جمع الجواهر في الملح والنوادر المؤلف أبو إسحاق الحُصري القيروان
نسخ وترتيب وتنسيق مكتبة مشكاة الإسلامية
من نوادر كتب الحصري صاحب )زهر الآداب). جمع فيه الحصري نوادر الملح، وطرائف الفكاهات، ومنازه المضحكات، وفصولاً من مختار الشعر وجيد النثر، متجنباً المجون، وما تستهجنه العادات الحسنة، والأخلاق الطيبة.
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أضحك وأبكى، وأمات وأحيا، فعرفنا بلذة الفرح شدة الترح، وبحلاوة الحياة مرارة الوفاة. قال الطائي:
أوما رأيت منازل ابنة مـالـكٍ |
|
رسمت له كيف الزفير رسومها |
والحادثات وإن أصابك بؤسـهـا |
|
فهو الذي أدراك كيف نعيمهـا |
وقال:
إساءة دهرٍ أذكرت حسن فعـلـه |
|
ولولا الشري لم يعرف الشهد ذائقه |
وصلى الله على خير مبعوث، وأكرم وارث وموروث، محمد الذي أخرجنا من الضيق إلى الفسحة، وبعث إلينا بالحنيفية السمحة، ليضع عن ولد إسماعيل أغلال بني إسرائيل، بل ليرفع عن كل من دخل في السلم، من جملة العرب والعجم، ما أضلع حمله وأظلع ثقله، صلى الله عليه صلاةً تزلف لديه، وتصعد في الكلم الطيب إليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
سبب وضع الكتاب
سألت أطال الله بقاءك، وحرس إخاءك، من زكا
بسقي مودتك زرعه ونما، وعلا برعي محبتك فرعه وسما، فانقاد إليك قلبه بغير زمام،
وصح فيك حبه بغير سقام أن يجمع لك كتاباً في جواهر النوادر ولمح الملح، وفواكه
الفكاهات، ومنازه المضحكات، ترتاح إليه الأرواح، وتطيب له القلوب، وتفتق فيه
الآذان، وتشحذ به الأذهان، ويطلق النفس من رباطها، ويعيد إليها عادة نشاطه إذا
انقبضت بعد انبساطها، فقد قيل: القلب إذا أكره عمي.
وقال بكر بن عبد الله المزني: لا تكدوا هذه القلوب ولا تهملوها. وخير الكلام ما
كان عقيب جمام، ومن أكره بصره عشي، وعاودوا الفكرة عند نبوات القلوب، وأشحذوها
بالمذاكرة، ولا تيأسوا من إصابة الحكمة إذا امتحنتم ببعض الاستغلاق؛ فإن من أدمن
قرع الباب ولج.
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: إني لأستجم نفسي ببعض الباطل ليكون أقوى لها على
الحق.
وقال الحسن البصري رحمه الله: حادثوا هذه القلوب بذكر الله؛ فإنها سريعة الدثور،
واقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة؛ وإنكم إن لم تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية.
وقال أردشير بن بابك: إن للقلوب محبة، وللنفوس مللاً؛ ففرقوا بين الحكمين يكون ذلك
استجماماً.
وقال في حكة آل داود: لا ينبغي للعاقل أن يخلي نفسه من أربع؛ من عدة لمعاد، وإصلاح
لمعاش، وفكر يقف به على ما يصلحه لما يفسده، ولذة في غير محرم يستعين بها على الحالات
الثلاث.
وقال أبو الفتح كشاجم:
عجبي للمرء تعالت حالـه |
|
وكفاه اللّه ذلات الطـلـب |
كيف لا يقسم شطري عمره |
|
بين حالـين نـعـيم وأدب |
ساعة يمتع فيها نـفـسـه |
|
من غذاء وشراب منتخـب |
ودنوٍّ من دمـىّ هـنّ لـه |
|
حين يشتاق إلى اللعب لعب |
فإذا ما زال من ذا حـظّـه |
|
فنشيدٌ وحـديث وكـتـب |
ساعةً جدّاً وأخرى لعـبـاً |
|
فإذا ما غسق الليل انتصب |
فقضى الدنيا نهاراً حقّـهـا |
|
وقضى للّه ليلاً ما يجـب |
تلك أعمالٌ متى يعمل بهـا |
|
عاملٌ يسعد ويرشد ويصب |
منهج الكتاب
فأجبتك إلى ملتمسك بكتاب كللت نظامه،
وثقلت أعلامه، بذهب يروق سبك إبريزه، ويرق حوك تطريزه، من نوادر المتقدمين
والمتأخرين، وجواهر العقلاء والمجانين، وغرائب السقاط والفضلاء، وعجائب الأجواد
والبخلاء، وطرف الجهال والعلماء، وتحف المغفلين والفهماء، ونتف الفلاسفة والحكماء،
وبدائع السؤال والقصاص، وروائع العوام والخواص، وفواكه الأشراف والسفلة، ومنازه
الطفيليين والأكلة، وأخبار المخانيث والخصيان، وآثار النساء والصبيان.
وأتيت به على سبيل الاختصار، وطريق الاختيار؛ وجعلته بتنويع الكلام، كالمائدة
الجامعة لفنون الطعام؛ إذ همم الناس مفترقة، وأغراضهم غير متفقة، ولا أعلم حقيقة
ما تستندره، ولا محض ما تؤثره؛ إذ لا يحيط بذلك إلا علام الغيوب، المطلع على ما في
القلوب.
وقد تجنبت أن أهدي إليك، وأورد عليك، ما يخرج به قائله في الدين عن اتباع سبيل
المؤمنين، فمن أهل الإلحاد والأهواء، من يسر حسواً في ارتغاء، ويطلب ما يشفى به من
دائه، ويضحك خاصة أودائه، ويغر به من ضعفت نحيزته، وهفت غريزته، بألطف ما يمكنه،
كمون الأفعوان، في أصول الريحان، إذا قابله بشمه، قتله بسمه.
كما حكى الجاحظ عن الشرقي بن القطامي أن ابن أبي عتيق لقي عائشة رضي الله
عنها على بغلة. فقال: إلى أين يا أماه ? فقالت له: أصلح بين حيين تقاتلا، فقال:
عزمت عليك إلا ما رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتى نرجع إلى يوم البغلة.
وهذه حكاية أوردها الشرقي لغله ودغله على وجه النادرة؛ لتحفظ ويضحك منها، ويتعلق
بها من ضعف عمله، وقل عزمه؛ فيكون ذلك أنجع وأنفع لما أراد من التعرض لعرض أم
المؤمنين رضي الله عنها.
ومثل هذا كثير مما لو ذكرته لدخلت فيما أنكرته. فقد قيل: الراوية أحد الشاتمين،
كما قيل: السامع أحد القائلين.
وقد قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وقد مر به عمر بن عبد العزيز
والقاسم بن محمد بن أبي بكر فلم يسلما عليه:
مساء تراب الأرض منها خلقتما |
|
فيها المعاد والرجوع إلى الحشر |
ولا تعجبا أن ترجعا فتسـلّـمـا |
|
فما حشي الإنسان شرّاً من الكبر |
وقال آخر:
إن كنت لا ترهب ذمّي لـمـا |
|
تعرف من صفحي عن الجاهل |
فاخش سكوتي إذ أنا منـصـت |
|
فيك لمسموع خـنـا الـقـائل |
فسامع الـسـوء شـريكٌ لـه |
|
ومطعم المأكـول كـالآكـل |
ومن دعا الـنـاس إلـى ذمّـه |
|
ذمّوه بالحـقّ وبـالـبـاطـل |
مقالة السـوء إلـى أهـلـهـا |
|
أسرع من مـنـحـدرٍ سـائل |
وقد رام ابن قتيبة تسهيل السبيل في مثل
هذا، فقال: مهما مر بك من كلام تنفر عنه نفسك، فلا تعرض عنه بوجهك، فالقول منسوب
إلى قائله، والفعل عائد إلى فاعله.
قلت: وليت شعري ما اللذة فيما يضحك منه من هو معرض عنه، إلا أن يدخل في حد
المستهزئين، وحيز المتلاعبين. نعوذ بالله من الحور بعد الكور.
وأنشد أبو نواس الجماز شعراً من أعابيثه ومجونه كفر فيه، وقال للجماز: أين أنت من
أهل الطراز ? قال: أنا لا أتعرض لمن أعضائي جنده يحرك علي منها ساكناً أو يسكن
متحركاً فأهلك.
وقد طرد الجماز أصله في التحرز مما تعلق عليه من شناعة، أو تلزمه فيه بباعة، فقال
يمدح:
أقول بيتاً واحداً أكـتـفـي |
|
بذكره مـن دون أبـيات |
إنّ عليّ بن أبي جعـفـر |
|
أكرم أهل الأرض من آت |
فقد سلم مما كاد يقع فيه أبو الخطاب عمرو بن عامر السعدي، وقد أنشد موسى الهادي:
يا خير من عقدت كفّاه حجزته |
|
وخير من قلّدته أمرها مضر |
فانقلبت عيناه في رأسه، واحمر وجهه، وقال: إلا من ? ويحك ! ولم يكن أبو الخطاب استثنى أحداً، وإنما جرى على مذهب الشعراء في تفضيل الممدوح على أهل العصر؛ فلما رأى ما بوجه الهادي من إرادة الإيقاع به قال ارتجالاً:
إلاّ النبيّ رسول اللّـه إنّ لـه |
|
فخراً وأنت بذاك الفخر تفتخر |
فسري عنه ووصله.
تدرج الكتاب ولذة الانتقال من حال إلى حال
وقد جعلت ما عملت مدبجاً مدرجاً، لتلذ
النفس بالانتقال من حال إلى حال، فقد جبلت على محبة التحول، وطبعت على اختيار
التنقل.
وقد قيل: إن عبد الله بن طاهر لما أسر نصر بن شبث بكيسوم، وأنفذه إلى المأمون، جلس
مجلساً أنصف فيه من وجوه القواد، ومن أمراء الأجناد، وضرب الأعناق، وقطع الأيدي،
ورد كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس؛ فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا
قباءه، هذا إزاره. فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها، ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه
نحو البستان وهو يتغنى:
النّشر مسك والوجوه دنـا |
|
نير وأطراف الأكفّ عنم |
قال عيسى بن يزيد: وكنت جرياً عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى أو قيصر أو ذي القرنين، ثم تعمل الساعة عمل علويه ومخارق ? فرد ثوبه على عاتقه وهو يقول:
لا بدّ للنفس إن كانت مصرّفة |
|
من أن تنقّل من حالٍ إلى حال |
قال أبو القاسم بن جدار: كأنه ذهب إلى ما فعله أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حين قام من بعض مجالسه الجليلة التي كان يدون فيها الدواوين ويمصر الأمصار، ويقمع الأعداء، ويؤيد الإسلام، فدخل منزله ثم رفع صوته وهو يقول:
وكيف ثوائي بالمـدينة بـعـدمـا |
|
قضى وطراً منها جميل بن معمر |
فلحقه عبد الرحمن بن عوف فاستأذن عليه،
فقيل: عبد الرحمن يا أمير المؤمنين بالباب. فلما دخل عليه، قال: ما صوت سمعته منك
آنفاً يا أمير المؤمنين ? فقال: يا أبا محمد، إيهاً عنك ! فإن الناس إن أخلوا
قالوا.
وقد قلت:
فرّقت في التأليف معتمداً |
|
ما كان لو قد شئت يأتلف |
والعقد ما اختلفت جواهره |
|
إلاّ ليشرق حين يختلـف |
إن كان الشيء مع نظيره يذهب بنوره، ويغض من بهائه؛ ويخلق من روائه؛ فقد زعموا أن المجرة كواكب مضيئة مجتمعة؛ فكسف بعضها نور بعض؛ فصارت طريقاً في السماء بيضاء. وقال ابن الرومي:
وبيضاء يخبو درّها من بياضها |
|
ويذكو بها ياقوتها والزبرجـد |
إلا أن تندرج الحكاية في الحكايات، ويتسلسل البيت مع الأبيات، فيكون الجمع أزين من القطع، والتوصيل أحسن من التفصيل، فأقرنها بأشكالها، وأجملها مع أمثالها.
لاختيار المطايبات والمداعبات أصول
ولاختيار المطايبات والمداعبات وما انخرط في سلكها من الملح والمزح أصول لا يخرج فيها عنها، وفصول لا يخرج بها منها، وقد يستندر الحار المنضج، والبارد المثلج؛ لأن إفراط البرد، يعود به إلى الضد. ولذلك قول أبو نواس:
قل للزّهيريّ إن حـدا وشـدا |
|
أقلل وأكثر فأنـت مـهـذار |
سخنت من شدة الـبـرودة ح |
|
تى صرت عندي كأنك النار |
لا يعجب السامعون من صفتي |
|
كذلك الثـلـج بـاردٌ حـار |
وفي كليلة ودمنة: لا ينبغي اللجاج في
إسقاط ذي الهمة والرأي وإزالته؛ فإنه إما شرس الطبيعة كالحية إن وطئت فلم تلسع لم
يغتر بها فيعاد لوطئها، وإما سبح الطبع كالصندل البارد، إن أفرط في حكه عاد حاراً
مؤذياً.
وقالوا: إنما ملح القرد عند الناس لإفراط قبحه. وقد قال ابن الرومي في الخصيان:
معشراً أشبهوا القرود ولكن |
|
خالفوها في خفّة الأرواح |
لأن العبد إذا خصي استرخت معاقد عصبه، وحدث في طبعه نشاط في الخدمة؛ فيحصل بين حالين لا يطيق المبالغة فيهما فيضيق صدره، وتثقل روحه. وقد قال أبو تمام:
أمن عمىً نزل الناس الربى فنجوا |
|
وأنتم نصب سيل القنّة الـعـرم |
أم ذاك من هممٍ جاشت وكم صفة |
|
حدا إليها غلوّ القوم في الهـمـم |
وكان يقال: من التوقي ترك الإفراط في
التوقي، وإنما الموت المحبب والسقم المغيب، أن تقع النادرة فاترة فتخرج عن رتبة
الهزل والجد، ودرجة الحر والبرد، فيكون بها جهد الكرب على القلب؛ كما قال أبو بكر
الخوارزمي: أثقل من عذاب الفراق، وكتاب الطلاق، وموت الحبيب، وطلعة الرقيب، وقدح
اللبلاب في كف المريض، ونظرة الذل إلى البغيض ، وأشد من خراج بلا غلة، ودواء بلا
علة، وطلعة الموت في عين الكافر، وقد ختم عمره في الكبائر، وأعظم من ليلة المسافر،
في عين كانون الآخر، على إكاف يابس، تحت مطر وبرد قارس.
ومن أمثال البغداديين: هو أثقل من مغن وسط، ومن مضحك وسط. وقال ابن الرومي يهجو
أحمد بن طيفور:
فقدتك يا بن أبي طـافـر |
|
وأطعمت فقدك من شاعر |
فلت بسـخـن ولا بـارد |
|
وما بين ذين سوى الفاتر |
وأنت كذاك تغثّي النـفـو |
|
س بغثية الفاتر الخـاثـر |
شرط المسامر والمنادر
ومن شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف
الإشارة، لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف
ولا جهول؛ قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها، فطبق المفاصل، وأصاب
الشواكل، وكان برائق حلاوته، وفائق طلاوته، يضع الهناء مواضع النقب، ويعرف كيف
يخرج مما يدخل فيه، إذا خاف ألا يتسحسن ما يأتيه.
كما ذكر عن الفتح بن خاقان أنه كان مع المتوكل فرمى المتوكل عصفوراً فأخطأه. فقال:
أحسنت يا أمير المؤمنين ! فنظر إليه نظرة منكرة. فقال: إلى الطائر حتى سلم؛ فضحك
المتوكل.
وذكر لبعض ولاة البصرة لما وليها حلاوة الجماز، وأن أكثر نوادره على الطعام،
فأحضره، وقدمت المائدة، فأتى بنادرة فاخرة وأتبعها بأخرى فلم تستملح. فقال: لعل
الأمير أنكر برد ما أتيت به ? وإنما احتذيت حذوه في تقديم البوارد قبل الحوار.
كلما طال كلامه انحل نظامه
ولا يحب أن يكون كلما طال كلامه انحل نظامه؛ بل يأتي في آخر ما أحكمه بما ينسي ما تقدمه، وإلا كان كما ذكر الجاحظ: أن الرشيد أحب أن ينظر إلى شعيب القلال كيف يعمل ? فأدخل القصر، وأتي بكل ما يحتاج إليه من آلة العمل؛ فبينما هو يعمل إذ بصر بالرشيد فنهض قائماً. فقال له: دونك وما دعيت له؛ فإني لم آتك لتقوم إلي؛ بل لتعمل بين يدي. فقال: وأنا أصلحك الله لم آتك ليسوء أدبي؛ وإنما أتيتك لأزداد أدباً؛ فأعجب الرشيد به، وقال له: بلغني أنك إنما تعرضت لي حين كسدت صناعتك ? فقال: يا سيدي، وما كساد عملي في خلال وجهك! فضحك الرشيد حتى غطى وجهه. وقال: ما رأيت أنطق منه ولا أعيا منه ! ينبغي أن يكون أعقل الناس وأجهل الناس. وكذلك كان.
سر النادرة دون مطمطة ومجمجة
ويجب إذا حكى النادرة الظريفة، والحكمة
اللطيفة، ألا يعربها فتثقل، ولا يمجمجها فتجهل، ولا يمطمطها فتبرد، ولا يقطعها
فتجمد. ولو أن قائلاً حكى قول مزيد المدني، وقد أكل طعاماً فأثقله. فقيل له: تقيأه
يذهب ما بك. فقال: خبز نقي، ولحم جدي، والله لو وجدته قياً لأكلته. فلو أعطاه حقه
من الإعراب فقال: خبز نقي، ولحم جدي، والله لو وجدته قيئاً لأكلته، لخرج عن حده،
وأفلج من برده.
وكذلك لو ذهب بما يحتاج إلى الإعراب من كلام الفصحاء والأعراب إلى اللحن لاستغث
واسترث. كما ذكروا أن الحجاج بعث إلى ولي البصرة أن اختر لي من عندك عشر فصحاء،
فاختار رجالاً فيهم كثير بن أبي كثير وكان عربياً فصيحاً قال كثير: فقلت: بم أفلت
من الحجاج ? ثم قلت في نفسي: باللحن؛ فلما دخلت عليه دعاني فقال: ما اسمك ? قلت:
كثير. قال: ابن من ? فقلت: إن قلت: ابن أبو كثير خفت أن يتجاوزها. فقلت: ابن أبا
كثير. فقال: اذهب فعليك لعنة الله وعلى من بعث بك، جروا في عنقه ! فأخرجت.
وقال رجل للحسن البصري رحمه الله: ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه ? فقال:
أغيلمة إن فهمناهم لم يفهموا، وإن علمناهم لم يعلموا، قل: ترك أباه وأخاه، فقال
له: فما لأباه وأخاه ? فقال الحسن: قل لأبيه ولأخيه، قال: أرى كلما تابعتك
خالفتني.
ولكل صناعة آلة، ولكل بضاعة حالة. وذم رجل رجلاً فقال: أقداحه محاجم ودعواته
ملاوم، وكئوسه محابر، ونوادره بوارد.
وقال الزبير: رؤي الغاضري ينازع أشعب الطمع عند بعض الولاة فقال: أيها الأمير، إنه
يريد أن يدخل علي في صناعتي، ويشاركني في بضاعتي، وهيئته هيأة قاض، والأمير يضحك.
وقال عمرو بن عثمان:
واشتياقي إلى أبي الخطـاب |
|
وأحاديثه الرقاق الـعـذاب |
وإشارته التي اسـتـعـارت |
|
حركات المهجور عند العتاب |
ويجب على اللبيب المطرب ألا يطيل فيمل،
ولا يقصر فيخل، فللكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، قال أحمد بن الطيب السرخسي
تلميذ أحمد بن إسحاق الكندي: كنت يوماً عند العباس بن خالد، وكان ممن حبب إليه أن
يتحدث، فأقبل يحدثني، وينتقل من حديث إلى حديث، وكان في صحن منزله، فلما بلغتنا
الشمس انتقلنا من موضع إلى موضع آخر حتى صار الظل فيئاً. فلما أكثر وأضجر، ومللت
حسن الأدب في حسن الاستماع، وذكرت قول الأوزاعي: إن حسن الاستماع قوة للمحدث، فقلت
له: إذا كنت وأنا أسمع قد عييت مما لا كلفة علي فيه؛ فكيف بك وأنت المتكلم ? فقال:
إن الكلام يحلل الفضول الغليظة التي تعرض في اللهوات وأصل اللسان، ومنابت الأسنان؛
فوثبت وقلت: ما أراني معك في إلا أيارج الفيقرا إذ أنت تتغرغر بي منذ اليوم، والله
لا أجلس، واجتهد بي فلم أفعل.
وقال أحمد بن الطيب: كنا مرة عند بعض إخواننا، فتكلم فأعجبه من نفسه الكلام، ومنا
حسن الاستماع، حتى أفرط؛ فعرض لبعض من حضر ملل؛ فقال: إذا بارك الله في شيء لم
يفن، وقد جعل الله في حديث أخينا هذه البركة.
وقال عبد الله بن سالم في رجل كثير الكلام:
لي صاحبٌ في حديثه بركه |
|
يزيد هذا السكون والحركه |
لو قال لا في قليل أحرفها |
|
لردّها بالحروف مشتبكـه |
والتحفظ في هذا الباب من أكبر الأسباب؛ لأن المنادر والمهاتر والمسامر قد تمر له النادرة المضحكة، والطيبة المحركة؛ فيستغرب المجلس، وتطرب الأنفس؛ فيدعوه ما استحسن منه، واستندر عنه، أن يعود إلى مثلها فينقص من حيث ظن أنه زاد، ويفسد عليه ما أراد.
وقد كتب أبو الفضل محمد بن الحسين بن
العميد إلى أبي عبد الله الطبري لما استحضره عضد الدولة للمنادمة: وقفت على ما
وصفته من بر الأمير بك، وتوفره عليك، وليس العجب أن يتناهى مثله في الكرم إلى أبعد
غاياته؛ وإنما العجب أن يقصر في مساعيه عن نيل المجد كله، وحيازة الفضل بأجمعه؛
وقد رجوت أن يكون ما يغرسه أجدر غرس بالزكاء، وأضمنه للريع والنماء؛ فأرع ذلك،
واركب في الخدمة طريقة تبعدك من الملال، وتوسطك في الحضور بين الإكثار والإقلال،
ولا تسترسل كل الاسترسال، فلأن تدعى من بعيد مرات، خير من أن تقصى من قريب مرة.
وليكن كلامك جواباً تتحرز فيه من الخطل والإسهاب، ولا تعجبن بتأتي كلمة محمودة،
فيلح بك الإطناب توقعاً لمثلها، فربما هدمت ما بنته الأولى.
وبضاعتك في الشرب مزجاة، وبالعقل يزم اللسان، ويلزم السداد؛ فلا تستفزنك طربة
الكرم على ما يفسد تمييزك. والشفاعة لا تعرض لها فإنها مخلقة للجاه، فإن اضطررت
إليها فلا تهجم عليها حتى تعرف موقعها، وتطالع موضعها، فإن وجدت النفس بالإجابة
سمحة، وإلى الإسعاف هشة، فأظهر ما في نفسك غير مخفف؛ ولا توهم أن في الرد عليك ما
يوحشك، ولا في المنع ما يغيظك. وليكن انطلاق وجهك إذا دفعت عن حاجتك، أكثر منه عند
نجاحها على يدك؛ ليخف كلامك ولا يثقل على مستمعيه منك، أقول ما أقوله غير واعظ ولا
مرشد، فقد كمل الله خصالك، وفضلك على كل حالك، لكن أنبه تنبيه المشارك، وأعلم
للذكرى موقعاً لطيفاً.
وذكر لعبد الله بن طاهر رجل يصلح للمنادمة، فأحضره فأقبل يأتي بالأشياء في غير
مواضعها. فقال: يا هذا، إما أقللت فضولك أو دخولك.
الحاجة إلى الهزل
وهذه النوادر أكرمك الله وإن وقع عليها
اسم الهزل، وأسقطت من عين العقل، عند من لا يعلم مواقع الكلم، ولا يفهم مواضع الحكم،
فليس ذلك بمروجها، ولا بمبهرجها عند أهل العقول وأولي التحصيل العارفين بمعاقد
المعاني، وقواعد المباني، وهل يستندر من المغمورين والمشهورين، ويستظرف من
المغفلين والمعقلين، إلا ما خرج عن قدر أشكالهم، وبعد من فكر أمثالهم، وإنما يذكر
ما يستظرف، لخروجه عما يعرف.
ومنها ما يدخل في باب الطيب والاستندار، وقد قال الجاحظ: ليس شيء من الكلام يسقط
البتة، فسخيف الألفاظ يحتاج إلى سخيف المعاني. وقد قيل: لكل مقام مقال، وقيل لبشار
بن برد، كم بين قولك:
أمن طللٍ بالجزع لن يتكلّما |
|
وأقفر إلا أن ترى مذمما |
في نظائر هذه القصيدة من شعرك، ومن قولك:
لبـابة ربّة الـبـيت |
|
تبيع الخلّ بالـزيت |
لها سبع دجـاجـاتٍ |
|
وديكٌ حسن الصوت |
فقال: إنما القدرة على الشعر أن يوضع الجد والهزل في موضعه، ولبابة هذه جارة لي تنفعني بما تبعث لي من بيض دجاجها، وهذا الشعر أحسن موضعاً عندها من:
قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل |
ولما استقرت الخلافة للمعتز بالله شخص إليه أبو العبر من ولد عبد الصمد بن علي فهنأه بالخلافة وتعرض لصلته بالجد، وهجا المستعين كما فعل البحتري في قصيدته التي أولها:
يجانبنا في الحبّ من لا نجانبـه |
|
ويبعد منّا في الهوى من نقاربه |
فلم يقبل عليها، فعمل أبو العبر قصيدة
مزدوجة كلها هزل من غير تقويم ولا إعراب منها قوله: أيا أحمد الرقيع، ومن أكلك
الرجيع، أتنسى من كان، نصيرك قهرمان، فيأتيك بالسويق، من السوق والدقيق، فصرت الآن
في الدار، على رتبة البزار، أما تعلم يا فار، بأن الله يختار، ويعطي غيرك الملك،
عزيزاً يركب الفلك.
وفيها ما لا يذكر من حماقات واختلال، وبرد وانحلال، وكلام مرذول، غث مهزول؛ فضحك
المعتز منها، وأمر له بألف دينار، فألح على جعفر بن محمود الإسكافي في الاقتضاء،
وهو حينئذ وزير المعتز، فألط عليه. فقال له جعفر: عهدي ببني هاشم يأخذون الصلات بشرفهم
وعلومهم وجدهم، وأنت تأخذ بالمحال والهزل؛ فأنت عجيب من بينهم !! فقال أبو العبر:
صدقت أنا عجيب من بينهم، كما أنت عجيب في أهل إسكاف، كلهم نواصب وأنت من بينهم
رافضي، وكان جعفر ينسب إلى ذلك. ثم أنشد أبو العبر قول جميل:
بثينة قالت يا جميل أربـتـنـا |
|
فقلت كلانا يا بثـين مـريب |
وأريبنا مـن لا يؤدّي أمـانةً |
|
ومن لا يفي بالعهد حين يغيب |
فدفع إليه الألف دينار، واستعفاه أن يعاود
مثل هذا.
وكانت لأبي العبر مع موسى بن عبد الملك قصة مثل هذه في أيام المتوكل: رفع إليه
كتاباً بأرزاقه وأرزاق جماعة من أهله ليوقع فيه ويختمه؛ فدافعه به موسى مدةً، فوقف
له يوماً فلما ركب أنشده:
موسى إلى كم تتبرّد |
|
وكم وكم تـتـردّد |
موسى أجزني كتابي |
|
بحقّ ربّك الأسـود |
يريد محمد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، والإمامية تزعم أنه إمام وقته، فجزع موسى وسأله كتم ما كان عليه ومعاودة مثله: وأنشد أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري المتوكل قصيدته:
من أيّ ثغرٍ تبتـسـم |
|
وبأيّ طرفٍ تحتكـم |
حسن يضنّ بحسنـه |
|
والحسن أشبه بالكرم |
أفديه من ظلكم الوشا |
|
ة وإن أساء وإن ظلم |
وهي حلوة الروي، مليحة العروض، حسنة الطبع، فكان البحتري فيه كبر وإعجاب. فإذا أنشد، قال: ما لكم لا تعجبون، أما حسن ما تسمعون ?! فقام إليه أبو العنبس الصيمري وقد قال ذلك فقال:
عن أيّ سلح تـلـتـقـم |
|
وبأيّ كفّ تـلـتـطـم |
ذقن الوليد البـحـتـريّ |
|
أبي عبادة في الـرّحـم |
أدخلت رأسك في الرحم |
|
|
فولى البحتري مغضباً، فقال أبو العنبس:
وعلمت أنك تنهزم.
فضحك المتوكل حتى فحص برجليه وأمر بالجائزة لأبي العنبس.
وقد يحتاج العاقل المميز، والفاضل المبرز، إلى الهزل كاحتياجه إلى الجد، ويفتقر
إلى الجور كافتقاره إلى القصد؛ وعلم الفتى في غير موضعه جهل.
وصحب الإمام محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه قوماً في سفره فكان يجاريهم على
أخلاقهم، ويخالطهم في أحوالهم، وهم لا يعرفونه، فلما دخل مصر حضروا الجامع، فوجدوه
يفتي في حلال الله وحرامه، ويقضي في شرائعه وأحكامه، والناس مطرقون لإجلاله، فرآهم
فاستدعاهم، فلما انصرفوا سئل عنهم فأنشد:
وأنزلني طول النّوى دار غربةٍ |
|
إذا شئت لاقيت امرأً لا أشاكله |
أُحامقه حتى يقـال سـجـيّة |
|
ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله |
وقد يخرج الفطن اللبيب، وينتج الطبن
الأديب، من الهزل السخيف، غرائب الجد الشريف، فالنار قد تلتظى من ناضر السلم.
ولما قال بشار بن برد:
كأن فـؤاده كـرة تـنــزّى |
|
حذار البين لو نفع الـحـذار |
جفت عيني عن التغميض حتى |
|
كأنّ جفونها عنهـا قـصـار |
يروّعه السّرار بكـل شـيء |
|
مخافة أن يكون به السّـرار |
قيل له: من أين أخذت هذا ? قال: من قول
أشعب الطماع: ما رأيت اثنين يتساران إلا ظننتهم يأمران لي بشيء.
ومر مزيد المديني مزبد المدني بجرة مغطاة، فقال له بعض جيرانه: ما هذا ? فقال له:
يا أحمق، فلم سترناه !! أخذه ابن الرومي، فقال لمن سأله: لم تلزم العمة ?
يأيها السائلي لأُخـبـره |
|
عني لم لا أزال معتجرا |
أستر شيئاً لو كان يمكنني |
|
تعريفه السائلين ما سترا |
وكان ابن الرومي أقرع الرأس، وقد أخبر بعلة ذلك في قوله:
تعمّمت إحصاناً لرأسـي بـرهةً |
|
من القرّ يوماً والحرور إذا سفع |
فلما دهى طول التعمّم لّـمـتـي |
|
فأزرى بها بعد الأصالة والفرع |
عزمت على لبس العمامة حـيلةً |
|
لتستر ما جرّت عليّ من الصّلع |
فيا لك من جانٍ علـيّ جـنـايةً |
|
جعلت إليه من جنايته الـفـزع |
وأعجب شيء كان دائي جعلتـه |
|
دوائي على عمدٍ وأعجب بأن نفع |
الهزل من الجد
وقد يستجلب من الجديات الصريحة، ظرائف الهزليات المليحة، فقد قيل على وجه الذم: من حفر لأخيه حفرةً وقع فيها، وقيل: من سل سيف البغي قتل به، وقال ابن المعتز في الفصول القصار: لم يقع سيف حيلته إلا على مقاتله. وأنشدوا لبعض الأعراب:
رماني بأمرٍ كنت منه ووالدي |
|
بريّاً ومن جال الطويّ رماني |
والذي أنشده سيبويه: ومن أجل، والجال والجول: الناحية. والطوي: البئر. يريد رماني بما عاد عليه ضره وشره، كمن يرمي من بئر فيعود رميه عليه. فانظر إلى هذا المعنى كيف أخذه عبادة المخنث لما نكب المتوكل محمد بن عبد الملك الزيات ورماه في تنور كان ابن الزيات اتخذه لابن أسباط المصري، وجعله كله مسامير، فإذا وقف الواقف لم يقدر يتحرك إلى ناحية إلا ضربته المسامير، فلا يزال قائماً حتى يموت. فاطلع عليه عبادة المخنث فقال له: أردت أن تخبز في هذا التنور، فخبزت فيه، فضحك المتوكل. فقال عبادة: هذا يا أمير المؤمنين مثل رجل كان حفاراً للقبور مات، فمرت به واحدة من أصحابنا فقالت: أما علمت أنه من حفر لأخيه حفرةً يسقط فيها.
الظريف من الخطاب يخلص من الهلاك
وكم ظريفة من الخطاب، ومليحة من الجواب،
خلصت من الهلاك، من نصبت له الأشراك، وسلمت من الحتوف، من أصلتت له السيوف.
قال الأصمعي: خرج الحجاج متصيداً، فوقف على أعرابي يرعى إبلاً وقد انقطع عن
أصحابه، فقال: يا أعرابي، كيف سيرة أميركم الحجاج ? فقال الأعرابي: غشوم ظلوم لا
حياه الله ولا بياه. قال الحجاج: فلو شكوتموه إلى أمير المؤمنين ? فقال الأعرابي:
هو أظلم منه وأغشم، عليه لعنة الله ! قال: فبينا هو كذلك إذ أحاطت به جنوده، فأومأ
إلى الأعرابي فأخذ وحمل، فلما صار معهم قال: من هذا ? قالوا: الأمير الحجاج، فعلم
أنه قد أحيط به، فحرك دابته حتى صار بالقرب منه، فناداه: أيها الأمير: قال: ما
تشاء يا أعرابي ? قال: أحب أن يكون السر الذي بيني وبينك مكتوماً؛ فضحك الحجاج
وخلى سبيله.
وخرج مرة أخرى فلقي رجلاً. فقال: كيف سيرة الحجاج فيكم ? فشتمه أقبح من شتم الأول
حتى أغضبه، فقال: أتدري من أنا ? قال: ومن عسيت أن تكون ? قال: أنا الحجاج، قال:
أوتدري من أنا ? قال: ومن أنت ? قال: أنا مولى بني عامر، أجن في الشهر مرتين هذه
إحداهما. فضحك وتركه.
المهدي وأحد المصلين
وقدم المهدي المدينة، فخرج ليلةً إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفياً ليصلي، فبينما هو كذلك إذ جاء مدني فقام إلى جانبه يصلي، فلما قضى صلاته قال للمدني: أقدم خليفتكم? قال: نعم ! فعل الله به وفعل وأراحنا منه، وجعل يدعو على المهدي وانصرف؛ فدخل عليه الربيع؛ فقال: يا ربيع؛ جلس إلى جانبي البارحة مدني فما ترك دعاءً إلا ودعا به علي. فقال: أتعرفه ? قال: نعم، إذا رأيته ! ثم ركب المهدي واجتمع أهل المدينة ينظرون، فوقعت عينه على الرجل؛ فقال: يا ربيع؛ ألا ترى الرجل الذي صفته كذا وكذا ! هو ذاك صاحبي، فأمر به الربيع فأخذ، فلما رجع المهدي دعا به. فقال: يا هذا، هل أسأت إليك قط ? قال: لا؛ قال: فهل لك مظلمة تطالبني بها ? قال: لا، قال: فما دعاؤك علي حين صليت إلى جانبي ? فقال المدني: فديتك والله ! وعتق ما أملك؛ وامرأتي طالق إن لم أكن أغير كنيتي في اليوم مرتين وثلاثاً للملال. فضحك المهدي وأحسن صلته.
حسن التخلص
وخرج ابن أحمد المدني أيام العصبية إلى أذربيجان، فلقيه فرسان، فسقط في يده، فقال: الساعة يسألونني من أنا ? وأخاف أن أقول مضري وهم يمانية، أو يماني وهم مضرية، فيقتلونني؛ فقربوا منه، وقالوا: يا فتى، ممن أنت ? قال: ولد زنا، عافاكم الله ! فضحكوا منه، وأعطوه الأمان، فأخبرهم بنفسه، فأرسلوا معه من يوصله إلى مقصده.
وخرج الربيع من عند أبي جعفر عبد الله
المنصور فقال: أمير المؤمنين يسأل من يعرف من يشبهه من خلفاء بني أمية أن يذكر ما
عنده، فقال أبو بكر بن عياش المنتوف: أنا أعرف ذلك، ولكن لا أقول إلا مشافهة، فدخل
ثم خرج فقال: أمير المؤمنين يقول لك: قد علمت أنك إنما تطلب الدخول لتتوسل إلى
أموالنا، فأدخل. فدخل فقال له: من أشبه من خلفاء بني أمية ? فقال: عبد الملك بن
مروان. قال: كيف قلت ذلك ? قال: لأن أول اسمك عين وهو أول اسمه عين، وأول اسم أبيه
ميم، وأول اسم أبيك ميم، وقتل ثلاثة أول أسمائهم عين وكذلك أنت، قال: ومن قتل ? قال:
عبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وعمرو بن سعيد بن العاص،
وقتلت يا أمير المؤمنين عبد الرحمن بن مسلم يريد أبا مسلم الخراساني وعبد الجبار
بن عبد الرحمن الخارجي، قال: وأردت أن أقول، وقتلت عبد الله بن علي عمك، فعرفت أنه
يكره ذلك؛ لأنه أسقط عليه البيت الذي كان فيه، وادعى أن البيت سقط، وقد كان عيسى
بن موسى يسام في نزع البيعة، وهو مضيق عليه، فقلت: وسقط الحائط على عبد الله بن
علي. قال: فالحائط سقط عليه فما علينا ? فقلت: لا شيء يا أمير المؤمنين. وها هنا
حائط آخر مائل على عين أخرى وهو عيسى بن موسى إن لم تدعموه بفضلكم خفت أن يسقط.
فضحك ثم قال: أولى لك.
وخرج المأمون منفرداً فإذا بأعرابي فسلم عليه. فقال: ما أقدمك يا أعرابي ? قال:
الرجاء لهذا الخليفة، وقد قلت أبياتاً أستمطر بها فضله، قال: أنشدنيها، قال: يا
ركيك، أويحسن أن أنشدك ما أنشد الملوك ? فقال: يا أعرابي، إنك لن تصل إليه ولن
تقدر مع امتناع أبوابه وشدة حجابه، ولكن هل لك أن تنحلنيها، وهذه ألف دينار فخذها
وانصرف ودعني أتوسل، لعلي أتوصل ? قال: لقد رضيت، فبينما هما في المراجعة إذ أحدقت
الخيل به وسلم عليه بالخلافة، فعلم الأعرابي أنه قد وقع، فقال الأعرابي: يا أمير
المؤمنين؛ أتحفظ من لغات اليمن شيئاً ? قال: نعم! قال: فمن يبدل القاف كافاً ?
قال: بنو الحارث بن كعب، قال: لعنها الله من لغة لا أعود إليها بعد اليوم. فضحك
المأمون وأمر له بألف دينار.
المأمون ومخارق
وغنى مخارق بحضرة المأمون أبيات مسكين الدارمي وذهب عنه معناها وفيمن قيلت، وهي:
على الطائر الميمون والسعد إنّـه |
|
لكلك أناسٍ أنـجـمٌ وسـعـود |
ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر |
|
ومروان أم ماذا يقـول سـعـيد |
إذا المنبر الغربيّ خلّى مكـانـه |
|
فإنّ أمير الـمـؤمـنـين يزيد |
وابن عامر هو عبد الله بن عامر بن كريز، ومروان بن الحكم بن أبي العاص، وسعيد بن العاص، وهؤلاء شيوخ بني أمية والمترشحون للخلافة بعد معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص هو الأشدق، وطلب الخروج على عبد الملك بن مروان فقتله. فلما بلغ مخارق إلى آخر البيت الأخير وهم أن يقول يزيد استيقظ، فقال: مخارق، فضحك المأمون وقال: لو قلت يزيد ما عشت.
الملح تصرف المخاوف وتنقذ الملهوف
وكم صرفت الملح من مخوف، وأنقذت من ملهوف. قال عيسى بن يزيد بن دأب: أرسل يزيد بن معاوية إلى عبد الله بن جعفر في جارية له مغنية يسأله إياها؛ فقال له الرسول: أمير المؤمنين يقرئك السلام ويقول لك: فلانة أعجبتني، ويجب أن تؤثرني بها. فقال عبد الله لمولاه بديح المليح: أي شيء يقول ? قال بديح: فقلت له: يقرئك السلام، ويقول: كيف بت في ليلتك هذه ? قال: يقول عبد الله: أقرئ أمير المؤمنين السلام. فقال الرسول: ليس كذا قلت ولا له جئت. فقال: ما يقول ? فأعاد بديح القول، فخرج الرسول مغضباً ومضى إلى يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، بلغت ابن جعفر رسالتك وإلى جنبه رجل مجنون ما أدري كيف هو يحكي خلاف ما أقول ! فقال: علي به، قال بديح: فذهب بي إليه، فلما دخلت شتمني وقال: تصنع هذا? فقلت: يا أمير المؤمنين، متى عهدك بابن جعفر لا يسمع ? إقباله علي يسألني منع لجاريته وبخل بها؛ كره أن يعطيكها لمحبته لها فما ذنبي أنا ?! فضحك يزيد وقال: لعل الشيخ ضنين بجاريته.
المأمون يشدد في الغناء
وكان المأمون قد حرم الغناء وشدد فيه فلقي
علي بن هشام إسحاق بن إبراهيم الموصلي على الجسر، فقال إسحاق لعلي بكلام يخفيه: قد
زارتني اليوم فلانة، وهي أطيب الناس غناءً، فبحياتي إلا كنت اليوم عندي. فوعده
بالحضور وتفرقا، وإذا بطفيلي يسمع كلامهما فمضى من وقته، فلبس ثياباً حسنة؛
واستعار من بعض إخوانه بغلة فارهة بسرجها ولجامها، فركبها وأتى باب علي بن هشام
بعد أن نزل من الركوب بساعة، فقال للحاجب: عرف الأمير أن رسول صاحبه إسحاق بن
إبراهيم بالباب؛ فدخل الحاجب وخرج مسرعاً وقال: ادخل جعلت فداك، فدخل على علي فرحب
به، فقال له: يا سيدي يقول لك أخوك: تعلم ما اتفقنا عليه فلم تأخرت عني ? فقال له:
الساعة وحياتك نزلت من الركوب، والساعة أغير ثيابي وأوافيه، فاستوى على دابته
ووافى منزل إسحاق؛ فقال للحاجب: عرف الأمير أني رسول علي بن هشام؛ فدخل الحاجب
وخرج فقال: ادخل ! جعلني الله فداك؛ فدخل فسلم وقال: أخوك يقرئك السلام ويقول لك:
الساعة نزلت من الركوب، وقد غيرت ثيابي وتأهبت للمسير فما ترى ? فقال: قل له يا
سيدي قتلتنا جوعاً، فبحياتي إلا ما حضرت. فرجع إلى باب علي وقال للحاجب: تعرفه أن
الأمير أمرني ألا أبرح أو يجيء معي.
فغير علي بن هشام ثيابه، وركب دابته، وتبعه الطفيلي حتى نزل بباب إسحاق بن
إبراهيم، ونزل الطفيلي معه، ودخلا جميعاً فسلما وجلسا، وجيء بالطعام فأكلوا،
وإسحاق لا يشك أنه أخص الناس بعلي، وعلي لا يشك أنه أخص الناس بإسحاق، ثم غسلوا
أيديهم وقدموا الشراب، وخرجت جارية من أحسن الناس وجهاً وزياً، فجلست وأتيت بعود،
فغنت أحسن غناء، ودارت الأقداح فلم يزالوا على ذلك إلى بعد العصر، وأخذ الطفيلي البول
حتى كاد يأتي على ثيابه فصبر جهده؛ فلما عيل صبره قام فدخل الخلاء، فقال علي
لإسحاق: يا سيدي، ما أخف روح هذا الفتى وأحل نوادره ! فمن أي وقع لك ? قال أوليس
هو صاحبك ?! قال: لا وحياتك ولا رأيته قبل يومي هذا، قال: فإنه جاءني برسالتك وقص
قصته؛ وقص إسحاق مثلها، وداخله من الغيظ ما لم يملك معه نفسه؛ وقال: طفيلي يستجرىء
علي وعلى النظر إلى حرمي والدخول إلى داري ! يا غلمان: السياط والعقابين، المقارع
والجلادين. فقامت في الدار جلبة، وأحضروا جميع ذلك، والطفيلي يسمع وهو في الخلاء،
ثم إنه خرج رافعاً ثيابه غير مكترث بما فعلوه، وهو مقبل على تكة لباسه يشدها،
ويتمشى في صحن الدار وهو يقول: جعلت فداك ! إيش بي من جهدك ! فهل عرفتني مع هذا
كله ? فقال إسحاق: ومن أنت ? فقال: أنا صاحب خبر أمير المؤمنين، وعينه على سره،
والله لولا تحرمي بطعامك وممالحتي لتركتكما في عمىً من أمري، حتى كنت تعرف عاقبة
حالك وإقدامك على ما فيه هلاكك وفساد أمرك ! فقام إليه إسحاق وعلي يسكتانه وقالا
له: يا هذا، إننا لم نعرفك ولم نعلم حالك، ولك الفضل علينا، وأنت المحسن المجمل
إلينا؛ ولكن تمم إحسانك بسترك ما نحن عليه.
ثم قال إسحاق: يا غلام، الخلع ! فأتي بثياب فاخرة فصبت عليه، وتقدم بإسراج دابة
هملاج بسرج مخفف ولجام حسن؛ ولم يزالا به حتى طابت نفسه، ووعدهما كتمان أمرهما،
وحضر وقت الانصراف فودعهما وانصرف، فأتبعه إسحاق بخادمه معه صرة فيها ثلاثمائة
دينار، فأخذها وركب الدابة ومضى.
فلما كان من الغد دخل علي بن هشام على المأمون. فقال: يا علي؛ كيف كان خبرك أمس ?
على حسب ما يجري السؤال عنه فتغير لونه، ولم يشك في أن الحديث رفع إليه؛ فأكب على
البساط يقبله وقال: يا أمير المؤمنين، العفو، يا أمير المؤمنين، الأمان. قال: لك
الأمان. فأخبره بالقصة من أولها إلى آخرها. فضحك المأمون حتى كاد يغشى عليه، وقال:
ما في الدنيا أملح من هذا. ووجه خلف إسحاق، فلما حضر قال: هيه يا إسحاق ? كيف كان
خبرك أمس ? فأخبره كخبر علي بن هشام والمأمون يضحك. ثم قال: يا إسحاق؛ بحياتي أطلب
الرجل وجئني به، فلم يزل يطلبه حتى وجده، فكان أحد ندماء المأمون.
الجنابي وصاحب الأحمال
ولما ظفر سليمان بن حسن الجنابي يوم
الهبير بالحجاج وقتلهم فأخذ أموالهم، كان في جملة ما أخذ أحمال فيها من رفيع البز
والثقل وظريف الوشي والمصمت ما أعجبه وأبهته. فقال: علي بصاحب هذه الأحمال. قال
صاحبها: فأتيته فقال: ما منعك أن يكون ما جئت به أكثر من هذا ? فقلت: لو علمت أن
السوق بهذا النفاق لفعلت، فاستظرفني ودفع إلي مالاً وجميع ما أخذ لي، وأرسل معي من
يحفظني حتى وصلت.
وكان أبو الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات الوزير المعروف بابن حنزابة وحنزابة: أمه
رومية، ولها من العقل والحزم ما نوه باسمها قد اقتطع في أيام الإخشيد قيمة مائة
دينار في أمور تولاها له، فحاسب أبا زكريا النصراني، المعروف بحبوسة، وكان على
الخراج، فألزمه عشرة آلاف دينار وطالبه بها، فقال: أعز الله الأمير ! وهل قامت علي
حجة يلزمني بها الأداء? قال: هو ما أقول لك يا لص ! فقال: إنما هو لصيص، فضحك
وتركه.
الملح تبلغ المطالب وترفع من لا قدم لقومه
وكم أفادت من الرغائب، وبلغت من المطالب،
ورفعت من لا قدم لقومه، ولا أمس ليومه.
كما حكى أبو الحسن المدائني قال: كان بالبصرة ثلاثة إخوان يتعاشرون ولا يفترقون؛
اثنان شاعران والآخر منجم لا يحسن شيئاً، ففني ما بأيديهم، فخرج الشاعران إلى
بغداد، فمدحا من بها من الأشراف؛ فرجعا وقد اعتقدا أموالاً نفيسة، وبقي صاحبهما في
فقره؛ فقالا له: لو ذهبت فتسببت ? فقال: ما لي صناعة ولا عندي بضاعة. فقالا: على
كل حال معك ظرف ولك لطف.
فخرج إلى بغداد واتصل بيقطين بن موسى وقال: ما أتيت إليك بشيء، غير أني أكذب
الناس، فضحك وخف على قلبه؛ فكان في جملة حاشيته.
فغضب المهدي على عبد الله بن مالك الخزاعي؛ فأتاه الرجل وهو من المهدي في أشد
السخط، وقد ألزمه داره؛ فقال للحاجب: استأذن على الأمير، وقل له: رسول الأمير
يقطين بالباب، فدخل وخرج له بالإذن فدخل. وقال: الأمير يقول لك: اليوم كنت عند
أمير المؤمنين فدكرته سالف حقوقك وقديم خدمتك؛ فعفا عنك، وأمرك بالركوب غداً ليخلع
عليك ويجدد الرضا عنك بمحضر الناس.
فسر عبد الله بذلك، ودفع إلى الرجل مالاً، وبكر إلى دار المهدي، فاستأذن عليه.
فلما دخل قال: ما جاء بك ? قبحك الله ! وقد أمرناك بلزوم دارك ? قال: أوما رضيت
عني يا أمير المؤمنين، وأمرت يقطيناً بإحضاري ? فقال: إذاً لا رضي الله عني، ولا
خطر هذا بقلبي. قال: فرسوله أتاني بذلك. قال: علي بيقطين: فأتي به فقال: أتكذب علي
وتحكي علي ما لم أقله ? قال: وما ذاك يا أمير المؤمنين ? قال: زعمت أني رضيت عن
هذا. فقال يقطين: وأيمان البيعة يا أمير المؤمنين إن كنت سمعت بشيء من هذا أو
قلته. قال عبد الله: بل أتاني رسولك فلان. فبعث خلف الرجل بحضرة المهدي، فلما حضر
قال: ما هذا الذي فعلت ? قال: يا سيدي، هذا بعض ذلك المتاع، بدأت في نشره خوفاً عليه
من السوس. فقال المهدي: ما يقول ? فأخبره يقطين بأول أمره معه، فضحك المهدي وجدد
الرضا عن عبد الله بن مالك، ووصل الرجل بصلة جزيلة، ووصله عبد الله بأوفر صلة؛
فانصرف إلى صاحبيه واسع النعمة عظيم المال.
حاجة أهل الأدب إلى ظريف المضحكات
وهل يستغني أهل الأدب وأولو الأرب عن
معرفة ظريف المضحكات، وشريف المفاكهات، إذا لاطفوا ظريفاً، أو مازحوا شريفاً ? فقد
قال الأصمعي: بالعلم وصلنا وبالملح نلنا.
وروى أبو هفان قال: دخل أبو نواس على يحيى بن خالد فقال له: يا أبا علي؛ أنشدني
بعض ما قلت؛ فأنشده:
كم من حديثٍ معجب لي عندكـا |
|
لو قد نبذت به إليك لـسـرّكـا |
إني أنا الرجل الحكيم بطـبـعـه |
|
ويزيد في علمي حكاية من حكى |
أتتّبع الظرفاء أكتـب عـنـهـم |
|
كيما أحدث من أحبّ فيضحكـا |
فقال له يحيى: يا أبا علي؛ إن زندك ليوري بأول قدحة. فقال ارتجالاً في معنى قول يحيى:
أمـا زنـد أبـي عـلـيّ إنـه |
|
زندٌ إذا استوريت سهل قد حكى |
إنّ الإله لعـلـمـه بـعـبـاده |
|
قد صاغ جدّك للسماح ومزحكا |
تأبى الصنائع همّتي وقريحتـي |
|
من أهلها وتعاف إلاّ منحـكـا |
وحضر الجماز مع أبي نواس مجلس قينة، فأقبل الجماز يمالحها ويمازحها وأبو نواس ساكت؛ فمالت إليه، فقال الجماز:
أبو نواس جذره شعـره |
|
وجذرنا حسن الحكايات |
فجذرنا أكثر من جـذره |
|
مدّاً على أهل المروءات |
فقال أبو نواس:
صدقت لا ننكر هذا كما |
|
أمّك رأس في المناحات |
فأقبلت القينة على أبي نواس وغنت، فقال لها الجماز: ما سمعت والله أحسن من هذا، فقال أبو نواس: ولا نواح أمك إلا أن يكون عليك فإنه والله أحسن. وكان يصطحبان وهما حدثان، وأمه أذين النائحة وله يقول أبو نواس:
اسقـنـي يابـن أذين |
|
من سلاف الزّرجون |
وقال أبو ذؤيب في الملح:
وسرب يطلّى بالعبير كأنه |
|
دماء ظباءٍ بالنّحور ذبيح |
بذلت لهنّ القول إنك واجدٌ |
|
لما شئته حلو الكلام مليح |
فأمكنّه ممّا يقول وبعضهم |
|
شقيّ لدى خيراتهن نطيح |
يريد أن الملاحة نفعته عندهنّ حتى أمكنّه مما يريد: وقال أعرابي:
ألا زعمت عفراء بالشام أننـي |
|
غلام جوارٍ لا غلام حـروب |
وإني لأهدى بالأوانس كالدّمـى |
|
وإني بأطراف القنا للـعـوب |
وإني على ما كان من عنجهيّتي |
|
ولـوثة أعـرابـيتـي لأديب |
كأن الأدب غريبة عند العرب؛ فافتخر بما عنده منه، وأنه يرجو به القربى ويأمل به الزلفى.
من فقدت مؤانسته ثقل ظلمه
ورب مجلس فض فيه ختام النشاط، ونشر بساط الانبساط، وفيه بغيض لا يفيض، بقدح في مزح، قد ثقل ظله، وركد نسيمه، وجمد هواه، وغارت نجومه؛ فاستثقله من حضر، وعاد صفوهم إلى كدر، وأنكرت مجالسته؛ إذ فقدت مؤانسته، ولو كانت له دراية، أو معه رواية، أو عنده حكاية، ما كان كما قال الشاعر:
مشتمل بالبغض لا تنثنـي |
|
إليه بغضاً لحظة الرّامق |
يظلّ في مجلسنا جالـسـاً |
|
أثقل من واشٍ على عاشق |
ولا كما قال الحمدوني لبعض الثقلاء:
سألتك باللّه إلاّ صدقـت |
|
وعلمي بأنّك لا تصـدق |
أتبغض نفسك من بغضها |
|
وإلاّ فأنت إذاً أحـمـق |
وقال أبو علي العتابي: حدثني الحمدوني قال: بعث إلي أحمد بن حرب المهلبي في غداة السماء فيها مغيمة، فأتيته والمائدة مغطاة موضوعة، وقد وافت عجاب المغنية قبلي، فأكلنا جميعاً وجلسنا على شرابنا، فما راعنا إلا داق يقرع الباب. فأتاه الغلام فقال: بالباب فلان. فقال لي: إنه فتى ظريف من آل المهلب؛ فقلت: ما نريد غير ما نحن فيه، فأذن له، فجاء يخطر وقدامي قدح فيه شراب فكسره، وإذا رجل آدم أدلم ضخم، فتكلم فإذا به أعيا الناس، وتخطى وجلس بيني وبين عجاب، فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت:
كدّر اللّه عيش من كدّر العـي |
|
ش وقد كان سائغاً مستطـابـا |
جاءنا والسماء تؤذن بـالـغـي |
|
ث وقد طابق السماع الشرابـا |
كسر الكأس وهي كالكوكب الدرّ |
|
ي ضمّت من المدام لـعـابـا |
قلت لما رميت منـه بـمـا أك |
|
ره والدّهر ما أفـاد أصـابـا |
عجّل اللّه غارةً لابـن حـرب |
|
تدع الدار بعد شهـرٍ خـرابـا |
ودفعت لرقعة إلى أحمد، فقرأها وقال: ويحك
! هلا نفست ? فقلت: بعد حول ? قال: قلت: إنما أردت أن أقول بعد يوم، ولكن خلفت أن
تلحقني مضرته. وفطن الثقيل فنهض. فقال لي: آذيته، فقلت: بل هو آذاني.
وهذا لعمري وإن أساء في قدومه وإقدامه، فقد أحسن في نهوضه وقيامه، وقد قال الشاعر:
ولما تخوفت ولا لـوم أن |
|
تدبر من ودّك بالمقـبـل |
أقللت من إتيانـكـم إنّـه |
|
من خاف أن يثقل لم يثقل |
وكان يجالس أبا عبيدة معمر بن المثنى رجل
ثقيل اسمه زنباع، فكان كالشجا المعترض في حلقه يتناكده ويسيء خلقه؛ فلا يتكلم أبو
عبيدة بكلمة إلا عارضه بكثرة جهله، وقلة عقله. فقال رجل لأبي عبيدة: مم اشتقت
الزنبعة في كلام العرب ? فقال: من التثاقل والتباغض، ومنه سمي جليسنا هذا زنباعاً.
وامتحن أبو عبد الرحمن العتبي بمثل ذلك من رجل، فلما طال عليه أنشده:
أما والذي نادى من الطور عبده |
|
وأنزل فرقاناً وأوحى إلى النّحل |
لقد ولدت حوّاء مـنـك بـلـيّةً |
|
عليّ أقاسيها وثقلاً من الثقـل |
وانحدر خالد بن صفوان مع بلال بن أبي بردة
إلى البصرة، فلما اقتربا من البطيحة قال بلال لخالد: أتستثقل عكابة النميري ? قال:
كدت والله أيها الأمير تصدع قلبي؛ حين دنونا من آجام البطيحة، وعكر البصرة، وغثاء
البحر، ذكرت لي رجلاً هو أثقل على قلبي من شارب الأيارج بماء البحر بعقب التخمة،
وساعة الحجامة.
وكان عكابة بن غيلة هذا أهوج جاهلاً، ودخل على بلال فرأى ثوراً مجللاً ناحية الدار
فقال: ما أفره هذا البغل إلا أن حوافره مشققة.
وترك بعض الظرفاء النبيذ، فتحاماه معاشروه خوفاً أن يكون ما أحدث من الترك دعاه
إلى زيادة النسك، وأوجب له الانقباض والإعراض عما كانوا معه فيه يفيضون ويخوضون
فقال:
تحاموني لتركي شرب راحٍ |
|
وقالوا يشرب الماء القراحا |
وما انفردوا بها دوني لفضلٍ |
|
إذا ما كنت أكثرهم مزاحـا |
وأرقصهم على وترٍ وصنـجٍ |
|
وأظرفهم وألطفهم مراحـا |
إذا شقّوا الجيوب شققت جيبي |
|
وإن صاحوا علوتهم صياحا |
الفكاهة من أسباب الاقتراب
وقال الفتح بن خاقان: ما رأيت أحلى من ابن
أبي دواد، كنت يوماً ألاعب المتوكل الشطرنج فاستؤذن له، وهو يومئذ قاضي القضاة، لم
يتغير عما كان عليه أيام الواثق بعد، وله جلالة الشرف والعلم؛ فأمرنا بعض الغلمان
برفعها استحياء منه، فقال له المتوكل: والله ما ترفع، وما كنت لأستتر من ابن أبي
دواد بشيء لا أستتر به من الله عز وجل؛ فدخل وهي بين أيدينا، فقال له المتوكل:
أيها القاضي؛ إن الفتح استحيا منك، فأراد رفع الشطرنج، فقال: ما استحيا مني؛ إنما
كره أن أعلم عليه، فاستحلاه المتوكل، وخف على قلبه.
ورب مستثقل ازور له الجناب، وطال به الاجتناب، كانت له الفكاهة من أسباب الاقتراب.
وذكر أن روح بن زنباع بعد ما بينه وبين عبد الملك بن مروان حتى استثقل جانبه؛ وأحس
روح منه التغير؛ فقال لبعض جلساء عبد الملك: إذا حضرنا مجلس الأنس عند أمير
المؤمنين فسلني: هل كان ابن عمر يسمع المزاح ? فلما اجتمعوا سأل الرجل روحاً فقال:
نعم ! وإن أذن أمير المؤمنين تحدثت. فقال عبد الملك: قل، فقال: إن ابن أبي عتيق
كان صاحب لهو وغزل وعلى عفافه وشرفه؛ وكانت له امرأة من أشراف قريش، فغاضبته في
بعض الأمر، فقالت:
ذهب الإله بما تعيش بـه |
|
وقمرت مالك أيّما قمـر |
أنفقت مالك غير مـتّـئدٍ |
|
في كل زانيةٍ وفي الخمر |
فكتب ابن أبي عتيق الشعر وخرج به في يده، فلقي ابن عمر فقال: ما ترى فيمن هجاني في هذا الشعر ? فقال: أرى أن تعفو وتصفح، قال: والله لئن لقيت قائلهما لأ... فأخذ ابن عمر الأفكل، ولبط به الأرض، وقال: لا أكلمك أبداً، ثم لقيه بد ذلك؛ فلما أبصره ابن عمر أعرض عنه، فقال له: بالقبر ومن فيه إلا سمعت مني حرفين، فولاه قفاه، وأنصت له، فقال: علمت يا أبا عبيد الرحمن أني لقيت قائل ذلك الشعر و... ? فصعق عبد الله وسقط على الأرض، فلما رأى ابن أبي عتيق ما حل به دنا من أذنه، فقال: إنها امرأتي أعزك الله. فقام ابن عمر فقبله بين عينيه. فقال عبد الملك: ما أملحك يا روح ! إنك كل يوم لتأتينا بطريفة.
جبن روح
وكان روح مفرطاً في الجبن، فلما ولى عبد الملك أخاه بشراً على الكوفة أصحبه روحاً، وقال له: يا بني، روح مثل عمك فلا تقطع أمراً دونه لصدقه وعفافه وصحبته لنا أهل البيت. وقال لروح: اخرج مع ابن أخيك. فخرج معه وكان بشر ظريفاً أديباً، يحب الشعر والسمر والسماع والشرب؛ فراقب روحاً، وقال لأصحابه: أخاف أن يكتب بأخبارنا إلى أمير المؤمنين، فضمن له بعض ندمائه أن يكفيه أمره من غير سخط ولا لائمة، وكان روح غيوراً إذا خرج من منزله أغلقه ثم ختمه بخاتمه حتى يعود فيفضه بيده، فأخذ الفتى دواة وقلماً، وأتى ممسياً فقعد بالقرب من دار روح مستخفياً، وخرج روح إلى الصلاة، فتوصل الفتى حتى دخل الدهليز وكمن تحت درجة فيه وكتب في الحائط:
يا روح من لـبـنـيّات وأرمـلة |
|
إذا نعاك لأهل المشرق النـاعـي |
إن ابن مروان قد حانت مـنـيّتـه |
|
فاحتل لنفسك يا روح بن زنبـاع |
فلا تغرنّـك أبـكـار مـنـعّـمة |
|
فاسمع هديت مقال الناصح الداعي |
ثم رجع إلى مكانه من الدهليز، فلما خرج
روح من الغلس، وتبعه غلمانه خرج الفتى في جملتهم متنكراً وخلص.
فلما أسفر الصبح دخل روح فتأمل الكتابة فراعه وقال: ما كتب هذا إنسي، وما يدخل هذه
الدار سواي، ولا حظ في المقام بالعراق؛ ثم نهض من ساعته ودخل على بشر وقال: يابن
أخي، أوصني بما أحببت من حاجة أو سبب عند أمير المؤمنين. فقال له: هل رأيت منا ما
تكره؛ أو أنكرت شيئاً من سيرتنا فلم يسعك المقام ? فقال: لا والله، جزاك الله عن
نفسك وعن سلطانك خيراً، ولكن حدث أمر لا بد لي من الشخوص فيه. فأقسم عليه ليخبرنه
بالخبر. فقال: إن أمير المؤمنين قد مات أو هو ميت. فقال بشر: ومن أين علمت ذلك ?
فأخبره بخبر الكتابة، وقال: ليس يدخل داري أحد غيري، وما كتبه إلا الملائكة أو
الجن. فقال بشر: أقم فإني لأرجو ألا يكون لهذا حقيقة. فأبى.
وقدم على عبد الملك فقال له: ما أقدمك ? أنكرت شيئاً من حال بشر ? قال: لا والله،
وذكر حسن سيرته، وقال: إنما جئت في أمر لا يمكنني ذكره إلا خالياً. فقال عبد
الملك: إن شئتم، وخلا بروح فأخبره القصة، وأنشد الأبيات؛ فضحك عبد الملك حتى فحص
برجليه، وقال: ثقلت والله على بشر؛ فاحتال عليك ليخلوا له أمره.
من مزح الجادين
قال إسحاق: حدثني رجل من قريش قال: قال لي محمد بن خالد القرشي: ذكرت لي جارية عند أبي فلان القاضي، فامض بنا إليه. قال: فصرنا إليه واستأذنا فإذا هو يصلي؛ فلما فرغ من صلاته قال: لأمر ما جئتم ? قلت: فلانة. قال لغلامه: يا غلام، علي بفلانة لتخرج، فخرجت علينا جارية كأنها مها تتثنى في مشيتها؛ فلما قعدت وضع عود في حجرها، فجسته واندفعت تغني:
عوجي عليّ وسلّمي جبر |
|
كيف الوقوف وأنتم سفر |
ما نلتقي إلا ثلاث منـى |
|
حتى يفرّق بيننا النّفـر |
فقام القاضي على أربعة، قال: انحروني فإني
بدنة، أهدوني فإني بدنة، والله لا أبيعها بمال يكال، ولا بمال يوزن، ولا بالخلافة،
ولا بالدنيا، انصرفوا.
وأتى إسحاق بن إبراهيم الموصلي باب الفضل بن يحيى فحجبه خادم اسمه نافذ مرات؛
فلقيه الفضل فقال: ما لك لا تأتينا يا إسحاق ? فقال: أتيت أعز الله الأمير فحجبني
نافذ. قال: ف ...، قال: لا يمكنني، فأتى بعد ذلك فحجبه فكتب إلى الفضل:
جعلت فداءك من كل سوءٍ |
|
إلى حسن رأيك أشكو أناسا |
يحولون بيني وبين السـلام |
|
فلست أسلّم إلا اختـلاسـا |
وأنفذت أمرك في نـافـذٍ |
|
فما زاده ذاك إلاّ شماسـا |
فلقيه بعد ذلك فقال: يا إسحاق، أكان ما ذكرت ? فقال: بعض ذلك أصلح الله الأمير، فضحك وتقدم ألا يحجبه أحد إن أراد الدخول، وإنما كان الفضل استثقل إسحاق لبأو كان فيه، وكان الفضل أكبر الناس كبراً، وأعظمهم تعاظماً. وقال بعض الشعراء:
وما على المرء ما لم يأت فاحشةً |
|
في لذة العيش لا عارٌ ولا حرج |
يأيها اللائمي فيما لـهـوت بـه |
|
عرّج بلومك إني عنه منعـرج |
بعض من كرهوا المزاح
فإن كره قوم المزاح فلقول أكثم بن صيفي:
المزاح يزيح بهجة الأشراف.
وقال أبو سليمان الداراني: أنا أكره المزاح لأنه مزاح عن الحق.
وقال الحسن البصري: المزاح اختراع من الهواء.
وقال زياد: من كثر مزاحه قل إلى النباهة ارتياحه.
وقال عمر بن عبد العزيز: إياك والمزاح فإنه يجر القبيحة، ويورث الضغينة.
وقال الأحنف: لن يسود مزاح، ولن يعظم مفاكه.
وقال سعيد بن العاص لابنه: لا تمازح الشريف فيحقد عليك، ولا الدنيء فيجترىء عليك.
وقال أبو نواس:
صار جدّاً ما مزحت به |
|
رب جدّ ساقه اللعـب |
متى يكون المزاح مكروهاً
وقال ابن المعتز: من كثر مزاحه لم يخل من
استخفاف به، أو حقد عليه. فإنما ذلك إذا كان المزاح غالباً على المرء، وكان المرء
فيه غالباً يجريه في كل مكان ومع كل إنسان. وقد قال عمر رضي الله عنه للأحنف: من
كثر ضحكه قلت هيبته، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر مزاحه كثر سقطه، ومن كثر
سقطه قل ورعه، وذهب حياؤه، ومن ذهب حياؤه مات قلبه.
أو ينزله الممازح تعريضاً بالمعايب، وتنبيهاً على المثالب؛ فذلك المكروه الذميم وصاحبه
الملوم.
وقد قال خالد بن صفوان: يسعط أحدكم أخاه
بمثل الخردل، ويقرعه بمثل الجندل، ويفرغ عليه بمثل المرجل، ويقول: إنما كنت أمزح.
وقال محمود الوراق:
تلقى الفتى يلقى أخاه وخـدنـه |
|
في لحن منطقه بما لا يذكـر |
ويقول كنت ممازحاً ومداعـبـاً |
|
هيهات نارك في الحشا تتسعّر |
أوما علمت وكان جهلك غالبـاً |
|
أنّ المزاح هو السباب الأصغر |
وقال ابن الرومي:
حبذا حشـمة الـصـديق إذا مـا |
|
حجزت بينه وبـين الـعـقـوق |
حين لا حـبّـا انـبـسـاطٌ يؤدي |
|
ه إلى ترك واجبات الـحـقـوق |
أين منجاتـنـا إذا مـا لـقـينـا |
|
من مسيغ الشجا شجىً في الحلوق |
من حسنوا المزاح
وإلا فقد قالوا: لا بأس في المزاح بغير
ريبة.
وكان يقال: المزاح من أخلاق ذوي الدماثة.
روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من كانت فيه دعاة فقد برىء من الكبر.
وقد قيل: الممازح يقرب من ذي الحاجة إليه، ويمكن من الدالة عليه. وما زال الأشراف
يمزحون ويسمحون بما لم يغض من دياناتهم، ولا يقدح من مروءاتهم، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: بعثت بالحنيفية السمحة. وقال عليه الصلاة والسلام: إني لأمزح ولا
أقول إلا حقاً.
من مزاح النبي صلى الله عليه وسلم
فمن مزاحه صلى الله عليه وسلم ما روى أنس
بن مالك قال: كان لنا أخ يكنى أبا عمير. وكان له نغر يلعب به. فدخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فرآه حزيناً فقال: مال له ? قالوا: مات نغره، فكان إذا رآه بعد ذلك
قال: يا أبا عمير ما فعل النغير ? وكان رجل من أشجع يقال له زاهر بن حرام لا يزال
يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالهدية من البادية والطرفة، وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: إن زاهراً باديتنا ونحن حاضروه. فبينما هو في بعض أسواق
المدينة إذ أتاه النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه فاحتضنه وقال: من يشتري مني
هذا العبد ? فالتفت الرجل فإذا هو برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقبل يده وقال:
تجدني كاسداً يا رسول الله. فقال: لا، لكنك عند الله ربيح.
وأتت إليه صلى الله عليه وسلم امرأة فذكرت زوجها بشيء. فقال: زوجك الذي في عينه
بياض. قال: فمضت فجعلت تتأمل زوجها فقال: ما لك ? قالت: قال لي النبي صلى الله
عليه وسلم: إن في عينك بياضاً. فقال: بياض عيني أكثر من سوادها.
سماع النبي صلى الله عليه وسلم للمزاح
وأما سماعه صلى الله عليه وسلم لذلك فقد
روي: أن صهيباً دخل عليه وعينه وجعة وبين يديه تمر، فأقبل صهيب يأكل؛ فقال: أتأكل
التمر وعينك وجعة ? فقال: إنما آكل بحذاء العين الصحيحة، فتبسم صلى الله عليه
وسلم.
وذكروا أن أعرابياً أتاه فألفاه مغموماً ممتقع اللون؛ فقيل له: لا تكلمه وهو على
هذه الحالة، فقال: لا أدعه أو يضحك. ثم جثا بين يديه فقال: يا رسول الله؛ بأبي أنت
وأمي ! إن الدجال يخرج وقد هلك الناس جوعاً فيأتيهم بالثريد، فترى أن آكل من ثريده
حتى إذا تضلعت كذبته ? فضحك صلى الله عليه وسلم وقال: يغنيك الله بما يغني به
المؤمنين حينئذ.
وقالت أم سلمة: خرج أبو بكر رضي الله عنه في تجارة إلى البصرة، قبل وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم، ومعه سويبط بن حرملة وكان قد شهد بدراً ونعيمان، وكان سويبط على
الزاد، وكان نعيمان مزاحاً، فقال له نعيمان: أطعمني، فقال: حتى يجيء أبو بكر،
فقال: أما لأغيظنك، فمروا بقوم فقال نعيمان: أتشترون مني عبداً ? فقالوا: نعم !
فقال: إنه عبد له كلام وهو قائل لكم: إنه حر، فإذا قال هذه المقالة تركتموه فلا
تفسدوا علي عبدي. فقالوا: بل نشتريه. قال: فاشتروه مني بعشر قلائص، ثم أخذوه
فوضعوا في عنقه حبلاً، فقال سويبط: إني حر ولست بعبد وهذا يستهزىء بكم. فقالوا له:
قد خبرنا خبرك، فانطلقوا به، فجاء أبو بكر فأخبروه الخبر، فاتبع القوم فرد عليهم
القلائص وأخذ منهم سويبطاً. ولما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه
الخبر، ضحك صلى الله عليه وسلم وأصحابه حوله.
وكان سويبط قد كف بصره بعد رسول الله صلى
الله عليه وسلم، فلقيه نعيمان في المسجد وهو يقول: من يخرجني حتى أبول ? قال: أنا،
وأخذ بيده فمضى به إلى زاوية في المسجد عامرة بالناس، فقال له: بل ههنا، فلما كشف
ثوبه صاح الناس عليه من كل ناحية. فقال: من غرني ? قالوا: نعيمان، فقال: لله علي
لئن لقيته لأضربنه بعصاي؛ فلقيه بعد أيام فقال: أتحب أن أدلك على نعيمان لتوفي
نذرك ? قال: نعم، لله أبوك ! فأخذ بيده حتى أتى عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو
يصلي فقال: هذا هو. فرفع عصاه وضربه؛ فصاح به الناس وقالوا: أوجعت أمير المؤمنين،
فقال: من قادني ? قالوا: نعيمان، قال: لا يغرني بعدها.
وابتاع عبد الله بن رواحة جاريةً وكتم ذلك امرأته؛ فبلغا ذلك فالتمست كونه عندها
فأخبرت بذلك؛ فلما جاءها قالت له: بلغني أنك ابتعت جاريةً وأنك الساعة خرجت من
عندها، وما أحسبك إلا جنباً ? قال: ما فعلت، قالت: فاقرأ آيات من القرآن فقال:
شهدت بأنّ وعد اللّـه حـقٌ |
|
وأن النار مثوى الكافرينـا |
وأن العرش فوق الماء طافٍ |
|
وفوق العرش ربّ العالمينا |
وتحمـلـه مـلائكةٌ شـدادٌ |
|
ملائكة الإله مـقـربـينـا |
فقالت: أما إذ قد قرأت القرآن فقد علمت
أنك مكذوب عليك.
وافتقدته ليلةً أخرى فلم تجده على فراشها، فلم تزل تطلبه حتى قدرت عليه في ناحية
الدار، فقالت: الآن صدقت ما بلغني فجحدها. فقالت: اقرأ آيات من القرآن، فقال:
وفينا رسول اللّه يتـلـو كـتـابـه |
|
كما انشقّ معروفٌ من الفجر ساطع |
أرانا الهدى بعد العمى فقـلـوبـنـا |
|
به موقنـات أنّ مـا قـال واقـع |
يبيت يجافي جنبـه عـن فـراشـه |
|
إذا أثقلت بالمشركين المـضـاجـع |
وأعلم علماً ليس بـالـظـنّ أنـنـي |
|
إلى اللّه محشورٌ هنـاك فـراجـع |
فقالت: آمنت بالله وكذبت ظني. فأخبر بذلك النبي
صلى الله عليه وسلم؛ فضحك وقال: هذا لعمري من معاريض الكلام، يغفر الله يابن رواحة
خياركم خيركم لنسائكم.
وقال العجاج: أنشدت أبا هريرة:
طاف الخيالان فهاجا سقمـاً |
|
خيال سلمى وخيالٌ تكتّـمـا |
قامت تريك رهبة أن تصرما |
|
ساقاً بخنداةً وكعبـاً أدرمـا |
فقال أبو هريرة: قد كان يحدي بها ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا ينكر.
زعم قوم أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء
وقيل لابن سيرين: إن قوماً يرون أن إنشاد الشعر ينقض الوضوء؛ فقال:
نبّثت أن فتاةً كـنـت أخـطـبـهـا |
|
عرقوبها مثل شهر الصوم في الطّول |
ثم قال: الله أكبر ودخل في الصلاة.
وسئل عن ذلك مرة أخرى وقد استفتح الصلاة فأنشد للأعشى:
وتسخـن لـيلة لا يسـتـطـيع |
|
نباحاً بها الكـلـب إلاّ هـريرا |
وتـبـرد بـرد رداء الـعـرو |
|
س بالصيف رقرقت فيه العبيرا |
ثم كبر وصلى.
وقال جرير بن حازم: كنت في مسجد الجهاضم فقرضت بيت شعر، فقالوا: ما نراك إلا قد
أحدثت فتوضأ، فذعرني قولهم؛ فأتيت ابن سيرين وقد قام إلى الصلاة فقلت: رويدك يا
أبا بكر! فقال: مهيم ? فعرفته، فقال: هلا رددت عليهم:
ديارٌ لرملة إذ عيشـنـا |
|
بها عيشة الأنعم الأفضل |
وإذ ودّها فارغٌ للصـدي |
|
ق لم تتغيّر ولم تتبـدّل |
كأنّ الثلوج وماء السحـا |
|
ب والقرقفيّة بالفلـفـل |
وماء القرنفل والزنجبي |
|
ل شيب به ثمر السنبـل |
يصبّ على برد أنيابهـا |
|
قبيل الصباح ولم ينجـل |
ثم قال: الله أكبر.
وقيل لابن سيرين: أنشد القذع من الشعر وأصلي ? فقال:
وأنت لو باكرت مشـمـولةً |
|
صفراء مثل الفرس الأشقر |
رحت وفي رجليك ما فيهما |
|
وقد بدا هنك من المـئزر |
مساجلة بين ابن الأنباري وابن المعتز
وها هنا مساجلة جرت بين أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري وأبي العباس عبد الله بن المعتز، لها في هذا الموضع موقع وهي طويلة اختصرت منها موضع الحاجة:
كتب ابن الأنباري إليه: جرى في مجلس
الأمير ذكر الحسن بن هانىء والشعر الذي قاله في المجون وأنشده وهو يؤم قوماً في
صلاة؛ وهو إن لكل ساقطة لاقطة، وإن لكلام القوم رواة، وكل مقول محمول. فكان حق شعر
هذا الخليع ألا يتلقاه الناس بألسنتهم؛ ولا يدونونه في كتبهم، ولا يحمله متقدمهم
إلى متأخرهم؛ لأن ذوي الأقدار والأسنان يجلون عن روايته، والأحداث يغشون بحفظه،
ولا ينشد في المساجد، ولا يتحمل بذكره في المشاهد؛ فإن صنع فيه غناء كان أعظم
لبليته؛ لأنه إنما يظهر في غلبة سلطان الهوى، فيهيج الدواعي الدنيئة، ويقوي
الخواطر الرديئة؛ والإنسان ضعيف يتنازعه على ضعفه سلطان القوى؛ ونفسه الأمارة
بالسوء، والنفس في انصبابها إلى لذاتها بمنزلة كوة منحدرة من رأس رابية إلى قرار
فيه نار، إن لم تحبس بزواجر الدين والحياء أداها انحدارها إلى ما فيه هلكتها.
والحسن بن هانىء ومن سلك سبيله من الشعر الذي ذكرناه شطار كشفوا للناس عوارهم،
وهتكوا عندهم أسرارهم، وأبدوا لهم مساويهم ومخازيهم، وحسنوا ركوب القبائح.
فعلى كل متدين أن يذم أخبارهم وأفعالهم، وعلى كل متصور أن يستقبح ما استحسنوه،
ويتنزه من فعله وحكايته. وقول هذا الخليع: ترك ركوب المعاصي إزراء بعفو الله تعالى
حض على المعاصي أن يتقرب إلى الله عز وجل بها تعظيماً للعفو، وكفى بهذا مجوناً
وخلعاً داعياً إلى التهمة لقائله في عظم الدين، وأحسن من هذا وأوضح قول أبي
العتاهية:
يخاف معاصيه مـن يتـوب |
|
فكيف ترى حال من لا يتوب |
جواب ابن المعتز
فأجابه ابن المعتز: لم يقل أبو نواس ترك المعاصي إزراء بعفو الله تعالى، وإنما حكى ذلك عن متكلم غيره، والبيت الذي أنشد له بحضرتنا:
لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجاً |
|
فإن حظـركـه بـالـدين إزراء |
وهذا بيت يجوز للناس جميعاً استحسانه والتمثل به، ولم يؤسس الشعر بانيه على أن يكون المبرز في ميدانه من اقتصر على الصدق ولم يغو بصبوة، ولم يرخص في هفوة، ولم ينطق بكذبة، ولم يغرق في ذم، ولم يتجاوز في مدح، ولم يزور الباطل ويكسبه معارض الحق؛ ولو سلك بالشعر هذا المسلك لكان صاحب لوائه من المتقدمين أمية ابن أبي الصلت الثقفي، وعدي بن زيد العبادي؛ إذ كانا أكثر تذكيراً وتحذيراً ومواعظ في أشعارهما من امرىء القيس والنابغة. فقد قال امرؤ القيس:
سموت إليها بعدما نام أهلـهـا |
|
سموّ حباب الماء حالاً على حال |
فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها |
|
عليه القتام سيّىء الظنّ والبـال |
يغطّ غطيط البكر شدّ خنـاقـه |
|
ليقتلني والمرء ليس بـقـتّـال |
وقال النابغة:
وإذا لمست لمست أخثـم رابـياً |
|
متحيّزاً بمكـانـه مـلء الـيد |
وإذا طعنت طعنت في مستهدفٍ |
|
وابي المجسّة بالعبير مقرمـد |
وهل يتناشد الناس أشعار امرىء القيس والأعشى والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وبشار وأبي نواس على تعيهرهم، ومهاجاة جرير والفرزدق إلا على ملأ الناس وفي حلق المساجد ? وهل يروي ذلك إلا العلماء الموثوق بصدقهم. وقد نفى حسان بن ثابت أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فما بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر ذلك عليه في هجائه حيث يقول:
وأنت ربيط نيط فـي آل هـاشـمٍ |
|
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد |
وقد زعم بعض الرواة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال للحارث: أنت من خير أهلي. وما نهى النبي صلى الله عليه وسلم ولا
السلف الصالح من الخلفاء المهديين بعده عن إنشاد شعر عاهر ولا فاجر.
ولقد أنشد سعيد بن المسيب وغيره من نظرائه تهاجي جرير وعمر بن لجأ فجعل يقول: أكله
أكله. يعني أكله جرير ولم ينكر شيئاً مما سمعه.
رد ابن الأنباري
فأجابه ابن الأنباري: قد صدق سيدنا أيده
الله في كل ما قاله من الأشعار التي عدل قائلوها عن سنن المؤمنين المتقين، ولم أكن
أجهل أكثر ذلك، إلا أنه لم يخطر ببالي ذكر ما كنت أعرف منه في وقت كتابتي ما كتبت
به، وما كل ما يعرف الإنسان يحضره، ولا تتواتى كل وقت خواطره؛ على أن الذي جرى في
هذا الأمر إنما هو على سبيل التعلم والتفهم. يذكر الذاكر شيئاً قد تقدم صوابه.
فيحتج له، وعليه فيه حجة قد تركها، فيكشف السامع لها غطاءه مستبصراً أو مذكراً،
فإن كان الحق ضالته وجد ما ابتغى، وغنم ما وجد، وإن أنف من الرجوع، واشتد عليه
النزوع، جحد ما علم، واحتج لما جهل؛ لأن كل مطالب بباطل لا يخلو من جهل بما يدعي،
أو جهل بما يعرف، ولم يعقد أعز الله الأمير مجلس لمناظرة في علم يعطى النظر فيه
حقه إلا فاز المرء فيه باستفادة صواب كان يجهله، ورجوع عن خطأ كان يعتقده.
ولست أعز الله الأمير بمعصوم، ومن لم يكن معصوماً لم يكن صوابه بمضمون، ولا زلله
بمأمون، وعلى حسب ما جرى تعلق قلبي بمعرف ما تضمنته رقعتي هذه من الأمير، فإن كان
لامتنانه بتعريفي ذلك في جواب عنها وجيه جرى فيه على عادة طوله وفضله إن شاء الله.
جواب ابن المعتز
فأجابه ابن المعتز: إنما أحببت أعزك الله
أن تكون من الإخوان الذين يتجانون ثمر التناصح فيتذاكرون فيتذكرون، ويتدارسون
فيفيدون ويستفيدون، ففتحت بيني وبينك هذا الباب آذناً بالولوج علي منه، واثقاً
بكمال عقلك في المسارعة إليه، وصنت مودتنا على استحسان مزور، وتعمد الجحد في
إقراره، وملق مكاشر يظهر التصديق بلا إنكار. ولا يزال الإخوان يسافرون في المودة
حتى يلقوا الثقة فتلقى عصا التسيار، وتطمئن بهم الدار، وتقبل وفود النصائح، وتؤمن
خبايا الضمائر، وتلقى ملابس التخلق، وتحل عقد التحفظ، وقد أبعدك الله تعالى من
الخطأ لما أشرق نور الصواب، ولم لا وبلى يصطرعان على الحق، وبالتعب وطىء فراش
الراحة، وبالبحث تستخرج دفائن العلوم، ولا فرق بين إنسان يقاد وبهيمة تنقاد.
ولولا أن الناس اختلفوا متفرقين لاختلفوا متشاحين، ولما قصدوا بالسكنى إلا بقعةً
من الدنيا يتنافسون فيها، ويتفانون عليها؛ وخير الاختلاف ما اجتنب معنى التمادي
على الباطل فاهتدي فيه بالتبصير. كما روي أن علياً رضي الله عنه حاج عمر رضي الله
عنه في المرأة التي وضعت لستة أشهر، فأراد عمر رجمها فقال له: قد قال الله تعالى:
"وَحَمْلُه وفِصَالُه ثلاثون شهراً". فرجع عن ذلك عمر وأمضاه.
وبالتقليد هلك مترفو الكفار القائلون: "إنّا وجَدْنَا آباءنا على أُمَّةٍ
وإنَّا على آثارهم مُقْتَدُون". وقال بعضهم: إذا سرك أن تعرف خطأ مؤدبك فجالس
غيره. وقال عمر رضي الله عنه: ليس شيء أضر بالمرء من لجاجة في جهل. وإنما كان يكره
رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل والبحث لشفقته على أمته من نزول معترض يثقل
عليهم فيما يسألون عنه، ثم كره عمر وعلي رضوان الله عليهما ما كان يجري على سبيل
التعنت، ويفارق سبيل التفقه. ولذلك قال علي رضي الله عنه لابن الكوا: سل تفقهاً
ولا تسل تعنتاً.
ظرف أهل المدينة
وقال مالك: ما رأيت أشبه بأهل المدينة من ابن سيرين، وأهل المدينة أرق الناس أدباً، وأحلاهم طرباً، وأبرعهم شيماً، وأطبعهم كرماً، ويقال: دل حجازي، وعشق يماني. وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي:
إنّ قلبي بالتـلّ تـلّ عـزازٍ |
|
مع ظبي من الظباء الجوازي |
شادن لم ير الـعـراق وفـيه |
|
مع ظرف العراق دلّ الحجا |
وقال أبو تمام:
من شاعرٍ وقف الكلام ببابـه |
|
واكتنّ في كنفي ذراه المنطق |
قد ثقّفت منه الشآم وسهّـلـت |
|
منه الحجاز ورقّقته المشرق |
وكان عبد الملك بن الماجشون يقول: لقد كنا
بالمدينة وإن الرجل يحدثني بالحديث من الفقه فيمله علي، ويذكر الخبر من الملح
فأستعيده فلا يفعل. ويقول: لا أعطيك ملحي، وأهبك ظرفي وأدبي.
وقال ابن الماجشون: إني لأسمع الكلمة المليحة وما لي إلا قميص واحد فأدفعه إلى
صاحبها وأستكسي الله عز وجل. وقيل لأبي السائب المخزومي: أترى أحداً لا يتمنى
النسيب ? قال: أما من يؤمن بالله واليوم الآخر فلا.
أبو السائب وفكاهاته
وكان أبو السائب كثير الطرب، غزير الأدب، وله فكاهات مذكورة، وأخبار مشهورة. وكان جده يكنى أبا السائب أيضاً، وكان خليطاً للنبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام؛ وأقبل الإسلام فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكره يقول: نعم الخليط كان أبو السائب لا يداري ولا يماري. واسم أبي السائب عبد الله، وكان أشراف المدينة يقدمونه ويعظمونه لشرف منصبه، وحلاوة طربه. قال الزبير بن بكار: كانت سليمة المشاوبية عاشقة لأفلح مولى الزهريين، فأتاها يوماً أبو السائب المخزومي فقال: حدثيني، هل أتاك من حبيبك رسول ? قالت: لا. قال: فهل قلت في ذلك شعراً ? قالت: نعم، ثم أنشدته:
ألا ليت لي نحو الحبيب مبلّغـاً |
|
يبلّغه التـسـلـيم ثـمّ يقـول |
سليمة نضوٌ ما ترجّى حياتـهـا |
|
من الشوق والشوق الشديد قتول |
تعالج أحزاناً وتبكـي صـبـابةً |
|
وأنت لما تلقاه فـيك جـهـول |
فقال أبو السائب: أنا والله رسولك؛ فحفظ
الشعر وتوجه نحو أفلح في يوم صائف شديد حره، فلقيه رجل من الأنصار فقال: يا أبا
السائب؛ من أين أقبلت ? قال: من عند سليمة المشاوبية. قال: وإلى أين تريد ? قال:
أريد أفلح مولى الزهريين أبلغه رسالتها. قال: أفي مثل هذا الوقت ? قال: إليك يابن
أخي ? فإن الجنة حفت بالمكاره؛ وما عبد الله إلا بالصبر على ما ترى.
وقال الزبير: حدثني جدي قال: أتاني أبو السائب المخزومي في ليلة بعدما رقد الناس،
فأشرفت عليه وقلت: هل من حاجة ? فقال: سهرت فذكرت أخاً لي أستمتع به فلم أجد أحداً
سواك، فلو مضيت بنا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا ? قلت: نعم ! فنزلت فما زال في
حديث إلى أن أنشدته في بعض ذلك بيتي العرجي:
باتا بأنعـم لـيلةٍ حـتـى بـدا |
|
صبحٌ تلوّح كالأغرّ الأشـقـر |
فتلازما عند الفراق صـبـابةً |
|
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر |
فقال: أعده، فأعدته فقال: أحسنت والله ! وامرأتي طالق إن نطقت بحرف حتى أرجع إلى بيتي غيره، فمضينا فتلقانا عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب وهو منصرف من ماله يريد المدينة. فقال: كيف أنت يا أبا السائب ? فقال:
فتلازما عند الفراق صـبـابةً |
|
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر |
فالتفت إلي، وقال: متى أنكرت عقل صاحبك ? قلت: منذ الليلة، قال: لله أي كهل أصيبت به قريش. ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالاً له على بغلة، وكان أثقل الناس جسماً، ومعه غلام له على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلم عليه ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب ? فقال:
فتلازما عند الفراق صـبـابةً |
|
أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر |
فالتفت إلي وقال: متى أنكرت عقل صابحك ?
قلت: آنفاً؛ فتركني وانصرف، فقلت: أفتدعه هكذا? ما آمن أن يتهور في بعض آبار
العقيق، قال: صدقت، يا غلام، هات قيد البغلة، فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويدافع
بيده؛ فلما أطال نزل الشيخ عن البغلة وقال: يا غلام، احمله على بغلتي وألحقه
بأهله؛ فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته الخبر فضحك. وقال: قبحك الله ماجناً
فضحت شيخاً من قريش وعذبتني وأنا لا أقدر أن أتحرك.
وروى مصعب بن الزبير عن عبد الله، قال: كان عروة بن أذينة نازلاً في دارى بالعقيق
فسمعته ينشد لنفسه:
إنّ التي زعمت فؤادك مـلّـهـا |
|
خلقت هواك كما خلقت هوىً لها |
فيك الذي زعمت بها فكلاكـمـا |
|
أبدى لصاحبه الصبابة كـلّـهـا |
ولعمرها إن كان حبّك فوقـهـا |
|
يوماً وقد ضحيت إذاً لأظلّـهـا |
فإذا وجدت لها وساوس سـلـوةٍ |
|
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلّهـا |
بيضاء باكرها النعيم فصاغـهـا |
|
بلبـاقةٍ فـأدقّـهـا وأجـلّـهـا |
لما عرضت مسلّماً لـي حـاجةً |
|
أخشى صعوبتها وأرجو ذلّـهـا |
منعت تحيّتها فقلت لصـاحـبـي |
|
ما كان أكثرها لنـا وأقـلّـهـا |
فدنا وقال لعـلّـهـا مـعـذورةٌ |
|
في بعض رقبتها فقلت لعلّـهـا |
فأتاني أبو السائب المخزومي فقلت له بعد الترحيب والبشر : ألك حاجة ? قال: نعم ! أبيات لعروة بلغني أنك سمعته ينشدها ? فلما بلغت إلى قوله: فدنا وقال لعلها معذورة، طرب وصاح، وقال: هذا والله الصادق العهد، الدائم الود، لا الذي يقول:
إن كان أهلك يمنعونك رغـبةً |
|
عني فأهلي بي أضنّ وأرغب |
أوليس لي قربى إذا أقصيتنـي |
|
حدبوا عليّ وعندي المستعتب |
فلئن دنوت لأدنـونّ بـعـفّةٍ |
|
ولئن نأيت لما ورائي أرحب |
يأبى وعيشك أن أكون مقصّراً |
|
رأيٌ أعيش به وقلب قـلّـب |
لقد عدا هذا الأعرابي طوره، وتجاوز قدره،
وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحب الأبيات الأولى لحسن الظن بها، وطلب العذر لها.
فعرضت عليه الطعام فقال: سبحان الله ! أويحسن الظن بمثلي أن يأكل طعاماً بعد سماع
هذه الأبيات ? والله ما كنت لأخلط بها طعاماً حتى الليل، وانصرف.
والأبيات التي أنشدها أبو السائب لبعض الهذليين هي من مليح الشعر أولها:
طرقتك زينب والركاب منـاخةٌ |
|
بحطيم مكّة والنّدى يتـصـبّـب |
بثنيّة العلمين وهـنـاً بـعـدمـا |
|
خفق السّماك وعارضته العقرب |
وتحية وكـرامة لـخـيالـهـا |
|
ومع التحية والكرامة مرحـب |
أنى اهتديت ومن هداك ودوننـا |
|
حمل فقّلة عاذب فالـمـرقـب |
ارتياح أهل المدينة إلى المزاح وانقطاعهم إلى السماع
ولأهل المدينة من الارتياح إلى المزاح،
والانقطاع للسماع ما هو مشهور عندهم، مأثور منهم. قال عبد الله بن جعفر: أنا لي
عند السماع هزة لو سئلت عندها لأعطيت، ولو قاتلت معها لأبليت.
وقال أبو العيناء: قال الأصمعي: مررت بدار الزبير بالبصرة، فإذا بشيخ من أهل
المدينة من ولد الزبير يكنى أبا ريحانة جالس بالباب وعليه شملة تستره؛ فسلمت عليه
وجلست إليه؛ فبينا أنا كذلك إذ طلعت علينا سوداء تحمل قربةً، فلما نظر إليها لم
يتمالك أن قام إليها وقال لها: غنني صوتاً، فقالت: إن موالي أعجلوني، قال: لا بد
من ذلك، قالت: أما والقربة على كتفي فلا، قال: فأنا أحملها: فأخذ القربة منها
فحملها واندفعت تغني:
فؤادي أسيرٌ لا يفكّ ومهجتـي |
|
تقضّى وأحزاني عليك تطـول |
ولي مقلةٌ قرحى لطول اشتياقها |
|
إليك وأجفاني عليك هـمـول |
فديتك، أعدائي كثيرٌ وشقّـتـي |
|
بعيد وأشياعي لـديك قـلـيل |
وكنت إذا ما جئت جئت بعـلّة |
|
فأفنيت علاّتي فكيف أقـول ! |
فطرب وصرخ، وضرب بالقربة فشقها؛ وقامت
الجارية تبكي، وقالت: ما هذا بجزائي منك، شفعتك في حاجتك، فعرضتني لما أكره من
موالي ! فقال: لا تغتمي فالمصيبة علي حصلت، ونزع الشملة، ووضع يداً من قدام ويداً
من خلف، وباعها وابتاع لها قربة وقعد بتلك الحال؛ فاجتاز به رجل من ولد علي رضي
الله عنه، فعرف حاله فقال: يا أبا ريحانة؛ أحسبك من الذين قال الله عز وجل فيهم:
"فما ربحَتْ تجارتهم وما كانوا مهتدين". قال: لا، يابن رسول الله، ولكني
من الذين يقول الله لهم: "فبشِّرْ عبادي الذين يستمعون القولَ فيتبعونَ
أحسنَه، أولئك الذين هداهم اللّه وأولئك هم أولو الألباب". فضحك وأمر له بألف
درهم.
وقال رجل لابن جعدبة: يا أبا الحكم؛ الرجل الذي يشدو بالأصوات ما ترى فيه ? قال:
سبحان الله ! كنا إذا أتت على الرجل أربعون سنة لا يحسن عشرة أصوات عددناه من أهل
بقيع الغرقد يعني الموتى.
ومر بالأوقص المخزومي وهو قاضي المدينة يتغنى بليل فأشرف عليه، وقال: يا هذا؛ شربت
حراماً، وأيقظت نياماً، وغنيت خطأ، خذ عني وأصلح له الغناء.
غناء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد:
حدثت أن مدنياً كان يصلي مذ طلعت الشمس إلى أن قارب النهار أن ينتصف، ومن ورائه
رجل يتغنى، وهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا برجل من الشرط قد قبض
على الرجل فقال: أترفع عقيرتك بالغناء في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !
فأخذه؛ فانفتل المدني من صلاته، فلم يزل يطلب إليه فيه حتى استنقذه، ثم أقبل عليه
فقال: أتدري لم شفعت فيك ? قال: لا، ولكني إخالك رحمتني، قال: إذاً فلا رحمني
الله. قال: فأحسبك عرفت قرابةً بيننا. قال: إذاً قطعها الله، قال: فليد تقدمت مني
إليك، قال: والله ولا عرفتك قبلها. قال: فأخبرني. قال: سمعتك تغنيت آنفاً فأقمت
واوات معبد، أما والله لو أسأت التأدية لكنت أحد الأعوان عليك.
قال: والصوت الذي ينسب إلى واوات معبد شعر الأعشى الذي يعاتب فيه يزيد بن مسهر
الشيباني وهو:
هريرة ودّعها وإن لام لائمٌ |
|
غداة غدٍ أم أنت للبين واجم |
لقد كان في حولٍ ثواء ثويته |
|
تقضّى لباناتٌ ويسأم سـائم |
ويروى أن معبداً بلغه أن قتيبة بن مسلم فتح خمس مدائن؛ فقال: لقد غنيت بخمسة أصوات هن أشد من فتح المدائن التي فتحها قتيبة. والأصوات قال المبرد: أحدها، للأعشى يعاتب يزيد بن مسهر الشيباني: هريرة ودعها وإن لام لائم. فأنشد البيتين. والثاني: قوله يعاتبه:
ودّع هريرة إنّ الركـب مـرتـحـل |
|
وهل تطيق وداعـاً أيهـا الـرّجـل |
غيداء فرعاء مصقولٌ عـوارضـهـا |
|
تمشي الهوينا كما يمشي الوجي الوحل |
والثالث، للشماخ بن ضرار بن مرة بن غطفان يقوله لعرابة بن أوس:
رأيت عرابة الأوسي ينمـى |
|
إلى الخيرات منقطع القرين |
إذا ما رايةٌ رفعت لمـجـدٍ |
|
تلقّاها عـرابة بـالـيمـين |
إذا بلّغتني وحملت رحـلـي |
|
عرابة فاشرقي بدم الوتـين |
والرابع، لعمر بن أبي ربيعة:
ودّع أمامة قبل أن تتـرحّـلا |
|
واسأل فإنّ قليله أن تـسـألا |
أمكث لعمرك ساعةً فتأنّـهـا |
|
فعسى الذي بخلت به أن يبذلا |
لسنا نبالي حين ندرك حـاجةً |
|
إن بات أو ظلّ المطيّ معقّلا |
قال أبو العباس: والشعر الخامس لا أعرف قائله. قلت: وهو لعروة بن أذينة الليثي:
غرابٌ وظبيٌ أعصب القرن نادباً |
|
ببين وصردان العشيّ تـصـيح |
لعمري لئن شطّت بعثمة دارهـا |
|
لقد كنت من خوف الفراق أليح |
وكتب سليمان بن عبد الملك إلى عثمان بن حيان المرى: أحص المخنثين، فوقعت فوق الحاء نقطة فأخذهم وخصاهم وفيهم الدلال؛ فبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقد قام إلى الصلاة فقال: أوقد خصي الدلال ? إنا لله ! لقد كان يحسن أن يغني:
لمن طللٌ بذات الجي |
|
ش أمسى دارساً خلقا |
ثم دخل في الصلاة؛ فلما فرغ من قراءة أم الكتاب قال: السلام عليكم، وكان يحسن خفيف هذا الشعر ولا يحسن ثقيله.
من طرف ابن أبي عتيق
ولابن أبي عتيق عجائب ظريفة، أذكر لك منها ما يصلح ويملح؛ منها أنه سمع وهو بالمدينة قول ابن أبي ربيعة:
فما نلت منها محرماً غير أنّـنـا |
|
كلانا من الثوب المطارف لابس |
فقال: أبنا يلعب ابن أبي ربيعة ? فأي محرم بقي ? فركب بغلته متوجهاً إلى مكة، ودخل أنصاب الحرم، وقيل له: أحرم ! قال: إن ذا الحاجة لا يحرم. فلقي ابن أبي ربيعة؛ فقال: أما زعمت أنك لم تركب محرماً قط ? قال: بلى ! قال: فما قولك: كلانا من الثوب... البيت ? فقال له: إني أخبرك؛ خرجت بعلة المسجد، وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا، فصرنا إلى بعض الشعاب، فأخذتنا السماء، فأمرت بمطرفي فسترنا الغلمان لئلا يروا بها بلة فيقولوا لها: هلا استترت بسقائف المسجد ? فقال له ابن أبي عتيق: يا عاهر ! هذا البيت يحتاج إلى حاضنة ? وابن أبي عتيق الذي سمع قول ابن أبي ربيعة:
قال لي صاحبي ليعلم ما بي |
|
أتحبّ القتول أخت الرّبـاب |
قلت وجدي بها كوجدك بالما |
|
ء إذا ما فقدت برد الشراب |
أزهقت أُمّ نوفلٍ إذ دعتـهـا |
|
مهجتي، ما لقاتلي من متاب |
أبرزوها مثل المهاة تهـادى |
|
بين خمسٍ كواعبٍ أتـراب |
وهي مكنونةٌ تحيّر مـنـهـا |
|
في أديم الخدّين ماء الشبـاب |
ثم قالوا تحبّها قلـت بـهـراً |
|
عدد الرمل والحصى والتراب |
من رسولي إلى الثريّا بـأنـي |
|
ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب |
فلما سمع هذا البيت قال: إياي أراد وبي
هتف ونوه؛ والله لا ذقت طعاماً أو أشخص إليها وأصلح بينهما.
قال مولى لبني تميم: فنهض ونهضت معه حتى خرج إلى سوق الضمرتين، فأتى قوماً من بني
الديل من حنيفة يكرون النجائب، فقال: بكم تكرونني راحلتين إلى مكة ? قالوا: بكذا
وكذا، فقلت لبعض التجار: استوضعوا شيئاً؛ فقال ابن أبي عتيق: ويحك ! إن المكاس ليس
من أخلاق الناس، ثم ركب واحدة وركبت الأخرى وأجد السير، فقلت: ارفق بنفسك. فقال:
ويحك: أبادر حبل الوصل أن يقتضبا وما أملح الدنيا إذا تم الوصل بين عمر والثريا.
فقدمنا مكة، وأتى باب الثريا، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً. قال: أجل ! ولكني
جئت برسالة؛ يقول لك ابن عمك عمر: ضقت ذرعاً بهجرك والكتاب. فلامه عمر. فقال ابن
أبي عتيق: إنما رأيتك مبادراً تلتمس رسولاً فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن
أشكر.
وسمع ابن أبي عتيق قول العرجي:
وما ليلةٌ عنـدي وإن قـيل لـيلة |
|
ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر |
معادلة الإثنين عندي وبالـحـري |
|
يكون سواءً مثلها لـيلة الـقـدر |
وما أنس م الأشياء لا أنس قولهـا |
|
لخادمها قومي سلي لي عن الوتر |
فجاءت تقول الناس في تسع عشرة |
|
ولا تعجلي عنه فإنّك فـي أجـر |
فقال: هذه أفقه من ابن شهاب، وهي حرة لله عز وجل من مالي إن أجاز أهلها ذلك.
مع الحسن بن علي
وقال له مروان بن الحكم يوماً: إني مشغوف
ببغلة للحسن بن علي، قال له: فإن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجةً ? ومروان
يومئذ أمير المدينة، قال: فإذا اجتمع الناس عندك في العشية فإني آخذ في مآثر قريش،
فأمسك عن الحسن فلمني على ذلك. فلما أخذوا في مجالسهم أفاض في أولية قريش؛ فقال له
مروان: أما تذكر أولية أبي محمد، وله في هذا ما ليس لأحد ? فقال: إنما كنا في ذكر
الأشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا لأبي محمد. فلما خرج الحسن ليركب البغلة
تبعه ابن أبي عتيق: فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة ? قال: نعم ! ذكرت البغلة ?
فنزل الحسن ودفعها إليه.
ومن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه
الأشراف من قريش والأنصار. فقالوا: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم
الغناء والرثاء. ففعل وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة فحط
رحله بباب سلامة الزرقاء، فقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. فقالت: أو ما
تدري ما حدث ? وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، ولا بأس عليك. ثم
مضى إلى عثمان بن حيان فاستأذن عليه، وأخبره أن أجل ما أقدمه حب التسليم عليه،
وقال له: من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. فقال: إن أهلك أشاروا علي
بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: كانت هذه صناعتي فبنت منها،
وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بيني وبين مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم. فقال عثمان: إذاً أدعها لك. قال: إذاً لا تدعك الناس. ولكن تدعوها فتنظر
إليها فإن كانت ممن يترك تركتها. قال: فادع بها. فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت وأخذت
سبحة في يديها، وصارت إليه، فحدثته عن مآثر آبائه، ففكه لها. فقال ابن أبي عتيق:
اقرئي للأمير، ففعلت فأعجب بذلك. فقال لها: فاحدي للأمير ففعلت، فأعجب بحدائها. ثم
قال لها: غبري للأمير، فجعل يعجب بذلك، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في
صناعاتها؛ فقال: قل لها فلتقل ! فأمرها فغنت:
سددن خصاص الخيم لمّا دخلنه |
|
بكلّ بنانٍ واضـحٍ وجـبـين |
فنزل عثمان عن سريره حتى جلس بين يديها،
ثم قال: والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال له ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن
لسلامة في المقام ومنع غيرها ! فقال عثمان: قد أذنت لهم جميعاً.
وابن أبي عتيق: هو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي
الله عنهم، وكان أجل أهل زمانه، وذكر أنه دخل على عائشة وهي لم بها، فقال: كيف أنت
يا أماه ? جعلت فداك ! قالت: في الموت، قال: فلا إذاً، إنما ظننت أن في الأمر
فسحةً، فضحكت وقالت: ما تدع مزحك بحال !
معاوية يداوي أذنه بالغناء
وقال ابن جريج: كان عبد الله بن جعفر إذا قدم على معاوية أنزله داره وأظهر له من إكرامه وبره ما يستحقه؛ فكان ذلك يغيظ فاختة بنت قرظة بن عبد بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف زوج معاوية، فسمعت ذات ليلة عند عبد الله غناء، فجاءت إلى معاوية فقالت: هلم فاسمع ما في منزل هذا الذي جعلته بين لحمك ودمك، وأنزلته مع حرمك ! قال: فجاء معاوية سمع وانصرف، فلما كان آخر الليل سمع معاوية قراءة عبد الله، فجاء فأيقظ فاختة وقال: اسمعي مكان ما أسمعتني !! ثم إنه أرق ذات ليلة فقال لجريج خادمه: اذهب فانظر من عند عبد الله وأخبره أني في أثرك، فأتاه فأعلمه ذلك، فأقام عبد الله من عنده، ثم دخل معاوية فلم ير في المجلس أحداً، فقال لعبد الله: مجلس من هذا ? قال: مجلس فلان، قال: فمره أن يرجع إليه، ثم قال: مجلس من هذا ? قال: مجلس فلان، قال: فمره أن يرجع إليه؛ فرجعوا حتى لم يبق إلا مجلس واحد، قال: مجلس من هذا ? قال: مجلس واحد يداوي الآذان. قال: مره فليرجع فإن بأذني علةً، فأمر عبد الله بديحاً المليح فخرج؛ فأدناه معاوية منه وأراه أذنه. وقال: أنظر ما ترى فيها ? قال: هي مسدودة وتحتاج إلى فتح وتنقية، قال: شأنك أمكنتك منها، ولا تضع يدك عليها إن كنت غير حاذق بعلاجها. قال عبد الله: يا أمير المؤمنين؛ هو حاذق، ما يعالج في دارنا غيره. فقال معاوية: وشهد شاهد من أهلها، فاندفع يغني من شعر زهير بن أبي سلمى:
أمن أمّ أوفى دمنةٌ لم تكلّم |
|
بحومانة الدرّاج فالمتثلّم |
فجعل عبد الله بن جعفر يلحظ معاوية وهو يحرك يديه ورجليه، فقال: يعيرك الجهل يا أمير المؤمنين، فقال: إن الجهل مني لعلى بعد يابن جعفر، قبح الله ضيافة يكون الضيف فيها بحيث لا يساعد المضيف على أخلاقه، ثم قال لبديح: لقد فتحت جارحة لا تألم أبداً؛ ثم نهض وخرج.
من طرف بديح
وكان بديح أحلى الناس وأذكاهم، وهو الذي
قال له الوليد بن يزيد: يا بديح؛ خذ بنا في الأماني، فإني أغلبك فيها، فقال: يا
أمير المؤمنين، أنا أغلبك لأني فقير وأنت خليفة، وإنما يتمنى المرء ما عسى أن يبلغ
إليه وأنت قد بلغت الآمال. قال: لا تتمنى شيئاً إلا تمنيت ما هو أكثر منه. قال:
فإني أتمنى كفلين من العذاب وأن يلعنني الله لعناً وبيلاً، فقال: اعزب لعنك الله
دون خلقه.
ودخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وقد اشتى عرق النسا، فقال: يا أمير
المؤمنين، إن مولاي بديحاً أحذق الناس برقيته، قال: أتجيئني به ? فجاءه به فرقاً؛
فبات تلك الليلة هادئاً، فلما أصح سأله عبد الله بن جعفر عن حاله، فأخبره بما وجد
من العافية؛ ثم قال لبديح: اكتب لنا هذه الرقية لتكون عندنا، قال: لا أفعل، قال:
أقسمت عليك لتفعلن، قال اكتب:
ألا إنّ أيامـي وأيامـك الـتــي |
|
مضين لنا لم أدر ما ألم الهـجـر |
مضين وما شيء مضى لـك عـائدٌ |
|
فهل لك فيها إن تولّين مـن عـذر |
دعي ما مضى واستقبلي العيش إنني |
|
رأيت لذيذ العيش مستقبل العـمـر |
فما نازع الدهر امرأً في انقـلابـه |
|
فأعتبه إلاّ بقـاصـمة الـظّـهـر |
فقال عبد الملك: فأي شيء هذا ? قال: امرأتي طالق إن كنت رقيتك إلا بهذه ! قال: ويحك ! استر علينا، قال: كيف أستر ما سارت به الركبان !
يتغنى في مسجد الأحزاب
قال أبو مسلم الهلالي المكي: حدثني أبي عن أبيه قال: أتيت عبد العزيز بن المطلب أسأله عن بيعة الجن للنبي صلى الله عليه وسلم بمسجد الأحزاب وما كان بدؤها ? فوجدته مستلقياً يتغنى:
فما روضة بالحزن معشبة الـثـرى |
|
يمجّ الندى جثجاثهـا وعـرارهـا |
||
بأطيب من أردان عـزّة مـوهـنـاً |
|
إذا أوقدت بالمندل الرطب نـارهـا |
||
من الخفرات البيض لم تلق شـقـوة |
|
وفي الحسب المكنون صافٍ نجارها |
||
إذا خفيت كانت لعينك قـرّةً |
|
وإن تبد يوماً لم يعمّك عارها |
||
فقلت له: مثلك أصلحك الله يتغنى ? أما والله لأحدون بها ركبان نجد، فعاود يتغنى:
فما ظبيةٌ أدماء خفّاقة الحشـا |
|
تجوب بطفليها متون الخمائل |
بأحسن منها إذ تقول تـدلّـلاً |
|
وأدمعها يجرين حشو المكاحل |
تمتّع بذا اليوم القصير فـإنّـه |
|
رهينٌ بأيام الشهور الأطـاول |
فندمت على قولي وقلت: أتحدثني في هذا بشيء ? قال: نعم ! حدثني أبي أنه دخل على سالم بن عبد الله وأشعب الطماع يغنيه:
مغيريّة كالبدر سـنة وجـهـهـا |
|
مطهرة الأثواب والـدين وافـر |
من الخفرات البيض لم تلـق ريبةً |
|
ولم يستزلها عن تقى اللّه شاعـر |
لها حسبٌ زاكٍ وعرض مهـذّب |
|
وعن كل مكروهٍ من الأمر زاجر |
فقال سالم: زدني، فغنى:
ألّمت به والـلـيل داجٍ كـأنـه |
|
جناح غرابٍ عندما نفض القطرا |
فقلت أعطّار ثوى في رحالـنـا |
|
وما حملت ليلى نشرها عطـرا |
فقال له سالم: أما والله لولا أن تداوله الرواة لأحسنت جائزتك؛ لأنك من هذا الأمر بمكان.
غناء ومزاح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال إبراهيم الحراني: حججت مع أمير المؤمنين الرشيد فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فبينا أنا بين القبر والمنبر إذ أنا برجل حسن الهيئة خاضب، ومعه رجل في مثل حاله؛ فحانت مني التفاتة فإذا هو يقوس حاجبه ويفتح فاه، ويلوي عنقه ويشير بعينه، فتجوزت في صلاتي ثم سلمت فقلت: أفي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتغنى ?! فقال: قنعك الله خزية، ما أجهلك ! أما في الجنة غناء ? قلت: بلى لعمري فيها ما تشتهي النفس وتلذ الأعين، قال: أما نحن في روضة من رياض الجنة ? قلت: لا ! قال: واحرباه ! أترد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ! فنحن في تلك الروضة. قلت: قبح الله شيخاً ما أسفهه ! قال: بالقبر والمنبر لما أنصت إلي ? فتخوفت ألا أنصت؛ فاندفع يغني بصوت يخفيه:
فليست عشيات الحمى برواجعٍ |
|
إليك، ولكن خلّ عينيك تدمعـا |
بكت عيني اليسرى فلما زجرتها |
|
عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا |
الشعر للصمة بن عبد الله القشيري.
فوالله إن قمت إلى الصلاة لما دخل قلبي؛ فلما رأى ما نزل بي قال: يا بن أم، أرى
نفسك قد استجابت وطابت، فهل لك في زيادة ? قلت: ويحك ! في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم !! قال: أنا والله أعرف بالله ورسوله منك، فدعنا من جهلك؛ ثم تغنى:
فلـو كـان واشٍ بـالـمـدينة داره |
|
وداري بأقصى حضرموت اهتدى ليا |
وماذا لهم لا أحسن اللّه حفـظـهـم |
|
من الشأن في تصريم ليلى حبـالـيا |
الشعر لمجنون بني عامر الملوح.
فقال له صاحبه: يا بن أم؛ أحسنت والله، وعتق أهلك، لو كان أمير المؤمنين الرشيد في
هذا الموضع لخلع عليك ثيابه طرباً. قال: فقمت وهما لا يعلمان من أنا، فدخلت على
أمير المؤمنين فأعلمته الخبر؛ فقال: أدركهما لا يفوتانك.
فوجهت من جاء بهما، فلما دخلا عليه دخلا بوجوه قد ذهب ماؤها، وأنا قائم على رأسه،
فقال: يا إبراهيم؛ هذان هما ? قلت: نعم. فنظر إلي المغني منهما وقال: سعاية في
جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم ? فسري عن أمير المؤمنين بعض غضبه، وتبسم فقال:
ما كنتما فيه ? قالا: في خير. قال: فماذا الخير ? فسكتا. فقال للمغني منهما: من
أنت ? فابتدره جماعة فقالوا: يا أمير المؤمنين، هذا ابن جريج فقيه مكة، فقال: فقيه
مكة يتغنى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم !! قال: يا أمير المؤمنين؛ لم يكن
ذلك مني بالقصد للغناء ولكني كنت أسمعت هذا المخزومي يعني صاحبه صوتين، فلم يزالا
في قلبي حتى التقينا، فأحببت أن يأخذهما عني، فأخذهما، وحلف أني قد أحسنت، وأنه لو
كان في الموضع أمير المؤمنين لخلع علي وسكت.
فقال الرشيد: تركت من الحديث شيئاً ? قال: ما تركت شيئاً يا أمير المؤمنين. قال:
والله لتقولن. قال: يا أمير المؤمنين، زعم أنك لو كنت في موضعه لخلعت علي ثياباً
مشقوقةً طرباً.
فتبسم وقال: أما هذا فلا، ولكن نخلعها عليك صحيحةً فهي خير لك. ثم دعا بثياب فلبسها ونبذ ثيابه، وأمر له بعشرين ألف درهم ولصاحبه بعشرة آلاف درهم. وقال: لا تعودن لهذا. فقال صاحبه: إلا أن يحج أمير المؤمنين ثانية. فضحك وقال: ألحقوه بصاحبه في الجائزة.
في سوق القسي
قال إبراهيم الحراني: ثم قدمنا مكة فإني
لفي سوق القسي أساوم بقوس عربية بكنانتها، إذ بإنسان عن يميني يقول: نعم القوس في
يدك. قلت: أريد أبسط منها قليلاً ? قال: فعندي بغيتك إئت المنزل، فصرت إليه، فأخرج
إلي قوساً جيدةً لينةً حسنة الصنعة، قلت: نعم ! هذه أريد، فكم ثمنها ? قال: عشرة
دنانير، قلت: يا هذا، أغرقت في النزع، قال: هذا سومي، فهات سومك أنت. قلت
بدينارين. فأحد النظر، وقال: وآتيك؛ فالذي كان يجب للطبيعة أن تأتي به تحول فصار
ضحكاً. فقلت: غضب الله عليك، تطلق لسانك في حرم الله وأمنه في أيام عظيمة؛ فأنت
بمثل هذه السن تتكلم بهذا الكلام !! فقال: هو ما قلت لك، إنما هو بيع وشراء، فلا
تغضب؛ فإني لم أغضب من عطيتك.
قال: ففارقته، ودخلت على أمير المؤمنين، فقلت: يا سيدي؛ ههنا خبر أعجب من خبر ابن
جريج ! وحدثته الحديث، فقال: ارجع وجئني به، فوجهت غلاماً كان معي وأنا أساومه
ومعه أعوان؛ فجاءوا به، فلما دخل عليه قال: هذا صاحبك يا إبراهيم ? قلت: نعم يا
أمير المؤمنين ! فقال الرشيد: ماذا قلت لهذا حين ساومك بالقوس ? قال: قد دار بيني
وبينه كلام. قال: أخبرني به. قال: لست مني على سوم فأخبرك. قال: فماذا قال لك ?
قال: هو أعلم بما قال. فقال إبراهيم: يا أمير المؤمنين؛ أخرج إلي قوساً عربية بكنانتها،
فقلت: بكم هذه ? قال: بعشرة دنانير. قلت: أسرفت فخذ مني دينارين. قال: وآتيك. قال
الرشيد: كذا كان ? قال: نعم يا أمير المؤمنين؛ إنما هذا شراء وبيع ولم يتم لي
بيعها بما أعطاني، وظننت أن بضاعته قليلة فقلت: آخذ دينارين وعروضاً بالباقي.
فضحك الرشيد حتى تبسط. ثم قال: قاتلك الله ! فما أقبح مجونك ! ووصله.
قال إبراهيم: فلما انصرفنا خارجين عن مكة مررت به، فوقفت عليه وسلمت عليه. فقال:
ما ترى في تيك القوس ? ألك فيها رأي ? قلت: أما على شريطتك الأولى فلا. قال: فلا
بأس فخذها مني بدينارين وغن لي ثلاثة أصوات، أو خذها بخمسة وأغنيك أربعة أصوات،
ثلاثة لمعبد، وواحد لابن عائشة كان يفعل فيه ما أحل الله وحرم، قلت: هذا وحده.
فاندفع يغني:
وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي |
|
وردّا على عيني فضـل ردائيا |
الشعر لمالك بن الريب المازني فأجاده ما شاء وحسنه. فقلت: لولا أن أمير المؤمنين قد قدمت له دابته لوقفت عليك. فقال: امض عليك السلام وإن كان في القلب ما فيه؛ إذ بخلت على أخيك بضمة أو ضمتين. قلت: ما لك لعنك الله ! وفارقته، وحدثت أمير المؤمنين بما قال فقال: يا إبراهيم، تجد بالعراق طولاً وعرضاً واحداً له ما لأهل الحرمين من الذكاء والظرف ? قلت: لا أعرف موضعه.
الأشراف تعجبهم الملح
وقال الأصمعي: أنشدت محمد بن عمران قاضي المدينة وكان أعقل من رأيته:
يأيها السائل عن منـزلـي |
|
نزلت بالخان على نفسـي |
يغدو عليّ الخبز من خابـزٍ |
|
لا يقبل الرهن ولا ينسـي |
آكل من كيسي ومن كسوتي |
|
حتى لقد أوجعني ضرسي |
فقال: اكتب لي الأبيات. فقلت: أصلحك الله؛
هذا لا يشبه مثلك، إنما يروي مثل هذا الأحداث، قال: اكتبها لي، فالأشراف تعجبهم
الملح.
وقد قال الطائي في عمرو بن طوق التغلبي:
الجد شيمـتـه وفـيه فـكـاهة |
|
سمحٌ ولا جدٌّ لمن لـم يلـعـب |
شرسٌ ويتبع ذاك لـين خـلـيقةٍ |
|
لا خير في الصهباء ما لم تقطب |
وقال في الحسن بن وهب:
للّه أيامٌ خـطـبـنـا لـينـهـا |
|
في ظله بالخندريس السلـسـل |
بمدامةٍ نغم السماع خـفـيرهـا |
|
لا خير في المعلول غير معلّـل |
يعشو عليها وهو يجلو مقلـتـي |
|
بازٍ ويغفل وهو غير مـغـفـل |
لا طائشٌ تهـفـو خـلائقـه ولا |
|
خشن الوقار كأنه في محـفـل |
فكهٌ يجمّ الـجـدّ أحـيانـاً وقـد |
|
ينضى ويهزل عيش من لم يهزل |
وقال أبو الفتح علي بن محمد البستي:
أفد طبعك المكدود بالـهـمّ راحةً |
|
براحٍ وعلّله بشيء من الـمـزح |
ولكن إذا أعطيته ذاك فـلـيكـن |
|
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح |
بدء الكتاب
وهذا حين أبتدىء متصرفاً بك من بلاغة
خطاب، إلى براعة جواب، وصريح منادرة، إلى مليح مهاترة، وغريب مراجعة، إلى عجيب
منازعة، وتشبيه واقع، إلى مثل صادع، وغير ذلك مما يحي موات القلوب، ويشفي نجي
الكروب، مما تجذل له الخواطر، وترتاح إليه السرائر، وتنفتح به الأسماع، وتنشرح له
الطباع.
فما مر به من هذه النوادر فلا تنظر إليها نظر المنكر فتعرض عنها صفحاً، وتطوي
دونها كشحاً، إذا وقعت فيها كلمة قذف، أو لفظة سخف. وتقول: قد قال عمر بن عبد
العزيز رحمه الله لغلامه ورأى روث دابة: نح ذلك النقيل تصوناً عن اسم الروث. وقال:
عرضت لي دمل تحت يدي فآلمتني، ولم يقل تحت إبطي.
وكان الحجاج على قبح أفعاله، وسوء أحواله، يتنزه عن أن ينطق بلفظة سخيفة. وقد قال
لمن اتهمه بمال ابن الأشعث: لو خبأته تحت، حتى قال: تحت ذيلك، لم يكن بد من
إخراجه. وإنما أراد أن يقول تحت استك.
وأكثر القاذورات وردت بالكنايات؛ كالغائط وهو المطمئن من الأرض. وكانا إذا أرادوا
قضاء الحاجة ذهبوا إلى ذلك الموضع؛ فسمي ما يخرج من الإنسان باسم موضعه. وكذلك
الاستنجاء أيضاً مأخوذ من النجو، وهو المكان المرتفع؛ لاستتارهم وراءه. والحش:
البستان. والعذرة: فناء الدار. وكذلك وصفهم لطيب الأردان، وهي الأكمام، وإنما يراد
ما تحتها، وإنما ذلك كله للفرار من النطق بأسماء الأقذار.
وليس في كل موضع أعزك الله تحسن الكنايات عن لفظ فحش، ولا بكل مكان يجمل الإعراض
عن معنى وحش. فيكون كما حكى الجاحظ: أن رجلاً بعث غلامه إلى غريم له، فأساء الغلام
خطابه، فخرق الغريم ثيابه؛ فرجع إلى مولاه، فقال: ما لك ? قال: شتمك يا مولاي، فلم
أحتمل الصبر، فرددت عله، فحل بي ما ترى، قال؛ وما كان شتمه ? قال: قال لي: أدخل هن
الحمار في حر أم من أرسلك. فقال له مولاه: دعني عنك مما جرى، ولكن لم لم تجعل لي
من الوقار ما جعلته لأير الحمار حين كنيت عن ذا ولم تكن عن ذا ! فلو صرح بالجميع
لكان أسلم له من الذنب، وآمن من العتب.
وقد قال أبو فراس الحمداني لرسول أرسله إلى من يهواه، فجفا في جوابه، فلطف الرسول
رسالته فتبين أبو فراس ذلك فأنشده:
وكنى الرسول عن الجواب تظرّفاً |
|
ولئن كنى فلقد علمنا ما عـنـى |
قل يا رسول ولا تحاش، فـإنّـه |
|
لا بدّ منه أساء بي أم أحـسـنـا |
الذنب لي فيما جـنـاه لأنـنـي |
|
مكّنته من مهجتي فتـمـكّـنـا |
أخذه بعض المتأخرين فقال:
يا رسولي خلّ عنك الظّ |
|
رف إن كنت رسـولا |
لا تقل ما لـم يقـلـه |
|
واشف بالصدق الغليلا |
وهذا وإن لم يكن من محض هذا الباب، إذ كان إنما يستطاب، لأنه من الأحباب، كقول الآخر:
أتاني عنك شتمك لي وسـبّـي |
|
أليس جرى بفيك اسمي فحسبي |
وكما قال منصور النمري:
لا يطيب الهوى ولا يحسن الح |
|
بّ لخلقٍ إلاّ بخمس خصـال |
بسماع الهوى وعذل نصـيحٍ |
|
وعتابٍ وهجـرةٍ وتـقـال |
وكقول الآخر:
دع الحبّ يصلى بالأذى من حبيبه |
|
فإنّ الأذى ممن يحـبّ سـرور |
غبار قطيع الشاء في عين ربّها |
|
إذا مـا تـلا آثـارهـن ذرور |
وقول الآخر:
لولا طراد الخيل لم تـك لـذّةٌ |
|
فتطاردي لي بالوصال قلـيلا |
هذا الشراب أخو الحياة وما له |
|
من لذةٍ حتى يصيب غـلـيلا |
فهو يلم ببعض جهاته، ويتطرف بإحدى جنباته.
وفي مثل التهاتر يمكن قول العتبي فيما سهل سبيله من ترك الإعراض عما كان مثله
بالقول لقائله كالولد لناجله: ما على مبصره أن يراه شريراً فاتكاً، دون أن يراه
وقوراً ناسكاً. وإنما تلزم عمدته، وتعود عهدته، في سخفه وجهله، على نفسه وأهله. وقد
قال بعض الظرفاء:
إنما للنـاس مـنّـا |
|
حسن خلقٍ ومزاح |
ولنا ما كـان فـيا |
|
من فسادٍ أو صلاح |
ولو كنت هنا إنما آتي بما فيه ركانة وأصالة، دون ما فيه سخافة ورذالة، لزال عن الملح اسمها، وارتفع عنها وسمها، وخرجت عن حدودها، وأفلتت من قيودها. ولا بد من توشيحه بلطئاف من الجد، وظرائف من القصد، تتعلق بأغصانه، وتتشبث بأفنانه؛ ليكون استراحة للناظر، وإجماماً للخاطر؛ وكما يمل الجد، فيدخل فيه الهزل؛ كذلك يمل الرقيق فيحتاج إلى الجزل. والله أستغفر مما شغل به الخاطر، وأتعب له الناظر، وصرف إليه الفكر، واستخدم فيه السر، مما غيره أعم فائدة، وأتم عائدة؛ فهو الرؤوف الرحيم، والجواد الكريم.
من ملح أشعب
قيل لأشعب الطماع: لقد لقيت التابعين
وكثيراً من الصحابة، فهل رويت مع علو سنك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم ?
فقال: نعم، حدثني عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: خلتان لا
تجتمعان في مؤمن. قيل: وما هما ? قال: نسيت واحدةً، ونسي عكرمة الأخرى.
وقيل له: كم كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ? قال: ثلاثمائة وثلاثة
عشر رطلاً.
وهذا كما قيل لطفيلي: كم اثنين في اثنين ? قال: أربعة أرغفة.
وسألته صديقة له خاتماً وقالت له: أذكرك به. قال: اذكري أنك سألتني فمنعتك.
وساوم بقوس بندق، فقال صاحبها: بدينار، فقال: والله لو كنت إذا رميت بها طائراً
وقع مشوياً بين رغيفين ما اشتريتها بدينار.
وأهدى رجل من ولد عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج فالوذجة وأشعب حاضر فقال: كل يا
أشعب، فأكل منها، فقال له: كيف تراها ? قال: الطلاق يلزمه إن لم تكن عملت قبل أن
يوحي ربك إلى النحل، أي ليس فيها حلاوة.
وبأشعب هذا يضرب المثل في الطمع. قال الشاعر:
إني لأعجب من مطالك أعجب |
|
من طول تردادي إليك وتكذب |
وتقول لي تأتي وتحلف كاذبـاً |
|
فأجيء من طمعٍ إليك وأذهب |
فإذا اجتمعت أنا وأنت بمجلسٍ |
|
قالوا مسيلمة وهذا أشـعـب |
وقيل له: أرأيت أطمع منك ? قال: نعم كلبة
آل أبي فلان، رأت شخصاً يمضغ علكاً، فتبعته فرسخاً تظن أنه يرمي لها بشيء من
الخبز.
ومر أشعب برجل يعمل طبقاً من الخيزران؛ فقال له: أريد أن تزيد فيه طوقاً أو طوقين.
قال: فما فائدتك ? قال: لعل أحداً من أشراف المدينة يهدي لنا فيه شيئاً.
وكان أشعب يعشق امرأة بالمدينة ويتحدث فيها حتى عرف بها، فقال لها جاراتها: لو
سألته شيئاً ? فأتاها يوماً فقالت: إن جاراتي يقلن ما يصلك بشيء. فخرج عنها ولم
يقربها شهرين. ثم أتاها فأخرجت له قدحاً فيه ماء، فقالت له: اشرب هذا للفزع !
فقال: بل أنت اشربيه للطمع، ومضى فلم يعد إليها.
وأشعب هذا: هو أشعب بن جبير مولى عبد الله بن الزبير، وكان أحلى الناس مفاكهةً.
قال الزبير بن بكار: أهل المدينة يقولون: تغير كل شيء من الدنيا إلا ملح أشعب،
وخبز أبي الغيث، ومشية برة. وكان أبو الغيث يعالج الخبز بالمدينة؛ وبرة بنت سعد بن
الأسود؛ وكانت من أجمل النساء وأحسنهن مشية.
وكان أشعب قد نشأ في حجر عائشة بنت عثمان بن عفان رضي الله عنه مع أبي الزناد. قال
أشعب: فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا الغاية.
قال: وأسلمته عائشة إلى من يعلمه البز؛ فسألته بعد سنة أين بلغت ? قال: نصف العمل
وبقي نصفه، قالت له: كيف ? قال: تعلمت النشر وبقي الطي.
وكان أشعب أطيب الناس غناء، وأكثرهم ملحاً، ونسك في آخر عمره ومات على ذلك رحمه
الله تعالى. وكان يوم قتل عثمان غلاماً يسقي الماء وبقي إلى خلافة المهدي.
وخرج سالم بن عبد الله متنزهاً إلى ناحية من نواحي المدينة ومعه أهله وحرمه، فبلغ
أشعب الخبر، فوافاهم يريد التطفيل؛ فصادف الباب مغلقاً، فتسور الحائط عليهم. فقال
له سالم: ويلك يا أشعب ! معي بناتي وحرمي ! فقال له أشعب: لقد علمت ما لنا في
بناتك من حق، وإنك لتعلم ما نريد. فضحك منه وأمر له بطعام أكله وحمل منه إلى
منزله.
وكان يقول: ما أحسست قط بجار لي يطبخ قدراً إلا غسلت الغضار، وكسرت الخبز،
وانتظرته يحمل إلي قدره.
وقال له بعض أصحابه: لو صرت إلي العشية
نتحدث ? فقال: أخاف أن يجيء ثقيل، قال: ليس معنا ثالث فمضى معه. قال: فلما صلينا
الظهر ودعونا بالطعام إذا بشخص يدق الباب، فقال أشعب: ترى أنا قد صرنا إلى ما نكره
? قال فقلت له: إنه صديق وفيه عشر خصال إن كرهت واحدةً منهن لم آذن له. قال: هات.
قلت: الأولى أنه لا يأكل ولا يشرب، قال: التسع لك، إئذن له.
وهذا نظير حديث الغاضري وقد أتى الحسن بن زيد وهو أمير المدينة. فقال: جعلت فداك !
إني عصيت الله ورسوله، قال: بئس ما صنعت ! وكيف ذاك ? قال: لأن الله عز وجل يقول
"وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا" وقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأةً. وأنا أطعت امرأتي فاشتريت غلاماً
فأبق، فقال الحسن: اختر واحدةً من ثلاث؛ إن شئت ثمن الغلام، فقال: بأبي أنت ! قف
عند هذه فلا تجاوزها. قال: أعرض عليك الخصلتين ? قال: لا، حسبي هذه.
وغاضبت مصعب بن الزبير زوجه عائشة بنت طلحة، فاشتد ذلك عليه وشكا أمره إلى خاصته.
فقال له أشعب: فما لي إذا هي كلمتك ? قال: عشرة آلاف درهم؛ فأتى إليها فقال: يابنة
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، تفضلي بكلام الأمير؛ فقد استشفع بي عندك، وأجزل
لي العطية إن أنت كلمته. قالت: لا سبيل إلى ذلك يا أشعب؛ وانتهرته. فقال: جعلت
فداك ! كلميه حتى أقبض عشرة آلاف درهم، ثم ارجعي إلى ما عودك الله من سوء الخلق،
فضحكت فقامت فصالحته.
عبد الملك بن مروان وعمر بن بلال
والشيء يذكر بالشيء، أي بما قاربه. كان عبد الملك بن مروان محباً لعاتكة بنت يزيد بن معاوية؛ فغاضبته يوماً، وسدت الباب الذي بينها وبينه؛ فساءه ذلك وتعاضله، وشكا إلى من يأنس به من خاصته، فقال له عمر بن بلال الأسدي: إن أنا أرضيتها لك حتى ترى فما الثواب? قال: حكمك. فأتى إلى بابها، وقد مزق ثوبه وسوده؛ فاستأذن عليها وقال: أعلموها أن الأمر الذي جئت فيه عظيم. فأذنت له؛ فلما دخل رمى بنفسه وبكى. فقالت: ما لك يا عم ? قال: لي ولدان هما من الإحسان إلي في الغاية، وقد عدا أحدهما على أخيه فقتله، وفجعني به؛ فاحتسبته وقلت: يبقى لي ولد أتسلى به؛ فأخذه أمير المؤمنين وقال: لا بد من القود، وإلا فالناس يجترئون على القتل، وهو قاتله إلا أن يغيثني الله بك ! ففتحت الباب ودخلت على عبد الملك وأكبت على البساط تقبله وتقول: يا أمير المؤمنين؛ قد تعلم فضل عمر بن بلال، وقد عزمت على قتل ابنه؛ فشفعني فيه ? فقال عبد الملك: ما كنت بالذي أفعل؛ فأخذت في التضرع والخضوع حتى وعدها العفو عنه وصلح ما بينهما؛ فوفى لعمر بما وعده به.
إفهام من الفتى وفهم من المنصور
وعلى ذكر عاتكة بنت يزيد، قال المدائني: لما حج أبو جعفر المنصور قال للربيع: ابغني فتى من أهل المدينة أديباً ظريفاً عالماً بقديم ديارها، ورسوم آثارها فقد بعد عهدي بديار قومي، وأريد الوقوف عليها؛ فالتمس له الربيع فتىً من أعلم الناس بالمدينة، وأعرفهم بظريف الأخبار، وشريف الأشعار؛ فعجب المنصور منه؛ وكان يسايره أحسن مسايرة، ويحاضره أزين محاضرة، ولا يبتدئه بخطاب إلا على وجه الجواب؛ فإذا سأله أتى بأوضح دلالة، وأفصح مقالة؛ فأعجب به المنصور غاية الإعجاب، وقال للربيع: ادفع إليه عشرة آلاف درهم؛ وكان الفتى مملقاً مضطراً؛ فتشاغل الربيع عنه واضطرته الحاجة إلى الاقتضاء، فاجتاز مع المنصور بدار عاتكة؛ فقال: يا أمير المؤمنين؛ هذا بيت عاتكة بنت يزيد بن معاوية الذي يقول فيه الأحوص بن محمد:
يا بيت عاتكة الذي أتعـزّل |
|
حذر العدا وبه الفؤاد موكّل |
فقال المنصور: ما هاج منه ما ليس هو طبعه: من أن يخبر بما لم يستخبر عنه، ويجيب بما لم يسأل عنه ? ثم أقبل يردد أبيات القصيدة في نفسه إلى أن بلغ إلى آخرها وهو:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم |
|
مذق اللسان يقول ما لا يفعل |
فدعا بالربيع وقال له: هل دفعت للمدني ما
أمرنا له به ? فقال: أخرته علة كذا يا أمير المؤمنين، قال: أضعفها له وعجلها.
وهذا أحسن إفهام من الفتى، وأدق فهم من المنصور، ولم أسمع في التعريض بألطف منه.
ولقول الأحوص هذا سبب ذكره عبد الله بن عبيدة بن عمار بن ياسر. قال: خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله بن الحسن إلى الحج، فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن: لو أرسلت إلى سليمان بن أبي دباكل الخزاعي، فأنشدنا من رقيق شعره ? فأرسل إليه، فأنشدنا قصيدةً له يقول فيها:
يا بيت خنساء الذي أتـجـنّـب |
|
ذهب الزمان وحبّها لا يذهـب |
أصبحت أمنحت الصدود وإنمـا |
|
قسماً إليك مع الصدود لأجنـب |
ما لي أحنّ إذا جمالك قـرّبـت |
|
وأصدّ عنك وأنت مني أقـرب |
للّه درّك هـل إلـيك مـعـوّل |
|
لمتيّم أم هل لودّك مطـلـب ? |
فلقد رأيتك قبـل ذاك وإنـنـي |
|
لموكّل بهواك لـو يتـجـنّـب |
إذ نحن في الزمن الرجيّ وأنتم |
|
متجاورون، كلاكما لا يرقـب |
تبكي الحمامة شجوها فتهيجنـي |
|
ويروح عازب همّي وتخصب |
وأرى السميّة باسمكم فيزيدنـي |
|
شوقاً إليك سميّك المتـقـرب |
وأرى الـعـدو يودّكـم فـأودّه |
|
إن كان ينبىء عنك أو يتنسّـب |
وأحالف الواشين فيك تجـمّـلاً |
|
وهم عليّ ذوو ضغـائن دوّب |
ثم اتخذتـهـم عـلـيّ ولـيجةً |
|
حتى غضبت ومثل ذلك يغضب |
فلما كان من قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز، فلما مر بالمدينة دخل عليه الأحوص بن محمد فاستصحبه ففعل. فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده: ما تريد بنفسك ? تقدم الشام بالأحوص وفيها من تبعك من بني أبيك وهو من السفه على ما علمت ! فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص منتجزاً ما وعده من الصحابة، فدعا له بمائة دينار وأثواب وقال: يا خال؛ إني نظرت فيما ضمنت لك من الصحابة، فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين. فقال الأحوص: لا حاجة لي بعطيتك، ولكني سعيت عندك، ثم خرج، فأرسل عمر بن عبد العزيز إلى الأحوص وهو أمير المدينة فلما دخل عليه أعطاه مائة دينار وكساه ثياباً، ثم قال له: يا خال؛ هب لي عرض أخي، قال: هو لك، ثم خرج الأحوص وهو يقول في عروض قصيدة سليمان بن أبي دباكل يمدح عمر:
يا بيت عاتـكة الـذي أتـعـزّل |
|
حذر العدا وبه الفـؤاد مـوكّـل |
هل عيشنا بك في زمانك راجـعٌ |
|
فلقد تفاحش بعدك المـتـعـلّـل |
أصبحت أمنحك الصدود وإنـنـي |
|
قسماً إليك مع الصـدود لأمـيل |
فصددت عنك وما صددت لبغضة |
|
أخشى مقالة كاشـحٍ لا يغـفـل |
وتجنّبي بيت الـحـبـيب أزوره |
|
أرضي البغيض به حديثٌ معضل |
إنّ الزمان وعيشـنـا ذاك الـذي |
|
كنّا بلـذّتـه نـسـرّ ونـجـذل |
ذهبت بشاشته وأصـبـح ذكـره |
|
أسفاً يعلّ به الـفـؤاد وينـهـل |
حتى انتهى إلى قوله:
فسموت عن أخلاقهم وتركتهـم |
|
لنداك، إنّ الحازم المتـوكّـل |
ووعدتني في حاجتي فصدقتني |
|
ووفيت إذ كذبوا الحديث وبدّلوا |
ولقد بدأت أريد ودّ مـعـاشـرٍ |
|
وعدوا مواعد أُخلفت إذ حصّلوا |
حتى إذا رجع اليقين مطامعـي |
|
يأساً وأخلفنـي الـذين أؤمّـل |
زايلت ما صنعوا إليك برحـلة |
|
عجلى وعندك عنهم المتحـوّل |
وأراك تفعل ما تقول، وبعضهم |
|
مذق الحديث يقول ما لا يفعل |
فقال عمر بن عبد العزيز: ما أراك أعفيتني
مما استعفيك.
والأحوص وإن كان ممن أغار على قصيدة سليمان، فقد أربى عليه في الإحسان، وكان كما
قال ابن المرزبان؛ وقد أنشد لابن المعتز قصيدته في مناقضة ابن طباطبا العلوي التي
أولها:
دعوا الأُسد تكنس في غابها |
|
ولا تدخلوا بين أنيابـهـا |
قال: قد أخذه من قول بعض العباسيين:
دعوا الأسد تسكن أغيالها |
|
ولا تقربوها وأشبالهـا |
أخذ ساجاً ورده عاجاً، وغل قطيفة، ورد ديباجاً.
طرف مستملحة
قال سذابة المغني لأبي العباس المبرد: صر
إلي اليوم لنأنس بك. قال: أي شيء عندك آكل ? قال: أنت وأنا عليك. يريد لحماً
مبرداً وعليه سذاب.
ولقي برد الخيار الكاتب أبا العباس المبرد على الجسر في يوم بارد. فقال: أنت
المبرد، وأنا برد الخيار، واليوم بارد؛ اعبر بنا لئلا يصيب الناس الفالج.
وقال عون بن محمد: لقيت باذروجة المغني وسكباج الراقص بسر من رأى، فصحت: يا غلام،
المائدة؛ فقد وافت الألوان، فضحكوا؛ وأقسم علينا باذروجة؛ فكنا يومنا عنده في أطيب
عيش.
من طرف ابن جدار وشعره
وكان ابن جدار كاتب العباس بن أحمد بن
طولون بارد المشاهدة، فعاد أبا حفص بن أبي أيوب ابن أخت الوزير، فوافاه وقد أصابته
قشعريرة. فقال: ما تجد ? جعلت فداك ! قال: أجدك.
وكان أبو حفص أديباً شاعراً بليغاً ولهاً، وقد رأى ورداً قريباً من أقحوان فقال:
أرى أقحواناتٍ يطفن بناصـعٍ |
|
من الورد مخضرّ النبات نضيد |
يميّله ريح الصّبـا فـكـأنـه |
|
ثغور دنت شوقاً للثـم خـدود |
وكان ابن جدار ينقل أخبار أبي حفص إلى العباس بن أحمد بن طولون، فصار إليه يوماً فقال: أعزك الله؛ إنما مجلس المدام حرمة أنس، ومسرح لبانة، ومذاد هم، ومرتع لهو، ومهد سرور؛ وإنما توسطته عند من لا يتهم غيبه، وقد بلغني ما تنهيه إلى أميرنا أبي الفضل من أخبار مجالسي. وأنشد:
ولقد قلت لـلأخـلاّء يومـاً |
|
قول ساعٍ بالنصح لو سمعوه |
إنّما مجلس المدام بـسـاطٌ |
|
للمودّات بينهم وضـعـوه |
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا |
|
من نعيمٍ ولـذةٍ رفـعـوه |
فاعتذر إليه وحلف أنه ما فعل، وقام عن مجلسه. وأنشد:
كم من أخٍ أوجست منه خيفة |
|
فأنست بعد وداده بفـراقـه |
لم أحمد الأيّام منه خـلـيقةً |
|
فتركته مستمتعاً بخـلاقـه |
وكان ابن جدار قبل تعلقه بالعباس يتكسب بالشعر ويقنع باليسير، فصار إلى دار إسحاق بن دينار بن عبد الله وامتدحه، فلم يهب له شيئاً؛ فقال فيه:
عجب الناس أن مدحت ابن دينا |
|
ر فلم يجزني على مـدحـيه |
قلت لا تعجبوا فما قدم الـلّـؤ |
|
م عجيباً منه ولا منـه أخـيه |
إنّ ديناره أبـوه، ومـن جـا |
|
د من الناس لامرىءٍ بأبيه ? |
وهو القائل في القلم:
وعاشقٍ تحت رواق الدجى |
|
أغرى به الحيرة فقـدان |
أهيف ممشوق بتحريكـه |
|
يحلّ عقد السـرّ إعـلان |
يحوك وشياً لم يحك مثلـه |
|
بلاغةٌ تحكى وبـرهـان |
وربّما أحيا وأهدى الـرّدى |
|
ففيه ماذيٌّ وخـطـبـان |
وفيه للناظـر أٌعـجـوبة |
|
يكسو عراة وهو عـريان |
تجري به خمسٌ مطايا لـه |
|
مختلفات الـقـدّ أقـران |
له لسانٌ مـرهـفٌ حـدّه |
|
من ريقة الكرسـف ريّان |
في دقّة المعنى إذا أغرقت |
|
للقول في التدقيق أذهـان |
إذا احتسى كأساً كلون الدّجا |
|
حرّك منه الرأس نشـوان |
كأنّما ينثر من لـفـظـه |
|
درٌّ وياقوتٌ ومـرجـان |
ترى بسيط الفكر في نظمه |
|
شخصاً له حدٌّ وجثـمـان |
كأنّما يسحـب فـي إثـره |
|
ذيلاً من الحكمة سحبـان |
لولا ما قام منار الـهـدى |
|
ولا سما بالمـلـك ديوان |
بين ابن مكرم وأبي العيناء
قدم محمد بن مكرم من الجبل؛ فقال له أبو
العيناء: ما لك لم تهد إلينا شيئاً ? فقال: والله ما قدمت إلا في خف، قال: كذبت، ولو
قدمت في خف خفت روحك. وأكثر عليه أبو العيناء من المهاترة، فقال: إن زدت علي قمت،
قال: أراك تتهددنا بالعافية.
وكانا يشربان يوماً عند صديق لهما، فقال ابن مكرم لصاحب الدار: أقوم إلى الخلاء؛
فقال أبو العيناء: إذاً لا يعود إلينا منك شيء.
وولد لأبي العيناء مولود فأتاه ابن مكرم مهنئاً، فوضع بين يدي أبي العيناء حجراً
وانصرف. فجسه أبو العيناء فوجده حجراً. فقال: من وضع هذا ? فقالوا: تركه ابن مكرم
لما قدم، قال: لعنه الله؛ إنما عرض بقول النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش
وللعاهر الحجر.
وأتى محمد بن مكرم شاعر فقال: إني قد هجوتك بشعر ? فقال: قل، فوالله لئن أحسنت لأخلعن عليك خلعةً، فأنشده:
يا فتى مكرم تنحّ عن الفخ |
|
ر فما مكرمٌ وما دينـار |
لا تفاخر إذا فخرت بهذي |
|
ن فذا كودن وذاك حمار |
فقال: أحسنت، ولكني أكسوك من ثيابنا، يا غلام، ارم عليه جلاً وبرذعةً.
عود إلى الطرف المتفرقة
دخل بعض أبناء الملوك على المبرد وعنده سلة حلوى قد أعدها لبعض إخوانه، فوجد ابنه الفرصة في اشتغال أبيه فأقبل يأكل منها. فنظر إليه المبرد فأنشده:
الناس في غفلاتهـم |
|
ورحى المنيّة تطحن |
ودخل أبو الحارث حمير على بعض الملوك فرأى
بين يديه سلة حلوى. فقال: ما في هذا أيها الأمير ? قال: باذنجان. وكان أبو الحارث
يكره الباذنجان كراهية شديدة.
وأصلح محمد بن يحيى بن خالد دعوةً، وأمر الطباخ أن يجعل الباذنجان في جميع الطعام،
وحضر أبو الحارث فكلما قدم لون وهم بالأكل منعه ما يراه إلى أن ضاق فأقبل يأكل
بدقة المائدة فعطش فقال: اسقوني ماءً لا باذنجان فيه.
ودخل على محمد بن يحيى وبين يديه مزورات وكان محمياً، فأكل معه وخرج من عنده،
فلقيه بعض إخوانه، فغطى رأسه منهم واستخفى فقالوا: ما لك يا أبا الحارث ? قال:
أكلت عند محمد بن يحيى بقولاً كثيرة. قالوا: فما تخاف ? قال: أخاف أن يمر المساح
فيمسحني خضراء فلا يقبلوا مني مظلمةً.
وهذا كما حكي عن الحسين بن عبد السلام المصري المعروف بالجمل: أنه مر ببعض إخوانه
بعقبة النجارين، وهو يعدو بأكثر مما يقدر عليه، فقال له: قف علي، فخاف أن تكون
نزلت به نزلة، فأتاه إلى الدار فخرج مستخفياً. فقال: ما لك يا أبا عبد الله ? قال:
أما علمت أن السخرة وقعت في الجمال ? فما يؤمنني أن يقال هذا الجمل، فأؤخذ فلا
أتخلص إلا بشفاعة. وكان الجمل حلواً ظريفاً.
ابن المدبر يجيز بالصلاة
وكان أبو الحسن أحمد بن المدبر إذا مدحه شاعر فلم يحسن وكل به من يمضي معه إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلي مائة ركعةً؛ فتحاماه الشعراء، فأتاه الجمل فأنشده:
أردنا في أبي حسن مـديحـاً |
|
كما بالمدح تنتـجـع الـولاة |
فقلنا أكرم الثـفـلـين طـرّاً |
|
ومن كفّاه دجلة والـفـرات |
فقالوا يقبل المدحـات لـكـن |
|
جوائزه إلى الناس الـصّـلاة |
فقلت لهم: وما تغني صلاتـي |
|
عيالي ! إنّما الشأن الـزكـاة |
فأمّـا إذ أبـى إلاّ صـلاتـي |
|
وعاقتني الهموم الشاغـلات |
فيأمر لي بكسر الصاد منهـا |
|
لعليّ أن تنشّطني الصّـلات |
فيصلح لي على هذي حياتـي |
|
ويصلح لي على هذي الممات |
فأمر له بمائة دينار.
وقيل له: من أين اهتديت إلى هذا ? قال: من قول أبي تمام:
هنّ الحمام فإن كسرت عيافةً |
|
من حائهنّ فإنّهـن حـمـام |
برمكي بخيل
وكان محمد بن يحيى البرمكي يبخل، ولم يكن
بخيلاً إلا بالإضافة إلى أخويه الفضل وجعفر؛ وكان أبو الحارث حمير يكثر وصفه بذلك،
فقيل له يوماً: كيف مائدة محمد ? فقال: أما خوانه فعدسة، وأما صحافه فمنقورة من
خشب الخشخاش، وبين الرغيف والرغيف فترة. قيل: فمن يحضرها ? قال: أكرم الخلق
وألأمهم يريد الملائكة عليهم السلام والذباب. وقد ذكر غير هذا والحكايات تختلف.
وقيل له: كيف كنت عنده ? قال: عليه الطلاق إن لم يكن أقام ثلاثة أيام وبطنه يظن أن
رأسه قطع؛ لأنه لم يدخل إليه آثار طعام ولا شراب.
من مستجاد ما قيل في البخل
ومن مستجاد ما قيل في البخل مما جمع إلى الخلاعة براعة قول أبي نواس في إسماعيل بن نيبخت:
على خبز إسماعيل واقية البـخـل |
|
فقد حلّ في دار الأمان من الأكـل |
وما خبزه إلا كآوى يرى ابـنـهـا |
|
ولسنا نراها في الحزون ولا السّهل |
وما خبزه إلاّ كالعنقـاء مـغـرب |
|
تصوّر في بسط الملوك وفي المثل |
يحدّث عنها الناس من غـير رؤيةٍ |
|
سوى صورة ما إن تمر ولا تجلي |
وما خبـزه إلا كـلـيب بـن وائل |
|
لبالي يحمي عزّه منبت الـبـقـل |
وإذ هو لا يستبّ خصمان عـنـده |
|
ولا الصوت مرفوع بجدٍّ ولا هزل |
فإن خبز إسماعيل حلّ بـه الـذي |
|
أصاب كليباً لم يكن ذاك عـن ذلّ |
ولكن قضاءٌ ليس يسـطـاع ردّه |
|
بحيلة ذي دهي ولا مكر ذي عقل |
قال الجاحظ: وأبيات أبي نواس على أنه مولد شاطر أشعر من شعر المهلهل في إطراق المجلس بكليب أخيه إذ يقول:
نبّئت أنّ النار بـعـدك أوقـدت |
|
واستبّ بعدك يا كليب المجلـس |
وتحدّثوا في أمر كلّ عـظـيمةٍ |
|
لو كنت حاضر أمرهم لم ينبسوا |
وكان كليب إذا جلس في ناديه لم يرفع أحد
طرفه، ولا ينطق بكلمة إجلالاً له.
وقال أبو نواس:
رأيت قدور الناس سوداً من الصّلى |
|
وقدر الرقاشيّين زهراء كالـبـدر |
يضيق بحيزوم البعوضة صدرهـا |
|
ويخرج ما فيها على طرف الظفر |
يبيّنها للمعـتـفـي بـفـنـائهـم |
|
ثلاثٌ كخطّ الثاء من نقط الحبـر |
إذا ما تنادوا للرحيل سعـى بـهـا |
|
أمامهم الحوليّ مـن ولـد الـذّرّ |
وهذا القدر ضد قدر القائل:
وبوّأت قدري موضعاً فوضعتها |
|
برابيةٍ ما بـين مـيثٍ وأجـرع |
جعلت لها هضب الرّجام وطخفةً |
|
وغولاً أثافيّ دونها لم تـنـزّع |
بقدرٍ كأنّ الليل شحنة قعـرهـا |
|
ترى الفيل فيها طافياً لم يقطّـع |
ويجب أن يأكل ما في هذا القدر من ذكر الفرزدق في قوله:
لعمرك ما الأرزاق حين اكتيالها |
|
بأكثر خيراً من خوان العذافـر |
ولو ضافه الدّجّال يلتمس القرى |
|
وحلّ على خبّازه بالعسـاكـر |
بعدّة يأجوج ومأجوج كـلّـهـم |
|
لأشبعهم يوماً غداء عـذافـر |
طرف مليحة
ودخل رجل على المتوكل فقال له: ما اسمك ?
قال: قطان. قال: وما صناعتك ? قال: حمدان. قال: لعل اسمك حمدان وصناعتك قطان ?
قال: نعم يا أمير المؤمنين، ولكني دهشت لهيبتك.
وقال رجل لآخر معه كلب: ما اسمك ? قال: وثاب. قال: وما اسم كلبك ? قال: عروة، قال:
واخلافاه ! وقال ابن قادم: كنا نماشي ابن المغتاب القاضي، فمررنا بمقبرة، فإذا
عليها مكتوب: بركة من الله صاحبها. وكنا في إملاك فإذا على منارة مكتوب: كل نفس
ذائقة الموت. فقلت: هذه بتلك.
وممن وقع له هذا على الغلط فأحسن الاستدراك مطيع بن إياس الحارثي، فإنه دخل على
الهادي في حياة المهدي وهو ولي عهد، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقيل له:
مه ! فقال: بعد أمير المؤمنين.
يتعمدان المقلوب
وأما أبو العبر ومحمد بن حكيم الكنتجي فقد
كانا يتعمدان المقلوب رقاعةً ومجانةً، وأبو العبر هو الذي كتب لبعض أصحابه: أما
قبل فأحكم بنيانك على الرمل، واحبس الماء في الهواء، حتى يغرق الناس من العطش؛
فإنك إذا فعلت ذلك أمرت لك كل يوم بسبعة آلاف درهم ينقص كل درهم سبعة دوانيق.
وكتب يوم إلا تسعاً لخمس وأربعين ليلةً خلت من شهر ربيع الأوسط سنة عشرين إلا
مائتين. وله مثل هذا كثير من منظوم ومنثور. وهو القائل:
الخوخ يعشق وكنة الرّمّـان |
|
والطيلسان قرابة الخـفّـان |
يا من رمى قلبي فعرقب أذنه |
|
فشممت منه حموضة الكتّان |
وقال أبو العبر: كنا نختلف ونحن أحداث إلى
رجل يعلمنا الهزل، فكان يقول: أول ما تريدون قلب الأشياء، فكنا نقول إذا أصبح: كيف
أمسيت ? وإذا أمسى: كيف أصبحت ? وإذا قال: تعال نتأخر إلى خلف؛ وكانت له أرزاق
تعمل كتابتها في كل سنة، فعمل مرة وأن معه الكتاب، فلما فرغ من التوقيع وبقي
الختم. قال: أتربه وجئني به، فمضيت فصببت عليه الماء فبطل، فقال: ويحك ! ما صنعت ?
قلت: ما نحن فيه طول النهار من قلب الأشياء ! قال: والله لا تصحبني بعد اليوم فأنت
أستاذ الأستاذين.
وكان نقش خاتم أبي العبر توفي جحا يوم الأربعاء.
وتعرض للمتوكل والمتوكل مشرف على مظهر في قصره الجعفري وقد جعل في رجليه قلنسوتين
وعلى رأسه خفاًن وقد جعل سراويله قميصاً، وقميصه سراويل، فقال: علي بهذا المثلة؛
فدخل عليه فقال: أنت شارب ? قال: ما أنا إلا عنفقة. قال: إني أضع الأدهم في رجليك
وأنفيك في فارس، قال: ضع في رجلي الأشهب وانفني إلى راجل ! قال: أتراني في قتلك
مأثوم? قال: بل ماء بصل يا أمير المؤمنين، فضحك ووصله.
وأبو العبر القائل في الجد:
ليس لي مال ولـي كـرمٌ |
|
فبه أقوى على عـدمـي |
لا أقول اللّه يظلـمـنـي |
|
كيف أشكو غير متّـهـم |
قنعت نفسي بما رزقـت |
|
وتمشّت في العلا هممي |
ولبست الصبـر سـابـغةً |
|
فهي من فرقي إلى قدمي |
فإذا ما الدهر عاتـبـنـي |
|
لم تجدني كافر الـنـعـم |
وله في الرقيق:
رقّ حتى يكـاد خـدّك يجـري |
|
رقةً والجفون ترنو بـسـحـر |
يا قليل الشبه مستظرف الشـك |
|
ل بديع الجمال مغرىً بهجـر |
كفّ عني الصدود يا واحد الحس |
|
ن فقد عيل من صدودك صبري |
وله أيضاً:
أبكي إذا غضبت حـتـى إذا رضـيت |
|
بكيت عند الرضا خوفاً من الغضـب |
فالموت إن رضيت والموت إن غضبت |
|
أنّى يرجّى سلوٌّ، عشت فـي تـعـب |
وهذا قريب من قول فضل الشاعرة، وقيل سعيد بن حميد:
ما كنت أيام كنت راضـيةً |
|
عني بذاك الرضا بمغتبط |
علماً بأنّ الرضا سيتبـعـه |
|
منك التجنّي وكثرة السّخط |
فكلّ ما ساءني فعن خلـقٍ |
|
منك وما سرّني فعن غلط |
هذا البيت الأخير كقول أبي العيناء، وقد سأله المتوكل عن ميمون بن إبراهيم صاحب ديوان البريد وكان يبغضه فقال: يد تسرق، مثله مثل يهودي سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى، وإحجام بما بقي، إساءته طبيعة، وإحسانه تكلف.
أبو محجن الثقفي وطرف من أدبه
ولما مات أبو محجن الثقفي وقف رجل على
قبره، فقال: رحمك الله أبا محجن ! فوالله لقد كنت قليل المراء، جيد الغناء، غير
نعاس، ولا عباس، ولا حابس للكاس.
واسم أبي محجن عروة بن حبيب، وكان فارساً شاعراً، وكان مشتهراً بالشراب كثيراً
يقول فيه؛ فحده عمر رضي الله عنه مرات، ثم أخرجه إلى العراق، فشرب، فحده سعد بن
أبي وقاص وسجنه في قصر العذيب، وكان سعد مريضاً في القصر، وأقام المسلمون في حرب
القادسية أياماً، فوجهت الأعاجم قوماً إلى القصر ليأخذوا من فيه، فاحتال أبو محجن
حتى ركب فرس سعد من غير علمه فخر فأوقع بهم؛ فرآه سعد، فلما انصرف بالظفر خلى
سبيله. وقال: لا أضربك بعدها في الشرب، قال: فإني لا أذوقها أبداً.
ودخل ابن أبي محجن على معاوية فقال له: أبوك الذي يقول ?
إذا متّ فادفنّي إلى جنب كـرمةٍ |
|
تروّي عظامي بعد موتي عروقها |
ولا تدفننّي في الفـلاة فـإنـنـي |
|
أخاف إذا ما مـتّ ألاّ أذوقـهـا |
فقال: يا أمير المؤمنين؛ لو شئت لذكرت من شعره ما هو أحسن من هذا وأنشد:
لا تسألي القوم عن مالي وكثـرتـه |
|
وسائلي القوم عن بأسي وعن خلقي |
القوم أعلم أنـي مـن سـراتـهـم |
|
إذا تطيش يد الرّعـديدة الـفـرق |
أُعطى السنان غداة الروع حصّتـه |
|
وعامل الرمح أرويه من العـلـق |
وأطعن الطعنة النّجلاء عن عرضٍ |
|
وأكتم السرّ فيه ضربة الـعـنـق |
فقال: لئن كنا أسأنا المقال، لا نسيء الفعال؛ وأمر له بصلة.
الحجاج يضحك في جنازة رجل من أهل الشام
وقال ابن عائشة: مات رجل من أهل الشام،
فحضر الحجاج جنازته، وكان عظيم القدر، وله عز وجاه؛ فصلى عليه وجلس على شفير قبره،
وقال: لينزل قبره بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوي التراب عليه :
رحمك الله يا أبا فلان؛ فإن كنت ما علمت لتجيد الغناء، وتسرع رد الكأس، ولقد وقعت
بموضع سوء لا تخرج منه إلا يوم الدكة.
قال: فما تمالك الحجاج أن ضحك، وكان لا يضحك في جد ولا في هزل، ثم قال للرجل: هذا
موضع هذا الأمر. ويلك ? قال: أصلح الله الأمير، فرسي حبيس في سبيل الله لو سمعه
الأمير يتغنى:
يا لبينى أوقدي الـنـارا |
|
إنّ من تهوين قد جارا |
ربّ نارٍ بتّ أرمقـهـا |
|
تقضم الهنديّ والغـارا |
عندها ظبيٌ يؤججـهـا |
|
عاقدٌ في الخصر زنّارا |
وكان الميت يسمى سعنة. فقال: أخرجوه من القبر يا أهل الشام، ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم ! وكان الميت أقبح خلق الله وجهاً، فلم يبق أحد ممن حضر إلا استغرق ضحكاً.
أهل الشام
وأهل الشام غاية في الجهل والغباوة. ودخل رجل من أهل العراق الشام في أيام عبد الملك في حوائج له، فحجب عنه، فدخل في غمار الناس، فقال عبد الملك لجلسائه: ما معنى قول الشاعر:
إذا ما المواشط باكـرنـهـا |
|
وأتبعن بالظّفر وحفاً طويلا |
تخذن القرون فعقّـلـنـهـا |
|
كعقل العسيف غرابيب ميلا |
يصف شعر امرأة، والوحف: البشام، والعسيف:
الأجير، والغرابيب الشديدة السواد؛ يريد عناقيد الكرم. وروي عراجين ميلاً فسكتوا
عن آخرهم.
فقال العراقي لرجل من أهل الشام له بزة وهيئة: أرأيتك إن أخبرتك بمعناه وحصل لك
الحظ عند أمير المؤمنين أتقربني منه حتى أسأله حاجتي ? قال: لك ذلك. قال: إنما يصف
البطيخ، فوثب الشامي، وقال ذلك، فافتضح وانقلب المجلس ضحكاً. فقال له عبد الملك:
من أين لك هذا العلم ? قال: هذا العراقي ابن اللخناء قال لي ذلك. فقال عبد الملك:
ما أدخلك ? أذكر حاجتك ? فذكرها فقضاها له وقال: أخرج من الشام لا تفسدها علي
بمجاورتك.
مما جمع التصرف في الإحسان
ومما جمع التصرف في الإحسان وبديع الافتنان، قول مسلم بن الوليد الأنصاري:
أجدّك ما تدرين أن ربّ لـيلةٍ |
|
كأنّ دجاها من قرونك ينشر |
نصبت لها حتى تجلّت بغـرّةٍ |
|
كغرّة يحيى حين يذكر جعفر |
يريد يحيى بن خالد بن برمك وجعفراً ابنه. وقال ابن المعتز:
سقتني في ليلٍ شبيهٍ بشعـرهـا |
|
شبيهة خدّيهـا بـغـير رقـيب |
فأمسيت في ليلين بالشّعر والدّجى |
|
وشمسين من خمرٍ وخدّ حبـيب |
وقال أبو الطيب:
نشرت ثلاث ذوائبٍ من شعرها |
|
في ليلةٍ فأرت ليالي أربـعـا |
واستقبلت قمر السماء بوجههـا |
|
فأرتني القمرين في وقتٍ معا |
من أعجب ما قيل في وصف الشعر
ومن أعجب ما قيل في وصف الشعر ما جمع فيه وصف سواده وتمامه، وأتى بالتشبيه الواقع، والوصف الرائع؛ قول أبي الحسن علي بن العباس الرومي:
وفاحـمٍ وارد يقـبّـل مـم |
|
شاه إذا اختال مسبلاً غـدره |
أقبل كاللّيل من مـفـارقـه |
|
منحدراً لا يذمّ مـنـحـدره |
حتى تناهى إلى مـواطـئه |
|
يلثم من كلّ موطىءٍ عفره |
كأنّه عاشقٌ دنـا شـغـفـاً |
|
حتّى قضى من حبيبه وطره |
يغشى غواشي قرونه قدمـاً |
|
بيضاء للناظرين مقـتـدره |
مثل الثرّيا إذا بدت سـحـراً |
|
بعد غمامٍ وحاسرٍ حـسـره |
وقد أخذه منه بعض أهل العصر وهو محمد بن مطران فقاربه في الإحسان:
ظباءٌ أعارتها المها حسن مشـيهـا |
|
كما قد أعارتها العيون الـجـآذر |
فمن حسن ذاك المشي جاءت فقبّلت |
|
مواطىء من أقدامهنّ الضـفـائر |
بنو أمية وأهل العراق
وكان بنو أمية يكرهون أهل العراق لفطنتهم ورقتهم؛ إذ سياسة الأغبياء أسهل عليهم؛ فقد قال الإسكندر لأرسطا طاليس: قد أعياني أهل العراق، ما أجري عليهم حيلةً إلا وجدتهم قد سبقوني إلى الخلاص، فتخلصوا قبل إيقاعها بهم؛ وقد عزمت على قتلهم عن آخرهم. فقال: إذا قتلتهم فهل تقدر على قتل الهواء الذي غذى طباعهم وخصهم بهذا الذكاء ? فإن ماتوا ظهر في موضعهم من يشاكلهم. فقال: ما الرأي ? قال: من كان فيه هذا العقل كانت فيه أنفة وحمية وشراسة خلق، وقلة رضاً بالضيم؛ فاقسمها طوائف، وول على كل طائفة أميراً، فإنهم يختلفون، فإذا اختلفوا فلت شوكتهم فغفلوا. فأقاموا مختلفين أربعمائة عام حتى جمعهم أردشير بن بابك وقال: إن كلمةً فرقت بيننا أربعمائة سنة لمشؤومة.
إياس بن معاوية أمام القاضي
ودخل إياس بن معاوية بن قرة الشام وهو
صغير؛ فخاصم شيخاً إلى القاضي وأقبل يصول عليه، فقال القاضي: اسكت يا صبي. فقال:
فمن ينطق بحجتي ? قال: إنه شيخ كبير، قال: إن الحق أكبر منه. قال القاضي: ما أراك
تقول حقاً؛ فقال: لا إله إلا الله. فركب القاضي من وقته إلى عبد الملك فأخبره
فقال: عجل بقضاء حاجته وأخرجه من الشام لئلا يفسدها.
وبإياس يضرب المثل في الذكاء قال الطائي:
إقدام عمروٍ في سماحة حاتـمٍ |
|
في حلم أحنفي في ذكاء إياس |
أحزم الملوك
خرج بعض ملوك الفرس متنزهاً، فلقيه بعض الحكماء فسأله عن أحزم الملوك ? فقال: من ملك جده وهزله، وقهر لبه هواه، وأعرب لسانه عن ضميره، ولم يختدعه رضاه عن سخطه، ولا غضبه عن صدقه. فقال الملك: لا، بل أحزم الملوك من إذا جاع أكل، وإذا عطش شرب، وإذا تعب استراح. فقال له: أيها الملك؛ قد أجدت الفطنة، أهذا لك علم مستفاد أم غريزي ? قال: كان لي معلم من حكماء الهند، وكان هذا نقش خاتمه. قال: فهل علمك غير هذا ? قال: ومن أين يوجد هذا عند رجل واحد. ثم قال الملك: علمني من حكمتك أيها الحكيم. قال: نعم ! احفظ عني ثلاث كلمات؛ قال: صدقت، فهات، قال: صقلك لسيف ليس له جوهر من طبعه خطأ، وبذرك الحب في الأرض السبخة ترجو نباته جهل، وحملك الصعب السير على الرياضة عناء. ومن هنا أخذ أبو تمام قوله:
في دولة غرّاء معتصمـيّة |
|
ميمونة الإدبار والإقـبـال |
فتعمّق الوزراء يطفو فوقها |
|
طفو القذى وتعقّب العـذّال |
والسيف ما لم يلف فيه صقلٌ |
|
من طبعه لم ينتفع بصقـال |
من نوادر الملوك والعمال والقضاة
وكان القلهمان أحد حكماء الهند وفيلسوف
أطبائهم وترجمان علومهم، وكان ترجمان ملك من ملوكهم يقال له ياكهثر بن شبرام، وكان
ركيكاً إلا أنه من أهل بيت المملكة، فقال يوماً للقلهمان: ما العلم الأكبر ? قال:
معرفة الطب. قال: فإني أعلم من الطب أكثره. قال: فما دواء المبرسم أيها الملك ?
قال: الموت حتى تقل حرارة صدره ثم يعالج بعد بالأدوية الباردة. قال القلهمان: أيها
الملك، من يحييه بعد الموت ? قال: ليس هذا من الطب. هذا علم آخر يوجد في كتاب
النجوم. ولم أنظر في شيء منه إلا في باب الحياة، فإني وجدتها خيراً للإنسان من
الموت. قال القلهمان: أيها الملك، على كل حال خير للجاهل. قال: لو نظر الجاهل في
باب الموت لعلم أني قلت الحق.
وسألت أبو عون رجلاً عن مسألة فقال: على الخبير سقطت، سألت عنها أبي فقال: سألت
أبي فقال: لا أدري.
قال أزهر: استعدت امرأة على زوجها عند ثمامة بن عبد الله بن أنس بن مالك وهو قاض
فادعت مهرها ألف درهم، فقال: ألك بينة ? قالت: لا، قال: أفأحلفه لك ? قالت: إنه
فاجر يحلف؛ ولكن ابعث إلى إسحاق بن سويد الفقيه فسله أن يحلف لي عنه. قال فأرسل
إلى إسحاق بن سويد فلما حضر. قال له: احلف لهذه المرأة ما لها على زوجها ألف درهم
? قال إسحاق: ما أنا وهذا ! قال: فيبطل حق هذه المرأة ? لتحلفن لها أو لأحبسنك،
فلم يحلف فحبسه. فأتاه ابن سيرين فقال: لا ألومك على حبسك إسحاق، ولكن لم وليت
القضاء ? قال: أكرهني عليه السلطان. قال: كنت تعلمه أنك لا تحسنه. قال: كنت أنا
أكذب ? وكان نصر بن مقبل بن الوزير على الرقة عاملاً لهارون الرشيد، فأخذ بعض
أصحابه رجلاً ينكح شاة، وأجمعوا الذهاب به إلى نصر، وكان الرجل ظريفاً فقال: يا
قوم؛ إنها والله ملك يميني. فضحوا منه وخلوا سبيله، وذهبوا بالشاة إلى نصر؛ فأمر
أن تضرب الحد، فإن ماتت تصلب، قالوا: إنها بهيمة ? قال: وإن كانت بهيمة؛ فإن
الحدود لا تعطل، وإن عطلتها فبئس الوالي أنا.
فانتهى حديثه إلى الرشيد ولم يكن رآه، وكان نبيل القد، حسن المنظر، جليل القدر؛
فدعا به فوقف بين يديه، فقال: من أنت ? قال: مولى لبني الكلب يا أمير المؤمنين،
فضحك. ثم قال: كيف بصرك في الحكم ? قال: البهائم يا أمير المؤمنين والناس عندي
سواء، ولو وجب الحكم على بهيمة وكانت أمي أم أختي لحددتها، ولم تأخذني في الله لومة
لائم. فأمر هارون ألا يستعمل، فلم يزل معطلاً حتى ولي المأمون، فرفع يسأله
الاستعانة به، فولاه طبرناباذ، وأمره أن يكون على العصير بها، فلم يزل على ذلك حتى
مات.
وكان مقاتل بن حسان على قضاء البصرة، فسأله رجل عن مسألة. فقال: لا أعرف الجواب،
فقال: أنت قاض ولا تحسن المسألة ? قال: نعم ! لأن الثور أعظم من الحمار ولا يحسن
أن يركض ركض الحمار. قال: أيها القاضي؛ فهذا مثلك ? قال: بل هذا مثلي ومثلك. قال:
فأيهما أنت ? قال: أنبلهما وأعظمهما يعني الثور.
حسن مظهر وسوء مخبر
قال أبو الهذيل العلاف: كان يختلف إلي
فتىً من أهل الموصل حسن السمت، نير الوجه، تقي الثياب؛ فكان يصمت في المجلس، وإذا
أتاه النهوض قال: أستغفر الله لي وللمتكلم، ثم يمضي. قال: فنبل في عيني، ولاط
بقلبي، وحلا في صدري؛ فذكرت قول الحكيم في كتاب جاودان خرد: يحرم على السامع تكذيب
القائل إلا في ثلاث هن غير الحق؛ صبر الجاهل على مضض المصيبة، وعاقل أبغض من أحسن
إليه، وحماة أحبت كنة.
فقال الفتى: لولا حفظي لنظير هذه الكلمات وسماعهن من ثقة ! فاشرأببنا إليه وقلنا:
ماذا ذاك ? يرحمك الله ! وظننا أنه سيأتي بأحسن منهن. فقال: حدثني أبي عن جدي أنه
قرأ في بعض كتب الحكماء: ليس الجائع كالشبعان، ولا المكسي كالعريان، ولا النائم
كاليقظان.
فطأطأت رأسي، وجعل أصحابي ينظرون إلي وإليه، وكرهت أن أسأله عن شيء بعد هذا. فقال
له بعضهم: من أنت يا فتى ? قال: من فوق الأرض ومن تحت السماء. قال: فمن العرب أم
من الموالي ? قال: من أوسطهما، قال: فما الاسم ? قال: لجام، قال: فما الكنية ? قال
أبو السراج، قال: فما بالك لا تنهض ? فوالله ما أنت إلا حمار، فوثب قائماً. وقال:
ليس البحث منكم، ولكن مني حيث أجلس إلى أمثالكم ولا تعرفون ما طحاها.
من كتب الفرس
وكتاب جاودان خرد من أجل كتب الفرس، وكان
سببه على ما ذكر الجاحظ أن بعض الأكاسرة كان زاهداً في كتب الأدب، راغباً في
التكبر عن النظر فيهما، والتعظم عن الاشتغال بشيء منها، وكان له وزير يقال له
كنجور بن أسفنديار، فصنع ترجمة لكتاب لم يعلمها أحد، وجعلها في ورقة، وألقاها إلى
الملك وكانت الترجمة: هذا كتاب تصفية الأذهان، ونقاء الفكر، وسراج القلوب، من كتاب
واضح عمود الحكمة.
فلما نظر الملك إلى هذه الترجمة شغفه حسنها، فقال لكنجور: لقد غلبت هذه الترجمة
على هواي، وقادت عزمي، وبعثت رأيي على هذا الكتاب؛ فسل عنه سؤالاً حفياً يرجع
بجلية الخبر، وابعث الحكماء الأدلاء، على تفتيش منازل الحكماء، فإن وجدته في شيء
من مملكتي، كنت أولى الناس باصطناع صاحبه، وإن وصف أنه في شيء من أقاليم الهند،
كتبت إلى ملك ذلك الإقليم، وسألته المن علي بدفع نسخة منه، وكافأته بهدية مكافأة
مثلي على وجود طلبته.
فقال كنجور: أيها الملك، لست أفزع باستفراغ مجهودي والله المعين. وصار إلى منزله
ولم يخرج منه حتى صنع كتابه المعروف بجاودان خرد.
قال الجاحظ: حدثني الواقدي قال: قال الفضل بن سهل: لما دعي للمأمون بكور خراسان
بالخلافة جاءتنا هدايا الملوك سروراً بمكانه من الخلافة، ووجه ملك كابلستان شيخاً
يقال له ذوبان، وكتب يذكر أنه وجه بهدية ليس في الأرض أسنى ولا أرفع ولا أنبل ولا
أفخر منها. فعجب المأمون وقال: سل الشيخ ما معه من الهدية ? فقال: ما معي شيء أكثر
من علمي، فقلت: وأي شيء علمك ? قال: رأي ينفع، وتدبير يقطع، وجلالة تجمع. فسر
المأمون به وأمر بإنزاله وإكرامه وكتمان أمره؛ فلما أجمع على التوجه إلى العراق
لقتال محمد الأمين أخيه دعا بذوبان، فقال: ما ترى في التوجه إلى العراق ? قال: رأي
دقيق، وحزم مصيب، وملك حريب، والسبب ماض، فاقض ما أنت قاض. قال: فمن نوجه ? قال:
الفتى الأعور، الطاهر الأطهر، الظاهر الأظهر، يستر ولا يفتر؛ قوي مرهوب، مقاتل غير
مغلوب.
قال: فمن نوجه معه من الجند ? قال: أربعة آلاف، صوارم الأسياف، لا ينقصن في العدد،
ولا يحتجن إلى مدد. قال: فما رأيت المأمون سر كسروره ذلك اليوم.
فوجه بطاهر؛ فلما تهيأ له الخروج سأل ذوبان: في أي وقت يخرج من النهار ? قال: مع
طلوع الفجر يجمع لك الأمر، وتصير إلى النصر.
فخرج في ذلك الوقت، فلما كتب بذكر مقدمه الري دعا المأمون بذوبان فقال: قد قرب
صاحبنا من العدو وقربوا منه، فما عندك دلالة أبو بينة تكون لنا أو علينا ? قال: قد
تعرفت شانه، إذ أتى فسطاطه، كان نصر سريع، وقتل ذريع، وتفرقت تلك الجموع، والنصر له
لا عليه، ثم يرجع الأمر إليك وإليه.
فكتب المأمون بذلك إلى طاهر ليقوي عزمه،
فلما كتب بقتله علي بن عيسى ابن ماهان واستيلائه على عسكره وأمواله، وخبر ما أولى
الله المأمون في أوليائه؛ من النصر والظفر بأعدائه، دعا ذوبان وأمر له بمائة ألف
درهم فلم يقبلها. وقال: أيها الملك؛ إن ملكي لم يوجهني إليك هدية لينقصك مالك؛ فلا
تجعل ردي نعمتك سخطاً؛ فليس عن استخفافٍ بقدرها؛ وسوف أقبل ما يفي بهذا المال
ويزيد، وهو كتاب يوجد في العراق فيه مكارم الأخلاق، وعلوم الآفاق، وهو كتاب عظيم
للفرس، فيه شفاء النفس، به من صنوف الآداب، ما لا يوجد في كتاب، عند عاقل لبيب،
ولا فطن أريب، يوجد في خزائن، عند الإيوان بالمدائن.
فلما قدم المأمون بغداد، واستقر بها ملكه اقتضاه ذوبان حاجته، وأمر أن تكتب القصة
والموضع الذي يشير إليه، فكتب: سر إلى وسط الإيوان، من غير زيادة ولا نقصان، واجعل
القسمة بالذرعان، ثم احفر المدر، فاقلع الحجر؛ فإذا وصلت إلى الساجة، فاقتلعها تجد
الحاجة، فخذها ولا تعرض لغيرها، فيلزمك غب ضيرها.
فوجه المأمون في ذلك رسولاً حصيفاً، فسار إلى الموضع، ففعل ما قيل له؛ فوجد
صندوقاً صغيراً من زجاج أسود عليه قفل منه، فحمله ورد الحفرة إلى حالها الأول.
قال عمرو بن بحر: فحدثني الحسن بن سهل قال: إني لعند المأمون إذ وصل ذلك الصندوق،
فجعل يتعجب منه، ثم دعا بذوبان فقال له: هذه بغيتك ? قال: نعم ! أيها الملك، لست
ممن تنقض رغبته ذمام عهده، ولا يحل طمعه عقدة وفائه، ثم تكلم بلسانه، ونفخ في
القفل فانفتح، فأدخل يده وأخرج منه خرقة ديباج فنشرها فسقط منها أوراق، فرد
الأوراق في الخرقة ونهض. ثم قال: أيها الملك، هذا الصندوق يصلح لرفيع خبيات
خزائنك، فأمر به فرفع.
قال الحسن بن سهيل: فقلت: ترى يا أمير المؤمنين أن أسأله ما في هذا الكتاب ? قال:
يا حسن، أفر من اللؤم ثم أرجع إليه ? أمرته ألا يفتحه بين يدي قطعاً للطمع فيه،
وصمتةً بالمسألة عنه، وتحرياً للرغبة فيه، والله لا كان هذا أبداً.
فلما خرج صرت إلى منزله فسألته عنه مسألة راغب فيه، فقال: هذا كتاب جاودان خرد
تأليف كنجور ملك سبراشهرا، فقلت: أعطني ورقةً منه أنظر فيها. فأعطاني فوقعت عليها
عيني. وأسرجت لها ذهني، وأجلت فيها فكري؛ فلم أزدد منه إلا بعداً؛ فدعوت بالخضر بن
علي، وذلك في صدر النهار، فلم ينتصف حتى فرغ من قراءتها بينه وبين نفسه؛ ثم جعل
يفسرها وأنا أكتب، ثم رددت الورقة وأخذت منه نحو ثلاثين ورقة، فدخلت عليه يوماً
فقلت: يا ذوبان؛ يكون في الدنيا من يحسن مثل هذا الكتاب ? قال: يجوز أن يكون فيها
من يحسن ترجمة هذا الكتاب، ولا يجوز أن يكون فيها من يحسن مثل هذا الكتاب. قلت:
فهل تعرف من يترجمه ? قال: نعم، وأصفه لك، هو طوال أنزع، إن تكلم تتعتع، يفوق أهل
زمانه، بما يكون من شأنه، اسمه خضير، يقوم بأمر خطر، لو كان له عمر، ولولا أن
العلم سبيل الدنيا والآخرة، وهو الكرامة الفاخرة، ومن معرفة قدره الضن به، لرأيت
أن أدفعه إليك بتمامه، ولكن لا سبيل إلى أكثر مما أخذت.
ولم تكن الأوراق التي أخذتها على التأليف؛ لأنا أصبنا ورقة فيها علامات فيها الكنوز،
وآخر الورقة مكتوب: دليل هذا الباب في الورقة التي تليها؛ ولم نجد غير هذا بتاً؛
غير أنا وجدنا أبواباً من الحكمة تشهد لها القلوب بحقيقة الصحة، وتحلف طيها الألسن
بغاية النهاية.
هذا من كلام الحسن بن سهل كقول أبي تمام يصف شعره:
ومحلفةٍ لمّا ترد أُذن سامـعٍ |
|
فتصدر إلاّ عن يمينٍ وشاهد |
قال الجاحظ: وحدثني الحسن بن سهل قال: قال لي المأمون: أي كتب العرب أنبل ? قال قلت المبتدأ ? قال: لا. قلت: فالتاريخ ? قال: لا، فسكت، فقال: تفسير القرآن، لأنه لا شبه له، وتفسيره لا شبه له. ثم قال: أي كتب العجم أنبل ? فاستعرضتها فقلت: هذا كتاب ذوبان، وقد كتبت بعضه، فقال: إيتني به معجلاً. فوجهت في حمله، فوافاني الرسول وقد نهض يريد الصلاة. فقال: فلما رآني مقبلاً والكتاب معي انحرف عن القبلة، وأخذ الكتاب وجعل ينظر فيه، فإذا فرغ من باب قال: لا إله إلا الله، فلما طال ذلك عليه قعد وجعل يقرأ؛ فقلت: الصلاة تفوت وهذا لا يفوت. قال: صدقت غير أني أخاف السهو في الصلاة لاشتغال قلبي بلذيذ ما في هذا الكتاب، وما أجد للسهو حائلاً غير ذكر الموت فجعل يقرأ: "إنك ميت وإنهم ميتون". ثم وضع الكتاب. وقام فكبر؛ فلما فرغ من صلاته نظر فيه حتى أتى على آخره. ثم قال: أين تمامه ? قلت: عند ذوبان لم يدفعه إلي. فقال: لولا أن العهد حبل أحد طرفيه بيد الله والآخر بأيدينا لأخذته منه، فهذا والله الكلام، لا ما نحن فيه من لي ألسنتنا في فجوات أشداقنا.
من الحكم
قال الحسن بن سهل: قرأت في هذا الكتاب:
ثلاث لا يصلح فسادهن بشيء من الحيل: العداوة بين الأقارب، وتحاسد الأكفاء،
والركاكة في العقول. وثلاث لا يستفسد صلاحهن بنوع من المكر: العبادة في العلماء،
والقنوع في المستبصرين، والسخاء في ذوي الأخطار. وثلاث لا يشبع منهن: الحياة،
والعافية، والمال. وثلاث تبطل مع ثلاث: الشدة مع الحيلة، والعجلة مع التأني،
والإسراف مع القصد.
وهذا كما قال الخضر بن علي: رأيت بعدن حجراً مكتوباً عليه بالحميرية: يأيها
الشديد؛ احذر الحيلة، ويأيها العجول؛ احذر التأني، ويأيها المحارب؛ لا تأمن من
التفكر في العاقبة، ويأيها الرائد موجوداً لا تقطع أملك عن بلوغ مثله.
أما قوله للمحارب، فقد قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: من فكر في العواقب لم
يشجع.
شجاعة وحسن بلاء
وقال سعد بن ناشب الغنوي:
عليكم بداري فاهدموها فإنّـهـا |
|
تراث كريم لا يخاف العواقـبـا |
إذا همّ ألقى بين عينـيه هـمّـه |
|
ونكّب عن ذكر العواقب جانبـا |
ولم يستشر في رأيه غير نفسـه |
|
ولم يرض إلاّ قائم السيف صاحبا |
وقد قال معاوية رضي الله عنه: هممت مرات كثيرةً بصفين أن أخيس فلم يردني إلا أبيات ابن الإطنابة:
أبت لي عفّتي وأبـى بـلائي |
|
وأخذي المجد بالثمن الربـيح |
وقولي كلّما جشأت وجاشـت |
|
مكانك تحمدي أو تستريحـي |
وإقدامي على المكروه نفسي |
|
وضربي هامة البطل المشيح |
لأدفع من مآثر صالـحـاتٍ |
|
وأمنع بعد عن نسبٍ صريح |
وابن الإطنابة هو عمرو بن عامر بن زيد
مناة بن مالك بن الأغر الخزرجي، وهو فارس مشهور معروف، والإطنابة أمه.
وقد أحسن قطري بن الفجاءة في هذا المعنى حيث قال:
وقولي كلّما جاشت لنفـسـي |
|
من الأعداء ويحك لا تراعي |
فإنك لو سـألـت مـزيد يومٍ |
|
أبى الأجل المقدّر أن تطاعي |
وقال بعض الغزاة: فتحنا حصناً من بلاد
الروم، فرأينا فيه صورة أسد من حجر عليه مكتوب: الحيلة خير من الشدة، والتأني أفضل
من العجلة، والجهل في الحرب أحزم من العقل، والتفكر في العاقبة من أمارة الجزع.
ووجه ملك الروم إلى الرشيد بثلاثة أسياف مع هدايا كثيرة، على سيف منها مكتوب: أيها
المقاتل؛ احمل تغنم، ولا تفكر في العاقبة تهزم. وعلى الثاني: التأني فيما لا تخاف
عليه الفوت، أفضل من العجلة إلى إدراك الأمل. وعلى الآخر: إن لم تصل ضربة سيفك،
فصلها بإلقاء خوفك.
وهذا كقول كعب بن مالك الأنصاري:
نصل السيوف إذا قصرن بخطونا |
|
قدماً ونحلقها إذا لم تـلـحـق |
وكقول نهشل بن حري:
إذا الكماة تأبّوا أن ينالـهـم |
|
حدّ السيوف وصلناها بأيدينا |
وأعطى بعض الأمراء سيفاً لرجل فقال له:
صله بخطواتك. فقال له: الصبر أقرب من تلك الخطوة.
وأعطى آخر لرجل سيفاً فسأله بدله، وقال: هو غير ماض. قال: خذه، فالسيوف مأمورة،
قال: فهذا أمر ألا يقطع.
وانهزم رجل، فدخل على أميره فشتمه وقال: أعطيت بيدك وهربت، ولم توغل ولا
صبرت ! فقال: لئن تشتمني أصلحك الله وأنا حي خير من أن تترحم علي وأنا ميت.
وقيل لأعرابي: اخرج إلى الغزو ! فقال: أنا والله أكره الموت على فراشي، فكيف أمشي
إليه ركضاً ?!.
أخذ هذا المعنى أحمد بن أبي فنن فقال مستطرداً يمدح أبا دلف القاسم بن عيسى العجلي
والاستطراد أن يريك الفارس أنه ولى، وإنما ولى لتتبعه فيكر عليك كذلك الشاعر يريك
أنه يصف شيئاً، ثم يعن له معنىً فيأتي به، وكأنه ليس من قصده ولم يقصد غيره:
ما لي وما لك قد كلّفتني شططـاً |
|
حمل السلاح وقول الدارعين قف |
أمن رجال المنايا خلتنـي رجـلاً |
|
أُمسي وأُصبح مشتاقاً إلى التلـف |
أرى المنايا على غيري فأكرههـا |
|
فكيف أمشي إليها بارز الكتف ? |
أخلت أنّ سواد اللـيل غـيّرنـي |
|
أو أنّ قلبي في جنبي أبي دلف ? |
لأنه كان شديد السواد.
ولما دخل على المعتز قال: هذا الشاعر الأسود ? قال: لا يضره سواده، أعزكم الله
تعالى؛ فإن بيض أباديكم عنده.
وقال المنصور لبعض الخوارج وقد أتي به أسيرا : أخبرني أي أصحابي كان أشد إقداماً
في مبارزتكم ? فقال: ما أعرف وجوههم مقبلين، وإنما أعرف أقفاءهم؛ فمرهم أن يدبروا
لأعرفك أشدهم إدباراً.
أخذه ابن الرومي فقال في سليمان بن عبد الله بن طاهر وكان قد خرج في بعض الوجوه
فهزم:
قرن سليمان قد أضـرّ بـه |
|
شوقٌ إلى وجهه سيدنـفـه |
أعرض عن قرنه وفرّ فمـا |
|
أصبح شيءٌ عليه يعطفـه |
كم يعد القرن باللقـاء وكـم |
|
يكذب في وعده ويخلـفـه |
لا يعرف القرن وجهه ويرى |
|
قفاه من فرسخٍ فيعـرفـه |
وله في هذا المعنى أهاج كثيرة فمن ظريفها:
سليمان ميمون النقـيبة حـازم |
|
ولكنّه حتمٌ علـيه الـهـزائم |
ألا عوّذوه من توالي فتـوحـه |
|
عسى أن تردّ العين عنه التمائم |
وقال:
جاء سليمان بني طـاهـر |
|
فاجتاح معتزّ بني المعتصم |
كأنّ بغداد لدن أبـصـرت |
|
طلعته نـائحةٌ تـلـتـدم |
مستقبل منه ومسـتـدبـر |
|
وجه بخيلٌ وقفاً منـهـزم |
من ملح أبي دلامة
وقال روح بن حاتم لأبي دلامة: اخرج معي وهذه عشرة آلاف درهم. فقال:
إني أعوذ بروحٍ أن يقـرّبـنـي |
|
إلى الحمام فتشقى بي بنو أسـد |
إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكـم |
|
وما ورثت اختيار الموت من أحد |
وكان أبو دلامة شاعراً فصيحاً، وماجناً
مليحاً، واسمه زند بن الجون الأزدي.
ودخل على أبي جعفر المنصور فأنشده وذكر زوجته:
فاخرنطمت ثم قالت وهي مغضبةٌ |
|
أأنت تتلو كتاب اللّه يالـكـع ?! |
قم كي تبيع لنا نخلاً ومـزدرعـاً |
|
كما لجارتنا نـخـلٌ ومـزدرع |
خادع خليفتنا عنهـا بـمـسـألةٍ |
|
إنّ الخليفة للـسـؤّال ينـخـدع |
قال: قد أمرنا لك بمائة جريب عامر، ومائة
جريب غامر. فقال: وما الغامر يا أمير المؤمنين ? قال: الذي لا ينبت، قال: فإني
أقطعك عشرة آلاف جريب من فيافي بني أسد. فضحك وأمر له بالجميع عامراً، فقال: إئذن
لي في تقبيل يدك يا أمير المؤمنين ? فقال: أما هذه فدعها، فقال: ما منعت عيالي
شيئاً أسهل عليهم من هذه.
ودخل أبو دلامة يوماً على أبي جعفر المنصور فأنشده:
إنّي رأيتك في المـنـا |
|
م وأنت تعطيني خياره |
ممـلـوءةً بـدراهـم |
|
وعليك تأويل العبـاره |
فقال له المنصور: امض فأتني بخيارة أملؤها
لك دراهم. فمضى فأتى بأعظم دباءة توجد. ما هذا ? قال: يلزمني الطلاق إن كنت رأيت
إلا دباءة، ولكني نسيت، فلما رأيت الدباءة في السوق ذكرتها.
وهذا إنما أخذه من ابن عبدل الأسدي، وقد دخل على بعض بني مروان، فقال: تأذن لي
أصلحك الله أن أقص عليك رؤيا رأيتها ? فقال: هات؛ فأنشد:
أغفيت قبل الصبح نوم مسهّدٍ |
|
في ليلةٍ ما كنت قبل أنامها |
فرأيت أنّك رعتني بولـيدةٍ |
|
فتذانةٍ حسن عليّ قيامـهـا |
وببدرةٍ حملت إلـيّ وبـغـلةٍ |
|
دهماء ناجيةٍ يصلّ لجامـهـا |
فدعوت ربي أن يثيبـك جـنّةً |
|
عوضاً يصيبك بردها وسلامها |
فقال: عندي كل شيء إلا البغلة فإنها عندنا
شهباء. فقال: امرأتي طالق إن كنت رأيتها إلا شهباء، ولكني غلطت.
ولابن عدل ظريفة مع بشر بن مروان: وذلك أنه كان متصلاً به، منقطعاً إليه، فأغفله،
فغاب عنه أياماً ثم أتاه فقال: أين غبت، فقد طلبتك فلم أقدر عليك ? قال: خرجت أيها
الأمير إلى البادية أطلب التزوج بابنة عم لي أيم فقالت: لي أموال متفرقة على
الناس، وأنا امرأة لا قيم لي، فاقتضها لي وأنا أتزوجك؛ فاقتضيت لها جميع أموالها،
فلما فرغت كتبت إلي:
سيخطئك الذي أمّلت مـنّـي |
|
بقطع حبال وصلك من حبالي |
كما أخطاك معروف ابن بشر |
|
وكنت تعدّ ذلـك رأس مـال |
فضحك وقال: ما أحسن ما تلطفت.
ودخل أبو دلامة يوماً على المنصور وبين أصبعيه خرقة، فقال له: ما هذا يا أبا دلامة
? فقال: ولدت لي الباحة صبية وقد قلت فيها:
فما ولدتك مريم أُمّ عسى |
|
ولم يكفلك لقمان الحكيم |
ولكن قد ولدت لأمّ سوءٍ |
|
يقوم بأمرها بعلٌ لـئيم |
فضحك المنصور وقال: ما تريد ? قال: ملء
هذه الخرقة أستعين بها على تربيتها. فقال المنصور: أملأوها دراهم، ففتحوها فإذا هي
رداء رقيق كبير، فملأوه؛ فأخذ عشرة آلاف درهم.
وكان المنصور بخيلاً، وإنما كان أبو دلامة يستنزله بالملح لشدة بخله، فقد كان
يتجاوز الغاية في ذلك.
بخل المنصور
وكان المنصور قبل أن يلي الخلافة ينزل على
أزهر السمان، فلما استخلف صار إليه أزهر. فقال: ما أقدمك ? قال: حاجة أمير
المؤمنين؛ علي أربعة آلاف درهم، ولي دار متهدمة، وأريد البناء لابني محمد. فأمر له
باثني عشر ألف درهم. وقال: يا أزهر؛ لا تأتنا طالب حاجة. قال: أفعل.
فلما كان بعد قليل عاد فقال: يا أزهر؛ ما جاء بك ? قال: جئت مسلماً على أمير
المؤمنين، قال: إنه ليقع في نفسي أن ما أتيت إلا لما أتيت له في المرة الأولى،
وأمر له باثني عشر ألف درهم. وقال: لا تأتنا طالب حاجة ولا مسلماً. قال: نعم ! ثم
ما لبث أن عاد فقال: يا أزهر؛ ما جاء بك? قال: دعاء كنت سمعت أمير المؤمنين يدعو
به فجئت مستملياً لآخذه عن أمير المؤمنين. فقال: لا تكتبه فإن غير مستجاب، لأني
دعوت الله به أن يرحني منك فلم يستجب لي. ثم صرفه ولم يعطه شيئاً.
ابن هرمة يمدح المنصور فيجيزه
ولما دخل عليه إبراهيم بن علي بن هرمة أنشده قصيدته التي يقول فيها:
له لحظاتٌ في حفافيّ سريره |
|
إذا كرّها فيها عقابٌ ونـائل |
فأمّ الذي أمّنت آمنة الـردى |
|
وأمّ الذي حاولت بالثكل ثاكل |
فرفع الحجاب له، وأقبل عليه وأمر له بعشرة آلاف درهم. ثم قال: يا إبراهيم: لا تتلفا طمعاً في مثلها، فما كل وقت تصل إلينا، ولا يصلك منا مثلها. فقال: ألقاك بها يا أمير المؤمنين يوم العرض بختم الجهبذ. فضحك. وقال: اذكر حوائجك ? فقال: تكتب لي إلى عامل المدينة ألا يحدني إذا أتي بي إليه وأنا سكران، فقال: هذا حد من حدود الله لا يمكن تعطيله. فقال: تحتال لي يا أمير المؤمنين، فكتب إلى عامر المدينة؛ من أتاك بابن هرمة وهو سكران فاضربه الحد، واضرب الذي يأتيك به مائة. فتحاماه الشرط. فكانوا يمرون به مطروحاً في سكك المدينة فيقولون: من يشتري ثمانين بمائة ?!
مدحة وعطاء
وقال المؤمل بن أميل: قدمت على المهدي وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه، فامتدحته فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب ذلك صاحب البريد إلى المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه يعذله ويلومه، ويقول: إنما كان ينبغي لك أن تعطي الشاعر إذا أقام ببابك سنة أربعة آلاف درهم، وكتب إلى كاتبه أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب فلم يقدر عليه، فكتب إليه أن قد توجه إلى مدينة السلام.
فأجلس قائداً من قواده على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً، فجعل لا يمر به قافلة إلا تصفحهم، فمرت القافلة التي فيها المؤمل، فقال له: من أنت ? قال: المؤمل بن أميل من زوار المهدي، قال: إياك أردت، قال المؤمل: فكاد والله قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر، فقبض علي، وقال: سر، فسرت معه فسلمني إلى الربيع، فدخل الربيع على المنصور فقال له: هذا الشاعر قد ظفرنا به. قال: أدخلوه. قال: فدخلت عليه فسلمت فرد السلام. فقلت: ليس ههنا إلا الخير، فقال: أنت المؤمل بن أميل ? قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، أنا المؤمل، فقال: أتيت غلاماً غراً فجدعته فانخدع !! فقلت: بل أتيت كريماً فخدعته فانخدع، والكريم يخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
هو الـمـهـديّ إلاّ أنّ فـيه |
|
مشابه صورة القمر المنـير |
تشابه ذا وذا فهـمـا إذا مـا |
|
أنارا يشكلان على البصـير |
فهذا في الضياء سراج عـدلٍ |
|
وهذا في الظلام سراج نـور |
ولكن فضّل الرحـمـن هـذا |
|
على ذا بالمنابر والـسـرير |
وبالملك العـزيز فـذا أمـيرٌ |
|
وما ذا بالأمير ولا الـوزير |
ونقص الشهر يخمد ذا، وهـذا |
|
منيرٌ عند نقصان الشـهـور |
فيابن خليفة اللّه المـصـفّـى |
|
به تعلو مفاخرة الـفـخـور |
لئن فتّ الملوك وقد تـوافـوا |
|
إليك من السهولة والوعـور |
لقد سبق الملوك أبوك حـتّـى |
|
أتوا ما بين كابٍ أو حـسـير |
وجئت وراءه تجري حثـيثـاً |
|
وما بك حين تجري من فتور |
فقال النـاس مـا هـذان إلاّ |
|
كما بين الخليق من الجـدير |
لئن فات الكبير مدى الصغـير |
|
فذا فضل الكبير على الصغير |
وإن بلغ الصغير مدى الكبـير |
|
فقد خلق الصغير من الكبـير |
فقال: والله لقد أحسنت، ولكن لا تساوي
عشرين ألف درهم، فأين المال ? قلت: هوذا، قال: يا ربيع، انزل معه فأعطه عشرة آلاف
درهم وخذ الباقي.
فلما صارت الخلافة إلى المهدي وولي ابن ثوبان المظالم، وكان يجلس للناس بالرصافة،
فإذا ملأ ثوبه رقاعاً دفعها إلى المهدي؛ فدفعت إليه رقعةً، فلما دخل بها ابن ثوبان
وجعل المهدي ينظر في الرقاع حتى نظر في رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله
أمير المؤمنين، ما رأيتك ضحكت من شيء إلا من هذه الرقعة ? فقال: هذه رقعة أعرف
سببها، ردوا عليه العشرة آلاف، فردت.
أخذ قوله في القمر علي بن الجهم فقال:
رأيت الهلال على وجهـه |
|
فلـم أدر أيّهـمـا أنـور |
سوى أنّ ذاك بعيد المحـلّ |
|
وهذا قريبٌ لمن ينـظـر |
وذاك يغيب وذا حـاضـر |
|
وما من يغيب كمن يحضر |
وقال إبراهيم بن العباس:
وعابك أقوامٌ فـقـالـوا شـبـيهةً |
|
لبدر الدجى حاشاك أن تشبهي البدرا |
لئن شبّهوك الـبـدر لـيلة تـمّـه |
|
لقد قارفوا الشّنعاء واقترفوا الوزرا |
أيشبه بدرٌ آفلٌ نـصـف شـهـره |
|
ضياءً منيراً يطلع الشهر والدهرا ? |
وإنما نقل المؤمل في موازنة المهدي بالمنصور قول زهير بن أبي سلمى: قال الربيع بن يونس الحاجب: كنا وقوفاً على رأس المنصور في يوم عيد وقد طرحت وسادةٌ بين يديه؛ فجلس المهدي عليها، والناس سماطان على مراتبهم، إذ أقبل صالح بن المنصور الملقب بالمسكين وهو حدث فوقف بين السماطين فسلم وأحسن ثم استأذن في الكلام فأذن له فتكلم. قال الربيع: فلم يبلغه ذلك اليوم خطيب؛ فمد المنصور يده فقال: إلي يا بني، فلما دنا منه اعتنقه وأقعده قدامه، ثم نظر في وجوه القوم هل منهم أحد يصف كلامه وما كان منه ! فكلهم هاب المهدي، فقال عقال بن شبة فقال: لله در خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين، ما أفصح لسانه، وأبين بيانه، وأمضى جنانه، وأبل ريقه، وأغمض عروقه، وأسهل طريقه ! وحق لمن كان أمير المؤمنين أباه، والمهدي أخاه، أن يكون كما قال زهير:
هو الجواد فإن يلحق بشأوهما |
|
على تكاليفه فمثله لـحـقـا |
أو يسبقاه على ما كان من مهلٍ |
|
فبالذي قدّما من صالحٍ سبقـا |
قال الربيع: فقال لي
أبو عبد الله وكان إلى جانبي ما رأيت مثل عقال بن شبة قط؛ أرضى أمير المؤمنين،
ومدح الغلام، وسلم من مذمة المهدي.
ويقال: إنه لما قال هذا عمي، فرأى في منامه إنساناً يقول له: هذا ما تمنيت في شعرك. ومن أحسن ما قاله المؤمل قوله:
أبو دلامة والمنصور وكان المنصور قد أخذ
الناس بلباس قلانس طوال، وأن يكتبوا في ظهور ثيابهم: "فسيكفيكهم اللّه وهو
السميع العليم"، وأن يطيلوا حمائل سيوفهم. فدخل أبو دلامة عليه في ذلك
الزي، فقال: كيف حالك يا أبا دلامة ? فقال: ما حال من صار وجهه في وسطه، وسيفه
في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره !! فأمر المنصور بتغيير ذلك الزي.
فقالت له أم سلمة:
يا زند، ما أصيب أحد بأمير المؤمنين غيري وغيرك ? قال: ولا سواي، أنت لك ولد منه
تتسلين به، وأنا لا ولد لي مه. فضحكت أم سلمة ولم تكن ضحكت منذ مات أبو العباس،
وقالت: يا زند، ما تدع أحداً إلا أضحكته !. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
وأراد موسى بن داود الخروج إلى الحج، فقال
لأبي دلامة: تأهب حتى تخرج معي في هذا الوجه، وأعطاه عشرة آلاف درهم، وقال له: خلف
لعيالك ما يكفيهم واخرج؛ وإنما أراد أن يأنس به في طريقه بحديثه وأشعاره ونوادره.
فلما حضر خروج موسى هرب أبو دلامة إلى سواد الكوفة، فجعل يشرب من خمرها ويتمتع في
نزهها، فسأل عنه فأخبروها باستتاره، فطلبه فلم يقدر عليه، وخاف أن يفوته الحج؛
فلما يئس منه قال: دعوه إلى النار وحر سقر وأليم عذابه. فلما شارف القادسية إذا هو
بأبي دلامة قد خرج من قرية يريد أخرى، فبصر به. فقال: ائتوني بعدو الله الكذاب، فر
من الحق إلى الباطل، ومن الحج إلى حانات الخمارين، قيدوه وألقوه في بعض المحامل.
ففعل ذلك به، فلما ولت الإبل، صاح أبو دلامة بأعلى صوته:
يأيها الناس قولوا أجمعين معـي |
|
صلّى الإله على موسى بن داود |
كأنّ ديباجتي خدّيه مـن ذهـبٍ |
|
إذا تشرّف في أثوابه الـسـود |
أما أبوك فعين الجود نعـرفـه |
|
وأنت أشبه خلق اللّه بالـجـود |
نبّئت أنّ طريق الحجّ معطـشةٌ |
|
من الطلاء وما شربي بتصريد |
واللّه ما فيّ من خيرٍ فتطلـبـه |
|
في المسلمين وما ديني بمحمود |
إني أعـوذ بـداودٍ وتـربـتـه |
|
من أن أحجّ بكـرهٍ يابـن داود |
فقال موسى: ألقوه عن المحمل، فعليه لعنة
الله، ودعوه يذهب إلى سقر وحر نارها، فألقوه.
ومضى موسى لوجهه، فما زال أبو دلامة يتمتع بالنزه، ويشرب الخمر حتى أتلف العشرة
آلاف رهم، وانصرف موسى من حجه، فدخل أبو دلامة يهنئه، فلما رآه قال: أتدري ما فاتك
من الخير ? فقال: والله ما فاتني خير ليلاً ولا نهاراً يريد الشرب والقصف فضحك
ووصله.
ودخل أبو دلامة على المهدي وعنده عيسى بن موسى، والعباس بن محمد، وناس من بني
هاشم، فقال المهدي: يا أبا دلامة. قال: لبيك يا أمير المؤمنين. قال: اهج من شئت
ممن ضمه هذا المجلس ولك الجائزة؛ فنظر في القوم فلم ير إلا شريفاً قريباً من
المهدي، فقال: أنا أحد من في المجلس ثم أنشده:
ألا أبلغ إلـيك أبـا دلامـه |
|
فليس من الكرام ولا كرامه |
إذا لبس العمامة قلت قـردٌ |
|
وخنزيرٌ إذا نزع العمامـه |
فإن تك قد أصبت نعيم دنـيا |
|
فلا تفرح فقد دنت القيامه |
قال: فضحك المهدي، وسر القوم، إذ لم يسود
بأحد منهم، فقال له المهدي: تمن. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تأمر لي بكلب صيد، فقال:
يابن الفاعلة؛ وما تصنع به ? فقال: إن كانت الحاجة لي فليس لك أن تعرض فيها. فقال:
صدقت أعطوه كلباً، فأعطي. فقال: يا أمير المؤمنين: لا بد لهذا الكلب من كلاب. فأمر
له بغلام مملوك، فقال: يا أمير المؤمنين، أو يتهيأ لي أن أصيد راجلاً ? فقال:
أعطوه دابةً، فقال: ومن يسوس الدابة ? فقال: أعطوه غلاماً سائساً. فقال: ومن ينحر
الصيد ويصلحه ? فقال: أعطوه طباخاً. فقال: ومن يأويهم ? فقال: أعطوه داراً، فبكى
أبو دلامة وقال: ومن يمون هؤلاء كلهم ? فقال: يكتب له إلى البصرة بمائة جريب
عامرة، ومائتي جريب غامرة. فقال: وما الغامرة ? قال: التي لا نبات فيها. قال: فأنا
أعطيك مائتي ألف جريب من فيافي بني أسد، فضحك وقال: ما تريد ? قال: بيت المال.
قال: على أن أخرج المال منه. قال: فإذاً يصير غامراً، فاستفرغ ضاحكاً وقال: اذهب
فقد جعلناها لك كلها عامرة. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ائذن لي أن أقبل يدك، قال:
أما هذه فدعا. فقال: والله ما تمنع عيالي شيئاً أهون عليهم من هذا، فناوله يده
فقبلها. وقد تقدم له بعض هذا حكاية مع المنصور، والرواة يختلفون، وهو أدب لا يخطب
أبكاره بالنسب.
وخرج أبو دلامة مع المهدي وعلي بن سليمان إلى الصيد، فعن لهم ظبي؛ فرماه المهدي
فأصابه، ورمى علي بن سليمان فأصاب كلب الصيد، فضحك المهدي وقال لأبي دلامة: قل في
هذا شيئاً فأنشد:
قد رمى المهديّ ظبياً |
|
شكّ بالسهم فـؤاده |
وعليّ بن سـلـيمـا |
|
ن رمى كلباً فصاده |
فهنـيئاً لـهـمـا ك |
|
لّ امرىءٍ يأكل زاده |
فاستفرغ المهدي ضحكاً وأمر له بجائزة.
وكان أبو العباس السفاح مولعاً بأبي دلامة، لا يفارقه ليلاً ولا نهاراً لكثرة نوادره وجودةً شعره، ومعرفته بأيام الناس وأخبارهم؛ وكان أبو دلامة يهرب منه جهده، ويأتي حانات الخمارين فيشرب مع إخوانه من الشعراء، وكان يحب مجالستهم وتهرب من مؤانستنا ? فقال: والله يا أمر المؤمنين؛ إن الفضل والشرف والعز والخير كله في الوقوف ببابك ولزوم خدمتك، ولكن نكره كما ذكرت، ولا مللتك قط، وإنك لتعلم ذلك، ولكنك قد اعتدت حانات الخمارين، ومجالسة أهل المجون. ثم أمره بلزوم قصره، ووكل به من يمنعه الخروج، وأمره بملازمة المسجد الذي يصلي فيه السفاح، حتى أضر به فقال:
ألم تعلموا أنّ الـخـلـيفة لـزّنـي |
|
بمسجده والقصر، ما لي وللقصر ! |
أُصلّي به الأولى مع العصـر آيسـاً |
|
فويلي من الأولى وويلي من العصر |
ويحبسني عن مجـلـسٍ أسـتـلـذّه |
|
أعلّل فيه بالسمـاع وبـالـخـمـر |
وواللّه ما لي نـيّةٌ فـي صـلاتـه |
|
ولا البرّ والإحسان والخير من أمري |
وما ضرّه، واللّـه يصـلـح أمـره |
|
لو أنّ ذنوب العالمين على ظهـري |
فلما بلغت الأبيات السفاح قال: دعوه
وشأنه، فوالله ما أفلح قط.
وشرب أبو دلامة مع حماد عجرد، فأتى المهدي بأبي دلامة فقال: استنكهوه؛ ففعلوا
فوجدوا رائحة الخمر، فأحب أن يعبث به؛ فأمر الربيع أن يحبسه في بيت الدجاج ويطين
عليه الباب، ففعل؛ ثم أمر بعد يومين فأخرج ملبباً بطيلسانه، فأقيم بين يديه، فقال:
يا عدو الله؛ أتشرب الخمر ? أما إني لأقيمن عليك الحد، ولا تأخذني فيك لومة لائم،
فأنشأ أبو دلامة:
أمير المؤمنين، فدتك نفـسـي |
|
علام حبستني وخرقت ساجـي |
أُقاد إلى السجون بغـير جـرمٍ |
|
كأني بعض عمّال الـخـراج |
ولو معهم حبست لكـان خـيراً |
|
ولكني حبست مـع الـدّجـاج |
أمن صهباء ! ريح المسك فيها |
|
ترقرق في الإناء لدى المزاج |
عقار مثل عين الديك صـرفٌ |
|
كأنّ شعاعها لهب الـسّـراج |
وقد طبخت بنار اللّـه حـتـى |
|
لقد صارت من النّطف النّضاج |
وقد كانت تحدّثـنـي ذنـوبـي |
|
بأنّي من عقابك غير نـاجـي |
على أنـي وإن لاقـيت شـرّاً |
|
لخيرك، بعد ذاك الشر، راجي |
فأمر به فأقيم عليه الحد، ثم أمر له بأربعة آلاف درهم، فلما ولى قال الربيع: يا أمير المؤمنين، أما سمعت قوله:
وقد طبخت بنار اللّـه حـتـى |
|
لقد صارت من النّطف النّضاج |
قال: بلى، فما يعني بذلك ? قال: يعني به
الشمس. قال: ردوه نسأله عن ذلك. فلما حضر قال له المهدي: ما تعني بنار الله ?
أتعني بها الشمس ? قال: لا يا أمير المؤمنين، ولكن: نار الله الموقدة، التي تطلع
على فؤاد الربيع مؤصدة، وعلى من أخبرك أني عنيت بها الشمس مطبقة؛ فضح المهدي
وجلساؤه وعفا عنه، فذهب.
وخرج الربيع إلى أصحاب المنصور وهم بالباب، وقد هرب منه سلم غلامه، فقال لهم: أمير
المؤمنين يقرئكم السلام، ويقول لكم: إن غلامي سلماً قد هرب، ومحال أن يهرب أحد من
غلماني إلا وقد أسند أمره إلى واحد منكم.
فقام أبو دلامة فقال: بلغ عنا أمير المؤمنين كما بلغتنا عنه. قال: نعم ! قال: أما
سلم فلا نعرف خبره ولا قصته، ولكن هذا بديع يريد الهروب، فرأي أمير المؤمنين في
أخذه، وكان بينه وبين بديع تباعد، فبلغ ذاك المنصور فهرب.
وماتت حمادة بنت علي بن عبد الله بن عباس، فصار المنصور إلى شفير قبرها ينتظر
الجنازة، وكان أبو دلامة حاضراً فقال: ما أعددت لهذه الحفرة يا أبا دلامة ? فقال:
عمة أمير المؤمنين يؤتى بها الساعة.
أخذت امرأة في زنا وطيف بها على جمل، فمرت ببعض المجان فقال لها: كيف خلفت الحاج ?
قالت: بخير، وقد كانت أمك معنا، فخرجت في النفر الأول.
من ملح الجماز
وقال رجل للجماز: أشتهي أن أرى الشيطان.
فقال له: انظر في المرآة فإنك تراه.
وقال له رجل: أنا وجع من دمل فيّ. قال له: وأين هي ? قال: في أخس موضع مني. قال:
كذبت؛ لأني لا أرى في وجهك شيئاً.
وقال له رجل: يا أبا عبد الله؛ أنا رجل جامد العين، لو مات أبي ما بكيت،
ولكن إذا سمعت الصوت الفريح من الوجه المليح، بكيت حتى أغمي علي. فعلام يدل هذا ?
قال: على أنك لا تلفح أبداً.
وقال له رجل: أردت أن أحمل أمي إلى بغداد، فخفت إن حملتها في البحر أن تعطب، وإن
حملتها في البر أن تتعب. قال: فخذها في سفتجة.
قال بعض جلساء المتوكل: كنا نكثر عنده ذكر الجماز حتى اشتاقه، فكتب في حمله من
البصرة. فلما دخل عليه أفحم. فقال له المتوكل: تكلم فإني أحب أن أستبرئك. فقال:
بحيضة أم بحيضتين يا أمير المؤمنين ? فضحك المتوكل. ثم قال له الفتح: قد ولاك أمير
المؤمنين على الكلاب والقردة. قال: فاسمع لي وأطع، فأنت من رعيتي. فقال له: إذا
وهب لك أمير المؤمنين جارية، فما تصنع بها ? فقال: أنا أعرف من نفسي ما تحتاج
والله جارية إلا أن أقود عليها. فضحك المتوكل، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فمات
فرحاً ولم يصل إلى البصرة.
وكان الجماز لا يدخل بيته أكثر من ثلاثة لضيقه، فدعا ثلاثةً من إخوانه فأتاه ستة،
ووقف كل واحد على رجل وقرعوا الباب، فنظر من كوة أسفل الباب وكذلك كان يعمل فعد
ستة أرجل، فلما فتح الباب دخلوا؛ فقال: اخرجوا عني فإني دعوت أناساً ولم أدع
كراكي.
والجماز هو أبو عبد الله محمد بن عمرو بن حماد بن عطاء بن ياسر، وكانوا يزعمون
أنهم من حمير صليبة نالهم سباء في خلافة أبي بكر وهم مواليه، وسلم الخاسر عمه.
وكان الجماز صاحباً لأبي نواس حتى ماتا. ووصف أبا نواس، فقال: كان أظرف الناس
منطقاً، وأغزرهم أدباً، وأقدرهم على الكلام، وأسرعهم جواباً، وأكثرهم حياءً؛ وكان
أبيض اللون، جميل الوجه، مليح النغمة والشارة، ملتف الأعضاء، بين الطويل والقصير،
مسنون الوجه، قائم الأنف، حسن العينين والمضحك حلو الصورة، لطيف الكف والأطراف،
وكان فصيح اللسان، جيد البيان، كثير النوادر؛ وكان راويةً للأشعار، وعلامة
بالأخبار، وكان كلامه شعراً غير موزون.
وأقبل أبو شراعة والجماز في حديثه وكانت يد أبي شراعة كأنها كربة نخل وكان أقبح
الناس وجهاً، فقال الجماز: فلو كانت أطرافه على أبي شراعة لتم حسنه.
فغضب أبو شراعة، فبصق الناس في وجهه.
من أدب أبي شراعة
وأبو شراعة شاعر مجيد وهو القائل:
بني رياح أعاد اللّه نعمتـكـم |
|
خير المعاد وأسقى ربعكم ديما |
فكم به من فتىً حلو شمـائلـه |
|
يكاد ينهلّ من أعطافه كرمـا |
لم يلبسوا نعمةً للّه مذ خلقـوا |
|
إلا تلبّسها إخوانهم نـعـمـا |
قال أبو العباس المبرد: وكان أبو شراعة حليماً مألوفاً، جميل الخلق، كريم العشرة، وكان يقول من الشعر ما يجانب به مذاهب المحدثين، ويقترف طريق الماضين وأهل البادية؛ فشعره عربي محض، واسمه أحمد بن محمد بن شراعة القيسي ومن شعره:
تقول ابنة البكريّ حين أؤوبهـا |
|
هزيلاً وبعض الآيبين سمـين |
لك الخير لا يدخل لأهلك رحله |
|
فإنّك في القوم الكرام مكـين |
ذريني أمت من قبل حلّي محلّة |
|
لها في وجوه السائلين غضون |
وأفدي بمالي ماء وجهي فإنني |
|
بما فيه من ماء الحياة ضنـين |
فقالت: لحاك اللّه لا تنأ جانبـاً |
|
فقلت: لإخواني الكرام عيون |
وله يهجو أحمد بن المدبر وأخاه إبراهيم:
حجاب ابن المدبّر كـسـرويٌّ |
|
كذاك حجاب كسرى أردشـير |
شهدت بأنّه مـن آل كـسـرى |
|
سلوه هل شهدت لـه بـزور |
كفاك شهادتي بالـحـقّ لـولا |
|
تضاحك من أرى حول السرير |
فإن يكن المدبّـر جـرمـقـيّاً |
|
فلست بذاكرٍ أهل الـقـبـور |
وكتب إلى سعيد بن موسى بن سيد بن سلم الباهلي، يستهديه نبيذاً، ووجه إليه بقرابة في غلاف:
إليك ابن موسى الخير أعملت ناقتي |
|
مجلّلةً يضفو عليهـا جـلالـهـا |
كتوم الوجى لا تشتكي ألم السـرى |
|
سواء عليها موتها واعتـلالـهـا |
إذا سقيت أبصرت ما جوف بطنها |
|
وإن ظمئت لم يبد منها هزالـهـا |
وإن حملت حملاً تكلّفت حملـهـا |
|
وإن حطّ عنها لم أبل كيف حالهـا |
بعثنا بها تسمو العيون وراءهـا |
|
إليك وما يخشى عليها كلالهـا |
وغنّى مغنّينا بصوتٍ فشاقـنـي |
|
متى راجعٌ من أُمّ عمرو خيالها |
أحب لكم قيس بن عيلان كلهـا |
|
ويعجبني فرسانها ورجالـهـا |
وما لي لا أهوى بقاء قـبـيلةٍ |
|
أبوك لها بدرٌ وأنت هلالـهـا |
من مليح شعر الجماز
وللجماز مقطعات ملاح، في ضروب الهجاء والامتداح، منها قوله في خصي كان يكايده على قينة؛ يسمى رباح:
ما للخصيّ رباح |
|
وللغواني الملاح |
أليس زانٍ خصيٌّ |
|
غازٍ بغير سلاح |
وفي مثله يقول ابن الرومي:
معشرٌ أشبهوا القرود ولكن |
|
خالفوها في خفّة الأرواح |
نمشة فوق صفرة فتـراه |
|
كونيم الذباب في اللّفّـاح |
قال الجاحظ: في الخصي عشرة أحوال متضادة:
لم يخرج من ظهره مؤمن، ولا خرج من ظهر مؤمن، وهو أكثر الناس غيرة، وأشدهم قيادة،
وهو أضعف الناس معدة، وأشرههم على طعام، وهو أسوأ الناس أدباً، وهو يعلم الأدب،
وهو أغزر الناس دمعة، وأقساهم قلباً، وما خلا قط مع امرأة إلا حدثته نفسه أنه رجل،
ولا خلا مع رجل إلا حدثته نفسه أنه امرأة.
وقال الجماز لبعض المسجديين:
تركت المسجد الجامع |
|
والتّـرك لـه ريبـه |
فلا نـافـلة تـأتـي |
|
ولا تشهد مكتـوبـه |
وأخبـارك تـأتـينـا |
|
على الأعلام منصوبه |
فإن زدت من الغـيب |
|
زدناك من الغـيبـه |
ومثله قول أبي القاسم إسماعيل بن عباد، في مغن يعرف بابن عذاب:
أقول قولاً بلا احتشام |
|
يقبله كل من يعـيه |
ابن عذابٍ إذا تغنّـى |
|
فإنني منه في أبـيه |
وقال الجماز في المتوكل:
قالوا امتدحت الإمام قلت لهم |
|
أخاف ألا أحـدّه بـصـفـه |
وكيف يعطي على المدائح من |
|
كان أبو السّمط عنده طرفـه |
كأنّ إنـشـادنـا مـدائحـه |
|
أنصاف كتب ليست بمؤتلفـه |
أخذه من قول أبي تمام:
أذكت عليك شهاب نارٍ في الحشا |
|
بالعذل وهناً أخت آل شـهـاب |
عذلاً شبيهاً بالجنـون كـأنّـمـا |
|
قرأت به الورهاء نصف كتاب |
بين علي بن الجهم وأبي السمط
وكان أبو السمط بن أبي حفصة أثيراً عند المتوكل؛ وكان علي بن الجهم يقع فيه لمنزلته عند المتوكل وحسده له؛ فأغرى بينهما يوماً فقال لحمدون النديم: أيهما أشعر ? فقال: يا أمير المؤمنين؛ طرحتني بين لحيي أسدين. قال: لتقولن. قال: أعرقهما بالشعر أشعرهما. فقال المتوكل: يا علي، قد حكم حمدون عليك. قال: علم رأيك فيه فساعدك. فقال المتوكل: تهاجيا. فقال علي: قد كظني الشراب، فإذا أفقت قلت؛ فقال أبو السمط بديهاً:
إنّ ابن جهمٍ في المغيب يسبّني |
|
ويقول لي حسناً إذا لاقانـي |
إنّ ابن جهمٍ ليس يرحم أمّـه |
|
لو كان يرحمها لما عادانـي |
فضحك المتوكل، وانخذل ابن الجهم؛ فقال أبو السمط:
لعمرك ما جهم بن بدرٍ بشاعرٍ |
|
وهذا عليٌّ بعده يصنع الشّعرا |
ولكن أبي قد كان جراً لإمّـه |
|
فلما تعاطى الشعـر أمـرا |
ولما أفاق عليّ بن الجهم من سكره قال:
بلاءٌ لـيس يشـبـهـه بـلاء |
|
عداوة غير ذي حـسـبٍ ودين |
يبيحك منه عرضاً لم يصـنـه |
|
ويرتع منك في عرضٍ مصون |
العجم والشعر
ودخل الضبي على عبد الله بن طاهر، فأنشد شعراً حسناً وبحضرته أعرابي؛ فقال الأعرابي: ممن تكون ? قال: من العجم. قال: وما للعجم والشعر وإنما الشعر للعرب، وكل من قاله من العجم فإنما نزا على أمه أعرابي. فقال: وكذلك من لا يقول الشعر منكم، فإنما نزا على أمه أعجمي إذاً ? فأفحمه.
من شعر الجماز
ودخل الجماز على بعض ولاة البصرة فأنشده:
أثكلتني البرّ وعنّيتنـي |
|
ما كان هذا أملي فيكا |
لا تتفنّي بعد ما رشتني |
|
فإنني بعض أياديكـا |
فضحك، ثم قال: ثم ماذا ? فقال: ثوب
سمرقندي هو، أنشدك إياه مزارعة.
وقيل لعقيل بن علفة: لم تقصر شعرك ? فقال: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.
وقيل لآخر مثل ذلك. فقال: لم أر المثل السائر إلا بيتاً واحداً.
ولم يكن للجماز حظ في التطويل، وإنما كان يقول البيتين والثلاثة، وإنما قال بيتاً
واحداً:
وقعنا من أبي خـزيٍ |
|
على خزيٍ من الخزي |
لم يقل غير هذا، وكذلك ابن بسام، ومنصور بن إسماعيل الفقيه. والمصريون يقولون: احذر منصوراً إذا رمح بالروح. وهو القائل لما ذهب بصره وجفاه الإخوان والرفقاء:
من قال مات ولم يستوف مـدّتـه |
|
بعظم نازلةٍ نالتـه مـضـرور |
وليس في الحقّ أن يحيا فتىً بلغت |
|
به نهاية ما يخشى الـمـقـادير |
فقل له غير مرتابٍ بفـعـلـتـه |
|
أو سوء مذهبه قد عاش منصور |
ومن ظريف شعره:
تكاد تضيق الأرض عنه برحبـهـا |
|
إذا نحن قلنا خيرنا الباذل السّـمـح |
فإن قيل من هذا البغيض أقل لكـم |
|
على شرط كتمان الحديث هو الفتح |
وقال منصور:
يا من يرى المتعة في دينه |
|
جلاًّ وإن كانت بلا مهـر |
ولا يرى تسعين تطـلـيقةً |
|
تبين منهـا ربّة الـخـدر |
من ههنا طابت موالـيكـم |
|
فاجتهدوا في الحمد والشكر |
وقال:
أبى الناس أن يدعوا موسراً |
|
سليم الأديم سليم النـسـب |
وقد خبّروك فإن لم تـطـب |
|
بعرضك نفساً فطب بالذهب |
وقال:
يا من تولّى فأبـدى |
|
لنا الجفـا وتـبـدّل |
أليس منك سمعـنـا |
|
من لم يمت فسيعزل |
وأتى باب بعض الأشراف الرئيسيين، فحجبه خادم اسمه شقيف فقال:
إذا وقع الضرير على خصـيّ |
|
فقد وقع المصاب على مصاب |
وكانت أم هذا الشريف أمةً ثمنها ثمانية عشر ديناراً؛ فعتب على منصور فقال:
من فاتـنـي بـأبـيه |
|
ولم يفتـنـي بـأمّـه |
ورام شتمي ظـلـمـاً |
|
سكتّ عن نصف شتمه |
فدفع إليه مائة دينار. وقال: اسكت عن
الجميع.
فانظر أعزك الله البليغ إذا شاء كيف يجعل الجد هزلاً، والمعرى محلىً.
هذا المعنى إنما اهتدى إليه من قول عنترة بن شداد العبسي وأمه أمة سوداء اسمها
زبيبة:
إني امرؤٌ من خير عبسٍ منصبـاً |
|
شطري وأحمي سائري بالمنصل |
وسأستقل إن شاء الله، ذكر ابن بسام، ونقل ظريف ما له في غير هذا الموضع.
طرف وأخبار متفرقة
وكتب ابن الكلبي صاح الخبر إلى المتوكل أن
المعروف بابن المغربي القائد اجتاز البارحة بالجسر سكران، فشخر ونخر، وبربر وزمجر
وجرجر، وبأبأ بفيه، وخرق الشريحة، ومر منصلتاً، وقال: أنا الكركدن فاعرفوني.
فضحك المتوكل حتى استلقى، وقال: قد عرفنا ما كتب به البغيض إلا حرفاً واحداً فعلي
به.
فلما جاء قال: ما معنى قولك: بأبأ بفيه ? قال: يا مولاي؛ لما توسط الجسر قال بفيه:
بب بب. فقال له المتوكل: انصرف في غير حفظ الله.
وركب المأمون ليلاً فإذا بثمامة بن أشرس سكران، فلما علم بالمأمون توارى عنه،
فقصده المأمون حتى وقف عليه. فقال: ثمامة ? قال: إي والله. قال: أسكران ? قال: لا
والله. قال: فمن أنا ? فال: لا أدري والله. قال: عليك لعنة الله. قال: تترى إن شاء
الله. فضحك وتركه.
فراسة المهدي
ولما فرغ المهدي من قصره بعيساباذ ركب في
جماعة للنظر إليه، فدخله مفاجأة، وأخرج كل من هناك من الناس، وبقي رجلان خفيا عن
أبصار الأعوان؛ فرأى المهدي أحدهما وهو دهش لا يعقل. فقال: من أنت ? قال: أنا أنا
أنا أنا. فقال: من أنت ? ويلك ! قال: لا أدري لا أدري لا أدري لا أدري. قال: ألك
حاجة ? قال: لا لا لا لا. قال: أخرجوه، أخرج الله روحه. فلما خرج قال المهدي
لغلامه: اتبعه إلى منزله، وسل عنه، فإني أراه حائكاً، فخرج الغلام يقفوه.
ثم رأى الآخر فاستنطقه فأجابه بقلب جريء، ولسان طلق؛ وقال: رجل من أبناء
دعوتك. قال: فما جاء بك إلى هنا ? قال: جئت لأنظر إلى هذا البناء، وأتمتع بالنظر
إليه، وأكثر الدعاء لأمير المؤمنين بطول البقاء، وتمام النعمة، ونماء العز،
والسلامة. قال: أفلك حاجة ? قال: نعم ! خطبت ابنة عمي فردني أبوها وقال لي: لا مال
لك، والناس إنما يرغبون في الأموال، وأنا لها وامق، وإليها تائق. قال: قد أمرت لك
بخمسين ألفاً. قال: يا أمير المؤمنين؛ قد وصلت فأجزلت الصلة، وأعظمت المنة؛ فجعل
الله باقي عمرك أكثر من ماضيه، وآخر أيامك خيراً من أولها، وأمتعك بما أنعم به
عليك، وأمتع رعيتك بك.
فأمر بتعجيل صلته، ووجه بعض خدمه فقال: سل عن مهنته، فإني أراه كاتباً، فرجع
الرسولان بحصة ما تفرسه المهدي.
بدن بلا رأس
وأخذ رجل من لحية مديني شيئاً، فانتظر أن
يقول له: قطع الله عنك القذى، فقال له: لم لم تقل لي قلع الله عنك الأسواء ? قال
المديني: بأبي أنت وأمي ! إني نظرت فلم أر شيئاً أقبح من وجهك، فكرهت أن أقول: قلع
الله عنك الأسواء؛ فأكون قد دعوت عليك فيتركك الله بدناً بلا رأس.
قال أبو العيناء: استودع رجل عند إمام حلته قارورة زنبق فجحده إياها، وقام يصلي
بهم شهر رمضان وقرأ: "قالوا وأقبلوا عليهم ماذا تفقدون" وكررها. فقال
الرجل: قارورة زنبق.
المهدي ينفرد من عسكره
انفرد المهدي من عسكره فاجتاز برجل على ماء، فقال: ألك طعام ? قال: نعم ! وقدم إليه سفرة كانت معه، فأكل المهدي ثم غسل يده. فقال له الرجل: أصلحك الله ! معي شراب فهل لك فيه? قال: نعم ! فشرب، فلما انتشى قال للرجل: أتعرفني ? قال: لا. قال: أنا صديق لوزير أمير المؤمنين، وسأسأله في أن يسبب لك أسباباً تنتفع بها؛ ثم شرب قدحاً ثانياً، وقال: أتعرفني من أنا? فقال: لقد قلت إنك صديق لوزير أمير المؤمنين. فقال: أنا وزير أمير المؤمنين. ثم شرب ثالثاً. وقال: أتدري من أنا ? فقال: قل لكي أرى. قال: أنا أمير المؤمنين. فسد الرجل ركوته ونحاها ناحيةً، فقال له المهدي: ما لك عجلت برفعها ? قال: شربت ثلاثة أقداح فادعيت الخلافة؛ فإن شربت الرابعة ادعيت النبوة، فليس بيني وبينك عمل. فضحك المهدي وأدركته الخيل فجعلوا يترجلون ويسلمون عليه بالخلافة، ثم ركب المهدي وأمرهم بالتحفظ على الرجل؛ فلما تيقن الرجل الأمر سألهم أن يقربوه من أمير المؤمنين، فقربوه منه. فقال: يا أمير المؤمنين، نصيحة، فأدناه، فقال: ما رأيت أصدق منك في دعواك، وغن ادعيت الرابعة، فأنا أول مؤمن بك. فضحك المهدي منه وأمر له بصلة وضمه إلى ندمائه.
من شعر إسماعيل بن جامع
قال سفيان بن عيينة وقد رأى إسماعيل بن جامع السهمي وعليه بزة وأثواب حسان؛ فقال: لقد أثرى هذا الفتى، فعلام يحيا ويعطى ? قالوا: إنه يغني هؤلاء الملوك، قال: بماذا يغنيهم ? أتحفظون شيئاً مما يقول ? فأنشده بعضهم:
أطوف نهاري مع الطائفين |
|
وأرفع من مئزري المسبل |
قال: أحسن، ثم ماذا ? فأنشدوه:
وأسجد بالليل حتى الصّباح |
|
وأتلو من المحكم المنزل |
قال: أجاد والله. ثم ماذا ? فأنشدوه:
عسى فارج الكرب عن يوسفٍ |
|
يسخّر لي ربّة المـحـمـل |
فقال: آه آه آه ! أمسك عليك، اللهم لا تسخرها له.
ابن جامع أطيب الناس غناء
وكان ابن جامع أطيب الناس غناءً، فاعتقد بغنائه عقداً نفيسة، وأموالاً جزيلة. حكى عن نفسه قال: ضمني الدهر ضماً شديداً وأنا بمكة، فانتقلت بعيالي إلى المدينة، فأصبحت يوماً وما أملك إلا ثلاثة دراهم، فهي في كمي، وأنا جالس مع بعض أهل المدينة على مناقشة ومذاكرة إذ قال بعضنا: إنه ليبلغنا أن الرشيد يتشوق إليك وأنت ضائع في بلدنا. قال: فما لي من نهوض. قالوا: نحن ننهضك. فقمت مولياً فإذا بجارية حميراء على رأسها جرة تريد الركي، وهي تسعى بين يدي وتترنم بصوت شج في غنائها وتقول:
شكونا إلى أحبابنا طول ليلـنـا |
|
فقال لنا ما أقصر اللّيل عندنـا |
إذا أقبل الليل المضرّ بذي الهوى |
|
جزعنا وهم يستبشرون إذا دنـا |
وذاك لأنّ النوم يغشى عيونهـم |
|
سريعاً ولا يغشى لنا النوم أعينا |
فلو أنهم كانوا يلاقون مثلـمـا |
|
نلاقي لكانوا في المضاجع مثلنا |
فأخذ غناؤها بمجامع قلبي، ولم أدرك منه حرفاً. فقلت: يا جارية؛ ما أدري أوجهك أحسن أم صوتك ? فلو شئت أعدت علي الوصف. قالت: حباً وكرامة. ثم أسندت ظهرها إلى الحائط ثم غنته، فوالله ما دار لي منه حرف. فقلت: يا جارية؛ فلو شئت أعدت علي الصوت مرة أخرى. قالت: حباً وكرامة، ثم أسندت ظهرها إلى الجدار ووضعت الجرة ثم غنته؛ فوالله ما دار لي منه حرف. فقلت: يا جارية؛ لقد أحسنت وتفضلت، فلو شئت أعدت الصوت مرة أخرى؛ فغضبت وكلحت وقالت: ما أعجب أحدكم يأتي إلى الجارية عليها غلة فيقول: أعيدي علي، فضربت بيدي إلى الثلاثة دراهم فدفعتها إليها فأخذتها شبيهة المتكرهة؛ وقالت: أنت تريد أن تأخذ مني صوتاً أحسبك تأخذ عليه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. فقلت: أرجو أن يؤول الأمر إلى ما تحسبين، فانبعثت تغني، وأعملت فكري في غنائها حتى داري لي الصوت وفهمته، فانصرفت مسروراً إلى منزلي أردده حتى خلف على لساني، ثم أقبلت أريد بغداد، فنزل بي المكاري على باب المحول أولاً ولا أدري أين أتوجه، ولا من أقصد ? حتى انتهى بي السير إلى الجسر، فرأيت الناس يعبرون؛ فعبرت معهم، حتى انتهيت إلى شارع الميدان، إلى باب الفضل بن الربيع. فرأيت هناك مسجداً مرتفعاً. فقلت: هذا مسجد قوم سراة، وحضر المغرب فلم ألبث أن جاء المؤذن، فأذن وأقام الصلاة فصليت، ثم أقمت مكاني حتى عاد المؤذن للعشاء، فأقام الصلاة فصليت على تعب وجوع، ثم انصرف الناس وبقي في المسجد رجل، فصلى خلفه جماعة، وجماعة من الخدم جلوس، وقوم ينتظرون فراغه، فصلى ملياً ثم انصرف إلي بجمع جسده، وقال لي: أحسبك غريباً. قلت: أجل، وليس لي بهذا البلد معرفة، وليست صناعتي من الصنائع التي يتيمم بها إلى أهل الخير. قال: وما صناعتك ? قلت: الغناء. فوثب مبادراً ووكل بي بعض من معه، فقلت للموكل بي: من هذا ? قال: سلام الأبرش. ثم انتهى إلى دار من دور الخلافة؛ فمشى بي في دهليزها ساعةً، حتى انتهى إلى مقصورة من مقاصيرها، فأدخلني فيها، ودعا لي بطعام؛ فأتينا بمائدة عليها من كل طعام، فأقبلت على الأكل حتى ترادت نفسي إلي؛ ثم سمعت ركضاً في الدهليز، وإذا إنسان يقول: أين الرجل ? فقيل: هوذا. فقال: ادعوا له بغسول وطيب وخلعة حسنة، ففعل ذلك بي وخلقت. وأخذ بيدي الرجل وحملني على دابته، وأتى بي إلى دار الخلافة، فلم يزل يجاور بي داراً بعد دار، حتى انتهى إلى دار قوراء، فيها أسرة منصوبة بعضها إلى بعض، فلما انتهى بي إلى تلك الأسرة، أمرني بالصعود فصعدت، وإذا رجل جالس وعن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان، وفي حجر الرجل عود، فرحب بي ذلك الرجل، وإذا مجالس قد كان فيها قوم فقاموا عنها، ثم لم ألبث أن أخرج خادم من وراء الستر؛ فقال للرجل: تغن؛ فغنى الصوت فوالله ما أحسن الغناء ولا أحسن الصوت، وهو هذا:
لم تمش ميلاً ولم تركب على جملٍ |
|
ولم تر الشمس إلاّ دونها الكلـل |
فقام الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل، فقال: تغني؛ فغنت بصوت لين كانت فيه أحسن من الرجل حالاً، ثم قال للثانية فغنت، وللثالثة فغنت بصوت لحنين؛ ثم عاد الخادم فقال لي: تغن رحمك الله ! فغنيت بصوت الرجل على غير ما غناه، فإذا نحو من خمسين خادماً يحضرون إلى الأسرة، فقال لي: ويحك ! لمن هذا الغناء ? قلت: لي، فانصرفوا وخرج الخادم فقال: كذبت، هذا الغناء لإسماعيل بن جامع. قال: فسكت، ثم دار الدور، فلما انتهى إلي خرج الخادم فقال: تغن رحمك الله ! فقلت في نفسي: أي شيء أنتظر، فاندفعت أغني بصوت لا يعرف إلا لي:
عوجي عليّ فسلّمي جبر |
|
كيف الوقوف وأنتم سفر |
ما نلتقي إلاّ ثلاث منـى |
|
حتى يفرّق بيننا الدّهـر |
قال: فزلزلت عليهم الدار، وخرج الخادم فقال: لمن هذا الغناء ? فقلت: لي. فقال: كذبت، هذا غناء إسماعيل بن جامع، فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم. فقال لي الربيع: هذا أمير المؤمنين قد أقبل عليك. فلما صعد السرير وثبت على قدم أمير المؤمنين أقبلها، فقال: ابن جامع ? قلت: ابن جامع، جعلني الله فداك. قال: اجلس يابن جامع، وجلس أمير المؤمنين وجعفر في المواضع الخالية. فقال لي: يابن جامع؛ أبشر وابسط أملك؛ فدعوت له. ثم قال لي: غنّ يابن جامع، فخطر ببالي صوت الجارية المدنية فغنيته، فنظر أمير المؤمنين إلى جعفر، وقال: أسمعت كذا قط ? قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما خرق سمعي مثل هذا. فرفع الرشيد رأسه إلى خادم وقال له: كيس فيه ألف دينار، فمضى الخادم فلم يلبث أن جاء بكيس فيه ألف دينار، فصيرته تحت فخذي. ثم قال: يا إسماعيل؛ غنّ ما حضرك؛ فأقبلت أقصد إلى الصوت بعد الصوت، فلم أزل كذلك إلى أن عسعس الليل. فقال: يا إسماعيل، قد أتعبناك هذه الليلة للسرور بغنائك؛ فأعد على أمير المؤمنين الصوت الذي تغنيت أولاً، فغنيته؛ فرفع رأسه إلى الخادم، فقال له: كيس فيه ألف دينار، فذكرت قول الجارية لي: إني أحسبك تأخذ فيه ألف دينار وألف دينار وألف دينار. ثم قال: انصرف، فبقيت لا أدري أين أقصد في ذلك الوقت؛ فما هو إلا أن نزلت عن الأسرة حتى وثب إلي فراشان فأخذ أحدهما بيدي، فمضيا بي ولا أدري إلى أين يتوجهان، حتى وقفا على باب داري هذه، فإذا أمير المؤمنين قد أمر سلاماً الأبرش فابتاع داراً، وحشاها بالجواري والخدم والوصفاء والفرش والطعام والشراب. ورفع إلي أحدهما إضبارة مفاتيح. فقال: ادخل، بارك الله لك. هذا مفتاح بيت مالك، وهذا مفتاح حجر جواريك، وهذا مفتاح بيت فرشك وآنيتك؛ فدخلت الدار وأنا أيسر أهل بغداد وأحسنهم حالاً، والحمد لرب العالمين.
من مليح ما جاء في المغنيات والغناء
ومن مليح ما جاء في المغنيات والغناء قول بشار بن برد:
وصفراء مثل الزعفران شربتهـا |
|
على وجه صفراء التـرائب رود |
حسدت عليها كلّ شيءٍ يمـسّـهـا |
|
وما كنت لولا حسنها بـحـسـود |
كأنّ مليكاً جالسـاً فـي ثـيابـهـا |
|
تؤمّـل رؤياه عـيون وفـــود |
من البيض لم تسرح على أهل ثلّةٍ |
|
سواماً ولم ترتفع حـداج قـعـود |
إذا نطقت صحنا وصاح لها الصّدى |
|
صياح جنودٍ وجّهـت لـجـنـود |
تميت به ألبـابـنـا وقـلـوبـنـا |
|
مراراً وتحييهنّ بـعـد هـمـود |
ظللنا بذاك الـديدن الـيوم كـلّـه |
|
كأنّا من الفردوس تحت خـلـود |
ولا بأس إلاّ أننا عـنـد أهـلـهـا |
|
شهودٌ وما ألبـابـنـا بـشـهـود |
وقال:
لعمر أبي زوّارها الصّيد إنّنا |
|
لفي منظرٍ منها وحسن سماع |
تصلّي لها آذاننا وعـيونـنـا |
|
إذا ما التقينا والقلوب دواعي |
وقال:
وصفراء مثل الخيزرانة لم تعش |
|
ببؤسٍ ولم تركب مطيّة راعي |
جرى اللؤلؤ المكنون فوق لسانها |
|
لزوّارها من مـزهـرٍ ويراع |
إذا قلّدت أطرافها العود زلزلت |
|
قلوباً دعاها لـلـوسـاوس داع |
كأنهم في جنّةٍ قد تـلاحـقـت |
|
محاسنها مـن روضةٍ ويفـاع |
يروحون من تغريدها وحديثهـا |
|
نشاوى وما تسقيهم بـصـواع |
لعوبٌ بألباب الرجال إذا رنـت |
|
أُضيع التقى والغيّ غير مضاع |
والشعر في هذا المعنى واسع الذرع، سابغ الدرع؛ ولأبي الفتح كشاجم فيه كل شيء مليح، فمن ذلك قوله:
جاءت بعودٍ كأنّ الـحـبّ أنـحـلـه |
|
فما يرى فيه إلاّ الوهـم والـشـبـح |
فحرّكته وغنّت في الـثـقـيل لـنـا |
|
صوتاً به النار في الأحشاء تنـقـدح |
بيضاء يحضر طيب العيش إن حضرت |
|
وإن نأت عنك غاب اللهو والـفـرح |
كلّ اللّباس عليها مـعـرضٌ حـسـنٌ |
|
وكلّ ما تتغـنّـى فـيه مـقـتـرح |
وهذا مقول عبد الله بن المعتز:
وغنّت فأغنت عن المسمعي |
|
ن وارتجّ بالطرب المجلس |
محاسنها نزهةٌ للعـيون |
|
ومعرضها كلّ ما تلبس |
ولأبي الفتح:
جاءت بعودٍ كأنّ نغـمـتـه |
|
صوت فتاةٍ تشكو فراق فتى |
محفّفٍ حفّت النفـوس بـه |
|
كأنّما الزهر حوله نـبـتـا |
دارت ملاويه فيه واختلفـت |
|
مثل اختلاف اليدين شبّكتـا |
لو حرّكته وراء مـنـهـزمٍ |
|
على بريدٍ لعاج والتـفـتـا |
يا حسن صوتيهما كأنهـمـا |
|
أُختان في صنعةٍ تراسلتـا |
تراه عنها ينوب إن سكتـت |
|
طوراً وعنه تنوب إن سكتا |
وله:
آه من بحّةٍ بغير انقـطـاع |
|
لفتاةٍ مـوصـولة الإيقـاع |
أتعبت صوتها وقد يجتنى من |
|
تعب الصوت راحة الأسماع |
فغدت تكثر الشّحاج وحطّت |
|
طبقات الأوتار بعد ارتفـاع |
كأنين المحبّ ضعّف مـنـه |
|
صوت شكواه شدّة الأوجاع |
وله:
أشتهي في الغناء بحّة حلـقٍ |
|
ناعم الصوت متعبٍ مكـدود |
لا أُحبّ الأوتار تعلو كمـا لا |
|
أشتهي الضرب لازماً للعمود |
وأحبّ المجنبات كـحـبّـي |
|
للمبادي موصولةً بالنـشـيد |
كهبوب الصّبا توسّـط حـالاً |
|
بين حالـين شـدةٍ وركـود |
وله أيضاً:
غنّت فخلت أظنّني طربـاً |
|
أسمو إلى الأفلاك أو أرقى |
لو لم تحرّكه أنـامـلـهـا |
|
كان الهواء يعيده نطـقـا |
جسّته عالمةً بجـسّـتـهـا |
|
جسّ الطبيب لمدنفٍ عرقا |
فحسبت يمناها، وقد ضربت |
|
رعداً وخلت يسارها برقـا |
وأبو الفتح كشاجم هذا اسمه محمود بن الحسن بن السندي، من أهل هذه الصناعة، وله في الغناء كتاب مليح. وقد دل على فعاله بمقاله:
أفدي التي كلف الفؤاد من أجلها |
|
بالعود حتى شفّنـي إطـرابـا |
باهت بجمع صناعتين فأظهرت |
|
كبراً لذاك وأُعجبت إعجـابـا |
قالت فضلتك بالغناء وأنـت لا |
|
تشدو، وكنّا مثلكـم كـتّـابـا |
فعبثت بالأوتار حتـى لـم أدع |
|
نغماً ولم أعقل لهنّ حسـابـا |
وألفتها فأغار ذاك عـلـى يدي |
|
قلمي وعاتبها عليه عـتـابـا |
فجعلت للقرطاس جانب صدره |
|
وجعلت جانب عجزه مضرابا |
وكان كامل آلات الظرف، جامعاً لخلال الأدب
واللطف، وله تآليف ملاح، تدل على معرفته وتوسعه، وقد ذكروا أنه سمى نفسه كشاجم لما
يعلمه؛ فالكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من منجم، والميم
من مغن.
وقال أبو عثمان سعيد بن الحسن الناجم:
لقد جاد من عابثٍ ضربها |
|
وزاد كما زاد تغريدهـا |
إذا نوت الصوت قبل الغنا |
|
ء أنشدنا شعرها عودها |
وقد قال أستاذه ابن الرومي في نحوه:
ضربك في عودك لم يخرجـا |
|
عن حاله، والعود في الضرب |
كأنّما وقعهما فـي الـحـشـا |
|
وقع الحيا في زمن الجـدب |
أخذ هذا أبو الحسن المنجم بن يونس المصري فقال:
غنّت فأخفت صوتها في عودها |
|
فكأنّما الصوتان صوت العـود |
غيداء تأمر عودها فيطيعـهـا |
|
أبداً ويتبعـهـا اتـبـاع ودود |
أندى من النّوّار صبحاً صوتهـا |
|
وأرقّ من نشر الثنا المعهـود |
فكأنّما الصوتان حين تمازجـا |
|
ماء الغمامة وابنة العنـقـود |
ومثل هذا:
سلامة بن سعيد |
|
يجيد حثّ الراح |
إذا تغنّى زمرنا |
|
عليه بالأقـداح |
وقال الناجم:
تأتي أغانـي عـابـث |
|
أبداً بأفراح النـفـوس |
تشدو فترقص الـرؤو |
|
س لها وتزمر الكؤوس |
وقال:
وما صدحت عابث ومزهرها |
|
إلاّ وثقنا باللهـو والـفـرح |
لها غناءٌ كالبرء في جـسـد |
|
أضناه طول السّقام والتّـرح |
تعبدها الراح فهي ما صدحت |
|
إبريقنا ساجداً إلى الـقـدح |
وقال:
إذا أنت ميّزت بين الـغـنـا |
|
ء ميّزتها الأحذق الأطـيبـا |
تهزّ القريض بألـحـانـهـا |
|
كما هزّت الغصن ريح الصّبا |
وقال:
ما تغنّت إلاّ تكـشّـف هـمٌّ |
|
عن فؤادٍ وأقلعـت أحـزان |
تفضل المسمعين حسناً وطيباً |
|
مثل ما يفضل السماع العيان |
وقال:
ما نطقت عابث ومزهرها |
|
إلاّ ظللنا للراح نعملهـا |
تطلب أوتارها الهموم بأو |
|
تارها فما تستفيق تقتلهـا |
وقال:
لها غناء مطرب معـجـب |
|
يفعل ما تفعله الـخـمـره |
تشوق الأُذن إلى شـدوهـا |
|
تشوّق العين إلى الخضـره |
كأنما فـرحة مـن زارهـا |
|
فرحة من طارت له القمره |
لو أن إسحاق شدا شـدوهـا |
|
لخلت من يسمع في سحره |
مندرةٌ في كل ألحـانـهـا |
|
لا كالتي تحسن في النّـدره |
وقال:
لقد برعت عابث في الغنـا |
|
وزادت فأربت على البارع |
يسبّح سامعها مـعـجـبـاً |
|
وأصواتها سبحة السامـع |
وقال:
شدوٌ ألذّ مـن ابـتـدا |
|
ء العين في إغفائهـا |
أحلى وأشهى من منى |
|
نفسٍ وصدق رجائها |
وقال ابن الرومي في بستان جارية أم علي بنت الراسبي:
واهاً لذاك الغناء من طـبـق |
|
على جميع الأنام مقـتـدر |
أضحت من الساكني حفائرهم |
|
سكنى الغوالي مداهن السرر |
يا مشرباً كان لي بـلا كـدرٍ |
|
يا سمراً كان لي بلا سهـر |
أصبحت بالترب غير راجحة |
|
عنه وقد ترجحين بالـبـدر |
وتبعه الناجم، فقال في عجاب جارية أبي مروان:
أضحى الثرى بـجـوارهـا |
|
عطر المسالك والمسـارب |
حلّت حفـيرتـهـا حـلـو |
|
ل المسك في سرر الكواعب |
يا درّة كـانـت تـضــي |
|
ء لناظري من كلّ جـانـب |
وهذا من قول بشار:
درّةٌ حيثـمـا أديرت أضـاءت |
|
ومشمٌّ من حيث ما شمّ فـاحـا |
وجنانٌ قال الإلـه لـهـا كـو |
|
ني فكانت روحاً وروحاً وراحا |
وله:
تلقى بتسبيحةٍ من حسن ما خلقت |
|
وتستفزّ حشا الرائي بـإرعـاد |
كأنّما صوّرت من ماء لـؤلـؤة |
|
فكلّ جارحةٍ وجهٌ بمـرصـاد |
والبيت الأول من هذين قد تقدم نظيره من قول الناجم.
من ظن به خير فانكشف عن شر
رجع ما انقطع: ممن ظن به خير فانكشف عن
شر، قال يزيد بن هارون: كنت بالحيرة فرأيت شيخاً عليه طيلسان، وعلى رأسه طويلة،
وله سمت حسن، فرجوت أن يكون عنده حديث فقلت: يا شيخ؛ عندك حديث ? فقال: أما حديث
فلا، ولكن عندي قديم طيب؛ فإذا هو خمار.
وسال العقيق في بعض السنين، فخرج الناس إلى الصحراء وفيهم سفيان الثوري؛ فلما كثر
الناس انكفأ يريد منزله، فبصر بشيخ ضرير قد أهدف على المائة وبيده عصاً يخترق صفوف
النساء، وهو يبكي بكاءً شديداً؛ فظن سفيان أن بكاءه لما فرط له معهن، فنظر إليه
حتى إذا صار في آخر الصفوف جنح على محجته واستقبلهن بوجهه، وكفكف عن عبرته وأنشأ:
عليكنّ السلام فليس منّـي |
|
لكنّ فدعنني غير السـلام |
تحالفت العصا لتشدّ ظهري |
|
وتجبر عثري عند القـيام |
فقال له سفيان: أما كان لك فيما مضى من عمرك عظة عن معاصي الله عز وجل ? فقال: بأبي أنت ! تمنعني من تلك الحوراء الطرف، الوافية الردف، الحسنة التبختر، الوانية التكسر، كالظبي الغرير، والمهاة عند الغدير، التي يقول في صويحباتها الشاعر:
يأخذن زينتهن أحسن ما يرى |
|
فإذا عطلن فهنّ خير عواطل |
يرمينني لا يستتـرن بـجـنّةٍ |
|
إلاّ الصّبا أين مـقـاتـلـي |
يلبسن أردية الشباب لأهلهـا |
|
ويجرّ باطلهنّ حبل الباطـل |
فمضى سفيان يستعيذ بالله منه.
ومثل قوله قول كشاجم:
يقولون تب والكاس في يد أغيد |
|
وصوت المثاني والمثالث عالي |
فقلت لهم لو كنت عاينت تـوبةً |
|
وعاينت هذا في المنام بدا لـي |
من ظريف الصفات
وما جرى ههنا شوطاً في ظريف الصفات، يطيب مغناه ويحسن معناه. قال أشجع بن عمرو:
وماجت كموج البحر بين ثيابـهـا |
|
يميل بها شطرٌ ويعدلها شـطـر |
إذا وصفت ما فوق مجرى وشاحها |
|
غلائلها ردّت شهـادتـهـا الأزر |
البحتري:
ابن الرومي:
وقال:
أخذه من قوله عبد الله بن السمط:
أبو النجم الكاتب:
ابن الرومي:
وقال:
وقال عبد القادر بن شعيب السلمي:
ومر أعرابي بأبي نواس وهو ينشد بعض الأمراء:
فقال الأعرابي: ويلك أنت وحدك من هذا ? بل ويلي أنا وويلي أبي وأمي وبني عمي، وهذا الفاعل القائم بين يديك. التقعر في الكلام كان رجل من التجار
له ولد يتقعر في كلامه، ويستعمل الغريب؛ فجفاه أبوه استثقالاً له وتبرماً به،
ومما كان يأتي به، فاعتل أبوه علةً شديدة أشرف منها على الموت. فقال: أشتهي أن
أرى ولدي، فأحضروهم بين يديه وأخر هذا ثم أخر حتى لم يبق سواه، فقالوا له: ندعو
لك بأخينا فلان ? فقال: هو والله يقتلني بكلامه، فقالوا: قد ضمن ألا يتكلم بشيء
تكرهه؛ فأذن لهم. فلما دخل قال: السلام عليك يا أبت، قل أشهد أن لا إله إلا
الله، وإن شئت قل أشهد أن لا إله إلا الله؛ فقد قال الفراء: كلاهما جائز، والأولى
أحب إلى سيبويه. والله يا أبتي ما شغلني غير أبي علي، فإنه دعاني بالأمس، فأهرس
وأعدس، وأرزز وأوزز، وسكبج وسبج، وزربج وطبهج، وأبصل وأمصل، ودجدج وافلوذج
ولوزج. |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
وقال أبو العباس أحمد بن عبد الرحمن بن
اليتيم: كنت أماشي أبا جعفر بن النحاس حتى وقفنا على بائع تمر، فقال له أبو جعفر:
كيف تبيعني ? قال: ثلاثة ونص بدرهم. قال له: قل ثلاثة ونصف بدرهم. قال: ثلاثة ونصف
بدرهم. فقال له: قل ثلاثة ونصف بالكسر، فضجر وقال: ونصف، أفرغ لسانك فنحن في بيع
وشراء لسنا في نحو. قال: فاجعله أربعة ? قال: أفعل يا بغيض، فوزن له بدرهم؛ فقال
له أبو جعفر: أدر الصنجة من الكفة إلى الكفة، فقال: أنا أعرف ابن النحاس فإنه
أحمقكم، قال ابن اليتيم فقلت له: أبيت أن تنصرف إلا مصفوعاً.
وكان أبو العباس مليح الشعر وهو القائل:
لا لأني أنساك أُكثـر ذكـرا |
|
ك ولكن بذاك يجري لسانـي |
أنت في القلب والجوانح والرو |
|
ح وأنت المنى وأنت الأماني |
كل عضوٍ منّي يراك من الشو |
|
ق بعينٍ غنيةٍ عن عـيانـي |
ودخل بستان حسين بن الماذرائي فعلق بثوبه غصن ورد فقال:
علق الورد بي وقال إلى أي |
|
ن وعندي روائح الأحبـاب |
قلت آليت لا أشمّك حـتّـى |
|
أتروّى من الثنايا العـذاب |
وقال:
يا زائري في ظـلـمة ال |
|
ليل البهيم علـى وجـل |
حافٍ وقد جعل الـقـنـا |
|
ع على النهار من الخجل |
هلاّ انتعلـت بـوجـنـت |
|
يّ فكان يضرب بي المثل |
سبحان من جعل الـخـدو |
|
د عذاب قلبي والمـقـل |
الفرزدق وخالد بن صفوان
قال خالد بن صفوان للفرزدق: يا أبا فراس،
لو رأتك صويحبات يوسف لما أكبرنك ولا قطعن أيديهن ? فقال: وأنت يا خالد، لو رأتك
صاحبة موسى لما قالت: يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين.
ووهب رجل لابن سيابة ديناراً، ثم بعث إليه ليأنس به، فكتب إليه: شغلتنا أموالنا
وأهلونا.
وجاور ابن سيابة قوماً فأزعجوه. فقال: ولم تخرجوني من جواركم ? قالوا: أنت مريب،
قال: فمن أذل من مريب وأحسن جواراً.
وفيه يقول عتبة الأعور:
يابن الذي عاش غير مهتضـمٍ |
|
يرحمه اللّـه أيّمـا رجـل |
له رقاب الملوك خـاضـعةٌ |
|
ما بين حافٍ منهم ومنتعـل |
أبوك أوهى النّجاد عـاتـقـه |
|
كم من كميّ أردى ومن بطل |
يأخذ من مالـه ومـن دمـه |
|
لم يمس من دائر على وجل |
في كفّـه صـارمٌ يقـلّـبـه |
|
يقدّ أعـنـاق سـادةٍ نـبـل |
وهذا بديع في وصف حجام.
وقال آخر يصف حجاماً:
له جونةٌ فيها ثلاثون مخلـبـاً |
|
مناقيرها بيضٌ وأجوافها حمر |
إذا عوّج الكتّاب يوماً سطورهم |
|
فليس بمعوجّ له أبداً سـطـر |
وصف بعض المزينين
وقد قال بعض المزينين:
قصصت بموسى الغدر ناصية العـهـد |
|
وأجريت شرط البين في جبـهة الـودّ |
قططت بمقراض الجفا طـرّة الـوفـا |
|
فجبهة وجه الودّ مكشـوفة الـجـلـد |
وما زلت مصّاصاً بجمجمة الـقـلـى |
|
أخا النأي في العتبى على القرب والبعد |
كلام مستطرف لأهل الصناعات من طريق صناعاتهم
ولأهل الصناعات من طريق صناعاتهم كلام مستظرف؛ وربما اتفقت الاستعارة مطردة للشاعر على معنى في صناعة، حتى كأنه عانى تلك الصناعة بما جرى على لسانه من البراعة، في وصف حقائقها، ونعت طرائقها؛ كقول عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع.
غرست الهوى حتى إذا أورق الهوى |
|
فأينع في أغصانه ثمر الـوصـل |
وحفّت به أنهـاره فـي غـياضـه |
|
فأصبح ملتفّ الحدائق بالـحـمـل |
ولم يبق إلا المجتنى مـن ثـمـاره |
|
سرور التصافي والمودة والـبـذل |
أطاف بنا ريح الوشاة فـهـيّجـت |
|
سحابة هجران تكفّ علـى رسـل |
فمالت عزاليها عليه فـأحـرقـت |
|
غصون الهوى والودّ منّا بلا دخـل |
ودبّت سيول الهجر حول أصـولـه |
|
فأغصانه فاستقلعته مـن الأصـل |
وقال علي بن هشام:
حصد الحبيب وصالنا بمناجلٍ |
|
طبع المناجل من حديد البين |
والشوق يطحنه بأرحية الهوى |
|
والعين تعجنه بماء الـعـين |
والقلب يخبزه بنيران الأسـى |
|
والنفس تأكله بـلـونٍ لـون |
قال الجاحظ: سألت وراقاً عن حاله ? فقال:
عيشي أضيق من محبرة، وجسمي أدق من مسطرة، وجاهي أرق من الزجاج، ووجهي عند الناس
أشد سواداً من الحبر بالزاج، وحظي أخفى من شق القلم، وجسمي أضعف من قصبة، وطعامي
أمض من الحبر، وشرابي أمر من العفص؛ وسوء الحال ألزم بي من الصمغ. فقلت: لقد عبرت
ببلاء عن بلاء.
وللجاحظ في هذا النوع رسالة كتب بها إلى المعتصم، وقيل إلى المتوكل في الحض على
تعليم أولاده ضروب العلوم وأنواع الأدب وهي: يا أمير المؤمنين: علم بنيك من أنواع
الأدب ما أمكن؛ فإنك إن أفردتهم بشيء واحد ثم سئلوا عن غيره لم يعرفوه؛ وذلك أن
حزاماً صاحب خيلك حين سألته عن الوقعة ببلاد الروم، قال: لقيناهم في مقدار
الإصطبل، فما كان إلا بمقدار ما يحس الرجل دابته حتى قتلناهم؛ فتركناهم في مثل
نثير السرجين، فلو طرحت روثة لما سقطت إلا على ذنب برذون.
وكان قد أنشد في الغزل:
غن يهدم الصدّ عن قلبي مـذاوده |
|
فإنّ قلبي بقتّ الصبر معـمـور |
ويح امرىءٍ في وثاق الحبّ يكبحه |
|
لجام هجرٍ على الأسقام مقـرور |
أنل خليلك نيلاً من وصـالـك أو |
|
حسن الرقاد فإنّ النوم مـأسـور |
أمنت فتل شكالي حين ودّعـنـي |
|
ومبضع الحب في كفيه مطرور |
لبست برقع هجر بعد ذلـك فـي |
|
إصطبل ودّ فروث الحبّ منثـور |
وسألت بختيشوع الطبيب عن مثل ذلك فقال:
لقيناهم في مقدار ساحة البيمارستان؛ فما كان إلا بمقدار ما يختلف الرجل مقعدين حتى
تركناهم في محقنة ثم قتلناهم، فلو طرحت مبضعاً لما وقع إلا على أكحل رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شرب الوصل بجنح الهجر فاستط |
|
لق بطن الوصال بـالإسـهـال |
ففؤاد المحبّ ينحـلـه الـسّـه |
|
د وقلبي معلّقٌ بـالـمـطـال |
وفؤادي مـبـرسـمٌ ذو زحـيرٍ |
|
يابن ماسويه ضاق احـتـيالـي |
لو ببقراط بعض ما بي وجالـي |
|
نوس ماتا منـه بـأسـوأ حـال |
وسألت جعفر الخياط عن مثل ذلك فقال:
لقيناهم في مثل سوق الخلقان؛ فما كان إلا بقدر ما يخيط الرجل درزاً، حتى تركناهم
في أضيق من جربان، فلو طرحت إبرة لما وقعت إلا على درز رجل.
وكان قد قال في الغزل:
فتقت بالهجران درز الهـوى |
|
بإبـرة مـن إبـر الـصـدّ |
فالقلب من ضيق سـراويلـه |
|
يعثر بي في تكّة الـجـهـد |
حسدتني يا طيلسان الـهـوى |
|
منه على سوءٍ شـقـا جـدّي |
أزرار عيني فيك مـوصـولةٌ |
|
بعروة الدّمع عـلـى خـدّي |
يادستبان الـقـلـب يا زيقـه |
|
عذّبني الدركنـز بـالـوعـد |
قد قصّ ما أعرف من وصله |
|
مقراض بين مرهف الـحـدّ |
يا حجزة النفـس ويا ذيلـهـا |
|
ما لي من وصلـك مـن بـدّ |
ويا جـرّبـان ســروري ويا |
|
جيب غرامي حلت عن عهدي |
وسألت إسحاق بن إبراهيم عن ذلك وكان
زارعاً فقال: لقيناهم في مثل جريب من الأرض؛ فما كان إلا بقدر ما يسقي الرجل مشارة
حتى قتلناهم عن آخرهم، فلو طرحت منجلاً لما سقط إلا على رأس رجل؛ فصاروا مثل أكوام
التبن إذا خرج عن الحب.
وكان قد قال في الغزل:
زرعت هواه في جريبٍ مثلّـثٍ |
|
وأسقيته ماء الدوام على العهـد |
فلما تعالى النبت واخضرّ يانعـاً |
|
وأفرك حبّ الحبّ في سنبل الودّ |
أتته أكفّ الهجر فيها مـنـاجـلٌ |
|
فأسرعن فيه حين أدرك بالحصد |
فيا شؤم مالي إذ يعطل للشـقـا |
|
ويا ويح ثوري صار معلفه كبدي |
وسألت فرجاً الرخجي عن مثل ذلك وكان
خبازاً فقال: لقيناهم في مثل مقدار جفنة، فما كان إلا بقدر ما يعجن الرجل قفيزاً
أو يخبز أرغفة، حتى صيرناهم في أضيق من جحر التنور، فلو طرحت جردقاً لما وقع إلا
في خوان الخبز على كثرة القتلى.
وقد كان أنشد في الغزل:
قد عجن الهجر دقيق الهـوى |
|
في جفنةٍ من خشب الـصـدّ |
فاختمر البين فنـار الـهـوى |
|
تزجي بشوك الهجر من بعدي |
وأقبل الصـدّ بـهـجـرانـه |
|
يفحص عن أرغفة الـوجـد |
جرادقاً للوعـد مـسـمـومةً |
|
مثرودةً في قصعة الجـهـد |
وسألت عبد الله بن عبد الصمد عن مثل ذلك
وكان مؤدباً فقال: لقيناهم في مقدار كنف، فما كان إلا بمقدار ما يقرأ الصبي إمامة،
حتى تركناهم في أضيق من فم الرقم، فلو طرحت دواةً لما سقطت إلا على حجر قتيل.
وقد كان قال في الغزل:
قد أمات الهجران صبيان قلبي |
|
ففؤادي مـولّـهٌ ذو خـبـال |
كسر البين لوح وصلي فما أط |
|
مع ممن هويته في وصـال |
وقع الرقم عن دواتي فمذ أطل |
|
ق مولاي حبله من حبـالـي |
مشق الحبّ من فؤادي لوحي |
|
ن فأغرى جوانحي بالسـلال |
لاق كبدي دواته فـمـداد ال |
|
عين مذ صدّ مالكي ذو انهمال |
وسألت الجهم بن بدر عن مثل ذلك وكان صاحب
حمام ت فقال: لقيناهم في مثل بيت الابتذال، فقاتلناهم بقدر ما تخلف النورة، ثم
ألجأناهم إلى أضيق من الأبزن، فهزمناهم بقدر ما يغسل الرجل وجهه؛ فلو طرحت ليفة
لما وقعت إلا على ظهر رجل.
وقد كان قال في الغزل:
يا نورة الهجر غلفت الصفا |
|
بما بدا من ليفة الـصـدّ |
يا مبذر الأسقام حتّى متـى |
|
تنقع في حوضٍ من الجهد |
انقل ذيول الوصل لي مرة |
|
منك بزنبـيلٍ مـن الـودّ |
فالبين مذ أوقد حـمّـامـه |
|
هيّج قلبي مشلّح الـوجـد |
أفسد خطمي الهوى والصفا |
|
بحاله الناقض للـعـهـد |
وسألت الحسن بن أبي قماش وكان أبوه كناساً
فقال: لقيناهم بقدر ما يكنس الرجل زنبيلاً، حتى تركناهم في أضيق من جحر المخرج،
فلو رميت بنت وردان لما وقعت إلا على ظهر قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
أصبح قلبي للهوى مخرجـاً |
|
تسلح فيه فقحة الـهـجـر |
خنافس الهجران أثكلنـنـي |
|
نومي فولّى معرضاً صبري |
وبنت وردان الهوى تيّمـت |
|
عقلي فما أعقل ما أمـري |
وسألت أحمد الشرابي، فقال: لقيناهم في
مقدار بيت شراب، فلم يكن إلا بمقدار ما يبزل الرجل دنا، حتى تركناهم في أضيق من
رطلية، ثم سالت دماؤهم كالدردي، فلو طرحت كأساً لما وقع إلا في كف رجل.
وكان قد قال في الغزل:
شربت بكأس اللّهو من راحة الهـوى |
|
ورقرقت خمر الوصل في قدح البين |
فسالت دنان الحبّ يدفقها الـصـبـا |
|
وكرّت قرابات دمعي على عـينـي |
وسألت عبد الله الطاهري وكان طباخاً فقال:
لقيناهم في مقدار مطبخ أمير المؤمنين، فما كان إلا بمقدار ما يشوي الرجل حملاً أو
جدباً، أو يفرغ من طبخ ثلاثة ألوان، أو يعقد فالوذجةً، حتى تركناهم في أضيق من
أثافي القدر، فلو طرحت ملعقة لما وقعت إلا على بطن قتيل.
وكان قد قال في الغزل:
شبه الفالوذج في حـمـرة الـخ |
|
دّ ولوزينج النفوس الـظـمـاء |
أنت جوزينج الفؤاد وفي الـلـي |
|
ن كلين الخبيصة الـصـفـراء |
أنت مستهتـرٌ بـسـكـبـاج ودّ |
|
بعد جوزابة بـجـنـب شـواء |
يا قتار القدور فـي يوم عـرسٍ |
|
وشبيهـاً بـشـهـدةٍ بـيضـاء |
أنت أشهى إلى الفؤاد من الـزب |
|
د مع البرسيان وقت الـغـداء |
أطعم الحـاسـدين ألـوان غـمّ |
|
في قصاع الأحزان والضـراء |
قد غلا القلب مذ خلت منك داري |
|
غليان القدور بعـد الـصّـلاء |
هام لمّا كسرت فيك غـضـارا |
|
ت سروري مفارق الشّحـنـاء |
إنّ إسفيداج وجـهـك يشـفـي |
|
من رقيق الأحزان أي شـفـاء |
فتفضل على العـمـيد بـمـاء |
|
ورد يكبت قـلـوب الـعـداء |
وسألت داود الفراش عن مثل ذلك قال:
لقيناهم في مثل تربيع الفسطاط، فما كان إلا بقدر ما يفرش الرجل بيتاً أو بيتين،
حتى تركناهم في أضيق من صاريات ثم قتلناهم، فلو رأيت نجار التراب عليهم وقد سالت
دماؤهم في حمرة الأرمني.
وكان قد أنشدني في الغزل:
كنس الهجر ساحة الوصل لمّـا |
|
عثر البين في وجوه صفـائي |
فلقد بثّ في فراش همـومـي |
|
تحت خدّي وسائداً لضـنـائي |
حين هيأت بيت حسن من الوص |
|
ل لأثـوابـه سـتـور إخـاء |
فرش الهجر لي بيوت مسوحٍ |
|
متّكاها مطارح الحصـبـاء |
رقّ للصبّ من بواعث وجدٍ |
|
قد تخالسنه صباح مـسـاء |
يا أمير المؤمنين: إنما ينطق اللسان بما
يتصور الجنان، ويظهر في الكلام ما يخطر على الأوهام، فمن لم يعرف إلا شيئاً واحداً
لم يتكلم إلا عليه، ومن كثر علمه كثرت خواطره، واتسعت مذاهبه، ورب هزل أنفع من جد؛
إذا أصيب به موضع الحاجة إليه، ووضع بحيث تقع همم النفوس عليه، والسلام.
والجاحظ صنع هذه الأشعار لما وضع هذه الأخبار، وكان قديراً على الشعر سراقاً له.
روى أبو مسلم الكشي قال: حدثني إبراهيم بن رباح قال: مدحني حماد بن أبان اللاحقي
بشعر فيه هذان البيتان:
بدا حين أثرى بإخـوانـه |
|
ففلّل فيهم شباة الـعـدم |
وذكّره الحزم غبّ الأمور |
|
فبادر قبل انتقال النعـم |
فروي هذا الشعر وعرف بالبصرة، ثم جاءني
الجاحظ فمدحني بشعر أدخل فيه هذين البيتين، فاحتملت ذلك وأثبته؛ فبينما أنا جالس
يوماً في مجلس أحمد بن أبي دواد والجاحظ في مجلسه، إذ قال لي أحمد ما وصفت بشيء
أحسن مما مدحني به أبو عثمان، وأنشدني البيتين. فقلت: إن مادحك أعزك الله يجد فيك
مقالاً والجاحظ ملأ عينيه مني ولا يستحي مني.
وله في رسالة إلى أبي الفرج محمد بن نجاح قصيدة مستحسنة أولها:
أقام يداً والخفض راضٍ بـحـظّـه |
|
وذو الحظّ يسري حيث لا أحد يسري |
يظنّ الرضا بالقوت شيئاً مـهـوّنـاً |
|
ودون الرضا كأسٌ أمرّ من الصبـر |
وقد طعن أبو الفضل أحمد بن الحسين
الهمذاني بديع الزمان على بلاغة الجاحظ فقال: هو في أحد شقي البلاغة يقف، وفي
الآخر يقتطف، والبليغ من لم يقصر نظمه عن نثره ولم يزر كلامه بشعره، أفترون للجاحظ
شعراً رائقاً ? قالوا: لا. قال: فهلموا إلى نثره تجدوه قريب العبارات، بعيد
الإشارات، قليل الاستعارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من بديعه يهمله.
وليس هذا موضع الكلام على بلاغته، وإلا فكنت أنبه على معايب كلامه ومقابحه، ومحاسن
خطابه وممادحه.
وهذه أوصاف بليغة في البلاغات، على ألسنة قوم من أهل الصناعات
اجتمع قوم من أهل البلاغات، فوصفوا
بلاغاتهم من طريق صناعاتهم: فقال الجوهري: أحسن الكلام نظاماً ما ثقبته يد الفكرة،
ونظمته الفطنة، ونضد جوهر معانيه في سموط ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.
وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه؛ ففاح نسيم نشقه، وسطت
رائحة عبقه؛ فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكور الفكرة، وسبكته بمشاعل النظر، وخلصته من
خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز في معنىً وجيز.
وقال الصيرفي: خير الكلام ما نفدته يد البصيرة، واجتلته عين الروية، ووزنته بمعيار
الفصاحة، فلا نظر يزيفه، ولا سماع يبهرجه.
وقال الحداد: خير الكلام ما نصبت عليه منفخة الروية، وأشعلت فيه نار البصيرة، ثم
أخرجته من فحم الإفحام، ورققته بفطيس الإفهام.
وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار
التدبير، فصار باباً لبيت البيان، وعارضةً لسقف اللسان.
وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه، وحسنت مطارح معانيه؛ فتنزهت في
زرابي محاسنه عيون الناظرين، وأصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين.
وقال الماتح: أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه بكرب معانيه، ثم أرسلته بقليب الفطن،
فمنحت به سقاءً يكشف الشبهات، واستنبطت به معنى يروي من ظمأ المشكلات.
وقال الخياط: البلاغة قميص فجربانه البيان، وجيبه المعرفة، وكماه الوجازة،
ودخاريصه الإفهام، ودروزه الحلاوة، ولابسه جسد اللفظ، وروحه المعنى.
وقال الصباغ: أحسن الكلام ما لم تنصل بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، وقد
صقلته يد الروية من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألف عذارى الألباب.
وقال البزاز: أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه، فلم يستعجم عنك
نشر، ولم يستبهم عليك طي.
وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوفاً منيراً،
وموشى محبراً.
وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حد التخليع إلى منزلة التقريب إلا
بعد الرياضة؛ وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته، في تمام ثقافته.
وقال الجمال: البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار
له عقالاً، والإيجاز له مجالاً، لم يند عن الأذهان، ولم يشذ عن الآذان.
وقال المخنث: خير الكلام ما تكسرت أطرافه، وتثنت أعطافه، وكان لفظه حلةً، ومعناه
حليةً.
وقال الخمار: أبلغ الكلام ما طبخته مراجل العلم، وصفاه راووق الفهم، وضمته دنان
الحكمة، فتمشت في المفاصل عذوبته، وفي الأفكار رقته، وفي العقول حدته.
وقال الفقاعي: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك، ورفعت رقته فظاظة الجهل،
فطاب حساء فطنته، وعذب مص جرعته.
وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر بيانه سقم الشبهة، استطلقت طبيعة الغباوة؛
فشفي من سوء التفهم، وأورث صحة التوهم.
وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فالشبهة قذى الأبصار، فاكحل عين اللكنة
بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
ثم قال: أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام، ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه، وإذا
صدقت أنواؤه، اخضرت أحماؤه.
وهذا المعنى كثير، وإنما آخذ من كل فن اليسير.
من مستطرف الأخبار
وقال رجل لغلامه: التمس لي داراً لا تكون
بجوار مسجد فإني أحب الأفراح، فاكترى له داراً بين مسجدين. فقال له: ما هذا ?!
قال: يا مولاي، لا تدري المعنى؛ أهل هذا المسجد يظنونك في هذا، وأهل ذا يظنونك في
ذا، وأنت قد ظفرت بما تحب.
وقال أبو الجهم أحمد بن بدر للمتوكل وذكر نجاح بن سلمة أو غيره:
إمام الهدى وابن الدعاة إلى الهـدى |
|
ومنهج خير العالمـين مـحـمّـد |
أعنّي على والٍ يجـوز تـعـبّـداً |
|
عليّ عسوف الظلم غـير مـؤيّد |
وما لي ذنبٌ عنـده غـير أنـنـي |
|
عليم بما يختار لـلـيوم والـغـد |
ولا خير للطّرار في قرب نـائب |
|
ولا للمريب الفعل في قرب مسجد |
صحب الغاضري رجلاً من قريش من مكة إلى
المدينة فقال القرشي: يا غلام؛ أطعمنا دجاجةً، فأتى بها باردة، فقال: ويحك أسخنها.
ورفع غداؤهم ولم يؤت بالدجاجة، فلما كان العشاء قال: يا غلام، عشاءنا. فلما أتاهم
العشاء قال: هات تلك الدجاجة، فأتى بها باردة، فقال: أسخنها. فقال الغاضري:
أخبروني عن دجاجتكم هذه أمن آل فرعون هي ? فإني أراها تعرض على النار غدوةً
وعشياً.
فقال: ويحك يا غاضري اكتمها علي، ولك مني مائة دينار. فقال: والله مما كنت لأبيعها
بشيء.
طيلسان ابن حرب
أخذه الحمدوني فقال في طيلسان ابن حرب:
يابن حرب أطلت ظلمي برفـوي |
|
طيلساناً قد كنت عـنـه غـنـيّا |
هو في الرّفو آل فرعون في العر |
|
ض على النار بكـرةً وعـشـيّا |
زرت فيه معاشراً فـازدرونـي |
|
فتـغـنّـيت إذ رأونــي زريّا |
جئت في زيّ سائلٍ كـي أراكـم |
|
وعلى الباب قد وقفـت مـلـيّا |
وكان أحمد بن حرب المهلبي من المحسنين إليه، المنعمين عليه، وله فيه مدائح كثيرة، فوهبه طيلساناً أخضر، فوجد فيه فزراً ولم يرضه. قال أبو العباس المبرد: فأنشدنا فيه عشر مقطعات ضمن أواخرها أبيات أغان ملاحاً، فاستحلينا مذهبه فيها فجعلها خمسين شعراً فطارت كل مطير، وسارت كل مسير، حتى قال:
طيلسان لابـن حـربٍ |
|
ذو أيادٍ ليس تحـصـى |
أنا فيه أشـعـر الـنّـا |
|
س إذا ما الشعر نصّـا |
وأراني صـرت أدنـى |
|
بعد ما قد كنت أقصـى |
واتقاني الـنّـاس وازدا |
|
دوا على شعري حرصا |
ولكـم قـد حـاز لـي |
|
أردية تترى وقمـصـا |
كان دهراً طيلـسـانـاً |
|
ثم قد أصبـح شـصّـا |
وقال ابن الرومي في هجائه عمراً الكاتب الملقب بخرطوم، وكان من خاصة القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب الوزير:
أغلقت حانوتـي لـطـو |
|
ل كساده وفتحت عمـرا |
يا طيلسـان الـحـمـدن |
|
يّ شفعت فيّ وكنت وترا |
عمرا أخوك جعـلـتـه |
|
لي مكسباً فأفدت وفـرا |
لا تبعدا من صـاحـبـي |
|
ن لقيتما ضعةً وفـقـرا |
قال ابن أبي عون: مر الحمدوني بابن حرب
وهو جالس على باب داره وعلى كتفه وسادة. قال: لأي شيء هذه يا حمدوني ? قال: أرقع
بها طيلسانك. قال: ما تزال تهجونا منثوراً وموزوناً !!.
ومن طريف شعره فيه:
يا طيلسان ابن حربٍ قد هممت بأن |
|
تودي بجسمي كما أودي بك الزمن |
ما فيك من حيلة تغني ولا ثـمـنٍ |
|
قد أوهنت حيلتي أركانك الوهـن |
فلو تراني لدى الرّفّاء مرتـبـطـاً |
|
كأنني في يديه الدهر مـرتـهـن |
أقول حين رآني النـاس ألـزمـه |
|
كأنّما لي في حـانـوتـه وطـن |
من كان يسأل عنّا أين منزلـنـا ? |
|
فالأقحوانة منّا مـنـزلٌ قـمـن |
البيت للحارث بن خالد المخزومي.
وقال:
قل لابن حرب طـيلـسـا |
|
نك قوم نوحٍ منـه أحـدث |
أفنى الـقـرون ولـم يزل |
|
عمّن مضى من قبل يورث |
فإذا العـيون لـحـظـنـه |
|
فكأنّه باللـحـظ يحـرث |
يودي إذا لــم أرفـــه |
|
وإذا رفوت فليس يلـبـث |
كالكلب إن تحمـل عـلـي |
|
ه الدهر أو تتركه يلهـث |
وقال:
وهبت لنا ابن حرب طيلسانـاً |
|
يزيد المرء في الضعة اتضاعا |
يسلّم صاحبي فـيقـدّ شـبـراً |
|
له وأقـدّ فـي ردّي ذراعـا |
أجيل الطّرف في طرفيه طولاً |
|
وعرضاً ما أرى إلاّ رقـاعـا |
فلست أشكّ أن قد كان قـدمـاً |
|
لنوحٍ في سفينتـه شـراعـا |
فقد غنّيت إذ أبصـرت مـنـه |
|
جوانبه على بدنـي تـداعـى |
قفي قبل التفرّق يا ضبـاعـا |
|
ولا يك موقفٌ منك الوداعـا |
البيت للقطامي عمير بن شييم التغلبي: وقال فيه:
قل لابن حرب طيلسانك قد |
|
أوهى قواي بكثرة الـقـدم |
متبيّنٌ فـيه لـمـبـصـره |
|
آثـار رفـو أوائل الأُمـم |
فكأنّه الخمر التي وصفـت |
|
في يا شقيق النفس من حكم |
فإذا رممناه فـقـيل لـنـا |
|
قد صح قال له البلى: انهدم |
مثل السقيم بـرا فـعـاوده |
|
نكسٌ فأسلمه إلـى سـقـم |
أنشدت حين طغى فأعجزني |
|
ومن العناء رياضة الهـرم |
والخمرة التي وصفت فيما ذكر لأبي نواس:
يا شقيق النفس من حـكـم |
|
نمت عن ليلـي ولـم أنـم |
فاسقني الخمر التي اعتجرت |
|
بخمار الشيب في الـرّحـم |
ثمّت انصات الشباب لـهـا |
|
بعد أن جازت مدى الهـرم |
فهي لليوم الـذي بـزلـت |
|
وهي تلو الدهر في القـدم |
عتّقت حتى لو اتـصـلـت |
|
بلـسـانٍ نـاطـقٍ وفـم |
لاحتبت في الـقـوم مـائلة |
|
ثم قصّـت قـصة الأمـم |
فرعتـهـا بـالـمـزاج يدٌ |
|
خلقت للكـأس والـقـلـم |
في ندامـى سـادة نـجـب |
|
أخذوا اللـذّات مـن أمـم |
فتمشّت في مفـاصـلـهـم |
|
كتمشّي البرء في السـقـم |
صنعت في البيت إذ مزجت |
|
كصنيع الصّبح في الظلـم |
فاهتدى ساري الظلام بهـا |
|
كاهتداء السفر بالـعـلـم |
وزعم ابن قتيبة أن هذا الشعر لوالبة بن الحباب، وإنما يخاطب به أبا نواس الحكمي. وقال غيره: بل الشعر لأبي نواس وإنما أغار على والبة في قوله:
يا شقيق النفس من أسد |
|
لم تنم عيني ولم تكـد |
وقال الحمدوني:
طيلسانٌ لابن حرب جاءنـي |
|
قد قضى التمزيق منه وطره |
أنا من خوفي عـلـيه أبـداً |
|
سامريٌّ ليس يألـو حـذره |
يابن حربٍ خذه أو فابعث بما |
|
يشتري عجلاً بصفر عشره |
فلعلّ الـلّـه يحـييه لـنـا |
|
إن ضربناه ببعض البـقـره |
فهو قد أدرك نوحاً، فعسـى |
|
عنده من علم نوحٍ خـبـره |
أبـداً يقـرأُ مـن أبـصـره |
|
أئذا كنّا عظـامـاً نـخـره |
وكان يقول: أنا ابن قولي، يريد أنتسب إليه كما أنتسب إلى أبي. وقال:
يابن حرب كسوتني طيلسانـاً |
|
ملّ من صحبة الزمان وصدّا |
فحسبنا نسج العناكب إذ قـي |
|
س إلى ضعف طيلسانك سدّا |
إن تنسمت فيه ينجرّ جـرّاً |
|
أو تبسمت منه ينقـدّ قـدّا |
طال ترداده إلى الرّفو حتى |
|
لو بعثناه وحده لتـهـدّى |
وكان أبو تمام يقول: أنا ابن قولي:
نقّل فؤادك أين شئت من الهوى |
|
ما الحبّ إلاّ للـحـبـيب الأوّل |
كم منزلٍ في الأرض يألفه الفتى |
|
وحنينـه أبـداً لأوّل مـنـزل |
وقال الحمدوني في الطيلسان:
ولي طيلسانٌ إن تأمّلت شخـصـه |
|
تيّقنت أنّ الدهر يفنى وينـقـرض |
تصدّع حتّى قد أمنت انصـداعـه |
|
وأظهرت الأيام من عمره الغرض |
فلو أنّ أصحاب الـكـلام يرونـه |
|
لماروك فيه وادّعوا أنه العـرض |
وقال:
يابن حربٍ كسوتني طيلساناً |
|
أمرضته الأوجاع فهو سقيم |
فإذا ما لبست قلت سبـحـا |
|
نك تحيي العظام وهي رميم |
طيلسانٌ له إذا هبّت الـرّي |
|
ح عليه بمنكبـيّ هـمـيم |
لو يدبّ الحوليّ من ولد الـذ |
|
رّ عليه لأندبته الـكـلـوم |
وقال:
إن ابن حرب كساني |
|
ثوباً يطيل انحرافه |
أظلّ أدفـع عـنـه |
|
وأتّقي كـلّ آفـه |
فقد تعلمت من خش |
|
يتي عليه الشقافـه |
من الملح
وقف أبو العيناء على باب صاعد بن مخلد فقيل له: إنه يصلي فانصرف، ثم عاوده، فقيل له: إنه يصلي. فقال: لكل جديد لذة. وكان صاعد نصرانياً ثم ارتقت به الحال أن توزر للموفق بن أحمد بن المتوكل، وكان أخوه المعتمد الخليفة ولم يكن له مع الموفق أمر ولا نهي، وقد قال المعتمد لما ملك عليه أخوه الأمر، أو قيل على لسانه:
أليس من العجائب أنّ مثلي |
|
يرى ما قلّ ممتنعاً علـيه |
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعـاً |
|
وما من ذاك شيءٌ في يديه |
ولما أجاب الصولي أبا القاسم بن عبد الله ملك المغرب اقتضى ذكر ولد العباس والخلفاء خليفةً خليفةً حتى انتهى إلى المعتمد فقال:
ومعتمدٌ من بـعـدهـم ومـوفّـقٌ |
|
يردّد من إرث الخلافة مـا ذهـب |
موازٍ لهم في كل فـضـلٍ وسـؤددٍ |
|
وإن لم يكن في العدّ منهم لمن حسب |
ولما احتاج الصولي إلى ذكر الموفق لشهامته
وحزامته، وكأن القصيدة إنما أجاب بها على المقتدر بن جعفر بن المعتضد بن الموفق،
فلو لم يذكره لانقطع عليه ما أراد.
وكان المعتمد مضعوفاً، وكان أمره قبل تمكن الموفق في يد وصيف حتى قال باذنجانة
الكاتب:
يا دولة بــائرة |
|
كاسفة ما تبتغى |
خليفة مستضعف |
|
بين وصيف وبغا |
يقول ما قالا لـه |
|
كما تقول الببّغا |
ودخل أبو خالد يزيد المهلبي على المعتمد مرات، فأنشده قصائد على الدال؛ فقال: يا يزيد؛ ما أراك تعدو الدال ? فقال: وكيف أعزك الله يا أمير المؤمنين واسمي يزيد، وأبي محمد وأكنى بأبي خالد، وأنت المعتمد، وتسمى بأحمد، ومن صفاتك السيد والماجد والجواد، فأين أدع الدال? وهذا كقول أبي صدقة المدني وقد قيل له: ما أشد إلحافك ? فقال: تلومونني على ذلك وأنا اسمي مسكين، وكنيتي أبو صدقة، واسم أبي صدقة، واسم امرأتي فاقة.
من طرف أبي العيناء
ووقف أبو العيناء على باب إبراهيم بن رباح
فقيل: هو مشغول. فقال: إذا شغل بكأس يمناه، وبحر يسراه، وانتسب إلى أب لا يعرف
أباه، لم يحفل بحجاب من أتاه.
ودخل أبو العيناء على المتوكل؛ فقال: أي شيء تحسن ? قال: أفهم وأفهم، وآخذ
من المجلس ما حوى، مرة أغلب ومرة أغلب. قال: كيف شربك للنبيذ ? قال: أعجز عن قليله
وافتضح عند كثيره. قال: فما تقول في بلدك البصرة ? قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب،
وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم. قال: ارفع حوائجك إلينا. قال: قد رفعتها إلى
الله، فما أحب نجاحه فليس ينفعني شرحه. قال: نحب أن تلزم مجلسنا. قال: يا أمير
المؤمنين، إن أجهل الناس من يجهل نفسه؛ أنا امرؤ محجوب والمحجوب تختلف إشارته، وقد
يجوز قصده، فيصغي إلى غير من يحدثه، ويقبل بحديثه على غير من يسمع منه، وجائز أن
يتكلم بكلام غير راض، ومتى لم أفرق بين هذين هلكت. وأخرى: كل من في مجلسك يخدمك،
وأنا أحتاج أن أخدم، ولم أقل هذا جهلاً مني بما في هذا المجلس من الفائدة، ولكني
اخترت العافية على التعرض للبلاء. قال الفتح بن خاقان: يا أمير المؤمنين، هذا رجل
عاقل عارف بنفسه وبحق الملوك. قال: فيلزمنا في كل الأوقات لزوم الفرض الواجب.
وبلغ أبا العيناء أن المتوكل قال: لولا أن أبا العيناء ضرير لنادمناه. فقال: إن
أعفاني أمير المؤمنين من رؤية الأهلة وقراءة نقش الفصوص فأنا أصلح للمنادمة. وإنما
هذا تولع منه بلسانه؛ واقتدار على الكلام، وإلا فقد تعافى من ذلك المقام.
ودخل على إبراهيم بن المدبر وعنده الفضل اليزيدي معلم ولده وإبراهيم جالس. فقال
للمعلم: في باب هذا ? قال في باب الفاعل والمفعول به. فقال: هذا بابي وباب الوالدة
أعزها الله. فغضب اليزيدي ونهض.
أخذه البحتري فقال لإبراهيم بن المدبر:
أي شيءٍ ألهاك عن سرّ من را |
|
ء وظلّ للعيش فيها ظـلـيل |
إقتصار على أحاديث فـضـل |
|
وهو مستكرهٌ كثير الفضـول |
لم تكن نهزة الوضـيع ولا رو |
|
حك كانت لفقاً لروح الثقـيل |
فعلام اصطنعت منكسف البـا |
|
ل معار الحذاق نزر القبـول |
إن ترده تجده أخلق من شـي |
|
ب الغواني ومن تعفّي الطلول |
مسرجاً ملجماً وما متّع الصب |
|
ح إدلاجاً للجسّ والتطـفـيل |
غير أنّ المعلمين على حـال م |
|
قليلي التمييز ضعفي العقـول |
فإذا ما تذكّر الناس مـعـنـى |
|
من مبين الأشعار أو مجهول |
قال هذا لنا ونحن كشـفـنـا |
|
غيبه للسؤال والـمـسـؤول |
ضرب الأصمعي فيهم أم الأح |
|
مر أم لحقـوا... الـخـلـيل |
أبداً شأنه التـردّد فـي الـفـا |
|
عل من والديه والمفـعـول |
ظريف مملق
قال الصولي: كان بالبصرة رجل مهلبي ظريف مملق، وكان له إخوان فقالوا له: ألا تدعوننا ? فقال لهم: ألا تدعونني ? فألحوا عليه فارتهن قطيفةً له على دراهم، فاشترى لهم ما يصلحهم، ودعا مغنيةً فكان اقتراحهم عليها:
ليت الذين تحمّلوا أحنـوا |
|
أمّا أنا فأضرّ بي الحزن |
فقال المهلبي: أما هذا الذي تقولونه فما
أدري ما هو ? أما أنا فقطيفتي رهن؛ فضحكوا وغرموا له ما أنفق.
ودعا رجل قوماً، فما كان مع المغرب أراد انصرافهم، وأرادوا المقام عده، فاقتضوه في
السراج. فقال لهم: أما سمعتم قول الله تعالى: "وإذا أظلم عليهم قاموا".
من نوادر المتنبئين
وادعى رجل النبوة في أيام المأمون، فأحضره
المأمون وقال له: ما دليل نبوتك ? قال: أن أعلم ما انعقد عليه ضميرك. فقال: ما هو
? قال: في نفسك أصلحك الله أني كاذب؛ فضحك منه وتركه.
وأتي المعتصم برجل ادعى النبوة. فقال: ما آيتك ? قال: آية موسى. قال: فألق عصاك
تكن ثعباناً مبيناً ? قال: حتى تقول: أنا ربكم الأعلى.
وادعى آخر النبوة بالكوفة، فأدخل على واليها. فقال: ما صناعتك ? قال: حائك، قال:
نبي حائك?! قال: فأردت نبياً صيرفياً ? الله يعلم حيث يجعل رسالته.
ومن نوادر الفقهاء والمغفلين والمرائين وغيرهم
وسأل رجل بعض الفقهاء عن القبلة للصائم في
رمضان ? فقال: تكره للشاب ويرخص فيها للشيخ. قال: إنها في معشوقة ? قال: يابن أخي،
هذا يكره في شوال.
قيل لمغفل: قد غلا الدقيق. فقال: وما أبالي؛ إني أشتري الخبز من السوق.
قال حيان بن غضبان العجلي وقد ورث نصف دار أبيه : أريد أن أبيع نصف حصتي من
الدار وأشتري الباقي، فتصير الدار كلها لي.
وشكا أهل بدلة إلى المأمون والياً عليهم؛ فقال: كذبتم عليه، قد صح عندي عدله فيكم
وإحسانه إليكم. فقال شيخ منهم: يا أمير المؤمنين؛ فما هذه المحبة لنا دون سائر
رعيتك، قد عدل فينا خمس سنين فانقله إلى غيرنا حتى يشمل عدله الجميع، وتريح معنا
الكل؛ فضحك منهم وصرفه عنهم.
قال دعبل: ما غلبني إلا مخنث؛ قلت له: والله لأهجونك. قال: والله لئن هجوتني
لأخرجن أمك في الخيال.
ورئي بعض المرائين على باب بعض الملوك، وبين عينيه سجادة عظيمة، فقيل له: مثل هذا
الدرهم بين عينيك، وأنت محتاج إلى أبواب الملوك ! فقال: إنه ضرب على غير السكة.
وعمل بعض المرائين بين عينيه سجادة دلكها بنواة وثوم، وعصب الثوم بين عينيه ونام؛
فتحركت العصابة؛ فصارت في ناحية صدغه سجادة كبيرة. فقال له ابنه: ما هذا يا أبت ?
فقال: أصبح أبوك ممن يعبد الله على حرف.
ومن أملح ما في هذا قول أبي نواس وقد نهاه الأمين عن الخمر:
عين الخليفة بـي مـوكّـلةٌ |
|
عقد الحذار بطرفها طرفي |
صحّت علانيتي لـه وأرى |
|
دين الضمير له على حرف |
ولئن وعدتك تركهـا عـدةً |
|
إني عليك لخائفٌ خلـفـي |
وقال ابن المعتز:
يأيها الجاني ويستخـفـي |
|
ليس تجنّيك من الظـرف |
إنّك والشوق إلينا كـمـن |
|
يؤمن باللّه على حـرف |
محوت آثارك عـن ودّنـا |
|
غير آثارك في الصّحف |
فإن تحاملت لـنـا زورةً |
|
يوماً تحاملت على ضعف |
وأتى ابن عائشة إلى بعض الملوك فأنشده:
اعطف عليّ فالكريم يعـطـف |
|
قد غلق الرّهن وملّ المسلـف |
وارتهني الدفّ وبيع المصحف |
|
|
فقال: يا فاسق، أترهن دفاً وتبيع مصحفاً ! قال: اتكلت في المصحف أعزك الله تعالى وأجلك.
من نوادر بهلول
قال رجل لبهلول المجنون: قد أمر أمير
المؤمنين لكل مجنون بدرهمين. فقال له بهلول: فهل أخذت نصيبك.
وأودع بهلول بعض الأفنية بالكوفة عشرين درهماً ورجل خياط ينظر إليه من حيث لا يعلم
به بهلول؛ فلما انصرف أخذ الخياط الدراهم، فعاد بهلول يطلبها فلم يجدها، فعلم أنه
لم يؤت إلا من الخياط. فمر به فقال: يا فلان؛ خذ بيدك عشرة دراهم وخذ ثلاثين وخذ
كذا... حتى بلغ المائة. قال: وزدها عشرين كم يكون المال ? قال: مائةً وعشرين. قال:
أصبت ومضى. فقال الخياط في نفسه: ما أظنه إلا يمضي بهذه الدراهم التي حسبها
ليزيدها على العشرين فلأردنها إلى موضعها، فإذا زاد عليها أخذت الجميع ففعل؛ فكر
بهلول إلى الموضع، فأخذ الدراهم وأحدث في موضعها ثم مضى؛ فقام الرجل مسرعاً، فلما
أدخل يده امتلأت حدثاً، ولم يجد شيئاً؛ فعارضه بهلول، وقال: خذ في يدك كذا وكذا.
كم في يدك ? قال: مائة وعشرون. قال: ما في يدك إلا حدث، فانتشر خبر الخياط، وولع
الصبيان فيه حتى هرب من الكوفة.
ولبهلول هذا حكم؛ وكان يتشيع فقيل له يوماً: أيما أفضل أبو بكر أم علي رضي الله
عنهما ? فقال له: أما وأنا في كندة فعلي، وأما وأنا في ضبة فأبو بكر. وكندة
بالكوفة من غلاة الرافضة، وبنو ضبة أهل سنة.
ولما دخل الرشيد الكوفة خرج الناس للنظر إليه، فناداه بهلول ثلاثاً. فقال: من
المجترىء علي في هذا الموضع ? قيل: بهلول المجنون. فرفع السجافة وقال: بهلول ?
قال: لبيك يا أمير المؤمنين، روينا عن أيمن بن نائل قال: حدثنا قدامة عن ابن عبد
الله العامري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة لا ضرب ولا
طرد ولا قيل بين يديه إليك إليك؛ وتواضعك في سفرك هذا خير لك من تجبرك وتكبرك.
قال: فبكى الرشيد حتى جرت دموعه على الأرض، وقال: أحسنت يا بهلول، زدنا يرحمك
الله.
قال: وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: أيما رجل آتاه الله مالاً وجمالاً وسلطاناً فأنفق في
ماله وعف في جماله وعدل في سلطانه كتب في خالص ديوان الله من الأبرار. قال:
أحسنت يا بهلول، وأمر له بجائزة سنية، فقال: يا أمير المؤمنين؛ ردها على من
أخذتها منه؛ فلا حاجة لي بها. فقال: يا بهلول؛ إن كان عليك دين قضيناه. قال: يا
أمير المؤمنين، هؤلاء أهل الرأي بالكوفة أجمعوا على أن قضاء الدين بالدين لا
يجوز. قال: فنجري عليك ما يكفيك؛ فرفع رأسه إلى السماء وقال: يا أمير المؤمنين؛
أنا وأنت في عيال الله، ومحال أن يذكرك وينساني؛ فأرسل الرشيد السجف وسار. من نوادر المجانين وقال هارون
المخزومي: رأيت مجنونين يتنازعان رغيفاً يقول أحدهما: هذا أنت تأكله، ويقول
الآخر: بل أنت تأكله. قال: فقلت لهما وأنا أظن أن أربح عليهما : أنا آكله.
فقالا: يا أحمق، إنه مع أدم. فقلت: وما أدمه ? قالا: وجء الحلق وصفع العنق.
فوليت عنهما، فقالا: يا مجنون؛ لولا بشاعة الأدم لكنا أكلناه منذ حين. من نوادر أبي نواس ومر عثمان بن حفص
الثقفي بأبي نواس وقد خرج من علة وهو مصفر الوجه، وكان عثمان أقبح الناس وجهاً.
فقال له عثمان: ما لي أراك مصفراً ? فقال أبو نواس: رأيتك فذكرت ذنوبي. قال: وما
ذكر ذنوبك عند رؤيتي ? فقال: خفت أن يعقابني الله فيمسخني قرداً مثلك. الأمين يحبس أبا نواس وكان أبو نواس حبس في أيام الأمين مرتين؛ إحداهما أنه بلغ الأمين قوله:
فقال: وبلغ بك الأمر إلى أن تعرض بي في شعرك يابن اللخناء ! فقال سليمان بن أبي جعفر: هو والله يا أمير المؤمنين زنديق، وقد شهد عندي جماعة أنه شرب ماء مطر مع خمر، فقيل له: لم فعلت ذلك ? قال: لأشرب الملائكة فإنه كان مع كل قطرة ملك، فأمر بحبسه فقال:
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
فقال المأمون لما بلغه ذلك: والله لئن
أدركته لأحسنن إليه، فمات قبل دخول المأمون بغداد.
ولما دخل بها سنة أربع ومائتين وأتاه الشعراء يمدحونه قال: ما فعل أبو علي الحسن
بن هانىء? قالوا: توفي، فلم يسمع منهم شعراً وتوجع وقال: لقد ذهب ظرف الزمان
بموته، وانحطت رتبة الشعر بذهابه.
وكان أبو نواس في آخر أيام الأمين مستخفياً فلم يظهر حتى قتل؛ لأنه كان أملح الناس
وجهاً، وكان أبو نواس إذا نظر إليه بقي باهتاً فقال فيه:
عذّب قلـبـي ولا أقـول بـمـن |
|
أخاف مـن لا يخـاف مـن أحـد |
إذا تـفـكّـرت فـي هـواي لـه |
|
مسست رأسي هل طار عن جسدي |
إني على ما ذكرت مـن فـرقـي |
|
لآمـل أن أنـالـــه بـــيدي |
وقال:
يا قاتل الرجل البـريّ |
|
وسالباً عزّ المـلـيك |
كيف السبيل للثم سـا |
|
لفتيك أو تقبيل فـيك |
اللّه يعـلـم أنـنـي |
|
أهوى هواك وأشتهيك |
وأصدّ عنك حـذار أن |
|
تقع الظنون عليّ فيك |
فظهر الشعر، فلم يزل أبو نواس مستخفياً.
وحبسه الأمين قبل ذلك: وذلك لأن المأمون لما خلعه بخراسان ووجه طاهر بن الحسين
إليه ليحاربه، كان يعمل بعيوب الأمين كتباً لتقرأ على المنابر بخراسان، وكان مما
عابه به أنه قال: احتبس شاعراً ماجناً كافراً يقال له الحسن بن هانىء، واستخلصه
معه لشرب الخمر وارتكاب المآثم وانتهاك المحارم، وهو القائل:
ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر |
|
ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجـهـر |
وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى |
|
فلا خير في اللذّات من دونها ستـر |
قال أبو علي محمد بن المظفر الحاتمي: هذا
معنى ظريف، يقول: إن الملاذ بالحواس الخمس وهي: النظر والسماع والشم والذوق
واللمس؛ فقد استمتعت حاسة البصر بالنظر إليها، وحاسة الشم بتضوعها وطيب نكهتها،
وحاسة الذوق بطعمها، وحاسة اللمس بلين اللمس، وبقي حاسة السمع معطلة. فقال: وقل لي
هي الخمر؛ لتلتذ حاسة السماع فيكمل الاستمتاع.
ثم يذكر الأمين في خطبة العراق، فيقول: أهل فسق وخمور وفجور وماخور، ويقوم رجل بين
يديه فينشد أعابيس أبي نواس كقوله:
يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ |
|
قم سيدي نعص جبّار السموات |
فقام والليل يجلوه النهار كمـا |
|
يجلي التبسّم عن غرّ الثنـيّات |
ومن هنا أخذ ابن الرومي، فجاء بأبدع عبارة، وأنصع استعارة، وأصح تشبيه، وأملح تنبيه. فقال يصف سوداء:
يفترّ ذاك السواد عن يقـقٍ |
|
من ثغرها كاللآلىء اليقق |
كأنّها والمزاح يضحكهـا |
|
ليلٌ تعرّى دجاه عن فلق |
فاتصل بالأمين خبر المأمون، فأغراه الفضل بن الربيع بأبي نواس فحبسه، فكتب أبو نواس إلى الفضل من الحبس:
أنت يابن الربيع علّمتني الخي |
|
ر وعوّدتنيه والخـير عـاده |
فارعوى باطلي وعاودني حل |
|
مي وأحدثت رغبةً وزهـاده |
لو تراني شبهتني الحسن البص |
|
ريّ في حال نسكه أو قتـاده |
المسابيح في ذراعي والمـص |
|
حف في لبّي مكان القـلاده |
فإذا شئت أن ترى طرفةً تـع |
|
جب منها مليحةً مستـفـاده |
فادع بي لا عدمت تقويم مثلي |
|
فتأمّل بعينـك الـسّـجّـاده |
ترى أثراً من الصلاة بوجهي |
|
توقن النفس أنّها من عـبـاده |
لو رآها بعض الرائين يومـاً |
|
لاشتراها يعدّها للـشـهـاده |
ولقد طالما شقـيت ولـكـن |
|
أدركتني على يديك السعـاده |
فلما بلغ الشعر الفضل ضحك، وقال: من علم أن السجادة تصلح للشهادة بعد؛ وكلم فيه الأمين فتركه بعد أن أخذ عليه ألا يشرب الخمر فقال:
ما من يدٍ في الناس واجدةٍ |
|
كيدي أبي العباس مولاها |
نام الثقات على مضاجعهم |
|
وسرى إلى نفسي فأحياها |
قد كنت خفتك ثم أمّننـي |
|
من أن أخافك خوفك اللّه |
فعفوت عنّي عفو مقتـدرٍ |
|
وجبت له نقمٌ فألفـاهـا |
ومن قوله في ترك الشرب:
أيّها الرائحان باللوم لوما |
|
لا أذوق المدام إلاّ شميما |
نالني بالـمـلام فـيهـا إمـامٌ |
|
ما أرى لي خلافه مستقـيمـا |
فاصرفاها إلى سواي فـإنّـي |
|
لست إلاّ على الحديث نديمـا |
فكأنـي ومـا أزيّن مـنـهـا |
|
قعديٌّ يزيّن الـتّـحـكـيمـا |
كلّ عن حمله السّلاح إلى الحر |
|
ب فأوصى المطيق ألاّ يقيمـا |
والقعد: فرقة من الخوارج يأمرون الناس بالخروج وهم لا يخرجون. وزعم المبرد أنه لم يسبق إلى هذا المعنى. وقال في ذلك أيضاً:
غنّنا بالطّلول كـيف بـلـينـا |
|
واسقنا نعطك الثناء الثمـينـا |
من سلافٍ كأنها كـلّ شـيءٍ |
|
يتمنّى مخـيّر أن تـكـونـا |
أكل الدهر ما تجسّم مـنـهـا |
|
وتبقّى لبابها الـمـكـنـونـا |
فإذا ما اجتليتـهـا فـهـبـاءٌ |
|
يمنع الكفّ ما تبيح العـيونـا |
ثم شجّت فاستضحكت عن لآلٍ |
|
لو تجمّعن في يدٍ لاقتـنـينـا |
في كئوسٍ كأنـهـنّ نـجـومٌ |
|
دائراتٌ بـروجـهـا أيدينـا |
طالعاتٌ مع السقاة عـلـينـا |
|
فإذا ما غربن يغربن فـينـا |
لو ترى الشّرب حولها من بعيد |
|
قلت قومٌ من قرّةٍ يصطلونـا |
وغـزال يديرهـا بـبـنـانٍ |
|
ناعماتٍ يزيدها المزج لـينـا |
كلما شئت علّنـي بـرضـابٍ |
|
يترك القلب للسرور قـرينـا |
ذاك عيشٌ لو دام لي غير أني |
|
عفته مكرهاً وخفت الأمينـا |
وقال أيضاً:
أعاذل أعتبت الإمـام وأعـتـبـا |
|
وأعربت عمّا في الضمير وأعربا |
وقلت لساقيها أجزها فلـم يكـن |
|
ليأبى أمير المؤمنـين وأشـربـا |
فجوّزها عني سلافاً ترى لـهـا |
|
إلى الأفق الأعلى شعاعاً مطنّبـا |
إذا عبّ منها شارب القوم خلتـه |
|
يقبّل في داجٍ من الليل كوكـبـا |
ترى حيثما كانت من البيت مشرقاً |
|
وما لم تكن فيه من البيت مغربـا |
يدور بها رطب البنان تـرى لـه |
|
على مستدار الخدّ صدغاً معقربا |
سقاهم ومنّاني بعـينـيه مـنـيةً |
|
فكانت إلى قلبي ألـذّ وأطـيبـا |
بين أبي نواس والحسين بن الضحاك
قال الحسين بن الضحاك: أنشدت أبا نواس قولي:
وشاطريّ اللسان مختلف السّ |
|
سكرة شاب المجون بالنسك |
فلما بلغت فيه:
كأنّما نصب كأسه قـمـرٌ |
|
يكرع في بعض أنجم الفلك |
نعر نعرة منكرة. فقلت: ما لك فقد رعتني ! فقال: هذا المعنى أنا أحق به، ولكن سترى لمن يروى ثم أنشدني بعد أيام:
إذا عبّ منها شارب القوم خلته |
|
يقبّل في داجٍ من الليل كوكبا |
فقلت: هذه مطالبة يا أبا علي. فقال: أتظن أنه يروى لك معنى مليح وأنا في الحياة ! وقال فيه ابن الرومي فجاء بأحسن منهما:
ومهفهف كملت ملاحتـه |
|
حتى تجاوز منية النفـس |
تصبو الكئوس إلى مراشفه |
|
وتضجّ في يده من الحبس |
أبصرته والكأس بين فـمٍ |
|
منه وبين أناملٍ خـمـس |
وكأنها وكأنّ شـاربـهـا |
|
قمرٌ يقبّل عارض الشمس |
من غزل بشار
وإنما اتبع أبو نواس في هذه الأشعار التي وصف فيها ترك الشرب وطاعته لأمر الأمين مذهب أبي معاذ بشار بن برد وذلك أنه لما قال:
لا يؤيسنّك مـن مـخـبّـأةٍ |
|
قولٌ تغلّظـه وإن جـرحـا |
عسر النساء إلى مـياسـرةٍ |
|
والصعب يركب بعدما جمحا |
فبلغ ذلك المهدي فغاظه، وقال: يحرض الناس على الفجور، ويسهل لهم السبيل إليه. فقال له خالد بن يزيد بن منصور الحميري: يا أمير المؤمنين، ق افتتن النساء بشعره، وأي امرأة لا تصبو إلى مثل قوله:
عجبت فطمة من نعتي لـهـا |
|
هل يجيد النعت مكفوف البصر |
بنت عشرٍ وثلاثٍ قـسّـمـت |
|
بين غصن وكثـيب وقـمـر |
درّة بـحـريّة مـكـنــونةٌ |
|
مازها التّاجر من بين الـدّرر |
أذرت الدّمع وقالـت ويلـتـي |
|
من ولوع الكفّ ركّاب الخطر |
فأمره المهدي ألا يتغزل؛ فقال أشعاراً في ذلك منها:
وقال:
وقال:
وفي هذه الكلمة يقول:
ومن شعره المطرب في الغزل قوله:
وقوله:
وقوله:
وقول بشار: عجبت فطمة من نعتي لها قد احتذاه محمد بن مناذر:
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
جارية صـغـــيرة |
|
مشغولة بالـلـعـب |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
صاحت وقد روّعتهـا |
|
بقـبـلة واحـربـي |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
أنت وربّي يا فـتـى |
|
تريد أن تصنـع بـي |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
إيّاك أن يدعو عـلـي |
|
ك اليوم أمّـي وأبـي |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
فلم أزل أخـتـلـهـا |
|
حتى علوت مركبـي |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
وهي كغصن مالت الرّ |
|
يح به مضـطـرب |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
تجود عيناهـا بـجـا |
|
ري دمعها المنسكـب |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
من مليح ما قيل في الصغار
ومن مليح ما قيل في الصغار قول أبي نواس الحسن بن هانىء:
حين أوفى على ثلاث وعشر |
|
لم يطل عهد أذنه بالشنوف |
وبه غنّة الصبا تعتـلـيهـا |
|
بحّة الاحتلام للتـشـريف |
حين رام أنسنا منه بـعـين |
|
وثنى أختها من التخـويف |
وقال عبد الله بن الحسين الكاتب:
جاريةٌ أذهلها اللـعـب |
|
عمّا يقول الهائم الصبّ |
شكوت ما ألقاه من حبّها |
|
فأقلت تسأل ما الحـبّ |
وقال ابن المعتز:
الآن زاد على عشـر بـواحـدة |
|
وزاد أخرى وشاب الحبّ بالخدع |
وجاوب اللحظ منه لحظ عاشقـه |
|
وجرّر الوعد بين اليأس والطمع |
وكان غرّاً بقتلي ليس يحسـنـه |
|
والآن بدّع في قتلي على البـدع |
وقال غيره:
إني بليت بـطـفـلة |
|
هيفاء جائلة الوشاح |
وملـيحة يا ويلـتـي |
|
ماذا لقيت من الملاح |
ما جاز عشراً سنّهـا |
|
بيضاء كالقمر اللّياح |
وقال أعرابي في جارية صغيرة وعده أبوها أن يزوجها منه:
أعلقني بعشقها أبـوهـا |
|
مليحة العينين عذبٌ فوها |
قليلة الأيام إن عـدّوهـا |
|
لا تحسن السبّ إذا سبّوها |
وقال قيس بن الملوح:
وعلّقت ليلى وهي غرٌّ صغيرة |
|
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم |
صغيرين نرعى البهم يا ليت أنّنا |
|
إلى الآن لم نكبر ولم تكبر البهم |
من نوادر مزيد المديني
مزيد المديني، قالت له امرأته يوماً ليس
شيء أربح من عمل النبيذ، فعملته، فأتاها برجل معه درهم واحد. فقالت له: لا أبيعه
إلا جملة، فأتى صاحب الشرطة فقال له: إن امرأتي عندها نبيذ؛ فوجه الحرس، وقال:
كونوا معه، فإن كان في بيته نبيذ فاطرحوه وامرأته في الحبس، وإن لم يكن فيه شيء
فردوه إلي.
فجاءوا فدخلوا منزله فوجدوا النبيذ. فقال لامرأته: قد جئتك بمن يأخذه جملةً،
فكسروا جرار النبيذ وجلدوهما جميعاً، ومضوا بهما إلى الحبس، فلما حصلا فيه قال
لامرأته: وأزيدك فائدة نحن فيه لم تخطر ببالك. قالت: وما هي يا مشؤوم ? قال:
استرحنا من كرى البيت.
وزفت إليه امرأة فأتته الماشطة وهي تجلي، فقالت: انحلها شيئاً. قال: قد نحلتها
تطليقة.
ودفع قميصه إلى الغسال، فرده إليه وقد نقص شبراً. فقال: ليس هذا قميصي؛ قميصي أتم
من هذا شبراً. قال: جعلت فداك ! إنما تقلص في الغلس لأنه قطن. فقال له مزيد: اقعد
حاسبني، في كم غسلة يرجع جرمازاً.
ودخل على بعض الموالي وكان المولى ذا مال كثير وهو على سرير ممتد، وبين يديه ولد
من ولد أبي بكر الصدق وآخر من ولد عمر بن الخطاب وهما على الأرض. فتجهمه وقال:
قبحك الله يا مزيد، فما أكثر إلحافك، وأشد إجحافك ! كل يوم تأتيني سائلاً ! قال:
لم آتك في مسألة، وإنما أتيتك أسألك عن معنى قول الحارث بن خالد المخزومي:
إنّي وما نحروا غداة منىً |
|
عند الجمار تؤودها العقل |
لو بدّلت أعلى منازلـهـا |
|
سفلاً وأصبح سفلها يعلو |
فلما رأيتك فوق ورأيت هذين تحتك عرفت معنى
البيتين.
فقال: اعزب عليك لعنة الله، وارتج المجلس ضحكاً.
شعر ابن أبي ربيعة والحارث المخزومي
وذكر بحضرة ابن أبي عتيق شعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي؛ فقال رجل من ولد خالد بن العاص: صاحبنا أشعر يعني الحارث فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يابن أخي ! فلشعر ابن أبي ربيعة لوطةٌ بالقلب، وعلق بالنفس، ودرك للحاجة، ليس لشعر الحارث، وما عصير الله قط بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عني ما أصف لك: أشعر قريش من رق معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن صاحبه. فقال الذي من ولد خالد بن العاص: صاحبنا يقول:
إنّي وما نحروا غداة منىً |
|
عند الجمار تؤودها العقل |
لو بدّلت أعلى منازلـهـا |
|
سفلاً وأصبح سفلها يعلو |
فيكاد يعرفها الخبير بهـا |
|
فيردّه الإقواء والمـحـل |
لعرفت مغناها بما احتملت |
|
منّي الضلوع لأهلها قبل |
فقال ابن أبي عتيق: يابن أخي، استر على صاحبك، ولا تشاهد المحاضر بمثل هذا؛ أما تطير عليها الحارث، حين قلب ربعها، فجعل عاليه سافله؛ ما بقي عليه إلا أن يسأل الله حجارةً من سجيل وعذاباً أليماً. ابن أبي ربيعة كان أحسن للربع مخاطبةً وأجمل مصاحبة حيث يقول:
سائلاً الربع بالبلـيّ وقـولاً |
|
هجت شوقاً لنا الغداة طويلا |
أين أهلٌ حلّوك إذ أنت مسرو |
|
رٌ بهم آهلٌ أراك جـمـيلا |
قال ساروا وأمعنوا واستقلّوا |
|
وبكرهي لو استطعت سبيلا |
سئمونا وما سئمت مقـامـاً |
|
واستحبّوا دماثةً وسـهـولا |
وإنما أخذ الحارث قوله: لعرفت مغناها بما
احتملت... البيت من قول امرىء القيس.
قال علي بن الصباح وراق أبي محلم: قال لي أبو محلم: أتعرف لامرىء القيس أبياتاً
سينية قالها عند موته في قروحه والحلة المسمومة، غير القصيدة التي أولها:
ألمّا على الربع القديم بعسعسا |
|
كأني أنادي أو أكلّم أخرسـا |
فقلت: لا أعرف غيرها. فقال: أنشدني جماعة من الرواة، وأنشد أبياتاً أولها:
لمن طلل درسـت آيه |
|
وغيّره سالف الأحرس |
تنكّره العين من حادثٍ |
|
ويعرفه شغف الأنفس |
حديث الأطلال والدمن
وأخذه طريح بن إسماعيل الثقفي فقال وأحسن:
تستخبر الدّمن القفار ولم تكن |
|
لتردّ أخباراً على مستخبـر |
فأخذه أبو نواس، إلا أنه قلبه فجعل الإنكار للقلب فقال:
ألا لا أرى مثلي امترى اليوم في رسم |
|
تعرّفه عيني ويلفـظـه وهـمـي |
أتت صور الأشياء بـينـي وبـينـه |
|
فظنّي كلا ظنّ وعلمي كلا عـلـم |
قال ولو قال: تنكره عينين ويعرفه وهمي،
لكان كالأول وكان أجود فلعل أبا نواس قصد الخلاف وأعجبه قوله: ويلفظه وهمي؛ لأنها
لفظة جرت ملحيةً.
وقد ملح الحسن بن وهب في هذا المعنى إلا أنه ألم به وأجمله ولم يذكر القلب فقال:
أبليت جسمي من بعد جدّته |
|
فما تكاد العيون تبصـره |
كأنّه رسم منزلٍ خـلـقٍ |
|
تعرفه العين ثم تنـكـره |
وزعم يحيى بن منصور الذهلي أنه يعرف معهد أحبابه بقلبه ويكتمه عينه فقال:
أما يستفيق القلب إلاّ انبرى لـه |
|
تذكّر طيفٍ من سعاد ومربـع |
أُخادع عن عرفانه العـين إنـه |
|
متى تعرف الأطلال عيني تدمع |
وقال غيره:
هي الدار التي تعـر |
|
ف أم لا تعرف الدارا |
ترى منها لأحـبـاب |
|
ك أعلامـاً وآثـارا |
فيبدي القلب عرفانـاً |
|
وتبدي العين إنكـارا |
من التقعير
وحصلت لأبي علقمة النحوي علة، فدخل عليه
أعين الطبيب يعوده. فقال: ما تجد ? قال: أكلت من لحوم هذه الجوازل، فطسئت طسأة،
فأصابني وجع ما بين الوابلة إلى دأية العنق، فما زال يزيد وينمى حتى خالط الخلب
والشراسف، فما ترى ? قال: خذ خربقاً وسلفقاً وشبرقاً فزهزقه وزقزقه واغسله بماء
روث واشربه.
فقال: ما تقول ? فقال: وصفت لي من الداء ما لا أعرف، فوصلت لك من الدواء ما لا
تعرف. قال: ويحك فما أفهمتني. قال: لعن الله اقلنا إفهاماً لصاحبه.
من نوادر النحويين
وقال رجل اسمه عمر لعلي بن سليمان الأخفش:
علمني مسألةً من النحو ? قال: تعلم أن اسمك لا ينصرف. فأتاه يوماً وهو على شغل.
فقال: من بالباب. قال: عمر. قال: عمر اليوم ينصرف. قال: أوليس قد زعمت أنه لا
ينصرف ? قال: ذاك إذا كان معرفة وهو الآن نكرة ! وقال الصولي: سكر هارون النديم
عند المعتضد سكراً شديداً، ونهض الجلساء كلهم سواه فقال له الخادم الموكل
بالندماء: انصرف. فقال: أمير المؤمنين أمرني بالمبيت هاهنا. فقال: يا أمير
المؤمنين؛ هارون ينصرف. قال: لا ينصرف.
فلما أصبح رآه المعتضد، فقال: من هذا ? قيل: هارون بن علي. فقال للخادم الموكل
بالندماء: متى تقدم للجلساء المبيت هنا ? فقال: أنت أعزك الله قلت: هارون لا
ينصرف، قال: إنا لله ! إنما أردت النحو.
قال أبو العبر: قال لي أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب: الظبي معرفة أو نكرة ? فقلت:
إن كان مشوياً على المائدة فمعرفة، وإن كان في الصحراء فهو نكرة. فقال: ما في
الدنيا أعرف منك بالنحو.
أبو الحسن علي بن سليمان كتب إلى بعض إخوانه يستعير دابة ودابة لا تجيء بوزن
الشعر؛ لأنه جمع بين ساكنين:
أردت الركوب إلى حاجةٍ |
|
فجد لي بفاعلةٍ من دببت |
فأجابه الفتى وكان ظريفاً:
زيد بـهـا وجـعٌ غـامــز |
|
فكن أنت لي فاعلاً من عذرت |
ومن ملح النحويين:
أفي الحقّ أن يعطى ثلاثون شاعـراً |
|
ويحرم ما دون الرضا شاعر مثلي !! |
كما سامحوا عـمـراً بـواوٍ مـزيدةٍ |
|
وضويق باسم اللّه في ألف الوصـل |
وقال أبو الفتح البستي:
حذفت وغيري مثبتٌ في مكانه |
|
كأنّي نون الجمع حين تضاف |
المتوكل وعبادة المخنث
وكن المتوكل قد بسط من عبادة المخنث
للدخول معه على كل حال، فدخل عليه وهو نائم مع سواد كان يحبها؛ فلما رآه أمرها أن
تغطي وجهها. فقال: يا أمير المؤمنين؛ ومن معك ? قال: ويلك ! وبلغ فضولك إلى هذا
الموضع !، ومدت الجارية رجلها فبانت سوداء. فقال: يا أمير المؤمنين؛ تنام ورجلك في
الخف. فقال المتوكل: قم عليك لعنة الله ! وضحك وأمر له بصلة فأخذها وانصرف.
وكان عبادة يشرب بين يديه ويترك في القدح فضلة. فقال: يا عبادة؛ ما تدري ما يقول
الناس ? قال: وما هو ? قال: يقولنه إن شارب النبيذ إذا شرب وعبس وجهه وفضلت في
القدح فضلة فإن إبليس يضرب قفاه ويقول: اشرب فضلة ما استطبت.
فمضت الأيام واصطبح المتوكل وعبادة حاضر، وشرب قدحاً كان في يديه وفضلت فضلة.
فقال: يا أمير المؤمنين، جاءك الرجل.
وتجارى الجواري بحضرة المتوكل فسبقتهن جارية ممشوقة. فقال المتوكل لعبادة: اجر
معها حتى ننظر من يسبق صاحبه. فقال عبادة: إن سبقتها فما لي ? قال: هي لك، وإن
سبقتك صفعتك. فجرت معه الجارية فسبقته مرة بعد أخرى، فقال: يا أمير المؤمنين؛ كيف
لا تسبقني وهي تجري بمدادين وأنا أركض بخرجين؛ فضحك المتوكل ووهبها له.
وغفل عنه المتوكل مرة فكتب له رقعة يسأذنه في الحج فضحك. وقال: عبادة يحج ? علي
به، فلما دخل عليه قال له: ما خبرك ? فقال: يا أمير المؤمنين؛ لقد تواضعت حتى ما
آكل إلا الخشكار، ولا أشرب إلا نبيذ الدردي، ولا أسمع إلا غناء حواء، فأمر له
بصلة.
جحظة يصف ضيق العيش
ألم جحظة البرمكي بهذا المعنى فقال:
إنّي رضيت من الرحـيق |
|
بشراب تمرٍ كالعـقـيق |
ورضيت من أكل السمي |
|
ذ بأكل مسودّ الـدقـيق |
ورضيت من سعة الصحو |
|
ن بمنزلٍ ضنكٍ وضـيق |
وجعلت تغريد الـحـمـا |
|
مة منزلي عند الشـروق |
فغدوت كسرى صاحب ال |
|
إيوان والعـيش الأنـيق |
وحجبت نفسي عن حجـا |
|
ب الباخلين ذوي الطريق |
القاطعـين مـخـافة ال |
|
إنفاق أسباب الـصّـديق |
جيران يتشممون الأماني
قال ابن أبي عتيق لامرأته: تمنيت أن يهدى إلينا مسلوخ، فنتخذ من الطعام لون كذا ولون كذا، فسمعته جارة له، فظنت أنه أمر بعمل ما سمعته، فانتظرت إلى وقت الطعام، ثم جاءت فقرعت الباب، وقالت: شممت رائحة قدوركم فجئت لتطعموني منها. فقال ابن أبي عتيق لامرأته: أنت طالق إن أقمنا في هذه الدار التي جيرانها يتشممون الأماني.
التمني والحلم أخوان
ولبس مزيد جبة فقيل له: أتتمنى أن تكون لك
? قال: نعم ! وأضرب عشرين سوطاً. قيل: ولم? ويحك ? قال: لا يكون شيء إلا بشيء.
قال الأصمعي: طلب الحجاج رجلاً فهرب منه، فمر بساباط فيه كلب نائم في ظله. فقال:
يا ليتني مثل هذا الكلب، فما أتت ساعة حتى مر به الكلب وفي عنقه حبل، فسأل عنه
فقالوا: جاء كتاب الحجاج وبه يأمر بقتل الكلاب.
وفي كتاب للهند أن ناسكاً كان له سمن وعسل في جرة؛ ففكر يوماً فقال: أبيع هذه
الجرة بعشرة دارهم فأشتري خمس أعنز، فأولدهن في كل سنة مرتين، فيبلغ النتاج في
سنتين مائتين، وأبتاع بكل أربع بقرة، وأزرع وينمى المال في يدي، فأتخذ المساكن
والعبيد، ويولد لي ولد، فأسميه كذا وآخذه بالأدب، فإن هو عصاني ضربت بعصاي رأسه،
وكانت في يده عصا فرفعها كالضارب، فأصابت الجرة، فانكسرت وتبدد السمن والعسل.
قال يزيد بن معاوية: ثلاث يخلقن العقل، وفيهن دليل على الضعف: سرعة الجواب، وطول
التمني، والاستغراب في الضحك. وكان يقال: التمني والحلم أخوان. وقالوا في نقيض
ذلك: الأمل رفيق مؤنس، إن لم يبلغك فقد ألهاك. وأنشدوا:
أتاني من ليلى جوابٌ كـأنّـمـا |
|
سقتني به ليلى على ظمأٍ بـردا |
منىً إن تكن حقّاً تكن أحسن المنى |
|
وإلاّ فقد عشنا بها زمنـاً رغـدا |
وقال أعرابي:
رفعت عن الدنيا المنى غير حبها |
|
فما أسأل الدنيا ولا أستـزيدهـا |
وتحت مجاري الصدر منّا مودّةٌ |
|
تطلّع سرّاً لا ينـادى ولـيدهـا |
وقيل لأعرابي: ما أمتع لذات الدنيا ? فقال: ممازحة الحبيب، ومغالطة الرقيب، وأمان تقطع بها أيامك، وأنشد:
علّلينـي بـمـوعـد |
|
وامطلي ما حييت به |
ودعيني أفـوز مـن |
|
ك بنجوى تطلّـبـه |
فعسى يعثر الـزمـا |
|
ن بحظّي فينتـبـه |
عزة توازن بين شعر الأحوص وكثير
ودخل كثير بن عبد الرحمن على عزة؛ فقالت: ما ينبغي أن نأذن لك في الجلوس. قال ولم ذلك? قالت: لأني رأيت الأحوص ألين جانباً عند القوافي منك في شعره، وأضرع خداً للنساء وأنه الذي يقول:
يأيها اللائمي فيها لأصـرمـهـا |
|
أكثرت لو كان يغني عنك إكثار |
أقصر فلست مطاعاً إذ وشيت بها |
|
لا القلب سالٍ ولا في حبّها عار |
ويعجبني قوله:
أدور ولولا أن أرى أمّ جعفـر |
|
بأبياتكم ما درت حـيث أدور |
وما كنت زوّاراً ولكنّ ذا الهوى |
|
إذا لم يزر لا بدّ أن سـيزور |
لقد منعت معروفا أمّ جعـفـر |
|
وإني إلى معروفها لفـقـير |
ويعجبني قوله:
كم من دنيٍّ لها قد صرت أتبـعـه |
|
ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا |
لا أستطيع نزوعاً عن محبّـتـهـا |
|
أويصنع الحبّ بي فوق الذي صنعا |
أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعـنـي |
|
حتى إذا قلت هذا صادقٌ نـزعـا |
وزادني رغبة في الحب أن منعت |
|
أشهى إلى المرء من دنياه ما منعا |
وقوله:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهـوى |
|
فكن حجراً من يابس الصخر جلمدا |
وما العيش إلاّ ما تلذّ وتـشـتـهـي |
|
وإن لام فيه ذو الشـنـان وفـنّـدا |
وإني لأهواها وأهـوى لـقـاءهـا |
|
كما يشتهي الصادي الشراب المبرّدا |
علاقة حبٍّ لجّ في سنن الـصّـبـا |
|
فأبـلـى ومـا يزداد إلا تـجـدّدا |
هذان البيتان ألحقهما الضبي وغيره بهذا
الموضع من شعر الأحوص، وأنشدهما أبو بكر بن دريد لأعرابي.
فقال لها كثير: والله لقد أجاد فما استجفيت من قولي ? قالت: فذلك قولك:
وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي |
|
وأظهرن مني هيبة لا تجهّمـا |
يحاذرن مني غيرةً قد عرفنهـا |
|
قديماً فما يضحكن إلاّ تبسّـمـا |
تراهـنّ إلاّ أن يؤدين نـظـرةً |
|
بمؤخر عينٍ أو يقلّبن معصمـا |
كواظم ما ينطقن إلا مـحـورة |
|
رجيعة قول بعد أن تتفهـمـا |
وكنّ إذا ما قلـن شـيئاً يسـرّه |
|
أسرّ الرضا في نفسه وتجرّمـا |
وقولك:
وددت وبيت اللّه أنك بـكـرة |
|
هجان وأني مصعب ثم نهرب |
كلانا به عرٌّ فـمـن يرنـا يقـل |
|
على حسنها جرباء تعدي وأجرب |
نكون لذي مالٍ كثـير مـغـفّـل |
|
فلا هو يرعانا ولا نحن نطلـب |
إذا ما وردا منهلاً صاحب أهلـه |
|
علينا فما ننفكّ نجفى ونضـرب |
ويحك ?! لقد أردت بي الشنعاء، ما وجدت
أمنية أوطأ من هذه ? فخرج من عندها خجلاً.
وكثير إن قبح في هذا فقد ملح في قوله:
فليت قلوصي عند عـزّة قـيّدت |
|
بقيد ضعيفٍ غرّ منها فضلّـت |
وغودر في الحيّ المقيمين رحلها |
|
وكان لها بـاغٍ سـواي ونـدّت |
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة |
|
وأخرى رمى فيها الزمان فشلّت |
وكنت كذات الظّلع لمّا تحاملـت |
|
على ظلعها بعد العثار استقلّـت |
أريد ثواءً عنـدهـا وأظـنّـهـا |
|
إذا ما أطلنا عنده المكث ملّـت |
وكان كثير على حدة خارطه وجودة شعره أحمق الناس. ودخل عليه نفر من قريش يعودونه وهو عليل ويهزأون به؛ قال بعضهم فقلت له: كيف نجدك ? قال: بخير. ثم قال: هل سمعتم الناس يقولون شيئاً ? قلت: نعم سمعتهم يقولون: إنك الدجال. قال: أما لئن قالوا ذلك إني لأجد في عيني اليمنى ضعفاً مذ أيام.
من نوادر الحمقى والممرورين
قال الجاحظ: حدثني ثمامة بن أشرس قال: كان
ممرور يأتي ساقية لنا سحراً فلا يزال يمشي مع دابتها ذاهباً وراجعاً في شدة الحر
والبرد، فإذا أمسى توضأ وصلى وقال: اللهم اجعل لنا من هذا الهم فرجاً ومخرجاً، ثم
انصرف إلى بيته؛ فكان كذلك إلى أن مات.
قال وحدثني ثمامة قال: مررت في غب مطر، والأرض ندية، والسماء مغيمة، والريح
شمالية، وإذا شيخ أصفر كأنه جرادة، وقد جلس على قارعة الطريق وحجام زنجي يحجمه،
وقد وضع على كاهله وأخدعيه محجمة كأنها قعب وقد مص دمه حتى كاد يستفرغه. قال:
فوقفت عليه وقلت: يا شيخ، لم تحتجم في مثل هذا اليوم ? فقال: لمكان الصفار الذي
فيّ.
من علامات الحمق
قال الجاحظ: ما رأيت رجلاً عظيم اللحية
إلا وجدته كوسج العقل.
وقالت أعرابية لقاض قضى عليها: عظم رأسك، فبعد فهمك؛ وانسدلت لحيتك، فانشمر عقلك،
وما رأيت ميتاً يقضي بين حيين قبلك.
وعاب كوسج ألحى، فقرأ: "البلد الطيب بخرج نباته بإذن ربه والذي خَبثُ لا يخرج
إلا نكداً" فقرأ الكوسج: "قل لا يستَوِي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة
الخبيث".
قال هشام بن عبد الملك يوماً في مجلسه: يعرف حمق الرجل بخصال أربع: بطول لحيته
وشناعة كنيته، ونقش خاتمه، وإفراط شهوته. ثم رمى بصره إلى رجل طويل اللحية في أقصى
المجلس فدعا به. فقال: هذه واحدة، ثم سأله عن كنيته فقال: كنيتي أبو الياقوت
الأحمر. فقال: وما نقش خاتمك ? قال: "وتفقّد الطير"، فقال: "ماليَ
لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين".
وخرج مهزم بن الفرج القبعسي فقال: أيها الأمير، إني قد قلت بيتاً، وأنشد:
كفى حزناً أن الفراء كـثـيرة |
|
وأني بمرو الشاهجان بلا فرو |
فقال طاهر: هذه والله قافية شرود، أجيزوا؛ فأرتج عليهم. فقال مهزم: أنا أولى بإجابة نفسي. وقال:
صدقت لعمري إنها لكثـيرة |
|
ولكنها عند الكرام أولي الثرو |
فضحك طاهر، وقال: أما لئن أغفلناك حتى حملناك على سوء القول لنفسك سنستدرك، وأمر له بعشر أثواب من وبر الخز والوشي؛ فباع منها تسعاً بتسعين ألف درهم وأمسك واحدة.
من الأجوبة المضحكة
قال الجاحظ: كان جعيفران الموسوس يماشي
رجلاً من إخوانه على قارعة الطريق، فدفع الرجل جعيفران على كلب فقال: ما هذا ?
قال: أردت أن أقرنك به. قال: فمع من أنا منذ الغداة? شرب طوقان المغني عند الشريف
الرضي فسرق رداؤه، فلما أصبح افتقده؛ فقال: قد سرق ردائي. فقال له الشريف: سبحان
الله ! من تتهم منا ? أما علمت أن النبيذ بساط يطوى عليه. فقال: انشروا بساطكم حتى
آخذ ردائي واطووه إلى يوم القيامة.
ودخل رجل أكول على قوم، فأكل أكلاً ذريعاً. فقال أحدهم: عجبت من أكله وسرطه. وقال
الآخر: وشقه دجاجة ببطة، وقال آخر: وأكله دجاجة وبطة. وقال آخر: كأن جالينوس تحت
إبطه.
فقالوا له: أما الذي قلناه فمفهوم، فما معنى قولك: كأن جالينوس تحت إبطه ? قال:
لكي يناوله الجوارشن لئلا يتخم.
قيل لمخنث: كم ورثت أختك من زوجها ? قال: أربعة أشهر وعشراً يريد العدة.
قال بعض العلويين لأبي العيناء: يقتضي وقد أمرت بالصلاة علي أن تقول: اللهم صل على
محمد وعلى آل محمد. قال: نعم ! فإذا قلت: الطيبين الأخيار خرجت أنت منهم.
أخذه يزيد بن محمد المهلبي فقال في صاحب الزنج بالبصرة:
أيها الخائن الذي دمّر الـبـص |
|
رة أبشر من بعدها بـدمـار |
إن تقل جدّي النبـيّ فـمـا أن |
|
ت من الطـيبـين والأخـيار |
قد نفى اللّه في الكتاب ابن نوح |
|
حين كان ابنه من الـكـفـار |
وإنما قال المهلبي هذا له قبل أن ينكشف أمره أن دعي.
صاحب الزنج
قال أبو بكر الصولي: وحدثني محمد بن أبي الأزهر وقد أذكرته خبر علي ابن محمد صاحب الزنج، فقال: ادعى أنه علي بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم، فنظرت مولده ومولد محمد بن أحمد الذي ادعاه فكان بينهما ثلاث سنين، وكان لمحمد بن أحمد ولد اسمه علي مات بعد هذا المدعي اسمه ونسبه بزمان، ثم رجع عن هذا النسب فادعى أنه علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب بن يحيى المقتول بخراسان من زيد بن علي. قال أبو عبد الله محمد بن علي بن حمزة: لم يكن ليحيى ولد يقال له رحيب ولا غيره لأنه قتل ابن ثماني عشرة سنة ولا ولد له. وقال بشر بن محمد بن السري بن عبد الرحمن بن رحيب: هو ابن عم أبي لحاً وهو علي بن محمد بن عبد الرحمن بن رحيب، ورحيب رجل من العجم من ضياع الري. وكانت مدته من حين نجم إلى أن قتل أربع عشرة سنة، وجملة من قتل ألف ألف وخمسمائة ألف، وله شعر حسن مطبوع، وزعم أبو بكر بن دريد أنه عمل له أكثره وما أرى هذا يصح؛ لأنه لا يشاكل طريق ابن دريد: فمنه:
ما تغطّي عساكر اللـيل مـنّـي |
|
ما تجلّي مضاحك الصبح عنّـي |
جسم سيف في جوف غمد ثـيابٍ |
|
صدر إنسٍ من تحته قلب جنـي |
ميت حسٍّ وحيّ نفسٍ كما الـشـم |
|
س يرى مشيها بعين التظـنّـي |
شمّـريّ إذا اسـتـقـلّ بـعـزمٍ |
|
لم يعرّج بلـيتـنـي ولـو أنّـي |
ما ينـال الـكـرى سـويداه إلاّ |
|
حسوة الطائر الـذي لا يثـنّـي |
إن رماه خطب قرى الخطب رأيٌ |
|
فيه روع النّجا وحكم الـتـأنّـي |
كم ظلام جعلتـه طـيلـسـانـي |
|
صاحبي همّتي وقلبي مجـنّـي |
كم حبال قطعت في وصل أخرى |
|
تاركاً ما أخاف من سوء ظنّـي |
مسـتـخـفّ بـذا وذاك وهـذا |
|
لم أُسمع ندامتي قـرع سـنّـي |
أنا روض الرّبيع في كل زهـرٍ |
|
فيلسوف الزّمان فـي كـل فـنّ |
وقال:
لقد علمـت هـاشـمٌ أنّـنـا |
|
صباح الوجوه غداة الصّـياح |
وأنّا إذا زعزعت في الوغـى |
|
ذيول الرّياح ذبول الـرمـاح |
نسوق السّيوف بدفع الحتـوف |
|
وننكي الجراح بكفّ الجراح |
ونسمو سماحاً أكفّ السّمـاح |
|
بقسم رماح وبيض صـفـاح |
وقرم صبـحـنـاه فـي داره |
|
بكل أقـبٍّ ونـهـدٍ وقـاح |
فغودر بعد عنـاق الـمـلاح |
|
ضجيع النّجيع مرح الجراح |
كليل الأنين مذال الـجـبـين |
|
مهين السّلاح مهيض الجناح |
صلى نور عيني بنور الأقـاح |
|
وراح الأكفّ بـمـاء وراح |
فما طول عشقي مزاح الملاح |
|
بمشتغل عن صياح الصبـاح |
وقال:
أسمعاني الصـياح بـالإمـلـيس |
|
وصياح العيرانة العيطـمـوس |
واتركاني من قرع مـزهـر ريا |
|
واختلاف الكئوس بالخـنـدريس |
ليس تبنى الـعـلا بـذاك وهـذا |
|
لكن الضرب عند أزم الضروس |
عيّفت عن كل اللبانات نـفـسـي |
|
وسمت نحو غير ذلك حدوسـي |
وخلا من هواجس النأي قلـبـي |
|
كخلوّ الطلـول بـعـد الأنـيس |
واسبطّرت حمالق القوم لـلـمـو |
|
ت وصارت نفوسهم في الرّؤوس |
رب سيد يحمي الخميس بعضـبٍ |
|
ويجلي ظلام لـيل الـخـمـيس |
عمّمته يمنـى يديّ بـعـضـبٍ |
|
تركت جنبه كجنب الـعـروس |
تخبرنك الكماة عن غدواتي |
|
في غداة الوغى أبا قابوس |
فسلوا عامراً وعارض لمّا |
|
أن لقوا بالفجور والتدليس |
أتروني أقرّ بالنّوم غمضـاً |
|
يا عبيد الصليب والناقوس |
وقال:
وإنّا لـتـصـبـح أسـيافـنـا |
|
إذا ما اصطبحنا بيوم سـفـوك |
منا برهـنّ بـطـون الأكـف |
|
وأغمادهنّ رؤوس الـمـلـوك |
وما لي في الخلق من مشـبـهٍ |
|
ولا في اكتساب العلا من شريك |
وقال يخاطب بني العباس:
بني عمنا لا توقدوا نار فـتـنة |
|
بطيء على مرّ الليالي خمودها |
بني عمّنا إنا وأنـتـم أنـامـلٌ |
|
تضمّنها من راحتيها عقودهـا |
بني عمّنا ولّيتم التّرك أمـرنـا |
|
بديئاً وأعقاباً ونحن شهـودهـا |
فأُقسم لا ذقت القراح وإن أذق |
|
فبلغه عيش أو يبار عمـيدهـا |
وقال:
لهف نفسي على قصورٍ ببغـدا |
|
د وما قد حوته من كلّ عـاص |
وخمور هناك تشرب جـهـراً |
|
ورجالٍ على المعاصي حراص |
لست بابن الفواطم الزّهر إن لم |
|
أُقحم الخيل بين تلك العـراص |
وقتله الموفق بعد أن جرت له معه مواقعة عظيمة، وجرح الموفق جرحاً في صدره أشرف منه على الموت، ولذلك قال ابن المعتز:
شقّ الصفوف بسيفـه |
|
وشفى حزازات الإحن |
دامي الجراح كأنـهـا |
|
وردٌ تفتّح في غصـن |
ومن ملح النوادر
قال الجاحظ: سمعت رجلاً يقول لآخر: ضربنا
الساعة زنديقاً. قال: وأي شيء الزنديق ? قال: الذي يقطع المزيقة. قلت: وكيف علمت
أنه يقطع المزيقة ? قال: رأيته يأكل التين بالخل.
وهذا كما قال النظام لرجل: أتعرف فلاناً المجوسي ? قال: أعرفه، ذاك الذي يحلق وسط
رأسه مثل اليهود. قال: لا مجوسياً عرفت ولا يهودياً وصفت.
باع مزيد المديني دابة، فلما كان من الغد أتاه النخاسون طمعاً، فلما نظر إليهم قد
أقبلوا نحوه قام يصلي فأطال الصلاة، فقالوا له وهم لا يعفرونه : يا عبد الله؛ قد
ذهب يومنا، فأطمعهم طول قيامه، وكان أحسن الناس سمتاً وأظهرهم هدياً، فانفتل من
صلاته فقال: ما بالكم ? فقد قطعتم علي صلاتي. فقالوا له: قد ظهر بالدابة عيب. قال:
وما عيبه قالوا: يخلع الرسن. قال: لا أعرفه بهذه الصفة؛ فماذا تريدون ? قالوا:
خصلة من ثلاث؛ إما الحطيطة، وإما رد الثمن وأخذ الدابة، وإما اليمين بالله أنك ما
تعرف هذا فيه.
فقال: أما الثمن فقد فرقناه، وأما الحطيطة فما تمكننا، وأما اليمين فإني ما حلفت
قط على حق ولا على باطل، فاعفوني منها؛ فإنها أصعب الخطط عندي. قالوا: ما من ذلك
بد؛ فانطلق بنا إلى الوالي. فقام معهم، فلما بصر به الوالي ضحك، وقال: ما جاء بك
أبا إسحاق ? فقص عليه القصة. فقال: قد أنصفك القوم. فقال: أعز الله الأمير، أحلف وأنا
في هذه السن، وضرب يده على لحيته وبكى. وقال: ما حلفت على حق ولا على باطل والتوى.
قال: لا بد، فالتوى ساعة؛ ثم قال: أصلح الله الأمير فإن حملت نفسي على اليمين
وحلفت وأعنتوني بعد ? قال: أوجعهم ضرباً، وأحبسهم. فلما سمع ذلك استقبل القبلة
وقال: بلغت السماء، وكورت الشمس، ونثرت الكواكب، وشربت البحر، ولطعت ما في المصحف
من الذكر الحكيم، وتوليت عاقر الناقة، وسرقت عصا موسى عليه السلام، ولقيت الله
بذنب فرعون يوم قال: أنا ربكم الأعلى؛ وغير ذلك من محرج الأيمان، لقد كان عندي
دواب كلها تخلع أرسانها، فكان هذا الحمار يقوم فيعديها عليها ويصلحها بفمه قليلاً
قليلاً. فضحك الوالي حتى فحص برجليه، وبهت النخاسون، وعجبوا منه وانصرفوا عنه.
وقال بعض الشعراء:
سألوني اليمين فارتعت منها |
|
كي يغرّوا بذلك الارتـياع |
ثم أرسلتها كمنحدر السـي |
|
ل تهادى من المحلّ اليفاع |
قاض دفع مالاً لمن توجّه إليه باليمين
ومن ظريف ما في هذا الباب ما حكاه الصولي قال: كنت يوماً بين يدي أمير المؤمنين الراضي بالله إذ دخل عليه بعض الخدم برقعة دفعها صاحب الخبر الملازم لمجلس أبي عمر القاضي، يذكر أن رجلاً أحضر خصماً للقاضي، وادعى عليه مائة دينار؛ فألزم القاضي الغريم اليمين؛ إذ لم يجد الخصم بينة؛ فأخذ الدواة وكتب بيتين فدفعهما إلى القاضي، فأمر القاضي غلامه فأحضر مائة دينار ودفعها إلى الرجل، والبيتان هما:
فعجب الراضي من الرجل وديانته، لخلاصه من الحكم؛ وعجب من كرم القاضي وحسن ما فعله، ثم أمرني بالركوب إلى القاضي ومسألته في البحث عن صاحب البيتين وإحضاره إليه. فلم نزل أياماً حتى حصل لنا، فجئنا به إلى دار السلطان، فمر له بألف دينار وخمس خلع ومركوب حسن، وأمره بملازمة الدار؛ ثم قلده الأهواز وأعمالها. من نوادر اللصوص وخرج أبو سعيد
الحربي مرة وهو شارب، فجلس يبول وعليه طيلسان خلق إبريسمي، فمر به بعض المكارين
في الليل، وتناول طيلسانه، فصاح به أبو سعيد: فقال له الفتى: ما تريد ? قال:
أصرف الله عنك الأذى. من نوادر الأطباء وكان ببغداد طبيب اسمه نعمان لا ينجح مريض على يديه، فقال فيه بعض الشعراء:
وقال كشاجم لعيسى بن نوح النصراني:
هذا منقول من قول رجل من بني تميم، لما دخل هلال بن أحوز البصرة بعد إيقاعه بني المهلب، وقد أطافت به بنو تميم، فقال شيخ من الأزد: رجالهم يطيفون به كما يطيفون بعيسى ابن مريم. فقال التميمي: هذا ضد عيسى ابن مريم؛ فإن ذاك يحيي الموتى وهذا يميت الأحياء. من نوادر الفقهاء قال رجل للشعبي: ما
تقول في رجل أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليه دم، أترى له أن يحجم ? فقال: الحمد
لله الذي نقلنا من الفقه إلى الحجامة. من طرف المعزين ودخل بعض الهاشميين
على الرشيد معزياً. فقال: يا أمير المؤمنين، أحسن الله عزاك، وربك عزاك، وأحاله
علينا وعليك بخير، ورحم فلاناً ولا عرفه قليلاً ولا كثيراً، تأمر بشيء يا أمير
المؤمنين ? قال: نعم ! آمر أهلك أن يدفنوك؛ فإن موتك حياة وحياتك موت. من نوادر المحبين ومرت بداود بن
المعتمر امرأة جميلة، فقام يتبعها حتى أدركها. فقال: لولا ما رأيت عليك من سيماء
الخير لم أتبعك، فضحكت حتى استندت إلى الحائط. فقالت: إنما يمنع مثلك من الطمع
في مثلي ما يرى من سيماء الخير، فإذا كان هذا هو الذي يطمع في النساء فإنا لله
وإنا إليه راجعون. |
||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
وتعشق أبو القماقم السقا قينة فبعث إليها: حضر عندي إخوان فابعثي إلي بجام لوزينج آكله على ذكرك. فبعثت إليه به. فلما كان من الغد بعث إليها: أرسل لي بطبق مازاورد آكله على ذكرك. فقالت: جعلت فداك، ذكروا أن منبع الحب من القلب، فإذا تناهى بلغ إلى الكبد، وأنا أرى حبك لا يتجاوز معدتك. فقال: إنما فعلت هذا لأقوى على محبتك، ألم تسمعي قول الشاعر:
إذا كان في قلبي طعـامٌ ذكـرتـهـا |
|
وإن جعت لم تخطر ببالي ولا فكري |
وإن كان هذا العام قد قـلّ بـقـلـه |
|
فقبح مـن يهـواك يا ربّة الـخـدر |
ويزداد حبّي إن شـبـعـت تـجـدّداً |
|
وإن جعت يوماً لم تكوني على ذكري |
ومن مليح ما في هذا الباب أن أبا مسعود الأعمى كان جالساً في صحن داره، فأشرفت عليه جارية ظريفة، فعضت تفاحة ورمت بها في حجره. فتناولها وقال:
أيا تـفـاحة رمّـت |
|
فؤادي للهوى رمّـا |
لقد أهـداك إنـسـان |
|
وأهداك لأمـرٍ مـا |
ليهدي لاعج الشـوق |
|
إلى من عضّ أو شمّا |
فلم تكن إلا ساعة حتى وافت جارية لها، معها جام لوزينج وهي تقول: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: قد سمعت شعرك، ورأيتك بدأت بالعض قبل الشم، فعلمت أنك جائع؛ فتبلغ بهذا الجام حتى يدرك طعامنا. قال: وكيف كنت أقول ? قالت: كنت تقول:
أيا تفّـاحة رضّـت |
|
فؤادي للهوى رضّا |
لقد أهداك إنـسـانٌ |
|
وأهداك لما يرضى |
ليهدي لاعج الشـوق |
|
إلى من شمّ أو عضّا |
وكان أحمد بن أبي طاهر قبيح الوجه، وكان
له جارية من أحسن النساء، فضحك إليها يوماً فعبست في وجهه، فقال لها: أضحك في وجهك
فتعبسين في وجهي ? فقالت: نظرت أنت إلى ما سرك فضحكت ونظرت إلى ما ساءني فعبست.
وليس هذا كقول حمرة امرأة عمران بن حطان وكان قبيحاً وكانت جميلة: إني لأرجو أن
نكون جميعاً في الجنة. فقال: ولم ? قالت: لأنك أعطيت مثلي فشكرت، وأعطيت أنا مثلك
فصبرت؛ فالصابر والشاكر في الجنة.
وخطبت بعده فلبس بعض ثيابه وخرجت تتمثل بقوله:
تلبس يوماً عرسه من ثيابـه |
|
إذا قيل هذا يا حميرة خاطب |
فانصرفوا عنها.
وكان أبو الحسن جحظة البرمكي أطيب الناس غناء، وأحسنهم مجالسة، وأمتهم مؤانسة،
وكان قبيح المنظر جداً جاحظ العينين وفيه يقول ابن الرومي:
نبئت جحظ يستعير جحوظـه |
|
من فيل شطرنج ومن سرطان |
يا رحمتي لمنادميه تحمـلـوا |
|
ألم الـعـيون لـلـذّة الآذان |
وعد بكفن بعد أيام !
قال المدائني: جاء رجل إلى جار له من الأشراف فقال له: جارك فلان توفي ولا كفن له فتأمر له بكفن، فقال: والله الآن ما عندي شيء، ولكن تعاودنا بعد أيام. قال: فنملحه أصلحك الله إلى أن يتيسر الكفن !
دينار يلد
وجدت امرأة أشعب ديناراً فأتته به، فقال:
ادفعيه إلي حتى يلد لك في كل أسبوع درهمين، فدفعته إليه، فصار يدفع إليها في كل
أسبوع درهمين؛ فلما كان في الأسبوع الرابع طلبته منه، فقال لها: مات في النفاس،
فقالت: ويلي عليك ! كيف يموت الدينار ? فقال لها: الويل لك على أهلك ! كيف تصدقين
بولادته وتنكرين موته في نفاسه.
سقط أحدب في بئر، فذهبت حدبته وصار آدر، فدخل إليه جيرانه يهنئونه، فقال: لا
تفعلوا فالذي جاء شر من الأول.
قال ابن خالويه: استعرضت جارية فقلت لها: أبكر أنت أم أيش ? قالت: أيش، فاشتريتها.
من نوادر المعزين أيضاً
قال أبو العالية: لما مات سعيد بن مسلم
الباهلي قال لي الرشيد: علم فلاناً تعزية يعزي بها ولد سعيد لفتى من بني هاشم.
فقلت للفتى: إذا صرت للقوم فقل: عظم الله أجركم، وأحسن عزاءكم، ورحم سعيداً. قال:
هذا طويل. فقلت فقل: أعظم الله أجركم، وختم بالصبر على قلوبكم. قال: هذا أطول من
ذاك. قال فقلت: أعظم الله أجركم وكررته عليه يومين، فلما كان اليوم الثالث ركب
وركبنا معه، فلما قرب من باب القوم خرجوا إليه حفاةً إعظاماً له، فلما رآهم قال:
ما فعل سعيد ? قالوا: مات، قال: جيد وما أظن ذلك، فإيش عملتم به ? قالوا: دفناه. قال:
أحسنتم. ثم انصرف.
لما مات سليمان بن وهب لقي الناس عبيد الله بن سليمان يعزونه، فأتاه بعض
أولاد الأشراف؛ فقال: مات سليمان ? قال: نعم ! وقال: ومات أبو علي قبله ? قال: نعم
! قال: ومات أبوهما ? قال: نعم ! قال: هذا كما قال الله تعالى: "وإنْ منكم
إلا وارِدُها كان على ربك حَتْماً مقضيّاً"؛ "فأوردهم النار"،
"وبئس القَرار".
بنو وهب من الظرفاء والكتاب
وبنو وهب من ظرفاء الكتاب وأدبائهم، ولهم الرسائل الحسان، والشعر الجيد، وفيهم يقول أبو تمام:
كلّ شعب كنتم به آل وهـبٍ |
|
فهو شعبي وشعب كلّ أديب |
إنّ قلبي لكم كالكبد الـحـر |
|
رى وقلبي لغيركم كالقلوب |
وكان الحسن بن وهب يهوى بنان جارية ابن
حماد، وكان من ظريف أخباره معها: أن الواثق تقدم إلى إيتاخ باتخاذ حلتين من رفيع
الوشي على صفة دفعها إليه وأمره بتعجيلهما؛ فتقدم إيتاخ في ذلك إلى سليمان بن وبه
كاتبه، فجد في الحلتين حتى فرغ منهما الصانع وأحضرتا، فعرضتا على الواثق
فاستحسنهما وأمر بقطعهما، فتشاغل عن قطعهما، وسأل أخاه الحسن بالنيابة عنه في ذلك،
فقطع الحسن منهما قميصاً لبنان وانصرف إلى منزله فأحضرها وخلعه عليها وجلس يشرب
معها. واتصل الخبر بسليمان، فقامت عليه القيامة وأمر بإحضار الوشائين وطلب شكلاً
لهما فتعذر عليه، فابتاع حلةً تقاربهما بخمسة آلاف درهم وصدق إيتاخ عن خبره،
فطلبهما الواثق فدافعه إيتاخ بهما، وتعلل عليه إلى أن فرغ الخياطون من الحلة التي
ابتاعها سليمان بن وهب، وأحضرت للواثق، فلما لبسها أنكرها، ودعا إيتاخ فسأله عن
السبب فصدقه، فضحك ضحكاً كثيراً، ودعا خادماً فأمره بإحضار الحس وبنان على الصورة
التي يجدهما عليها، فأحضرهما في قبة، فلما رآهما الواثق قال للحسن: ويلك تأخذ ثوبي
تقطعه لهذي بغير أمري؛ قال: أنت يا أمير المؤمنين تقدر على مثله، وأنا لا أقدر
عليه، وأنا والله أحبها وأعجبني الثوب فتقربت منها به. فضحك ووصله وصرفهما.
وفيها يقول الحسن:
أقول وقد حاولت تقبيل كفّـهـا |
|
وبي رعدةٌ أهتّزّ منها وأسكـن |
ليهنئك أني أشجع الناس كلّهـم |
|
لدى الحرب إلاّ أنني عنك أجبن |
وحضرت عنده يوماً وقرب منها ناراً فتأذت منها؛ فقال الحسن:
بأبي كرهت النار حتى أُبـعـدت |
|
فعلمت ما معناك في إبعـادهـا |
هي ضرّةٌ لك في التماع بهائهـا |
|
وهبوب نفحتها لـدى إيقـادهـا |
وأرى صنيعك في القلوب صنيعها |
|
بسيالها وأراكـهـا وعـرادهـا |
شركتك في كل الأمور بفعلـهـا |
|
وضيائها وصلاحها وفسـادهـا |
قال أبو فراس: قال لي عبيد الله بن سليمان بن وهب وهو وزير: أنشدني مما تحفظه من شعر عمي أبي علي فأنشدته:
بنفسي وأهلي ساحر الطرف فاتره |
|
محكّمة أجفانـه ومـحـاجـره |
فقال عبيد الله: لقد كان رحمه الله كثيراً ما يضع خده على خدي وأنا غلام وينشد هذا الشعر ويبكي. فقلت: يا سيدي، كان يتعشقها ليقول شعراً. ومن طبع كلامه قوله: شربت البارحة على وجه الجوزاء، فلما انتبه الفجر نمت، فما أفقت حتى لفحني قميص الشمس.
تضمين أبيات مالك بن الريب
وأنشدونا في تضمين أبيات مالك بن الريب المازني في قصيدته:
ألا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة |
|
بذات الغضا أُزجي القلاص النواجيا |
وسمعت من ينشدها لابن الرومي وأخلق بها أن تكون له:
تعرّض لي بعد القطيعة مالكي |
|
وأظهر فضلاً بعد ما كان جافيا |
وقد كدّر الإنبات ماء شبـابـه |
|
فأصبح رنقاً بعد ما كان صافيا |
فقلت له جرّعت بالشعر نسـوة |
|
فقال أجل كلّ العيال رثى لـيا |
فمنهن أختي وابنتاها وخالـتـي |
|
وباكية أخرى تهيج البـواكـيا |
فبينا يعاطيني الكـلام بـدا لـه |
|
حريفان عن بعدٍ فصاح منـاديا |
خذاني فجرّاني بدمعي إليكمـا |
|
فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا |
معاوية بن مروان وحمار الرحى
كان معاوية بن مروان أخو عبد الملك بن مروان مغفلاً؛ فبينا هو واقف بباب دمشق ينتظر عبد الملك على باب طحان إذ نظر إلى حمار يدور بالرحى، وفي عنقه جلجل. فقال للطحان: لم جعلت في عنق الحمار جلجلاً. قال: لربما أدركتني سآمة أو نعسة، فإذا لم أسمع صوت الجلجل علمت بأنه قد قام فصحت به. فقال له معاوية: أرأيت إن قام ومال برأسه هكذا وهكذا وحرك رأسه ما علمك أنه قائم ? فقال الطحان: ومن لحماري بمثل عقل الأمير أعزه الله تعالى !
في مرض الجاحظ
قال بعض البرامكة: كنت بالسند، فاتصل بي
أني صرفت عنها، وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار؛ فخفت أن يجفوني الصارف ويسعى إليه
بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة، كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في حمل
إهليلج، ولم أبعد أن جاء الصارف، فركبت البحر وانحدرت إلى البصرة؛ فأخبرت أن بها
الجاحظ وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته؛ فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف؛
فقرعته، فخرجت إلي جارية صفراء، فقالت: من أنت ? قلت: شيخ غريب؛ أحب أن أدخل إلى
الشيخ فأسر بالنظر إليه؛ فأدت الجارية ما قلت، وكانت المسافة قريبةً لقصر الدهليز
والحجرة؛ فسمعته يقول: ما يصنع بشق مائل ولعاب سائل ولون حائل ? فأخبرتني، فقلت:
لا بد من الوصول إليه. فقال: هذا رجل اجتاز بالبصرة، فسمع بي وبعلتي، فقال: أراه
قبل موته لأقول قد رأيت الجاحظ.
فدخلت فسلمت، فرد رداً جميلاً، واستدناني وقال: من تكون أعزك الله ? فانتسبت إليه،
فقال: رحم الله آباءك وقومك السمحاء الأجواد، الفصحاء الأمجاد، فلقد كانت أيامهم
روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم قوم كثير، فسقياً لهم ورعياً. فدعوت له وقلت: أنا
أسأل الشيخ أن ينشدني شيئاً من ألذ الشعر أذكره به، فأنشدني:
لئن قدّمت قبلي رجالٌ لطالـمـا |
|
مشيت على رسلي فكنت المقدّما |
ولكن رأيت الدهر تأتي صروفه |
|
فتبرم منقوضاً وتنفض مبرمـا |
ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز صاح بي: يا
فتى، أرأيت مفلوجاً ينفعه الإهليلج ? قلت: لا ! قال: أنا ينفعني الإهليلج الذي معك
فأهد لنا منه. فقلت: السمع والطاعة. وخرجت مفرط التعجب من وقوفه على خبري حتى كأن
بعض أحبابي كاتبه بحالي وقت أن صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.
وهذا يدل على كثرة بحثه وتنقيره؛ إذ كان وهو في هذه السن العالية والفالج الشديد
تنشر عنده الأخبار، ولا تطوى عنه الأسرار، فكيف كان قبل هذا ? ومن إحدى عجائبه أنه
ألف كتاب الحيوان وهو على تلك الحال.
وقيل لأبي العيناء: ليت شعري؛ أي شيء كان الجاحظ يحسن ? فقال: ليت شعري أي شيء كان
الجاحظ لا يحسن ? وفيه يقول الشاعر:
ولقد رأيت العـلـم يو |
|
ماً ما حواه الـلاّفـظ |
حتى أقـام طـريقـه |
|
عمرو بن بحر الجاحظ |
وأتى أبو العيناء الجاحظ يسأله في رجل أن يكتب له كتاب عناية إلى صاحب البصرة. فقال: نعم ! لا تنصرف إلا به، وكتب له الجاحظ الكتاب وختمه ودفعه إليه، فأتى إلى أبي العيناء بالكتاب؛ فقال: افضضه واقرأه علي؛ لأرى ما كتب وأعيده إليه ليختمه، ففتحه فإذا فيه: كتابي إليك سألني فيه من أخافه لمن لا أعرفهن فافعل في أمره ما تراه، والسلام. فغضب ونهض إلى الجاحظ، فقال: أعرفك باعتنائي بهذا الرجل فكتبت له مثل هذا ! فقال: لا تنكر ذلك فإنها أمارة بيني وبينه إذا عنيت برجل. فقال: بل أنت ولد زنا لم تك قط لرشدة. قال: أتشتمني ? قال: لا، إنها أمارة لي عند الثناء على إنسان.
ومن نوادر المتنبئين
ادعى رجل النبوة في زمن المهدي وأدخل عليه. فقال: أنت نبي ? قال: نعم ! قال: إلى من بعثت. قال: أوتركتموني أن أبعث إلى أحد ? بعثت بالغداة وحبست بالعشي. فقال: صدقت، أعجلناك ! وضحك منه ووصله وأطلقه.
طمع أشعب
قيل لأشعب: ما بلغ من طمعك ? قال: ما رأيت عروساً تزف إلا وظننتها لي، ولا رأيت جنازة إلا وظننت أن صاحبها أوصى لي بشيء. ولقد أطاف بي مرة صبيان فنادوا: يا أشعب ! يا أشعب ! فأضجروني، فدفعتهم عني بأن قلت لهم: دار فلان تهب، فبادروا. فلما ولوا ظننت أني صادق، فتبعتهم.
من نوادر الولاة
قال الشافعي: رأيت بالعراق أربعة أشياء لم
أر مثلها؛ رأيت جدة بنت إحدى وعشرين سنة، ورأيت قلنسوة قاض وسعت ثمانية نوى، ورأيت
شيخاً ابن نيف وتسعين سنة يمشي على القيان يعلمهن الغناء وضرب العود، وإذا صلى صلى
قاعداً، ورأيت والياً سأل بعض من يلم به: لم لا يجتمع الناس على بابي ? فقال: لأنك
عدل لا تضرب أحداً؛ فوجه إلى إمام مسجد الجامع، فأمر بضربه بالسياط؛ فاجتمع الناس
على بابه وأقبلوا يتزاحمون، والرجل يقول: ما ذنبي، أيها الأمير? والأمير يقول له:
جملني بنفسك قليلاً يا شيخ.
وولى الحجاج أعرابياً على تبالة فجمع أهلها وقال: إن الأمير أوصاني عليكم؛ ووالله
لا أحسن أن أقضي بين خصمين مرتين، وواله لا أوتى بظالم ولا مظلوم إلا وضربته حتى
أقتله، فتناصف الناس بينهم.
من ملح أبي الأسود
قال المدائني: كان لأبي الأسود الدؤلي
دكان إلى صدر الرجل يجلس فيه وحده، ويضع بين يديه مائدة ويدعو إليها كل من يمر به،
وليس لأحد أن يجلس؛ فينصرفون عنه.
وكان أبخل الناس، فمر به صبي من الأنصار؛ فقال له أبو الأسود: هلم إلى الغداء يا
فتى؛ فأتى إليه، فلم ير موضعاً يجلس فيه، فتناول المائدة فوضعها في الأرض ثم قال:
يا أبا الأسود، إن كان لك في الغداء حاجة فانزل؛ وأقبل الفتى يأكل حتى أتى على
جميع ما في المائدة، وسقطت آخر الطعام من يده لقمة على الأرض فأخذها وقال: لا
أدعها للشيطان. فقال أبو الأسود: والله ما تدعها للملائكة المقربين، فكيف تدعها
للشياطين ! ثم قال له: ما اسمك ? قال: لقمان. فقال أبو الأسود: أهلك كانوا أعلم
زمانهم إذ سموك بهذا الاسم، ولم يعد بعد إلى ما كان يصنع.
واسم أبي الأسود ظالم بن عمرو من بني الدئل من كنانة، وكان قد أدرك حياة النبي صلى
الله عليه وسلم، وسافر إلى البصرة على عهد عمر رضي الله عنه، واستعمله علي بن أبي
طالب رضي الله عنه على البصرة وكان شيعياً، وهو أول من وضع العربية وهو القائل:
أمنت على السرّ امرءاً غير حازم |
|
ولكنه في الـودّ غـير مـريب |
أذاع به في الناس حتـى كـأنـه |
|
بعلياء نـار آذنـت بـثـقـوب |
وما كلّ ذي لبٍ بمؤتيك نصحـه |
|
وما كل مؤتٍ نصحه بـلـبـيب |
ولكن متى ما جمعا عنـد واحـدٍ |
|
فحقّ له من طاعة بـنـصـيب |
وكان مجاوراً لبني قشير وهم عثمانية وكانوا يرجمونه، فإذا أصبح شكاهم؛ فيقولون: ما نحن رجمناك، الله تعالى رجمك. فيقول: كذبتم يا فعلاء، أنتم ترمون فتخطئون ولو كان الله رماني ما أخطأني؛ ثم باع داره وانتقل عنهم. فقيل له: أبعت دارك ? فقال: بل بعت جاري، وفيهم يقول:
يقول الأرذلون بنو قـشـير |
|
طوال الدهر ما تنسى علـيّا |
أحب محمداً حـبّـاً شـديداً |
|
وعبّاساً وحمزة والـوصـيّا |
فإن يك حبّهم رشداً أصـبـه |
|
ولست بمخطىءٍ إن كان غيّا |
فقالوا له: أشككت ? فقال: مما شك الله
تعالى إذ يقول: "وإنا أو إياكم لعلى هُدَّى أو في ضلالٍ مبين".
وقال عمر بن شبة: لما وقعت الفتنة أيام ابن الزبير بالبصرة مر أبو الأسود على مجلس
ابن قشير، فقال: على ماذا أجمع أمركم في هذه الفتنة ? قالوا: لم تسألنا يا أبا
الأسود ? قال: لأخالفكم، فإن الله لم يجمعكم على حق.
وأنشد ابن شبة في هذا المعنى لبعض المحدثين:
إذا أشبه الأمران يوماً وأشكـلا |
|
عليّ فلم أعرف صواباً ولم أدر |
سألت أبا بكر خلـيل مـحـمّـدٍ |
|
فقلت له ما تستحبّ من الأمر ? |
فإن قال قولاً قلت شيئاً خلافـه |
|
لأنّ خلاف الحقّ قول أبي بكر |
رسالة أبي العيناء في أحمد بن الخصيب
ومن هنا أخذ أبو العيناء قوله في أحمد بن الخصيب: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب يطلبها.
وهذا مما يقرأه أبو العيناء في كلام طويل عمله على ألسنة القواد والكتاب والرؤساء وغيرهم لما نكب أحمد. فقال: قال محمد بن عبد الله بن طاهر: غدر بمن آثرهن وتخطى ما لا يقدره، فحل به ما يحذره. وقال ابن طالون: تكبر وتجبر ودبر فدمر. وقال موسى بن بغا الكبير: لولا أن القدر يغشى البصر لما نهى ابن الخصيب فينا ولا أمر. وقال فارس بن بغا: لم تتم له نعمة، لأنه لم تكن له في الخير همة. وقال سليمان بن يحيى بن معاذ: كان يأمر ولا يأتمر، وينهى ولا يزدجر، ويعبر ولا يعتبر. وقال جعفر أبو عبد الواحد: أحسن حسناته سيئة وأصغر سيئاته كبيرة.
وقال مروان بن عيسى بن جعفر الهاشمي: كانت دولته دولة المجانين، خرجت من الدنيا والدين. وقال أبو عبد الله محمد بن زبيدة: بعد من الشرف؛ فتحامل عليه؛ وقرب من ضده فمال إليه. وقال إسحاق بن إبراهيم الطاهري: كان إذا دنوت منه غرك، وإذا بعدت عنه ضرك. وقال داود بن إسحاق بن محمد بن العباس: ما أحسن قط إلا أخطأ، ولا أصاب إلا تعدى. وقال ابن أيوب: نعمته أعجب من نكبته. وقال ميمون بن إبراهيم: لو تأمل أحد أخلاقه فاجتنبها لاستغنى عن الآداب أن يطلبها. وقال الحسن بن محمد بن أبي الشوارب القاضي: كان يحسد المحسنين ويجتنب أفعالهم، ويذم المسيئين ويعمل أعمالهم. وقال عيسى بن فرخان شاه: أعقل منه مجنون، وأجن منه لا يكون. وقال برد الخيار: ما كان أقرب وليه مما يكره وعدوه مما يحب ! وقال ابن حمدون: لئن منحته القدرة لقد حملته النكبة. وقال أحمد بن أبي الأصبغ: ما علمت أن خدمة الشياطين أيسر من خدمة المجانين؛ كان غضبه إذا أطعناه أكثر من غضبه إذا عصيناه. وقال إبراهيم بن رباح: كان لا يفهم ولا يفهم، وينقض ما يبرم. وقال سعيد بن حميد: كان يخافه الناصح ويأمنه الغاش، ولا يبالي أن يراه الله مسيئاً. وقال جعفر بن الفضل الجرجرائي: ما زال يستوحش من النعمة حتى أنس بالنقمة. وقال إبراهيم بن الجراح: كان إذا أحسن اعتذر، وإذا أساء امتن. وقال محمد بن مجمع: مجامعه ردية وأوانيه دنية، ضاعت بينهما الرعية. وقال عبد الله بن منصور: كنت أرثي للسلطان في قربه، كما أرثي للأمة من ظلمه. وقال إبراهيم بن المدبر: لئن كان حكمه بالخطإ نافذاً، لقد اصبح الحكم فيه بالصواب ماضياً. وقال عطية الكاتب: قد عرف غب ما صنع وما حصد إلا ما زرع. وقال سلمة بن سعيد: عرف نصيحتي فعاداني واجتهادي فنافاني. وقال ابن فراشة: كنت إذا نصحته زناني، وإذا أخشنته مناني. وقال محمد بن داود التستري: كان لا يرى درهماً في يد سواه إلا حسبه حقاً له تخطاه. وقال أيوب بن سليمان: كان لا يعلم ولا يتعلم ويستصغر من يتعلم. وقال يعقوب بن أحمد: كان وليه على وجل وعدوه على أمل. وقال ابن ثوابة الكاتب: أساء عشرة الأحرار فأصبح مقفر الديار. وقال عريب: لم يجاور النعمة بالشكر فحل به ما استحقه بالكفر. وقال شاربه: ما أنور بفقده الأيام وأسر بهلاكه الإسلام ! وقال محمد بن الزيات: قال المعتصم: لسان بذيء وخلق رديء وطبع مسيء. وقال سعيد بن هارون: لقد رحم الله عباده إذ طهر منه بلاده. وقال سليمان بن بشار: اشتد طغيانه فبعدت أوطانه. وقال ميمون بن هارون: كتب الله له البلاء صراحاً فأنبت له كالنملة جناحاً. وقال سليمان بن وهب: كان سفلة المحضر، سيىء المنظر، رديء المخبر. وقال حجاج بن هارون: والله ما كان له في الشرف أسباب متان، ولا في الخير عادات حسان. وقال بعض الندماء: ما رأيته سمى على طعام قط، ولا استثنى في يمين، ولا حمد الله على نعمة. وقال تمام بن كثير الهاشمي نديم المتوكل من ولد الحارث بن العباس: كان البذاء عنده عادة، والسخف مروءة، وقذف المحصنات فرض. وقال سعيد الصغير: حمل حتفه بكفه ورمى نفسه بسهمه. وقال صالح الحريري: لا يسعى إليه حر وإن مسه الضر. وقال إسحاق بن صالح بن مرشد: تعرض لسخط الله فأصبح في لعنة الله. وقال أبو الفرج بن نجاح: ما سمعته قط إلا زارياً على الزمان، عاتباً على الإخوان، آمناً من الحدثان. وقال محمد بن نصر بن منصور بن بسام: صار سلطان البغي إليه فحلت دائرة السوء عليه. وقال أحمد بن عبد الرحمن الكلبي: جهله عامر الغفلة، وسفهه قاهر الحملة. وقال إبراهيم بن سعيد: إن من عجائب الدهر أن يكون له في الأمة نهي أو أمر. وقال نمرة الرائض: لو كان ابن الخصيب دابة لكدح بلجامه، وتقاعس في عنانه، وحرن في ميدانه. وقال ابن مزينة: كنت إذا وقع شعره على صدري أحسست النقصان في عقلي. وقال أبو عبد الله الصفار: ما أكثر خطإ ابن الخصيب، وأحوجه إلى ما نحن فيه حتى يصيب. وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب وهو أطول من هذا.
الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر
وهذا ضد هذه الكلمات التي قيلت بعد وفاة الإسكندر نبه بها حكماء زمانه، اخترت منها هنا قطعة:
لما جعل في تابوت ذهب تقدم إليه أحدهم
فقال: كان الإسكندر يخبأ الذهب فقد صار الذهب الآن يخبؤه. وقال الآخر: انظر إلى
حلم النائم كيف انقضى وإلى ظل الغمام كيف انجلى. ودخل عليه آخر فقال: قد أمات هذا
الميت كثيراً من الناس لئلا يموت، وقد مات الآن. وتقدم آخر فقال: ما لك لا تقل
عضواً من أعضائك، وقد كنت تستقل بملك العباد. ودخل آخر فقال: ما لك لا ترغب بنفسك
عن الجحر الضيق، وقد كنت ترغب بها عن رحب البلاد ! ودخل آخر فقال: كان لا يقدر
عنده على الكلام، فالآن لا يقدر عنده على السكوت. وقال آخر: كان غالباً فصار
مغلوباً، وآكلاً فصار مأكولاً. وقال آخر: ما كان أقبح إفراطك في التجبر أمس مع شدة
خضوعك اليوم. وقالت بنت دارا بن دارا: ما ظننت غالب أبي يغلب. وقال رئيس الطباخين:
نضدت النضائد، وألقيت الوسائد، ونصبت الموائد، ولست أرى عميد القوم. وقال آخر:
حركنا الملك يسكونه. وقال آخر: كان الملك أمس أنطق منه اليوم، وهو اليوم أوعظ منه
أمس.
أخذ قوله: حركنا بسكونه أبو إسحاق بن القاسم أبو العتاهية، فقال:
يا عليّ بن ثـابـت بـان مـنّـي |
|
صاحبٌ جلّ قـدره يوم بـنـتـا |
قد لعمري حكيت لي غصص المو |
|
ت وحرّكتني لهـا وسـكـنـتـا |
وأخذ قوله الآخر فقال:
كفى حزناً بموتك ثـمّ إنـي |
|
نفضت تراب قبرك عن يديّا |
وكانت في حياتك لي عظاتٌ |
|
وأنت اليوم أوعظ منك حيّا |
أحمد بن الخصيب وبعض أخباره
وكان أحمد بن الخصيب القائم بأمر المنتصر
بعد قتله أباه المتوكل واستيلائه على الخلافة، فلما مات المنتصر أقره المستعين
أحمد بن المعتصم على ما كان، ولم يطل عمر المنتصر بعد أبيه.
ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه بعض أصحاب التواريخ: أن المنتصر لما أصبح في الخلافة
وجلس للبيعة، فرش في الدار بساط جليل كسروي، فوقف أحد رجال المنتصر على بعض
صنائعه، وقد نظر إلى دارة فيها صورة رجل ميت مسجى على سريره، وقدامه ملك منتصب على
سرير الملك، على رأسه التاج، والمرازبة قيام بين يديه، وعلى رأسه سطور بالفارسية؛
فلما نظر الرجل إلى الصورة وقرأ ما عليها دمعت عيناه، فدعا به وقال له: ما هذا
الذي تنظر إليه ? قال: لا شيء يا أمير المؤمنين. قال: فلم بكيت ? قال: طرفت عيني
بثوبي. قال: لا بد من الصدق عما رأيت. قال: وقعت عيني يا أمير المؤمنين على هذه
الصورة، فبقيت أعجب من حسن تصويرها، ثم قرأت ما عليها مكتوب فإذا هو: هذه صورة
شيرويه بن كسرى قتل أباه فلم يعش بعده إلا تسعة شهور.
فانخذل المنتصر ووجم، ولم يعش إلا هذا القدر، فأقام أحمد بن الخصيب مع المستعين
على ما كان عليه. وكانت حال أوتامش التركي قد توافت في أيام المستعين فاستخف به
ابن الخصيب، وجاءه بعض كتابه فأسمعه ما كره فجاء إلى صاحبه فعرفه ما جرى، فكرب إلى
المستعين، فحمله إلى مكروهه، فأمر بهدم داره واستصفاء أمواله وبعثه إلى أقريطش.
وكان ابن الخصيب غبياً جاهلاً. قال إبراهيم بن المدبر: كنت يوماً عنده فقدم الطعام
وفيه هليون فأكب عليه، فقلت: أراك راغباً في الهليون، فقال: بلغني أنه يزيد في
السهاد، ويؤيد في الباه، ثم جلسنا للشرب فغنت بعض القيان:
إنّ العيون التي في طرفها حـور |
|
قتلننا ثم لـم يحـيين قـتـلانـا |
يصرعن ذا اللبّ حتّى لا حراك به |
|
وهنّ أضعف خلق اللّه أركـانـا |
فقال: هذا الشعر لأبي. فقلت: قاتل الله جريراً ما كان أسرقه لشعر أبيك ! وماتت له بنية، فخرج إلى جلسائه يعصر عينيه، وقال: قد قلت في هذه الصبية:
غيضن من عبراتهن وقلن لي |
|
ماذا لقيت من الهوى ولقينـا |
فقال له بعض جلسائه: أعز الله الوزير هذا مشهور في شعر جرير. فقال: لعله وافقه.
وكان كاتب أوتامش شجاع بن القاسم، وابن
الخصيب عنده سحبان وائل، وكان شجاع أمياً لا يقرأ ولا يكتب ولا يفهم، وإنما علم
علامات يكتبها في التواقيع. قال الحسن بن مخلد: وصفني محمد بن عبد الله بن طاهر
للمستعين وسأله أن يدخلني في جملة من ينادمه؛ فدعاني لمنادمته يوماً، فإنا لقعود
بين يديه ومعنا أوتامش إذ دخل شجاع بن القاسم ومعه شيء يريد عرضهن فنظرت إليه، وقد
أخرج سراويله من خفه، ووقع على قدميه، ودخل تحت عقبه من إحدى رجليه وهو يسحبه
ويدوسه، فغمزت محمد بن عبد الله فضحك، ورأى المستعين ذلك؛ فسأله عن سبب ضحكه
فدافعه. فقال له: بحياتي. فقال له: سل الحسن يا سيدي، فنظر إلي وقال: هيه يا حسن
!! فأومأت إلى سراويل شجاع؛ فضحك حتى استلقى، وقال: ويلك يا شجاع !! ما هذا? قال:
الساعة يا سيدي داسني كلب فخزقت سراويله وثيابه، فازداد ضحك المستعين وأهل المجلس،
وضجر أوتامش من ضحكهم بكاتبه.
وسأل شجاعاً بعض الهاشميين حاجة؛ فقال لهم: ليس الأمر فيها إلي وهو للأمير يعني
أوتامش وهو يجلس أول من أمس يعني بعد غد.
وكانت جميع أتباع شجاع تخاليط، وجملة كلامه أغاليط.
قال ابن عمار: عملت شعراً رائجياً لا معنى له، وواقفت سعيد بن عبيد على أن يروي
الشعر رجلاً من الهاشميين، وكان لنا صديقاً، وكان جلداً شهماً، على أن ينشده شجاع
بن القاسم ويعرفه أنه مدح له، وضمنا له على ذلك ألف درهم. والشعر:
شجاعٌ لجاعٌ كاتـبٌ لاتـبٌ مـعـاً |
|
كجلمود صخر حطّه السيل من عل |
خبيصٌ لبيصٌ مستـمـرٌ مـقـوّم |
|
كثيرٌ أثيرٌ ذو شـمـال مـهـذّب |
بليغٌ لبيغٌ كلّـمـا شـئت قـلـتـه |
|
فإن كنت مسكاتاً عن القول فاسكت |
فطينٌ لطـينٌ آمـرٌ لـك زاجـرٌ |
|
حصيفٌ لصيفٌ كل ذلـك يعـلـم |
أريب لبـيب فـيه فـهـم وعـفّة |
|
عليم بشعر حين أنـشـد يشـهـد |
كريم حليم قابـض مـتـبـاسـط |
|
إذا جئته يوماً إلى البـذل يسـمـح |
فوقف إليه. وقال: أيها الوزير؛ ليس العشر
من صناعتي، ولكنك أحسنت إلي وإلى أهلي بما أوجب شكرك، فتكلفت أبياتاً مدحتك فيها،
فتفضل بسماعها. فقال: قد أغناك شرفك وحالك عن الشعر. فقال: لا بد أن يتفضل الأمير
بسماعها، فأنشد الأبيات فشكره عليها وسر بها سروراً زائداً؛ ودخل إلى المستعين
فأخرج له صلة عشرة آلاف درهم، وأجرى له ألف درهم في كل شهر. فقال لهما الطالبي:
أنتما أوصلتما ذلك إلي، والله لا أخذت منكما شيئاً، ولولا اتساعكما لوصلتكما بما
وصلت به.
وقدم إليه شاعر محسن فقال له: قد سبق إلي من الوزير وعد وتلاه شكر، والوزير حقيق
بإنجاز وعده وقبول شكري وأنشده:
أبو حسن يزيد الملك حسنـاً |
|
ويصدق في المواعد والمقال |
جبانٌ عـن مـذمّة آمـلـيه |
|
جريءٌ في العطّية والنّـوال |
أجلّ اللّه في سرٍّ وجـهـرٍ |
|
فأعطاه المهابة بالـجـلال |
فقال له: وما يدريك أني جبان ! ولم يفهم
معناه. فقال. أعزك الله، إنما قلت إنك تجبن عن البخل ولا تبخل بشيء، وإلا فأنت
شجاع كاسمك. فقال: ما أعطيك على هذا الشعر شيئاً، ولكن على ميلك وشكرك، ووقع له
بألف دينار، ولو فهم ما قال لجعل مكان الألف ألوفاً.
وفي المستعين يقول البحتري من قصيدة طويلة:
وما لحية القصّار حين تنفّشـت |
|
بجالبة خيراً على من يناسـبـه |
يجوز ابن جلاّد على الشعر عنده |
|
ويغدو شجاعٌ وهو للجهل كاتبه |
الحسين بن مخلد لم يكن كاتباً ولا منادماً
وكان الحسن بن مخلد مضطلعاً بأمر الدواوين
عالماً بالدخل والخرج، ولم تكن له صناعة في الكتابة ولا استحقاق للمنادمة.
قال أبو الفضل أحمد بن سليمان: جمعني والحسن بن مخلد مجلس فيه أبي، فسألني عن سني
فأخبرته وأخبرني عن سنه، فرأيته أكبر مني بعشر سنين. فقلت له: قال لي الزبير بن
بكار: كانت العرب تقول العشرة بين المشايخ لدة. فغضب وظن أني قد شتمته، والتفت إلى
أبي فقال: يا أبا أيوب، ليس كل من علم شيئاً من العربية يطلق لسانه في الناس
بالشتم. فقال له أبي: إنه لم يرد مكروهاً، وإنما أراد التقرب منك، ومعنى لدة ترب؛
فلم يسكن إلى أن افترقنا.
من نوادر أبي الحارث
سقط أبو الحارث حمير من سطح؛ فقيل له: أكان
السطح مرتفعاً ? قال: لا تسأل عن شيء ? استطبت برد الهواء قبل الوصول إلى الأرض.
وقال رجل: أشتهي أن أرى خلفي. فجاءه أبو الحارث بمرآة فجعلها تلقاء وجهه.
وتشهى قوم ضروباً من الطعام. فقالوا: ما تشتهي يا أبا الحارث ? فقال: الوفاء بهذا.
وأكل يوماً مع قوم رؤوساً، فتبادروا إلى الأعين ليقتلعوها فتنحى ناحية. فقالوا:
مالك ? قال: ظننتكم ناساً فإذا أنتم نسور.
وجلس يتغدى مع الرشيد وعيسى بن جعفر فأتي بخوان عليه ثلاثة أرغفة، فأكل أبو الحارث
رغيفه قبلهما. وقال: يا غلام، فرسي ! ففزع الرشيد وقال: ويلك ! مالك ? قال: أريد
أن أركب إلى ذلك الرغيف الذي بين يديك، فضحك الرشيد وأمر له بجائزة.
ومال أبو الحارث على زفر بن الحارث وعنده جوار يغنين وأبو الحارث جائع. فقال:
اسقوا أبا الحارث وغنينه ما يقترح. فقال: بحياتي غنين:
خليليّ داويتما ظاهراً |
|
فمن ذا يداوي باطنا |
فقال زفر: غنين:
من يسأل الناس يحرموه |
|
وسائل اللّه لا يخـيب |
ونظر أبو الحارث إلى برذون يستسقى عليه الماء فقال:
وما المرء إلاّ حيث يجعل نفسـه |
|
ففي صالح الأخلاق نفسك فاجعل |
لو أن هذا البرذون هملج لما فعل به هذا.
ونصب مع رفقاء له قدراً وجعل فيها لحماً. فلما تلهوجت نشل بعضهم قطعةً وقال: تحتاج
إلى ملح، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى أبزار، ونشل آخر قطعة وقال: تحتاج إلى
بصل، فرفع أبو الحارث القدر وقال: والله تحتاج هذه القدر إلى لحم.
طرف متفرقة
وسرق مدني قميصاً فبعثه مع ابنه يبيعه،
فسرق منه في الطريق، فلما رجع قال أبوه: بعت القميص. قال: نعم ! قال: بكم ? قال:
برأس المال.
دعا بعض الملوك بأبي علقمة الممرور وآخر مجنون ليضحك منهما، فشتماه فغضب. وقال:
السياط يا جلادين. فقالا: كنا مجنونين فصرنا ثلاثة، فضحك وأجزل صلتهما.
وطبخ بعض البخلاء قدراً فقعد هو وامرأته يأكلان. فقال: ما أطيب هذا القدر لولا
الزحام ! قالت: أي زحام ها هنا إنما أنا وأنت ! قال: كنت أحب أن أكون أنا والقدر.
أبو الأغر يظن الكلب لصاً
نزل شيخ أعرابي من بني نهشل يكنى أبا
الأغر على بنت أخت له من قريش بالبصرة، وذلك في شهر رمضان؛ فخرج الناس إلى ضياعهم؛
وخرج النساء يصلين في المسجد، ولم يبق في الدار إلا الإماء؛ فدخل كلب فرأى بيتاً
فدخله وانصفق الباب، فسمع الإماء الحركة فظنن لصاً دخل الدار؛ فذهبت إحداهن إلى
أبي الأغر فأخبرته، فأخذ عصاً ووقف على باب البيت. فقال: إيها والله ! إني بك
لعارف، فهل أنت من لصوص بني مازن، وشربت نبيذاً حامضاً خبيثاً حتى إذا دارت
الأقداح في رأسك منتك نفسك الأماني، فقلت: أطرق دور بني عمرو، والرجال خلوف،
والنساء يصلين في مسجدهن فأسرقهن، سوءةً لك ! والله ما يفعل هذا حر، بئسما منتك
نفسك ! فاخرج بالعفو عنك، وإلا دخلت بالعقوبة عليك، وأيم الله لتخرجن أو لأهتفن
هتفةً يلتقي فيها الحيان عمرو وحنظلة، ويصير زيد زيداً، وتجيء سعد بعدد الحصى
وتسيل عليك الرجال من هاهنا وهناها؛ ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود في بني تميم.
فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين، فقال: اخرج بأبي أنت منصوراً مستوراً، إني
والله ما أراك تعرفني، ولئن عرفتني لوثقت بقولي، واطمأننت إلي، أنا أبو الأغر
النهشلي، وأنا خال القوم وجلدة ما بين أعينهم، لا يعصون لي رأياً، وأنا خفير كفيل
أجعلك شحمة بين أذني وعاتقي، فاخرج أنت في ذمتي، وإلا فعندي قوصرتان أهداهما إلي
ابن أختي البار الوصول، فخذ إحداهما فانتبذها حلالاً من الله ورسوله. وكان الكلب
إذا سمع هذا الكلام أطرق، وإذا سكت وثب يريد الخروج، فتهافت أبو الأغر ثم قال: يا
ألأم الناس، أراني بك الليلة في واد وأنت في آخر، وأنت في داري أقلب البيضاء
والصفراء، فتصيح وتطرق، وإذا سكت عنك وثبت تريد الخروج، والله لتخرجن أو لألجن
عليك.
فلما طال وقوفه جاءت جارية وقالت: أعرابي مجنون ! والله ما أرى في البيت أحداً،
ودفعت الباب، فخرج الكلب مبادراً، ووقع أبو الأغر مستلقياًن فقلن له: قم ويحك !
فإنه كلب. فقال: الحمد لله الذي مسخه كلباً وكفى العرب حرباً.
أبو حية النميري يتوهم البرذون لصاً
وقد روى ابن قتيبة وغيره هذا المقام لأبي
حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع، وعليه عول أبو علي محمد بن الحسن المظفر
الحاتمي في الحكاية التي وضعها على أستاذه علي بن هارون وأتى فيها بكل مليحة
نادرة. وزعم أنه أحس حس برذون في إصطبله فراعه وتوهمه لصاً وهي طويلة في نحو أربعة
أجلاد وقال في أولها: هذه حكاية أبي الحسن علي بن هارون مع اللص الذي تخيل أنه دخل
داره، أخبرني بها أبو القاسم القنطري وغيره من حاشية أبي الحسن، ولفظ بعضهم يزيد
على بعض؛ فجمعت الروايات على اختلافها، ونظمت شتيتها، وهذبت العبارة عنها، وأوردت
المعاني مكسوةً من النثر الرائع، والتشبيه الواقع، مما يطرب سامعه، ويروق متصفحه؛
ليكون وروده أغرب وحفظه أقرب. ونحلت أبا الحسن وجماعة ولده قطعاً من بارع الشعر،
تناسب قطع الرياض بنت القطر، صنعتها على ألسنتهم، ونسبتها إلى ارتجازاتهم، وتمثلت
عنهم بفقر من أشعار العرب أسميت قائلها؛ لئلا تلتبس بما اختصصت في نظمه، وما
توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.
وقال في آخرها: لقد كان في نبأ هذه الكريمة تبصرة لمستبصر، وتذكرة لمتذكر. هذا ولم
تقترح فيها الأقران، ولا تنازلت فيها الفرسان، ولا استبهمت فيها البهم، ولا أريق
فيها ملء محجم دم؛ وإنما هو تخييل جبان، وتسويل جنان. ولقد عزونا إلى هذه الطائفة
من التشبيهات الباهرة والأمثال النادرة ما يبعد جداً عن مثلها؛ وإنما بعثنا على
ذلك أشر الشبيبة، ومرح الصبا، ولين الغصن، وفضل القدرة، واستجابة لما تدعيه من
أفانين الكلام؛ ونستغفر الله من فضول العمل.
من شعر أبي حية النميري
وأبو حية النميري من أحسن الناس شعراً وأرقهم فيه طبعاً، على لوثة كانت به؛ وهو القائل:
ألا أيّها الربع الـقـواء ألا انـطـق |
|
سقتك الغوادي من أهاضـيب فـوّق |
مرابيع وسميّ تـسـوق نـشـاطـه |
|
جرار الصّبا في العارض المتـألّـق |
وما أنت إلاّ ما أرى بـعـد مـا أرى |
|
يد الحي في زي بعـينـي مـونـق |
غراب ينادي يوم لا القلب عـقـلـه |
|
صحيح ولا الشعب الذي انصاع ملتقي |
جزيت غراب البين شرّاً لطـالـمـا |
|
شقيت بتحجال الغراب الـمـنـعّـق |
ورقراقة تفـتـرّ عـن مـتـبـسّـم |
|
كنور الأقاحي طـيّب الـمـتـذوّق |
إذا امتضغت بعد امتناع من الضحـى |
|
أنابيب من عود الأراك المـخـلّـق |
سقت شعث المسواك مـاء غـمـامة |
|
فضيضاً بخرطوم العراق المصفّـق |
فإن ذقت فاها بعدما سقـط الـنّـدى |
|
بعطفي بخنداة رداح الـمـنـطـق |
شممت العرار الغضّ غبّ هـمـيمة |
|
ونور الأقاحي في الندى المترقـرق |
شرقت بريّا عارضـيهـا كـأنـمـا |
|
شرقت بدار... العراق المـعـتـق |
هذا شعر ظريف الصنعة حسن الوشي والسبك؛ وقد ملح ما شاء في وصف الثغر وطيب النكهة، وهو معنى حسن جميل.
أحسن ما قيل في وصف الثغر
قال أبو العباس بن الفرج الرياشي سمعت الأصمعي يقول: أحسن ما قيل في وصف الثغر قول ذي الرمة:
وتجلو بفرعٍ مـن أراكٍ كـأنـه |
|
من العنبر الهندي والمسك يصبح |
ذرى أقحوان واجه الليل وارتقى |
|
إليه الندى من راحة المتـروّح |
هجان الثنايا مغربٌ لو تبسّمـت |
|
لأخرس عنه كاد بالقول يفصـح |
وكتب كشاجم إلى بعض القينات وأهدى إليها سواكاً:
قد بعثناه لكـي تـجـلـي بـه |
|
واضحاً كاللؤلؤ الرطب الأغـر |
طاب منه العرف حتى خلـتـه |
|
كان من ريقك يسقى في الشجر |
ليتني المهدى فيروي عطـشـي |
|
برد أنيابك فـي كـلّ سـحـر |
وأما والـلّـه لـو يعـلـم مـا |
|
حظّه منك لأثـنـى وشـكـر |
وقد أحسن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر إذ يقول:
وإذا سألتك رشف ريقك قلت لي |
|
أخشى عقوبة مالـك الأمـلاك |
ماذا عليك دفعت قبلك للـثّـرى |
|
من أن أكون خليفة المسـواك |
أيجوز عندك أن يكـون مـتـيّم |
|
صبٌّ بحبـك دون عـود أراك |
وقال ابن الرومي:
ألا طالما سؤت الغيور ساءنـي |
|
وبات كلانا من أخيه على وحر |
وقبّلت أفواهاً عذاباً كـأنـهـا |
|
ينابيع خمرٍ حصّبت لؤلؤ البحر |
وقال:
تعلك ريقاً يطرد الـنـوم بـرده |
|
ويشفي القلوب الحائمات الصواديا |
وهل ثغبٌ حصباؤه مثل ثغرهـا |
|
يصادف إلاّ طيّب الطعم صافـيا |
وقال:
وما تعتريها علّة بـشـريّةٌ |
|
من النوم إلا أنها تتخـثّـر |
كذلك أنفاس الرياض بسحرةٍ |
|
تطيب وأنفاس الورى تتغيّر |
وقال ابن المعتز:
بأبي حبيبٌ كنت أعـهـده |
|
لي واصلاً فازورّ جانبه |
عبق الكلام كمسكةٍ نفحت |
|
من فيه ترضي من يعاتبه |
وقال العطري:
ذات خدين ناعمين ضـنـي |
|
نين بما فيهما من التـفـاح |
وثـنـايا وريقةٍ كـغــدير |
|
من عقارٍ وروضةٍ من أقاح |
طرف وملح متفرقة
أكل الحجاج مع رجل بيضاً، فأقبل يأكل المح
ويرمي إليه بالبياض؛ فقال الرجل: أيها الأمير؛ عدل العجة.
وكان بعض الأكاسرة يتطير، فلقيه رجل أعور، فأمر بحبسه، فأقام مدة ثم أطلقه فتعرض
له فقال: لم حبستني ? قال: تشاءمت بك. قال: فأنت أشأم مني؛ خرجت من قصرك فلقيتني
فلم تر إلا خيراً؛ وخرجت أنا فلقيتك فحبستني. فقال الملك: صدق وأمر له بصلة.
قال رجل لأحدب: لئن رفستك لأقيمن حدبتك ! قال: إنك إذاً لعظيم البركة علي.
قال الفضل اليزيدي: كان محمد بن نصر بن منصور بن بسام أشد الناس همة وآلة وغناء،
وكان ناقص الأدب، وكنت أختلف إلى ولده علي يقرأ علي الشعر؛ فدخلت يوماً وهو يشرب
وعنده عبد الله بن محمد بن إسحاق، وكان مثله في الجهل، وقد مدت الستارة فغنت
القينة:
ألا حيّ الديار بسـعـد إنـي |
|
أُحبّ لحبّ من سكن الديارا |
أراد الظاعنون ليحزنـونـي |
|
فهاجوا صدع قلبي فاستطارا |
فقال عبد الله بن محمد بن إسحاق لمحمد:
لولا جهل الأعراب ما جرى ذكر السعد هاهنا. فقال له محمد: لا تفعل، فإنه يقوي معدهم
ويصلح أسنانهم.
وكان علي بن محمد مليح المقطعات، حلو الشعر، خبيث الهجاء، وليس له حظ في التطويل،
إنما يسنح له المعنى، فإذا أراد أن يركب عليه معنى آخر استهدم بناؤه، وهو القائل
في أبي يحيى المنجم يرثيه:
قد زرت قبرك يا عليّ مسلّـمـاً |
|
ولك الزيارة من أقلّ الـواجـب |
ولو استطعت حملت عنك ترابـه |
|
فلطالما عنّي حملـت نـوائبـي |
ودمي فلو أني علـمـت بـأنـه |
|
يسقي ثراك سقاه صوب الصائب |
لسكبته أسفاً عـلـيك وحـسـرة |
|
وجعلت ذاك مكان دمعٍ ساكـب |
ولئن ذهبت بملء قبرك سـؤدداً |
|
لجميل ما أبقيت ليس بـذاهـب |
وقد أنشد هذه الأبيات أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري لغيره. وقال:
كم قد قطعت إليك من ديمومةٍ |
|
نطف المياه بها سواد النّاظر |
في ليلة فيها السّمـاء مـرذّة |
|
سوداء مظلمةٌ كقلب الكافـر |
وقال في جحظة البرمكي:
يا من هجوناه فغنّـانـا |
|
أنت، وبيت اللّه، أهجانا |
سيّان إن غنّى لنا جحظةٌ |
|
أو مرّ مجنونٌ بنا فزنّانا |
وقال في المعتضد وقد ختن ولده:
انصرف الناس من خـتـانٍ |
|
يرعون من جوعهم خزامى |
فقلت لا تعجـبـوا لـهـذا |
|
فهكذا تختـن الـيتـامـى |
وقال يستطرد بالمعتضد:
وعدت بوعدٍ فأخلفـتـه |
|
وما كان ضرّك ألاّ تعد |
تحبّ الثّناء وتأبى العطاء |
|
وما تمّ ذلك للمعتضـد |
وقال في العباس بن الحسن لما ولي الوزارة:
وزارة العباس من نحسها |
|
تستقلع الدّولة من أُسّهـا |
شبّهته حين بدا مقـبـلاً |
|
في خلعٍ يخجل من لبسها |
خازنة الكسوة قد قـدّرت |
|
ثياب مولاها على نفسها |
وقال ابن بسام في أبيه، وكان مولعاً بهجائه:
خبيصةٌ تعقد من سكّـره |
|
وبرمة تطبخ من قنبـره |
عند فتى أسمح من حاتـمٍ |
|
يطبخ قدرين على مجمره |
وليس ذا في كلّ أوقاتـه |
|
لكنه في الدعوة المنكره |
مهاجاة بين ابن المعتز وابن بسام
وكان ابن المعتز يهاجيه، فمن ذلك قوله فيه:
يا ثقيلاً على القـلـوب إذا ع |
|
نّ لها أيقنت بطول الجـهـاد |
يا قذىً في العيون يا حرقةً بي |
|
ن التّراقي حزازةً في الفؤاد |
يا طلوع العذول ما بين إلـفٍ |
|
يا غريماً وافى على ميعـاد |
يا ركوداً في يوم غيمٍ وصيفٍ |
|
يا وجوه التّجار يوم الكسـاد |
خلّ عنّا فإنمـا أنـت فـينـا |
|
واو عمرٍو أو كالحديث المعاد |
فأجابه ابن بسام بقوله:
فقدتك يا قـذاةً فـي شـرابٍ |
|
دخلت من الدناءة كـلّ بـاب |
لئيم الفعل أشأم مـن غـرابٍ |
|
وضيع القدر أطفل من ذباب |
وأثقل حين تبدو مـن رقـيبٍ |
|
وأكذب حين تنطق من سراب |
وأغدر للصديق من اللـيالـي |
|
وأنكى للقلوب من العـتـاب |
من ملح المهاجاة
ومن ملح هذا الباب قول جحظة:
يا لفظة النعيّ بموت الخلـيل |
|
يا وقفة التوديع بين الحمول |
يا شربة اليارج يا أجـرة ال |
|
منزل يا وجه العذول الثقيل |
يا طلعة النعش ويا مـنـزلاً |
|
أقفر من بعد الأنيس الحلول |
يا نهضة المحبوب عن غضبةٍ |
|
يا نعمةً قد آذنت بالـرّحـيل |
ويا كتاباً جاء من مـخـلـفٍ |
|
للوعد مملوءاً بعذرٍ طـويل |
يا بكرة الثكلى إلى حـفـرةٍ |
|
مستودع فيها عزيز الثكـول |
يا وثبة الحافظ مستـعـجـلاً |
|
لصرفه القينات عند الأصيل |
ويا طبيباً قـد أتـى بـاكـراً |
|
على أخي سقمٍ بماء البقـول |
يا شوكةً في قـدمٍ رخـصةٍ |
|
ليس إلى إخراجها من سبيل |
يا عثرة المجذوم في رجلـه |
|
ويا صعود السّعر عند المعيل |
يا ردّة الحاجب عن قـسـوةٍ |
|
ونكسةً من بعد برء العلـيل |
وجحظة هذا أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى
بن يحيى بن خالد بن برمك.
قال أبو الحسن محمد بن محمد بن مقلة الوزير: سألت جحظة من لقبك بهذا اللقب ? فقال:
أبو العبر لقيني فقال: ما هو حيوان إن نكسوه أتانا آلة للمراكب البحرية. فقلت: علق
إذا نكسوه صار قلعاً. فقال: أحسنت يا جحظة؛ فلزمني هذا اللقب. وكان طيب الغناء حسن
المسموع؛ إلا أنه ثقيل اليد في الضرب. وكان حلو النادرة كثير الحكاية صالح الشعر،
ولا تزال تندر له الأبيات الجيدة.
أنشدت سكينة بنت الحسين رضي الله عنها قول الشاعر:
فما للنّوى لا بارك اللّه في النّوى |
|
وعهد النّوى يوم الفراق ذمـيم |
من ملح النحويين المتقعرين
قال أبو علقمة النحوي لجارية كان يهواها:
يا خريدة؛ أخالك عروباً، فما بالنا نمقك وتشنئينا ? فقال: ما رأيت أحداً يحب أحداً
ويشتمه سواك.
الخريدة: الناعمة اللينة، والعروبة: المتحببة إلى زوجها.
وقال بلال بن أبي بردة لجلسائه: ما العروب من النساء ? فماجوا، وأقبل إسحاق بن عبد
الله بن الحارث فقالوا: قد جاءكم فسلوه. فقال: هي الخفرة المتبذلة لزوجها، وأنشد:
يعربن عند بعولهنّ إذا خلوا |
|
فإذا خرجن فإنهنّ خفـار |
والمقة: المحبة.
وقد حكى قول أبي علقمة عبد الرحمن الطلحي.
وأتي الهيثم بن العريان بغريم قد مطلب غريمه ديناراً؛ فقال: ما تقول ? قال: إنه
ابتاعني عنجراً واستنسأته حولاً فصار لا يلقاني في لقم إلا اقتضاني. فقال الهيثم:
أمن بني أمية أنت ? قال: لا. قال: فمن أكفائهم من بني هاشم ? قال: لا. قال: ويلي
على ابن الفاعلة، فعلى من تتكلم بهذا الكلام ? السياط ! فلما جرد قال: أصلحك الله؛
إن إزاري مرعبلة. فقال: دعوه، فلو ترك التثاقل بالغريب في وقت لتركه الآن.
العنجر: عجم الزبيب. واللقم: الطريق، والمرعبلة: الخلقة.
ابن منارة وأبو العيناء
دخل أبو العيناء على ابن منارة الكاتب وعنده أبو عبد الله بن المرزبان. فقال لابن منارة: أحب أن أعبث بأبي العيناء. فقال له: لا تقوم به. فأبى إلا العبث به، فلما جلس أبو العيناء قال له: يا أبا عبد الله؛ لم لبست جباعة ? قال: وما الجباعة ? قال: التي ما بين جبة ودراعة. قال أبو العيناء: لأنك صفديم. قال: وما صفديم ? قال: الذي هو ما بين صفعان ونديم.
سيبويه المصري وبعض ندماء كافور
دخل أبو بكر سيبويه المصري نافلة البصرة
على كافور الإخشيدي وعنده بعض ندمائه. فقال: أيها الاستاذ، دعني أهاتره. فقال: إنك
لا تطيقه. قال: لا بد من ذلك. قال: شأنك. قال: يا أبا بكر، ما حد الرأس ? قال: ما
أحاط به جربانك، وأدبك عليه سلطانك، ولاعبك فيه إخوانك. فخجل الرجل، وضحك كل من
حضر.
وكان سيبويه هذا يشبه بأبي العيناء في سرعة جوابه، وجودة بديهته، وكثرة روايته.
وكان الناس يتبعونه ويكتبون ما يقول، وكان قد شرب البلاذر فعرضت له حدة مفرطة.
وأحضره أبو بكر محمد بن الخازن، فقال: بلغي بلاء لسانك، وكثرة أذاك للناس، وقبيح
معاملتك للأشراف؛ فاحذر أن تعود؛ فينالك مني أشد العقوبة، وصال عليه بالكلام.
وكان الصبيان يتولعون به إذا مر ويصيحون: يا خازن ! يا خازن ! اخرج عليه فيغضب؛
فقال له ذلك يوماً صبي وأبو بكر المعيطي حاضر فضحك المعيطي؛ فقال للصبي: ضرب الله
عنق الخازن كما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنق عقبة بن أبي معيط يوم يدر
على الكفر، وضرب ظهر أبيك بالسوط كما ضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ظهر الوليد
بن عقبة على شرب الخمر، وألحقك يا صبي بالصبية. فقام المعيطي كأنما نشر من قبر.
يريد بقوله للصبي: وألحقك بالصبية قول النبي صلى الله عليه وسلم لعقبة بن أبي معيط
وقد قال له: فمن للصبية يا محمد ? قال: النار والعياذ بالله منها.
سيبويه يريد دخول الحمام
دخل مفلح الحسني الحمام وكان من جملة أصحاب الحسن بن عبد الله بن طغج بن جف الفرغاني، وإليه ينسب، فأتى سيبويه ليدخل فقيل له: الأمير مفلح أخلاه فاصبر ساعة. فقال: أومثلي يمنع الدخول ? لا أنقى الله مغسوله، ولا بلغه سوله، ولا وقاه من العذاب مهوله. وجلس حتى خرج. فقال له: إن الحمام لا يخلى إلا لأحد ثلاثة: مبتلى في قله، أو مبتلى في دبره، أو سلطان يخاف من شره، فأي الثلاثة أنت ? قال: أنا المغروم أعزك الله.
مجاورة
وهذا كجواب أشمول الإخشيدي، وكانت له دار مشرفة على النيل يتنزه إليها في زمان المد وطيب الهواء، وكان يجاوره العباس بن البصري في راقوبة له، فاحتسبت في تلك الدور، وقيل لكافور: إنها مبنية في فناء النيل فأمر بهدمها، فدخل ابن البصري على كافور فأنشده:
يأيهـا الأسـتـاذ يا ذا الّـذي |
|
همّته أعلى من الـكـوكـب |
انظر إليّ وإلـى فـاقـتـي |
|
وارث لضعفي ولما حلّ بـي |
فإنّ لي بـالـشـطّ راقـوبةً |
|
أضيق من قارورة المحلـب |
صغيرةً ضـيقةً عـرضـهـا |
|
عرض سرير جاء في مركب |
كأنـهـا رجـلٌ سـمــاريّةٌ |
|
أخـرجـهــا... أو زيزب |
لو رأيت الزنج في شـطّـنـا |
|
وقد أحاطوا بأبي تـغـلـب |
عمّة ذا حمراء مـصـقـولةٌ |
|
وفاس ذا معتدل المـحـرب |
في يد ذا حـلـب هـــائلٌ |
|
يا ربّ سلّمني من المحـلـب |
إن أخذتني ضـربةٌ مـنـهـم |
|
رأيتني أرقـص كـالأحـدب |
قد أحدق الصّفع بجـيرانـنـا |
|
بالشطّ بالأقـرب فـالأقـرب |
وإن تمـاديت وخـلّـيتـنـي |
|
خشيت أن أدخل في اللولـب |
فضحك كافور، والتفت إلى أشمول: وقال: أنت بجواره ? قال: أنا ما لي دار أعز الله الأستاذ قد سلمت.
تيه وكبر
وكان أبو الفضل بن حنزابة ربما رفع أنفه
تيهاً؛ فقال له وقد رآه فعل ذلك: أشم الوزير أيده الله رائحة كريهةً فشمر أنفه ?
فخجل فأطرق.
واستعمل أبو بكر النهوض فلقيه رجل فقال: من أين يا أبا بكر ? فقال: من عند الزاهي
بنفسه المدل بعرسه، التائه على أبناء جنسه. وكانت بنت الإخشيد تحته، فلذلك قال:
المدل بعرسه.
وأتى مسلم بن عبد الله الحسيني وهو من أهل الحجاز وأوطن مصر فحجب عنه. فقال: قولوا
له يرجع إلى لبس العبا، ومص النوى، وسكنى الفلا، فهو أشبه به من نعيم الدنيا.
دار شؤم
وكانت دار أبي جعفر أحمد بن نصر التاجر المغربي بمصر معروفة بالشؤم من قبل أبي جعفر، فكان أبو بكر يمر بها فيقول: يا سيدتي تعودين إلى عادتك الجميلة. وأخباره كثيرة.
من نوادر المخنثين
لما جعل عيسى بن موسى ولي العهد بعد
المهدي وكان ولي عهد المنصور، قال لمخنث قدم إليه وقد جنى جناية: ما أراك تعرفني
فكنت تفعل هذا الفعل ? قال: بلى والله أيها الأمير، إني بك لعارف؛ فأنت الذي كنت
غداً فصرت بعد غد.
خرج مخنث في شدة الهاجرة ببغداد وهو وقت لا يتصرف فيه أحد، فلقيه رجل فقال: لكم
الليل ولنا النهار. فقال: صدقت، ولكن رأيت وجهك فظننته قطعةً من الليل.
أبو العبر وامرأته
مرض رجل فجاء أبو العبر يعوده وقد ثقل، فصاحت امرأته؛ من لي بعدك يا سيدي ? قال: فغمزها أبو العبر وأومأ إليها أنا لك بعده، فلما مات الرجل وانقضت عدتها تزوجها أبو العبر، فأقامت عنده حيناً؛ ثم حضرت أبا العبر الوفاة، فجاء عواده؛ فصاحت من لي بعدك يا سيدي ? ففتح عينيه وقال: لا يغمزها إلا من تكون أمه زانية.
عجوز وشابة
وبينا ابن أبي ليلى في مجلس القضاء إذ
تقدم إليه امرأتان عجوز وشابة. فقالت الشابة: أنا أصلح الله القاضي امرأة مبدنة،
وقد بهرني النفس؛ فإن رأى القاضي أن يأذن لي فأحسر عن وجهي فليفعل. فقالت العجوز:
أصلح الله القاضي، إنها من أحسن الناس وجهاً، وإنما تريد أن تخدع القاضي، لا
أمتعها الله بما وهبها من الجمال. فقال لها ابن أبي ليلى: إذا أنت شددت قناعك
فشأنك ووجهك.
فحسرت الفتاة عن وجه جميل. ثم قالت: أصلح الله القاضي، إن هذه عمتي وأنا أسميها
أمي لكبر سنها، وإن أبي مات وخلف مالاً، وخلفني في حجرها؛ فجعلت تمونني وتحسن
التدبير في المال وتوفيره علي، إلى أن بلغت مبلغ النساء فخطبني ابن عم لي فزوجتني
منه، فكان بي وبه من الحب ما لا يوقف على صفته، ثم إن ابنةً لعمتي أدركت، فجعلت
هذه ترغب زوجي فيها؛ فتاقت نفسه إليها فخطبها. فقالت: لست أزوجكها حتى تجعل أمر
بنت أخي في يدي. فقال لها: قد فعلت ! فلم أشعر حتى أتاني رسولها فقال: عمتك تقرئك
السلام وتقول لك: إن زوجك خطب ابنتي، وإني أبيت أن أزوجها منه حتى يجعل أمرك في
يدي ففعل ذلك فأنت طالق، فحمد الله تعالى على ما بليت به.
وإن زوج عمتي هذه قدم من سفر، فسألني عن قصتي فأخبرته فقال: تزوجيني نفسك ? فقلت:
نعم ! على أن تجعل أمر عمتي في يدي. قال لي: فما تصنعين إذاً ? قلت: ذلك إلي؛ إما
أن أعفو وإما أن أقتص. قال: قد فعلت، فأرسلت إلى عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت
عليه حتى يجعل أمرك في يدي، ففعل؛ فأنت طالق ! فضحك ابن أبي ليلى ! فقالت العجوز:
لا تضحك أيها القاضي، فالذي بقي أكثر وأعظم. فقالت الشابة: ثم إن زوج عمتي مات
فجعلت تخاصمني في ميراثه، فقلت لها: هو زوجي وأنا أحق بميراثه، فأغرت ابن عمي
ووكلته بخصومتي ففعل.
فقلت: يابن العم؛ إن الحق لا يستحى منه وقد صلحت لك إذ نكحت زوجا غيرك، فهل لك في
مراجعتي ? فقال: كان ما كان ولا ذنب لي فيه، بل كنا على أشد رغبة وأعظم محبة. ثم
قال: أوتفعلين ? قلت: على أن تجعل أمر بنت عمتي بيدي. قال: قد فعلت. فأرست إلى بنت
عمتي أن زوجك خطبني وأني أبيت عليه حتى يجعل أمرك في يدي ففعل، فأنت طالق.
فقالت العجوز: أصلح الله القاضي؛ أيحل هذا، أطلق أنا وابنتي ? فقال ابن أبي ليلى:
نعم، التعس والنكس لك.
ثم ركب إلى المنصور فأخبره حتى ضحك وفحص برجليه، وقال: أبعد الله العجوز ولا فرج
عنها.
حمار عاقل
أتى رجل نخاساً فقال: اشتر لي حماراً ليس بالصغير المحتقر، ولا الكبير المشتهر، إن أشبعته شكر، وإن أجعته صبر، وإن خلا الطريق تدفق، وإن كثر الزحام ترفق، لا يصدم بي السواري، ولا يدخل بي تحت البواري، إن ركبته هام، وإن ركبه غيري نام. فقال له النخاس: أنظرني قليلاً، فإن مسخ الله ابن أبي ليلى القاضي حماراً اشتريته لك.
جارية
وكتب بعض الكتاب إلى محمد بن منصور: وإن بين كل أمر يطالبه الرجاء وبين المطلوب إليه ذريعةً يتوصل بها إلى معروفه، ولي بارتجائك لمعرفتي بفضلك، وكذا الوسيلة، وما كنت متوسلاً إليك بشيء هو أرجى في حاجتي، ولا أصلح لطلبتي من التوسل إليك بحسن الظن فيك، وحاجتي أكرمك الله ظريفة من الجواري لم تتداولها أيدي التجار، ولا تبذلها معاودة العرض، ولي فيها شريطة أعرضها عليك لترى رأيك فيها، أحبرها فرعاء فإنه يقال: إذا اتخذت الجارية فاستجد شعرها؛ فإن الشعر أحد الوجهين؛ وتكون رائقة البياض، تامة القوام؛ فإن البياض والطول نصف الحسن؛ وتكون مليحة المضحك، فإنه أول ما يجلب المحبة، ويكسب الحظوة، ولست أكره الانكسار في الثدي، لأنه ليس للناهد عندي سوى لذة النظر. ولست من قول الشاعر:
في شيء. وأكره
العجيزة العظيمة وأريدها وسطاً؛ لأن خير الأمور أوسطها، لها طرف أدعج، وحاجب
أزج، وكفل مرتج، وما وافقت هذه الصفة، وكانت رخيمة الكلام، شهية النغمة، فهي حرة
قبل أن ترسلها، وحاجتي أبقاك الله يحملها قدرك ويستحقها شكرك. وأنا بالإضعاف
حري، وأنت بالإسعاف قمين. خطبة النكاح قال أبو سودة لابنه:
يا بني، تعلم خطبة النكاح، فإني أريد أن أنكح أخاك، قال: نعم ! فلما كان من
الليل قال: أتعلمت شيئاً ? قال: نعم ! قال: هات. قال: الحمد لله أحمده وأستعينه،
وأؤمن به، وأتوكل عليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً
عبده ورسوله. حي على الصلاة حي على الفلاح. فقال أبوه: يا بني، لا تقم الصلاة
حتى أذهب وأجيء، فإني على غير وضوء.
قال يزيد بن أبي حبيب لرجل: من أين أقبلت ? قال: من أسفل الأرض. فقال له: كيف خلفت قارون ? وقال عبد الله بن خزيمة لصاحب شرطته: أين تذهب يا هامان ? قال: أبني لك صرحاً. صبي يتعلم الهجاء أسلم رجل ابنه إلى
المعلم وقال له: علمه الهجاء، ولا تشغله بغيره، فطال ترداده إلى المكتب؛ فقال
أبوه: تعلمت الهجاء ? قال: نعم ! قال: ما هجاء طير ? قال: ط أ س ر أ أ ح ألا ي
أ، قال: ما هجاء سمكة ? فقال: س م ك أ ه أ خ ح د د، فأرسل إلى المعلم فحضر. فقال
له: ويحك ! تقدمت إليك أن تعلم هذا الصبي الهجاء، وقد سألته عن هجاء طير، فقال
كذا وكذا، وسألته عن هجاء سمكة، فقال: كذا وكذا. فقال المعلم: تجيء إلى صبي صغير
تهجيه شيئاً يطير في الهواء وشيئاً يغوص في قعر البحر كيف يتهجاه ! فقال: هجه
أنت. فقال المعلم: أهجي لك حماد ? قال: هج. فقال: ح م د ك س، فانتهره أبو الولد
وانصرف. من شعر أبي العتاهية حضر يعقوب بن إسحاق الكندي مجلساً فيه قينة، فقالت له: اقترح. فقال لها غني:
فقالت: إن أردت جسّ
العروق والنظر إلى الأبوال فعليك بالبيمارستان. |
|||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
|||||||||||||||||||
|
قال لي أحمدٌ لـيعـلـم مـا بـي |
|
أتحبّ الـغـداة عـتـبة حـقّـا |
|
|||||||||||||||||||
|
فتـألّـمـت ثـم قـلـت نـعـم |
|
ها جرى في العروق عرقاً فعرقا |
|
|||||||||||||||||||
|
قد لعمري ملّ الطبـيب ومـلّ ال |
|
عواد مني ممّا أُعنّـى وأشـقـى |
|
|||||||||||||||||||
|
ليتني متّ فاستـرحـت فـإنـي |
|
أبداً ما حييت منـهـا مـلـقّـى |
|
|||||||||||||||||||
وكان أبو العتاهية سهل الشعر لينه، وتندر
له الأبيات على صحة شعره فتحسن، وكان يقال: شعر أبي العتاهية سباطة الملوك تجد
فيها الدرة والخرفة، وأنشد الجاحظ شعره فمجه فقال: ألفيته أملس المتون ليس له
عيون.
وقد قال ابن الرومي لرجل أنشده شعراً سليماً من العيوب مطبوعاً عارياً من تدقيق
المعاني: نحن أعزك الله نحب مع السلامة الغنيمة.
وكان الرشيد مغرماً بشعره مستظرفاً له. قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ذكرت عند
الرشيد بذم، وكان فيه أن قيل: هو يا أمير المؤمنين على حداثة سنه وقصر معرفته
يخالفك؛ فيقدم العباس بن الأحنف على أبي العتاهية، فاستحضرني وقال: من أشعر عندك
أبو العتاهية أم العباس ? فعرفت ما أراد فقلت: أبو العتاهية: فقال: أنشدني للعباس
فأنشدته أحسن ما أعرف له:
أُحرم منكم بما أقـول وقـد |
|
نال به العاشقون من عشقوا |
صرت كأني ذبالةٌ نصبـت |
|
تضيء للناس وهي تحترق |
فقال: فأنشدني لأبي العتاهية فأنشدته أحسن ما أعرف له:
كأنّ عتّابة من حسـنـهـا |
|
دمية قسٍّ فتنت قـسّـهـا |
يا ربّ لو أنسيتنيها بـمـا |
|
في جنّة الفردوس لم أنسها |
إني إذاً مثل التي لم تـزل |
|
دائرةً في طحنها كدسهـا |
حتى إذا لم يبق منه سـوى |
|
حفنة برٍّ خنقت نفسـهـا |
فقال: هذا الذي أنشدت لأبي العتاهية من أعابيثه التي لا يلقى بها بالاً، ولكن هلا أنشدتني قوله:
قال لي أحمد ولم يدر ما بي |
|
أتحبّ الغداة عتبة حـقّـا |
وأشد الأبيات، ثم قال: أيحسن أحد أن يقول: فتنفست ثم قلت: نعم. قلت: لا يا أمير المؤمنين وما أحفظ الشعر. قال: احفظه ! وكنت أعرف به منه.
من جيد شعره
ومن جيد شعر أبي العتاهية قوله لأحمد بن يوسف، وكان له صديقاً قبل الوزارة، فلما وزر للمأمون جفاه:
أبا جعفر إنّ الشـريف يهـينـه |
|
تناهيه من دون الأخلاّء بالوفـر |
فإن تهت يوماً بالذي نلت من غنىً |
|
فإنّ عزائي بالتّجمّل والصـبـر |
ألم تر أنّ الفقر يرجى له الغنـى |
|
وأن الغنى يخشى عليه من الفقر |
وقوله له وقد أتاه فقيل له إنه نائم:
لئن عدت بعد اليوم إنّـي لـظـالـم |
|
سأصرف وجهي حين تبغى المكارم |
متى يظفر الغادي إلـيك بـحـاجةٍ |
|
ونصفك محجوبٌ ونصـفـك نـائم |
وقوله:
ميّت مات وهو في وارف العي |
|
ش مقيمٌ في ظل عيش ظـلـيل |
في عداد الموتى وفي ساكني الدّن |
|
يا أبو جعفر أخي وخـلـيلـي |
لم يمت ميتة الـوفـاء ولـكـن |
|
مات عن كلّ صالحٍ وجـمـيل |
وهذا القول لعمرو بن مسعدة:
عييت عن العهد الـقـديم عـييتـا |
|
وضيعت عهداً كان لي ونسـيتـا |
وقد كنت في أيام ضعفٍ من القوى |
|
أبرّ وأوفى منـك حـين قـويتـا |
تجاهلت عمّا كنت تحسن وصفـه |
|
ومتّ عن الإحسان حين حـييتـا |
وكان عمرو بن مسعدة صديقاً له قبل ارتقاء حاله، فلما بلغ في أيام المأمون إلى رتبة الوزارة ساله حاجةً فلم يقضها، فتأخر عنه فغضب عمرو وحجبه فكتب إليه:
بلوت إخاء النّاس يا عمرو كلّـهـم |
|
وجرّبت حتى أحكمتني تجـاربـي |
فلم أر ودّ الـنـاس إلاّ رضـاهـم |
|
فمن يزر أو يغضب فليس بصاحب |
وانحدر إلى واسط فلم يعد حتى تغيرت حال
عمرو.
فأما شعره في الزهد فقد فاق فيه الشعراء وبز النظراء؛ وغزله يلين كثيراً ويشاكل
كلام النساء، كقوله:
لجّت عتيبة في هجري فقلت لهـا |
|
تبارك اللّه ما أجفاك يا مـلـكـه |
إن كنت أزمعت يا سؤلي ويا أملي |
|
حقّاً على عبدك المسكين بالهلكـه |
فقد رضيت بما أصبحـت راضـيةً |
|
ها قد هلكت على اسم اللّه والبركه |
وربما بلغ بلينه إلى الإضحاك كقوله:
وهذا وإن قصد به الهزل فليس في حلاوة قول العباس:
ولا كملاحة قوله:
من نوادر الجهلاء واللكن وكان بالرملة شيخ
نظير لأبي بكر النابلسي في طريق الزهد، وكان ألكن اللسان؛ فنزل بعض الجند دار
صديق له، فخاف طول مكثه، وأن تصير الدار نزلاً للجند، وسار بذلك إلى الشيخ،
وسأله أن يبعث إليه من يعرفه بالرجل أنه من خاصته لينتقل عنها؛ فأنفذ معه
رسولاً، ثم رأى الشيخ أن قيامه آكد فنهض فلحقه. فقام الجندي إليه؛ فقال: أيها
الشيخ الجليل سيدي؛ أتاني رسولك، ولا والله أقيم أكثر من يومين ألتمس منزلاً
وأنتقل. فقال الشيخ: نعم ! يا سيدي وشهرين إذا شئت، وما هذا التضييق على نفسك ?
فقال صاحب الدار: والله أعزك الله لئن أقام بها عشرة أيام لتصيرن داري نزلاً.
فقال: يا هذا، إنك إن تقول، إن هؤلاء، إنما أحب إليك أن يأتوا إلى دارك، لسبب
ما، فليس الأمر كما زعمت. فقال: فسر لي أكرمك الله هذا الكلام، وأنا أهب له الدار.
وكتب هذا الكاتب
كتاباً إلى بعض إخوانه: اشتهيت وليس عندي إلا، وليس يحلو إلا من عندك، وهو
الدمكسك أصلحك الله، يطرح الحشمة، فأرسل إلى ممسا منفصلاً والسلام. من معاريض الكلام ورثي قبران مكتوب
على أحدهما: من رآني فلا يغتر بالدنيا، فإني كنت من ملوكها، أصرف الريح كيف شئت.
وعلى الآخر مكتوب: كذب، إنما كان حداداً ينفخ بالزق.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
فقال الطائف: قد جاء
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تجاوزوا عن ذوي الهيئات؛ خلوا سبيله. فلما
أصبح سأل عنه فإذا هو ابن باقلاني. فقال: إن لم يترك لنسبه فقد ترك لأدبه. من طرف النوادر طلب العتبي بعد
ثمانين سنة أن يتزوج، فقيل له في ذلك. فقال: أولاد الزمان فسدوا فأردت أن أذلهم
باليتم، قبل أن يذلوني بالعقوق. من نوادر الأعراب قدم قوم لأعرابي
قريساً فأمعن في أكله. فقيل له: يا أعرابي ? ما هذا ? قال: فالوذج؛ إلا أنكم
أحمضتموه.
ورأى أعرابي سراويل في فلاة، فأخذه يظنه قميصاً لم يعرف كيف يلبسه !! فمر يعدو ورماه؛ فلقيه رجل فقال: ما لك يا أعرابي ? قال: أصبت قميصاً للشيطان، وأخاف أن يلحقني فيقول: لم أخذت قميصي ? أعرابي في عرس
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
وقال الهيثم بن عدي: سمعت أعرابياً يقول: دخلت حضرتكم بعد عيد الأضحى، فإذا أنا بجمع عظيم عليهم أنواع الثياب من بيض وحمر وصفر، فكأنها زهر البستان. فقلت في نفسي: هذا العيد الذي يذكر أصحابنا الحضر يتزينون فيه، ثم رجعت إلى عقلي فقلت: وأي عيد هو ? وقد خرجت بعد الأضحى، فبينا أنا باهت أفكر في أمري إذ أخذ بيدي رجل منهم. فقال: ادخل يا أعرابي. فدخلت فإذا بمجلس منضد بالنضائد، موسد بالوسائد، وفي صدره سرير، وعليه رجل جالس، والناس صموت عن يمينه وشماله. فقلت في نفسي: هذا الخليفة الذي يذكرون، فقبل الأرض وقلت: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فقيل: اسكت يا أعرابي، هذا عروس ونحن في عرسه؛ فهيىء لي موضع في المجلس، فجلست فيه. فقدمت هنات مدورات من خشب عليها ثياب متلاحمة النسج، فهممت أن أسند في ثوب منها أرقع به إزاري. فقيل لي: مد يدك يا أعرابي وكل، فإذا هو ضرب من الخبز لا أعرفه، ثم قدمت أنواع من الطعام حلوة وحامضة وحارة وباردة، فأكلت؛ ثم أتي بأوان فيها ماء أحمر فجعلوا يصبون في أقداح ويشربون، فناولني منه قدحاً؛ فقلت: أخاف أن يقتلني. فقالوا: يا أعرابي؛ إنه يهضم ما في بطنك، فشربته فحدث في قلبي طرب لا أعرفه، وهممت أن أهشم الذي بجانبي، وأن أقول للآخر: يابن الزانية ! فأقبلوا يسألون رجلاً، ويقولون: أمتعنا بنفسك، فأتى بهنات لها رأسان مشدودان بالخيوط المحصدة؛ فأقبل يضرب رأسه، فيخرج منها رعد كهزيم الرعد وزئير الأسد. وأخرج رجل من كمه شيئاً كفيشلة الحمار، فأقبل يردد عليه به. وأقبل آخر ينتخ حتى كبح به الأرض. فقلت: مجنون ورب الكعبة !! ثم أقبلوا يضرعون إلى آخر ويرغبون إليه؛ فأتاهم بدابة من خشب عينها ف صدرها إذا فتلت أذنها تكلم فوها؛ فطرب كل من حضر وطربت حتى تقدمت إليه، وقلت: يا سيدي؛ ما هذه الدابة ? فقال: يا أعرابي؛ هذه يقال لها البربط. فقلت: آمنت بالله وبالبربط، ثم سقوني قدحاً آخر، فأخذتني نومة لم يوقظني منها إلا حر الشمس من الغد.
البحتري يهجو علي بن يحيى
وفي علي بن يحيى يقول البحتري يهجوه:
وأكثرت غشيان المقابـر زائراً |
|
عليّ بن يحيى جار أهل المقابر |
فإلاّ يكن ميت الـحـياة فـإنّـه |
|
من اللؤم ميت الجود ميت المآثر |
قال أبو العيناء: محمد بن مكرم والعباس بن رستم تعجلا الجنة في الدنيا، يشربان الخمر ولا يصليان.
من مكارم أبي الصقر
ومما يعد من مكارم أبي الصقر أنه لما ولي
الوزارة بعد صاعد دخل عليه ابن ثوابة فقال: تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا
لخاطئين. قال: لا تثريب عليك يا أبا العباس يغفر الله لك وهو أرحم الراحمين.
ولما ولي أبو الصقر الوزارة خير أبا العيناء فيما يحب حتى يفعله به. فقال: أريد أن
يكتب لي الوزير إلى أحمد بن محمد الطائي يعرفه مكاني، ويلزمه قضاء حق مثلي من
خدمه. فكتب إليه كتاباً بخطه فأوصله إلى الطائي، فسبب له في مدة شهر مقدار ألف
دينار، وعاشره أجمل عشرة؛ فانصرف بأجمل ما يحب.
كتاب أبي العيناء إلى أبي الصقر
وكتب إلى أبي الصقر كتاباً متضمنه: أنا أعز الله الوزير طليقك من الفقر، ونقيذك من البؤس، أخذت بيدي من عثرة الدهر، وكبوة الفقر؛ وعلى أية حال حين نفدت الأولياء والأشكال، والإخوان والأمثال الذي يفهمون في غير تعب؛ وهم الناس كانوا غياثاً للناس، فحللت عقدة الخلة، ورددت إلي بعد النفور النعمة، وكتبت إلى الطائي كتاباً، فكأنما كان منه إليك، أتيته وقد استصعبت علي الأمور، وأحاطت بي النوائب، فكثر من بشره، وأعطى من ماله أكرمه، ومن بر أحكمه، ولم يزل مكرماً لي مدة ما أقمت، ومثقلاً لي من فوائده لما ودعت؛ حكمني في ماله فتحكمت، وأنت تعرف جوري إذا تمكنت، وزادني من طوله فشكرت؛ فأحسن الله جزاءك، وأعظم حباءك، وقدمني أمامك، وأعاذني من فقدك وحمامك، وقد أنفقت علي ما ملكك الله، وأنفقت من الشكر ما يسر الله لي. والله عز وجل يقول: "لِيُنْفِقْ ذو سَعَةٍ من سعته"؛ فالحمد لله الذي جعلك اليد العليا، والرتبة السامية؛ لا أزال الله عن هذه الأمة ما بسط لها من عدلك، وبث فيها من رفدك.
أبو العيناء أول من أظهر العقوق لوالديه
قال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق
بالبصرة لوالديه. قال أبي: إن الله قد قرن طاعته بطاعتي؛ فقال: "اشكر لي
ولوالديك". فقلت: يا أبت؛ إن الله أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: "ولا
تقتلوا أولادكم خشيةَ إمْلاَق نحن نرزقكم وإياهم".
وقال أعرابي لأبيه: يا أبت، إن كبير حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك، والذي تمت به
إلي أمت بمثله، ولست أزعم أنا سواء ولكن لا يحل الاعتداء.
ابناك كعينيك
وحكى أبو الحسن محمد بن جعفر بن لنكك البصري عن أبيه أنه جاور ببغداد في أيام المقتدر رجلاً من جلة الكتاب، ونشأ له ولدان فتنا بغداد بحسنهما، فبلغ الأكبر منهما، فنقله من المكتب إلى الديوان، وأراد أن يحصنه بجارية فابتاعها له بألف دينار، وقال: لا تعلم أخاك فإنه يصغر عن ذلك، فنمت داية الأصغر الأمر إليه، وقالت: إن أباك خص أخاك بشيء دونك. فقال لها: بم خصه ? قالت: بجارية. قال: هو إليها أحوج وأنا عنها أغنى، غير أني أشفق أن يتسع الخرق، وما علمت أنه فضل مذ نشأ علي بشيء، وأنا أجله عن المشافهة، ولكن هاتي دواة، فكتب إليه:
ليس لي بعد إلـهـي |
|
مشتكـى إلاّ إلـيكـا |
وأخي في الفضل مثلي |
|
وكلانـا فـي يديكـا |
لا تفضّـلـه عـلـيّ |
|
بالحبا من ناظـريكـا |
إنما ابناك كـعـينـي |
|
ك فداوي مقلتـيكـا |
إن أذقت العين كحـلاً |
|
هاجت الأخرى عليكا |
فابتاع له جارية بثمن جارية أخيه وأنفذها إليه.
بخور غير طائل
وحضر أبو الحسن بن لنكك عند أبي الفتح نصر بن أحمد الخبزأرزي فبرخه ببخور غير طائل فقال:
تبصّر في فؤادي فضل حبٍّ |
|
يفوق به على كلّ الصحاب |
أتيناه فبخّـرنـا بـشـيءٍ |
|
من السقف المدخّن بالتهاب |
فقمت مبادراً وحسبت نصراً |
|
يريد بذاك طردي أو غيابي |
فقال متى أراك أبا حسين ? |
|
فقلت له إذا اتّسخت ثيابـي |
بين أبي علي البصير وأبي العيناء
قال أبو علي البصير لأبي العيناء: في أي وقت
ولدت من النهار ? قال: طلوع الشمس. قال: فلذلك خرجت مكدياً؛ لأنه وقت انتشار
المساكين. فقال له أبو العيناء: بيني وبينك مناسبة العمى، قال: كلا ! إني من عميان
الدواب، وأنت من عميان العصا.
بلغت أبا علي البصير عن أبي العيناء قوارص بظهر الغيب؛ فكتب إليه: أستزيد الله في
بقائك؛ وأستمتعه بإخائك، وأستحفظه النعمى عندك. رب مزح أعزك الله قد بعث جداً،
وجور قد أحدث قصداً، ورب أمر صغير خطره، قد أعقب أمراً كبيراً آخرهن ونحن
باستزادتنا بعهدك، ومحاماتنا على ودك، وتمسكنا بعرى الأسباب التي بيننا وبينك،
واحتراسنا من جناية الدهر علينا فيك، لا نقتصر على الاستظهار بالحجة، والإبلاغ في
المعذرة، دون استفراغ المجهود، وبلوغ الغاية في التأني، والحيلة في استرجاع ما شذ
عنا منك، وإبطال ما نمت به الأخبار إلينا عنك، من تحليك بنا في العيب، وتناولت
إيانا في الغيب، فلا يزال أخ لك مد الله في عمرك تعد له، على نفسك، وثوقه لك
وعليك، قد ساقط إلي أحاديث عنك بطبائعها صلاح القلوب قليلاً بها بقاء المودة،
سريعة في حل عقدتها وقطع مودتها، أحاديث، أكره لنفسي بدأها ولك عاقبتها، وكنت لا
أزال أرد ما يرد علي منها بتأول لفظك وحسن الظن بمعناك، والتماس العذر لك على ضيق
مخرجه، وصعوبة مطلبه؛ وأغلب رأيي لهواك، وأقف غضبي على عتباك، وأحفظ قصدك إلي
متنصلاً بما بلغني عنك؛ إلى حرم بيني وبينك، لا يجب حفظها علي دونك، حتى عاد
تعريضك تصريحاً، وتمريضك تصحيحاً، وفي نسبته في صحتي إلى العمى، وفي حلمي إلى
الضعف، إلى أن يئس الصديق من نصري، لما رأى من إغضائي في أمر نفسي، وقد بقي مع
فضلة من أداتي أنت تملكها دوني، فإن صنتها لي ووفرتها على من أساء الاختيار؛ ولا
أعدم أنصاراً من الأحرار، أسعد بمؤازرتهم ومكاشفتهم، وأستغني بنفسي عنهم.
وقد كتبت في هذا المعنى بأبيات هي لما قبلها ولما يكون بعدها، فرأيك في تفهمها
نفعك الله بها:
أبلغ أبا العيناء إن لاقـيتـه |
|
قولاً يكون لدائه حسـمـا |
نبئت أنّك في المغيب تسبّني |
|
وإذا التقينا كنت لي سلمـا |
فتروم هجوي جاهداً ونقيصتي |
|
سفهاً أراه بـادياً حـلـمـا |
لا تغتنم لحمي فليس بـأكـلة |
|
واعلم بأنك واجدٌ لـحـمـا |
إني أُعيذك أن تكـون رمـيّةً |
|
لسهام رامٍ إن رمى أصمـى |
شتم ورد
وشتم أبا علي البصير بعض الطالبيين، فقال: إنا والله ما نعيا من جوابك، ولا نعجز عن مساءتك، ولكنا نكون خيراً لنسبك منك، ونحفظ ما أضعفت، فاشكر توفير ما وفرنا منك، ولا يغرنك بالجهل علينا حلمنا عنك.
من شعر أبي علي البصير
وأبو علي هو القائل:
ألّمت بنا يوم الـرحـيل اخـتـلاسة |
|
فأضرم نيران الجوى النظر الخلس |
تأبّت قليلاً وهـي تـرعـد خـيفةً |
|
كما تتأبّى حين ترتعد الـشـمـس |
فخاطبها صمتي بما أنا مـضـمـرٌ |
|
وأبلست حتى لست يسمع لي حـسّ |
وولّت كما ولّى الشـبـاب لـطـيّة |
|
طوت دونها كشحاً على يأسها النّفس |
وقال يمدح الفتح بن خاقان:
سمعنا بأشعار الملوك فكـلّـهـا |
|
إذا عضّ متنيه الثـقـاف تـأوّدا |
سوى ما سمعنا لامرىء القيس إنه |
|
يكون إذا لم يشعر الفتح أوحـدا |
أقام زماناً يسمع القول صامـتـاً |
|
ونحسبه إن رام أكدى وأصـلـدا |
فلما امتطاه راكباً ذلّ صـعـبـه |
|
وسار فأضحى قد أغار وأنجـدا |
وقال يصف ليلة مطر:
وليلة عارض لا نوم فـيهـا |
|
أرقت لها إلى الصبح الفتيق |
حمى فيها الكرى عيني ببيتٍ |
|
كأنّ سماءها عين المشـوق |
تواصلت السحائب وهو بـيتٌ |
|
وصدّت وهو قارعة الطريق |
وهذا كقول ابن المعتز:
روينا فما نزداد يا ربّ مـن حـياً |
|
وأنت على ما في الضمير شهيد |
سقوف بيوتي صرن أرضاً أدوسها |
|
وحيطان داري ركّعٌ وسـجـود |
من نوادر اللصوص
ذهبت ثياب رجل في الحمام، فجعل يقول: أنا أعلم، أنا أعلم، واللص يسمعه؛ ففزع وظن أنه قد فطن به؛ فردها. وقال له: إني سمعتك تقول: أنا أعلم، فما الذي تعلم ? قال: أعلم أنه إن عدمت ثيابي مت من البرد.
مستميح ولص
زار رجل الخصيب بن عبد الحميد وهو أمير على مصر مستميحاً فلم يعطه شيئاً فانصرف. فأخذه أبو الندى اللص وكان يقطع الطريق فقال: هات ما أعطاك الخصيب. قال: لم يعطني شيئاً، فضربه مائتي مقرعة يقرره على ما ظن أنه ستره عنه. ثم قدم على الخصيب بعد ذلك زائراً فلم يعطه شيئاً: فقال: جعلت فداك ! تكتب إلى أبي الندى أنك لم تعطني شيئاً لئلا يضربني، فضحك ووصله.
من طرائف الأجوبة
ومر سالم بن أبي العقار بمحمد بن عمران
الطلحي وكان سالم أحد المجان فقال له سالم: هذه الشيبة والهيئة الحسنة والخضاب،
ولا تنزع عما أنت فيه !! فقال: يا أبا سليمان؛ إني لأهم بذلك، فإذا مررت بمنزل ابن
عمك طلحة بن بلال فرأيت على حاله لم يخسف به علمت أن في الأمر فسحة بعد.
ولما مرض أبو نواس دخل عليه الجماز يعوده. فقال: اتق الله، فكم من محصنة قد قذفت،
ومن سيئة قد اقترفت، وأنت على هذه الحال؛ فتب قبل الموت. فقال: صدقت. ولكن لا أفعل
! قال: ولم ? قال: مخافة أن تكون توبتي على يد واحد مثلك.
وقال الجماز: أراد أن يكتب أبو نواس إلى إخوان له دعاهم، فلم يجد قرطاساً يكتب فيه
! فكتب في رأس غلام له أصلع ما أراد، ثم قال فيه: فإذا قرأت كتابي، فأحرقوا
القرطاس. فضحكوا منه وتركوا للغلام جلدة رأسه.
نوادر لابن الجصاص
تقدم الوزير علي بن عيسى إلى ابن أبي عبد
الله بن الجصاص في البكور، فأتاه نصف النهار. فقال: ما أخرك يا أبا عبد الله ? قال
بمحلتي أعز الله الأمير كلاب تنبح الليل أجمع، فأسهرتني البارحة، فلما كان مع وجه
السحر سكن نباحها، فنمت فغلبتني عيني إلى الآن، فقال له: وما لك يا أبا عبد الله
لا تتقدم في قتلها ? قال: ومن يستطيعها أيها الوزير ? وكل واحد منها مثلي ومثل
أبيك رحمه الله.
وخرجت يده من الفراش في ليلة باردة، فأعادها إلى جسده بثقل النوم فأيقظته،
فقبض عليها بيده الأخرى، وصاح: اللصوص اللصوص ! هذا اللص جاء ينازعني وقد قبضت
عليه، أدركوني لئلا يكون في يده حديدة يضربني بها، فجاءوا بالسراج فوجدوه قد قبض
بيده على يده.
ودخل على ابن له وقد احتضر، فبكى عند رأسه، وقال: كفاك الله يا بني الليلة مؤنة
هاروت وماروت. قالوا: وما هاروت وماروت ? قال: لعن الله النسيان، إنما أردت يأجوج
ومأجوج. قالوا: وما يأجوج ومأجوج ? قال: فطالوت وجالوت. قالوا: فلعلك أردت منكراً
ونكيراً. قال: والله ما أردت إلا غيرهما !! يريد ما أردت غيرهما.
وغفل عنه أهله يوماً فسمعوا صياحه؛ فأتوه فوجدوه في بيت كالميت. فقالوا: ما لك ?
قال؛ فكرت في كثرة مالي وشدة مصادرة السلطان للتجار في هذا الوقت وتعذيبه لهم
بالتعليق، فعلقت نفسي ونظرت كيف صبري، فزحلت فلم أتخلص حتى كدت أموت.
وهذه الحكايات عن ابن الجصاص تنسب إلى غيره، والمحدثون مختلفون في حكاياتهم
ومضطربون في رواياتهم.
وكان المعتضد إذا رأى ابن الجصاص يقول: هذا الأحمق المرزوق ! وكان أوسع الناس
دنيا، له من المال ما لا ينتهى إلى عده، ولا يوقف على حده. وبلغ من جده أنه قال:
تمنيت أن أخسر، فقيل لي: اشتر التمر من الكوفة وبعه بالبصرة، ففعلت ذلك؛ فاتفق أن
نخل البصرة لم يحمل في ذلك العام؛ فربحت ربحاً واسعاً.
وكان المعتضد لما زفت إليه قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون بعث أبوها إلى
ابن الجصاص مائتي ألف دينار، وكتب إليه قد جهزناها بما قدرنا عليه، وبالعراق طرائف
لم تصل إلى أيدينا، فاشتر ما تراه؛ فاحتجز المال ولم يسأل عنه.
وكان ابن المعتز لما خلع المقتدر لم يقم في الخلافة إلا يومين غير تامين، ثم اضطرب
حبله، فهرب إلى دار بن الجصاص فأخرج منها، أخرجه المقتدر بعد أيام إلى القضاة
والعدول ميتاً.
سبب طلب ابن المعتز للخلافة
وكان سبب طلب ابن المعتز للخلافة: أن
المقتدر وهو جعفر بن المعتضد وأمه أمة سوداء واسمها شعب لما استخلف أرجف الناس فيه
وتكلموا في أمره. وقالوا: كيف يلي الخلافة من لم يبلغ الحلم ? وكانت سنه يومئذ
ثلاث عشرة سنة وشهراً وعشرين يوماً، وقالوا: لا بد من خلعه لأنه سادس.
قال الصولي: وقد جرى في السادس أمر طريف من الاتفاق؛ وذلك أن الله تبارك وتعالى
أورث الأرض سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين بعه
أربعة. واستخلف بعد علي رضي الله عنه الحسن ابنه وهو السادس فخلع. وسلم الأمر إلى
معاوية ثم إلى يزيد بن معاوية ثم إلى معاوية بن يزيد ثم مروان بن عبد الحكم ثم عبد
الملك بن مروان ثم بويع ابن الزبير في أيامه أو بعدها وهو السادس فخلع، ثم انقضت
دولة بني أمية ولم يكمل بعد الوليد ستة، وإنما ولي يزيد بن الوليد الناقص وإبراهيم
بن الوليد بن مروان ومروان بن محمد وهو آخر ملوك بني أمية. ثم استفتح ملك بني
العباس بأبي العباس السفاح وأبي جعفر المنصور ومحمد بن المنصور المهدي وموسى
الهادي بن المهدي وهارون الرشيد بن المهدي والأمين بن الرشيد بن المهدي وهو السادس
فخلع، ثم ولي المأمون بن الرشيد والمعتصم أخوه والواثق بن المعتصم والمتوكل بن
المعتصم والمنتصر بن المتوكل والمستعين أحمد بن المعتصم فخلع وهو السادس.
قلت أنا: وولي القاهر محمد بن المعتضد والراضي أبو العباس بن المقتدر والمتقي أبو إسحاق بن المقتدر والمستكفي والمطيع الفضل بن جعفر المقتدر والطائع أبو بكر عبد الكريم بن المطيع وهو السادس فخلع. وولي بعده أبو العباس القادر وهو الخليفة في هذا الزمان، وكان الإرجاف في أول ولاية المقتدر شديداً من الخاصة والعامة، فلما قتل العباس وزيره أخذ محمد بن داود بن الجراح البيعة على الناس لعبد الله بن المعتز، ووجه إلى القضاة والعدول، فاجتمع من القواد وغيره زهاء خمسة آلاف سوى الأتباع، فأظهر لهم محمد بن داود عبد الله بن المعتز، وكتب كتاباً خلع فيه المقتدر، واحتج بأن إمامته لا تجوز لقصوره من بلوغ الحلم وصغره عن الخلافة، واستحقاق عبد الله إياها لكماله وحنكته ومعرفته في أمور المسلمين وعلمه بشرائع الدين، فشهد العدول على ما في الكتاب ومن حضر من أشراف بغداد، وبايعوا ابن المعتز ولقبوه المنتصف، ويقال الراضي، ويقال القائم بالحق، وتقلد ابن الجراح الوزارة، وتكلم عبد الله بن المعتز وذكر المقتدر وأنه لا صلاة للناس معه ولا حج ولا غزو. وقال: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، وقام وكيع فقرظه وذكر محاسنه وذكر شعر أبي العتاهية في هارون الرشيد وهو:
أتته الخلافة مـنـقـادةً |
|
إليه تـجـرّر أذيالـهـا |
فلم تك تصـلـح إلاّ لـه |
|
ولم يك يصلح إلاّ لـهـا |
ولو رامها أحـدٌ غـيره |
|
لزلزلت الأرض زلزالها |
ولم يبق في دار المقتدر حينئذ إلا نفر
يسير، وهر بعضهم إلى ابن المعتز، فسعى مؤنس الخازن وسوسن في نقض هذا العقد في
اليوم الثاني، وجددا للناس بيعة المقتدر، وأخرجا الأموال فزادا في الأعطية، فانجفل
الناس إليهما، ولم يبق مع ابن المعتز أحد؛ فهرب إلى دار ابن الجصاص، وهذا خبر طويل
ليس هذا موضع استقصائه. ثم خلع المقتدر بعد ذلك وقتل في الحرب، ولم يقتل في
الإسلام خليفة بين الصفين غيره.
ولما ظهر ابن المعتز ميتاً رثاه الناس؛ فقال ابن بسام:
للّه درّك من ميت بـمـضـيعة |
|
ناهيك في العلم والآداب والحسب |
ما فيه لوٌّ ولا ليت فتـنـقـصـه |
|
وإنما أدركـتـه جـرفة الأدب |
وطولب ابن الجصاص بالتجائه إليه، وأراد المقتدر قتله. فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ابن عمك، وقد لجأ إلى داري، وأنا غائب عنها، فكتمت أمره لعل رأيك يحسن فيه، ولست بمضاد في خلافة ولا قادح في مملكة، وقتلي لا ينفعك؛ وفي حياتي لك فائدة. قال: وما فائدة حياتك ? قال: أدفع إليك كل يوم ألف دينار؛ فترك ووفى في ذلك مدة.
رثاء ابن بسام لابن المعتز
وقد استحسن لابن بسام رثاؤه لابن المعتز على سوء رأيه فيه ومهاجاته له.
كتاب للبديع في مرض الخوارزمي
وقد أحسن بديع الزمان في هذا المعنى كل الإحسان، وقد كتب إليه إبراهيم بن أحمد بن حمزة يهنئه بمرض أبي بكر الخوارزمي وكان بينهما من المهاجاة والمهاترة والمنازعة والمنافرة ما يطول به الشرح: الحر أطال الله بقاءك لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإذا وجدت فهي عواري، وأن محن الأيام وإن مطلت فتستنفد، وإن لم تصب فكأن قد؛ فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه. والشامت إن أفلت فليس يفوت. وإن لم يمت فسوف يموت، وما أقبح الشماتة بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقيب كل لفظة، والدهر غرثان طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أو يسر العاقل بسلاح قاتله ? وهو الفاضل شفاه الله، وإن ظاهرنا بالعداوة قليلاً، فقد باطناه وداً جميلاً، والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد؛ فلا تتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته، وقاه الله المكروه، ووقاني الله سماع المكروه فيه.
الخوارزمي رافضي
وكان الخوارزمي رافضياً غالياً؛ أخبرني من رآه بنيسابور وقد خرج سكران وقد كظه الشراب فطلب فقاعاً فلم يجده، فقال: أيعوزني الفقاع لما طلبته. فإذا كان يهتف بهذه الجملة لغير علة، فكيف به مع تفزيع العلل، وتوسيع الأمل، ممن يطابقه على كفره، ويوافقه في سره. وكان فاحشاً بذيئاً، مستخفاً جريئاً على ذوي الإنعام عليه، والإحسان إليه، قال إسماعيل بن عباد لما بلغه موته:
سألت بريداً من خراسان مـقـبـلاً |
|
أمات خوارزميكم ? قال لي: نعم ! |
فقلت اكتبوا بالجصّ من فوق قبره |
|
ألا لعن الرحمن من يكفر النّـعـم |
وسع قبيح في جبهة الخوارزمي
وكان هجا بعض الملوك فظفر به فوسمه في جبهته سطرين فيهما شطران بأقبح هجاء، فكان يشد العمامة على حاجبيه ستراً عليهما. ولذلك قال البديع في مناظرته إياه وقد ذكر مجلساً طويلاً غنى المغني بحضرتنا:
وشبهنا بنفسج عـارضـيه |
|
بقايا اللطم في الخدّ الرقيق |
فقال للحاضرين: أنا أروي الشعر الذي منه هذا البيت وهذا لا يرويه. فقلت: روايتي تخالف روايتك، وإذا أنشدتكها على روايتي ساءتك في استماعها، ولم يسرك مصنوعها. قال: وكيف روايتك ? قال قلت:
وشبهنا بنفسـج عـارضـيه |
|
بقايا الوسم في الوجه الصفيق |
فلما أضجرته النكتة، أخذته السكتة، فخمدت ناره، ووقف حماره.
بين البديع والخوارزمي
وكان البديع رحمه الله، وهو أبو الفضل أحمد بن الحسين: قد أشرقه بريقه، ووعر عليه ما سهل من طريقه. وكان الخوارزمي يرميه ببغض علي رضوان الله عليه، ويشنع علي بذلك ويغري به الطالبيين:
يقولون لي لا تحبّ الوصـيّ ? |
|
فقلت الثّرى بـفـم الـكـاذب |
أُحبّ النـبـيّ وآل الـنـبـيّ |
|
وأختـص آل أبـي طـالـب |
وأُعطي الصحابة حقّ الـولاء |
|
وأجري على سنن الـواجـب |
فإن كان نصباً ولاء الجـمـيع |
|
فإني كما زعموا نـاصـبـي |
وإن كان رفضاً ولاء الوصـيّ |
|
فلا برح الرّفض من جانبـي |
فللّه أنـتـم وبـهـتـانـكـم |
|
وللّه من عـجـب عـاجـب |
وإن كنتم مـن ولاء الـوصـيّ |
|
على العجب كنت على الغارب |
يرى اللّه سرّي إذا لـم تـروه |
|
فلم تحكمون علـى الـغـائب |
ألا تبصرون لـرشـدٍ مـعـي |
|
ولا تهتدون إلـى الـلّـه بـي |
أعزّ الـنـبـيّ وأصـحـابـه |
|
فما المرء إلاّ مع الصـاحـب |
أيرجو الشفاعة من سبّـهـم ? |
|
بل المثل السوء لـلـضـارب |
حنانـيك مـن طـمـع بـاردٍ |
|
ولـبـيك مـن أمـلٍ كـاذب |
له في المكاره قلب الجـبـان |
|
وفي الشبهات يد الـحـاطـب |
كتاب البديع إلى بعض الرؤساء
وكتب البديع إلى بعض الرؤساء وذكر الخوارزمي: ما ألوم هذا الفاضل على نشر شر طواه، وموقد حرب اجتواه، ولكني ألومه على ما نواه، ولم يتبع فيه هواه، ورامه، ولم يبلغ تمامه. وأقول: قد ضرب فأين الإيجاع ? وأنذر فأين الإيقاع ? وهذه بوارقه، فأين صواعقه ? وذاك وعيده، فأين عديده ? وتلك بنوده، فأين جنوده ? وأنشد:
هذي معاهده فأين عهود |
ما أهول رعده، لو أمطر بعده ! اللهم لا كفران، أراه أشفق لغريب أن يظهر عواره، وإن طار طواره، فإن كان قصد هذا القصد فقد أساء إلى نفسه من حيث أحسن إلي، وأجحف بفضله من حيث أبقى علي، وأوهم الناس أنه هاب البحر أن يخوضه، والأسد أن يروضه، وشجعني عن لقائه، بعد أن فزعن بإيمائه، فبينا كنت أنشد: إن جنبي عن الفراش لنابي إذ أنشدت: طاب ليلي وطاب فيه شرابي، وبينا كنت أقول: ما لقلبي كأنه ليس مني إذ قلت: أين من كان موعداً لي بأني.
من مساجلات البديع والخوارزمي
وبين البديع والخوارزمي مراسلات ومساجلات،
ومجالس ظريفة ومقامات، في ابتداء وجواب، أخذت بوصل الحكمة وفصل الخطاب، ومن الهزل
والجد.
فمن ظريف ما لأبي بكر من رسالة طويلة يهزأ بها بالبديع: تواضع لنا رحمك
الله، فإن التواضع خلق من أخلاق السلف، وشبكة من شباك الشرف، وتصدق علينا ببشرك،
فإن الله يجزي المتصدقين، وأحسن فإن الله يحب المحسنين، ولاين إخوانك في قولك
وفعلك، ولو كنت فظاً غليط القلب لانفضوا من حولك. ولولا أني رحمك الله لا أقول
بالرجعة، ولا أذهب مذهب التناسخية، لظننت أنك يونس بن فروة إذ قيل فيه:
أمّا ابن فروة يونـس فـكـأنـه |
|
من كبره ذاك الحمار الـقـائم |
ما الناس عندك غير نفسك وحدها |
|
والناس عندك ما عداك بـهـائم |
فلقد أعجبت بنفسك الخسيسة التي لا تستحق
العجب، وأحببت ما لا يساوي الحب، حتى كأن كسرى أنو شروان حامل غاشيتك، وكأن قارون
وكيل نفقتك، وحتى كأنك بنيت منارة الإسكندرية من آجر دارك، وشدت ملعب سليمان من
بقايا رخام صحنك؛ وكأن خاتم الدنيا في خصرك، وحساب خرجها ودخلها في بنصرك، وحتى
كأن الشمس تطلع من جبينك، والغمام يندى من يمينك، وكأن كسرى أنو شروان صاحب نفقة
إصطبل دوابك، ونمرود بن كنعان قهرمانك على ولدك وأهلك، وحتى كأن الكبريت الأحمر
خزف دارك، والدرة اليتيمة في أخس سوارك.
رحمك الله ! دع لليونانية من الحكمة ما ينفق به سوقهم، واترك لبني العباس من
التملك ما تمشي به أمورهم، وأبق للشمس والقمر من الحسن بمقدار ما يلوحان به،
ويطلعان فيه؛ وانظر إلى النساء من وراء حجاب، ومن خلف برقع، وإلا خرجن في عشقك من
ستر الله، وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله، ولا تحمل الحرائر على خشونة الطلاق، ولا
تذق المماليك مرارة العناق.
رحمك الله ! لي حوائج إن قضيتها فقد تسلفت شكري وثنائي، وإن رددتني عنها فقد رأيت
أنموذج سخطي وشكواي، قد اتفق الناس على ضياع النسخة الأولى من كتاب العين فأملها
علينا رحمك الله ! والكيمياء فقد أنفقت فيها الأموال، وتعب فيها الرجال، ثم لم
يحصوا منها إلا على مواعيد مزخرفة، وأماني مسوفة، فما عليك لو علمتناها، وأغنيت
الفقراء، وزدت الأغنياء، وأرحت الناس من الضرب في البلاد، ومن الكد والاجتهاد، ومن
أن يخدم فقير غنياً، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
والزيج الأكبر فقد انقطع أصله، ومات أهله، وهو من مفاخر الروم علينا، ومن محاسنهم
دوننا. فاعمل على إصلاحه، ولا تدع النصارى يفضلون المسلمين في إبداعه. ومسجد دمشق
فهو حسنة يباهي أهل المغرب أهل المشرق، فابن لنا مثله، ولا تثبت علينا فضله؛ فإنما
هي ساعة من هندستك، وجزء نستعمله من أجزاء حكمتك.
أنا لو سلمت أنك إنسان لنفيت عن نفسي الإنسانية، وقضيت عليها بالبهيمية، وصرت أعلى
منك في النقص حكمة، وفي الجهل طبقة. وإذا أردت أن تعلم أني في ذمك جاد، وفي مدحك
لاعب، وفي الشهادة عليك صادق، وفي الشهادة لك كاذب، فانظر إلى تهافت كلامي إذا
لاينتك وجاملتك، وإصابتي الغرض وحزي المفصل إذا كاشفتك وباينتك، وذلك أن الصادق
معان مأخوذ بيديه، والكاذب مخذول مغضوب عليه، وما كان الله ليوفقني وأنا أجامل من
لا يعرف قط إجمالاً ولا تجميلاً، وأفضل من لم يناسب مذ كان إفضالاً ولا تفضيلاً.
وليس يخفى عليك أكرمك الله تطاول أهل العراق بعبد الله بن هلال الهجري صديق إبليس؛
فأرنا رحمك الله من عجائب صنعتك، ولطائف شعبذتك، وأظهر من كتبك ما تحاكي به كتب
اليونانية، وتكسد شعرهم وتهدم فخرهم؛ فإن إبليس تلميذ لك، تعلم منك وأخذ عنك؛
وشتان بين من يدعي أن إبليس من أعوانه، وبين من يدعي أنه من غلمانه. وهل استنظر
إبليس إلى يوم الوقت المعلوم إلا ليدرك زمانك، ويرى برهانك، أي وفقدك فلا شيء أعز
علي منه ! ولا أحسن في عني، أما سمعت قول علي بن جبلة في أبي دلف:
إنما الدّنيا أبو دلـفٍ |
|
بين بادية ومحتضره |
فإذا ولّى أبو دلـفٍ |
|
ولّت الدّنيا على أثره |
إلا غضبت عليه، واعتقدت أنه أخذ صفتك، وأعار أبا دلف مدحتك، ولا سمعت قوله:
إما الدّنيا حـمـيدٌ |
|
وعطاياه الجسـام |
فإذا ولّى حـمـيدٌ |
|
فعلى الدنيا السلام |
إلا تمنيت لو عرفت قبره فرجمته، أو عرفت بيته فهدمته، ولا سمعت قول ليلى الأخيلية:
فتى كان أحيى من فتاة حيّية |
|
وأشجع من ليث بخفّان خادر |
إلا قلت: كيف لو رأت ليلى أخانا، فتعلم أين دعواها من دعوانا. ولا أنشدت قول أبي السعلاء في الرشيد:
أغيثاً تحمل النـاق |
|
ة أم تحمل هارونا |
أم الشمس أم البدر |
|
أم الدنيا أم الدينـا |
فإني والله أتعجب حين قاله في غيرك، كيف لم ترم جهنم بشرارها، والشياطين بأحجارها، وأعجب من قول من قال في معن بن زائدة:
مسحت معدّ وجه معنٍ سابـقـاً |
|
لما جرى وجرى ذوو الأحساب |
كيف يسبق غيرك في حلبة وأنت في عدادها، أم
كيف يكون غيرك سابق جيادها ? أنت أيدك الله بين هؤلاء الشعراء مرحوم مظلوم، سلبوك
علاك وهي حلاك، ونحلوها قوماً سواك، والمدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم.
وهي طويلة جداً، مر له فيها إحسان كثير. وإنما احتذى في أثرها مثال رسالة أبي
عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لأحمد بن عبد الوهاب المعروفة برسالة الطول والعرض وتعرف
برسالة التوسع والتدوير ورسالة المفاكهات، واتبع أيضاً طريق أبي الفضل بن العميد
في رسالته لابن سمكة النحوي.
بين الخوارزمي والبديع
وقد جمع بديع الزمان جوامع ما جرى بينه
وبينه في كتاب أنفذه إلى بعض الأشراف، أنا أكتب منه ها هنا قطعة على اختصار، وهو
وإن كان طويلاً فليس مملولاً، لما ألبسه من حلل البلاغة، وحلل البراعة، وجدته في
الآذان، وحلاوته في الأذهان؛ وفيه أنواع تنفتح لها الأسماع، وتنشرح لها الطباع،
مما ألف هذا الكتاب له من الملح الظريفة، والفكاهات الشريفة.
وأولها: سأل السيد أمتع الله ببقائه إخوانه أن أملي جوامع ما جرى بيننا وبين أبي
بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرة، ومنافرة أخرى، وموادعة أولاً، ومنازعة
ثانياً، إملاء يجعل الأسماع له عياناً؛ فتلقيته بالطاعة، على حسب الاستطاعة، ولكن
للقضية سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها، وسأسوق بعون الله صدر
حديثنا إلى النجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز: وأولها: إنا وطئنا خراسان، فما
اخترنا إلا نيسابور داراً، وإلا جوار السادة جواراً، لا جرم إنا حططنا بها الرحل،
ومددنا عليها الطنب، وقديماً كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبر به ونخبره
على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة
على القشرة، وفي المودة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب
نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع.
أجارتنا إنّا غريبان ها هنـا |
|
وكلّ غريبٍ للغريب نسيب |
فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك
التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في ذلك الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه
استحقاق، من بزة بزوها، وفضة فضوها، وذهب ذهبوا به. ووردنا نيسابور براحة أنقى من
الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم، بل اطلاعة الرقيب، فما
حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره، هذا بعد رقعة قدمناها، وأحوال أنس
نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه، سقانا الدردي من أول دنه، وأجنانا سوء العشرة من
باكورة فنه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف
بأمره؛ لكنا أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جاذب؛ وواصلناه
إذ جانب، ولبسناه على خشونته، وشربناه على كدورته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي
استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم مناده، بما
هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه
إذ وجده يضرب إليه آباط القلة، في أطمار الغربة؛ فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة،
وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في
صدر القيام، ومضغ للكلام، وتكلف لرد السلام.
وقد قبلت ترتيبه صعراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله
عذراً، فإنما المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال،
أتقذر صف النعال. فلو أني صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إن بوادينا ثاغية
صباح، وراغية رواح، وناساً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف:
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم |
|
وأنديةٌ ينتابها القول والفعـل |
فلو طرحت بأبي بكر إليهم طوائح الغربة
لوجد منال البشر قريباً، ومحط الرحل رحيباً، ووجه المضيف خصيباً.
ورأي الأستاذ أبي بكر أيده الله في الوقوف على هذا العتاب الذي معناه ود، والمر
الذي يتلوه موفق إن شاء الله تعالى.
فأجاب بما في نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم: وصلت رقعة سيدي ورئيسي، أطال الله
بقاءه، إلى آخر السكباج، وعرفت ما تضمنه من خشن خطابه، ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك
منه إلى الضجرة التي لا يخلو منها من مسه عسر، ونبا به دهر، والحمد لله الذي جعلني
موضع أنسه، ومظنة مشتكى ما في نفسه.
أما شكاة سيدي ورئيسي من مضايقتي إياه كما زعم في القيام، فقد وفيته حقه أيده الله
سلاماً وقياماً على قدر ما قدرت عليه، ووصلت إليه، ولم أرفع عليه إلا السيد أبا
البركات العلوي، وما كنت لأوثر أحداً على من أبوه الرسول وأمه البتول، وشاهده
التوراة والإنجيل، وناصره التأويل والتنزيل، والبشير به جبريل وميكائيل. فأما
القوم الذين صدر عنهم سيدي فكما وصف: حسن عشرة، وسداد طريقة، وكمال تفصيل وجملة،
ولقد جاورتهم فأحمدت المراد، ونلت المراد:
فإن أك قد فارقت نجداً وأهله |
|
فما عهد نجدٍ عندنا بـذمـيم |
والله يعلم نيتي للأحرار كافة، ولسيدي من بينهم خاصة؛ فإن أعانني على بعض ما في نفسي بلغت له بعض ما فيه النية، وجاوزت به مسافة القدرة، وإن قطع علي طريق عزمي بالمعارضة، وسوء المؤاخذة، صرفت عناني عن طريق الاختيار، بيد الاضطرار:
وما النفس إلاّ نطفةٌ بـقـرارةٍ |
|
إذا لم تكدّر كان صفواً غديرها |
وبعد: فحبذا عتاب سيدي إذا استوجبنا
عتباً، واقترفنا ذنباً؛ فأما أن يسلفنا العربدة، فنحن نصونه عن ذلك، ونصون أنفسنا
عن احتماله؛ ولست أسومه أن يقول: استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين. ولكني أسأله
أن يقول: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين.
فحين ورد الجواب، وعين العذر رائدة تركناه بعره، وطويناه على غره وعمدنا لذكره
فسحوناه، ومن صحيفتنا محوناه؛ وصرنا إلى اسمه فأخذناه ونبذناه، وربكنا خطته،
وتجنبنا خطته، فلا طرنا إليه ولا طرنا به. ومضى على ذلك الأسبوع ودبت الأيام،
ودرجت الليالي، وتطاولت المدة، وتصرم الشهر، وصرنا لا نعير الأيام ذكره، ولا نودع
الصدور حديثه، وجعل هذا الفاضل يستزيد ويستعيد، بألفاظ تقطفها الأسماع من لسانه،
وتوردها إلي، وكلمات تحفظها الألسنة من فمه وتعيدها علي، فكاتبناه بما هذه نسخته:
أنا أرد من سيدي الأستاذ أطال الله بقاءه شرعة وده وإن لم تصف، وألبس حلة بره وإن
لم تضف، وقصاراي أن أكيله صاعاً عن مد؛ فإني وإن كنت في الأدب دعي النسب، ضعيف
السبب، سيىء المنقلب: ضيق المضطرب، أمت إلى عشرة أهله بنيقة، وأنزع إلى خدمة
أصحابه بطريقة، ولكن بقي أن يكون الخليط منصفاً في الوداد، إن زرت زار، وإن عدت
عاد. وسيدي أيده الله ناقشني في القبول أولاً، وصارفني في الإقبال ثانياً. فأما
حديث الإقبال، وأمر الإنزال، فنطاق الطمع ضيق عنه، غير متسع لتوقعه منه، وبعد،
فكلفة الفضل هينة، وفروض الود متعينة، وأرض العشرة لينة، وطرقها بينة، فلم أختار
قعود التغالي مركباً، وصعود التعالي مذهباً، وهلا ذاد الطير عن شجر العشرة، وذاق
الحلو من ثمرها؛ فقد علم الله تعالى أن شوقي إليه قد كد الفؤاد برحاً إلى برح،
ونكأه قرحاً على قرح، ولكنها مرة مرة ونفس حرة، لم تقد إلا بالإعظام، ولم تلق إلا
بالإجلال والإكرام، وإذا استعفاني من معاتبته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها،
فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرعها، ولم أعره من نفسي، وأنا أعلم لو
أني أعرت جناحي طائر لما طرت إلا إليه، ولا وقعت إلا عليه:
أحبّك يا شمس المعالي وبدرها |
|
وإن لامني فيك السّها والفراقد |
وذاك لأنّ الفضل عندك باهـرٌ |
|
وليس لأنّ العيش عندك بـارد |
فلما وردت عليه الرقعة؛ حشد تلاميذه وخدمه، وزم عن الجواب قلمه، وحبس للإيجاب قدمه، وطلع مع الفجر علينا. ونظمت حاشيتنا دار الإمام أبي الطيب. فقلت: الآن تشرق الحشمة وتنور، وتنجد في العشرة وتغور، وقصدناه شاكرين لمأتاه؛ وانتظرنا عادة بره، وتوقعنا مادة فضله، فكان خلباً شمناه، وآلاً وردناه، وصرفنا الأمر في تأخره، وتأخرنا عنه إلى ما قال عبد الله بن المعتز:
وقول آخر وقد أحسن وزاد:
وبقينا نلتقي خيالاً، ونقنع بالذكر وصالاً، حتى جعلت عواصفه تهب، وعقاربه تدب، وهو لا يرضى بالتعريض حتى يصرح، ولا يقنع بالنفاق حتى يعلن، وأفضت الحال به وبنا معه إلى أن قال: لو أن بهذا البلد رجلاً تأخذه هزة الهمم، وتملكه أريحية الكرم، لجمع بيني وبين فلان يعنيني:
وود فلان بوسطاه، بل
بيمناه، لو رحلنا وقلنا في المناخ له، وأتى بكلمات تحذو هذا الحذو، وتنحو هذا
النحو، وألفاظ أتتنا من علو، فكان من جوابنا: بعض الوعيد يذهب في البيد. وقلنا:
الصدق ينبىء عنك لا الوعيد. وقلنا: إن أجرأ الناس على الأسد أكثرهم له رؤية.
وقلنا: إنا نقتحم الخطب، ونوسط الحرب، فنردها مفحمين ونصدر بلغاء:
فإنك متى شئت لقيت منا خصماً ضخماً، ينهشك قضماً، ويأكلك خضماً، وحملناه على قول القائل:
وقلنا له:
وجعل الشيطان يثقل بذلك أجفان طرفه، ويقيم به شعرات أنفه:
واتفق أن السيد أبا
علي أدام الله عزه نشط للجمع بيننا؛ فدعاني فأجبت، وعرض علي حضور أبي بكر فطلبت
ذلك، وقلت: هذه عدة لم أزل أتنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها.
مع أصحاب عانات،
وأرباب جربانات، وسرحنا الطرف منه ومنهم في أحمى من است النمر، وأعطس من أنف
النغر، فرأينا رجالاً جوفاً، قد حلقوا صوفاً، فأمنا المعرة، ولم نخش المضرة. |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
أو أقول لك: اكتب كتاباً في المعنى الذي
أقول وأنص عليه، وأنشد من القصائد ما أريده من غير تثاقل ولا تغافل، حتى إذا كتبت
ذلك قرىء من آخره إلى أوله، وانتظمت معانيه إذا قرىء من أسفله؛ هل كنت تفوق لهذا
الغرض سهماً، أو تجيل قدحاً، أو تصيب نجحاً ? أو قلت لك: اكتب كتاباً إذا قرىء من
أوله إلى آخره كان كاتباً، وإذا عكست سطوره مخالفة كان جواباً؛ هل كنت في هذا العمل
واري الزند، قاصد القصد ? أو قلت لك: اكتب كتاباً على المعنى الذي أقترح، لا يكون
فيه معنى متصل من واو تتقدم الكلمة، أو منفصل عنها بديهة، هل كنت تفعل ? أو قلت
لك: اكتب كتاباً خالياً من الألف واللام، لا تصب معانيه إلا على قالب ألفاظه، ولا
تخرجه من جهة أغراضه، هل كنت تقف من ذلك موقفاً مشهوراً ? أو يبعك ربك مقاماً
محموداً? أو قلت لك: اكتب كتاباً أوائل سطوره كلها ميم، وآخرها جيم، على المعنى
الذي أريد، هل كنت تغلو في قوسه غلوة، أو تخطو في أرضه خطوة ? أو أقول لك: اكتب
كتاباً يخلو من الحروف العواطل، هل كنت تحظى منها بطائل ? أو تبل لهاتك بناطل ? أو
أقول لك: اكتب كتاباً إذا قرىء معوجاً، أو سرد معرجاً، كان شعراً، هل كنت تقطع في
ذلك شعراً ? بلى، والله تصيب ولكن من بدنك، وتقطع ولكن من ذقنك.
أو أقول لك: اكتب كتاباً إذا فسر من وجه كان مدحاً، وإذا فسر من وجه آخر كان قدحاً،
هل كنت تقدر على هذه العمدة ? أو تخرج من هذه العهدة ? أو أقول لك: اكتب كتاباً
كنت قد حفظته من دون أن لحظته، هل كنت تثق من نفسك به ? بل است البائن أعلم.
فقال أبو بكر: هذه الأبواب شعبذة فقلت: وهذا القول طرمذة، فما الذي تحسن أنت من
الكتابة وفنونها، حتى أباحثك عن مكنونها، وأكاثرك بمخزونها، وأثير فيها قلمك،
وأسبر لسانك وفمك. فقال: الكتابة التي يتعاطاها أهل الزمان، المتعارفة بين الناس.
فقلت: أليس لا تحسن من الكتابة إلا هذه الطريقة الساذجة، وهذا النوع الواحد
المتداول بكل قلم، المتناول بكل يد وفم، ولا تحسن هذه الشعبذة.
فقال: نعم ! فقلت: هات الآن حتى أطاولك بهذا الحبل، وأنابلك بهذا النبل، ثم تقاس
ألفاظي بألفظاك، ويعارض إنشائي بإنشائك؛ فأقترح كتاباً يكتب في النقود وفسادها،
وفي التجارات وكسادها ووقوفها، والبضاعات وانقطاعها، والأسعار وغلائها.
فكتب أبو بكر بما نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم، الدرهم والدينار ثمن الدنيا
والآخرة؛ بهما يتوصل إلى جنات النعيم، ويخلد في نار الجحيم، قال الله تعالى:
"خُذ من أموالهم صدقةً تُطهِّرهم وتزكّيهم بها وصَلّ عليهم إنّ صلاتك سكنٌ
لهم واللّه سميع عليم". وقد بلغنا من فساد النقود ما أكبرناه أشد الإكبار؛
وأنكرناه أعظم الإنكار، لما نراه من الصلاح للعباد، وننويه من الخير للبلاد،
وتعرفنا في ذلك بما يربح الناس في الزرع والضرع إلى كلمات لم تعلق بحفظنا.
فقلت: إن الإنكار والإكبار، والبلاد والعباد، وجنات النعيم ونار الجحيم، والزرع
والضرع، قد نبت عن العد، وزلت عن اليد، وقد كتبت كما ترى بما ساوق فيه اللسان
القلم، وسابقت اليد الفم، ولا أطالبك بمثل ما أنشأت. فاقرأه ولك اليد، وناولته
الرقعة فبقي وبقيت الجماعة، وبهت وبهتت الكافة.
وهذا ما كتب البديع ارتجالاً: بسم الله الرحمن الرحيم: الله شاء أن المحاضر صدور
بها وتملأ المنابر، ظهور لها وتفرع الدفاتر، وجوه بها وتمشق المحابر، بطون لها
ترشق آثاراً، كانت فيه، آمالنا مقتضى على أياديه، في تأييده الله أدام الأمير جرى،
وإذا المسلمين ظهور عن الثقل هذا ويرفع الدين، أهل عن الكل هذا يحط أن في إليه
نتضرع، ونحن واقفة، والتجارات زائفة، والنقود صيارفة، أجمع الناس صار فقد كريماً
نظراً إلينا لينظر شيمه، مصاب وانتجعنا كرمه، بارقة وشمنا هممه، على آمالنا رقاب
وعلقنا أحوالنا، وجوه له وكشفنا آمالنا، وفود إليه بعثنا فقد نظره بجميل يتداركنا
أن ونعماءه تأييده وأدام بقاءه الله أدام الحال الجليل الأمير رأى أن وصلى الله
على النبي محمد وآله وصحبه وسلم.
فجعلت أقرؤه منكوساً، وأسرده معكوساً، والعيون تبرق وتحار. فلما فرغت من
قراءتها انقطع ظهر أحد الخصمين. وقال الناس: قد عرفنا الفاضل من المفضول، ثم ملنا
إلى اللغة والعروض والنحو والشعر والحفظ، فلما برد ضجر الناس وقاموا يفدونني
بالأمهات، ويشتمون الفرس المنبت؛ وقام أبو بكر فغشي عليه، وقمت إليه فقلت:
يعزّ عليّ في المـيدان أنّـي |
|
قتلت مناسبي جلداً وقـهـرا |
ولكن رمت شيئاً لـم يرمـه |
|
سواك فلم أطق يا ليث صبرا |
وخرجت وقد اجتمع الناس؛ فتلقوني بالشفاه تقبيلاً، وبالأفواه تبجيلاً، وانتظروا خروجه إلى أن غابت الشمس فلم يظهر أبو بكر، حتى خفره الليل بجنوده، وخلع عليه الظلام خلع بروده.
عود إلى النوادر مع الشق
كان بمصر شريف من ولد أبي العباس يعرف
بأبي جعفر الشق، شبيه بابن الجصاص في الغفلة والجد والنعمة. قال أبو القاسم بن
محمد التنوخي: بعثني أبي إليه من قرية تعرف بتلا يستقرضه عشرة أرداب قمحاً وثلاثين
زوج بقر، وكتب معي بذلك رقعة؛ فأتيت إليه وسلمت عليه ودفعت إليه الرقعة. فقال:
ذكرت أباك بخير وحرس وأسعده، فهو صاحبي وصديقي وخليطي، وأين هو الآن ? قلت: بقرية
تلا أعز الله سيدي الشريف. قال: نعم ! حفظه الله ه بالفسطاط معنا؛ وقد انقطع عنا
كذا، ما كنت أظنه إلا غائباً. قلت: لا يا سيدي هو بتلا. قال: فما لك ما قلت لي ?
فما كان سبيله أن يؤنسني برقعة من قبله. قلت: يا سيدي، قد دفعت إليك رقعته. قال:
وأين هي ? قلت: تحت البساط، فأخذها وقرأها وقال: قل لي الآن؛ كان لك أخ أعرفه حار
الرأس حاد الذهن، يحسن النحو والعروض والشعر، فما فعل الله به ? قلت: أنا هو أعزك
الله. قال: كبرت كذا، وعهدي بك تأتيني معه وأنت بزقة مخطة لعقة قردلاش. قلت: نعم!
أيد الله الشريف. قال: وما الذي جئت به ? قلت له: والدي بعثني إليك برقعة يسألك
فيها قرض عشرة أرادب قمحاً وثلاثين زوج بقر. قال: وهو الآن بالفسطاط ? قلت: لا يا
سيدي هو بتلا. قال: نعم ! وإنما ذاك الفتى أخوك ? قلت: لا، أنا هو، فهو يراجعني
الكلام، وقد ضجرت من شدة غفلته وكثرة نسيانه لما أقول له، حتى أقبل كاتبه أبو الحسين،
فقال: سل هذا الفت ما أراد. فسألني فعرفته فأخبره فقال له: نفذ له حاجته، فوقع لي
الكتاب بما أراد. وقال: تلقاني للقبض بالديوان، فشكرت الشريف ونهضت.
فقال: اصبر يا بني فقد حضر طعامنا. وقدم الطعام وفيه حصرمية غير محكمة، فرفع يده
وقال: مثل مطبخي يكون فيه مثل هذه ! علي بالطباخ، فأتى، فقال له: ما هذا العمل ?
فقال: يا سيدي؛ إنما أنا صانعٌ وعلى قدر ما أعطى أعمل، وقد سألت المنفق يشتري لي
ما أحتاج إليه فتأخر عني فعملت على غير تمكن؛ فجاء التقصير كما ترى.
فقال: علي بالمنفق فأحضر. فقال: مالي قليل ? قال: لا يا سيدي، بل عندك نعم واسعة.
قال: فما لك تضايقنا في النفقة ولا توسع كما وسع الله علينا ? قال: يا سيدي، إنما
أنفق ما أعطى، وقد سألت الجهبذ أن يدفع لي فتأخر عني. فقال: علي بالجهبذ فأتي به.
فقال: ما لك لم تدفع للمنفق شيئاً ? قال: لم يوقع لي الكاتب. فقال للكاتب: لم لم تدفع
إليه شيئاً ? فتلعثم في الكلام ولم يكن عنده جواب. فقال للكاتب: قف ها هنا فوقف،
ووقف خلفه الجهبذ، ووقف خلف الجهبذ المنفق، وخلف المنفق الطباخ. وقال: نفيت من
العباس إن لم يصفع كل واحد منكم من يليه بأكثر ما يقدر عليه، فتصافعوا.
قال: فخرجت وأنا متعجب من غباوته ودقته في هذا الحكم.
إذا ذهب الحمار بأم عمرو
ودخل عليه كاتبه أبو الحسين فوجده يبكي
بكاءً شديداً، ويقول: واإنقصام ظهراه، واهلاكاه ! فقلت: ما للشريف لا أبكى الله
عينه ? فقال: ماتت الكبيرة يريد أمه وكان باراً بها. فقلت: ماتت ? قال: نعم !
فشققت جيبي وأظهرت من الجزع ما يجب لمثلي. ثم إني أنكرت الحال إذ لم أجد لذلك
دليلاً، لا أحد يعزيه، ولا في الدار حركة؛ فبقيت حائراً حتى أتت الخادمة. فقالت:
الكبيرة تقرئك السلام، وتقول لك: إيش تأكل اليوم ? قال: قولي لها، ومتى أكلت قط
بغير شهوتك ? فقلت: يا سيدي، والكبيرة في الحياة ? فقال: وإيش تظن أنها ماتت من حق
? إنما رأيت البارحة في المنام كأنها راكبة على حمار مصري تسقيه من النيل، فذكرت
قول الشاعر: إذا ذهب الحمار بأم عمرو..... البيت المشهور.
لقد أنسيت أن أمك امرأة !
وقال أبو الحسين كاتبه: وأتيت إليه يوماً وقد مات والدتي فعرفته فبكى، وقال: ماتت كبيرتي ومربيتي، وهو كان أكبر منها بأربعين سنة. ثم قال لغلامه: يا بشرى، قم فجئني بعشرين ديناراً فأتاه بها. فقال: خذها فاشتر بعشرة دنانير كفناً وتصدق بخمسة دنانير على القبر، وأقبل يصرف الخمسة الباقية فيما يحتاج إليه من تجيزها. ثم قال لغلام آخر: امض أنت يا لؤلؤ إلى فلان صاحبنا لا يفوتك يغسلها، فاستحييت منه. وقلت: يا سيدي، ابعث خلفك فلانة جارة لنا تغسلها. قال: يا أبا الحسين، ما تدع عقلك في فرح ولا حزن، كأن حرمك ما هي حرمي ! كيف يدخل عليها من لا نعرفه. قلت: نعم ! تأذن لي بذلك. قال: لا والله ما يغسلها إلا فلان ! فقلت: وكيف يغسل رجل امرأة ? قال: وإنما أمك امرأة، والله لقد أنسيت !
خدعنا عابر الرؤيا !
وكان يوماً عند أبي بكر المادراني ثم خرج
وهو طيب الخلق، فاجتاز بابن زنبور فسمع خفق أوتار وغناء في داخل الدار، فوقف يسمع؛
فرآه غلام لابن زنبور فدخل فأعلم مولاه فخرج حافياً. وقال: يا مولاي الشريف،
تشرفني بالدخول ! قال: نعم، فدخل فقدم له طعاماً فأكل وشرب ثلاثة أقداح وغنى ثلاثة
أصوات وانصرف، فنام ليلته فلما أصبح قال: يا بشرى؛ جئني الساعة بأبي شامة العابر،
فأتاه به فقال: رأيت البارحة كأني خرجت من دار إخواني فاجتزت بدار حسنة، فسمعت خفق
العيدان، وغناء القيان، فخرج إلي صاحب الدار، فأدخلني فأفضيت إلى بستان في الساحة،
أمامه نهر جليل، في صدره شاذروان، وقد فرش المجلس بأنواع الديباج المثقل، وضربت
ستارة فيها غرائب الصور وعجائب الصنائع، وفيها قيان بأيديهن العيدان وهن يغنين
أحسن الأغاني؛ فقدم لي خوان عليه من كل الألوان فأكلت وشرب وغنيت وانصرفت.
ففسر له الرؤيا على ما يسره؛ فأمر له بخمسة دنانير، ثم مر بعد أيام بابن زنبور وهو
جالس على باب داره. فقال له: يا سيدي الشريف، ما تشرفني بعودة. قال: إذا ماذا ?
قال: تثني إلى عادة حضورك. قال: ومتى تقدم إلى ذلك ? قال: ليلة كذا. قال: وإنما
خدعنا العابر وأخذ متاعنا بالباطل ! امضوا إليه وردوا الخمسة دنانير منه؛ ثم فكر
ساعة، وقال: دعوه لعله أنفقها وهو فقير !
تشتمني غائباً وحاضراً
وشرب مرةً أخرى عند ابن زنبور الكاتب ومعه ابن المادراني، وحضر القيان فغنين أطيب غناء؛ فقام الشريف إلى قضاء الحاجة، فأتت دابة ابن المادراني فانصرف، والشريف في الخلاء، فقضى حاجته وعاد إلى موضعه، وكان ابن زنبور لما انصرف أبو بكر رجع في دسته، فالتفت إليه الشريف، وقال: يا أبا بكر؛ هذا الكلب ابن زنبور عنده مثل هذا السماع الطيب، ولا يمتعنا به كل وقت إنما يدعونا من مدة إلى مدة. فقال له ابن زنبور: هو على قدر ما يتفق له من الفراغ وهو مشتغل مع سلطانه في أكثر أيامه. قال: لا والله ! ما هو إلا كلب تجلب فاعل صانع. فقال له: أعز الله الشريف؛ أبو بكر انصرف وأنا ابن زنبور ! فقال له: اعذرني والله ما ظننتك إلا ابن المادراني ? فقال: أراك تشتمني غائباً وحاضراً !
أنا أبكر إليك
وقال له بعض أصحاب الإخشيد: أحب أن تبكر إلي بالغداة في حاجة للأمير، أيده الله، وذكر الحاجة. فقال: أنا آتيك أول الناس كلهم، فمضى وأكل وشرب أقداحاً، ونام القائلة فاستيقظ بالعشي، فقام مذعوراً؛ فلبس ثيابه، وركب إلى الرئيس؛ فاستأذن عليه فدخل، وقال: اعذرني أعزك الله فقد ضربني النوم، والله ما صليت الصبح من السرعة، ولقد آثرت المجيء إليك عليها، وأنا أستغفر الله عليها؛ فضحك حتى استلقى. وقال له: قد احتجنا إلى تأخير الأمر إلى الغد إن شاء الله. قال: فأنا أبكر إليك على كل حال، وانصرف.
من ملح الأعراب
قال بعض الرواة: خرجنا نريد البصرة فنزلنا
على ماء لبني سعد، فإذا أعرابية نائمة فأنبهناها للصلاة؛ فأتت الماء فوجدته بارداً
فتوجهت إلى القبلة قاعدة ولم تمس الماء، فكبرت ثم قالت: اللهم قمت وأنا عجلى،
وصليت وأنا كلى؛ فاغفر لي عدد الثرى. قال: فعجبنا وقلنا: ما تجوز لك الصلاة وما
هذه بقراءة ! قالت: والله إن هذه لصلاتي منذ أربعين سنة.
وقام أعرابي وقد حضرت الصلاة فقال: حي على العمل الصالح، قد قامت بالفلاح.
ثم تقدم فكبر. وقال: اللهم احفظ لي حسبي ونسبي، واردد علي ضالتي، واحفظ هملي،
والسلام عليكم.
وصلت أعرابية في شهر رمضان فقرأ الإمام السجدة فسجد وسجدت الناس؛ فخرجت تحضر
وتنادي، صعق الناس ورب الكعبة، وقامت القيامة ! وقام أعرابي يصلي وحلفه قوم جلوس،
فقال: الله أكبر ! أفلح من هب إلى صلاته، وأخرج الواجب من زكاته، وأطعم المسكين من
نخلاته، وحافظ على بعيره وشاته؛ فضحك القوم. فقال: أمن هينمتي ضحكتم ? أشهد عند
الله على عمتي أنها سمعت ذلك من فيّ مسيلمة.
وقف أعرابي يسأل فقال له رجل: يا أعرابي؛ هل لك في خير مما تطلب ? قال: ما هو ?
قال: أعلمك سورة من القرآن. فقال: لا والله؛ إني لأحسن ما إن عملت به لكفاني !?
أحسن منه خمس سور، فاستقرأته فقرأ: الحمد، والنصر، والكوثر وسكت. فقلت: هذه ثلاث،
فأين الاثنتان? قال: إني وهبتهما لابن عمي وعلمته إياهما، ولا والله لا أرجع في
شيء أبداً.
دخل أعرابي الحمام فلما أحس بوهجه أنشأ يقول:
أُدخلت في بيت لهم مهنـدس |
|
قد ضربوه بالرخام الأملـس |
فسكّ سمعي واستطار نفسـي |
|
وقلت في نفسي بالتوسـوس |
أدخلت في النار ولما أُرمس |
|
|
لأعرابي في الطلاء بالنورة
وقال أعرابي في الطلاء بالنورة:
أناسٌ عليهم كسوة لا تجنّـهـم |
|
سرابيل خضر ليس فيها بنائق |
يبيعهموها تاجرٌ لا يقـيلـهـم |
|
ببيعهم تلك السرابيل حـاذق |
ولكشاجم في ذلك
وقال أبو الفتح كشاجم:
ومجرّد كالسيف أسلم نفـسـه |
|
بمجرد يكسوه ما لا ينـسـج |
ثوباً تمـزّقـه الأنـامـل رقةً |
|
ويذوب من نظر العيون وينهج |
فكأنه لما استقلّ بـجـسـمـه |
|
نصفان ذا عاجٌ وذا فـيروزج |
ومن نوادر الأعراب
وهب سليمان بن أبي جعفر لأعرابي كساء شامية؛ فلما أتى أهله وأبصره صبيانه تطايروا فزعاً من بين يديه، وقالوا: لقد أصابت أبانا داهية، فأنشد:
طرحت عمامتي ولبست تاجاً |
|
على عنقي له ذنبٌ طـويل |
تصايح صبيتي لـمّـا رأوه |
|
وقالوا جاء سعلاةٌ وغـول |
قيل لأعرابي: أتعرف أبا عمرة يريد الجوع ?
قال: وكيف لا أعرفه وهو متربع على كبدي? وقيل لآخر: أتتخمون ? قال: وما التخمة ?
إن كانت التي يدور منها الرأس فما تفارقنا يريد الجوع.
ومر أعرابي بمرآة ملقاة في مزبلة، فنظر وجهه فيها، فإذا هو سمج بغيض، فرمى بها
وقال: ما طرحك أهلك من خير.
ونظر مزيد وجهه في المرآة فرآه قبيحاً. فقال: الحمد لله الذي لم يحمد على المكروه
سواه.
والشيء يذكر بما قاربه.
من هجاء الحطيئة
رأى الحطيئة وجهه في بئر فقال:
أرى لي وجهاً قبّح الّله خلقه |
|
فقبّح من وجهٍ وقبّح حامله |
ولهذا خبر؛ ذكرت الرواة: أن الزبرقان بن بدر استعدى على الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: هجاني بقوله:
دع المكارم لا ترحل لبغيتـهـا |
|
واقعد فإنّك أنت الطاعم الكاسي |
فقال عمر: ما أرى هذا هجاءً؛ وكان أعلم بذلك من كل أحد، ولكنه أراد درء الحدود بالشبهات. فقال الزبرقان: هذا حسان بن ثابت. فقال: علي بحسان، فأنشده الشعر. فقال: ما هجاه يا أمير المؤمنين ولكن سلح عليه ! فأحضر الحطيئة، وقال: هات الشفرة أقطع لسانه ? فاستشفع فيه فحبسه، فكتب إليه من الحبس:
ماذا تقول لأفـراخٍ بـذي مـرخ |
|
زغب الحواصل لا ماءٌ ولا شجر |
غادرت كاسبهم في قعر مظلـمةٍ |
|
فاغفر هداك مليك الناس يا عمر |
أنت الإمام الذي من بعد صاحبـه |
|
ألقت إليك مقاليد النهى البـشـر |
لم يؤثروك بها إذ قدّمـوك لـهـا |
|
لكن لأنفسهم كانت لهـا الأُثـر |
فبكى عمر وأحضره. فقال: قد والله يا أمير المؤمنين هجوت أبي وامرأتي وأمي. قال: وكيف ذلك ? قال قلت لأبي:
ولقد رأيتك في المنام فسؤتني |
|
وأبا بنيك فساءني في المجلس |
وقلت لأمي:
تنحّي فاجلسي مني بعيداً |
|
أراح اللّه منك العالمينـا |
أغربالاً إذا استودعت سرّاً |
|
وكانوناً على المتحدّثينـا |
وقلت لامرأتي:
أطوّف ما أُطوّف ثم آوي |
|
إلى بيت قعيدته لكـاع |
واطلعت في بئر فرأيت وجهي قبيحاً فقلت:
أبت شفتاي اليوم إلاّ تكلّـمـا |
|
بسوءٍ فلا أدري لمن أنا قائله |
أرى لي وجهاً قبّح اللّه خلقه |
|
فقبّح من وجهٍ وقبّح حاملـه |
فتبسم عمر، وقال: فإن عفونا عنك، أتهجو
بعدها أحداً ? قال: لا يا أمير المؤمنين، وعلي بذلك عهد الله ! فقال: لكأني بفتىً
من قريش قد نصب لك نمرقة، فاتكأت عليها، وأقبلت تنشده في أعراض المسلمين. قال:
أعوذ بالله يا أمير المؤمنين.
قال بعض الرواة: فوالله لقد رأيته عند عبيد الله بن زياد على الحال التي ذكر عمر،
فقلت له: لكأن أمير المؤمنين عمر كان حاضراً لك اليوم، فتأوه. وقال: رحم الله ذلك
المرء، فما أصدق فراسته !
من مليح ما قيل في المرآة
ومن مليح ما قيل في مرآة، قول كشاجم يصف مرآة أهداها:
أخت شمس الضحى في الشكل والإش |
|
راق غير الإعـشـاء لـلأجـفـان |
ذات طوق مـشـرّف مـن لـجـينٍ |
|
أجريت فيه صـفـرة الـعـقـيان |
فهو كالهالة الـمـحـيطة بـالـبـد |
|
ر لستّ مـضـين بـعـد ثـمـان |
وعلى ظهرهـا فـوارس تـلـهـو |
|
ببـزاةٍ تـعـدو عـلـى غــزلان |
لك فـيهـا إذا تـأمّـلـت فـــألٌ |
|
حسن مخـبـر بـنـيل الأمـانـي |
لم يكن قبلهـا فـي الـمـاء جـرم |
|
حاصـرٌ نـفـسة بـغـــير أوان |
هي شمـسٌ فـإن مـثـالـك يومـاً |
|
لاح فيها فـأنـتـمـا شـمـسـان |
فالقـهـا مـنـك بـالّـذي مـا رآه |
|
خائفٌ فـانـثـنـى بـغـير أمـان |
وقال ابن المعتز:
مبيّنتي لي كلّما رمت نظـرةً |
|
وناصحتي مع فقد كلّ صديق |
يقابلني منها الذي لا عدمتـه |
|
بلجّة ماءٍ وهو غير غـريق |
أشار في البيت الأول إلى قول ذي الرمة وذكر ناقته:
لها أذنٌ حشرٌ وذفرى أسيلةٌ |
|
وخدٌّ كمرآة الغريبة أسجح |
يريد أن الغريبة لا ناصح لها، فهي تجلو مرآتها وتحافظ عليها.
ابن يونس يصف غلاماً
وقال أبو الحسن بن يونس المصري يصف غلاماً:
يجري النسيم على غلالة خدّه |
|
وأرقّ منه ما يمرّ عـلـيه |
ناولته المرآة ينظر وجـهـه |
|
فعكست فتنة ناظريه إلـيه |
وأهدى بعض الكتاب إلى رئيسه مرآة؛ فقال: من أين وقع اختيارك عليها ? قال: لتذكرني بها كلما نظرت إلى وجهك الحسن.
بين سقراط وامرأته
وقالت امرأة سقراط له: ما أقبح وجهك !
قال: لولا أنك من المرايا الصدئة لتبين لك حسن وجهي.
وكانت امرأته كثيرة الأذى له؛ أقبلت يوماً تشتمه وهو ملح ينظر في كتاب ولا يلتفت
إليها، وهي تغسل ثوباً، فأخذت الغسالة وأراقتها عليه. فقال: ما زلت تبرقين وترعدين
حتى أمطرت.
ولما مضي به ليقتل أقبلت تبكي وتصيح: وامظلوماه. فقال: أكان يسرك أن أقتل ظالماً ?
ومر هو وغيره من الحكماء بامرأة مصلوبة، فقال: ليت يثمر لنا مثل هذا الثمر.
من ملح أبي العيناء
سرق حمر أبي العيناء فتخلف عن أبي الصقر.
فقال له: ما خلفك عنا يا أبا عبد الله ? قال: سرق حماري. قال: وكيف سرق ? قال: لم
أكن مع اللص فأخبرك ! قال: ما منعك أن تأتينا على غيره. قال: أقعدني عن الشراء قلة
ذات يساري، وعن الكراء دالة المكاري، وعن الإعارة منة العواري.
وقيل له: ما بقي أحد يحب أن يلقى، قال: إلا في بئر !
الأنوف الكبيرة
وذكر له ولد عيسى بن موسى، وكانت أنوفهم
كباراً معوجة فقال: كأن أنوفهم قبور نصبت على غير القبلة.
ونظر مخنث رجلاً كبير الأنف فيه شعر. فقال: كأن أنفه كنيف مملوء شسوعاً.
قال أبو حاتم السجستاني: قدم علينا أعرابي كأن أنفه كوز في عظمه، فضحكنا منه.
فقال: أتضحكون من أنفي ? وأنا ولله ما اسمي في قومي إلا الأفطس.
وقال محمد بن عبد الملك الزيات في عيسى بن زينب:
إنّ عيسى أنف أنـفـه |
|
أنفه ضعفٌ لضعفـه |
لو تراه وهو في السر |
|
ج وقد مال بعطـفـه |
لحسبت الأنف في السر |
|
ج وعيسى مثل ردفه |
رجع إلى ملح أبي العيناء
قال أبو العيناء لابنه وهو مريض: أي شيء
تشتهي ? قال: اليتم.
وكان في مجلس إسماعيل بن إسحاق القاضي، فدخل رجل ومشى على رجله فصاح؛ فقال:
بسم الله ! قال: القصاب يذبح ويقول: بسم الله.
وكان يوماً على بابه فمر به رجل فسلم عليه وقام يمشي معه. فقال: لا تعن يا أبا عبد
الله. فقال: ما عنى من أبعدك عن داره ! وقال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في
الناس. قال: إن لي في بصري لشغلاً. قال: ذاك أشد لحنقك على أهل العافية.
وقال له المتوكل يوماً: هل رأيت طالبياً قط حسن الوجه ? قال: يا أمير المؤمنين، ما
رأيت أحداً يسأل أعمى عن هذا ! قال: لم تكن ضريراً فيما سلف، وإنما سألتك عما
تقدم. قال: نعم ! رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه، ولا ألطف
شمائل. فقال المتوكل: نجده كان مؤاجراً وكنت تقود عليه. فقال أبو العيناء: معاذ
الله يا أمير المؤمنين أتراني أترك موالي، وأقود على الغرباء ! فقال له المتوكل:
اسكت يا مأبون. فقال له: مولى القوم منهم.
وكان ولاء أبي العيناء لأبي العباس، فقال المتوكل: قاتله الله ! أردت أن أشتفي منه
فاشتفى مني.
وقال له مرة: كيف أصبحت يا أبا عبد الله ? قال: في داء يتمناه الناس.
قيل له: وكم سنك ? قال: قبضة. يريد ثلاثاً وتسعين سنة.
ويقال: إن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء مخاطبته، فدعا عليه
وعلى ولده بالعمى، فكل من عمي منهم فهو صحيح النسب. وكان قبل العمى أحول.
قال: ذكرت لبعض القينات فاستظرفتني واستحسنتني على السماع؛ فلما رأتني استقبحتني
فقلت لها:
وشاطرة لما رأتني تنكّـرت |
|
وقالت قبيح أحولٌ ما له جسم |
فإن تنكري مني احولالاً فإنني |
|
أريبٌ أديب لا غبيٌّ ولا فدم |
فقالت: أنا لم أردك لأوليك ديوان الزمام.
أبو العيناء مع المتوكل
وهذا مجلس له مع المتوكل من طريق الصولي، وله مجالس يدخل الرواة بعضها في بعض. قال الصولي: حدثني أبو العيناء قال: أدخلت على المتوكل، فدعوت له وكلمته فاستحسن كلامي، وقال: بلغني أن فيك بذاء. قلت: يا أمير المؤمنين؛ إن يكن الشر الذي بلغك عني ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله تعالى وذم؛ فقال: نعم العبد إنه أواب. وقال: هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم. وقال الشاعر:
إذا أنا لم أمدح على الخير أهله |
|
ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما |
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه |
|
وشقّ لي اللّه المسامع والفما |
وإن كان الشر الذي بلغك عني كفعل العقرب
الذي تلدغ النبي والذمي بطبع لا بتمييز؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك. قال: بلغني أنك
رافضي. قال: وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي.
وليس يخلو القوم إن كانوا أرادوا ديناً أو دنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع
المسلمون على تقديم من أخروا وإيمان من كفروا؛ وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت
وآباؤك أمراء لا دين إلا بكم، ولا دنيا إلا معكم. قال: فكيف ترى داري هذه? قال:
رأيت الناس بنوا دارهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. قال: فما تقول في
عبيد الله بن يحيى ? قال: نعم العبد لله ولك، مقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك
على كل فائدة، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذة. قال: قد أردتك لمجالستي. قال: أنا
رجل محجوب وقد تقدم هذا قال: فوصلني بعشرة آلاف درهم.
وكان نجاح بن سلمة قد ضمن الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك بمال عظيم للمتوكل؛
فاحتال عبيد الله بن يحيى حتى يضمناه بذلك وعاد عليه الأمر، ثم اغتال موسى بن عبد
الملك فقتله، فبلغ الأمر المتوكل، فأكبره وهم بالإيقاع بموسى، فتلطف عبيد الله بن
يحيى وعمه الفتح بن خاقان حتى سكن غضبه، واتفق ذلك في ولادة المعتز فاشتغل باللهو
والسرور بذلك، فدخل أبو العيناء بعد ذلك على المتوكل، وكان واجداً على موسى بن عبد
الملك ? فقال: ما تقول في نجاح بن سلمة ? قال: ما قاله الله عز وجل: فوكزه موسى
فقضى عليه. واتصل بذلك بموسى فلقيه عبيد الله بن يحيى. فقال: أيها الوزير، أردت
قتلي فلم تجد حيلةً إلا إدخال أبي العيناء على أمير المؤمنين مع عداوته لي؛ فعاتب
عبيد الله أبا العيناء على ذلك فقال: ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سريرته فيك،
فأمسك عنه.
ثم دخل بعد ذلك على المتوكل. فقال له: كيف
كنت بعدي ? فقال: في أحوال مختلفة خيرها رؤيتك، وشرها غيبتك. فقال: قد والله
اشتقتك. قال: إنما يشتاق العبد ربه؛ لأنه يعتذر عليه لقاء مولاه، وأما السيد فمتى
أراد عبده دعاه. فقال له: من أسخى من رأيت ? قال ابن أبي دواد. فقال له المتوكل:
تأتي إلى رجل قد رفضته فتنسبه إلى السخاء. قال: إن الصدق يا أمير المؤمنين ليس في
موضع أنفق منه في مجلسك، وإن الناس يغلطون فيمن ينسبونه إلى الجود؛ لأن البرامكة
منسوب إلى الرشيد، وجود الحسن والفضل ابني سهل منسوب إلى المأمون، وجود ابن أبي
دواد منسوب إلى المعتصم، وإذا نسبت الناس الفتح بن خاقان وعبيد الله بن يحيى إلى
السخاء فذاك سخاؤك يا أمير المؤمنين. قال: صدقت ! فمن أبخل من رأيت ? قال: موسى بن
عبد الملك. قال: وما رأيت من بخله ? قال: رأيته يحرم القريب كما يحرم البعيد،
ويعتذر من الإحسان كما يعتذر من الإساءة. قال: قد وقعت فيه عندي مرتين، وما أحب
ذلك لك؛ فالقه واعتذر إليه، ولا يعلم أني وجهت بك. قال: يا أمير المؤمنين؛
تستكتمني بحضرة ألف. قال: لن تخاف. قال: علي الاحتراس من الخوف. وسار إلى موسى،
فاعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه وافترقا عن صلح، فلقيه بعد أيام بالجعفري فقال له:
يا أبا عبد الله؛ قد اصطلحنا، فما لك لا تأتينا ? قال: أتريد أن تقتلني كما قتلت
نفساً بالأمس. قال موسى: ما أرانا إلا كما كنا.
وقال له المتوكل: إبراهيم بن نوح النصراني واجد عليك. فقال: ولن ترضى عنك اليهود
ولا النصارى حتى تتبع ملتهم، وقال له: إن جماعة الكتاب يلومونك. فقال:
إذا رضيت عني كرام عشيرتي |
|
فلا زال غضباناً عليّ لئامهـا |
ومن نوادره
ووقف به رجل من العامة فأحس به. فقال: من
هذا ? قال: رجل من بني آدم، قال: مرحباً بك، أطال الله بقاءك، وبقيت في الدنيا، ما
أظن هذا النسل إلا قد انقطع.
وزحمه رجل على حمار بالجسر، فضرب بيده على أذن الحمار. وقال: يا إنسان، قل للحمار
الذي فوقك يقول: الطريق ! وسئل أبو العيناء عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني
إسرائيل ونزل ذبح البقرة ما ذبح غيره. قيل: فأخوه عمر ? قال: كسراب بقيعة يحسبه
الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً. قيل: فما تقول في محمد بن مكرم والعباس
بن رستم ? قال: هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما.
وقال له ابن مكرم: إن ابن الكلبي تعجبه الرائحة الخبيثة، قال: يا سيدي؛ لو وجدك
لترشفك.
ودعا ضريراً يعشيه فلم يدع شيئاً إلا أكله. فقال له: يا هذا؛ دعوتك رحمة، فصيرتني
رحمة.
وقدم إليه أبو عيسى بن المتوكل سكباجة، فجعل لا تقع يده إلا على عظم. فقال: جعلت
فداك، هذه قدر أو قبر ?
قصيدة لابن طباطبا في دعوة
وهذا كلما ذكر ابن طباطبا العلوي وقد دعاه بعض إخوانه فتأخر عنه الطعام إلى أن اشتد به الجوع، ثم قدم إليه جدياً هزيلاً فقال:
يا دعوة مغـبّـرةً قـاتـمة |
|
كأنها من سفـرة قـادمـه |
قد قدّموا فيها مـسـيحـيةً |
|
أضحت على إسلامها نادمه |
وبعد شطرنجية لـم تـزل |
|
أيدٍ وأيدٍ حولهـا حـائمـه |
فلم نزل في لعبهـا سـاعةً |
|
ثم رفعناها على قـائمـه |
وكرر الأرز، فقال:
أرزٌّ جاء يتـبـعـه أرزّ |
|
هو الإيطاء يتّخذ اتخـاذا |
فإيطاء القريض كما علمنا |
|
وإيطاء الطعام يكون هذا |
فدعا الرجل جماعةً من الشطرنجيين، وقال: تعالوا حتى تروا الشطرنجية، فكتب إليه:
ورقعةٍ كنّا رفعـنـاهـا |
|
نشرتها لمّا طوينـاهـا |
أعددت للعاب شطرنجها |
|
لو أمكن القمر قمرناها |
واللّه لو أحضرتها زيريا |
|
ما ميّز الفرزان والشّاها |
الإيطاء
والإيطاء تكرار القوافي بتكرار معانيها، كقول امرىء القيس:
عظيم طويل مطمـئنٌّ كـأنّـه |
|
بأسفل ذي ماوان سرحة مرقب |
وليس بإيطاء قول الأمير أبي الفضل عبيد الله الميكالي:
وكل غـنـىً يتـيه بـه غـنـيٌّ |
|
فمـرتـجـع بـمـوتٍ أو زوال |
وهب جدّي طوى لي الأرض طرّاً |
|
أليس الموت يزوي ما زوى لـي |
وقوله:
أخوك من إن كنت في |
|
بؤسى ونعمى عادلك |
وإن بداك منعماً |
|
بالبرّ منه عادلك |
وقوله:
جامل الناس في المزا |
|
ح وخلّ المزاحمـه |
وتفاصح وقل لـمـن |
|
يتعاطى المزاح مه ? |
الطعام والموائد
وعلى ذكر الطعام. قال الجماز: جاءنا فلان بمائدة كأنها زمن البرامكة على العفاة؛ ثم جاءنا بشراب كأنه دمعة اليتيم على باب القاضي:
قد جنّ أضيافك من جوعهم |
|
فاقرأ عليهم سورة المائده |
وقال ابن الرومي يصف طعاماً أكله عند أبي بكر الباقطاني:
وسـمـيطة صـفـراء دينـاريّة |
|
ثمناً ولوناً زفّـهـا لـك حـزور |
عظمت فكادت أن تـكـون أوزّة |
|
وهوت فكاد إهابهـا يتـفـطّـر |
ظلنا نقشّر جلدها عن لحـمـهـا |
|
وكأنّ تبراً عن لـجـين يقـشـر |
وتقدّمـتـهـا قـبـل ذاك ثـرائدٌ |
|
مثل الرياض بمثلـهـن يصـدّر |
ومرقّقات كلّـهـنّ مـزخـرفٌ |
|
بالبيض منها ملـبـس ومـدثّـر |
وأتت قطائف بعد ذاك لـطـائفٌ |
|
ترضى اللهاة بها ويرضى الحنجر |
ضحك الوجوه من الطبرزد فوقها |
|
دمع العيون من الدهان يعـصّـر |
ومن ملح ما قيل في القطائف، قول علي بن يحيى بن منصور بن المنجم:
قطائف قد حشيت بـالـلّـوز |
|
والسكر الماذيّ حشو المـوز |
تسبح في آذيّ دهن الـجـوز |
|
سررت لمّا وقعت في حوزي |
سرور عبّاس بقـرب فـوز |
|
|
ولم يقل أحد في اللوزينج أحسن من قول ابن الرومي:
لا يخطئني منـك لـوزينـجٌ |
|
إذا بدا أعجب أو عـجّـبـا |
لم تغلق الشهوة أبـوابـهـا |
|
إلا أبت زلفاه أن يحـجـبـا |
لو شاء أن يذهب في صخرة |
|
لسهّل الطيّب له مـذهـبـا |
يدور بالنّفخة فـي جـامـه |
|
دوراً ترى الدّهن له لولـبـا |
عاون فيه منظرٌ مـخـبـراً |
|
مستحسنٌ ساعد مستعـذبـا |
مستكثف الحشـو ولـكـنّـه |
|
أرقّ قشراً من نسيم الصّبـا |
كأنمـا قـدّت جـلابـيبـه |
|
من أعين القطر إذا قبّـبـا |
يخال مـن رقة خـرشـائه |
|
شارك في الأجنحة الجندبـا |
لو أنه صوّر مـن خـبـزه |
|
ثغرٌ لكان الواضح الأشنـبـا |
من كل بيضاء يودّ الفـتـى |
|
أن يجعل الكفّ لها مركبـا |
مدهونة زرقـاء مـدفـونة |
|
شهباء تحكي الأزرق الأشهبا |
ملذّ عـين وفـم حـسّـنـت |
|
وطيّبت حتى صبا من صبـا |
ذيق له اللّـوز فـمـا مـرّة |
|
مرّت على الذائق إلاّ أبـى |
وانتقـد الـسـكّـر نـقّـاده |
|
وشاوروا في نقده المذهبـا |
فلا إذا العين رأتـه نـبـت |
|
ولا إذا الضرس علاه نـبـا |
لا تنكروا الإدلال من وامـق |
|
وجّه تلقاءكم المـطـلـبـا |
هذه الأبيات يقولها في قصيدة طويلة يمدح بها أبا العباس أحمد بن محمد بن عبيد الله بن بشر المرثدي ويهنيه بابن له ولد، أولها:
بدرٌ وشمس ولدا كوكبا |
|
أقسمت باللّه لقد أنجبا |
وقال أبو عثمان الناجم: دخلت على أبي الحسن وهو يعمل هذه القصيدة؛ فقلت له: لو تفاءلت لأبي العباس بسبعة من الولد؛ لأن عباس يجيء منكوساً سابع، فلو تصور ذلك لجاء المعنى ظريفاً؛ فقال بديهاً:
وقد تفـاءلـت لـه زاجـراً |
|
كنيته لا زاجراً ثـعـلـبـا |
إنّي تـأمّـلـت لـه كـنـيةً |
|
إذا بدا مقلوبهـا أعـجـبـا |
يصوغها العكس أبا سـابـع |
|
وذاك فأل لم يعد معـطـبـا |
وقـد أتـاه مـنـهـم واحـدٌ |
|
فلننتظـرهـم سـتّة غـيّبـا |
في مدةٍ تغمـرهـا نـعـمة |
|
يجعلها اللّـه لـه تـرتـبـا |
حتى تراه جالسـاً بـينـهـم |
|
أجلّ من رضوى ومن كبكبا |
كالبدر وافى الأرض من نوره |
|
بين نجوم سبعة فـاخـتـبـا |
وليشكر الناجـم عـن هـذه |
|
فإنّها من بعض مـا بـوّبـا |
أسدى وألحمت فتىً لـم أزل |
|
أشكر ما أسدى وما سبّـبـا |
وقال يصف الرؤوس والرغفان:
ما إن رأينا من طعامٍ حاضر |
|
نعتدّه لفـجـاءة الـزوّار |
كمهيئين من الطعام أصبحـا |
|
شبهاً من الأبرار والفجّـار |
روس وأرغفة ضخام فخمة |
|
قد أخرجت من جاحم فوّار |
كوجوه أهل الجنة ابتسمت لنا |
|
مقرونة بوجوه أهل النـار |
ومن تشابيهه العقم:
ما أنس لا أنس خبّازاً مـررت بـه |
|
يدحو الرقاقة وشك اللّمع بالبصـر |
ما بين رؤيتها فـي كـفّـه كـرةً |
|
وبين رؤيته قوراء كـالـقـمـر |
إلاّ بمـقـدار مـا تـنـداح دائرةٌ |
|
في صحفة الماء يرمى فيه بالحجر |
وكان ابن الرومي منهوماً في المآكل وهي التي قتلته، وكان معجباً بالسمك، فوعده أبو العباس المرثدي أن يبعث إليه كل يوم بوظيفة لا يقطعها، فبعث إليه منه يوم سبت ثم قطعه، فكتب إليه:
ما لحيتاننا جفـتـنـا وأنّـى |
|
أخلف الزائرون منتظريهـم |
جاء في السبت زورهم فأتينا |
|
من حفاظٍ عليه ما يكفيهـم |
وجعلناه يوم عـيد عـظـيمٍ |
|
فكأنّا اليهود أو نحـكـيهـم |
وأرهم مصمّمين على الهـج |
|
ر فلم يسخطون من يرضيهم |
قد سبتنا فما أتتنـا وكـانـوا |
|
يوم لا يسبتون لا تـأتـيهـم |
فاتصل ذلك بالناجم فكتب إليه:
أبا حسنٍ أنـت مـن لا تـزا |
|
ل يحمد في الفضل رجحانـه |
فكم تحسن الظنّ بالمـرثـديّ |
|
وقد قلّل الـلّـه إحـسـانـه |
ألم تدر أن الفتى كالسـراب م |
|
إذا وعد الـخـير إخـوانـه |
وبحر السراب يفوت الطلوب م |
|
فقل في طلابـك حـيتـانـه |
وخرج ابن الرومي مع بعض إخوانه في حداثته إلى بعض المتنزهات، وقصدوا كرماً رازقياً، فشربوا هناك عامة يومهم، وكانوا يتهمونه في الشعر. فقالوا: إن كان ما تنشدنا لك فقل في هذا شيئاً. فقال: لا تريموا حتى أقول، ثم أنشد بديهاً:
ورازقيّ مخطف الخـصـور |
|
كأنّه مـخـازن الـبـلّـور |
قد ضمّنت مسكاً إلى الشطور |
|
وفي الأعالي ماء وردٍ جوري |
لم يبق من وهـج الـحـرور |
|
إلاّ ضياء في ظروف نـور |
لو أنه يبقى علـى الـدهـور |
|
قرّط آذان الحسان الـحـور |
بلا مـزيد وبـلا شـــذور |
|
له مذاق العسل الـمـشـور |
وبرد مسّ الخصر المقـرور |
|
ونكهة المسك مع الكـافـور |
ورقة الماء على الـصـدور |
|
باكرته والطير في الوكـور |
بفتيةٍ من ولد الـمـنـصـور |
|
أملأُ للعـين مـن الـبـدور |
حتى أتينا خيمة الـنـاطـور |
|
قبل ارتفاع الشمس للـذرور |
فانحطّ كالطاوي من الصقـور |
|
بطاعة الراغب لا المقهـور |
والحرّ عبد الحلب المشطـور |
|
حتى أتانا بـضـروع حـور |
مملوءة من عسلٍ محـصـور |
|
والطّلّ مثل اللؤلؤ المنـثـور |
ينساب مثل الحية المـذعـور |
|
بين سماطي شجرٍ مسطـور |
ناهيك للعنقود مـن ظـهـور |
|
فنيلت الأوطار فـي سـرور |
وكل ما يقضى مـن الأمـور |
|
تعلّةٌ من يومنا المـنـظـور |
ومتعةٌ من متع الـغـرور |
|
|
استوت بديهته وفكرته
قال الناجم: جلست معه على باب داره وقد
أبل من علة، فمر بنا الحاجب، فقال: قوما عندي نتحدث اليوم، وعندي مصوص وأشياء
لطيفة لا تضرك؛ وأشرب مع أبي عثمان بحضرتك ونتآنس يومنا.
فقال: إنا نأتيك الساعة وأبو عثمان فامض ونحن في أثرك؛ فمضى ولحقناه فحجب عنا،
فانصرفنا وأبو الحسن مغضب، فدخلت على أبي الحسن في ذلك اليوم، فوجدت بين يديه
قصيدة طويلة جداً أولها:
نجذاك يابن الحاجب الحاجب |
|
وأين ينجو منّي الـهـارب |
فعجبت من سرعة عمله. وقلت: أعزك الله؛ متى عملتها ? قال: الساعة. قلت: وأين مسودتها ? قال: هي هذه. قلت: وما فيها حرف مصلح. قال: قد استوت بديهتي وفكرتي، فما أعمل شيئاً فأكاد أصلحه.
سبب موته
وكان سبب موته أنه كان منقطعاً إلى القاسم بن عبيد الله بن وهب؛ وكان القاسم مغرماً بشعرهن مستظرفاً له، محسناً إليه. فقال له أبوه: قد أردت أن أرى من روميك هذا ? فأحضره وحضر أبوه، فلما انفض المجلس قال له: كيف رأيته ? قال: أرى ما يسوءني ولا يسرني، أرى رجلاً صحيح الشعر، سقيم العقل، ومثل هذا لا تؤمن بوادره؛ وأقل غضبة يغضبها تبقي في أعراضنا ما لا يغسله الدهر، والرأي إبعاده، قال: وكيف ذلك بعد اتصاله ? أخاف أن يظهر ما أضمره، قال: يا بني؛ اتبع فيه قول أبي حية:
يقلن لها في السرّ هديك لا يرح |
|
صحيحاً وإلاّ تقتليه فـألـمـم |
فأخبر القاسم بقول أبيه ابن فراس، وكان أشد الناس عداوةً لابن الرومي. فقال: إنما أشار عليك باغتياله، وأنا أكفيك أمره، فسم له لوزينجة وقدم له الجام وهي في أعلاه، فلما تناولها أحس بالموت ونهض قائماً. فقال له: إلى أين يا أبا الحسن ? قال: إلى حيث أرسلتني. قال: اصرفوه، فقد غلب عليه السكر؛ فخرج وهو لما به؛ فلقي الناجم فقال:
أبا عثمان أنت عميد قومـك |
|
وجودك للعشيرة دون لؤمك |
تمتّع من أخيك فـمـا أراه |
|
يراك ولا تراه بعد يومـك |
وكان شديد التغير، سريع الانقلاب، ضيق الصدر، قليل الصبر، مفرط الطيرة غالياً فيها، وكان عظيم التخوف، كثير التجسس؛ يراه من يلقاه كالمتوجس المذعور.
شدة خوفه
ذكر بعض أصحابه قال: كنت أسايره ونحن
سائرون، فلم أنشب أن تراءيته قد ترجل عن دابته بسرعة، ولجأ إلى بعض الدكاكين وأسلم
الدابة؛ فأمرت من أمسكها وأتيت إليه فقلت: ما بالك يا أبا الحسن ? وإذا هو يضطرب
اضطراباً شديداً؛ فأمسكت عنه حتى سكن وقام فركب الدابة. فقلت له: ما الذي هاجك ?
قال: أما ترى ذاك ? وإذا برجل من العامة يحمل ذوبينا وهي عصا في طرفها حديد
بشعبتين. فقلت: أراه. فقال: أوما ترى البركار الذي بيده، ما يؤمنني أن يلويه على
عنقي فيفتله.
وحكي عنه: أنه سأل الموفق أو غيره في قدح محكم رآه فأعجبه فوهبه إياه. قال بعض
إخوانه: وكنت معه، وقد خرج من دار السلطان، فوضعه على رأسه ثم أزاله بسرعة ثم وضعه
على ركبته، ثم رمى به فكسره. فقلت له: ما هذا الخاطر الفاسد ? قال: وصل إلي هذا
القدح وما على وجه الأرض أحب إلي منه، فوضعته على أشرف أعضائي ! ثم ذكرت قول بعض
الحكماء: إن الصاعقة إذا قابلت الشيء الشفاف انحدرت إليه، فخفت أن تقع علي صاعقة
فتهلكني، ثم وضعته على ركبتي، فخفت أن تصدمني دابة فينكسر فيدخل في جسمي فيكون سبب
علة مزمنة، وخفت أن يكون الذي دعاني إلى طلبه ما أراده الله بي، فرأيت الراحة في
كسره.
حكايات عن تطيره
وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام
أبي العباس المبرد في أيام ابن أبي أوفى شاباً مترفاً، وأديباً مستظرفاً، وكان
يعبث به فيقرع عليه الباب. فيقال له: من بالباب ? فيقول: قولوا لأبي الحسن: مرة بن
حنظلة؛ فيتطير لقوله ويقيم أياماً لا يخرج من داره، وكان ذلك سبب هجائه إياه.
وقرع عليه الباب يوماً وقيل: إن البحتري وجه إليه من قرع عليه بابه فقال: من هذا ?
فقال: سخطة الحي القيوم، والمهل والغسلين والزقوم، والشيطان الرجيم، وكل بلاء كان
أو يكون، إلى يوم الدين؛ فأقام مدةً لم يخرج، فسأل عنه الموفق، فقيل: هو في حبس
البحتري !
وتخلف أياماً عن بعض الأشراف بسبب طيرة
عرضت له، فبعث إليه غلاماً جميلاً فقرع الباب. فقيل: من ? قال: إقبال؛ فخرج فرأى
وجهاً مستحسن الصورة حسن الهيئة. فقال له: مولاي يرغب في حضورك، فمشى معه ثم توجس
وبقي باهتاً مطرقاً لا ينصرف، ثم مشى قليلاً؛ فلما قارب الجسر انفتل بسرعة شديدة،
ثم مضى على وجهه إلى داره، فأغلق الباب على نفسه، وكتب إلى الرجل: تخلفت أطال الله
بقاءك عن حظي من لقائك، لاعدمته لي أياماً، وأنا أتقلى على جماجم الضجر، بما جرى
به القدر، من كلام سمعته وأمر توقعته؛ فأتاني غلام جميل اسمه إقبال؛ فقلت: هذا
حسن، فخرجت معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا حسن، فخرجت
معه، ثم فكرت أن إقبالاً إذا نكس كان لا بقاء ! فقلت: هذا من ذاك؛ فمشيت معه
مقدماً رجلاً ومؤخراً أخرى حتى صرت بالجسر، فرأيت حبالاً مفتولة قد التوت، فصار كل
واحد منها في صورة لام ألف، فقلت: هذه تحقق ما ظننت من لا بقاء بقولها: لا لا، فما
حصلت في الدار، إلا بعد خوف مضي المقدار، فابسط العذر في التأخر، والسلام.
وقال علي بن إبراهيم كاتب مسرور البلخي: كنت بداري جالساً بباب الشعير على أسرة
نصبت لي في صحن الدار؛ فإذا حجارة قد سقطت علي، فبادرت هارباً، وأمرت الغلام
بالصعود إلى السطح والنظر إلى كل ناحية من أين تأتينا ? فقال لي: امرأة من دار ابن
الرومي الشاعر قد أشرفت وقالت: اتقوا الله فينا، واسقونا جرةً من الماء وإلا
هلكنا؛ فقد مات من عندنا عطشاً؛ فتقدمت إلى امرأة عندنا ذات عقل ومعرفة بأن تصعد
إليها وتخاطبها ففعلت. وبادرت بالجرة وأتبعتها بشيء من المأكول. ثم عادت وقالت:
ذكرت المرأة أن الباب مقفل عليها منذ ثلاث بسبب طيرة ابن الرومي، وأنه يلبس ثيابه
كل يوم ويتعوذ، ثم يصير إلى الباب والمفتاح بيده، ثم يضع عينه على ثقب في خشب
الباب، فتقع على جار له كان نازلاً بإزائه، وكان أعور يقعد كل غداة على بابه؛ فإذا
رآه رجع وخلع ثيابه. وقال: لا يفتح أحد الباب. فعجبت من حديثها؛ وبعثت بخادم لي
كان يعرفه فأمرته بأن يجلس بإزاء بابه، وكانت العين تميل إليه. وتقدمت إلى بعض
غلماني أن يدعو الجار الأعور؛ فلما حضر عندي أدى الغلام إلى ابن الرومي رسالتي
يستدعيه الحضور، فإني لجالس وعندي الأعور إذ وافى أبو حذيفة الطرسوسي ومعه برذعة
المسوس صاحب المعتضد؛ ودخل ابن الرومي فلما تخطى عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع
نعله فدخل مذعوراً، وكان إذا فاجأه الناظر رأى منه منظراً يدل على تغير حاله، فدخل
وهو لا يرى جاره المتطير منه. فقلت له: يا أبا الحسن، ما لك ? أيكون شيء في خروجك
أحسن من مخاطبتك للخادم ونظرك إلى وجهه الجميل ? فقال: قد لحقني ما رأيت من
العثرة؛ لأني فكرت أن به عاهةً وهي قطع أنثييه. فقال برذعة: وشيخنا يتطير ? قلت:
نعم ! ويفرط. قال: ومن هو? قلت: أبو الحسن بن الرومي. قال: الشاعر ? قلت: نعم !
فأقبل عليه وأنشده:
ولما رأيت الدهـر يؤذن صـرفـه |
|
بتفريق ما بيني وبـين الـحـبـائب |
رجعت على نفسي فوطّنتها عـلـى |
|
ركوب جميل الصّبر عند النـوائب |
ومن صحب الدنيا على جور حكمها |
|
فأيامه محفـوفةٌ بـالـمـصـائب |
فخذ خلسةً من كـل يوم تـعـيشـه |
|
وكن حذراً من كامنات العـواقـب |
ودع عنك ذكر الفأل والزّجر واطّرح |
|
تطيّر دارٍ أو تـفـاؤل صـاحـب |
فبقي ابن الرومي باهتاً؛ ولم أدر أنه شغل قلبه بحفظ ما أنشده، ثم قام أبو حذيفة وبرذعة معه، فحلف ابن الرومي ألا يتطير أبداً من هذا ولا من غيره، وأومأ إلى جاره. فقلت: وهذا الفكر أيضاً من التطير، فأمسك. وعجب من جودة الشعر ومعناه في حسن مأتاه. فقلت له: ليتنا كتبناه. فقال: اكتبه فقد حفظته، وأملاه علي.
ومن الدليل على شدة حذره وعظم تطيره
ومن الدليل على شدة حذره، وعظم تطير، قوله لأبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة، وقد ندبه إلى الخروج وركوب دجلة:
حضضت على حطبي لناري فلا تدع، |
|
لك الخير، تحذيري شرار المحاطب |
ومن يلق ما لاقيت من كلّ مجتـنـى |
|
من الشوك يزهد في الثمار الأطايب |
أذاقتني الأسفار ما كـرّه الـغـنـى |
|
إليّ وأغراني برفض المـطـالـب |
ومن نكبةٍ لاقـيتـهـا بـعـد نـكـبةٍ |
|
رهبت اعتساف الأرض ذات المناكـب |
وصبري على الإقتار أيسر مـحـمـلاً |
|
عليّ من التغرير بـعـد الـتـجـارب |
لقيت من البرّ الـتـبـاريح بـعـدمـا |
|
لقيت من البحر ابـيضـاض الـذوائب |
سقيت علـى ريٍّ بـه ألـف مـطـرةٍ |
|
شغفت لبغضيها بحـبّ الـمـجـادب |
ولم أسقها بل ساقـهـا لـمـكـيدتـي |
|
تحامق دهرٍ جدّ بـي كـالـمـلاعـب |
أبي أن يغيث الأرض حتى إذا ارتمـت |
|
برحلي أتاها بالغـيوث الـسـواكـب |
سقى الأرض من أجلي فأضحت مـزلّة |
|
تمايل صاحـبـهـا تـمـايل شـارب |
فمـلـت إلـى خـانٍ مـرثٍّ بـنـاؤه |
|
مميل غريق الثوب لـهـفـان لاغـب |
فما زلت في خـوف وجـوع ووحـشة |
|
وفي سهرٍ يستغرق الـلـيل واصـب |
يؤرّقنـي سـقـفٌ كـأنـي تـحـتـه |
|
من الوكف تحت المدجنات الهواضـب |
تراه إذا ما الـطـين أثـقـل مـتـنـه |
|
تصرّ نواحـيه صـرير الـجـنـادب |
وكم خان سفرٍ خان فانقضّ فـوقـهـم |
|
كما انقضّ صقر الدجن فوق الأرانـب |
وما زال ضاحي البرّ يضـرب أهـلـه |
|
بسوطي عـذابٍ جـامـدٍ بـعـد ذائب |
ألا ربّ نارٍ بالفضاء اصـطـلـيتـهـا |
|
من الضّحّ يودي لفحها بالـحـواجـب |
فدع عنك ذكـر الـبـرّ، إنّـي رأيتـه |
|
لمن خاف هول البحر شرّ المـهـاوب |
وما زال يبغيني الحـتـوف مـواربـاً |
|
يحوم على قـتـلـي وغـير مـوارب |
فطوراً يغادينـي بـلـصّ مـصـلّـت |
|
وطوراً يمسّيني بـورد الـمـشـارب |
وأما بلاء الـبـحـر عـنـدي فـإنـه |
|
طواني على روع مع الـرّوح واقـب |
ولو ثاب عقلي لم أدع ذكر بـعـضـه |
|
ولكـنّـه مـن هـولـه غـير ثـائب |
ولم لا ولو أُلـقـيت فـيه وصـخـرةً |
|
لوافيت منـه الـقـعـر أول راسـب |
ولم أتعـلّـم قـطّ مـن ذي سـبـاحةٍ |
|
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب |
فأيسر إشفاقـي مـن الـمـاء أنـنـي |
|
أمرّ به في الكوز مرّ الـمـجـانـب |
وأخشى الرّدى منه على نفـس شـاربٍ |
|
فكيف بأمنيه عـلـى نـفـس راكـب |
أظـلّ إذا هـــزّتـــه ريحٌ ولألأت |
|
له الشمس أمواجاً طـوال الـغـوارب |
كأني أرى فـيهـنّ فـرسـان بـهـمة |
|
يليحون نحوي بالسيوف الـقـواضـب |
فإن قلت لي قد يركـب الـيمّ طـامـياً |
|
ودجلة عند اليمّ بـعـض الـمـذانـب |
لدجـلة خـبٌّ لـيس لـلـيمّ، إنـهــا |
|
ترائي بحلم تـحـتـه جـهـل واثـب |
وللبحـر إنـذار بـعـرض مـتـونـه |
|
وما فـيه مـن آذيّه الـمـتـراكـب |
من الطرائف
قيل لقينة: صوم يوم عرفة كفارة ذنوب سنة؛
فصامت إلى الظهر وأفطرت. فقيل لها: ما هذا ? قالت: يكفيني ستة أشهر.
قعد رجل على باب داره، فأتاه سائل يسأله. فقال له: اجلس، ثم صاح بجارية عند فقال:
ادفعي إلى هذا مكوكاً من حنطة. قالت: ما بقي عندنا حنطة. قال: فأعطيه درهماً.
قالت: ما بقي عندنا دراهم. قال: فأطعميه رغيفاً. قالت: وما عندنا رغيف، فالتفت
إليه وقال: انصرف يابن الفاعلة. فقال السائل: سبحان الله تحرمني وتشتمني ! قال:
أحببت أن تنصرف وأنت مأجور.
ورأى أعرابي الناس بمكة وكل واحد يتصدق ويعتق ما أمكنه. فقال: يا رب، أنت تعلم أنه
لا مال لي، وأشهدك أن امرأتي طالق لوجهك يا أرحم الراحمين ! وكان في زمن المهدي
رجل ادعى النبوة فأحضروه إلى المهدي. فقال له: ما أنت ? قال: نبي. قال: إلى من
بعثت ? فقال له: ما أكثر فضولك ! إيش عليك ? قال: قل، وإلا أمرت بقتلك. قال: بعثت
إلى أهل خراسان. قال: ولم لم تسافر إليهم ? قال: ما معي نفقة، فضحك منه وأمر له
بنفقة، وقال: هذا قد غلبت عليه المرة.
وجاء رجل إلى أبي ضمضم يستعدي على رجل في دابة اشتراها منه، وظهر بها عيب. فقال له
أبو ضمضم: وما عيبها ? قال: في أصل ذنبها مثل الرمانة، وفي ظهرها مثل التفاحة، وفي
عجيزتها مثل الجوزة، وفي بطنها مثل الموزة، وفي حلقها مثل الأترنجة. فقال له أبو
ضمضم: مر عنا يا بارد، هذه صفة بستان ليست بصفة دابة.
شرب ابن حمدون
النديم مع المتوكل وبحضرته غلام مليح الوجه؛ فتأمله ابن حمدون تأملاً شديداً،
وقد حمل الشراب إليه. فقال المتوكل: يابن حمدون، ما الحكم في الرجل إذا نظر إلى
غلام فتى ? قال: أن تقطع أذنه. قال: ليحكم عليك بحكمك، فأمر أن تعرك أذنه حتى
تخضر ثم تقطع، وأمر بنفيه إلى بغداد. فلقيه إسحاق بن إبراهيم الموصلي بها فسأله
عن حاله، وعمن ينادم المتوكل معه. فقال: أحد ندمائه ابن عمرو البازيار؛ فسأله
إسحاق عن محله من العلم والفهم. فقال له: أكثر ما يقول للخليفة؛ أبقاك الله يا
أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير. فقال له إسحاق: اعمل على
أنه كان لك كر آذان فقطعت؛ أليس ذلك أسهل من حضور مجلس تقاسي فيه ابن عمرو
البازيار.
فضحك المتوكل وأعفاه. وذكر الصولي أن أخاه أحمد عمل له البيتين. بين أبي العيناء وابن الزيات دخل أبو العيناء على
محمد بن عبد الملك الزيات الوزير، فجعل لا يكلمه إلا بأطرافه. فقال: إن من حق
نعمة الله عليك، لما قد أهلك له في هذه الحال التي أنت عليها، أن تجعل البسطة
لأهل الحاجة إليك؛ فبقضاء الحاجات تدوم النعم. لؤم ابن الزيات وكان محمد بن عبد
الملك على علمه وأدبه ألأم الناس، فمن عجيب لؤمه أنه كان له جار في انخفاض حاله،
وكان بينهما ما يكون بين الجيران من التباعد؛ فلما بلغ محمد ما بلغ شخص الرجل
إلى سر من رأى، فورد بابه وهو يتغدى، فوصل إليه وهو على طعامه، فتركه قائماً لا
يرفع طرفه إليه، فلما فرغ من أكله قال: ما خبرك ? قال: قد أصارك الله أيها
الوزير إلى أجل الآمال فيك، وصرف أعناق الناس إليك، وقد علمت ما كنت تنقمه علي،
وقد غير الدهر حالي؛ فوردت إليك مستقيلاً عثراتي، مستعطفاً على خلاتي.
وكان محمد بن عبد الملك واحداً في صناعته، مفرداً في براعته. بين أبي السمراء وعبد الله بن طاهر وكان أبو السمراء العلاء بن عاصم بن عصمة العسكري نديم عبد الله بن طاهر يأنس به، ويجاريه الشعر، فكتب إليه:
فوقع ابن طاهر في ظاهرها بديهاً:
ومن جيد شعره في جارية له توفيت: |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
يقول لي الخلاّن لو زرت قبرها |
|
فقلت: وهل غير الفؤاد له قبر |
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
على حين لم أحدث فأجهل فقدها |
|
ولم أبلغ السنّ التي معها صبر |
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وهذا مأخوذ من قول أبي مسلم عبد الرحمن بن سلم، في فصل من كتاب كتبه إلى عبد الله بن علي عند محاربته إياه، لما خلع أبا جعفر المنصور: لأنزلنك موارد ضيقة، حتى أبدلك بالحلاوة علقماً، تمج من تمطقها دماً؛ أمنت صولتي، وقد كبرت عن صغر، وصغرت عن كبر، فأنا كما قال الأول:
وهل يخشى وعيد النـاس إلاّ |
|
كبير السنّ والضّرع الصغير |
شراب عتيق من محمد بن عبد الملك
قال ابن حمدون النديم: أهدى إلينا محمد بن عبد الملك ونحن بالبدندون شراباً عتيقاً وكتب رقعة فيها:
ما إن ترى مثلي أخـاً |
|
أنـدى يداً وأدرّ جـودا |
أسقي الصديق ببـلـدةٍ |
|
لم يسق فيها الماء عودا |
صفراء صـافـية كـأ |
|
نّ على جوانبها العقودا |
فإن استقلّ بشكـرهـا |
|
أوجبت بالشكر المزيدا |
فإذا خشيت على الصني |
|
عة بالتقادم أن تـبـيدا |
أنشأت أخرى غيرهـا |
|
فتركتها غضّاً جـديدا |
خذها إلـيك كـأنـمـا |
|
كسيت زجاجتها فريدا |
واجعل عليك بأن تقـي |
|
م بشكرها أبداً عهـودا |
الملك مضطر إلى كفاية منه
وكان المعتصم أمر بأن يعطى الواثق عشرة
آلاف درهم، يستعين بها على أمره ويصلح بها ما يحتاج إلى إصلاحه، فدافعه بذلك
مدافعةً متصلة أحوجته إلى شكايته إلى المعتصم؛ فأنكر عليه تأخر المال. فقال: يا
أمير المؤمنين، العدل أولى بك وأشبه بقولك وفعلك، ولك عدة أولاد أنت في أمرهم بين
خلتين؛ إما أن تسوي بينهم في العطية فتجحف ببيت المال، وإما أن تخص بعضهم فتحيف
على الباقين. فقال: قد رهنت لساني فما تصنع ? قال: تأمر لباقي ولدك بإقطاعات
وصلات، وتطلق لهارون صدراً من المال، فأدافعه بباقيه ويتسع الأمير قليلاً، وتدبر
الأمر بعد ذلك بما تراه.
فقال له: وفقك الله فما زلت أعرف الصواب في مشورتك؛ وتأدى الخبر إلى هارون، فحلف
بعتق عبيده ومماليكه، وبحبس عدة خيل ووقف عدة ضياع، وصدقة مال جليل، لئن ظفر بمحمد
ليقتلنه؛ وكتب اليمين بخطه وجعلها في درج وأودعها دابته.
ومرت مدة وأفضى الأمر إلى هارون، وكان ذا أنات وعقل. وكره أن يعاجله فيقول الناس
بادر بشفاء غيظه؛ ثم عزم على الإيقاع به، فتقدم بأن يجمع له من وجوه الكتاب من
يصلح لولاية الدواوين والوزارة فجمعوا، ودعا بواحد منهم؛ وقال له: اكتب كذا في أمر
رسمه له. فاعتزل وكتب وعرض الكتاب عليه فلم يرضه حتى امتحن الجميع، فأمر حاجبه
فقال: أدخل من الملك مضطر إليه: محمد ابن عبد الملك، فجيء به وهو واجم مضطرب؛ فلما
وقف قال له: اكتب إلى صاحب خراسان في كذا وكذا. فأخرج من كمه نصفاً ومن خفه دواةً،
وابتدأ يكتب بين يديه حتى فرغ من الكتاب، ثم أخرج خريطةً فيها حصى فأترب الكتاب
وأصلحه وتقدم فناوله إياه، فوجده قد أتى على جميع ما في نفسه؛ فأعجب به جداً.
وقال: اختمه فأخرج من الخريطة طيناً فوضعه عليه وتناوله فختمه وأنفذه من ساعته.
فقال هارون لخادم له: امض إلى دابتي وقل لها: توجه إلي بالدرج الفلاني؛ فمضى
الخادم فجاء به، فأخرج الرقعة فدفعها إليه. فقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا عبد من
عبيدك، إن وفيت بيمينك فأنت محكم، وإن كفرت وصفحت كان أشبه بك. قال: لا والله ! ما
يمنعني من الوفاء بيميني إلا النفاسة على أن يخلو الملك من مثلك، وأمر بعتق من حلف
بعتقه، ووقف الضياع، وحبس الخيل، وأنفذ صدقة المال.
وقد فعل أبو شجاع فناخسرو قريباً من هذا بأبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي،
وذلك أنه كان كاتب بختيار بن معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وبين أبي شجاع وبين
بختيار منافسة بالرياسة، فلما خلع الفضل بن جعفر وهو المطيع لله، وأقيم ابنه أبو
بكر عبد الكريم الطائع لله سنة أربع وستين وثلاثمائة استولى على جميع أموره
فناخسرو، وصار إليه تدبير المملكة، وليس للخليفة سوى الاسم، وقتل بختيار ومحي
أمره، فأحضر أبو شجاع عضد الدولة أبا إسحاق. وقال: قد علمت ما كنت تعاملني به من
قبيح المكاتبة، وقد أحفظني ذلك ودعاني إلى قتلك، فرأيت قتلك من الفساد في الأرض إذ
كنت مقدماً في صناعتك، ولكن لا تعمل لي عملاً، واستصفى أمواله وحبسه، وولى ديوان
الإنشاء مكانه أبا منصور بن المرزبان الشيرازي، وكان غايةً في البلاغة والفصاحة
وحسن آلات الكتابة.
الصابي في حبسه
وكتب أبو إسحاق من الحبس إلى بعض إخوانه:
نحن في الصحبة كالنسرين لكني واقع، وأنت طائر، وعلى الطائر أن يغشى ويراجع.
وزاره أبو الفرج الببغاء الشاعر زورة ثم قطعه، فكتب إليه:
أبا الفرج اسلم وابق وانعم ولا تـزل |
|
يزيدك صرف الدهر حظّاً إذا نقص |
مضت مـدة أسـتـام ودك غـالـياً |
|
فأرخصته والبيع غالٍ ومرتـخـص |
وآنستني في مـحـبـسـي بـزيارةٍ |
|
شفت قرماً من صاحبٍ لك قد خلص |
ولكنّها كـانـت كـحـسـوة طـائرٍ |
|
فواقاً كما يستفرض السادة الفـرص |
وأحسبك استوحشت من ضيق محبسي |
|
وعادك عيد من تذكّرك الـقـفـص |
من المنسر الأشفى ومن حزّة المـدى |
|
ومن بندق الرامي ومن قصّة المقص |
ومن صعدة فيها من الدّبـق لـهـذم |
|
لفرسانكم عند الطعان بها قـعـص |
فهذي دواهي الطير، وقّيت شـرّهـا |
|
إذا الدهر من أحداثه جرّع الغصص |
فأجابه أبو الفرج:
أيا ماجداً قد يمّم المجد ما نـكـص |
|
وبدر تمام مذ تكامل مـا نـقـص |
ستخلص من هذا الـسّـرار وأيّمـا |
|
هلال توارى في السرار فما خلص |
بدولة تاج المـلّة الـمـلـك الـذي |
|
له في أعالي قبّة المشتري خصص |
تقنّصت أنصافي وما كنت قـبـل ذا |
|
أظنّ بأنّ المرء بالبرّ يقـتـنـص |
وبعد فلا أخشى تقـنّـص جـارح |
|
وقلبك لي وكرٌ ورأيك لي قفـص |
من شعر الصابئ
وقال أبو إسحاق الصابىء:
جملة الإنسان جيفه |
|
وهيولاه سخيفـه |
فلماذا ليت شعـري |
|
قيل للنفس الشريفه |
إنمـا ذلـك فـيه |
|
قدرة اللّه اللطيفه |
وقال:
وأحقّ من نكسـتـه |
|
بالصفع من درجاته |
من مجده من غيره |
|
وسفاله مـن ذاتـه |
من النقد
أخذه من سقراط، وقد مر به بعض الملوك فركله برجله. وقال: قم ! فقام غير مرتاع منه ولا ملتفت إليه. فقال الملك: أما عرفتني ? قال: لا ! ولكن أرى فيك طبع الكلاب فهي تركل بأرجلها، فغضب، وقال: أتقول لي هذا وأنت عبدي. فقال: لا ! بل أنت عبدي. قال: وكيف ذلك? قال: لأن شهواتك ملكتك وأنا ملكتها. قال: فإني الملك ابن الأملاق السادة، ولنا كذا وكذا ألف فيل، وكذا وكذا ألف مركوب، وأقبل يعدد عليه ما يملكه من العروض والجواهر والعقار. فقال: أراك تفخر علي بما ليس من جنسك، وإنما سبيلك أن تفخر علي بنفسك، ولكن تعالى نخلع ثيابنا ونلبس جميعاً ثوباً من ماء في هذا اليم ونتكلم، فحينئذ يتبين الفاضل من المفضول؛ فانصرف خجلاً.
الصابي وعضد الدولة
وأهدى الصابىء إلى عضد الدولة في يوم مهرجان اصطرلاباً بقدر الدرهم، وكتب معه، وكان حينئذ معتقلاً:
أهدى إليك بنو الحاجات واحتشدوا |
|
في مهرجانٍ جديدٍ أنت تبـلـيه |
لكنّ عبدك إبراهـيم حـين رأى |
|
سموّ قدرك عن شيءٍ يسـامـيه |
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد |
|
أهدى لك الفلك الأعلى بما فـيه |
فرضي عنه وأخرجه من السجن.
وقال الصابىء لأبي القاسم إسماعيل بن عباد الصاحب:
اللّه حسبي فيك من كلّ ما |
|
يعوّذ العبد به المـولـى |
واسلم وعش لا زلت في نعمةٍ |
|
أنت بها من غيرك الأولـى |
من ملح مزيد
قال مزيد لامرأته: أنت غير شفيقة علي، ولا راعية لي. فقالت: والله لأنا أرعى بك من التي كانت قبلي وأشفق. قال: أنت طالق ثلاثاً، لقد كنت آتيها بالجرادة فتطبخ لي منها أربعة ألوان وتشوي جنينها. فدعته إلى القاضي، فجعل القاضي يطلب له المخرج فقال: أصلحك الله ! لا عليك إن أشكلت المسألة فهي طالق ثلاثين. |
قال محمد بن حرب: أتيت بمزيد وامرأة ورجل
أصيبا في بيته وأنا على شرطة المدينة، فحبسته وخليت سبيلهما، ثم دعوت به وقلت: ما
خبرك ? قال: أطلقتم الزوج حمام وحبستم الزاجل.
وكان أبو حبيب مضحك المهدي يحفظ نوادر مزيد ويحكيها له فيصله. فقال له مزيد: بأبي
أنت! أنا أزرع وأنت تحصد.
ولقي مزيد رجلاً كان صديقاً لأبيه. فقال: يا بني، كان أبوك عظيم اللحية، فما بالك
أجرودي ? فقال مزيد: أنا خرجت لأمي.
وكسا امرأته قميصاً فشكت إليه غلظه وخشونته، فقال: أترينه أخشن من الطلاق ?
من الأجوبة الطريفة
ناظر سعيد بن حميد الدهقان بعض آل أبي
لهب؛ فقال: من فضلنا نحن الفرس أن لنا بيوت النيران. فقال اللهبي: وجهنم قطيعة
لجدي.
رمي فضولي في النار؛ فقال: الحطب رطب !
من ملح البخلاء
وقال بعض البخلاء لغلامه: هات الطعام
وأغلق الباب. فقال: يا مولاي؛ هذا خطأ، إنما يقال: أغلق الباب وهات الطعام. فقال
له: أنت حر لوجه الله لمعرفتك بالحزم.
قال جهم بن خلف: أتينا اليمامة فنزلنا على مروان بن أبي حفصة فأطعمنا تمراً. ثم
قال لغلامه: خذ هذا الفلس فاشتر به زيتاً، فأتى الغلام به. فقال له: خنتني. فقال:
وكيف أخونك في فلس ? قال: أخذته لنفسك واستوهبت الزيت.
وقال الأحنف بن قيس: يا بني تميم، أتبخلونني وربما أشرت عليكم برأي خير من مائة
ألف درهم ? فقال بعض من سمعه: تقويمك الرأي عليه غاية البخل.
من أظرف ما قيل في بخيل
ومن أظرف ما قيل في بخيل:
وأخٍ مسّه نـزولـي بـقـرحٍ |
|
مثلما مسّني من الجوع قـرح |
قال إذ زرت وهو في شدة السك |
|
رة بالهمّ طافح ليس يصـحـو |
لم تغرّبت قلت قال رسول الـل |
|
ه والقول منه نصـحٌ ونـجـح |
سافروا تغنموا فقـال وقـد قـا |
|
ل تمام الحديث جوعوا تصحّوا |
غفلة
مر رجل بإنسان وعلى عاتقه عصا في طرفيها زنبيلان قد كادا يحطمانه، في أحدهما بر وفي الآخر تراب. فقال: لم فعلت هذا ? قال: عدلت البر بالتراب، لأنه كان قد أمالني إلى أحد جنبي؛ فأخذ الرجل زنبيل التراب وقلبه وقسم البر نصفاً في الزنبيلين. وقال: الآن فاحمل، فحمله فخف عليه؛ فقال: ما أعقلك من شيخ !.
يتماوت ليسأل الكفن
وشرب أحمد بن أبي طاهر مع أبي هفان حتى فني ما معهما، وكانا بجوار المعلى ابن أيوب؛ فقال ابن أبي طاهر لأبي هفان: تماوت حتى اسأل المعلى في كفنك. فسجاه ومضى إلى المعلى فقال: أصلحك الله، نزلنا في جوارك فوجب عليك حقنا، وقد مات أبو هفان وليس له كفن. فقال لوكيله: أمض إليه لتشاهده وادفع له كفناً. فأتى فوجده مسجى فنقر أنفه فضرط، فقال له: ما هذا? قال ابن أبي طاهر: أصلحك الله بقية روحه كرهت نكهته فخرجت من دبره، فأخبر المعلى فضحك وأمر لهما بدنانير كثيرة.
متجسس متماوت
وكان أحمد بن طولون قد نابذ الموفق وباينه بالعداوة وخلعه، وكان قد ضبط مصر من الجواسيس وكان متيقظاً فهماً، فأشرف من قصره يوماً، فإذا بجنازة قد مرت عليه. فقال: علي بالنعش ومن فيه. فأحضروه، فقال: قم يا متماوت، ثم دعا بالسياف وقال: اضربه، فقام الميت من نعشه، فقال له: أنت متجسس من ناحية أحمد ? قال نعم ! قال: لو لم أتقدم إليك لقتلتك وقتلت من معك، وأمر من أخرجهم عن عمل مصر. فقيل له: من أين علمت ذلك ? فقال: رأيت القوم ليس عليهم كآبة من مات له ميت، ورأيتهم يطوفون بالقصر، ونظرت إليه في النعش فرأيت رجليه قائمتين ورجل الميت تسترخي؛ فحكمت أنه حي، فلما حضر رأيته يسارق النفس فصحت القضية.
من الطرف
وحضر علي بن بسام مع جحظة البرمكي دعوةً،
فتفرق الجماعة المخاد، وبقي جحظة. فقال: ما لكم لم تدفعوا إلي مخدة ? فقال له ابن
بسام: عن قليل تصير إليك كلها.
واشتد البرد سنة؛
فقال أبو العيناء: إن دام هذا كانت بيوتنا التنانير. ابن المعذل والمخنث رأى عبد الصمد بن المعذل مخنثاً ليلة أربعة عشر من شهر رمضان، وهو مضطجع على ظهره يخاطب القمر ويقول: لا أماتني الله منك بحسرة، أو تقع في المحاق، فما كانت ليلة سبعة وعشرين رأى عبد الصمد الهلال، فقال:
الصوم في الربيع وقال أبو عون الكاتب:
شعبان ورمضان وقال البحتري:
وقال:
يوم الشك وكتب كشاجم إلى بعض إخوانه في يوم شك:
تشبيب بامرأة رعناء كانت لرجل من العرب امرأة رعناء؛ فدخل عليها يوماً وهي مغضبة، فقالت: ما لك لا تشبب بي كما يشبب الرجال بنسائهن ? فقال: إني أفعل ! وأنشدها:
فضحكت ورضيت عنه. مما يشك هل هو مدح أو هجاء ومما يشكل هل هو مدح أو هجاء، أن أبا الينبغي دفع إلى خياط أعور اسمه زيد طيلساناً يقوره له، فلما جاءه ليأخذه دفعه إليه، وقال له: قد خطت لك شيئاً لا تدري أهو طيلسان أو هو دواج. فقال: وأنا أقول فيك بيتاً لا تدري أو هو مدح أو هجاء. وأنشده:
يريد بسواء: يكونان
صحيحتين أو ذاهبتين.
وكان أبو الينبغي
ضعيف الشعر، قلما يصح له الوزن، إلا أنه كان ظريفاً طيباً. ودخل عليه وقد حبس،
فقيل له: ما كان خبرك ? قال أبو الينبغي: قلت ما لا ينبغي ففعل بي ما ينبغي.
وهذا يمدحه؛ يريد أن
يجود بماله ويبخل بعرضه.
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
وليس بما ملـكـت كـفّـه |
|
من البحر في وجوده يعـدل |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
يداه الحيا في حفوف الثـرى |
|
وطعنته في الوغى الفيصل |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
إذا ذكر الناس أهل الـنّـدى |
|
بأسمائهم فـاسـمـه الأوّل |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
محمد أنت الذي إن سـمـو |
|
ت ذي المعمّ لك المـخـول |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
يذمّك كبش الوغى في الوغى |
|
ويحمدك الرمح والمنصـل |
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
أعجزتك القافية !
وذكر أن هاشمياً قال لعمر بن أبي ربيعة: لولا بغضكم لنا يا بني مخزوم ما قلت:
بعيدة مهوى القرط إمّا لنوفلٍ |
|
أبوها وإمّا عبد شمس وهاشم |
فقدمت علينا بني نوفل وبني أمية؛ فتوهمه ابن أبي ربيعة عاقلاً، فقال: لا بأس بتقديم المفضول على الفاضل في اللفظ، قال حسان بن ثابت:
وما زال في السادات من آل هاشم |
|
مكارم صدقٍ لا تعدّ ومـفـخـر |
بهاليل منهم جعفـر وابـن أمّـه |
|
عليٌّ ومنهم أحمد الـمـتـخـيّر |
وأيضاً فالشعر على الميم، فلم يمكن في القافية، إلا ما قلت لك. قال: فأعجزتك الحيلة ? قال: وكيف أحتال ? قال تقول:
بعيدة مهوى القرط إمّا لهـاشـم |
|
أبوها وإمّا عبد شمس ونوفل ميم |
فضحك وقال: وهنا لقد عجزت عن هذا.
نقد لشعر امرىء القيس
ومن عجيب ما يتعلق بهذا الباب إنه وصل إلى حضرة سيف الدولة رجل من أهل بغداد يعرف بالمبحث، وكان ينقر على العلماء والشعراء بما لم يدفعه الخصم ولا ينكره الوهم، فتلقاه سيف الدولة باليمين؛ وأعجب به إعجاباً شديداً؛ فقال يوماً: أخطأ امرؤ القيس في قوله:
كأني لم أركب جواداً لـلـذّة |
|
ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال |
ولم أسبأ الزّقّ الرويّ ولم أقل |
|
لخيلي كرّي كرّةً بعد إجفال |
وهذا معدول عن وجهه لا شك فيه. فقيل: وكيف ذلك ? قال: إنما سبيله أن يقول:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل |
|
لخيلي كرّي كرةً بعد إجفال |
ولم أسبأ الزقّ الرويّ للـذة |
|
ولم أتبطّن كاعباً ذات خلخال |
فيقترن ذكر الخيل بما يشاكلها في البيت
كله، ويقترن ذكر الشرب واللهو بالنساء. ويكون قوله: للذة في الشرب أطبع منه في
الركوب.
فبهت الحاضرون، واهتز سيف الدولة، وقال؛ هذا التهدي وحق أبي ! فقال بعض الحاضرين
من العلماء للمبحث: أنت أخطأت وطعنت على القرآن إن كنت تعمدت ? فقال سيف الدولة:
وكيف ذلك ? فقال: قال الله تبارك وتعالى: إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا
تظمأ فيها ولا تضحى. وعلى قياسه يجب أن يكون: إن لك أن لا تجوع فيها ولا تظمأ، ولا
تعرى فيها ولا تضحى. وإنما عطفه امرؤ القيس بالواو التي لا توجب تعقيباً، ولا ترتب
ترتيباً؛ فخجل وانقطع.
في مجلس الوليد
وقال خالد: قدمت على الولد بن يزيد في مجلس ناهيك من مجلس، فألفيته على سريره وبين يديه معبد. ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ ومالك بن أبي السمح، وابن عائشة، وأبو كامل عذيل الدمشقي؛ فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي فغنيت:
سرى همّي وهمّ المرء يسـري |
|
وغاب النجـم إلاّ قـيد فـتـر |
أُراقب في المجرة كـلّ نـجـمٍ |
|
تعرّض أو على البحرات يجري |
بهـمٍّ مـا أزال بـه قـرينــاً |
|
كأنّ القلب أبطن حـرّ جـمـر |
على بكر أخي فارقت بـكـراً |
|
وأيّ العيش يحسن بعد بـكـر |
فقال: أعد يا صاح، فأعدت. فقال: من يقوله
? قلت: عروة بن أذينة الليثي. فقال: وأي العيش يصلح بعد بكر ? هذا الذي نحن فيه،
والله لقد تحجر واسعاً على رغم أنفه.
وأنشدت سكينة بنت الحسين رضوان الله عنهما هذا الشعر؛ فقالت: ومن بكر ? فوصف لها.
فقالت: ذاك الأسود الذي كان يمر بنا، والله لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبر والزيت
!
السماع وما ينبغي له من الشعر
قلت أنا: وليت شعري إذا كان السماع داعية
الأنس، وعشيق النفس، الذي ينهكها إذا أسرها الهم، ويبسطها إذا قبضها الغم، وهو
المستأذن على القلب، المنقذ له من الكرب، الداخل عليه من غير تعب، والوارد إليه
بغير نصب، وقد قال أرسطا طاليس: لما حددنا المنطق وجدنا فيه ما لا يبلغه اللسان
إلا آلة، فركبنا العود على الطبائع، لاستخراج تلك الودائع، فلما قابلت النفس
استماع ما ظهر منه عشقته بالعنصر.
وقالوا: كل شراب بلا سماع الدن أولى به؛ فما باله لا تستخرج له الأشعار الرقيقة،
ذات المعاني الدقيقة الأنيقة، والألفاظ الناعمة الشكلة، في الأبيات الغزلة، التي
تطرب بالتكلم قبل الترنم، ويتجنب ما كان من صفات الجيوش والمقانب، والغارات
والكتائب، والأحزان والمصائب؛ فلأن يسمع من كان ثملاً جذلاً:
ظفرت بقبلةٍ منه اختـلاسـاً |
|
وكنت من الرقيب على حذار |
ألذّ من الصبوح على غمـامٍ |
|
ومن برد النسيم على خمـار |
أحب إليه من أن يسمع:
إنّ السنان وحدّ السيف لو نطقـا |
|
لحدّثا عنك يوم الروع بالعجـب |
أنفقت مالك تعطـيه وتـبـذلـه |
|
يا متلف الفضّة البيضاء والذهب |
إلا أن يكون سامعه كمهلهل، وربيعة بن مكدم، وعتيبة بن الحارث بن شهاب؛ هذا على أن هذا الشعر ليس بتحسين الحظ في فصاحة اللفظ، ولا قاصر المرمى عن إدراك المعنى، كقول مروان بن صرد أخي أبي بكر بن صرد في يزيد بن يزيد فيه يقول:
أما أبوك فأندى العالـمـين يداً |
|
وكان عمّك معنٌ سيد العـرب |
عيدانكم خير عيدان وأطيبـهـا |
|
عيدان نبع وليس النبع كالغرب |
وإنكم سادةٌ أوليتـم حـسـبـاً |
|
وأنتم قالةٌ للشّعر والخـطـب |
ولكن لكل مكان ما يليق بموضعه، ويحسن
بموقعه؛ فأشبه أوقات اللهو والشراب، ذكر التغزل بالأحباب.
وقد قال بعض البلغاء: لولا العشق والهوى، لم توجد لذة الصبا، ولم يكن الطرب
والغناء، ولنقص نعيم أهل الدنيا.
وكان ابن الرومي يقول: لو ملكت الأمر وأدركت ملحن هذا الشعر لقتلته:
كليبٌ لعمري كان أكثر ناصـراً |
|
وأيسر جرماً منك ضرّج بالـدّم |
رمى ضرع ناب فاستمرت بطعنةٍ |
|
كحاشية البرد اليمانيّ المسـهّـم |
وقال ثمامة بن أشرس: كنت عند المأمون يوماً إذ جاءه الحاجب يستأذن لعمير المأموني، فكرهت ذلك، ورأى الكراهة في وجهي. فقال: يا ثمامة، ما لك ? قلت: يا أمير المؤمنين إنا إذا غنانا عمير ذكر مواطن الإبل، وكثبان الرمل، وإذا غنتنا فلانة انبسط أملي، وقوي جذلي، وانشرح صدري، وذكرت الجنان. كم يا أمير المؤمنين بين أن تغنيك جارية غادة، كأنها غصن بان، بمقلة وسنان، كأنما خلقت من ياقوتة، أو خرطت من درة، بشعر عكاشة العمي:
من كفّ جاريةٍ كأنّ بنانـهـا |
|
من فضّةٍ قد طرّزت عنّابـا |
وكأنّ يمناها إذا ضربت بهـا |
|
تلقي على يدها الشمال حسابا |
وبين أن يغنيك رجل ملتف اللحية، غليظ الأصابع، خشن الكف، بشعر ورقاء بن زهير:
رأيت زهيراً تحت كلكل خالد |
|
فأقبلت أسعى كالعجول أبادر |
وكم بين من يحضرك من تشتهي النظر إليه، وبين من لا يقف طرفك عليه ? فتبسم المأمون. وقال: إن الفرق لواضح، وإن المنهج لفسيح، يا غلام؛ لا تأذن له ! وأحضر قينة. قال: فظللنا في أمتع يوم.
من طيبات الأغاني ومطربات القيان
وقد كتبت جرءاً مما قيل في طيبات الأغاني ومطربات القيان، وأنا أعيد منها هنا قطعة ترتاح إليها الأرواح: أنشد أبو العباس أحمد بن محمد الأنباري الناشىء في مثل قول عكاشة:
وإذا بصرت بكفّها اليسرى حكت |
|
يد كاتبٍ يلقي عليك صنـوفـا |
وكأنّما المضراب فـي أوتـاره |
|
قلم يمجمج في الكتاب حروفـا |
ويجسّه إبهـامـهـا فـكـأنّـه |
|
في النقر ينفي بهرجاً وزيوفـا |
أخذ هذا البيت من قول أبي شجرة السلمي وذكر ناقته:
يطير عنها حصا الظّران من بلدٍ |
|
كما تنوقد عند الجهبذ الـورق |
وأصله من قول امرىء القيس:
كأنّ صليل المرو حين تطيره |
|
صليل زيوفٍ ينتقدن بعبقرا |
وقال ابن العجاج:
كأنّ أيديهنّ بالقاع القـرق |
|
أيدي نساءٍ يتعاطين الورق |
وقال أبو نواس:
وأهيف مثل طاقة ياسمين |
|
له حظّان من دنيا ودين |
يحرّك حين يشدو ساكناتٍ |
|
وتنبعث الطبائع للسكون |
وهذا مليحٌ، يريد حركة الجوانح للغناء، وسكون الجوارح للاستماع.
صفة القيان والعيدان
ومن عجيب ما قيل في صفات القيان والعيدان قول ابن الرومي.
وقـيانٍ كـأنّـهـا أُمـهـاتٌ |
|
عاطفاتٌ على بنيها حـوانـي |
مطفلات وما حملن جـنـينـاً |
|
مرضعات ولسن ذات لـبـان |
ملقمات أطـفـالـهـنّ ثـديّاً |
|
ناهداتٍ كأحسـن الـرمّـان |
مفعمات كأنـهـا حـافـلاتٌ |
|
وهي صفر من درّة الألبـان |
كل طفل يدعى بأسماء شتّـى |
|
بين عود ومـزهـر وكـران |
أمّه دهرها تتـرجـم عـنـه |
|
وهو بادي الغنى عن الترجمان |
وأنشد أبو علي الحاتمي لأبي بكر الصولي:
وغناءٌ أرقّ من دمعة الـص |
|
بّ وشكوى المتيّم المهجـور |
يشغل الفهم عن تظنٍّ وفـهـمٍ |
|
فهو يصغي بظاهرٍ وضمـير |
صافح السمع بالذي يشتـهـيه |
|
فأذاق النفوس طعم السـرور |
ليس بالقائل الضعيف إذا مـا |
|
راض نغماً ولا الشنيع الجهير |
يجتني السمع منه أحسن ممّـا |
|
تجتني العين من وجوه البدور |
إبليس ينادم إبراهيم الموصلي
قال إبراهيم الموصلي: استأذنت الرشيد في
أن يهب لي في كل أسبوع يوماً، أخلو فيه مع جواري، فأذن لي في يوم الأحد وقال: هو
يوم أستثقله؛ فلما كان في بعض الآحاد أتيت الدار، فدخلت الحجاب ألا يأذنوا لأحد
علي وأغلقت الأبواب.
فما هو إلا أن جلست حتى دخل علي شيخ حسن السمت والهيئة، على رأسه قلنسوة لاطئة،
وفي رجله خفان أحمران، وفي يده عكازة مقمعة بفضة، وعليه غلالة سكب.
فلما رأيته امتلأت غيظاً، وقلت: ألم آمر الحجاب ألا يأذنوا لأحد، فسلم. فأفكرت
وقلت: لعلهم علموا من الشيخ ظرفاً وهيئة، فأحبوا أن يؤنسوني به في هذا اليوم؛ فلما
أمرته بالجلوس جلس، وقال: يا إبراهيم ألا تغنيني صوتاً ? فامتلأت عليه غيظاً ولم
أجد إلى ردة سبيلاً؛ لأنه في منزلي، وحملته منه على سوء أدب العامة؛ فأخذت العود
وضربت وغنيت ووضعت العود. فقال لي: لم قطعت هزارك ? فزادني غيظاً، وقلت لا يسيدني
ولا يكنيني ولا يقول: أحسنت ! فأخذت العود فغنيت الثانية، فقال لي: أحسنت، فكدت
والله أشق ثيابي، فغنيت تمام الهزار. فقال: أحسنت يا سيدي ! ثم قال: ناولني العود،
فوالله لقد استجابه، فوضعه في حجره، ثم جسه من غير أن يكون ضرب بأنملة، فوالله لقد
خلت زوال نعمتي في حبسه، ثم ضرب وغنى:
ألا يا صبا نجدٍ متى هجت من نجـد |
|
لقد زادني مسراك وجداً على وجد |
أإن هتفت ورقاء في رونق الضّحى |
|
على فنن غضّ النبات من الرّنـد |
بكيت كما يبكي الولـيد ولـم أكـن |
|
جليداً وأبديت الذي لم أكـن أُبـدي |
وقد زعموا أنّ المـحـبّ إذا دنـا |
|
يملّ وأنّ النأي يسلي من الـوجـد |
بكلّ تداوينا فلـم يشـف مـا بـنـا |
|
على أن قرب الدار خيرٌ من البعد |
فوالله لقد خلت كل شيء في الحضرة يتغنى معه حتى الأبواب والستور، ثم ضرب وغنى:
ألا يا حمامات اللّوى عدن عودةً |
|
فإني إلى أصواتكـنّ حـزين |
فعدن فلما عدن كدن يمتنـنـي |
|
وكدت بأسراري لهـنّ أُبـين |
دعون بترداد الهدير كـأنـمـا |
|
شربن حميّا أو بهنّ جـنـون |
فلم تر عيني مثلهنّ حمـائمـاً |
|
بكين ولم تدمع لهـنّ عـيون |
ثم ضرب وغنى:
قفا ودعا نجداً ومن حلّ بالحمى |
|
وقلّ لنجدٍ عنـدنـا أن يودّعـا |
وأذكر أيام لحمى ثم أنـثـنـي |
|
على كبدي من خشيةٍ أن تصدّعا |
فليست عشيّات الحمى برواجـع |
|
إليك ولكن خلّ عينيك تدمـعـا |
وأعذر فيها النفس إن حيل دونها |
|
وتأبى إليها النفس إلاّ تطلّـعـا |
فوالله لقد تغنى كل
شيء معه بالحضرة، حتى النمارق والوسائد وقميصي الذي على بدني؛ فقال: يا أبا
إسحاق ! هذا الغناء الماخوري، تعلمه وعلمه جواريك، ثم وضع العود من حجره وقام
إلى الدار فلم أره، فدفعت أبواب الحرم فإذا هي مغلقة؛ فقلت: ويحكن هل سمعتن ما
سمعت، أو رأيتن ما رأيت ? قلن: نعم ! سمعنا وأعدن الأصوات علي وقد لقنها؛ فسألت
الحجاب عن الرجل؛ فقالوا لي: لم يدخل عليك أحد حتى يخرج، فأمرت بدابتي فأسرجت،
فركبت من فوري إلى دار الخليفة واستأذنت؛ فلما رآني قال: ألم تنصرف آنفاً على
نية المقام في منزلك والخلوة بأهلك؛ قلت: يا سيدي؛ جئت بغريبة؛ وقصصت عليه القصة
من أولها إلى آخرها، فضحك حتى رفع الوسائد برجليه، وقال لي: كان نديمك اليوم أبو
مرة، وددت أنه لوم متعنا بنفسه كما متعك.
أبو فراس يستميل سيف الدولة إلى الغناء ومن مليح هذا المعنى قول أبي فراس: كان سيف الدولة لا يشرب النبيذ ولا يسمع القيان ويحظرهما، فوافت ظلوم الشهرامية، وكانت إحدى المحسنات، وكان بحضرته ابن المنجم أحد المحسنين، فتاقت نفسي إلى سماع ظلوم؛ فسألت الأمير أن يحضرهما لأسمعهما مجتمعين؛ فوعدني بإحضارهما مجلسه من يومه، فانصرفت وأنا غير واثق بذلك لعلمي بضعف نيته في مثله، ووجهت إلى ظلوم أتقدم إليها بالاستعداد، وحصلت عندي ابن المنجم، وأقمت أنتظر رسوله إلى أن غربت الشمس، فكتبت إليه:
فبلغت هذه الأبيات أبا محمد الحسن بن محمد بن هارون المهلبي؛ فأمر بها فلحنت وغني بها، فلم يشرب بقية يومه ذلك إلا عليها. من شعر أبي فراس وأبو فراس هو الحارث بن سعيد بن حمدان؛ وفي أبي فراس يقول القاضي ابن الهيثم:
قال أبو فراس: فحاولت جوابه على هذه القافية فما أمكنني شيء أرتضيه، فكتبت إليه:
وكان أبو فراس حسن
الشعر، جيد النمط، ولقوته من الطلاوة والحلاوة ما يشهد به ما أنشد له. بين أبي فراس وسيف الدولة وكتب أبو فراس إلى سيف الدولة وقد سار إلى منزله: كتابي أطال الله بقاء الأمير من منزلي، وقد وردته ورود السالم الغانم موقر الظهر وفراً وشكراً؛ فاستحسن سيف الدولة بلاغته فقال:
وأهدى الناس إلى سيف الدولة في بعض الأعياد فأكثروا؛ فاستشارهم أبو فراس فيما يهديه إليه، فكل أشار بشيء، فخالهم وكتب إليه:
ووقع بين أبي فراس وبين بني عمه عداء وهو صغير؛ فمزح سيف الدولة معه بالتعصب عليه فقال: |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
|
|
|
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
قد كنت عدّتي التي أسطـو بـهـا |
|
ويدي إذا خان الزمان وسـاعـدي |
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
فرميت منك بضـدّ مـا أمّـلـتـه |
|
والمرء يشرق بالـزّلال الـبـارد |
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
فصبرت كالولد الـتـقـيّ لـبـرّه |
|
أغضى على مضضٍ لضرب الوالد |
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
وقال يفخر:
لنا بيتٌ على طنب الـثـريا |
|
بعيد مذاهب الأكناف سامي |
تظلّله الفوارس بالعـوالـي |
|
وتفرشه الولائد بالطـعـام |
وقال يصف السبي.
وخريدة كرمت على آبـائهـا |
|
وعلى بوادر خيلنا لم تـكـرم |
خطبت بحدّ السيف حتى زوّجت |
|
كرهاً وكان صداقها للمقسـم |
راحت وصاحبها بعرس حاضرٍ |
|
يرضي الإله وأهلها في مأتـم |
وقال:
ما كنت مذ كنت إلاّ طوع خلاّنـي |
|
ليست مؤاخذة الخلاّن من شانـي |
يجني الصديق فأستحلي جنـايتـه |
|
حتى أدلّ على عفوي وإحسانـي |
ويتبع الذّنب ذنباً حين يعـرفـنـي |
|
عمداً فأُتبع غفرانـاً بـغـفـران |
يجني عليّ فأحنو صافحاً كـرمـاً |
|
لا شيء أحسن من حانٍ على جان |
وقال:
فواللّه ما أضمرت في الحبّ سلوةً |
|
وواللّه ما حدّثت نفسي بالصـبـر |
وإنك في عيني لأبهى من الغـنـى |
|
وإنك في قلبي لأحلى من النّصـر |
فيا حكمي المأمول جرت مع الهوى |
|
ويا ثقتي المأمون جرت مع الدهر |
وقال:
سكرت من لحظه لا من مدامته |
|
وما بالنوم عن عيني تمـايلـه |
وما السّلاف دهتني بل سوالفـه |
|
ولا الشّمول ازدهتني بل شمائله |
ألوى بصبري أصداغٌ لوين لـه |
|
وغلّ صدري ما تحوي غلائله |
وقال:
وظبي غرير في فؤادي كناسه |
|
إذا كنست عين الفلاة وحورها |
فمن خلقه لبّاتها ونحـورهـا |
|
ومن خلقه عصيانها ونفورها |
وقال:
ألزمني ذنبـاً ولا ذنـب لـي |
|
ولجّ في الهجران والعـتـب |
أُحاول الصبر على هـجـره |
|
والصبر محظورٌ على الصبّ |
من لي بكتمان هـوى شـادنٍ |
|
عيني له عينٌ على قلـبـي |
عرّضت صبري وعلوّي لـه |
|
فاستشهدا في طاعة الحـبّ |
وقال:
لبسنا رداء الليل، والليل راضعٌ |
|
إلى أن تردّى رأسه بمـشـيب |
وبتنا كغصني بانةٍ عطفتهـمـا |
|
مع الصبح ريحاً شمألٍ وجنوب |
إلى أن بدا ضوء الصباح كأنّـه |
|
مبادي نصولٍ في عذار خضيب |
فيا ليل قد فارقت غير مـذمّـم |
|
ويا صبح قد أقبلت غير حبـيب |
وقال:
قل لأحبابنا الـجـفـاة رويداً |
|
درّجونا على احتمال الملال |
إنّ ذاك الصدود من غير جرمٍ |
|
لم يدع في موضعاً للوصال |
أحسنوا في هواكم أو أسـيئوا |
|
لا عدمناكم على كـلّ حـال |
وقال:
ومغضٍ للمهابة عن جوابي |
|
وإنّ لسانه العضب الصقيل |
أطلت عتابته عنتاً وظلمـاً |
|
فدمّع ثم قال: كما تقـول |
وقال:
بتنا نعلّل من ساقٍ أغـنّ لـنـا |
|
بخمرتين من الصهباء والـخـدّ |
كأنّه حين أزكى نار وجـنـتـه |
|
سكراً وأسبل فضل الفاحم الجعد |
يعدّ ماء عنـاقـيد بـطـرّتـه |
|
بماء ما حملت خدّاه مـن ورد |
وقال:
أيا سافراً ورداء الخـجـل |
|
مقيمٌ بوجـنـتـه لـم يزل |
بعيشك ردّ عليك الـلـثـام |
|
أخاف عليك جراح المقـل |
فما حقّ حسنك أن يجتلـى |
|
ولا حقّ وجهك أن يبتـذل |
أمنت عليك صروف الزمان |
|
كما قد أمنت عليّ الملـل |
وقال:
لا غرو إن فتنـتـك بـال |
|
ألحاظ فاترة الـجـفـون |
فمصارع العـشـاق مـا |
|
بين الفتور إلى الفـتـون |
اصبر فمن سنن الـهـوى |
|
صبر الضنين على الضنين |
وقال:
سقى ثرى حلب، ما دمت سانها |
|
يا بدر، غيثان منهلٌّ ومنبجـس |
كأنّما البدر والولدان موحـشة |
|
وربعها دونهنّ العامر الأنـس |
أسير عنها لأمرٍ ما فيزعجنـي |
|
حتى يعود إليها الخدّر الكبـس |
مثل الحصاة التي يرمى بها أبداً |
|
إلى السماء فترقى ثم تنعكـس |
وقال أبو فراس في رسول ملك الروم إذ جاء يطلب الهدنة، فأمر سيف الدولة بالركوب بالسلاح، فركب من داره ألف غلام مملوك بألف جوشن مذهب على ألف فرس عتيق بألف تجفاف، وركب الناس والقواد على تبعيتهم وسلاحهم وراياتهم، حتى طبق الجيش جبل جوشن وما حوله. فقلت:
علونا جوشناً بأشـد مـنـه |
|
وأثبت عند مشتجر الرماح |
بجيش جاش بالفرسان حتّى |
|
ظننت البرّ بحراً من سلاح |
فألسنةٌ من العذبات حـمـر |
|
تخاطبنا بـأفـواه الـرياح |
وأروع جسمه لـيلٌ بـهـيمٌ |
|
وغرّته عمودٌ من صبـاح |
صفوحٌ عند قدرتـه كـريمٌ |
|
قليل الصّفح ما بين الصفاح |
كأن ثباته للقـلـب قـلـبٌ |
|
وهيبته جناحٌ للـجـنـاح |
طرف من أخبار المهلبي
وعلى ذكر المهلبي أذكر طرفاً من ظريف
أخباره، وشريف آثاره، وإنما أسلسل أخبار أمثاله من أشراف العصر، وأفراد الدهر،
تعمداً للذة الجدة، ورونق الحداثة؛ إذا كان ما لم يقرع الآذان، أدعى إلى
الاستحسان، مما تكرر حتى تكدر.
والمهلبي هو أبو محمد الحسن بن محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن
قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وكان المطيع لله الفضل بن جعفر المقتدر، لما ولي
الخلافة بعد المستكفي، قام بجميع أموره معز الدولة أحمد بن بويه الديلمي، وصحبه
أجمل صحبة من أول ولايته إلى سنة موته وهي سنة ست وخمسين وثلاثمائة، وعقد الديلمي
أمر وزارته للمهلبي سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة. وكان المهلبي من سروات الناس
وأدبائهم وأجوادهم وأعزائهم، وفيه يقول أبو إسحاق الصابىء:
نعم اللّه كالوحوش وما تـأ |
|
لف إلاّ أخايراً نـسّـاكـا |
نفّرتهـا أيام قـومٍ وصـيّ |
|
رت لها البرّ والتّقى أشراكا |
وفيه يقول:
قل للوزير أبـي مـحـمـد الـذي |
|
قد أعجزت كلّ الورى أوصـافـه |
لك في المجالس منطقٌ يشفي الجوى |
|
ويسوغ فـي أذن الأديب سـلافـه |
وكأنّ لفظك لـؤلـؤ مـتـنـخّـل |
|
وكـأنـمـا آذانـنـا أصـدافــه |
وفيه يقول أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة السعدي:
أنا عبد من لو قال للشمس اغربي |
|
غربت وقد طلعت على الأشهاد |
المستقل مـن الـوزارة رتـبةً |
|
إشراقها فوق الخـلافة بـادي |
عقّ الكماة لخوفه هـيجـاءهـم |
|
وهم لطـاعـتـه مـن الأولاد |
وتقنعوا بالنـزر مـن أيامـهـم |
|
حتى ظنناهـم مـن الـزهـاد |
ومن التراب عجاجهم وعجاجـه |
|
ممّا يحطّم مـن قـنـاً وجـياد |
القائد الخيل العتـاق كـأنـهـا |
|
أسد مخالبها صـدور صـعـاد |
كذب المحدّث بالشجاعة والنـدى |
|
عن خـنـدف وربــيعة وإياد |
لو أبصرت عيناه آل مـهـلـب |
|
والخيل راوية النحور صـوادي |
يخرجن من رهج العجاج كأنمـا |
|
أسيافهم خرجت من الأغـمـاد |
أوما رأيت جنابهم مـتـدفّـقـاً |
|
متوسعـاً لـتـضـايق الـرّوّاد |
ووجوههم للبذل من إشراقـهـا |
|
قد قنّعت شمس الضحى بسـواد |
لرأيت أو كادت جفونك أن ترى |
|
لجج البحـار وآنـف الأطـواد |
وعلمت أنهم على رغم الـعـدى |
|
ذهبوا بكل نـدىً وكـلّ جـلاد |
يا من نصغّره إذا قـلـنـا لـه |
|
ملك الملوك وماجد الأمـجـاد |
وذباب سيفك إنه قسم الـوغـى |
|
والموت في ثوب من الفرصـاد |
لأطرزنّ بك الزمـان مـدائحـاً |
|
تختال بين الـشـدو والإنـشـاد |
تدع المسامع والقلوب لحسنـهـا |
|
عند الرواة تشـدّ بـالأصـفـاد |
وقال فيه:
ألكني إلى آل المهلـب إنـهـم |
|
لأرفع من زهر النجوم وأثقب |
إذا سلبوا الأموال من شنّ غارة |
|
أغار عليها المجتدون ليسلبـوا |
فلا زالت الأملاك تطلب رفدهم |
|
فتدنى وتعطى فوق ما تتطّلب |
ولا برحت حمر المنـايا وسـودهـا |
|
إلى بأسهم يوم الوغى تـتـحـزّب |
فما استمطروا للجود إلاّ تـدفّـقـوا |
|
ولا استصرخوا للطّعن إلاّ تلبّـبـوا |
إليك أمين اللّه في الأرض شمّـرت |
|
عزيمة صبحٍ بالدّجى تتـجـلـبـب |
يرى حظّه مستـأخـراً وهـو أوّلٌ |
|
وآماله مغـلـوبة وهـو أغـلـب |
وأنت شبابٌ للذي شـاب مـقـبـلٌ |
|
إليه ووجهٌ للذي خـاب مـلـحـب |
تقـود أبـيّات الأمـور كـأنّـهـا |
|
إليك أسارى في الأزمّة تـجـنـب |
وتطعن في صدر الكتائب معلـمـاً |
|
كأنك في صدر الدواوين تـكـتـب |
نداؤك أملـى والـجـياد مـنـابـرٌ |
|
وأبطالها بالمشرفّـية تـخـطـب |
أذمّ زياداً فـــي ركـــاكة رأيه |
|
وفي قوله: أيّ الرجال المـهـذب |
وهل يحسن التهذيب منك خـلائقـاً |
|
أرقّ من المـاء الـزلال وأعـذب |
تكلّم والنـعـمـان بـدر سـمـائه |
|
وكلّ مليكٍ عند نعمـان كـوكـب |
ولو أبصرت عيناه شخصـك مـرّة |
|
لأبصر منه شمسه وهي غـيهـب |
إذا ذكرت أيامك الغرّ أظـلـمـت |
|
تميم وقيس والربـاب وتـغـلـب |
لقد صرّحوا بالمال لي وهو مبـهـم |
|
وقد عرّضوا بالقول لي وهو موجب |
ولي همةٌ لا تطلب المال للـغـنـى |
|
ولكنها منك الـمـودّة تـطـلـب |
فإن كان قولي دون قـدرك قـدره |
|
فما أنا فيه في امتداحـك مـذنـب |
إذا كانت الأشـياء دونـك قـدرهـا |
|
فغير ملومٍ أن يقصّـر مـسـهـب |
زياد: هو النابغة الذبياني؛ وإنما عنى قوله في اعتذاره للنعمان بن المنذر:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تـلـمّـه |
|
على شعثٍ أيّ الرجال المهذب |
ألم تر أنّ اللّه أعطاك سـورةً |
|
ترى كل ملكٍ دونها يتـذبـذب |
بأنّك شمسٌ والملوك كـواكـب |
|
إذا طلعت لم يبد منهنّ كوكب |
وإنما أخذ النابغة هذا من قول شاعر من كندة قديم:
تكاد تميد الأرض بالنـاس إن رأوا |
|
لعمرو بن هند غضبةً وهو عاتـب |
هو الشمس وافت يوم دجنٍ فأفضلت |
|
على كل نورس والملوك كواكـب |
من حياة المهلبي
والمدح في أبي محمد المهلبي كثير، وإنما يؤخذ من كل شيء ما اختير. وكان قبل تعلقه بحبل السلطان سائحاً في الأرض على طريق الفقر والتصوف. قال أبو علي الصوفي: كنت معه في بعض أوقاته، أماشيه في بعض طرقاته؛ فضجر لضيق الحال، فقال:
ألا موتٌ يباع فأشـتـريه |
|
فهذا العيش ما لا خير فيه |
ألا رحم المهيمن روح حرّ |
|
تصدّق بالوفاة على أخيه |
قال: فاشتريت له رطل لحم وطبخته له. ثم تصرف بنا الدهر وبلغ المهلبي مبلغه؛ قال أبو علي: فاجتزت البصرة واجتزت بأسلمان، فإذا أنا بناشطيات وحراقات وزيارب وطيارات في عدة وعدة. فقلت: لمن هذا ? فقيل: للوزير أبي محمد المهلبي، فنعتوا لي صاحبي، فتوصلت إليه حتى رأيته، فكتبت رقعة واحتلت حتى دخلت، فسلمت وجلست، حتى إذا خلا المجلس رفعت إليه الرقعة، وفيها:
ألا قل للوزير بلا احتشـام |
|
مقال مذكّر ما قد نـسـيه |
أتذكر أن تقول لضيق عيشٍ |
|
ألا موتٌ يباع فأشـتـريه |
فنظر إلي، وقال: نعم ! ونهض وأنهضني معه في مجلس أنسه، وجعل يذكر لي كيف توافت حاله؛ وقدم الطعام فأطعمنا، وأقبل ثلاثة من الغلمان على رأس أحدهم ثلاث بدر، ومع آخر تخوت وثياب رفيعة، ومع آخر طيب وبخور؛ وأقبلت بغلة رائعة بسرج ثقيل؛ فقال لي: يا أبا علي؛ تفضل بقبول هذه، ولا تتأخر عن حاجة تعرض لك، فشكرته وانصرفت؛ فلما هممت بالخروج من الباب استردني وأنشدني بديهاً:
رقّ الزمان لفاقتـي |
|
ورثى لطول تحرّقي |
فأنالني ما أرتـجـي |
|
وأجار ممّا أتّـقـي |
فلأغفرنّ له القـدي |
|
م من الذنوب السّبّق |
إلاّ جنـايتـه لـمـا |
|
فعل المشيب بمفرقي |
العباس بن الحسين وآثاره
ولما مات المهلبي وجد عليه أحمد بن بويه
وجداً شديداً ولم يستوزر أحداً بعده، وبلغ منه أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد
بن فاخر بعد المهلبي مبلغاً عالياً؛ للمصاهرة التي كانت بينه وبين المهلبي؛ ولأنه
كان يخلفه في الدواوين؛ فكان يخطب درجة المهلبي في الوزارة فلم يبلغها.
وكان العباس ممن تعظمه الملوك وتعرف قدره في الفرس وسبقه، وكان بنو بويه يخاطبونه
بالشيخ؛ ولما حصلوا بأرض العراق استدعوه من فارس اشتياقاً إليه، وحاجةً إلى رأيه؛
لما كانوا يعرفون من ثقته، وكان يتخذ من الزي وتفخيم شأن الملك ما كان يحسن به في
عين أحمد بن بويه؛ إذ كان يحب من أصحابه ذلك.
وكان مما عمله العباس المغيض الذي بظاهر السندية، الذي ينزع من نهر عيسى بن موسى
الهاشمي النازع من الزاب الأعظم بناحية البثق المعروف ببثق الروبانية وهو الذي
تعمره ملوك العراق، وتحوط به الأعمال التي ترد إلى كل ناحية حظها من الشرب الذي
تكون به عماراتها واستقامة ربوعها ووفور أموالها وتمام خراجها.
وهذا المغيض عملته الأكاسرة لينتفع به عند زيادة المياه وكثرتها؛ فإنها حين تخشى
البثق المقدم ذكره وغيره من البثوق أن تزيد المياه عليها فتخرقها فينصرف الماء عن
سائر الضياع، فإذا خشي ذلك فتح هذا المغيض فانصرف ما يزيد من الماء عن قدر ما
ينتفع به إليه، حتى يصب في نهر يعرف بصرصر حتى يفرغ في دجلة، فعمل هذا المغيض من
ماله بعد فساد ما كان قبله. وسائر هذه البثوق تسترم بعد خمسين عاماً من بعد
عمارتها إلى السبعين، أكثره على ما يذكرون.
ثم عمر الدار المعروفة بخاقان، وهي في ملك ولده وما يليها من الدور التي كانت
تجاورها بشاطىء دجلة، وهذه الدار معروفة عند الملوك معظمة في نفوسهم، وهي دار لها
حدان، فالجبلي منها ينتهي إلى دجلة، والشرقي منها ينتهي إلى نهر الصراة النازع من
نهر عيسى النازع من الفرات الأعظم، حتى يلتقي هذان النهران.
وقد كان في قديم الزمان بلغ أمرها بعض ملوك الروم؛ وصف له أن بالعراق داراً يجتمع
فيها دجلة والفرات، فأعظم ذلك وأكبره، وأكذب من أخبره به. ثم كشف عن ذلك لعظمه
عنده فوجده حقاً، فعمر العباس هذه الدار على أحسن مما كانت عليه، بل أزيد من ذلك،
وانتهى خبرها إلى أحمد بن بويه فأحب النظر إليها؛ فاصطنع له طعاماً ورتب الناس على
أحسن ما يكون من ترتيب مثله، وفرش مجالسها وقبابها ومحالها وخباءها ورحابها
وخورنقاتها وجيرياتها، بألوان المثقل بالمذهب، والأرمني الرفيع على أصنافه، والخزو
المقطوع المرقوم المثقل بالذهب على أجناسه وألوانه، والمحفور الدجلي القديم
والمحفور الأرمني، وغير ذلك من أصناف الفرش مما أحدثه العراقيون.
وكان ذلك على حين طيب الزمان، واجتماع خيرات كل أوان، في زمن الورد ووقت النيروز
الفارسي، وهو حين تكامل النبت وزيادة المياه، وطلوع الثمار، وزهر الأشجار.
واصطنع في البستان الأعظم على البركة التي يجتمع بفنائها الجبلي والشرقي دجلة
والفرات قصراً مبنياً من السكر على أربع طبقات، بأبواب تدور به، وأبواب تغلق عليها
من فوقها طبقة فطبقة، تطلع من تلك الأبواب صور من السكر على هيئة الجواري الغلمان
بصنوف الملاهي في أحسن الملابس والحلل، وجعل على شرفاتها وطبقاتها وحناياها صور
أنواع الطير والحيوان والوحش، وجعل من ورائها رجالاً تنفخ بالبوقات والمزامير، كل
صنف يخرج منه صوت يليق بصورته صوت مثله؛ وكل ذلك من السكر المموه بصنوف الأصباغ
والنقوش والذهب. ثم نصب القيان وأصحاب الملاهي على طبقاتهم مفترقين في تلك
المجالس.
وحضر أحمد بن بويه وولده بختيار وإبراهيم ومحمد: كل منهم في قواده وجنده وكتابه
ووجوه رجاله وحاشيته. وأمر بعرض دجلة. فمد من جانبها الغربي الذي هو الركن المجتمع
فيه دجلة والفرات إلى الجانب الشرقي الذي بإزائه حبل مفتول، ونثر على الماء من
الورد ما غطى دجلة من الجانب إلى الجانب الآخر، إلا ما خرقته أنواع المراكب من
الطيارات والزلالات والحديديات والزبازب والسماريات التي ركبها أحمد وأصحابه إلى
من سواهم من العامة، وانتظمت هذه المراكب جانبي دجلة من حد هذه الدار وما بإزائه
من الجسر الذي بباب الطاق، وصار المسلوك من دجلة في وسطها، وصار ذلك الورد يستقبل
المنحدر إلى الدار يمنعه الحبل المعترض من الجري مع الماء من تحته.
ثم تلقى أحمد وبنيه بما أعد لهم من
الكرامة والحباء؛ فكان من صنوف ذلك دنانير ودراهم ضربها في كل دينار منهما ودرهم
خمسة دنانير وخمسة دراهم عليها صنوف الصور في أواني الذهب والفضة، الفضة في الذهب،
والذهب في الفضة، وأنواع البز من صنوف الحرير والنسيج والخز والشرب وأصناف المتاع،
وأعد من الخيل والمراكب والغلمان بصنوف الملابس بقدر ما يقتضيه ما قدمنا ذكره.
ثم اخذ في إطعام الجميع؛ حتى عم سائرهم صغيرهم وكبيرهم. إلى أن وصل ذلك بأصحاب
السفن، فأتى على سائرهم طعاماً وشراباً.
ولما حضر الانصراف قدم بين يدي أحمد من تلك الصواني الذهب والفضة من كل صنف
صينيتين، في كل واحدة ألف دينار وألف درهم، ومن الخلع والدواب والمراكب ما يشاكل
ذلك، وجعل لبختيار بن أحمد ما يشاكل ذلك، ولكل واحد من إخوته نصف ذلك؛ وعم سائر
القواد والرؤساء على أقدارهم من كسوة وغيرها، كل إنسان بقدره؛ ثم أمر بنهب القصر
السكر، فنهبه الحشم والغلمان والعامة حتى أتوا على آخره.
وقد حكى منصور بن عيسى بن سوادة الكاتب، وكان يلي دواة العباس وكان خصيصى به قديم
الصحبة له خبيراً بأمره؛ قال: قدم سيدنا أبو الفضل مقدار ما لزمه على إصلاح
المغيض، وبناء الدار، وما أنفقه في الدعوة من ماله سوى ما عضده به الكتاب والعمال
والصناع، فكان مبلغه ستمائة ألف دينار، فسئل عن مقدار ما كان أعانه من قدمنا ذكره؛
فقال: هو والله أكثر من أن أحصيه ! ولم يكن للعباس علم ولا ضرب في الكتابة بسهم،
ولكن كانت له دراية بالأعمال، وتصرف في أمور السلطان؛ وكانت له همة عالية. ويقال:
إن جده فاخراً كان إسكافاً.
زوج العباس بنت المهلبي
وكان العباس تزوج زينة بنت المهلبي، وكانت
قد بلغت بها الحال إلى أن اتخذت الجواري الأتراك حجاباً في زي الرجال على ما جرى
به رسم السلطان، وكان لها كتاب من النساء؛ مثل سلمى النوبختية، وعائشة بنت نصر
القسوري حاجب المقتدر، وغيرهما من القهارمة؛ ومن يتصرف في الأعمال تصرف الرجال،
وكان لها كرم وجود في الأموال.
فلما قبض على زوجها أبي الفضل بعد وزارته الثانية لبختيار بن أحمد، وقد صارت
الوزارة لمحمد بن بقية اختفت زينة بنت الحسن وسائر أسبابها؛ فجعلت عليها العيون في
كل مكان، واستقصى على أبي الفضل زوجها؛ وسلم إلى محمد بن عمر بن يحيى بعد طاهر
العلوي، فخرج به من بغداد إلى الكوفة؛ فأقام عنده مدةً يسيرة ثم مات، ودفن هناك في
النجف بجوار قبر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
ولم يزل بختيار يطلب زينة وأسبابها، فعثر على أكثر أسبابها فلم يجد لها موضعاً؛
وكان سبب اختفائها منه أنه راسلها في حين القبض على أبي الفضل، وأعلمها أنه يسومه
الترك ليتزوج بها؛ فردت أقبح رد، وأنكرت ذلك؛ فكان ذلك سبب اختفائها، وكان لها من
الذخائر والودائع في أيدي جماعة مما كان يغني كثيراً من الناس، فلما بلغ بها الأمر
طمع كل واحد فيما في يده والغدر به.
ولما كان بعد اليأس من وجودها، ظهر بظاهر الخلد بقرب محلة تعرف بالدسترقين فرد
محمل مغطى، فيه امرأة في أخلاق وعند رأسها رقعة مكتوب فيها زينة بنت الحسن بن محمد
المهلبي الوزير؛ فاشتهر ذلك عند الخاصة والعامة، ووافى القاضي أبو تمام الحسن بن
محمد الهاشمي المعروف بالزينبي، فاحتملها لداره وتولى من أمرها ما يجب لمثلها، ودفنها
في مقابر قريش؛ وقد كانت أختاها تحت ولديه أبي الحسن وأبي القاسم.
الحب والطعام
وكان أبو الحارث حسين يظهر لجارية من المحبة أمراً عظيماً فدعته وأخرت الطعام إلى أن ضاق. فقال: يا سيدتي؛ ما لي لا أسمع للغداء ذكراً. فقالت: يا سبحان الله ! أما يكفيك النظر إلي وما ترغبه فيّ من أن تقول هذا ? فقال: يا سيدتي؛ لو جلس جميل وبثينة من بكرة إلى هذا الوقت لا يأكلان طعاماً لبصق كل واحد منهما في وجه صاحبه.
شركة
أراد قوم من البصرة الجمع؛ فقال أحدهم: علي الطعام. وقال أحدهم: علي الشراب. وقالوا: ما عليك أنت يا أبا إسحاق ? فقال: لعنة الله علي إذا لم آكل وأشرب معكم؛ فضحكوا منه ومضوا به.
ولكن اللجام لي
قال أبو عبيدة: أجريت الخيل في الحلبة؛ فجاء فرس من الخيل سابقاً، فجعل رجل من النظارة يكثر الفرح ويكبر ويصفق. فقال له رجل إلى جانبه: يا فتى؛ الفرس لك ? قال: لا ! ولكن اللجام لي !.
طفيلي في عرس
دخل طفيلي عرساً فلم يقدر على الدخول،
فأخذ قرطاساً وأدرجه ولم يكتب فيه شيئاً، وسأل عن العروس، هل له قرابة غائب ?
فقيل: أخوه. فكتب عنوان الكتاب من فلان بن فلان إلى أخيه، وجاء فدق الباب. وقال:
معي كتاب من أخي العروس، فخرج العروس مبادراً فأدخله وأحضر له الطعام؛ فلما قرأ
العنوان قال: سبحان الله ! تراه نسي اسمي إذ لم يكتبه على الكتاب ? فقال الطفيلي:
وأعجب من هذا أنه لم يكتب داخله شيئاً من العجلة، فعلم مراده وأدخله.
وأنشد بعضهم لأبي محمد بن وكيع:
بينا أنزّل أمري أن يجـي فـرجٌ |
|
مقدّماً فيه بين السّـوق والـلـيت |
إذا بصرت بباب الدار مستـلـمـاً |
|
فملت مستمعاً أُصغي إلى الصوت |
فقلت من جا بباب الدار يقـرعـه |
|
نادى أنا فرجٌ زن لي كرى بيتـي |
عتاب طفيلي على التطفيل ورده
عوتب طفيلي على التطفيل؛ فقال: والله ما بنيت المنازل إلا لتدخل، ولا نصبت الموائد إلا لتوكل، وإني لأجمع في التطفيل خلالاً، أدخل مجالساً، وأقعد مستأنساً، وأنبسط وإن كان رب الدار عابساً، ولا أتكلف مغرماً، ولا أنفق درهماً، ولا أتعب خادماً.
وصية طفيلي لأصحابه
قال ابن دراج الطفيلي لأصحابه: لا يهولنكم غلق الأبواب، ولا شدة الحجاب، ولا عنف البواب، وتحذير العقاب، ومبارزة الألقاب؛ فإن ذلك صائر بكم إلى محمود النوال، ومغن لكم عن ذل السؤال، واحتملوا الوكزة الموهنة، واللطمة المزمنة، في جنب الظفر بالبغية، والدرك للأمنية، والزموا الطوزجة للمعاشرين، والخفة بالواردين والصادرين. والتملق للملهين والمطربين، والبشاشة بالخدم والموكلين؛ فإذا وصلتم إلى مرادكم فكلوا محتكرين؛ وادخروا لغدكم مجتهدين؛ فإنك أحق بالطعام ممن دعي إليه، وأولى ممن صنع له؛ فكونوا لوقته حافظين، وفي طلبه متمسكين، واذكروا قول أبي نواس:
ليخمس مال اللّه من كلّ فاجرٍ |
|
وذي بطنةٍ للطيبـات أكـول |
تقاصر لينالك الضرب
جلد بعض الشرط رجلاً وكان الجلاد قصيراً دميماً والمجلود طويلاً؛ فقال له الجلاد: تقاصر لينالك الضرب. فقال: ويلك ! إلى أكل الفالوذج تدعوني ? والله لوددت أن تكون أنت أقصر من يأجوج ومأجوج، وأنا أطول من عوج.
أمنية المبغض
دخل أعرابي من ثقيف على خالد بن عبد الله
القسري، فشكا إليه قلة المطر، وجفوف الشجر، وكثرة العيال، وعدم المال. وكان خالد
مبغضاً لثقيف، فقال: أما ما ذكرته من قلة المطر فوددت أن الله جل اسمه ضرب بينكم
وبين السماء صفائح من حديد؛ وجعل مسيلها مما يلي البحر، فلا تصل إليكم قطرة من
مائها. وأما ما ذكرت من يبس الشجر فوددت أن الله أحرق ما لديكم من ذلك. وأما ما
ذكرت من قلة المال وكثرة العيال فوددت أن الله قطع يديك ورجليك ولم يجعل لأهلك
كاسباً غيرك.
فقال: أيها الأمير؛ أصلحك الله، وطئت أرضك، وأملت رفدك، فلا تصرفني بحسرة الحرمان،
واجعل قراي منك بقدر أملي فيك، لا بقدر نسبي عندك. قال: يا غلام، أعطه بدرة، ثم
زاده أخرى.
النكث في البيع خير من خيانة الشريك
وجلس مالك بن طوق في قصره في شباك مطل على رحبته، ومعه جلساؤه، إذ أقبل أعرابي تخب به ناقته؛ فقال: إياي أراد، ونحو قصد. ولعل معه أدباً ينتفع به، ثم أمر بإدخاله؛ فلما مثل بين يديه قال: ما أقدمك يا أعرابي ? قال: سيب الأمير ورجاء نائله. قال: هل قدمت أمام رغبتك وسيلة ? قال: نعم ? أربعة أبيات قلتها بظهر البرية، فلما رأيت ما بباب الأمير من الهيبة والجلال استحقرتها واستصغرتها. قال: فهل لك أن تنشدنا أبياتك على أن نجيزك عليها ألف درهم، فإن كنت ممن أحسن ربحنا عليك، وإلا فقد نلت مرادك، وربحت علينا. قال: رضيت، وأنشده:
وما زلت أخشى الدهر حتى تعلّقت |
|
يداي بمن لا يتّقي الدهر صاحبـه |
فلما رآني الدهر تحت جـنـاحـه |
|
رأى مرتقىً صعباً منيعاً مطالبـه |
رآني بحيث النّجم في رأس بـاذخٍ |
|
تظلّ الورى أكنافه وجـوانـبـه |
فتىً كسماء الغيث والناس حولـه |
|
إذا قحطوا جادت عليهم سحائبـه |
فقال: قد والله ظفرنا يا أعرابي، ورزقنا الفلج عليك، والله ما قيمتها إلا عشرة آلاف درهم. قال: فإن لي صاحباً شاركته فيها، وما أراه يرضي ببيعي. قال: أتراك حدثتك نفسك بالنكث ? قال: نعم ? وجدت النكث في البيع خيراً من خيانة الشريك. فأمر له بعشرة آلاف دينار.
المتوكل وقطاطة
وركب المتوكل زلالاً ومعه قطاطة وعبادة المخنثان، وكان قطاطة طويلاً جداً؛ فجعل يغني إلى أن هبت ريح شديدة وثارت دجلة، فأمسك عن الغناء. فقال له المتوكل: ما لك ? قال: يا سيدي؛ أفزعني ما أرى؛ فرفع عبادة يده وصفعه، وقال: يابن الفاعلة ! تتوهم أن في دجلة ماءً يطولك.
لبيد بن ربيعة في مجلس النعمان
لما أراد لبيد بن ربيعة أهله على إحضاره مجلس النعمان، ومقاولة ابن زياد العبسي على ما خاطب به أهله بحضرة النعمان، أراد أهله أن يختبروه لأنهم استصغروه؛ فنظر عمه إلى بقلة لاصقة بالأرض وهي جدير الأرض فقال: صف لنا هذه البقلة حتى أسمع. فقال لبيد: إن هذه البقلة رذلة دقيقة الخيطان، ذليلة الأغصان، لا تذكي ناراً، ولا تستر جاراً، ولا تؤهل داراً، عودها ضئيل، وخيرها قليل، وبلده شاسع، ونبتها خاضع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، أقصر البقول فرعاً، وأخبثها مرعىً، وأصعبها قلعاً، فحرباً لجارها وجدعاً، فالقوا إلي أخا عبس، أرجعه عنكم بتعس، وأتركه من أمره بلبس. فقال له: سر ! فلما قدم على النعمان وعنده الربيع أنشده:
نحن بنو أمّ البنـين الأربـعـه |
|
الضاربون الهام تحت الخيضعه |
والمطعمون الجفنة المدعدعه |
|
|
من طرف بشار
وكان بشار جالساً على باب داره، فمر به
ابن أخيه مع أصحاب له. فقال: أصحاب ابن أخي هؤلاء أتراك. قيل: من أين علمت ? قال:
لأني لا أسمع لهم حس نعال.
وقيل لبشار: إن فلاناً يزعم أنه لا يبالي بلقاء واحد أو ألف. فقال: صدق؛ لأنه يفر
من الواحد كما يفر من الألف.
يطحن مكان الحمار
حكى المدائني، قال: كان في المدينة امرأة
جميلة عفيفة ذات زوج، وكان فتىً من أهل المدينة يتبعها كلما خرجت ويعرض لها؛ فلما
أذاها شكته إلى زوجها. فقال لها: فما عندك في أمره حيلة ! قالت: قد فكرت في شيء إن
ساعدتني عليه. قال: فأنا أساعدك. فبعثت جاريتها إليه تقول: إن الذي بقلبي منك أكثر
مما بقلبك مني، ولكني امرأة مستورة ولا أعرف الفساد؛ فكنت أمتنع عليك وفي قلبي
النار. فلما بلغته الرسالة استطار فرحاً، وقال للجارية: ما أدري كيف أؤدي شكرك إذ
جرى هذا الأمر على يدك، فبلغيها السلام وقولي لها: إني صائر إليك غداً، ووهب
للجارية ديناراً. وطالت ليلته حتى أصبح فوجه إليها بجدي وفاكهة. فقالت الجارية: قد
وجب علي شكرك لإجابتك إياي في حاجة مولاتي، وأنال أشير عليك بحيلة بها يتم أمرك.
قال: وما هي ? قالت: سيدتي فيها حشمة وخجل وانقباض عن الرجال، فإذا جلست معك فلا
تتعرض لها بكلام ولا بغيره، حتى تشرب معك أقداحاً. قال: نعم ! وصعدت الجارية
فعاونت سيدتها على إصلاح الجدي والطعام؛ فلما أحكمتاه نزلت الجارية وبسطت لسيدتها
مصلى وجاءت فسلمت وقعدت، وجاءت الجارية بالطشت والماء فغسلت أيديهما، ووضعت
المائدة بينهما، وجاءت بالجدي والطعام.
فحين أخذ المخذول اللقمة فوضعها في فمه جاء الزوج فقرع الباب؛ فوضعت المرأة يدها
على رأسها وقالت: افتضحت وهلكت. فقال: دعي الجزع واحتالي في موضع أكمن فيه إلى
خروجه. قالت: ما أعرف موضعاً يخفى عليه إلا أن تحل الحمار الذي في الدهليز وتقوم
في مكانه. فقال: افعلي ! فجاءت الجارية إلى حمار يطحن في الدهليز مشدود العينين
فنحته وربطت المغرور مكانه. وقالت: اطحن مكان الحمار ولا تمسك فيفطن بك؛ فإني أرجو
أن يخرج سريعاً وترجع إلى سرورك، ثم فتحت الباب ودخل الزوج، فقالت له: خرجت على أن
تقيم أياماً ! فما الذي جاء بك الساعة ? قالت: كنت عزمت على ذلك فمر بي إخوان
فعرضت عليهم المقام في الضيعة. فقالوا: لا يمكننا اليوم، ولكننا إن شاء الله تعالى
نصير إليك غداً؛ فأردت أن يكون مجيئهم إلى البيت أسهل علي؛ فبادرت إليك لتصلحي ما
يحتاجون إليه وخاصة الدقيق، فينبغي ألا يفتر الحمار في الدقيق.
فجلسا يأكلان والمخذول يطحن، ثم وضعا
نبيذاً وجعلا يشربان، والزوج يقول ساعةً بعد ساعة: هاتي العصا لكي أقوم لهذا
الحمار الملعون، فإني أراه كسلان؛ ونحن نحتاج إلى الدقيق كثيراً، فتقوم الجارية
فتقول له: الله الله في نفسك ! لا تفتر؛ فإني أخاف أن يقوم فيراك.
فلم يزل يطحن دائباً والرجل يشرب مع امرأته إلى أن طلع الفجر، فقام الرجل فتهيأ
للصلاة وخرج إلى المسجد، فحلت المغرور وقالت: طر إلى بيتك لئلا يراك إنسان فتفتضح.
فخرج يعدو على وجهه عريان ويده على سوءته، فدخل إلى منزله وبقي مسبوتاً مطروحاً
على وجهه لا يحرك عضواً.
فلما كان بعد مدة قالت المرأة لزوجها: قد بقي علينا شيء من الولع بالمخذول. قال:
شأنك. فبعثت إليه وقال: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: الله يعلم ما تداخل قلبي
مما نزل بك؛ ولوددت أن أقيك بنفسي، ولكن المقادير تنزل من السماء، وإني إليك
لمشتاقة، فأحب أن تصير إلينا، فإن زوجي قد خرج إلى موضع له فيه مقام شهر، فنستأنس
جميعاً ونسترجع ما فاتنا؛ فالتفت إليها سريعاً، وقال: عسى قد فرغ دقيقكم ?.
بشار وخال المهدي
ودخل بشار على المهدي ينشد شعراً وعنده خاله يزيد بن منصور الحميري وكان مغفلاً؛ فقال: ما صناعتك أيها الشيخ ? قال: أنظم اللؤلؤ. فقال المهدي: أتهزأ بخالي ? وما أقول لمن يرى شيخاً أعمى ينشد شعراً فيسأله عن صناعته !
بشار وجواري المهدي
وقالت جواري المهدي له: إن بشاراً لأطيب
الناس مفاكهةً، وهو ضرير البصر، ولا غيرة بك علينا معه إذ لا يرانا، فلو أدخلته
إلينا ? ففعل. فبادرنه وطايبنه وقلن: إنك أبونا. فقال: ونحن على دين كسرى؛ فبلغ
ذلك المهدي فمنعه فيما بعد من الدخول عليهن.
أخذه المتنبي فقال:
يا أُخت معتنق الفوارس في الوغى |
|
لأخوك ثم أرقّ مـنـك وأرحـم |
يرنو إليك مع العفـاف وعـنـده |
|
إنّ المجوس تصيب فيما تحـكـم |
بشار أحد الأعاجيب
وبشار بن برد، أحد الأعاجيب، خلق أكمه، وهو يشبه التشابيه التي لم يسبق إليها، مما لا يدركه البصير، وهو أول من فتق البديع للمحدثين. وقتله المهدي سنة سبع وستين ومائة.
سبب قتله
وكان سبب قتله أن المهدي قدم البصرة، فأعطى الشعراء ولم يعط بشاراً شيئاً، فأتى بشار إلى مجلس يونس النحوي، فقال: أههنا أحد يحتشم منه ? قالوا: لا ! فأنشده:
فليت ما أنفقت في مصرنـا |
|
كان جميعاً في حر الخيزران |
فبلغ ذلك يعقوب بن داود مع ما بلغه من
هجائه إياه؛ فدخل على المهدي، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد بلغ من هذا الأعمى
المشرك أن يهجو أمير المؤمنين ? قال: ويحك ! وما قال ? قال: تعفيني يا أمير
المؤمنين من إنشاد ذلك. فأبى عليه فأنشده ما قال؛ فوجه في حمله؛ فخاف يعقوب أن
يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من لقيه في البطيحة فضربه بالسياط
حتى مات، وجعل يقول: ويلك ! أزعجتني؛ أما علت أني شاعر وليي العهد موسى وهارون.
فقال له: يا زنديق، تضرب ولا تقول بسم الله ! قال: ويلك، أثريد هو فأسمي الله
عليه.
قال: فأرسل المهدي إلى منزل بشار من يفتشه وهو يقول: لعلنا نجد شيئاً تقام به
الحجة. قال: فوجد صندوقاً مقفلاً بقفل وثيق؛ فظنوا أن فيه بعض ما اتهم به، فإذا
فيه طومار مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أردت هجاء آل سليمان بن علي
لإساءتهم إلي، وطلبهم لي، ثم ذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
فتركتهم لله ولرسوله؛ ولكني قد قلت وأنا أستغفر الله تعالى:
دينار آل سليمانٍ ودرهمـهـم |
|
كالبابليّين حفّا بالـعـفـاريت |
لا يبصران ولا يرجى لقاؤهما |
|
كما سمعت بهاروتٍ وماروت |
من جيد شعر بشار
ومن جيد شعره قوله:
أمن تجنّي حبيبٍ بات غضـبـانـا |
|
أصبحت من سكرات الموت نشوانا |
يا قوم أُذني لبعض الحيّ عـاشـقةٌ |
|
والأذن تعشق قبل العين أحـيانـا |
قالوا بمن لا ترى تهوى فقلت لهـم |
|
الأذن كالعين توفي القلب ما كانـا |
يا ليتني كنت تفّاحاً بـراحـتـهـا |
|
أو كنت من قضب الريحان ريحانا |
حتى إذا استنشقت ريحي وأعجبهـا |
|
ونحن في خلوةٍ حوّلت إنـسـانـا |
لا تعذلوني فإنّي من تـذكّـرهـا |
|
نشوان هل يعذل الصاحون سكرانا |
لم أدر ما وصفها يقظان قد علمت |
|
وقد لهوت بها في النّوم أزمـانـا |
باتت تناولني فاهـا فـألـثـمـه |
|
جنّيّة زوّجت في النّوم إنـسـانـا |
وقال:
يا قرّة العين إنـي لا أُسّـمـيك |
|
أكني بأُخرى أُسمّيها وأعـنـيك |
أخشى عليك من الجيران واحـدةً |
|
أو سهم غيران يرميني ويرميك |
يا أطيب النّاس ريقاً غير مختبـرٍ |
|
إلاّ شهادة أطراف المـسـاويك |
قد زرتنا مرّةً في الدهر واحـدةً |
|
عودي ولا تجعليها بيضة الـديك |
يا رحمة اللّه حلّي في منازلـنـا |
|
حسبي برائحة الفردوس من فيك |
إنّ الذي بات مغبوطاً بنعمـتـه |
|
كفّ تمسّك أو كفّ تعـاطـيك |
يسرني وجهك المعشوق مقبـلةً |
|
وإن توليت راعتنـي تـوالـيك |
كأنّ مسكاً وريحـانـاً وغـالـيةً |
|
ما بين حجلك أو أعلى ذفـاريك |
وقال:
لم يطل ليلي ولكن لـم أنـم |
|
ونفى عني الكرى طيفٌ ألم |
رفّهي يا عبد عني واعلمـي |
|
أنّني يا عبد من لـحـمٍ ودم |
إنّ لي جسماً ضعيفاً نـاحـلاً |
|
لو توكّأت علـيه لانـهـدم |
ختم الحبّ لها في عـنـقـي |
|
موضع الخاتم من أهل الذمم |
وإذا قلت لها جـودي لـنـا |
|
خرجت بالصّمت من لا ونعم |
قال مروان بن أبي حفصة: أنشدني بشار هذه القصيدة فلما بلغ هذا البيت قلت له: جعلني الله فداك أبا معاذ ! هلا قلت: خرست، قال لي: فض الله فاك؛ إني إذاً لفي عقلك ! أتطنز علي من أن أجيب بالخرس !
نسب بشار
وبشار مولى لعقيل بن كعب، وهو يفتخر في
شعره بالمضرية.
ولما دخل على المهدي في أول دخلاته قال: فيمن تعتد ? قال: أما اللسان فعربي، وأما
الأصل فكما قلت:
ونبّئت قـومـاً لـهـم إحـنةٌ |
|
يقولون ماذا وأنت الـعـلـم |
ألا أيّها السـائلـي جـاهـلاً |
|
ليعرفني أنا أنـف الـكـرم |
نمت في الكرام بني عـامـر |
|
فروعي وأصلي قريش العجم |
وإني لأُغني مقام الـفـتـى |
|
وأُصبي الفتاة ولا تعتـصـم |
البيت الأول يشبه قول جميل:
فليت رجالاً فيك قد نذروا دمـي |
|
وهمّوا بقتلي يا بثين لـقـونـي |
يقولون لي أهلاً وسهلاً ومرحبـاً |
|
ولو ظفروا بي ساعةً قتلـونـي |
إذا ما رأوني مقبلاً مـن ثـنـيّةٍ |
|
يقولون: من هذا ? وقد عرفوني |
وفي هذه القصيدة يقول بشار
أصفراء ليس الفتى صخرة |
|
ولكنّه نصب هـمٍّ وغـم |
صببت هواك على قلـبـه |
|
فباح وأعلن ما قد كـتـم |
وبيضاء يضحك ماء الشبـا |
|
ب في وجهها لك إذ تبتسم |
دوار العذارى إذا زرنهـا |
|
أطفن بحوراء مثل الصّنم |
وفيها يقول يمدح عمر بن العلاء:
إذا أيقظتك حروب العـدى |
|
فنبّه لها عمـراً ثـم نـم |
فتىً لا ينام عـلـى دمـنةٍ |
|
ولا يشرب الماء إلاّ بسـم |
دعاني إلى عمـرٍ جـوده |
|
وقول العشيرة بحرٌ خضم |
ولولا الذي ذكروا لمن أكن |
|
لمدح ريحانةً قـبـل شـم |
يلذّ العطاء وسفك الـدمـاء |
|
ويغدو على نقمٍ أو نـعـم |
تطوف العفاة بـأبـوابـه |
|
طواف الحجيج ببيت الحرم |
إذا عرض اللهو في صدره |
|
بدا بالعطايا وضرب البهم |
وجال اللّواء علـى رأسـه |
|
يدوّم كالمضرحيّ القـرم |
وقال بشار:
حيّيا صاحـبـيّ أمّ الـعـلاء |
|
واحذرا طرف عينها الحوراء |
عذّبتني بالحبّ عذّبـهـا الـلّ |
|
ه لما تشتهي مـن الأهـواء |
إنّ في عـينـهـا دواءً وداءً |
|
لمحبّ، والداء قبـل الـدواء |
يقول فيها يمدح عقبة بن سلم الهنائي:
مالكيٌّ ينشقّ عن كفّه الجـو |
|
د كما انشقّت الدّجا عن ضياء |
إنما لذّة الجواد ابـن سـلـمٍ |
|
في عطاءٍ لراغبٍ أو لقـاء |
ليس يعطيك للرجاء ولا الخو |
|
ف ولكن يلذّ طعم العطـاء |
يسقط الطير حيث يلتقط الح |
|
بّ وتغشى منازل الكرماء |
وكان بشار سجاعاً خطيباً صاحب منثور
ومزدوج ورجز ورسائل مختارة على كثير من الكلام.
ودخل على عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤبة بن العجاج فأنشده أرجوزة، ثم أقبل على
بشار، فقال: هذا طراز لا تحسنه يا أبا معاذ. فقال: والله لأنا أرجز منك ومن أبيك
ومن جدك. ثم غدا على عقبة من الغد فأنشده أرجوزة أولها:
يا طلل الحيّ بذات الصّمـد |
|
باللّه خبّر كيف كنت بعـدي |
بدت بخدٍّ وجلـت عـن خـدّ |
|
ثم انثنت كالنّفس المـرتـدّ |
وصاحب كالدمّل الـمـمـدّ |
|
حملته في رقعةٍ من جلـدي |
حتى اغتدى غير فقيد الفقـد |
|
وما درى ما رغبتي وزهدي |
الحرّ يلحى والعصا للعـبـد |
|
وليس للملحف مثـل الـردّ |
يقول فيها:
اسلم وحيّيت أبا الـمـلـدّ |
|
والبس طرازاً غير مستردّ |
للّه أيامك فـي مـعـدّ |
|
|
وهي طويلة. فأجزل صلته؛ فلما سمع ابن رؤبة ما فيها من الغريب قال: أنا وأبي وجدي فتحنا الغريب، وإني لخيلق أن أسده عليهم ! فقال بشار: ارحمهم رحمك الله ! قال: أتستخف بي وأنا شاعر ابن شاعر ابن شاعر ? قال: فإذاً أنت من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
من نوادر جامع بن وهب
كان جامع بن وهب الصيدلاني من أكبر الناس
دنيا، وأعظمهم غفلة، اشترى مرة ثلجاً كثيراً، فقيل له: إنه كثر. فقال: أريد أن أمصه
وأرمي بثفله.
وأعطي ببغل له ثمناً خسيساً، فقال: ما للعقار ببغداد قيمة ! ودخل بستاناً له؛ فقال
لوكيله: اغرس لي بصلاً بخل؛ فإنه نافع للصفراء.
وكتب إليه بعض الكتاب كتاباً، فأجابه عنه، وعنوانه: من ذاك الذي كتب إلي.
وعثرت به البغلة؛ فقال لغلامه: انظر هل سال من أصبعها دم ? وكتب إلى ابنه وقد خرج
من مكة: يا ولدي، إن قدرت أن تضحي عندنا فافعل، لنفرح بك في العيد ! وسقطت ابنته
في البئر، فقال: يا بنية، لا تبرحي من مكانك حتى أجيء بمن يخرجك منها !
من نوادر المغفلين
وتبخر مغفل في ثياب نفيسة فاحترقت، فحلف
بالطلاق لا يتبخر بعدها إلا عريان.
وأتى آخر ليكسر لوزة؛ فزلقت عن الحجر. فقال: كل شيء يفر من الموت حتى البهائم
أيضاً.
واعظ فيه غفلة
وكان بمصر واعظ يقال له أبو عبد الله الخواص، من أشد الناس غفلةً؛ وقف به رجل من العامة يقال له محمد القمقاني الخباز، فقال له: أصلحك الله، لي نفس معلولة لا تجيب إلى شيء من الخير؛ فما يصلحها لي ? قال: اقرأ القرآن وأكثر منه. قال: ما أحفظ غير الحمد، وقل هو الله أحد، وقد قرأتهما مرات كثيرة، ونفسي بحالها. قال: فاذكر الموت. قال: لك الله ! قد فعلت فما خشعت، ولا جاء منها شيء. قال: فأكثر حضور مجالس الذكر. قال: من أين أجد ? وقد تركت شغلي ولزمت المجالس، ونفسي كما هي. قال: لعن الله نفسك فإنها مشؤومة ملعونة كما قلت؛ والرأي أن تمضي بها إلى جرمان بن مطهر صاحب الشرطة يؤدبها لعله يجيء منها بشيء.
خليفة بيطار
كان هشام بن عبد الملك أحول قبيح المنظر، فعرضت عليه خيل الجند، فعرض رجل من أهل حمص فرساً نفوراً. فقال له هشام: ما هذا ? قال: أصلحك الله هو فاره، ولكنه ظن أنك حيزون البيطار. فقال: اعزب في لعنة الله.
تغفل أهل حمص
أصاب حمصي جملاً؛ فقيل له: عرفه ! قال:
أبيعه وأعرف ثمنه.
قل علي بن عيسى الوزير: كان يبلغني عن أهل حمص تغفل فأظن أكثره تشنيعاً، حتى
دخلتها؛ فإذا برجل بين يدي حجام وقد مص عنقه بمحجمتين لم أر أكبر منهما، وهو يشرط
في وسط عنقه؛ فلما رآني أقبلت في موكب قال: من هذا ? فقال الحجام: هذا الوزير علي
بن عيسى؛ فقام، والمحجمة في عنقه والدم يسيل على كتفيه وظهره، وقال: السلام عليك؛
إيش كان خبرك أيها الوزير ? قلت: خيراً، وانصرف؛ فحلفت ألا أدخل حمص ونزلت بظاهرها
حتى أنجزت ما أتيت فيه.
بيع قرد
وأتى رجل بقرد يبيعه؛ فجاء عبادي فنظر إليه، فقال صاحبه له وقد دنا من رجله: احذر لئلا يرمحك، فدنا من يده؛ فقال: احذر لئلا يخبطك، فدنا من فمه؛ فقال: احذر لئلا يعضك؛ فتباعد العبدي ناحية فقيل له: لم تباعدت ? فقال: أحذر لئلا يرميني بحجر.
يشغله عن الأكل
قعد عبادي وأعرابي يأكلان فقال العبادي
للأعرابي: كيف مات أبوك ليشغله بالكلام عن الأكل? فقال: أصابه كذا وكذا، فأخذ في
حديث طويل والعبادي يأكل، ثم قال الأعرابي: وأنت كيف مات أبوك ليشغله بالكلام عن
الأكل ? فقال: اتخم، فمات.
ودخل عبادي الماء إلى الكعب فصاح: الغريق ! الغريق ! قيل له: ما دعاك إلى هذا ?
فقال: أردت أن آخذ بالحزم.
يبيع رمحاً برغيف
ومر عبادي برجل ومع الرجل رمح. فقال أتبيعه ? قال: نعم ! قال: فبكم تريده ? قال: برغيف. قال: سبحان الله تطلب هذا برغيف ! قال: أخزى الله شرهما في الجوف.
دابة أبي العيناء
حمل عبيد الله بن يحيى بن خاقان أبا
العيناء على دابة، فأخذها منه ابنه، وقال: أبعث إليك بخير منها، فتأخر عنه ذلك،
فلقيه. فقال: ما خبرك ? فقال؛ بخير، يا من أبوه يحمل وهو يرجل. فقال: أنا أنفذ
إليك بغلاً فارهاً بغير تأخر؛ فتأخر عنه ثم لقيه. فقال: كيف حالك يا أبا عبد الله
? قال: راجل أصلحك الله ! فضحك وأنفذ إليه بغلاً زعم أبو العيناء أنه غير فاره،
فكتب إلى أبيه: أعلم الوزير أعزه الله ! أن أبا علي محمداً أراد أن يبرني فعقني،
وأن يركبني فأرجلني، أمر لي بدابة تقف للنثرة، وتعثر بالبعرة، كالقضيب اليابس
عجفاً، والعاشق المجهود دنفاً؛ قد أذكرت الرواة عروة العذري، والمجنون العامري،
مساعد أعلاه لأسفله، حباقه مقرون بسعاله؛ فلو أمسك لترجيت، ولو أفرد لتعزيت، ولكنه
يجمعهما علي في الطريق المعمور، والمجلس المشهور، كأنه خطيب مرشد، أو شاعر منشد،
تضحك من فعله النسوان، ويتناغى من أجله الصبيان، فمن صائح يصيح داوه بالطباشير،
وقائل يقول نقوا له الشعير، قد حفظ الأشعار، وروى الأخبار، ولحق العلماء بالأمصار؛
فلو أعين بنطق، لروى بحق وصدق، عن جابر الجعفي، وعامر الشعبي؛ وإنما أتيت من كاتبه
الأعور، الذي إن اختار لنفسه أطاب وأكثر، وإن اختار لغيره أخبث وأنزر، فإن رأى
الوزير أن يبدلني عنه، ويريحني منه، بمركوب يضحكني كما ضحك مني، يمحو بحسنه
وفراهته، ما سطره العيب بقبحه ودمامته؛ ولست أذكر أمر سرجه ولجامه؛ لأن الوزير
أكرم من أن يسلب ما يهديه، أو ينقض ما يمضيه.
فوجه إليه عبيد الله ببرذون من براذينه بسرجه ولجامه؛ ثم اجتمع مع عبيد الله عند
ابنه. فقال عبيد الله: شكوت دابة محمد وقد أخبرني أنه يشتريه الآن منك بمائة
دينار، وما كان هذا ثمنه لا يشتكى ! فقال: أعز الله الوزير لو لم أكذب مستزيداً،
لم أنصرف مستفيداً، وإني وإياه لكما قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته
عن نفسه وإنه لمن الصادقين. فضحك عبيد الله؛ وقال: يا أبا عبد الله؛ حجتك الداحضة
بملاحتك وظرفك أبلغ من حجة غيرك البالغة.
وصف حمل مهدى
ويشبه هذا رسالة لأبي الخطاب الصابىء، أجاب بها عن أبي العباس بن سابور إلى الحسين بن صبرة، عن رقعة وصلت منه في صفة حمل أهداه، كتبتها على اختصار: وأبو الخطاب هذا هو عم أبي إسحاق إبراهيم بن هلال الصابىء:
وصلت رسالتك ففضضها عن خط مشرق، ولفظ
مونق، وعبارة مصيبة، ومعان غريبة، واتساع في البلاغة يعجز عنها عبد الحمد في
كتابته، وسحبان في خطابته، وتصرف بين جد أمضى من القضاء والقدر، وهزل أرق من نسيم
السحر، وتقلب في وجوه الخطاب، الجامع لفنون الصواب، إلا أن الفعل قصر عن القول؛
لأنك ذكرت حملاً جعلته بصفتك جملاً، وكان كالمعيدي تسمع به لا أن تراه، وحضر فرأيت
كبشاً متقادم الميلاد، من نتاج قوم عاد، قد أفنته الدهور، وتعاقبت عليه العصور،
فظننته أحد الزوجين اللذين حملها نوح في سفينته، وحفظ بهما جنس الغنم لذريته، صغر
عن الكبر، ولطف عن القدم، فبانت دمامته، وتقاصرت قامته، وعاد ناحلاً ضئيلاً،
بالياً هزيلاً، بادي السقام، عاري العظام، جامعاً للمعايب، مشتملاً على المثالب،
يعجب العاقل من حلول. الحياة به، وتأتي الحركة له؛ لأنه عظم مجلد، وصوف ملبد، لا
تجد فوق عظامه سلباً، ولا تلقى يدك منه إلا خشباً، لو ألقي للسبع لأباه، ولو طرح
للذئب لعافه وقلاه، وقد طال للكلأ فقده، وبعد بالمرعى عهده، لم ير القت إلا
نائماً، ولا عرف الشعير إلا حالماً.
وقد خيرتني بين أن أقتنيه فيكون فيه غنى الدهر، أو أذبحه فيكون فيه صب الرحل؛ فملت
إلى استبقائه لما تعرفه من محبتي للتوفير، ورغبتي في التثمير وجمعي للولد، وادخاري
للغد؛ فلم أجد فيه مستمتعً لبقاء، ولا مدفعاً لفناء؛ لأنه ليس بأنثى تحمل، ولا
بفتىً ينسل، ولا بصحيح يرعى، ولا بسليم يبقى؛ فملت إلى الثاني من رأييك، وعملت على
الأخير من قوليك، وقلت: أذبحه فيكون وظيفةً للعيال، وأقيمه رطباً مقام قديد
الغزال؛ فأنشدني وقد أضرمت النار، وحدت الشفار، وشمر الجزار:
أُعيذها نظراتٍ مـنـك صـادقةً |
|
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم |
وما الفائدة لك في ذبحي، وأنا لم يبق فيّ
إلا نفس خافت، ومقل إنسانها باهت؛ ولست بذي لحم فأصلح للأكل، لأن الدهر قد أكل
لحمي، ولا جلدي للدباغ يصلح؛ لأن الأيام قد مزقت أديمي؛ ولا صوفي يصلح للغزل؛ لأن
الحوادث قد حصت وبري، فإن أردتني للوقود فكف حطب أبقى من ناري، ولا تفي حرارة جمري
بريح قتاري، فلم يبق إلا أن تطالبني بذحل، أو بيني وبينك دم.
فوجدته صادقاً في مقالته، ناصحاً في مشورته؛ فلم أعلم من أي أمريه أعجب؛ من
مماطلته الدهر بالبقاء، أم صبره على الضير والبلاء، أم قدرتك عليه مع إعواز مثله،
أم تأهيلك الصديق به مع خساسة قدره ? ويا ليت شعري إذ كنت والي الغنم، وأمرك ينفذ
في الضأن والمعز، وكل كبش سمين، وحمل بطين، مجلوب إليك، مقصور عليك، تقول فلا ترد،
وتريد فلا تصد، وكانت هديتك هذا الذي كأنه ناشر من القبور، وقائم عند النفخ في
الصور؛ فما كنت مهدياً لو كنت رجلاً من عرض الكتاب، كأبي علي وأبي الخطاب، ما كنت
تهدي إلا كلباً أجرب، أو قرداً أحدب.
الحمدوني يصف أضحية
وقال الحمدوني في أضحية أهداها إليه سعيد بن أحمد جوسبنداد:
أسعيد قد أهـديتـنـي أضـحّـيةً |
|
مكثت زماناً عندكم ما تـطـعـم |
نضواً تغامزت الكلاب بهـا وقـد |
|
شدّوا عليها كي تموت فيولـمـوا |
فإذا الملاح ضحكوا بها قالت لهـم |
|
لا تهزؤوا بي وارحموني ترحموا |
مرّت على علفٍ فقامت لـم تـرم |
|
عنه وغنّت والمـدامـع سـجّـم |
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي |
|
متـأخّـرٌ عـنـه ولا مـتـقـدّم |
وقال:
أبا سعيدٍ لنا في شاتك الـعـبـر |
|
جاءت وليس لها بولٌ ولا بعـر |
وكيف تبعر شاةٌ عندكم مكـثـت |
|
طعامها الأبيضان الشمس والقمر |
لو أنها أبصرت في نومها علفـاً |
|
غنّت له ودموع العين تنـحـدر |
يا مانعي لذّة الدنيا بما رحـبـت |
|
إني ليمتعني من وجهك النّظـر |
وقال:
شاة سعيدٍ في أمرها عبـر |
|
لما أتتنا قد مسّها الضـرر |
وهي تغنّي لسوء حالتـهـا |
|
حسبي بما قد لقيت يا عمر |
مرّت بقطف خضر ينشّرها |
|
قومٌ فظنّت بأنّها خـضـر |
فأقبلت نحوها لتأكـلـهـا |
|
حتى إذا ما تبيّن الخـبـر |
وأبدلتها الظّنون من طمـع |
|
يأساً تغنّت والدمع ينحـدر |
كانوا بعيداً وكنت آملـهـم |
|
حتى إذا ما تقرّبوا هجروا |
وقال:
لسـعـيدٍ شـــويهةٌ |
|
سلّها الضّرّ والعجف |
قد تغنّت وأبـصـرت |
|
رجلاً حاملاً عـلـف |
بأبي مـن بـكـفّـه |
|
برء ما بي من الدّنف |
فأتاهـا مـطـمّـعـاً |
|
فأتته لـتـعـتـلـف |
فتولّـى فـأقـبـلـت |
|
تتغنّى مـن الأسـف |
ليته لـم يكـن وقـف |
|
عذّب القلب وانصرف |
الحاتمي واللص
ومن الظريف في هذا الباب ما أنشده أبو علي الحاتمي في حكاية اللص:
يعجبنـي أنّـك لا تـربـط مـن |
|
خيلٍ ولا تركب إلاّ الـنّـجـبـا |
لمّا رأيت الشّقر خـيلاً سـبّـقـاً |
|
ملكت منها أشقـراً مـحـنّـبـا |
به سماتٌ من قـرونٍ سـلـفـت |
|
يعرف من أقربها المـهـلّـبـا |
فللـكـلاب حـولـه تـهـاوشٌ |
|
لمّا دعاهـم أجـلٌ قـد قـربـا |
لا تيأسن ما عشت في تشـييعـه |
|
مستعملاً فيه العزا والـعـقـبـا |
خلناه تحت الجـلّ إذ جـلّـلـتـه |
|
قرون ضأنٍ جعلت ملء العـبـا |
في كــل رجـــلٍ ويدٍ زائدةٍ |
|
وهو على جردانه قد شـطـبـا |
كم مـرّةً رأيتـه فـي جـرمـه |
|
فخلته بالحائط منه القـبـقـبـا |
تحيّر البـيطـار لـمّـا أن أرى |
|
في رأسه مرقّعاً معـتـصـبـا |
مقـيّراً مـوصّـلاً كـأنـمــا |
|
قد رم منه زورقـاً أو زبـزبـا |
فهو لنارٍ شعلةٌ لـو لـصـقـت |
|
طاقة كبريت بـه لالـتـهـبـا |
كم فيه من فائدةٍ قد صـحّـحـت |
|
كتب التباريح لـمـن تـطـيّبـا |
قد خلق اللّـه لـنـا مـن بـرّه |
|
ومن نبات البحر خلقاً عـجـبـا |
يمشي إلى الإسراج مشي القهقرى |
|
لكن إلى المعلف ينزو خـبـبـا |
من كثرة القردان في صهـوتـه |
|
تحسبه مـجـدّراً مـحـصّـبـا |
لو أن سلـطـانـاً رأى راكـبـه |
|
لم يأل أن عـــذّره وأدّبـــا |
أقام طول الصيف في الماء إلـى |
|
أن أنبت الماء عليه الطحـلـبـا |
ظننته والشمس لم تـبـيضّ مـن |
|
شمس الضحى ولم تحلّ الغيهبـا |
من بعض أكواخ النواطير سـرى |
|
بالريح إذ هبت له ريح الصّـبـا |
بالغ فيه الـجـوع حـتـى إنـه |
|
إذا رأى القتّ بكى وانـتـحـبـا |
وجاذب المقود مـجـهـوداً ومـا |
|
كاد له المـقـود أن ينـجـذبـا |
حمحم لـلـقـتّ وقـد مـرّ بـه |
|
ثم تغـنّـى طـربـاً وأطـربـا |
يأيها الباخـل بـالـوصـل أمـا |
|
ترحم صبّاً كـلـفـاً مـعـذّبـا |
أمان العيناء من الغداء
دخل أبو العيناء على بعض الرؤساء بكرةً، فاستسقى ماءً؛ فقال له الرجل: أفي هذا الوقت تعطش ? قال: أصلحك الله، هذا أمان لك من الغداء.
أبو عباد وزير المأمون وضيق صدره
وكان أبو عباد وزير المأمون ضيقاً جداً،
قيل له: إن لقمان قال: ما شيء أشد من حمل الغضب. فقال: ولكنه عندي أخف من الريشة.
قيل له: إنما عنى لقمان أن احتمال الغضب ثقيل. فقال: والله ما يقوى على الغضب أحد
من الناس إلا الجمل.
وغضب يوماً على بعض أصحابه، فشجه بدواة كانت بين يديه. فقال: صدق الله حيث يقول:
والذين إذا ما غضبوا هم يغفرون، فبلغ ذلك المأمون فضحك. فقال: ويلك ! لا تحسن تقرأ
آية من كتاب الله تعالى. قال: يا أمير المؤمنين؛ والله إني لأحسن أقرأ من سورة
واحدة ألف آية. فضحك المأمون وأمر بإخراجه. ولم يكن جاهلاً. وإنما كان يجري عليه
الغلط لفرط غيظه.
وقال المأمون لأحمد بن أبي خالد: صف لي ثابت بن يحيى يريد أبا عباد. فقال: هو
والله أحد من سيف سعيد بن العاص. فقال: والله ما أتبين من هذا شيئاً ? فقال: إن
حركته تبين لك الأمر.
فعرض أبو عباد يوماً عليه كتاباً وخرج، فلما قرب من الباب أمر المأمون برده؛
فرجع وقد تغير، فخاطبه وتركه ينصرف. فلما كاد يركب أمر برده. فلما عرف الرسول
تناول الدواة من غلامه، وقال: الساعة والله أضرب بها وجهك يابن الخبيثة، كان ينبغي
لك أن تقول قد ذهب إلى النار. ورجع، فقال له المأمون: اعرض فيما تعرض علي حوائج
الهاشميين. قال: نعم ! وقل كل ما تريد فلست أرجع إليك اليوم بعد هذا، ولو قمت أنت
بنفسك ! فضحك المأمون، وقال: قاتل الله دعبلاً يريد قوله:
أولى الأمور بضيعةٍ وفساد |
|
أمرٌ يدبّـره أبـو عـبّـاد |
وكأنه من دير هرقل خارجٌ |
|
حرجاً يجرّ سلاسل الأقياد |
وقيل للمأمون: إن دعبلاً هجاك فقال:
أيسومني المأمون خطّة ظـالـمٍ |
|
أوما رأى بالأمس رأس محمّـد |
يربى على رأس الخلائق مثلمـا |
|
تربى الجبال على رؤوس القردد |
إني من القوم الـذين هـم هـم |
|
قتلوا أخاك وشرّفوك بمـقـعـد |
شادوا بذكرك بعد طول خمولـه |
|
واستنقذوك من الحضيض الأوهد |
فقال: هو يهجو أبا عباد ولا يهجوني يريد
أبا عباد حرج حديد، والمأمون حليم متساهل.
وقال المأمون لما سمع هذا الشعر: ما في الدنيا أصفق وجهاً من دعبل ولا أبهت، كيف
يستنقذني هو وقومه من الحضيض الأوهد، وأنا في حجر الخلافة ربيت، وبدرها غذيت،
وإنما قال هذا دعبل: لأن طاهر بن الحسين قتل أخاه، وطاهر مولى خزاعة قوم دعبل.
أنشد شاعر أبا عباد قصيدة طويلة، فضاق ضيقاً عظيماً، ثم تجمل معه في استماعها حتى
أتمها؛ فقام رجل من أصحابه يعرف بالغالبي؛ فأنشد قصيدة أخرى فسمعها، وقد بلغ الضيق
به منتهاه؛ فقال فيها:
ثبتت رحى ملك الإمام بثابتٍ |
|
وأفاض فيها العدل والإحسانا |
يقري الوفود طلاقةً وبشاشةً |
|
والناكثين مهنّداً وسـنـانـا |
فقال أبو عباد: مهلاً مهلاً، إنما أنا
كاتب ليست هذه صفتي، هذه صفة حميد الطوسي. فضحك الحاضرون، وزاد ضيق أبي عباد
لضحكهم وخجل الرجل. فقال: ما زلت للعافين غيثاً ممرعاً متخرقاً في جوده.... وأنسي
من الدهش من غيظه أبي عباد باقي البيت، فأقبل يردد متخرقاً في جوده. فقل: قل
قرنانا صفعانا، ودعنا نستريح. فقال: يا سيدي معواناً، وخرج مولياً، فأمر له بعشرة
آلاف درهم.
قال إبراهيم بن العباس الصولي: لو وزنت كلمات النبي صلى الله عليه وسلم إنكم لن
تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم بأخلاقكم بكلام أهل الأرض لرجحت، هذا أبو عباد لم يكن
في زمانه أكرم منه، وما يكاد يرى له شاكراً لسوء خلقه.
كان أبو عباد يقول: ما جلس أحد بين يدي، إلا ظننت أني سأجلس بين يديه.
ضجر سليمان الأعمش
وكان سليمان الأعمش من الضجر بحيث اشتهر
وانتشر؛ قال له الإمام أبو حنيفة النعمان: لولا أني أخاف أن أشق عليك لأكثرت
زيارتك. فقال: لا تفعل ! فأنت تشق علي والله وأنت في دارك.
وقيل له: عمن أخذت الحدة ? قال: عن يحيى بن وثاب.
وسأله رجل عن إسناد حديث، فقام وأخذ بحلقه وأسنده إلى الحائط يخنقه، وقال: هذا
سنده.
وأتى الأعمش رجل من أصحابه يدعوه إلى طعام صنعه له، فأدخله الحمام قبل ذلك، وأتاه
بماء حار فسكبه عليه. فقال: أحرقتني أحرقك الله ! والله لا أدخل إليك، ولا آكل
طعامك اليوم. ثم صنع له طعاماً بعد ذلك ومضى يقوده، فوقعت إبهام رجله في مسداة في
الدار يلعب فيها الصبيان بالبندق. فقال: أردت أن تقلبني في بئر، لله علي إن أقمت
عندك أو أكلت طعامك.
وسلم عليه رجل من أصحابه وقد وجد علةً؛ فقال: كيف بت يا أبا محمد ? فرد عليه؛ ثم
قال له آخر: كيف بت ? فأخرج مضربته ومخدته فوضع رأسه عليها؛ وقال: كذا بت !
شهادة طريفة
نازع بعض التميميين رجلاً من بني عمه في حائط بينه وبينه، فبعث إلى قوم ليشهدهم، فأتاه جماعة من القبائل، فوقف بهم عليه، وقال: أشهدكم جميعاً أن نصف هذا الحائط لي !.
اكتب الإنكار
وقدم رجل آخر إلى القاضي في شيء يدعيه عليه فأنكر. فقال للقاضي: اكتب لي أصلحك الله إنكاره. قال: ذلك في يدك متى شئت.
من طرائف المحاورة
قال عبد الله بن المبارك: كان عندنا رجل يكنى أبا خارجة، فقلت له: لم كنوك أبا خارجة ? قال: لأني ولدت يوم دخل سليمان بن علي البصرة.
قال الأصمعي: حدثني إبراهيم بن القعقاع قال: رأيت أشعب بسوق المدينة ومعه قطيفة يبيعها، وهو يقول: من يشتري مني الوصيدة ? فأتاه رجل يساومه. فقال: أبرأ إليك من عيب فيها. قال: وما هو ? قال: أخاف أن تخرق إن لبستها. فضحك، واشتريت بثمن جديدة.
من طرف الأكلة
دعا رجل ابن أحمد، فلما صار إلى منزله قال
الرجل لغلامه: امض فاشتر لي لحماً بدانقين، وبدانقين خبزاً؛ فإنه ليس من صديقنا
ابن أحمد حشمة. فقال ابن أحمد: يابن أم ولا كل هذا الاستئناس بمرة.
وقال رجل لصديق له: صر إلي نأكل خبزاً وملحاً؛ فقام معه وهو يظن هذا الكلام على
مجاز ما يقول الناس، فقدم إليه خبزاً وملحاً. ووقف سائل بالباب، فقال له: بورك
فيك، فألح السائل بالمسألة. فقال له: والله لئن قمت إليك لأوجعنك ضرباً. فقال له
الضيف: اذهب فوالله لو علمت من صدق إيعاده ما علمت أنا من صدق وعده لم تقف ساعة.
اشترى مزيد رأسين فوضعهما بين يدي امرأته. وقال: اقعدي نأكل، فأخذت رأسهاً فوضعته
خلفها. وقال: هذا لأمي، فأخذ مزيد الرأس الآخر ووضعه خلفه، وقال: هذا لأبي. قالت:
فماذا نأكل ? قال: ضعي رأس أمك وأضع رأس أبي.
دخل أشعب على بعض الولاة وكان بخيلاً، وذلك في أول ليلة من شهر رمضان فأفطر عنده،
فقدم جدي، فأمعن فيه أشعب وضاق الوالي. فقال: يا أشعب، إن أهل السجن سألوني أن
أوجه إليهم من يصلي بهم في هذا الشهر؛ فامض وصل بهم واغنم ثوابهم. فقال: أيها
الأمير؛ أوخلة أخرى ? قال: وما هي ? قال: أحلف بالطلاق والعتاق ألا آكل جدياً ما
عشت أبداً. فضحك منه وأعفاه.
وهذا كما ذكروا أن بعض الملوك أتته سلل خبيص فظنها فاكهة، فبعث إلى مساكين المسجد
فحضروا، ثم فتح السلل فوجد فيها خبيصاً، فندم وبقي متحيراً، ثم أمر بهم إلى السجن.
فقالوا: ما ذنبنا ? فقال: بلغني أنكم تنامون في المسجد ثم تقام الصلاة فتصلون على
غير وضوء. فقالوا: خل سبيلنا، فوالله لا أكلنا خبيصاً أبداً، فضحك وعلم أنهم علموا
بأمره، فأمر لهم بدراهم وخلى سبيلهم.
قرشي والحمد لله
قال رجل لآخر: ممن تكون ? قال: قرشي والحمد لله ! قال: بأبي أنت ! التحميد ها هنا ريبة.
من ظريف ما قيل في الأدعياء
ومن ظريف ما قيل في الأدعياء قول مخلد بن بكار الموصلي في أهل بلده:
هم قعدوا فابتغوا لهم نسـبـاً |
|
يجوز بعد العشاء في العرب |
حتى إذا ما الصباح لاح لهم |
|
ميّز ستوقهم من الـذهـب |
والناس قد أصبحوا صـيارفةً |
|
أعرف شيء ببهرج النّسب |
وقال في أبي تمام الطائي:
أنت عندي عربـيّ ال |
|
أصل ما فيك كـلام |
شعر ساقيك وفخـذي |
|
ك خزامى وثـمـام |
وضلوع السلو من صد |
|
رك نبـعٌ وبـشـام |
وقذى عينيك صمـغٌ |
|
ونواصـيك ثـغـام |
وظباءٌ خـاضـبـاتٌ |
|
ويرابـيع عـظـام |
أنا ما ذنـبـي إذا ك |
|
ذّبنـي فـيك الأنـام |
وبدت منك سـجـايا |
|
نبـطـيّاتٌ لـــئام |
وقفا يخلـف مـا إن |
|
عرفت فيه الكـرام |
كذبـوا مـا أنـت إلاّ |
|
عربـيٌّ مـا تـرام |
بيته في وسط سلمـى |
|
وحـوالـيه ســلام |
عربـيٌّ عـربــيٌّ |
|
عربـيٌّ والـسّـلام |
وقال في محمد بن البعيث:
لمحمـدٍ بـيتٌ بـنـاه بـسـيفـه |
|
أطناب حجرته النّجوم الكـنّـس |
جعل السبيل إلى العلاء محـمـدٌ |
|
بيضاً تسيل على ظباها الأنـفـس |
إيماضها هنـدية ونـجـومـهـا |
|
خزرية منها المـنّـية تـفـرس |
تلقى الأمان على حياض محـمـد |
|
ثولاء مخـرفةٌ وذئبٌ أطـلـس |
لا ذي تخاف ولا لـذلـك جـرأةٌ |
|
تهدى الرّعيّة ما استقـام الـريّس |
قد شذّب الأعداء عن عرصـاتـه |
|
سيفٌ يمجّ دمـاً وعـزٌّ أقـعـس |
وإذا تناضلت الملوك بـخـرهـا |
|
فسهام فخرك كلهن مقـرطـس |
وإذا صرفت الطرف عن ذي نخوةٍ |
|
فالموت في قسماتـه يتـفـرّس |
متملق القيبـاح يمـنـع هـاربـاً |
|
في البعد منك ولا الثناء الأشرس |
طهّرت أشعاري بعرضك بعدما |
|
كانت بأشعار اللـئام تـدنّـس |
ومن شعر مخلد بن بكار
وهو القائل:
يطلع النّجم على صـعـدتـه |
|
فإذا واجـه بـدراً أفـــلا |
معشرٌ إن ظمئت أرماحـهـم |
|
أوردوهنّ مجاجات الطّلـى |
تحسن الألوان منهم في الوغى |
|
حين يستنكر للرّعب الحلـى |
سخط عبد اللّه يدني الأجـلا |
|
ورضـاه يتـعـدّى الأمـلا |
يعشب الصّلد إذا سـالـمـه |
|
وإذا حارب روضاً أمـحـلا |
حطّ رحلي فـي ذراه جـوده |
|
وتمشى في نداه الخـيزلـى |
وقال في الرقيق:
أقول لنضوٍ أنفـد الـسـير نـيّهـا |
|
فلم يبق منها غير عظمٍ مـجـلّـد |
خدي لي ابتلاك اللّه بالشوق والهوى |
|
وشاقك تحنان الحمام الـمـغـرّد |
فمرت سريعاً خوف دعوة عاشـق |
|
تشقّ بها الموماة في كـلّ فـدفـد |
فلما ونت باليسير ثنّـيت دعـوتـي |
|
فكانت لها سوطاً إلى ضحوة الغـد |
تعست العجلة
وبعت عائشة بنت سعد بن أبي وقاص مولاها فندأ يأتيها بنار وهي بالمدينة؛ فمضى إلى مصر فأقام بها سنةً، ثم جاء بنار وهو يعدو مسرعاً، فعثر فبدد الجمر فقال: تعست العجلة !
ما رأينا لغرابٍ مـثـلاً |
|
إذ بعثناه يجي بالمشعلـه |
غير فند أرسلوه قابـسـاً |
|
فثوى حولاً وسبّ العجله |
الذنب للجبل والقمر
صعد ابن زهير الخزاعي جبلاً، فأعيا وسقط
كالمغشي عليه. فقال: يا جبل؛ ما أصنع بك ? أأضربك ? لا يوجعك، أأشتمك ? لا تبالي،
يكفيك يوم تكون الجبال كالعهن المنفوش.
وهذا ضد قول أعرابي آخر سرى في قمر، فلما غاب ضل الطريق. فقال يخاطب بعيره:
اسق ما أسأرته الأكمـا |
|
أن عسينا أن نرى علما |
كيف لا تغوى هداية من |
|
عاد طفلاً بعدما هرما |
يقول له: أسرع بي حتى تعرق فتسقي الأكم بسؤر عرقك، وهو بقيته لعلنا نرى علماً نهتدي به. ويريد بقوله: عاد طفلاً بعدما هرما يريد القمر: لأنه في أول الشهر يكون كالطفل ينشأ حتى يتكامل، ثم يدخله النقص حتى يمحق، ثم يعود كأول نشأته؛ يذمه بذلك.
وصف الشمس
ومن عجيب ما في هذا المعنى قول رجل من بني الحارث بن كعب يصف الشمس:
مخبأة أمّـا إذا الـلـيل جـنّـهـا |
|
فتخفى وأمّا بالنهار فـتـظـهـر |
إذا انشقّ عنها ساطع الفجر وانجلى |
|
دجا الليل وانجاب الحجاب المستّر |
وألبس عرض الأرض لوناً كأنّـه |
|
على الأفق الغربيّ ثوبٌ معصفر |
تجلّت وفيها حين يبدو شعـاعـهـا |
|
ولم يعل للعين البصيرة منـظـر |
عليها كردع الزعفـران يشـبّـه |
|
شعاعٌ تلالا فهو أبيض أصـفـر |
فلمّا علت وابيضّ منها اصفرارها |
|
وجالت كما جال المنيح المشهّـر |
وجلّلت الآفاق ضوءاً وأسـعـرت |
|
بحرٌّ لها منه الضّحى يتـسـعّـر |
ترى الظّل يطوى حين تبدو، وتارةً |
|
تراه إذا زالت عن الأرض ينشـر |
كما بدأت إذ أشرقت في مغيبـهـا |
|
تعود كما عاد الكبير المـعـمّـر |
وتدنف حتى ما يكاد شعـاعـهـا |
|
يبين إذا ولّت لـمـن يتـبـصّـر |
وأفنت قروناً وهي في ذاك لم تزل |
|
تميت وتحيي كلّ يومٍ وتـنـشـر |
بلادة كيسان
وكانت كيسان مستملي أبي عبيدة، موصوفاً بالبلادة. قال الجاحظ: كان يكتب غير ما يسمع، ويقول غير ما يكتب، ويستملي غير ما يقرأ، ويملي غير ما يستملي، أميت عليه يوماً.
قلت لمعشر عدلوا |
|
بمعتمر أبا عمرو |
فكتب أبا بشر، وقرأ أبا حفص، واستملى أبا
زيد، وأملى أبا نصر.
وذكر أبو عبيدة كيسان في شيء، فقال: والله ما فهم، ولو فهم لوهم.
نوادر تحكى عن غير الناس
نوادر تحكى عن غير الناس: قيل لإبليس لعنه
الله: ماذا لقيت من المتعلمين ? قال: التعلم ينسيهم وهم يلعنوني.
قيل للعقرب: لم لا تشمسين في الشتاء مع الناس ? قالت: من كثرة إحساني إليهم في
الصيف.
كانت أفعى نائمة على حزمة شوك فحملها السيل، والأفعى عليها، إذ نظر إليها
ثعلب، فقال: مثل هذا الملاح يصلح لهذه السفينة.
أراد ثعلب أن يصعد حائطاً، فتعلق بعوسجة فعقرت يده. فقال: أنا أخطأت، لأني تعلقت
بما يتعلق بكل شيء.
وقف جدي على مكان فمر به ذئب فشتمه. فقال له: لم تشتمني؛ إنما شتمني المكان الذي
أنت فيه.
قالت الخنفساء لأمها: ما مررت بأحد إلا بصق علي. قالت: يا بنية، لحسنك تعوذين.
نظر كلب إلى رغيف، فقال له: إلى أين ? قال: إلى النهروان. قال: فإن تركتك فابلغ
إلى مرو.
وقف كلب على قصاب فآذاه، فقال له القصاب: والله لئن قمت إليك لأرمينك بهذا الكرش،
فلم يبرح؛ فتغافل عنه القصاب، فلما طال وقوف الكلب قال للقصاب: ترمينا بالكرش أو
ننصرف.
قيل للبغل: من أبوك ? قال: خالي الفرس. وهذا كقول القائل:
سألته من أبـوه ? |
|
فقال خالي شعيب |
وما كنّى عن أبيه |
|
إلاّ وثمّ سـبـيب |
قال مؤلفه: هذا آخر الكتاب والله أعلم
بالصواب وبالله المستعان ونعود بالله من الزيادة والنقصان.
قد أتممت أكرمك الله لهذا الكتاب جميع شروطه، ولم أخل بتحريره وضبطه، وجعلته
كالمسامر الذكي، والمنادر اللوذعي، الذي إذا هزل عزف، وإذا جد رمز، فأمضى بك في
العجائب المضحكة، والغرائب المونقة، ثم أصلها ولا أفصلها، من تعلق بأخبار ظريفة،
وأشعار شريفة، وقد خفت أن أكلفك نصباً، وأحملك تعباً، فقطعت إذ الزيادة في الحدود
نقصان في المحدودة، ورب ربح أدى إلى خسران، وزيادة أفضت إلى نقصان؛ فنعوذ بالله
ونستغفره مما جرى به اللسان، ونصلي على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله
وأصحابه السادة الأخيار والأعيان، صلاة دائمة بدوام الأزمان، آمين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق