ج9.وج10.العقد الفريد
ج.كتاب : العقد
الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
ويقال: رجل أمي،
إذا كان من أم القُرى. قال الله تعالى: " لِتُنْذِر أمّ القُرَى ومَن
حَوْلَها " وأما قوله تعالى: النبيّ الأمي فإنما أراد به الذي لا يقرأ ولا
يكتب. والأمية في النبيّ صلى الله عليه وسلم فضيلة، لأنها أدلُّ على صِدْق ما جاء
به أنه من عند اللّه لا من عنده، وكيف يكون مِن عنده وهو لا يَكْتب ولا يقرأ ولا
يقول الشَعر ولا يُنشده. قال المأمون لأبي العلاء المِنْقري: بَلَغني أنك أمي،
وأنك لا تُقيم الشَعر، وأنك تلحن في كلامك. فقال: يا أمير المؤمنين، أمّا اللّحن، فربما سَبقني لساني بالشيء منه؛
وأما الأمية وكَسْر الشعر، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أميّاً، وكان لا يُنشد
الشعر. فقال المأمون: سألتُك عن ثلاثة عُيوب فيك فزِدتني رابعاً، وهو الجهل؛ أمَا
علمتَ يا جاهل أن ذلك في النبي صلى الله عليه وسلم فَضيلة، وفيك وفي أمثالك نَقيصة!
شرف الكتّاب وفضلهم
فمن فضلهم قولُ الله تعالى
على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: " علم بالقَلَم عَلم الإنسان ما لم
يَعْلَم " وقوله تعالى: " كِرَاماً كاتبين " . وقولُه: "
بأيْدي سَفرة. كِرَام بَرَزة " وللكُتاب أحكام بينة، كأحكام القُضاة، يُعرفون
بها، ويُنسبون إليها، ويتقلدًون التدبير وسيارة المُلك بها، دون غيرهم، وبهم يُقام
أوَد الدين، وأمور العالمين.
فمن أهل هذه الصناعة:
عليّ بن أبي طالب، كرم الله وجهه، وكان مع شرفه ونُبله وقَرابته من رسول اللهّ صلى
الله عليه وسلم، يكتب الوحي، ثم أفضت إليه الخلافة بعد الكتابة؛ وعثمان بن عفان،
كانا يكتبان الوحي، فإن غابا، كتب ابن بن كعب وزيد بن ثابت، فإن لم يَشهد واحد
منهما، كَتب غيرُهما. وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين
يديه في حَوائجه، وكان المُغيرة بن شُعبة والحُصين بن نمير يكتبان ما بين الناس
وكانا ينوبان عن خالد ومُعاوية إذا لم يحضرا، وكان عبد اللّه بن الأرقم ابن عبد
يغوث والعلاء بن عُقبة يكتبان وبين القوم في قبائلهم ومِياههم، وفي دور الأنصار
بين الرجال والنساء، وكان ربما كتب عبدُ الله بن الأرقم إلى الملوك عن النبي صلى
الله عليه وسلم وعلى آله، وكان حُذيفة بن اليمان يكتب خَرْص ثمار الحجاز، وكان
زيدُ بن ثابت يكتب إلى الملوك مع ما كان يكتبه من الوحي، وقيل: إنه تعلّم
بالفارسية من رسول كِسْرى، وبالرومية من حاجب النبيّ صلى الله عليه وسلم،
وبالحبشية من خادم النبي صلى الله عليه وسلم، وبالقِبْطية من خادمه عليه الصلاة
والسلام. ورُوي عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب بين يدي رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم يوماً، فقام لحاجة، فقال لي: ضَع القلم على أذنك فإنه أذكر للمُملي وأقضى للحاجة.
وكان مُعَيْقيب بن أبي فاطمة يكتب مغانم النبيّ صلى الله عليه وسلم. وكان حَنْظلة
بن الربيع بن المُرقَّع بن صَيفيّ، ابن أخي أكثم بن صيْفيّ الأسيديّ، خليفة كُل
كاتب من كُتَاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا غاب عن عمله، فغلب عليه اسم الكاتب،
وكان يضع عنده خاتمه، وقال له: الزمني وأذكر في بكل شيء أنا فيه، وكان لا يأتي على
مالك ولا طعام ثلاثة أيام إِلا أذكره، فلا يَبيت صلى الله عليه وسلم وعنده منه
شيء. ومَرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً بامرأة مقتولة يوم فتْح مكة، فقال
لحنظلة: الحق خالداً وقل له: لا تقتلن ذُرْية ولا عَسِيفا. ومات حَنظلة بمدينة
الرها، فقالت فيه امرأته، وحُكي أنه من قول الجِن، وهذا محال:
يا عَجَبَ الدَّهْرِ
لمَحْزونة ... تَبْكي على ذي شَيْبَةٍ شاحِبِ
إن تسألنّي اليومَ ما
شَفّني ... أخبرْك قِيلا ليس بالكاذب
أن سَوادَ الرأس
أوْدَى به ... وَجْدي على حَنْظلةَ الكاتب
ولما وَجّه عمر بن
الخطاب رضي اللّه عنه سعداً إلى العراق وكتب إليه أن يسبع القبائل أسباعاً، ويَجعل
على كل سُبع رجلاً، فَفعل سعد ذلك، وجعل السبع الثالثِ تميماً وأسداً وغطفان
وهوازن، وأميرَهم حنظلَة بن الربيع الكاتب؛ وكان أحدَ من سُيَر إلى يَزْدجرد يدعوه
إلى الإسلام. وكان الحْصين بن نُمير، من بني عبد مناة، شَهد بَيْعة الرِّضوان، ودعاه
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يكتب صُلْح الحّديبية، فأبى ذلك سهَيْل بن عمرو،
وقال: لا يكْتب إلا رجل منّا، فكتب عليّ بن أبي طالب. ورُوي عنه عليه السلام أنه
قال: لما جاء سُهَيل بن عمرو ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالحُدَيبية حين
صالَح قُريشاً، كان عبدُ اللّه بن سعد بن أبي سرح يكتب له، ثم ارتد ولَحِق
بالمُشركين، وقال: إن محمداً يكتب بما شِئْتُ. فَسمع ذلك رجل من الأنصار، فَحَلف
باللّه إن أمكنه الله منه ليضربنِّه ضَرْباً بالسَّيف، فلما كان يوم فَتح مكة، جاء
به عثمانُ، وكان بينهما رَضاع، فقال: يا رسولَ اللهّ، هذا عبدُ الله قد أقبل
تائباً، فأعْرضَ عنه، والأنصاريُّ مُطيفٌ به ومعه سَيفُه، فمدّ رسولُ اللهّ صلى
الله عليه وسلم جمعه يدَه وبايعه، وقال للأنصاري: لقد تَلَوَّمتُك أنْ تُوفِي
بنَذرك. فقال: هلَّا أومضت إليّ. فقال صلى الله عليه وسلم: لا يَنْبغي لي أن أومض.
أيام أبي بكررضي
اللهّ عنه
كان يكتب لأبي بكر
عثمان بن عفان، وزيدُ بن ثابت. ورُوي أنّ عبدَ اللّه ابن الأرقم كتب له، وأن،
حنظلة بن الربيع كتب له أيضاًً. ولما تقلَّد الخلافةَ دَعا زيد بن ثابت، وقال له:
أنت شاب عاقل لا نَتَهمك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكُنتَ تكتب الوَحْي،
فتَتبّع القرآن فأجمعه، وفيه يقول حسان بنُ ثابت:
فَمن للقَوافي بعد
حَسّانَ وابنه ... ومَن للمَثاني بعد زَيْد بنِ ثابت
أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنهكَتب
لعمر بن الخطاب زيدُ بن ثابت، وعبدُ الله بن الأرقم، وعبدُ الله ابن خَلف الخزاعيّ،
أبو طَلْحة الطلحات، على ديوان البَصْرة. وكَتب له على ديوان الكوفة أبو جَبِيرة
بن الضحّاك، فلم يزل عليه إلى أن ولي عبيد اللّه بن زياد فعزله وولي مكانه حبيب بن
سَعْد القَيْسيّ.
أيام عثمان بن عفانرضي
اللهّ عنه كان يكتب لعُثمان مروانُ بن الحَكَمَ. وكان عبد الملك بن مَرْوان يكتب
له على ديوان المدينة، وأبو جَبِيرة على ديوان الكُوفة، وعبدُ اللّه بن الأرقم عل
بيت المال، وأبو غَطفَان بن عوف بن سعد بن دينار، من بني دُهْمان، من قيس عَيْلان،
يكتب له أيضاً، وكان يكتب له أهَيب، مولاه، وحُمْران، مولاه.
أيام علي بن أبي
طالبكرم اللّه وجهه كان يكتب له سعيد بن نِمْران الهَمْداني، ثم ولي قضاء الكُوفة
لابن الزبير، وكان عبد الله بن جعفر يكتب له. ورُوي أن عبد الله بن حَسن كتب له،
وكان عبد اللّه بن أبي رافع يكتب له، وسِمَاك بن حَرْب.
أيام بني أميةوكان
يكتب لمُعاوية. بن أبي سفيان. سعيدُ بن أنس الغَسّاني. وكاتبُ يزيد بن معاوية سَرْجون
بن مَنْصور وكاتبُ مَرْوان بن الحكم حُميد بن عبد الرحمن بن عوف. وكاتبُ
عبد الملك بن مروان سالمٌ مولاه، ثم كَتب له عبد الحميد بن يحيى، وهو عبد الحميد
الأكبر. وكاتبُ الوليد بن عبد الملك جَنَاح مولاه. وكاتب سُليمان بن عبد الملك
عبدُ الحميد الأصغر. وكاتبُ عمر بن عبد العزيز الليثُ بن أبي رُقَية، مولى أمّ
الحكم، وكتب له رَجاء بنُ حَيْوة وخُص به، وإسماعيل بن أبي حَكِيمٍ مولى الزُبير،
وسليمان بن سعد الخُشَنيّ على ديوان الخَراج، وكان عمرِ يكتب كثيرا بيده. وكاتبُ
يزيد ابن عبد الملك عبدُ الحميد أيضاًً، ثم لم يَزل كاتباً لبني أمية إلى أيام
مَروان بن محمد وانقضاء دولة بني أمية. وكان عبد الحميد أولَ من فَتق أكمام
البلاغة، وسَهَّل طُرقها، وفَكّ رِقاب الشَعر.
أيام الدولة العباسية
فكان كاتبُ أبي
العبّاس وأبي جَعفر أبا أيوب المورياني الأهوازيّ. وكاتبُ موسى الهادي بن محمد
المهدي إبراهيمَ بنَ ذَكْوان الحَراني. وكاتب هارون الرشيد بن محمد المهدي يحيى
بنَ خالد البَرمكي، ثم الفَصْلَ بن الرَّبيع، ثم إبراهيمَ بن صُبَيح. وكاتبُ محمد
بن زُبيدة الأمين الفضلَ بن الرَّبيع، وكاتبُ عبد اللّه المأمون بن هارون الرشيد
الفضلَ بنَ سَهل، ثم الحسنَ بن سَهل، ثم عمرو بنَ مسعدة، ثم أحمدَ بن يوسف. وكاتبُ
أبي إسحاق محمد المعتصم بن هارون الرشيد، وهو المعروف بابن ماردة، الفضلَ بن
مروان، ومحمدَ بن عبد الملك الزيات. وكاتبً الواثق هارون بن محمد المعتصم محمدَ بن
عبد الملك الزيات أيضاًً. وكاتب المُتوكل جعفر بن محمد المعتصم إبراهيمَ بن
العبّاس بن صُول، مولًى لبني العبّاس. وكاتبُ المُنتصر محمد، ويكنى أبا جعفر، بن المتوكل،
أحمدَ بن الخَصيب، ثم كتب للمُستعين أحمد بن محمد المعتصم، فظهر من عجزه وعِيه ما
أسخطه عليه، ثم جعل وزارته إلى أوتامش، وقام بخدمته شجاع بن القاسم كاتبه، ثم سخط
عليهما فقتلهما، واستوزر أبا صالح عبد الله بن محمد بن يزداد، ثم صرفه وقَلِّد
وزارته محمد بن الفَضل الجرجاني. ثم كانت الفتنة بين المستعين والمعتز، فقلد
المُعْتزُ وزارتَه جَعفَر بن محمود الجرجاني، فلما استقام الأمر ردّ وزارته إلى
أحمد ابن إسرائيل. وكاتبَ المهتدي محمد بن الواثق جعفر بن محمود الجُرجاني، ثم
استوزر بعده أبا أيوب سليمان بن وهب. واستوزر المعتمد أحمدُ بن المتوكل عبيدَ
اللّه بن يحيى بن خاقان، فلما توفي استوزر بعده الحسنَ بن مخلد، وكان سبب موته أنه
صَدَمه غلامٌ له في الميدان يقال له رَشيق، فحًمل إلى منزله فمات بعد ثلاث ساعات. وتقفد
الوزارة للمُعتضد أحمدُ بن طَلحة، وللمُوفق بن جعفر المتوكل عُبيدُ اللّه بن
سليمان بن وهب، وتقلّد الوزارة للمُكتفي باللّه أبي محمد عليِّ بن المُعتضد باللّه
عليً بن محمد بن الفُرات، ثم محمد بن عُبيد اللّه بن يحيى بن خاقان، ثم علي بن
عيسى، ثم حامد بن العباس، ثم محمد بن علي بن مُقلة، الذي يوصف خطّه بالجَوْدة، ثم
سليمان بن الحسن بن مخلد، ثم عبيد اللّه بن محمد الكَلْوذانيّ. ثم الحسُين بن القاسم
بن عُبيد اللّه بن سُليمان بن وَهْب، ولُقِّب بعميد الدولة، وكان يكتب على كُتبه:
من عَميد الدولة أبي علي بن وليّ الدولة، وذُكر لقبه على الدنانير والدراهم، ثم
الفَضْل بن جعفر بن محمد بن الفُرات. وتقلّد الوزارة للقاهر بالله أبي مَنْصور
محمدِ بن المُعتضد محمدُ بن عليّ بن مُقلة، ثم محمد بن القاسم بن عُبيد اللّه، ثم القاسم
بن عُبيد اللّه الحُصَيني. وتقلد الوزارة للراضي بالله أبي العباس محمد بن جعفر
المقتدر محمدُ بن علي بن مُقلة، ثم عبدُ الرحمن بن عيسى، أخو الوزير علي بن عيسى،
ثم محمد بن القاسم الكَرْخي، ثم الفضلُ بن جعفر بن محمد بن الفُرات، ثم محمد بن
يحيى بن شيرزاد. وتقلّد الوزارة للمُتًقي باللهّ إبراهيم بن جعفر ابن المُقتدر
كاتبهُ أحمد بن محمد بن الأفطس. ثم أبو إسحاق القَراريطي، ثم علي بن محمد بن
مُقلة. وتقلّد الوزارة للمُستكفي بالله أي القاسم عبد اللّه بن عليّ المكتفي
باللّه الحسين بن محمد بن أبي سُليمان، ثمِ محمد بن علي السامُري، المُكَنّى أبا
الفَرج. ثم ولي المُطيع بالله الفضلُ بن المقتدر، فوَزر له الحسن بن هارون.
أسماء من كتب لغير
الخليفة
كان المُغيرة بن
شُعْبة كاتباً لأبي موسى الأشعريّ. وكان سَعِيد بن جُبير كاتباً لعَبد اللّه بن
عُتبة بن مسعود، وكان قاضياً بعد ذلك. وكان الحسنُ بن أبي الحسن البَصريّ، مع
نًبله وفِقهه ووَرعه وزُهده كاتباً للرَّبيعِ بن زياد الحارثيّ بخُراسان، ثم ولي
قضاءُ البَصرَة لعُمر بن عبد العزيز، فقيل له: من وَلِّيت القضاءَ بالبَصْرة؟ فقال:
وليتُ سيّد التابعين الحسنَ بن أبي الحسن البَصريّ. وكان محمد بن سِيرين، مع
عِلْمه وَورعه كاتباً لأنس بن مالك بفارس. وكان زيادُ ابن أبيه، مع رأيه، ودَهائه،
وما كان من معاوية في ادعائه، يكتب للمُغيرة ابن شُعبة، ثم لعبد اللهّ بن عامر بن
كُرَيز، ثم لعبد اللّه بن عبّاس، ثم لأبي مُولى الأشعري. فوجّهه أبو موسى من
البَصر ة لعمرَ بن الخطّاب ليرفع إليه حسابَه، فأمر له عمرُ بألف درهم، لما رأى
منه من الذكاء، وقال: له لا تَرْجع لأبي موسى؟ فقال: يا أمير المؤمنين. أعَن خِيانة
صَرَفْتَني أم عن تَقْصِير؟ قال: لا عن واحدة منهما، ولكني أكره أن أحمل فَضْل
عقلك على الرعيَّة، ثم وَلي بعد الكِتابة العِراقَ. وكان عامرٌ الشَّعبي مع فِقْهه
وعِلْمه ونُبله كاتباً لعبد اللّه بن مًطيع، ثم لعبد اللّه بن يَزيد، عامل عبد
اللّه بن الزُّبير على الكوفة؛ ثم وَلي قضاء الكُوفة بعد الكِتابة. وكان قَبيصة بن
ذُؤيب كاتباً لعبد الملك على ديوان الخَاتم. وكان عبدُ الرحمن كاتب نافع بن
الحارث، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عبد اللّه بن خلف الخًزاعي، أبو
طَلْحة الطلحات، كاتباً على ديوان البَصرة لعمر وعثمان، ثم قُتل يوم الجَمَل مع
عائشة، رضي اللهّ عنها. وكان خارجةُ بن زيد بن ثابت على ديوان المَدينة، ثم طلب الخلافة فقتل دونها.
وكان يزيد بن عبد الله بن زَمْعة بن الأسْود بن المًطلب بن أسد بن عبد العُزى
كاتباً على ديوان المدينة زمن يزيدَ بن معاوية، وكان بعده حُميد بن عبد الرحمن بن
عوف الزُّهري.
أشراف الكتاب
كتاب النبي
صلى الله عليه
وسلمكتب له عشرة كتاب: عليّ بن أبي طالب، وعُمر بن الخطاب، وعُثمان بن عفّان،
وخالد بن سعيد بن العاصي، وأبان بن سعيد بن العاصي، وأبو سَعيد بن العاصي، وعمرو
بن العاصي، وَشرَحْبيل بن حَسَنة، وزيد بن ثابت، والعَلاء بن الحَضْرمي، ومّعاوية
بن أبي سفيان، فلم يزل يكتب له حتى مات عليه الصلاةُ والسِّلام.
وكان عثمان بن عفان
كاتباً لأبي بكر، ثم صار خليفةً. وكان مروان بن الحكم كاتباً لعثمان بن عفان ثم
صار خليفة. وكان عمرو بن سعيد بن العاصيِ كاتباً على ديوان المدينة، ثم طَلب
الخلافة فقُتل دونها وكان المُغيرة بن شُعبة كاتباً لأبي موسى الأشعري. وكان
الحسنُ بن أبي الحسن البَصريّ كاتباً للربيع ابن زياد الحارثيّ بخُراسان. وكان
سعيدُ بن جُبير كاتباً لعبد الله بن عُتبة بن مَسْعود؛ وكان فاضلاً. وكان زياد كاتباً
للمُغيرة بن شعبة، ثم أبي مُوسى الأشعري، ثم لعبد الله بن عامر بن كُريز، ثم لعبد
اللّه بن عبّاس. وكان عامرٌ الشَعبي كاتباً لعبد الله بنِ مُطيع، وهو والي الكوفة
لعَبد اللّه بن الزِبير. وكان محمد بن سِيرين كاتباً لأنس بن مالك بفارس. وكان
قَبيصة بن ذُؤيب كاتباً لعبد الملك، على ديوان الخاتَم. وكان عبدُ الرحمن بن
أبْزَى كاتبَ نافع بن الحارث الخُزاعي، وهو عامل أبي بكر وعمر على مكة. وكان عُبيد
اللّه بن أوس الغسّاني، سيد أهل الشام، كاتبَ معاوية. وكان سعيد ابن نِمْران
الهمداني، سيّد همدان، كاتبَ علي بن أبي طالب، ثم ولي بعد ذلك قضاء الكوفة لابن
الزبير. وكان عبدُ اللّه بن خلف الخُزاعي، أبو طلحة الطلحات، كاتباً على ديوان
البصرة لعمر وعثمان، وقُتل يوم الجَمَل مع عائشة. وكان خارجةُ بن زيد بن ثابت على
ديوان المدينة من قِبَل عبد الملك. وكان يزيدُ بن عبد اللّه بن زَمْعة بن الأسْود
بن الُمَطّلب بن أسَد بن عبد العُزّى على ديوان المدينة زمانَ يزيد بن مُعاوية.
وكان بعده حًميد، ابنً عبد الرَّحمن بن عوف الزُّهْريّ، صاحب النبي صلى الله عليه
وسلم.
من نبل بالكتابة وكان
قبل خاملاً
سَرْجون بن منصور
الرومي، كاتبٌ لمعاوية ويزيدَ ابنه ومَرْوان بن الحَكم وعبد الملك بن مَرْوان، إلى
أن أمره عبدُ الملك بأمرِ فتوانىَ فيه، ورأى منه عبدُ الملك، بعضَ التفريط، فقال
لسُليمان بن سَعْد كاتِبه على الرًّسائل: إنَّ سرَجون يُدِلّ علينا بصناعته، وأظن أنه رأى ضَرورتنا إليه في
حِسابه، فما عندك فيه حِيلة؟ فقال: بلى، لو شئت لحوَّلتُ الحِساب من الرُّومية إلى
العربية. قال: أفعل. قال: أَنظرني أعانِ ذلك. قال: لكَ نَظِرة ما شئْت. فحَوَّل!
الديوانَ، فولّاه عبدُ الملك جميعَ ذلك. وحسَّان النَّبَطيّ كاتِبُ الحجَّاج،
وسالم مولى هِشام بن عبد الملك، وعبد الحميدُ الأكبر، وعبدُ الصَمد، وجَبلة بن عبد
الرحمن، وقَحْذم، جَدّ الوليد بن هشام القَحْذمي، وهو الذي قلب الدواوين من
الفارسية إلى العربية. ومنهم: الفَرَّاء، كاتبُ خالد بن عبد اللّه القسْريّ. ومنهم: الربيع، والفَضل
بن الربيِع، ويعقوب بن داود، ويحيى بن خالد وجَعفر بن يحيى، وأبو محمد، عبد اللّه
بن المُقَفّع، والفَضْل ابن سَهل، والحَسن بن سَهل، وجَعفر بن محمد بن، الأشعث،
وأحمد بن يوسف، وأبو عبد السلام الجُنْد يسابوريّ، وأبو جعفر محمد بن عبد الملك
الزيَّات، والحسن بن وَهْب، وإبراهيم بن العبّاس الصُولي، ونَجاح بن سَلمة، وأحمد
بن محمد بن، المًدبّر. فهؤلاء نَبُلوا بالكتابة واستحقوا اسمها.
من أدخل نفسه في
الكتابة ولم يستحقهاصالح بن شيرزاد، وجعفر بن سابور، كاتب الأفشِين، والفَضْل بن
مَرْوان، وداود بن الجَرَّاح، وأبو صالح عبد اللهّ بن محمد بن يَزْداد، وأحمد ابن
الخصيب. فهؤلاء لَطّخوا أنفسهم بالكتابة وما دانوها.
وقال بعضَ الشعراء في
صالح بن شِيرزاد:
حِمَار في الكِتابة
يَدَّعيها ... كدَعْوى آل حَرْب في زِيادِ
فَدَع عنك الكِتابة
لست منها ... ولو غَرَّقتَ ثوبك في المِداد
ومنهم: أبو أيّوب،
ابن أخت أبي الزير، وهو القائل يَرْثي أمَّ سُليمان بن وَهْب الكاتب:
لأمّ سُليمانٍ علينا
مُصِيبةٌ ... مُغَلْغلة مثلُ الحُسام البَواتِر
وكُنتِ سرِاجَ البيتِ
يا أمَّ سالم ... فأضحى سراجُ البيت وَسْط المَقابر
فقال سُليمان بن وهب:
ما نَزلً بأحدٍ من خَلْق اللّه ما نَزل به، ماتت أمي فرُثيت بمثل هذا الشعر، ونُقل
اسمي من سُليمان إلى سالم.
صفة الكتابقال
إبراهيم بن محمد الشَيباني: من صِفة الكاتب اعتدالُ القامة، وصِغَر الهامة،
وخِفَّة اللَهازم، وكَثَافة اللِّحية، وصِدْق الحِسّ، ولُطْف المَذْهب، وحًلاوة
الشمائل، وحُسْن الإشارة، ومَلَاحة الزِّي، حتى قال بعضُ المَهالبة لولده:
تَزَيَّوا بزِيّ الكُتِّاب، فإن فيهم أدبَ الملوك وتواضعَ السُّوقة. وقال إبراهيم
بن محمد الكاتب: من كمال آل الكِتابة أن يكون الكتاب: نَقِيّ المَلْبس، نَظيف
المَجْلس، ظاهر المُروءة، عَطِر الرّائحة، دَقيق الذِّهب، صادق الحِسّ، حَسَن
البيان، رَقيق حواشي اللسان، حُلْو الإشارة، مَليح الاستعارة، لطيفَ المسالك،
مُسْتَقِرّ التّركيب؛ ولا يكون مع ذلك فَضفَاض الجثّة، مُتفاوت الأجزاء، طويل اللِّحية،
عظيم الهامة؛ فإنهم زَعموا أنّ هذه الصورة لا يليق بصاحبها الذَّكاءُ والفِطْنة.
وأنشد سعيد بن حُميد في إبراهيم بن العباس:
رأيتُ لهازمَ
الكُتّاب خَفَّت ... ولهزْمتاك شأنُهما الفَدَامة
وكُتّاب الملوك لهم
بَيانٌ ... كمِثْل الدُّر قد رَصَفوا نِظَامَ،
وأنت إذا نطقتَ كأنّ
عَيْراً ... يَلُوك بما يَفُوه به لِجامه
وقال آخر:
عليكَ بكَاتب لَبِقٍ
رَشِيقٍ ... زَكِيِّ في شَمائله حرارَه
تُناجِيه بطَرْفًك
مِن بَعيد ... فيفهمُ رَجْع لَحْظك بالإشارة
ونظر أحمد بن
الخَصِيب إلى رجل من الكتاب: فَدْم المنظر، مُضْطرر الخَلْق، طويل العُثْنون،
فقال: لأن يكون هذا فِنْطاسٌ مُرَكب أشبهَ من أن يكون كاتباً.
فإذا اجتمعت للكاتب
هذه الخلال، وانتظمت فيه هذه الخِصال، فهو الكافِ البليغ، والأديب النِّحْرِير،
وإن قَصَّرت به آلة من هذه الآلات، وقَعدت به أداةٌ كل هذه الأدوات، فهو مَنقوص
الجمال مُنْكسف الحِس، مَبْخوس النَصيب.
ما ينبغي للكاتب أن
يأخذ به نفسهقال إبراهيم الشِّيباني: أولَ ذلك حُسْن الخط الذي هو لِسان اليد،
وبَهجة الضَّمير، وسِفير العقل، ووَحْي الفِكْرة، وسِلاح المَعْرفة، وأنس الإخوان
عند الفرقة ومحادثتهم على بُعد المسافة، ومُسْتودَع السرّ، وديوان الأمور. ولستُ
أجد لحُسن الحظ حدًا أقف عليه أكثرَ من قول عليّ بن رَبَن، النصراني الكاتب، فإني
سألته واستوصفتُه الخَطّ، فقال: أعلّمك الخطِّ في كلمة واحدة، فقلت له: تَفَضَل
بذلك فقال: لا تكتبْ حَرْفاً حتى تَسْتَفرغَ مجهودَك في كتابة الحَرْف، وتَجْعَل
في نفسك إنك تَكْتب غيرَه حتى تَعْجِزَ عنه، ثم تنتقل، إلى ما بعده. وإياك والنَقْط
والشَّكْل في كتابك إلا أن تمر بالحَرْف المُعضِل الذي تعلم أنّ المكتوبَ إليه
يَعْجِز عن استخراجه فإني سمعتُ سعيدَ بن حُميد بن عبد الحميد، الكاتب يقول: لأن
يُشْكِل الحرفُ عن القارىء أحبُّ إليَ من أن يُعابَ الكتاب بالشَكل. وكان المأمونُ
يقول: إيَّاكم والشُّونِيز في كُتبكم - يعني النَّقْط والإعجام. ومن ذلك أن يُصْلِحَ الكاتبُ آلتَه التي لا بُدَّ
منها، وأداتَه التي لا تَتم صناعتُه إلا بها، مثلِ دَواته، فلْيُنْعِمْ ربَّها
وإصلاحَها، ولْيتخيَّر من أنابيب القَصب أقلَّه عُقداً، وأكثرَه لَحْماً، وأصلَبه
قِشْراً، وأعدلَه استواء، ويجعلَ لقِرْطاسه سِكِّينَاً حاداً لتكون عَوْناً له على
بَرْي أقلامه، ويَبريها من ناحية نَبات القَصبة. وأعلم أنّ محلَّ القلَم من الكاتب
كمحلِّ الرّمح من الَفارس.
قال العتّابيّ: سألني
الأصمعي يوماً في دار الرّشيد: أيُّ الأنابيب للكتابة أصلَح وعليها أصْبر؛ فقلتُ
له: ما نشِفَ بالهَجير ماؤه، وسَتره عن تلويحه غشاؤه، من التِّبْريّة القُشور،
الدّرّية الظًّهور، الفِضَية الكُسور. قال: فأيّ نوع من البَرْي أصْوبُ وأكْتب؟
فقلت: البَرْية المُستوية القَطَّة، التي عن يمين سِنّها قُرْنة تأمن معها
المَجَّة عند المَدة والمَطّة، للهواء في شَقّها فَتُيق، والرِّيح في جَوْفها
خَريق، والمدادُ في خُرطُومها رقيق. قال العتّابي: فبقي الأصمعي شاخصاً إليّ ضاحكاً
لا يُحير مسألةً ولا جواباً.
ولا يكون الكاتب
كاتباً حتى لا يَسْتطيع أحدٌ تأخيرَ أوّل كتابه وتقديمَ آخره. وأفضل الكُتّاب ما
كان في أوَّل كِتابته دليلٌ على حاجته، كما أنّ أفضلَ الأبيات ما دلَّ أولً البيت على
قافيته. فلا تُطيلنّ صَدْرَ كِتابك إطالةً تُخرجه عن حدّه، ولا تُقَصِّر به دون
حدِّه، فإنَّهم قد كَرِهوا في الجُمْلة أن تَزيدَ صًدور كُتب المُلوك على سَطْرين
أو ثلاثة أو ما قارب ذلك.
وقيل للشَّعْبيّ: أيّ شيء
تَعرف به عقلَ الرجُل؟ قال: إذا كَتب فأجاد. وقال الحسنُ بن وَهْب: الكاتبُ
نفسٌ واحدة تجزّأت في أبدان مُتفرِّقة.
فأما الكاتب
المُستحقّ اسم الكِتابة، والبليغُ المَحْكوم له بالبلاغة، مَن إذا حاول صِيغَة
كتاب سالت عن قلمه عُيونُ الكلام من ينابيعها، وظَهرت من معادنها، وبدرت من مواطنهَاَ،
من غير استكراه ولا اغتصاب.
بلغني أنّ صَديقاً
لكُلثوم العتّابي أتاه يوماً فقال له: اصنع ليِ رسالةً، فاستعدّ مدّة ثم علّق القلم،
فقال له صاحبه: ما أرى بلاغَتك إلا شاردةً عنك. فقال له العتِّابيّ: إني لما
تناولتُ القلم تداعتْ عليّ المعاني من كل جهة، فأحببتُ أن أترك كل معنَى حتى يرجع
إلى موضعه ثم أَجتني لك أحسنَها. قال أحمدُ بن محمد: كنتُ عند يزيد بن عبد اللّه
أخي ذُبْيان، وهو يُمْلي على كاتب له، فأعجَل الكاتبَ ودَارَك في الإملاء عليه،
فتَلجلج لسانُ قَلَم الكاتب عن تَقْييد إملائه، فقال له: اكتُب يا حمار. فقال له
الكاتبُ: أَصْلَحَ اللهّ الأمير، إنه لما هَطلت شآبيبُ الكلام وتَدافعت سُيولُه
على حَرْف القَلَم، كَلَّ القَلمُ عن إدراك ما وَجب عليه تقييدُه. فكان حُضور جواب
الكاتب أبلغَ من بلاغة يزيد. وقال له يوماً وقد مَطَّ حرْفاً في غير مَوْضعه: ما
هذا؟ قال: طُغْيان في القَلَم.
فإنْ كان لا بُدّ لك
من طَلَب أدوات الكِتابَة فتَصفّح من رسائل المُتقدّمين ما
يُعتمد عليه، ومن
رسائل المُتأخّرين ما يُرْجَع إليه، ومن نوادر الكلام ما تَستعين به، ومن الأشعار
والأخبار والسِّير والأسمار ما يَتَّسع به مَنْطِقُك، ويطولُ به قَلَمك، وانظر في
كتب المقامات والخُطب، ومُجاوبة العَرَب، ومعاني العجم، وحُدود المَنْطق، وأمْثال
الفُرس ورسائلهم وعُهودهم وسَيرهم ووقائعهم ومَكايدهم في حُروبهم، والوَثائق
والصُّور وكُتب السجلاّت والأمانات، وقَرْض الشِّعر الجَيِّد، وعِلْم العروض، بعد
أن تكون مُتوسِّطاً في، علم النَّحو والغَريب، لتكون ماهراً تنتزعُ آيَ القًرآن في
مواضعها، والأمثالَ في أماكنها، فإنّ تَضْمين المَثل السائر، والبَيْت الغابر
البارع، مما يزين كتابك، ما لم تُخاطب خليفةً أو مَلِكاً جليلَ القَدْر، فإنّ
اجتلاب الشِّعر في كتب الخلفاء عيبٌ، إلا أن يكون الكاتب هو القارض للشِّعر
والصانع له، فإنّ ذلك يَزيد في أبّهته.
خبر حائك الكلامأبو
جعفر البغداديّ قال: حَدثنا عثمانُ بن سَعيد قال: لما رَجع المُعتصم من الثّغْر
وصار بناحية الرَّقّة، قال لعمرو بن مَسْعدة: ما زلْتَ تسألني في الرُّخجيّ حتى
وَلَّيتُه الأهواز، فَقَعَد في سرُة الدُّنيا يأكلها خَضما وقَضْما؛ ولم يُوجِّه
إلينا بدِرهم واحد. اخرُج إليه من ساعتك. فقلتُ في نفسي: أبعدَ الوزارة أصيرُ
مُحستَحَثا على عامل خراج! ولكنْ لم أجدْ بدًّا من طاعة أمير المؤمنين، فقلت: أَخرج إليه يا أمير
المؤمنين. فقال: حلف لي أنك لا تقيم ببغداد إلا يوماً واحداً. فحلفتُ له، ثم
انحدرت إلى بغداد، فأمرتُ ففُرِش لي زَوْرق بالطبريّ وغُشيِّ بالسِّلْخ، وطُرح
عليه الكُرّ. ثم خرجتُ، فلما صرْتُ بين دَيْر هِزْقل ودَيْر العاقول إذا رجل يصيح:
يا ملّاح، رجلٌ منقطع. فقلتُ للملاّح: قَرَّب إلى الشّطّ. فقال: يا سيدي، هذا شَحّاذ، فإنْ قَعد معك آذاك. فلم ألتفتْ إلى قوله،
وأمرتُ الغِلمان فأدْخلوه، فَقَعد في كَوْثل الزَّوْرق. فلما حَضر وقتُ الغِداء
عزمتُ أن أدعُوه إلى طَعامي، فدعوتُه، فجعل يأكل أكلَ جائع بنَهَامة إلاّ أنه نظيف
الأكل. فلما رُفع الطعامُ أردتُ أن يَستعمل معي ما يَتسعمل العوامُّ مع الخواص: أن
يقومَ فيغسل يدَه في ناحية، فلم يَفعل، فغَمزه الغِلْمان فلم يَقُم، فتشاغلتُ عنه
ثم قلت؟ يا هذا، ما صناعتُك قال: حائك: فقلتُ في نفسي: هذه شر من الأولى. فقال لي: جُعِلت فِداك، قد سألتَني
عن صِناعتي فأخبرتُك، فما صناعتُك أنت؟ قال: فقلت في نفسي: هذه أعظمُ من الأولى،
وكرهتُ أن أذكر له الوزارة، فقلتُ: اقتصر له على الكتابة، فقلت: كاتب. قال: جُعلت
فداك، الكُتّاب على خمسة أصناف: فكاتبُ رسائل يحتاج إلى أن يعرف الفَصل من الوصل،
والصُّدور، والتَّهاني، و التَّعازي، والتَرغيب والتَّرهيب، والمقصور والمَمْدود،
وجُملًا من العربيّة؛ وكاتب خرَاج يحتاج إلى أن يَعْرف الزَّرْع والمِساحة
والأشْوال والطسُوق، والتّقسيط،
والحساب؟ وكاتب جُند يحتاج إلى أن يَعرف مع الحساب الأطماعَ، وشِيات الدواب، وحُلَى
الناس؛ وكاتب قاضٍ يحتاج إلى أن يكون عالماً بالشّروط والأحكام والفُروع والناسخ
والمَنسوخ والحلال والحرام والمواريث؛ وكاتب شُرطة يحتاج إلى أن يكون عالماً
بالجُروح والقِصاص والعقول والدَيات. فأيهم أنت أعزّك اللهّ؟ قال: قلت: كاتب رسائل. قال: فأخبرني إذا كان لك
صديق تكتب إليه في المحبوب والمكروه وجميع الأسباب، فتزوجتْ أمهُ، فكيف تكتب له،
أتهنِّيه أم تُعزِّيه؟ قلت: والله ما أقفُ على ما تقول. قال: فلستَ
بكاتب رسائل، فأيهمِ أنت؟ قلت: كاتب خراج. قال: فما تقول أصلحك اللهّ وقد ولاك
السلطان عملاَ فَبَثَثْتَ عُمّالك فيه، فجاءك قوم يتظلّمون من بعض عُمّالك، فأردتَ
أن تَنْظر في أمورهم، وتًنصفهم إذا كنت تُحبّ العدل والبِرّ، وتُؤثر حُسن الأحدوثة
وطيب الذِّكر، وكان لأحدهم قَرَاح، كيف كنت تمسحه؟ قال: كنت أضرب العُطوف في
العَمُود، وأنظر كم مقدار ذلك. قال: إذن تظلَم الرجل. قلتُ: فامسح العَمود على
حِدَة. قال: إذا تظلَم السلطان. قلت: والله ما أدري. قال: فلستَ بكاتب خراج، فأيهم أنت؟ قلت: كاتب جُنْد.
قال: فما تقول في رجلين اسم كل واحد منهما أحمد، أحدهما مَقْطوع الشفة
العليا والآخرً مقطوع الشَّفة السُّفلى، كيف كنت تكتب حِلّيتهما؟ قال: كنت أكتب، أحمدُ
الأعلم وأحمد الأعلم. قال: كيف يكون هذا ورِزْقُ هذا مائتا درهم ورزق هذا ألفُ
درهم، فيقبض هذا على دَعْوة هذا، فتظلِم صاحب الألف! قلت: واللهّ ما أدري. قال:
فلستَ بكاتب جُند، فأيهم أنت؟ قلتُ: كاتب قاض. فمال: فما تقول أصلحك اللّه في رجل
تُوفي وخَلَّف زوجة وسُرِّيّة، وكان للزوجة بنت وللسُرّيَّة ابن، فلما كان في تلك
الليلة أخذت الحُرّة ابن السُرّية فادَّعَته، وجعلتْ ابنتها مكانه، فتنازعا فيه،
فقالت هذه: هذا ابني، وقالت هذه: هذا ابني، كيف تحكم بينهما وأنت خليفةُ القاضي؟
قلت: واللّه لمست أدري. قال: فلستَ بكاتب قاض، فأيّهم أنت؟ قلت: كاتب شرطة. قال:
فما تقول: أصلحك الله في رجل وَثب على رجل فشجَّه شَجة مُوضحة، فوثب عليه
المَشجوج فشجه شجّة مَأْمُومة؛ قلتُ: ما أعلم. ثم قلت: أصلحك اللّه، قد سألتَ
ففسِّر لي ما ذكرتَ. قال: أما الذي تزوّجت أمّه فتكتبُ إليه: أما بعد، فإن أحكامَ اللّه
تَجْري بغير مَحابّ المَخْلوقين واللّه يختار للعباد، فخار اللّه لك في قَبْضها
إليه، فإن القبرَ أكرمُ لها، والسلام؛ وأما القَراح، فتضرب واحداً في مساحة
العُطوف، فمن ثَمَّ بابُه، وأما أحمد وأحمد، فتكتب حِلْية المَقْطوع الشّفة
العُليا: أحمد الأعلم، والمَقْطوع الشفة السفلى، أحمد الأشرم، وأما المرأتان،
فيُوزن لبن هذه ولبن هذه، فأيّهما كان أخف فهي صاحبة البنت؛ وأما الشّجّة، فإن في
المُوضحة خمساً مني الإبل، وفي المأمومة ثلاثاً وِثلاثين وثُلثاً، فيَرُدّ صاحبُ
المأمومة ثمانيةً وعشرين وثُلثاً. قلت: أصلحك اللهّ، فلا نزع بك إلى هنا؟ قال؛ ابنُ عمّ لي كان عاملاً
على ناحية، فخرجتُ إليه فألفيتُه مَعْزولاً، فقُطع بي، فأنا خارج أضطرب في المعاش.
قلتُ: ألستَ ذكرتَ أنك حائك؟ قاٍل: أنا أحُوك الكلام ولستُ بحائك الثياب. قال:
فدعوتُ المُزَيِّن فأخذ من شَعَره، وأدْخِل الحمّام فطَرحْتُ عليه شيئاً من ثيابي.
فلما صرتُ إلى الأهواز كلمت الرخّجيّ فأعطاه خمسةَ آلاف درهم ورَجع معي، فلما صرتُ
إلى أمير المؤمنين، قال: ما كان من خَبرك في طريقك؟ فأخبرتُه خبري حتى حدَّثتُه
حديث الرجل. فقال لي: هذا لا يُستغنى عنه، فلأيّ شيء يصلُح؛ قلت: هذا أعلم الناس
بالمساحة والهندسة. قال: فولاه أميرُ المؤمنين البناء والمَرمَّة. فكنتُ واللّه
ألقاه في المَوكب النبيل فينحطّ عن دابته، فأحلِف عليه، فيقول: سُبحان اللّه! إنما
هذه نِعْمتك، وبك أفدتُها.
فضائل الكتابةقالت
أبو عثمان الجاحظ: ما رأيتُ قوماً أنفذ طريقةً في الأدب من هؤلاء الكتّاب، فإنهم
التمسوا من الألفاظ ما لم يكن متوعِّراً وَحشيّا، ولا ساقطاً سُوقيا. وقال بعضُ
المهالبة لبنيه: تزيّوا بزِيّ الكُتّاب فإنهم جَمعوا أدب الملوك وتواضُع السوقة.
وعَتب أبو جعفر المنصور على قوم من الكُتاب فأمر بحَبْسهم، فرفعوا إليه رُقعة ليس
فيها إلا هذا البيت:
ونحنُ الكاتبون وقد
أسأنا ... فَهَبْنا للكرام الكاتِبينَا
فعفا عنهم وأمر
بتَخْلية سبيلهم.
وقال المؤيد: كُتّاب
المُلوك عُيونهم الناظرة، وآذانهم الواعية، وألسنتُهم الناطقة. والكتابةُ أشرفُ
مراتب الدُّنيا بعد المحلافة، وهي صناعةٌ جليلة تَحتاج إلى آلات كثيرة. وقال سهلُ
بن هَارون: الكتابة، أولُ زِينة الدُنيا التي إليها يتناهَى الفضلُ، وعندها تَقِف
الرَّغبة.
ما يجوز في الكتابة وما
لا يجوز فيهاقال إبراهيم بن محمد الشَيباني: إذا احتجت إلى مُخاطبة المُلوك والوُزراء
والعُلماء والكُتّاب والخُطباء والأدباء والشُّعراء وأوساط الناس وسُوقتهم، فخاطبْ
كُلاً على قَدْر أبهته وجلالته، وعُلوَه وارتفاعه، وفِطْنته وانتباهه. واجعل طبقات
الكلام على ثمانية أقسام؛ منها: الطبقات العَلِية أربع، والطبقات الآخرً، وهي دونها، أربع؛ لكل طبقة
منها درجة، ولكلّ قَسْمها، لا ينبغي للكاتب البليغ أن يقصّر بأهلها عنها ويَقْلب معناها
إلى غيرها. فالحدّ الأوّل: الطبقات العُليا، وغايتها القُصوى الخِلافة، التي أجل
اللّه قدرَها وأعلَى شأنها عن مُساواتها بأحد من أبناء الدُّنيا في التعظيم
والتوقير؛ والطبقة الثانية لوزرائها وكتّابها الذين يُخاطبون الخلفاء بعقُولهم
وألسنتهم، ويَرْتِقُون الفُتوق بآرائهم؛ والطبقة الثالثة أمراء ثُغورهم وقُوّاد
جُنودهم، فإنه تجب مُخاطبة كل أحد مِنهم على قدره ومَوْضِعه، وحظّه وغَنائه
وإجزائه، واضطلاعه بما حَمل من أعباء أمورهم وجلائل أعمالهم؛ والرابعة القضاة،
فإنهم وإن كان لهم تواضع العُلماء، وحِلْية الفضلاء، فمعهم أبهة السَّلطنة وهَيْبة
الأمراء. وأما الطبقات الأربع الآخرً فهم: الملوك الذين أوجبت نعمُهم تعظيمَهم في
الكَتْب إليهم، وأفضالُهم تَفضيلَهم فيها؛ والثانية وزراؤهم وكتَّابهم وأتباعهم الذين
بهم، تُقرع أبوابهم، وبعناياتهم تُستماح أموالهم؛ والثالثة هم العلماء الذين، يجب
توقيرهم في الكَتب بشرف العِلم وعلوّ درجة أهله؛ والطبقة الرابعة لأهل القدر
والجلالة، والحلاوة والطلاوة، والظرف والأدب، فإنهم يضطرونك بحدّة أذهانهم، وشدّة
تمييزهم وانتقادهم، وأدبهم وتصفّحهم، إلى الاستقصاء على نفسك في مُكاتبتهم.
واستغنينا عن الترتيب للسّوقة والعوامّ والتجّار باستغنائهم بمهناتهم عن هذه
الآلات، واشتغالهم بمهماتهم عن هذه الأدوات. ولكل طبقة من هذه الطبقات معان ومذاهب
يجب عليك أن ترعاها في مراسلتك إياهم في كتبك، فتزن كلامك في مُخاطبتهم بميزانه،
وتعطيه قَسمه، وتُوفّيه نصيبه؛ فإنك متىِ أهملت ذلك وأضعتَه لم آمن عليك أن تَعدل
بهم عن طريقهم، وتسلك بهم غير َمسلكهم، ويَجرىَ شُعاع بلاغتك في غير مجراه، وتَنْظَمِ
جوهر كلامك في غير سِلكه. فلا تعتدّ بالمعنى الجَزْل ما لم تُلْبسه لفظاً لاثقاً
لمن كاتبته، ومُلتئماً بمن راسلته، فإنّ إلباسَك المَعنى، وإن صَحّ وشَرُف، لفظاً
مُتخلّفاً عن قَدْر المكتوب إليه لم تَجْر به عاداتهم، تهجينٌ للمعنى، وإحلال
بقَدْره، وظُلم بحق المَكتوب إليه، ونَقْص مما يجب له؛ كما أن في إتباع تعارفهم،
وما انتشرت به عادتهم، وجَرت به سُنتهم، قطعاً لعُذرهم، وخُروجاً من حقوقهم،
وبُلوغاً إلى غاية مُرادهم، وإسقاطاً لحُجة أدبهم. فمن الألفاظ المَرغوب عنها،
والصُّدور المستوحش منها في كتب السادات والمُلوك والأمراء، على اْتفاق المعاني،
مثل: أبقاك الله طويلًا، وعَمَّرك مَلِيّا. وإن كنّا نعلم أنه لا فرق بين قولهم:
أطال اللّه بقاك، وبين قولهم: أبقاك اللّه طويلًا. ولكنهم جعلوا هذا أرجَح وَزْناً،
وأنبه قدراً في المُخاطبة. كما أنّهم جعلوا: أكرمك اللّه، وأبقاك، أحسن منزلاً في
كُتب الفُضلاء والأدباء، من: جُعلت فداك، على اشتراك معناه، واحتمال أن يكون
فداءَه من الخير، كما يحتمل أن يكون فداءَه من الشر؛ ولولا أنّ رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم قال لسعد بنٍ أبي وقّاص: ارْم فداك أبي وأمي، لكرِهنا أن يَكْتب بها أحد. على أن كُتّاب
العَسكر وعوامّهم قد وَلعوَا بهذه اللَفظة حتى استعملوها في جميع مُحاوراتهم، وعلوها
هِجِّيراهم في مخاطبة الشريف والوَضيع، والكبير والصغير. وذلك قال محمود الورَّاق:
كُلّ مَنْ حَلّ سُرّ
مَنْ نرى مِن الناس ... ومَن قد يُداخل الأملاكا
لو رأى الكَلْب
ماثلاً بطريق ... قال للكَلْب يا جُعِلت فِدَاكا
وكذلك لم يجيزوا أن
يكتبوا بمثل، أبقاك اللّه، وأمتع بك، إلا في الابن والخادم المنقطع إليك؛ وأما في
كتب الإخوان، فغير جائز بل مَذموم مَرغوب عنه. ولذلك كتب عبدُ اللّه بن طاهر إلى
محمد بن عبد الملك الزيات:
أحُلْتَ عما عَهدْتُ
من أدبكْ ... أم نِلْتَ مُلْكاً فتِهْتَ في كُتبكْ
أم قد تَرى أنًّ في
مُلاطفة الْ ... إخوان نَقْصاً عليك في أدبك
أكان حقّا كتابُ ذي
مِقَة ... يكون في صَدْره: وأمْتَع بك
أتعبت كفَّيك في
مُكاتبتي ... حسبُك ما قد لقيتَ في تَعبك
فكتب إليه محمد بن
عبد الملك الزيات:
كيف أخون الإخاء يا
أملي ... وكلّ شيء أنالُ من سببكْ
أنكرتَ شيئاً فلستُ
فاعلَه ... ولن تُراه يُخَطِّ في كتبك
إنْ يك جهلٌ أتاك مِن
قِبلي ... فعُد ْبفَضْلٍ عَليّ من حَسبك
فاعفُ فدَتْك
النُّفوس عن رجلٍ ... يَعيش حتى المماتِ في أدبك
ولكلّ مَكْتوب إليه
قدرٌ ووَزنْ، يَنبغي للكاتب ألاّ يَتجاوز به عنه، ولا يُقصّر به دونه. وقد رأيتهم
عابُوا الأحوص حين خاطب المُلوك خطاب العوامّ في قوله:
وأراك تَفعل ما تقُول
وبعضًهم ... مَذِق الحديث يقول ما لا يَفْعلُ
وهذا معنى صحيح في
المدح، ولكنهم أجلّوا قدر الملوك أن يُمدحوا بما تُمدح به العوامّ؛ لأن صِدْق الحديث
وإنجاز الوعد وإن كان من المدح فهو واجب على العامّة، والمُلوكُ لا يُمدحون
بالفرائض الواجبة، إنما يَحسن مدحُهم بالنّوافل، لأنّ المادح لو قال لبعض المُلوك:
إنك لا تَزْني بحليلة جارك، وإنك لا تخون ما استودعْت، وإنك لتصدًق في وَعدك وتَفي
بعهدك، فكأنه قد أثنى بما يجب، ولو قَصد بثنائه إلى مَقصده كان أشبهَ في الملوك.
ونحن نعلم أنَّ كل
أمير يتولَّى من أمر المؤمنين شيئاً فهو أميرُ المؤمنين، غير أنهم لم يُطلقوا هذه
اللفظة إلا على الخُلفاء خاصة. ونحنِ نعلم أن الكَيّس هو العاقل، لكن لو وصفتَ
رجلاً فقلت: إنه لعاقل، كنت مدحته عند الناس، وإن قلت: إنه لكيّس، كنت قد قَصَّرْت
به عن وَصْفه وصَغَّرت من قدره، إلا عند أهل العلم باللغة؛ لأنَّ العامَّة لا
تلتفت إلى معنى الكلمة، ولكن إلى ما جرت به العادة من استعمالها في الظاهر، إذ كان
استعمال العامَّة لهذه الكلمة مع الحَداثة والغِرّة وخَساسة القدر وصِغَر السن.
وقد روينا عن عليّ كرم اللّه وجهه أنه تسمّى بالكيّس حين بَنى سِجن الكوفة، فقال
في ذلك:
أما تُراني كَيِّساً
مُكَيسَا ... بنيتُ بعد نافع مُخَيَّسَا
حِصْناً حصيناً ...
وأميناً كيسا
وقال الشاعر:
ما يَصْنع الأحمقُ
المرْزوق بالكَيْس
وكذلك نعلم أن الصلاة
رحمة، غير أنهم كرهوا الصلاة إلا على الأنبياء، كذلك روينا عن ابن عباس. وسمع سعدُ
بن أبي وقّاص ابن أخ له يلبّي ويقول في تَلْبيته: لَبَّيك يا ذا المعارج، فقال: نحن نعلم أنه ذو المعارج، ولكن ليس كذا
كنَّا نلبّي على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، إنما كنِّا نقول: لبَّيك اللهم
لبيك. وكان أبو إبراهيم المُزني يقول في بعض ما خاطب به داود ابن خَلَف الأصبهاني:
فإِن قال كذا فقد خرج عن الملّة، والحمد لله. فنقض ذلك عليه داودُ، وقال فيما ردّ
عليه: تَحمد اللّه على أن تُخرج امرأ مُسلماً من الإسلام، وهذا موضع استرجاع،
وللحمد مكان يَليق به! وإنما يقال في المُصيبة: إِنا للّه وإنا إليه راجعون.
فامتثِل هذه المذاهب،
واجر على هذه القواعد، وتحفّظ في صُدور كُتبك وفًصولها وخواتمها، وضَع كل معنى في
موضع يليق به، وتخير لكل لفظة معنى يشاكلها، وليكن ما تختم به فُصولك في موضع ذكر
البَلْوى بمثل: نسأل اللّه دَفْعَ المَحْذور، وصَرف المكروه، وأشباه هذا؟ وفي
موضعِ ذكر المُصيبة: إنا للّه وإنا إليه راجعون؟ وفي موضع ذكر النِّعمة: الحمد لله
خالصاَ والشكر لله واجباً. فإن هذه المواضع يجب على الكاتب أن يتفقَدها ويتحفظ
فيها؛ فإن الكاتب إنما يصير كاتباً بأن يَضع كل معنى في موضعه، ويعلق كل لفظة على
طبقتها من المعنى. واعلم أنه لا يجوز في الرسائل استعمالُ ما أتت به أيُ القرآن من
الاقتصار والحذف، ومخاطبة الخاصّ بالعام والعام بالخاصّ، لأنَّ الله جل ثناؤه
خاطَب بالقرآن قوماً فُصحاء فَهِموا عنه جلّ ثناؤه أمرَه ونَهيه ومُراده، والرسائل
إنما يُخاطب بها أقوامٌ دخلاء على اللغة، لا علم لهم بلسان العرب. وكذلك ينبغي
للكاتب أن يَجتنب اللفظ المشترك والمعنى المًلْتبس، فإنه إذن ذهب يُكاتب على مثل معنى
قول الله تعالى: " واسأل القَرْية التي كُنّا فيها والعِيَر التي أقبلنا فيها
" وكقوله تعالى: " بل مَكْر الليل والنهار " ، أحتاج الكاتب أن يُبين
معناه: بل مكرهم بالليل والنهار، ومثل هذا كثير لا يتسع الكتاب لذكره. وكذلك لا
يجوز أيضاًً في الرسائل والبلاغات المشهورة ما يجوز في الأشعار المَوزونة، لأنّ
الشاعر مُضطر، والشِّعرَ مَقْصور مقيَّد بالوزن والقوافي، فلذلك أجازوا لهم صَرْفَ
ما لا ينصرف من الأسماء، وحذفَ ما لا يُحذف منها، واغتفروا فيه سوء النظم، وأجازوا
فيه التَّقديم والتأخير، والإضمار في موضع الإظهار، وذلك كله غير مُستساغ في
الرسائل ولا جائز في البلاغات. فمما أجيز في الشعر من الحذف مثل، قول الشاعر:
قواطناً مَكةَ من
وُرْق الحَمَى يعني الحمام
وقول الآخر:
صِفر الوشاحين صَموت
الخَلْخل يريد: الخلخال
وكقول الآخر:
دار لسَلْمَى إذ مِن
هَواكا يريد: إذ هي
وكقول الحُطيئة:
فيها الرماحُ وفيها
كلُّ سابغة ... جَدْلاء مَسْرودة من صُنع سلّاَم
يريد: سليمان. وكقول
الآخرً:
من نَسْج داود أبي
سلاَّم ... والشيخ عُثمان أبي عفّان
أراد: عثمان بن عفان.
وكما قال الآخرً:
وسائلةٍ بثَعلبةَ بنِ
سَير ... وقد عَلِقت بثَعلبةَ العَلوقُ
وأراد: ثَعلبة بن
سيّار. وكما، قالً الآخرً:
ولستُ بآتيه ولا
أسُتطيعه ... ولاكِ اسقني إن كان ماؤك ذا فَضْل
أراد: ولكن.
وكذلك لا ينبغي في
الرسائل أن يُصغَّر الاسم في موضع التَّعظيم، وإن كان ذلك جائزاً، مثل قولهم:
دُويهية، تصغير داهية. وجُذلِل، تصغير جِذْل. وعُذيق، تصغير عَذق. وقال الشاعر، هو
لَبيد:
وكُل أناس سوف تَدْخل
بينهم ... دُويهيةٌ تَصْفرّ منها الأناملُ
وقال الحُباب بن
المُنذر، يومَ سَقيفة بني ساعدة: أنا عُذَيقها المُرجّب، وجُذيلها المُحكّك. وقد
شرحه أبو عبيد.
ومما لا يجوز في
الرّسائل وكَرهوه في الكلام أيضاً مثلُ قولهم: كلّمتُ إياك، وأعني إيّاك، وهو جائز
في الشعر. وقال الّشاعر:
وأحْسِنْ وَأَجْمِلْ
في أسيرك إنّه ... ضعيفٌ ولم يأسِر كإياك آسرُ
وقال الراجز:
إياك حتى بلَغت إياك
فتخَيَّر من الألفاظ
أرجحَها لفظاً، وأجزَلها معنى، وأشرفَها جوهراً، وأكرِمَها حسباً، وأليقها في
مكانها، وأشكلها في موضعها؛ فإن حاولت صَنعة رسالة فزِن اللَّفظة قبل أن تُخرجها
بميزانِ التِّصريف إذا عَرضت، وعاير الكلمة بمعيارها إذا سنَحت، فإنه ربما مَرّ بك
موضعٌ يكون مخرج الكلام إذا كتبتَ: أنا فاعل، أحسنَ من أن تكتب: أنا أفعل، وموضع آخرً يكون فيه: استفعلت،
أحلى من: فعلت. فأدِر الكلام على أماكنه، وقلِّبه على جميع وُجوهه، فأيّ لَفظة رأيتَها
أخف في المكان
الذي ندبتها إليه،
وأنزعَ إلى اٍلموضع الذي راودتًها عليه، فأوْقعها فيه، ولا تجعل اللَفظة قَلِقة في
موضعها، نافرةً عن مكانها، فإنك متى فعلت هجّنت الموضع الذي حاولت تَحسينه،
وأفسدتَ المكان الذيِ أردت إصلاحه؛ فإنَ وضع الألفاظ في غير أماكنها، وقَصْدَك بها
إلى غير مًصابها، وإنما هو كتَرْقيع الثوب الذي لم تتشابه رقاعه، ولم تتقارب أجزاؤه،
فخرج من حَدّ الجدّة، وتغيّر حُسْنه، كما قال الشاعر:
إنّ الجديدَ إذا ما
زيد في خَلَقٍ ... تَبَن الناسُ أنّ الثوبَ مَرْقوعُ
وكذلك كلما احلولى
الكلامُ وعَذُب وراق وسَهُلت مخارجه كان أسهلَ وُلوجاً في الأسماع، وأشدّ اتصالاً
بالقُلوب، وأخفّ على الأفواه؛ لا سيّما إذا كان المعنى البديع مُترجَما بلفظ
مِونِق شريف، ومُعايَراً بكلامٍ عَذْب لم يَسِمْه التكليف بميسمه، ولم يُفسده
التّعقيد باستغلاقه.
وكتب عيسى بن لَهيعة
إلى أخيه أبي الحسن وزَوَر كلامه وجاوز المِقدار في التنطّع، فوقع في أسفل كتابه:
أنيَّ يكون بليغاً
... من اسمه كان عِيْا
وثالثُ الحرف منه ...
أذًى كفيت ميسًّا
قال: وبلغني
أن بعض الكتَّاب عاد بعضَ الملوك فوجده يئن مَن علّة، فخرج عنه ومرّ بباب الطاق،
فإذا بطيْر يدعى الشَفانين، فاشتراه وبعث به إليه، وكتب كتابَاً وتنطّع في بلاغته:
وتذكرْ أنه يقال له شَفانين، أرجو أن يكون شفاءً من أنين. فرفع في أسفل الكتاب:
والله لو عطستَ ضَبًّا ما كنت عندنا إلا نبطيا، فاقصر عن تنًطّعك، وسَهِّل كلامك.
قوله: لو عَطست ضبّا،
يريد أن الضباب من طعام الأعراب وفي بلدهم؛ فقال: لو عَطستَ فنثرت ضباً من عُطاسك لم
تُلحَق بالأعراب ولم تكن إلا نَبطيّاً. وقد جاء في بعض الحديث: إن القِطّ من نثرة
عَطْسة الأسد، وإن الفأر من نثرة عَطسة الْخِنزير. فقال هذا: لو أن الضبّ من
نَثرتك لم تكن إلا نبطياً. وفي هذا المعنى قال مخلد الموصليّ يهجو حَبيبا:
أنت عندي عربيّ ...
ليس في ذاك كلامْ
شَعْر ساقيك وفَخْذي
... ك خُزامَى وثُمام
وقَذَى عَينك صِبْغ
... ونَواصيك ثَغام
وضُلوع الصدر من شل
... وكَ نَبْع وبَشَام
لو تحرّكت كذا ان ...
جَفلت منك نَعَام
وظباءٌ راتعا ... ت
وَيرابيع عِظام
وحَمام يتغنّى ...
حبذا ذاك الْحَمام
أنا ما ذنبي لأنْ ...
كذِّبني فيك الأنام
وفتًى يحلف ما إن ...
عَرَّقتْ فيه الكرام
ثمِ قالوا جاسميّ ...
من بني الأنباط حام
كَذبوا ما أنت ...
إلا عربيّ والسّلام
وقد رأيتُهم شبّهوا
المعنى الخفيّ بالروح الخفي، واللفظ الظاهر بالجًثمان الظاهر، وإذا لم ينهضِ
بالمعنى الشريف الْجَزْل لفظٌ شريف جزل لم تكن العبارة واضحة، ولا النظام
مُتّسقاً، وتضاؤُل المعنى الحَسن تحت اللفظ القبيح كتضاؤل الْحَسناء في الأطمار
الرثة.
وإنما يدل على
المعنِى أربعة أصناف: لفظ وإشارة وعَقد وخط. وقد ذكر له أرسطا طاليس صِنفاً خامساَ
في كتاب المنطق، وهو الذي يسمى النَصيبة. والنَّصيبة: الحال الدالّة التي تقوم مقام
تلك الأصناف الأربعة، وهي الناطقة بغير لفظ، ومُشير إليك بغير يد. وذلك
ظاهر في خَلْق السموات والأرض وكل صامت وناطق. وجميع هذه الأصناف الخمسة كاشفة عن
أعيان المَعاني، وسافرة عن وُجوهها. وأوضح هذه الدلائل وأفصح هذه الأصناف،
صِنْفان، هما: القلم واللسان، وكلاهما للقلب تَرجمان. فأما اللسان فهو الآلة التي يخرج الإنسان بها عن حدّ الاستبهام إلى
حدّ الِإنسانية بالكلام، ولذلك قال صاحب المنطق: حدُ الإنسان الحيّ الناطق. وقالت
هشام بن عبد الملك: إن اللّه رفع درجة اللَّسان فانطقه بين الجوارح. وقال
عليّ بن عبيده: إنما يُبين عن الإنسان اللسان، وعن المودّة العينان. وقال
آخرً: الرجل مخبوء تحت لسانه. وقالوا: المرء بأصغريه: قلبه ولسانه. وقال
الشاعر:
وما المرء إلا
الأصغران لسانُه ... ومَعْقولُه والجسمُ خَلْق مُصَوَّرُ
فإنْ طُرّة راقتْك
يوماً فربما ... أمر مَذاقُ العُود والعُود أخضر
وللخط صورة معروفة،
وحِلْية موصوفة، وفضيلة بارعة، ليست لهذه الأصناف؟ لأنه يقوم مَقامها الإيضاح عند
المَشهد، ويَفْضُلها في المَغيب، لأن الكتب تُقرأ في الأماكن المُتباينة،
والبُلدان المتفرّقة، وتُدرس في كل عصر وزمان، وبكل لسان، والّلسان وإن كان ذَلْقا
فَصيحاً لا يعدو سامعَه، ولا يُجاوزه إلى غيره.
البلاغةقال سهل بن
هارون: سياسةُ البلاغة أشدُّ من البلاغة. وقيل لجعفر بن يحيى بن، خالد: ما
البلاغة؟ قال: التقرُب من المَعنى البعيد، والدَلالة بالقليل على الكثير. وقيل
لابن المُقفَّع: ما البلاغة؟ قال: قِلة الْحَصَر، والْجُرأة على البَشر؛ قيل له:
فما العِي؟ قال: الإطْراق من غير فِكْرة، والتًنحنح من غير غلة. وقيل لآخرً: ما
البلاغة؟ قال: تَطْوِيلُ القَصِير، وتَقْصير الطويل. وقيل لأعرابي: ما البلاغة؟
فقال: حَذْف الفُضول، وتَقْريب البعيد. وقيل لأرسطاطاليس: ما البلاغة؟ فقال: حُسْن
الاستعارة. قيل لجالينوس: ما البلاغة؟ فقال: إيضاح المُعْضِل، وفَك المُشكل. وقيل
للخليل بن أحمد: ما البلاغة؟ فقال: ما قَرُب طَرَفاه، وبعُدَ مُنتهاه. وقيل لخالد
بن صَفْوان: ما البلاغة؟ قال: إِصابةُ المعنى، والقَصْد للحُجًة. وقيل لآخرً: ما
البلاعة؟ قال: تَصْوير الحقّ في صُورة الباطل، والباطل في صورة الحق. وقيل
لإبراهيم الإمام: ما البلاغة؟ فقال: الجزالة والإصابة.
تضمين الأسرار في
الكتبوأما تَضْمين الأسرار في الكُتب حتى، لا يقرؤها غيرُ المكتوب إليه ففيه أدبٌ
تجب معرفتُه. وقد تعلّقت العامّةُ بكتاب القُمّيّ والأصبهانيّ. وكان أبو حاتم سهل
بن محمد قد وصف لي منهما أشياءَ جليلة من تبديل الحروف، وذلك مُمكن لكل إنسان. غير
أنّ اللطيف من ذلك: أن تأخذ لَبَنا حليبا فتكتب به في القِرْطاس، فَيَذرّ المكتوبُ
له عليه رَماداً سُخْنا من رَماد القراطيس، فيظهرُ ما كتبتَ به إن شاء الله. وإن
شئتَ كتبتَ بماء الزَّاج الأبيض، فإذا وصل إلى المكتوب إليه أمر عليه شيئاً من
غُبار الزَّاج، وإن أحببتَ أن لا يُقرأ الكتاب بالنهار وُيقرأ بالليل فاكتُبه
بمرارة السُّلحفاة،
قولهم في
الأقلامقالوا: القلم أحدُ اللَسانين، وهو المخاطب للعًيون بسرائر القلوب، على لغات
مختلفة، من معان مَعْقودة بحروف مَعْلومة مؤلفة؛ متباينات الصور، مختلفات الجهات؛ لقاحُها
التفكير، ونتاجها التَّدبير؛ تَخْرس مُنفردات، وتَنْطق مُزْدوجات؛ بلا أصوات
مسموعة، ولا ألْسن مَحدودة، ولا حركات ظاهرة؛ خلا قلمٍ حَرف باريه قطّته ليتعلّق
المِداد به، وأرهف جانبيه ليُرَد ما انتشر عنه إليه، وشَقَّ رأسه ليحتبس المِدادُ
عليه، فهنالك استمد القلم بشقّه، ونثر في القرطاس بخَطه، حروفاً أحكمها التفكّر،
وجرى على أسلته الكلام، الذي سَدّاه العقل، وألحمه اللسان، ونَهسته اللهوات،
وقطّعته الأسنان، ولفظته الشّفاه، ووعته الأسماع، عن أنحاء شتى من صفات وأسماء.
وقالت الشاعر، وهو أبو الحسن محمد بن عبد الملك بن صالح الهاشمي:
وأسمرَ طاوِي الكَشْح
أخْرَسَ ناطقٍ ... له ذَمَلان في بُطون المَهارِقِ
إذا استعجلْته الكفُّ
أمطرَ وبْلهَ ... بلا صوت إِرعاد ولا ضَوْء بارق
إذا ما حدَا غرَّ
القوافي رأيتَها ... مُجلية تمضي أمام السوابق
كأن عليه من دجى
الليل حلةً ... إذا ما استهلت مًزْنه بالصواعق
كأنَ اللآلي
والزَبَرْجدُ نُطْقَهُ ... ونَوْرُ الخُزامى في عُيون الحدائق
وقال العلويُ في صِفة
القلم:
وعُرْيانَ من خِلْعةٍ
مُكْتَسٍ ... يميس من الوَشيْ في يَلْمَقِ
تَحدّرُ من رأسه ريقة
... تَسيل على ذِرْوة المَفْرِق
فكم من أسيرٍ له
مُطْلَق ... وكم من طَليق له مُوثَق
يُقيم ويُوطن غربَ
البلاد ... ويَنهي ويأمر بالمَشرْق
قليلٌ كثيرُ ضُروب
الخُطوط ... وأخرس مُسْتَمع المَنْطق
يَسير بَركْبِ ثلاث
عِجالٍ ... إذا ما حدا الفكرُ فِي مُهْرق
وقالت آخر في القلم:
لك القَلم المُطيعك
غير أنَا ... وَجدنا رسْمه خيرَ المُطاع
له ذَوْقان من أريٍ
هَنِيٍ ... ومن شَرْيٍ وَبّي ذي امتناع
أحذُ اللَفظ يُنْطق
عن سِواه ... فيًسمع وهو ليسً بذي استماع
إذا استسقى بلاغتك
استهلَت ... عليه سماءُ فِكْرك باندفاع
وبيتٍ بعَلْيَاء
العَلاة بنيته ... بأسمرَ مَشقوق الخَياشيم يُرْعَفُ
كأنَّ عليه مَلْبساً
جلدَ حيّة ... مُقيم فما يَمضي وما يتخلف
جليلُ شُؤون الخَطْب
ما كان راكباً ... يسيرُ وإنْ أرجلتَه فمضعّف
وقال حبيبُ بن أوس،
وهو من أحسن ما قيل فيه:
لك القلمُ الأعلى
الذي بشَباته ... يُصاب من الأَمر الكُلَى والمفاصلُ
لُعاب الأفاعِي
القاتلاتِ لُعابُه ... وأرْي الجَنَى اشتارتْه أيدٍ عواسِل
له ريقةٌ طَل ولكن
وَقْعَها ... بآثاره في الشَرق والغَرب وابل
فصيح إذا استنطقته
وهو راكب ... وأعجمُ إن خاطبتَه وهو راجل
إذا ما امتطى الخَمسَ
اللَطاف وأفرغت ... عليه شِعابُ الفِكْر وَهْيَ حَوافل
أطاعتْه أطرافُ
القنَا وتَقوضت ... لنَجْوَاه تقويض الخِيام الجَحافل
إذا استغزر الذِّهنَ
الجَليّ وأقْبلت ... أعاليه في القِرْطاس وَهْي أسافلُ
وقد رَفَدته
الخِنْصران وسَدّدت ... ثلاِثَ نواحيه الثلاثُ الأنامل
رأيتَ جليلَاً شأنهُ
وهو مُرْهَفٌ ... ضَنَىً وسَميناً خَطْبهُ وهو ناحل
ولما قال حبيب هذا
الشعرَ حَسده الخَثْعميّ، فقال لابن الزيّات:
ما خُطبة القلم التي
أنبيتُها ... وردت عليك لشاعر مَجدودِ
وأنشد البُحتريّ
لنفسه يَصف قلم الحسن بن وهْب:
وإذا تألّق في
النَديّ كلامُه الْ ... مصقول خِلْتَ لسانَه مِن عَضْبِه
وإذا دَجت أقلامُه ثم
انتحت ... بَرَقت مَصابيح الدُّجى في كُتْبه
باللَفظ يَقْربُ
فَهْمُه في بُعده ... منّا وَيبْعد نَيلُه في قُرْبِه
حِكَم فسائحُها
خِلالَ بَنانه ... مَتدفّق وقَليبُها في قَلبه
وكأنها والسمعُ مَعْقُودٌ
بها ... شَخْص الحبيب بدا لعين مُحبّه
وأنشد أحمد بن أبي
طاهر في بَعض الكُتَاب ويصف القلم:
قَلم الكتابة في
يَمينك آمِن ... ممّا يَعود عليه فيما يَكْتُبُ
قلم به ظُفْرُ العدوِ
مُقلم ... وهو الأمانُ لما يُخاف وُيرْهَب
يُبدي السرائرَ وهو
عنها مُحْجَب ... ولسانُ حُجّته بصَمْت يُعرِب
ومن قولنا في القلم:
بكفّه ساحرُ البيان
إذا ... أداره في صَحيفة سَحَرَا
يَنْطِق في عُجمة
بلَفْظته ... نُصَمُّ عنها وتسمع البَصرا
نوادرٌ يَقْرع
القُلوبَ بها ... إنْ تَسْتَبنها وجدتَها صُورا
نظام دُرّ الكلام
ضمنه ... سِلْكاً لخطّ الكِتاب مُسْتَطَرا
إذا امتطى الخِنْصرين
أذكرَ مِن ... سَحْبان فيما أطال واختصرا
يُخاطب الغائب البعيد
بما ... يُخاطب الشاهدَ الذي حَضرا
تَرى المَقادير
تَستدفّ له ... وتُنْفِذ الحادثاتً ما أمرا
شَخْت ضئيلٌ لفِعْله
خَطَر ... أعظِم به في مُلمة خَطرا
تَمُجّ فكّاه ريقةً
صَغرت ... وخَطْبها في القُلوب قد كَبُرا
تُواقع النفسُ منه ما
حَذِرت ... وربما جنبت به الحَذرا
مُهَفهف تَزْدهي به
صُحف ... كأنما حُلًيت به دُررا
كأنما تَرتع العيونُ
بها ... خلالٍَ رَوْض مُكلَّل زَهَرا
إن قُرِّبت مُرِّطت
طوابعها ... ما فض طينٌ لها ولا كُسِرا
يكاد عنوانها
لرَوْعته ... يُنبيك عن سِرها الذي استترا
ومن أحسن ما شُبهت به
الأقلام وشُبه بها قولُ ذي الرمة:
كأن أنوف الطَّير في
عَرَصاتها ... خراطيمُ أقلام تَخُط وتُعْجِمُ
ومثلُه قول عديّ بن
الرِّقاع في ولد البقرة:
تُزْجى أغنَ كأن إبرة
رَوْقه ... قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها
ومن قولنا:
يَخرُجْن من فُرجات
النّقع داميةً ... كأنّ آذانها أطرافُ أقلام
ومنه قول المأمون:
كأنما قابلَ القرطاسُ
إذ مُشقت ... منها ثلاثةَ أقلام على قلم
ومثله قولنا
إذا أدارت بنانُه
قَلماً ... لم تَدْر للشِّبْه أيّها القلمُ
ومن قولنا في الأقلام:
ومَعشر تنطق أقلامُهم
... بحكمة تَلقنها الأعينُ
تَلفِظَها في الصكّ
أفلامُهم ... كأنما أقلامهم ألسنُ
ومن قوِلنا في
الأقلام:
يا كاتباً نقشت
أناملُ كفّه ... سحرَ البيان بلا لسانٍ يَنْطِقُ
إلا صَقيلَ المَتن
مَلمومَ القُوى ... حُدّت لها زمُه وشُقَّ اْلمَفرِق
فإذا تكلّم رغبةً أو
رَهْبَةً ... في مَغرب أصغَى إليه المَشرْق
يَجرى بريقةِ أريه أو
شَرْيه ... يَبكي ويَضحك من سُراه المُهرق
ولعبد اللهّ بن
المعتز كلامٌ يصف فيه القلم: القلم يَخدُم الإرادةَ، ولا يملّ الأستزادة؛ يسكت
واقفاً، وينطق ساكتاً؛ على أرض بياضها مظلم، وسوادها مضيء. وقال
سليمان بنُ وَهْب، وزير المهديّ: كل قلم تطيل جِلْفته فإن الخط يخرج به أوقص.
وكتب جعفر بن يحيى
إلى محمد بن الليث يستوصفه الخط، فكتب إليه: أما بعد، فليكن قلمك بحْرياً، لا سمينا ولا رقيقاً، ما بين الرقّة والغِلَظ،
ضيّق النًقْب. فابرِه بَرْيا مُستوِيا كمِنْقار الحمامة، اعطِف قطّته، ورقّق
شَفْرته. وليكن مدادُك صافيا، خفيفاً إذا استمددت منه، فانقعه ليلة ثم صفه في
الدواة. وليكن قِرْطاسك رقيقاً مستوي النَسج، تخرج السِّحاة مُستوية من أحد
الطرفين إلى الآخر، فليست تستقيم السطور إلا فمِما كان كذلك. وليكن أكثر تَمْطيطك
في طرف القرطاس الذي في يَسارك وأقلًّه في الوسط، ولا تمط في الطرف الآخر، ولا
تمطّ كلمة ثلاثة أحرف ولا أربعة، ولا تترك الأخرى بغير مطّ؛ فإنك إذا فرّقت القليل
كان قبيحاً، وإذا جمعتَ الكثير كان سَمِجا. ثم ابتدىء الألف برأس القلم كله
وإخطُطه بعوضه واختمه بأسفله. وأكتب الباء والتاء والسين والشين؛ والمطًّة العليا
من الصاد والضاد والطاء والظاء والكاف والعين والغين، ورأس كلِّ مُرسل، برأس القلم. واكتُب
الجيم والحاء والخاء والدال والذال والراء، والمطَّة السفلى من الصاد والضاد
والطاء والظاء والكاف والعين والغين بالسنّ السّفلى من القلم، وامطُط بعرض القلم.
والمطّ نِصف الخط، ولا يقوى عليه إلا العاقل، ولا أحسب العاقل يقوى عليه أيضاً إلا
بالنَظر إلى اليد في استعمالها الحركة، والسلام.
وقال ابنُ طاهر لكاتبه:
ألقِ دَوَاتك، وأطل سِنّ قلمك، وفَرج بين السطور، وقَرْمط بين الحروف. وقال
إبراهيم بن جَبلة: مَرّ بي عبدُ الحميد، وأنا أخط خطا رديئاً، فقال لي: أتحب أن
يجود خطّك؟ قلت: بلى. قالت: أطِل جِلْفة القلم وأسمِنها، وحَرف قَطًتك وأيمنها. ففعلت فجاد خطي:
وقال العتِّابي: ببُكاء القلم تبتسم الكُتب. وقال بعض الحكماء: أمرُ الدّيِن والدنيا
تحت شباة السيف والقلم. وقال حبيب الطائي:
لولا مُناشدةُ القربى
لغادركم ... حَصائدَ المُرْهَفَين: السيفِ والقلم
وقال أرسطاطاليس:
عقول الرجال تحت سنِّ أقلامهم وقال أبو حَكِيمة: كنتُ أكتب المصاحف، فمر بي علي بن
أبي طالب كرم الله وجهه، فقال: أجلل قلمك. فقصمتُ من قلمي قُصمة. فقال: هكذا،
نوًره كما نَوًره الله. وكان ابن سيرين يكره أن يُكتب القرآن مَشْقا، وقال: أجود
الخط أبينه.
وقال سليمان بن وهب: زينوا
خطوطكم بإسبال ذوائبها. وقال عمرو بن مسعدة: الخط صورة ضئيلة، لها معان جليلة،
وربما ضاق على العيون، وقد ملأ أقطار الظنون. وذكر على بن عُبيدة القلم فقال: أصم
يسمع النَّجوى، أعيا من باقل، وأبلغ من سَحبان وائل، يُجهل الشاهد، ويخبر الغائب،
ويجعل الكتب بين الإخوان ألسُنا ناطقة، وأعيُنا لاحظة، وربما ضَمّنها من ودائع
القلوب ما لا تَبوح به الألسن عند المشاهدة. وقال أحمد بن يوسف الكاتب: ما عبراتُ
الغواني في خُدودهنّ بأحسن من عبرات الأقلام في خُدود الكتب. وقال العتّابي:
الأقلام مطايا الفِطن. وتَخاير غلامان في بعض الدواوين فقاما إلى أستاذهما يَعْرضان عليه خُطوطهما،
فكَره أن يُفضَل أحدهما على الآخرً، فقال لأحدهما: أما خطُّك أنت فَوَشي مَحوك.
وقال للآخرً: وأما خطّك أنت فذَهب مَسْبوك، تكافيتُما في غاية، وتوافيتما في
نهاية. وقال آخرً: دخلتُ الديوان فنظرت إلى غلام بيده قلم كأنه قضيبُ عِقْيان
وعليه مكتوب:
وا بأبي، وا بأبي ...
من كفّ من يكتب بِي
وقال أبو هِفّان يصف
القلم:
وإذا أمرّ على
المَهارق كفّه ... بأنامل يحملن شَخْتاً مُرْهفَا
ومقصِّراً ومُطولاً
ومقطعاً ... ومُوصِّلا ومشتتا ومؤَلِّفا
كالحيّة الرقْشاء إلا
أنه ... يَستنزل الأرْوَى إليه تلطُّفا
يهفو بها قلمٌ يمُجّ
لُعابَه ... فيعود سيفاً صارماً ومُثففا
وقال آخر في وصف
الدواة:
ومُسودّة الأرجاء قد
خُضت حالَها ... وروَيت من قَعرٍ لها غير مُنْبَط
خميصَ الحشي يَرْوَى
على كل شرب ... أميناً على سرّ الأمين المُسلَط
وقال بعض الكتّاب:
وما رَوض الربيع وقد
زهاه ... ندَى الأسحار يَأرَج بالغَداةِ
بأضْوعَ أو بأسطعَ من
نسيمٍ ... تؤديه الأفاوه من دواة
وقال آخرً في وصف
محبرة:
ولُجّةِ بحرِ أجَم
العبا ... ب بادٍ وأمواجُه تَزْخَرُ
إذا غاص فيَه أخو
غَوْصة ... سريعُ السباحة ما يَفْتر
فأنفِس بذلك من غائص
... بديعُ الكلام له جَوهر
وأكْرم ببحرٍ له لجة
... جواهرُها حكَمٌ تُنثر
وقال ثُمامةُ بن
أشرس: ما أثْرته الأقلام لم تَطمع في دَرْسه الأيام. ونظر المأمون إلى جارية من
جواريه تخُطّ خطا حسناً، فقال فيها:
وزادت لدينا حُظوةً
حين أطْرقت ... وفي إِصْبعيها أسمرُ اللَّون أهيفُ
أصمُ سميع ساكنٌ
متحرّك ... ينال جَسيمات المُنى وهو أعْجَف
وقال بعض الكُتّاب:
إذا ما التقينا
وانتضينا صَوارما ... يكاد يُصمّ السامعين صَريرُها
تساقطُ في القِرْطاس
منها بدائع ... كمِثْل اللآلى نَظْمُها ونثيرُها
قال بِشْر بن
المُعتمر: القلب مَعدن، والحِلْم جوهر، واللسان مُستنبط، والقلم صائغ، والخطّ
صيغة. وقال سهل بن هارون: القلم لسان الضَمير، إذا رَعَف أعلن أسراره، وأبان
آثاره. وقالوا: حُسن الخط يُناضل عن صاحبه، ويُوضح الحُجة، وُيمكن له دَرَك
البُغية. وقال آخرً: الخطّ الردىء زَمانةُ الأديب. وقال الحسن بن وهب: يحتاج
الكاتب إلى خلال، منها: جَوْدة بَرْي القلم، وإطالة جِلْفته، وتحريف قَطَّته،
وحُسن التأتي لإمطاء الأنامل، وإرسالُ المَدّة بقدر اتساع الحروف، والتحرز عند
فراغها من الكسوف، وتركُ الشكل على الخطأ، والإعجام على التًصحيف، واستواء الرسوم،
وحلاوة المقاطع.
وقال سعيد بن حُميد:
من أدب الكاتب أن يأخذ قلمَه في أحسن أجزائه وأبعد ما يتمكَّن المداد فيه، ويُعطيه
من القرطاس حقًه. وقال عبد الله بن عباس: كل كتاب غير مختوم فهو غُفْل. وفي تفسير
قول الله تعالى: " إنِّي ألْقِي إلي كتاب كريم " قال: مختوم. ورفع إلى عبد الله بن طاهر قصة قد أكثر صاحبُها إعجامَها،
فقال: ما أحسنَ ما كتبت، إلا أنك أكثرت شُونيزَها.
وقال أبو عبيدة: لا يقال:
كأس، إلا إذا كان فيها شراب، وإلا فهي زجاجة؛ ولا مائدة، إلا إذا كان عليها طعام،
وإلا فهي خِوان؛ ولا قلم، إلا إذا بُريَ، وإلا فهو قصبة. وقاك آخرً: جلوس الأدباء عند الورّاقين، وجلوس المخمنين عند
النخَّاسين، وجلوس الطُّفيليين عند الطبَّاخين.
وكتب علِىّ بن الأزهر
إلى صديق له يسأله أقلاماً يبعث بها إليه: أما بعد، فإنِّا على طول المُمارسة لهذه
الكتابة التي غلبت على الاسم، ولزمت لزوم الوَسم، فحلَّت محل الأنساب، وجَرت
مَجْرى الألقاب، وجدنا الأقلام الصُحرية أسرع في الكَواغد، وأمرَّ في الجلود، كما
أنَّ البحرية منها أسلسَ في القراطيس، وألين في المعاطف، وأشدَّ لتصريف الخطّ
فيها. ونحن في بلد قليل القَصب رديئه، وقد أحببتُ أن تتقدّم في اختيار أقلام
بَحْريّة، وتتأنَّق في انتقائها قِبَلك، وتَطلبها في مظانّها ومنابتها من شُطوط
الأنهار، وأرجاء الكروم، وأن تتيمم باختيارك منها الشديدة المُحْص، الصّلبة
المَعضّ، النقيّة الخدود، القليلة الشُّحوم، المكتنزة اللحوم، الضيقة الأجواف،
الرَّزينة المَحْمَل؛ فإنها أبقى على الكتابة، وأبعدُ من الحَفاء، وأن تقصد
بانتقائك الرقاق القضبان، المقومات المعون، المُلس المعاقد، الصافية القُشور،
الطويلة الأنابيب، البعيدة ما بين الكُعوب، الكريمة الجواهر، المعتدلة القَوام،
المُستحكمة يُبساً، وهي قائمة على أصولها، لم تُعْجَل عن إبان يَنْعها، ولم تؤخر
إلى الأوقات المَخوفة عليها من خَصَر الشتاء، وعَفن الأنداء، فإذا استجمعَتْ عندك
أمرت بقَطعها ذراعا ذراعا، قَطعاً رقيقاً، ثم عبأت منها حزَما فيما يصونها من الأوعية،
ووجهتَها مع مَن يؤدي الأمانة في حِراستها وحِفْظها وإيصالها، وكتبتَ معه رقعة
بعدّتها وأصنافها، بغير تأخير ولا توان، إن شاء الله تعالى.
قولهم في الحبرقال
بعض الكتاب: عطَروا دفاتر آدابكم بجيد الحِبْر، فإن الأدب غَواني، والحِبر غوالي.
ونظر جعفر بن محمد إلى فتى على ثيابه أثرُ المداد وهو يستره، فقال له:
لا تجزعنّ من المِداد
فإنه ... عِطْرُ الرِّجال وحِلْية الكُتابِ
وأَتى وكيعَ بن
الجرّاح رجلٌ يمت إليه بحُرمة، فقال له: وما حُرمتك؟ وْقال له: كنتَ
تكتب من مِحبرتي عند الأعمش، فوثب وكيع ودخل منزله، تم أخرج له بضعة دنانير، وقال
له: أعذُر فما أملك غيرها.
الأقلامأهدى ابنً
الحَرون إلى رجل من إخوانه من الكُتّاب أقلاماً وكتب إليه: إنه لما كانت الكتابة،
أبقاك اللّه، أعظمَ الأمور، وقِوامَ الخلافة، وعمودَ المملكة، خصصتُك من آلتها بما
يَخف مَحْمله، وتَثْقل قيمته، ويَعْظُم نَفْعه، ويجل خَطَره، وهي أقلام من القَصب
النابت في الصُحْر، الذي نَشِف في حَر الهجير ماؤه، وسَتره من تلويحه غشاؤه، فهي
كاللالىء المَكْنونة في الصَدف، والأنوار المَحجوب في السُّدَف، تِبْريَّة
القُشور، دُرّية الظّهور، فِضِّية الكًسور، قد كستها الطبيعة جواهرَ كالوَشيْ
المُحبَر، وفِرِندِ الدّيباج المُنيَر.
قولهم في الصحفنعم
الأنيسُ إذا خلوتَ كتابُ ... تَلْهو به إنْ مَلّك الأحباب!
لا مُفْشِياً سرًّا
إذا استودعتَه ... وتُفاد منه حِكْمَةٌ وصَواب
وقال آخر:
ولكُل صاحبِ لذةٍ
متنزه ... أبداً ونُزْهة عالم في كُتْبِهِ
وقال حبيب
مدادٌ مثلُ خافيةِ
الغراب ... وقِرطاس كرَقْراق السَّرابِ
وألفاط كألفاظ
المَثاني ... وخط مثلُ وَشم يد الكَعاب
كتبتُ ولو قدرت هَوًى
وشَوْقاً ... إليك لكنتُ سطراً في الكتاب
وقال في صحيفة جاءته
من عند الحسن بن وَهْب:
لقد جَلى كتابك كلَّ
بَثٍّ ... جَوٍ وأصاب شاكلَة الرًمِيِّ
فضضتُ ختامَه
فتبلَّجتْ لي ... غرائبُه عن الخَبر الجَليّ
وكان أغضَّ في عيني
وأندَى ... على كبدي من الزَّهر الجنَيّ
وأحسنَ موقعاً مِنّي
وعندي ... من البُشرى أتت بعد النعيّ
وضمَن صدرُه ما لم
تِضمَن ... صدورُ الغانيات من الحُليّ
فكائن فيه من مَعنَى
خطير ... وكائن فيه من لَفْظ بهي
فيا ثَلَج الفًؤاد
وكان رَضْفاً ... ويا شِبَعي بروْنقه وريِّي
فكم أفصحتَ عن برٍّ
جليل ... به ووأيتَ من وَأْيٍ سَني
كتبتَ به بلا لَفْظ
كريهٍ ... على أذن ولا خَط قَمِيّ
رسالةَ من تمتّع منذ
حين ... ومَتعنا من الأدب الرَّضيّ
لئن غربتها في الأرض
بِكراً ... لقد زُفت إلى قلب وفيّ
وإنْ يكُ من هَداياك
الصَفايا ... فربّ هديةٍ لك كالهَديّ
وقال ابن أبي طاهر في
ابن ثوابة:
في كل يَوم صدورُ
الكُتْب صادرةُ ... من رأيه وندَى كَفَيه عن مثُل
عن خطّ أقلامه خَطٌ
القَضاءُ على ال ... أعداء بالموت بين البِيض والأسَل
لُعابها عِلَلٌ في
الصَّدر تَنفثه ... وِربما كان فيه النَفع للعِلَل
كأنّ أسطارَها في
بَطْن مُهْرَقِها ... نوْر يُضاحك دمعَ الواكف الخَضِل
وقال البحتري في محمد
بن عبد الملك الزيات:
قد تصرفتَ في الكتابة
حتى ... عَطل الناسُ فنَ عبد الحَميدْ
في نظام من البلاغة
ما شكّ ... امرؤ أنَه نظامٌ فريد
وبَديع كأنه الزًهَر
الضا ... حك في رَوْنق الرَّبيع الجديد
ما أعيرت منه بُطون
القراطي ... س وما حُمِّلت ظُهورُ البريد
حُجج تُخرِس الألدَّ
بألفا ... ظٍ فُرادى كالْجَوْهر المَعْدود
حُزْنَ مُستعمل
الكلام اختيارا ... وتَجنَّبن ظُلْمة التعقيد
كالعَذارى غَدَوْن في
الحُلل البي ... ض إذا رُحْن في الخُطوط السُّود
وقال عليّ بن الجهم
في رقعة جاءتْه بخطّ جيّد:
ما رُقعة جاءتك
مَثْنيّةً ... كأنها خدًّ على خَدِّ
نَثْر سواد في بياضٍ
كما ... ذرّ فتيت المِسْك في الوَرْد
ساهمةُ الأسْطُر
مصروفة ... عن جهة الهَزْل إلى الجدّ
يا كاتباً أسلمني
عَتْبُه ... إليكَ حَسْبي منك ما عندي
وقال محمد بن إبراهيم
بن محمد الشيباني: رفع أبان بن عبد الحميد اللاحقي إلى الفضل بن يحيى بن خالد رقعة
بأبيات له يصف فيها قامته، وكَثافة لحيته، وحلاوة شمائله، وبراعة أدبه، وبلاغة
قلمه، فقال:
أنا من بُغيةِ الأمير
وكَنْزٌ ... من كُنوز الأمير ذو أرباح
كاتبٌ حاسبٌ أديبٌ
لبيبٌ ... ناصحٌ زائد على النُّصاح
شاعرٌ مُفلق أخفّ من
الري ... شة مما تكون تحت الجناح
ليَ في النَّحو
فِطنةٌ ونَفاذ ... أنا فيه قِلادة بوِشَاح
لو رَمى بي الأميرُ
أصلحه الله ... رِماحاً صدمتُ حدَّ الرماح
ثم أروَى من ابن
سيرين في الفِق ... ه بقول مُنوّر الإفصاح
لستُ بالضَخم في
رُوائي ولا الفَدْ ... م ولا بالمُجعد الدَّحْداح
لحية كَثّة وأنص طويل
... واتقاد كشعلة المصباح
وكثير الحديث من مُلح
النا ... س بصير بخافياتٍ مِلاَح
كم وكم قد خبأتُ عندي
حديثاً ... هو عند الأمير كالتّفاح
أيمنُ الناس طائراً
يومَ صَيْدٍ ... في غُدوٍّ أو بُكرة أو رَواح
أعلم الناس
بالْجَوارح والصي ... د وبالخُرّد الحِسانِ المِلاح
كلُ هذا جمعتُ والحمد
لل ... ه على أنني ظريفُ المِزاح
لستُ بالناسكِ
المُشمِّرِ ثوبَي ... ه ولا الفاتِك الخليع الوَقاح
لو دعاني الأميرُ
عاين منّي ... شَمَّريًّا كالبلبل الصدّاح
قال: فدعاه.
فلما دخل عليه أتاه كتاب من إرْمِينيَة فرمى به إليه وقال له: أجِبْ.
فأجاب بما في غرضه وأحسن. فأمر له بألف ألف درهم، وكنا نراه أول داخل وآخر خارج،
وكان إذا ركب فركابه مع ركابه. قال محمد بن يزيد: فبلغ هذا الشعر أبا نواس فقال:
أنت أولى بقِلّة
الحظّ منّي ... يا مُسمَّى بالبُلبل الصدّاح
قِبُلوا منه حين عزَّ
لديهم ... أخرسَ القَول غير ذي إفصاح
ثم بالريش شبه
النَّفس في الخِف ... ه مما يكون تحت الجناح
إذا الشم من شماريخِ
رَضْوى ... خِفّة عنده نوى المِسْباح
لم يكُن فيك غيرُ
شيئين مما ... قلتَ في نَعت خَلْقك الدَّحْداح
ِلحْية جَعْدة وأنفٌ
طويلٌ ... وسِوَى ذاك ذاهبٌ في الرِّياح
فيك ما يحمل الملوك
على السخ ... فِ ويُزْرِي بالماجد الجَحْجاح
بارِد الطرف مُظلم
اللُب تيا ... ه مُعيد الحديث سَمْج المِزاح
قال: فبعث
إليه أبان بأن لا تُذيعها وخُذ الألفَ ألفِ دِرهم. فبعث إليه أبو نُواس: لو
أعطيتَني مائةَ ألفِ ألفِ دِرْهم لم أجد بدُّا من إذاعتها. فيقال:
إنً الفضل بن يحيى لما سمع شعرَ أبي نُواس قال: لا حاجةَ لي في أبان، لقد رُمي
بخَمس في بيتٍ لا يقبل على واحدة منهن إلا جاهل، فقيل له: كذب عليه. فقال: قد قبل ذلك، فأقصاه. وإنما أغرى أبا نُواس بهذا
الكاتب أبانِ بن عبد الحميد اللاحقي أن الفضل بن يحيى أعطاه مالًا يُفرقه في الشعراء
ويُعطى كل واحدٍ على قَدْره، فبعث إلى أبي نواس بدِرْهم زائف ناقص، وقال: إني
أعطيتُ كل شاعر على مقدار شعره، وكان هذا أوفرَ نصيبك عندي. فهجاه
لذلك.
توقيعات الخلفاء
عمر بن الخطابرضي
اللّه عنه
كتب إليه سعدُ بن أبي
وقّاص في بُنيان يَبنيه، فوقَع في أسفل كتابه: ابن ما يُكِنَّك من الهواجر وأَذى
المَطر. ووقَع إلى عمرو بن العاص: كُن لرعيَّتك كما تُحب أن يكونَ لك أميرُك.
عثمان بن عفانرضي
اللّه عنه
وقع في قِصَّة قوم
تظلّموا من مَروان بنِ الحَكَم وذكروا أنَه أمر بوَجْءِ أعناقهم: فإنْ عَصوْك فقُل
إنّي بريء مما تَعملون. ووقع في قصَّة رجل شكا عَيْلةً: قد أَمرنا لك بما يُقيمك،
وليس من مال اللّه فَضْل للمُسرف.
علي بن أبي طالبكرم
اللّه وجهه
وقَّع إلى طلحة بن
عُبيد اللّه: في بيته يُؤتىَ الحَكَم. ووقِّع في كتاب جاءه من الحسن بن عليّ رضي
اللهّ عنهما: رأْيُ الشَّيخ خير من مَشهد الغلام. ووقَّع في كتاب لسَلْمان الفارسيّ، وكان سأله كيف يُحاسَب الناسُ يوم القيامة:
يًحاسَبون كما يُرْزَقون. ووقَّع في كتاب الحُصين بن المُنذر إله يذكر أنّ السيف
قد أكثر في ربيعة: بقيّة السِّيف أنمى عددا. وفي كتاب جاءه من الأشتر النَّخَعي
فيه بعضً ما يَكره: مَن لك بأخيك كله؟ وفي كتاب صَعصعة ابن صَوْحان يسأله في شيء:
قيمةُ كلّ امرىء ما يُحسن.
معاوية بن أبي سفيانكتب
إليه عبدُ اللّه بن عامر في أمر عاتَبه فيه، فوقَع في أسفل كتابه: بَيتُ
أميَّة في الجاهليّة أشرف من بيت حَبيب. فأما في الإسلام، فأنت تراه. وفي كتاب عبد
اللّه بن عامر يسأله أنْ يُقطعه مالاً بالطائف: عِشْ رَجَباً تَرى عجبا: وفي كتاب
زياد يُخبره بطَعن عبد اللّه بن عبَّاس في خلافته: إنّ أبا سفيان وأبا الفضل كانا
في الجاهليَّة في مِسْلاخ واحد، وذلك حِلْف لا يَحُلّه سُوءُ أدبك. وكتب إليه
ربيعةُ بن عِسْل اليَربوعيّ يسأله أن يُعينه في بناء داره بالبَصرة باثنى عشر ألف
جِذع: أدارُك في البَصرة أم البَصرةُ في دارك؟
يزيد بن معاويةوقَّع
في كتاب عبد اللّه بن جعفر إليه يستميحه لرجال من خاصَّته: احكُم لهم بآمالهم إلى
منتهى آجالهم. فحَكم بتسعمائة ألف، فأجازها. وكتب إليه مُسلم ابن عُقبة المُرِّي
بالذي صَنع أهلُ الحرة، فوقع في أسفل كتابه: فلا تَأْس على القوم الفاسقين. وفي كتاب
مُسلم بن زياد عامله على خُراسان وقد استبطأه في الخراج: قليلُ العِتاب يُحْكم
مَرائر الأسباب، وكثيرُه يَقطع أواخي الإنتساب. ووقَّع إلى عبد الرحمن بن زياد،
وهو عامله على خُراسان: القرابة واشجة، والأفعال مُتباينة، فخُذ لرَحمك مِن فِعلك.
وإلى عُبيد اللّه بن زياد: أنت أحدُ أعضاء ابن عمّك فأحرص أن تكون كُلَّها.
عبد الملك بن
مروانوقَّع في كتاب أتاه من الحجّاج: جَنَبني دماء بني عبد المُطلب، فليس فيها
شفاء
من الطَّلب. وكتب
إليه الحجاج يخبره بسوء طاعة أهل العراق وما يُقاسي منهم، ويستأذنه في قتل
أشرافهم، فوقّع له: إنّ من يُمن السائس أنْ يتألّف به المختلفون، ومن شُؤمه أن
يَختلف به المُؤتلفون. وفي كتاب الحجاج يُخبره بقوّة ابن الأشعث: بضَعْفك قَوي،
وبخُرقك طَلع. ووقَّع في كتاب ابن الأشعث:
فما بالُ مَن أسعى
لأجْبُرَ عَظْمه ... حِفاظاً ويَنْوي مِن سفاهته كَسْرِي؟
ووقع أيضاً في كتاب:
كيف يرْجون سِقاطي
بعدما ... شَمل الرأْسَ مَشيبٌ وصَلَعْ؟
الوليد بن عبد
الملككتب إليه الحجاج لا بلغه أنه خَرق فيما خَلّف له عبد الملك، يُنكر ذلك عليه
ويُعرِّفه أنه على، غير صواب، فوقَّع في كتابه: لأجمعن المال جَمْع مَن يعيش
أبداً، ولا فرقنَّه تفريق مَن يموت غدا. ووقع إلى عمر بن عبد العزيز: قد رَأب الله
بك الداء، وأوْذم بك السقاء.
سليمان بن عبد
الملككتب قتيبة بن مُسلم إلى سليمان يتهدده بالخَلع، فوقَع في كتابه:
زَعم الفرزدقُ أنْ
سيَقْتل مَرْبَعِا ... أبشِرْ بطُول سلامةٍ يا مَرْبَعُ
ووقّع في كتابه
أيضاً: العاقبةُ للمتقين. وإلى قُتيبة أيضاً جوابَ وَعيده: وإنْ تَصْبروا وتتّقوا
لا يَضُرُّكم كيدُهم شيئاً.
عمر بن عبد العزيزكتب
بعض العُمال إليه يستأذنه في مرمّة مَدينته، فوقَّع أسفلَ كتابه: ابنها بالعَدْل،
ونَقِّ طُرقها من الظلم. وإلى بعض عُمَّاله في مِثل ذلك: حَصَنها ونَفْسك بتَقْوى
اللهّ. وإلى رجل ولّاه الصَّدقات، وكان دميما، فعدل وأحسن: ولا أقولُ للذين
تَزْدَري أعيُنكم لن يُؤْتِيَهم اللهّ خيراً. وكتب إليه صاحبُ العراق يُخبره عن
سُوء طاعة أهلها، فوقَّع له: ارْضَ لهم ما تَرْضى لنفسك، وخُذهم بجرائمهمٍ بعد
ذلك. وإلى عديّ بن أرطاة في أمر عاتَبه عليه: إنّ آخر آية أنزلت: " وأتَّقُوا
يَوْما تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله " . وإلى عامله على الكوفة، وكتب إليه
أنَّه فَعل في أمر كما فعل عمر بن الخطَّاب: أولئك الذينِ هَدَى اللّه فبهداهم اقتدِ.
وإلى الوليد بن عبد الملك، وعمر عامله على المدينة، فوقع في كتابه: اللّه
أعلم أنك لستَ، أوّل خليفة تموت. وأتاه كتاب عديّ يُخبره بسوء طاعة أهل الكُوفة،
فوقع في كتابه: لا تَطلب طاعة مَن خَذل عليّا، وكان إمامًا مَرْضيّا. وإلى عامله
بالمدينة، وسأله أن يُعطيه موضعاً يَبْنيه، فوقَّع: كُنْ من الموت على حذر وفي قصه متظلم: العدل إمامك:وفي رقعه محبوس: تب
تطلق، وفي رقعت رجل قتل: كتاب الله بيني وبينك،وفي رقعه متنصح: لو ذكرت الموت شغلك
عن نصيحتك وفي رقعته رجل شكا أهل بيته: أنتما في الحق سيان. وفي رقعه امرأة حبس
زوجها: الحق َحبسه. وفي رُقعة رجل تظلّم من ابنه: إن لم أنصفك منه فأنا ظلمتك
يزيد بن عبد
الملكوقَع إلى صاحب خراسان: لا يَغرنّك حُسن رأي فإنما تفسده عثرة وإلى صاحب
المدينة عثر فاستقل وفي قصة متظلم شكا بعض أهل بيته: ما كان عليك لو صفحت عنه
واستوصلتني
هشام بن عبد الملكفي
قصه متظلم: أتاك الغوث إن كنت صادقاً وحل بك النكال إن كنت كاذباً فتقدم أو تأخرً.
في قصه قوم متظلم شكوا أميرهم: إن صح ما أدعيتم عليه عزلناه وعاقبناه. وإلى صاحب
خراسان حين أمره بمحاربة الترك: أحذر ليالي البيات. وإلى صاحب المدينة وكتب يخبره
بوثوب أبناء الأنصار: احفظ فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهَبْهم له ووقَّع
في رُقعة محبوس لَزِمه الحد: نزل بحدك الكتاب. ووقع في قصة رجل شكا إليه الحاجةَ
وكَثرة العِيال وذَكر أنَ له حُرمة: لعِيالك في بيت مال المسلمين سهم، ولك بحرمتك مِنَّا
مثلاه، وإلى عامله على العراق في أمر الخوارج: ضَع سَيفك في كلاب النّار، وتقرب
إلى اللّه بقَتل الكفار. وإلى جماعة يشكون تعدي عاملهم عليهم لنفوّضكم دونكم. وفي
كتاب عامله يُخوه قيه بقلة الأمطار في بلده: مرهم بالاستغفار وإلى لسَهل ابن
سَيَار: خَف اللهَ وإمامك فإنه يأخذه عند أول زلهّ
يزيد بن الوليد بن
عبد الملك بن مروانوقَع إلى مروان: أراك تقدّم وِجْلاً وتؤخّر أخرى، فإذا أتاك
كتابي هذا فاعتمد على أيّهما شئت. وإلى صاحب خُراسان في المُسودة: نَجم أمرٌ أنت
عنه نائم، وما أراك منه أو مني سالم.
مروان بن محمدكتب إلى
نَصر بن سيّار في أمر أبي مسلم: تحوّل الظاهر يدلّ على ضعف الباطن، واللّه
المُستعان. ووقّع إلى ابن هُبيرة أمير خُراسان: الأمر مُضطَرب، وأنت نائم وأنا
ساهر. وإلى حوثرة بن سُهيل حين وجَّهه إلى قَحْطبة: كُن من بَيات المارقة على
حَذر. ووقَّع حين أتاه غرق قَحْطبة وانهزام ابن هُبيرة: هذا والله الإدبار، وإلا
فمن رأى مَيْتا هَزم حيّا. وفي جواب أبيات نصر بن سيّار إذ كتب إليه:
أرى خَلَلَ الرَّماد
وَمِيضَ جَمْرٍ ... ويُوشك أن يكونَ له ضِرَامُ
الحاضر يَرى ما لا
يَرى الغائب، فاحسم الثّؤْلول. فكتب نصر: الثُّؤْلول قد اْمتدت أغصانه، وعظُمت
نِكايته. فوقَع إليه: يداك أوكَتَا وفُوكَ نَفَخ.
توقيعات بني
العباسالسفاح كتب إليه جماعه من أهل الأنبار يذكرون أنّ منازلهم أخذت منهم وأدخلت
في البناء الذي أمر به ولم يُعطوا أثمانها، فوقع: هذا بناء أسس على غير تَقْوى، ثم
أَمر بدَفع قيم منازلهم إليهم. ووقّع في كتاب أبي جَعفر وهو يحارب ابن هبيرة بعد
أن أرجعه فيه غير مرة: لست منك ولستَ منَي إن لم تقتله. وجاءه كتاب من أبي مُسلم
يستأذنه في الحجّ وفي زيارته، فوقّع إليه: لا أَحول بينك وبين زيارة بيت اللّه
الحرام أو خَليفته، وإذنك لك. ووقّع في كتاب جماعة من بطانته يشكون احتّباس أرزاقهم: مَن صَبَر في
الشدّة شارك في النّعمة؛ ثم أَمر بأرزاقهم. وإلى عامل تُظلّم منه: وما كنتُ متّخذَ
المضلّين عَضُداً. وفي قومٍ شَكَوا غرق ضياعهم في ناحية الكوفة: وقيل
بُعْداً للقَوم الظالمين.
أبو جعفر وقِّع في
كتابه إلى عبد الله بن عليّ عمَه: لا تَجعل للأيام وفي وفيك نصيباً من حوادثها.
ووقّع إليه أيضاً: ادْفَع بالّتي هي أَحسن إلى قوله: وما يلقاه إلا ذُو حَظ عظيم. فاجعل
الحظّ لي دونك يكن لك كله. ووقّع إلى عبد الحميد صاحب خُراسان: شكوتَ فأشْكيناك،
وعتبتَ فأعْتبناك؛ ثم خرجتَ عن العامة، فتأهّب لفراق السلامة. وإلى أهل
الكوفة، وشَكَوْا عاملَهم: كما تكونون يُؤمر عليكم. وإلى قوم تظلّموا من عاملهم:
لا ينال عهدي الظالمين. وفي قصَّة رجل شكا عَيْلة: سَل اللّه مِن رِزْقه. وفي قصَة
رجل سأله أن يَبني بقربه مسجداً فإنّ مُصلّاه على بُعد: ذلك أعظم لثوابك. وفي
قصَّة رجل قُطعت عنه أرزاقهُ: " ما يَفتَح اللّه للنّاس مِن رَحْمة فلا
ممْسِك لها " الآية. وفي قصّة رجل شكا الدين: إن كان دَيْنك في مَرضاة اللّه قَضاه. وإلى صارورةٍ سأله أنْ يَحًج:
" للّه عَلَى النَّاس حِجُّ البَيْتِ مَن استطاع إليه سَبيلاً " . وإلى
صاحب مصر حين كتب يذكر نُقصان النِّيل: طَهِّر عسكرك من الفساد يُعْطك النِّيلُ القِياد.
وإلى عامله على حِمْص، وجاءه منه كتابٌ فيه خطأ: استبدل بكاتبك وإلا استُبدل بك.
وإلى صاحب أرمينية: إنّ لي في قَفاك عيناً، وبين عَيْنيك عينا، ولهما أربع آذان. وإلى
رجل استوصله: لا مانعَ لما أعطاه الله. وفي كتاب أتاه من صاحب الهِند يُخبره أنّ
جُنْداً شَغِبوا عليه وكَسروا أقفال بيت المال فأخذوا أرزاقهم منه: لو عدلتَ لم
يَشْغبوا، ولو وفيت لم يَنهبوا.
المهدي وقّع في قصّة
متظلّمين شكَوْا بعض عُمّاله: لو كان عيسى عاملَكم قُدناه إلى الحق كما يُقاد
الجمل المَخشوش - يريد عيسى ولدَه. ووقّع إلى صاحب إرمينية، وكتب إليه يشكو سًوء
طاعة رعاياه: خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرْفِ وأعْرض عن الجاهلين. وإلى صاحب
خُراسان في أمر جاءه: أنا ساهر وأنت نائم. وفي قصة قوم أصابهم قَحْط: يُقدّر لهم قُوت سنةَ القَحط والسَّنة التي
تليها. وإلى شاعر، أظنه مروان بن أبي حفصة: أسرفتَ في مديحك فقَصرنا في حِبائك.
وفي قصة رجل من الغارمين: خُذ من بيت مال المسلمين ما تَقْضي به دينَك، وتُقرُّ به
عَينَك. وفي قصّة رجل شكا الحاجة: أتاك الغوثً. وإلى رجل مِن بطانته استوصله: ليت
إسراعَنا إليك يقوم بإبطائنا عنك. وفي قصة قوم تظلَموا من عاملهم وسألوه إشخاصه
إلى بابه: قد أنصف القارةَ مَن راماها. وفي قصّة رجل حُبس في دم: ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب. وإلى
صاحب خُراسان، وكتب إليه يخبِره بغلاء الأسعار: خُذْهم بالعدل في المِكيال والميزان.
وإلى يوسف البَرَم حين خرج بخراسان: لك أماني ومُؤكَّد أيمانِي.
موسى الهادي كتب إلى
الحسن بن قَحطبة في أَمر راجعه فيه: قد أنكرناك منذُ لزمتَ أبا حنيفة، كفاناه
اللّه. وإلى صاحب إفريقية في أمر فَرط منه: يا بن اللًخناء، أنيَّ تَتمرَّس.
هارون الرشيد وقَّع
إلى صاحب خراسان: داوِ جرْحك لا يَتّسع. وإلى عامله على مصر: احذر أنْ تُخرِّب
خِزانتي وخِزانة أخي يوسف، فيأتيَك منّي ما لا قِبَل لك به، ومن اللّه أكثر منه.
وقيع في قصة رجل من، البرامكة: أنبتَتْه الطاعةُ وحَصدته المعصية وإلى عامله على فارس:
كن منّي على مِثل ليلة البَيات. والى عامل خراسان: إنّ المُلوك يُؤْثَر عنهم
الحَزْم. وإلى خزيمة بن خازم، إذ كتب إليه أنه وضع فيهم، السيفَ حين دخل أرض
أرمينية: لا أم لك! تقتل بالذَنب مَن لا ذَنب له. وفي قصَّة محبوس: مَن لجأ إلى
اللّه نجا. وفي قصة متظلم: لا يُجاوَز بك العدل، لا يُقصرَّ بك دون الإنصاف. وإلى
صاحب السِّند، إذ ظهرت العصبية؛ كل من دعا إلى الجاهلية، تَعجلَيَ إلى المنية.
وإلى عامله على خراسان: كُل من رفعِ رأسه فأنزله عن بدنه وفي رُقعة متظلّم من
عامله على الأهواز، وكان بالمتظلم عارفاً؛ قد وليناك موضعه فتنكَّب سيرته. وفي
كتاب بكّار الزًّبيريّ وفي كتاب بكّر الزبيري إليه يخبره بسّر من أسرار الطالبين:
جزى اللهّ الفضلَ خيرَ الجزاء فاختياره إياك، وقد أثابك أمير المؤمنين مائة ألف
بحسن نيِّتك. وإلى محفوظ صاحب خراج مِصر: يا محفوظ، اجعل خَرج مصر خرجاً وأحداً
وأنت أنت. وإلى صاحب المدينة. ضع رجليك على رقاب أهل هذا البَطن، فإنهمِ قد أطالوا
ليلي بالسُّهاد، ونَفوا عن عيني لذيذَ الرقاد. ووقِّع إلى السِّنْديِّ بن شاهك:
خفِ اللّه وإمامَك فهما نجاتُك. وإلى سُليمان بن أبي جعفر في كتاب وَرد عليه منه يذكر
فيه وُثوب أهل دِمشق. استحييتُ لشيخٍ وَلده المَنصور أن يَهْرُب عمّن وَلَدته
كِنَدة وطيء، فهلا قابلتهِم بوجهك، وأبديتَ لهم صَفحتك، وكنتَ كمروان ابن عمك إذ
خرج مُصلتاً سيفه متمثلًا ببيت الجحّاف بن حُكيم:
مُتقلِّدين صَفائحاً
هِنْديةً ... يَتْركن مَن ضربوا كمن لم يولد
فجلَد به حتى قُتل،
للّه أم ولدته، وأبٌ انهضه! وكتب متملكُ الروم إلى هارون الرشيد: إني متوجّه نحوك
بكل صليب في مملكتي، وكُل بَطل في جندي فوقع في كتابه: سيَعلم الكافر لمن عُقْبى
الدَّار. وكتب إليه يحيى بن خالد من الحبس حين أحسَّ بالموت: قد تقدَّم الخَصم!
إلى موقف الفَصل، وأنت بالأثر؛ واللهّ الحكم العادل، وستُقدَم فَتعلم، فوقّع فيه
الرشيد: الحَكَم الذي رَضيتَه في الآخرًة لك هو الذي أعدى الخَصم في الدنيا عليك،
وهو مَن لا يُرد حُكمه، ولا يُصرف قضاؤه.
المأمون وقّع إلى علي
بن هشام في أَمر تظلَّم فيه منه: مِن علامة الشَّريف أن يَظلم مَن فوقه ويَظلمه
مَن دونه، فأيّ الرجلين أنت؟ وإلى هشام: لا أدْنيك ولك ببابي خَصم. وإلى الرُّستمي
في قصة من تظلّم منه: ليس من المروءة أن تكون آنيتُك من ذهب وفضّة، وغريمُك خاوٍ،
وجارك طاو. وفي قَصّة متظلم من عمرو بن مسعدة: يا عمرو، اعمر نِعْمَتك بالعدل،
فإنّ الجَور يَهْدمها. وفي قصة متظلِّم من أبي عيّاد: يا ثابت، ليس بين الحق
والباطل قرابة. وفي قصة متظلم من أبي عيسى أخيه: فإذا نُفخ في الصُور فلا أنساب
بينهم يومئذ ولا يتساءلون. وفي قصة متظلّم من حُميد الطوسيّ: يا أبا غانم، لا تَغترَّ
بموضعك من إمامك، فإنك وأخسُّ عَبيده في الحق سيِّان. وإلى طاهر صاحب خراسان: أحمد
اللهّ أبا الطيّب إذا أحلّك من خليفته محل نفسه، فما لك مَوضع تسمو إليه نفسُك إلا
وأنت فوقه عنده. وفي كتاب بِشْر بن داود: هذا أمان عاقدتُ اللّه عليه، في مُناجاتي
إياه. وفي كتاب إبراهيم بن جعفر في فَدَك حين أمره بردّها: قد أرضيتَ خليفة الله
في فَدك كما أرضى اللهّ رسولَه فيها. وفي قصة متظلّم من محمد بن الفَضل الطُّوسي:
قد احتملنا بَذاءك وشَكاسة خُلقك، فأمَّا ظُلمك للرعيّة فإنا لا نَحتمله. ووقّع
إلى بعض عمّاله: طالعْ كل ناحية من نواحيك، وقاصية من أقاصيك، بما فيه استصلاحُها.
وكتب إليه إبراهيم بن المهديّ في كلام له: إن غَفرت فبفَضلك، وإن أخذت فبحقّك. فوقع
في كتابه: القُدرة
تُذهب الحَفيظة، والنَّدم جُزء من التوبة، وبينهما عفوُ الله. ووقع في رُقعة مولى طلب
كُسوة: لو أردت الكُسوة للزمتَ الخدمة، ولكنك آثرت الرُّقاد فحظك الرًّؤيا. ووقع
في يوم عاشوراء لبعض أصحابه، وقد وافته الأموال: يُؤمر له بخمسمائة ألف لطول
هِمّته. ولثُمامة بن أشرس بثلثمائة ألف لتركة ما لا يَعنيه. ولأبي محمد اليَزيدي:
يُؤمر له بخمسمائة ألف لكِبَره. وللمعلَّى بخمسمائة ألف لصحيح نيّته. ولإسحاق بن
إبراهيم بخمسمائة ألفٍ لِصدْق لَهجته. وللعبّاس بخمسمائة ألف لفصاحة مَنطقه.
ولأحمد بن أبي خالد بأَلف ألف لمُخالفة شهوته. ولإبراهيم بن بُويه كذلك لسرعة
دَمعته. وللمريسي بثلثمائة ألف لإسباغ وَضوئه. ولعبد اللهّ بن بِشْر بمثلها لحُسن
وجهه.
توقيعات الأمراء
والكبراءزياد وقّع إلى بعض عمّاله
قد كنتَ على
الدُّعّار، وأخالك داعراً. وكتبتْ إليه عائشةُ في وَصاة برجلِ، فوقَّع في كتابها:
هو بَينْ أبويه. وإلى صاحب خُراسان في أمرِ خالفه فيه: اشتَر بعض دينك ببعض وإلّا ذهب كله. وإلى عامله بالكوفة: أمط الحُدَود
عن ذوي المُروآت. وفي قصة متظلّم: أنا معك. وفي قصة قوم رفعوا على عامل رفيعةً،
مَن أماله الباطل قَوَّمه الحق. وفي قصة مُستمنح: لك المُواساة. وإلى
عامله في خوارج خرجوا بالبصرة: النِّساء تُحاربهم دونك. وفي قصة سارق: القَطْع
جزاؤك. وفي قصة امرأة حُبس زوجُها: حُكْمه إلى اللّه. وفي قصة قوم نَقبوا: تُنْقب
ظُهورهِمِ. وفي قصة نبّاش: يُدفن حيًّا في قبره. وفي قصة متظلّم. الحق يَسعك. وفي
قصة مًتنصِّح: مهلاً فقد أبلغتَ إسماعي وفي قصة متظلّم: كُفِيت. وفي قصة رجل شكا
إليه عُقوق ابنه: ربما كان عُقوق الولد من سُوء تأديب الوالد. وقي قصة رجل شكا
الحاجة: لك في مال اللّه نَصيب أنت آخذه. وفي قصة رجل جارح: الُجْروح قصاص. وفي
قصّة محبوس: التائب من الذَّنب كمن لا ذنبَ له. وفي قصة قوم شكوا غَرق ضِياعهم: لا
نَعوض فيما تفرد اللهّ به. وفي قصة قوم اشتكوا اجتياح الجراد لزروعهم: لا حُكم
فيما استأثر اللّه به.
الحجاج بن يوسفوقَّع
في كتاب أتاه من قُتيبة بن مُسلم يشكو كَثرة الجراد وذَهاب الغَلات وما حل بالناس
من القَحط: إذا أزف خراجُك فانظر لرعيّتك في مصالحها، فبيتُ المال أشدّ اضطلاعاً
بذلك من الأرْمَلة واليتيم وذي العَيْلة. وفي كتاب قُتيبة إليه أنه على عُبور
النَّهر ومُحاربة الترك: لا تُخاطر بالمُسلمين حتى تعرفَ موضعَ قدمك، ومَرمى سهامك. وفي كتاب
صاحب الكوفة يُخبره بسوء طاعتهم وما يقاسي من مُداراتهم: ما ظَنَّك بقوم قَتلوا مَن
كانوا يَعْبدونه. وفي قصة مَحبوس ذكروا أنه تاب: ما على المُحسنين من سبيل. وإلى
قُتيبة: خُذ عسكرك بتلاوة القرآن، فإنه أمنع من حُصونك. وفي كتابه إلى بعض عُماله:
إيّاك والملاهيَ حتى تستنظف خراجَك. وفي كتابه إلى ابن أخيه: ما رَكِب يهوديٌّ
قبلكَ مِنْبراً. وفي كتابه إلى يزيد بن أبي مُسلم: أنت أبو عبيدة هذا القَرْن.
أبو مسلموقّع يا كتاب
سليمان بن كَثير الخُزاعيّ: لِكل نَبأ مُسْتقر وسَوْف تَعْلَمون. وإلى أبي العبّاس
في يزيد بن عمر بن هُبيرة: قَلّ طريق سَهل تُلقى فيه الحجارة إلا عاد وَعْراً،
واللّه لا يَصْلًح طريقٌ فيه ابن هبيرة أبداً. وإلى ابن قحطبة: لا تَنْسَ نَصيبك
من الدنيا. وإليه: ادع إلى سبيل ربّك بالحِكمة والمَوعظة الحسنة. وإليه: لا
تَركنوا إلى الذين ظلموا فتمسّكم النار. وإلى محمد بن صُول، وكتب إليه بسلامة
أطرافه: وأمّا بنعمة ربّك فحدِّث. وكتب إليه قَحطبة: إِن بعض قُوّاده خَرج إلى
عسكر ابن ضُبارة راغباً، فوقّع في كتابه: " ألم تَر إلى الذين بَدّلوا نِعْمة اللّه كفرا " الآية. وإلى
عامله ببَلْخ: لا تُؤخّر عمل اليوم لغد. وإلى أبي سَلَمة الْخَلّال حين أنكر نيّته:
وإذا لَقُوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلَوْا إلى شياطِينِهم قالوا إنِّا معكم.
جعفر بن يحيى
وقّع في قصّة محبوس:
لكلّ أجل كتاب. وفي مِثْله: العَدْل يُوبقه، والتوبة تطلقه. وفي قصه متنصح: بعض الصدق
قَبيح. وإلى بعض عُمَّاله: قد كثر شاكوك، وقَل شاكروك، فإما عدلت وإما اعتزلت. وفي
قصة رجل شكا بعضَ خَدمه: خُذ بأذنه ورأسه فهو مالك وإلى عامل فارس في رجل كتب إليه
بالوَصاة: كُن له كأبيه لو كان مكانك وإلى عامل مصر رجل من بطانته يُوصيه. إنه رغب
إلى شعبك. فاْرغب في اصطناعه. وفي قصه متظلَم من بعض عماله: أني ظلمتك دونه وفي
قصة عبوس: الجناية حسبه، والتوبة تطلقه، وإلى قوم، عين الخليفة تكلؤكم وفي رقعه
صارورة استأذنه في الحج: من سافر إلى الله أنجح وفي قصه رجل شكا عزوبه: الصوم لك
وجاء وفي رقعه رجل سأل ولاية: لا أولى بعض الظالمين بعضاً وفي قصه رجل سأله أن
يقفل ابنه فقد طالت غَيبته عنه: غَيبة يوسف صلى الله عليه وسلم كانت أطول رجل
تظلّم من بعض عُماله: أنا لمثله حتى بنصفك، وفي قصة قوم شكوا سوء جوار بعض قرابته: يرحل
عنكم وفي قصه مستمنح قد كان وصله مراراً: دع الضرع يدر لغيرك كما در لك. وإلى
الفضل بن الربيع، وجاءه منه كتاب غمه وأكربه: كثرة ملاحاة الرجال ربما أراقت
الدماء. وإلى منصور بن زياد في أمر عاتبه فيه: لم نزرعك لنحصدك. وإلى بعض
عماله اجعل وسيلتك إلينا ما يزيدك عندنا وإلى بعض ندمائه: لا تبعد عمن ضمك ووقع
إلى منتصل من ذنب: حكم الفلتات خلاف حكم الإصرار.
الفضل بن سهيلكتب إلى
أخيه الحسن: أحمد اللّه يا أخي، فما يَبيتُ خليفة اللّه إلا على ذِكْرك. وإلى طاهر:
لِخَيْرِ ما اتّضَعت. وإليه: لشرّ ما سموتَ. وإلى هرثمة وأشار عليه برأي: لا يُحَل مَا عَقدت. وفي قصة متظالم:
كَفى بالله للمَظلوم ناصراً. ويا قصة رجل نَقب بيت المال: يدرأ عنه الحد إن كان له
فيه سهم. ووقع إلى حاجبه: تَمهَّل وتَسهل. وإلى صاحب الشرطة: تَرفَّق توفق. وإلى
رجل شكا غَلبة الدين. قد أَمرنا لك بثلاثين ألفاً وسنَشفعهما بمثلها ليرغب
المستمنحون وفي قصه متظلم: طب نفساً فإن الله مع المظلوم وإلى رجل شكا إليه الدين:
الدين سوء يَهيض الأعناق، وقد أمرنا بقضائه. وفي قصة قوم قَطعوا الطريق إنما
جَزاءُ الذين يحاربون اللّه ورسوله ويَسْعون في الأرض فساداً الآية. وفي امرىء
قاتل شهد عليه العدول فشفع فيه: كتاب الله أحق أن يتبع. وفي قصه رجل شهد عليه أنه
شتم أبا بكر وعمر: يضرب دون الحد ويشهر ضربه.
الحسن بن سهل ذو
الرياستينوقع في قصة متظلم: ينظر فيما رفع: فإن الحق منيع، وإلا فشفاء السقيم دواء السقيم. وفي قصة قوم تظلموا من
واليهم: الحق أولى بنا، والعدل بغيتنا، وإن صح ما أدعيتم عليه صرفناه وعاقبناه.
وفي قصة امرأة حبس زوجها: الحق يحبسه والإنصاف يطلقه. وفي رقعة رائد قد أمرنا لك
بشيء وهو دون قدرك في الأستحقاق، وفوق الكفاية مع الاقتصاد. وكتب إليه رجل من
الشعراء يقول له:
رأيت في النوم إني
راكب فرساً ... ولي وصيف وفي كفي دنانير
فقال قوم لهم فهم
ومعرفة ... رأيت خيراً وللأحلام تعبير
رؤياك فسر غداً عند
الأمير تجد ... في الحلم خيراً وفي النوم التباشير
فوقع في أسفل كتابه:
أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين. وأطلق له ما التمسه. ودخل بعض
الشعراء على عبد الملك بن بشر بن مروان فأنشده:
أغفيت عند الصبح نوم
مسهد ... في ساعة ما كنت قبل أنامها
فرأيت إنك رعتني
بوليدةٍ ... رعبوبةٍ حسن علي قيامها
وببدرة حملت إلي
وبغلة ... دهماء مُشرفة يصل لجامها
فدعوت ربي أن يثيبك
جنة ... عوضاً يصيبك بردها وسلامها
ليت المنابر يا بن
مروان الندى ... أضحت وأنت خطيبها وإمامها
فقال له عبد الملك بن
بشر: في كُل شيء أصبتَ إلا البغلة، فإني لا أملك إلا شَهباء. فقال له: امرأتي طالق
أن كنت رأيتُها إلا شهباء، إلا أنّي غَلِطت.
طاهر بن الحسين
وقَّع في كتاب رجل
تظلم من أصحاب نَصْر بن شَبِيب: طلبتَ الحق في دار الباطل. وفي قصة
رجل طلب قَبالة بعض أعماله: القَبالة مفتاح الفساد، ولو كانت صلاحاً ما كنتَ لها
موضعاً. وإلى السندي بن شاهك، وجاءه منه كتاب يستعطفه وفيه: عِشْ ما لم أرك. وإلى
خُزيمة بن خازم: الأعمال بخواتيمها، والصَّنيعة باستدامتها، وإلى الغاية ما جرى
الجواد، فحُمد السابق، وذُمَ الساقط. وإلى العباس بن موسى الهادي واْستبطأه قي
خراج ناحيته:
وليس أخو الحاجات مَن
بات نائماً ... ولكنْ أخوها مَن يبيت على رَحْل
وفي رُقعة مُتنصّح:
سننظر أصدقتَ أم كُنت من الكاذبين. وفي قصة محبوس: يُطلق وُيعتق. وفي رقعة
مُستوصل: يُقام أوَده. وكتب أبو جعفر إلى عمرو بن عُبيد: أبا عثمان، أعِنّي بأصحابك، فإنهم أهلُ العدل، وأصحابُ الصادق،
والمُؤثرون له فوقَّع في كتابه: ارفع علمَ الحق يَتْبعك أهله.
توقيعات العجموقّع أرْدشير
في أَزْمة عمّت المملكة: مِن العدل أن لا يفرح الملك ورعيتُه مَحزونون. ثم أَمر
ففرَّق في الكُور جميعَ ما في بُيوت الأموال. وِرَفع رجل إلى كِسرى بن قُباذ رُقعة
يُخبره فيها أنّ جماعة مِن بطانته قد فسدت نياتهم وخبُثت ضمائرهم، منهم فلان وفلان.
فوقَّع في أسفل كتابه: إنما أملك ظاهرَ الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا
بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر. ووقع كسرى في رقعة مَدْح: طُوبى للممدوح
إذا كان للمَور مُستحقّا، وللداعي إذا كان للإجابة أهلاً. وكتب إليه مُتنصِّح: إن
قوماً من بطانته اجتمعوا للمُنادمة، فعابوه وثَلموه. فوقّع: لئن كانوا نَطقوا
بألسنة شتَّى لقد اجتمعت مساويهم على لسانك، فجُرْحك أرغب، وِلسانك أَكذب. ورفع
إليه جماعةٌ من بطانته رُقعةً يَشكون فيها، سًوء حالهم. فوقع: ما أنصفكم من إلى الشَّكيَّة
أحوَجكم؛ ثم فَرّق بينهم ما وسعهم وأغناهم. ووقع أنوشروان إلى صاحب خراجه: ما
استُغزر الخراج بمثل العَدْل، ولا استُنزر بمثل الجَوْر. ووقّع في قصة رجل تَظلّم منه: لا يَنبغي للملك الظلم، ومِن عنده
يُلتمس العَدل، ولا البُخلُ، ومن عنده يُتوقَع الجُود؛ ثم أمر بإحضار الرّجل وقَعد
منه بين يدي المُوبَذ. ووقّع في قصّة محبوسِ: مَن ركب ما نُهي عنه حيل بينه وبين
ما يَشتهي. ورَفع إليه بعضُ خَدمه رقعةَ يُخبره فيها بكثرة عِياله، وسُوء حاله،
فَعرف كذبه، فوقَّع: إنّ اللهّ خَفّف ظَهرك فثقّلته، وأحسن إليك فكَفرته، فتُب إلى
الله يَتُبْ عليك. ووقع في قصّة رجل سَعى إليه بباطل: باللسان احفَظ رأسَك. ووقّع
في قصة رجل ذَكر أنّ بعض قرابة المَلك ظَلَمه وأخذ مالَه: لا تَصلح العامّة إلا
ببَعض الحَيْف على الخاصة، فإن كنتَ صادقاً أبحتُك جميع ما يَملكه. فلم يتظلّم
بعدها أحدُ من قرابته.
فصول في المودةكتب
عبدُ الرحمن بن أحمد الحَراني إلى محمد بن سهل: أعزّك الله، إنّ كل مجازاة قاصرةٌ
عن حقّ السابق إلى اْفتتاح الوُدّ، وقد علمتَ أني استقبلتك من الإقبال عليك بما لم
تَسْتدعه، واعتمدتُك من الرَّغبة فيك بما لم تُوله.
وفصل لأبي عليّ
البَصير: قد أكّد اللّه بيننا من الودّ، ما نأمن الدهرَ على حل عَقده، ونَقض
مرائره، وما يَستوي فيه ثقتنا بأنفسنا لك، وثقتنا بما عندك. وفصل له: الحالُ فيما
بيننا تَحتمل الدالّة، وتُوجب الأنس والثِّقة، وبَسْطَ اللسان بالاستزادة، وأنا
أمت إليك بالحُرمة المتقدِّمة، والأسباب المؤكّدة، التي تُحلّ صاحبها محلَّ خاصة
الأهل والقرابة.
وفصل. لإبراهيم بن
العباس: المودّة يَجمعنا حَبلها، والصناعةُ تُؤلّفنا أسبابها، وما بين ذلك من
تراخٍ في لِقاء، أو تخلّف قي مُكاتبة، موضوع بيننا يجب العُذر فيه. وفصل لسعيد بن
عبد الملك: أنا صَبّ إليك، سامي الطَّرف نحوك، وذِكْرك مُلْصق بلساني، واسمُك حُلْو
على لَهواتي، وشخصُك ماثلٌ بين عيني، وأنت أقربُ الناس من قلبي، أخذهم بمجامع هواي.
وفصل له: لنحنُ أحقّ
بابتدائك بما ابتدأتنا به من الصّلة، إلا أنك أحقًّ بالفَضل الذي سبقت إليه.
وفصل لسعيد بن حميد:
إنِّي أهديت مودتي إليك رغبةً، ورَضِيتُ بالقبول منك مثوبةً، فصِرتَ بقَبولها
قاضياً لحق، ومالكاً لرقّ، وصرتُ بالتسرّع إلى الهديّة، والتَّنظًّر للمَثوبة،
مُرتهن اللّسان بالجزاء، واليدين بالوفاء.
وفصل له: إني صادفت
منك جوهرَ نفسي، فأنا غيرُ محمود على الانقياد لك بغير زمام، لأنّ النفس يقود
بعضُها بعضاً. ولمحال أبو العتاهية:
وللقَلْب على
القَلْبِ ... دَليلٌ حين يَلْقاهُ
وللنّاس مِنَ النّاس
... مَقاييس وأشباه
وفصل ل: لساني رَطْب
بذكرك، وقَلبي مَعْمور بمحبتك، حضرتَ أو غِبْتَ، سِرتَ أو قمتَ، كقول مَعْقل أخي
أبي دُلف:
لَعمري لئن قَرت
بقُرْبك أعينٌ ... لقد سَخِنت بالبَيْن منك عُيونُ
فسِرْ أو أقِمْ
وَقْفٌ عليك مودّتي ... مكانُك من قلبي عليك مَصون
وفصل لإبراهيم بن
المهدي: كتابي إليك كتاب مُخبر وسائل؛ فأمّا الإخبار، فعن تصرُف الخطوب بما يُوجب
العُذر عنه صديقي العزي عَلَيَّ في إبطائي بالتعهّد له، وأما السؤال، فعن إمساك
هذا الأخ الوَدود المَودود عن مثل ذلك؛ وإن العُذر كاشفٌ ما سَلف، مُصلح لما
استؤنف.
فصول في الزيارةكتب
الحسين بن الحسن بن سَهل إلى صديق له: نحن في مأدُبة لنا تشرف على روضة تضاحك
الشمسَ حُسناً، قد باتت السماء تَطلُّها، فهي شَرقة بمائها، حاليةٌ بنُوّارها، فبادر
إلينا لنكون على سواء من، استمتاع بعضنا ببعض. فكتب إليه: هذه صفة لو كانت في
أقاصي الأطراف لوجب انتجاعُها، وحثُّ المطيّ في ابتغائها، فكيف في موضع أنت
تَسْكنه، وتَجمع إلى أنيق مَنْظره، حُسْنَ وجهِك، وطَيّب شمائلك، وأنا الجواب.
وفصل: كتب حكيم إلى
حكيم: يا أخي، إن أيام العمر أقلُّ من أن تحتمل الهَجر، والسلام وفصل: كتب إسحاق
بين إبراهيم الموصلي إلى أحمد بن يوسف في المَصير إليه، وعند أحمد بن يوسف
إبراهيمُ بن المهدي فكتب إليه: عندي من أنا عنده، وحُجّتنا عليك إعلامُنا إياك.
وفصل: إنه مَن ظمىء
شوقُه من رؤيتك، استوجب الري من زيارتك. ثم كتب تحت هذا:
سِرْ إلينا تَفْديك
تَفْسي من السو ... ء فقد طال عهدنا بالتَلاقِي
واجعلنْ ذاك إن رأيتَ
جوابي ... فلقد خِفْتُ سَطْوة الإشتياق
وفصل: إلى الله أشكو
شِدَة الوَحشة لغَيْبتك، وفَرْط الحُزن من فِراقك، وظُلْم الأيام بَعدك، وأقول كما
قال بعضُ المُحدثين.
غَضارة دنيا أظلم
العيشُ بعدَها ... وعند غُروب الشمس يًعرف فَقْدُها
وفصل: الشوقُ
إليك وإلى عهد أيًامنا التي حَسُنت بك، حتى كأنها أعياد، وقَصرُت بك حتى كأنها
ساعات، يفوت الصفات؛ ومما يجدَده ويُكثر دواعيه تَصاقُب الدَيار، وقُرب الجوار،
تَمَم الله لنا النَعمة المجددة فيك بالنّظر إلى الغُرة المُباركة، التي لا وَحشة
معها ولا أنس بعدها.
وفصل: مَثُلنا - أعزك
الله - في قُرب تجاورنا، وبُعد تزاورنا، ما قِيل في أهل القُبور:
هُمُ جيرة الأحياء
أما مزارهم ... فدانٍ، وأما المُلتقى فَبعيد
وكل عِلّة معك
مُحتملة، وكل جَفْوة مغفورة؛ للشّغف بك، والثقة بحَسن نيِّتك، وسنأخذ بقول أبي
قَيس بن الأسْلت:
وُيكْرِمها جاراتُها
فيزُرْنَها ... وتَغفل عن إتيانهنّ فَتُعْذَرُ
وفصل: كتب حكيم
إلى حكيم: يا أخي، إن أيام القمر أقل من أن تحتمل الهجر، والسلام وفصل: كتب أحمدُ
بن يوسف: لا تجوز قَطيعة الصديق، لأنها لا تَخْلو من أحد وَجْهن: إمّا ضَعف في نفس
الاختيار، وإمّا مَلل. وكلاهما لا حُجة فيه.
وفصلِ: طال
العهدُ بالاجتماع حتى كِدْنا نَتناكر عند الالتقاء، وقد جعلك الله للسُّرور
نِظاماَ، ولأنس تَمامًا، وجَعل المَشاهد مُوحِشة إذا خَلت منك. وكتب
الحسنُ بن وَهب إلى محمد بن عبد الملك الزيات:
أوجبَ العُذرَ في
تراخي اللِّقاءِ ... ما توالَى مِن هذه الأنواءِ
فسلامُ الإِله أهديهِ
منَي ... كلّ يوم لسيدِ الوُزراء
لستُ أدْري ماذا أقول
وأشْكو ... مِن سماء تَعوقُني عن سَماء
غير أني أدعو على
تِلك بالثّكُ ... ل وأدعو لهذه بالبَقاء
وقال آخر:
أزور محمداً فإذا
التقينا ... تكلّمت الضمائرُ في الصّدورِ
فأرجع لم ألمه ولم
يَلُمني ... وقد رضيَ الضَّمير عن الضمير
فصول في وصاة
كتب الحسنُ بن وَهب
إلى مالك بن طَوْق في ابن، أبي الشَيص: كتابي إليك خططتًه بيميني، وفرّغت له ذهني،
فما ظنّك بحاجة هذا موقعُها مني؟ أتراني أقبل العُذر فيها، أو أقصّر في الشكر
عليها؟ وابن أبي الشّيص قد عرفته وعرفت، نسبه وصفاته، ولو كانت أيدينا تَنبسط ببره
ما عدانا إلى غيرنا، فاكتفِ بهذا منا.
وفصل: كتابي إليك كتاب
مَعْني بمن كُتب له، واثق بمن كُتب إليه، ولَن يَضيع بين الثقة والعناية حاملُه.
وفصل: كتب العتابي
فكاد أن يُخل بالمعنى من شدة الاختصار، فكتب: حاملُ كتاب إليك أنا، فكن له أنا،
والسلام.
وفصل للحسن بن سهل:
فلان قد استغنى باصطناعك إياه عن تَحْريكي إياك في أمره، فإن الصنيعة حُرمة
للمَصنوع إليه، ووسيلةٌ إلى مُصطنِعه، فبسَط الله يدَك بالخيرات، وجعلك من أهلها،
ووَصل بك أسبابَها.
وفصل له: مُوصِّك
كتابي إليك أنا، فكُن له أنا، وتأمّله بعين مُشاهدتي وخُلتي، فلسانُه أشكرُ ما
آتيتَ إليه، وأذمُّ ما قصرتَ فيه.
فصول في عتابكتب أحمد
بن يوسف: لولا حُسن الظن بك - أعزك الله - لكان في إغضائك عنّي ما يَقبضني عن
الطَّلبة إليك، ولكنْ أمسك بَرمق من الرَّجاء عِلْمي برأيك في رعاية الحق، وبَسطُ
يدك إلى الذي لو قبضتَها عنه لم يكن له إلا كَرمُك مُذكراً، وسُؤددك شافعا.
فصل: ما أبعد البُرءَ
من مريض داؤُه في دوائه، وعلَته في حِمْيته، وأنا منك كالغاصّ بالماء لا مَساغ له.
وكما قال الشاعر:
كنتُ من كُرْبتي أفر
إليهم ... وهمُ كُربتي، فأين الفِرارُ؟
فصل: أنا مُنتظرٌ
واحدة من اثنتين: عُتَبى تكون منك، أو عُتبِى تُغني عنك.
فصل: أما بعد
فقد كنتَ لنا كلُك، فاجعل لنا بعضَك، ولا نرضى إلا بالكًل لك منا فصل: أنا ابقي
على وُدك من عارض يغيره، أو عتاب يقدح فيه، وآمُلُ عائداً من حُسن رأيك يغني عن
اقتضائك.
فصل: ألهمك الله من
الرُشد بحَسب ما مَنحك من الفَضل. ولو أنَ كل مَن نَزع إلى الصرم قَلّدناه عِنان
الهَجر لكُنا أولى بالذَنب منه، ولَكِنّا نرد عليك من نفسك، ونأخذ لها منك.
فصل: لعبد الله بن
معاوية بن عبد الله بن جعفر ذي الجناحين: أما بعد، فقد عاقَني الشكّ في أمرك عن
عزيمة الرأي فيك، ابتدأني بلُطف عن غير خِبرة، وأعقبتَه جفاء من غير ذنب،
فاطْمَعني أولك في إخائك، وآيسني أخرك من وفائك، فسبحان من لو شاء لكَشف من أمرك
عن عَزيمة الرأي فيك، فأقمنا على ائتلاف، أو افترقنا على اختلاف.
وفصل: إذا جعلتَ
الظنً شاهداً تُعدل شهادته، بعد أن جعلتَه حَكما يَحيف في حكومته، فأين المَوئل من
جَوْرك، ولستُ أسلك طريقا من العَتب عليك، إلا سده ما أنطوى عليه من مودتك. ولا
سبيل إلى شِكايتك إلا إليك، ولا استعانة إلا بك، وما أحق مَن جعلك على أمره عَوناً
أن تكون له إلى النجاح سَببا. وقال الشاعر:
عجبتُ لقلبكَ كيف
انقلبْ ... ومن طول ودّك، أنَّى ذهبْ؟
وأعجب من ذا وذا
أنِّني ... أراك بعين الرِّضا من الغَضب
وفصل: إن
مسألتي إليك حوائجي مع عَتبك عليّ لمن اللؤم، خالط إمساكي عنها في حالة ضرورة
إليها مع عِلْمي بكرامك في السخط والرضا لعَجز؛ غيرَ أني أعلم أقرَب الوسائل في
طلب رضاك مُساءلتك ما سَنح من الحاجة، إذ كنتَ لا تجعل عَتبك سبباً لمنع مَعْروفك.
وفصل: لو كانت
الشَكوك تحتلجني في صِحّة مودًّتك، وكريم إخائك، ودَوام عهدك، لطال عَتْبي عليك في
تواتر كتبي واحتباس جَواباتها عني؛ ولكنّ الثقةَ بما تقْدِّم عندي تعذرك، وتحسّن
ما يُقبِّحه جفاؤك، والله يديم نعمته لك ولنا بك.
وفصل لابن المدبر:
وَصل كتابُك المُفتتْح بالعِتاب الجميل، والتَّقريع اللطيف: فلولا ما غَلب عليّ من
السرور بسلامتك، لتقطّعتُ غما بعتابك الذي لَطُف حتى كاد يَخفى عن أهل الرِّقة
والفِطنة، وغَلُظ حتى كاد يَفهمه أهلُ الجهل والبَلَه. فلا أعْدمني الله رضاك
مُجازياً على ما استحقّه عَتبك، وأتً ظالم فيه، فهو وليُّ المخرج منه. وقالت أبو
الدرداء: عتابُ الأخ خير من فَقْده وقال الشاعر:
إذا ذَهب العتابُ
فليس وُد ... وَيبقى الوُدُّ ما بَقِي العِتابُ
وقال آخر في هذا
المعنى:
إذا كنت تَغضب من غير
ذَنبٍ ... وتَعْتِبُ في كل يَوم عَليَّا
طلبتُ رِضاك فإنْ
عَزَني ... عَددتُك مَيْتاً وإنْ كنتَ حيّا
فلا تَعجبنّ بما في
يَديْك ... فأكثرُ منه الذي في يَديا
وفصل في عتاب:
العِتابُ قبل العِقاب، فليكن إيقاعُك بعد وَعيدك، ووعيدُك بعد وَعدك.
وفصل: قَد
حميتُ جانبَ الأمل فيك، وقطعتُ أسباب الرجاء منك، وقد أسلمني اليأسُ منك إلى
العزاء عنك، فإن تَرْغب من الآن فصَفْح لا تثريب معه، وإن تماديتَ فهجرٌ لا وَصل
بعده.
فصول في التنصلكتب
ابن مكرم: لا وعظيم أملى فيك، ما أتيت فيما بيني وبينك ذنْباً مُخطئاً ولا
متعمَدًا، ولعلّ فَلتة لم ألْقِ لها بالاً فأوطىء لها اعتذارًا، وإن تكن فَنَفثُة
حاسد زَخرفها على لسان واش َنبذها إليك في بعض غِرّاتك أصابت مني مَقْتلاً، وشَفت
منه غليلاً.
وفصل: ليس
يُزِيلني عن حُسن الظن بك فِعلٌ حَملك الأعداء عليه، ولا يَقطعني عن رجائك عَتْبُ
حَدث منك عليّ، بل أرجو أن يَتقاضى كَرَمُك إنجاز وَعْدك؛ إذ كان أبلغَ الشُفعاء
إليك، وأوجبَ الوَسائل لَديك.
وفصل: أنت - أعزك
الله - أعلم بالعَفو والعُقوبة من أن تُجازيني بالسُّوء على ذَنب لم أجنه بيد
ولا لسان، بك جَناه عليّ لسان واش. فأما قولُك إنك لا تُسَفَك سبيل العُذر، فأنت
أعلم بالكَرم، وأرعى لحُقوقه، وأعرف بالشّرَف، وأحفظُ لذِماماته منِ أن تَرُدَّ
يدَ مُؤمِّلك صِفْراً من عَفْوك إذا التمسه، ومن عُذرك إذا جعل فضلكَ شافعاً فيه،
وذَريعة له.
وفصل لإبراهيم بن
العباس: الكريم أوسع ما تكون مَغفرته، إذا ضاقت بالمُذنب معذرته.
وفصل: يا أخي،،
أشكو إلى اللّه وإليك تحامل الأيام عليّ، وسُوء أثر الدهر عندي، وأنّي مُعلَّق في
حبائِل من لا يعرف موضعي، ولا يَحلو عنده موقعي، أطلبُ منه الخلاص فيزيدني كُلفاً،
وأرْتجي منه الحقّ فيزداد به ضَنًا، فالثَّواءُ ثواء مقيم، والنيّة نيّة ظاعن،
والزَماع زَماع مُرتحل. ما أذهب إلى ناحية من الحِيلة إلا وجدتُ من دونها مانعًا
من العوائق، فأحمل الذنبَ على الدهر، وارجع إلى الله بالشَّكوى وأسأله جميلَ
العُقبى، وحُسن الصبر.
فصول في حسن
التواصلللمُفضل أن يَخُص بفضله مَن شاء، وله الحمد فيما أعطى. ولا حًجة عليه فيما
مَنع و، كنْ كيف شئت، فإني قد أوليتك خالصةَ سريرتي، أرى ببقائك بقاءَ سرُوري،
وبدوام النِّعمة عندك، دوامَها عندي.
وفصل: قد أغنى اللّه
بكرمك عن الذَّريعة إليك، والاستعانة عليك، لأنّ حُسن الظن فيك، وتأميلَ نُجح
الرَّغبة إليك، فوق الشفعاء عندك.
وفصل: قد
أفردتُك برجَائي بعد اللّه، وتعجّلت راحة اليأس ممن يجود بالوَعد، ويَضن بالإنجاز،
ويُحسِّن الفضل ويَزهد في أن يتفضل، ويَعيب الكَذب ولا يَصدق. وفصل: ضَعْني -
أكرمك اللّه - من نَفسك حيثُ وضعتُ نفسي من رجائك، أصاب اللّه بمعروفك مواضعَه،
وبسط بكلّ خير يدَك.
وفصل: لا أزال -
أبقاك الله - أسألً الكتابَ إليك. فمرّة أتوقف توقّف المُخفّف عنك من المؤونة، ومَرِّة
أكتب كتاب الراجع منك إلى الثقة، والمُعتمد منك على المِقة. لا أعدمنا اللّه دوام
عزك، ولا سَلب الدنيا بهجتها بك، ولا أخلانا من الصُّنع لك، فإنا لا نعرف إلا
نِعمتك، ولا نجد للحياة طَعْماً إلا في ظِلك، ولئن كانت الرغبة إلى نَفر من الناس
خَساسة وذلاً، لقد جعل الله الرَّغبة إليك كرامة وعزًّا، لأنك لا تعرف حُرًّا قعد
به دهرُه إلا سَبقْتَ مسألته بالعطيِّة، وصُنت وجهه عن الطلب والذّلة.
وفصل: لي عليك حقُّ
التَأميل في الزيادة بما ابتدأتَ منِ المعروف، ولك عليًّ حقُ الاصطناع والفضل، والتَّنويه
بالاسم والشكر، وليس يمنعني عِلْمي بزيادة حقك على ما أبلغه من شُكرك من مُساءلتك
المَزيد، إذ كنت قد انتهيتُ إلى ما بلغه المجهود، وخرجتُ من منزله الإضاعة
والتًقصير؛ وإذ كنتَ تسمح بالحق عليك، وتَطيب نفسًا عن حقك، وتُنكر اليَسير، ولا
تكفَف أحداً شُكرَك على الكثير.
وفصل: لك - أصلحًكَ
الله - عندي أيادٍ تَشفع لي إلى محبَتك، ومَعروف يُوجب عليك الرًبَّ والإتمام.
وفصل: أنا أسأل الله
أن يُنجز لي ما لم تَزل الفِراسة تَعِدُنيه فيك.
وفصل: قد أجلّ
الله قَدْرك عن الاعتذار، وأغناك في القول عن الاعتلال، وأوجب علينا أن نَقنع بما
فعلتَ، ونرضى بما أتيت، وصلتَ أو قطعت.
فصول في الشكركتب
محمدُ بن عبد الملك الزيات كتاباً عن المُعتصم إلى عبد اللهّ بن طاهر الخراسانيّ،
فكان في فصل منه: لو لم يكن من فَضل الشُّكر إلا أنك لا تراه إلا بين نِعمة مقصورة
عليك، أو زيادة مُنتظرة لها الكَفَى. ثم قال لمحمد بن إبراهم بن زياد: كيف ترى؟
قال: كأنهما قُرطان بينهما وَجْه حَسن.
وفصل للحسن بن وهب:
فَي شَكرك على درجة رفعتَه إليها، أو ثَرْوة أفدتَه إياها، فإنِّ شكري لك على
مُهجة أحْييتَها، وحُشاشة أبقيتَها، ورَمَق أمسكتَ به، وقُمتَ بين التَلف وبينه.
فلكلّ نعمة من نِعم الدُّنيا حدٌ تنتهي إليه، ومَدًى يُوقف عنده، وغاية من الشُّكر
يَسمو إليها الطَرف، خلا هذه النَعمة التي قد فاقت الوَصْفَ، وطالت الشُكر،
وتجاوزت كل قَدْر، وأتت مِن وراء كل غاية؛ ردتْ عنا كيدَ العدو، وأرغمت أنف
الحسود، فنحن نلجأ منها إلى ظل ظليل، وكَنف كريم. فكيف يشكر الشاكر، وأين يبلغ
جَهد المجتهد؟ وقال إبراهيم بن المهديّ يشكر المأمون:
رددتَ مالي ولم
تَمنُن عليّ به ... وقَبل رَدٌك مالِي قد حَقَنْتَ دَمِي
فأبتُ منكَ وقد
جَعلتني نِعَماً ... هي الحياتان من مَوِتٍ ومن عَدم
فلو بذلتُ دمِي أبْغي
رِضاك به ... والمالَ حتى أسُل النَعل من قَدمي
ما كان ذاك سِوَى
عارية رَجعت ... إليك لو لم تعِرْها كنتَ لم تُلَم
البِرُّ بي مِنك وَطي
العُذر عندك لي ... فيما أتيتُ فلم تَعتب ولم تَلُم
وقام عِلمًك بي
يَحتَجُّ عندك لَي ... مقامَ شاهدِ عَدْلٍ غير مُتَّهم
فصول في البلاغةكتب
الحسن بن وهب إلى إبراهيم بن العبّاس: وَصَل كِتابُك فما رأيتُ كِتاباً أسهلَ
فُنوناً، ولا أملسَ مُتوناً، ولا أكثر عيوناً، ولا أحسن مقاطع ومطالعِ، منه؛
أنجزتَ فيه عِدَة الرأي، وبشرى الفِراسة، وعاد الظن يقيناً، والأمل مَبْلوغاً،
والحمدُ للّه الذي بنِعْمتِه تتمّ الصالحات.
فصل: الكلامُ كثيرةٌ
فُنونه، قليلةٌ عُيونه؛ فمنه ما يُفكِّه الأسماعَ، ويؤْنس القُلوب، ومنه ما
يُحمِّل الآذانَ ثِقْلاً، ويملأ الأذهان وحشة.
فصول في المدحوكتب
ابن مكرم إلى أحمد بن المُدبر: إن جميع أكفائك ونُظرائك يَتنازعونَ الفضل، فإذا
انتَهْوا إليك أقرُّوا لك، ويَتنافسون في، المنازل، فإذا بلغوك وقفوا دونك فزادَك
اللّه وزادنا بك وفيك، وجَعلنا ممن يَقبله رأيُك، وُيقدمُه اختيارك، ويقَع من
الأمور بموقع مُوافقتك، ويجري فيها على سبيل طاعتك.
وفصل له: إنّ من
النَعمة على المثنى عليك أنه لا يخاف الإفراط ولا يأمن التقصير، ويأمن أنْ تَلحقه
نَقيصةُ الكذب، ولا يَنتهي به المدحُ إلى غاية إلا وجد فضلَك تجاوزها. ومن سعادة
جدِّك أن الدّاعي لا يعدم كثرة المشايعين له، والمُؤمّنين منه وفصل: أَن مما
يُطمعني في بقاء النعمة عندك، ويَزيدني بصيرة في العلم بدوامها لديك، أنك أخذتَها بحقّها،
واستوجبتها بما فيك من أسبابها؛ ومن شْأن الأجناس أنْ تتألف، وشأن الأشكال أنْ
تتقارب، وكل شيء يَتقلقل إلى مَعدنه، ويَحن إلى عُنصره، فإذا صادف منيتَه، ونزل في
مَغْرسه، ضَرب بعِرْقه، وسفق بفَرْعه، وتمكن تمكن الإقامة، وتبنك تبنك الطبيعة.
وفصل: إني فيما
أتعاطى من مَدْحك كالمُخبر عن ضوء النهار الزاهر، والقمر الباهر، الذي لا يَخفى
على كل ناظر. وأيقنتُ أني حيث انتهى بي القولُ مَنْسوب إلى العَجْز مقصر عن
الغاية، فانصرفتُ من الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكَلْتُ الإخبار عنك إلى علم
الناس بك.
وفصل: لمحمد بن
الجَهْم: إنك لزِمتَ من الوفاء طريقةً محمودة، وعرفتَ مناقبها، وشُهرت بمحاسنها،
فتنافس الإخوان فيك يَبتدرون وُدَّك، ويَتمسّكون بحَبلك، فمن أَثبت اللّه له عندك
وُدًّا فقد وُضعت خُلّته موضعَ حِرْزها.
وفصل لابن مكرم:
السيفُ العَتيق إذا أصابه الصّدا استغنى بالقليل من الجلاء حتى تعود جدّته ويظهر
فِرنده، لِلِين طبيعته، وكَرَم جَوْهره، ولم أَصِف نفسي لك عُجباً بل شُكراً.
وفصل له: زاد
مَعْرُوفك عِندي عِظَماً، أنه عِندك مَسْتورٌ حَقِير، وعِند الناس مَشهور كبير.
أخذه الشاعر فقال:
زاد مَعْرُوفَك عِندي
عِظَماً ... أنّه عِندك مَستور حَقِير
تَتَناساه كأنْ لم
تَأْتِه ... وهو عند النَّاس مَشهور كَبير
وفصل العتَّابي: أنت
أيها الأمير وارثُ سَلفك، وبقيًة أَعلام أهل بَيْتك، المَسدود به ثَلْمهم،
المُجدَّد به قديم شرفهم، والمُحْيَا به أيام سَعْيهم. وإنه لم يَخْمل من كنتَ
وارثه، ولا دَرست آثار من كنت سالكَ سبيله، ولا انمحت أعلام مَن خَلَفْتَه في
رُتبته.
فصول في الذمكتب أحمد
بن يوسف: أما بعد، فإني لا أعرف للمعروف طريقاً أوعرَ من طريقه إليك، فالمَعروف
لديك ضائع، والشُّكر عندك مَهْجور؛ وإنما غايتُك في المعروف أن تَحْقِره، وفي
وليّه أن تَكْفره.
وكتب أبو العتاهية
إلى الفَضْل بن مَعْن بنِ زائدة: أما بعد، فإنّي توسّلت في طلب نائلك بأسباب
الأمل، وذرائع الحَمد فِراراً من الفَقر، ورجاءَ للغنَى، فازددتُ بهما بُعْداً مما
فيه تقرّبت، وقُرِبا مما فيه تبعَّدت. وقد قَسمتً اللائمة بيني وبينك؛ لأني أخطأتُ
في سُؤالك وأخطأت في مَنْعي، أمرتُ باليأس من أهل البخل فسألتُهم، ونُهيتَ عن مَنع
أهل الرغبة فمنعتَهم. وفي ذلك أقول:
فررتُ من الفَقر الذي
هو مُدْركي ... إلى بُخل مَحْظور النَوال مَنُوع
فأعقبني الحِرْمانَ
غِبًّ مَطامعي ... كذلك مَن تَلْقاه غير قنوع
وغيرُ بديعِ مَنْع ذي
البُخل مالَه ... كما بَذْلُ أهل الفَضل غيرُ بديع
إذا أنت كَشفت
الرجالَ وجدتَهم ... لأعْراضهم منِ حافظٍ ومُضيع
وفصل لإبراهيم بن
المهدي: أما بعد، فإنك لو عرفت فضل الحَسنِ لتجنبت شَيْن القبيح، ورأيتك آثَرُ
القول عندك ما يضرُّك، فكنتُ فيما كان منك ومنَا، كما قال زهير بن أبي سُلْمى:
وذي خَطَلٍ في
القَوْل يَحْسب أنّه ... مُصِيبٌ فما يُلْمِم به فهْو قائلُهْ
عبأتَ له حِلْماً
وأكرمتَ غيرَه ... وأعرضتَ عنه وهو بادٍ مَقاتلُه
فصل: إنَ مودة
الأشرار متصلةٌ بالذلّة والصَّغار، تَميل معهما، وتَتصرّف في آثارهما. وقد كنتُ
أحل مودتك بالمحل النَفيس، وأنزلها بالمَنزل الرفيع، حتى رأيتُ ذلتك عند الضِّعة،
وضرَعك عند الحاجة، وتغيّرك عند الاستغناء، واطراحك لإخوان الصّفاء، فكان ذلك أقوى
أسباب عُذْري في قطِيعتك عند مَن يتصفّح أمري وأمرك بعين عَدْل، لا يَميل إلى هوى
ولا يَرى القَبيح حَسنا.
فصل للعتَّابي:
تأتيِّنا إفاقتك من سَكْرتك، وترقًبنا انتباهك من وَقْدتك، وصَبْرنا على تجرّع
الغيظ فيك. فها أنا قد عرفتُك حق معرفتك في تَعدَيك لطَوْرك، وأطراحك حقّ من غَلِط
في اختيارك.
فصول في الأدبكتب
سعيدُ بن حُميد: إنَ مِن أمارات الْحَزْم وصحة الرأي في الرجل تركَه التماس ما لا سبيلَ
إليه؛ إذ كان ذلك داعيةً لعناء لا ثمرة له، وشقاء لا دَرَك فيه، وقد سمحت في أمرٍ
تُخبرك أوائلُه عن أواخره، وُينبيك بَدْؤُه عن عواقبه، لو كان لهذا الخبر الصادق
مُستمِع حازم. ورأيتُ رائدَ الهوى مال بك إلى هذا الأمر ميلًا أيأس من رَغب فيك،
ودل عدوّك على مَعايبك، وكشف له عن مَقاتلك. ولولا عِلْمي بأنّ غِلْظة الناصح تؤدي إلى نَفْع في اعتقاد صواب
الرأي، لكان غير هذا القول أولى بك. والله يوفَقك لما يحب، وُيوفق لك ما تحب وفصل: أنت رجل
لسانُك فوق عقلك، وذكاؤك فوق عَزْمك، فقدم على نَفْسك مَن قدمك على نفسه.
وفصل: من أخطأ في
ظاهر دُنياه وفيما يُؤخذ بالعين كان أحرى أن يُخطىء في أمر دينه وفيما يُؤخذ
بالعَقْل.
وفصل: قد حَسدك مَن
لا ينام دون الشِّفاء، وطَلبك من لا ينام دون الظَّفر، فاشدُد حيازيمَك وكُن على
حَذر.
وفصل: قد آن أن تدعَ
ما تَسمع بما تعلم، ولا يكن غيرُك فيما يُبلِّغه أوثقَ من نفسك فيما تَعرفه.
وفصل: لستَ بحال
يرضىَ بها حُرّ، ولا يُقيم عليها كريم، وليس يَرْضى لك بهذا إلا مَن يَبتغي لك أن
ترْضى به.
وفصل: أنت طالب
مُقيم، وأنا دافع مُغرم، فإن كنتَ شاكراً فيما مضى، فاعذُر فيما بقى.
وفصل: للعتابي،
أما بعد، فإن قريبك من قَرُب منك خيرُه، وابن عمّك من عَمّك نفعُه، وعشيرَك مَن
أحسن عِشرتك، وأهدى الناس إلى مَودَتك من أهدى برَّه إليك.
فصول إلى عليلليست
حالي - أكرمَك الله - في الاغتمام بعلتك حالَ المُشارِك فيها بأن ينالني نصيب منها
وأسلمُ مِن أكثرها، بل اجتمع علي منها أني مخصوص بها دونك، مُؤلَم منها بما
يُؤلمك، فأنا عليل مَصْروف العِناية إلى عليل، كأني سليم يسهر على سليم؛ فأنا أسأل
اللّه الذي جَعل عافِيتي في عافيتك أن يخصني بها فيك، فإنها شاملةٌ لي ولك. وفصل:
إن الذي يعلم حاجتي إلى بقائك، قادر على المُدافعة عن حَوْبائك. فلو قلتُ إن الحق
قد سَقط عني في عِيادتك لأني عَليل بعلتك، لقام لي بذلك شاهدٌ عَدْل في ضميرك،
وأثر بادٍ في حالي لِعينك. وأصدق الخَبر ما حقَقه الأثر، وأفضلُ القول ما كان عليه
دليل مِن العقل.
وفصل: لئن تخلَفتُ
عنِ عيادتك بالعُذر الواضح مِن العفة لمَا أغْفَلَ قلبي ذِكْرَك، ولا لساني
فَحْصاً عن خبرك، فَحْص من تقسم جوارحَه وصبُك، وزاد في ألمها ألمُك، ومن تَتّصل
به أحوالُك في السّراء والضّراء. ولما بَلغتْني إفاقتًك كتبتُ مُهنِّئاً بالعافية،
مُعفِيًا من الجواب، إلا بخَبرِ السلامة إن شاء اللهّ.
ولأحمد بن يوسف: قد أذهب
اللّه وَصَب العلَة ونصبها، ووَفّر أَجْرها وثوابَها، وجعل فيها من إرغام العدوّ
بعُقباها، أضعافَ ما كان عنده من السُرور بقبح أولاها.
فصول إلى خليفة
وأميرمنها: كتب الحجَّاج بن يوسف إلى عبد الملك بن مروان: يا أمير المؤمنين، إنَّ
كُلّ من عنَّيت به فِكْرتَك فما هو إلا سعيد يُوثْر، أو شقيُّ يُوتر.
كتب الحسنُ بن لسَهْل
يَصف عقل المأمون: وقد أصبح أميرُ المُؤمنين عمودَ السِّيرة، عفيفَ الطُّعْمة،
كريمَ الشِّيمة، مُبارك الضَّريبة، محمودَ النَّقيبة، مُوفِّيا بما أخذ اللّه
عليه، مُضطلعاً بما حَمَّله منه، مُؤدِّيا إِلى اللّه حقَّه، مُقرًّا له بنِعْمته،
شاكراً لآلائه، لا يأمُر إلا عَدْلا، ولا ينطِق إلا فَصْلا، راعيا لدينه وأَمانته،
كافًّا ليده ولسانه. وكتب محمدُ بن عبد الملك الزيّات: إن حقّ الأولياء على
السلطان تنفيذُ أمورهم، وتقويمُ أَودهم، ورياضةُ أخلاقهم، وأن يَميزَ بينهم،
فيقدِّم مُحسنهم، ويؤخَر مُسيئهم، ليزدادَ هؤلاء في إحسانهم، ويزدجر هؤلاء عن
إساءتهم.
وفصل له: إنّ أعظمَ
الحقّ حقًّ الدِّين، وأَوْجبَ الْحُرمة حُرمة المُسلمين. فحَقِيق لمن راعَى ذلك
الحق وحَفِظ تلك الحُرمة أن يُراعَى له حَسب ما رعاه اللّه به، ويُحْفظ له حَسب ما
حَفظ اللّه على يدَيه.
وفصل له: إنّ اللّه
أَوْجب لخُلفائه على عباده حقَّ الطاعة والنَّصيحة، ولعَبيده على خُلفائه بَسط
العَدْل والرَّأفة، وإحياءَ السُّنن الصالحة. فإذا أدى كلٌّ إلى كلّ حقَّه. كان
سببا لتمام المَعونة، واتصال الزِّيادة، واتساق الكلمة، ودوام الألفة.
وفصل: ليس من نِعمة
يُجدِّدها اللّهُ لأمير المُؤمنين في نفسه خاصَّة إلا اتصلت برعيته عامَّة، وشَملت
المُسلمين كافّة، وعظُم بلاء اللهّ عندهم فيها، ووجب عليهم شكرُه عليها؛ لأنّ الله
جعل بنعمته تمام نعْمتهم، وبتَدبيره وذَبّه عن دِينه حِفْظَ حَريمهم، وبحياطته
حَقْنَ دمائهم وأمْن سبيلهم. فأطال اللّه بقاء أمير المُؤمنين، مُؤيَّداً
بالنَّصر، معزّزاً بالتمكين، مَوْصول البقاء بالنَّعيم المُقيم.
فصل: الحمد للّه الذي
جَعل أميرَ المُؤمنين معقودَ النِّية بطاعته، مُنطوي القَلْب على مُناصحته، مشحوذ
السَّيف على عدوّه؛ ثم وَهب له الظفرِ، ودوخ له البلاد، وشرّد به العَدوّ، وخصَّه
بشَرف الفُتوح شرقاً وغربا، وبرًّاً وبحراً.
وفصل: أفعال الأمير
عندنا مَعْسولة كالأماني، مُتَّصلة كالأيَّام، ونحن نُواتر الشُكر لكريم فِعْله،
ونُواصل الدُّعاء له مُواصلةَ برّه؛ إنه الناهض بكَلِّنا، والحامل لأعبائنا، والقائم
بما ناب من حُقوقنا.
وفصل: أما بعد، فقد
انتهى إلى أمير المؤمنين كذا فأنكره، ولا يخلو من إحدى منزلتين ليس في واحدة منهما
عُذر يوجب حُجَّة، ويُزيل لائمة: إمَّا تَقصيرٌ في عمل دعاك للإخلال بالحَزْم والتَّفريط
في الواجب، وإمَا مُظاهرة لأهل الفساد ومُداهنة لَأهلِ الرِّيب. وأيّة
هاتين كانت منك لمُحِلّة النُّكْر بك، ومُوجبة العُقوبة عليك، لولا ما يلقاك به
أميرُ المؤمنين من الأناة والنَّظِرة، والأخْذ بالْحُجة، والتقدّم في الإعذار
والإنذار. وعلى حَسب ما أقِلْتَ من عَظيم العَثْرة يجب اجتهادُك في تلافي
التَّقصير والإضاعة، والسلام.
وكتب طاهرُ بن الحُسين،
حين أَخذ بغداد، إلى إبراهيم بن المهديّ: أما بعد، فإنه عزيز عليّ أن أكتب إلى أحد
من بَيت الخِلافة بغير كلام الإمرة وسَلامها، غيرَ أنه بلغني عنك أنك مائلُ الهوى
والرأي للناكث المَخلوع، فإن كان كما بَلغني فكثيرُ ما كتبت به قليلٌ لك، وإن يكن
غيرَ ذلك فالسلام عليك أيها الأمير ورحمةُ اللّه وبركاته. وقد كتبتً في أسفل كتابي
أبياتاً فتدبَّرها:
رُكوبُك الهَوْلَ ما
لم تُلْفِ فُرْصته ... جَهل رَمى بك بالإقحام تَغريرُ
أهْوِنْ بدُنيا يُصيب
المخطئون بها ... حظ المصيبين والمَغرورُ مَغرور
فازرع صوابا وخُذ بالحَزْم
حَيْطته ... فلن يُذَمّ لأهل الْحَزم تَدبير
فإنْ ظَفرِت مُصيباً
أو هَلكتَ به ... فأنتَ عند ذوي الألباب مَعذور
وإن ظَفِرت على جَهلً
فَفُزتَ به ... قالوا جَهولٌ أعانتْه المَقادير
فصل: للحسن بن
وهب: أما بعد، فالحمدُ للّه مًتمِّم النَعم برحمته، الهادي إلى شُكره بفَضله،
وصلّى اللّه على سيدنا محمد عبدِه ورسوله، الذي جَمع له من الفضائل ما فَرّقه في
الرُّسل قبلَه، وجَعل تُراثَه راجعاً إلى من خَصّه بخلافته، وسلّم تسليما.
فصول لعمرو بن بحر
الجاحظمنها فصول في عتاب: أما بعد، فإنّ المُكافأة بالإحسان فَريضة، والتفضّلَ على
غير، ذوي الإحسان نافلة.
أما بعد، فليكن
السكوتُ على لسانك، إن كانت العافيةُ من شأنك.
أما بعد، فلا تَزهد
فيمن رَغب إليك فتكون لحظّك مُعاندا، وللنعمة جاحدا.
أما بعد، فإنَّ العقل
والهوى ضدان، فقَرينُ العقل التوفيق، وقَرينُ الهوى الخِذْلان، والنفسُ طالبة،
فبأيهما ظَفِرتْ كانت في حِزْبه.
أما بعد، فإنً
الأشخاصَ كالأشجار، والحركاتِ كالأغصان، والألفاظَ كالثمار.
أما بعد، فإن القلوب
أوعية، والعقولَ معادن، فما في الوعاء يَنفد إذا لم يُمدّه المعدن.
أما بعد، فكَفى
بالتجارب تأديباً، وبتقلب الأيام عِظة، وبأخلاق مَن عاشرت مَعرفة، وبذِكرك الموت
زاجرا.
أما بعد، فإن احتمال
الصبر على لَذع الغَضب أهونُ من إطفائه بالشَّتم والقَذع.
أما بعد، فإن أهل
النَظر في العواقب أولو الاستعداد للنوائب، وما عَظمت نِعْمة امرىء إلا استغرقت
الدنيا همتُه، ومَن فَرغ لطلب الآخرة شُغله جعلَ الأيام مطايا عمله، والآخرة مَقيل
مُرتحله.
أما بعد، فإن
الاهتمام بالدنيا غيرُ زائد في الرزق والأجل، والاستغناءَ غير ناقص للمقادير.
أما بعد، فإنه ليس كل
مَن حَلُم أمسك، وقد يُستجهل الحليم حين يستخفه الهُجر.
أما بعد: فإن أحببتَ
أن تَتم لك المِقةُ في قلوب إخوانك، فاستقلّ كثيراً مما توليهم.
أما بعد، فإن أنظر
الناس في العاقبة مَن لَطُف حتى كف حربَ عدوه بالصَّفح والتجاوز، واستلّ حقدَه
بالرفق والتحبب.
وكتب إلى أبي حاتم
السِّجِسْتاني، وبلغه عنه أنه نال منه: أما بعد، فلو كففتَ عنّا من غَرْبك لكنا
أهلاً لذلك منك، والسلام. فلم يَعُد أبو حاتم إلى ذكره بقبيح: وله فصول في وصاة:
أما بعد، فإن أحق فَي أسعفتَه في حاجته، وأجبته إلى طَلِبته، مَن توسّل إليك
بالأمل، ونَزع نحوك بالرجاء.
أما بعد، فما أقبحَ
الأحدوثة من مُستمنح حَرمْتَه، وطالبِ حاجة رددتَه، ومًثابر حَجبتَ، ومُنبسط إليك
قبضتَه، ومُقبل إليك بعًنانه لويتَ عنه. فتثبَّت في ذلك، ولا تُطِع كل حلاَّف
مهين، هماز مشاء بنميم.
أما بعد، فإن فلاناً
أسبابه متَصلة بنا، يُلزمنا ذِمامُه عندنا بُلوغَ موافقته من أياديك، وأنت لنا مَوضع
الثقة من مًكافأته. فأولنا فيه ما نَعرف به موقعَنا من حُسن رأيك، ويكون مُكافأةً
لحقِّه علينا.
أما بعد، فقد أتانا
كتابُك في فلان، وله لدينا من الذًمام ما يُلزمنا مكافأته ورعايةَ حقه، ونحن من
العناية بأمره على ما يُكافى حُرمته، ويؤدي شكره.
وله فصول في استنجاز
وعد: أما بعد، فقد رَسفنا في قُيود مواعيدك، وِطال مقامنا في سُجون مَطْلك،
فأطلِقنا - أبقاك الله - من ضِيقها وشديد غمَها، بنعَمْ منك مُثمرة أو لا، مُريحة.
أما بعد، فإن شجرة
مواعيدك قد أورقت، فليكن ثمرُها سالماً من جَوائِح المَطْل.
أما بعد، فإنَ سحابَ
وَعْدك قد بَرقت، فليكن وَبْلها سالماً من صواعق المَطل والاعتلال.
وله فصِول في
الاعتذار: أما بعد، فنِعْمَ البديلُ من الزلة الاعتذار، وبئس العِوَضُ من التَوبة
الإصرار.
أما بعد، فإنّ أحقَّ
منِ عَطفت عليه بحِلمك مَن لم يَتشفَّع إليك بغيرك.
أما بعد، فإنه لا عوض
من إخائك، ولا خَلف من حُسن رأيك، وقد انتقمتَ مني في زلَّتي بجفائك، فأطلق أسيرَ
تشوّقي إلى لقائك.
أما بعد، فإنني
بمَعرفتي بمبلغ حِلْمك، وغاية عَفوك، ضمنت لنفسي العفو من زلتها عندك.
أما بعد، فإنَّ مَن
جَحد إحسانَك بسوء مَقالَته فيك مًكذِّب نفسه بما يبدو للناس أما بعد، فقد مَسَّني
من الألم بقطيعتك ما لا يشفيه غيرُ مُواصلتك، مع حَبْسك الاعتذار من هَفوتك؛ لكن
ذَنبك تغتفره مودّتك، فان علينا بصلَتك تكن بدلًا مِن مَساءتك، وعِوَضاً من
هَفْوتك.
أما بعد، فلا خيرَ
فيمن استغرقت موجدتُه عليك قَدْرَ ليُ عنده، ولم يتّسع لِهنات الإخْوان صدرُه.
أما بعد، فإن أوْلى
الناس عندي بالصَفح مَن أسلمه إلى مِلكك التماس رضاك من غير مَقدرة منك عليه.
أما بعد، فإن كنت
ذمَمتَني على الإساءة فلمَ رَضيت لنفسك المكافأة.
وله فصول فيِ
التعازي: أما بعد، فإنَّ الماضيَ قَبْلك الباقيَ لك، والباقيَ بعدك المأجورُ فيك،
وإنما يُوفِّى الصابرون أجرَهم بغير حِساب.
أما بعد، فإنَّ في
اللّه العَزاء من كل هالك، والخَلف من كل مصاب، وإن من لم يتعزّ بعزَاء اللّه
تَنقطع نفسه على الدنيا حَسْرة.
أما بعد، فإنَّ الصبر
يعقبه الأجر، والجَزع يَعقبه الهلعً فتمسَّك بحظّك من الصبر تَنل به الذي تطلب؛
وتُدرك به الذي تَأمل.
أما بعد، فقد كفى
بكتاب الله واعظاً، ولذَوي الألباب زاجراً، فعليك بالتلاوة تَنْج مما أوعد الله به
أهلَ المعصية.
صدور إلى خليفة: وَفق
الله أميرَ المؤمنين بالظفر فيما قلّد وأيّده، وأصلح به وعلى يديه - أكرم اللهّ
أميرَ المؤمنين بالظَّفر، وأيده بالنَّصر قي دوام نعْمته، وحاط الرعيًة بطول مدته.
صدور إلى ولي عهد:
مَتَّع اللهّ أميرَ المؤمنين بطُول مدًّة الأمير، وأجرى على يديه فِعْل الجميل،
وانسَ بولايته المؤمنين - مدَّ اللّه للأمير النِّعمة، وأسعد بطُول عمره الأمة،
وجعله غياثاً ورَحمة - أكمل اللهّ له الكرامة، وحاطه بالنِّعمة والسلامة، ومتَع به
الخاصّة والعامَّةَ - متَّع اللهّ بسَلامتِك أهلَ الحرْمة، وجَمع لك شَمْل الأمة.
واستَعْمَلك بالرَأفَةِ والرحمة.
صدور إلى ولي شرطة:
أنصف اللهّ بك المظلوم، وأغاث بك الملهوف، وأيَّدك بالتثبّت، ووفّقك للصواب - أرشدك
اللّه بالتوفيق، وأنطقك بالصواب، وجعلك عِصمة للدِّين، وحصناً للمسلمين - أعانك
اللهّ على ما قلّدك، وحَفظ لك ما استعملك بما يًرضي من فعلك - سدَّدك اللّه
وأرشدك، وأدام لك فضل ما عَوّدك - زادك اللهّ شرفاً في المنزلة، قدراً في قلوب
الأمة، وزُلفة عِند الخليفة - نصر اللهّ بعدلك المظلوم، وكشف بك كربة الملهوف،
وأعانك على أداء الحقَوق.
صدور إلى قاضي: ألهمك
اللّه الحُجة، وأيدك بالتثبّت، وردّ بك الحقوق. - ألهمك اللّه الاعتصام بحَبله
بالعلم، والتثبّت في الحُكم - ألهمك اللهّ الحِكْمة وفَصل الخطاب، وجلك إماماً
لذوي الألباب - زيَّن اللّه بفَضلك الزِّمان، وأنطق بشُكرك اللسان، وبَسط يدك في
اصطناع المعروف، وأدام اللّه لك الإفضال، وحقّق فيك الآمال.
صدور إلى عالم: جَعل
اللهّ لك العِلْم نوراً في الطاعة، وسبباً إلى النجاة، وزُلفة عند اللهّ - نفع
اللهّ بعلمك المستفيدين، وقضى بك حوائج المُتحرّمين، وأوضح بك سُنن الدّين،
وشرِائع المُسلمين - أدام اللّه لك التطوّل بإسعاف الراغب، وأنجح بك حاجة الطالب، وأمِّنك
مكروه العواقب.
صدور إلى أخوان:
مَتًّع الله أبصارنا برُؤيتك، وقلوبنا بدوام الفتك، ولا أَخْلانا من جَميل
عِشْرتك، ووَهب لك من كريم نَفسك بحسب ما تنطوي عليه مودّتك، وأبهج اللّه إخوانك
بقُربك، وجمع ألفتهم بالأنس بك، وصَرف اللّه عن ألفتنا عواقبَ القدَر، وأعاذ صَفْو
إخائنا من الكَدر، وجعلنا ممن أنعم اللهّ عليه فشَكر - مَنَّ اللّه علينا بطول
مُدتك، وآنس أيامنا بمواصلتك، وهنأنا النِّعمة بسلامتك - قَرّب اللّه منّا ما كُنا
نأمل منك، وجَمع شِمل السُّرور بك - نَزَّه اللهّ بقُربك القلوب، وبرُؤيتك
الأبصار، وبحديثك الأسماع - أقبل اللّه بك على أودَّائك، ولا ابتلاهم بطُول جفائك
- أدال اللهّ حِرْصَنا من فُتورك عنّا، ورَغبتنا فيك من تَقصيرك في أمورنا - حَفظ
اللّه لنا منك ما أَوْحشنا فقدُه، وردّ إلينا ما كُنا نَألفه ونَعهده - رحم الله
فاقةَ الحَنين إليك، وما بي من تَباريح الحُزن عليك، وجَعل حُرمتنا منك، الشًفيعَ
لديك - يَسَر الله لنا من صَفحك ما يَسع تقصيرنا، ومن حلمك ما يرد سخطك عنّا زَين
الله ألفتنا بمُعاودة صِلتك، واجتماعنا بزيارتك - أعادَ اللهّ علينا من إخائك
وجميل رأيك ما يكون معهوداً منك، ومألُوفاً لك.
صدور في عتاب: أنصف
الله شوقنا إليك من جَفائك لنا، وأخذ لبرنا بك من تَقصيرك عنّا.
وكتب معاوية إلى عمرو
بن العاص، وبلغه عنه أمر: وفّقك اللهّ لرًشدك.
بلغني كلامُك فإذا أوّله
بَطر، وآخره خَوَر، ومن أبطره الغِنى أذلّه الفقر، وهما ضدَّان مُخادعان للمرء عن
عَقله، وأولى الناس بمَعرفة الدَّواء من يَبين له الداء، والسلام. فأجابه: طاولتْك
النِّعمِ وطاولت بك. عُلو إنصافك يُؤمَن سطوة جَورِك، ذكرتَ أني نطقتُ بما تكره،
وأنا مخدوع، وقد علمتُ أني مِلْت إلى محبتك ولم أخدع، ومثلُك من شَكر سعي مُعتذر،
وعفا زَلّة مُعترف.
كتاب العسجدة الثانية
في الخلفاء
وتواريخهم وأيامهمقال
الفقيه أبو عمر أحمدُ بن محمد بن عبد ربّه رحمه الله: قد مَضى لنا قولُنا في
التوقيعات والفصول والصدور والكتابة، وهذا كتاب ألفناه في أخبار الخلفاء وتواريخهم
وأيامهم، وأسماء كُتّابهم وحجابهم.
أخبار الخلفاء
نسب المصطفى
صلى الله عليه
وسلمرَوى أبو الحسن عليّ بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف عن أشياخه: هو محمدٌ رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المُطلب بن هاشم ابن عبد مَناف بن
قُصيّ بن كِلاَب بن مُرة بن كعب بن لُؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النَّضْر بن
كِنانة بن خُزيمة بن مُدْرِكة بن اليأس بن مُضر بن نزار بن مَعد بن عَدْنان. وأمه
آمنةُ بنت وهب بن عبد مناف بن زُهرة بن كِلَاب بن مُرة بن كَعب.
مولد النبيصلى الله
عليه وسلم - قالوا: وُلد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل لاثنتي عشرةَ
ليلةً خلت
من ربيع الأول. وقال
بعضُهم: لليلتين خَلَتا منه. وقال بعضُهم: بعد الفِيل بثلاثين يومًا. فهذا جَمع ما
اختلفوا فيه عن مولده. وأوحى الله إليه وهو ابن أربعين عاماً. وأقام بمكة عشرًا،
وبالمدينة عشرا. وقال ابن عبّاس: أقام بمكة خمسَ عشرَة وبالمدينة عشرا. والمُجمع
عليه أنه أقام بمكة ثلاثَ عشرةَ وبالمدينة عشرا.
اليوم والشهر الذي
هاجر فيه صلى الله عليه وسلم - هاجر إلى المدينة يومَ الاثنين لثلاث عشرة خلت من
ربيع الأول. ومات يومَ الاثنين لثلاثَ عشرةَ خلت من ربيع الأول، اليوم والشهر الذي
هاجر فيه صلى الله عليه وسلم.
جعلنا اللّه ممن يرد
حوضَه، وينال مُرافقته في أعلى عِليين من درجات الفِرْدوس، وأسأل اللّهَ الذي
جعلنا من أمته ولم نَره أن يتوفّانا على مِلّته، ولا يَحْرمنا رُؤْيته في الدُّنيا
والآخرة.
صفة النبي صلى الله
عليه وسلم - رَبيعة بن أبي، عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، قال: كان رسولُ اللهّ صلى
الله عليه وسلم أبيضَ، مُشرباً حُمرة، ضَخم الرأس، أزجَّ الحاجبين، عظيمَ العينين،
أدعجَ أهدبَ، شثْن الكّفين والقدمين. إذا مشى تكفّأ كأنما ينحطّ من صَبَب، ويَمْشي
في صُعد كأنما يتقلّع من صَخر. إذا التفت التفت جميعا. ليس بالجَعْد القَطَط ولا السَّبْط.
ذا وَفْرة إلى شحمة أُذنيه. ليس بالطَّويل البائن، ولا بالقصير المُتطامن. عَرْفه
أطيبُ من المسك الَأذْفر. لم تَلد النساءُ قبله ولا بعده مثلَه. بين كَتفيهَ
خاتَمُ النبوّة كبَيضة الحمَامة. لا يَضْحك إلا تَبسُّماً. في عَنْفقته شعرات بيض
لا تكاد تبين. وقال أنس بن مالك: لم يبلغ الشيبُ الذي كان برسول اللهّ صلى الله
عليه وسلم عشرين شِعرة. وقيل له: يا رسول اللّه، عجّل عليك الشيّب. قال: شَيَّبتني
هودٌ وأخواتُها.
هيئة النبي وقعدته
صلى الله عليه وسلم -
كان صلى الله عليه وسلم يأكل على الأرض، ويجلس على الأرض،
ويمشي في الأسواق،
ويلبس العَبَاءة، ويُجالس المساكين، ويَقْعد القُرفصاء، ويتوسّد يدَه، ويلْعق
أصابعَه، ولا يأكل مُتَّكئا، ولم يُرقطُّ ضاحكاً مِلْء فيه. وكان يقول: إنما أنا
عبد آكلُ كما يأكل العبد، وأشربُ كما يشرب العبد، ولو دُعيت إلى ذِراع لَأجبت، ولو
أهدى إليّ كراع لَقبلت.
شرف بيت النبي صلى
الله عليه وسلم - قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا سيّد البَشر ولا فَخْر، وأنا
أفصحُ العرب، وأنا أوّل مَن يَقرع بابَ الحنة، وأنا أول من يَنشقّ عنه التراب. دعا
لي إبراهيم، وبشرّ بي عيسى، ورأت أمي حين وَضعتني نُورًا أضاء لها ما بين المَشرق
والمغرب. وقال صلى الله عليه وسلم: إنّ اللّه خَلق الخَلْق فجعلني في خير خَلْقه، وجعلهم فِرَقاً فجعلني
في خَيرهم فِرْقة، وجعلهم قبائل فجعلني في خير قبيلة، وجعلهم بُيوتا فجعلني في خَير
بيت، فأنا خيرُكم بيتاً وخيرُكم نَسبا. وقال صلى الله عليه وسلم. أنا ابن الفواطم
والعَواتك من سُليم، واستُرضعتُ في بني سعد بن بكر. وقال: نَزل القرآن بأعرب اللّغات، فلكل العرب فيه لغة، ولبني سَعد بن بكر
سبعُ لغات. وبنو سعد ابن بكر بن هوازن أفصحُ العرب، فهم من الأعجاز، وهي قبائلُ من
مُضر متفرقة، وكانت ظِئْرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم التي أرضعتْه حليمةُ بنت أبي
ذُؤيب، من بني ناصرة بن قصيّة بن نصر، بن سَعد بن بكر بن هوازن. وإخوته في الرّضاعة:
عبد اللهّ بن الحارث، وأنيسة بنت الحارث، وخِذامة بنت الحارث، وهي التي أتى بها
النبيّ صلى الله عليه وسلم في أَسْرى حُنين، فَبسط لها رداءه ووهب لها أَسرى
قومها. والعواتك من سُليم ثلاث: عاتكة بنت مُرّة ابن هلال، ولدت هاشماَ وعبدَ شمس ونوفلاً، وعاتكة بنت
الأوقص بن هلال، ولدت وَهْب بن عبد مناف بن زهرة؟ وعاتكة بنت هِلٍال بن، فالج.
وقال عليّ للأَشعث إذ خَطب إليه: أَغرّك ابن أبي قُحافة إذ زَوَّجك أمّ فَروَة،
وإنها لم تكن من الفواطم من قُريش، ولا العواتك من سُلَيم.
أبو النبيصلى الله
عليه وسلم - عبدُ اللّه بن عبد المُطّلب، ولم يكن له ولدُ غيرًه، صلى الله عليه
وسلم، وتُوفي وهو في بَطن أمه. فلما وُلد كَفله جدُّه عبدُ المًطلب إلى أن توفِّي،
فكَفله عمُّه أبو طالب، وكان أخا عبد اللهّ لأمه وأبيه، فمن ذلك كان أشفقَ أعمام
النبيّ صلى الله عليه وسلم وأَوْلاهم به. وأمّا أعمام النبيّ صلى الله عليه وسلم
وعَمّاته، فإنّ عبد المطلب بن هاشم كان له من الولد لصُلبه عشرة من الذُّكور وستّة
من الإناث. وأسماء بنيه: عبدُ اللهّ، والد النبيّ عليه الصلاة والسلام، والزبير،
وأبو طالب، واسمه عبدُ مَناف، والعبّاس، وضِرار، وحَمزة، والمُقوِّم، وأبو لهَب،
واسمه عبد العُزّى، والحارث، والغَيداق، واسمه حجل، وقال نَوفل. وأسماء بناته، عمّات
النبيّ صلى الله عليه وسلم: عاتكة، والبَيضاء، وهي أم حكيم، و بَرة، وأميمة،
وأروى، وصَفيّة.
ولد النبيصلى الله
عليه وسلم - وُلد له من خَديجة: القاسمُ والطيب وفاطمةُ وزَينب ورُقَية وأم كلثوم.
وولد له من مارية القِبْطية: إبراهيم. فجميعُ ولده من خديجة غيرَ إبراهيم.
أزواجه
صلى الله عليه وسلم -
أولهن خديجةُ بنت خُويلد بن أسد بن عَبْد العُزى، ولم يتزوج عليها حتى ماتت. ثم
تزوِّج سَوْدة بنت زَمْعة، وكانت تحت السكران بن عمرو، وهو من مهاجرة الحَبشة،
فمات ولم يُعقب، فتزوجها النبيُّ صلى الله عليه وسلم بعده. ثم تزوّج عائشةَ بنت
أبي بكر بِكراً، ولم يتزوّج بِكرًا غيرها، وهي ابنة ستّ، وابتنى عليها ابنة تسع،
وتُوفي عنها وهي ابنة ثمانِ عشرةَ سنة، وعاشت بعده إلى أيام معاوية، وماتت سنة
ثمان وخمسين وقد قاربت السبعين، ودُفنت ليلاً بالبقيع، وأوصت إلى عبد اللّه بن
الزًبير. وتزوَّج حفصةَ بنت عمرَ بن الخطاب، وكانت تحت خُنيس بن حُذافة السَّهمي،
وكان رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم أرسله إلى كِسرى، ولا عَقِب له. ثم تزوج
زينَبَ بنت خُزيمة، من بني عامر بن صعصعة، وكانت تحت عُبيدة بن الحارث ابن عبد المطلب،
أول شهيد كان ببدر. ثم تزوّج زينب بنت جَحش الأسدية، وهي بنت عمة النبيّ صلى الله
عليه وسلم، وهي أوّل مَن مات من أزواجه في خلافة عُمر. ثم تزوّج أم حَبيبة؛
واسمعها رَمْلة بنت أبي سُفيان، وهي أختُ معاوية، وكانت تحت عُبيد الله بن جَحش
الأسدي، فتنصر ومات بأرض الحبشة. وتزوّج أم سَلمة بنت أبي أمية بن المُغيرة
المخزوميّ، وكانت تحت أبي سَلمة، فتُوفي عنها وله منها أولاد، وبقيت إلى سن تسع
وخمسين. وتزوَّج ميمونة بنت الحارث، من بني عامر بن صَعصعة، وكانت تحت أبي رُهم
العامرِيّ. وتزوّج صفية بنت حُييِّ بن أخطب النًضرية، وكانت تحت رجل من يهود خيبر،
يقال له كِنانة، فضرب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عُنقه وسَبى أهله. وتزوّج
جُويرية بنت الحارث، وكانت من سَبي بني المُصطلق. وتزوْج خَولة بنت حَكيم، وهي التي
وَهبت نفسها للنبيّ صلى الله عليه وسلم. وتزوّج امرأة يقال لها عمْرة، فطلقها ولم يَبْن
بها، وِذلك أن أباها قال له: وأزيدك أنّها لم تمرض قطْ. فقال: ما لهذه عند اللّه
من خير، فطلقها. وتزوّج امرأة يقال لها: أميمة بنت النعمان، فطلقها قبل أن يَطأها.
وخَطب امرأة من بني مُرة بن عَوْف، فردّه أبوها، وقال: إنّ بها بَرَصا. فلما رجع
إليها وجدها بَرْصاء.
كتاب النبيصلى الله
عليه وسلم وخدامه - كُتّاب الوحي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: زيْد بن
ثابت، ومُعاوية بن أبي سُفيان، وحَنْظلة بن الربيع الأسديّ، وعبدُ اللّه بن سعد بن
أبي سرح، ارتد ولحق بمكة مُشركا. وحاجبُه: أبو أنسة، مولاه، وخادمه: أنس بن مالك
الأنصاريّ، ويكنى أبا حَمزة. وخازنُه على خاتَمه: مُعيقيب بن أبي فاطمة. ومؤذّناه:
بلال وابن أم مَكتوم. وحُرّاسه: سعدُ بن زَيد الأنصاري، والزُّبير بن العوام، وسَعد بن أبي وقّاص. وخاتَمه
فِضّة، وفصّه حبشيّ مكتوب عليه: محمد رسول اللّه، في ثلاثة أسطر: محمد، سطر،
ورسول، سطر، واللهّ، سطر. وفي حديث أنس بن مالك خادم النبي صلى الله عليه وسلم:
وبه تَختّم أبو بكر وعُمر، وتَختّم به عثمانُ ستةَ أشهر، ثم سقط منه في بئر ذي
أرّوَان، فطُلب فلم يوجد.
وفاة النبيصلى الله
عليه وسلم - توفي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين لثلاثَ عشرة ليلةً خلت من ربيع الأول،
وحُفر له تحت فِراشه في بيت عائشة. وصلى عليه المسلمون جميعاً بلا إمام، الرجالُ
ثم النساء ثم الصِّبيان، ودُفن ليلةَ الأربعاء في جوف الليل، ودَخل القبرَ عليٌ،
والفَضل وقُثَم، ابنا العبّاس، وشُقْران مولاه، ويقال: أسامة بن زيد، وهم تولّوا غسلَه وتَكفينه وأمره كلَّه، وكفن في ثلاثة أثواب
بيض سَحُولية، ليس فيها قميصٌ ولا عِمامة. واختلف في سِنَه. فقال عبد اللهّ ابن
عبَّاس وعائشةُ وجريرُ بن عبد اللهّ ومعاوية: توفي وهو ابن ستين سنة. وقال عُروة
بن الزُبير وقَتادة: اثنتين وستين سنة.
نسب أبي بكر الصديق
وصفتهرضي اللّه عنه
هو عبد اللّه بن أبي
قُحافة، واسم أبي قحافة عثمان بن عمرو بن كَعب بن سَعد بن تَيم بن مُرة، وأمه أمُّ
الخَير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سَعد بن تيم بن مُرة.
وكاتبُه: عثمان بن
عفَّان. وحاجبُه: رشيدٌ، مولاه. وقيل: كتب له زيدُ بن ثابت أيضاً. وعلى أمره كلّه
وعلى القضاء عمرُ بن الخطّاب، وعلى بيت المال أبو عُبيدة بن الجَرّاح، ثم وجّهه
إلى الشام. ومُؤذّنه: سعدُ القَرَظ، مولى عمار بن ياسر.
قيل لعائشة: صِفي لنا
أباك. قالت: كان أبيَض، نحيفَ الجسم، خفيفَ العارضين، أحنى لا يستمسك إزاره،
مَعروق الوجه، غائر العينين، ناتىء الجبهة، عاري الأشاجع، أقرع. وكان عمر بن
الخطاب أصلع. وكان أبو بكر يَخْضب بالحنّاء والكَتَم. وقال أبو جعفر الأنصاريّ:
رأيتُ أبا بكر كأنّ لِحْيته ورأسَه جَمر الغَضىَ. وقال أنس بن مالك قَدِم رسولُ اللّه
صلى الله عليه وسلم المدينةَ، وليس في أصحابه أَشمطُ غَيْر أبي بكر. فغّلفها
بالحِنّاء والكَتَم.
وتوفيَ مساء ليلة
الثلاثاء، لثمانِ ليالٍ بَقين من جُمادى الآخرة، سنةَ ثلاثَ عشرةَ من التاريخ.
فكانت خلافتُه سنتين وثلاثة أشهر وعشرَ ليالٍ. وكان نَقش خاتَم أبي بكر: نعم
القادر اللّه.
خلافة أبي بكر رضي
الله عنه - شُعبة عن سَعد بن إبراهيم عن عُروة عن عائشة: إنّ النبيّ صلى الله عليه
وسلم قال في مَرضه: مُروا أبا بكر فَلْيصلِّ بالناس. فقلتُ: يا رسولَ اللّه، إنَّ أبا بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع
الناسَ من البُكاء، فَمُر عُمرَ فليصلِّ بالناس. قال: مُروا أبا بكر فَلْيصلِّ بالناس:
قالت عائشة: فقلتُ لِحَفصة: قُولي له: إنَ أبا بكر إذا قام في مَقامك لم يُسمِع
الناس من البكاء، فمُر عُمر، ففعلت حفصة. فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم:
مه! إنكن صواحبُ يوسف، مُروا أبا بكر فَلْيصل بالناس.
أبو جَعدة عن
الزُّبير قال: قالت حفصة: يا رسولَ اللّه، إنك مَرِضتَ فقدَّمت أبا بكر. قال: لستُ
الذي قدمتُه، ولكنّ اللّه قَدّمه.
أبو سَلمة عن إسماعيل
بن مُسلم عن أنس قال. صلَّى أبو بكر بالنّاس ورسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم مريض
ستةَ أيام.
النضرُ بن إسحاق عن
الحَسن قال: قيل لعليّ: علامَ بايعتَ أبا بكر؟ فقال: إنَّ رسول اللّه صلى الله
عليه وسلم لم يَمُت فَجْأة، كان يَأْتيه بلالُ في كل يوم في مَرضه يُؤذّنه
بالصلاة، فيأمر أبا بكر فيصلِّي بالناس، وقد تَركني وهو يَرى مكاني، فلما قُبض
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رَضي المسلمون لدنياهم مَن رَضيه رسولُ اللّه صلى
الله عليه وسلم لدينهم، فبايعوه وبايعتُه.
ومن حديث الشَّعبيّ
قال: أَوَّل مَن قَدِم مكةَ، بوفاة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وخلافة أبي بكر،
عبدُ ربّه بن قيس بن السائب المَخزوميّ، فقال له أبو قُحافة: مَن ولي الأمر بعده؟
قال: أبو بكر ابنك. قال: فرضي بذلك بنو عبد مَناف؟ قال: نعم. قال: لا مانعَ لما أَعطى
الله ولا مُعطيَ لما مَنع اللّه.
جعفر بن سليمان عن
مالك بن دينار قال: تُوفي رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم، وأبو سفيان غائب في
مَسعاة أخرجه فيها رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف لقي رجلاً في بعض
طر مُقبلاً من المدينة، فقال له مات محمد؟ قال: نعم. قال: فمن قام مَقامه؟ قال:
بكر. قال أبو سفيان: فما فعل المُستضعفان عليّ والعبّاس؟ قال: جالسين. قال:
أما واللهّ لئن بقِيت لهما لأرفعنّ من أعقابهما، ثم قال: إني أرى غَيرةً لا يُطفئها
إلا دم. فلما قدم المدينةَ جعل يطوف في أزقّتها ويقول:
بني هاشم لا تَطمع
الناسُ فيكم ... ولا سيما تَيمُ بن مُرة أو عَدِي
فما الأمرُ إلا فيكمُ
وإليكمُ ... وليس لها إلا أبو حَسن عَلى
فقال عمر لأبي بكر:
إنّ هذا قد قَدم وهو فاعل شرًّا، وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يستألفه على
الإسلام، فدَع له ما بيده من الصَّدقة، فَفَعل. فرضي أبو سفيان وبايعه.
سقيفة بني ساعدةأحمد
بن الحارث عن أبي الحَسن عن أبي مَعشر عن المَقْبريّ: أن المهاجرين بينما هم في
حُجرة رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم، وقد قَبضه اللهّ إليه، إذ جاء مَعْن بن عديّ
وعُويم ساعدة، فقالا لأبي بكر: بابً فِتْنة إن يُغلقه اللهّ بك، هذا سعدُ بن
عُبادة والأنصار يُريدون أن يُبايعوه. فَمضى أبو بكر وعمر وأبو عُبيدة حتى جاءوا سَقيفة
بني ساعدة وسَعد على طِنّفس مُتكئاً على وِسادة، وبه الحًمّى، فقال له أبو بكر:
ماذا ترى أبا ثابت؟ قال: أنا رجلٌ منكم. فقال حُباب بن المُنذر: منّا أمير ومنكم
أمير، فإنّ عمل المُهاجريّ في الأنصاري شيئاً ردّ عليه، وإن عمل الأنصاريُّ في
المهاجري شيئاً رد عليه، وإن لم تَفعلوا فأنا جذيلها المُحكّك وعُذَيقها المُرجّب،
لَنُعيدنَّها جَذَعة.
قال عمر: فأردتُ أن
أتكلم، وكنتُ زَوّرت كلاماً في نفسي. فقال أبو بكر: على رِسْلك يا عمر، فما ترَك
كلمةً كنتُ زوَّرتها في نَفسي إلا تكلّم بها، وقال: نحن المهاجرون، أول الناس
إسلاماً، وأكرمُهم أحساباً، وأوسَطُهم داراً، وأحسنُهم وُجوهاً، وأمسُّهم برسول
اللّه صلى الله عليه وسلم رَحِماً، وأنتم إخوانُنا في الإسلام، وشُركاؤنا في
الدَين، نَصرتم وواسيتم، فجزاكم اللهّ خيراً، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا
تَدين العربُ إلا لهذا الحيّ من قُريش، فلا تَنْفَسوا على إخوانكم المهاجرين ما
فضّلهم اللّه به، فقد قال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: الأئمة من قُريش. وقد
رضيت لكم أحدَ هذين الرجلين - يعنى عمرَ ابن الخطاب وأبا عُبيدة بن الجَراح - فقال
عمر: يكون هذا وِأنتَ حيّ! ما كان أحد لِيُؤخّرك عن مَقامك الذي أقامك فيه رسولُ
اللّه صلى الله عليه وسلم، ثُم ضرب على يده فبايعه، وبايعه الناس وازدحموا على أبي
بكر. فقالت الأنصار: قتلتم سعداً. فقال عمر: اقتُلوه قَتله الله، فإنه صاحبُ فتنة. فبايع الناسُ أبا بكر، وأتوا به
المسجدَ يُبايعونه، فسمع العبّاسُ وعليٌّ التَكبيرَ في المسجد، ولم يَفرُغوا من
غَسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليّ: ما هذا؟ قال العّباس: ما رُئِي
مثلُ هذا قطّ، أما قلتُ لك! ومن حديث النًعمان بن بَشير الأنصاري: لما ثَقل رسولُ
اللّه صلى الله عليه وسلم تكلّم الناس مَن يقوم بالأمر بعده، فقال قوم: أبو بكر،
وقال قومٌ: أبي بن كعب. قال النُّعمان بن بَشير: فأتيتُا أبيّا فقلت: يا أبيّ، إن
الناسَ قد ذكروا أنَ رسول صلى الله عليه وسلم يستخلف أبا بكر أو إياك، فانطلق حتى
نَنظر في هذا الأمر. فقال: إنَّ عندي في هذا الأمر من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شيئاً ما
أنا بذاكره حتى يَقبِضه اللّه إليه، ثم انطلق. وخرجت معه حتى دخلنا على النبيّ صلى
الله عليه وسلم بعد الصُّبح، وهو يَحسو حَسْوا في قَصعة مَشْعوبة. فلما فرغ أقبل
على أبيّ فقال: هذا ما قلتُ لك. قال: فأوص بنا. فخرج يخطّ برجليه حتى صار على
المِنبر، ثم قال: يا معشر المهاجرين، إنكم أصبحتم تَزيدون، وأصبحت الأنصارُ كما هي
لا تزيد،ألا وإن الناس يَكْثرون وتَقِلّ الأنصار حتى يكونوا كالمِلْح في الطعام،
فمن وَلى من أمرهم شيئاً فَلْيَقبَل من مُحسنهم، ولْيعفُ عن مُسيئهم، ثم دخل. فلما
توفي قيل لي: هاتيك الأنصارُ مع سعد بن عُبادة يقولون: نحن الأولى بالأمر،
والمهاجرون يقولون: لنا الأمر دونكم. فأتيت أبيّا فقرعتُ بابه، فخرج إليّ مُلتحفا،
فقلت: ألا أراك إلا قاعداً ببيتك مُغلقاً عليك بابَك وهؤلاء قومُك من بني ساعدة
يُنازعون المُهاجرين، فأخرج إلى قومك. فخَرج، فقال: إنكم واللّه ما أنتم من هذا الأمر
في شيء، إنه لهم دونكم، يليها من المُهاجرين رجلان، ثم يُقتل الثالث، ويُنزع
الأمرُ فيكون هاهنا، وأشار إلى الشام، وإن هذا الكلام لمبلول بريق رسول الله صلى
الله عليه وسلم، ثم أغلق بابَه ودخل. ومن حديث حذيفة قال: كنَا جلوساً عند رسول اللهّ عظيم، فقال: إني لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدُوا
بالذين من بَعدي، وأشار إلى أبي بكر وعمر، واهتدُوا بهَدْي عمار، وما حَدّثكم ابن
مسعود فصدقوه. الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر - في والعباس والزبير وسعد بن عُبادة.
فأما عليّ والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتى بَعث إليهم أبو بكر عمرَ ابن
الخطاب ليُخرِجهم من بيت فاطمة، وقال له: إِن أبوا فقاتِلْهم. فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار،
فلقيته فاطمةُ، فقالت: يا بن الخطاب، أجئت لتُحرق دارنا؟ قال: نعم، أو تدخلوا فيما
دخلتْ فيه الأمة. فخرج علي حتى دخل على أبي بكر فبايعه، فقال له أبو بكر: أكرهتَ
إمارتي؟ فقال: لا، ولكني آليتُ أن لا أرتدي بعد موت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
حتى أحفظَ القرآن، فعليه حَبست نفسي.
ومن حديث الزُّهري عن
عُروة عن عائشة قالت: لم يُبايع عليٌ أبا بكر حتى ماتت فاطمة، وذلك لستة أشهر من
موت أبيها صلى الله عليه وسلم. فأرسل علي إلى أبي بكر، فأتاه في منزله فبايعه،
وقال: واللهّ ما نَفسنا عليك ما ساق الله إليك من فَضل وخَير، ولكنّا كُنَا نرى أن
لنا في هذا الأمر شيئاً فاستبددْتَ به دوننا، وما نُنكر فضلك. وأما سعدُ بن عبادة
فإنه رحل إلى الشام. أبو المنذر هشام بن محمد الكلبيّ قال: بث عمرُ رجلاً إلى
الشام، فقال: ادْعه إلى البَيعة واحمل له بكل ما قَدرت عليه، فإن أيَ فاستعن
اللّهَ عليه. فقَدم الرجل الشام، فلقيه بحُوران في حائطٍ، فدَعاه إلى البيعة،
فقال: لا أبايع قُرشياً أبداً. قال: فإني أقاتلك. قال: وإن قاتلتَني! قال: أفخارج
أنت مما دخلتْ فيه الأمة؟ قال: أمّا من البَيعة فأنا خارج. فرَماه بسَهم، فقتله. ميمون بن
مِهران عن أبيه قال: رُمي سعد بنُ عبادة في حمّام بالشام، فقُتل. سعيد بن
أبي عَروبة عن ابن سيرين قال: رُمي سعد بن عُبادة بسهم فوُجد دفينا في جسده. فمات،
فبكته الجنّ، فقالت:
وقَتلنا سيّد الخَزْ
... رج سعدَ بن عُبادة
ورَميناه بسهمي ...
نِ فلم نُخْطِىء فُؤاده
فضائل أبي بكر رضي
اللّه عنه - محمد بن المَنكدر قال: نازع عمرَ أبا بكر، فقال رسولُ اللّه صلى الله
عليه وسلم: هل أنتم تاركوِني وصاحبي؟ إنّ اللّه بَعثني بالهُدى ودين الحق إلى
الناس كافّة، فقالوا جميعاً: كذبت، وقال أبو بكر: صدقتَ. وهو صاحبُ رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم، وجليسه في الغار، وأوّل من صلّى معه أمن به واتّبعه. وقال عمر بن
الخطّاب: أبو بكر سيّدنا، وأعتق سيّدَنا. يريد بلالاً. وكان بلال عبداً لأميّة بن
خَلف، فاشتراه أبو بكر وأَعتقه، وكان من مُولَّدي مكّة، أبوه رَباح، وأمه حَمامة.
وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم: مَن أول من قام معك في هذا الأمر؟ قال: حُرّ وعَبد. يريد
بالحُر أبا بكر، وبالعَبد بلالاً. وقال بعضُهم: عليّ وخبّاب. أبو الحسن المدائني
قال: دخل هارون الرشيدً مسجدَ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى مالك بن
أنس، فقيه المدينة، فأتاه وهو واقف بين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
واْلمِنبر، فلما قام بين يديه وسلّم عليه بالخلافة، قال: يا مالك، صف لي مكان أبي
بكر وعُمر من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا. فقال: مكانُهما منه
يا أمير المؤمنين كمكان قَبريهما من قبره. فقال: شَفيتَني يا مالك: الشَّعبي عن
أبي سَلمة: إنّ عليا سُئل عن أبي بكر وعمرِ، فقال: على الخَبير سقطتَ، كانا واللّه
إمامَين صالحين مُصلحين، خَرجا من الدنيا خميصِين. وقال عليّ بن أبي طالب: سَبق رسولُ
اللهّ صلى الله عليه وسلم، وثَنّى أبو بكر، وثَلّث عمر، ثم خَبطتنا فتنةٌ عَمياء
كما شاء اللّه. وقالت عائشة: تُوفّي رسولُ اللّه عظيم بين سَحْري ونَحري، فلو نَزل
بالْجبال الراسيات ما نَزل بأبي لهدّها، اشرأبّ النِّفاق، وارتدت العرب، فواللّه
ما اختلفوَا في لفظة إلا طار أبي بحظّها وغنائها في الإسلام. عمرو بن عثمان عن
أبيه عن عائشة، أنه بلغها أن أُناساً يتناولون من أبيها، فأرسلت إليهم، فلما حضروا
قالت: إنّ أبي واللّه لا تعطوه الأيدي، طَوَد مًنيف، وظل ممدود، أنجح إذ أكديتم،
وسبق إذ ونيتم سَبْقَ الجواد إذا استولى على الأمد. فتى قريش ناشئاً، وكَهفها
كهلا. يَفك عانيها، ويَريش مُملقها، ويرأب صَدْعها، ويَلُمّ شَعثها. فما برحت
شكيمتُه في ذات اللهّ تشتد حتى اتخذ بفنائه مسجداً يحيى فيه ما أمات المُبطلون. وكان
وقيد الجوامح، عزير الدَّمعة، شجّي النشيج. وأصفقت إليه نسوان مكة وولدانها
يَسخرون منه ويستهزئون به، واللّهُ يستهزىء بهم وَيمُدّهم في طُغيانهم يَعمهوِن،
وأكبرت ذلك رجالات قريش، فما فَلّوا له صفاة، ولا قصفوا قناة، حتى ضرب الحقُّ
بجِرانه، وألقىِ بَرْكه، ورست أوتادُه. فلما قَبض اللّه نبيَّه ضَرب الشيطانُ
رُواقَه، ومدّ طنبه، ونصب حبائلَه، وأجلب بخيله ورَجْله، فقام الصدِّيق حاسراً
مشمِّراً. فردّ نَشر، الإسلام على غره، وأقام أَوَده بثِقافه، فابذعرّ النِّفاق
بوطئه، وانتاش الناسَ بعَدْله، حتى أراح الحق على أهله، وحَقن الدماءَ في أهبها.
ثم أتته منيّته، فسدّ ثُلمتَه نظيرُه في المَرحمة، وشقيقُه في المَعدلة، ذلك ابن
الخطّاب. للّه دَرّ أم حَفلت له ودَرّت عليه. ففتح الفًتوح، وشرد الشِّرْك، وبَعَج
الأرض، فقاءت أُكًلَها، ولفظت جَناها؟ ترأمه ويأباها، وتريده ويَصْدِف عنها، ثم تَركها
كما صَحبها. فأَرُوني ما ترتابون؛ وأيَّ يومي أبي تَنقمون؟ أيوم إقامته إذ عدل
فيكم، أم يوم ظَعنه إِذ نَظر لكم؟ أقول قولي، هذا واستغفر الله لي ولكم.
وفاة أبي بكر
الصديقرضي اللّه عنه
الليثُ بن سَعد عن الزُّهري
قال: أهدي لأبي بكر طعام وعنده الحارث ابن كَلَدة فأكلا منه، فقال الحارث: أكلنا
سّم سَنة، وإني وإياك لميتان عند رأس الحًوِل
فماتا جميعاً في يوم
واحد عند انقضاء السنة. وإنما سمته يهود كما سمّت النبيّ صلى الله عليه وسلم بخيبر
في ذِراع الشاة. فلما حضرت النبيّ صلى الله عليه وسلم الوفاةُ قال: ما زالت أكلُه
خَيبر تُعاودني حتى قَطعت أبْهري. وهذا مثلُ ما قال الله تعالى " ثم
لَقَطَعنا منه الوَتين " . والأبهر والوتين: عرقانِ في الصُلب إِذا انقطع أحدُهما مات صاحبه. الزُهري عن عُروة عن
عائشة قالت: اغتسل أبو بكر يوم الاثنين لسبع خَلون من جُمادى الآخرة، وكان يوماً بارداً،
فحُم خمسةَ عشر يوماً لا يخرج إلى صلاة، وكان يأمر عمر يصلَي بالناس. وتُوفي ليلةَ
الثلاثاء لثمانٍ بقين من جُمادى الآخرةِ سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. وغسلته
امرأته أسماءُ بنت عُميسٍ. وصلٌى عليه عمرُ بن الخطاب بين القبر والمِنبر، وكبّر
أربعا. الزُّهري عن سعيد بن المُسيّب قال: لما تُوفى أبو بكر أقامت عليه عائشة
النَوح، فبلغ ذلك عمرَ فنهاهنَ، فأبين. فقال لهشام بنِ الوليد: أخرج إلي بنت أبي
قُحافة، فأخرج إليه أم فَروة، فعلاها بالدرّة ضرباً، فتفرَقت النوائح. وقالت عائشة
وأبوها يَغمِض، رضي الله عنه:
وأبيضُ يُستسقى
الغمامُ بوَجهه ... ربيع اليتامى عِصْمة للأرامِل
قالت عائشة: فنظر إلي
وقال: ذاك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم أغمي عليه. فقالت:
لعمرُك ما يُغنى
الثرَّاءُ عن الفَتى ... إذا حَشْرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ
فنظر إلي كالغَضبان
وقال: قولي: " وجاءتْ سَكْرةُ الموِت بالحقّ ذلك ما كُنت منه تَحِيد "
ثم قال: انظروا مُلاءتين خَلَقين فاغسلوهما وكفَنوني فيهما، فإن الحيَّ أحوجُ إلى
الجديد من الميت.
عُروة بن الزبير
والقاسم بن محمد قالا: أوصى أبو بكر عائشةَ أن يدفن إلى جنب رسول اللهّ صلى الله
عليه وسلم. فلما تُوفى حُفر له وجعل رأسُه بين كَتِفي رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم،
ورأسُ عمرَ عند حَقْوي أبي بكر. وبقي في البيت موضع قبر. فلما حضرت الوفاةُ الحسنَ
بن عليّ أوصى بأن يُدفن مع جدّه في ذلك الموضع. فلما أراد بنو هاشم أن يَحفِروا له
مَنعهم مروانُ، وهو والي المدينة في أيام معاوية. فقال أبو هُريرة: علام تمنعه أن يُدفن مع جدّه؟ فأشهدُ لقد سمعتُ رسول
الله عليه يقول: الحسن والْحُسين سيّدا شباب أهل الجنة. قال له مروان: لقد ضَيّع
الله حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يَرْوه غيرُك. قال: أنا
والله لقد قلتُ ذلك، لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن أحبُ ومن أبغض، ومن نَفى ومن أقرّ،
ومن دعا له ومن دعا عليه. قال: وسُطح قبرُ أبي بكر كما سُطح قبر النبيّ صلى الله
عليه وسلم ورُش بالماء.
هشام بن عُروة عن
أبيه: إن أبا بكر صُلّي عليه ليلا ودُفن ليلا. ومات وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، ولها
مات النبي صلى الله عليه وسلم. وعاش أبو قحافة بعد أبي بكر أشهراً وأياماً، ووهب
نصيبَه في ميراثه لولد أبي بكر. وكان نَقش خاتم أبي بكر: نعم القادر اللّه. ولما
قُبض أبو بكر سُجّى بثوب، فارتجت المدينة من البكاء، ودَهشِ القوم كيوم قُبض فيه
رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم. وجاء عليّ بن أبي طالب باكياً مُسرعاً مسترجعاً
حتى وقف بالباب وهو يقول. رَحِمك اللهّ أبا بكر، كنتَ واللهّ أولَ القوم إسلاماً،
وأصدَقهم إيماناً، وأشدَّهم يقينا، وأعظَمهم غَناء، واحفظهم على رسول اللهّ صلى
الله عليه وسلم، وأحدبَهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبَهم برسول الله
خُلقا وفضلا وهَديا وسَمْتا؛ فجزاك اللّه عن الإسلام وعن رسول اللهّ وعن المسلمين
خيرا. صدقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيتَه حين بخلوا، وقمتَ معه حين قعدوا، وسمّاك
اللهّ في كتابه صدَيقاً، فقال: " والذي جاء بالصِّدق وصَدّق به " يريد محمداً ويريدك. كنت والله للإسلام حِصناً، وللكافرين ناكباً، لم
تضلل حجّتك، ولم تَضعف بصيرتك، ولم تَجبن نفسُك. كنت كالجبلِ لا تحركه العواصف، ولا
تُزيله القواصف. كنت كما قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ضعيفاً في بدنك،
قوياً في دينك، متواضعاً في نفسك، عظيماً عند اللّه، جليلاً في الأرض، كبيراً عند
المؤمنين. لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى، فالضعيفُ عندك قويّ، والقويّ عندك ضعيف،
حتى تأخذ الحق من القوي وتأخذه للضعيف، فلا حَرمك اللّه أجرك، ولا أضلّنا بعدك.
القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أنها دخلت على أبيها في مرضه الذي تُوفي فيه
فقالت: يا أبت، اعهد إلى خاصّتك، وأنفذ رأيك في عامّتك، وانقل من دار جهازك إلى
دار مُقامك، إنك مَحضور ومتّصل بي لوعتُك، وأرى تخاذلَ أطرافك وانتقاع لونك، فإلى
اللهّ تَعْزيتي عنك، ولديه ثوابُ حُزني عليك. أرقأ فلا أرْقأ، وأشكو فلا أُشكى. قال:
فَرفع رأسه، وقال: يا أمّه، هذا يوم يُخلَّى لي فيه عن غطائي، وأشاهد جَزائي؛ إن
فرحاً فدائم، وان ترحاً فمُقيم. إني اضطلعتُ بإمامة هؤلاء القوم حين كان النُّكوص
إضاعة، والخَزَل تفريطا؛ فشهيدي اللّه، ما كان بقلبي إلا إياه، فتبلّغت بصَحفتهم،
وتعلّلت بدرّة لِقْحتهم، فأقمت صلايَ معهم، لامختالًا أشِراً، ولا مُكاثراً
بَطِراً. لم أعْدُ سدّ الجَوعة، وتَوْرية العَوْرة، وإقامة القِوام، من طوى مُمعض،
تهفو منه الأحشاء، وتجفّ له الأمعاء، فاضطررت إلى ذلك اضطرار الجَرِض إلى الماء،
المَعيفِ الآجن. فإذا أنا مِتّ فردّي إليهم صَحْفتهم وعبدهم ولقحتهم ورَحاهم
ودثارةً ما فوقي اتقيت بها البرد، ووِثارةً ما تحتي اتقيتُ بها أذى الأرض، كان
حشوها قِطَع السعف. قال: ودخل عليه عمر فقال: يا خليفة رسول اللهّ، لقد كلفت القوم
بعدك تعباً، وولّيتهم نصباً، فهيهات من شَقَّ غُبارك! فكيف اللحاقُ بك!.
استخلاف أبي بكر لعمر
عبد اللّه بن محمد
التّيمي عن محمد بن عبد العزيز: إن أبا بكر الصديق حين حضرته الوفاةُ كتب عَهده
وبَعث به مع عثمان بن عفان ورجلٍ من الأنصار ليقرآه على الناس، فلما اجتمع الناسُ
قاما فقالا: هذا عهدُ أبي بكر، فإن تُقِرُّوا به نقرأْه، وإن تُنكروه نرجعه. فقال:
بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا عهد أبي بكر بن أبي قُحافة عند آخر عهده بالدُّنيا خارجا منها،
وأوّل عهده بالآخرة داخلاً فيها، حيثُ يُؤمِن الكافر، ويتقي الفاجر، ويَصدق الكاذب.
إني أَمّرت عليكم عمرَ بن الخطّاب، فإن عَدل واتقى فذاك ظنِّي به ورجائي فيه، وإن
بدّل وغيّر فالخيرَ أردت، لا يعلم الغيب إلا الله قال أبو صالح: أخبرنا محمد بن
وضاح، قال: حدّثني محمد بن رُمْح بن المهاجر التُّجيبي قال: حدّثني الليثُ بن سعد
عن عُلوان عن صالح بن كَيسان عن حميد ابن. عبد الرحمن بن عوف عن أبيه أنه دخل على
أبي بكر رضي الله عنه في مَرضه الذي تُوفي فيه فأصابه مُفيقا، فقال: أصبحت بحمد
اللهّ بارئاً. قال أبو بكرِ: أتراه؟ قال: نعم. قال: أما إني على ذلك لشديدُ
الِوَجع، ولما لقيتُ منكم يا معشر المُهاجرين أشدُّ عليَّ من وَجعي. إني وَليت
أمَركم خيركم في نفسي فكلّكم وَرِم من ذلك أنفه، يريد أن يكون له الأمر من دونه،
ورأيتم الدنيا مُقبلة، ولن تقبل - وهي مُقبلة - حتى تتخذوا سُتور الحرير ونضائد الدِّيباج،
وتألموا الاضطجاع على الصوف الأَذربيّ كما يألم أحدُكم الاضطجاع على شَوك
السّعدان. والله لأن يُقدّم أحدكم فتُضرب عُنقه في غير حدّ خير له من أن يَخوض في
غَمْرة الدنيا. ألا وإنكم أول ضالّ بالناس غدا فتصدّوهم عن الطريق يميناً وشمالاً.
يا هاديَ الطريق إنما هو الفَجر أو البَحْر. قال: فقلتُ له: خَفِّض عليك يَرحمك اللّه، فإن هذا يَهيضك على ما بك،
إنما الناس في أَمرك بين رجلين، إما رجل رأى ما رأيتَ فهو معك، وإما رجل خالفَك فهو
يُشير عليك برأيه، وصاحبَك كما تُحب، ولا نَعلمك أردتَ إلا الخير، ولم تزل صالحا
مُصلحا، مع أنك لا تأسي على شيء من الدنيا. فقال: أجل، إني لا آسىَ على شيء من
الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وودتُ أني تركتهن، وثلاثٍ تركتهن ووددتُ أني فعلتهن،
وثلاثٍ وددتُ أني سألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهن. فأما الثلاث التي
فعلتهن ووددتُ أني تركتُهن: فوددتُ أني لم أكشف بيتَ فاطمة عن شيء، وإن كانوا
أغلقوه على الحرب؛ ووددتُ أني لم أكن حَرقت الفَجَاءة السلمي، وأني قتلته سريحاً
أو خلَيته نجيحا؛ ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة قد رميتُ الأمر في عُنق أحد
الرجلين، فكان أحدُهما أميراً وكنتُ له وزيراً - يعني بالرجلين عمرَ بن الخطاب
وأبي عُبيدة بن الجراح - وأما الثلاث التي تركتُهن ووددتُ أني فعلتُهن: فوددتُ أني يوم أتيت
بالأشعث بن قيس أسيراً ضربتُ عنقه؛ فإنه يُخيل إلي أنه لا يرى شرُّا إلا أعان عليه؛
ووددتُ أني سيرت خالدَ بن الوليد إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون
ظَفروا وإن انهزموا كنتُ بصدد لقاء أو مَدد؛ ووددت أني وجهت خالد بن الوليد إلى
الشام ووجهتُ عمر ابن الخطاب إلى العِراق، فأكون قد بسطت يدَي كلتيهما في سبيل
اللّه. وأما الثلاث التي وددتُ أني أسأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عنهن: فإني
وددتُ أني سألته: لمن هذا الأمر من بعده فلا يُنازعه أحد، وأني سألته هل للأنصار
يا هذا الأمر نصيب فلا يُظلموا نصيبَ منه، ووددتُ أني سألته عن بنت الأخ والعَمة،
فإنَ في نفسي منهما شيئاً.
نسب عمر بن الخطاب
وصفته
أبو الحسن عليّ بن
محمد قال: هو عمر بن الخطاب بن نُفيل بن عبد العُزى بن رِياح بن عبد اللّه بن قُرط
بن رَزاح بن عَدِيّ بن كعب بن لُؤي بن غالب ابن فِهْر بن مالك. وأُمه حَنْتمة بنت
هاشم بن المُغيرة بن عبد الله بن عمرِ بن مَخزوم. وهاشم هو ذو الرُمحين. قال أبو
الحسن: كان عمر رجلاً آدمَ مُشْرَباً حُمرة طويلاً أصلِع له حِفَافان، حسنَ الخدّين
والأنف والعينين، غليظَ القدمين والكفين، مَجُدول الفحم، حسن الخَلق، ضخم
الكراديس، أعسَر يَسَر، إذا مَشى كأنه راكب. وَلى الخلافةَ يوم الثلاثاء لثمانٍ
بقين من جُمادى الآخرة سنة ثلاثَ عشرةَ من التاريخ. وطعن لثلاث بقين من ذي الحجَّة
سنة ثلاث وعشرين من التاريخ. فعاش ثلاثةَ أيام. ويقال سبعة أيام. مَعْدان بن أبي
حَفصة، قال: قُتل عمر يوم الأربعاء لأربع بقين من ذي الحجَّة سنة ثلاث وعشرين، وهو
ابن ثلاثٍ وستين سنة، في رواية الشعبيّ. ولها مات أبو بكر، ولها مات النبي صلى الله
عليه وسلم.
فضائل عمر بن الخطاب
أبو الأشهب عز الحسن،
قال: عاتب عُيينةُ عثمانَ، فقال له: كان عمر خيراً لنا منك، أعطانا
فأغنانا، وأخشانا فأتْقانا. وقيل لعثمان: ما لك لا تكون مثلَ عمر؟ قال: لا أستطيع
أن أكون مثلَ لُقمان الحَكيم. القاسم بن عمر قال: كان إسلام عمر فَتحاً، وهجرته
نصراً، وإمارته رحمة. وقيل: إن عمر خَطب امرأة من ثقيف وخطبها المُغيرة؛ فزوَجوها
المُغيرة. فقال النبيُ صلى الله عليه وسلم: ألا زوجتم عمر؛ فإنه خير قريش أولها
وآخرها، إلا ما جعل اللهّ لرسوله. الحسن بن دينار عن الحسن، قال: ما فَضل عمرُ
أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان أطولَهم صلاة، وأكثرَهم صياماً؛
ولكنه كان أزهدهم في الدنيا، وأشدهم في أمر الله. وتظلّم رجل من بعض عًمال عمر،
وادًعى أنه ضَربه وتعدَى عليه، فقال: اللهم إِني لا أحلُّ لهم أشعارَهم ولا
أبشارهم. كلُ من ظَلمه أميرُه فلا أميرَ عليه دوني، ثم أقاده منه. عَوَانُة عن
الشًعبي قال: كان عمر يطوف في الأسواق، ويقرأ القرآن، ويقضي بين الناس حيث أدركه
الخصوم. وقال المُغيرة بن شُعبة، وذكر عُمَر، فقال: كان والله له فضلٌ يمنعه من أن
يَخدع، وعقل يَمنعه من، أن يَنخدع. فقال عمر: لست بِخَب ولا الَخب يَخدعني. عِكرمة
عن ابن عباس، قال قال: بينما أنا أمشي مع عُمرَ بن الخطاب في خلافته وهو عامد
لحاجة له وفي يده الذَرة، فأنا أمشي خلفه وهو يُحدّث نفسَه ويَضرب وحشي قَدميه
بدِرَّته، إذ التفت إليّ، فقال: يا بن عبّاس، أتدري ما حَملني على مَقالتي التي
قلتُ يوم تُوفّي رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: لا. قال: الذي حَملني على
ذلك أنِّي كنتُ أقرأ هذه الآية: " وكذلك جَعلناكم أُمةً وَسَطاً لتكونوا
شًهداءَ على النَّاس ويكونَ الرَّسولُ عليكم شَهيداً " فواللّه إني كنت لأظنّ
أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سيبقى في أمته حتى يَشهد علينا بأخفّ أعمالنا، فهو
الذي دَعاني إلى ما قلت. ابن دأب قال: قال ابن عبّاس: خرجت أريد عمر في خلافته، فألفيتُه
راكباً على حمار قد أَرْسنه بحَبل أسود، وفي رجليه نَعلان مخصوفتان، وعليه إزار قصير
وقميص قصير، قد انكشفت منه ساقاه، فمشيتُ إلى جَنبه وجعلتُ أجبِذُ الإزار عليه،
فجعل يَضحك ويقول: إنه لا يطيعك. حتى أتى العالية، فَصنع له قومٌ طعاماً من خُبز
ولحم، فدَعه إليه، وكان عمر صائماً، فجعل يَنبُذ إليّ الطعام ويقول: كُلْ لي ولك.
ومن حديث ابن وَهْب عن اللَّيث بن سعد: أن أبا بكر لم يكن يأخذ من بيت المال شيئاً
ولا يُجري عليه من الفيء درهما، إلا أنه استلف منه مالاً، فلما حَضرته الوفاةُ أمر
عائشةَ بردّه. وأما عمرُ بن الخطاب فكان يُجرى على نفسه دِرْهمين كلَّ يوم. فلما
وَلى عمرُ بن عبد العزيز قيل له: لو أخذتَ ما كان يأخذ عمرُ بن الخطّاب؟ قال: كان
عمرُ لا مالَ له، وأنا مال يُغنيني بم فلم يأخذ منه شيئاً. أبو حاتم عن الأصمعي، قال:
قال عمر وقام على الرَّدم: أين حقك يا أبا سفيان مما هنا؟ قال: ممّا تحت قَدميك
إليّ. قال: طالما كنتَ قديمَ الظّلم، ليس لأحد فيما وراء قدميّ حق، إنما هي منازل
الحاج. قال الأصمعي: وكان رجلٌ من قريش قد تقدَّم صدرٌ من داره عن قدمَي عمر
فهدمه. وأراد أن يُغوِّر البئر، فقيل له: في البئر للناس مَنفعة، فتركها. قال
الأصمعي: إذا ودَّع الحاجًّ ثم بات خلفَ قدمي عمرَ لم أرَ عليه أن يرجع. يقول: قد
خرج من مكة.
مقتل عمر
أبو الحسن: كان
للمُغيرة بن شُعبة غلام نَصراني يقال له: فَيْروز أبو لؤلؤة، وكان نجَّاراً
لطيفاً، وكان خِراجُه ثقيلاً، فشكا إلى عمر ثِقل الخراج، وسأله أن يكلِّم مولاه أن
يُخفِّف عنه من خراجه، فقال له: وكم خِراجك؟ قال ثلاثة دراهم في كل شهر. قال وما
صناعتُك؟ قال: نجَّار. قالت: ما أرى هذا ثقيلاً في مثل صناعتك. فخرج مُغضَباً،
فاستلّ خِنْجراً محدودَ الطَّرفين. وكان عمر قد رأى في المَنام ديكاً أحمر ينقره ثلاث نَقرات، فتأوله
رجلاً من العجم يَطعنه ثلاثَ طَعنات. فطعنه أبو لُؤِلؤة بخِنْجره ذلك في صلاة الصُّبح
ثلاثَ طَعنات، إحداها بين سرُّته وعانته، فخرقت الصِّفاق، وهي التي قتلته. وطُعن
في المسجد معه ثلاثةَ عشرَ رجلاً، مات منهم سَبعة. فأقبل رجلٌ من بني تميم، يقال
له حِطَّان، فألقى كِساءه عليه ثم احتضنه. فلما علم العِلج أنه مأخوذ طَعن نفسه
وقدَّم عُمر صُهيباً يصلِّي بالناس، فقرأ بهم في صلاة الصُّبح: " قل هو اللّه
أَحد " في الرَّكعة الأولى، و " قُل يأيّها الكافرون " في الرّكعة
الثانية. واحتُمل عمر إلى بيته، فعاش ثلاثةَ أيام ثم مات. وقد كان استأذن عائشةَ
أن يُدفن في بيتها مع صاحبيه، فأجابته وقالت: واللّه لقد كنتُ أردتُ ذلك المَضجع
لنفسي ولأوثرنّه اليوم على نفسي. فكانت ولايةُ عمر عشرَ سنين. صلّى عليه صُهيب بين القَبر والمِنْبر،
ودُفن عند غروب الشمس. كاتبُه: زيدُ بن ثابت، وكتب له مًعَيقب أيضاً. وحاجبُه: يرْفأ،
مولاه. وخازِنُه: يسار. وعلى بيت ماله: عبدُ اللّه ابن الأرقم. وقال الليثُ بن
سعد: كان عمرُ أول من جَنّد الأجناد، ودَوَّن الدَّواوين، وجعل الخلافة شُورى بين
ستّة من المسلمين، وهم: عليّ وعُثمان وطِلْحة والزًّبير وسَعد بن أبي وقَّاص وعبدُ
الرحمن بن عوف، ليختاروا منهم رجلاً يولّونه أمرَ المسلمين. وأوصى أن يَحضُر عبدُ
اللهّ بن عُمر معهم، وليس له من أمر الشُّورى شيء.
أمر الشورى في خلافة
عثمان بن عفان
صالح بن كيسان قال:
قال ابن عباس: دخلت على عُمر في أيام طَعْنته، وهو مُضطجع على وسادة من أدم، وعنده
جماعةٌ من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال له رجل: ليس عليك بأس. قال: لئن لم - يكن علِيّ اليوم ليكونّ بعد اليوم، وإنّ للحياة
لنصِيباً من القلب، وإن للموت لكُربة، وقد كنتُ أحب أن أُنجيَ نفسي وأنجوَ منكمِ،
وما كنتُ من أمركم إلا كالغَريق يرى الحياة فيرجوها، ويخشى أن يموت دونها، فهو
يرْكض بيديه ورجليه؛ وأشدُ من الغريق الذي يرى الجنَة والنار وهو مشغول. ولقد
تركتُ زَهرتكم كما هي، ما لبستُها فأخلقتُها، وثمرتَكم يانعة في أكمامها ما
أكلتُها، وما جَنيت ما جنيت إلا لكم، وما تركتُ ورائي دِرْهما ما عدا ثلاثين أو
أربعين درهما، ثم بكى وبكى الناسُ معه. فقلت: يا أمير المؤمنين، أبشر، فواللّه لقد
مات رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو عنك راض، ومات أبو بكر وهو عنك راضٍ، وإن
المسلمين راضون عنك. قال: المَغْرور واللّهَ من غَررتموه، أما واللّه لو أن لي ما
بين المشرق والمغرب لافتديتُ به من هَوْل الُمَطّلَع. داود بن أبي هِند عن قَتادة
قال: لما ثقُل عمر قال لولده عبد اللّه: ضَع خَدّي على الأرض. فَكَره
أن يفعل ذلك. فوضع عمرُ خذَه على الأرض وقال: ويل لعمر ولام عمر إن لم يَعْفُ
اللّه عنه. أبو أمية بن يَعلى عن نافع قال: قيل لعبد اللّه بن عُمر: تُغسل
الشهداء؟ قال: كان عمر أفضلَ الشُّهداء، فغُسّل وكُفن وصلُيَ عليه. يونس عن الحسن،
وهشامُ بن عُروة عن أبيه، قالا: لما طُعن عمرُ بن الخطّاب قيل له: يا أمير
المُؤمنين، لو استخلفتَ؟ قال: إن تركتُكم فقد تَرككم مَن هو خيرٌ منّي، وإِن
استخلفتُ فقد استخلف عليكم من هو خير مني، ولو كان أبو عُبيدة بن الجَراح حيًّا
لاستخلفتُه، فإن سألني ربَي قلت: سمعتُ نبيك يقول: إنه أمينُ هذه الأمة؛ ولو كان سالمٌ مولًى أبي
حُذيفة حيا لاستخلفتُه، فإن سألني ربِّي قلت: سمعتُ نبيَّك يقول: إنّ سالماً ليُحب
اللّه حُبَا لو لم يَخفه ما عصاه. قيل له: فلو أنك عهدتَ إلى عبد اللّه فإنه له
أهلٌ في دينه وفَضله وقديم إسلامه. قال: بِحَسْب آل الخطَّاب أن يُحاسَب منهم رجلٌ
واحد عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولوددتُ أني نجوتُ من هذا الأمر كَفافاً لا
لي ولا علي. ثم راحوا فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو عهدتَ؟ فقال: قد كنتُ أجمعتُ
بعد مقالتي لكم أن أولّي رجلاً أمركم أرجو أن يَحملكم على الحق - وأشار إلى عليّ -
ثم رأيتُ أن لا أتحملها حيّا وميتاً، فعليكم بهؤلاء الرًهط الذين قال فيهم النبيٌ
صلى الله عليه وسلم.
إنهم من أهل الجنة،
منهم سَعيد بن زيد ابن عمرو بن نُفيل، ولستُ مُدخِلَه فيهم، ولكن الستَة: علي
وعثمان، ابنا عبد مناف، وسعد، وعبد الرحمن بن عوف، خال رسول اللهّ صلى الله عليه
وسلم، والزبير، حواريّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته، وطَلحة الخير،
فليختاروا منهم رجلاً، فإذا ولَوكم والياً فأحسِنوا مُؤازرته. فقال العباس لعلي:
لا تَدخل معهم. قال: أكره الخلاف. قال: إذن ترى ما تكره. فلما أصبح عُمرُ دعا عليا وعثمان وسعداً
والزُّبير وعبد الرحمن، ثم قال: إني نظرت فوجدتُكم رؤساءَ الناس وقادَتهم، ولا
يكون هذا الأمر إلا فيكم، وإني لا أخاف الناسَ عليكم، ولكني أخافكم على الناس، وقد
قُبض رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض، فاجتمعوا إلى حُجرة عائشة
بإذنها، فتشاوروا واختاروا منكم رجلاً، ولْيُصل بالناس صُهيب ثلاثة أيام، ولا يأتي
اليومُ الرابع إلا وعليكم أميرٌ منكم، ويحضركم عبدُ الله مُشيراً، ولا شيءَ له من
الأمر، وطلحة شريككم في الأمر، فإن قَدِم في الأيام الثلاثة فأحضروه أمركم، وإن
مَضت الأيام الثلاثة قبل قدُومه فأمضُوا أمركم. ومن لي بطَلحة؛ فقال سعد: أنا لك
به إن شاء الله. قال لأبي طَلحة الأنصاري: يا أبا طلحة، إنَ الله قد أعزّ بكم
الإسلام، فاختر خَمسين رجلاً من الأنصار وكُونوا مع هؤلاء الرهط حتى يَختاروا
رجلاً منهم. وقال للمِقْداد بن الأسود الكِنديّ: إذا وضعتُموني في حُفرتي فاجمع
هؤلاء الرَّهط حتى يختاروا رجلاً منهم. وقال لصُهيب: صل بالناس ثلاثة أيام، وأدخل عليًّا
وعثمان والزُّبير وسعداً وعبد الرحمن وطَلحة، إن حَضر، بيت عائشة وأحْضِر عبدَ
الله بن عمر، وليس له في الأمر شيء، وقُم على رُؤوسهم، فإن اجتمع خمسةٌ على رأي
واحد وأبى واحدٌ فاشدَخ رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعةٌ فرضُوا وأبى اثنان فاضرب
رأسيهما، فإن رضي ثلاثة رجلاً وثلاثة رجلاً فحكِّموا عبدَ الله بن عمر، فإن لم
يرضَوا بعبد الله فكُونوا مع الذين فيهم عبدُ الرحمن بن عوف واقتُلوا الباقين، إن
رغبوا عما اجتمع عليه الناس وخرجوا. فقال علي لقوم معه من بني هاشم: إن أطيع فيكم
قومُكم فلن يومروكم أبداً. وتلقاه العبَّاس فقال له: عَدلتْ عنا. قال له: وما
أعلمك؟ قال: قَرن بي عثمان، ثم قال: إن رضي ثلاثةٌ رجلاً فكونوا مع الذين فيهم
عبدُ الرحمن بن عوف، فسَعد لا يخالف ابن عَمه عبد الرحمن، وعبدُ الرحمن صهر عثمان،
لا يختلفون، فلو كان الآخران معي ما نَفعاني، فقال العبّاس: لم أدفعك في شيء إلا
رجعتَ إليّ مستأخرا بما أكره، أشرتُ عليك عند وفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
أن تسأله فيمن، هذا الأمر فأبيت، وأشرتُ عليك بعد وفاة رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم أن تعاجل الأمر فأبيت، وأشرتُ عليك حين سمَّاك عمر في الشُّورى أن لا تدخل
معهم فأبيت، فاحفظ عنّي واحدة: كل ما عرَض عليك القوم فأمسك إلى أن يولّوك، واحذر
هذا الرهطَ فإنهم لا يَبْرَحون يدفعوننا عن هذا الَأمر حتى يقوم لنا به غيرُنا.
فلما مات عمر وأخرجت جِنازته تصدَّى عليّ وعثمان أيهما يصلّي عليه. فقال عبدُ
الرحمن: كلا كما يحب الأمر، لستما مِن هذا في شيء، هذا صُهيب، استخلفه عمرُ يصلّي
بالناس ثلاثاً حتى يجتمع الناس على إمام. فصلّى عليه صُهيب. فلما دُفن عمر جمع
المِقدادُ بن الَأسود أهل الشُّورى في بيت عائشة بإذنها وهم خمسة، معهم ابن عمر، وطلحة
غائب، وأمروا أبا طلحة، فَحجبهم. وجاء عمرو بن العاص والمُغيرة بن شُعبة فجلسا
بالباب، فَحصبهما سعد وأقامهما، وقال: تُريدان أن تقولا: حضرنا وكُنَّا في أهل،
الشُّورى! فتنافس القومُ في الأمر، وكثُر بينهم الكلام، كلٌّ يرى أنه أحقُّ
بالأمر. فقال أبو طلحة: أنا كنتُ لأن تدفعوها أخوفَ مني لأن تنافسوها، لا والذي
ذَهب بنفس محمد لا أَزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمر بها عمر أو أَجلس في بيتي.
فقال عبدُ الرحمن: أيكم يُخرج منها نفسه ويتقلّدها على أن يُولّيها أفضَلكم؛ فلم
يُجبه أحد. قال: فأنا أنخلع منها. قال عثمان: أنا أولُ مَن رضي، فإني سمعتُ رسولَ
اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: عبدُ الرحمن أمين في السماء أمين في الأرض. فقال
القوم: رضينا، وعليّ ساكت. فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: إن أعطيتَني مَوْثقا لتُؤْثرنّ
الحق، ولا تَتبع الهوى، ولا تَخُص ذا
رَحم، ولا تألو الأمة
نُصحاً. قال: أعطوني مواثيقَكم على أن تكونوا معي على مَن نَكل، وأنْ ترضوا بما
أخذتُ لكم. فتوثّق بعضُهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن.رَحم، ولا تألو الأمة
نُصحاً. قال: أعطوني مواثيقَكم على أن تكونوا معي على مَن نَكل، وأنْ ترضوا بما
أخذتُ لكم. فتوثّق بعضُهم من بعض وجعلوها إلى عبد الرحمن.
فخَلا بعليّ، فقال:
إنك أحق بالأمر لقَرابتك وسابقتك وحُسن أثرك، ولم تَبْعد، فمن أحقُّ بها بعدك مِن
هؤلاء؟ قال: عثمان. ثم خلا بعثمان فسأل عن مثل ذلك. فقال: علي ثم خلا بسعد. فقال
عثمان ثم خلا بالزبير. فقال: عثمان. أبو الحسن قال: لما خاف عليُّ بن أبي طالب
عبدَ الرحمن بن عوف والزُّبير وسعدا أن يكونوا مع عثمان لقي سعدا ومعه الحسنُ والحُسين،
فقال له: " اتقُوا اللّهَ الَّذي تَساءلون به والأرحام إنَ اللّه كان عليكم
رَقِيباً " . أسألك برَحم ابنيّ هذيِنِ من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم،
وبرَحم عمِّي حمزة منك أن لا تكون مع عبد الرحمن ظهيراً عليّ لعُثمان، فإنّي أدلي
إليك بما لا يُدلي به عثمان. ثم دار عبدُ الرحمن لياليَه تلك على مشايخ قُريش
يُشاورهم، فكلّهم يُشير بعثمان، حتى إذا كان في الليلة آلتي استكمل فيم صَبيحتها
الأجل أتى منزلَ المِسْورِ ابن مخْرمة بعد هَجْعة من الليل فأيقظه، فقال: ألا أراك
إلا، نائما ولم أذق في هذه الليالي نوما، فانطلِقْ فادعُ لي الزًّبير وسعداً، فدعا
بهما. فبدأ بالزُّبير في مُؤخَّر المسجد، فقال له: خَلِّ بني عبد مناف لهذا الأمر. فقال:
نَصيبي لعلّي. فقال لسعد: أنا وأنت كالآلة فاجعل نصيبَك لي فأختار. قال: أما
إن اخترت نفسك فنَعم، وأما إن اخترت عثمان فعليٌّ أحب إليَّ منه. قال: يا
أبا إسحاق، إني قد خلعت نفسي منها على أن أختار، ولو لم أفعل وجُعل إليَّ الخيارُ
ما أردتُها، إني رأيت كأني في رَوْضة خضراء كثيرةِ العُشب، فدخل فَحْل لم أر مثلَه
فحلاً أكرمَ منه، فمرّ كأنه سَهم لا يلتفت إلى شيء مما في الرَّوضة حتى قَطعها،
ودَخل بعير يتلوه فأتبع أثرَه حتى خرج إليه من الرّوضة، ثم دخل فحلٌ عَبقريّ يَجر
خُطامه يلتفت يميناً وشمالًا وَيمضي قَصْد الأولَيْن، ثم خرج من الرَّوضة، ثم دخل
بعير رابع فرَتع في الروضة، ولا واللّه لا أكون البعيرَ الرابع، ولا يقوم بعد أبي
بكر وعُمَر أحدٌ فيرضى الناسُ عنه. ثم أرسل المِسْورَ إلى عليّ، وهو لا يَشك أنه
صاحب الأمر. ثم أرسل المِسْورَ إلى عثمان فناجاه طويلاً حتى فرَّق بينهما آذان الصُّبح.
فلما صَلوا الصبحَ جَمع إليه الرهطَ وبعث إلى مَن حَضره من المُهاجرين والأنصار،
وإلى أمراء الأجناد، حتى ارتج المسجد بأهله فقال: أيها الناس، إنِّ الناس قد احبُّوا أن تلحق أهلُ الأمصار بأمصارهم وقد
عَلموا مَن أميرُهم. فقال عمَّار بن ياسر: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع
عليا. فقال المِقداد بن الأسود: صدق عمَّار، إن بايعتَ عليّا قلنا: سَمِعنا
وأطعنا. قال ابن أبي سَرْحٍِ: إنْ أردتَ أن لا تختلف قريش فبايع عُثمان، إن بايعتَ
عثمان سمعنا وأطَعْنا. فشتم عمار ابن أبي سَرْح، وقال: متي كنتَ تَنصح المسلمين! فتكلم بنو هاشم وبنو أمية. فقال عمار: أيها الناس،
إن اللّه أكرمنا بنبيّنا وأعزّنا بدينه، فأنى تَصْرفون هذا الأمرَ عن بيت نبيّكم!
فقال له رجلَ من بني مخزوم: لقد عدوتَ طَوْرك يا بن سُمية، وما أنت وتأميرُ قريش
لأنفسها. فقال سعدُ بن أبي وقَاص: يا عبد الرحمن، افرُغ قبل أن يفتتن الناسُ. فقال
عبد الرحمن: إني قد نظرت وشاورت، فلا تجعلُن أيها الرهطُ على أنفسكم سبيلا.
ودعا عليّاً فقال:
عليك عهدُ الله وميثاقُه لتعملنّ بكتاب الله وسُنة نبيه وسيرة الخَليفتين من بعده؟
قال: أعمل بمبلغ علمي وطاقتي. ثم دعا عثمان، فقال: عليك عهدُ اللّه وميثاقُه
لتعملنَّ بكتاب اللّه وسُنة نبيّه وسرة الخليفتين من بعده؟ فقال: نعم،
فبايعه. فقال عليّ: حبوتَه محاباةً، ليس ذا بأول يوم تَظاهرتم فيه علينا، أمَا
والله ما ولّيتَ عثمانَ إلا ليردّ الأمر إليك، والله كل يومٍ هو في شأن. فقال عبدُ
الرحمن: يا علي، لا تَجعل على نفسك سبيلا، فإِنّي قد نظرتُ وشاورتُ الناسَ فإذا هم
لا يَعْدلون بعثمانَ أحدا. فخرج عليّ وهو يقول: سيَبلغ الكتابُ أجلَه. فقال
المقدادُ: يا عبد الرحمن، أمَا والله لقد تركتَه من الذين يَقْضون بالحقّ وبه
يَعْدلون. فقال: يا مقداد، والله لقد اجتهدتُ للمُسلمين. قال: لئن كنتَ أردتَ بذلك
الله فأثابك الله ثوابَ المحسنين. ثم قال: ما رأيتُ مثلَ ما أوتي أهلُ هذا البيت
بعد نبيِّهم، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحداً أعلم منه، ولا
أقضيَ بالعَدْل، ولا أعرفَ بالحق، أما واللّه لو أجد أعوانا! قال له عبدُ الرحمن: يا
مقداد، اتق الله فإني أخشى عليك الفِتْنة. قال: وقدم طلحة في اليوم الذي بُويع فيه
عثمان، فقيلِ له: إنَ الناسَ قد بايعوا عثمان. فقال: أكُلّ قُريش رضُوا به؟ قالوا:
نعم. وأتى عثمان، فقال له عثمانُ: أنت على رأس أمرك. قال طلحة: فإنْ أبيتُ
أتردُها؟ قال: نعم. قال: أكل الناس بايعوك؟ قال: نعم. قال: قد رضيتُ، لا أرغب عما
اجتمعت الناسُ عليه، وبايعه. وقال المغيرة بن شُعبة لعبد الرحمن: يا أبا محمد، قد
أصبتَ إذ بايعتَ عثمان ولو بايعت غيرَه ما رضيناه. قال: كذبتَ يا أعور، لو بايعتُ
غيره لبايعتَه وقلت هذه المقالة. وقال عبدُ الله بن عباس: ماشيتُ عمرَ بن الخطاب
يوماً فقال لي: يا ابن عبّاس، ما يمنع قومَكم منكم وأنتم أهلَ البيت خاص؟ قلت: لا أدري.
قال: لكني أدري، إنكم فَضلتموهم بالنّبوة، فقالوا: إن فَضلوا بالخلافة مع النبوّة
لم يُبقوا لنا شيئاً، وإن أفضل النَّصيبين بأيديكم، بل ما إخالها إلا مُجتمعة لكم
وإن نزلت على رغم أنف قريش. فلما أحدث عثمان ما أحدث من تأمير الأحداث من أهل بيته
على الجلّة من أصحاب محمد، قيل لعبد الرَّحمن: هذا عملُك، قال: ما ظننتُ هذا، ثمَ
مَضى ودَخل عليه وعاتَبه، وقال: إنما قَدَّمتك على أن تسير فينا بسيرة أبي بكر
وعمر، فخالفتَهما وحابيتَ أهل بيتك وأوطأتَهم رِقاب المُسلمين. فقال: إنَ عمر كان
يَقطع قرابته في الله وأنا اصِل قَرابتي في الله. قال عبدُ الرحمنِ: للّه عليّ أن لا
أكلمك أبدا، فلم يُكلَمه أبداً حتى مات، ودخل عليه عثمان عائداً له في مرَضه،
فتحوّل عنه إلى الحائط ولم يُكلِّمه. ذكروا أنَ زياداً أوفد ابن حُصين على معاوية،
فأقام عنده ما أقام، ثم إنَ معاويةَ بعث إليه ليلا، فخلا به، فقال له: يا بن
حُصين، قد بلغني أنَّ عندك ذِهناً وعَقلا، فأَخبرني عن شيء أسألُك عنه. قال:
سَلْني عما بدا لك. قال: أخبرني ما الذي شتَت أمرَ المسلمين وفَرق أهواءهم وخالف
بينهم؟ قال: نعم، قَتْل الناسِ عثمانَ. قال: ما صنعتَ شيئاً. قال: فمسيرُ عليّ إليك وقِتالًه إياك. قال: ما صنعت
شيئاً. قال: ما عندي غيرُ هذا يا أمير المؤمنين. قال: فأنا أخبرك، إنه لم
يُشتت بين المسلمين ولا فرق أهواءهم ولا خالف بينهم إلا الشُّورى التي جعلها عمرُ إلى
ستّة نفر، وذلك أنَّ اللّه بعث محمداً بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله ولو
كَره المُشركون، فَعَمل بما أمره اللّه به ثم قَبضه الله إليه، وقدَم أبِا بكر
للصلاة، فرضُوه لأمر دُنياهم إذ رَضِيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمر دينهم،
فَعمل بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار بسَيْره، حتى قبضه اللّه، واستخلف
عمرَ، فعمل بمثل سِيرته، ثم جعلها شورى بي ستة نفر، فلم يكن رجلٌ منهم إلا رجاها
لنفسه ورجاها له قومُه، وتطلعت إلى ذلك نفسُه. ولو أنَّ عمرَ استخلف عليهم كما
استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف. وقال المُغيرة بن شُعبة: إني لعند عمرَ بن
الخطاب، وليس عنده أحد غيري، إذا أتَاه آتٍ فقال: هل لك يا أميرَ المؤمنين في نَفر
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزعمون أنَ الذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك
لم يكن له، وأنه
كان بغير مَشورة ولا
مُؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟ قال: ي
دار طَلْحة. فخرج نحوهم وخرجتُ معه، وما أعلمه يُبصرني من شدّة الغضب، فلما رأواه
كَرهوه وظنوا الذي جاء له. فوقف عليهم، وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله لن تتحابوا
حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان يُغويه وهو يَلعنه، والنار والماء يطفئها
وهي تُحرقه، ولم يأنِ لكم بعدُ، وقد آن ميعادُكم ميعاد المسيخ متى هو خارج. قال:
فتفرّقوا فسلك كلُّ واحد منهم طريقا. قال المُغيرة: ثم قال لي: أدرك ابن أبي طالب
فاحْبِسه عليّ. فقلت: لا يفعل أميرُ المؤمنين وهو مُغِدّ. فقال: أدرِكه وإلا قلتُ
لك يا بن الدباغة. قال: فأدركتُه، فقلت له: قِف مكانَك لإمامك واحلُم فإنه سُلطان وسيَندم
وتَندم. قال: فأقبل عمر، فقال: والله ما خَرج هذا الأمر إلا من تحت يدك.ان
بغير مَشورة ولا مُؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود إلى مثلها. قال عمر: وأين هم؟
قال: ي دار طَلْحة. فخرج نحوهم وخرجتُ معه، وما أعلمه يُبصرني من شدّة الغضب، فلما
رأواه كَرهوه وظنوا الذي جاء له. فوقف عليهم، وقال: أنتم القائلون ما قلتم؟ والله
لن تتحابوا حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان يُغويه وهو يَلعنه، والنار
والماء يطفئها وهي تُحرقه، ولم يأنِ لكم بعدُ، وقد آن ميعادُكم ميعاد المسيخ متى
هو خارج. قال: فتفرّقوا فسلك كلُّ واحد منهم طريقا. قال المُغيرة: ثم قال لي: أدرك
ابن أبي طالب فاحْبِسه عليّ. فقلت: لا يفعل أميرُ المؤمنين وهو مُغِدّ. فقال: أدرِكه وإلا قلتُ لك
يا بن الدباغة. قال: فأدركتُه، فقلت له: قِف مكانَك لإمامك واحلُم فإنه سُلطان وسيَندم
وتَندم. قال: فأقبل عمر، فقال: والله ما خَرج هذا الأمر إلا من تحت يدك.
قال عليّ: اتق أن لا
تكون الذي نُطيعك فَنَفْتِنك. قال: وتُحب أن تكون هو؟ قال: لا، ولكنَّنا نُذكّرك
الذي نَسيتَ. فالتفت إليّ عمر فقال: انصرف، فقد سمعتَ منَا عند الغضب ما كفاك فتنجّيتُ قريباً، وما وقفتُ
إلا خشيةَ أن يكون بينهما شيء فأكونَ قريباً، فتكلَما كلاماً غير غَضْبانين ولا راضيَين،
ثم رأيتُهما يَضحكان وتفرقا. وجاءني عمر، فمشيتُ معه وقلت: يَغفر الله لك، أغضبتَ؟
قال: فأشار إلى علي وقال: أما واللهّ لولا دُعابهٌ فيه ما شككتُ في ولايته، وإن
نزلتْ على رَغم أنف قريش.
العُتبي عن أبيه: إن عُتبة
بن أبي سُفيان قال: كنتُ مع معاوية في دار كِنْدة، إذ أقبل الحسنُ والحُسين ومحمد،
وبنو علي بن أبي طالب، فقلت: يا أميرَ المؤمنين، إنَّ لهؤلاء القوم أشعاراً
وأبشاراً، وليس مثلهم كَذب، وهم يزعمون أنّ أباهم كان يعلم. فقال: إليك من صَوْتك،
فقد قَرُب القوم، فإذا قاموا فذكِّرني بالحديث، فلما قاموا قلت يا أميرَ المؤمنين،
ما سألتُك عنه من الحديث؟ قال: كل القوم كان يَعلم وكان أبوهم مِن أعلمهم. ثم قال.
قدمتُ على عمرَ بن الخطاب، فإني عنده إذ جاءه عليِّ وعثمان وطلحةُ والزبير وسعدٌ وعبد
الرحمن بن عوف، فاستأذنوا، فأذِن لهم، فدخلوا وهم يتدافعون ويَضْحكون، فلما رآهم
عمرُ نَكس، فعلموا أنه عِلى حاجة، فقاموا كما دخلوا. فلما قاموا أتبعهم بصرَه،
فقال: فِتْنة، أعُوذ بالله من شرهم، وقد كَفاني الله شرَهم. قال: ولم
يكن عمر بالرجل يُسأل عما لا يُفسَّر. فلماِ خرجت جعلت طريقي على عثمان فحدَثته
الحديثَ وسألته الستر. قال: نعم، على شريطة. قلت: هي لك. قال: تَسمع ما أخبرك به وتَسكت إذا سكتُ. قلت: نعم. قال: ستة يُقدح
بهم زِناد الفِتنة يجري الدمُ منهم على أربعة. قال: ثم سكت. وخرجتُ إلى الشام، فلما
قدمتُ علىِ عمر فَحدث من أمره ما حَدث، فلما مضت الشُورى، ذكرتُ الحديث، فأتيت بيت
عثمان وهو جالس وبيده قَضيب، فقلت: يا أبا عبد اللّه، تذكر الحديثَ الذي حدَثتَني؟
قال: فأزَمَ على القضيب عَضًا، ثم أقلع عنه وقد أثر فيه، فقال: ويحك يا معاوية،
أيَ شيء ذَكَرتني! لولا أن يقول الناسُ خاف أن يُؤخذ عليه لخرجتُ إلى. الناس منها.
قال: فأبى قضاءُ الله إلا ما ترى. ومما نَقم الناسُ على عثمان أنه آوى طريدَ رسول
الله صلى الله عليه وسلم الحكَم بن أبي العاص، ولم يُؤْوه أبو بكر ولا عُمر،
وأعطاه مائةَ ألف، وسَير أبا ذَرّ إلى الربذة، وسير عامرَ بن عبد قيس من البَصرة
إلى الشام، وطَلب منه عُبيد الله بنُ خالد بن أسِيد صلةً فأعطاه أربعمائة ألف،
وتصدّق رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بمهزور - موضِع سوق المدينة - على المُسلمين،
فأقطعها الحارثَ بن الحَكم، أخا مَرْوان، وأقطع فدك مروانَ، وهي صدقة لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، وافتتح إفريقية، وأخذ خُمسه فوهبه لمَروان. فقال عبد الرحمن
بن حَنْبل الْجُمحي:
فأحْلِفُ بالله رَبّ
الأنا ... م ما كتب اللّه شيئا سُدَى
ولكنْ خلِقت لنا
فِتْنةً ... لكَي نُبتَلى بك أو تبتلى
فإن الأمينَينْ قد
بَينا ... مَناراً لحق عليه الهُدى
فما أخذا دِرْهما
غِيلةً ... وما تَركا دِرْهما في هَوى
وأعطيتَ مَرْوان خمس
العبا ... د هيهات شأوك ممن شَأى
نسب عثمان وصفتههو
عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. أمه أروى بنت كُريز
بن رَبيعة بن حَبيب بن عبد شمس. وأمها البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم، عم النبيّ
صلى الله عليه وسلم. وكان عثمان أبيضَ مُشرباً صُفرة، كأنها فضة وذهب، حَسنَ
القامة، حَسن الساعدين، سَبط الشعر، أصلع الرأس، أجمل الناس إذا اعتمَّ، مُشرف
الأنف، عَظيم الأرْنبة، كثير شَعر السّاقين والذّراعين، ضَخْم الكَراديس، بعيدَ ما
بين المَنْكبين. ولما أسنَ شدّ أسنانه بالذَهب، وسَلِس بَوْلُه، فكان يتوضَّأ لكل
- صلاة، وَلِي الخلافةَ مُنْسلخَ ذي الحِجّة سنة ثلاث وعشرين، وقُتل يوم الجمعة صَبيح
عيد الأضحى سنة خمس وثلاثين. وفي ذلك يقول حسان:
ضَحوا بأشمطَ عُنوان
السُّجود به ... يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقُرآنا
لنسمعنّ وشيكاً في
دِيارهمُ ... اللّه أكبرُ يا ثاراتِ عُثمانا
فكانت ولايتُه اثنتي
عشرةَ سنة وستةَ عشر يوما. وهو ابن أربع وثمانين سنة. وكان على شرُطته - وهو أوّل
من - اتخذ صاحبَ شرطة - عبيدُ اللّه ابن قُنفذ. وعلى بيت المال، عبدُ اللّه بن
أرقم، ثم استعفاه. وكاتبه: مروان. وحاجبه: حُمران، مولاه.
فضائل عثمان
سالمُ بن عبد اللّه
بن عُمر، قال: أصاب الناسَ مجاعة في غَزوة تبوك، فاشترى عثمان طعاماً على ما يُصلح العسكر،
وجَهز به عِيراً. فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى سواد مُقبل، فقال: هذا جمل
أشقر قد - جاءكم بميرة. فأنيخت الركائب، فرَفع رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم
يديه إلى السماء وقال: اللهم إني قد رضيتُ عن عثمان فارضَ عنه. وكان عثمان حليما
سخيًا مُحببا إلى قريش، حتى كان يقال: " أحبك والرحمن، حب قُريش عثمان "
. وزوجه النبي صلى الله عليه وسلم رُقية ابنته، فاتت عنده، فزوّجه أم كلثوم ابنته
أيضاً.
الزهري عن سعيد بنُ
المُسيب، قال: لما ماتت رُقية جَزع عثمانُ عليها، وقال: يا رسول الله، انقطع
صِهْري منك. قال: إن صهرك مني لا ينقطع، وقْد أمرني جبريلُ أن أزوجك أختَها بأمر الله.
عبد اللّه بن عباس قال: سمعتُ عثمان بن عفان يقول: دخل عليّ رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم في هذا البيت، فراني ضجيعا لأم كلثوم، فاستعبر، فقلت: والذي بَعَثك
بالحق ما اضطجعتْ عليه أنثى بعدها. فقال: ليس لهذا استعبرتُ، فإن الثياب للحيّ
وللميت الحَجر، ولو كُن يا عثمان عشراً لزوجتُكهن واحدةً بعد واحدة. وعرض عمرُ بن
الخطاب ابنته حَفصة على عُثمان فأبى منها، فشكاه عمرُ إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال: سيزوج اللّه ابنتك خيراً من عثمان، ويزوج عثمان خيراً من ابنتك. فتزوج
رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حَفصة، وزوج ابنته من عثمان بن عفان. " ومن
حديث الشَّعبي أن النبي عليه إسلام، دخل عليه عثمان، فسوّى ثوبه عليه وقال: كيف لا
أستحي ممن تَستحي منه الملائكة!
مقتل عثمان بن عفانالرياشي
عن الأصمعي قال: كان القواد الذين ساروا إلى المدينة في أمر عثمان أرِبعة: عبدُ الرحمن
بن عُديس التَنوخيّ، وحَكيم بن جَبلة العَبْديّ، والأشتر النَخَعي، وعبدُ الله بن
فُديك الخُزاعي. فقدمُوا المدينةَ فحاصروه، وحاصره معهم قومٌ من المهاجرين
والأنصار، حتى دخلوا عليه فقتلوه والمصحف بين يديه. ثم تقدّموا إليه وهو يقرأ يومَ
الجمعة صَبيحة النَّحر، وأرادوا أن يقطعوا رأسه ويَذهبواِ به، فرمَت نفسها عليه
امرأتُه نائلةُ بنت الفُرافصة، وابنة شَيبة بن ربيعة، فتركوه وخرجوا. فلما كان
ليلةَ السبت انْتَدب لدفنه رجال، منهم: خبير ابن مُطعم، وحَكيم بن حِزام، وأبو الجَهم بن حُذيفة، وعبدُ الله
بن الزُبير، فوضعوه على باب صَغير، وخرجوا به إلى البَقيع، ومعهم نائلةُ بنتُ الفُرافصة
بيدها السَراج. فلما بلغوا به البَقيع مَنعهم من دَفْنه فيه رجالٌ من بني ساعدة،
فردّوه إلى حُش كَوكب، فدفنوه فيه، وصلّى عليه خبير بن مُطعِم، ويقال: حَكيم بن
حِزام. ودَخلت القبرَ نائلةُ بنت الفُرافصة، وأمُ البنين بنت عُيينة، زوجتاه، وهما
دلّتاه في القبر. والحُش: البستان. وكان حُشَّ كوكب، اشتراه عثمان، فجعله أولادُه
مقبرة للمُسلمين.
يعقوب بن عبد الرحمن:
عن محمد بن عِيسى الدِّمشقي عن محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ذِئب عن محمد بن شهاب
الزُّهري قال: قلتُ لسعيد بن المُسيّب: هل أنت مُخبري كيف قتل عثمان؟ وما كان شأن
الناسِ وشأنه؟ ولم خَذله أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال: قُتل عثمان
مَظلوماً، ومَن قتله كان ظالماً، ومَن خذله كان مَعذوراً. قلت: وكيف ذاك؟ قال: إنّ
عثمان لما وَلي كَره ولايتَه نفرٌ من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لأنّ
عثمان كان يُحب قومه، فوَلي الناسَ اثنتي عشرة سنةً، وكان كثيراً ما يُولّي بني
أمية، ممن لم يكن له من لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صُحبة، وكان يَجيء من
أمرائِه ما يُنكره أصحابُ محمد، فكان يُستعتب فيهم فلا يَعزلهم. فلما كان في
الحِجج الآخرة استأثر ببني عمه فولّاهم وأمرهم بتقوى اللّه، فخرجوا. وولّى عبدَ
اللّه بن أبي صح مصرَ، فمكث عليها سِنين، فجاء أهلُ مصر يشكونه ويتظلّمون منه. ومن
قبل ذلك كانت من عثمان هَناةٌ إلى عبد اللّه بن مسعود وأبي ذَرّ وعمّار بن ياسر.
فكانت هُذيل وبنو زُهرة في قلوبهم ما فيها لابن مَسعود. وكانت بنو غِفار وأحلافها
ومن غَضب لأبي ذرّ في قلوبهم ما فيها وكانت بنو مخَزوم قد حَنِقت على عثمان بما
نال عمّارَ بن ياسر. وجاء أهلُ مصر يشكون من ابن أبي سرَح، فكتب إليه عثمانُ
كتاباً يتهدّده، فأبى ابن أبي سرح أن يَقبل ما نهاه عثمانُ عنه، وضَرب رجلاً ممن
أتى عثمانَ، فقتله. فخرج من أهل مصر سبعُمائة رجل إلى المدينة، فنزلوا المسجدَ،
وشكوا إلى أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة ما صَنع ابن أبي
سَرْح. فقام طلحةُ بن عُبيد اللّه فكلَّم عثمانَ بكلام شديد. وأرسلت إليه عائشةُ:
قد تقدَّم إليك أصحابُ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم وسألوك عَزل هذا الرجل
فأبيتَ أن تعزلَه، فهذا قد قَتل منهم رجلاً، فأنْصِفهم من عاملك. ودخل عليه عليٌّ،
وكان متكلّمَ القوم، فقال: إنما سألوك رجلاً مكَان رجل، وقد ادعوا قِبله دماً،
فاعزله عنهم، واقض بينهم، وإن وجب عليه حق فأنصفهم منه. فقال لهم: اختاروا
رجلاً أولِّه عليكم مكانَه. فأشار الناسُ عليهم بمحمد ابن أبي بكر. فقالوا:
استعمل علينا محمدَ بن أبي بكر. فكَتب عهدَه وولاّهَ، وأخرج معهم عِدَّة من
المُهاجرين والأنصار يَنظرون فيما بين أهل مِصر وابن أبي سَرْح. فخرج
محمد ومَن معه، فلما كان على مَسيرة ثلاثة أيام من المدينة إذا هم بغُلام أسود على
بعير يَخبط الأرض خَبْطا، كأنه رجل يَطلب أو يُطلب. فقال له أصحابُ محمد: ما قصتك؟
وما شأنك؟ كأنك هارب أو طالب. فقال: أنا غلامُ أمير المؤمنين وجّهني إلى عامل مصر.
فقالوا: هذا عامل مصر معنا. قال: ليس هذا أريد. وأخبر بأمره محمدُ بن أبي بكر،
فبعث في طلبه، فأتي به، فقال له: غلامُ من أنت؟ قال: فأقبل مرة يقول: غلام أمير المؤمنين، ومرة: غلامُ. مَروان،
حتى عَرفه رجل منهم أنَّه لعثمان. فقال له محمد: إلى من أرسلت؟ قال. إلى عامل مصر.
قال: بماذا؟ قال: برسالة. قال: معك كتاب؟ قال: لا. ففتّشوه فلم يُوجد معه شيء إلا إداوة قد يَبِست فيها شيء يَتقلقل، فحركوه
ليخرج فلم يَخْرج، فشقُوا الإداوة، فإِذا فيها كتاب من عثمان إلى ابن أبي سرَح.
فجمع محمدٌ مَن كان معه من المهاجرين والأنصار وغيرهم، ثم فُكّ الكتاب بِمَحضر
منهم، فإذا فيه: إذا جاءك محمد وفلان وفلان فاحتل لقَتْلهم، وأبْطل كتابَهم،
وقَرَّ على عملك حتى يأتيَك رأي، واحتبس مَن جاء يتظلّم منك ليأتيك في ذلك رأي إن
شاء اللّه. فلما قرأوا الكتاب فَزعوا وعَزموا على الرُّجوع إلى المدينة، وخَتم
محمد الكتاب بخواتم القوم الذين أرسلوا معه، ودَفعوا الكتاب إلى رجل منهم،
وقَدِموا المدينة فجمعوا عليًّا وطلحةَ والزُّبير وسعداً ومَن كان من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ فكّوا الكتاب بمَحضر منهم وأخبروهم بقصّة الغلام،
وأقرأوهم الكتابَ فلم يبق أحدٌ في المدينة إلا حَنِق على عثمان، وازداد مَن كان
منهم غاضباً لابن مسعود وأبي ذر وعمّار بن ياسر غَضباً وحَنقا، وقام أصحابُ النبي
صلى الله عليه وسلم فلحقوا منازلَهم، ما منهم أحد إلا وهو مُغتم بما قرأوا في الكتاب.
وحاصرَ الناسُ عثمان، وأجلب عليه محمدُ بن أبي بكر بنِي تَيم وغيرهم، وأعانه طلحةُ
بن عبيد اللهّ
على ذلك. وكانت عائشة
تُقرّضه كثيراً. فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحةَ والزُبير وسَعد وعَمَّار ونفرٍ
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلّهم بَدْري، ثم دخل على عثمان ومعه الكتابُ
والغلام والبعير، وقال له علي: هذا الغلام غلامك؟ قال: نعم. والبعيرُ
بعيرك؟ قال: نعم. والخاتَم خاتمك؟ قال: نعم. قال: فأنت كتبتَ الكِتاب؟ قال: لا،
وحَلف بالله: ما كتبتُ الكتاب ولا أمرتُ به ولا وجّهت الغلامَ إلى مصر قط. وأما
الخط فعرفوا أنه خط مَرْوان، وشكّوا في أمر عثمان وسألوه أن يَدفع إليهم مَروان،
فأبى. وكان مَروان عنده في الدار. فخرج أصحابُ محمد من عنده غِضاباً، وشكّوا في
أمر عثمان، وعَلِموا أنه لا يَحْلف باطلاً، إلا أن قوماً قالوا: لا نُبرىء عثمان
إلا أن يدفع إلينا مَروان، حتى نَمتَحنه ونَعْرف أمرَ هذا الكتاب، وكيف يأمر بقَتل
رجال من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق! فإن يك عثمانُ كَتبه عَزلناه، وإن
يك مروان كَتبه على لسانه نَظرنا في أمره، ولزموا بيوتَهم. وأبى عثمانُ أن يُخرج إليهم
مروانَ، وخَشي عليه القتل. وحاصرَ الناسُ عثمانَ ومَنعوه الماء، فأشرف عليهم،
فقال: أفيكم عليّ؟ قالوا: لا. قال: أفيكم سَعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم
قال: ألا أحدٌ يبلغ عليّا فَيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا، فبعث إليه ثلاث قِرَب
مملوءة ماء، فما كادت تصلُ إليه، وجُرح بسببها عِدَّة من موالي بني هاشم وبني
أمية، حتى وصل إليه الماء. فبلغ عليًّا أن عثمان يراد قَتله، فقال: إنما أردنا منه
مَروان، فأما قَتلِ عثمان فلا. وقالت للحسن والحُسين: اذهبا بسَيْفيكما حتى
تَقوماً على باب عثمان فلا تدعا أحداً يصل إليه بمكروه. وبعث الزُّبيرُ ولدَه،
وبعث طَلحة ولدَه على كُره منه، وبعث عِدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أبناءَهم ليمنعوا الناسَ أن يَدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مَرْوان. ورَمى الناس
عثمان بالسِّهام حتى خضب الحسن بن عليّ الدِّماء على بابه، وِأصاب مَروانَ سهْمٌ
في الدار، وخُضب محمد بن طلحة، وشجّ قُنبر، مولى عليّ. وخشي محمد بن أبي بكر أن
تَغضب بنو هاشم لحال الحَسن والحُسين فيُثيرونها، فأخذ بيدي رجلين فمال لهما: إذا جاءت
بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحَسن والحُسين كُشف الناس عن عثمان وبَطل ما
نُريد، ولكن مُرّوا بنا حتى نتسوّرَ عليه الدار فنقتلِه من غير أن يعلم أحد.
فتسوَّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من الأنصار. ويقال من دار محمد بن حَزْم الأنصاري. ومما يدل على ذلك قولُ الأحوص:
ذلك. وكانت عائشة تُقرّضه كثيراً. فلما رأى ذلك عليّ بعث إلى طلحةَ
والزُبير وسَعد وعَمَّار ونفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلّهم بَدْري،
ثم دخل على عثمان ومعه الكتابُ والغلام والبعير، وقال له علي: هذا الغلام غلامك؟
قال: نعم. والبعيرُ بعيرك؟ قال: نعم. والخاتَم خاتمك؟ قال: نعم.
قال: فأنت كتبتَ الكِتاب؟ قال: لا، وحَلف بالله: ما كتبتُ الكتاب ولا أمرتُ به ولا
وجّهت الغلامَ إلى مصر قط. وأما الخط فعرفوا أنه خط مَرْوان، وشكّوا في أمر عثمان
وسألوه أن يَدفع إليهم مَروان، فأبى. وكان مَروان عنده في الدار. فخرج أصحابُ محمد
من عنده غِضاباً، وشكّوا في أمر عثمان، وعَلِموا أنه لا يَحْلف باطلاً، إلا أن
قوماً قالوا: لا نُبرىء عثمان إلا أن يدفع إلينا مَروان، حتى نَمتَحنه ونَعْرف
أمرَ هذا الكتاب، وكيف يأمر بقَتل رجال من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بغير حق!
فإن يك عثمانُ كَتبه عَزلناه، وإن يك مروان كَتبه على لسانه نَظرنا في أمره،
ولزموا بيوتَهم. وأبى عثمانُ أن يُخرج إليهم مروانَ، وخَشي عليه القتل. وحاصرَ الناسُ عثمانَ
ومَنعوه الماء، فأشرف عليهم، فقال: أفيكم عليّ؟ قالوا: لا. قال: أفيكم
سَعد؟ قالوا: لا. فسكت ثم قال: ألا أحدٌ يبلغ عليّا فَيسقينا ماء؟ فبلغ ذلك عليا،
فبعث إليه ثلاث قِرَب مملوءة ماء، فما كادت تصلُ إليه، وجُرح بسببها عِدَّة من
موالي بني هاشم وبني أمية، حتى وصل إليه الماء. فبلغ عليًّا أن عثمان يراد قَتله، فقال: إنما أردنا منه مَروان، فأما
قَتلِ عثمان فلا. وقالت للحسن والحُسين: اذهبا بسَيْفيكما حتى تَقوماً على باب عثمان
فلا تدعا أحداً يصل إليه بمكروه. وبعث الزُّبيرُ ولدَه، وبعث طَلحة ولدَه على كُره
منه، وبعث عِدّة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أبناءَهم ليمنعوا الناسَ
أن يَدخلوا على عثمان، وسألوه إخراج مَرْوان. ورَمى الناس عثمان بالسِّهام حتى خضب الحسن بن عليّ الدِّماء على
بابه، وِأصاب مَروانَ سهْمٌ في الدار، وخُضب محمد بن طلحة، وشجّ قُنبر، مولى عليّ.
وخشي محمد بن أبي بكر أن تَغضب بنو هاشم لحال الحَسن والحُسين فيُثيرونها، فأخذ
بيدي رجلين فمال لهما: إذا جاءت بنو هاشم فرأوا الدماء على وجه الحَسن والحُسين
كُشف الناس عن عثمان وبَطل ما نُريد، ولكن مُرّوا بنا حتى نتسوّرَ عليه الدار
فنقتلِه من غير أن يعلم أحد. فتسوَّر محمد بن أبي بكر وصاحباه من دار رجل من
الأنصار. ويقال من دار محمد بن حَزْم الأنصاري. ومما يدل على ذلك قولُ الأحوص:
لا تَرْثينّ لَحزميٍّ
ظَفِرتَ به ... طُرًّا ولو طُرح الحَزْميُّ في النارِ
الناخِسين بمروان بذي
خُشب ... والمُدْخِلين على عُثمان في الدار
فدخلوا عليه وليس معه
إلا امرأته نائلة بنت الفُرافصة، والمُصحف في حجره، ولا يعلم أحد فّي كان معه،
لأنهم كانوا على البيوت. فتقدم إليه محمد وأخذ بلحيته، فقال له عثمان: أرسل
لِحْيتي يا بن أخي فلو رآك أبوك لساءه مكانُك. فتراخت يدُه من لِحْيته، وغَمز الرجلين فوجاه بمشَاقص معهما حتى
قتلاه، وخرجوا هاربين من حيث دخلوا. وخرجت امرأتُه فقالت: إنّ أمير المؤمنين قد قُتل.
فدخل الحسن والحْسين ومن كان معهما فوجدوا عثمان مَذْبوحاً، فأكبّوا عليه يَبكون.
وبلغ الخبرُ عليًّا وطَلحة والزُبير وسعداً ومن كان بالمدينة، فخَرجوا وقد ذهبت
عقولُهم حتى دخلوا على عثمان فوجدوه مقتولا، فاسترجعوا. وقال عليّ لابنيْه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب؟ ورَفع
يدَه فلَطم الحُسين، وضرب صدر الحَسن، وشتم محمدَ بن طلحة، ولَعن عبدَ اللّه بن الزُبير.
ثم خرج علي وهو غضبان يرى أن طلحة أعان عليه. فلقيه طلحةُ فقال: ما لك يا
أبا الحسن ضربت الحَسن والْحُسين؟ فقال: عليك وعليهما لعنةُ الله، يُقتل أمير
المؤمنين ورجل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بَدْريّ، ولم تقم بيّنة ولا
حُجة! فقال طلحة: لو دَفع مروانَ لم يُقتل. فقال: لو دفع مروانَ قُتل قبل أن تَثبت
عليه حُجة. وخرج علي فأتى منزلَه. وجاءه القوم كُلهم يُهرعون إليه، أصحافُ محمد
وغيرهم، يقولون: أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب فقال: ليس ذلك إلا لأهل بدر فمن رَضي
به أهلُ بدر فهو خليفة، فلم يبق أحدٌ من أهل بدر إلا أتى عليًّا، فقالوا: ما نرى
أحداً أولى بها منك، فمُد يدَك نُبايعك. فقال: أين طلحة والزُبير وسَعْد؟ فكان أول
من بايعه طلحةُ بلسانه، وسعدٌ بيده. فلما رأى ذلك علي خرج إلى المسجد، فَصعد
المنبر، فكان أولا مَن صعد طلحةُ فبايعه بيده، وكانت إصبعه شلاّء، فتطيّر منها عليّ،
وقال: ما أخلَقه أن يَنْكث. ثم بايعه الزّبير وسعدٌ وأصحاب النبيّ جميعاً. ثمِ
نزل، ودعا الناسِ، وطلبَ مروان فهرب منه. خرجت عائشة باكيةَ تقول: قُتل عثمان
مظلوماً! فقال لها عمار: أنتِ بالأمس تُحرضين عليه، واليومَ تَبْكِين عليه! وجاء
عليٌّ إلى امرأة عثمان، فقال لها: من قَتل عثمان؟ قالت: لا أدري، دخل رجلان لا
أعرفهما إلا أن أرى وجُوههما، وكان معهما محمدُ بن أبي بكر، وأخبرتْه بما صَنع
محمد بن أبي بكر. فدعا علي بمحمد، فسأله عما ذكرت امرأةُ عثمان. فقال محمد: لم
تكذب، وقد والله دخلتُ عليه وأنا أريد قتله، فذكر لي أبي، فقمتُ وأنا تائب، والله
ما قتلتُه ولا أسكته. فقالت امرأة عثمان: صَدق، ولكنه أدخلهما. لمُعتمر عن أبيه عن
الحسن: إن محمد بن أبي بكر أخذ بلِحية عثمان، فقال له: ابن أخي، لقد قعدتَ
منّي مقعداً ما كان أبوك ليقعده. وفي حديث آخر: إنه قال: يا بن أخي، لو رآك أبوك لساءه
مكانُك. فاسترخت يدُه، وخرج محمد. فدخل عليه رجل والمصحف في حجره، فقال له: بيني
وبينك كتابُ اللّه، فأهوى إليه بالسيف، فاتقاه بيده، فقطعها. فقال:
أما إنها أول يد خَطّت المُفَصَّل.
القواد الذين أقبلوا
إلى عثمان
الأصمعي عن أبي
عَوانة قال: كان القواد الذين أقبلوا إلى عثمان: عَلقمة ابن عثمان، وكِنانة بن
بِشْر، وحَكيم بن جَبلة، والأشتر النَّخعيّ، وعبدُ اللّه بن بُديل. وقال أبو
الحسن: لما قدم القواد قالوا لعليّ: قُم معنا إلى هذا الرجل. قال: لا واللهّ لا
أقوم معكم. قالوا: فلم كتبتَ إلينا؟ قال: والله ما كتبتُ إليكم كتاباً قط. قال:
فنظر القوم بعضُهم إلى بعض، وخرج عليّ من المدينة. الأعمش عن عُيينة عن مَسروق
قال: قالت عائشة: مُصْتموه مَوْص الإناء حتى تركتموه كالثَّوب الرَّحيض نقيًّا من
الدنس، ثم عَدوتم فقتلتموه! فقال مَرْوان: فقلت لها: هذا عَملك، كتبتِ إلى الناس
تأمرينهم بالخروج عليه. فقالت: والذي آمن به المُؤمنون وكَفر به الكافرون ما
كَتبتُ إليهم بسواد في بَياض، حتى جلستُ في مجلسي هذا. فكانوا يَرَون أنه كُتب على
لسان عليّ وعلى لسانها، كما كُتب أيضاً على لسان عثمان مع الأسود إلى عامل مصر.
فكان اختلاف هذه الكتب كلها سبباً للفتنة. وقال أبو الحسن: أقبل أهلُ مصر عليهم
عبدُ الرحمن بن عُديس البَلويّ، وأهلُ البصرة عليهم حَكيم بن جَبلة العَبدي، وأهل
الكوفة عليهم الأشتر - واسمه مالك بن الحارث النّخعي - في أمر عُثمان حتى قَدِموا المدينة. قال أبو الحسن: لما قدم وفدُ أهل
مصر دخلوا على عُثمان فقالوا: كتبتَ فينا كذا وكذا؟ قال: إنما هما اثنتان، أن تُقيموا
رجلين من المسلمين، أو يَميني باللّه الذي لا إله إلا هو ما كتبتُ ولا أمْليت ولا
عَلِمت، وقد يُكتب الكتاب على لسان الرجل، ويُنقش الخاتَم على الخاتم. قالوا: قد
أحلّ اللّه دمَك، وحَصروه في الدار. فأرسل عثمان إلى الأشتر، فقال له: ما يريد
الناسُ مني؟ قال: واحدة من ثلاث ليس عنها بُدّ. قال: ما هي؟ قال: يُخيّرونك بين أن تَخلع لهم أمرَهم فتقول: هذا أمركم
فقفَدوه من شئتم؟ وإما أن تقتصّ من نفسك؟ فإن أبيتَ فالقوِم قاتلوك. قال: أما أن
أخلع لهم أمرَهم، فما كنتُ لأخلع سربالاً سربلنيه اللّه فتكون سُنةً مِن بعدي،
كلما كَره القوم إمامهم خَلعوه، وأما أن أقتص من نفسي، فواللّه لقد علمتُ أن
صاحبيّ بين يدي قد كانا يُعاقبان، وما يقوى بدَني على القِصاص؛ وأما أن تقتلوني،
فلئن قتلتموني لا تتحابّون بعدي أبداً ولا تُصلّون بعدي جميعاً أبداً. قال أبو
الحسن: فواللّه لن يزالوا على النَّوى جميعاً، وإن قلوبهم مختلفة. وقال أبو الحسن:
أشرف عليهم عثمان وقال: إنه لا يحِل سفك دم امرىء مُسلم إلا في إحدى ثلاث: كُفر
بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قَتل نَفس بغير نَفس، فهل أنا في واحدة منهن؟ فما
وَجد القوم له جوابا. ثم قال: أنشدكم اللّه، هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان على حِراء ومعه تِسعة من أصحابه أنا أحدهم، فتزلزل الجبلُ حتى همَّت أحجارُه
أن تتساقط، فقال: اسكُن حِراء، فما عليك إلا نبيّ أو صدّيق أو شهيد؟ قالوا: اللهم
نعم. قال: شهدوا لي وربِّ الكعبة. قال أبو الحسن: أشرف عليهم عثمان فقال: السلامُ
عليكم، فيا ردّ أحدٌ عليه السلام. فقال: أيها الناس، إن وجدتم في الحق أن تَضعوا
رجلي في القَبر فضعُوها. فما وجد القومُ له جوابا. ثم قال: أستغفر اللّه إن كنت
ظَلمتُ، وقد غفرتُ إن كنت ظُلمت.
يحيى بن سعيد عن عبد
اللّه بن عامر بنِ ربيعة قال: كنتُ مع عثمان في الدار فقال: أعزم على كل مَن رأى
أنّ لي عليه سمعاً وطاعة أن يكُف يدَه ويُلقى سلاحه. فألقى القومُ أسلحتَهم. ابن
أبي عَروبة عن قتادة: إن زَيد بن ثابت دخل على عُثمان يومَ الدار، فقالت: إن هذه
الأنصار بالباب وتقول: إن شئتَ كُنَا أنصارَ اللّه مرّتين. قال: لا حاجة لي في
ذلك، كُفّوا. ابن أبي عَروبة عن يَعلى بن حَكيم عن نافع: إن عبد اللّه بن عمر لَبس
دِرْعه وتقلّد سيفه يوم الدار، فَعزم عليه عثمانُ أن يخرج ويَضع سلاحَه ويكفّ يده،
ففعل. محمد بن سيرين قال قال سَلِيط: نهانا عثمان عنهم، ولو أذِن لنا عثمان
فيم لضَربناهم حتى نُخرجهم من أقطارنا.
ما قالوا في قتلة
عثمان
العُتبيّ قال: قال
رجل من ليث: لقيتُ الزبيرَ قادماً، فقلت: أبا عبد الله، ما بالُك؟ قال: مَطلوب
مَغلوب، يَغلبني ابني، ويطلبني ذَنبي. قال: فقدمتُ المدينة فلقيتُ سعدَ بن أبي
وقّاص، فقلت: أبا إسحاق، من قتل عثمان؟ قال: قتله سيفٌ سلته عائشة، وشَحذه طلحة، وسمّه عليّ. قلت: فما حال
الزُبير؟ قال: أشار بيده وصَمت بلسانه. وقالت عائشة: قَتل اللّه مذمماً بسعيه على عثمان،
تريد محمداً أخاها، وأهرق دمَ ابن بُديل على ضَلالته، وساق إلى أعينَ بني تميم
هواناً في بيته، ورمى الأشتر بسهم من سهامه لا يُشوِي. قال: فما منهم
أحد إلا أدركته دعوةُ عائشة. سفيان الثوري قال: لقي الأشترُ مَسروقاً فقال له: أبا
عائشة، ما لي أراك غَضبان على ربّك من يوم قُتل عثمان بن عفان؟ لو رأيتَنا يوم
الدار ونحن كأصحاب عِجل بني إسرائيل! وقال سعدُ بن أبي وقاص لعمار بن ياسر: لقد
كنتَ عندنا من أفاضل أصحاب محمد حتى إذا لم يَبق من عمرك إلا ظِمء الحمار فعلتَ
وفعلتَ، يُعرّض له بقتل عثمان. قال عمار: أي شيء أحبُّ إليك؟ مودةٌ عَلَى دَخَل أو هَجْر جميل؟ قال:
هَجْر جميل. قال: فللّه عليٌ ألاّ أكلمك أبدا. دخل المُغيرة بن شُعبة على عائشة فقالت:
يا أبا عبد الله، لو رأيتني يومَ الجمل وقد نفذتْ النِّصالُ هَوْدجي حتى وصل
بعضُها إلى جِلْدي. قال لها المغيرة: وددتُ والله أن بَعضها كان قتلك. قالت: يرحمك
الله، ولم تقول هذا؟ قال: لعلَها تكون كَفّارة في سَعْيك على عُثمان. قالت: أما
والله لئن قلتَ ذلك لما عَلم الله أني أردتُ قتله، ولكن علم اللّه أني أردتُ أن
يُقاتَل فقوتلتُ، وأردتً أن يُرمى فرُميت، وأردت أن يعصى فعُصيت، ولو علم مني أني
أردتُ قتلَه لقُتلت. وقال حسان بن ثابت لعليّ: إنك تقول: ما قتلتُ عثمان ولكن
خذلتُه، ولم آمُر به ولكن لم أنه عنه، فالخاذل شريك القاتل، والساكتُ شريك القاتل.
أخذ هذه المعنى كعبُ بن جُعيل التَّغلبي، وكان مع معاوية يوم صِفّين، فقال في عليّ
بن أبي طالب:
وما في علّي لمستحدِث
... مقالٌ سوى عَصْمه المُحْدِثينَا
وإيثارِه لأهالي
الذُنوب ... ورَفْع القَصاص عن القاتلينا
إذا سِيل عنه زوى
وجهه ... وعمى الجواب على السائلينا
فليس براضٍ ولا ساخطٍ
... ولا في النُهاة ولا الآمرينا
ولا هو ساهُ ولا
سرَّه ... ولا آمن بعضَ ذا أن يكونا
وقال رجل من أهل
الشام في قَتل عثمان رضي اللّه تعالى عنه:
خذلْته الأنصارُ إذ
حَضر المو ... تُ وكانت ثِقاتِه الأنصارُ
ضَربوا بالبلاء فيه
مع النَّا ... س وفي ذاك للبريّة عار
حُرْم بالبلاد من
حُرم الل ... ه ووالٍ من الوُلاة وجار
أين أهلُ الحَياء إذ
مُنع الما ... ءَ فَدته الأسماعُ والأبصار
مَن عَذيرى مِن
الزُّبير ومِن طَ ... لحة هاجا أمراً له إعصار
تَركوا النّاس دونهم
عبرةُ العِجْ ... ل فشبّت وسطَ المدينة نار
هكذا زاغت اليَهود عن
الح ... ق بما زَخْرفت لها الأحبار
ثم وافى محمدُ بن أبي
بك ... رجهاراً وخَلْفه عَمّار
وعليّ في بيته يسأل
النا ... سَ ابتداء وعنده الأخبار
باسطاً للتي يُريد
يديه ... وعليه لسَكينة ووَقار
يَرقُب الأمر أن
يُزفّ إليه ... بالذي سببت له الأقدار
قد أرى كثرةَ الكلام
قبيحاً ... كُل قول يشينه إكثار
وقال حسان يرثيِ
عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه:
مَن سرِّه الموتُ
صِرْفاً لا مِزَاج له ... فَلْيأتِ مَأْسَدة في دارِ عُثمانا
صَبراً فِدًى لكُم
أمي وما وَلدت ... قد يَنفع الصَبرُ في المَكْروه أحيانَا
لعلّكم أن تَرَوْا
يوماً بمَغْيظه ... خليفة اللّه فيكم كالذي كانا
إنّي لمنْهم وإن
غابوا وإن شَهدوا ... ما دمت حيا وما سُيمَّت حَّسانا
يا لي شِعْري ولي
الطَّير تُخبرني ... ما كان شأنُ عليّ وابن عَفّانا
لتسمعينّ وشيكا في
ديارهمُ ... الله أكبر يا ثارات عثمانا
ضحوا، بأشمطَ عُنوانُ
السُّجود به ... يًقطَع الليلَ تَسبيحاً وقرآنا
مقتل عثمان بن
عفانأبو الحسن عن مَسْلمة عن ابن عون: كان ممن نصر عُثمانَ سبعُمائة، فيهم الحسنُ
بن عليِّ، وعبدُ اللهّ بن الزُبير. ولو تَركهم عثمانُ لضربوهم حتى أخرجوهم من
أقطارها.
أبو الحسن عن جُبير
بن سِيرين قال: دخل ابن بُدَيل على عثمان وبيده سيف، وكانت! بينهما شَحناء، فضربه بالسيف،
فاتقاه بيده فقَطعها، فقال: أما إِنها أول كف خَطّت المُفَضَل.
أبو الحسن قالت: يوم
قُتل عثمان يقال له: يوم الدار. وأغلق على ثلاثة من القَتلى: غلام أسود كان
لعثمان، وكنانة بن بِشر، وعُثمان.
أبو الحسن قال: قال
سلامة بن رَوْح الخُزاعي لعمرو بن العاص: كان بينكم وبين الفتنة فكسرتموه فما
حَملكم على ذلك؟ قال: أردنا أن نُخرج الحق من حَفيرة الباطل وأن يكون الناس في
الحق سواء. عن الشّعبي قال: كتب عثمان إلى مُعاوية: أن أمدّني. فأمدّه بأربعة آلاف
مع يزيد بن أسَد بن كرز البَجَليّ. فتلقاه الناس بقتل عثمان فانصرف، فقال: لو دخلتُ المدينة وعثمان حيّ
ما تركت بها مُختلفا إلا قتلتُه، لأن الخاذل والقاتل سواء. قيس بن رافع قال قال
زيدُ بن ثابت: رأيتُ عليّا مُضطجعاً في المسجد، فقلت: أبا الحسن، إن الناس يَرَوْن
أنك لو شئت رددتَ الناس عن عثمان. فجلس، ثم قال: واللّه ما أمرتُهم بشيء ولا دخلتُ
في شيء من شأنهم. قال: فأتيتُ عثمان فأخبرتُه، فقال:
وحَرّق قيس عليّ
البلا ... دَ حتى إذا اضطرمت أجذما
الفضلُ عن كَثير عن
سَعيد المَقبريٌ قال: لما حَضروا عثمان ومَنعوه الماء، قال الزُّبير: وحِيلَ بينهم
وبين ما يشتهون، كما فُعل بأشياعهم من قَبل. ومن حديث الزُّهري قال: لما قَتل
مُسلمُ بن عُقبة أهلَ المدينة يوم الحَرّة، قال عبد الله بن عمر: بفعلهم في عُثمان
ورب الكعبة. ابن سيرين عن ابن عباس قال: لو أمطرت السماء دماً لقَتْل عثمان لكان
قليلاً له
أبو سعيد مولى أبي
حُذيفة قال: بَعث عثمانُ إلى أهل الكوفة: مَن كان يُطالبني بدينار أو دِرْهم أو
لطمة فليأت يأخذ حقَه، أو يتصدًق فإن اللّه يجزي المتصدقين. قال:
فبكى بعضُ القوم، وقالوا: تصدَقنا. ابن عون عن ابن سيرين قال: لم يكن أحدٌ من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أشدَ على عثمان من طَلحة. أبو الحسن قال: كان عبدُ
الله بن عباس يقوِل: ليغلبنّ معاويةُ وأصحابُه عليَّا وأصحابَه، لأن اللّه تعالى
يقول: " ومَن قُتِلَ مَظْلُوماَ فقد جَعلنا لوليّه سُلطاناً " . أبو
الحسن قال: كان ثُمامة الأنصاري عاملًا لعثمان، فلما أتاه قَتْلُه بكى، وقال:
اليومَ انتُزعت خلافةُ النبوة من أمة محمد وصار المُلك بالسيف، فَمن غَلب على شيء
أكله. أبو الحسن عن أبي مخْنف عن نُمير بن وَعْلة عن الشعبي: أنَّ نائلةَ بنت
الفُرافصة امرأة عثمان بن عفّان كَتبت إلى معاوية كتاباً مع النعمان بن بَشير،
وبَعثت إليه بقميص عثمان محضوباً بالدماء. وكان في كتابها: مِن نائلة بنت
الفُرافصة إلى معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: فإني أدعوكم إلى الله الذي أنعم
عليكم، وعلّمكم الإسلام، وهداكم من الضلالة، وأنقذكم في الكُفر، ونَصركم على العدو،
وأسبغ عليكم نعمَه ظاهرةً وباطنة، وأنشُدكم الله وأذكِّركم حقه وحق خليفته أن
تنصروه بعَزم اللهّ عليكم، فإنه قال: " وإنْ طائفتان من المُؤمنين اقتَتلوا
فأصْلِحوا بينهما فإن بَغَتْ إحداهما على الأخرى فقاتِلوا التي تَبْغي حتى تَفِيء
إلى أمْرِ اللّه " . فإن أمير المؤمنين بُغي عليه، ولو لم يكن لعُثمان عليكم
إلا حقَّ الولاية لحقَّ على كل مُسلم يرجو إمامته أن ينصره، فكيف وقد علمتم قِدَمه
في الإسلام، وحُسن بلائه، وأنه أجاب اللّه، وصَدّق كتابه، وأتبع رسولَه، والله
أعلم به إذ انتخبه، فأعطاه شرفَ الدنيا وشرفَ الآخرة. وإني أقُص عليكم خَبره، إني
شاهدةٌ أمرَه كُلَّه: إنّ أهل المدينة حَصروه في داره وحَرسوه ليلَهم ونهارَهم،
قياماً على أبوابه بالسِّلاحِ، يَمنعونه من كل شيء قَدروا عليه، حتى مَنعوه الماء،
فمكث هو ومَن معه خمسين ليلةً؛ وأهلُ مصر قد أسندوا أمرَهم إلى عليّ ومحمد بن أبي
بكر وعمّار بن ياسر وطلحة والزُبير، فأمروهم بقتله، وكان معهم من القبائل خُزاعة
وسَعد بن بكر وهُذيل وطوائف من جُهينة ومُزينة وأنباط يثرب، فهؤلاء كانوا أشدَّ
الناس عليه. ثم إنه حُصر فَرُشق بالنَّبل والحجارة، فجُرح ممن كان في الدار ثلاثةُ
نفر معه، فأتاه الناس يصرْخون إليه ليأذن لهم في القتال، فنهاهم وأمرهم أن يردّوا
إليهم نبلَهم، فردُّوها عليهم؛ فما زادهم ذلك في القتل إلا جُرٍأة، وفي الأمر إلا
إغراقاً، فَحرقوا باب الدار. ثم جاء نفر من أصحابه فقالوا: إن ناساً يريدون أن يأخذوا
بين الناس بالعَدل فاخُرج إلى المسجد يأتوك. فانطلقَ فجلس فيه ساعةً وأسلحة القوم مُطلّة
عليه من كل ناحية، فقال: ما أرى اليوم أحداً يَعْدِل، فدخل الدارَ. وكان معه
نفرٌ ليس على عامّتهم لسِلاح، فلبس دِرْعه وقال لأصحابه: لولا أنتم ما لَبست اليوم
دِرْعي. فوثب عليه القوم، فكلَمهم ابن الزبير، وأخذ عليهم ميثاقاً في صحيفة بعث
بها إلى عثمان: عليكم عهدُ اللّه وميثاقه أن لا تَقربوه بسوء حتى تكلّموه
وتَخْرجوا، فوضع السلاح، ولم يكن إلا وضعه. ودخل عليه القومُ يَقْدُمهم محمدُ بن
أبي بكر، فأخذ بلحيته، ودَعَوْه باللقب. فقال: أنا عبدُ الله وخليفتُه عثمان. فضربوه على رأسه ثلاثَ ضرَبات، وطَعنوه
في صَدْره ثلاث طعنات، وضَربوه على مَقْدم العين فوق الأنف ضربة أسرعت في العَظْم،
فسقطتُ عليه وقد أثخنوه وبه حياة، وهم يُريدون أن يقطعوا رأسه فيذهبوا به، فأتتني
ابنةُ شيبة بن ربيعة فألقت بنفسها معي، فوُطِئنا وَطْئا شديداً، وعُرِّينا من
حَلْينا. وحُرمةُ أمير المؤمنين أعظم، فقتلوا أمير المؤمنين في بيته مقهوراً على
فِراشه. وقد أرسلتُ إليكم بثوبه عليه دمُه، فإنه واللّه إِن كان أثم مَن قَتله فما
سَلِم مَن خذله، فانظُروا أينِ أنتم مِن اللهّ. وأنا أشتكي كل مَا مَسنا إلى الله
عز وجل، وأستصرخ بصالِحي عبادِه. فرحم الله عثمانَ ولَعن قتلَته وصَرعهم في
الدُنيا مَصارع الخزْي والمَذلًة، وشَفى منهم الصدور. فحلف رجال من أهل الشام أن
لا يمسوا غُسلاً حتى يقتلوا عليا أو تَفْنَى أرواحُهم. وقال
الفرزذق في قتل عثمان:
في قتل عثمان:
إن الخلافةَ لما
أظعَنت ظَعنت ... عن أهل يثرب إذ غير الهدى سلكوا
صارتْ إلى أهلِها
منهم ووارثِها ... لما رأى الله في عثمان ما انتهكوا
السافِكي دمِه
ظُلْماً ومَعْصِيَة ... أي دمٍ لا هدوا من غَّيهم سفكوا
وقال حسان:
إِن تُمس دارُ بني
عثمانَ خاويةً ... بابٌ صريعٌ وبيتٌ مُحرَق خَرِبُ
فقد يُصادف باغِي
الخَير حاجتَه ... فيها ويَأوي إليها المجدُ والحسَب
يا معشَر الناس
أبْدُوا ذات أنفسكم ... لا يَستوي الحق عند الله والكَذِب
تبرؤ علي من دم
عثمانقال عليّ بن أبي طالب على المنبر: واللهّ لئن لم يَدْخل الجنة إلا مَن قتل
عثمان لا دخلتُها أبدَاً، ولئن لم يَدخل النارَ إلا مَن قتل عثمان لا دخلتُها
أبداً. وأشرف علي من قَصرْ له بالكُوفة، فنظر إلى سَفينة في دِجْلة فقال: والذي
أرسلها في بَحره مُسخَّرة بأمره ما بدأتُ في أمر عثمان بشيء، ولئن شاءت بنو أمية
لأباهلنهم عند الكعبة خمسين يميناً ما بدأتُ في حق عثمان بشيء. فبلغ هذا الحديثُ
عبدَ الملك بن مروان فقال: إني لا أحسبه صادقاً. قال معبدٌ الخُزاعي: لقيتُ عليّا
بعد الجمل، فقلت له: إني سائلُك عن مسألة كانت منك ومن عثمان، فإن نجوتَ اليوم
نجوتَ غداً إن شاء اللّه. قال: سَل عما بدا لك. قلتُ: أخبرني أي منزلة وسعتْك إذ
قُتل عثمان ولم تنصره؟ قال: إن عثمان كان إماماً وإنه نهى عن القِتال، وقال: مَن
سَل سيفَه فليس مني، فلو قاتلنا دونه عَصَينا. قال: فأي منزلة وسعت عثمان إذ استسلم
حتى قُتل؟ قال: المنزلةُ التي وسعت ابن آدم، إذ قال لأخيه: " لئن بَسطت إلي
يَدك لتَقتلَني ما أنا بِباسطٍ يَدِيَ إليك لأقتُلَك إني أخافُ اللّهَ ربَّ
العالمين " . قلت: فهلاّ وَسِعَتْك هذه المنزلةُ يومَ الجمل؟ قال: إنا قاتلنا
يومَ الجمل مَن ظَلَمنا، قال الله: " ولمن أنتَصر بعد ظُلْمه فأولئك ما عليهم
مِن سَبيل. إنما السبيلُ على الّذين يَظْلمون الناسَ ويَبْغون في الأرض بغير
الْحَقِّ أولئك لهم عذاب أليم. ولمن صبَر وغَفر إن ذلك لمن عَزْم الأمور " .
فقاتلنا نحن مَن ظَلَمنا وصَبر عثمان، وذلك من عَزْم الأمور. ومن حديث بكر بن
حماد: إن عبد الله ابن الكَّواء سأل عليِّ بن أبي طالب يوم صِفين، فقال له:
أخْبِرْني عن مَخْرجك هذا، تَضرب الناسَ بعضهم ببعض، أعهدٌ إليك عهدَه رسولُ اللّه
صلى الله عليه وسلم أم رَأْي ارتأيته؟ قال عليّ: اللهم إني كنتُ أولَ من آمن به
فلا أكون أولَ مَن كذب عليه، لم يكن عندي فيه عَهْد مِن رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم، ولو كان عندي فيه عَهد مِن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما تركتُ أخا
تَيم وعدي على منابرها؛ ولكنّ نبّينا صلى الله عليه وسلم كان نبيّ رحمة، مَرِض أياماً
وليالي، فقدَم أبا بكر على الصلاة، وهو يراني ويَرى مكاني. فلما تُوفي رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم، رَضيناه لأمر دُنيانا إذ رَضِيه رسولُ اللهّ لأمرِ ديننا.
فسلّمتُ له وبايعتُ وسمعتُ وأطعتُ، فكنتُ
آخذ إذا أعطاني،
وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحُدود بين يديه. ثم أتته مَنيّتُه، فرأى أنَّ عمرَ
أطوقُ لهذا الأمر مِن غيره، وواللّه ما أراد به المُحاباة، ولو أرادها لجعلها في
أحد ولدَيْه. فسلّمتُ له وبايعتُ وأطعتُ وسمعت، فكنتُ أخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا
أغزاني، وأقيم الحدودَ بين يديه. ثم أتته منيّتُه، فرأى أنه من استخلف رجلاً فعمل
بغير طاعة اللّه عَذّبه الله به في قَبره، فجعلها شُورى بين ستَة نفر من أصحاب
رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم. وكنتُ أحدَهم، فأخذ عبدُ الرحمن مَواثيقنا
وعُهودنا على أن يَخْلع نفسه ويَنظر لعامة المُسلمين، فبَسط يدَه إلى عثمان
فبايعه. اللهم إن قلتُ إني لم أجد في نفسيِ فقد كذبت، ولكنني نظرتُ في أمري فوجدتُ
طاعتي قد تقدمت مَعْصيتي، ووجدت الأمر الذي كان بيدي قد صار بيد غير لم. فسلّمت
وبايعتُ وأطعت وسمعتُ، فكنت أخذ إذا أعطاني، وأغزو إذا أغزاني، وأقيم الحدود بين يديه.
ثم نَقم الناس عليه أموراً فقَتلوه ثم بقيتُ اليومَ أنا ومُعاوية، فأرى نفسي أحق
بها من معاوية؛ لأني مُهاجريّ وهو أعرابيّ، وأنا ابن عم رسول اللّه وصِهره، وهو
طليق ابن طليق. قال له عبدُ اللّه بن الكَوّاء: صدقتَ، ولكن طلحةَ والزُبير، أما
كان لهما في هذا الأمر مثلُ الذي لك؟ قال: إن طلحة والزُبير بايعاني في المدينة
ونَكثا بَيعَتي بالعراق، فقاتلتُهما على نَكْثهما، ولو نَكثا بيعة أبي بكر وعمر
لقاتلاهما على نَكثهما كما قاتلتُهما على نَكْثهما، قال: صدقت، ورجع إليه. واستعمل
عبدُ الملك بن مَرْوان نافعَ بن عَلْقمة بن صَفْوان على مكة، فخطب ذات يوم، وأبان
بن عثمان قاعدٌ عند أصلى المِنْبر، فنال مِن طلحة والزُبير، فلما نزل قال لأبان:
أرضيتُك من المًدهنين في أمر أمير المؤمنين؟ قال: لا، ولكنّك سُؤتني، حَسبي أن
يكونا بريئين من أمره. وعلى هذا المعنى قال إسحاق بن عيسى: أعيذ عليًّا بالله أن
يكون قَتل عثمان، وأعيذ عثمان أن يكون قَتله عليّ. وهذا الكلامُ على مذهب قول
النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أشد الناس عذاباً يومَ القيامة رجل قتل نبيا أو
قَتله نبيّ. سعيد بن جُبير عن أبي الصّهباء: إن رجالاً ذكروا عُثمان فقال رجلٌ من
القوم: إني أعرفُ لكم رأيَ عليّ فيه. فدخل الرجلُ على علي، فنال من عثمان، فقال
عليّ: دَع عنك عُثمان، فواللّه ما كان بأشرِّنا، ولكنه وَلي فاستأثر فحرمَنا فأساء
الحرمان. وقال عثمان بن حُنَيف: إني شهدتُ مَشهداً اجتمع فيه علي وعمّار ومالك
الأشتر وصَعْصعة، فذكروا عثمان، فوقَع فيه عمّار، ثم أخذ مالكٌ فحذا حَذْوه، ووجهُ
عليّ يَتَمَعَّر، ثم تكلّم صعصعة، فقال: ما على رجل يقول: كان والله أولَ مَن وَلي
فاستأثر، وأوّل مَن تفرقت عنه هذه الأمة! فقال علي: إلي أبا اليَقظان، لقد سَبقت
لعثمان سوابقُ لا يُعذِّبه اللّه بها أبداً. محمدُ بن حاطب قال: قال لي علي يومَ
الجمل: انطلقْ إلى قومك فأبلغهم كُتبي وقَوْلي. فقلت: إن قَومي إذا أتيتُهم يقولون: ما قوْلُ صاحبك في عُثمان؟ فقال: أخبرهم
أن قولي في عثمان أحسنُ القول، إن عثمان كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحاتِ، ثم
اتقَوْا وآمنوا واحسنوا واللّه يحب المُحسنين. جرير بن حازم عن محمد بن سِيرين
قال: ما علمتُ أن عليا اتُّهم في دم عُثمان حتى بُويع، فلما بويع اتهمه الناس.
محمد بن الحنفيّة: إنّي عن يمين في يومَ الجمل وابن عبّاس عن يساره، إذ سمع صوتاً
فقالت: ما هذا؟ قالوا: عائشةُ تلعن قَتلة عثمان. فقال عليّ: لعن اللهّ قتلةَ عثمان
في السهل والجَبل والبَحر والبَر.
ما نقم الناس على
عثمان
ابن دأب قال: لما
أنكر الناس على عُثمان ما أنكروا مِن تأمير الأحداث من أهل بَيْته على الجلّة
الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، قالوا لعبد الرحمن بن عوف: هذا عملُك
واختَيارك لأمة محمد. قال: لم أظنَّ هذا به. ودخل على عثمان فقال له: إني إنما
قدمتك على أن تَسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، وقد خالفتَهما. فقال: عمر كان يقطع
قرابته في اللّه وأنا أصل قرابتي في اللهّ. فقال له: لله عليّ أن لا أكلمك أبداً.
فمات عبدُ الرحمن وهو لا يُكلّم عثمان. ولما ردّ عثمان الحكم بن أبي العاصي، طريدَ
النبيّ صلى الله عليه وسلم طريد أبي بكر وعمر إلى المدينة، تكلِّم الناسُ في ذلك،
فقال عثمان: ما ينقَم الناسُ مني! إني وصلتُ رحما وقربت قرابة. حُصين بن زَيد بن وَهْب
قال: مَررنا بأبي ذَرّ بالربذة فسألناه عن منزله. فقال: كنتُ بالشام فقرأت هذه
الآية: " والذين يَكْنِزُون الذَهَب والفضة ولا يُنْفِقُونها في سَبيل الله
فبَشِّرهم بعذابِ أليم " . فقال معاويةُ: إنما هي في أهل الكتاب. فقلت: إنها
لَفينا وفيهم. فكتَب إليّ عثمانُ: أقبل. فلما قدمتُ رَكبتني الناسُ كأنهم لم
يَرَوْني قط، فشكوتُ ذلك إلى عثمان. فقال: لو اعتزلتَ فكنت قريباً. فنزلتُ هذا
المنزل، فلا أدع قَوْلي، ولو أمروا عليّ عبداً حبشيا لأطعتُ. الحسنُ بن أبي الحسن
عن الزُبير بن العوام في هذه الآية: " واتقُوا فتنةً لا تُصيبنّ الذين
ظَلَموا منكم خاصَّة " . قال: لقد نزلتْ وما ندري من يختلف لها. فقال بعضهم:
يا أبا عبد الله، فلم جئتَ إلى البصرة؟ قال: ويحك، إننا نَنظر ولا نُبصر. أبو نضرة
عن أبي سَعيد الخُدريّ قال: إنّ ناساً كانوا عند فُسطاط عائشة وأنا معهم بمكة،
فمرّ بنا عثمان فما بقي أحدٌ من القوم إلا لعنه غيري، فكان فيهم رجلٌ من أهل
الكوفة فكان عثمان على الكُوفيّ أجرأ منه على غيره، فقال: يا كُوفي، أتشتُمني؟
فلما قدم المدينةَ كان يتهدّده. قال: فقيل له: عليك بطَلحة. قال: فانطلق معه حتى دَخل
على عثمان. فقال عُثمان: واللّه لأجلدنَه مائة سَوط. قال طلحة: والله لا تَجلدنه
مائةَ إلاّ أن يكون زانياً. قال: والله لأحرمنه عَطاءه. قال: اللّهُ
يرزقه. ومن حديث ابن أبي قُتيبة عن الأعمش عن عبد الله بن سِنان قال: خرج علينا
ابن مَسعود ونحن في المَسجد، وكان على بيت مال الكُوفة، وأميرُ الكوفة الوليد بن
عُقبة بن أبي مُعَيط، فقال: يا أهل الكوفة، فُقِدت من بيت مالكم الليلةَ مائةُ آلف
لم يأتني بها كتابٌ من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال: فكتب الوليدُ بن
عُقبة إلى عثمان في ذلك، فنَزعه عن بيت المال. ومن حديث الأعمش يَرويه أبو بكر بن
أبي شيبة قال: كَتب أصحابُ عُثمان عَيْبه وما يَنْقم الناسُ عليه في صحيفة، ثم
قالوا: مَن يذهب بها إليه؟ قال عمٌار: أنا. فذهب بها إليه. فلما قرأها قال: أرغمِ
اللّهُ أنفك. قال: وأنف أبي بكر وعمر. قال: فقام إليه فوَطئه حتى غُشى عليه. ثم ندم
عثمان وبعث إليه طلحة والزُّبير يقولان له: اختر إحدى ثلاث: إما أن تَعْفو، هاما
أن تأخذ الأرْش، وإما أن تَقْتَص. فقال: واللّه لا قبلتُ واحدة منها حتى ألقى
الله. قال أبو بكر: فذكرتُ هذا الحديث للحَسن بن صالح، فقال: ما كان على عُثمان
أكثرُ مما صنع.
ومن حديث اللّيث بن
سعد قال: مَر عبدُ اللهّ بن عُمر بحُذيفة فقال: لقد اختلف الناسُ بعد نبيّهم،
فما منهم أحدٌ إلا أعطى من دينه ما عدا هذا الرجلَ. وسُئل سعدُ بن أبي وقاص عن عثمان
فقال: أما والله لقد كان أحسنَنا وُضوءاً، وأطولَنا صلاة، وأتلانا لكتاب اللّه،
وأعظمَنا نَفقةً في سبيل اللّه. ثم وَلي فأنكروا عليه شيئاً، فأتَوْا إله أعظَمَ
مما أنكروا.
وكتب عثمان إلى أهل
الكوِفة حين ولاّهمِ سعيدَ بن العاص: أما بعد. فإني كنت ولَّيتكم الوليدَ بن عُقبة
غلاماً حين ذَهَب شرْخه، وثاب حِلْمه، وأوصيتُه بكم ولم أوصكم به، فلما أعْيتكم
علانيته طَعَنتم في سرَيرته. وقد ولَيتكم سعيدَ بن العاص، وهو خيرُ عَشيرته،
وأوصيكم به خيراً فاستوصوا به خيراً. وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه، وكان
عاملَه على الكوفة، فصلَّى بهم الصبحَ ثلاث ركعات وهو سَكران، ثم التَفت إليهم
فقال: وإن شئتُم زِدْتُكم. فقامت عليه البيّنة بذلك عند عثمان، فقال لطلحة: قُم
فاجلده. قال: لم أكن من الجالدين. فقام إليه عليّ فَجلده.
وفيه يقول الحُطيئة:
شَهد الحطيئةُ يَوم
يَلْقى رَبَّه ... أنَّ الوليدَ أحقُّ بالعُذْرِ
لِيزِيدَهم خيراً ولو
قَبلوا ... لجمعتَ بين الشَّفع والوِتْر
مَسكوا عنانَك إذ
جَريت ولو ... تَركوا عِنانَك لم تَزل تَجْرِي
ابن دأب قال: لما
أنكر الناسُ على عثمان ما أنكروا واجتمعوا إلى علي وسَألوه أن يَلقى لهم عُثمانَ.
فأقبلَ حتى دَخل عليه فقال: إنَ الناسَ ورائي قد كلَّموني أنْ أكلمك، واللهّ ما
أدرى ما أقولُ لك، ما أعرف شيئاً تًنكره، ولا أعلمك شيئاً تَجهله، وما ابن الخطّاب
أولى بشيء من الخير منك، وما نُبصرك من عَمى، وما نَعْلمك مَن جهل، وإن الطريق
لبيِن واضح. تَعلم يا عثمان أن أفضل الناس عند اللهّ إمامٌ عَدْل، هُدِي وهَدى،
فأحيا سُنة مَعلومة، وأمات بدعة مَجهولة؛ وأن شر الناس عند الله إمامُ ضَلالة، ضَل
وأضل، فأحيا بدْعة مجهولة، وأمات سنة معلومة. وإني سمعت رسولَ اللّه صلى الله عليه
وسلم يقول: يُؤتى بالإمام الجائر يومَ القيامة ليس معه ناصرٌ ولا له عاذر فيُلْقى
في جَهنم فيَدُور دَوْرَ الرحى يَرْتطم بجَمْرة النار إلى آخر الأبد. وأنا أحذَرك
أن تكون إمامَ هذه الأمة المقتول، يُفتح به بابُ القَتل والقتال إلى يوم القيامة،
يَمْرَج به أمرُهم وَيمرَجون. فخرج عثمان، ثم خطب خُطبته التي أظهر فيها التوبة.
وكان عليّ كلما اشتكى الناسُ إليه أمرَ عثمان أرسل ابنه الحسن إليه، فلما أكثر
عليه قال له: إن أباك يرى أن أحداً لا يَعلم ما يَعلم، ونحن أعلم بما نَفعل، فكُفّ
عنَا. فلم يَبعث علي ابنه في شيء بعد ذلك. وذكروا أنّ عثمان صَلى العصر ثم خَرج
إلى علي يعوده في مرضه، ومَروان معه، فرآه ثقيلا. فقالت: أما والله لولا ما أرى
منك ما كنتُ أتكلَم بما أريد أن أتكلَم به، والله ما أدري أيّ يومَيك أحبُّ إليَّ أو
أبغض، أيومُ حياتك أو يومُ موتك؟ أما واللهّ لئن بقيتَ لا أعدم شامتاً يَعُدّك
كَنفاً، ويَتخذْك عَضدا، ولئن مَتّ لأفجعنِ بك. فحظِّى منك حظّ الوالد المُشفق من
الولد العاق، إنْ عاش عقه، وإن مات فجعه. فليتك جعلت لنا من أمرك عَلَماً نَقف
عليه ونعرفه، إما صديقٌ مسالم وإما عَدو مُعاند، ولم تَجعلني كالمُختنق بين السماء
والأرض، لا يَرْقى بيد، ولا يَهبط برجل. أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خَلَفا،
ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفا، وما أحب أن أبقى بعدَك. قال مروان: أيْ والله
وأخرى، إنه لا يُنال ما وراء ظُهورنا حتى تُكسر رماحُنا وتُقطع سيوفنا، فما خيرُ
العيش بعد هذا. فضَرب عثمان في صَدره وقال: ما يُدْخلك في كلامنا؟ فقال على: إني
والله في شُغل عن جوابكما، ولكني أقول كما قال أبو يوسف: فَصَبر جميل واللهّ
المُستعان على ما تَصِفون. وقال عبدُ الله بن العباس: أرسل إليً عُثمان فقال لي: اكْفِني
ابن عمك. فقلت: إنَ ابن عمي ليس بالرجل يُرى له ولكنَه يَرى لنفسه، فأرسِلني إليه
بما أحببتَ. قال: قُل له فَليَخرج إلى مالِه باليَنبُع فلا أغتمّ به ولا يَغتم بي.
فأتيتُ عليًّا فأخبرتُه. فقال: ما اتخذني عثمانُ إلا ناصحاً، ثم أنشد يقول:
فكيف به أنّي أداوِي
جراحَه ... فيَدْوَى فلا مُلّ الدواءً ولا الداءُ
أما واللّه إنه
ليختبر القوم. فأتيتُ عثمانَ، فحدّثته الحديثَ كله إلا البيت الذي أنشده. وقوله:
إنه ليختبر القوم. فأنشد عثمان:
فكيف به أنّي أداوِي
جراحَه ... فيَدْوَى فلا مُلَّ الدواء ولا الداءُ
وجعل يقول: يا رحيم،
انصرُني، يا رحيم، انصرني، يا رحيم، انصرني.
قال: فخرج
عليّ إلى يَنْبع، فكتب إليه عثمان حين اشتدّ الأمر: أما بعد. فقد بلغ السيل
الزُّبى، وجاوز الحِزام الطُّبْيين، وطَمِع فيّ مَن كان يَضْعُف عن نفسه:
فإنك لم يفخر عليك
كفاخرٍ ... ضعيف ولم يَغْلِبْك مثلُ مُغلَّبِ
فأقبِل إليَّ على أيّ
أمريك أحبَبتَ، وكُن لي أم علي، صديقاً كنتَ أم عدوًّا:
فإنْ كنتُ مأكولاً
فكُن خيرَ آكلٍ ... وإلّا فأدركني ولما أمزَّق
خلافة علي بن أبي
طالبرضي اللّه عنه
قال: لما قُتل
عثمان بن عفان، أقبل الناس يُهْرعون إلى علي بن أبي طالب فتراكمت عليه الجماعةُ في
البَيعة، فقال: ليس ذلك إليكم، إنما ذلك لأهل بَدْر ليُبايعوا. فقال: أين طلحة
والزبير وسعد؟ فأقبلوِا فبايعوا، ثم بايعه المهاجرون والأنصار، ثم بايعه الناسُ.
وذلك يومَ الجمعة لثلاث عشرةَ خلتْ من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وكان أولَ مَن
بايع طلحةُ، فكانت إصبعه شلاّء، فتطيِّر منها عليّ، وقال. ما أخلقه أن يَنْكث.
فكان كما قال عليّ رضي اللّه عنه.
نسب علي بن أبي طالب
وصفتههو عليّ بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وأمه فاطمة بنت أسد
بن هاشم بن عبد مناف. وصفته، كان أصلعَ بطيناً حَمْش الساقين. صاحبُ شرُطته مَعْقل بن قيس الرِّياحي،
وما لك بن حَبيب اليَرْبوعي، وكاتبُه سعيد ابن نِمران، وحاجبُه قُنْبر، مولاه.
وقُتل يوم الجمعة بالكوفة، وهو خارج إلى المسجد لصلاة الصِبح، لسبع بَقين من شهر
رمضان، فكانت خلافته أربعَ سنين وتسعةَ أشهر، صلى عليه ولدُه الحسن، ودُفن برَحْبة
الكوفة، ويقال في لِحف الحِيرة، وعُمِّي قبره. واختُلف في سنه، فقال الشعبي: قُتل
علي رحمه الله وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ووُلد علي بمكة في شِعب بني هاشم.
فضائل علي بن أبي
طالبكرم اللّه وجهه
أبو الحسن قال: أسلم
علي وهو ابن خمسَ عشرةَ سنة، وهو أول من شَهد أن لا إله إلا اللهّ وأن محمداً
رسولُ الله.
وقال النبي عليه
الصلاة والسلام مَن كنتُ مولاه فعلي مولاه. اللهم والِ مَن والاه وعادِ مَن عاداه.
وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما تَرضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى
غيرَ أنه لا نبيّ بعدي؟ وبهذا الحديث سَمَّت الشيعةُ علي بن أبي طالب الوصيِّ،
وأولوا فيه أنه استخلفه على أمته إذ جعله منه بمنزلة هارون من موسى؛ لأنّ هارون
كان خليفة موسى على قومه إذا غاب عنهم. وقال السيد الْحِمْيري رحمه اللّه تعالى:
إني أدينُ بما دانَ
الوَصَّي به ... وشاركتْ كفّه كَفَيّ بصفَينا
وجمع النبي صلى الله
عليه وسلم فاطمةَ وعليا والحسَنَ والْحُسين فألقى عليهم كساءَه وضمهم إلى نفسه ثم
تلا هذه الآية: إنما يُريد اللّهُ ليُذهبَ عنكمِ الرجسَ أهلَ البَيت ويُطهَركم
تَطْهيرا. فتأولت الشيعةُ الرجس هاهنا بالخَوض في غمرة الدُّنيا وكُدورتها. وقال
النبيّ صلى الله عليه وسلم يومَ خَيبر: لأعطين الراية غداً رجلاً يُحب الله
ورسولَه، ويُحبه الله ورسولُه، لا يُمسي حتى يَفتح الله له. فدعا عليًّا، وكان
أرمدَ، فَتفَل في عينيه، وقال: اللهم. قِه داءَ الحر والبرد. فكان يلبس كُسوة
الصيف في الشتاء وكُسوة الشتاء في الصيف ولا يضره. أبو الحسن قال: ذُكر عليّ عند
عائشة فقالت: ما رأيت رجلاً أحبَّ إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم منه، ولا رأيتُ
امرأة كانت أحبَّ إليه من امرأته. وقال عليُّ بن أبي طالب: أنا أخو رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم وابن عمه، لا يقولها بعدي إلا كذّاب. الشَّعبي قال: كان عليّ بن أبي طالب في هذه الأمة مثل المسيح بن مريم
في بني إسرائيل، أحبّه قومٌ فكفروا في حُبه، وأبغضه قوم فكفروا في بُغضه. وقال النبيّ
صلى الله عليه وسلم: الحسنُ والْحُسين سيِّدا شباب أهل الجنة، وأبوهما خيرٌ منهما.
أبو الحسن قال: كان علي بن أبي طالب رضي اللّه عنه يُقَسم بيت المال في كل جمعة
حتى لا يبقي منه شيئاً، ثم يُفرش له ويَقيل فيه. ويتمثَل بهذا البيت:
هذا جَنايَ وخِيَاره
فيه ... إذ كُلّ جانٍ يدُه إلى فيه
كان علي بن أبي طالب
إذا دَخل بيتَ المال ونَظر إلى ما فيه من الذَّهب والفضة قال:
ابيَضيِّ واصفري وغري
غيري ... إنّي من اللّه بكُل خَيْر
ودخل رجل على الحسن
بن أبي الحسن البصري فقال: يا أبا سعيد، إَنهم يَزعمون أنك تُبغض عليّا. قال: فبكى
الحسنُ حتى اخضلَّت لِحْيته، ثم قال: كان علي بن أبي طالب سهماً صائباً من مَرامي
الله على عدوّه، ورباني هذه الأمة، وذا فَضْلها وسابقتها، وذا قرابة قريبة من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن بالنومَة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا
المَلولة في ذات الله، ولا السَّروفة لمال اللّه. أعطى القرآن عزائمه ففاز منه
برياض مُونقة وأعلام بَينة، ذلك علي بن أبي طالب يا لُكع.
يوم الجملأبو اليَقظان
قال: قَدِم طلحةُ بن عُبيد الله والزبير بن العوام وعائشة أم المؤمنين
البَصرة. فتلقاهم الناس بأعلى المِرْبد، حتى لو رَمَوا بحَجر ما وقع إلا على
رأس إنسان، فتكلَّم طلحة وتكلمت عائشة، وكثر اللغط، فجعل طلحةُ يقول: أيها الناس،
أنصتوا. وجعلوا يركبونه ولا يُنصتون. فقال: أف أف! فَراش نار، وذُباب طمع. وكان
عثمان بن حُنيف الأنصاري عاملَ عليّ بن أبي طالب على البَصرة، فخرج إليهم في
رِحاله ومن مَعه، فتواقفوا حتى زالت الشمس، ثم اصطلحوا، وكَتبوا بينهم كتاباً أن
يكفّوا عن القتال حتى يَقْدَم علي بن أبي طالب، ولعثمان بن حُنيف دارُ الإمارة
والمَسجد الجامع وبيتُ المال، فكفّوا. ووجّه عليُّ بن أبي طالب الحسن ابنه وعمّار
بن ياسر إلى أهل الكوفة يَستنفر انهم، فنَفر معهما سبعةُ آلاف من أهل الكوفة. فقال
لهم عمار. أما والله إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة، ولكن الله ابتلاكم
بها لتتْبِعوه أو تَتبعوها. وخَرج عليٌ في أربعة آلاف من أهل المدينة، فيهم ثمانمائة
من الأنصار، وأربعمائة ممن شَهد بيعه الرضوان مع النبي صلى الله عليه وسلم. ورايةُ
علي مع ابنه محمد ابن الحنفيّة، وعلى مَيمنته الحسنُ، وعل ميسرته الحُسين، وعلى
الخَيل عمّار بن ياسر، وعلى الرجالة محمد بن أبي بكر، وعلى المُقدَمة عبدُ الله بن
عبّاس. ولواء طَلحة والزُبير مع عبد اللهّ بن حَكيم بن حِزام، وعلى الخيل طلحةُ بن
عبيد اللهّ، وعلى الرجِّالة عبدُ الله بن الزبير. فالتقوا بموضع قصر عُبيد الله بن
زياد في النّصف من جُمادى الآخرة يومَ الخميس. وكانت الوقعة يوم الجمعة.
وقالوا: لما قَدِم علي
بن أبي طالب البصرَة قال لابن عباس: ائت الزُّبير ولا تأت طلحة، فإن الزُبير
ألينُ، وأنت تجد طلحةَ كالثور عاقصاً بقَرنه يركب الصُعوبة، ويقول: هي أسهل،
فأقْرِئه السلام، وقُل له: يقول لك ابن خالك: عرفتَني بالحجاز، وأنكرتني بالعِراق،
فما عدا ما بدا؟ قال ابن عباس: فأتيته فأبلغتُه. فقال: قل له: بيننا وبينك عهدُ خليفة، ودمُ خليفة، واجتماع ثلاثة، وانفراد
واحد، وأم مَبرورة، ومشاورة العشيرة، ونَشْر المصاحف، نُحِل ما أحلت، ونُحرَم ما حَرمت.
وقال عليّ بن أبي طالب: ما زال الزُبير رجلاً منا أهلَ البيت حتى أدركه ابنه عبد
الله فلفَته عنا. وقال طلحةُ لأهل البصرة وسألوه عن بَيعة علي فقال: أدخَلوني في
حُش ثم وَضعوا الفُج على قَفي فقالوا: بايع وإلا قَتلناك. قوله: اللج، يريد السيف،
وقوله: قفي، لغة طىء، وكانت أمه طائية.
وخطبت عائشةُ أهلَ
البصرة يوم الجمل فقالت: أيها الناس، صَه صه، كأنما قُطعت الألسن في الأفواه. ثم
قالت: إن لي عليكم حُرمَة الأمومة، وحق الموعظة، لا يتّهمني إلا من عَصى ربَّه.
مات رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونَحْري، وأنا إحدى نسائه في
الجَنة، له ادخرني ربِّي وسلّمني من كل بضُع، وبي مَيّز بين مُنافقكم ومؤمنكم، وبي
أرخص لكم في صَعِيد الأبواء. ثم أبي ثالثُ ثلاثةٍ من المُؤمنين وثاني اثنين في
الغار، وأول من سُمَي صديقاً. مَضى رسولُ الله صلى الله عليه وسلما راضياً عنه، وطَوَّقه طَوق
الإمامة. ثم اضطرب حبلُ الدين فمسَك أبي بطَرَفيه، ورتق لكم أثناءه فوَقم
النفاق، وأغاض نبعَ الردة، وأطفأ مَا حَشت يهود، وأنتم يومئذ جُحظ العيون، تنظرون العَدوة،
وتسمعون الصيحة، فَرأب الثأي، وأوذم العَطِلة، وانتاش من الهًوة، واجتحى دفين الداء،
حتى أعطن الوارد، وأورد الصادر، وعَلّ الناهل، فقَبضه الله واطئاً على هامات
النفاق، مذكِياً نارَ الحرب للمشركين. وانتظمت طاعتُكم بحَبله. ثم ولي أمرَكم
رجلاً مَرْعياً إذا رُكن إليه، بَعيداً ما بين اللابتين إذا ضُل، عَرُوكة للأذاة
بجَنْبه، يَقْظان الليل في نُصرة الإسلام، فسلك مسلك السابقين، ففرق شمل الفِتنة،
وجَمَّع أعضاد ما جمع القرآن، وأنا نصْب المسألة عنِ مسيري هذا. لم ألتمس إثماً،
ولم أورِّث فتنة أوطئكموها. أقول قولي هذا صِدْقاً وعدلاً، وإعذاراً وإنذاراً،
وأسأل اللّه أن يصلي على محمد وأن يَخلفه فيكم بأفضل خلافة المُرسلين. وكتبت أم
سَلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين إذ عزمت على الخروج يوم
الجمل: من أم سَلَمة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى عائشة أم المؤمنين، فإني
أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو. أما بعد، إنك سُدّة بين رسول اللهّ صلى الله
عليه وسلم وبين أمته، حجاب مضروب على حُرمته. قد جَمّع القرآنُ ذيلك فلا تَنْدحيه،
وسَكَّر خَفارتك فلا تَبْتذليها. فاللهّ مِن وراء هذه الأمة. لو علم رسولُ الله
صلى الله عليه وسلم أنّ النساء يَحتملن الجهاد عهِد إليك. أما علمتِ أنه قد نَهاك
عن الفَراطة في البلاد، فإن عمود الدين لا يَثبت بالنساء إن مال، ولا يُرأب بهن إن
انصدع؟ جهاد النساء غَضُّ الأطراف، وضَمًّ الذُّيول، وقَصر المُوادة. ما كنتِ
قائلةً لرسول اللهّ صلى الله عليه وسلم لو عارضك ببعض هذه الفلوات ناصَّةً قَعودا،
من مَنهل إلى مَنهل؟ وغداً تردين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأقسم لو قيل
لي: يا أم سلمة، ادخُلي الجنة، لاستحييتُ أن ألقى رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم
هاتكةً حجابا ضرَبه عليّ. فاجعليه سِتْرك، وقاعةَ البيت حِصْنك؛ فإنك أنصح ما
تكونين لهذه الأمة ما قعدتِ عن نُصرتهم. ولو أني حدثتُك بحديث سمعتُه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم لنَهشتِني نهش الحيةِ الرقشاء المُطرقة. والسلام.
فأجابتها عائشة: من
عائشة أم المؤمنين إلى أم سَلمة، سلام عليك، فإني أحمدُ الله إليك الذي لا إله إلا
هو. أما بعد. فما أقبلني لوَعْظك، وأعرفني لحق نَصيحتك، وما أنا بمُعتمرة بعد تَعْريج،
ولنِعم المَطلع مَطلع فَرَقتُ فيه بين فئتين مُتشاجرتين من المُسلمين، فإن أقعد
فعن غير حَرج، وإن أمض فإلى ما لا غِنى بي عن الازدياد منه. والسلام. وكتبت عائشة
إلى زيد بن صُوحان إذ قدمت البصرة: من عائشة أم المؤمنين إلى ابنها الخالص زيد بن
صُوحان، سلام عليك. أما بعد، فإنّ أباك كان رأساً في الجاهلية وسيداً في الإسلام،
وإنك من أبيك بمنزلة المُصلّى من السابق، يقال كاد أو لَحق، وقد بلغك الذي كان في
الإسلام من مُصاب عثمان بن عفان، ونحن قادمون عليك، والعِيان أشفى لك من الخَبر.
فإذا أتاك كتابي هذا فثبّط الناسَ عن في بن أبي طالب، وكُن مكانَك حتى يأتيك أمري،
والسلام. فكتب إليها: مِن زيد بن صُوحان إلى عائشة أم المؤمنين. سلامٌ عليك،
أما بعد، فإِنك أمرتِ بأمر وأمرنا بغيره، أمرتِ أن تَقرّي في بَيتك، وأمرنا أن نُقاتل
الناس حتى لا تكون فتنة. فتركتِ ما أمرت به وكتبتِ تَنْهينا عما أمرنا به، والسلام
وخطب علي رضي اللّه عنه بأهل الكوفة يوم الجمل إذ أقبلوا إليه مع الحسن بن علي
فقام فيهم خطيباً، فقال: الحمد للهّ رب العالمين، وصلّى الله علي سيدنا محمد خاتم
النبيين وآخر المُرسلين، أما بعد. فإن الله بعث مُحمداً صلى الله عليه وسلم إلى
الثَقَلين كافة، والناسُ في اختلاف، والعربُ بِشر المنازل، مُستضعَفون لما بهم،
فرأب اللهّ به الثّأي، ولأم به الصّدع، ورَتق به الفَتق، وأمَّن به السبيل، وحَقَن
به الدماء، وقَطَع به العداوة المُوغِرة للقلوب، والضَّفائنِ المُشحنة للصدور، ثم
قَبضه اللّه تعالى مشكوراً سعيُه، مَرْضيا عمله، مَغْفوراً ذنبه، كريماً عند اللّه
نزله. فيالها من مُصيبة عمِّت المسلمين، وخَصَت الأقربين. وَوَليَ أبو بكر فسار
فينا بسيرة رِضا، رَضي بها المسلمون. ثم وَلي عمر فسار بسيرة أبي بكر رضي الله
عنهما. ثم ولي عُثمان فنال منكم ونلتم منه. ثم كان من أمره ما كان، أتيتموه
فقتلتموه، ثم أتيتموني فقُلتم: لو بايعتنا؟ فقلتُ: لا أفعل، وقبضتُ يدي
فبسَطتموها، ونازعتُكم كفًي فجذبتُموها، وقلتم: لا نَرضى إلا بك، ولا نَجتمع إلا
عليك، وتراكمتم علي تراكم الإبل الهِيم على حِياضها يومَ وُرودها، حتى ظننتُ أنكم
قاتلي وأن بعضَكم قاتلٌ بعضاً، فبايَعتُموني، وبايعني طلحةُ والزبير، ثم ما لَبثا
أنْ استأذناني إلى العُمرة. فسارا إلى البَصرة فقاتَلا بها المسلمين، وفَعلا بها
الأفاعيل، وهما يَعلمان واللهّ أني لستُ بدون من مَضى، ولو أشاء أن أقول لقلت:
اللهم إنهما قَطعا قَرابتي، ونَكثا بَيْعتي، وألّبا عليّ عدوّي. اللهمّ فلا تُحكم
لهما ما أبرما، وأرهما المَساءة فيما عَملا. وأملى عليّ بن محمد عن مسلمة بن
مُحارب عن داود عن أبي هِند عن أبي حَرْب عن أبي الأسود عن أبيه قال: خرجتُ مع
عِمران بن حُصين وعثمانَ بن حُنيف إلى عائشة فقلنا: يا أمَّ المؤمنين، أَخبرينا عن
مَسيرك هذا. عهدٌ عَهدَه إليك رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم؟ أم رأي رأيتيه؟
قالت: بل رأي رأيتُه حين قُتل عثمان بن عفَّان، إنا نَقمنا عليه ضربه بالسَّوط،
ومَوقع المِسحاة المُحماة، وإمرة سَعيد والوليد، فعدوتُم عليه فاستحللتم منه
الثلاثَ الحُرم: حُرمة البلد وحُرمة الخلافة وحُرمة الشهر الحرام، بعد أن مُصْتموه
كما يُماص الإناء. فغَضِبنا لكم من سَوط عثمان، ولا نَغضب لعثمان من سَيْفكم؟
قلنا: ما أنتِ وسيفُنا وسوطُ عثمان، وأنتِ حَبيس رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم!
أمرك أنْ تَقَرِّي في بيتك فجئتِ تَضربين الناس بعضَهم ببعض! قالت: وهل أحذ
يقاتلني أو يقوله غير هذا؟ قُلنا: نعم. قالت: ومَن يفعل ذلك؟ هل أنت مُبلغ عني يا
عِمران؟ قال: لستُ مُبلغاً عنك حَرفاً واحداً. قلت: لكنّني مُبلغ عنك، فهاتِ ما
شئت. قالت: اللهم اقتُل مًذمَّما قِصاصاً بعثمان، وارم الأشتر بسهم من سهامك لا يُشْوِى،
وأدرك عمّاراً بخَفَره بعُثمان أبو بكر بن أبي شَيبة قال: حدَّثنا عبد الله بن
إدريس عن حُصين عن الأحنف بن قيس قال: قَدمنا المدينة ونحن نُريد الحج، فانطلقت
فأتيتُ طلحة والزبير، فقلت: إِني لا أرى هذا إلا مَقتولا ===============
ج10. كتاب : العقد
الفريد ابن عبد ربه الأندلسي
فمن تأمراني به كما
تَرضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعليّ. قلت: فتأمراني به وتَرضيانه لي؟ قالا: نعم. قال:
ثم انطلقتُ حتى أتيتُ مكة، فبينما نحن بها إذ أتانا قَتْل عثمان وبها عائشة أم
المؤمنين، فانطلقتُ إليها فقلت: مَن تأمريني أنْ أبايع؟ قالت: عليّ بن أبي طالب.
قلتُ: أتأمريني به وتَرْضينه لي؟ قالت: نعم. قال: فممرتُ على عليّ بالمدينة
فبايعتُه، ثم رجعتُ إلى البصرة، وأنا أرى أن الأمر قد استقام، فما راعنا إلا قدومُ
عائشة أمّ المؤمنين وطلحة والزبير قد نزلوا جَناب الخُرَيبة. قاد: فقلت: ما جاء
بهم؟ قالوا: قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عُثمان، إنه قُتل مظلوما. قال: فأتاني
أفظع أمر لم يأتني قطُّ. قلت: إنَّ خِذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم لشديد، وإنّ قتال ابن عم رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم
أمروني ببَيعته لشديد. قال: فلما أتيتُهم قالوا: جِئناك نَسْتصرخك على دم عُثمان،
قُتل مظلوماً. قال: فقلت: يا أم المؤمنين، أنشدك الله، أقلتُ لك: مَن تأمريني به
وتَرضينه لي، فقلت: عليّ؟ قالت: بلى، ولكنه بَدّل. قلتُ: يا زُبير، يا حواريّ رسول
اللّه، ويا طَلحة، نَشْدتكما باللّه، قلتُ لكما: مَن تأمراني به وتَرْضيانه لي،
فقلتما عليّ؟ قالا: بلى، ولكنه بدّل. قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين،
ولا أقاتل عليّا ابن عم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، ولكنْ اختاروا مني إحدى
ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي باب الجسرِ فألحق بأرض الأعاجم حتى يَقضي اللّه من
أمره ما يقضي، وإمَا أن ألحق بمكة فأكَون بها، أو أتحوّل فأكون قريبا؟ قالوا: نَأتمر
ثم نُرسل إليك. قال: فأتمروا وقالوا: نَفتح له باب الجسر فيلحق به المُفارق
والخاذل، أو يلحق بمكة فيَفْحشكم في قُريش ويُخبرهم بأخباركم، اجعلوه هاهنا قريباً
حيث تَنظُرون إليه. فاعتزل بالجَلحاء، من البَصرة على فرسخين، واعتزل معه زهاء ستة
آلاف من بني تميم.فمن تأمراني به كما تَرضيانه لي؟ قالا: نأمرك بعليّ. قلت:
فتأمراني به وتَرضيانه لي؟ قالا: نعم. قال: ثم انطلقتُ حتى أتيتُ مكة، فبينما نحن بها إذ أتانا قَتْل عثمان وبها
عائشة أم المؤمنين، فانطلقتُ إليها فقلت: مَن تأمريني أنْ أبايع؟ قالت: عليّ بن أبي
طالب. قلتُ: أتأمريني به وتَرْضينه لي؟ قالت: نعم. قال: فممرتُ على عليّ بالمدينة
فبايعتُه، ثم رجعتُ إلى البصرة، وأنا أرى أن الأمر قد استقام، فما راعنا إلا قدومُ
عائشة أمّ المؤمنين وطلحة والزبير قد نزلوا جَناب الخُرَيبة. قاد: فقلت: ما جاء
بهم؟ قالوا: قد أرسلوا إليك يستنصرونك على دم عُثمان، إنه قُتل مظلوما. قال:
فأتاني أفظع أمر لم يأتني قطُّ. قلت: إنَّ خِذلان هؤلاء ومعهم أم المؤمنين وحواري رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم لشديد، وإنّ قتال ابن عم رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم أمروني ببَيعته
لشديد. قال: فلما أتيتُهم قالوا: جِئناك نَسْتصرخك على دم عُثمان، قُتل مظلوماً.
قال: فقلت: يا أم المؤمنين، أنشدك الله، أقلتُ لك: مَن تأمريني به وتَرضينه لي،
فقلت: عليّ؟ قالت: بلى، ولكنه بَدّل. قلتُ: يا زُبير، يا حواريّ رسول اللّه، ويا
طَلحة، نَشْدتكما باللّه، قلتُ لكما: مَن تأمراني به وتَرْضيانه لي، فقلتما عليّ؟
قالا: بلى، ولكنه بدّل. قال: والله لا أقاتلكم ومعكم أمّ المؤمنين، ولا أقاتل عليّا ابن عم رسول
اللّه صلى الله عليه وسلم، ولكنْ اختاروا مني إحدى ثلاث خصال: إما أن تفتحوا لي باب
الجسرِ فألحق بأرض الأعاجم حتى يَقضي اللّه من أمره ما يقضي، وإمَا أن ألحق بمكة
فأكَون بها، أو أتحوّل فأكون قريبا؟ قالوا: نَأتمر ثم نُرسل إليك. قال: فأتمروا
وقالوا: نَفتح له باب الجسر فيلحق به المُفارق والخاذل، أو يلحق بمكة فيَفْحشكم في
قُريش ويُخبرهم بأخباركم، اجعلوه هاهنا قريباً حيث تَنظُرون إليه. فاعتزل
بالجَلحاء، من البَصرة على فرسخين، واعتزل معه زهاء ستة آلاف من بني تميم.
مقتل طلحةأبو الحسن
قال: كانت وقعة الجَمل يوم الجُمعة في النَصف من جُمادى الآخرة، التَقوا فكان
أوَلَ مَصْروع فينا طلحةُ بن عُبيد الله، أتاه سَهمُ غَرْب فأصاب رُكبتَه، فكان
إذا أمسكوه فَتر الدم، وإذا تَركوه انفجر، فقال لهم: اتركوه، فإنما هو سهم أرسله اللّه.
حمّاد بن زيد عن
يَحيى بن لسَعيد قال: قال طلحةُ يوم الجمل:
نَدمتُ ندامةَ
الكُسعي لما ... طلبتُ رضَا بني حَزم بزَعمِي
للهم خُذ مني لعثمان
حتى يَرضى.
ومن حديث أبي بكر بن
أبي شَيبة قال: لما رأى مروانُ بن الحكم يوم الجمل طلحة بن عُبيد الله قال: لا
أنتظر بعد اليوم بثأري في عُثمان، فانتزع له سهماً فقَتله.
ومن حديث سُفيان
الثّوري قال: لما انقضى يومُ الجمل خرج علي بن أبي طالب في ليلة ذلك اليوم ومعه
مولاه وبيده شَمعة يتصفّح وجوه القتلى، حتى وَقف على طلحة بن عُبيد الله في بَطن
وادٍ مُتعفّراً فجعل يمسح الغبار عن وجهه وبقول: أعزِزْ علي يا أبا محمد أن أراك
متعفراً تحت نجوم السماء وفي بطون الأودية، إنا لله وإنا إليه راجعون. شَقيت نفسي
وقَتلتُ معشري، إلى اللهّ أشكو عُجَري وبُجري. ثم قال: واللهّ إني لأرجو أن أكون
أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال الله فيهم: " ونَزَعنا ما في صُدورهم
من غِلٍ إخوانَاً عَلَى سُرُرٍ مُتقابِلين " وإذا لم نكن نحن فمَن هم؟ أبو إدريس
عن ليث بن طَلحة عن مُطَرف: أن عليّ بن أبي طالب أجلس طلحةَ يوم الجمل ومَسح
الغُبار عن وجهه وبَكى عليه. ومن حديث سًفيان: أنَ عائشة بنت طلحة كانت ترى في
نَومها طلحةَ، وذلك بعد موته بعشرين يوماً؛ فكان يقول لها: يا بُنية، أخرجيني من
هذا الماء الذي يُؤذيني. فلما انتبهت من نَومها جَمعت أعوانَها ثم نَهضت فنَبشته،
فوجدته صَحيحاً كما دُفنِ لم تَنْحَسر له شعرة، وقد اخضر جَنبه كالسَّلق من الماء
الذي كان يسيل عليه، فلفته في الملاحف واشترت له عَرصة بالبَصرة فدفنته فيها،
وبَنت حوله مسجدا. قال: فلقد رأيتُ المرأة من أهل البَصرة تُقبل بالقارورة من البان فتصبّها
على قبره حتى تُفرغها، فلم يَزلن يَفعلن ذلك حتى صار تراب قَبره مِسْكا أذفر. ومن حديث
الخُشني قال: لما قُتل طلحة بن عُبيد اللهّ يوم الجمل وجدوا في تَركته ثلثمائة
بُهار من ذَهب وفضّة. والبُهار: مِزْود من جلد عِجل. وقع قومٌ في طلحة عند عليّ بن
أبي طالب فقال: أما والله لئن قُلتم فيه إنه لكما قالِ الشاعر:
فتَى كان يُدْنيه
الغِنَى من صَديقه ... إذا ما هو استغنى وُيبعده الفَقْرُ
كأنَ الثّريّا
عُلِّقت في يَمينه ... وفي خَدِّه الشِّعري وفي الآخرَ البَدْر
مقل الزبير بن
العوامشَريك عن الأسود بن قيس قال: حدّثني مَن رأى الزُبير يوم الجمل يَقْعص الخيل
بالرُّمح قَعصا، فنوِّه به علي: أيا عبد اللّه، أتذكر يوماً أتانا النبيُ صلى الله
عليه وسلم وأنا أناجيك فقال: أتناجيه! واللّه ليُقاتلنَك وهو ظالم لك. قال: فصرَف
الزُبير وَجْه دابّته وانصرف. قال أبو الحُسن: لما انحاز الزُّبير يومَ الجمل مر
بماء لبني تَميم، فقيل للأحنف بن قيس: هذا الزُّبير قد أقبل. قال: وما أصنع به أن
جَمع بين هذين الغَزِيَّيْن وتَرك الناس وأقبل - يريد بالغَزييْن المُعسكرين - وفي
مجلسه عمرو بن جُرموز المجاشعيّ، فلما سمع كلامَه قام من مجلسه واتبعه حتى وجده بوادي
الطباع نائماً فقَتله، وأقبل برأسه على عليّ بن أبي طالب. فقال عليّ: أبْشر
بالنار، سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: بشروا قاتل الزّبير بالنار.
فخرج عمرو بن جُرموز وهو يقول:
أتيتُ عليَّا برأس
الزُبير ... وقد كنتُ أحسبها زُلْفَه
فبشِّر بالنار قَبل
العِيان ... فبئس بشارة ذي التّحفه
ومن حديث ابن أبي
شيبة قال: أقبل رجلٌ بسيف الزّبير إلى الحسن بن علي، فقال: لا حاجة
لي به، أدخله إلى أمير المؤمنين. فدخل به إلى عليّ، فناوله إياه وقال: هذا سيفُ
الزّبير. فأخذه عليّ، فنظر إليه مليّا ثم قال: رَحم اللّه الزبير. لطالما فَرَّج
به الكُرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالت امرأة الزبير تَرثيه:
غَدر ابن جُرْموز
بفارس بُهْمةٍ ... يومَ الهِياج وكان غيرَ مُعَدََّدِ
يا عمرو لو نبَّهته
لوجدته ... لا طائشاً رَعِش الْجَنان ولا اليَدْ
ثَكِلْتك أمك أن
قَتلت لمُسلما ... حلت عليك عُقوبة المتعمد
وقال جرير يَنعي على
ابن مُجاشع قتلَ الزبير رضي الله تعالى عنه:
إني تُذكِّرني الزبيرَ
حمامةٌ ... تَدعو ببَطن الواديين هَدِيلا
قالت قُريش ما أذلَّ
مُجاشعاً ... جاراً وأكرمَ ذا القتيلَ قَتيلا
لو كُنتَ حرًّا يا بن
قَين مُجاشعٍ ... شيعت ضَيفك فَرْسخاً أو مِيلاً
أفبعد قَتْلكم خليلَ
محمدٍ ... تَرْجو القُيون مع الرسول سَبِيلا
هشام بن عروة عن أبيه
عن عبد الله بن الزبير قال: دعاني أبي يومَ الجمل فقمتُ عن يمينه، فقال: إنه لا
يُقتل اليوم إلا ظالم أو مظلوم، وما أراني إلا سأقتل مظلوما، وإن أكبر همّي دَيني،
فبع مالي ثم اقض ديني، فإِن فَضل شيء فثُلثه لولدك، وإن عجزتَ عن شيء ما بُني
فاستعِن مولاي. قلت: ومن مولاك يا أبت؟ قال: الله. قال عبدُ الله بن الزبير:
فواللّه ما بقيتُ بعد ذلك في كُربة من دَينه أو عُسرة إلا قلت: يا مولى الزبير،
اقض عنه دينه، فيقضيَه. قال: فقُتل الزبير ونظرتُ في دَينه فإذا هو ألفُ ألف ومائة ألف. قال:
فبِعت ضَيعهً له بالغابة بألف ألف وستمائة ألف، ثم ناديتُ: مَن كان له قِبل الزّبير
شيء فليأتنا نقضِه. فلما قضيتُ دينَه أتاني إخوتي فقالوا: أقسم بيننا ميراثَنا.
قلت: والله لا أقسم حتى أنادي أربعَ سنين بالمَوْسم: من كان له على الزبير شيء
فليأتنا نَقْضِه. قال: فلما مَضت الأربع السنين أخذت الثّلث لولدي، ثم قسمتُ
الباقي. فصار لكل امرأة من نسائه - وكان له أربع نسوة - في ربع الثمن ألف ألف
ومائة ألف. فجميع ما تَرك مائة ألف ألف وسبعمائة ألف ألف. ومن حديث ابن أبي شَيبة
قال: كان علي يُخرج مُناديه يوم الجمل يقول: لا يُسلبن قتيل، ولا يُتْبع مُدْبر،
ولا يجهز على جَريح. قال: وخرج كعب بن ثَور من البصرة قد تقلّد المُصحف في عُنقه، فجعل يَنْشره
بين الصّفين ويُناشد الناس في دِمائهم، إذ أتاه سَهم فقَتله وهو في تلك الحال لا
يدري مَن قتله. وقال في بن أبي طالب يوم الجمل للأشتر، وهو مالك بن الحارث، وكان
الميمنة: أحمل. فحمل، فكَشف من بإزائه. وقال لهاشم بن عُقْبة، أحد بني زُهرة بن
كِلاب، وكان على المَيسرة: احمل. فحمل، فكَشف من بإزائه. فقال علي لأصحابه: كيف رأيتم مَيسرتي ومَيمنتي!
من حديث الجملالخُشني
عن أبي حاتم الجّستاني قال: أنشدني الأصمعي عن رجل شَهد الجملَ يقول:
شهدتُ الحُروب
وشيبنيِ ... فلم تر عيني كيوم الجَملْ
اضرّ على مُؤمنٍ
فِتنةً ... وأفتك منه لِخرْق بَطل
فليت الظّعينةَ في
بيتها ... وليتك عَسكرُ لم تَرْتحل
ابن مُنْيَة وَهبه
لعائشة وجعل له هَوَدجاً من حديد، وجَهز من ماله خَمسمائة فارس بأسلحتهم وأزودتهم.
وكان أكثرَ أهل البصرة مالاً. وكان عليّ بن أبر طالب يقول: بُليت بأنَضّ الناس
وأنطق الناس وأطوع الناس في الناس. يُريد بأنَض الناس: يَعلَى بن مُنْية، وكان
أكثرَ الناس ناضا؛ ويريد بأنطق الناس: طَلحة بن عُبيد الله؛ وأطوع الناس في الناس عائشةَ أم المؤمنين. أبو
بكر بن أبي شيبة عن مَخْلد بن عُبيد الله عن التَّميمي قال: كانت رايةُ علي يومَ
الجمل سوداء، وراية أهل البصرة كالجَمل. الأعمش عن رجل سمّاه قال: كنتُ أرى
عليًّا يومَ الجمل يَحمل فيضرب بسَيفه حتى يَنثني، ثم يَرجع فيقول: لا تلوموني
ولُوموا هذا، ثم يعود ويُقوَمه. ومن حَديث أبي بكر بن أبي شَيبة قال: قال عبد
اللّه بن الزبير: التقيتُ مع الأشتر يوم الجمل، فما ضرَبتُه ضربةً حتى ضَربني خمسة
أو ستة، ثم جَرّ برجلي فألقاني في الخَندق، وقال: والله لولا قُربُك من رسول اللّه
صلى الله عليه وسلم ما اجتمع فيك عُضو إلى آخر. أبو بكر بن أبي شَيبة قال: أعطت
عائشة الذي بَشَّرها بحياة ابن الزُّبير، إذ التقى مع الأشتر يوم الجمل، أربعة
آلاف. سعيدُ عن قَتادة قال: قُتل يوم الجمل مع عائشة عشرون ألفاً، منهم ثمانمائة
من بني ضبة. وقالت عائشةُ: ما أنكرتُ رأس جَملي حتى فقدتُ أصواتَ بني عديّ. وقُتل
من أصحاب عليّ خمسمائة رجل، لم يُعرف منهم إلا عِلْباء بن الهيثم وهِند الجملّي،
قَتلهما ابن اليَثربيّ، وأنشأ يقول:
إِني لِمَن يَجهلني
ابن اليَثرُبي ... قتلتُ عِلْباءَ وهِنْد الجَملي
عبدُ الله بن عَوْن
عن أبي رجَاء قال: لقد رأيت الجَمل حينئذ وهو كظهر القُنفذ من النَبل، ورجلٌ من
بني ضَبًّة أخذ بخُطامه وهو يقول:
نحنُ بنو ضَبَّة
أصحابُ الجملْ ... الموتُ أحلى عندنا من العَسلْ
نَنْعَي ابن عَفان
بأطراف الأسَلْ
غندَر قال: حَدثنا
شعبة بن عمرو بن مُرة قال: سمعت عبد اللّه بن سَلمة، وكان مع في بن أبي طالب يوم
الجمل، والحارثَ بن سُويد، وكان مع طَلحة والزُّبير، وتذاكرا وقعة الجمل، فقال
الحارث بن سُويد: والله ما رأيتُ مثلَ يوم الجمل، لقد أشرعوا رِماحَهم في صُدورنا
وأشرعنا رماحَنا في صُدورهم، ولو شاءت الرجال أن تَمشي عليها لمشت، يقول هؤلاء: لا
إله إلا الله والله أكبر، ويقول هؤلاء: لا إله إلا اللّه والله أكبر، فوالله
لَوددتُ أني لم أشهد ذلك اليوم، وأني أعمى مَقطوعُ اليدين والرِّجلين. وقال عبدُ
الله بن سَلمة: واللّه ما يُسرّني أني غِبْتُ عن ذلك اليوم ولا عن مَشهد شَهِدَه عليّ
بن أبي طالب بحُمر النَّعم. علي بن عاصم عن حُصين قال: حدّثني أبو جُميلة البكّاء
قال: إني لفي الصَف مع علي بن طالب إذ عُقر بأم المُؤمنين جملُها، فرأيتُ محمدَ بن
أبي بكر وعمار بن ياسر يشتدّان بين الصَفين أيهما يَسبق إليها، فقَطعا عارضة
الرّحل واحتملاها في هَودجها. ومن حديث الشَعبي قال: مَن زَعم أنه شهد الجمل من أهل بَدر إلا أربعةٌ، فكذبه، كان عليّ
وعمار في ناحية، وطَلحة والزُبير في ناحية. أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدَثني خالدُ
بن مَخلد عن يعقوب عن جَعفر بن أبي المُغيرة عن ابن أبْزَى قال: انتهى عبد اللّه
بن بُديل إلى عائشة وهي في الهَوْدج، فقال: يا أم المؤمنين، أنشدُك باللهّ،
أتعلمين أني أتيتُكِ يَومَ قُتل عثمان فقلتُ لك: إن عثمان قد قُتل فما تأمرينني
به. فقلتِ لي: الزم عليّا؟ فواللّه ما غير ولا بدَّل. فسكتت. ثم أعاد
عليها. فسكتت. ثلاثَ مرات. فقال: اعقِروا الجَمل، فعَقروه. فنزلتُ أنا وأخوها محمد
بن أبي بكر فاحتملنا الهودَج حتى وَضعناه بين يدي علي، فسُرّ به، فأدخل في منزل
عبد اللّه بن بُديل.
وقالوا: لما كان يومَ
الجَمل ما كان، وظَفِر عليُّ بن أبي طالب دنا من هَودج عائشة، فكلّمها بكلام.
فأجابته: ملكتَ فأسْجع. فجهَّزَها عليّ بأحسن الجِهَاز وبَعث معها أربعين امرأة -
وقال بعضُهم: سبعين امرأة - حتى قَدِمَت المدينة. عكرمةُ عن ابن عباس قال: لما
انقضى أمرُ الجمل دعا علي بن أبي طالب بآجرتين فعلاهما، فَحمد الله وأثنى عليه، ثم
قال: يا أنصارَ المرأة، وأصحابَ البَهيمة، رَغا فجئتُم، وعُقر فهُزمتم، نَزلتم شرَّ
بلاد، أبعدها من السماء، بها مَغيض كل ماء، ولها شرُّ أسماء، هي البَصرة والبُصيرة
والمُؤتفكة وتَدْمر، أين ابن عباس؟ قال: فدُعيت له من كل ناحية، فأقبلت إليه،
فقال: ائت هذه المرأة، فَلْترجع إلى بيتها الذي أمرها الله أن تَقَر فيه. قال:
فجئتُ فاستأذنتُ عليها، فلم تَأذن لي، فدخلتُ بلا إذن ومَددت يدي إلى وِسادة في
البيت فجلستُ عليها. فقالت: تاللّه يا بن عباس ما رأيتُ مثلك! تَدخل بيتَنا بلا إذننا،
وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا. فقلت: واللّه ما هو بيتُكِ، ولا بيتُكِ إلا الذي
أمرك اللّه أن تَقرِّي فيه فلم تَفعلي، إن أمير المؤمنين يأمرك أن تَرجعي إلى بلدك
الذي خرجتِ منه. قالت: رحم اللّه أميرَ المؤمنين، ذاك عمرُ بن الخطّاب. قلتُ: نعم،
وهذا أميرُ المؤمنين عليُّ بن أبي طالب. قالت: أبيتُ أبيت. قلت: ما كان إباوك إلا فُوَاقَ ناقة بكيئة، ثم صرتِ
ما تُحْلِينَ ولا تُمرِّين، ولا تَأمرين ولا تَنْهين. قال: فبكت حتى علا نشيجًها.
ثم قالت: نعم، أرجعُ؛ فإن أبغض البلدان إلي بلدٌ أنتم فيه. قلت: أما
واللّه ما كان ذلك جزاؤُنا منك إذ جَعلناك للمُؤمنين أمًّا، وجعلنا أباك لهم
صِدِّيقاً. قال: أتمُنُّ فيَ برسول الله يا بن عباس؟ قلتُ: نعم، نمنّ عليك بمن لو
كان منكِ بمنزلته منَا لمننتِ به علينا. قال ابن عبّاس: فأتيتُ عليًّا فأخبرتُه، فقبّل بين عينيَّ، وقال: بأبي ذريَّة بعضا من
بعض واللّه سميع عليم. ومن حديث ابن أبي شَيبة عن ابن فًضيل عن عَطاء بن السائب:
أن قاضيا من قُضاة أهل الشام أتى عمرَ بن الخطاب، فقال: يا أميرَ المؤمنين، رأيتُ
رؤيا أفْظعتني. قال: وما رأيتَ؟ قال: رأيتُ الشمس والقمر يَقتتلان والنجومَ معهما
نصفين. قال: فمع أيهما كنتَ؟ قال: مِع القمر على الشمس. قال عمرُ بن الخطاب:
" وجَعَلنا اللَيْلَ والنهارَ آيتَيْن فَمَحَوْنا آية الفَيْل وجَعلنا آيةَ
النَّهار مُبْصِرَة " فانطلِقْ، فوالله لا تَعمل لي عملاً أبداً. قال: فبلغني
أنه قُتل مع مُعاوية بصفين. أبو بكر بن أبي شَيبة قال: أقبل سُليمان بن صرُد، وكانت له صُحبة مع
النبي صلى الله عليه وسلم، إلى علي بن أبي طالب بعد وقعة الجمل، فقال له: تنأنأت وتَزحزحت
وتربّصت، فكيف رأيت الله صنَع؟ قال: يا أمير المؤمنين، إنّ الشوط بَطِين، وقد بقي
من الأمور ما تَعرف به عدوك من صَديقك. وكتب عليُّ بن أبي طالب إلى الأشعث بن قيس
بعد الجَمل، وكان والياً لعثمان على أذْرَبيجان: سلامٌ عليك، أما بعد. فلولا هَنات كنّ منك لكنت أنت المُقدم في هذا
الأمر قبل الناس، ولعل أمركَ يحمل بعضُه بعضاً إن اتقيتَ اللّه، وقد كان من بَيعة الناس
إِيَّاي ما قد بَلغك، وقد كان طلحةُ والزبير أولَ من بايعني ثم نَكثا بيعتي من غير
حَدَث ولا سَبب، وأخرجا أمَّ المؤمنين، فساروا إلى البَصرة، وسرتُ إليهِم فيمن
بايعني من المُهاجرين والأنصار، فالتقينا، فدعوتهم إلى أن يَرجعوا إلى ما خَرجوا
منه، فأبوْا، فأبلغتُ في الدُعاء وأحسنتُ في البُقيا، وأمرتُ ألا يُذفّ على جريح
ولا يُتبع مُنهزم ولا يُسلب قَتيل، ومَن ألقى سلاحَه وأغلق بابه فهو آمن. واعلم أن
عملك ليس لك بطُعْمة، إنما هو أمانة في عُنقك، وهو مال من مال اللّه، وأنت من
خُزَاني عليه حتى تُؤديه إليّ إن شاء الله، ولا قُوةَ إلا بالله. فلما بلغ الأشعث كتابُ
عليّ قام فقال: أيها الناس، إن عثمان بن عفان ولّاني أذربيجان فهلك، وقد بقيتْ في
يدي، وقد بايع الناسُ عليًّا وطاعتُنا له واجبة، وقد كان من أمره وأمر عدوّه ما
كان، وهو المأمون على مَن غاب من ذلك المَجْلس، ثم جلس.
قولهم في أصحاب الجمل
أبو بكر بن أبي شَيبة
قال: سُئل علي عن أصحاب الجمل: أمشركون هم؟ قال: من الشّرَك فَروا. قال: فَمنافقون
هم؟ قال: إن المنافقين لا يَذكرون الله إلا قليلاً. قال: فما هم! قال: إخوانُنا
بَغَوْا علينا. ومَر علي بقتلى الجمل فقال: اللهم اغفر لنا ولهم، ومعه محمدُ بن
أبي بكر وعمار بن ياسر، فقال أحدُهما لصاحبه: أما تسمع ما يقول! قال: اسكت لا
يَزيدك. وكيع عن مِسْعَر عن عبد الله بن رَباح عن عمار قال: لا تقولوا: كَفر أهل
الشام، ولكن قُولوا: فَسقوا وظَلموا. وسُئل عمار بن ياسر عن عائشة يوم الجمل فقال:
أما والله إنا لنعلم أنها زوجتُه في الدُنيا والآخرة، ولكنّ اللّه ابتلاكم بها ليعلم
أتتبعونه أم تَتبعونها. وقال عليُّ بن أبي طالب يومَ الجمل: إن قوماً زَعموا أن
البَغي كان منّا عليهم، وزَعمنا انه منهم علينا، وإنما اقتتلنا على البَغي ولم
نقتتل على التَّكفير.
أبو بكر بن أبي شَيبة
قال: أول ما تكلمت به الخوارجُ يومَ الجمل قالوا: ما أحلَّ لنا دماءَهم وحرّم
علينا أموالهم! فقال عليّ: هي السنة في أهل القِبلة. قالوا: ما نَدري ما هذا؟ قال:
فهذه عائشةُ رأس القوم، أتتساهمون عليها! قالوا: سُبحان الله! أمنا. قال: فهي
حَرام؟ قالوا: نعم. قال: فإنه يَحرم من أبنائها ما يَحرم منها. قال:
ودخلتْ أم أوفى العَبْدية على عائشة بعد وَقعه الجمل فقالت لها: يا أمّ المؤمنين،
ما تقولين في امرأةٍ قَتلت ابناً لها صغيراً؟ قالت: وَجبت لها النار. قالت: فما
تقولين في امرأة قتلت من أولادها الأكابر عشرين ألفاً في صَعيد واحد؟ قالت: خُذوا
بيد عدوّة اللّه. وماتت عائشةً في أيام مُعاوية، وقد قاربت السبعين. وقيل لها:
تُدفنين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: لا، إني أحدثت بعده حَدثاً
فادفِنُوني مع إخوتي بالبقيع. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: يا
حُميراء، كأني بك تَنْبحك كِلابُ الحُوّب. تقاتلين علياً وأنت له ظالمة. والحُوب،
بضم الحاء وتثقيل الواو، وقد زَعموا أن الحُوَّب ماء في في طريق البصرة. قال في
ذلك بعضُ الشيعة:
إني أدينُ بحُب آل
محمدٍ ... وبَني الوَصيّ شهودِهم والغُيبِ
وأنا البريء من
الزُّبير وطَلحة ... ومِن التي نَبحت كلابُ الحُوّب
أخبار علي ومعاوية
كتب عليّ بن أبي طالب
إلى جرير بن عبد الله، وكان وجهّه إلى مُعاوية في أخذ بيعته، فأقام عنده ثلاثة
أشهر يُماطله بالبيعة، فكتب إليه عليّ: سلام عليك، فإذا أتاك كتابي هذا فَاحمل
مُعاوية على الفَصل، وخَيَره بين حرب مَجْلية، أو سَلم مَحظية. فإن اختار الحربَ
فانبذ إليهم على سواء إن اللّه لا يُحب الخائنين، وإن اختار السلم فخُذ بَيعته
وأقبل إلي. وكتب عليّ إلى معاوية بعد وقعة الجمل: سلام عليك. أما بعد. فإن بَيعتي
بالمدينة لزمتْك وأنت بالشام، لأنه بايعني الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على
ما بويعوا عليه. فلم يكن للشاهد أنْ يختار ولا للغائب أن يردّ، وإنما الشُورى
للمهاجرين والأنصار، فإذا اجتمعوا على رجل وسمّوه إماماً كان ذلك للّه رضاً، وإن
خَرج عن أمرهم خارجٌ ردّوه إلى ما خَرج عنه؛ فإن أبى قاتلوه على أتباعه غيرَ سبيل
المؤمنين، وولّاه اللّه ما تولّى وأصلاه جهنم وساءت مَصيراً. وإن طلحةَ والزُبير
بايعاني ثم نَقضا بيعتهما، وكانَ نَقضُهما كردَتهما، فجاهدتُهما بعد ما أعذرت
إليهما، حتى جاء الحقُّ وظَهر أمرُ الله وهم كارهون. فادخُل فيما دَخل فيه
المسلمون، فإنَ أحب الأمور إليّ قَبولُك العافية. وقد أكثرتَ في قتلة عثمان، فإن
أنت رجعتَ عن رأيك وخلافك ودخلتَ فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكَمت القوْمَ إلي،
حملتُك وإياهم على كتاب الله. وأما تلك التي تُرِيدها فهي خُدعة الصّبي عن اللبن.
ولَعمي لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنَي أبرأ قُريش من دم عثمان. واعلم أنك من
الطُّلقاء الذين لا تَحل لهم الخلافة ولا يدخلون في الشُّورى، وقد بعثتُ إليك وإلى
مَن قبلك جَريرَ بن عبد اللّه، وهو من أهل الإيمان والهِجرة، فبايعْه ولا قُوة إلا
باللهّ. فكَتب إليه معاوية: سلام عليك. أما بعد، فلَعمري لو بايعك الذين ذكرتَ
وأنت بريء من دم عثمان لكنتَ كأبي بكر وعمر وعثمان، ولكنَك أغريتَ بدم عثمان وخَذلت
الأنصار، فأطاعك الجاهلُ، وقوي بك الضعيف. وقد أبي أهلُ الشام إلا قتالَك حتى
تَدفع إليهم قتلَة عثمان، فإن فعلتَ كانت شورى بين المسلمين. وإنما كان الحجازيون
هم الحكام على الناس والحق فيهم، فلما فارقوه كان الحُكَام على الناس أهلُ الشام.
ولَعمري مَا حُجَّتك على أهل الشام كحجتك على أهل البَصرة، ولا حُجَّتك عليّ
كحُجتك على طلحة والزُّبير، إن كانا بايعاك فلم أبايعك أنا. فأما فضلك في الإسلام
وقرابتُك من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فلسْتُ أدفعه. فكتب إليه عليٌّ: أما
بعد. فقد أتانا كتابُك، كتابُ امرىء ليس له بصرٌ يهديه ولا قائد يُرشده، دعاه
الهوى فأجابه، وقاده فاتبعه. زعمتَ أنك إنما أفسد عليك بَيعتي خُفُوري لعثمان. ولَعمري
ما كنتُ إلا رجلاً من المهاجرين أوردت كما أوردوا، وأصدرتُ كما أصدروا. وما كان
اللّه ليجمعهم على ضَلالة ولا ليضربهم بالعَمى. وما أمرتُ فلزمَتْني خَطيئةُ
الأمر، ولا قتلتُ فأخاف على نَفسي قِصاص القاتل. وأما قولُك إن أهل الشام هم حُكام
أهل الحجاز. فهات رجلاً من أهل الشام يُقبَل في الشورى أو تحلّ له الخلافة، فإن
سَمَّيتَ كَذَّبك المهاجرون والأنصار. ونحن نأتيك به من أهل الحجاز. وأما قولُك: ادفعِ إليّ قتلة عثمان. فما
أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان، وهم أولى بذلك منك. فإن زعمت أنك أقوى على طلب دم عثمان
منه، فارجع إلى البيعة التي لزمتْك وحاكم القومَ إليّ. وأما تمييزك بين أهل الشام
والبَصرة، وبينك وبين طلحة والزبير. فلعمري ما الأمر هناك إلا واحد، لأنها بيعة
عامة لا يتأتىّ فيها النظر ولا يُستأنف فيها الخيار. وأما قرابتي من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقِدمِي في الإسلام،
فلو استَطعت دفعَه لدفَعتَه. وكتب معاويةُ إلى علي: أما بعد. فإِنك قتلتَ ناصرَك،
واستنصرت واترَك. فوايم الله لأرْمينّك بشهاب تُزكيه الريح ولا يُطفئه الماء. فإذا
وقع وَقب، وإذا مسّ ثَقب، فلا تحسبَنّي كسُحيم أو عبد القيس أو حُلوان الكاهن.
فأجابه عليّ: أما بعد. فواللّه ما قَتل ابن عمّك غيرُك! أني أرجو أن ألحقك به على
مثل ذَنبه وأعظِم من خطيئته. وإن السيف الذي ضربتُ به أهلَك لمعي دائم. واللهّ ما
استحدثْت ذنباً، ولا استبدلت نبيّا، وإني على المِنْهاج الذي تركتُموه طائعين،
وأدخلتم فيه كارهين. وكتب معاوية إلى علي بن أبي طالب: أما بعد. فإن
اللّه اصطفى محمداً وجعله
الأمين علَى وحيه، والرسول إلى خَلقه، واختار له من المسلمين أعواناً أيّده بهم،
وكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائِلهم في الإسلام، فكان أفضلَهم في الإسلام
وأنصحَهم لله ولرسوله الخليفةُ، وخليفةُ الخليفة، والخليَفة الثالث، فكلّهم
حسدْتَ، وعلى كُلهم بَغيتَ. عَرفنا ذلك في نظرك الشَزْر، وتنفُسك الصُعداء،
وإبطائك على الخُلفاء، وأنت في كل ذلك تُقاد كما يُقاد البعير المَخْشوش، حتى
تُبايع وأنت كاره. ولم تكن لأحد منهم أشدَّ حسداً منك لابن عمك عثمان، وكان
أحقَّهم أن لا تفعل ذلك في قَرابته وصِهْره. فقطعتَ رحمه، وقبَّحت محاسنه، وألَّبت
عليه الناس، حتى ضُربت إليه آباطُ الإبل، وشُهر عليه السلاح في حَرم الرسول، فقُتل
معك في المحلّة وأنت تسمعِ في داره الهائعة، لا تُؤَدّي عن نفسك في أمره بقَوْلِ
ولا فعل برّ. أقسم قسماً صادقاً لو قصتَ في أمره مقاماً واحداً تنهينّ الناس عنه
ما عَدل بك ممن قَبِلنا من الناس أحد ولمَحا ذلك عنك ما كانوا يَعرفونك به من المجانبة
لعثمان، فهم بطانتك وعَضدك وأنصارك. فقد بَلغني أنك تَنتفي من دمه، فإن كنت صادقاً
فادفع إلينا قتلَته نَقتلهم به، ثم نحن أسرعُ الناس إليك، وإلا فليس لك ولا
لأصحابك عندنا إلا الصيف. والذي نفسُ معاوية بيده لأطلبنَّ قتلةَ عثمان في الجبال
والرّمال والبَرّ والبَحر حتى نقتلهم أو تَلحقَ أرواحُنا بالله. فأجابه عليّ: أما
بعد. فإِنّ أخا خَوْلان قَدِم علي بكتاب منك تَذكر فيه محمداً صلى الله عليه وسلم
وما أنعم اللّه به عليه من الهُدى والوَحْي. فالحمدُ للهّ الذي صَدقه الوعد،
وتَمَّم له النصر، ومكّنه في البلاد، وأظهره على الأعادي من قومه، الذين أظهروا له
التَّكذيب، ونابذوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه، وألَبوا عليه
العرب، وحَزّبوا الأحزاب، حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون. وذكرتَ أن اللهّ
اختار من المسلمين أعوانَاً أيّده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر فضائلهم في
الإسلام، فكان أفضلَهم في الإسلام وأنصحَه للّه ولرسوله الخليفةُ من بعده. ولعمري
إن كان مكانُهما في الإسلام لعظيما، وإن كان المُصاب بهما لجُرْحا في الإسلام
شديداً، فرحمهما اللّه وغَفر لهما. وذكرتَ أن عثمان كان في الفَضل ثالثاً، فإنْ
كان مُحسناً فسيلقىِ رباً شكوراً يُضاعف له الحسنات ويَجزيه الثوابَ العظيم، وإن
يك مُسيئاً فسيلقى رباً غفوراً، لا يَتعاظمه ذنبٌ يغفره. ولعمري إني لأرجو إذا
اللّه أعطى الأسْهم أن يكون سَهْمُنا أهلَ البيت أوفَر نصيب. وايم اللّه، ما رأيتُ
ولا سمعتُ بأحد كان أنصحَ لله ورسوله، ولا أنصحَ لرسول اللهّ في طاعة اللّه، ولا
أصبر على البلاء والأذى في مواطن الخوف، مِن هؤلاء النفر من أهل بيته، الذي قُتلوا
في طاعة اللّه: عُبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أُحد، وجعفر
وزيد يوم مُؤتة. وفي المهاجرين خير كثير، جزاهم اللّه بأحسن أعمالهم. وذكرتَ
إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبَغي عليهم. فأما البغي، فمعاذَ اللّه أن يكون.
وأما الكَراهة لهم، فواللّه ما اعتذر للناس من ذلك. وذكرتَ بَغْيي على عثمان وقَطْعي رحمه، فقد عمل عثمان بما قد علمتَ،
وعَمل به الناسُ ما قد بلغك. فقد علمتَ أني كنتُ من أمره في عُزلة، إلا أن تجنَّى،
فتجنَ ما شئتَ وأما ذِكْرك قَتلةَ عثمان وما سألتَ من دفعهم إليك، فإني نظرتُ في
هذا الأمر وضربت أنفَه وعَينَه، فلم يَسعني دَفْعهُم إليك ولا إلى غيرك، وإن لم
تَنْزع عن غَيك لنعرفنك عما قليل يطلبونك ولا يكلفونك أن تَطلبهم في سَهل ولا
جَبل، ولا بَرّ ولا بحر. وقد كان أبوك أبو سفيان أتاني حين قُبض رسولُ اللّه صلى
الله عليه وسلم فقال. ابسط يدَك أبايعك، فأنت أحقُّ الناس بهذا الأمر. فكنتُ أنا
الذي أبيت عليه مخافةَ الفُرقة بين المسلمين، لقُرب عهد الناس بالكفر. فأبوك كان
أعلَمَ بحقَي منك، وإن تعرف من حقَي ما كان أبوك يعرفه تُصِب رشْدك، وإلا فنَستعين
الله عليك. وكتب عبدُ الرحمن بن الحكم إلى معاوية:ه اصطفى محمداً وجعله الأمين
علَى وحيه، والرسول إلى خَلقه، واختار له من المسلمين أعواناً أيّده بهم، وكانوا
في منازلهم عنده على قدر فضائِلهم في الإسلام، فكان أفضلَهم في الإسلام وأنصحَهم
لله ولرسوله الخليفةُ، وخليفةُ الخليفة، والخليَفة الثالث، فكلّهم حسدْتَ، وعلى
كُلهم بَغيتَ. عَرفنا ذلك في نظرك الشَزْر، وتنفُسك الصُعداء، وإبطائك على
الخُلفاء، وأنت في كل ذلك تُقاد كما يُقاد البعير المَخْشوش، حتى تُبايع وأنت
كاره. ولم تكن لأحد منهم أشدَّ حسداً منك لابن عمك عثمان، وكان أحقَّهم أن لا تفعل
ذلك في قَرابته وصِهْره. فقطعتَ رحمه، وقبَّحت محاسنه، وألَّبت عليه الناس، حتى
ضُربت إليه آباطُ الإبل، وشُهر عليه السلاح في حَرم الرسول، فقُتل معك في المحلّة
وأنت تسمعِ في داره الهائعة، لا تُؤَدّي عن نفسك في أمره بقَوْلِ ولا فعل برّ.
أقسم قسماً صادقاً لو قصتَ في أمره مقاماً واحداً تنهينّ الناس عنه ما عَدل بك ممن
قَبِلنا من الناس أحد ولمَحا ذلك عنك ما كانوا يَعرفونك به من المجانبة لعثمان،
فهم بطانتك وعَضدك وأنصارك. فقد بَلغني أنك تَنتفي من دمه، فإن كنت صادقاً فادفع
إلينا قتلَته نَقتلهم به، ثم نحن أسرعُ الناس إليك، وإلا فليس لك ولا لأصحابك
عندنا إلا الصيف. والذي نفسُ معاوية بيده لأطلبنَّ قتلةَ عثمان في الجبال والرّمال
والبَرّ والبَحر حتى نقتلهم أو تَلحقَ أرواحُنا بالله. فأجابه عليّ: أما بعد.
فإِنّ أخا خَوْلان قَدِم علي بكتاب منك تَذكر فيه محمداً صلى الله عليه وسلم وما
أنعم اللّه به عليه من الهُدى والوَحْي. فالحمدُ للهّ الذي صَدقه الوعد، وتَمَّم
له النصر، ومكّنه في البلاد، وأظهره على الأعادي من قومه، الذين أظهروا له
التَّكذيب، ونابذوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه، وألَبوا عليه
العرب، وحَزّبوا الأحزاب، حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون. وذكرتَ أن
اللهّ اختار من المسلمين أعوانَاً أيّده بهم، فكانوا في منازلهم عنده على قدر
فضائلهم في الإسلام، فكان أفضلَهم في الإسلام وأنصحَه للّه ولرسوله الخليفةُ من بعده.
ولعمري إن كان مكانُهما في الإسلام لعظيما، وإن كان المُصاب بهما لجُرْحا في
الإسلام شديداً، فرحمهما اللّه وغَفر لهما. وذكرتَ أن عثمان كان في الفَضل ثالثاً،
فإنْ كان مُحسناً فسيلقىِ رباً شكوراً يُضاعف له الحسنات ويَجزيه الثوابَ العظيم،
وإن يك مُسيئاً فسيلقى رباً غفوراً، لا يَتعاظمه ذنبٌ يغفره. ولعمري إني لأرجو إذا
اللّه أعطى الأسْهم أن يكون سَهْمُنا أهلَ البيت أوفَر نصيب. وايم اللّه، ما رأيتُ
ولا سمعتُ بأحد كان أنصحَ لله ورسوله، ولا أنصحَ لرسول اللهّ في طاعة اللّه، ولا
أصبر على البلاء والأذى في مواطن الخوف، مِن هؤلاء النفر من أهل بيته، الذي قُتلوا
في طاعة اللّه: عُبيدة بن الحارث يوم بدر، وحمزة بن عبد المطلب يوم أُحد، وجعفر
وزيد يوم مُؤتة. وفي المهاجرين خير كثير، جزاهم اللّه بأحسن أعمالهم. وذكرتَ
إبطائي عن الخلفاء وحسدي إياهم والبَغي عليهم. فأما البغي، فمعاذَ اللّه أن يكون.
وأما الكَراهة لهم، فواللّه ما اعتذر للناس من ذلك. وذكرتَ بَغْيي على عثمان
وقَطْعي رحمه، فقد عمل عثمان بما قد علمتَ، وعَمل به الناسُ ما قد بلغك. فقد علمتَ
أني كنتُ من أمره في عُزلة، إلا أن تجنَّى، فتجنَ ما شئتَ وأما ذِكْرك قَتلةَ
عثمان وما سألتَ من دفعهم إليك، فإني نظرتُ في هذا الأمر وضربت أنفَه وعَينَه، فلم
يَسعني دَفْعهُم إليك ولا إلى غيرك، وإن لم تَنْزع عن غَيك لنعرفنك عما قليل
يطلبونك ولا يكلفونك أن تَطلبهم في سَهل ولا جَبل، ولا بَرّ ولا بحر. وقد كان أبوك
أبو سفيان أتاني حين قُبض رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فقال. ابسط يدَك أبايعك،
فأنت أحقُّ الناس بهذا الأمر. فكنتُ أنا الذي أبيت عليه مخافةَ الفُرقة بين المسلمين،
لقُرب عهد الناس بالكفر. فأبوك كان أعلَمَ بحقَي منك، وإن تعرف من حقَي ما كان
أبوك يعرفه تُصِب رشْدك، وإلا فنَستعين الله عليك. وكتب عبدُ الرحمن بن الحكم إلى
معاوية:
ألا أبْلغ مُعاويةَ
بنَ حَرْب ... كتاباً من أخِي ثِقَةٍ يَلومُ
فإنَك والكتابَ إلى
علَيٍّ ... كدابغةٍ وقد حَلِم الأدِيم
يوم صفينأبو بكر بن
أبي شَيبة قال: خَرج عليُ بن أبي طالب من الكُوفة إلى معاوية في خمسة وتسعين
ألفاً، وخرج مُعاوية من الشام في بضع وثمانين ألفاً، فالتقوا بصفِّين. وكان عسكر
علي يُسمَى الزَّحزحة، لشدة حَركته، وعسكرُ معاوية يسمى الخُضْرية، لاسوداده
بالسلاح والدروع. وأبو الحسن قال: كانت أيامُ صِفّين كلّها موافقَة، ولم تكن
هَزيمة بين الفريقين إلا على حامية ثم يكرون. أبو الحسن قال: كان مُنادي على يخرج
كل يوم وينادي: أيها الناس، لا تُجهزُنّ على جريح، ولا تَتبعُنَّ موِلِّياً، ولا
تَسلبنّ قتيلا، ومن ألقى سلاحه فهو آمن. أبو الحسن قال: خرج معاوية إلى عليٍّ يوم
صفّين، ولم يُبايعه أهلُ الشام بالخلافة، وإنما بايعوه عَلَى نُصرة عثمان والطلب
بدمه. فلما كان من أمر الحَكَمين ما كان، بايعوه بالخلافة. فكتب معاويةُ إلي
سعد بن أبي وقاص يدعوه إلى القيام معه في دم عثمان: سلام عليك: أما بعد. فإن أحقَّ
الناس بنُصرة عثمان أهلُ الشُّورى من قُريش، الذين اثبتوا حقَّه، واختاروِه عَلَى
غيره، ونُصرةِ طلحة والزبير، وهما شريكاك في الأمر، ونظيراك في الإسلام. وخفّت
لذلك أم المؤمنين، فلا تَكره ما رضوا، ولا تَردّ ما قبلوا، وإنما نريد أن نردّها
شورى بين المسلمين. والسلام.
فأجابه سعد: أما بعد.
فإن عُمَر رضي الله عنه لم يُدخل في الشورى إلا مَن تَحِل له الخلافة، فلم يكن أحد
أولى بها من صاحبه إلا باجتماعنا عليه. غَير أنَ عليًّا كان في ما فينا، ولم يكن
فينا ما فيه، ولو لم يطلبها ولزم بيتَه لطلَبتْه العربُ ولو بأقصى اليمن. وهذا
الأمر قد كرهنا أولَه وكَرِهنا آخره. وأما طلحة والزُّبير فلو لزما بيوتَهما لكان
خيراً لهما. واللّه يَغفر لأم المؤمنين ما أتتْ. وكتب معاوية إلى قيس بن سعد بن
عُبادة: أما بعد. فإنما أنت يهوديّ ابن يهوديّ، إن ظَفر أحبُّ الفريقين إليك عَزلك
واستبدل بك، وإن ظَفر أبغضُ الفريقين إليك قَتلك ونَكّل بك. وقد كان أبوك أوترَ
قوسَه ورَمى غرضَه، فأكثر الحزَّ وأخطأ المَفْصِل، فخذله قومُه، وأدركه يومهُ، ثم
مات طريداً بحَوْران.
فأجابه قيس: أما بعد.
فأنت وثنيّ ابن وثنيّ. دخلتَ في الإسلام كُرهاً، وخرجتَ منه طوعاً، لم يَقْدُم إيمانك،
ولم يحذَر نفاقك. ونحن أنصارُ الدين الذي خرجتَ منه، وأعداء الدين الذي دخلتَ فيه.
والسلام.
وخطب عليُ بن أبي
طالب أصحابَه يوم صِفّين فقال: أيها الناس، إنَّ الموتَ طالبٌ لا يُعجزه هارب، ولا
يفوته مُقيم، أقْدِموا ولا تَنْكُلوا، فليس عن الموتِ مَحيص. والذي نفسُ ابن أبي
طالب بيده، إن ضَربة سيف أهونُ من مَوت الفِراش.
أيها الناس، اتقوا
السيوفَ بوجُوهكم، والرماح بصُدوركم، ومَوعدي وإياكم الرايةُ الحمراء.
فقال رجلٌ من أهل
العراق: ما رأيتُ كاليوم خطيباً يَخْطبنا! يأمرنا أن نَتقي السيوفَ بوجُوهنا،
والرماحَ بصُدورنا، ويَعدنا رايةً بيننا وبينها مائةُ ألف سيف.
قال أبو عُبيدة في
التاج: جَمعِ عليُّ بن أبي طالب رياسةَ بكر كُلٌها يوم صِفين لحُضين بن المُنذر بن
الحارث بن وعْلة، وجعل ألويتها تحت لوائه، وكانت له رايةً سوداء يَخْفِق ظِلُّها
إذا أقبل، فلم يُغن أحد في صِفين غَناءه. فقال فيه عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه:
لمن رايةً سَواءُ
يَخْفِق ظِلَّها ... إذ قِيل قدَّمها حُضينُ تَقدمَا ُ
يقدَمُها في الصفِّ
حتى يُزِيرَها ... حياضَ المَنايا تَقْطُر السَمَّ والدَّما
جَزى اللّه عنّي
والجزاءُ بكَفَّه ... ربيعة خيراً ما أعفَّ وأكرما
وكان من هَمْدان في
صِفين حُسن. فقال فيهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
لهمدان أخلاقٌ ودينٌ
يزينهم ... وبأسٌ إذا لاقَوْا وحُسْن كلام
فلو كُنتُ بوِّاباً
على باب جَنَّة ... لقلتُ لهمدان ادخُلوا بسَلام
أبو الحسن قال: كان
فيُ بن أبي طالب يَخرج كلّ غداة لصفّين في سرًعان الخيل فيقف بين الصفين ثم ينادي:
يا معاوية، علامَ يقتتل الناس؟ ابرُز إلي وأبْرز إليك فيكون الأمرُ لمن غَلب. فقال
له عمرو بن العاص: أنصفك الرجلُ. فقال له معاوية: أردتَها يا عمرو، والله لا رضيتُ
عنك حتى تُبارز عليَّا. فبرز إليه متنكّرأ، فلما غَشيه علي بالسَّيف رمى بنفسه إلى
الأرض وأبدى له سوأته، فضرب عليَّ وجهَ فَرسه وانصرف عنه. فجلس معه معاوية يوماً
فنظر إليه فضحك. فقال عمرو: أضحك الله سِنَّك، ما الذي أضحكك؟ قال: من حُضور ذهنك يوم
بارزتَ عليًّا إذ اتّقيتَه بعَورتك. أما واللهّ لقد صادفتَ منّاناً كريماً، ولولا
ذلك لَخَرم رَفغَيك بالرُمح. قال عمرو بن العاص: أما واللّه إني عن يمينك إذ دعاك
إلى البِراز فأحولت عيناك، ورَبا لسَحْرُك، وبدأ منك ما أكره ذِكرَه لك. وذكر عمرو
بن العاصي عند علي بن أبي طالب، فقال فيه عليّ: عجباً لابن النابغة! يزعم أنّي
بلقائه أعافِس وأمارِس، أنىّ وشَرُّ القول أكذبُه، إنه يَسأل فيُلحف، ويسأل
فيَبخل. فإذا أحمرّ البأس، وحَمِي الوطيس، وأخذت السيوفُ مأخذها من هام الرجال. لم
يكن له هتٌم إلا نَزْعُه ثيابه، وَيمنح الناس استه، أغَضه الله وتَرحَه.
مقتل عمار بن ياسرالعُتبي
قال: لما التقى الناس بصفٌين نَظَر معاويةُ إلى هاشم بن عُتبة الذي يقال له:
المِرْقال، لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: أرَّقَل لِيَمون. وكان أعورَ،
والرايةُ بيده، وهو يقول.
أعور يَبغي نَفْسَه
محلاَّ ... قد عالَجِ الحياةَ حتى مَلاّ
لا بُد أن يَفُل أو
يُفلا
فقال معاويةُ لعمرو
بن العاص: يا عمرو، هذا المر قال، واللهّ لئن زَحف بالراية زَحْفاً إنه ليومُ أهل
الشام الأطْول. ولكني أرى ابن السوداء إلى جنبه، يعني عماراً، وفيه عَجلة في
الحرب، وأرجو أن تُقدمه إلى الهَلكة. وجعل عمار يقول: أبا عتبة، تقدّم. فيقول: يا
أبا اليقظان، أنا أعلم بالحَرْب منك، دَعني أزْحف بالراية زَحْفاً. فلما أضجره
وتقدم، أرسل معاويةُ خيلاً فاختطفوا عماراً، فكان يُسمَي أهلً الشام قتلَ عمار
فَتحَ الفُتوح. أبو بكر بن أبي شيبة: عن يزيد بن هارون عن العوّام بن حَوْشب عن
أسود بن مسعود عن حَنْظلة بن خُويلد قال: إني لجالس عند مُعاوية إذ أتاه رجلاًن
يَختصمان في رأس عمار، كل واحد منهما يقول: أنا قتلتُه. فقال لهما عبدُ اللهّ بن
عمرو بن العاص: لِيَطِبْ به أحدُكما نفساً لصاحبه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول له: تقتلك الفئة الباغية. أبو بكر بن أبي عشيبة عن ابن عُلَية عن ابن
عَون عن الحسن عن أم سَلَمة قالت: سمعتُ رسولَ اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:
تقتل عماراً الفئةُ الباغية. أبو بكر قال: حدَثنا عليُّ بن حَفص عن أبي مَعشر عن
محمد بن عُمارة قال: ما زال جَدّي خزيمة بن ثابت كافًّا سلاحَه يوم صِفَين حتى
قُتل عمّار، فلما قُتل سًلّ سيفَه وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: تَقتل عمَّاراً الفئةُ
الباغية. فما زال يُقاتل حتى قُتل. أبو بكر عن غُنْدَر عن شُعبة عن عمرِو بن
مُرة عن عبد اللّه بن سَلَملَمة قال: رأيتُ عمِّاراً يومَ صِفين شيخاً آدم طُوالا أخذاً
الحربةَ بيده، ويدهُ ترعد، وهو يقول: والذي نفسي بيده، لقد قاتلتُ بهذه الحَرْبة
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مرات وهذه الرابعة. والذي
نفسي بيده لو ضرَبونا حتِى يبلغوا بنا سَعفات هَجر لعرفتُ أنّا على حق وأنهم على
باطل. ثم جعل يقول: صبراَ عبادَ اللّه، الجنةُ تحت ظلال السيوف. أبو بكر بن أبي
شَيبة عن وَكيع عن سُفيان عن حَبيب عن أبي البحتريّ قال: لما كان يوم صِفين واشتدت
الحربُ دعا عمَار بشَربة لبن وشَربها وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: إن آخر شرَبة تَشربها من
الدنيا شربةُ لبن. أبو ذَرْ عن محمد بن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عن جَدَته
أم سَلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما بَنى رسولُ اللّه صلى الله عليه
وسلم مسجدَه بالمدينة أمر باللَّبِن يُضرب وما يُحتاج إليه، ثم قام رسولُ اللّه
صلى الله عليه وسلم فوَضع رداءه، فلما رأى ذلك الهاجرون والأنصار وضعوا أرديتهم
وأكسيتهم يرتجزون ويقولون ويعملون:
لئن قَعدنا والنبيّ
يَعملُ ... ذاك إذاً لعملٌ مُضلّلُ
قالت: وكان
عثمان بن عفان رجلاً نظيفاً مُتنظِّفاً، فكان يَحمل اللَّبنة ويُجافي بها عن ثوبه،
فإذا وَضعها نفض كفّيه ونظَرَ إلى ثوبه، فإذا أصابه شيء من التراب نَفَضه. فنظر
إليه علي رضي اللّه عنه فأنشده:
لا يَستوي مَن يَعمُر
المساجدا ... يَدْأبُ فيها راكعاً وساجدَا
وقائماً طَوْراً
وطوْراً قاعدَا ... ومَن يُرى عن التَّراب حائدَا
فسمعها عمَّارُ بن
ياسر فجعل يَرتجزها وهو لا يدري من يعني. فَسمعه عثمانُ، فقال: يا بن
سُميَّة، ما أعْرَفني بمَن تُعَرِّض، ومعه جريدة، فقال: لتكفّن أو لأعترضنَ بها
وجهَك. فسمعه النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظِل حائط، فقال: عمَّار جِلْدة
ما بين عَينيّ وأنفي، فمن بَلغ ذلك منه فقد بلغ مني، وأشار بيده فوَضعها بين
عينيه. فكفَّ الناسُ عن ذلك، وقالوا لعمّار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد
غَضب فيك ونخاف أن ينزل فينا قرآن. فقال: أنا أرْضيه كما غضب. فأقبل عليه فقال: يا رسول اللّه، مالي ولأصحابك؟
قال: وما لك ولهم؟ قال: يريدون قَتلي، يَحمِلون لبِنة ويَحملون على
لَبِنتين. فأخذ به وطاف به في المسجِد، وجعل يمسح وجهه من التراب ويقول: يا بن سُميّة.
لا يَقتنك أصحابي، ولكن تَقتلك الفئةُ الباغية. فلما قُتل بصفّين ورَوى هذا
الحديثَ عبدُ اللّه بن عمرو بن العاص، قال معاوية: هم قتلوه لأنهم أخرجوه إلى
القتل. فلما بلغ ذلك عليًّا قال: ونحن قَتلنا أيضاً حمزة لأنا أخرجناه.
من حرب صفينأبو الحسن
قال: كانت أيامُ صِفّين كُلها مُوافقةً، ولم تكن هزيمة في أحد الفريقين إلا على
حامية ثم يَكرون. أبو بكر بن أبي شَيبة قال: انفضت وقعة صفّين عن سَبعين ألف
قَتيل، خمسين ألفاً من أهل الشام، وعشرين ألفاً من أهل العراق. ولما انصرف الناس
من صِفّين قال عمرو بن العاص:
شَبًت الحربُ فأعددتُ
لها ... مُشْرِف الحارك مَحْبوك الثَّبَجْ
يصِل الشرّ بشّر فإذا
... وَثب الخيلُ من الشرّ مَعَج
جُرْشُع أعظَمُه
جُفْرته ... فإذا ابتل من الماء خَرج
وقال عبدُ اللّه بن
عمرو بن العاص:
فإن شهدتْ جُمْلٌ
مَقامي ومَشْهدي ... بصفّين يوماً شاب منها الذوائبُ
عشيّةَ جا أهلُ
العراق كأنّهم ... سَحابُ خريف صَفَفَتْه الجَنائبُ
إذا قلتُ قد وَلّوا
سراعاً بدت لنا ... كتائبُ منهم وارْجَحَنت كتائب
فدارت رَحانا
وِاستدارت رَحاهُم ... سراةَ النّهار ما تُولّى المَناكب
وقالوا لنا إنا نرى
أن تُبايعوا ... عليًّا فقُلنا بل نَرى أن تُضاربوا
وقال السّيد الحميري،
وهو رأس الشيعة، وكانت الشَيعة مِن تعظيمها له تلقي له وساداً بمسجِد الكوفة:
إنّي أدينُ بما دان
الوصيُّ به ... وشاركتْ كَفُّه كفّي بصفِّينَا
في سَفْك ما سَفكت
منها إذا احتّضروا ... وأبرز اللهّ لِلقسْط المَوازينا
تلك الدِّماء معاً يا
ربّ في عُنقِي ... ثم اسقني مِثلها آمين أمينا
آمين مِن مِثلهم في
مِثل حالهمُ ... في فِتية هاجَروا في اللهّ شارِينا
ليسوا يُريدون غيرَ
اللهّ ربّهمُ ... نِعْم المُراد توخّاه المُريدونا
وقال النّجاشي يوم
صِفين، وكتب بها إلى معاوية:
يِا أيها الملك
المّبْدي عداوتَه ... انظر لنفسك أيّ الأمر تَأتَمِرُ
فإن نفَسْتَ على
الأقوام مَجْدَهم ... فابسُط يَديك فإنّ الخيرَ مُبْتَدر
واعلم بأنّ علي الخير
مِن نَفر ... شُمِّ العَرانين لا يَعْلوهم بَشَر
نِعْمَ الفتى أنت
إلّا أنِّ بينكما ... كَما تَفاضل ضوءُ الشّمس والقمر
وما إخالك إلا لستَ
مُنْتهياً ... حتى ينالَك من أظفاره ظُفر
خبر عمرو بن العاص مع
معاوية
سُفيان بن عُيينةَ
قالت: أخبرني أبو موسى الأشعري قال: أخبرني الحسنُ قال: عَلم معاوية والله إن لم
يبايعه عمرو لن يَتم له أمر، فقال له: يا عمرو، اتبعني. قال: لماذا؟ للآخرة؟ فواللّهِ ما مَعك آخرة، أم للدُنيا؟ فواللّه لا
كان حتى أكونَ شريكَك فيها. قال: فأنت شريكي فيها. قال: فاكتُب لي مصرَ وكُوَرها.
فكتب له مصرَ وكُورها، وكتب في آخرً الكتاب: وعِلى عمرٍ و السمعُ والطاعة. قال
عمرو: واكتب: إن السمع والطاعة لا يَنْقصان من شرْطه شيئاً. قال
مُعاوية: لا ينظر الناس إلى هذا. قال عمرو: حتى تكتب. قال: فكتب، واللّه ما يجد بدّاً
من كتابتها. ودخل عتبةُ بن أبي سفيان على معاوية وهو يكلّمُ عمراً في مصر، وعمرو
يقول له: إنما أبايعك بها ديني. فقال عُتبة: ائتمِنِ الرجل بدينه فإِنه صاحبٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وكتب عمرو إلى معاوية:
مُعاويَ لا أُعطيك
دِيني ولم أنلْ ... به منك دُنيا، فانظرَنْ كيف تَصنَعُ؟
وما الدينُ والدُنيا
سواءٌ وإنني ... لآخُذ ما تُعطي ورَأسي مُقَنع
فإن تُعطني مصراً
فأرْبَحُ صَفْقة ... أخذتَ بها شيخاً يَضُر ويَنْفَع
وقالوا: لما
قَدِم عمرو بن العاص على معاوية وقام معه في شأن عليّ، بعد أن جعل له مصر طُعمة،
قال له: إن بأرضك رجلاً له شرَف واسم، واللّه إنْ قام معك استهويتَ به قلوبَ
الرجال، وهو عُبادة بن الصامت. فأرسل إليه معاوية. فلما أتاه وَسّع له بينه وبين
عمرو بن العاص، فَجَلس بينهما. فحَمد اللّهَ معاوية وأثَنى عليه، وذكر فضلَ عُبادة
وسابقَته، وذكر فضلَ عُثمان وما ناله، وحضّه على القيام معه. فقال عُبادة: قد
سمعتُ ماِ قلتَ، أتدريانِ لمَ جلستُ بينكما في مكانكما؟ قالا: نعم، لفضلك وسابقتك
وشرفك. قال: لا واللّه، ما جلستُ بينكما لذلك، وما كنتُ لأجلس بينكما في مكانكما،
ولكن بينما نحن نسير مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في غَزاة تَبوك إذ نظر إليكما
تسيران، وأنتما تتحدثان، فالتفت إلينا فقال: إذا رأيتموهما اجتمعا ففرقوا بينهما،
فإنهما لا يجتمعان على خير أبداً. وأنا أنها كما عن اجتماعكما. فأما ما دعوتماني
إليه من القيام معكما، فإن لكما عدواً هو أغلظ أعدائكما، وأنا كامنٌ من ورائكم في
ذلك العدوّ، إن اجتمعتم على شيء دخلتُ فيه.
أمر الحكمين
أبو الحسن قال: لما
كان يوم الهرير، وهو أعظم يوم بصفّين، زَحف أهلُ العراق على أهل الشام فأزالوهم عن
مراكزهم، حتى انتهوا إلى سُرادق معاوية، فدعا بالفَرس وهمّ بالهزيمة، ثم التفت إلى
عمرو بن العاص، وقال له: ما عندك؟ قال: تَأمر بالمصاحف فتُرفَع في أطراف الرّماح،
ويقال: هذا كتابُ اللّه يحكم بيننا وبينكم. فلما نظر أهلُ العراق إلى المصاحف
ارتدوا واختلفوا، وقال بعضُهم: نحاكمهم إلى كتاب اللهّ. وقال بعضهم: لا نحاكمهم،
لأنا على يقين من أمرِنا ولسنا على شك. ثم أجمع رأيهُم على التحكيم. فهمّ عليّ أن
يُقدم أبا الأسود الدّؤلي، فأبى الناس عليه. فقال له ابن عباس: اجعلني أحدَ الْحَكمين، فواللّه لأفتلنّ لك حبلاً
لا ينقطع وسطُه ولا يُنشر طرفاه. فقال له عليّ: لستَ من كيدك ولاحت كيد معاوية في
شيء، لا أعطيه إلا السيف حتى يَغلبه الحق. قال: وهو واللّه لا يُعطيك إلا السيف
حتى يَغلبك الباطل. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنك تُطاع اليوم وتُعصى غداً، وإنه يُطاع
ولا يُعصى. فلما انتشر عن عليّ أصحابُه قال: للّه بلاءُ ابن عباس، إنه لينظر إلى
الغَيب بستر رَقيق. قال: ثم اجتمع أصحابُ البرانس، وهِم وجُوه أصحاب عليّ، على أن
يقدّموا أبا موسى الأشعري، وكان مُبرنساً، وقالوا: لا نرضى بغيره، فقدَّمه عليِّ.
وقدَم معاويةُ عمرو بن العاص. فقال مُعاوية لعمرو: إنكَ قد رُميتَ برَجل طويل
الِّلسان قصير الرأي فلا تَرْمه بعَقلك كلِّه. فأخليَ لهما مكان يجتمعان فيه،
فأمهله عمرو بن العاص ثلاثةَ أيام، ثم أقبل إليه بأنواع من الطعام يشهيِّه بها،
حتى إذا استبطن أبو موسى ناجاه عمرو، فقال له: يا أبا موسىَ، إنك شيخ أصحاب محمد
صلى الله عليه وسلم وذو فضْلها وذو سابقتها، وقد تَرى ما وَقعتْ فيه هذه الُأمة من
الفُتنة العَمياء التي لا بقاءَ معها، فهل لك أن تكونَ ميمون هذه الأمة فَيَحْقِن
الله بك دِماءَها، فإنه يقول في نفس واحدة: " ومَن أحْياها فكأنما أحْيا
الناسَ جَميعاً " ، فكيف بمن أحيا أنفُسَ هذا الخلقِ كلّه! قال له:
وكيف ذلك؟ قال: تَخلع أنت عليّ بن أبي طالب، وأخلع أنا معاويةَ بن أبي سُفيان،
ونختار لهذه الأمة رجلاً لم يَحضُرْ في شيء من الفتنة، ولم يَغمِس يده فيها. قال
له: ومَن يكون ذلك؟ وكان عمرو بن العاص قد فَهِم رأي أبي موسى في عبد اللّه بن
عُمر، فقال له: عبدُ اللهّ بن عمر. فقال: إنه لكما ذكرت، ولكن كيف لي بالوثيقةِ
منك؟ فقال له: يا أبا موسى، ألا بذِكْرِ اللّهِ تطمئنُّ القلوب، خُذ من العُهود
والمواثيق حتى ترضى. ثم لم يُبق عمروِ بنُ العاص عَهداً ولا مَوْثقاً ولا يَميناً
مُؤكَدة حتى حلف بها، حتى بَقيَ الشيخُ مَبهوتاً، وقال له: قد أحببتُ. فنُودي في
الناس بالاجتماع إليهما، فاجتمعوا. فقال له عمرو: قُم فاخطب الناسَ يا أبا موسى.
فقال: قُم أنت أخطبهم. فقال: سبحان اللّه! أنا أتقدّمك وأنت شيخ أصحابِ رسولِ
اللّه صلى الله عليه وسلم، والله لا فعلتُ أبداً! قال: أو عسى في نفسك أمر؟ فزاده أيمانَاً
وتوكيداً. حتى قام الشيخ فخطب الناس، فَحَمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها
الناس، إني قد اجتمعتُ أنا وصاحبي على أن أخلعَ أنا علي بن أبي طالب ويعزلَ هو
معاويةَ بن أبي سفيان، ونجعل هذا الأمر لعبد اللّه بن عمر، فإنه لم يَحضُرْ في
فتنة، ولم يَغْمِس يده في دم امرىء مسلم. ألا وإني قد خلعتً عليَّ بن أبي طالب كما
أختلع سيفي هذا، ثم خلع سيفه من عاتقه، وجلس، وقال لعمرو: قُم. فقام عمرو بن العاص
فحَمد اللهّ وأثنى عليه، وقال: أيها الناس، إِنه كان من رأي صاحبي ما قد سمعتم، وانه قد أشهدكم أنه
خَلعَ عليَّ بن أبي طالب كما يخلع سيفَه، وأنا أُشهدكم أني قد أثبت معاوية بن أبي سفيان
كما أُثبت سيفي هذا، وكان قد خَلع سيفَه قبل أن يقومَ إلى الخطبة، فأعاده على
نفسه. فاضطرب الناسُ، وخرجت الخوارج. وقال أبو موسى لعمرو: لعنك الله! فإنّ مثلَك
كمثل الكلب إن تحمِلْ عليه يَلهثْ أو تتركه يَلْهث. قال عمرو: لَعنك اللّه! فإنّ
مثلك كمثل الحِمار يحمل أسفاراً. وخرٍ ج أبو موسى من فَوره ذلك إلى مكةَ مُستعيذاً
بها من عليّ، وحلف أن لا يكلمه أبدا. فأقام بمكة حيناً حتى كتب إليه معاوية: سلامٌ عليك، أما بعد، فلو كانت
النيّة تدفع الخطأ لنجا المُجتهد وأعذر الطالب، والحقّ لمن نَصب له
فأصابه، وليس لمن
عَرض له فأخطأ. وقد كان الحكمان إذ حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما، وقد
اختاره القومُ عليك، فاكره منهم ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام فإني خيرٌ لك من
عليّ، ولا قوة إلا باللّه. فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك، أما بعد، فإني لم يكن منّي في عليّ إلا ما كان من عمرو
فيك، غير أني أردتُ بما صنعتُ ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك. وقد كان بيني وبينه
شروط وشُورى عن تراض، فلما رجع عمرو رجعتُ. أما قولك: إن الحكمين إذا حكما على رجل
لم يكن له الخيار عليهما. فإنما ذلك في الشاة والبعير والدّينار والدِّرهم. فأما
أمر هذه الأمة، فليس لأحد فيما يَكره حُكم، ولن يُذهب الحقَّ عجزُ عاجز ولا خُدعة
فاجر. وأما دعاؤك إياي إلى الشام، فليس لي رغبة عن حَرم إبراهيم. فبلغ عليّاً
كتابُ معاوية إلى أبي موسى الأشعري فكتب إليه: سلام عليك، أمّا بعد. فإنك امرؤ
ظلمك الهوى واستدرجك الغًرور، حقّق بك حُسنَ الظن لزومُك بيتَ اللّه الحرام غير
حاجّ ولا قاطن، فاستَقِل اللهّ يُقِلك؟ فإن اللّهَ يَغفر ولا يغفل، وأحبَّ عباده
إليه التوابون. وكتبه سماك بن حَرب. فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك. فإنه واللّه
لولا أني خشيتُ أن يَرفعك مني منعُ الجواب إلى أعظم ممَّا في نفسك لم أُجبك، لأنه ليس
لي عندك عُذر ينفعني ولا قُوّة تمنعني. وأما قولك " ولزومي بيت اللهّ الحرام
غير حاجِ ولا قاطن " فإني اعتزلت أهلَ الشام، وانقطعت عن أهل العراق، وأصبت
أقواماً صغّروا من ذنبي ما عظَمتم، وعظموا من حقَي ما صغّرتم، إذ لم يكن لي منكم
وليّ ولا نصير. وكان علي بن أبي طالب إذ وجه الحَكمان قال لهما: إنما حُكْمنا كما
بكتاب الله، فُتحْييان ما أحيا القرآن، وتُميتان ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص
لأبي موسى اضطربَ الناس على عليّ واختلفوا، وخرجت الخوارج، وقالوا: لا حُكم إلا
الله، فَجعل عليّ يتمثل بهذه الأبيات:فأصابه، وليس لمن عَرض له فأخطأ. وقد كان
الحكمان إذ حكما على عليّ لم يكن له الخيار عليهما، وقد اختاره القومُ عليك، فاكره
منهم ما كرهوا منك، وأقبل إلى الشام فإني خيرٌ لك من عليّ، ولا قوة إلا باللّه.
فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك، أما بعد، فإني لم يكن منّي في عليّ إلا ما كان من
عمرو فيك، غير أني أردتُ بما صنعتُ ما عند الله، وأراد به عمرو ما عندك. وقد كان
بيني وبينه شروط وشُورى عن تراض، فلما رجع عمرو رجعتُ. أما قولك: إن الحكمين إذا
حكما على رجل لم يكن له الخيار عليهما. فإنما ذلك في الشاة والبعير والدّينار والدِّرهم. فأما أمر هذه الأمة،
فليس لأحد فيما يَكره حُكم، ولن يُذهب الحقَّ عجزُ عاجز ولا خُدعة فاجر. وأما دعاؤك
إياي إلى الشام، فليس لي رغبة عن حَرم إبراهيم. فبلغ عليّاً كتابُ معاوية إلى أبي
موسى الأشعري فكتب إليه: سلام عليك، أمّا بعد. فإنك امرؤ ظلمك الهوى واستدرجك
الغًرور، حقّق بك حُسنَ الظن لزومُك بيتَ اللّه الحرام غير حاجّ ولا قاطن،
فاستَقِل اللهّ يُقِلك؟ فإن اللّهَ يَغفر ولا يغفل، وأحبَّ عباده إليه التوابون.
وكتبه سماك بن حَرب. فكتب إليه أبو موسى: سلامٌ عليك. فإنه واللّه لولا أني خشيتُ أن يَرفعك مني منعُ الجواب
إلى أعظم ممَّا في نفسك لم أُجبك، لأنه ليس لي عندك عُذر ينفعني ولا قُوّة تمنعني.
وأما قولك " ولزومي بيت اللهّ الحرام غير حاجِ ولا قاطن " فإني اعتزلت
أهلَ الشام، وانقطعت عن أهل العراق، وأصبت أقواماً صغّروا من ذنبي ما عظَمتم،
وعظموا من حقَي ما صغّرتم، إذ لم يكن لي منكم وليّ ولا نصير. وكان علي
بن أبي طالب إذ وجه الحَكمان قال لهما: إنما حُكْمنا كما بكتاب الله، فُتحْييان ما
أحيا القرآن، وتُميتان ما أمات. فلما كاد عمرو بن العاص لأبي موسى اضطربَ الناس
على عليّ واختلفوا، وخرجت الخوارج، وقالوا: لا حُكم إلا الله، فَجعل عليّ يتمثل
بهذه الأبيات:
لِي زلّة إليكمُ
فأعتذرْ ... سوف أكيس بعدها وأنشَمِرْ
وأجْمع الأمر الشَتيت
المنتَشِرْ
أبو الحسن قال: لما
قَدِمَ أبو الأسود الدؤلي على معاوية عامَ الجماعة، قال له معاوية: بلغني يا أبا
الأسود أن علي بن أبي طالب أراد أن يَجعلك أحد الحَكمين، فما كنتَ تحكم به؟ قال:
لو جعلني أحدهما لجمعتُ ألفاً من المهاجرين وأبناء المهاجرين، وألفاً من الأنصار
وأبناء الأنصار، ثم ناشدتُهم اللهّ: المُهاجرين وأبناء المهاجرين أولى بهذا الأمر
أم الطلقاء؟ قال له معاويةُ: لله أبوك! أي حَكم كنتَ تكون لو حكَمت!
احتجاج علي وأهل بيته
في الحكمينأبو الحسن قال: لما انقضى أمرُ الحَكمين واختلف أصحابُ عليّ قال بعض
الناس: ما مَنع أميرَ المؤمنين أن يأمر بعضَ أهل بيته فيتكلّم، فإنه لم يبق أحدٌ
من رؤساء العرب إلا وقد تكلّم. قال: فبينما علي يوماً على المِنبر إذ التفت إلى
الحسن ابنه فقال: قُم يا حسن فقل في هذين الرجلين: عبد اللّه بن قيس وعمرو بن
العاص. فقام الحسن فقال: أيها الناس، إنكم قد أكثرتم في هذين الرجلين، وإنما
بُعِثا ليحكما بالكتاب على الهوى، فَحكما بالهَوى على الكتاب. ومَن كان هكذا لم
يُسَم حَكَماً، ولكنه مَحكوم عليه. وقد أخطأ عبدُ الله بن قيس إذ جعلها لعبدِ الله
بن عُمر، فأخطأ في ثلاث خصال: واحدة، أنه خالف أباه، إذ لم يَرضه لها، ولا جعله من
أهل الشُورى؛ وأخرى، أنه لم يستأمره في نفسه؛ وثالثة، أنه لم يَجتمع عليه المهاجرون
والأنصار الذين يعقدون الِإمارة ويحكمون بها على الناس. وأما الحكومة، فقد حَكم
النبيّ عليه الصلاةُ والسلام سعدَ بن مُعاذ في بني قُريظة، فحَكم بما يُرضي اللهّ
به ولا شكّ، ولو خالف لم يَرضه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم، ثم جلس. فقال لعبد
اللهّ بن عبّاس: قُمِ. فقال عبدُ اللهّ بن عبّاس، بعد أن حَمِد اللهّ وأثنى عليه:
أيها الناس، إنّ للحق أهلا أصابوه بالتوفيق، فالناسُ بين راض به وراغب عنه، فإنه
بَعث عبدَ اللهّ بن قَيس بًهدًى إلى ضلالة، وبَعث عمرو بن العَاص بضَلالًة إلى
هُدًى، فلما التقيا رَجع عبدُ اللّه بن قَيس عن هُداه وثَبت عمرو على ضلاله. وايم اللّه،
لئن كانا حَكما بما سارا به، لقد سار عبدُ اللّه وعليّ إمامه، وسار عمرو ومعاوية
إمامه، فما بعد هذا من عَيب يُنتظر؟ فقال عليّ لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب:
قُم. فقام فَحمد اللهّ وأثنَى عليه، وقال: أيها الناس، إنّ هذا الأمر كان النظر
فيه إلى عليّ، والرّضا إلى غيره. فَجئتم إلى عبد اللهّ بن قَيسِ مُبرنساً فقلتم:
لا نَرضى إلا به. وايم اللهّ، ما استفدنا به عِلماً، ولا انتظر نامنه غائباَ، وما
نَعرفه صاحباً. وما أفسدا بما فعلا أهلَ العراق، وما أصلحا أهل الشام، ولا وَضعا
حق عليّ، ولا رفعا باطل معاوية، ولا يُذهب الحق رُقية راق، ولا نَفَحة شيطان، ونحن
اليوم على ما كُنّا عليه أمس.
احتجاج عليّ على أهل
النهروان
قالواٍ: إنّ عليَّا
لما اختلف عليه أهلُ النهروان والقُرى وأصحابُ البَرانس، ونَزلوا قريةً يقال لها
حَرُ وراء، وذلك بعدَ وَقعَة الجمل، فرجع إليهم عليُّ بن أبي طالب فقال لهم: يا
هؤلاء، مَن زعيمُكم؟ قالوا: ابن الكَوًاء. قال: فَليَبرُز إليَّ. فَخرج إليه ابنُ الكَوَاء، فقال له عليّ: يا بن الكَوَّاء،
ما أخرجَكم علينا بعد رضاكم بالحَكمين، ومُقامكم بالكوفة؛ قال: قاتلت بنا
عدواً لا نشك في جِهاده، فزعمتَ أن قتلانا في الجنة وقَتلاهم في النار، فبينما نحن
كذلك إذ أرسلتَ منافقاً، وحكّمت كافراً، وكان مما شَكك في أمر الله أن قُلت للقوم
حين دعوتَهم: كتابُ الله بيني وبينكم، فإن قَضى فيَ بايعتُكم، وإن قَضى عليكم
بايعتُموني. فلولا شكُك لم تَفعل هذا والحق في يدك. فقال عليّ: يا بن الكوّاء،
إنما الجوابُ بعد الفراغ، أفرَضتَ فأُجيبك؟ قالت: نعم. قال عليّ: أما قتالك معي
عدوّاً لا نشكّ في جِهاده، فصدقْتَ، ولو شككتُ فيهم لم أُقاتلهم. وأما قَتلانا
وقَتلاهم، فقد قال اللهّ في ذلك ما يُستغنى به عن قولي؛ وأما إرسالي المُنافق
وتَحْكيمي الكافر، فأنت أرسلتَ أبا موسى مُبَرْنَساً، ومعاوية حَكّم عَمْراً، أتيت
بأبي موسى مُبرنساً، فقلت: لا نَرضى إلا أبا موسى، فهلا قام إليِّ رجل منكم فقال:
يا عليّ، لا نُعطَى هذه الدنيّة فإنها ضلالة. وأما قولي لمعاوية: إن تجَرَّني إليك
كتابُ اللّهِ تَبعْتُك، وإنْ جَرَّك إليً تبعتَنِي. زعمتَ أني لم أعط ذلك إلّا من
شكٍّ، فقد علمتُ أنِّ أوثق ما في يدك هذا الأمر، فحدَّثني ويحك عن اليهوديِّ
والنِّصرانيِّ ومُشركي العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاوية وأهل الشام؟ قال:
بل معاوية وأهل الشام أقرب قال عليّ: أفر سولُ الله صلى الله عليه وسلم كان أوثقَ بما في يديه من كتاب
اللهّ أو أنا؟ قال: بل رسولُ اللّه. قال: فرأيتَ اللّهَ تبارك وتعالى حين يقول: " قُلْ فَأتُوا بِكِتَاب مِن عِند اللّهِ هًو أهْدَى منهُما أتَبعْه إنْ
كُنتم صادِقين " أمَا كان رسولُ اللّه يَعلم أنَهً لا يُؤتى بكتاب هو أهدى مما
في يَديه؟ قال: بلى. قال: فلِمَ أعطى رسولُ اللّه القومَ ما أعطاهم؟ قال: إنصافاً
وحُجة قال: فإني أعطيت القومَ ما أعطاهم رسوِلُ اللّه. قال ابنُ الكوَاء: فإني
اخطأتُ، هذه واحدة، زدْني. قال عليّ: فما أعظمُ ما نقمتم عَلَيَّ؟ قال: تحْكيم
الحَكَمين، نظرنا في أمرنا فوجدنا تحكيمَهما شكاًّ وتَبْذيراً. قال عليّ: فمتى
سُمِّي أبو موسى حَكَماً: حين أُرسل، أو حين حَكَم؟ قال: حين أُرسل. قال: أليس قد
سار وهو مُسلم، وأنتَ ترجو أن يَحكم بما أنزل الله؟ قال: نعم. قال عليّ: فلا أرى
الضلالَ في إرساله. فقال ابنُ الكوَاء: سمَي حَكَماً حين حَكَمٍ. قال: نعم، إذاً
فإرسالُه كان عَدْلاً. أرأيتَ يا بن الكوَاء لو أنّ رسولَ اللّه بَعث مُؤمنا إلى
قوم مُشركين يدعوهم إلى كتاب الله، فارتدَ على عَقبه كافراً، كان يَضرٌّ نبيَّ اللّه
شيئاً؟ قال. لا. قال عليّ: فما كان ذَنبي أن كان أبو موسى ضَلَّ، هل رضيتُ حكومته
حين حَكم، أو قولَه إذ قال؟ قال ابن الكوَاء: لا، ولكنَك جعلتَ مُسلماً وكافراً
يحَكمان في كتاب الله. قال عي: ويلك يا بن الكوَاء! هل بَعث عَمْراً غيرُ معاوية، وكيف أُحكَمُه وحُكْمه على ضرَب عُنقي؟
إنما رَضي به صاحبهُ كما رضيتَ أنت بصاحبك، وقد يَجتمع المؤمن والكافر يحكمان في أمر
الله. أرأيتَ لو أنّ رجلاً مؤمناً تزوَج يهوديًة أو نصرانية فَخافا شِقاقاً
بينهما، ففَزع الناسُ إلى كتاب الله، وفي كتابِه " فابْعثُوا حَكَماً مِن
أهلهِ وحَكَماً مِن أهلِها " فَجاء رجلٌ من اليَهود أو رجل من النَّصارى ورجل
من المُسلمين الذين يجوز لهما أن يحكما في كتاب الله، فَحَكَما قال ابن
الكَوَّاء: وهذه
أيضاً، أمهِلنا حتى ننظر. فانصرفَ عنهم عليّ. فقال له صَعصَعة بن صُوحان: يا أمير
المؤمنين، ائذن لي في كلام القوة. قال: نعم، ما لم تَبْسط يداً. قال: فنادى
صَعصعةُ ابنَ الكَوَّاء، فَخَرج إليه، فقال: أنْشُدكم باللّه يا معشرَ الخارجين
ألّا تكونوا عاراً على مَن يَغزو لغيره، وألاّ تَخْرجوا بأرض تُسمّوا بها بعد
اليوم، ولا تَستعجلوا ضلالَ العام خشيةَ ضلال عامٍ قابل. فقال له ابنُ الكَوَّاء:
إنَ صاحبك لقينا بأمرٍ قولُك فيه صغير، فامسك.ً قالوا: إنّ عليّاً خرج بعد ذلك إليهم
فَخَرج إليه ابنُ الكوَّاء، فقال له عليّ: يا بن الكوَاء، إنه مَن أذنب في هذا
الدِّين ذَنباً يكوِن في الإسلام حَدَثاً استتبناه من ذلك الذنب بعَينه، وإن
توَبتك أن تَعرف هُدى ما خرجتَ منه وضلالَ ما دخلتَ فيه. قال ابن الكوَّاء: إننا لا ننكر أنا قد فًتِنّا. فقال له عبدُ اللّه
بن عمرو بن جُرموز: أدرَكْنا والله هذه الآية " ألم.أحَسِبَ الناسُ أن يُتْرَكُوا
أن يَقولوا آمَنَّا وهُم لا يُفتَنون " وكان عبدُ الله من قُرّاء أهل
حَرُوراء، فرجعوا فصلّوا خلفَ عليّ الظهرِ، وانصرفوا معه إلى الكوفة، ثم اختلفوا
بعد ذلك في رَجعتهمِ، ولامَ بعضهم بعضاَ. فقال زيدُ بن عبد الله الرَّاسبي، وكان
منِ أهل حَروراء، يُشككُهم:
شَكَكتم ومن أرسى
ثبيراً مكانَه ... ولو لم تَشُكُّوا ما أنثنيتم عن الحَرْب
وتَحْكيمكم عَمراً
على غير تَوْبةٍ ... وكان لعبد اللّه خَطْباً من الخطْبَ
فأنكَصَه للعَقْبِ
لما خلا به ... فأصبح يَهوْى من ذُرى حالقٍ صَعْب
وقال الرَياحي:
ألم تَر أنّ اللّه
أنزل حُكمَه ... وعَمْرٌ و وعبدُ اللّه مُخْتلفانِ
وقال مُسلم بن يزيد
الثقفي، وكان من عُبَّاد حَرُوراء:
إن كان ما عِبْناه
عَيْباً فحسبُنا ... خَطايا بأخْذ النّصح من غير ناصِح
َإن كان عَيْباً
فاعظمنَّ بتَركنا ... عليّاً على أمرٍ من الحقِّ واضح
نحنُ أُناسٌ بين بين
وعَلَّنا ... سُررنا بأمرٍ غبه غيرُ صالح
ثم خرجوا عَلَى علي
فقتلهم بالنهروان.
خروج عبد اللّه بن
عباس على عليّ
قال أبو بكر بن أبي
شيبة: كان عبدُ الله بن عباس مِن أحبّ الناس إِلى عمر بن الخطاب، وكان يُقدّمه على
الأكابر من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يَستعمله قط، فقال له يوماً: كِدت
استعملك ولكن أخشى أن تستحل الفيء على التأويل. فلما صار الأمرُ إلى عليّ استعمله
على البصرة. فاستحل الفيء على تأويل قول الله تعالى " وَاعْلَمُوا أنّ ما
غنِمْتُمْ مِنْ شيءَ فأن لِلّهِ خُمْسَه وللرسولِ وَلذِي القُرْبى " واستحلّه
من قَرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورَوى أبو مِخْنف عن سُليمان بن أبي
راشد عن عبد الرحمن بن عُبيد قال: مَرَّ ابن عباس على أبي الأسود الدُؤلي فقال له:
لو كنتَ من البهائم لكنتَ جَملاً، ولو كنتَ راعياً ما بلغت المَرعى. فكَتب أبو
الأسود إلى علي: أما بعد. فإِن الله جَعلك والياً مُؤتمناً، وراعياً مسؤولاً، وقد بَلوناك،
رحمك الله، فوجدناك عظيمَ الأمانة، ناصحاً للأمة، تُوَفّر لهم فَيئَهم، وتَكفّ
نفسك عن دُنياهم، فلا تأكلُ أموالهم، ولا تَرتشي بشيء في أحكامهم. وابنُ عمّك قد
أكل ما تحت يديه من غير عِلْمك، فلم يَسَعْني كتمانُك ذلك. فانظر، رحمك اللّه،
فيما هنالك، وأكتب إليَّ برأيك، فما أحببتَ أتبعه إن شاء اللّه. والسلام. فكتب
إليه عليّ: أما بعد. فمثلُك نَصح الإمام والأمة، ووالَى على الحق، وفارق الْجَوْر.
وقد كتبتُ لصاحبك بما كتبتَ إلي فيه، ولم أُعلمْه بكتابك إلي. فلا تدع إعلامي ما
يكون بِحضرتك مما النظرُ فيه للأمة صلاح، فإنّك بذلك جَدير، وهو حق واجب للّه عليك. والسلام.
وكتب عليّ إلى ابن عبِّاس: أما بعد. فإنه قد بلغني عنك أمرٌ إن كنتَ فعلتَه فقد
أسخطتَ الله، وأخرَبتَ أمانتك، وعَصيتَ إمامك، وخنتَ المسلمين. بلغني أنك خَرّبت
الأرض، وأكلت ما تحت يدك. فارفعْ إلي حسابك، واعلم أنّ حسابَ الله أعظم من حساب
الناس. والسلام. وكتب إليه ابنُ عباس: أما بعد. فإنّ كلَّ الذي بلغك باطلٌ، وأنا لِمَا تحت يدي ضابط، وعليه
حافظ، فلا تُصَدَق عليً الظنين. فكتب إليه عليّ: أما بعد. فإنه لا يَسعني تَرْكُك
حتى تُعلمني ما أخذتَ من الجزْية من أين أخذتَه، وما وضَعتَ منها أين وضعته.
فاتَّقِ الله فيما ائتمنتُك عليه واسترعيتُك إياه،ٍ فإن المَتاع بما أنت رازمُه
قليل، وتَبِعاتُه وبيلة لا تَبيد. والسلام. فلما رأى أن عليا غيرُ مُقلع عنه، كتب
إليه: أما بعد. فإنه بَلغني تعظيمُك عليََّ مَرْزِئة مالٍ بلغك أني رزأتُه أهلَ
هذه البلاد. وايم الله، لأنْ ألقى الله بما في بَطن هذه الأرض من عِقيانها
ومخبئها، وبما على ظهرها من طِلاعها ذَهباً، أحب إليً من أن ألقي اللّه وقد سَفكتُ
دماء هذه الأمة لأنالَ بذلك المُلك والإمرة. ابعث إلى عملك مَن أحبيْتَ فإني
ظاعنٌ. والسلام. فلما أراد عبدُ الله المسيرَ من البَصرة دعا أخوالَه بني هلال بن
عامر بن صَعصعة ليمنعوه. فَجاء الضحاك بنِ عبد الله الهِلاليُ فأجاره، ومعه رجل
منهم يقال له: عبدُ الله بن رَزين. وكان شجاعاً بَئيساً، فقالت بنو هلال: لا غنى
بنا عن هَوازن. فقالت هوازن: لا غنى بنا عن بني سُليم. ثم أتتهم قَيس. فلما رأى اجتماعَهم
له حَمل ما كان في بيت مال البَصرة، وكان فيما زعموا ستة آلاف ألف، فَجعله في
الغرائر. قال: فحدثني الأزرق اليَشكريُ، قال: سمعنا أشياخَنا من أهل البَصرة
قالوا: لما وَضع المالَ في الغرائر ثم مَضى به، تَبِعَتْه الأخْماس كلها بالطَّف،
على أربع فراسخِ من البَصرة، فوافقوه. فقالت لهِم قَيسِ: واللّه لا تصلوا إليه ومنا عين تطْرف. فقال ضمْرة،
وكان رأسَ الأزد: والله إنَ قيساَ لإخوتُنا في الإسلام، - وجيرانُنا في الدار، وأعواننا
على العدوّ. إن الذي تَذهبون به المال، لو رُدَ عليكم لكان نصيبُكم منه الأقلّ،
وهم خيرٌ لكم من المال. قالوا: فما ترى؟ قال: انصرفوا عنهم. فقالت بكرُ بن وائل
وعبدُ القَيس: نِعمَ الرَّأي رَأي ضَمْرة، واعتزلوهم. فقالت بنو تميم: واللهّ لا
نُفارقهم حتى نقاتلَهم عليه. فقال الأحْنَفُ بن قَيس: أنتم والله أحق ألاّ
تقاتلوهم عليه، وقد تَرك قتالَهم مَن هو أبعد منكم رَحِماً. قالوا: والله
لنُقاتلنّهم. فقال: واللهّ لا نعاونكم على قتالهم، وانصرف عنهم. فقدم عليهم ابن
المُجاعة فقاتَلهم. فحمَل عليه الضحاكُ ابن عبد الله فَطعنه في كَتفه فصَرَعه،
فسقط
إلى الأرض بغير قَتل.
وحَمَل سَلمة بن ذُؤيب السَّعدي على الضّحاك فصرعه أيضاً، وكثرُت بينهم الجراح من
غير قَتل. فقال الأخْماسُ الذين - اعتزلوا: والله ما صنعتم شيْئاً. اعتزلتم قتالهم
وتركتموهم يَتشاجرون. فجاءوا حتى صرَفوا وجوه بَعضهم عن بعض، وقالوا لبني تميم:
والله إن هذا اللُؤم قَبيح، لنحن أسخى أنفساً منكم حين تركنا أموالَنا لبني عمكم،
وأنتم تقاتلونهم عليها، خلوا عنهم وأرواحهم، فإن القومَ فُدحوا. فانصرفوا عنهم،
ومَضى معه ناسٌ من قَيس، فيهم الضّحاك بن عبد اللّه وعبدُ اللّه بن رَزين، حتى
قدموا الحجازَ، فنزل مكةَ، فَجعل راجزٌ لعبد اللّه بن عبّاس يسوق له في الطريق
ويقول:لى الأرض بغير قَتل. وحَمَل سَلمة بن ذُؤيب السَّعدي على الضّحاك فصرعه
أيضاً، وكثرُت بينهم الجراح من غير قَتل. فقال الأخْماسُ الذين - اعتزلوا: والله ما
صنعتم شيْئاً. اعتزلتم قتالهم وتركتموهم يَتشاجرون. فجاءوا حتى صرَفوا وجوه بَعضهم
عن بعض، وقالوا لبني تميم: والله إن هذا اللُؤم قَبيح، لنحن أسخى أنفساً منكم حين
تركنا أموالَنا لبني عمكم، وأنتم تقاتلونهم عليها، خلوا عنهم وأرواحهم، فإن القومَ
فُدحوا. فانصرفوا عنهم، ومَضى معه ناسٌ من قَيس، فيهم الضّحاك بن عبد اللّه وعبدُ
اللّه بن رَزين، حتى قدموا الحجازَ، فنزل مكةَ، فَجعل راجزٌ لعبد اللّه بن عبّاس
يسوق له في الطريق ويقول:
صَبّحتُ من كاظمةَ
القَصرَ الخَرِبْ ... مع ابن عبّاس بن عبد المُطّلبْ
وجعل ابن عبّاس يرتجز
ويقول:
آوِي إلى أهلِك يِا
رَباب ... آوِي فقد حان لكِ الإيابُ
وجعلِ أيضاً يرتجز
ويقول:
وهُنّ يمشين بناء.
هميساً ... إنْ يصْدُق الطَّيرُ نَنِك لَميسَا
فقيل له: يا أبا
العبّاس، أمِثلك يَرْفث في هذا الموضع؟ قال: إنما الرفث ما يقال عند النّساء. قال
أبو محمد: فلما نزل مكةَ اشترى من عطاء بن جُبير مولى بني كعب، من جواريه ثلاثَ
مولّدات حجازّيات، يقال لهن: شاذن، وحَوراء، وفُتون. بثلاثة آلاف دينار.
وقال سليمانُ بن أبي
راشد عن عبد اللّه بن عبيد عن أبي الكَنُود قال: كنت من أعوان عبد اللّه بالبَصرة،
فلما كان من أمره ما كان أتيتُ عليًّا فأخبرتُه فقال: " وَاتْلُ عليهِ نَبأ
الذي آتَيْناه آياتِنا فانْسَلخَ منها فأتْبعه الشيطانُ فكانَ منَ الغاوين " . ثم كتب معه إليه: أما بعد، فإني كنتُ أشْركتُك في أمانتي، ولم يَكن من
أهل بيتي رجل أوْثقَ عندي منك بمواساتي ومؤزرتي بأداء الأمانة، فلما رأيتَ الزَّمان
قد كَلب عَلَى ابن عمك، والعدوّ قد حَرِدَ، وأمانةَ الناس قد خَربت، وهذه الُأمة
قد فُتنت، قلبتَ لابن عمك ظهر المجن، ففارقتَه مِع القوم المفارقين، وخَذلَته أسوأ
خِذلان، وخُنته مع مَن خان. فلا ابنَ عمكِ آسيت، ولا الأمانةَ إليه أدَيتَ، كأنك
لم تكني على بَينة من ربك، وإنما كِدت أُمة محمد عن دُنياهم، وغَدرتهم عن فَيئهم.
فلما أمكنتْك الفُرصة في خِيانةِ الأمة، أسرعتَ الغَدرة، وعالجتَ الوَثْبة،
فاخْتَطفْتَ ما قَدرت عليه من أموالهم، وَانْقلبْتَ بها إلى الحجاز، كأنك إنما
حُزت عن أهلك ميراثَك من أبيك وأُمك. سبحان اللّه! أما تُؤمن بالمَعاد، أما تخاف الحِساب!
أما تَعلم أنك تأكل حراماً وتشرب حراماً! وتَشتري الإماءَ وتنكحهم بأموال اليتامى
والأرامل والمُجاهدين في سبيل الله، التي أفاء الله عليهم! فاتَقِ
الله وأد إلى القوم، أموالَهم، فإنك والله لئن لم تَفعل وأمكنني اللّه منك لُأعذرن
إلى الله فيك. فوالله لو أنَّ الحَسن والحسين فعلا مثلَ الذي فعلتَ ما كانت لهما
عندي هَوادة، ولما تركتُهما حتى أخذَ الحقَّ منهما. والسلام. فكتب إليه ابن
عبَّاس: أما بعد. فقد بَلغني كتابُك تُعظم عَلي أمانة المال الذي أصبتُ من بيت مال
البَصْرة. ولعمري إن حقّي في بيت مالك الله أكثر من الذي أخذتُ. والسلام. فكتب
إليه عليّ: أما بعد، فإن العَجب كل العجب منك، إذ ترى لنفسك في بيت مال اللهّ
أكثرَ مما لرجل من المسلمين، قد أفلحتَ إن كان تمنيك الباطلَ وادعاءَك مالا يكون
يُنجيك من الإثم، ويُحل لك ما حَرم الله عليك. عَمْرك الله! إنك لأنت البعيد، قد بلغني
أنك اتخذت مكة وَطناً، وضربتَ بها عَطناً، تشتري المولّدات من المدينة والطائف،
وتختارهن على عينك، وتُعطيِ بهنّ مالَ غيرك. وإني أقسم بالله ربه وربك ربِّ العزة،
ما أُحبّ أن ما أخذت من أموالهم لي حلالاً أدعه ميراثاً لعَقبي. فما بال اغتباطِك به
تأكلُه حراماً! ضحِّ رُوَيداً. فكأنك قد بلغتَ المَدى، وعُرضتْ عليك أعمالُك
بالمَحل الذي يُنادَى فيه بالحَسرة، ويَتمنّى المُضيع التَوبة، والظالم الرًجعة.
فكتَب إليه ابنُ عبّاس: والله لئن لم تَدعني من أساطيرك لأحملنه إلى معاوية
يُقاتلك به. فكف عنه عليّ.
مقتل علي بن أبي
طالبرضي اللّه عنه
سُفيان بن عُيينة قال:
كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، يخرج بالليل إلى المسجد. فقال أناسٌ من أصحابه:
نخشى أن يصيبَه بعضُ عدوٌه، ولكن تعالوا نحرسه. فَخرج ذات ليلة فإذا هو بنا. فقال:
ما شأنُكم؟ فْكتمناه. فعَزم علينا. فأخبرناه. فقال: تحْرسُوني مِن أهل السماء أو من أهل الأرض؟ قلنا: من أهل الأرض.
قال: إنه ليس يقضى في الأرض حتى يُقضى في السماء. التميميَّ بإسناد له قال:
لما تواعَد ابنُ مُلْجَم وصاحباه بقَتل عليّ ومعاوية وعمرو بن العاص، دخَل ابنُ
مُلجم المسجدَ في بُزوغ الفجر الأول، فدخل في الصلاةِ تطوُّعاً، ثم افتتح في
القراءة، وجعل يُكرِّر هذه الآية " وَمِنَ النّاس مَنْ يَشْرِي نَفسه
ابتغَاءَ مَرْضاةِ اللّه " . فأقبل ابنُ أبي طالب بيده مخْفَقة، وهو يُوقظ
الناس للصلاة، ويقول: أيها الناسِ، الصلاة الصلاة. فمرّ بابن مُلْجَم وهو يردّد
هذه الآية، فظن عليّ أنه ينسى فيها، ففتح عليه، فقال: واللهّ رَؤوف بالعبادِ. ثم
انصرف علِىّ وهو يريد أن يدخل الدار، فاتبعه فضَربه على قَرْنه، ووقع السيف في
الجدار، فأطار فِدْرة من آخره، فابتدره الناس فأخذوه، ووقع السيف منه، فجعل
يقوِلَ: أيها الناس، احذروا السيفَ فإنه مَسموم. قال: فأُتي به عليّ فقال: احبِسوه
ثلاثاً وأطعموه واسقُوه، فإن أعش أر فيه رَأي، وإنْ أمت فاقتُلوه ولا تمثّلوا به.
فمات من تلك الضرِبة. فأخذه عبدُ اللّه بن جعفر فقَطع يديه ورجليه، فلم يَفزع، ثم أراد قطعَ
لسانه ففزع. فقيل له:ِ لم لَم تَفْزع لقطع يديك ورِجْليك وفزعت لقَطْع لسانك؟ قال:
إني أكره أن لا تَمُر بي ساعة لا أذْكر اللّه فيها. ثم قطعوا لسانه وضربوا عُنقه.
وتوجّه الخارجيّ الآخرً إلى معاوية فلم يجد إليه سبيلاً. وتَوخه الثالث إلى عمرو
فوجده قد أغفل تلك الليلة فلم يَخْرج إلى الصلاة، وقدم مكانه رجلاً يقال له خارجة،
فضَربه الخارجيّ بالسيف وهو يظنه عمرو بن العاص، فقتلَه. فأخذه الناسُ، فقالوا:
قتلتَ خارجة. قال: أو ليس عمراً؟ قالوا له: لا. قال: أردتُ عمراً وأراد اللّه
خارجة. وفي الحديث: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعلي: ألا أُخبرك بأشدّ
الناس عذاباً يوم القيامة؟ قال: أخبرني يا رسول الله. قال: فإن أشد الناس عذاباً
يوم القيامة عاقرُ ناقة ثمود، وخاضبُ لْحِيتك بدم رأسك.
وقال كُثير عَزّة:
ألا إن الأئِمة من
قُريش ... وُلاة العَهْد أربعةٌ سواءُ
علي والثلاثةُ من
بَنِيه ... همُ الأسباط ليس بهمِ خَفاء
فَسبْط سِبْط إيمان
وَبرٍ ... وسِبْطُ غَيبته كرْبلاَء
وسِبْط لا يَذُوق
الموتَ حتى ... يَقُودَ الخيلَ يَقدمها الَلواء
تَغيْب لا يُرى عنهم
زماناً ... برَضْوى عنده عَسَل وماء
قال الحسن بن عليّ
صبيحة الليلة التي قتل فيها في بن أبي طالب رضي الله عنه: حدِّثني أبي البارحة في هذا المسجد، فقال: يا بني، إني صلّيت البارحة
ما رزق اللهّ، ثم نمت نومة فرأيت رسولَ اللهّ صلى الله عليه وسلم، فشكوتُ له ما
أنا فيه من مخالفة أصحابي وقلِة رَغْبتهم في الجهاد، فقال لي: ادْع اللّه أن
يُريحك منهم، فدعوت اللّه. وقال الحسنُ صبيحةَ تلك الليلة: أيها الناس، إنه قتل
فيكم الليلة رجلٌ كان رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم يبعثه فيَكْتنفه جبريلُ عن
يمينه وميكائيلُ عن يساره، فلا يَنثني حتى يَفْتح الله له، ما ترك إلا ثلثَمائة
درهم.
خلافة الحسن بن علي
ثم بُويع للحسن بن
عليّ. وأُمّه فاطمة بنت رسوله الله صلى الله عليه وسلم، في شهر رمضان سنة أربعين
من التاريخ، فكتب إليه ابنُ عباس: إن الناس قد ولوك أمرَهم بعد عليّ، فاشدُد عن
يمينك، وجاهد عدوَك، واستُر من الظنين ذنبه بما لا يَثْلم دينك، واستعمل أهلَ
البيوتات تَسْتصلح بهم عشائرَهم. ثم اجتمع الحسنُ بن علي ومعاوية بمَسكن، من أرض
السَّواد من ناحية الأنبار، واصطلحا، وسلمَ الحسنُ الأمرَ إلى معاوية، وذلك في شهر
جمادى الأولى سنة إحدى وأربعين، ويسمى عام الجماعة. فكانت ولاية الحسن سبعةَ أشهر
وسبعة أيام، ومات الحسنُ في المدينة سنة تِسْع وأربعين، وهو ابن ست وأربعين سنة.
وصلى عليه سعيدُ بن العاص، وهو والي المدينة. وأوصى أن يُدفن مع جدّه وفي بيت عائشة،
فمنعه مروانُ بن الحكم فردوه إلى البقيع. وقال أبو هريرة لمروان: علامَ
تمنع أن يُدفن مع جده؟ فلقد أشهدُ أني سمعتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول:
الحسنُ والحُسين سيدا شباب أهل الجنة. فقال له مروان: لقد ضيع الله، حديثَ نبيه إذ
لم يَرْوِه غيرك. قال: أما إنك إذ قلت ذلك لقد صحبتُه حتى عرفتُ مَن أحبَّ ومن
أبغضَ، ومن نَفىِ ومن أقر، ومن دعا له ومن دعا عليه. ولما بلغ معاويةَ موتُ الحسن
بن علي خر ساجداً لله، ثم أرسل إلى ابن عباس، وكان معه في الشام، فعزاه وهو
مُستبشر، وقال له: ابن كم سنة مات أبو محمد؟ فقال له: سنِه كان يُسمع في قُريش،
فالعجب من أن يجهله مثلُك! قال: بلغني أنه ترك أطفالاً صغاراً. قال: كُل ما كان صغيراً يَكْبُر،
وإن طِفْلَنَا لكَهْل، وإن صغيرَنا لكَبير. ثم قال: مالي أراك يا معاويةُ مُستبشراً
بموت الحسن ابن علي؟ فوالله لا ينْسأ في أجلك، ولا يَسُد حُفرتك، وما أقَل بقاءَك
وبقاءَنا بعده. ثم خرج ابنُ عباس، فبعث إليه معاوية ابنَه يزيد، فقعد بين يديه
فعزّاه واستعبر لموت الحَسن، فلما ذهب أتبعه ابنُ عباس بَصره، وقال: إذا ذهب آل
حَرب ذَهب الْحِلم من الناس. ثم اجتمعِ الناسُ على معاوية سنةَ إحدى وأربعين، وهو
عام الجماعة، فبايعه أهلُ الأمصار كلها، وكتب بينه وبين الحَسن كتاباً وشروطاً،
ووصله بأربعين ألفا. وفي رواية أبي بكر بن أبي شَيبة أنه قال له: واللّه لأجيزنك بجائزة ما
أجزتُ بها أحداً فبلك، ولا أجيز بها أحداً بعدك، فأمر له بأربعمائة ألف.
خلافة معاويةهو
معاوية بن أبي سفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف. وكُنيته
أبو عبد الرحمن، وأُمه هند بنت عُتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف. ومات
مُعاوية بدمشق يوم الخميس لثمانٍ بقين من رجب سنة ستّين، وصلى عليه الضحَاك بن
قَيس، وهو ابنُ ثلاث وسبعين سنة، ويقال ابن ثمانين سنة. كانت ولايتَه تسع عشرةَ سنة وتسعة أشهر وسبعة وعشرين يوماً. صاحب
شرطته يزيد بن الحارث العَبْسي. وعلى حَرَسه - وهو أود من اتخذ حرساً - رجل من الموالي
يقال له المختار. وحاجبُه سعد، مولاه. وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني. وولد له
عبدُ الرحمن وعبد اللّه، مات فاختة بنت قرظة. أما عبدُ الرحمن فمات صغيراً، وأما
عبدُ اللّه فمات كبيراً، وحنان ضعيفاً ولا عقب له من الذكور. وكان له بنت يقال لها
عاتكة، تزوّجها يزيدُ بن عبد الملك، وفيها يقول الشاعر.
يا بيتَ عاتكة الذي
أتعزَلُ ... حَذَر العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ
ويزيدُ بن معاوية،
وأُمه ابنة بَحْدل، كَلْبية.
فضائل معاوية
ذكر عمرو بنُ العاص
معاوية فقال: احذروا قرْم قريش وابنَ كريمها، مَن يضحك عند الغضب، ولا ينام إلا
على الرِّضا، ويَتناول ما فوقه من تحته. سُئل عبد اللّه بن عبُّاس عن معاوية،
فقال: سَما بشيء أسرة، واستظهر عليه بشيء أعلنه، فحاول ما أسرَّ بما أعلن فنالَه.
كان حِلْمه قاهراً لغَضبه، وجُوده غالباً على مَنْعه، يصل ولا يَقطع، ويجمع وِلا
يفرِّق، فاستقام له أمره، وجرى إلى مُدًته. قيل: فأخبرنا عن ابنه. قال: كان في خير
سَبيله، وكان أبوه قد أحكمه، وأمره ونَهاه، فتعلّق بذلك، وسَلك طريقاً مُذللا له.
وقال معاوية: لم يكن في الشَّباب شيء إلا كان مني فيه مُستمتع، غير أني لم أكن صُرَعةً
ولا نُكَحة ولا سِبّاً. قال الأصمعي: الحب: كثير السباب: ميمون بن مِهرْان قال:
كان أوّلَ من جَلس بين الخُطبتين معاويةُ، وأوّلَ من وَضع شرفَ العطاء ألفين
معاوية وقال معاوية: لا زلتُ أطمع في الخلافة منذ قال لي رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم: يا معاوية، إذا ملكتَ فأحْسن. العُتْبي عن أبيه قال: قال معاوية لقُريش: ألا
أخبركم عني وعنكم؟ قالوا: بلى. قال: فأنا أطير إذا وقعتم، وأقع إذا طِرْتم، ولو وافق طَيراني طيرانَكم
سَقَطنا جميعاً. قال معاوية: لو أن بيني وبين الناس شَعرة ما انقطعت أبداً. قيل له: وكيف
ذلك؟ قال: كنت إذا مدوها أرخيتها، ماذا أرْخوها مددتها. وقال زياد: ما غلبني
أميرُ المؤمنين معاويةُ قَط إلا في أمر واحد، طلبتُ رجلاً منة عُمالي كَسر عليّ
الخِراج فلجأ إليه، فكتبتُ إليه: إن هذا فساد عَمليِ وعملك. فكتب إلي: إنه لا
ينبغي لنا أن نَسوس الناسَ سياسةً واحدة، لا نلين جميعاً فيمرحَ الناسُ في المَعصية،
ولا نَشتد جميعاً فنَحملَ الناسَ على المَهالك، ولكن تكون أنت للشدة والفَظاظة
والغِلظة، وأكون أنا للرأفة والرحمة.
أخبار معاويةقدم
معاويةُ المدينةَ بعد عام الجماعة، فدخل دارَ عثمان بن عفّان، فصاحت عائشة بنت
عثمان وبكت ونادت أباها. فقال معاوية: يا ابنة أخي، إنّ الناس أعْطَوْنا طاعةً
وأعطيناهم أماناً، وأظهرنا لهِم حِلْماً تحته غَضب، وأظهروا لنا ذُلّاً تحته
حِقْد، ومع كل إنسان سيفُه، ويرى موضع أصحابه، فإن نكثناهم نكثوا بنا، ولا ندري
أعلينا تكون أمْ لنا. لأن تكوني ابنةَ عمِّ أمير المؤمنين خيرٌ من أن تكوني امرأة من عُرض
الناس.
القَحْذَميّ قال: لما
قَدم معاويةُ المدينة قال: أيها الناس، إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يُرد الدنيا
ولم تُرده، وأما عمر فأرادتْه ولم يُردها، وأما عثمان فنال منها ونالتْ منه، وأما
أنا فمالتْ بي وملتُ بها، وأنا ابنُها، فهي أُمي وأنا ابنُها، فإن لم تَجدوني
خيركم فأنا خيرٌ لكم. ثم نزل. قال جُويرية بن أسماء. نال بُسْرُ بن أرطأة مِن عليّ
بن أبي طالب عند معاوية، وزيدُ بن عمر بن الخطاب جالس، فعلا بُسْراً ضرباً حتى
شَجّه. فقال معاويةُ: يا زيد، عمدتَ إلى شيخ قُريش وسيّد أهل الشام فضربتَه! وأقبل
على بُسْر وقال: تَشتم عليا وهو جدُه وأبوه الفاروق على رؤوس الناس! أفكنتَ تراه
يَصبر على شَتْم عليّ! وكانت أمَ زيد أمُ كُلثوم بنت علي بن أبي طالب. ولما قدم
معاويةُ مكةَ، وكان عمر قد استعمله عليها، دخل على أُمه هِنْد، فقالت له: يا بني. إنه قلما
وَلدت حُرة مثلَك، وقد استعملك هذا الرجل، فاعمل بما وافقه، أحببت ذلك أم كرهتَه.
ثم دخل على أبيه أبي سفيان، فقال له: يا بني. إن هؤلاء الرهط من المُهاجرين
سَبقونا وتأخرنا، فرفعهم سبقُهم وقصر بنا تأخيرُنا، فصرْنا أتباعاً وصاروا قادةً،
وقد قلّدوك جَسيماً من أمرهم، فلا تُخالفن رأيَهم، فإنك تَجري إلى أمد لم تَبلغه،
ولو قد بلغتَه لتنفست فيه. قال معاوية: فعجبت من اتفاقهما في المعنى على اختلافهما
في اللفظ. العتبي عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قَدِمِ الشام على حِمار ومعه عبدُ
الرحمن بن عوف على حِمار، فتلقاهما معاويةُ في موكب نبيل، فجاوز عمرَ حتى أُخبر
فرجع إليه، فلما قَرُب منه نزل، فأعرض عنه عمر، فجعل يمشي إلى جنبه راجلاً. فقال له
عبدُ الرحمن بن عوف: أتعبتَ الرجل. فأقبل عليه عمر فقال: يا معاوية، أنت صاحبُ
الموكب آنفاً مع ما بلغني من وقُوف ذوي الحاجات ببابك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين.
قال: ولم ذلك؟ قال: لأنا في بلاد لا يُمتنع فيها من جواسيس العدوِّ، فلا بُدّ لهم
مما يُرهبهم من هيبة السلطان، فإن أمرتَني بذلك أقمتُ عليه، وإن نهيتني عنه
انتهيت. قال: لئن كان الذي قلتَ حقاً فإنه رأيُ أريب، ولئن كان باطلًا فإنها خُدعة
أحب، ولا أمرك به ولا أنهاك عنه. فقال عبدُ الرحمن بن عوف: لحسن ما صدر من هذا الفتى عما أوردتَه فيه.
قال: لحسن مَصادرهِ وموارده جشّمناه ما جشمناه. وقال معاوية لابن الكَوّاء:
يا بن الكواء، أنشدك اللّه، ما عِلْمُك فيًّ؟ قال: أنشدَتَني اللّه! ما أعلَمُكَ
إلا واسع الدُّنيا ضيق الآخرة. ولما مات الحسنُ بن عليّ حَجّ معاوية، فدخل المدينة
وأراد أن يَلْعن عليَّا على مِنبر رسول الله صلى عليه وسلم. فقيل له: إن هاهنا
سعدَ بن أبي وقاص، ولا نراه يرضى بهذا، فابعث إليه وخُذ رأيه. فأرسل إليه وذكر له
ذلك. فقال: إن فعلت لأخرُجن من المسجد، ثم لا أعود إليه. فأمسك معاوية عن لعنه حتى
مات سعد. فلما مات لَعنه عَلَى المنبر، وكتب إلى عماله أن يَلعنوه على المنابر،
ففعلوا. فكتبتْ أم سَلمة زوج النبيّ صلى عليه وسلم إلى معاوية: إنكم تلعن اللّه
ورسولَه على منابركم، وذلك أنكم تلعنون عليّ بن أبي طالب ومن أحبّه، وأنا أشهد أن
اللّه أحبَّه ورسولَه، فلم يلتفت إلى كلامها. وقالت بعضُ العلماء لولده: يا بني، إن
الدنيا لم تَبْن شيئاً إلا هَدمه الدِّين، وإنّ الدين لم يبْن شيئاً فهدمتْه
الدنيا، ألا ترى أنّ قوماً لعنوا عليّا ليخْفِضوا منه فكأنما أخذوا بناصيته جرّاً
إلى السماء. ودخل صعصعة بن صُوحان على مُعاوية ومعه عمرو بن العاص جالسٌ على
سريره، فقال: وَسِّع له على تُرابيّة فيه. فقال صعصعةُ: إني واللّه لتُرابيّ، منه خُلقت، وإليه أعود، ومنه أبعث، وإنك لمارج
من مارج من نار. العُتبي عن أبيه، قال قال معاويةُ لعمرو بن العاص: ما أعجبُ الأشياء؟
قال غَلبة مَن لا حقَّ له ذا الحقّ على حقه. قال معاوية: أعجبُ من ذلك أن يُعطى من
لا حق له ما ليس له بحق من غير غَلبة. وقال معاويةُ: أُعنت على عليّ بأربعة، كنت أكتم سري وكان رجلاً يُظهِره، وكنتُ في
أصلح جند وأطوعه وكان في أخْبَث جُند وأعْصاه، وتركتُه وأصحابَ الجمل وقلتُ: إن ظَفروا
به كانوا أهونَ علي منه، وإن ظَفِر بهم اغتر بها في دِينه، وكنتُ أحب إلى قُريش
منه. فيالك مِن جامع إلي ومُفرق عنه!
العتبي قال: أراد
معاوية أن يقدم ابنه يزيد على الصائفة، فكره ذلك يزيد، فأبى معاوية إلى أن يفعل، فكتب
إليه يزيد يقول:
نجيٌّ لا يزال يعد
ذنباً ... لتقطع وصل حبلك من حبالي
فيوشك أن يريحك من
أذاتي ... نزولي في المهالك وارتحالي
وتجهز للخروج، فلم
يتخلف عنه أحد، حتى كان فيمن خرج أبو أيوب الأنصاري صاحب النبي صلى الله عليه وسلم
قال العتبي: وحدثني أبو إسحاق إبراهيم قال: أرسل معاوية إلى ابن عباس، قال: يا أبا
العباس، إن أحببت خرجت مع ابن أخيك فيأنس بك ويقربك وتشير عليه برأيك. ولا يدخل
الناس بينك وبينه فيشغلوا كل واحد منكما عن صاحبه. وأقل من ذكر حقك؛ فإنه إن كان
لك فقد تركته لمن هو أبعد منا حبّاً، وإن لم يكن لك فلا حاجة بك إلى ذكره، مع أنه
صائر إليك، وكل آت قريب، ولتجدن، إذا كان ذلك، خيراً لكم منا.
فقال ابن العباس:
والله لئن عظمت عليك النعمة في نفسك لقد عظمت عليك في يزيد، وأما ما سألتني من
الكف عن ذكر حقي، فإني لم أغمد سيفي وأنا أريد أن أنتصر بلساني. ولئن صار هذا الأمر
إلينا ثم وليكم من قومي مثلي كما ولينا من قومك مثلك لا يرى أهلك إلا ما يحبون.
قال: فخرج يزيد، فلما
صار على الخليج ثقل أبو أيوب الأنصاري، فأتاه يزيد عائداً، فقال: ما حاجتك أبا
أيوب؟ فقال: أما دنياكم فلا حاجة لي فيها، ولكن قدمني ما استطعت في بلاد العدو، فإني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدفن عند سور القسطنطينية رجلٌ صالح،
أرجو أن أكون هو. فلما مات أمر يزيد بتكفينه وحمل على سريره، ثم أخرج الكتائب.
فجعل قيصر يرى سريراً يحمل والناس يقتتلون. فأرسل إلى يزيد: ما هذا الذي أرى؟ قال: صاحب
نبينا وقد سألنا أن تقدمه في بلادك، ونحن منفذون وصيته أو تلحق أرواحنا بالله.
فأرسل إليه: العجب كل العجب: كيف يدهى الناس أباك وهو يرسلك، فتعمد إلى صاحب نبيك
فتدفنه في بلادنا، فإذا وليت أخرجناه إلى الكلاب! فقال يزيد: إني والله ما أردت أن
أودعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، فإنك كافر بالذي أكرمت هذا له، لئن بلغني أنه
نبش من قبره أو مثل به، لا تركت بأرض العرب نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا
هدمتها. فبعث إليه قيصر: أبوك كان أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظته بيدي سنةً. فلقد
بلغني أنه بني على قبره قبة يسرج فيها إلى اليوم.
طلب معاوية البيعة
ليزيدأبو الحسن المدائني قال: لما مات زياد، وذلك سنة ثلاث وخمسين، أظهر معاوية عهداً
مفتعلاً، فقرأه على الناس، فيه عقد الولاية ليزيد بعده، وإنما أراد أن يسهل بذلك
بيعة يزيد. فلم يزل يروض الناس لبيعته سبع سنين، ويشاور، ويعطى الأقارب ويداني
الأباعد، حتى استوثق له من أكثر الناس. فقال لعبد الله بن الزبير: ما ترى في بيعة
يزيد؟ قال: يا أمير المؤمنين، إني أناديك ولا أناجيك، إن أخاك من صدقك، فانظر قبل
أن تتقدم. وتفكر قبل أن تندم، فإن النظر قبل التقدم، والتفكر قبل التندم. فضحك معاوية
وقال: ثعلب رواغ، تعلمت السجع عند الكبر، في دون ما سجعت به على ابن أخيك ما
يكفيك. ثم التفت إلى الأحنف فقال: ما ترى في بيعة يزيد؟ قال: نخافكم إن صدقناكم،
ونخاف الله إن كذبنا.
فلما كانت سنة خمس
وخمسين كتب معاوية إلى سائر الأمصار أن يفدوا عليه. فوفد عليه من كل مصر قومُ.
وكان فيمن وفد عليه من المدينة محمد بن عمرو بن حزم، فخلا به معاوية وقال له: ما
ترى في بيعة يزيد؟ فقال: يا أمير المؤمنين، ما أصبح اليوم على الأرض أحدٌ هو أحب
إلي رشداً من نفسك سوى نفسي، وإن يزيد أصبح غنياً في المال، وسيطاً في الحسب، وإن
الله سائل كل راع عن رعيته، فاتق الله وانظر مَن تولى أمرَ أمة محمد. فأخذ معاويةَ
بَهْر حتى تنفّس الصُعداء، وذلك في يوم شات، ثم قال: يا محمد، إنك امرؤ ناصحٌ، قلت
برأيك ولم يكن عليك إلا ذاك. ثم، قال معاوية: إنه لم يَبق إلا ابني وأبناؤهم،
فابني أحبّ إليّ من أبنائهم، اخرُج عني. ثم جلس معاويةُ في أصحابه وأذن للوفود،
فدخلوا عليه، وقد تقدَّم إلى أصحابه أن يقولوا في يَزيد، فكان أوَّلَ من تكلَّم
الضحاكُ بن قيس فقال: يا أميرَ المؤمنين، إنه لا بُد للناس مِن والٍ بعدك، والأنفس
يُغْدَى عليها ويًراح. وإن اللّه قال: كُلّ يومٍ هو في شَان. ولا ندري ما يختلف به
العصرْان، ويزيدُ ابن أمير المؤمنين في حُسن مَعْدِنه، وقَصْد سيرته، من أفضلنا
حِلما، وأحكمنا عِلماً، فولّه عهدك، واجعله لنا عَلماً بعدك. وإنّا قد بَلَونا
الجماعةَ والُألفة فوجدناه أحقن للدماء، وآمَن للسُّبل، وخيراً في العاجلة والآجلة. ثم
تكلَّم عمرو بن سَعيد فقال: أيها الناس، إن يزيدَ أملٌ تأمُلونه، وأجل تأمنونه؛
طويل الباع، رَحْب الذراع، إذا صِرْتم إلى عَدله وَسِعكم، وإِن طلبتم رِفْده
أغناكم؛ جَذَع قارح، سُوبق فسَبق، ومُوجِد فمَجَد، وقُورعِ فقَرع، خلف من أمير
المؤمنين ولا خَلف منه. فقال: اجلس أبا أمية، فلقد أوسعت وأحسنت. ثم قام يزيد بن
المُقفّع فقال: أمير المؤمنين هذا، وأشار إلى معاوية، فإن هلك فهذا، وأشار إلى
يزيد، فمن أي فهذا، وأشار إلى سيفه. فقال معاوية: اجلس، فإنك سيّد الخطباء. ثم
تكلم الأحنف بن قيس فقال: يا أميرَ المؤمنين، أنت أعلم بيزيد في ليله ونهاره، وسره
وعَلانيته، ومَدخله ومَخرجه، فإن كنت تَعلمه لله رضا ولهذه الأمة، فلا تُشاور
الناسَ فيه، وإن كنت تعلم منه غيرَ ذلك، فلا تُزوّده الدنيا وأنت تذهب إلى الآخرة.
قال: فتفرّق الناس ولم يذكروا إلا كلامَ الأحنف. قال: ثم بايع الناسُ ليزيد
بن معاوية، فقال رجل، وقد دُعي إلى البيعة: اللهم إني أعوذ بك من شر معاوية. فقال له
معاوية: تَعوذ من شر نفسك، فإنه أشدّ عليك، وبايعْ. قال: إني أبايع وأنا كاره
للبَيعة. قال له معاوية: بايع أيها الرجل فإن الله يقول: " فعَسى أن تَكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً " . ثم كتب
إلى مروان بن الحكم، عامِله على المدينة: أن ادْعُ أهلَ المدينة إلى بيَعة يزيد،
فإن أهل الشام والعِراق قد بايعوا. فخطبهم مروان فحضّهم على الطاعة وحَذّرهم الفِتنة
ودعاهم إلى بيَعة يزيد، وقال: سُنه أبي بكر الهادية المهْديَة. فقال له
عبدُ الرحمن بن أبي بكر: كذبْتَ! إن أبا بكر ترك الأهل والعشيرة، وبايع لرجل من
بني عَدي، رضي دينَه وأمانته، واختاره لُأمة محمد صلى الله عليه وسلم. فقال مروان:
أيها الناس، إن هذا المُتكلم هو الذي أنزل اللّه فيه: " والذي قالَ لوالدَيْه
أُفٍّ لكما أتعِدَانني أن أُخْرَج وقد خَلَت القُرونُ من قَبلي " . فقال له
عبدُ الرحمن: يا بن الزرقاء، أفينا تتأوَل القرآن! وتكلّم الحُسين بن علي، وعبدُ
الله بن الزبير، وعبدُ الله بن عمرَ وأنكروا بيعةَ يزيد، وتفرّق الناس. فكتب مروان
إلى معاوية بذلك. فخرج معاويةُ إلى المدينة في ألف، فلما قَرُب منها تلقَاه الناس،
فلما نظر إلى الحُسين قال: مرحباً بسيّد شباب المسلمين، قرّبوا دابّةً لأبي عبد
اللهّ. وقال لعبد الرحمن بن أبي بكر: مرحبَاَ بشيخ قريش وسيّدها وابن الصدّيق. وقال
لابن عمر: مرحباً بصاحب رسول الله وابن الفاروق. وقال لابن الزُبير: مرِحباً
بابن حواريّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وابن عمته، ودعا لهم بدواب فَحملهم
عليها. وخرج حتى أتى مكة فقضى حَجَّه، ولما أراد الشُّخوص أمر بأثقاله فقدِّمت،
وأمر بالمِنبر فقرب من الكعبة، وأرسل إلى الحُسين وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عمر
وابن الزُبير فاجتمعوا. وقالوا لابن الزبير: اكفنا كلامه، فقال: علَى أن لا
تُخالفوني. قالوا: لك ذلك، ثم أتوا
معاويةَ، فرحّب بهم
وقال لهم: قد علمتم نَظري لكم، وتَعطُّفي عليكم، وصِلتي أرحامَكم، ويزيدُ أخوكم
وابنُ عَمكم، وإنما أردتُ أن أُقدمه باسم الخلافة وتكونوا أنتم تأمرِون وتَنْهون.
فسكتوا، وتكلّم ابنُ الزبير، فقال: نخيرك بينِ إحدى ثلاث، أيّها أخذت فهي لك رغبة
وفيها خِيار: فإن شئت فاصنع فينا ما صنع رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، قَبضه
الله ولم يَسْتخلف، فدع هذا الأمرَ حتى يختارَ الناسُ لأنفسهم، وإن شئت فما صنع
أبو بكر، عَهد إلى رجل من قاصية قُريش وتَرك مِن ولده ومن رهطه الأدْنين مَن كان
لها أهلاً؛ وإن شئت فما صَنع عمر، صيرها إلى ستة نفر من قُريش يختارون رجلاً منهم
وترك ولده وأهلَ بيته وفيهم من لو وَليها لكان لها أهلَاَ. قال معاوية: هل غيرُ هذا؟
قال: لا. ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا: نحن على ما قال ابنُ الزبير. فقال
معاوية: إني أتقدّم إليكم، وقد أعذر من أنذر، إني قائل مقالة، فأُقسم باللهّ لئن
رَدّ عليً رجلٌ منكم كلمة في مَقامي هذا لا تَرْجع إليه كَلِمته حتى يُضرب رأسُه،
فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يُبقى إلا عليها. وأمر أن يقوم على رأس
كُلِّ رجل منهم رجلاًن بسَيفيْهما، فإن تكّلَم بكلمة يَرُدّ بها عليه قولَه قتلاه.
وخرج وأخرجهم معه حتى رَقي المِنبر، وحَفّ به أهل الشام، واجتمع الناسُ، فقال بعد
حمد اللّه والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس ذاتَ عَوار، قالوا: إن حًسيناً
وابن أبي بكر وابن عمرِ وابن الزّبير لم يُبايعوا ليزيد، وهؤلاء الرهط سادةُ
المسلمين وخيارُهم، لا نبرم أمراً دونهم، ولا نقضي أمراً إلا عن مشورتهم، وإني دعوتُهم
فوجدتهم سامعين مُطيعين، فبايعوا وسَلّموا وأطاعوا. فقال أهلُ الشام: وما يَعْظُم
من أمر هؤلاء، ائذن لنا فنضربَ أعناقهم، لا نرضى حتى يُبايعوا علانيةً! فقال
معاوية: سبحان اللهّ! ما أسرعَ الناسَ إلى قُريش بالشرّ وأحلى دماءَهم عندهم!
أنصتوا، فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا الناسَ إلى البيعة فبايعوا. ثم قربت
رواحله، فركب ومضى. فقال الناس للحُسين وأصحابه: قلتم: لا نُبايع، فلما دُعيتم
وأُرضيتم بايعتم! قالوا لم نَفعل. قالوا: بلى، قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم! قالوا: خِفنا القتل
وكادكم بنا وكادنا بكم.ويةَ، فرحّب بهم وقال لهم: قد علمتم نَظري لكم، وتَعطُّفي عليكم،
وصِلتي أرحامَكم، ويزيدُ أخوكم وابنُ عَمكم، وإنما أردتُ أن أُقدمه باسم الخلافة
وتكونوا أنتم تأمرِون وتَنْهون. فسكتوا، وتكلّم ابنُ الزبير، فقال: نخيرك بينِ
إحدى ثلاث، أيّها أخذت فهي لك رغبة وفيها خِيار: فإن شئت فاصنع فينا ما صنع رسولُ
الله صلى الله عليه وسلم، قَبضه الله ولم يَسْتخلف، فدع هذا الأمرَ حتى يختارَ
الناسُ لأنفسهم، وإن شئت فما صنع أبو بكر، عَهد إلى رجل من قاصية قُريش وتَرك مِن
ولده ومن رهطه الأدْنين مَن كان لها أهلاً؛ وإن شئت فما صَنع عمر، صيرها إلى ستة
نفر من قُريش يختارون رجلاً منهم وترك ولده وأهلَ بيته وفيهم من لو وَليها لكان
لها أهلَاَ. قال معاوية: هل غيرُ هذا؟ قال: لا. ثم قال للآخرين: ما عندكم؟ قالوا:
نحن على ما قال ابنُ الزبير. فقال معاوية: إني أتقدّم إليكم، وقد أعذر من أنذر،
إني قائل مقالة، فأُقسم باللهّ لئن رَدّ عليً رجلٌ منكم كلمة في مَقامي هذا لا تَرْجع
إليه كَلِمته حتى يُضرب رأسُه، فلا ينظر امرؤ منكم إلا إلى نفسه، ولا يُبقى إلا
عليها. وأمر أن يقوم على رأس كُلِّ رجل منهم رجلاًن بسَيفيْهما، فإن تكّلَم بكلمة
يَرُدّ بها عليه قولَه قتلاه. وخرج وأخرجهم معه حتى رَقي المِنبر، وحَفّ به أهل
الشام، واجتمع الناسُ، فقال بعد حمد اللّه والثناء عليه: إنا وجدنا أحاديث الناس
ذاتَ عَوار، قالوا: إن حًسيناً وابن أبي بكر وابن عمرِ وابن الزّبير لم يُبايعوا
ليزيد، وهؤلاء الرهط سادةُ المسلمين وخيارُهم، لا نبرم أمراً دونهم، ولا نقضي
أمراً إلا عن مشورتهم، وإني دعوتُهم فوجدتهم سامعين مُطيعين، فبايعوا وسَلّموا
وأطاعوا. فقال أهلُ الشام: وما يَعْظُم من أمر هؤلاء، ائذن لنا فنضربَ أعناقهم،
لا نرضى حتى يُبايعوا علانيةً! فقال معاوية: سبحان اللهّ! ما أسرعَ الناسَ إلى قُريش
بالشرّ وأحلى دماءَهم عندهم! أنصتوا، فلا أسمع هذه المقالة من أحد. ودعا
الناسَ إلى البيعة فبايعوا. ثم قربت رواحله، فركب ومضى. فقال الناس للحُسين
وأصحابه: قلتم: لا نُبايع، فلما دُعيتم وأُرضيتم بايعتم! قالوا لم نَفعل. قالوا:
بلى، قد فعلتم وبايعتم، أفلا أنكرتم! قالوا: خِفنا القتل وكادكم بنا وكادنا بكم.
وفاة معاويةعن الهيثم
بن عديّ قال: لما حَضرت معاويةَ الوفاةُ، ويزيدُ غائب، دعا الضحاكَ بن قيس
الفِهريَّ ومُسلم بن عُقبة المُرّيِّ، فقال: أبلغا عنّي يزيد وقُولا له: انظُر إلى
أهل الحِجاز فهم أصلُك وعِتْرتك، فمن أتاك منهم فأكرمه، ومَن قَعد عنك فتعاهدْه.
وانظر أهلَ العراق، فإن سألوك عَزْل عامل في كل يوم فاعْزِله، فإنّ عَزْلَ عامل
واحد أهونُ من سَلِّ مائة ألف سيف، ولا تَدري على من تكون الدائرة؟ ثم انظر إلى
أهل الشام فاجعلهم الشِّعار دون الدَثار، فإن رابك من عدوّك رَيْب فارمه بهم؛ ثم
اردُد أهلَ الشام إلى بَلدهم، ولا يُقيموا في غيره فيتأدّبوا بغير أدبهم. لستُ
أخاف عليك إلا ثلاثة: الحُسينَ بن عليّ، وعبدَ الله بن الزّبير، وعبدَ اللّه بن
عمر. فأما الحُسين بن عليّ، فأرجو أن يَكفيكه اللّه، فإنه قَتل أباه وخَذل أخاه؛
وأما ابنُ الزُبير، فإنه خَبّ ضَبّ، وإن ظَفرت به فقَطِّعه إرْباً إرْباً؟ وأما
ابنُ عمر، فإنه رجل قد وَقذه الورع، فخل بينه وبين آخرته يُخل بينك وبين دُنياك.
ثم أخرج إلى يزيدَ بريداً بكتاب يَستقدمه ويستحثّه. فخرج مُسرعاً. فتلقاه يزيد،
فأخبره بموت مُعاوية، فقال يزيد:
جاء البريدُ بقرطاس
يَخُبّ به ... فأوجَس القلبُ من قرطاسه فَزَعَا
قُلنا لك الويلُ ماذا
في صَحيفتكم ... قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وَجِعا
فمادت الأرضُ أو كادت
تَميد بنا ... كأنّ أغبرَ من أركانها انقلعا
ثم انبعَثنا إلى خوصٍ
مُزممة ... نرمي العَجاج بها ما نأتلي سرعا
فما نُبالي إذا
بَلغْن أرْحُلَنا ... ما مات منهن بالمَوْماة أو ظَلعا
أوْدَى ابنُ هِنْد
وأودَى المجدُ يَتْبعه ... كذاك كُنا جميعاً قاطنين معا
أغرّ أبلجُ يستسقى
الغمام به ... لو قارع الناسَ عن أحلامهم قَرعا
ا يَرقع الناس ما
أوهى ولو جَهدوا ... أن يَرْقعوه ولا يُوهون ما رَقَعا
قال محمدُ بن عبد
الحكم: قال الشافعيْ: سَرق هذين البيتين من الأعشى. ابن دأب قال: لما هَلك معاويةُ
خَرج الضحاكُ بن قيس الفِهْريّ وعلى عاتقه ثيابَ حتى وقف إلى جانب المِنبر، ثم
قال: أيها الناس، إن معاوية كان إلْف العرب ومَلِكَها، أطفأ اللهّ به الفِتْنة،
وأحيا به السُّنة، وهذه أكفانه ونحن مدْرجوه فيها ومخُلون بينه وبين ربه، فمن أراد
حُضوره صلاة الظُهر فَلْيَحْضُره. وصلّى عليه الضحاك بن قيس الفِهْرِيّ. ثم قدم
يزيدُ من يومه ذلك، فلم يَقْدَم أحدٌ على تَعْزيته، حتى دخل عليه عبدُ الله بن
هَمّام السَّلولي فقال:
اصْبر يزيدُ فقد
فارقتَ ذا مقَةٍ ... واشكُر حِباء الذي بالمُلك حَاباكا
لا رُزْءَ أعظمُ في
الأقوام قد عَلموا ... مما رُزئت ولا عُقْبى كعُقباكا
أصبحتَ راعيَ أهل
الأرض كُلًهمُ ... فأنتَ ترعاهمُ واللّه يرَعاكا
وفي مُعاويةَ الباقي
لنا خلفٌ ... إذا بَقيتَ فلا نَسْمع بمنَعاكا
فافتتح الخُطباء
الكلام. ثم دخل يزيد فأقام ثلاثةَ أيام لا يخرج للناس، ثم خرج وعليه أثرُ الحزن،
فَصعِد المِنبر، وأقبل الضحَّاك فجلس إلى جانب المنبر وخاف عليه الحَصرَ. فقال له
يزيد: يا ضحاك، أجئتَ تعلم بني عبد شمس الكلام! ثم قام خطيباً فقال: الحمدُ للّه الذي ما شاء صَنع، مَن شاء أعطى ومَن
شاء مَنع، ومَن شاء خَفض ومن شاء رَفع. إنّ مُعاوية بن أبي سُفيان كان حَبلاً من
حبال اللّه، مدّه اللّه ما شاء أن يَمُدّه، ثم قَطعه حين شاء أن يقطعه، فكان دون
مَن قَبله، وخيراً ممن يأتي بعده، ولا أزكيه وقد صار إلى ربّه، فإن يَعفُ عنه
فبِرَحْمته، وإن يُعذبه فبِذَنبه. وقد وَليتُ بعده الأمرَ، ولستُ أعتذر من جهل،
ولا أنِي عن طلب، وعلى رِسْلكم، إذا كَرِه الله شيئاً غَيّره، وإذا أراد شيئاً
يسَّره.
خلافة يزيد بن معاوية
ونسبه وصفته
هو يزيد بن مُعاوية
بن أبي سُفيان بن حَرب بن أُمية بن عبد شَمس بن عبد مناف. وأُمه مَيْسون بنت بَحْدل بن أُنيف بنِ دلجة، بنِ قُنافة، أحد بني
حارثة بن جَناب. وكنيته أبو خالد، وكان آدمَ جعداً مَهْضوماً أحورَ العين، بوجهه آثار
جُدريّ، حسنَ الِّلحية خَفِيفَها، وَلي الخلافة في رجب سنة ستين، ومات في النِّصف
من شهر ربيع الأول سنة أربع وستّين، ودُفن بحُوَارين، خارجاً من المدينة. وكانت
ولايته أربع سنين وأياماً. وكان على شرُطته حُميد بن حُرَيث بن بَحْدل. وكاتبه
وصاحب أمره سرجون بن منصور. وعلى القضاء أبو إدريس الخَوْلاني. وعلى الخراج مَسلمة
بن حديدة الأزْدي.
أولاد يزيد: معاوية
وخالد وأبو سُفيان، وأمهم فاختةُ بنت بي هاشم بن عُتبة بن ربيعة، وعبدُ الله
وعمرو، أمهما أم كلثوم بنت عبد اللّه بن عبّاس. وكان عبدُ اللّه ولدُه ناسكاً،
وولدُه خالد عالماً، لم يكن في بني أمية أزهدَ من هذا ولا أعلم من هذا. الأصمعي عن
أبي عمرو قال: أعرق الناس في الخلافة عاتكة بنت يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان،
أبوها خليفة، وجدّها معاوية خليفة، وأخوها مُعاوية بن يزيد خليفة، وزوجها عبدُ
الملك بن مروان خليفة، وأرِباؤها: الوليدُ وسُليمان وهشام، خلفاء
مقتل الحسين بن علي
علِيّ بن عبد العزيز
قال: قرأ عليّ أبو عُبيد القاسم بن سلّام وأنا أسمع، فسألتُه: نروي عنك كما قُرىء
عليك؟ قال: نعم. قال أبو عُبيد: لما مات مُعاوية بن أبي سفيان وجاءت وفاتُه إلى
المدينة، وعليها يومئذ الوليدُ بن عُتبة، فأرسل إلى الحُسين بن عليّ وعبدِ اللّه
بن الزُّبير، فدعاهما إلى البيعة ليزيد، فقالا: بالغد إن شاء الله على رؤوس الناس،
وخرجا من عنده. فدعا الحسينُ برواحله، فركبها وتوجّه نحو مكة على المَنهج الأكبر،
وركب ابنُ الزبير بِرْذونا له وأخذ طريق العَرْج حتى قدم مكة. ومرّ حسينُ حتى أتى
على عبد اللّه بن مُطيع وهو على بئر له، فنزل عليه، فقال للحسين: يا أبا عبد
اللّه، لا سَقانا اللهّ بعدَك ماءً طيباً، أين تريد؟ قال: العراق. قال: سبحان اللّه!
لمَ؟ قال: مات معاويةُ وجاءني أكثرُ من حِمْل صُحف. قال: لا تفعل أبا عبد اللهّ،
فواللّه ما حَفظوا أباك وكان خيراً منك، فكيف يِحفظونك، ووالله لئن قُتلت لا
بَقيتْ حُرْمة بعدك إلا استُحّلت. فخرج حسين حتى قَدِم مكة، فأقام بها هو وابنُ
الزبير. قال: فقدم عمرو بنُ سعيد في رمضان أميراً على المدينة والموسم، وعُزل
الوليد بن عُتبة. فلما استوى على المنبر رَعَف. فقال أعرابيّ: مه! جاءنا واللهّ
بالدم! قال: فتلقّاه رجل بعمامته. فقال: مه! عًمّ الناسَ والله! ثم قام فخطب، فناولوه عصاً لها شُعبتان. فقال:
تشعَّب الناسُ واللّه! ثم خرج إلى مكة، فقَدِمها قبل يوم، التَّروية بيوم، ووفدت
الناسُ للحُسين يقولون: يا أبا عبد اللّه، لو تقدَّمت فصلّيت بالناس فأنزلتَهم
بدارك؟ إذ جاء المؤذّن فأقام الصلاة، فتقدّم عمرو بن سعيد فكَبّر، فقيل للحُسين:
اخرج أبا عبد اللّه إذ أبيت أن تتقدّم. فقال: الصلاة في الجماعة أفضل. قال: فصلّى، ثم خرج. فلما انصرف عمرو بنُ
سعيد بلغه أن حُسيناً قد خرج. فقال: اطلبوه، اركبوا كل بعير بين السماء والأرض فاطلُبوه.
قال: فعجب الناسُ من قوله هذا، فطلبوه، فلم يُدركوه. وأرسل عبدُ اللّه بن جعفر
ابنيه عوناً ومحمداً ليردّا حُسينا. فأبى حُسين أن يرجع. وخرج ابنا عبد اللّه بن جعفر معه. ورجع عمرو بنُ سعيد إلى المدينة،
وأرسل إلى ابن الزبير ليأتيَه، فأبى أن يأتيَه. وامتنع ابنُ الزبير برجال من قُريشٍ
وغيرهم من أهل مكة. قال: فأرسلَ عمرو بنُ سعيد لهم جيشاً من المدينة، وأمًر عليهم
عمرو بنَ الزبير، أخا عبد الله بن الزبير، وضَرب على أهل الديوان البَعْث إلى مكة،
وهم كارهون للخروج، فقال: إما أنْ تأتوني بأدلاَء وإما أن تَخرجوا. قال: فبعثهم
إلى مكة، فقاتلوا ابن الزبير، فانهزم عمرو بنُ الزبير، وأسره أخوه عبدُ اللّه،
فحبَسه في السجن. وقد كان بَعَث الحُسين بن عليّ مسلمَ بن عَقيل بن أبي طالب إلى
أهل الكوفة ليأخذ بَيعتهم، وكان على الكوفة حين مات معاوية، فقال: يا أهل الكوفة،
ابن بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أحبّ إلينا من ابن بنت بحَدل. قال: فبلِغ
ذلك يزيدَ فقال: يا أهل الشام، أشيروا عليّ، مَن استعمل على الكوفة؟ فقالوا: ترضى
من رَضي به معاويةُ؟ قال: نعم. قيل له: فإنّ الصكّ بإمارة عُبيد اللّه بن زياد على
العراقين قد كُتب في الديوان، فاستَعْمِلْه على الكوفة. فقَدِمها قبل أن يَقْدم
حُسين. وبايع مُسلمَ بن عَقيل أكثرُ من ثلاثين ألفاً من أهل الكوفة، وخرجوا معه
يريدون عُبيدَ اللّه بن زياد، فجعلوا كلما انتهوا إلى زُقاق انسلّ منهم ناس، حتى
بقي في شرذمة قليلة. قال: فجعل الناسُ يَرْمونه بالآجُر من فوق البيوت. فلما رأى
ذلك دَخل دار هانىء بن عُروة المُراديِّ، وكان له شَرَف ورأي، فقال له هانيء: إنَ
لي من ابن زياد مكاناً، وإني سوف أتمارض، فإذا جاء يَعودني فاضْرِب عنقه. قال:
فبلغ ابنَ زياد أن هانيء بن عُروة مريضٌ يقيء الدم، وكان شرَب المَغْرة فجعل
يَقيؤها، فجاءه ابنُ زياد يعوده. وقال هانيء: لا قلت لكم: اسقوني، فاخرُج إليه
فاضرب عنقه، يقولها لمُسلم ابن عقيل. فلما دخل ابنُ زياد وجلس، قال هانيء: اسقوني،
فَتثبّطوا عليه. فقال: ويحكم! اسقوني ولو كان فيه نفسي. قال: فخرج ابنُ زياد ولم يَصنع
الآخر شيئاً. قال: وكان أشجعَ الناس، ولكن أُخذ بقَلْبه. وقيل لابن زياد ما أراده
هانيء، فأرسل إليه. فقال: إني شاكٍ لا أستطيع. فقال: أئتوني به وإن كان شاكياً.
فأُسرجت له دابة
فركب ومعه عصا، وكان
أعرج، فجعل يسير قليلاً قليلاً، ثم يقف ويقول: ما أذهبُ إلى ابن زياد، حتى دخل على
ابن زياد، فقال له: يا هانيء، أما كانت يدُ زياد عندك بيضاء؟ قال: بلى. قال:
ويدي؟ قال: بلى. ثم قال له هانيء: قد كانت لك عندي ولأبيك، وقد أمنْتُك في نفسي
ومالي. قال: اخرج، فخرج. فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كَسرها، ثم قَدّمه
فضرب عُنقه. وأُرسل إلى مُسلم بن عَقيل، فخرج إليهم بسيفه، فما زال يقاتلهم حتى
أثْخنوه بالجراح، فأسروه. وأُتي به ابنَ زياد، فقدّمه ليضرب عنقَه، فقالت له:
دَعْني حتى أُوصي، فقال له: أَوْص. فنظر في وجوه الناس، فقالت لعمر بن سعد: ما أرى قرشيّاً هنا غيرَك،
فادْن مني حتى أُكَلِّمَك. فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيّد قريش ما كانت قريش؟
إنّ حُسيناً ومَن معه، وهم تِسْعون إنساناً ما بين رجل وامرأة، في الطريق،
فاردُدهم واكتب لهم ما أصابني، ثم ضُرب عنقه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما
قال لي؟ قال: اكتُم على ابن عمك. قال: هوِ أعظم من ذلك. قال: وما هو؟ قال: قال لي:
إنّ حُسينا أقبل، وهم تسعون إنساناَ ما بين رجل وامرأة، فاردُدهم واكتُب إليه بما
أصابني. فقال له ابنُ زياد: أما واللّه إذ دَللتَ عليه لا يُقاتله أحد غيرك. قال:
فبعث معه جَيْشاً، وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشَرَاف، فهمّ بأن يرجعِ ومعه خمسةٌ
من بني عَقيل، فقالوا: تَرجع وقد قُتل أخونا وقد جاءك من الكُتب ما نثق به! فقال
الحسينُ لبعض أَصحابه: واللّه مالي على هؤلاء من صَبر. قال: فلقيه الجيشُ على خُيولهم وقد
نزلوا بكَرْبلاء. فقال حسين: أي أرض هذه؟ قالوا: كَرْبلاء، قال: أرض كَرْب وبلاء. وأحاطت
بهم الخَيل. فقال الحُسين لعمر بن سعد: يا عمر،اختر منّي إحدى ثلاث خِصال: إما أن
تتركني أرجع كما جئتُ، وإما أن تُسيِّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده، وإمّا أن
تسيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمّ أن يُسيره إلى
يزيد. فقال له شَمِر بن ذي الجَوْشن: أمكنك اللّه من عدوّك فتسيّره! إلّا أن ينزل
في حُكمك. فأرسل إليه بذلك. فقال الحسين: أنا أنزل على حُكم ابن مَرْجانة! والله لا أفعل ذلك أبداً. قال: وأبطأ
عمر عن قِتاله. فأرسل ابنُ زياد إلى شَمِر بن ذي الجَوشن، وقال له: إن تقدّم عمر
وقاتَل، وإلا فاتركه وكُن مكانه. قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلاً من أهل
الكوفة، فقالوا: يَعرض عليكم ابنُ بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثَ خصال
فلا تَقْبلون منها شيئاً! فتحَولوا مع الحُسين، فقاتلوا. ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن عليّ، وكان من أجمل الناس،
فقال: لأقتلن هذا الفتى. فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به؟ دعه. فأبى وحمل
عليه فضرَبه بالسيف فقتله، فلما أصابته الضربة، قال: يا عمّاه، قال: لبّيك صوتاً قَل
ناصرُه، وكَثر واتره. وحمل الحُسين على قاتله فقطع يَده، ثم ضَربه ضربةً أخري
فقَتله، ثم اقتتلوا. عليّ بن عبد العزيز قال: حدّثني الزبير قال حدّثني محمد بن
الحسن قال: لما نَزل عمر بنُ سعد بالحُسين وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه
خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: قد نَزل بي ما تَرَوْن من الأمر، وإنّ
الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفُها واشمعلّت، فلم يبق منها إلا صُبابة
كصُبابة الإناء الأخْنس، عيش كالمرْعى الوبيل. ألا تَرون الحقّ لا يُعمل به،
والباطلَ لا يُنهى عنه؟ لِيرغب المؤمنُ في لقاء اللّه، فإني لا أرى الموتَ إلا
سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ذُلا ونَدَما. قُتل الحسينُ رضي اللّه عنه يوم
الجمعة، يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين بالطف من شاطىء الفرات، بموضع يدعى كَربلاء.
وولد لخمس ليالٍ من شعبان سن أربع من الهِجرة. وقُتِل وهو ابن سِتٍّ وخمسين سنة،
وهو صابغٌ بالسواد، قَتله سِنان بن أبي أنس، وأجهز عليه خولةُ بن يزيد الأصْبحِي،
من حِمْير. وحَز رأسه وأتى به عُبيد الله وهو يقول:فركب ومعه عصا، وكان أعرج، فجعل
يسير قليلاً قليلاً، ثم يقف ويقول: ما أذهبُ إلى ابن زياد، حتى دخل على ابن زياد،
فقال له: يا هانيء، أما كانت يدُ زياد عندك بيضاء؟ قال: بلى. قال: ويدي؟ قال: بلى.
ثم قال له هانيء: قد كانت لك عندي ولأبيك، وقد أمنْتُك في نفسي ومالي. قال: اخرج،
فخرج. فتناول العصا من يده وضرب بها وجهه حتى كَسرها، ثم قَدّمه فضرب عُنقه.
وأُرسل إلى مُسلم بن عَقيل، فخرج إليهم بسيفه، فما زال يقاتلهم حتى أثْخنوه
بالجراح، فأسروه. وأُتي به ابنَ زياد، فقدّمه ليضرب عنقَه، فقالت له: دَعْني حتى أُوصي،
فقال له: أَوْص. فنظر في وجوه الناس، فقالت لعمر بن سعد: ما أرى قرشيّاً هنا غيرَك،
فادْن مني حتى أُكَلِّمَك. فدنا منه، فقال له: هل لك أن تكون سيّد قريش ما كانت
قريش؟ إنّ حُسيناً ومَن معه، وهم تِسْعون إنساناً ما بين رجل وامرأة، في الطريق،
فاردُدهم واكتب لهم ما أصابني، ثم ضُرب عنقه. فقال عمر لابن زياد: أتدري ما قال
لي؟ قال: اكتُم على ابن عمك. قال: هوِ أعظم من ذلك. قال: وما هو؟ قال: قال لي: إنّ
حُسينا أقبل، وهم تسعون إنساناَ ما بين رجل وامرأة، فاردُدهم واكتُب إليه بما
أصابني. فقال له ابنُ زياد: أما واللّه إذ دَللتَ عليه لا يُقاتله أحد غيرك. قال:
فبعث معه جَيْشاً، وقد جاء حسيناً الخبرُ وهم بشَرَاف، فهمّ بأن يرجعِ ومعه خمسةٌ
من بني عَقيل، فقالوا: تَرجع وقد قُتل أخونا وقد جاءك من الكُتب ما نثق به! فقال
الحسينُ لبعض أَصحابه: واللّه مالي على هؤلاء من صَبر. قال: فلقيه الجيشُ على خُيولهم
وقد نزلوا بكَرْبلاء. فقال حسين: أي أرض هذه؟ قالوا: كَرْبلاء، قال: أرض كَرْب
وبلاء. وأحاطت بهم الخَيل. فقال الحُسين لعمر بن سعد: يا عمر،اختر منّي إحدى ثلاث
خِصال: إما أن تتركني أرجع كما جئتُ، وإما أن تُسيِّرني إلى يزيد فأضع يدي في يده،
وإمّا أن تسيرني إلى الترك أقاتلهم حتى أموت. فأرسل إلى ابن زياد بذلك، فهمّ أن
يُسيره إلى يزيد. فقال له شَمِر بن ذي الجَوْشن: أمكنك اللّه من عدوّك فتسيّره!
إلّا أن ينزل في حُكمك. فأرسل إليه بذلك. فقال الحسين: أنا أنزل على حُكم ابن
مَرْجانة! والله لا أفعل ذلك أبداً. قال: وأبطأ عمر عن قِتاله. فأرسل ابنُ زياد
إلى شَمِر بن ذي الجَوشن، وقال له: إن تقدّم عمر وقاتَل، وإلا فاتركه وكُن مكانه.
قال: وكان مع عمر بن سعد ثلاثون رجلاً من أهل الكوفة، فقالوا: يَعرض عليكم ابنُ
بنت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثلاثَ خصال فلا تَقْبلون منها شيئاً! فتحَولوا
مع الحُسين، فقاتلوا. ورأى رجل من أهل الشام عبد الله بن حسن بن عليّ، وكان من
أجمل الناس، فقال: لأقتلن هذا الفتى. فقال له رجل: ويحك! ما تصنع به؟ دعه. فأبى
وحمل عليه فضرَبه بالسيف فقتله، فلما أصابته الضربة، قال: يا عمّاه، قال: لبّيك
صوتاً قَل ناصرُه، وكَثر واتره. وحمل الحُسين على قاتله فقطع يَده، ثم ضَربه ضربةً أخري فقَتله، ثم اقتتلوا.
عليّ بن عبد العزيز قال: حدّثني الزبير قال حدّثني محمد بن الحسن قال: لما نَزل
عمر بنُ سعد بالحُسين وأيقن أنهم قاتلوه، قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه،
ثم قال: قد نَزل بي ما تَرَوْن من الأمر، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر
معروفُها واشمعلّت، فلم يبق منها إلا صُبابة كصُبابة الإناء الأخْنس، عيش كالمرْعى
الوبيل. ألا تَرون الحقّ لا يُعمل به، والباطلَ لا يُنهى عنه؟ لِيرغب المؤمنُ في
لقاء اللّه، فإني لا أرى الموتَ إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا ذُلا ونَدَما.
قُتل الحسينُ رضي اللّه عنه يوم الجمعة، يوم عاشوراء، سنة إحدى وستين بالطف من
شاطىء الفرات، بموضع يدعى كَربلاء. وولد لخمس ليالٍ من شعبان سن أربع من الهِجرة. وقُتِل
وهو ابن سِتٍّ وخمسين سنة، وهو صابغٌ بالسواد، قَتله سِنان بن أبي أنس، وأجهز عليه
خولةُ بن يزيد الأصْبحِي، من حِمْير. وحَز رأسه وأتى به عُبيد الله وهو يقول:
أوْقِر رِكابي فِضّةً
وذَهبَا ... أنا قتلتُ المَلِك المُحجّبَا
خيرَ عباد اللهّ أمّا
وأبَا
فقال له عبيدُ الله
بن زياد: إذا كان خير الناس أمَّا وأبَا وخير عباد اللهّ، فلِمَ قتلتَه؟ قَدّموه
فاضربوا عنقه، فضُربت عنقه. رَوْح بن زِنْباع عن أبيه عن الغاز بن ربيع الجُرشي
قال: إني لعند يزيدَ ابن معاوية إذا أقبل زَحْر بن قيس الجُعفي حتى وقف بين يَدَي
يزيد، فقال: ما وراءك يا زَحرِ! فقال: أبشرّك يا أمير المؤمنين بفَتح الله ونَصره، قَدِم علينا
الحُسين في سبعةَ عشرَ رجلاً من أهل بيته وستين رجلاً من شيعته، فبَرزنا إليهم وسألناهم
أن يَسْتسلموا وينزلوا على حُكم الأمير أو القتال، فأبوا إلا القتال، فغدونا عليهم
مع شُروق الشمس، فأحطنا بهم من كل ناحية، حتى أخذت السيوفُ مأخَذَها من هام
الرجال، فجَعلوا يلوذون منّا بالآكام والحُفر، كما يلوذ الحَمام من الصَقر، فلم
يكنَ إِلا نَحر جَزور أو قَوم قائم حتى أتينا على أخرهم، فهاتيك أجسامَهم
مُجزَّرة، وهامَهم مُرمَلة، وخدودَهم مُعفَّرة، تَصهرُهمِ الشمس، وتَسفي عليهم الريحُ
بقاع سَبْسب، زوارهم العِقْبان والرخم. قال: فَدمعت عينا يزيد، وقال: لقد كنت أقنع
من طاعتكم بدون قتل الحُسين، لعن اللهّ ابنَ سُمية! أما واللّه لو كنتُ صاحبَه لتركتُه،
رحم اللّه أبا عبد اللّه وغَفر له. عليّ بن عبد العزيز عن محمد بن الضحّاك بن
عثمان الخُزاعي عن أبيه، قال: خرج الحسين إلى الكوفة ساخطاً لولاية يزيدَ بن
معاوية. فكتب يزيدُ إلى عُبيد اللهّ بن زياد، وهو واليه بالعراق: إنه بلغني أن
حُسيناً سار إلى الكوفة، وقد ابتُلي به زمانُك بين الأزمان، وبلدُك بين البلدان،
وابتليت به من بين العُمال، وعنده تُعتق أو تعود عبدا. فقتله عبيدُ اللّه وبعث
برأسه وثَقَله إلى يزيد. فلما وُضع الرأسُ بين يديه تمثّل بقول حُصين بن الحُمام
المُرِّي:
نُفلِّق هامًا من
رجال أعزّةٍ ... علينا وهم كانوا أعق وأظْلمَا
فقال له عليّ بن
الحُسين، وكان في السبْي: كتابُ الله أولى بك من الشِّعر، يقول اللّه: " ما
أصاب مِنْ مُصيبة في الأرض ولا في أنْفسكم إلا في كتاب مِن قَبْل أن نَبرأها إنّ
ذلك علىِ الله يسير. لكي لا تَأسوْا على ما فاتكم ولا تَفْرحوا بما آتاكم والله لا
يُحب كُل مُختال فخور " . فغضب يزيدُ وجعل يَعبث بلِحْيته، ثم قال: غيرُ هذا
من كتاب اللّه أولى بك وبأبيك، قال اللهّ: " وما أصابكم من مُصيبة فبما
كَسَبت أيديكم ويَعْفو عن كثير " . ما ترون يا أهل الشام في هؤلاء؟ فقال له
رجل منهم: لا تَتخذ من كَلْب سَوْء جَرْوا. قال النعمان بن بَشير الأنصاريّ: انظُر
ما كان يَصنعه رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم بهم لو رآهم في هذه الحالة فاصْنعه
بهم. قال: صدقت، خَلّوا عنهم واضربوا عليهم القِباب. وأمال عليهمِ المَطبخ وكساهم
وأخرج إليهم جوائزَ كثيرة. وقال: لو كان بين ابن مَرجانة وبينهم نسب ما قَتلهم. ثم
رَدّهم إلى المدينة. الرٍّياشي قال: أخبرني محمّد بن أبي رَجاء قال: أخبرني
أبو مَعشر عن يزيدَ ابن زياد عن محمد بن الحُسين بن عليّ بن أبي طالب، قال: أتي
بنا يزيدُ بن معاوية بعدما قُتل الحسين، ونحن اثنا عشر غُلاما، وكان أكبَرنا يومئذ
عليُّ ابن الحُسين، فأدْخِلْنا عليه، وكان كل واحد منا مَغلولةً يدُه إلى عُنقه،
فقال لنا: أحرزتْ أنفسَكم عَبيدُ أهل العراق! وما علمتُ بخروج أبي عبد اللّه ولا
بقَتْله. أبو الحسن المدائني عن إسحاق عن إسماعيل بن سُفيان عن أبي موسى عن الحَسن
البصري، قال: قتِل مع الحسين ستةَ عشرَ من أهل بيته. واللّه ما كان على الأرض
يومئذ أهلُ بيت يُشبّهون بهم. وحَمل أهلُ الشام بناتِ رسول اللّه صلى الله عليه
وسلم سبايَا على أحقاب الإبل. فلما أدخلن على يزيد، قالت فاطمةُ بنت الحُسين: يا يزيد،
أبناتُ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبايا! قال: بلى حرائر كرام، ادخُلي على
بنات عمك تجديهنّ قد فَعلن ما فعلتِ. قالت فاطمة: فدخلتُ إليهن فما وجدت فيهن
سِفيانيّة إلا مُلْتدمة تبكي. وقالت بنت عقيل بن أبي طالب تَرثِي الحُسين ومن أصيب
معه:
عَيْني ابكي بعَبْرةٍ
وعَويل ... واندُبي إن ندبتِ آل الرَّسولِ
ستة كُلّهم لصُلْبِ
علّي ... قد أصيبوا وخَمسة لعَقيل
ومن حديث أم سَلمة
زوج صلى الله عليه وسلم، قالت: كان عندي النبيّ على ومعي الحُسين فدنا من النبيّ
صلى الله عليه وسلم، فأخذتُه فبكى، فتركتُه فدنا منه، فأخذتُه فبكى، فتركتُه. فقال
له جبريل: أتحبه يا محمد؟ قال: نعم. قال: أمَا إن أمتك ستَقتله وإن شئت أريتُك من تُربة الأرض التي يُقتل بها.
فبسط جناحَه، فأراه منها. فبكى النبي صلى الله عليه وسلم. محمدُ بن خالد قال: قال
إبراهيم النَخَعي: لو كنتُ فيمن قَتل الحسينَ ودخلتُ الجنة لاستحييتُ أن أنظُر إلى
وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابن لَهيعة عن أبي الأسود قال: لقيتُ رأسَ
الجالوت، فقال: إن بيني وبين داود سبعين أبا، وإن اليهود إذا رأوني عظَموني
وعَرفوا حقَي وأوجبوا حِفْظي، وإنه ليس بينكم وبين نبيّكم إلا أبٌ واحد قتلتم
ابنه. ابن عبد الوهاب عن يَسار بن عبد الحكم قال: انتُهب عسكَرُ الحسين فوُجد فيه
طِيب، فما تطيّبت به امرأة إلا بَرِصت. جعفر بن محمد عن أبيه قال: بايع رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم الحسنُ والحسين وعبد اللهّ بن جعفر وهم صغار، ولم يُبايع قطُّ
صغيرٌ إلا هم. عليُ بن عبد العزيزِ عن الزُّبير عن مُصعب بن عبد اللّه قال: حَجِّ الحُسين
خمسةً وعشرين حِجَّة مُلبِّياً ماشياً. وقيل لعلّي بن الحسين: ما كان أقلً ولدِ
أبيك! قال: العَجب كيف وُلدتُ له؟ كان يصلِّي في اليوم والليلة ألْفَ ركعة، فمتى
كان يتفرّغ للنساء. يحيى بن إسماعيل عن الشَعبي أنّ سالما قال: قيل لأبي: عبدِ
اللّه، بن عمر: إن الحُسين توجه إلى العراق، فلحقه على ثلاث مراحل من المدينة،
وكان غائباً عند خروجه، فقال أين تريد؟ فقال: أريد العراق، وأخرج إليه كُتب القوم،
ثم قال: هذه بيعتهم وكُتبهم. فناشده اللّه أن يرجع، فأبى. فقال: أحدثك بحديث ما حَدَّثتُ به أحداً
قبلك: إنّ جبريل أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُخيّره بين الدنيا والآخرة،
فاختار الآخرة، وإنكم بِضعة منه، فواللّه لا يليها أحد من أهل بيته أبداً، وما
صَرفها اللّه عنكم إلا لما هو خيرٌ لكم، فارجع، فأنت تَعرف غدر أهل العراق وما كان
يَلقى أبوك منهم. فأبى فاعتنقه، وقال: استودعتك اللّهَ من قَتيل. وقالت الفرزذق: خرجتُ
أريد مكةَ، فإذا بقِباب مضروبة وفَساطيط، فقلت: لمن هذه؟ قالوا: للحُسين، فعدلتُ
إليه فسلّمت عليه، فقالت: من أين أقبلتَ؟ قلت: من العراق. قال: كيف تركت الناس؟
قلتُ: القلوب معك، والسيوف عليك، والنَصر من السماء.
تسمية من قتل مع
الحسين بن علي رضي الله عنهما من أهل بيته ومن أسر منهم قال أبو عبيد: حدَّثنا
حجاج عن أبي مَعشر قال: قتل الحُسين بن عليِّ، وقتل معه عثمان بن عليّ، وأبو بكر بن عليّ،
وجعفر بن عليّ، والعباس بن علي، وكانت أمهم أمٌ البنين بنت حَرام الكِلابيّة، وإبراهيم
بن عليّ لأم ولد له، وعبدُ الله بن حسن، وخمسةٌ من بني عَقِيل بن أبي طالب، وعَوْن
ومحمد ابنا عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب، وثلاثة من بني هاشم. فجميعهم سبعةَ عشر
رجلاً. وأسر اثنا عشر غُلاماً من بنى هاشم، فيهم: محمدُ بن الحُسين، وعلي بن الحُسين، وفاطمةُ بنت الحسين. فلم تَقم
لبني حَرب قائمة حتى سَلَبهم الله مُلكَهم. وكَتب عبدُ الملك بن مروان إلى الحجَّاج
بن يوسف: جنِّبْني دماء أهل هذا البيت، فإني رأيت بني حَرب سُلبوا مُلْكهم لما
قتلوا الحُسين.
حديث الزهري في قتل
الحسين
رضي الله عنه حدَّثنا
أبو محمد عبد الله بن مَيسرة قال: حدَثنا محمد بن مُوسى الحَرَشيّ قال: حدَّثنا
حمَاد بن عيسى الجُهني عن عمر بن قيس، قال: سمعتُ ابن شهاب الزُهري يُحدِّث عن،
سعيد بن المُسَيِّب عن أبي هُريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال حمَاد بن
عيسى: وحدَّثني به عبّاد بن بِشرْ عن عَقيل عن الزُّهري عن سَعيد بن المسيّب عن
أبي هُريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرّتين.
وقالا: قال الزهري: خرجتُ مع قُتيبة أريد المَصيصة، فقَدِمنا على أمير المُؤمنين
عبد الملك بن مروان، وإذا هو قاعد في إيوان له، وإذا سماطان من الناس على باب
الإيوان، فإذا أراد حاجةً قالها للذي يَليه، حتى تَبْلغ المسألة بابَ الإيوان، ولا
يمشي أحدٌ بين السماطين. قال الزُّهري: فجئنا فقمنا على باب الإيوان، فقال عبدُ
الملك للذي عن يمينه: هل بَلغكم أي شيء أصبحَ في بيت المقدس ليلة قُتل الحسين بن
عليّ؟ قال: فسأل كل واحد منهما صاحبَه، حتى بلغت المسألةُ البابَ، فلم يَردّ أحدٌ
فيها شيئاً. قال الزًهري: فقلت: عندي في هذا عِلْم. قال: فرجعت المسألةُ رجلاً عن رجل حتى انتهت إلى عبد الملك. قال:
فدُعيتُ، فمشيتُ بين السماطين، فلما انتهيتُ إلى عبد الملك سَلّمت عليه. فقال لي: من أنت؟
قلت: أنا محمد بن مسلمٍ بن عُبيد اللّه بن شهاب الزُّهري. قال: فعرِّفني
بالنَّسب، وكان عبدُ الملك طلّابة للحديث، فعرّفتُه. فقال: ما أصبح ببيت المَقدس
يوم قُتل الحُسين بن عليّ بن أبي طالب؟ - وفي رواية عليّ بن عبد العزيز عن إبراهيم
بن عبد اللّه عن أبي مَعشر عن محمد بن عبد اللّه ابن سعيد بن العاص عن الزُّهري،
أنه قال: الليلةَ التي قُتل في صبيحتها الحُسين بن عليّ قال الزُّهري: نعم،
حدَّثني فلان - ولم يُسَمِّه لنا - أنه لم يُرفع تلك الليلة، التي صبيحتها قُتل
الحسين بن علي بن أبي طالب، حجرٌ في بيت المقدس إلا وُجد تحته دمٌ عَبيط. قال عبدُ
الملك: صدقتَ، حدَّثني الذي حدَّثك، وإني وإياك في هذا الحديث لَغريبان. ثم قال
لي: ما جاء بك؟ قلت: جئتُ، مُرابطاً. قال: الزم الباب، فأقمتُ عنده، فأعطاني مالاً
كثيراً. قال: فاستأذنتُه في الخروج إلى المدينة، فأذِن لي ومعي غلامٌ لي، ومعي
مالٌ كثير في عَيبة، ففقدتُ العَيبة، فاتهمتُ الغلام، فوعدتُه وتواعدتُه، فلم يُقر
لي بشيء. قال: فصرعتُه وقعدتُ عَلَى صَدْره ووضعتُ مِرْفقي على وجهه، وغمزتُه
غمزةً وأنا لا أريد قتلَه، فمات تحتي، وسُقط في يدي. وقَدِمتُ المدينة فسألت سعيدَ بن المُسيّب وأبا عبد الرحمن وعُروة بن الزُّبير
والقاسمَ بن محمد وسالِم بن عبد اللّه، فكلُّهم قال: لا نعلم لك توبةً. فبلغ ذلك
عليَّ بن الحُسين، فقال: عليَ به. فأتيتُه فقصصتُ عليه القِصة. فقال: إن لذنبك
توبةَ، صُمْ شهرين مُتتابعين وأعتق رَقبة مُؤْمنة وأطعم ستين مسكيناً، ففعلتُ. ثم
خرجتُ أريد عبد الملك، وقد بلغه أني أتلفتُ المال، فأقمتُ ببابه أياماً لا يُؤذن
لي بالدُّخول، فجلستُ إلى مُعلِّم لولده، وقد حَذِق ابنَ لعبد الملك عنده، وهو
يُعلمه ما يتكلّم به بين يدي أمير المؤمنين إذا دخل عليه، فقلت لمؤدّبه: ما تأمُل
من أمير المؤمنين أن يَصلك به فلك عندي، ذلك على أن تُكلِّم الصبيّ إذا دخل عَلَى
أمير المؤمنين، فإذا قالَ له: سَل حاجتكَ، يقول له: حاجتي أن تَرضى عن الزهري. ففَعل،
فضحك عبدُ الملك وقال: أين هو؟ قال: بالباب. فأذن لي، فدخلت، حتى إذا صرتُ بين
يديه، قلت: يا أمير المؤمنين، حَدَّثني سعيدُ بن المسيّب عن أبي هريرة عن النبيّ
صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يُلدغ المؤمن من جُحر مرتين.
وقعة الحرة
أبو اليقظان قال: لما
حضرة معاويةَ الوفاةُ دعا يزيدَ، فقال له: إن لك من أهل المدينة يوماً، فإذا فعلوا
فارمهم بمُسلم بن عُقبة، فإنه رجل قد عرَفْنا نصيحتَه. فلما كانت سنة ثلاث وستين،
قدم عثمانُ بن محمد بن أبي سُفيان المدينةَ عاملاً عليها ليزيدَ بن معاوية، وأوفد
على يزيد وفداً من رجال المدينة، فيهم عبدُ اللّه بن حَنْظلة غَسيل الملائكة، معه
ثمانيةُ بنين له، فأعطاه مائةَ ألف درهم، وأعطى بنيه كل رجل منهم عشرةَ آلاف، سوى
كُسوتهم وحُملانهم. فلما قدم عبدُ اللّه بن حنظلة المدينة، أتاه الناس، فقالوا: ما
وراءك؟ قال: أتيتكم من عند رجل والله لو لم أجد إلا بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم.
قالوا: فإنه قد بلغنا أنه أكرمك وأجازك وأعطاك. قال: قد فَعل، وما قبلتُ ذلك منه
إلا أن أتقوّى به عليه أي عَلَى قتال يزيد - وحضَّ الناسَ عَلَى يزيدَ فأجابوه.
فكتب عثمانُ بن محمد إلى يزيد بما أجمع عليه أهلُ المدينة من الخلاف. فكتب إليهم
يزيد بن معاوية: بسم اللهّ الرحمن الرحيمٍ، أما بعد. فإن اللّه لا يُغيرُ ما بقوم حتى يُغيروا
ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال. وإني
قد لَبستكم فأخلفتُكم، ورفعتكمِ عَلَى رأسي، ثم عَلَى عَيني، ثم على فَمي، ثم
عَلَى بطني، واللّه لئن وضعتكم تحت قدمي لأطانكم وطأة أقِلّ بها عددَكم، وأترككم
بها أحاديث، تنتسخ أخبارُكم مع أخبار عاد وثمود. فلما أتاهم كتابُه حَمِي القوم، فقدَّمت الأنصار عبدَ اللّه بن حنظلة عَلَى
أنفسهم، وقدَّمت قُريش عبدَ اللهّ بن مُطيع، ثم أخرجوا عثمانَ بن محمد بن أبي
سفيان من المدينة، ومروانَ بن الحكم، وكُل من كان بها من بني أمية. وكان عبدُ
اللّه بن عباس بالطائف، فسأل عنهم، فقيل له: استعملوا عبدَ اللّه بن مُطيع عَلَى
قريش، وعبد اللّه بن حَنظلة عَلَى الأنصار. فقال: أميران! هَلك القوم. ولما بلغ يزيد ما فعلوا أمر بقُبة فضُربت له
خارجاً عن قَصره، وقَطع البُعوث عَلَى أهل الشام، فلم تمْض ثالثةٌ حتى توافت
الحشود. فقَدِم عليهم مُسلم بن عُقبة المُرِّي، فتوجّه إليهم. وقد عَمد أهلُ المدينة
فأخرجوا إلى كل ماء لهم بينهم وبين الشام، فصبّوا فيه زِقّاً من قَطران وغَوّروه،
فأرسل اللّه عليهم المطر، فلم يَسْتقوا شيئاً حتى وردوا المدينة. قال أبو اليقظان
وغيره: إنّ يزيدَ بن مُعاوية ولّى مسلمَ بن عُقبة، وهو قد اشتكى فقال له: إن حَدث
بك حَدَث فاستعمل حُصين بن نمير. فخرج حتى قدم المدينةَ، فخرج إليه أهلُها في عُدة وهيئة وجُموع كثيرة
لم يُرَ مثلها. فلما رآهم أهلُ الشام هابوهم وكرهوا قتالَهم. فأمر مُسلم بن عقبة
بسَريره فوُضع بين الصَّفين وهو عليه مريض، وأمر مُنادياً ينادي: قاتِلوا
عن أميركم أو دَعوه. فجدّ الناس في القتال، فَسمعوا التكبيرَ من خلفهم في جوف
المدينة، فإذا هم، قد أقْحَم عليهم بنو حارثة أهلَ الشام، وهم عَلَى الجُدر،
فانهزم الناس. وعبد الله بن حَنظلة متساند إلى بعض بَنيه يَغُطُّ نوماً، فلما فتحِ
عينيه فرأى ما صَنعوا أمر أكبر بنيه، فتقدَم حتى قُتل، فلم يزل يقدِّم واحداً
وأحدا حتى أتي عَلَى آخرهم، ثم كسر غِمْد سيفه وقاتل حتى قُتِل. ودخل مسلمُ بن
عقبة المدينة، وتغلّب عَلَى أهلها، ثم دعاهم إلى البيعة على أنهم خوَلٌ ليزيد ابن
معاوية يَحكم في دمائهم وأموالهم وأهليهم، فبايعوا، حتى أتي بعبد اللّه ابن زَمعة،
فقال له: عَلَى أنك خَوَل لأمير المؤمنين يحكم في مالك ودمك وأهلك. قال: لن أبايع
على أني بزعم أمير المؤمنين يحكم في دمي ومالي وأهلي. فقال مسلم بن عقبة: اضربوا عنقَه،
فوثب مروان بن الحكم فضمّه إِليه، وقال: نُبايعك على ما أحببت. فقال: لا
واللّه لا أقيلها إياه أبداً، إن تَنح وإلا فاقتلوهما جميعاً. فتركه
مروان وضُرب عنقه. وهَرب عبدُ الله بن مطيع حتى لحق بمكة، فكان بها حتى قُتل مع
عبد اللّه بن الزبير في أيام عبد الملك بن مروان، وجعل يُقاتل أهلَ الشام وهو يقول:
أنا الذي فررتُ يوم
الحَرّه ... والشيخُ لا يَفرُّ إلا مَرة
فاليومَ أجْزى كَرّة
بقَرّة ... لا بأس بالكَرة بعد الفَرّة
أبو عَقيل الدوْرقيّ
قال: سمعتُ أبا نَضرة يحدّث، قال: دخل أبو سعيد الخدريّ يوم الحَرّة في غار، فدخل
عليه رجل من أهل الشام، وفي عُنق أبي سعيد السّيف، فوضع أبو سَعيد السيفَ وقال:
بُؤ بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين. فقال: أبو سعيدٍ الخدري
أنت؟ قال: نعم. قال: فاستغفر لي، قال: غَفر اللّه لك. وأمر مُسلم بن عُقبة بقتل
مَعقلِ بن سِنان الأشجَعي، صبراً، ومحمد بن أبي الجهم بن حُذيقة العَدوي، صبراً
وكان جميعُ من قتل يوم الحرة من قريش والأنصار ثلثَمائة رجل وستة رجال. ومن
الموالي وغيرهم أضعافُ هؤلاء. وبعث مًسلم بن عُقبة برؤوس أهل المدينة إلى يزيد، فلما
ألقيت بين يديه جَعل يتمثل بقول ابن الزِّبْعري يوم أحد:
ليت أشياخِي ببدرٍ
شَهِدُوا ... جَزَع الخَزْرج من وَقْع الأسَل
لأهلّوا واستهلوا
فرحاً ... ولقالوا ليزيدَ: لا فَشَل
فقال له رجل من أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ارتددتَ عن الإسلام يا أمير المؤمنين! قال: بلى،
نَستغفر الله. قال: والله لا ساكنتُك أرضاً أبداً، وخرج عنه. ولما انقضى أمرُ
الحَرّة توجه مُسلم بن عُقبة بمن معه من أهل الشام إلى مكة يُريد ابنَ الزُبير وهو
ثقيل، فلما كان بالأبواء حَضره أجلُه، فدعا حُصين ابن نمير، فقال له: إني أرسلتُ
إليك فلا أدري أقدَمك على هذا الجيش أم أقدَمك فأضرب عنقك؟ قال: أصلحك اللّه، أنا
سهمُك فارم بي حيثُ شئت. قال: إنك أعرابي جلْف جافٍ، وإنّ هذا الحي من قريش لم
يمكنهَم أحد قط من أذنه إلا غَلبوه على رأيه، فسِر بهذا الجيش، فإذا لقيتَ القومَ فإياك
أن تُمكنهم من أذنك، لا يكن إلا على الوِقاف، ثم الثقاف، ثم الانصراف.
ومات مُسلم بن عُقبة،
وليصل بالناس الضحّاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم، فلمّا مات صلى عليه الوليد
بن عقبة لا رحمه الله. ومضى حُصين بن نُمير بجَيشه ذلك. فلم يزل محاصرًا لأهل مكة
حتى مات يزيدُ، لا رحمه الله، وذلك خمسون يوماً. ونَصب المجانيق على الكعبة
وحَرَقها يوم الثلاثاء لخمس خلون من ربيع الأول سنة أربع وستين، وفيها مات يزيد بن
معاوية بِحوارين.
وفاة يزيد بن
معاويةمات يزيد بن معاوية بحُوارين من بلاد حِمْص، وصلى عليه ابنُه معاوية ابن
يزيد بن مُعاوية ليلة البدرِ في شهر ربيع الأول. وأم يزيد ميسون بنت بَحْدل
الكَلْبي، ومات وهو ابنُ ثمانٍ وثلاثين سنة، وكانت ولايتُه ثلاثَ سنين وتسعة أشهر
واثنين وعشرين يوماً.
خلافة معاوية بن يزيد
بن معاويةواستُخلف معاويةُ بن يزيد بن معاوية في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين،
وهو ابنُ إحدى وعشرين سنة، ومات بعد أبيه بأربعين يوماً، ولم يزل مريضاً طولَ
ولايته لا يَخرج من بيته، فلما حضرتْه الوفاةُ قيل له: لو عهدتْ إلى رجل من أهل
بيتك واستَخلفت خليفةً؛ قال: لم أنتفع بها حيا، فلا أقلدها ميتا، لا يذهب بنو أمية
بحلاوتها وأتجرّع مرارتها، ولكن إذا مِت فَلْيصل عليّ الوليدُ بن عُقبة وليصلِّ
بالناس الضحاك بن قيس حتى يختار الناس لأنفسهم. فلما مات صلّى عليه الوليد بن عقبة
وصلّى بالناس الضَحاك بن قيس بدمشق، حيث قامت دولة بني مروان.
فتنة ابن الزبير
قال عليّ بن عبد
العزيز: حدّثنا أبو عُبيد عن حجَّاج عن أبي معشر، قال: لما مات مُسلم بن عُقبة سار
حُصين بن نُمير حتى أتى مكة، وابنُ الزبير بها، فدعاهم إلى الطاعة، فلم يُجيبوه،
فقاتلهم وقاتله ابن الزبير. فقُتل المُنذرُ بن الزُبير يومئذ ورجلاًن من إخوته،
ومُصعب بن عبد الرحمن بن عوف، والمسور بن مخرمة. وكان حُصين بن نُمير قد نَصب
المجانيق على أبي قُبيس وعلى قُعيْقعان، فلم يكن أحدٌ يقدر أن يطوف بالبيت. فأسند
ابنُ الزبير ألواحاً من ساجٍ على البيت، وألقى عليها الفُرشَ والقطائف، فكان إذا
وَقع عليها الحجر نبا عن البيت. فكانوا يطوفون تحت الألواح، فإذا سمعوا صوتَ الحَجر
حين يقع على الفرش والقطائف كَبَروا، وكان ابن الزبير قد ضَرب فُسطاطا في ناحية،
فكلما جُرح رجل من أصحابه أدخله ذلك الفسطاط، فجاء رجل من أهل الشام بنار في طرف
سنانه، فأشعلها في الفُسطاط، وكان يوماً شديد الحر، فتمزّق الفُسطاط، فوقعت النار
على الكَعبة، فاحترق الخشب والسقف، وانصدعِ الرُّكن، واحترقت الأستار وتساقطت إلى
الأرض. قال: ثم اقتتلوا مع أهل الشام أياماً بعد حريق الكعبة. قال أبو عبيد:
احترقت الكعبة يوم السبت لست خَلون من ربيع الأول سنة أربع وستين، فجلس أهلُ مكة
في جانب الحِجْر ومعهم ابنُ الزبير، وأهل الشام يَرمونهم بالنَّبل والحجارة، فوقعت
نَبلة بين يدي ابن الزبير، فقال: في هذه خبر. فأخذها فوجد فيها مكتوباً: مات يزيدُ
بن معاوية يوم الخميس لأربعَ عشرةَ خلت من ربيع الأول. فلما قرأ ذلك قال: يا أهل
الشام، يا أعداء الله، ومُحرِّقي بيت اللّه، علامَ تُقاتلون وقد مات طاغيتُكم!
فقالت حُصين بن نمير: موعدُك البطحاء الليلة أبا بكر. فلما كان الليل خَرج ابنُ الزًّبير بأصحابه، وخَرج حُصين بأصحابه إلى البطحاء.
ثم ترك كُلّ واحد منهما أصحابه وانفردا فنزلا. فقال حُصين: يا أبا بكر، أنا سيّد
أهل الشام لا أدافَع، وأرى أهلَ الحجاز قد رَضُوا بك، فتعالَ أُبايعْك الساعةَ
ويهدر كل شيء أصبناه يومَ الحَرّة، وتَخرج معي إلى الشام، فإني لا أحب أن يكون
المُلك بالحجاز. فقال: لا واللّه لا أفعل ولا أمنُ مَن أخافَ الناسَ وأحرق بيتَ
اللّه وانتهك حُرمته. قال: بل فافعل على أن لا يَختلف عليك اثنان. فأبي ابنُ
الزبير. فقال له حُصين: لَعنك اللّه ولَعن مَن زعم أنك سيّد! واللهّ لا تُفلح
أبداً! اركبوا يا أهل الشام. فركبوا واْنصرفوا. أبو عُبيد عن الحجّاج عن أبي مَعشر قال: حَدّثنا
بعضُ المَشيخة الذين حَضروا قِتَالَ ابن الزبير، قال: غَلب حُصين بن نُمير على مكّة
كُلها إلا الحِجْر. قال: فواللّه إني لجالس عنده، معه نفر من القُرشيين: عبدُ
اللّه بن مطيع والمختار بن أبي عُبيد، والمِسْور بن مَخْرمة، والمُنذر بن الزُبير:
إذ هَبّت رُويحة، فقال المختار: واللّه إني لأرى في هذه الرُّويحة النَّصر،
فاحملوا عليهم. فحملوا عليهم حتى أَخرجوهم من مكة، وقَتل المختارُ رجلاً، وقَتل
ابنُ مطيع رجلاً، ثم جاءنا على إثر ذلك موتُ يزيدَ بعد حريق الكعبة بإحدى عشرةَ
ليلة، وانصرف حُصين بن نُمير وأصحابه إلى الشام، فوجدوا مُعاويةَ بن يزيد قد مات
ولم يَستخلف، وقال: لا أتحمّلها حيّا وميتا. فلما مات معاوية بن يزيد بايع أهلَ
الشام كلّهم ابنَ الزبير إلا أهلَ الأرْدُنّ، وبايع أهلُ مصر أيضاً ابنَ الزبير.
واستخلف ابنُ الزبير الضحّاكَ بن قيس الفِهريِّ على أهل الشام. فلما رأى ذلك رجالُ
بني أمية وناسٌ من أشراف أهل الشام ووجوههم، منهم رَوحُ بن زِنْباع وغيره، قال
بعضهم لبعض: إنّ المُلك كان فينا أهلَ الشام، فانتقل عنّا إلى الحجاز، لا نرضى
بذلك، هل لكم أنْ تأخذوا رجلاً منّا فينظرَ في هذا الأمر؟ فقال: استخيروا
اللّه. قال: فرأى القومُ أنه غلامٌ حَدث السن، فخرجوا من عنده، وقالوا: هذا حَدث.
فأتوا عمرَو بنَ سعيد بن العاص، فقالوا له: ارفع رأسك لهذا الأمر، فرأوه حَدثاً
فجاءوا إلى خالد بن يزيد بن معاوية، فقالوا له: ارفع رأسَك لهذا الأمر، فرأوه حَدثا حريصاً على هذا الأمر. فلما خرجوا
من عنده قالوا: هذا حدث. فأتوا مروانَ ابن الحكم، فإذا عنده مصباح، وإذا هم يَسمعون
صوته بالقُرآن، فاستأذنوا ودخلوا عليه، قالوا: يا أبا عبد اْلملك، ارفع رأسَك لهذا
الأمر. فقال: استخيروا اللهّ واسألوا أن يختار
لأمة محمد صلى الله
عليه وسلم خيرها وأعدلها. فقال له روحُ ابن زِنباع: إنّ معي أربعَمائة من جُذام،
فأنا أمرهم أن يتقدّموا في المسجد غداً، ومُر أنت ابنك عبدَ العزيز أن يخطب الناسَ
ويَدْعوهم إليه، فإذا فعل ذلك تنادَوْا من جانب المسجد: صدقتَ صدقتَ، فيظنّ الناسُ
أن أمرَهم واحد. فلما اجتمع الناسُ قام عبدُ العزيز فحَمِد اللّه وأثنى عليه، ثم
قال: ما أحدٌ أولى بهذا الأمر من مَروان كبير قُريش وسيّدها، والذي نفسي بيده لقد
شابت ذراعاه من الكِبَر. فقال الجُذاميون: صدقتَ صدقتَ. فقال خالدُ بن يزيد: أمر
دبِّر بليل. فبايعوا مروانَ بن الحكم. ثم كان من أمره مع الضّحاك بن قيس بمَرْج راهط
ما سيأتي ذكرُه بعد هذا في دولة بني مروان.أمة محمد صلى الله عليه وسلم خيرها
وأعدلها. فقال له روحُ ابن زِنباع: إنّ معي أربعَمائة من جُذام، فأنا أمرهم أن
يتقدّموا في المسجد غداً، ومُر أنت ابنك عبدَ العزيز أن يخطب الناسَ ويَدْعوهم
إليه، فإذا فعل ذلك تنادَوْا من جانب المسجد: صدقتَ صدقتَ، فيظنّ الناسُ أن أمرَهم
واحد. فلما اجتمع الناسُ قام عبدُ العزيز فحَمِد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: ما
أحدٌ أولى بهذا الأمر من مَروان كبير قُريش وسيّدها، والذي نفسي بيده لقد شابت
ذراعاه من الكِبَر. فقال الجُذاميون: صدقتَ صدقتَ. فقال خالدُ بن يزيد: أمر دبِّر
بليل. فبايعوا مروانَ بن الحكم. ثم كان من أمره مع الضّحاك بن قيس بمَرْج راهط ما
سيأتي ذكرُه بعد هذا في دولة بني مروان.
دولة بني مروان ووقعة
مرج راهط
أبو الحسن قال: لما
مات معاوية بن يزيد اختلف الناسُ بالشام، فكان أوّلَ من خالف من أمراء الأجناد
النعمانُ بن بَشير الأنصاري، وكان على حِمْص، فدعا لابن الزُبير، فبلغ خبرُه زفرَ
بن الحارث الكِلابيّ، وهو بقِنَسْرين، فدعا إلى ابن الزبير أيضاًً بدمشق سراً، ولم
يُظهر ذلك لمن بها من بني أمية وكلب. وبلغ ذلك حسان بن مالك بن بَحْدل الكَلْبي،
وهو بفِلسطين فقال لرَوْح بن زنباع: إني أرى أمراء الأجناد يبايعون لْابن الزبير
وأبناء قيس بالأردن كثير، وهم قومي، فأنا خارج إليها وأقم أنت بفلسطين، فإنّ جُل
أهلها قومك من لَخْم وجُذام، فإن خالفك أحدٌ فقاتلْه بهم. فأقام رَوْحٌ بفلسطين،
وخرج حسان إلى الأردُن. فقام ناتل بن قيس الْجُذاميّ، فدعا إلى ابن الزُبير، وأخرج
روحَ بن زِنْباع من فلسطين، ولحق بحسّان بالأردن. فقال حسانُ: يأهل الأردن، قد
علمتم أن ابن الزبير في شِقاق ونفاق وعصيان لخلفاء اللّه ومفارقةٍ لجماعة
المسلمين، فانظُروا رجلاً من بني حَرب فبايعوه. فقالوِا: اختر لنا من شئتَ من بني حَرب وجَنِّبنا هذين الرجلين الغلامين: عبدَ
اللّه وخالداً، ابني يزيد بن معاوية، فإنّا نكره أن يدعوَ الناسُ إلى شيخ، ونحن ندعو
إلى صبيِّ. وكان هَوَى حسّانَ في خالد بن يزيد، وكان ابنَ أخته. فلما رَموه بهذا
الكلام أمسك، وكتب إلى الضحاك بن قيس كتاباً يُعظّم فيه بني أمية وبلاءهم عنده،
ويذُم ابن الزبير ويذكر خِلافَه للجماعة، وقال لرسوله: اقرأ الكتاب على الضحّاك بمَحضر بني أمية وجماعة الناس. فلما قرأ
كتابَ حسان تكلّم الناسُ فصاروا فِرْقتين، فصارت اليمانية مع بني أمية، والقَيْسيةُ
زُبيريّةً، ثم اجتلدوا بالنّعال ومَشى بعضًهم إلى بعض بالسيوف، حتى حَجز بينهم
خالدُ بن يزيد، ودخل الضحاك دارَ الإمارة، فلم يخرُج ثلاثةَ أيام. وقدِم عُبيدُ
الله بن زياد، فكان مع بني أمية بدمشق. فخرج الضحاكُ بن قيس إلى المَرْج - مرج
راهط - فعسكر فيه، وأرسل إلى أمراء الأجناد فأتوه، إلّا ما كان من كَلْب. ودعا
مروانُ إلى نفسه، فبايعته بنو أمية وكَلب وغسان والسكاسك وطَيىء، فعسكر في خَمسة
آلاف. وأقبل عَبَّاد بن يزيد من حُوران في ألفين من مواليه وغيرهم من بني كلب،
فلحق بمروان. وغلب يزيدُ بن أبي أنيس على دمشق، فأخرج منها عاملَ الضحاك، وأمد
مروان برجاليٍ وسلاح كثير. وكتب الضحاك إلىِ أمراء الأجناد، فقدم عليه زفر بن
الحارث من قِنَسرين، وأمده النُّعمان بن بشير بشرَحبْيل بن ذي الكَلاع في أهل
حِمْص، فتوافَوا عند الضحًاك بمرْج راهط، فكان الضحاك في ستين ألفاً، ومروان في ثلاثةَ
عشر ألفاً، أكثرهم رجّالة، وأكثرُ أصحاب الضحاك رُكبان. فاقتتلوا بالمَرْج، عشرين
يوماً، وصَبر الفريقان. وكان على مَيمنة الضحاك زيادُ بن عمرو بن معاوية العُقيلي،
وعلى مسيرته بَكْر بن أبي بشير الهلالي. فقال عُبيد اللّه بن زياد لمروان: إنك على
حق وابن الزبير ومن دعا إليه على الباطل، وهم أكثر منا عَدداً وعُدداً، ومع الضحاك
فُرسان قيس، واعلم أنك لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة، وإنما الحرب خدعة، فادعهم
إلى الموادعة، فإذا أمنوا وكَفَوا عن القتال، فكُرّ عليهم. فأرسل مروانُ
السُّفَراء إلى الضحَاك يدعوه إلى الموادعة ووَضْع الحرب حتى يَنْظر. فأصبح
الضحَاك والقَيسية قد أمسكوا عن القتال، وهم يطمعون أن يُبايع مروان لابن الزّبير،
وقد أعد مروانُ أصحابَه، فلم يشعر الضحاك وأصحابُه إلا والخيل قد شدَّت عليهم،
ففزع الناس إلى راياتهم من غير استعداد وقد غشيتهم الخيلُ، فنادى الناسُ: أبا
أنيس، أعَجْز بعد كَيْس - وكُنية الضحاك: أبو أنيس - فاقتتل الناسُ ولزم الناسُ
راياتهم، فترجل مروان، وقال: قَبّح اللّه من ولأهم اليومَ ظهرَه حتى يكون الأمر
لإحدى الطائفتين. فقُتل الضحاكً بن قيس، وصَبرت قيسُ عند راياتِها يقاتلون، فنظر
رجل من بني عُقيل إلى ما تَلْقى قيس عند راياتها من القَتل، فقال: اللهم العنها من
رايات! واعترضَها بسيفه، فجعل يَقْطعها، فإذا سقطت الرايةً تفرق أهلها. ثم انهزم
الناس، فنادى مُنادِي مروان: لا تَتبعوا من ولّاكم اليوم ظهره. فزعموا أن رجالاً
من ليس لم يَضحكوا بعد يوم المَرج حتى ماتوا جَزعا على من أصيب من فُرسان قيس يومئذ.
فقتل مِن قَيس يومئذ ممن كان يأخذ شَرف العطاء ثمانون
رجلاً، وقُتل من بني
سليم سِتّمائة، وقُتل لمروان ابنٌ يقال له عبدُ العزيز. وشَهد مع الضحَّاك يوم مَرْج راهط عبدُ اللهّ بن معاوية بن أبي سُفيان. فلما
انهزم الناسُ، قال له عُبيد اللّه بن زياد: ارتدف خَلْفي، فارتدف، فأراد عمرو بن
سَعيد أن يقتلَه. فقال له عبيدُ اللّه بن زياد: ألا تكُفّ يا لَطِيمَ الشيطان!
وقال زفر بن الحارث، وقد قُتل ابناه يوم المَرْج:ً، وقُتل من بني سليم سِتّمائة،
وقُتل لمروان ابنٌ يقال له عبدُ العزيز. وشَهد مع الضحَّاك يوم مَرْج راهط عبدُ
اللهّ بن معاوية بن أبي سُفيان. فلما انهزم الناسُ، قال له عُبيد اللّه بن زياد:
ارتدف خَلْفي، فارتدف، فأراد عمرو بن سَعيد أن يقتلَه. فقال له عبيدُ اللّه بن
زياد: ألا تكُفّ يا لَطِيمَ الشيطان! وقال زفر بن الحارث، وقد قُتل ابناه يوم
المَرْج:
لَعمري لقد أبقتْ
وقيعة راهطٍ ... بمَروان صَدْعاً بيّنا مًتنائيا
فلم يُزَ مِنّي زَلةٌ
قبلَ هذه ... فِراري وتَركي صاحبي ورائيا
أيذهبُ يومٌ واحدٌ إن
أسأتُه ... بصالح أيامي وحُسْن بلائيا
أنترك كلْباً لم
تَنَلها رماحُنا ... وتَذهب قَتْلى راهطٍ وهي ما هيا
وقد تَنْبُت الخَضراء
في دِمَن الثرى ... وتَبقى حَزازاتُ النفوس كما هيا
فلا صُلْع حتى نَدْعس
الخَيلَ بالقَنا ... وتثأر من أبناء كَلْب نسائيا
فلما قتل الضحاك
وانهزم الناس، نادى مروانُ أن لا يُتبع أًحد. ثم أقبل إلى دمشق فدخلها ونَزل دارَ
مُعاوية بن أبي سفيان دارَ الِإمارة، ثم جاءته بَيعة الأجناد، فقال له أصحابه: إنا
لا نتخوّف عليك إلا خالدَ بن يزيد، فتزوّجْ أمه، فإنك تَكْسره بذلك، وأمه ابنة أبي
هاشم بن عُتبة بن ربيعة. فتزوّجها مروان، فلما أراد الخروجَ إلى مصر قال لخالد:
أعرْني سلاحاً إن كان عندك، فأعاره سلاحاً، وخَرج إلى مصر، فقاتل أهلَها وسَبى بها
ناساً كثيراً، فافتدوا منه. ثم قَدم الشام، فقال له خالدُ. بن يزيد: رُدّ عليّ
سلاحي. فأبى عليه. فألحّ عليه خالد. فقال له مَروان، وكان فَحّاشا: يا بن
رَطْبة الإست. قال: فدخل إلى أمه فبكى عندها وشكا إليها ما قاله مروانُ على رؤوس أهل
الشام. فقالت له: لا عليك، فإنه لا يعود إليك بمثلها. فلبث مروان بعد ما قال لخالد
ما قال أياماً، ثم جاء إلى أم خالد فرقد عندها، فأمرت جواريها فطَرحْن عليه
الوسائد، ثم غَطّته حتى قتلته، ثم خَرجن فصِحْن وشَقَقنَ ثيابهن: يا أمير
المؤمنين! يا أمير المؤمنين! ثم قام عبدُ الملك بالأمر بعده، فقال لفاخر أم خالد:
والله لولا أن يقول الناس إني قتلتُ بأبي امرأةً لقتلتُكِ بأمير المؤمنين. ووُلد
مروانُ بن الحكم بن العاصي بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بمكة. ومات بالشام،
لثلاث خلون من رَمضان سنة خمس وستين، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وصلى عليه ابنُه عبد
الملك بن مروان. وكانت ولايته تسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وكان على شرُطته يحيى
بن قيس الشّيباني. وكاتبه سَرجون بن منصور الرُّومي. وحاجبه أبو سَهل الأسود، مولاه.
ولاية عبد الملك بن
مروانهو عبدُ الملك بن مروان بن الحكم بن العاص بن أمية. ويكنى: أبا الوليد. ويقال له: أبو الأملاك؛ وذلك أنه ولى الخلافةَ
أربع من ولده: الوليدُ وسليمان ويزيد وهشام. وكان تَدْمى لَثته فيقع عليها الذُّباب،
فكان يُلقّب: أبا الذُّباب. أمه عائشة بنت معاوية بن المُغيرة بن أبي العاص بن
أمية. وله يقول ابن قيس الرقيات:
أنت ابنُ عائشة التي
... فَضَلت أروم نسائها
لم تَلْتفت للِداتها
... ومَشَت على غُلَوائها
وَلدت أغر مباركاً
... كالشَّمْس وَسْط سمائها
وبُويع عبدُ الملك
بدمشق لثلاث خلون من رمضان سنة خمس وستين، ومات بدمشق للنصف من شوال سنة ستّ
وثمانين، وهو ابنُ ثلاثٍ وستين سنة، فصلّى عليه الوليدُ بن عبد الملك. ووُلد عبدُ
الملك بالمدينة سنة ثلاثٍ وعشرين، ويقال سنة ستٍّ وعشرين. ويقال وُلد لسَبعة أشهر.
وكان على شرُطته ابنُ أبي كَبْشة السَّكْسَكي، ثم أبو نائل بن رِياح بن عُبيدة
الغَسِّاني، ثم عبدُ الله بن يزيد الحَكميّ. وعلى حَرسه الرَّيَّان. وكاتبه على
الخراج والجُند سرَجون ابن منصور الرُّومي. وكتبه على الرسائل أبو زُرعة، مولاه.
وعلى الختم قَبيصة ابن ذُؤيب. وعلى بُيوت الأموال والخزائن رَجاء بن حَيْوَة.
وحاجبُه أبو يوسف، مولاه. ومات عبد الملك سنة ستٍّ وثمانين، وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة.
وصلّى عليه الوليد ابنُه. وكانت ولايتُه، منذ اجتُمع عليه، ثلاثَ عشرةَ سنة وثلاثة
أشهر، ودُفن خارجَ باب المدينة. وفي أيام عبد الملك حُوّلت الدواوينُ إلى العربيّة
عن الرومية والفارسية، حَوّلها عن الرُّومية سليمان بن سَعْد، مولى خُشين. وحولها
عن الفارسية صالحُ بن عبد الرحمن، مولى عتبة، امرأة من بني مُرة. ويقال: حُولت في
زمن الوليد. ابنُ وَهب عن ابن لَهِيعة قال: كان معاوية فَرض للموالي خَمسة عشر،
فبلَّغهم عبدُ الملك عشرين، ثم بلّغهم سليمانُ خمسة وعشرين، ثم قام هشام فأتم
للأبناء منهم ثلاثين. وكتب عبدُ اللّه بن عمر إلى عبد الملك بن مروان بَيعتَه لما
قُتل ابنُ الزبير، وكان كتابه إليه يقول: لعبد الملك بن مروان، من عبد الله بن عُمر:
سلام عليك، فإني أقررتُ لك بالسَّمع والطاعة على سُنة اللّه وسُنة رسوله صلى الله
عليه وسلم. وبيعةُ نافع مولاي على مثل ما بايعتُك عليه.
وكتب محمدُ بن
الحنفيّة ببيعته لما قتل ابن الزبير، وكان في كتابه: إني اعتزلتُ الأمة عند
اختلافها، فقعدتُ في البلد الحرام الذي مَن دخله كان آمناً، لأحْرزَ ديني وأمنعَ
دمي، وتركتُ الناسَ " قُلْ كل يَعمل على شاكِلته، فربكم أعلمُ بمَن هو أهْدَى
سَبِيلا " . وقد رأيتُ الناسَ قد اجتمعوا عليك، ونحن عصابة من أمتنا لا
نُفارق الجماعة، وقد بعثتُ إليك منّا رسولا ليأخذ لنا منك ميثاقا، ونحن أحق بذلك
منك. فإن أبيتَ فأرضُ اللّه واسعة، والعاقبة للمتقين. فكتب إليه عبدُ الملك: قد
بلغني كتابُك بما سألتَه منِ المِيثاق لك وللعصابة التي معك. فلك عهدً اللهّ
وميثاقه أن لا تُهاج في سلطاننا غائباً ولا شاهداً، ولا أحد من أصحابك ما وَفَوْا
ببيعتهم، فإن أحببتَ المُقام بالحجاز فأقم، فلن نَدع صِلتك وبِرَّك، وإن أحببتَ
المُقام عندنا فاشخَص إلينا، فلن نَدع مواساتِك. ولعمري لئن ألجأتُك إلى الذهاب في
الأرض خائفاً لقد ظَلمناك، وقَطعنا رَحِمك. فاخرُج إلى الحَجاج فبايع. فإنك أنت المحمود
عندنا ديناً ورأيا، وخيرٌ من ابن الزبير وأرضى وأتقى. وكتب إِلى الحجاج بن يوسف:
لا تَعْرِض لمحمد ولا لأحد من أصحابه، وكان في كتابه: جنّبني دماء بني عبد المطلب، فليس فيها شِفاء من الحَرَب، وإني رأيتُ
بني حَرْب سُلبوا ملكهم لما قَتلوا الْحُسين بن علي. فلم يتعرض الحجاج لأحد من الطالبيّين
في أيامه. أبو الحسن المدائني قال: كان يقال: معاوية أحلم، وعبدُ الملك أحزم. وخطب
الناسَ عبدُ الملك فقال: أيها الناس، ما أنا بالخليفة المُستضعف - يريد عثمان بن
عفان - ولا بالخليفة المُداهن - يريد معاوية بن أبي سفيان - ولا بالخليفة المأفون
- يريد يزيدَ بن معاوية فمن قال برأسه كذا قُلنا بسيفنا كذا، ثم نزل. وخطب عبد
الملك على المنبر فقال: أيها الناس، إن الله حدَ حُدوداً وفَرض فروضاً، فما زِلتم تَزْدادون
في الذُنب ونزداد في العقوبة، حتى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف. أبو الحسن المدائني
قال: قَدِم عمرُ بن علي بن أبي طالب على عبد الملك، فسأله أن يُصير إليه صدقةَ
علي. فقال عبدُ اِلملك متمثلاً بأبيات ابن أبي الحقْيق:
إني إذا مالتْ دَواعي
الهَوَى ... وأنصتَ السامعُ للقائل
وأعتلج الناسُ
بآرائهم ... نَقْضي بحُكمٍ عادلٍ فاصل
لا نَجعل الباطلَ
حقَّا ولا ... نَرْضى بدُون الحقّ للباطل
لا، لعمري، لا
نُخرجها من ولد الحسين إليك. وأمر له بصلة ورجع. وقال عبد الملك بن مروان لأيْمن بن خُريم: إن أباك
وعمك كانت لهما صحبة فخذ هذا المال فقاتل ابن الزبير. فأبى فشتمه عبد الملك. فخرج
وهو يقول:
فلستُ بقاتل رجلاً
يُصلِّي ... على سلطان آخرَ من قُريش
له سلطانُه وعليً
إثمِي ... معاذَ اللهّ من سَفَه وطَيْش
وقال أيمن بن خُريم
أيضاً:
إنّ للفتنة هَيْطا
بينا ... فرُويدَ المَيلَ منها يَعْتدِلْ
فإذا كان عطاءٌ
فانتهز ... وإذا كان قِتال فاعتزل
إنما يُوقدها
فُرْساننا ... حَطبَ النار فَدَعْها تشتعل
وقال زُفر بن الحارث
لعبد الملك بن مَروان: الحمد لله الذي نَصرك على كُره من المؤمنين. فقال أبو
زعيزعة: ما كره ذلك إلا كافر. فقال زُفَر: كذبت، قال الله لنبيّه: " كما
أخْرجك ربُّك من بَيْتك بالحق وإن فريقاً منِ المُؤمنين لكارهون " . وبعث
عبدُ الملك بن مروان إلى المدينة حُبيش بن دُلجة القَيسيّ في سبعة آلاف. فدخل
المدينةَ وجلس على مِنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا بخُبز ولحم فأكل، ثم
دعا بماء فتوضأ على المِنبر، ثم دعا جابرَ بن عبد الله صاحبَ النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: تُبايع لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين بعَهد الله عليك وميثاقه،
وأعظم ما أخذ الله على أحد من خَلقه في الوفاء، فإن خُنتنا فَهَراق اللّه دَمك على
ضلال. قال: أنت أطوقُ لذلك مني، ولكن أبايعه على ما بايعتُ عليه رسولَ الله صلى
الله عليه وسلم يوم الحُديبية، على السمع والطاعة. ثم خرج ابنُ دُلْجة من يومه ذلك
إلى الربذة، وقدم على أثره من الشام رجلاًن، مع كل واحد منهما جَيش، ثم اجتمعوا
جميعاَ في الربذة، وذلك في رمضان سنة خمس وستين. وأميرُهم ابن دلجة. وكتب ابنُ
الزبير إلى العبّاس بن سَهل الساعديّ بالمدينة أن يَسير إلى حُبيش بن دُلجة. فسار
حتى لَقِيه بالربذة. وبعث الحارث بن عبد اللّه بن أبي ربيعة - وهو عامل ابن الزبير
على البصرة - مدداً إلى العباس بن سهل، حُنيفَ بن السِّجف في تسعمائة من أهل
البصرة. فساروا حتى انتهوا إلى الربذة. فبات أهلُ البصرة وأهل المدينة يقرأون
القرآن ويُصلون. وبات أهل الشام في المَعازف والخمور، فلما أصبحوا غَدوا على
القِتال، فقُتل حُبيش بن دُلجة ومن معه. فتحصّن منهم خمسمائة رجل من أهل الشام على
عمود الربذة، وهو الجبل الذي عليها، وفيهم يوسف أبو الحجَّاج، فأحاط بهم عباس بن
سهل، فطلبوا الأمان، فقال: انزلوا على حُكمي، فنزلوا عَلى حكمه، فضرب أَعناقَهم أجمعين.
ثم رجع عبّاس بن سهل إلى المدينة، وبعث عبدُ اللّه بن الزُّبير ابنَه حمزة عاملاً
عَلَى البصرة، فاستضعفه القومُ، فبعث أخاه مُصعب بن الزُّبير، فقدم عليهم، فقال:
يا أهل البصرة، بلغني أنه لا يَقْدَم عليكم أمير إلا لَقّبتموه، إني ألقَب لكم
نفسي: أنا القصَّاب.
خبر المختار بن أبي
عبيد ثم أرسل عبدُ اللّه بن الزبير إبراهيمَ بن محمد بن طلحة أميراً عَلَى الكوفة،
ثم عزله وأرسل المختار بن أبي عُبيد. وأرسل عبدَ الملك عبيدَ اللّه بن زياد إلى
الكوفة. فبلغ المختارَ إقبالُ عبيد الله بن زياد، فوجّه إليهم إبراهيم بن الأشتر
في جيش، فالتقوا بالجازِر، وقَتل عبيدَ اللّه بن زياد وحُصين بن نمير وذا الكَلاع
وعامة من كان معهم. وبعث برؤوسهم إلى عبد اللّه بن الزبير. أبو بكر بن أبي شيبة
قال: حدٌثنا شرَيك بن عبد اللّه عن أبي الجُويرية الجَرْمي قال: كنتُ فيمن سار إلى
أهل الشام يوم الجازِر مع إبراهيم بن الأشتر فلقيناهم بالزَّاب، فهبت الريحُ لنا
عليهم، فأدبروا، فقتلناهم عَشِيّتنا وليلتنا حتى أصبحوا: فقال إبراهيم: إني قتلت
البارحة رجلاً فوجدتُ عليه ريح طِيب، فالْتَمِسوه، فما أراه إلا ابن مَرْجانة. فانطلقنا
فإذا هو والله مَعْكوس في بطن الوادي.
ولما التقى عُبيد الله
بن زياد وإبراهيم بن الأشتر بالزاب، قال: مَن هذا الذي يُقاتلني؟ قيل له: إبراهيم
بن الأشتر. قال: لقد تركته أمس صبيّا يلعب بالحَمام. قال: ولما قُتل ابن زياد بَعث
المختارُ برأسه إلى عليّ بن الحسين بالمدينة. قال الرسول: فقدمتُ به عليه انتصافَ
النهار وهو يتغدّى، قال: فلما رآه قال: سبحان اللّه! ما اغتر بالدًّنيا إلا مَن ليس للّه في عُنقه نِعْمة!
لقد أدخل رأس أبي عبدِ اللّه على ابن زياد وهو يتغدّى. وقال يزيد بن مُفَرّغ:
إنَّ الذي عاش
ختّاراً بذمَّته ... وماتَ عَبداً قتيلُ الله بالزَّابِ
ثم إن المختار كتب
كتاباً إلى ابن الزبير، وقال لرسوله: إذا جئت مكة فدفَعتَ كتابي إلى ابن الزبير
فأتِ المهديّ - يعني محمدَ بن الحفنية - فاقرأ عليه السلام وقل له: يقول لك أبو
إسحاق: إني أحبك وأحب أهل بيتك. قال: فأتاه، فقال له ذلك. فقال: كذبتَ وكذب أبو
إسحاق، وكيف يُحبني ويُحب أهل بيتي وهو يُجلس عمر بن سعد عَلَى وسائده وقد قتل
الحُسين! فلما قدم عليه رسولُه وأخبره. قال المختار لأبي عمرو صاحب حرسه: استأجر
لي نوائح يَبكين الحُسين على باب عمر بن سَعد، ففَعل. فلما بكيَن، قال عمر لابنه
حَفْص: يا بني، ايت الأمير، فقل له: ما بالً النوائح يبكين الحسين على بابي؟ فأتاه
فقال له ذلك. فقال: إنه أهلٌ أن يُبكى عليه. فقال: أصلحك اللهّ، انههن عن ذلك. قال: نعم، تم
دعا أبا عمرو صاحبَ حَرسه، قال له: اذهب إلى عمر بن سعد فأتني برأسه. فأتاه،
فَقَام له: قم إليّ أبا حفص. فقام إليه وهو مُلتحف بملحفة، فجلّله بالسيف، فقتله
وجاء برأسه إلى المختار. ثم قال: ائتوني بابن عمر. فلما حضره قال: أتعرف هذا؟ قال: نعم، رحمه اللهّ. قال: أتحب أن نُلحقك
به؟ قال: لا خير في العَيش بعده. فأمر به فضُرب عنقه. ثم إن المختار لما قَتل ابنَ
مَرْجانة وعمر بن سعد جعل يَتْبع قتلة الحسين بن علي ومن خَذله، فقتلهم أجمعين،
وأمر الحُسينية، وهم الشيعة، أن يطوفوا في أزقَّة المدينة بالليل ويقولوا: يا
ثارات الحسين! فلما أفناهم ودانت له العراق، ولم يكن صادق النيَّة ولا صحيحَ
المذهب وإنما أراد أن يَستأصل الناس، فلما أدرك بُغيته أظهر قُبح نيّته للناس،
فادّعى أنّ جبريل ينزل عليه ويَأتيه بالوحي من اللّه. وكتب إلى أهل البصرة: بلغني
أنكم تُكَذبونني وتكذبون رُسلي، وقد كُذبت الأنبياء من قبلي، ولست بخير من كثير
منهم. فلما انتشر ذلك عنه كَتَب أهلُ الكوفة إلى ابن الزبير، وهو بالبَصًرة، فخرج
إليه. وبَرز إليه المختار، فأسلمه إبراهيمُ بن الأشتر، ووُجوه أهل الكوفة، فقتله
مُصعب وقَتل أصحابَه. أبو بكر بنُ أبي شَيبة قال: قيل لعبد الله بن عمر: إن
المختار ليزعم أنه يوحَى إليه. قال: صَدق، الشياطين يوحون إلى أوليائهم.
وقَتل مصعبٌ من أصحاب
المختار ثلاثةَ آلاف. ثم حج سنة إحدى وسبعين، فقَدِم على أخيه عبد اللهّ بن الزبير
ومعه وجوه أهل العراق، فقال: يا أمير المؤمنين، قد جئتُك بوجوه أهل العراق، ولم
أدعْ لهم بها، نظيراً، فأعطهم من المال. قال جِئتني بعبيد أهل العراق لأعطيَهم من مال اللهّ، وددتُ أنّ لي بكل
عشرْة منهم رجلاً من أهل الشام صَرْفَ الدينار بالدرهم. فلما انصرف مُصعب ومعه
الوفدُ من أهل العراق، وقد حِرمهم عبدُ الله بن الزبير ما عنده، فسدت قلوبهم،
فراسلوا عبد الملك بن مروان حتى خرج إلى مصعب فقتله. فيُ بن عبد العزيز عن حجاج عن
أبي معشر قال: لما بَعث مُصعبٌ برأس المختار إلى عبد اللّه بن الزُّبير فوُضع بين
يديه، قال: ما مِن شيء حَدَثنيه كعبُ الأحبار إلا قد رأيتُه، غيرَ هذا، فإنه قال
لي: يَقتلك شاب من ثقيف، فأراني قد قتلتُه. وقال محمد بن سيرين، لما بلغه هذا
الحديث: لم يعلم ابنُ الزبير أنّ أبا محمد قد خُبىء له. ولما قتل مصعب المختارَ بن
أبي عُبيد ودانت له العراق كلها: الكوفة والبصرة، قال فيه عبيدُ اللهّ بن قيس
الرّقيات:
كيف نَوْمي على
الفِراش ولما ... تَشْمَل الشامَ غارةٌ شَعْوَاءُ
تُذْهلُ الشيخَ عن
بنيه وتُبْدِي ... عن خِدام العَقِيلةُ العَذْرَاء
إنما مصعبٌ شهاب من
الل ... ه تجلّت عن وَجْهه الظلْماء
وتزوج مُصعب - لما
ملك العراقَ - عائشة بنت طلحة وسُكينة بنت الحُسين، ولم يكن لهما نظير في زمانهما.
وقَتل مصعب امرأةَ المختار، وهي ابنة النُّعمان بن بَشير الأنصاري، فقال فيها عمرُ
بن أبي ربيعة المَخزومي:
إنَّ من أعظمِ
المَصائب عندي ... قَتْل حَوْراءَ غادةٍ عَيْطَبول
قُتلت باطلاً على غير
ذَنْب ... إن للّه دَرَّها مَن قَتيل
كُتب القَتل والقِتال
عليناً ... وعلى الغَانيات جَرُ الذيول
مقتل عمرو بن سعيد
الأشدق أبو عُبيد عن حجّاج عن أبي مَعشرِ قال: لما قَدم مُصعب بوجوه أهل العراق
على أخيه عبد اللهّ بن الزُبير فلم يُعطهم شيئاً أبغضوا ابنَ الزُّبير، وكاتَبوا
عبد الملك بن مروان، فخرج يُريد مصعبَ بن الزبير، فلما لِم أخذ في جَهازه وأراد
الخُروج، أقبلت عاتكةُ بنت يزيد بن معاوية في جَواريها، وقد تزينت بالحُلى، فقالت:
يا أمير المؤمنين، لو قعدت في ظلال مُلكك ووجهت إليه كلْباً من كلابك لكَفاك
أمرَه. فقال: هيهات! أما سمعت قولَ الأول:
قَوْمٌ إذا ما
غَزَوْا شَدوا مآزرَهم ... دون النِّساء ولو باتت بأطْهارِ.
فلما أبى عليها
وعَزم، بكت وبكى معها جواريها. فقال عبدُ الملك: قاتل اللّه ابنَ أبي جُمعة كأنه
ينظر إلينا حيث يقول:
إِذ ما أراد الغَزْو
لم يَثْنِ هَمَه ... حَصَان عليها نَظْم دُرٍّ يَزينُها
نهته فلما لم تَر
النّهي عاقَه ... بَكت فَبكى مما دهاها قَطِينُها
ثم خرج يُريد، مصعب،
فلما كان من دِمشق على ثلاث مراحل أغلق عمرو بن سعيد دمشقَ وخالف عليه، فقيل له:
ما تصنعِ، أتريد العراق وتَدع دمشق؟ أهلُ الشام أشدّ عليك من أهل العراق؟ فرجع
مكانه، فحاصر أهلٍ دمشق حتى صالح عمرو بن سَعيد على أنه الخليفةُ بعدَه، وأن له مع
كل عامل عاملا. ففَتح له دمشق، وكان بيت المال بيد عمرو بن سَعيد، فأرسل إليه عبدُ
الملك: أن أخْرِج للحَرس أرزاقهم. فقال: إذا كان لك حَرس فإنِّ لنا حَرساً أيضاً.
فقال عبد الملك: أخرج لحرسك أيضاً أرزاقَهم. فلما كان يوم من الأيام أرسل عبدُ
الملك إلى عمرو بن سعيد نِصف النهارَ أن ائتني أبا أمية حتى أدبِّر معك أموراً. فقالت له
امرأته: يا أبا أمية، لا تذهب إليه فإنني أتخوّف عليك منه. فقال: أبو
الذباب! واللّه لو كنت نائماً ما أيقظنِي. قالت: واللّه ما آمنُه عليك، وإني لأجد
ريح دم مَسْفوح. فما زالت به حتى ضربها بقائم سيفه فشجَّها. فخرج
وخرج مه أربعة آلاف من أبطال أهل الشام الذين لا يُقدر على مثلهم، مسلَحين،
فأحدقوا بخَضراء دِمشق وفيها عبدُ الملك، فقالوا: يا أبا أُمية، إن رابك رَيب
فأَسمعنا صوتَك. قال: فدخل، فجعلوا يصيحون: أبا أمية! أسمعنا صوتك، وكان معه غلام
أسحم شُجاع، فقال له: اذهب إلى الناس! فقل لهم: ليس عليه بأس. فقال له عبد الملك:
أمكراً عند الموت أبا أمية! خُذوه، فأخذوه. فقال له عبد الملك: إني أقسمتُ إن أمكنتني منك يدٌ أن أجعل في عُنقك
جامعة، وهذه جامعة من فِضَّة أريد أن أبِرّ بها قَسمي. قال: فطَرح في رقبته الجامعة،
ثم طَرحه إلى الأرض بيده. فانكسرت ثنيَته، فجعل عبدُ الملك ينظر إليه. فقال عمرو:
لا عليك يا أمير المؤمنين، عَظْم انكسر. قال: وجاء المُؤذنون فقالوا: الصلاة يا
أمير المؤمنين، لصلاة الظهر، فقال لعبد العزيز بن مروان: اقتله حتى أرجع إليك من
الصلاة. فلما أراد عبدُ العزيز أن يَضرب عُنقه، قال له عمرو: نشدتُك بالرِّحم يا
عبد العزيز أن لا تَقْتلني من بينهم، فجاء عبدُ الملك فراه جالساً، فقال: مالك لم
تقتله! لَعنك اللهّ ولعن أمَّا ولدتك. ثم قال: قَدِّموه إليّ، فأخذ الحَرْبة بيده،
فقال عمرو: فعلتها يا بن الزَرقاء! فقال له عبدُ الملك: إني لو علمتُ أنك تَبقى ويَصْلح
لي ملكي لفديتُك بدم النَّاظر. ولكن قلّما اجتمع فَحلان في ذَوْد إلا عدا أحدُهما
على الآخر، ثم رفع إليه الحربة فقتله. وقعد عبدُ الملك يُرْعَد، ثم أمر به فأدرج
في بساط وأدخل تحت السَرير. وأرُسل إلى قَبيصة بن ذُؤيب الخُزاعيّ، فدخل عليه،
فقال: كيف رأيك في عَمرو بن سعيد الأشدق؟ قال: وأبصر قبيصةُ رجلَ عمرو تحت السرير،
فقال: اضرب عنقه يا أمير المؤمنين. قال: جَزاك اللّه خيراً، أما علمتُ إنك لموفّق.
قال قبيصة: اطْرح رأسه وانثُر على الناس الدَّنانير يَتشاغلون بها. ففعل، وافترق
الناس، وهَرب يحيى بن سَعيد بن العاص حتى لحق بعبد اللهّ بن الزُبير بمكة، فكان معه.
وأرسل عبدُ الملك بن مروان بعد قتله عمرو بن سعيد إلى رجل كان يَستشيره وُيصْدر عن
رأيه إذا ضاق عليه الأمر، فقال له: ما ترى ما كان من فِعلي بعَمرو ابن سعيد؟ قال:
أمرٌ قد فات دَرَكه. قال: لتقولن. قال: حَزْم لو قتلتَه وحَييت أنت. قالت: أو لستُ
بحيّ؟ قال: هيهات! ليس بحيّ من أوقف نفسَه موقفاً لا يُوثق منه بعهد ولا عَقد.
قال: كلام لو تقدَّم سماعُه فِعلي لأمسكتُ. ولما بلغ عبد اللّه بن الزبير قتلُ
عمرو بن سعيد، صَعد المنبر، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن عبد
الملك بن مروان قتل لَطِيم الشيطان، كذلك نُولِّي بعض الظالمين بعضاً بما كانوا
يكسبون.
مقتل مصعب بن الزبير
فلما استقرت البيعةُ
لعبد الملك بن مروان أراد الخُروج إلى مُصعب بن الزبير، فجعل يَستنفر أهل الشام
فيُبطئون عليه، فقال له الحجاجُ بن يوسف: سَلطني عليهم، فوالله لأخرجنَّهم معك.
قال له: قد سَلطتك عليهم. فكان الحجَّاج لا يَمر على باب رجل منِ أهل الشام قد
تخّلف عن الخروج إلا أحرق عليه دارَه. فلما رأى ذلك أهلُ الشام خرجوا، وسار عبدُ الملك حتى دنا من العراق.
وخرج مصعب بأهل البصرة والكوفة، فالتقوا بين الشام والعراق. وقد كان عبد الملك كتب
كُتباً إلى رجاله من وجوه أهل العراق يدعوهم فيها إلى نَفسه ويَجعل لهم الأموال،
وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر بمثل ذلك، على أن يَخْذلوا مُصعبا إذا التقَوْا. فقال
إِبراهيم بن الأشتر لمُصعب: إن عبد الملك قد كتب إليّ هذا الكتاب، وقد كتب إلى
أصحابي بمثل ذلك، فادعُهم الساعةَ فاضرب أعناقَهم قال: ما كنت لأفعل ذلك حتى
يَستبين لي أمرهم. قال: فأخرى. قال: ما هي؟ قال: احبِسْهم حتى يَستبين لك ذلك. قال: ما كُنت لأفعل. قال: فعليك السلام،
وِالله لا تَراني بعدُ في مجلسك هذا أبداً. وقد كان قال له: دَعْني أدعو أهلَ
الكوفة بما شرطه الله فقال: لا واللّه، قتلتهُم أمس وأستنصر بهم اليوم! قال: فما
هو إلا أن التَقوا فحولوا وُجوههم وصاروا إلى عبد الملك. وبقي مُصعب في شِرْذمة قليلة. فجاءه عُبيد الله بن زياد، بن ظَبيان،
وكان مع مُصعب، فقال: أين الناس أيها الأمير؟ فقال: قد غدرتم يا أهل العراق! فرفع
عُبيد اللّه السيفَ ليضرب مُصعبا، فبدره مُصعب فضربه بالسيف على البَيضة، فنَشِب
السيفُ في البَيضة، فجاء غلامُ لعُبيد اللّه ابن زياد بن ظَبيان، فضرب مُصعبا
بالسيف فقَتله. ثم جاء عُبيدُ اللّه برأسه إلى عبد الملك بن مروان وهو يقول:
نُطيع مُلوك الأرض ما
أقْسَطوا لنا ... وليس علينا. قَتْلُهم بمُحَرم
قال: فلما نظر
عبدُ الملك إلى رأس مُصعب خَر ساجداً. فقال عُبيد الله بن زياد، بن ظَبيان، وكان
من فُتّاك العرب: ما ندمتُ على شيء قطُّ ندَمي على عبد الملك بن مروان إذ أتيتُه
برأس مُصعب فخر ساجداً أن لا أكون ضربت عنقه، فأكون قد قَتلت مَلِكي العرب في يوم
واحد. وقال في ذلك عُبيد اللهّ ابن زياد، بن ظَبيان:
هَممتُ ولم أفعل وكِدْتُ
ولَيتني ... فعلتُ فأدْمنت البُكا لأقاربِه
فأوردتُها في النّار
بكرَ بنَ وائلٍ ... وألحقتُ مَن قد خَرَّ شُكْراً بصاحبِه
الرياشي عن الأصمعي
قال: لما أُتي عبدُ الملك برأس مُصعب بن الزبير نظر إليه مليّاً، ثم قال: متى تَلد
قُريش مثلَك! وقال: هذا سيّد شَباب قُريش.
وقيل لعبد الملك:
أكان مُصعب يَشرب الطَلاء؛ فقال: لو علم مُصعب أن الماء يُفسد مروءتُه ما شرََبه.
ولما قُتل مُصعب دخل
الناسُ على عبد الملك يُهنَئونه، ودَخل معهم شاعرٌ فأنشده:
اللّه أعطاك التي لا
فَوقَها ... وقد أراد المُلْحِدون عَوْقَها
عنك ويَأبَى اللًهُ
سَوْقَها ... إليك حتى قَلّدُوكَ طَوْقها
فأمر له بعشرة آلاف
درهم. وقالوا: كان مُصعب أجلَ الناس، وأسخى الناس، وأشجع الناس. وكان تحته عَقيلتا
قُريش: عائشة بنت طلحة، وسكَينةُ بنت الحسين. ولما قُتل مُصعب خرجت سُكينة بنت الحسين تُريد المدينة، فأطاف بها أهل
العراق، وقالوا: أحسنَ اللهُ صحابتَك يا ابنةَ رسول الله. فقالت: لا جزاكم الله
عني خيراً، ولا أخلف عليكم بخير من أهل بلد، قتلتم أبي وجدي وعمّي وزَوْجي،
أيتمتموني صغيرةً وأرملتموني كبيرة. ولما بلغ عبد اللّه بن الزبير قتلُ مصعب صَعِد
المنبر فجلس عليه، ثم سكت، فجعل لونُه يحمر مرة ويصفرّ مرة، فقال رجل من قُريش
لرجل إلى جنبه: ماله لا يتكلم! فوالله إنه لَلخطيب الَّلبيب. فقال له الرجل: لعلّه
يريد أن يَذْكر مَقتل سيّد العرب فيشتدِّ ذلك عليه، وغير ملوم. ثم تكلَم فقال:
الحمدُ لله الذي له الخَلقُ والأمر، والدنيا والآخرة، يُؤتي المُلك مَن يشاء،
ويَنزع الملك ممن يشاء، ويُعز من يشاء، ويُذل مَن يشاء، أما بعد. فإنه لم يَعِزّ
مَن كان الباطل معه، ولو كان معه الأنام طُراً، ولم يَذِل من كان الحقّ معه، ولو
كان فرداً. ألا وإنّ خبراً من العراق أتانا فأحزننا وأفرحنا، فأما الذي أحزننا
فإنّ لفراق الحميم لوعةً يجدها حميمهُ، ثم يَرْعوى ذوو الألباب إلى الصبر وكريم
الأجر؛ وأما الذي أفرحنا، فإن قَتل مصعب له شهادةٌ ولنا ذَخيرة. أسلمه الطغام، والصلْم
الآذان، أهلُ العراق، وباعوه بأقل من الثمن الذي كانوا يأخذون منه، فإن يُقتَل فقد
قُتل أخوه وأبوه وابنُ عمه، وكانوا الخيارَ الصالحين. أما والله لا نموت حتف
أُنوفنا، كما يموت بنو مروان، ولكن قَعْصاً بالرماح وموتاً تحت ظلالِ السيوف، فإن
تقبل الدنيا علي لم آخذها مأخذَ الأشرِ البَطِر، وإن تدْبر عني لم أبْك عليها
بُكاء الخَرِف الزائل العَقْل. ولما توطَّد لابن الزُبير أمرُه ومَلك الحرمين
والعراقين أظهر بعضُ بني هاشم الطعنَ عليه، وذلك بعد موت الحسن والحسين، فدعا عبدَ
الله بن عبّاس ومحمدَ بن الحنفية وجماعةً من بني هاشم إلى بيعته، فأبَوْا عليه،
فجعل يَشْتمهم ويَتناولهم على المِنبر، وأسقط ذكرَ النبيّ صلى الله عليه وسلم من
خُطبته، فعُوتب على ذلك، فقال: واللّه ما يمنعني أني لا أذكره علانية من ذِكْره سرّاً
وأُصلّي عليه، ولكن رأيتُ هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذِكْرَه اشرأبت
أعناقُهم، وأبغض الأشياء إلي ما يسرهم. ثم قال: لتبايعُنَ أو لأحرقنكم بالنار.
فأبوا عليه، فحبَس محمدَ بن الحنفية في خمسةَ عشر من بني هاشم في السجن، وكان
السجنُ الذي حَبسهم فيه يقال له سِجن عارم. فقال في ذلك كُثير عَزَّة، وكان ابنُ
الزُبير يُدعى العائذ، لأنه عاذ بالبيت:
تخبَرُ مَن لاقيتَ
أنك عائذ ... بل العائذ المَظلوم يفي سِجْن عارِم
سَميُّ النبيّ
المصطفى وابنُ عمه ... وفَكّاكُ أغلالٍ وقاضي مَغارم
وكان أيضاً يُدعى
المحِلّ، لإحلاله القِتال في الحَرم. وفي ذلك يقول رجل من الشعراء في رَملة بنت
الزُّبير:
ألا مَن لِقَلْب
مُعنَى غَزِلْ ... بذِكْر المُحِلّة أُخت المُحلّ
ثم إن المختارً بن
أبي عُبيد وجّه رجالاً يثق بهم من الشِّيعة، يَكْمنون النهارَ ويسيرون الليل، حتى
كسروا سجنَ عارم واستخرجوا منه بني هاشم، ثم ساروا بهم إلى مأمنهم.
وخطب عبدُ اللّه بن
الزبير بعد موت الحَسن والحُسين، فقال: أيها الناس، إن فيكم رجلاً قد أعمى اللّه
قلبَه كما أعمى بصرَه، قاتل أُمّ المؤمنين وحواريّ رسول اللهّ صلى الله عليه وسلم،
وأفتى بزواج المُتعة. وعبدُ اللّه بن عباس في المسجد، فقام وقال لعِكرمة: أقِم وَجْهي
نحوه يا عكرمة، ثم قال هذا البيت:
إن يأخذ اللّهُ من
عَيْنَيّ نورَهما ... ففي فُؤادِي وعَقْلي منهما نُورُ
وأما قولُك يا بن
الزبير إني قاتلت أُمّ المؤمنين، فأنت أخرجتها وأبوك وخالُك، وبنا سُمِّيت أُم
المؤمنين، فكُنّا لها خيرَ بنين، فتجاوزَ اللّه عنها. وقاتلتَ أنت وأبوك عليّا؛ فإن كان عليّ مؤمناً، فقد ضللتم بقتالكم المؤمنين،
وإن كان كافراً، فقد بؤُتم بسُخط من اللّه بفراركم من الزَّحف. وأما
المُتعة، فإني سمعتُ عليّ بن أبي طالب يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم
رخّص فيها فأفتيتُ بها، ثم سمعتهُ يَنهي عنها، وأول مِجْمر سطَع في المُتعة مجمر
آل الزبير.
مقتل عبد اللّه بن
الزبير
أبو عُبيد عن حجّاج
عن أبي مَعْشر قال: لما بايع الناسُ عبدَ الملك بن مروان بعد قَتْل مُصعب بن
الزبير ودخل الكوفة، قال له الحجّاج: إني رأيتُ في المَنام كأني أسْلُخ ابنَ
الزُّبير من رأسه إلى قَدميه. فقال له عبدُ الملك: أنت له، فاخرج إليه. فخرج إليه
الحجاج لا ألف وخمسمائة، حتى نزل الطائفَ. وجعل عبدً الملك يُرسل إليه الجيوش
رَسَلا بعد رَسَل، حتى تَوافي إليه الناسُ قدرَ ما يظن أنه يَقْوى على قتال ابن
الزبيرِ، وكان ذلك في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين. فسار الحجاجُ من الطائف حتى
نزل مِنَى، فحجَّ بالناس، وابنُ الزبير مَحصور، ثم نَصب الحجاجُ المجانيق على أبي
قُبيس وعلى قُعيْقان ونواحي مكة كُلِّها، يرمي أهلَ مكة بالحجارة. فلما كانت
الليلةُ التي قُتل يا صبيحتها ابنُ الزبير، جمع ابنُ الزبير مَن كان معه من
القرشيين فقال: ما ترون؟ فقال رجل من بني مخزوم مِن آل بني ربيعة: واللّه لقد
قاتلنا معك حتى لا نَجد مقيلًا، ولئن صبرنا معك ما نزيد على أن نموت، وإنما هي
إحدى خَصْلتين: إما أن تأذن لنا فنأخذ الأمان لأنفسنا، وإما أن تأذن لنا فَنخرج. فقالت
ابن الزبير: لقد كنتُ عاهدتُ الله أن لا يبايعني أحدٌ فأُقيله بيعتَه إلا ابن
صفوان. فقال ابن صفوان: أما أنا فإني أقاتل معك حتى أموت بموتك، وإنها لتأخذني
الحَفيظة أن أسلمك في مثل هذه الحالة. وقال له رجل آخر: اكتب إلي عبد الملك بن
مروان. فقال له: كيف أكتب: من عبد الله أمير المؤمنين إلى عبد الملك بن مروان؛
فواللّه لا يَقبل هذا أبداً، أم أكتب: لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين من عبد الله بن الزبير؟ فواللّه
لأن تقع الخَضْراء على الغبراء أحبّ إليّ من ذلك. فقال عُروة بن الزُّبير، وهو جالس
معه على السرير: يا أمير المؤمنين، قد جعل الله لك أُسوة. قال: من هو؟ قال: حسن بن
عليّ، خَلع نفسه وبايع مُعاوية. فرِفع ابنُ الزبير رِجْلَه فضرب بها عُروة حتى
ألقاه عن السرِير، وقال: يا عروة، قلبي إذاَ مثلُ قَلبك! واللّه لو قبلتُ ما
تقولون ما عِشْت إلا قليلا، وقد أخذت الدَنيَّة، وإن ضربة بسيف في عِزّ خيرٌ من
لَطْمَة في ذُلّ. فلما أصبح دخل عليه بعضُ نسائه، وهي أُم هاشم بنت منصور بن زياد
الفَزارية، فقال لها: اصنعي لنا طعاماً، فصنعت له كبداً وسَناماً. فأخذ منه لُقمة
فلاكها ثم لفَظها، ثم قال: اسقوني لَبناً. فأُتي بلبن فشرب منه. ثم قال: هَيِّئوا
لي غُسلا، فاغتسل ثم تحنط وتَطيَّب، ثم نام نومة، وخَرج ودَخل على أمه أسماء بنت
أبي بكر ذات. النِّطاقين، وهي عمياء، وقد بلغت مائة سنة، فقال: يا أماه، ما ترين،
قد خَذلني الناس وِخَذلني أهلُ بيتي؟ فقالت: لا يلعبن بِك صِبيان بني أُمية، عِشْ
كريماً ومُت كريماً. فخرج فأسند ظهرَه إلى الكعبة ومعه نفرٌ يسير، فجعل يُقاتلهم
ويَهْزِمهم وهو يقول: ويله! يا له فتْحا لو كان له رجال! فناداه الحجاج: قد كان لك
رجال فضيّعتَهم. وجعل ينظر إلى أبواب المسجد والناس يَهْجُمون عليه فيقول: مَن
هؤلاء؟ فيقال له أهلُ مصر. قال: قَتلة عثمان! فحمل عليهم، وكان فيهم رجل من أهل الشام، يقال له
خَلبوب، فقال لأهل الشام: أما تستطيعون إذا ولَّى ابنُ الزبير أن لأخذوه بأيديكم؛ قالوا:
وُيمكنك أنت أن تأخذَه بيدك؟ قال نعم. قالوا: فشأنَك. فاقبل وهو يريد أن يَحتضنه،
وابنُ الزبير يَرتجز ويقول:
لو كان قِرْني واحداً
كفيتُه
فضربه ابنُ الزبير
بالسيف فقطع يده. فقال خَلبوب: حَس قال ابن الزبير: اصبر خَلبوب. قال: وجاءه حجر
من حِجارة المَنجنيق، فأصاب قَفاه فسقط. فاقتحم أهلُ الشام عليه. فما فهموا قتلَه
حتى سمعوا جارية تَبكي وتقول: وا أمير المؤمنيناه! فحزّوا رأسه وذهبوا به إلى
الحجّاج. وقُتل معه عبد اللّه بن صَفوان، وعُمارة بن حَزم، وعبد الله بن مُطيع.
قال أبو معشر: وبعث الحجاجُ
برؤوسهم إلى المدينة. فنَصبوها للناس، فجعلوا يُقرّبون رأسَ ابن صفوان إلى ابن
الزبير، كأنه يسارّه، ويَلعبون بذلك. ثم بعث برؤوسهم إلى عبد الملك بن مَروان.
فخرجت أسماء إلى الحجاج، فقالت له: أتأذن لي أن أدفنه فقد قضيتَ أربك منه؟ قال:
لا. ثم قال لها: ما ظنّك برجل قَتل عبدَ اللّه بن الزبير؟ قالت: حَسِيبُه اللهّ.
فلما منعها أن تدفنه قالت: أما إنّي سمعتُ رسول الله يقول: يَخرج من ثقيف رجلاًن:
الكذاب والمُبير، فأما الكَذاب فالمُختار، وأما المُبير فأنت. فقال الحجاج: اللهم
مُبيرٌ لا كذّاب. ومن غير رواية أبي عُبيد قال: لما نَصب الحجاج المجانيق لقتال
عبد الله بن الزُبير أظلتهم سحابة فأرعدت وأبرقت وأرسلت الصواعق، ففزع الناس
وامسكوا عن القتال. فقام فيهم الحجاجُ فقال: أيها الناس، لا يهولنكم هذا، فإني أنا
الحجاج بن يوسف وقد أصحرتُ لربِّي، فلو ركبنا عظيماً لحال بيننا وبينه. ولكنها
جبال تهامة لم تزل الصواعقُ تنزل بها. ثم أمر بكُرسيّ، فطُرح له، ثم قال: يا أهل
الشام، قاتلوا على أعطيات أمير المؤمنين. فكان أهلُ الشام إذا رَموا الكعبة
يَرْتَجزون ويقولون هذا:
خَطّارة مثل الفَتِيق
المُزْبِد ... يُرمى بها عُوّاذ أهل المَسجد
ويقولون أيضاً: دِري
عُقاب، بلبن وأشخاب. فلما رأى ذلك ابن الزُّبير خرج إليهم بسيفه، فقاتلهم حيناً.
فناداه الحجِّاج: ويلك يا بن ذات النَطاقين! اقْبل الأمان وادْخل في طاعة أمير
المؤمنين. فدخل على أمه أسماء، فقال لها: سمعتِ - رحمك اللّه - ما يقول القومُ وما يَدْعونني إليه من الأمان؟ قالت: سمعتُهم
لعنهم الله! فما أجهلهم وأعجب منهم إذ يُعيرُونك بذات النّطاقين! ولو
علموا ذلك لكان ذلك أعظَم فَخرك عندهم. قالت: وما ذاك يا أماه؟ قالت: خرج
رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره مع أبي بكر، فهيأت لهما سُفرة،
فطلبا شيئاً يَرْبطانها بها، فما وجداه، فقطعتُ من مِئْزري لذلك ما احتاجا إليه،
فقال رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: أمَا إن لك به نِطاقين في الجنَة. فقال عبد
اللّه: الحمد للّه حمداً كثيرِاً، فما تأمريني به، فإنهم قد أعْطوني الأمان؟ قالت:
أرى أن تموت كريماً ولا تتَّبع فاسقاً لئيماً، وأن يكون آخر نهارك أكرمَ من أوله.
فَقبَّل رأسها وودّعها، وضمّته إلى نفسها. ثم خرج من عندها، فَصعد المنبر، فحمد
الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّ الموت قد تغشَاكم سحابُه، وأحْدف بكم رَبابُه، واجتمع
بعد تَفرّق، وارجحنّ بعد تَمشّق، ورَجَس نحوكم رعدُه، وهو مُفْرغ عليكم وَدْقه، وقاد
إليكم البلايا تَتْبعها المنايا، فاجعلوا السيوفَ لها غرضاً، واستعينوا عليها
بِالصبر. وتمثَّل بأبيات، ثم اقتحم يُقاتل وهو يقول:
قد جَدّ أصحابُك
ضرْبَ الأعْناقْ ... وقامت الحربُ لها على ساقْ
ثم جعل يُقاتل وحده
ولا يَهُدّه شيء، كلما اجتمع عليه القومُ فرقهم وذادهم، حتى أثخن بالجراحات ولم
يستطع النُّهوض. فدخل عليه الحجّاج، فدعا بالنَطع فحزّ رأسه هو بنفسه في داخل مسجد
الكعبة - لا رَحم اللّه الحجّاج - ثم بعث برأسه إلى عبد الملك بن مَروان، وقَتَل
من أصحابه مَن ظَفِر به. ثم أقبل فاستأذن على أمه أسماء بنت أبي بكر ليعزّيها،
فأذنت له، فقالت له: يا حجّاج، قتلتَ عبد الله؟ قال: يا ابنة أبي بكر، إني لقاتلُ
الملحدين. قالت: بل أنت قاتل المُؤمنين الموحَدين. قال لها: كيف رأيتِ ما صنعتُ بابنك؟
قالت: رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك، ولا ضَير أنْ أكرمه اللّه على
يَديك، فقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بَغيّ من بغايا بني إسرائيل. هشامُ بن
عُروة عن أبيه قال: كان عُثمان استخلف عبد اللّه بن الزُّبير على الدار يوم الدار،
فبذلك ادّعى ابنُ الزبير الخلافَة. محمد بن سعيد قال: لما نَصب الحجاج رايةَ
الأمان وتصرّم الناسُ عن ابن الزبير قال لعبد الله بن صَفْوان: قد أقلتُك بيعتي
وجعلتُك في سَعة، فخُذ لنفسك أماناً. فقال: مه، والله ما أعطيتُك إياها حتى رأيتُك
أهلاً لها، وما رأيتُ أحداً أولى بها منك، فلا تَضربُ هذه الصلعةَ فتيانُ بني أمية
أبداً، وأشار إلى رأسه. قال: فحدثت سليمان بن عبد الملك حديثَه، فقال: إني كنت لأراه أعرجَ جباناً.
فلما كانت الليلة التي قُتل في صباحها ابنُ الزُّبير، أقبل عبدُ اللّه بن صفوان،
وقد دنا أهلُ الشام من المسجد، فاستأذن. فقالت الجاريةُ: هو نائم. فقال: أو
ليلةُ نوم هذه؟ أيْقظيه، فلم تَفعل. فأقام، ثم استأذن. فقالت: هو نائم، فانصرف. ثم
رجع آخرَ الليل وقد هجم القومُ على المَسجد. فخرج إليه، فقال: واللّه ما نِمْتُ
منذُ عَقلت الصلاة نومي هذه الليلةَ وليلةَ الجمل، ثم دعا بالسّواك، فاستاك
متمكَناً، ثم توضَّأ متمكناً، ولبس ثيابَه، ثم قال: أنظرني حتى أودِّع أمَّ عبد
اللّه، فلم يَبقَ شيء، وكان يكره أن يأتيَها فتعزمَ عليه أن يأخذ الأمان، فدخل
عليها وقد كُفّ بصرُها، فسلّم، فقالت: مَن هذا؟ فقال: عبد الله، فشمّته، ثم قالت:
يا بُني، مُت كريماً. فقال لها: إن هذا قد أمّنني - يعني الحجاج - قالت: يا بني، لا تَرضَ الدنيَّة،
فإن الموت لا بُدّ منه. قال: إني أخاف أن يُمثِّلِ بي. قالت: إن الكَبْش إذا ذُبح
لم يأمن السلخ. قال: فخَرج، فقاتل قتالاً شديداً. فجعل يَهْزِمهم، ثم يَرجع ويقول:
يا له فتحاً لو كان له رجال! أو كان المُصعب أخي حَيًّاً! فلما حَضرت الصلاة صلّى
صلاته، ثم قال: أين باب أهل مصر؟ حَنقاً لعثمان. فقاتل حتى قتل، وقُتل معه عبدُ
اللهّ بن صفوان. وأتي برأسه الحجاجُ وهو فاتح عَينيه وفاه، فقال: هذا رجل لم يكن
يعرف القَتل ولا ما يَصير إليه المقتول، لذلك فتح عَينيه وفاه. هشام بن عُروة عن
أبيه: إن عبد اللهّ بن الزُّبير كان أولَ مولود وُلد في الإسلام، فلما وُلد كبّر
النبيُّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولما قُتل كبَر الحجاج ابن يوسف وأهلُ الشام معه.
فقال ابن عمر: ما هذا؟ قالوا: كَبّر أهل الشام لقتل عبد اللّه بن الزُّبير. قال:
الذين كَبَروا لمولده خيرٌ من الذين كبَروا لقتله. أيوب عن أبي قُلابة: شهدتُ
ابنةَ أبي بكر غَسّلت ابنها ابنَ الزُّبير بعد شهر، وقد تقطعت أوصاله وذُهب برأسه،
وكَفّنته وصلّت عليه. هشام بن عُروة قال: عبدُ اللّه بن عبَّاس للجائز به:
جَنِّبني خَشبة ابن الزُّبير. فلم يَشعر ليلة حتى عَثر فيها، فقال: ما هذا؟ فقال:
خَشبة ابن الزبير. فوقف ودعا له، وقال: لئن عَلتْك رجلاك لطالما وقفتَ عليهما في صَلاتك. ثم قال لأصحابه: أما
واللّه ما عرفتهُ إلا صَوّاماً قَوّاماً، ولكنني ما زلتُ أخاف عليه منذ رأيتهُ أن،
تُعجبه بَغلاتُ معاوية الشُهب. قال: وكان معاوية قد حَجّ فدخل المدينة وخلفه خمسَ
عشرةَ بغلة شهباء عليها رحائل الأرجوان، فيها الجواري عليهن الجَلابيبُ
والمُعَصفرات، ففُتن الناس.
أولاد عبد الملك بن
مروان الوليد، وسليمان، من العَبْسية، ويزيد، وهشام، وأبو بكر، ومَسْلمة، وسَعيد الخير،
وعبدُ اللّه، وعَنْبسة، والحجاج، والمُنذر، ومَرْوان الأكبر، ومَروان الأصغر - ولم
يُعقب مروان الأكبر - ومحمد، ومُعاوية، دَرَج.
وفاة عبد الملك بن
مروان
توفّي عبد الملك بن
مروان بدمشق للنِّصف من شوال سنة ست وثمانين، وهو ابن ثلاث وستين، وصلّى عليه
الوليد بن عبد الملك. ووُلد عبدُ الملك في المدينة في دار مَروان سنة ثلاث وعشرين،
وكتب عبدُ الملك إلى هشام بن إسماعيل المَخزوميّ، وكان عاملَه على المدينة، أن
يدعو الناسَ إلى البيعة لابنيه الوليد وسليمان. فبايع الناسُ، غيرَ سعيد بن
المُسيِّب، فإنه أبى وقال: لا أبايع وعبدُ الملك حيّ. فضربه هشام ضرباً مُبرَحاً،
وألبسه المَسوح، وأرسله إلى ثنيَّة بالمدينة يَقتلونه عندها ويَصْلُبونه، فلما
انتهوا به إلى الموضع ردّوه. فقال سَعيد: لو علمتُ أنهم لا يَصْلبونني ما لبستُ
لهم التُّبّان. وبلغ عبدَ الملك خبرهُ فقال: قَبح اللّه هشاماً، مِثل سعيد بن المُسيِّب
يُضرب بالسياط! إنما كان ينبغي له أن يدعوَه إلى البَيعة فإن أب يَضْرب عنقه. وقال
للوليد: إذا أنا مِتُّ فَضعْني في قبري ولا تَعْصر في عَيْنيك عَصْر الأمة، ولكن
شَمِّر، وائتزر، والبَس للناس جِلْد النمر، فمن قال برأسه كذا فقُل بسَيْفك كذا.
ولاية الوليد بن عبد
الملكثم بُويع للوليد بن عبد الملك في النِّصف من شوال سنة ست وثمانين. وأم الوليد
ولّادة بنت العباس بن جَزْء بن الحارث بن زُهير بن جَذيمة العَبْسي. وكان على شُرطته
كَعْب بن حمّاد، ثم عَزله وولى أبا نائل بن رِياح ابن عَبدة الغساني. ومات الوليد
يوم السبت في النِّصف من شهر ربيع الأول سنة ست وتسعين، وهو ابن أربع وأربعين.
وصلّى عليه سليمان. وكانت ولايته عشرَ سنين غيرَ شهور.
ولد الوليد بن عبد الملك
عبد العزيز ومحمد، وعَنْبسة، ولم يُعْقِبوا - وأمهم أم البنين بنت عبد العزيز ابن
مروان - والعباس، وبه كان يُكنى، ويقال: إنه كان أكبرهم، وعمر، وبشر، ورَوْح،
وتمّام، ومبشر، وحَزْم، وخالد، ويزيد، ويحيى، وإبراهيم، وأبو عُبيدة، ومَسرور
ومَنْصور، ومَرْوان، وصَدقة، لأمهات أولاد. وأم أبي عُبيدة فَزارية. وكان أبو
عُبيدة ضَعيفاً. وولي الخلافة من ولد الوليد إبراهيم، شهرين ثم خُلع. وولي يزيد الكامل
شهراً ثم مات. وكان تمام ضعيفاً، هجاه رجل فقال:
بنو الوليد كرامٌ في
أرومتهمِ ... نالوا المكارمَ طُرًّا غيرَ تَمّام
ومَسرور بن الوليد،
وكان ناسكاً، وكانت عنده بنتُ الحجاج. وكان بِشْر من فتيانهم، ورَوْح من غلمانهم،
والعباس من فُرسانهم؛ وفيه يقول الفرزدق:
إنَ أبا الحارث
العباس نائله ... مثلُ السماك الذي لا يُخلِف المَطَرَا
وكانت تحته بنتُ
قُطَريّ بن الفجاءة، سباها وتزوجها. وله منها: المُؤمّل والحارث، وكان عمر من
رجالهم، كان له تسعون ولداً، ستون منهم كانوا يركبون معه إذا ركب. وقال رجل من أهل
الشام: ليس من ولد الوليد أحدٌ إلا ومَن رآه يَحسب أنه من أفضل أهل بيته، ولو وُزن
بهم أجمعين عبدُ العزيز لرجحهم. وفيهم يقول جرير:
وبنو الوليد مِن
الوليد بمنزلٍ ... كالبدر حُفّ بواضحاتِ الأنجُم
وعبد العزيز بن
الوليد أراد أبوه أن يُبايع له بعد سُليمان فأي عليه سليمان. وحدّث
الهيثم بن عدي عن ابنٍ عياش قال: لما أراد الوليدُ أن يبايع لابنه عبد العزيز بعد
سُليمان أبى ذلك سليمان وشنِّع عليه، فقيل للوليد: لو أمرت الشعراء أن يقولوا في
ذلك لعلّه كان يَسكت، فتُشهد عليه بذلك. فدعا الأقبيل القَيني، فقال له: ارتجز
بذلك وهو يَسمع. فدعا سليمان فسايره، والأقبيل خلفه، فرفع صوته وقال:
إنَ وليّ العَهد لابن
أمه ... ثم ابنهُ وليّ عهد عمّه
قد رضي الناسُ به
فسمَه ... فهو يَضمّ المُلك في مَضَمٌه
يا ليتها قد خرجت من
فمّه
فالتفت إليه سليمان،
وقال: يا بن الخبيثة، من رضي بهذا! أخبار الوليد
أبو الحسين المدائني
قال: كان الوليد أسنَّ ولد عبد الملك وكان يُحبه، فتراخَى في تأديبه لشدَة حُبه
إياه، فكان لحّاناً. وقال عبدُ الملك: أضرَنا في الوليد حُبًّنا له. فلم يُوجِّهه
إلى البادية. وقال الوليد يوماً وعنده عُمر بن عبد العزيز: يا غلام، ادع لي صالح.
فقال الغلام: يا صالحاً. فقال له الوليد: انقص ألفاً. فقال عمر بن عبد العزيز:
وأنت يا أمير المؤمنين فزِدْ ألفاً. وكان الوليد عند أهل الشام أفضلَ خلفائهم،
وأكثرَهم فُتوحا، وأعظمَهم نفقة في سبيل اللّه، بنى مسجدَ دمشق ومسجدَ المدينة،
وَوضع المنابر، وأعطىِ المجْذومين حتى أغناهم عن سُؤال الناس، وأعطى كلِّ مُقعد خادماً،
وكل ضرير قائداَ. وكان يَمر بالبقَّال فيتناول قَبْضة فيقول: بكمْ هذه؟ فيقول: بفَلْس،
فيقول: زِدْ فيها فإنك تَربح. ومَرَّ الوليدُ بمعلّم كُتَّاب فوجد عنده صَبيَّة،
فقال: ما تَصنع هذه عندك؟ فقال: أُعلّمها الكتابة والقرآن. قال: فاجعل الذي
يُعلّمها أصغرٍ منها سناً. وشكا رجل من بني مخزوم دَيْناً لَزِمه، فقال: نَقْضيه
عنك إن كُنت لذلك مُستحقّا. قال: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أكوِن مُستحقًّا في مَنزلتي وقَرابتي؟ قال: قرأتَ
القرآن؟ قال: لا. ادْن مني، فدنا منه، فنزع العِمامة عن رأسه بقَضيب في يده، ثم
قَرعه به قَرْعة، وقال لرجل من جلسائه: ضُمّ إليك هذا العِلْج ولا تُفارقه حتى
يَقرأ القرآن. فقام إليه آخر، فقال: يا أمير المؤمنين، اقض دَيْني، فقال له: أتقرأ
القرآن؟ قال: نعم. فاستقرأه عَشْراً من الأنفال وعَشْرا من براءة، فقرأ. فقال نعم،
نَقضي دَينك وأنت أهلٌ لذلك. وركب الوليدُ بعيراً وحادٍ يحدُو بين يديه، والوليد
يقول:
يا أيها البَكْر الذي
أراكا ... ويحك تَعْلمُ الذي عَلاكا
خليفة الله الذي
امتطاكا ... لم يُحْبَ بكْر مثلَ ما حباكا
ولاية سليمان بن عبد
الملكأبو الحسن المدائني: ثم بويع سُليمان بن عبد الملك في ربيع الأول سنة ست
وتسعين. ومات سنة تِسع وتسعين بدابِق، يوم الجمعة لعشر خلون من صفر، وهو ابنُ ثلاثٍ
وأربعين. وصلّى عليه عمرُ بن عبد العزيز. وكانت ولايتُه سنتين وعشرةَ أشهر ونصفاً. وُلد سليمان فصيحاً جميلاً وسيماً،
نشأ بالبادية عند أخواله بني عَبْس. وكانت وِلايتُه يُمناً وبركة، افتتحها بخير
وختمها بخير. أما افتتاحه فيها بخير، فردّ المظالم، وأخرج المسجونين وبغَزاة
مَسلمة بن عبد الملك الصائفة حتى بلغ القُسطنطينية. وأما ختمها بخير، فاستخلافُه
عمرَ بن عبد العزيز. ولبس يوماً واعتمّ بعمامة، وكانت عنده جارية حجازيّة، فقال
لها: كيف تَرين الهيئة؟ فقالت: أنت أجملُ العرب، لولا! قال: على ذلك لتقولِنِّ.
قالت:
أنت نِعْم المتاعُ لو
كنتَ تَبْقى ... غيرَ أن لا بقاءَ للإنسانِ
أنت خِلو من العُيوب
ومما ... يكره الناسُ غير أنك فاني
قال: فتنغّص
عليه ما كان فيه، فما لبث بعدها إلا أياماً حتى تُوفي رحمه الَلّه. وتفاخر
ولدُ لعمر بن عبد العزيز وولدٌ لسليمان بن عبد الملك، فذكر ولدُ عُمَر فضلَ أبيه
وخالِه. فقال له ولدُ سُليمان: إن شئتَ فأقْللْ وإن شِئتَ فأكثر، فما كان أبوك إلا
حسنةٌ من حسنات أبي. محمد بن سليمانَ قال: فعل سُليمان في يوم واحد ما لم يَفعله
عمرُ بن عبد العزيز في طول عمره: أعتق سبعين ألفاً ما بين مملوك ومملوكة وبتّتَهم،
أي كساهم. والبَتُّ: الكسوة.
ولد سليمان أيوب،
وأمه أم أبان بنت الحَكم بن العاص، وهو أكبر وَلد سليمان ووليّ عهده، فمات في حياة
سليمان، وله يقول جرير:
إنّ الإمام الذي ترجى
فواضله ... بعد الإمام ولي العهد أيوبُ
وعبد الواحد، وعبدُ
العزيز، أمهما أمُّ عامر بنت عبدا لله بن خالد بن أسيد. وفي عبد الواحد يقول
القَضاميّ:
أهل المدينة لا
يَحزُنْك حالهم ... إذا تَخطَأ عبدَ الواحد الأجلُ
قد يُدرك المتأنِّي
بعضَ حاجته ... وقد يكون مع المُستعجل الزَّلل
ولما مات أيوب، وليُّ
عهد سليمان بن عبد الملك قال ابن، عبد الأعلى يَرثيه، وكان من خواصه:
ولقد أقولُ لذي
الشَماتة إذ رَأى ... جَزَعي ومَن يَذُق الحوادثَ يَجزع
أبشرِ فقد قَرع
الحوادثُ مروتي ... وأفْرَح بمَرْوتك التي لم تُقْرَع
إنْ عِشْتَ تُفْجَع
بالأحبّه كُلَهم ... أو يُفْجَعوا بك إنْ بهم لم تُفْجَع
أيوبُ مَن يَشْمَت
بموتك لم يُطق ... عن نَفسه دَفْعاً وهل مِن مَدْفع
أخبار سليمان بن عبد
الملك أبو الحسن المدائني قال: لما بلغ قُتَيبَةَ بنَ مسلم أنّ سليمان بن عبد
الملك عَزله عن خُراسان واستعمل يزيدَ بن المهلب، كتب إليه ثلاث صُحف، وقال
للرسول: ادفع إليه هذه، فإن دَفعها إلى يزيد فادفع إليه هذه، فإن شَتمني فادفع
إليه هذه. فلما سار الرسولُ إليه دفع الكتابَ إليه، وفيه: يا أمير المؤمنين، إنّ
من بلائي في طاعة أبيك وأخيك كَيْتَ وكَيت. فدفع كتابَه إلى يزيد. فأعطاه الرسولُ
الكتابَ الثاني، وفيه: يا أمير المؤمنين، كيف تأمن ابنَ دَحْمة على أسرارك وأبوه
لم يَأْمنه على أمهات أولاده؟ فلما قرأ الكتاب شَتمه وناوله ليزيد. فأعطاه الثالثَ
وفيه: من قُتيبة بن مُسلم إلى سليمان بن عبد الملك. سلامٌ على من اتبع
الهدى. أما بعد. فواللهّ لأوثقنَّ له أخيّةَ لا ينزِعها المَهر الأرِن. فلما قرأها
قال سُليمان: عَجّلنا على قُتيبة، يا غلام، جدِّد له عهداَ على خُراسان. ودخل
يزيدُ بن أبي مُسلم، كاتبُ الحجاج، على سليمان. فقال له سليمان: أترى الحجاج استقر
في قَعْرِ جهنم، أم هوِ يَهْوى فيها؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الحجاج يأتي يوم
القيامة بين أبيك وأخيك، فضَعه من النار حيث شئت. قال: فأمر به إلى الحَبس، فكان فيه طولَ ولايته. قال محمد بن يزيد
الأنصاريّ: فلما وَلي عمرُ بن عبد العزيز، بعثني. فأخرجتُ
مِن السجن مَن حَبسَ سليمان،
ما خلا يزيدَ بن أبي مُسلم فقد رُدِّ. فلما مات عمرُ بن عبد العزيز ولّاه يزيدُ بن
عبد الملك إفريقية، وأنا فيها، فأخِذتُ فأتي بي إليه في شهر رمضان عند الليل،
فقال: محمد بن يزيد؛ قلت: نعم. قال: الحمد للّه الذي مَكّنني منك بلا عَهد ولا
عَقْد، فطالما سألتُ الله أن يُمكنني منك. قلت: وأنا واللّه طالما استعذت باللهّ منك. قال: فواللهّ ما أعاذك اللّه
منّي، ولو أنَّ ملك الموت سابَقني إليك لسبقته. قال: فأقيمت صلاةُ المغرب، فصلّى ركعة،
فثارت عليه الجُند فقتلوه، وقالوا لي: خُذ أيّ طريق شئت. وأراد سُليمان بن عبد
الملك أن يَحْجر على يزيد بن عبد الملك، وذلك أنه تزوَج سُعدى بنت عبد اللّه بن
عمرو بن عثمان فأصدقها عشرين ألف دينار، واشترى جارية بأربعة آلاف دينار. فقال
سليمان: لقد هَممتُ أن أضربَ على يد هذا السفيه، ولكن كيف أصنع بوصيَّة أمير
المؤمنين بابني عاتكة: يزيد ومروان! وحبس سليمانُ بنُ عبد الملك موسى بنَ نُصير وأوحى إليه: اغرم ديتك
خمسين مرة. فقال موسى: ما عندي ما أغرمه. فقال. واللّه لتغرمنّها مائةَ مرة. فحملها
عنه يزيدُ بنِ المهلّب، وشكر ما كان من موسى إلى أبيه المهلّب أيامَ بشْر بن
مروان، وذلك أن بشراَ هَمّ بالمهلّب، فكتب إليه مولى يُحذّره، فتمارض المهلَب ولم
يأته حين أرسل إليه. وكان خالد بن عبد اللّه القَسريّ والياً على المدينة للوليد،
ثم أقرّه سليمان، وكان قاضي مكة طَلحةُ بن هَرم، فاختصم إليه رجلٌ من بني شَيبة،
الذين إليهم مفتاح الكعبة، يقال له الأعجم، مع ابن أخ له في أرض لهما، فقضى للشيخ
على ابن أخيه، وكان متَّصلاً بخالد بن عبد اللّه، فأقبل إلى خالد فأخبره، فحال
خالد بين الشيخ وبين ما قضى له القاضي. فكتب القاضي كتاباً إلى سُليمان يشكو له
خالداً، ووجه الكتاب إليه معِ محمد بن طلحة. فكتب سُليمان إلى خالد: لا سبيلَ لك
على الأعجم ولا ولده. فقدِم محمد بن طلحة بالكتاب على خالد وقال: لا سبيلَ لك علينا،
هذا كتابُ أمير المؤمنين. فأمر به خالد فضرب مائة سوط قبل أن يُقرأ كتابُ سليمان.
فبعث القاضي ابنَه المضروب إلى سليمان، وبعث ثيابه التي ضُرب فيها بدمائها. فأمر
سليمان بقَطْع يد خالد. فكلَّمه يزيدُ ابن المهلب، وقال: إن كان ضربَه يا أمير
المؤمنين بعد ما قرأ الكتاب تُقطع يده، وإن كان ضَربه قبل ذلك فَعفْو أمير
المؤمنين أولى بذلك. فكتب سُليمان إلى داود بن طلحة بن هرم: إن كان ضَرب الشيخَ
بعدما قرأ الكتاب الذي أرسلته فاقطع يده، وإن كان ضَرِبه قبل أن يَقرأ كتابي
فاضربه مائة سوط. فأخذ داودُ بن طلحة، لمّا قرأ الكتاب، خالداً فضربه مائة سوط.
فَجزع خالد من الضَّرب، فجَعل يَرفع يديه. فقال له الفرزدق: ضُم إليك يديك يا بن
النّصرانية. فقال: ليهنأ الفرزدق، وضَمّ يديه. وقال الفرزدق:
لعمري لقد صُبّت على
مَتن خالد ... شآبيبُ لم يُصْببن من صَبَب القطْرِ
فلولا يزيدُ بن
المهلَب حلَقت ... بكفك فَتْخاء الجَناح إلى الوَكْر
فردّت أم خالد عليه
تقول:
لعمري لقد باع
الفرزدقُ عِرضَه ... بخَسْف وصَلّى وجهَه حامِي الجَمرِ
فكيف يُساوي خالداً
أو يَشينُه ... خَميصٌ من التقوى بَطين من الخَمر
وقال الفرِزدق أيضاً
في خالد القَسريّ:
سلوا خالداً، لا قدّس
اللهّ خالداً ... متى مَلكت قَسْرٌ قريشاً تدينُها؟
أقبلَ رسول الله أو
بعدَ عَهده ... فتلك قريش قد أغثَّ سَمينها
رَجَوْنا هُداه، لا
هَدى اللّه قلبَه ... وما أمه بالأمِّ يُهْدَى جَنينها
فلم يزل خالد محبوساً
بمكة حتى حَج سليمان وكلمه فيه المُفضّلُ بن المهلَّب. فقال سليمان: لاطت بك الرحم أبا عثمان، إنَ خالداً جَرعني غيظاً. قال:
يا أمير المؤمنين، هبني ما كان من ذنبه. قال: قد فعلتُ، ولا بد أن يَمشي إلى الشام
راجلًا. فمشى خالدٌ إلى الشام راجلًا. وقال الفرزدق يمدحُ سليمان ابن عبد الملك.
سُليمان غَيّث
المُمْحِلين ومَن به ... عن البائس المِسْكين حلَتْ سَلاسِلُه
وما قام من بَعد
النبيّ محمدٍ ... وعُثْمانَ فوق الأرض راعٍ يماثلُه
جعلت مكان الجَوْر في
الأرض مثلَه ... من العَدْل إذ صارت إليك محامله
وقد عَلموا أنْ لن
يَميل بك الهَوى ... وما قلتَ منِ شيءٍ فإنك فاعله
زياد عن مالك: إن
سليمان بن عبد الملك قال يوماً لعمرَ بن العزيز: كذبتَ! قال: واللّه
ما كذبتُ منذ شَدَدْتُ عليّ إزاري، وإنّ في غير هذا المجلس لسَعة، وقام مُغضباً،
فتجهّز يريد مصر. فأرسل إليه سليمان، فدخل عليه، فقال له: يا بن عمّي. إن المعاتبة
تَشق عليّ، ولكن واللهّ ما أهمّني أمرٌ قط من دِيني ودنياي إلا كنتَ أولَ من
أذْكره لك.
وفاة سليمان بن عبد
الملك قال رجاء بن حَيْوة: قال لي سُليمان: إلى من تَرى أن أعهد؟ فقلتُ: إلى عمر
بن عبد العزيز. قالت: كيف نصنع بوصية أمير المؤِمنين بابني عاتكة، مَن كان منهما حيا؟
قلتُ: تجعل الأمرَ بعده ليزيد. قالت: صدقت. قال: فكتب عهدَه لعمر ثم ليزيد بعده.
ولما ثَقُل سليمانُ قال: ائتوني بقُمُص بَني أنظر إليها. فأتي بها، فنَشرها فرآها
قصاراً، فقال:
إن بَني صِبْيَةٌ
صِغَار ... أفلح مَن كان له كِبار
فقال لَه عمر: أفلحَ
مَنْ تَزَكَى. وذَكَر اسم ربّه فصَلّى.
وكان سببُ موت سليمان
بن عبد الملك أنَّ نصرانياً أتاه وهو بدابق بزِنْبيل مملوء بَيضاً وآخر مَملوء
تِيناً. قال: قشَروا، فقَشرّوا. فجعل يأكل بَيضة وتينة، حتى أتى على الزِّنبيلين.
ثم أتوه بقَصْعة مملوءة مُخا بسُكر، فأكله، فأتخم فَمرض فمات. ولما حَجَّ سليمانُ
تأذَى بحرّ مكة، فقال له عمرُ بن عبد العزيز: لو أتيتَ الطائف. فأتاها، فلما كان
بسَحقْ لَقِيه ابنُ أبي الزُّهير، فقال: يا أميرَ المؤمنين، اجعل بعض منزلك عليّ.
قال: كُل مَنزلي، فرمى بنفسه على الرمل. فقِيل له: يُساق إليك الوِطاء؟ فقال:
الرمل أحدث إلي، وأعجبه برده، فألزق بالرَّمل بطنَه. قال: فأتي إليه بخَمْس رُمَّانات
فأكلها، ثم قال: أعندكم غيرُ هذه؟ فجعلوا يأتونه بخَمْس بعد خَمس، حتى أكل سَبْعين
رُمَّانة. ثم أتوْه بجَدْي وستْ دجاجات فأكلهن. وأتوه بزَبيب من زَبيب الطائف، فنُثر بين يديه، فأكل عامَّته، ونَعس.
فلما انتبه، أتَوْه بالغداء، فأكل كما أكل الناس. فأقام يومَه، ومن غد قال لعمر: أرانا قد
أضرْرنا بالقوم. وقال لابن أبي الزُّهير: اتْبعني إلى مكة، فلم يَفعل. فقالوا له:
لو أتيتَه؟ فقال: أقول ماذا: أعْطِني ثمن قِراي الذي قريتُكه! العُتبي عن أبيه عن
الشَّمردل وكيل آل عمرو بن العاص قال: لما قَدِمٍ سليمان بن عبد الملك الطائفَ
دَخل هو وعمر بن عبد العزيز وأيوب ابنه بستانا لعمرو. قال: فجال في البستان ساعةً
ثم قال: ناهيك بمالِكم هذا مالاً! ثم ألْقى صدرَه على غُصن وقال: ويلك يا
شَمَرْدل! ما عندك شيء تُطعمني؟ قلت: بلى، والله عندي جَدْي كانت تَغدو عليه بقرة
وتروح أخرى. قال: عجٌل به، ويحك! فأتيتُه بن كأنه عُكٌة سَمْن، فأكله، وما دعا
عُمَرَ ولا ابنه، حتى إذا بَقي الفَخِذ، قال: هلم أبا حَفْص. قال: أنا صائم، فأتى عليه.
ثم قال: ويلك يا شَمَرْدل! ما عندك شيء تُطعمني؟ قلت: بلى واللّه، دَجاجتان
هِنْديتان كأنهما رَألا النعام، فأتيتُه بهما، فكان يأخذ برجل الدجاجة فيُلقى
عظامَها نقية، حتى أتى عليهما. ثم رفع رأسَه فقال: وبلك يا شَمَرْدل! ما عندك شيء
تُطعمني؟ قلت: بلى، عندي حَريرة كأنها قُراضة ذهب. قال: عَجِّل بها، ويلك! فأتيتُه بعُس يَغيب فيه الرأس، فجعل
يَتَلَقَّمها بيده ويَشرب. فلما فرغ تجشَّأ فكأنما صاح في جُب. ثم قال: يا غلام،
أفرغِتَ من غَدائي؟ قال نعم. قال: وما هو؟ قال: ثمانون قِدْراً. قال: ائتني بها قِدْراً
قدراً. قال: فأكثرُ ما أكل مِن كل قدر ثلاث لُقم، وأقل ما أكل لقمة. ثم مسح يده
واستلقى على فِراشه، ثم أذن للناس، ووُضعت الخِوانات، وقَعد يأكل، فما أنكرتُ
شيئاً من أكْله.
خلافة عمر بن عبد
العزيز
المدائني قال: هو
عمرُ بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم، وكُنيته أبو حَفْص. وأمه أم عاصم بنت عاصم
بن عمر بن الخطاب. وولي الخلافةَ يوم الجُمعة لعشر خَلْون من صَفر سنة تسع وتسعين.
ومات يومَ الجمعة لستٍّ بقين من رَجب بدَيْرِ سِمْعان من أرض دِمَشق سنة إحدى
ومائة، وصَلّى عليه يزيدُ بن عبد الملك. علي بن زيد قال: سمعتُ عمرَ بن عبد العزيز يقوله: تمَت حُجّة اللّه
على ابن الأربعين. ومات لها. وكان على شرطته يزيدُ بن بَشير الكِنانيّ. وعلى حرسه عمرو
بن المُهاجر، ويقال! أبو العباس الهِلالي. وكان كاتبَه على الرسائل ابنُ أبي
رُقَيَّة، وكاتبه أيضاً إسماعيل بن أبي حَكيم. وعلى خاتَم الخلافة نُعيم ابن أبي
سَلامة. وعلى الخراج والجُند صالحُ بن أبي جُبير. وعلى إذْنه أبو عُبيدة الأسود،
مولاه. يعقوب بن داود الثَّقفي عن أشياخ من ثَقيف قال: قُرىء عهدُ عُمر بالخلافة،
وعُمر من ناحية، فقام رجلٌ من ثقيف يقال له: سالم، من أخوال عمر، فأخذ بضَبْعيه
فأقامه. فمال عمر: أما والله ما الله أردتَ بهذا، ولن تُصيب بها مني ديناً. أبو
بِشر الخُراساني قال: خَطب عمرُ بن عبد العزيز الناسَ حين استُخلف فقال: أيها
الناس، والله ما سألتُ الله هذا الأمرَ قَط في سر ولا علانية، فمن كان كارهاً لشيء
مما وليتُه فالآن. فقال سعيدُ بن عبد الملك: ذلك أسرعُ فيما تَكره، أتريد أن
نَخْتَلف ويضرب بعضُنا بعضاً؟ قال رجل: سبحان اللّه! وليها أبو بكر وعمر وعثمان
وعلي ولم يقولوا هذا ويقوله عُمر! أخبار عمر بن عبد العزيز
بِشر بن عبد اللّه بن
عمر قال: كان عمر يخلو بنفسه ويَبْكي، فنَسمع نَحيبَه بالبكاء وهو يقول: أبعدَ
الثلاثة الذين واريتهم بيدي: عبدِ الملك والوليد وسليمان! وقدم رجلٌ من خراسان على عمرَ بن العزيز حين استُخلف، فقال: يا أمير المؤمنين،
إني رأيتُ في منامي قائلًا يقول: إذا ولي الأشجّ من بني أمية يملأ الأرضَ عدلًا
كما مُلئت جَوراً. فولي الوليدُ، فسألتُ عنه، فقيل لي: ليس بأشجّ، ثم ولي سليمان، فسألتُ عنه فقيل: ليس بأشجّ. ووليتَ أنت،
فكنت الأشجّ. فقال عمر: تقرأ كتابَ الله؟ قال: نعم. قال: فبالذي أنعم به عليك، أحق
ما أخبرتني؟ قال: نعم. فأمره أن يُقيم في دار الضِّيافة. فمكث نحواً من شهرين، ثم
أرسل إليه عمر، فقال: هل تَدري لم احتبسناك؟ قال: لا. قال: أرسلتُ
إلى بلدك لنسألَ عنك، فإذا ثناءُ صديقك وعدوّك عليك سواء، فانصرفْ راشداً. وكان
عمرُ بن عبد العزيز لا يأخذ من بيت المال شيئاً ولا يُجري على نفسه من الفيء
درهماً. وكان عمرُ بن الخطاب يُجري على نفسه من ذلك دِرْهمين في كلّ يوم. فقيل
لعمر بن عبد العزيز: لو أخذتَ ما كان يأخذ عمرُ بن الخطاب؟ فقال: إنّ عمر بن
الخطاب لم يكن له مال وأنا مالي يُغنيني. ولما ولي عمرُ بن عبد العزيز قام إليه
رجل فقال: يِا أمير المؤمنين، أعدِني على هذا، وأشار إلى رجل. قال فيم؟ قال: أخذ
مالي وضرب ظهري. فدعا به عمر، فقال: ما يقول هذا؟ قال صَدق، إنه كتب إليّ الوليدُ
بن عبد الملك، وطاعتُكم فريضة. قال: كذبتَ، لا طاعة لنا عليكم إلا في طاعة الله،
وأمر بالأرض فرُدتْ إلى صاحبها. عبدُ اللّه بن المُبارك عن رجل أخبره، قال: كنتُ
مع خالد بن يزيد بن معاوية في صَحن بيت المَقدس، فلقينا عمرُ بن عبد العزيز ولا
أعرفه، فاخذ بيد خالد، وقال: يا خالد، أعلينا عَين؟ قلتُ: عليكما من الله عينٌ
بَصيرة وأذن سميعة. قال: فاستلّ يدَه من يد خالد وأرعد ودَمعت عيناه ومَضى. فقلت
لخالد: مَن هذا؟ قال: هذا عمرُ بن عبد العزيز، إن عاش فيُوشك أن يكون إماماً
عدلًا. وقال رياح بن عُبيدة: اشتريتُ لعمر قبل الخلافة مُطرَفا بخمسمائة، فاستخشنه
وقال: لقد اشتريتَه خَشناً جداً، واشتريت له بعد الخلافة كِساء بثمانية دراهم،
فاستلانه وقال: اشتريتَه ليِّناً جداً. ودخل مسلمةُ بن عبد الملك على عمر وعليه
رَيْطة من رياط مصر، فقال: بكم أخذت هذه يا أبا سعيد؟ قال: بكذا وكذا. قال: فلو
نقصتَ من ثمنها ما كان ناقصاً من شرَفك. فقال مسلمة: إنّ الاقتصاد ما كان بعد
الجدَة، وأفضلَ العَفو ما كان بعد القُدْرة، وأفضلَ اللِّين ما كان بعد الولاية. وكان
لعمرَ غلامٌ يقال له دِرْهم يحتطب له، فقال له يوماً: ما يقول الناس يا دِرْهم؟
قال: وما يقولون؟ الناسُ كلهم بخير وأنا وأنت بشرّ. قال: وكيف ذلك؟ قال: إني
عهدتُك قبل الخلافة عَطِراً لبّاساً، فاره المَرْكب، طَيّب الطعام، فلما وليتَ
رجوتُ أن أستريح وأتخلّص، فزاد عملي شدّة وصِرْتَ أنت في بلاء. قال: فأنت حُر،
فاذهب عني، ودعني وما أنا فيه حتى يجعلَ اللّه لي منه مخرجاً. ميمون بن مهران قال:
كنتُ عند عمرِ فكثُر بكاؤه ومسألتُه ربَّه الموت، فقلت: لمَ تسأل الموت! وقد صَنع
اللّه على يديك خيراً كثيراً، أحْيا بك سُننا وأمات بك بِدَعا. قال: أفلا أكون مثل
العَبد الصالح حين أقرّ الله عينَه وجَمع له أمره، قال: " رَبِّ قد آتيتني
مِن المُلك وعلَّمتَني من تأويل الأحاديث فاطِر السموات والأرض أنت وليِّ في
الدنيا والآخرة توفني مُسْلماً وألْحِقني بالصالحين " . ولما وَلي عمرُ بن عبد
العزيز قال: إن فَدك كانت مما أفاء الله على رسوله، فسألتها فاطمةُ رسولَ اللهّ.
فقال لها: ما لَكِ أن تَسأليني ولا لي أن أعطيك. فكان رسولُ الله صلى الله عليه
وسلم يصطنع فيها حيث أمره اللهّ. ثم وَلي أبو بكر وعمر وعثمان فكانوا يضعونها
المواضعَ التي وَضعها رسولُ اللهّ صلى الله عليه وسلم. ثم وَلي معاوية فأقطعها
مروانَ، ووَهبها مروانُ لعبد الملك وعبدِ العزيز، فقسمناها بيننا أثلاثاً أنا
والوليد وسليمان. فلما ولي الوليدُ سألتُه نصيبَه فوهبه لي، وما كان لي مالٌ أحب
إلي منها، وأنا أشهدكم أني قد رددتُها إلى ما كانت عليه على عهد رسول اللّه صلى
الله عليه وسلم. وقال عمر: الأمور ثلاثة، أمر استبان رُشدُه فاتبِعْه، وأمر استبان
ضره
فاجتنبْه، وأمر أشكل
أمرهُ عليك فرُدّه إلى اللّه. وكتب عمر إلى بعض عُماله: الموالي ثلاثة: مَولى
رَحِم، ومولى عَتاقة، ومولى عَقد، فمولى الرحم يَرث ويُورَث، ومولى العَتاقة
يُورَث ولا يَرِث، ومولى العقد لا يَرث ولا يُورث، وميراثه لعصبته. وكتب عمر إلى
عُمَّالة: مُرُوا مَن كان على غير الإسلام أن يَضعوا العمائم، ويَلبسوا الأكسية
ولا يَتشبهوا بشيء من الإسلام، ولا تتركوا أحداً من الكُفار يستخدم أحداً من
المسلمين. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عَدِيّ بن أرطاة عامِله علِي العراق: إذا
أمكنتك القدرة على المخلوق فاذكر قدرةَ الخالق القادر عليك، واعلم أن مالَكَ عند
الله أكثرُ مما لك عند الناس. وكتب عمرُ بن عبد العزِيز إلى عُمَّاِله: مُروا من
كان قِبَلكم، فلا يبقى أحد من أحرارهم ولا مماليكهم، صغيراً ولا كبيراً، وذكراً
ولا أنثى، إلا أخرج عنه صدقَة فِطر رمضان: مُدين من قمح، أو صاعاً من تمر، أو قيمة
ذلك نصفَ درهم. فأما أهل العطاء فيُؤخذ ذلك من أعطياتهم، عن أنفسهم وعيالاتهم.
واستعملوا على ذلك رجلين من أهل الأمانة يَقْبضان ما اجتمع من ذلك ثم يُقسّمانه في
مَساكين أهل الحاضرة. ولا يُقسّم على أهل البادية. وكتب عبدُ الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر: إنّ رجلاً شَتمك فأردتُ أن
أقتله. فكتب إليه: لو قَتلته لأقدتك به؛ فإنه لا يُقتل أحد بشتم أحد إلا رجل
شَتم نبيًّا. وكتب رجل من عُمَّال عمر إلى عمر: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء،
فطفت على الماء، فما تَرى فيها؟ فكتب إليه: لسنا من الماء في شيء، إن قامت عليها
بيّنة وإلا خَلَ سبيلها. كان عمرُ بن عبد العزيز يكتب إلى عبد الحميد بن عبد
الرحمن عامِله علىِ المدينة في المظالم فيُرادّه فيها. فكتب إليه: إنه يُخيل لي أني لو كتبتُ لك أن تُعطِيَ رجلاً شاة لكتبت
إلى: أذكر أم أنثى؟ ولو كتبتُ إليك بأحدهما لكتبت إلي: أصغيرة أم كبيرة؟
ولو كتبتُ بأحدهما لكتبتَ: ضائنة أم معز؟ فإذا كتبت إليك فنفّذ ولا تَردّ عليّ. والسلام.
وخطب عمرُ فقال: أيها الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سَلف منها
بالتوبة منها. إنَّ الحسنات يُذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. وقال عز وجل:
" والذين إذا فَعلوا فاحشةً أو ظَلموا أنْفسَهم ذَكَرُوا الله فاسْتَغفروا
لذنوبهم ومَن يَغفر الذنوبَ إلا الله ولم يُصرُوا على ما فَعلوا وهم يَعْلمون
" . وقال عمر لبني مَروان: أدُوا ما في أيديكم من حُقوق الناس ولا تُلْجِئوني
إلى ما أكره فأحْمِلَكم على ما تكرهون. فلم يُجبه أحد منهم. فقال: أجيبوني. فقال
رجل منهم: والله لا نُخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا، فنُفقِرَ أبناءنا
ونُكَفِّرَ آباءنا، حتى تُزايلَ رؤوسنا أجسادَنا. فقال عمر: أما واللهّ لولا أن تَستعينوا
عليِّ بمن أطلب هذا الحق له لأضرعتُ خُدودكم عاجلاً، ولكنني أخاف الفتنة، ولئن
أبقاني الله لأردّن إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله. وكان عمر إذا نظر إلى بعض بني
أمية، قال: إني أرى رقاباً ستُرد إلى أربابها. ولما مات عمر بن عبد العزيز قَعد
مسلمة على قبره، فقال: أما واللّه ما أمِنْتُ الرِّق حتى رأيتُ هذا القبر. العُتبي
قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دَفن سُليمان بن عبد الملك تَبعه الأمويون،
فما دَخلوا إلى منزله، قال له الحاجب: الأمويون بالباب. قال وما يريدون؟ قال: ما
عَوَّدتْهم الخلفاءُ قبلك. قال ابنُه عبدُ الملك، وهو إذ ذاك ابنُ أربعَ عشرة سنة:
ائذن لي في إبلاغهم عنك. قال: وما تُبلغهم؟ قال: أقول: أبي يُقرئكم السلام ويقول
لكم: إني أخافُ إن عصيت ربي عذابَ يوم عَظيم.نبْه، وأمر أشكل أمرهُ عليك
فرُدّه إلى اللّه. وكتب عمر إلى بعض عُماله: الموالي ثلاثة: مَولى رَحِم، ومولى عَتاقة،
ومولى عَقد، فمولى الرحم يَرث ويُورَث، ومولى العَتاقة يُورَث ولا يَرِث، ومولى
العقد لا يَرث ولا يُورث، وميراثه لعصبته. وكتب عمر إلى عُمَّالة: مُرُوا مَن كان
على غير الإسلام أن يَضعوا العمائم، ويَلبسوا الأكسية ولا يَتشبهوا بشيء من
الإسلام، ولا تتركوا أحداً من الكُفار يستخدم أحداً من المسلمين. وكتب عمر بن عبد
العزيز إلى عَدِيّ بن أرطاة عامِله علِي العراق: إذا أمكنتك القدرة على المخلوق
فاذكر قدرةَ الخالق القادر عليك، واعلم أن مالَكَ عند الله أكثرُ مما لك عند
الناس. وكتب عمرُ بن عبد العزِيز إلى عُمَّاِله: مُروا من كان قِبَلكم، فلا يبقى
أحد من أحرارهم ولا مماليكهم، صغيراً ولا كبيراً، وذكراً ولا أنثى، إلا أخرج عنه
صدقَة فِطر رمضان: مُدين من قمح، أو صاعاً من تمر، أو قيمة ذلك نصفَ درهم. فأما
أهل العطاء فيُؤخذ ذلك من أعطياتهم، عن أنفسهم وعيالاتهم. واستعملوا على ذلك رجلين
من أهل الأمانة يَقْبضان ما اجتمع من ذلك ثم يُقسّمانه في مَساكين أهل الحاضرة.
ولا يُقسّم على أهل البادية. وكتب عبدُ الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر: إنّ رجلاً
شَتمك فأردتُ أن أقتله. فكتب إليه: لو قَتلته لأقدتك به؛ فإنه لا يُقتل أحد بشتم
أحد إلا رجل شَتم نبيًّا. وكتب رجل من عُمَّال عمر إلى عمر: إنا أتينا بساحرة
فألقيناها في الماء، فطفت على الماء، فما تَرى فيها؟ فكتب إليه: لسنا من الماء في
شيء، إن قامت عليها بيّنة وإلا خَلَ سبيلها. كان عمرُ بن عبد العزيز يكتب إلى عبد
الحميد بن عبد الرحمن عامِله علىِ المدينة في المظالم فيُرادّه فيها. فكتب إليه:
إنه يُخيل لي أني لو كتبتُ لك أن تُعطِيَ رجلاً شاة لكتبت إلى: أذكر أم أنثى؟ ولو
كتبتُ إليك بأحدهما لكتبت إلي: أصغيرة أم كبيرة؟ ولو كتبتُ بأحدهما لكتبتَ: ضائنة أم
معز؟ فإذا كتبت إليك فنفّذ ولا تَردّ عليّ. والسلام. وخطب عمرُ فقال: أيها
الناس، لا تستصغروا الذنوب، والتمسوا تمحيص ما سَلف منها بالتوبة منها. إنَّ
الحسنات يُذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين. وقال عز وجل: " والذين إذا فَعلوا فاحشةً أو ظَلموا أنْفسَهم ذَكَرُوا الله
فاسْتَغفروا لذنوبهم ومَن يَغفر الذنوبَ إلا الله ولم يُصرُوا على ما فَعلوا وهم يَعْلمون
" . وقال عمر لبني مَروان: أدُوا ما في أيديكم من حُقوق الناس ولا تُلْجِئوني
إلى ما أكره فأحْمِلَكم على ما تكرهون. فلم يُجبه أحد منهم. فقال:
أجيبوني. فقال رجل منهم: والله لا نُخرج من أموالنا التي صارت إلينا من آبائنا،
فنُفقِرَ أبناءنا ونُكَفِّرَ آباءنا، حتى تُزايلَ رؤوسنا أجسادَنا. فقال عمر: أما
واللهّ لولا أن تَستعينوا عليِّ بمن أطلب هذا الحق له لأضرعتُ خُدودكم عاجلاً،
ولكنني أخاف الفتنة، ولئن أبقاني الله لأردّن إلى كل ذي حق حقه إن شاء الله. وكان
عمر إذا نظر إلى بعض بني أمية، قال: إني أرى رقاباً ستُرد إلى أربابها. ولما مات عمر بن عبد العزيز قَعد
مسلمة على قبره، فقال: أما واللّه ما أمِنْتُ الرِّق حتى رأيتُ هذا القبر. العُتبي
قال: لما انصرف عمر بن عبد العزيز من دَفن سُليمان بن عبد الملك تَبعه الأمويون،
فما دَخلوا إلى منزله، قال له الحاجب: الأمويون بالباب. قال وما يريدون؟ قال: ما عَوَّدتْهم الخلفاءُ قبلك. قال ابنُه عبدُ
الملك، وهو إذ ذاك ابنُ أربعَ عشرة سنة: ائذن لي في إبلاغهم عنك. قال: وما تُبلغهم؟
قال: أقول: أبي يُقرئكم السلام ويقول لكم: إني أخافُ إن عصيت ربي عذابَ يوم عَظيم.
زياد عن مالك قال:
قال عبدُ الملك بن عمرَ بن عبد العزيز لأبيه: يا أبتِ، مالك لا تْنفذ الأمور،
فوالله ما أبالي لو أن القُدور غَلت بي وبك في الحق. قال له عمر: لا تَعجل يا
بنيّ، فإن الله ذَم الخمر في القرآن مرتين وحَرَّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن
أحمل الحقّ على الناس جملةً فيدفعونه جُمْلة، ويكونَ من ذلك فتنة. ولما نزل بعبد
الملك بن عمر بن عبد العزيز الموت قال له عمر: كيف تجدك يا بُني؟ قال: أجدني في الموت،
فاحتسبني، فثوابُ اللّه خيرٌ لك مني. فقال: يا بني، ولله لأن تكون في ميزاني أحب
إلي من أن أكونَ في ميزانك. قال: أما والله لأن يكونَ ما تحب أحب إلي من أن يكون
ما أحب، ثم مات. فلما فَرغٍ من دفنه وقف على قبره وقال: يَرحمك الله يا بني، فلقد
كنت سارَّا مولوداً، وبارَّا ناشئاً، وما أحب أني دعوتُك فأجبتَني، فرحم الله كل
عبد، من حُر أو عبد ذكر أو أنثى، دعا له برحمة وكان الناس يترحّمون على عبد الملك
ليدخلوا في دَعوة عمرِ - ثم انصرف. فدخل الناسُ يُعزّونه، فقال: إن الذي نزل بعبد الملك أمر لم
نزل نعْرفه، فلما وَقع لم نُنكره. وتُوفِّيت أختٌ لعمر بن عبد العزيز، فلما فَرغ
من دَفنها دنا إليه رجل فعزّاه، فلم يردّ عليه، ثم آخر فلم يردّ عليه. فلما رأى
الناس ذلك أمسكوا ومشوا معه. فلما دخل الباب أقبل على الناس بوجهه فقال: أدركتُ
الناسَ وهم لا يُعزَّون في المرأة إلا أن تكون أمًّا.
وفاة عمر بن عبد
العزيز مَرض عمرُ بن عبد العزيز بأرض حِمْص، ومات بدير سِمعان، فيرى الناس أنّ
يزيدَ بن عبد الملك سمّه، دسّ إلى خادم كان يخدُمه، فوضع السمّ على ظِفْر إبهامه،
فلما استسقى عمر غَمس إبهامَه في الماء ثم سَقاه، فمرض مرضَه الذي مات فيه. فدخل
عليه مَسلمةُ بن عبد الملك فوقف عند رأسه فقال: جزاك الله يا أمير المُؤمنين عنّا
خيراً، فلقد عطفتَ علينا قلوباً كانت عنّا نافرة: وجعلتَ لنا في الصالحين ذكراً.
زياد عن مالك قال: دَخل مسلمةُ بن عبد الملك على عمر بن عبد العزيز في المَرْضة
التي مات فيها، فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك فطمتَ أفواه ولدك عن هذا المال،
وتركتَهم عالة، ولا بدّ لهم من شيء يُصلحهم، فلو أوصيتَ بهم إليّ أو إلى نظرائك من
أهل بيتك لكفيتُك مؤونتهم إن شاء اللّه. فقال عمر: أجلسوني، فأَجلسوه، فقال:
الحمدُ للّه، أبالفَقْر تُخوفني يا مَسلمة، أما ما ذكرت أني فطمتً أفواه ولدي عن
هذا المال وتركتُهم عالة، فإني لم أمنعهم حقًا هو لهم ولم أعطُهم حقّا هو لغيرهم،
وأما ما سألتَ من الوَصاة إليك أو إلى نُظرائك من أهل بيتي، فإن وصيّتي بهم إلى
الله الذي نزّل الكتابَ وهو يتولى الصالحين، وإنما بنو عمر أحد رجلين: رجل اتقى
الله فجعل اللهّ له من أمره يُسراً ورَزقه من حيثُ لا يحتسب، ورجل غيّر وفَجر، فلا
يكون عُمَرُ أوّلَ من أعانه على ارتكابه، ادعوا إلى بَنيّ. فدَعوهم، وهم يومئذ
اثنا عشرَ غلاماً، فجعل يُصَعّد بصره فيهم ويصوِّبه حتى اغرورقت عيناه بالدمع، ثم
قال: بنَفسي فِتْيةً تركتهم ولا مالَ لهم. يا بَنيّ، إني قد تركتكم من اللهّ بخير،
إنكم لا تمرون على مُسلم ولا مُعاهد إلا ولكم عليه حقّ واجب إن شاء اللهّ، يا بَني:
مَثَّلت رأي بين أن تَفتقروا في الدنيا وبين أن يَدخل أبوكم النار، فكان أن
تَفتقروا إلى آخر الأبد خيراً من دُخول أبيكم يوماً واحداً في النار، قُوموا يا
بني عصمكم اللهّ ورَزقكم. قال: فما احتاج أحد من أولاد عمر ولا افتقر. واشترى عمرُ
بن عبد العزيز من صاحب دَيْر سمعان موضعَ قبْره بأربعين درهماً. ومرض تسعةَ أيام.
ومات رضى اللّه عنه يومَ الجمعة لخمس بقين من رجب سنة إحدى ومائة. وصلى عليه يزيدُ
بن عبد الملك.
وقال جريرُ بن
الحَطفى يرثى عمرَ بن عبد العزيز:
يَنْعَى النُّعاةُ
أميرَ المؤمنين لنا ... يا خير مَن حَج بيت اللهّ واعتمرَا
حُمَلت أمراً عظيماً
فاصطبرتَ له ... وسرْت فينا بحكم اللّه يا عمرا
فالشمسُ طالعة ليست
بكاسفةٍ ... تَبكي عليك نجومَ الليل والقمرا
وأنشد أبو عُبيد
الأعرابيّ في عُمَر بن عبد العزيز.
مُقابَل الأعواق في
الطِّيب الطابْ ... بين أبي العاص وآل الخَطَاب
قال أبو عُبيدة يقال:
طيب وطاب، كما يقاله: ذَيم وذام.
خلافة يزيد بن عبد
الملكثم ولي يزيدُ بن عبد الملك بِن مَروان بنِ الحَكم. وأمه عاتكةُ بنت يزيدَ ابن
معاوية، يومَ الجمعة لخمسٍ بقين من رجب سنة إحدى ومائة. ومات ببلاد البَلْقاء يومَ
الجمعة لخمس بقين من شعبان سنة خمس ومائة، وهو ابنُ أربع وثلاثين سنة. صلّى عليه
أخوه هشامُ بن عبد الملك. وكانت ولايتُه أربعَ سنين وشهراً. وفيه يقول جرير:
سُرْبلتَ سِرْبالَ
مُلكٍ غير مُغْتَصب ... قبلَ الثلاثين إنّ المُلك مُؤْتَشَبُ
وكان على شرُطته كعب
بن مالكَ العَبْسي. وعلى الحَرَس غيلانُ أبو سعيد، مولاه. وعلى خاتم الخلافة مطرٌ، مولاه، وكان فاسقاً. وعلى الخاتم الصغير
بُكيّر أبو الحجَّاج. وعلى الرسائل والجند والخراج صالحُ بن جُبير الهَمداني، ثم عَزله
واستعمل أسامة بن زَيد، مولى كَلب. وعلى الخَزائن وبُيوت الأموال هشام ابن مَصاد.
وحاجبه خالدٌ، مولاه.
وكان يزيدُ بن عبد
الملك صاحبَ لَهو ولذّات، وهو صاحبُ حَبَابة وسلاّمة. وفي ولايته خَرج يزيدُ بن
المُهّلب.
أسماء ولد يزيد
الوليدُ ويحيى وعبد الله والغَمْر وعبدُ الجبّار وسُليمان وأبو سفيان وهاشم وداود،
ولا عقب له، والعوّام، ولا عقب له. وكتب يزيدُ بن عبد الملك إلى عُمال عمرَ بن عبد
العزيز: أما بعد، فإن عمرَ كان مغروراً، غررتموه أنتم وأصحابكم، وقد رأيتُ كُتبكم
إليه في انكسار الخراج والضريبة. فإذا أتاكم كتابي هذا فدَعُوا ما كنتم تَعرِفون من عَهده وأعيدوا
الناسَ إلى طَبقتهم الأولى، أخْصَبوا أم أجْدَبوا، أحبُّوا أم كَرِهوا، حَيُوا أم ماتوا،
والسلام. أبو الحسن المَدائني قال: لما وَلي يزيدُ بن عبد الملك، وجه الجيوشَ إلى
يزيد بن المُهلب، فعَقد لمسلمة بن عبد الملك على الجيش، وللعبّاس بن الوليد على
أهل دِمشق خاصة. فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق قومُ، إرجاف،
وقد خَرجنا إليهم محاربين والأحداثُ تَحدُث، فلو عهدتَ إلى عبد العزيز بن الوليد
بن عبد الملك. قال: غداً إن شاء الله. وبلغ مَسلمةَ الخبرُ، فأتاه فقال له: يا أميرَ المؤمنين، أولاد عبد
الملك أحب إليك أم أولاد الوليد؛ قال: ولدُ عبد الملك. قال: فأخوك أحقُّ بالخلافة أم
ابنُ أخيك؟ قال: بل أخي، إذا لم يكن ولدي، أحقُّ بها من ابن أخي. قال: يا أمير
المؤمنين، فإن ابنك لم يبلغ فبايع لهشام بن عبد الملك ولابنك الوليد من بعده. قال:
غدا أن شاء اللّه. فلما كان من الغد بايع لهشام ولابنه الوليد من بعده، والوليدُ
يومئذ ابنُ إحدى عشرة سنة. فلما انقضى أمرُ يزيدَ بن المهلَّب وأدرك الوليدُ نَدِم
يزيد، على استخلاف هشام، فكان إذا نظر إلى ابنه الوليد قال: الله بيني وبين من
جَعل هشاماً بيني وبينك. قال: ولما قُتل يزيد بن المهلَّب جمع يزيدُ بن عبد الملك العراقَ
لأخيه مَسلمة بن عبد الملك. فبعث هلالَ بن أَحْوز المازنيّ إلى قَندابيل في طلب آل
المهلب، فالتقوا، فقُتل المُفضل بن المهلب، وانهزم الناس، وقَتل هلالُ بن أحوز
خمسةً من ولد المهلَّب، ولم يفتِّش النساء ولم يَعّرض لهن، وبَعث العيالَ والأسرْى
إلى يزيد بن عبد الملك. قال: حدّثني جابر بن مُسلم قال: لما دخلوا عليه قام كُثيرُ بن أبي جُمعة، الذي يقال له كُثيَر عَزَّة،
فقال:
حليمٌ إذا ما ناد
عاقبَ مُجمِلاً ... أشدَّ عقابٍ أو عَفا لم يُثرِّب
فعفواً أمير المؤمنين
وحِسْبةً ... فما تَكْتَسب من صالِح لك يُكْتبَ
أساءوا فإنْ تَغفر
فإنك قادر ... وأعظمُ حِلْم حِسْبةَ حِلْم مُغْضب
نَفتهم قريشٌ عن
أباطح مَكة ... وذو يَمن بالمشرْفي المُشطَّب
فقال يزيد: لاطتْ بك
الرحم، لا سبيلَ إلى ذلك، مَن كان له قِبَل آل المُهلب دم فَلْيقم. فدَفعهم إليهم
حتى قُتل نحو ثمانين. قال: وبلغ يزيدَ بن عبد الملك أن هشاماً يتَنقَصُه، فكتب
إليه: إن مثلي ومثلك كما قال الأول:
تَمن رجالٌ أن أموتَ
وإن أُمت ... فتِلك سبيلٌ لستُ فيها بأوْحدِ
لعلّ الذي يَبْغي
رَداي ويَرْتجي ... به قبلَ مَوتي أن يكون هو الردِي
فكتب إليه هشام: إن
مثلي ومثلك كما قال الأول:
ومَن لم يُغمَض عينَه
عنِ صديقِه ... وعَن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتبُ
ومَن يَتتبّع جاهداً
كل عَثرة ... يَجدْها ولا يَبقى له الدهرَ صاحب
فكتب إليه يزيد: نحن
مُغتفرون ما كان منك، ومُكذَبون ما بلغنا عنك، مع حِفْظ وصيّة أبينا عبد الملك،
وما حَضَّ عليه من صلاح ذات البين. وإني لأعلُم أنك كما قال مَعن بن أوس:
لَعمرك ما أدْرِي
وإني لأوْجلُ ... علىِ أيّنا تَعْدو المنية أولُ
وإني على أشياء منكَ
تَريبني ... قديماً لذو صَفْح على ذاك مُجْمِل
ستَقطع في الدُّنيا
إذا ما قَطعتَني ... يمينَك فانظر أيّ كفِّ تبدَّل
إذا سُؤْتني يوماً
صفحتُ وإلى غدٍ ... ليَعْقُبَ يوماً منك آخَرُ مُقْبِل
إذا أنتَ لم تُنْصف
أخاك وجدتَه ... على طَرَف الهِجْران إن كان يَعْقل
ويَركبُ حدَ السيف
مَن أنْ تَضِيمَه ... إذا لم يكن عن شَفْرة السيف مَزْحل
وفي الناس إن رثّت
حبالُك واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القِلَى مُتحوَّل
فلما جاءه الكتابُ
رَحل هشام إليه: فلم يزل في جواره إلى أن مات يزيد، وهو معه يا عسكره مخافةَ أهل
البَغْي. محمد بن الغاز قال: حَدَّثنا أبو سعيد عبدُ اللّه بنِ شَبيب قال: حدّثني
الزبيرُ بن بكار قال: كان يزيدُ بن عبد الملك كَلِفاً بحَبابة كلفاً شديداً، فلما
تُوفيت أكبّ عليها يتشمّمها أياماً حتى أنتنت، فأخذ في جِهازها وخَرج بين يدي
نَعشها، حتى إذا بلغ القبرَ نزل فيه. فلما فَرغ من دَفنها لصق به مَسلمة أخوه
يُعزَيه ويؤنسه. فقال: قاتل الله ابنَ أبي جُمعة! كأنه كان يرى ما نحن فيه حيث
يقول:
فإن تَسْلُ عنكِ
النفسُ أو تَدَع الهوى ... فباليَأس تَسْلو عنك لا بالتجلدِ
وكلّ خَليل زارني فهو
قائلٌ من ... أجْلك هذا مَيِّت اليوم أو غدِ
قال: وطُعن في
جَنازتها، فدفنّاه إلى سبعة عشرَ يوماً.
خلافة هشام بن عبد
الملك بن مروانثم بُويع هشامُ بن عبد الملك بن مَرْوان يُكنى أبا الوليد. وأمُّه
أم هشام بنت هشامِ بن، إسماعيل بن هشام المخزوميّ - يومَ الجمعة لخمس ليالي بَقين من شعبان سنة خمس ومائة. ومات
بالرُّصافة يوِم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو
ابنُ ثلاث وخمسين سنة. وصلّى عليه الوليدُ بن يزيد. وكانت خلافته عشرين سنة.
أسماء ولد هشام بن
عبد الملك معاوية وخَلف ومَسلمة ومحمد وسُليمان وسَعيد وعبدُ اللّه ويزيد - وهو
الأبكم - ومَروان وإبراهيم ويحيى ومُنذر وعَبد الملك والوليد وقُريش وعبد الرحمن.
وكان على شُرطته كعب بن عامر العَبْسي. وعلى الرَّسائل سالم، مولاه. وعلى خاتم
الخلافة الرّبيعُ، مولى لبني الْحريش، وهو الربيع بن ساخبور. وعلى الخاتم الصغير
أبو الزُّبير، مولاه. وعلى ديوان الخراج والجُند أسامة بن زيد، ثم عَزله وولّى
الحَثْحاث. وعلى إذنه غالبُ بن مسعود، مولاه.
أخبار هشام بن عبد
الملك أبو الحسن المدائني، قال: كان عبد الملك بن مَروان رَأى في مَنامه أنّ عائشة
بنت هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المُغيرة المَخزومي فلقَت رأسَه فقطعتْه
عشرين قطعة. فغمّه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المُسيب، فقصّها عليه. فقال سعيد: تلَد غلاماً
يملك عشرِين سنة. وكانت عائشةُ أم هشام حَمْقاء، فطلقها عبدُ الملك لحُمْقها،
وولدتْ هشاماً وهي طالق، ولم يكن في ولد عَبد الملك أكملُ من هشام. قال خالدُ بن
صَفوان: دخلتُ على هشام بن عبد الملك بعد أن سَخط على خالد بن عبد الله القَسْريّ
وسلّط عليه يوسفَ بن عمر عاملَه على العراق، فلما دخلتُ عليه استدناني حتى كنتُ
أقربَ الناس إليه، فتنفّس الصُّعَداء، ثم قال: يا خالد، رُب خالد قعد مقعدك هذا
أشهى إلىّ حديثاً منك. فعلمتُ أنه يريد خالدَ بن عبد الله القَسرىّ، فقلت: يا أمير
المؤمنين، أفلا تُعيده؟ قال: هيهات، إن خالداً أدلّ فأملّ، وأوجف فأعجف، ولم يَدع
لمُراجع مَرجعاً، على أنه ما سألني حاجةً قط. فقلت: يا أمير المؤمنين، فلو
أدْنيتَه فتفَضّلت عليه؟ قال: هيهات! وأنشد:
إذا انصرفتْ نَفْسي
عن الشيَّء لم تَكُن ... عليه بوَجهٍ آخرَ الدَهر تُقْبِلُ
قال أصبغ بن الفَرج:
لم يكن في بني مَرْوان من مُلوكها أعطرَ ولا ألبس من هشام، خَرج حاجًّا فحَمل
ثيابَ طُهره على ستمائة جَمل. ودَخل المدينةَ، فقال لرجل: انظر مَن في المسجد.
فقال: رجل طويل أدْلمِ. قال: هذا سالمُ بن عبد اللهّ، ادعه. فأتاه، فقال: أجِبْ
أمير المؤمنين وإن شئت أرْسِل فتُؤْتى بثيابك. فقال: ويحك! أتيتُ اللّه زائراً في
رِداء وقَميص ولا أدخل بهما على هشام! فدخل عليه، فوصله بعشرة آلاف. ثم قَدِم مكة
فقَضى حجه، فلما رجع إلى المدينة، قيل له: إن سالماً شديدُ الوَجع، فدَخل عليه
وسأله عن حاله. ومات سالمٌ فصلِّى عليه هشام، وقال: ما أدْري بأي الأمرين أنا أسرّ:
بحِجتي أم بصَلاتي على سالم. قال: ووقف هشامٌ يوماً قريباً من حائط فيه زَيتون له،
فسمع نَفْض الزيتون، فقال لرجل: انطلق إليهم فقُل لهم: التقطوه ولا تَنفُضوه،
فتفقئوا عُيونه، وتَكسروا غصونه. وخرج هشام هارباً من الطاعون، فانتهى إلى دَير
فيه راهب، فأدخله الراهبُ بًستانَه، فجعل يَنْتقي له أطايبَ الفاكهة والبالغَ
منها. فقال هشام: يا راهب، هَبْني بستانَك هذا. فلم يُجبه. فقال: مالك لا تتكلِّم؟ فقال: وَدِدْتُ أن الناس كلَهم
ماتوا غيرَك. قال: ولم؟ قال: لعلّك أن تَشبع. فالتفت هشام إلى الأبرش فقال: أتسمع ما
يقول؟ قال الأبرش: بلى واللّه، ما لقيك حر غيره. العُتبيّ قال: أنّي لقاعد عند
قاضي هشام بن عبد الملك إذ أقبل إبراهيمُ ابن محمد بن طلحة وصاحب حَرَس هشام حتى
قعدا بين يديه، فقال الحَرَسي: إن أمير المؤمنين جَراني في خصومة بينه وبين
إبراهيم. قال القاضي: شاهدَيك على الجراية. فقال: أتُراني قلتُ على أمير المؤمنين
ما لم يقل، وليس بيني وبينه إلا هذه الستارة؛ قال: لا، ولكنه لا يَثْبت الحقُّ لك ولا عليك إلا ببينة. قال: فقام، فلم
يَلْبث حتى قَعقعت الأبوابُ وخرج الحرسي، فقال: هذا أمير المؤمنين. قال: فقام القاضي،
فأشار إليه فقَعد، وبَسط له مُصلى فقعد عليه هو وإبراهيم، وكُنّا حيث نَسمع بعضَ
كلامهما ويحفى علينا البعضُ. قال: فتكلّما وأحضرت البيّنة، فقضى القاضي على هشام.
فتكلم إبراهيم بكلمة فيها بعض الخُرق، فقال: الحمد لله الذي أبان للناس ظُلمك.
فقال هشام: لقد هَممتُ أنْ أضربَك ضربةً يَنْتثر منها لحمًك عن عَظمك. قال: أما
والله لئن فعلتَ لتفعلنه بشيخ كبير السن، قريب القَرابة، واجب الحقّ. قال له:
استُرها عليّ يا إبراهيم. قلت: لا سَتر الله عليَّ ذنبي إذاً يومَ القيامة. قال: إنّي مُعطيك عليها
مائة ألف. قال إبراهيم: فسترتُها عليه طولَ حياته ثمناً لما أخذتُ منه وأذعتُها عنه
بعد موته تزييناً له. وذكروا عن الهَيثم ابن عَدي قال: كان سعيدُ بن هشام بن عبد
الملك عاملًا لأبيه على حِمْص، وكان يُرْمَى بالنساء والشراب، فقَدِم حِمصيُّ لهشام،
فلقيه أبو جَعد الطائي في طريق، فقال له: هل تَرى أنْ أعطيَك هذه الفرس، فإني لا
أعلم بمكانٍ مثلَها على أنْ تُبلِّغ هذا الكتابَ أميرَ المؤمنين، ليس فيه حاجة
بمسألة دينار ولا درهم؟ فأخذها وأخذ الكتابَ. فلما قدم على هشام سأله: ما قِصة هذه
الفرس؟ فأخبره. فقال: هاتِ الكتاب، فإذا فيه:
أبْلِغ إليك أميرَ
المُؤمِنين فقدْ ... أمدَدتَنا بأميرِ ليس عِنِّينَا
عَوْراً يُخالف عمراَ
في حَليلتِه ... وعند ساحته يُسْقَىَ الطِّلا دِينا
قلما قرأ الكتاب بعث
إلى سَعيد فأشخصه، فلما قدمِ عليه عَلاه بالخَيْزرانة وقال: يا بن الخبيثة، تَزني
وأنت ابن أمير المؤمنين! ويلك! أعجزت أن تَفْجُر فجور قريش؟ أوَ تدري ما فُجور
قريش لا أم لك؟ قتْلِ هذا، وأخْذ مال هذا، واللهّ لا تلي لِه عملاً حتى تموت. قال
قال: فما وَلى له عملاَ حتى مات.
أحمد بن عُبيد قال:
أخبرني هشام الكلْبي عن أبي محمد بن سُفيان القُرشيّ عن أبيه قال: كُنَّا عند هشام
بن عبد الملك وقد وَفد عليه وفدُ أهل الحجاز، وكان شبابُ الكُتَّاب إذا قَدم
الوفدُ حضروا لاستماع بلاغة خُطبائهم، فحضرتُ كلامهم، حتىِ قام محمد بن أبي الجهم
بن حُذيفة العَدوىّ، وكان أعظَم القوم قدراً وأكبَرهم سنّاَ، فقال: أصلح اللّه
أميرَ المؤمنين، إنّ خُطباء قريش قد قالت فيك ما قالت، وأكثرتْ وأطنبت، واللّه ما
بلغ قائلُهم قدرَك، ولا أحصى خطيبُهم فضلَك، وإن أذنْتَ في القول قلتُ؟ قالت: قُل
وأوجز. قال: تولاك الله يا أميرَ المؤمنين بالحُسنى، وزينك بالتَقوى، وجَمع لك خير
الآخرة والأولى، إن لي حوائج، أفأذكرها؟ قال: هاتها. قال: كَبُر سني، ونال الدهرُ مني، فإنْ رأى أميرُ المؤمنين أن يَجْبر
كَسْري، ويَنْفِيَ فَقري، فَعل. قال: وما الذي يَنْفي فقرَكِ، ويَجْبر كسرك؟ قال: ألفُ
دينار وألفُ دينار وألفً دينار. قال: فأطرق هشام طويلاً ثم قال: يا بن أبي الجهم،
بيتُ المال لا يَحتمل ما ذكرتَ، ثم قال له: هيه. قال: ما هيه؟ أما والله إن الأمر
لواحد، ولكن الله آثرك بمجلسك، فإن تعطنا فحقّنا أديتَ، وإن تمنعنا فنَسأل الله
الذي بيده ما حَويتَ. يا أمير المؤمنين، إنّ الله جعل العَطاء محبّة، والمنع
مَبْغضة. والله لأن احبك أحبُّ إليً من أن أبغضك. قال: فألفُ دينار لماذا؟ قال:
أقضي بها ديناً قد حان قضاؤُه، وقد عَنَاني حملُه، وأضرّ بي أهلُه. قال: فلا بأس،
نُنفِّس كرْبة، ونؤدي أمانة. وألفُ دينار لماذا؟ قال: أزوَج بها من بَلغ من وَلدي. قال: نِعم
المَسلكُ سلكتَ، أغضضتَ بصراً، وأعففتَ ذكَراً، وأمَّرت نسلاً. وألفُ دينار لماذا؟
قال: أشتري بها أرضاً يعيش بها ولدي! وأستعين بفضلها على نوائب دَهري، وتكون
ذُخراً لمن بعدي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت. قال: فالمحمودُ اللّه على ذلك،
وخَرج. فأتبعه هشام بصرَه، وقال: إذا كان القُرشي فليكن مثلَ هذا، ما رأيتُ رجلاً
أوجزَ في مقال ولا أبلغَ في بيان منه. ثمِ قال: أما والله إنّا لنعوف الحق إذا نزل، ونَكْره الإسرافَ والبَخَلَ، وما
نُعطي تَبذيراً، ولا نمنع تَقتيرا، وما نحن إلا خُزَّانُ اللّه في بلاده، وأمناؤه
على عِباده؟ فإذا أذن أعطينا، وإذا مَنع أبينا؛ ولو كان كل قائل يَصدُق، وكل سائل
يَستحق؟ ما جَبَهْنا قائلًا، ولا رَدَدنا سائلًا. ونَسأل الذي بيده ما استحفَظَنا
أن يُجْرِيه على أيدينا. فإنه يَبْسط الرِّزق لمن يشاء ويَقدر، إنه بعباده خَبير
بصير. فقالوا: يا أمير المؤمنين، لقد تكلّمت فأبلغتَ، وما بلغ في كلامه ما قَصصت.
قال: إنه مُبتدىء وليس المُبتدىء كالمُقتدي.
وذكروا أنّ العبّاس
بن الوليدَ وجماعةً من بني مَرْوان اجتمعوا عند هشام، فذكروا الوليد بن يزيدَ
وعابوه وذمّوه، وكان هشام يُبغضه، ودخل الوليدُ، فقال له العبّاس: يا وليد، كيف
حُبّك للروميًات، فإن أباك كان مشغوفاً بهن؟ قال: كيف لا يكون وهُن يَلدْن مثلَك؟
قال: ألا تسكت يا بن البَظْراء؟ قال: حَسْبك أيها المُفتخر علينا بخِتان أمه. وقال
له هشام: ما شرابُك يا وليد؟ قال: شرابُك يا أمير المؤمنين، وقام فخرج. فقال هشام:
هذا الذي زَعمتموه أحمق!
وقَرَّب الوليدُ بن
يزيد فرسَه جراميزَه ووَثب على سرجه، ثم التفت إلى ولد هشام، وقال له: هل يقدر
أبوك أن يصنع مثل هذا؟ قال: لأبي مائة عبد يَصنعون مثلَ هذا. فقال الناس: لم يُنصفه
في الجواب. العُتبي عن أبيه، قال: سمعتُ معاوية بن عَمرو بن عُتبة يحدَث، قال: إني
لقاعد بباب هشام بن عبد الملك، وكان الناسُ يتقرّبون إليه بعَيب الوليد ابن يزيد،
قال: فسمعتُ قوماً يعيبونه، فقلت: دَعُونا من عَيب مَن يلزمنا مَدْحُه، ووَضْع مَن
يجب علينا رَفعُه. وكانت للوليد بن يزيد عيونٌ لا يَبرحون بباب هشام، فنقلوا إليه
كلامي وكلامَ القوم، فلم ألبث إلا يسيراً حتى راح إليّ مولُى للوليد، قد التحف على
ألف دينار، فقال لي: يقوِل لك مولاي: أنفق هذه في يومك، وغداً أمامَك. قالت: فمُلئت رُعباً
من هشام وخشيت سطوتَه، ورماه الله بالعلّة فدفنّاه لثمانيةَ عشرَ يوماً بعد ذلك
اليوم. فلما قام الوليدُ بعده دخلت عليه، فقال لي: يا بن عُتبة، أتراني ناسياً
قُعودَك بباب الأحول يَهْدَمني وتبنيني، ويَضَعني وتَرْفعني؟ فقلت: يا أمير
المؤمنين، شاركتَ قومَك في الإحسان، وتفردّت دونهم بإحسانك إليّ، فلستُ أحمد لك
نفسي في اجتهاد، ولا اعذُرها في تَقصير، وتَشهد بذلك ألسنةُ الجائزين بنا،
ويُصَدِّق قولَهم الفِعالُ منا. قال كذلك أنتم لنا آلَ أبي سُفيان، وقد أقطعتُك
مالي بالبَثَنِيَّة وما أعلم لقُرشي مثلَه. وقال عبدُ الله بن عَبْد الحَكم فقيه
مِصْر: سمعتُ الأشياخ يقولون: سنةَ خمس وعشرين ومائة أديل من الشرف وذَهبت المُروءة،
وذلك عند مَوْت هشام بن عبد الملك. قال أبو الحسن المدائنيّ: مات هشامُ بن عبد الملك بالذبْحة يوم
الأربعاء، بالرُّصافة في ربيع الآخر لستٍ خلَوْن منه، سنة خمس وعشرين ومائة، وصلّى
عليه مَسْلمة بن هشام أو بعضُ ولده، واشتُريَ له كفَن من السوق.
خلافة الوليد بن يزيد
بن عبد الملكبُويع للوليد بن يزيد بن عبد الملك يوم الأربعاء لثلاث خَلَوْن من
ربيع الآخر سنة خَمس وعشرين ومائة. وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف، أخي الحجاج
بن يوسف. وقُتل بالبخراء، من تَدْمر على ثلاثة أميال، يومَ الخميس لليلتين بقيتا
من جُمادى الآخرة سنة ستٍ وعشرين ومائة، وهو ابنُ خس وثلاثين، أو لسِتٍ وثلاثين.
قال حاتم بن مُسلم: ابن خَمس وأربعين وأشهر. وكانت ولايتَه سنة وشَهرين واثنين وعشرين
يوماً. فأولُ شيء نَظر فيه الوليدُ أن كَتب إلى العباس ابن الوليد بن عبد
الملك أن يَأْتي الرصافة يُحْصي ما فيها من أموال هشام وولده، ويأخذُ عُماله! وحَشمه،
إلا مَسلمة بن هشام، فإنه كَتب إليه أن لا يَعْرض له ولا يدخل منزله. وكان مَسلمة
كثيراً ما يكلم أباه في الرفق بالوليد. ففَعل العبًاس ما أمره به. وكَتب الوليدُ
بن يزيد إلى يوسف بن عمر، فقَدِم عليه من العراق، فدَفع إليه خالدَ بن عبد الله
القَسريّ ومحمداً وإبراهيم، ابني هشام بن إسماعيل المَخزومي، وأمره بقَتلهم. فحدث
أبو بِشْر بن السرِيّ قال: رأيتُهم قدِم بهم يوسفُ بن عُمر الحِيرةَ، وخالدٌ في عَباءة في شِقِّ مَحْمُل،
فعذبهم حتى قَتلهم. ثم عَكف الوليدُ على البَطَالة وحُب القِيان والمَلاهي والشراب
ومُعاشقة النساء، فتَعشَق سُعدى بنت سَعيد بن عمرو بن عثمان بن عفّان، فتزوّجها!
ثم تَعشَّق أختَها سَلْمى، فطفَق أختَها سُعدى وتزوج سَلمى، فرجعت سُعدى إلى
المدينة فتزوّجت بِشْر بن الوليد بن عبد الملك. ثم نَدِم الوليدُ على فِراقها
وكلِف بحُبِّها، فدَخلِ عليه أشعبُ المُضحك، فقال له الوليد: هل لك على أن تبلّغ
سُعدى عني رسالةَ ولك عشرون ألفَ دِرْهم؟ قال: هاتِها، فدَفعها إليه. فقبَضها
وقال: ما رسالتُك؟ قال: إذا قدمتَ المدينة فاستأْذِنْ عليها، وقل لها: يقول لك الوليد:
أسُعْدى ما إليك لنا
سَبيل ... ولا حَتَّى القيامة مِن تلاقِي
بَلى، ولعلّ دهراً أن
يُؤَاتي ... بمَوْت مِن حلِيلكِ أو فِراق
فأتاها أشعبُ فاستأذن
عليها، وكان نساءُ المدينة لا يَحْتجبن عنه، فقالت له: ما بدا لك في زيارتنا يا
أشعب؟ قال: يا سيدتي، أرسلني إليك الوليدُ برسالة. قالت: هاتِها. فأنشدها البيتين. فقالت لجواريها: خُذْن هذا الخبيث.
وقالت: ما جَرأك على مثل هذه الرسالة؟ قال: إنها بعشرين ألفاً معجّلة
مَقْبوضة. قالت: واللّه لأجلدنك أوْ لَتبلَغنه ما أبلغتني عنه. قال: فاجعلي لي
جُعلا. قالت: بِساطِي هذا. قال: فقُومي عنه. فقامت عنه، وطَوى البِساط وضمه،
ثم قال: هاتِي رسالتَك. فقالت له: قل له:
أتَبْكي على سُعْدى
وأنت تَرَكْتها ... فقد ذَهبت سُعدى، فما أنت صانعُ؟
فلما بلّغه الرسالةَ
كَظم الغيظَ على أشعب، وقال: اخْتَر إحدى ثلاث خِصال: ولا بُدّ لك من إحداها: إما
أن أقْتلك، وإما أن أطْرحك للسِّباعِ فتأكلَك، وإما أن ألقيك من هذا القَصر؟ فقال
أشعبُ: يا سيدي، ما كُنتَ لتعذب عينين نَظرتا إلى سُعدى. فضَحِك وخَلَّى سبيله،
وأقامت عنده سَلْمى حتى قُتل عنها. وهو القائل في سَلْمى:
شاع شِعْري في سُليمى
وظَهرْ ... ورَواه كل بَدْو وحَضَرْ
وتَهادَتْه الغَواني
بينها ... وتَغَنَين به حتى انتشر
لو رأينا من سُليمى
أثراً ... لسَجدنا ألفَ ألفٍ للَّاثر
واتخذناها إماماً
مُرْتضى ... ولكانت حَجَّنا والمُعْتَمر
إنما بِنْتُ سعيدٍ
قمر ... هل حَرِجْنا إنْ سَجدنا للقمر
وفيها يقول قبل
تزوّجه لها:
حدَّثوا أنَّ سليمى
... خَرجتْ يومَ المُصلّى
فإذا طيرٌ مَليح ...
فوق غُصْن يَتفلّى
قلتُ: يا طيرُادْنُ
... مني فدَنا ثم تَدلّى
قلتُ هل تَعْرف
سَلْمى ... قال لا ثم تَوَلى
فنكا في القلب
كَلْماً ... باطنا ثم تخلّى
وقال في سلمى قبل
تزوّجه لها:
لعلّ اللهّ يَجمعني
بسَلمَى ... أليس الله يَفْعل ما يشاء
وَيَأتي بي
ويَطْرحَني عليها ... فيُوقِظَني وقد قُضي القَضَاء
وُيرْسلَ ديمةً مِن
بعد هذا ... فتغسلها وليس بنا عَناء
وقال فيها بعد تزوّجه
لها:
أنا في يُمْنى
يَدَيْها ... وهي في يُسرى يدَيَّه
إنّ هذا لقَضاء ...
غيرُ عَدْل يا أخيه
ليتَ مَن لام مُحِبًّا
... في الهَوى لًاقَى منيّه
فاستراح الناسُ منه
... مِيتةً غير سويّة
قال: ولهج
الوليدُ بالنساء والشرّاب والصَّيْد، فأرسل إلى المدينة فحملوا له المُغَنِّين،
فلما قَربوا منه أمر أن يَدْخلوا العسكرَ ليلا، وكَره أن يراهم الناس، فأقاموا حتى
أمسَوا غيِرَ محمد بن عائشة، فإنه دخل نهاراً، فأمر الوليدُ بحَبسه، فلم يزل
محبوساً حتى شرب الوليدُ يوماً فطَرِب، فكلمه مَعبد، فأمر الوليدُ بإخراجه، ودعاه
فغنَاه فقال:
أنت ابنُ مسلنطح
البِطاح ولم ... تَطْرُق عليك الحُنِيّ والوُلجُ
فرضي عنه، وكان سعيدٌ
الأحوصُ ومَعبَد حين قدما على الوليد نزلا في الطريق على غَدير وجاريةٌ تَسْتقي،
فزاغت فانكسرت الجَرة فجلست تغنّى:
يا بيتَ عاتكة الذي
أتعزّل ... حَذَرَ العدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ
فقال لها: يا جارية،
لمن أنت؟ فقالت: كنت لآل الوليد بن عُقبة، بالمدينة فاشتراني مولاي، وهو من بنى
عامر بن صعصعة، أحد بني الوَحيد من بني كلاب، وعنده بنتُ عمّ له فوهبنى لها،
فأمرتني أن أستقي لها. فقالا لها: فلمن الشعرُ؟ قالت: سمعتُ بالمدينة أن الشعرَ
للأحوص، والغناء لمعبد فقال مَعبد للأحوص: قل شيئاً أغنِّى عليه. فقال:
إنّ زَين الغدير مَن
كسر الْج ... رِّ وغَنَى غِناء فَحْل مُجيدِ
قلتُ: مَن أنتِ يا
مَليحة؟ قالت: ... كنتُ فيما مَضى آل الوليد
ثم قد صِرْتُ بعد عِز
َقريش ... في بنى عامرٍ آل الوَحيد
وغِنائي لمعبدٍ
ونشيدِي ... لفتَى الناس الأحوص الصِّنديد
فتضاحكت ثم قلتً أنا
الأحْوص ... والشيخُ مَعبدٌ فأعيدي
فأعادتْ وأحسنت ثم
ولّت ... تتهادَى فقلتُ أمّ سعيد
يَقْصر المال عن
شِراكِ ولكن ... أنت في ذِمه الإمام الوليد
وأمّ سعيد كانت
للأحوص بالمَدينة، فغنّى مَعبد على الشِّعر. فقال: ما هذا؟ فاخبراه، فاشتراها
الوليد. قال أبو الحسن: وقال ابنُ أبي الزِّناد: إنِّي كنتُ عند هشام وعنده
الزّهري، فذُكر الوليد، فتنقّصاه وعاباه عيباً شديداً، ولم أعْرض لشيء مما كانا
فيه، فاستأذن فأذن له، فدَخل وأنا أعرفُ الغَضب لا وجهه، فجَلس قليلاً ثم قام.
فلما مات هشام: كَتب بي فحُملت إليه فرحّب بي، وقال: كيف حالك يا بن ذكوان؟ وألطفَ
المسألة. ثم قال: أتذكر هشاماً الأحول، وعنده الفاسقُ الزُّهري وهما يَعيباني؟
فقلت: أذكر ذلك ولم أعْرض لشيء مما كانا فيه. قال: صدقتَ، أرأيتَ الغُلام الذي كان
على رأس هشام قائماً؟ قلتُ: نعم. قال: فإنه نَمّ إلىّ بما قالاه. وايم اللّه لو
بقى الفاسقُ الزهري لقتلتُه. قلت: قد عرفتُ الغضبَ في وجهك حين دخلتَ. قال: يا بن
ذكوان، ذَهب الأحولُ. قلت: يُطيل اللّه عُمرك، وُيمتّع الأمة ببقائك. ودعا
بالعشاء فتعشَّينا، وجاءت المغرب فصلًينا، وتحدّثنا حتى حانت العشاء الآخرة
فصلّينا وجلس. فقال: اسقني، فجاؤوا بإِناء مُغطَّى، وجيء بثلاث جوار، فصُفِفن بيني
وبينه حتى شرب، وذَهَبْن، فتحدثّنا، واستسقى، فصنعوا مثلَ ذلك. فما زال كذلك
يَستَسقى ويتحدّث ويَصنعون مثل ذلك حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحاً. على بن
عياش قال: إني عند الوليد بن يزيد في خلافته إذ أتي بشُراعة من الكوفة، فواللّه ما
سأله عن نَفسه ولا عن مَسيره حتى قال له: يا شُراعة، إني والله ما بعثتُ إِليك
لأسألك عن كتاب الله وسُنِّة رسول صلى الله عليه وسلم. قال: واللّه لو سألتَني
عنهما لوجدتَني فيهما حماراً، قال: إنما أرسلتُ إِليك لأسألك عن القهوة. قال: دِهْقانُها
الخَبير، ولُقمانها الحكيم، وطبيبُها العليم. قالت: فأخبرني عن الشراب؟ قال: يَسأل
أميرُ المؤمنين عما بدا له. قال: ما تقول في الماء؟ قال: لا بُد لي منه، والحمارُ
شريكي فيه. قالت: ما تقول في اللَّبن؟ ما رأيتُه قط إِلا استحييتُ من أمي لطُول ما
أرْضَعتني به. قال: ما تقول في السويق؟ قال: شرابُ الحَزين والمُستعجل والمَريض. قال: فنبيذُ التمر؟ قال: سريعُ المَلْء،
سريعُ الآنفشاش. قال: فنبيذ الزَبيب؟ قال: تلهَّوْا به عن الشراب. قال: ما
تقول في الخَمر؟ قال: أوهِ! تلك صَديقة رُوحي. قال: وأنت والله صديقُ رُوحي. قال:
فأيّ المجالس أحبُّ؟ قال. ما شُرب الكأسُ قطُّ على وَجه أحسنَ من السماء. قال أبو
الحسن: كان أبو كامل مُضحكا غَزِلا مُغنّيا! فغنّى الوليدَ يوماً فطَرِب، فأعطاه قَلَنْسوة بَرُودا كانت عليه،
فكان أبو كامل لا يَلبسها إلا في عيد، ويقول: كَسانيها أميرُ المؤمنين، فأنا أصُونها،
وقد أمرتُ أهلي إذا مِتُّ أن تُوضع في أكفاني. وله يقول الوليد:
مَن مُبْلِغ عني أبا
كامل ... أنّي إذا ما غاب كالهابِل
وزادني شوقاً إلى
قُرْبه ... ما قد مَضىَ من دَهرنا الحائل
إنّي إذا عاطيتُه
مُزَّةً ... ظَلْت بيوم الفَرَح الجاذل
قال: وجلس الوليدُ
يوماً وجاريةٌ تُغَنيه، فأنشدها الوليدُ:
قيْنة في يَمينها
إِبريقُ
قالت الجارية
المغنية: لو أتممتَ الشعر غنيتُ به. قال: لست أرويه، وكتب إلى حماد الراوية فحُمل
إليه: فلما دخل عليه قال له الوليد:
قينة في يمينها
إِبريق
فأنشد حماد الراوية:
ثم نادى ألا أصبحُوني
فقامتْ ... قينةٌ في يمينها إِبريقُ
فَذَمَته على عُقار
كعَينْ ... الدِّيك صَفَّى لسُلافَه الرَّاووق
مُزَةً قبل مَزْجها
فإذا ما ... مُزِجت لذَ طَعْمُها مَن يذوق
وكتب الوليدُ إلى
المدينة، فحمل إليه أشعب، فألبسه سراويل جِلد قِرْد له ذَنب، وقال له: ارقُص وغَنّ
صوتاً يعجبني، فإن فعلتَ أعطيتُك أسف درهم. فرَقص! وغَنى، فأعجبه، فأعطاه ألف درهم: وأنشد الوليدُ هذا الصوتَ:
علِّلاني واسقيانِي
... مِن شَراب أصْفهاني
من شَراب الشيخ
كِسْرَى ... أو شرابً الهُرْمزَان
إنَّ بالكأس لمِسْكاً
... أو بكَفَّيْ من سَقاني
إنما الكأسُ ربيعٌ
... يُتعاطى بالبَنانْ
وقال أيضاًً:
وصَفْراء في الكأس
كالزَعْفَران ... سَباها الدَهاقينُ من عَسْقلانِ
لها حَبَبٌ كلما صفقت
... تراها كلَمعة بَرْق يَماني
وقال أيضاً:
ليت حَظي اليومَ من
كل ... ل مَعاش لي وزَادِ
قهوة أبذُل فيها ...
طارفي بعد تِلادي
فيظل القلبُ منها ...
هاشماً في كل وادِي
إنّ في ذاك فَلاحي
... وصَلاحي ورشادي
وقال
امدح الكأسَ ومَن
أعملها ... واهجُ قوماً قتلونا بالعَطشْ
إنما الكأس ربيعٌ
باكر ... فإذا ما لم نَذُقها لم نعِشْ
وبلغ الوليدَ أن
الناس يَعيبونه ويتنقصونه بالشراب وطَلب اللّذات، فقال في ذلك:
ولقد قضيتُ، ولم
يُجَلِّل لمتي ... شَيب، على رَغم العِدا لذَّاتي
مِن كاعباتٍ
كالدُّمَى ومَناصفٍ ... ومَراكب للصَّيد والنّشوات
في فِتْية تأبى
الهوانَ وجوهُهم ... شُمَّ الأنوف جَحاجح سادات
إنْ يَطلبوا بتراتهم
يُعْطَوا بها ... أو يُطلبوا لا يُدركوا بِترَاتِ
وقال معاويةُ بن عمرو
بن عُتبة للوليد بن يزيد حين تغير له الناسُ وطَعنوا عليه: يا أمير المؤمنين، إنه
يُنطقني الأنْس بك، وتُسْكتني الهيبةُ لك، وأراك تأمن أشياء أخافُها عليك، أفأسكت
مُطيعاً أم أقول مُشفقاً؟ قال: كل مَقْبول منك، وللهّ فينا عِلمُ غيب نحن صائرون
إليه. فقُتل بعد ذلك بأيام.
وقال الوليد إذا أكثر
الناسُ القولَ فيه:
خُذوا مُلْكَكم لا
ثَبت الله مُلْكَكم ... ثباتاً يُساوى ما حييتُ عِقالَا
دَعُوا لي سُليْمى
معْ طِلاء وقَيْنة ... وكأسٍ، ألا حَسْبي بذلك مالا
أبا لملكِ أرْجو أن
أخلَد فيكم ... ألا رب مُلكٍ قد أزيل فَزالا
ألا رُب دارٍ قد
تحَمّل أهلُها ... فأضحتْ قِفاراً والقِفار حِلالا
قال إسحاق بن محمد
الأزرق: دخلتُ على مَنصور بن جُمْهور الكَلْبي بعد قَتْل الوليد بن يزيد، وعنده
جاريتان من جَواري الوليد، فقال لي: اسمع مِن هاتين الجاريتين ما يقولان. قالتا:
قد حدَثناك. قال: بل حَدَثاه كما حَدّثتُماني. قالت إحداهما: كُنّا أعزَّ جواريه عنده، فنَكح هذه وجاء المُؤذّنون يؤذّنونه
بالصلاة، فأخرجها وهي سَكْرى جُنبة متلثّمة فصلّت بالناس.
مقتل الوليد بن يزيد
إسماعيل بن إبراهيم
قال: حدثني عبدُ اللّه بن واقد الجَرْمي، وكان شَهدَ مقتل الوليد، قال: لما أجمعوا
على قَتله، فقدوا أمرَهم يزيدَ بن الوليد بن عبد الملك، فخرج يزيدُ بن الوليد بنِ
عبد الملك، فأتى أخاه العباس ليلاً فشاوره في قَتل الوليد، فنهاه عن ذلك، فأقبل
يزيد ليلاً حتى دخل دمشقَ في أربعين رجلاً، فكسروا باب المَقصورة، ودخلوا على
واليها فأوثقوه، وحَمل يزيدُ الأموال على العَجل إلى باب المِضمار، وعَقد لعبد
العزيز بن الحجَّاج بن عبد الملك ونادى مًناديه: من انتدب إلى الوليد فله ألفان،
فانتدب معه ألفا رجل، وضَم مع عبد العزيز ابن الحجاج يعقوبَ بن عبد الرحمن، ومنصور
بن جُمْهور. وبلغ الوليدَ بن يزيد بن عبد الملك ذلك، فتوجّه من البلقاء إلى حِمْص،
وكتب إلى العباس ابن الوليد أن يأتيه في جند من أهل حمص، وهو منها قريب، وخرج حتى
انتهى إلى قمر في بَرية ورَمل من تَدْمر على أميال، وصبحت الخيلُ الوليدَ
بالبخراء. وقدم العباسُ بن الوليد بغير خَيل، فحَبسه عبدُ العزيز ابن الحجّاج
خلفه، ونادى مُنادي عبد العزيز: مَن أتى العبّاسَ بن الوليد فهو آمن، وهو بيننا
وبينكم. وظَن الناس أن العبّاس مع عبد العزيز، فتفرقوا عن الوليد، وهجم عليه
الناس. فكان أول من هجم عليه السريّ بن زياد بن أبي كَبشة السَّكْسكيّ، وعبد
السلام اللِّخمي، فأهوى إليه السري بالسيف، وضَربه عبد السلام على قَرنه فقُتل.
قال إسماعيل: وحدَثني عبدُ الله بن واقد قال: حدّثني يزيد بن أبي فَرْوة مولى بني
أمية، قال: لما أتي يزيدُ برأس الوليد بن يزيد، قال لي: انْصِبه للناس، قلتُ: لا
أفعل، إنما ينصب رأسُ الخارج. فحلف ليُنصبنّ ولا يَنصبه غيري. فوُضع على رمح ونصب
على دَرج مَسجد دمشق. ثم قال: اذهب فطُف به في مدينة دمشق. خليفة بن خَيّاط قالت: حدِّثني
الوليد بن هشام عن أبيه قال: لما أحاطوا بالوليد أخذ المُصْحف وقال: أقتل كما قُتل
ابن عمي عثمان.
أبو الحسن المدائني
قال: كان الوليدُ صاحبَ لهو وصَيْد وشرِاب ولذَّات. فلما وَلي الأمرَ جعل يَكره المواضعَ
التي يراه الناسُ فيها، فلم يدخل مدينةَ من مدائن الشام حتى قُتل، ولم يزل يتنقلِ
ويتصيّد حتى ثَقُل على الناس وعلى جُنده. واشتد على بني هشام وأضرّ بهم، وضرب
سليمانَ بن هشام مائة سوط، وحلق رأسه ولِحيته، وغرّ به إلى عُمان، فلم يزل محبوساً
حتى قُتل الوليد. وحَبس يزيد بن هشام، وهو الأفقم، فرَماه بنو هشام وبنو الوليد.
وكان أشدَّهم قولاً فيه يزيدُ بن الوليد، وكان الناسُ إلى قوله أميلَ، لأنه كان
يُظهر النُّسك. ولما دفع الوليدُ خالدَ بن عبد الله القَسريّ إلى يوسف بن عمر
فقَتله، غَضبت له اليمانية كلها وغيرُهم، فأتوا يزيد بن الوليد بن عبد الملك،
فأرادوه على البَيعة وخَلْع الوليد، فامتنع عليهم وخاف أن لا تُبايعه الناس، ثم لم
يزل الناسُ به حتى بايعوه سرًا. ولما قتل الوليد بن يزيد قام يزيدُ بن الوليد خطيباً،
فحمد اللهّ وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنّي واللهّ ما خرجتً أشراً ولا بطراً،
ولا حِرْصاً على الدنيا، ولا رغبةً في المُلك، وما بي إطرِاء نَفْسي، وتزكيةُ
عمَلي، وإنّي لَظَلوم لنفسي إن لم يَرْحمني ربي، ولكنني خرجتُ غضباَ للهّ ودينه،
وداعياً إلى كتاب اللهّ وسُنّة نبيّه، حين دَرَستْ معالمُ الهدى، وطَفِىء نور
التقوى، وظهر الجبّار العنيد، المُستحلّ للحًرمة، والرَّاكب للبِدْعة، والمُغيّر
للسنة، فلما رأيتُ ذلك أشفقتُ أن غَشِيتَكم ظلمة لا تُقلع عنكم، على كَثرةٍ من
ذنوبكم، وقَسوة من قلوبكم، وأشفقتُ أن يدعو كثيراً من الناس إلى ما هو عليه
فيُجيبه من أجابه منكم، فاستخرتُ اللهّ في أمري، وسألتهُ أن لا يَكِلَني إلى نفسي،
ودعوتُ إلى ذلك مَن أجابني من أهلي وأهل ولايتي، وهو ابنُ عمّي في نسبي، وكُفْئي
في حَسبي، فأراح الله منه العباد، وطَفر منه البلاد، ولايةً من الله وعونَاَ، بلا حَوْل
منّا ولا قُوة، ولكنْ بحَوْل الله وقوته، وولايته وعَوْنه. أيها الناس: إنّ لكم
علي إن وَليت أمورَكم أنْ لا أضعَ لَبِنةً على لبنة، وحجراً على حجر، ولا أنقل
مالاً من بلد إلى بلد، حتى أسُد ثُغَرَه، وأقسّم بين أهله ما يَقْوون به، فإن فَضل
رددتُه إلى أهل البلد الذي يَليه، ومَن هو أحوج إليه، حتى تستقيمَ المعيشةُ بين
المُسلمين وتكونوا فيه سواء، ولا أجمركم في بُعوثكم فَتُفْتنوا ويُفْتن أهاليكم،
فإن أردتُم بَيعتي على الذي بذلت لكم فأنا لكم به، وإن مِلْتُ فلا بيعةَ لي عليكم،
وإن رأيتم أحداً هو أقوى عليها مني فأردتم بيعتَه فأنا أولُ من بايع ودَخل في
طاعته، أقوله قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. وقال خلفُ ين خليفة في قَتل الوليد
بن يزيد: لقتل خالد بن عبد الله:
لقد سَكَنتْ كلبٌ
وأسيافُ مَذْحج ... صَدىً كان يَزْقْو ليلَه غيرَ راقدِ
ترَكْنَا أميرَ
المؤمنين بخالدٍ ... مُكِبا على خَيْشومه غيرَ ساجدِ
فإن تَقطعوا منّا
مَناط قِلادةٍ ... قَطعنا بها منكم مَناط قَلائد
وإن تَشغلوه عَن أذان
فإنّنا ... شَغلنا الوليدَ عن غِناء الولائد
ولاية يزيد الناقصثم
بُويع يزيدُ بن الوليد بن عبد الملك في أول رجب سنة ستّ وعشرين ومائة. وأمه ابنة
يَزْدجرد بن كِسْرى، سَباها قُتيبة بن مُسلم بخُراسان وبَعث بها إلى الحجّاج بن
يوسف، فبعث بها الحجَّاج إلى الوليد بن عبد الملك، فاتخذها فولدتْ له يزيدَ
الناقص، ولم تَلده غيرَه. ومات يزيدُ بن الوليد بدمشق لعشر بَقين من ذي الحجة سنة
ستّ وعشرين ومائة. وهو ابن خس وثلاثين سنة. وصلّى عليه أخوه إبراهيم بنُ الوليد بن
عبد الملك.
==========
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق