مُعْسِرًا فَلِلشَّرِيكِ
أَرْبَعُ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ اعتق وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ
وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى لِمَا ذَكَرْنَا
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَيُعْتِقُ كُلَّهُ لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَكَانَ إعْتَاقُ بَعْضِهِ إعْتَاقًا
لِكُلِّهِ وَلَا خِيَارَ لِلشَّرِيكِ عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا له الضَّمَانُ لَا
غَيْرُ إنْ كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ السِّعَايَةُ
لَا غَيْرُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُعْتِقَ صَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ الشَّرِيكِ
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ هو الضَّمَانُ في حَالَةِ الْيَسَارِ
والأعسار آلا أَنَّ وُجُوبَ السِّعَايَةِ حَالَ الْإِعْسَارِ ثَبَتَ بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ بالنصر ( ( ( بالنص ) ) )
وَأَمَّا على قَوْلِ الشَّافِعِيِّ إنْ كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا عَتَقَ كُلُّهُ
وَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَضْمَنَهُ لَا غَيْرُ كما قَالَا وَإِنْ كان مُعْسِرًا
يُعْتِقُ ما أَعْتَقَ وَيَبْقَى الْبَاقِي مَحَلًّا لِجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ
الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ من الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَغَيْرِ ذلك لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ في حَالَةِ الْيَسَارِ وفي حَالَةِ
الْإِعْسَارِ يَتَجَزَّأُ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ
فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْمُعْتِقِ على نَصِيبِهِ فيبقي نَصِيبُهُ على ما
كان من مَشَايِخِنَا من قال لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا في أَنَّ الْعِتْقَ لَا
يَتَجَزَّأُ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الْإِعْتَاقِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا كان
____________________
(4/89)
مُتَجَزِّئًا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ كان الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا ضَرُورَةً إذْ هو حُكْمُ
الْإِعْتَاقِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ على وَفْقِ الْعِلَّةِ وَلَمَّا لم يَكُنْ
مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا لم يَكُنِ الْإِعْتَاقُ مُتَجَزِّئًا أَيْضًا لِمَا
قُلْنَا وَلِأَنَّ الْقَوْلَ بهذا قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ
يُوجَدُ الْإِعْتَاقَ في النِّصْفِ وَيَتَأَخَّرُ الْعِتْقُ فيه إلَى وَقْتِ
الضَّمَانِ أو السِّعَايَةِ وَأَنَّهُ قَوْلٌ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَلَا حُكْمَ وهو
تَفْسِيرُ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
وَلَنَا أَنَّ الْعِتْقَ وَإِنْ ثَبَتَ في نَصِيبِ الْمُعْتِقِ على طَرِيقِ
الِاقْتِصَارِ عليه لَكِنْ في الْإِعْتَاقِ حَقُّ اللَّهِ عز وجل وَحَقُّ
الْعَبْدِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الرُّجْحَانِ فَالْقَوْلُ
بِالتَّمْلِيكِ إبْطَالُ الْحَقَّيْنِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَكَذَا فيه إضْرَارٌ
بِالْمُعْتِقِ بِإِهْدَارِ تَصَرُّفِهِ من حَيْثُ الثَّمَرَةُ لِلْحَالِ
وَإِضْرَارٌ بِالْعَبْدِ من حَيْثُ إلْحَاقُ الذُّلِّ بِهِ في اسْتِعْمَالِ
النِّصْفِ الْحُرِّ وَالضَّرَرُ مَنْفِيٌّ شَرْعًا
فَإِنْ قِيلَ إنْ كان في التَّمْلِيكِ إضْرَارٌ بِالْمُعْتَقِ فَفِي الْمَنْعِ من
التَّمْلِيكِ إضْرَارٌ بِالشَّرِيكِ السَّاكِتِ لِمَا فيه من مَنْعِهِ من
التَّصَرُّفِ في مِلْكِهِ فوق ( ( ( فوقع ) ) ) التَّعَارُضُ فَالْجَوَابُ أنا لَا
نَمْنَعُهُ من التَّمْلِيكِ أَصْلًا وَرَأْسًا فإن له أَنْ يَضْمَنَ الْمُعْتَقَ
ويستسعى الْعَبْدَ وَيُكَاتِبَهُ وفي التَّضْمِينِ تملكيه ( ( ( تمليكه ) ) ) من
الْمُعْتِقِ بِالضَّمَانِ وفي الِاسْتِسْعَاءِ وَالْمُكَاتَبَةِ إزَالَةُ
الْمِلْكِ إلَى عِوَضٍ وهو السِّعَايَةُ وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ فَكَانَ فِيمَا
قُلْنَا رِعَايَةُ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ أَوْلَى فَإِنْ اخْتَارَ للتدبير ( ( (
التدبير ) ) ) فَدَبَّرَ نَصِيبَهُ صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ على مِلْكِهِ فَيَحْتَمِلُ التَّخْرِيجَ إلَى
الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرُ تخريج ( ( ( تخرج ) ) ) إلَى الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ له أَنْ يَتْرُكَهُ على حَالِهِ لِيُعْتَقَ بَعْد الْمَوْتِ بَلْ
يَجِبُ عليه السِّعَايَةُ لِلْحَالِ فَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ اخْتِيَارٌ
منه لِلسِّعَايَةِ وَلَهُ أَنْ يَعْتِقَ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ قَابِلٌ
لِلْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ له أَنْ يَضْمَنَ الْمُعْتَقَ لِأَنَّ التَّضْمِينَ
يَقْتَضِي تَمَلُّكَ الْمَضْمُونِ وَالْمُدَبَّرُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ من
مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ اخْتِيَارٌ منه لَلسِّعَايَةِ
وَاخْتِيَارُ السِّعَايَةِ يُسْقِطُ وَلَايَةَ التَّضْمِينِ على ما نَذْكُرُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ فَكَاتِبُ نَصِيبِهِ يَصِيرُ
نَصِيبُهُ مُكَاتِبًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا وَكَانَتْ
مُكَاتَبَتُهُ اخْتِيَارًا منه لِلسِّعَايَةِ حتى لَا يَمْلِكَ تَضْمِينَ
الْمُعْتِقِ بَعْدَ ذلك وَلِأَنَّ مِلْكَ الْمُكَاتَبِ وهو مُكَاتِبٌ لَا
يَحْتَمِلُ النَّقْلَ أَيْضًا فَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ وَيَمْلِكُ إعْتَاقَهُ
لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَمْنَعُ من الْإِعْتَاقِ ثُمَّ مُعْتَقُ الْبَعْضِ إذَا
كُوتِبَ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كَاتَبَهُ على الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ وَإِمَّا أن كَاتَبَهُ على الْعُرُوضِ وَإِمَّا أن كَاتَبَهُ على
الْحَيَوَانِ فَإِنْ كَاتَبَهُ على الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كانت
الْمُكَاتَبَةُ على قَدْرِ قِيمَتِهِ جَازَتْ لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ له اخْتِيَارُ
السِّعَايَةِ فإذا كَاتَبَهُ على ذلك فَقَدْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ وَتَرَاضَيَا
عليها وَإِنْ كَاتَبَهُ على أَقَلَّ من قِيمَتِهِ يَجُوزُ أَيْضًا لِأَنَّهُ رضي
بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ وَلَهُ أَنْ يَرْضَى بِإِسْقَاطِ الْكُلِّ فَهَذَا
أَوْلَى
وَإِنْ كَاتَبَهُ على أَكْثَرَ من قِيمَتِهِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مِمَّا
يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهَا جَازَتْ أَيْضًا لِأَنَّهَا لَيْسَتْ زِيَادَةً
مُتَحَقِّقَةً لِدُخُولِهَا تَحْتَ تَقْوِيمِ أَحَدِ الْمُقَوَّمَيْنِ وَإِنْ كانت
مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهَا يَطْرَحُ عنه الْفَضْلَ لِأَنَّ
مُكَاتَبَتَهُ اخْتِيَارٌ لِلسِّعَايَةِ وَالسِّعَايَةُ من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الزِّيَادَةِ على الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ
لِأَنَّهُ يَكُونُ رِبًا
وَإِنْ كانت الْمُكَاتَبَةُ على الْعُرُوضِ جَازَتْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ
لِأَنَّ الثَّابِتَ له عليه وهو السِّعَايَةُ من جِنْسِ الدَّرَاهِمِ والدنانير
بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ قَلَّتْ الْعُرُوض أو كَثُرَتْ وَإِنْ كانت على الْحَيَوَانِ
جَازَتْ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا ليس
بِمَالٍ وَلِهَذَا جَازَ ابْتِدَاءُ الْكِتَابَةِ على حَيَوَانٍ وَيَجِبُ
الْوَسَطُ كَذَا هذا
وَلَوْ صَالَحَ الذي لم يُعْتِقْ الْعَبْدَ أو الْمُعْتِقَ على مَالٍ فَهَذَا لَا
يَخْلُو عن الْأَقْسَامِ التي ذَكَرْنَاهَا في الْمُكَاتَبَةِ فَإِنْ كان
الصُّلْحُ على الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ على نِصْفِ قِيمَتِهِ لَا شَكَّ
أَنَّهُ جَائِزٌ وَكَذَا إذَا كان على أَقَلَّ من نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ
يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْقِيمَةِ فإذا رضي بِدُونِهِ فَقَدْ أَسْقَطَ بَعْضَ حَقِّهِ
فَيَجُوزُ وَكَذَا إنْ كان على أَكْثَرَ من نِصْفِ قِيمَتِهِ مِمَّا يَتَغَابَنُ
الناس في مِثْلِهِ لِمَا قُلْنَا
فَأَمَّا إذَا كان على أَكْثَرَ من نِصْفِ قِيمَتِهِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ الناس
في مِثْلِهِ فَالْفَضْلُ بَاطِلٌ في قَوْلِهِمْ جميعا أَمَّا على أَصْلِ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ قد وَجَبَ على الْعَبْدِ
أو على الْمُعْتَقِ وَالْقِيمَةُ من الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَالزِّيَادَةُ
على الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ تَكُونُ فَضْلَ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ في
عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَكُونُ رِبًا كَمَنْ كان له على آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ
فَصَالَحَهُ على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ إن الصُّلْحَ يَكُونُ بَاطِلًا كَذَا هذا
وَهَذَا على أَصْلِهِمَا مُطَّرِدٌ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا أَنَّ من أَتْلَفَ على
آخَرَ ما لَا مِثْلَ له أو غَصَبَ منه ما لَا مِثْلَ له فَهَلَكَ في يَدِهِ
فَالثَّابِتُ في ذِمَّتِهِ الْقِيمَةُ حتى لو صَالَحَ على أَكْثَرَ من قِيمَتِهِ
لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا فَكَذَا ضَمَانُ المعتق ( ( ( العتق ) ) ) لِأَنَّهُ
ضَمَانُ إتْلَافٍ عِنْدَهُمَا
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَالصُّلْحُ عن الْمُتْلَفِ أو الْمَغْصُوبِ على
____________________
(4/90)
أَضْعَافِ
قِيمَتِهِ جَائِزٌ وَهَهُنَا نَقُولُ لَا يَجُوزُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين
الْمَسْأَلَتَيْنِ وَالْفَرْقُ له من وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْوَاجِبَ
بِالْإِتْلَافِ وَالْغَصْبِ فِيمَا لَا مِثْلَ له من جِنْسِهِ في ذِمَّةِ
الْمُتْلِفِ وَالْغَاصِبُ هو الْمُتْلِفُ لَا قِيمَتُهُ فإذا صَالَحَ على أَكْثَرَ
من قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ كان ذلك عِوَضًا عن الْمُتْلَفِ فَجَازَ
وَضَمَانُ الْعِتْقِ ليس بِضَمَانِ إتْلَافٍ وَلَا ضَمَانَ غَصْبٍ عِنْدَهُ
لِثُبُوتِ الْمُتْلَفِ وَالْمَغْصُوبِ في الذِّمَّةِ فَكَانَ الثَّابِتُ في
الذِّمَّةِ هو الْقِيمَةُ وَهِيَ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ فَلَا يَجُوزُ الصُّلْحُ
على أَكْثَرَ منها
وَالثَّانِي أَنَّ الْغَاصِبَ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ اخْتِيَارِ
الضَّمَانِ لَا قَبْلَهُ بِدَلِيلِ أَنَّ له أَنْ لَا يَضْمَنَهُ لِيَهْلِكَ على
مِلْكِهِ فَيُثَابُ على ذلك وَيُخَاصَمُ الْغَاصِبُ يوم الْقِيَامَةِ فَكَانَ
الْمَغْصُوبُ قبل اخْتِيَارِ الضَّمَانِ على مِلْكِ الْمَغْصُوبِ منه فَكَانَ هذا
صُلْحًا عن الْعَبْدِ على هذا الْقَدْرِ من الْمَالَيْنِ فَكَأَنَّهُ مَلَكَهُ منه
بِهِ وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ لِلْمِلْكِ فَصَحَّ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ لَا
يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودًا فَكَانَ الصُّلْحُ عن قِيمَتِهِ فَلَا يَجُوزُ
لِمَا بَيَّنَّا
وَالثَّالِثُ أَنَّ الضَّمَانَ في بَابِ الْغَصْبِ يَجِبُ وَقْتَ الْغَصْبِ
لِأَنَّهُ هو السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ إلَى
الْغَاصِبِ في الْمَغْصُوبِ في ذلك الْوَقْتِ وإنه في ذلك الْوَقْتِ قَابِلٌ
لِلتَّمْلِيكِ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ على الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَالضَّمَانُ في
بَابِ الْعِتْقِ يَجِبُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ وَالْعَبْدُ في ذلك الْوَقْتِ لَا
يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودًا فَالصُّلْحُ لَا يَقَعُ عند الْعَبْدِ
وَإِنَّمَا يَقَعُ قميته فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ من قِيمَتِهِ وَإِنْ كان
الصُّلْحُ على عَرَضٍ جَازَ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ لِأَنَّ ذلك بَيْعُ
الْعَرَضِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَيْفَمَا كان
وَإِنْ صَالَحَهُ على شَيْءٍ من الْحَيَوَانِ كَالْعَبْدِ وَالْفَرَسِ
وَنَحْوِهِمَا فَإِنْ صَالَحَ الْعَبْدَ جَازَ وَعَلَيْهِ الْوَسَطُ وَإِنْ
صَالَحَ الْمُعْتَقَ لم يَجُزْ لِأَنَّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ
الْحَيَوَانَ بَدَلًا عن الْعِتْقِ وَأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ
دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا ليس بِمَالٍ كَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ
وَالْكِتَابَةِ وَالنِّكَاحِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ الْعَمْدِ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ
مع الْعَبْدِ في مَعْنَى مُكَاتَبَتِهِ وَإِنْ كَاتَبَهُ على عَبْدٍ مُطْلَقٍ أو
فَرَسٍ يَصِحُّ وَيَجِبُ الْوَسَطُ كَذَا هذا وَأَمَّا في الْفَصْلِ الثَّانِي
فَإِنَّمَا جَعَلَ الْحَيَوَانَ بَدَلًا عن الْقِيمَةِ وإنها مَالٌ وَالْحَيَوَانُ
لَا يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ بَدَلًا عن الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
وَلَوْ كان شريك الْمُعْتَقِ في الْعَبْدِ صَبِيًّا أو مَجْنُونًا له أَبٌ أو
جَدٌّ أو وَصِيٌّ فَوَلِيُّهُ أو وَصِيُّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ
الْمُعْتِقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَلَيْسَ
له أَنْ يُعْتِقَ أو يُدَبِّرَ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ وَالصَّبِيُّ
وَالْمَجْنُونُ لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ فَلَا يمكله ( ( ( يملكه ) ) ) من
يَلِي عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا مَلَكَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ الِاسْتِسْعَاءَ
وَالتَّضْمِينَ لِأَنَّ الِاسْتِسْعَاءَ مُكَاتَبَةٌ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ
يَمْلِكَانِ مُكَاتَبَةَ عبد الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالتَّضْمِينُ فيه نَقْلُ
الْمِلْكِ إلَى الْمُعْتِقِ فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ وَهُمَا يَمْلِكَانِ بَيْعَ
مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَكَذَلِكَ لو كان الشَّرِيكُ مُكَاتَبًا أو
مَأْذُونًا عليه دَيْنٌ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بين الضَّمَانِ وَالسِّعَايَةِ
وَالْمُكَاتَبَةِ إلَّا أَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ لِانْعِدَامِ
مِلْكِ الرَّقَبَةِ
أَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُكَاتَبِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّهُ أَخَصُّ
بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا في يَدِهِ من الْمَوْلَى وَأَمَّا الْمَأْذُونُ الذي ( ( (
والذي ) ) ) عليه دَيْنٌ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ ما في يَدِهِ
على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَيَكُونُ الْخِيَارُ لِلْعَبْدِ وَعَلَى أَصْلِهِمَا
إنْ كان يَمْلِكُ لَكِنَّ الْعَبْدَ أَخَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا في يَدِهِ من
الْمَوْلَى فَإِنْ لم يَكُنْ عليه عين ( ( ( دين ) ) ) فَالْخِيَارُ لِلْمَوْلَى
كما في الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَهُوَ وما في يَدِهِ
مِلْكُ الْمَوْلَى فَكَانَ الْخِيَارُ لِلْمَوْلَى فَإِنْ اخْتَارَ الشَّرِيكُ
السِّعَايَةَ فَفِي الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ الْوَلَاءُ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا من
أَهْلِ الْوَلَاءِ لِكَوْنِهِمَا حُرَّيْنِ وفي الْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ
الْوَلَاءُ لِلْمَوْلَى لِكَوْنِهِمَا رَقِيقِينَ وَالْوَلَاءُ لَا يَثْبُتُ إلَّا
لِلْحُرِّ وَإِنْ لم يَكُنْ لِلصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَلِيٌّ وَلَا وَصِيٌّ
فَإِنْ كان هُنَاكَ حَاكِمٌ نَصَّبَ الْحَاكِمُ من يَخْتَارُ لَهُمَا أَصْلَحَ
الْأُمُورِ من التَّضْمِينِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ
هُنَاكَ حَاكِمٌ وَقَفَ الْأَمْرُ حتى يَبْلُغَ الصَّبِيُّ وَيُفِيقَ الْمَجْنُونُ
فَيَسْتَوْفِيَانِ حُقُوقَهُمَا من الْخِيَارَاتِ الْخَمْسِ
ثُمَّ إذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ في الضَّمَانِ لَا بُدَّ
من مَعْرِفَتِهِمَا فَالْيَسَارُ هو أَنْ يَمْلِكَ الْمُعْتِقُ قَدْرَ قِيمَةِ ما
بَقِيَ من الْعَبْدِ قَلَّتْ أو كَثُرَتْ وَالْإِعْسَارُ هو أَنْ لَا يَمْلِكَ هذا
الْقَدْرَ لَا ما يَتَعَلَّقُ بِهِ حُرْمَةُ الصَّدَقَةِ وَحِلُّهَا حتى لو مَلَكَ
هذا الْقَدْرَ كان لِلشَّرِيكِ وِلَايَةُ تَضْمِينِهِ وَإِلَّا فَلَا
إلَى هذا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ فِيمَا رَوَيْنَا من حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي
اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من كان له شِقْصٌ في مَمْلُوكٍ
فَأَعْتَقَهُ فَعَلَيْهِ خلاصة من مَالِهِ إنْ كان له مَالٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له
مَالٌ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ في رَقَبَتِهِ غير مَشْقُوقٍ عليه اُعْتُبِرَ مُطْلَقُ
الْمَالِ لَا النِّصَابِ وَأَشَارَ النبي إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَخْلِيصُ
الْعَبْدِ
وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ التَّخْلِيصُ وَبِدُونِهِ لَا يَحْصُلُ
____________________
(4/91)
ثُمَّ
يَسَارُ الْمُعْتِقُ وَإِعْسَارُهُ يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ حتى لو كان
مُعْسِرًا وَقْتَ الْإِعْتَاقِ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ
ذلك وَقْتُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيُعْتَبَرُ ذلك الْوَقْتُ كَضَمَانِ الاتلاف
وَالْغَصْبِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْيَسَارِ والاعسار فَإِنْ كان اخْتِلَافُهُمَا حَالَ
الْإِعْتَاقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ لِأَنَّ الْأَصْلَ هو الْفَقْرُ
والغنا ( ( ( والغنى ) ) ) عَارِضٌ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُعْتِقِ
وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ زِيَادَةً
وَإِنْ كان الْإِعْتَاقُ متقداما ( ( ( متقدما ) ) ) وَاخْتَلَفَا فقال
الْمُعْتِقُ اعتقت عَامَ الْأَوَّلِ وأنا مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرْتُ فَيُعْتَبَرُ
ذاك ( ( ( ذلك ) ) ) الْوَقْتُ وقال الْآخَرُ بَلْ أعتقه ( ( ( أعتقته ) ) ) عَامَ
الْأَوَّلِ وَأَنْتَ مُوسِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ وَعَلَى الشَّرِيكِ
إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ حَالَةَ اعْتِبَارِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
شَاهِدٌ لِلْمُعْتِقِ فَيَحْكُمُ الْحَالُ كما إذَا اخْتَلَفَ صَاحِبُ الرَّحَى
والطجان ( ( ( والطحان ) ) ) في انْقِطَاعِ الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ أَنَّهُ
يَحْكُمُ الْحَالُ كَذَا هَهُنَا
وقد قال أبو يُوسُفَ في عَبْدَيْنِ بين رَجُلَيْنِ قال أَحَدُهُمَا أَحَدَكُمَا
حُرٌّ وهو فَقِيرٌ ثُمَّ اسْتَغْنَى ثُمَّ اخْتَارَ أَنْ يُوقِعَ الْعِتْقَ على
أَحَدِهِمَا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ يوم الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ لو كان مَاتَ قبل
أَنْ يَخْتَارَ وقد اسْتَغْنَى قبل مَوْتِهِ ضَمِنَ رُبُعَ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى حَالِهِ يوم أَوْقَعَ بِمَنْزِلَةِ من كَاتَبَ
نَصِيبَهُ من الْعَبْدِ ثُمَّ أَدَّى الْعَبْدُ فَيَعْتِقُ
ثُمَّ إنَّمَا أَنْظُرُ إلَى حَالِ مَوْلَاهُ يوم عَتَقَ الْمُكَاتَبَ وَلَا
أَنْظُرُ إلَى حَالِهِ يوم كَاتَبَ وَهَذَا على أَصْلِهِ صَحِيحٌ لِأَنَّ إضَافَةَ
الْعِتْقِ إلَى الْمَجْهُولِ تَعْلِيقٌ لِعِتْقِ عَبْدِهِ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ
كَأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِهِ نَصًّا فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ يوم الِاخْتِيَارِ
لِأَنَّهُ يوم الْعِتْقِ كما لو قال لِعَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ
قِيمَتِهِ يوم دخل الدَّارَ لَا يوم الْيَمِينِ لِأَنَّ يوم الدُّخُولِ هو يَوْمُ
الْعِتْقِ
وَأَمَّا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَإِضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى الْمَجْهُولِ تَنْجِيزٌ
وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عليه الْعِتْقُ فَيُعْتَبَرُ
صِفَةُ الْعِتْقِ في يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ يوم التَّكَلُّمِ بِالْعِتْقِ
وَكَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْعَبْدِ في الضَّمَانِ وَالسِّعَايَةِ يوم
الْإِعْتَاقِ حتى لو عُلِمَتْ قِيمَتُهُ يوم أَعْتَقَ ثُمَّ ازْدَادَتْ أو
انْتَقَصَتْ أو كَاتَبَ أَمَةً فَوَلَدَتْ لم يُلْتَفَتْ إلَى ذلك وَيُضَمِّنُهُ
قِيمَتَهُ يوم أَعْتَقَهُ لِأَنَّهُ يَوْمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَيَعْتَبِرُ
قِيمَتَهُ يَوْمَئِذٍ كما في الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وان لم يَعْلَمَا ذلك
وَاخْتَلَفَا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَكُونَ قَائِمًا وَقْتَ الْخُصُومَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هَالِكًا اتَّفَقَا
على حَالِ الْمُعْتِقِ أو اخْتَلَفَا فيها
وَالْأَصْلُ في هذه الْجُمْلَةِ أَنَّ الْحَالَ إنْ كانت تَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْحَالَ شَاهِدٌ صَادِقٌ أَصْلُهُ مَسْأَلَةُ
الطَّاحُونَةِ وَإِنْ كانت لَا تَشْهَدُ لِأَحَدِهِمَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُعْتِقِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ فَإِنْ كان الْعَبْدُ قَائِمًا وَقْتَ
الْخُصُومَةِ وَاتَّفَقَا على الْعِتْقِ في الْحَالِ وَاخْتَلَفَا في قِيمَتِهِ
بِأَنْ قال الْمُعْتِقُ قد اعتقته الْيَوْمَ وَقِيمَتُهُ كَذَا وقال شَرِيكُهُ نعم
أعتقه ( ( ( أعتقته ) ) ) الْيَوْمَ إلَّا أَنَّ قِيمَتَهُ أَكْثَرُ من ذلك
يُرْجَعُ إلَى قِيمَتِهِ لِلْحَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ التَّحَالُفُ وَالْبَيِّنَةُ
لِأَنَّ الْحَالَ أَصْدَقُ
وَكَذَا لو اخْتَلَفَا في حَالِ الْعِتْقِ فقال الْمُعْتِقُ أعتقه ( ( ( أعتقته )
) ) قبل هذا وَكَانَتْ قِيمَتُهُ كَذَا وقال الْآخَرُ أَعْتَقْتَهُ الْيَوْمَ
وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ أو قال الْمُعْتِقُ أَعْتَقْتُهُ الْيَوْمَ وَقِيمَتُهُ
كَذَا وقال الْآخَرُ بَلْ أَعْتَقْتَهُ قبل ذلك وَقِيمَتُهُ كانت أَكْثَرُ رَجَعَ
إلَى قِيمَتِهِ في الْحَالِ لِأَنَّ الْحَالَ إذَا شَهِدَتْ لِأَحَدِهِمَا
فَالظَّاهِرُ أَنَّ قِيمَتَهُ كانت كَذَلِكَ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ إذْ الْأَصْلُ
دَوَامُ الْحَالِ وَالتَّغَيُّرُ خِلَافُ الْأَصْلِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا
له فَأَشْبَهَ اخْتِلَافَ صَاحِبِ الطَّاحُونَةِ مع الطَّحَّانِ في انْقِطَاعِ
الْمَاءِ وَجَرَيَانِهِ أَنَّهُ يَحْكُمُ الْحَالُ فيه كَذَا هذا
وَإِنْ اتَّفَقَا على أَنَّ الْعِتْقَ كان مُتَقَدِّمًا على زَمَانِ الْخُصُومَةِ
لَكِنْ قال الْمُعْتِقُ قِيمَتُهُ كانت كَذَا وقال الشَّرِيكُ بَلْ كانت أَكْثَرَ
فَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ تَحْكِيمُ الْحَالِ بالرجوع ( ( ( الرجوع ) ) ) إلَى
قِيمَةِ الْعَبْدِ في الْحَالِ لِأَنَّهَا تَزِيدُ وَتَنْقُصُ في الْمُدَّةِ
وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُعْتِقُ لِأَنَّ الشَّرِيكَ يَدَّعِي عليه
زِيَادَةَ ضَمَانٍ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَالْمُتْلِفِ
وَالْغَاصِبِ وَقَالُوا في الشُّفْعَةِ إذَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ وَاخْتَلَفَ
الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي في قِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْأَرْضِ أن الْمَرْجِعَ إلَى
قِيمَةِ الْأَرْضِ في الْحَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي في الْبِنَاءِ
لِأَنَّ الشَّفِيعَ يُرِيدُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عليه الْأَرْضَ بِالشُّفْعَةِ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا إلَّا بِقَوْلِهِ فَأَمَّا الْمُعْتِقُ فَلَا يُرِيدُ
أَنْ يَتَمَلَّكَ على شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا شَرِيكُهُ يَدَّعِي عليه زِيَادَةَ
ضَمَانٍ وهو يُنْكِرُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان الْعَبْدُ هَالِكًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعْتِقِ لِمَا
قُلْنَا إنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَإِنْ هَلَكَ الْعَبْدُ قبل أَنْ يَخْتَارَ الشَّرِيكُ الذي لم يُعْتِقْ شيئا هل
له أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ إذَا كان مُوسِرًا اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فيه عن
أبي حَنِيفَةَ رَوَى مُحَمَّدٌ عنه وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ
أبي يُوسُفَ أَنَّ له أَنْ يُضَمِّنَّ الْمُعْتِقَ وَرَوَى أبو يُوسُفَ رِوَايَةً
أُخْرَى عنه أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على الْمُعْتِقِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ تَضْمِينَ الْمُعْتِقِ ثَبَتَ نَصًّا
____________________
(4/92)
بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّرِيكَ بِالْإِعْتَاقِ
تَصَرَّفَ في نَصِيبِ نَفْسِهِ على وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عليه لِبَقَاءِ نَصِيبِ
الشَّرِيكِ على مِلْكِهِ وَيَدِهِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ
التَّضْمِينِ ثَبَتَتْ شَرْعًا بِشَرِيطَةِ نَقْلِ مِلْكِ الْمَضْمُونِ إلَى
الضَّمَانِ فإذا هَلَكَ لم يَبْقَ الْمِلْكُ فَلَا يُتَصَوَّرُ نَقْلُهُ فَتَبْقَى
وِلَايَةُ التَّضْمِينِ على أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ أَنَّ وِلَايَةَ التَّضْمِينِ قد ثَبَتَتْ
بِالْإِعْتَاقِ فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَبْدِ كما إذَا مَاتَ الْعَبْدُ
الْمَغْصُوبُ في يَدِ الْغَاصِبِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ مِلْكُ الشَّرِيكِ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ خَرَجَ عن احْتِمَالِ
النَّقْلِ فَنَقُولُ الضَّمَانُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْإِعْتَاقِ فَيَسْتَنِدُ
مِلْكُ الْمَضْمُونِ إلَى ذلك الْوَقْتِ كما في بَابِ الْغَصْبِ وهو في ذلك
الْوَقْتِ كان مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَأَمْكَنَ إيجَابُ الضَّمَانِ وإذا ضَمِنَ
الْمُعْتَقَ يَرْجِعُ الْمُعْتِقُ بِمَا ضَمَّنَهُ في تَرِكَةِ الْعَبْدِ إنْ كان
له تَرِكَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ فَهُوَ دَيْنٌ عليه لِمَا ذَكَرْنَا من أَصْلِ أبي
حَنِيفَةَ أَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ يَبْقَى على مِلْكِهِ وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ
الْمُعْتِقَ إنْ كان مُوسِرًا وإذا ضَمَّنَهُ مَلَكَ الْمُعْتِقُ نَصِيبَهُ
بِالسَّبَبِ السَّابِقِ وهو الْإِعْتَاقُ وكان له أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ في
تَرِكَةِ الْعَبْدِ كما كان له أَنْ يَأْخُذَ منه لو كان حَيًّا وَإِنْ كان
مُعْسِرًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ في تَرِكَةِ الْعَبْدِ وَإِنْ لم يَتْرُكْ شيئا
فَلَا شَيْءَ لِلشَّرِيكِ لِأَنَّ حَقَّهُ عليه وهو قد مَاتَ مُفْلِسًا
هذا إذَا مَاتَ الْعَبْدُ وَأَمَّا إذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنْ مَاتَ
الْمُعْتِقُ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ الْإِعْتَاقُ منه في حَالِ
صِحَّتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ في حَالِ مَرَضِهِ فَإِنْ كان في حَالِ صِحَّتِهِ
يُؤْخَذُ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ من تَرِكَتِهِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان في
حَالِ مَرَضِهِ لم يَضْمَنْ شيئا حتى لَا يُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ وَهَذَا قَوْلُ
أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْتَوْفِي الشَّرِيكُ من مَالِهِ قِيمَةَ
نَصِيبِهِ وَهَذَا مَبْنِيٌّ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا
يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْإِعْتَاقَ لَمَّا لم يَكُنْ
مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا كان ضَمَانُ الْعِتْقِ ضَمَانَ إتْلَافٍ وَضَمَانُ
الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلَمَّا كان مُتَجَزِّئًا
عِنْدَهُ كان الْمُعْتِقُ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفْسِهِ على طَرِيقِ
الِاقْتِصَارِ وَمِثْلُ هذا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ في أُصُولِ الشَّرْعِ
وَلِهَذَا لو كان مُعْسِرًا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَلَوْ كان إعْتَاقُهُ
إتْلَافًا أو إفْسَادًا لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مَعْنًى لَوَجَبَ الضَّمَانُ لِأَنَّ
ضَمَانَ الْإِتْلَافِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ إلَّا أَنَّا
عَرَفْنَا وُجُوبَ الضَّمَانِ بِالنَّصِّ وَأَنَّهُ وَرَدَ في حَالِ الْيَسَارِ
الْمُطْلَقِ وذاك ( ( ( وذلك ) ) ) في حَالَةِ الصِّحَّةِ لِأَنَّهَا حَالُ
خُلُوصِ أَمْوَالِهِ وفي مَرَضِ الْمَوْتِ يَتَعَلَّقُ بها حَقُّ الْوَرَثَةِ حتى
لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِلْوَرَثَةِ أَصْلًا وَلَا يَصِحُّ تَبَرُّعُهُ على
الْأَجْنَبِيِّ إلَّا من الثُّلُثِ وَلَا تَصِحُّ كَفَالَتُهُ وَلَا إعْتَاقُهُ
إلَّا من الثُّلُثِ فلم يَكُنِ حَالُ الْمَرَضُ حَالَ يَسَارٍ مُطْلَقٍ وَلَا
مِلْكٍ مطلق فَبَقِيَ الْأَمْرُ فيها على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ
الْعِتْقِ ضَمَانُ صِلَةٍ وَتَبَرُّعٍ لِوُجُوبِهِ من غَيْرِ صُنْعٍ من جِهَةِ
الْمُعْتِقِ في نَصِيبِ الشَّرِيكِ
أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ على الْمُعْسِرِ وَالصِّلَاتُ إذَا لم تَكُنْ
مَقْبُوضَةً تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِ
ذلك
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لو وَجَبَ الضَّمَانُ
على الْمَرِيضِ وَيُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ يَكُونُ هذا من مَالِ الْوَارِثِ
وَالْمَعْنَى فيه أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الثُّلُثَ لِلْمَرِيضِ في حَالِ مَرَضِ
مَوْتِهِ وَالثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ
قال النبي إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ في
آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً على أَعْمَالِكُمْ وَهَكَذَا نَقُولُ في حَالَةِ
الصِّحَّةِ أنه يَجِبُ صِلَةً ثُمَّ قد يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً في حَالَةِ
الْبَقَاءِ فإنه يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ في الْمَضْمُونِ في حَقِّ الْإِعْتَاقِ
وَالِاسْتِسْعَاءِ كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ صِلَةً
ثُمَّ يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً وَكَذَا الْكَفَالَةُ تَنْعَقِدُ تَبَرُّعًا حتى لَا
تَصِحَّ إلَّا مِمَّنْ هو أَهْلُ التَّبَرُّعِ ثُمَّ تَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً
وَإِنَّمَا انْقَلَبَتْ مُعَاوَضَةً لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ في رَقَبَةِ
الْغَيْرِ مُجَازَاةً لِصِلَتِهِ أو تَحَمُّلًا عن الْعَبْدِ لِأَنَّ الضَّمَانَ
عليه في الْحَقِيقَةِ لِحُصُولِ النَّفْعِ له ثُمَّ له حَقُّ الرُّجُوعِ في
مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِالسِّعَايَةِ كما في الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ
يَكُونُ مُتَبَرِّعًا في التَّحَمُّلِ عن الْمَكْفُولِ عنه ثُمَّ إذَا صَحَّ
تَحَمُّلُهُ وَمَلَكَ ما في ذِمَّتِهِ بِالْأَدَاءِ إلَى الْمَكْفُولِ له
انْقَلَبَتْ مُعَاوَضَةً
أَلَا تَرَى أَنَّ من قال في حَالِ الصِّحَّةِ ما كان لَك على فُلَانٍ فَهُوَ
عَلَيَّ ثُمَّ كان له على فُلَانٍ في مَرَضِهِ فَأُخِذَ ذلك من الْمَرِيضِ فإنه
يُعْتَبَرُ من جَمِيعِ الْمَالِ لَا من الثُّلُثِ وَيُؤْخَذُ من تَرِكَتِهِ وَلَوْ
وُجِدَ ابْتِدَاءُ الْكَفَالَةِ في الْمَرَضِ يَكُونُ الْمُؤَدَّى مُعْتَبَرًا من
الثُّلُثِ فَدَلَّ على التَّفْرِقَةِ بين الْفَصْلَيْنِ
وَإِنْ مَاتَ الشَّرِيكُ الذي لم يُعْتِقْ ثَبَتَ الْخِيَارُ لِوَرَثَتِهِ فَإِنْ
اجْتَمَعُوا على شَيْءٍ من الْإِعْتَاقِ أو التَّضْمِينِ أو الِاسْتِسْعَاءِ
وَغَيْرِ ذلك فَلَهُمْ ذلك بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَ الْمَيِّتَ
وَيَقُومُونَ مَقَامَهُ وكان لِلْمُوَرِّثِ ذلك قبل مَوْتِهِ فَكَذَا لهم وَإِنْ
انْفَرَدُوا فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ الْإِعْتَاقَ
____________________
(4/93)
وَبَعْضُهُمْ
التَّضْمِينَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ لهم ذلك وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أنه
ليس لهم ذلك إلَّا أَنْ يُعْتِقُوا أو يُسْتَسْعَوْا أو يُضَمِّنُوا وَالظَّاهِرُ
أَنَّهُ رِوَايَةٌ عن أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَ الْحَسَنِ لَا
يَتَجَزَّأُ كما لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا يَصِحُّ
هذا التَّفْرِيعُ على مَذْهَبِهِ وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ نَصِيبَ
الشَّرِيكِ قد بَقِيَ على مِلْكِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لتجزىء ( ( ( لتجزيء ) )
) الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ وقد انْتَقَلَ نَصِيبَهُ إلَى الْوَرَثَةِ بِمَوْتِهِ
فَصَارُوا كَالشُّرَكَاءِ في الْأَصْلِ في الْعَبْدِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ
أَنَّ لِلْبَاقِينَ أَنْ يَخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم ما يَشَاءُ كَذَا هذا
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْوَرَثَةَ انْتَقَلَ إلَيْهِمْ ما كان
لِلْمَيِّتِ وما كان له أَنْ يَخْتَارَ الضَّمَانَ في الْبَعْضِ وَالسِّعَايَةَ في
الْبَعْضِ فَكَذَا لهم وَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ ثُمَّ مَاتَ ليس لِوَرَثَتِهِ أَنْ
يَنْفَرِدُوا بِأَنْ يَخْتَارَ بَعْضُهُمْ الْإِعْتَاقَ وَبَعْضُهُمْ التَّضْمِينَ
وَبَعْضُهُمْ الِاسْتِسْعَاءَ بَلْ ليس لهم إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا على شَيْءٍ
وَاحِدٍ إمَّا الْعِتْقُ وَإِمَّا الضَّمَانُ كَذَا هذا
ثُمَّ على رِوَايَةِ الْحَسَنِ لو أَعْتَقَ بَعْضُهُمْ كان إعْتَاقُهُ بَاطِلًا ما
لم يَجْتَمِعُوا على الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ على
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَأَعْتَقَ بَعْضُ الْوَرَثَةِ
الْمُكَاتَبَ كان إعْتَاقُهُ بَاطِلًا ما لم يَجْتَمِعُوا عليه كَذَا هذا
فإذا اجْتَمَعُوا على عِتْقِهِ يُعْتَقُ بِلَا خِلَافٍ وَالْوَلَاءُ يَكُونُ
لِلْمَيِّتِ حتى يَنْتَقِلَ إلَى الذُّكُورِ من وَرَثَتِهِ دُونَ الْإِنَاثِ وهو
فَائِدَةُ كَوْنِهِ لِلْمَيِّتِ لِأَنَّ من أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ
الْمُعْتَقَ بَعْضُهُ في مَعْنَى الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَنْتَقِلُ فيه
بِالْإِرْثِ فَكَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَيِّتِ كَذَا هذا
وإذا كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا يوم أَعْتَقَهُ فَاخْتَارَ الشَّرِيكُ تَضْمِينَهُ
ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ عن ذلك وَيَخْتَارَ السِّعَايَةَ ذَكَرَ في الْأَصْلِ
أَنَّهُ ليس له ذلك ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا رضي الْمُعْتِقُ بِالضَّمَانِ أو
حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ أو لم يَرْضَ بِهِ الْمُعْتِقُ وَلَا حَكَمَ بِهِ
الْحَاكِمُ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ له ذلك ما لم يَقْبَلْ
الْمُعْتِقُ منه التَّضْمِينَ أو يَحْكُمْ بِهِ الْحَاكِمُ فَإِنْ قَبِلَ أو
حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ فَلَيْسَ له ذلك من الْمَشَايِخِ من لم يَجْعَلْ في
الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ وَجَعَلَ ما ذَكَرَهُ ابن سِمَاعَةَ عن
مُحَمَّدٍ من التَّفْصِيلِ تَفْسِيرًا لِمَا ذَكَرَهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْجَصَّاصُ وقال أَرَادَ بِمَا ذَكَرَ في الْكِتَابِ إذَا
قَضَى بِهِ الْقَاضِي أو رضي بِهِ الشَّرِيكُ
وَحَكَى عن الْكَرْخِيِّ وَالْجَصَّاصِ أَنَّهُمَا جَعَلَا مَسْأَلَةَ الْغَاصِبِ
وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ على هذا أَنَّهُ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ منه تَضْمِينَ
أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَدَا له وَاخْتَارَ تَضْمِينَ الْآخَرِ فَلَهُ ذلك إلَّا أَنْ
يَرْضَى بِهِ الْمُضَمَّنُ أو يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي وَمِنْهُمْ من جَعَلَ في
الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ له خِيَارَ التَّضْمِينِ وَخِيَارَ
السِّعَايَةِ وَالْمُخَيَّرُ بين شَيْئَيْنِ إذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا سَقَطَ
حَقُّهُ من الْآخَرِ فَكَانَ اخْتِيَارُهُ التضمين ( ( ( للتضمين ) ) ) إبْرَاءً
لِلْعَبْدِ عن السِّعَايَةِ وَلِهَذَا لو اخْتَارَ السِّعَايَةَ لم يَكُنْ له أَنْ
يَخْتَارَ الضَّمَانَ وَكَانَتْ نَفْسُ اخْتِيَارِ السِّعَايَةِ إبْرَاءً له عن
الضَّمَانِ من غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا كَذَا إذَا اخْتَارَ الضَّمَانَ
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ اخْتِيَارَ الشَّرِيكَيْنِ تَضْمِينَ
الْمُعْتِقِ إيجَابُ الْمِلْكِ له في الْمَضْمُونِ بِعِوَضٍ وهو الضَّمَانُ
وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرِّضَا أو بِالْقَضَاءِ فما لم يُوجَدْ أَحَدُهُمَا
لَا يَتِمُّ له الِاخْتِيَارُ وكان له الرُّجُوعُ عنه إلَى السِّعَايَةُ بِخِلَافِ
ما إذَا اخْتَارَ الشَّرِيكُ السِّعَايَةَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ له خِيَارُ
التَّضْمِينِ بَعْدَ ذلك رضي بِذَلِكَ الْعَبْدُ أو لم يَرْضَ لِأَنَّ اخْتِيَارَ
السِّعَايَةِ على الْعَبْدِ ليس فيه إيجَابُ الْمِلْكِ لِلْعَبْدِ بِعِوَضٍ حتى
يَقِفَ ذلك على رِضَاهُ فَلَا يَقِفُ عليه فَإِنْ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَ
صَاحِبِهِ لم يُعْتَقْ منه شَيْءٌ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ
فَيَقْتَصِرُ الْعِتْقُ على نَصِيبِ الْمُعْتِقِ فإذا صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ لم
يَنْفُذْ وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَالْعِتْقُ وَإِنْ كان لَا يَتَجَزَّأُ لَكِنْ
لَا بُدَّ من ثُبُوتِ الْعِتْقِ في نَصِيبِهِ ثُمَّ يَسْرِي إلَى نَصِيبِ
شَرِيكِهِ فإذا أَضَافَ الْإِعْتَاقَ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ لم يَثْبُتْ
الْعِتْقُ في نَصِيبِ نَفْسِهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ الشَّرِيكِ وَإِنْ
كان الْمُعْتَقُ جَارِيَةً حَامِلًا لَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ من قِيمَةِ
الْوَلَدِ شيئا لِأَنَّ الْحَمْلَ بِمَنْزِلَةِ طَرَفٍ من أَطْرَافِهَا وَالْأَطْرَافُ
بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ وَالْأَوْصَافُ لَا تُفْرَدُ بِالضَّمَانِ إلَّا بَعْدَ
وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فيها مَقْصُودًا ولأن الْحَمْلَ في
الْآدَمِيَّةِ نُقْصَانٌ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ بِنُقْصَانِ الْمُتْلِفِ زِيَادَةَ
ضَمَانٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ حَمْلٍ يُعْتَقُ أُمُّهُ إذَا كان الْمُعْتِقُ
مَالِكَهُمَا كما في الرَّهْنِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَالِكًا لِلْوَلَدِ كما في
الْجَارِيَةِ الْمُوصَى بِرَقَبَتِهَا لِرَجُلٍ وَبِحَمْلِهَا لِآخَرَ فَأَعْتَقَ
صَاحِبُ الرَّقَبَةِ الْأُمَّ يُعْتَقُ الْحَمْلُ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ
لِصَاحِبِهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ انْفَرَدَ عن الْأُمِّ في الْمِلْكِ فَجَازَ أَنْ
يتفرد ( ( ( ينفرد ) ) ) بِالضَّمَانِ
وَإِنْ كان الْعَبْدُ بين جَمَاعَةٍ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَاخْتَارَ
بَعْضُ الشُّرَكَاءِ الضَّمَانَ وَبَعْضُهُمْ السِّعَايَةَ
____________________
(4/94)
وَبَعْضُهُمْ
الْعِتْقَ فَذَلِكَ لهم وَلِكُلِّ وَاحِدٍ منهم ما اخْتَارَ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ إعْتَاقَ نَصِيبِهِ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم
الْخِيَارَاتِ وَنَصِيبُ كل وَاحِدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِنَصِيبِ الْآخَرِ فَكَانَ
لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم ما اخْتَارَ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ قال أبو حَنِيفَةَ في عَبْدٍ بين ثَلَاثَةٍ أَعْتَقَ
أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ ثُمَّ أَعْتَقَ الْآخَرُ بَعْدَهُ فَلِلثَّالِثِ أَنْ
يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ الْأَوَّلَ إنْ كان مُوسِرًا وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ أو
دَبَّرَ أو كَاتَبَ أو اسْتَسْعَى لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَقِيَ على مِلْكِهِ فَثَبَتَ
له الْخِيَارَاتُ لِلتَّخْرِيجِ إلَى الْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَ
الْمُعْتِقَ الثَّانِيَ وَإِنْ كان مُوسِرًا لِأَنَّ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ ثَبَتَ
على مُخَالَفَةِ الْقِيَاسِ لَمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْمُعْتَقِ في
نَصِيبِ الشَّرِيكِ بِإِتْلَافِ نَصِيبِهِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ
نَظَرًا لِلشَّرِيكِ وإنه يَحْصُلُ بِتَضْمِينِ الْأَوَّلِ وَلِأَنَّ ضَمَانَ
الْعِتْقِ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ في الْأَصْلِ فإذا أَعْتَقَ الْأَوَّلُ فَقَدْ
ثَبَتَ لِلشَّرِيكِ حَقُّ نَقْلِ الْمِلْكِ الْمَضْمُونِ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِ
الضَّمَانِ وَتَعَلَّقَ بِذَلِكَ النَّقْلِ حَقُّ الْوَلَاءِ وَالْوَلَاءُ لَا
يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَمْلِكُ نَقْلَ حَقِّ التَّضْمِينِ إلَى غَيْرِهِ
فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْأَوَّلِ فَالْأَوْلَى أَنْ يَعْتِقَ وَإِنْ شَاءَ
دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى لِأَنَّهُ قام مَقَامَ
الْمُضَمِّنِ وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ الثَّانِيَ لِأَنَّ
الْأَوَّلَ لم يَكُنْ له أَنْ يَضْمَنَهُ فَكَذَا من قام مَقَامَهُ
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فلما أَعْتَقَ الْأَوَّلُ أُعْتِقَ جَمِيعُ الْعَبْدِ
فلم يَصِحَّ إعْتَاقُ الثَّانِي وَلَيْسَ لِلثَّانِي وَالثَّالِثِ إلَّا
التَّضْمِينُ إنْ كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَالسِّعَايَةُ إنْ كان مُعْسِرًا
وَعَلَى هذا من كان له عَبْدٌ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
يُعْتِقُ نِصْفَهُ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا يَجِبُ تَخْرِيجُهُ إلَى
الْعَتَاقِ فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ
وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وإذا أَدَّى السِّعَايَةَ أو بَدَلَ الْكِتَابَةِ
يُعْتِقُ كُلَّهُ وَلَيْسَ له أَنْ يَتْرُكَهُ على حَالِهِ
وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ سَوَاءٌ كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا أو
مُعْسِرًا من غَيْرِ سِعَايَةٍ وَكَذَا إذَا أَعْتَقَ جُزْءًا من عَبْدِهِ أو شِقْصًا
منه يَمْضِي منه ما شَاءَ وَيَبْقَى الْبَاقِي رَقِيقًا يَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ
بِالْخِيَارَاتِ التي وَصَفْنَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
عِنْدَهُ متجزىء إلَّا أَنَّ هَهُنَا أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى مَجْهُولٍ فَيَرْجِعُ
في الْبَيَانِ إلَيْهِ كما لو قال أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ
وَقِيلَ يَنْبَغِي في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في السَّهْمِ أَنْ يُعْتَقَ
منه سُدُسُهُ لِأَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عن السُّدُسِ في عُرْفِ الشَّرْعِ لِمَا
رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى في زَمَنِ النبي
بِسَهْمٍ من مَالِهِ لِرَجُلٍ فَأَعْطَاهُ النبي سُدُسَ مَالِهِ
وعن جَمَاعَةٍ من أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عن السُّدُسِ في
اللُّغَةِ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ
عَبْدٌ بين رَجُلَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا ثُمَّ
إنْ كان الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ ست خِيَارَاتٌ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ
وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ وَإِنْ شَاءَ
اسْتَسْعَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ على حَالِهِ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلِشَرِيكِهِ
خَمْسُ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ
وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ على حَالِهِ وَلَيْسَ له أَنْ
يُضَمِّنَ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ متجزىء
كَالْإِعْتَاقِ فَيَثْبُتُ له الْخِيَارَاتُ أَمَّا خِيَارُ الْعِتْقِ
وَالتَّدْبِيرِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالسِّعَايَةِ فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ بَقِيَ على
مِلْكِهِ في حَقِّ التَّخْرِيجِ إلَى الْعَتَاقِ
وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ أَخْرَجَهُ من أَنْ
يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ
وَنَحْوِ ذلك فَقَدْ أَتْلَفَهُ في حَقِّ هذه التَّصَرُّفَاتِ فَكَانَ لِلشَّرِيكِ
وِلَايَةُ التَّضْمِينِ
وَأَمَّا خِيَارُ التَّرْكِ على حَالِهِ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لم تَثْبُتْ في
جُزْءٍ منه فَجَازَ بَقَاؤُهُ على الرِّقِّ وأنه مُفِيدٌ لِأَنَّ له أَنْ
يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْفَعَةَ الِاسْتِخْدَامِ فَلَا يُكَلَّفُ تَخْرِيجُهُ إلَى
الْحُرِّيَّةِ ما لم يَمُتْ الْمُدَبِّرُ فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُدَبِّرِ
فَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضُمِّنَ على الْعَبْدِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ
كان له أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فلما ضَمَّنَ شَرِيكَهُ قام مَقَامَهُ فِيمَا كان له
فإذا أَدَّى عَتَقَ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ
على مِلْكِهِ لِانْتِقَالِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَيْهِ وَإِنْ اخْتَارَ
الِاسْتِسْعَاءَ أو الْإِعْتَاقَ كان الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ نَصِيبَ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ على مِلْكِهِ وَأَمَّا إذَا كان مُعْسِرًا فَلَا حَقَّ
له في الضَّمَانِ لِأَنَّ ضَمَانَ التَّدْبِيرِ لَا يَجِبُ مع الْإِعْسَارِ كما
لَا يَجِبُ ضَمَانُ الْإِعْتَاقِ فَبَقِيَ أَرْبَعُ خِيَارَاتٍ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ على أَصْلِهِمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَالْإِعْتَاقِ الْمُعَجَّلِ
وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ إلَّا التَّضْمِينُ مُوسِرًا كان الْمُدَبَّرُ أو مُعْسِرًا
على الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عنهما لِأَنَّ ضَمَانَ النَّقْلِ وَالتَّمْلِيكِ
لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ كَالْبَيْعِ
وَلَوْ كان الْعَبْدُ بين ثَلَاثَةِ رَهْطٍ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمْ وهو مُوسِرٌ
ثُمَّ أَعْتَقَهُ الثَّانِي وهو مُوسِرٌ فَلِلشَّرِيكِ الثَّالِثِ أَنْ يُضَمِّنَ
الْمُدَبِّرَ ثُلُثَ قِيمَتِهِ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُدَبِّرُ على الْعَبْدِ
وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتَقَ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ
الْمُعْتَقَ ثُلُثَ
____________________
(4/95)
قِيمَتِهِ
مُدَبَّرًا وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَهُ ما انْتَقَلَ إلَيْهِ من نَصِيبِ
الثَّالِثِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْعَبْدُ كُلُّهُ مُدَبَّرٌ لِلَّذِي دَبَّرَهُ
وَيُضَمِّنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ لَمَّا كان مُتَجَزِّئًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فلما دَبَّرَهُ
أَحَدُهُمْ فَقَدْ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ سِتُّ خِيَارَاتٍ
فلما أَعْتَقَهُ الثَّانِي فَقَدْ اسْتَوْفَى ما كان له فلم تَبْقَ له وِلَايَةُ
تَضْمِينِ الْمُدَبَّرِ وَلِلسَّاكِتِ أَنْ يُضَمِّنَهُ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه
نَصِيبَهُ فَكَانَ له وِلَايَةُ التَّضْمِينِ وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَ
الْمُعْتَقَ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُعْتَقِ ضَمَانُ مُعَاوَضَةٍ في الْأَصْلِ وهو
ضَمَانُ التَّمَلُّكِ وهو أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الضَّمَانِ مِلْكُ
الْمَضْمُونِ كَضَمَانِ الْغَاصِبِ
وَلَوْ ضَمِنَ الْمُعْتَقَ لَا يَمْلِكُ الْمُعْتِقُ الْمَضْمُونَ لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ انْعَقَدَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ على الْمُدَبَّرِ وإنه
يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ فَصَارَ ذلك النَّصِيبُ بِحَالٍ لَا يَحْتَمِلُ
النَّقْلَ إلَى غَيْرِ الْمُدَبَّرِ فَتَعَذَّرَ تَضْمِينُ الْمُعْتِقِ وَلِأَنَّ
الْمُدَبَّرَ بِالتَّدْبِيرِ قد ثَبَتَ له حَقُّ الْوَلَاءِ وَالْوَلَاءُ لَا
يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى الْغَيْرِ
وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُعْتِقَ لِأَنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ أَتْلَفَ
نَصِيبَهُ بِإِخْرَاجِهِ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ مَنْفَعَةَ
الِاسْتِخْدَامِ فَيَضْمَنُ له قِيمَةَ نَصِيبِهِ لَكِنْ مُدَبِّرًا لِأَنَّ
الْمُتْلَفَ مُدَبَّرٌ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُدَبِّرُ على الْعَبْدِ لِأَنَّ
نَصِيبَ السَّاكِتِ انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَامَ هو مَقَامَهُ وكان له أَنْ
يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ فَكَذَا لِلْمُدَبِّرِ وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لم تَثْبُتْ
في جُزْءٍ منه فَجَازَ إبْقَاؤُهُ على الرِّقِّ ولم يُمْكِنْ أَنْ يَجْعَلَ هذا
ضَمَانَ مُعَاوَضَةٍ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ وَالْمُدَبَّرُ لَا يَحْتَمِلُ
النَّقْلَ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فَجُعِلَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ بِطَرِيقِ
الضَّرُورَةِ وَإِنْ شَاءَ الْمُدَبَّرُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الذي دَبَّرَهُ
لِأَنَّ بِإِعْتَاقِ شَرِيكِهِ لم يَزُلْ مِلْكُهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى
الْعَبْدَ كما في عِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَإِنْ اخْتَارَ الضَّمَانَ كان
لِلْمُعْتِقِ أَنْ يَسْتَسْعِي الْعَبْدَ لِأَنَّ الْمُدَبِّرَ أَقَامَهُ مَقَامَ
نَفْسِهِ فَكَانَ له أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فَكَذَا له وَلَيْسَ له أَنْ يُضَمِّنَ
الْمُعْتِقَ قِيمَةَ الثُّلُثِ الذي انْتَقَلَ إلَيْهِ من الثَّالِثِ لِأَنَّ
الْمُدَبَّرَ إنَّمَا مَلَكَ ذلك الثُّلُثَ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ
مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ التَّدْبِيرِ وَالْمُسْتَنِدُ قبل ثُبُوتِهِ في الْمَحَلِّ
يَكُونُ ثَابِتًا من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ في حَقِّ
الْمُعْتِقِ فَلَا يَضْمَنُ الْمُعْتِقُ له ذلك
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالتَّدْبِيرُ لَمَّا لم يَكُنْ مُتَجَزِّئًا صَارَ
الْكُلُّ مُدَبَّرًا وَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلشَّرِيكَيْنِ لِإِتْلَافِ
نَصِيبِهِمَا عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ كان مُوسِرًا أو مُعْسِرًا لَا تَجِبُ
السِّعَايَةُ هُنَا بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ لِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ يَزُولُ
مِلْكُهُ فَيَسْعَى وهو حُرٌّ وَهَهُنَا بِالتَّدْبِيرِ لَا يَزُولُ مِلْكُهُ بَلْ
يَصِيرُ الْعَبْدُ كُلُّهُ مُدَبَّرًا له وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ لِلْمَوْلَى
فَتَعَذَّرَ الِاسْتِسْعَاءُ
وَعَلَى هذا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ على الْآخَرِ بِالْإِعْتَاقِ
بِأَنْ كان الْعَبْدُ بين رَجُلَيْنِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ أَنَّهُ
أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ على صَاحِبِهِ
وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ على نَفْسِهِ ولم يَجُزْ على صَاحِبِهِ وَلَا يُعْتَقُ
نَصِيبُ الشَّاهِدِ وَلَا يَضْمَنُ لِصَاحِبِهِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ في قِيمَتِهِ
بَيْنَهُمَا مُوسِرَيْنِ كَانَا أو مُعْسِرَيْنِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا إنْ كان الْمَشْهُودُ عليه مُوسِرًا فَلَا سِعَايَةَ لِلشَّاهِدِ
على الْعَبْدِ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ السِّعَايَةُ عليه
أَمَّا عَدَمُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ فَلِأَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْدِ في هذا الْبَابِ
غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَوْ كَانَا اثْنَيْنِ لَكَانَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا
أَيْضًا لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا يَجُرَّانِ الْمَغْنَمَ إلَى أَنْفُسِهِمَا
لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ بِهِ حَقَّ التَّضْمِينِ لِأَنْفُسِهِمَا وَلَا
شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ إلَّا أَنَّهُ
بِشَهَادَتِهِ على صَاحِبِهِ صَارَ مُقِرًّا بِفَسَادِ نَصِيبِهِ بِإِقْرَارِهِ
على صَاحِبِهِ بِإِعْتَاقِ نَصِيبِهِ فَشَهَادَتُهُ على صَاحِبِهِ وَإِقْرَارُهُ
عليه إنْ لم يَجُزْ فَإِقْرَارُهُ بِفَسَادِ نَصِيبِ نَفْسِهِ جَائِزٌ لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ يُصَدَّقُ بِإِقْرَارِهِ على نَفْسِهِ خُصُوصًا فِيمَا يَتَضَرَّرُ
بِهِ وَلَا يُعْتَقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ الشَّاهِدِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه
الْإِقْرَارُ بِعِتْقِ نَصِيبِهِ بَلْ بِفَسَادِ نَصِيبِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ
بِالْعِتْقِ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْعِتْقِ في نَصِيبِ
شَرِيكِهِ في حَقِّ شَرِيكِهِ لم يَنْفُذْ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ بِالْعِتْقِ في
نَصِيبِ شَرِيكِهِ في حَقِّهِ وَلَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّهُ لم
يُعْتِقْ نَصِيبَ نَفْسِهِ
وَأَمَّا السِّعَايَةُ فَلِأَنَّ فَسَادَ نَصِيبِهِ يُوجِبُ التَّخْرِيجَ إلَى
الْعِتْقِ بِالسِّعَايَةِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ لَهُمَا في قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا
فَيَسْعَى لِلشَّاهِدِ في نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيَسْعَى لِلْمُنْكِرِ في نِصْفِ
قِيمَتِهِ سَوَاءٌ كان الْمُنْكَرُ مُوسِرًا أو مُعْسِرًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّ السِّعَايَةَ ثَبَتَتْ مع الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ على أَصْلِهِ
أَمَّا حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ لِلشَّاهِدِ وَإِنْ كان الْمَشْهُودُ عليه مُوسِرًا
فَلِأَنَّ في زَعْمِهِ أَنَّ شَرِيكَهُ قد أَعْتَقَ وَأَنَّ له حَقَّ التَّضْمِينِ
أو الِاسْتِسْعَاءِ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لم
يَجُزْ عليه في حَقِّهِ فَبَقِيَ له حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ
وَأَمَّا الْمُنْكِرُ فَلِأَنَّ في زَعْمِهِ أَنَّ نَصِيبَهُ على مِلْكِهِ وقد
تَعَذَّرَ
____________________
(4/96)
عليه
التَّصَرُّفُ فيه بِإِقْرَارِ شَرِيكِهِ فَكَانَ له أَنْ يستسعي
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَإِنْ كان الْمُنْكِرُ مُوسِرًا فَلَا سِعَايَةَ
لِلشَّاهِدِ على الْعَبْدِ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِ
شَرِيكِهِ وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا الضَّمَانَ لِأَنَّ السِّعَايَةَ لَا
تَثْبُتُ مع الْيَسَارِ على أَصْلِهِمَا وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلِلشَّاهِدِ أَنْ
يستسعي
وَأَمَّا الْمُنْكِرُ فيستسعي على كل حَالٍ بِالْإِجْمَاعِ مُعْسِرًا كان أو
مُوسِرًا لِأَنَّ نَصِيبَهُ على مِلْكِهِ ولم يُوجَدْ منه الْإِقْرَارُ بِسُقُوطِ
حَقِّهِ عن السِّعَايَةِ فَإِنْ أَعْتَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ ذلك
نَصِيبَهُ قبل الِاسْتِسْعَاءِ جَازَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ نَصِيبَ
الْمُنْكِرِ على مِلْكِهِ وَكَذَلِكَ نَصِيبُ الشَّاهِدِ عِنْدَهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
يَتَجَزَّأُ فإذا أَعْتَقَا نَفَذَ عِتْقُهُمَا وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ
الْعِتْقَ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَسْعَيَا وَأَدَّى السِّعَايَةَ
فَالْوَلَاءُ لَهُمَا
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَالْوَلَاءُ في نَصِيبِ الشَّاهِدِ مَوْقُوفٌ لِأَنَّ
في زَعْمِ الشَّاهِدِ أَنَّ جَمِيعَ الْوَلَاءِ لِشَرِيكِهِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
لَا يَتَجَزَّأُ على أَصْلِهِمَا وَشَرِيكُهُ يَجْحَدُ ذلك فَيُسَلِّمُ له
النِّصْفَ وَيُوقِفُ له النِّصْفَ وَإِنْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على
صَاحِبِهِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَحْلِفُ أَوَّلًا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على
دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْعِتْقِ على
صَاحِبِهِ يَدَّعِي وُجُوبَ الضَّمَانِ على صَاحِبِهِ أو السِّعَايَةَ على
الْعَبْدِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ
وَهَذَا لِأَنَّ فَائِدَةَ الِاسْتِخْلَافِ النُّكُولُ لِيَقْضِيَ بِهِ
وَالنُّكُولُ إمَّا بَذْلٌ أو إقْرَارٌ وَالضَّمَانُ مِمَّا يَصِحُّ بَذْلُهُ
وَالْإِقْرَارُ بِهِ
وإذا تَحَالَفَا سَعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نِصْفِ قِيمَتِهِ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ في زَعْمِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ
قد أَعْتَقَ وَأَنَّ له الضَّمَانَ أو السِّعَايَةَ وَتَعَذَّرَ التَّضْمِينُ
حَيْثُ لم يُصَدِّقْهُ الْآخَرُ فَبَقِيَ الِاسْتِسْعَاءُ وَلَا فَرْقَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ بين حَالِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا سِعَايَةَ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الضَّمَانَ على شَرِيكِهِ
وَيَزْعُمُ أَنْ لَا سِعَايَةَ له مع الْيَسَارِ فلم يَثْبُتْ له ما أَبْرَأَ
الْعَبْدَ عنه
وَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى الْعَبْدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ شَرِيكَهُ أَعْتَقَ وهو مُعْسِرٌ فَلَا
حَقَّ له إلَّا السِّعَايَةُ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا يَسْعَى الْعَبْدُ
لِلْمُوسِرِ ولم يَسْعَ لِلْمُعْسِرِ لِأَنَّ الْمُوسِرَ يَزْعُمُ أَنْ لَا
ضَمَانَ على شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا له السِّعَايَةُ على الْعَبْدِ وَالْمُعْسِرُ
إنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّ الضَّمَانَ على الشَّرِيكِ وإنه قد أَبْرَأَ الْعَبْدَ
ثُمَّ هو عَبْدٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَيَسْعَى وهو رَقِيقٌ إلَى أَنْ
يُؤَدِّيَ ما عليه لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى في حُكْمِ الْمُكَاتَبِ على أَصْلِهِ
وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ عليه دَيْنٌ حين شَهِدَ الْمَوْلَيَانِ فَيَسْعَى وهو
حُرٌّ لِأَنَّ في زَعْمِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ حُرٌّ من جِهَةِ صَاحِبِهِ
وَمَنْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عَبْدٍ في مِلْكِهِ عَتَقَ عليه
عَبْدٌ بين رَجُلَيْنِ قال أَحَدُهُمَا إنْ كُنْتَ دَخَلْتَ هذه الدَّارَ أَمْسِ
فَأَنْتَ حُرٌّ وقال الْآخَرُ إنْ لم تَكُنْ دَخَلَتْهَا أَمْسِ فَأَنْتَ حُرٌّ
وَلَا يَدْرِي أَكَانَ دخل أو لم يَدْخُلْ عَتَقَ نِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا
وَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ بين الْمَوْلَيَيْنِ مُوسِرَيْنِ أو مُعْسِرَيْنِ
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَا يَسْعَى لِأَحَدٍ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا
مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا سَعَى لِلْمُعْسِرِ في رُبُعِ قِيمَتِهِ وَلَا
يَسْعَى لِلْمُوسِرِ وقال مُحَمَّدٌ إنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ لَا يَسْعَى وَإِنْ
كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى لَهُمَا في جَمِيعِ قِيمَتِهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يدعى على صَاحِبِهِ
أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فَصَارَ كَشَهَادَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ
وَلِأَنَّ من عَتَقَ عليه نِصْفُ الْعَبْدِ مَجَّانًا بِغَيْرِ سِعَايَةٍ
مَجْهُولٌ لِأَنَّ الْحَانِثَ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ فَكَانَ من يقضي عليه بِسُقُوطِ
نَفْسِ السِّعَايَةِ مَجْهُولًا فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ قد عَتَقَ بِيَقِينٍ
لِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ حَانِثٌ بِيَقِينٍ إذْ الْعَبْدُ لَا يَخْلُو من
أَنْ يَكُونَ دخل الدَّارَ أو لم يَدْخُلْ إذْ لَا وَاسِطَةَ بين الدُّخُولِ
وَالْعَدَمِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِتَعْيِينِهِ لِلْحِنْثِ أَوْلَى من الْآخَرِ
والمقضى له بِالْعِتْقِ يَتَعَيَّنُ فَيَقْسِمُ نِصْفَ الْعِتْقِ بَيْنَهُمَا فإذا
أَعْتَقَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِيَقِينٍ تَعَذَّرَ إيجَابُ كل السِّعَايَةِ عليه
فَتَجِبُ نِصْفُ السِّعَايَةِ ثُمَّ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ يَسْعَى في نِصْفِ
قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَا مُوسِرَيْنِ أو مُعْسِرَيْنِ لِأَنَّ
ضَمَانَ السِّعَايَةِ عِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَخْتَلِفُ فَإِنْ كَانَا مُعْسِرَيْنِ سَعَى لَهُمَا وَإِنْ
كَانَا مُوسِرَيْنِ لَا يَسْعَى لَهُمَا وَإِنْ كان ( ( ( كانا ) ) ) أَحَدُهُمَا
مُوسِرًا وَالْآخَرُ مُعْسِرًا يَسْعَى لِلْمُعْسِرِ وَلَا يَسْعَى لِلْمُوسِرِ
وما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ أَنَّ هذا كَشَهَادَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْآخَرِ
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ هَهُنَا تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ نِصْفِ الْعَبْدِ لِمَا
بَيَّنَّا وفي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ لم نَسْتَيْقِنْ بِالْحُرِّيَّةِ لِاحْتِمَالِ
أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَتَانِ كَاذِبَتَيْنِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الذي يقضي عليه بِالْعِتْقِ بِغَيْرِ سِعَايَةٍ مَجْهُولٌ
فَنَعَمْ لَكِنَّ هذا
____________________
(4/97)
لَا
يَمْنَعُ الْقَضَاءَ إذَا كان المقضى له مَعْلُومًا لِأَنَّ المقضى له إذَا كان
مَعْلُومًا يُمْكِنُ رَفْعُ الْجَهَالَةِ التي من جَانِبِ الْمَقْضِيِّ له
بِالْقِسْمَةِ وَالتَّوْزِيعِ وإذا كان مَجْهُولًا لَا يُمْكِنُ فَإِنْ حَلَفَ
رَجُلَانِ على عَبْدَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَحَدِهِمَا فقال أَحَدُهُمَا
لِعَبْدِهِ إنْ كان زَيْدٌ قد دخل هذه الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ وقال
الْآخَرُ لِعَبْدِهِ إنْ لم يَكُنْ زَيْدٌ دخل هذه الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ
حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ وَلَا يَدْرِي أَدَخَلَ الدَّارَ أَمْ لم يَدْخُلْ لم
يُعْتَقْ وَاحِدٌ من الْعَبْدَيْنِ لِأَنَّ هَهُنَا الْمَقْضِيَّ له وَعَلَيْهِ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ وَلَا وَجْهَ لِلْقَضَاءِ عِنْدَ تَمَكُّنِ
الْجَهَالَةِ في الطَّرَفَيْنِ وفي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ الْمَقْضِيُّ له
بِالْعِتْقِ مُتَيَقَّنٌ مَعْلُومٌ وَالْقَضَاءُ في مِثْلِهِ جَائِزٌ كَمَنْ اعتق
وَاحِدَةً من جَوَارِيهِ الْعَشْرِ ثُمَّ جَهِلَهَا
وَعَلَى هذا قال أبو يُوسُفَ في عَبْدَيْنِ بين رَجُلَيْنِ قال أَحَدُهُمَا
لِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ أنت حُرٌّ إنْ لم يَدْخُلْ فُلَانٌ هذه الدَّارَ الْيَوْمَ
وقال الْآخَرُ لِلْعَبْدِ الْآخَرِ إنْ دخل فُلَانٌ هذه الدَّارَ الْيَوْمَ
فَأَنْتَ حُرٌّ فمضي الْيَوْمُ وَتَصَادَقَا على أيهما ( ( ( أنهما ) ) ) لَا
يَعْلَمَانِ دخل أو لم يَدْخُلْ فإن هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ يُعْتَقُ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهُ وَيَسْعَى في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ بين
الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ وقال مُحَمَّدٌ قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنْ
يَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في جَمِيعِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ نِصْفَ أَحَدِ العبد ( ( ( العبدين ) ) ) غَيْرُ
عَيْنٍ قد عَتَقَ بِيَقِينٍ لِأَنَّ فُلَانًا لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ دخل
الدَّارَ الْيَوْمَ أو لم يَكُنْ دخل فَكَانَ نِصْفُ أَحَدِهِمَا حُرًّا بِيَقِينٍ
وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ أَوْلَى من الْآخَرِ فَيُقْسَمُ نِصْفُ
الْحُرِّيَّةِ بَيْنَهُمَا فَيُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهُ وَيَسْعَى
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ لِلتَّخْرِيجِ إلَى
الْعِتْقِ كما في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْعَبْدَ
وَاحِدٌ فَيُعْتَقُ منه نِصْفُهُ وَيَسْعَى في النِّصْفِ الْبَاقِي وَهَهُنَا
عَبْدَانِ فَيُعْتَقُ نِصْفُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَيُقْسَمُ بين
الْمَوْلَيَيْنِ فَيُعْتَقُ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرُّبُعُ وَيَسْعَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا في الْبَاقِي وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قِيمَتِهِ
وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْضِيَّ له وَعَلَيْهِ
مَجْهُولَانِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْحُرِّيَّةِ مع جَهَالَتِهِمَا
فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في جَمِيعِ قِيمَتِهِ بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ
الْمُتَقَدِّمَةِ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْمَقْضِيَّ له غَيْرُ مَجْهُولٍ وَمِنْ هذا
النَّوْعِ ما ذَكَرَهُ ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ في عَبْدٍ بين رَجُلَيْنِ
زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَنَّهُ هو
أَعْتَقَهُ الْيَوْمَ وقال شَرِيكُهُ لم أُعْتِقْهُ وقد أَعْتَقْتَ أنت الْيَوْمَ
فَاضْمَنْ لي نِصْفَ الْقِيمَةِ لِعِتْقِكَ فَلَا ضَمَانَ على الذي زَعَمَ أَنَّ
صَاحِبَهُ أَعْتَقَهُ مُنْذُ سَنَةٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ أنا أَعْتَقْتُهُ الْيَوْمَ
ليس بِإِعْتَاقٍ بَلْ هو إقْرَارٌ بِالْعِتْقِ وَأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ إقْرَارِهِ
على شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ فلم يَصِحَّ وَكَذَا لو قال أنا أعتقه ( ( ( أعتقته ) )
) أَمْسِ وَأَعْتَقَهُ صَاحِبِي مُنْذُ سَنَةٍ وَإِنْ لم يُقِرَّ بِإِعْتَاقِ
نَفْسِهِ لَكِنْ قَامَتْ عليه بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَمْسِ فَهُوَ ضَامِنٌ
لِشَرِيكِهِ لِظُهُورِ الْإِعْتَاقِ منه بِالْبَيِّنَةِ فَدَعْوَاهُ على شَرِيكِهِ
الْعِتْقَ الْمُتَقَدِّمَ لَا يَمْنَعُ ظُهُورَ الاعتاق منه بِالْبَيِّنَةِ
وَيَمْنَعُ ظُهُورَهُ بِإِقْرَارِهِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْإِعْتَاقِ وَبَيَانُ وَقْتِ ثُبُوتِ حُكْمِهِ
فَلِلْإِعْتَاقِ أَحْكَامٌ بَعْضُهَا أَصْلِيٌّ وَبَعْضُهَا من التَّوَابِعِ
أَمَّا حكم ( ( ( الحكم ) ) ) الْأَصْلِيُّ لِلْإِعْتَاقِ فَهُوَ ثُبُوتُ
الْعِتْقِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ في اللُّغَةِ
عِبَارَةٌ عن الْقُوَّةِ يُقَالُ عَتَقَ الطَّائِرُ إذ قَوِيَ فَطَارَ عن وَكْرِهِ
وفي عُرْفِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ لِلذَّاتِ يَدْفَعُ بها يَدَ
الِاسْتِيلَاءِ وَالتَّمَلُّكِ عن نَفْسِهِ وَلِهَذَا كان مُقَابِلُهُ وهو
الرِّقُّ عِبَارَةٌ عن الضَّعْفِ في اللُّغَةِ يُقَالُ ثَوْبٌ رَقِيقٌ أَيْ
ضَعِيفٌ وفي مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ يُرَادُ بِهِ الضَّعْفُ الْحُكْمِيُّ الذي
يَصِيرُ بِهِ الأدمي مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَعَلَى عِبَارَةِ التَّحْرِيرِ
الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّحْرِيرِ هو ثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ
التَّحْرِيرَ هو إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ وَهِيَ الْخُلُوصُ يُقَالُ طِينٌ حُرٌّ
أَيْ خَالِصٌ وَأَرْضٌ حُرَّةٌ إذَا لم يَكُنْ عليها خَرَاجٌ وفي عُرْفِ الشَّرْعِ
يُرَادُ بها الْخُلُوصُ عن الْمِلْكِ وَالرِّقِّ وَهَذَا الْحُكْمُ يَعُمُّ
جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْإِعْتَاقِ غير أَنَّهُ إنْ كان تَنْجِيزًا ثَبَتَ هذا
الْحُكْمُ لِلْحَالِ وَإِنْ كان تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ أو إضَافَةٍ إلَى وَقْتٍ
يَثْبُتُ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ وَيَكُونُ الْمَحَلُّ قبل ذلك على
حُكْمِ مِلْكِ الْمَالِكِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا في التَّعْلِيقِ بِشَرْطِ
الْمَوْتِ الْمُطْلَقِ وهو التَّدْبِيرُ عِنْدَنَا وَكَذَا الِاسْتِيلَادُ ثُمَّ
هذا الْحُكْمَ قد يَثْبُتُ في جَمِيعِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ وقد يَثْبُتُ في بَعْضِ
ما أُضِيفَ إلَيْهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الاعتاق لَا يَخْلُو إمَّا أن
كان في الصِّحَّةِ وَإِمَّا أن كان في الْمَرَضِ فَإِنْ كان في الصِّحَّةِ عَتَقَ
كُلُّهُ سَوَاءٌ كان له مَالٌ آخَرَ أو لم يَكُنْ وَسَوَاءٌ كان عليه دين ( ( (
دينا ) ) ) أو لم يَكُنْ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ أو الْغَرِيمِ لَا يَتَعَلَّقُ
بِالْمَالِ حَالَةَ الصِّحَّةِ فَالْإِعْتَاقُ صَادَفَ خَالِصَ مِلْكِهِ
____________________
(4/98)
لَا
حَقَّ لِأَحَدٍ فيه فَنَفَذَ وَإِنْ كان في الْمَرَضِ فَإِنْ كان له مَالٌ آخَرَ
سِوَى الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ كُلُّهُ يَخْرُجُ من ثُلُثِ الْمَالِ يُعْتَقُ
كُلُّهُ لِأَنَّ الثُّلُثَ خَالِصُ حَقِّهِ لَا حَقَّ لِلْوَرَثَةِ فيه وَإِنَّمَا
تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ في الثُّلُثَيْنِ وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ
في آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً على أَعْمَالِكُمْ وَإِنْ كان لَا يَخْرُجُ
كُلُّهُ من ثُلُثِ الْمَالِ وإجازت الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ لِأَنَّ
الْمَانِعَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فإذا أَجَازُوا فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ فَيُعْتَقُ
كُلُّهُ وَإِنْ لم يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ يُعْتَقُ منه بِقَدْرِ ثُلُثِ مَالِهِ
وَيَسْعَى في الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الْعَبْدِ
فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ كُلُّهُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لم يُجِيزُوا
يُعْتَقُ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى في الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ لِمَا قُلْنَا
وَالدَّلِيلُ عليه أَيْضًا ما رُوِيَ في حديث أبي قِلَابَةَ أَنَّ رَجُلًا
أَعْتَقَ عَبْدًا له عِنْدَ مَوْتِهِ وَلَا مَالَ له غَيْرُهُ فَأَجَازَ النبي
ثُلُثَهُ وَاسْتَسْعَاهُ في ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَدَلَّ الْحَدِيثُ على جَوَازِ
الاعتاق في مَرَضِ الْمَوْتِ حَيْثُ أَجَازَ النبي ذلك على أَنَّ الْإِعْتَاقَ في
مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ حَيْثُ اعْتَبَرَهُ من الثُّلُثِ وَعَلَى بُطْلَانِ
قَوْلِ من يقول لَا سِعَايَةَ في الشَّرِيعَةِ حَيْثُ اسْتَسْعَى الْعَبْدُ
هذا إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَإِنْ كان مُسْتَغْرِقًا
لَقِيمَتِهِ وَلَا مَالَ له سِوَى الْعَبْدِ أو له مَالٌ آخَرُ لَكِنَّ الدَّيْنَ
مُسْتَغْرِقٌ لِمَالِهِ فَأَعْتَقَ يَسْعَى في جَمِيعِ قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ
رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ على الْوَصِيَّةِ إلَّا أَنَّ
الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَتَجِبُ السِّعَايَةُ
وَرُوِيَ عن أبي الْأَعْرَجِ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا له عِنْدَ الْمَوْتِ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فقال النبي يَسْعَى في الدَّيْنِ وَهَكَذَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ
وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما وَإِنْ كان الدَّيْنُ غير مُسْتَغْرِقٍ
لِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِأَنْ كان الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ
أَلْفَانِ يَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْغَرِيمِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ في
قَدْرِ الدَّيْنِ ثُمَّ نِصْفُهُ الثَّانِي عَتَقَ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَإِنْ
أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ جَمِيعُ نِصْفِهِ الثَّانِي وَإِنْ لم تُجِزْ
يُعْتَقُ ثُلُثُ النِّصْفِ الثَّانِي مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وهو سُدُسُ
الْكُلِّ وَيَسْعَى في ثُلُثَيْ النِّصْفِ
فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعْتَقُ سُدُسُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَيَسْعَى في
خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْغَرِيمِ وَسَهْمَانِ لِلْوَرَثَةِ
وَلَوْ كان له عَبْدَانِ فَأَعْتَقَهُمَا وهو مَرِيضٌ فَهُوَ على التَّفَاصِيلِ
التي ذَكَرْنَا أَنَّهُ إنْ كان له مَالٌ سِوَاهُمَا وَهُمَا يَخْرُجَانِ من
الثُّلُثِ عَتَقَا جميعا بِغَيْرِ شَيْءٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ لم يَخْرُجَا من
الثُّلُثِ وَأَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ
لم يُجِيزُوا الزِّيَادَةَ يُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ ثُلُثِ
مَالِهِ وَيَسْعَى في الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ
سِوَاهُمَا فَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَا جميعا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ لم
يُجِيزُوا يُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى في
الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ فَيَجْعَلُ كُلَّ رَقَبَةٍ على ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ
لِحَاجَتِنَا إلَى الثُّلُثِ فَيَصِيرُ جُمْلَةُ الْمَالِ وهو الْعَبْدَانِ على
سِتَّةِ أَسْهُمٍ فَيَخْرُجُ منها سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ
لِلْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ من سِتَّةٍ وَلِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ
فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قبل السِّعَايَةِ
يُجْعَلُ هو مُسْتَوْفِيًا لِوَصِيَّتِهِ مُتْلِفًا لِمَا عليه من السِّعَايَةِ
وَالتَّلَفُ يَدْخُلُ على الْوَرَثَةِ وَعَلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي فَيُجْمَعُ
نَصِيبُ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنَصِيبُ الْعَبْدِ الْحَيِّ
وَذَلِكَ سَهْمٌ فَيَكُونُ خَمْسَةً فَيُعْتَقُ من الْعَبْدِ الحى خمسة وَيَسْعَى
في أَرْبَعَةِ أَخْمَاسِهِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ
وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ وَالْمَيِّتُ قد اسْتَوْفَى سَهْمًا فَحَصَلَ لِلْوَرَثَةِ
أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْوَصِيَّةِ سَهْمَانِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ
وَالثُّلُثَانِ
وَلَوْ كان الْعَبِيدُ ثَلَاثَةً ولم يَكُنْ له مَالٌ سِوَاهُمْ يُعْتَقُ من كل
وَاحِدٍ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى في ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ على
ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَتَصِيرُ الْعَبِيدُ على تِسْعَةِ أَسْهُمٍ سِتَّةُ أَسْهُمٍ
لِلْوَرَثَةِ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ لِلْعَبِيدِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمْ قبل
السِّعَايَةِ صَارَ مُتْلِفًا لِمَا عليه من السِّعَايَةِ مُسْتَوْفِيًا
لِوَصِيَّتِهِ فَيُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ
وَنَصِيبُ الْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةَ أَسْهُمٍ فَيُجْعَلُ
كُلُّ عَبْدٍ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ فَيُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ رُبُعُهُ
وَيَسْعَى في ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ
وَلِلْعَبْدَيْنِ سَهْمَانِ وَالْمَيِّتُ اسْتَوْفَى سَهْمًا فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ
وَالثُّلُثَانِ
فَإِنْ مَاتَ اثْنَانِ يُجْمَعُ نَصِيبُ الْوَرَثَةِ سِتَّةٌ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ
فَيَكُونُ سَبْعَةٌ فَيُعْتَقُ من الْحَيِّ سبعة وَيَسْعَى في سِتَّةِ أَسْبَاعِ
قِيمَتِهِ فَيَحْصُلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ وَلِلْحَيِّ سَهْمٌ وَالْمَيِّتَانِ
اسْتَوْفَيَا سَهْمَيْنِ فَحَصَلَتْ الْوَصِيَّةُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ
وَالسِّعَايَةُ سِتَّةٌ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ هذا كُلُّهُ إذَا
لم يَكُنْ على الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ يَسْعَى
كُلُّ وَاحِدٍ في قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ رَدًّا لِلْوَصِيَّةِ لِأَنَّ الْعِتْقَ
في مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَلَا وَصِيَّةَ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ
وَإِنْ كان الدَّيْنُ غير مُسْتَغْرِقٍ بِأَنْ كان أَلْفًا وَقِيمَةُ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَلْفٌ يَسْعَى
____________________
(4/99)
كُلُّ
وَاحِدٍ في نِصْفِ قِيمَتِهِ ثُمَّ نِصْفُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصِيَّةٌ فَإِنْ
أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ عَتَقَ النِّصْفُ الْبَاقِي من كل وَاحِدٍ وَإِنْ لم تُجِزْ
الْوَرَثَةُ يُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ ثُلُثُ نِصْفِ الْبَاقِي مَجَّانًا وهو
السُّدُسُ وَيَسْعَى في ثُلُثَيْ النِّصْفِ فَفِي الْحَاصِلِ عَتَقَ من كل وَاحِدٍ
سُدُسُهُ مَجَّانًا وَيَسْعَى في في خَمْسَةِ أَسْدَاسِهِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
ثم الْمَرِيضُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَلَا مَالَ له غَيْرَهُ فَأَمْرُ الْعَبْدِ
في الْحَالِ في أَحْكَامِ الْحُرِّيَّةِ من الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا مَوْقُوفٌ
فَإِنْ برأ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَارَ حُرًّا من حِينِ أَعْتَقَ وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ
بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا هو حُرٌّ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ
وَأَمَّا الذي هو من التَّوَابِعِ فَنَحْوُ الْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ
وَالشَّهَادَةِ وَالْإِرْثِ وَغَيْرِ ذلك لَكِنْ هذه لَيْسَتْ من الْأَحْكَامِ
الْأَصْلِيَّةِ لِلْإِعْتَاقِ بَلْ هِيَ من التَّوَابِعِ وَالثَّمَرَاتُ تَثْبُتُ
في بَعْضِ أَنْوَاعِهِ دُونَ بَعْضٍ كَالْإِعْتَاقِ الْمُضَافِ إلَى الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ وَنَحْوِ ذلك وَمِنْ هذا القبول ( ( ( القبيل ) ) ) الْإِعْتَاقُ
الْمُضَافُ إلَى الْمَجْهُولِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ جَهَالَةَ
الْمُعْتِقِ إمَّا أن كانت أَصْلِيَّةً وَإِمَّا أن كانت طَارِئَةً فَإِنْ كانت
أَصْلِيَّةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الصِّيغَةُ من الِابْتِدَاءِ مُضَافَةً إلَى
أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ غَيْرُ عَيْنٍ فَيُجْهَلُ الْمُضَافُ إلَيْهِ
لِمُزَاحَمَةِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ في الِاسْمِ فَصَاحِبُهُ الْمُزَاحِمُ لَا
يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِلْإِعْتَاقِ أو لَا يَكُونُ مُحْتَمِلًا
له وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَخْلُو من أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فيه
أو مِمَّنْ لَا يَنْفُذُ فَإِنْ كان مُحْتَمِلًا لِلْإِعْتَاقِ وهو مِمَّنْ يَنْفُذُ
إعْتَاقُهُ فيه نحو أَنْ يَقُولَ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أو يَقُولَ هذا
حُرٌّ أو هذا أو يَقُولَ سَالِمٌ حُرٌّ أو بَرِيعٌ لَا يَنْوِي أَحَدَهُمَا
بِعَيْنِهِ فَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ
كَيْفِيَّةِ هذا التَّصَرُّفِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أما الْكَيْفِيَّةُ
فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيها فِيمَا تَقَدَّمَ وَأَمَّا الْكَلَامُ في
الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ في الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَتَعَلَّقُ
بِهِ حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَنَوْعٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى أن
لِلْمَوْلَى أَنْ يَسْتَخْدِمَهُمَا قبل الِاخْتِيَارِ وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ في أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى اسْتِخْدَامِ
الْحُرِّ من غَيْرِ رِضَاهُ وَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُمَا ويستكسبهما وَتَكُونُ
الْغَلَّةُ وَالْكَسْبُ لِلْمَوْلَى وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ على ما قُلْنَا
وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِمَا قبل الِاخْتِيَارِ فَالْجِنَايَةُ لَا تَخْلُو إمَّا أن
كانت من الْمَوْلَى وَإِمَّا أن كانت من الْأَجْنَبِيِّ وَلَا تَخْلُو إمَّا أن
كانت على النَّفْسِ أو على ما دُونَ النَّفْسِ فَإِنْ كانت الْجِنَايَةُ من
الْمَوْلَى فَإِنْ كانت على ما دُونَ النَّفْسِ بِأَنْ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدَيْنِ
فَلَا شَيْءَ عليه وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ على عَدَمِ نُزُولِ الْعِتْقِ حَيْثُ
جَعَلَهُمَا في حُكْمِ الْمَمْلُوكَيْنِ قبل الِاخْتِيَارِ وَسَوَاءٌ قَطَعَهُمَا
مَعًا أو على التَّعَاقُبِ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يُبْطِلُ الْخِيَارَ وَلَا
يَكُونُ ثَابِتًا بِخِلَافِ الْقَتْلِ لِمَا نَذْكُرُ
وَإِنْ كانت جِنَايَةً على النَّفْسِ بِأَنْ قَتَلَهُمَا فَإِنْ قَتَلَهُمَا على
التَّعَاقُبِ فَالْأَوَّلُ عَبْدٌ وَالثَّانِي حُرٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ
على قَتْلِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الثَّانِي لِلْعِتْقِ فإذا قَتَلَهُ
فَقَدْ قَتَلَ حُرًّا فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ
الدِّيَةَ تَصِيرُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ وَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى من ذلك
شَيْءٌ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَرِثُ وَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا
بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوَرَثَتِهِ
لِأَنَّ الْمَضْمُونَ على الْمَوْلَى أَحَدُهُمَا وهو الْحُرُّ مِنْهُمَا وَلَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَشَاعَتْ حُرِّيَّةٌ وَاحِدَةٌ فِيهِمَا
وَهَذَا يُؤَيِّدُ الْقَوْلَ بِنُزُولِ الْعِتْقِ في غَيْرِ الْعَيْنِ
وَإِنْ كانت الْجِنَايَةُ من الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ كانت فِيمَا دُونَ النَّفْسِ
بِأَنْ قَطَعَ إنْسَانٌ يَدَ الْعَبْدَيْنِ فَعَلَيْهِ أَرْشُ الْعَبِيدِ وَذَلِكَ
نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَكِنْ يَكُونُ أَرْشُهُمَا لِلْمَوْلَى
سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا أو على التَّعَاقُبِ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يُبْطِلُ
خِيَارَ الْمَوْلَى وَهَذَا يُوجِبُ الْقَوْلَ بِعَدَمِ نُزُولِ الْعِتْقِ إذْ لو
نَزَلَ لَكَانَ الْوَاجِبُ أَرْشَ يَدِ عَبْدٍ وَحُرٍّ وهو نِصْفُ قِيمَةِ عَبْدٍ
وَنِصْفُ دِيَةِ حُرٍّ
وَإِنْ كانت في النَّفْسِ فَالْقَاتِلُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان وَاحِدًا
وَإِمَّا أن كان اثْنَيْنِ فَإِنْ كان وَاحِدًا فَإِنْ قَتَلَهُمَا مَعًا فَعَلَى
الْقَاتِلِ نِصْفُ قِيمَةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَةِ هذا وَنِصْفُ
قِيمَةِ ذَاكَ وَيَكُونُ لِلْمَوْلَى وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ هذا وَنِصْفُ دِيَةِ ذَاكَ وَتَكُونُ لِوَرَثَتِهِمَا
وَهَذَا دَلِيلٌ على أَنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ في غَيْرِ الْعَيْنِ إذْ لو لم
يَكُنْ لَكَانَ الْوَاجِبُ في قَتْلِهِمَا مَعًا قِيمَةَ عَبْدَيْنِ وَمَعَ ذلك لم
يَجِبْ بَلْ وَجَبَ دِيَةُ حُرٍّ وَقِيمَةُ عَبْدٍ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ وقد
قَتَلَ حُرًّا وَعَبْدًا وَالْوَاجِبُ بِقَتْلِ الْحُرِّ الدِّيَةُ وَبِقَتْلِ
الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَالدِّيَةُ لِلْوَرَثَةِ وَالْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى
وَإِنَّمَا انْقَسَمَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَجِبُ دِيَتُهُ في حَالٍ
وَقِيمَتُهُ في حَالٍ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ حُرٌّ وَعَبْدٌ فَيَنْقَسِمُ ذلك على
اعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كما هو أَصْلُ أَصْحَابِنَا
وَإِنْ قَتَلَهُمَا على التَّعَاقُبِ يَجِبُ على
____________________
(4/100)
الْقَاتِلِ
قِيمَةُ الْأَوَّلِ لِلْمَوْلَى وَدِيَةُ الثَّانِي لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ قَتْلَ
الْأَوَّلِ يُوجِبُ تَعَيُّنَ الثَّانِي لِلْعِتْقِ فَيَتَعَيَّنُ الْأَوَّلُ
لِلْمَوْلَى وقد قَتَلَ حُرًّا وَعَبْدًا خَطَأً
وَإِنْ كان الْقَاتِلُ اثْنَيْنِ فَقَتَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا فَإِنْ
وَقَعَ قَتْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعًا فَعَلَى كل وَاحِدٍ من الْقَاتِلِينَ
الْقِيمَةُ نِصْفُهَا لِلْوَرَثَةِ وَنِصْفُهَا لِلْمَوْلَى وَإِيجَابُ
الْقِيمَتَيْنِ يُوجِبُ قِيمَةً وَدِيَةً على قَوْلِ من يقول أن الْعِتْقَ غَيْرُ
نَازِلٍ ظَاهِرًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَتَلَ عَبْدًا خَطَأً
وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ
وَأَمَّا على قَوْلِ من يقول بِنُزُولِ الْعِتْقِ فَإِنَّمَا لم تَجِبْ الدِّيَةُ
لِأَنَّ من تَجِبُ الدِّيَةُ عليه مِنْهُمَا مَجْهُولٌ إذْ لَا يُعْلَمُ من الذي
تَجِبُ عليه مِنْهُمَا فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الدِّيَةِ مع الشَّكِّ وَالْقِيمَةُ
مُتَيَقِّنَةٌ فَتَجِبُ بِخِلَافِ ما إذَا كان الْقَاتِلُ وَاحِدًا لِأَنَّ
هُنَاكَ من عليه مَعْلُومٌ لَا جَهَالَةَ فيه وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ فِيمَنْ له
وَأَمَّا انْقِسَامُ الْقِيمَتَيْنِ فَلِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِأَحَدِ
الْبَدَلَيْنِ هو الْمَوْلَى وَالْمُسْتَحِقُّ لِلْبَدَلِ الْآخَرِ هو الْوَارِثُ
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ في حَالٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ في حَالٍ
فَوُجُوبُ الْقِيمَتَيْنِ حُجَّةُ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ وَانْقِسَامُهُمَا حُجَّةُ
الْقَوْلِ الْآخَرِ
وَإِنْ وَقَعَ قَتْلُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على التَّعَاقُبِ فَعَلَى قَاتِلِ
الْأَوَّلِ الْقِيمَةُ لِلْمَوْلَى وَعَلَى قَاتِلِ الثَّانِي الدِّيَةُ
لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَتَلَ عَبْدًا وَالْآخَرُ قَتَلَ حُرًّا لِأَنَّ
قَتْلَ الْأَوَّلِ أَوْجَبَ تَعَيُّنَ الثَّانِي لِلْحُرِّيَّةِ وَالْأَوَّلِ
لِلرِّقِّ وَلَوْ كان الْمَمْلُوكَانِ أَمَتَيْنِ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا وَلَدًا أو وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَ
إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ هِيَ وَعَتَقَ وَلَدُهَا سَوَاءٌ كان لِلْأُخْرَى ولد ( ( (
ولدا ) ) ) أو لم يَكُنْ أَمَّا على قَوْلِ التَّخْيِيرِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ
الْعِتْقَ كان نَازِلًا في غَيْرِ الْعَيْنِ مِنْهُمَا وَالْبَيَانُ تَعْيِينٌ
لِمَنْ وَقَعَ عليه فَعَتَقَتْ الْمُعَيَّنَةُ وَعَتَقَ وَلَدُهَا تَبَعًا لها
وَأَمَّا على قَوْلِ التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ إنْ لم يَنْزِلْ فَقَدْ
انْعَقَدَ سَبَبُ النُّزُولِ في إحْدَاهُمَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا
كَالِاسْتِيلَادِ وَالْكِتَابَةِ
وَلَوْ مَاتَتْ الْأَمَتَانِ مَعًا قبل الِاخْتِيَارِ وقد وَلَدَتْ كُلُّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا خُيِّرَ الْمَوْلَى فَيَخْتَارُ عِتْقَ أَيِّ
الْوَلَدَيْنِ شَاءَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا مَاتَتَا مَعًا لم تَتَعَيَّنْ
إحْدَاهُمَا لِلْحُرِّيَّةِ فَحَدَثَ الْوَلَدَانِ على وَصْفِ الْأُمِّ
فَيُخَيَّرُ الملوى ( ( ( المولى ) ) ) فِيهِمَا كما كان يُخَيَّرُ في الْأُمِّ
فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْوَلَدَيْنِ قبل الْآخَرِ مع بَقَاءِ الْأَمَتَيْنِ لَا
يُلْتَفَتُ إلَى ذلك وَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لم يَتَعَلَّقْ بِمَوْتِهِ
تَعْيِينٌ إذْ الْحُرِّيَّةُ إنَّمَا تَتَعَيَّنُ فيه بِتَعَيُّنِهَا في أُمِّهِ
وَحُكْمُ التَّعْيِينِ في الْأُمِّ قَائِمٌ لِأَنَّ تَعْيِينَهَا مُمْكِنٌ
فَيُخَيِّرُ الْمَوْلَى فِيهِمَا فَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهَا فَعَتَقَتْ
عَتَقَ وَلَدُهَا وَلَوْ قَتَلَ الْأَمَتَيْنِ مَعًا رَجُلٌ خُيِّرَ الْمَوْلَى في
الْوَلَدَيْنِ لِمَا قُلْنَا في الْمَوْتِ وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهُ
فَعَتَقَ لَا يَرِثُ من أَرْشِ أُمِّهِ شيئا لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ
بِاخْتِيَارِ الْعِتْقِ فيه وَذَلِكَ يَتَأَخَّرُ عن الْمَوْتِ فَلَا يَرِثُ شيئا
بَلْ يَكُونُ الْكُلُّ لِلْمَوْلَى وَهَذَا نَصُّ مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ
الْعِتْقَ لو كان نَازِلًا في إحْدَاهُمَا لِحُدُوثِهِمَا على وَصْفِ الْأُمِّ
لَكَانَ الِاخْتِيَارُ تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عليه الْعِتْقُ فَكَانَ عِتْقُهُ
مُتَقَدِّمًا على مَوْتِ الْأُمِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَرِثَ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
وَلَوْ وُطِئَتْ الْأَمَتَانِ بِشُبْهَةٍ قبل اخْتِيَارِ الْمَوْلَى يَجِبُ عُقْرُ
أَمَتَيْنِ وَيَكُون لِلْمَوْلَى كَالْأَرْشِ وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ
التَّعْلِيقَ إذْ لو كان تَنْجِيزًا لَكَانَ الْوَاجِبُ عُقْرَ حُرَّةٍ وَأَمَةٍ وَلَكَانَ
نِصْفُ ذلك لِلْأَمَتَيْنِ وَالنِّصْفُ لِلْمَوْلَى وَلَمَّا كان كَسْبُهُمَا له
وَالْأَرْشُ فَالْعُقْرُ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا لَا يَمْلِكَانِ بِدُونِ مِلْكِ
الْأَصْلِ وقد يَمْلِكُ الْكَسْبَ بِدُونِ مِلْكِ الْأَصْلِ كَالْغَاصِبِ فلما كان
الْكَسْبُ له فَالْأَرْشُ وَالْعُقْرُ أَوْلَى وَلَوْ بَاعَهُمَا صَفْقَةً
وَاحِدَةً كان الْبَيْعُ فَاسِدًا أَمَّا على قَوْلِ التَّنْجِيزِ فَظَاهِرٌ
لِأَنَّ الْعِتْقَ إذَا نَزَلَ في غَيْرِ الْعَيْنِ مِنْهُمَا صَارَ جَامِعًا بين
حُرٍّ وَعَبْدٍ في الْبَيْعِ من غَيْرِ بَيَانِ حِصَّةِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لِأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا على قَوْلِ التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ قد ثَبَتَ وهو
انْعِقَادُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كما
لو جَمَعَ بين قِنٍّ وَمُدَبَّرٍ في الْبَيْعِ ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا من الثَّمَنِ
وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً وَسَلَّمَهُمَا إلَى الْمُشْتَرِي
فَأَعْتَقَهُمَا الْمُشْتَرِي فَيُقَالُ لِلْبَائِعِ اخْتَرْ الْعِتْقَ في
أَحَدِهِمَا وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ عِتْقَهُ عَتَقَ الْآخَرِ على الْمُشْتَرِي
لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمَّا قَبَضَهُمَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَقَدْ مَلَكَ
أَحَدَهُمَا وَنَفَذَ إعْتَاقُهُ فيه فإذا عَيَّنَ الْبَائِعُ أَحَدَهُمَا
لِلْعِتْقِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْمِلْكِ الْفَاسِدِ فَيَنْفُذُ فيه إعْتَاقُ
الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا بدىء بِتَخْيِيرِ الْبَائِعِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ منه
حَصَلَ في مَجْهُولٍ فما لم يَتَعَيَّنْ أَحَدُهُمَا لِلْحُرِّيَّةِ لَا
يَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْمِلْكِ الْفَاسِدِ
فَإِنْ مَاتَ الْبَائِعُ قبل الْبَيَانِ قَامَتْ الْوَرَثَةُ مَقَامَهُ وَيُقَالُ
لهم بَيِّنُوا فَإِنْ بَيَّنُوا في أَحَدِهِمَا عَتَقَ الْآخَرُ على الْمُشْتَرِي
وَلَا يُقَالُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْقَسِمَ الْعِتْقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى كما إذَا
مَاتَ قبل الْبَيْعِ لِأَنَّ شَرْطَ الِانْقِسَامِ أَنْ لَا يَزُولَ الْمِلْكُ عن
أَحَدِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ انْقِسَامِ الْحُرِّيَّةِ على الْحُرِّ وَالْمِلْكُ قد
زَالَ عن أَحَدِهِمَا فَتَعَذَّرَ الِانْقِسَامُ وَبَقِيَ الْخِيَارُ فَقَامَ
الْوَارِثُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ
فَإِنْ قِيلَ الْخِيَارُ عِنْدَكُمْ لَا يُوَرَّثُ
____________________
(4/101)
فَكَيْفَ
وَرَّثْتُمْ هذا الْخِيَارَ وَهَذَا مِنْكُمْ تَنَاقُضٌ
فَالْجَوَابُ أَنَّ هذا الْخِيَارَ لَا يُوَرَّثُ عِنْدَنَا بَلْ يَثْبُتُ
لِلْوَرَثَةِ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الْإِرْثِ بَلْ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا
قِيمَةَ أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَكَانَ لهم التَّعْيِينُ كما كان البائع ( ( (
للبائع ) ) ) وَهَذَا كما قالوا فِيمَنْ بَاعَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ على أَنَّهُ
بِالْخِيَارِ وَقَبَضَهُمَا الْمُشْتَرِي فَمَاتَا في يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ
الْبَائِعُ أَنَّ لِوَرَثَةِ الْبَائِعِ الِاخْتِيَارَ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ
الْإِرْثِ كَذَا هذا فَإِنْ لم يُعْتِقْ الْمُشْتَرِي حتى مَاتَ الْبَائِعُ لم
يَنْقَسِمْ الْعِتْقُ فِيهِمَا حتى يَفْسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ فإذا فَسَخَهُ
انْقَسَمَ وَعَتَقَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
لِمَا ذَكَرْنَا من فَوَاتِ شَرْطِ الِانْقِسَامِ وهو عَدَمُ زَوَالِ الْمِلْكِ في
أَحَدِهِمَا وَالْمِلْكُ قد زَالَ عن أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَتَعَذَّرَ
التَّقْسِيمُ وَالتَّوْزِيعُ إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ وَاجِبُ الْفَسْخِ
حَقًّا لِلشَّرْعِ رَفْعًا لِلْفَسَادِ وَفَسْخُهُ بِفِعْلِ الْقَاضِي أو
بِتَرَاضِي الْمُتَعَاقِدَيْنِ فإذا فَسَخَ عَادَ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَشَاعَ
الْعِتْقُ فِيهِمَا وَعَتَقَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَلَوْ وَهَبَهُمَا
قبل الِاخْتِيَارِ أو تَصَدَّقَ بِهِمَا أو تَزَوَّجَ عَلَيْهِمَا يُخَيَّرُ
فَيَخْتَارُ الْعِتْقَ في أَيِّهِمَا شَاءَ وَتَجُوزُ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
وَالْإِمْهَارُ في الْآخَرِ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا أو حَقُّ
الْحُرِّيَّةِ وهو انْعِقَادُ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ في أَحَدِهِمَا على اخْتِلَافِ
الْكَيْفِيَّتَيْنِ لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هذه التَّصَرُّفَاتِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لو جَمَعَ في الْهِبَةِ أو في الصَّدَقَةِ أو في النِّكَاحِ بين حُرٍّ
وَعَبْدٍ يَصِحُّ في الْعَبْدِ
وَكَذَا إذَا جَمَعَ فيها بين مُدَبَّرٍ وَقِنٍّ يَصِحّ في الْقِنِّ وَهَذَا
لِأَنَّ الْجَمْعَ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ في الْبَيْعِ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ
الْبَيْعِ لِأَنَّهُ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَدْ جَعَلَ قَبُولَ الْبَيْعِ في
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطًا لِصِحَّةِ قَبُولِهِ في الْآخَرِ وَأَنَّهُ شَرْطٌ
فَاسِدٌ وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهَا الشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ
فَإِنْ قِيلَ إذَا قَبَضَهُمَا الْمَوْهُوبُ له أو الْمُتَصَدَّقُ عليه أو
الْمَرْأَةُ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ عن أَحَدِهِمَا فَكَيْفَ يُخَيِّرُ الْمَوْلَى
فَالْجَوَابُ أَنَّا لَا نَقُولُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ عن أَحَدِهِمَا قبل الِاخْتِيَارِ
بَلْ زَوَالُهُ مَوْقُوفٌ على وُجُودِ الِاخْتِيَارِ فإذا تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا
لِلْعِتْقِ بِاخْتِيَارِهِ الْعِتْقَ يَزُولُ الْمِلْكُ عن أَحَدِهِمَا
وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل أَنْ يُبَيِّنَ الْعِتْقَ في أَحَدِهِمَا بَطَلَتْ
الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِيهِمَا وَبَطَلَ أمهارها لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ فَقَدْ
شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا لِوُجُودِ شَرْطِ الشِّيَاعِ فَيُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نِصْفُهُ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ من
الْغَيْرِ
وَلَوْ أَسَرَهُمَا أَهْلُ الْحَرْبِ كان لِلْمَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ عِتْقَ
أَحَدِهِمَا وَيَكُونُ الْآخَرُ لِأَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لم
يَمْلِكُوهُمَا بِالْأَسْرِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حرا ( ( ( حر ) ) ) وحق
الْحُرِّيَّةِ لِأَحَدِهِمَا ثَابِتٌ وَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ من التَّمَلُّكِ
بِالْأَسْرِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَ الْمُكَاتَبَ وَالْمُدَبَّرَ بِالْأَسْرِ
كما لَا يَمْلِكُونَ الْحُرَّ وإذا لم يُمْلَكَا بِالْأَسْرِ بَقِيَا على مِلْكِ
الْمَوْلَى وَلَهُ خِيَارُ الْعِتْقِ فإذا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا بَقِيَ الْآخَرُ
عَبْدًا فَيَمْلِكُهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَإِنْ لم يَخْتَرْ الْمَوْلَى حتى مَاتَ
بَطَلَ مِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ الْمَوْلَى
شَاعَتْ الْحُرِّيَّةُ وَعَتَقَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَتَعَذَّرَ
التَّمَلُّكُ
وَلَوْ أَسَرَ أَهْلُ الْحَرْبِ أَحَدَهُمَا لم يَمْلِكُوهُ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا
حرا ( ( ( حر ) ) ) وثبت له حَقُّ الْحُرِّيَّة وَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ من
التَّمَلُّكِ بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ بَيْعَهُ إيَّاهُ
اخْتِيَارٌ منه لِلْمِلْكِ فَقَدْ بَاعَ مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَصَحَّ وَلَوْ
اشْتَرَاهُمَا من أَهْلِ الْحَرْبِ تَاجِرٌ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَخْتَارَ عِتْقَ
أَيِّهِمَا شَاءَ وَيَأْخُذَ الْآخَرَ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ لِأَنَّ
الْخِيَارَ كان ثَابِتًا لِلْمَوْلَى قبل الْبَيْعِ فإذا بَاعُوا فَقَدْ ثَبَتَ
لِلْمُشْتَرِي ما كان ثَابِتًا قبل خِيَارِ الْعَمَلِ فإذا اخْتَارَ عِتْقَ
أَحَدِهِمَا صَحَّ مِلْكُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالْمُشْتَرِي منهم في الْآخَرِ
فَيَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ فَإِنْ اشْتَرَى التَّاجِرُ أَحَدَهُمَا
فَاخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَهُ عَتَقَ وَبَطَلَ الشِّرَاءُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
وِلَايَةَ الِاخْتِيَارِ قَائِمَةٌ لِلْمَوْلَى فَإِنْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى من
الذي اشْتَرَاهُ بِالثَّمَنِ عَتَقَ الْآخَرُ لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهُ إعَادَةٌ
له إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ
وَلَوْ قال في صِحَّتِهِ لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرُّ ثُمَّ مَرِضَ مَرَضَ
الْمَوْتِ فَاخْتَارَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا يُعْتَقُ من جَمِيعِ الْمَالِ وَإِنْ
كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الثُّلُثِ بِأَنْ كانت قِيمَةُ أَحَدِهِمَا أَلْفًا
وَقِيمَةُ الْآخَرِ أَلْفَيْنِ فَبَيْنَ الْعِتْقِ في الذي قِيمَتُهُ أَلْفَانِ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمَجْهُولِ إيقَاعٌ
وَتَنْجِيزٌ إذْ لو كان تَعْلِيقًا وَاقْتَصَرَ الْعِتْقُ على حَالَةِ الْمَرَضِ
يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَبَرَ من الثُّلُثِ كما لو أَنْشَأَ الْعِتْقَ في الْمَرَضِ
وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ وَلِلْعَبْدَيْنِ حَقُّ مُخَاصَمَةِ الْمَوْلَى
فَلَهُمَا أَنْ يرفعانه ( ( ( يرفعاه ) ) ) إلَى الْقَاضِي وَيَسْتَعْدِيَا عليه
وإذا اسْتَعْدَيَا عليه أَعَدَاهُمَا الْقَاضِي وَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ
أَعْنِي اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا وَجَبَرَهُ عليه بِالْحَبْسِ لو امْتَنَعَ
أَمَّا على مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ فَلِأَنَّ الْعِتْقَ نَازِلٌ في أَحَدٍ
مِنْهُمَا غَيْرُ عَيْنٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هو
الْحُرُّ وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ أو ( ( ( وله ) ) ) له فيها حَقٌّ
وَأَمَّا على مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ إنْ لم تَثْبُتْ في
أَحَدِهِمَا فَقَدْ يَثْبُتُ حَقُّ=
ج12.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
الْحُرِّيَّةِ
أَعْنِي انعقد ( ( ( العقد ) ) ) سَبَبُ ثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ من غَيْرِ ثُبُوتِ
الْحُرِّيَّةِ أَصْلًا وَهَذَا حَقُّهُ وَلَهُ فيه حَقٌّ وَالْبَيَانُ طَرِيقُ
اسْتِيفَاءِ هذا الْحَقِّ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ من
الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْبَيَانِ
وَإِنَّمَا كان الْبَيَانُ إلَى الْمَوْلَى لِأَنَّ الْإِجْمَالَ منه فَكَانَ
الْبَيَانُ إلَيْهِ كما في بَيَانِ الْمُجْمَلِ وَالْمُشْتَرَكِ في النُّصُوصِ
وَكَمَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ أو بَاعَ قَفِيزًا من صُبْرَةٍ كان
الْبَيَانُ إلَيْهِ كَذَا هذا
ثم الْبَيَانُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ وَضَرُورَةٌ أَمَّا النَّصُّ
فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا إيَّاكَ عَنَيْتُ أو
نَوَيْتُ أو أَرَدْتُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الذي ذَكَرْت أو اخْتَرْتُ أَنْ تَكُونَ
حُرًّا بِاللَّفْظِ الذي قلت أو أنت حُرٌّ بِذَلِكَ اللَّفْظِ الذي قلت أو
بِذَلِكَ الْإِعْتَاقِ أو أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ وَغَيْرِ ذلك من
الْأَلْفَاظِ فَلَوْ قال أنت حُرٌّ أو أَعْتَقْتُكَ بِالْعِتْقِ السَّابِقِ فَإِنْ
أَرَادَ بِهِ عِتْقًا مُسْتَأْنَفًا عَتَقَا جميعا هذا بِالْإِعْتَاقِ
الْمُسْتَأْنَفِ وَذَاكَ بِاللَّفْظِ السَّابِقِ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْعِتْقِ في
أَحَدِهِمَا قبل الِاخْتِيَارِ اخْتِيَارُ الْعِتْقِ في الْآخَرِ دَلَالَةً لِمَا
نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ قال عَنَيْتُ بِهِ الذي لَزِمَنِي بِقَوْلِي أَحَدُكُمَا حُرٌّ يُصَدَّقُ
في الْقَضَاءِ وَيُحْمَلُ قَوْلُهُ أَعْتَقْتُكَ على اخْتِيَارِ الْعِتْقِ أَيْ
اخْتَرْتُ عِتْقَكَ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهِيَ أَنْ يُخْرِجَ الْمَوْلَى أَحَدَهُمَا عن مِلْكِهِ
بِالْبَيْعِ أو بِالْهِبَةِ أو بِالصَّدَقَةِ أو بِإِنْشَاءِ الْعِتْقِ أو
يَرْهَنَ أَحَدَهُمَا أو يُؤَاجِرَ أو يُكَاتِبَ أو يُدَبِّرَ أو يَسْتَوْلِدَ إنْ
كانت أَمَةً لِأَنَّ الْأَصْلَ إن من خُيِّرَ بين أَمْرَيْنِ فَفَعَلَ ما
يُسْتَدَلُّ بِهِ على اخْتِيَارِهِ أَحَدَهُمَا يُجْعَلُ ذلك اخْتِيَارًا منه
دَلَالَةً وَيَقُومُ ذلك مَقَامَ النَّصِّ كَأَنَّهُ قال اخْتَرْتُ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لِبَرِيرَةَ إنْ وَطِئَكِ
زَوْجُكِ فَلَا خِيَارَ لَكِ لِمَا أَنَّ تَمْكِينَهَا زَوْجَهَا من الْوَطْءِ
دَلِيلُ اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا لَا نَفْسَهَا فَصَارَ هذا أَصْلًا في الْبَابِ
وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ كُلُّهَا في أَحَدِهِمَا دَلِيلُ اخْتِيَارِ الْعِتْقِ
في الْآخَرِ لِأَنَّ منها ما يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ في
الْمُتَصَرَّفِ فيه وَهِيَ التَّصَرُّفَاتُ الْمُزِيلَةُ لِلْمِلْكِ وَمِنْهَا ما
لَا يُنَافِي اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ في الْمُتَصَرَّفِ فيه لَكِنَّ
اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فيه يُبْطِلُهُ وهو الرَّهْنُ وَالْإِجَارَةُ
وَالْكِتَابَةُ وَالتَّدْبِيرُ وَالِاسْتِيلَادُ وَالْعَاقِلُ يَقْصِدُ صِحَّةَ
تَصَرُّفَاتِهِ وَسَلَامَتِهَا عن الِانْتِقَاضِ وَالْبُطْلَانِ فَكَانَ
إقْدَامُهُ على كِلَا النَّوْعَيْنِ من التَّصَرُّفَاتِ في أَحَدِهِمَا دَلِيلًا
على اخْتِيَارِهِ الْعِتْقَ الْمُبْهَمَ في الْآخَرِ وَاخْتِيَارُهُ الْعِتْقَ
الْمُبْهَمَ في أَحَدِهِمَا عَيْنًا شَرْطٌ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فيه بِالْكَلَامِ
السَّابِقِ
وَهَذَا التَّخْرِيجُ على قَوْلِ من يقول أن الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ في
الْعَيْنِ فِيهِمَا فَأَمَّا على قَوْلِ من يقول بِنُزُولِ الْعِتْقِ في
أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ فَهُوَ أَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةِ لها
بِدُونِ الْمِلْكِ فَالْإِقْدَامُ عليها يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ في
الْمُتَصَرَّفِ فيه فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ فَيُعْتَقُ ضَرُورَةً من غَيْرِ
اخْتِيَارِ الْمَوْلَى نَصًّا وَدَلَالَةً كما إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قبل
الِاخْتِيَارِ أو قُتِلَ وَسَوَاءٌ كان الْبَيْعُ بَتًّا أو فيه خِيَارٌ
لِلْبَائِعِ أو لِلْمُشْتَرِي
أَمَّا على مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ فَلِأَنَّهُ لَا صِحَّةَ لِلْبَيْعِ إلَّا
بِالْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ على بَيْعِ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا إيَّاهُ
لِلْمِلْكِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً
وَأَمَّا على مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ أَمَّا خِيَارُ الْمُشْتَرِي فَلَا يَمْنَعُ
زَوَالَ الْمَبِيعِ عن مِلْكِهِ بِلَا خِلَافٍ فينافي اخْتِيَارِ الْعِتْقِ
الْمُبْهَمِ فيه وَأَمَّا اخْتِيَارُ الْبَائِعِ فَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ
الْمُبْهَمِ يُبْطِلُ شَرْطَ الْخِيَارِ
وَسَوَاءٌ كان الْبَيْعُ صَحِيحًا أو فَاسِدًا إذَا قَبَضَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ
وَقَعَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أو
ضَرُورَةً
وَأَمَّا إذَا لم يَقْبِضْ فَقَدْ ذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا
بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَ الْمُشْتَرِي عَتَقَ الْبَاقِي ولم يذكر أَنَّهُ إذَا
لم يَقْبِضْ مَاذَا حُكْمُهُ
وَهَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْإِمْلَاءِ إذَا وَهَبَ أَحَدَهُمَا وَأَقْبَضَهُ
أو تَصَدَّقَ وَأَقْبَضَ عَتَقَ الْآخَرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
وَعِنْدَنَا ولم يذكر حَالَ عَدَمِ الْقَبْضِ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْقَبْضَ ليس بِشَرْطٍ وَيَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ في
الْآخَرِ سَوَاءٌ قَبَضَ الْمُشْتَرِي أو لم يَقْبِضْ وَهَكَذَا ذَكَرَ
الْقُدُورِيُّ وقال قد ظَهَرَ الْقَوْلُ من أَصْحَابِنَا أَنَّهُ إذَا سَاوَمَ
بِأَحَدِ الْعَبْدَيْنِ وَقَعَ الْعِتْقُ في الْآخَرِ
وَهَكَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لو أَوْصَى بِأَحَدِهِمَا
أو سَاوَمَ عَتَقَ الْآخَرُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُسَاوَمَةَ دُونَ الْبَيْعِ
الْفَاسِدِ فَالسَّوْمُ لَمَّا كان بَيَانًا فَالْبَيْعُ أَوْلَى
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ الْقَبْضِ في الْأَصْلِ ليس على سَبِيلِ الشَّرْطِ
بَلْ وَقَعَ ذِكْرُهُ اتِّفَاقًا أو إشْعَارًا أَنَّهُ مع الْقَبْضِ من
التَّصَرُّفَاتِ الْمُزِيلَةِ لِلْمِلْكِ
وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَ أَحَدِهِمَا عَيْنًا بِشَرْطٍ بِأَنْ قال له إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ عَتَقَ الْآخَرُ أَمَّا على مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ
فَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَا سِوَى الْمِلْكِ وَسَبَبِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا في
الْمِلْكِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ على تَعْلِيقِ عِتْقِهِ اخْتِيَارًا لِلْمِلْكِ
فيه فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً
____________________
(4/103)
كما
لو نَجَزَ الْعِتْقُ في أَحَدِهِمَا
وَأَمَّا على مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ اخْتِيَارَ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ
فيه يُبْطِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَصَارَ كما لو دَبَّرَ أَحَدَهُمَا
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا قال لِأَحَدِهِمَا إنْ دَخَلْتَ
الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قال أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ دخل الذي عَلَّقَ
عِتْقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ حتى عتق عَتَقَ الْآخَرُ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى
زَالَ عن أَحَدِهِمَا لِسَبَبٍ من جِهَتِهِ فَصَارَ كما لو أَعْتَقَهُ ابْتِدَاءً
أو بَاعَهُ وَلَوْ كان الْمَمْلُوكَانِ أُخْتَيْنِ فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) الْمَوْلَى
إحْدَاهُمَا فَإِنْ عَلِقَتْ منه عَتَقَتْ الْأُخْرَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له وقد ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَكُونُ مُعِينًا
لِلْعِتْقِ في الْأُخْرَى وَإِنْ لم تَعْلَقْ لَا تُعْتَقُ الْأُخْرَى في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُعْتَقُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال وَكَذَلِكَ لو قَبَّلَ
إحْدَاهُمَا بِشَهْوَةٍ أو لَمَسَ بِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا عن
شَهْوَةٍ وَلَوْ اسْتَخْدَمَ إحْدَاهُمَا لَا تُعْتَقُ الْأُخْرَى في قَوْلِهِمْ
جميعا لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ تَصَرُّفٌ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ إذْ قد
يَسْتَخْدِمُ الْحُرَّةَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ الْعَاقِلِ الْمُتَدَيِّنِ
الْإِقْدَامُ على الْوَطْءِ الْحَلَالِ لَا الْحَرَامِ وَحِلُّ الْوَطْءِ لَا
يَثْبُتُ إلَّا بِأَحَدِ نَوْعَيْ الْمِلْكِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا مِلْكُ
النِّكَاحِ فَتَعَيَّنَ مِلْكُ الْيَمِينِ لِلْحِلِّ وإذا تَعَيَّنَتْ الموطوأة (
( ( الموطوءة ) ) ) لِلْمِلْكِ تَعَيَّنَتْ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ وَلِأَنَّ
الْوَطْءَ لو لم يُجْعَلْ بَيَانًا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقَعَ اخْتِيَارُهُ
على الموطوأة ( ( ( الموطوءة ) ) ) فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وطىء حُرَّةً من غَيْرِ
نِكَاحٍ فَيُجْعَلُ الْوَطْءُ بَيَانًا ضَرُورَةَ التَّحَرُّجِ عن الْحَرَامِ
حَالًا وَمَآلًا حتى لو قال إحْدَاكُمَا مُدَبَّرَةٌ ثُمَّ وطىء إحْدَاهُمَا لَا
يَكُونُ بَيَانًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ
الِاسْتِمْتَاعِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّحَرُّزِ بِالْبَيَانِ وَلِهَذَا جَعَلَ
الْوَطْءَ بَيَانًا في الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ حتى لو قال لِامْرَأَتَيْهِ
إحْدَاكُمَا طَالِقٌ فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) إحْدَاهُمَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى
كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كَوْنَ الْوَطْءِ بَيَانًا لِلْعِتْقِ في غَيْرِ
الموطوأة ( ( ( الموطوءة ) ) ) يَسْتَدْعِي نُزُولَ الْعِتْقِ لِيَكُونَ الْعِتْقُ
تَعْيِينًا لِلْمُعْتَقَةِ مِنْهُمَا وَالْعِتْقُ بِالْكَلَامِ السَّابِقِ غَيْرُ
نَازِلٍ لِمَا بَيَّنَّا من الدَّلَائِلِ وَهَكَذَا نَقُولُ في الطَّلَاقِ
الْمُبْهَمِ أنه غَيْرُ وَاقِعٍ في غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا بَلْ هو
مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ الِاخْتِيَارِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ جَعَلَ الْوَطْءَ دَلَالَةَ
الِاخْتِيَارِ ولم يُجْعَلْ هَهُنَا لِأَنَّ الْوَطْءَ في بَابِ النِّكَاحِ
مُسْتَحَقٌّ على الزَّوْجِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ عز وجل { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أو تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } قِيلَ في التَّفْسِيرِ أن الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ
هو الْوَطْءُ وَالنَّفَقَةُ وإذا كان الْوَطْءُ مُسْتَحَقًّا بِالنِّكَاحِ عِنْدَ
اخْتِيَارِ الْإِمْسَاكِ فإذا قَصَدَ وَطْءَ إحْدَاهُمَا صَارَ مُخْتَارًا
لِإِمْسَاكِهَا فَيَلْزَمُهُ إيفَاءُ الْمُسْتَحَقِّ شَرْعًا ضَرُورَةَ اخْتِيَارِ
الْإِمْسَاكِ فَيَصِيرُ مُخْتَارًا طَلَاقَ الْأُخْرَى وَالْوَطْءُ في الْأَمَةِ
غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِحَالٍ فَلَا يَكُونُ وَطْءُ إحْدَاهُمَا اخْتِيَارًا
لِلْعِتْقِ في الْأُخْرَى لو صَارَ مُخْتَارًا لِلْإِمْسَاكِ إنَّمَا يَصِيرُ
لِيَقَعَ وَطْؤُهُ حَلَالًا تَحَرُّجًا عن الْحُرْمَةِ وَوَطْؤُهُ إيَّاهُمَا
جميعا حَلَالٌ وَبِاخْتِيَارِ إحْدَاهُمَا لَا يَظْهَرُ أَنَّ وَطْءَ الموطوأة ( (
( الموطوءة ) ) ) كان حَرَامًا لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ حَالَ الِاخْتِيَارِ
مَقْصُورًا عليها
وَأَمَّا الضَّرُورَةُ فَنَحْوُ أَنْ يَمُوتَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قبل الِاخْتِيَارِ
فَيُعْتَقُ الْآخَرُ لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا
لِاخْتِيَارِ الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ فَتَعَيَّنَ الْآخَرُ ضَرُورَةً من غَيْرِ
تَعْيِينِ الْمَوْلَى لَا نَصًّا وَلَا دَلَالَةً وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ
الْعِتْقَ غَيْرُ نَازِلٍ إذْ لو كان نَازِلًا لَمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ
لِلْعِتْقِ لِأَنَّ التَّعْيِينَ لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ عَدَمِ
الْمَحِلِّ وَلَا ضَرُورَةَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ كان مَحِلًّا لِلْبَيَانِ إذْ
الْبَيَانُ تَعْيِينٌ لِمَنْ وَقَعَ عليه الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ السَّابِقِ
وَقْتَ وُجُودِهِ وكان حَيًّا في ذلك الْوَقْتِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا بَاعَ
أَحَدَ عَبْدَيْهِ على أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ
فَمَاتَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي يَتَعَيَّنُ في الْمَيِّتِ
مِنْهُمَا وَلَا يَتَعَيَّنُ في الْحَيِّ لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ
لِلْخِيَارِ في الْمَيِّتِ قبل الْمَوْتِ وهو حُدُوثُ الْعَيْبِ فيه إذْ الْمَوْتُ
لَا يَخْلُو عن مُقَدِّمَةِ مَرَضٍ عَادَةً فَحُدُوثُ الْعَيْبِ فيه يُبْطِلُ
خِيَارَ الْمُشْتَرِي فيه فَيَتَعَيَّنُ بِالْبَيْعِ فَيَتَعَيَّنُ الْحَيُّ
لِلرَّدِّ
وَهَهُنَا حُدُوثُ الْعَيْبِ في أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ تَعْيِينَهُ لِلْمِلْكِ
قبل الْمَوْتِ فَيَتَعَيَّنُ لِلْمَوْتِ فَيَتَعَيَّنْ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ
ضَرُورَةً بِخِلَافِ ما إذَا قال أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي أو أَحَدُ هَاتَيْنِ
أُمُّ وَلَدَيْ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا لم يَتَعَيَّنْ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ
وَالِاسْتِيلَادِ كَذَا رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُ
هَاتَيْنِ أُمُّ وَلَدِي أو أَحَدُ هَذَيْنِ ابْنِي ليس بِإِنْشَاءٍ بَلْ هو
إخْبَارٌ عن أَمْرٍ سَابِقٍ وَالْإِخْبَارُ يَصِحُّ في الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ
فَيَقِفُ على بَيَانِهِ
وَقَوْلُهُ أَحَدُكُمَا حُرٌّ أو أَحَدُ هَذَيْنِ حُرٌّ إنْشَاءٌ لِلْحُرِّيَّةِ
في أَحَدِهِمَا وَالْإِنْشَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا في الْحَيِّ فإذا مَاتَ
أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْحُرِّيَّةِ وَكَذَا إذَا قُتِلَ أَحَدُهُمَا
سَوَاءٌ قَتَلَهُ الْمَوْلَى أو أَجْنَبِيٌّ لِمَا قُلْنَا غير أَنَّ الْقَتْلَ
إنْ كان من الْمَوْلَى فَلَا شَيْءَ عليه وَإِنْ كان من الْأَجْنَبِيِّ فَعَلَيْهِ
قِيمَةُ الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ لِلْمَوْلَى
فَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى عِتْقَ الْمَقْتُولِ لَا يَرْتَفِعُ الْعِتْقُ عن
الْحَيِّ وَلَكِنْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ
____________________
(4/104)
تَكُونُ
لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّ الْمَوْلَى قد أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ
شيئا من قِيمَتِهِ فَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا لَا يُعْتَقُ الْآخَرُ
سَوَاءٌ كان الْقَطْعُ من الْمَوْلَى أو من أَجْنَبِيٍّ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا
يَقْطَعُ خِيَارَ الْمَوْلَى لِبَقَاءِ مَحَلِّ الْخِيَارِ بِخِلَافِ الْقَتْلِ
فَإِنْ قَطَعَ أَجْنَبِيٌّ يَدَ أَحَدِهِمَا ثُمَّ بَيَّنَ الْمَوْلَى الْعِتْقَ
فَإِنْ بَيَّنَهُ في غَيْرِ الْمَجْنِيِّ عليه فَالْأَرْشُ لِلْمَوْلَى بِلَا
شَكٍّ وَإِنْ بَيَّنَهُ في الْمَجْنِيِّ عليه ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ
أَنَّ الْأَرْشَ لِلْمَوْلَى أَيْضًا وَلَا شَيْءَ لِلْمَجْنِيِّ عليه من
الْأَرْشِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أن الْأَرْشَ يَكُونُ
لِلْمَجْنِيِّ عليه وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي فِيمَا إذَا قَطَعَ الْمَوْلَى
ثُمَّ بَيَّنَ الْعِتْقَ أَنَّهُ إنْ بَيَّنَهُ في الْمَجْنِيِّ عليه يَجِبُ عليه
أَرْشُ الْأَحْرَارِ وَيَكُونُ لِلْعَبْدِ وَعَلَّلَ بِأَنَّهُ أَقَرَّ على
نَفْسِهِ بِأَنَّهُ جَنَى على حُرٍّ وَإِنْ بَيَّنَهُ في غَيْرِ الْمَجْنِيِّ عليه
فَلَا شَيْءَ على الْمَوْلَى ولم يذكر الْقُدُورِيُّ هذا الْفَصْلَ وَإِنَّمَا
ذَكَرَ فَصْلَ الْأَجْنَبِيِّ
وما ذَكَرَهُ الْقَاضِي قِيَاسُ مَذْهَبِ التَّنْجِيزِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يَكُونُ
تَعْيِينًا لِمَنْ وَقَعَ عليه الْعِتْقُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كان حُرًّا وَقْتَ
وُرُودِ الْجِنَايَةِ عليه فَيُوجِبُ أَرْشَ الْأَحْرَارِ على الْمَوْلَى
لِلْعَبْدِ
وما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ قِيَاسُ مَذْهَبِ التَّعْلِيقِ لِأَنَّ الْعِتْقَ
ثَبَتَ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ مَقْصُورًا عليه فَلَا يَظْهَرُ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ
صَادَفَتْ يَدَ حُرٍّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ قال عَبْدِي حُرٌّ وَلَيْسَ له إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ عَتَقَ لِأَنَّهُ
تَعَيَّنَ بِالْإِيجَابِ فَانْصَرَفَ إلَيْهِ فَإِنْ قال لي عَبْدٌ آخَرُ
عَنَيْتُهُ لم يُصَدَّقْ في الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ إذَا لم يُعْرَفْ له عَبْدٌ
آخَرُ انْصَرَفَ إيجَابُهُ إلَى هذا الْعَبْدِ ظَاهِرًا فَلَا يُصَدَّقُ في
الْعُدُولِ عن الظَّاهِرِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ على أَنَّ له عَبْدًا آخَرَ
وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عز وجل لِأَنَّهُ نَوَى ما
يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ وَلَوْ قال أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ أو أَحَدُ عَبْدَيَّ
حُرٌّ وَلَيْسَ له إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ عَتَقَ لِأَنَّ لَفْظَةَ أَحَدُ لَا
تَقْتَضِي آحَادًا
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ أَحَدٌ قال سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { قُلْ هو اللَّهُ أَحَدٌ } وَلَا مِثْلَ له وَلَا شَرِيكَ وَلَا
أَحَدَ غَيْرُهُ في الْأَزَلِ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ كان له ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فقال أَحَدُ
عَبِيدِي حُرٌّ أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ قال ذلك ثَلَاثًا
عَتَقُوا لِأَنَّ أَحَدَهُمْ عَتَقَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَحَدُ
عَبِيدِهِ وَعَتَقَ الْآخَرُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي لِهَذَا الْمَعْنَى وقد بَقِيَ
له عَبْدَانِ فَيُعْتَقُ أَحَدَهُمَا وَعَتَقَ الثَّالِثُ بِاللَّفْظِ الثَّالِثِ
وَإِنْ لم يَبْقَ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ كما لو قال ابْتِدَاءً أَحَدُ عَبِيدِي
حُرٌّ وَلَيْسَ له إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ
وَلَوْ قال أحدكم حُرٌّ أحدكم حُرٌّ أحدكم حُرٌّ لم يُعْتَقْ إلَّا وَاحِدٌ لِأَنَّ
أَحَدَهُمْ عَتَقَ بِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ ثُمَّ بِاللَّفْظِ الثَّانِي جَمَعَ بين
حُرٍّ وَعَبْدَيْنِ فقال أحدكم حُرٌّ لم يَصِحَّ ثُمَّ بِاللَّفْظِ الثَّالِثِ
جَمَعَ بَيْنِ عَبْدٍ وَحُرَّيْنِ فلم يَصِحَّ ذلك أَيْضًا لِأَنَّهُ يُحْمَلُ على
الْإِخْبَارِ وهو صَادِقٌ فِيمَا أَخْبَرَ
وَلَوْ قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ أو مُدَبَّرٌ يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فَإِنْ قال
عَنَيْتُ بِهِ الْحُرِّيَّةَ عَتَقَ وَإِنْ قال عَنَيْتُ بِهِ التَّدْبِيرَ صَارَ
مُدَبَّرًا وَهَذَا ظَاهِرٌ فَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ وَالْقَوْلُ في الصِّحَّةِ
عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَنِصْفُهُ بِالتَّدْبِيرِ لِشُيُوعِ
الْعِتْقَيْنِ فيه إلَّا أَنَّ نِصْفَهُ يُعْتَقُ مَجَّانًا من جَمِيعِ الْمَالِ
لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ في حَالَةِ الصِّحَّةِ وَنِصْفُهُ
يُعْتَقُ من الثُّلُثِ لِأَنَّهُ يُعْتَقُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْعِتْقُ
بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ من طَرِيقِ الْوَصِيَّةِ فَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ
سَوَاءٌ كان التَّدْبِيرُ في الْمَرَضِ أو في الصِّحَّةِ إنْ خَرَجَ من الثُّلُثِ
عَتَقَ كُلُّ النِّصْفِ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُ
النِّصْفِ مَجَّانًا لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ لم يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ
وَيَسْعَى في ثُلُثَيْ النِّصْفِ وهو ثُلُثُ الْكُلِّ
وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ أو مُدَبَّرٌ يُؤْمَرُ
بِالْبَيَانِ فَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ وَلَا مَالَ له غَيْرُهُمَا وَالْقَوْلُ
في الصِّحَّةِ عَتَقَ نِصْفُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلشُّيُوعِ إلَّا أَنَّ
الرُّبْعَ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَقُ مَجَّانًا من جَمِيعِ الْمَالِ
لِحُصُولِهِ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ في حَالَةِ الصِّحَّةِ وَالرُّبْعُ يُعْتَقُ
من أُصُولِهِ بِالتَّدْبِيرِ ويسعى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نِصْفِ قِيمَتِهِ
على كل حَالٍ
وَلَوْ قال أَنْتُمَا حُرَّانِ أو مُدَبَّرَانِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا عَتَقَ
نِصْفُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَنِصْفُ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كان الْقَوْلُ في الصِّحَّةِ
فَإِنْ كان في الْمَرَضِ يُعْتَبَرُ ذلك من الثُّلُثِ
وَلَوْ كان لِرَجُلٍ ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ فقال هذا حُرٌّ أو هذا وَهَذَا عَتَقَ
الثَّالِثُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ في الأوليين ( ( ( الأولين ) ) ) وَلَوْ قال
هذا حُرٌّ وَهَذَا أو هذا عَتَقَ الْأَوَّلُ وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ في
الْآخَرَيْنِ وَكَذَلِكَ هذا في الطَّلَاقِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ كَلِمَةَ أو في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ دَخَلَتْ بين
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَأَوْجَبَتْ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ عَيْنٍ ثُمَّ
الثَّالِثُ عُطِفَ على الْحُرِّ مِنْهُمَا أَيَّهُمَا كان فَصَارَ كَأَنَّهُ قال
أَحَدُكُمَا حُرٌّ وَهَذَا وفي الْفَصْلِ الثَّانِي أَوْجَبَ الْحُرِّيَّةَ
لِلْأَوَّلِ عَيْنًا ثُمَّ أَدْخَلَ كَلِمَةَ أو في الثَّانِي وَالثَّالِثِ
فَأَوْجَبَتْ حُرِّيَّةَ أَحَدِهِمَا غَيْرِ عَيْنٍ فَعَتَقَ الْأَوَّلُ
وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ في الثَّانِي وَالثَّالِثِ وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا قال
إنْ كَلَّمْتُ هذا
____________________
(4/105)
أو
هذا وَهَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ أَنَّهُ إنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ وَحْدَهُ حَنِثَ
وَإِنْ كَلَّمَ الثَّانِيَ أو الثَّالِثَ وَحْدَهُ لَا يَحْنَثُ ما لم
يُكَلِّمْهُمَا جميعا
وَلَوْ قال إنْ كَلَّمْتُ هذا وَهَذَا أو هذا فَعَبْدِي حُرٌّ فَإِنْ كَلَّمَ
الثَّالِثَ وَحْدَهُ حَنِثَ وَإِنْ كَلَّمَ الْأَوَّلَ أو الثَّانِيَ وَحْدَهُ لَا
يَحْنَثُ ما لم يُكَلِّمْهُمَا جميعا لِأَنَّ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ جَعَلَ
شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ الْأَوَّلِ وَحْدَهُ أو كَلَامَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ
جميعا لِأَنَّهُ جَعَلَ الثَّالِثَ مَعْطُوفًا على الثَّانِي بِحَرْفِ الْعَطْفِ
فَقَدْ أَدْخَلَ كَلِمَةَ أو بين الْأَوَّلِ وَحْدَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي
وَالثَّالِثِ جميعا
وَأَمَّا في الْفَصْلِ الثَّانِي فَقَدْ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ كَلَامَ
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جميعا أو كَلَامَ الثَّالِثِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ عَطَفَ
الثَّانِي على الْأَوَّلِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ وَأَدْخَلَ كَلِمَةَ أو بين
الْأَوَّلِ وَالثَّانِي جميعا وَالثَّالِثُ وَحْدَهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ اخْتَلَطَ حُرٌّ بِعَبْدٍ كَرَجُلٍ له عَبْدٌ فَاخْتَلَطَ بِحُرٍّ ثُمَّ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يقول أنا حُرٌّ وَالْمَوْلَى يقول أَحَدُكُمَا عَبْدِي
كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما يَعْلَمُ
أَنَّهُ حُرٌّ فَإِنْ حَلِف لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ فَاَلَّذِي نَكَلَ
له حُرٌّ دُونَ الْآخَرِ وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا فَهُمَا حُرَّانِ
وَإِنْ حَلِفَ لَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَطَ الْأَمْرُ فَالْقَاضِي يَقْضِي
بِالِاخْتِلَاطِ وَيُعْتِقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ
وَنِصْفَهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَكَذَا لو كَانُوا ثَلَاثَةً يُعْتَقُ من كل
وَاحِدٍ منهم ثُلُثُهُ وَيَسْعَى في ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ كَذَا ذَكَرَهُ
الْكَرْخِيُّ
وَكَذَلِكَ لو كَانُوا عَشْرَةٌ فَهُوَ على هذا الِاعْتِبَارِ وَهَذَا كَرَجُلٍ
أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ فَإِنْ بَيَّنَ فَهُوَ على
ما بَيَّنَ فَإِنْ لم يُبَيِّنْ وقال لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا حُرٌّ لَا يُجْبَرُ
على الْبَيَانِ وَلَكِنْ يُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا
وَنِصْفُهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ كَذَلِكَ هَهُنَا
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وهو ما يَتَعَلَّقُ بِهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى
فَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قال لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا يَنْوِي
أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ ثُمَّ مَاتَ قبل الِاخْتِيَارِ عَتَقَ من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نِصْفُهُ لِأَنَّهُ وَقَعَ الْيَأْسُ عن الْبَيَانِ وَالِاخْتِيَارِ إذْ
لَا يُمْكِنُهُ ذلك بِنَفْسِهِ وَهَذَا الْخِيَارُ لَا يُوَرَّث حتى يَقُومَ
الْوَارِثُ فيه مَقَامَهُ فَيَشِيعُ الْعِتْقُ فِيهِمَا إذْ ليس أَحَدُهُمَا
بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَيُعْتَقُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا
وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نِصْفِ قِيمَتِهِ وَفَصْلُ الشُّيُوعِ
دَلِيلُ نُزُولِ الْعِتْقِ في أَحَدِهِمَا إذْ الثَّابِتُ تَشْيِيعٌ وَالْمَوْتُ
ليس بِإِعْتَاقٍ عُلِمَ أَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ وَقَعَ تَنْجِيزًا لِلْعِتْقِ
في أَحَدِهِمَا ثُمَّ فَرَّقَ بين هذا الْخِيَارِ وَبَيْنَ خِيَارِ التَّعْيِينِ
في بَابِ الْبَيْعِ لأنه الْوَارِثَ هُنَاكَ يَقُومُ مَقَامَ الْمَوْتِ في
الْبَيَانِ وَهَهُنَا لَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ مَلَكَ الْمُشْتَرِي أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ
مَجْهُولًا إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحِلٌّ لِلْمِلْكِ فإذا مَاتَ بالوارث (
( ( فالوارث ) ) ) وَرِثَ منه عَبْدًا مَجْهُولًا فَمَتَى جَرَى الْإِرْثُ ثَبَتَ
وِلَايَةُ التَّعْيِينِ أَمَّا هَهُنَا فَأَحَدُهُمَا حُرٌّ أو اسْتَحَقَّ
الْحُرِّيَّةَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْإِرْثِ في أَحَدِهِمَا فَيَمْنَعُ
وِلَايَةَ التَّعْيِينِ هذا إذَا كان الْمُزَاحِمُ له مُحْتَمِلًا لِلْعِتْقِ وهو
مِمَّنْ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ فيه فَأَمَّا إذَا كان مِمَّنْ لَا يَنْفُذُ
إعْتَاقُهُ فيه بِأَنْ جَمَعَ بين عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ فقال أَحَدُكُمَا
حُرٌّ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَحَدُكُمَا
يَحْتَمِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ عَبْدَ الْغَيْرِ قَابِلٌ لِلْعِتْقِ
في نَفْسِهِ وَمُحْتَمِلٌ لِنُفُوذِ الْإِعْتَاقِ فيه في الْجُمْلَةِ فَلَا
يَنْصَرِفُ إلَى عبد نَفْسِهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَإِنْ كان الْمُزَاحِمُ مِمَّنْ
لَا يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ أَصْلًا كما إذَا جَمَعَ بين عَبْدِهِ وَبَيْنَ
بَهِيمَةٍ أو حَائِطٍ أو حَجَرٍ فقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ أو قال عَبْدِي حُرٌّ أو
هذا وَهَذَا فإن عَبْدَهُ يُعْتَقُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ نَوَى أو لم يَنْوِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يُعْتَقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَكَذَا إذَا جَمَعَ
بين عَبْدِهِ وَبَيْنَ مَيِّتٍ وقد ذَكَرْنَا الْكَلَامَ في هذه الْجُمْلَةِ في
كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَعَلَى هذا إذَا جَمَعَ بين عَبْدِهِ وَبَيْنَ حُرٍّ فقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ
أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ صِيغَتَهُ صِيغَةُ
الخير ( ( ( الخبر ) ) ) فَيُحْمَلُ على الْإِخْبَارِ هو صَادِقٌ في إخْبَارِهِ مع
ما في الْحَمْلِ عليه تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ وَأَنَّهُ أَصْلٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ
فَيُحْمَلُ عليه إلَّا إذَا نَوَى فَيُحْمَلُ على الْإِنْشَاءِ بِقَرِينَةِ
النِّيَّةِ وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ إنْشَاءَ الْحُرِّيَّةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى
الْعَبْدِ وَلَوْ جَمَعَ بين عَبْدِهِ وَمُدَبَّرِهِ فقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ لَا
يَصِيرُ عَبْدُهُ مُدَبَّرًا إلَّا بِالنِّيَّةِ وَيُحْمَلُ على الْإِخْبَارِ كما
في الْجَمْعِ بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ
وَلَوْ جَمَعَ بين عَبْدَيْهِ وَمُدَبَّرِهِ فقال اثْنَانِ مِنْكُمْ مُدَبَّرَانِ
صَارَ أَحَدُ عَبْدَيْهِ مُدَبَّرًا وَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِأَنَّ قَوْلَهُ
اثْنَانِ مِنْكُمْ يُصْرَفُ أَحَدُهُمَا إلَى الْمُدَبَّرِ وَيَكُونُ إخْبَارًا عن
تَدْبِيرِهِ إذْ الصِّيغَةُ لِلْخَبَرِ في الْوَضْعِ وهو صَادِقٌ في هذا
الْإِخْبَارِ وَالْآخَرُ يُصْرَفُ إلَى أَحَدِ الْعَبْدَيْنِ فَيَكُونُ إنْشَاءً
لِلتَّدْبِيرِ في أَحَدِهِمَا إذْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْخَبَرِ لِأَنَّهُ
يَكُونُ كَذِبًا فَيُحْمَلُ على الْإِنْشَاءِ كَأَنَّهُ قال لِلْمُدَبَّرِ هذا
مُدَبَّرٌ وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ مُدَبَّرٌ فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ كما لو قال
ذلك ابْتِدَاءً لِعَبْدَيْهِ أَحَدُكُمَا مُدَبَّرٌ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل
الْبَيَانِ انْقَسَمَ تَدْبِيرُ رَقَبَةٍ بين الْعَبْدَيْنِ نِصْفَيْنِ فَيُعْتَقُ
الْمُدَبَّرُ الْمَعْرُوفُ من الثُّلُثِ وَيُعْتَقُ نِصْفُ كل وَاحِدٍ من
الْعَبْدَيْنِ من
____________________
(4/106)
الثُّلُثِ
لِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ سَوَاءٌ
كان في الْمَرَضِ أو في الصِّحَّةِ وَهَذَا كما لو جَمَعَ بين عَبْدَيْنِ وَحُرٍّ
فقال اثْنَانِ مِنْكُمْ حُرَّانِ أَنَّهُ يُصْرَفُ أَحَدُهُمَا إلَى الْإِخْبَارِ
عن حُرِّيَّةِ أَحَدِهِمْ وَالْآخَرُ إلَى إنْشَاءِ الْحُرِّيَّةِ في أَحَدِ
الْعَبْدَيْنِ لَا غَيْرُ كَأَنَّهُ قال للحر إن هذا حُرٌّ وَأَحَدُ الْعَبْدَيْنِ
حُرٌّ فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ فَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ عَتَقَ من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا نِصْفُهُ لِشُيُوعِ الْعِتْقِ فِيهِمَا كَذَا هذا وَلَوْ كان له
ثَلَاثَةُ أَعْبُدٍ دخل عليه اثْنَانِ فقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ ثُمَّ خَرَجَ
أَحَدُهُمَا وَدَخَلَ الْآخَرُ فقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ فَالْكَلَامُ في هذه
الْمَسْأَلَةِ في الْأَصْلِ يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ في
حَالِ الْحَيَاةِ
وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِحَالِ الْمَوْتِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فما دَامَ الْمَوْلَى حَيًّا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ ثُمَّ إنْ
بَدَأَ بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فَإِنْ عَنَى بِهِ الْخَارِجَ عَتَقَ
الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ إيجَابَ الثَّانِي بين
الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ وَقَعَ صَحِيحًا لِوُقُوعِهِ بين عَبْدَيْنِ فَيُؤْمَرُ
بِالْبَيَانِ لِهَذَا الْإِيجَابِ وَإِنْ عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلَ
الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ
الْإِيجَابَ الثَّانِيَ وَقَعَ لَغْوًا لِحُصُولِهِ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وروى عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال الْكَلَامُ الثَّانِي يَنْصَرِفُ إلَى الدَّاخِلِ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ على قَوْلِهِ إذَا جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ فقال
أَحَدُكُمَا حُرٌّ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْعَبْدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ بَدَأَ بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الثَّانِي فَإِنْ عَنَى
بِهِ الدَّاخِلَ عَتَقَ الدَّاخِلُ عَتَقَ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي وَبَقِيَ
الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ بين الْخَارِجِ وَالثَّابِتِ على حَالِهِ كما كان
فَيُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ كما كان وَإِنْ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ الثَّابِتُ
بِالْإِيجَابِ الثَّانِي وَعَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ
لِتَعْيِينِهِ لِلْعِتْقِ بِإِعْتَاقِ الثَّابِتِ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ مما ( ( ( بما ) ) ) بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَهُنَا
حَالَانِ حَالُ ما بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدَيْنِ وَحَالُ ما بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى
أَمَّا مَوْتُ الْعَبْدَيْنِ فَإِنْ مَاتَ الْخَارِجُ عَتَقَ الثَّابِتُ
بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي وَقَعَ
بَاطِلًا وَإِنْ مَاتَ الثَّابِتُ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ
وَالدَّاخِلُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي لِأَنَّ الثَّابِتَ قد أُعِيدَ عليه
الْإِيجَابُ فَعِتْقُهُ يُوجِبُ تَعْيِينَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْعِتْقِ وَإِنْ
مَاتَ الدَّاخِلُ يُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِالْبَيَانِ لِلْإِيجَابِ الْأَوَّلِ
فَإِنْ عَنَى بِهِ الْخَارِجَ عَتَقَ الْخَارِجُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ
وَبَقِيَ الْإِيجَابُ الثَّانِي بين الدَّاخِلِ وَالثَّابِتِ فَيُؤْمَرُ
بِالْبَيَانِ وَإِنْ عَنَى بِهِ الثَّابِتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي
وَقَعَ بَاطِلًا
وَأَمَّا مَوْتُ الْمَوْلَى قبل الْبَيَانِ فَإِنْ كان الْقَوْلُ منه في
الصِّحَّةِ يُعْتَقُ من الْخَارِجِ نِصْفُهُ وَمِنْ الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ
أَرْبَاعِهِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَاخْتَلَفُوا في الدَّاخِلِ قال أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ يُعْتَقُ من
الدَّاخِلِ نِصْفُهُ وقال مُحَمَّدٌ رُبْعُهُ أَمَّا في مَسْأَلَةِ الْوِفَاقِ
فَلِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ كان عَنَى بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ عَتَقَ
كُلُّهُ ولم يُعْتَقْ بِهِ الثَّابِتُ وَإِنْ كان عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ
الثَّابِتُ كُلُّهُ ولم يُعْتَقْ بِهِ الْخَارِجُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يُعْتَقُ في حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ في حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيُعْتَقُ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ ثُمَّ الثَّابِتُ
بِالْإِيجَابِ الثَّانِي يُعْتَقُ نِصْفُهُ الْبَاقِي في حَالٍ وَلَا يُعْتَقُ في
حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ذلك النِّصْفُ فَيُعْتَقُ رُبْعُهُ بِالْإِيجَابِ الثَّانِي
وقد عَتَقَ نِصْفُهُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ فَيُعْتَقُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْخِلَافِ فَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَهُوَ أَنَّ
الْإِيجَابَ الثَّانِيَ يَصِحُّ في حَالٍ وَلَا يَصِحُّ في حَالٍ لِأَنَّهُ إنْ
كان الْمَوْلَى عني بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ الْخَارِجَ يَصِحُّ الْإِيجَابُ
الثَّانِي لِأَنَّ الثَّابِتَ يَبْقَى رَقِيقًا فَيَقَعُ الْإِيجَابُ الثَّانِي
جَمْعًا بين الْعَبْدَيْنِ فَيَصِحُّ وَإِنْ كان عَنَى بِهِ الثَّابِتَ لَا
يَصِحُّ لِأَنَّهُ يَقَعُ جَمْعًا بين الْحُرِّ وَالْعَبْدِ فَيَلْغُو فَيَصِحُّ
الْإِيجَابُ الثَّانِي في حَالٍ ولم يَصِحَّ في حَالٍ فَلَا يُثْبِتُ إلَّا نِصْفَ
حُرِّيَّةٍ فَيُقْسَمُ بين الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ فَيُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا الرُّبْعُ
وَلَهُمَا أَنَّ الْإِيجَابَ الثَّانِي إنَّمَا يَدُورُ بين الصِّحَّةِ
وَالْبُطْلَانِ إذَا نَزَلَ الْعِتْقُ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ في غَيْرِ
الْمُعَيَّنِ مِنْهُمَا ولم يَنْزِلْ لِمَا ذَكَرْنَا من الدَّلَائِلِ فِيمَا
تَقَدَّمَ فَكَانَ الْإِيجَابُ الثَّانِي صَحِيحًا في الْحَالَيْنِ جميعا فلما
مَاتَ الْمَوْلَى قبل الْبَيَانِ أَصَابَ الدَّاخِلَ من هذا الْإِيجَابِ نِصْفُ
حُرِّيَّةٍ ثُمَّ إنْ كان عَنَى بِهِ الثَّابِتَ عَتَقَ بِهِ النِّصْفُ الْبَاقِيَ
وَلَا يُعْتَقُ الدَّاخِلُ وَإِنْ كان عَنَى بِهِ الدَّاخِلَ عَتَقَ كُلُّهُ وَلَا
يُعْتَقُ شَيْءٌ من النِّصْفِ الْبَاقِي من الثَّابِتِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَثْبُتُ في حَالٍ وَلَا يَثْبُتُ في حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيُعْتَقُ من
الثَّابِتِ رُبْعُهُ وَمِنْ الدَّاخِلِ نِصْفُهُ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ ما ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ غَيْرُ سَدِيدٍ أَنَّ الْإِيجَابَ
الثَّانِيَ لو كان تَرَدَّدَ بين الصِّحَّةِ وَعَدَمِ الصِّحَّةِ لَبَطَلَ أَصْلًا
وَرَأْسًا لِأَنَّ من جَمَعَ بين حُرٍّ وَعَبْدٍ وقال أَحَدُكُمَا حُرٌّ يَبْطُلُ
أَصْلًا وَرَأْسًا وَمُحَمَّدٌ اعْتَبَرَ الْإِيجَابَ الثَّانِيَ حَيْثُ قال
بِثُبُوتِ نِصْفِ حُرِّيَّةٍ بين الثَّابِتِ وَالدَّاخِلِ هذا
____________________
(4/107)
إذَا
كان الْقَوْلُ منه في الصِّحَّةِ فَإِنْ كان في الْمَرَضِ فَإِنْ كان له مَالٌ
آخَرُ يَخْرُجُونَ من الثُّلُثِ أو لَا يَخْرُجُونَ لَكِنْ إنْ أَجَازَتْ
الْوَرَثَةُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى هَؤُلَاءِ ولم
تُجِزْ الْوَرَثَةُ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ على قَدْرِ وَصِيَّتِهِمْ
لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ نَفَاذُهَا من
الثُّلُثِ فَيُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ منهم بِمِقْدَارِ وَصِيَّتِهِ فَوَصِيَّةُ
الْخَارِجِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ وَوَصِيَّةُ الثَّالِثِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ
الرَّقَبَةِ وَوَصِيَّةُ الدَّاخِلِ نِصْفُ الرَّقَبَةِ على أَصْلِهِمَا
فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِحَاجَتِنَا إلَى ثَلَاثَةِ
الْأَرْبَاعِ فَالْخَارِجُ يُضْرَبُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ
وَالثَّابِتُ يُضْرَبُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ
أَسْهُمٍ وَالدَّاخِلُ يُضْرَبُ بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ سَهْمَانِ
فَتُجْمَعُ وَصَايَاهُمْ فَتَصِيرُ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَيُجْعَلُ ثُلُثُ الْمَالِ
مَبْلَغَ الْوَصَايَا وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ ثُلُثَا الْمَالِ
أَرْبَعَةَ عَشَرَ سَهْمًا ضَرُورَةً فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ أَحَدَ
وَعِشْرِينَ فَصَارَ كُلُّ عَبْدٍ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ لِأَنَّ مَالَهُ ثَلَاثَةُ
أَعْبُدٍ وقد صَارَ مَالُهُ كُلُّهُ أَحَدَ وَعِشْرِينَ سَهْمًا فَيُخْرَجُ منه
سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ فَالْخَارِجُ يُعْتَقُ منه سَهْمَانِ من
سَبْعَةٍ وَيَسْعَى في خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَالثَّابِتُ يُعْتَقُ منه ثَلَاثَةُ
أَسْهُمٍ من سَبْعَةٍ وَيَسْعَى في أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَالدَّاخِلُ يُعْتَقُ منه
سَهْمَانِ من سَبْعَةٍ وَيَسْعَى في خَمْسَةِ أَسْهُمٍ كَالْخَارِجِ وإذا صَارَ
سِهَامُ الْوَصَايَا سَبْعَةً تَصِيرُ سِهَامُ الْوَرَثَةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ
ضَرُورَةً فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَهَذَا التَّخْرِيجُ على
قَوْلِهِمَا
وَأَمَّا على قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَالْخَارِجُ يُضْرَبُ بِسَهْمَيْنِ وَالثَّابِتُ
بِثَلَاثَةٍ وَالدَّاخِلُ بِسَهْمٍ فَذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ فَصَارَ ثُلُثُ
الْمَالِ سِتَّةُ أَسْهُمٍ فَيَكُونُ ثُلُثَاهُ مِثْلَيْهِ وَذَلِكَ اثْنَيْ
عَشَرَ فَيَصِيرُ جَمِيعُ الْمَالِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ فَصَارَ كُلُّ عَبْدٍ
سِتَّةَ أَسْهُمٍ يَخْرُجُ منها سِهَامُ الْعِتْقِ وَسِهَامُ السِّعَايَةِ
فَيُعْتَقُ من الْخَارِجِ سَهْمَانِ وَيَسْعَى في أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ وَيُعْتَقُ
من الثَّابِتِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ وَيَسْعَى في ثَلَاثَةٍ وَيُعْتَقُ من
الدَّاخِلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَيَسْعَى في خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فسار ( ( ( فصار ) ) )
لِلْوَرَثَةِ اثْنَيْ عَشَرَ وَلِأَصْحَابِ الْوَصَايَا سِتَّةٌ فَاسْتَقَامَ
الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْجَهَالَةُ الطَّارِئَةُ بِأَنْ أَضَافَ صِيغَةَ الْإِعْتَاقِ إلَى
أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُمَّ نَسِيَهُ فَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ أَيْضًا في
مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في كَيْفِيَّةِ هذا التَّصَرُّفِ
وَالثَّانِي في الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا
خِلَافَ في أَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ قبل الْبَيَانِ لِأَنَّ الصِّيغَةَ أُضِيفَتْ
إلَى مُعَيَّنٍ وَالْمُعَيَّنُ مَحَلٌّ لِنُزُولِ الْعِتْقِ فيه فَكَانَ
الْبَيَانُ في هذا النَّوْعِ إظْهَارًا وَتَعْيِينًا لِمَنْ نَزَلَ فيه الْعِتْقُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَالْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِهِ ضَرْبَانِ أَيْضًا
ضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَضَرْبٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ
بَعْدَ مَوْتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فتقول ( ( ( فنقول ) ) ) إذَا أَعْتَقَ إحْدَى جَارِيَتَيْهِ
بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا أو أَعْتَقَ إحْدَى جَوَارِيهِ الْعَشَرَةِ
بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَ الْمُعْتَقَةَ فإنه يُمْنَعُ من وَطْئِهِنَّ
وَاسْتِخْدَامهنَّ لِأَنَّ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَكُلُّ
وَاحِدَةٍ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحُرَّةُ وَوَطْءُ الْحُرَّةِ من غَيْرِ
نِكَاحٍ حَرَامٌ فَلَوْ قَرَّبَ وَاحِدَةً منهم ( ( ( منهن ) ) ) رُبَّمَا
يَقْرَبُ الْحُرَّةَ فَيُمْنَعُ من ذلك صِيَانَةً عن الْحَرَامِ
وَالْأَصْلُ في هذا الْبَابِ ما رَوَيْنَا من حديث وَابِصَةَ بن مَعْبَدٍ رضي
اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ
حِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ حَامَ حَوْل الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فيه
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِالتَّحَرِّي لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ الطَّلَاقِ فَلَوْ أَنَّهُ وطىء وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَحُكْمُهُ
نَذْكُرُهُ هُنَا وَالْحِيلَةُ في أَنْ يُبَاحَ له وَطْؤُهُنَّ أَنْ يَعْقِدَ
عَلَيْهِنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ فَتَحِلُّ له الْحُرَّةُ مِنْهُنَّ بِالنِّكَاحِ
وَالرَّقِيقَةُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَلَوْ خَاصَمَ الْعَبْدَانِ الْمَوْلَى إلَى
الْقَاضِي وَطَلَبَا منه الْبَيَانَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِالْبَيَانِ وَلَوْ
امْتَنَعَ حَبَسَهُ لَيُبَيِّنَ كَذَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا
حُرٌّ بِيَقِينٍ وَالْحُرِّيَّةُ حَقُّهُ أو له فيها حَقٌّ وَلِكُلِّ صَاحِبِ
حَقٍّ أَنْ يَطْلُبَ حَقَّهُ وإذا امْتَنَعَ من الْإِيفَاءِ يُجْبَرُ عليه
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ هو الْحُرُّ وَلَا بَيِّنَةَ له
وَجَحَدَ الْمَوْلَى فَطَلَبَا يَمِينَهُ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِاَللَّهِ عز وجل ما أَعْتَقَهُ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِفَائِدَةِ
النُّكُولِ وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أو إقْرَارٌ وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ كُلَّ ذلك
ثُمَّ إنْ نَكَلَ لَهُمَا عَتَقَا لِأَنَّهُ بَذَلَ لَهُمَا الْحُرِّيَّةَ أو
أَقَرَّ بها لَهُمَا وَإِنْ حَلَفَ لَهُمَا يُؤْمَرُ بِالْبَيَانِ لِأَنَّ
أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ وَحُرِّيَّتُهُ لَا تَرْتَفِعُ بِالْيَمِينِ وما
ذَكَرْنَا من رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عن مُحَمَّد في الطَّلَاقِ يَكُونُ ذلك
رِوَايَةً في الْعَتَاقِ وهو أَنَّهُمَا إذَا اسْتَحْلَفَا فَحَلَفَ الْمَوْلَى
لِلْأَوَّلِ يُعْتَقُ الذي لم يَحْلِفْ له لِأَنَّهُ لَمَّا حَلَفَ لِلْأَوَّلِ
وَاَللَّهِ ما أَعْتَقَهُ فَقَدْ أَقَرَّ بِرِقِّهِ فَيَتَعَيَّنُ الْآخَرُ
لِلْحُرِّيَّةِ كما إذَا قال ابْتِدَاءً لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا هذا عَبْدٌ
وَإِنْ لم يَحْلِفْ له عَتَقَ هو لِأَنَّهُ بَذَلَ له الْحُرِّيَّةَ أو أَقَرَّ وَإِنْ
تشاحنا ( ( ( تشاحا ) ) ) في الْيَمِينِ حَلَفَ لَهُمَا جميعا بِاَللَّهِ عز وجل
ما أَعْتَقَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَإِنْ حَلَفَ
____________________
(4/108)
لَهُمَا
فَإِنْ كَانَا أَمَتَيْنِ يُحْجَبُ مِنْهُمَا حتى يُبَيِّنَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
حُرِّيَّةَ إحْدَاهُمَا لَا تَرْتَفِعُ بِالْحَلِفِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ الْمَوْلَى لَا
يُجْبَرُ على الْبَيَانِ في الْجَهَالَةِ الطَّارِئَةِ إذَا لم يَتَذَكَّرْ لِمَا
فيه من اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا حُرٌّ بِيَقِينٍ بِخِلَافِ
الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْحُرِّيَّةِ غَيْرُ نَازِلَةٍ في
الْمَحَلِّ في أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ فلم يَكُنْ في الْبَيَانِ اسْتِرْقَاقُ
الْحُرِّ ثُمَّ الْبَيَانُ في هذه الْجَهَالَةِ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ أو
ضَرُورَةٌ أَمَّا النص ( ( ( نص ) ) ) فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى
لِأَحَدِهِمَا عَيْنًا هذا الذي كنت أَعْتَقْتُهُ وَنَسِيتُ
وَأَمَّا الدَّلَالَةُ أو الضَّرُورَةُ فَهِيَ أَنْ يَقُولَ أو يَفْعَلَ ما
يَدُلُّ على الْبَيَانِ نَحْوُ أَنْ يَتَصَرَّفَ في أَحَدِهِمَا تَصَرُّفًا لَا
صِحَّةَ له بِدُونِ الْمِلْكِ من الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْوَصِيَّةِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْكِتَابَةِ
وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ إذَا كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ لِأَنَّ هذه
التَّصَرُّفَاتِ لَا صِحَّةَ لها إلَّا في الْمِلْكِ فَكَانَ إقْدَامُهُ دَلِيلَ
اخْتِيَارِهِ الْمِلْكَ في التَّصَرُّفِ فيه وَتَعَيَّنَ الْآخَرُ لِلْعِتْقِ
وَكَذَا إذَا كَانَا أَمَتَيْنِ فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ
الْأُخْرَى بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا حُرَّةٌ بِيَقِينٍ فَكَانَ وَطْءُ
إحْدَاهُمَا تعيينا ( ( ( تعينا ) ) ) لها لِلرِّقِّ وَالْأُخْرَى لِلْعِتْقِ
وَتَعْيِينُ الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةَ انْتِفَاءِ الْمُزَاحِمِ بِخِلَافِ
الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْعِتْقَ غَيْرُ
نَازِلٍ في إحْدَاهُمَا فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَلَالَ الْوَطْءِ
وَإِنْ كُنَّ عَشْرًا فوطىء ( ( ( فوطئ ) ) ) إحْدَاهُنَّ تَعَيَّنَتْ
الْمَوْطُوءَةُ لِلرِّقِّ حَمْلًا لِأَمْرِهِ على الصَّلَاحِ وَتَعَيَّنَتْ
الْبَاقِيَاتُ لِكَوْنِ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ دَلَالَةً أو ضَرُورَةً
فَيَتَعَيَّنُ الْبَيَانُ نَصًّا أو دَلَالَةً
وَكَذَا لو وطىء الثَّانِيَةَ وَالثَّالِثَةَ إلَى التَّاسِعَةِ فَتَتَعَيَّنُ
الْبَاقِيَةُ وَهِيَ الْعَاشِرَةُ لِلْعِتْقِ لِأَنَّ فِعْلَهُ يُحْمَلُ على
الْجَوَازِ وَلَا جَوَازَ له إلَّا في الْمِلْكِ فَكَانَ الْإِقْدَامُ على
وَطْئِهِنَّ تَعْيِينًا لَهُنَّ لِلرِّقِّ وَالْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ أو
تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ ضَرُورَةً والأحسن أَنْ لَا يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ
لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الموطوأة ( ( ( الموطوءة ) ) ) هِيَ الْحُرَّةُ فَلَوْ
أَنَّهُ وطىء فَحُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ قبل الْبَيَانِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ لَا يَطَأَ
الْبَاقِيَاتِ قبل الْبَيَانِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْمُعْتَقَةُ فِيهِنَّ
فَلَوْ أَنَّهُ وَطِئَهُنَّ قبل الْبَيَانِ جَازَ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ
الْعَدْلِ مَحْمُولٌ على الْجَوَازِ ما أَمْكَنَ وَأَمْكَنَ هَهُنَا بِأَنْ
يُحْمَلُ على أَنَّهُ قد تَذَكَّرَ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ مِنْهُنَّ هِيَ
الْمَيِّتَةُ لِأَنَّ الْبَيَانَ في هذا النَّوْعِ من الْجَهَالَةِ إظْهَارٌ
وَتَعْيِينٌ لِمَنْ نَزَلَتْ فيه الْحُرِّيَّةُ من الْأَصْلِ فلم تَكُنْ
الْحَيَاةُ شَرْطًا لِمَحَلِّيَّةِ الْبَيَانِ وكان إقْدَامُهُ على وَطْئِهِنَّ
تَعْيِينًا لِلْمَيِّتَةِ لِلْعِتْقِ وَالْبَاقِيَاتِ لِلرِّقِّ دَلَالَةً أو
تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَاتُ لِلرِّقِّ ضَرُورَةً بِخِلَافِ الْجَهَالَةِ
الْأَصْلِيَّةِ إذَا مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَنَّ الْمَيِّتَةَ لَا
تَتَعَيَّنُ لِلْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ هُنَاكَ غَيْرُ نَازِلَةٍ في
إحْدَاهُنَّ وَإِنَّمَا تَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وهو الِاخْتِيَارُ
مَقْصُورًا عليه وَالْمَحِلُّ ليس بِقَابِلٍ لِلْحُرِّيَّةِ وَقْتَ الِاخْتِيَارِ
فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ كانت ( ( ( كانتا ) ) ) اثْنَتَيْنِ فَمَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لَا
تَتَعَيَّنُ الْبَاقِيَةُ لِلْعِتْقِ لِأَنَّ الْمَيِّتَةَ لم تَتَعَيَّنُ
لِلرِّقِّ لِانْعِدَامِ دَلِيلٍ يُوجِبُ التَّعْيِينَ فَلَا تَتَعَيَّنُ
الْأُخْرَى لِلْعِتْقِ ضَرُورَةً فَوَقَفَ تَعْيِينُهَا لِلْعِتْقِ على الْبَيَانِ
نَصًّا أو دَلَالَةً إذْ الْمَيِّتَةُ لم تَخْرُجْ عن كَوْنِهَا مَحِلًّا
لِلْبَيَانِ إذْ الْبَيَانُ في هذا النَّوْعِ إظْهَارٌ وَتَعْيِينٌ بِخِلَافِ
النَّوْعِ الْأَوَّلِ في أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ
وَلَوْ قال الْمَوْلَى هذا مَمْلُوكٌ وَأَشَارَ إلَى أَحَدِهِمَا يَتَعَيَّنُ
الْآخَرُ لِلْعِتْقِ دَلَالَةً أو ضَرُورَةً وَلَوْ بَاعَهُمَا جميعا صَفْقَةً
وَاحِدَةً كان الْبَيْعُ فَاسِدًا لِأَنَّهُ بَاعَ حُرًّا وَعَبْدًا صَفْقَةً
وَاحِدَةً ولم يُبَيِّنْ حِصَّةَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الثَّمَنِ وَكَذَا لو
كَانُوا عَشْرَةً فَبَاعَهُمْ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ في
الْكُلِّ وَلَوْ بَاعَهُمْ على الِانْفِرَادِ جَازَ الْبَيْعُ في التِّسْعَةِ
وَيَتَعَيَّنُ الْعَاشِرُ لِلْعِتْقِ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّ بَيْعَ كل
وَاحِدٍ منهم اخْتِيَارُ إيَّاهُ لِلرِّقِّ وَيَتَعَيَّنُ الْبَاقِي لِلْعِتْقِ
دَلَالَةً أو يَتَعَيَّنُ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُزَاحِمِ كما لو وطىء عَشْرَةُ
نَفَرٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم جَارِيَةٌ فَأَعْتَقَ وَاحِدٌ منهم جَارِيَتَهُ وَلَا
يُعْرَفُ الْمُعْتَقُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ منهم أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَأَنْ
يَتَصَرَّفَ فيها تَصَرُّفَ الْمُلَّاكِ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَمَكَّنَتْ في
الْجَانِبَيْنِ جميعا الْمُعْتَقِ وَالْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في
الطَّرَفَيْنِ فَلَا يُزَالُ الْيَقِينُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ ما إذَا كانت
الْجَوَارِي لِوَاحِدٍ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ ثُمَّ نَسِيَهَا أَنَّهُ
يُمْنَعُ من وَطْءِ الْكُلِّ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ لم تَقَعْ إلَّا في
أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فلم يَقَعْ الشَّكُّ إلَّا في أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ إذْ
الْمُعْتِقُ على يَقِينٍ من حُرِّيَّةِ إحْدَاهُنَّ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ تُحْتَمَلُ
أَنْ تَكُونَ هِيَ الْحُرَّةُ فَيُمْنَعُ من وَطْئِهِنَّ وَلَوْ دخل الْكُلُّ في
مِلْكِ أَحَدِهِمْ صَارَ كَأَنَّ الْكُلَّ كُنَّ في مِلْكِهِ فَأَعْتَقَ وَاحِدَةً
مِنْهُنَّ ثُمَّ جَهِلَهَا
وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا مَاتَ قبل الْبَيَانِ يُعْتَقُ
من كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ مَجَّانًا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَنِصْفُهُ
بِالْقِيمَةِ فَتَسْعَى كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا في نِصْفِ قِيمَتِهَا
لِلْوَرَثَةِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْجَهَالَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
____________________
(4/109)
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ حُكْمُهُ فَالْمُظْهِرُ له شَيْئَانِ
أَحَدُهُمَا الْإِقْرَارُ
وَالثَّانِي الْبَيِّنَةُ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْرَارَ من
الْمَوْلَى بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ يَظْهَرُ بِهِ الْعِتْقُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ على نَفْسِهِ كَاذِبًا فَيُصَدَّقُ في إقْرَارِهِ
على نَفْسِهِ وَلَا يَقْبَلُ على غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً على الْغَيْرِ
وَشَهَادَةُ الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلَوْ أَقَرَّ بِحُرِّيَّةِ عبد
غَيْرِهِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَتَقَ عليه لِأَنَّ إقْرَارَهُ على نَفْسِهِ مَقْبُولٌ
وَلَا يُقْبَلُ على غَيْرِهِ لِكَوْنِهِ شَهَادَةً على الْغَيْرِ وَشَهَادَةُ
الْفَرْدِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فإذا اشْتَرَاهُ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ من
تَقْيِيدِهِ في حَقِّهِ فَيُعْتَقُ عليه
وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيها أَنَّهُ لَا خِلَافَ في أنها
تُقْبَلُ على عِتْقِ الْمَمْلُوكِ إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ الْعِتْقَ وَأَنْكَرَ
الْمَوْلَى سَوَاءٌ كان الْمَمْلُوكُ عَبْدًا أو جَارِيَةً فَأَمَّا إذَا لم
يَدَّعِ وَأَنْكَرَ الْعِتْقَ وَالْمَوْلَى أَيْضًا مُنْكِرٌ فَهَلْ تُقْبَلُ
الشَّهَادَةُ على عِتْقِهِ من غَيْرِ دَعْوَاهُ فَإِنْ كان الْمَمْلُوكُ جَارِيَةً
تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان عَبْدًا لَا تُقْبَلُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تُقْبَلُ من أَصْحَابِنَا من حَمَلَ
الْمَسْأَلَةَ على أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ حَقُّ الْعَبْدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَالشَّهَادَةُ على حُقُوقِ الْعِبَادِ لَا تُقْبَلُ من غَيْرِ دَعَاوِيهِمْ
كَالْأَمْوَالِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَعِنْدَهُمَا هِيَ حَقُّ اللَّهِ
تَعَالَى وَالشَّهَادَةُ على حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل مَقْبُولَةٌ من غَيْرِ
دَعْوَى أَحَدٍ كَالشَّهَادَةِ على إعْتَاقِ الْإِنْسَانِ أَمَتَهُ وَتَطْلِيقِهِ
امْرَأَتَهُ وَالشَّهَادَةِ على أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ عز وجل
من الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ إلَّا السَّرِقَةَ فإنه شُرِطَ فيها
الدَّعْوَى لتحقق ( ( ( لتحقيق ) ) ) السَّبَبِ إذْ لَا يَظْهَرُ كَوْنُ الْفِعْلِ
سَرِقَةً شَرْعًا بِدُونِ الدَّعْوَى لِمَا نَذْكُرُ في كِتَابِ السَّرِقَةِ
فَنَتَكَلَّمُ في الْمَسْأَلَةِ بِنَاءً وَابْتِدَاءً
أَمَّا الْبِنَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ في الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمَ
الِاسْتِرْقَاقِ وَحُرْمَةُ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى قال النبي صلى
اللَّهُ عليه وسلم ثَلَاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ وَمَنْ كنت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ يوم
الْقِيَامَةِ وَذَكَرَ من جُمْلَتِهَا رَجُلًا بَاعَ حُرًّا وَأَكَلَ ثَمَنَهُ
وَكَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَهْلِيَّةُ وُجُوبِ حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل من الْكَفَّارَاتِ
وَالزَّكَوَاتِ وَالْجُمَعِ وَالْجَمَاعَاتِ فَثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ
الْقَائِمَةِ عليه كما في عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَكَمَا في
الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَكَذَا الْأَحْكَامُ تَدُلُّ على أَنَّ الدَّعْوَى
لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فإن الشَّهَادَةَ على حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْعَبْدِ تُقْبَلُ
من غَيْرِ دَعْوَاهُ
وَكَذَا الشَّهَادَةُ على نَسَبِ صَبِيٍّ صَغِيرٍ من رَجُلٍ وَأَنْكَرَ الرَّجُلُ
وَكَذَا الشَّهَادَةُ على الْمَوْلَى بِاسْتِيلَادِ جَارِيَتِهِ وَهُمَا
مُنْكِرَانِ وَكَذَا التَّنَاقُضُ في الْعِتْقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى
بِأَنْ قال عَبْدٌ لِإِنْسَانٍ اشتراني ( ( ( اشترني ) ) ) فَإِنِّي عبد فُلَانٍ
فَاشْتَرَاهُ ثُمَّ ادَّعَى الْعَبْدُ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ
وَلَوْ كانت الدَّعْوَى فيه شَرْطًا لَكَانَ التَّنَاقُضُ مَانِعًا من صِحَّةِ
الدَّعْوَى كما في سَائِرِ الدعاوي
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِعْتَاقَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ في عُرْفِ
اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ اسْمٌ لِقُوَّةٍ حُكْمِيَّةٍ تَثْبُتُ لِلْعَبْدِ
تَنْدَفِعُ بها يَدُ الاستيلاء ( ( ( الاستيلاد ) ) ) وَالتَّمَلُّكِ عنه والقوة (
( ( والحرية ) ) ) حَقُّهُ إذْ هو الْمُنْتَفِعُ بها مَقْصُودًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ هو الذي يَتَضَرَّرُ بِانْتِفَائِهَا مَقْصُودًا
بِالِاسْتِرْقَاقِ وَكَذَا التَّحْرِيرُ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ وَالْحُرِّيَّةُ
في مُتَعَارَفِ الشَّرْعِ وَاللُّغَةُ تنبىء عن خُلُوصِ نَفْسِ الْعَبْدِ له عن
الرِّقِّ وَالْمِلْكِ وَذَلِكَ حَقُّهُ لِأَنَّهُ هو الْمُنْتَفِعُ بِهِ دُونَ
غَيْرِهِ مَقْصُودًا وَحَقُّ الْإِنْسَانِ ما يَنْتَفِعُ هو بِهِ دُونَ غَيْرِهِ
فإذا ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ الْعَبْدِ فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على
عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ من غَيْرِ دَعْوَاهُ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ
الْقَائِمَةِ على سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إذَا كان حَقًّا لِلْعَبْدِ كان
الْعَبْدُ مَشْهُودًا له فإذا أَنْكَرَ فَقَدْ كَذَّبَ شُهُودَهُ وَالْمَشْهُودُ
له إذَا أكذب ( ( ( كذب ) ) ) شُهُودَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتَهُمْ له
وَالثَّانِي أَنَّ إنْكَارَ الْمَشْهُودِ له حَقُّهُ مع حَاجَتِهِ إلَى
اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ يُوجِبُ تُهْمَةً في الشَّهَادَةِ لِأَنَّ
الْمَشْهُودَ بِهِ لو كان ثَابِتًا لَتَبَادَرَ إلَى الدَّعْوَى وَلَا شَهَادَةَ
لِمُتَّهَمٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُ في الْإِعْتَاقِ تَحْرِيمُ الِاسْتِرْقَاقِ فَنَقُولُ
الْإِعْتَاقُ لَا ينبىء عن ذلك وَإِنَّمَا ينبىء عن إثْبَاتِ الْقُوَّةِ
وَالْخُلُوصِ على ما بَيَّنَّا وَذَلِكَ حَقُّهُ ثُمَّ إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ
بِالْإِعْتَاقِ حُرِّمَ الِاسْتِرْقَاقُ لِمَا فيه من إبْطَالِ حَقِّهِ وَهَذَا
لَا يَدُلُّ على أَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِرْقَاقِ حَقُّ اللَّهِ عز وجل
أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْحُقُوقِ الثَّابِتَةِ لِلْعِبَادِ يَحْرُمُ
إبْطَالُهَا وَلَا يَدُلُّ على أَنَّ حُرْمَةَ إبْطَالِهَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ في الْعِتْقِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
فَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ لِأَنَّهُ من حَيْثُ أنه حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى تُقْبَلُ
الشَّهَادَةُ عليه من غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ وَمِنْ حَيْثُ أنه حَقُّ الْعَبْدِ
لَا تُقْبَلُ فَدَارَتْ الشَّهَادَةُ بين الْقَبُولِ وَعَدَمِ الْقَبُولِ فَلَا
تُقْبَلُ مع الشَّكِّ وَلِهَذَا لم تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ على الْقَذْفِ من غَيْرِ
دَعْوَى الْمَقْذُوفِ وَإِنْ كان حَدُّ الْقَذْفِ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى من
وَجْهٍ وَحَقَّ الْعَبْدِ من وَجْهٍ كَذَا هَهُنَا
وَأَمَّا الْأَحْكَامُ فإما عِتْقُ الْأَمَةِ فَثَمَّةَ هَكَذَا فقول ( ( ( نقول )
) ) أن تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ على الْعِتْقِ
____________________
(4/110)
من
حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ لِمَا قُلْنَا في الْعَبْدِ
وَإِنَّمَا تُقْبَلُ من حَيْثُ أن عِتْقَ الْأَمَةِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى على
الْخُلُوصِ من حَيْثُ أنه سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ وَوَسِيلَةٌ إلَيْهِ
وَالشَّيْءُ من حَيْثُ التَّسَبُّبُ وَالتَّوَسُّلِ غَيْرٌ وَمِنْ حَيْثُ الذَّاتُ
غَيْرٌ كما قُلْنَا في كُفْرِ الْمُحَارَبِ أنه يُوجِبُ الْقَتْلَ من حَيْثُ أنه
سَبَبٌ لِلْحِرَابِ لَا من حَيْثُ ذَاتُهُ بَلْ ذَاتُ الْكُفْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ
لِأَنَّهُمَا غَيْرَان كَذَا هذا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عن الْآخَرِ فإن الْعِتْقَ قد لَا
يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى تَحْرِيمِ الْفَرْجِ وهو عِتْقُ الْعَبْدِ ثُمَّ مَتَى
قُبِلَتْ على الْعِتْقِ من حَيْثُ أنه سَبَبُ حُرْمَةِ الْفَرْجِ تُقْبَلُ من
حَيْثُ ذَاتُ الْعِتْقِ وَكَذَا في طَلَاقِ الْمَرْأَةِ من غَيْرِ دَعْوَاهَا
وَلَيْسَ لِلْعِتْقِ في مَحِلِّ النِّزَاعِ سَبَبِيَّةُ تَحْرِيمِ الْفَرْجِ
فَلَوْ قُبِلَ لَقُبِلَ على ذَاتِ الْعِتْقِ وَلَا وَجْهَ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا
فإن ( ( ( فإنه ) ) ) قِيلَ ما ذَكَرْتُمْ من الْعُذْرِ في فَصْلِ الْأَمَةِ
وَالطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ على عِتْقِ الْأَمَةِ
الْمَجُوسِيَّةِ وَالْأُخْتُ من الرَّضَاعَةِ مَقْبُولَةٌ من غَيْرِ دَعْوَى
وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَتَضَمَّنُ حُرْمَةَ الفروج ( ( ( الفرج ) ) ) لِأَنَّ
الْحُرْمَةَ كانت ثَابِتَةً قبل ذلك وَكَذَا الشَّهَادَةُ على الطَّلَاقِ
الرَّجْعِيِّ وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى الْمِلْكِ يُقْبَلُ من غَيْرِ دَعْوَى
وَلَا تَتَضَمَّنُ هذه الشَّهَادَةُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ
فَالْجَوَابُ أَنَّ من أَصْحَابِنَا من يَمْنَعُ الْمَسْأَلَتَيْنِ الْأُولَتَيْنِ
فقالو ( ( ( فقالوا ) ) ) لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهِمَا من غَيْرِ دَعْوَى
لِأَنَّهَا لَا تَتَضَمَّنُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ وَمِنْهُمْ من سَلَّمَ مَسْأَلَةَ
الْمَجُوسِيَّةِ وَمَنَعَ مَسْأَلَةَ الْأُخْتِ من الرَّضَاعَةِ وَفَرَّقَ
بَيْنَهُمَا من حَيْثُ أن وَطْءَ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى
وَإِنَّمَا مَنَعَ من الِاسْتِيفَاءِ لِخُبْثِهَا كما يُمْنَعُ من الْوَطْءِ
حَالَةَ الْحَيْضِ وَلِهَذَا لو وَطِئَهَا لَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ وَبَعْدَ
الْعِتْقِ لو وَطِئَهَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ فَالشَّهَادَةُ على عِتْقِهَا
تَضَمَّنَتْ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فَقُبِلَتْ من غَيْرِ دَعْوَى فَأَمَّا الْأُخْتُ
من الرَّضَاعَةِ فَحَرَامُ الْوَطْءِ حَقِيقَةً حتى لو وَطِئَهَا يَسْقُطُ
إحْصَانُهُ مع قِيَامِ مِلْكِ الْيَمِينِ وَالْمُعْتَبَرُ في الْبَابِ تَحْرِيمُ
الْفَرْجِ لَا الْأُنُوثَةُ وَالشَّهَادَةُ على النَّسَبِ قَطُّ لَا تُقْبَلُ من
غَيْرِ دَعْوَى وَفِيمَا ذَكَرَ من الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ ما إذَا كان صَغِيرًا
فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ ما لم يُنَصِّبْ الْقَاضِي خَصْمًا عن
الصَّغِيرِ لِيَدَّعِيَ النَّسَبَ له بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ شَرْعًا نَظَرًا
لِلصَّغِيرِ الْعَاجِزِ عن إحْيَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ وَالْقَاضِي نُصِّبَ
نَاظِرًا لِلْمُسْلِمِينَ وكان ذلك شَهَادَةً على خَصْمٍ
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الْفَرْجِ والدعاوي في
الْجُمْلَةِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ
وَالْحُرْمَةُ لَازِمَةٌ لِلْحُرِّيَّةِ حتى لَا يُبَاحَ لها مَسُّ الْمَوْلَى
وَغَسْلُهُ بِسَبَبِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ الِاسْتِيلَادُ في الْحَالِ سَبَبًا
لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ سَبَبًا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى في الْحَالِ
فَيُقَامُ السَّبَبُ مَقَامَ الْحَقِيقَةِ في حَقِّ التَّحْرِيمِ احْتِيَاطًا وهو
الْجَوَابُ عن الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ وَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ إلَى
الْحُرِّيَّةِ ثَمَّةَ ثَبَتَ في الْجُمْلَةِ أَيْضًا عِنْدَ وُجُودِ زَوَالِ
الْحِلِّ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ قَائِمًا مَقَامَ الْمُسَبَّبِ في حَقِّ
الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا
وَأَمَّا الِابْتِدَاءُ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أن عَدَالَةَ الشَّاهِدِ دَلَالَةُ
صِدْقِهِ في شَهَادَتِهِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَثْبُتُ الْمَشْهُودُ بِهِ
ظَاهِرًا وَالْقَاضِي مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ بِالظَّاهِرِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
لَا تُشْتَرَطَ الدَّعْوَى لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَلِهَذَا لم تُشْرَطْ
في عِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ وَأَسْبَابِ الْحُدُودِ إلَّا أَنَّا
عَرَفْنَا اشْتِرَاطَهَا فِيمَا وَرَاءَ الْعِتْقِ من حُقُوقِ الْعِبَادِ
بِالْإِجْمَاعِ فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ الْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أن خَبَرَ من ليس بِمَعْصُومٍ عن الْكَذِبِ مُحْتَمِلٌ
لِلْكَذِبِ فَلَا يُفِيدُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَالْأَصْلُ
أَنْ لَا يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِمَا لَا عِلْمَ لِلْقَاضِي بِهِ وَبِمَا ليس
بِثَابِتٍ قَطْعًا لِقَوْلِهِ عز وجل { وَلَا تَقْفُ ما ليس لك بِهِ عِلْمٌ } وأنه
اسْمٌ لِلثَّابِتِ قَطْعًا
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في
الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بين الناس بِالْحَقِّ } وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ
الثَّابِتِ وَلَا ثُبُوتَ مع احْتِمَالِ الْعَدَمِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا
يَجُوزَ الْقَضَاءُ بِهِ أَصْلًا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جاء بِالْجَوَازِ
لِحَاجَةِ الْعِبَادِ إلَى دَفْعِ الْفَسَادِ وهو الْمُنَازَعَةُ الْقَائِمَةُ
بَيْنَهُمَا بِالدَّعْوَى وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ أو لِدَفْعِ فَسَادِ
الزِّنَا كما في حَدِّ الزِّنَا وَعِتْقِ الْأَمَةِ وَطَلَاقِ الْمَرْأَةِ أو
لِدَفْعِ فَسَادِ السُّكْرِ في حَدِّ الشَّارِبِ وَالسُّكْرِ فَأَلْحَقَ
الْمُحْتَمَلَ بِالْمُتَيَقَّنِ أو اكْتَفَى بِظَاهِرِ الصِّدْقِ مع الِاحْتِمَالِ
دَفْعًا لِلْفَسَادِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ فِيمَا وَرَاءَ ذلك على الْأَصْلِ
وَعَلَى هذا شَاهِدَانِ شَهِدَا على رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ
وَالْعَبْدَانِ يَدَّعِيَانِ الْعِتْقَ أو يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ شَهِدَا
في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَصِحَّتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الدَّعْوَى شَرْطُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ على
عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَهُ والمدعى مجول ( ( ( مجهول ) ) ) فَجَهَالَةُ المدعى
مَنَعَتْهُ صِحَّةَ الدعوة ( ( ( الدعوى ) ) ) فَامْتَنَعَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ
وَعِنْدَهُمَا الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَجَهَالَةُ الْمُدَّعِي لَا تَكُونُ
أَقَلَّ من عَدَمِ الدَّعْوَى فَلَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ
وَيُجْبَرُ على الْبَيَانِ وَإِنْ شَهِدَا بَعْدَ وَفَاتِهِ على أَنَّهُ
____________________
(4/111)
أَعْتَقَ
أَحَدَهُمَا في حَالِ صِحَّتِهِ فَهُوَ على هذا الْخِلَافِ وَإِنْ شَهِدَا على ذلك
وهو مَرِيضٌ فَمَاتَ أو شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ على أَنَّهُ قال ذلك في الْمَرَضِ
لَا تُقْبَلُ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وفي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ وَلَا خِلَافَ في أيهما ( ( ( أنهما ) ) ) إذَا
شَهِدَا على أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ تُقْبَلُ وَيُخَيَّرُ
فَيَخْتَارُ طَلَاقَ إحْدَاهُمَا
وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّعْوَى شَرْطٌ
وَالْمُدَّعِي مَجْهُولٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ هَهُنَا مَعْلُومٌ لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ في مَرَضِ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ وَالْخَصْمُ في تَنْفِيذِ
الْوَصِيَّةِ هو الموصى فَكَانَ الْمَيِّتُ الْمَشْهُودُ له لِوُقُوعِ
الشَّهَادَةِ له فَكَانَ المدعى مَعْلُومًا فَجَازَتْ الشَّهَادَةُ له بِخِلَافِ
حَالِ الصِّحَّةِ فإن الشَّهَادَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ لِأَحَدِ العيدين ( ( (
العبدين ) ) ) فَكَانَ الْمَشْهُودُ له مَجْهُولًا فلم تُجْزِ الشَّهَادَةُ
وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَمَّا مَاتَ فَقَدْ شَاعَ الْعِتْقُ فِيهِمَا جميعا فَصَارَ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمًا في حَقِّ نَفْسِهِ مُتَعَيِّنًا فَتُقْبَلُ
الشَّهَادَةُ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ وَالصِّحَّةِ
وَكَذَلِكَ جَوَابُ أبي حَنِيفَةَ في هذه الْمَسْأَلَةِ في الْأَمَتَيْنِ بِأَنْ
شهد ( ( ( شهدا ) ) ) بِأَنَّهُ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ أنها لَا تُقْبَلُ
لِأَنَّ انْعِدَامَ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى بِقَبُولِ الشَّهَادَةِ على عِتْقِ
الْأَمَةِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِحُرْمَةِ الْفَرْجِ وَهِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْفَرْجِ بِالْعِتْقِ الْمُبْهَمِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
فَكَانَ الْجَوَابُ في الْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَتَيْنِ هَهُنَا عِنْدَهُ على
السَّوَاءِ بِخِلَافِ ما إذَا شَهِدَا على أَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ
أنها تُقْبَلُ لِأَنَّهَا قَامَتْ على سَبَبِ حُرْمَةِ الْفَرْجِ وَالدَّعْوَى
فيها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ أَعْتَقَ عَبْدَهُ فُلَانًا
لم تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّ الْمُدَّعَى عليه مَجْهُولٌ وَلَوْ شَهِدَا
أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا له وَسَمَّاهُ وَنَسِينَاهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ
بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ إذَا نَسِيَ ما تَحَمَّلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَالِمًا وَلَا يَعْرِفَانِ سَالِمًا
وَلَهُ عَبْدٌ اسْمُهُ سَالِمٌ ليس له غَيْرُهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَلَوْ
شَهِدَا بِهِ في الْبَيْعِ لَا تُقْبَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَحْتَمِلُ الْجَهَالَةَ أَصْلًا
وَالْعِتْقُ يَحْتَمِلُ ضَرْبًا من الْجَهَالَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
بَيْعُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَلَوْ
اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ في الشَّرْطِ الذي عَلَّقَ بِهِ الْعِتْقَ لم تَجُزْ
شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِعَقْدَيْنِ كُلُّ عَقْدٍ لَا يَثْبُتُ
إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ولم يُوجَدْ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ إذَا اخْتَلَفَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنْ كان
ذلك في دَعْوَى الْعِتْقِ لَا تُقْبَلُ أَصْلًا وَإِنْ كان في دَعْوَى الْمَالِ
فَفِيهِ تَفْصِيلٌ وَوِفَاقٌ وَاخْتِلَافٌ نَذْكُرُ ذلك كُلَّهُ في كِتَابِ
الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ التَّدْبِيرِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ فِيمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ الْعِتْقِ وهو بَيَانُ رُكْنِ التَّدْبِيرِ وَبَيَانُ شَرَائِطِ الرُّكْنِ
وَبَيَانُ صِفَةِ التَّدْبِيرِ وَبَيَانُ حُكْمِ التَّدْبِيرِ وَوَقْتِ ثُبُوتِ
حُكْمِهِ وَبَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ
فَصْلٌ أَمَّا الْأَوَّلُ فَرُكْنُ التَّدْبِيرِ هو اللَّفْظُ الدَّالُ على
مَعْنَى التَّدْبِيرِ لُغَةً وهو إثْبَاتُ الْعِتْقِ عن دُبُرٍ ثُمَّ إثْبَاتُ
الْعِتْقِ عن دُبُرٍ نَوْعَانِ مُطْلَقٌ وَمُقَيَّدٌ
أَمَّا الْمُطْلَقُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ الرَّجُلُ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ
مُطْلَقًا وَلَهُ أَلْفَاظٌ قد تَكُونُ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ
أنت مُدَبَّرٌ أو دَبَّرْتُك وقد تَكُونُ بِلَفْظِ التَّحْرِيرِ وَالْإِعْتَاقِ
نَحْوُ أَنْ يَقُولَ أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي أو حَرَّرْتُكَ بَعْدَ موتى أو أنت
مُعْتَقٌ أو عَتِيقٌ بَعْدَ مَوْتِي أو أَعْتَقْتُك بَعْدَ مَوْتِي
وَكَذَا إذَا قال أنت حُرٌّ عِنْدَ مَوْتِي أو مع مَوْتِي أو في مَوْتِي هو
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ بَعْدَ مَوْتِي لِأَنَّ عِنْدَ كَلِمَةُ حَضْرَةٍ فَعِنْدَ
الْمَوْتِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ الْمَوْتِ فَيَكُونَ مَوْتُهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ
وَجَمْعٌ لِلْمُقَارَنَةِ وَمُقَارَنَةُ الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُودَهُمَا وفي ( (
( و ) ) ) الظرف فإذا دخل ما لَا يَصْلُحُ ظَرْفًا يَجْعَلُ شَرْطًا كما إذَا قال
لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ في دُخُولِكَ الدَّارَ وقد يَكُونُ بِلَفْظِ الْيَمِينِ
بِأَنْ يَقُولَ إنْ مِتُّ فَأَنْتَ حُرٌّ أو يَقُولَ إذَا مِتُّ أو مَتَى مِتُّ أو
مَتَى ما مِتُّ أو إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ أو مَتَى حَدَثَ بِي لِأَنَّهُ عَلَّقَ
الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ مُطْلَقًا وَكَذَا إذَا ذَكَرَ في هذه الْأَلْفَاظِ مَكَانَ
الْمَوْتِ الْوَفَاةَ أو الْهَلَاكَ
وَلَوْ قال إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لم يَكُنْ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ لم
يُوجَدْ تَعْلِيقُ عِتْقِ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ فلم يَكُنْ هذا تَدْبِيرًا بَلْ كان
تَعْلِيقًا بِشَرْطٍ مُطْلَقٍ كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ من دُخُولِ
الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذلك
وقال أبو يُوسُفَ لو قال أنت حُرٌّ إنْ مِتُّ أو قُتِلْتُ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ
وقال زُفَرُ هو مُدَبَّرٌ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ وَأَنَّهُ
كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَلِأَبِي يُوسُفَ إنْ عَلَّقَ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ
فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا
____________________
(4/112)
كما
لو قال إنْ مِتّ أو مَاتَ زَيْدٌ
وَلَوْ قال إنْ مِتّ وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أو قال أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي
وَمَوْتِ فُلَانٍ أو قال بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ وَمَوْتِي لم يَكُنْ مُدَبَّرًا
إلَّا أَنْ يَمُوتَ فُلَانٌ قَبْلَهُ فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ مُدَبَّرًا وَإِنَّمَا
لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَمُوتَ الْمَوْلَى
أَوَّلًا فَلَا يُعْتَقُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطَيْنِ بِمَوْتِهِ
وَمَوْتِ فُلَانٍ فَلَا يُعْتَقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ وَيَصِيرُ الْعَبْدُ
مِيرَاثًا فَبَعْدَ ذلك إنْ مَاتَ فُلَانٌ وَوُجِدَ الشَّرْطُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا
وُجِدَ بَعْدَمَا انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَرَثَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَمُوتَ
فُلَانٌ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا وَيُعْتَقَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَكَانَ هذا
كَالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا
لِلْوَرَثَةِ لِمَا بَيَّنَّا
وإما مَاتَ فُلَانٌ أَوَّلًا فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ صَارَ
مُطْلَقًا وَصَارَ الْعَبْدُ بِحَالِهِ يُعْتَقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى ثُمَّ
اسْتَشْهَدَ في الْأَصْلِ فقال أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال أنت حُرٌّ بَعْدَ
كَلَامِك فُلَانًا وَبَعْدَ مَوْتِي فَكَلَّمَ فُلَانًا كان مُدَبَّرًا
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي
فَكَلَّمَهُ صَارَ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ بَعْدَ الْكَلَامِ صَارَ التَّدْبِيرُ
مُطْلَقًا فَكَذَا هذا وقد يَكُونُ بِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ وهو أَنْ يُوصِيَ
لِعَبْدِهِ بِنَفْسِهِ أو بِرَقَبَتِهِ أو بِعِتْقِهِ أو يُوصِيَهُ بِوَصِيَّةٍ
يَسْتَحِقُّ من جُمْلَتِهَا رَقَبَتَهُ أو بَعْضَهَا نَحْوُ أَنْ يَقُولَ له
أَوْصَيْتُك بِنَفْسِك أو بِرَقَبَتِك أو بِعِتْقِك أو كل ما يُعَبَّرُ بِهِ عن
جُمْلَةِ الْبَدَنِ لِأَنَّ الموصى يَزِيلُ مِلْكُهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُمَّ إنْ كان
الْمُوصَى له مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْمِلْكَ يَزُولُ الْمِلْكُ إلَيْهِ وَإِلَّا
فَيَزُولُ لَا إلَى أَحَدٍ وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَمْلِكَ نَفْسَهُ
لِمَا فيه من الِاسْتِحَالَةِ فَكَانَتْ الْوَصِيَّةُ له بِنَفْسِهِ إزَالَةَ
الْمِلْكِ لَا إلَى أَحَدٍ وَهَذَا مَعْنَى الاعتاق فَهَذَا الطَّرِيقُ جَعَلَ
بَيْعَ نَفْسِ الْعَبْدِ وَهِبَتَهَا له إعْتَاقًا كَذَا هذا فَيَصِيرُ في مَعْنَى
قَوْلِهِ أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي
وَكَذَا لو قال له أَوْصَيْت لَك بِثُلُثِ مَالِي لِأَنَّ رَقَبَتَهُ من جُمْلَةِ
ماله فَصَارَ موصي له بِثُلُثِهَا وون هذا إزَالَةُ الْمِلْكِ من الثُّلُثِ لَا
إلَى أَحَدٍ فَيَكُونُ إعْتَاقًا
وروي بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ فيمن أَوْصَى لِعَبْدِهِ بِسَهْمٍ من مَالِهِ أَنَّهُ
يُعْتَقُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ أَوْصَى له بِجُزْءٍ من مَالِهِ لم يُعْتَقْ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ السَّهْمَ عِبَارَةٌ عن السُّدُسِ فإذا أَوْصَى له
بِسُدُسِ مَالِهِ فَقَدْ دخل سُدُسُ رَقَبَتِهِ في الْوَصِيَّةِ فَأَمَّا اسْمُ
الْجُزْءِ فَلَا يَتَضَمَّنُ الْوَصِيَّةَ بِالرَّقَبَةِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ
الْخِيَارُ فيه إلَى الْوَرَثَةِ فَلَهُمْ التَّعْيِينُ فِيمَا شَاءَ وَاَللَّهُ
عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْمُقَيَّدُ فَهُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عِتْقَ عَبْدِهِ بِمَوْتِهِ
مَوْصُوفًا بِصِفَةٍ أو بِمَوْتِهِ وَشَرْطٌ آخَرُ نحو أَنْ يَقُولَ إنْ مِتّ من
مَرَضِي هذا أو في سَفَرِي هذا فَأَنْتَ حُرٌّ أو يقول إنْ قُتِلْت فَأَنْتَ حُرٌّ
أو إنْ غَرِقْت فَأَنْتَ حُرٌّ أو إنْ حَدَثَ بِي حَدَثٌ من مَرَضِي هذا أو من
سَفَرِي هذا فَأَنْتَ حُرٌّ وَنَحْوُ ذلك مِمَّا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ
على تِلْكَ الصِّفَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُ وَكَذَا إذَا ذَكَرَ مع
مَوْتِهِ شَرْطًا آخَرَ يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ
مُقَيَّدٌ وَحُكْمُهُ يُذْكَرُ في مَوْضِعه إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لو قال إذَا مِتُّ وَدُفِنْتُ أو
غُسِّلْتُ أو كُفِّنْتُ فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ يُرِيدُ بِهِ في
حَقِّ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّدْبِيرِ في حَالِ حَيَاةِ
الْمُدَبِّرِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَعْنًى آخَرَ فلم
يَكُنْ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا فَإِنْ مَاتَ وهو في مِلْكِهِ اسْتَحْسَنْت أَنْ
يُعْتَقَ من الثُّلُثِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُعْتَقُ كما لو قال إذَا مِتّ فَدَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ
حُرٌّ فَمَاتَ الْمَوْلَى فَدَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ كَذَا
هذا لَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ وقال يُعْتَقُ من الثُّلُثِ لِأَنَّهُ عَلَّقَ
الْعِتْقَ بِالْمَوْتِ وَبِمَا هو من عَلَائِقِهِ فَصَارَ كما لو عَلَّقَهُ
بِمَوْتِ نِصْفِهِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ بِخِلَافِ
قَوْلِهِ إذَا مِتُّ فَدَخَلْت الدَّارَ لِأَنَّ دُخُولَ الدَّارِ لَا تَعَلُّقَ
له بِالْمَوْتِ فلم يَكُنْ تعلقا ( ( ( تعليقا ) ) ) بِمَوْتِ نِصْفِهِ فلم يَكُنْ
تَدْبِيرًا أَصْلًا بَلْ كان يَمِينًا مُطْلَقًا فَيَبْطُلُ بِالْمَوْتِ كَسَائِرِ
الْأَيْمَانِ ثُمَّ التَّدْبِيرُ قد يَكُونُ مُطْلَقًا وقد يَكُونُ مُعَلَّقًا
بِشَرْطٍ
أَمَّا الْمُطْلَقُ فما ذَكَرْنَا وَأَمَّا الْمُعَلَّقُ فَنَحْوُ أَنْ يَقُولَ
إنْ دَخَلْت الدَّارَ أو إنْ كَلَّمْت فُلَانًا أو إذَا قَدِمَ زَيْدٌ فَأَنْتَ
مُدَبَّرٌ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ وَحَقِيقَةُ
الْحُرِّيَّةِ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَا في حَقِّ التَّدْبِيرِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ إذَا قال أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت
فَإِنْ نَوَى بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَشَاءَ الْعَبْدُ في سَاعَتِهِ
تِلْكَ صَارَ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وهو
الْمَشِيئَةُ وقد وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَصِيرُ مُدَبَّرًا كما إذَا قال إنْ دَخَلْت
الدَّارَ فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ وَإِنْ عَنَى بِهِ مَشِيئَتَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ
فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ مَشِيئَةٌ حتى بموت ( ( ( يموت ) ) ) الْمَوْلَى لِأَنَّهُ
عَلَّقَ الْعِتْقَ بِشَرْطٍ يُوجَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ فإذا وُجِدَ قَبْلَهُ لَا
يُعْتَبَرُ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَشَاءَ عِنْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ حُرٌّ من
ثُلُثِهِ كَذَا ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ
وَذَكَرَ الْحَاكِمُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الْمُرَادَ منه أَنْ يُعْتِقَهُ
الْوَصِيُّ أو الْوَارِثُ لِأَنَّ الْعِتْقَ هَهُنَا لم يَتَعَلَّقْ بِالْمَوْتِ
وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِهِ وَبِأَمْرٍ آخَرَ بَعْدَهُ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ
الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُعْتَقَ
____________________
(4/113)
ما
لم يُعْتَقْ وَكَذَا ذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ حتى يُعْتِقَهُ
الْوَرَثَةُ لِمَا قُلْنَا
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ وَعِيسَى بن أَبَانَ وأبو سُلَيْمَانَ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ
قال لِرَجُلٍ إذَا مِتّ فَأَعْتِقْ عَبْدِي هذا إنْ شِئْت أو قال إذَا مِتّ
فَأَمْرُ عَبْدِي هذا بِيَدِك ثُمَّ مَاتَ فَشَاءَ الرَّجُلُ عِتْقَهُ في
الْمَجْلِسِ أو بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَلَهُ أَنْ يُعْتِقَهُ لِأَنَّ هذا وَصِيَّةٌ
بِالْإِعْتَاقِ وَالْوَصَايَا لَا يَتَقَيَّدُ الْقَبُولُ فيها بِالْمَجْلِسِ
وَكَذَا إنْ قال عَبْدِي هذا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي إنْ شِئْت فَشَاءَ بَعْدَ
مَوْتِهِ في الْمَجْلِسِ أو بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَقَدْ وجدت ( ( ( وجبت ) ) )
الْوَصِيَّةُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ لَا يَتَقَيَّدُ قَبُولُهَا
بِالْمَجْلِسِ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ حتى يُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أو الْوَصِيُّ
أو الْقَاضِي وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْحَاكِمِ وَالْجَصَّاصِ لِأَنَّهُ لَا
فَرْقَ بَيْن الْمَسْأَلَتَيْنِ سِوَى أَنَّ هُنَاكَ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ
الْعَبْدِ
وَهَهُنَا عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ الأجنبى
وَكَذَلِكَ لو قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ إنْ شِئْت بَعْدَ مَوْتِي فَمَاتَ
الْمَوْلَى وَقَامَ الْعَبْدُ من مَجْلِسِهِ الذي عَلِمَ فيه بِمَوْتِ الْمَوْلَى
أو أَخَذَ في عَمَلٍ آخَرَ فإن ذلك لَا يُبْطِلُ شيئا مِمَّا جَعَلَهُ إلَيْهِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا وَصِيَّةٌ بِالْإِعْتَاقِ وَلَيْسَ بِتَمْلِيكٍ
وَالْوَصِيَّةُ لَا يَقِفُ قَبُولُهَا على الْمَجْلِسِ
وَأَمَّا الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ فَنَحْوُ أن أَنْ يَقُولَ أنت مُدَبَّرٌ غَدًا أو
رَأْسَ شَهْرِ كَذَا فإذا جاء الْوَقْتُ صَارَ مُدَبَّرًا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ
إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فَيَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ كَإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ
الْحُرِّيَّةِ وَلِهَذَا احْتَمَلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَذَا الْإِضَافَةُ
وقد رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي
بِشَهْرٍ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ وَلَا يُعْتَقُ إلَّا أَنْ يُعْتَقَ
وروي ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ بَاطِلًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو جَنَى قبل الشَّهْرِ دفع ( ( ( دفعه ) ) ) بِالْجِنَايَةِ
وَلَوْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِيعَ فيه
وَوَجْهُ الْقِيَاسِ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِمُضِيِّ
شَهْرٍ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَمَا مَاتَ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فيه إلَى الْوَرَثَةِ
ولم يَبْقَ إلَّا مُضِيُّ الزَّمَانِ وهو الشَّهْرُ فَلَا يُحْتَمَلُ ثُبُوتُ
الْعِتْقِ بِهِ فَيَبْطُلَ إلَّا أَنَّهُمْ اسْتَحْسَنُوا فَجَعَلُوهُ وَصِيَّةً
بالاعتاق لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْعَاقِلِ يُحْمَلُ على الصِّحَّةِ ما أَمْكَنَ
وَأَمْكَنَ حَمْلُهُ على الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ
بَعْدَ الْمَوْتِ فَيُحْمَلُ عليها
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ قبل مَوْتِي بِشَهْرٍ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ لِأَنَّهُ ما
أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا بَلْ أَضَافَهُ إلَى زَمَانٍ مَوْصُوفٍ
بِأَنَّهُ قبل مَوْتِهِ بِشَهْرٍ من وَقْتِ التَّكَلُّمِ وَهَذَا أَيْضًا
يَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ بجواز ( ( ( لجواز ) ) ) أَنْ يَمُوتَ قبل
تَمَامِ الشَّهْرِ من وَقْت الْكَلَامِ فَلَا يَكُونُ مُدَبَّرًا لِلْحَالِ وإذا
مضي شَهْرٌ قبل مَوْتِ الْمَوْلَى وهو في مِلْكِهِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في
مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ليس بِمُدَبَّرٍ وَعَلَّلَ الْقُدُورِيُّ لِأَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ لَمَّا مَضَى شَهْرٌ صَارَ كَأَنَّهُ قال عِنْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ أنت
حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ مُدَبَّرًا وَيَجُوزُ بَيْعُهُ ولم
يذكر الْخِلَافَ وهو الصَّحِيحُ أَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ
الْمُدَبَّرَ اسْمٌ لِمَنْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى
وَهَهُنَا ما أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى الْمَوْتِ أَصْلًا بَلْ أَضَافَهُ إلَى
أَوَّلِ الشَّهْرِ وَكَذَا حُكْمُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَثْبُتُ من أَوَّلِ
الشَّهْرِ بِطَرِيقِ الظُّهُورِ أو يَسْتَنِدُ إلَيْهِ وَالثَّابِتُ
بِالتَّدْبِيرِ يَقْتَصِرُ على حَالَةِ الْمَوْتِ وَلَا يَسْتَنِدُ وَبِهَذَا
تَبَيَّنَ أَنَّ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ من التَّعْلِيلِ لِأَبِي حَنِيفَةَ
غَيْرُ سَدِيدٍ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَقَدْ ذُكِرَ في النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَهُمَا
يَصِيرُ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا وَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَمَّا مَضَى الشَّهْرُ ظَهَرَ
أَنَّ عِتْقَهُ تَعَلَّقَ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ قال عِنْدَ
مُضِيِّهِ أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَصَارَ مُدَبَّرًا مُطْلَقًا
وَأَمَّا على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مِنْهُمَا فَلَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ
ما عَلَّقَ عِتْقَهُ بِالْمَوْتِ بَلْ بِشَهْرٍ وَمُتَّصِلٍ بِالْمَوْتِ فَيَصِيرُ
كَأَنَّهُ قال أنت حُرٌّ قبل مَوْتِي بِسَاعَةٍ وَلَوْ قال يوم أَمُوتُ فَأَنْتَ
حُرٌّ أو أنت حُرٌّ يوم أَمُوتُ فَإِنْ نَوَى بِهِ النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ لم
يَكُنْ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ إذْ الْيَوْمُ اسْمٌ
لِبَيَاضِ النَّهَارِ لُغَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ بِاللَّيْلِ لَا بِالنَّهَارِ
فَلَا يَكُونُ هذا مُدَبَّرًا مُطْلَقًا وَإِنْ عَنَى بِهِ الْوَقْتَ الْمُبْهَمَ
فَهُوَ مُدَبَّرٌ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ
الْمُطْلَقُ قال اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } وَمَنْ
وَلَّى بِاللَّيْلِ لَحِقَهُ الْوَعِيدُ الْمَذْكُورُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ فِيمَنْ قال إنْ مِتّ إلَى سَنَةٍ أو إلَى
عَشْرِ سِنِينَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَلَيْسَ بِمُدَبَّرٍ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ
بِمَوْتٍ بِصِفَةٍ تَحْتَمِلُ الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ فَإِنْ قال إنْ مِتّ إلَى
مِائَةِ سَنَةٍ وَمِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَى ذلك الْوَقْتِ في الْغَالِبِ فَهُوَ
مُدَبَّرٌ لِأَنَّ مَوْتَهُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ
وَرَوَى هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ قال أنت مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَهُوَ مُدَبَّرٌ
السَّاعَةَ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّدْبِيرَ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ
وَالتَّدْبِيرُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو قَوْلُهُ بَعْدَ
مَوْتِي فَيَبْقَى قَوْلُهُ أنت مُدَبَّرٌ أو يُجْعَلَ قَوْلُهُ أنت مُدَبَّرٌ
أَيْ أنت حُرٌّ فَيَصِيرَ كَأَنَّهُ قال أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْقَبُولُ بَعْدَ
الْمَوْتِ كَذَا ذُكِرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ
____________________
(4/114)
الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَبُولَ في هذا على حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا
بَعْدَ الْمَوْتِ فإذا قَبِلَ في الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَصَارَ
مُدَبَّرًا وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ وإذا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا إيجَابُ الْعِتْقِ في حال ( ( ( الحال ) ) ) بِعِوَضٍ
إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ يَتَأَخَّرُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْقَبُولُ
في الْمَجْلِسِ كما إذَا قال له إنْ شِئْت فَأَنْتَ حُرٌّ رَأْسَ الشَّهْرِ
تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ في الْمَجْلِسِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ رَأْسَ الشَّهْرِ
كَذَا هَهُنَا فإذا قَبِلَ في الْمَجْلِسِ صَحَّ التَّدْبِيرُ وَلَا يَلْزَمُهُ
الْمَالُ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى مُطْلَقًا فَلَا يَجِبُ عليه
لِلْمَوْلَى دَيْنٌ وإذا مَاتَ عَتَقَ لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ وهو الْمَوْتُ
وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ لِأَنَّهُ لم يَلْزَمْهُ وَقْتُ الْقَبُولِ فَلَا
يَلْزَمُهُ وَقْتُ الْعِتْقِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ أَضَافَ الْإِيجَابَ إلَى ما بَعْدَ
الْمَوْتِ فَيَكُونُ الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ إذْ الْقَبُولُ بَعْدَ
الْإِيجَابِ يَكُونُ وَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ
اعْتِبَارِهِ من الثُّلُثِ وَقَبُولُ الْوَصَايَا بَعْدَ الْمَوْتِ وإذا كان
الْقَبُولُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُعْتَبَرُ قَبُولُهُ في حَالِ الْحَيَاةِ
وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الْمَوْتِ فإذا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَهَلْ
يُعْتَقُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِنَفْسِ الْقَبُولِ أو لَا يُعْتَقُ إلَّا بِإِعْتَاقِ
الْوَارِثِ أو الْوَصِيِّ أو القاضي
لم يُذْكَرْ هذا في الْجَامِعِ الصَّغِير
وَلَوْ قال أنت مُدَبَّرٌ على أَلْفٍ فَقَبِلَ فَهُوَ مُدَبَّرٌ وَالْمَالُ
سَاقِطٌ كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّدْبِيرَ بِشَرْطٍ وهو
قَبُولُ الْمَالِ فإذا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا وَالْمُدَبَّرُ على مِلْكِ
الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ دَيْنٌ لِمَوْلَاهُ فَسَقَطَ
وَرَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في نَوَادِرِهِ فِيمَنْ قال لِعَبْدِهِ أنت
مُدَبَّرٌ على أَلْفٍ قال أبو حَنِيفَةَ ليس له الْقَبُولُ السَّاعَةَ وَلَهُ أَنْ
يَبِيعَهُ قَبِلَ أو لم يَقْبَلْ فَإِنْ مَاتَ وهو في مِلْكِهِ فقال قد قَبِلْتُ
أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ وهو رِوَايَةُ عَمْرٍو عن مُحَمَّدٍ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ لم يَقْبَلْ حتى مَاتَ ليس له أَنْ يَقْبَلَ وَظَاهِرُ
قَوْلِهِ أَدَّى الْأَلْفَ وَعَتَقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ من غَيْرِ
إعْتَاقِ الْوَارِثِ أو الْوَصِيِّ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ إذَا قال إذَا مِتّ
فَأَنْتَ حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ بَعْدَ
الْمَوْتِ فإذا قَبِلَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَلَا يُعْتَقُ بِالْقَبُولِ حتى
تُعْتِقَهُ الْوَرَثَةُ أو الْوَصِيُّ لِأَنَّ الْعِتْقَ قد تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ
عن الْمَوْتِ وَكُلُّ عِتْقٍ تَأَخَّرَ وُقُوعُهُ عن الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ إلَّا
بِإِيقَاعٍ من الْوَارِثِ أو الْوَصِيِّ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَصِيَّةً
بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يَثْبُتُ ما لم يُوجَدْ الْإِعْتَاقُ كما لو قال أنت حُرٌّ
بَعْدَ مَوْتِي بِيَوْمٍ أو بِشَهْرٍ أَنَّهُ لَا يُعْتَقُ ما لم يُعْتِقْهُ الْوَارِثُ
أو الْوَصِيُّ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ أو الشَّهْرِ لِمَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا
ثُمَّ في الْوَصِيَّةِ بِالْإِعْتَاقِ بملك ( ( ( يملك ) ) ) الْوَارِثُ
الْإِعْتَاقَ تَنْجِيزًا وَتَعْلِيقًا حتى لو قال له إنْ دَخَلْت الدَّارَ
فَأَنْتَ حُرٌّ فَدَخَلَ يُعْتَقُ كما لو نَجَّزَ الْعِتْقَ وَالْوَصِيُّ يَمْلِكُ
التَّنْجِيزَ لَا التَّعْلِيقَ حتى لو عَلَّقَ بِالدُّخُولِ فَدَخَلَ لَا يُعْتَقُ
وَلِأَنَّ الْوَارِثَ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ الْخِلَافَةِ عن الْمَيِّتِ وَيَقُومُ
مَقَامَهُ كَأَنَّهُ هو وَالْوَصِيُّ يَتَصَرَّفُ بِالْأَمْرِ فَلَا يَتَعَدَّى
تَصَرُّفُهُ مَوْضِعَ الْأَمْرِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ بِالْإِعْتَاقِ لَا
يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْوَصِيُّ أو الْوَارِثُ عن كَفَّارَةٍ
لَزِمَتْهُ لَا يَسْقُطُ عنه لِأَنَّهُ يَقَعُ عن الْمَيِّتِ وَالْوَلَاءُ عن
الْمَيِّتِ لَا عن الْوَارِثِ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ منه من حَيْثُ الْمَعْنَى
وَلَوْ قال أنت حُرٌّ على أَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ مَوْتِي فَالْقَبُولُ في هذا في
الْحَيَاةِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْقَبُولَ في الحالين ( ( ( الحالتين
) ) ) شَرْطًا لِثُبُوتِ الْعِتْقِ بَعْدَ الْمَوْتِ فإذا قَبِلَ صَارَ مُدَبَّرًا
وَلَا يَجِبُ الْمَالُ لِمَا قُلْنَا فإذا مَاتَ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عليه وَهَذَا
حُجَّةُ أبي يُوسُفَ في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَاَللَّهُ عز وجل
الْمُوَفِّقُ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فَهُوَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فما في
مِلْكِهِ صَارَ مُدَبَّرًا وما يَسْتَفِيدُهُ يُعْتَقُ من الثُّلُثِ بِغَيْرِ
تَدْبِيرٍ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وقال أبو يُوسُفَ لَا
يَدْخُلُ في هذا الْكَلَامِ ما يَسْتَفِيدُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْمَمْلُوكَ لِلْحَالِ مُرَادٌ من هذا الْإِيجَابِ فَلَا
يَكُونُ ما يَسْتَفِيدُهُ مُرَادًا لِأَنَّ الْحَالَ مع الِاسْتِقْبَالِ
مَعْنَيَانِ مُخْتَلِفَانِ وَاللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ على
مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلِهَذَا لم يَدْخُلْ الْمُسْتَفَادُ في هذا في
الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ كَذَا في التَّدْبِيرِ
وَلَهُمَا أَنَّ التَّدْبِيرَ في مَعْنَى الْيَمِينِ وَمَعْنَى الْوَصِيَّةِ
أَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ
فَالْيَمِينُ إنْ كان لَا يَصْلُحُ إلَّا في الْمِلْكِ الْقَائِمِ أو مُضَافًا
إلَى الْمِلْكِ أو سَبَبِهِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَعَلَّقُ بِمَا في مِلْكِ الْمُوصِي
وَبِمَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فيه فإن من أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ يَدْخُلُ فيه
الْمَمْلُوكُ لِلْحَالِ وما يَسْتَفِيدُهُ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ
وَقَوْلُهُ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَشْتَمِلُ على مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
قُلْنَا قد يَشْتَمِلُ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ فَإِنَّهُمَا
يَشْتَمِلَانِ على مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْمُعَاوَضَةِ كَذَا هذا وَاَللَّهُ عز
وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ نَوْعَيْ
التَّدْبِيرِ أَعْنِي الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَحَدَهُمَا
وهو الْمُطْلَقُ أَمَّا الذي يَعُمُّ النَّوْعَيْنِ فما ذَكَرْنَا في كِتَابِ
الْعَتَاقِ فَلَا يَصِحُّ التَّدْبِيرُ إلَّا بَعْدَ صُدُورِ رُكْنِهِ مُطْلَقًا
عن الِاسْتِثْنَاءِ
____________________
(4/115)
من
أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا في الْمِلْكِ سَوَاءً كان
مُنَجَّزًا أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أو مُضَافًا إلَى وَقْتٍ أو مُضَافًا إلَى
الْمِلْكِ أو سَبَبِ الْمِلْكِ نحو أَنْ يَقُولَ لِعَبْدٍ لَا يَمْلِكُهُ إنْ
مَلَكْتُك فَأَنْتَ مُدَبَّرٌ أو إنْ اشترتيك ( ( ( اشتريتك ) ) ) فَأَنْتَ
مُدَبَّرٌ لأن الْتَزَمَ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ
وَإِثْبَاتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ في الْحَالِ وَلَا يَثْبُتُ ذلك إلَّا بَعْدَ
وُجُودِ الْمِلْكِ في الْحَالِ لِأَنَّهُ إذَا كان مَوْجُودًا لِلْحَالِ
فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ وإذا لم يَكُنْ
مَوْجُودًا فَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ عِنْدَ
وُجُودِ الشَّرْطِ وَالْوَقْتِ وَلَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَلَا يَحْصُلُ ما هو
الْغَرَضُ من التَّدْبِيرِ أَيْضًا على ما يُذْكَرُ في بَيَانِ حُكْمِ
التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حتى لو عَلَّقَ بِمَوْتِ
غَيْرِهِ بِأَنْ قال إنْ مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا
أَصْلًا وَأَمَّا الذي يَخُصُّ أَحَدَهُمَا فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ
التَّعْلِيقُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنْ كان بِمَوْتٍ مَوْصُوفٍ
بِصِفَةٍ لَا يَكُونُ تَدْبِيرًا مُطْلَقًا بَلْ يَكُونُ مُقَيَّدًا
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ التَّعْلِيقُ بِمَوْتِهِ وَحْدَهُ حتى لو عَلَّقَ
بِمَوْتِهِ وَشَرْطٍ آخَرَ لَا يَكُونُ ذلك تَدْبِيرًا مُطْلَقًا وقد ذَكَرْنَا
الْمَسَائِلَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ
فصل وَأَمَّا صِفَةُ التَّدْبِيرِ فَالتَّدْبِيرُ متجزىء في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يَتَجَزَّأُ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ
الْحَالِ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِإِثْبَاتِ حَقِيقَةِ
الْحُرِّيَّةِ وَإِثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذَا إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ بِاعْتِبَارِ
الْمَالِ وهو إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَ إعْتَاقًا فَكَانَ
الْخِلَافُ فيه لَازِمًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ عَبْدٌ بين اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أن على قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ صَارَ نَصِيبُهُ خَاصَّةً مُدَبَّرًا وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ على
مِلْكِهِ لِكَوْنِ التَّدْبِيرِ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُ فَيَقْتَصِرُ على نَصِيبِهِ
ثُمَّ إنْ كان الْمُدَبِّرُ مُوسِرًا فَلِلشَّرِيكِ سِتُّ خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ
أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ وَإِنْ
شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ على حَالِهِ أَمَّا خِيَارُ
الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ فَلِأَنَّ نَصِيبَهُ
بَقِيَ على مِلْكِهِ في حَقِّ التَّخْرِيجِ إلَى الْعَتَاقِ
وَأَمَّا خِيَارُ التَّضْمِينِ فَلِأَنَّهُ بِالتَّدْبِيرِ أَخْرَجَهُ من أَنْ
يَكُونَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ مُطْلَقًا بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرَّهْنِ
وَنَحْوِ ذلك فَقَدْ أَتْلَفَهُ عليه في حَقِّ هذه التَّصَرُّفَاتِ فَكَانَ له
وِلَايَةُ التَّضْمِينِ
وَأَمَّا خِيَارُ التَّرْكِ على حَالِهِ فَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ لم تَثْبُتْ في
جُزْءٍ منه فَجَازَ إبْقَاؤُهُ على الرِّقِّ وأنه مُفِيدٌ لِأَنَّ له أَنْ
يَنْتَفِعَ بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ وَالْخِدْمَةِ فَلَا يُكَلَّفُ
بِالتَّخْرِيجِ إلَى الْحُرِّيَّةِ ما لم يَمُتْ الْمُدَبِّرُ فَإِنْ اخْتَارَ
الْإِعْتَاقَ فَأَعْتَقَ فَلِلْمُدَبَّرِ أَنْ يَرْجِعَ على الْمُعْتِقِ بِنِصْفِ
قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ عليه نَصِيبَهُ وهو مُدَبَّرٌ فَيَضْمَنُ
قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْهُمَا
لِأَنَّ نَصِيبَ الْمُدَبِّرِ لَا يَحْتَمِل الِانْتِقَالَ إلَى الْمُعْتَقِ
لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يَمْنَعُ من ذلك وَلِلْمُعْتِقِ أَنْ يَرْجِعَ على الْعَبْدِ
بِمَا ضَمِنَ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْإِعْتَاقِ حَصَلَتْ له وَإِنْ شَاءَ
الْمُدَبِّرُ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى
وَلَيْسَ له التَّرْكُ على حَالِهِ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ فَيَجِبُ
تَخْرِيجُهُ إلَى الْعَتَاقِ
هذا إذَا كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا فَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلِلْمُدَبَّرِ ثلاث
خِيَارَاتٍ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ
وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ التَّدْبِيرَ فَدَبَّرَ نَصِيبَهُ حتى صَارَ الْعَبْدُ
مُدَبَّرًا بَيْنهمَا وَسَاوَى شَرِيكَهُ في التَّصَرُّفِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا
عَتَقَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ بِالتَّدْبِيرِ وَيَكُونُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْبَاقِي إنْ شَاءَ
لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتِقَ الْبَعْضِ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ
وَلَيْسَ له التَّرْكُ على حَالِهِ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ مَاتَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ قبل أَخْذِ السِّعَايَةِ عَتَقَ نَصِيبُهُ من
الثُّلُثِ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ لِأَنَّ الْعِتْقَ
حَصَلَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرُ إذَا أُعْتِقَ بِمَوْتِ مَوْلَاهُ
وَقِيمَتُهُ تَخْرُجُ من الثُّلُثِ لَا يَجِبُ عليه السِّعَايَةُ وَقِيلَ إنَّ هذا
على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِهِمَا فَلَا
يَبْطُلُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ
بِمَوْتِ الْأَوَّلِ فَوَجَبَتْ السِّعَايَةُ عليه وهو حُرٌّ فَكَانَ ذلك
بِمَنْزِلَةِ دُيُونٍ وَجَبَتْ على الْحُرِّ فَلَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يَعْتِقُ نَصِيب الشَّرِيكِ ما لم
يُؤَدِّ السِّعَايَةَ إذَا اخْتَارَ السِّعَايَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ متجزىء
عِنْدَهُ فإذا مَاتَ الشَّرِيكُ فَهَذَا مُدَبَّرٌ مَاتَ مَوْلَاهُ وَقِيمَتُهُ
تَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَيُعْتَقُ من غَيْرِ سِعَايَةٍ وَإِنْ اخْتَارَ
الْكِتَابَةَ وَكَاتَبَهُ صَحَّتْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ نَصِيبَهُ على مِلْكِهِ
فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ مَضَى الْأَمْرُ وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل الْأَدَاءِ
وهو يَخْرُجُ من الثُّلُثِ عَتَقَ وَبَطَلَتْ عنه السِّعَايَةُ وَإِنْ كان لَا
يَخْرُجُ من الثُّلُثِ بِأَنْ لم يَكُنْ له مَالٌ غَيْرُهُ فَفِيهِ خِلَافٌ بين
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
____________________
(4/116)
تَعَالَى
وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُدَبِّرِ فَضَمِنَهُ فَقَدْ صَارَ الْعَبْدُ
كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ للانتقال ( ( ( لانتقال ) ) ) نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَيْهِ
بِالضَّمَانِ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلْمُدَبِّرِ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ على
مِلْكِهِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا ضَمِنَ على الْعَبْدِ
فَيَسْتَسْعِيهِ لِأَنَّ الشَّرِيكَ كان له أَنْ يَسْتَسْعِيَهُ فلما ضَمِنَ
الْمُدَبِّرُ قام مَقَامَهُ فِيمَا كان له فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ نِصْفُهُ
من ثُلُثِ الْمَالِ لِأَنَّ نِصْفَهُ قد صَارَ مُدَبَّرًا فَيُعْتَقُ بِمَوْتِهِ
لَكِنْ من ثُلُثِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا وَيَسْعَى في النِّصْفِ الْآخَرِ
كَامِلًا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ ذلك النِّصْفَ كان قِنًّا وَإِنْ شاؤوا اعتقوا ذلك
النِّصْفَ وَإِنْ شاؤوا دَبَّرُوا وَإِنْ شاؤوا كَاتَبُوا وَإِنْ شاؤوا تَرَكُوهُ
على حَالِهِ
وَإِنْ اخْتَارَ الِاسْتِسْعَاءَ سَعَى الْعَبْدُ في نِصْفِ قِيمَتِهِ فإذا أَدَّى
يُعْتَقُ ذلك النِّصْفُ وَلَا يَضْمَنُ الشَّرِيكُ لِلْمُدَبِّرِ شيئا لِأَنَّ
الْعِتْقَ حَصَلَ بِسَبَبٍ لَا صُنْعَ له فيه فلم يُوجَدْ منه سَبَبُ وُجُوبِ
الضَّمَانِ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ على الْعَبْدِ فَيَسْتَسْعِيهِ لِأَنَّ
الْعَبْدَ صَارَ كَمُعْتَقِ الْبَعْضِ فإذا أَدَّى يَعْتِقُ كُلُّهُ وَالْوَلَاءُ
بَيْنَهُمَا لِأَنَّ نَصِيبَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَتَقَ على مِلْكِهِ فَإِنْ
مَاتَ الْمُدَبِّرُ قبل أَنْ يَأْخُذَ السِّعَايَةَ بَطَلَتْ السِّعَايَةُ
وَعَتَقَ ذلك النِّصْفُ من ثُلُثِ مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا
وَإِنْ اخْتَارَ تَرْكَ نَصِيبِهِ على حَاله فَمَاتَ يَكُون نَصِيبُهُ مَوْرُوثًا
عنه فَيَنْتَقِلُ الْخِيَارُ إلَى الْوَرَثَةِ في الْإِعْتَاقِ وَالتَّدْبِيرِ
وَالْكِتَابَةِ وَالِاسْتِسْعَاءِ وَالتَّرْكِ على حَالِهِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ
انْتَقَلَ إلَيْهِمْ وقد كان له هذه الْخِيَارَاتُ
وَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ عَتَقَ ذلك النِّصْفُ من الثُّلُثِ وَلِغَيْرِ
الْمُدَبِّرِ أَنْ يَسْتَسْعِيَ الْعَبْدَ في نِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ
شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ دَبَّرَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ وَلَيْسَ له خِيَارُ
التَّرْكِ لِأَنَّهُ صَارَ مُعْتَقَ للبعض ( ( ( البعض ) ) ) فَيَجِبُ تَخْرِيجُهُ
إلَى الْعِتْقِ لَا مَحَالَةَ وَالْوَلَاءُ بَيْنهمَا لِأَنَّ نَصِيبَ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَتَقَ على مِلْكِهِ هذا إذَا كان الْمُدَبِّرُ موسر ( ( ( موسرا ) ) )
فَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلِلشَّرِيكِ الْخِيَارَاتُ التي ذَكَرْنَا إلَّا
اخْتِيَارَ التَّضْمِينِ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا إذَا دَبَّرَ نَصِيبَهُ فَقَدْ صَارَ كُلُّهُ مدبر ( ( (
مدبرا ) ) ) لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَيَضْمَنُ
الْمُدَبِّرُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا فَقَدْ
فَرَّقَا بين التَّدْبِيرِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ إنَّ في الْإِعْتَاقِ لَا
يَضْمَنُ إذَا كان مُعْسِرًا وَإِنَّمَا يَسْعَى الْعَبْدُ لِأَنَّ هذا ضَمَانُ
إتْلَافٍ أو ضَمَانُ تَمَلُّكٍ أو ضَمَانُ حَبْسِ الْمَالِ وَإِنَّهُ لَا
يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ في أُصُولِ الشَّرْعِ إلَّا أَنَّ
السِّعَايَةَ في بَابِ الْإِعْتَاقِ ثَبَتَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ
وَلِأَنَّ بِالْإِعْتَاقِ قد زَالَ الْعَبْدُ عن مِلْكِ الْمُعْتِقِ وَصَارَ
حُرًّا يسعى ( ( ( فيسعى ) ) ) وهو حُرٌّ وَهَهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ بَعْدَ
التَّدْبِيرِ وَكَسْبُ الْمُدَبَّرِ على مِلْكِ مَوْلَاهُ فَلَا يُمْكِنُ
الْقَوْلُ بِالِاسْتِسْعَاءِ
هذا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أو دَبَّرَاهُ على التَّعَاقُبِ فَإِنْ دَبَّرَاهُ
مَعًا يَنْظُرْ إنْ قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قد دَبَّرْتُك أو أنت مُدَبَّرٌ
أو نَصِيبِي مِنْك مُدَبَّرٌ أو قال إذَا مِتّ فَأَنْتَ حُرٌّ أو أنت حُرٌّ بَعْدَ
مَوْتِي وَخَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا صَارَ مُدَبَّرًا لَهُمَا بِلَا خِلَافٍ
لِأَنَّ تَدْبِيرَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَادَفَ مِلْكَ نَفَسِهِ فَصَارَ
الْعَبْدُ مُدَبَّرًا بَيْنَهُمَا فإذا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ من
الثُّلُثِ وَالْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَ
وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى وَلَيْسَ له أَنْ يَتْرُكَهُ على حَالِهِ لِأَنَّهُ صَارَ
مُعْتَقَ الْبَعْضِ فإذا مَاتَ الْبَاقِي مِنْهُمَا قبل أَخْذِ السِّعَايَةِ
بَطَلَتْ السِّعَايَةُ وَعَتَقَ إنْ كان يَخْرُجُ من الثُّلُثِ لِمَا ذَكَرْنَا
وَإِنْ قَالَا جميعا إذَا مُتْنَا فَأَنْتَ حُرٌّ أو أنت حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِنَا
وَخَرَجَ كَلَامُهُمَا مَعًا لَا يَصِيرُ مُدَبَّرًا لِأَنَّ كُلّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَلَّقَ عِتْقَهُ بِمَوْتِهِ وَمَوْتِ صَاحِبِهِ فَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا قال إنْ مِتّ أنا وَفُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ أو أنت حُرٌّ إنْ
مِتّ أنا وَفُلَانٌ إلَّا إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا فَيَصِيرُ نَصِيبُ الْبَاقِي
مِنْهُمَا مُدَبَّرًا لِصَيْرُورَةِ عِتْقِهِ مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى
مُطْلَقًا وَصَارَ نَصِيبُ الْمَيِّتِ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ وَلَهُمْ
الْخِيَارَاتُ إنْ شاؤا اعتقوا وَإِنْ شاؤا دَبَّرُوا وَإِنْ شاؤا كَاتَبُوا
وَإِنْ شاؤا اسْتَسْعَوْا وَإِنْ شاؤا ضَمِنُوا الشَّرِيكَ إنْ كان مُوسِرًا وإذا
مَاتَ الْآخَرُ عَتَقَ نَصِيبُهُ من الثُّلُثِ
هذا إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أو كِلَاهُمَا فَإِنْ دَبَّرَ أَحَدُهُمَا أو
أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا
أَنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ على التَّعَاقُبِ وَإِمَّا أن خَرَجَا مَعًا فَإِنْ
خَرَجَا على التَّعَاقُبِ فَإِمَّا أن عُلِمَ السَّابِقُ مِنْهُمَا وَإِمَّا أن لم
يُعْلَمْ فَإِنْ عُلِمَ فَإِنْ كان الْإِعْتَاقُ سَابِقًا بِأَنْ أَعْتَقَهُ
أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ دَبَّرَهُ الْآخَرُ
فَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَكَمَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا
فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ
وَتَدْبِيرُ الشَّرِيكِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ صَادَفَ الْحُرَّ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ
لِلْمُعْتِقِ لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِ وَعَلَيْهِ الضَّمَانُ إنْ كان
مُوسِرًا وَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ إنْ كان مُعْسِرًا لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ الْعَتَاقِ فَصَارَ كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا
وَسَكَتَ الْآخَرُ وقد ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إذَا أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فلم يُعْتِقْ
إلَّا نَصِيبَهُ لتجزى ( ( ( لتجزؤ ) ) ) الْإِعْتَاقِ عِنْدَهُ فلما دَبَّرَهُ
الْآخَرُ فَقَدْ صَحَّ تَدْبِيرُهُ لِأَنَّهُ دَبَّرَ مِلْكَ نَفْسِهِ فَصَحَّ
وَصَارَ مِيرَاثًا لِلْمُعْتِقِ عن
____________________
(4/117)
الضَّمَانِ
لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ له بِإِعْتَاقِ الشَّرِيكِ خِيَارَاتٌ
منها التَّضْمِينُ وَمِنْهَا التَّدْبِيرُ فإذا دَبَّرَهُ فَقَدْ اسْتَوْفَى
حَقَّهُ فبرىء ( ( ( فبرئ ) ) ) الْمُعْتِقُ عن الضَّمَانِ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا
يَثْبُتُ له وِلَايَةُ التَّضْمِينِ بِشَرْطِ نَقْلِ نَصِيبِهِ إلَى الْمُعْتَقِ
بِالضَّمَانِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن احْتِمَالِ النَّقْلِ بِالتَّدْبِيرِ
فَسَقَطَ الضَّمَانُ وَالْمُدَبِّرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ
الذي صَارَ مُدَبَّرًا وَإِنْ شَاءَ كَاتَبَهُ وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ
وَلَيْسَ له أَنْ يَتْرُكَهُ على حَالِهِ لِأَنَّهُ قد عَتَقَ بَعْضُهُ فَوَجَبَ
تَخْرِيجُهُ إلَى الْعِتْقِ بِالطُّرُقِ التي بَيَّنَّا وإذا مَاتَ الْمُدَبِّرُ
عَتَقَ نَصِيبُهُ الذي صَارَ مُدَبَّرًا من الثُّلُثِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّ كُلَّهُ عَتَقَ بِإِعْتَاقِهِمَا النِّصْفُ بِالْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ
وَالنِّصْفُ بِالتَّدْبِيرِ فَعَتَقَ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على مِلْكِهِ
وَإِنْ كان التَّدْبِيرُ سَابِقًا بِأَنْ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ
أَعْتَقَ الْآخَرُ فَعَلَى قَوْلِهِمَا كما دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ كُلُّهُ
مُدَبَّرًا له لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَالْإِعْتَاقِ
الْبَاتِّ وَيَضْمَنُ الْمُدَبِّرُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ قِنًّا سَوَاءً كان مُوسِرًا
أو مُعْسِرًا لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فلم يَصِرْ كُلَّهُ مُدَبَّرًا بَلْ نَصِيبُهُ
خَاصَّةً لتجزىء ( ( ( لتجزؤ ) ) ) التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ فَصَحَّ إعْتَاقُ
الشَّرِيكِ فَعَتَقَ نِصْفُهُ وَلِلْمُدَبِّرِ أَنْ يَرْجِعَ على الْمُعْتِقِ
بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ مُدَبَّرًا إنْ كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا لِمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ الذي هو مُدَبَّرٌ
وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى الْعَبْدَ وَلَيْسَ له أَنْ يَتْرُكَهُ على حَالِهِ
لِأَنَّهُ مُعْتَقُ الْبَعْضِ وَإِنْ خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا لَا يَرْجِعُ
أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ بِضَمَانٍ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ
بِإِتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ فإذا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا كان كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ نَفَسِهِ لَا مُتْلِفًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَلَا
يَجِبُ عليه الضَّمَانُ
وَمِنْهُمْ من قال هذا على قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
وَالتَّدْبِيرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَصَحَّ
التَّدْبِيرُ في النِّصْفِ وَالْإِعْتَاقُ في النِّصْفِ فَأَمَّا على قِيَاسِ
قَوْلِهِمَا يَنْفُذُ الْإِعْتَاقُ وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ
وَالتَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّآنِ وَالْإِعْتَاقُ أَقْوَى فَيَدْفَعُ الْأَدْنَى
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا سَابِقًا لَكِنْ لَا نَعْلَمُ السَّابِقَ مِنْهُمَا من
اللَّاحِقِ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ الْمُعْتِقَ يَضْمَنُ رُبْعَ قِيمَةِ
الْعَبْدِ لِلْمُدَبِّرِ ويستسعى الْعَبْدَ له في الرُّبْعِ الْآخَرِ وَهَذَا
اسْتِحْسَانٌ ولم يذكر الْخِلَافَ وَمِنْهُمْ من قال هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
فَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْجَوَابُ فيه وَفِيمَا إذَا خَرَجَ الْكَلَامَانِ مَعًا
سَوَاءٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن كُلَّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَا يُعْلَمُ تَارِيخُهُمَا
يُحْكَمُ بِوُقُوعِهِمَا مَعًا في أُصُولِ الشَّرْعِ كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى
وَالْهَدْمَى
وَلِهَذَا قال بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ في النَّصِّ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ إذَا
تَعَارَضَا وَجُهِلَ التَّارِيخُ أَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَرَدَا مَعًا وَيُبْنَى
الْعَامُّ على الْخَاصِّ على طَرِيقِ الْبَيَانِ وَيَكُونُ الْمُرَادُ من النَّصِّ
الْعَامِّ ما وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ
وَجْهُ قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ وَقَعَ الشَّكُّ في وُجُوبِ
الضَّمَانِ على الْمُعْتِقِ لِوُقُوعِ الشَّكِّ في سَبَبِ وُجُوبِهِ لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ إنْ كان لَاحِقًا كان الْمُدَبَّرُ بِالتَّدْبِيرِ جَبْرِيًّا
لِلْمُعْتِقِ من الضَّمَانِ لِمَا مَرَّ وَإِنْ كان سَابِقًا يَجِبْ الضَّمَانُ
على الْمُعْتِقِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في الْوُجُوبِ وَالْوُجُوبُ لم يَكُنْ ثَابِتًا
فَلَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ له اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ وهو أَنَّ الْإِعْتَاقَ إذَا
كان مُتَقَدِّمًا على التَّدْبِيرِ فَقَدْ أَبْرَأَ الْمُدَبِّرُ الْمُعْتِقَ عن
الضَّمَانِ وَإِنْ كان مُتَأَخِّرًا فَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ وقد سَقَطَ ضَمَانُ
التَّدْبِيرِ بِالْإِعْتَاقِ بَعْدَهُ فَإِذًا لَا ضَمَانَ على الْمُدَبِّرِ في
الحالين ( ( ( الحالتين ) ) ) جميعا وَالْمُعْتِقُ يَضْمَنُ في حَالٍ وَلَا
يَضْمَنُ في حَالٍ وَالْمَضْمُونُ هو النِّصْفُ فيتنصف ( ( ( فينتصف ) ) )
فَيَعْتِقُ رُبْعَ الْقِيمَةِ وَيَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمُدَبِّرِ في الرُّبْعِ
الْآخَرِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ التَّضْمِينُ فيه وَوَجَبَ تَخْرِيجُهُ إلَى
الْعَتَاقِ أُخْرِجَ بِالسِّعَايَةِ كما لو كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا وَاَللَّه عز
وجل أَعْلَمُ
مُدَبَّرَةٌ بين رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ ولم يَدَّعِ أَحَدُهُمَا فَهُوَ
مُدَبَّرٌ بَيْنَهُمَا كَأُمِّهِ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُدَبَّرَةِ مُدَبَّرٌ لِمَا
نذكر ( ( ( نذر ) ) ) في بَيَانِ حُكْمِ التَّدْبِيرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَإِنْ ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ نَسَبُهُ منه وهو
قَوْلُ زُفَرَ وَإِلَيْهِ مَالَ الطَّحَاوِيُّ من أَصْحَابِنَا وفي
الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُمَا لَمَّا دَبَّرَاهُ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْوَلَاءِ
لَهُمَا جميعا لِأَنَّهُ وَلَدُ مُدَبَّرَتِهِمَا جميعا وفي إثْبَاتِ النَّسَبِ من
المدعى إبْطَالُ هذا الْحَقِّ عليه وَالْوَلَاءُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّسَبَ قد ثَبَتَ في نَصِيبِ المدعى لِوُجُودِ
سَبَبِ الثُّبُوتِ وهو الْوَطْءُ في الْمِلْكِ وإذا ثَبَتَ في نَصِيبِهِ يَثْبُتُ
في نَصِيبِ شَرِيكِهِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَتَجَزَّأُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ حَقُّ الْوَلَاءِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَنَقُولُ نَحْنُ
يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ
بَيْنَهُمَا فَيَثْبُتُ النَّسَبُ من الشَّرِيكِ الْمُدَّعِي وَيَبْقَى نِصْفُ
الْوَلَاءِ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَصَارَ نِصْفُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ له
وَنِصْفُهَا مُدَبَّرَةً على حَالِهَا لِلشَّرِيكِ فَإِنْ قِيلَ الِاسْتِيلَادُ
لَا يَتَجَزَّأُ وَهَذَا قَوْلٌ بِالتَّجْزِئَةِ فَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا في
كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ متجزىء في نَفَسِهِ
____________________
(4/118)
عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ كَالْإِعْتَاقِ إلَّا أَنَّهُ يَتَكَامَلُ في بَعْضِ الْمَوَاضِعِ
لِوُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ على أَنَّا نَقُولُ الِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ
فِيمَا يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فيه فَأَمَّا ما لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ متجز
وَهَهُنَا لَا يَحْتَمِلُ لِمَا نَذْكُرُ وَيَغْرَمُ الْمُدَّعِي نِصْفَ الْعُقْرِ
لِشَرِيكِهِ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا وَلَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ
الْأُمِّ أَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْوَطْءِ في
مِلْكِ الْغَيْرِ لِإِقْرَارِهِ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا
وَأَنَّهُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لِلشُّبْهَةِ لِأَنَّ نِصْفَ
الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ فَيَجِبُ الْعُقْرُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مُدَبَّرًا
لِأَنَّهُ بالدعوى ( ( ( بالدعوة ) ) ) أَتْلَفَ على شَرِيكِهِ مِلْكَهُ
الثَّابِتَ ظَاهِرًا لِأَنَّهُ جعل ( ( ( حصل ) ) ) في مَحَلٍّ هو مِلْكُهُمَا
فإذا ادَّعَاهُ فَقَدْ أَتْلَفَ على شَرِيكِهِ مِلْكَهُ الثَّابِتَ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ بِإِخْرَاجِهِ من أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِهِ مَنْفَعَةَ الْكَسْبِ
وَالْخِدْمَةِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ أَتْلَفَ على
شَرِيكِهِ نِصْفَ الْمُدَبَّرِ وَلَا يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ
لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ قد بَقِيَ على مِلْكِهِ ولم تَصِرْ الْجَارِيَةُ
كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّ اسْتِيلَادَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ يَعْتَمِدُ
تَمَلُّكَ نَصِيبِهِ وَنَصِيبُهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ لِكَوْنِهِ
مُدَبَّرًا بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بين رَجُلَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ
فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَغْرَمُ نِصْفَ عُقْرِ
الْجَارِيَةِ لِشَرِيكِهِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ له وَلَا
يَغْرَمُ من قِيمَةِ الْوَلَدِ شيئا لِأَنَّ هُنَاكَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ
مُحْتَمَلُ النَّقْلِ فَأَمْكَنَ الْقَوْلُ بِتَمَلُّكِ نَصِيبِهِ بِبَدَلِ
ضَرُورَةِ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ
الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ على مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ
مَضْمُونًا عليه وَهَهُنَا نَصِيبُ الشَّرِيكِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ
فَيَقْتَصِرُ الِاسْتِيلَادُ على نَصِيبِ المدعى وَيَنْفَرِدُ الْوَلَدُ
بِالضَّمَانِ لِانْفِرَادِهِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ
فَإِنْ مَاتَ المدعى أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّ نَصِيبَهُ
أُمُّ وَلَدٍ له فَلَا تَسْعَى في نَصِيبِهِ وَلَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ
السَّاكِتِ شيئا لِحُصُولِ الْعِتْقِ من غَيْرِ صُنْعِهِ وهو الْمَوْتُ وَيَسْعَى
في نَصِيبِ الْآخَرِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّ نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ فَإِنْ
مَاتَ الْآخَرُ قبل أَنْ يَأْخُذَ السِّعَايَةَ عَتَقَ كُلُّهَا إنْ خَرَجَتْ من
ثُلُثِ مَالِهِ وَبَطَلَتْ السِّعَايَةُ عنها في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِمَا لَا تَبْطُلُ بِنَاءً على أَنَّ الْإِعْتَاقَ
يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ
الْبِنَاءِ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَإِنْ مَاتَ الذي لم يَدَّعِ أَوَّلًا عَتَقَ نَصِيبُهُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ
نَصِيبَهُ مُدَبَّرٌ له وَلَا يَسْعَى في نَصِيبِ الْآخَرِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ له وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ ليس
بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَهُ وفي قَوْلِهِمَا يَسْعَى لِأَنَّ رِقَّهُ مُتَقَوِّمٌ
فَإِنْ لم يَمُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حتى وَلَدَتْ وَلَدًا آخَرَ فَادَّعَاهُ
فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْعُقْرِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءِ مُدَبَّرَةٍ
مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُمَا وَأَيُّهُمَا مَاتَ يَعْتِقْ كُلُّ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ
نَصِيبَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُمُّ وَلَدٍ وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أُعْتِقَ
بَعْضُهَا عَتَقَ كُلُّهَا وَلَا سِعَايَةَ عليها وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ
وَادَّعَيَاهُ جميعا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جميعا وَصَارَتْ
الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جميعا وَيَبْطُلُ التَّدْبِيرُ إلَى خَلَفٍ هو
خَيْرٌ وهو الِاسْتِيلَادُ لِأَنَّ عِتْقَ الِاسْتِيلَادِ يَنْفُذُ من جَمِيعِ
الْمَالِ فَكَانَ خَيْرًا لها من التَّدْبِيرِ وَحُكْمُ الضَّمَانِ في الْقِنِّ ما
هو الْحُكْمُ في الْجَارِيَةِ الْقِنَّةِ وَسَنَذْكُرُهُ في كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ دبر ( ( ( دبره ) ) ) عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ لِمَا
ذَكَرْنَا فَإِنْ أَدَّى الْكِتَابَةَ قبل مَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ لِوُجُودِ
شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ وهو أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ
لم يُؤَدِّ حتى مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَ أَيْضًا إنْ كان يَخْرُجُ كُلُّهُ من
ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى لِوُجُودِ شَرْطِ الْعِتْقِ بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ وهو
مَوْتُ الْمَوْلَى وَخُرُوجُ الْمُدَبَّرِ من ثُلُثِ مَالِهِ وَلَا سِعَايَةَ عليه
لِأَنَّ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ في الثُّلُثِ نَافِذَةٌ
فإذا خَرَجَ كُلُّهُ من الثُّلُثِ عَتَقَ كُلُّهُ من غَيْرِ سِعَايَةٍ وَإِنْ لم
يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اسْتَسْعَى في جَمِيعِ
الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى في ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فَإِنْ اخْتَارَ
الْكِتَابَةَ سَعَى على النُّجُومِ وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ في ثُلُثَيْ
قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ يَسْعَى في الْأَقَلِّ من جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ
الْقِيمَةِ وقال مُحَمَّدٌ يَسْعَى في الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ
ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَالْخِلَافُ في هذه الْمَسْأَلَةِ يَقَعُ في فَصْلَيْنِ
أَحَدُهُمَا في الْخِيَارِ
وَالثَّانِي في الْمِقْدَارِ وَالْخِلَافُ في الْخِيَارِ بين أبي حَنِيفَةَ
وَصَاحِبَيْهِ وفي الْمِقْدَارِ بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ
مُحَمَّدٍ أَمَّا فَصْلُ الْخِيَارِ فَالْخِلَافُ فيه مَبْنِيٌّ على أَنَّ
الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ على هذا الْأَصْلِ أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا كان مُتَجَزِّئًا
عِنْدَهُ لم يَعْتِقْ بِمَوْتِ الْمَوْلَى إلَّا ثُلُثُ الْعَبْدِ وَبَقِيَ
الثُّلُثَانِ منه رَقِيقًا وقد تَوَجَّهَ إلَى الثُّلُثَيْنِ الْعِتْقُ من
جِهَتَيْنِ أحدهما ( ( ( إحداهما ) ) ) الْكِتَابَةُ بِأَدَاءِ بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ
وَالثَّانِيَةُ التَّدْبِيرُ بِسِعَايَةِ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا
فَيُخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَالَ إلَى هذا وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى ذَاكَ وَلَمَّا لم
يَكُنْ الْعِتْقُ مُتَجَزِّئًا عِنْدَهُمَا فإذا عَتَقَ
____________________
(4/119)
ثُلُثُهُ
بِالْمَوْتِ فَقَدْ عَتَقَ كُلُّهُ وَبَطَلَ التَّأْجِيلُ في بَدَلِ الْكِتَابَةِ
فَصَارَ الْمَالَانِ جميعا حَالًا وَعَلَيْهِ أَخْذُ الْمَالَيْنِ إمَّا
الْكِتَابَةَ وَإِمَّا السِّعَايَةَ وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ وَالْآخَرُ أَكْثَرُ
فَلَا فَائِدَةَ في التَّخْيِيرِ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ الْأَقَلَّ لَا مَحَالَةَ
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عليه إذَا كان أَحَدُ الْمَالَيْنِ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ
من الْآخَرِ أو أَقَلُّ كان الْأَقَلُّ مُتَيَقَّنًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ ذلك
وَأَمَّا فَصْلُ الْمِقْدَارِ فَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن بَدَلَ الْكِتَابَةِ
كُلَّهُ قُوبِلَ بِكُلِّ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْعَقْدَ قد انْعَقَدَ عليه حَيْثُ
قال كَاتَبْتُك على كَذَا وقد عَتَقَ ثُلُثُ الرَّقَبَةِ فَيَسْقُطُ عنه ما كان
بِمُقَابَلَتِهِ وهو ثُلُثُ الْبَدَلِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ
وَلِأَنَّ ثُلُثَ مَالِ الْمَوْلَى لو كان مِثْلَ كل قِيمَةِ الْعَبْدِ لَسَقَطَ
عنه كُلُّ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فإذا كان مِثْلَ ثُلُثِ قِيمَتِهِ يَجِبُ أَنْ
يَسْقُطَ ثُلُثُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى الثُّلُثَانِ فَيَسْعَى في
الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ كان اسْتَحَقَّ ثُلُثَ رَقَبَتِهِ بِالتَّدْبِيرِ
السَّابِقِ قبل عَقْدِ الْكِتَابَةِ فإنه يُسَلَّمُ له ذلك كَائِنًا ما كان فإذا
كَاتَبَهُ بَعْدَ ذلك فَالْبَدَلُ لَا يُقَابِلُ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ وهو
الثُّلُثُ وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الثُّلُثَيْنِ فإذا قال كَاتَبْتُك على كَذَا
فَقَدْ جَعَلَ الْمَالَ بِمُقَابَلَةِ ما لَا يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وهو
الثُّلُثُ وَبِمُقَابَلَةِ ما يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وهو الثُّلُثَانِ يصرف
( ( ( فيصرف ) ) ) كُلَّ الْبَدَلِ إلَى ما يَصِحُّ الْمُقَابَلَةُ بِهِ وهو
الثُّلُثَانِ كَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَتَيْنِ ثُمَّ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا على أَلْفِ دِرْهَمٍ لَزِمَهَا كُلُّ الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا إذَا جَمَعَ بين من يَحِلُّ نِكَاحُهَا وَبَيْنَ من لَا يَحِلُّ نِكَاحُهَا
فيزوجهما ( ( ( فتزوجها ) ) ) بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا
بِمُقَابَلَةِ نِكَاحِ من يَحِلُّ له نِكَاحُهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وإذا كان
الْأَمْرُ على ما وَصَفْنَا فَالثُّلُثُ وَإِنْ عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ لَكِنْ
لَا بَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ وَإِنَّمَا الْبَدَلُ كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ
الثُّلُثَيْنِ فلم يَسْقُطْ من الْبَدَلِ شَيْءٌ بِخِلَافِ ما إذَا خَرَجَ
الْعَبْدُ كُلُّهُ من الثُّلُثِ لِأَنَّ هُنَاكَ يُسَلَّمُ له جَمِيعُ رَقَبَتِهِ
فَلَزِمَ الْقَوْلُ بِالْبَرَاءَةِ هذا إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ ثُمَّ كَاتَبَهُ
فَإِنْ كَاتَبَهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى في ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى في ثُلُثَيْ
الْكِتَابَةِ وَعِنْدَهُمَا يَسْعَى في الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَمِنْ
ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ فَقَدْ اتَّفَقُوا على الْمِقْدَارِ هَهُنَا حَيْثُ قالوا
مِقْدَارُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ثُلُثَانِ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ هُنَاكَ
كَاتَبَهُ وَالْعَبْدُ لم يَكُنْ اسْتَحَقَّ شيئا من رَقَبَتِهِ فَكَانَ جَمِيعُ
الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ الرَّقَبَةِ وقد عَتَقَ عِنْدَ الْمَوْتِ
بِسَبَبِ التَّدْبِيرِ ثُلُثُهُ فَيَسْقُطُ ما كان بِإِزَائِهِ من الْبَدَلِ
فَبَقِيَ الثُّلُثَانِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في الْخِيَارِ
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُخَيَّرُ بين الثُّلُثَيْنِ من بَدَلِ الْكِتَابَةِ
مُؤَجَّلًا وَبَيْنَ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ مُعَجَّلًا وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ عليه
الْأَقَلُّ مِنْهُمَا بِنَاءً على تجزىء ( ( ( تجزؤ ) ) ) الْإِعْتَاقِ وَعَدَمِ
تَجَزُّئِهِ على ما بَيَّنَّا في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ التَّدْبِيرِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى حَيَاةِ
الْمُدَبِّرِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى ما بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ
إلَى حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ فَهُوَ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ
لِلْمُدَبَّرِ إذَا كان التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ لَا حُكْمَ له في حَالِ حَيَاةِ الْمُدَبِّرِ رَأْسًا فَلَا
يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ وَلَا حَقُّهَا بَلْ حُكْمُهُ ثُبُوتُ حَقِيقَةِ
الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مَقْصُورًا عليه
وَعَلَى هذا يُبْنَى بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ جَائِزٌ وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَبَّرِ الْمُقَيَّدِ
بِالْإِجْمَاعِ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن عَطَاءٍ أَنَّهُ قال دَبَّرَ رَجُلٌ
عَبْدَهُ فَاحْتَاجَ فَبَاعَهُ رسول اللَّهِ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَدْنَى
دَرَجَاتِ فِعْلِ رسول اللَّهِ الْجَوَازُ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ
الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وأنه لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ كَالتَّعْلِيقِ
بِسَائِرِ الشُّرُوطِ من دُخُولِ الدَّارِ وَكَلَامِ زَيْدٍ وَغَيْرِ ذلك وَكَالتَّدْبِيرِ
الْمُقَيَّدِ وَلِأَنَّ فيه مَعْنَى الْوَصِيَّةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ
الْبَيْعِ كما إذَا أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدِهِ ثُمَّ بَاعَهُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن نَافِعٍ عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وهو حُرٌّ من ثُلُثِ الْمَالِ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَعَنْ أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَجَابِرِ بن عبد اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ نهى عن بَيْعِ الْمُدَبَّرِ وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يُحْمَلُ على
التَّحْرِيمِ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن
مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ مِثْلُ مَذْهَبِنَا وهو قَوْلُ جَمَاعَةٍ من التَّابِعِينَ مِثْلَ
شُرَيْحُ وَمَسْرُوقٍ وَسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ وَالْقَاسِمِ بن مُحَمَّدٍ
وَأَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بن عَلِيٍّ وَمُحَمَّدِ بن سِيرِينَ وَعُمَرَ بن عبد
الْعَزِيزِ وَالشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَسَعِيدٍ بن
جُبَيْرٍ وَسَالِمِ بن عبد اللَّهِ وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ حتى قال أبو
حَنِيفَةَ لَوْلَا قَوْلُ هَؤُلَاءِ الْأَجِلَّةِ لَقُلْت بِجَوَازِ بَيْعِ
الْمُدَبَّرِ لِمَا دَلَّ عليه من النَّظَرِ
وَلَنَا لِإِثْبَاتِ حَقِّ
____________________
(4/120)
الْحُرِّيَّةِ
ضَرُورَةُ الْإِجْمَاعِ وَدَلَالَةُ غَرَضِ الْمُدَبِّرِ أَمَّا ضَرُورَةُ
الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ
بِالْإِجْمَاعِ وَالْحُرِّيَّةُ لَا بُدَّ لها من سَبَبٍ وَلَا سَبَبَ هَهُنَا
سِوَى الْكَلَامِ السَّابِقِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا لِلْحَالِ
وَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ سَبَبًا بَعْدَ الشَّرْطِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي
لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فَتَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا
عِنْدَ وُجُودِهِ فَكَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ سَبَبًا في الْحَالِ لِثُبُوتِ
الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَسْنَا نَعْنِي ثُبُوتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ
لِلْمُدَبِّرِ إلَّا هذا وَهَذَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ
إبْطَالُ السَّبَبِيَّةِ إذْ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ بَعْدَ
الْبَيْعِ
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْغَرَضِ فَهُوَ أَنَّ غَرَضَ الْمُدَبِّرِ من التَّدْبِيرِ
أَنْ تسلم ( ( ( يسلم ) ) ) الْحُرِّيَّةَ لَلْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْمَوْتِ إمَّا
تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ عز وجل بِالْإِعْتَاقِ لِإِعْتَاقِ رَقَبَتِهِ من
النَّارِ كما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ وَإِمَّا حَقًّا لِخِدْمَتِهِ الْقَدِيمَةِ
مع بَقَاءِ مَنَافِعِهِ على مِلْكِهِ في حَيَاتِهِ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا وَلَا
طَرِيقَ لِتَحْصِيلِ الْغَرَضَيْنِ إلَّا بِجَعْلِ التَّدْبِيرِ سبعا ( ( ( سببا )
) ) في الْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ إذْ لو ثَبَتَتْ
الْحُرِّيَّةُ في الْحَالِ لَفَاتَ غَرَضُهُ في الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَوْ لم
يَنْعَقِدْ شيئا ( ( ( شيء ) ) ) رَأْسًا لَفَاتَ غَرَضُهُ في الْعِتْقِ لِجَوَازِ
أَنْ يَبِيعَهُ لِشِدَّةِ غَضَبٍ أو غَيْرِ ذلك فَكَانَ انْعِقَادُهُ سَبَبًا في
الْحَالِ وَتَأَخُّرُ الْحُرِّيَّةِ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ طَرِيقُ إحْرَازِ
الْغَرَضَيْنِ فَثَبَتَ ذلك بِدَلَالَةِ الْحَالِ فَيَتَقَيَّدُ الْكَلَامُ بِهِ
إذْ الْكَلَامُ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْغَرَضِ
فَإِنْ قِيلَ هذا مُنَاقِضٌ لِأَصْلِكُمْ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ تَعْلِيقُ
الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ وَمِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ التَّعْلِيقَاتِ لَيْسَتْ
أَسْبَابًا لِلْحَالِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ أَسْبَابًا عِنْدَ وُجُودِ شُرُوطِهَا
وَعَلَى هذا بَنَيْتُمْ تَعْلِيقَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالْمِلْكِ وَسَبَبِهِ
وَهَهُنَا جَعَلْتُمْ التَّدْبِيرَ سَبَبًا لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ
وَهَذَا مُنَاقَضَةٌ في الْأَصْلِ وَالتَّنَاقُضُ في اوصل ( ( ( الأصل ) ) )
دَلِيلُ فَسَادِ الْفَرْعِ
فَالْجَوَابُ أن هذا أَصْلُنَا فِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا عِنْدَ
وُجُودِ الشَّرْطِ وَفِيمَا لم يُرِدْ الْمُتَكَلِّمُ جَعْلَهُ سَبَبًا في
الْحَالِ وفي التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ وَأَمْكَنَ اعْتِبَارُهُ سَبَبًا
عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهَهُنَا لَا يُمْكِنُ لِمَا بَيَّنَّا وَكَذَا في
التَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ كَوْنَهُ سَبَبًا
عِنْدَ الشَّرْطِ وَهَهُنَا أَرَادَ كَوْنَهُ سَبَبًا في الْحَالِ لِمَا قُلْنَا
فَتَعَيَّنَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ في الثَّانِي
وَأَمَّا حَدِيثُ عَطَاءٍ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذلك كان تَدْبِيرًا مُقَيَّدًا
وَقَوْلُهُ بَاعَ حِكَايَةُ فِعْلٍ فَلَا عُمُومَ له وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ
مَعْنَى قَوْلِهِ بَاعَ أَيْ آجر إذْ الْإِجَارَةُ تُسَمَّى بَيْعًا بِلُغَةِ
أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهَكَذَا رَوَى مُحَمَّدٌ بِإِسْنَادِهِ أَنَّ النبي بَاعَ
خِدْمَةَ مُدَبَّرٍ ولم يَبِعْ رَقَبَتَهُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان ذلك في ابْتِدَاءِ
الْإِسْلَامِ حين كان بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا على ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ بَاعَ رَجُلًا بِدَيْنِهِ يُقَالُ له سُرَّقٌ ثُمَّ صَارَ مَنْسُوخًا
بِنَسْخِ بَيْعِ الْحُرِّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ في الْمُدَبَّرِ
إلْحَاقًا لِلْحَقِّ بِالْحَقِيقَةِ في بَابِ الْحُرُمَاتِ
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ الْمُقَيَّدُ فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ
الْكَلَامُ سَبَبًا لِلْحَالِ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُتَرَدِّدٌ بين أَنْ يَمُوتَ من
ذلك الْمَرَضِ وفي ذلك السَّفَرِ أو لَا يَمُوتَ فَكَانَ الشَّرْطُ مُحْتَمِلَ
الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فلم يَكُنْ التَّعْلِيقُ سَبَبًا لِلْحَالِ كَالتَّعْلِيقِ
بِسَائِرِ الشُّرُوطِ وَكَذَا لَمَّا عَلَّقَ الْعِتْقَ بِأَمْرٍ يَحْتَمِلُ
الْوُجُودَ وَالْعَدَمَ دَلَّ أَنَّهُ ليس غَرَضُهُ من هذا الْكَلَامِ
التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ عز وجل بِإِعْتَاقِ هذا الْعَبْدِ وَلَا قَضَاءَ حَقِّ
الْخِدْمَةِ الْقَدِيمَةِ إذْ لو كان ذلك غَرَضُهُ لَعَلَّقَهُ بِشَرْطٍ كَائِنٍ
لَا مَحَالَةَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ في التَّدْبِيرِ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ فَنَعَمْ لَكِنْ هذه
وَصِيَّةٌ لَازِمَةٌ لِثُبُوتِهَا في ضِمْنِ أَمْرٍ لَازِمٍ وهو الْيَمِينُ فَلَا
يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ
بِالْإِعْتَاقِ
فَإِنْ قِيلَ هذا يُشْكَلُ بِالتَّدْبِيرِ الْمُقَيَّدِ فإنه يَتَضَمَّنُ مَعْنَى
الْوَصِيَّةِ اللَّازِمَةِ وَمَعَ هذا يَجُوزُ بَيْعُهُ قِيلَ مَعْنَى
الْوَصِيَّةِ لِلْحَالِ مُتَرَدِّدٌ لِتَرَدُّدِ مَوْتِهِ على تِلْكَ الصِّفَةِ
فَلَا يَصِيرُ الْعَبْدُ مُوصًى له قبل الْمَوْتِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَهَهُنَا
بِخِلَافِهِ وإذا ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُدَبَّرِ الْمُطْلَقِ في
الْحَالِ فَكُلُّ تَصَرُّفٍ فيه يُبْطِلُ هذا الْحَقَّ لَا يَجُوزُ وما لَا
يُبْطِلُهُ يَجُوزُ
وَعَلَى هذا تَخْرِيجُ الْمَسَائِلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَهِبَتُهُ
وَالتَّصَدُّقُ بِهِ وَالْوِصَايَةُ بِهِ لِأَنَّهُ تَصَرُّفُ تَمْلِيكِ
الرَّقَبَةِ فَيَبْطُلُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ وَلَا يَجُوزُ رَهْنُهُ لِأَنَّ
الرَّهْنَ والإرتهان من بَابِ إيفَاءِ الدَّيْنِ وَاسْتِيفَائِهِ عِنْدَنَا
فَكَانَ من بَابِ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ وَتَمَلُّكِهَا وَيَجُوزُ إجَارَتُهُ
لِأَنَّهَا لَا تُبْطِلُ هذا الْحَقَّ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ في الْمَنْفَعَةِ
بِالتَّمْلِيكِ لَا في الْعَيْنِ وَالْمَنَافِعُ على مِلْكِ الْمُدَبِّرِ
وقد رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ بَاعَ خِدْمَةَ الْمُدَبَّرِ ولم يَبِعْ
رَقَبَتَهُ وَبَيْعُ خِدْمَةِ الْمُدَبَّرِ بَيْعُ مَنْفَعَتِهِ وهو مَعْنَى
الْإِجَارَةِ وَيَجُوزُ الِاسْتِخْدَامُ وَكَذَا الْوَطْءُ وَالِاسْتِمْتَاعُ في
الْأَمَةِ لِأَنَّهَا اسْتِيفَاءُ الْمَنَافِعِ وَيَجُوزُ تَزْوِيجُهَا لِأَنَّ
التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ
وَعَنْ عبد اللَّهِ بن عُمَرَ أَنَّهُ كان يَطَأُ مُدَبَّرَتَهُ وَلِأَنَّ
الِاسْتِيلَادَ آكَدُ من التَّدْبِيرِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ من جَمِيعِ
الْمَالِ وَالتَّدْبِيرُ من الثُّلُثِ
____________________
(4/121)
ثُمَّ
الِاسْتِيلَادُ لَا يَمْنَعُ من الْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَلَا يَمْنَعُ من
الِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ وَالتَّزْوِيجِ في الْأَمَةِ فَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى
وَالْأُجْرَةُ وَالْمَهْرُ وَالْعُقْرُ وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ لِلْمَوْلَى
لِأَنَّهَا بَدَلُ الْمَنَافِعِ وَالْمَنَافِعُ مِلْكُهُ وَالْأَرْشُ له لِأَنَّهُ
بَدَلُ جُزْءٍ فَاتَ على مِلْكِهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ بِرَقَبَتِهِ
لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَيْعَ لِمَا بَيَّنَّا وَيَتَعَلَّقُ
بِكَسْبِهِ وَيَسْعَى في دُيُونِهِ بَالِغَةً ما بَلَغَتْ وَجِنَايَتُهُ على
الْمَوْلَى وهو الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَلَا
يَضْمَنُ الْمَوْلَى أَكْثَرَ من قِيمَةٍ واحدة وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَثُرَتْ
الْجِنَايَاتُ لِمَا نَذْكُرُ في كِتَابِ الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ لِأَنَّهُ إيصَالُهُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ
مُعَجَّلًا وَلِأَنَّ الْمَنْعَ من الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ لِمَا فيه من مَنْعِهِ من
وُصُولِهِ إلَى هذا الْمَقْصُودِ فَمِنْ الْمُحَالِ أَنْ يَمْنَعَ من إيصَالِهِ
إلَيْهِ وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُهُ أُمَّ الْوَلَدِ كَذَا الْمُدَبَّرُ وَيَجُوزُ
مُكَاتَبَتُهُ لِأَنَّهُ يُرِيدُ تَعْجِيلَ الْحُرِّيَّةِ إلَيْهِ وَالْمَوْلَى
يَمْلِكُ ذلك كما يَمْلِكُ مُكَاتَبَةَ أُمِّ الْوَلَدِ وَوَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ
من غَيْرِ سَيِّدِهَا بِمَنْزِلَتِهَا لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ على ذلك فإنه رُوِيَ عن ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ بِمَنْزِلَتِهَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهَا وَيَرِقُّ بِرِقِّهَا
وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه خُوصِمَ إلَيْهِ في أَوْلَادِ
مُدَبَّرَةٍ فَقَضَى أَنَّ ما وَلَدَتْهُ قبل التَّدْبِيرِ عَبْدٌ وما وَلَدَتْهُ
بَعْدَ التَّدْبِيرِ مُدَبَّرٌ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْكِرْ
عليه أَحَدٌ منهم فَيَكُونَ إجْمَاعًا وهو قَوْلُ شُرَيْحٍ وَمَسْرُوقٍ وَعَطَاءٍ
وَطَاوُسٍ وَمُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بن جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ وَلَا يُعْرَفُ في السَّلَفِ خِلَافُ ذلك وَإِنَّمَا قال بِهِ بَعْضُ
أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فَلَا يعقد ( ( ( يعتد ) ) ) بِقَوْلِهِ لخالفته ( ( (
لمخالفة ) ) ) الْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ
كَوَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وما وَلَدَتْهُ قبل التَّدْبِيرِ فَهُوَ من أَقْضِيَةِ
عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلِأَنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ لم يَكُنْ ثَابِتًا في الْأُمِّ وَقْتَ
الْوِلَادَةِ حتى يَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُدَبَّرَةُ في وَلَدِهَا فقال الْمَوْلَى
وَلَدْتِيهِ قبل التَّدْبِيرِ فَهُوَ رَقِيقٌ وَقَالَتْ هِيَ وَلَدْتُهُ بَعْدَ
التَّدْبِيرِ فَهُوَ مُدَبَّرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مع يَمِينِهِ على
عِلْمِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَةَ
تَدَّعِي سِرَايَةَ التَّدْبِيرِ إلَى الْوَلَدِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع الْيَمِينِ وَيَحْلِفُ على عِلْمِهِ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ
لَيْسَتْ فِعْلَهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّ فِيهِمَا
إثْبَاتُ التَّدْبِيرِ
وَلَوْ كان مَكَانَ التَّدْبِيرِ عِتْقٌ فقال الْمَوْلَى لِلْمُعْتَقَةِ
وَلَدْتِيهِ قبل الْعِتْقِ وهو رَقِيقٌ وَقَالَتْ بَلْ وَلَدْتُهُ بَعْدَ
الْعِتْقِ وهو حُرٌّ يَحْكُمُ فيه الْحَالُ إنْ كان الْوَلَدُ في يَدِهَا
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَإِنْ كان في يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
لِأَنَّهُ إذَا كان في يَدِهَا كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا لها
وإذا كان في يَدِهِ كان الظَّاهِرُ شَاهِدًا له بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ
لِأَنَّهَا في يَدِ الْمَوْلَى فَكَذَا وَلَدُهَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له
على كل حَالٍ وكان الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ قال لِأَمَةٍ لَا يَمْلِكُهَا إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ وَإِنْ
اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ مُدَبَّرَةٌ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ إشتراهما جميعا
فَالْأُمُّ مُدَبَّرَةٌ وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِأَنَّ الْأُمَّ إنَّمَا صَارَتْ
مُدَبَّرَةً بِالشَّرْطِ ولم يُوجَدْ الشَّرْطُ في حَقِّ الْوَلَدِ وأنه
مُنْفَصِلٌ فَلَا يَسْرِي إلَيْهِ تَدْبِيرُ الْأُمِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى ما بَعْدَ مَوْتِ الْمُدَبِّرِ فَمِنْهَا عِتْقُ
الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ عِتْقَهُ كان مُعَلَّقًا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالْمُعَلَّقُ
بِالشَّرْطِ يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَيَسْتَوِي فيه الْمُدَبَّرُ
الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ لِأَنَّ عِتْقَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَلَّقٌ
بِالشَّرْطِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ في الْمُقَيَّدِ الْمَوْتُ الْمَوْصُوفُ
بِصِفَةٍ فإذا وُجِدَ ذلك فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَنْزِلُ الْمُعَلَّقُ
وَسَوَاءٌ كان الْمَوْتُ حَقِيقَةً أو ( ( ( أم ) ) ) حُكْمًا بِالرِّدَّةِ بِأَنْ
ارْتَدَّ الْمَوْلَى عن الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَلَحِقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ لِأَنَّ الرِّدَّةَ مع اللَّحَاقِ بِدَارِ الْحَرْبِ تَجْرِي مَجْرَى
الْمَوْتِ في زَوَالِ الْأَمْلَاكِ وَكَذَا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا
في دَار الْإِسْلَامِ فَدَبَّرَهُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَاسْتُرِقَّ
الْحَرْبِيُّ عَتَقَ مُدَبَّرُهُ لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ أَوْجَبَ زَوَالَ
مِلْكِهِ عن أَمْوَالِهِ حُكْمًا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ
وَكَذَا وَلَدُ الْمُدَبَّرَةِ الذي ليس من مَوْلَاهَا لِأَنَّهُ تَبِعَهَا في
حَقِّ الْحُرِّيَّةِ فَكَذَا في حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَيَسْتَوِي فيه
الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ لِأَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
وَمِنْهَا إن عِتْقَهُ يُحْسَبُ من ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى وَهَذَا قَوْلُ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو قَوْلُ
سَعِيدِ بن جُبَيْرٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَابْنِ سِيرِينَ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ
وروى عن عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّ عِتْقَهُ من جَمِيعِ
الْمَالِ وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَحَمَّادٍ وَجَعَلُوهُ كَأُمِّ
الْوَلَدِ
وَلَنَا ما رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال الْمُدَبَّرُ لَا يُبَاعُ وَلَا
يُوهَبُ وهو حُرٌّ من الثُّلُثِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ
تُعْتَبَرُ من ثُلُثِ الْمَالِ كَسَائِرِ الْوَصَايَا وَسَوَاءٌ كان التَّدْبِيرُ
في الْمَرَضِ أو في الصِّحَّةِ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ في الْحَالَيْنِ وَسَوَاءٌ كان
التَّدْبِيرُ مُطْلَقًا أو مُقَيَّدًا لِعُمُومِ الحديث إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منه
____________________
(4/122)
الْمُقَيَّدَ
في حَقِّ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ فَيُعْمَلُ بِعُمُومِهِ في حَقِّ الِاعْتِبَارِ من
الثُّلُثِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ توجد ( ( ( يوجد ) ) ) في النَّوْعَيْنِ
وَأَنَّهُ يَقْتَضِي اعْتِبَارَهُ من الثُّلُثِ وَيُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمَالِ يوم
مَوْتِ الْمَوْلَى لِأَنَّ في الْوَصَايَا هَكَذَا يُعْتَبَرُ وإذا كان اعْتِبَارُ
عِتْقِهِ من ثُلُثِ الْمَالِ فَإِنْ كان كُلُّهُ يَخْرُجُ من ثُلُثِ مَالِ
الْمَوْلَى بِأَنْ كان له مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يَعْتِقُ كُلُّهُ وَلَا سِعَايَةَ
عليه وَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ آخَرُ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى في
الثُّلُثَيْنِ لِلْوَرَثَةِ
هذا إذَا لم يَكُنْ على الْمَوْلَى دَيْنٌ فَإِنْ كان عليه دَيْنٌ يَسْعَى في
جَمِيعِ قِيمَتِهِ في قَضَاءِ دُيُونِ الْمَوْلَى لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ على
الْوَصِيَّةِ
وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَ الْمُدَبَّرِ لِلْمُدَبِّرِ لِأَنَّهُ الْمُعْتِقُ وقد
قال النبي الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَا يَنْتَقِلُ هذا الْوَلَاءُ عن
الْمُدَبَّرِ وَإِنْ عَتَقَ الْمُدَبَّرُ من جِهَةِ غَيْرِهِ كَمُدَبَّرَةٍ بين
اثْنَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَعَتَقَ
عليه وَغَرِمَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ من الْوَلَدِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ
حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ثَابِتٌ في الْحَالِ عِنْدَنَا وَأَنَّهُ يَثْبُتُ حَقُّ
الْوَلَاءِ وهو لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
وَكَذَا الْمُدَبَّرُ بين شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا وهو مُوسِرٌ
فَضَمِنَ عَتَقَ بِالضَّمَانِ ولم يَتَغَيَّرْ الْوَلَاءُ عن الشَّرِكَةِ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَعَلَى قَوْلِ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهُ
وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ التَّدْبِيرُ فَالتَّدْبِيرُ يَظْهَرُ
بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْإِعْتَاقُ الْبَاتُّ وهو الْإِقْرَارُ وَالْبَيِّنَةُ
لِأَنَّهُ إثْبَاتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ في الْحَالِ فَيُعْتَبَرُ الْحَقُّ
بِالْحَقِيقَةِ وهو إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ
فَيُعْتَبَرُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْحَالِ وَذَا يَظْهَرُ بِأَحَدِ هَذَيْنِ فَكَذَا
هذا إذْ عُرِفَ هذا فَنَقُولُ إذَا ادَّعَى الْمَمْلُوكُ التَّدْبِيرَ وَأَنْكَرَ
الْمَوْلَى فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ لم
يَدَّعِ وَأَنْكَرَ التَّدْبِيرَ مع الْمَوْلَى لَا يقبل ( ( ( تقبل ) ) )
الْبَيِّنَةُ على التَّدْبِيرِ من غَيْرِ دَعْوَى الْعَبْدِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَالْحِجَجُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في
الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ إلَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ على عِتْقِ الْأَمَةِ تُقْبَلُ
من غَيْرِ دَعْوَاهُ بِالْإِجْمَاعِ وَالشَّهَادَةُ على تَدْبِيرِ الْأَمَةِ على
الِاخْتِلَافِ لِأَنَّ تَدْبِيرَ الْأَمَةِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْفَرْجِ فلم
تَكُنْ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً على حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ في الصِّحَّة
فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَجْهُولٌ
وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ ذلك كان في الْمَرَضِ يُقْبَلُ
عِنْدَهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْبَلَ وقد ذَكَرْنَا وَجْهَ
الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ في كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَوْ شهدا ( ( ( شهد ) ) )
أَنَّهُ قال هذا حُرٌّ وَهَذَا مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا
لم تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِجَهَالَةِ الْمُدَّعِي
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قال هذا حُرٌّ بَعْد مَوْتِي لَا بَلْ هذا كَانَا جميعا
مُدَبَّرَيْنِ وَيُعْتَقَانِ بَعْدَ مَوْتِهِ من ثُلُثِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قال
هذا حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي فَقَدْ صَارَ مُدَبَّرًا فلما قال لَا بَلْ هذا فَقَدْ
رَجَعَ عن الْأَوَّلِ وَتَدَارَكَ بِالثَّانِي وَرُجُوعُهُ لَا يَصِحُّ
وَتَدَارُكُهُ صَحِيحٌ كما إذَا قال لِإِحْدَى امْرَأَتَيْهِ هذه طَالِقٌ لَا بَلْ
هذه
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قال هذا حُرٌّ أَلْبَتَّةَ لَا بَلْ هذا مُدَبَّرٌ جَازَتْ
الشَّهَادَةُ لَهُمَا لِأَنَّهُ أَعْتَقَ الْأَوَّلَ ثُمَّ رَجَعَ وَتَدَارَكَ
بِالثَّانِي فَالرُّجُوعُ لَا يَصِحُّ وَيَصِحُّ التَّدَارُكُ فَصَارَ الْأَوَّلُ
حُرًّا وَالثَّانِي مُدَبَّرًا
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَبَّرَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ
أَعْتَقَهُ أَلْبَتَّةَ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
شَهِدَ بِغَيْرِ ما شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ لَفْظًا وَمَعْنًى أَمَّا اللَّفْظُ
فَلَا شَكَّ فيه وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ الْبَاتَّ إثْبَاتُ
الْعِتْقِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ وَلَيْسَ على كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ لو شَهِدَا بِالتَّدْبِيرِ
وَاخْتَلَفَا في شَرْطِهِ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا على شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كما
في الْإِعْتَاقِ الْبَاتِّ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ وهو الْمُوَفِّقُ
كِتَابُ الإستيلاد الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في تَفْسِيرِ
الِاسْتِيلَادِ لُغَةً وَعُرْفًا وفي بَيَانِ شَرْطِهِ وفي بَيَانِ صِفَتِهِ وفي
بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ أَمَّا تَفْسِيرُهُ لُغَةً
فالإستيلاد في اللُّغَةِ هو طَلَبُ الْوَلَدِ كالإستيهاب والإستئناس أَنَّهُ
طَلَبُ الْهِبَةِ والإنس وفي الْعُرْفِ هو تَصْيِيرُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ
يُقَالُ فُلَانٌ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ إنْ صَيَّرَهَا أُمَّ وَلَدِهِ
وَعَلَى هذا قُلْنَا أنه يَسْتَوِي في صَيْرُورَةِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ
الْوَلَدُ الْحَيُّ وَالْمَيِّتُ لِأَنَّ الْمَيِّتَ وَلَدٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ
يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ الْوِلَادَةِ حتى تَنْقَضِيَ بِهِ الْعِدَّةُ
وَتَصِيرَ الْمَرْأَةُ بِهِ نُفَسَاءَ وَكَذَا لو أَسْقَطَتْ سِقْطًا قد
اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أو بَعْضُ خَلْقِهِ وَأَقَرَّ بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ
الْوَلَدِ الْحَيِّ الْكَامِلِ
____________________
(4/123)
الْخَلْقِ
في تَصْيِيرِ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّ أَحْكَامَ الْوِلَادَةِ
تَتَعَلَّقُ بِمِثْلِ هذا السَّقْطِ وهو ما ذَكَرْنَا وَإِنْ لم يَكُنْ اسْتَبَانَ
شَيْءٌ من من خَلْقِهِ فَأَلْقَتْ مُضْغَةً أو عَلَقَةً أو نُطْفَةً فَادَّعَاهُ
الْمَوْلَى فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ كَذَا رَوَى الْحَسَنُ عن أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ ما لم يَسْتَبِنْ خَلْقُهُ لَا يُسَمَّى وَلَدًا
وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ بِدُونِ الْوَلَدِ مُحَالٌ وَلِأَنَّهُ
يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ دَمًا جَامِدًا أو لَحْمًا
فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِيلَادُ مع الشَّكِّ وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا قَوْلُ
أَصْحَابِنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ قال يُصَبُّ عليه الْمَاءُ
الْحَارُّ فَإِنْ ذَابَ فَهُوَ دَمٌ وَإِنْ لم يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ وفي قَوْلٍ
قال يُرْجَعُ فيه إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ وَالْقَوْلَانِ فَاسِدَانِ لِمَا
ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فقال لِجَارِيَتِهِ حَمْلُ هذه الْجَارِيَةِ مِنِّي
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْحَمْلِ إقْرَارٌ بِالْوَلَدِ
إذْ الْحَمْلُ عِبَارَةٌ عن الْوَلَدِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال إذَا
قال حَمْلُ هذه الْجَارِيَةِ مِنِّي أو قال هِيَ حُبْلَى مِنِّي أو قال ما في
بَطْنِهَا من وَلَدٍ فَهُوَ مِنِّي ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك لم تَكُنْ حَامِلًا
وَإِنَّمَا كان رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ الْأَمَةُ فَإِنَّهُمَا لَا يُصَدَّقَانِ
وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحَمْلِهَا وَالْحَمْلُ عِبَارَةٌ عن
الْوَلَدِ وَذَلِكَ يُثْبِتُ لها حُرِّيَّةَ الِاسْتِيلَادِ فإذا رَجَعَ لم
يَصِحَّ رُجُوعُهُ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَصْدِيقِهَا لِأَنَّ في الْحُرِّيَّةِ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وَلَوْ
قال ما في بَطْنِهَا مِنِّي ولم يَقُلْ من حَمْلٍ أو وَلَدٍ ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك
كان رِيحًا وَصَدَّقَتْهُ لم تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّ قَوْلَهُ ما في
بَطْنِهَا يَحْتَمِلُ الْوَلَدَ وَالرِّيحَ فَقَدْ تَصَادَقَا على اللَّفْظِ
الْمُحْتَمَلِ فلم يَثْبُتْ الِاسْتِيلَادُ
وَلَوْ قال الْمَوْلَى إنْ كانت هذه الْجَارِيَةُ حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي فأسقت ( (
( فأسقطت ) ) ) سِقْطًا قد اسْتَبَانَ خَلْقُهُ أو بَعْضُ خَلْقِهِ صَارَتْ أُمَّ
وَلَدٍ لِمَا بَيَّنَّا فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ إلَى ثُبُوتِ نَسَبِ الْحَمْلِ منه
هذا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ كانت حُبْلَى فَهُوَ مِنِّي أَيْ إنِّي
وَطِئْتُهَا فَإِنْ حَبِلَتْ من وَطْءٍ فَهُوَ مِنِّي فإذا أَتَتْ بَعْدَ هذه
المقالة ( ( ( المقابلة ) ) ) بِوَلَدٍ لَأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ تَيَقَّنَّا
أنها كانت حَامِلًا حِينَئِذٍ فَثَبَتَ النَّسَبُ وَالِاسْتِيلَادُ فَإِنْ
أَنْكَرَ الْمَوْلَى الْوِلَادَةَ فَشَهِدَتْ عليها امْرَأَةٌ لَزِمَهُ النَّسَبُ
لِأَنَّ الزَّوْجَ إذَا كان أَقَرَّ بِالْحَمْلِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ امْرَأَتِهِ
على الْوِلَادَةِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ
فَإِنْ جَاءَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لم يَلْزَمْهُ ولم تَصِرْ
الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّا نَعْلَمُ وُجُودَ هذا الْحَمْلِ في ذلك
الْوَقْتِ لِجَوَازِ أنها حَمَلَتْ بَعْدَ ذلك فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ
والإستيلاد بِالشَّكِّ
فَصْلٌ وَأَمَّا سَبَبُ الِاسْتِيلَادِ وهو صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ
له فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا سَبَبُهُ هو ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ
وقال الشَّافِعِيُّ سببه عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا على الْإِطْلَاقِ بَعْدَ
اتِّفَاقِهِمْ على أَنَّ حُكْمَ الإستيلاد في الْحَالِ هو ثُبُوتُ حَقِّ
الْحُرِّيَّةِ وَثُبُوتُ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم في جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ
الْقِبْطِيَّةِ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ ابْنَ النبي عليه الصلاة ( ( ( وسلم )
) ) والسلام أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا وَالْمُرَادُ منه التسبب ( ( ( التسبيب ) ) )
أَيْ وَلَدُهَا سَبَبُ عِتْقِهَا غير أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا في جِهَةِ
التَّسْبِيبِ فقال أَصْحَابُنَا هِيَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ
وقال الشَّافِعِيُّ هِيَ عُلُوقُ الْوَلَدِ حُرًّا مُطْلَقًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْوَلَدَ حُرٌّ بِلَا شَكٍّ وأنه جُزْءُ الْأُمِّ
وَحُرِّيَّةُ الْجُزْءِ تَقْتَضِي حُرِّيَّةَ الْكُلِّ إذْ لَا يُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ الْكُلُّ رَقِيقًا وَالْجُزْءُ حُرًّا كان يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَقَ
الْأُمُّ لِلْحَالِ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا لَا تُعْتَقُ لِأَنَّ الْوَلَدَ
انْفَصَلَ منها وَحُرِّيَّتُهُ على اعْتِبَارِ الِانْفِصَالِ لَا تُوجِبُ
حُرِّيَّةَ الْأُمِّ كما لو أَعْتَقَ الْجَنِينَ فَقُلْنَا بِثُبُوتِ حَقِّ
الْحُرِّيَّةِ في الْحَالِ وَتَأَخُّرِ الْحَقِيقَةِ إلَى بَعْدِ الْمَوْتِ
عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ الْمُعَلَّقَ أَوْجَبَ الْجُزْئِيَّةَ بين الْمَوْلَى
وَالْجَارِيَةِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ لِاخْتِلَاطِ الْمَاءَيْنِ
وَصَيْرُورَتِهِمَا شيئا وَاحِدًا وَانْخِلَاقِ الْوَلَدِ منه فَكَانَ الْوَلَدُ
جزأ لَهُمَا وَبَعْدَ الِانْفِصَالِ عنها إنْ لم يَبْقَ جزأ لها على الْحَقِيقَةِ
فَقَدْ بَقِيَ حُكْمًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَلِهَذَا تُنْسَبُ كُلُّ الْأُمِّ
إلَيْهِ بِوَاسِطَةِ الْوَلَدِ يُقَالُ أُمُّ وَلَدِهِ فَلَوْ بَقِيَتْ حَقِيقَةُ
الْحُرِّيَّةِ لَثَبَتَتْ حَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ فإذا بَقِيَتْ
حُكْمًا ثَبَتَ الْحَقُّ على ما عليه وَضْعُ مَأْخَذِ الْحُجَجِ في تَرْتِيبِ
الإحكام على قَدْرِ قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا وَإِلَى هذا الْمَعْنَى أَشَارَ عُمَرُ
رضي اللَّهُ عنه فقال أبعد ما اخْتَلَطَتْ لُحُومُكُمْ بِلُحُومِهِنَّ
وَدِمَاؤُكُمْ بِدِمَائِهِنَّ تُرِيدُونَ بَيْعَهُنَّ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا في كَيْفِيَّةِ هذا السَّبَبِ فقال عُلَمَاؤُنَا
الثَّلَاثَةُ السَّبَبُ هو ثُبُوتُ النَّسَبِ شَرْعًا وقال زُفَرُ هو ثُبُوتُ
النَّسَبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ ثَبَتَ شَرْعًا أو حَقِيقَةً وَبَيَانُ هذه
الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا تَزَوَّجَ جَارِيَةً إنْسَانٌ فَاسْتَوْلَدَهَا
ثُمَّ مَلَكهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له عِنْدَ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ سَبَبَ
الِاسْتِيلَادِ هو ثُبُوتُ النَّسَبِ وقد ثَبَتَ فَتَحَقَّقَ السَّبَبُ إلَّا
أَنَّهُ تَوَقَّفَ الْحُكْمُ على وُجُودِ الْمِلْكِ فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ حُكْمِهِ
____________________
(4/124)
وهو
حَقُّ الْحُرِّيَّةِ في غَيْرِ الْمِلْكِ كما يَتَعَذَّرُ إثْبَاتُ الْحَقِيقَةِ
في غَيْرِهِ فَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ إلَى وَقْتِ الْمِلْكِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ له
وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ لِأَنَّ السَّبَبَ عِنْدَهُ عُلُوقُ الْوَلَدِ
حُرًّا على الْإِطْلَاقِ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْوَلَدَ رَقِيقٌ في حَقِّ
مَوْلَاهُ وإذا مَلَكَ وَلَدَهُ الذي اسْتَوْلَدَهُ عَتَقَ عليه بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه فَيَعْتِقُ وَأَمَّا
عِنْدَهُ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ منه شَرْعًا
وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ النَّسَبُ من غَيْرِ مَالِكِ الْجَارِيَةِ بِوَطْءٍ
بِشُبْهَةٍ ثُمَّ مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له حين مَلَكَهَا
عِنْدَنَا لِوُجُودِ السَّبَبِ وَعِنْدَهُ لَا لِانْعِدَامِ السَّبَبِ وَلَوْ
مَلَكَ الْوَلَدَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ زَنَى بِجَارِيَةٍ فَاسْتَوْلَدَهَا بِأَنْ قال زَنَيْتُ بها أو فَجَرْت
بها أو قال هو ابْنِي من زِنًا أو فُجُورٍ وَصَدَّقَتْهُ وَصَدَّقَهُ مَوْلَاهَا
فَوَلَدَتْ ثُمَّ مَلَكَهَا لم تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ له عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وهو اسْتِحْسَانٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ له وهو قَوْلُ زُفَرَ بِنَاءً على أَنَّ
السَّبَبَ عِنْدَهُ ثُبُوتُ النَّسَبِ مُطْلَقًا وقد ثَبَتَ النَّسَبُ حَقِيقَةً
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو تَمَلَّك الْوَلَدَ عَتَقَ عليه بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا وَالسَّبَبُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ هو ثُبُوتُ نَسَبِ
الْوَلَدِ شَرْعًا ولم يَثْبُتْ
فصل وَأَمَّا شَرْطُهُ فما هو شَرْطُ ثُبُوتِ النَّسَبِ شَرْعًا وهو الْفِرَاشُ
وَلَا فِرَاشَ إلَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ أو شُبْهَةٍ أو تَأْوِيلِ الْمِلْكِ أو
مِلْكِ النِّكَاحِ أو شُبْهَتِهِ وَلَا تَصِيرُ الْأَمَةُ فِرَاشًا في مِلْكِ
الْيَمِينِ بِنَفْسِ الْوَطْءِ بَلْ بِالْوَطْءِ مع قَرِينَةِ الدَّعْوَى
عِنْدَنَا وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الدعوة ( ( ( الدعوى ) ) ) فَلَا يَثْبُتُ
الِاسْتِيلَادُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ وَيَسْتَوِي في الِاسْتِيلَادِ مِلْكُ
الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا في إثْبَاتِ النَّسَبِ إلى أَنَّ
الْمُدَبَّرَةَ إذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ بَطَلَ التَّدْبِيرُ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ
الْوَلَدِ أَنْفَعُ لها
أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا لِوَارِثٍ
وَالْمُدَبَّرَةُ تَسْعَى وَيَسْتَوِي في ثَبَاتِ النَّسَبِ مِلْكُ كل
الْجَارِيَةِ وَبَعْضِهَا
وَكَذَا في الِاسْتِيلَادِ حتى لو أَنَّ جَارِيَةً بين اثْنَيْنِ عُلِّقَتْ في مِلْكِهِمَا
فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه وَصَارَتْ
الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ له بِالضَّمَانِ وهو نِصْفُ قِيمَةِ
الْجَارِيَةِ وَيَسْتَوِي في هذا الضَّمَانِ الْيَسَارُ وَالْإِعْسَارُ وَيَغْرَمُ
نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَلَا يَضْمَنُ من قِيمَةِ الْوَلَدِ شيئا
أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلِحُصُولِ الْوَطْءِ في مَحَلٍّ له فيه مِلْكٌ لِأَنَّ
ذلك الْقَدْرَ من الْمِلْكِ أَوْجَبَ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِقَدْرِهِ وَالنَّسَبُ
لَا يَتَجَزَّأُ وإذا ثَبَتَ في بَعْضِهِ ثَبَتَ في كُلِّهِ ضَرُورَةَ عَدَمِ
التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) وَلِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ
فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِحَقِيقَةِ الْمِلْكِ أَوْلَى
وَأَمَّا صَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ كُلِّهَا أُمَّ وَلَدٍ له فَالنِّصْفُ
قَضِيَّةٌ لِلتَّسَبُّبِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مَمْلُوكٌ له وَالنِّصْفُ
الْآخَرُ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا
يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ فيه فإذا ثَبَتَ في الْبَعْضِ يَثْبُتُ في الْكُلِّ
لِضَرُورَةِ عَدَمِ التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ
وُجِدَ سَبَبُ التَّكَامُلِ وهو النَّسَبُ على كَوْنِهِ مُتَجَزِّئًا في نَفَسِهِ
لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِيلَادِ هو ثُبُوتُ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ لَا يَتَجَزَّأُ
وَالْحُكْمُ على وَفْقِ الْعِلَّةِ فَثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ وفي نَصِيبِهِ
قَضِيَّةٌ لِلسَّبَبِ ثُمَّ يَتَكَامَلُ في الْبَاقِي بِسَبَبِ النَّسَبِ وَإِمَّا
بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ أَوْجَبَ التَّكَامُلَ على ما عُرِفَ في
الْخِلَافِيَّاتِ ثُمَّ لَا سَبِيلَ إلَى التَّكَامُلِ بِدُونِ مِلْكِ نَصِيبِ
شَرِيكِهِ فَيَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ ضَرُورَةَ صِحَّةِ
الِاسْتِيلَادِ في ذلك النَّصِيبِ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَمَلُّكِ مَالِ الْغَيْرِ
من غَيْرِ بَدَلٍ فَيَتَمَلَّكُهُ بِالْبَدَلِ وهو نِصْفُ قِيمَتِهَا وَإِنَّمَا
اسْتَوَى في هذا الضَّمَانِ حَالَةُ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لِأَنَّهُ ضَمَانُ
مِلْكٍ كَضَمَانِ الْمَبِيعِ
وَأَمَّا وُجُوبُ نِصْفِ الْعُقْرِ فَلِوُجُودِ الْإِقْرَارِ منه بِوَطْءِ مِلْكِ
الْغَيْرِ وإنه حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لم يَجِبْ لِمَكَانِ شُبْهَةٍ الحصول
( ( ( لحصول ) ) ) الْوَطْءِ في مِلْكِهِ وَمِلْكِ شَرِيكِهِ فَلَا بُدَّ من
وُجُوبِ الْعُقْرِ وَلَا يَدْخُلُ الْعُقْرُ في ضَمَانِ الْقِيمَةِ لِأَنَّ
ضَمَانَ نِصْفِ الْقِيمَةِ ضَمَانُ الْجُزْءِ وَضَمَانُ الْبِضْعِ ضَمَانُ
الْجُزْءِ وَلِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ لها حُكْمُ الْأَجْزَاءِ وَضَمَانُ
الْجُزْءِ لَا يَدْخُلُ في مِثْلِهِ
وَأَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ نِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ
شَرِيكِهِ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ فَصَارَ الْوَلَدُ جَارِيًا على مِلْكِهِ فَلَا
يَكُونُ مَضْمُونًا عليه وَلِأَنَّ الْوَلَدَ في حَالِ الْعُلُوقِ لَا قِيمَةَ له
فَلَا يُقَابَلُ بِالضَّمَانِ وَلِأَنَّهُ كان بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ فَلَا
يُفْرَدُ بِالضَّمَانِ وَيَسْتَوِي في ثُبُوتِ النَّسَبِ وَصَيْرُورَةِ
الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ مِلْكُ الذَّاتِ وَمِلْكُ الْيَدِ كَالْمُكَاتَبِ إذَا
اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً من إكْسَابِهِ على ما نَذْكُرُ في كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَيَسْتَوِي في دَعْوَةِ النَّسَبِ حَالَةُ الصِّحَّةِ
وَالْمَرَضِ لِأَنَّ النَّسَبَ من الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا واعتقه الْآخَرُ وَخَرَجَ الْقَوْلُ
مِنْهُمَا مَعًا فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ وَدَعْوَةُ صَاحِبِهِ أَوْلَى لِأَنَّ الدعوى
( ( ( الدعوة ) ) ) اسْتَنَدَتْ إلَى حَالَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ وَهِيَ
____________________
(4/125)
الْعُلُوقُ
وَالْعِتْقُ وَقَعَ في الْحَالِ فَصَارَتْ الدَّعْوَةُ أَسْبَقَ من الاعتاق
فَكَانَتْ أَوْلَى
وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جميعا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُمَا
تَخْدِمُ لِهَذَا يَوْمًا وَلِذَاكَ يَوْمًا وَلَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا من
قِيمَةِ الْأُمِّ لِصَاحِبِهِ شيئا وَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ
الْعُقْرِ فَيَكُونُ قِصَاصًا
أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا فَمَذْهَبُنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ من أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ القامة (
( ( القافة ) ) ) وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الدَّعْوَى وَأَمَّا صَيْرُورَةُ
نَصِيبِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَلِثُبُوتِ نَسَبِ
وَلَدِهَا منه فَصَارَ كَأَنَّهُ انْفَرَدَ بِالدَّعْوَةِ وَإِنَّمَا لَا يَضْمَنُ
أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ شيئا من قِيمَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ نَصِيبَ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لم يَنْتَقِلْ إلَى شَرِيكِهِ وَإِنَّمَا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِوُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو
الْإِقْرَارُ بِالْوَطْءِ في مِلْكِ الْغَيْرِ فَيَصِيرُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا
لِلْآخَرِ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في الِاسْتِيفَاءِ
وَكَذَلِكَ لو كانت الْجَارِيَةُ بين ثَلَاثَةٍ أو أَرْبَعَةٍ أو خَمْسَةٍ
فَادَّعُوهُ جميعا مَعًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منهم وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ ولد
( ( ( ولدهم ) ) ) لهم في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَثْبُتُ
النَّسَبُ من أَكْثَرَ من اثْنَيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ من أَكْثَرَ من ثَلَاثَةٍ
وَنَذْكُرُ الْحِجَجَ في كِتَابِ الدَّعْوَى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ كانت الْأَنْصِبَاءُ مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كان لِأَحَدِهِمْ السُّدُسُ
وَالْآخَرِ الرُّبُعُ وَالْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِآخَرَ ما بَقِيَ يَثْبُتُ نَسَبُهُ
منهم وَيَصِيرُ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ منهم من الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ له لَا
يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ حتى تَكُونَ الْخِدْمَةُ وَالْكَسْبُ
وَالْغَلَّةُ بَيْنَهُمْ على قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ منهم
ثَبَتَ الِاسْتِيلَادُ منه في نَصِيبِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فيه
اسْتِيلَادُ غَيْرِهِ
وَلَوْ كانت الْأَمَةُ بين الْأَبِ وَالِابْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ
جميعا مَعًا أو كانت بين حُرٍّ وَعَبْدٍ فَادَّعَيَاهُ أو بين حُرٍّ وَمُكَاتَبٍ
أو بين مُكَاتَبٍ وَعَبْدٍ أو بين مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ أو بين كِتَابِيٍّ
وَمَجُوسِيٍّ أو بين عَبْدٍ مُسْلِمٍ أو مُكَاتَبٍ مُسْلِمٍ وَبَيْنَ حُرٍّ
كَافِرٍ أو بين ذِمِّيٍّ وَمُرْتَدٍّ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ في كاتب ( ( ( كتاب ) )
) الدَّعْوَى
هذا إذَا كان الْعُلُوقُ في مِلْكِ الْمُدَّعِيَيْنِ فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ اشْتَرَيَاهَا
وَهِيَ حَامِلٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أو كِلَاهُمَا فَهُوَ
من مَسَائِلِ الدعوة ( ( ( الدعوى ) ) ) نذكر ( ( ( نذكره ) ) )
هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بين اثْنَيْنِ وَلَدَيْنِ
فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدًا وَلَدَتْهُمَا في بَطْنٍ أو بَطْنَيْنِ
وَالدَّعْوَتَانِ خَرَجَتَا مَعًا أو على التَّعَاقُبِ وَكَذَا إذَا وَلَدَتْ
جَارِيَةٌ لِإِنْسَانٍ ثلاث أَوْلَادٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ وَهُمْ وُلِدُوا في
بَطْنٍ وَاحِدٍ أو في بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ وَادَّعَى الْمَوْلَى أحدهما ( ( (
أحدهم ) ) ) بِعَيْنِهِ أو بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَحُكْمُ هذه الْجُمْلَةِ في كِتَابِ
الدَّعْوَى وَكَذَا دَعْوَةُ الْأَبِ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ ابْنِهِ مع
فُرُوعِهَا وَدَعْوَةُ اللَّقِيطِ مع فُصُولِهَا تُذْكَرُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
أَمَةٌ بين رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أنها أُمُّ وَلَدٍ لِصَاحِبِهِ
وَأَنْكَرَ ذلك صَاحِبُهُ قال أبو حَنِيفَةَ يَبْطُلُ حَقُّ الشَّاهِدِ في
رَقَبَتِهَا مُوسِرًا كان الْمَشْهُودُ عليه أو مُعْسِرًا وَتَخْدِمُ الْمَشْهُودَ
عليه يَوْمًا وَيَرْفَعُ عنها يَوْمًا فَإِنْ مَاتَ الْمَشْهُودُ عليه سَعَتْ
لِوَرَثَتِهِ وَكَانَتْ في حَالِ السِّعَايَةِ كَالْمُكَاتَبَةِ فَإِنْ أَدَّتْ
عَتَقَتْ وكان نِصْفُ وَلَائِهَا لِلْمَشْهُودِ عليه وَالنِّصْفُ لِبَيْتِ
الْمَالِ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْآخَرِ وقال مُحَمَّدٌ يَسْعَى السَّاعَةَ في
نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلْمَشْهُودِ عليه فإذا أَدَّتْ فَهِيَ حُرَّةٌ لَا سَبِيلَ
لِأَحَدٍ عليها وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْمُقِرَّ قد أَفْسَدَ على شَرِيكِهِ
مِلْكَهُ بِإِقْرَارِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يُصَدِّقْهُ الشَّرِيكُ انْقَلَبَ
إقْرَارُهُ على نَفَسِهِ فَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ
كان قد أَعْتَقَهُ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ أَنَّهُ يَنْقَلِبُ إقْرَارُهُ عليه
وَيُجْعَلُ مُعْتَقًا كَذَا هَهُنَا وإذا انْقَلَبَ إقْرَارُهُ على نَفَسِهِ صَارَ
مُقِرًّا بالإستيلاد في نَصِيبِهِ وَمَتَى ثَبَتَ في نَصِيبِهِ ثَبَتَ في نَصِيبِ
صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لم يَتَجَزَّأْ فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ صَاحِبِهِ لَكِنْ لَا
سَبِيلَ إلَى تَضْمِينِهِ لِأَنَّ شَرِيكَهُ قد كَذَّبَهُ في إقْرَارِهِ فَكَانَ
لِشَرِيكِهِ السِّعَايَةُ كما لو أَعْتَقَ الْمُقِرُّ نَصِيبَهُ وهو مُعْسِرٌ وإذا
سَعَتْ في نَصِيبِهِ وَعَتَقَ نَصِيبُهُ يَعْتِقُ الْكُلُّ لِعَدَمِ تجزي ( ( (
تجزؤ ) ) ) الْعِتْقِ عِنْدَهُ وَلَهُمَا أَنَّ الْمُقِرَّ بهذا الْإِقْرَارِ
يَدَّعِي الضَّمَانَ على الْمُنْكِرِ بِسَبَبِ تملك الْجَارِيَةِ لِأَنَّ
الِاسْتِيلَادَ لَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ وَالْمِلْكَ وَيَجِبُ
الضَّمَانُ فيه على الشَّرِيكِ في حَالَةِ الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ وَدَعْوَى
الضَّمَانِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَمَةِ عن السِّعَايَةِ فَبَطَلَ حَقُّهُ في
رَقَبَتِهَا وَبَقِيَ حَقُّ الْمُنْكِرِ في نَصِيبِهِ كما كان وَلِأَنَّ
الْمُقِرَّ لَا يَخْلُو إمَّا أن كان صَادِقًا في الْإِقْرَارِ وَإِمَّا أن كان
فيه كَاذِبًا فَإِنْ كان صَادِقًا كانت الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ
لِصَاحِبِهِ فَيُسَلِّمُ له كَمَالَ الِاسْتِخْدَامِ وَإِنْ كان كَاذِبًا كانت
الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا على ما كانت قبل الْإِقْرَارِ فَنِصْفُ الْخِدْمَةِ
ثَابِتَةٌ لِلْمُنْكِرِ بِيَقِينٍ وَاعْتِبَارُ هذا الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ لَا
سِعَايَةَ عليها أَيْضًا فَأَمَّا الْمُقِرُّ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ عن
الْخِدْمَةِ لِزَعْمِهِ أَنَّ كُلَّ الْخِدْمَةِ لِشَرِيكِهِ إلَّا أن شَرِيكَهُ
لَمَّا رَدَّ عليه بَطَلَتْ خِدْمَةُ الْيَوْمِ وَبَيْعُ
____________________
(4/126)
هذه
الْجَارِيَةِ مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّ الشَّاهِدَ أَقَرَّ أنها أُمُّ وَلَدٍ وحين ما
أَقَرَّ كان له مِلْكٌ فيها في الظَّاهِرِ فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ في حَقِّهِ وإذا
مَاتَ الْمَشْهُودُ عليه فَإِنَّهَا تَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهَا لِوَرَثَتِهِ
لِأَنَّ في زَعْمِ الشَّاهِدِ أنها عَتَقَتْ بِمَوْتِ صَاحِبِهِ لِزَعْمِهِ أنها أُمُّ
وَلَدِ صَاحِبِهِ وَالْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ بين اثْنَيْنِ إذَا أَقَرَّ
أَحَدُهُمَا على شَرِيكِهِ بِالْعِتْقِ كان له عليها السِّعَايَةُ وَإِنْ
كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ في الْإِقْرَارِ كَذَلِكَ هَهُنَا وَنِصْفُ الْوَلَاءِ
لِلْمَشْهُودِ عليه لأنه ( ( ( لأنها ) ) ) عَتَقَتْ على مِلْكِهِ وَوَقَفَ
النِّصْفَ الْآخَرَ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ أَنَّهُ لِلْمَشْهُودِ عليه
وَالْمَشْهُودُ عليه رَدَّ عليه قراره ( ( ( إقراره ) ) ) فَلَا يُعْرَفُ لِهَذَا
النِّصْفِ مُسْتَحَقٌّ مَعْلُومٌ فَيَكُونَ لِبَيْتِ الْمَالِ فَإِنْ جَاءَتْ ولد
( ( ( بولد ) ) ) فقال أَحَدُهُمَا هو ابن الشَّرِيكِ وَأَنْكَرَ الشَّرِيكُ
فَالْجَوَابُ في الْأُمِّ كَذَلِكَ وَأَمَّا الْوَلَدُ فَيَعْتِقُ وَيَسْعَى في
نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمَشْهُودِ عليه لِأَنَّ الشَّرِيكَ الْمُقِرَّ أَقَرَّ
بِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ من جِهَةِ شَرِيكِهِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ إذَا شَهِدَ
على الْآخَرِ بِالْعِتْقِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ يَسْعَى الْعَبْدُ لِلْمَشْهُودِ
عليه
وفي مَسْأَلَتِنَا لَا يَسْعَى لِلشَّاهِدِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ حُرُّ
الْأَصْلِ وَأَنَّهُ لَا سِعَايَةَ عليه
وَنَظِيرُ هذه الْمَسْأَلَةِ ما رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ في جَارِيَةٍ بين
شَرِيكَيْنِ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ شَرِيكَهُ دَبَّرَهَا وَأَنْكَرَ
الشَّرِيكُ فإن أَبَا حَنِيفَةَ قال الشَّاهِدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَبَّرَ
فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ ولم يُدَبِّرْ
فَخَدَمَتْهُ يَوْمًا وَالْآخَرَ يَوْمًا وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَاهَا في نِصْفِ
قِيمَتِهَا فَسَعَتْ له يَوْمًا وَخَدَمَتْ الْآخَرَ يَوْمًا فإذا أَدَّتْ
فَعَتَقَتْ سَعَتْ لِلْآخَرِ وكان قَوْلُ أبي يُوسُفَ في ذلك أنها كَأُمِّ
الْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعَ وقال تُوقَفُ كما قال أبو حَنِيفَةَ إلَّا في تَبْعِيضِ
التَّدْبِيرِ وقال مُحَمَّدٌ تَسْعَى السَّاعَةَ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الِاسْتِيلَادِ وهو أَنَّ
الشَّرِيكَ لَمَّا لم يُصَدِّقْهُ في إقْرَارِهِ انْقَلَبَ عليه إقْرَارُهُ
وَثَبَتَ التَّدْبِيرُ في نَصِيبِهِ وأنه يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ الْمُنْكِرِ
لِعَدَمِ تجزي ( ( ( تجزؤ ) ) ) التَّدْبِيرِ عِنْدَهُ فَقَدْ أَفْسَدَ نَصِيبَ
الْمُنْكِرِ وَتَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عليه لِلْمُنْكِرِ لِتَكْذِيبِهِ
إيَّاهُ فَتَسْعَى الْجَارِيَةُ له كما لو أَنْشَأَ التَّدْبِيرَ في نَصِيبِهِ
وَمِنْ أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَلَا يَصِيرُ
نَصِيبُهُ بِإِقْرَارِهِ بِالتَّدْبِيرِ على صَاحِبِهِ مُدَبَّرًا كما لو دَبَّرَ
أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ أَنَّهُ يَبْقَى نَصِيبُ الْآخَرِ على حَالِهِ
وَلَهُ التَّدْبِيرُ وَالِاسْتِسْعَاءُ وَالتَّرْكُ على حَالِهِ إلَّا أَنَّ
هَهُنَا لو اخْتَارَ السِّعَايَةَ فَإِنَّمَا يَسْتَسْعَاهَا يَوْمًا
وَيَتْرُكُهَا يَوْمًا ولأنه لَا يَمْلِكُ جَمِيعَ مَنَافِعِهَا فَلَا يَمْلِكُ
أَنْ يستسعى إلَّا على مِقْدَارِ حَقِّهِ فإذا أَدَّتْ عَتَقَ نَصِيبُهُ وَيَسْعَى
لِلْمُنْكِرِ في نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ فَسَدَ نَصِيبُهُ وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُ
الْمُقِرِّ فَكَانَ له أَنْ يستسعى وأبو يُوسُفَ وَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ إلَّا
أَنَّهُ يقول إنَّ التَّدْبِيرَ يَتَجَزَّأُ فَهُوَ بِدَعْوَى التَّدْبِيرِ على
شَرِيكِهِ يَدَّعِي الضَّمَانَ عليه مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا فَكَانَ مُبَرِّئًا
لِلْأَمَةِ عن السِّعَايَةِ فلم يَبْقَ له حَقُّ الِاسْتِسْعَاءِ وَلَا حَقُّ
الِاسْتِخْدَامِ فيوقف ( ( ( فيتوقف ) ) ) نَصِيبُهُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالتَّدْبِيرِ على صَاحِبِهِ أو شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على
صَاحِبِهِ بالإستيلاد فَلَا سَبِيلَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ وَلَا على
الْأَمَةِ مُوسِرَيْنِ كَانَا أو مُعْسِرَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَدَّعِي حَقَّ الْحُرِّيَّةِ من جِهَتِهِ وَالْإِبْرَاءَ لِلْأَمَةِ من
السِّعَايَةِ وَيَدَّعِي الضَّمَانَ على شَرِيكِهِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ
فَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَوَافَقَ أَبَا حَنِيفَةَ في هذا الْفَصْلِ لِأَنَّ كُلَّ
وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ هَهُنَا أَبْرَأَ الْأَمَةَ من السِّعَايَةِ وَادَّعَى
الضَّمَانَ على شَرِيكِهِ وَرَوَى الْمُعَلَّى عن أبي يُوسُفَ في عَبْدٍ بين
شَرِيكَيْنِ قال أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ هذا ابْنِي وَابْنُك أو ابْنُك وَابْنِي
فقال الْآخَرُ صَدَقْت فَهُوَ ابن الْمُقِرِّ خَاصَّةً دُونَ الْمُصَدِّقِ
وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ في صَبِيٍّ لَا يَعْقِلُ في يَدِ
رَجُلَيْنِ قال أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ هو ابْنِي وَابْنُك وَصَدَّقَهُ صَاحِبُهُ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا قال هو ابْنِي فَكَمَا قال ذلك ثَبَتَ
نَسَبُهُ منه لوجد ( ( ( لوجود ) ) ) الْإِقْرَارِ منه بِالنَّسَبِ في مِلْكِهِ
فَلَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ من غَيْرِهِ بَعْدَ ذلك
قال مُحَمَّدٌ لو قال هذا ابْنُك وَسَكَتَ فلم يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ حتى قال هو
ابْنِي مَعَك فَهُوَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ قال صَاحِبُهُ هو ابْنِي دُونَك فَهُوَ كما
قال لِأَنَّهُ أَقَرَّ له بِالنَّسَبِ ابْتِدَاءً وَسَكَتَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ
إقْرَارُهُ وَوَقَفَ على التَّصْدِيقِ فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذلك هو ابْنِي
يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَسْمَعُ فإذا وَجَدَ التَّصْدِيقَ من
الْمُقَرِّ له ثَبَتَ النَّسَبُ منه قال فَإِنْ قال الْمُقَرُّ له ليس بإبني
وَلَكِنَّهُ ابْنُك أو قال ليس بإبني وَلَا ابْنُك
أو قال ليس يا ( ( ( بابني ) ) ) بني وَسَكَتَ فَلَيْسَ بِابْنٍ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا في قِيَاسِ قَوْل أبي حَنِيفَةَ وقال مُحَمَّدٌ إنْ صَدَّقَهُ فَهُوَ
ابن الْمُقِرِّ له وَإِنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ ابن الْمُقِرِّ فَهَذَا فَرْعُ
اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَقَرَّ بِعَبْدٍ أَنَّهُ ابن فُلَانٍ وَكَذَّبَهُ الْمُقَرُّ
له وَادَّعَاهُ الْمَوْلَى أَنَّهُ لم تَصِحَّ دَعْوَتُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وفي قَوْلِهِمَا تَصِحُّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ
له فَقَدْ بَطَلَ إقْرَارُهُ كما في الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ
____________________
(4/127)
وإذا
بَطَلَ إقْرَارُهُ الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَجَازَ أَنْ يَدَّعِيَهُ لِنَفْسِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ فَقَدْ زَعَمَ
أَنَّهُ ثَابِتُ النَّسَبِ منه فَتَكْذِيبُهُ يَنْفِي ثُبُوتَ النَّسَبِ منه في
حَقِّهِ لَا في حَقِّ الشَّرِيكِ بَلْ بَقِيَ ثَابِتَ النَّسَبِ منه في حَقِّهِ
فإذا ادَّعَى وَلَدًا هو ثَابِتُ النَّسَبِ من الْغَيْرِ في حَقِّهِ فَلَا
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَوْ قال هو ابْنِي وَابْنُكَ فَهُوَ من الثَّانِي لِأَنَّهُ
لَمَّا قال هو ابْنِي فَقَدْ صَدَّقَهُ فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه فَإِقْرَارُهُ
بَعْدَ ذلك بِقَوْلِهِ وَابْنُك لم يَصِحَّ
قال مُحَمَّدٌ فَإِنْ كان هذا الْغُلَامُ يَعْقِلُ فَالْمَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِهِ
لِأَنَّهُ إذَا كان عَاقِلًا كان في يَدِ نَفَسِهِ فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَى
النَّسَبِ عليه من غَيْرِ تَصْدِيقِهِ قال وَإِنْ كان الْوَلَدُ من أَمَةٍ
وَلَدَتْهُ في مِلْكِهِمَا فَالْجَوَابُ كَالْأَوَّلِ في النَّسَبِ أن على قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ لَا يَثْبُتُ من الْمُقِرِّ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ لِشَرِيكِهِ
وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَثْبُتُ قال وَالْأَمَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ ثَبَتَ
النَّسَبُ منه لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يَتْبَعُ النَّسَبَ
وَمِنْ هذا النَّوْعِ ما إذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ في
مِلْكِهِمَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا وَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ
ابْنُهُ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّ الْجَارِيَةَ بِنْتُهُ وَخَرَجَتْ
الدَّعْوَتَانِ مَعًا فَالدَّعْوَةُ دَعْوَةُ من يَدَّعِي الْوَلَدَ وَدَعْوَةُ
مُدَّعِي الْأُمِّ بَاطِلَةٌ لِأَنَّ مدعى الْوَلَدِ دَعْوَتُهُ دَعْوَةُ
الِاسْتِيلَادِ وَالِاسْتِيلَادُ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَمُدَّعِيَ
الْأُمِّ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ وَالتَّحْرِيرُ يَثْبُتُ في الْحَالِ وَلَا
يَسْتَنِدُ فَكَانَتْ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْوَلَدِ سَابِقَةً فَثَبَتَ نَسَبُ
الْوَلَدِ منه وَيَصِيرُ نَصِيبُهُ من الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ له وَيَنْتَقِلُ
نَصِيبُ شَرِيكِهِ منها إلَيْهِ فَكَانَ دَعْوَى الشَّرِيكِ دَعْوَى فِيمَا لَا
يَمْلِكُ فَلَا يُسْمَعْ وَهَلْ يَضْمَنُ مُدَّعِي الْوَلَدِ بِنِصْفِ قِيمَةِ
الْأُمِّ وَنِصْفِ عُقْرِهَا قال مُحَمَّدٌ يَضْمَنُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الْكَبِيرِ أَنَّ هذا قِيَاسُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَهِيَ
رِوَايَةُ بِشْرِ بن الْوَلِيدِ عن أبي يُوسُفَ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ لَا شَيْءَ على مُدَّعِي الْوَلَدِ من قِيمَةِ الْأُمِّ وَلَا من
الْعُقْرِ وَلَا شَيْءَ له أَيْضًا على مُدَّعِي الْأُمِّ فَإِنْ أَكَذَبَ
مُدَّعِي الْأُمِّ نَفَسَهُ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الْأُمِّ وَنِصْفُ عُقْرِهَا
على مُدَّعِي الْوَلَدِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا الْقَوْلَ أَقْيَسُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ مُدَّعِي الْأُمِّ أَقَرَّ أنها حُرَّةُ الْأَصْلِ فَكَانَ
مُنْكِرًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ فَلَا يَثْبُتُ له حَقُّ التَّضْمِينِ فَإِنْ رَجَعَ
عن دَعْوَاهُ وَأَكْذَبَ نَفَسَهُ ثَبَتَ له حَقُّ الضَّمَانِ الذي اعْتَرَفَ بِهِ
له شَرِيكُهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ من الْمُدَّعِي فَقَدْ صَارَ
نَصِيبُهُ من الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ فَكَذَا نَصِيبُ شَرِيكِهِ لِعَدَمِ تجزي
( ( ( تجزؤ ) ) ) الْجَارِيَةِ في حَقِّ الِاسْتِيلَادِ فِيمَا يَحْتَمِلُ
النَّقْلَ فَصَارَ مُتْلِفًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ عليه وَلَا يَجُوزُ تَمَلُّكُ
مَالِ الْغَيْرِ إلَّا بِعِوَضٍ فَيَضْمَنَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأُمِّ
وَيَضْمَنَ له نِصْفَ عُقْرِ الْجَارِيَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْوَطْءَ لَاقَاهَا
وَنِصْفُهَا مَمْلُوكٌ لِلشَّرِيكِ فما صَادَفَ مِلْكَ غَيْرِهِ يَجِبُ بِهِ
الْعُقْرُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأُمِّ أَقَرَّ أنها حُرَّةُ الْأَصْلِ
فَالْجَوَابُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِكَوْنِهَا أُمَّ
وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي فَقَدْ صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا فَبَطَلَ كما لو ادَّعَى
الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ بِأَلْفٍ وَادَّعَى الْبَائِعُ الْبَيْعَ
بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِأَلْفَيْنِ
على المدعي عليه أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالْأَلْفَيْنِ من الْمُشْتَرِي
وَإِنْ سَبَقَ من الْمُشْتَرِي الْإِقْرَارُ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ لِمَا أَنَّهُ
كَذَّبَهُ شَرْعًا كَذَا هذا وَالثَّانِي إن إقْرَارَهُ بِحُرِّيَّتِهَا وُجِدَ
بعدما حَكَمَ بِزَوَالِهَا عن مِلْكِهِ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ زَائِلَةً عنه من
وَقْتِ الْعُلُوقِ فلم يَصِحَّ إقْرَارُهُ فلم يَصِرْ إقْرَارُهُ إبْرَاءَ إيَّاهُ
عن الضَّمَانِ كما في مَسْأَلَةِ الشَّفِيعِ
وَمِنْ مَسَائِلِ دَعْوَى الْوَلَدِ إذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَجَاءَتْ
بِوَلَدٍ ليس له نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَادَّعَاهُ الْمَوْلَى ثَبَتَ نَسَبُهُ منه
صَدَّقَتْهُ أَمْ كَذَّبَتْهُ وَسَوَاءٌ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
أو لِأَكْثَرَ أو لِأَقَلَّ فإن نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ على كل حَالٍ إذَا
ادَّعَاهُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ بَاقِيَةٌ على مِلْكِ الْمَوْلَى فَكَانَ
وَلَدُهَا مَمْلُوكًا له وَدَعْوَةُ الْمَوْلَى وَلَدَ أَمَتِهِ لَا تَقِفُ
صِحَّتُهَا على التَّصْدِيقِ وَعِتْقِ الْوَلَدِ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَبَتَ من
الْمَوْلَى وَلَا ضَمَانَ عليه فيه لِأَنَّ غَرَضَ الْمُكَاتَبَةِ من الْكِتَابَةِ
عِتْقُهَا وَعِتْقُ أَوْلَادِهَا وقد حَصَلَ لها هذا الْغَرَضُ فَلَا يَضْمَنُ لها
شيئا ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ
الْعُقْرُ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ في حَالِ الْكِتَابَةِ
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ كَاتَبَهَا فَلَا
عُقْرَ عليه لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ وَطِئَهَا قبل الْكِتَابَةِ
وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ على كِتَابَتِهَا وَإِنْ
شَاءَتْ عَجَزَتْ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا من جِهَتَيْنِ
وَلَهَا في كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا غَرَضٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ
تَتَعَجَّلُ لها الْحُرِّيَّةُ وَبِالِاسْتِيلَادِ تَسْقُطُ عنها السِّعَايَةُ
فَكَانَ التَّخْيِيرُ مُفِيدًا فَكَانَ لها أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ
وَإِنْ ادَّعَى الْمَوْلَى وَلَدَ جَارِيَةِ الْمُكَاتِبِ له وقد عَلِقَتْ بِهِ في
مِلْكِ الْمُكَاتِبِ فإنه يَرْجِعُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتِبِ فَإِنْ كَذَّبَ
الْمَوْلَى لم يَثْبُتْ نَسَبُ
____________________
(4/128)
الْوَلَدِ
وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ وَوَلَدُهَا
مَمْلُوكَيْنِ وَإِنْ صَدَّقَهُ كان الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ
قِيمَتُهُ يوم وُلِدَ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ ولم يَحْكِ خِلَافًا وَكَذَا ذَكَرَ في
الدَّعَاوَى إلَّا أَنَّهُ قال استحسن ذلك إذَا كان الْحَبَلُ في مِلْكِ
الْمُكَاتِبِ وَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَعْتِقَ الْوَلَدُ
وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُكَاتِبُ وهو رِوَايَةٌ عن أبي يُوسُفَ وَرَوَى ابن
سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَوْلَى يُصَدَّقُ بِغَيْرِ
تَصْدِيقِ الْمَكَاتِبِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا لم يُقْبَلْ قَوْلُهُ
بِغَيْرِ تَصْدِيقٍ فَكَذَا مع التَّصْدِيقِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَمْلِكُ
التَّحْرِيرَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصْدِيقَ بِالْحُرِّيَّةِ أَيْضًا
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ حَقَّ الرَّجُلِ في مَالِ
مُكَاتَبِهِ أَقْوَى من حَقِّهِ في مَالِ وَلَدِهِ فلما ثَبَتَ النَّسَبُ في
جَارِيَةِ الِابْنِ من غَيْرِ تَصْدِيقٍ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّ الْمُكَاتَبِ في كَسْبِهِ أَقْوَى من
حَقِّ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ النَّزْعَ من يَدِهِ فَكَانَ
الْمَوْلَى في حَقِّ مِلْكِ التَّصَرُّفِ في مَالِ الْمُكَاتَبِ بِمَنْزِلَةِ
الْأَجْنَبِيِّ فَتَقِفُ صِحَّةُ دَعْوَتِهِ على تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ
صَدَّقَهُ كان الْوَلَدُ ابْنَ الْمَوْلَى وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يوم وُلِدَ
لِأَنَّهُ يُشْبِهُ وَلَدَ الْمَغْرُورِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْأُمِّ من
وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لِأَنَّ مِلْكَ الذَّاتِ في الْمُكَاتَبِ لِلْمَوْلَى
وَمِلْكُ التَّصَرُّفَاتِ لِلْمُكَاتَبِ كَالْمَغْرُورِ أَنَّهُ يَثْبُتُ
الْمِلْكُ في الْأُمِّ ظَاهِرًا وَلِلْمُسْتَحِقِّ حَقِيقَةً وَوَلَدُ
الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ
قال مُحَمَّدٌ في الزِّيَادَاتِ إذَا اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ أَمَةً حَامِلًا
فَادَّعَى مَوْلَاهَا وَلَدَهَا أو اشْتَرَى عَبْدًا صَغِيرًا فَادَّعَاهُ لم
يَجُزْ دَعْوَتُهُ إلَّا بِالتَّصْدِيقِ كما في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إلَّا
أَنَّ هُنَاكَ إذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَعْتِقُ وَهَهُنَا إنْ
صَدَّقَهُ الْمَكَاتِبُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَلَا يَعْتِقُ لِأَنَّ تِلْكَ
الدَّعْوَةَ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِعَدَمِ الْعُلُوقِ في الْمِلْكِ فَكَانَتْ
دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ تَحْرِيرَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو
أَعْتَقَهُ لَا تَصِحُّ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ
ثُبُوتِ النَّسَبِ ثُبُوتُ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّ من ادَّعَى وَلَدَ أَمَةٍ
أَجْنَبِيٍّ فَصَدَّقَهُ مَوْلَاهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَعْتِقُ في الْحَالِ
كَذَا هَهُنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الِاسْتِيلَادِ فَالِاسْتِيلَادُ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ كَالتَّدْبِيرِ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وهو متجزىء إلَّا
أَنَّهُ قد يَتَكَامَلُ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّكَامُلِ وَشَرْطِهِ وهو
إمْكَانُ التَّكَامُلِ وَقِيلَ أنه لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ أَيْضًا لَكِنْ فِيمَا
يَحْتَمِلُ نَقْلَ الْمِلْكِ فيه وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ فَهُوَ متجزىء
عِنْدَهُ
وَبَيَانُ هذا ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ في الْأَمَةِ الْقِنَّةِ بين
اثْنَيْنِ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا أَنَّ كُلَّهَا صَارَتْ أُمَّ
وَلَدٍ له وَإِنْ ادَّعَيَاهُ جميعا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا جميعها ( ( (
جميعا ) ) ) ثُمَّ أُمُّ الْوَلَدِ الْخَالِصَةُ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى
نِصْفَهَا عَتَقَ كُلُّهَا بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَا إذَا كانت بين اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا
بِلَا خِلَافٍ لَكِنْ عِنْدَهُمَا لِعَدَمِ تجزي ( ( ( تجزؤ ) ) ) الْإِعْتَاقِ
وَعِنْدَهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ في بَقَاءِ حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ في الْبَاقِي
لَا بِإِعْتَاقِهِ كما في الطَّلَاقِ وَالْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ على ما بَيَّنَّا
في كِتَابِ الْعَتَاق وَلَا ضَمَانَ على الشَّرِيكِ الْمُعْتِقِ وَلَا سِعَايَةَ
عليها في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَسَتَأْتِي الْمَسْأَلَةُ في مَوْضِعِهَا
وَالْفَرْقُ بين الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ في هذا الْحُكْمِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ كانت مُدَبَّرَةً صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ له وَنُصِيبُ
الْآخَرِ بَقِيَ مُدَبَّرًا على حَالِهِ وَإِنْ كانت مُكَاتَبَةً بين اثْنَيْنِ
صَارَ نَصِيبُ الْمُدَّعِي أُمَّ وَلَدٍ عِنْد أبي حَنِيفَةَ وَتَبْقَى
الْكِتَابَةُ وَعِنْدَهُمَا يَصِيرُ الْكُلُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُدَّعِي
وَتُفْسَخُ الْكِتَابَةُ في النِّصْفِ وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ
فصل وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فَنَوْعَانِ أَيْضًا كَحُكْمِ التَّدْبِيرِ
أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِحَالِ حَيَاةِ الْمُسْتَوْلِدِ
وَالثَّانِي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فما ذَكَرْنَا في التَّدْبِيرِ وهو ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ
عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بِشْرُ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ وَدَاوُد بن عَلِيٍّ الْأَصْفَهَانِيُّ
إمَامُ أَصْحَابِ الظَّاهِرِ لَا حُكْمَ له في الْحَالِ وَعَلَى هذا تبتني
جُمْلَةٌ من الْأَحْكَامِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ عِنْدَ
الْعَامَّةِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ
وَاحْتَجَّا بِمَا روى عن جَابِرِ بن عبد اللَّهِ أَنَّهُ قال كنا نَبِيعُ
أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ على عَهْد رسول اللَّهِ وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ له
بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَحِلُّ له وَطْؤُهَا وَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ إلَّا في
الْمِلْكِ وَكَذَا تَصِحُّ إجَارَتُهَا وَكِتَابَتُهَا فَدَلَّ أنها مَمْلُوكَةٌ
له فَيَجُوزُ بَيْعُهَا كَبَيْعِ الْقِنَّةِ
وَلَنَا ما روى عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا
تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ من جَمِيعِ الْمَالِ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَرُوِيَ
عن ابْنِ عَبَّاسٍ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال في أُمِّ إبْرَاهِيمَ عليه
السَّلَامُ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي ثُبُوتَ حَقِيقَةِ
الْحُرِّيَّةِ لِلْحَالِ أو الْحُرِّيَّةِ من كل وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ تَأَخَّرَ
ذلك إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ بِالْإِجْمَاعِ فَلَا أَقَلَّ من انْعِقَادِ سَبَبِ
الْحُرِّيَّةِ أو الْحُرِّيَّةِ من وَجْهٍ وَكُلُّ ذلك عَدَمٌ
____________________
(4/129)
يَمْنَعُ
جَوَازَ الْبَيْعِ
وروى أَنَّ سَعِيدَ بن الْمُسَيِّبِ سُئِلَ عن بَيْعِ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ
فقال إنَّ الناس يَقُولُونَ إنَّ أَوَّلَ من أَمَرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ
الْأَوْلَادِ عُمَرُ بن الْخَطَّابِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ
أَوَّلُ من أَعْتَقَهُنَّ وَلَا يُجْعَلْنَ في الثُّلُثِ وَلَا يَسْتَسْعِينَ في
دَيْنٍ
وَعَنْ سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمْرَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ
الْأَوْلَادِ وَأَنْ لَا يُبَعْنَ في الدَّيْنِ وَلَا يُجْعَلْنَ في الثُّلُثِ
وَكَذَا جَمِيعُ التَّابِعِينَ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أُمِّ الْوَلَدِ
فَكَانَ قَوْلُ بِشْرٍ وَأَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ
فَيَكُونُ بَاطِلًا وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال عليه إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ
أَيْضًا لِمَا رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن بَيْعِ أُمَّهَاتِ
الْأَوْلَادِ فقال كان رَأْيِي وَرَأْيِ عُمَرَ أَنْ لَا يُبَعْنَ ثُمَّ رأيت
بَيْعَهُنَّ فقال له عُبَيْدَةُ السَّلْمَانِيُّ رَأْيُك مع الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ
إلَيَّ من رَأْيِك وَحْدَك وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه
اجْتَمَعَ رَأْيِي وَرَأْيُ عُمَرَ في نَاسٍ من أَصْحَابِ رسول اللَّهِ على عِتْقِ
أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ثُمَّ رأيت بَعْدَ ذلك أَنْ يُبَعْنَ في الدَّيْنِ فقال
عُبَيْدَةُ رَأْيُك وَرَأْيُ عُمَرَ في الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إلَيَّ من رَأْيِك في
الْفُرْقَةِ فَقَوْلُ عُبَيْدَةَ في الْجَمَاعَةِ إشَارَةٌ إلَى سَبْقِ
الْإِجْمَاعِ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ بَدَا لِعَلِيٍّ رضي
اللَّهُ عنه فَيُحْمَلُ خِلَافُهُ على أَنَّهُ كان لَا يَرَى اسْتِقْرَارَ
الْإِجْمَاعِ ما لم يَنْقَرِضْ الْعَصْرُ
وَمِنْهُمْ من قال كانت الْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةً بين الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ فَكَانَ عَلِيٌّ وَجَابِرٌ رضي اللَّهُ عنهما يَرَيَانِ بَيْعَ أُمِّ
الْوَلَدِ لَكِنَّ التَّابِعِينَ أَجْمَعُوا على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَالْإِجْمَاعُ الْمُتَأَخِّرُ يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَلِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ
تَعْتِقُ عِنْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا سَبَبَ سِوَى
الِاسْتِيلَادِ السَّابِقِ فَعُلِمَ أَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبًا لِلْحَالِ
لِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ جَوَازَ الْبَيْعِ
لِمَا بَيَّنَّا في التَّدْبِيرِ
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ
بِالْبَيْعِ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا تُسَمَّى بَيْعًا في لُغَةِ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ وَلِأَنَّهَا بَيْعٌ في الْحَقِيقَةِ لِكَوْنِهَا مُبَادَلَةَ شَيْءٍ
مَرْغُوبٍ بِشَيْءٍ مَرْغُوبٍ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كان في ابْتِدَاءِ
الْإِسْلَامِ حِينَمَا كان بَيْعُ الْحُرِّ مَشْرُوعًا ثُمَّ انْتَسَخَ
بِانْتِسَاخِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أنها مَمْلُوكَةٌ لِلْمُسْتَوْلِدِ فَنَعَمْ لَكِنْ هذا لَا
يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الْحُرِّيَّةِ من غَيْرِ حُرِّيَّةٍ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَهَذَا الْقَدْرُ يَكْفِي لِلْمَنْعِ من جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ التَّدْبِيرِ وَسَوَاءٌ كان الْمُسْتَوْلِدُ مُسْلِمًا أو كَافِرًا
مُرْتَدًّا أو ذِمِّيًّا أو مُسْتَأْمَنًا خَرَجَ إلَى دِيَارِنَا وَمَعَهُ أُمُّ
وَلَدِهِ لَا يَجُوزُ له بَيْعُهَا لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لِأَنَّ أُمِّيَّةَ
الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ وَالْكُفْرُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ
وَلَمَّا دخل الْمُسْتَأْمَنُ من دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَقَدْ رضي
بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَمِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ أَنْ لَا يَجُوزَ بَيْعُ أُمِّ
الْوَلَدِ وَكَذَلِكَ كُلُّ تَصَرُّفٍ يُوجِبُ بُطْلَانَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ
الثَّابِتَةِ لها بالإستيلاد لَا يَجُوزُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْوَصِيَّةِ وَالرَّهْنِ لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ
الْعَيْنِ فَيُوجِبُ بُطْلَانَ هذا الْحَقِّ وما لَا يُوجِبُ بُطْلَانَ هذا
الْحَقِّ فَهُوَ جَائِزٌ كَالْإِجَارَةِ وَالِاسْتِخْدَامِ وَالِاسْتِسْعَاءِ
وَالِاسْتِغْلَالِ وَالِاسْتِمْتَاعِ وَالْوَطْءِ لِأَنَّهَا تَصَرُّفٌ في
الْمَنْفَعَةِ لَا في الْعَيْنِ وَالْمَنَافِعُ مَمْلُوكَةٌ له وَالْأُجْرَةُ
وَالْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ وَالْعُقْرُ وَالْمَهْرُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهَا بَدَلُ
الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ على مِلْكِهِ
وَكَذَا مِلْكُ الْعَيْنِ قَائِمٌ لِأَنَّ الْعَارِضَ وهو التَّدْبِيرُ لم
يُؤَثِّرْ إلَّا في ثُبُوتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ من غَيْرِ حُرِّيَّةٍ فَكَانَ
مِلْكُ الْيَمِينِ قَائِمًا وَإِنَّمَا الْمَمْنُوعُ منه تَصَرُّفٌ يُبْطِلُ هذا
الْحَقَّ وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَا تُبْطِلُهُ وَكَذَا الْأَرْشُ له بَدَلُ
جُزْءٍ هو مِلْكُهُ وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا حتى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ
لِاحْتِمَالِ أنها حَمَلَتْ منه فَيَكُونُ النِّكَاحُ فَاسِدًا وَيَصِيرَ
الزَّوْجُ بِالْوَطْءِ سَاقِيًا مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ فَكَانَ التَّزْوِيجُ
تَعْرِيضًا لِلْفَسَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ من ذلك بِالِاسْتِبْرَاءِ
لَكِنَّ هذا الِاسْتِبْرَاءَ ليس بِوَاجِبٍ بَلْ هو مُسْتَحَبٌّ كَاسْتِبْرَاءِ
الْبَائِعِ
وَلَوْ زَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ من الْمَوْلَى
وَالنِّكَاحُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ زَوَّجَهَا وفي بَطْنِهَا
وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ منه وَإِنْ وَلَدَتْ لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ
وَلَدُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الزَّوْجَ له فِرَاشٌ وَالْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ على
لِسَانِ رسول اللَّهِ وَلَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى لِزَوَالِ فِرَاشِهِ بِالنِّكَاحِ
فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمَوْلَى وقال هذا ابْنِي لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه لِسَبْقِ
ثُبُوتِهِ من غَيْرِهِ وهو الزَّوْجُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ فَلَا تَصِحُّ
دَعْوَتُهُ لَكِنَّهُ يَعْتِقُ عليه لِأَنَّهُ في مِلْكِهِ وقد أَقَرَّ
بِحُرِّيَّتِهِ فَيَعْتِقُ عليه وَإِنْ لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ منه كما إذَا قال
لِعَبْدِهِ هذا ابْنِي وهو مَعْرُوفُ النَّسَبِ من الْغَيْرِ وَنَسَبُ وَلَدِ
أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ من الْمَوْلَى من غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ
الْحُرِّيَّةِ إلَّا إذَا حُرِّمَتْ عليه حُرْمَةً مُؤَبَّدَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ
____________________
(4/130)
الْحُرْمَةِ
أو زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ التَّزْوِيجِ
فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا أنه يَثْبُتُ
نَسَبُ وَلَدِهَا من الْمَوْلَى من غَيْرِ دَعْوَةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحُرْمَةِ
الْمُؤَبَّدَةِ وَالنِّكَاحِ لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا بِثُبُوتِ نَسَبِ
وَلَدِهَا وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ على الْفِرَاشِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ من غَيْرِ
دَعْوَةٍ
قال النبي الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ بِخِلَافِ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ أو
الْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا وَإِنْ حَصَّنَهَا
الْمَوْلَى وَطَلَب وَلَدَهَا بِدُونِ الدَّعْوَةِ عِنْدَنَا فَلَا تَصِيرُ
فِرَاشًا بِدُونِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ
الْوَلَدِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ دُونَ وَلَدِ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ من الْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يَتَحَرَّزُ
عن الْإِعْلَاقِ إذْ التَّحَرُّزُ لِخَوْفِ فَوَاتِ مَالِيَّتِهَا وقد حَصَلَ ذلك
منه فَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَعْزِلَ عنها بَلْ يُعَلِّقُهَا فَكَانَ الْوَلَدُ منه
من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ بِخِلَافِ
الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةُ فإن هُنَاكَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُعَلِّقُهَا
بَلْ يَعْزِلُ عنها تَحَرُّزًا عن إتْلَافِ الْمَالِيَّةِ فلم ( ( ( فلا ) ) )
يُعْلَمُ أَنَّهُ منه إلَّا بِالدَّعْوَةِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ
فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَإِنْ صَارَتْ أُمُّ الْوَلَدِ مُحَرَّمَةً على الْمَوْلَى على التَّأْبِيدِ
بِأَنْ وَطِئَهَا ابن الْمَوْلَى أو أَبُوهُ أو وطىء الْمَوْلَى أُمَّهَا أو
بِنْتَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ لم يَثْبُتْ نَسَبُ
الْوَلَدِ الذي أَتَتْ بِهِ بَعْدَ التَّحْرِيمِ من غَيْرِ دَعْوَةٍ لِأَنَّ
الظَّاهِرَ أَنَّهُ ما وَطِئَهَا بَعْدَ الْحُرْمَةِ فكان ( ( ( فكانت ) ) )
حُرْمَةُ الْوَطْءِ كَالنَّفْيِ دَلَالَةً وَإِنْ ادَّعَى يَثْبُتْ النَّسَبُ لِأَنَّ
الْحُرْمَةَ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الْكَرْخِيِّ أَصْلًا فقال إذَا
حُرِّمَتْ أُمُّ الْوَلَدِ بِمَا يَقْطَعُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ وَيُزِيلُ
فِرَاشَهَا مِثْلَ الْمَسَائِلِ التي ذَكَرْنَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا من
مَوْلَاهَا إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ لِأَنَّ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ أَقْوَى من
فِرَاشِ أُمِّ الْوَلَدِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي تَقْطَعُ فِرَاشَ الزَّوْجَةِ
فَلَأَنْ تَقْطَعَ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
لِأَنَّهَا صَارَتْ فِرَاشًا لِلزَّوْجِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَصِيرَ فِرَاشًا
لِغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ادَّعَى يَعْتِقُ عليه كما إذَا قال لِعَبْدِهِ وهو
مَعْرُوفُ النَّسَبِ من الْغَيْرِ هذا ابْنِي وَإِنْ حُرِّمَتْ عليه بِمَا لَا
يَقْطَعُ نِكَاحَ الْحُرَّةِ لا يُزِيلُ فِرَاشَهَا مِثْلَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ
وَالْإِحْرَامِ وَالصَّوْمِ يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا منه لِأَنَّهُ تَحْرِيمٌ
عَارِضٌ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْفِرَاشِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَنْفِيَ وَلَدَ
أُمِّ الْوَلَدِ من غَيْرِ لِعَانٍ
أَمَّا النَّفْيُ فَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْعَزْلَ عنها بِغَيْرِ رِضَاهَا فإذا
أَخْبَرَ عن ذلك فَقَدْ أَخْبَرَ عَمَّا يَمْلِكُ فَكَانَ مُصَدَّقًا
وَأَمَّا النَّفْيُ من غَيْرِ لِعَانٍ فَلِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ أَضْعَفُ
من فِرَاشِ الْحُرَّةِ وَهَذَا أَصْلٌ يُذْكَرُ في كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ
الْفُرُشَ ثَلَاثَةٌ قَوِيٌّ وَضَعِيفٌ وَوَسَطٌ فَالْقَوِيُّ هو فِرَاشُ
النِّكَاحِ حتى يَثْبُتَ النَّسَبُ فيه من غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا
بِاللِّعَانِ وَالضَّعِيفُ فِرَاشُ الْأَمَةِ حتى لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فيه من
غَيْرِ دَعْوَةٍ وَالْوَسَطُ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ حتى يَثْبُتَ النَّسَبُ فيه
من غَيْرِ دَعْوَةٍ وَيَنْتَفِي من غَيْرِ لِعَانٍ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
الِانْتِقَالَ بِالتَّزْوِيجِ فَيَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِالنَّفْيِ بِخِلَافِ فِرَاشِ
الزَّوْجِ ثُمَّ إنَّمَا يَنْتَفِي بِالنَّفْيِ إذَا لم يَقْضِ بِهِ الْقَاضِي أو
لم تَتَطَاوَلْ الْمُدَّةُ فَأَمَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ أو تَطَاوَلَتْ
الْمُدَّةُ فَلَا يَنْتَفِي لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا
يَحْتَمِلُ النَّفْيَ بَعْدَ ذلك وَكَذَا تَطَاوُلُ الْمُدَّةِ من غَيْرِ ظُهُورِ
النَّفْيِ إقْرَارٌ منه دَلَالَةً وَالنَّسَبُ الْمُقَرُّ بِهِ لَا يَنْتَفِي
بِالنَّفْيِ ولم يُقَدِّرْ أبو حَنِيفَةَ لِتَطَاوُلِ الْمُدَّةِ تَقْدِيرًا وأبو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَدَّرَاهُ بِمُدَّةِ النِّفَاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وقد
ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ اللِّعَانِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ من غَيْرِ مَوْلَاهَا
بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ بِأَنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ فَوَلَدَتْ وَلَدًا
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا من وَقْتِ التَّزْوِيجِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ
الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وقد ثَبَتَ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ في الْأُمِّ
فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ فَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْأُمِّ في جَمِيعِ
الْأَحْكَامِ
هذا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً في مِلْكِهِ فَإِنْ كان اسْتَوْلَدَهَا في مِلْكِ
غَيْرِهِ بِنِكَاحٍ حتى يَثْبُتَ نَسَبُ وَلَدِهَا منه ثُمَّ مَلَكَهَا وَلَهَا
وَلَدٌ من زَوْجٍ آخَرَ بِأَنْ اسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ فَارَقَهَا فَزَوَّجَهَا
الْمَوْلَى من آخَرَ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ ثُمَّ مَلَكَهَا يَوْمًا من الدَّهْرِ
وَوَلَدَهَا صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَلَا
يَصِيرُ وَلَدُهَا وَلَدَ أُمِّ وَلَدٍ حتى يَجُوزَ بَيْعُهُ في قَوْلِ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وقال زُفَرُ إذَا مَلَكَ من وَلَدَتْهُ بَعْدَ ثُبُوتِ
نَسَبِ وَلَدِهَا منه فَهُوَ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ يَثْبُتُ فيه حُكْمُ الْأُمِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الإستيلاد وَإِنْ كان في مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّهُ لَمَّا
مَلَكَهَا فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا صَارَتْ
أُمَّ وَلَدٍ بِالْعُلُوقِ السَّابِقِ وَالْوَلَدُ حَدَثَ بَعْدَ ذلك فَيَحْدُثُ
على وَصْفِ الْأُمِّ فإذا مَلَكَهُ يَثْبُتُ فيه الْحُكْمُ الذي يَثْبُتُ في
الْأُمِّ
وَلَنَا أَنَّ الإستيلاد في الْأُمِّ وهو أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ شَرْعًا إنَّمَا
تَثْبُتُ وَقْتَ مِلْكِ الْأُمِّ وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ في ذلك الْوَقْتِ
وَالسِّرَايَةُ لَا تَثْبُتُ في الْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ وَيَتَعَلَّقُ الدَّيْنُ
بِكَسْبِهَا لَا بِرَقَبَتِهَا لِأَنَّهَا لَا تَقْبَلُ الْبَيْعَ لِمَا ذَكَرْنَا
وَتَسْعَى
____________________
(4/131)
في
دُيُونِهَا بَالِغَةً ما بَلَغَتْ لِأَنَّ الدَّيْنَ عليها لَا في رَقَبَتِهَا
وَأَرْشُ جِنَايَتِهَا على الْمَوْلَى وهو الْأَقَلُّ من قِيمَتِهَا وَمِنْ
الْأَرْشِ وَلَيْسَ على الْمَوْلَى إلَّا قَدْرُ قِيمَتِهَا وَإِنْ كَثُرَتْ
الْجِنَايَاتُ كَالْمُدَبَّرِ وَيَجُوزُ إعْتَاقُهَا لِمَا فيه من اسْتِعْجَالِ
مَقْصُودِهَا وهو الْحُرِّيَّةُ
وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا يَعْتِقُ كُلُّهَا وَكَذَا إذَا كانت
مُشْتَرَكَةً بين اثْنَيْنِ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ عَتَقَ جَمِيعُهَا
لِمَا ذَكَرْنَا وَلَا ضَمَانَ على الْمُعْتِقِ وَلَا سِعَايَةَ عليها عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا ضَمِنَ
لِشَرِيكِهِ وَإِنْ كان مُعْسِرًا سَعَتْ في نِصْفِ قِيمَتِهَا لِلشَّرِيكِ الذي
لم يُعْتِقْ وَلَوْ مَاتَ عن أُمِّ وَلَدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَتَقَ
جَمِيعُهَا وَلَا ضَمَانَ عليه بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ له في
الْمَوْتِ وَيَقَعُ الِاخْتِلَافُ في السِّعَايَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا
سِعَايَةَ عليها وَعِنْدَهُمَا عليها السِّعَايَةُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْغَصْبُ وَالْقَبْضُ في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ أنها لَا
تُضْمَنُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُضْمَنُ وَلَا خِلَافَ في
الْمُدَبَّرَةِ أنها تُضْمَنُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ
أُمَّ الْوَلَدِ هل هِيَ مُتَقَوَّمَةٌ من حَيْثُ أنها مَالٌ أَمْ غَيْرُ
مُتَقَوَّمَةٍ عِنْدَهُ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ من هذه الْجِهَةِ وَعِنْدَهُمَا
مُتَقَوَّمَةٌ
وَأَجْمَعُوا على أنها مُتَقَوَّمَةٌ من حَيْثُ أنها نَفْسٌ وَلَا خِلَافَ في
أَنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ من حَيْثُ أنه مَالٌ وَرُبَّمَا تُلَقَّبُ
الْمَسْأَلَةُ بِأَنَّ رِقَّ أُمِّ الْوَلَدِ هل له قِيمَةٌ أَمْ لَا ذَكَرَ
مُحَمَّدٌ في الْإِمْلَاءِ أنها تُضْمَنُ في الْغَصْبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ كما
يُضْمَنُ الصَّبِيُّ الْحُرُّ إذَا غُصِبَ يَعْنِي إذَا مَاتَ عن سَبَبٍ حَادِثٍ
بِأَنْ عَقَرَهُ سَبْعٌ أو نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ أو نَحْوُ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى وَلَا شَكَّ
وَلِهَذَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا وَإِجَارَتُهَا وَاسْتِخْدَامُهَا وَكِتَابَتُهَا
وَمِلْكُهُ فيها مَعْصُومٌ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ له لم يُوجِبْ زَوَالَ
الْعِصْمَةِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِالْغَصْبِ وَالْإِعْتَاقِ وَالْقَبْضِ في
الْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْمُدَبَّرِ
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ رِقَّهَا مُتَقَوِّمٌ أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ
إذَا أَسْلَمَتْ تَخْرُجُ إلَى الْعَتَاقِ بِالسِّعَايَةِ فَلَوْلَا أَنَّ
مَالِيَّتَهَا مُتَقَوِّمَةٌ لَعَتَقَتْ مَجَّانًا ولم يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَخْذُ
السِّعَايَةِ بَدَلًا عن مَالِيَّتِهَا وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمَوْلَى أَنْ
يُكَاتِبَهَا وَالِاعْتِيَاضُ إنَّمَا يَجُوزُ عن مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالدَّلِيلُ
عليه أنها تُضْمَنُ بِالْقَتْلِ بِالْإِجْمَاعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ النبي لِمَارِيَةَ لَمَّا وَلَدَتْ إبْرَاهِيمَ عليه
السَّلَامُ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا
فَظَاهِرُ الحديث يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْعِتْقِ في الْحَالِ في حَقِّ جَمِيعِ
الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ خَصَّ منه الِاسْتِمْتَاعَ وَالِاسْتِخْدَامَ
بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ في التَّقْوِيمِ فَكَانَتْ حُرَّةً في حَقِّ
التَّقْوِيمِ بِظَاهِرِ الحديث وَكَذَا سَبَبُ الْعِتْقِ لِلْحَالِ مَوْجُودٌ وهو
ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ الِاتِّحَادَ بين الواطىء
وَالْمَوْطُوءَةِ وَيَجْعَلهُمَا نَفْسًا وَاحِدَةً فَقَضِيَّتُهُ ثُبُوتُ
الْعِتْقِ لِلْحَالِ في جَمِيعِ الْأَحْكَامِ إلَّا أَنَّهُ لم يَظْهَرْ في
سَائِرِ الْأَحْكَامِ بِالْإِجْمَاعِ فَيَظْهَرُ في حَقِّ سُقُوطِ التَّقَوُّمِ
بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ لِأَنَّ هُنَاكَ السَّبَبُ وهو التَّدْبِيرُ أُضِيفَ إلَى
ما بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عن دُبُرٍ إلَّا
أَنَّهُ جُعِلَ سَبَبًا لِلْحَالِ لِضَرُورَةٍ ذَكَرْنَاهَا في بَيْعِ
الْمُدَبَّرِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ يَتَقَيَّدُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ
وَالضَّرُورَةُ في حُرْمَةِ الْبَيْعِ لَا في سُقُوطِ التَّقَوُّمِ وَهَهُنَا الْأَمْرُ
على الْقَلْبِ من ذلك لِأَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي الْحُكْمَ لِلْحَالِ والتأخر (
( ( والتأخير ) ) ) على خِلَافِ الْأَصْلِ وَالدَّلِيلُ على أنها غَيْرُ
مُتَقَوِّمَةٍ من حَيْثُ أنها مَالٌ لِأَنَّهَا لَا تَسْعَى لِغَرِيمٍ وَلَا
لِوَارِثٍ وَلَوْ كانت مُتَقَوِّمَةً من حَيْثُ إنَّهَا مَالٌ لَثَبَتَ
لِلْغَرِيمِ حَقٌّ فيها وَلِلْوَارِثِ في ثلثيها ( ( ( ثلثها ) ) ) فَيَجِبُ أَنْ
يَسْعَى في ذلك كَالْمُدَبَّرِ وَالسِّعَايَةُ مَبْنِيَّةٌ على هذا الْأَصْلِ
لِأَنَّ اسْتِسْعَاءَ الْعَبْدِ يَكُونُ بِقِيمَتِهِ وَلَا قِيمَةَ لِأُمِّ
الْوَلَدِ فَلَا سِعَايَةَ عليها وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فيها
قَائِمٌ بَعْد الإستيلاد وَالْعِصْمَةُ قَائِمَةٌ فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ قِيَامَ
الْمِلْكِ وَالْعِصْمَةِ لَا يَقْتَضِي التَّقَوُّمَ كَمِلْكِ الْقِصَاصِ وَمِلْكِ
النِّكَاحِ وَمِلْكِ الْخَمْرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَأَمَّا أُمُّ وَلَدِ
النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَالْجَوَابُ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أنها
مُتَقَوِّمَةٌ في زَعْمِهِمْ وَاعْتِقَادِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا بِتَرْكِهِمْ
وما يَدِينُونَ فإذا دَانُوا تَقْوِيمَهَا يُتْرَكُونَ وَذَلِكَ وَلِذَلِكَ
جُعِلَتْ خُمُورُهُمْ مُتَقَوِّمَةً كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنَّ أُمَّ وَلَدِ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ تُجْعَلُ
مُكَاتَبَةً لِلضَّرُورَةِ إذْ لَا يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِعِتْقِهَا لِأَنَّ مِلْكَ
الذِّمِّيِّ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عليه وَلَا سَبِيلَ إلَى
إبْقَائِهَا على مِلْكِهِ يَسْتَمْتِعُ بها وَيَسْتَخْدِمُهَا لِمَا فيه من
الِاسْتِذْلَالِ بِالْمُسْلِمَةِ وَلَا وَجْهَ إلَى دَفْعِ الْمَذَلَّةِ عنهما ( (
( عنها ) ) ) بِالْبَيْعِ من الْمُسْلِمِ لِخُرُوجِهَا بِالِاسْتِيلَادِ عن
مَحَلِّيَّةِ الْبَيْعِ فَتُجْعَلَ مُكَاتَبَةً وَضَمَانُ الْكِتَابَةِ ضَمَانُ
شَرْطٍ وَلِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ على كَوْنِ ما يُقَابِلُهُ مَالًا مُتَقَوِّمًا
كما في النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ ثُمَّ إذَا سَعَتْ تَسْعَى وَهِيَ رَقِيقَةٌ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَسْعَى وَهِيَ حُرَّةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الِاسْتِسْعَاءَ اسْتِذْلَالٌ بها وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَنَا ما ذَكَرْنَا أَنَّ في الْحُكْمِ بِعِتْقِهَا إبْطَالُ مِلْكِ الذِّمِّيِّ
عليه وَتَتَعَلَّقُ دُيُونُهُ بِذِمَّةِ الْمُفْلِسِ ومكله ( ( ( وملكه ) ) )
مَعْصُومٌ
____________________
(4/132)
وَالِاسْتِذْلَالُ
في الِاسْتِمْتَاعِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا في نَفْسِ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّ
أَمَةَ النَّصْرَانِيِّ إذَا أَسْلَمَتْ فَكَاتَبَهَا الْمَوْلَى لَا تُجْبَرُ على
الْبَيْعِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا ضُمِنَتْ بِالْقَتْلِ
لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ ضَمَانُ الدَّمِ وَالنَّفْسِ وَإِنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ
من هذه الْجِهَةِ وما ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْإِمْلَاءِ عن أبي حَنِيفَةَ فَذَلِكَ
ضَمَانُ الْقَتْلِ لِأَنَّهُ إذَا لم يَحْفَظْهَا حتى هَلَكَتْ بِسَبَبِ حَادِثٍ
فَقَدْ تَسَبَّبَ لِقَتْلِهَا وَتَجُوزُ كِتَابَتُهَا كما يَجُوزُ إعْتَاقُهَا
لِمَا فيه من تَعْجِيلِ الْعِتْقِ إلَيْهَا وَلَا تُشْكِلُ الْكِتَابَةُ على
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أنها مُعَاوَضَةٌ وَرِقُّ أُمِّ الْوَلَدِ لَا قِيمَةَ له
فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَوْلَى عليه عِوَضًا لِأَنَّ صِحَّةَ
الْمُعَاوَضَةِ لَا تَقِفُ على كَوْنِ الْمُعَوَّضِ مَالًا أَصْلًا فَضْلًا عن
كَوْنِهِ مُتَقَوِّمًا كما في النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ
فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قبل أَنْ تُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَتْ وَلَا
شَيْءَ عليها أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّهَا كانت أُمَّ وَلَدٍ وقد مَاتَ
مَوْلَاهَا وَأَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ قد
بَطَلَتْ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَوَجَّهَتْ إلَيْهَا من وَجْهَيْنِ
الِاسْتِيلَادُ وَالْكِتَابَةُ فإذا ثَبَتَ الْعِتْقُ بِأَحَدِهِمَا بَطَلَ حُكْمُ
الْآخَرِ وَكَذَا يَجُوزُ إعْتَاقُهَا على مَالٍ وَبَيْعُهَا نَفْسَهَا حتى إذَا
قَبِلَتْ عَتَقَتْ وَالْمَالُ دَيْنٌ عليها لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ على مَالٍ من
بَابِ تَعْجِيلِ الْحُرِّيَّةِ وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِمَا بَعْدَ مَوْتِ
الْمَوْلَى فَمِنْهَا عِتْقُهَا لِأَنَّ عِتْقَهَا كان مُعَلَّقًا شَرْعًا
بِمَوْتِ الْمَوْلَى لِمَا روي عِكْرِمَةُ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُ قال قال رسول اللَّهِ أَيُّمَا رَجُلٍ وَلَدَتْ أَمَتُهُ منه فَهِيَ
مُعْتَقَةٌ عن دُبُرٍ منه
وقد رَوَيْنَا عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال حين
وَلَدَتْ أُمُّ إبْرَاهِيمَ عليه السَّلَامُ أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ حَقِيقَةُ الْعِتْقِ في حَالِ الْحَيَاةِ فَلَوْ
لم يَثْبُتْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَتَعَطَّلَ الْحَدِيثُ وَلِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ
الْعِتْقِ قد وُجِدَ وهو ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ ولم يَعْمَلْ في حَالِ
الْحَيَاةِ فَلَوْ لم يَعْمَلْ بَعْدَ الْمَوْتِ لَبَطَلَ السَّبَبُ وَيَسْتَوِي
فيه الْمَوْتُ الْحَقِيقِيُّ وَالْحُكْمِيُّ بِالرِّدَّةِ وَاللُّحُوقِ بِدَارِ
الْحَرْبِ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ التَّدْبِيرِ
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً في دَارِ
الْإِسْلَامِ وَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فاشترى ( ( (
فاسترق ) ) ) الْحَرْبِيُّ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُدَبَّرِ
وَكَذَا يَعْتِقُ وَلَدُهَا الذي ليس من مَوْلَاهَا إذا سَرَتْ أمية ( ( ( أمومية
) ) ) الْوَلَدِ إلَيْهَا على ما بَيَّنَّا لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ في
الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
وَمِنْهَا أنها تَعْتِقُ من جَمِيعِ الْمَالِ وَلَا تَسْعَى لِلْوَارِثِ وَلَا
لِلْغَرِيمِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ لِمَا رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ
قال أُمُّ الْوَلَدِ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ وَهِيَ حُرَّةٌ من جَمِيعِ الْمَالِ
وَهَذَا نَصٌّ
وَرَوَيْنَا عن سَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قال أَمَرَ رسول اللَّهِ بِعِتْقِ
أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ من غَيْرِ الثُّلُثِ وَلَا يُبَعْنَ في دَيْنٍ وَلَا
يُجْعَلْنَ في الثُّلُثِ وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَلَا يُجْعَلْنَ في الثُّلُثِ
وَلَا يُسْتَسْعَيْنَ في دَيْنٍ وفي بَعْضِهَا أَمَرَ رسول اللَّه بِعِتْقِ
أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ من غَيْرِ الثُّلُثِ وَلَا يُبَعْنَ في دَيْنٍ وَلِأَنَّ
سَبَبَ ثُبُوتِ حُرِّيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ هو ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ
وَالنَّسَبُ لَا تجامعها ( ( ( تجامعه ) ) ) السِّعَايَةُ كَذَا حُرِّيَّةُ
الإستيلاد وَمِنْهَا أَنَّ وَلَاءَهَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الاعتاق منها لِمَا
بَيَّنَّا
فصل وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ الإستيلاد فَظُهُورُهُ بِإِقْرَارِ
الْمَوْلَى ثُمَّ إنْ أَقَرَّ بِهِ في حَالِ الصِّحَّةِ أَنَّ هذه الْجَارِيَةَ قد
وَلَدَتْ منه فَقَدْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ سَوَاءٌ كان مَعَهَا وَلَدٌ أو لم
يَكُنْ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ في حَالِ الصِّحَّةِ لَا تُهْمَةَ فيه فَيَصِحُّ
سَوَاءٌ كان مَعَهَا وَلَدٌ أو لم يَكُنْ وَلِهَذَا لو أَعْتَقَهَا في الصِّحَّةِ
يُعْتَبَرُ من جَمِيعِ الْمَالِ
وَإِنْ كان الْإِقْرَارُ بِهِ في مَرَضِ مَوْتِهِ فَإِنْ كان مَعَهَا وَلَدٌ
صَارَتْ أُمَّ وَلَدِهِ أَيْضًا وَتَعْتِقُ من جَمِيعِ الْمَالِ إذَا مَاتَ
الْمَوْلَى لِأَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ مَعَهَا دَلِيلُ الإستيلاد فَكَانَ
الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ وَلِأَنَّ التَّسَبُّبَ من
الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ في مَرَضِ الْمَوْتِ فِيمَا
يَحْتَاجُ إلَيْهِ حَاجَةٌ أَصْلِيَّةٌ نَافِذٌ كَشِرَاءِ الطَّعَامِ
وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِ ذلك وَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ عَتَقَتْ من
الثُّلُثِ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ في إقْرَارِهِ في حَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ ولم
يُوجَدْ ما يَنْفِي التُّهْمَةَ وهو الْوَلَدُ وَكَذَا إذَا لم يَكُنْ مَعَهَا
وَلَدٌ لَا تَحْتَاجُ إلَى التَّسَبُّبِ فَيَصِيرَ قَوْلُهُ هذه أُمُّ وَلَدِي
كَقَوْلِهِ هذه حُرَّةٌ بَعْدَ مَوْتِي فَتَعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ من الثُّلُثِ
كِتَابُ الْمُكَاتَبِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ وفي بَيَانِ رُكْنِ الْمُكَاتَبَةِ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ
____________________
(4/133)
الرُّكْنِ
وفي بَيَانِ ما يَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ من التَّصَرُّفَاتِ وما لَا يَمْلِكُهُ
وفي بَيَانِ ما يمكله ( ( ( يملكه ) ) ) الْمَوْلَى من التَّصَرُّفِ في
الْمُكَاتَبِ وما لَا يَمْلِكُهُ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْمُكَاتَبَةِ وفي بَيَانِ
حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ وفي بَيَانِ ما تَنْفَسِخُ بِهِ الْمُكَاتَبَةُ أَمَّا
الْأَوَّلُ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا فيها من إيجَابِ
الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ وَلَيْسَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ
دَيْنٌ وفي استحسان ( ( ( الاستحسان ) ) ) جَائِزٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ
وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ عز وجل { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا } وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ
مَنْدُوبًا إلَيْهَا فَضْلًا عن الْجَوَازِ وَقَوْلُهُ عز وجل { إنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْرًا } أَيْ رَغْبَةً في إقَامَةِ الْفَرَائِضِ وَقِيلَ وَفَاءً
لِأَمَانَةِ الْكِتَابَةِ وَقِيلَ حِرْفَةً
وَرُوِيَ هذا عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال في قَوْلِهِ عز
وجل { خَيْرًا } أَيْ حِرْفَةً وَلَا تُرْسِلُوهُمْ كِلَابًا على الناس
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَى محمد بن الْحَسَنِ بِإِسْنَادِهِ عن عَمْرِو بن
شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
أَيُّمَا عَبْدٍ كُوتِبَ على مِائَةِ أُوقِيَّةٍ فَأَدَّاهَا كُلَّهَا إلَّا
عَشْرَ أَوَاقٍ فَهُوَ رَقِيقٌ وقال صلى اللَّهُ عليه وسلم الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ ما
بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ
وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها كَاتَبَتْ بَرِيرَةَ بِحَضْرَةِ النبي
صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يُنْكِرْ عليها وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ وَبِهِ
تَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَ دَاوُد على الْأَصْفَهَانِيِّ أَنَّ الْكِتَابَةَ
وَاجِبَةٌ قَوْلٌ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ وأن تَعَلُّقَهُ بِظَاهِرِ الْأَمْرِ
لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْأُمَّةَ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
إلَى يَوْمِنَا هذا يَتْرُكُونَ مَمَالِيكَهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ مِيرَاثًا
لِوَرَثَتِهِمْ من غَيْرِ نَكِيرٍ فَعُلِمَ أَنْ ليس الْمُرَادُ من هذا الْأَمْرِ
الْوُجُوبَ
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن وَجْهِ الْقِيَاسِ أن الْمَوْلَى لَا يَجِبُ له على
عَبْدِهِ دَيْنٌ فَهَذَا على الْإِطْلَاقِ مَمْنُوعٌ وَإِنَّمَا نُسَلِّمُ ذلك في
الْعَبْدِ الْقِنِّ لَا في الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى لِأَنَّ كَسْبَ الْقِنِّ
مِلْكُ الْمَوْلَى وَكَسْبَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُسْتَسْعَى مِلْكُهُمَا لَا حَقَّ
لِلْمَوْلَى فيه فَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عن كَسْبِ الْمُكَاتَبِ
فَأَمْكَنَ إيجَابُ الدَّيْنِ لِلْمَوْلَى عليه
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْمُكَاتَبَةِ فَهُوَ الْإِيجَابُ من الْمَوْلَى
وَالْقَبُولُ من الْمُكَاتَبِ أَمَّا الْإِيجَابُ فَهُوَ اللَّفْظُ الدَّالُّ على
الْمُكَاتَبَةِ نحو قَوْلِ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ كَاتَبْتُك على كَذَا سَوَاءٌ
ذَكَرَ فيه حَرْفَ التَّعْلِيقِ بِأَنْ يَقُولَ على أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ
فَأَنْتَ حُرٌّ أو لم يُذْكَرْ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَتَحَقَّقُ الرُّكْنُ بِدُونِ حَرْفِ التَّعْلِيقِ
وهو أَنْ يَقُولَ كَاتَبْتُك على كَذَا على أَنَّك إنْ أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ
حُرٌّ بِنَاءً على أَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ أَصْلٌ في الْكِتَابَةِ وَمَعْنَى
التَّعْلِيقِ فيها ثَابِتٌ عِنْدَنَا وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ الْأَدَاءُ يَثْبُتُ من
حَيْثُ الْمُعَاوَضَةُ لَا من حَيْثُ التَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ وَعِنْدَهُ مَعْنَى
التَّعْلِيقِ فيها أَصْلٌ أَيْضًا وَالْعِتْقُ ثَبَتَ من حَيْثُ التَّعْلِيقُ
فَلَا بُدَّ من حَرْفِ التَّعْلِيقِ وما قُلْنَاهُ أَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو
أَبْرَأَهُ عن بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَعْتِقُ وَلَوْ كان ثُبُوتُ الْعِتْقِ فيها من
طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لَمَا عَتَقَ لِعَدَمِ الشَّرْطِ وهو الْأَدَاءُ
وَكَذَا لو قال لِعَبْدِهِ أنت حُرٌّ على أَلْفٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نحو ( ( (
نجوما ) ) ) ما في كل شَهْرٍ كَذَا فَقَبِلَ أو قال إذَا أَدَّيْت لي أَلْفَ
دِرْهَمٍ كُلَّ شَهْرٍ منها كَذَا فَأَنْتَ حُرٌّ فَقَبِلَ أو قال جَعَلْت عَلَيْك
أَلْفَ دِرْهَمٍ تُؤَدِّيهَا إلَيَّ نُجُومًا كُلَّ نَجْمٍ كَذَا فإذا أَدَّيْت
فَأَنْتَ حُرٌّ وَإِنْ عَجَزْت فَأَنْتَ رَقِيقٌ وقيل ( ( ( وقبل ) ) ) وَنَحْوَ
ذلك من الْأَلْفَاظِ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ في الْعُقُودِ إلَى الْمَعَانِي لَا
لِلْأَلْفَاظِ
وَأَمَّا الْقَبُولُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ قَبِلْت أو رَضِيت وما
أَشْبَهَ ذلك فإذا وُجِدَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ ثُمَّ
الْحَاجَةُ إلَى الرُّكْنِ فِيمَنْ يَثْبُت حُكْمُ الْعَقْدِ فيه مَقْصُودًا لَا
تَبَعًا كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ في الْكِتَابَةِ وَالْوَلَدِ المشتري
وَالْوَالِدَيْنِ على ما نَذْكُرُ لِأَنَّ الِاتِّبَاع كما لَا يُفْرَدُ
بِالشُّرُوطِ لَا يُفْرَدُ بِالْأَرْكَانِ لِمَا فيه من قَلْبِ الْحَقِيقَةِ وهو
جَعْلُ التَّبَعِ مَتْبُوعًا وَهَذَا لَا يَجُوزُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمَوْلَى وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمُكَاتَبِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ ثُمَّ بَعْضُهَا
شَرْطُ الِانْعِقَادِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ
الصِّحَّةِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى فَمِنْهَا الْعَقْلُ وَأَنَّهُ شَرْطُ
الِانْعِقَادِ فَلَا تَنْعَقِدُ الْمُكَاتَبَةُ من الصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ
وَالْمَجْنُونِ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَهِيَ شَرْطُ النَّفَاذِ حتى لَا تَنْفُذُ
الْكِتَابَةُ من الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَإِنْ كان حُرًّا أو مَأْذُونًا في
التِّجَارَةِ من قِبَلِ الْمَوْلَى أو الْوَصِيِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَيْسَتْ
بِتِجَارَةٍ إذْ التِّجَارَةُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْمُكَاتَبَةُ
لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَيْسَتْ من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَلَا من ضَرُورَاتِهَا
وَلِهَذَا لَا يمكلها ( ( ( يملكها ) ) ) الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالشَّرِيكُ
شَرِكَةَ الْعِنَانِ لِمَا قُلْنَا وَلَهُ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ بِإِذْنِ أبيه
أو وصية
____________________
(4/134)
لِأَنَّ
الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَمْلِكَانِ الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَمْلِكَانِ
الْإِذْنَ بِهِ لِلصَّبِيِّ إذَا كان عَاقِلًا
وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ وَهَذَا شَرْطُ نَفَاذٍ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ
فيها مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ
الِانْفِرَادِ لَا يَصِحُّ بِدُونِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ فَكَذَا عِنْدَ
الِاجْتِمَاعِ فَلَا تَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ من الْفُضُولِيِّ لِانْعِدَامِ
الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ وَتَنْفُذُ من الْوَكِيلِ لِأَنَّهُ نَائِبُ
الْمُوَكِّلِ فَكَانَ تَصَرُّفُهُ تَصَرُّفَ الْمُوَكِّلِ وَكَذَا من الْأَبِ
وَالْوَصِيِّ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَنْفُذَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تَصَرُّفٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ وَهُمَا
لَا يَمْلِكَانِ الْإِعْتَاقَ لَا بِغَيْرِ بَدَلٍ وَلَا بِبَدَلٍ كَالْإِعْتَاقِ
على مَالٍ وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ منه
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ من بَابِ اكْتِسَابِ الْمَالِ
وَلَهُمَا وِلَايَةُ اكْتِسَابِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ
الْإِعْتَاقِ على مَالٍ وَبَيْعِ نَفْسِ الْعَبْدِ منه لِأَنَّ ذلك ليس من بَابِ
الِاكْتِسَابِ بَلْ هو من بَابِ الاعتاق لِأَنَّ الْعَبْدَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ
الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْمَالُ دَيْنًا في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَإِنْ أَقَرَّ
الْأَبُ أو الْوَصِيُّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَة فَإِنْ كانت الْكِتَابَةُ
مَعْرُوفَةً طاهرة ( ( ( ظاهرة ) ) ) بِمَحْضَرِ الشُّهُودِ يُصَدَّقْ وَيَعْتِقْ
الْمَكَاتِبُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ في قَبْضِ التابة ( ( ( الكتابة ) ) ) فَكَانَ
مُصَدَّقًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ
وَإِنْ لم تَكُنْ مَعْرُوفَةً لم يَجُزْ إقْرَارُهُ وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ
لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا لم تَكُنْ ظَاهِرَةً كان ذلك منه إقْرَارًا بِالْعِتْقِ
وَإِقْرَارُ الْأَبِ أو الْوَصِيِّ بِعِتْقِ عبد الْيَتِيمِ لَا يَجُوزُ وإذا كانت
الْكِتَابَةُ ظَاهِرَةً كان ذلك منه إقْرَارًا بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فَيَصِحُّ
إقْرَارُهُ وَلَوْ كَاتَبَ الْأَبُ أو الْوَصِيُّ ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّبِيُّ فلم
يَرْضَ بِالْكِتَابَةِ فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ إلَّا أَنَّهُ ليس لِلْوَصِيِّ
وَلَا لِلْأَبِ أَنْ يَقْبِضَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا كان يَمْلِكُ
الْقَبْضَ بِوِلَايَتِهِ لَا بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ
في الْمُكَاتَبَةِ يَرْجِعُ إلَى من عُقِدَ له لَا إلَى الْعَاقِدِ وقد زَالَتْ
وِلَايَتُهُ بِالْبُلُوغِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ إذَا بَاعَ شيئا ثُمَّ أَدْرَكَ
الْيَتِيمُ أَنَّ له أَنْ يَقْبِضَ لِأَنَّ حُقُوقَ الْبَيْعِ وَكُلَّ عَقْدٍ هو
مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ هذا إذَا كانت
الْوَرَثَةُ صِغَارًا فَإِنْ كَانُوا كِبَارًا لَا يَجُوزُ لِلْوَصِيِّ أَنْ
يُكَاتِبَ وَلَا لِلْأَبِ لِزَوَالِ وِلَايَتِهِمَا بِالْبُلُوغِ سَوَاءٌ كَانُوا
حُضُورًا أو غُيَّبًا لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِزَوَالِ الْوِلَايَةِ لَا يَخْتَلِفُ
وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْوَارِثَ الْكَبِيرَ إذَا كان غَائِبًا
أَنَّ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الْمَنْقُولَ لِأَنَّ بَيْعَ
الْمَنْقُولِ من بَابِ الْحِفْظِ لِأَنَّ حِفْظَ ثَمَنِهِ أَيْسَرُ من حِفْظِ
عَيْنِهِ وَلَهُمَا وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَلَيْسَ في الْكِتَابَةِ حِفْظٌ فَلَا
يَمْلِكَانِهَا
وَإِنْ كانت الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ في هذا الْإِطْلَاقِ قال بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ في نَصِيبِ الْكِبَارِ وَأَمَّا في نَصِيبِ الصِّغَارِ فَجَائِزٌ
وقال بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ في نَصِيبِ الْكِبَارِ
وَالصِّغَارِ جميعا لِأَنَّهُ إذَا لم يَجُزْ في نَصِيبِ الْكِبَارِ لم يَكُنْ في
جَوَازِهِ في نَصِيبِ الصِّغَارِ فَائِدَةٌ لِأَنَّ لهم أَنْ يَفْسَخُوا الْعَقْدَ
وَصَارَ كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ أَنَّهُ يُمْنَعُ أَحَدُهُمَا عن كِتَابَةِ
نَصِيبِهِ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ لِأَنَّهُ لو فَعَلَ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ
كان لِشَرِيكِهِ أَنْ يَفْسَخَ فلم يَكُنْ فيه فَائِدَةٌ كَذَا هذا
وَلَوْ كان على الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَكَاتَبَ الْوَصِيُّ عَبْدَهُ من تَرِكَتِهِ لم
يَجُزْ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا كان الدَّيْنُ
مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ وَبَيْنَ ما إذَا لم يَكُنْ مُحِيطًا بها منهم من أَجْرَى
الْمَذْكُورَ في الْأَصْلِ على إطْلَاقِهِ وقال لَا تَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ سَوَاءٌ
كان الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أو لم يَكُنْ أَمَّا إذَا كان مُحِيطًا
بِالتَّرِكَةِ فَلِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بها
وَالْمُكَاتَبَةُ تَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ لِأَنَّهَا لو صَحَّتْ لَصَارَتْ
حُقُوقُهُمْ مُنَجَّمَةً مُؤَجَّلَةً وَحُقُوقُهُمْ مجعلة ( ( ( معجلة ) ) ) فَلَا
يَمْلِكُ تَأْجِيلَهَا بِالْكِتَابَةِ وَإِنْ كان غير مُحِيطٍ بِالتَّرِكَةِ
فَكَذَلِكَ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ من الدَّيْنِ يَتَعَلَّقُ بِالتَّرِكَةِ
مُطْلَقًا وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ من الدَّيْنِ
يَتَأَجَّلُ تَسْلِيمُهُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْغَرِيمُ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ
استيفاؤه ( ( ( استيفاءه ) ) ) من غَيْرِهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّ عَدَمَ الْجَوَازِ
لِحَقِّ الْغَرِيمِ فإذا اسْتَوْفَى من مَحَلٍّ آخَرَ فَقَدْ زَالَ حَقُّهُ
فَزَالَ الْمَانِعُ بين الْجَوَازِ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَحْمُولَةٌ على ما إذَا كان الميت (
( ( للميت ) ) ) غَيْرُ الْعَبْدِ أو غَيْرُ الْقَدْرِ الذي يَقْضِي بِهِ
الدَّيْنَ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ يَجُوزُ له
ذلك لِأَنَّهُ إذَا كان هُنَاكَ مَالٌ آخَرُ يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ فَحَقُّ
الْغُرَمَاءِ لايتعلق بِعَيْنِ الْعَبْدِ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِحَاجَتِهِمْ إلَى
اسْتِيفَاءِ دِينِهِمْ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِدُونِهِ لِأَنَّهُ لو تَعَلَّقَ
قَلِيلُ الدَّيْنِ بِجُمْلَةِ التَّرِكَةِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ لِأَنَّ
التَّرِكَةَ قَلَّمَا تَخْلُو عن قَلِيلِ الدَّيْنِ وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ
الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَيَجُوزُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هل لِأَحَدِ الْوَصِيَّيْنِ أَنْ يَتَصَرَّفَ في
مَال الْيَتِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا
وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَصَايَا
وَلِوَصِيِّ الْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ
____________________
(4/135)
لِأَنَّهُ
قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ وَسَوَاءٌ كان الْمَمْلُوكُ مَحْجُورًا أو مَأْذُونًا
بِالتِّجَارَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أو لَا دَيْنَ عليه لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا
يُوجِبُ زَوَالَ الْمِلْكِ عنه فَتَنْفُذُ الْمُكَاتَبَةُ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان
عليه دَيْنٌ مُحِيطٌ أو غَيْرُ مُحِيطٍ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَرُدُّوا
الْمُكَاتَبَةَ لِأَنَّ لهم حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ من رَقَبَتِهِ وهو
بِالْمُكَاتَبَةِ أَرَادَ إبْطَالَ حَقِّهِمْ فَكَانَ لهم أَنْ يَنْقُضُوا كما لو
بَاعَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ أو غَيْرُ مُحِيطٍ أَنَّ الْبَيْعَ يَنْفُذُ
لَكِنْ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَنْقُضُوا إلَّا إذَا كان قَضَى الْمَوْلَى دَيْنَهُمْ
من مَالٍ آخَرَ قبل أَنْ يَنْقُضُوا فَلَيْسَ لهم أَنْ يَنْقُضُوا وَمَضَتْ
الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ جَائِزَةً لِوُقُوعِهَا في الْمِلْكِ إلَّا
أَنَّهُ كان لِلْغُرَمَاءِ النَّقْضُ لِقِيَامِ حَقِّهِمْ فإذا قَضَى دَيْنَهُمْ
فَقَدْ زَالَ حَقُّهُمْ فَبَقِيَتْ جَائِزَةً وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى بِمَا
قَضَى من الدَّيْنِ على الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَصْلَحَ
مُكَاتَبَتَهُ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ
وَكَذَا لو أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الدَّيْنَ وَأَدَّاهُ الْغُلَامُ
عَاجِلًا مَضَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ على
الْمَوْلَى بِمَا أَدَّى لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كان الملوى ( ( ( المولى ) ) )
أَخَذَ بالبدل ( ( ( البدل ) ) ) ثُمَّ عَلِمَ الْغُرَمَاءُ بِذَلِكَ فَلَهُمْ
أَنْ يَأْخُذُوا من الْمَوْلَى ما أَخَذَ من بَدَلِ الكاتبة ( ( ( الكتابة ) ) )
لِأَنَّهُ كَسْبُ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ وَأَنَّهُ يُؤْخَذُ من الْمَوْلَى
وَالْعِتْقُ وَاقِعٌ إمَّا من طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لِسَلَامَةِ الْعِوَضِ
لِلْمَوْلَى وَإِمَّا من طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ
وهو أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْعِتْقُ بَعْدَ وُقُوعِهِ لَا يَحْتَمِلُ
النَّقْضَ فَإِنْ بَقِيَ من دَيْنِهِمْ شَيْءٌ كان لهم أَنْ يُضَمِّنُوا
الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّهُمْ في قَدْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ حَيْثُ
مَنَعَهُمْ عن بَيْعِهِ بِوُقُوعِ الْعِتْقِ وَلَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا الْعَبْدَ
بِبَقِيَّةِ دَيْنِهِمْ لِأَنَّ الدَّيْنَ كان ثَابِتًا في ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا
بِرَقَبَتِهِ وقد بَطَلَتْ الرَّقَبَةُ بِالْحُرِّيَّةِ فَبَقِيَتْ الذِّمَّةُ
فَكَانَ لهم أَنْ يَبِيعُوهُ وَلَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ بِمَا
أَخَذَ منه من بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ الْمَوْلَى حين كَاتَبَهُ كانت
رَقَبَتُهُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ فَكَانَتْ مُكَاتَبَتُهُ إيَّاهُ مع عِلْمِهِ
أَنَّ الْغُرَمَاءَ أَحَقُّ منه بِكَسْبِهِ دَلَالَةَ الرِّضَا بِمَا أَخَذَ منه
وَلَوْ كان الْعَبْدُ مَرْهُونًا أو مُؤَاجَرًا فَكَاتَبَهُ وَقَفَتْ
الْمُكَاتَبَةُ على إجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فَإِنْ أَجَازَا
جَازَ وَإِنْ فَسَخَا هل تَنْفَسِخُ بِفَسْخِهِمَا فَهُوَ على ما نَذْكُرُ في
الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَسَوَاءٌ كان الْمَمْلُوكُ قِنًّا أو غَيْرَهُ حتى لو كانت مُدَبَّرَةً أو أُمَّ
وَلَدٍ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ إذْ التَّدْبِيرُ
وَالِاسْتِيلَادُ لَا يُزِيلَانِ الْمِلْكَ وَهُمَا من بَابِ اسْتِعْجَالِ
الْحُرِّيَّةِ فَإِنْ أَدَّيَا وَعَتَقَا فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ وَإِنْ مَاتَ
الْمَوْلَى قبل الْأَدَاءِ عَتَقَا لِأَنَّهُمَا يَعْتِقَانِ بِمَوْتِ السَّيِّدِ
وهذا إذَا كَانَا يَخْرُجَانِ من الثُّلُثِ فَإِنْ كَانَا لَا يَخْرُجَانِ من
الثُّلُثِ فَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ من غَيْرِ اعْتِبَارِ الثُّلُثِ وَلَا
تَسْعَى
وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَلَهُ الْخِيَارُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى
في جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ سَعَى في ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ إذَا كان لَا
مَالَ له غَيْرُهُ
فَإِنْ اخْتَارَ الْكِتَابَةَ سَعَى على النُّجُومِ وَإِنْ اخْتَارَ السِّعَايَةَ
في ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ يَسْعَى حَالًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ له لَكِنْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
يَسْعَى في الْأَقَلِّ من جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ يَسْعَى في الْأَقَلِّ من ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ وَمِنْ ثُلُثَيْ
الْقِيمَةِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الإستيلاد
وَمِنْهَا الرِّضَا وهو من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا تَصِحُّ الْمُكَاتَبَةُ مع
الْإِكْرَاهِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ لِأَنَّهَا من التَّصَرُّفَاتِ التي
تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَيُفْسِدُهَا الْكُرْهُ وَالْهَزْلُ وَالْخَطَأُ
كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
وإما حُرِّيَّةُ الْمُكَاتَبِ فَلَيْسَتْ من شَرَائِطِ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ
فَتَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُكَاتَبِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَكَذَا إسْلَامُهُ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْكَافِرَ
لِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فإذا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ
أَنَّ لهم ما لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِينَ
أَنْ يُكَاتِبُوا عَبِيدَهُمْ فَكَذَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِأَنَّ
الْمُكَاتَبَةَ مُشْتَمِلَةٌ على مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَالتَّعْلِيقِ وَكُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُهُ الذِّمِّيُّ حَالَةَ الِانْفِرَادِ وَكَذَا عِنْدَ
الِاجْتِمَاعِ وَالذِّمِّيُّ إذَا ابْتَاعَ عَبْدًا مُسْلِمًا فَكَاتَبَهُ فَهُوَ
جَائِزٌ وَهَذَا فَرْعُ أَصْلِنَا في شِرَاءِ الْكَافِرِ للعبد ( ( ( العبد ) ) )
الْمُسْلِمَ أَنَّهُ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ على بَيْعِهِ صِيَانَةً له عن
الِاسْتِذْلَالِ بِاسْتِخْدَامِ الْكَافِرِ إيَّاهُ وَالصِّيَانَةُ تَحْصُلُ
بِالْكِتَابَةِ لِزَوَالِ وِلَايَةِ الِاسْتِخْدَامِ بِزَوَالِ يَدِهِ عنه
بِالْمُكَاتَبَةِ وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ الْمُرْتَدِّ فَمَوْقُوفَةٌ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ فَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ على الرِّدَّةِ أو لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَتْ
وَإِنْ أَسْلَمَ نَفَذَتْ وَعِنْدَهُمَا هِيَ نَافِذَةٌ وَهِيَ من مَسَائِلِ
السِّيَرِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ الْمُكَاتَبَةِ فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها أَنْ لَا
يَكُونَ فيه خَطَرٌ الْعَدَمِ وَقْتَ الْمُكَاتَبَةِ وهو شَرْطٌ الِانْعِقَادِ حتى
لو كَاتَبَ ما في بَطْنِ جَارِيَتِهِ لم يَنْعَقِدْ لِنَهْيِ النبي صلى اللَّهُ
عليه وسلم عن بَيْعٍ فيه غَرَرٌ وَالْمُكَاتَبَةُ فيها مَعْنَى الْبَيْعِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وهو من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ حتى لو كَاتَبَ
عَبْدًا له مَجْنُونًا أو أو صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ لَا تَنْعَقِدُ مُكَاتَبَتُهُ
____________________
(4/136)
لِأَنَّ
الْقَبُولَ أَحَدُ شَطْرَيْ الرُّكْنِ وَأَهْلِيَّةُ الْقَبُولِ لَا تَثْبُتُ
بِدُونِ الْعَقْلِ لِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ من هذا الْعَقْدِ وهو الْكَسْبُ لَا
يَحْصُلُ منه فَإِنْ كَاتَبَهُ فَأَدَّى الْبَدَلَ عنه رَجُلٌ فَقَبِلَهُ
الْمَوْلَى لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ الْقَبُولِ ولم
يُوجَدْ فَكَانَ أَدَاءُ الْأَجْنَبِيِّ أَدَاءٌ من غَيْرِ عَقْدٍ فَلَا يَعْتِقُ
وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ ما أَدَّى لِأَنَّهُ أَدَّاهُ بَدَلًا عن الْعِتْقِ ولم
يُسَلَّمْ الْعِتْقَ وَلَوْ قَبِلَ عنه الرَّجُلُ الْكِتَابَةَ ورضى الْمَوْلَى لم
يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّجُلَ قَبِلَ الْكِتَابَةَ من غَيْرِهِ من غَيْرِ
رِضَاهُ وَلَا يَجُوزُ قَبُولُ الْكِتَابَةِ عن غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَهَلْ
يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ
أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ
أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ
وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْفُضُولِيِّ إنَّمَا
يَتَوَقَّفُ على الْإِجَازَةِ إذَا كان له مُجِيزٌ وَقْتَ التَّصَرُّفِ وَهَهُنَا
لَا مُجِيزَ له وَقْتَ وُجُودِهِ إذْ الصَّغِيرُ ليس من أَهْلِ الْإِجَازَةِ فَلَا
يَتَوَقَّفُ بِخِلَافِ ما إذَا كان الْعَبْدُ كَبِيرًا غَائِبًا فَجَاءَ رَجُلٌ
وَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عنه وَرَضِيَ الْمَوْلَى أَنَّ الْكِتَابَةَ تَتَوَقَّفُ
على إجَازَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ الْإِجَازَةِ وَقْتَ قَبُولِ
الْفُضُولِيِّ عنه فَكَانَ له مُجِيزًا وَقْتَ التَّصَرُّفِ فَتَوَقَّفَ فَلَوْ
أَدَّى الْقَابِلُ عن الصَّغِيرِ إلَى الْمَوْلَى ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ
يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا وَجَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إذَا أَدَّيْت إلَيَّ
كَذَا فَعَبْدِي حُرٌّ وقال وَهَذَا وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ على الصَّغِيرِ لم
تَنْعَقِدْ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْقَبُولِ فَيَبْقَى الْأَدَاءُ بِغَيْرِ
مُكَاتَبَةٍ فَلَا يَعْتِقُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فيها مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
وَمَعْنَى التَّعْلِيقِ وَالْمَوْلَى إنْ كان لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ الْعَبْدِ
الْعِوَضَ يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِ بِالشَّرْطِ فَيَصِحُّ من هذا الْوَجْهِ
وَيَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَكَذَا إذَا كان الْعَبْدُ كَبِيرًا
غَائِبًا فَقَبِلَ الْكِتَابَةَ عنه فُضُولِيٌّ وَأَدَّاهَا إلَى الْمَوْلَى
يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا وَلَيْسَ لِلْقَابِلِ اسْتِرْدَادُ الْمُؤَدَّى
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ لِمَا قُلْنَا
هذا إذَا أَدَّى الْكُلَّ فَإِنْ أَدَّى الْبَعْضَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ
قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى لِيُسَلَّمَ الْعِتْقَ
وَالْعِتْقُ لَا يُسَلَّمُ بِأَدَاءِ بَعْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ له أَنْ
يَسْتَرِدَّ إلَّا إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ فَأَجَازَ قبل أَنْ يَسْتَرِدَّ
الْقَابِلُ فَلَيْسَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ بِالْإِجَازَةِ
اسْتَنَدَ جَوَابُ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ وُجُودِهِ وَالْأَدَاءُ حَصَلَ عن عَقْدٍ
جَائِزٍ فَلَا يَكُونُ له الإسترداد فَلَوْ أَنَّ الْعَبْدَ عَجَزَ عن أَدَاءِ
الْبَاقِي وَرُدَّ في الرِّقِّ فَلَيْسَ له أَنْ يَسْتَرِدَّ أَيْضًا وَإِنْ رُدَّ
الْعَبْدُ في الرِّقِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَا تَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ في
الرِّقِّ بَلْ تَنْتَهِي في الْمُسْتَقْبَلِ فَكَانَ حُكْمُ الْعَقْدِ قَائِمًا في
الْقَدْرِ الْمُؤَدَّى فَلَا يَكُونُ له الإسترداد بِخِلَافِ بَابِ الْبَيْعِ
بِأَنَّ من بَاعَ شيئا ثُمَّ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ ثُمَّ فُسِخَ
الْبَيْعُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ أو بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ أَنَّ
لِلْمُتَبَرِّعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ ما دَفَعَ لِأَنَّ الدَّفْعَ كان بِحُكْمِ
الْعَقْدِ وقد انْفَسَخَ ذلك الْعَقْدُ
وَكَذَلِكَ لو تَبَرَّعَ رَجُلٌ بِأَدَاءِ الْمَهْرِ عن الزَّوْجِ ثُمَّ وَرَدَ
الطَّلَاقُ قبل الدُّخُولِ أَنَّهُ يَسْتَرِدُّ منها النِّصْفَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ
قبل الدُّخُولِ فَسْخٌ من وَجْهٍ وَلَوْ كانت الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا قبل
الدُّخُولِ بها فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ منها كُلَّ الْمَهْرِ وَلَا يَكُونُ
الْمَهْرُ لِلزَّوْجِ بَلْ يَكُونُ لِلْمُتَبَرِّعِ لِانْفِسَاخِ النِّكَاحِ
هذا كُلُّهُ إذَا أَدَّى الْقَابِلُ فَلَوْ امْتَنَعَ الْقَابِلُ عن الْأَدَاءِ
لَا يُطَالَبُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا ضَمِنَ فَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ بِهِ بِحُكْمِ
الضَّمَانِ فَأَمَّا بُلُوغُهُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حتى لو كَاتَبَهُ وهو يَعْقِلُ
الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَيَكُونُ كَالْكَبِيرِ في جَمِيعِ
أَحْكَامِهِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذْنٌ في
التِّجَارَةِ وَإِذْنُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ بِالتِّجَارَةِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا
خِلَافًا له وَهِيَ من مَسَائِلِ الْمَأْذُونِ
فصل وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ
فَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَالًا وهو شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَلَا تَنْعَقِدُ
الْمُكَاتَبَةُ على الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا بِمَالٍ في حَقِّ
أَحَدٍ لَا في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَلَا في حَقِّ الذِّمِّيِّ أَلَا تَرَى أَنَّ
الْمُشْتَرِيَ بِهِمَا لَا يَمْلِكُ وَإِنْ قَبَضَ وَلَا تَنْعَقِدُ عَلَيْهِمَا
الْمُكَاتَبَةُ حتى لَا يَعْتِقَ وَإِنْ أَدَّى لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ
لَا حُكْمَ له فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ إلَّا إذَا كان قال على أَنَّك إنْ
أَدَّيْت إلَيَّ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى فإنه يَعْتِقُ بِالشَّرْطِ وإذا عَتَقَ
بِالشَّرْطِ لَا يَرْجِعُ الْمَوْلَى عليه بِقِيمَتِهِ لِأَنَّ هذا ليس
بِمُكَاتَبَةٍ إنَّمَا هو إعْتَاقٌ مُعَلَّقٌ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ
إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا وَأَنَّهُ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ فَلَا
تَصِحُّ مُكَاتَبَةُ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ أو الذِّمِّيَّ على
الْخَمْرِ أو الْخِنْزِيرِ وَلَا مُكَاتَبَةُ الذِّمِّيِّ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ
على الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَإِنْ كان مَالًا في حَقِّ
الْمُسْلِمِينَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَقَوِّمَةٍ في حَقِّهِمْ فَانْعَقَدَتْ
الْمُكَاتَبَةُ على الْفَسَادِ فَإِنْ أَدَّى يَعْتِقْ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ
نَفْسِهِ لِأَنَّ هذا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ الْفَاسِدَةِ على ما نَذْكُرُ في
بَيَانِ حُكْمِ الْمُكَاتَبَةِ
أَمَّا الذِّمِّيُّ فَتَجُوزُ مُكَاتَبَتُهُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ على
____________________
(4/137)
خَمْرٍ
أو خِنْزِيرٍ لِأَنَّ ذلك مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَهُمْ كَالْخَلِّ وَالشَّاةِ
عِنْدَنَا فَإِنْ كَاتَبَ ذِمِّيٌّ عَبْدًا له كَافِرًا على خَمْرٍ فَأَسْلَمَ
أَحَدُهُمَا فَالْمُكَاتَبَةُ مَاضِيَةٌ وَعَلَى الْعَبْدِ قِيمَةُ الْخَمْرِ
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً لِكَوْنِ الْخَمْرِ مَالًا مُتَقَوِّمًا
في حَقِّهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَعَذَّرَ
التَّسْلِيمُ أو التَّسَلُّمُ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْهِيٌّ عن ذلك فَتَجِبُ
قِيمَتُهَا وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِخِلَافِ ما إذَا اشْتَرَى الذِّمِّيُّ من
ذِمِّيٍّ شيئا بِخَمْرٍ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قبل قَبْضِ الثمن ( ( ( ثمن )
) ) الْخَمْرِ أَنَّ الْبَيْعَ يَبْطُلُ وَهَهُنَا لَا تَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ
لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ مَبْنَاهُ على الْمُسَاهَلَةِ وَالْمُسَامَحَةِ
نَظَرًا لِلْعَبِيدِ إيصَالًا لهم إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَنْفَسِخُ
بِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى أو تَسَلُّمِهِ بَلْ يُصَارُ إلَى بَدَلِهِ
فَأَمَّا الْبَيْعُ فَعَقْدُ مما ( ( ( مماكسة ) ) ) كسبه وَمُضَايَقَةٍ لَا
تَجْرِي فيه من السُّهُولَةِ ما يَجْرِي في الْمُكَاتَبَةِ فَيَنْفَسِخُ عِنْدَ
تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِ الْمُسَمَّى وَيَرْتَفِعُ وإذا ارْتَفَعَ لَا
يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُ الْقِيمَةِ مع ارْتِفَاعِ سَبَبِ الْوُجُوبِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ وَسَوَاءٌ كان مَعْلُومَ
الصِّفَةِ أولا وهو من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ فَإِنْ كان مَجْهُولَ الْقَدْرِ أو
مَجْهُولَ النَّوْعِ لم يَنْعَقِدْ وَإِنْ كان مَعْلُومَ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ
مَجْهُولَ الصِّفَةِ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْجَهَالَةَ مَتَى فَحَشَتْ مَنَعَتْ جَوَازَ الْمُكَاتَبَةِ
وَإِلَّا فَلَا وَجَهَالَةُ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ جَهَالَةٌ فَاحِشَةٌ
وَجَهَالَةُ الصِّفَةِ غَيْرُ فَاحِشَةٍ فإنه روى عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ أَجَازَ الْمُكَاتَبَةَ على الْوُصَفَاءِ بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إجْمَاعًا على الْجَوَازِ وَالْإِجْمَاعُ على
الْجَوَازِ إجْمَاعٌ على سُقُوطِ اعْتِبَارِ هذا النَّوْعِ من الْجَهَالَةِ في
بَابِ الْكِتَابَةِ
وَبَيَانُ هذا الْأَصْلِ في مَسَائِلَ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ على ثَوْبٍ أو
دَابَّةٍ أو حَيَوَانٍ أو دَارٍ لم تَنْعَقِدْ حتى لَا يَعْتِقَ وَإِنْ أَدَّى
لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالدَّارَ وَالْحَيَوَانَ مَجْهُولُ النَّوْعِ لِاخْتِلَافِ
أَنْوَاعِ كل جِنْسٍ وَأَشْخَاصِهِ اخْتِلَافًا مُتَفَاحِشًا
وَكَذَا الدُّورُ تَجْرِي مَجْرَى الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ لِتَفَاحُشِ
التَّفَاوُتِ بين دَارٍ وَدَارٍ في الْهَيْئَةِ وَالتَّقْطِيعِ وفي الْقِيمَةِ
بِاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ من الْبُلْدَانِ وَالْمَحَالِّ وَالسِّكَكِ وَلِهَذَا
مَنَعَتْ هذه الْجَهَالَةُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ وَالْإِعْتَاقَ على مَالٍ
وَالنِّكَاحَ وَالْخُلْعَ وَالصُّلْحَ عن دَمِ الْعَمْدِ فَصَارَتْ هذه
الْأَشْيَاءُ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ في أَنْوَاعِهَا وَأَشْخَاصِهَا
بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ على
ثَوْبٍ أو دَابَّةٍ أو حَيَوَانٍ أو دَارٍ فَأَدَّى طَعَامًا وَلَوْ كان كَذَلِكَ
لَا يَعْتِقُ
وَإِنْ أَدَّى أَعْلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالدُّورِ بِخِلَافِ ما إذَا
كَاتَبَهُ على قِيمَةٍ فَأَدَّى الْقِيمَةَ أَنَّهُ يَعْتِقُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ
بين الْقِيمَتَيْنِ لَا يُلْحِقُهُمَا مجلسين ( ( ( بجنسين ) ) ) فَكَانَتْ
جَهَالَةُ الْقِيمَةِ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ لَا مُبْطِلَةً له وَإِنْ كَاتَبَهُ
على ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ أو عَبْدٍ أو جَارِيَةٍ أو فَرَسٍ جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ
لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هَهُنَا جَهَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّهُ جَيِّدٌ أو رَدِيءٌ أو
وَسَطٌ وإنها لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كما في النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَيَوَانَ يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ في مُبَادَلَةِ
الْمَالِ بِغَيْرِ الْمَالِ كما في النِّكَاحِ وَنَحْوِهِ فَتَصِحُّ التَّسْمِيَةُ
وَيَقَعُ في الْوَسَطِ كما في بَابِ الزَّكَاةِ وَالدِّيَةِ وَالنِّكَاحِ وَكَذَا
لو كَاتَبَهُ على وَصَيْفٍ يَجُوزُ وَيَقَعُ على الْوَسَطِ وَلَوْ جاء الْعَبْدُ
بِقِيمَةِ الْوَسَطِ في هذه الْمَوَاضِعِ يُجْبَرُ الْمَوْلَى على الْقَبُولِ كما
في النِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَنَحْوِهِمَا
وَلَوْ كَاتَبَهُ على لُؤْلُؤَةٍ أو يَاقُوتَةٍ لم يَنْعَقِدْ لِأَنَّ
الْجَهَالَةَ مُتَفَاحِشَةٌ وَلَوْ كَاتَبَهُ على كُرِّ حِنْطَةٍ أو ما أَشْبَهَ
ذلك من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ولم يَصِفْ يَجُوزُ وَعَلَيْهِ الْوَسَطُ من
جِنْسِهِ لِأَنَّهُ ثَبَتَ دَيْنًا في الذِّمَّةِ في مُبَادَلَةِ الْمَالِ
بِالْمَالِ إذَا كان مَوْصُوفًا وَيَثْبُتُ في مُبَادَلَةِ ما ليس بِمَالٍ بِمَالٍ
وَإِنْ لم يَكُنْ مَوْصُوفًا كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عن دَمِ
الْعَمْدِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ وَالْمُكَاتَبَةُ مُعَاوَضَةُ ما ليس بِمَالٍ
بِمَالٍ في جَانِبِ الْمَوْلَى فَتَجُوزُ الْمُكَاتَبَةُ عليه وَيَجِبُ الْوَسَطُ
وَلَوْ كَاتَبَهُ على حُكْمِهِ أو على حُكْمِ نَفْسَهُ لم تَنْعَقِدْ لِأَنَّ
الْجَهَالَةَ هَهُنَا أَفْحَشُ من جَهَالَةِ النَّوْعِ وَالْقَدْرِ لِأَنَّ
الْبَدَلَ هُنَاكَ مُسَمًّى وَلَا تَسْمِيَةَ لِلْبَدَلِ هَهُنَا رَأْسًا فَكَانَتْ
الْجَهَالَةُ أَكْثَرَ وَإِلَى هذا أَشَارَ في الْأَصْلِ فقال أَرَأَيْت لو حَكَمَ
الْمَوْلَى عليه بِمِلْءِ الْأَرْضِ ذَهَبًا كان يَلْزَمُهُ أو حَكَمَ الْعَبْدُ
على نَفْسِهِ بِفَلْسٍ هل كان يَعْتِقُ فلم يَنْعَقِدْ الْعَقْدُ أَصْلًا فَلَا
يَعْتِقُ بِالْحُكْمِ وَإِنْ كَاتَبَ على أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى الْعَطَاءِ أو إلَى
الدِّيَاسِ أو إلَى الْحَصَادِ أو نَحْوِ ذلك مِمَّا يُعْرَفُ من الْأَجَلِ جَازَ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّ الْأَجَلَ مَجْهُولٌ
وَجَهَالَةُ الْأَجَلِ تُبْطِلُ الْبَيْعَ فَتَبْطُلُ الْمُكَاتَبَةُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجَهَالَةَ لم تَدْخُلْ في صُلْبِ الْعَقْدِ
لِأَنَّهَا لَا تَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ وَإِنَّمَا دَخَلَتْ في أَمْرٍ زَائِدٍ
ثُمَّ هِيَ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ فَلَا تُوجِبُ فَسَادَ الْمُكَاتَبَةِ كَجَهَالَةِ
الْوَصْفِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ أَنَّهُ يَفْسُدُ لِأَنَّ
الْجَهَالَةَ لَا تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِذَاتِهَا بَلْ لِإِفْضَائِهَا إلَى
الْمُنَازَعَةِ وَالْمُنَازَعَةُ قل ما تَجْرِي في هذا الْقَدْرِ في
الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا على الْمُسَامَحَةِ
____________________
(4/138)
بِخِلَافِ
الْبَيْعِ فإن مَبْنَاهُ على الْمُمَاكَسَةِ فَيُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَلِهَذَا جَازَتْ الْكَفَالَةُ إلَى هذه الْأَوْقَاتِ ولم يَجُزْ تَأْجِيلُ
الثَّمَنِ إلَيْهَا في الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ إلَى مَجِيءِ الْمَطَرِ
وَهُبُوبِ الرِّيحِ لِأَنَّهُ ليس لِذَلِكَ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَفَحُشَتْ
الْجَهَالَةُ فَإِنْ كَاتَبَهُ إلَى الْعَطَاءِ فَأَخَّرَ الْعَطَاءَ فإن
الْأَجَلَ يَحِلُّ في مِثْلِ الْوَقْتِ الذي كان يَخْرُجُ فيه الْعَطَاءُ لِأَنَّ
الْمُرَادَ بِهِ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ وَقْتَ الْعَطَاءِ لَا عَيْنَ الْعَطَاءِ
وَكَذَا في الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ
وَلَوْ كَاتَبَهُ على قِيمَتِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْقِيمَةَ
تَخْتَلِفُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَكَانَ الْبَدَلُ مَجْهُولُ الْقَدْرِ
وأنه مَجْهُولٌ جَهَالَةً فَاحِشَةً وَلِهَذَا مُنِعَتْ صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ في
بَابِ النِّكَاحِ حتى عُدِّلَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ فَتُمْنَعُ صِحَّةُ
الْمُكَاتَبَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ النِّكَاحَ يَجُوزُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ
الْبَدَلِ وَلَا جَوَازَ لِلْمُكَاتَبَةِ من غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فلما لم
تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْقِيمَةِ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا تَصِحَّ هَهُنَا أَوْلَى
وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الْقِيمَةِ مُوجِبٌ لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَكَانَ ذِكْرُهَا
نَصًّا على الْفَسَادِ بِخِلَافِ ما إذَا كَاتَبَهُ على عَبْدٍ لِأَنَّ جَهَالَةَ
الْعَبْدِ جَهَالَةُ الْوَصْفِ أَيْ جَيِّدٌ ورديء أو وَسَطٌ فَعِنْدَ
الْإِطْلَاقِ يَقَعُ على الْوَسَطِ وَالْوَسَطُ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ
أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَعَلَ قِيمَةَ الْوَسَطِ أَرْبَعِينَ
دِينَارًا فَأَمَّا الْمُكَاتَبَةُ على الْقِيمَةِ فَلَيْسَتْ بِمُكَاتَبَةٍ على
بَدَلٍ مَعْلُومٍ عِنْدَ الناس عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ فَصَارَ كما لو كَاتَبَهُ
على أَلْفٍ أو على أَلْفَيْنِ غير أَنَّهُ إذَا أَدَّى الْقِيمَةَ عَتَقَ لِأَنَّ
الْعَقْدَ الْفَاسِدَ له حُكْمٌ في الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ
إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ
الدُّخُولُ حتى يَثْبُتَ الْمِلْكُ في الْبَيْعِ وَتَجِبَ الْعِدَّةُ وَالْعُقْرُ
وَيَثْبُتَ النَّسَبُ في النِّكَاحِ وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ الْفَاسِدَةُ
وَلَوْ قال كَاتَبْتُك على دَرَاهِمَ فَالْمُكَاتَبَةُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ أَدَّى
ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً
مُتَفَاحِشَةً وَلَيْسَ لِلدَّرَاهِمِ وَسَطٌ مَعْلُومٌ حتى يَقَعَ عليه الِاسْمُ
بِخِلَافِ ما إذَا قال أَعْتَقْتُك على درهم ( ( ( دراهم ) ) ) فَقَبِلَ الْعَبْدُ
عَتَقَ وَتَلْزَمُهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْعِتْقَ هُنَاكَ وَقَعَ
بِالْقَبُولِ وَالْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةٌ فَلَزِمَهُ قِيمَةُ نَفْسِهِ وَلَوْ
كَاتَبَهُ على أَنْ يَخْدُمَهُ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْخِدْمَةَ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهَا مُخْتَلِفَةٌ وَلَا
يَدْرِي في أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهُ في الْحَضَرِ أو
في السَّفَرِ وَجَهَالَةُ البذل ( ( ( البدل ) ) ) تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكِتَابَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْخِدْمَةَ الْمُطْلَقَةَ تَنْصَرِفُ إلَى
الْخِدْمَةِ الْمَعْهُودَةِ فَتَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْعَادَةِ وَبِحَالِ
الْمَوْلَى أَنَّهُ في أَيِّ شَيْءٍ يَسْتَخْدِمُهُ وَبِحَالِ الْعَبْدِ أَنَّهُ
لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْلُحُ فَصَارَ كما لو عَيَّنَهَا نَصًّا وَلِهَذَا جَازَتْ
الْإِجَارَةُ على هذا الْوَجْهِ فَالْمُكَاتَبَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا أَقْبَلُ
لِلْجَهَالَةِ من الْإِجَارَةِ
وَلَوْ كَاتَبَهُ على أَنْ يَخْدُمَ رَجُلًا شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ في الْقِيَاسِ
كَذَا ذَكَرَهُ في الْأَصْلِ ولم يُرِدْ بِهِ قِيَاسَ الْأَصْلِ لِأَنَّ ذلك
يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْقِيَاسَ
على الِاسْتِحْسَانِ الذي ذَكَرْنَا وَيَجُوزُ الْقِيَاسُ على مَوْضِعِ
الِاسْتِحْسَانِ إذَا كان الْحُكْمُ في الِاسْتِحْسَانِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى
كَقِيَاسِ الْجِمَاعِ نَاسِيًا على قِيَاسِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ نَاسِيًا
وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ أَمْوَالٌ في الْعُقُودِ وَأَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً
بِذِكْرِ الْمُدَّةِ فَلَا فَرْقَ بين أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَجُلًا لِيَخْدُمَهُ أو
لِيَخْدُمَ غَيْرَهُ
وَكَذَلِكَ لو كَاتَبَهُ على أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا قد سَمَّى له طُولَهَا
وَعُمْقَهَا وَمَكَانَهَا أو على أَنْ يَبْنِيَ له دَارًا وأراه آجُرَّهَا
وَجِصَّهَا وما يَبْنِي بها لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ على بَدَلٍ مَعْلُومٍ أَلَا تَرَى
أَنَّ الْإِجَارَةَ عليه جَائِزَةٌ فَالْكِتَابَةُ أَوْلَى وَلَوْ كَاتَبَهُ على
أَنْ يَخْدُمَهُ ولم يذكر الْوَقْتَ فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْبَدَلَ
مَجْهُولٌ
وَمِنْهَا أن ( ( ( ألا ) ) ) لا يَكُونَ الْبَدَلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وهو شَرْطُ الِانْعِقَادِ
حتى لو كَاتَبَهُ على عَيْنٍ من أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى لم يَجُزْ لِأَنَّهُ
يَكُونُ مُكَاتَبَةً بِغَيْرِ بَدَلٍ في الْحَقِيقَةِ فَلَا يَجُوزُ كما إذَا
بَاعَ دَارِهِ من إنْسَانٍ بِعَبْدٍ هو لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
الْبَيْعُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ في الْحَقِيقَةِ كَذَا هذا
وَكَذَا لو كَاتَبَهُ على ما في يَدِ الْعَبْدِ من الْكَسْبِ وَقْتَ
الْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّ ذلك مَالُ الْمَوْلَى فَيَكُونُ مُكَاتَبَةً على مَالِ
الْمَوْلَى فلم يَجُزْ
وَأَمَّا كَوْنُ الْبَدَلِ دَيْنًا فَهَلْ هو شَرْطُ جَوَازِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ
كَاتَبَهُ على شَيْءٍ بِعَيْنِهِ من عَبْدٍ أو ثَوْبٍ أو دَارٍ أو غَيْرِ ذلك
مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وهو ليس من أَعْيَانِ مَالِ الْمَوْلَى وَلَا
كَسْبِ الْعَبْدِ وَلَكِنَّهُ مِلْكُ أَجْنَبِيٍّ وهو مُعَيَّنٌ مُشَارٌ إلَيْهِ
ذَكَرَ في كِتَابِ الْمُكَاتَبِ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ على عَبْدٍ بِعَيْنِهِ
لِرَجُلٍ لم يَجُزْ ولم يُذْكَرْ الْخِلَافُ وَذَكَرَ في كِتَابِ الشُّرْبِ إذَا
كَاتَبَهُ على أَرْضٍ لِرَجُلٍ جاز ( ( ( جاوز ) ) ) ولم يذكر الْخِلَافَ وَذَكَرَ
ابن سِمَاعَةَ الْخِلَافَ فقال لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ عِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ أَجَازَ صَاحِبُهُ جَازَ وَإِلَّا لم يَجُزْ
وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَجُوزَ أَجَازَ
أو لم يُجِزْ وَإِطْلَاقُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ يَقْتَضِي الْجَوَازَ
أَجَازَ أو لم يُجِزْ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أجاز ( ( ( جاز ) ) ) عِنْدَ عَدَمِ
الْإِجَازَةِ فَعِنْد الْإِجَازَةِ أَوْلَى وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُ
مُحَمَّدٍ
____________________
(4/139)
تَفْسِيرًا
لِلرِّوَايَتَيْنِ الْمُبْهَمَتَيْنِ فَتُحْمَلُ رِوَايَةُ كِتَابِ الْمُكَاتَبِ
على حَالِ عَدَمِ الْإِجَازَةِ
وَرِوَايَةُ كِتَابِ الشُّرْبِ على حَالِ الْإِجَازَةِ وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ
الْمُكَاتَبِ أَنَّهُ كَاتَبَهُ على مَالٍ لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ على
عَبْدٍ هو مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَا يَجُوزُ وَبِهِ عَلَّلَ في الْأَصْلِ فقال
لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ على ما لَا يَمْلِكُ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ على مِلْكِ
الْغَيْرِ وَشَرْحُ هذا التَّعْلِيلِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ وُضِعَ
لِإِكْسَابِ الْمَالِ وَالْعَبْدُ لَا يَقْدِرُ على إكْسَابِ هذا الْعَيْنِ لَا
مَحَالَةَ لِأَنَّ مَالِكَ الْعَبْدِ قد يَبِيعُهُ وقد لَا يَبِيعُهُ فَلَا
يَحْصُلُ ما وُضِعَ له الْعَقْدُ وَلِأَنَّا لو قَضَيْنَا بِصِحَّةِ هذه
الْمُكَاتَبَةِ لَفَسَدَتْ من حَيْثُ تَصِحُّ لِأَنَّهُ إذَا كَاتَبَهُ على عَبْدٍ
هو مِلْكُ الْغَيْرِ ولم يُجِزْ الْمَالِكُ فَقَدْ تَعَذَّرَ عليه التَّسْلِيمُ
فَكَانَ مُوجِبُهَا وُجُوبَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ كَاتَبَهُ على
قِيمَةِ عَبْدٍ فَيَفْسُدُ من حَيْثُ يَصِحُّ وما كان في تَصْحِيحِهِ إفْسَادُهُ
فَيَقْضِي بِفَسَادِهِ من الْأَصْلِ أو يُقَالُ إذَا تَعَذَّرَ عليه التَّسْلِيمُ
فَإِمَّا أَنْ تَجِبَ عليه قِيمَةِ الْعَبْدِ أو قِيمَةِ نَفْسِهِ وَكُلُّ ذلك
فَاسِدٌ
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الشُّرْبِ وهو الْمَرْوِيُّ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا
أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ في مَعْنَى الْإِعْتَاقِ على مَالٍ ثُمَّ لو أَعْتَقَ
عَبْدَهُ على عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِرَجُلٍ فَقَبِلَ الْعَبْدُ جَازَ
وَجْهُ ما رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ من التَّوَقُّفِ على الْإِجَازَةِ أَنَّ هذا عَقْدٌ
له مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ فَيَتَوَقَّفُ على الْإِجَازَةِ كَالْمَبِيعِ
وَكَذَلِكَ كلما عَيَّنَهُ من مَالِ غَيْرِهِ من عَرَضٍ أو مَكِيلٍ أو مَوْزُونٍ
لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا تَتَعَيَّنُ في الْعُقُودِ بِالتَّعْيِينِ
فَكَانَتْ كَالْعَبْدِ
وَلَوْ قال كَاتَبْتُك على أَلْفِ فُلَانٍ هذه جَازَتْ الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّ
الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَقَعُ
الْعَقْدُ على مِثْلِهَا في الذِّمَّةِ لَا على عَيْنِهَا فَيَجُوزُ وَإِنْ أَدَّى
غَيْرَهَا عَتَقَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ على ما في الذِّمَّةِ وَسَوَاءٌ
كان الْبَدَلُ قَلِيلًا أو كَثِيرًا لِأَنَّ دَلَائِلَ جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ لَا
يَفْصِلُ بين الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَسَوَاءٌ كان مُؤَجَّلًا أو غير مُؤَجَّلٍ
عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا وهو على قَلْبِ
الِاخْتِلَافِ في السَّلَمِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ يَجُوزُ مُؤَجَّلًا وَغَيْرَ مُؤَجَّلٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا
خِلَافَ في جَوَازِ الْمُكَاتَبَةِ على بَدَلٍ مُؤَجَّلٍ
وَاخْتُلِفَ في الْجَوَازِ على بَدَلٍ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ قال أَصْحَابُنَا يَجُوز
وقال الشَّافِعِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا مُنَجَّمًا بِنَجْمَيْنِ
فَصَاعِدًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْعَبْدَ عَاجِزٌ عن تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ
لِأَنَّهُ مُعْسِرٌ لَا مَالَ له وَالْعَجْزُ عن التَّسْلِيمِ عِنْدَ الْعَقْدِ
بمنع ( ( ( يمنع ) ) ) انْعِقَادَهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو طَرَأَ على الْعَقْدِ
يَرْفَعُهُ فإذا قَارَنَهُ يَمْنَعُهُ من الِانْعِقَادِ من طَرِيقِ الْأَوْلَى
لِأَنَّ الْمَنْعَ أَسْهَلُ من الرَّفْعِ وَكَذَا مَأْخَذُ الِاسْمِ يَدُلُّ على
ما قُلْنَا فإن الْكِتَابَةَ مَأْخُوذَةٌ من الْكِتَابِ وَالْكِتَابُ يُذْكَرُ
بِمَعْنَى الْأَجَلِ قال اللَّهُ عز وجل { وما أَهْلَكْنَا من قَرْيَةٍ إلَّا
وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ } أَيْ أَجَلٌ لَا يَتَقَدَّمُ وَلَا يَتَأَخَّرُ فسمى
هذا عَقْدُ كِتَابَةٍ لِكَوْنِ الْبَدَلِ فيه مُؤَجَّلًا وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى
الْكِتَابِ الْمَعْرُوفِ وهو الْمَكْتُوبُ سمى الْعَقْدُ بِذَلِكَ لِأَنَّ
الْبَدَلَ يُكْتَبُ في الدِّيوَانِ وَالْحَاجَةُ إلَى الْكِتَابَةِ لِلْمُؤَجَّلِ
لَا لِلْحَالِ فَكَانَ الْأَجَلُ فيه شَرْطًا كَالْمُسَلَّمِ لَمَّا كان
مَأْخُوذًا من التَّسْلِيمِ كان تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فيه شَرْطًا لِجَوَازِ
السَّلَمِ وَكَذَا الصَّرْفُ لَمَّا كان ينبىء عن نَقْلِ الْبَدَلِ من يَدٍ إلَى
يَدٍ كان الْقَبْضُ فيه من الْجَانِبَيْنِ شَرْطًا كَذَا هذا
وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل { فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا } من
غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحَالِ وَالْمُؤَجَّلِ وَلِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ دَيْنٌ
يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قبل الْقَبْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فيه التَّأْجِيلُ
كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن الْعَبْدَ عَاجِزٌ عن تَسْلِيمِ الْبَدَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ
فَمُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَيَحْتَمِلُ حُدُوثَ
الْقُدْرَةِ بَعْدَهُ بِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَالًا بِقَبُولِ هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ
فَيُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ
وَأَمَّا مَأْخَذُ الِاسْمِ فَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ معان ( ( ( معاني ) ) )
يُقَالُ كَتَبَ أَيْ أَوْجَبَ قال اللَّهُ تَعَالَى { كَتَبَ على نَفْسِهِ
الرَّحْمَةَ } وَكَتَبَ أَيْ ثَبَّتَ قال اللَّهُ تَعَالَى { كَتَبَ في
قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ } وَكَتَبَ أَيْ حَكَمَ وَقَضَى قال اللَّهُ تَعَالَى {
كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أنا وَرُسُلِي } وَشَيْءٌ من هذه الْمَعَانِي لَا
ينبيء عن التَّأْجِيلِ ثُمَّ إذَا كانت الْمُكَاتَبَةُ حَالَّةً فَإِنْ أَدَّى
الْبَدَلَ حين طَالَبَهُ الْمَوْلَى بها وَإِلَّا يُرَدُّ في الرِّقِّ سَوَاءٌ
شُرِطَ ذلك في الْعَقْدِ أو لم يُشْرَطْ بِأَنْ قال له إنْ لم تُؤَدِّهَا إلى
حَالَّةً فَأَنْتَ رَقِيقٌ أو لم يَقُلْ لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ على بَدَلٍ مَوْصُوفٍ
بِصِفَةِ الْحُلُولِ فلم يَكُنْ را ضيا بِدُونِ تِلْكَ الصِّفَةِ وَكَذَلِكَ إذَا
كانت مُنَجَّمَةً بِنُجُومٍ معلوم ( ( ( معلومة ) ) ) فَعَجَزَ عن أَوَّلِ نَجْمٍ
منها يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ لَا يَرُدُّ حتى يَتَوَالَى عليه نَجْمَانِ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ بِمَا روى عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
الْمُكَاتَبُ إذَا تَوَالَى عليه نَجْمَانِ رُدَّ في الرِّقِّ فَقَدْ شَرَطَ
حُلُولَ
____________________
(4/140)
نَجْمَيْنِ
لِلرَّدِّ في الرِّقِّ وَلِأَنَّ الْعَجْزَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عِنْدَ حُلُولِ
نَجْمَيْنِ لِجَوَازِ أَنْ يُقْرِضَهُ إنْسَانٌ أو يَحْصُلَ له مَالٌ من مَوْضِعٍ
آخَرَ فَيُؤَدِّيَ فإذا اجْتَمَعَ عليه مَالُ نَجْمَيْنِ فَقَدْ تَحَقَّقَ
عَجْزُهُ
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بْن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ كَاتَبَ
عَبْدًا له فَعَجَزَ عن نَجْمٍ وَاحِدٍ فَرَدَّهُ إلَى الرِّقِّ وَالظَّاهِرُ أَنَّ
ذلك كان على عِلْمٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَوْلَى شَرَطَ عليه في كل
نَجْمٍ قَدْرًا من الْمَالِ وإنه شَرْطٌ مُعْتَبَرٌ مُفِيدٌ من شَرَائِطِ
الْكِتَابَةِ فَكَانَ له أَنْ يَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ عِنْدَ فَوَاتِهِ كما لو
عَجَزَ عن نَجْمَيْنِ
وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَغَيْرُ سَدِيدٍ
لِأَنَّهُ احْتِجَاجٌ بالمسكوت ( ( ( بالسكوت ) ) ) لِأَنَّ فيه أَنَّهُ إذَا
تَوَالَى عليه نَجْمَانِ يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ وَلَيْسَ فيه أَنَّهُ إذَا كَسَرَ
نَجْمًا وَاحِدًا مَاذَا حُكْمُهُ أو يُحْمَلُ على النَّدْبِ وَبِهِ نَقُولُ أن
الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا يُنْدَبُ مَوْلَاهُ إلَى أَنْ لَا يَرُدَّهُ
إلَى الرِّقِّ ما لم يتوالى ( ( ( يتوال ) ) ) عليه نَجْمَانِ رِفْقًا بِهِ
وَنَظَرًا فَإِنْ عَجَزَ عن نَجْمَيْنِ على أَصْلِهِ أو عن نَجْمٍ على أَصْلِهِمَا
فَإِنْ كان له مَالٌ حَاضِرٌ أو غَائِبٌ مَرْجُوٌّ حُضُورُهُ بِأَنْ قال لي مَالٌ
على إنْسَانٍ أو حَالٌّ يَجِيءُ في الْقَافِلَةِ فإن الْقَاضِيَ يَنْتَظِرُ فيه
يَوْمَيْنِ أو ثَلَاثَةً اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ هذا الْقَدْرَ من التَّأْخِيرِ ما
لَا ضَرَرَ فه ( ( ( فيه ) ) ) على الْمَوْلَى وَفِيهِ رَجَاءُ وُصُولِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ فَيَفْعَلُ الْقَاضِي ذلك عِنْدَ رَجَاءِ الْوُصُولِ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ في قَدْرِ الْبَدَلِ أو جِنْسِهِ
بِأَنْ قال الْمَوْلَى كَاتَبْتُك على أَلْفَيْنِ أو على الدَّنَانِيرِ وقال
الْعَبْدُ كَاتَبْتنِي على أَلْفٍ أو على الدَّرَاهِمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُكَاتَبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرُ سَوَاءٌ كان قد أَدَّى عن بَدَلِ
الْكِتَابَةِ شيئا أو كان لم يُؤَدِّ وكان يقول أو لا يَتَحَالَفَانِ
وَيَتَرَادَّانِ كَالْبَيْعِ لِأَنَّ في الْمُكَاتَبَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ
ثُمَّ رَجَعَ وقال الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ الْمُسْتَحَقُّ عليه
وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ في قَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ أو جِنْسِهِ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمُسْتَحَقِّ عليه في الشَّرْعِ كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلِأَنَّ
الْقِيَاسَ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ لِمَا نَذْكُرُ في كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ في الْبَيْعِ
وَأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا وَالْكِتَابَةُ بِخِلَافِهِ
فلم تَكُنْ في مَعْنَى الْبَيْعِ فَلَا يُقَاسُ عليه وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الرُّكْنِ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ
فَخُلُوُّهُ عن شَرْطٍ فَاسِدٍ وهو الشَّرْطُ الْمُخَالِفُ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ
الدَّاخِلِ في صُلْبِ الْعَقْدِ من الْبَدَلِ فَإِنْ لم يُخَالِفْ مُقْتَضَى
الْعَقْدِ جَازَ الشَّرْطُ وَالْعَقْدُ وَإِنْ خَالَفَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ
لَكِنَّهُ لم يَدْخُلْ في صُلْبِهِ يَبْطُلْ الشَّرْطُ وَيَبْقَى الْعَقْدُ
صَحِيحًا وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ في جَانِبِ
الْمَعْقُودِ عليه وهو الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ لِمَا فيه من فَكِّ
الْحَجْرِ وَإِسْقَاطِهِ وَالْإِعْتَاقُ مِمَّا لَا يُبْطِلُهُ الشُّرُوطُ
الْفَاسِدَةُ وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ وَجَانِبُ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ
الْبَيْعِ لِأَنَّ الْمَوْلَى عَقَدَ عَقْدًا يؤول ( ( ( يئول ) ) ) إلَى زَوَالِ
مِلْكِهِ عنه فَكَانَ كَالْبَيْعِ وَالْبَيْعُ مِمَّا يُفْسِدُهُ الشُّرُوطُ
الْفَاسِدَةُ لِنَهْيِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن بَيْعٍ وَشَرْطٍ فَيُجْعَلُ
من الشُّرُوطِ الدَّاخِلَةِ في صُلْبِ الْعَقْدِ كَالْبَيْعِ فَيَعْمَلُ فيه
الشَّرْطُ الْفَاسِدُ وَفِيمَا لَا يَدْخُلُ في صُلْبِ الْعَقْدِ من الشُّرُوطِ
يُجْعَلُ كَالْإِعْتَاقِ فَلَا يُؤَثِّرُ فيه الشَّرْطُ الْفَاسِدُ عَمَلًا
بِالْمَعْنَيَيْنِ جميعا بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ إذَا كَاتَبَ جَارِيَةً على أَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنْ
يَطَأَهَا ما دَامَتْ مُكَاتَبَةً أو على أَنْ يَطَأَهَا مَرَّةً فَالْكِتَابَةُ
فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا مُقْتَضَى الْعَقْدِ
لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْوَطْءِ وَأَنَّهُ دخل في
صُلْبِ الْعَقْدِ لِدُخُولِهِ في الْبَدَلِ حَيْثُ جَعَلَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَوَطِئَهَا فَفَسَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ
وَلَوْ كَاتَبَهُ على أَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنْ لَا تَخْرُجَ من الْمِصْرِ أو على
أَنْ لَا يُسَافِرَ فَالشَّرْطُ فَاسِدٌ لِأَنَّهُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ
لِأَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي انْفِكَاكَ الْحَجْرِ وَانْفِتَاحَ طَرِيقِ الْإِطْلَاقِ
له إلَى أَيِّ بَلَدٍ وَمَكَانٍ شَاءَ فَيَفْسُدُ الشَّرْطُ لَكِنْ لَا يَفْسُدُ
عَقْدُ الْكِتَابَةِ لأن شَرْطٌ لَا يَرْجِعُ إلَى صُلْبِ الْعَقْدِ وَمِثْلُهُ من
الشُّرُوطِ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ لِمَا بَيَّنَّا من الْفِقْهِ فَلَوْ
أنها أَدَّتْ الْأَلْفَ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى عَتَقَتْ في قَوْلِ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وقال بِشْرُ بن غِيَاثٍ الْمَرِيسِيِّ لَا تَعْتِقُ وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْمَوْلَى
جَعَلَ شَرْطَ الْعِتْقِ شَيْئَيْنِ الْأَلْفَ وَوَطْأَهَا وَالْمُعَلَّقَ
بِشَرْطَيْنِ لَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِهِمَا كما إذَا كَاتَبَهَا على
أَلْفٍ وَرِطْلٍ من خَمْرٍ فَأَدَّتْ الْأَلْفَ دُونَ الْخَمْرِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا في الْمُكَاتَبَةِ فَلَا
يَتَعَلَّقُ الْعِتْقُ بِهِ فَأُلْحِقَ ذِكْرُهُ بِالْعَدَمِ بِخِلَافِ الْخَمْرِ
فإنه يَصْلُحُ عِوَضًا في الْجُمْلَةِ لِكَوْنِهِ مَالًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ
فلم يُلْحَقْ بِالْعَدَمِ وَتَعَلُّقِ الْعِتْقِ بِأَدَائِهَا ثُمَّ إذَا أَدَّتْ
فَعَتَقَتْ يُنْظَرُ إلَى قِيمَتِهَا فَإِنْ كانت قِيمَتُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ
فَلَا شَيْءَ لِلْمَوْلَى عليها
____________________
(4/141)
وَلَا
لها على الْمَوْلَى لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ لِكَوْنِهَا مَقْبُوضَةً
بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ مَضْمُونٌ
لِأَنَّهُ يَجِبُ عليه رَدُّهُ وهو عَاجِزٌ عن رَدِّ عَيْنِهِ فَيَرُدُّ
الْقِيمَةَ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ كَذَا هَهُنَا وَجَبَ عليها رَدُّ
نَفْسِهَا وقد عَجَزَتْ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فيها فَتُرَدُّ الْقِيمَةُ وَهِيَ
أَلْفُ دِرْهَمٍ وقد وَصَلَ بِتَمَامِهِ إلَى الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ
لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ ذلك على صَاحِبِهِ سَبِيلٌ كما لو بَاعَ رَجُلٌ من آخَرَ
عَبْدَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَطْلٍ من خَمْرٍ وَقَبَضَ الْبَائِعُ الْأَلْفَ
وسلم الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرِي وَهَلَكَ في يَدِهِ لَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا
على صَاحِبِهِ لِوُصُولِ ما يَسْتَحِقُّهُ الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي إلَيْهِ
فَكَذَا هَهُنَا
وَإِنْ كانت قِيمَةُ الْجَارِيَةِ أَكْثَرَ من أَلْفٍ رَجَعَ الْمَوْلَى عليها
بِمَا زَادَ على الْأَلْفِ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِكَمَالِ قِيمَتِهَا وما
أَدَّتْ إلَيْهِ كَمَالَ قِيمَتِهَا فَيَرْجِعُ عليها وَصَارَ هذا كما إذَا بَاعَ
عَبْدَهُ من ذِمِّيٍّ بِأَلْفٍ وَرَطْلٍ من خَمْرٍ وَقَبَضَ الْأَلْفَ وسلم
الْعَبْدَ وَهَلَكَ في يَدِ الْمُشْتَرِي وَقِيمَتُهُ أَكْثَرُ من أَلْفٍ أَنَّهُ
يَرْجِعُ بِمَا زَادَ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَإِنْ كانت قِيمَةُ الْمُكَاتَبَةِ أَقَلَّ من الْأَلْفِ وَأَدَّتْ الْأَلْفَ
وَعَتَقَتْ هل تَرْجِعُ على الْمَوْلَى بِمَا أَخَذَ من الزِّيَادَةِ على
قِيمَتِهَا قال أَصْحَابُنَا الثَّلَاثَةُ ليس لها أَنْ تَرْجِعَ وقال زُفَرُ لها
أَنْ تَرْجِعَ بِالزِّيَادَةِ على الْمَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى أَخَذَ منها زِيَادَةً على ما يَسْتَحِقُّهُ
عليها فَكَانَتْ الزِّيَادَةُ مَأْخُوذَةً بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَجِبُ رَدُّهَا كما
في الْبَيْعِ الْفَاسِدِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ أَنَّهُ إنْ
كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الثَّمَنِ يَرْجِعْ الْبَائِعُ على الْمُشْتَرِي
بِالزِّيَادَةِ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي على
الْبَائِعِ بِفَضْلِ الثَّمَنِ كَذَا هَهُنَا
وَلَنَا أنها لو رَجَعَتْ عليه لَأَدَّى إلَى إبْطَالِ الْعِتْقِ لِأَنَّهَا
عَتَقَتْ بِأَدَاءِ الكاتبة ( ( ( الكتابة ) ) ) فَلَوْ لم يَسْلَمْ المؤدي
لِلْمَوْلَى لَا يَسْلَمُ الْعِتْقُ لِلْمُكَاتَبَةِ وَالْعِتْقُ سَالِمٌ لها
فَيَسْلَمُ المؤدي لِلْمَوْلَى لِأَنَّ عَقْدَ الْمُكَاتَبَةِ مُشْتَمِلٌ على
الْمُعَاوَضَةِ وَعَلَى التَّعْلِيقِ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْمُعَاوَضَةِ يُوجِبُ
لها حَقَّ الرُّجُوعِ عليه بِمَا زَادَ على الْقِيمَةِ وَاعْتِبَارُ مَعْنَى
التَّعْلِيقِ لَا يُوجِبُ لها حَقَّ الرُّجُوعِ كما لو قال لها إنْ أَدَّيْتِ
إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَأَدَّتْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَتُهَا
أَلْفٌ عَتَقَتْ وَلَا تَرْجِعُ عليه بِشَيْءٍ فَيَقَعُ الشَّكُّ في ثُبُوتِ حَقِّ
الرُّجُوعِ فَلَا يَثْبُتُ مع الشَّكِّ وَكَذَا لو كَاتَبَهَا وَهِيَ حَامِلٌ على
أَلْفٍ أَنَّ ما في بَطْنِهَا من وَلَدٍ فَهُوَ له وَلَيْسَ في الْمُكَاتَبَةِ أو
كَاتَبَ أَمَةً على أَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنَّ كُلَّ وَلَدٍ تَلِدُهُ فَهُوَ
لِلسَّيِّدِ فَالْمُكَاتَبَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ شَرَطَ شَرْطًا مُخَالِفًا
لِمُوجِبِ الْعَقْدِ لِأَنَّ مُوجِبَهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَلَدٍ تَلِدُهُ
يَكُونُ مُكَاتَبًا تَبَعًا لها فَكَانَ هذا شَرْطًا فَاسِدًا وأنه دَاخِلٌ في
صُلْبِ الْعَقْدِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى الْبَدَلِ فَيُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ
وَإِنْ أَدَّتْ الْأَلْفَ عَتَقَتْ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ إذَا عَتَقَتْ يُنْظَرُ
إلَى قِيمَتِهَا وَإِلَى الْمُؤَدَّى على ما ذَكَرْنَا
وَكَذَا لو كَاتَبَ عَبْدَهُ على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَلَى أَنْ يَخْدُمَهُ ولم
يُبَيِّنْ مِقْدَارَ الْخِدْمَةِ فَأَدَّى الْأَلْفَ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ
يُنْظَرُ إلَى قِيمَته وَإِلَى الْأَلْف على ما وَصَفْنَا
وَلَوْ كَاتَبَهُ على أَلْفٍ مُنَجَّمَةٍ على أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عن نَجْمٍ منها
فَمُكَاتَبَتُهُ أَلْفَا دِرْهَمٍ لم تَجُزْ هذه الْمُكَاتَبَةُ لِتَمَكُّنِ
الْعُذْرِ في الْبَدَلِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ يَعْجِزُ أو لَا يَعْجِزُ
وَيُمْكِنُ الْجَهَالَةُ فيه جَهَالَةً فَاحِشَةً فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ وَلِنَهْيِ
النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم عن صَفْقَتَيْنِ في صَفْقَةٍ وَهَذَا كَذَلِكَ
وَلَوْ كَاتَبَهُ على أَلْفٍ يُؤَدِّيهَا إلَى غَرِيمٍ له فَهُوَ جَائِزٌ وَكَذَا
إذَا كَاتَبَهُ على أَلْفٍ يَضْمَنُهَا لِرَجُلٍ عن سَيِّدِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ
وَالضَّمَانُ جَائِزَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ إذَا بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَى فُلَانٍ أو على أَنْ يَضْمَنَهَا الْمُشْتَرِي عن
الْبَائِعِ لِفُلَانٍ أن الْبَيْعَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَفْسُدُ
بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وهو الشَّرْطُ الْمُخَالِفُ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ
وَالْكِتَابَةُ لَا تَفْسُدُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إذَا لم تَكُنْ في صُلْبِ
الْعَقْدِ كما لو كَاتَبَهُ على أَلْفٍ على أَنْ لَا يَخْرُجَ من الْمِصْرِ أو لَا
يُسَافِرَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ شَرْطَ الضَّمَانِ بَاطِلٌ وَهَهُنَا جَائِزٌ
لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُكَاتَبِ عن سَيِّدِهِ وَكَفَالَتَهُ عنه بِمَا عليه
مُقَيَّدًا جَائِزٌ لِأَنَّ ذلك وَاجِبٌ عليه فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا في
الضَّمَانِ وَضَمَانُ الْمُكَاتَبِ عن الْأَجْنَبِيِّ إنَّمَا لَا يَصِحُّ
لِكَوْنِهِ مُتَبَرِّعًا ولم يُوجَدْ فَإِنْ كَاتَبَهُ على أَلْفِ دِرْهَمٍ
مُنَجَّمَةً على أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِ مع كل نَجْمٍ ثَوْبًا وَسَمَّى نَوْعَهُ
جَازَ لِأَنَّ مُكَاتَبَتَهُ على بَدَلٍ مَعْلُومٍ حَيْثُ سَمَّى نَوْعَ الثَّوْبِ
فَصَارَ الْأَلْفُ مع الثَّوْبِ بَدَلًا كَامِلًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مَعْلُومٌ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لو انْفَرَدَ في الْعَقْدِ
جَازَ وَكَذَا إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا وقد قال أَصْحَابُنَا أنه لو ذَكَرَ مِثْلَ
ذلك في الْبَيْعِ جَازَ بِأَنْ يَقُولَ بِعْتُك هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
على أَنْ تُعْطِيَنِي معه مِائَةَ دِينَارٍ وَتَصِيرَ الْأَلْفُ وَالْمِائَةُ
دِينَارٍ ثَمَنًا لِمَا قُلْنَا كَذَا هَهُنَا
وَكَذَلِكَ إنْ قال على أَنْ تُعْطِيَنِي مع كُلّ نَجْمٍ عَشْرَةَ دَرَاهِمَ
وَكَذَلِكَ لو قال على أَنْ تُؤَدِّيَ مع مُكَاتَبَتِك أَلْفَ دِرْهَمٍ لِأَنَّ
الْكُلَّ صَارَ بَدَلًا في الْعَقْدِ
وَلَوْ كَاتَبَهُ على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهُ على أَنَّهُ إذَا أَدَّى
وَعَتَقَ عليه فَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى جَازَ وكان الْأَمْرُ على ما قَالَهُ
إذَا
____________________
(4/142)
أَدَّى
الْأَلْفَ عَتَقَ وَعَلَيْهِ أَلْفٌ أُخْرَى بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهُ لو جَعَلَ
الْأَلْفَيْنِ جميعا بَدَلَ الْكِتَابَةِ لَجَازَ وَلَوْ جَعَلَهُمَا جميعا بَعْدَ
الْعِتْقِ لَجَازَ كَذَا إذَا جَعَلَ الْبَعْضَ قبل الْعِتْقِ وَالْبَعْضَ
بَعْدَهُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ وَإِنْ كَاتَبَهُ على أَلْفِ دِرْهَمٍ
على نَفْسِهِ وَمَالِهِ يَعْنِي على أَنْ يَكُونَ الْمُكَاتَبُ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ
وَمَالِهِ فَهُوَ جَائِزٌ
وَإِنْ كان لِلْعَبْدِ أَلْفٌ أو أَكْثَرُ وَلَا يَدْخُلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عَبْدِهِ رِبًا كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْعِ
إذَا بَاعَ عَبْدَهُ مع مَالِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَالُ الْعَبْدِ أَلْفُ
دِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ الْأَلْفَ يُقَابِلُ الْأَلْفَ
فَيَبْقَى الْعَبْدُ زِيَادَةً في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يُقَابِلُهَا عِوَضٌ
فَيَكُونَ رِبًا وَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا هَهُنَا لِأَنَّ الرِّبَا لَا يَجْرِي
بين الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ هذا مَعْنَى ما أَشَارَ إلَيْهِ في الْأَصْلِ ثُمَّ
مَالُ الْعَبْدِ ما يَحْصُلُ بَعْدَ الْعَقْدَ بِتِجَارَتِهِ أو بِقَبُولِ
الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لِأَنَّ ذلك يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَدْخُلُ فيه
ما كان من مَالِ الْمَوْلَى في يَدِ الْعَبْدِ وَقْتَ الْعَقْدِ لِأَنَّ ذلك لَا
يُنْسَبُ إلَى الْعَبْدِ وَلَا يَدْخُلُ فيه الْأَرْشُ وَالْعُقْرُ وَإِنْ حَصَلَا
بَعْدَ الْعَقْدِ يكون ( ( ( يكن ) ) ) لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ إلَى
الْعَبْدِ بِخِلَافِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
وَيَكُونُ رِبًا لِأَنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ في قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا يَجْرِي
الرِّبَا بين الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ فِيمَا ليس بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ
وَالْكِتَابَةُ وَإِنْ كان فيها مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَلَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ
مُطْلَقَةٍ وَجَرَيَانُ الرِّبَا يَخْتَصُّ بِالْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ
بِخِلَافِ بَيْعِ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ لِأَنَّ ذَاكَ مُعَاوَضَةٌ
مُطْلَقَةٌ لِأَنَّ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عن كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ
الْفَرْقُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْمَوْلَى كان هذا قبل عَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ وقال
الْمُكَاتَبُ كان ذلك بَعْدَ الْعَقْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ
الشَّيْءَ في يَدِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ
وَلَوْ قال الْعَبْدُ كَاتِبْنِي على أَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنْ أُعْطِيَهَا من
مَالِ فُلَانٍ فَكَاتَبَهُ على ذلك جَازَتْ الْكِتَابَةُ لِأَنَّ هذا شَرْطٌ
فَاسِدٌ وَالشُّرُوطُ الْفَاسِدَةُ لَا تُبْطِلُ الْكِتَابَةَ إذَا لم تَكُنْ
دَاخِلَةً في صُلْبِ الْعَقْدِ فَلَوْ كَاتَبَهُ على أَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنَّهُ
بِالْخِيَارِ أو على أَنَّ الْعَبْدَ بِالْخِيَارِ يَوْمًا أو يَوْمَيْنِ أو
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ جَازَ لِأَنَّ دَلَائِلَ جَوَازِ الْكِتَابَةِ لَا تُوجِبُ
الْفَصْلَ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ قد تَدْعُو إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ في
الْمُكَاتَبَةِ كما تَدْعُو إلَيْهِ في الْبَيْعِ وهو الْحَاجَةُ إلَى
التَّأَمُّلِ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدٌ قَابِلٌ لِلْفَسْخِ وَلَا يُعْتَبَرُ
فيه الْقَبْضُ في الْمَجْلِسِ فَجَازَ أَنْ يَثْبُتَ فيه خِيَارُ الشَّرْطِ
كَالْبَيْعِ
فَإِنْ قِيلَ ثُبُوتُ الْخِيَارِ في الْبَيْعِ اسْتِحْسَانٌ عِنْدَكُمْ فَلَا
يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِهِ عليه فَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَنَا يَجُوزُ
الْقِيَاسُ على مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ بِشَرْطِهِ وهو أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ
في مَوْضِعِ الِاسْتِحْسَانِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى وَيَكُونَ مِثْلُ ذلك
الْمَعْنَى مَوْجُودًا في مَوْضِعِ الْقِيَاسِ وقد وُجِدَ هَهُنَا على ما
ذَكَرْنَا وَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فيه أَكْثَرَ من ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَإِنْ أَبْطَلَ خِيَارَهُ في الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ جَازَ
كَالْبَيْعِ وَإِنْ لم يُبْطِلْ حتى مَضَتْ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ يَتَمَكَّنْ
الْفَسَادُ كما في الْبَيْعِ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ قَلَّتْ الْمُدَّةُ أو
كَثُرَتْ بَعْدَ أَنْ كانت مَعْلُومَةً من شَهْرٍ أو نَحْوِ ذلك كما في الْبَيْعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُ الْمُكَاتَبُ من التَّصَرُّفَاتِ وما لَا
يَمْلِكُهُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ لِأَنَّهُ صَارَ مَأْذُونًا في
التِّجَارَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ من بَابِ التِّجَارَةِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ
بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ كان وَبِالنَّقْدِ
وَبِالنَّسِيئَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ
إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ الناس في مِثْلِهِ وَبِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ
وَبِالنَّقْدِ لَا بِالنَّسِيئَةِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ الْمُطْلَقِ وَهِيَ من
مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَهُ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ من مَوْلَاهُ
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ كَالْحُرِّ
فَكَانَ فيها بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ من مَوْلَاهُ
وَشِرَاؤُهُ منه كما يَجُوزُ ذلك من الْأَجْنَبِيِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ له
أَنْ يَبِيعَ ما اشْتَرَى من مَوْلَاهُ مُرَابَحَةً إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ
وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى فِيمَا اشْتَرَى منه لِأَنَّ بَيْعَ الْمُرَابَحَةِ بَيْعُ
أَمَانَةٍ فَيَجِبُ صِيَانَتُهُ عن الْخِيَانَةِ وَشُبْهَةِ الْخِيَانَةِ ما
أَمْكَنَ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ مَالَ الْمَوْلَى من وَجْهٍ فَيَجِبُ أَنْ
يُبَيِّنَ حتى يرتفع ( ( ( ترتفع ) ) ) الشُّبْهَةُ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَبِيعَ
من مَوْلَاهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْمُكَاتَبَةِ صَارَ
أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ فَصَارَ الأجنبي ( ( ( كالأجنبي ) ) ) في الْمُعَاوَضَةِ
الْمُطْلَقَةِ
وَكَذَا لَا يَجُوزُ ذلك لِلْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ
لِعَبْدِهِ في التِّجَارَةِ لِأَنَّ الْإِذْنَ في التِّجَارَةِ وَسِيلَةٌ إلَى
الِاكْتِسَابِ وَالْمُكَاتَبُ مَأْذُونٌ في الِاكْتِسَابِ فَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ
بِيعَ فيه إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ عنه الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ إذْنَهُ قد صَحَّ
فَصَحَّتْ اسْتِدَانَتُهُ فَيُبَاعُ فيه كما في عبدا لحر ( ( ( الحر ) ) ) وَلَهُ
أَنْ يَحُطَّ شيئا بَعْدَ الْبَيْعِ لِعَيْبٍ ادعى عليه أو يَزِيدَ في ثَمَنِ
شَيْءٍ قد اشْتَرَاهُ لِأَنَّهُ بِالْكِتَابَةِ صَارَ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ
وَهَذَا من عَمَلِ التِّجَارَةِ وَلَيْسَ له أَنْ يَحُطَّ بَعْدَ
____________________
(4/143)
الْبَيْعِ
بِغَيْرِ عَيْبٍ
وَلَوْ فَعَلَ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ من بَابِ التَّبَرُّعِ وهو لَا يَمْلِكُ
التَّبَرُّعَ وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ ما اشْتَرَى بِالْعَيْبِ إذَا لم يَرْضَ بِهِ
سَوَاءٌ اشْتَرَى من أَجْنَبِيٍّ أو من مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ أَوْلَى بِكَسْبِهِ من
مَوْلَاهُ فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كان عليه دَيْنٌ وَلَهُ الشفعة
فيما اشتراه المولى وللمولى الشُّفْعَةُ فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُكَاتَبُ لِأَنَّ
إملاكهما مُتَمَيِّزَةٌ وَلِهَذَا جَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا من صَاحِبِهِ فَصَارَا
كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ وَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ في التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ
من بَابِ الِاكْتِسَابِ وَلَا تَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ شيئا من مَالِهِ وَلَا
إعْتَاقُهُ سَوَاءٌ عَجَزَ بَعْدَ ذلك أو عَتَقَ وَتَرَكَ وَفَاءً لِأَنَّ هذا
كُلَّهُ تَبَرُّعٌ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ
وَحُكِيَ عن ابْن أبي لَيْلَى أَنَّهُ قال عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ مَوْقُوفَانِ
فَإِنْ عَتَقَ يَوْمًا مَضَى ذلك عليه وَإِنْ رَجَعَ مَمْلُوكًا بَطَلَ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِ أن حَالَ الْمُكَاتَبِ مَوْقُوفٌ بين أَنْ يَعْتِقَ وَبَيْنَ أَنْ
يَعْجِزَ فَكَذَا حَالُ عِتْقِهِ وَهِبَتِهِ وَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَقْدَ
عِنْدَنَا إنَّمَا يَتَوَقَّفُ إذَا كان له مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ وَهَهُنَا لَا
مُجِيزَ لِعِتْقِهِ حَالَ وُقُوعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ فإذا وَهَبَ هِبَةً أو
تَصَدَّقَ ثُمَّ عَتَقَ رُدَّتْ إلَيْهِ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ حَيْثُ كانت
لِأَنَّ هذا عَقْدٌ لَا مُجِيزَ له حَالَ وُقُوعِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ وَسَوَاءٌ
كان الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أو بِبَدَلٍ أَمَّا بِغَيْرِ بَدَلٍ فَلِمَا
قُلْنَا وَأَمَّا بِبَدَلٍ فَلِأَنَّ الْإِعْتَاقَ بِبَدَلٍ ليس من بَابِ
الِاكْتِسَابِ لِأَنَّ الْعِتْقَ فيه يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَيَبْقَى
الْبَدَلُ في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ وَلَا يَمْلِكُ التَّعْلِيقَ كما لَا يَمْلِكُ
التَّنْجِيزَ كما لو قال له إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ
وَكَذَا إذَا قال إنْ أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّ
ذلك تَعْلِيقٌ وَلَيْسَ بِمُكَاتَبَةٍ لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا من اكسابه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ فَلَا يَجُوزُ كما لو
أَعْتَقَهُ على مَالٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ نَوْعُ اكْتِسَابِ الْمَالِ
وَالْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ اكْتِسَابَ الْمَالِ وَلِهَذَا مَلَكَ الْبَيْعَ وَكَذَا
الْمُكَاتَبَةُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ على مَالٍ فإن ذلك ليس بِاكْتِسَابِ
الْمَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْتَسِبَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ لَا يَكُونُ له بَلْ يَكُونُ
لِلْعَبْدِ وَإِنَّمَا الْمُكَاتَبُ له دَيْنٌ يتعلق ( ( ( تعلق ) ) ) بِذِمَّةِ
الْمُفْلِسِ فَكَانَ ذلك إعْتَاقًا بِغَيْرِ بَدَلٍ من حَيْثُ الْمَعْنَى وفي
الْمُكَاتَبَةِ الْمَكْسَبُ يَكُونُ لِلْمُكَاتَبِ فلم يَكُنْ إعْتَاقًا بِغَيْرِ
بَدَلٍ فَافْتَرَقَا
وَكَذَا لو اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه لَا يَعْتِقُ لِأَنَّ
شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ وهو لَا يَمْلِكُ الْإِعْتَاقَ وَلَوْ اشْتَرَى ذَا
رَحِمٍ مَحْرَمٍ من مَوْلَاهُ لَا يَعْتِقُ على مَوْلَاهُ لِأَنَّ هذا كَسْبُ
الْمُكَاتَبِ وَالْمَوْلَى لو أَعْتَقَ عَبْدًا من إكسابه صَرِيحًا لَا يَعْتِقُ
فَبِالشِّرَاءِ أَوْلَى فَإِنْ أَدَّى الْأَعْلَى أَوَّلًا عَتَقَ وَثَبَتَ
وَلَاؤُهُ من الْمَوْلَى لِأَنَّ الْعِتْقَ حَصَلَ منه فإذا أَدَّى الْأَسْفَلُ بَعْدَ
ذلك يَثْبُتُ وَلَاؤُهُ من الْأَعْلَى لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ صَارَ من أَهْلِ
ثُبُوتِ الْوَلَاءِ منه وَإِنْ أَدَّى الْأَسْفَلُ أَوَّلًا يَعْتِقْ وَيَثْبُتْ
وَلَاؤُهُ من الْمَوْلَى وَلَا يَثْبُتُ من الْأَعْلَى لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ
ثُبُوتِ الْوَلَاءِ فَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ ذلك لَا يَرْجِعُ إلَيْهِ الْوَلَاءُ
لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ مَتَى ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَالَ بِحَالٍ
وَإِنْ أَدَّيَا جميعا مَعًا ثَبَتَ وَلَاؤُهُمَا مَعًا من الْمَوْلَى وَلَيْسَ
لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ وَلَدَهُ وَلَا وَالِدَهُ
وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من لَا يَجُوزُ له أَنْ يَبِيعَهُ لَا يَجُوزُ له أَنْ
يُكَاتِبَهُ إلَّا أُمَّ وَلَدِهِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتِقُونَ بِعِتْقِهِ فَلَا
يَجُوزُ أَنْ يَسْبِقَ عِتْقُهُمْ عِتْقَهُ وَلِأَنَّهُمْ قد دَخَلُوا في
كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُكَاتَبُوا ثَانِيًا بِخِلَافِ أُمِّ
الْوَلَدِ وَلَا يَمْلِكُ التصديق ( ( ( التصدق ) ) ) إلَّا بِشَيْءٍ يَسِيرٍ حتى
لَا يَجُوزَ له أَنْ يُعْطِيَ فَقِيرًا دِرْهَمًا وَلَا أَنْ يَكْسُوهُ ثَوْبًا
وَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُهْدِيَ إلَّا بِشَيْءٍ قَلِيلٍ من الْمَأْكُولِ وَلَهُ
أَنْ يَدْعُوَ إلَى الطَّعَامِ لِأَنَّ ذلك عَمَلُ التُّجَّارِ
وقد رُوِيَ أَنَّ سَلْمَانَ رضي اللَّهُ عنه أَهْدَى إلَى رسول اللَّهِ وكان
مُكَاتَبًا فَقَبِلَ ذلك منه وَكَذَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يُجِيبُ دَعْوَةَ
الْمَمْلُوكِ وَلِأَنَّ ذلك وَسِيلَةٌ إلَى أَدَاءِ مَالِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ
يَجْذِبُ قُلُوبَ الناس فَيَحْمِلُهُمْ ذلك على الْإِهْدَاءِ إلَيْهِ فَيُمَكَّنُ
من أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَيَمْلِكُ الْإِجَارَةَ وَالْإِعَارَةَ
وَالْإِيدَاعَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ من التِّجَارَةِ وَلِهَذَا مَلَكَهَا
الْمَأْذُونُ بِالتِّجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْإِيدَاعِ من عَمَلِ التُّجَّارِ
وَضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يُقْرِضَ لِأَنَّ الْقَرْضَ
تَبَرُّعٌ بِابْتِدَائِهِ
وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَجُوزُ أَيْ لَا يَطِيبُ لِلْمُسْتَقْرِضِ أَكْلُهُ
لَا أَنْ لَا يَمْلِكَهُ الْمُسْتَقْرِضُ حتى لو تَصَرَّفَ فيه نَفَذَ تَصَرُّفُهُ
لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ في مِلْكِهِ وَيَكُونُ الْمُسْتَقْرِضُ مَضْمُونًا عليه
وَهَذَا كما قُلْنَا في حَقِّ الْإِعْتَاقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَمَعْنَاهُ
أَنَّهُ لَا يَطِيبُ له أَكْلُهُ لَكِنَّهُ يَكُون مَضْمُونًا عليه حتى لو كان
عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ نَفَذَ إعْتَاقُهُ لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفْسِهِ كَذَا
قَرْضُ الْمُكَاتَبِ وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ وَلَا تَجُوزُ
كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ بِالْمَالِ وَلَا بِالنَّفْسِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَلَا
بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهَا تَبَرُّعٌ
أَمَّا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَلِأَنَّهَا الْتِزَامُ تَسْلِيمِ النَّفْسِ من
غَيْرِ عِوَضٍ وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ الْتِزَامُ تَسْلِيمِ الْمَالِ من
____________________
(4/144)
غَيْرِ
عِوَضٍ إنْ كانت بِغَيْرِ إذْنِ الْمَكْفُولِ عنه وَإِنْ كانت بِإِذْنِهِ فَهِيَ
وَإِنْ كانت مُبَادَلَةً في الِانْتِهَاءِ فَهِيَ تَبَرُّعٌ في الِابْتِدَاءِ
وَالْمُكَاتَبُ ليس من أَهْلِ التَّبَرُّعِ وَسَوَاءٌ أَذِنَ الْمَوْلَى فيها أو
لم يَأْذَنْ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ فَلَا يَصِحُّ إذْنُهُ
بِالتَّبَرُّعِ وَيَجُوزُ له أَنْ يَتَوَكَّلَ بِالشِّرَاءِ وَإِنْ كان ذلك يُوجِب
ضَمَانًا عليه لِلْبَائِعِ وهو الثَّمَنُ لِأَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا
مِلْكُ الْمَبِيعِ يَثْبُتُ له أَوَّلًا ثُمَّ يَنْتَقِلُ منه إلَى الْمُوَكَّلِ
فَصَارَ كَالْبَيْعِ منه وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ كان لَا يَثْبُتُ له لَكِنْ
الْوَكَالَةُ من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَإِنْ أَدَّى فَعَتَقَ لَزِمَتْهُ
الْكَفَالَةُ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً في حَقِّهِ لِأَنَّهُ
أَهْلٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ بِهِ في الْحَالِ لِأَنَّهُ لم يَصِحَّ في
حَقّ الْمَوْلَى فإذا عَتَقَ فَقَدْ زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى فَيُطَالَبُ بِهِ
كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ إذَا كُفِلَ ثُمَّ عَتَقَ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ إذَا
كُفِلَ ثُمَّ بَلَغَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ ليس من أَهْلِ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ ليس
له قَوْلٌ صَحِيحٌ في نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ تَصَرَّفَ في مِلْكِهِ
وَتَجُوزُ كَفَالَتُهُ عن سَيِّدِهِ لِأَنَّ بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَاجِبٌ عليه فلم
يَكُنْ مُتَبَرِّعًا بها وَالْأَدَاءُ إلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ سَوَاءٌ وَهَلْ
يَجُوزُ له قَبُولُ الْحَوَالَةِ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إنْ كان عليه دَيْنٌ
لِإِنْسَانٍ وَعَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ دَيْنٌ لِآخَرَ فَأَحَالَهُ على
الْمُكَاتَبِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ ضَمِنَ مَالًا كان وَاجِبًا عليه فلم
يَكُنْ مُتَبَرِّعًا وَلَا فَرْقَ بين أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى هذا أو إلَى غَيْره
وَإِنْ كان لِإِنْسَانٍ على آخَرَ دَيْنٌ فَأَحَالَهُ على الْمُكَاتَبِ وَقَبِلَ
الْحَوَالَةَ وَلَيْسَ عليه دَيْنٌ لِلَّذِي أَحَالَ عليه لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ
تَبَرُّعٌ وَلَهُ أَنْ يُشَارِكَ حُرًّا شَرِكَةَ عِنَانٍ وَلَيْسَ له أَنْ
يُشَارِكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ على
الْكَفَالَةِ وهو ليس من أَهْلِ الْكَفَالَةِ وَشَرِكَةُ الْعِنَانِ غَيْرُ
مَبْنِيَّةٍ على الْكَفَالَةِ بَلْ على الْوَكَالَةِ وَالْمُكَاتَبُ من أَهْلِ
الْوَكَالَةِ
وَلَوْ كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَيْنِ له مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً على أَلْفِ
دِرْهَمٍ على أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن صَاحِبِهِ فَهَذِهِ
الْمَسْأَلَةُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أن كَاتَبَهُمَا على مَالٍ وَجَعَلَ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عن صَاحِبِهِ وَإِمَّا أن كَاتَبَهُمَا على
مَالٍ ولم يَجْعَلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عن صَاحِبِهِ وَلَكِنَّهُ
قال إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا في الرِّقِّ وَإِمَّا أن كَاتَبَهُمَا
على مَالٍ ولم يَكْفُلْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ ولم يَقُلْ أَيْضًا
إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا في الرِّقِّ أَمَّا إذَا كَاتَبَهُمَا
على أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن صَاحِبِهِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا
تَجُوزَ هذه الْكِتَابَةُ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يجوز ( ( ( تجوز ) ) ) إذَا قَبِلَا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هذه كِتَابَةٌ بِشَرْطِ الْكَفَالَةِ وَكَفَالَةُ
الْمُكَاتَبِ عن غَيْرِ الْمَوْلَى لَا تَصِحُّ وَلِأَنَّهُ كَفَالَةٌ بِبَدَلِ
الْكِتَابَةِ وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ بَاطِلَةٌ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا ليس بِكَفَالَةٍ في الْحَقِيقَةِ بَلْ هو
تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ وَالْمَوْلَى يَمْلِكُ تَعْلِيقَ عِتْقِهِمَا
بِأَدَاءِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَوْ فَعَلَ هَكَذَا كان جَائِزًا كَذَلِكَ هذا
وَأَمَّا إذَا كَاتَبَهُمَا على أَلْفِ دِرْهَمٍ على أَنَّهُمَا إنْ أَدَّيَا
عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا في الرِّقِّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ في قَوْلِ
عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبٌ على
حِدَةٍ فَأَيُّهُمَا أَدَّى حِصَّتَهُ يَعْتِقُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُهُ كِتَابَةُ نَفْسِهِ
خَاصَّةً فَلَا يَجِبُ عليه كِتَابَةُ غَيْرِهِ ما لم يَشْتَرِطَا ولم يُوجَدْ
الشَّرْطُ
وَلَنَا أَنَّ الْمَوْلَى عَلَّقَ عِتْقَهُمَا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ فما لم يُوجَدْ
لَا يَقَعُ الْعِتْقُ كما إذَا قال لِعَبْدَيْنِ له إنْ دَخَلْتُمَا هذه الدَّارَ
فَأَنْتُمَا حُرَّانِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا لَا يَعْتِقُ ما لم يَدْخُلَا جميعا
فَكَذَلِكَ هَهُنَا لَا يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ
وإذا لم يَعْتِقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ صَارَ جَمِيعُ
الْأَلْفِ على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَصَارَ كما إذَا كَفَلَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عن صَاحِبِهِ
وَنَظِيرُ هذا الِاخْتِلَافِ ما قالوا في كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ أن من
قال لِامْرَأَتَيْنِ له إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ أو قال لِعَبْدَيْنِ
له إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا حُرَّانِ أَنَّهُ على قَوْلِ زُفَرَ أَيُّهُمَا
شَاءَ يَعْتِقُ وَانْصَرَفَ مَشِيئَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عِتْقِ نَفْسِهِ
وَطَلَاقِ نَفْسِهَا وفي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ ما لم تُوجَدْ
مَشِيئَتُهُمَا جميعا في طَلَاقَيْهِمَا جميعا أو في عِتْقَيْهِمَا جميعا لَا
يَعْتِقُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا كَذَلِكَ هَهُنَا
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِث وهو ما إذَا كَاتَبَهُمَا على أَلْفِ دِرْهَمٍ ولم
يَقُلْ إنْ أَدَّيَا عَتَقَا وَإِنْ عَجَزَا رُدَّا في الرِّقِّ فَأَيُّهُمَا
أَدَّى حِصَّتَهُ فإنه يَعْتِقُ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ لم يُعَلِّقْ
عِتْقَهُمَا بِأَدَائِهِمَا جميعا فَانْصَرَفَ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
إلَيْهِ خَاصَّةً وَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُكَاتَبًا على حِدَةٍ ثُمَّ
إذَا كَاتَبَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَأَدَّى أَحَدُهُمَا شيئا منه كان له أَنْ
يَرْجِعَ على صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ بِخِلَافِ ما إذَا كان الدَّيْنُ على
رَجُلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عن صَاحِبِهِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا
شيئا أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ ما لم يُجَاوِزْ النِّصْفَ فإذا جَاوَزَ
النِّصْفَ يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِالزِّيَادَةِ
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ من مَسْأَلَتِنَا هذه لو جَعَلْنَا أَدَاءً عن نَفْسِهِ
أَدَّى ذلك إلَى تَغْيِيرِ شَرْطِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَعْتِقُ وَمِنْ شَرْطِ
____________________
(4/145)
الْمَوْلَى
عِتْقُهُمَا جميعا فإذا كان الْأَمْرُ هَكَذَا فَكَانَ أَدَاؤُهُ عن نَفْسِهِ
وَعَنْ صَاحِبِهِ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَغَيُّرِ شَرْطِ الْمَوْلَى وَهَذَا
الْمَعْنَى لم يُوجَدْ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فإن أَدَاءَهُ عن نَفَسِهِ لَا
يُؤَدِّي إلَى تغيير ( ( ( تغير ) ) ) شَرْطِ الْمَوْلَى فَكَانَ أَدَاؤُهُ عن
نَفْسِهِ إلَى النِّصْفِ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّيْنِ عليه فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ
الْمُكَاتَبَيْنِ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من الْكِتَابَةِ وَيُؤْخَذُ من الْحَيِّ
جَمِيعُ الْكِتَابَةِ وَبِمِثْلِهِ لو أَعْتَقَ أَحَدَهُمَا سَقَطَتْ حِصَّتُهُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ من أَهْلِ أَنْ تَكُونَ عليه
الْكِتَابَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ عن وَفَاءٍ يُؤَدَّى
كِتَابَتُهُ وَكَذَا لو تَرَكَ وَلَدًا تُؤْخَذُ منه الْكِتَابَةُ فَأَمَّا
الْمُعْتَقُ فَلَيْسَ من أَهْلِ أَنْ تَجِبَ عليه الْكِتَابَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ لو كان وَاحِدًا فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَطَلَتْ
عنه الْكِتَابَةُ وَكَذَلِكَ هَهُنَا تَبْطُلُ حِصَّتُهُ وَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ
إنْ شَاءَ أَخَذَ بِحِصَّتِهِ الْمُكَاتَبَ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُعْتَقَ
بِحَقِّ الْكَفَالَةِ فَإِنْ أَخَذَ الْمُكَاتَبَ لَا يَرْجِعُ عليه لِأَنَّهُ
أَدَّى دَيْنَ نَفْسِهِ وَإِنْ أَخَذَ الْمُعْتَقَ وَأَدَّى رَجَعَ على
الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ كَفِيلُهُ وَلَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ
بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ
وَكَذَا الْمُكَاتَبَةُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وقد
قال رسول اللَّهِ أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ
عَاهِرٌ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ
يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ وَمَكَاسِبَهُ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بين
اثْنَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالنِّكَاحِ وَلَا يُزَوِّجُ
ابْنَهُ وَابْنَتَهُ لِأَنَّ جَوَازَ الْإِنْكَاحِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا
وِلَايَةَ له إذْ هو عَبْدٌ وَلَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمَا قُلْنَا وَيُزَوِّجُ
أَمَتَهُ وَمُكَاتَبَتَهُ لِأَنَّ تَزْوِيجَهُمَا من بَابِ الِاكْتِسَابِ وَعَقْدُ
الْكِتَابَةِ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ
يَتَعَلَّقُ الْمَهْرُ بِرَقَبَتِهِ فلم يَكُنْ اكْتِسَابًا وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ
بِالدَّيْنِ وَاسْتِيفَاؤُهُ لِأَنَّ ذلك من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ
وَالْمُكَاتَبَةُ إذْنٌ بِالتِّجَارَةِ فَكَانَ هو إذْنًا بِمَا هو من ضَرُورَاتِ
التِّجَارَةِ وَلَا تَجُوزُ وَصِيَّةُ الْمُكَاتَبِ في مَالِهِ وَإِنْ تَرَكَ وفاه
( ( ( وفاء ) ) ) أَمَّا إذَا لم يَتْرُكْ وفاه ( ( ( وفاء ) ) ) فَلَا شَكَّ فيه
لِأَنَّهُ مَاتَ عَبْدًا فَلَا يجوز ( ( ( تجوز ) ) ) وَصِيَّتُهُ وَأَمَّا إذَا
تَرَكَ وفاه ( ( ( وفاء ) ) ) فَلِأَنَّا وَإِنْ حَكَمْنَا بِعِتْقِهِ فَإِنَّمَا
حَكَمْنَا بِهِ قُبَيْلَ الْمَوْتِ بِلَا فَصْلٍ وَتِلْكَ السَّاعَةُ لَطِيفَةٌ
لَا تَتَّسِعُ لِلَفْظِ الْوَصِيَّةِ
وَلَوْ أَوْصَى ثُمَّ أَدَّى للكتابة ( ( ( الكتابة ) ) ) في حَالِ حَيَاتِهِ
وَعَتَقَ فإن وَصِيَّتَهُ على ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ في وَجْهٍ لَا تَجُوزُ
بِالْإِجْمَاعِ وفي وَجْهٍ تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وفي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فيه
فَأَمَّا الْوَجْهُ الذي تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ إذَا عتقت (
( ( أعتقت ) ) ) فَثُلُثُ مالي وَصِيَّةٌ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ صَحَّتْ
وَصِيَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْوَصِيَّةَ إلَى حَالِ
الْحُرِّيَّةِ وَالْحُرُّ من أَهْلِ الْوَصِيَّةِ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الذي لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ وهو أَنْ يُوصِيَ بِعَيْنِ
مَالِهِ لِرَجُلٍ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ ما أَضَافَ
الْوَصِيَّةَ إلَى حَالِ الْحُرِّيَّةِ وَإِنَّمَا أَوْصَى بِعَيْنِ مَالِهِ
فَيَتَعَلَّقُ بِمِلْكِهِ في ذلك الْوَقْتِ وهو مِلْكُ الْمُكَاتَبِ وَمِلْكُ
الْمُكَاتَبِ لَا يَحْتَمِلُ التَّبَرُّعَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا أَجَازَ تِلْكَ
الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَتَجُوزُ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ مِمَّا يُجَوِّزُ
الْإِجَازَةَ بِدَلِيلِ أَنَّ رَجُلًا لو قال لِوَرَثَتِهِ أَجَزْت لَكُمْ أَنْ
تُعْطُوا ثُلُثَ مَالِي فُلَانًا كان ذلك منه وَصِيَّةً
وَأَمَّا الْوَجْهُ الذي اخْتَلَفُوا فيه فَهُوَ ما إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ
ثُمَّ أَدَّى وَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ قال أبو حَنِيفَةَ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ
إلَّا أَنْ يُحَدِّدَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِأَنَّهَا تَعَلَّقَتْ بِمِلْكِ
الْمُكَاتَبِ وَمِلْكُهُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعْرُوفَ وقال أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ تَجُوزُ وَهَذَا نَظِيرُ ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ
إذَا قال الْعَبْدُ أو الْمُكَاتَبُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إذَا أُعْتِقْت
فَهُوَ حُرٌّ فَأَعْتَقَ ثُمَّ مَلَكَ مَمْلُوكًا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ
لم يَقُلْ إذَا أَعْتَقْتُ لَا يَعْتِقُ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ قال كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا استقبل فَهُوَ حُرٌّ فَعَتَقَ
وَمَلَكَ مَمْلُوكًا لَا يَعْتِقُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَعْتِقُ
وَالْحُجَجُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْعَتَاقِ وَيَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ
قَبُولُ الصَّدَقَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى في آيَةِ الصَّدَقَاتِ { وفي الرِّقَابِ
} قِيلَ في التَّفْسِير ما أَدَّاهَا الْمُكَاتَبُونَ وَيَحِلُّ لِلْمَوْلَى أَنْ
يَأْخُذَ ذلك من قَضَاءٍ من الْمُكَاتَبَةِ وَيَحِلُّ له تَنَاوُلُهُ بَعْدَ
الْعَجْزِ وَإِنْ كان الْمَوْلَى غَنِيًّا لِأَنَّ الْعَيْنَ تَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ حُكْمًا وَإِنْ كانت عَيْنًا وَاحِدَةً
حَقِيقَةً
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ أَنَّ بَرِيرَةَ رضي اللَّهُ عنها كانت يُتَصَدَّقُ
عليها وَكَانَتْ تُهْدِي ذلك إلَى رسول اللَّهِ وكان يَأْكُلُ منه وَيَقُولُ هو
لها صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ إذَا مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا
جَمَعَهُ من الصَّدَقَاتِ وَوَارِثُهُ غَنِيٌّ يَحِلُّ له أَكْلُهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَوْصَى الْمُكَاتَبُ إلَى رَجُلٍ أَيْ جَعَلَهُ وَصِيًّا ثُمَّ مَاتَ
فَإِنْ مَاتَ من غَيْرِ وفاه ( ( ( وفاء ) ) ) بَطَلَ إيصَاؤُهُ لِأَنَّهُ مَاتَ
عَبْدًا وَالْعَبْدُ ليس من أَهْلِ الْإِيصَاءِ وَإِنْ مَاتَ بعدما أَدَّى بَدَلَ
الْكِتَابَةِ جَازَ الْإِيصَاءُ وَتَكُونُ وَصِيَّتُهُ كَوَصِيَّةِ الْحُرِّ
لِأَنَّ الْوِلَايَةَ إنَّمَا تَنْتَقِلُ إلَيْهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَعِنْدَ
الْمَوْتِ كان حُرًّا فَتَنْتَقِلُ الْوِلَايَةُ إلَيْهِ فَصَارَ كَوَصِيِّ
الْحُرِّ
____________________
(4/146)
وَإِنْ
مَاتَ عن وَفَاءٍ ولم يُؤَدِّ في حَالِ حَيَاتِهِ فإن وَصِيَّهُ يَكُونُ وَصِيًّا
على أَوْلَادِهِ الَّذِينَ دَخَلُوا في كِتَابَتِهِ دُونَ الْأَوْلَادِ
الْأَحْرَارِ الَّذِينَ وُلِدُوا من امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَيَكُونُ أَضْعَفَ
الْأَوْصِيَاءِ كَوَصِيِّ الْأُمِّ فَيَكُونُ له وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَلَا
يَكُونُ له وِلَايَةُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ على رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ وَعَلَى
رِوَايَةِ كِتَابِ الْقِسْمَةِ جُعِلَ كَوَصِيِّ الْأَبِ حَيْثُ أَجَازَ
قِسْمَتَهُ في الْعَقَارَاتِ وَالْقِسْمَةُ تَمْنَعُ الْبَيْعَ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُ الْمَوْلَى من التَّصَرُّفِ في الْمُكَاتَبِ
وما لَا يَمْلِكُهُ فَيَشْتَمِلُ عليه حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ نَذْكُرُهُ في فَصْلِ
الْحُكْمِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْمُكَاتَبَةِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا أنها عَقْدٌ
لَازِمٌ من جَانِبِ الْمَوْلَى إذَا كان صَحِيحًا حتى لَا يَمْلِكَ فَسْخَهُ من
غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ إذَا لم يَحِلَّ نَجْمٌ أو نَجْمَانِ على الْخِلَافِ
غَيْرُ لَازِمٍ في جَانِبِ الْمُكَاتَبِ حتى يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ من غَيْرِ
رِضَا الْمَوْلَى لِأَنَّهُ عَقْدٌ شُرِعَ نَظَرًا لِلْعَبِيدِ وَتَمَامُ
نَظَرِهِمْ أَنْ لَا يَلْزَمَ في حَقِّهِمْ وَيَجُوزُ رَدُّ الْمُكَاتَبِ إلَى
الرِّقِّ وَفَسْخُ الْكِتَابَةِ دُونَ قَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وقال ابن أبي لَيْلَى لَا يَجُوزُ رَدُّهُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي
لِأَنَّ الْعَقْدَ قد صَحَّ فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي
وَلَنَا ما رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ أَجَازَ
ذلك ولم يُنْقَلْ عن غَيْرِهِ خِلَافُهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْأَصْلِ فقال
بَلَغْنَا ذلك عن ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قد
ثَبَتَ له الْخِيَارُ في عَقْدِ الْكِتَابَةِ
لِأَنَّ له أَنْ يُعْجِزَ نَفْسَهُ وَمَنْ له الْخِيَارُ في الْعَقْدِ إذَا فَسَخَ
الْعَقْدَ يَصِحُّ فَسْخُهُ دُونَ الْقَاضِي كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ
وَغَيْرِهِ فَأَمَّا الْفَاسِدُ منه فَغَيْرُ لَازِمٍ من الْجَانِبَيْنِ حتى
يَنْفَرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْفَسْخِ من غَيْرِ رِضَا الْآخَر لِأَنَّ
الْعَقْدَ الْفَاسِدَ وَاجِبُ النَّقْضِ وَالْفَسْخُ حَقٌّ لِلشَّرْعِ رَفْعًا
لِلْفَسَادِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَغَيْرِهِ
وَالثَّانِي أنها مُتَجَزِّئَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا غَيْرُ
مُتَجَزِّئَةٍ لِأَنَّهَا عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ متجزىء
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذَا الْمُكَاتَبَةُ وَعَلَى هذا
يَخْرُجُ ما إذَا كَاتَبَ رَجُلٌ نِصْفَ عَبْدِهِ أَنَّهُ جَازَتْ الْكِتَابَةُ في
النِّصْفِ وَصَارَ نِصْفُهُ مُكَاتَبًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ
مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَهُ فَصَحَّتْ في ذلك النِّصْفِ لَا غَيْرُ وَصَارَ في
النِّصْفِ الْآخَرِ مَأْذُونًا بِالتِّجَارَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَقْتَضِي وُجُوبَ
أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يُمْكِنُهُ الْأَدَاءُ إلَّا بِالْإِذْنِ
وَالْإِذْنُ لَا يَتَجَزَّأُ فَصَارَ الْإِذْنُ في قَدْرِ الْكِتَابَةِ إذْنًا في
الْكُلِّ فَصَارَ مَأْذُونًا في الْكُلِّ وَنِصْفُهُ مُكَاتَبٌ فَإِنْ أَدَّى
عَتَقَ نِصْفُهُ وَصَارَ النِّصْفُ الْآخَرُ مُسْتَسْعًى فَإِنْ شَاءَ أَعْتَقَ
وَإِنْ شَاءَ اسْتَسْعَى غير مَشْقُوقٍ عليه بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَعْتَقَ نِصْفَ
عَبْدِهِ فَإِنْ اكْتَسَبَ الْعَبْدُ مَالًا قبل الْأَدَاءِ فَنِصْفُهُ له
وَنِصْفُهُ لِلْمَوْلَى في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ
وَنِصْفُهُ رَقِيقٌ في قَوْلِهِمَا وَالْكَسْبُ كُلُّهُ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ
كُلُّهُ صَارَ مُكَاتَبًا وما اكْتَسَبَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَكُلُّهُ
لِلْمُكَاتَبِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى فيه شَيْءٌ
أَمَّا على قَوْلِهِمَا فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّهُ حُرٌّ عليه دَيْنٌ وَأَمَّا على
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى كَالْمُكَاتَبِ وَكَسْبُ
الْمُكَاتَبِ له وإذا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَحُولَ
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَسْبِ لم يَكُنْ له ذلك لِأَنَّهُ لَمَّا كَاتَبَ نِصْفَهُ
فَقَدْ أَذِنَ له بِالِاكْتِسَابِ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ بَدَلِ
الْكِتَابَةِ إلَّا بِالْكَسْبِ فَلَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ عليه إلَّا بَعْدَ
فَسْخِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَفْسَخُ إلَّا بِرِضَاهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ
الْمَأْذُونِ كله أنه يَمْلِكُ حَجْرَهُ وَمَنْعَهُ من الِاكْتِسَابِ لِأَنَّهُ
إنَّمَا صَارَ مَأْذُونًا بِالْقَوْلِ فَيَصِيرُ محجورا ( ( ( محجوزا ) ) ) عليه
بِحَجْرِهِ والأذن هَهُنَا لَا يَثْبُتُ بِالْقَبُولِ بَلْ مُقْتَضَى الْكِتَابَةِ
فَلَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عليه إلَّا بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ
يَخْرُجَ من الْمِصْرِ فَلَهُ مَنْعُهُ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ
لَا يَمْنَعَهُ وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا أو
يَسْتَسْعِيَهُ يَوْمًا وَيُخَلِّيَ عنه يَوْمًا لِلْكَسْبِ له ذلك في الْقِيَاسِ
وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ له في شَيْءٍ حتى يُؤَدِّيَ أو
يَعْجِزَ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ نِصْفَهُ رَقِيقٌ لم تَزُلْ يَدُهُ عنه فَلَهُ أَنْ
يَمْنَعَهُ من الْخُرُوجِ من الْمِصْرِ لِأَجْلِ النِّصْفِ فيقول له إنْ كان
نِصْفُك مُكَاتَبًا فَالنِّصْفُ الْآخَرُ غَيْرُ مُكَاتَبٍ فَلِيَ الْمَنْعُ
فَكَانَ له أَنْ يُمْسِكَهُ وَيَسْتَخْدِمَهُ يَوْمًا كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ مَأْذُونًا
بِالِاكْتِسَابِ وَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى الْأَمْصَارِ فَلَا يَجُوزُ له
مَنْعُهُ وَأَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاكْتِسَابِ بِالِاسْتِخْدَامِ وَلَا
يُمْكِنُهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالنِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ أو يَسْتَخْدِمَ النِّصْفَ
دُونَ النِّصْفِ فَإِمَّا أَنْ يَجْعَلَ النِّصْفَ الذي هو مُكَاتَبٌ تَبَعًا
____________________
(4/147)
لِلنِّصْفِ
الذي ليس بِمُكَاتَبٍ أو يَجْعَلَ النِّصْفَ الذي هو غَيْرُ مُكَاتَبٍ تَبَعًا
لِلنِّصْفِ الذي هو مُكَاتَبٌ وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ
وَالرِّقَّ إذَا اجْتَمَعَا غَلَبَتْ الْحُرِّيَّةُ الرِّقَّ وفي الْكِتَابَةِ
شُعْبَةٌ من الْعِتْقِ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْعِتْقِ في الْمُسْتَقْبَلِ وَهِيَ
سَبَبٌ من أَسْبَابِهِ وإذا كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ
الْبَاقِيَ فَإِنْ بَاعَهُ من غَيْرِ الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ حَقَّ
الْحُرِّيَّةِ تَعَلَّقَ بِالرَّقَبَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ من غَيْرِهِ كما لو
اعتق نِصْفَهُ أو دَبَّرَ نِصْفَهُ ثُمَّ بَاعَهُ أنه لَا يَجُوزُ كَذَا هذا
وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ له أَنْ يَكْتُبَ وَيَخْرُجَ من الْمِصْرِ بِغَيْرِ إذْنِ
الْمَوْلَى فَصَارَ كَأَنَّهُ بَاعَهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُسَلَّمَ إلَى
الْمُشْتَرِي وَلَوْ فَعَلَ هَكَذَا كان الْبَيْعُ فَاسِدًا كَذَلِكَ هذا
وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ نَفْسِهِ من الْعَبْدِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْعَبْدِ من
نَفْسِهِ بَيْعٌ في الْحَقِيقَةِ بَلْ هو إعْتَاقٌ بِمَالٍ بِدَلِيلِ أَنَّ
الْوَلَاءَ يَثْبُتُ منه بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو بَاعَ نَفْسَ الْمُدَبَّرِ من
الْمُدَبِّرِ يَجُوزُ وَلَوْ كان بَيْعًا لَمَا جَازَ وإذا أَعْتَقَ نِصْفَهُ
فَالْعَبْدُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَدَّى الْكِتَابَةَ وَعَتَقَ وَإِنْ شَاءَ
عَجَزَ وَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُ يُوَجَّهُ إلَيْهَا وَجْهَا
عِتْقٍ في ذلك النِّصْفِ عِتْقٌ بِأَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَعِتْقٌ بِالسِّعَايَةِ
فَلَهُ أَنْ يَمِيلَ إلَى أَيْ الْوَجْهَيْنِ شَاءَ عَبْدٌ بين رَجُلَيْنِ
كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أن كَاتَبَ نِصْفَهُ أو
كُلَّهُ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ أو
بِغَيْرِ إذْنِهِ وإذا أَذِنَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أن أَذِنَ له بِقَبْضِ بَدَلِ
الْكِتَابَةِ أو لم يَأْذَنْ
فَإِنْ كَاتَبَ نِصْفَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ صَارَ نَصِيبُهُ مُكَاتَبًا
لَكِنْ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَنْقُضَ الْكِتَابَةَ لِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِهِ في
الْحَالِ وفي ثَانِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ في الْحَالِ لِأَنَّ
نِصْفَهُ مُكَاتَبٌ وفي الثَّانِي يَصِيرُ مُسْتَسْعًى فَكَانَ له حَقُّ الْفَسْخِ
وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَلَا يَصِحُّ فَسْخُهُ إلَّا بِقَضَاءِ
الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّرِيكَ الذي كَاتَبَ تَصَرَّفَ في مِلْكِ نَفَسِهِ فَلَا
يَفْسَخُ تَصَرُّفَهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أو بِرِضَا الْعَبْدِ فَإِنْ لم يَعْلَمْ
بِهِ الشَّرِيكُ حتى أَدَّى عَتَقَ نِصْفُهُ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ نَفَذَتْ في
نَصِيبِهِ فإذا وَجَدَ شَرْطَ الْعِتْقِ عَتَقَ ثُمَّ الذي لم يُكَاتِبْ له أَنْ
يَرْجِعَ على الشَّرِيكِ فَيَقْبِضُ منه نِصْفَ ما أَخَذَ لِأَنَّ ما أَخَذَهُ كان
كَسْبَ عَبْدٍ بَيْنَهُمَا فَكَانَ له أَنْ يُشَارِكَهُ في الْمَأْخُوذِ ثُمَّ
الذي كَاتَبَ له أَنْ يَرْجِعَ على الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ شَرِيكُهُ منه
لِأَنَّهُ كَاتَبَهُ على بَدَلٍ ولم يُسَلِّمْ له إلَّا نِصْفَهُ فَكَانَ له أَنْ
يَرْجِعَ عليه إلَى تَمَامِ الْبَدَلِ وما يَكُونُ من الْكَسْبِ في يَدِ الْعَبْدِ
له نِصْفُهُ بِالْكِتَابَةِ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ الذي لم يُكَاتِبْ هذا في
الْكَسْبِ الذي اكْتَسَبَهُ قبل الْأَدَاءِ
وَأَمَّا ما اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَهُوَ له خَاصَّةً لِأَنَّهُ بَعْدَ
الْأَدَاءِ يَصِيرُ مُسْتَسْعًى وَالْمُسْتَسْعَى أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ
وَمَكَاسِبِهِ من السَّيِّدِ فَإِنْ اخْتَلَفَ الْعَبْدُ وَالْمَوْلَى فقال
الْعَبْدُ هذا كَسْبٌ اكْتَسَبْته بَعْدَ الْأَدَاءِ وقال الْمَوْلَى بَلْ
اكْتَسَبْته قبل الْأَدَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْكَسْبَ
شَيْءٌ حَادِثٌ فَيُحَالُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَصَارَ الْحُكْمُ
بَعْدُ كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كان مُوسِرًا
فَلِلشَّرِيكِ ثلاث اخْتِيَارَاتٍ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَخِيَارَانِ
هذا إذَا كان بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فإذا كان بِإِذْنِهِ فَإِنْ كان لم
يَأْذَنْ له بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا في
فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أنه لَا يَكُونُ له حَقُّ الْفَسْخِ هَهُنَا لِوُجُودِ
الرِّضَا
وَالثَّانِي أَنَّهُ ليس له أَنْ يُضَمِّنَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ بعدما
عَتَقَ لِأَنَّهُ رضي بِالْعَتَاقِ حَيْثُ أَذِنَ له في الْكِتَابَةِ وَإِنْ كان
أَذِنَ له بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا في
ثَلَاثَةِ فُصُولٍ اثْنَانِ قد ذَكَرْنَاهُمَا
وَالثَّالِثُ أَنَّ ما قَبَضَ ليس له أَنْ يُشَارِكَهُ
هذا إذَا كَاتَبَ النِّصْفَ فَأَمَّا إذَا كَاتَبَ الْكُلَّ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ
سَوَاءٌ إلَّا في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الشَّرِيكُ منه نِصْفَ
ما قَبَضَ من الْكِتَابَةِ لَا يَرْجِعُ بِذَلِكَ على الْمُكَاتَبِ هذا إذَا كان
بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَأَمَّا إذَا كان بِإِذْنِهِ وَأَجَازَ قبل أَنْ
يُؤَدِّيَ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَلَا يَعْتِقُ جَمِيعُهُ إلَّا بِأَدَاءِ
الْأَلْفِ إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ وَإِنْ أَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا أَوَّلًا لَا
يَعْتِقُ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَقَعَتْ بِصِيغَةٍ وَاحِدَةٍ هذا إذَا لم
يَأْذَنْ له بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَذِنَ له بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ
أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ كُلُّهُ وَإِنْ أَدَّى جَمِيعَهُ إلَى الذي كَاتَبَ
عَتَقَ كُلُّهُ وَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الشَّرِيكِ
لَا يَعْتِقُ حتى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى شَرِيكِهِ وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أبي
حَنِيفَةَ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فإن كِتَابَةَ النِّصْفِ وَكِتَابَةَ الْجَمِيعِ سَوَاءٌ
لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَتَجَزَّأُ فَإِنْ لم يُجِزْ صَاحِبُهُ حتى
أَدَّى عَتَقَ كُلُّهُ وَيَأْخُذُ الشَّرِيكُ منه نِصْفَ ما قَبَضَ وَلَا يَرْجِعُ
هو على الْعَبْدِ بِمَا قَبَضَ منه شَرِيكُهُ وَنِصْفُ الْكَسْبِ الْفَاضِلِ لِلْمُكَاتَبِ
وَنِصْفُهُ لِلَّذِي لم يُكَاتَبْ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ
وَيَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ إنْ كان مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كان
مُعْسِرًا وَإِنْ أَجَازَ شَرِيكُهُ صَارَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَدَّى
إلَيْهِمَا مَعًا
____________________
(4/148)
عَتَقَ
وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا وَجَمِيعُ الْكَسْبِ لِلْمُكَاتَبِ وَإِنْ أَدَّى إلَى
أَحَدِهِمَا لَا يَعْتِقُ حتى يَصِلَ نِصْفُهُ إلَى الْآخَرِ إلَّا إذَا أَذِنَ
لِشَرِيكِهِ بِقَبْضِ الْكِتَابَةِ فَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْمَأْمُورِ
عَتَقَ وَإِنْ أَدَّى كُلَّهُ إلَى الْآمِرِ لَا يَعْتِقُ حتى يَصِلَ نِصْفُهُ
إلَى الْمَأْمُورِ
وَلَوْ كان عَبْدٌ بين رَجُلَيْنِ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ على
الإنفراد بِأَنْ كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ على أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ كَاتَبَ
الْآخَرُ نَصِيبَهُ على مِائَةِ دِينَارٍ صَارَ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مُكَاتَبًا له فإذا أَدَّى إلَيْهِمَا مَعًا عَتَقَ وَإِنْ أَدَّى إلَى
أَحَدِهِمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَلَا يُشَارِكُهُ الْآخَرُ فِيمَا قَبَضَ لِأَنَّهُ
لَمَّا كَاتَبَ صَارَ رَاضِيًا بِكِتَابَتِهِ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَقْضِيَ
غَرِيمًا دُونَ غَرِيمٍ وَنَصِيبُ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ على حَالِهِ فإذا أَدَّى
نَصِيبَ الْآخَرِ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لم يُؤَدِّ نَصِيبَ
الْآخَرِ وَلَكِنَّهُ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا
وَالْجَوَابُ فيه مَعْرُوفٌ
وَكَذَلِكَ لو كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ جَمِيعَ الْعَبْدِ صَارَ نَصِيبُ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مُكَاتَبًا له بِالْبَدَلِ الذي سَمَّى فما لم يُوجَدْ جَمِيعُ
الْمُسَمَّى لَا يَعْتِقُ وَالْحُكْمُ فيه ما ذَكَرْنَا أَنْ لو كَاتَبَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَصِيبَهُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَكِتَابَةُ الْبَعْضِ وَكِتَابَةُ الْكُلِّ سَوَاءٌ
فَإِنْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَدَّى إلَى
أَحَدِهِمَا أَوَّلًا عَتَقَ كُلُّهُ من المؤدي إلَيْهِ وَثَبَتَ الْوَلَاءُ منه
وَيَضْمَنُ إنْ كان مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ إنْ كان مُعْسِرًا إلَّا أَنَّ
على قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ أو يَسْعَى الْعَبْدُ في نِصْفِ الْقِيمَةِ أو في
كِتَابَةِ الْآخَرِ في الْأَقَلِّ مِنْهُمَا وقال أبو يُوسُفَ بَطَلَتْ كِتَابَةُ
الْآخَرِ وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْعَبْدُ أو يَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ لَا
غَيْرُ
وَلَوْ كان عَبْدٌ بين اثْنَيْنِ فَكَاتَبَاهُ جميعا مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً
فَأَدَّى إلَى أَحَدِهِمَا حِصَّتَهُ لم يَعْتِقْ حِصَّتَهُ منه ما لم يُؤَدِّ
جَمِيعَ الْكِتَابَةِ إلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا جَعَلَا شَرْطَ عِتْقِهِ أَدَاءَ
جَمِيعِ الْمُكَاتَبَةِ فَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِوُجُودِ الشَّرْطِ
بِخِلَافِ ما إذَا كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدٌ فَكَاتَبَاهُمَا جميعا
مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً أن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مُكَاتَبًا على حِدَةٍ
حتى لو أَدَّى حِصَّتَهُ يَعْتِقُ لِأَنَّ هَهُنَا لو جَعَلَ كُلَّ نِصْفٍ
مُكَاتَبًا على حِدَةٍ لَأَدَّى إلَى تَغْيِيرِ شَرْطِهِمَا لِأَنَّ شَرْطَهُمَا
أَنْ يَعْتِقَ بِأَدَاءِ الْكُلِّ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ
جَمِيعِ الْكِتَابَةِ حتى لَا يُؤَدِّيَ إلَى تَغْيِيرِ الشَّرْطِ وَهَذَا
الْمَعْنَى لم يُوجَدْ هُنَاكَ لِأَنَّ عِتْقَ أَحَدِهِمَا لَا يُؤَثِّرُ في
الْآخَرِ فَكَانَ الشَّرْطُ فيه لَغْوًا مُكَاتَبٌ بين رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ
أَحَدُهُمَا
قال أبو حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ عليه في ذلك لِشَرِيكِهِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا
لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ مُكَاتَبٌ على حَالِهِ لِكَوْنِ الْعِتْقِ مُتَجَزِّئًا
عِنْدَهُ فَإِنْ أَدَّى عَتَقَ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ
مِنْهُمَا وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا
وَالْحُكْمُ فيه ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْعَتَاقِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا عَتَقَ
كُلُّهُ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُمَا وَالْوَلَاءُ له إلَّا
أَنَّ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ بين اثْنَيْنِ
أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ كان الْمُعْتِقُ مُوسِرًا يُنْظَرْ إلَى قَدْرِ
نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَإِلَى بَاقِي الْكِتَابَةِ فَأَيُّهُمَا كان أَقَلَّ ضَمِنَ
ذلك وَإِنْ كان مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ في الْأَقَلِّ فَإِنْ لم يُعْتِقْهُ
أَحَدُهُمَا وَلَكِنْ دَبَّرَهُ صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا وَيَكُونُ مُكَاتَبًا
على حَالِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُنَافِي الْكِتَابَةَ فَإِنْ أَدَّى
الْكُلَّ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ يَثْبُتُ مِنْهُمَا وَإِنْ عَجَزَ صَارَ كَعَبْدٍ بين
اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا صَارَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا وَلِشَرِيكِهِ خَمْسُ
خِيَارَاتٍ إنْ كان مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَأَرْبَعُ خِيَارَاتٍ وَهَذَا
قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وفي قَوْلِهِمَا صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا لِأَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يَتَجَزَّأُ
فَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ الْقِيمَةِ مُوسِرًا كان
أو مُعْسِرًا في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ
يَضْمَنَ الْأَقَلَّ من نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ جَمِيعِ ما بَقِيَ من
الْكِتَابَةِ وَلَوْ لم يُدَبِّرْهُ وَلَكِنْ كَاتَبَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ
بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ منه وَصَارَ نَصِيبُهُ
أُمَّ وَلَدٍ له
أَمَّا ثُبُوتُ النَّسَبِ فَلَا خِلَافَ فيه لِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى
وَلَدَ مُكَاتَبَتِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ فيه تَأْوِيلَ الْمِلْكِ ثُمَّ
الْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ على الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَتْ
عَجَّزَتْ نَفْسَهَا لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ لها حَقُّ الْحُرِّيَّةِ من وَجْهَيْنِ
فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَيَّهمَا شَاءَتْ وَلَا تَصِيرُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ
لِأَنَّ الإستيلاد عِنْدَنَا يَتَجَزَّأُ فِيمَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُ الْمِلْكِ
فيه فَإِنْ مَضَتْ على الْكِتَابَةِ أَخَذَتْ منه عُقْرَهَا وَاسْتَعَانَتْ بِهِ
على أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَرُدَّتْ إلَى
الرِّقِّ فَإِنَّهَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ لِأَنَّ الْمَعْنَى
الْمَانِعَ من نَقْلِ الْمِلْكِ فيها قد زَالَ وَيَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ نِصْفَ
قِيمَتِهَا مُكَاتَبَةً وَنِصْفَ عُقْرِهَا وَلَا يَغْرَمُ من قِيمَةِ الْوَلَدِ
شيئا وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وَعَلَى قَوْلِهِمَا صَارَتْ الْجَارِيَةُ كُلُّهَا أُمَّ وَلَدٍ لِأَنَّ
الإستيلاد لَا يَتَجَزَّأُ وَبَطَلَتْ الْكِتَابَةُ
____________________
(4/149)
فَيَغْرَمُ
لِلشَّرِيكِ نِصْفَ الْقِيمَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَجَبَ أَنْ يَضْمَنَ الْأَقَلَّ من نِصْفِ الْعُقْرِ
وَمَنْ كِتَابَةِ شَرِيكِهِ عَبْدٌ كَافِرٌ بين مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ كَاتَبَ
الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ على خَمْرٍ جَازَتْ الْكِتَابَةُ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَلَا تَجُوزُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَلَا
شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ النَّصْرَانِيُّ منه من الْخَمْرَ بِنَاءً
على أَنَّ الْكِتَابَةَ مُتَجَزِّئَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ كَالْعِتْقِ فلما
كَاتَبَ الذِّمِّيُّ نَصِيبَهُ على خَمْرٍ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَقَعَتْ الْمُكَاتَبَةُ
على نَصِيبِ نَفَسِهِ خَاصَّةً وَالذِّمِّيُّ إذَا كَاتَبَ نَصِيبَهُ على خَمْرٍ
جَازَ كما لو بَاعَ نَصِيبَهُ بِخَمْرٍ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالْكِتَابَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ من أَصْلِهِمَا أَنَّ
الْعَقْدَ انْعَقَدَ لَهُمَا حَيْثُ كانت بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فلما بَطَلَ نَصِيبُ
الْمُسْلِمِ بَطَلَ نَصِيبُ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهَا كِتَابَةٌ وَاحِدَةٌ فإذا
بَطَلَ بَعْضُهَا بَطَلَ كُلُّهَا وَلَا شَرِكَةَ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا أَخَذَ
النَّصْرَانِيُّ من الْخَمْرِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَمْنُوعٌ من قَبْضِ الْخَمْرِ
وَإِنْ كَاتَبَاهُ جميعا على خَمْرٍ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً لم يحز ( ( ( يجز ) ) )
في نَصِيبِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا في نَصِيبِ الْمُسْلِمِ فَلَا يُشْكِلُ
وَأَمَّا في نَصِيبِ الذِّمِّيِّ فَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ وَاحِدَةٌ فإذا بَطَلَ
بَعْضُهَا بَطَلَ الْكُلُّ وَلَوْ أَدَّى إلَيْهِمَا عَتَقَ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ
لِلْمُسْلِمِ وَلِلذِّمِّيِّ نِصْفُ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا عَتَقَ بِالْأَدَاءِ
إلَيْهِمَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فَاسِدَةٌ وَهَذَا حُكْمُ الْكِتَابَةِ
الْفَاسِدَةِ أَنَّهُ إذَا أَدَّى يَعْتِقُ كما إذَا كَاتَبَ الْمُسْلِمُ عَبْدَهُ
على خَمْرٍ فَأَدَّى إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمُسْلِمِ
وَلَا يَسْعَى في نَصِيبِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ قد سَلَّمَ له شَرْطَهُ
لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ في حَقِّ الْمُسْلِمِ فَيَسْعَى في نِصْفِ قِيمَتِهِ
له وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمُكَاتَبَةِ وَيَنْدَرِجُ فيها بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ
الْمَوْلَى من التَّصَرُّفِ في الْمُكَاتَبِ وما لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْمُكَاتَبَةُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ صَحِيحَةٌ
وَفَاسِدَةٌ وَبَاطِلَةٌ أَمَّا الصَّحِيحَةُ فَلَهَا أَحْكَامٌ بَعْضُهَا
يَتَعَلَّقُ بِمَا قبل أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَبَعْضُهَا يَتَعَلَّقُ
بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَزَوَالُ يَدِ الْمَوْلَى عن الْمُكَاتَبِ وَصَيْرُورَةُ
الْمُكَاتَبِ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ وَصَيْرُورَةُ الْمَوْلَى
كَالْأَجْنَبِيِّ عنها وَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْمَوْلَى بِبَدَلِ
الكاتبة ( ( ( الكتابة ) ) ) وَثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّ
ما هو الْمَقْصُودُ من هذا الْعَقْدِ لَا من الْجَانِبَيْنِ لَا يَحْصُلُ
بِدُونِهَا وَهَلْ تَزُولُ رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ عن مِلْكِ الْمَوْلَى
بِالْكِتَابَةِ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال عَامَّتُهُمْ لَا تَزُولُ وقال بَعْضُهُمْ تَزُولُ
عن مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا يَمْلِكُهَا الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ
بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ أن الْمَبِيعَ
يَزُولُ عن مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا
غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْمِلْكَ صِفَةٌ إضَافِيَّةٌ فَيَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ
بِدُونِ الْمُضَافِ إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَوْصَافِ الْإِضَافِيَّةِ من
الْأُبُوَّةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالشَّرِكَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا
يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِك له وَهَكَذَا نَقُولُ في بَابِ
الْبَيْعِ لِأَنَّ الْبَيْعَ في الْحَقِيقَةِ مِلْكُ الْبَائِعِ أو مِلْكُ
الْمُشْتَرِي إلَّا أَنَّا لَا نَعْلَمُ ذلك في الْحَالِ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ
أَنَّ الْعَقْدَ يُجَازُ أو يُفْسَخُ فَيَتَوَقَّفُ في عِلْمِنَا بِجَهْلِنَا
بِعَاقِبَةِ الْأَمْرِ وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ أو الْفَسْخِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كان
ثَابِتًا لِلْمُشْتَرِي أو لِلْبَائِعِ من وَقْتِ الْبَيْعِ حتى يَظْهَرَ في حَقِّ
الرِّوَايَةِ هذا مَعْنَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ في تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا كَاتَبَ عَبْدَهُ كِتَابَةً
صَحِيحَةً صَارَ مَأْذُونًا في التِّجَارَةِ لِأَنَّهُ وَجَبَ عليه أَدَاءُ بَدَلِ
الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ من الْأَدَاءِ إلَّا بِالْكَسْبِ وَالتِّجَارَةُ
كَسْبٌ وَلَيْسَ له أَنْ يَمْنَعَهُ من الْكَسْبِ وَلَا من السَّفَرِ وَلَوْ
شَرَطَ عليه أَنْ لَا يُسَافِرَ كان الشَّرْطُ بَاطِلًا وَالْكِتَابَةُ صَحِيحَةً
لِمَا مَرَّ وَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ الْكَسْبَ من يَدِهِ لِأَنَّ كَسْبَهُ له
وَلَا يَجُوزُ له إجَارَتُهُ وَرَهْنُهُ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ وَمَنَافِعُ الْمُكَاتَبِ له وَالرَّهْنُ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ
لِلْمُرْتَهِنِ وَمِلْكِ الْيَدِ لِلْمُكَاتَبِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِخْدَامُهُ
وَاسْتِغْلَالُهُ لِأَنَّ ذلك تَصَرُّفٌ في الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ له
وَيَجُوزُ إعْتَاقُهُ ابْتِدَاءً بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ جَوَازَهُ يَعْتَمِدُ
مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَأَنَّهُ قَائِمٌ سَوَاءٌ كان الْمَوْلَى صَحِيحًا أو
مَرِيضًا غير أَنَّهُ إنْ كان صَحِيحًا يَعْتِقْ مَجَّانًا وَإِنْ كان مَرِيضًا
وَالْعَبْدُ يَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَكَذَلِكَ
وَكَذَلِكَ إذَا كان لَا يَخْرُجُ من الثُّلُثِ لَكِنْ جازت ( ( ( أجازت ) ) )
الْوَرَثَةُ وَإِنْ لم تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَلَهُ الْخِيَارُ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ سَعَى في ثُلُثَيْ الْقِيمَةِ حَالًا وَإِنْ شَاءَ سَعَى في
ثُلُثَيْ الْكِتَابَةِ مُؤَجَّلًا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا خِيَارَ
له وَيَسْعَى في الْأَقَلِّ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ سَبَقَتْ الْإِعْتَاقَ
وَالْإِعْتَاقُ في الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ التَّدْبِيرِ وَلَوْ دَبَّرَهُ كان
حُكْمُهُ هذا على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ التَّدْبِيرِ
كَذَا إذَا أَعْتَقَهُ في الْمَرَضِ وَيَجُوزُ له إعْتَاقُهُ عن الْكَفَّارَةِ
عِنْدَنَا خِلَافًا لَلشَّافِعِيِّ وَالْمَسْأَلَةُ تُذْكَرُ في كِتَابِ
الْكَفَّارَاتِ
وَلَوْ أَعْتَقَ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ أو المشتري في
____________________
(4/150)
الْكِتَابَةِ
جَازَ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ من بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا
يَجُوزَ إعْتَاقُهُ وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ في إعْتَاقِهِ الْوَلَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهِ الْمَوْلُودِ والمشتري وَبِالْإِعْتَاقِ
يَبْطُلُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ في الْأَصْلِ فقال لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ
يَسْتَخْدِمَهُمْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إنَّمَا يَسْعَى في حُرِّيَّةِ
نَفَسِهِ وَأَوْلَادِهِ وقد نَالَ هذا الْمَقْصُودَ وَإِنَّمَا لَا يَسْقُطُ من
بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ لِأَنَّ الْبَدَلَ كُلَّهُ على الْمُكَاتَبِ فَلَا
يَسْقُطُ شَيْءٌ منه بِعِتْقِ الْوَلَدِ وَلَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِ
الْمُكَاتَبَةِ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لو عَتَقَ كانت هِيَ أُمَّ وَلَدٍ
على حَالِهَا لِأَنَّهَا لم تَصِرْ مُكَاتَبَةً بِكِتَابَتِهِ فَلَا تَعْتِقُ
بِعِتْقِ الْمُكَاتَبِ وَلَا يَجُوزُ له بَيْعُ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ
بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّ الْمُكَاتَبِ من غَيْرِ رِضَاهُ وهو
حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ
وَإِنْ رضي بِهِ الْمُكَاتَبُ جَازَ وَيَكُونُ ذلك فَسْخًا لِلْكِتَابَةِ لِأَنَّ
امْتِنَاعَ الْجَوَازِ كان لِحَقِّ الْمُكَاتَبِ فإذا رضي فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبَ إذَا
اجْتَمَعَا في الْبَيْعِ قال الْبَيْعُ لَا يَجُوزُ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا بَاعَهُ الْمَوْلَى بِرِضَاهُ فَقَدْ تَرَاضَيَا
على الْفَسْخِ فَيَكُونُ إقاله وَالْكِتَابَةُ تَحْتَمِلُ الْإِقَالَةَ وما رُوِيَ
عن عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها اشْتَرَتْ بَرِيرَةَ وَكَانَتْ مُكَاتَبَةً
فَمَحْمُولٌ على أَنَّ ذلك كان بِرِضَاهَا وَعَلَى هذا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
وَالْوَصِيَّةُ
وَلَوْ كَاتَبَ جَارِيَةً لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا وَالِاسْتِمْتَاعُ بها لِأَنَّ
ذلك انْتِفَاعٌ بها وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ في مَنَافِعِهَا وَلَوْ
وَطِئَهَا غَرِمَ الْعُقْرَ لها تَسْتَعِينُ بِهِ على أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لها
وَلَوْ وَطِئَهَا فَعَلِقَتْ منه ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ إذَا ادَّعَاهُ لِأَنَّ
النَّسَبَ يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ وَتَأْوِيلِ الْمِلْكِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ
بِحَقِيقَتِهِ أَوْلَى صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أو كَذَّبَتْهُ لِمَا مَرَّ
ثُمَّ إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ الْعُقْرُ
وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّة أَشْهُرٍ فَلَا عُقْرَ عليه
وَالْمُكَاتَبَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ مَضَتْ على كَتَابَتِهَا فَأَدَّتْ
وَعَتَقَتْ وَأَخَذَتْ الْعُقْرَ إذَا كان الْعُلُوقُ في حَالِ الْكِتَابَةِ
وَإِنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ وَسَقَطَ الْعُقْرُ
لِمَا ذَكَرْنَا في كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ
وَلَوْ جَنَى الْمَوْلَى على الْمُكَاتَبِ غَرِمَ الْأَرْشَ لِيَسْتَعِينَ بِهِ
على الْكِتَابَةِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَ شيئا من كَسْبِهِ فَهُوَ دَيْنٌ عليه
لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ من الْمَوْلَى فَكَانَ في مَكَاسِبِهِ كَالْحُرِّ
وَكَذَا ما اسْتَهْلَكَ الْمُكَاتَبُ من مَال الْمَوْلَى لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امرأته ( ( ( امرأته 0 ) ) ) لَا يَنْفَسِخُ
النِّكَاحُ وَكَذَا إذَا اشْتَرَتْ الْمُكَاتَبَةُ زَوْجَهَا لِأَنَّ الثَّابِتَ
لِلْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَحَقُّ الْمِلْكِ
يَمْنَعُ ابْتِدَاءً النِّكَاحَ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ كَالْعِدَّةِ أنها
تَمْنَعُ من إنْشَاءِ النِّكَاحِ وإذا طَرَأَتْ على النِّكَاحِ لَا تُبْطِلُهُ
وَلِهَذَا قال أَصْحَابُنَا أن الْمَوْلَى إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ من مُكَاتَبِهِ
لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بِمَوْتِ الْأَبِ لِأَنَّ الْبِنْتَ لَا تَمْلِكُ
الْمَكَاتِبَ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ بَلْ يَثْبُتُ لها حَقُّ الْمِلْكِ فَيَمْنَعُ
ذلك من الإبتداء وَلَا يَمْنَعُ من الْبَقَاءِ فَكَذَا هذا وَلَوْ سَرَقَ منه
يَجِبُ الْقَطْعُ على السَّارِقِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَنَافِعِهِ
وَمَكَاسِبِهِ فَكَانَ له حَقُّ الْخُصُومَةِ فيه كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ
بِخُصُومَتِهِ
وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ على إنْسَانٍ خَطَأً فإنه يَسْعَى في الْأَقَلِّ من
قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى
إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ من غَيْرِ اخْتِيَارٍ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ
فَصَارَ كَالْعَبْدِ الْقِنِّ إذَا جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى
من غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ وَالْحُكْمُ هُنَاكَ ما ذَكَرْنَا فَكَذَا
هَهُنَا فَيُنْظَرُ إنْ كان أَرْشُ الْجِنَايَةِ أَقَلَّ من قِيمَتِهِ فَعَلَيْهِ
أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عليه لَا يَسْتَحِقُّ أَكْثَرَ من ذلك
فإذا دَفَعَ ذلك فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من أَرْشِ
الْجِنَايَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْجِنَايَةِ تَعَلَّقَ
بِالرَّقَبَةِ لِكَوْنِ الرَّقَبَةِ مِلْكَ الْمَوْلَى وَهِيَ لَا تَحْتَمِلُ
أَكْثَرَ من قِيمَتِهَا فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ من ذلك
وَكَذَلِكَ لو جَنَى جِنَايَاتٍ خَطَأً قبل أَنْ يُحْكَمَ عليه بِالْجِنَايَةِ
الْأُولَى لَا يَجِبُ عليه إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَثُرَتْ جِنَايَاتُهُ
في قَوْلِ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ يَجِبُ عليه في كل جِنَايَةٍ
الْأَقَلُّ من أَرْشِهَا وَمِنْ قِيمَتِهِ وَهَذَا فَرْعُ اخْتِلَافِهِمْ في أَنَّ
جِنَايَاتِهِ تَتَعَلَّقُ بِالرَّقَبَةِ أو بِذِمَّتِهِ فَعِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ
بِرَقَبَتِهِ وَالرَّقَبَةُ لَا تَتَّسِعُ لِأَكْثَرَ من قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ
وَعِنْدَهُ تَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ وَالذِّمَّةُ مُتَّسِعَةٌ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا ذَكَرْنَا أن رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى
فانها مَقْدُورُ الدَّفْعِ في الْجُمْلَةِ بِأَنْ يَعْجِزَ فَيَدْفَعَ إلَّا
أَنَّهُ تَعَذَّرَ الدَّفْعُ بِالْمَنْعِ السَّابِقِ وهو الْكِتَابَةُ من غَيْرِ
اخْتِيَارٍ فَصَارَ كما لو جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى من
غَيْرِ عِلْمِهِ بها وَهُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَلِكَ
هَهُنَا
هذا إذَا جَنَى ثَانِيًا قبل أَنْ يَحْكُمَ عليه الْحَاكِمُ بِالْأُولَى فَأَمَّا
إذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى ثُمَّ جَنَى ثَانِيًا فإنه يَلْزَمُهُ قِيمَةٌ
أُخْرَى بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّهَا لَمَّا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَقَدْ
انْتَقَلَتْ الْجِنَايَةُ من رَقَبَتِهِ إلَى ذِمَّتِهِ
____________________
(4/151)
فَحَصَلَتْ
الْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ وَالرَّقَبَةُ فَارِغَةٌ عن جِنَايَتِهِ مُتَعَلِّقَةٌ
بها فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ الْمُبْتَدَأَةِ فَرْقٌ بين هذا وَبَيْنَ
ما إذَا حَفَرَ الْمُكَاتَبُ بِئْرًا على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فيها
إنْسَانٌ وَوَجَبَ عليه أَنْ يَسْعَى في قِيمَتِهِ يوم حَفَرَ ثُمَّ وَقَعَ فيها
آخَرُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ من قمية ( ( ( قيمة ) ) ) وَاحِدَةٍ
سَوَاءٌ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالْأُولَى أو لم يَحْكُمْ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ الْجِنَايَةَ وَاحِدَةٌ وَهِيَ حَفْرُ الْبِئْرِ
فَالضَّمَانُ الذي يَلْزَمُهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَوُقُوعُ
الثَّانِي وَإِنْ كان بَعْدَ حُكْمِ الْحَاكِمِ لَكِنْ بِسَبَبٍ سَابِقٍ على
حُكْمِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُمَا دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَلْزَمُهُ
إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ فَأَمَّا هَهُنَا فَقَدْ تَعَدَّدَتْ الْجِنَايَةُ
وَالثَّانِيَةُ حَصَلَتْ بَعْدَ فَرَاغِ رَقَبَتِهِ عن الْأُولَى وَانْتِقَالِهَا
إلَى ذِمَّتِهِ فَيَتَعَدَّدُ السَّبَبُ فَيَتَعَدَّدُ الْحُكْمُ
وَلَوْ سَقَطَ حَائِطٌ مَائِلٌ أُشْهِدَ عليه على إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ
أَنْ يَسْعَى في قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَمْلِكُ النَّقْضَ فَيَصِحُّ
الْإِشْهَادُ عليه كما في الْحُرِّ وَيَجِبُ عليه قِيمَةُ نَفْسِهِ كما لو قَتَلَ
آخَرَ خَطَأً
وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ في دَارِ الْمُكَاتَبِ قَتِيلٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى في
قِيمَتِهِ إذَا كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من الدِّيَةِ فَيَنْتَقِصَ منها عَشْرَةَ
دَرَاهِمَ فَإِنْ جَنَى جِنَايَاتٍ ثُمَّ عَجَزَ قبل أَنْ يقضي بها دَفَعَهُ
مَوْلَاهُ بها أو فَدَاهُ وَإِنْ قَضَى عليه بِالسِّعَايَةِ ثُمَّ عَجَزَ فَهِيَ
دَيْنٌ في رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فيه لِأَنَّهُ إذَا لم يَقْضِ عليه لم تَصِرْ
الْقِيمَةُ دَيْنًا في رَقَبَتِهِ فَهُوَ كَعَبْدٍ قِنٍّ جَنَى جِنَايَةً أَنَّهُ
يُخَاطِبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ أو الْفِدَاءِ وإذا قَضَى عليه بِالْقِيمَةِ
صَارَ ذلك دَيْنًا في رَقَبَتِهِ فإذا عَجَزَ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ عَبْدٍ
لَحِقَهُ الدَّيْنُ أَنَّهُ يُبَاعُ أو يَقْضِي السَّيِّدُ دَيْنَهُ هذا كانت
جِنَايَتُهُ عَمْدًا بِأَنْ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا قُتِلَ بِهِ لِأَنَّهُ لو كان
حر ( ( ( حرا ) ) ) لَقُتِلَ بِهِ فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى
هذا إذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ على غَيْرِهِ فَأَمَّا إذَا جَنَى غَيْرُهُ عليه
فَإِنْ كان خَطَأً فَالْأَرْشُ له وَأَرْشُهُ أَرْشُ الْعَبْدِ إما كَوْنُ
الْأَرْشِ له فَلِأَنَّ أَجْزَاءَهُ مُلْحَقَةٌ بِالْمَنَافِعِ وهو أَحَقُّ
بِمَنَافِعِهِ
وَأَمَّا كَوْنُ أَرْشِهِ أَرْشَ الْعَبْدِ فَلِأَنَّهُ عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه
دِرْهَمٌ بِالْحَدِيثِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عليه جِنَايَةً على الْعَبْدِ
فَكَانَ أَرْشُهَا أَرْشَ الْعَبِيدِ وَإِنْ كان عَمْدًا فَالْمَسْأَلَةُ على
ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ في وَجْهٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ في قَوْلِهِمْ وفي وَجْهٍ لَا
يَجِبُ الْقِصَاصُ وفي وَجْهٍ اخْتَلَفُوا فيه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقْتُلَهُ رَجُلٌ عَمْدًا ولم يَتْرُكْ وَفَاءً
فَلِلْمَوْلَى أَنْ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ لِأَنَّهُ لم يَتْرُكْ وَفَاءً فَقَدْ
مَاتَ عَاجِزًا فَمَاتَ عَبْدًا وَالْعَبْدُ إذَا قُتِلَ عَمْدًا يَجِبُ
الْقِصَاصُ على قَاتِلِهِ إنْ كان عَبْدًا بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كان حُرًّا
عِنْدَنَا كَذَلِكَ هَهُنَا
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا وَيَتْرُكَ وَفَاءً
وَيَتْرُكَ وَرَثَةً أَحْرَارًا سِوَى الْمَوْلَى فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ
لِاشْتِبَاهِ وَلِيِّ الْقِصَاصِ لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
في أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أو عَبْدًا على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَمَنْ قال مَاتَ حُرًّا قال وِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ لِلْوَرَثَةِ وَمَنْ قال
مَاتَ عَبْدًا قال الْوِلَايَةُ لِلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ الْمَوْلَى فلم يَجِبْ
الْقِصَاصُ
فَإِنْ قِيلَ قِيَاسُ هذه النُّكْتَةِ أَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَوْلَى
وَالْوَرَثَةُ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ لِارْتِفَاعِ الِاشْتِبَاهِ
عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ كَالْعَبْدِ الموصي بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ
لِآخَرَ إذَا قُتِلَ أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَا فَيَقْتُلَا
وَكَذَا الْعَبْدُ الْمَرْهُونُ إذَا قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الرَّاهِنُ وَالْمُرْتَهِنُ
على الْقِصَاصِ أَنَّ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَاهُ كَذَلِكَ هَهُنَا فَالْجَوَابُ
أَنَّ الْمَانِعَ هو اشْتِبَاهُ الْمَوْلَى وَهَذَا الِاشْتِبَاهُ لَا يَزُولُ
بِالِاجْتِمَاعِ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وهو الْمَوْلَى أو الْوَارِثُ
وَهَذَا النَّوْعُ من الِاشْتِبَاهِ لَا يَزُولُ اجتماعهما ( ( ( باجتماعهما ) ) )
بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا اشْتِبَاهَ فإن
الْوِلَايَةَ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ له وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ
الْخِدْمَةِ فيها حَقٌّ فإذا اجْتَمَعَا في الِاسْتِيفَاءِ فَقَدْ رضي بِإِسْقَاطِ
حَقِّهِ وَيَقُولُ لِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ حَقِّي قَوِيٌّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ
فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بين اثْنَيْنِ قُتِلَ فَاجْتَمَعَ الْوَلِيَّانِ على
الِاسْتِيفَاءِ وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الرَّهْنِ فإن الْمُسْتَحِقَّ لِلْقِصَاصِ
هُنَاكَ هو الرَّاهِنُ إذْ الْمِلْكُ له إلَّا أَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ فيه حَقًّا
فإذا رضي بالاستيفاء ( ( ( بالاستبقاء ) ) ) فَقَدْ رضي بِسُقُوطِ حَقِّهِ
وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ على ما بَيَّنَّاهُ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ فَهُوَ أَنْ يُقْتَلَ عَمْدًا ويترك وَفَاءً وَلَا
وَارِثَ له سِوَى الْمَوْلَى فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ يَجِبُ
الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ هَهُنَا لِأَنَّ الْقِصَاصَ
يَكُونُ لِلْمَوْلَى كَيْفَمَا كان سَوَاءٌ مَاتَ حُرًّا أو عَبْدًا وقال مُحَمَّدٌ
لَا يَجِبُ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنْ لم يَشْتَبِهْ فَسَبَبُ ثُبُوتِ الْوِلَايَةِ
قد اشْتَبَهَ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ حُرًّا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْإِرْثِ
وَإِنْ مَاتَ عَبْدًا فَالْوِلَايَةُ تَثْبُتُ بِالْمِلْكِ وَالْجَوَابُ عن هذا من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ السَّبَبَ لم يَشْتَبِهْ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ
وَاحِدٌ وهو الْمِلْكُ وَالْوَلَاءُ أَثَرٌ من آثَارِ الْمِلْكِ
وَالثَّانِي إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ قد اشْتَبَهَ لَكِنْ لَا اشْتِبَاهَ
في الْحُكْمِ وهو الْوِلَايَةُ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَتَثْبُتُ بِأَيِّ
سَبَبٍ كان فَإِنْ قُتِلَ ابن الْمُكَاتِبِ أو عَبْدُهُ عَمْدًا فَلَا قَوَدَ عليه
لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ وهو أبو الْمَقْتُولِ أو مولى الْعَبْدِ لو عَتَقَ كان
الْقِصَاصُ له وَلَوْ
____________________
(4/152)
عَجَزَ
كان الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى فَاشْتَبَهَ الْوَلِيُّ وَبِهَذَا عَلَّلَ في
الْأَصْلِ فقال لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَنَّهُ لِلْمَوْلَى أو لِلْمُكَاتَبِ
وَمَعْنَاهُ ما ذَكَرْنَا وَإِنْ اجْتَمَعَا على ذلك لم يَقْتَصَّ أَيْضًا لِأَنَّ
الْوِلَايَةَ لِأَحَدِهِمَا وهو غَيْرُ مَعْلُومٍ فَإِنْ عَفَوَا فَعَفْوُهُمَا
بَاطِلٌ وَالْقِيمَةُ وَاجِبَةٌ لِلْمُكَاتَبِ أَمَّا بُطْلَانُ الْعَفْوِ
فَأَمَّا عَفْوُ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ فَلَا
يَصِحُّ عَفْوُهُ
وأما عَفْوُ الْمُكَاتَبِ فَلِأَنَّ الْقِيمَةَ قد وَجَبَتْ على الْقَاتِلِ
فَكَانَ إبْرَاءُ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا منه وأنه لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ
فَإِنْ قَتَلَ مولى مُكَاتَبَهُ عَمْدًا أو خَطَأً فَلَا قِصَاصَ عليه في
الْعَمْدِ بِلَا شَكَّ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ له فَيَصِيرُ شُبْهَةً
سَوَاءٌ تَرَكَ وَفَاءً أو لم يَتْرُكْ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِمَا قُلْنَا غير
أَنَّهُ إنْ تَرَكَ وَفَاءً فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ يَقْضِي بها كِتَابَتَهُ
وَكَذَلِكَ لو قَتَلَ ابْنَهُ لِأَنَّ الْقِصَاصَ قد سَقَطَ بِالشُّبْهَةِ فتجب (
( ( فيجب ) ) ) الدِّيَةُ فَسَقَطَ عنه قَدْرُ مَالِهِ من الْكِتَابَةِ لِأَنَّ
الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ دِيَتَيْنِ الْتَقَيَا من جِنْسٍ وَاحِدٍ في الذِّمَّةِ
وَلَيْسَ في إسْقَاطِهِ إبْطَالُ الْعَقْدِ وَلَا اسْتَحَقَّ قَبْضَهُ في
الْمَجْلِسِ فإنه يَصِيرُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وما بَقِيَ يَكُونُ
لِوَارِثِهِ لَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ قَاتِلُهُ فَلَا يَرِثُهُ وَإِنَّمَا
يَصِيرُ ذلك قِصَاصًا إذَا حَلَّ أَجَلُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ
عليه بِالْقَتْلِ مُؤَجَّلَةً
وَلَوْ قَتَلَ عبد الْمُكَاتَبَةِ رَجُلًا خَطَأً يُقَالُ لِلْمُكَاتِبِ ادْفَعْهُ
أو افْدِهِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْعَبْدَ من تِجَارَتِهِ وَكَسْبِهِ فَكَانَ
التَّدْبِيرُ إلَيْهِ كَعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَنَّهُ
يُخَيِّرُ الْمَأْذُونُ بين الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَالْمُكَاتِبُ أَوْلَى
بِخِلَافِ نَفْسِ الْمُكَاتَبِ إذَا جَنَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ من
قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ لِأَنَّ نَفْسَ الْمُكَاتَبِ لَا تَحْتَمِلُ
النَّقْلَ بِخِلَافِ كَسْبِهِ وإذا لم تحتمل ( ( ( يحتمل ) ) ) النَّقْلَ
فَتَعَذَّرَ الدَّفْعُ من غَيْرِ اخْتِيَارٍ فَصَارَ كما لو أَعْتَقَ نَفْسَ
الْعَبْدِ الْجَانِي من غَيْرِ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ وَثَمَّةَ يَلْزَمُهُ
الْأَقَلُّ من قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ كَذَا هَهُنَا وَيُؤْخَذُ
الْمُكَاتَبُ بِأَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَنَحْوِهَا كَالزِّنَا
وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالْقَذْفِ لَا الْقِنُّ لِأَنَّهُ
مَأْخُوذٌ بها فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى وَلَا يُقْطَعُ في سَرِقَتِهِ من مَوْلَاهُ
لِأَنَّهُ عَبْدُهُ
وَكَذَا لَا يُقْطَعُ في سَرِقَتِهِ من ابْنِ مَوْلَاهُ وَلَا من امْرَأَةِ
مَوْلَاهُ وَلَا من كل ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ من مَوْلَاهُ لِأَنَّ وَاحِدًا من
هَؤُلَاءِ لو سَرَقَ حَقَّ الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ فَكَذَا مُكَاتَبُهُ
وَكَذَا لو سَرَقَ وَاحِدٌ من هَؤُلَاءِ من الْمُكَاتَبِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ
وَاحِدًا منهم لو سَرَقَ من الْمَوْلَى لَا يُقْطَعُ فَكَذَا إذَا سَرَقَ من
الْمُكَاتَبِ وَلَوْ سَرَقَ منه أَجْنَبِيٌّ يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ لِأَنَّ
الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ وَمَنَافِعِهِ فَكَانَ له حَقُّ الْخُصُومَةِ
كَالْحُرِّ فَيَقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ وَيَصِحُّ من الْمَوْلَى وغير ( ( ( وغيره )
) ) نَسَبُ وَلَدِ أَمَتِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذَا لم يَكُنْ له نَسَبٌ مَعْرُوفٌ
صَدَّقَتْهُ الْمُكَاتَبَةُ أو كَذَّبَتْهُ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ أو لِأَكْثَرَ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ
وَلَدَ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ له رَقَبَةً فَكَانَ وَلَدُهَا مَمْلُوكًا له
أَيْضًا وَنَسَبُ وَلَدِ الْجَارِيَةِ الْمَمْلُوكَةِ يَثْبُتُ بِالدَّعْوَةِ من
غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّصْدِيقِ
ثُمَّ الْأَمَةُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَإِنْ شَاءَتْ
مَضَتْ على الْكِتَابَةِ فَإِنْ مَضَتْ على الْكِتَابَةِ فَلَهَا الْعُقْرُ إنْ
كان الْعُلُوقُ في حَالِ الْكِتَابَةِ بِأَنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ من وَقْتِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِمَنَافِعِهَا
وَمَكَاسِبِهَا وَالْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ عنها وَالْعُقْرُ بَدَلُ مَنَافِعِ
بُضْعِهَا فَيَكُونُ لها وَإِنْ عَجَّزَتْ نَفْسَهَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له
سقطا ( ( ( سقط ) ) ) للعقر ( ( ( العقر ) ) )
هذا إذَا اسْتَوْلَدَ مُكَاتَبَتَهُ فَإِنْ دَبَّرَ مُكَاتَبَتَهُ فَكَذَلِكَ هو
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ نَقَضَ الْكِتَابَةَ وَإِنْ شَاءَ مَضَى عليها لِتَوَجُّهِ
الْعِتْقِ إلَيْهِ من جِهَتَيْنِ فَكَانَ له الْخِيَارُ فَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهُ
وهو لَا يَخْرُجُ من الثُّلُثِ فَقَدْ ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ وَلَيْسَ له نَسَبٌ
مَعْرُوفٌ وقد عَلِقَتْ بِهِ في مِلْكِ الْمُكَاتَبِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمَا
قُلْنَا وَيَحْتَاجُ فيه إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ اسْتِحْسَانًا وقد ذَكَرْنَا
هذا في كِتَابِ الِاسْتِيلَادِ وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ
لِأَنَّهُ دَيْنٌ قَاصِرٌ حتى لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِابْنِ أبي لَيْلَى هو يقول بِأَنَّهُ دَيْنٌ فَتَصِحُّ
الْكَفَالَةُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ
وَلَنَا أَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ ثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلْكَفِيلِ
بِمِثْلِ ما في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ هَهُنَا لِأَنَّ
الثَّابِتَ في ذِمَّةِ الْأَصِيلِ دَيْنٌ يُحْبَسُ بِهِ وَدَيْنٌ لَا يُحْبَسُ
بِهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا الْكَفَالَةَ بِهِ لم يَكُنْ الثَّابِتُ بها حَقَّ
الْمُطَالَبَةِ بِمِثْلِ ما في ذِمَّةِ الْمَكْفُولِ عنه فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ
الْكَفَالَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ
وَأَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَهُوَ عِتْقُ
الْمُكَاتَبِ وَلَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وهو قَوْلُ زَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه وقال عَلِيٌّ
رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه يَعْتِقُ بِقَدْرِ ما أَدَّى وَيَبْقَى الْبَاقِي
رَقِيقًا وقال ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه إذَا أَعْطَى مِقْدَارَ قِيمَتِهِ
عَتَقَ ثُمَّ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْغَرِيمِ وقال عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنهما إذَا كَاتَبَ الْعَبْدُ مَوْلَاهُ فَهُوَ غَرِيمٌ من الْغُرَمَاءِ
وَهَذَا يَدُلُّ على
____________________
(4/153)
أَنَّ
مَذْهَبَهُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ بِنَفْسِ الْكِتَابَةِ وقد روي مُحَمَّدٌ
بن الْحَسَنِ عن شُرَيْحٍ مِثْلَ ذلك
وَجْهُ قَوْلِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أن الْمُكَاتَبَةَ عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ فإذا أَدَّى الْعَبْدُ بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ إلَى الْمَوْلَى
فَقَدْ مَلَكَ الْمَوْلَى ذلك الْقَدْرَ فَلَوْ لم يَمْلِكْ من نَفَسِهِ ذلك
الْقَدْرَ لَاجْتَمَعَ لِلْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه أن قِيمَةَ الْعَبْدِ مَالِيَّةٌ
فَلَوْ عَتَقَ بِأَدَاءِ ما هو أَقَلُّ من قميته ( ( ( قيمته ) ) ) لَتَضَرَّرَ
بِهِ الْمَوْلَى وإذا أَدَّى قَدْرَ قِيمَتِهِ فَلَا ضَرَرَ على الْمَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لو لم يَعْتِقْ بِنَفْسِ
الْعَقْدِ لَوَجَبَ لِلْمَوْلَى على عَبْدِهِ دَيْنٌ وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى على
عَبْدِهِ دَيْنٌ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ إعْتَاقٌ على مَالٍ وَمَنْ أَعْتَقَ
عَبْدَهُ على مَالٍ وَقَبِلَ الْعَبْدُ عَتَقَ وَالْمَالُ دَيْنٌ عليه كَذَلِكَ
هَهُنَا
وَجْهُ قَوْلِ زَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه قَوْلُ النبي الْمُكَاتَبُ
عَبْدٌ ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى
عَلَّقَ عِتْقَهُ بِأَدَاءِ جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَعْتِقُ ما لم
يُؤَدِّ جَمِيعَهُ كما لو قال لِعَبْدِهِ إذَا أَدَيْت إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ
حُرٌّ أَنَّهُ لَا يَعْتِقُ ما لم يُؤَدِّ جَمِيعَ الْأَلْفِ كَذَا هَهُنَا
ثُمَّ الْعِتْقُ كما يَثْبُتُ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَثْبُتُ بِأَدَاءِ
الْعِوَضِ عن بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّ عِوَضَ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ
وَيَسُدُّ مَسَدَّهُ كَأَنَّهُ هو كما في الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ على أَنَّ بَدَلَ
الْكِتَابَةِ دَيْنٌ في ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَقَضَاءُ الدُّيُونِ يَكُونُ
بِأَعْوَاضِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا وَكَذَا يَثْبُتُ بِالْإِبْرَاءِ لِمَا
نَذْكُرُ
ثُمَّ إذَا أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ ويعتق ( ( ( يعتق ) ) ) وَلَدُهُ
الْمَوْلُودُ في الْكِتَابَةِ بِأَنْ وُلِدَ لِلْمُكَاتَبِ وَلَدٌ من أَمَةٍ
اشْتَرَاهَا لِأَنَّهُ صَارَ مُكَاتَبًا تَبَعًا لِلْأَبِ فَيَثْبُتُ فيه حُكْمُ
الْأَصْلِ إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يُطَالِبَ الْأَبَ دُونَ الْوَلَدِ
لِأَنَّهُ لم يَدْخُلْ في الْعَقْدِ مَقْصُودًا بَلْ تَبَعًا فَلَا يَمْلِكُ
مُطَالَبَةَ التَّبَعِ حَالَ قِيَامِ الْمَتْبُوعِ وَكَمَا يَعْتِقُ الْمُكَاتَبُ
بِالْأَدَاءِ من كَسْبِهِ يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ من كَسْبِ وَلَدِهِ لِأَنَّ
كَسْبَ الْوَلَدِ كَسْبُهُ فإذا أَدَّى يَعْتِقُ هو وَوَلَدُهُ وَكَذَا وَلَدُهُ
الْمُشْتَرِكُ في الْكِتَابَةِ وَوَلَدُ وَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ وَالْوَالِدُونَ
وَإِنْ عَلَوْا إذَا اشْتَرَاهُمْ الْمُكَاتَبُ يَدْخُلُونَ في الْكِتَابَةِ
كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ سَوَاءً لَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ إلَّا في فَصْلٍ وَاحِدٍ
وهو أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ من غَيْرِ مَالٍ يُقَالُ لِلْوَلَدِ المشتري
وَلِلْوَالِدَيْنِ إمَّا أَنْ تُؤَدُّوا الْكِتَابَةَ حَالًا وَإِلَّا
رَدَدْنَاكُمْ في الرِّقِّ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ في الْكِتَابَةِ
لِمَا نَذْكُرُ
وَأَمَّا ما سِوَى الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ من ذَوِي الرَّحِمِ
الْمَحْرَمِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ فَهَلْ يَدْخُلُونَ في
الْكِتَابَةِ قال أبو حَنِيفَةَ لَا يَدْخُلُونَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
يَدْخُلُونَ وَيَسْعَوْنَ على النُّجُومِ بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدَيْنِ
وَالْمَوْلُودِينَ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ من إذَا مَلَكَهُ الْحُرُّ
يَعْتِقُ عليه فإذا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ يَتَكَاتَبُ عليه وَيَقُومُ مَقَامَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْمُكَاتَبَةَ عَقْدٌ يُفْضِي إلَى الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ
بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَالْحُكْمُ في الْحَقِيقَةِ هذا فَكَذَا في كَسْبِ الْكَسْبِ
الْمُفْضِي إلَيْهِ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ في الْوَالِدِينَ
وَالْمَوْلُودِينَ كَذَا هَهُنَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن الْأَصْلَ أَنْ لَا يَثْبُتَ التَّكَاتُبُ رَأْسًا لِأَنَّ
مِلْكَ الْمُكَاتَبِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا ما بَقِيَ عليه
دِرْهَمٌ فَلَا يَظْهَرُ في حَقِّ التَّبَرُّعِ وَالْعِتْقِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ
في حَقِّ حُرِّيَّةِ نَفَسِهِ إلَّا أَنَّ حُرِّيَّةَ وَلَدِهِ وَأَبَوَيْهِ في
مَعْنَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ لِمَكَانِ الْحُرِّيَّةِ ولم يُوجَدْ في سَائِرِ
ذَوِي الرَّحِمِ فَبَقِيَ الْأَمْرُ فِيهِمْ على الْأَصْلِ وَبَدَلُ الْقِيَاسِ من
وَجْهٍ آخَرَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَدْخُلَ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ وَحَقُّ
الْحُرِّيَّةِ لَا يَسْرِي للأكساب كَكَسْبِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ
وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَّا الْوِلَادَ بِحُكْمِ الْحُرِّيَّةِ ولم يُوجَدْ
وَالْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ قبل الْعَقْدِ لَا يَدْخُلُ في الْكِتَابَةِ وَيَكُونُ
لِلْمَوْلَى وَلَوْ اخْتَلَفَا فقال الْمَوْلَى وُلِدَ قبل الْعَقْدِ وَقَالَتْ
الْمُكَاتَبَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ يُنْظَرُ إنْ كان الْوَلَدُ في يَدِ الْمَوْلَى
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ أنه انْفَصَلَ قبل الْعَقْدِ وَإِنْ كان في يَدِ الْأَمَةِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَيَحْكُمُ فيه الْحَالُ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا ومضت
مُدَّةُ الْإِجَارَةِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ الآباق
وَالْمُؤَاجِرُ يُنْكِرُ أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كان في الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ
قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ لم يَكُنْ في الْحَالِ آبِقًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُؤَاجِرِ
وَكَذَلِكَ هذا في الطَّاحُونَةِ إذَا اخْتَلَفَا في انْقِطَاعِ الْمَاءِ
وَجَرَيَانِهِ فَإِنْ كان في الْحَالِ مُنْقَطِعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُسْتَأْجِرِ وَإِنْ كان جَارِيًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُؤَاجِرِ وَلَوْ
تَصَادَقَا في الْإِبَاقِ وَالِانْقِطَاعِ وَاخْتَلَفَا في مُدَّةِ الْإِبَاقِ
وَالِانْقِطَاعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مُنْكِرُ وُجُوبِ
الزِّيَادَةِ وَسَوَاءٌ كان الْأَدَاءُ في حَالِ حَيَاةِ الْعَاقِدَيْنِ أو بَعْدَ
مَوْتِهِمَا حتى لو مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ إلَى وَرَثَتِهِ
عَتَقَ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ
وَكَذَا لو مَاتَ الْمُكَاتَبُ عن وَفَاءٍ يؤدي بَدَلُ الْكِتَابَةِ إلَى
الْمَوْلَى وَيُحْكَمُ بِعِتْقِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْتِقُ
وَيُسَلَّمُ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى بِنَاءً على أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ لَا
يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبَةِ عِنْدَنَا كما لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ
الْمَوْلَى وَعِنْدَهُ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ
____________________
(4/154)
الْمُكَاتَبِ
وقد اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عن
وَفَاءٍ أَنَّهُ يَمُوتُ حُرًّا أو عَبْدًا
قال عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه وَعَبْدُ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
يَمُوتُ حُرًّا فيؤدي بَدَلُ كِتَابَتِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَبِهِ أَخَذَ
أَصْحَابُنَا وَعَنْ زَيْدِ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ يَمُوتُ عَبْدًا
وَالْمَالُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لو عَتَقَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَعْتِقَ
قبل مَوْتِهِ وَإِمَّا أَنْ يَعْتِقَ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ
لِأَنَّ الْعِتْقَ مُعَلَّقٌ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ وَالْأَدَاءُ لم يُوجَدْ قبل
الْمَوْتِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ مَحَلَّ الْعِتْقِ قد فَاتَ
لِأَنَّ مَحَلَّهُ الرِّقُّ وقد فَاتَ بِالْمَوْتِ وَإِثْبَاتُ الشَّيْءِ في
غَيْرِ مَحَلِّهِ مُحَالٌ فَامْتَنَعَ الْقَوْلُ بِالْعِتْقِ وَلَا يُقَالُ أنه
يَعْتِقُ مُسْتَنِدًا إلَى آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وهو قَابِلٌ
لِلْعِتْقِ في ذلك الْوَقْتِ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا
أَنَّهُ يَثْبُتُ لِلْحَالِ ثُمَّ يَسْتَنِدُ
أَلَا تَرَى أَنَّ من بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ تَوَقَّفَ على إجَازَةِ الْمَالِكِ
عِنْدَكُمْ فَإِنْ هَلَكَ الْمَالُ ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ لَا تَلْحَقُهُ
الْإِجَازَةُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مُسْتَنِدًا
فَيُرَاعَى قِيَامُ مَحَلِّ الْحُكْمِ لِلْحَالِ وَالْمَحَلُّ هَهُنَا لَا
يَحْتَمِلُ الْعِتْقَ لِلْحَالِ فَلَا يَسْتَنِدُ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن قَتَادَةَ أَنَّهُ قال قُلْت لِسَعِيدِ بن الْمُسَيِّبِ أن
شُرَيْحًا قال في الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عن وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بدىء
بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ فقال سَعِيدٌ أَخْطَأَ شُرَيْحٌ وَإِنْ
كان قَاضِيًا فإن زَيْدَ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه يقول إنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا
مَاتَ عن وَفَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ بدىء بِالدَّيْنِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ
فَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في التَّرْتِيبِ وَالْمَيْلُ على
اتِّفَاقِهِمْ على بَقَاءِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ
فَرِوَايَةُ قَتَادَةَ تُشِيرُ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
على ما قُلْنَا وَمِثْلُهُ لَا يَكْذِبُ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ الشَّافِعِيِّ
لِأَنَّ الْعِتْقَ في الْحَقِيقَةِ مُعَلَّقٌ بِسَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى
إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى بِالِاسْتِيفَاءِ وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِأَخْذِ
الْعِوَضِ أو الْإِبْرَاءِ لَا بِصُورَةِ الْأَدَاءِ من الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ
الْعِتْقَ يَثْبُتُ من غَيْرِ أَدَاءً أَصْلًا بِأَخْذِ الْمَوْلَى
وَبِالْإِبْرَاءِ وقد سَلِمَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى
بِالِاسْتِيفَاءِ وَإِمَّا مَعْنًى لَا صُورَةً بِالْإِبْرَاءِ
أَمَّا طَرِيقُ الِاسْتِيفَاءِ فَلِأَنَّ هذا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بين الْمَوْلَى
وَالْمُكَاتَبِ وَحُكْمُهُ في جَانِبِ الْمَوْلَى مِلْكُ الْبَدَلِ وَسَلَامَتُهُ
وفي جَانِبِ الْمُكَاتَبِ سَلَامَةُ رَقَبَتِهِ بِالْحُرِّيَّةِ وَسَلَامَةُ
أَوْلَادِهِ وإكسابه حَالَ سَلَامَةِ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى وفي الْحَالِ زَوَالُ
يَدِ الْمَوْلَى عنه وَصَيْرُورَتُهُ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ وقد
ثَبَتَ الْمِلْكُ في الْمُبْدَلِ لِلْمَوْلَى في ذِمَّةِ الْعَبْدِ لِلْحَالِ حتى
لو تَبَرَّعَ عنه إنْسَانٌ بِالْأَدَاءِ وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ
وَلَوْ أَبْرَأهُ جَازَ الْإِبْرَاءُ وَيَعْتِقُ وَلَوْ أَحَالَ الْمُكَاتَب على
غَرِيمٍ له عليه دَيْنٌ من إكسابه وَقَبِلَ الْمَوْلَى صَحَّ وَعَتَقَ وإذا ثَبَتَ
الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى في الْبَدَلِ كان يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ الْمُبْدَلُ من
مِلْكِهِ وهو رَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ وَتَسْلَمُ له رَقَبَتُهُ تَحْقِيقًا
لِلْمُسَاوَاةِ في عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ إذْ الْمُعَاوَضَةُ في الْحَقِيقَةِ بين
الْبَدَلِ وَالرَّقَبَةِ كما في سَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ من الْبَيْعِ
وَالْإِجَارَةِ كما في الْخُلْعِ وَالْإِعْتَاقِ على مَالٍ إلَّا أَنَّ الزَّوَالَ
لو ثَبَتَ هَهُنَا لِلْحَالِ بَقِيَ الدَّيْنُ في ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ
وَيَتَكَامَلُ في الْأَدَاءِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَوْلَى فَيَمْتَنِعُ الناس عن
الْكِتَابَةِ فَشُرِعَ هذا الْعَقْدُ على خِلَافِ مُوجَبِ الْمُعَاوَضَاتِ في
ثُبُوتِ السَّلَامَةِ وَزَوَالِ الْمُبْدَلِ عن الْمَوْلَى إلَّا بِسَلَامَةِ
الْبَدَلِ له على الْكَمَالِ نَظَرًا لِلْمَوَالِي وَتَرْغِيبًا لهم في عَقْدِ
الْكِتَابَةِ وَنَظَرًا لِلْعَبِيدِ لِيَتَوَصَّلُوا إلَى الْعِتْقِ فإذا جاء
آخِرُ حَيَاتِهِ وَعَجَزَ عن التكسب ( ( ( الكسب ) ) ) انْتَقَلَ الدَّيْنُ من
ذِمَّتِهِ إلَى إكسابه كما في الْحُرِّ إلَّا أَنَّ الْكَسْبَ قد لَا يَسْلَمُ له
إمَّا بِالْهَلَاكِ أو بِأَخْذِ الْوَرَثَةِ فإذا أَدَّى ذلك إلَى الْمَوْلَى
فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وهو سَلَامَةُ الْبَدَلِ لِلْمَوْلَى فَيَسْلَمُ
الْمُبْدَلُ لِلْمُكَاتَبِ وهو رَقَبَتُهُ له
وَأَمَّا الْإِبْرَاءُ فَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَ آخِرَ حَيَاتِهِ يَسْقُطُ عنه
الْمُطَالَبَةُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ لَعَجْزِهِ عن الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ
وَانْتَقَلَ إلَى الْمَالِ خَلَفًا عن الْمُطَالَبَةِ عنه فَيُطَالِبُ بِهِ
وَصِيُّهُ أو وَارِثُهُ أو وصى الْقَاضِي فإذا أَدَّى النَّائِبُ سَقَطَتْ
الْمُطَالَبَةُ عن النَّائِبِ في آخِرِ حَيَاتِهِ فَيَبْرَأُ عن بَدَلِ الْكِتَابَةِ
وَتَسْقُطُ عنه الْمُطَالَبَةُ في ذلك الْوَقْتِ فَيَعْتِقُ في ذلك الْوَقْتِ وقد
خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ
ليس هو من صُورَةِ الْأَدَاءِ بَلْ سَلَامَةُ الْبَدَلِ صُورَةً وَمَعْنًى
بِالِاسْتِيفَاءِ أو مَعْنًى بِالْإِبْرَاءِ وقد حَصَلَ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا من قال أن الْعِتْقَ يَثْبُتُ بَعْدَ الْأَدَاءِ مَقْصُورًا
عليه وَيَبْقَى حَيًّا تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ كما يَبْقَى
الْمَوْلَى حَيًّا بَعْدَ الْمَوْتِ تَقْدِيرًا لِإِحْرَازِ شَرَفِ الْكِتَابَةِ
وَيَثْبُتُ الْعِتْقُ فيه وهو مُثْبَتٌ حَقِيقَةً وَيُقَدَّرُ حَيًّا على
اخْتِلَافِ طَرِيقِ أَصْحَابِنَا في ذلك على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَك وَفَاءً وَأَوْلَادًا أَحْرَارًا بِأَنْ
وُلِدُوا من امْرَأَةٍ حُرَّةٍ يؤدي بَدَلُ كِتَابَتِهِ وما فَضَلَ يَكُونُ
مِيرَاثًا بين أَوْلَادِهِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَعْتِقُ في آخِرِ
جُزْءٍ
____________________
(4/155)
من
حَيَاتِهِ ثُمَّ يَمُوتُ فَيَمُوتُ حُرًّا فَيَرِثُ منه أَوْلَادُهُ الْأَحْرَارُ
وَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا في الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُمْ صَارُوا
مُكَاتَبِينَ تَبَعًا له فإذا عَتَقَ هو في آخِرِ حَيَاتِهِ يَعْتِقُونَ هُمْ
أَيْضًا تَبَعًا له فإذا مَاتَ هو فَقَدْ مَاتَ حُرًّا وَهُمْ أَحْرَارٌ
فَيَرِثُونَهُ وَكَذَا أَوْلَادُهُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ في الْكِتَابَةِ
ووالداه ( ( ( وولداه ) ) ) لِمَا قُلْنَا وَكَذَا وَلَدُهُ الذي كُوتِبَ معه
كِتَابَةً وَاحِدَةً لِأَنَّهُ عَتَقَ معه في آخِرِ حَيَاتِهِ فَيَرِثُهُ وَأَمَّا
وَلَدُهُ الذي كَاتَبَهُ كِتَابَةً على حِدَةٍ لَا يَرِثُهُ لِأَنَّهُ لَا
يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ فَيَمُوتُ حُرًّا وَوَلَدُهُ مُكَاتَبٌ وَالْمُكَاتَبُ لَا
يَرِثُ الْحُرَّ
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَجْنَبِيٌّ وَدِينُ الْمَوْلَى
غَيْرُ الْكِتَابَةِ وَلَهُ وَصَايَا من تَدْبِيرِهِ وَغَيْرُ ذلك وَتَرَك وَلَدًا
حُرًّا أو وَلَدًا وُلِدَ له في الْكِتَابَةِ من أَمَتِهِ يُبْدَأُ بِدَيْنِ
الْأَجَانِبِ ثُمَّ بِدَيْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ وَالْبَاقِي
مِيرَاثٌ بين سَائِرِ أَوْلَادِهِ وَبَطَلَتْ وَصَايَاهُ أَمَّا بُطْلَانُ
وَصَايَاهُ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا يَخُصُّ التَّدْبِيرَ
وَالثَّانِي يَعُمُّ سَائِرَ الْوَصَايَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يَعْتِقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ
وَالْمُكَاتَبُ ليس من أَهْلِ الْإِعْتَاقِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ إذَا
أَدَّى عنه بَعْدَ الْمَوْتِ فإنه يُحْكَمُ بِعِتْقِهِ في آخِرِ جُزْءٍ من
أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ وَذَلِكَ زَمَانٌ لَطِيفٌ لَا يَسَعُ الْوَصِيَّةَ ثُمَّ
انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ وَالْمِلْكُ لِلْمُوصَى له يَثْبُتُ بعد ( (
( بعقد ) ) ) الْوَصِيَّةِ الذي هو فِعْلُهُ فإذا لم يَتَّسِعْ الْوَقْتُ له لَا
يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ إلَى
الْوَرَثَةِ من غَيْرِ صُنْعِ الْعَبْدِ وإذا بَطَلَتْ الْوَصَايَا بَقِيَتْ
الدُّيُونُ
وَأَمَّا تَرْتِيبُ الدُّيُونِ فَيُبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ لِأَنَّ
الْأَصْلَ في الدُّيُونِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالتَّرِكَةِ أَنَّهُ يُبْدَأُ
بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى كما في دَيْنِ الصِّحَّةِ مع دَيْنِ الْمَرَضِ وَدِينُ
الْأَجْنَبِيِّ أَقْوَى من دَيْنِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِالرِّقِّ
دَيْنُ الْمَوْلَى وَلَا يَبْطُلُ دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ بَلْ يُبَاعُ فيه
فَيَبْدَأُ بِدَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ ثُمَّ يُنْظَرُ في بَقِيَّةِ التَّرِكَةِ
فَإِنْ كان فيها وَفَاءٌ بِدَيْنِ الْمَوْلَى وَبِالْكِتَابَةِ بدىء بِدَيْنِ
الْمَوْلَى ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى أَقْوَى من دَيْنِ الْكِتَابَةِ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَلَا تَصِحُّ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ
وَكَذَا الْمُكَاتَبُ يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمُكَاتَبَةِ عن نَفَسِهِ
قَصْدًا بِأَنْ يُعَجِّزَ نَفَسَهُ وَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ دَيْنِ الْمَوْلَى
قَصْدًا بَلْ يَسْقُطُ ضَرُورَةً بِسُقُوطِ الْكِتَابَةِ فَكَانَ دَيْنُ
الْمَوْلَى أَقْوَى فَيُقَدَّمُ على دَيْنِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ في
التَّرِكَةِ وَفَاءٌ بِالدُّيُونِ جميعا بدىء بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ لو
بدىء بِقَضَاءِ دَيْنِ الْمَوْلَى لَبَطَلَ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ إذَا قَضَى ذلك
فَقَدْ صَارَ عَاجِزًا فَيَكُونُ قد مَاتَ عَاجِزًا فَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ فلم
يَصِحَّ الْقَضَاءُ لِأَنَّهُ بِالْعَجْزِ صَارَ قِنًّا وَلَا يَجِبُ لِلْمَوْلَى
على عَبْدِهِ الْقِنِّ دَيْنٌ وَلَيْسَ في الْبُدَاءَةِ بِقَضَاءِ دَيْنِ
الْكِتَابَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ أَوْلَى فَيُبْدَأُ بِالْكِتَابَةِ
حتى يَعْتِقَ وَيَكُونُ دَيْنُ الْمَوْلَى في ذِمَّتِهِ فَرُبَّمَا يستوفي منه
إذَا ظَهَرَ له مَالٌ وما فَضَلَ عن هذه الدُّيُونِ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِأَوْلَادِهِ
الْأَحْرَارِ من امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَلِأَوْلَادِهِ الْمَوْلُودِينَ في
الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ
حَيَاتِهِ فَيَرِثُونَ كَالْحُرِّ الْأَصْلِ
وَلَوْ مَاتَ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ
وَمَهْرٌ وَأَوْلَادٌ أَحْرَارٌ من امْرَأَةٍ حُرَّةٍ وَأَوْلَادٌ وُلِدُوا في
الْكِتَابَةِ من أَمَتِهِ وَأَوْلَادٌ اشْتَرَاهُمْ يُبْدَأُ بِالدَّيْنِ ثُمَّ
بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْكِتَابَةِ ثُمَّ يَكُونُ الْبَاقِي مِيرَاثًا
لِجَمِيعِهِمْ لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى من الْكِتَابَةِ لِمَا بَيَّنَّا ثُمَّ
يُنْظَرُ إلَى ما بَقِيَ من الْمَالِ فَإِنْ كان فيه وَفَاءً بِالْكِتَابَةِ فإنه
يُبْدَأُ بِالْجِنَايَةِ لِأَنَّهُ إذَا كان بِهِ وَفَاءٌ بِالْجِنَايَةِ صَارَ
كَأَنَّ الْمُكَاتَبَ قِنٌّ فيقضي عليه بِالْجِنَايَةِ وَمَتَى قضى عليه
بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ عَاجِزًا إذَا لم يَكُنْ في الْبَاقِي وَفَاءٌ وَإِنْ لم
يَكُنْ في الْمَالِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ وكان فيه وَفَاءٌ بِالْخِيَارِ أو لم
يَكُنْ فَقَدْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا وَبَطَلَتْ الْجِنَايَةُ لِأَنَّهُ لَا
حَقَّ لِصَاحِبِ الْجِنَايَةِ في مَالِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا كان حَقُّهُ في
الرَّقَبَةِ وقد فَاتَتْ الرَّقَبَةُ وَهَذَا إذَا كان الْقَاضِي لم يَقْضِ
بِالْجِنَايَةِ في حَالِ حَيَاتِهِ فَإِنْ كان الْقَاضِي قَضَى عليه
بِالْجِنَايَةِ صَارَ حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ
وَأَمَّا الْمَهْرُ فَإِنْ كان تَزَوَّجَ نِكَاحًا صَحِيحًا بِإِذْنِ الْمَوْلَى
فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الدُّيُونِ وَإِنْ كان النِّكَاحُ بِغَيْرِ إذْنِ
الْمَوْلَى لَا يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ شَيْءٌ ما لم يَقْضِ سَائِرَ الدُّيُونِ
وَالْجِنَايَةِ وَالْكِتَابَةِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يُصْرَفْ إلَى الْمَهْرِ
لِأَنَّ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إنَّمَا يُتْبَعُ بِالْمَهْرِ بَعْدَ الْعَتَاقِ
لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ في حَقِّ الْمَوْلَى فإذا زَالَ حَقُّ الْمَوْلَى
فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِهِ فَإِنْ أُدِّيَتْ كِتَابَتُهُ وَحُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ
وَحُرِّيَّةِ أَوْلَادِهِ صَارَ الْبَاقِي مِيرَاثًا لِأَوْلَادِهِ كُلِّهِمْ
لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا بِعِتْقِهِ
وَكَذَلِكَ إنْ كان الِابْنُ مُكَاتَبًا معه لِأَنَّهُمْ عَتَقُوا في زَمَانٍ
وَاحِدٍ وَإِنْ كَاتَبَ الِابْنَ مُكَاتَبَةً على حِدَةٍ لَا يَرِثُ منه لِأَنَّهُ
لَا يَعْتِقُ بِعِتْقِهِ وَلَا يَسْتَنِدُ عِتْقُهُ في حَقُّهُ فَلَا يَرِثُ منه
وَإِنْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ من غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ وَلَدًا مَوْلُودًا في
الْكِتَابَةِ بِأَنْ وَلَدَتْ أَمَتُهُ التي اشْتَرَاهَا بِأَنْ كان الْمُكَاتَبُ
تَزَوَّجَ أَمَةَ إنْسَانٍ بِإِذْنِ
____________________
(4/156)
مَوْلَاهُ
فَوَلَدَتْ منه ثُمَّ اشْتَرَاهَا الْمُكَاتَبُ وَوَلَدَهَا أو الْمُكَاتَبَةُ
وَلَدَتْ من غَيْرِ مَوْلَاهَا فإنه يَسْعَى في الْكِتَابَةِ على نُجُومِ أبيه
وَلَا يَبْطُلُ الْأَجَلُ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ لَا عن وَفَاءٍ فَقَدْ مَاتَ
عَاجِزًا فَقَامَ الْوَلَدُ مَقَامَهُ كَأَنَّهُ حَيٌّ وَلَوْ كان حَيًّا
حَقِيقَةً لَكَانَ يَسْعَى على نُجُومِهِ فَكَذَا وَلَدُهُ بِخِلَافِ ما إذَا
مَاتَ عن وَفَاءٍ لِأَنَّهُ مَاتَ قَادِرًا فيؤدي بَدَلُ الْكِتَابَةِ لِلْحَالِ
وَلَا يُؤَخَّرُ إلَى أَجَلِهِ بَلْ يَبْطُلُ الْأَجَلُ لِأَنَّ مَوْتَ من عليه
الدَّيْنُ يُبْطِلُ الْأَجَلَ في الْأَصْلِ كما في سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَيْسَ
هَهُنَا أَحَدٌ يَقُومُ مَقَامَهُ حتى يُجْعَلَ كَأَنَّهُ حَيٌّ وإذا أَدَّى
السِّعَايَةَ عَتَقَ أَبُوهُ وهو
وَأَمَّا وَلَدُهُ المشتري في الْكِتَابَةِ فإنه لَا يَسْعَى على نُجُومِهِ بَلْ
يُقَالُ له إمَّا أَنْ تُؤَدِّيَ السِّعَايَةَ حَالًا أو تُرَدَّ إلَى الرِّقِّ
وَلَا يُقَالُ ذلك لِلْمَوْلُودِ في الْكِتَابَةِ بَلْ يَسْعَى على نُجُومِ أبيه
وَلَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ إلَّا إذَا أَخَلَّ بِنَجْمٍ أو بِنَجْمَيْنِ على
الِاخْتِلَافِ وَإِنَّمَا كان ذلك لِأَنَّ دُخُولَ الْوَلَدِ في الْكِتَابَةِ
بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَتَبَعِيَّةُ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ في الْكِتَابَةِ
أَشَدُّ من تَبَعِيَّةِ المشتري في الْكِتَابَةِ لِأَنَّ تَبَعِيَّتَهُ
بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةُ في الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ في
الْكِتَابَةِ حَصَلَتْ في الْعَقْدِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ نَفْسِهِ
وَالْحُكْمُ في الْمُكَاتَبِ على ما ذَكَرْنَا فَكَذَا فيه وَلَا كَذَلِكَ
الْوَلَدُ المشتري لِأَنَّ جزئته ( ( ( جزئية ) ) ) ما حَصَلَتْ في الْعَقْدِ
فَانْحَطَّتْ دَرَجَتُهُ عنه فَلَا بُدَّ من إظْهَارِ ذلك في الْحُكْمِ تَرْتِيبًا
لِلْأَحْكَامِ على مَرَاتِبِ الْحُجَجِ في الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِ الْكَافِي الْخِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ وَجَعَلَ ما
ذَكَرْنَا قَوْلَ أبي حَنِيفَةَ وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدُ المشتري
وَالْوَلَدُ الْمَوْلُودُ سَوَاءٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّكَاتُبَ على الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ لِمَكَانِ
التَّبَعِيَّةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ في المشتري
وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ عن هذا أَنَّ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ في الْمَوْلُودِ
أَقْوَى منه في المشتري فَلَا يَصِحُّ الْقِيَاسُ
وَلَوْ مَاتَ من غَيْرِ وَفَاءٍ وَتَرَكَ الدُّيُونَ التي ذَكَرْنَا فَالْخِيَارُ
في ذلك إلَى الْوَلَدِ يَبْدَأُ بِأَيِّ ذلك شَاءَ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا لم
يَتْرُكْ وَفَاءً صَارَ التَّدْبِيرُ إلَى الْوَلَدِ لِأَنَّهُ يَقْضِي من
كَسْبِهِ فَيَبْدَأُ بِأَيِّ ذلك شَاءَ فَإِنْ أَخَلَّ بِنَجْمٍ أو بِنَجْمَيْنِ
على الِاخْتِلَافِ يُرَدَّ في الرِّقِّ وَلَوْ كان بَعْضُ أَوْلَادِهِ غَائِبًا
وَبَعْضُهُمْ حَاضِرًا فَعَجَزَ الْحَاضِرُ لَا يُرَدُّ في الرِّقِّ حتى يَحْضُرَ
الْغَائِبُ لِجَوَازِ أَنَّ الْغَائِبَ يَحْضُرُ فَيُؤَدِّي
وَلَوْ مَاتَ الْمُكَاتَبُ ولم يَتْرُكْ وَفَاءً لَكِنَّهُ تَرَكَ أُمَّ وَلَدٍ
فَإِنْ لم يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ بِيعَتْ في الْمُكَاتَبَةِ وَإِنْ كان مَعَهَا
وَلَدٌ اسْتَسْعَتْ فيها على الْأَجَلِ الذي كان لِلْمُكَاتَبِ صَغِيرًا كان
وَلَدُهَا أم كَبِيرًا بِنَاءً على أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اشْتَرَى أُمَّ وَلَدٍ
وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ في مُكَاتَبَتِهِ وكان له أَنْ
يَبِيعَهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَكَذَا الْمُوَالَاةُ عِنْدَهُمَا تَدْخُلُ في مُكَاتَبَتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ
مَوْتِهِ تَكُونُ بِمَنْزِلَتِهِ لَمَّا دَخَلَتْ في الْكِتَابَةِ وإذا كان
مَعَهَا فَإِنَّهَا تَتْبَعُ وَلَدَهَا في الْكِتَابَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ إذَا كان مَعَهَا وَلَدٌ
وَلَدَتْهُ في الْكِتَابَةِ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَائِمٌ لِأَنَّ الِابْنَ قام
مَقَامَهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا فَرْقَ بين وُجُودِ الْوَلَدِ وَعَدَمِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أنها إنَّمَا تَسْعَى لِأَنَّ عَتَاقَ الإستيلاد بِمَنْزِلَةِ
عَتَاقِ النَّسَبِ فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَلَدِ فَكَانَ حَالُهَا بَعْدَ
مَوْتِ الْوَلَدِ وَقَبْلَهُ وَاحِدًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا وِرَاثَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَإِنَّمَا
دَخَلَتْ في كِتَابَتِهِ لِكِتَابَةِ وَلَدِهَا تَبَعًا فإذا مَاتَ الْوَلَدُ
بَطَلَتْ كِتَابَتُهَا لأنه كِتَابَةَ الْوَلَدِ بَطَلَتْ بِمَوْتِهِ فَيَبْطُلُ
ما كان تَبَعًا له وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَلَوْ وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا وَاشْتَرَتْ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَتْ
سَعْيًا في الْكِتَابَةِ على النُّجُومِ وَاَلَّذِي يَلِي الْأَدَاءَ الْمَوْلُودُ
في الْكِتَابَةِ وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ الْمَوْلُودَ في الْكِتَابَةِ يَقُومُ
مَقَامَ الْمُكَاتَبِ وَالْوَلَدُ المشتري لَا يَقُومُ مَقَامَهُ على الِاتِّفَاقِ
أو على الِاخْتِلَافِ إلَّا أَنَّهُ يَسْعَى تَبَعًا لِلْوَلَدِ الْمَوْلُودِ في
الْكِتَابَةِ فَلَا تَجِبُ عليه السِّعَايَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ في الْأَصْلِ فَإِنْ قُلْت فَلَا يَجِبُ على
الْآخَرِ شَيْءٌ من السِّعَايَةِ قال لِأَنَّهَا لو لم تَدَعْ غَيْرَهُ بِيعَ
إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْكِتَابَةَ عَاجِلًا وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الذي يَلِي
الْأَدَاءَ هو الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ في الْكِتَابَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الْوَلَدَ المشتري لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُكَاتَبِ على الِاتِّفَاقِ أو على
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَالْمُكَاتَبَةُ وَلَوْ كانت ( ( ( كاتب ) ) ) حَيَّةً
لَكَانَتْ تَمْلِكُ كَسْبَ وَلَدِهَا المشتري فَكَذَا الذي يَقُومُ مَقَامَهَا
وَإِنْ سَعَى المشتري فَأَدَّى الْكِتَابَةَ لم يَرْجِعْ على أَخِيهِ بِشَيْءٍ
لِأَنَّهُ أَدَّى الْكِتَابَةَ من كَسْبِ الْأُمِّ لِأَنَّ كَسْبَ أُمِّ الْوَلَدِ
المشتري لِلْأُمِّ فإذا أَدَّى الْكِتَابَةَ من كَسْبِهِ فَقَدْ أَدَّى كِتَابَةَ
الْأُمِّ وَكَسْبُهُ لها فَلَا يَرْجِعُ وَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ
الْمَوْلُودَ قَائِمٌ مَقَامَهَا وَلَوْ كانت الْأُمُّ بَاقِيَةً فَأَدَّى
الْوَلَدُ المشتري فَعَتَقَتْ الْأُمُّ لم يُرْجَعْ عليه بِشَيْءٍ كَذَا هذا
وَكَذَا الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ في الْكِتَابَةِ لو سَعَى وَأَدَّى لم يَرْجِعْ
على المشتري بِشَيْءٍ من هذا الْمَعْنَى وقال
____________________
(4/157)
بَعْضُهُمْ
هذا إذَا أَدَّى الْمَوْلُودُ في الْكِتَابَةِ من مَالٍ تَرَكَتْهُ الْأُمُّ
فَأَمَّا إذَا أَدَّى من كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ بِنَفْسِهِ فإنه يَرْجِعُ بِنِصْفِهِ
على المشتري ولم يُذْكَرْ في الْأَصْلِ حُكْمَ الْمَوْلُودِ في الْكِتَابَةِ
وَإِنَّمَا ذَكَرَ حُكْمَ المشتري أنه إذَا أَدَّى لَا يَرْجِعُ
وَلَوْ اكْتَسَبَ هذا الِابْنُ المشتري كَسْبًا كان لِأَخِيهِ أَنْ يَأْخُذَهُ
وَيَسْتَعِينَ بِهِ في كِتَابَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ
قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ وَهِيَ لو كانت قَائِمَةً لَكَانَتْ تَمْلِكُ أَخْذَ
كَسْبِ المشتري وَكَذَا من يَقُومُ مَقَامَهَا وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ
يُسَلِّمَهُ في عَمَلٍ لِيَأْخُذَ كَسْبَهُ فَيَسْتَعِينَ بِهِ في مُكَاتَبَتِهِ
كان له ذلك
وَكَذَلِكَ لو أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُؤَاجِرَ نَفَسَهُ أو أَمَرَ أَخَاهُ أَنْ
يُؤَاجِرَهُ وَيَسْتَعِينَ بِأَجْرِهِ على أَدَاءِ الْكِتَابَةِ كان ذلك جَائِزًا
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَتِهَا وما اكْتَسَبَ الْوَلَدُ الْمَوْلُودُ في الْكِتَابَةِ
بَعْدَ مَوْتِ أُمِّهِ قبل الْأَدَاءِ فَهُوَ له خَاصَّةً لِأَنَّهُ دَاخِلٌ في
كِتَابَةِ الْأُمِّ وَقَائِمٌ مَقَامَهَا فما اكْتَسَبَهُ يَكُونُ له وما
يَكْتَسِبُ أَخُوهُ حُسِبَ من التَّرِكَةِ فتقضي منه الْمُكَاتَبَةُ وَالْبَاقِي
منه مِيرَاثٌ بَيْنَهُمَا
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْوَلَدَ الْمَوْلُودَ في الْكِتَابَةِ قام
مَقَامَهَا فَكَانَ حُكْمُهَا كَحُكْمِهِ وَكَسْبُ الْمُكَاتَبَةِ لها كَذَا
كَسْبُ وَلَدِهَا وَأَمَّا الْوَلَدُ المشتري فلم يَقُمْ مَقَامَهَا غير أَنَّهُ
كَسْبُهَا بِجَمِيعِ ما اكْتَسَبَهُ فَيَصِيرُ كَأَنَّهَا مَاتَتْ عن مَالٍ
وَلَوْ مَاتَتْ على مَالٍ تؤدي منه كِتَابَتُهَا وَالْبَاقِي ميراثا ( ( ( ميراث )
) ) بَيْنَهُمَا كَذَا هذا وَقِيلَ هذا كُلُّهُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ فَأَمَّا على
قَوْلِهِمَا فَالْوَلَدَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهَا وَلَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا كَسْبَ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لو كان مُنْفَرِدًا لَقَامَ
مَقَامَ الْمُكَاتَبَةِ وَيَسْعَى على النُّجُومِ عِنْدَهُمَا فَكَذَا إذَا
اجْتَمَعَا لم يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ وَاَللَّهُ عز وجل
الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا الفاسد ( ( ( الفاسدة ) ) ) وَهِيَ التي فَاتَهَا شَيْءٌ من شَرَائِطِ
الصِّحَّةِ وَهِيَ ما ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ فَلَا يَثْبُتُ بها شَيْءٌ من
الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا قبل الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ
الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ شَيْءٍ مِمَّا كان لِلْمَالِكِ عنه إلَى
الْمُكَاتَبِ فَكَانَ الْحَالُ بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ
وَأَمَّا الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْأَدَاءِ وهو الْعِتْقُ فَالْفَاسِدُ فيه
كَالصَّحِيحِ حتى لو أَدَّى يَعْتِقُ لِأَنَّ الْفَاسِدَ من الْعَقْدِ عِنْدَ
اتِّصَالِ الْقَبْضِ كَالصَّحِيحِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَنَفْسُ الْمُكَاتَبِ
في قَبْضَتِهِ إلَّا أَنَّ في الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا أَدَّى يَلْزَمُهُ
قِيمَةُ نَفَسِهِ وفي الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى لِمَا
عُرِفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ
وَالْقِيمَةُ هِيَ الْمِثْلُ لِأَنَّهَا مِقْدَارُ مَالِيَّتِهِ وَإِنَّمَا
الْمَصِيرُ إلَى الْمُسَمَّى عِنْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ تَحَرُّزًا عن
الْفَسَادِ لِجَهَالَةِ الْقِيمَةِ فإذا فَسَدَتْ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَرُّزِ
فَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى الْأَصْلِ وهو الْقِيمَةُ كما في الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
وَكَذَا في الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ
بِغَيْرِ رِضَا الْعَبْدِ وَيَرُدَّهُ إلَى الرِّقِّ وَلَيْسَ له أَنْ يَفْسَخَ في
الصَّحِيحَةِ إلَّا بِرِضَا الْعَبْدِ وَلِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ في الصَّحِيحِ
وَالْفَاسِدِ جميعا بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْفَاسِدَةَ
غَيْرُ لَازِمَةٍ في حَقِّهِمَا جميعا وَالصَّحِيحَةَ لَازِمَةٌ في حَقِّ
الْمَوْلَى غَيْرُ لَازِمَةٍ في حَقِّ الْعَبْدِ ثُمَّ إذَا أَدَّى في
الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يُنْظَرُ إلَى الْمُسَمَّى وَإِلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ
أَيُّهُمَا أَكْثَرُ على ما ذَكَرْنَا الْكَلَامَ فيه فِيمَا تَقَدَّمَ وَسَوَاءٌ
كان الْأَدَاءُ في حَيَاةِ الْمَوْلَى أو بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَى الْوَرَثَةِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعِتْقَ في الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ يَقَعُ من
طَرِيقِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ لِأَنَّ في الْكِتَابَةِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
وَمَعْنَى الْيَمِينِ فإذا فَسَدَتْ بَطَلَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ فَبَقِيَ
مَعْنَى الْيَمِينِ وَالْيَمِينُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْحَالِفِ وَلِأَنَّ
الْكِتَابَةَ الْفَاسِدَةَ لَا تُوجِبُ زَوَالَ مِلْكِ الْمَوْلَى وإذا بَقِيَ
مِلْكُهُ فإذا مَاتَ قبل الْأَدَاءِ انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ فَلَا يَعْتِقُ
بِالْأَدَاءِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أنها مع كَوْنِهَا فَاسِدَةً فيها مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
وَالْعِتْقُ فيها يَثْبُتُ من طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ لَا من طَرِيقِ التَّعْلِيقِ
بِالشَّرْطِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجِبُ فيها الْقِيمَةُ وَلَوْ كان الْعِتْقُ فيها
بِمَحْضِ الْيَمِينِ لَكَانَ لَا يَجِبُ فيها شَيْءٌ لِأَنَّ الْقِيمَةَ لم
تَدْخُلْ تَحْتَ الْيَمِينِ وَكَذَا الْوَلَدُ الْمُنْفَصِلُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ
الْوَلَدَ الْمُنْفَصِلَ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْيَمِينِ
فَثَبَتَ أَنَّ فَسَادَ الْكِتَابَةِ لَا يُوجِبُ زَوَالَ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
عنها فَثَبَتَ الْعِتْقُ فيها من طَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ أن مِلْكَ الْمَوْلَى لَا يَزُولُ في الْكِتَابَةِ الْفَاسِدَةِ
فَنَعَمْ لَكِنْ قبل قَبْضِ الْبَدَلِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فإنه يَزُولُ ذلك
عِنْدَ الْأَدَاءِ
وَلَوْ كَاتَبَ أَمَتَهُ كِتَابَةً فَاسِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ أَدَّتْ
عَتَقَتْ وَعَتَقَ وَلَدُهَا مَعَهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكِتَابَةَ
الْفَاسِدَةَ تَعْمَلُ عَمَلَ الصَّحِيحِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ
وَالْأَوْلَادُ يَدْخُلُونَ في الْكِتَابَةِ الصَّحِيحَةِ كَذَا في الْفَاسِدَةِ فَإِنْ
مَاتَتْ الْأُمُّ قبل أَنْ تُؤَدِّيَ لم يَكُنْ عَمَلُ وَلَدِهَا أَنْ يَسْعَى
لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأُمِّ ثُمَّ الْأُمُّ لَا تُجْبَرُ على
السِّعَايَةِ كَذَلِكَ الْوَلَدُ لَكِنَّهُ إذَا سَعَى فِيمَا على أُمِّهِ
يَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَعْتِقَ وهو على ما ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا مَاتَ
الْمَوْلَى فَأَدَّتْ الْمَالَ إلَى
____________________
(4/158)
وَرَثَتِهِ
تَعْتِقُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَعْتِقَ
وَأَمَّا الْبَاطِلَةُ وَهِيَ التي فَاتَهَا شَرْطٌ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ
فَلَا يَثْبُتُ بها شَيْءٌ من الْأَحْكَامِ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ الْبَاطِلَ لَا
وُجُودَ له إلَّا من حَيْثُ الصُّورَةُ كَالْبَيْعِ الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ فَلَا
يَعْتِقُ بِالْأَدَاءِ إلَّا إذَا نَصَّ على التَّعْلِيقِ بِأَنْ قال إنْ أَدَّيْت
إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَدَّى يَعْتِقُ لَكِنْ لَا بِالْمُكَاتَبَةِ
بَلْ بِالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ كما في التَّعْلِيقِ
بِسَائِرِ الشُّرُوطِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَنْفَسِخُ بِهِ الْكِتَابَةُ فَإِنَّهَا تَنْفَسِخُ
بِالْإِقَالَةِ لِأَنَّهَا من التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْفَسْخِ
لِكَوْنِ الْمُعَاوَضَةِ فيها أَصْلًا فَتَجُوزُ إقَالَتُهَا كَسَائِرِ
الْمُعَاوَضَاتِ وَكَذَا تَنْفَسِخُ بِفَسْخِ الْعَبْدِ من غَيْرِ رِضَا
الْمَوْلَى بِأَنْ يَقُولَ فَسَخْتُ الْمُكَاتَبَةَ أو كَسَرْتُهَا سَوَاءٌ كانت
فَاسِدَةً أو صَحِيحَةً لِمَا ذَكَرْنَا أنها وَإِنْ كانت صَحِيحَةً فَإِنَّهَا
غَيْرُ لَازِمَةٍ في جَانِبِ الْعَبْدِ نَظَرًا له فَيَمْلِكُ الْفَسْخَ من غَيْرِ
رِضَا الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ من غَيْرِ رِضَا الْمُكَاتَبِ
لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ في جَانِبِهِ وَهَلْ تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ أَمَّا
بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا تَنْفَسِخُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ إنْ كان له كَسْبٌ
فيؤدي إلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى وَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِهِ كَسْبٌ فَيَكْتَسِبُ
وَيُؤَدِّي فَيَعْتِقُ فَكَانَ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَبْقَى وَإِنْ
عَجَزَ عن الْكَسْبِ يَزُولُ إلَى الرِّقِّ كما لو كان الْمَوْلَى حَيًّا
وإذا مَاتَ الْمَوْلَى فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ مُكَاتَبَتَهُ أو بَقِيَّةً منها
إلَى وَرَثَتِهِ وَعَتَقَ فَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِعَصَبَةِ الْمَوْلَى لِأَنَّ
الْوَلَاءَ لَا يُورَثُ من الْمُعْتِقِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِمَا نَذْكُرُ في كِتَابِ
الْوَلَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ عَجَزَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَرُدَّ إلَى الرِّقِّ ثُمَّ كَاتَبَهُ
الْوَرَثَةُ كِتَابَةً أُخْرَى فَأَدَّى إلَيْهِمْ وَعَتَقَ فَوَلَاؤُهُ
لِلْوَرَثَةِ على قَدْرِ موارثتهم ( ( ( مواريثهم ) ) ) لِأَنَّهُ عَتَقَ
بِإِعْتَاقِهِمْ فَكَانَ مَالُهُ مِيرَاثًا بَيْنَهُمْ إذْ الْوَلَاءُ يُورَثُ
بِهِ إنْ كان لَا يُورَثُ نَفْسُهُ وإما بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ فَيُنْظَرُ إنْ
مَاتَ عن وَفَاءٍ لَا يَنْفَسِخُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَإِنْ مَاتَ لَا عن وَفَاءٍ يَنْفَسِخْ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ مَاتَ عَاجِزًا
فَلَا فَائِدَةَ في بَقَاءِ الْعَقْدِ فَيَنْفَسِخُ ضَرُورَةً وَلَا يَنْفَسِخُ
بِرِدَّةِ الْمَوْلَى بِأَنْ كَاتَبَ مُسْلِمٌ عَبْدَهُ ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَوْلَى
لِأَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَبِمَوْتِهِ حُكْمًا
أَوْلَى أَنْ لَا يَنْفَسِخُ وَلِهَذَا لَا تَبْطُلُ سَائِرُ عُقُودِهِ
بِالرِّدَّةِ كَذَا الْمُكَاتَبَةُ فَإِنْ أَقَرَّ بِقَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ
وهو مُرْتَدٌّ ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَ إقْرَارُهُ في قَوْلِهِمْ
وَإِنْ قُتِلَ أو مَاتَ على الرِّدَّةِ لم يَجُزْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إذَا لم
يُعْلَمْ إلَّا بِقَوْلِهِ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ غَيْرُ
نَافِذَةٍ عِنْدَهُ بَلْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ وَإِنْ عُلِمَ ذلك بِشَهَادَةِ
الشُّهُودِ جَازَ قَبْضُهُ
وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَدِّ أَخْذُ الدَّيْنِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ في كل ما
وَلِيَهُ من التَّصَرُّفَاتِ كَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ لِأَنَّ رِدَّتَهُ
بِمَنْزِلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ فَيَمْلِكُ قَبْضَ الدُّيُونِ التي وَجَبَتْ
بِعَقْدِهِ كَالْوَكِيلِ الْمَعْزُولِ في بَابِ الْبَيْعِ أَنَّهُ يَمْلِكُ قَبْضَ
الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَزْلِ
وَذَكَرَ في مَوْضِعٍ آخَرَ وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا
يَمْلِكُ لِكَوْنِهِ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وَحُقُوقُ هذا الْعَقْدِ وهو
الْمُكَاتَبَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ فَلَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ بِخِلَافِ
الْبَيْعِ
وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ جَائِزٌ لِأَنَّ
تَصَرُّفَاتِهِ نَافِذَةٌ عِنْدَهُمَا فَإِنْ لم يَقْبِضْ شيئا حتى لَحِقَ بِدَارِ
الْحَرْبِ فَجَعَلَ الْقَاضِي مَالَهُ مِيرَاثًا بين وَرَثَتِهِ فَأَخَذُوا
الْكَاتِبَةَ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا فَوَلَاءُ الْعَبْدِ له لِأَنَّ رِدَّتَهُ مع
لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ وَلَوْ دُفِعَ إلَى الْوَرَثَةِ
بَعْدَ مَوْتِهِ كان الْوَلَاءُ له كَذَلِكَ هذا وَيَأْخُذُ من الْوَرَثَةِ ما
قَبَضُوهُ منه إنْ وُجِدَ بِعَيْنِهِ كما في سَائِرِ أَمْلَاكِهِ التي وَجَدَهَا
مع الْوَرَثَةِ بِأَعْيَانِهَا لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا قَبَضَ بِتَسْلِيطِ
الْمُورِثِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الْوَلَاءِ الْوَلَاءُ نَوْعَانِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ وَوَلَاءُ مُوَالَاةٍ
أَمَّا وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ فَلَا خِلَافَ في ثُبُوتِهِ شَرْعًا
عَرَفْنَا ذلك بِالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ النبي الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَهَذَا نَصٌّ
وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ فَجَاءَ بِهِ إلَى رسول
اللَّهِ فقال يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اشْتَرَيْت هذا فَأَعْتَقْته فقال هو
أَخُوك وَمَوْلَاك فَإِنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ له وَشَرٌّ لَك وَإِنْ كَفَرَك
فَهُوَ خَيْرٌ لَك وَشَرٌّ له وَإِنْ مَاتَ ولم يَتْرُكْ وَارِثًا كُنْت أنت
عَصَبَتَهُ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَهُ
عَصَبَةً إذَا لم يَتْرُكْ وَارِثًا آخَرَ
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ الْمُعْتَقَ مولى الْمُعْتِقِ بِقَوْلِهِ هو أَخُوك
وَمَوْلَاك وَلَا يَكُونُ مَوْلَاهُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ له
____________________
(4/159)
وَنَظِيرُ
هذا الِاسْتِدْلَالِ اسْتِدْلَالُنَا بِقَوْلِهِ عز وجل { وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ
وما تَعْمَلُونَ } على تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ إرَادَةِ الْمَعْمُولِ من قَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وما تَعْمَلُونَ } في إثْبَاتِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ من
اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ وَخَلَقَ
مَعْمُولَهُمْ وَلَا مَعْمُولَ بِدُونِ الْعَمَلِ فَيَدُلُّ على كَوْنِ مَخْلُوقَ
اللَّهِ عز وجل وَقَوْلُهُ إنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ له لِأَنَّ الْمُعْتَقَ
لَمَّا أَنْعَمَ اللَّهُ عليه بِالْإِعْتَاقِ فَقَدْ وَجَبَ عليه الشُّكْرُ فإذا
شَكَرَهُ فَقَدْ أَدَّى ما وَجَبَ عليه فَكَانَ خَيْرًا له
وَقَوْلُهُ وَشَرٌّ لَك لِأَنَّهُ قد وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ من الْعِوَضِ
فَأَوْجَبَ ذلك نُقْصَانًا في الثَّوَابِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ
على عِوَضٍ فَكَانَ ثَوَابُهُ أَقَلَّ مِمَّنْ أَعْتَقَ ولم يَصِلْ إلَيْهِ على
إعْتَاقِهِ عِوَضٌ دُنْيَوِيٌّ أَصْلًا وَرَأْسًا
وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إذَا خلى ( ( (
خلا ) ) ) عن عِوَضٍ دُنْيَوِيٍّ يَتَكَامَلُ ثَوَابُهُ في الْآخِرَةِ
وَقَوْلُهُ وَشَرٌّ له لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا وَشَرْعًا فإذا
لم يَشْكُرْهُ فَقَدْ تَرَكَ الْوَاجِبَ فَكَانَ شَرًّا له
وَرُوِيَ أَنَّ مُعْتِقَ بِنْتِ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه مَاتَ وَتَرَكَ بِنْتًا
فَجَعَلَ رسول اللَّهِ نِصْفَ مَالِهِ لِابْنَتِهِ وَالنِّصْفَ لِابْنَةِ حَمْزَةَ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودِ
وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ وَزَيْدِ بن ثَابِتٍ وَأَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ
وَأُسَامَةَ بن زَيْدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا الْوَلَاءُ
لِلْكِبَرِ فَاتِّفَاقُ هَؤُلَاءِ النُّجَبَاءِ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ على لَفْظٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ سَمَاعِهِمْ ذلك عن رسول اللَّهِ مع ما أن
هذا حُكْمٌ لَا يُدْرَكُ بِالْقِيَاسِ فَالظَّاهِرُ قَوْلُ السَّمَاعِ وَسَيَأْتِي
تَفْسِيرُ هذا الحديث في أَثْنَاءِ الْمَسَائِلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على ثُبُوتِ هذا الْوَلَاءِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْإِعْتَاقَ إنْعَامٌ إذْ
الْمُعْتِقُ أَنْعَمَ على الْمُعْتَقِ بِإِيصَالِهِ إلَى شَرَفِ الْحُرِّيَّةِ
وَلِهَذَا سمى الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ مولى النِّعْمَةِ في عُرْفِ الشَّرْعِ
وَكَذَا سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْعَامًا فقال عز وجل في زَيْدٍ مولى رسول
اللَّهِ { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه }
قِيلَ في التَّفْسِيرِ أَنْعَمَ اللَّهُ عليه بِالْإِسْلَامِ وَأَنْعَمْت عليه بِالْإِعْتَاقِ
فَجُعِلَ كَسْبُهُ عِنْدَ اسْتِغْنَائِهِ عنه لِمَوْلَاهُ شُكْرًا لِإِنْعَامِهِ
السَّابِقِ وَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمُعْتَقُ من الْمُعْتِقِ
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُعْتَقَ في نُصْرَةِ الْمُعْتِقِ حَالَ حَيَاتِهِ وَلِهَذَا
كان عَقْلُهُ عليه وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُ بِدَفْعِ الظالم ( ( ( الظلم ) ) )
عنه وَبِكَفِّهِ عن الظُّلْمِ على غَيْرِهِ فإذا جَنَى فَقَدْ قَصَّرَ في أَحَدِ
نَوْعَيْ النُّصْرَةِ وهو كَفُّهُ عن الظُّلْمِ على غَيْرِهِ فَجُعِلَ عقله عليه
ضَمَانًا لِلتَّقْصِيرِ فإذا مَاتَ جُعِلَ وَلَاؤُهُ لِمُعْتَقِهِ جَزَاءً
لِلنُّصْرَةِ السَّابِقَةِ
وَالثَّالِثُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ كَالْإِيلَادِ من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْيَاءٌ مَعْنًى فإن الْمُعْتِقَ سَبَبٌ لِحَيَاةِ
الْمُعْتَقِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ
التي يَمْتَازُ بها الْآدَمِيُّ عن الْبَهَائِمِ كما أَنَّ الْأَبَ سَبَبُ حَيَاةِ
الْوَلَدِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ وُجُودِهِ عَادَةً وهو الْإِيلَادُ ثُمَّ
الْإِيلَادُ سَبَبٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ فَالْإِعْتَاقُ يَكُون سَبَبًا لِثُبُوتِ
الْوَلَاءِ كَالْإِيلَادِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النبي الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ
كَلُحْمَةِ النَّسَبِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَبَعْدَ هذا يَقَعُ الْكَلَامُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ ثُبُوتِهِ وفي
بَيَانِ شَرَائِطِ الثُّبُوتِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الثَّابِتِ وَكَيْفِيَّتِهِ وفي
بَيَانِ قَدْرِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ له أَمَّا سَبَبُ
ثُبُوتِهِ فَالْعِتْقُ سَوَاءٌ كان الْعِتْقُ حَاصِلًا بِصُنْعِهِ وهو
الْإِعْتَاقُ أو ما يَجْرِي مَجْرَى الْإِعْتَاقِ شَرْعًا كَشِرَاءِ الْقَرِيبِ
وَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ أو بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِأَنْ
وَرِثَ قَرِيبَهُ وَسَوَاءً أَعْتَقَهُ لِوَجْهِ اللَّهِ أو لِوَجْهِ الشَّيْطَانِ
وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ تَطَوُّعًا أو عن وَاجِبٍ عليه كَالْإِعْتَاقِ عن كَفَّارَةِ
الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَالْإِفْطَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالْيَمِينِ وَالنَّذْرِ
وَسَوَاءٌ كان الْإِعْتَاقُ بِغَيْرِ بَدَلٍ أو بِبَدَلٍ وهو الْإِعْتَاقُ على
مَالٍ وَسَوَاءٌ كان مُنَجَّزًا أو مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ أو مُضَافًا إلَى وَقْتٍ
وَسَوَاءٌ كان صَرِيحًا أو يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ أو كِنَايَةً أو يَجْرِي
مَجْرَى الْكِنَايَةِ
وَكَذَا الْعِتْقُ الْحَاصِلُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ
وَيَسْتَوِي فيه صَرِيحُ التَّدْبِيرِ وَالْإِعْتَاقِ والإستيلاد وَالْكِتَابَةِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي الْوَلَاءُ لِمَنْ أعتق ( ( ( أعتقه ) ) ) من غَيْرِ
فَصْلٍ
وَعَلَى هذا إذَا أَمَرَ الْمَوْلَى غَيْرَهُ بِالْإِعْتَاقِ في حَالِ حَيَاتِهِ
أو بَعْدَ وَفَاتِهِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْآمِرِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عنه
وَلَوْ قال لِآخَرَ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي على أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَ
فَالْوَلَاءُ لِلْآمِرِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عنه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ
أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَقَعُ عن الْمَأْمُورِ
وهو قَوْلُ زُفَرَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَمَرَ بِإِعْتَاقِ عبد الْغَيْرِ عن نَفَسِهِ وَهَذَا
لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ بِدُونِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ
لِلْآمِرِ بَلْ
____________________
(4/160)
لِلْمَأْمُورِ
فَكَانَ الْعِتْقُ عنه
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ أَمْرٌ بِمَا لَا وُجُودَ لِلْفِعْلِ
بِدُونِهِ كَالْأَمْرِ بِصُعُودِ السَّطْحِ يَكُونُ أَمْرًا بِنَصْبِ السُّلَّمِ
وَالْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ يَكُونُ أَمْرًا بِالطَّهَارَةِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا
وُجُودَ لِلْعِتْقِ عن الْآمِرِ بِدُونِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ فَكَانَ أَمْرُ
الْمَالِكِ بِإِعْتَاقِ عَبْدِهِ عنه بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ أَمْرًا
بِتَمْلِيكِهِ منه بِذَلِكَ الْبَدَلِ ثُمَّ بِإِعْتَاقِهِ عنه تَصْحِيحًا
لِتَصَرُّفِهِ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ فقال بِعْهُ مِنِّي واعتقه عَنِّي
فَفَعَلَ
وَلَوْ قال أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي ولم يذكر الْبَدَلَ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ
لِلْمَأْمُورِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْعِتْقَ عنه
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما
ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَلَهُمَا الْفَرْقُ بين الْمَسْأَلَتَيْنِ وهو أَنَّهُ في الْمَسْأَلَةِ
الْأُولَى أَمْكَنَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْآمِرِ بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ
بِمُقْتَضَى الْأَمْرِ بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّ الْمِلْكَ في الْبَيْعِ الصَّحِيحِ
لَا يَقِفُ على الْقَبْضِ بَلْ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَصَارَ الْمَأْمُورُ
بَائِعًا عَبْدَهُ منه بِالْبَدَلِ الْمَذْكُورِ ثُمَّ مُعْتِقًا عنه بِأَمْرِهِ
وَتَوْكِيلِهِ
وَأَمَّا في الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْمِلْكِ
بِالتَّمْلِيكِ الثَّابِتِ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ من
غَيْرِ عِوَضٍ يَكُونُ هِبَةً وَالْمِلْكُ في بَابِ الْهِبَةِ لَا يَثْبُتُ
بِدُونِ الْقَبْضِ فإذا أَعْتَقَ فَقَدْ أَعْتَقَ مِلْكَ نَفَسِهِ لَا مِلْكَ
الْآمِرِ فَيَقَعُ عن نَفَسِهِ فَكَانَ الْوِلَايَةُ له فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ قال أَعْتِقْ عَبْدَك ولم يَقُلْ شيء آخَرَ فَأَعْتَقَ فَالْوَلَاءُ
لِلْمَأْمُورِ لِأَنَّ الْعِتْقَ عنه لِأَنَّهُ عَتَقَ عن نَفَسِهِ لَا عن
الْآمِرِ لِعَدَمِ الطَّلَبِ من الْآمِرِ بِالْإِعْتَاقِ عنه
وَلَوْ قال أَعْتِقْ عَبْدَك على أَلْفِ دِرْهَمٍ ولم يَقُلْ عَنِّي فَأَعْتَقَ
تَوَقَّفَ على قَبُولِ الْعَبْدِ إذَا كان من أَهْلِ الْقَبُولِ فَإِنْ قَبِلَ في
مَجْلِسِ عِلْمِهِ يَعْتِقْ وَيَلْزَمْهُ الْمَالُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لم
يَطْلُبْ إعْتَاقَ الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا طَلَبَ إعْتَاقَ الْعَبْدِ
لِلْعَبْدِ وهو فُضُولِيٌّ فيه فإذا عَتَقَ الْمَالِكُ تَوَقَّفَ إعْتَاقُهُ على
إجَازَةِ الْعَبْدِ كما إذَا قال لِغَيْرِهِ بِعْ عَبْدَك هذا من فُلَانٍ على
أَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ على إجَازَةِ فُلَانِ كَذَا هذا
وَسَوَاءٌ كان الْمُعْتِقُ ذَكَرًا أو أُنْثَى لِوُجُودِ السَّبَبِ مِنْهُمَا
وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ
وقال ليس لِلنِّسَاءِ من الْوَلَاءِ إلَّا ما أَعْتَقْنَ الحديث وَالْمُسْتَثْنَى
من الْمَنْفِيِّ مُثْبَتٌ ظَاهِرًا وَسَوَاءٌ كان الْمُعْتِقُ وَالْمُعْتَقُ
مُسْلِمَيْنِ أو كَافِرَيْنِ أو كان أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ كَافِرًا
لِوُجُودِ السَّبَبِ وَلِعُمُومِ الحديث حتى لو أَعْتَقَ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا أو
ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا فَوَلَاءُ الْمُعْتَقِ مِنْهُمَا لِلْمُعْتِقِ لِمَا قُلْنَا
إلَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْإِرْثِ وهو اتِّحَادُ
الْمِلَّةِ
قال النبي لَا يَتَوَارَثُ أَهْلُ مِلَّتَيْنِ بِشَيْءٍ وقال لَا يَرِثُ
الْمُؤْمِنُ من الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ من الْمُؤْمِنَ وَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الْوَلَاءُ ثَابِتًا لِإِنْسَانٍ وَلَا يَرِثُ بِهِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ
الْإِرْثِ بِهِ على ما نَذْكُرُ حتى لو أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ مِنْهُمَا قبل مَوْتِ
الْمُعْتِقِ ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقِ يَرِثُ بِهِ لتحقق ( ( ( لتحقيق ) ) )
الشَّرْطِ وَكَذَا لو كان لِلذِّمِّيِّ الذي هو مُعْتِقُ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ
عَصَبَةٌ من الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ كان له عَمٌّ مُسْلِمٌ أو ابن عَمٍّ مُسْلِمٍ
فإنه يَرِثُ الْوَلَاءَ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ
وَإِنْ لم يَكُنْ له عَصَبَةٌ من الْمُسْلِمِينَ يُرَدَّ إلَى بَيْتِ الْمَالِ
وَلَوْ كان عَبْدٌ مُسْلِمٌ بين مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ فَأَعْتَقَاهُ ثُمَّ مَاتَ
الْعَبْدُ فَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَرِثُ
الْمُسْلِمَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِأَقْرَبِ عَصَبَةِ الذِّمِّيِّ من
الْمُسْلِمِينَ إنْ كان له عَصَبَةُ مُسْلِمٍ وَإِنْ لم يَكُنْ يُرَدَّ إلَى
بَيْتِ الْمَالِ
وَلَوْ أَعْتَقَ حَرْبِيٌّ عَبْدَهُ الْحَرْبِيَّ في دَارِ الْحَرْبِ لم يَصِرْ بِذَلِكَ
مَوْلَاهُ حتى لو خَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمَيْنِ لَا وَلَاءَ له
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا
لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِكَلَامِ الْإِعْتَاقِ وَإِنَّمَا يَعْتِقُ
بِالتَّخْلِيَةِ وَالْعِتْقُ الثَّابِتُ بِالتَّخْلِيَةِ لَا يُوجِبُ الْوَلَاءَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَصِيرُ مَوْلَاهُ وَيَكُونُ له وَلَاؤُهُ لِأَنَّ إعتاق ( (
( إعتاقه ) ) ) بِالْقَوْلِ قد صَحَّ في دَارِ الْحَرْبِ
وَكَذَلِكَ لو دَبَّرَهُ في دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ وَلَا
خِلَافَ في أَنَّ اسْتِيلَادَهُ جَائِزٌ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له
لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مَبْنَى
الِاسْتِيلَادِ على ثُبُوتِ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ يَثْبُتُ في دَارِ الْحَرْبِ
وَلَوْ أَعْتَقَ مسل ( ( ( مسلم ) ) ) عَبْدًا له مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا في دَارِ
الْحَرْبِ فَوَلَاؤُهُ له لِأَنَّ إعْتَاقَهُ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ
أَعْتَقَ عَبْدًا له حَرْبِيًّا في دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مَوْلَاهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّهُ لَا يَعْتِقُ بِالْقَوْلِ وَإِنَّمَا يَعْتِقُ
بِالتَّخْلِيَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَصِيرُ مَوْلَاهُ لِثُبُوتِ الْعِتْقِ
بِالْقَوْلِ
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ فيه مُضْطَرِبٌ حتى لو أَسْلَمَ الْعَبْدُ في دَارِ الْحَرْبِ
وَخَرَجَا مُسْلِمَيْنِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا وَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ على
الْمُعْتَقِ وَلِلْمُعْتَقِ أَنْ يُوَالِيَ من شَاءَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَرِثُ الْمُعْتِقُ من الْمُعْتَقِ وَلَهُ وَلَاؤُهُ إذَا
خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ وَإِنْ سُبِيَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ كان مَمْلُوكًا
لِلَّذِي سَبَاهُ في قَوْلِهِمْ جميعا وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
مَمْلُوكًا أو حُرًّا فَإِنْ كان مَمْلُوكًا
____________________
(4/161)
كان
مَحَلًّا لِلِاسْتِيلَادِ وَالتَّمَلُّكِ وَكَذَا إنْ كان حُرًّا لِأَنَّ
الْحَرْبِيَّ الْحُرَّ مَحَلٌّ للإستيلاد وَالتَّمَلُّكِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا دخل رَجُلٌ من أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ
بِأَمَانٍ فَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ
الْحَرْبِ فَسُبِيَ فَاشْتَرَاهُ عَبْدُهُ الْمُعْتَقُ فَأَعْتَقَهُ أن كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ مولى صَاحِبِهِ حتى أن أَيَّهُمَا مَاتَ ولم يَتْرُكْ
عَصَبَةً من النَّسَبِ ورثة صَاحِبُهُ لِوُجُودِ سَبَبِ الْإِرْثِ من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وهو الْإِعْتَاقُ وَشَرْطُهُ وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا
له ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ ثُمَّ هَرَبَ الذِّمِّيُّ الْمُعْتَقُ نَاقِضًا
لِلْعَهْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَ وَأَسْلَمَ فَاشْتَرَاهُ الْعَبْدُ الذي
كان أَعْتَقَهُ فَأَعْتَقَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مولى صَاحِبِهِ لِمَا
قُلْنَا
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا أَعْتَقَتْ عَبْدًا لها ثُمَّ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ
وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا الذي كانت الْمَرْأَةُ
أَعْتَقَتْهُ فَأَعْتَقَهَا كان الرَّجُلُ مولى الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ
مَوْلَاةَ الرَّجُلِ لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ
الْعِتْقُ كما هو سَبَبُ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ فَهُوَ سَبَبُ وُجُوبِ
الْعَقْلِ عليه حتى لو جَنَى الْمُعْتَقُ كان عَقْلُهُ على الْمُعْتِقِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ عليه حِفْظَهُ فإذا جَنَى فَقَدْ قَصَّرَ في الْحِفْظِ
وَأَمَّا شَرْطُ ثُبُوتِهِ فَلِثُبُوتِ الْوِلَايَةِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَعُمُّ
وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَوَلَاءَ وَلَدِ الْعَتَاقَةِ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ وَلَاءَ
وَلَدِ الْعَتَاقَةِ فَأَمَّا الذي يَعُمّهُمَا جميعا فَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ
لِلْعَبْدِ الْمُعْتَقِ أو لِوَلَدِهِ عَصَبَةٌ من جِهَةِ النَّسَبِ فَإِنْ كان
لَا يَرِثُهُ الْمُعْتِقُ لِأَنَّهُ يَرِثُهُ من طَرِيقِ التَّعْصِيبِ وفي
الْعَصَبَاتِ يُعْتَبَرُ الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَصَبَةَ
من جِهَةِ النَّسَبِ أَقْوَى فَكَانَ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ وَإِنْ
كان لُحْمَةً كَلُحْمَةِ النَّسَبِ كما نَطَقَ بِهِ الْحَدِيثُ لَكِنَّهُ لَا
يَكُونُ مِثْلَ حَقِيقَةِ النَّسَبِ فَكَانَ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ النَّسَبِ
أَوْلَى فَإِنْ لم يَكُنْ له عَصَبَةٌ من جِهَةِ النَّسَبِ وَلَهُ أَصْحَابُ
الْفَرَائِضِ أو ذَوُو الْأَرْحَامِ فَحُكْمُهُ يُذْكَرُ في مَوْضِعَيْنِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ وَلَدَ الْعَتَاقَةِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْأُمُّ
مُعْتَقَةً فَإِنْ كانت مَمْلُوكَةً فَلَا وَلَاءَ لِأَحَدٍ عليه ما دَامَ
مَمْلُوكًا سَوَاءٌ كان الْأَبُ حُرًّا أو مَمْلُوكًا لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ
الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لِمَوْلَى أُمِّهِ فَلَا
يُتَصَوَّرُ الْوَلَاءُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا تَكُونُ الْأُمُّ حُرَّةً أَصْلِيَّةً فَإِنْ كانت فَلَا
وَلَاءَ لِأَحَدٍ على وَلَدِهَا وَإِنْ كان الْأَبُ مُعْتَقًا لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَلَا وَلَاءَ
لِأَحَدٍ على أُمِّهِ فَلَا وَلَاءَ على وَلَدِهَا فَإِنْ كانت الْأُمُّ
مُعْتَقَةً وَالْأَبُ مُعْتَقًا فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأَبَ في الْوَلَاءِ
وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأَبِ لَا لِمَوْلَى الْأُمِّ لِأَنَّ الْوَلَاءَ
كَالنَّسَبِ وَالْأَصْلُ في النَّسَبِ هو الْأَبُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْأَبُ عَرَبِيًّا فَإِنْ كان الْأَبُ عَرَبِيًّا
وَالْأُمُّ مَوْلَاةً لِقَوْمٍ فَالْوَلَدُ تَابِعٌ لِلْأَبِ وَلَا وَلَاءَ عليه لِأَنَّ
الْوَلَاءَ أَثَرٌ من آثَارِ الرِّقِّ وَلَا رِقَّ على عَرَبِيٍّ وَلَوْ كان
الْأَبُ نَبَطِيًّا وهو حُرٌّ مُسْلِمٌ لم يَعْتِقْ وَلَهُ وَلَاءُ مُوَالَاةٍ أو
لم يَكُنْ فَالْوَلَدُ يَتْبَعُ الْأُمَّ في وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَبِ كما في
الْعَرَبِيِّ
وَجْهٌ قَوْلُ أبي يُوسُفَ أن النَّسَبَ يُشْبِهُ النَّسَبَ وَالنَّسَبُ إلَى
الاباء وَإِنْ كان أَضْعَفَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ لو كانت من الْعَرَبِ
وَالْأَبُ من الْمَوَالِي فَالْوَلَدُ يَكُون تَابِعًا لِقَوْمِ الْأَبِ وَلَهُمَا
أَنَّ وَلَاءَ الْأُمِّ لِمَوَالِيهَا لِأَجْلِ النُّصْرَةِ فَيَثْبُتُ لِلْوَلَدِ
هذه النُّصْرَةُ وَلَا نُصْرَةَ له من جِهَةِ الْأَبِ لِأَنَّ من سِوَى الْعَرَبِ
لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ فَصَارَ كَمُعْتَقَةٍ تَزَوَّجْت عَبْدًا
فَيَكُونُ وَلَاءُ أَوْلَادِهَا لِمَوَالِيهَا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْأَبِ مَوْلًى عَرَبِيٌّ فَإِنْ كان لَا وِلَايَةَ
لِأَحَدٍ عليه لِأَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْعَرَبِيِّ لِقَوْلِ النبي إنَّ مولى
الْقَوْم منهم
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ مُعْتَقًا فَإِنْ كان لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ
لِمَوَالِي الْأَبِ وَلَا لِمَوَالِي الْأُمِّ بَلْ يَكُونُ لِمَنْ أَعْتَقَهُ
لِأَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ صَارَ له وَلَاءُ نَفَسِهِ لِقَوْلِهِ الْوَلَاءُ لِمَنْ
أَعْتَقَ فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ في الْوَلَاءِ وَبَيَانُ هذا الْأَصْلِ
يُذْكَرُ في بَيَانِ صِفَةِ الْوَلَاءِ
وَأَمَّا صِفَتُهُ فَلَهُ صِفَاتٌ منها أَنَّ الْإِرْثَ بِهِ عِنْدَ وُجُودِ
سَبَبِ ثُبُوتِهِ وَشَرْطِهِ من طَرِيقِ التَّعْصِيبِ وَمَعْنَى هذا الْكَلَامِ
أَنَّ الْمُعْتِقَ إنَّمَا يَرِثُ بِالْوَلَاءِ مَالَ الْمُعْتَقِ بِطَرِيقِ
الْعُصُوبَةِ وَيَكُونُ الْمُعْتِقُ آخِرَ عَصَبَاتِ الْمُعْتَقِ مُقَدَّمًا على
ذَوِي الْأَرْحَامِ وَعَلَى أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ في اسْتِحْقَاقِ ما فَضَلَ من
سِهَامِهِمْ حتى أنه لو لم يَكُنْ لِلْمُعْتَقِ وَارِثٌ أَصْلًا أو كان له ذُو
الرَّحِمِ كان الْوَلَاءُ لِلْمُعْتِقِ وَإِنْ كان له أَصْحَابُ الْفَرَائِضِ فإنه
يعطي فَرَائِضَهُمْ أَوَّلًا فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ يعطي الْمُعْتِقَ وَإِلَّا
فَلَا شَيْءَ له وَلَا يُرَدُّ الْفَاضِلُ على أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ وَإِنْ كَانُوا
مِمَّنْ يُحْتَمَلُ الرَّدُّ عليه وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وهو
قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَرُوِيَ عن عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لَا
يَرِثُ بِطَرِيقِ التَّعْصِيبِ وهو مُؤَخَّرٌ عن أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ في
____________________
(4/162)
اسْتِحْقَاقِ
الْفَاضِلِ وَعَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ
وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ } فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذُو الرَّحِمِ أَوْلَى من
المعتق ( ( ( العتق ) ) )
وَجْهٌ قَوْلُ الْأَوَّلِينَ ما رَوَيْنَا عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ جَعَلَ وَلَاءَ
مولى بِنْتِ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه بَيْنَهَا وَبَيْنَ بِنْتِ مُعْتِقِهَا
نِصْفَيْنِ فَقَدْ أَقَامَ رسول اللَّهِ بِنْتَ حَمْزَةَ رضي اللَّهُ عنه مَقَامَ
الْعَصَبَاتِ حَيْثُ جَعَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ لها ولم يَأْمُرْ بِرَدِّهِ على
بِنْتِ الْمُعْتِقِ وَلَوْ كان الْأَمْرُ كما زَعَمُوا لَأَمَرَ بِالرَّدِّ كما في
سَائِرِ الْمَوَارِيثِ إذَا لم يَكُنْ هُنَاكَ عَصَبَةٌ وقال أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ
بِأَهْلِهَا فما أَبْقَتْ فَلِأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ وأولي رَجُلٍ ذَكَرٍ هَهُنَا
هو الْمَوْلَى وَرُوِيَ فَلِأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ وهو الْمَوْلَى هَهُنَا
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فقال بَعْضُهُمْ في تَأْوِيلِهَا أَيْ ذَوُو
الْأَرْحَامِ من الْعَصَبَةِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ أَيْ الْأَقْرَبُ من
ذَوِي الْأَرْحَامِ من الْعَصَبَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ من الْأَبْعَدِ
كَالِابْنِ مع ابْنِ الِابْنِ وَالْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مع الْأَخِ لِأَبٍ
وَنَحْوِ ذلك
وإذا عُرِفَ هذا الْأَصْلُ فَبَيَانُهُ في مَسَائِلَ إذَا مَاتَ الْمُعْتَقُ
وَتَرَكَ أُمًّا وَمَوْلًى فَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى عِنْدَ
الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَعِنْدَ الْآخَرِينَ الثُّلُثُ لِلْأُمِّ
بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي رَدًّا عليها أَيْضًا
وَإِنْ تَرَكَ بِنْتًا وَمَوْلًى فَلِلْبِنْتِ فَرْضُهَا وهو النِّصْفُ
وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُ عَصَبَةٌ وَعِنْدَ
الْآخَرِينَ النِّصْفُ لِلْبِنْتِ بِالْفَرْضِ وَالْبَاقِي رَدًّا عليا ( ( (
عليها ) ) ) وَلَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ
وَأُمًّا ترك ( ( ( وترك ) ) ) مَوْلَاهُ فَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ
النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ تَكْمِلَةَ الثُّلُثَيْنِ وَلِلْأُخْتِ
لِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ فَقَدْ اسْتَغْرَقَتْ سِهَامُهُمْ
الْمِيرَاثَ فلم يَبْقَ شَيْءٌ لِلْمَوْلَى وَإِنْ تَرَكَ امْرَأَةً وَمَوْلًى
فَلِلْمَرْأَةِ فَرْضُهَا وهو الرُّبْعُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى بِلَا خِلَافٍ
وَكَذَا إذَا كان الْمُعْتَقُ أَمَةً فَتَرَكَتْ زَوْجَهَا وَمَوْلًى فَلِلزَّوْجِ
فَرْضُهُ وهو النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى
أَمَّا على قَوْلِ الْأَوَّلِينَ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى عَصَبَةٌ فَكَانَ الْبَاقِي
له
وَأَمَّا على قَوْلِ الْآخَرِينَ فَلِأَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى الرَّدِّ إذْ لَا
يُرَدُّ على الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فَإِنْ تَرَكَ الْمُعْتَقُ عَمَّةً وَخَالَةً
وَمَوْلَاهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى في قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهُ آخِرُ
الْعَصَبَاتِ يُقَدَّمُ على ذَوِي الْأَرْحَامِ وفي قَوْلِ الْآخَرِينَ
لِلْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَلِلْخَالَةِ الثُّلُثُ لِتَقَدُّمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ
عليه وَقِسْ على هذا نَظَائِرَهُ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اشْتَرَتْ
الْمَرْأَةُ عَبْدًا فَأَعْتَقَتْهُ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ
ابْنَتَهُ فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وما بَقِيَ فَلِمَوْلَاتِهِ لِأَنَّهَا
عَصَبَةٌ وَهَذَا قَوْلُ الْأَوَّلِينَ
وَأَمَّا على قَوْلِ الْآخَرِينَ فَالْبَاقِي يُرَدُّ عليها بِالْقَرَابَةِ وإذا
اشْتَرَتْ أَبَاهَا فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَيْسَ له عَصَبَةٌ فلإبنته
النِّصْفُ بِالنَّسَبِ وما بَقِيَ فلإبنته أَيْضًا بِحَقِّ الْوَلَاءِ بِالرَّدِّ
لِأَنَّهَا عَصَبَةُ الْأَبِ في الْوَلَاءِ
وَعَلَى قَوْلِ الْآخَرِينَ ما بَقِيَ يُرَدُّ عليها بِالْقَرَابَةِ فَإِنْ كان
الْأَبُ أَعْتَقَ عَبْدًا قبل أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ ثُمَّ مَاتَ
الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ ولم يَتْرُكْ عَصَبَةً فَإِنَّهَا تَرِثُهُ لِأَنَّهُ
مُعْتَقُ مُعْتِقِهَا فَكَانَ وَلَاؤُهُ لها لِقَوْلِ النبي ليس لِلنِّسَاءِ من
الْوَلَاءِ إلَّا ما أَعْتَقْنَ أو أَعْتَقَ من أَعْتَقْنَ الحديث
وَالِاسْتِثْنَاءُ من النَّفْيِ إثْبَاتٌ ظَاهِرًا
فَإِنْ اشْتَرَتْ أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَبَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ ولم
يَتْرُكْ عَصَبَةً وَتَرَكَ ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ
بِالنَّسَبِ وما بَقِيَ فَلَهُمَا أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ وَلَكِنْ عِنْدَ
الْأَوَّلِينَ بِطَرِيقِ الْعُصُوبَةِ لِأَنَّهُمَا عَصَبَةٌ وَعِنْدَ الْآخَرِينَ
بِطَرِيقِ الرَّدِّ وَإِنْ اشْتَرَتْ إحْدَاهُمَا أباهما ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ ولم
يَتْرُك عَصَبَةً وَتَرَك ابْنَتَيْهِ هَاتَيْنِ فَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ
بِالنَّسَبِ وَلِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَبَ الثُّلُثُ وَالْبَاقِي خَاصَّةً
بِالْوَلَاءِ في قَوْلِ الْأَوَّلِينَ لِأَنَّهَا عَصَبَةٌ وفي قَوْلِ الْآخَرِينَ
الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ فإن اشْتَرَتَا أباهما ثُمَّ إنَّ
إحْدَاهُمَا وَالْأَبُ اشْتَرَيَا أَخًا لَهُمَا من الْأَبِ ثُمَّ مَاتَ الْأَب
فإن الْمَال بَيْن الإبنتين وَبَيْنَ الِابْنِ { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظّ
الْأُنْثَيَيْنِ } لِأَنَّهُ مَاتَ حُرًّا عن ابْن حُرّ وَعَنْ ابْنَتَيْنِ
حُرَّتَيْنِ فَكَانَ الْمِيرَاث لهم بِالْقَرَابَةِ فَلَا عبيرة ( ( ( عبرة ) ) )
لِلْوَلَاءِ في ذلك فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ بَعْد ذلك فَلِأُخْتَيْهِ الثُّلُثَانِ
بِالنَّسَبِ وَالثُّلُث الْبَاقِي نِصْفُهُ التي ( ( ( للتي ) ) ) اشْتَرَتْهُ مع
الْأَب خَاصَّة لِأَنَّ لها نِصْف وَلَاء الْأَخ لِأَنَّهُ عَتَقَ بِشِرَائِهَا
وَشِرَاء الْأَب فَكَانَ وَلَاؤُهُ بَيْنهمَا وما بَقِيَ فَبَيْنهمَا نِصْفَانِ
لِأَنَّهُمَا مُشْتَرَكَتَانِ في وَلَاء الْأَب فَصَارَ حِصَّة الْأَب بَيْنهمَا
نِصْفَيْنِ وهو سُدُس جَمِيع الْمَال وَتَخْرُج الْمَسْأَلَة من اثْنَتَيْ عَشَرَ
للاختين الثُّلُثَانِ لِكُلِّ وَاحِدَة مِنْهُمَا أَرْبَعَة أَسْهُم وَنِصْف ثُلُث
الْبَاقِي وَذَلِكَ سَهْمَانِ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ مع الْأَب بِالْوَلَاءِ
وَنِصْفُ الثُّلُث بَيْنهمَا نِصْفَانِ لولاء ( ( ( بولاء ) ) ) الْأَبِ لِكُلِّ
وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا سَهْمٌ فَصَارَ لِلَّتِي اشْتَرَتْهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ
وَلِلْأُخْرَى خَمْسَةُ أَسْهُمٍ وَهَذَا على قِيَاسِ قَوْلِ عَلِيٍّ
____________________
(4/163)
وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَأَمَّا على قِيَاسِ قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما إذَا
مَاتَ الِابْنُ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فَلِأُخْتَيْهِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ
كما قالوا وَالثُّلُثُ الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا فَإِنْ اشْتَرَتْ
إحْدَاهُمَا الْأَبَ وَاشْتَرَتْ الْأُخْرَى وَالْأَبُ أَخًا لَهُمَا ثُمَّ مَاتَ
الْأَبُ فَالْمَالُ بين الِابْنِ وَالِابْنَتَيْنِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الانثيين لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ بَعْدَ ذلك فَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ بِالنَّسَبِ
وَنِصْفُ الثُّلُثِ الْبَاقِي لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَخَ مع الْأَبِ وما بَقِيَ
فَهُوَ لِلَّتِي اشْتَرَتْ الْأَبَ خَاصَّةً فَيَصِيرُ الْمَالُ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ وَهَذَا على قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَزَيْدٍ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ
وَأَمَّا على قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما فَالثُّلُثُ
الْبَاقِي يُرَدُّ عَلَيْهِمَا وَاَللَّهُ عز وجل أعلم ( ( ( الموفق ) ) )
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُورَثُ من الْمُعْتَقِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يَكُونُ
سَبِيلُهُ سَبِيلَ الْمِيرَاثِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ عَصَبَةُ الْمُعْتِقِ
بِنَفْسِهَا وَهُمْ الذُّكُورُ من عَصَبَتِهِ لَا الأناث وَلَا الذُّكُورُ من
أَصْحَابِ الْفَرَائِضِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُ النبي الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا
يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ أَيْ لَا يُورَثُ من الْمُعْتَقِ لاجماعنا
على أَنَّهُ يُورَثُ من الْمُعْتِقِ وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ لَمَّا كان سَبَبُهُ
النَّسَب ثُمَّ النَّسَبُ لَا يُورَثُ نَفَسُهُ وَإِنْ كان يُورَثُ بِهِ فَكَذَا
الْوَلَاءُ
وَرَوَيْنَا عن النُّجَبَاءِ السَّبْعَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا
بِلَفْظٍ وَاحِدٍ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ فَالظَّاهِرُ هو السَّمَاعُ فَإِنْ لم
يَكُنْ فَقَدْ ظَهَرَتْ الْفَتْوَى بَيْنَهُمْ ولم يَظْهَرْ لهم فيها مُخَالِفٌ
فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ أَيْ
لِلْأَقْرَبِ وهو أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ إلَى الْمُعْتَقِ يُقَالُ
فلأن أَكْبَرُ قَوْمِهِ إذَا كان كان أَقْرَبَهُمْ إلَى الْأَصْلِ الذي
يُنْسَبُونَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا شَرْطنَا الذُّكُورَةَ في هذه الْعُصُوبَةِ
لِأَنَّ الْأَصْلَ في الْعَصَبَةِ هُمْ الذُّكُورُ إذْ الْعَصَبَةُ عِبَارَةٌ عن
الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى خَبَرًا عن بَنِي
يَعْقُوبَ عليهم الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذْ قالوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ
إلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أَيْ جَمَاعَةٌ أَقْوِيَاءٌ أَشِدَّاءُ
قَادِرُونَ على النَّفْعِ وَالدَّفْعِ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشُرَيْحٍ أَنَّ الْوَلَاءَ يَجْرِي مَجْرَى
الْمَالِ فَيُورَثُ من الْمُعْتِقِ كما يُورَثُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ إلَّا أَنَّهُ
إنَّمَا يَرِثُ منه الرِّجَالُ لَا النِّسَاءُ بِالنَّصِّ وهو قَوْلُ النبي ليس
لِلنِّسَاءِ إلَّا ما أَعْتَقْنَ الْخَبَرَ وكان شُرَيْحٌ يقول من أَحْرَزَ شيئا
في حَيَاتِهِ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ
وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قالوا
من أَحْرَزَ الْمَالَ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ فَقَدْ أَنْزَلُوهُ مَنْزِلَةَ الْمَالِ
فَدَلَّ على أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الْمَالِ وَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى
قَوْلِهِمْ من أَحْرَزَ الْمَالَ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ أَيْ من أَحْرَزَ الْمَالَ
من عَصَبَةِ الْمُعْتِقِ يوم مَوْتِ الْمُعْتَقِ أَحْرَزَ الْوَلَاءَ أَيْضًا
بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُحْرِزُ الْمَالَ وَلَا تُحْرِزُ الْوَلَاءَ
بِالْإِجْمَاعِ وَبِالْحَدِيثِ فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ مَنْعُ الْعَصَبَاتِ
وَبِهِ نَقُولُ وَلِأَنَّ في الْحَمْلِ على ما قُلْنَا عَمَلًا بِالدَّلَائِلِ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ فَهُوَ أَوْلَى
ثُمَّ بَيَانُ هذا في الْأَصْلِ في مَسَائِلَ في رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدًا له ثُمَّ
مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ وَتَرَكَ
ابْنًا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَوَلَاؤُهُ لِابْنِ الْمُعْتِقِ
لِصُلْبِهِ لَا لِابْنِ ابْنِهِ لِأَنَّهُ الْأَكْبَرُ إذْ هو أَقْرَبُ عَصَبَاتِ
الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَالْأَصْلُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ كَوْنُ الْمُسْتَحِقِّ
عَصَبَةً يوم مَوْتِ الْمُعْتِقِ لَا يوم مَوْتِ الْمُعْتَقِ وَيُعْتَبَرُ له
الْكِبَرُ من حَيْثُ الْقُرْبُ لَا من حَيْثُ السِّنُّ أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ
قد يَكُونُ أَكْبَرَ سِنًّا من عَمِّهِ الذي هو ابن الْمُعْتِقِ وَهَذَا على
قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وَأَمَّا على قَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٌ فَالْمَالُ بين ابْنِ الْمُعْتِقِ
وَبَيْنَ ابْنِ ابْنِهِ نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الْمِيرَاثِ
عِنْدَهُمَا فَكَمَا مَاتَ الْمُعْتَقُ فَقَدْ وِرْثَاهُ جميعا فَانْتَقَلَ
الْوَلَاءُ إلَيْهِمَا ثُمَّ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا انْتَقَلَ نَصِيبُهُ إلَى
وَلَدِهِ كما في مِيرَاثِ الْمَالِ فَإِنْ مَاتَ الِابْنُ الْبَاقِي وَتَرَكَ
ابْنًا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتِقُ فَالْوَلَاءُ بين ابْنِ هذا الْمَيِّتِ وَبَيْنَ
ابْنِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ نِصْفَيْنِ بِلَا خِلَافٍ
أَمَّا على قَوْلِ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ فَلِاسْتِوَائِهِمَا في الْعُصُوبَةِ
وَأَمَّا على قَوْل إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وَشُرَيْحٍ فَلِانْتِقَالِ نَصِيبِ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى وَلَده وَلَوْ كان الْأَوَّل حين مَاتَ تَرَكَ ابْنَيْنِ
ثُمَّ مَاتَ الْبَاقِي وَتَرَك ابْنًا وَاحِدًا ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ
فَالْوَلَاءُ بين ابْنِ هذا وَابْنَيْ الْأَوَّلِ يَكُونُ ثَلَاثًا عِنْدَنَا
لِاسْتِوَاءِ الْكُلِّ في الْعُصُوبَةِ وَعِنْدَهُمَا الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ النِّصْفُ لِابْنِ هذا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بين ابْنَيْ الْأَوَّلِ
نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ لِكُلِّ وَلَدٍ وَاحِدٍ حِصَّةَ أبيه فَإِنْ
مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ثَلَاثَةَ بَنِينَ فَمَاتَ الْبَنُونَ وَتَرَكَ
أَحَدُهُمْ ابْنًا وَاحِدًا وَتَرَكَ الْآخَرُ خَمْسَةَ بَنِينَ وَتَرَكَ
الثَّالِثُ عَشْرَةَ بَنِينَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَتَرَكَ مَالًا
فَمَالُهُ بين أَوْلَادِ الْبَنِينَ بِالسَّوِيَّةِ على عَدَدِ الرؤوس في قَوْلِ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ لِاسْتِوَائِهِمْ في الْعُصُوبَةِ وَالْقُرْبِ من
الْمُعْتَقِ
وَعَلَى قَوْلِ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ الْمَالُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ثُلُثٌ
لِابْنِ
____________________
(4/164)
الِابْنِ
الْوَاحِدِ وَالثُّلُثُ الْآخَرُ بين الْخَمْسَةِ بَنِي الِابْنِ وَالثُّلُثُ
الْآخَرُ بين الْعَشَرَةِ بَنِي الِابْنِ فَتَصِحُّ فَرِيضَتُهُمْ من ثَلَاثِينَ
سَهْمًا لِابْنِ الِابْنِ الْوَاحِدِ عَشْرَةٌ وَعَشْرَةٌ بين بَنِي الِابْنِ
الْآخَرِ على خَمْسَةٍ وَعَشْرَةٌ بين بَنِي الِابْنِ الْآخَرِ وهو الثَّالِثُ على
عَشْرَةٍ
وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ هو وَابْنُهُ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ
ابْنَيْنِ أَحَدُهُمَا شَرِيكُهُ في الْإِعْتَاقِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ
الْمُعْتَقُ فَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِابْنِهِ الذي هو شَرِيكُ أبيه خَاصَّةً
لِأَنَّهُ شَرِيكُهُ في الْإِعْتَاقِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
لِأَنَّ ذلك حِصَّةُ أبيه فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ فَيَصِيرُ
الْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا على أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ لِلِابْنِ
الذي كان شَرِيكَ أبيه وَالرُّبْعُ لِلْآخَرِ فَإِنْ مَاتَ شَرِيكُ أبيه قبل
الْعَبْدِ وَتَرَكَ ابْنًا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَلِابْنِ الِابْنِ
نِصْفُ الْوَلَاءِ الذي كان لِأَبِيهِ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلِابْنِ
وَحْدَهُ لِأَنَّهُ الكبير ( ( ( الكبر ) ) ) من عَصَبَةِ الْأَبِ فَكَانَ أَحَقَّ
بِنَصِيبِهِ من الْوَلَاءِ فَيَصِيرُ نِصْفُ الْوَلَاءِ لِلْعَمِّ وَنِصْفُهُ
لِابْنِ أَخِيهِ
فَإِنْ مَاتَ الْعَمُّ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ
فَنِصْفُ الْوَلَاءِ لِابْنِ شَرِيكِ أبيه خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُ
وَبَيْنَ ابْنِي عَمِّهِ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم الثُّلُثُ فَيَصِيرُ
لِابْنِ شَرِيكِ أبيه الثُّلُثَانِ وَيَصِيرُ لِابْنَيْ عَمِّهِ الثُّلُثُ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنًا وَأَبًا
ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ
وَإِنْ سَفَلَ لَا لِلْأَبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعَامَّةِ
الْفُقَهَاءِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ سُدُسَا الْوَلَاءِ لِلْأَبِ وَالْبَاقِي
لِلِابْنِ وهو قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وشريح ( ( ( وشريك ) ) ) وَهَذَا
على أَصْلِهِمَا صَحِيحٌ لِأَنَّهُمَا يُنْزِلَانِ الْوَلَاءَ مَنْزِلَةَ
الْمِيرَاثِ وَالْحُكْمُ في الْمِيرَاثِ هذا وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ قَوْلُ أبي
يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ ما يَتْرُكهُ الْمُعْتِقُ بَعْدَ مَوْتِهِ مَحَلَّ
الْإِرْثِ بَلْ يَجْعَلُهُ لِعَصَبَةِ الْمُعْتِقِ بِنَفْسِهَا وَالْأَبُ لَا
عُصُوبَةَ له مع الِابْنِ بَلْ هو صَاحِبُ فَرِيضَةٍ كما في مِيرَاثِ الْمَالِ
فَكَانَ الِابْنُ هو الْعَصَبَةُ فَكَانَ الْوَلَاءُ له
فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ أَبًا وَثَلَاثَةَ أخوة مُتَفَرِّقِينَ أَخًا
لِأَبٍ وَأُمٍّ وَأَخًا لِأَبٍ وَأَخًا لِأُمٍّ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ
فَالْوَلَاءُ لِلْأَبِ خَاصَّةً لِأَنَّهُ الْعَصَبَةُ فَإِنْ مَاتَ الْأَبُ ثُمَّ
مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلْأَخِ من الْأَبِ وَالْأُمِّ
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ الْعَصَبَاتِ إلَى الْمُعْتِقِ فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ من
الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَرَكَ ابْنًا فإن الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى الْأَخِ لِأَبٍ
لِأَنَّهُ الكبير ( ( ( الكبر ) ) )
فَإِنْ مَاتَ الْأَخُ من الْأَبِ وَتَرَكَ ابْنًا فإن الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ
الْأَخِ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ فَإِنْ مَاتَ ابن الْأَخِ من
الْأَبِ وَالْأُمِّ وَتَرَكَ ابْنًا فإن الْوَلَاءَ يَرْجِعُ إلَى ابْنِ الْأَخِ
من الْأَبِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ
فَإِنْ مَاتَ ابن الْأَخِ من الْأَبِ وَتَرَكَ ابْنًا فإن الْوَلَاءَ يَرْجِعُ
إلَى ابْنِ ابْنِ الْأَخِ من الْأَبِ وَالْأُمِّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ وَلَا يَرِثُ
الْأَخُ من الْأُمِّ وَلَا أَحَدَ من ذَوِي الْأَرْحَامِ شيئا من الْوَلَاءِ لِمَا
بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ جَدَّهُ أَبَا أبيه وَأَخَاهُ لِأَبِيهِ
وَأُمِّهِ أو لِأَبِيهِ فَالْوَلَاءُ لِلْجَدِّ لَا لِلْأَخِ في قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْوَلَاءُ بين الْجَدِّ وَالْأَخِ
نصفين ( ( ( نصفان ) ) ) بِنَاءً على أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْأَخِ مع الْجَدِّ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يُوَرِّثَانِ الْأَخَ مع الْجَدِّ بِالتَّعْصِيبِ
فَإِنْ مَاتَ الْمُعْتِقُ وَتَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ
الْمُعْتَقُ فَالْوَلَاءُ لِلِابْنِ لَا لِلْبِنْتِ لِأَنَّ الِابْنَ هو
الْعَصَبَةُ بِنَفْسِهِ لَا الْبِنْتُ وَلِقَوْلِ النَّبِيّ ليس لِلنِّسَاءِ من
الْوَلَاءِ إلَّا ما أَعْتَقْنَ أو أَعْتَقَ من أَعْتَقْنَ أو كَاتَبْنَ أو
كَاتَبَ من كَاتَبْنَ ولم يُوجَدْ هَهُنَا الْمُسْتَثْنَى فَبَقِيَ
اسْتِحْقَاقُهَا الْوَلَاءَ على أَصْلِ النَّفْيِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَرِثْنَ بِالْوَلَاءِ إلَّا ما
أَعْتَقْنَ أو أَعْتَقَ من أَعْتَقْنَ أو كَاتَبْنَ أو كَاتَبَ من كَاتَبْنَ أو
دَبَّرْنَ أو دَبَّرَ من دَبَّرْنَ وَأَوْلَادُهُمْ وَأَوْلَادُ أَوْلَادِهِمْ
وَإِنْ سَفَلُوا إذَا كَانُوا من امْرَأَةٍ مُعْتَقَةٍ أو ما جَرَّ مُعْتِقُهُنَّ
من الْوَلَاءِ إلَيْهِنَّ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لهما ( ( ( لها ) ) )
ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ وَلَا وَارِثَ له فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ لِقَوْلِهِ
خَاصَّةً في النِّسَاءِ ليس لِلنِّسَاءِ من الْوَلَاءِ إلَّا ما أَعْتَقْنَ وَهَذَا
مُعْتَقُهَا وَلِعُمُومِ قَوْلِهِ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَمَنْ تَعُمُّ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى فَلَوْ أَنَّ مُعْتِقَهَا أَعْتَقَ عَبْدًا له ثُمَّ مَاتَ
الْعَبْدُ الْأَسْفَلُ ولم يَتْرُكْ وَارِثًا فولاءه ( ( ( فولاؤه ) ) )
لِمَوْلَاهُ الذي أَعْتَقَهُ وَلَا يَرِثُ مَوْلَاهُ منه شيئا لِأَنَّهُ مُعْتِقُ
مَوْلَاهُ وَلَيْسَ بِمُعْتَقِهَا حَقِيقَةً بَلْ مُعْتِقِ مُعْتِقِهَا فَكَانَ
إثْبَاتُ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ حَقِيقَةً أَوْلَى
فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْأَعْلَى ولم يَتْرُكْ عَصَبَةً ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ
الْأَسْفَلُ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّهُ مُعْتِقُ
مُعْتِقِهَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ أو أَعْتَقَ من أَعْتَقْنَ وَلَوْ تَرَكَ
الْعَبْدُ الْأَعْلَى عَصَبَةً فما له لِعَصَبَتِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ
الأرث بِالْوَلَاءِ أَنْ لَا يَكُونُ لَلْمُعْتِقِ عَصَبَةٌ من النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ لو أَنَّ الْمُعْتِقَ الثَّانِي أَعْتَقَ ثَالِثًا وَالثَّالِثَ
أَعْتَقَ رَابِعًا فَمِيرَاثُهُمْ كلهم إذَا مَاتُوا لها إذَا لم يُخْلِفْ من
مَاتَ منهم مَوْلًى أَقْرَبَ إلَيْهِ منها وَلَا عَصَبَةً وَلَوْ كَاتَبَتْ
____________________
(4/165)
الْمَرْأَةُ
عَبْدًا لها فَأَدَّى فَعَتَقَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ فَوَلَاؤُهُ
لها لِقَوْلِ النبي أو كَاتَبْنَ
وَكَذَا لو كان الْعَبْدُ الْمُكَاتَبُ كَاتَبَ عَبْدًا له من اكسابه فَأَدَّى
الْأَسْفَلُ أَوَّلًا فَعَتَقَ كان وَلَاؤُهُ لها لِأَنَّ الْأَعْلَى ليس من
أَهْلِ الْوَلَاءِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ بَعْدُ وَكَذَا إذَا أَدَّيَا جميعا
مَعًا فَعَتَقَا فَوَلَاؤُهُمَا لها لِقَوْلِهِ أو كَاتَبَ من كَاتَبْنَ
وَكَذَا إذَا دَبَّرَتْ امْرَأَةٌ عَبْدًا لها فَمَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ
كان وَلَاؤُهَا منها حتى يَكُونَ لِلذُّكُورِ من عَصَبَتِهَا
وَكَذَا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ حتى عَتَقَ الْمُدَبَّرُ بِمَوْتِهَا فَدَبَّرَ
عَبْدًا له فَوَلَاؤُهُ يَكُونُ لِعَصَبَتِهَا وَكَذَا وَلَاءُ أَوْلَادِهَا
وَوَلَاءُ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِمْ الَّذِينَ وُلِدُوا من امْرَأَةٍ مُعْتَقَةٍ
يَكُونُ لها لِأَنَّ وَلَاءَهُمْ يَثْبُتُ لِآبَائِهِمْ وَوَلَاءُ آبَائِهِمْ لها
كَذَا وَلَاءُ أَوْلَادِهِمْ
امْرَأَةٌ زَوَّجَتْ عَبْدَهَا بِمَوْلَاةِ قَوْمٍ فَوَلَدَتْ وَلَدًا فَوَلَاءُ الْوَلَدِ
يَكُونُ لِمَوْلَى أُمِّهِ وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ منه شَيْءٌ وَهَذَا مِمَّا
لَا يُشَكُّ فيه لِأَنَّ أَبَا الْوَلَدِ ليس بِمُعْتَقٍ بَلْ هو عَبْدٌ مَمْلُوكٌ
وَلَا يُتَصَوَّرُ وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ بِدُونِ الْعِتْقِ فَلَوْ أَعْتَقَتْ
الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا جَرَّ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى
مَوْلَاتِهِ حتى لو مَاتَ الْوَلَدُ وَلَا وَارِثَ له كان مَالُهُ لِأَبِيهِ
فَإِنْ لم يَكُنْ له أَبٌ فَإِنْ كان مَاتَ فَوَلَاؤُهُ لِلْمَرْأَةِ التي
أَعْتَقَتْ أَبَاهُ
هذا تَفْسِيرُ جَرّ مَوَالِيَ النِّسَاءِ الْوَلَاءَ إلَيْهِنَّ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لها ثُمَّ مَاتَتْ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ
الْمُعْتَقُ فَوَلَاءُ مُعْتَقَهَا لِوَلَدِهَا الذُّكُورِ إنْ كَانُوا من
عَصَبَتِهَا وَعَقْلُهُ عليهم أَيْضًا بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كَانُوا من غَيْرِ
عَصَبَتِهَا فَوَلَاءُ مُعْتَقَهَا لِوَلَدِهَا الذُّكُورِ الَّذِينَ هُمْ من
غَيْرِ عَصَبَتِهَا وَعَقْلُهُ على سَائِرِ عَصَبَتِهَا دُونَ وَلَدِهَا فَإِنْ
القرض ( ( ( انقرض ) ) ) وَلَدُهَا وَخَلَّفُوا عَصَبَةً لهم لَيْسُوا من قَوْمِ
الْمَرْأَةِ الْمُعْتِقَةِ وَلَهَا عَصَبَةٌ كان لِعَصَبَتِهَا دُونَ عَصَبَةِ
ابْنِهَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْكِبَرِ وَأَنَّهُ لَا يُورَثُ
وَكَذَلِكَ ما رُوِيَ عن عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يَرْجِعُ الْوَلَاءُ
إلَى عَصَبَتِهَا إذَا انْقَطَعَ وَلَدُهَا الذُّكُورُ وهو قَوْلُ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وإذا لم يَكُنْ لها عَصَبَةٌ من نَسَبٍ وكان لها موالي ( ( ( موال )
) ) أَعْتَقُوهَا فَالْوَلَاءُ لِمَوَالِيهَا وكان شُرَيْحٌ يَجْعَلُ الْوَلَاءَ
بَعْدَ بَنِيهَا لِعَصَبَةِ الْبَنِينَ دُونَ عَصَبَتِهَا لِأَنَّهُ يَجْعَلُ
الْوَلَاءَ مِيرَاثًا كَالْمَالِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ امْرَأَةٌ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ثُمَّ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ
ابنها ( ( ( ابنا ) ) ) وَأَخًا لها ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ فَمَالُهُ
لِابْنِهَا لَا لِأَخِيهَا بِلَا خِلَافٍ فَإِنْ مَاتَ ابْنُهَا وَتَرَكَ أَخًا له
وَأَبَاهُ فإن الْوَلَاءَ لِلْخَالِ دُونَ الْأَبِ لِأَنَّ الْخَالَ أَخٌ
الْمُعْتِقَةِ وهو عَصَبَتُهَا وَالْأَبُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْمُعْتِقَةِ وَعَلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ الْوَلَاءُ الذي لِلْأَخِ يَنْبَغِي أَنْ
يَكُونَ لِلْأَبِ لَا لِلْخَالِ
لِأَنَّ الْأَبَ عَصَبَةُ الِابْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الِابْنُ وَتَرَكَ أَخًا لِأَبٍ أو عَمًّا أو جَدًّا من
قِبَلِ أبيه أو تَرَكَ ابني عَمٍّ أو تَرَكَ مَوَالِيَ أبيه فَهَذَا كُلُّهُ
سَوَاءٌ وَالْوَلَاءُ يَرْجِعُ إلَى عَصَبَةِ الْأُمِّ الْأَقْرَبُ منهم
فَالْأَقْرَبُ إنْ كان لها بَنُو عَمٍّ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَإِنْ لم يَكُنْ وكان
لها موالي ( ( ( موال ) ) ) أَعْتَقُوهَا يَرْجِعُ الْوَلَاءُ إلَيْهِمْ وفي
قَوْلِ شُرَيْحٍ لَا يَرْجِعُ الْوَلَاءُ وَيَمْضِي على جِهَتِهِ
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَابْنِ أبي لَيْلَى أن للولاء ( ( ( الولاء ) ) )
لِلذُّكُورِ من وَلَدِهَا وَالْعَقْلُ عليهم أَيْضًا دُونَ سَائِرِ عَصَبَةِ
الْمُعْتِقَةِ وَقَالَا كما يَرِثُونَهُ كَذَلِكَ يَعْقِلُونَ عنه لِأَنَّ
الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِمَا أَنَّ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ رضي اللَّهُ
عنهما اخْتَصَمَا إلَى عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في وَلَاءِ مولى صَفِيَّةَ بِنْتِ
عبد الْمُطَّلِبِ فقال الزُّبَيْرُ هِيَ أُمِّي فَأَنَا أَرِثُهَا ولى وَلَاؤُهَا
وقال عَلِيٌّ هِيَ عمتى وأنا عَصَبَتُهَا وأنا أَعْقِلُ عنها فَلِي وَلَاؤُهَا
فَقَضَى عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه بِالْوَلَاءِ لِلزُّبَيْرِ وَبِالْعَقْلِ على
عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه وَالْمَعْنَى فيه أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ
بِالْعُصُوبَةِ وَالِابْنُ في ذلك مُقَدَّمٌ على الْأَخِ وَابْنِ الْعَمِّ
وَأَمَّا الْعَقْلُ فَبِالتَّنَاصُرِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ
يَتَعَاقَلُونَ بِالتَّنَاصُرِ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمْ وَلَا عُصُوبَةَ
وَالتَّنَاصُرُ لها وَلِمَوْلَاهَا بِقَوْمِ أَبِيهَا لَا بِابْنِهَا كَذَلِكَ كان
الْعَقْلُ عليهم وَاعْتِبَارُ الْعَقْلِ بِالْمِيرَاثِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
الْعَقْلَ ليس يَتْبَعُ الْمِيرَاثَ لَا مَحَالَةَ
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَرِثُهُ وَلَدُهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ
وَأَخَوَاتُهُ وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً لها عَقْلٌ كان عَقْلُهَا على عَصَبَتِهِ
دُونَ وَلَدِهِ وَأَخَوَاتِهِ
وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةً له ثُمَّ غَرِقَا جميعا وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا مَاتَ
أَوَّلًا لم يَرِثْ الْمَوْلَى منها وكان مِيرَاثُهُ لِعَصَبَةِ الْمَوْلَى إنْ لم
يَكُنْ لها وَارِثٌ
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ
بَعْضًا عِنْدَنَا وهو قَوْلُ عَامَّةِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لِأَنَّ
كُلَّ أَمْرَيْنِ حَادِثَيْنِ لَا يُعْرَفُ تَارِيخُهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا
وَقَعَا مَعًا وَالْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ في كِتَابِ الْفَرَائِضِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَازِمٌ حتى لَا يَقْدِرَ الْمُعْتِقُ على إبْطَالِهِ حتى لو
أَعْتَقَ عَبْدَهُ سَائِبَةً بِأَنْ أَعْتَقَهُ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ سَائِبَةً
لَا وِلَايَةَ له عليه كان شَرْطُهُ بَاطِلًا وَوَلَاؤُهُ له عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ وقال مَالِكٌ وَلَاؤُهُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَكَذَا
لَا يَمْلِكُ نَقْلَهُ إلَى غَيْرِهِ حتى لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ
____________________
(4/166)
وَهِبَتُهُ
وَالتَّصَدُّقُ بِهِ وَالْوَصِيَّةُ وَهَذَا قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال بَعْضُهُمْ
يَمْلِكُ نَقْلَهُ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَنَّ أَسْمَاءَ رضي اللَّهُ عنها أَعْتَقَتْ عَبْدًا
فَوَهَبَتْ الْوَلَاءَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهما
وَلَنَا قَوْلُهُ الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا
يُوهَبُ وَلِأَنَّ مَحَلَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ الْمَالُ وَالْوَلَاءُ ليس بِمَالٍ
فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالنَّسَبِ وَأَمَّا ما رُوِيَ عن أَسْمَاءَ رضي اللَّهُ
عنها فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ وَهَبَتْ له ما اسْتَحَقَّتْ
بِالْوَلَاءِ وهو الْمَالُ فَرَوَاهُ الرَّاوِي وَلَاءً لِكَوْنِهِ مُسْتَحَقًّا
بِالْوَلَاءِ أو يُحْمَلُ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَكَذَا إذَا بَاعَ عَبْدًا وَشَرَطَ على الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ له
فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لَلْمُشْتَرِي إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ
وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ لم يَصِحَّ وَيَكُونُ
وَلَاؤُهُ له لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها لَمَّا اشْتَرَتْ
بَرِيرَةَ شَرَطَ عليها أَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهَا لِمَوَالِيهَا فَخَطَبَ رسول اللَّهِ
وقال في خُطْبَتِهِ ما بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ في
كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى كُلُّ شَرْطٍ ليس في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ
بَاطِلٌ وَإِنْ كان مِائَةَ شَرْطٍ وَهَلْ يَحْتَمِلُ للولاء ( ( ( الولاء ) ) )
التَّحَوُّلَ من مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ يُنْظَرُ فيه إنْ ثَبَتَ بِإِيقَاعِ
الْعِتْقِ فيه لَا يَتَحَوَّلُ أَبَدًا لِقَوْلِهِ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ
أَلَزِمَ الْوَلَاءُ الْمُعْتِقَ وَإِنْ ثَبَتَ بِحُصُولِ الْعِتْقِ لِغَيْرِهِ
تَبَعًا يَتَحَوَّلُ إذَا قام دَلِيلُ التَّحَوُّلِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ عِنْدَ تَزَوُّجِ أَمَةٍ لِقَوْمٍ فَوَلَدَتْ منه
وَلَدًا فَأَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا وَوَلَدَهَا أو كانت حُبْلَى بِهِ حين
أَعْتَقَهَا أو أَعْتَقَهَا فَوَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لَأَقَلَّ من سِتَّةِ
أَشْهُرٍ أو كانت مُعْتَدَّةً من طَلَاقٍ أو مَوْتٍ فَوَلَدَتْ لِتَمَامِ
سَنَتَيْنِ من يَوْمِ الْمَوْتِ أو الطَّلَاقِ وقد أَعْتَقَ الْأَبَ رَجُلٌ آخَرُ
كان وَلَاءُ الْوَلَدِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ مع أُمِّهِ وَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى
مولى أبيه وَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُ بَعْدَ ذلك لِأَنَّهُ لَمَّا أَعْتَقَهُمَا
فَقَدْ ثَبَتَ وَلَاءُ الْوَلَدِ بِإِيقَاعِ الْعِتْقِ فيه فَلَا يَحْتَمِلُ
التَّحَوُّلَ وَكَذَا إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ حُبْلَى لِمَا قُلْنَا وَكَذَا إذَا
أَعْتَقَهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ
الاعتاق لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ في الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِعْتَاقِ
لِأَنَّ الْوَلَدَ لا يُولَدُ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَيَثْبُتُ وَلَاؤُهُ
بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَوَّلُ
وَلَوْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ
إلَى مَوَالِي الْأَبِ لِأَنَّا لم نَعْلَمْ يَقِينًا أَنَّهُ كان في الْبَطْنِ
وَقْتَ إعْتَاقِ الْأُمِّ فَيُجْعَلَ كَأَنَّهَا حَبِلَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ
فَيَكُونَ حُرًّا تَبَعًا لِلْأُمِّ وَيَثْبُتَ له الْوَلَاءُ من مَوَالِي أُمِّهِ
على جِهَةِ التَّبَعِيَّةِ وَوَلَاءُ الْوَلَدِ إذَا ثَبَتَ لِمَوَالِي الْأُمِّ
على وَجْهِ التَّبَعِيَّةِ يَتَحَوَّلُ إلَى مَوَالِي الْأَبِ إذَا أُعْتِقَ
الْأَبُ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل وإذا كانت الْأُمُّ مُعْتَدَّةً
من طَلَاقٍ أو مَوْتٍ فإن نَسَبَ الْوَلَدِ يَثْبُتُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّ
الْوَطْءَ كان حَرَامًا فَيُجْعَلُ مُدَّةَ الْحَمْلِ سَنَتَيْنِ وَيُحْكَمُ
بِكَوْنِ الْوَلَدِ في الْبَطْنِ يوم الْإِعْتَاقِ فإذا حَكَمْنَا بِوُجُودِهِ يوم
الْإِعْتَاقِ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ بِالْإِعْتَاقِ فَلَا يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِ
وإذا كانت الْمُعْتَقَةُ تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ
بِعِتْقِهَا لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ في الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
فَإِنْ أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى مَوْلَاهُ هَكَذَا رُوِيَ
عن عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إذَا كانت الْحُرَّةُ
تَحْتَ مَمْلُوكٍ فَوَلَدَتْ عَتَقَ الْوَلَدُ بِعِتْقِهَا فإذا أُعْتِقَ أَبُوهُ
جَرَّ الْوَلَاءَ
وَعَنْ الزُّبَيْرِ بن الْعَوَّامِ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَبْصَرَ فِتْيَةً
لَعْسَاءَ أَعْجَبَهُ ظُرْفُهُمْ وَأُمُّهُمْ مَوْلَاةٌ لِرَافِعِ بن خَدِيجٍ رضي
اللَّهُ عنه وَأَبُوهُمْ عَبْدٌ لِبَعْضِ الْحُرْقَةِ من جُهَيْنَةَ أو لِبَعْضِ
أَشْجَعَ فَاشْتَرَى الزُّبَيْرُ أَبَاهُمْ فاعتقه ثُمَّ قال انْتَسِبُوا إلَيَّ
وقال رَافِعٌ بَلْ هُمْ مَوَالِيَّ فَاخْتَصَمَا إلَى عُثْمَانَ رضي اللَّهُ عنه
في وَلَاءِ الْوَلَدِ فَقَضَى بِوَلَائِهِمْ لِلزُّبَيْرِ يَعْنِي أَنَّ الْأَبَ
جَرَّ وَلَاءَ وَلَدِهِ إلَى مَوْلَاهُمْ وهو الزُّبَيْرُ حين أَعْتَقَهُ
الزُّبَيْرُ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم
يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه فَيَكُونَ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْأَصْلَ في
الْوَلَاءِ هو الْأَبُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ
وَالْأَبُ هو الْأَصْلُ في النَّسَبِ حتى يُنْسَبُ الْوَلَدُ إلَى الْأَبِ وَلَا
يُنْسَبُ إلَى الْأُمِّ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ النسب ( ( ( النسبة ) ) ) إلَى
الْأَبِ
وَكَذَا في اعْتِبَارِ الْوَلَاءِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْأُمِّ عِنْدَ
تَعَذُّرِ الِاعْتِبَارِ من جَانِبِ الْأَبِ بِأَنْ لم يَكُنْ من أَهْلِ
الْوَلَاءِ وَلَا تَعَذُّرَ هَهُنَا فَيُعْتَبَرَ جَانِبُهُ وَلِأَنَّ الْإِرْثَ
بِالْوَلَاءِ من طَرِيقِ الْعُصُوبَةِ وَالتَّعْصِيبُ من قِبَلِ الْأَبِ أَقْوَى
فَكَانَ أَوْلَى
وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ عَبْدًا ولم يَعْتِقْ كان وَلَاءُ وَلَدِهِ لِمَوَالِي
الْأُمِّ أَبَدًا لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ جَانِبِ الْأَبِ وَأَمَّا الْجَدُّ
فَهَلْ يَجُرُّ وَلَاءَ الْحَافِدِ بِأَنْ كان لِلْأَبِ الذي هو عَبْدٌ أَبٌ
عَبْدٌ وهو جَدُّ الصَّبِيِّ فَأُعْتِقَ الْجَدُّ وَالْأَبُ عَبْدٌ على حَالِهِ
قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ لَا يَجُرُّ وَلَا يَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ
الْجَدِّ وَوَلَاءُ أَوْلَادِ ابْنِهِ الْعَبْدِ لِمَوَالِي الْأُمِّ لَا
لِمَوَالِي الْجَدِّ
وقال الشَّعْبِيُّ يَجُرُّ وَيَكُونُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْجَدَّ يَقُومُ مَقَامَ الْأَبِ في الْوِلَايَةِ فإن الْأَبَ
إذَا كان عَبْدًا تَتَحَوَّلُ الْوِلَايَةُ إلَى الْجَدِّ فَكَذَا يَقُومُ
مَقَامَهُ في جَرِّ الْوَلَاءِ وَالْإِسْلَامِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَبَ
____________________
(4/167)
فَاصِلٌ
بين الِابْنِ وَالْجَدِّ فَلَا يَكُونُ الِابْنُ تَابِعًا له في الْوَلَاءِ
وَالْإِسْلَامِ ولأن الْجَدَّ لو جَرَّ الْوَلَاءَ لَكَانَ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ
لِمَوَالِي الْأُمِّ رَأْسًا إذْ لَا شَكَّ أَنَّ أَصْلَهُ يَكُونُ حُرًّا أَمَّا
من الْجَدِّ أَيْ لِأَبِيهِ أو من قِبَلِهِ من الْأَجْدَادِ إلَى آدَمَ فلما
ثَبَتَ الْوَلَاءُ لِمَوَالِي الْأُمِّ في الْجُمْلَةِ ثَبَتَ أَنَّ الْجَدَّ لَا
يَجُرُّ وَكَذَا لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ الْجَدِّ لِأَنَّهُ لو صَارَ
مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لَصَارَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ جَدِّ الْجَدِّ وَلَكَانَ
الناس كلهم مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِ آدَمَ وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ
اسْتِرْقَاقُ أَحَدٍ وَالْمَعْلُومُ بِخِلَافِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ
بِجَعْلِ الْوَلَدِ تَابِعًا لِلْجَدِّ في الْوَلَاءِ بَاطِلٌ
وَأَمَّا بَيَانُ قَدْرِهِ فَالْوَلَاءُ يَثْبُتُ بِقَدْرِ الْعِتْقِ لِأَنَّ
سَبَبَ ثُبُوتِهِ الْعِتْقُ وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ السَّبَبِ
وَبَيَانُهُ في الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا
نَصِيبَهُ وهو مُوسِرٌ أو مُعْسِرٌ وقد ذَكَرْنَا الِاخْتِلَافَ فيه في كِتَابِ
الْعَتَاقِ بِنَاءً على تجزي ( ( ( تجزؤ ) ) ) الْعِتْقِ وَعَدَمِ تجزيه ( ( (
تجزئه ) ) ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْوَلَاءِ فَلَهُ أَحْكَامٌ منها الْمِيرَاثُ وهو أَنْ
يَرِثَ الْمُعْتِقُ مَالَ الْمُعْتَقِ لِمَا ذَكَرْنَا من الْأَدِلَّةِ وَيَرِثُ
مَالَ أَوْلَادِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ الْإِرْثِ وهو ما ذَكَرْنَا وَمِنْهَا
تَحَمُّلُ الْعَقْلِ لِلتَّقْصِيرِ في النُّصْرَةِ وَالْحِفْظِ
وَمِنْهَا وِلَايَةُ الْإِنْكَاحِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْعَصَبَاتِ ثُمَّ إذَا وَرِثَ
الْمُعْتِقُ مَالَ الْمُعْتَقِ فَإِنْ كان المعتق ( ( ( العتق ) ) ) مَعْلُومًا
يُدْفَعْ إلَيْهِ وَإِنْ لم يُعْلَمْ تَوَقَّفَ الْوَلَاءُ كما إذَا اشْتَرَى رَجُلٌ
عَبْدًا ثُمَّ إنَّ الْمُشْتَرِيَ أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كان قد أَعْتَقَهُ قبل
أَنْ يَبِيعَهُ فَهُوَ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ إذَا جَحَدَ الْبَائِعُ ذلك
فَإِنْ صَدَّقَهُ بَعْدَ ذلك لَزِمَهُ الْوَلَاءُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ
الثَّمَنَ على الْمُشْتَرِي
وَكَذَا إنْ صَدَّقَهُ وَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ أَمَّا حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ
فإن إعْتَاقَ الْبَائِعِ إنْ لم يَثْبُتْ في حَقِّ الْبَائِعِ بِإِقْرَارِ
الْمُشْتَرِي لِتَكْذِيبِ الْبَائِعِ إيَّاهُ فَقَدْ ثَبَتَ في حَقِّهِ لِأَنَّهُ
في إقْرَارِهِ على نَفْسِهِ مُصَدَّقٌ إنْ لم يُصَدَّقْ على غَيْرِهِ فَيَثْبُتُ
إعْتَاقُ الْبَائِعِ حَقَّهُ فَيَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْعَبْدِ في حَقِّهِ لَكِنْ
ليس له أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ
بِالْإِعْتَاقِ لم يَنْفُذْ في حَقِّهِ لِتَكْذِيبِهِ إيَّاهُ فلم يَثْبُتْ عِتْقُ
الْعَبْدِ في حَقِّهِ
وَأَمَّا كَوْنُ الْوَلَاءِ مَوْقُوفًا فَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ
لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْإِقْرَارُ بِإِعْتَاقِ الْعَبْدِ عن
نَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُ ءثباته ( ( ( إثباته ) ) ) لِلْبَائِعِ لِأَنَّ إقْرَارَ
الْمُشْتَرِي لم يَنْفُذْ عليه فلم يَكُنْ الْعِتْقُ مَعْلُومًا فَبَقِيَ وَلَاءُ
الْعَبْدِ مَوْقُوفًا على تَصْدِيقِ الْبَائِعِ له وَوَرَثَتِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ
الْبَائِعُ لَزِمَهُ الْوَلَاءُ لِوُجُودِ الْإِعْتَاقِ منه بِإِقْرَارِهِ وَلَزِمَهُ
رَدُّ الثَّمَنِ إلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ حُرًّا
وَكَذَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ فَصَدَّقَهُ وَرَثَةُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ
وَرَثَتَهُ قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ فَصَارَ تَصْدِيقُهُمْ كَتَصْدِيقِ
الْمَيِّتِ هذا إذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِإِعْتَاقِ الْبَائِعِ فإنه أَقَرَّ
بِتَدْبِيرِهِ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ فَمَاتَ الْبَائِعُ عَتَقَ الْعَبْدُ لِأَنَّ
إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالتَّدْبِيرِ من الْبَائِعِ إقْرَارٌ منه بِإِعْتَاقِهِ
الْعَبْدَ بَعْدَ مَوْتِهِ فإذا مَاتَ نَفَذَ إقْرَارُهُ في حَقِّهِ إنْ لم
يَنْفُذْ في حَقِّ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّةِ الْعَبْدِ
على الْمُشْتَرِي وَوَلَاؤُهُ يَكُونُ مَوْقُوفًا لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا
صَدَّقَهُ وَرَثَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَلْزَمُ الْوَلَاءُ الْبَائِعَ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تلزمه ( ( ( يلزمه ) ) ) في هذا وفي
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَيْضًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ وَلَاءَ الْمَيِّتِ لم يَثْبُتْ فَالْوَرَثَةُ
بِالتَّصْدِيقِ يُرِيدُونَ إثْبَاتَ وَلَاءٍ لم يَثْبُتْ فَلَا يَمْلِكُونَ ذلك
كما لَا يَمْلِكُونَ إثْبَاتَ النَّسَبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ تَصْدِيقَهُمْ إقْرَارٌ منهم بِمَا يَمْلِكُونَ
إنْشَاءَ سَبَبِهِ في الْحَالِ لِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ إعْتَاقَ الْعَبْدِ
لِلْحَالِ فَكَانَ إقْرَارًا على أَنْفُسِهِمْ بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لهم في
الْحَقِيقَةِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُمْ في حَقِّ أَنْفُسِهِمْ بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ
وَكَذَلِكَ أَمَةٌ بين رَجُلَيْنِ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أنها أُمُّ
وَلَدٍ من صَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ يُنْكِرُ فإذا مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ
الْجَارِيَةُ وَوَلَاؤُهَا مَوْقُوفٌ أَمَّا الْعِتْقُ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدِ
مِنْهُمَا أَقَرَّ على صَاحِبِهِ بِعِتْقِهَا عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِ فَيَصِحُّ
إقْرَارُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في حَقِّ نَفْسِهِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهَا مَوْقُوفًا
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَفَى الْوَلَاءَ عن نَفْسِهِ وَأَلْحَقَهُ
بِصَاحِبِهِ فَانْتَفَى عن نَفْسِهِ ولم يَلْحَقْ بِصَاحِبِهِ فَبَقِيَ مَوْقُوفًا
وَكَذَلِكَ عَبْدٌ بين رَجُلَيْنِ قال كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ إنَّك
قد أَعْتَقْت هذا الْعَبْدَ وَجَحَدَ الْآخَرُ فَالْعَبْدُ حُرٌّ وَوَلَاؤُهُ مَوْقُوفٌ
حتى لو مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا لم يَرِثْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَيُوقَفُ في بَيْتِ
الْمَالِ إلَى أَنْ يُصَدِّقَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ ثُمَّ كُلُّ وَلَاءٍ مَوْقُوفٌ فَمِيرَاثُهُ يُوقَفُ في
بَيْتِ الْمَالِ وَجِنَايَةُ الْعَبْدِ على نَفْسِهِ لَا يَعْقِلُ عنه بَيْتُ
الْمَالِ وَإِنَّمَا يُوقَفُ مِيرَاثُهُ بِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ وَلَاءَهُ
مَوْقُوفٌ لَا يُعْرَفُ لِمَنْ هو فَكَانَ مِيرَاثُهُ مَوْقُوفًا أَيْضًا
لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِهِ فَيُوقَفُ في بَيْتِ الْمَالِ كَاللُّقْطَةِ
وَأَمَّا جِنَايَتُهُ فَإِنَّمَا لَا تُتَحَمَّلُ عنه بِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ
له عَاقِلَةً غير بَيْتِ الْمَالِ وهو نَفْسُهُ فَلَا يَجُوزُ حَمْلُ عَقْلِهِ على
بَيْتِ الْمَالِ وَيَصِيرُ هو عَاقِلَةَ نَفَسِهِ في هذه الْحَالَةِ لِجَهَالَةِ
مَوْلَاهُ بِخِلَافِ
____________________
(4/168)
الْمِيرَاثِ
فإنه لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ لِغَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ وَلَا يَسْتَحِقُّ إلَّا
أَحَدُهُمَا وهو غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيُوضَعُ في بَيْتِ الْمَالِ ضَرُورَةً وَهَذَا
بِخِلَافِ اللَّقِيطِ أنه يَرِثُهُ بَيْتُ الْمَالِ وَيَعْقِلُ عنه أَيْضًا
لِأَنَّ هَهُنَا ولاؤه ( ( ( ولاءه ) ) ) كان ثَابِتًا من إنْسَانٍ إلَّا أَنَّهُ
لَا يُعْرَفُ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ الْعَقْلُ على بَيْتِ الْمَالِ إذَا لم يَكُنْ
له وَلَاءٌ ثَابِتٌ إلَّا أَنَّ مِيرَاثَهُ يُوضَعُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَالٌ
ضَائِعٌ وَلَا يَثْبُتُ وَلَاءُ اللَّقِيطِ من أَحَدٍ فَكَانَ عَقْلُهُ على بَيْتِ
الْمَالِ كما أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ الْوَلَاءُ فَالْوَلَاءُ يَظْهَرُ
بِالْبَيِّنَةِ مَرَّةً وَبِالْإِقْرَارِ أُخْرَى أَمَّا الْبَيِّنَةُ فَنَحْوُ
أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ أَنَّهُ وَارِثُهُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَيَشْهَدُ له
شَاهِدَانِ أَنَّ هذا الْحَيَّ أَعْتَقَ هذا الْحَيَّ أو أَعْتَقَ هذا الْمَيِّتَ
وهو يَمْلِكُهُ وهو وَارِثُهُ وَلَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا غَيْرَهُ جَازَتْ
الشَّهَادَةُ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا شَهَادَةً مُفَسَّرَةً لَا جَهَالَةَ فيها
فَقُبِلَتْ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَاهُ وَأَنَّهُ وَارِثُهُ لَا
وَارِثَ له غَيْرُهُ لم تَجُزْ الشَّهَادَةُ حتى يُفَسَّرَ الْوَلَاءُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ
يَخْتَلِفُ قد يَكُونُ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ وقد يَكُونُ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ
وَأَحْكَامُهَا تَخْتَلِفُ فما لم يُفَسَّرْ كان مَجْهُولًا فَلَا يُقْبَلُ
الشَّهَادَةُ عليه
وَكَذَلِكَ لو شَهِدُوا أَنَّ الْمَيِّتَ مَوْلَاهُ مولى الْعَتَاقَةِ أَيْضًا لم
يَجُزْ لِأَنَّ مولى الْعَتَاقَةِ نَوْعَانِ أَعْلَى وَأَسْفَل وَاسْمُ الْمَوْلَى
يُسْتَعْمَلُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على السَّوَاءِ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ
إلَّا بِالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَاءَهُ بِالْعِتْقِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بَيِّنَةً جُعِلَ مِيرَاثُهُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في
سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو الدَّعْوَى وَالْحَجَّةُ فَيَسْتَوِيَانِ في
الِاسْتِحْقَاقِ وَلَوْ وَقَّتَا وَقْتًا فَالسَّابِقُ وَقْتًا أَوْلَى لِأَنَّهُ
أَثْبَتَ الْعِتْقَ في وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فيه صَاحِبُهُ وكان الثَّانِي
مُسْتَحِقًّا عليه وَلَوْ كان هذا في وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ كان صَاحِبُ الْوَقْتِ
الْآخَرِ أَوْلَى لِأَنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ
فَكَانَ عَقْدُ الثَّانِي نَقْضًا لِلْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ
صَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ كان قد عَقَلَ عنه لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا
يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَأَشْبَهَ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وهو يَمْلِكُهُ لَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا سِوَاهُ
فَقَضَى له الْقَاضِي بِمِيرَاثِهِ وَوَلَائِهِ ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ
على مِثْلِ ذلك لم يُقْبَلْ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ اشْتَرَى من الْأَوَّلِ
قبل أَنْ يُعْتِقَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ وهو يَمْلِكُهُ فَيَبْطُلُ قَضَاءُ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِقَضِيَّةٍ فإنه لَا
يَسْمَعُ ما يُنَافِيهَا إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ كان
بَاطِلًا وإذا لم يَشْهَدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهُ من الْأَوَّلِ قبل أَنْ
يُعْتِقَهُ ثُمَّ يَتَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَلَا تُقْبَلُ
الْبَيِّنَةُ من الثَّانِي إلَّا إذَا قَامَتْ على الشِّرَاءِ من الْأَوَّلِ قبل
أَنْ يُعْتِقَهُ فَيُقْبَلُ وَيَقْضِي الثاني ( ( ( للثاني ) ) ) وَيَبْطُلُ
قَضَاؤُهُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْأَوَّلَ
أَعْتَقَ ما لَا يَمْلِكُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا وَصَحَّ الثَّانِي
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَنَحْوُ أَنْ يُقِرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ مَوْلًى لِفُلَانٍ
مولى عَتَاقَةٍ من فَوْقُ أو تَحْتُ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ وهو مَوْلَاهُ يَرِثُهُ
وَيَعْقِلُ عنه قَوْمُهُ لِأَنَّ الْوَلَاءَ سَبَبٌ يُتَوَارَثُ بِهِ فَيَصِحُّ
الْإِقْرَارُ بِهِ كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ فَإِنْ كان له أَوْلَادٌ كِبَارٌ
فَأَنْكَرُوا ذلك وَقَالُوا أَبُونَا مولى الْعَتَاقَةِ لِفُلَانٍ آخَرَ فَالْأَبُ
مُصَدَّقٌ على نَفَسِهِ وَأَوْلَادُهُ مُصَدَّقُونَ على أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ
لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ على الْأَوْلَادِ الْكِبَارِ فَلَا يَنْفُذُ إقْرَارُهُ
عليهم وَيَصِحُّ إقْرَارُهُمْ على أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ لهم وِلَايَةً على
أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كان الْأَوْلَادُ صِغَارًا كان الْأَبُ مُصَدَّقًا لِأَنَّهُ
له وِلَايَةٌ على أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو عَقَدَ مع إنْسَانٍ عَقْدَ الْوَلَاءِ تَبِعَهُ
أَوْلَادُهُ الصِّغَارُ وَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْأُمُّ وَنَفَتْ وَلَاءَهُ لم
يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهَا وَيُؤْخَذُ بِقَوْلِ الْأَبِ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كان
حَيًّا كانت الْوِلَايَةُ له وَالْوَلَاءُ يُشْبِهُ النَّسَبَ وَالنَّسَبُ إلَى
الْآبَاءِ
وَكَذَلِكَ إنْ قالت هُمْ وَلَدِي من غَيْرِك لم تُصَدَّقْ لِأَنَّهُمْ في يَدِ
الْأَبِ دُونَ الْأُمِّ فَلَا تُصَدَّقُ الْأُمُّ أَنَّهُمْ لِغَيْرِهِ فَإِنْ قالت
وَلَدْته بَعْدَ عِتْقِي بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مولى الْمَوَالِي وقال
الزَّوْجُ وَلَدْتِيهِ بَعْدَ عِتْقِك بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الزَّوْجِ لِأَنَّ الْوَلَدَ ظَهَرَ في حَالٍ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى الْأَبِ
وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي أنها وَلَدَتْ في حَالٍ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِمَوْلَى
الْأُمِّ فَكَانَ الْحَالُ شَاهِدًا لِلزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إلَّا
بِبَيِّنَةٍ وَنَظِيرُ هذا الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ إذَا اخْتَلَفَا
فقال أَحَدُهُمَا كان النِّكَاحُ قبل سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَالْوَلَدُ من الزَّوْجِ
وقال الْآخَرُ كان النِّكَاحُ مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الذي
يَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ قبل سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الْوَلَدَ ظَهَرَ في
حَالِ إثْبَاتِ النَّسَبِ من الزَّوْجِ وهو حَالُ قِيَامِ النِّكَاحِ وَيَصِحُّ
الْإِقْرَارُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ في الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ لِأَنَّهُ سَبَبُ
التَّوَارُثِ فَيَسْتَوِي فيه الصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ كَالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ
وَلَوْ قال أعتقي ( ( ( أعتقني ) ) ) فُلَانٌ أو فُلَانٌ وَادَّعَاهُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ
بِمَجْهُولٍ فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ ذلك لِأَحَدِهِمَا أو لِغَيْرِهِ أَنَّهُ
مَوْلَاهُ
____________________
(4/169)
جَازَ
لِأَنَّ إقْرَارَهُ الْأَوَّلَ وَقَعَ بَاطِلًا لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ له
وَالْوَلَاءُ لَا يَثْبُتُ من الْمَجْهُولِ كَالنَّسَبِ فَبَطَلَ وَالْتَحَقَ
بِالْعَدَمِ فَبَعْدَ ذلك له أَنْ يُقِرَّ لِمَنْ شَاءَ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
ثُبُوتِهِ شَرْعًا وفي بَيَانِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
الثُّبُوتِ وفي بَيَانِ صِفَةِ السَّبَبِ وفي بَيَانِ حُكْمِهِ وفي بَيَانِ صِفَةِ
الْحُكْمِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ في ثُبُوتِ هذا الْوَلَاءِ
قال أَصْحَابُنَا أنه ثَابِتٌ وَيَقَعُ بِهِ التَّوَارُثُ وهو قَوْلُ عُمَرَ
وَعَلِيٍّ وَعَبْدِ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وهو قَوْلُ
إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ وقال زَيْدُ بن ثَابِتٍ رضي اللَّهُ عنه أنه يُورَثُ بِهِ
وَيُوضَعُ في بَيْتِ الْمَالِ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن في عَقْدِ الْوَلَاءِ إبْطَالَ حَقِّ جَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ كان وَرَثَتُهُ
جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَعْقِلُونَ عنه فَقَامُوا
مَقَامَ الْوَرَثَةِ الْمُعَيَّنِينَ وَكَمَا لَا يَقْدِرُ على إبْطَالِ حَقِّهِمْ
لَا يَقْدِرُ على إبْطَالِ حَقِّ من قام مَقَامَهُمْ وَلِهَذَا قَالَا إذَا
أَوْصَى بِجَمِيعِ مَالِهِ لِإِنْسَانٍ وَلَا وَارِثَ له لم يَصِحَّ لِأَنَّهُ
إذَا لم يَكُنْ له وَارِثٌ مُعَيَّنٌ كان وَارِثُهُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ
فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِمْ كَذَا هذا وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا بِالْكِتَابِ
وَالسَّنَةِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا الْكِتَابُ الْكَرِيمُ فَقَوْلُهُ عز وجل { وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } وَالْمُرَادُ من النَّصِيبِ الْمِيرَاثُ
لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَضَافَ النَّصِيبَ إلَيْهِمْ فَيَدُلُّ على
قِيَامِ حَقٍّ لهم مُقَدَّرٍ في التَّرِكَةِ وهو الْمِيرَاثُ لِأَنَّ هذا
مَعْطُوفٌ على قَوْلِهِ { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ } لَكِنْ عِنْدَ عَدَمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ
عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ عز وجل { وأولو ( ( ( وأولوا ) ) ) الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللَّهِ }
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن تَمِيمٍ الدَّارِيِّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ
قال سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ عَمَّنْ أَسْلَمَ على يَدَيْ رَجُلٍ وَوَالَاهُ فقال
هو أَحَقُّ الناس بِهِ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ أَيْ حَالَ حَيَاتِهِ وَحَالَ
مَوْتِهِ أَرَادَ بِهِ مَحْيَاهُ في الْعَقْلِ وَمَمَاتَهُ في الْمِيرَاثِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إنَّمَا يَرِثُ بِوَلَاءِ
الْإِيمَانِ فَقَطْ لِأَنَّهُ بَيْتُ مَالِ الْمُؤْمِنِينَ قال اللَّهُ عز وجل {
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَلِلْمَوْلَى
هذا الْوَلَاءُ وَوَلَاءُ الْمُعَاقَدَةِ فَكَانَ أَوْلَى من عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ
أَلَا تَرَى أَنَّ مولى الْعَتَاقَةِ أَوْلَى من بَيْتِ الْمَالِ لِلتَّسَاوِي في
وَلَاءِ الْإِيمَانِ وَالتَّرْجِيحُ لِوَلَاءِ الْعِتْقِ كَذَا هذا إلَّا أَنَّ
مولى الْمُوَالَاةِ يَتَأَخَّرُ عن سَائِرٍ الْأَقَارِبِ وَمَوْلَى الْعَتَاقَةِ
يَتَقَدَّمُ على ذَوِي الْأَرْحَامِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالرَّحِمِ فَوْقَ
الْوَلَاءِ بِالْعَقْدِ فَيُخَلَّفُ عن ذَوِي الْأَرْحَامِ وَوَلَاءُ الْعَتَاقَةِ
بِمَا تَقَدَّمَ من النِّعْمَةِ بِالْإِعْتَاقِ الذي هو إحْيَاءُ وَإِيلَادُ
مَعْنًى الحق بِالتَّعْصِيبِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ قال الْوَلَاءُ
لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا أن جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَرَثَتُهُ فَلَا يَقْدِرُ على
إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْعَقْدِ فَنَقُولُ إنَّمَا يَصِيرُونَ وَرَثَتَهُ إذَا
مَاتَ قبل الْمُعَاقَدَةِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُعَاقَدَةِ فَلَا وَالدَّلِيلُ على
بُطْلَانِ هذا الْكَلَامِ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصِيَّتُهُ بِالثُّلُثِ وَلَوْ كان
كَذَلِكَ لَمَا صَحَّتْ لِكَوْنِهَا وَصِيَّةً لِلْوَارِثِ
وَأَمَّا سَبَبُ ثُبُوتِهِ فَالْعَقْدُ وهو الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ وهو أَنْ يَقُولَ
الذي أَسْلَمَ على يَدِ إنْسَانٍ له أو لِغَيْرِهِ أنت مَوْلَايَ تَرِثُنِي إذَا
مِتّ وَتَعْقِلُ عَنِّي إذَا جَنَيْت فَيَقُولَ قَبِلْت سَوَاءٌ قال ذلك لِلَّذِي
أَسْلَمَ على يَدَيْهِ أو لِآخَرَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الْإِرْثَ وَالْعَقْلَ في
الْعَقْدِ
وَلَوْ أَسْلَمَ على يَدِ رَجُلٍ ولم يُوَالِهِ وَوَالَى غَيْرَهُ فَهُوَ مَوْلًى
لِلَّذِي وَالَاهُ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَعِنْدَ عَطَاءٍ هو مَوْلًى
لِلَّذِي أَسْلَمَ على يَدِهِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِقَوْلِهِ عز وجل
{ وَاَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } جَعَلَ
الْوَلَاءَ لِلْعَاقِدِ وَكَذَا لم يُنْقَلْ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَثْبَتُوا
الْوَلَاءَ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ وَكُلُّ الناس كَانُوا يُسْلِمُونَ على عَهْدِ
رسول اللَّهِ وَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وكان لَا يقول أَحَدٌ لِمَنْ
أَسْلَمَ على يَدِ أَحَدٍ أَنَّهُ ليس له أَنْ يُوَالِيَ غير الذي أَسْلَمَ على
يَدِهِ فَثَبَتَ أَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ على يَدِ رَجُلٍ ليس سَبَبًا لِثُبُوتِ
الْوَلَاءِ له بَلْ السَّبَبُ هو الْعَقْدُ فما لم يُوجَدْ لَا يَثْبُتُ الْإِرْثُ
وَالْعَقْلُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْعَقْدِ فَمِنْهَا عَقْلُ الْعَاقِدِ إذْ لَا صِحَّةَ
لِلْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ بِدُونِ الْعَقْلِ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَهُوَ شَرْطُ
الِانْعِقَادِ في جَانِبِ الْإِيجَابِ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِيجَابُ من الصَّبِيِّ
وَإِنْ كان عَاقِلًا حتى لو أَسْلَمَ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ على يَدِ رَجُلٍ
وَالَاهُ لم يَجُزْ وَإِنْ أَذِنَ أَبُوهُ الْكَافِرُ بِذَلِكَ لِأَنَّ هذا عَقْدٌ
وَعُقُودُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إنَّمَا يَقِفُ على إذْنِ وَلِيِّهِ وَلَا
وِلَايَةَ لِلْأَبِ الْكَافِرِ على وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ فَكَانَ إذْنُهُ
وَالْعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ سَائِرُ عُقُودِهِ
بِإِذْنِهِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ كَذَا عقود ( ( ( عقد ) ) ) الْمُوَالَاةِ
وَأَمَّا من جَانِبِ
____________________
(4/170)
الْقَبُولِ
فَهُوَ شَرْطُ النَّفَاذِ حتى لو وَالَى بَالِغٌ صَبِيًّا فَقَبِلَ الصَّبِيُّ
يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ أبيه أو وَصِيِّهِ فَإِنْ أَجَازَ جَازَ
لِأَنَّ هذا نَوْعُ عَقْدٍ فَكَانَ قَبُولُ الصَّبِيِّ فيه بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ
في سَائِرِ الْعُقُودِ فَيَجُوزُ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ وَوَصِيِّهِ كَسَائِرِ
الْعُقُودِ وَلِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يَقْبَلَا عنه كما في الْبَيْعِ
وَنَحْوِهِ
وَكَذَلِكَ لو وَالَى رَجُلٌ عَبْدًا فَقَبِلَ الْعَبْدُ وَقَفَ على إجَازَةِ
الْمَوْلَى فإذا أَجَازَ جَازَ إلَّا أَنَّ في الْعَبْدِ إذَا أَجَازَ الْمَوْلَى
فَالْوَلَاءُ من الْمَوْلَى وفي الصَّبِيِّ إذَا أَجَازَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ
فَيَكُونُ الْوَلَاءُ من الصَّبِيِّ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَبْدَ
لَا يَمْلِكُ شيئا فَوَقَعَ قَبُولُهُ لِمَوْلَاهُ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى شيئا كان المشتري لِمَوْلَاهُ فَأَمَّا
الصَّبِيُّ فَهُوَ من أَهْلِ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اشْتَرَى شيئا كان
المشتري له وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ مُكَاتَبًا جَازَ وكان مَوْلًى لِمَوْلَى
الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ قَبُولَ الْمُكَاتَبِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ
فَجَازَ قَبُولُهُ إلَّا أَنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ
الْمُكَاتَبَ ليس من أَهْلِ الْوَلَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كَاتَبَ عَبْدًا فَأَدَّى وَعَتَقَ كان الْوَلَاءُ
لِلْمَوْلَى بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فإنه من أَهْلِ الْوَلَاءِ أَلَا يرى أَنَّ
الْأَبَ لو كَاتَبَ عَبْدَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَأَدَّى فَعَتَقَ ثَبَتَ
الْوَلَاءُ من الِابْنِ
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ هذا الْعَقْدِ فَيَصِحُّ
فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الذِّمِّيِّ الذِّمِّيَّ وَالذِّمِّيِّ الْمُسْلِمَ
وَالْمُسْلِمِ الذِّمِّيَّ لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ
بِالْمَالِ وَلَوْ أَوْصَى ذِمِّيٌّ لِذِمِّيٍّ أو لِمُسْلِمٍ أو مُسْلِمٌ
لِذِمِّيٍّ بِالْمَالِ جَازَتْ الْوَصِيَّةُ كَذَا الْمُوَالَاةُ وَكَذَا
الذِّمِّيُّ إذَا وَالَى ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَ الْأَسْفَلُ جَازَ لِمَا
قُلْنَا
وَكَذَا الذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَتَجُوزُ مُوَالَاةُ الرَّجُلِ امْرَأَةً
وَالْمَرْأَةِ رَجُلًا وَكَذَا دَارُ الْإِسْلَامِ حتى لو أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ
فَوَالَى مُسْلِمًا في دَارِ الْإِسْلَام أو في دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مَوْلَاهُ
لِأَنَّ الْمُوَالَاةَ عَقْدٌ من الْعُقُودِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ
وَالْأُنُوثَةِ وَبِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبِدَارِ الْحَرْبِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلْعَاقِدِ وَارِثٌ وهو أَنْ لَا يَكُونَ له من
أَقَارِبِهِ من يَرِثُهُ فَإِنْ كان لم يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ
أَقْوَى من الْعَقْدِ وَلِقَوْلِهِ عز وجل { وأولو ( ( ( وأولوا ) ) )
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ في كِتَابِ اللَّهِ } وَإِنْ كان له
زَوْجٌ أو زَوْجَةٌ يَصِحُّ الْعَقْدُ وتعطي نَصِيبُهَا وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ من الْعَرَبِ حتى لو وَالَى عَرَبِيٌّ رَجُلًا من
غَيْرِ قَبِيلَتِهِ لم يَكُنْ مَوْلَاهُ وَلَكِنْ يُنْسَبُ إلَى عَشِيرَتِهِ
وَهُمْ يَعْقِلُونَ عنه لِأَنَّ جَوَازَ الْمُوَالَاةِ لِلتَّنَاصُرِ وَالْعَرَبُ
يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَبَائِلِ وَإِنَّمَا تَجُوزُ مُوَالَاةُ الْعَجَمِ
لِأَنَّهُمْ ليس لهم قَبِيلَةٌ فَيَتَنَاصَرُونَ بها فَتَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ
لِأَجْلِ التَّنَاصُرِ
وَأَمَّا الذي هو من الْعَرَبِ فَلَهُ قَبِيلَةٌ يَنْصُرُونَهُ وَالنُّصْرَةُ
بِالْقَبِيلَةِ أَقْوَى فَلَا يَصِيرُ مَوْلًى وَلِهَذَا لم يَثْبُتْ عليه وَلَاءُ
الْعَتَاقَةِ وَكَذَا وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لم يَثْبُتْ عليه
وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ مع أَنَّهُ أَقْوَى فَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ أَوْلَى وَكَذَا
لو وَالَتْ امْرَأَةٌ من الْعَرَبِ رَجُلًا من غَيْرِ قَبِيلَتِهَا لِمَا
بَيَّنَّا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ من مَوَالِي الْعَرَبِ لِأَنَّ مَوْلَاهُمْ منهم
لِقَوْلِهِ وأن مولى الْقَوْمِ منهم وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مُعْتَقَ أَحَدٍ
فَإِنْ كان لَا يَصِحُّ منه عَقْدُ الْمُوَالَاةِ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ
أَقْوَى من وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ وَوَلَاءُ
الْمُوَالَاةِ يَلْحَقُهُ الْفَسْخُ فَلَا يَجُوزُ رَفْعُ الْأَقْوَى
بِالْأَضْعَفِ وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قد عَقَلَ عنه بَيْتُ الْمَالِ لِأَنَّهُ
لَمَّا عَقَلَ عنه بَيْتُ الْمَالِ فَقَدْ صَارَ وَلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ
الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُهُ إلَى وَاحِدٍ منهم بِعَيْنِهِ فَإِنْ
كان قد عَقَلَ عنه لم يَجُزْ أَبَدًا لِأَنَّهُ سَوَاءٌ كان عَاقَدَ غَيْرَهُ
فَعَقَلَ عنه أو عَقَلَ عنه بَيْتُ الْمَالِ حتى لو مَاتَ فإن مِيرَاثَهُ لِمَنْ
عَاقَدَهُ أَوَّلًا فَعَقَلَ عنه أو لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَ
غَيْرَهُ فَعَقَلَ عنه فَقَدْ تَأَكَّدَ عَقْدُهُ وَلَزِمَ وَخَرَجَ عن احْتِمَالِ
النَّقْضِ وَالْفَسْخِ لِمَا يُذْكَرُ فَلَا يَصِحُّ مُعَاقَدَتُهُ غَيْرَهُ
وَكَذَا إذَا عَقَلَ عن الذي يُوَالِيهِ وَإِنْ كان عَاقَدَ غَيْرَهُ ولم يَعْقِلْ
عنه جَازَ عَقْدُهُ مع آخَرَ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ بِدُونِ الْعَقْلِ
غَيْرُ لَازِمٍ فَكَانَ إقْدَامُهُ على الثَّانِي فَسْخًا لِلْأَوَّلِ
وَأَمَّا صِفَةُ الْعَقْدِ فَهُوَ أَنَّهُ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ حتى لو
وَالَى رَجُلًا كان له أَنْ يَتَحَوَّلَ عنه بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ
عَقْدٌ لَا يَمْلِكُ بِهِ شيء فلم يَكُنْ لَازِمًا كَالْوَكَالَةِ وَالشَّرِكَةِ
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ وَالْوَصِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ
فَكَذَا عَقْدُ الْمُوَالَاةِ إلَّا إذَا عَقَلَ عنه لِأَنَّهُ إذَا عَقَلَ عنه
فَقَدْ تَأَكَّدَ الْعَقْلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وفي التَّحَوُّلِ بِهِ إلَى
غَيْرِهِ فَسْخُ قَضَائِهِ فَلَا يَمْلِكُ فَسْخَ الْقَضَاءِ وَكَذَا له أَنْ
يَفْسَخَهُ صَرِيحًا قبل أَنْ يَعْقِلَ عنه لِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ غَيْرِ لَازِمٍ
لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ كَسَائِرِ الْعُقُودِ التي هِيَ
غَيْرُ لَازِمَةٍ وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ
فَسْخُهُ يَجُوزُ لِلْآخَرِ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْقَابِلَةِ لِلْفَسْخِ وهاهنا
يَجُوزُ لِأَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ فَسْخُهُ وهو الْقَابِلُ فَكَذَا الْآخَرُ إلَّا
أَنَّهُ ليس له أَنْ يَفْسَخَهُ إلَّا بِحَضْرَةِ الْآخَرِ أَيْ بِعِلْمِهِ
لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْآخَرِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ مَقْصُورًا من
غَيْرِ عِلْمِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ مَقْصُورًا من غَيْرِ عِلْمِهِ
____________________
(4/171)
إلَّا
أَنْ يُوَالِيَ الْأَسْفَلُ آخَرَ فَيَكُونُ ذلك نَقْضًا دَلَالَةً وَإِنْ لم
يَحْضُرْ صَاحِبُهُ أو انْتِقَاضًا ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مُوَالَاةَ
غَيْرِهِ إلَّا بِانْفِسَاخِ الْأَوَّلِ فَيَنْفَسِخُ الْأَوَّلُ دَلَالَةً
وَضَرُورَةً وقد يَثْبُتُ الشَّيْءُ دَلَالَةً أو ضَرُورَةً وَإِنْ كان لَا
يَثْبُتُ قَصْدًا كَمَنْ وَكَّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ ثُمَّ عَزَلَهُ
وَالْوَكِيلُ غَائِبٌ لم يَعْلَمْ بِهِ لم يَصِحَّ عَزْلُهُ وَلَوْ بَاعَ
الْعَبْدَ أو أَعْتَقَهُ انْعَزَلَ الْوَكِيلُ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ كَذَا هذا
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا حُكْمُ الْعَقْدِ فَالْعَقْلُ في حَالِ الْحَيَاةِ وَالْإِرْثُ بَعْدَ الْمَوْتِ
وهو أَنَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى يَعْقِلُ عنه في حَالِ حَيَاتِهِ وَيَرِثُهُ
بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَرِثُ الْأَعْلَى من الْأَسْفَلِ عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا من
الدَّلَائِلِ فِيمَا تَقَدَّمَ وَيَرِثُ الْأَسْفَلُ من الْأَعْلَى أَيْضًا إذَا
شَرَطَا ذلك في الْمُعَاقَدَةِ بِخِلَافِ وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ أَنَّ هُنَاكَ
يَرِثُ الْأَعْلَى من الْأَسْفَلِ وَلَا يَرِثُ الْأَسْفَلُ من الْأَعْلَى لِأَنَّ
سَبَبَ الْإِرْثِ هُنَاكَ وُجِدَ من الْأَعْلَى لَا من الْأَسْفَلِ وهو الْعِتْقُ
وَالسَّبَبُ هَهُنَا الْعَقْدُ وقد شُرِطَ فيه التَّوَارُثُ من الْجَانِبَيْنِ
فَيُعْتَبَرُ ذلك لقوله الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ وَكَمَا يَثْبُتُ
حُكْمُ الْوَلَاءِ في الرِّجَالِ يَثْبُتُ في أَوْلَادِهِمْ الصِّغَارِ تَبَعًا
لهم حتى لو وَالَى إنْسَانًا وَلَهُ أَوْلَادٌ صِغَارٌ صَارُوا مَوَالِيَ لِلَّذِي
وَالَاهُ الْأَبُ
وَكَذَا إذَا وَالَى إنْسَانًا ثُمَّ وُلِدَ له أَوْلَادٌ دَخَلُوا في وَلَاءِ
الْأَبِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ وَلِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ على وَلَدِهِ
الصَّغِيرِ فَيَنْفُذُ عَقَدُهُ عليه وَلَا يَصِيرُ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ مَوَالِيَ
بِمُوَالَاةِ الْأَبِ لِانْقِطَاعِ التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ بِالْبُلُوغِ
حتى لو وَالَى الْأَبُ إنْسَانًا وَلَهُ ابْنٌ كَبِيرٌ فَوَالَى رَجُلًا آخَرَ
فَوَلَاؤُهُ له لَا لِمَوْلَى أبيه وَلَوْ كَبِرَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ
فَأَرَادَ التَّحَوُّلَ عنه إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ كان الْمَوْلَى قد عَقَلَ عنه أو
عن أبيه أو عن أَحَدِ أخوته لم يَكُنْ له أَنْ يَتَحَوَّلَ وَإِنْ لم يَكُنْ
عَقَلَ عن أَحَدٍ منهم كان له ذلك
أَمَّا جَوَازُ التَّحَوُّلِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَقْلِ فَلِأَنَّهُ لو كان كَبِيرًا
وَقْتَ عَقْدِ الْأَبِ لَجَازَ له التَّحَوُّلُ وَكَذَا إذَا كَبِرَ في الْعَقْدِ
لِأَنَّ الْمَانِعَ من السِّرَايَةِ في الْحَالَيْنِ وَاحِدٌ وهو عَدَمُ
التَّبَعِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ
وَأَمَّا عَدَمُ الْجَوَازِ عِنْدَ الْعَقْلِ فَلِمَا ذَكَرْنَا من اتِّصَالِ قَضَاءِ
الْقَاضِي بِهِ وفي التَّحَوُّلِ فَسْخُهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ فَيَلْزَمَ
ضَرُورَةً وَلَوْ عَاقَدَتْ امْرَأَةٌ عَقْدَ الْوَلَاءِ وَلَهَا أَوْلَادٌ
صِغَارٌ لَا يَصِيرُونَ مَوَالِيَ لِلَّذِي وَالَتْهُ أُمُّهُمْ وَلَا تُشْبِهُ
الْأُمُّ في هذا الْبَابِ الْأَبَ لِأَنَّهُ ليس لِلْمَرْأَةِ وِلَايَةٌ على
أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ
أَلَا تَرَى أنها لَا تَشْتَرِي لهم وَلَا تَبِيعُ عليهم وَلِلْأَبِ أَنْ يَفْعَلَ
ذلك وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرَ الطَّحَاوِيِّ الْخِلَافَ في
الْمَسْأَلَةِ فقال يَثْبُتُ حُكْمُ وَلَائِهَا في أَوْلَادِهَا الصِّغَارِ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ وَلَوْ وَالَى رَجُلٌ رَجُلًا
ثُمَّ وُلِدَ من امْرَأَةٍ قد وَالَتْ رَجُلًا فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى
الْأَبِ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ وَلَاءَانِ وَلَاءُ الْأَبِ وَوَلَاءُ الْأُمِّ
فَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْأَبِ لِأَنَّ لِلْأَبِ وِلَايَةً عليهم وَلَا وِلَايَةَ
لِلْأُمِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَعْقِدَ على وَلَدِهِ عَقْدَ الْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ وَلَيْسَ لِلْأُمِّ ذلك فَكَذَا عَقْدُ الْوَلَاءِ وَكَذَا لو
وَالَتْ وَهِيَ حُبْلَى وَلَا يُشْبِهُ هذا وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ لِأَنَّ في
وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا أَعْتَقَهَا وَهِيَ حُبْلَى يَثْبُتُ الْوَلَاءُ
بِالْعِتْقِ وَالْعِتْقُ يَثْبُتُ في الْوَلَدِ كما يَثْبُتُ في الْأُمِّ فَكَانَ
لِلْوَلَدِ وَلَاءُ نَفَسِهِ لِكَوْنِهِ أَصْلًا في الْعِتْقِ فَأَمَّا وَلَاءُ
الْمُوَالَاةِ فَبِالْعَقْدِ وَعَقْدُهَا لَا يَجُوزُ على ما في بَطْنِهَا فلم
يَصِرْ الْوَلَدُ أَصْلًا في الْوَلَاءِ فَكَانَ تَبَعًا لِلْأَبِ في الْوَلَاءِ
كما في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
وَكَذَلِكَ لو كان لَهُمَا أَوْلَادٌ صِغَارٌ فَوَالَتْ الْأُمُّ إنْسَانًا ثُمَّ
وَالَى الْأَبُ آخَرَ فَوَلَاءُ الْأَوْلَادِ لِمَوَالِي الْأَبِ لِمَا قُلْنَا
ذِمِّيَّةٌ أَسْلَمَتْ فَوَالَتْ رَجُلًا وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ من ذِمِّيٍّ لم
يَكُنْ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا في قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وفي
قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِهَا لِمَوْلَاهَا
بِمَنْزِلَةِ الْعَتَاقَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْأُمَّ لَا وِلَايَةَ لها على الْوَلَدِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لها أَنْ تَعْقِدَ على وَلَدِهَا عَقْدَ الْبَيْعِ
وَالنِّكَاحِ فَكَذَلِكَ عَقْدُ الْوَلَاءِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الذِّمِّيَّ لَا وِلَايَةَ له على وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ
فَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْوَلَاءِ من الْأَبِ وَالْوَلَاءُ إذَا تَعَذَّرَ
إثْبَاتُهُ من جِهَةِ الْأَبِ يَثْبُتُ من جِهَةِ الْأُمِّ كما إذَا كان الْأَبُ
عَبْدًا وَكَمَا في وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ إذَا كان الْأَبُ عَبْدًا
وَلَوْ قَدِمَ حَرْبِيٌّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا ثُمَّ
سُبِيَ ابْنُهُ فَأُعْتِقَ لم يَجُزْ وَلَاءُ الْأَبِ وَإِنْ سُبِيَ أَبُوهُ
فَأُعْتِقَ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ إلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّ الِابْنَ يَتْبَعُ
الْأَبَ في الْوَلَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا فَأَمَّا الْأَبُ فَلَا يَتْبَعُ الِابْنَ
لِأَنَّهُ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ الِابْنُ إلَى أبيه فَإِنْ كان
ابن الِابْنِ أَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا لم يَجُرَّ الْجَدُّ وَلَاءَهُ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ وقال لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يَجُرُّ الْوَلَاءَ إلَّا أَنْ
يَجُرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ فَيَجُرُّ بِجَرِّهِ وَلَاءَ ابْنِهِ وَلَاءَهُ
وقال الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَجْهُ هذه الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَسْفَلُ
مُوَالِيًا وَالْأَوْسَطُ حَرْبِيًّا وَالْجَدُّ مُعْتِقًا فَلَا يَجُرُّ وَلَاءَ
الْأَسْفَلِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ الْأَوْسَطُ وَيُوَالِيَ فَيَجُرُّ الْجَدُّ
وَلَاءَهُ وَوَلَاءَ الْأَسْفَلِ يجر ( ( ( بجر ) ) ) وَلَائِهِ
وَلَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ أو ذِمِّيٌّ على يَدَيْ
____________________
(4/172)
رَجُلٍ
وَوَالَاهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ابْنُهُ الْكَبِيرُ على يَدَيْ رَجُلٍ آخَرَ وَوَالَاهُ
كان كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مولى لِلَّذِي وَالَاهُ وَلَا يُجَرُّ بَعْضُهُمْ
إلَى بَعْضٍ وَلَيْسَ هذا كَالْعَتَاقِ أَنَّهُ إذَا أُعْتِقَ أَبُوهُ جَرَّ
وَلَاءَ الْوَلَدِ إلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ هَهُنَا وَلَاءَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ثَبَتَ بِالْعَقْدِ وَعَقْدُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ على نَفْسِهِ وَلَا
يَجُوزُ على غَيْرِهِ وَهُنَاكَ وَلَاءُ الْوَلَدِ ثَبَتَ بِالْعَقْدِ وَوَلَاءُ
الْأَبِ ثَبَتَ بِالْعِتْقِ وَوَلَاءُ الْعِتْقِ أَقْوَى من وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ
فَيَسْتَتْبِعُ الْأَقْوَى الْأَضْعَفَ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِأَنَّ وَلَاءَ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا ليس أَقْوَى من وَلَاءِ صَاحِبِهِ لِثُبُوتٍ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فَهُوَ الْفَرْقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهُوَ أَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ بهذا
الْعَقْدِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ
وَالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْبَيْعِ
كَالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَلِقَوْلِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
الْوَلَاءُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ حتى لو بَاعَ رَجُلٌ وَلَاءَ مُوَالَاةٍ أو
عَتَاقَةٍ بِعَبْدٍ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ كان إعْتَاقُهُ بَاطِلًا
لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ إذْ الْوَلَاءُ ليس بِمَالٍ فلم يَمْلِكْهُ
فلم يَصِحَّ إعْتَاقُهُ كما لو اشْتَرَى عَبْدًا بِمَيْتَةٍ أو دَمٍ أو بِحُرٍّ
وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ
وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَاءَهُ من آخَرَ أو وَهَبَهُ لَا يَكُونُ
بَيْعًا أَيْضًا وَلَا هِبَةً لِمَا قُلْنَا لَكِنَّهُ يَكُونُ نَقْضًا لِوَلَاءِ
الْأَوَّلِ وَمُوَالَاةً لِهَذَا الثَّانِي لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُعْتَاضُ منه
فَبَطَل الْعِوَضُ وَبَقِيَ قَوْلُهُ الْوَلَاءُ لَك فَيَكُونُ مُوَالَاةً
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي كما لو سَلَّمَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ صَحَّ
التَّسْلِيمُ لَكِنْ لَا يَجِبُ الْمَالُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ فإنه يَظْهَرُ بِمَا ظَهَرَ بِهِ
وَلَاءُ الْعَتَاقَةِ وهو الشَّهَادَةُ الْمُفَسِّرَةُ أو الْإِقْرَارُ سَوَاءٌ
كان الْإِقْرَارُ في الصِّحَّةِ أو الْمَرَضِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في
إقْرَارِهِ إذَا لم يَكُنْ له وَارِثٌ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ كما تَصِحُّ
وَصِيَّتُهُ بِجَمِيعِ مَالِهِ إذَا لم يَكُنْ له وَارِثٌ مَعْلُومٌ
وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ مَالَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ وَارِثُهُ
وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَمْنَعَ منه إذَا لم يُخَاصِمْهُ أَحَدٌ لِأَنَّ
الْقَاضِيَ لَا يَدْرِي أَلِبَيْتِ الْمَالِ أو لِغَيْرِهِ وهو يَدَّعِي أَنَّهُ
له وَلَا مَانِعَ عنه فَلَا يَتَعَرَّضُ له فَإِنْ خَاصَمَهُ أَحَدٌ سَأَلَهُ
الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ لَا بد ( ( ( يد ) ) ) له وكان مُدَّعِيًا
فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ
كِتَابُ الْإِجَارَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في سَبْعِ مَوَاضِعَ في
بَيَانِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وفي بَيَانِ رُكْنِ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا وفي
بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْإِجَارَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ
الْإِجَارَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ اخْتِلَافِ الْعَاقِدَيْنِ في عَقْدِ
الْإِجَارَةِ وفي بَيَانِ ما يَنْتَهِي بِهِ عَقْدُ الْإِجَارَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال أبو بَكْرٍ الْأَصَمُّ إنَّهَا لَا تَجُوزُ وَالْقِيَاسُ ما قَالَهُ لِأَنَّ
الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنَافِعُ لِلْحَالِ مَعْدُومَةٌ
وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْعِ إلَى
ما يُؤْخَذُ في الْمُسْتَقْبَلِ كَإِضَافَةِ الْبَيْعِ إلَى أَعْيَانٍ تُؤْخَذُ في
الْمُسْتَقْبَلِ فَإِذًا لَا سَبِيلَ إلَى تَجْوِيزِهَا لَا بِاعْتِبَارِ الْحَالِ
وَلَا بِاعْتِبَارِ المال فَلَا جَوَازَ لها رَأْسًا لَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا
الْجَوَازَ بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ
أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ فَقَوْلُهُ عز وجل خَبَرًا عن أَبُ الْمَرْأَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ سقي لَهُمَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قال إنِّي أُرِيدُ
أَنْ أُنْكِحَك إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ على أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ
حِجَجٍ } أَيْ على أَنْ تَكُونَ أَجِيرًا لي أو على أَنْ تَجْعَلَ عِوَضِي من
إنْكَاحِي ابْنَتِي إيَّاكَ رَعْيَ غَنَمِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ يُقَالُ آجَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى أَيْ عَوَّضَهُ وَأَثَابَهُ وَقَوْلُهُ عز وجل خَبَرًا عن
تَيْنِكَ الْمَرْأَتَيْنِ { قالت إحْدَاهُمَا يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ
من اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } وما قَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا من
شَرَائِعِ من قَبْلَنَا من غَيْرِ نَسْخٍ يَصِيرُ شَرِيعَةً لنا مُبْتَدَأَةً
وَيَلْزَمُنَا على أَنَّهُ شَرِيعَتُنَا لَا على أَنَّهُ شَرِيعَةُ من قَبْلَنَا
لِمَا عُرِفَ في أُصُولِ الْفِقْهِ وَقَوْلُهُ عز وجل { فإذا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ
فَانْتَشِرُوا في الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ } وَالْإِجَارَةُ
ابْتِغَاءُ الْفَضْلِ وَقَوْلُهُ عز وجل { ليس عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلًا من رَبِّكُمْ }
وقد قِيلَ نَزَلَتْ الْآيَةُ في حَجِّ الْمُكَارِي فإنه رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جاء
إلَى ابْنِ عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما فقال إنَّا قَوْمٌ نكري وَنَزْعُمُ أَنْ ليس
لنا حَجٌّ
فقال أَلَسْتُمْ تُحْرِمُونَ وَتَقِفُونَ وَتَرْمُونَ فقال نعم فقال رضي اللَّهُ
عنه أَنْتُمْ حُجَّاجٌ ثُمَّ قال سَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه
وسلم عَمَّا سَأَلْتنِي فلم يُجِبْهُ حتى أَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل { ليس
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ } فقال رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم أَنْتُمْ حُجَّاجٌ
وَقَوْلُهُ عز وجل في اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } نَفَى سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْجُنَاحَ عَمَّنْ يَسْتَرْضِعُ وَلَدَهُ وَالْمُرَادُ
____________________
(4/173)
منه
الِاسْتِرْضَاعُ بِالْأُجْرَةِ
دَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى { إذَا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ }
قِيلَ أَيْ الْأَجْرَ الذي قَبِلْتُمْ وَقَوْلُهُ { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَهَذَا نَصٌّ وهو في الْمُطَلَّقَاتِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رَوَى مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ عن أبي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم أَنَّهُ قال لَا يَسْتَامُ الرَّجُلُ على سَوْمِ أَخِيهِ وَلَا يَنْكِحُ
على خِطْبَتِهِ وَلَا تَنَاجَشُوا وَلَا تَبِيعُوا بِإِلْقَاءِ الْحَجَرِ وَمَنْ
اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ وَهَذَا منه صلى اللَّهُ عليه وسلم
تَعْلِيمُ شَرْطِ جَوَازِ الْإِجَارَةِ وهو إعْلَامُ الْأَجْرِ فَيَدُلُّ على
الْجَوَازِ
وَرُوِيَ عن النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال أَعْطُوا الْأَجِيرَ
أَجْرَهُ قبل أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ أَمَرَ صلى اللَّهُ عليه وسلم
بِالْمُبَادَرَةِ إلَى إعْطَاءِ أَجْرِ الْأَجِيرِ قبل فَرَاغِهِ من الْعَمَلِ من
غَيْرِ فَصْلٍ فَيَدُلُّ على جَوَازِ الأجارة
وَعَنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ثَلَاثَةٌ أنا خَصْمُهُمْ
يوم الْقِيَامَةِ وَمَنْ كُنْت خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ رَجُلٌ أَعْطَى بِي ثُمَّ
غَدَرَ وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا
فَاسْتَوْفَى منه ولم يُعْطِهِ أَجْرَهُ
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت اسْتَأْجَرَ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم وأبو بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه رَجُلًا من بَنِي الدئل ( ( (
الديل ) ) ) هَادِيًا خِرِّيتًا وهو على دِينِ كُفَّارِ قُرَيْشٍ فَدَفَعَا
إلَيْهِ رَاحِلَتَيْهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرٍ بَعْدَ ثَلَاثٍ فَأَتَاهُمَا
فَارْتَحَلَا وَانْطَلَقَ مَعَهُمَا عَامِرُ بن فُهَيْرَةَ وَالدَّلِيلُ الدئلي (
( ( الديلي ) ) ) فَأَخَذَ بِهِمْ طَرِيقَ السَّاحِلِ وَأَدْنَى ما يُسْتَدَلُّ
بِفِعْلِ النبي صلى اللَّهُ عليه وسلم الْجَوَازُ
وروى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مَرَّ على رَافِعِ بن خَدِيجٍ
وهو في حَائِطِهِ فَأَعْجَبَهُ فقال لِمَنْ هذا الْحَائِطُ فقال لي يا رَسُولَ
اللَّهِ اسْتَأْجَرْته فقال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا
تَسْتَأْجِرْهُ بِشَيْءٍ منه
خَصَّ صلى اللَّهُ عليه وسلم النَّهْيَ بِاسْتِئْجَارِهِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ منه
وَلَوْ لم تَكُنْ الْإِجَارَةُ جَائِزَةً أَصْلًا لَعَمَّ النَّهْيُ إذْ النَّهْيُ
عن الْمُنْكَرِ وَاجِبٌ وَكَذَا بُعِثَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَالنَّاسُ يُؤَاجِرُونَ وَيَسْتَأْجِرُونَ فلم يُنْكِرْ عليهم فَكَانَ ذلك
تَقْرِيرًا منه وَالتَّقْرِيرُ أَحَدُ وُجُوهِ السُّنَّةِ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الْأُمَّةَ أَجْمَعَتْ على ذلك قبل وُجُودِ الْأَصَمِّ
حَيْثُ يَعْقِدُونَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ من زَمَنِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ
عَنْهُمْ إلَى يَوْمِنَا هذا من غَيْرِ نَكِيرٍ فَلَا يُعْبَأُ بِخِلَافِهِ إذْ هو
خِلَافُ الْإِجْمَاعِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْقِيَاسَ مَتْرُوكٌ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا
شَرَعَ الْعُقُودَ لِحَوَائِجِ الْعِبَادِ وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْإِجَارَةِ ماستهم
( ( ( ماسة ) ) ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ له دَارٌ مَمْلُوكَةٌ
يَسْكُنُهَا أو أَرْضٌ مَمْلُوكَةٌ يَزْرَعُهَا أو دَابَّةٌ مَمْلُوكَةٌ
يَرْكَبُهَا وقد لَا يُمْكِنُهُ تَمَلُّكُهَا بِالشِّرَاءِ لِعَدَمِ الثَّمَنِ
وَلَا بِالْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ لِأَنَّ نَفْسَ كل وَاحِدٍ لَا تَسْمَحُ
بِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى الْإِجَارَةِ فَجُوِّزَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ
لِحَاجَةِ الناس كَالسَّلَمِ وَنَحْوِهِ
تَحْقِيقُهُ إن الشَّرْعَ شَرَعَ لِكُلِّ حَاجَةٍ عَقْدًا يَخْتَصُّ بها فَشَرَعَ
لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِعِوَضٍ عَقْدًا وهو الْبَيْعُ وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِهَا
بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وهو الْهِبَةُ وَشَرَعَ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ
بِغَيْرِ عِوَضٍ عَقْدًا وهو الْإِعَارَةُ فَلَوْ لم يُشَرِّعْ الْإِجَارَةَ مع
امْتِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لم يَجِدْ الْعَبْدُ لِدَفْعِ هذه الْحَاجَةِ
سَبِيلًا
وَهَذَا خِلَافُ مَوْضُوعِ الشَّرْعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا رُكْنُ الْإِجَارَةِ وَمَعْنَاهَا أَمَّا رُكْنُهَا فَالْإِيجَابُ
وَالْقَبُولُ وَذَلِكَ بِلَفْظٍ دَالٍّ عليها وهو لَفْظُ الْإِجَارَةِ
وَالِاسْتِئْجَارِ وَالِاكْتِرَاءِ وَالْإِكْرَاءِ فإذا وُجِدَ ذلك فَقَدْ تَمَّ
الرُّكْنُ وَالْكَلَامُ في صِيغَةِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَصِفَتِهِمَا في
الْإِجَارَةِ كَالْكَلَامِ فِيهِمَا في الْبَيْعِ وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ
الْبُيُوعِ
وَأَمَّا مَعْنَى الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً
وَلِهَذَا سَمَّاهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ بَيْعًا وَأَرَادُوا بِهِ بَيْعَ الْمَنْفَعَةِ
وَلِهَذَا سمى الْبَدَلُ في هذا الْعَقْدِ أُجْرَةً وَسَمَّى اللَّهُ بَدَلَ
الرَّضَاعِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ } وَالْأُجْرَةُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لُغَةً وَلِهَذَا سمى
الْمَهْرُ في بَابِ النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ عز وجل { فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أَيْ مُهُورَهُنَّ لِأَنَّ
الْمَهْرَ بَدَلُ مَنْفَعَةِ الْبُضْعِ وَسَوَاءٌ أُضِيفَ إلَى الدُّورِ
وَالْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ وَالْحَوَانِيتِ وَالْحَمَّامَاتِ وَالْفَسَاطِيطِ
وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَالدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْحُلِيِّ وَالْأَوَانِي
وَالظُّرُوفِ وَنَحْوِ ذلك أو إلَى الصُّنَّاعِ من الْقَصَّارِ وَالْخَيَّاطِ
وَالصَّبَّاغِ وَالصَّائِغِ وَالنَّجَّارِ وَالْبَنَّاءِ وَنَحْوِهِمْ
وَالْأَجِيرُ قد يَكُونُ خَاصًّا وهو الذي يَعْمَلُ لِوَاحِدٍ وهو الْمُسَمَّى
بِأَجِيرِ الوحد ( ( ( الواحد ) ) ) وقد يَكُونُ مُشْتَرَكًا وهو الذي يَعْمَلُ
لِعَامَّةِ الناس وهو الْمُسَمَّى بِالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ
وَذَكَرَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ أَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعَانِ إجَارَةٌ على الْمَنَافِعِ
وَإِجَارَةٌ على الْأَعْمَالِ وَفَسَّرَ النَّوْعَيْنِ بِمَا ذَكَرْنَا وَجَعَلَ
الْمَعْقُودَ عليه في أَحَدِ النَّوْعَيْنِ الْمَنْفَعَةَ وفي الْآخَرِ الْعَمَلَ
وَهِيَ في الْحَقِيقَةِ نَوْعٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهَا بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ
الْمَعْقُودُ عليه
____________________
(4/174)
الْمَنْفَعَةَ
في النَّوْعَيْنِ جميعا إلَّا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
مَحِلِّ الْمَنْفَعَةِ فَيَخْتَلِفُ اسْتِيفَاؤُهَا بِاسْتِيفَاءِ مَنَافِعِ
الْمَنَازِلِ بِالسُّكْنَى وَالْأَرَاضِي بِالزِّرَاعَةِ وَالثِّيَابِ وَالْحُلَلِ
وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ بِالْخَدْمَةِ وَالدَّوَابِّ بِالرُّكُوبِ وَالْحَمْلِ
وَالْأَوَانِي وَالظُّرُوفِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَالصُّنَّاعِ بِالْعَمَلِ من
الْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ وَنَحْوِهِمَا وقد يُقَامُ فيه تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ
الِاسْتِيفَاءِ كما في أَجِيرِ الوحد ( ( ( الواحد ) ) ) حتى لو سَلَّمَ نَفْسَهُ
في الْمُدَّةِ ولم يَعْمَلْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ
وإذا عُرِفَ أَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَنُخَرِّجُ عليه بَعْضَ
الْمَسَائِلِ فَنَقُولُ لَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّجَرِ وَالْكَرْمِ لِلثَّمَرِ
لِأَنَّ الثَّمَرَ عَيْنٌ وَالْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ
الْعَيْنِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الشَّاةِ لِلَبَنِهَا أو سَمْنِهَا أو صُوفِهَا
أو وَلَدِهَا لِأَنَّ هذه أَعْيَانٌ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ
وَكَذَا إجَارَةُ الشَّاةِ ليرضع ( ( ( لترضع ) ) ) جَدْيًا أو صَبِيًّا لِمَا
قُلْنَا وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ مَاءٍ في نَهْرٍ أو بِئْرٍ أو قَنَاةٍ أو عَيْنٍ
لِأَنَّ الْمَاءَ عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْقَنَاةَ وَالْعَيْنَ وَالْبِئْرَ
مع الْمَاءِ لم يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه الْمَاءُ وهو عَيْنٌ
وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْآجَامِ التي فيها الْمَاءُ لِلسَّمَكِ وَغَيْرِهِ
من الْقَصَبِ وَالصَّيْدِ لِأَنَّ كُلَّ ذلك عَيْنٌ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا مع
الْمَاءِ فَهُوَ أَفْسَدُ وَأَخْبَثُ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهَا بِدُونِ الْمَاءِ
فَاسِدٌ فَكَانَ مع الْمَاءِ أَفْسَدَ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَرَاعِي لِأَنَّ
الْكَلَأَ عَيْنٌ فَلَا تُحْتَمَلُ الْإِجَارَةُ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ
الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَلَا تِبْرِهِمَا وَكَذَا تِبْرُ النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ
وَلَا اسْتِئْجَارُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
الِانْتِفَاعُ بها إلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا وَالدَّاخِلُ تَحْتَ
الْإِجَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا الْعَيْنُ حتى لو اسْتَأْجَرَ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ لِيُعَبِّرَ بها مِيزَانًا أو حِنْطَةً لِيُعَبِّرَ بها
مِكْيَالًا أو زَيْتًا ليعير ( ( ( ليعبر ) ) ) بِهِ أَرْطَالًا أو أَمْنَانًا أو
وَقْتًا مَعْلُومًا
ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ ذلك نَوْعُ انْتِفَاعٍ بها مع
بَقَاءِ عَيْنِهَا فَأَشْبَهَ اسْتِئْجَارَ سَنَجَاتِ الْمِيزَانِ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ وهو كَوْنُ
الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودَةً وَالِانْتِفَاعُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ من هذه
الْجِهَةِ غَيْرُ مَقْصُودٍ عَادَةً وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْفَحْلِ
لِلضِّرَابِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منه النَّسْلُ وَذَلِكَ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ
وهو عَيْنٌ وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ نهى عن
عَسْبِ الْفَحْلِ أَيْ كِرَائِهِ لِأَنَّ الْعَسْبَ في اللُّغَةِ وَإِنْ كان
اسْمًا لِلضِّرَابِ لَكِنْ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عليه لِأَنَّ ذلك ليس
بِمَنْهِيٍّ لِمَا في النَّهْيِ عنه من قَطْعِ النَّسْلِ فَكَانَ الْمُرَادُ منه
كِرَاءَ عَسْبِ الْفَحْلِ إلَّا أَنَّهُ حَذَفَ الْكِرَاءَ وَأَقَامَ الْعَسْبَ
مَقَامَهُ كما في قَوْلِهِ عز وجل { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِيَصِيدَ أو بَازِيًا لم يَجُزْ لِأَنَّهُ
اسْتِئْجَارٌ على الْعَيْنِ وهو الصَّيْدُ وَجِنْسُ هذه الْمَسَائِلِ تُخَرَّجُ
على الْأَصْلِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنَّ اسْتِئْجَارَ الظِّئْرِ جَائِزٌ وإنه اسْتِئْجَارٌ على
الْعَيْنِ وَهِيَ اللَّبَنُ بِدَلِيلِ إنها لو أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ شَاةٍ لم
تَسْتَحِقَّ الْأُجْرَةَ
فَالْجَوَابُ إنه رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَقْدَ يَقَعُ على خِدْمَةِ
الصَّبِيِّ وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ على طَرِيقِ التَّبَعِ فَكَانَ ذلك اسْتِئْجَارًا
على الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا وَاسْتِيفَاؤُهَا بِالْقِيَامِ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ
من غَسْلِهِ وَغَسْلِ ثِيَابِهِ وَإِلْبَاسِهَا إيَّاهُ وَطَبْخِ طَعَامِهِ
وَنَحْوِ ذلك وَاللَّبَنُ يَدْخُلُ فيه تَبَعًا كَالصَّبْغِ في اسْتِئْجَارِ
الصَّبَّاغِ وإذا أَرْضَعَتْهُ بِلَبَنِ الشَّاةِ فلم تَأْتِ بِمَا دخل تَحْتَ
الْعَقْدِ فَلَا تَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَالصَّبَّاغِ إذَا صَبَغَ الثَّوْبَ
لَوْنًا آخَرَ غير ما وَقَعَ عليه الْعَقْدُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ
وَذَا لَا يَدُلُّ على أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه ليس هو الْمَنْفَعَةَ كَذَا
هَهُنَا
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال إنَّ الْمَعْقُودَ عليه هُنَاكَ الْعَيْنُ وَهِيَ
اللَّبَنُ مَقْصُودًا وَالْخِدْمَةُ تبع ( ( ( تتبع ) ) ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ وَلَا يَتَرَبَّى إلَّا بِاللَّبَنِ فأجرى اللَّبَنُ
مَجْرَى الْمَنَافِعِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ
اسْتِئْجَارُ الْأَقْطَعِ وَالْأَشَلِّ لِلْخِيَاطَةِ بِنَفْسِهِ وَالْقِصَارَةِ
وَالْكِتَابَةِ وَكُلِّ عَمَلٍ لَا يَقُومُ إلَّا بِالْيَدَيْنِ وَاسْتِئْجَارُ
الْأَخْرَسِ لِتَعْلِيمِ الشِّعْرِ وَالْأَدَبِ وَالْأَعْمَى لِنَقْطِ
الْمَصَاحِفِ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ
وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَحْدُثُ عَادَةً إلَّا عِنْدَ سَلَامَةِ الْآلَاتِ
وَالْأَسْبَابِ وَكَذَا اسْتِئْجَارُ الْأَرْضِ السَّبِخَةِ وَالنَّزَّةِ
لِلزِّرَاعَةِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ لها لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الزِّرَاعَةِ لَا
يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهَا منها عَادَةً فَلَا تَقَعُ الْإِجَارَةُ بيع ( ( ( ببيع )
) ) الْمَنْفَعَةِ فلم نجز ( ( ( تجز ) ) ) وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ
الْمُصْحَفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمُصْحَفِ النَّظَرُ فيه
وَالْقِرَاءَةُ منه وَالنَّظَرُ في مُصْحَفِ الْغَيْرِ وَالْقِرَاءَةُ منه مُبَاحٌ
وَالْإِجَارَةُ ببيع ( ( ( بيع ) ) ) الْمَنْفَعَةِ وَالْمُبَاحُ لَا يَكُونُ
مَحَلًّا لِلْبَيْعِ كَالْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ من الْحَطَبِ وَالْحَشِيشِ
وَكَذَا اسْتِئْجَارُ كُتُبٍ لِيَقْرَأَ فيها شِعْرًا أو فِقْهًا لِأَنَّ
مَنَافِعَ الدَّفَاتِرِ النَّظَرُ فيها وَالنَّظَرُ في دَفْتَرِ الْغَيْرِ مُبَاحٌ
من غَيْرِ أَجْرٍ فَصَارَ كما لو اسْتَأْجَرَ ظِلَّ حَائِطٍ خَارِجَ دَارِهِ
لِيَقْعُدَ فيه
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ شيئا من الْكُتُبِ لِيَقْرَأَ فَقَرَأَ لَا أَجْرَ عليه
لِانْعِدَامِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَعَلَى هذا أَيْضًا يخرج ( ( ( تخرج ) ) )
إجَارَةُ الْآجَامِ لِلسَّمَكِ وَالْقَصَبِ وَإِجَارَةُ الْمَرَاعِي
____________________
(4/175)
لِلْكَلَأِ
وَسَائِرُ الْأَعْيَانِ الْمُبَاحَةِ إنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ لِمَا بَيَّنَّا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الرُّكْنِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا شَرْطُ الِانْعِقَادِ
وَبَعْضُهَا شَرْطُ النَّفَاذِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ الصِّحَّةِ وَبَعْضُهَا شَرْطُ
اللُّزُومِ
أَمَّا شَرْطُ الِانْعِقَادِ فَثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى
الْعَاقِدِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى
مَكَانِ الْعَقْدِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَالْعَقْلُ وهو أَنْ يَكُونَ الْعَاقِدُ
عَاقِلًا حتى لَا تَنْعَقِدُ الْإِجَارَةُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا
يَعْقِلُ كما لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ مِنْهُمَا
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ من شَرَائِطِ الِانْعِقَادِ وَلَا من شَرَائِطِ
النَّفَاذِ عِنْدَنَا حتى إنَّ الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ لو أَجَرَ مَالَهُ أو
نَفْسَهُ فَإِنْ كان مَأْذُونًا يَنْفُذُ وَإِنْ كان مَحْجُورًا يَقِفُ على
إجَازَةِ الْوَلِيِّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَهِيَ من مَسَائِلِ
الْمَأْذُونِ
وَلَوْ أَجَّرَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ نَفْسَهُ وَعَمِلَ وَسَلِمَ من الْعَمَلِ
يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَيَكُونُ الْأَجْرُ له أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ
فَلِأَنَّ عَدَمَ النَّفَاذِ كان نَظَرًا له وَالنَّظَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ من
الْعَمَلِ سَلِيمًا في النَّفَاذِ فَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ وَلَا يُهْدَرُ
سَعْيُهُ فَيَتَضَرَّرَ بِهِ وكان الْوَلِيُّ أَذِنَ له بِذَلِكَ دَلَالَةً
بِمَنْزِلَةِ قَبُولِ الْهِبَةِ من الْغَيْرِ
وَأَمَّا كَوْنُ الْأُجْرَةِ الْمُسَمَّاةِ له فَلِأَنَّهَا بَدَلُ مَنَافِعَ
وَهِيَ حقة وَكَذَا حُرِّيَّةُ الْعَاقِدِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ هذا
الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا فَيَنْفُذُ عَقْدُ الْمَمْلُوكِ إنْ كان
مَأْذُونًا وَيَقِفُ على إجارة ( ( ( إجازة ) ) ) مَوْلَاهُ إنْ كان مَحْجُورًا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقِفُ بَلْ يَبْطُلُ
وإذا سَلِمَ من الْعَمَلِ في إجَارَةِ نَفْسِهِ أو إجَارَةِ مَالِ الْمَوْلَى
وَجَبَ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى لِمَا ذَكَرْنَا في الصَّبِيِّ إلَّا أَنَّ
الْأَجْرَ هُنَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ الْعَبْدَ مِلْكُ الْمَوْلَى
وَالْأَجْرُ كَسْبُهُ وَكَسْبُ الْمَمْلُوكِ لِلْمَالِكِ
وَلَوْ هَلَكَ الصَّبِيُّ أو الْعَبْدُ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ في الْمُدَّةِ
ضَمِنَ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا حَيْثُ اسْتَعْمَلَهُمَا من غَيْرِ إذْنِ
الْمَوْلَى وَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْأَجْرَ مع الضَّمَانِ لَا
يَجْتَمِعَانِ وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ أو الصَّبِيُّ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ
أو الْقِيمَةُ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ في مَالِهِ لِأَنَّ إيجَابَ الْأُجْرَةِ
هَهُنَا لَا يُؤَدِّي إلَى الْجَمْعِ لِاخْتِلَافِ من عليه الْوَاجِبُ
وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَيَسْتَأْجِرَ لِأَنَّهُ في مَكَاسِبِهِ
كَالْحُرِّ
وَأَمَّا كَوْنُ الْعَاقِدِ طَائِعًا جَادًّا عَامِدًا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
لِانْعِقَادِ هذا الْعَقْدِ وَلَا لِنَفَاذِهِ عِنْدَنَا لَكِنَّهُ من شَرَائِطِ
الصِّحَّةِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ وَإِسْلَامُهُ ليس بِشَرْطٍ أَصْلًا فَتَجُوزَ
الْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ من الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ
الْمُسْتَأْمَنِ لِأَنَّ هذا من عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَيَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ
وَالْكَافِرُ جميعا كَالْبِيَاعَاتِ غير أَنَّ الذِّمِّيَّ إنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا
من المسلم ( ( ( مسلم ) ) ) في الْمِصْرِ فَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى
لِلْعَامَّةِ وَيَضْرِبَ فيها بِالنَّاقُوسِ له ذلك وَلِرَبِّ الدَّارِ وَعَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَمْنَعُوهُ من ذلك على طَرِيقِ الْحِسْبَةِ لِمَا فيه من
إحْدَاثِ شَعَائِرَ لهم وَفِيهِ تَهَاوُنٌ بِالْمُسْلِمِينَ وَاسْتِخْفَافٌ بِهِمْ
كما يُمْنَعُ من إحْدَاثِ ذلك في دَارِ نَفْسِهِ في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
وَلِهَذَا يُمْنَعُونَ من إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ في أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
قال النبي لَا خِصَاءَ في الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ أَيْ لَا يَجُوزُ إخْصَاءُ
الْإِنْسَانِ وَلَا إحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ في دَارِ الْإِسْلَامِ في الْأَمْصَارِ
وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يُصَلِّيَ فيها بِنَفْسِهِ من غَيْرِ جَمَاعَةٍ لِأَنَّهُ ليس
فيه ما ذَكَرْنَاهُ من الْمَعْنَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك في دَارِ
نَفْسِهِ لَا يُمْنَعُ منه وَلَوْ كانت الدَّارُ بِالسَّوَادِ ذَكَرَ في الْأَصْلِ
أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ من ذلك لَكِنْ قِيلَ أن أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا أَجَازَ ذلك
في زَمَانِهِ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ السَّوَادِ في زَمَانِهِ كَانُوا أَهْلَ
الذِّمَّةِ من الْمَجُوسِ فَكَانَ لَا يُؤَدِّي ذلك إلَى الْإِهَانَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ
بِالْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْيَوْمَ فَالْحَمْدُ لِلَّهِ عز وجل فَقَدْ صَارَ
السَّوَادُ كَالْمِصْرِ فَكَانَ الْحُكْمُ فيه كَالْحُكْمِ في الْمِصْرِ
وَهَذَا إذَا لم يُشْرَطْ ذلك في الْعَقْدِ فَأَمَّا إذَا شُرِطَ بِأَنْ
اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ دَارًا من مُسْلِمٍ في مِصْرٍ من أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ
لِيَتَّخِذَهَا مُصَلًّى لِلْعَامَّةِ لم تَجُزْ الْإِجَارَةُ لِأَنَّهُ
اسْتِئْجَارٌ على الْمَعْصِيَةِ
وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ من ذِمِّيٍّ لِيَفْعَلَ ذلك لِمَا قُلْنَا وَلَا
بَأْسَ بِاسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ كَافِرَةٍ وَاَلَّتِي وَلَدَتْ من فُجُورٍ لِأَنَّ
الْكُفْرَ وَالْفُجُورَ لَا يُؤَثِّرَانِ في اللبان ( ( ( اللبن ) ) ) لِأَنَّ
لَبَنَهُمَا لَا يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ وَيُكْرَهُ اسْتِئْجَارُ الْحَمْقَاءِ
لِقَوْلِهِ لَا تُرْضِعُ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ
فإن اللَّبَنَ يُفْسِدُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ منه غَيْرُ الْأُمِّ
لِأَنَّ الْوِلَادَةَ أَبْلَغُ من الرَّضَاعِ نهى وَعَلَّلَ بِالْإِفْسَادِ
لِأَنَّ حُمْقَهَا لِمَرَضٍ بها عَادَةً وَلَبَنُ الْمَرِيضَةِ يَضُرُّ
بِالصَّبِيِّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّهْيَ عن ذلك لِئَلَّا يَتَعَوَّدَ
الصَّبِيُّ بِعَادَةِ الْحَمْقَى لِأَنَّ الصَّبِيَّ يَتَعَوَّدُ بِعَادَةِ
ظِئْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَقْدِ وَمَكَانِهِ فما ذَكَرْنَا في
كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَأَمَّا شَرْطُ النَّفَاذِ فَأَنْوَاعٌ منها خُلُوُّ الْعَاقِدِ عن الرِّدَّةِ
إذَا كان ذَكَرًا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ
الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ
وَتَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذَةٌ
____________________
(4/176)
في
قَوْلِهِمْ جميعا وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ السِّيَرِ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ فَلَا تَنْفُذُ إجَارَةُ الْفُضُولِيِّ
لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْوِلَايَةِ لَكِنَّهُ يَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا على إجَازَةِ
الْمَالِكِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ كَالْبَيْعِ وَالْمَسْأَلَةُ
ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْبُيُوعِ ثُمَّ الْإِجَازَةُ إنَّمَا تَلْحَقُ
الْإِجَارَةَ الْمَوْقُوفَةَ بِشَرَائِطَ ذَكَرْنَاهَا في الْبُيُوعِ منها قِيَامُ
الْمَعْقُودِ عليه
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا أَجَرَ الْفُضُولِيُّ فَأَجَازَ الْمَالِكُ
الْعَقْدَ أَنَّهُ لو أَجَازَ قبل اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ جَازَتْ وَكَانَتْ
الْأُجْرَةُ لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه ما فَاتَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو عَقَدَ عليه ابْتِدَاءً بِأَمْرِهِ جَازَ فإذا كان
مَحَلًّا لِإِنْشَاءِ الْعَقْدِ عليه كان مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ إذْ الْإِجَازَةُ
اللَّاحِقَةُ كَالْوَكَالَةِ السَّابِقَةِ وَإِنْ أَجَازَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ
الْمَنْفَعَةِ لم تَجُزْ إجَازَتُهُ وَكَانَتْ الْأُجْرَةُ لِلْعَاقِدِ لِأَنَّ
الْمَنَافِعَ الْمَعْقُودَ عليه ( ( ( عليها ) ) ) قد انْعَدَمَتْ أَلَا تَرَى
أنها قد خَرَجَتْ عن احْتِمَالِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ عليها فَلَا تَلْحَقُهَا
الْإِجَازَةُ وقد قالوا فِيمَنْ غضب ( ( ( غصب ) ) ) عَبْدًا فَأَجَّرَهُ سَنَةً
لِلْخِدْمَةِ وفي رَجُلٍ آخَرَ غضب ( ( ( غصب ) ) ) غُلَامًا أو دَارًا فَأَقَامَ
الْبَيِّنَةَ رَجُلٌ أَنَّهُ له فقال الْمَالِكُ قد أَجَزْت ما أَجَرْت أن مُدَّةَ
الْإِجَارَةِ إنْ كانت قد انْقَضَتْ فَلِلْغَاصِبِ الْأَجْرُ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه قد انْعَدَمَ وَالْإِجَازَةُ لَا تَلْحَقُ الْمَعْدُومَ
وَإِنْ كان في بَعْضِ الْمُدَّةِ فَالْأَجْرُ الْمَاضِي وَالْبَاقِي لِرَبِّ
الْغُلَامِ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وقال مُحَمَّدٌ أَجْرُ ما مَضَى لِلْغَاصِبِ وَأَجْرُ ما بَقِيَ لِلْمَالِكِ
فَأَبُو يُوسُفَ نَظَرَ إلَى الْمُدَّةِ فقال إذَا بَقِيَ بَعْضُ الْمُدَّةِ لم
يَبْطُلْ الْعَقْدُ فَبَقِيَ مَحَلًّا لِلْإِجَازَةِ وَمُحَمَّدٌ نَظَرَ إلَى
الْمَعْقُودِ عليه فقال كُلُّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ معقود ( ( (
معقودا ) ) ) عليه بِحِيَالِهِ كَأَنَّهُ عَقَدَ عليه عقد ( ( ( عقدا ) ) )
مُبْتَدَأً بِالْمَنَافِعِ في الزَّمَانِ الْمَاضِي وَانْعَدَمَتْ فالعدم ( ( (
فانعدم ) ) ) شَرْطُ لُحُوقِ الْإِجَازَةِ للعقد ( ( ( العقد ) ) ) فَلَا
تَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ أبو يُوسُفَ
وقد قال مُحَمَّدٌ فِيمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَأَجَّرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَأَجَازَ
صَاحِبُ الْأَرْضِ الْإِجَارَةَ أن أُجْرَةَ ما مَضَى لِلْغَاصِبِ وَأُجْرَةَ ما
بَقِيَ لِلْمَالِكِ وهو على ما ذَكَرْنَا من الِاخْتِلَافِ قال فَإِنْ أَعْطَاهَا
مُزَارَعَةً فَأَجَازَهَا صَاحِبُ الْأَرْضِ جَازَتْ وَإِنْ كان الزَّرْعُ قد سَنْبَلَ
ما لم يَسْمُنْ وَلَا شَيْءَ لِلْغَاصِبِ من الزَّرْعِ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ
بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يُفْرَدُ بَعْضُهَا من بَعْضٍ فَكَانَ إجَازَةُ
الْعَقْدِ قبل الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ
وَأَمَّا إذَا سَمُنَ الزَّرْعُ فَقَدْ انْقَضَى عَمَلُ الْمُزَارَعَةِ فَلَا
يَلْحَقُ الْعَقْدُ الْإِجَازَةَ وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ من الْفُضُولِيِّ
فَهُوَ كَشِرَائِهِ فإنه أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ كان الْمُسْتَأْجَرُ له
لِأَنَّ الْعَقْدَ وَجَدَ نَفَاذًا على الْعَاقِدِ فَيَنْفُذُ عليه وَإِنْ أَضَافَ
الْعَقْدَ إلَى من اسْتَأْجَرَ له يُنْظَرُ إنْ وَقَعَتْ الْإِضَافَةُ إلَيْهِ في
الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ جميعا يَتَوَقَّفُ على إجَازَتِهِ وَإِنْ وَقَعَتْ
الْإِضَافَةُ إلَيْهِ في أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لَا يَتَوَقَّفُ بَلْ يَنْفُذُ
على الْعَاقِدِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْبُيُوعِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ
بِالِاسْتِئْجَارِ أَنَّهُ يَقَعُ اسْتِئْجَارُهُ لِلْمُوَكِّلِ وَإِنْ أَضَافَ
الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ وَالْفَرْقُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ
الْبُيُوعِ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْوَكِيلِ أنها نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْوِلَايَةِ
بِإِنَابَةِ الْمَالِكِ إيَّاهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ كما لو فَعَلَهُ
الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ من ابْنِ الْمُوَكِّلِ وَأَبِيهِ
لِأَنَّ الموكل ( ( ( للموكل ) ) ) ذلك لِاخْتِلَافِ مِلْكَيْهِمَا كَذَا الوكيل (
( ( للوكيل ) ) ) وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ من مُكَاتَبِهِ لِأَنَّ المولى ( ( (
للمولى ) ) ) أَنْ يُؤَاجِرَ منه لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ ما في يَدِهِ فَكَذَا
لِوَكِيلِهِ
وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا يَمْلِكُ
أَنْ يُؤَاجِرَ منه لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ له ذلك لِأَنَّ كَسْبَهُ
مِلْكُهُ فَكَذَا الْوَكِيلُ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ فَلَهُ ذلك أَمَّا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ ما في يَدِهِ وكان بِمَنْزِلَةِ
الْمُكَاتَبِ فَيَجُوزُ لِوَكِيلِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ منه
وَأَمَّا على قَوْلِهِمَا فَكَسْبُهُ وَإِنْ كان مِلْكَ الْمَوْلَى لَكِنْ
تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَجُعِلَ الْمَالِكُ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلَا
يَجُوزُ له أَنْ يُؤَاجِرَ من أبيه وَابْنِهِ وَكُلِّ من لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
له في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تَجُوزُ بِأَجْرِ مِثْلِهِ كما في
بَيْعِ الْعَيْنِ وهو من مَسَائِلِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ
بِمِثْلِ أَجْرِ الدَّارِ وَبِأَقَلّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ليس له
أَنْ يُؤَاجِرَ بِالْأَقَلِّ وهو على الِاخْتِلَافِ في الْبَيْعِ
وَلَوْ آجَرَ إجَارَةً فَاسِدَةً نفدت ( ( ( نفذت ) ) ) وَلِأَنَّ مُطْلَقَ
الْعَقْدِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ كما في الْبَيْعِ وَلَا ضَمَانَ
عليه لِأَنَّهُ لم يَصِرْ مُخَالِفًا وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ الْمِثْلِ
إذَا انْتَفَعَ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنَافِعَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ
وَلَوْ لم يُؤَاجِرْ الْمُوَكِّلُ الدَّارَ لَكِنَّهُ وَهَبَهَا من رَجُلٍ أو
أَعَارَهَا إيَّاهُ فَسَكَنَهَا سِنِينَ ثُمَّ جاء صَاحِبُهَا فَلَا أَجْرَ له على
الْوَكِيلِ وَلَا على السَّاكِنِ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا
لَا تُضْمَنُ إلَّا بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ أو الْفَاسِدِ ولم يُوجَدْ هَهُنَا
وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ من الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْقَاضِي وَأَمِينِهِ
نَافِذَةٌ لِوُجُودِ الْإِنَابَةِ من الشَّرْع فَلِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ ابْنَهُ
الصَّغِيرَ في عَمَلٍ من الْأَعْمَالِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ على الصَّغِيرِ
كَوِلَايَتِهِ على نَفْسِهِ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ عليه كَشَفَقَتِهِ على نَفْسِهِ
وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ
____________________
(4/177)
فَكَذَا
ابْنُهُ وَلِأَنَّ فيها نَظَرًا لِلصَّغِيرِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْمَنَافِعَ في الْأَصْلِ لَيْسَتْ بِمَالٍ خُصُوصًا مَنَافِعُ الْحُرِّ
وَبِالْإِجَارَةِ تَصِيرُ مَالًا وَجَعْلُ ما ليس بِمَالٍ مَالًا من بَابِ
النَّظَرِ
وَالثَّانِي أَنَّ إيجَارَهُ في الصَّنَائِعِ من بَابِ التَّهْذِيبِ
وَالتَّأْدِيبِ وَالرِّيَاضَةِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلصَّبِيِّ فَيَمْلِكُهُ الْأَبُ
وَكَذَا وَصِيُّ الْأَبِ لِأَنَّهُ مَرْضِيُّ الْأَبِ وَالْجَدُّ أب ( ( ( أبو ) )
) الْأَبِ لِقِيَامِهِ مَقَامَ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ وَوَصِيُّهُ لِأَنَّهُ
مَرْضِيُّهُ وَالْقَاضِي لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا وَأَمِينُهُ لِأَنَّهُ
مَرْضِيُّهُ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ غَيْرِ الْأَبِ وَوَصِيِّهِ وَالْجَدِّ
وَوَصِيِّهِ من سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إذَا كان له أَحَدٌ مِمَّنْ
ذَكَرْنَا لِأَنَّ من سِوَاهُمْ لَا وِلَايَةَ له على الصَّغِيرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في مَالِهِ فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى
إلَّا إذَا كان في حِجْرِهِ فَتَجُوزُ إجَارَتُهُ إيَّاهُ في قَوْلِهِمْ لِأَنَّهُ
إذَا كان في حِجْرِهِ كان له عليه ضَرْبٌ من الْوِلَايَةِ لِأَنَّهُ يُرَبِّيهِ
وَيُؤَدِّبُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ في الصَّنَائِعِ نَوْعٌ من التَّأْدِيبِ
فَيَمْلِكُهُ من حَيْثُ أنه تَأْدِيبٌ فَإِنْ كان في حِجْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ
منه فَأَجَرَهُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ آخَرَ هو أَقْرَبُ إلَيْهِ من الذي هو في حِجْرِهِ
بِأَنْ كان الصَّبِيُّ في حِجْرِ عَمِّهِ وَلَهُ أُمٌّ فَأَجَّرَتْهُ قال أبو
يُوسُفَ تَجُوزُ إجَارَتُهَا إيَّاهُ وقال مُحَمَّدٌ لَا تَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا وِلَايَةَ لهم على الصَّبِيِّ
أَصْلًا وَمَقْصُودًا وَإِنَّمَا يَمْلِكُونَ الْإِجَارَةَ ضِمْنًا لِوِلَايَةِ
التَّرْبِيَةِ وَأَنَّهَا تَثْبُتُ لِمَنْ كان في حِجْرِهِ فإذا لم يَكُنْ في
حِجْرِهِ كان بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أن ذَا الرَّحِمِ إنَّمَا يَلِي عليه هذا النَّوْعَ من
الْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الرَّحِمِ فَمَنْ كان أَقْرَبَ إلَيْهِ في الرَّحِمِ كان
أَوْلَى كَالْأَبِ مع الْجَدِّ والذي ( ( ( وللذي ) ) ) في حِجْرِهِ أَنْ يَقْبِضَ
الْأُجْرَةَ لِأَنَّ قَبْضَ الْأُجْرَةِ من حُقُوقِ الْعَقْدِ وهو الْعَاقِدُ
فَكَانَ وِلَايَةُ الْقَبْضِ له وَلَيْسَ له أَنْ يُنْفِقَهَا عليه لِأَنَّ
الْأُجْرَةَ مَالُهُ وَالْإِنْفَاقُ عليه تَصَرُّفٌ في مَالِهِ وَلَيْسَ له
وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ في الْمَالِ وَكَذَا إذَا وُهِبَ له هِبَةٌ فَلَهُ أَنْ
يَقْبِضَهَا وَلَيْسَ له أَنْ يُنْفِقَهَا لِأَنَّ قَبْضَ الْهِبَةِ مَنْفَعَةٌ
مَحْضٌ لِلصَّغِيرِ
أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ قَبْضَهَا بِنَفْسِهِ وَأَمَّا
الْإِنْفَاقُ فَهُوَ من بَابِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَمْلِكُهُ من لَا يَمْلِكُ
التَّصَرُّفَ في مَالِهِ وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ في هذا كُلِّهِ قبل انْقِضَاءِ
مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْإِجَارَةَ وَإِنْ
شَاءَ فَسَخَ لِأَنَّ في اسْتِيفَاءِ الْعَقْدِ إضْرَارًا بِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ
الْبُلُوغِ تَلْحَقُهُ الْأَنَفَةُ من خِدْمَةِ الناس وَإِلَى هذا أَشَارَ أبو
حَنِيفَةَ فقال أَرَأَيْت لو تَفَقَّهَ فَوَلِيَ الْقَضَاءَ أَكُنْت أَتْرُكُهُ
يَخْدُمُ الناس وقد أَجَرَهُ أَبُوهُ هذا قَبِيحٌ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَحْدُثُ
شيئا فَشَيْئًا وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ على حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنَافِعِ فإذا
بَلَغَ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْأَبَ عَقَدَ ما يَحْدُثُ من الْمَنَافِعِ بَعْدَ
الْبُلُوغِ ابْتِدَاءً فَكَانَ له خِيَارُ الْفَسْخِ وَالْإِجَارَةِ كما إذَا
عَقَدَ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْبُلُوغِ وَكَذَا الْأَبُ وَالْجَدُّ وَوَصِيُّهُمَا
وَالْقَاضِي وَوَصِيُّهُ في إجَارَةِ عبد الصَّغِيرِ وَعَقَارِهِ لِأَنَّ لهم
وِلَايَةَ التَّصَرُّفِ في مَالِهِ بِالْبَيْعِ كَذَا بِالْإِجَارَةِ
وَلَوْ بَلَغَ قبل انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا خِيَارَ له بِخِلَافِ إجَارَةِ
النَّفْسِ وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا في كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَيْسَ
لِلْأَبِ وَمَنْ يَمْلِكُ إجَارَةَ مَالِ الصَّبِيِّ وَنَفْسِهِ وَمَالِهِ أَنْ
يُؤْجِرَهُ بِأَقَلَّ من أَجْرِ الْمِثْلِ قَدْرَ ما لَا يَتَغَابَنُ الناس في
مِثْلِهِ عَادَةً وَلَوْ فَعَلَ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّهُ ضَرَرٌ في حَقِّهِ
وَهَذِهِ وِلَايَةُ نَظَرٍ فَلَا تَثْبُتُ مع الضَّرَرِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ
هَؤُلَاءِ مِمَّنْ هو في حِجْرِهِ أَنْ يُؤَاجِرَ عَبْدَهُ أو دَارِهِ لِأَنَّ ذلك
تَصَرُّفٌ في الْمَالِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا من يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ في
الْمَالِ كَبَيْعِ الْمَالِ
وقال ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ استحسن أَنْ يُؤَاجِرُوا عَبْدَهُ لِأَنَّهُمْ
يَمْلِكُونَ إجَارَةَ نَفْسِهِ فَإِجَارَةُ مَالِهِ أَوْلَى وَكَذَا استحسن أَنْ
يُنْفِقُوا عليه ما لَا بُدَّ منه لِأَنَّ في تَأْخِيرِ ذلك ضَرَرًا عليه
وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْوَصِيَّيْنِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْيَتِيمَ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَلَا يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ
وقال مُحَمَّدٌ يُؤَاجِرُ عَبْدَهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ
لِكُلِّ وَاحِدٍ من الْوَصِيَّيْنِ التَّصَرُّفَ فِيمَا يُخَافُ الضَّرَرُ
بِتَأْخِيرِهِ وفي تَرْكِ إجَارَةِ الصَّبِيِّ ضَرَرٌ منه بِتَرْكِ تَأْدِيبِهِ
وَلَا ضَرَرَ في تَرْكِ إجَارَةِ الْعَبْدِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَصِيِّ
نَفْسَهُ منه لِلصَّبِيِّ وَهَذَا على أَصْلِ مُحَمَّدٍ لَا يُشْكِلُ لِأَنَّ
الْوَصِيَّ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ من الصَّبِيِّ أَصْلًا فَلَا يَمْلِكُ
إجَارَةَ نَفْسِهِ أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ فَيُحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ
بين الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ حَيْثُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَلَا يَمْلِكُ
الْإِجَارَةَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ منه إذَا كان فيه
نَظَرٌ لِلصَّغِيرِ وَلَا نَظَرَ لِلصَّغِيرِ في إجَارَةِ نَفْسِهِ منه لِأَنَّ
فيها جَعْلَ ما ليس بِمَالٍ مَالًا فلم يَجُزْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَعْمَلَ في مَالِ
الصَّبِيِّ مُضَارَبَةً وَالْفَرْقُ بين الْإِجَارَةِ وَالْمُضَارَبَةِ أَنَّ
الْوَصِيَّ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَا يُوجِبُ حَقًّا في مَالِ الْمُضَارَبَةِ
وَإِنَّمَا يُوجِبُ حَقًّا في الرِّبْحِ وأنه قد يَكُونُ وقد لَا يَكُونُ فَلَا
يَلْحَقُهُ تُهْمَةٌ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا تُوجِبُ حَقًّا في مَالِ
الصَّبِيِّ لَا مَحَالَةَ وهو مُتَّهَمٌ فيه لِمَا بَيَّنَّا
وَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الصَّغِيرِ لِنَفْسِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ
____________________
(4/178)
يَجُوزَ
على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ إذَا كان بِأُجْرَةٍ لَا يُتَغَابَنُ في مِثْلِهَا
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِهِ من نَفْسه إذَا كان فيه نَظَرٌ له وفي
اسْتِئْجَارِهِ إيَّاهُ لِنَفْسِهِ نظرا ( ( ( نظر ) ) ) له لِمَا فيه من جَعْلِ
ما ليس بِمَالٍ مَالًا وَيَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ لِلصَّغِيرِ أو
يَسْتَأْجِرَ الصَّغِيرَ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ بَيْعَ مَالِ الْأَبِ من الصَّغِيرِ
وَشِرَاءَ مَالِهِ لِنَفْسِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ النَّظَرِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لو بَاعَ مَالَهُ منه بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أو اشْتَرَى مَالَ الصَّغِيرِ
لِنَفْسِهِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ يَجُوزُ فَكَذَا الْإِجَارَةُ
وَمِنْهَا تَسْلِيمُ الْمُسْتَأْجِرِ في إجَارَةِ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا إذَا
كان الْعَقْدُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ التَّعْجِيلِ بِأَنْ لم يشرط ( ( ( يشترط ) ) )
تَعْجِيلَ الْأُجْرَةِ في الْعَقْدِ ولم يُوجَدْ التَّعْجِيلُ أَيْضًا من غَيْرِ
شَرْطٍ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً على أَنَّ الْحُكْمَ في
الْإِجَارَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا لِأَنَّ
الْعَقْدَ في حَقِّ الْحُكْمِ يَنْعَقِدُ على حَسَبِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ
فَكَانَ الْعَقْدُ في حَقِّ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَى حِينِ حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ
فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ عِنْدَ ذلك وَعِنْدَهُ تُجْعَلُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ
مَوْجُودَةً في الْحَالِ تَقْدِيرًا كَأَنَّهَا عَيْنٌ قَائِمَةٌ فَيَثْبُتُ
الْحُكْمُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا أَصْلٌ نَذْكُرُهُ
في بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفِيَّةِ انْعِقَادِهَا في حَقِّ الْحُكْمِ
إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَنَعْنِي بِالتَّسْلِيمِ التَّخْلِيَةَ وَالتَّمْكِينَ من الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ
الْمَوَانِعِ في إجَارَةِ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ
وَأَجِيرِ الواحد ( ( ( الوحد ) ) ) حتى لو انْقَضَتْ الْمُدَّةُ من غَيْرِ
تَسْلِيمِ الْمُسْتَأْجَرِ على التَّفْسِيرِ الذي ذَكَرْنَا لَا يَسْتَحِقُّ شيئا
من الْأَجْرِ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لم يَمْلِكْ من الْمَعْقُودِ عليه شيئا
فَلَا يَمْلِكُ هو أَيْضًا شيئا من الْأَجْرِ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ مُطْلَقَةٌ
وَلَوْ مَضَى بَعْدَ الْعَقْدِ مُدَّةٌ ثُمَّ سَلَّمَ فَلَا أَجْرَ له فِيمَا
مَضَى لِعَدَمِ التَّسْلِيمِ فيه وَلَوْ أَجَرَ الْمَنْزِلَ فَارِغًا وسلم
الْمِفْتَاحَ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فلم يُفْتَحْ الْبَابُ حتى مَضَتْ الْمُدَّةُ
لَزِمَهُ كُلُّ الْأَجْرِ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وهو التَّمْكِينُ من
الِانْتِفَاعِ بِرَفْعِ الْمَوَانِعِ في جَمِيعِ الْمُدَّةِ فَحَدَثَتْ
الْمَنَافِعُ في مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَهَلَكَتْ على مِلْكِهِ فَلَا يَسْقُطُ
عنه الْأَجْرُ كَالْبَائِعِ إذَا سَلَّمَ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي
بِالتَّخْلِيَةِ فَهَلَكَ في يَدِ الْبَائِعِ كان الْهَلَاكُ على الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهُ هَلَكَ على مِلْكِهِ كَذَا هذا
وَإِنْ لم يُسَلِّمْ الْمِفْتَاحَ إلَيْهِ لَكِنَّهُ أَذِنَ له بِفَتْحِ الْبَابِ
فقال مُرَّ وَافْتَحْ الْبَابَ فَإِنْ كان يَقْدِرُ على فَتْحِ الْبَابِ
بِالْمُعَالَجَةِ لَزِمَهُ الْكِرَاءُ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ وَإِنْ لم يَقْدِرْ
لَا يَلْزَمْهُ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لم يُوجَدْ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا شَهْرًا أو عَبْدًا يَسْتَخْدِمُهُ
شَهْرًا أو دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى الْكُوفَةِ فَسَكَنَ وَاسْتَخْدَمَ في
بَعْضِ الْوَقْتِ وَرَكِبَ في بَعْضِ الْمَسَافَةِ ثُمَّ حَدَثَ بها مَانِعٌ يَمْنَعُ
من الِانْتِفَاعِ من غَرَقٍ أو مَرَضٍ أو إبَاقٍ أو غَصْبٍ أو كان زَرْعًا
فَقَطَعَ شُرْبَهُ أو رَحًى فَانْقَطَعَ مَاؤُهُ لَا تَلْزَمُهُ أُجْرَةُ تِلْكَ
الْمُدَّةِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه الْمَنْفَعَةُ في تِلْكَ الْمُدَّةِ
لِأَنَّهَا تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا فَلَا تَصِيرُ مَنَافِعُ الْمُدَّةِ
مُسَلَّمَةً بِتَسْلِيمِ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهَا مَعْدُومَةٌ
وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ التَّسْلِيمَ وَإِنَّمَا يُسَلِّمُهَا على حَسَبِ
وُجُودِهَا شيئا فَشَيْئًا فإذا اعْتَرَضَ مَنْعٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ
الْمَعْقُودِ عليه قبل الْقَبْضِ فَلَا يَجِبُ الْبَدَلُ كما لو تَعَذَّرَ
تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ بِالْهَلَاكِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا عن شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنْ كان فيه
خِيَارٌ لَا يَنْفُذُ في مُدَّةِ الْخِيَارِ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَمْنَعُ
انْعِقَادَ الْعَقْدِ في حَقِّ الْحُكْمِ ما دَامَ الْخِيَارُ قَائِمًا لِحَاجَةِ
من له الْخِيَارُ إلَى دَفْعِ الْعَيْنِ عن نَفْسِهِ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ وَإِنْ كان شَرْطًا مُخَالِفًا لِمُقْتَضَى
الْعَقْدِ
وَالْقِيَاسُ يَأْبَاهُ لِمَا مَرَّ لَكِنْ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ الْقِيَاسِ
لِحَاجَةِ الناس وَلِهَذَا جَازَ في بَيْعِ الْعَيْنِ كَذَا في الْإِجَارَةِ
وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا شَرْطُ الصِّحَّةِ فَلِصِحَّةِ هذا الْعَقْدِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عليه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
ما يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عليه وهو الْأُجْرَةُ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ
الْعَقْدِ أَعْنِي الرُّكْنَ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْعَاقِدِ فَرِضَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ لِقَوْلِهِ عز
وجل { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عن تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالْإِجَارَةُ
تِجَارَةٌ لِأَنَّ التِّجَارَةَ تَبَادُلُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَالْإِجَارَةُ
كَذَلِكَ وَلِهَذَا يَمْلِكُهَا الْمَأْذُونُ وأنه لَا يَمْلِكُ ما ليس
بِتِجَارَةٍ فَثَبَتَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تِجَارَةٌ فَدَخَلَتْ تَحْتَ النَّصِّ
وقال النبي لَا يَحِلُّ مَالُ امريء مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ من نَفْسِهِ فَلَا
يَصِحُّ مع الْكَرَاهَةِ وَالْهَزْلِ وَالْخَطَأِ لِأَنَّ هذه الْعَوَارِضَ
تُنَافِي الرِّضَا فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ وَلِهَذَا مَنَعَتْ صِحَّةَ
الْبَيْعِ
وَأَمَّا إسْلَامُ الْعَاقِدِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ من الْمُسْلِمِ
وَالْكَافِرِ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ كما يَصِحُّ الْبَيْعُ منهم وَكَذَا
الْحُرِّيَّةُ فَيَصِحُّ من الْمَمْلُوكِ الْمَأْذُونِ وَيَنْفُذُ من الْمَحْجُورِ
وَيَنْعَقِدُ وَيَتَوَقَّفُ على ما بَيَّنَّا وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَعْقُودِ عليه فَضُرُوبٌ منها أَنْ يَكُونَ
الْمَعْقُودُ عليه وهو الْمَنْفَعَةُ مَعْلُومًا عِلْمًا يَمْنَعُ من
الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ
____________________
(4/179)
كان
مَجْهُولًا يُنْظَرُ إنْ كانت تِلْكَ الْجَهَالَةُ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ
تَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ الْجَهَالَةَ الْمُفْضِيَةَ
إلَى الْمُنَازَعَةِ تَمْنَعُ من التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَلَا يَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ من الْعَقْدِ فَكَانَ الْعَقْدُ عَبَثًا لِخُلُوِّهِ عن الْعَاقِبَةِ
الْحَمِيدَةِ وإذا لم تَكُنْ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ يُوجَدُ التَّسْلِيمُ
وَالتَّسَلُّمُ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ثُمَّ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عليه وهو
الْمَنْفَعَةُ يَكُونُ بِبَيَانِ أَشْيَاءَ
ومنها بَيَانُ مَحَلِّ الْمَنْفَعَةِ حتى لو قال أَجَرْتُك إحْدَى هَاتَيْنِ
الدَّارَيْنِ أو أَحَدَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ أو قال اسْتَأْجَرْت أَحَدَ
هَذَيْنِ الصَّانِعَيْنِ لم يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه
مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ جَهَالَةً مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ
فَتَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ
وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ إذَا بَاعَ نَصِيبًا له من دَارٍ غَيْرِ مُسَمًّى
وَلَا يَعْرِفُهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِجَهَالَةِ النَّصِيبِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَجُوزُ إذَا عَلِمَ بِهِ بَعْدَ ذلك وَإِنْ كان
عَرَفَهُ الْمُشْتَرِي وَقْتَ الْعَقْدِ أو عَرَفَهُ في الْمَجْلِسِ جَازَ سَوَاءٌ
كان الْبَائِعُ يَعْرِفُهُ أو لَا يَعْرِفُهُ بَعْدَ أَنْ صُدِّقَ الْمُشْتَرِي
فِيمَا قال وَجَوَابُ أبي حَنِيفَةَ مَبْنِيٌّ على أَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
بَيْعَ النَّصِيبِ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ جَائِزٌ
وَالثَّانِي أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَهُ وَإِنْ كان
الْمُسْتَأْجَرُ مَعْلُومًا من نِصْفٍ أو ثُلُثٍ أو غَيْرِ ذلك فَالْمَجْهُولُ
أَوْلَى وَعِنْدَهُمَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ جَائِزَةٌ وَإِنَّمَا فَرَّقَ
مُحَمَّدٌ بين الْإِجَارَةِ وَالْبَيْعِ حَيْثُ جَوَّزَ إجَارَةَ النَّصِيبِ ولم
يُجَوِّزْ بَيْعَ النَّصِيبِ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ
على أَصْلِ أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا تَجِبُ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عليه
وهو الْمَنْفَعَةُ وَالنَّصِيبُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ مَعْلُومٌ بِخِلَافِ
الْبَيْعِ فإن الْبَدَلَ فيه يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَعِنْدَ الْعَقْدِ
النَّصِيبُ مَجْهُولٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ ما إذَا اسْتَأْجَرَ من عَقَارٍ
مِائَةَ ذِرَاعٍ أو اسْتَأْجَرَ من أَرْضٍ جَرِيبًا أو جَرِيبَيْنِ أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ كما لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ لِأَنَّ اسْمَ الذِّرَاعِ عِنْدَهُ يَقَعُ على
الْقَدْرِ الذي يَحُلُّهُ الذِّرَاعُ من الْبُقْعَةِ الْمُعَيَّنَةِ وَذَلِكَ
لِلْحَالِ مَجْهُولٌ وَكَذَا إجَارَةُ الْمَشَاعِ لَا تَجُوزُ عِنْدَهُ وَإِنْ كان
مَعْلُومًا فَالْمَجْهُولُ أَوْلَى وَعِنْدَهُمَا الذارع ( ( ( الذراع ) ) )
كَالسَّهْمِ وَتَجُوزُ إجَارَةُ السَّهْمِ كَذَا إجَارَةُ الذِّرَاعِ وقد
ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ إجَارَةُ الْمَشَاعِ من غَيْرِ الشَّرِيكِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ أنها لَا تَجُوزُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مَجْهُولٌ لِجَهَالَةِ
مَحَلِّهِ إذْ الشَّائِعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ من الْجُمْلَةِ غَيْرُ عَيْنٍ من
الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَأَشْبَهَ
إجَارَةَ عَبْدٍ من عَبْدَيْنِ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ كَبَيْعِ الشَّائِعِ وَبِهِ
أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَتُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ على أَصْلٍ آخَرَ هو أَوْلَى
بِالتَّخْرِيجِ عليه وَنَذْكُرُ الدَّلَائِلَ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا من دَارٍ لِيَمُرَّ فيها وَقْتًا مَعْلُومًا لم
يَجُزْ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ الْمُسْتَأْجَرَةَ
غَيْرُ مَعْلُومَةٍ من بَقِيَّةِ الدَّارِ فَكَانَ إجَارَةَ الْمَشَاعِ فَلَا
يَجُوزُ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ظَهْرَ بَيْتٍ لِيَبِيتَ عليه شَهْرًا أو لِيَضَعَ مَتَاعَهُ
عليه اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه لِاخْتِلَافِ فسخ ( ( ( نسخ ) ) ) الْأَصْلِ
ذَكَرَ في بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ يَجُوزُ وهو
الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مَعْلُومٌ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عليه ( ( (
عليها ) ) ) لَا يَجُوزُ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عليه
يَخْتَلِفُ في الْخِفَّةِ وَالثِّقَلِ وَالثَّقِيلُ منه يَضُرُّ بِالْعُلُوِّ
وَالضَّرَرُ لَا يَدْخُلُ في الْعَقْدِ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ
فَكَانَ مُسْتَثْنًى من الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَا ضباط ( ( ( ضابط ) ) ) له
فَصَارَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عليه مَجْهُولًا بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَأْجَرَ
أَرْضًا لِيَبْنِيَ عليها أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَتَأَثَّرُ
لِثِقَلِ الْبِنَاءِ وَخِفَّتِهِ وَيَجُوزُ في قِيَاسِ قَوْلِ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْبِنَاءَ الْمَذْكُورَ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ
وَالْجَوَابُ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ ليس لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ شِرْبًا من نَهْرٍ أو مَسِيلِ مَاءٍ في
أَرْضٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ قَدْرَ ما يَشْغَلُ الْمَاءُ من النَّهْرِ
وَالْأَرْضِ غَيْرُ مَعْلُومٍ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ نَهْرًا لِيَسُوقَ منه الْمَاءَ إلَى أَرْضٍ له فَيَسْقِيهَا
لم يَجُزْ وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا يُجْرِي فيه
الْمَاءَ إلَى أَرْضِهِ أو رَحًى لَا يَجُوزُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وقال أَرَأَيْت لو اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيَسِيلَ فيه مَاءُ
الْمَطَرُ على سَطْحِ الْمُؤَاجِرِ أَلَمْ يَكُنْ هذا فَاسِدًا
وَذَكَرَ هِشَامٌ عن مُحَمَّدٍ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا مَعْلُومًا من
أَرْضٍ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ يُسِيلُ فيه مَاءَهُ أَنَّهُ يَجُوزُ
فَصَارَ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَانِعَ جَهَالَةُ الْبُقْعَةِ وقد زَالَتْ
الْجَهَالَةُ بِالتَّعْيِينِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وهو قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
أَنَّ مِقْدَارَ ما يَسِيلُ من الْمَاءِ في النَّهْرِ وَالْمَسِيلِ مُخْتَلِفٌ
وَالْكَثِيرُ منه مُضِرٌّ بِالنَّهْرِ وَالسَّطْحِ وَالْمُضِرُّ منه مُسْتَثْنًى
من الْعَقْدِ دَلَالَةً وَغَيْرُ الْمُضِرِّ غَيْرُ مَضْبُوطٍ فَصَارَ مَحَلُّ
الْمَعْقُودِ عليه مَجْهُولًا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا لِيُرَكَّبَهُ في
دَارِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى جَازَ لِأَنَّ الْمِيزَابَ الْمُرَكَّبَ
في دَارِهِ لَا تَخْتَلِفُ مَنْفَعَتُهُ بِكَثْرَةِ ما يَسِيلُ فيه وَقِلَّتِهِ
____________________
(4/180)
فَكَانَ
مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عليه مَعْلُومًا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فيها وضوأ ( ( ( وضوءا ) ) ) لم يَجُزْ
لِأَنَّ مِقْدَارَ ما يُصَبُّ فيها من الْمَاءِ مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ
فيه بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ فَكَانَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عليه مَجْهُولًا وعل (
( ( وعلى ) ) ) هذا يُخَرَّجُ أَيْضًا ما إذَا اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَضَعَ عليه
جُذُوعًا أو يَبْنِيَ عليه سُتْرَةً أو يَضَعَ فيه مِيزَابًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِأَنَّ وَضْعَ الْجِذْعِ وَبِنَاءَ السُّتْرَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ وَالثَّقِيلُ منه يَضُرُّ بِالْحَائِطِ وَالضَّرَرُ
مُسْتَثْنًى من الْعَقْدِ دَلَالَةً وَلَيْسَ لِذَلِكَ الْمُضِرِّ حَدٌّ مَعْلُومٌ
فَيَصِيرَ مَحَلُّ الْمَعْقُودِ عليه مَجْهُولًا
وَكَذَلِكَ لو اسْتَأْجَرَ من الْحَائِطِ مَوْضِعَ كُوَّةٍ لِيَدْخُلَ عليه
الضَّوْءُ أو مَوْضِعًا من الْحَائِطِ لِيَتِدَ فيه وَتَدًا لم يَجُزْ لِمَا
قُلْنَا
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لو استأخر ( ( ( استأجر ) ) ) دَابَّةً بِغَيْرِ
عَيْنِهَا يَجُوزُ وَإِنْ كان الْمَعْقُودُ عليه مَجْهُولًا لِجَهَالَةِ مَحَلِّهِ
فَالْجَوَابُ أن هذه الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِحَاجَةِ
الناس إلَى سُقُوطِ اعْتِبَارِهَا لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لو اسْتَأْجَرَ دَابَّةً
بِعَيْنِهَا فَرُبَّمَا تَمُوتُ الدَّابَّةُ في الطَّرِيقِ فبتطل ( ( ( فتبطل ) )
) الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ بِدَابَّةٍ أُخْرَى
فَيَبْقَى في الطَّرِيقِ فيقضي بِغَيْرِ حَمُولَةٍ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ فَدَعَتْ
الضَّرُورَةُ إلَى الْجَوَازِ وَإِسْقَاطِ اعْتِبَارِ هذه الْجَهَالَةِ لِحَالَةِ
الناس فَلَا تَكُونُ الْجَهَالَةُ مفيضة ( ( ( مفضية ) ) ) إلَى الْمُنَازَعَةِ
كَجَهَالَةِ الْمُدَّةِ وَقَدْرِ الْمَاءِ الذي يُسْتَعْمَلُ في الْحَمَّامِ
وقال هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا عن الإطلاء بِالنُّورَةِ بِأَنْ قال أُطْلِيك
بِدَانِقٍ وَلَا يَعْلَمُ بِمَا يَطْلِيه من غِلَظِهِ وَنَحَافَتِهِ
قال هو جَائِزٌ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْبَدَنِ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ
وَالتَّفَاوُتُ فيه يَسِيرٌ لَا يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ الناس
يَتَعَامَلُونَ ذلك من غَيْرِ نَكِيرٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ هذه الْجَهَالَةِ
بِتَعَامُلِ الناس
وَمِنْهَا بَيَانُ الْمُدَّةِ في إجَارَةِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ وَالْبُيُوتِ
وَالْحَوَانِيتِ وفي اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه لَا
يَصِيرُ معلوما ( ( ( معلوم ) ) ) الْقَدْرِ بِدُونِهِ فَتَرْكُ بَيَانِهِ يُفْضِي
إلَى الْمُنَازَعَةِ وَسَوَاءٌ قَصُرَتْ الْمُدَّةُ أو طَالَتْ من يَوْمٍ أو
شَهْرٍ أو سَنَةٍ أو أَكْثَرَ من ذلك بَعْدَ أَنْ كانت مَعْلُومَةً وهو أَظْهَرُ
أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ من سَنَةٍ
وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَكْثَرُ من ثَلَاثِينَ سَنَةً وَالْقَوْلَانِ
لَا مَعْنَى لَهُمَا لِأَنَّ الْمَانِعَ إنْ كان هو الْجَهَالَةَ فَلَا جَهَالَةَ
وَإِنْ كان عَدَمَ الْحَاجَةِ فَالْحَاجَةُ قد تَدْعُو إلَى ذلك وَسَوَاءٌ عَيَّنَ
الْيَوْمَ أو الشَّهْرَ أو السَّنَةَ أو لم يُعَيِّنْ وينعين ( ( ( ويتعين ) ) )
الزَّمَانُ الذي يَعْقُبُ الْعَقْدَ لِثُبُوتِ حُكْمِهِ وقال الشَّافِعِيُّ لَا
يَصِحُّ الْعَقْدُ ما لم يُعَيَّنْ الْوَقْتُ الذي يَلِي الْعَقْدَ نَصًّا
وَجْهُ قَوْلِهِ أن قَوْلَهُ يَوْمًا أو شَهْرًا أو سَنَةً مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ
اسْمٌ لِوَقْتٍ مُنَكَّرٍ جهالة ( ( ( وجهالة ) ) ) الْوَقْتِ تُوجِبُ جَهَالَةَ
الْمَعْقُودِ عليه وَلَيْسَ في نَفْسِ الْعَقْدِ ما يُوجِبُ تَعْيِينَ بَعْضِ
الْأَوْقَاتِ دُونَ بَعْضٍ فَيَبْقَى مَجْهُولًا فَلَا بُدَّ من التَّعْيِينِ
وَلَنَا أن التَّعْيِينَ قد يَكُونُ نَصًّا وقد يَكُونُ دَلَالَةً وقد وُجِدَ
هَهُنَا دَلَالَةُ التَّعْيِينِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ
إنَّمَا يَعْقِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ عَقِيبَ الْعَقْدِ
قَائِمَةٌ
وَالثَّانِي أن الْعَاقِدَ يَقْصِدُ بِعَقْدِهِ الصِّحَّةَ وَلَا صِحَّةَ لِهَذَا
الْعَقْدِ إلَّا بِالصَّرْفِ في الشَّهْرِ الذي يَعْقُبُ الْعَقْدَ فَيَتَعَيَّنُ
بِخِلَافِ ما إذَا قال لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا أو أَعْتَكِفَ
شَهْرًا أَنَّ له أَنْ يَصُومَ وَيَعْتَكِفَ أَيَّ شَهْرٍ أَحَبَّ وَلَا
يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الذي يَلِي النَّذْرَ لِأَنَّ تَعَيُّنَ الْوَقْتِ ليس
بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ النَّذْرِ فَوَجَبَ الْمَنْذُورُ بِهِ في شَهْرٍ مُنَكَّرٍ
فَلَهُ أَنْ يُعَيِّنَ أَيَّ شَهْرٍ شَاءَ
وَلَوْ آجَرَ دَارِهِ شَهْرًا أو شُهُورًا مَعْلُومَةً فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ في
غُرَّةِ الشَّهْرِ يَقَعُ على الْأَهِلَّةِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو نَقَصَ الشَّهْرُ
يَوْمًا كان عليه كَمَالُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّ الشَّهْرَ اسْمٌ لِلْهِلَالِ وَإِنْ
وَقَعَ بَعْدَ ما مَضَى بَعْضُ الشَّهْرِ فَفِي إجَارَةِ الشَّهْرِ يَقَعُ على
ثَلَاثِينَ يَوْمًا بِالْإِجْمَاعِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْأَهِلَّةِ
فَتُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ
وَأَمَّا في إجَارَةِ الشَّهْرِ فَفِيهَا رِوَايَتَانِ عن أبي حَنِيفَةَ وفي
رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ الشُّهُورَ كُلَّهَا بِالْأَيَّامِ وفي رِوَايَةٍ اعْتَبَرَ
تَكْمِيلَ هذا الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ من الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَالْبَاقِي
بِالْأَهِلَّةِ وَهَكَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ فقال إذَا اسْتَأْجَرَ سَنَةً
أَوَّلُهَا هذا الْيَوْمُ وَهَذَا الْيَوْمُ لا ربعة عَشَرَ من الشَّهْرِ فإنه
يَسْكُنُ بَقِيَّةَ هذا الشَّهْرِ وَأَحَدَ عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ
وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا من الشَّهْرِ الْأَخِيرِ وَهَذَا غَلَطٌ وَقَعَ من
الْكَاتِبِ وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ وَأَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِأَنَّ
سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا قد سَكَنَ فلم يَبْقَ لِتَمَامِ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ
إلَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا
وَهَكَذَا ذَكَرَ في بَعْضِ النُّسَخِ وَإِنَّمَا يَسْكُنُ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا
إذَا كان سَكَنَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَوَجْهُهُ ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ اسْمَ الشُّهُورِ
لِلْأَهِلَّةِ إذْ الشَّهْرُ اسْمٌ لِلْهِلَالِ لُغَةً إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
اعْتِبَارُ الْأَهِلَّةِ في الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَاعْتُبِرَ فيه الْأَيَّامُ وَيُمْكِنُ
فِيمَا بَعْدَهُ فَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ وَلِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ
الْمَنْفَعَةِ مَعْقُودٌ عليه لِأَنَّهُ يَتَجَدَّدُ وَيَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا
فَيَصِيرُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ عَقَدَ الْإِجَارَةَ
ابْتِدَاءً فَيُعْتَبَرُ بِالْأَهِلَّةِ بِخِلَافِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ
فيها الْأَيَّامُ على إحْدَى
____________________
(4/181)
الرِّوَايَتَيْنِ
لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْعِدَّةِ ليس بِعِدَّةٍ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ
فيها حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَاعْتُبِرَ فيها زِيَادَةُ الْعَدَدِ احْتِيَاطًا
وَالْإِجَارَةُ حَقُّ الْعَبْدِ فَلَا يَدْخُلُهُ الِاحْتِيَاطُ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ يَكْمُلُ
بِالْأَيَّامِ بِلَا خِلَافٍ وَإِنَّمَا يَكْمُلُ بِالْأَيَّامِ من الشَّهْرُ
الثَّانِي فإذا كَمُلَ بالإيام من الشَّهْرُ الثَّانِي يَصِير أَوَّلُ الشَّهْرِ
الثَّانِي بِالْأَيَّامِ فَيُكْمَلُ من الشَّهْرِ الثَّالِثِ وَهَكَذَا إلَى آخَرِ
الشُّهُورِ
وَلَوْ قال أَجَرْتُك هذه الدَّارَ سَنَةً كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ جَازَ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُدَّةَ مَعْلُومَةٌ وَالْأُجْرَةَ مَعْلُومَةٌ فَلَا
يَجُوزُ وَلَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا الْفَسْخُ قبل تَمَامِ السَّنَةِ من غَيْرِ
عُذْرٍ وَلَوْ لم يذكر السَّنَةَ فقال أَجَرْتُك هذه الدَّارَ كُلَّ شَهْرٍ
بِدِرْهَمٍ جَازَ في شَهْرٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وهو الشَّهْرُ الذي
يَعْقُبُ الْعَقْدَ كما في بَيْعِ الْعَيْنِ بِأَنْ قال بِعْت مِنْك هذه
الصُّبْرَةَ كُلَّ قَفِيزٍ منها بِدِرْهَمٍ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا في قَفِيزٍ
وَاحِدٍ عِنْدَهُ لِأَنَّ جُمْلَةَ الشُّهُورِ مَجْهُولَةٌ فَأَمَّا الشَّهْرُ
الْأَوَّلُ فَمَعْلُومٌ وهو الذي يَعْقُبُ الْعَقْدَ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ أَنَّ الصَّحِيحَ من قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَفَرَّقَا بين الْإِجَارَةِ وبين ( ( ( وبيع ) ) )
الْعَيْنِ من حَيْثُ أن كُلَّ شَهْرٍ لَا نِهَايَةَ له فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ
عليه مَعْلُومًا بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْجُمْلَةِ
بِالْكَيْلِ وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا قالوا تَجُوزُ هذه الْإِجَارَةُ على
قَوْلِهِمَا كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ كما في بَيْعِ الصُّبْرَةِ كُلُّ قَفِيزٍ
بِدِرْهَمٍ وفي بَيْعِ الْمَذْرُوعِ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ في الْمَذْرُوعِ في الْكُلِّ لَا في
ذِرَاعٍ وَاحِدٍ وَلَا في الْبَاقِي
وفي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَجُوزُ في وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ في الْبَاقِي في
الْحَالِ إلَّا إذَا عَلِمَ الْمُشْتَرِي جُمْلَتَهُ في الْمَجْلِسِ لِأَنَّ
بَيْعَ قَفِيزٍ من صُبْرَةٍ جَائِزٌ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ لِعَدَمِ التَّفَاوُتِ بين قَفِيزٍ وَقَفِيزٍ فَأَمَّا بَيْعُ
ذِرَاعٍ من ثَوْبٍ فَلَا يَجُوزُ لِتَفَاوُتٍ في أَجْزَاءِ الثَّوْبِ فَيُفْضِي
إلَى الْمُنَازَعَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ هذه الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَاعْتَبَرَهَا بِبَيْعِ كل ثَوْبٍ
من هذه الْأَثْوَابِ بِدِرْهَمٍ وَهَذَا الِاعْتِبَارُ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ
الثِّيَابَ تَخْتَلِفُ في أَنْفُسِهَا اخْتِلَافًا فَاحِشًا وَلَا يُمْكِنُ
تَعْيِينُ وَاحِدٍ منها لا ختلافها فَأَمَّا الشُّهُورُ فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ
فَيَتَعَيَّنُ وَاحِدٌ منها لِلْإِجَارَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وهو الشَّهْرُ
الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا وإذا جَازَ في الشَّهْرِ الْأَوَّلِ لَا غير عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ تَمَامِ
الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فإذا دخل الشَّهْرُ الثَّانِي ولم يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا
انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ في الشَّهْرِ الثَّانِي لِأَنَّهُ إذَا مَضَى الشَّهْرُ
الْأَوَّلُ ولم يَتْرُكْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ تَرَاضَيَا على انْعِقَادِ الْعَقْدِ
في الشَّهْرِ الثَّانِي فَصَارَا كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ
وَكَذَا هذا عِنْدَ مُضِيِّ كل شَهْرٍ بِخِلَافِ ما إذَا أَجَرَ شَهْرًا وَسَكَتَ
ولم يَقُلْ كُلَّ شَهْرٍ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَسْبِقْ منه شَيْءٌ يبني عليه
الْعَقْدُ في الشَّهْرِ الثَّانِي
ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا في وَقْتِ الْفَسْخِ وَكَيْفِيَّتِهِ قال بَعْضُهُمْ
إذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ يقول أَحَدُهُمَا على الْفَوْرِ فَسَخْتُ الْإِجَارَةَ
فإذا قال ذلك لَا يَنْعَقِدُ في الشَّهْرِ الثَّانِي وَإِنْ سَكَتَا عنه
انْعَقَدَتْ
وقال بَعْضُهُمْ يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا الْإِجَارَةَ في الْحَالِ فإذا جاء رَأْسُ
الشَّهْرِ عَمِلَ ذلك الْفَسْخُ السَّابِقُ وقال بَعْضُهُمْ يَفْسَخُ أَحَدُهُمَا
لَيْلَةَ الْهِلَالِ أو يَوْمَهَا وَإِنْ سَكَتَا حتى غَرَبَتْ الشَّمْسُ من
الْيَوْمِ الْأَوَّلِ انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ في الشَّهْرِ الثَّانِي وَهَذَا
أَصَحُّ الْأَقَاوِيلِ وَمَعْنَى الْفَسْخُ هَهُنَا هو مَنْعُ انْعِقَادِ
الْإِجَارَةِ في الشَّهْرِ الثَّانِي لِأَنَّهُ رَفْعُ الْعَقْدِ الْمَوْجُودِ من
الْأَصْلِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَلْوًا وَبَكَرَةً لِيَسْقِيَ غَنَمَهُ ولم يذكر الْمُدَّةَ
لم يَجُزْ لِأَنَّ قَدْرَ الزَّمَانِ الذي يَسْقِي فيه الْغَنَمَ غَيْرُ مَعْلُومٍ
فَكَانَ قَدْرُ الْمَعْقُودِ عليه مَجْهُولًا وَإِنْ بَيَّنَ الْمُدَّةَ جَازَ
لِأَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْتَأْجَرُ له في هذا النَّوْعِ من الْإِجَارَةِ أعنى
إجَارَةَ الْمَنَازِلِ وَنَحْوِهَا فَلَيْسَ بِشَرْطٍ حتى لو اسْتَأْجَرَ شيئا من
ذلك ولم يُسَمِّ ما يَعْمَلُ فيه جَازَ وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَ فيه نَفْسُهُ وَمَعَ
غَيْرِهِ وَلَهُ أَنْ يُسْكِنَ فيه غَيْرَهُ بِالْإِجَارَةِ وَالْإِعَارَةِ وَلَهُ
أَنْ يَضَعَ فيه مَتَاعًا وَغَيْرَهُ غير أَنَّهُ لَا يَجْعَلُ فيه حَدَّادًا
وَلَا قَصَّارًا وَلَا طَحَّانًا وَلَا ما يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ وَإِنَّمَا
كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ شُرِعَتْ الانتفاع ( ( ( للانتفاع ) ) )
وَالدُّورُ وَالْمَنَازِلُ وَالْبُيُوتُ وَنَحْوُهَا مُعَدَّةٌ لِلِانْتِفَاعِ بها
بِالسُّكْنَى وَمَنَافِعُ الْعَقَارِ الْمُعَدَّةُ لِلسُّكْنَى مُتَقَارِبَةٌ
لِأَنَّ الناس لَا يَتَفَاوَتُونَ في السُّكْنَى فَكَانَتْ مَعْلُومَةً من غَيْرِ
تَسْمِيَةٍ
وَكَذَا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَفَاوَتُ بِكَثْرَةِ السُّكَّانِ وَقِلَّتِهِمْ
إلَّا تَفَاوُتًا يَسِيرًا وَأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ وَوَضْعُ الْمَتَاعِ من
تَوَابِعِ السُّكْنَى
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ له أَنْ يَرْبِطَ في الدَّارِ دَابَّتَهُ وَبَعِيرَهُ
وَشَاتَهُ لِأَنَّ ذلك من تَوَابِعِ السُّكْنَى وَقِيلَ أن هذا الْجَوَابَ على
عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْجَوَابُ فيه يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعَادَةِ
فَإِنْ كان في مَوْضِعٍ جَرَتْ الْعَادَةُ بِذَلِكَ فَلَهُ ذلك وَإِلَّا فَلَا
وَإِنَّمَا لم يَكُنْ له أَنْ يُقْعِدَ فيه من يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَيُوهِنُهُ
من الْقَصَّارِ وَالْحَدَّادِ
____________________
(4/182)
وَالطَّحَّانِ
لِأَنَّ ذلك إتْلَافُ الْعَيْنِ وَأَنَّهُ لم يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ إذْ
الْإِجَارَةُ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ لَا بَيْعُ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ مُطْلَقَ
الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُعْتَادِ
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَانُوتَ الذي يَكُونُ في صَفِّ الْبَزَّازِينَ أَنَّهُ لَا
يُؤَاجَرُ لِعَمَلِ الْحَدَّادِ وَالْقَصَّارِ وَالطَّحَّانِ فَلَا يَنْصَرِفُ
مُطْلَقُ الْعَقْدِ إلَيْهِ أذ الْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ على الْعَادَةِ فَلَا
يَدْخُلُ غَيْرُهُ في الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ أو بِالرِّضَا حتى لو آجَرَ
حَانُوتًا في صَفِّ الْحَدَّادِينَ من حَدَّادٍ يَدْخُلُ عَمَلُ الْحِدَادَةِ فيه
من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ لِلْعَادَةِ وَإِنَّمَا كان له أَنْ يُؤَاجِرَ من غَيْرِهِ
وَيُعِيرَ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ فَكَانَ له أَنْ يُؤَاجِرَ من غَيْرِهِ
بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ
وَأَمَّا في إجَارَةِ الْأَرْضِ فَلَا بُدَّ فيها من بَيَانِ ما تُسْتَأْجَرُ له
من الزِّرَاعَةِ وَالْغَرْسِ وَالْبِنَاءِ وَغَيْرِ ذلك فَإِنْ لم يُبَيِّنْ كانت
الْإِجَارَةُ فَاسِدَةً إلَّا إذَا جَعَلَ له أَنْ يَنْتَفِعَ بها بِمَا شَاءَ
وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا لِلزِّرَاعَةِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ما يَزْرَعُ
فيها أو يَجْعَلُ له أَنْ يَزْرَعَ فيها ما شَاءَ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ
الْعَقْدُ لِأَنَّ مَنَافِعَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ
وَالْغَرْسِ وَالزِّرَاعَةِ
وَكَذَا الْمَزْرُوعُ يَخْتَلِفُ منه ما يُفْسِدُ الْأَرْضَ وَمِنْهُ ما
يُصْلِحُهَا فَكَانَ الْمَعْقُودُ عليه مَجْهُولًا جهالالة ( ( ( جهالة ) ) )
مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ فَلَا بُدَّ من الْبَيَانِ بِخِلَافِ السُّكْنَى
فَإِنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ وَأَمَّا في إجَارَةِ الدَّوَابِّ فَلَا بُدَّ فيها من
بَيَانِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ الْمُدَّةِ أو الْمَكَانِ فَإِنْ لم يُبَيَّنْ
أَحَدُهُمَا فَسَدَتْ لِأَنَّ تَرْكَ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً يُشَيِّعُ عليها رَجُلًا أو
يَتَلَقَّاهُ أن الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ إلَّا أَنْ يسمى مَوْضِعًا مَعْلُومًا
لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْجَبَّانَةِ لِأَنَّ الْجَبَّانَةَ تَخْتَلِفُ
أَوَّلُهَا وَأَوْسَطُهَا وَآخِرُهَا لِأَنَّهَا مَوْضِعٌ وَاسِعٌ تَتَبَاعَدُ
أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى
الْكُوفَةِ أَنَّهُ يَصِحُّ الْعَقْدُ وَإِنْ كان أَطْرَافُهَا وَجَوَانِبُهَا
مُتَبَاعِدَةً لِأَنَّ الْمَكَانَ هُنَاكَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ وهو مَنْزِلُهُ
الذي بِالْكُوفَةِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَأْجَرَ إلَى بَلَدِهِ
فَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ إلَى بَيْتِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ ما جَرَتْ الْعَادَةُ بين المكاريين ( ( ( المكارين ) ) )
بِطَرْحِ الْحُمُولَاتِ على أَوَّلِ جُزْءٍ من الْبَلَدِ فَصَارَ مَنْزِلُهُ
بِالْكُوفَةِ مَذْكُورًا دَلَالَةً وَالْمَذْكُورُ دَلَالَةً كَالْمَذْكُورِ
نَصًّا وَلَا عَادَةَ في الْجَبَّانَةِ على مَوْضِعٍ بِعَيْنِهِ حتى يُحْمَلَ
الْعَقْدُ عليه حتى لو كان في الْجَبَّانَةِ مَوْضِعٌ لَا يُرْكَبُ إلَّا إلَيْهِ
يَصِحُّ الْعَقْدُ وَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ كما يَصِحُّ إلَى الْكُوفَةِ وَلَوْ
تَكَارَاهَا بِدِرْهَمٍ يَذْهَبُ عليها إلَى حَاجَةٍ له لم يَجُزْ ما لم يُبَيِّنْ
الْمَكَانَ لِأَنَّ الْحَوَائِجَ تَخْتَلِفُ منها ما يَنْقَضِي بِالرُّكُوبِ إلَى
مَوْضِعٍ وَمِنْهَا ما لَا يَنْقَضِي إلَّا بِقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ
فَكَانَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً فَتَفْسُدُ الْإِجَارَةُ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ إذَا تَكَارَى دَابَّةً من الْفُرَاتِ إلَى جُعْفِيٍّ
وَجُعْفِيٌّ قَبِيلَتَانِ بِالْكُوفَةِ ولم يُسَمِّ إحْدَاهُمَا أو إلَى
الْكُنَاسَةِ وَفِيهَا كُنَاسَتَانِ ولم يُسَمِّ أحداهما أو إلَى بَجِيلَةَ
وَبِهَا بَجِيلَتَانِ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ ولم يُسَمِّ إحْدَاهُمَا أن
الْإِجَارَةَ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْمَكَانَ مَجْهُولٌ وَلَا بُدَّ فيها من بَيَانِ
ما يَسْتَأْجِرُ له في الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ لِأَنَّهُمَا مَنْفَعَتَانِ
مُخْتَلِفَتَانِ وَبَعْدَ بَيَانِ ذلك لَا بُدَّ من بَيَانِ ما يُحْمَلُ عليها
وَمَنْ يَرْكَبُهَا لِأَنَّ الْحَمْلَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْمَحْمُولِ
وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ في الرُّكُوبِ فَتَرْكُ الْبَيَانِ يُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ
وَذَكَرَ في الأصلإذا اسْتَأْجَرَ بَعِيرَيْنِ من الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ
فَحَمَلَ على أَحَدِهِمَا مَحْمَلًا فيه رَجُلَانِ وما يَصْلُحُ لَهُمَا من
الْوِطَاءِ وَالدُّثُرِ وقد رَأَى الرَّجُلَيْنِ ولم يَرَ الْوِطَاءَ وَالدُّثُرَ
وَأَحَدُهُمَا زَامِلَةٌ يَحْمِلُ عليها كَذَا كَذَا مَحْتُومًا من السَّوِيقِ
وَالدَّقِيقِ وما يُصْلِحُهُمَا من الزَّيْتِ وَالْخَلِّ وَالْمَعَالِيقِ ولم
يُبَيِّنْ ذلك وَاشْتَرَطَ عليه ما يَكْتَفِي بِهِ من الْمَاءِ ولم يُبَيِّنْ ذلك
فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ بِالْقِيَاسِ وَلَكِنْ قال أبو حَنِيفَةَ استحسن ذلك
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ شَرَطَ عَمَلًا مَجْهُولًا لأنه قَدْرَ الْكِسْوَةِ
وَالدِّثَارِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الناس فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَجْهُولَةً
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أن الناس يَفْعَلُونَ ذلك من لَدُنْ رسول اللَّهِ إلَى
يَوْمِنَا هذا فَكَانَ ذلك إسْقَاطًا منهم اعْتِبَارَ هذه الْجَهَالَةِ فَلَا
يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَإِنْ اشْتَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَحْمِلَ عليه
من هَدَايَا مَكَّةَ من صَالِحِ ما يَحْمِل الناس فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ قَدْرَ
الْهَدَايَا يُعْلَمُ بِالْعَادَةِ
وَهَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ الناس في سَائِرِ الْأَعْصَارِ من غَيْرِ نَكِيرٍ وان
بَيَّنَ وَزْنَ الْمَعَالِيقِ وَوَصَفَ ذلك وَالْهَدَايَا أَحَبُّ إلَيْنَا
لِأَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا وَذَلِكَ يَكُونُ أَبْعَدَ من
الْخُصُومَةِ لِذَلِكَ قال أَحَبُّ إلَيْنَا وَلِكُلِّ مَحَلٍّ قِرْبَتَيْنِ من
مَاءٍ وَإِدَاوَتَيْنِ من أَعْظَمِ ما يَكُونُ لِأَنَّ هذا كُلَّهُ يَصِيرُ
مَعْلُومًا بِالْعَادَةِ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ
وَكَذَا الْخَيْمَةُ وَالْقُبَّةُ وَذِكْرُهُ أَفْضَلُ لِمَا قُلْنَا وفي
اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ وَالثَّوْبِ لِلُّبْسِ وَالْقِدْرِ
لِلطَّبْخِ لَا بُدَّ من بَيَانِ الْمُدَّةِ لِمَا قُلْنَا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يُشْتَرَطَ بَيَانُ نَوْعِ الْخِدْمَةِ في اسْتِئْجَارِ
الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ تَخْتَلِفُ فَكَانَتْ مَجْهُولَةً
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُشْتَرَطُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ وَلَيْسَ له
أَنْ
____________________
(4/183)
يُسَافِرَ
بِهِ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ ما يَلْبَسُ وما يَطْبُخُ في الْقِدْرِ لِأَنَّ
اللُّبْسَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ اللَّابِسِ وَالْقِدْرُ يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ الْمَطْبُوخِ فَلَا بُدَّ من الْبَيَانِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عليه
مَعْلُومًا فَإِنْ اخْتَصَمَا حين وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ في هذه الْأَشْيَاءِ قبل
أَنْ يَزْرَعَ أو يَبْنِيَ أو يَغْرِسَ أو قبل أَنْ يَحْمِلَ على الدَّابَّةِ أو
يَرْكَبَهَا أو قبل أَنْ يَلْبَسَ الثَّوْبَ أو يَطْبُخَ في الْقِدْرِ فإن
الْقَاضِيَ يَفْسَخُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَقَعَ فَاسِدًا وَرَفْعُ
الْفَسَادِ وَاجِبٌ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَإِنْ زَرَعَ الْأَرْضَ وجمل ( ( ( وحمل )
) ) الدَّابَّةِ وَلَبِسَ الثَّوْبَ وطبح ( ( ( وطبخ ) ) ) في الْقِدْرِ فَمَضَتْ
الْمُدَّةُ فَلَهُ ما سُمِّيَ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ له أَجْرُ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى
الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَاسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
يُوجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ لَا الْمُسَمَّى
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ بأن الْمُفْسِدَ جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عليه
وَالْمَعْقُودُ عليه قد تَعَيَّنَ بِالزِّرَاعَةِ وَالْحَمْلِ وَاللُّبْسِ
وَالطَّبْخِ فَزَالَتْ الْجَهَالَةُ فَقَدْ استوفى الْمَعْقُودُ عليه في عَقْدٍ
صَحِيحٍ فَيَجِبُ كَمَالُ الْمُسَمَّى كما لو كان مُتَعَيَّنًا في الِابْتِدَاءِ
وَلَوْ فسح ( ( ( فسخ ) ) ) الْقَاضِي الْإِجَارَةَ ثُمَّ زَرَعَ أو حَمَلَ أو
لَبِسَ أو غير ذلك لَا يَجِبُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا نَقَضَ الْعَقْدَ
فَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فَصَارَ مُسْتَعْمِلًا مَالَ الْغَيْرِ من غَيْرِ عَقْدٍ
فَصَارَ غَاصِبًا وَالْمَنَافِعُ على أَصْلِنَا لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ
الصَّحِيحِ أو الْفَاسِدِ ولم يُوجَدْ
وَمِنْهَا بَيَانُ الْعَمَلِ في اسْتِئْجَارِ الصُّنَّاعِ وَالْعُمَّالِ لِأَنَّ
جَهَالَةَ الْعَمَلِ في الِاسْتِئْجَارِ على الْأَعْمَالِ جَهَالَةٌ مُفْضِيَةٌ
إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ حتى لو اسْتَأْجَرَ عَامِلًا ولم
يُسَمِّ له الْعَمَلَ من الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالرَّعْيِ وَنَحْوِ ذلك لم
يَجُزْ الْعَقْدُ وَكَذَا بَيَانُ الْمَعْمُولِ فيه في الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ
أما بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ أو بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ
وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ في ثَوْبِ الْقِصَارَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَبَيَانِ
الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ في إجَارَةِ الرَّاعِي من الْخَيْلِ أو الْإِبِلِ أو
الْبَقَرِ أو الْغَنَمِ وَعَدَدِهَا لِأَنَّ الْعَمَلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ
الْمَعْمُولِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ له بِئْرًا
أَنَّهُ لَا بُدَّ من بَيَانِ مَكَانِ الْحَفْرِ وَعُمْقِ الْبِئْرِ وَعَرْضِهَا
لِأَنَّ عَمَلَ الْحَفْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ عُمْقِ الْمَحْفُورِ وَعَرْضِهِ
وَمَكَانِ الْحَفْرِ من الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ فَيُحْتَاجُ إلَى الْبَيَانِ
لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عليه مَعْلُومًا وَهَلْ يُشْتَرَطُ فيه بَيَانُ الْمُدَّةِ
أَمَّا في اسْتِئْجَارِ الرَّاعِي الْمُشْتَرَكِ فَيُشْتَرَطُ لِأَنَّ قَدْرَ
الْمَعْقُودِ عليه لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ
وَأَمَّا في اسْتِئْجَارِ الْقَصَّارِ الْمُشْتَرَكِ وَالْخَيَّاطِ الْمُشْتَرَكِ
فَلَا يُشْتَرَطُ حتى لو دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ أو قَصَّارٍ أَثْوَابًا مَعْلُومَةً
لِيَخِيطَهَا أو لِيُقَصِّرَهَا جَازَ من غَيْرِ بَيَانِ الْمُدَّةِ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عليه يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ
وَأَمَّا في الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ جِنْسِ الْمَعْمُولِ
فيه وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ
فَقَطْ وَبَيَانُ الْمُدَّةِ في اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ شَرْطُ جَوَازِهِ
بِمَنْزِلَةِ اسْتِئْجَارِ الْعَبْدِ لِلْخِدْمَةِ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه هو
الْخِدْمَةُ فما جَازَ فيه جَازَ في الظِّئْرِ وما لم يَجُزْ فيه لم يَجُزْ فيها
إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ في الظِّئْرِ أَنْ تُسْتَأْجَرَ
بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا لِمَا نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِيَبِيعَ له وَيَشْتَرِيَ ولم يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ
لم يَجُزْ لِجَهَالَةِ قَدْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَوْ بَيَّنَ
الْمُدَّةَ بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ شَهْرًا لِيَبِيعَ له وَيَشْتَرِيَ جَازَ لِأَنَّ
قَدْرَ الْمَنْفَعَةِ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ
وما رُوِيَ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ رضوان ( ( ( رضي ) ) ) اللَّهُ عليهم ( ( (
عنهم ) ) ) قال كنا نَبِيعُ في أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا
السَّمَاسِرَةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رسول اللَّهِ وَسَمَّانَا بِأَحْسَنِ
الْأَسْمَاءِ فقال يا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ بَيْعَكُمْ هذا يَحْضُرُهُ
اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ وَالسِّمْسَارُ هو الذي يَبِيعُ
أو يَشْتَرِي لِغَيْرِهِ بِالْأُجْرَةِ فَهُوَ مَحْمُولٌ على ما إذَا كانت الْمُدَّةُ
مَعْلُومَةً
وَكَذَا إذَا قال بِعْ لي هذا الثَّوْبَ وَلَكَ دِرْهَمٌ وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ
وَإِنْ لم يُبَيِّنْ فَبَاعَ وَاشْتَرَى فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ
اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ
قال الْفَضْلُ بن غَانِمٍ سمعت أَبَا يُوسُفَ قال لَا بَأْسَ أَنْ يَسْتَأْجِرَ
الْقَاضِي رَجُلًا مُشَاهَرَةً على أَنْ يَضْرِبَ الْحُدُودَ بين يَدَيْهِ وَإِنْ
كان غير مُشَاهَرَةٍ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهَا إذَا كانت مُشَاهَرَةً
كان الْمَعْقُودُ عليه مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَيَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ
فيها بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ عَمِلَ أو لم يَعْمَلْ وإذا لم يذكر الْوَقْتَ بَقِيَ
الْمَعْقُودُ عليه مَجْهُولًا لِأَنَّ قَدْرَ الْحُدُودِ التي سَمَّاهَا غَيْرُ
مَعْلُومٍ وَكَذَا مَحَلُّ الْإِقَامَةِ مَجْهُولٌ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَأْجَرَ الْإِمَامُ رَجُلًا
لِيَقْتُلَ الْمُرْتَدِّينَ وَالْأُسَارَى لم يَجُزْ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وَإِنْ
اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ جَازَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدِي
وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ فِيهِمَا هَكَذَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ
أَصْحَابِنَا أَبَا يُوسُفَ وَأَبَا حَنِيفَةَ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ رَجُلًا لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ
في النَّفْسِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ وهو الْقَتْلُ
وَمَحَلُّهُ مَعْلُومٌ وهو الْعُنُقُ إذْ لَا يُبَاحُ له الْعُدُولُ عنه فَيَجُوزُ
كما لو اسْتَأْجَرَهُ لِقَطْعِ الْيَدِ وَذَبْحِ الشَّاةِ وَلَهُمَا أَنَّ
مَحَلَّهُ من الْعُنُقِ ليس بِمَعْلُومٍ
____________________
(4/184)
بِخِلَافِ
الْقَطْعِ فإن مَحَلَّهُ من الْيَدِ مَعْلُومٌ وهو الْمَفْصِلُ وَكَذَا مَحَلُّ
الذَّبْحِ الْحُلْقُومُ وَالْوَدَجَانِ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ
وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ قال لِرَجُلٍ اُقْتُلْ هذا الذِّئْبَ أو
هذا الْأَسَدَ وَلَك دِرْهَمٌ وَهُمَا صَيْدٌ لَيْسَا لِلْمُسْتَأْجِرِ فَقَتَلَهُ
فإن له أَجْرَ مِثْلِهِ لَا أُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا لِأَنَّ الْأَسَدَ
وَالذِّئْبَ إذَا لم يَكُونَا في يَدِهِ فَيُحْتَاجَ في قَتْلِهِمَا إلَى
الْمُعَالَجَةِ فَكَانَ الْعَمَلُ مَجْهُولًا وَإِنَّمَا وَجَبَ عليه أَجْرُ
الْمِثْلِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَيَكُونُ
الصَّيْدُ لِلْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ سَبَبٌ لِتَمَلُّكِهِ
وَعَمَلُ الْأَجِيرِ يَقَعُ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَصَارَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ
بِنَفْسِهِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قال لِرَجُلٍ اسْتَأْجَرْتُك لِتَخِيطَ هذا الثَّوْبَ
الْيَوْمَ أو لِتُقَصِّرَ هذا الثَّوْبَ الْيَوْمَ أو لِتَخْبِزَ قَفِيزَ دَقِيقٍ
الْيَوْمَ أو قال اسْتَأْجَرْتُك هذا الْيَوْمَ لِتَخِيطَ هذا الثَّوْبَ أو
لِتُقَصِّرَ أو لِتَخْبِزَ قَدَّمَ الْيَوْمَ أو أَخَّرَهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ
فَاسِدَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جَائِزَةٌ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ الدَّابَّةَ إلَى الْكُوفَةِ أَيَّامًا
مُسَمَّاةً فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْمَعْقُودَ عليه هو الْعَمَلُ لِأَنَّهُ هو الْمَقْصُودُ
وَالْعَمَلُ مَعْلُومٌ فَأَمَّا ذِكْرُ الْمُدَّةِ فَهُوَ التَّعْجِيلُ فلم تَكُنْ
الْمُدَّةُ مَعْقُودًا عليها فَذِكْرُهَا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ وإذا
وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ على الْعَمَلِ فَإِنْ فَرَغَ منه قبل تَمَامِ الْمُدَّةِ
أَيْ الْيَوْمَ فَلَهُ كَمَالُ الْأَجْرِ وَإِنْ لم يَفْرُغْ منه في الْيَوْمِ
فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَهُ في الْغَدِ كما إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا
لِيُقَطِّعَهُ وَيَخِيطَهُ قَمِيصًا على أَنْ يَفْرُغَ منه في يَوْمِهِ هذا أو
اكْتَرَى من رَجُلٍ إبِلًا إلَى مَكَّةَ على أَنْ يُدْخِلَهُ إلَى عِشْرِينَ
لَيْلَةٍ كُلُّ بَعِيرٍ بِعَشْرَةِ دَنَانِيرَ مَثَلًا ولم يَزِدْ على هذا أَنَّ
الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ ثُمَّ إنْ وَفَى بِالشَّرْطِ أَخَذَ الْمُسَمَّى وَإِنْ لم
يَفِ بِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ على ما شَرَطَهُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مَجْهُولٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ
أَمْرَيْنِ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عليه أَعْنِي
الْعَمَلَ وَالْمُدَّةَ أَمَّا الْعَمَلُ فَظَاهِرٌ وَكَذَا ذَكَرَ الْمُدَّةَ
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا لِلْخِبَازَةِ من غَيْرِ بَيَانِ
قَدْرِ ما يَخْبِزُ جَازَ وكان الْجَوَابُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ
الْمَعْقُودَ عليه الْمَنْفَعَةَ وَالْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ بِالْوَقْتِ وَلَا
يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا في كَوْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودًا عليه
لِأَنَّ حُكْمَهُمَا مُخْتَلِفٌ لِأَنَّ الْعَقْدَ على الْمُدَّةِ يَقْتَضِي
وُجُوبَ الْأَجْرِ من غَيْرِ عَمَلٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ أَجِيرًا خَالِصًا
وَالْعَقْدُ على الْعَمَلِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ لِأَنَّهُ
يَصِيرُ أَجِيرًا مُشْتَرَكًا فَكَانَ الْمَعْقُودُ عليه أَحَدَهُمَا وَلَيْسَ
أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى من الْآخَرِ فَكَانَ مَجْهُولًا وَجَهَالَةُ الْمَعْقُودِ
عليه تُوجِبُ فَسَادَ الْعَقْدِ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ لأنه قَوْلَهُ على
أَنْ يَفْرُغَ منه في يَوْمِي هذا ليس جَعْلُ الْوَقْتِ مَعْقُودًا عليه بَلْ هو
بَيَانُ صِفَةِ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو لم يَعْمَلْ في الْيَوْمِ وَعَمِلَ
في الْغَدِ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الْمِثْلِ
وَلَوْ قال أَجَرْتُك هذه الدَّارَ شَهْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ أو هذه
الْأُخْرَى شَهْرًا بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ أو كان هذا الْقَوْلُ في حَانُوتَيْنِ أو
عَبْدَيْنِ أو مَسَافَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِأَنْ قال أَجَرْتُك هذه
الدَّابَّةَ إلَى وَاسِطَ بِكَذَا أو إلَى مَكَّةَ بِكَذَا فَذَلِكَ جَائِزٌ
عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ
لَا يَجُوزُ قِيَاسًا
وَعَلَى هذا إذَا خَيَّرَهُ بين ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَإِنْ ذَكَرَ أَرْبَعَةً لم
يَجُزْ وَعَلَى هذا أَنْوَاعُ الْخِيَاطَةِ وَالصِّبْغِ أَنَّهُ إنْ ذَكَرَ
ثَلَاثَةً جَازَ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ ما زَادَ عليها كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ وهو
مَجْهُولٌ فَلَا يَصِحُّ وَلِهَذَا لم يَصِحَّ إذَا أُضِيفَ إلَى أَحَدِ
الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ
وَلَنَا أَنَّهُ خَيَّرَهُ بين عَقْدَيْنِ مَعْلُومَيْنِ في مَحَلَّيْنِ
مُتَقَوَّمَيْنِ بِبَدَلَيْنِ مَعْلُومَيْنِ كما لو قال إنْ رَدَدْت الْآبِقَ من
مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا وَإِنْ رَدَدْتَهُ من مَوْضِعِ كَذَا فَلَكَ كَذَا
وَكَمَا لو قال إنْ خيطت ( ( ( خطت ) ) ) هذا الثَّوْبَ فَبِدِرْهَمٍ وَإِنْ خيطت
( ( ( خطت ) ) ) هذا الْآخَرَ فَبِدِرْهَمٍ وَعَمَلُهُمَا سَوَاءٌ وَكَمَا لو قال
إنْ سِرْت على هذه الدَّابَّةِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ وَإِنْ سِرْت
إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبِدِرْهَمٍ وَالْمَسَافَةُ سَوَاءٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا أن الْعَقْدَ أُضِيفَ إلَى أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ من غَيْرِ
عَيْنٍ فَنَعَمْ لَكِنْ فُوِّضَ خِيَارُ التَّعْيِينِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ
وَمِثْلُ هذه الْجَهَالَةِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ كَجَهَالَةِ قَفِيزٍ
من الصُّبْرَةِ وَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ فَالْإِجَارَةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا
أَوْسَعُ من الْبَيْعِ
أَلَا تَرَى أنها تَقْبَلُ من الْخَطَرِ ما لَا يَقْبَلُهُ الْبَيْعُ وَلِهَذَا
جَوَّزُوا هذه الْإِجَارَةَ من غَيْرِ شَرْطِ الْخِيَارِ ولم يُجَوِّزُوا
الْبَيْعَ إلَّا بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَكَذَلِكَ إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ
ثَوْبًا فقال له إنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْتَهُ
رُومِيًّا فَلَكَ دِرْهَمَانِ أو قال لِصَبَّاغٍ إنْ صَبَغْت هذا الثَّوْبَ
بِعُصْفُرٍ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ صَبَغْته بِزَعْفَرَانٍ فَلَكَ دِرْهَمَانِ
فَذَلِكَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ خَيَّرَهُ بين إيفَاءِ مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ
فَلَا جَهَالَةَ وَلِأَنَّ الْأَجْرَ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا لَا يَجِبُ إلَّا
بِالْعَمَلِ وَحِينَ يَأْخُذُ في أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ تَعَيَّنَ ذلك الْأَجْرُ
وَهَذَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا عِنْدَ زُفَرَ الإجارة ( ( (
فالإجارة ) ) ) فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مَجْهُولٌ وَالْجَوَابُ ما
ذَكَرْنَاهُ
وَلَوْ
____________________
(4/185)
قال
أَجَرْتُك هذه الدَّارَ شَهْرًا على أَنَّك إنْ قَعَدْت فيها حَدَّادًا
فَأَجْرُهَا عَشْرَةٌ وَإِنْ بِعْت فيها الْخَزَّ فَخَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ
جَائِزَةٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْأَخِيرِ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
الْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أن الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِالسُّكْنَى وَإِنَّمَا يَجِبُ
بِالتَّسْلِيمِ وهو التَّخْلِيَةُ وَحَالَةُ التَّخْلِيَةِ لَا يَدْرِي ما
يَسْكُنُ فَكَانَ الْبَدَلُ عِنْدَهُ مَجْهُولًا بِخِلَافِ الرُّومِيِّ
وَالْفَارِسِيِّ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَجِبُ بِابْتِدَاءِ الْعَمَلِ وَلَا
بُدَّ وَأَنْ يبتدىء بِأَحَدِ الْعَمَلَيْنِ وَعِنْدَ ذلك يَتَعَيَّنُ الْبَدَلُ
وَيَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ وُجُودِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ خُيِّرَ بين مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ
فَيَجُوزُ كما في خِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ
السُّكْنَى وَعَمَلَ الْحِدَادَةِ مختلفتان ( ( ( مختلفان ) ) ) وَالْعَقْدُ على
وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ على الِانْفِرَادِ فَكَذَا على الْجَمْعِ
وَقَوْلُهُمَا بِأَنَّ الْأَجْرَ هَهُنَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ من غَيْرِ عَمَلٍ
مُسَلَّمٌ لَكِنَّ الْعَمَلَ يُوجَدُ ظَاهِرًا وغلبا ( ( ( وغالبا ) ) ) لِأَنَّ
الِانْتِفَاعَ عِنْدَ التَّمْكِينِ من الِانْتِفَاعِ هو الْغَالِبِ فَلَا يَجِبُ
الِاحْتِرَازُ عنه على أَنَّ بِالتَّخْلِيَةِ وهو التَّمَكُّنُ من الِانْتِفَاعِ
يَجِبُ أَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَجِبُ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ
ولم تُوجَدْ زِيَادَةُ الضَّرَرِ وَأَقَلُّ الْأَجْرَيْنِ مَعْلُومٌ فَلَا
يُؤَدِّي إلَى الْجَهَالَةِ وَهَذَا جَوَابُ إمَامِ الْهُدَى الشَّيْخِ أبي
مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ كُلُّ ما كان أَجْرُهُ يَجِبُ
بِالتَّسْلِيمِ وَلَا يُعْلَمُ الْوَاجِبُ بِهِ وَقْتَ التَّسْلِيمِ فَهُوَ
بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ الْعَقْدُ جَائِزٌ وَأَيُّ التَّعْيِينِ استوفى وَجَبَ
أَجْرُ ذلك كما سمى وَإِنْ أَمْسَكَ الدَّارَ ولم يَسْكُنْ فيها حتى مَضَتْ
الْمُدَّةُ فَعَلَيْهِ أَقَلُّ الْمُسَمَّيَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الزِّيَادَةَ إنَّمَا تَجِبُ باستفاء ( ( ( باستيفاء ) ) ) مَنْفَعَةٍ زَائِدَةٍ
ولم يُوجَدْ ذلك فَلَا يَجِبُ بِالتَّسْلِيمِ وهو التَّخْلِيَةُ إلَّا أَقَلُّ
الْأَجْرَيْنِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ على أَنَّهُ
إنْ حَمَلَ عليها شَعِيرًا فَبِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَإِنْ حَمَلَ عليها حِنْطَةً
فَبِدِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ الْآخَرِ وَعَلَى
قَوْلِهِمَا لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الْحِيرَةِ
بِدِرْهَمٍ وَإِلَى الْقَادِسِيَّةِ بِدِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَهُ
وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَوْ
اسْتَأْجَرَ دَابَّةً من بَغْدَادَ إلَى الْقَصْرِ بِخَمْسَةٍ وَإِلَى الْكُوفَةِ
بِعَشْرَةٍ
قال مُحَمَّدٌ لو كانت الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ النِّصْفَ من الطَّرِيقِ إلَى
الْكُوفَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَإِنْ كانت أَقَلَّ أو أَكْثَرَ فَهِيَ
فَاسِدَةٌ على أَصْلِهِمَا لِأَنَّ الْمَسَافَةَ إذَا كانت النِّصْفَ فَحَالَ ما
يَسِيرُ يَصِيرُ الْبَدَلُ مَعْلُومًا لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ أو إلَى
الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ خَمْسَةٌ فَأَمَّا إذَا كانت
الْمَسَافَةُ إلَى الْقَصْرِ أَقَلَّ من النِّصْفِ أو أَكْثَرَ فَالْأُجْرَةُ
حَالَ ما يَسِيرُ مَجْهُولَةٌ لِأَنَّهُ إنْ سَارَ إلَى الْقَصْرِ فَالْأُجْرَةُ
خَمْسَةٌ وَإِنْ سَارَ إلَى الْكُوفَةِ فَالْأُجْرَةُ إلَى الْقَصْرِ بِحِصَّتِهِ من
الْمَسَافَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ وُجُوبِهَا تُفْسِدُ
الْعَقْدَ عِنْدَهُمَا فَأَمَّا على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ
لِأَنَّهُ سَمَّى مَنْفَعَتَيْنِ مَعْلُومَتَيْنِ لأنه كُلَّ واحدة مِنْهُمَا
بَدَلٌ مَعْلُومٌ
وَلَوْ أَعْطَى خَيَّاطًا ثَوْبًا فقال إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ
وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ قال أبو حَنِيفَةَ الشَّرْطُ
الْأَوَّلُ صَحِيحٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ حتى لو خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ
وَإِنْ خَاطَهُ غَدًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ على ما نَذْكُرُ تَفْسِيرُهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ
وقال زُفَرُ الشَّرْطَانِ بَاطِلَانِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ فَنَتَكَلَّمُ
مع زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُمَا خَالَفَا
أَصْحَابَنَا الثَّلَاثَةَ فيه
وَالْوَجْهُ لَهُمَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مَجْهُولٌ
وَلَنَا أَنَّهُ سَمَّى في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا
مَعْلُومًا وَفَسَادُ الشَّرْطِ الثَّانِي لَا يُؤَثِّرُ في الشَّرْطِ الْأَوَّلِ
كَمَنْ عَقَدَ إجَارَةً صَحِيحَةً وَإِجَارَةً فَاسِدَةً
وَأَمَّا الْيَوْمُ الثَّانِي فَوَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ على نَحْوِ
ما ذَكَرْنَا في الْيَوْمِ الأولى ( ( ( الأول ) ) ) أَنَّهُ سمى في الْيَوْمِ
الثَّانِي عَمَلًا مَعْلُومًا وَبَدَلًا مَعْلُومًا كما في الْأَوَّلِ فَلَا
مَعْنَى لِفَسَادِ الْعَقْدِ فيه ( ( ( به ) ) ) كما لَا يَفْسُدُ في الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلَانِ
مُتَفَاوِتَانِ في الْقَدْرِ لِأَنَّ الْبَدَلَ الْمَذْكُورَ في الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ جُعِلَ مَشْرُوطًا في الْيَوْمِ الثَّانِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لو لم
يذكر لِلْيَوْمِ الثَّانِي بَدَلًا آخَرَ وَعَمِلَ في الْيَوْمِ الثَّانِي
يَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى في الْأَوَّلِ فَلَوْ لم يَجْعَلْ الْمَذْكُورَ من
الْبَدَلِ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطًا في الثَّانِي لَمَا اسْتَحَقَّ
الْمُسَمَّى وإذا اجْتَمَعَ بَدَلَانِ في الْيَوْمِ الثَّانِي صَارَ كَأَنَّهُ قال
في الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَكَ دِرْهَمٍ أو نِصْفُ دِرْهَمٍ فَكَانَ الْأَجْرُ
مَجْهُولًا فَوَجَبَ فَسَادُ الْعَقْدِ فإذا خَاطَهُ في الْيَوْمِ الثَّانِي
فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُزَادُ على دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ من نِصْفِ
دِرْهَمٍ هَكَذَا ذَكَرَ في الْأَصْلِ وفي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْإِمْلَاءِ وهو إحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ في
نَوَادِرِهِ عن أبي يُوسُفَ وَإِحْدَى رِوَايَتَيْ ابْنِ سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ
عن مُحَمَّدٍ وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ في نَوَادِرِهِ عن أبي يُوسُفَ عن أبي
حَنِيفَةَ في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ له في الْيَوْمِ الثَّانِي أَجْرَ مِثْلِهِ
لَا يُزَادُ على نِصْفِ دِرْهَمٍ
____________________
(4/186)
وَذَكَرَ
الْقُدُورِيُّ أَنَّ هذه الرِّوَايَةَ هِيَ الصَّحِيحَةُ
وَوَجْهُهَا أَنَّ الْوَاجِبَ في الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا
يُزَادُ على الْمُسَمَّى وَالْمُسَمَّى في الْيَوْمِ الثَّانِي نِصْفُ دِرْهَمٍ
لَا دِرْهَمٌ إنَّمَا الدِّرْهَمُ مُسَمًّى في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ
عَقْدٌ آخَرُ فَلَا يُعْتَبَرُ فيه
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ اجْتَمَعَ في الْغَدِ تَسْمِيَتَانِ لِأَنَّ
التَّسْمِيَةَ الْأُولَى عِنْدَ مَجِيءِ الْغَدِ قَائِمَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا
فَيُعْمَلُ بها ( ( ( بهما ) ) ) فَتُعْتَبَرُ الْأُولَى لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ
وَالثَّانِيَةُ لِمَنْعِ النُّقْصَانِ فَإِنْ خَاطَ نِصْفَهُ في الْيَوْمِ
الْأَوَّلِ وَنِصْفَهُ في الْغَدِ فَلَهُ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ
في الْيَوْمِ الأول وَأَجْرُ الْمِثْلِ لِأَجْلِ خِيَاطَتِهِ في الْغَدِ لَا
يُزَادُ على دِرْهَمٍ وَلَا يُنْقَصُ عن نِصْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ خَاطَهُ في
الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَقَدْ رَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ عن أبي حَنِيفَةَ
أَنَّ له أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ دِرْهَمٍ لِأَنَّ صَاحِبَ
الثَّوْبِ لم يَرْضَ بِتَأْخِيرِهِ إلَى الْغَدِ بِأَكْثَرَ من النِّصْفِ
فَبِتَأْخِيرِهِ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَوْلَى
فَإِنْ قال إنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَا
أَجْرَ لَك ذَكَرَ مُحَمَّدٌ في إمْلَائِهِ أَنَّهُ إنْ خَاطَهُ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ
فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ في الْيَوْمِ الثَّانِي فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ
لَا يُزَادُ على دِرْهَمٍ لِأَنَّ إسْقَاطَهُ في الْيَوْمِ الثَّانِي لَا يَنْفِي
وُجُوبَهُ في الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَنَفْيُ التَّسْمِيَةِ في الْيَوْمِ الثَّانِي
لَا يَنْفِي أَصْلَ الْعَقْدِ فَكَانَ في الْيَوْمِ الثَّانِي عَقْدٌ لَا
تَسْمِيَةَ فيه وَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ
وَلَوْ قال إنْ خِطْته أنت فَأَجْرُكَ دِرْهَمٌ وَإِنْ خَاطَهُ تِلْمِيذُكَ
فَأَجْرُك نِصْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَالْخِيَاطَةُ الرُّومِيَّةُ
وَالْفَارِسِيَّةُ سَوَاءٌ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا شَهْرًا بِعَشْرَةِ
دَرَاهِمَ على أَنَّهُ إنْ سَكَنَهَا يَوْمًا ثُمَّ خَرَجَ فَعَلَيْهِ عَشْرَةُ
دَرَاهِمَ فَهُوَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه مَجْهُولٌ وهو سُكْنَى شَهْرٍ
أو يَوْمٍ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا لِأَنَّ
الْعَقْدَ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى الْمَعْقُودِ بِدُونِهِ فَلَا يَجُوزُ
اسْتِئْجَارُ الْآبِقِ لِأَنَّهُ لَا يُقْدَرُ على اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَتِهِ
حَقِيقَةً لِكَوْنِهِ مَعْجُوزَ التَّسْلِيمِ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لم يَجُزْ
بَيْعُهُ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْمَغْصُوبِ من غَيْرِ الْغَاصِبِ كما لَا
يَجُوزُ بَيْعُهُ من غَيْرِهِ لِمَا قُلْنَا
وَعَلَى هذا يخرج ( ( ( تخرج ) ) ) إجَارَةُ الْمَشَاعِ من غَيْرِ الشَّرِيكِ أنها
غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
وَالشَّافِعِيُّ أنها جَائِزَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أن الْإِجَارَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْبَيْعِ فَيُعْتَبَرُ
بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وهو بَيْعُ الْعَيْنِ وأنه جَائِزٌ في الْمَشَاعِ كَذَا هذا
فَلَوْ امْتَنَعَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةٍ بِسَبَبِ
الشِّيَاعِ وَالْمَشَاعُ مَقْدُورُ الِانْتِفَاعِ بِالْمُهَايَأَةِ وَلِهَذَا
جَازَ بَيْعُهُ وَكَذَا يَجُوزُ من الشَّرِيكِ أو من الشُّرَكَاءِ في صَفْقَةٍ
وَاحِدَةٍ فَكَذَا من الْأَجْنَبِيِّ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الشُّيُوعَ الطاريء لَا يُفْسِدُ الْإِجَارَةَ فَكَذَا
الْمُقَارِنُ لِأَنَّ الطارىء في بَابِ الْإِجَارَةِ مُقَارِنٌ لِأَنَّ
الْمَعْقُودَ عليه الْمَنْفَعَةُ وَأَنَّهَا تَحْدُثُ شيئا فَشَيْئًا فَكَانَ
كُلُّ جُزْءٍ يَحْدُثُ مَعْقُودًا عليه مُبْتَدَأً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشَاعِ غَيْرُ مقدور ( ( ( مقدورة ) ) )
الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا بِتَسْلِيمِ الْمَشَاعِ وَالْمَشَاعُ
غَيْرُ مَقْدُورٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِسَهْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ وَغَيْرُ
الْمُعَيَّنِ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا
يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ بِتَسْلِيمِ الْبَاقِي وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْقُودٍ عليه
فَلَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهُ شَرْعًا
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا أنه يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ مَنْفَعَةِ الْمَشَاعِ بالتهايىء (
( ( بالتهايؤ ) ) ) فَنَقُولُ لَا يُمْكِنُ على الْوَجْهِ الذي يَقْتَضِيهِ
الْعَقْدُ وهو الِانْتِفَاعُ بِالنِّصْفِ في كل الْمُدَّةِ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ
بِالزَّمَنِ انْتِفَاعٌ بِالْكُلِّ في نِصْفِ الْمُدَّةِ وذا ليس بِمُقْتَضَى
الْعَقْدِ وَالتَّهَايُؤُ بِالْمَكَانِ انْتِفَاعٌ بِرَفْعِ الْمُسْتَأْجَرِ في كل
الْمُدَّةِ لِأَنَّ نِصْفَ هذا النِّصْفِ له بِالْمِلْكِ وَنِصْفَهُ على طَرِيقِ
الْبَدَلِ عَمَّا في يَدِ صَاحِبِهِ وَأَنَّهُ ليس بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ أَيْضًا
فَإِذًا لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عليه على الْوَجْهِ الذي يَقْتَضِيه
الْعَقْدُ أَصْلًا وَرَأْسًا فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عليه مَقْدُورَ
الِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً وَشَرْعًا وَلِأَنَّ تَجْوِيزَ هذا الْعَقْدِ
بِالْمُهَايَأَةِ يُؤَدِّي إلَى الدَّوْرِ لِأَنَّهُ لَا مُهَايَأَةَ إلَّا بَعْدَ
ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْعَقْدِ وَلَا عَقْدَ
إلَّا بَعْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ وهو الْقُدْرَةُ على التَّسْلِيمِ فَيَتَعَلَّقُ
كُلُّ وَاحِدٍ بِصَاحِبِهِ فَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِخِلَافِ الْبَيْعِ
لِأَنَّ كَوْنَ الْمَبِيعِ مَقْدُورَ الِانْتِفَاعِ ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِ
الْبَيْعِ فإن بَيْعَ الْمُهْرِ وَالْجَحْشِ وَالْأَرْضِ السَّبْخَةِ جَائِزٌ
وَإِنْ لم يَكُنْ مُنْتَفَعًا بها وَلِهَذَا يَدْخُلُ الشِّرْبُ وَالطَّرِيقُ في
الْإِجَارَةِ من غَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا يَدْخُلَانِ في الْبَيْعِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ
لِأَنَّ كَوْنَ الْمُسْتَأْجِرِ مُنْتَفِعًا بِهِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ صِحَّةِ
الْإِجَارَةِ وَلَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ
بِخِلَافِ الْبَيْعِ
وَأَمَّا الْإِجَارَةُ من الشَّرِيكِ فَعَنْ أبي حَنِيفَةَ فيه رِوَايَتَانِ وَلَئِنْ
سَلَّمْنَا على الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ فَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عليه هُنَاكَ
مَقْدُورُ الِاسْتِيفَاءِ بِدُونِ الْمُهَايَأَةِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كل الدَّارِ
تَحْدُثُ على مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لَكِنْ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
بَعْضُهَا بِسَبَبِ الْمِلْكِ وَبَعْضُهَا بِسَبَبِ الْإِجَارَةِ
وَكَذَا الشُّيُوعُ الطاريء فيه رِوَايَتَانِ عن أبي حَنِيفَةَ وفي رِوَايَةٍ
تَفْسُدُ الْإِجَارَةُ كَالْمُقَارِنِ
____________________
(4/187)
وفي
رِوَايَةٍ لَا تَفْسُدُ وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عنه وَوَجْهُهَا أَنَّ
عَدَمَ الشُّيُوعِ عِنْدَهُ شَرْطُ جَوَازِ هذا الْعَقْدِ وَلَيْسَ كُلُّ ما
يُشْتَرَطُ لِابْتِدَاءِ الْعَقْدِ يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهِ كَالْخُلُوِّ عن
الْعِدَّةِ فإن الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ ولاتمنع الْبَقَاءَ
كَذَا هذا وَسَوَاءٌ كانت الدَّارُ كُلُّهَا لِرَجُلٍ فَأَجَرَ نِصْفَهَا من
رَجُلٍ أو كانت بين اثْنَيْنِ فَأَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبُهُ من رَجُلٍ كَذَا
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في جَامِعِهِ نَصًّا عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا
تَجُوزُ في الْوَجْهَيْنِ جميعا
ذَكَرَ أبو طَاهِرٍ الدَّبَّاسُ أَنَّ إجَارَةَ الْمَشَاعِ إنَّمَا لَا تَجُوزُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إذَا أَجَرَ الرَّجُلُ بَعْضَ مِلْكِهِ فَأَمَّا إذَا أَجَرَ
أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ فَالْعَقْدُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ في
الصُّورَةِ الْأُولَى تَقَعُ الْمُهَايَأَةُ بين الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ المؤاجر
فتكون الدار في يد المستأجر مدة وفي يد الْمُؤَاجِرِ مُدَّةً وَلَا يَجُوزُ أَنْ
يَسْتَحِقَّ الْمُؤَاجِرُ الْأَجْرَ مع كَوْنِ الدَّارِ في يَدِهِ
وَالْمُهَايَأَةُ في الصُّورَةِ الثَّانِيَةِ إنَّمَا تَقَعُ بين الْمُسْتَأْجِرِ
وَبَيْنَ غَيْرِ الْمُؤَاجِرِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ
لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ في يَدِ غَيْرِ الْمُسْتَأْجِرِ وَأُجْرَتُهَا
عليه كما لو أَعَارَهَا ثُمَّ أَجَرَهَا
وَالصَّحِيحُ ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَانِعِ
يَعُمُّ الْوَجْهَيْنِ جميعا وَسَوَاءٌ كان الْمُسْتَأْجَرُ مُحْتَمِلًا
لِلْقِسْمَةِ أو لَا لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْجَوَازِ لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ
بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فإن الْمَانِعَ ثَمَّةَ خَصَّ الْمُحْتَمِلَ
لِلْقِسْمَةِ وهو ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الْهِبَةِ
وَلَوْ آجَرَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَقُسِّمَ وَسَلِمَ جَازَ لِأَنَّ
الْمَانِعَ قد زَالَ كما لو بَاعَ الْجِذْعَ في السَّقْفِ ثُمَّ نَزَعَ وَسَلِمَ
وَكَمَا لو وَهَبَ مَشَاعًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ثُمَّ قُسِمَ وَسَلِمَ فَإِنْ
اخْتَصَمَا قبل الْقِسْمَةِ فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قُسِمَ
وَسَلِمَ بَعْدَ ذلك لم يَجُزْ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ من
الْأَصْلِ بِإِبْطَالِ الْحَاكِمِ فَلَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ إلَّا
بِالِاسْتِئْنَافِ وَيَجُوزُ إجَارَةُ الإثنين من وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ
تَدْخُلُ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً من غَيْرِ شُيُوعٍ
وَيَسْتَوْفِيهَا من غَيْرِ مُهَايَأَةٍ
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُؤَاجِرَيْنِ حتى انْقَضَتْ الْإِجَارَةُ في حِصَّتِهِ
لَا تُنْقَضُ في حِصَّةِ الْحَيِّ وَإِنْ صَارَتْ مُشَاعَةً وهو الْمُسَمَّى
بِالشُّيُوعِ الطارىء لِمَا ذَكَرْنَا وَكَذَا يَجُوزُ رَهْنُ الإثنين من وَاحِدٍ
وَهِبَةُ الإثنين من وَاحِدٍ لِعَدَمِ الشُّيُوعِ عِنْدَ الْقَبْضِ وَكَذَا
تَجُوزُ إجَارَةُ الْوَاحِدِ من الإثنين لِأَنَّ الْمَنَافِعَ تَخْرُجُ من مِلْكِ
الْآجِرِ جُمْلَةً وَاحِدَةً من غَيْرِ شِيَاعٍ ثُمَّ ثَبَتَ الشِّيَاعُ
لِضَرُورَةِ تَفَرُّقِ مِلْكَيْهِمَا في الْمَنْفَعَةِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ قِسْمَةَ
الْمَنْفَعَةِ بالتهايىء ( ( ( بالتهايؤ ) ) ) فَيَنْعَدِمُ الشُّيُوعُ
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجِرِينَ حتى انقضت ( ( ( انتقضت ) ) )
الْإِجَارَةُ في حِصَّتِهِ بَقِيَتْ في حِصَّةِ الْحَيِّ كما كانت وَيَجُوزُ
رَهْنُ الْوَاحِدِ من اثْنَيْنِ أَيْضًا لِأَنَّ الرَّهْنَ شُرِعَ وَثِيقَةً
بِالدَّيْنِ فَجَمِيعُ الرَّهْنِ يَكُونُ وَثِيقَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ من
الْمُرْتَهِنِينَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَضَى الرَّاهِنُ دَيْنَ أَحَدِهِمَا لم
يَكُنْ له أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ الرَّهْنِ
وَأَمَّا هِبَةُ الْوَاحِدِ من اثْنَيْنِ فَإِنَّمَا لَا تَجُوزُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمِلْكَ في بَابِ الْهِبَةِ يَقَعُ بِالْقَبْضِ وَالشُّيُوعُ
ثَابِتٌ عِنْدَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ يَمْنَعُ من الْقَبْضِ فَيَمْنَعُ من وُقُوعِ
الْمِلْكِ على ما نَذْكُرُ في كِتَابِ الْهِبَةِ
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فيها زَرْعٌ لِلْآجِرِ أو شَجَرٌ أو قَصَبٌ أو كَرْمٌ
أو ما يَمْنَعُ من الزِّرَاعَةِ لم تَجُزْ لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِمَالِ
الْمُؤَاجِرِ فَلَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُهُ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عليه
مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فلم تَجُزْ كما لو اشْتَرَى جِذْعًا في سَقْفٍ
وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فيها رُطَبَةٌ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ
لَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِضَرَرٍ وهو قَلْعُ الرُّطَبَةِ فَلَا يُجْبَرُ
على الْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فلم تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَقْدُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ
شَرْعًا فلم تَجُزْ كما لو اشْتَرَى جِذْعًا في سَقْفٍ فَإِنْ قَلَعَ رَبُّ
الْأَرْضِ الرُّطَبَةَ فقال لِلْمُسْتَأْجِرِ أقبض الْأَرْضَ فَقَبَضَهَا فَهُوَ
جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَانِعَ قد زَالَ فَصَارَ كَشِرَاءِ الْجِذْعِ في السَّقْفِ
إذَا نَزَعَهُ الْبَائِعُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَإِنْ اخْتَصَمَا قبل
ذلك فَأَبْطَلَ الْحَاكِمُ الْإِجَارَةَ ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ بَعْدَ ذلك لم
يَصِحَّ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْعَقْدَ قد بَطَلَ بأبطال الْحَاكِمِ فَلَا
يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَإِنْ مَضَى من مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يَوْمٌ أو يَوْمَانِ
قبل أَنْ يَخْتَصِمَا ثُمَّ قَلَعَ الرُّطَبَةَ فَالْمُسْتَأْجِرُ بِالْخِيَارِ
إنْ شَاءَ قَبَضَهَا على تِلْكَ الْإِجَارَةِ وَطَرَحَ عنه ما لم يَقْبِضْ وَإِنْ
شَاءَ لم يَقْبِضْ فَرْقًا بين هذا وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا سَلَّمَهَا
الْمُؤَاجِرُ في بَعْضِ الْمُدَّةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ لَا يَكُونُ له خِيَار
التَّرْك
وَوَجْه الْفَرْقِ أَنَّ الْمَقْصُودَ من إجَارَةِ الْأَرْضِ الزِّرَاعَةُ
وَالزِّرَاعَةُ لَا تُمْكِنُ في جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بَلْ في بَعْضِ الْأَوْقَاتِ
دُونَ بَعْضٍ وَتَخْتَلِفُ بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَالْمُدَّةُ
الْمَذْكُورَةُ فيها يَقِفُ بَعْضُهَا على بَعْضٍ وَيَكُونُ الْكُلُّ كَمُدَّةٍ
وَاحِدَةٍ فإذا مَضَى بَعْضُهَا فَقَدْ تُغَيَّرُ عليه صِفَةُ الْعَقْدِ
لِاخْتِلَافِ الْمَعْقُودِ فَكَانَ له الْخِيَارُ بِخِلَافِ إجَارَةِ الدَّارِ
لِأَنَّ الْمَقْصُودَ منها السُّكْنَى وَسُكْنَى كل يَوْمٍ لَا تَعَلُّقَ له
بِيَوْمٍ آخَرَ فَلَا يَقِفُ بَعْضُ الْمُدَّةِ فيها على بَعْضٍ فَلَا يُوجِبُ
خَلَلًا في الْمَقْصُودِ من الْبَاقِي فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلَوْ اشْتَرَى
أَطْرَافَ رُطَبَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ لِتَبْقِيَةِ ذلك لم تَجُزْ
____________________
(4/188)
الْإِجَارَةُ
لِأَنَّ أَصْلَ الرُّطَبَةِ مِلْكُ الْمُؤَاجِرِ فَكَانَتْ الْأَرْضُ مَشْغُولَةً
بِمِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَاسْتِئْجَارُ بُقْعَةٍ مَشْغُولَةٍ بِمَالِ الْمُؤَاجِرِ
لم تَصِحَّ لِأَنَّ كَوْنَهَا مَشْغُولَةً بِمِلْكِهِ يَمْنَعُ التَّسْلِيمَ
فَيَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عليه كَاسْتِئْجَارِ أَرْضٍ فيها زَرْعُ
الْمُؤَاجِرِ
وَلَوْ اشْتَرَى الرُّطَبَةَ بِأَصْلِهَا لِيَقْلَعَهَا ثُمَّ اسْتَأْجَرَ
الْأَرْضَ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِتَبْقِيَتِهَا جَازَ لِأَنَّ الْأَرْضَ هَهُنَا
مَشْغُولَةٌ بِمَالِ الْمُسْتَأْجِرِ وَذَا لَا يَمْنَعُ الْإِجَارَةَ كما لو
اسْتَأْجَرَ ما هو في يَدِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى شَجَرَةً فيها ثَمَرٌ بِثَمَرِهَا على أَنْ يَقْلَعَهَا
ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ فَبَقَّاهَا فيها جَازَ لِمَا قلناه ( ( ( قلنا ) ) )
قال مُحَمَّدٌ وَإِنْ اسْتَعَارَ الْأَرْضَ في ذلك كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ
الْمَالِكَ بِالْإِعَارَةِ أَبَاحَ الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِهِ فَيَجُوزُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما ذَكَرْنَا أَيْضًا من اسْتِئْجَارِ الْفَحْلِ للإنزال (
( ( للإنزاء ) ) ) وَاسْتِئْجَارِ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْبَازِي
الْمُعَلَّمِ لِلِاصْطِيَادِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ
الْمَطْلُوبَةَ منه غَيْرُ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ إذْ لَا يُمْكِنُ إجْبَارُ
الْفَحْلِ على الضِّرَابِ وَالْإِنْزَالِ وَلَا إجْبَارُ الْكَلْبِ وَالْبَازِي
على الصَّيْدِ فلم تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ التي هِيَ مَعْقُودٌ عليها مَقْدُورَةَ
الِاسْتِيفَاءِ في حَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ فلم تَجُزْ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ اسْتِئْجَارُ الْإِنْسَانِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ أَنَّهُ
لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ بِوَاحِدٍ بَلْ
بِالْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فَلَا يَقْدِرُ الْأَجِيرُ على إيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ
بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ على الِاسْتِيفَاءِ فَصَارَ كما لو
اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحْمِلَ خَشَبَةً بِنَفْسِهِ وهو لَا يَقْدِرُ على
حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ وَلَوْ ضَرَبَ لِذَلِكَ مُدَّةً بِأَنْ اسْتَأْجَرَهُ
شَهْرًا لِيَبِيعَ له وَيَشْتَرِيَ جَازَ لِمَا مَرَّ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ على تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالصَّنَائِعِ
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَجِيرَ لَا يَقْدِرُ على إيفَاءِ الْعَمَلِ
بِنَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ الْمُسْتَأْجِرُ على الإستيفاء وَإِنْ شِئْتَ أَفْرَدْت
لِجِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ شَرْطًا فَقُلْت وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ
الْمُسْتَأْجَرُ له مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ من الْعَامِلِ بِنَفْسِهِ وَلَا
يَحْتَاجُ فيه إلَى غَيْرِهِ وَخُرِّجَتْ الْمَسَائِلُ عليه وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ
إلَى الصِّنَاعَةِ فَافْهَمْ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ على الْمَعَاصِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ على مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مَقْدُورَةِ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا
كَاسْتِئْجَارِ الْإِنْسَانِ لِلَّعِبِ وَاللَّهْوِ وَكَاسْتِئْجَارِ
الْمُغَنِّيَةِ وَالنَّائِحَةِ لِلْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ
لِكِتَابَةِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ أَنَّهُ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَمْنُوعَ عنه
نَفْسُ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ لَا كِتَابَتُهُمَا وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ رَجُلًا
لِيَقْتُلَ له رَجُلًا أو لِيَسْجُنَهُ أو لِيَضْرِبَهُ ظُلْمًا وَكَذَا كُلُّ
إجَارَةٍ وَقَعَتْ لِمَظْلَمَةٍ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ
فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عليه مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ شَرْعًا فَإِنْ كان ذلك
بِحَقٍّ بِأَنْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِقَطْعِ عُضْوٍ جَازَ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ
الِاسْتِيفَاءِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَضَعَ السِّكِّينَ
عليه فَيَقْطَعَهُ
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِقِصَاصٍ في النَّفْسِ لم يَجُزْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَتَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هو يقول اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ
بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ هو حَزُّ الرَّقَبَةِ وَالرَّقَبَةُ مَعْلُومَةٌ فَكَانَ
الْمَعْقُودُ عليه مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِذَبْحِ
الشَّاةِ وَقَطْعِ الْيَدِ وَهُمَا يَقُولَانِ أن الْقَتْلَ بِضَرْبِ الْعُنُقِ
يَقَعُ على سَبِيلِ التَّجَافِي عن الْمَضْرُوبِ فلربما ( ( ( فربما ) ) ) يُصِيبُ
الْعُنُقَ وَرُبَّمَا يَعْدِلُ عنه إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ أَصَابَ كان مَشْرُوعًا
وَإِنْ عَدَلَ كان مَحْظُورًا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُثْلَةً وَإِنَّهَا غَيْرُ
مَشْرُوعَةٍ بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ على تَشْقِيقِ الْحَطَبِ لِأَنَّهُ وَإِنْ
كان ذلك يَقَعُ على سَبِيلِ التَّجَافِي فَكُلُّهُ مُبَاحٌ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ
فلم يَكُنْ هذا النَّوْعُ من الْمَنْفَعَةِ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ
كَذَلِكَ الْقَطْعُ وَالذَّبْحُ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَقَعُ بِوَضْعِ السِّكِّينِ
على مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ من الْيَدِ وهو الْمِفْصَلُ وَإِمْرَارِهِ عليه وَكَذَلِكَ
الذَّبْحُ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ من مُسْلِمٍ بِيعَةً لِيُصَلِّيَ فيها لم يَجُزْ
لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِفِعْلِ الْمَعْصِيَةِ وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ ذِمِّيٌّ
من ذِمِّيٍّ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيِّ دَارًا من مُسْلِمٍ
وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فيها من غَيْرِ جَمَاعَةٍ أو يَتَّخِذَهَا مُصَلًّى
لِلْعَامَّةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ
ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا لِيَخْدُمَهُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يَجُوزُ وَأَكْرَهُ
لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةَ الذِّمِّيِّ أَمَّا الْكَرَاهَةُ فَلِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ
اسْتِذْلَالٌ فكان إجَارَةَ الْمُسْلِمِ نَفْسَهُ منه إذْلَالًا لِنَفْسِهِ
وَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ خُصُوصًا بِخِدْمَةِ الْكَافِرِ
وَأَمَّا الْجَوَازُ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجُوزُ كَالْبَيْعِ وقال
أبو حَنِيفَةَ أَكْرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الرَّجُلُ امْرَأَةً حُرَّةً
يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بها وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ أَمَّا الْخَلْوَةُ فَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ بِالْمَرْأَةِ
الْأَجْنَبِيَّةِ مَعْصِيَةٌ وَأَمَّا الِاسْتِخْدَامُ فَلِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ معه
الِاطِّلَاعُ عليها وَالْوُقُوعُ في الْمَعْصِيَةِ
وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِنَقْلِ الْمَيْتَاتِ وَالْجِيَفِ وَالنَّجَاسَاتِ
لِأَنَّ فيه رَفْعَ أَذِيَّتِهَا عن الناس فَلَوْ لم تَجُزْ لَتَضَرَّرَ بها الناس
وقال ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قال لَا بَأْسَ بِأُجْرَةِ الْكَنَّاسِ
____________________
(4/189)
أَرَأَيْت
لو اسْتَأْجَرَهُ لِيُخْرِجَ له حِمَارًا مَيِّتًا أَمَا يَجُوزُ ذلك وَيَجُوزُ
الِاسْتِئْجَارُ على نَقْلِ الْمَيِّتِ الْكَافِرِ إلَى الْمَقْبَرَةِ لِأَنَّهُ
جِيفَةٌ فَيَدْفَعُ أَذِيَّتَهَا عن الناس كَسَائِرِ الْأَنْجَاسِ
وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ على نَقْلِهِ من بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَقَدْ قال
مُحَمَّدٌ اُبْتُلِينَا بِمَسْأَلَةِ مَيِّتٍ مَاتَ من الْمُشْرِكِينَ
فَاسْتَأْجَرُوا له من يَحْمِلُهُ إلَى مَوْضِعٍ فَيَدْفِنُهُ في غَيْرِ
الْمَوْضِعِ الذي مَاتَ فيه أَرَادَ بِذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرُوا له من يَنْقُلُهُ
من بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فقال أبو يُوسُفَ لَا أَجْرَ له وَقُلْت أنا إنْ كان
الْحَمَّالُ الذي حَمَلَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ جِيفَةٌ فَلَا أَجْرَ له وَإِنْ لم
يَعْلَمْ فَلَهُ الْأَجْرُ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أن الْأَجِيرَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ جِيفَةٌ فَقَدْ نَقَلَ
ما لَا يَجُوزُ له نَقْلُهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وإذا لم يَعْلَمْ فَقَدْ
غَرُّوهُ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْغَرُورُ يُوجِبُ الضَّمَانَ
وَلِأَبِي يُوسُفَ أن الْأَصْلَ أَنْ لَا يَجُوزَ نَقْلُ الْجِيفَةِ وَإِنَّمَا
رُخِّصَ في نَقْلِهَا لِلضَّرُورَةِ وَهِيَ ضَرُورَةُ رَفْعِ أَذِيَّتِهَا وَلَا
ضَرُورَةَ في النَّقْلِ من بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَبَقِيَ على أَصْلِ الْحُرْمَةِ
كَنَقْلِ الْمَيْتَةِ من بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ
وَمَنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا يَحْمِلُ له الْخَمْرَ فَلَهُ الْأَجْرُ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا أَجْرَ له كَذَا ذَكَرَ في
الْأَصْلِ وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ يَطِيبُ له الْأَجْرُ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُكْرَهُ لَهُمَا أَنَّ هذه إجَارَةٌ على
الْمَعْصِيَةِ لِأَنَّ حَمْلَ الْخَمْرِ مَعْصِيَةٌ لِكَوْنِهِ إعَانَةً على
الْمَعْصِيَةِ وقد قال اللَّهُ عز وجل { وَلَا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ } وَلِهَذَا لَعَنَ اللَّهُ تَعَالَى عَشْرَةً منهم حَامِلُهَا
وَالْمَحْمُولُ إلَيْهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أن نَفْسَ الْحَمْلِ ليس بِمَعْصِيَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ
حَمْلَهَا لِلْإِرَاقَةِ وَالتَّخْلِيلِ مُبَاحٌ وَكَذَا ليس بِسَبَبٍ
لِلْمَعْصِيَةِ وهو الشُّرْبُ لِأَنَّ ذلك يَحْصُلُ بِفِعْلِ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ
وَلَيْسَ الْحَمْلُ من ضَرُورَاتِ الشُّرْبِ فَكَانَتْ سَبَبًا مَحْضًا فَلَا
حُكْمَ له كَعَصْرِ الْعِنَبِ وَقَطْفِهِ وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الْحَمْلِ
بِنِيَّةِ الشُّرْبِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذلك مَعْصِيَةٌ وَيُكْرَهُ أَكْلُ
أُجْرَتِهِ وَلَا تَجُوزُ إجَارَةُ الْإِمَاءِ لِلزِّنَا لِأَنَّهَا إجَارَةٌ على
الْمَعْصِيَةِ وَقِيلَ فيه نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُكْرِهُوا
فَتَيَاتِكُمْ على الْبِغَاءِ إنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }
وَرُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن مَهْرِ الْبَغِيِّ وهو أَجْرُ الزَّانِيَةِ
على الزِّنَا وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ لِلْحِجَامَةِ وَأَخْذُ الْأُجْرَةِ عليها
لِأَنَّ الْحِجَامَةَ أَمْرٌ مُبَاحٌ وما وَرَدَ من النَّهْيِ عن كَسْبِ
الْحَجَّامِ في الحديث عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال من السُّحْتِ عَسْبُ التَّيْسِ
وَكَسْبُ الْحَجَّامِ فَهُوَ مَحْمُولٌ على الْكَرَاهَةِ لِدَنَاءَةِ الْفِعْلِ
وَالدَّلِيلُ عليه ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا قال ذلك أَتَاهُ رَجُلٌ
من الْأَنْصَارِ فقال إنَّ لي حَجَّامًا وَنَاضِحًا فَأَعْلِفُ نَاضِحِي من
كَسْبِهِ قال نعم
وروى أَنَّهُ احْتَجَمَ وَأَعْطَى الْحَجَّامَ دِينَارًا وَلَا يَجُوزُ
اسْتِئْجَارُ الرَّجُلِ أَبَاهُ لِيَخْدُمَهُ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَعْظِيمِ
أبيه وفي الِاسْتِخْدَامِ اسْتِخْفَافٌ بِهِ فَكَانَ حَرَامًا فَكَانَ هذا
اسْتِئْجَارًا على الْمَعْصِيَةِ وَسَوَاءٌ كان الْأَبُ حُرًّا أو عَبْدًا
اسْتَأْجَرَهُ ابْنُهُ من مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ
اسْتِئْجَارُ الْأَبِ حُرًّا كان أو عَبْدًا وَسَوَاءٌ كان الْأَبُ مُسْلِمًا أو
ذِمِّيًّا لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْأَبِ وَاجِبٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ الدِّينُ قال
اللَّهُ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَهَذَا في
الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ على قَوْلِهِ عز وجل { وَإِنْ
جَاهَدَاكَ على أَنْ تُشْرِكَ بِي ما ليس لك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا }
وَإِنْ شِئْت أَفْرَدْت لِجِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ شَرْطًا وَخَرَّجْتَهَا عليه
فَقُلْت وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مُبَاحَةَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ
كانت مَحْظُورَةَ الِاسْتِيفَاءِ لم تَجُزْ الْإِجَارَةُ لَكِنَّ في هذا شُبْهَةَ
التَّدَاخُلِ في الشُّرُوطِ وَالصِّنَاعَةُ تَمْنَعُ من ذلك
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا على الْعَمَلِ في شَيْءٍ هو
فيه شَرِيكُهُ نَحْوُ ما إذَا كان بين اثْنَيْنِ طَعَامٌ فَاسْتَأْجَرَ
أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ على أَنْ يَحْمِلَ نَصِيبَهُ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ
وَالطَّعَامُ غَيْرُ مَقْسُومٍ فَحَمَلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ أو اسْتَأْجَرَ
غُلَامَ صَاحِبِهِ أو دَابَّةَ صَاحِبِهِ على ذلك أَنَّهُ لَا تَجُوزُ هذه
الْإِجَارَةُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا وإذا حَمَلَ لَا أَجْرَ له وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ هذه الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا حَمَلَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أن الْأَجْرَ تَابِعٌ نِصْفَ مَنْفَعَةِ الْحَمْلِ الشَّائِعَةِ
من شَرِيكِهِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ بَيْعُ الْمَنْفَعَةِ فَتَصِحُّ في الشَّائِعِ
كَبَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَهُ وهو الْحَمْلُ وَإِنْ صَادَفَ
مَحَلًّا مُشْتَرَكًا وهو لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِالْعَمَلِ في نَصِيبِ
نَفْسِهِ فَيَسْتَحِقُّهَا بِالْعَمَلِ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ
وَلَنَا أَنَّهُ أَجَرَ ما لَا يَقْدِرُ على إيفَائِهِ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ
الشَّائِعِ بِنَفْسِهِ فلم يَكُنْ المقدور ( ( ( المعقود ) ) ) عليه مَقْدُورَ
الِاسْتِيفَاءِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ الْأَجْرُ أَصْلًا لِأَنَّهُ لَا
يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْقُودِ عليه إذْ لَا يُتَصَوَّرُ حَمْلُ نِصْفِ
الطَّعَامِ تَبَايُعًا وَوُجُوبُ أَجْرِ الْمِثْلِ يَقِفُ على اسْتِيفَاءِ
الْمَعْقُودِ عليه ولم يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ بِخِلَافِ ما إذَا اسْتَأْجَرَ من
رَجُلٍ بَيْتًا له لِيَضَعَ فيه طَعَامًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا أو سَفِينَةً أو
جُوَالِقًا إن الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ ثَمَّةَ يَتَحَقَّقُ
بِدُونِ الْوَضْعِ
____________________
(4/190)
بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لو سَلَّمَ السَّفِينَةَ وَالْبَيْتَ وَالْجُوَالِقَ ولم يَضَعْ وَجَبَ
الْأَجْرُ وَهَهُنَا لَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْعَمَلِ وهو الْحَمْلُ
وَالْمَشَاعُ غَيْرُ مَقْدُورِ الْحَمْلِ بِنَفْسِهِ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ في طَعَامٍ بين رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا
سَفِينَةٌ وَأَرَادَا أَنْ يُخْرِجَا الطَّعَامَ من بَلَدِهِمَا إلَى بَلَدٍ آخَرَ
فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ السَّفِينَةِ من صَاحِبِهِ أو أرادا ( ( ( أراد
) ) ) أَنْ يَطْحَنَا الطَّعَامَ فَاسْتَأْجَرَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الرَّحَى الذي
لِشَرِيكِهِ أو اسْتَأْجَرَ أَنْصَافَ جُوَالِقِهِ لِيَحْمِلَ عليه الطَّعَامَ
إلَى مَكَّةَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهَذَا على قَوْلِ من يُجِيزُ إجَارَةَ الْمَشَاعِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ لَا يَسْتَحِقُّ فيه الْأُجْرَةَ إلَّا
بِالْعَمَلِ لَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ فيه على الْعَمَلِ في الْحَمْلِ
مُشْتَرَكَةً وما يَسْتَحِقُّ فيه الْأُجْرَةَ من غَيْرِ عَمَلٍ تَجُوزُ
الْإِجَارَةُ فيه لِوَضْعِ الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ في الْمُسْتَأْجَرِ وَفِقْهُ
هذا الْأَصْلِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ ما لَا تَجِبُ الْأُجْرَةُ فيه إلَّا
بِالْعَمَلِ فَلَا بُدَّ من إمْكَانِ إيفَاءِ الْعَمَلِ وَلَا تَمْكِينَ من
الْعَيْنِ الْمُشْتَرَكَةِ فَلَا يَكُونُ الْمَعْقُودُ عليه مَقْدُورَ
التَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ مَقْدُورَ الِاسْتِيفَاءِ فلم تَجُزْ الْإِجَارَةُ وما
لَا يَقِفُ وُجُوبُ الْأُجْرَةِ فيه على الْعَمَلِ كان الْمَعْقُودُ عليه
مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ وَالِاسْتِيفَاءِ بِدُونِهِ فَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا على أَنْ يَحْمِلَ له طَعَامًا
بِعَيْنِهِ إلَى مَكَان مَخْصُوصٍ بِقَفِيزٍ منه أو اسْتَأْجَرَ غُلَامَهُ أو
دَابَّتَهُ على ذلك أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لو صَحَّ لَبَطَلَ من حَيْثُ
صَحَّ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَصِيرُ شَرِيكًا بِأَوَّلِ جُزْءٍ من الْعَمَلِ وهو
الْحَمْلُ فَكَانَ عَمَلُهُ بَعْدَ ذلك فِيمَا هو شَرِيكٌ فيه وَذَلِكَ لَا
يَجُوزُ لِمَا بَيَّنَّا وإذا حَمَلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى
الْمَنَافِعَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَتَجَاوَزُ بِهِ
قَفِيزًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ في الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ الْأَقَلُّ من
الْمُسَمَّى وَمِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ لِمَا نَذْكُرُ في بَيَانِ حُكْمِ الْإِجَارَةِ
الْفَاسِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهِ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ له فَرْضًا وَلَا وَاجِبًا
على الْأَجِيرِ قبل الْإِجَارَةِ فَإِنْ كان فَرْضًا أو وَاجِبًا عليه قبل
الْإِجَارَةِ لم تَصِحَّ الْإِجَارَةُ لِأَنَّ من أتى بِعَمَلٍ يُسْتَحَقُّ عليه
لَا يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عليه وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ
الثَّوَابَ على الْعِبَادَاتِ وَالْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ أَفْضَالٌ من اللَّهِ
سُبْحَانَهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عليه لِأَنَّ وُجُوبَهَا على الْعَبْدِ بِحَقِّ الْعُبُودِيَّةِ
لِمَوْلَاهُ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْمَوْلَى على الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ وَلِحَقِّ
الشُّكْرِ لِلنِّعَمِ السَّابِقَةِ لِأَنَّ شُكْرَ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ عَقْلًا
وَشَرْعًا وَمَنْ قَضَى حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه لِغَيْرِهِ لَا يَسْتَحِقُّ
قِبَلَهُ الْأَجْرَ كَمَنْ قَضَى دَيْنًا عليه في الشَّاهِدِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ على الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا من فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَلَا يَصِحُّ
الِاسْتِئْجَارُ على تَعْلِيمِ الْعِلْمِ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا على
تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ عِنْدَنَا وقال الشَّافِعِيُّ الْإِجَارَةُ على تَعْلِيمِ
الْقُرْآنِ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ
مَعْلُومٍ فَيَجُوزُ
وَلَنَا أَنَّهُ اسْتِئْجَارٌ لِعَمَلٍ مَفْرُوضٍ فَلَا يَجُوزُ كَالِاسْتِئْجَارِ
لِلصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ الِاسْتِيفَاءِ في حَقِّ
الْأَجِيرِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْمُتَعَلِّمِ فَأَشْبَهَ الِاسْتِئْجَارَ لِحَمْلِ
خَشَبَةٍ لَا يَقْدِرُ على حَمْلِهَا بِنَفْسِهِ
وقد روى أَنَّ أُبَيَّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ عنه أَقْرَأَ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ
قَوْسًا فَسَأَلَ النبي عن ذلك فقال أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ
من نَارٍ قال لَا فقال فَرُدَّهُ وَلَا على الْجِهَادِ لِأَنَّهُ فَرْضُ عَيْنٍ
عِنْدَ عُمُومِ النَّفِيرِ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ في غَيْرِ تِلْكَ الْحَالِ وإذا
شَهِدَ الْوَقْعَةَ فَتَعَيَّنَ عليه فَيَقَعُ عن نَفْسِهِ
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قال مَثَلُ من يَغْزُو في أُمَّتِي وَيَأْخُذُ
الْجُعْلَ عليه كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى تُرْضِعَ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ عليه أَجْرًا
وَلَا على الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِمَامَةِ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ
وقد رُوِيَ عن عُثْمَانَ بن أبي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ قال آخِرُ ما
عَهِدَ إلَيَّ رسول اللَّهِ أَنْ أُصَلِّيَ بِالْقَوْمِ صَلَاةَ أَضْعَفِهِمْ
وَأَنْ أَتَّخِذَ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ على الْأَذَانِ أَجْرًا وَلِأَنَّ
الِاسْتِئْجَارَ على الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِمَامَةِ وَتَعْلِيمِ
الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ سَبَبٌ لِتَنْفِيرِ الناس عن الصَّلَاةِ بِالْجَمَاعَةِ
وَعَنْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ لِأَنَّ ثِقَلَ الْأَجْرِ يَمْنَعُهُمْ
عن ذلك وَإِلَى هذا أَشَارَ الرَّبُّ جَلَّ شَأْنُهُ في قَوْلِهِ عز وجل { أَمْ
تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ من مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ } فَيُؤَدِّي إلَى
الرَّغْبَةِ عن هذه الطَّاعَاتِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وقال تَعَالَى { وما
تَسْأَلُهُمْ عليه من أَجْرٍ } أَيْ على ما تُبَلِّغُ إلَيْهِمْ أَجْرًا وهو كان
يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ أَلَا فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ
الْغَائِبَ فَكَانَ كُلُّ مُعَلِّمٍ مُبَلِّغًا فإذا لم يَجُزْ له أَخْذُ
الْأَجْرِ على ما يُبَلِّغُ بِنَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا فَكَذَا لِمَنْ يُبَلِّغُ
بِأَمْرِهِ لِأَنَّ ذلك تَبْلِيغٌ منه مَعْنًى وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ على
تَعْلِيمِ اللُّغَةِ وَالْأَدَبِ لِأَنَّهُ ليس بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ
وَكَذَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ على بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ وَالرِّبَاطَاتِ
وَالْقَنَاطِرِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ على غُسْلِ
____________________
(4/191)
الْمَيِّتِ
ذَكَرَهُ في الْفَتَاوَى لِأَنَّهُ وَاجِبٌ وَيَجُوزُ على حَفْرِ الْقُبُورِ
وَأَمَّا على حَمْلِ الْجِنَازَةِ فذكر في بَعْضِ الفتاوي أَنَّهُ جَائِزٌ على
الْإِطْلَاقِ وفي بَعْضِهَا أَنَّهُ إنْ كان يُوجَدُ غَيْرُهُمْ يَجُوزُ وَإِنْ
كان لَا يُوجَدُ غَيْرُهُمْ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْحَمْلَ عليهم وَاجِبٌ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ وهو حُرٌّ بَالِغٌ
لِيَخْدُمَهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ الْحُرِّ وَاجِبَةٌ
على الِابْنِ الْحُرِّ فَإِنْ كان الْوَلَدُ عَبْدًا وَالْأَبُ حُرًّا
فَاسْتَأْجَرَ ابْنَهُ من مَوْلَاهُ جَازَ لِأَنَّهُ إذَا كان عَبْدًا لَا يَجِبُ
عليه خِدْمَةُ الْأَبِ وَكَذَلِكَ إنْ كان الِابْنُ مُكَاتَبًا لِأَنَّهُ لَا
يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أبيه فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ امْرَأَتَهُ لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لم
يَجُزْ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ عليها فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَسَّمَ الْأَعْمَالَ بين عَلِيٍّ
وَفَاطِمَةَ رضي اللَّهُ عنهما فَجَعَلَ ما كان دَاخِلَ الْبَيْتِ على فَاطِمَةَ
رضي اللَّهُ عنها وما كان خَارِجَ الْبَيْتِ على عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه فَكَانَ
هذا اسْتِئْجَارًا على عَمَلٍ وَاجِبٍ فلم يَجُزْ وَلِأَنَّهَا تَنْتَفِعُ
بِخِدْمَةِ الْبَيْتِ وَالِاسْتِئْجَارُ على عَمَلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْأَجِيرُ
غَيْرُ جَائِزٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ على رَضَاعِ وَلَدِهِ منها
لِأَنَّ ذلك اسْتِئْجَارٌ على خِدْمَةِ الْوَلَدِ وَإِنَّمَا اللَّبَنُ يَدْخُلُ
فيه تَبَعًا على ما ذَكَرْنَا فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ على أَمْرٍ عليها فِيمَا
بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الزَّوْجَةَ مُسْتَحِقَّةٌ
لِلنَّفَقَةِ على زَوْجِهَا وَأُجْرَةُ الرَّضَاعِ تَجْرِي مَجْرَى النَّفَقَةِ
فَلَا تَسْتَحِقُّ نَفَقَتَيْنِ على زَوْجِهَا حتى لو كان لِلْوَلَدِ مَالٌ
فَاسْتَأْجَرَهَا لِإِرْضَاعِ وَلَدِهَا منه من مَالِ الْوَلَدِ جَازَ كَذَا رَوَى
ابن رُسْتُمَ عن مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لها على الْوَلَدِ فَلَا
يَكُونُ فيه اسْتِحْقَاقُ نَفَقَتَيْنِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ لِوَلَدِهِ من ذَوَاتِ الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ اللَّاتِي لَهُنَّ
حَضَانَتُهُ جَازَ لِأَنَّهُ ليس عَلَيْهِنَّ خِدْمَةُ الْبَيْتِ وَلَا نَفَقَةَ
لَهُنَّ على أَبُ الْوَلَدِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الزَّوْجَةِ لِتُرْضِعَ
وَلَدَهُ من غَيْرِهَا لِأَنَّهُ ليس عليها خِدْمَةُ وَلَدِ غَيْرِهَا
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ على إرْضَاعِ وَلَدِهِ خَادِمَ أُمِّهِ فَخَادِمُهَا
بِمَنْزِلَتِهَا فما جَازَ فيها جَازَ في خَادِمِهَا وما لم يَجُزْ فيها لم يَجُزْ
في خَادِمِهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْمُسْتَحِقَّةُ لِمَنْفَعَةِ خَادِمِهَا فَصَارَ
كَنَفَقَتِهَا وَكَذَا مُدَبَّرَتُهَا لِأَنَّهَا تَمْلِكُ مَنَافِعَهَا فَإِنْ
اسْتَأْجَرَ مُكَاتَبَتَهَا جَازَ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ مَنَافِعَ
الْمُكَاتَبَةِ فَكَانَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا في الْبَيْتِ بِأَجْرٍ
مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ غَيْرُ وَاجِبَةٍ على
الزَّوْجِ فَكَانَ هذا اسْتِئْجَارًا على أَمْرٍ غَيْرِ وَاجِبٍ على الْأَجِيرِ
وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَتْهُ لِرَعْيِ غَنَمِهَا لِأَنَّ رَعْيَ الْغَنَمِ لَا
يَجِبُ على الزَّوْجِ وَإِنْ شِئْت عَبَّرْت عن هذا الشَّرْطِ فَقُلْت وَمِنْهَا أَنْ
لَا يَنْتَفِعَ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَإِنْ كان يَنْتَفِعُ بِهِ لم يَجُزْ
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ
وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ الثَّوَابَ على الطَّاعَاتِ من طَرِيقِ الْإِفْضَالِ لَا
الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِيمَا يَعْمَلُهُ من الْقُرُبَاتِ
وَالطَّاعَاتِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { من عَمِلَ
صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ على
غَيْرِهِ وَعَلَى هذه الْعِبَارَةِ أَيْضًا يُخَرَّجُ الِاسْتِئْجَارُ على
الطَّاعَاتِ فَرْضًا كانت أو وَاجِبَةً أو تَطَوُّعًا لِأَنَّ الثَّوَابَ
مَوْعُودٌ لِلْمُطِيعِ على الطَّاعَةِ فَيَنْتَفِعُ الْأَجِيرُ بِعَمَلِهِ فَلَا
يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَطْحَنَ له قَفِيزًا من
حِنْطَةٍ بِرُبُعٍ من دَقِيقِهَا أو لِيَعْصِرَ له قَفِيزًا من سِمْسِمٍ بِجُزْءٍ
مَعْلُومٍ من دُهْنِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَنْتَفِعُ
بِعَمَلِهِ من الطَّحْنِ وَالْعَصْرِ فَيَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ نهى عن قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَلَوْ دَفَعَ
إلَى حَائِكٍ غَزْلًا لِيَنْسِجَهُ بِالنِّصْفِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ
الْحَائِكَ يَنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ وهو الْحِيَاكَةُ وَكَذَا هو في مَعْنَى قَفِيزِ
الطَّحَّانِ فَكَانَ الِاسْتِئْجَارُ عليه مَنْهِيًّا وإذا حَاكَهُ فَلِلْحَائِكِ
أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لِاسْتِيفَائِهِ الْمَنْفَعَةَ بِأُجْرَةٍ فَاسِدَةٍ
وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا بِبَلْخٍ جَوَّزَ هذه الْإِجَارَةَ وهو محمد بن سَلَمَةَ
وَنَصْرُ بن يحيى
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ مَقْصُودَةً يُعْتَادُ اسْتِيفَاؤُهَا
بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَيَجْرِي بها التَّعَامُلُ بين الناس لِأَنَّهُ عَقْدٌ
شُرِعَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِحَاجَةِ الناس وَلَا حَاجَةَ فِيمَا لَا تَعَامُلَ
فيه لِلنَّاسِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الْأَشْجَارِ لِتَجْفِيفِ الثِّيَابِ
عليها وَالِاسْتِظْلَالِ بها لِأَنَّ هذه مَنْفَعَةٌ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ من
الشَّجَرِ
وَلَوْ اشْتَرَى ثَمَرَةَ شَجَرَةٍ ثُمَّ اسْتَأْجَرَ الشَّجَرَةَ لِتَبْقِيَةِ
ذلك فيه لم يَجُزْ لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ من الشَّجَرِ هذا النَّوْعُ من
الْمَنْفَعَةِ وهو تَبْقِيَةُ الثَّمَرِ عليها فلم تَكُنْ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً
عامة ( ( ( عادة ) ) ) وَكَذَا لو اسْتَأْجَرَ الْأَرْضَ التي فيها ذلك الشَّجَرِ
يَصِيرُ مُسْتَأْجَرًا بِاسْتِئْجَارِ الْأَرْضِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ
الشَّجَرِ
وقال أبو يُوسُفَ إذَا اسْتَأْجَرَ ثِيَابًا لِيَبْسُطَهَا بِبَيْتٍ لِيُزَيِّنَ
بها وَلَا يَجْلِسُ عليها فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ بَسْطَ الثِّيَابِ من
غَيْرِ اسْتِعْمَالٍ
____________________
(4/192)
ليس
مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً عَادَةً وقال عَمْرٌو عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ
دَابَّةً لِيَجْنُبَهَا يَتَزَيَّنُ بها فَلَا أَجْرَ عليه لِأَنَّ قَوْدَ
الدَّابَّةِ لِلتَّزَيُّنِ ليس بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ وَلَا يَجُوزُ
اسْتِئْجَارُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِيُزَيَّنَ الْحَانُوتُ وَلَا
اسْتِئْجَارُ الْمِسْكِ وَالْعُودِ وَغَيْرِهِمَا من الْمَشْمُومَاتِ لِلشَّمِّ
لِأَنَّهُ ليس بِمَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَادُ
اسْتِيفَاؤُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ عز وجل الْمُوَفِّقُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَحَلِّ الْمَعْقُودِ عليه فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
مَقْبُوضَ المؤاجرة ( ( ( المؤاجر ) ) ) إذَا كان مَنْقُولًا فَإِنْ لم يَكُنْ في
قَبْضِهِ فَلَا تَصِحُّ إجَارَتُهُ لِنَهْيِ النبي عن بَيْعِ ما لم يُقْبَضْ
وَالْإِجَارَةُ نَوْعُ بَيْعٍ فَتَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ وَلِأَنَّ فيه غَرَرَ
انْفِسَاخِ الْعَقْدِ لِاحْتِمَالِ هَلَاكِ الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ فَيَنْفَسِخُ
الْبَيْعُ فَلَا تَصِحُّ الْإِجَارَةُ وقد نهى رسول اللَّهِ عن بَيْعٍ فيه غَرَرٌ
وَإِنْ لم يَكُنْ مَنْقُولًا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ في بَيْعِ
الْعَيْنِ أنها تَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا تَجُوزُ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقِيلَ في الْإِجَارَةِ لَا تَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى ما يُقَابِلُ الْمَعْقُودَ عليه وهو الْأُجْرَةُ
وَالْأُجْرَةُ في الْإِجَارَاتِ مُعْتَبَرَةٌ بِالثَّمَنِ في الْبِيَاعَاتِ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْعَقْدَيْنِ مُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ فما
يَصْلُحُ ثَمَنًا في الْبِيَاعَاتِ يَصْلُحُ أُجْرَةً في الْإِجَارَاتِ وما لَا
فَلَا وهو أَنْ تَكُونَ الْأُجْرَةُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْلُومًا وَغَيْرَ ذلك
مِمَّا ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَالْأَصْلُ في شَرْطِ الْعِلْمِ بِالْأُجْرَةِ قَوْلُ النبي من اسْتَأْجَرَ
أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ وَالْعِلْمُ بِالْأُجْرَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالْإِشَارَةِ وَالتَّعْيِينِ أو بِالْبَيَانِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ
الْأَجْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كان شيئا بِعَيْنِهِ وَإِمَّا إنْ كان بِغَيْرِ
عَيْنِهِ فَإِنْ كان بِعَيْنِهِ فإنه يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِشَارَةِ وَلَا
يُحْتَاجُ فيه إلَى ذِكْرِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ سَوَاءٌ
كان مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ أو مِمَّا لَا يَتَعَيَّنُ كَالدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ وَيَكُونُ تَعْيِينُهَا كِنَايَةً عن ذِكْرِ الْجِنْسِ
وَالصِّفَةِ وَالنَّوْعِ وَالْقَدْرِ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا لِأَنَّ الْمُشَارَ
إلَيْهِ إذَا كان مِمَّا له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مَكَانِ
الْإِيفَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ كان مِمَّا
يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ في الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَالدَّرَاهِمِ
وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَعْدُودَاتِ
الْمُتَقَارِبَةِ والثياب ( ( ( والثبات ) ) ) لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا
بِبَيَانِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ من ذلك الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ إلَّا
أَنَّ في الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ إذَا لم يَكُنْ في الْبَلَدِ إلَّا نَقْدٌ
وَاحِدٌ لَا يُحْتَاجُ فيها إلَى ذِكْرِ النَّوْعِ وَالْوَزْنِ ويكتفي بِذِكْرِ
الْجِنْسِ وَيَقَعُ على نَقْدِ الْبَلَدِ وَوَزْنِ الْبَلَدِ وَإِنْ كان في
الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ يَقَعُ على النَّقْدِ الْغَالِبِ وَإِنْ كان فيه
نُقُودٌ غَالِبَةٌ لَا بُدَّ من الْبَيَانِ فَإِنْ لم يُبَيِّنْ فَسَدَ الْعَقْدُ
وَلَا بُدَّ من بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا له حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ ذلك
وَيَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في
كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ الْأَجَلُ فَفِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ
وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَا يُشْتَرَطُ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ كما
تَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا بِطَرِيقِ السَّلَمِ تَثْبُتُ دَيْنًا
في الذِّمَّةِ مُطْلَقًا لَا بِطَرِيقِ السَّلَمِ بَلْ بِطَرِيقِ الْقَرْضِ
فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجَلَانِ فَإِنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ جَازَ وَثَبَتَ الْأَجَلُ
كَالسَّلَمِ وَإِنْ لم يذكر جَازَ كَالْقَرْضِ
وَأَمَّا في الثِّيَابِ فَلَا بُدَّ من الْأَجَلِ لِأَنَّهَا لَا تَثْبُتُ دَيْنًا
في الذِّمَّةِ إلَّا مُؤَجَّلًا فَكَانَ لِثُبُوتِهَا أَجْلٌ وَاحِدٌ وهو
السَّلَمُ فَلَا بُدَّ فيها من الْأَجَلِ كَالسَّلَمِ وَإِنْ كان مِمَّا لَا
يَثْبُتُ دَيْنًا في الذِّمَّةِ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ
كَالْحَيَوَانِ فإنه لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ
وَالْقَدْرِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ ثَمَنًا في الْبِيَاعَاتِ فَلَا يَصْلُحُ
أُجْرَةً في الْإِجَارَاتِ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ في الْأُجْرَةِ قبل الْقَبْضِ
إذَا وَجَبَتْ في الذِّمَّةِ حُكْمُ التَّصَرُّفِ في الثَّمَنِ قبل الْقَبْضِ إذَا
كان دَيْنًا وقد بَيَّنَّا ذلك في كِتَابِ الْبُيُوعِ وإذا لم يَجِبْ بِأَنْ لم
يُشْتَرَطْ فيها التَّعْجِيلُ فَحُكْمُ التَّصَرُّفِ فيها نَذْكُرُهُ في بَيَانِ
حُكْمِ الْإِجَارَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عز وجل وما كان منها عَيْنًا مُشَارًا
إلَيْهَا فَحُكْمُهُ حُكْمُ الثَّمَنِ إذَا كان عَيْنًا حتى لو كان مَنْقُولًا لَا
يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فيه قبل الْقَبْضِ وَإِنْ كان عَقَارًا فَعَلَى
الِاخْتِلَافِ الْمَعْرُوفِ في كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّهُ يَجُوزُ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ وَهِيَ من مَسَائِلِ
الْبُيُوعِ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِطَعَامِهِ أو اسْتَأْجَرَ
دَابَّةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ وَبِعَلْفِهَا لم يَجُزْ لِأَنَّ الطَّعَامَ أو
الْعَلَفَ يَصِيرُ أُجْرَةً وهو مَجْهُولٌ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ مَجْهُولَةً
وَالْقِيَاسُ في اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ بِطَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا أَنَّهُ لَا
يَجُوزُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ وَهِيَ
الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ اسْتَحْسَنَ الْجَوَازَ
بِالنَّصِّ وهو قَوْلُهُ عز وجل { وَعَلَى الْمَوْلُودِ له رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين ما إذَا كانت الْوَالِدَةُ
مَنْكُوحَةً أو مُطَلَّقَةً وَقَوْلُهُ عز وجل { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذلك }
أَيْ
____________________
(4/193)
____________________
(4/102)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق