كتاب الأغاني - ط دار صادر المؤلف أبو الفرج الأصفهاني
صفحة : 1 .
الجزء الأول
بسم الله الرحمن الرحيم
ذكر المائة الصوت المختارة
إجماع المغنين على اختيار الأصوات الثلاثة
الشاملة لجميع نغم الغناء أخبرنا أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال حدثني أبي قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن أباه أخبره أن الرشيد - رحمة الله عليه - أمر المغنين، وهم يومئذ متوافرون، أن يختاروا له ثلاثة أصوات من جميع الغناء، فأجمعوا على ثلاثة أصوات أنا أذكرها بعد هذا إن شاء الله.
قال إسحاق: فجرى هذا الحديث يوما وأنا عند أمير المؤمنين الواثق بالله، فأمرني باختيار أصوات من الغناء القديم، فاخترت له من غناء أهل كل عصر ما اجتمع علماؤهم على براعته وإحكام صنعته، ونسبته إلى من شدا به، ثم نظرت إلى ما أحدث الناس بعد ممن شاهدناه في عصرنا وقبيل ذلك، فاجتبيت منه ما كان مشبها لما تقدم أو سالكا طريقه، فذكرته ولم أبخسه ما يجب له وإن كان قريب العهد؛ لأن الناس قد يتنازعون الصوت في كل حين وزمان، وإن كان السبق للقدماء إلى كل إحسان.
وأخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني هارون بن الحسن بن سهل وأبو العبيس بن حمدون وابن دقاق وهو محمد بن أحمد بن يحيى المعروف بابن دقاق بهذا الخبر، فزعم: أن الرشيد أمر هؤلاء المغنين أن يختاروا له مائة صوت فاختاروها، ثم أمرهم باختيار عشرة منها فاختاروها، ثم أمرهم أن يختاروا منها ثلاثة ففعلوا. وذكر نحو ما ذكره يحيى بن علي، ووافقه في صوت من الثلاثة الأصوات، وخالفه في صوتين. وذكر يحيى بن علي بإسناده المذكور أن منها لحن معبد في شعر أبي قطيفة وهو من خفيف الثقيل الأول:
القصر فالنخل فالجماء بينـهـمـا أشهى إلى القلب من أبواب جيرون ولحن ابن سريج في شعر عمر بن أبي ربيعة، ولحنه من الثقيل الثاني:
تشكى الكميت الجري لما جهدته وبين لو يسطيع أن يتكـلـمـا ولحن ابن محرز في شعر نصيب، وهو من الثقيل الثاني أيضا:
أهاج هواك المنزل المتقادم? نعم، وبه ممن شجاك معالم وذكر جحظة عمن روى عنه أن من الثلاثة الأصوات لحن ابن محرز في شعر المجنون، وهو من الثقيل الثاني:
إذا ما طواك الدهر يا أم مالك فشأن المنايا القاضيات وشانيا ولحن إبراهيم الموصلي في شعر العرجي، وهو من خفيف الثقيل الثاني:
إلى جيداء قد بعثـوا رسـولا ليحزنها، فلا صحب الرسول ولحن ابن محرز في شعر نصيب، وهو على ما ذكر هزج:
أهاج هواك المنزل المتقادم? نعم، وبه ممن شجاك معالم وحكى عن أصحابه أن هذه الثلاثة الأصوات على هذه الطرائق لا تبقى نغمة في الغناء إلا وهي فيها.
رواية أن المغنين أجمعوا على صوت واحد من هذه الثلاثة وتفنيد أبي الفرج لهذه الرواية أخبرني الحسن بن علي الأدمي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد قال حدثني محمد بن جبر المغني قال حدثني إبراهيم بن المهدي: أن الرشيد أمر المغنين أن يختاروا له أحسن صوت غني فيه، فاختاروا له لحن ابن محرز في شعر نصيب:
أهاج هواك المنزل المتقادم? قال: وفيه دور كثير، أي صنعة كثيرة. والذي ذكره أبو أحمد يحيى بن علي أصح عندي. ويدل على ذلك تباين ما بين الأصوات التي ذكرها والأصوات الأخر في جودة الصنعة وإتقانها وإحكام مباديها ومقاطعها وما فيها من العمل، وأن الأخرى ليست مثلها ولا قريبة منها. وأخرى هي أن جحظة حكى عمن روى عنه أن فيها صوتا لإبراهيم الموصلي، وهو أحد من كان اختار هذه الأصوات للرشيد، وكان معه في اختيارها إسماعيل بن جامع وفليح بن العوراء، وليس أحد منهما دونه إن لم يفقه، فكيف يمكن أن يقال: إنهما ساعدا إبراهيم على اختيار لحن من صنعته في ثلاثة أصوات اختيرت من سائر الأغاني وفضلت عليها ألم يكونا لو فعلا ذلك قد حكما لإبراهيم على أنفسهما بالتقدم والحذق والرياسة وليس هو كذلك عندهما? ولقد أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم عن حماد بن إسحاق عن أبيه:
صفحة : 2
أنه أتى أباه إبراهيم بن ميمون يوما مسلما، فقال له أبوه: يا بني، ما أعلم أحدا بلغ من بر ولده ما بلغته من برك، وإني لأستقل ذلك لك، فهل من حاجة أصير فيها إلى محبتك? قلت: قد كان - جعلت فداك - كل ما ذكرت فأطال الله لي بقاءك، ولكني أسالك واحدة: يموت هذا الشيخ غدا أو بعد غد ولم أسمعه، فيقول الناس لي ماذا وأنا أحل منك هذا المحل. قال لي: ومن هو? قلت: ابن جامع. قال: صدقت يا بني، أسرجوا لنا. فجئنا ابن جامع، فدخل علينا أبي وأنا معه، فقال: يا أبا القاسم، قد جئتك في حاجة، فإن شئت فاشتمني، وإن شئت فاقذفني، غير أنه لا بد لك من قضائها. هذا عبدك وابن أخيك إسحاق قال لي كذا وكذا، فركبت معه أسالك أن تسعفه فيما سأل. فقال: نعم، على شريطة: تقيمان عندي أطعمكما مشوشة وقلية وأسقيكما من نبيذي التمري وأغنيكما، فإن جاءنا رسول الخليفة مضينا إليه وإلا أقمنا يومنا. فقال أبي: السمع والطاعة، وأمر بالدواب فردت. فجاءنا ابن جامع بالمشوشة والقلية ونبيذه التمري فأكلنا وشربنا، ثم اندفع فغنانا، فنظرت إلى أبي يقل في عيني ويعظم ابن جامع حتى صار أبي في عيني كلا شيء. فلما طربنا غاية الطرب جاء رسول الخليفة فركبا وركبت معهما. فلما كنا في بعض الطريق قال لي أبي: كيف رأيت ابن جامع يا بني? قلت له: أو تعفيني جعلت فداك قال: لست أعفيك فقل. فقلت له: رأيتك ولا شيء أكبر عندي منك قد صغرت عندي في الغناء معه حتى صرت كلا شيء. ثم مضيا إلى الرشيد، وانصرفت إلى منزلي؛ وذلك لأني لم أكن بعد وصلت إلى الرشيد. فلما أصبحت أرسل إلي أبي فقال: يا بني، هذا الشتاء قد هجم عليك وأنت تحتاج فيه إلى مؤنة وإذا مال عظيم بين يديه، فاصرف هذا المال في حوائجك. فقمت فقبلت يده ورأسه وأمرت بحمل المال واتبعته، فصوت بي: يا إسحاق ارجع، فرجعت. فقال لي: أتدري لم وهبت لك هذا المال? قلت: نعم، جعلت فداك قال: لم? قلت: لصدقي فيك وفي ابن جامع. قال: صدقت يا بني، امض راشدا. ولهما في هذا الجنس أخبار كثيرة تأتي في غير هذا الموضع متفرقة في أماكن تحسن فيها ولا يستغني بما ذكرها هنا عنها. فإبراهيم يحل ابن جامع هذا المحل مع ما كان بينهما من المنافسة والمفاخرة ثم يقدم على أن يختار فيما هو معه فيه صوتا لنفسه يكون مقدما على سائر الغناء، ويطابقه هو وفليح عليه هذا خطأ لا يتخيل. وعلى ما به فإنا نذكر الصوتين اللذين رويناهما عن جحظة المخالفين لرواية يحيى بن علي، بعد ذكرنا ما رواه يحيى، ثم نتبعهما باقي الاختيار. فأول ذلك من رواية أبي الحسن علي بن يحيى.
الكلام على أحد هذه الأصوات الثلاثة
صوت فيه لحنان
القصر فالنخل فالجماء بينـهـمـا أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
إلى البلاط فما حـازت قـرائنـه دور نزحن عن الفحشاء والهـون
قد يكتم الناس أسرارا فأعلـمـهـا ولا ينالون حتى الموت مكنـونـي عروضه من أول البسيط. القصر الذي عناه هاهنا: قصر سعيد بن العاص بالعرصة. والنخل الذي عناه: نخل كان لسعيد هناك بين قصره وبين الجماء وهي أرض كانت له، فصار جميع ذلك لمعاوية بن أبي سفيان بعد وفاة سعيد، ابتاعه من ابنه عمرو باحتمال دينه عنه؛ ولذلك خبر يذكر بعد. وأبواب جيرون بدمشق. ويروى: حاذت قرائنه من المحاذاة. والقرائن: دور كانت لبني سعيد بن العاص متلاصقة؛ سميت بذلك لاقترانها. ونزحن: بعدن، والنازح: البعيد؛ يقال: نزح نزوحا. والهون: الهوان. قال الراجز:
لم يبتذل مثل كريم مكـنـون أبيض ماض كالسنان المسنون
كان يوقى نفسه من الهـون والمكنون: المستور الخفي، وهو مأخوذ من الكن. الشعر لأبي قطيفة المعيطي، والغناء لمعبد، وله فيه لحنان: أحدهما خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها من رواية إسحاق وهو اللحن المختار، والآخر ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة.
خبر أبي قطيفة
نسبه
هو عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط. واسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. هذا الذي عليه النسابون.
صفحة : 3
وذكر الهيثم بن عدي في كتاب المثالب أن أبا عمرو بن أمية كان عبدا لأمية اسمه ذكوان فاستلحقه. وذكر أن دغفلا النسابة دخل على معاوية فقال له: من رأيت من علية قريش? فقال: رأيت عبد المطلب بن هاشم وأمية بن عبد شمس. فقال: صفهما لي. فقال: كان عبد المطلب أبيض مديد القامة حسن الوجه، في جبينه نور النبوة وعز الملك، يطيف به عشرة من بنيه كأنهم أسد غاب. قال: فصف أمية. قال: رأيته شيخا قصيرا نحيف الجسم ضريرا يقوده عبده ذكوان. فقال: مه، ذاك ابنه أبو عمرو. فقال: هذا شيء قلتموه بعد وأحدثتموه، وأما الذي عرفت فهو الذي أخبرتك به. ثم نعود إلى سياقة النسب من لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. والنضر عند أكثر النسابين أصل قريش، فمن ولده النضر عد منهم، ومن لم يلده فليس منهم. وقال بعض نسابي قريش: بل فهر بن مالك أصل قريش، فمن لم يلده فليس من قريش. ثم نعود للنسب إلى النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وولد إلياس يقال لهم خندف، سموا بأمهم خندف وهو لقبها، واسمها ليلى بنت حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وهي أم مدركة وطابخة وقمعة بني إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن الهميسع بن يشجب - وقيل: أشجب - بن نبت بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم، هذا النسب الذي رواه نسابو العرب وروي عن ابن شهاب الزهري وهو من علماء قريش وفقهائها.
وقام قوم آخرون من النسابين ممن أخذ - فيما يزعم - عن دغفل وغيره: معد بن عدنان بن أدد بن آمين بن شاجيب بن نبت بن ثعلبة بن عنز بن سرائج بن ملحم بن العوام بن المحتمل بن رائمة بن العقيان بن علة ابن شحدود بن الضرب بن عيفر بن إبراهيم بن إسماعيل بن رزين بن أعوج بن المطعم بن الطمح بن القسور بن عتود بن دعدع بن محمود بن الرائد بن بدوان بن أمامة بن دوس بن حصين بن النزال بن الغمير بن محشر بن معذر بن صيفي بن نبت بن قيدار بن إسماعيل ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله صلى الله عليهما وعلى أنبيائه أجمعين وسلم تسليما. ثم أجمعوا أن إبراهيم بن آزر وهو اسمه بالعربية كما ذكره الله تعالى في كتابه، وهو في التوراة بالعبرانية تارح بن ناحور، وقيل: الناحر بن الشارع وهو شاروع بن أرغو وهو الرامح بن فالغ - وهو قاسم الأرض الذي قسمها بين أهلها - بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ وهو الرافد بن سام بن نوح صلى الله عليه وسلم ابن لامك وهو في لغة العرب ملكان ابن المتوشلخ وهو المنوف بن أخنخ وهو إدريس نبي الله عليه السلام بن يارد وهو الرائد بن مهلايل بن قينان وهو قنان بن أنوش وهو الطاهر بن شيث وهو هبة الله. يقال له أيضا شاث بن آدم أبي البشر صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء وعلى نبينا محمد خاصة وسلم تسليما. هذا الذي في أيدي الناس من النسب على اختلافهم فيه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تكذيب للنسابين ودفع لهم. وروي أيضا خلاف لأسماء بعض الأباء. وقد شرحت ذلك في كتاب النسب شرحا يستغنى به عن غيره.
ذكر العنابس والأعياص
من بني أمية وأن أبا قطيفة من الأولين
وأبو قطيفة وأهله من العنابس من بني أمية. وكان لأمية من الولد أحد عشر ذكرا، كل واحد منهم يكنى باسم صاحبه، وهم العاص وأبو العاص، والعيص وأبو العيص، وعمرو وأبو عمرو، وحرب وأبو حرب، وسفيان وأبو سفيان، والعويص لا كنى له. فمنهم الأعياص فيما أخبرنا حرمي بن أبي العلاء - واسمه أحمد بن محمد بن إسحاق، والطوسي - واسمه أحمد بن سليمان - قالا: حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن الضحاك الحزامي عن أبيه قال: الأعياص: العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص والعويص. ومنهم العنابس وهم حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سفيان وعمرو وأبو عمرو. وإنما سموا العنابس لأنهم ثبتوا مع أخيهم حرب بن أمية بعكاظ وعقلوا أنفسهم وقاتلوا قتالا شديدا فشبهوا بالأسد، والأسد يقال لها العنابس، واحدها عنبسة. وفي الأعياص يقول عبد الله بن فضالة الأسدي:
من الأعياص أو من آل حرب أغر كغرة الفرس الـجـواد والسبب في قوله هذا الشعر ما أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة، وحدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال: حدثنا المدائني وابن غزالة، قالوا:
صفحة : 4
أتى عبد الله بن فضالة بن شريك الوالبي ثم الأسدي من بني أسد بن خزيمة عبد الله بن الزبير، فقال له: نفدت نفقتي ونقبت راحلتي. قال: فأحضرها، فقال... أقبل بها، أدبر بها، ففعل. فقال: ارقعها بسبت واخصفها بهلب وأنجد بها يبرد خفها وسر البردين تصح. فقال ابن فضالة: إني أتيتك مستحملا ولم آتك مستوصفا، فلعن الله ناقة حملتني إليك قال ابن الزبير: إن وراكبها. فانصرف عنه ابن فضالة وقال:
أقول لغلمتي شدوا ركـابـي أجاوز بطن مكة في سـواد
فما لي حين أقطع ذات عرق إلى ابن الكاهلية من معـاد
سيبعد بيننا نص الـمـطـايا وتعليق الأداوى والـمـزاد
وكل معبد قـد أعـلـمـتـه مناسمهن طلاع الـنـجـاد
أرى الحاجات عند أبي خبيب نكدن ولا أمـية بـالـبـلاد
من الأعياص أو من آل حرب أغر كغرة الفرس الـجـواد أبو خبيب: عبد الله بن الزبير، كان يكنى أبا بكر. وخبيب: ابن له هو أكبر ولده، ولم يكن يكنيه به إلا من ذمه، يجعله كاللقب له. قال: فقال ابن الزبير لما بلغه هذا الشعر: علم أنها شر أمهاتي فعيرني بها وهي خير عماته. قال اليزيدي: إن ها هنا بمعنى نعم، كأنه إقرار بما قال. ومثله قول ابن قيس الرقيات:
ويقلن شيب قـد عـلا ك وقد كبرت فقلت إنه عود إلى نسب أبي قطيفة
وأم أبي معيط آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن، ولها يقول نابغة بني جعدة:
وشاركنا قريشا في تقاها وفي أنسابها شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال وما ولدت نساء بني أبان وكانت آمنة هذه تحت أمية بن عب شمس، فولدت له العاص وأبا العاص وأبا العيص والعويص وصفية وتوبة وأروى بني أمية. فلما مات أمية تزوجها بعده ابنه أبو عمرو - وكان أهل الجاهلية يفعلون ذلك، يتزوج الرجل امرأة ابيه بعده - فولدت له أبا معيط، فكان بنو أمية من آمنة إخوة أبي معيط وعمومته، أخبرني بذلك كله الطوسي عن الزبير بن بكار.
قال الزبير: وحدثني عمي مصعب قال: زعموا أن ابنها أبا العاص زوجها أخاه أبا عمرو، وكان هذا نكاحا تنكحه الجاهلية. فأنزل الله تعالى تحريمه، قال الله تعالى: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا ، فسمي نكاح المقت.
مقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث
وما قالته قتيلة بنت الحارث من الشعر ترثي أخاها وأسر عقبة بن أبي معيط في يوم بدر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا. حدثنا بذلك محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد الرازي قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق في خبر ذكره طويل، وحدثني به أحمد بن محمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري، قالوا جميعا.
قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا. فقال له - وقد أمر بذلك فيه -: يا محمد، أأنا خاصة من قريش? قال نعم. قال: فمن للصبية بعدي? قال: النار. فلذلك يسمى بنو أبي معيط صبية النار. واختلف في قاتله، فقيل: إن علي بن أبي طالب تولى قتله. وهذا من رواية بعض الكوفيين، حدثني به أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة قال: أخبرني المنذر بن محمد اللخمي قال حدثنا سليمان بن عباد قال حدثني عبد العزيز بن أبي ثابت المدني عن أبيه عن محمد بن عبد الله بن حسن بن حسن عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليا يوم بدر فضرب عنق عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث. وروى ابن إسحاق أن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري قتله، وأن الذي قتله علي بن أبي طالب النضر بن الحارث بن كلدة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الحسن بن عثمان قال حدثني ابن أبي زائدة عن محمد بن إسحاق عن أصحابه، وحدثنا محمد بن جرير قال حدثنا أحمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن أصحابه، قالوا:
صفحة : 5
قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر عقبة بن أبي معيط صبرا: أمر عاصم بن ثابت فضرب عنقه، ثم أقبل من بدر حتى إذا كان ب الصفراء قتل النضر بن الحارث بن كلدة أحد بني عبد الدار، أمر عليا أن يضرب عنقه، قال عمر بن شبة في حديثه ب الأثيل ، فقالت أخته قتيلة بنت الحارث ترثيه:
يا راكبـا إن الأثـيل مـظـنة من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به مـيتـا بـأن تـحـية ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسـفـوحة جادت بدرتها وأخرى تخنـق
هل يسمعن النمضر إن ناديتـه إن كان يسمع هالك لا ينطـق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشـه لله أرحام هنـاك تـشـقـق
صبرا يقاد إلى المنية متعـبـا رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد ولأنت نسـل نـجـيبة في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنق
أو كنت قابل فدية فـلـيأتـين بأعز ما يغلو لديك وينـفـق
والنضر أقرب من أخذت بزلة وأحقهم إن كان عتق يعـتـق فبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته . فيقال: إن شعرها أكرم شعر موتورة وأعفه وأكفه وأحلمه. قال ابن إسحاق: وحدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط. قال حين أمر به أن يقتل: فمن للصبية يا محمد? قال: النار. فقلته عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أحد بني عمرو بن عوف.
حدثني أحمد بن الجعد قال حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق الأدمي قال حدثنا الوليد بن مسلم قال حدثني الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير عن محمد بن إبراهيم التيمي قال حدثني عروة بن الزبير قال: سألت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في حجر الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فوضع ثوبه في عنق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر - رحمة الله عليه - حتى أخذ بمنكبه فدفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ولاية الوليد بن عقبة الكوفة
في خلافة عثمان ثم عزله عنها وكان الوليد بن عقبة أخا عثمان بن عفان لأمه، أمهما أروى بنت عامر بن كريز، وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. والبيضاء وعبد الله أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم توءمان. وكان عقبة بن أبي معيط تزوج أروى بعد وفاة عفان، فولدت له الوليد وخالدا وعمارة وأم كلثوم، كل هؤلاء إخوة عثمان لأمه. وولي عثمان الوليد بن عقبة في خلافته الكوفة، فشرب الخمر وصلى بالناس وهو سكران فزاد في الصلاة، وشهد عليه بذلك عند عثمان فجلده الحد. وسيأتي خبره بعد هذا في موضعه.
وأبو قطيفة عمرو بن الوليد يكنى أبا الوليد. وأبو قطيفة لقب لقب به. وأمه بنت الربيع بن ذي الخمار من بني أسد بن خزيمة.
نفي ابن الزبير أبا قطيفة
فيمن نقله عن المدينة في وقعة الحرة
قال أبو قطيفة هذا الشعر حين نفاه ابن الزبير مع بني أمية عن المدينة، مع نظائر له تشوقا إليها. حدثني بالسبب في ذلك أحمد بن محمد بن شبيب بن أبي شيبة البزار، قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني، وأخبرني ببعضه أحمد بن محمد بن الجعد قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثني أبي قال حدثني وهب بن جرير عن أبيه في كتابه المسمى كتاب الأزارقة ، ونسخت بعضه من كتاب منسوب إلى الهيثم بن عدي. واللفظ للمدائني في الخبر ما اتسق، فإذا انقطع أو اختلف نسبت الخلاف إلى راويه. قال الهيثم بن عدي أخبرنا ابن عياش عن مجالد عن الشعبي وعن ابن أبي الجهم ومحمد بن المنتشر: خروج ابن الزبير على بني أمية ووفد يزيد بن معاوية له
صفحة : 6
أن الحسين بن علي بن أبي طالب لما سار إلى العراق، شمر ابن الزبير للأمر الذي أراده ولبس المعافري وشبر بطنه وقال: إنما بطني شبر، وما عسى أن يسع الشبر وجعل يظهر عيب بني أمية ويدعو إلى خلافهم. فأمهله يزيد سنة، ثم بعث إليه عشرة من أهل الشأم عليهم النعمان بن بشير. وكان أهل الشأم يسمون أولئك العشرة النفر الركب، منهم عبد الله بن عضاه الأشعري، وروح بن زنباع الجذامي، وسعد بن حمزة الهمداني، ومالك بن هبيرة السكوني، وأبو كبشة السكسكي، وزمل بن عمرو العذري، وعبد الله بن مسعود، وقيل: ابن مسعدة الفزاي، وأخوه عبد الرحمن، وشريك بن عبد الله الكناني، وعبد الله بن عامر الهمداني، وجعل عليهم، النعمان بن بشير، فأقبلوا حتى قدموا مكة على عبد الله بن الزبير، وكان النعمان يخلو به في الحجر كثيرا. فقال له عبد الله بن عضاة يوما: يا ابن الزبير، إن هذا الأنصاري والله ما أمر بشيء إلا وقد أمرنا بمثله إلا أنه قد أمر علينا، إني والله ما أدري ما بين المهاجرين والأنصار. فقال ابن الزبير: يا ابن عضاه، مالي ولك إنما أنا بمنزلة حمامة من حمام مكة، أفكنت قاتلا حماما من حمام مكة? قال: نعم، وما حرمة حمام مكة يا غلام، ائتني بقوسي وأسهمي، فأتاه بقوسه وأسهمه، فأخذ سهما فوضعه في كبد القوس ثم سدده نحو حمامة من حمام المسجد وقال: يا حمامة، أيشرب يزيد بن معاوية الخمر? قولي نعم، فوالله: لئن فعلت لأرمينك. يا حمامة، أتخلعين يزيد بن معاوية وتفارقين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وتقيمين في الحرم حتى يستحل بك? والله لئن فعلت لأرمينك. فقال ابن الزبير: ويحك أويتكلم الطائر? قال: لا ولكنك يا ابن الزبير تتكلم. أقسم بالله لتبايعن طائعا أو مكرها أو لتتعرفن راية الأشعريين في هذه البطحاء، ثم لا أعظم من حقها ما تعظم. فقال ابن الزبير: أوتستحل الحرم قال: إنما يستحله من ألحد فيه. فحبسهم شهرا ثم ردهم إلى يزيد بن معاوية ولم يجبه إلى شيء. وفي رواية أحمد بن الجعد: وقال بعض الشعراء - وهو أبو العباس الأعمى، واسمه السائب بن فروخ يذكر ذلك وشبر ابن الزبير بطنه -:
مازال في سورة الأعراف يدرسها حتى بدا لي مثل الخز في اللـين
لو كان بطنك شبرا قد شبعت وقد أفضلت فضلا كثيرا للمسـاكـين قال الهيثم: ثم إن ابن الزبير مضى إلى صفية بنت أبي عبيد زوجة عبد الله بن عمر، فذكر لها أن خروجه كان غضبا لله تعالى ورسوله - عليه السلام - والمهاجرين والأنصار من أثرة معاوية وابنه وأهله بالفيء، وسألها مسألته أن يبايعه. فلما قدمت له عشاءه ذكرت له أمر ابن الزبير واجتهاده، وأثنت عليه وقالت: ما يدعو إلا إلى طاعة الله جل وعز، وأكثرت القول في ذلك. فقال لها: أما رأيت بغلات معاوية اللواتي كان يحج عليهن الشهب، فإن ابن الزبير ما يريد غيرهن قال المدائني في خبره: وأقام ابن الزبير على خلع يزيد ومالأه على ذلك أكثر الناس. فدخل عليه عبد الله بن مطيع وعبد الله بن حنظلة وأهل المدينة المسجد وأتوا المنبر فخلعوا يزيد. فقال عبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي: خلعت يزيد كما خلعت عمامتي، ونزعها عن رأسه وقال: إني لأقول هذا وقد وصلني وأحسن جائزتي، ولكن عدو الله سكير خمير. وقال آخر: خلعته كما خلعت نعلي. وقال آخر: خلعته كما خلعت ثوبي. وقال آخر: قد خلعته كما خلعت خفي، حتى كثرت العمائم والنعال والخفاف، وأظهروا البراءة منه وأجمعوا على ذلك، وامتنع منه عبد الله بن عمر ومحمد بن علي بن أبي طالب وجرى بين محمد خاصة وبين أصحاب ابن الزبير فيه قول كثير، حتى أرادوا إكراهه على ذلك، فخرج إلى مكة، وكان هذا أول ما هاج الشر بينه وبين ابن الزبير.
وقعة الحرة
صفحة : 7
قال المدائني: واجتمع أهل المدينة لإخراج بني أمية عنها، فأخذوا عليهم العهود ألا يعينوا عليهم الجيش، وأن يردوهم عنهم، فإن لم يقدروا على ردهم لا يرجعوا إلى المدينة معهم. فقال لهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان: أنشدكم الله في دمائكم وطاعتكم فإن الجنود تأتيكم وتطؤكم، وأعذر لكم ألا تخرجوا أميركم، إنكم إن ظفرتم وأنا مقيم بين أظهركم فما أيسر شأني وأقدركم على إخراجي وما أقول هذا إلا نظرا لكم أريد به حقن دمائكم. فشتموه وشتموا يزيد، وقالوا: لا نبدأ إلا بك، ثم نخرجهم بعدك. فأتى مروان عبد الله بن عمر فقال: يا أبا عبد الرحمن، إن هؤلاء القوم قد ركبونا بما ترى، فضم عيالنا. فقال: لست من أمركم وأمر هؤلاء في شيء. فقام مروان وهو يقول: قبح الله هذا أمرا وهذا دينا. ثم أتى علي بن الحسين فسأله أن يضم أهله وثقله ففعل، ووجههم وامرأته أم أبان بنت عثمان إلى الطائف ومعها ابناه: عبد الله ومحمد. فعرض حريث رقاصة - وهو مولى لبني بهز من سليم كان بعض عمال المدينة قطع رجله فكان إذا مشى كأنه يرقص، فسمي رقاصة - لثقل مروان وفيه أم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، فضربته بعضا فكادت تدق عنقه، فولى ومضى. ومضوا إلى الطائف وأخرجوا بني أمية. فحس بهم سليمان بن أبي الجهم العدوي وحريث رقاصة، فأراد مروان أن يصلي بمن معه فمنعوه، وقالوا: لا يصلي والله بالناس أبدا، ولكن إن أراد أن يصلي بأهله فليصل، فصلى بهم ومضى. فمر مروان بعبد الرحمن بن أزهر الزهري، فقال له: هلم إلي يا أبا عبد الملك، فلا يصل إليك مكروه ما بقي رجل من بني زهرة. فقال له: وصلتك رحم، قومنا على أمر فأكره أن أعرضك لهم. وقال ابن عمر بعد ذلك - لما أخرجوا وندم على ما كان قاله لمروان -: لو وجدت سبيلا إلى نصر هؤلاء لفعلت، فقد ظلموا وبغي عليهم. فقال ابنه سالم: لو كلمت هؤلاء القوم فقال: يا بني، لا ينزع هؤلاء القوم عما هم عليه، وهم بعين الله، إن أراد أن يغير غير. قال: فمضوا إلى ذي خشب ، وفيهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان والوليد بن عتبة بن أبي سفيان، واتبعهم العبيد والصبيان والسفلة يرمونهم. ثم رجع حريث رقاصة وأصحابه إلى المدينة، وأقامت بنو أمية ب ذي خشب عشرة أيام، وسرحوا حبيب بن كرة إلى يزيد بن معاوية يعلمونه، وكتبوا إليه يسالونه الغوث. وبلغ أهل المدينة أنهم وجهوا رجلا إلى يزيد، فخرج محمد بن عمرو بن حزم ورجل من بني سليم من بهز وحريث رقاصة وخمسون راكبا فأزعجوا بني أمية منها، فنخس حريث بمروان فكاد يسقط عن ناقته، فتأخر عنها وزجرها وفقال: اعلي واسلمي. فلما كانوا بالسويداء عرض لهم مولى لمروان، فقال: جعلت فداك لو نزلت فأرحت وتغديت فالغداء حاضر كثير قد أدرك. فقال: لا يدعني رقاصة وأشباهه، وعسى أن يمكن الله منه فتقطع يده. ونظر مروان إلى ماله ب ذي خشب فقال: لا مال إلا ما أحرزته العياب فمضوا فنزلوا حقيلا أو وادي القرى، وفي ذلك يقول الأحوص:
لا ترثين لـحـزمـي رأيت بـه ضرا ولو سقط الحزمي في النار
الناخسين بمروان بـذي خـشـب والمقحمين على عثمان في الدار قال المدائني: فدخل حبيب بن كرة على يزيد - وهو واضع رجله في طست لوجع كان يجده - بكتاب بني أمية وأخبره الخبر. فقال: أما كان بنو أمية ومواليهم ألف رجل? قال: بلى وثلاثة آلاف. قال: أفعجزوا أن يقاتلوا ساعة من نهار? قال: كثرهم الناس ولم تكن لهم بهم طاقة. فندب الناس وأمر عليهم صخر بن أبي الجهم القيني، أحدا إلا قصر وما صاحبهم غيري، إني رأيت في منامي شجرة غرقد تصيح: على يدي مسلم، فأقبلت نحو الصوت فسمعت قائلا يقول: أدرك ثأرك أهل المدينة قتلة عثمان فخرج مسلم وكان من قصة الحرة ما كان على يده، وليس هذا موضعه. فقال أبو قطيفة في ذلك - لما أخرجوا عن المدينة -: صوت من غير المائة فيه لحنان
شعر أبي قطيفة في تشوقه إلى المدينة
بكى أحد لما تـحـمـل أهـلـه فكيف بذي وجد من القوم آلـف
من أجل أبي بكر جلت عن بلادها أمـية، والأيام ذات تـصـارف
صفحة : 8
عروضه من الطويل، وفيه ثقيل أول. والغناء لسائب خائر، خفيف ثقيل أول بالوسطى، ذكر ذلك حماد عن أبيه، وذكر أن فيه لحنا آخر لأهل المدينة لا يعرف صاحبه. قال الهيثم في خبره: وقال أبو العباس الأعمى في ذلك:
قد حل في دار البلاط مـجـوع ودار أبي العاص التميمي حنتف
فلم أر مثل الحي حين تحمـلـوا ولا مثلنا عن مثلهم يتـنـكـف وقال أبو قطيفة أيضا: من غير المائة فيه ثلاث ألحان
بكى أحد لما تحمـل أهـلـه فسلع فدار المال أمست تصدع
وبالشأم إخواني وجل عشيرتي فقد جعلت نفسي إليهم تطلـع عروضه من الطويل. غنى فيه دحمان، ولحنه ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر من رواية إسحاق. وفيه لمعبد ثقيل أول بالوسطى من رواية حبش. وذكر إسحاق أن فيه لحنا في خفيف الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر مجهول الصانع. وقال أبو قطيفة أيضا: صوت من غير المائة المختارة
ليت شعري: هل البلاط كعهدي والمصلى إلى قصور العقيق?
لامني في هـواك يا أم يحـيى من مبين بغـشـه أو صـديق عروضه من الخفيف. غناه معبد ويقال دحمان، ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى، وذكر إسحاق أنه لا يعرف صاحبه.
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن يونس بن الوليد قال: كان ابن الزبير قد نفى أبا قطيفة مع من نفاه من بني أمية عن المدينة إلى الشأم، فلما طال مقامه بها قال:
ألا ليت شعري هل تغير بعـدنـا قباء وهل زال العقيق وحاضره?
وهل برحت بطحاء قبر محـمـد أراهط غر من قريش تبـاكـره
لهم منتهى حبي وصفو مـودتـي ومحض الهوى مني وللناس سائره قال وقال أيضا: صوت من غير المائة المختارة
ليت شعري وأين منـي لـيت أعلى العهد يلبـن فـبـرام?
أم كعهدي العقيق أم غـيرتـه بعدي الـحـادثـات والأيام?
وبأهلي بدلت عكا ولـخـمـا وجذاما، وأين منـي جـذام
وتبدلت من مساكـن قـومـي والقصور التي بهـا الآطـام
كل قصر مـشـيد ذي أواس يتغنى على ذراه الـحـمـام
إقر مني السلام إن جئت قومي وقليل لهـم لـدي الـسـلام عروضه من الخفيف، غناه معبد، ولحنه ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر. و يلبن و برام : موضعان. والآطام: جمع أطم، وهي القصور والحصون. وقال الأصمعي: الآطام: الدور المسطحة السقوف. وفي رواية ابن عمار: ذي أواش بالشين معجمة، كأنه أراد به أن هذه القصور موشية أي منقوشة. ورواه إسحاق: أواس بالسين غير معجمة، وقال: واحدها آسي، وهو الأصل. قال ويقال: فلان في آسية، أي في أصله. والآسي والأساس واحد. وذرا كل شيء: أعاليه، وهو جمع، واحدته ذروة. ويروى:
أبلغن السلام إن جئت قومي وروى الزبير بن بكار هذه الأبيات لأبي قطيفة، وزاد فيها:
أقطع الليل كلـه بـاكـتـئاب وزفـير فـمـا أكـاد أنـام
نحو قومي إذ فرقت بيننا الـدا ر وحادت عن قصدها الأحلام
خشية أن تصيبهم عنـت الـده ر وحرب يشيب منها الغـلام
فلقد حان أن يكون لهـذا الـده ر عنا تبـاعـد وانـصـرام عفو ابن الزبير عن أبي قطيفة وعودته إلى المدينة وموته حين وصوله إليها رجع الخبر إلى سياقته من رواية ابن عمار. وأخبرنا بمثله من هذا الموضع الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الحزامي، وهو إبراهيم بن المنذر، عن مطرف بن عبد الله المدني قالا: إن ابن الزبير لما بلغه شعر أبي قطيفة هذا قال: حن والله أبو قطيفة وعليه السلام ورحمة الله، من لقيه فليخبره أنه آمن فليرجع. فأخبر بذلك فانكفأ إلى المدينة راجعا، فلم يصل إليها حتى مات. قال ابن عمار: فحدثت عن المدائني أن امرأة من أهل المدينة تزوجها رجل من أهل الشأم، فخرج بها إلى بلده على كره منها، فسمعت منشدا ينشد شعر أبي قطيفة هذا، فشهقت شهقة وخرت على وجهها ميتة، هكذا ذكر ابن عمار في خبره.
صفحة : 9
وأخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد: قرأت على أبي عن أيوب بن عباية قال قال حدثني سعيد بن عائشة مولى آل المطلب بن عبد مناف قال: خرجت امرأة من بني زهرة في خف، فرآها رجل من بني عبد شمس من أهل الشأم فأعجبته، فسأل عنها فنسبت له، فخطبها إلى أهلها فزوجوه إياها بكره منها، فخرج بها إلى الشأم. وخرجت مخرجا ، فسمعت متمثلا يقول: صوت من غير المائة المختارة
ألا ليت شعري هل تغير بـعـدنـا جبوب المصلى أم كعهدي القرائن?
وهل أدؤر حول البلاط عـوامـر من الحي أم هل بالمدينة ساكـن?
إذا برقت نحو الحجـاز سـحـابة دعا الشوق مني برقها المتـيامـن
فلم أتركنها رغـبة عـن بـلادهـا ولكنـه مـا قـدر الـلـه كـائن عروضه من الطويل، يقال: إن لمعبد فيه لحنا، قال: فتنفست بين النساء فوقعت ميتة. قال أيوب: فحدثت بهذا الحديث عبد العزيز بن أبي ثابت الأعرج فقال: أتعرفها? قلت لا. قال: هي والله عمتي حميدة بنت عمر بن عبد الرحمن بن عوف.
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: أخبرني ابن عائشة، قال: لما أجلى ابن الزبير بني أمية عن الحجاز قال أيمن بن خريم الأسدي:
كأن بني أمـية يوم راحـوا وعري عن منازلهم صرار
شماريخ الجبال إذا تـردت بزينتها وجادتها القـطـار وأخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا بن محمد سعد الكراني، قال: حدثنا العمري عن العتبى قال: كتب أبو قطيفة عمرو بن الوليد بن عقبة إلى أبيه وهو متولي الكوفة لعثمان بن عفان:
من مبلغ عني الأمير بأنـنـي أرق بلا داء سوى الإنـعـاظ
إن لم تغثني خفت إثمك أو أرى في الدار محدودا بزرق لحاظ يعني دار عثمان التي تقام فيها الحدود. فابتاع له جارية بالكوفة وبعث بها إليه. أخبرني عبد الله بن محمد الرازي، قال: حدثنا الخراز عن المدائني، قال: كان أبو قطيفة من شعراء قريش، وكان ممن نفاه ابن الزبير مع بني أمية إلى الشأم، فقال في ذلك:
وما أخرجتنا رغبة عن بلادنـا ولكنه ما قـدر الـلـه كـائن
أحن إلى تلك الوجوه صـبـابة كأني أسير في السلاسل راهن وكان يتحرق على المدينة، فأتى عباد بن زياد ذات يوم عبد الملك فقال له: إن خاله أخبره أن العراقين قد فتحا. فقال عبد الملك لأبي قطيفة لما يعلمه من حبه المدينة: أما تسمع ما يقوله عباد عن خاله? قد طابت لك المدينة الآن. فقال أبو قطيفة:
إني لأحمق من يمشي على قدم إن غرني من حياتي خال عباد
أنشا يقول لنا المصران قد فتحا ودون ذلك يوم شـره بـادي قال: وأذن له ابن الزبير في الرجوع، فرجع فمات في طريقه.
قصر سعيد بن العاص بالعرصة
وشيء من أخباره وأما خبر القصر الذي تقدم ذكره وبيعه من معاوية، فأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال ذكر مصعب بن عمار بن مصعب بن عروة بن الزبير: أن سعيد بن العاص لما حضرته الوفاة وهو في قصره هذا، قال له ابنه عمرو: لو نزلت إلى المدينة فقال:
صفحة : 10
يا بني، إن قومي لن يضنوا علي بأن يحملوني على رقابهم ساعة من نهار، وإذا أنا مت فآذنهم، فإذا واريتني فانطلق إلى معاوية فانعني له، وانظر في ديني، واعلم أنه سيعرض عليك قضاءه فلا تفعل، واعرض عليه قصري هذا، فإني إنما اتخذته نزهة وليس بمال. فلما مات آذن به الناس، فحملوه من قصره حتى دفن بالبقيع، ورواحل عمرو بن سعيد مناخة، فعزاه الناس على قبره وودعوه، فكان هو أول من نعاه لمعاوية، فتوجع له وترحم عليه، ثم قال: هل ترك دينا? قال: نعم. قال: كم هو? قال: ثلثمائة ألف درهم . قال: هي علي. قال: قد ظن ذلك وأمرني ألا أقبله منك، وأن أعرض عليك بعض ماله فتبتاعه فيكون قضاء دينه منه. قال: فاعرض علي . قال: قصره بالعرصة. قال: قد أخذته بدينه. قال: هو لك على أن تحملها إلى المدينة وتجعلها بالوافية. قال: نعم. فحملها له إلى المدينة وفرقها في غرمائه، وكان أكثرها عدات. فأتاه شاب من قريش بصك فيه عشرون ألف درهم بشهادة سعيد على نفسه وشهادة مولى له عليه. فأرسل إلى المولى فأقرأه الصك، فلما قرأه بكى وقال: نعم هذا خطه وهذه شهادتي عليه. فقال له عمرو: من أين يكون لهذا الفتى عليه عشرون ألف درهم وإنما هو صعلوك من صعاليك قريش? قال: أخبرك عنه، مر سعيد بعد عزله، فاعترض له هذا الفتى ومشى معه حتى صار إلى منزله، فوقف له سعيد فقال: ألك حاجة? قال: لا، إلا أني رأيتك تمشي وحدك فأحببت أن أصل جناحك. فقال لي: ائتني بصحيفة، فأتيته بهذه، فكتب له على نفسه هذا الدين وقال: إنك لم تصادف عندنا شيئا فخذ هذا، فإذا جاءنا شيء فأتنا. فقال عمرو: لا جرم والله لا يأخذها إلا بالوافية، أعطيه إياها، فدفع إليه عشرين ألف درهم وافية.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا الصلت بن مسعود، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا هارون المدائني قال: كان الرجل يأتي سعيد بن العاص يسأله فلا يكون عنده، فيقول: ما عندي، ولكن أكتب علي به، فيكتب عليه كتابا، فيقول: تروني أخذت منه ثمن هذا? لا، ولكنه يجيء فيسألني فينزو دم وجهه في وجهي فأكره رده. فأتاه مولى لقريش بابن مولاه وهو غلام فقال: إن أبا هذا قد هلك وقد أردنا تزويجه. فقال: ما عندي، ولكن خذ ما شئت في أمانتي. فلما مات سعيد بن العاص جاء الرجل إلى عمرو بن سعيد فقال: إني أتيت أباك بابن فلان، وأخبره بالقصة. فقال له عمرو: فكم أخذت? قال: عشرة آلاف. فأقبل عمرو على القوم فقال: من رأى أعجز من هذا يقول له سعيد: خذ ما شئت في أمانتي فيأخذ عشرة آلاف لو أخذت مائة ألف لأديتها عنك.
اعتداد أبي قطيفة بنسبه
وهجوه عبد الملك بن مروان أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري عن ابن الكلبي، قال: قال أبو قطيفة - وكانت أمه وأم خالد بن الوليد بن عقبة عمة أروى بنت أبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب -:
أنا ابن أبي معيط حين أنـمـى لأكرم ضئضىء وأعز جـيل
وأنمي للعقائل مـن قـصـي ومخزوم فما أنا بـالـضـئيل
وأروى من كريز قد نمتـنـي وأروى الخير بنت أبي عقـيل
كلا الحيين مـن هـذا وهـذا لعمر أبيك في الشرف الطويل
فعدد مثـلـهـن أبـا ذبـاب ليعلم ما تقول ذوو العـقـول
فما الزرقاء لي أما فـأخـزى ولا لي في الأزارق من سبيل قال: يعني بأبي الذباب عبد الملك. والزرقاء: إحدى أمهاته من كندة، وكان يعير بها.
أخبرني الحسن بن علي، قال: أخبرني محمد بن زكريا، قال: حدثنا قعنب بن المحرز، قال: حدثنا المدائني، قال: بلغ أبا قطيفة أن عبد الملك بن مروان يتنقصه، فقال:
نبئت أن ابن العملـس عـابـنـي ومن ذا من الناس البريء المسلم?
من أنتم من أنتم خبرونا من أنـتـم فقد جعلت أشياء تبدو وتـكـتـم فبلغ ذلك عبد الملك فقال: ما ظننت أنا نجهل، والله لولا رعايتي لحرمته لألحقته بما يعلم، ولقطعت جلده بالسياط.
شعر أبي قطيفة في امرأته بعد طلاقها
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن العتبي قال:
صفحة : 11
طلق أبو قطيفة امرأته، فتزوجها رجل من أهل العراق، ثم ندم بعد أن رحل بها الرجل وصارت له، فقال:
فيا أسفا لفرقة أم عمـرو ورحلة أهلها نحو العراق
فليس إلى زيارتها سـبـيل ولا حتى القيامة من تلاقي
وعل الله يرجعهـا إلـينـا بموت من حليل أو طلاق
فأرجع شامتا وتقر عينـي ويجمع شملنا بعد افتـراق مقتل سعيد بن عثمان بالمدينة
أخبرني عمي ومحمد بن جعفر قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا محمد بن علي بن أبي حسان عن هشام بن محمد عن خالد بن سعيد عن أبيه، قال: استعمل معاوية سعيد بن عثمان على خراسان، فلما عزله قدم المدينة بمال وسلاح وثلاثين عبدا من السغد، فأمرهم أن يبنوا له دارا. فبينا هو جالس فيها ومعه ابن سيحان وابن زينة وخالد بن عقبة وأبو قطيفة إذ تآمروا بينهم فقتلوه، فقال أبو قطيفة يرثيه - وقيل إنها لخالد بن عقبة -:
يا عين جودي بدمع منك تهتانـا وابكي سعيد بن عثمان بن عفانا
إن ابن زينة لم تصدق مودتـه وفر عنه ابن أرطاة بن سيحانا
ذكر معبد وبعض أخباره
نسب معبد ونشأته ووفاته
هو معبد بن وهب، وقيل ابن قطني مولى ابن قطر، وقيل ابن قطن مولى العاص بن وابصة المخزومي، وقيل بل مولى معاوية بن أبي سفيان.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري، قال: معبد المغني ابن وهب مولى عبد الرحمن بن قطر.
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، قال: قال ابن الكلبي: معبد مولى ابن قطر، والقطريون موالي معاوية بن أبي سفيان.
وأخبرني إسماعيل بن يونس، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو غسان، قال: معبد بن وهب مولى ابن قطن وهم موالي آل وابصة من بني مخزوم، وكان أبوه أسود وكان هو خلاسيا مديد القامة أحول.
وذكر ابن خرداذبه أنه غنى في أول دولة بني أمية، وأدرك دولة بني العباس، وقد أصابه الفالج وارتعش وبطل، فكان إذا غنى يضحك منه ويهزأ به. وابن خرداذبه قليل التصحيح لما يرويه ويضمنه كتبه. والصحيح أن معبدا مات في أيام الوليد بن يزيد بدمشق وهو عنده. وقد قيل: إنه أصابه الفالج قبل موته وارتعش وبطل صوته.
فأما إدراكه دولة بني العباس فلم يروه أحد سوى ابن خرداذبه ولا قاله ولا رواه عن أحد، وإنما جاء به مجازفة.
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني أيوب بن عمر أبو سلمة المديني قال حدثنا عبد الله بن عمران بن أبي فروة، قال: حدثني كردم بن معبد المغني مولى ابن قطن، قال: مات أبي وهو في عسكر الوليد بن يزيد وأنا معه، فنظرت حين أخرج نعشه إلى سلامة القس )جارية يزيد بن عبد الملك( وقد أضرب الناس عنه ينظرون إليها وهي آخذة بعمود السرير، وهي تبكي أبي وتقول:
قد لعمري بت لـيلـي كأخي الداء الوجـيع
ونجي الـهـم مـنـي بات أدنى من ضجيعي
كلما أبصـرت ربـع خاليا فاضت دموعـي
قد خلا من سـيد كـا ن لنا غير مـضـيع
لا تلمنا إن خشـعـنـا أو هممنا بخـشـوع قال كردم: وكان يزيد أمر أبي أن يعلمها هذا الصوت، فعلمها إياه فندبته به يومئذ. قال: فلقد رأيت الوليد بن يزيد والغمر أخاه متجردين في قميصين ورداءين يمشيان بين يدي سريره حتى أخرج من دار الوليد، لأنه تولى أمره وأخرجه من داره إلى موضع قبره.
فأما نسبة هذا الصوت، فإن الشعر للأحوص، والغناء لمعبد، ذكره يونس ولم يجنسه. وذكر الهشامي أنه ثاني ثقيل بالوسطى، قال: وفيه لحبابة خفيف ثقيل، ولابن المكي ثقيل أول نشيد. وفيه لسلامة القس عن إسحاق لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالوسطى في مجراها.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، قال قال أبو عبيدة: ذكر مولى لآل الزبير - وكان منقطعا إلى جعفر ومحمد ابني سليمان بن علي -: أن معبدا عاش حتى كبر وانقطع صوته، فدعاه رجل من ولد عثمان، فلما غنى الشيخ لم يطرب القوم، وكان فيهم فتيان نزول من ولد أسيد بن أبي العيص بن أمية، فضحكوا منه وهزئوا به، فأنشأ يغني:
صفحة : 12
فضحتم قريشا بالفـرار وأنـتـم قمدون سودان عظام المنـاكـب
فأما القتـال لا قـتـال لـديكـم ولكن سيرا في عراض المواكب - وهذا شعر هجوا به قديما - فقاموا إليه ليتناولوه؛ فمنعهم العثماني من ذلك وقال: ضحكتم منه حتى إذا أحفظتموه أردتم أن تتناولوه، لا والله لا يكون ذلك قال إسحاق: فحدثني ابن سلام قال: أخبرني من رآه على هذه الحال فقال له: أصرت إلى ما أرى? فأشار إلى حلقه وقال: إنما كان هذا؛ فلما ذهب ذهب كل شيء.
اعتراف المغنين لمعبد بالتفوق
والسبق في صناعة الغناء قال إسحاق: كان معبد من أحسن الناس غناء، وأجودهم صنعة، وأحسنهم حلقا؛ وهو فحل المغنين وإمام أهل المدينة في الغناء، وأخذ عن سائب خاثر، ونشيط مولى عبد الله بن جعفر، وعن جميلة مولاة بهز بطن من سليم ، وكان زوجها مولى لبني الحارث بن الخزرج؛ فقيل لها مولاة الأنصار لذلك. وفي معبد يقول الشعر:
أجاد طويس والسريجي بعده وما قصبات السبق إلا لمعب قال إسحاق قال ابن الكلبي عن أبيه: كان ابن أبي عتيق خرج إلى مكة فجاء معه ابن سريج إلى المدينة، فأسمعوه غناء معبد وهو غلام، وذلك في أيام مسلم بن عقبة المري، وقالوا: ما تقول فيه? فقال: إن عاش كان مغني بلاده. ولمعبد صنعة لم يسبقه إليها من تقدم، ولا زاد عليه فيها من تأخر. وكانت صناعته التجارة في أكثر أيام رقه، وربما رعى الغنم لمواليه، وهو مع ذلك يختلف إلى نشيط الفارسي وسائب خاثر مولى عبد الله بن جعفر، حتى اشتهر بالحذق وحسن الغناء وطيب الصوت. وصنع الألحان فأجاد واعترف له بالتقدم على أهل عصره.
أخبرني الحسين بن يحيى، قال قال حماد قرأت على أبي: قال الجمحي: بلغني أن معبدا قال: والله لقد صنعت ألحانا لا يقدر شبعان ممتلىء ولا سقاء يحمل قربة على الترنم بها ولقد صنعت ألحانا لا يقدر المتكىء أن يترنم بها حتى يقعد مستوفزا، ولا القاعد حتى يقوم.
قال إسحاق: وبلغني أن معبدا أتى ابن سريج وابن سريج لا يعرفه، فسمع منه ما شاء، ثم عرض نفسه عليه وغناه وقال له: كيف كنت تسمع جعلت فداءك? فقال له: لو شئت كنت قد كفيت بنفسك الطلب من غيرك. قال: وسمعت من لا أحصي من أهل العلم بالغناء يقولون: لم يكن فيمن غنى أحد أعلم بالغناء من معبد. قال: وحدثني أيوب بن عباية قال: دخلت على الحسن بن مسلم أبي العراقيب وعنده جاريته عاتكة، فتحدث فذكر معبدا فقال: أدركته يلبس ثوبين ممشقين، وكان إذا غنى علا منخراه. فقالت عاتكة: يا سيدي أو أدركت معبدا? قال: إي والله وأقدم من معبد. فقالت: استحييت لك من هذا الكبر.
علو كعبه في صناعة الغناء
أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حماد: قرأت على أبي أخبرني محمد بن سلام، قال: حدثني جرير، قال: قال معبد: قدمت مكة فقيل لي: إن ابن صفوان قد سبق بين المغنين جائزة، فأتيت بابه فطلبت الدخول، فقال لي آذنه: قد تقدم إلي ألا آذن لأحد عليه ولا أؤذنه به. قال فقلت: دعوني أدنو من الباب فأغني صوتا. قال: أما هذا فنعم. فدنوت من الباب، فغنيت صوتا ، فقالوا: معبد وفتحوا لي، فأخذت الجائزة يومئذ.
أخبرني الحسين قال نسخت من كتاب حماد: قال أبي: وذكر عورك - وهو الحسن بن عتبة اللهبي - أن الوليد بن يزيد كان يقول: ما أقدر على الحج. فقيل له: وكيف ذاك? قال: يستقبلني أهل المدينة بصوتي معبد:
القصر فالنخل فالجماء بينهما و قتيلة يعني لحنه:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جي د تليع تزينه الأطـواق قال إسحاق: قيل لمعبد: كيف تصنع إذا أردت أن تصوغ الغناء? قال: أرتحل قعودي وأوقع بالقضيب على رحلي وأترنم عليه بالشعر حتى يستوي لي الصوت. فقيل له: ما أبين ذلك في غنائك قال إسحاق: وقال مصعب الزبيري قال يحيى بن عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير حدثني أبي قال: قال معبد: كنت غلاما مملوكا لآل قطن مولى بني مخزوم، وكنت أتلقى الغنم بظهر الحرة، وكانوا تجارا أعالج لهم التجارة في ذلك، فآرتي صخرة بالحرة ملقاة بالليل فأستند إليها، فأسمع وأنا نائم صوتا يججري في مسامعي، فأقوم من النوم فأحكيه، فهذا كان مبدأ غنائي.
اعتراف مالك بن أبي السمح لمعبد بالتفوق
عليه في صنعة الغناء
صفحة : 13
أخبرني الحسين بن يحيى قال: نسخت من كتاب حماد: قال أبي قال محمد بن سعيد الدوسي عن أبيه ومحمد بن يزيد عن سعيد الدوسي عن الربيع بن أبي الهيثم قال: كنا جلوسا مع عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، فقال إنسان لمالك: أنشدك الله، أنت أحسن غناء أم معبد? فقال مالك: والله ما بلغت شراكه قط، والله لو لم يغن معبد إلا قوله:
لعمر أبيها لا تقول حـلـيلـتـي ألا فر عني مالك بن أبي كعـب
وهم يضربون الكبش تبرق بيضـه ترى حوله الأبطال في حلق شهب لكان حسبه. قال: وكان مالك إذا غنى غناء معبد يخفف منه، ثم يقول: أطال الشعر معبد ومططه، وحذفته أنا. وتمام هذا الصوت: صوت من غير المائة المختارة
لعمر أبيها لا تقول حـلـيلـتـي ألا فر عني مالك بن أبي كعـب
وهم يضربون الكبش تبرق بيضـه ترى حوله الأبطال في حلق شهب
إذا أنفدوا الزق الروي وصرعـوا نشاوى فلم أقطع بقولي لهم حسبي
بعثت إلى حانوتها فـسـبـأتـهـا بغير مكاس في السوام ولا غصب عروضه من الطويل. والشعر لمالك بن أبي كعب بن القين الخزرجي أحد بني سلمة. هكذا ذكر إسحاق، وغيره يذكر أنه من مراد. ولهذا الشعر خبر طويل يذكر بعد هذا. والغناء في البيتين الأولين لمعبد ثقيل أول بالوسطى، ومن الناس من ينسبه إلى ابن سريج. ولمالك في الثالث والرابع من الأبيات لحن من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، ومن الناس من ينسب هذا اللحن إلى معبد ويقول: إن مالكا أخذ لحنه فيه فحذف بعض نغمه وانتحله، وإن اللحن لمعبد في الأبيات الأربعة. وقد ذكر أن هذا الشعر لرجل من مراد، وروي له فيه حديث طويل. وقد أخرج خبره في ذلك وخبر مالك بن أبي كعب الخزرجي أبي كعب بن مالك صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله في موضع آخر أفرد له، إذ كانت له أخبار كثيرة، ولأجله لا تصلح أن تذكر ها هنا.
رجع الخبر إلى معبد - أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان عن يونس الكاتب قال: معبد وابن محرز
أقبلت من عند معبد، فلقيني ابن محرز ببطحان، فقال: من أين أقبلت? قلت: من عند أبي عباد. فقال: ما أخذت عنه? قلت: غنى صوتا فأخذته. قال: وما هو? قلت:
ماذا تأمل واقف جمـلا في ربع دار عابه قدمه - الشعر لخالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد - فقال لي: ادخل معي دار ابن هرمة وألقه علي، فدخلت معه، فما زلت أردده عليه حتى غناه، ثم قال: ارجع معي إلى أبي عباد، فرجعنا فسمعه منه، ثم لم نفترق حتى صنع فيه ابن محرز لحنا آخر.
نسبة هذا الصوت
صوت
ماذا تأمل واقف جمـلا في ربع دار عابه قدمه
أقوى وأقفر غير منتصب لبد الرمادة ناصع حممه غناه معبد، ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى. وفيه خفيف ثقيل أول بالوسطى ينسب إلى الغريض وإلى ابن محرز. وذكر عمرو بن بانة أن الثقيل الأول للغريض. وذكر حبش أن فيه لمالك ثاني ثقيل بالوسطى. وفيه رمل بالوسطى ينسب إلى سائب خاثر، وذكر حبش أنه لإسحاق.
قدوم ابن سريج والغريض المدينة
ثم ارتدادهما عنها بعد سماعهما صوت معبد أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حماد: قال أبي قال ابن الكلبي: قدم ابن سريج والغريض المدينة يتعرضان لمعروف أهلها، ويزوران من بها من صديقهما من قريش وغيرهم. فلما شارفاها تقدما ثقلهما ليرتادا منزلا، حتى إذا كانا بالمغسلة - وهي جبانة على طرف المدينة يغسل فيها الثياب - إذا هما بغلام ملتحف بإزار وطرفه على رأسه، بيده حبالة يتصيد بها الطير وهو يتغنى ويقول:
القصر فالنخل فالجماء بينـهـمـا أشهى إلى النفس من أبواب جيرون وإذا الغلام معبد. قال: فلما سمع ابن سريج والغريض معبدا مالا إليه واستعاداه الصوت فأعاده، فسمعا شيئا لم يسمعا بمثله قط. فأقبل أحدهما على صاحبه فقال: هل سمعت كاليوم قط? قال: لا والله فما رأيك? قال ابن سريج: هذا غناء غلام يصيد الطير، فكيف بمن في الجوبة - يعني المدينة - قال: أما أنا فثكلته والدته إن لم أرجع. قال: فكرا راجعين.
صفحة : 14
قدوم معبد مكة وما وقع له مع الغريض
قال: وقال معبد: قدمت مكة، فذهب بي بعض القرشيين إلى الغريض، فدخلنا عليه وهو متصبح، فانتبه من صبحته وقعد، فسلم عليه القرشي، وسأله فقال له: هذا معبد قد أتيتك به، وأنا أحب أن تسمع منه. قال: هات، فغنيته أصواتا. فقال بمدرى معه في رأسه، ثم قال: إنك يا معبد لمليح الغناء. قال: فأحفظني ذلك، فجثوت على ركبتي، ثم غنيته من صنعتي عشرين صوتا لم يسمع بمثلها قط، وهو مطرق واجم قد تغير لونه حسدا وخجلا.
ما وقع لمعبد مع حكم الوادي
قال إسحاق: وأخبرت عن حكم الوادي قال: كنت أنا وجماعة من المغنين نختلف إلى معبد نأخذ عنه ونتعلم منه، فغنانا يوما صوتا من صنعته وأعجب به، وهو:
القصر فالنخل فالجماء بينهما فاستحسناه وعجبنا منه. وكنت في ذلك اليوم أول من أخذه عنه واستحسنه مني فأعجبتني نفسي. فلما انصرفت من عند معبد عملت فيه لحنا آخر وبكرت على معبد مع أصحابي وأنا معجب بلحني. فلما تغنينا أصواتا قلت له: إني قد عملت بعدك في الشعر الذي غنيتناه لحنا، واندفعت فغنيته صوتي، فوجم معبد ساعة يتعجب مني ثم قال: قد كنت أمس أرجى مني لك اليوم، وأنت اليوم عندي أبعد من الفلاح. قال حكم: فأنسيت - يعلم الله - صوتي ذلك منذ تلك الساعة فما ذكرته إلى وقتي هذا.
ما وقع لمعبد مع العبد الأسود
وهو في طريقه إلى بعض أمراء الحجاز قال إسحاق: وقال معبد: بعث إلي بعض أمراء الحجاز - وقد كان جمع له الحرمان - أن اشخص إلى مكة، فشخصت. قال: فتقدمت غلامي في بعض تلك الأيام، واشتد علي الحر والعطش، فانتهيت إلى خباء فيه أسود وإذا حباب ماء قد بردت، فملت إليه فقلت: يا هذا، اسقني من هذا الماء. فقال لا. فقلت: فأذن لي في الكن ساعة. قال لا. فأنخت ناقتي ولجأت إلى ظلها فاستترت به، وقلت: لو أحدثت لهذا الأمير شيئا من الغناء أقدم به عليه، ولعلي إن حركت لساني أن يبل حلقي ريقي فيخفف عني بعض ما أجده من العطش فترنمت بصوتي:
القصر فالنخل فالجماء بينهما فلما سمعني الأسود، ما شعرت به إلا وقد احتملني حتى أدخلني خباءه، ثم قال: إي، بأبي أنت وأمي هل لك في سويق السلت بهذا الماء البارد? فقلت: قد منعتني أقل من ذلك، وشربة ماء تجزئني. قال: فسقاني حتى رويت، وجاء الغلام فأقمت عنده إلى وقت الرواح. فلما أردت الرحلة قال: إي، بأبي أنت وأمي الحر شديد ولا آمن عليك مثل الذي أصابك، فأذن لي في أن أحمل معك قربة من ماء على عنقي وأسعى بها معك، فكلما عطشت سقيتك صحنا وغنيتني صوتا قال: قلت ذاك لك. فوالله ما فارقني يسقيني وأغنيه حتى بلغت المنزل.
نسخت من كتاب جعفر بن قدامة بخطه: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبير عن جرير قال: معبد وابن سريج والتقاؤهما
عفوا ببطن مر ثم تعارفهما بصوتيهما كان معبد خارجا إلى مكة في بعض أسفاره، فسمع في طريقه غناء في بطن مر فقصد الموضع، فإذا رجل جالس على حرف بركة فارق شعره حسن الوجه، عليه دراعة قد صبغها بزعفران، وإذا هو يتغنى: صوت
حن قلبي من بعد ما قد أنـابـا ودعا الهم شجـوه فـأجـابـا
ذاك من منزل لسلمـى خـلاء لابس من خلائه جـلـبـابـا
عجت فيه وقلت للركب عوجوا طمعـا أن يرد ريع جـوابـا
فاستشار المنسي من لوعة الح ب وأبدى الهموم والأوصابـا فقرع معبد بعصاه وغنى:
منع الحياة من الرجال ونفعها حدق تقلبها النساء مـراض
وكأن أفئدة الرجـال إذا رأوا حدق النساء لنبلها أغـراض فقال له ابن سريج: بالله أنت معبد? قال: نعم، وبالله أنت ابن سريج? قال: نعم، وواله لو عرفتك ما غنيت بين يديك.
نسبة هذين الصوتين وأخبارهما
صوت
حن قلبي من بعد ما قد أنـابـا ودعا الهم شجـوه فـأجـابـا
فاستثار المنسي من لوعة الـح ب وأبدى الهموم والأوصابـا
ذاك من منزل لسلمـى خـلاء مكتس من عفائه جـلـبـابـا
عجت فيه وقلت للركب عوجوا طمعا أن يرد ربـع جـوابـا
صفحة : 15
ثانيا من زمام وجناء عنس قانيا لونها يخال خضابـا
جدها الفالج الأشم من البخ ت وخالاتها انتخبن عرابا الشعر لعمر بن أبي ربعية. والغناء لابن سريج، وله فيه لحنان: رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وخفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو.
صوت
منع الحياة من الرجال ونفعها حدق تقلبها النساء مـراض
وكأن أفئدة الرجـال إذا رأوا حدق النساء لنبلها أغـراض الشعر للفرزدق، والغناء لمعبد ثقيل أول عن الهشامي: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سياط قال حدثني يونس الكاتب قال: رحلة معبد إلى الأهواز
وما وقع بينه وبين الجواري المغنيات بالسفينة كان معبد قد علم جارية من جواري الحجاز الغناء - تدعى ظبية: - وعني بتخريجها، فاشتراها رجل من أهل العراق فأخرجها إلى البصرة وباعها هناك، فاشتراها رجل من أهل الأهواز، فأعجب بها وذهبت به كل مذهب وغلبت عليه، ثم ماتت بعد أن أقامت عنده برهة من الزمان وأخذ جواريه أكثر غنائها عنها، فكان لمحبته إياها وأسفه عليها لا يزال يسأل عن أخبار معبد وأين مستقره، ويظهر التعصب له والميل إليه والتقديم لغنائه على سائر أغاني أهل عصره إلى أن عرف ذلك منه. وبلغ معبدا خبره، فخرج من مكة حتى أتى البصرة، فلما وردها صادف الرجل قد خرج عنها في ذلك اليوم إلى الأهواز فاكترى سفينة. وجاء معبد يلتمس سفينة ينحدر فيها إلى الأهواز، فلم يجد غير سفينة الرجل، وليس يعرف أحد منهما صاحبه، فأمر الرجل الملاح أن يجلسه معه في مؤخر السفينة ففعل وانحدروا. فلما صاروا في فم نهر الأبلة تغدوا وشربوا، وأمر جواريه فغنين، ومعبد ساكت وهو في ثياب السفر، وعليه فرو وخفان غليظان وزي جاف من زي أهل الحجاز، إلى أن غنت إحدى الجواري: صوت
بانت سعاد وأمسى حبلها انصرمـا واحتلت الغور فالأجزاع من إضما
إحدى بلي وما هام الفـؤاد بـهـا إلا السفاه وإلا ذكـرة حـلـمـا - قال حماد: والشعر للنابغة الذبياني. والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالبنصر، وفيه لغيره ألحان قديمة ومحدثة - فلم تجد أداءه، فصاح بها معبد: يا جارية، إن غناءك هذا ليس بمستقيم. قال: فقال له مولاها وقد غضب: وأنت ما يدريك الغناء ما هو? ألا تمسك وتلزم شأنك فأمسك. ثم غنت أصواتا من غناء غيره وهو ساكت لا يتكلم، حتى غنت: صوت
بابنة الأزدي قلبي كـئيب مستهام عندها ما ينـيب
ولقد لاموا فقلت دعونـي إن من تنهون عنه حبيب
إنما أبلى عظامي وجسمي حبها والحب شيء عجيب
أيها العائب عندي هواهـا أنت تفدي من أراك تعيب - والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر، والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر - قال: فأخلت ببعضه. فقال لها معبد: يا جارية، لقد أخللت بهذا الصوت إخلالا شديدا. فغضب الرجل وقال له: ويلك ما أنت والغناء ألا تكف عن هذا الفضول فأمسك. وغنى الجواري مليا، ثم غنت إحداهن: صوت
خليلي عوجا فابكيا ساعة مـعـي على الربع نقضي حاجة ونـودع
ولا تعجلانـي أن ألـم بـدمـنة لعزة لاحت لي ببيداء بـلـقـع
وقولا لقلب قد سلا: راجع الهوى وللعين: أذري من دموعك أودعي
فلا عيش إلا مثل عيش مضى لنا مصيفا أقمنا فيه من بعد مربـع
صفحة : 16
- الشعر لكثير، والغناء لمعبد خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى، وفيه رمل للغريض - قال: فلم تصنع فيه شيئا. فقال لها معبد: يا هذه، أما تقوين على أداء صوت واحد? فغضب الرجل وقال له: ما أراك تدع هذا الفضول بوجه ولا حيلة وأقسم بالله لئن عاودت لأخرجنك من السفينة، فأمسك معبد، حتى إذا سكتت الجواري سكتة اندفع يغني الصوت الأول حتى فرغ منه، فصاح الجواري: أحسنت والله يا رجل فأعده. فقال: لا والله ولا كرامة. ثم اندفع يغني الثاني، فقلن لسيدهن: ويحك هذا والله أحسن الناس غناء، فسله أن يعيده علينا ولو مرة واحددة لعلنا نأخذه عنه، فإنه إن فاتنا لم نجد مثله أبدا. فقال: قد سمعتن سوء رده عليكن وأنا خائف مثله منه، وقد أسلفنا الإساءة، فاصبرن حتى نداريه. ثم غنى الثالث، فزلزل عليهم الأرض. فوثب الرجل فخرج إليه وقبل رأسه وقال: يا سيدي أخطأنا عليك ولم نعرف موضعك. فقال له: فهبك لم تعرف موضعي، قد كان ينبغي لك أن تتثبت ولا تسرع إلي بسوء العشرة وجفاء القول. فقال له: قد أخطأت وأنا أعتذر إليك مما جرى، وأسألك أن تنزل إلي وتختلط بي. فقال: أما الآن فلا. فلم يزل يرفق به حتى نزل إليه. فقال له الرجل: ممن أخذت هذا الغناء? قال: من بعض أهل الحجاز، فمن أين أخذه جواريك? فقال: أخذنه من جارية كانت لي ابتاعها رجل من أهل البصرة من مكة، وكانت قد أخذت عن أبي عباد معبد وعني بتخريجها، فكانت تحل مني محل الروح من الجسد، ثم استأثر الله عز وجل بها، وبقي هؤلاء الجواري وهن من تعليمها، فأنا إلى الآن أتعصب لمعبد وأفضله على المغنين جميعا وأفضل صنعته على كل صنعة. فقال له معبد: أو إنك لأنت هو أفتعرفني? قال: لا. قال: فصك معبد بيده صلعته ثم قال: فأنا والله معبد، وإليك قدمت من الحجاز، ووافيت البصرة ساعة نزلت السفينة لأقصدك بالأهواز، ووالله لا قصرت في جواريك هؤلاء، ولأجعلن لك في كل واحدة منهن خلفا من الماضية. فأكب الرجل والجواري على يديه ورجليه يقبلونها ويقولون: كتمتنا نفسك طول هذا اليوم حتى جفوناك في المخاطبة، وأسأنا عشرتك، وأنت سيدنا ومن نتمنى على الله أن نلقاه. ثم غير الرجل زيه وحاله وخلع عليه عدة خلع، وأعطاه في وقته ثلثمائة دينار وطيبا وهدايا بمثلها، وانحدر معه إلى الأهواز، فأقام عنده حتى رضي حذق جواريه وما أخذته عنه، ثم ودعه وانصرف إلى الحجاز.
غناء معبد للوليد بن يزيد
أخبرني الحسن بن علي الخفاف وعبد الباقي بن قانع قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني مهدي بن سابق قال حدثني سليمان بن غزوان مولى هشام قال حدثني عمر القاري بن عيد قال: قال الوليد بن يزيد يوما: لقد اشتقت إلى معبد، فوجه البريد إلى المدينة فأتى بمعبد، وأمر الوليد ببركة قد هيئت له فملئت بالخمر والماء، وأتي بمعبد فأمر به فأجلس والبركة بينهما، وبينهما ستر قد أرخي، فقال له غنني يا معبد: صوت
لهفي على فتية ذل الزمان لهم فما أصابهم إلا بمـا شـاءوا
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم حتى تفانوا وريب الدهر عداء
أبكى فراقهم عيني وأرقـهـا إن التفرق للأحبـاب بـكـاء - الغناء لمعبد خفيف ثقيل، وفيه ليحيى المكي رمل، ولسليمان هزج، كلها رواية الهشامي - قال: فغناه إياه، فرفع الوليد الستر ونزع ملاءة مطيبة كانت عليه وقذف نفسه في تلك البركة، فنهل فيها نهلة، ثم أتي بأثواب غيرها وتلقوه بالمجامر والطيب، ثم قال غنني: صوت
يا ربع مالك لا تجيب متيمـا قد عاج نحوك زائرا ومسلما
جادتك كل سحابة هـطـالة حتى ترى عن زهرة متبسما - الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى والخنصر عن ابن المكي. وفيه لعلوية ثاني ثقيل آخر بالبنصر في مجراها عنه - قال: فغناه فدعا له بخمسة عشر ألف دينار فصبها بين يديه، ثم قال: انصرف إلى أهلك واكتم ما رأيت.
وأخبرني بهذا الخبر عمي فجاء ببعض معانيه وزاد فيه ونقص، قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني سليمان بن سعد الحلبي قال:
صفحة : 17
سمعت القاري بن عدي يقول: إشتاق الوليد بن يزيد إلى معبد، فوجه إليه إلى المدينة فأحضر. وبلغ الوليد قدومه، فأمر ببركة بين يدي مجلسه فملئت ماء ورد قد خلط بمسك وزعفران، ثم فرش للوليد في داخل البيت على حافة البركة، وبسط لمعبد مقابله على حافة البركة، ليس معهما ثالث، وجيء بمعبد فرأى سترا مرخى ومجلس رجل واحد. فقال له الحجاب: يا معبد، سلم على أمير المؤمنين واجلس في هذا الموضع؛ فسلم فرد عليه الوليد السلام من خلف الستر، ثم قال له: حياك الله يا معبد أتدري لم وجهت إليك? قال: الله أعلم وأمير المؤمنين. قال: ذكرتك فأحببت أن أسمع منك. قال معبد: أأغني ما حضر أم ما يقترحه أمير المؤمنين? قال: بل غنني:
مازال يعدو عليهم ريب دهرهم حتى تافنوا وريب الدهر عداء فغناه، فما فرغ منه حتى رفع الجواري السجف، ثم خرج الوليد فألقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج منها، فاستقبله الجواري بثياب غير الثياب الأولى، ثم شرب وسقى معبدا، ثم قال له: غنني يا معبد:
يا ربع مالك لا تجيب متيمـا قد عاج نحوك زائرا ومسلما
جادتك كل سحـابة هـطـالة حتى ترى عن زهرة متبسما
لو كنت تدري من دعاك أجبته وبكيت من حرق عليه إذا دما قال: فغناه، وأقبل الجواري فرفعن الستر، وخرج الوليد فالقى نفسه في البركة فغاص فيها ثم خرج، فلبس ثيابا غير تلك، ثم شرب وسقى معبدا، ثم قال له: غنني. فقال: بماذا يا أمير المؤمنين? قال غنني:
عجبت لما رأتـنـي أندب الربع المحيلا
واقفا في الدار أبكي لا أرى إلا الطلولا
كيف تبكي لأنـاس لا يملون الذمـيلا?
كلما قلت اطمأنـت دارهم قالوا الرحيلا قال: فلما غناه رمى نفسه في البركة ثم خرج، فردوا عليه ثيابه، ثم شرب وسقى معبدا، ثم أقبل عليه الوليد فقال له: يا معبد، من أراد أن يزداد عند الملوك حظوة فليكتم أسرارهم. فقلت: ذلك ما لا يحتاج أمير المؤمنين إلى إيصائي به. فقال: يا غلام، احمل إلى معبد عشرة آلاف دينار تحصل له في بلده وألفي دينار لنفقة طريقه، فحملت إليه كلها، وحمل على البريد من وقته إلى المدينة.
خبر معبد مع رجل لم يستحسن غناءه
قال إسحاق: وقال معبد: أرسل إلي الوليد بن يزيد فأشخصت إليه. فبينا أنا يوما في بعض حمامات الشأم إذ دخل علي رجل له هيبة ومعه غلمان له، فأطلى واشتغل به صاحب الحمام عن سائر الناس. فقلت: والله لئن لم أطلع هذا على بعض ما عندي لأكونن بمزجر الكلب؛ فاستدبرته حيث يراني ويسمع مني، ثم ترنمت، فالتفت إلي وقال للغلمان: قدموا إليه جميع ما ها هنا، فصار جميع ما كان بين يديه عندي. قال: ثم سألني أن أسير معه إلى منزله فأجبته، فلم يدع من البر والإكرام شيئا إلا فعله، ثم وضع النبيذ، فجعلت لا آتي بحسن إلا خرجت إلى ما هو أحسن منه وهو لا يرتاح ولا يحفل لما يرى مني. فلما طال عليه أمري قال: يا غلام، شيخنا شيخنا، فأتي بشيخ، فلما رآه هش إليه، فأخذ الشيخ العود ثم اندفع يغني:
سلور في القدر ويلي علوه جاء القط أكله ويلي علوه السلور: السمك الجري بلغة أهل الشأم - قال: فجعل صاحب المنزل يصفق ويضرب برجله طربا وسرورا. قال: ثم غناه:
وترميني حبيبة بالدراقن وتحسبني حبيبة لا أراها - الدراقن: اسم الخوخ بلغة أهل الشأم - فكاد أن يخرج من جلده طربا. قال: وانسللت منهم فانصرفت ولم يعلم بي. فما رأيت مثل ذلك اليوم غناء أضيع، ولا شيخا أجهل معبد وابن عائشة
قال إسحاق: وذكر لي شيخ من أهل المدينة عن هارون بن سعد: أن ابن عائشة كان يلقي عليه وعلى ربيحة الشماسية، فدخل معبد فألقى عليهما صوتا، فاندفع ابن عائشة يغنيه وقد أخذه منه؛ فغضب معبد وقال: أحسنت يابن عاهرة الدار، تفاخرني فقال: لا والله - جعلني الله فداءك يا أبا عباد - ولكني أقتبس منك، وما أخذته إلا عنك، ثم قال: أنشدك الله يابن شماس، هل قلت لك: قد جاء أبو عباد فاجمع بيني وبينه أقتبس منه. قال: اللهم نعم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال:
صفحة : 18
قيل لابن عائشة، وقد غنى صوتا أحسن فيه فقال: أصبحت أحسن الناس غناء، فقيل له: وكيف أصبحت أحسن الناس غناء? قال: وما يمنعني من ذلك وقد أخذت من أبي عباد أحد عشر صوتا، وأبو عباد مغني أهل المدينة والمقدم فيهم أخبرنا وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال حدثني أيوب بن عباية عن رجل من هذيل قال: قدومه مكة والتقاؤه بالمغنين بها
قال معبد: غنيت فأعجبني غنائي وأعجب الناس وذهب لي به صيت وذكر، فقلت لآتين مكة فلأسمعن من المغنين بها ولأغنينهم ولأتعرفن إليهم، فابتعت حمارا فخرجت عليه إلى مكة. فلما قدمتها بعت حماري وسألت عن المغنين أين يجتمعون? فقيل: بقعيقعان في بيت فلان، فجئت إلى منزله بالغلس فقرعت الباب، فقال: من هذا. فقلت: انظر عافاك الله فدنا وهو يسبح ويستعيد كأنه يخاف، ففتح فقال: من أنت عافاك الله? قلت: رجل من أهل المدينة. قال: فما حاجتك? قلت: أنا رجل أشتهي الغناء، وأزعم أني أعرف منه شيئا، وقد بلغني أن القوم يجتمعون عندك، وقد أحببت أن تنزلني في جانب منزلك وتخلطني بهم، فإنه لا مئونة عليك ولا عليهم مني. فلوى شيئا ثم قال: انزل على بركة الله. قال: فنقلت متاعي فنزلت في جانب حجرته. ثم جاء القوم حين أصبحوا واحدا بعد واحد حتى اجتمعوا، فأنكروني وقالوا: من هذا الرجل? قال: رجل من أهل المدينة خفيف يشتهي الغناء ويطرب عليه، ليس عليكم منه عناء ولا مكروه. فرحبوا بي وكلمتهم، ثم انبسطوا وشربوا وغنوا، فجعلت أعجب بغنائهم وأظهر ذلك لهم ويعجبهم مني، حتى أقمنا أياما، وأخذت من غنائهم وهم لا يدرون أصواتا وأصوتا وأصواتا. ثم قلت لابن سريج: أي فديتك أمسك علي صوتك:
قل لهند وتـربـهـا قبل شحط النوى غدا قال: أو تحسن شيئا? قلت: تنظر، وعسى أن أصنع شيئا، واندفعت فيه فغنيته، فصاح وصاحوا وقالوا: أحسنت قاتلك الله قلت: فأمسك علي صوت كذا فأمسكوه علي، فغنيته، فازدادوا عجبا وصياحا.
فما تركت واحدا منهم إلا غنيته من غنائه أصواتا قد تخيرتها. قال: فصاحوا حتى علت أصواتهم وهرفوا بي وقالوا: لأنت أحسن بأداء غنائنا عنا منا. قال: قلت: فأمسكوا علي ولا تضحكوا بي حتى تسمعوا من غنائي ، فأمسكوا علي؛ فغنيت صوتا من غنائي فصاحوا بي، ثم غنيتهم آخر وآخر فوثبوا إلي وقالوا: نحلف بالله إن لك لصيتا واسما وذكرا، وإن لك فيما هاهنا لسهما عظيما، فمن أنت? قلت: أنا معبد. فقبلوا رأسي وقالوا: لفقت علينا وكنا نتهاون بك ولا نعدك شيئا وأنت أنت. فأقمت عندهم شهرا آخذ منهم ويأخذون مني، ثم انصرفت إلى المدينة.
نسبة هذا الصوت صوت
قل لهند وتـربـهـا قبل شحط النوى غدا
إن تجوي فطالـمـا بت ليلي مسـهـدا
أنت في ود بـينـنـا خير ما عنـدنـا يدا
حين تدلي مضفـرا حالك اللون أسـوادا الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج عن حماد ولم يجنسه. وفيه لمالك خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق. وقال الهشامي: فيه لابن محرز خفيف ثقيل بالوسطى.
ومن الثلاثة الأصوات المختارة
صوت فيه أربعة ألحان من رواية علي بن يحيى ثاني الثلاثة الأصوات المختارة
تشكى الكميت الجري لما جهدته وبين لو يسطيع أن يتـكـلـمـا
لذلك أدني دون خيلي مـكـانـه وأوصي به ألا يهان ويكـرمـا
فقلت له: إن ألق للـعـين قـرة فهان علي أن تكل وتـسـأمـا
عدمت إذا وفري وفارقت مهجتي لئن لم أقل قرنا إن الله سلـمـا عروضه من الطويل. قوله: )لئن لم أقل قرنا(، يعني أنه يجد في سيره حتى يقيل بهذا الموضع، وهوقرن المنازل، وكثيرا ما يذكره في شعره.
الشعر لعمر بن أبي ربيعة المخزومي، والغناء في هذا اللحن المختار لابن سريج، ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. وفيه لإسحاق أيضا ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة. وفيه ثقيل أول يقال إنه ليحيى المكي. وفيه خفيف رمل يقال إنه لأحمد بن موسى المنجم. وفيه للمعتضد ثاني ثقيل آخر في نهاية الجودة. وقد كان عمرو بن بانة صنع فيه لحنا فسقط لسقوط صنعته.
صفحة : 19
أخبرني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال: صنع عمرو بن بانة لحنا في تشكي الكميت الجري فأخبرني بعض عجائزنا بذلك، قالت فأردنا أن نعرضه على متيم لنعلم ما عندها فيه، فقلنا لبعض من أخذه عن عمرو: إن تشكى الكميت الجري في اللحن الجديد، فقالت متيم: أيش هذا اللحن الجديد والكميت المحدث? قلنا: لحن صنعه عمرو بن بانة. فغنته الجارية، فقالت متيم لها: اقطعي اقطعي، حسبك حسبك هذا والله لحمار حنين المكسور أشبه مه بالكميت.
ذكر خبر عمر بن أبي ربعية ونسبه
نسب عمر بن أبي ربيعة
هو عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة، واسم أبي ربيعة: حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر. وقد تقدم باقي النسب في نسب أبي قطيفة. ويكنى عمر بن أبي ربيعة أبا الخطاب . وكان أبو ربيعة جده يسمى ذا الرمحين سمي بذلك لطوله، كان يقال: كأنه يمشي على رمحين.
أخبرني بذلك الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي ومحمد بن الضحاك عن أبيه الضحاك عن عثمان بن عبد الرحمن اليربوعي. وقيل: إنه قاتل يوم عكاظ برمحين فسمي ذا الرمحين لذلك.
وأخبرني بذلك أيضا علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن مصعب الزبيري والمدائني والمسيبي ومحمد بن سلام، قالوا: وفيه يقول عبد الله بن الزبعرى:
ألا لـلـه قــوم و لدت أخت بني سهم
هشام وأبـو عـبـد مناف مدرة الخصم
وذو الرمحين أشبـاك على القوة والحـزم
فهــــذان يذودان وذا من كثب يرمي
أسود تزدهي الأقـرا ن مناعون للهضـم
وهم يوم عـكـاظ م نعوا الناس من الهزم
وهم من ولدوا أشبوا بسر الحسب الضخم
فإن أحلف وبيت الل ه لا أحلف على إثم
لما من إخـوة بـين قصور الشأم والردم
بأزكى من بني ريط ة أو أوزن في الحلم أبو عبد مناف: الفاكه بن المغيرة. وريطة هذه التي عناها هي أم بني المغيرة، وهي بنت سعيد بن سعد بن سهم، ولدت من المغيرة هشاما وهاشما ربيعة والفاكه.
وأخبرني أحمد بن سليمان بن داود الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا: حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال أخبرني محمد بن عبد العزيز عن ابن أبي نهشل عن أبيه قال: قال لي أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - وجئته أطلب منه مغرما - يا خال، هذه أربعة آلاف درهم وأنشد هذه الأبيات الأربعة وقل: سمعت حسان ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقلت: أعوذ بالله أن أفتري على الله ورسوله، ولكن إن شئت أن أقول: سمعت عائشة تنشدها فعلت. فقال: لا، إلا أن تقول: سمعت حسان ينشدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فأبى علي وأبيت عليه، فأقمنا لذلك لا نتكلم عدة ليال. فأرسل إلي فقال: قل أبياتا تمدح بها هشاما - يعني ابن المغيرة - وبني أمية. فقلت: سمهم لي، فسماهم وقال: اجعلها في عكاظ واجعلها لأبيك. فقلت:
ألا لـلـه قــوم و لدت أخت بني سهم قال: ثم جئت فقلت: هذه قالها أبي. فقال: لا، ولكن قل: قالها ابن الزبعري. قال: فهي إلى الآن منسوبة في كتب الناس إلى ابن الزبعري.
قال الزبير: وأخبرني محمد بن الحسن المخزومي قال: أخبرني محمد بن طلحة أن عمر بن أبي ربيعة قائل هذه الأبيات:
ألا لـلـه قــوم و لدت أخت بني سهم أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبد العزيز بن عمران قال حدثني محمد بن عبد العزيز عن ابن أبي نهشل عن أبيه بمثل ما رواه الزبير عنه. وزاد فيه عمر بن شبة: قال محمد بن يحيى: و أخت بني سهم التي عناها ريطة بنت سعيد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب، وهي أم بني المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهم: هشام وهاشم وأبو ربيعة والفاكه، وعدة غيرهم لم يعقبوا، وإياهم يعني أبو ذؤيب بقوله:
صفحة : 20
صخب الشوارب لا يزال كأنه عبد لآل أبي ربيعة مسـبـع ضرب بعزهم المثل. قال : وكان اسم عبد الله بن أبي ربيعة في الجاهلية بحيرا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله، وكانت قريش تلقبه العدل ، لأن قريشا كانت تكسو الكعبة في الجاهلية بأجمعها من أموالها سنة، ويكسوها من ماله سنة، فأرادوا بذلك أنه وحده عدل لهم جميعا في ذلك.
وفيه يقول ابن الزبعري:
بحير بن ذي الرمحين قرب مجلسي وراح علي خيره غـير عـاتـم وقد قيل: إن العدل هو الوليد بن المغيرة.
وكان عبد الله بن أبي ربيعة تاجرا موسرا، وكان متجره إلى اليمن، وكان من أكثرهم مالا. وأمه أسماء بنت مخربة، وقيل: مخرمة، وكانت عطارة يأتيها العطر من اليمن. وقد تزوجها هشام بن المغيرة أيضا، فولدت له أبا جهل والحارث ابني هشام، فهي أمهما وأم عبد الله وعياش ابني أبي ربيعة.
أخبرني الحرمي والطوسي قال: حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن الواقدي قال: كانت أسماء بنت مخربة تبيع العطر بالمدينة. فقالت الربيع بنت معوذ بن عفراء الأنصارية - وكان أبوها قتل أبا جهل بن هشام يوم بدر واحتز رأسه عبد الله بن مسعود - وقيل: بل عبد الله بن مسعود هو الذي قتله - فذكرت أن أسماء بنت مخربة دخلت عليها وهي تبيع عطرا لها في نسوة، قالت: فسألت عنا، فانتسبنا لها. فقالت: أأنت ابنة قاتل سيده? تعني أبا جهل. قلت: بل أنا بنت قاتل عبده. قالت: حرام علي أن أبيعك من عطري شيئا. قلت: وحرام علي أن أشتري منه شيئا، فما وجدت لعطر نتنا غير عطرك، ثم قمت، ولا والله ما رأيت عطرا أطيب من عطرها، ولكني أردت أن أعيبه لأغيظها.
وكان لعبد الله بن أبي ربيعة عبيد من الحبشة يتصرفون في جميع المهن، وكان عددهم كثيرا، فروي عن سفيان بن عيينة أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى حنين: هل لك في حبش بني المغيرة تستعين بهم? فقال: لا خير في الحبش إن جاعوا سرقوا وإن شبعوا زنوا، وإن فيهم لخلتين حسنتين إطعام الطعام والبأس يوم البأس . واستعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي ربيعة على الجند ومخلفيها، فلم يزل عاملا عليها حتى قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. هذا من رواية الزبير عن عمه. قال: وحدثني ابن الماجشون عن عمه أن عثمان بن عفان - رحمه الله - استعمله أيضا عليها.
أم عمر بن أبي ربيعة وأخوه الحارث
الملقب بالقباع
وأم عمر بن أبي ربيعة أم ولد يقال لها مجد ، سبيت من حضرموت، ويقال من حمير. قال أبو محلم ومحمد بن سلام: هي من حمير، ومن هناك أتاه الغزل، يقال: غزل يمان، ودل حجازي.
وقال عمر بن شبة: أم عمر بن أبي ربيعة أم ولد سوداء من حبش يقال لهم: فرسان. وهذا غلط من أبي زيد، تلك أم أخيه الحارث بن عبد الله الذي يقال له: القباع ، وكانت نصرانية. وكان الحارث بن عبد الله شريفا كريما دينا وسيدا من سادات قريش.
قال الزبير بن بكار: ذكره عبد الملك بن مروان يوما وقد ولاه عبد الله بن الزبير، فقال: أرسل عوفا وقعد لا حر بوادي عوف . فقال له يحيى بن الحكم: ومن الحارث ابن السوداء فقال له عبد الملك: ما ولدت والله أمة خيرا مما ولدت أمه.
وأخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق بن إبراهيم عن الزبير والمدائني والمسيبي: أن أمه ماتت نصرانية وكانت تسر ذلك منه. فحضر الأشراف جنازتها، وذلك في عهد عمر بن الخطاب - رحمة الله عليه - فسمع الحارث من النساء لغطا، فسأل عن الخبر، فعرف أنها ماتت نصرانية وأنه وجد الصليب في عنقها، وكانت تكتمه ذلك. فخرج إلى الناس فقال: انصرفوا رحمكم الله، فإن لها أهل دين هم أولى بها منا ومنكم فاستحسن ذلك منه وعجب الناس من فعله.
نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء الغناء في ألا لله قوم ... الأبيات صوت
ألا لـلـه قــوم و لدت أخت بني سهم
هشام وأبو عـبـد مناف مدرة الخصم
وذو الرمحين أشباك على القوة والحزم
فهـــذان يذودان وذا من كثب يرمي عروضه من مكفوف الهزج. الغناء لمعبد خفيف رمل من رواية حماد.
رأي يزيد في غناء معبد وابن سريج
صفحة : 21
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال إسماعيل بن مجمع أخبرنا المدائني عن رستم ابن صالح قال: قال يزيد بن عبد الملك يوما لمعبد: يا أبا عباد، أني أريد أن أخبرك عن نفسي وعنك، فإن قلت فيه خلاف ما تعلم فلا تتحاش أن ترده علي، فقد أذنت لك. قال: يا أمير المؤمنين، لقد وضعك ربك بموضع لا يعصيك إلا ضال، ولا يرد عليك إلا مخطىء. قال: إن الذي أجده في غنائك لا أجده في غناء ابن سريج: أجد في غنائك متانة، وفي غنائه انحناثا ولينا. قال معبد: والذي أكرم أمير المؤمنين بخلافته، وارتضاه لعباده، وجعله أمينا على أمة نبيه صلى الله عليه وسلم، ما عدا صفتي وصفة ابن سريج، وكذا يقول ابن سريج وأقول، ولكن أن رأى أمير المؤمنين أن يعلمني هل وضعني ذاك عنده فعل. قال: لا والله، ولكني أؤثر الطرب على كل شيء.
قال: يا سيدي فإذا كان ابن سريج يذهب إلى الخفيف من الغناء وأذهب أنا إلى الكامل التام، فأغرب أنا ويشرق هو، فمتى نلتقي? قال: أفتقدر أن تحكي رقيق بن سريج? قال نعم، فصنع من وقته لحنا من الخفيف في:
ألا لـلـه قــوم و لدت أخت بني سهم الأربعة الأبيات. فغناه، فصاح يزيد: أحسنت والله يا مولاي أعد فداك أبي وأمي، فأعاد، فرد عليه مثل قوله الأول، فأعاد. ثم قال: أعد فداك أبي وأمي، فأعاد، فاستخفه الطرب حتى وثب وقال لجواريه: افعلن كما أفعل، وجعل يدور في الدار ويدرن معه وهو يقول:
يا دار دورينــي يا قرقر امسكيني
آليت منـذ حـين حقا لتصرمينـي
ولا تواصلـينـي بالله فارحمينـي
لم تذكري يميني قال: فلم يزل يدور كما يدور الصبيان ويدرن معه، حتى خر مغشيا عليه ووقعن فوقه ما يعقل ولا يعقلن، فابتدره الخدم فأقاموه وأقاموا من كان على ظهره من جواريه، وحملوه وقد جاءت نفسه أو كادت.
سيرة جوان بن عمر بن أبي ربيعة
رجع الخبر إلى ذكر عمر بن أبي ربيعة وكان لعمر بن أبي ربيعة بن صالح يقال له جوان ، وفيه يقول العرجي:
شهيدي جوان على حبها أليس بعدل عليها جوان فأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يحيى بن محمد بن عبد الله بن ثوبان قال: جاء جوان بن عمر بن أبي ربيعة إلى زياد بن عبد الله الحارثي وهو إذ ذاك أمير على الحجاز، فشهد عنده بشهادة، فتمثل:
شهيدي جوان على حبها أليس بعدل عليها جوان - وهذا الشعر للعرجي - ثم قال: قد أجزنا شهادتك، وقبله. وقال غير الزبير: إنه جاء إلى العرجي، فقال له: يا هذا ما لي وما لك تشهرني في شعرك متى أشهدتني على صاحبتك هذه ومتى كنت أنا أشهد في مثل هذا قال: وكان امرأ صالحا.
وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني بكار بن عبد الله قال: استعمل بعض ولاة مكة جوان بن عمر على تبالة، فحمل على خثعم في صدقات أموالهم حملا شديدا، فجعلت خثعم سنة جوان تاريخا، فقال ضبارة بن الطفيل:
أتلبسنا ليلى على شعـث بـنـا من العام أو يرمى بنا الرجوان صوت
رأتني كأشلاء اللجام وراقـهـا أخو غـزل ذو لـمة ودهـان
ولو شهدتني في ليال مضين لي لعامين مرا قبل عـام جـوان
رأتنا كريمي معشر حم بينـنـا هوى فحفظناه بحسـن صـيان
نذود النفوس الحائمات عن الصبا وهن بأعنـاق إلـيه ثـوانـي ذكر حبش أن الغناء في هذه الأبيات للغريض ثاني ثقيل بالبنصر، وذكر الهشامي أنه لقراريط.
أمة الواحد بنت عمر بن أبي ربيعة قالوا: وكان لعمر أيضا بنت يقال لها: أمه الواحد وكانت مسترضعة في هذيل، وفيها يقول عمر بن أبي ربيعة - وقد خرج يطلبها فضل الطريق -:
لم تدر وليغفر لها ربهـا ما جشمتنا أمة الواحـد
جشمت الهول براذيننـا نسأل عن بيت أبي خالد
نسأل عن شيخ بني كاهل أعيا خفاء نشدة الناشـد مولد عمر يوم قتل عمر بن الخطاب
ووفاته وقد قارب السبعين
صفحة : 22
أخبرني بذلك محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي بكر العامري أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال حدثني يعقوب بن القاسم قال حدثنا أسامة بن زيد بن الحكم بن عوانة عن عوانة بن الحكم - قال: أراه عن الحسن - قال: ولد عمر بن أبي ربيعة ليلة قتل عمر بن الخطاب - رحمة الله عليه - فأي حق رفع، وأي باطل وضع. قال عوانة: ومات وقد قارب السبعين أو جاوزها.
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال حدثني يعقوب بن القاسم قال حدثني عبد الله بن الحارث عن ابن جريج عن عطاء قال: كان عمر بن أبي ربيعة أكبر مني كأنه ولد في أول الإسلام.
عمر في مجلس ابن عباس بالمسجد الحرام
أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عبد الله الزهري قال: حدثنا ابن أبي ثابت، وحدثني به علي بن صالح بن الهيثم عن أبي هفان عن إسحاق عن المسيبي والزبيري والمدائني ومحمد بن سلام، قالوا: قال أيوب بن سيار، وأخبرني به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الحسن المخزومي عن عبد العزيز بن عمران عن أيوب بن سيار عن عمر الركاء قال: بينا ابن عباس في المسجد الحرام وعنده نافع بن الأزرق وناس من الخوارج يسألونه، إذ أقبل عمر بن أبي ربيعة في ثوبين مصبوغين موردين أو ممصرين حتى دخل وجلس، فأقبل عليه ابن عباس فقال أنشدنا فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر غداة غد أم رائح فمهجر حتى أتى على آخرها. فأقبل عليه نافع بن الأزرق فقال: الله يابن عباس إنا نضرب إليك أكباد الإبل من أقاصي البلاد نسألك عن الحلال والحرام فتتثاقل عنا، ويأتيك غلام مترف من مترفي قريش فينشدك:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيخزى وأما بالعشى فـيخـسـر فقال: ليس هكذا قال. قال: فكيف قال? فقال: قال:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشى فيخـصـر فقال: ماأراك إلا وقد حفظت البيت قال: أجل وإن شئت أن أنشدك القصيدة أنشدتك إياها. قال فإني أشاء، فأنشده القصيدة حتى أتى على آخرها. وفي غير رواية عمر بن شبة: أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها، ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة، وما سمعها قط إلا تلك المرة صفحا. قال: وهذا غاية الذكاء. فقال له بعضهم: ما رأيت أذكى منك قط. فقال: لكني ما رأيت قط أذكى من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان ابن عباس يقول: ما سمعت شيئا قط إلا رويته، وإني لأسمع صوت النائحة فأسد أذني كراهة أن أحفظ ما تقول. قال: ولامه بعض أصحابه في حفظ هذه القصيدة: أمن آل نعم... فقال: إنا نستجيدها.
وقال الزبير في خبره عن عمه: فكان ابن عباس بعد ذلك كثيرا ما يقول: هل أحدث هذا المغيري شيئا بعدنا? قال: وحدثني عبد الله بن نافع بن ثابت قال: كان عبد الله بن الزبير إذا سمع قول عمر بن أبي ربيعة:
فيضحى وأما بالعشي فيحضر قال: لا، بل:
فيخزى وأما بالعشي فيخسر قال عمر بن شبة وأبو هفان والزبير في حديثهم: ثم أقبل على ابن أبي ربيعة فقال: أنشد، فأنشده:
تشط غدا دار جيراننا وسكت، فقال ابن عباس:
وللدار بعد غد أبعد فقال له عمر: كذلك قلت - أصلحك الله - أفسمعته? قال: لا، ولكن كذلك ينبغي.
شعره وخلقه وشهادة الشعراء فيه
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يعقوب بن إسحاق قال: كانت العرب تقر لقريش بالتقدم في كل شيء عليها إلا في الشعر، فإنها كانت لا تقر لها به، حتى كان عمر بن أبي ربيعة، فأقرت لها الشعراء بالشعر أيضا ولم تنازعها شيئا.
قال الزبير: وسمعت عمي مصعبا يحدث عن جدي أنه قال مثل هذا القول. قال: وحدثني عدة من أهل العلم أن النصيب قال: لعمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربات الحجال.
قال المدائني قال سليمان بن عبد الملك لعمر بن أبي ربيعة: ما يمنعك من مدحنا? قال: إني لا أمدح الرجال، إنما أمدح النساء. قال: وكان ابن جريج يقول: ما دخل على العواتق في حجالهن شيء اضر عليهن من شعر عمر بن أبي ربيعة.
صفحة : 23
قال الزبير وحدثني عمي عن جدي - وذكره أيضا إسحاق فيما رويناه عن أبي هفان عنه عن المدائني - قال قال هشام بن عروة: لا ترووا فتياتكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطا، وأنشد:
لقد أرسلت جـاريتـي وقلت لها خذي حذرك
وقولي في مـلاطـفة لزينب: نولي عمرك أخبرنا علي بن صالح قال حدثني أبو هفان عن إسحاق عن الزبيري قال حدثني أبي عن سمرة الدوماني من حمير قال: إني لأطوف بالبيت فإذا أنا بشيخ في الطواف، فقيل لي: هذا عمر بن أبي ربيعة. فقبضت على يده وقلت له: يابن أبي ربيعة. فقال: ما تشاء? قلت: أكل ما قتله في شعرك فعلته? قال: إليك عني. قلت: أسألك بالله قال: نعم وأستغفر الله.
قال إسحاق وحدثني الهيثم بن عدي عن حماد الراوية: أنه سئل عن شعر عمر بن أبي ربيعة فقال: ذاك الفستق المقشر.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال: سمع الفرزدق شيئا من نسيب عمر فقال: هذا الذي كانت الشعراء تطلبه فأخطأته وبكت الديار، ووقع هذا عليه. قال: وكان بالكوفة رجل من الفقهاء تجتمع إليه الناس فيتذاكرون العلم، فذكر يوما شعر عمر بن أبي ربيعة فهجنه. فقالوا له: بمن ترضى? ومر بهم حماد الراوية فقال: قد رضيت بهذا. فقالوا له: ما تقول فيمن يزعم أن عمر بن أبي ربيعة لم يحسن شيئا? فقال: أين هذا? اذهبوا بنا إليه. قالوا: نصنع به ماذا? قال: ننزو على أمه لعلها تأتي بمن هو أمثل من عمر.
قال إسحاق: وقال أبو المقوم الأنصاري: ما عصي الله بشيء كما عصي بشعر عمر بن أبي ربيعة.
قال إسحاق: وحدثني قيس بن داود قال حدثني أبي قال: سمعت عمر بن أبي ربيعة يقول: لقد كنت وأنا شاب أعشق ولا أعشق، فاليوم صرت إلى مداراة الحسان إلى الممات. ولقد لقيتني فتاتان مرة فقالت لي إحداهما: أدن مني يابن أبي ربيعة أسر إليك شيئا. فدنوت منها ودنت الأخرى فجعلت تعضني، فما شعرت بعض هذه من لذة سرار هذه.
قال إسحاق: وذكر عبد الصمد بن المفضل الرقاشي عن محمد بن فلان الزهري - سقط اسمه - عن إسحاق عن عبد الله بن مسلمة بن أسلم قال: لقيت جريرا فقلت له: يا أبا حزرة، إن شعرك رفع إلى المدينة وأنا أحب أن تسمعني منه شيئا. فقال: إنكم يا أهل المدينة يعجبكم النسيب، وإن أنسب الناس المخزومي. يعني ابن أبي ربيعة.
قال إسحاق: وذكر محمد بن إسماعيل الجعفري عن أبيه عن خاله عبد العزيز بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، قال: أشرف عمر بن أبي ربيعة على أبي قبيس، وبنو أخيه معه وهم محرمون، فقال لبعضهم: خذ بيدي فأخذ بيده، وقال: ورب هذه البنية ما قلت لامرأة قط شيئا لم تقله لي، وما كشفت ثوبا عن حرام قط. قال: ولما مرض عمر مرضه الذي مات فيه جزع أخوه الحارث جزعا شديدا. فقال له عمر: أحسبك إنما تجزع لما تظنه بي، والله ما أعلم أني ركبت فاحشة قط فقال: ما كنت أشفق عليك إلا من ذلك، وقد سليت عني.
قال إسحاق: حدثني مصعب الزبيري قال قال مصعب بن عروة بن الزبير: خرجت أنا وأخي عثمان إلى مكة معتمرين أو حاجين، فلما طفنا بالبيت مضينا إلى الحجر نصلي فيه، فإذا شيخ قد فرج بيني وبين أخي فأوسعنا له. فلما قضى صلاته أقبل علينا فقال: من أنتما? فأخبرناه. فرحب بنا وقال: يا ابني أخي، إني موكل بالجمال أتبعه، وإني رأيتكما فراقني حسنكما وجمالكما، فاستمتعا بشبابكما قبل أن تندما عليه، ثم قام، فسألنا عنه فإذا هو عمر بن أبي ربيعة.
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك قال: عاش عمر بن أبي ربيعة ثمانين سنة، فتك منها أربعين سنة، ونسك أربعين سنة.
قال الزبير وحدثني إبراهيم عن حمزة ومحمد بن ثابت عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه قال: حججت مع أبي وأنا غلام وعلي جمة. فلما قدمت مكة جئت عمر بن أبي ربيعة، فسلمت عليه وجلست معه، فجعل يمد الخصلة من شعري ثم يرسلها فترجع على ما كانت عليه، ويقول: واشباباه. حتى فعل ذلك مرارا. ثم قال لي: يابن أخي، قد سمعتني أقول في شعري: قالت لي وقلت لها، وكل مملوك لي حر إن كنت كشفت عن فرج حرام قط فقمت وأنا متشكك في يمينه، فسألت عن رقيقه فقيل لي: أما في الحوك فله سبعون عبدا سوى غيرهم.
صفحة : 24
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت: مررت بجدك عبد الله بن مصعب وأنا داخلة منزله وهو بفنائه ومعي دفتر، فقال: ما هذا معك? ودعاني. فجئته وقلت: شعر عمر بن أبي ربيعة. فقال: ويحك تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة إن لشعره لموقعا من القلوب ومدخلا لطيفا، لو كان شعر يسحر لكان هو، فارجعي به. قالت: ففعلت.
قال إسحاق : وأخبرني الهيثم بن عدي قال: قدمت امرأة مكة وكانت من أجمل النساء. فبينا عمر بن أبي ربيعة يطوف إذ نظر إليها فوقعت في قلبه، فدنا منها فكلمها، فلم تلتفت إليه. فلما كان في الليلة الثانية جعل يطلبها حتى أصابها. فقالت له: إليك عني يا هذا، فإنك في حرم الله وفي أيام عظيمة الحرمة. فألح عليها يكلمها، حتى خافت أن يشهرها. فلما كان في الليلة الأخرى قالت لأخيها: أخرج معي يا أخي فأرني المناسك، فإني لست أعرفها، فأقبلت وهو معها. فلما رآها عمر أراد أن يعرض لها، فنظر إلى أخيها معها فعدل عنها، فتمثلت المرأة بقول النابغة:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامـي قال إسحاق: فحدثني السندي مولى أمير المؤمنين أن المنصور قال -وقد حدث بهذا الخبر-: وددت أنه لم تبق فتاة من قريش في خدرها إلا سمعت بهذا الحديث.
قال إسحاق: قال لي الأصمعي: عمر حجة في العربية، ولم يؤخذ عليه إلا قوله:
ثم قالوا تحبها قلـت بـهـرا عدد الرمل والحصى والتراب وله في ذلك مخرج، إذ قد أتى به على سبيل الإخبار. قال: ومن الناس من يزعم أنه إنما قال:
قيل لي هل تحبها قلت بهرا نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الأشعار التي قالها عمر بن أبي ربيعة وغنى فيها المغنون إذ كانت لم تنسب هناك لطول شرحها شعر عمر الذي غنى فيه المغنون
منها ما يغنى فيه من قوله: صوت
أمن آل نعم أنت غاد فـمـبـكـر غداة غـد أم رائح فـمـهـجـر
لحاجة نفس لم تقل في جـوابـهـا فتبلغ عذرا والـمـقـالة تـعـذر
أشارت بمدراها وقالت لأخـتـهـا أهذا المغيري الذي كـان يذكـر?
فقالت: نعم لا شـك غـير لـونـه سر الليل يطوي نصه والتهـجـر
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخـصـر
أخا سفر جواب أرض تـقـاذفـت به فلوات فهو أشـعـث أغـبـر
وليلة ذي دوران جشمتني السـرى وقد يجشم الهول المحب المغـرر
فقلت: أباديهم فـإمـا أفـوتـهـم وإما ينال السـيف ثـأرا فـيثـأر هذه الأبيات جمعت على غير توال؛ لأنه إنما ذكر منها ما فيه صنعة. غنى في الأول والثاني من الأبيات ابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن أحمد بن المكي وذكر حبش أن فيهما لمعبد لحنا من الثقيل الأول بالبنصر.
وغنى ابن سريج في الثالث والرابع أيضا خفيف ثقيل بالوسطى، وذكر حبش أن فيهما لحنا من الهزج بالوسطى لحكم. وغنى ابن سريج في الخامس والسادس لحنا من الرمل بالوسطى عن عمرو بن بانه. وذكر يونس أن في السابع والثامن لابن سريج لحنا ولم يذكر طريقته، وذكر حبش أن فيهما لمالك لحنا من الثقيل الثاني بالبنصر.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني محمد بن إسحاق قال أخبرني محمد بن حبيب عن هشام بن الكلبي: أن عمر بن أبي ربيعة أتى عبد الله بن عباس وهو في المسجد الحرام فقال: متعني الله بك إن نفسي قد تاقت إلى قول الشعر ونازعتني إليه، وقد قلت منه شيئا أحببت أن تسمعه وتستره علي. فقال: أنشدني، فأنشده:
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر فقال له: أنت شاعر يا ابن أخي، فقل ما شئت. قال: وأنشد عمر هذه القصيدة طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري وهو راكب، فوقف ومازال شانقا ناقته حتى كتبت له.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني الحسين بن إسماعيل قال حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال: كان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: هذا شعر تهامي إذا أنجد وجد البرد، حتى أنشد قوله:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فينحـصـر
صفحة : 25
قليلا على ظهر المطية ظـلـه سوى ما نفى عنه الرداء المحبر
وأعجبها من عيشها ظل غـرفة وريان ملتف الحدائق أخضـر
ووال كفاها كل شيء يهمـهـا فليست لشيء آخر الليل تسهـر فقال جرير: ما زال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر.
أخبرني محمد بن خلف قال أخبرني أبو عبد الله اليمامي قال حدثني الأصمعي قال: قال لي الرشيد: أنشدني أحسن ما قيل في رجل قد لوحه السفر، فأنشدته قول عمر بن أبي ربيعة:
رأت رجلا إذا ما الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فينحـصـر
أخا سفر جواب أرض تقـاذفـت به فلوات فهو أشـعـث أغـبـر ... الأبيات كلها. قال: فقال لي الرشيد: أنا والله ذلك الرجل. قال: وهذا بعقب قدومه من بلاد الروم.
أخبرني الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة في كتابه إلي: قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني شعيب بن صخر قال: كان بين عائشة بنت طلحة وبين زوجها عمر بن عبيد الله بن معمر كلام، فسهرت ليلة فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول:
ووال كفاها كل شيء يهمهـا فليست لشيء آخر الليل تسهر أخبرني علي بن صالح قال حدثنا أبو هفان قال حدثني إسحاق عن المدائني قال: عرض يزيد بن معاوية جيش أهل الحرة، فمر به رجل من أهل الشأم معه ترس خلق سمج، فنظر إليه يزيد وضحك وقال له: ويحك ترس عمر بن أبي ربيعة كان أحسن من ترسك. يريد قول عمر:
فكان مجني دون من كنت أتقي ثلاث شخوص كاعبان ومعصر أخبرنا جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال: سمع أبو الحارث جميز مغنية تغني:
أشارت بمدراها وقالت لأختهـا أهذا المغيري الذي كان يذكر? فقال جميز: امرأته طالق إن كانت أشارت إليه بمدراها إلا لتفقأ بها عينه، هلا أشارت إليه بنقانق مطرف بالخردل، أو سنبوسجة مغموسة في الخل، أو لوزينجة شرقة بالدهن فإن ذلك أنفع له، وأطيب لنفسه، وأدل على مودة صاحبته.
أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال حدثني عبد العزيز بن أبي أويس عن عطاف بن خالد الوابصي عن عبد الرحمن بن حرملة قال: أنشد سعيد بن المسيب قول عمر بن أبي ربيعة:
وغاب قمير كنت أرجو غيوبه وروح رعيان ونوم سـمـر فقال: ما له قاتله الله لقد صغر ما عظم الله يقول الله عز وجل: والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم .
شعر عمر في فاطمة الكندية
بنت محمد بن الأشعث
ومنها ما فيه غناء لم ينسب في موضعه من الأخبار فنسب ها هنا: صوت
تشط غـدا دار جـيرانـنـا وللدار بـعـد غـد أبـعـد
إذا سلكت غمـر ذي كـنـدة مع الصبح قصد لها الفرقـد
عراقية، وتهامـي الـهـوى يغـور بـمـكة أو ينـجـد
وحث الحداة بهـا عـيرهـا سراعا إذا ما ونت تـطـرد
هنالك إما تـعـزي الـفـؤاد وإما على إثرهـا تـكـمـد
وليسـت بـبـدع إذا دارهـا نأت والـعـزاء إذا أجـلـد
صرمت وواصلت حتى علـم ت أين المصادر والـمـورد
وجربت من ذاك حتى عرف ت ما أتوقى ومـا أحـمـد
فلما دنونا لجـرس الـنـبـا ح والضوء، والحي لم يرقدوا
نأينا عن الحـي حـتـى إذا تودع من نارها الـمـوقـد
بعثنا لهـا بـاغـيا نـاشـدا وفي الحي بغية من ينـشـد
أتتنا تهـادى عـلـى رقـبة من الخوف أحشاؤها ترعـد
تقول وتظهـر وجـدا بـنـا ووجدي وإن أظهرت أوجـد
لمما شقائي تعـلـقـتـكـم وقد كان لي عندكم مقـعـد
وكفت سوابق مـن عـبـرة على الخد يجري بها الإثمـد
فإن التي شيعتـنـا الـغـداة مع الفجر قلبي بها مقصـد
كـأن أقـاحـي مـولــية تحدر من ماء مـزن نـدي
صفحة : 26
غنى معبد في الأول والثاني والثالث من الأبيات خفيف ثقيل من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق. وغنى فيها أشعب المعروف بالطامع ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي. وللغريض في الأبيات الأربعة الأول ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. ولابن سريج في الرابع عشر وهو:
وكفت سوابق من عبرة ثم الأول والتاسع رمل بالوسطى عن ابن المكي. ولمالك )ويقال إنه لمعبد ( خفيف ثقيل في الرابع عشر والثالث عشر والأول عن الهشامي. وفي السابع والثامن والأول لابن جامع ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. وفي الأول والحادي عشر لابن سريج رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق، وفيهما ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ولم ينسبه إلى أحد، وذكر أحمد بن المكي أنه لأبيه. وفي الرابع والخامس رمل لمعبد عن ابن المكي، وقيل: إنه من منحول أبيه إلى معبد. وفي الثالث عشر والسادس ليونس خفيف رمل عن الهشامي. وفي الأول والثاني عشر ثاني ثقيل تشترك فيه الأصابع عن ابن المكي، وقال أيضا: فيه للأبجر لحن آخر من الثقيل الثاني. ولمعبد في الرابع والسادس ثاني ثقيل آخر عنه، وفيهما أيضا رمل لابن سريج عنه وعن حبش. ولإسحاق في الأول والثاني رمل من كتابه. ولعلية بنت المهدي في الثالث عشر والأول ثقيل أول. ولابن مسجح في الثاني عشر والأول رمل، ويقال إنه للرطاب، وذكر حبش أنه لابن سريج. وفي الخمسة الأبيات الأولى متوالية خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى معبد وإلى يحيى المكي، وزعم حبش أن فيها رملا بالوسطى لابن محرز. والذي ذكره يونس في كتابه أن في
تشط غدا دار جيراننا خمسة ألحان: اثنان لمعبد، واثنان لمالك، وواحد ليونس. وذكر أحمد بن عبيد أن الذي عرف صحته من الغناء فيه سبعة ألحان: ثقيل أول، وثاني ثقيل، وخفيف ثقيل، ورمل، وخفيفه.
أخبرني بعض أصحابنا عن أبي عبد الله بن المرزبان أن الذي أحصي فيه إلى وقته ستة عشر لحنا. والذي وجدته فيه مما جمعته ها هنا - سوى ما لم يذكر يونس طريقته - تسعة عشر لحنا: منها في الثقيل الأول لحنان، وفي خفيف الثقيل لحنان، وفي الثقيل الثاني ستة، وفي الرمل سبعة، وفي خفيف الرمل لحنان.
وهذا الشعر يقوله عمر بن أبي ربيعة في امرأة من ولد الأشعث بن قيس حجت فهويها وراسلها، فواصلته ودخل إليها وتحدث معها وخطبها، فقالت: أما ها هنا فلا سبيل إلى ذلك، ولكن إن قدمت إلى بلدي خاطبا تزوجتك، فلم يفعل.
أخبرني بهذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن الحسن المخزومي عن محرز بن جعفر مولى أبي هريرة عن أبيه قال: سمعت بديحا يقول: حجت بنت محمد بن الأشعث الكندية، فراسلها عمر بن أبي ربيعة وواعدها أن يتلقاها مساء الغد، وجعل الآية بينه وبينها أن تسمع ناشدا ينشد - إن لم يمكنه أن يرسل رسولا - يعلمها بمصيره إلى المكان الذي وعدها. قال بديح: فلم أشعر به إلا متلثما، فقال لي: يا بديح، ائت بنت محمد بن الأشعث فأخبرها أني قد جئت لموعدها، فأبيت أن أذهب وقلت: مثلي لا يعين على مثل هذا.
فغيب بغلته عني ثم جاءني فقال لي: قد أضللت بغلتي فانشدها لي في زقاق الحاج. فذهبت فنشدتها، فخرجت علي بنت محمد بن الأشعث وقد فهمت الآية، فأتته لموعده، وذلك قوله:
وآية ذلك أن تسمعي إذا جئتكم ناشدا ينشد قال بديح: فلما رأيتها مقبلة عرفت أنه قد خدعني بنشدي البغلة، فقلت له: يا عمر، لقد صدقت التي قالت لك:
فهذا سحرك النسـوا ن، قد خبرنني خبرك قد سحرتني وأنا رجل فكيف برقة قلوب النساء وضعف رأيهن وما آمنك بعدها، ولو دخلت الطواف ظننت أنك دخلته لبلية. قال: وحدثها بحديثي، فما زالا ليلتهما يفصلان حديثهما بالضحك مني.
قال الزبير: فحدثني أبو الهندام مولى الربعيين عن أبي الحارث بن عبد الله الربعي قال: لقي ابن أبي عتيق بديحا فقال له: يا بديح، أخدعك ابن أبي ربيعة أنه قرشي? فقال بديح: نعم وقد أخطأه ذلك عند القسري وصواحبه. فقال ابن أبي عتيق: ويحك يا بديح أن من تغابى لك ليغبى عنك، فقد ضمت عليه قبضتك إن كان لك ذهن، أما رأيت لمن كانت العاقبة? والله ما بالى ابن أبي ربيعة أوقع عليهن أم وقعن عليه.
صفحة : 27
أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن كعب بن بكر المحاربي: أن فاطمة بنت محمد بن الأشعث حجت، فراسلها عمر بن أبي ربيعة فواعدته أن تزوره، فأعطى الرسول الذي بشره بزيارتها مائة دينار.
أخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن رجاله المذكورين، قالوا: حجت بنت لمحمد بن الأشعث - هكذا قال إسحاق وهو عندي الصحيح - وكانت معها أمها وقد سمعت بعمر بن أبي ربيعة فأرسلت إليه، فجاءها فاستنشدته، فأنشدها:
تشط غدا دار جيراننا وللدار بعد غد أبعد وذكر القصة بطولها. قال: وقد كانت لما جاءها أرسلت بينها وبينه سترا رقيقا تراه من ورائه ولا يراها، فجعل يحدثها حتى استنشدته، فأنشدها هذه القصيدة، فاستخفها الشعر فرفعت السجف، فرأى وجها حسنا في جسم ناحل، فخطبها وأرسل إلى أمها بخمسمائة دينار، فأبت وحجبته وقالت للرسول: تعود إلينا. فكأن الفتاة غمها ذلك، فقالت لها أمها: قد قتلك الوجد به فتزوجيه. قالت: لا والله لا يتحدث أهل العراق عني أني جئت ابن أي ربيعة أخطبه، ولكن إن أتاني إلى العراق تزوجته. قال: ويقال إنها راسلته وواعدته أن تزوره، فأجمر بيته وأعطى المبشر مائة دينار، فأتته وواعدته إذا صدر الناس أن يشيعها، وجعلت علامة ما بينهما أن يأتيها رسوله ينشدها ناقة له. فلما صدر الناس فعل ذلك عمر. وفيه يقول وقد شيعها: صوت
قال الخليط غدا تصدعـنـا أو بعده، أفلا تـشـيعـنـا
أما الرحيل فدون بعـد غـد فمتى تقول الدار تجمعنـا
لتشوقنا هند وقد عـلـمـت علما بأن البين يفـزعـنـا
عجبا لموقفنا وموقـفـهـا وبسمع تربيها تراجعـنـا
ومقالها سر ليلة مـعـنـا نعهد فإن البين فاجعـنـا
قلت العيون كثيرة معـكـم وأظن أن السير مانعـنـا
لا بل نزوركم بأرضـكـم فيطاع قائلكم وشافـعـنـا
قالت أشيء أنت فـاعـلـه هذا لعمرك أم تخادعنـا?
بالله حدث مـا تـؤمـلـه واصدق فإن الصدق واسعنا
اضرب لنا أجلا نعـد لـه إخلاف موعده تقاطعـنـا الغناء لابن سريج ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، وذكر عمرو أنه للغريض بالوسطى. وفيه لابن سريج خفيف رمل عن الهشامي، وذكر حبش أنه لموسى شهوات.
شعره في زينب بنت موسى الجمحية
ومنها مما لم ينسب أيضا صوت
لقد أرسلت جـاريتـي وقلت لها: خذي حذرك
وقولي في مـلاطـفة لزينب: نولي عمـرك
فهزت رأسها عجـبـا وقالت: من بذا أمـرك
أهذا سحرك النـسـوا ن، قد خبرنني خبـرك غنى فيها ابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن عمرو، وقال قوم: إنه للغريض. وفيها لمالك خفيف ثقيل عن ابن المكي. وفي هذا الشعر ألحان كثيرة، والشعر فيها على غير هذه القافية، لأن هذه الأبيات لعمر من قصيدة رائية موصولة الراءات بألف، إلا أن المغنين غيروا هذه الأبيات في هذين اللحنين، فجعلوا مكان الألف كافا، وإنما هي:
لقد أرسلت جاريتـي وقلت لها: خذي حذرا وأول القصيدة: صوت
تصابى القلب وادكـرا صباه ولم يكن ظهـرا
لزينب إذ تـجـدلـنـا صفاء لم يكـن كـدرا
أليست بالتـي قـالـت لمولاة لهـا ظـهـرا
أشيري بالـسـلام لـه إذا هو نحونا خـطـرا
لقد أرسلت جـاريتـي وقلت لها: خذي حذرا
وقولي في مـلاطـفة لزينب: نولي عـمـرا
فهزت رأسها عجـبـا وقالت: من بذا أمـرا
أهذا سحرك النـسـوا ن، قد خبرنني الخبـرا غنى ابن سريج في الثالث والرابع والخامس والأول خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر من رواية إسحاق. وذكر عمرو بن بانة في نسخته الأولى أنه لابن سريج، وأبو إسحاق ينسبه في نسخته الثانية إلى دحمان. وللغريض في الأول من الأبيات لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالوسطى في مجراها، وأضاف إليه بيتين ليسا من هذه القصيدة وهما:
صفحة : 28
طربت ورد من تهوى جمال الحي فابتكروا
فقل للـمـالـكـية لا تلومي القلب إن جهرا وذكر يونس أن لمعبد في هذا الشعر الذي أوله:
تصابى القلب وادكرا لحنين لم يذكر جنسيهما، وذكر الهشامي: أن أحدهما خفيف ثقيل والآخر رمل. وفي الأبيات التي غنى فيها الغريض رمل لدحمان عن الهشامي، قال: ويقال إنه لابنة الزبير. وزينب التي ذكرها عمر بن أبي ربيعة ها هنا، يقال لها: زينب بنت موسى أخت قدامة بن موسى الجمحي.
أخبرني بذلك محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي بكر العامري. وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري قال حدثني عمي عمران بن عبد العزيز قال: شبب عمر بن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحية في قصيدته التي يقول فيها: صوت
يا خليلي من ملام دعـانـي وألما الغـداة بـالأظـعـان
لا تلوما في آل زينـب إن ال قلب رهن بآل زينب عانـي
ما أرى ما بقيت أن أذكر المو قف منها بالخيف إلا شجاني - غنى في هذه الأبيات الغريض خفيف رمل بالبنصر عن عمرو -
لم تدع للنساء عـنـدي حـظـا غير ما قلت مازحا بلـسـانـي
هي أهل الصفاء والود مـنـي وإليها الهوى فلا تـعـدلانـي
حين قالت لأختـهـا ولأخـرى من قطين مولـد: حـدثـانـي
كيف لي اليوم أن أرى عمر المر سل سرا في القول أن يلقانـي?
قالتا: نبـتـغـي رسـولا إلـيه ونميت الحديث بالـكـتـمـان
إن قلبي بعد الذي نلت مـنـهـا كالمعمى عن سائر النـسـوان قال: وكان سبب ذكره لها أن ابن أبي عتيق ذكرها عنده يوما فأطراها، ووصف من عقلها وأدبها وجمالها ما شغل قلب عمر وأماله إليها، فقال فيها الشعر وشبب بها، فبلغ ذلك ابن أبي عتيق، فلامه فيه وقال له: أتنطق الشعر في ابنة عمي? فقال عمر: صوت
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي إن بي يا عتيق ما قد كفانـي
لا تلمني وأنت زينتهـا لـي أنت مثل الشيطان للإنسـان
إن بي داخلا من الحب قد أب لى عظامي مكنونه وبرانـي
لو بعينيك يا عتيق نـظـرنـا ليلة السفح قرت العـينـان
إذ بدا الكشح والوشاح من الد ر فضل فيه من المرجـان
قد قلى قلبي النساء سـواهـا غير ما قلت مازحا بلسانـي وأول هذه القصيدة:
إنني اليوم عاد لـي أحـزانـي وتذكرت ما مضى من زماني
وتـذكـرت ظـبــية أم رئم هاج لي الشوق ذكرها فشجاني غنى أبو العبيس بن حمدون في لا تلمني عتيق... لحنا من الثقيل الأول المطلق. وفيه رمل طنبوري مجهول.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال: أنشد عمر بن أبي ربيعة قوله:
يا خليلي من ملام دعانـي وألما الغداة بـالأظـعـان
لا تلوما في آل زينب إن ال قلب رهن بآل زينب عاني القصيدة. قال: فبلغ ذلك أبا وداعة السهمي فأنكره وغضب. وبلغ ذلك ابن أبي عتيق وقيل له: إن أبا وداعة قد اعترض لابن أبي ربيعة من دون زينب بنت موسى، وقال: لا أقر لابن أبي ربيعة أن يذكر امرأة من بني هصيص في شعره. فقال ابن أبي عتيق: لا تلوموا أبا وداعة أن ينعظ من سمرقند على أهل عدن قال الزبير: وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري قال حدثني عمي عمران بن عبد العزيز قال: شبب عمر بن أبي ربيعة بزينب بنت موسى في أبياته التي يقول فيها:
لا تلوما في آل زينب إن ال قلب رهن بآل زينب عاني فقال له ابن أبي عتيق: أما قلبك فقد غيب عنا، وأما لسانك فشاهد عليك.
قال عبد الرحمن بن عبد الله قال عمران بن عبد العزيز: عذل ابن أبي عتيق عمر في ذكره زينب في شعره، فقال عمر:
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي إن بي يا عتيق ما قد كفانـي
صفحة : 29
لا تلمني وأنت زينتها لي قال: فبدره ابن أبي عتيق، فقال:
أنت مثل الشيطان للإنسان فقال ابن أبي ربيعة: هكذا ورب البيت قلته. فقال ابن أبي عتيق: إن شيطانك ورب القبر ربما ألم بي، فيجد عندي من عصيانه خلاف ما يجد عندك من طاعته، فيصيب مني وأصيب منه.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال حدثني قدامة بن موسى قال: خرجت بأختي زينب إلى العمرة، فلما كنت بسرف لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلم علي. فقلت له: إلى أين أراك متوجها يا أبا الخطاب? فقال: ذكرت لي امرأة من قومي برزة الجمال، فأردت الحديث معها. فقلت: هل علمت أنها أختي? فقال: لا واستحيا وثنى عنق فرسه راجعا إلى مكة.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط بن بكر المحاربي قال: أنشدني ابن أبي عتيق قول عمر: صوت
من لسقيم يكتم الـنـاس مـا بـه لزينب نجوى صدره والوسـاوس
أقول لمن يبغي الشفاء متى تجيء بزينب تدرك بعض ما أنت لامس
فإنك إن لم تشف من سقمي بـهـا فإني من طـب الأطـبـاء آيس
ولست بناس ليلة الدار مجـلـسـا لزينب حتى يعلو الرأس رامـس
خلاء بدت قمراؤه وتكـشـفـت دجنته وغاب مـن هـو حـارس
وما نلت منها محرما غير أنـنـا كلانا من الثوب المـورد لابـس
نجيين نقضي اللهو في غير مأثـم وإن رغمت م الكاشحين المعاطس قال: فقال ابن أبي عتيق: أمنا يسخر ابن أبي ربيعة فأي محرم بقي ثم أتى عمر فقال له: يا عمر، ألم تخبرني أنك ما أتيت حراما قط? قال بلى قال: فأخبرني عن قولك:
كلانا من الثوب المورد لابس ما معناه? قال: والله لأخبرنك خرجت أريد المسجد وخرجت زينب تريده، فالتقينا فاتعدنا لبعض الشعاب، فلما توسطنا الشعب أخذتنا السماء، فكرهت أن يرى بثيابها بلل المطر، فيقال لها: ألا استترت بسقائف المسجد أن كنت فيه، فأمرت غلماني فسترونا بكساء خز كان علي؛ فذلك حين أقول:
كلانا من الثوب المطارف لابس فقال له ابن أبي عتيق: يا عاهر هذا البيت يحتاج إلى حاضنة الغناء في هذه الأبيات التي أولها:
من لسقيم يكتم الناس ما به لرذاذ ثقيل أول، وكان بعض المحدثين ممن شاهدناه يدعي أنه له، ولم يصدق.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال: قال عمر بن أبي ربيعة في زينب بنت موسى: صوت
طال من آل زينب الإعـراض للتعدي وما بهـا الإبـغـاض
ووليدين كان علقـهـا الـقـل ب إلى أن علا الرءوس بياض
حبلها عندنا متـين وحـبـلـي عندها واهن القوى أنـقـاض الغناء في هذا الأبيات لابن محرز خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. وقال الهشامي: فيه لابن جامع خفيف رمل آخر.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال قال عبد الرحمن بن عبد الله وحدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز عن أبيه قال: لما قال عمر بن أبي ربيعة في زينب:
لم تدع للنساء عندي نصيبـا غير ما قلت مازحا بلساني قال له ابن أبي عتيق: رضيت لها بالمودة، وللنساء بالدهفشة. قال: والدهفشة: التجميش والخديعة بالشيء اليسير. وقال غير الزبير في هذا الخبر: الدهقشة، مكان الدهفشة .
ومما قاله عمر في زينب وغني فيه قوله: صوت
أيها الكاشـح الـمـعـير بـالـصـر م تزحزح فمـا لـهـا الـهـجـران
لا مطـاع فـي آل زينـب فـارجـع أو تكـلـم حـتـى يمـل الـلـسـان
نجعل الليل موعـدا حـين نـمـسـي ثم يخفـي حـديثـنـا الـكـتـمـان
كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص بر عن بعـض نـفـسـه الإنـسـان
ولقد أشـهـد الـمـحـدث عـنـد ال قصـر فـيه تـعـفــف وبـــيان
في زمـان مـن الـمـعـيشة لــدن قد مضـى عـصـره وهـذا زمـان الغناء في هذه الأبيات لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو ودنانير. وذكر يونس أن فيه لحنا لابن محرز ولحنا لابن عباد الكاتب، أول لحن ابن عباد الكاتب:
صفحة : 30
لا مطاع في آل زينب.... وأول لحن ابن محرز:
ولقد أشهد المحدث.... ومما غني فيه لابن محرز من أشعار عمر بن أبي ربيعة في زينب بنت موسى قوله: صوت
يا من لقلـب مـتـيم كـلـف يهذي بخود مريضة النـظـر
تمشي الهوينى إذا مشت فضـلا وهي كمثل العسلوج في الشجر - للغريض في هذين البيتين خفيف رمل بالوسطى، ولابن سريج رمل بالبنصر عن الهشامي وحبش -
ما زال طرفي يحار إذ بـرزت حتى رأيت النقصان في بصري
أبصرتها لـيلة ونـسـوتـهـا يمشين بين المقام والـحـجـر
ما إن طمعنا بها ولا طمـعـت حتى التقينا ليلا عـلـى قـدر
بيضا حسانا خـرائدا قـطـفـا يمشين هونا كمشية الـبـقـر
قد فزن بالحسن والجمال مـعـا وفزن رسلا بالدل والـخـفـر
ينصتن يوما لها إذا نـطـقـت كيما يشرفنها على الـبـشـر
قالت لثرب لهـا تـحـدثـهـا لنفسدن الطواف فـي عـمـر
قومي تصدي له لـيعـرفـنـا ثم اغمزيه يا أخت في خـفـر
قالت لها قد غمـزتـه فـأبـى ثم اسبطرت تسعى على أثـري
من يسق بعد المنام ريقـتـهـا يسق بمسك وبـارد خـصـر غنى في هذا الشعر الغريض خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. وغن فيه ابن سريج رملا بالبنصر عن الهشامي وحبش. ومنها: صوت
ألا يا بكر قد طرقـا خيال هاج لي الأرقا
لزينب إنها هـمـي فكيف بحبلها خلقـا
خدلجة إذا انصرفت رأيت وشاحها قلقـا
وساقا تملأ الخلـخـا ل فيه تراه مختنقـا
إذا ما زينب ذكـرت سكبت الدمع متسقا
كأن سحابة تهـمـي بماء حملت غـدقـا الغناء لحنين رمل عن الهشامي. وفيه لابن عباد خفيف ثقيل، ويقال: إنه ليونس. ومما قاله فيها أيضا وغني فيه: صوت
ألمم بزينب إن الـبـين قـد أفـدا قل الثواء لئن كان الرحيل غـدا
قد حلفت ليلة الصورين جـاهـدة وما على المرء إلا الحلف مجتهدا
لأختها ولأخرى من مناصـفـهـا لقد وجدت به فوق الـذي وجـدا
لو جمع الناس ثم اختير صفوهـم شخصا من الناس لم أعدل به أحدا الغناء لابن سريج رمل بالسبابة والبنصر في الأول والثاني عن يحيى المكي، وله فيه أيضا خفيف رمل بالوسطى في الثاني والثالث والرابع عن عمرو. ولمعبد ثقيل أول في الأول والثاني عن الهشامي. وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى الغريض ومالك.
أخبرني علي بن صالح قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق عن مصعب الزبيري قال: اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه ومجلسه وحديثه، فتشوقن إليه وتمنينه. فقالت سكينة: أنا لكن به، فبعثت إليه رسولا أن يوافي الصورين ليلة سمتها، فوافاهن على رواحله، فحدثهن حى طلع الفجر وحان انصرافهن. فقال لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده، ولكني لا أخلط بزيارتكن شيئا. ثم انصرف إلى مكة وقال في ذلك:
ألمم بزينب إن البين قد أفدا وذكر الأبيات المتقدمة.
عود إالى شهادة جرير
والغريب وغيرهما في شعرعمر
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال: أنشد جرير قول عمر بن أبي ربيعة: الصوت
سائلا الربع بالبلـي وقـولا هجت شوقا لي الغداة طويلا
أين حي حلوك إذ أنت محفو ف بهم آهل أراك جمـيلا?
قال ساروا فأمعنوا واستقلـوا وبزعمي لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمنا مـقـامـا وأحبوا دمـاثة وسـهـولا
صفحة : 31
فقال جرير: إن هذا الذي كنا ندور عليه فأخطأناه وأصابه هذا القرشي. وفي هذه الأبيات رملان: أحدهما لابن سريج بالسبابة في مجرى الوسطى، والآخر لإسحاق مطلق في مجرى البنصر جميعا من روايته. وذكر عمرو: أن فيها رملا ثالثا بالوسطى، لابن جامع. وقال الهشامي: فيها ثلاثة أرمال لابن سريج، وابن جامع، وإبراهيم. ولأبي العبيس بن حمدون فيها ثاني ثقيل. وفيها هزج لإبراهيم الموصلي من جامع أغانيه.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال: وجدت كتابا بخط محمد بن الحسن ذكر فيه أن فليح بن إسماعيل حدثه عن معاذ صاحب الهروي أن النصيب قال: عمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربات الحجال.
أخبرني الطوسي: قال حدثنا الزبير قال حدثتني ظمياء مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت: سمعت جدك يقول - وقد أنشد قول عمر بن أبي ربيعة: صوت
يا ليتني قد أجزت الحبل نحـوكـم حبل المعرف أو جاوزت ذا عشر
إن الثواء بـأرض لا أراك بـهـا فاستيقنيه ثـواء حـق ذي كـدر
وما مللت ولكـن زاد حـبـكـم وما ذكرتك إلا ظلت كالـسـدر
ولا جذلت بشيء كان بـعـدكـم ولا منحت سواك الحب من بشر الغناء في هذه الأربعة الأبيات لسلام بن الغساني رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لابن جامع وقفا النجار لحنان من كتاب إبراهيم ولم يجنسهما. وتمام الأبيات:
أذري الدموع كذى سقم يخامره وما يخامرني سقم سوى الذكر
كم قد ذكرتك لو أجدى تذكركم يا أشبه الناس كل الناس بالقمر - قالت: فقال جدك: إن لشعر عمر بن أبي ربيعة لموقعا في القلب، ومخالطة للنفس ليسا لغيره، ولو كان شعر يسحر لكان شعره سحرا.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمامة بن عمر قال: رأيت عامر بن صالح بن عبد الله بن عروة بن الزبير يسأل المسور بن عبد الملك عن شعر عمر بن أبي ربيعة، فجعل يذكر له شيئا لا يعرفه، فيسأله أن يكتبه إياه ففعل، فرأيته يكتب ويده ترعد من الفرح.
المفاضلة بين شعره و شعر الحارث
بن خالد
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن عمه يوسف قال: ذكر شعر الحارث بن خالد وشعر عمر بن أبي ربيعة عند ابن أبي عتيق في مجلس رجل من ولد خالد بن العاصي بن هشام، فقال: صاحبنا - يعني الحارث بن خالد - أشعرهما. فقال له ابن أبي عتيق: بعض قولك يا ابن أخي، لشعر عمر بن أبي ربيعة نوطة في القلب، وعلوق بالنفس، ودرك للحاجة ليست لشعر، وما عصي الله جل وعز بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، فخذ عني ما أصف لك: أشعر قريش من دق معناه، ولطف مدخله، وسهل مخرجه، ومتن حشوه، وتعطفت حواشيه، وأنارت معانيه، وأعرب عن حاجته. فقال المفضل للحارث: أليس صاحبنا الذي يقول:
إني وما نحروا غداة منى عند الجمار يؤدها العقل
لو بدلت أعلى مساكنـهـا سفلا واصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بهـا فيرده الإقواء والمـحـل
لعرفت مغناها بما احتملت مني الضلوع لأهلها قبل فقال له ابن أبي عتيق: يابن أخي، استر على نفسك، واكتم على صاحبك، ولا تشاهد المحافل بمثل هذا، أما تطير الحارث عليها حين قلب ربعها فجعل عاليه سافله ما بقي إلا أن يسأل الله تبارك وتعالى لها حجارة من سجيل. ابن أبي ربيعة كان أحسن صحبة للربع من صاحبك، وأجمل مخاطبة حيث يقول:
سائلا الربع بالبلـي وقـولا هجت شوقا لي الغداة طويلا وذكر الأبيات الماضية. قال: فانصرف الرجل خجلا مذعنا.
شيء من أخبار الحارث الملقب بالقباع
أخبرني علي بن صالح قال حدثني أبو هفان عن إسحاق عن رجاله المسمين، وأخبرني به الحرمي عن الزبير عن عمه عن جده، قالوا: كان الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة أخو عمر بن أبي ربيعة رجلا صالحا دينا من سروات قريش، وإنما لقب القباع لأن عبد الله بن الزبير كان ولاه البصرة، فرأى مكيالا لهم فقال: إن مكيالكم هذا لقباع - قال: وهو الشيء الذي له قعر - فلقب بالقباع.
صفحة : 32
وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن محمد الطائي قال حدثنا خالد بن سعيد قال: استعمل ابن الزبير الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة على البصرة، فأتوه بمكيال لهم، فقال لهم: إن مكيالكم هذا لقباع، فغلب عليه. وقال أبو الأسود الدؤلي - وقد عتب عليه - يهجوه ويخاطب ابن الزبير:
أمير المؤمنين جزيت خيرا أرحنا من قباع بني المغيرة
بلوناه ولـمـنـاه فـأعـيا علينا ما يمر لنـا مـريرة
على أن الفتى نكح أكـول وولاج مذاهبـه كـثـيرة شعر عمر في تشوقه إلى مكة
بعد أن خرج منها إلى اليمن
قالوا: وكان الحارث ينهى أخاه عن قول الشعر فيأبى أن يقبل منه، فأعطاه ألف دينار على ألا يقول شعرا، فأخذ المال وخرج إلى أخواله بلحج وأبين مخافة أن يهجيه مقامه بمكة على قول الشعر، فطرب يوما فقال: صوت
هيهات من أمة الوهاب منزلـنـا إذا حللنا بسيف البحر مـن عـدن
واحتل أهلك أجيادا ولـيس لـنـا إلا التذكر أو حظ مـن الـحـزن
لو أنها أبصرت بالجزع عبـرتـه من أن يغرد قمري على فـنـن
إذا رأت غير ما ظنت بصاحبـهـا وأيقنت أن لحجا ليس من وطنـي
ما أنس لا أنس يوم الخيف موقفها وموقفي وكلانا ثـم ذو شـجـن
وقولها للـثـريا وهـي بـاكـية والدمع منها على الخدين ذو سنن
بالله قولي له في غير مـعـتـبة ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أخذت بترك الحج من ثـمـن قال: فسارت القصيدة حتى سمعها أخوه الحارث، فقال: هذا والله شعر عمر، قد فتك وغدر. قال: وقال ابن جريج: ما ظننت أن الله عز وجل ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى سمعت وأنا باليمن منشدا ينشد قوله:
بالله قولي له في غير مـعـتـبة ماذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها فما أخذت بترك الحج من ثـمـن فحركني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحاج وحججت.
غنى في أبيات عمر هذه ابن سريج، ولحنه رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق. وفيها للغريض ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.
طلب الوليد من يخبره عن الطائف
فدل على عمر
أخبرني علي بن صالح قال حدثنا أبو هفان قال حدثني إسحاق عن السعدي قال: قدم الوليد بن عبد الملك مكة، فأراد أن يأتي الطائف فقال: هل لي في رجل علم بأموال الطائف فيخبرني عنها? فقالوا: عمر بن أبي ربيعة. قال: لا حاجة لي به. ثم عاد فسأل فذكروه له فرده. ثم عاد فسأل فذكروه له ثم رده. ثم عاد فسأل فذكروه له ، فقال: هاتوه. فركب معه يحدثه، ثم حرك عمر رداءه ليصلحه على كتفه، فرأى على منكبه أثرا. فقال: ما هذا الأثر? فقال: كنت عند جارية إذ جاءتني جارية برسالة من عند جارية أخرى، فجعلت تسارني، فغارت التي كنت أحدثها فعضت منكبي، فما وجدت ألم عضها من لذة ما كانت تلك تنفث في أذني، حتى بلغت ما ترى، والوليد يضحك. فلما رجع عمر قيل له: ما الذي كنت تضحك أمير المؤمنين به? فقال: مازلنا في حديث الزنا حتى رجعنا.
المفاضلة بينه وبين ابن قيس الرقيات
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن عبد الله البكري وغيره عن عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن أبيه قال: دخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نوفل بن مساحق، فإنه لمعتمد على يدي، إذ مررنا بسعيد بن المسيب في مجلسه وحوله جلساؤه، فسلمنا عليه فرد علينا، ثم قال لنوفل: يا أبا سعيد، من أشعر: صاحبنا أم صاحبكم? يريد: عبد الله بن قيس، أو عمر بن أبي ربيعة. فقال نوفل: حين يقولان ماذا يا أبا محمد? قال: حين يقول صاحبنا:
خليلي ما بال المطايا كـأنـمـا نراها على الأدبار بالقوم تنكص
وقد قطعت أعناقهـن صـبـابة فأنفسنا مما يلاقـين شـخـص
وقد أتعب الحادي سراهن وانتحى بهن فما يألو عجول مقـلـص
صفحة : 33
يزدن بنا قربا فيزداد شـوقـنـا إذا زاد طول العهد والبعد ينقض ويقول صاحبك ما شئت. فقال له نوفل: صاحبكم أشعر في الغزل، وصاحبنا أكثر أفانين شعر. فقال سعيد: صدقت. فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر، جعل سعيد يستغفر الله ويعقد بيده حتى وفى مائة. فقال البكري في حديثه عن عبد الجبار: قال مسلم: فلما انصرفنا قلت لنوفل: أتراه استغفر الله من إنشاد الشعر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم? فقال: كلا هو كثير الإنشاد والاستنشاد فيه، ولكن أحسب ذلك للفخر بصاحبه.
المفاضلة بينه وبين جميل
ابن معمر العذري
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة حدثنا عوانة بن الحكم وأبو يعقوب الثقعفي: أن الوليد بن يزيد بن عبد الملك قال لأصحابه ذات ليلة: أي بيت قالته العرب أغزل? فقال بعضهم: قول جميل:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها ويحيا إذا فارقتهـا فـيعـود وقال آخر: قول عمر بن أبي ربيعة:
كأنني حين أمسي لا تكلمنـي ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا فقال الوليد: حسبك والله بهذا أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن عبد الحميد عن شيخ من أهله عن أبي الحارث مولى هشام بن الوليد بن المغيرة - قال: وهو الذي يقول فيه عمر بن أبي ربيعة:
يا أبا الحارث قلبي طائرفأتمر أمر رشيد مؤتمن قال: شهدت عمر بن أبي ربيعة، وجميل بن عبد الله بن معمر العذري، وقد اجتمعا بالأبطح، فأنشد جميل قصيدته التي يقول فيها:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي بثينة أو أبدت لنا جانب الـبـخـل
يقولون مهلا يا جـمـيل وإنـنـي لأقسم مالي عن بثينة من مـهـل حتى أتى على آخرها، ثم قال لعمر: يا أبا الخطاب، هل قلت في هذا الروي شيئا? قال نعم.
قال: فأنشدنيه، فأنشده قوله:
جرى ناصح بالود بينـي وبـينـهـا فقربني يوم الحصاب إلى قـتـلـي
فطارت بحد من فـؤادي وقـارنـت قرينتها حبل الصفاء إلى حـبـلـي
فلما تواقفنا عـرفـت الـذي بـهـا كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعـل
فقلن لها هذا عـشـاء وأهـلـهـا قريب ألما تسأمي مركب البـغـل
فقالت فما شئتن قلن لهـا انـزلـي فللأرض خير من وقوف على رحل
نجوم دراري تـكـنـفـن صـورة من البدر وافت غير هوج ولا عجل
فسلمت واستأنسـت خـيفة أن يرى عدو مقامي أو يرى كاشح فعـلـي
فقالت وأرخت جانب الستـر إنـمـا معي فتكلم غير ذي رقبة أهـلـي
فقلت لها ما بي لهم مـن تـرقـب ولكن سري ليس يحملـه مـثـلـي
فلما اقتصرنا دونـهـن حـديثـنـا وهن طبيبات بحاجة ذي الـشـكـل
عرفن الذي تهوى فقلن ائذني لـنـا نطف ساعة في برد ليل وفي سهل
فقالت: فلا تلبثن قـلـن تـحـدثـي أتيناك، وانسبن انسياب مها الرمـل
وقمن وقد أفهمن ذا الـلـب أنـمـا أتين الذي يأتين من ذاك من أجلـي فقال جميل: هيهات يا أبا الخطاب لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي، والله ما يخاطب النساء مخاطبتك أحد. وقام مشمرا.
قال أبو عبد الله الزبير قال عمي مصعب: كان عمر يعارض جميلا، فإذا قال هذا قصيدة قال هذا مثلها.
فيقال: إنه في الرائية والعينية أشعر من جميل، وإن جميلا اشعر منه في اللامية، وكلاهما قد قال بيتا نادرا ظريفا، قال جميل:
خليلي فيما عشتما هل رأيتما قتيلا بكى من حب قاتله قبلي وقال عمر:
فقالت وأرخت جانب الستر إنما معي فتكلم غير ذي رقبة أهلي كلمة الفرزدق وقد سمع شعر عمر
أخبرني علي بن صالح قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق عن المدائني قال: سمع الفرزدق عمر بن أبي ربيعة ينشد قوله:
جرى ناصح بالود بيني وبينهـا فقربني يوم الحصاب إلى قتلي ولما بلغ قوله:
فقمن وقد أفهمن ذا اللب أنـمـا أتين الذي يأتين من ذاك من أجلي
صفحة : 34
صاح الفرزدق: هذا والله الذي أرادته الشعراء فأخطأته، وبكت على الديار.
نسبة ما في هذه الأشعار من الغناء الغناء في قصيدتي جميل وعمر اللاميتين منها في قصيدة جميل التي أنشدها عمر، واستنشده ما له في وزنها: صوت
خليلي فيما عشتما هـل رأيتـمـا قتيلا بكى من حب قاتله قـبـلـي
أبيت مع الهلاك ضيفا لأهـلـهـا وأهلي قريب موسعون ذوو فضل
أفق أيها القلب اللجوج عن الجهـل ودع عنك جملا لا سبيل إلى جمل
فلو تركت عقلي معي ما طلبتـهـا ولكن طلابيها لما فات من عقلـي الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو في الأول والثاني من الأبيات.
وذكر الهشامي الأبيات كلها ووصف أن الثقيل الثاني الذي يغنى به فيها لمعبد. وذكر يحيى المكي: أن لابن محرز في الثالث وما بعده من الأبيات ثاني ثقيل بالخنصر والبنصر. وفي هذه الأبيات التي أولها الثالث هزج بالبنصر يمان عن عمرو. وفي الرابع والخامس لابن طنبورة خفيف رمل عن الهشامي. وفيها لإسحاق ثقيل أول عن الهشامي أيضا. وذكر حماد عن أبيه: أن لنافع الخير مولى عبد الله بن جعفر في هذه الأبيات لحنا، ولم يجنسه. وذكر حبش أن الثقيل الأول لابن طنبورة. ومنها في شعر جميل أيضا: صوت
لقد فرح الواشون إن صرمت حبلي بثينة أو أبدت لنا جانب الـبـخـل
فلو تركت عقلي معي ما طلبتهـا ولكن طلابيها لما فات من عقلـي الغناء لابن مسحج ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي.
ومنها في شعر عمر بن أبي ربيعة المذكور في أول الخبر: صوت
فقالت وأرخت جانب الستر إنمـا معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم من تـرقـب ولكن سري ليس يحمله مثـلـي
جرى ناصح بالود بيني وبينـهـا فقربني يوم الحصاب إلى قتلـي غنى في هذه الأبيات ابن سريج، ولحنه رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وعمرو. وذكر يونس: أن فيه لحنا لمالك لم يجنسه، وذكر الهشامي: أن لحن مالك خفيف ثقيل. وذكر حبش: أن لمعبد فيه لحنا من الثقيل الأول بالبنصر، ولابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى. وليس حبش ممن يعتمد في هذا على روا يته .
إستحسان الناس شعر عمر وتفضيله
على شعراء عصره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: أدركت مشيخة من قريش لا ينزون بعمر بن أبي ربيعة شاعرا من أهل دهره في النسيب، ويستحسنون منه ما كانوا يستقبحونه من غيره من مدح نفسه، والتحلي بمودته، والابتيار في شعره والابتيار: أن يفعل الإنسان الشيء فيذكره ويفخر به. والابتهار: أن يقول ما لم يفعل.
نقد ابن أبي عتيق أبيات عمر الرائية
أخبرني محمد بن خلف قال: أخبرني عبد الله بن عمر وغيره عن إبراهيم بن المنذر الحزامي عن عبد العزيز بن عمران قال: قال ابن أبي عتيق لعمر وقد أنشده قوله: صوت
بينما ينعتنني أبـصـرنـنـي دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قالت الكبرى أتعرفن الفتـى قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيمتـهـا قد عرفناه وهل يخفى القمر - الغناء في هذه الأبيات لابن سريج خفيف رمل بالبنصر - فقال له ابن أبي عتيق: - وقد أنشدها - أنت لم تنسب بها، وإنما نسبت بنفسك، كان ينبغي أن تقول: قلت لها فقالت لي، فوضعت خدي فوطئت عليه.
عود إلى سيرته وخلقه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال: لم يذهب على أحد من الرواة أن عمر كان عفيفا يصف ولا يقف، ويحوم ولا يرد.
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن منصور عن ابن الأعرابي، وحدثني علي بن صالح قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق الموصلي عن رجاله، قالوا: كان ابن أبي ربيعة قد حج في سنة من السنين. فلما انصرف من الحج ألفى الوليد بن عبد الملك وقد فرش له في ظهر الكعبة وجلس، فجاءه عمر فسلم عليه وجلس إليه. فقال له: أنشدني شيئا من شعرك. فقال: يا أمير المؤمنين، أنا شيخ كبير وقد تركت الشعر، ولي غلامان هما عندي بمنزلة الولد، وهما يرويان كل ما قلت وهما لك. قال: ائتني بهما ففعل، فأنشداه قوله:
صفحة : 35
أمن آل نعم أنت غاد فمبكر فطرب الوليد واهتز لذلك، فلم يزالا ينشدانه حتى قام، فأجزل صلته ورد الغلامين إليه.
مميزات شعره
حدثني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب الملقب كيلجة قال حدثني أبو هفان قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن مصعب بن عبد الله الزبيري، وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه مصعب أنه قال: راق عمر بن أبي ربيعة الناس وفاق نظراءه وبرعهم بسهولة الشعر وشدة الأسر، وحسن الوصف، ودقة المعنى وصواب المصدر، والقصد للحاجة، واستنطاق الربع، وإنطاق القلب، وحسن العزاء، ومخاطبة النساء، وعفة المقال، وقلة الانتقال، وإثبات الحجة، وترجيح الشك في موضع اليقين، وطلاوة الاعتذار، وفتح الغزل، ونهج العلل، وعطف المساءة على العذال، وأحسن التفجع، وبخل المنازل، واختصر الخبر، وصدق الصفاء، إن قدح أورى، وإن اعتذر أبرا، وإن تشكى أشجى، وأقدم عن خبرة ولم يعتذر بغرة، وأسر النوم، وغم الطير، وأغد السير، وحير ماء الشباب، وسهل وقول، وقاس الهوى فأربى، وعصى وأخلى، وحالف بسمعه وطرفه، وأبرم نعت الرسل وحذر، وأعلن الحب وأسر، وبطن به وأظهر، وألح وأسف، وأنكح النوم، وجنى الحديث، وضرب ظهره لبطنه، وأذل صعبه، وقنع بالرجاء من الوفاء، وأعلى قاتله، واستبكى عاذله، ونفض النوم، وأغلق رهن مني وأهدر قتلاه، وكان بعد هذا كله فصيحا.
فمن سهولة شعره وشدة أسره قوله صوت
فلما تواقفنا وسلمت أشرقـت وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينـنـي وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا الغناء لابن عباد رمل عن الهشامي، وفيه لابن جامع لحن غير مجنس عن إبراهيم.
ومن حسن وصفه قوله
لها من الريم عيناه وسـنـتـه ونخوة السابق المختال إذ صهلا ومن دقة معناه وصواب مصدره قوله صوت
عوجا نحي الطلل المحولا والربع من أسماء والمنزلا
بسابغ البوبـاة لـم يعـده تقادم العهد بـأن يؤهـلا الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. قال إسحاق بن إبراهيم: يعني أنه لم يؤهل فيعدوه تقادم العهد. وقال الزبير: قال بعض المدنيين: يحييه بأن يؤهل، أي يدعو له بذلك.
ومن قصده للحاجة قوله صوت
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يماني ويروى: هي غورية . الغناء للغريض خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو وابن المكي.
ومن استنطاقه الربع قوله صوت
سائلا الربع بالبلـي وقـولا هجت شوقا لي الغداة طويلا
أين حي حلوك إذ أنت محفو ف بهم آهل أراك جـمـيلا
قال ساروا فأمعنوا واستقلـوا وبرغمي لو قد وجدت سبيلا
وبكرهي لو استطعت سبيلا
سئمونا وما سئمنا جوارا وأحبوا دمـاثة وسـهـولا فيه رملان: أحدهما لابن سريج بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، والآخر لإسحاق مطلق في مجرى البنصر، وفيه لأبي العبيس بن حمدون ثقيل. وقد شرحت نسبته مع خبره في موضع آخر. قال إسحاق: أنشد جرير هذه الأبيات فقال: إن هذا الذي كنا ندور عليه فأخطأناه.
ومن أنطاقه القلب قوله
قال لي فيها عتيق مقـالا فجرت مما يقول الدموع
قال لي ودع سليمى ودعها فأجاب القلب: لا أستطيع الغناء للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي. قال: وفيه ليحيى المكي ثقيل أول نسب إلى معبد وهو من منحوله.
ومن حسن عزائه قوله صوت
أألحق إن دار الرباب تبـاعـدت أو أنبت حبل أن قلـبـك طـائر
أفق قد أفاق العاشقون وفارقوا ال هوى واستمرت بالرجال المرائر
زع النفس واستبق الحياء فإنـمـا تباعد أو تدني الرباب المـقـادر
أمت حبها واجعل قديم وصالهـا وعشرتها كمثل من لا تعـاشـر
وهبها كشيء لم يكن أو كنـازح به الدار أو من غيبته المقـابـر
صفحة : 36
وكالناس علقت الرباب فلا تكـن أحاديث من يبدو ومن هو حاضر الغناء في بعض هذه الأبيات وأوله زع النفس لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن عمرو. وفيه لعمر الوادي رمل بالبنصر عن ابن المكي. وفيه ل قدار لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس. وهذه الأبيات يرويها بعض أهل الحجاز لكثير، ويرويها الكوفيون للكميت بن معروف الأسدي، وذكر بعضها الزبير بن بكار عن أبي عبيدة لكثير في أخباره.
ومن حسن غزله في مخاطبة النساء - قال مصعب الزبيري: وقد أجمع أهل بلدنا ممن له علم بالشعر أن هذه الأبيات أغزل ما سمعوا - قوله: صوت
تقول غداة التقـينـا الـربـاب ايا ذا أفلت أفـول الـسـمـاك
وكفت سـوابـق مـن عـبـرة كما ارفض نظم ضعيف السلاك
فقلت لها من يطع في الصـدي ق أعداءه يجـتـنـبـه كـذاك
أغرك أني عـصـيت الـمـلا م فـيك وأن هـوانـا هـواك
وألا أرى لـذة فـي الـحــياة تقر بها الـعـين حـتـى أراك
فكان من الذنب لـي عـنـدكـم مكارمتي واتبـاعـي رضـاك
فليت الـذي لام فـي حـبـكـم وفي أن تزاري بقـرن وقـاك
هموم الـحـياة وأسـقـامـهـا وإن كان حتف جـهـيز فـداك الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى. وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لحكم. وقيل: إن فيه لحنا آخر لابن جامع.
ومن عفة مقاله قوله صوت
طال ليلي واعتادني اليوم سقم وأصابت مقاتل القلب نعـم
حرة الوجه والشمائل والجو هر تكليمها لمن نال غـنـم
وحديث بمثله تنزل العـص م رخيم يشوب ذلك حـلـم
هكذا وصف ما بدا لي منها ليس لي بالذي تغيب عـلـم
إن تجودي أو تبخلي فبحمـد لست يا نعم فيهما مـن يذم الغناء لابن سريج رمل عن الهشامي.
ومن قلة انتقاله قوله صوت
أيها القائل غير الـصـواب أمسك النصح وأقلل عتابـي
واجتنبني واعلمن أن ستعصى ولخير لك طول اجتنـابـي
إن تقل نصحا فعن ظهر غش دائم الغمر بعـيد الـذهـاب
ليس بي عي بما قلـت إنـي عالم أفقه رجع الـجـواب
إنما قرة عـينـي هـواهـا فدع اللوم وكلني لمـا بـي
لا تلمني في الرباب وأمست عدلت للنفس برد الشـراب
هي والله الـذي هـو ربـي صادقا أحلف غير الكـذاب
أكرم الأحياء طرا عـلـينـا عند قرب منهم واجتـنـاب
خاطبتني ساعة وهي تبكـي ثم عزت خلتي في الخطاب
وكفى بي مدرها لخـصـوم لسواها عند حـد تـبـابـي الغناء لكردم ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق في الأول والخامس ثم الثاني والثالث. وفيه لمعبد خفيف ثقيل بالبنصر عن يحيى المكي.
ومن إثباته الحجة قوله
خليلي بعض اللوم لا ترحلا بـه رفيقكما حتى تقولا على عـلـم
خليلي من يكلف بآخر كـالـذي كلفت به يدمل فؤادا على سقـم
خليلي ما كانت تصاب مقاتـلـي ولا غرتي حتى وقعت على نعم
خليلي حتى لف حبلـي بـخـادع موقى إذا يرمى صيود إذا يرمي
خليلي لو يرقى خليل من الهـوى رقيت بما يدني النوار منه العصم
خليلي إن باعدت لانت وإن ألـن تباعد فلم أنبل بحرب ولا سـلـم ومن ترجيحه الشك في موضع اليقين قوله صوت
نظرت إليها بالمحصب من منـى ولي نظر لولا التـحـرج عـارم
فقلت: أشمس أم مصابـيح بـيعة بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط إما لـنـوفـل أبوها وإما عبد شمـس وهـاشـم
ومد عليها السجف يوم لقـيتـهـا على عجل تباعـهـا والـخـوادم
صفحة : 37
فلم أستطعها غير أن قـد بـدا لـنـا عشية راحت وجهها والمـعـاصـم
معاصم لم تضرب على البهم بالضحى عصاها ووجه لم تلحه الـسـمـائم
نضـار تـرى فـيه أسـاريع مـائه صبيح تغاديه الأكـف الـنـواعـم
إذا ما دعت أترابها فاكتـنـفـنـهـا تمايلن أو مالت بـهـن الـمـآكـم
طلبن الصبا حتى إذا مـا أصـبـنـه نزعن وهن المسلمات الـظـوالـم الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وابن المكي. وفيها لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا. وفيها للغريض خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي.
ومن طلاوة اعتذاره قوله صوت
عاود القلب بعض ما قد شـجـاه من حبيب أمسى هوانـا هـواه
يا لقومي فكيف أصبـر عـمـن لا ترى النفس طيب عيش سواه
أرسـلـت إذ رأت بـعـادي ألا يقبلن بي مـحـرشـا إن أتـاه
دون أن يسمع المـقـالة مـنـا وليطعني فإن عـنـدي رضـاه
لا تطع بي فدتك نفسـي عـدوا لحديث علـى هـواه افـتـراه
لا تطع بي مـن لـو رآنـي وإيا ك أسيري ضرورة مـا عـنـاه
ما ضراري نفسي بهجري من لي س مـسـيئا ولا بـعـيدا ثـراه
واجتنابي بيت الحبيب وما الخـل د بأشـهـى إلـي مـن أن أراه الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. وقال عمرو، فيه خفيف ثقيل بالوسطى للهذلي. وفيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، وابتداؤه نشيد أوله: ما ضراري نفسي . وقال الهشامي: وفيه لعلية بنت المهدي وسعيد بن جابر لحنان من الثقيل الثاني.
ومن نهجه العلل قوله
وآية ذلـك أن تـسـمـعـي إذا جئتكـم نـاشـدا ينـشـد
فرحنا سراعا وراح الـهـوى دليلا إليهـا بـنـا يقـصـد
فلما دنونا لـجـرس الـنـبـا ح والصوت، والحي لم يرقدوا
بعثنا لـهـا بـاغـيا نـاشـدا وفي الحي بغية مـن ينـشـد وقد نسبت هذه الأبيات إلى من غنى فيها مع:
تشط غدا دار جيراننا ومن فتحه الغزل قوله
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا ومن عطفه المساءة على العذال قوله صوت
لا تلمني عتيق حسبي الذي بي إن بي يا عتيق ما قد كفانـي
لا تلمني وأنت زينتهـا لـي أنت مثل الشيطان للإنسـان الغناء لأبي العبيس بن حمدون ثقيل أول مطلق من مجموع أغانيه. وفيه رمل طنبري محدث، وفيه هزج لأبي عيسى بن المتوكل.
ومن حسن تفجعه قوله صوت
هجرت الحبيب اليوم من غير ما اجترم وقطعت من ذي ودك الحبل فانصرم
أطعت الوشاة الكاشحين ومـن يطـع مقالة واش يقرع الـسـن مـن نـدم
أتاني رسول كـنـت أحـسـب أنـه شفيق علينا ناصـح كـالـذي زعـم
فلما تباثثنـا الـحـديث وصـرحـت سرائره عن بعض ما كان قد كـتـم
تبـين لـي أن الـمـحـرش كـاذب فعندي لك العتبى على رغم من رغم
فملآن لمت النفس بعد الذي مـضـى وبعد الذي آلت وآلـيت مـن قـسـم
ظلمت ولم تعتب وكـان رسـولـهـا إليك سريعا بالرضـا لـك إذ ظـلـم الغناء لابن سريج رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وقال يونس: فيه لابن سريج لحنان، وذكر الهشامي أن لحنه الآخر ثقيل أول، وأن لعلوية فيه رملا آخر.
ومن تبخيله المنازل قوله صوت
عرفت مصيف الحي والمتربـعـا ببطن حليات دوارس بـلـقـعـا
إلى السرح من وادي المغمس بدلت معالمها وبلا ونكبـاء زعـزعـا
فيبخلن أو يخبرن بالعلم بـعـد مـا نكأن فؤادا كان قدما مـفـجـعـا الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى.
ومن اختصاره الخبر قوله صوت
صفحة : 38
أمن آل نعم أنت غاد فمبكـر غداة غد أم رائح فمهـجـر
بحاجة نفس لم تقل في جوابها فتبلغ عذرا والمقالة تـعـذر
أشارت بمدراها وقالت لتربها أهذا المغيري الذي كان يذكر
لئن كان إياه لقد حال بعـدنـا عن العهد والإنسان قد يتغير الغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر، وله في بيتين آخرين من هذه القصيدة، وهما:
وليلة ذي دوران جشمتني السرى وقد يجشم الهول المحب المعزرا
فقلت أباديهم فـإمـا أفـوتـهـم وإما ينال السيف ثأرا فـيثـأرا رمل آخر بالوسطى عن عمرو. قال الزبير حدثني إسحاق الموصلي قال: قلت لأعرابي ما معنى قول ابن أبي ربيعة:
بحاجة نفس لم تقل في جوابها فتبلغ عذرا والمقالة تعـذر فقال: قام كما جلس.
ومن صدقه الصفاء قوله
كل وصل أمسى لديك لأنثى غيرها وصلها إليهـا أداء
كل أنثى وإن دنت لوصـال أو نأت فهي للرباب الفداء وقوله: صوت
أحب لحبك مـن لـم يكـن صفيا لنفسي ولا صاحبـا
وأبذل ما لي لمرضاتـكـم وأعتب من جاءكم عاتـبـا
وأرغب في ود من لم أكن إلى وده قبلكـم راغـبـا
ولو سلك الناس في جانـب من الأرض واعتزلت جانبا
ليممت طـيتـهـا إنـنـي أرى قربها العجب العاجبا الغناء لابن القفاص رمل عن الهشامي ويحيى المكي، وفيه للربعي لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس.
ومما قدح فيه فأورى قوله صوت
طال ليلي وتعناني الـطـرب واعتراني طول هم ووصب
أرسلت أسماء في مـعـتـبة عتبتها وهي أحلى من عتب
أن أتى منها رسول موهـنـا وجد الحي نياما فانـقـلـب
ضرب الباب فلم يشعـر بـه أحد يفتح بـابـا إذ ضـرب
قال: أيقاظ ولـكـن حـاجة عرضت تكتم منا فاحتجـب
ولعمدا ردني، فاجـتـهـدت بيمين حلفة عند الغـضـب
يشهد الرحمن لا يجمـعـنـا سقف بيت رجبا بعد رجـب
قلت حلا فاقبلي معـذرتـي ما كذا يجري محب من أحب
إن كفي لك رهن بالـرضـا فاقبلي يا هند، قالت قد وجب الغناء لمالك خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لدحمان ثقيل أول بالبنصر عن عمرو. وفيه لمعبد لحن من كتاب يونس لم يجنسه، وذكر الهشامي أنه خفيف ثقيل. وفيه لابن سريج رمل عن الهشامي.
قال من حكينا عنه في صدر أخبار عمر روايته التي رواها علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن رجاله والحرمي عن الزبير عن عمه: كان عمر بن أبي ربيعة يهوى امرأة يقال لها أسماء ، فكان الرسول يختلف بينهما زمانا وهو لا يقدر عليها. ثم وعدته أن تزوره، فتأهب لذلك وانتظرها، فأبطأت عنه حتى غلبته عينه فنام، وكانت عنده جارية له تخدمه، فلم تلبث أن جاءت ومعها جارية لها، فوقفت حجرة وأمرت الجارية أن تضرب الباب، فضربته فلم يستيقظ. فقالت لها: تطلعي فانظري ما الخبر? فقالت لها: هو مضطجع وإلى جنبه امرأة، فحلفت لا تزوره حولا، فقال في ذلك:
طال ليلي وتعناني الطرب قال أبو هفان في حديثه: وبعث إليها امرأة كانت تختلف بينه وبين معارفه، وكانت جزلة من النساء، فصدقتها عن قصته وحلفت لها أنه لم يكن عنده إلا جاريته، فرضيت. وإياها يعني عمر بقوله:
فأتـتـهـا طـبة عـالــمة تخلط الجد مرارا باللـعـب
تغلظ القول إذا لانـت لـهـا وتراخي عند سورات الغضب
لم تزل تصرفها عـن رأيهـا وتـأنـاهـا بـرفـق وأدب قال إسحاق في خبره: وحدثني ابن كناسة قال أخبرني حماد الراوية قال: استنشدني الوليد بن يزيد، فأنشدته نحوا من ألف قصيدة، فما استعادني إلا قصيدة عمر بن أبي ربيعة:
طال ليلي وتعناني الطرب فلما أنشدته قوله:
صفحة : 39
فأتتهـا طـبة عـالـمة تخلط الجد مرارا باللعب إلى قوله:
إن كفي لك رهن بالرضـا فاقبلي يا هند قالت قد وجب فقال الوليد: ويحك يا حماد اطلب لي مثل هذه أرسلها إلى سلمى. يعني امرأته سلمى بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان، وكان طلقها ليتزوج أختها ثم تتبعتها نفسه.
قال إسحاق وحدثني جماعة منهم الحرمي والزبيري وغيرهما: أن عمر أنشد ابن أبي عتيق هذه القصيدة، فقال له ابن أبي عتيق: الناس يطلبون خليفة مذ قتل عثمان في صفة قوادتك هذه يدبر أمورهم فما يجدونه.
رجع إلى خبر عمر الطويل قالوا: ومن شعره الذي اعتذر فيه فأبرأ قوله
فالتقينا فرحبت حـين سـلـم ت وكفت دمعا من العين مارا
ثم قالت عند العـتـاب رأينـا منك عنا تجـلـدا وازورارا
قلت كلالاه ابن عمك بل خف نا أمورا كنا بهـا أغـمـارا
فجعلنا الصدود لما خـشـينـا قالة الناس للهـوى أسـتـارا
ليس كالعهد إذ عهدت ولكـن أوقد الناس بالنـمـيمة نـارا
فلذاك الإعراض عنك ومـا آ ثر قلبي عليك أخرى اختيارا
ما أبالي إذا النوى قربـتـكـم فدنوتم من حل أو من سـارا
فاللـيالـي إذا نـأيت طـوال وأراها إذا قربت قـصـارا ومن تشكيه الذي أشجى فيه قوله: صوت
لعمرك ما جاورت غمدان طائعـا وقصر شعوب أن أكون به صبـا
ولكن حمى أضرعـتـنـي ثـلاثة مجرمة ثم استمرت بـنـا غـبـا
وحتى لو أن الخلد تعرض إن مشت إلى الباب رجلي ما نقلت لها إربا
فإنك لـو أبـصـرت يوم سـويقة مناخي وحبسي العيس دامية جدبـا
ومصرع إخوان كـأن أنـينـهـم أنين المكاكي صادفت بلدا خصبـا
إذا لاقشعر الرأس منك صـبـابة ولاستفرغت عيناك من سكبة غربا غنى في الأول والثاني من هذه الأبيات معبد ولحنه خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. وفيهما لمالك ثقيل أول عن الهشامي، ونسبه يونس إلى مالك ولم يجنسه.
ومن إقدامه عن خبرة ولم يعتذر بغرة قوله
صرمت وواصلت حتى عرف ت أين المصادر والـمـورد
وجربت من ذاك حتى عرف ت ما أتوقى ومـا أعـمـد ومن أسره النوم قوله
نام صحبي وبات نومي أسيرا أرقب النجم موهنا أن يغورا ومن غمه الطير قوله
فرحنا وقلنا للغلام اقض حاجة لنا ثم أدركنا ولا تـتـغـبـر
سراعا نغم الطير إن سنحت لنا وإن تلقنا الركبان لا نتخـبـر تتغبر، من قولهم: غبر فلان أي لبث.
ومن إغذاذه السير قوله
قلت سيرا ولا تقيما ببصرى وحفير فما أحب حـفـيرا
وإذا ما مررتما بـمـعـان فأقلا به الثـواء وسـيرا
إنما قصرنا إذا حسر السي ر بعيرا أن نستجد بعـيرا ومن تحييره ماء الشباب قوله صوت
أبرزوها مثل المهاة تـهـادى بين خمس كواعـب أتـراب
ثم قالوا تحبها قلـت بـهـرا عدد القطر والحصى والتراب
وهي مكنونة تحير مـنـهـا في أديم الخدين ماء الشبـاب الغناء لمحمد بن عائشة خفيف ثقيل بالبنصر. وفيه لمالك خفيف ثقيل آخر عن الهشامي، وقيل: بل هو هذا.
ومن تقويله وتسهيله قوله
قالت على رقبة يوما لجارتهـا ما تأمرين فإن القلب قد تبـلا
وهل لي اليوم من أخت مواخية منكن أشكو إليها بعض ما فعلا
فراجعتها حصان غير فاحـشة برجع قول ولب لم يكن خطلا
لا تذكري حبه حتى أراجـعـه إني سأكفيكه إن لم أمت عجلا
فاقني حياءك في ستر وفي كرم فلست أول أنثى علقت رجـلا وأما ما قاس فيه الهوى فقوله
وقربن أسباب الهوى لمـتـيم يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا ومن عصيانه وإخلائه قوله
صفحة : 40
وأنص المطي يتبعن بـالـرك ب سراعا نواعم الأظـعـان
فنصيد الغرير من بقر الـوح ش ونلهو بلـذة الـفـتـيان
في زمان لو كنت فيه ضجيعي غير شك عرفت لي عصياني
وتقلبت في الفـراش ولا تـد رين إلا الظنون أين مكانـي ومن محالفته بسمعه وطرفه قوله
سمعي وطرفي حليفاها على جسـدي فكيف أصبر عن سمعي وعن بصري
لو طاوعاني علـى ألا أكـلـمـهـا إذا لقضيت من أوطارهـا وطـري ومن إبرامه نعت الرسل قوله
فبعثت كاتمة الحـدي ث رفيقة بجوابـهـا
وحـشـية إنـسـية خراجة من بابـهـا
فرقت فسلهت المعـا رض من سبيل نقابها ومن تحذيره قوله صوت
لقد أرسلت جـاريتـي وقلت لها خذي حذرك
وقولي في مـلاطـفة لزينب نولي عمـرك
فإن داويت ذا سـقـم فأخزى الله من كفرك
فهزت رأسها عجـبـا وقالت من بذا أمـرك
أهذا سحرك النـسـوا ن، قد خبرنني خبرك
وقلن إذا قضى وطرا وأدرك حاجة هجرك غنى ابن سريج في هذه الأبيات، ولحنه خفيف ثقيل. ولابن المكي فيها هزج بالوسطى. وفيها رمل ذكر ذكاء وجه الرزة عن أحمد بن أبي العلاء عن مخارق أنه لابن جامع، وذكر قمري أنه له وأن ذكاء أبطل في هذه الحكاية. قال الزبير: حدثني عمي قال حدثني أبي قال: قال شيخ من قريش: لا ترووا نساءكم شعر عمر بن أبي ربيعة لا يتورطن في الزنا تورطا، وأنشد:
لقد أرسلت جـاريتـي وقلت لها خذي حذرك ومن إعلانه الحب وإسراره قوله
شكوت إليها الحب أعلن بعضه وأخفيت منه في الفؤاد غليلا ومما بطن به وأظهر قوله
حبكم يا آل ليلى قـاتـلـي ظهر الحب بجسمي وبطن
ليس حب فوق ما أحببتكـم غير أن أقتل نفسي أو أجن ومما ألح فيه وأسف قوله
ليت حظي كطرفة العين منها وكثير منها القليل المهـنـا
أو حديث على خلاء يسلـي ما يجن الفؤاد منها ومـنـا
كبرت رب نعمة منك يومـا أن أراها قبل الممات ومنـا ومن إنكاحه النوم قوله صوت
حتى إذا ما الليل جن ظلامـه ونظرت غفلة كاشح أن يعقلا
واستنكح النوم الذين نخافـهـم وسقى الكرى بوابهم فاستثقلا
خرجت تاطر في الثياب كأنها أيم يسيب على كثيب أهـيلا الغناء لمعبد خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه ألحان لغيره وقد نسبت في غير هذا الموضع مع قوله:
ودع لبابة قبل أن تترحلا ومن جنيه الحديث قوله
وجوار مساعفات على اللـه و ومسرات باطن الأضغان
صيد للرجال يرشقن بالمطر ف حسان كخذل الغـزلان
قد دعاني وقد دعاهن لـلـه و شجون مهمة الأشجـان
فاجتنينا من الحديث ثمـارا ما جنى مثلها لعمرك جاني ومن ضربه الحديث ظهره لبطنه قوله
في خلاء من الأنيس وأمـن فبثثنا غليلنا واشـتـفـينـا
وضربنا الحديث ظهرا لبطن وأتينا من أمرنا ما اشتهينـا
فمكثنا بذاك عـشـر لـيال في قضاء لديننا واقتضينـا ومن إذلاله صعب الحديث قوله
فلما أفضنا في الهوى نستبينـه وعاد لنا صعب الحديث ذلـولا
شكوت إليها الحب أظهر بعضه وأخفيت منه في الفؤاد غلـيلا ومن قناعته بالرجاء من الوفاء قوله
فعدي نائلا وإن لم تنيلي إنه ينفع المحب الرجاء قال الزبير: هذا أحسن من قول كثير:
ولست براض من خليل بنائل قليل ولا أرضى له بقلـيل ومن إعلائه قاتله قوله
فبعثت جاريتي وقلت لها اذهبي فاشكي إليها ما علمت وسلمي
صفحة : 41
قولـي يقـول تـحـرجـي فـي عـــاشـــق كلـف بـكـم حـتـى الـمـمـات مـــتـــيم
ويقـول إنـك قـد عـلـمـت بـــأنـــكـــم أصـبـحـتـم يا بـــشـــر أوجـــه ذي دم
فكـي رهـينـتـه فـإن لـم تـفــعـــلـــي فاعلي عـلـى قـتـل ابـن عـمـك واسـلـمـي
فتـضـاحـكـت عـجـبـا وقـالـت حـقـــه ألا يعـلـمـنـا بـمـا لــم نـــعـــلـــم
علمي به والله يغفر ذنبه فيما بدا لي، ذو هوى متقسم
طرف ينازعه إلى الأدنى الهوى ويبـث خـــلة ذي الـــوصـــال الأقـــدم ومن تنفيضه النوم قوله
فلما فقدت الصوت منهم وأطفئت مصابيح شبت بالعشـاء وأنـور
وغاب قمير كنت أرجو غيوبـه وروح رعيان ونـوم سـمـر
ونفضت عني أقبلت مـشـية ال حباب وركني خشية القوم أزور ومن إغلاقه رهن منى وإهداره قتلاه قوله
فكم من قـتـيل مـا يبـاء بـه دم ومن غلق رهنا إذا لـفـه مـنـى
ومن مالىء عينيه من شيء غـيره إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى وكان بعد هذا كله فصيحا شاعرا مقولا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي، وأخبرنا به علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن رجاله: أن عمر بن أبي ربيعة نظر إلى رجل يكلم امرأة في الطواف، فعاب ذلك عليه وأنكره. فقال له: إنها ابنة عمي. قال: ذاك أشنع لأمرك. فقال: إني خطبتها إلى عمي، فأبى علي إلا بصداق أربعمائة دينار، وأنا غير مطيق ذلك، وشكا إليه من حبها وكلفه بها أمرا عظيما، وتحمل به على عمه. فسار معه إليه فكلمه. فقال له: هو مملق، وليس عندي ما أصلح به أمره. فقال له عمر: وكم الذي تريده منه? قال: أربعمائة دينار. فقال له: هي علي فزوجه، ففعل ذلك.
وقد كان عمر حين أسن حلف ألا يقول بيت شعر ألا أعتق رقبة. فانصرف عمر إلى منزله يحدث نفسه، فجعلت جارية له تكلمه فلا يرد عليها جوابا. فقالت له: إن لك لأمرا، وأراك تريد أن تقول شعرا، فقال: صوت
تقول وليدتي لـمـا رأتـنـي طربت وكنت قد أقصرت حينا
أراك اليوم قد أحدثت شـوقـا وهاج لك الهوى داء دفـينـا
وكنت زعمت أنك ذو عـزاء إذا ما شئت فارقت القـرينـا
بربك هل أتاك لـهـا رسـول فشاقك أم لقيت لهـا خـدينـا
فقلت شكا إلـي أخ مـحـب كبعض زماننا إذ تعلـمـينـا
فقص علي ما يلقى بـهـنـد فذكر بعض ما كنا نـسـينـا
وذو الشوق القديم وإن تعـزى مشوق حين يلقى العاشقـينـا
وكم من خلة أعرضت عنهـا لغير قلى وكنت بها ضنـينـا
أردت بعادها فصددت عنـهـا ولو جن الفؤاد بها جـنـونـا ثم دعا تسعة من رقيقه فأعتقهم لكل بيت واحد. الغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن عمرو والهشامي. وفيه ثقيل أول يقال: إنه للغريض. وذكر عبد الله بن موسى أن فيه لدحمان خفيف رمل.
عمر بن أبي ربيعة وعروة بن الزبير
أخبرني الحرمي قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال: ذكر ابن الكلبي أن عمر بن أبي ربيعة كان يساير عروة بن الزبير ويحادثه، فقال له: وأين زين المواكب? يعني ابنه محمد بن عروة، وكان يسمى بذلك لجماله.
فقال له عروة: هو أمامك، فركض يطلبه. فقال له عروة: يا أبا الخطاب، أولسنا أكفاء كراما لمحادثتك ومسايرتك? فقال: بلى بأبي أنت وأمي ولكني مغرى بهذا الجمال أتبعه حيث كان. ثم التفت إليه وقال:
إني امرؤ مولع بالحسن أتبعه لا حظ لي فيه إلا لذة النظر ثم مضى حتى لحقه فسار معه، وجعل عروة يضحك من كلامه تعجبا منه.
عمر بن أبي ربيعة ومالك بن أسماء
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب ابن عبد الله قال: رأى عمر بن أبي ربيعة رجلا يطوف بالبيت وقد بهر الناس بجماله وتمامه، فسأل عنه فقيل له: هذا مالك بن أسماء بن خارجة. فجاءه فسلم عليه وقال له: يابن أخي مازلت أتشوقك منذ بلغني قولك:
إن لي عند كل نفحة بسـتـا ن من الورد أو من الياسمينا
صفحة : 42
نظرة والتفاتة أتـمـنـى أن تكوني حللت فيما يلينا ويروى:
... أتـرجـــى أن تكوني حللت... عمر وأبو الأسود الدؤلي وقد عرض لامرأته
في الطواف
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد قال حدثنا العباس بن هشام عن أبيه قال أخبرني مولى لزياد قال: حج أبو الأسود الدؤلي ومعه امرأته وكانت جميلة. فبينا هي تطوف بالبيت إذ عرض لها عمر بن أبي ربيعة، فأتت أبا الأسود فأخبرته، فأتاه أبو الأسود فعاتبه. فقال له عمر: ما فعلت شيئا. فلما عادت إلى المسجد عاد فكلمها، فأخبرت أبا الأسود، فأتاه في المسجد وهو مع قوم جالس فقال له:
وإني ليثنيني عن الجهل والخنا وعن شتم أقوام خلائق أربع
حياء وإسلام وبقـيا وأنـنـي كريم ومثلي قد يضر وينفع
فشتان ما بيني وبينك إنـنـي على كل حال أستقيم وتظلع فقال له عمر: لست أعود يا عم لكلامها بعد هذا اليوم. ثم عاود فكلمها، فأتت أبا الأسود فأخبرته، فجاء إليه فقال له:
أنت الفتى وابن الفتى وأخو الفتى وسيدنـا لـولا خـلائق أربـع
نكول عن الجلى وقرب من الخنا وبخل عن الجدوى وأنك تـبـع ثم خرجت وخرج معها أبو الأسود مشتملا على سيف. فلما رآهما عمر أعرض عنها، فتمثل أبو الأسود:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامـي رأي الفرزدق في شعر ابن أبي ربيعة
أخبرني ابن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم الفراسي قال حدثنا العمري قال أخبرنا الهيثم بن عدي قال: قدم الفرزدق المدينة وبها رجلان يقال لأحدهما صريم، وللآخر ابن أسماء، وصفا له فقصدهما، وكان عندهما قيان، فسلم عليهما وقال لهما: من أنتما? فقال أحدهما: أنا فرعون، وقال الآخر: أنا هامان. قال: فأين منزلكما في النار حتى أقصدكما? فقالا: نحن جيران الفرزدق الشاعر فضحك ونزل، فسلم عليهما وسلما عليه وتعاشروا مدة. ثم سألهما أن يجمعا بينه وبين عمر بن أبي ربيعة ففعلا، واجتمعا وتحادثا وتناشدا إلى أن أنشد عمر قصيدته التي يقول فيها:
فلما التقينا واطمأنت بنا النوى وغيب عنا من نخاف ونشفق حتى انتهى إلى قوله:
فقـمـن لـكـي يخـلـينـنـا فـتــرقـــرقـــت مدامـع عـينـيهــا وظـــلـــت تـــدفـــق
وقـالـت أمـا تـرحـمـنـنـي لا تـدعـنــنـــي لدى غـزل جـــم الـــصـــبـــابة يخـــرق
فقلن اسكتي عنا فسلت مطاعةوخلك منا فاعلمي بك أرفق فصاح الفرزدق: أنت والله يا أبا الخطاب أغزل الناس لا يحسن والله الشعراء أن يقولوا مثل هذا النسيب ولا أن يرقوا مثل هذه الرقية وودعه وانصرف.
عمرو وعبد الرحمن بن الحارث
ابن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن المغيرة بن عبد الرحمن عن أبيه: أنه حج مع أبيه الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة، فأتى عمر بن أبي ربيعة وقد أسن وشاخ، فسلم عليه وساءله ثم قال له: أي شيء أحدثت بعدي يا أبا الخطاب? فأنشده:
يقولون: إني لست أصدقك الهوى وإني لا أرعـاك حـين أغـيب
فما بال طرفي عف عما تساقطت له أعين من معشـر وقـلـوب
عشية لا يستنكف القـوم أن يروا سفاه امرىء ممن يقال لـبـيب
ولا قتنة من ناسك أومضـت لـه بعين الصبا كسلى القيام لعـوب
تروح يرجو أن تحـط ذنـوبـه فآب وقد زيدت عـلـيه ذنـوب
وما النسك أسلاني ولكن للهـوى على العين مني والفؤاد رقـيب عمرو والنسوة اللاتي واعدهن بالعقيق
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذمي قال: واعد عمر بن أبي ربيعة نسوة من قريش إلى العقيق ليتحدثن معه، فخرج إليهن ومعه الغريض، فتحدثوا مليا ومطروا، فقال عمر والغريض وجاريتان للنسوة فأظلوا عليهن بمطرفة وبردين له حتى استترن من المطر إلى أن سكن، ثم انصرفن. فقال له الغريض: قل في هذا شعرا حتى أغني فيه، فقال عمر: صوت
صفحة : 43
ألم تسأل المنزل المقـفـرا بيانا فيكـتـم أو يخـبـرا
ذكرت به بعض ما قد شجاك وحق لذي الشجو أن يذكرا
مقام المحبين قـد ظـاهـرا كساء وبردين أن يمـطـرا
وممشى الثلاث به موهـنـا خرجـن إلـى زائر زورا
إلى مجلس من وراء القبـا ب سهل الربا طيب أعفـرا
غفلن عن الليل حتـى بـدت تباشير من واضح أسـفـرا
فقمـن يعـفـين آثـارنـا بأكسية الخز أن تـقـفـرا
مهاتان شـيعـتـا جـؤذرا أسـيلا مـقـلـده أحـورا
وقمن وقلن لو أن الـنـهـا ر مد له الليل فاستـأخـرا
قضينا به بعض أشجـانـنـا وكان الحديث بـه أجـدرا ذكر ابن المكي أن الغناء في الخمسة الأبيات الأولى لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر، وذكر الهشامي أن هذا اللحن للغريض، وأن لحن ابن سريج رمل بالوسطى. وقال حبش: فيها لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى.
عمر وابن أبي عتيق
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس المديني قال أخبرنا ابن عائشة قال: حضر ابن أبي عتيق عمر بن أبي ربيعة وهو ينشد قوله:
ومن كان محزونا بإهراق عبـرة وهي غربها فليأتنا نبـكـه غـدا
نعنه على الإثكال إن كان ثـاكـلا وإن كان محروبا وإن كان مقصدا قال: فلما أصبح ابن أبي عتيق أخذ معه خالدا الخريت وقال له: قم بنا إلى عمر. فمضيا إليه، فقال له ابن أبي عتيق: قد جئناك لموعدك. قال: وأي موعد بيننا? قال: قولك: فليأتنا نبكه غدا. قد جئناك، والله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا في قولك، أو ننصرف على أنك غير صادق. ثم مضى وتركه. قال ابن عائشة: خالد الخريت هو خالد بن عبد الله القسري.
عود إلى خلق عمر
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني قال: لقيت عمر بن أبي ربيعة فقلت له: يا أبا الخطاب، أكل ما قلته في شعرك فعلته? قال: نعم، وأستغفر الله.
قدوم عمر الكوفة ونزوله على ابن هلال
أخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن عبد الله بن مصعب قال: قدم عمر بن أبي ربيعة الكوفة، فنزل على عبد الله بن هلال الذي كان يقال له صاحب إبليس، وكان له قينتان حاذقتان، وكان عمر يأتيهما فيسمع منهما، فقال في ذلك:
يأهل بابل ما نفست عليكـم من عيشكم إلا ثلاث خلال
ماء الفرات وطيب ليل بارد وغناء مسمعتين لابن هلال وصف الشعراء للبرق وما قاله عمر
في ذلك
أخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن رجاله: أن عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد وأبا ربيعة المصطلقي ورجلا من بني مخزوم وابن أخت الحارث بن خالد، خرجوا يشيعون بعض خلفاء بني أمية. فلما انصرفوا نزلوا بسرف فلاح لهم برق؛ فقال الحارث: كلنا شاعر، فهلموا نصف البرق. فقال أبو ربيعة:
أرقت لبرق آخر الليل لامع جرى سناه ذو الربا فينابع فقال الحارث:
أرقت له ليل التمام ودونـه مهامه موماة وأرض بلاقع فقال المخزومي:
يضيء عضاه الشوك حتى كـأنـه مصابيح أو فجر من الصبح ساطع فقال عمر:
أيا رب لا آلو الـمـودة جـاهـدا لأسماء فاصنع بي الذي أنت صانع ثم قال: مالي وللبرق والشوك بقية خبر عمر ونسوة العقيق
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال: كان عمر بن أبي ربيعة وخالد القسري معه - وهو خالد الخريت - ذات يوم يمشيان، فإذا هما بهند وأسماء اللتين كان يشبب بهما عمر بن أبي ربيعة تتماشيان، فقصداهما وجلسا معهما مليا، فأخذتهم السماء ومطروا. ثم ذكر مثل خبر تقدم، ورويته آنفا عن هاشم بن محمد الخزاعي، وذكر الأبيات الماضية، ولم يذكر فيها خبر الغريض. وحكى أنه قال في ذلك: صوت
أفي رسم دار دمعك المـتـرقـرق سفاها وما استنطاق ما ليس ينطق
بحيث التقى جمع ومفضى محسر مغاني قد كادت على العهد تخلـق
صفحة : 44
ذكرت به ما قد مضى من زماننا وذكرك رسم الدار مما يشـوق
مقاما لنا عند العشاء ومجلـسـا به لم يكدره علـينـا مـعـوق
وممشى فتاة بالكساء تـكـنـنـا به تحت عين برقهـا يتـألـق
يبل أعالي الثوب قطر وتحـتـه شعاع بدا يعشي العيون ويشرق
فأحسن شيء بدء أول لـيلـنـا وآخره حـزن إذا نـتـفـرق ذكر يحيى بن المكي أن الغناء في ستة أبيات متوالية من هذا الشعر لمعبد خفيف ثقيل بالسبابة والوسطى، وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى.
عمر وليلى بنت الحارث البكرية
وما قاله فيها من الشعر
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني مصعب قال: لقي عمر بن أبي ربيعة ليلى بنت الحارث بن عمرو البكرية وهي تسير على بغلة لها، وقد كان نسب بها، فقال: جعلني الله فداك عرجي ها هنا أسمعك بعض ما قلته فيك. قالت: أو قد فعلت? قال نعم فوقفت وقالت: هات. فأنشدها.
صوت
ألا يا ليل إن شفاء نفـسـي نوالك إن بخلت فنولـينـا
وقد حضر الرحيل وحان منا فراقك فانظري ما تأمرينا فقالت: آمرك بتقوى الله وإيثار طاعته وترك ما أنت عليه. ثم صاحت ببغلتها ومضت.
وفي هذين البيتين لابن سريج خفيف ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي، وذكر الهشامي أنه من منحوله إلى ابن سريج. وفيهما رمل طنبوري لأحمد بن صدقة.
أخبرني بذلك جحظة عنه. وأخبرني بهذا الخبر عبد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن ابن الأعرابي: أن ليلى هذه كانت جالسة في المسجد الحرام، فرأت عمر بن أبي ربيعة، فوجهت إليه مولى لها فجاءها به. فقالت له: يابن أبي ربيعة، حتى متى لا تزال سادرا في حرم الله تشبب بالنساء وتشيد بذكرهن أما تخاف الله قال: دعيني من ذاك واسمعي ما قلت. قالت: وما قلت? فأنشدها الأبيات المذكورة.
فقالت له القول الذي تقدم أنها أجابته به. قال: وقال لها: اسمعي أيضا ما قلت فيك، ثم أنشدها قوله:
أمن الرسم وأطـلال الـدمـن عاد لي وجدي وعاودت الحزن
إن حبي آل ليلـى قـاتـلـي ظهر الحب بجسمي وبـطـن
يا أبا الحارث قلـبـي طـائر فأتمر أمر رشيد مـؤتـمـن
التمس للقلب وصلا عنـدهـا إن خير الوصل ما ليس يمـن
علق القلب، وقد كان صـحـا، من بني بكر غزالا قد شـدن
أحور المقـلة كـالـبـدر، إذا قلد الدر فقلبي مـمـتـحـن
ليس حب فوق ما أحببـتـكـم غير أن أقتل نفسـي أو أجـن
خلقت للقلـب مـنـي فـتـنة هكذا يخلق معروض الفـتـن قال: وفيها يقول:
إن ليلى وقد بلغت المشـيبـا لم تدع للنساء عندي نصيبـا
هاجر بيتها لأنفي عـنـهـا قول ذي العيب إن أراد عيوبا نسبة ما في هذين الشعرين من الغناء الغناء في الأبيات الأولى النونية لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيها لابن عائشة ثقيل أول، يقال: إنه أول ثقيل غناه، كان يغني الخفيف، فعيب بذلك فصنع هذا اللحن. وفيه لعبد الله بن يونس الأبلي رمل عن الهشامي.
والغناء في:
إن ليلى وقد بلغت المشيبا لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه لكردم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو أيضا. وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لعطرد، ولم يجنسه.
حديثه مع النوار وشعره فيها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني محمد بن منصور الأزدي قال حدثني أبي عن الهيثم بن عدي قال: بينما عمر بن أبي ربيعة منصرف من المزدلفة يريد منى إذ بصر بامرأة في رحالة ففتن، وسمع عجوزا معها تناديها: يا نوار استتري لا يفضحك ابن أبي ربيعة. فاتبعها عمر وقد شغلت قلبه حتى نزلت بمنى في مضرب قد ضرب لها، فنزل إلى جنب المضرب، ولم يزل يتلطف حتى جلس معها وحادثها، وإذا أحسن الناس وجها وأحلاه منطقا، فزاد ذلك في إعجاب عمر بها. ثم أراد معاودتها فتعذر ذلك عليه، وكان آخر عهده، فقال فيها: صوت
صفحة : 45
علق النوار فـؤاده جـهـلا وصبا فلم تترك له عـقـلا
وتعرضت لي في المسير فما أمسى الفؤاد يرى لها مثـلا
ما نعجة من وحش ذي بقـر تغذو بسقط صريمة طفـلا
بألذ منهـا إذ تـقـول لـنـا وأردت كشف قناعها: مهلا
دعنا فـإنـك لا مـكـارمة تجزي ولست بواصل حبـلا
وعليك من تبل الـفـؤاد وإن أمسى لقلبك ذكره شـغـلا
فأجبتها إن المحب مكـلـف فدعي العتاب وأحدثي بـذلا الغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه ثاني ثقيل بالبنصر ينسب إلى ابن عائشة.
حديثه مع أم الحكم وشعره فيها
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو عبد الله السدوسي عن عيسى بن إسماعيل العتكي عن هشام بن الكلبي عن أبيه قال: حجت امرأة من بني أمية يقال لها أم الحكم، فقدمت قبل أوان الحج معتمرة. فبينا هي تطوف على بغلة لها إذ مرت على عمر بن أبي ربيعة في نفر من بني مخزوم وهم جلوس يتحدثون وقد فرعهم طولا وجهرهم جمالا وبهرهم شارة وعارضة وبيانا، فمالت إليهم ونزلت عندهم، فتحدثت معهم طويلا ثم انصرفت. ولم يزل عمر يتردد إليها إلى أن انقضت أيام الحج، فرحلت إلى الشأم، وفيها يقول عمر:
تأوب ليلى بنصـب وهـم وعاودت ذكرى لأم الحكم
فبت أراقب ليل الـتـمـا م، من نام من عاشق لم أنم
فإما ترينني على ما عـزا ضعيف القيام شديد السقـم
كثير القلب فوق الـفـرا ش ما إن تقل قيامي قـدم
بالمديحة طيب نـشـرهـا هضيم الحشا عذبة المبتسم في أول الأبيات الثلاثة غناء. وقبلها وهو أول الصوت: صوت
وفيتان صدق صباح الوجـو ه لا يجدون لـشـيء ألـم
من آل المغيرة لا يشـهـدو ن عند المجازر لحسم الوضم الغناء في هذه الأبيات لمالك خفيف ثقيل الثاني بالبنصر وهو الذي يقال له الماخوري، عن عمرو. وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج والعريض ودحمان. وفيه لابن المكي خفيف رمل.
حديثه مع سكينة وشعره فيها
أخبرني علي بن صالح قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق عن أبي عبد الله الزبيري قال: اجتمع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف، فتذاكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن حديثه، فتشوقن إليه وتمنينه، فقالت سكينة بنت الحسين: أنا لكن به. فأرسلت إليه رسولا وواعدته الصورين، وسمت له الليلة والوقت، وواعدت صواحباتها، فوافاهن عمر على راحلته، فحدثهن حتى أضاء الفجر وحان انصرافهن. فقال لهن: والله إني لمحتاج إلى زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئا. ثم انصرف إلى مكة وقال: صوت
قالت سكينة والدموع ذوارف منها على الخدين والجلبـاب
ليت المغيري الذي لم أجـزه فيما أطال تصيدي وطلابـي
كانت ترد لنا المنـى أيامـنـا إذ لا نلام على هوى وتصابي
خبرت ما قالت فبت كأنـمـا ترمي الحشا بنوافذ النشـاب
أسكين ما ماء الفرات وطيبـه مني على ظمأ وفقد شـراب
بألذ منك وإن نأيت وقـلـمـا ترعى النساء أمانة الغـياب الغناء للهذلي رمل بالوسطى عن الهشامي. وفيه للغريض خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش. قال وقال فيها: صوت
أحب لحبك مـن لـم يكـن صفيا لنفسي ولا صاحبـا
وأبذل نفسي لمرضاتـكـم وأعتب من جاءكم عاتـبـا
وأرغب في ود من لم أكن إلى وده قبلكـم راغـبـا
ولو سلك الناس في جانـب من الأرض واعتزلت جانبا
ليممت طيتـهـا، إنـنـي أرى قربها العجب العاجبا
فما نعجة من ظبـاء الأرا ك تقرو دميث الربا عاشبا
بأحسن منها غداة الغـمـيم وقد أبدت الخد والحاجـبـا
غداة تقول عـلـى رقـبة لخادمها: يا احبسي الراكبا
صفحة : 46
فقالت لها: فيم هذا الكلام وأبدت لها عابسا قاطبـا
فقالت كريم أتـى زائرا يمر بكم هكذا جانـبـا
شريف أتى ربعنا زائرا فأكره رجعته خائبـا غنى في الأول والثاني والرابع والخامس من هذه الأبيات ابن القفاص المكي، ولحنه رمل من رواية الهشامي.
بغوم ابن أبي ربيعة
وحدثني وكيع وابن المرزبان وعمي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا محمد بن معن الغفاري قال حدثني سفيان بن عيينة قال: بينا أنا ومسعر بن كدام مع إسماعيل بن أمية بفناء الكعبة إذا بعجوز قد صلعت علينا عوراء متكئة على عصا يصفق أحد لحييها على الآخر، فوقفت على إسماعيل فسلمت عليه، فرد عليها السلام، وساءلها فأحفى المسألة، ثم انصرفت. فقال إسماعيل: لا إله إلا الله ماذا تفعل الدنيا بأهلها ثم أقبل علينا فقال: أتعرفان هذه? قلنا: لا والله، ومن هي? قال: هذه بغوم ابن أبي ربيعة التي يقول فيها:
حبذا أنت يا بغوم وأسما ء وعيص يكننا وخلاء انظرا كيف صارت، وما كان بمكة امرأة أجمل منها. قال: فقال له مسعر: لا ورب هذه البنية، ما أرى أنه كان عند هذه خير قط. وفي هذه الأبيات يقول عمر: صوت
صرمـت حـبـلـك الـبـــغـــوم وصـــدت عنـــك فـــي غـــير ريبة أســـمـــاء
والـغـــوانـــي إذا رأينـــك كـــهـــلا كان فـيهــن عـــن هـــواك الـــتـــواء
حبــذا أنـــت يا بـــغـــوم وأســـمـــا ء وعـــيص يكـــنـــنـــا وخـــــلاء
ولـقـد قـلـت لـيلة الــجـــزل لـــمـــا أخـضـلـت ريطـتـي عـلـي الـســـمـــاء
ليت شعري وهل يردن ليت هل لهذا عند الرباب جزاء
كل وصل أمسى لدي لأنثى غيرهـا وصـــلـــهـــا إلـــيهـــا أداء
كل خـــلـــق وإن دنـــا لـــوصــــال أو نـأى فـهـو لـلـــربـــاب الـــفـــداء
فعــدي نـــائلا وإن لـــم تـــنـــيلـــي إنـمـا ينـفـع الـمــحـــب الـــرجـــاء لمعبد في: ولقد قلت ليلة الجزل... والذي بعده خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن يونس وإسحاق ودنانير، وهو من مشهور غنائه .
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب عن ذهيبة مولاة محمد بن مصعب بن الزبير قالت: كنت عند أمة الواحد أو أمة المجيد بنت عمر بن أبي ربيعة في الجنبذ الذي في بيت سكينة بنت خالد بن مصعب أنا وأبوها عمر وجاريتان له تغنيان، يقال لأحداهما البغوم، والأخرى أسماء. وكانت أمة المجيد بنت عمر تحت محمد بن مصعب بن الزبير.
قالت: فقال عمر بن أبي ربيعة وهو معهم في الجنبذ هذه الأبيات. فلما انتهى إلى قوله:
ولقد قلت ليلة الجزل لـمـا أخضلت ريطتي علي السماء خرجت البغوم ثم رجعت إليه فقالت: ما رأيت أكذب منك يا عمر تزعم أنك بالجزل وأنت في جنبذ محمد بن مصعب، وتزعم أن السماء أخضلت ريطتك وليس في السماء قزعة قال: هكذا يستقيم هذا الشأن.
وأخبرني علي بن صالح عم أبي هفان عن إسحاق عن المسيبي ومحمد بن سلام أن عمر أنشد ابن أبي عتيق قوله:
حبذا أنت يا بغوم وأسما ء وعيص يكننا وخلاء فقال له: ما أبقيت شيئا يتمنى يا أبا الخطاب إلا مرجلا يسخن لكم فيه الماء للغسل.
عمر و بنت مروان بن الحكم
أخبرني ابن المرزبان قال حدثني إسماعيل بن جعفر عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: حجت أم محمد بنت مروان بن الحكم، فلما قضت نسكها أتت عمر بن أبي ربيعة وقد أخفت نفسها في نسوة، فحدثها مليا. فلما انصرفت أتبعها عمر رسولا عرف موضعها وسأل عنها حتى أثبتها، فعادت إليه بعد ذلك فأخبرها بمعرفته إياها.
فقالت: نشدتك الله أن تشهرني بشعرك وبعثت إليه بألف دينار، فقبلها وابتاع بها حللا وطيبا فأهداه إليها، فردته. فقال لها: والله لئن لم تقبليه لأنهبنه، فيكون مشهورا، فقبلته ورحلت. فقال فيها: صوت
أيها الراكب المجد ابتـكـارا قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه صحيحا سليمـا ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الدهر كان حتما علينا كل يومين حجة واعتمـارا
صفحة : 47
الغناء لابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفيه أيضا له خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكي. وفيه لذكاء وجه الرزة المعتمدي ثقيل أول من جيد الغناء وفاخر الصنعة ليس لأحد من طبقته وأهل صنعته مثله. وأنشد ابن أبي عتيق قول عمر هذا، فقال: الله أرحم بعباده أن يجعل عليهم ما سألته ليتم لك فسقك.
عمر وحميدة جارية ابن تفاحة
أخبرني ابن المرزبان قال أخبرني أحمد بن يحيى القرشي عن أبي الحسن الأزدي عن جماعة من الرواة: أن عمر كان يهوى حميدة جارية ابن تفاحة، وفيها يقول: صوت
حمل القلب مـن حـمـيدة ثـقـلا إن في ذاك للـفـؤاد لـشـغـلا
إن فعلت الذي سألـت فـقـولـي حمد خيرا وأتبعي القـول فـعـلا
وصليني فـأشـهـد الـلـه أنـي لست أصفي سواك ما عشت وصلا الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي والهشامي. وفيها يقول: صوت
يا قلب هل لك عن حميدة زاجر أم أنت مدكر الحياء فصـابـر
فالقلب من ذكرى حميدة موجع والدمع منحدر وعظمي فاتـر
قد كنت أحسب أنني قبل الـذي فعلت على ما عند حمدة قادر
حتى بدا لي من حميدة خلـتـي بين وكنت من الفراق أحـاذر الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق .
عمر و بعض جواري بني أمية
في موسم الحج
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم المستملي عن ابن أخي زرقان عن أبيه قال: أدركت مولى لعمر بن أبي ربيعة شيخا كبيرا، فقلت له: حدثني عن عمر بحديث غريب، فقال: نعم كنت معه ذات يوم، فاجتاز به نسوة من جواري بني أمية قد حججن، فتعرض لهن وحادثهن وناشدهن مدة أيام حجهن، ثم قالت له إحداهن: يا أبا الخطاب، إنا خارجات في غد فابعث مولاك هذا إلى منزلنا ندفع إليه تذكرة تكون عندك تذكرنا بها. فسر بذلك ووجه بي إليهن في السحر، فوجدتهن يركبن، فقلن لعجوز معهن: يا فلانة، ادفعي إلى مولى أبي الخطاب التذكرة التي أتحفناه بها. فأخرجت إلي صندوقا لطيفا مقفلا مختوما، فقلن: ادفعه إليه وارتحلن.
فجئته به وأنا أظن أنه قد أودع طيبا أو جوهرا. ففتحه عمر فإذا هو مملوء من المضارب وهي الكيرنجات ، وإذا على كل واحد منها اسم رجل من مجان مكة، وفيها اثنان كبيران عظيمان، على أحدهما الحارث بن خالد وهو يومئذ أمير مكة. وعلى الآخر عمر بن أبي ربيعة. فضحك وقال: تماجن علي ونفذ لهن. ثم أصلح مأدبة. ودعا كل واحد ممن له اسم في تلك المضارب. فلما أكلوا واطمأنوا للجلوس قال: هات يا غلام تلك الوديعة، فجئته بالصندوق، ففتحه ودفع إلى الحارث الكيرنج الذي عليه اسمه. فلما أخذه وكشف عنه غطاءه فزع وقال: ما هذا أخزاك الله فقال له: رويدا، اصبر حتى ترى. ثم أخرج واحدا واحدا فدفعه إلى من عليه اسمه حتى فرقها فيهم ثم أخرج الذي باسمه وقال: هذا لي. فقالوا له: ويحك ما هذا? فحدثهم بالخبر فعجبوا منه، وما زالوا يتمازحون بذلك دهرا طويلا ويضحكون منه.
قصته مع بنات أبصرنه من وراء المضرب
قال وحدثني هذا المولى قال: كنت مع عمر وقد أسن وضعف، فخرج يوما يمشي متوكئا على يدي حتى مر بعجوز جالسة، فقال لي: هذه فلانة وكانت إلفا لي، وعدل إليها فسلم عليها وجلس عندها وجعل يحادثها، ثم قال: هذه التي أقول فيها: صوت
أبصرتها ليلة ونسـوتـهـا يمشين بين المقام والحجـر
بيضا حسانا نواعما قطـفـا يمشين هونا كمشية البقـر
قالت لترب لها تلاطفـهـا لنفسدن الطواف في عمـر
قومي تصدي له ليعرفـنـا ثم اغمزيه يا أخت في خفر
قالت لها قد غمزته فـأبـى ثم اسبطرت تشتد في أثري
بل يا خليلي عادني ذكـري بل اعترتني الهموم بالسهر - الغناء لابن سريج في السادس والأول والثاني خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيها لسنان الكاتب رمل بالوسطى عنه وعن يونس. وفيها للأبجر خفيف رمل بالوسطى عنه. وفي:
قالت لترب لها تلاطفها
صفحة : 48
لعبد الله بن العباس خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي، وفيه للدلال خفيف ثقيل عنه أيضا. ولأبي سعيد مولى فائد في الأول والثاني ثقيل أول عن الهشامي أيضا، ومن الناس من ينسب لحنه إلى سنان الكاتب وينسب لحن سنان إليه - قال: وجلس معها يحادثها، فأطلعت رأسها إلى البيت وقالت: يا بناتي، هذا أبو الخطاب عمر بن أبي ربيعة عندي، فإن كنتن تشتهين أن ترينه فتعالين. فجئن إلى مضرب قد حجزن به دون بابها فجعلن يثقبنه ويضعن أعينهن عليه يبصرن. فاستسقاها عمر، فقالت له: أي الشراب أحب إليك? قال: الماء. فأتي بإناء فيه ماء، فشرب منه، ثم ملأ فمه فمجه عليهن في وجوههن من وراء الحاجز، فصاح الجواري وتهاربن وجعلن يضحكن. فقالت له العجوز: ويلك لا تدع مجونك وسفهك مع هذه السن فقال: لا تلوميني، فما ملكت نفسي لما سمعت من حركاتهن أن فعلت ما رأيت.
حديثه مع المرأة التي رآها في الطواف
وارتحل معها إلى العراق
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن منصور بن أبي العلاء الهمداني قال حدثني علي بن طريف الأسدي قال: سمعت أبي يقول: بينما عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت إذ رأى امرأة من أهل العراق فأعجبه جمالها، فمشى معها حتى عرف موضعها، ثم أتاها فحادثها وناشدها وناشدته وخطبها. فقالت: إن هذا لا يصلح ها هنا، ولكن إن جئتني إلى بلدي وخطبتني إلى أهلي تزوجتك. فلما ارتحلوا جاء إلى صديق له من بني سهم وقال له: إن لي إليك حاجة أريد أن تساعدني عليها، فقال له نعم. فأخذ بيده ولم يذكر له ما هي، ثم أتى منزله فركب نجيبا له وأركبه نجيبا آخر ، وأخذ معه ما يصلحه، وسارا لا يشك السهمي في أنه يريد سفر يوم أو يومين، فما زال يحفد حتى لحق بالرفقة، ثم سار بسيرهم يحادقث المرأة طول طريقه ويسايرها وينزل عندها إذا نزلت حتى ورد العراق. فأقام أياما، ثم راسلها يتنجزها وعدها، فأعلمته أنها كانت متزوجة ابن عم لها وولدت منه أولادها ثم مات وأوصى بهم وبماله إليها ما لم تتزوج، وأنها تخاف فرقة أولادها وزوال النعمة، وبعثت إليه بخمسة آلاف درهم واعتذرت، فردها عليها ورحل إلى مكة، وقال في ذلك قصيدته التي أولها: صوت
نام صحبي ولم أنـم من خيال بنـا ألـم
طاف بالركب موهنا بين خاخ إلى إضـم
ثم نبهت صـاحـبـا طيب الخيم والشـيم
أريحيا مـسـاعـدا غير نكس ولا بـرم
قلت يا عمرو شفني لاعج الحب والألـم
ايت هندا فقل لـهـا ليلة الخيف ذي السلم الغناء لمالك خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس. وفيه لعبد الله بن العباس الربيعي خفيف رمل من رواية عمرو بن بانة، وذكر حبش أن لحن عبد الله بن العباس رمل آخر عن الهشامي.
عود إلى شهادة جرير في شعر عمر
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا الحسين بن إسماعيل عن ابن عائشة عن أبيه قال: كان جرير إذا أنشد شعر عمر بن أبي ربيعة قال: شعر تهامي إذا أنجد وجد البرد، حتى أنشد قوله:
رأت رجلا أما إذا الشمس عارضت فيضحى وأما بالعشي فيخـصـر ... الأبيات. فقال: مازال هذا يهذي حتى قال الشعر.
حنين عمر إلى ذكر الغزل
بعد أن كبرت سنه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن عثمان بن إبراهيم الخاطبي، وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن محمد بن أبان قال أخبرني العتبي عن أبي زيد الزبيري عن عثمان بن إبراهيم الخاطبي قال: أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين وهو في مجلس قومه من بني مخزوم، فانتظرت حتى تفرق القوم، ثم دنوت منه ومعي صاحب لي ظريف وكان قد قال لي: تعال حتى نهيجه على ذكر الغزل، فننظر هل بقي في نفسه منه شيء. فقال له صاحبي: يا أبا الخطاب، أكرمك الله لقد أحسن العذري وأجاد فيما قال. فنظر عمر إليه ثم قال له: وماذا قال? قال: حيث يقول:
لو جد بالسيف رأسي في مودتها لمر يهوي سريعا نحوها راسي
صفحة : 49
قال: فارتاح عمر إلى قوله وقال: هاه لقد أجاد وأحسن فقلت: ولله در جنادة العذري فقال عمر حيث يقول ماذا ويحك? فقلت: حيث يقول:
سرت لعينك سلمى بعد مغفاهـا فبت مستنبها من بعد مسـراهـا
وقلت أهلا وسهلا من هداك لنـا إن كنت تمثالها أو كنـت إياهـا
من حبها أتمنـى أن يلاقـينـي من نحو بلدتها ناع فينـعـاهـا
كيما أقول فراق لا لـقـاء لـه وتضمر النفس يأسا ثم تسلاهـا
ولو تموت لراعتني وقـلـت ألا يا بؤس للموت ليت الموت أبقاها قال: فصحك عمر ثم قال: وأبيك لقد أحسن وأجاد وما أبقى ولقد هيجتما علي ساكنا، وذكرتماني ما كان عني غائبا، ولأحدثنكما حديثا حلوا: قصته مع هند بنت الحارث المرية
بينا أنا منذ أعوام جالس، إذ أتاني خالد الخريت، فقال لي: يا أبا الخطاب، مرت بي أربع نسوة قبيل العشاء يردن موضع كذا وكذا لم أر مثلهن في بدو ولا حضر، فيهن هند بنت الحارث المرية، فهل لك أن تأتيهن متنكرا فتسمع من حديثهن وتتمتع بالنظر إليهن ولا يعلمن من أنت? فقلت له: ويحك وكيف لي أن أخفي نفسي? قال: تلبس لبسة أعرابي ثم تجلس على قعود ثم ائتهن فسلم عليهن ، فلا يشعرن إلا بك قد هجمت عليهن. ففعلت ما قال، وجلست على قعود، ثم أتيتهن فسلمت عليهن ثم وقفت بقربهن. فسألنني أن أنشدهن وأحدثهن، فأنشدتهن لكثير وجميل والأحوص ونصيب وغيرهم. فقلن لي: ويحك يا أعرابي ما أملحك وأظرفك لو نزلت فتحدثت معنا يومنا هذا فإذا أمسيت انصرفت في حفظ الله. قال: فأنخت بعيري ثم تحدثت معهن وأنشدتهن، فسررن بي وجذلن بقربي وأعجبهن حديثي. قال: ثم أنهن تغامزن وجعل بعضهن يقول لبعض: كأنا نعرف هذا الأعرابي ما أشبهه بعمر بن أبي ربيعة فقالت إحداهن: فهو والله عمر فمدت هند يدها فانتزعت عمامتي فألقتها عن رأسي ثم قالت لي: هيه يا عمر أتراك خدعتنا منذ اليوم بل نحن والله خدعناك واحتلنا عليك بخالد، فأرسلناه إليك لتأتينا في أسوأ هيئة ونحن كما ترى. قال عمر: ثم أخذنا في الحديث، فقالت هند: ويحك يا عمر اسمع مني، لو رأيتني منذ أيام وأصبحت عند أهلي، فأدخلت رأسي في جيبي، فنظرت إلى حري فإذا هو ملء الكف ومنية المتمني، فناديت يا عمراه يا عمراه قال عمر: فصحت يا لبيكاه يا لبيكاه ثلاثا ومددت في الثالثة صوتي، فضحكت. وحادثتهن ساعة، ثم ودعتهن وانصرفت.
فذلك قولي: صوت
عرفت مصيف الحي والمتـربـعـا ببطن حلـيات دوارس بـلـقـعـا
إلى السفح من وادي المغمس بدلـت معالمه وبلا ونكـبـاء زعـزعـا
لهند وأتراب لـهـنـد إذ الـهـوى جميع وإذ لم نخش أن يتـصـدعـا
وإذ نحن مثل الماء كـان مـزاجـه كما صفق الساقي الرحيق المشعشعا
وإذا لا نطيع الكاشحـين ولا نـرى لواش لدينا يطلب الصرم موضعـا الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي ومن نسخة عمرو الثانية. وفيه لابن جامع وابن عباد لحنان من كتاب إبراهيم. وفيها يقول - وفيه غناء -: صوت
فلما تواقفنا وسلمت أشرقـت وجوه زهاها الحسن أن تتقنعا
تبالهن بالعرفان لما رأينـنـي وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا
وقربن أسباب الهوى لمـتـيم يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا الغناء لابن عباد رمل عن الهشامي. وفيه لابن جامع لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس. هذه الأبيات مقرونة بالأولى، والصنعة في جميعها مختلفة، يغني المغنون بعض هذه وبعض تلك ويخلطونها، والصنعة لمن قدمت ذكره . وهي قصيدة طويلة، ذكرت منها ما فيه صنعة.
ومما قاله في هند هذه وغني فيه قوله: صوت
ألم تسأل الأطلال والمنزل الخلق ببرقة ذي ضال فيخبر إن نطق?
ذكرت به هندا فظلت كـأنـنـي أخو نشوة لاقى الحوانيت فاغتبق الغناء لعطرد ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. وذكر حبش أن فيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى. ومنها: صوت
صفحة : 50
أسبح القلب مهيضـا راجع الحب الغريضا
وأجد الشوق وهـنـا أن رأى برقا وميضا
ثم بات الركـب نـوا ما ولم أطعم غموضا
ذاك من هند قـديمـا تركها القلب مهيضا
وتـبـدت ثـم أبـدت واضح اللون نحيضا
وعذاب الطعم غـرا كأقاحي الرمل بيضا الغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر. وفيه لحكم هزج بالوسطى عن عمرو، وقيل: إنه يمان. ومن الناس من ينسب لحن ابن محرز إلى ابن مسجح. ومنها: صوت
أربـت إلـى هـــنـــد وتـــربـــين مـــرة لهـا إذ تـواقـفـنـا بـفـرع الـمـــقـــطـــع
لـتـعـــريج يوم أو لـــتـــعـــريس لـــيلة علـينـا بـجـمـع الـشـمـل قـبـل الـتـصـــدع
فقـلـن لـهـا لـولا ارتــقـــاب صـــحـــابة لنـا خـلـفـنـا عـجـنـا ولـــم نـــتـــورع
وقـالـت فـتـاة كـنـت أحــســـب أنـــهـــا مغـــفـــلة فـــي مـــئزر لـــم تـــدرع
لهن وما شاورنها ليس ما أرىبحسن جزاء للحبيب المودع
فقلن لها لا شب قرنك فافتحي لنـا بـاب مـا يخـفـى مـن الأمـر نـســـمـــع وهي أبيات. الغناء للغريض ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، وذكر ابن المكي أنه لابن سريج. ومنها: صوت
لما ألمت بأصحابي وقد هجعـوا حسبت وسط رحال القوم عطارا
فقلت من ذا المحيى وانتبهت لـه ومن محدثنا هـذا الـذي زارا?
ألا انزلوا نعمت دار بقـربـكـم أهلا وسهلا بكم من زائر زارا
فبدل الربع ممن كان يسـكـنـه عفر الظباء به يمشين أسطـارا الغناء لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه ليونس خفيف ثقيل. وفيه لأبي فارة هزج بالبنصر. وأول هذه القصيدة التي فيها ذكر هند قوله:
يا صاحبي قفا نستخبـر الـدارا أقوت وهاجت لنا بالنعف تذكارا
وقد أرى مرة سربا بها حسـنـا مثل الجآذر لم يمسسن أبكـارا
فيهن هند وهند لا شبـيه لـهـا فيمن أقام من الأحياء أو سـارا
تقول ليت أبا الخطاب وافقـنـا كي نلهو اليوم أو ننشد أشعـارا
فلم يرعهن إلا العيس طـالـعة بالقوم يحملن ركبانـا وأكـوارا
وفارس يحمل البازي فقلن لهـا ها هم أولاء وما أكثرن إكثارا
لما وقفنا وعنـنـا ركـائبـنـا بدلن بالعرف بعد الرجع إنكارا ومنها: صوت
ألم تربع على الطـلـل ومغنى الحي كالخلـل
لهند إن هـنـدا حـب ها قد كان من شغلـي
فلما أن عرفـت الـدا ر عجت لرسمها جملي
وقلت لصحبتي عوجـوا فعاجوا هـزة الإبـل
وقالوا قف ولا تعجـل وإن كنا على عـجـل
قليل في هـواك الـيو م ما نلقى من العمـل الغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفيه له أيضا رمل عن الهشامي وحبش. ومنها: صوت
هاج ذا القلب منزل بالبلـيين مـحـول
غيرت آيه الصـبـا وجنوب وشـمـال
إن هندا قد أرسلـت وأخو الشوق مرسل
أرسلت تستحثـنـي وتفـدي وتـعـذل
أينـا بـات لـيلـه بين غصنين يوبـل
تحت عين، يكنـنـا برد عصب مهلهل في هذه الأبيات خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر، ذكر إسحاق أنه لمالك، وذكر عمرو أنه لابن محرز.
وذكر يونس أن فيها لحنا لابن محرز ولحنا لمالك. وقال عمرو في نسخته الثانية: إنه لابن زرزر الطائفي خفيف ثقيل بالوسطى، وروت مثل ذالك دنانير عن فليح. وفيها لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيها لعبد الله بن موسى الهادي ثاني ثقيل من مجموعة ورواية الهشامي وفيه لحكم هزج بالخنصر والبنصر عن ابن المكي. وفيه للحجبي رمل عن الهشامي وفيه ثقيل أول نسبه ابن المكي إلى ابن محرز، وذكر الهشامي أنه منحول. وفيه خفيف رمل ذكر الهشامي أنه لحن ابن محرز. ومنها:
صفحة : 51
صوت
يا صاح هل تدري وقد جمدت عيني بما ألقى من الـوجـد
لمـا رأيت ديارهـا درسـت وتبدلت أعلامهـا بـعـدي
وذكرت مجلسها ومجلسـنـا ذات العشاء بمهبط النـجـد
ورسالة منها تـعـاتـبـنـي فرددت معتبة علـى هـنـد الغناء ليحيى المكي رمل بالوسطى. وفيه لغيره ألحان أخر. ومنها: صوت
ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجـد
واستبدت مـرة واحـدة إنما العاجز من لا يستبد
ولقد قالت لجارات لهـا ذات يوم وتعرت تبترد - ويروى:
زعموها سألت جاراتـهـا
أكما ينعتني تبصـرنـنـي عمركن الله أم لا يقتـصـد
فتضاحكن وقد قلـن لـهـا حسن في كل عين من تود
حسدا حملنه من أجـلـهـا وقديما كان في الناس الحسد الغناء لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لحن لمالك من كتاب يونس غير مجنس. وفيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن عمرو، وذكره إسحاق في خفيف الثقيل بالخنصر في مجرى البنصر ولم ينسبه إلى أحد. وفيه ثاني ثقيل يقال إنه لحن لمالك، ويقال إنه لمتيم. ومنها: صوت
هاج القريض الذكر لما غدوا فانشمروا
على بغال شـحـج قد ضمهن السفـر
فيهن هند ليتـنـي ما عمرت أعمـر
حتى إذا ما جاءهـا حتف أتاني القـدر لابن سريج فيه لحنان: رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، وخفيف رمل عن الهشامي. ومنها: صوت
يا من لقـلـب دنـف مـغـرم هام إلى هـنـد ولـم يظـلـم
هام إلى ريم هضيم الـحـشـى عذب الثنايا طيب الـمـبـسـم
لم أحسب الشمس بـلـيل بـدت قبلي لـذي لـحـم ولا ذي دم
قالـت ألا إنــك ذو مـــلة يصرفك الأدنـى عـن الأقـدم
قلت لها بـل أنـت مـعـتـلة في الوصل يا هند لكي تصرمي الغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لبديح لحن قديم. وقيل: إن فيه رملا آخر لعمارة مولاة عبد الله بن جعفر. ومنها: صوت
تصابى وما بعض التصابي بطائل وعاود من هند جوى غـير زائل
عشية قالت صدعت غربة النوى فما من تلاق قد أرى دون قابـل
وما أنس م الأشياء لا أنس مجلسا لنا مرة منها بقرن الـمـنـازل
بنخلة بين النخلـتـين يكـنـنـا من العين عند العين برد المراجل الغناء للغريض ثقيل أول بالبنصر عن عمرو. وفيه للعماني خفيف ثقيل عن دنانير والهشامي. ومنها: صوت
لج قلبي في التصابي وازدهى عني شبابي
ودعاني لهوى هـن د فؤاد غير نـابـي
قلت لما فاضت العي نان دمعا ذا انسكاب
إن جفتني اليوم هنـد بعد ود واقـتـراب
فسبيل النـاس طـرا لفـنـاء وذهــاب الغناء لأهل مكة رمل بالوسطى.
قصته مع فاطمة بنت عبد الملك
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو علي الأسدي - وهو بشر ابن موسى بن صالح - قال حدثني أبي موسى بن صالح عن أبي بكر القرشي قال:
صفحة : 52
كان عمر بن أبي ربيعة جالسا بمنى في فناء مضربه وغلمانه حوله، إذ أقبلت امرأة برزة عليها أثر النعمة فسلمت، فرد عليها عمر السلام، فقالت له: أنت عمر بن أبي ربيعة? فقال لها: أنا هو، فما حاجتك? قالت له: حياك الله وقربك هل لك في محادثة أحسن الناس وجها، وأتمهم خلقا، وأكملهم أدبا، وأشرفهم حسبا? قال: ما أحب إلي ذلك قالت: على شرط. قال: قولي. قالت: تمكنني من عينيك حتى أشدهما وأقودك، حتى إذا توسطت الموضع الذي أريد حللت الشد، ثم أفعل ذلك بك عند إخراجك حتى أنتهي بك إلى مضربك. قال: شأنك، ففعلت ذلك به. قال عمر: فلما انتهت بي إلى المضرب الذي أرادت كشفت عن وجهي، فإذا أنا بامرأة على كرسي لم أر مثلها قط جمالا وكمالا، فسلمت وجلست. فقالت: أأنت عمر بن أبي ربيعة? قلت: أنا عمر. قالت: أنت الفاضح للحرائر? قلت: وما ذاك جعلني الله فداءك? قالت: ألست القائل: صوت
قالت وعيش أخي ونعمة والـدي لأنبهن الحي إن لـم تـخـرج
فخرجت خوف يمينها فتبسمـت فعلمت أن يمينها لـم تـحـرج
فتناولت رأسي لتعرف مـسـه بمخضب الأطراف غير مشنـج
فلثمت فاها آخذا بـقـرونـهـا شرب النزيف ببرد ماء الحشرج - الغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر عن يونس وعمرو -.
ثم قالت: قم فاخرج عني، ثم قامت من مجلسها. وجاءت المرأة فشدت عيني، ثم أخرجتني حتى انتهت بي إلى مضربي، وانصرفت وتركتني. فحللت عيني وقد دخلني من الكآبة والحزن ما الله به أعلم. وبت ليلتي، فلما أصبحت إذا أنا بها، فقالت: هل لك في العود? فقلت: شأنك، ففعلت بي مثل فعلها بالأمس، حتى انتهت بي إلى الموضع. فلما دخلت إذا بتلك الفتاة على كرسي. فقالت: إيه يا فضاح الحرائر قلت: بماذا جعلني الله فداءك? قالت: بقولك: صوت
وناهدة الثديين قلت لهـا اتـكـي على الرمل من جبانة لم توسـد
فقالت على اسم الله أمرك طاعة وإن كنت قد كلفت ما لم أعـود
فلما دنا الإصباح قالت فضحتنـي فقم غير مطرود وإن شئت فازدد - الغناء لأهل مكة ثقيل أول عن الهشامي - ثم قالت قم فاخرج عني، فقمت فخرجت ثم رددت. فقالت لي: لولا وشك الرحيل، وخوف الفوت، ومحبتي لمناجاتك والاستكثار من محادثتك، لأقصيتك، هات الآن كلمني وحدثني وأنشدني.
فكلمت آدب الناس وأعلمهم بكل شيء. ثم نهضت وأبطأت العجوز وخلا لي البيت، فأخذت أنظر، فإذا أنا بتور فيه خلوق، فأدخلت يدي فيه ثم خبأتها في ردني. وجاءت تلك العجوز فشدت عيني ونهضت بي تقودني، حتى إذا صرت على باب المضرب أخرجت يدي فضربت بها على المضرب، ثم صرت إلى مضربي، فدعوت غلماني فقلت: أيكم يقفني على باب مضرب عليه خلوق كأنه أثر كف فهو حر وله خمسمائة درهم.
فلم ألبث أن جاء بعضهم فقال: قم. فنهضت معه، فإذا أنا بالكف طرية، وإذا المضرب مضرب فاطمة بنت عبد الملك بن مروان. فأخذت في أهبة الرحيل، فلما نفرت نفرت معها، فبصرت في طريقها بقباب ومضرب وهيئة جميلة، فسألت عن ذلك، فقيل لها: هذا عمر بن أبي ربيعة، فساءها أمره وقالت للعجوز التي كانت ترسلها إليه: قولي له نشدتك الله والرحم أن تصحبني، ويحك ما شأنك وما الذي تريد? انصرف ولا تفضحني وتشيط بدمك. فسارت العجوز فأدت إليه ما قالت لها فاطمة. فقال: لست بمنصرف أو توجه إلي بقميصها الذي يلي جلدها، فأخبرتها ففعلت وجهت إليه بقميص من ثيابها، فزاده ذلك شغفا. ولم يزل يتبعهم لا يخالطهم، حتى إذا صاروا على أميال من دمشق انصرف وقال في ذلك:
ضاق الغداة بحاجتي صدري ويئست بعد تقارب الأمـر
وذكرت فاطمة التي علقتها عرضا فيا لحوادث الدهـر وفي هذه القصيدة مما يغنى فيه قوله: صوت
ممكورة ردع العبير بهـا جم العظام لطيفة الخصر
وكأن فاها عند رقدتـهـا تجري عليه سلافة الخمر الغناء لإبراهيم بن المهدي ثاني ثقيل من جامعه. وفيه لمتيم رمل من جامعها أيضا. وتمام الأبيات وليست فيه صنعة:
فسبت فؤادي إذ عرضت لها يوم الرحيل بساحة القصـر
صفحة : 53
بمزين ودع الـعـبـير بـه حسن الترائب وضح النحـر
وبـجـيد آدم شـادن خـرق يرعى الرياض ببلدة قـفـر
لما رأيت مطـيهـا حـزقـا خفق الفؤاد وكنت ذا صبـر
وتبادرت عينـاي بـعـدهـم وانهل دمعهما على الصـدر
ولقد عصيت ذوي القرابة فيكم طرا وأهل الود والصـهـر
حتى لقد قالوا ومـا كـذبـوا أجننت أم بك داخل السحـر خوفه من التصريح باسمها أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إسحاق عن محمد بن أبان قال حدثني الوليد بن هشام القحذمي عن أبي معاذ القرشي قال: لما قدمت فاطمة بنت عبد الملك بن مروان مكة جعل عمر بن أبي ربيعة يدورحولها ويقول فيها الشعر ولا يذكر باسمها فرقا من عبد الملك بن مروان ومن الحجاج، لأنه كان كتب إليه يتوعده إن ذكرها أو عرض باسمها. فلما قضت حجها وارتحلت أنشأ يقول: صوت
كدت يوم الرحيل أقضي حياتي ليتني مت قبل يوم الـرحـيل
لا أطيق الكلام من شدة الخـو ف ودمعي يسيل كل مسـيل
ذرفت عينها وفاضت دموعي وكلانا يلقى بـلـب أصـيل
لو خلت خلتي أصبـت نـوالا أو حديثا يشفي من التـنـويل
ولظل الخلخال فوق الحشـايا مثل أثناء حـية مـقـتـول
فلقد قالت الـحـبـيبة لـولا كثرة الناس جدت بالتقـبـيل غنى فيه ابن محرز ولحنه ثقيل أول من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق وفيه لعبادل خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو، ويقال إنه للهذلي. وفيه لعبيد الله بن أبي غسان ثاني ثقيل عن الهشامي.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أبو علي الحسن بن الصباح عن محمد بن حبيب أنه أخبره: أن عمر بن أبي ربيعة قال في فاطمة بنت عبد الملك بن مروان: صوت
يا خليلي شفنـي الـذكـر وحمول الحي إذ صـدروا
ضربوا حمر القباب لـهـا وأديرت حولها الحـجـر
سلكا شعب النقـاب بـهـا زمرا تحتـثـهـا زمـر
وطرقت الحي مكتـتـمـا ومعي عضب بـه أثـر
وأخ لم أخـش نـبـوتـه بنواحي أمرهـم خـبـر
فإذا ريم عـلـى فــرش في حجال الخز مختـدر
حوله الأحراس تـرقـبـه نوم من طول ما سهـروا
شبه القتلى وما قـتـلـوا ذاك إلا أنهـم سـمـروا
فدعت بالويل، ثـم دعـت حرة من شأنها الخـفـر
ثم قالت للتـي مـعـهـا ويح نفسي قد أتى عمـر
ماله قد جـاء يطـرقـنـا ويرى الأعداء قد حضروا
لشقائي كـان عـلـقـنـا ولحيني ساقـه الـقـدر
قلت عرضي دون عرضكم ولمن ناواكم الـحـجـر هذا البيت الأخير مما فيه غناء مع:
وطرقت الحي مكتتما للغريض وفي:
يا خليلي شفني الذكر وفي:
قلت عرضي دون عرضكم وفي:
ثم قالت للتي معها وفي:
ماله قد جاء يطرقنا ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وفي:
ضربوا حمر القباب لها وما بعده أربعة متوالية رمل بالوسطى للهذلي وفي: وطرقت وبعده: فإذا ريم وبعده: حوله الأحراس والبيتين اللذين بعده لابن سريج خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيها بعينها ثقيل أول يقال إنه للأبجر، وينسب إلى غيره عن الهشامي.
عمر وعائشة بنت طلحة
وما قاله فيها من الشعر
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن رجل من قريش قال: بينا عمر بن أبي ربيعة يطوف بالبيت، إذ رأى عائشة بنت طلحة بن عبيد الله، وكانت من أجمل أهل دهرها، وهي تريد الركن تستلمه، فبهت لما رآها ورأته، وعلمت أنها قد وقعت في نفسه، فبعثت إليه بجارية لها وقالت: قولي له اتق الله ولا تقل هجرا، فإن هذا مقام لابد فيه مما رأيت. فقال للجارية: أقرئيها السلام وقولي لها: ابن عمك لا يقول إلا خيرا. وقال فيها: صوت
صفحة : 54
لعـائشة ابـنة الـتــيمـــي عـــنـــدي حمى فـي الـقـلـب مـا يرعـى حـمـاهـا
يذكـرنـي ابـنة الـتـيمـــي ظـــبـــي يرود بـروضة ســـهـــل ربـــاهـــا
فقلت له وكاد يراع قلبي فلم أر قط كاليوم اشتباها
سوى حمش بساقك مستبين وأن شـواك لـم يشــبـــه شـــواهـــا
وأنـك عـاطـــل عـــار ولـــيســـت بعـــارية ولا عـــطـــل يداهـــــا
وأنـك غـير أفـرغ وهـــي تـــدلـــي علـى الـمـتـنـين أسـحـم قـد كـسـاهــا
ولـو قـعـدت ولـم تـكـــلـــف بـــود سوى مـا قـد كـلـفـت بـه كـفــاهـــا
أظـل إذا أكـلــمـــهـــا كـــأنـــي أكـلـم حـية غـلــبـــت رقـــاهـــا
تبـيت إلـي بـعـد الـنــوم تـــســـري وقـد أمـسـيت لا أخـشـى ســـراهـــا الغناء في البيتين الأولين من هذه الأبيات لأبي فارة ثقيل أول. وفيهما لعبد الله بن العباس الربيعي خفيف ثقيل جميعا عن الهشامي. وذكر إسحاق أن هذا الصوت مما ينسب إلى معبد، وهو يشبه غناءه إلا أنه لم يروه عن ثبت ولم يذكر طريقته. قال: وقال فيها أشعارا كثيرة، فبلغ ذلك فتيان بني تيم، أبلغهم إياه فتى منهم وقال لهم: يا بني تيم بن مرة، هالله ليقذفن بنو مخزوم بناتنا بالعظائم وتغفلون فمشى ولد أبي بكر وولد طلحة بن عبيد الله إلى عمر بن أبي ربيعة فأعلموه بذلك وأخبروه بما بلغهم. فقال لهم: والله لا أذكرها في شعر أبدا. ثم قال بعد ذلك فيها - وكنى عن اسمها - قصيدته التي أولها: صوت
يا أم طلحة إن البـين قـد أفـدا قل الثواء لئن كان الرحيل غـدا
أمسى العراقي لا يدري إذا برزت من ذا تطوف بالأركان أو سجدا - الغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ويونس - قال ولم يزل عمر ينسب بعائشة أيام الحج ويطوف حولها ويتعرض لها وهي تكره أن يرى وجهها، حتى وافقها وهي ترمي الجمار سافرة، فنظر إليها فقالت: أما والله لقد كنت لهذا منك كارهة يا فاسق فقال: صوت
إني وأول ما كلفـت بـذكـرهـا عجب وهل في الحب من متعجب
نعت النساء فقلت لست بمبـصـر شبها لهـا أبـدا ولا بـمـقـرب
فمكثن حينا ثم قلـن تـوجـهـت للحج، موعدها لقـاء الأخـشـب
أقبلت أنظر ما زعمن وقلـن لـي والقلب بين مصـدق ومـكـذب
فلقيتها تمشي تهـادى مـوهـنـا ترمي الجمار عشية في موكـب
غراء يعشي الناظرين بياضـهـا حوراء في غلواء عيش معجـب
إن التي من أرضها وسـمـائهـا جلبت لحينك ليتها لـم تـجـلـب الغناء لمعبد في الأول والثاني والرابع والسابع ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. وفيها للغريض خفيف ثقيل عن الهشامي، يبدأ فيه بالثالث.
أخبرني علي بن صالح قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق قال أخبرني مصعب الزبيري: أن عمر بن أبي ربيعة لقي عائشة بنت طلحة بمكة وهي تسير على بغلة لها، فقال لها: قفي حتى أسمعك ما قلت فيك. قالت: أو قد قلت يا فاسق? قال: نعم فوقفت فأنشدها: صوت
يا ربة البغلة الشهباء هل لك في أن تنشري ميتا لا ترهقي حرجا ويروى: هل لكم في عاشق دنف
قالت بدائك مت أو عش تعالجـه فما نرى لك فيما عندنا فرجـا
قد كنت حملتنا غيظا نعالـجـه فإن تقدنا فقد عنيتنا حـجـجـا
حتى لو اسطيع مما قد فعلت بنا أكلت لحمك من غيظ وما نضجا الغناء لابن سريح ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن سريج ثلاثة ألحان ذكرها إسحاق ولم يجنس منها إلا واحدا، وذكر الهشامي أن أحدها خفيف رمل بالوسطى، وذكر عمرو أن الثالث هزج بالوسطى . ولإسحاق فيها هزج من مجموع صنعته فقالت: لا ورب هذه البنية ما عنيتنا طرفة عين قط. ثم قالت لبغلتها: عدس، وسارت. وتمام هذه الأبيات:
فقلت لا والذي حج الحجـيج لـه ما مح حبك من قلبي ولا نهجـا
ولا أرى القلب من شيء يسر به مذ بان منزلكم منا ولا ثـلـجـا
ضنت بنائلها عنه فقـد تـركـت في غير ذنب أبا الخطاب مختلجا قال: فلم تزل عائشة تداريه وترفق به خوفا من أن يتعرض لها حتى قضت حجها وانصرفت إلى المدينة. فقال في ذلك:
صفحة : 55
إن من تهوى مع الفجر ظعن للهوى والقلب متباع الوطن
بانت الشمس وكانت كلـمـا ذكرت للقلب عاودت الددن صوت
يا أبا الحارث قلبي طـائر فأتمر أمر رشيد مؤتمـن
نظرت عيني إليها نظـرة تركت قلبي لديها مرتهـن
ليس حب فوق ما أحببتهـا غير أن أقتل نفسي أو أجن فيها ثاني ثقيل بالوسطى نسبه عمرو بن بانة إلى ابن سريج، ونسبه ابن المكي إلى الغريض. وفيها رمل لأهل مكة.
ومما يغني فيه من أشعاره في عائشة بنت طلحة قوله في قصيدته التي أولها: صوت
من لقلب أمسى رهينا مـعـنـى مستكينا قد شـفـه مـا أجـنـا
إثر شخص نفسي فدت ذاك شخصا نازح الدار بـالـمـدينة عـنـا
ليت حظي كطرفة العين منـهـا وكثير منها القلـيل الـمـهـنـا الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
عمر وكلثم بنت سعد المخزومية
أخبرني الحسن بن علي الخفاف ومحمد بن خلف قالا حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني محمد بن عبد الرحمن التيمي عن هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد المخزومي قال: كان عمر بن أبي ربيعة يهوى كلثم بنت سعد المخزومية، فأرسل إليها رسولا فضربتها وحلقتها وأحلفتها ألا تعاود، ثم أعادها ثانية ففعلت بها مثل ذلك، فتحاماها رسله. فابتاع أمة سوداء لطيفة رقيقة وأتى بها منزله، فأحسن إليها وكساها وآنسها وعرفها خبره وقال لها: إن أوصلت لي رقعة إلى كلثم فقرأتها فأنت حرة ولك معيشتك ما بقيت. فقالت اكتب لي مكاتبة واكتب حاجتك في آخرها، ففعل ذلك. فأخذتها ومضت بها إلى باب كلثم فاستأذنت، فخرجت إليها أمة لها فسألتها عن أمرها؛ فقالت: مكاتبة لبعض أهل مولاتك جئت أستعينها في مكاتبتي، وحادثتها وناشدتها حتى ملأت قلبها؛ فدخلت إلى كلثم وقالت: إن بالباب مكاتبة لم أر قط أجمل منها ولا أكمل ولا آدب. فقالت: ائذني لها، فدخلت. فقالت: من كاتبك. قالت: عمر بن أبي ربيعة الفاسق فاقرئي مكاتبتي. فمدت يدها لتأخذها. فقالت لها: لي عليك عهد الله أن تقرئيها؛ فإن كان منك إلي شيء مما أحبه وإلا لم يلحقني منك مكروه؛ فعاهدتها وفطنت. وأعطتها الكتاب، فإذا أوله:
من عاشق صب يسر الهوى قد شفه الوجد إلى كلـثـم
رأتك عيني فدعاني الهـوى إليك للحين ولـم أعـلـم
قتلتنـا، يا حـبـذا أنـتـم، في غير ما جرم ولا مأثـم
والله قد أنزل فـي وحـيه مبينا في آيه المـحـكـم
من يقتل النفس كذا ظالمـا ولم يقدها نفسـه يظـلـم
وأنت ثأري فتلافـى دمـي ثم اجعليه نعمة تنعـمـي
وحكمي عدلا يكن بـينـنـا أو أنت فيما بيننا فاحكمـي
وجالسيني مجلسـا واحـدا من غير ما عار ولا محرم
وخبريني ما الذي عنـدكـم بالله في قتل امرىء مسلم قال: فلما قرأت الشعر قالت لها: إنه خداع ملق، وليس لما شكاه أصل. قالت: يا مولاتي فما عليك من امتحانه? قالت: قد أذنت له، وما زال حتى ظفر ببغيته؛ فقولي له: إذا كان المساء فليجلس في موضع كذا وكذا حتى يأتيه رسولي. فانصرفت الجارية فأخبرته؛ فتأهب لها. فلما جاءه رسولها مضى معه حتى دخل إليها وقد تهيأت أجمل هيئة، وزينت نفسها ومجلسها وجلست له من وراء ستر، فسلم وجلس. فتركته حتى سكن، ثم قالت له: أخبرني عنك يا فاسق ألست القائل:
هلا استحيت فترحمي صبا صديان لم تدعي له قلبـا
جشم الزيارة في مودتكـم وأراد ألا ترهقي ذنـبـا
ورجا مصالحة فكان لكـم سلما وكنت ترينه حربـا
يا أيها المعطي مـودتـه من لا يراك مساميا خطبا
لا تجعلن أحدا عـلـيك إذا أحببتـه وهـويتـه ربـا
وصل الحبيب إذا شغفت به واطو الزيارة دونه غبـا
فلذاك أحسن من مواظـبة ليست تزيدك عنده قربـا
لا بل يملك عند دعـوتـه فيقول هاه وطالما لـبـى
صفحة : 56
فقال لها: جعلت فداك إن القلب إذا هوي نطق اللسان بما يهوى. فمكث عندها شهرا لا يدري أهله أين هو. ثم استأذنها في الخروج. فقالت له: بعد أن فضحتني لا والله لا تخرج إلا بعد أن تتزوجني. ففعل وتزوجها؛ فولدت منه ابنين أحدهما جوان؛ وماتت عنده.
عمر ولبابة بنت عبد الله بن العباس
امرأة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الجبار بن سعيد قال حدثني إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبد الله عن أبيه عن جده.
أن عمر رأى لبابة بنت عبد الله بن العباس امرأة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان تطوف بالبيت، فرأى أحسن خلق الله، فكاد عقله يذهب، فسأل عنها فأخبر بنسبها؛ فنسب بها وقال فيها: صوت
ودع لبابة قبل أن تـتـرحـلا واسأل فإن قلاله أن تـسـألا
البث بعمرك ساعة وتـأنـهـا فلعل ما بخلت بـه أن يبـذلا
قال ائتمر ما شئت غير مخالف فيما هويت فإننا لن نعـجـلا
لسنا نبالي حين تقضي حـاجة ما بات أو ظل المطي معقلا
حتى إذا ما الليل جن ظلامـه ورقبت غفلة كاشح أن يمحلا
خرجت تأطر في الثياب كأنها أيم يسيب على كثـيب أهـيلا
رحبت حين رأيتها فتبسـمـت لتحيتي لما رأتني مـقـبـلا
وجلا القناع سحابة مشهـورة غراء تعشي الطرف أن يتأملا
فلبثت أرقيها بما لـو عـاقـل يرقى به ما اسطاع ألا ينـزلا غنى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، ابتداؤه نشيد. وفيها لابن سريج ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق أيضا. وفيها لابن سريج في الأول والرابع من الأبيات رمل عن ابن المكي، ولأبي دلف القاسم بن عيسى في هذين البيتين خفيف ثقيل بالسبابة والبنصر، وابتداؤه نشيد من رواية ابن المكي. وفيه لمحمد بن الحسن بن مصعب هزج.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: لما حج الغمر بن يزيد بن عبد الملك دخل إليه معبد فغناه:
ودع لبابة قبل أن تترحلا فلم يزل يردده عليه، ثم أخرجه معه لما رحل عن المدينة، فغناه في المنزل به حتى أراد الرحيل، فحمله على بغلة له وذهب غلام له يتبعه؛ فقال: إلى أين? فقال: أمضي معه حتى أجيء بالبغلة. فقال: هيهات ارجع يا بني، ذهبت والله لبابة ببغلة مولاك. وقد روي هذا الخبر لغير الغمر بن يزيد.
عمر والثريا
بنت عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر
وهذه الأبيات التي فيها الغناء المختار هو:
تشكى الكميت الجري لما جهدته يقولها عمر بن أبي ربيعة في الثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس بن عبد مناف، وهم الذين يقال لهم العبلات؛ سموا بذلك لجدة لهم يقال لها عبلة بنت عبيد بن خالد بن خازل بن قيس بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وهي من بطن من تميم يقال لهم البراجم، غير براجم بني أسد.
نسب الثريا بنت علي ابن عبد الله بن الحارث
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال: كانت عبلة بنت عبيد بن خالد بن خازل بن قيس بن حنظلة، عند رجل من بني جشم بن معاوية، فبعثها بأنحاء سمن تبيعها له بعكاظ، فباعت السمن وراحلتين كان عليهما، وشربت بثمنها الخمر. فلما نفذ ثمنها رهنت ابن أخيه وهربت، فطلقها. وقالت في شربها الخمر:
شربت براحلتي محجن فيا ويلتي، محجن قاتلي
وبابن أخيه علـى لـذة ولم أحتفل عذل العاذل قال: فتزوجها عبد شمس بن عبد مناف؛ فولدت له أمية الأصغر وعبد أمية ونوفلا، وهم العبلات.
وقد ذكر الزبير بن بكار عن عمه: أن الثريا بنت عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وأنها أخت محمد بن عبد الله المعروف بأبي جراب العبلي الذي قتله داود بن علي؛ وهو الذي يقول فيه ابن زياد المكي:
ثلاث حوائج ولهن جئنـا فقم فيهن يابن أبي جراب
فإنك ماجد في بيت مجـد بقية معشر تحت التراب قال: وله يقول ابن زياد المكي أيضا:
صفحة : 57
إذا مت لم توصل بعرف قرابة ولم يبق في الدنيا رجاء لسائل قال الزبير: وهذا أشبه من أن تكون بنت عبد الله بن الحارث، وعبد الله إنما أدرك سلطان معاوية وهو شيخ كبير، وورث بقعدده في النسب دار عبد شمس بن عبد مناف، وحج معاوية في خلافته، فجعل ينظر إلى الدار، فخرج إليه عبد الله بن الحارث بمحجن ليضربه به وقال: لا أشبع الله بطنك أما تكفيك الخلافة حتى تطلب هذه الدار فخرج معاوية يضحك.
قال مؤلف هذا الكتاب: وهذا غلط من الزبير عندي، والثريا أن تكون بنت عبد الله بن الحارث أشبه من أن تكون أخت الذي قتله داود بن علي؛ لأنها ربت الغريض المغني وعلمته النوح بالمراثي على من قتله يزيد بن معاوية من أهلها يوم الحرة. وإذا كانت قد ربت الغريض حتى كبر وتعلم النوح على قتلى الحرة وهو رجل - وهي وقعة كانت بعقب موت معاوية - فقد كانت في حياة معاوية امرأة كبيرة، وبين ذلك وبين من قتله داود بن علي من بني أمية نحو ثمانين سنة، وقد شبب بها عمر بن أبي ربيعة في حياة معاوية، وأنشد عبد الله بن عباس شعره فيها، فكيف تكون أخت الذي قتله داود بن علي وقد أدركت عبد الله بن عباس وهي امرأة كبيرة وقد اعترف الزبير أيضا في خبره بأن عبد الله بن الحارث أدرك خلافة معاوية وهو شيخ كبير؛ فقول من قال: إنها بنته، أصوب من قول من قرنها بمن قتله داود بن علي. وهذا القول الذي قلته قول ابن الكلبي وأبي اليقظان، أخبرني به الحسن بن علي عن أحمد بن الحارث عن المدائني عن أبي اليقظان، قال وحدثني به جماعة من أهل العلم بنسب قريش.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني مسلمة بن إبراهيم بن هشام المخزومي عن أيوب بن مسلمة، أنه أخبره أن عمر بن أبي ربيعة كان مسهبا بالثريا بنت علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وكانت عرضة ذلك جمالا وتماما، وكانت تصيف بالطائف، وكان عمر يغدو عليها كل غداة إذا كانت بالطائف على فرسه، فيسأل الركبان الذين يحملون الفاكهة من الطائف عن الأخبار قبلهم. فلقي يوما بعضهم فسأله عن أخبارهم؛ فقال: ما استطرفنا خبرا؛ إلا أنني سمعت عند رحيلنا صوتا وصياحا عاليا على امرأة من قريش اسمها اسم نجم في السماء وقد سقط عني اسمه. فقال عمر: الثريا? قال نعم. وقد كان بلغ عمر قبل ذلك أنها عليلة، فوجه فرسه على وجهه إلى الطائف يركضه ملء فروجه وسلك طريق كداء - وهي أخشن الطرق وأقربها - حتى انتهى إلى الثريا وقد توقعته وهي تتشوف له وتشرف، فوجدها سليمة عميمة ومعها أختاها رضيا وأم عثمان، فأخبرها الخبر؛ فضحكت وقالت: أنا والله أمرتهم لأختبر ما لي عندك. فقال عمر في ذلك هذا الشعر:
تشكى الكميت الجري لما جهدته وبين لو يسطيع أن يتـكـلـمـا
فقلت له إن ألق للـعـين قـرة فهان علي أن تكل وتـسـأمـا
لذلك أدني دون خيلي ربـاطـه وأوصي به ألا يهان ويكـرمـا
عدمت إذا وفري وفارقت مهجتي لئن لم أقل قرنا إن الله سلـمـا قال مسلمة بن إبراهيم: قلت لأيوب بن مسلمة: أكانت الثريا كما يصف عمر بن أبي ربيعة? فقال: وفوق الصفة، كانت والله كما قال عبد الله بن قيس:
حبذا الحج والثريا ومـن بـال خيف من أجلها وملقى الرحال
يا سليمان إن تـلاق الـثـريا تلق عيش الخلود قبل الهـلال
درة عقائل الـبـحـر بـكـر لم تشنها مـثـاقـب الـلأل
تعقد المئزر السخام مـن الـخ ز على حقو بادن مكـسـال عمر ورملة بنت عبد الله الخزاعية
قال إسحاق في خبره عمن أسند إليه أخبار عمر بن أبي ربيعة، وذكر مثله الزبير بن بكار فيما حدثنا عنه الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني مؤمن بن عمر بن أفلح مولى فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم قال حدثني بلال مولى ابن أبي عتيق:
صفحة : 58
أن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة قدم للحج، فأتاه ابن أبي عتيق فسلم عليه وأنا معه. فلما قضى سلامه ومساءلته عن حجه وسفره، قال له: كيف تركت أبا الخطاب عمر بن أبي ربيعة? قال: تركته في بلهنية من العيش. قال: وأنى ذلك? قال: حجت رملة بنت عبد الله بن خلف الخزاعية فقال فيها: صوت
أصبح القلب في الحبال رهينا مقصدا يوم فارق الظاعنينـا
قلت من أنتم فصدت وقالـت أمبد سؤالك العـالـمـينـا
نحن من ساكني العراق وكنا قبله قاطنين مـكة حـينـا
قد صدقناك إذ سألت فمن أن ت عسى أن يجر شأن شؤونا
ونرى أننا عرفناك بـالـنـع ت بظن وما قتلنـا يقـينـا
بسواد الثـنـيتـين ونـعـت قد نراه لناظر مستـبـينـا - غنى معبد في البيتين الأولين خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق. وغنى في الثاني وما بعده ابن سريج خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عنه أيضا. وذكر حبش أن فيه للغريض أيضا لحنا من الثقيل الأول بالبنصر - قال: فبلغ ذلك الثريا، بلغتها إياه أم نوفل، وكانت غضبى عليه، وقد كان انتشر خبره عن الثريا حتى بلغها من جهة أم نوفل وأنشدتها قوله:
أصبح القلب في الحبال رهينا مقصدا يوم فارق الظاعنينـا فقالت: إنه لوقاح صنع بلسانه، ولئن سلمت له لأردن من شأوه، ولأثنين من عنانه، ولأعرفنه نفسه. فلما بلغت إلى قوله:
قلت من أنتم فصدت وقالت أمبد سؤالك العالـمـينـا فقالت: إنه لسأل ملح، قبحا له ولقد أجابته إن وفت. فلما بلغت إلى قوله:
نحن من ساكني العراق وكنا قبله قاطنين مـكة حـينـا قالت: غمزته الجهمة. فلما بلغت إلى قوله:
قد صدقناك إذ سألت فمن أن ت عسى أن يجر شأن شؤونا قالت: رمته الورهاء بآخر ما عندها في مقام واحد. وهجرت عمر.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب: أن رملة بنت عبد الله بن خلف حجت، فتعرض لها عمر بن أبي ربيعة فقال فيها:
أصبح القلب في الحبال رهينا مقصدا يوم فارق الظاعنينـا وقال في هذه القصيدة:
فرأت حرصي الفتاة فقالـت خبريه، من أجل من تكتمينا?
نحن من ساكني العراق وكنا قبله قاطنين مـكة حـينـا
قد صدقناك إذ سالت فمن أن ت عسى أن يجر شأن شؤونا قال الزبير: ورملة هذه أم طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وهي أخت طلحة الطلحات بن عبد الله بن خلف الخزاعي.
قال: فبلغت هذه الأبيات كثيرا، فغضب لذلك وقال: وأنا والله لا أتمارى أن سيجر شأن شؤونا. ثم ذكر نسوة من قريش فساقهن في شعره من الحج حتى بلغ بهن إلى ملل، ثم أشفق فجاز، ولم يزد على ذلك، وهو قوله في قصيدته التي أولها:
ما عناك الغداة من أطلال دارسات المقام مذ أحوال صوت
قم تأمل فأنت أبصر مـنـي هل ترى بالغميم من أجمـال
قاضيات لبانة مـن مـنـاخ وطواف وموقف بالجـبـال
قلن عسفان ثم رحن سراعـا هابطات عشية مـن غـزال
واردات الكديد مجتـرعـات جزن وادي الحجون بالأثقال
قصدلفت وهن متـسـقـات كالعدولي لاحقات التـوالـي
طالعات الغميس من عـبـود سالكات الخوي مـن أمـلال
فسقى الله منتوى أم عـمـرو حيث أمت بها صدور الرحال
حبذا هن من لبانة قـلـبـي وجديد الشباب من سربالـي
رب يوم أتيتهـن جـمـيعـا عند بيضاء رخصة مكسـال
غير أني امرؤ تعممت حلمـا يكره الجهل والصبا أمثالـي غنى ابن سريج في الثلاثة الأبيات الأول خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ويونس. وذكر الهشامي أن فيها للحجبي رملا بالبنصر.
شعر عمر حين هجرته الثريا
قالوا: فلما هجرت الثريا عمر قال في ذلك:
من رسولي إلى الثريا فإنـي ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
صفحة : 59
فبلغ ابن أبي عتيق قوله، فمضى حتى أصلح بينهما. وهذه الأبيات تذكر مع ما فيها من الغناء ومع خبر إصلاح ابن أبي عتيق بينهما بعد انقضاء خبر رملة التي ذكرها عمر في شعره.
قال مصعب بن عبد الله في خبره: وكانت رملة جهمة الوجه، عظيمة الأنف، حسنة الجسم، وتزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر، وتزوج عائشة بنت طلحة بن عبيد الله وجمع بينهما، فقال يوما لعائشة: فعلت في محاربة الخوارج مع أبي فديك كذا، وصنعت كذا، يذكر لها شجاعته وإقدامه. فقالت له عائشة: أنا أعلم أنك أشجع الناس، وأعرف لك يوما هو أعظم من هذا اليوم الذي ذكرته. قال: وما هو? قالت: يوم اجتليت رملة وأقدمت على وجهها وأنفها.
قال مصعب وحدثني يعقوب بن إسحاق قال: لما بلغ الثريا قول عمر بن أبي ربيعة في رملة :
وجلا بردها وقد حسرتـه نور بدر يضيء للناظرينا قالت: أف له ما أكذبه أو ترتفع حسناء بصفته لها بعد رملة وذكر ابن أبي حسان عن الرياشي عن العباس بن بكار عن ابن دأب: أن هذا الشعر قاله عمر في امرأة من بني جمح كان أبوها من أهل مكة، فولدت له جارية لم يولد مثلها بالحجاز حسنا. فقال أبوها: كأني بها وقد كبرت، فشبب بها عمر بن أبي ربيعة وفضحها ونوه باسمها كما فعل بنساء قريش، والله لا أقمت بمكة. فباع ضيعة له بالطائف ومكة ورحل بابنته إلى البصرة، فأقام بها وابتاع هناك ضيعة، ونشأت ابنته من أجمل نساء زمانها. ومات أبوها فلم تر أحدا من بني جمح حضر جنازته، ولا وجدت لها مسعدا ولا عليها داخلا. فقالت لداية لها سوداء: من نحن? ومن أي البلاد نحن? فخبرتها. فقالت: لا جرم والله لا أقمت في هذا البلد الذي أنا فيه غريبة فباعت الضيعة والدار، وخرجت في أيام الحج. وكان عمر يقدم فيعتمر في ذي القعدة ويحل، ويلبس تلك الحلل والوشي، ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج، ويسبل لمته، ويلقى العراقيات فيما بينه وبين ذات عرق محرمات، ويتلقى المدنيات إلى مر، ويتلقى الشأميات إلى الكديد. فخرج يوما للعراقيات فإذا قبة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر، تعادلها جارية سوداء كالسبجة.
فقال للسوداء: من أنت? ومن أين أنت يا خالة? فقالت: لقد أطال الله تعبك، إن كنت تسأل هذا العالم من هم ومن أين هم. قال: فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن. قالت: نحن من أهل العراق، فأما الأصل والمنشأ فمكة، وقد رجعنا إلى الأصل ورحلنا إلى بلدنا، فضحك. فلما نظرت إلى سواد ثنيتيه قالت: قد عرفناك. قال: ومن أنا? قالت: عمر بن أبي ربيعة. قال: وبم عرفتني? قالت: بسواد ثنيتيك وبهيئتك التي ليست إلا لقريش، فأنشأ يقول:
قلت من أنتم فصدت وقالت أمبد سؤالك العالـمـينـا وذكر الأبيات: فلما يزل عمر بها حتى تزوجها وولدت له.
خبر صلحهما ووساطة ابن أبي عتيق قال: فلما صرمت الثريا عمر قال فيها: صوت
من رسولي إلى الثريا فإنـي ضقت ذرعا بهجرها والكتاب
سلبتني مجاجة المسك عقلـي فسلوها ماذا أحل اغتصابـي
وهي مكنونة تحير مـنـهـا في أديم الخدين ماء الشبـاب
أبرزوها مثل المهاة تـهـادى بين خمس كواعـب أتـراب
ثم قالوا تحبها قلـت بـهـرا عدد القطر والحصى والتراب الغناء لابن عائشة خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو، وذكر حبش أنه لمالك.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني مؤمن بن عمر بن أفلح مولى فاطمة بنت الوليد قال أخبرني بلال مولى ابن أبي عتيق قال: أنشد ابن أبي عتيق قول عمر:
من رسولي إلى الثريا فإنـي ضقت ذرعا بهجرها والكتاب فقال ابن أبي عتيق: إياي أراد وبي نوه لا جرم والله لا أذوق أكلا حتى أشخص فأصلح بينهما، ونهض ونهضت معه، فجاء إلى قوم من بني الديل بن بكر لم تكن تفارقهم نجائب لهم فره يكرونها، فاكترى منهم راحلتين وأغلى لهم. فقلت له: استوضعهم أو دعني أماكسهم، فقد اشتطوا عليك. فقال: ويحك أما علمت أن المكاس ليس من أخلاق الكرام ثم ركب إحداهما وركبت الأخرى، فسار سيرا شديدا، فقلت: أبق على نفسك، فإن ما تريد ليس يفوتك. فقال: ويحك
أبادر حبل الود أن يتقضبا
صفحة : 60
وما حلاوة الدنيا إن تم الصدع بين عمر والثريا فقدمنا ليلا غير محرمين، فدق على عمر بابه، فخرج إليه وسلم عليه ولم ينزل عن راحلته، فقال له: اركب أصلح بينك وبين الثريا، فأنا رسولك الذي سألت عنه. فركب معنا وقدمنا الطائف، وقد كان عمر أرضى أم نوفل فكانت تطلب له الحيل لإصلاحها فلا يمكنها. فقال ابن أبي عتيق للثريا: هذا عمر قد جشمني السفر من المدينة إليك، فجئتك به معترفا لك بذنب لم يجنه، معتذرا إليك من إساءته إليك، فدعيني من التعداد والترداد، فإنه من الشعراء الذين يقولون ما لا يفعلون، فصالحته أحسن صلح وأتمه وأجمله، وكررنا إلى مكة، فلم ينزلها ابن أبي عتيق حتى رحل. وزاد عمر في أبياته:
أزهقت أم نوفل إذ دعـتـهـا مهجتي، ما لقاتلي من متـاب
حين قالت لها أجيبي فقـالـت من دعاني? قالت أبو الخطاب
فاستجابت عند الدعاء كما لـب ى رجال يرجون حسن الثواب قال الزبير: وما دعتها أم نوفل إلا لابن أبي عتيق، ولو دعتها لعمر ما أجابت. قال: وسألت عمي عن أم نوفل، فقال: هي أم ولد عبد الله بن الحارث أبي الثريا. وسألته عن قوله:
... كـمـا لـــبـــى رجال يرجون حسن الثواب فقال: كررت في التلبية كما يفعل المحرم، فقالت: لبيك لبيك.
وأخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه أن بعض المكيين قال: كانت الثريا تصب عليها جرة ماء وهي قائمة فلا يصيب ظاهر فخذيها منه شيء من عظم عجيزتها.
وأخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى بخبر الثريا هذا مع عمر، فذكر نحوا مما ذكره الزبير، وقال فيه: لما أناخ ابن أبي عتيق بباب الثريا أرسلت إليه: ما حاجتك? قال: أنا رسول عمر بن أبي ربيعة وأنشدها الشعر. فقالت: ابن أبي ربيعة فارغ ونحن في شغل، وقد تعبت فانزل بنا. فقال: ما أنا إذا برسول. ثم كر راجعا إلى ابن أبي ربيعة بمكة فأخبره الخبر فأصلح بينهما.
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إبراهيم بن إسحاق العنزي قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي، وأخبرني به الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية، وأخبرني به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير عن مؤمن بن عمر بن أفلح عن عبد العزيز بن عمران، قالوا: قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، فنزل على ابن أبي عتيق - وهو عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر - فلما استلقى قال: أوه.
من رسولي إلى الثريا فإنـي ضقت ذرعا بهجرها والكتاب فقال ابن أبي عتيق: كل مملوك لي حر إن بلغها ذاك غيري. فخرج، حتى إذا كان بالمصلى مر بنصيب وهو واقف فقال: يا أبا محجن. قال لبيك قال: أتودع إلى سلمى شيئا? قال: نعم. قال: وما ذاك? قال: تقول لها يابن الصديق: إنك مررت بي فقلت لي: أتودع إليها شيئا، فقلت:
أتصبر عن سلمى وأنت صبـور وأنت بحسن العزم منك جـدير
وكدت ولم أخلق من الطير إن بدا سنى بارق نحو الحجاز أطـير قال: فمر بسلمى وهي في قرية يقال لها القسرية فأبلغها الرسالة، فزفرت زفرة كادت أن تفرق أضلاعها. فقال ابن أبي عتيق: كل مملوك حر إن لم يكن جوابك أحسن من رسالته، ولو سمعك الآن لنعق وصار غرابا. ثم مضى إلى الثريا فأبلغ الكتاب. فقالت له: أما وجد رسولا أصغر منك انزل فأرح. فقال: لست إذا برسول وسألها أن ترضى عنه، ففعلت. وقال الزبير في خبره: فقال لها: أنا رسول ابن أبي ربيعة إليك، وأنشدها الأبيات، وقال لها: خشيت أن تضيع هذه الرسالة. قالت: أدى الله عنك أمانتك. قال: فما جواب ما تجشمته إليك? قالت: تنشده قوله في رملة:
وجلا بردها وقد حسرتـه ضوء بدر أضاء للناظرينا فقال: أعيذك بالله يابنة أخي أن تغلبيني بالمثل السائر. قالت: وما هو? قال: حريص لا يرى عمله . قالت: فما تشاء? قال: تكتبين إليه بالرضا عنه كتابا يصل على يدي، ففعلت. فأخذ الكتاب ورجع من فوره حتى قدم مكة، فأتى عمر. فقال له: من أين أقبلت? قال: من حيث أرسلتني. قال: وأنى ذلك? قال: من عند الثريا، أفرخ روعك هذا كتابها بالرضا عنك إليك.
صفحة : 61
تغني ابن عائشة بشعره في مجلس حسن بن حسن بن علي
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية قال: اجتمع ابن عائشة ويونس ومالك عند حسن بن حسن بن علي فقال الحسن لابن عائشة: غنني من رسولي إلى الثريا... ؛ فسكت عنه فلم يجبه. فقال له جليس له: أيقول لك غنني فلا تجيبه فسكت. فقال له الحسن: مالك? ويحك أبك خبال كان والله ابن أبي عتيق أجود منك بما عنده؛ فإنه لما سمع هذا الشعر قال لابن أبي ربيعة: أنا رسولك إليها، فمضى نحو الثريا حتى أدى رسالته، وأنت معنا في المجلس تبخل أن تغنيه لنا فقال له: لم أذهب حيث ظننت، إنما كنت أتخير لك أي الصوتين أغني: أقوله:
من رسولي إلى الثريا فإنـي ضافني الهم واعترتني الهموم
يعلم الله أننـي مـسـتـهـام بهواكم وأنـنـي مـرحـوم أم قوله:
من رسولي إلى الثريا فإنـي ضقت ذرعا بهجرها والكتاب فقال له الحسن: أسأنا بك الظن أبا جعفر غن بهما جميعا، فغناهما. فقال له الحسن: لولا أنك تغضب إذا قلنا لك: أحسنت، لقلت لك: أحسنت والله قال: ولم يزل يرددهما بقية يومه.
عمر وابن أبي عتيق وإنشاده شعره في الثريا
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني يعقوب بن إسحاق الربعي عن أبيه قال: أنشد عمر بن أبي ربيعة ابن أبي عتيق قوله:
لم تر العين للثريا شبيها بمسيل التلاع يوم التقينا فلما بلغ إلى قوله:
ثم قالت لأختها قد ظلمنا إن رددناه خائبا واعتدينا قال: أحسنت والهدايا وأجادت. ثم أنشده ابن أبي عتيق متمثلا قول الشاعر:
أريني جوادا مات هزلا لعلني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا فلما بلغ عمر إلى قوله في الشعر:
في خلاء من الأنيس وأمن قال ابن أبي عتيق: أمكنت للشارب الغدر من عال بعدها فلا انجبر .
فلما بلغ إلى قوله:
فمكثنا كذاك عشرا تباعا في قضاء لديننا واقتضينا قال: أما والله ما قضيتها ذهبا ولا فضة ولا اقتضيتها إياه، فلا عرفكما الله قبيحا فلما بلغ إلى قوله:
كان ذا في مسيرنا إذ حججنا علم الله فيه ما قد نـوينـا قال: إن ظاهر أمرك ليدل على باطنه، فأرود التفسير، ولئن مت لأموتن معك، أف للدنيا بعدك يا أبا الخطاب فقال له عمر: بل عليها بعدك العفاء يا أبا محمد قال: فلقي الحارث بن خالد ابن أبي عتيق فقال: قد بلغني ما دار بينك وبين ابن أبي ربيعة، فكيف لم تتحللا مني? فقال له ابن أبي عتيق: يغفر الله لك يا أبا عمرو، إن ابن أبي ربيعة يبرىء القرح، ويضع الهناء مواضع النقب، وأنت جميل الخفض. فضحك الحارث بن خالد وقال: حبك الشيء يعمي ويصم . فقال: هيهات أنا بالحسن عالم نظار خبر السواد في ثنيتي عمر وأما خبر السواد في ثنيتي عمر فإن الزبير بن بكار ذكره عن عمه مصعب في خبره: أن امرأة غارت عليه فاعترضته بمسواك كان في يدها فضربت به ثنيتيه فاسودتا.
وذكر إسحاق الموصلي عن أبي عبد الله المسيبي وأبي الحسن المدائني: أنه أتى الثريا يوما ومعه صديق له كان يصاحبه ويتوصل بذكره في الشعر، فلما كشفت الثريا الستر وأرادت الخروج إليه، رأت صاحبه فرجعت. فقال لها: إنه ليس ممن أحتشمه ولا أخفي عنه شيئا؛ واستلقى فضحك - وكان النساء إذ ذاك يتختمن في أصابعهن العشر - فخرجت إليه فضربته بظاهر كفها، فأصابت الخواتيم ثنيتيه العلييين فنغضتا وكادتا تسقطان، فقدم البصرة فعولجتا له، فثبتتا واسودتا. فقال الحزين الكناني يعيره بذلك - وكان عدوه وقد بلغه خبره -:
ما بال سنيك أم ما بال كسرهمـا أهكذا كسرا في غير مـا بـاس
أم نفحة من فتاة كنت تألـفـهـا أم نالها وسط شرب صدمة الكاس قال: ولقيه الحزين الكناني يوما فأنشده هذين البيتين؛ فقال له عمر: اذهب اذهب، ويلك فإنك لا تحسن أن تقول: صوت
ليت هندا أنجزتنا ما تعد وشفت أنفسنا مما تجـد
واستبدت مـرة واحـدة إنما العاجز من لا يستبد
صفحة : 62
لابن سريج في هذا الشعر رمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، وخفيف رمل أيضا في هذه الإصبع وهذا المجرى عن ابن المكي. ولمالك فيه ثقيل أول عن الهشامي. ولمتيم ثاني ثقيل عن ابن المعتز. وذكر أحمد بن أبي العلاء عن مخارق أن خفيف الرمل ليحيى المكي صنعه وحكى فيه لحن هذا الصوت :
اسلمي يا دار من هند خبر الثريا مع الحارث الملقب بالقباع حدثني علي بن صالح قال حدثني أبو هفان عن إسحاق الموصلي عن رجاله المذكورين: أن الثريا واعدت عمر بن أبي ربيعة أن تزوره، فجاءت في الوقت الذي ذكرته، فصادفت أخاه الحارث قد طرقه وأقام عنده، ووجه به في حاجة له ونام مكانه وغطى وجهه بثوبه، فلم يشعر إلا بالثريا قد ألقت نفسها عليه تقبله، فانتبه وجعل يقول: اغربي عني فلست بالفاسق، أخزاكما الله فلما علمت بالقصة انصرفت. ورجع عمر فأخبره الحارث بخبرها؛ فاغتم لما فاته منها، وقال: أما والله لا تمسك النار أبدا وقد ألقت نفسها عليك. فقال له الحارث: عليك وعليها لعنة الله.
وأخبرني بهذه القصة الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن يعقوب بن إسحاق الربعي عن الثقة عنه عن ابن جريج عن عثمان بن حفص الثقفي: أن الحارث بن عبد الله زار أخاه، ثم ذكر نحوا من الذي ذكره إسحاق، وقال فيه: فبلغ عمر خبرها، فجاء إلى أخيه الحارث وقال له: جعلت فداءك ما لك ولأمة الوهاب ابنتك ? أتتك مسلمة عليك فلعنتها وزجرتها وتهددتها، وها هي تيك باكية. فقال: وإنها لهي قال: ومن تراها تكون? قال: فانكسر الحارث عنه وعن لومه.
تزوج الثريا بسهيل في غيبة عمر وما قاله من الشعر في ذلك
أخبرني علي بن صالح قال حدثني أبو هفان عن إسحاق بن إبراهيم عن جعفر بن سعيد عن أبي سعيد مولى فائد هكذا قال إسحاق، وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني جعفر بن سعيد عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار. ورواه أيضا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جعفر بن سعيد فقال فيه: عن أبي عبيدة العماري، ولم يذكر أبا سعيد مولى فائد، قالوا: تزوج سهيل بن عبد العزيز بن مروان الثريا - وقال الزبير: بل تزوجها أبو الأبيض سهيل بن عبد الرحمن بن عوف - فحملت إليه وهو بمصر. والصواب قول من قال: سهيل بن عبد العزيز؛ لأنه كان هناك منزله، ولم يكن لسهيل بن عبد الرحمن هناك موضع. فقال عمر: صوت
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يماني الغناء للغريض خفيف ثقيل بالبنصر. وفيه لعبد الله بن العباس ثاني ثقيل بالبنصر. وأول هذه القصيدة:
أيها الطارق الذي قد عناني بعد ما نام سامر الركبـان
زار من نازح بغير دلـيل يتخطى إلي حتى أتانـي وذكر الرياشي عن ابن زكريا الغلابي عن محمد بن عبد الرحمن التيمي عن أبيه عن هشام بن سليمان بن عكرمة بن خالد المخزومي قال: كان عمر بن أبي ربيعة قد ألح على الثريا بالهوى، فشق ذلك على أهلها، ثم إن مسعدة بن عمرو أخرج عمر إلى اليمن في أمر عرض له، وتزوجت الثريا وهو غائب، فبلغه تزويجها وخروجها إلى مصر، فقال:
أيها المنكح الثريا سهيلا عمرك الله كيف يلتقيان وذكر الأبيات. وقال في خبره: ثم حمله الشوق على أن سار إلى المدينة فكتب إليها:
كتبت إليك من بلدي كتاب موله كـمـد
كئيب واكف العينـي ن بالحسرات منفرد
يؤرقه لهيب الشـو ق بين السحر والكبد
فيمسك قلـبـه بـيد ويمسح عينـه بـيد وكتبه في قوهية وشنفه وحسنه وبعث به إليها. فلما قرأته بكت بكاء شديدا، ثم تمثلت:
بنفسي من لا يستقل بنـفـسـه ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع وكتبت إليه تقول:
أتاني كتاب لم ير الناس مثـلـه أمد بكافور ومسك وعـنـبـر
وقرطاسه قـوهـية وربـاطـه بعقد من الياقوت صاف وجوهر
وفي صدره: مني إليك تـحـية لقد طال تهيامي بكم وتـذكـري
وعنوانه من مسـتـهـام فـؤاده ألى هائم صب من الحزن مسعر
صفحة : 63
قال مؤلف هذا الكتاب: وهذا الخبر عندي مصنوع، وشعره مضعف يدل على ذلك، ولكني ذكرته كما وقع إلي.
قال أبو سعيد مولى فائد ومن ذكر خبره مع الثريا: فمات عنها سهيل أو طلقها، فخرجت إلى الوليد بن عبد الملك وهو خليفة بدمشق في دين عليها، فبينا هي عند أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان، إذ دخل عليها الوليد فقال: من هذه? فقالت: الثريا جاءتني، تطلب إليك في قضاء دين عليها وحوائج لها. فأقبل عليها الوليد فقال: أتروين من شعر عمر بن أبي ربيعة شيئا? قالت: نعم، أما إنه يرحمه الله كان عفيفا عفيف الشعر، أروي قوله: صوت
ما على الرسم بالبلـيين لـو ب ين رجع السـلام أو أجـابـا
فإلى قصر ذي العشيرة فالصا ئف أمسى من الأنيس يبـابـا
وبما قد أرى به حـي صـدق ظاهري العيش نعمة وشبابـا
إذ فؤادي يهوى الرباب وأني ال دهر حتى الممات أنسى الربابا
وحسانـا جـواريا خـفـرات حافظات عند الهوى الأحسابـا
لا يكثرن في الحـديث ولا يت بعن ينعقن بالبهام الـظـرابـا فقضى حوائجها وانصرفت بما أرادت منه. فلما خلا الوليد بأم البنين قال لها: لله در الثريا أتدرين ما أرادت بإنشادها ما أنشدتني من شعر عمر? قالت: لا.
قال: إني لما عرضت لها به عرضت لي بأن أمي أعرابية. وأم الوليد وسليمان ولادة بنت العباس بن جزي بن الحارث بن زهير بن جذيمة العبسي.
<H6 نسبةالأبيات التي أنشدتها الثريا</H6 الغناء في الأبيات التي أنشدتها الثريا الوليد بن عبد الملك لمالك بن أبي السمح خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. وفيها لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر. وفيها لإبراهيم خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر حبش أيضا أن فيها لابن مسجح خفيف رمل بالوسطى. وذكر عمرو بن بانة أن لابن محرز فيها خفيف ثقيل بالوسطى.
ومما يغنى فيه من أشعار عمر بن أبي ربيعة التي قالها في الثريا من القصيدة التي أولها من رسولي : صوت
وتبدت حتى إذا جن قلبي حال دوني ولائد بالثياب
يا خليلي فأعلما أن قلبي مستهام بربة المحراب الغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. ومنها: صوت
أقتليني قتلا سـريعـا مـريحـا لا تكوني علـي سـوط عـذاب
شف عنها مـحـقـق جـنـدي فهي كالشمس من خلال السحاب الغناء للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. ومنها: صوت
قال لي صاحبي ليعلم ما بي أتحب البتول أخت الرباب
قلت وجدي بها كوجدك بالما ء إذا منعت برد الشـراب الغناء لمالك رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. ومنها: صوت
أذكرتني من بهجة الشمس لما برزت من دجنة وسـحـاب
أزهقت أم نوفل إذ دعـتـهـا مهجتي، ما لقاتلي من متـاب
حين قالت لها أجيبي فقـالـت من دعاني? قالت أبو الخطاب الغناء للغريض خفيف رمل عن الهشامي وحماد بن إسحاق.
ومنها: صوت
مرحبا ثم مرحبا بالتـي قـا لت غداة الوداع عند الرحيل
للثريا قولي له أنت هـمـي ومنى النفس خاليا وخليلـي الغناء لابن محرز ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو.
ومنها: صوت
زعموا بأن البين بعد غـد فالقلب مما أزمعوا يجف
تشكو ونشكو ما أشت بنـا كل لوشك البين يعتـرف
حلفوا لقد قطعوا ببينهـم وحلفت ألفا مثل ما حلفوا الغناء للغريض خفيف ثقيل بالوسطى.
ومنها: صوت
فلوت رأسها ضرارا وقالت لا وعيشي ولو رأيتك متـا
حين آثرت بالمودة غـيري وتناسيت وصلنا ومللـتـا
قد وجدناك إذ خبرت ملولا طرفا لم تكن كما كنت قلتا
صفحة : 64
الغناء لمالك رمل ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. وفيه لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي، وكذا روته دنانير عن فليح، وقد نسب قوم لحن مالك إلى الغريض. ومنها: صوت
يا خليلي سائلا الأطلالا ومحلا بالروضتين أحالا - ويروى:
بالبليين إن أحـزن سـؤالا
وسفاه لولا الصبابة حبسي في رسوم الديار ركبا عجالا
بعد ما أقفرت من آل الثـريا وأجدت فيها النعاج ظـلالا الغناء لابن سريج هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لحكم الوادي ثقيل أول من جامع أغانيه. وذكر ابن دينار أن فيه لابن عائشة لحنا لم يذكر طريقته. وذكر إبراهيم أن فيه لدحمان لحنا ولم يجنسه.
وقال حبش: فيه لإسحاق ثقيل أول بالوسطى.
عمر والثريا وقد نقلها زوجها إلى الشأم أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو عبد الله التميمي يعني أبا العيناء عن القحذمي عن أبي صالح السعدي قال: لما تزوج سهيل بن عبد العزيز الثريا ونقلها إلى الشأم، بلغ عمر بن أبي ربيعة الخبر، فأتى المنزل الذي كانت الثريا تنزله، فوجدها قد رحلت منه يومئذ، فخرج في أثرها فلحقها على مرحلتين، وكانت قبل ذلك مهاجرته لأمر أنكرته عليه. فلما أدركهم نزل عن فرسه ودفعه إلى غلامه ومشى متنكرا حتى مر بالخيمة، فعرفته الثريا وأثبتت حركته ومشيته، فقالت لحاضنتها: كلميه، فسلمت عليه وسألته عن حاله وعاتبته على ما بلغ الثريا عنه، فاعتذر وبكى، فبكت الثريا، فقالت: ليس هذا وقت العتاب مع وشك الرحيل. فحادثها إلى وقت طلوع الفجر ثم ودعها وبكيا طويلا، وقام فركب فرسه ووقف ينظر إليهم وهم يرحلون، ثم أتبعهم بصره حتى غابوا، وأنشأ يقول:
يا صاحبي قفا نستخبـر الـطـلـلا عن حال من حله بالأمس ما فعـلا
فقال لي الربع لما أن وقـفـت بـه إن الخليط أجد البين فـاحـتـمـلا
وخادعتك النوى حـتـى رأيتـهـم في الفجر يحتث حادي عيسهم زجلا
لما وقفنا نحييهـم وقـد صـرخـت هواتف البين واستولت بهـم أصـلا
صدت بعادا وقالت للتـي مـعـهـا بالله لوميه في بعض الذي فـعـلا
وحدثيه بما حدثـت واسـتـمـعـي ماذا يقول ولا تـعـيي بـه جـدلا
حتى يرى أن ما قال الـوشـاة لـه فينا لـديه إلـينـا كـلـه نـقـلا
وعرفيه به كالهزل واحـتـفـظـي في بعض معتبة أن تغضبي الرجلا
فإن عهدي به والـلـه يحـفـظـه وإن أتى الذنب ممن يكره الـعـذلا
لو عندنا اغتيب أو نيلت نقـيصـتـه ما آب مغتابه من عـنـدنـا جـذلا
قلت اسمعي فلقد أبلغت في لطـف وليس يخفى على ذي اللب من هزلا
هذا أرادت به بـخـلا لأعـذرهـا وقد أرى أنها لن تعـدم الـعـلـلا
ما سمي القلب إلا مـن تـقـلـبـه ولا الفؤاد فؤادا غـير أن عـقـلا
أما الحديث الذي قالـت أتـيت بـه فما عبأت بـه إذ جـاءنـي حـولا
ما إن أطعت بها بالغيب قد علمـت مقالة الكاشح الواشـي إذا مـحـلا
إني لأرجعه فيها بـسـخـطـتـه وقد يرى أنه قـد غـرنـي زلـلا وهي قصيدة طويلة مذكورة في شعره.
وفاة الثريا أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر ومحمد بن خلف بن المرزبان قالوا حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا محمد بن يحيى قال زعم عبيد بن يعلى قال حدثني كثير بن كثير السهمي قال: لما ماتت الثريا أتاني الغريض فقال لي: قل أبيات شعر أنح بها على الثريا فقلت: صوت
ألا يا عين مالك تدمعينـا أمن رمد بكيت فتكحلينـا
أم أنت حزينة تبكين شجوا فشجوك مثله أبكى العيونا غنى الغريض في هذين البيتين لحنا من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو ويحيى المكي والهشامي وغيرهم.
وفاة عمر بن أبي ربيعة
صفحة : 65
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الجبار بن سعيد المساحقي قال حدثني إبراهيم بن يعقوب بن أبي عبد الله عن أبيه عن جده عن ثعلبة بن عبد الله بن صعير: أن عمر بن أبي ربيعة نظر في الطواف إلى امرأة شريفة، فرأى أحسن خلق الله صورة، فذهب عقله عليها، وكلمها فلم تجبه، فقال فيها:
الريح تسحب أذيالا وتنشـرهـا يا ليتني كنت ممن تسحب الريح
كيما تجر بنا ذيلا فتطـرحـنـا على التي دونها مغبـرة سـوح
أنى بقربكم أم كيف لـي بـكـم هيهات ذلك ما أمست لنـا روح
فليت ضعف الذي ألقى يكون بها بل ليت ضعف الذي ألقى تباريح
إحدى بنيات عمي دون منزلهـا أرض بقيعانها القيصوم والشيح فبلغها شعره فجزعت منه. فقيل لها: اذكريه لزوجك، فإنه سينكر عليه قوله. فقالت: كلا والله لا أشكوه إلا إلى الله. ثم قالت: اللهم إن كان نوه باسمي ظالما فاجعله طعاما للريح. فضرب الدهر من ضربه، ثم إنه غدا يوما على فرس فهبت ريح فنزل فاستتر بسلمة، فعصفت الريح فخدشه غضن منها فدمي وورم به ومات من ذلك.
أخبار ابن سريج ونسبه
نسب ابن سريج وشيء من أوصافه
هو عبيد بن سريج، ويكنى أبا يحيى، مولى بني نوفل بن عبد مناف. وذكر ابن الكلبي عن أبيه وأبي مسكين أنه مولى لبني الحارث بن عبد المطلب.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان قال: ابن سريج مولى لبني ليث، ومنزله مكة.
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سألت الحسن بن عتبة اللهبي عن ابن سريج فقال: هو مولى لبني عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخزوم. وفي بني عائذ يقول الشاعر:
فإن تصلح فإنك عـائذي وصلح العائذي إلى فساد قال إسحاق: وقال سلمة بن نوفل بن عمارة: ابن سريج مولى عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث بن نوفل، أو ابن عامر بن الحارث بن نوفل بن عبد مناف.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن أبي أيوب المديني قال: ذكر إبراهيم بن زياد بن عنبسة بن سعيد بن العاص: أن ابن سريج كان آدم أحمر ظاهر الدم سناطا في عينيه قبل، بلغ خمسا وثمانين سنة، وصلع فكان يلبس جمة مركبة، وكان أكثر ما يرى مقنعا، وكان منقطعا إلى عبد الله بن جعفر.
وقال ابن الكلبي عن أبيه قال: كان ابن سريج مخنثا أحول أعمش يلقب وجه الباب ، وصلع فكان يلبس جمة، وكان لا يغني إلا مقنعا يسبل القناع على وجهه.
وقال ابن الكلبي عن أبي وأبي مسكين: كان ابن سريج أحسن الناس غناء، وكان يغني مرتجلا ويوقع بقضيب، وغنى في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومات في خلافة هشام بن عبد الملك.
قال إسحاق: وكان الحسن بن عتبة اللهبي يروي مثل ذلك فيه. وذكر أن قبره بنخلة قريبا من بستان ابن عامر.
قال إسحاق وحدثني الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان قال: كان عبيد بن سريج من أهل مكة وكان أحسن الناس غناء. قال إسحاق قال عمارة بن أبي طرفة الهذلي: سمعت ابن جريج يقول: عبيد بن سريج من أهل مكة مولى آل خالد بن أسيد.
قال إسحاق وحدثني إبراهيم بن زياد عن أيوب بن سلمة المخزومي قال: كان في عين ابن سريج قبل حلو لا يبلغ أن يكون حولا، وغنى في خلافة عثمان رضي الله عنه، ومات بعد قتل الوليد بن يزيد، وكان له صلع في جبهته، وكان يلبس مركبة فيكون فيها أحسن شيء، وكان يلقب وجه الباب ولا يغضب من ذلك، وكان أبوه تركيا.
وقال أبو أيوب المديني: كان ابن سريج، فيما روينا عن جماعة من المكيين، مولى بني جندع بن ليث بن بكر، وكان إذا غنى سدل قناعه على وجهه حتى لا يرى حوله، وكان يوقع بقضيب وقيل: إنه كان يضرب بالعود، وكانت علته التي مات منها الجذام.
أنه أول من ضرب بالعود الفارسي
على الغناء العربي
قال إسحاق وحدثني أبي قال: أخبرني من رأى عود ابن سريج وكان على صنعة عيدان الفرس، وكان ابن سريج أول من ضرب به على الغناء العربي بمكة. وذلك أنه رآه مع العجم الذين قدم بهم ابن الزبير لبناء الكعبة، فأعجب أهل مكة غناؤهم. فقال ابن سريج: أنا أضرب به على غنائي، فضرب به فكان أحذق الناس.
أم ابن سريج
صفحة : 66
قال إسحاق وذكر الزبيري: أن أم ابن سريج مولاة لآل المطلب يقال لها رائقة ، وقيل: بل أمه هند أخت رائقة، فمن ثم قيل: إنه مولى بني المطلب بن حنطب. وكان ابن سريج بعد وفاة عبد الله بن جعفر قد انقطع إلى الحكم بن المطلب بن عبد الله بن المطلب بن حنطب أحد بني مخزوم، وكان من سادة قريش ووجوهها. وأخذ ابن سريج الغناء عن ابن مسجح.
الأشخاص المعدودون أصولا للغناء العربي
قال إسحاق: وأصل الغناء أربعة نفر: مكيان ومدنيان، فالمكيان: ابن سريج وابن محرز، والمدنيان: معبد ومالك.
أول شهرة ابن سريج بالغناء
قال إسحاق: وقال سلمة بن نوفل بن عمارة: أخبرني بذلك من شئت من مشيختنا: أن يوما شهر فيه ابن سريج بالغناء في ختان ابن مولاه عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين. قال لأم الغلام: خفضي عليك بعض الغرم والكلفة، فوالله لألهين نساءك حتى لا يدرين ما جئت به ولا ما عزمت عليه.
شهادة هشام بن المربة في ابن سريج قال إسحاق: وسألت هشام بن المرية، وكان قد عمر، وكان عالما بالغناء فلا يبارى فيه، فقلت له: من أحذق الناس بالغناء? فقال لي: أتحب الإطالة أم الاختصار? فقلت: أحب الاختصار الذي يأتي على سؤالي. قال: ما خلق الله تعالى بعد داود النبي عليه الصلاة والسلام أحسن صوتا من ابن سريج، ولا صاغ الله عز وجل أحدا أحذق منه بالغناء، ويدلك على ذلك أن معبدا كان إذا أعجبه غناؤه قال: أنا اليوم سريجي.
شهادة يونس بن محمد الكاتب فيه قال وأخبرني إبراهيم - يعني أباه - قال: أدركت يونس بن محمد الكاتب فحدثني عن الأربعة: ابن سريج وابن محرز والغريض ومعبد. فقلت له: من أحسن الناس غناء? فقال: أبو يحيى. قلت: عبيد بن سريج? قال نعم. قلت: وكيف ذاك?. قال: إن شئت فسرت لك، وإن شئت أجملت. قلت: أجمل. قال: كأنه خلق من كل قلب، فهو يغني لكل إنسان ما يشتهي.
شهادة إبراهيم الموصلي فيه أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال قال حماد بن إسحاق: أخبرني أبي عن الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك قال: سألت إبراهيم الموصلي ليلة وقد أخذ منه النبيذ: من أحسن الناس غناء? فقال لي: من الرجال أم من النساء? فقلت: من الرجال. فقال: ابن محرز. قلت: ومن النساء? قال: ابن سريج. ثم قال لي: إن كان ابن سريج إلا كأنه خلق من كل قلب فهو يغني له ما يشتهي شهادة إسحاق الموصلي فيه أخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: أرسلني محمد بن الحسين بن مصعب إلى إسحاق أسأله عن لحنه ولحن ابن سريج في:
تشكى الكميت الجري لما جهدته أيهما أحسن? فصرت إليه فسألته عن ذلك، فقال لي: يا أبا الحسن، والله لقد أخذت بخطام راحلته فزعزعتها وأنختها وقمت بها فما بلغته. فرجعت إلى محمد بن الحسين فأخبرته؛ فقال: والله إنه ليعلم أن لحنه أحسن من لحن ابن سريج، ولقد تحامل لابن سريج على نفسه، ولكن لا يدع تعصبه للقدماء. وقد أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى هذا الخبر عن أبيه، فذكر نحو ما ذكره جحظة في خبره ولم يقل: أرسلني محمد بن الحسين إلى إسحاق. وقال جحظة في خبره: قال علي بن يحيى: وقد صدق محمد بن الحسين؛ لأنه قلما غني في صوت واحد لحنان فسقط خيرهما، والذي في أيدي الناس الآن من اللحنين لحن إسحاق، وقد ترك لحن ابن سريج، فقل من يسمعه إلا من العجائز المتقدمات ومشايخ المغنين. هذا أو نحوه.
لحن إسحاق في تشكى الكميت
مأخوذ من لحن الأبجر في يقولون. أبكاك البيت
وأخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن إبراهيم بن علي بن هشام قال: يقولون: إن ابتداء غناء إسحاق الذي في:
تشكى الكميت الجري لما جهدته أنما أخذه من صوت الأبجر:
يقولون ما أبكاك والمال غامر نسبة هذا الصوت صوت
يقولون ما أبكاك والمال غامر عليك وضاحي الجلد منك كنين
فقلت لهم لا تسألوني وانظروا إلى الطرب النزاع كيف يكون غناه الأبجر ثقيلا أول بالبنصر، عن عمرو ودنانير. وذكر الهشامي أن فيه لعزة المرزوقية ثاني ثقيل بالوسطى.
مولده ووفاته واشتغاله بالغناء بعد النياحة
صفحة : 67
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني إبراهيم بن المهدي قال حدثني إسماعيل بن جامع عن سياط قال: كان ابن سريج أول من غنى الغناء المتقن بالحجاز بعد طويس، وكان مولده في خلافة عمر بن الخطاب، وأدرك يزيد بن عبد الملك وناح عليه، ومات في خلافة هشام. قال: وكان قبل أن يغني نائحا ولم يكن مذكورا، حتى ورد الخبر مكة بما فعله مسرف بن عقبة بالمدينة، فعلا على أبي قبيس وناح بشعر هو اليوم داخل في أغانيه، وهو:
يا عين جودي بالدموع السفـاح وابكي على قتلى قريش البطاح فاستحسن الناس ذلك منه، وكان أول من ندب به.
قال ابن جامع: وحدثني جماعة من شيوخ أهل مكة أنهم حدثوا: أن سكينة بنت الحسين بعثت إلى ابن سريج بشعر أمرته أن يصوغ فيه لحنا يناح به، فصاغ فيه، وهو الآن داخل في غنائه. والشعر:
يا أرض ويحك أكرمي أمواتي فلقد ظفرت بسادتي وحماتي فقدمه ذلك عند أهل الحرمين على جميع ناحة مكة والمدينة والطائف.
قال وحدثني ابن جامع وابن أبي الكنات جميعا: أن سكينة بعثت إليه بمملوك لها يقال له عبد الملك، وأمرته أن يعلمه النياحة، فلم يزل يعلمه مدة طويلة، ثم توفي عمها أبو القاسم محمد بن الحنفية، وكان ابن سريج عليلا علة صعبة فلم يقدر على النياحة. فقال لها عبدها عبد الملك: أنا أنوح لك نوحا أنسيك به نوح ابن سريج. قالت: أو تحسن ذاك? قال نعم. فأمرته فناح؛ فكان نوحه في الغاية من الجودة، وقال النساء: هذا نوح غريض؛ فلقب عبد الملك الغريض. وأفاق ابن سريج من علته بعد أيام وعرف خبر وفاة ابن الحنفية، فقال لهم: فمن ناح عليه? قالوا: عبد الملك غلام سكينة. قال: فهل جوز الناس نوحه? قالوا: نعم وقدمه بعضهم عليك. فحلف ابن سريج ألا ينوح بعد ذلك اليوم، وترك النوح وعدل إلى الغناء، فلم ينح حتى ماتت حبابة، وكانت قد أخذت عنه وأحسنت إليه فناح عليها، ثم ناح بعدها على يزيد بن عبد الملك، ثم لم ينح بعده حتى هلك.
قال: ولما عدل ابن سريج عن النوح إلى الغناء عدل معه الغريض إليه، فكان لا يغني صوتا إلا عارضه فيه.
ابن سريج وعطاء بن أبي رباح
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال: حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي أبا إسحاق إبراهيم بن المهدي وأنا حاضر أن يحيى المكي حدثه أن عطاء بن أبي رباح لقي ابن سريج بذي طوى، وعليه ثياب مصبغة وفي يده جرادة مشدودة الرجل بخيط يطيرها ويجذبها به كلما تخلفت؛ فقال له عطاء: يا فتان، ألا تكف عما أنت عليه كفى الله الناس مئونتك. فقال ابن سريج: وما على الناس من تلويني ثيابي ولعبي بجرادتي? فقال له: تفتنهم أغانيك الخبيثة. فقال له ابن سريج: سألتك بحق من تبعته من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبحق رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك، إلا ما سمعت مني بيتا من الشعر، فإن سمعت منكرا أمرتني بالإمساك عما أنا عليه. وأنا أقسم بالله وبحق هذه البنية لئن أمرتني بعد استماعك مني بالإمساك عما أنا عليه لأفعلن ذلك. فأطمع ذلك عطاء في ابن سريج، وقال: قل. فاندفع يغني بشعر جرير:
صوت
إن الذين غدوا بلبك غـادروا وشلا بعينك لا يزال معينـا
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينـا - لحن ابن سريج هذا ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي والهشامي، وله أيضا فيه رمل. ولإسحاق فيه رمل آخر بالوسطى. وفيه هزج بالوسطى ينسب إلى ابن سريج والغريض - قال: فلما سمعه عطاء اضطرب اضطرابا شديدا ودخلته أريحية، فحلف ألا يكلم أحدا بقية يومه إلا بهذا الشعر، وصار إلى مكانه من المسجد الحرام؛ فكان كل من يأتيه سائلا عن حلال أو حرام أو خبر من الأخبار، لا يجيبه إلا بأن يضرب إحدى يديه على الأخرى وينشد هذا الشعر حتى صلى المغرب، ولم يعاود ابن سريج بعد هذا ولا تعرض له.
ابن سريج ويزيد ابن عبد الملك
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه، وأخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني إسحاق عن ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب قال: لما قال عمر بن أبي ربيعة:
صفحة : 68
نظرت إليها بالمحصب من منى ولي نظر لولا التحرج عـارم غنى فيه ابن سريج.
قال: وحج يزيد بن عبد الملك في تلك السنة بالناس، وخرج عمر بن أبي ربيعة ومعه ابن سريج على نجيبين رحالتاهما ملبستان بالديباج، وقد خضبا النجيبين ولبسا حلتين، فجعلا يتلقيان الحاج ويتعرضان للنساء إلى أن أظلم الليل، فعدلا إلى كثيب مشرف والقمر طالع يضيء، فجلسا على الكثيب، وقال عمر لابن سريج: غنني صوتك الجديد؛ فاندفع يغنيه، فلم يستتمه إلا وقد طلع عليه رجل راكب على فرس عتيق، فسلم ثم قال: أيمكنك - أعزك الله - أن ترد هذا الصوت? قال: نعم ونعمة عين، على أن تنزل وتجلس معنا. قال: أنا أعجل من ذلك، فإن أجملت وأنعمت أعدته وليس عليك من وقوفي شيء ولا مئونة، فأعاده. فقال له: بالله أنت ابن سريج? قال نعم. قال: حياك الله وهذا عمر بن أبي ربيعة? قال نعم. قال: حياك الله يا أبا الخطاب فقال له: وأنت فحياك الله قد عرفتنا فعرفنا نفسك. قال: لا يمكنني ذلك. فغضب ابن سريج وقال: والله لو كنت يزيد بن عبد الملك لما زاد. فقال له: أنا يزيد بن عبد الملك. فوثب إليه عمر فأعظمه، ونزل ابن سريج إليه فقبل ركابه؛ فنزع حلته وخاتمه فدفعهما إليه، ومضى يركض حتى لحق ثقله. فجاء بهما ابن سريج إلى عمر فأعطاه إياهما، وقال له: إن هذين بك أشبه منهما بي. فأعطاه عمر ثلثمائة دينار وغدا فيهما إلى المسجد، فعرفهما الناس وجعلوا يتعجبون ويقولون: كأنهما والله حلة يزيد بن عبد الملك وخاتمه، ثم يسألون عمر عنهما فيخبرهم أن يزيد بن عبد الملك كساه ذلك.
وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة أيضا قال وحدثني ابن عبد الله بن أبي سعيد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: غناء ابن سريج في طريق الحاج
ووقفه الناس بحسن غنائه
حج عمر بن أبي ربيعة في عام من الأعوام على نجيب له مخضوب بالحناء مشهر الرحل بقراب مذهب، ومعه عبيد بن سريج على بغلة له شقراء، ومعه غلامه جناد يقود فرسا له أدهم أغر محجلا، وكان عمر بن أبي ربيعة يسميه الكوكب في عنقه طوق ذهب - وجناد هذا هو الذي يقول فيه: صوت
فقلت لجناد خذ السيف واشـتـمـل عليه برفق وارقب الشمس تغـرب
وأسرج لي الدهماء واعجل بممطري ولا تعلمن خلقا من الناس مذهبـي الغناء لزرزر غلام المارقي خفيف ثقيل وهو أجود صوت صنعه - قال: ومع عمر جماعة من حشمه وغلمانه ومواليه وعليه حلة موشية يمانية، وعلى ابن سريج ثوبان هرويان مرتفعان، فلم يمروا بأحد إلا عجب من حسن هيئتهم، وكان عمر من أعطر الناس وأحسنهم هيئة، فخرجوا من مكة يوم التروية بعد العصر يريدون منى، فمروا بمنزل رجل من بني عبد مناف بمنى قد ضربت عليه فساطيطه وخيمه، ووافى الموضع عمر فأبصر بنتا للرجل قد خرجت من قبتها، وستر جواريها دون القبة لئلا يراها من مر. فأشرق عمر على النجيب فنظر إليها، وكانت من أحسن النساء وأجملهن. فقال لها جواريها: هذا عمر بن أبي ربيعة. فرفعت رأسها فنظرت إليه، ثم سترتها الجواري وولائدها عنه وبطن دونها بسجف القبة حتى دخلت. ومضى عمر إلى منزله وفساطيطه بمنى، وقد نظر من الجارية إلى ما تيمه ومن جمالها إلى ما حيره، فقال فيها:
نظرت إليها بالمحصب مـن مـنـى ولي نظر لولا الـتـحـرج عـارم
فقلت أشمس أم مـصـابـيح بـيعة بدت لك خلف السجف أم أنت حالـم
بعيدة مهوى القرط إمـا لـنـوفـل أبوها وإما عبد شـمـس وهـاشـم
ومد عليها السجـف يوم لـقـيتـهـا على عجل تبـاعـهـا والـخـوادم
فلم أستطعها غير أن قـد بـدا لـنـا على الرغم منها كفها والمعـاصـم
معاصم لم تضرب على البهم بالضحى عصاها ووجه لم تلحه الـسـمـائم
نضـير تـرى فـيه أسـاريع مـائه صبيح تغاديه الأكـف الـنـواعـم
إذا ما دعت أترابها فاكتـنـفـنـهـا تمايلن أو مالت بـهـن الـمـآكـم
طلبن الصبا حتى إذا مـا أصـبـنـه نزعن وهن المسلمات الـظـوالـم
صفحة : 69
ثم قال عمر لابن سريج: يا أبا يحيى، إني تفكرت في رجوعنا مع العشية إلى مكة مع كثرة الزحام والغبار وجلبة الحاج فثقل علي، فهل لك أن نروح رواحا طيبا معتزلا، فنرى فيه من راح صادرا إلى المدينة من أهلها، ونرى أهل العراق وأهل الشأم ونتعلل في عشيتنا وليلتنا ونستريح? قال: وأنى ذلك يا أبا الخطاب? قال: على كثيب أبي شحوة المشرف على بطن يأجج بين منى وسرف، فنبصر مرور الحاج بنا ونراهم ولا يرونا. قال ابن سريج: طيب والله يا سيدي. فدعا بعض خدمه فقال: اذهبوا إلى الدار بمكة، فاعلموا لنا سفرة واحملوها مع شراب إلى الكثيب، حتى إذا أبردنا ورمينا الجمرة صرنا إليكم - قال: والكثيب على خمسة أميال من مكة مشرف على طريق المدينة وطريق الشأم وطريق العراق، وهو كثيب شامخ مستدق أعلاه منفرد عن الكثبان - فصارا إليه فأكلا وشربا. فلما انتشيا أخذ ابن سريج الدف فنقره وجعل يغني وهم ينظرون إلى الحاج. فلما أمسيا رفع ابن سريج صوته يغني في الشعر الذي قاله عمر، فسمعه الركبان فجعلوا يصيحون به: يا صاحب الصوت أما تتقي الله قد حبست الناس عن مناسكهم فيسكت قليلا، حتى إذا مضوا رفع صوته وقد أخذ فيه الشراب فيقف آخرون، إلى أن مرت قطعة من الليل، فوقف عليه في الليل رجل على فرس عتيق عربي مرح مستن فهو كأنه ثمل، حتى وقف بأصل الكثيب وثنى رجله على قربوس سرجه، ثم نادى: يا صاحب الصوت، أيسهل عليك أن ترد شيئا مما سمعته. قال: نعم ونعمة عين، فأيها تريد? قال: تعيد علي:
ألا يا غراب البين مالك كلمـا نعبت بفقدان علـي تـحـوم
أبالبين من عفراء أنت مخبري عدمتك من طير فأنت مشوم - قال: والغناء لابن سريج - فأعاده، ثم قال له ابن سريج: ازدد إن شئت. فقال: غنني:
أمسلم إنـي يابـن كـل خـلـيفة ويا فارس الهيجا ويا قمر الأرض
شكرتك إن الشكر حبل من التقـى وما كل من أقرضته نعمة يقضي
ونوهت لي باسمي وما كان خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض فغناه، فقال له: الثالث ولا أستزيدك. فقال: قل ما شئت. فقال: تغنيني
يا دار أقوت بالجزع فالكثب بين مسيل العذيب فالرحـب
لم تتقنع بفضـل مـئزرهـا دعد ولم تسق دعد في العلب فغناه. فقال له ابن سريج: ابقيت لك حاجة? قال: نعم، تنزل إلي لأخاطبك شفاها بما أريد. فقال له عمر: انزل إليه، فنزل. فقال له: لولا أني أريد وداع الكعبة وقد تقدمني ثقلي وغلماني لأطلت المقام معك ولنزلت عندكم، ولكني أخاف أن يفضحني الصبح، ولو كان ثقلي معي لما رضيت لك بالهوينى، ولكن خذ حلتي هذه وخاتمي ولا تخدع عنهما، فإن شراءهما ألف وخمسمائة دينار. وذكر باقي الخبر مثل ما ذكره حماد بن إسحاق.
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني صوت
نظرت إليها بالمحصب من منـى ولي نظر لولا التـحـرج عـارم
فقلت أشمس أم مصـابـيح بـيعة بدت لك خلف السجف أم أنت حالم
بعيدة مهوى القرط إما لـنـوفـل أبوها وإما عبد شمـس وهـاشـم الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عنه. وقد نسب في مواضع من هذا الكتاب.
صوت
ألا يا غراب البين مالك كلمـا نعبت بفقدان علـي تـحـوم
أبا لبين من عفراء أنت مخبري عدمتك من طير فأنت مشـوم الشعر لقيس بن ذريح، وقيل: إنه لغيره. والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشامي.
صوت
أمسلم إنـي يابـن كـل خـلـيفة ويا فارس الهيجا ويا قمر الأرض
شكرتك إن الشكر حبل من التقـى وما كل من أوليته نعمة يقضـي
ونوهت لي باسمي وما كان خاملا ولكن بعض الذكر أنبه من بعض الشعر لأبي نخيلة الحماني. والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، وقد أخرج هذا الصوت مع سائر أخبار أبي نحيلة في موضع آخر.
إجلال المغنين له وعلو كعبه
في صنعة الغناء
صفحة : 70
حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار حدثني محمد بن سلام الجمحي قال حدثني عمر بن أبي خليفة قال: كان أبي نازلا في علو، فكان المغنون يأتونه. قال فقلت: فأيهم كان أحسن غناء? قال: لا أدري، إلا أني كنت أراهم إذا جاء ابن سريج سكتوا.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني الزبيري - يعني عبد الله بن مصعب - عن عمرو بن الحارث، قال إسحاق: وحدثنيه المدائني ومحمد بن سلام عن المحرز بن جعفر عن عمر بن سعد مولى الحارث بن هشام قال: خرج ابن الزبير ليلة إلى أبي قبيس فسمع غناء، فلما انصرف رآه أصحابه وقد حال لونه، فقالوا: إن بك لشرا. قال: إنه ذاك. قالوا: ما هو? قال: لقد سمعت صوتا إن كان من الجن إنه لعجب، وإن كان من الإنس فما انتهى منتهاه شيء قال: فنظروا فإذا هو ابن سريج يتغنى: صوت
أمن رسم دار بوادي غـدر لجارية من جواري مضر
خدلجة الساق مـمـكـروة سلوس الوشاح كمثل القمر
تزين النساء إذا مـا بـدت ويبهت في وجهها من نظر الشعر ليزيد بن معاوية. الغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن يونس وحبش.
قال إسحاق: وذكر المدائني في خبره أن عمر بن عبد العزيز مر أيضا فسمع صوت ابن سريج وهو يتغنى:
بت الخليط قوى الحبل الذي قطعوا فقال عمر: لله در هذا الصوت لو كان بالقرآن قال المدائني: وبلغني من وجه آخر أنه سمعه يغني:
قرب جيراننا جـمـالـهـم ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا
ما كنت أدري بوشك بينهـم حتى رأيت الحداة قد طلعوا فقال هذه المقالة.
نسبة هذين الصوتين صوت
بت الخلطي قوى الحبل الذي قطعوا إذ ودعوك فولوا ثم ما رجـعـوا
وآذنوك ببـين مـن وصـالـهـم فما سلوت ولا يسليك ما صنعـوا
يابن الطويل وكم آثرت من حسـن فينا وأنت بما حملت مضـطـلـع
نحظى ونبقى بخير ما بقيت لـنـا فإن هلكت فما في ملجأ طـمـع الشعر للأحوص. والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر حبش أن فيه رملا بالوسطى عن الهشامي.
نسبة الصوت الآخر صوت
قرب جيراننا جـمـالـهـم ليلا فأضحوا معا قد ارتفعوا
ما كنت أدري بوشك بينهـم حتى رأيت الحداة قد طلعوا
على مصكين من جمالـهـم وعنتريسين فيهما خـضـع
يا قلب صبرا فإنـه سـفـه بالحر أن يستفزه الـجـزع الغناء لابن سريج ثقيل اول من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق. وفيه رمل في مجرى الوسطى ذكره إسحاق ولم ينسبه إلى أحد، وذكر أيضا فيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى ولم ينسبه. وذكر الهشامي أن الرمل للغريض وخفيف الرمل لابن المكي وذكرت دنانير والهشامي فيه لمعبد ثاني ثقيل. وذكر عمرو بن بانة أن الثقيل الأول للغريض. وذكر عبد الله بن موسى أن لحن ابن - سريج خفيف ثقيل.
عدد الأصوات التي غنى فيها
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثني يوسف بن إبراهيم قال: حضرت أبا إسحاق إبراهيم بن المهدي وعنده إسحاق الموصلي، فقال إسحاق: غنى ابن سريج ثمانية وستين صوتا. فقال له أبو إسحاق: ما تجاوز قط ثلاثة وستين صوتا. فقال بلى. ثم جعلا ينشدان أشعار الصحيح منها حتى بلغا ثلاثة وستين صوتا وهما يتفقان على ذلك، ثم أنشد إسحاق بعد ذلك أشعار خمسة أصوات أيضا.
فقال أبو إسحاق: صدقت، هذا من غنائه، ولكن لحن هذا الصوت نقله من لحنه في الشعر الفلاني، ولحن الثاني من لحنه الفلاني، حتى عد له الخمسة الأصوات. فقال له إسحاق: صدقت. ثم قال له إبراهيم: إن ابن سريج كان رجلا عاقلا أديبا، وكان يغني الناس بما يشتهون، فلا يغنيهم صوتا مدح به أعداؤهم ولا صوتا عليهم فيه عار أو غضاضة، ولكنه يعدل بتلك الألحان إلى أشعار في أوزانها، فالصوتان واحد لا ينبغي أن نعدهما اثنين عند التحصيل منا لغنائه، فصدقه إسحاق. فقال له إبراهيم: فأيها أولى عندك بالتقدمة? فقال:
صفحة : 71
وإذا ما عثرت في مرطـهـا نهضت باسمي وقالت يا عمر فقال له إبراهيم: أحسبك يا أبا محمد - متعت بك - ما أردت إلا مساعدتي. فقال: لا، والله ما إلى هذا قصدت، وإن كنت أهوى كل ما قربني من محبتك.
فقال له: هذا أحب أغانيه إلي، وما أحسبه في مكان أحسن منه عندي، ولا كان ابن سريج يتغناه أحسن مما يتغناه جواري، ولئن كان كذلك فما هو عندي في حسن التجزئة والقسمة وصحتهما مثل لحنه في: صوت من المائة لمختارة من رواية جحظة
حييا أم يعـمـــرا قبل شحط من النوى
أجمع الحي رحـلة ففؤادي كذى الأسى
قلت لا تعجلوا الروا ح فقالوا ألا بـلـى - الغناء لابن سريج من القدر الأوسط من الثقيل الأول مطلق في مجرى الوسطى. وفيه للهذلي خفيف ثقيل بالبنصر عن ابن المكي. وفيه لمالك ثقيل أول البنصر عن عمرو. وفيه لحنان من الثقيل الثاني: أحدهما لإسحاق والآخر لأبيه، ونسبه قوم إلى ابن محرز، ولم يصح ذلك - قال: فاجتمعا معا على أنه أول أغانيه وأحقها بالتقديم. وأمرني أبو إسحاق بتدوين ما يجري بينهما ويتفقان عليه، فكتبت هذا الشعر. ثم اتفقا على أن الذي يليه:
وإذا ما عثرت في مرطـهـا نهضت باسمي وقالت يا عمر فأثبته أيضا. ثم تناظرا في الثالث فاجتمعا على أنه:
فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم فقال إسحاق: لو قدمناه على الأغاني التي تقدمته كلها لكان يستحق ذلك. فقال أبو إسحاق: ما سمعته منذ عرفته إلا أبكاني، لأني إذا سمعته أو ترنمت به وجدت غمرا على فؤادي لا يسكن حتى أبكي. فقال إسحاق: إن مذهبه فيه ليوجب ذلك، فدونته ثالثا. ثم اتفقا على الرابع وأنه:
فلم أر كالتجمير منظر ناظـر ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى تحدثا بأحاديث لهذا الصوت مشهورة. ثم تناظرا في الخامس، فاتفقا على أنه:
عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي فأثبته. ثم تناظرا في السادس واتفقا على أنه:
ألا هل هاجك الأظعا ن إذ جاوزن مطلحا فأثبته. ثم تناظرا في السابع فاتفقا على أنه:
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينـا فأثبته. وتناظرا في الثامن فاتفقا على أنه:
تنكر الإثمد لا تعـرفـه غير أن تسمع منه بخبر فأثبته. وتناظرا في التاسع فاتفقا على أنه:
ومن أجل ذات الخال أعملت ناقتي أكلفها سير الكلال مع الظـلـع <H6 نسبة هذه الأصوات وأجناسها</H6 منها: صوت
وإذا ما عثرت في مرطـهـا نهضت باسمي وقالت يا عمر الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي.
ومنها: صوت
فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم الشعر لعنترة بن شداد العبسي. والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.
ومنها: صوت
فلم أر كالتجمير منظر ناظـر ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو.
ومنها: صوت
عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي الشعر للعرجي. والغناء لابن سريج ثقيل بالوسطى عن عمرو.
ومنها: صوت
ألا هل هاجك الأظعا ن إذ جاوزن مطلحا الشعر لعمر. والغناء لابن سريج ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه للغريض لحنان: ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وخفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيه لمعبد ثقيل أول ثالث بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
ومنها: صوت
غيضن من عبراتهن وقلن لي ماذا لقيت من الهوى ولقينـا الشعر لجرير. والغناء لابن سريج رمل بالبنصر. وفيه لإسحاق رمل بالوسطى. وفيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي.
ومنها: صوت
تنكر الإثمد لا تعـرفـه غير أن تسمع منه بخبر الشعر لعبد الرحمن بن حسان. والغناء لابن سريج رمل بالوسطى.
ومنها: صوت
صفحة : 72
ومن أجل ذات الخال أعملت ناقتي أكلفها سير الكلال مع الظـلـع الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج رمل بالبنصر. وفيه لإسحاق رمل بالوسطى.
تنافر معبد ومالك بن أبي السمح إليه
في صوتين غنياهما
أخبرني رضوان بن أحمد قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق بن المهدي قال حدثني الزبير بن دحمان أن أباه حدثه: أن معبدا تغنى:
آب ليلي بـهـمـوم وفـكـر من حبيب هاج حزني والسهر
يوم أبصرت غرابـا واقـعـا شر ما طار على شر الشجر فعارضه مالك فغنى في أبيات من هذا الشعر، وهي:
وجرت لي ظبية يتبـعـهـا لين الأظلاف من حور البقر
كلما كفكفت منـي عـبـرة فاضت العين بمنهـل درر قال: فتلاحيا جميعا فيما صنعان من هذين الصوتين، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنا أجود صنعة منك. فتنافرا إلى ابن سريج فمضيا إليه بمكة. فلما قدماها سألا عنه، فأخبرا أنه خرج يتطرف بالحناء في بعض بساتينها. فاقتفيا أثره، حتى وقفا عليه وفي يده الحناء، فقالا له: إنا خرجنا إليك من المدينة لتحكم بيننا في صوتين صنعناهما. فقال لهما: ليغن كل واحد منكما صوته. فابتدأ معبد يغني لحنه. فقال له: أحسنت والله على سوء اخيتارك للشعر يا ويحك ما حملك على أن ضيعت هذه الصنعة الجيدة في حزن وسهر وهموم وفكر أربعة ألوان من الحزن في بيت واحد، وفي البيت الثاني شران في مصراع واحد، وهو قولك:
شر ما طار على شر الشجر ثم قال لمالك: هات ما عندك، فغناه مالك. فقال له: أحسنت والله ما شئت فقال له مالك: هذا وإنما هو ابن شهره، فكيف تراه يا أبا يحيى يكون إذا حال عليه الحول قال دحمان: فحدثني معبد أن ابن سريج غضب عند ذلك غضبا شديدا، ثم رمى بالحناء من يديه وأصابعه وقال له: يا مالك، ألي تقول ابن شهره اسمع مني ابن ساعته، ثم قال: يا أبا عباد أنشدني القصيدة التي تغنيتما فيها. فأنشدته القصيدة حتى انتهيت إلى قوله:
تنكر الإثمد لا تعـرفـه غير أن تسمع منه بخبر فصاح بأعلى صوته: هذا خليلي وهذا صاحبي، ثم تغنى فيه، فانصرفنا مفلولين مفضوحين من غير أن نقيم بمكة ساعة واحدة.
نسبة هذه الأغاني كلها صوت
آب ليلي بـهـمـوم وفـكـر من حبيب هاج حزني والسهر
يوم أبصرت غرابـا واقـعـا شر ما طار على شر الشجر
ينتف الريش علـى عـبـرية مرة المقضم من روح العشر الشعر لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت يقوله في رملة بنت معاوية بن أبي سفيان، وله معها ومع أبيها وأخيها في تشبيبه بها أخبار كثيرة ستذكر في موضعها إن شاء الله. ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى عمر بن أبي ربيعة، وهو غلط. وقد بين ذلك مع أخبار عبد الرحمن في موضعه.
والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى عن يحيى المكي، وذكر عمرو بن بانة أنه للغريض، وله لحن آخر في هذه الطريقة.
صوت
وجرت لي ظبية يتبـعـهـا لين الأظلاف من حور البقر
خلفها أطلس عسال الضحى صادفته يوم طل وحـصـر الغناء لمالك خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق.
صوت
إن عينيها لـعـينـا جـؤذر أهدب الأشفار من حور البقر
تنكر الإثـمـد لا تـعـرفـه غير أن تسمع منه بخـبـر الغناء لابن سريج رمل بالسبابة، عن عمرو ويحيى المكي.
مضادة ابن سريج للغريض ومعارضة الغريض له
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال أبي قال محمد بن سعيد:
صفحة : 73
لما ضاد ابن سريج الغريض وناوأه، جعل ابن سريج لا يغني صوتا ألا عارضه فيه الغريض فغنى فيه لحنا غيره، وكانت ببعض أطراف مكة دار يأتيانها في كل جمعة ويجتمع لهما ناس كثير، فيوضع لكل واحد منهما كرسي يجلس عليه ثم يتناقضان الغناء ويترادانه. قال: فلما رأى ابن سريج موقع الغريض وغنائه من الناس لقربه من النوح وشبهه به، مال إلى الأرمال والأهزاج فاستخفها الناس. فقال له الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء وحذفته وأفسدته. فقال له: نعم يا مخنث، جعلت تنوح على أبيك وأمك، ألى تقول هذا والله لأغنين غناء ما غنى أحد أثقل منه ولا أجود. ثم تغنى:
تشكى الكميت الجري لما جهدته تقدير ابن أبي عتيق لابن سريج
قال حماد: وقرأت على أبي عن هشام بن المرية قال: كان ابن عتيق يسوق في كل عام عن ابن سريج بدنة وينحرها عنه، ويقول: هذا أقل حقه علينا.
اعتراف معبد لابن سريج بالسبق
عليه في صنعة الغناء
قال حماد: قال أبي وقال مخلد بن خداش المهلبي: كنا بالمدينة في مجلس لنا ومعنا معبد، فقدم من مكة إلى المدينة فدخل علينا ليلا، فجلس معبد يسائله عن الأخبار وهو يخبره ولا نسمع ما يقول. فالتفت إلينا معبد فقال: أصبحت أحسن الناس غناء. فقيل له: أو لم تكن كذلك? قال: لا حيث كان ابن سريج حيا، إن هذا أخبرني أن ابن سريج قد مات. ثم كان بعد ذلك إذا غنى صوتا فأعجبه غناؤه قال: أصبحت اليوم سريجيا.
أبو السائب المخزومي وأغاني ابن سريج
قال حماد: حدثني أبي قال حدثني أبو الحسن المدائني قال: قال معبد: أتيت أبا السائب - المخزومي وكان يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة - فلما رآني تجوز وقال: ما معك من مبكيات ابن سريج? قلت قوله:
ولهن بالبيت العتـيق لـبـانة والبيت يعرفهن لو يتـكـلـم
لو كان حيا قبلهن ظـعـائنـا حيا الحطيم وجوههن وزمزم
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة وهم على سفر لعمرك ما هم
متجاورين بغـير دار إقـامة لو قد أجد تفرق لم ينـدمـوا فقال لي: غنه، فغنيته. ثم قام يصلي فأطال، ثم تجوز إلي فقال: ما معك من مطرباته ومشجياته? فقلت: قوله:
لسنا نبالي حين ندرك حـاجة ما بات أو ظل المطي معقلا فقال لي: غنه، فغنيته. ثم صلى وتجوز إلي وقال: ما معك من مرقصاته? فقلت:
فلم أر كالتجمير منظر ناظـر ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى فقال: كما أنت حتى أتحرم لهذا بركعتين.
تغنيه بمسمع من عطاء بن أبي رباح
وتفضيله ابن سريج على الغريض
قال حماد: وأخبرني أبي عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، وذكر أبو أيوب المديني عن الحزامي قال حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم المخزومي قال: أرسلتني أمي وأنا غلام أسأل عطاء بن أبي رباح عن مسألة، فوجدته في دار يقال لها دار المعلى - وقال أبو أيوب في خبره: دار المقل - وعليه ملحفة معصفرة، وهو جالس على منبر وقد ختن ابنه والطعام يوضع بين يديه وهو يأمر به أن يفرق في الخلق، فلهوت مع الصبيان ألعب بالجوز حتى أكل القوم وتفرقوا وبقي مع عطاء خاصته، فقالوا: يا أبا محمد لو أذنت لنا فأرسلنا إلى الغريض وابن سريج فقال: ما شئتم، فأرسلوا إليهما. فلما أتيا قاموا معهما وثبت عطاء في مجلسه فلم يدخل، فدخلوا بهما بيتا في الدار، فتغنيا وأنا أسمع. فبدأ ابن سريج فنقر بالدف وتغنى بشعر كثير:
بليلى وجارات لليلى كـأنـهـا نعاج الملا تحدى بهن الأباعر
أمنقطع يا عز ما كان بـينـنـا وشاجرني يا عز فيك الشواجر
إذا قيل هذا بيت عزة قـادنـي إليه الهوى واستعجلتني البوادر
أصد وبي مثل الجنون لكي يرى رواة الخنا أني لبيتك هـاجـر فكأن القوم قد نزل عليهم السبات، وأدركهم الغشي فكانوا كالأموات، ثم أصغوا إليه بآذانهم وشخصت إليه أعينهم وطالت أعناقهم. ثم غنى الغريض بصوت أنسيته بلحن آخر. ثم غنى ابن سريج وأوقع بالقضيب، وأخذ الغريض الدف فغنى بشعر الأخطل:
فقلت اصبحونا لا أبا لأبـيكـم وما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا
صفحة : 74
وقلت اقتلوها عنكم بمزاجهـا فأكرم بها مقتولة حين تقتـل
أناخوا فجروا شاصيات كأنهـا رجال من السودان لم يتسربلوا فوالله ما رأيتهم تحركوا ولا نطقوا إلا مستمعين لما يقول. ثم غنى الغريض بشعر آخر وهو:
هل تعرف الرسم والأطلال والدمنا زدن الفؤاد على ما عنده حـزنـا
دار لصفراء إذ كانت تحل بـهـا وإذ ترى الوصل فيما بيننا حسنـا
إذ تستبيك بمصقـول عـوارضـه ومقلتي جؤذر لم يعد أن شـدنـا ثم غنيا جميعا بلحن واحد، فلقد خيل لي أن الأرض تميد، وتبينت ذلك في عطاء أيضا. وغنى الغريض في شعر عمر بن أبي ربيعة، وهو قوله:
كفى حزنا تجمع الدار شمـلـنـا وأمسي قريبا لا أزورك كلثمـا
دعي القلب لا يزدد خبالا مع الذي به منك أو داوى جواه المكتمـا
ومن كان لا يعدو هواه لسـانـه فقد حل في قلبي هواك وخيمـا
وليس بتزويق اللسان وصـوغـه ولكنه قد خالط اللحـم والـدمـا وغنى ابن سريج أيضا:
خليلي عوجا نسأل اليوم مـنـزلا أبى بالبراق العفر أن يتـحـولا
ففرع النبيت فالشرى خف أهلـه وبدل أرواحا جنوبـا وشـمـالا
أرادت فلم تسطع كلاما فأومـأت إلينا ولم تأمن رسولا فتـرسـلا
بأن بت عسى أن يستر الليل مجلسا لنا أو تنام العين عنا فـتـقـبـلا وغنى الغريض أيضا:
يا صاحبي قفا نـقـض لـبـانة وعلى الظعائن قبل بينكما اعرضا
لا تعجلاني أن أقـول بـحـاجة رفقا فقد زودت زادا مجرضـا
ومقالها بالنعف نعف مـحـسـر لفتاتها هل تعرفين المعـرضـا
هذا الذي أعطى مواثق عـهـده حتى رضيت وقلت لي لن ينقضا وأغاني أنسيتها، وعطاء يسمع على منبره ومكانه، وربما رأيت رأسه قد مال وشفتيه تتحركان حتى بلغته الشمس، فقام يريد منزله. فما سمع السامعون شيئا أحسن منهما وقد رفعا أصواتهما وتغنيا بهذا. ولما بلغت الشمس عطاء قام وهم على طريقة واحدة في الغناء، فاطلع في كوة البيت. فلما رأوه قالوا: يا أبا محمد، أيهما أحسن غناء? قال: الرقيق الصوت. يعني ابن سريج.
نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات صوت
ولهن بالبيت العتـيق لـبـانة والبيت يعرفهن لو يتـكـلـم
لو كان حيا قبلهن ظـعـائنـا حيا الحطيم وجوههن وزمزم
وكأنهن وقد حسرن لواغـبـا بيض بأكناف الحطيم مركـم
لبثوا ثلاث منى بمنزل غبطة وهم على سفر لعمرك ما هم
متجاورين بغـير دار إقـامة لو قد أجد رحيلهم لم يندمـوا عروضه من الكامل. الشعر لابن أذينة. والغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وأخبار ابن أذينة تأتي بعد هذا في موضعها إن شاء الله.
ومنها الصوت الذي أوله في الخبر:
لسنا نبالي حين ندرك حاجة صوت
ودع لبابة قبل أن تـتـرحـلا واسأل فإن قليلـه أن تـسـألا
وانظر بعينك لـيلة وتـأنـهـا فلعل ما بخلت بـه أن يبـذلا
لسنا نبالي حين نـدرك حـاجة ما راح أو ظل المطي معقلا
حتى إذا ما الليل جن ظـلامـه ورجوت غفلة حارس أن يعقلا
خرجت تأطر في الثياب كأنهـا أيم يسيب على كثـيب أهـيلا الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى في مجراها. وفيه لمعبد لحن من خفيف الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، وهو من مختار أغانيه ونادرها وصدور صنعته وما يقدم على كثير منها.
<H6 الغمر بن يزيد وشعر ابن أبي ربيعة</H6 أخبرني أحمد بن محمد بن إسحاق الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال: كنت أسير مع الغمر بن يزيد، فاستنشدني فأنشدته لعمر بن أبي ربيعة:
صفحة : 75
ودع لـبـابة أن تـتـرحــلا واسأل فإن قليلـه أن تـسـألا
قال ائتمر ما شئت غير مخالف فيما هويت فإننا لن نعـجـلا
نجري أيادي كنت تبذلها لـنـا حق علينا واجب أن نفـعـلا
حتى إذا ما الليل جن ظـلامـه ورجوت غفلة حارس أن يعقلا
خرجت تأطر في الثياب كأنهـا أيم يسيب على كثـيب أهـيلا
رحبت لما أقبلت فتـعـلـلـت لتحيتي لما رأتنـي مـقـبـلا
فجلا القناع سحابة مشـهـورة غراء تعشي الطرف أن يتأملا
فظللت أرقيها بما لو عـاقـل يرقى به ما اسطاع ألا ينـزلا
تدنو فأطمع ثم تمنع بـذلـهـا نفس أبت للجود أن تتبـخـلا قال: فأمر غلامه فحملني على بغلته التي كانت تحته. فلما أراد الانصراف طلب الغلام مني البغلة، فقلت: لا أعطيكها، هو أكرم وأشرف من أن يحملني عليها ثم ينتزعها مني. فقال للغلام: دعه يا بني، ذهبت والله لبابة ببغلة مولاك.
إذا أعجزك أن تطرب القرشي
فغنه غناء ابن سريج في شعر ابن أبي ربيعة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، وأخبرنيه الحسن بن علي عن هارون بن الزيات عن حماد عن أبيه قال حدثني عثمان بن حفص الثقفي عن إبراهيم بن عبد السلام بن أبي الحارث عن ابن تيزن المغنى قال قال أبو نافع الأسود - وكان آخر من بقي من غلمان ابن سريج -: إذا أعجزك أن تطرب القرشي فغنه غناء ابن سريج في شعر عمر بن أبي ربيعة فإنك ترقصه. قال: وأبو نافع هذا أحذق غلمان ابن سريج ومن أخذ عنه، وكان أحسن رواته موتا.
ومنها: صوت
بليلى وجارات لليلـى كـأنـهـا نعاج الملا تحدى بهن الأباعـر
أمنقطع يا عز ما كـان بـينـنـا وشاجرني يا عز فيك الشواجـر
إذا قيل هذا بيت عـزة قـادنـي إليه الهوى واستعجلتني البـوادر
أصد وبي الجنـون لـكـي يرى رواة الخنا أني لبيتـك هـاجـر
ألا ليت حظي منك يا عز أننـي إذا بنت باع الصبر لي عنك تاجر عروضه من الطويل. الشعر لكثير. والغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو. وفيه لابن سريج لحن أوله: أصد وبي مثل الجنون خفيف رمل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
ومنها: صوت
أناخوا فجروا شاصيات كأنهـا رجال من السودان لم يتسربلوا
فقلت اصبحوني لا أبا لأبيكـم وما وضعوا الأثقال إلا ليفعلوا
تمر بها الأيدي سنيجا وبارحـا وترفع باللهم حـي وتـنـزل قال: عروضه من الطويل. الشاصيات: الشائلات قوائمها من امتلائها، يعني الزقاق، يقال: شصا يشصو وشصا ببصره إذا رفعه كالشاخص، وأنشد:
وربرب خمـاص يطعن بالصياصي
ينظر من خصاص بأعين شواصـي
كفلق الرصـاص تسمو إلى القناص الشعر للأخطل، وذكره يأتي في غير هذا الموضع، من قصيدة يمدح بها خالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العيص بن أمية. والغناء لمالك وله فيه لحنان: أحدهما في الأول والثاني رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق، والآخر في الثالث والأول والثاني خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه لابن محرز خفيف ثقيل بالبنصر في مجراها. وفيه رمل آخر لإبراهيم عن عمرو أيضا.
ومنها: صوت
هل تعرف الرسم والأطلال والدمنا وذكر الأبيات الثلاثة وقد تقدمت. عروضه من البسيط. الشعر لذي الإصبع العدواني. والغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر.
ومنه: صوت
كفى حزنا أن تجمع الدار شملنا صوت من المائة المختارة
في رواية جحظة
دعي القلب لا يزدد خبالا مع الذي به منك أو داوي جواه المكتمـا
ومن كان لا يعدو هواه لسـانـه فقد حل في قلبي هواك وخيمـا
وليس بتزويق اللسان وصـوغـه ولكنه قد خالط اللحـم والـدمـا
صفحة : 76
عروضه من الطويل. الشعر للأحوص، وقيل: إنه لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان. والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. وذكر يونس أن لمالك لحنا فيه -
أكلثم فكي عانيا بك مغـرمـا وشدي قوى حبل لنا قد تصرما
فإن تسعفيه مرة بـنـوالـكـم فقد طالما لم ينج منك مسلمـا
كفى حزنا أن تجمع الدار شملنا وأمسي قريبا لا أزورك كلثما وبعده هذه الأبيات التي مضت.
اتفاق المغنين على تفضيل لحن ابن سريج
وليس بتزويق اللسان... الخ
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد وذكر الثقفي عن دحمان قال: تذاكرنا ونحن في المسجد أنا والربيع بن أبي الهيثم الغناء أيه أحسن، فجعل يقول وأقول فلا نجتمع على شيء. فقلت: اذهب بنا إلى مالك بن أبي السمح. فذهبنا إليه فوجدناه في المسجد، فقال: ما جاء بكما? فأخبرناه. فقال: قد جرى هذا بيني وبين معبد وقال وقلت، فجاءني معبد يوما وأنا في المسجد وقال: قد جئتك بشيء لا ترده. فقلت: وما هو? قال: لحن ابن سريج:
وليس بتزويق اللسان وصوغه ولكنه قد خالط اللحم والدمـا ثم قال لي معبد: أسمعكه? قلت: نعم، وأريته أني لم أسمعه قبل، فقال: اسمعه مني؛ فغنى فيه ونحن في المسجد، فما سمعت شيئا قط أحسن منه، فافترقنا وقد اجتمعنا عليه.
وقرأت في فصل لإبراهيم بن المهدي إلى إسحاق الموصلي. وكتبت رقعتي هذه وأنا في غمرة من الحمى تصدف عن المفترضات. ولولا خوفي من تشنيعك وتجنيك لم يكن في للإجابة فضل، غير أني قد تكلفت الجواب على ما الله به عالم من صعوبة علتي وما أقاسيه من الحرارة الحادثة بي.
وليس بتزويق اللسان وصوغه ولكنه قد خالط اللحم والدمـا تفضيل غناء ابن سريج
على غناء معبد ومالك بن أبي السمح
وقال إسحاق حدثني شيخ من موالي المنصور قال: قدم علينا فتيان من بني أمية يريدون مكة، فسمعوا معبدا ومالكا فأعجبوا بهما، ثم قدموا مكة فسألوا عن ابن سريج فوجدوه مريضا، فأتوا صديقا له فسألوه أن يسمعهم غناءه، فخرج معهم حتى دخلوا عليه. فقالوا: نحن فتيان من قريش، أتيناك مسلمين عليك، وأحببنا أن نسمع منك. فقال: أنا مريض كما ترون. فقالوا: إن الذي نكتفي منك به يسير - وكان ابن سريج أديبا طاهر الخلق عارفا بأقدار الناس - فقال: يا جارية، هاتي جلبابي وعودي، فأتته خادمة بخامة فسدلها على وجهه - وكان يفعل ذلك إذا تغنى لقبح وجهه - ثم أخذ العود فغناهم، فأرخى ثوبه على عينيه وهو يغني، حتى إذا اكتوا ألقى عوده وقال: معذرة. فقالوا: نعم، قد قبل الله عذرك فأحسن الله إليك، ومسح ما بك، وانصرفوا يتعجبون مما سمعوا. فمروا بالمدينة منصرفين، فسمعوا من معبد ومالك، فجعلوا لا يطربون لهما ولا يعجبون بهما كما كانوا يطربون. فقال أهل المدينة: نحلف بالله لقد سمعتم بعدنا ابن سريج قالوا: أجل لقد سمعناه فسمعنا ما لم نسمع مثله قط، ولقد نغص علينا ما بعده.
تغني رقطاء الحبطية برمله
في شعر ابن عمارة السلمي
وذكر العتابي أن زكريا بن يحيى حدثه قال حدثني عبد الله بن محمد بن عثمان العثماني عن بعض أهل الحجاز قال: التقى قنديل الجصاص وأبو الجديد بشعب الصفراء، فقال قنديل لأبي الجديد: من أين وإلى أين? قال: مررت برقطاء الحبطية رائحة تترنم برمل ابن سريج في شعر ابن عمارة السلمي: صوت
سقى مأزمي نجد إلى بـئر خـالـد فوادي نصاع فالقرون إلى عـمـد
وجادت بروق الرائحـات بـمـزنة تسح شآبيبا بمـرتـجـز الـرعـد
منازل هند إذ تواصـلـنـي بـهـا ليالي تسبيني بمسـتـطـرف الـود
ينير ظلام الليل من حسن وجهـهـا وتهدي بطيب الريح من جاء من نجد
صفحة : 77
- الغناء لابن سريج رمل بالبنصر عن الهشامي - فزففت خلفها زفيف النعامة، فما انجلت غشاوتي إلا وأنا بالمشاش حسير، فأودعتها قلبي وخلفته لديها، وأقبلت أهوي كالرخمة بغير قلب. فقال لي قنديل: ما دفع أحد من المزدلفة أسعد منك، سمعت شعر ابن عمارة في غناء ابن سريج من رقطاء الحبطية؛ لقد أوتيت جزءا من النبوة. قال: وكانت رقطاء هذه من أضرب الناس؛ فدخل رجل من أهل المدينة منزلها فغنته صوتا. فقال له بعض من حضر: هل رأيت قط أو ترى أفصح من وتر هذه? فطرب المدني وقال: علي العهد إن لم يكن وترها من معي بشكست النحوي، فكيف لا يكون فصيحا وبشكست هذا كان نحويا بالمدينة، وقتل مع الشراة الخارجين مع أبي حمزة صاحب عبد الله بن يحيى الكندي الشاري المعروف بطالب الحق.
غناؤه مخلوق من قلوب الناس جميعا
قال محمد بن الحسن وحدث عن إسحاق عن أبيه أنه كان يقول: غناء كل مغن مخلوق من قلب رجل واحد، وغناء ابن سريج مخلوق من قلوب الناس جميعا. وكان يقول: الغناء على ثلاثة أضرب، فضرب مله مطرب يحرك ويستخف، وضرب ثان له شجا ورقة، وضرب ثالث حكمة وإتقان صنعة.
قال: وكل هذا مجموع في غناء ابن سريج.
تغني ابن سلمة الزهري بغنائه
والتقاء ابن سلمة الزهري والأخضر الجدي ببئر الفصح
قال العتابي وحدثني زكريا بن يحيى عن عبد الله بن محمد العثماني قال: ذكر بعض أصحابنا الحجازيين قال: التقى ابن سلمة الزهري والأخضر الجدي ببئر الفصح، فقال ابن سلمة: هل لك في الاجتماع نستمتع بك? فقال له الأخضر: لقد كنت إلى ذلك مشتاقا، قال: فقعدا يتحدثان، فمر بهما أبو السائب، فقال: يا مطربي الحجاز، ألشيء كان اجتماعكما? فقالا: لغير موعد كان ذلك، أفتؤنسنا? قال: فقعدوا يتحدثون. فلما مضى بعض الليل قال الأخضر لابن سلمة: يا أبا الأزهر، قد ابهار الليل وساعدك القمر، فأوقع بقهقهة ابن سريج وأصب معناك. فاندفع يغني: صوت
تجنت بلا جرم وصدت تغضبـا وقالت لتربيها مقالة عـاتـب
سيعلم هذا أنني بـنـت حـرة سأمنع نفسي من ظنون كواذب
فقولي له عنا تـنـح فـإنـنـا أبيات فحش طاهرات المناسب - الغناء لابن سريج ولم يذكر طريقته - قال: فجعل أبو السائب يزفن ويقول: أبشر حبيبي؛ فلأنت أفضل من شهداء قزوين. قال: ثم قال ابن سلمة للأخضر: نعم المساعد على هم الليل أنت فأوقع بنوح ابن سريج ولا تعد معناك. فاندفع يغني: صوت
فلما التقينا بالحجون تنـفـسـت تنفس محزون الفـؤاد سـقـيم
وقالت وما يرقا من الخوف دمعها أقاطنها أم أنـت غـير مـقـيم
فإنا غدا تحدى بنا العيس بالضحى وأنت بما نلقـاه غـير عـلـيم
فقطع قلبي قولها ثم أسـبـلـت محاجز عيني دمعها بـسـجـوم قال: فجعل أبو السائب يتأفف ويقول: أعتق ما أملك إن لم تكن فردوسية الطينة، وإنها بعلمها لأفضل من آسية امرأة فرعون.
تغني الذلفاء بلحن ابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: بلغني أن أبا دهبل الجمحي قال: كنت أنا وأبو السائب المخزومي عند مغنية بالمدينة يقال لها الذلفاء ، فغنتنا بشعر جميل بن معمر العذري، واللحن لابن سريج: صوت
لهن الوجى لم أكن عونا على النوى ولا زال منها ظالـع وكـسـير
كأني سقيت السم يوم تحـمـلـوا وجد بهم حـاد وحـان مـسـير فقال أبو السائب: يا أبا دهبل، نحن والله على خطر من هذا الغناء، فنسأل الله السلامة وأن يكفينا كل محذور، فما آمن أن يهجم بي على أمر يهتكني. قال: وجعل يبكي.
تأثير غناء ابن سريج في الحاج
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا الزبير بن بكار عن بكار بن رباح عن إسحاق بن مقمة عن أمه قالت: سمعت ابن سريج على أخشب منى غداة النفر وهو يغني:
جدوي الوصل يا قريب وجودي لمحب فـراقـه قـد ألـمـا
ليس بين الحياة والـمـوت إلا أن يردوا جمالهم فـتـرمـا
صفحة : 78
- ونسبة هذا الصوت تأتي بعد هذه الأخبار - قالت: فما تشاء أن تسمع من خباء ولا مضرب حنينا ولا أنينا إلا سمعته.
مذاكرة ابن المهدي وإسحاق في تفضيله
وذكر يوسف بن إبراهيم أنه حضر إسحاق بن إبراهيم الموصلي ليلة وهو يذاكر إبراهيم بن المهدي، إلى أن قال إسحاق في بعض مخاطبته إياه: هذا صوت قد تمعبد فيه ابن سريج. فقال له إبراهيم: ما ظننت أنك يا أبا محمد مع علمك وتقدمك تقول مثل هذا في ابن سريج، فكيف يجوز أن تقول: تمعبد ابن سريج، وإنما معبد إذا أحسن قال: أصبحت سريجيا قد أغنى الله ابن سريج عن هذا ورفع قدره عن مثله، وأعيذك بالله أن تستشعر مثله في ابن سريج. قال: فما رأيت إسحاق دفع ذلك ولا أباه، ولا زاد على أن قال: هي كلمة يقولها الناس، لم أقلها اعتقادا لها فيه، وإنما تكلمت بها على العادة.
اعتراف معبد له بالتفوق أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا محمد بن سلام قال: قال لي شعيب بن صخر: كان معبد إذا غنى فأجاد قال: أنا اليوم سريجي.
كان المغنون يغنون فإذا جاء سكتوا حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن سلام قال حدثنا شعيب بن صخر قال: كان نعمان المغني عندي نازلا، وكان يغني، وكنت أراه يأتيه قوم. قال أبو عبد الله: فقلت له: فأيهم كان أحذق? قال: لا أدري، إلا أنهم كانوا إذا جاء ابن سريج سكتوا.
الأحوص وابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني الهيثم بن عياش قال حدثني عبد الرحمن بن عيينة قال: بينما نحن بمنى ونحن نريد الغدو إلى عرفات، إذ أتانا الأحوص فقال: أبيت بكم الليلة? قلنا: بالرحب والسعة. فلما جنه الليل لم يلبث أن غاب عنا ثم عاد ورأسه يقطر ماء. قلت: ما لك? قال: صوت
تعرض سلماك لمـا حـرم ت ضل ضلالك من محرم
تريد بـه الـبـر يا لـيتـه كفافا من البر والـمـأثـم - الغناء لابن سريج ولم يجنسه - قال قلت: زنيت ورب الكعبة قال: قل ما بدا لك. ثم لقي ابن سريج فقال: إني قد قلت بيتين حسنين أحب أن تغنيني بهما. قال: ما هما? فأنشده إياهما؛ فغنى بهما من ساعته، ففتن من حضر ممن سمع صوته.
ارتحال جرير إلى مكة ليسمع غناءه
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني إسحاق بن يحيى بن طلحة قال: قدم جرير بن الخطفي المدينة ونحن يومئذ شباب نطلب الشعر، فاحتشدنا له ومعنا أشعب. فبينا نحن عنده إذ قام لحاجة وأقمنا لم نبرح. وجاء الأحوص بن محمد الشاعر من قباء على حمار فقال: أين هذا? فقلنا: قام لحاجة، فما حاجتك إليه? قال: أريد والله أن أعلمه أن الفرزدق أشعر منه وأشرف. قلنا: ويحك لا تعرض له وانصرف، فانصرف وخرج. فجاء جرير فلم يكن بأسرع من أن أقبل الأحوص الشاعر فأقبل عليه، فقال: السلام عليك يا جرير. قال جرير: وعليك السلام. فقال الأحوص: يابن الخطفى، الفرزدق أشرف منك وأشعر. قال جرير: من هذا أخزاه الله قلنا: الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح. فقال: نعم هذا الخبيث ابن الطيب، أأنت القائل:
يقر بعيني ما يقر بـعـينـهـا وأحسن شيء ما به العين قرت قال نعم. قال: فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر، أفيقر ذلك بعينك? قال: وكان الأحوص يرمى بالحلاق فانصرف، فبعث إليهم بتمر وفاكهة. وأقبلنا على جرير نسائله، وأشعب عند الباب وجرير في مؤخر البيت، فألح عليه أشعب يسأل. فقال: والله إني لأراك أقبحهم وجها وأراك ألأمهم حسبا؛ فقد أبرمتني منذ اليوم. قال: إني والله أنفعهم وخيرهم لك. فانتبه جرير وقال: ويحك كيف ذاك? قال: إني أملح شعرك وأجيد مقاطعه ومبادئه. فقال: قل، ويحك فاندفع أشعب فنادى بلحن ابن سريج:
يا أخت ناجية السلام عليكـم قبل الرحيل وقبل عدل العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل
صفحة : 79
فطرب جرير وجعل يزحف نحوه حتى ألصق بركبته ركبته، وقال: لعمري لقد صدقت، إنك لأنفعهم لي وقد حسنته وأجدته وزينته، أحسنت والله، ثم وصله وكساه. فلما رأينا إعجاب جرير بذلك الصوت، قال له بعض أهل المجلس: فكيف لو سمعت واضع هذا الغناء? قال: أو إن له لواضعا غير هذا? فقلنا نعم. قال: فأين هو? قلنا: بمكة قال: فلست بمفارق حجازكم حتى أبلغه. فمضى ومضى معه جماعة ممن يرغب في طلب الشعر في صحابته وكنت فيهم، فأتيناه جميعا، فإذا هو في فتية من قريش كأنهم المها مع ظرف كثير، فأدنوا ورحبوا وسألوا عن الحاجة، فأخبرناهم الخبر، فرحبوا بجرير وأدنوه وسروا بمكانه، وأعظم عبيد بن سريج موضع جرير وقال: سل ما تريد جعلت فداءك قال: أريد أن تغنيني لحنا سمعته بالمدينة أزعجني إليك. قال: وما هو? قال:
يا أخت ناجية السلام عليكـم قبل الرحيل وقبل عذل العذل فغناه ابن سريج وبيده قضيب يوقع به وينكت، فوالله ما سمعت شيئا قط أحسن من ذلك. فقال جرير: لله دركم يا أهل مكة، ما أعطيتم والله لو أن نازعا نزع إليكم ليقيم بين أظهركم فيسمع هذا صباح مساء لكان أعظم الناس حظا ونصيبا، فكيف ومع هذا بيت الله الحرام، ووجوهكم الحسان، ورقة ألسنتكم، وحسن شارتكم، وكثرة فوائدكم أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن جده إبراهيم قال: الوليد بن عبد الملك وابن سريج
كتب الوليد بن عبد الملك إلى عامل مكة أن أشخص إلي ابن سريج، فأشخصه. فلما قدم مكث أياما لا يدعو به ولا يلتفت إليه. قال: ثم إنه ذكره، فقال: ويلكم أين ابن سريج? قالوا: هو حاضر. قال: علي به. فقالوا: أجب أمير المؤمنين. فتهيأ ولبس وأقبل حتى دخل عليه فسلم. فأشار إليه أن اجلس، فجلس بعيدا . فاستدناه فدنا حتى كان منه قريبا، وقال: ويحك يا عبيد لقد بلغني عنك ما حملني على الوفادة بك من كثرة أدبك وجودة اختيارك مع ظرف لسانك وحلاوة مجلسك. فقال: جعلت فداءك يا أمير المؤمنين تسمع بالمعيدي خير من أن تراه . قال الوليد: إني لأرجو ألا تكون أنت ذاك، ثم قال: هات ما عندك. فاندفع ابن سريج فغنى بشعر الأحوص:
أمنزلتي سلمى على القدم اسلـمـا فقد هجتما للشوق قلبـا مـتـيمـا
وذكرتما عصر الشباب الذي مضى وجدة وصل حبله قـد تـجـذمـا
وإني إذا حلـت بـبـيش مـقـيمة وحل بوج جالسـا أو تـتـهـمـا
يمانية شطت فأصبـح نـفـعـهـا رجاء وظنا بالمغـيب مـرجـمـا
أحب دنو الدار منـهـا وقـد أبـى بها صدع شعب الدار إلا تثـلـمـا
بكاها وما يدري سوى الظن من بكى أحيا يبكى أم ترابـا وأعـظـمـا
فدعها وأخلف للـخـلـيفة مـدحة تزل عنك بؤس أو تفيدك أنعـمـا
فإن بكـفـيه مـفـاتـيح رحـمة وغيث حيا يحيا به الناس مرهـمـا
إمام أتاه الملك عـفـوا ولـم يثـب على ملكه مالا حـرامـا ولا دمـا
تخيره رب العـبـاد لـخـلـقـه وليا وكان الله بالنـاس أعـلـمـا
فلما قضاه الله لم يدع مـسـلـمـا لبـيعـتـه إلا أجـاب وسـلـمـا
ينال الغنى والعـز مـن نـال وده ويرهب موتا عاجلا من تـشـأمـا فقال الوليد: أحسنت والله وأحسن الأحوص علي بالأحوص. ثم قال: يا عبيد هيه فغناه بشعر عدي بن الرقاع العاملي يمدح الوليد: صوت
طار الكرى وألم الهم فاكتـنـعـا وحيل بيني وبين النوم فامتنـعـا
كان الشباب قناعا أسـتـكـن بـه وأستظل زمانا ثمت انقـشـعـا
فاستبدل الرأس شيبا بعـد داجـية فينانة ما ترى في صدغها نزعـا
فإن تكن ميعة من باطل ذهـبـت وأعقب الله بعد الصبوة الورعـا
فقد أبيت أراعي الـخـود راقـدة على الوسائد مسرورا بها ولـعـا
براقة الثغر تشفي القلب لذتـهـا إذا مقبلها في ريقـهـا كـرعـا
كالأقحوان بضاحي الروض صبحه غيث أرش بتنضاح وما نـقـعـا
صفحة : 80
صلى الذي الصلوات الطيبات له والمؤمنون إذا ما جمعوا الجمعا
على الذي سبق الأقوام ضاحـية بالأجر والحمد حتى صاحباه معا
هو الذي جمع الرحمن أمـتـه على يديه وكانوا قبلـه شـيعـا
عذنا بذي العرش أن نحيا ونفقده وان نكون لراع بعده تـبـعـا
إن الوليد أمير المؤمـنـين لـه ملك عليه أعان الله فارتفـعـا
لا يمنع الناس ما أعطى الذين هم له عباد ولا يعطون ما منـعـا فقال له الوليد: صدقت يا عبيد أنى لك هذا? قال: هو من عند الله. قال الوليد: لو غير هذا قلت لأحسنت أدبك. قال ابن سريج: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال الوليد: يزيد في الخلق ما يشاء. قال ابن سريج: هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر. قال الوليد: لعلمك والله أكبر وأعجب إلي من غنائك غنني. فغناه بشعر عدي بن الرقاع العاملي يمدح الوليد:
عرف الديار توهما فاعتـادهـا من بعد ما شمل البلى أبلادهـا
ولرب واضحة العوارض طفلة كالريم قد ضربت بها أوتادهـا
إني إذا ما لم تصلني خـلـتـي وتباعدت مني اغتفرت بعادهـا
صلى الإله على امرىء ودعته وأتم نعمتـه عـلـيه وزادهـا
وإذا الربيع تتابـعـت أنـواؤه فسقى خناصرة الأحص فجادها
نزل الوليد بها فكان لأهـلـهـا غيثا أغاث أنيسهـا وبـلادهـا
أولا ترى أن البـرية كـلـهـا ألقت خزائمها إليه فـقـادهـا
ولقد أراد الـلـه إذ ولاكـهـا من أمة إصلاحها ورشـادهـا
أعمرت أرض المسلمين فأقبلت وكففت عنها من يروم فسادها
وأصبت في أرض العدو مصيبة عمت أقاصي غورها ونجادها
ظفرا ونصرا ما تناول مثـلـه أحد من الخلفاء كـان أرادهـا
فإذا نشرت له الثنـاء وجـدتـه جمع المكارم طرفها وتلادهـا
صفحة : 81
فأشار الوليد إلى بعض الخدم، فغطوه بالخلع ووضعوا بين يديه كيسا من الدنانير وبدرا من الدراهم، ثم قال الوليد بن عبد الملك: يا مولى بني نوفل بن الحارث، لقد أوتيت أمرا جليلا. فقال ابن سريج: يا أمير المؤمنين لقد آتاك الله ملكا عظيما وشرفا عاليا، وعزا بسط يدك فيه فلم يقبضه عنك ولا يفعل إن شاء الله. فأدام الله لك ما ولاك، وحفظك فيما استرعاك، فإنك أهل لما أعطاك، ولا نزعه منك إذ رآك له موضعا. قال: يا نوفلي، وخطيب أيضا قال ابن سريج: عنك نطقت، وبلسانك تكلمت، وبعزك بينت. وقد كان أمر بإحضار الأحوص بن محمد الأنصاري وعدي بن الرقاع العاملي. فلما قدما عليه أمر بإنزالهما حيث ابن سريج، فأنزلا منزلا إلى جنب ابن سريج. فقالا: والله لقرب أمير المؤمنين كان أحب إلينا من قربك يا مولى بني نوفل، وإن في قربك لما يلذنا ويشغلنا عن كثير مما نريد. فقال لهما ابن سريج: أو قلة شكر فقال له عدي: كأنك يابن اللخناء تمن علينا علي وعلي إن جمعنا وإياك سقف بيت أو صحن دار إلا عند أمير المؤمنين. وأما الأحوص فقال: أو لا تحتمل لأبي يحيى الزلة والهفوة وكفارة يمين خير من عدم المحبة، وإعطاء النفس سؤلها خير من لجاج في غير منفعة فتحول عدي، وبقي عنده الأحوص. وبلغ الوليد ما جرى بينهم، فدعا ابن سريج وأدخله بيتا وأرخى دونه سترا، ثم أمره إذا فرغ الأحوص وعدي من كلمتيهما أن يغنى. فلما دخلا وأنشداه مدائح فيه، رفع ابن سريج صوته من حيث لا يرونه وضرب بعوده. فقال عدي: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي أن أتكلم? فقال: قل يا عاملي. قال: أمثل هذا عند أمير المؤمنين، ويبعث إلى ابن سريج يتخطى به رقاب قريش والعرب من تهامة إلى الشأم، ترفعه أرض وتخفضه أخرى فيقال: من هذا. فيقال: عبيد بن سريج مولى بني نوفل بعث أمير المؤمنين إليه، ليسمع غناءه فقال: ويحك يا عدي أو لا تعرف هذا الصوت? قال: لا، والله ما سمعته قط ولا سمعت مثله حسنا، ولولا أنه في مجلس أمير المؤمنين لقلت: طائفة من الجن يتغنون. فقال: اخرج عليهم، فخرج فإذا ابن سريج. فقال عدي: حق لهذا أن يحمل حق لهذا أن يحمل - ثلاثا - ثم أمر لهما بمثل ما أمر به لابن سريج، وارتحل القوم. وكان الذي غناه ابن سريج من شعر عمر بن أبي ربيعة:
بالله يا ظبي بني الـحـارث هل من وفى بالعهد كالناكث
لا تخدعني بالمنى بـاطـلا وأنت بي تلعب كالعـابـث
حتى متى أنت لنـا هـكـذا نفسي فداء لك يا حـارثـي
يا منتهى همي ويا منـيتـي ويا هوى نفسي ويا وارثـي عتاب الناس له في صنعة الغناء
ثم رجوعهم بعد أن يسمعوا صوته
قال: وبلغني أن رجلا من الأشراف من قريش من موالي ابن سريج عاتبه يوما على الغناء وأنكره عليه، وقال له: لو أقبلت على غيره من الآداب لكان أزين بمواليك وبك فقال: جعلت فداك امرأته طالق إن أنت لم تدخل الدار. فقال الشيخ: ويحك ما حملك على هذا? قال: جعلت فداك قد فعلت. فالتفت النوفلي إلى بعض من كان معه متعجبا مما فعل. فقال له القوم: قد طلقت امرأته إن أنت لم تدخل الدار. فدخل ودخل القوم معه. فلما توسطوا الدار قال: امرأته طالق إن أنت لم تسمع غنائي. قال: اغرب عني يا لكع ثم بدر الشيخ ليخرج. فقال له أصحابه: أتطلق امرأته وتحمل وزر ذلك? قال: فوزر الغناء أشد. قالوا: كلا ما سوى الله عز وجل بينهما. فأقام الشيخ مكانه. ثم اندفع ابن سريج يغني في شعر عمر بن أبي ربيعة في زينب:
أليست بالتي قالـت لمولاة لها ظهـرا
أشيري بالسلام لـه إذا هو نحونا خطرا
وقولي في ملاطـفة لزينب نولي عمـرا
أهذا سحرك النسـوا ن قد خبرنني الخبرا فقال للجماعة: هذا والله حسن ما بالحجاز مثله ولا في غيره. وانصرفوا.
صفحة : 82
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال: قال عبد الله بن عمير الليثي لابن سريج: لو تركت الغناء وعاتبه على ذلك. فقال: جعلت فداك لو سمعته ما تركته. ثم قال: امرأته طالق ثلاثا إن لم تدخل الدار حتى تسمع غنائي. فالتفت عبد الله إلى رفيق له كان معه فقال: ما تنتظر? ادخل بنا وإلا طلقت امرأة الرجل. فدخلا مع ابن سريج، فغنى بشعر الأحوص: صوت
لقد شاقك الحي إذ ودعوا فعينك في إثرهم تدمع
وناداك للبين غربـانـه فظلت كأنك لا تسمـع ثم قال: امرأته طالق إن أنت لم تستحسنه لأتركنه. فتبسم عبد الله وخرج.
نسبة ما في هذه الأخبار من الأصوات منها: الصوت الذي أوله في الخبر:
جددي الوصل يا قريب وجودي أوله: صوت
إن طيف الخيال حـين ألـمـا هاج لي ذكرة وأحدث هـمـا
جددي الوصل يا قريب وجودي لمحب فـراقـه قـد ألـمـا
ليس بين الحياة والـمـوت ألا أن يردوا جمالهـم فـتـزمـا
ولقد قلت مخفـيا لـغـريض هل ترى ذلك الغزال الأحمـا
هل ترى مثله من الناس شخصا أكمل الناس صـورة وأتـمـا عروضه من الخفيف. الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. وفيه للغريض أيضا ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير قال: أنشد جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين قول عمر:
ليس بين الحياة والموت إلا أن يردوا جمالهم فتزمـا فطرب وارتاح وجعل يقول: لقد عجلوا البين، أفلا يوكون قربة أفلا يودعون صديقا أفلا يشدون رحلا حتى جرت دموعه.
وحدثنا الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير فذكر مثله.
ومنها: صوت
يا أخت ناجية السلام عليكـم قبل الرحيل وقبل عذل العذل
لو كنت أعلم أن آخر عهدكم يوم الرحيل فعلت ما لم أفعل عروضه من الكامل. الشعر لجرير. والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكي، وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد. وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن ابن المكي أيضا. ومما يشك فيه أنه لمعبد أو لكردم ابنه في البيت الثاني والأول ثاني ثقيل. ولعريب في هذين البيتين لحن من رواية ابن المعتز غير مجنس.
ومنها: صوت
أمنزلتي سلمى على القدم أسلـمـا فقد هجتما للشوق قلبا مـتـيمـا
وذكرتما عصر الشباب الذي مضى وجدة وصل حبله قد تـجـذمـا عروضه من الطويل. والشعر للأحوص. والغناء لكردم ثاني ثقيل بالوسطى، وقيل: إن هذا الثقيل الثاني لمحمد الرف، وإن فيه لحنا من الثقيل الأول لكردم.
ومنها: صوت
عرف الديار توهما فاعتادهـا من بعد ما شمل البلى أبلادها
إلا رواكد كلهن قد اصطلـى حمراء أكثر أهلها إيقادهـا عروضه من الكامل. الشعر لعدي بن الرقاع العاملي. والغناء لابن محرز ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لمالك ثقيل أول بالبنصر عن عمرو. وفيه لحن لإبراهيم، وفي هذه الأخبار أنه لابن سريج، وذكر حماد في كتاب ابن محرز أنه مما ينسب إلى ابن مسجح، أو إلى ابن محرز.
ومنها: صوت
بالله يا ظبي بني الـحـارث هل من وفى بالعهد كالناكث
لا تخدعني بالمنى بـاطـلا وأنت بي تلعب كالعـابـث عروضه من السريع. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج ولحنه خفيف ثقيل أول بالوسطى، وذكر عمرو بن بانة أنه لسياط. وذكر الهشامي وبذل أن فيه لإبراهيم الموصلي لحنا آخر. وفيه خفيف رمل بالبنصر ذكر حبش أنه لإبراهيم بن المهدي، وغيره ينسبه إلى إسحاق.
ومنها: صوت
- وهو الذي أوله في الخبر:
أليست بالتي قالـت لمولاة لها ظهـرا
تصابى القلب فادكرا هواه ولم يكن ظهرا
لزينب إذ تجد لـنـا صفاء لم يكن كدرا
صفحة : 83
أليست بالتي قـالـت لمولاة لها ظـهـرا
أشيري بالسـلام لـه إذا هو نحونا نظـرا
وقولي في مـلاطـفة لزينب نولي عـمـرا
فهزت رأسها عجـبـا وقالت من بذا أمـرا
أهذا سحرك النـسـوا ن قد خبرنني الخبـرا
طربت ورد من تهوى جمال الحي فابتكـرا
فقل للـبـربـرية لا تلومي القلب إن جهرا
بطرت وهكذا الإنسـا ن ذو بطر إذا ظفـرا
فأين العهد والـمـيثـا ق لا تخبر بنا بشـرا عروضه من الوافر. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج في الثالث والرابع والخامس والأول خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وللغريض في السابع والثامن والأول لحن من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالوسطى في مجراها عن إسحاق. ولمعبد في هذا الأبيات كلها لحن عن يونس ودنانير ولم يجنساه، وذكر الهشامي أنه خفيف ثقيل. وفي السابع والثامن والتاسع رمل لدحمان، ويقال إنه للزبير ابنه ولمالك لحن أوله: صوت
لقد أرسلت جـاريتـي وقلت لها خذي حذرك
وقولي في مـلاطـفة لزينب نولي عمـرك
فهزت رأسها عجـبـا وقالت من بذا أمـرك
أهذا سحرك النـسـوا ن قد خبرنني خبـرك ولحن مالك هذا خفيف ثقيل بالوسطى من رواية ابن المكي. وهذا يروي الشعر ويجعل قوافيه كلها على الكاف. وفي هذا الأبيات بعينها على هذا القافية خفيف رمل ينسب إلى ابن سريج وإلى الغريض. وذكر حبش أن فيه لمعبد لحنا من الرمل أوله الثالث من الأبيات الأول المذكورة.
رجع الخبر إلى أحاديث ابن سريج
ابن سريج أحسن الناس غناء
أخبرنا يحيى بن علي ووكيع وجحظة قالوا: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: قال لي الفضل بن يحيى: سألت أباك ليلة وقد أخذ منه الشراب عن أحسن الناس غناء، فقال لي؛ من النساء أم من الرجال? قلت: من الرجال. قال: ابن محرز. فقلت: فمن النساء? قال: ابن سريج، قال إسحاق لي: ويقال أحسن الرجال غناء من تشبه بالنساء، وأحسن النساء غناء من تشبه بالرجال. قال يحيى بن علي خاصة: ثم كان ابن سريج كأنه خلق من قلب كل واحد، فهو يغني له بما يشتهي.
ابن سريج ببعض أندية مكة
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد: قرأت على أبي عن الهيثم بن عدي قال: قال ابن سريج: مررت ببعض أندية مكة وفيه جماعة، فحضرت فقلت: كيف أجوزهم مع تعبي وما أنا فيه فسمعتهم يقولون: قد جاء ابن سريج، فقال بعضهم ممن لم يعرفني: ومن ابن سريج? فقال: الذي يغني:
ألا هل هاجك الأظعا ن إذ جاوزن مطلحا قال ابن سريج: فلما سمعت ذلك قويت نفسي واشتدت منتي، ومررت بهم أخطر في مصبغاتي. فلما حاذيتهم قاموا بأجمعهم فسلموا علي، ثم قالوا لأحداثهم: امشوا مع أبي يحيى.
ابن سريج مع فتية من بني مروان
وقد حدثني عمي بهذا الخبر فقال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن سلام عن جرير قال: قال لي ابن سريج: دعاني فتية من بني مروان، فدخلت إليهم وأنا في ثياب الحجاز الغلاظ الجافية، وهم في القوهي والوشي يرفلون كأنهم الدنانير الهرقلية، فغنيتهم وأنا محتقر لنفسي عندهم لحنا لي، وهو: صوت
أبا لفرع لم تظعن مع الحي زينب بنفسي عن النأي الحبيب المغيب
بوجهك عن مس التراب مضـنة فلا تبعدي إذ كل حي سيعطـب - ولحن ابن سريج هذا رمل بالخنصر في مجرى البنصر - قال: فتضاءلوا في عيني حتى ساويتهم في نفسي لما رأيتهم عليه من الإعظام لي. ثم غنيتهم:
ودع لبابة قبل أن تترحـلا واسأل فإن قلاله أن تسألا فطربوا وعظموني وتواضعوا لي، حتى صرت في نفسي بمنزلتهم لما رأيتهم عليه، وصاروا في عيني بمنزلتي. ثم غنيتهم:
ألا هل هاجك الأظعا ن إذ جاوزن مطلحا فطربوا ومثلوا بين يدي ورموا بحللهم كلها حتى غطوني بها، فمثلت لي نفسي أنها نفس الخليفة وأنهم لي خول، فما رفعت طرفي إليهم بعد ذلك تيها. وقد مضت نسبة ودع لبابة في أخبار عمر بن أبي ربيعة وغيره. وأما:
صفحة : 84
ألا هل هاجك الأظعا ن...... فنذكر نسبته: نسبة هذا الصوت صوت
ألا هل هاجك الأظعـا ن إذ جاوزن مطلـحـا
نعم ولو شك بـينـهـم جرى لك طائر سنحـا
أجزن الماء من ركـك وضوء الفجر قد وضحا
فقلن مقـيلـنـا قـرن نباكر ماءه صـبـحـا
تبعتهم بطرف الـعـي ن حتى قيل لي افتضحا
يودع بعضنا بـعـضـا وكل بالهوى جـرحـا
فمن يفـرح بـينـهـم فغيري إذ غدوا فرحـا عروضه من الوافر. الشعر لأبي دهبل الجمحي. والغناء لمالك وله فيه لحنان: ثقيل أول بالبنصر عن إسحاق، وخفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. ولمعبد فيه ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى . ولابن سريج في الخامس وما بعده ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.
مدح جرير الشاعر لغناء ابن سريج
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: قدم جرير المدينة أو مكة فجلس مع قوم، فجعلوا يعرضون عليه غناء رجل رجل من المغنين، حتى غنوه لابن سريج، فطرب وقال: هذا أحسن ما أسمعتموني من الغناء كله.
قالوا: وكيف قلت ذاك يا أبا حزرة? قال: مخرج كل ما أسمعتموني من الغناء من الرأس، ومخرج هذا من الصدر.
غناء رقطاء الحبطية وصفراء العلقمية
وتحكيم الأفلح المخزومي في ذلك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبي قال حدثني إبراهيم بن محمد الشافعي قال: جاء سندة الخياط المغني إلى الأفلح المخزومي - وكان يوصف بعقل وفضل - فقال له: من أين أقبلت? وإلى أين تمضي? فقال: إليك قصدت من مجلس لبعض القرشيين أقبلت محاكما إليك. قال: فيماذا? قال: كنت عند هذا الرجل وحضرت مجلسه رقطاء الحبطيين، وصفراء العلقميين، فتناولتا بينهما رمل ابن سريج:
ليت شعري كيف أبقى ساعة مع ما ألقى إذا الليل حضر
من يذق نوما ويهدأ لـيلـه فلقد بدلت بالنوم السـهـر
قلت مهلا إنـهـا جـنـية إن نخالطها تفز منها بشـر فغنتاه جميعا، واختلفتا في تفضيلهما، ففضل كل فريق منا إحداهما، فرضينا جميعا بحكمك، فاحكم بيننا وبينهما. قال: فوجم ساعة - وأهل الحجاز إذا أرادوا أن يحكموا تأملوا ساعة ثم حكموا، فإذا حكم المحكم مضى حكمه كائنا ما كان، ففضل من فضله وأسقط من أسقطه، إذا تراضى الخصمان به - فكره الأفلح أن يرضي قوما ويسخط آخرين، فقال لسندة: صفهما أنت لي كيف كانتا إذ غنتاه واشرح لي مذهبهما فيه كما سمعت، وأنا أحكم بعد ذلك. فقال: سندة أما جارية الحبطيين، فإنها كانت تلوك لحنه كما يلوك الفرس العتيق لجامه، ثم تلقيه في هامة لدنة ثم تخرجه من منخر أغن، والله ما ابتدأته فتوسطته وأنا أعقل، ولا فرغت منه فأفقت إلا وأنا أظن أني رأيته في نومي. وأما صفراء العلقميين، فإنها أحسنهما حلقا، وأصحهما صوتا، وألينهما تثنيا، والله ما سمعها أحد قط فانتفع بنفسه ولا دينه. هذا ما عندي، فاحكم أنت يا أخا بني مخزوم. فقال: قد حكمت بأنهما بمنزلة العينين في الرأس، فبأيهما نظرت أبصرت، ولو كان في الدنيا من عبيد بن سريج خلف لكانتا. قال: فانصرفوا جميعا راضين بحكمه.
ثناء جرير المديني على ابن سريج
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام قال: سألت جرير المديني عن ابن سريج، فقال: أتذكره ويحك باسمه، ولا تقول: سيد من غنى وواحد من ترنم ثناء الشعبي عليه
قال حماد وحدثني أبي عن هارون بن مسلم عن محمد بن زهير السعدي الكوفي عن أبي بكر بن عياش عن الحسن بن عمرو الفقيمي قال: دخلت على الشعبي، فبينا أنا عنده في غرفته، إذ سمعت صوت غناء، فقلت: أهذا في جوارك? فأشرف بي على منزله، فإذا بغلام كأنه فلقة قمر وهو يتغنى - قال إسحاق: وهذا الغناء لابن سريج -:
وقمير بدا ابن خمس وعشري ن له قالت الفتاتان قـومـا قال: فقال لي الشعبي: أتعرف هذا? قلت لا. فقال: هذا الذي أوتي الحكم صبيا، هذا ابن سريج.
ثناؤه على نفسه في تغنيه بشعر لعمر
صفحة : 85
وأخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المديني قال: حدثني الهشامي الربعي عن إسحاق الموصلي قال: تغنى ابن سريج في شعر لعمر بن أبي ربيعة وهو: صوت
خانك من تهوى فلا تخنه وكن وفيا إن سلوت عنه
واسلك سبيل وصله وصنه إن كان غدارا فلا تكنـه
عسى تباريح تجيء منـه فيرجع الوصل ولم تشنه قال المكيون: قال ابن سريج: ما تغنين بهذا الشعر قط إلا ظننت أني أحل محل الخليفة.
قال مؤلف هذا الكتاب أبو الفرج الأصفهاني: وجدت في هذا الشعر لحنين - أحدهما ثقيل أول والآخر رمل - مجهولين جميعا، فلا أدري أيهما لحنه.
وصفه للمصيب المحسن من المغنين
ونسخت من كتاب العتابي: أخبرني عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع عن جده الفضل عن ابن جامع عن سياط عن يونس الكاتب عن مالك بن أبي السمح قال: سألت ابن سريج عن قول الناس: فلان يصيب وفلان يخطىء، وفلان يحسن وفلان يسيء؛ فقال: المصيب المحسن من المغنين هو الذي يشبع الألحان، ويملأ الأنفاس، ويعدل الأوزان، ويفخم الألفاظ، ويعرف الصواب، ويقيم الإعرب، ويستوفي النغم الطوال، ويحسن مقاطيع النغم القصار، ويصيب أجناس الإيقاع، ويختلس مواقع النبرات، ويستوفي ما يشاكلها في الضرب من النقرات. فعرضت ما قال على معبد، فقال: لو جاء في الغناء قرآن ما جاء إلا هكذا.
يزيد بن عبد الملك ومولى حبابة المغنية
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثني الزبير بن بكار عن ظبية: أن يزيد بن عبد الملك قال لحبابة يوما: أتعرفين أحدا هو أرب مني? قالت: نعم، مولاي الذي باعني. فأمر بإشخاصه فأشخص إليه مقيدا، وأعلم بحاله فأذن في إدخاله، فمثل بين يديه وحبابة ولاسمة تغنيان؛ فغنته سلامة لحن الغريض في:
تشط غدا دار جيراننا فطرب وتحرك في أقياده. ثم غنته حبابة لحن ابن سريج المجرد في هذا الشعر، فوثب وجعل يحجل في قيده ويقول: هذا وأبيكما ما لا تعذلاني فيه، حتى دنا من الشمعة فوضع لحيته عليها فاحترقت، وجعل يصيح: الحريق الحريق يا أولاد الزنا. فضحك يزيد وقال: هذا والله أطرب الناس حقا، ووصله وسرحه إلى بلده.
سماع عطاء وابن جريج لغناء ابن سريج
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق: أن ابن سريج كان جالسا فمر به عطاء وابن جريج، فحلف عليهما بالطلاق أن يغنيهما، على أنهما إن نهياه عن الغناء بعد أن يسمعا منه تركه. فوقفا له وغناهما:
إخوتي لا تبعدوا أبدا وابلى والله قد بعدوا فغني على ابن جريج، وقام عطاء فرقص. ونسبة هذا الصوت وخبره يذكر في موضع آخر.
غناؤه ووقفة الحاج لاستماعه
عند بستان ابن عامر
أخبرني الحسن قال حدثنا الفضل عن إسحاق: أن ابن سريج كان عند بستان ابن عامر يغني:
لمن نار بأعلى الخـي ف دون البئر ما تخبو
أرقت لذكر موقعهـا فحن لذكرها القلـب
إذا ما أخمدت ألقـي عليها المندل الرطب فجعل الحاج يركب بعضهم بعضا، حتى جاء إنسان من آخر القطرات فقال: يا هذا قد قطعت على الحاج وحبستهم، والوقت قد ضاق، فاتق الله وقم عنهم فقام وسار الناس.
استحقاق ابن سريج لجائزة سليمان
أخبرني الحسن قال حدثني محمد بن زكريا قال حدثني يزيد بن محمد عن إسحاق الموصلي: أن سليمان بن عبد الملك لما حج سبق بين المغنين بدرة. فجاء ابن سريج وقد أغلق الباب، فلم يأذن له الحاجب، فأمسك حتى سكتوا وغنى:
سرى همي وهم المرء يسري فأمر سليمان بدفع البدرة إليه.
نسبة هذا الصوت صوت
سرى همي وهم المرء يسري وغاب النجم إلا قيس فـتـر
أراقب في المجرة كل نجـم تعرض للمجرة كيف يجري
لهـم لا أزال لـه مـديمـا كأن القلب أسعر حر جمـر
على بكر أخي ولى حـمـيدا وأي العيش يصفو بعد بكـر الشعر لعروة بن أذينة، والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى، وفيه لأبي عباد رمل بالوسطى، وذكر الهشامي أن هذا اللحن لصاحب الحرون.
وفاة ابن سريج في خلافة سليمان
صفحة : 86
ابن عبد الملك أو في آخر خلافة الوليد
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: قال ابن مقمة: دخلت على ابن سريج في مرضه الذي مات فيه، فقلت: كيف أصبحت يا أبا يحيى? فقال: أصبحت والله كما قال الشاعر:
كأني من تذكر ما ألاقي إذا ما أظلم الليل البهـيم
سقيم مل منه أقـربـوه وأسلمه المداوي والحميم ثم مات.
قال إسحاق: قال ابن مقمة: لما احتضر ابن سريج نظر إلى ابنته تبكي فبكى، وقال: إن من أكبر همي أنت، وأخشى أن تضيعي بعدي. فقالت: لا تخف؛ فما غنيت شيئا إلا وأنا أغنيه. فقال: هاتي. فاندفعت تغني أصواتا وهو مصغ إليها، فقال: قد أصبت ما في نفسي، وهونت علي أمرك. ثم دعا سعيد بن مسعود الهذلي فزوجه إياها؛ فأخذ عنها أكثر غناء أبيها وانتحله؛ فهو الآن ينسب إليه. قال إسحاق: فقال كثير بن كثير السهمي يرثيه:
ما اللهو بعد عبيد حين يخـبـره من كان يلهو به منه بمطلـب
لله قبر عبيد ما تضـمـن مـن لذاذة العيش والإحسان والطرب
لولا الغريض ففيه من شمائلـه مشابه لم أكن فيها بـذي أرب قال إسحاق: وحدثني هشام بن المرية أن قادما قدم المدينة فسار معبدا بشيء، فقال معبد: أصبحت أحسن الناس غناء. فقلنا: أو لم تكن كذلك? فقال: ألا تدرون ما أخبرني به هذا? قالوا لا. قال: أعلمني أن عبيد بن سريج مات، ولم أكن أحسن الناس غناء وهو حي. وفي ابن سريج يقول عمر بن أبي ربيعة: صوت
قالت وعيناها تجودانـهـا صوحبت والله لك الراعي
يابن سريج لا تذع سرنـا قد كنت عندي غير مذياع غنى فيه ابن سريج من رواية يونس.
قال أبو أيوب المديني: توفي ابن سريج بالعلة التي أصابته من الجذام بمكة، في خلافة سليمان بن عبد الملك أو في آخر خلافة الوليد، بمكة ودفن في موضع بها يقال له دسم.
وقفة على قبر ابن سريج بدسم أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني هارون بن أبي بكر قال حدثني إسحاق بن يعقوب العثماني مولى آل عثمان عن أبيه قال: إنا لبفناء دار عمرو بن عثمان بالأبطح في صبح خامسة من الثمان - يعني أيام الحج - قال: كنت جالسا أيام الحج، فما إن دريت إلا برجل على راحلة على رحل جميل وأداة حسنة، معه صاحب له على راحلة قد جنب إليها فرسا وبغلا، فوقفا علي وسألاني، فانتسبت لهما عثمانيا. فنزلا وقالا: رجلان من أهلك لهما حاجة ونحب أن تقضيها قبل أن نشده بأمر الحج. فقلت ما حاجتكما? قالا: نريد إنسانا يقفنا على قبر عبيد بن سريج. قال: فنهضت معهما حتى بلغت بهما محلة بني أبي قارة من خزاعة بمكة، وهم موالي عبيد بن سريج، فالتمست لهما إنسانا يصحبهما حتى يقفهما على قبره بدسم، فوجدت ابن أبي دباكل فأنهضته معهما. فأخبرني بعد: أنه لما وقفهما على قبره نزل أحدهما عن راحلته فحسر عمامته عن وجهه، فإذا هو عبد الله بن سعيد بن عبد الملك بن مروان، فعقر ناقته واندفع يندب بصوت شجي كليل حسن ويقول:
وقفنا على قبر بدسم فهاجـنـا وذكرنا بالعيش إذ هو مصحب
فجالت بأرجاء الجفون سوافـح من الدمع تستتلي الذي يتعقب
إذا أبطأت عن ساحة الخد ساقها دم بعد دمع إثره يتـصـبـب
فإن تسعدا نندب عبيدا بـعـولة وقل له منا البكا والتـحـوب ثم نزل صاحبه فعقر ناقته، وقال له القرشي: خذ في صوت أبي يحيى؛ فاندفع يتغنى:
أسعدانـي بـعـبـرة أسـراب من دموع كثيرة الـتـسـكـاب
إن أهل الحصاب قد تركـونـي مولها مولعا بأهل الحـصـاب
أهل بيت تتابعـوا لـلـمـنـايا ما على الموت بعدهم من عتاب
فارقوني وقد علـمـت يقـينـا ما لمـن ذاق مـيتة مـن إياب
كم بذاك الحجون من أهل صدق كهـول أعـفة وشـبـــاب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مـو سى إلى النخل من صفي السباب
فلي الويل بعدهـم وعـلـيهـم صرت فردا وملني أصحـابـي
صفحة : 87
قال ابن أبي دباكل: فوالله ما تمم صاحبه منها ثلاثا حتى غشي على صاحبه، وأقبل يصلح السرج على بغلته وهو غير معرج عليه. فسألته من هو? فقال: رجل من جذام. قلت: بمن تعرف? قال: بعبد الله بن المنتشر. قال: ولم يزل القرشي على حاله ساعة ثم أفاق، ثم جعل الجذامي ينضح الماء على وجهه ويقول كالمعاتب له: أنت أبدا مصبوب على نفسك ومن كلفك ما ترى ثم قرب إليه الفرس، فلما علاه استخرج الجذامي من خرج على بغل قدحا وإداوة ماء، فجعل في القدح ترابا من تراب قبر ابن سريج وصب عليه ماء من الإداوة، ثم قال: هاك فاشرب هذه السلوة فشرب، ثم فعل هو مثل ذلك، وركب على البغل وأردفني. فخرجا والله ما يعرضان بذكر شيء مما كنا فيه، ولا أرى في وجوههما شيئا مما كنت أرى قبل ذلك. فلما اشتمل علينا أبطح مكة قالا: انزل يا خزاعي فنزلت. وأومأ الفتى إلى الجذامي بكلام، فمد يده إلي وفيها شيء فأخذته، فإذا هو عشرون ينارا، ومضيا. فانصرفت إلى قبره ببعيرين، فاحتملت عليهما أداة الراحلتين اللتين عقراهما فبعتهما بثلاثين دينارا.
صوت من المائة المختارة
ثالث الثلاثة الأصوات المختارة
وهو الثالث من الثلاثة المختارة.
أهاج هواك المنزل المتقادم نعم وبه ممن شجاك معالـم
مضارب أوتاد وأشعث دائر مقيم وسفع في المحل جواثم عروضه من الطويل. الشعر لنصيب. والغناء في اللحن المختار لابن محرز ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وله فيه أيضا هزج بالسبابة في مجرى البنصر، وذكر جحظة عن أصحابه أنه هو المختار. وحكى إن أصحابه أنه ليس في الغناء كله نغمة إلا وهي في الثلاثة الأصوات المختارة التي ذكرها.
ومن قصيدة نصيب هذا مما يغنى فيه قوله:
لقد راعني للبين نوح حمـامة على غصن بان جاوبتها حمائم
هواتف أما من بكين فعـهـده قديم وأما شجـوهـن فـدائم الغناء لابن سريج ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن يونس ويحيى المكي وإسحاق، وأظنه مع البيتين الأولين وأن الجميع لحن واحد، ولكنه تفرق لصعوبة اللحن وكثرة ما فيه من العمل. فجعلا صوتين.
ذكر نصيب وأخباره
نسب نصيب ونشأته
هو نصيب بن رباح، مولى عبد العزيز بن مروان، وكان لبعض العرب من بني كنانة السكان بودان، فاشتراه بعد العزيز منهم، وقيل: بل كانوا أعتقوه، فاشترى عبد العزيز ولاءه منهم، وقيل: بل كاتب مواليه، فأدى عنه مكاتبته.
وقال ابن دأب: كان نصيب من قضاعة ثم من بلي. وكانت أمه سوداء فوقع عليها سيدها فحبلت بنصيب، فوثب عليه عمه بعد وفاة أبيه فباعه من عبد العزيز.
وقال أبو اليقظان: كان أبوه من كنانة من بني ضمرة. وكان شاعرا فحلا فصيحا مقدما في النسيب والمديح، ولم يكن له حظ في الهجاء، وكان عفيفا، وكا يقال: أنه لم ينسب قط إلا بامرأته.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كتب إلي عبد الله بن عبد العزيز بن محجن بن نصيب بن رباح يذكر عن عمته غرضة بنت النصيب: أن النصيب كان ابن نوبيين سبيين كانا لخزاعة، ثم اشترت سلامة أم نصيب امرأة من خزاعة ضمرية حاملا بالنصيب، فأعتقت ما في بطنها.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة قال: كان نصيب من أهل ودان عبدا لرجل من كنانة هو وأهل بيته. وكان أهل البادية يدعونه النصيب تفخيما له، ويروون شعره. وكان عفيفا كبير النفس مقدما عند الملوك، يجيد مديحهم ومراثيهم.
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي قال: كان نصيب من بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة. وكانت أمه أمة سوداء، وقع عليها أبوه فحملت ثم مات، فباعه عمه أخو أبيه من عبد العزيز بن مروان.
مبدأ قوله الشعر واتصاله بعبد العزيز
ابن مروان بمصر
قال حماد وأخبرني أبي عن أيوب بن عبابة، وأخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمه وعن إسحاق بن إبراهيم جيمعا عن أيوب بن عبابة قال حدثني رجل من خزاعة من أهل كلية - وهي قرية كان فيها النصيب وكثير - قال:
صفحة : 88
بلغني أن النصيب قال: قلت الشعر وأنا شاب فأعجبني قولي، فجعلت آتي مشيخة من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة - وهم موالي النصيب - ومشيخة من خزاعة، فأنشدهم القصيدة من شعري، ثم أنسبها إلى بعض شعرائهم الماضين، فيقولون: أحسن والله هكذا يكون الكلام وهكذا يكون الشعر فلما سمعت ذلك منهم علمت أني محسن، فأزمعوا وأزمعت الخروج إلى عبد العزيز بن مروان، وهو يومئذ بمصر، فقلت لأختي أمامة وكانت عاقلة جلدة: أي أخية، إني قد قلت شعرا، وأنا أريد عبد العزيز بن مروان، وأرجو أن يعتقك الله عز وجل به وأمك، ومن كان مرقوقا من أهل قرابتي. قالت: إنا لله وإنا إليه راجعون يابن أم، أتجتمع عليك الخصلتان: السواد، وأن تكون ضحكة للناس قال: قلت فاسمعي، فأنشدتها فسمعت، فقالت: بأبي أنت أحسنت والله في هذا والله رجاء عظيم، فاخرج على بركة الله. فخرجت على قعود لي حتى قدمت المدينة، فوجدت بها الفرزدق في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرجت إليه فقلت: أنشده واستنشده وأعرض عليه شعري. فأنشدته، فقال لي: ويلك أهذا شعرك الذي تطلب به الملوك? قلت: نعم. قال: فلست في شيء. إن استطعت أن تكتم هذا على نفسك فافعل. فانفضخت عرقا، فحصبني رجل من قريش كان قريبا من الفرزدق، وقد سمع إنشادي وسمع ما قال لي الفرزدق، فأومأ إلي فقمت إليه. فقال: ويحك أهذا شعرك الذي أنشثدته الفرزدق? قلت: نعم. فقال: قد والله أصبت، والله لئن كان هذا الفرزدق شاعرا لقد حسدك، فإنا لنعرف محاسن الشعر، فامض لوجهك ولا يكسرنك. قال: فسرني قوله، وعلمت أنه قد صدقني فيما قال، فاعتزمت على المضي. قال: فمضيت فقدمت مصر، وبها عبد العزيز بن مروان، فحضرت بابه مع الناس، فنحيت عن مجلس الوجوه، فكنت وراءهم، ورأيت رجلا جاء على بغلة حسن الشارة سهل المدخل، يؤذن له إذا جاء. فلما انصرف إلى منزله انصرفت معه أماشي بغلته. فلما رآني قال: ألك حاجة? قلت: نعم، أنا رجل من أهل الحجاز شاعر، وقد مدحت الأمير وخرجت إليه راجيا معروفه. وقد ازدريت فطردت من الباب ونحيت عن الوجوه. قال: فأنشدني، فأنشدته. فأعجبه شعري، فقال: ويحك أهذا شعرك? فإياك أن تنتحل، فإن الأمير رواية عالم بالشعر وعنده رواة، فلا تفضحني ونفسك. فقلت: والله ما هو إلا شعري. فقال: ويحك فقل ابياتا تذكر فيها حوف مصر وفضلها على غيرها، والقني بها غدا. فغدوت عليه من غد فأنشدته قولي:
سرى الهم تثنيني إليك طـلائعـه بمصر وبالحوف اعترتني روائعه
وبات وسادي ساعد قل لـحـمـه عن العظم حتى كاد تبدو أشاجعه قال: وذكرت فيها الغيث فقلت:
وكم دون ذاك العارض البارق الذي له اشتقت من وجه أسيل مدامعـه
تمشى به أفناء بـكـر ومـذحـج وأفناء عمرو وهو خصب مرابعه
فكل مسيل مـن تـهـامة طـيب دميث الربا تسقي البحار دوافعـه
أعني على برق أريك ومـيضـه تضىء دجنات الظلام لوامـعـه
إذا اكتحلت عينا محـب بـضـوئه تجافت به حتى الصباح مضاجعه
هنيئا لأم البخـتـري الـروي بـه وإن أنهج الحبل الذي أنا قاطعـه
وما زلت حتى قلت إني لخـالـع ولائي من مولى نمتني قوارعـه
ومانح قوم أنت منـهـم مـودتـي ومتخذ مولاك مولى فـتـابـعـه نصيب وأيمن بن خريم الأسدي
فقال: أنت والله شاعر احضر بالباب حتى أذكرك للأمير. قال: فجلست على الباب ودخل، فما ظننت أنه أمكنه أن يذكرني حتى دعي بي. فدخلت فسلمت على عبد العزيز، فصعد في بصره وصوب، ثم قال: أنت شاعر? ويلك.
صفحة : 89
قلت: نعم، أيها الأمير. قال: فأنشدني. فأنشدته، فأعجبه شعري. وجاء الحاجب فقال: أيها الأمير، هذا أيمن بن خريم الأسدي بالباب. قال: ائذن له، فدخل فاطمأن. فقال له الأمير: يا أيمن بن خريم، كم ترى ثمن هذا العبد? فنظر إلي فقال: والله لنعم الغادي في أثر المخاض، هذا أيها الأمير أرى ثمنه مائة دينار. قال: فإن له شعرا وفصاحة. فقال لي أيمن: أتقول الشعر? قلت: نعم. قال: قيمته ثلاثون دينارا. قال: يا أيمن، أرفعه وتخفضه أنت قال: لكونه أحمق أيها الأمير ما لهذا وللشعر أمثل هذا يقول الشعر أو يحسن شعرا فقال: أنشده يا نصيب، فأنشدته. فقال له عبد العزيز: كيف تسمع يا أيمن? قال: شعر أسود، هو أشعر أهل جلدته. قال: هو والله أشعر منك. قال: أمني أيها الأمير? قال: إي والله منك. قال: والله أيها الأمير، إنك لملول طرف. قال: كذبت والله ما أنا كذلك ولو كنت كذلك ما صبرت عليك تنازعني التحية وتؤاكلني الطعام وتتكىء على وسائدي وفرشي وبك ما بك - يعني وضحا كان بأيمن - قال: ائذن لي أن أخرج إلى بشر بالعراق. واحملني على البريد. قال: قد أذنت لك، وأمر به فحمل على البريد إلى بشر. فقال: أيمن بن خريم:
ركبت من المقطم في جمادى إلى بشر بن مروان البـريدا
ولو أعطاك بشر ألف ألـف رأى حقا عـلـيه أن يزيدا
أمير المؤمنين أقم بـبـشـر عمود الحق إن له عمـودا
ودع بشرا يقومهـم ويحـدث لأهل الزيع إسلاما جـديدا
كأن التاج تاج بني هـرقـل جلوه لأعظـم الأيام عـيدا
عل ديباج خدي وجه بـشـر إذا الألوان خالفت الخـدودا قال أيوب يعني بقوله:
إذا الألوان خالفت الخدودا أنه عرض بكلف كان في وجه عبد العزيز -.
وأعقب مدحتي سرجا مليحا وأبيض جوزجانيا عقـودا
وإنا قد وجدنـا أم بـشـر كأم الأسد مذكارا ولـودا قال: فأعطاه بشر مائة ألف درهم.
أول من نوه باسم نصيب لعبد العزيز
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال: أول من نوه باسم نصيب وقدم به على عبد العزيز بن مروان عبد الله بن أبي فروة، قدم به عليه وهو وصيف حين بلغ وأول ما قال الشعر. قال: أصلح الله الأمير جئتك بوصيف نوبي يقول الشعر - وكان نصيب ابن نوبيين - فأدخله عليه، فأعجبه شعره، وكان معه أيمن بن خريم الأسدي. فقال عبد العزيز: إذا دعوت بالغداء فأدخلوه علي في جبة صوف محتزما بعقال، فإذا قلت قوموه فقوموه وأخرجوه وردوه علي في جبة وشي ورداء وشي. فلما جلس للغداء ومعه أيمن بن خريم أدخل نصيب في جبة صوف محتزما بعقال، فقال: قوموا هذا الغلام. فقالوا: عشرة، عشرون، ثلاثون دينارا. فقال: ردوه، فأخرجوه ثم ردوه في جبة وشي ورداء وشي. فقال: أنشدنا، فأنشدهم. فقال: قوموه، قالوا: ألف دينار. فقال أيمن: والله ما كان قط أقل في عيني منه الآن، وإ، لنعم راعي المخاض. فقال له: فكيف شعره? قال: هو أشعر أهل جلدته. فقال له عبد العزيز: وهو والله أشعر منك. قال: أمني أيها الأمير? قال أيمن: إنك لملول طرف. فقال له: والله ما أنا بملول وأنا أنازعك الطعام منذ كذا وكذا، تضع يدك حيث أضعها وتلتقي يدك مع يدي على مائدة، كل ذلك أحتملك - وكان بأيمن بياض - فقال له أيمن: ائذن لي أخرج إلى بشر. فأذن له فخرج، وقال أبياته التي أولها:
ركبت من المقطم في جمادى وقد مضت الأبيات. قال: فلما جاز بعبد الملك بن مروان، قال: أين تريد? قال أريد أخاك بشرا. قال: أتجوزني? قال: إي والله أجوزك إلى من قدم إلي وطلبني. قال: فلم فارقت صاحبك? قال: رأيتكم يا بني مروان، تتخذون للفتى من فتيانكم مؤدبا، وشيخكم والله محتاج إلى خمسة مؤدبين. فسر ذلك عبد الملك، وكان عازما على أن يخلعه ويعقد لابنه الوليد.
ابتاعه عبد العزيز وأعتقه وقيل: أعتقته امرأة من ضمرة أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال:
صفحة : 90
يقال: إن نصيبا أضل إبلا فخرج في بغائها فلم يصبها، وخاف مواليه أن يرجع إليهم، فأتى عبد العزيز بن مروان فمدحه وذكر له قصته، فأخلف عليه ما ضل لمواليه وابتاعه وأعتقه.
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم الهلالي ثم الدوسي قال: أراد النصيب الخروج إلى عبد العزيز بن مروان، وهو عبد لبني محرز الضمري، فقالت أمه له: إنك سترقد ويأخذك ابن محرز يذهب بك، فذهب ولم يبال بقولها. حتى إذا كان بمكان ماء يعرف بالدو، فبينا هو راقد إذ هجم عليه ابن محرز، فقال حين رآه:
إني لأخشى من قلاص ابن محرز إذا وخدت بالدو وخد الـنـعـائم
يرعن بطـين الـقـوم أية روعة ضحيا إذا استقبلنـه غـير نـائم فأطلقوه، فرجع فأتى أمه فقالت: أخبرتك يا بني أنه ليس عندك أن تعجز القوم. فإن كنت يا بني قد غلبتني أنك ذاهب فخذ بنت الفلانة، فإني رأيتها وطئت أفحوص بيضات قطاة فلم تفلقهن فركبها، فهي التي بلغته ابن مروان.
قال أبو عبد الله بن الزبير: عندنا أن التي أعتقته امرأة من بني ضمرة ثم من بني حنبل.
أول اتصال نصيب بعبد العزيز حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم قال حدثنا كليب بن إسماعيل مولى بني أمية وكان حدثا أي حسن الحديث قال: بلغني أن نصيبا كان حبشيا يرعى إبلا لمواليه، فأضل منها بعيرا، فخرج في طلبه حتى أتى الفسطاط، وبه إذ ذاك عبد العزيز بن مروان، وهو ولي عهد عبد الملك بن مروان، فقال نصيب: ما بعد عبد العزيز واحد أعتمده لحاجتي. فأتى الحاجب فقال: استأذن لي على الأمير، فإني قد هيأت له مديحا. فدخل الخاجب فقال: أصلح الله الأمير بالباب رجل أسود يستأذن عليك بمديح قد هيأه لك. فظن عبد العزيز أنه ممن يهزأ به ويضحكهم، فقال: مره بالحضور ليوم حاجتنا إليه. فغدا نصيب وراح إلى باب عبد العزيز أربعة أشهر، وأتاه آت من عبد الملك فسره، فأمر بالسرير فأبرز للناس، وقال: علي بالأسود، وهو يريد أن يضحك منه الناس. فدخل، فلما كان حيث يسمع كلامه، قال:
لعبد العزيز على قـومـه وغيرهم نعـم غـامـره
فبابك ألـين أبـوابـهـم ودارك مأهولة عامـره
وكلبك آنس بالمعـتـفـين من الأم بالإبنة الـزائره
وكفك حين ترى السائلـي ن أندى من الليلة الماطره
فمنك العطاء ومني الثنـاء بكل مـحـبـرة سـائره فقال: أعطوه أعطوه. فقال: إني مملوك. فدعا الحاجب فقال: اخرج فابلغ في قيمته، فدعا المقومين فقال: قوموا غلاما أسود ليس به عيب. قالوا: مائة دينار. قال: إنه راع للإبل يبصرها ويحسن القيام عليها. قالوا: حينئذ مائتا دينار. قال: إني يبري القسي ويثقفها ويرمي النبل ويريشها. قالوا: أربعمائة دينار. قال: إنه رواية للشعر بصير به. قالوا: ستمائة دينار. قال: إنه شاعر لا يلحق حذقا. قالوا: ألف دينار. قال عبد العزيز: ادفعوها إليه. قال: أصلح الله الأمير ثمن بعيري الذي أضللت. قال: وكم ثمنه? قال: خمسة وعشرون دينارا. قال: ادفعوها إليه. قال: أصلح الله الأمير جائزتي لنفسي عن مديحي إياك. قال: اشتر نفسك ثم عد إلينا. فأتى الكوفة وبها بشر بن مروان، فاستأذن عليه فاستصعب الدخول إليه. وخرج بشر بن مروان متنزها فعارضه، فلما ناكبه أي صار حذاء منكبه ناداه:
يا بشر يابن الجعفرية مـا خلق الإله يديك للبـخـل
جاءت به عجز مقـابـلة ما هن من جرم ولا عكل قال: فأمر له بشر بعشرة آلاف درهم. الجعفرية التي عناها نصيب: أم بشر بن مروان، وهي قطية بنت بشر بن عامر ملاعب الأسنة بن مالك بن جعفر بن كلاب.
أم بشر بن مروان ابن الحكم
أخبرنا اليزيدي عن الخراز عن المدائني عن عبد الله بن مسلم وعامر بن حفص وغيرهما: أن مروان بن الحكم مر ببادية بني جعفر، فرأى قطية بنت بشر تنزع بدلو على إبل لها، وتقول:
ليس بنا فقر إلى التشكـي جربة كحـمـر الأبـك
لا ضرع فيها ولا مذكي ثم تقول:
صفحة : 91
عامان ترقيق وعام تمـمـا لم يترك لحما ولم يترك دما
ولم يدع في رأس عظم ملدما إلا رذايا ورجـالا رزمـا فخطبها مروان فتزوجها، فولدت له بشر بن مروان.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن معاوية عن إسحاق بن أيوب عن خليل بن عجلان في خبر النصيب مثل ما ذكره الزبير وإسحاق سواء.
كان إذا أصاب مالا قسمه في مواليه
وكان فيه كأحدهم وظل كذلك حتى مات
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال: دعا النصيب مواليه أن يستلحقوه فأبى، وقال: والله لأن أكون مولى لائقا أحب إلي من أن أكون دعيا لاحقا. وقد علمت أنكم تريدون بذلك مالي، ووالله لا أكسب شيئا أبدا إلا كنت أنا وأنتم فيه سواء كأحدكم، لا أستأثرو عليكم منه بشيء أبدا. قال: وكان كذلك معهم حتى مات، إذا أصاب شيئا قسمه فيهم، فكان فيه كأحدهم.
نصيب والفرزدق بحضرة سليمان
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبيري، وحدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن إسمماعيل الجعفري قال: دخل النصيب على سليمان بن عبد الملك وعنده الفرزدق، فاستنشد الفرزدق وهو يرى أنه سينشده مديحا له، فأنشده قوله يفتخر:
وركب كأن الريح تطلب عندهـم لها ترة من جذبها بالعـصـائب
سروا يركبون الريح وهي تلفهـم على شعب الأكوار من كل جانب
إذا استوضحوا نارا يقولون ليتهـا وقد خصرت أيديهم نار غـالـب قال: وعمامته على رأسه مثل المنسف؛ فغاظ سليمان وكلح في وجهه، وقال لنصيب: قم فأنشد مولاك ويلك فقام نصيب فأنشده قوله:
اقول لركب صادرين لقـيتـهـم قفا ذات أوشال ومولاك قـارب
قفوا خبروني عن سليمان إنـنـي لمعروفه من أهل ودان طالـب
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهـلـه ولو سكتوا أثنت عليك الحقـائب
وقالوا عهدنـاه وكـل عـشـية بأبوابه من طالب العرف راكب
هو البدر والناس الكواكب حولـه ولا تشبه البدر المضيء الكواكب فقال له سليمان: أحسنت والله يا نصيب وأمر له بجائزة ولم يصنع ذلك بالفرزدق. فقال الفرزدق وقد خرج من عنده:
وخير الشعر أكرمه رجالا وشر الشعر ما قال العبيد نصيب وعبد العزيز بجبل المقطم
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عمه موسى بن عبد العزيز قال: حمل عبد العزيز بن مروان النصيب بالمقطم مقطم مصر على بختي قد رحله بغبيط فوقه، وألبسه مقطعات وشي، ثم أمره أن ينشد؛ فاجتمع حوله السودان وفرحوا به، فقال لهم: أسررتكم? قالوا: إي والله. قال: والله لما يسوءكم من أهل جلدتكم أكثر.
نصيب وجرير
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو العراف قال: مر جرير بنصيب وهو ينشد، فقال له: اذهب فأنت أشعر أهل جلدتك. قال: وجلدتك يا أبا حزرة.
هشام بن عبد الملك ونصيب
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني أيوب بن عباية قال: بلغني أن النصيب كان إذا قدم على هشام بن عبد الملك أخلى له مجلسه واستنشده مراثي بني أمية، فإذا أنشده بكى وبكى معه. فأنشده يوما قصيدة له مدحه بها، يقول فيها:
إذا استبق الناس العلا سبقتهم يمينك عفوا ثم صلت شمالها فقال له هشام: يا أسود، بلغت غاية المدح فسلني. فقال: يدك بالعطية أجود وأبسط من لساني بمسئلتك. فقال: هذا والله أحسن من الشعر، وحباه وكساه وأحسن جائزته.
نصيب وإعتاقه ذوي قرابته
أخبرني الحسين بن يحيى قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه أيوب بن عباية قال:
صفحة : 92
أصاب نصيب من عبد العزيز بن مروان معروفا، فكتمه ورجع إلى المدينة في هيئة بذة، فقالوا: لم يصب بمدحه شيئا. فمكث مدة، ثم ساوم بأمه فابتاعها وأعتقها، ثم ابتاع أم أمه بضعف ما ابتاع به أمه فأعتقها. وجاءه ابن خالة له اسمه سحيم فسأله أن يعتقه، فقال له: ما معي والله شيء، ولكني إذا خرجت أخرجتك معي، لعل الله أن يعتقك. فلما أراد الخروج دفع غلاما له إلى مولى سحيم يرعى إبله وأخرجه معه، فسأل في ثمنه فأعطاهه وأعتقه. فمر به يوما وهو يزفن ويزمر مع السودان، فأنكر ذلك عليه وزجره. فقال له: إن كنت أعتقتني لأكون كما تريد فهذا والله ما لا يكون أبدا، وإن كنت أعتقتني لتصل رحمي وتقضي حقي فهذا والله الذي أفعله هو الذي أريده، أزفن وأزمر وأصنع ما شئت. فانصرف النصيب وهو يقول:
إني اراني لسـحـيم قـائلا إن سحيما لم يثبنـي طـائلا
نسيت إعمالي لك الرواحـلا وضربي الأبواب فيك سائلا
عند الملوك أستثيب الـنـائلا حتى إذا آنست عتقا عاجلا
وليتني منك القفا والكـاهـلا أخلقا شكسا ولونـا حـائلا استعجاله جائزة عند عبد العزيز
ابن مروان، وليلى أم عبد العزيز
قال إسحاق: وأبطأت جائزة النصيب عند عبد العزيز، فقال:
وإن وراء ظهري يابن ليلى أناسا ينظرون متـى أؤوب
أمامة منهم ولـمـأقـييهـا غداة البين في أثري غروب
تركت بلادها ونأيت عنهـا فأشبه ما رأيت بها السلوب
فأتبع بعضنا بعضا فلسـنـا نثيبك لكن الله الـمـثـيب فعجل جائزته وسرحه. قال إسحاق: فحدثني ابن كناسة قال: ليلى أم عبد العزيز كلبية. وبلغني عنه أنه قال: لا أعطي شاعرا شيئا حتى يذكرها في مدحي لشرفها؛ فكان الشعراء يذكرونها باسمها في أشعارهم.
شرف نصيب لشعره
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن ابن عباية قال: وقفت سوداء بالمدينة على نصيب وهو ينشد الناس، فقالت: بأبي أنت يابن عم وأمي ما أنت والله علي بخزي. فضحك وقال: والله لمن يخزيك من بني عمك أكثر ممن يزينك.
خطبة ابن نصيب بنت سيده
وما فعله نصيب في ذلك
قال إسحاق وحدثني ابن عبابة وغيره أن ابنا لنصيب خطب بعد وفاة سيده الذي أعتقه بنتا له من أخيه، فأجابه إلى ذلك، وعرف أباه. فقال له: اجمع وجوه الحي لهذا الحال فجمعهم. فلما حضروا أقبل نصيب على أخي سيده فقال: أزوجت ابني هذا من ابنة أخيك? قال: نعم. فقال لعبيد له سود: خذوا برجل ابني هذا فجروه فاضربوه ضربا مبرحا، ففعلوا وضربوه ضربا مبرحا. وقال لأخي سيده: لولا أني أكره أذاك لألحقتك به. ثم نظر إلى شاب من أشراف الحي، فقال: زوج هذا ابنة أخيك وعلي ما يصلحهما في مالي، ففعل.
نصيب وعبد الملك حين أراد منادمته
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: دخل نصيب على عبد الملك فتغدى معه، ثم قال: هل لك فيما نتنادم عليه? فقال: تؤمنني ففعل. فقال: لوني حائل، وشعري مفلفل، وخلقتي مشوهة، ولم أبلغ ما بلغت من إكرامك إياي بشرف أب أو أم أو عشيرة، وإنما بلغته بعقلي ولساني. فأنشدك الله يا أمير المؤمنين أن تحول بيني وبين ما بلغت به هذه المنزلة منك فأعفاه.
سبب تسميته بهذا الاسم
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني محمد بن صالح بن النطاح قال بلغني عن خلاذ بن مرة عن أبي بكر بن مزيد قال: لقيت النصيب يوما بباب هشام، فقلت له: يا أبا محجن، لم سميت نصيبا، ألقولك في شعرك عاينها النصيب? فقال: لا، ولكني ولدت عند أهل بيت من ودان، فقال سيدي: إيتونا بمولودنا هذا لننظر إليه. فلما رآني قال: إنه لمنصب الخلق؛ فسميت النصيب، ثم اشتراني عبد العزيز بن مروان فأعتقني.
فصاحته وتخلصه إلى جيد الكلام
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة أبي يحيى الأسدي قال: قال أبو عبد الله بن أبي إسحاق البصري: لئن وليت العراق لأستكتبن نصيبا لفصاحته وتخلصه إلى جيد الكلام.
صدق الحديث مع عبد العزيز فأجازه
أخبرني الأسدي قال حدثني محمد بن صالح عن أبيه عن محمد بن عبد العزيز الزهري. قال: حدثني نصيب قال:
صفحة : 93
دخلت على عبد العزيز بن مروان، فقال: أنشدني قولك:
إذا لم يكـن بـين الـخـلـيلـين ردة سوى ذكر شيء قد مضى درس الذكر فقلت: ليس هذا لي، هذا لأبي صخر الهذلي، ولكني الذي أقول:
وقفت بذي دوران أنشد نـاقـتـي وما إن بها لي من قلوص ولا بكر فقال لي عبد العزيز: لك جائزة على صدق حديثك، وجائزة على شعرك؛ فأعطاني على صدق حديثي ألف دينار، وعلى شعري ألف دينار.
أوصاف نصيب الجسمية
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن أبيه قال: رأيت النصيب وكان أسود خفيف العارضين ناتىء الحنجرة.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني إبراهيم بن يزيد السعدي عن جدته جمال بنت عون بن مسلم عن أبيها عن جدها قال: رأيت رجلا أسود مع امرأة بيضاء، فجعلت أعجب من سواده وبياضها، فدنوت منه وقلت: من أنت? قال: أنا الذي أقول:
ألا ليت شعري ما الذي تحدثين بي غدا غربة النأي المفرق والبعـد
لدى أم بكر حين تقترب الـنـوى بنا ثم يخلو الكاشحون بها بعـدي
أتصرمني عند الألى هم لنا العـدا فتشمتهم بي أم تدوم على العهـد قال: فصاحت: بل والله تدوم على العهد. فسألت عنهما فقيل: هذا نصيب، وهذه أم بكر.
نصيب وعبد الله بن جعفر
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثني أبو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال: أتى النصيب عبد الله بن جعفر فحمله وأعطاه وكساه. فقال له قائل: يا أبا جعفر، أعطيت هذا العبد الأسود هذه العطايا فقال: والله لئن كان أسود إن ثناءه لأبيض، وإن شعره لعربي، ولقد استحق بما قال أكثر مما نال. وما ذاك إنما هي رواحل تنضى، وثياب تبلى، ودراهم تفنى، وثناء يبقى، ومدائح تروى أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني قال قال أبو الأسود: امتدح نصيب عبد الله بن جعفر وذكر مثله.
نصيب ونسوة أردن سماع شعره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال: قيل لنصيب: إن ها هنا نسوة يردن أن ينظرن إليك ويسمعن منك شعرك. قال: وما يصنعن بي يرين جلدة سوداء وشعرا أبيض، ولكن ليسمعن شعري من وراء ستر.
تغنى منقذ الهلالي بشعر نصيب
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن رجل ذكره قال: أتاني منقذ الهلالي ليلا، فضرب علي الباب. فقلت: من هذا? فقال: منقذ الهلالي. فخرجت إليه فزعا. فقال: البشرى. فقلت: وأي بشرى أتتني بك في هذا الليل? فقال: خير، أتاني أهل بدجاجة مشوية بين رغيفين فتعشيت بها، ثم أتوني بقنينة من نبيذ قد التقى طرفاها صفاء ورقة، فجعلت أشرب وأترنم بقول نصيب:
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب ففكرت في إنسان يفهم حسنه ويعرف فضله، فلم أجد غيرك، فأتيتك مخبرا بذلك. فقلت: ما جاء بك إلا هذا? فقال: أولا يكفي ثم انصرف.
عفة نصيب في شعره
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: قال مسلمة لنصيب: أنت لا تحسن الهجاء. فقال: بلى والله، أتراني لا أحسن أن أجعل مكان عافاك الله أخزاك الله? قال: فإن فلانا قد مدحته فحرمك فاهجه، قال: لا والله ما ينبغي أن أهجوه، وإنما ينبغي أن أهجو نفسي حين مدحته. فقال مسلمة: هذا والله أشد من الهجاء.
نصيب وعمر بن عبد العزيز
في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخبرني الحسين قال قال حماد: قرأت على أبي عن ابن عباية عن الضحاك الحزامي قال: دخل نصيب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يومئذ أمير المدينة، وهو جالس بين قبر النبي صلى الله عليه وسلم ومنبره، فقال: أيها الأمير، ائذن لي أن أنشدك من مراثي عبد العزيز. فقال: لا تفعل فتحزنني، ولكن أنشدني قولك: قفا أخوي فإن شيطانك كان لك فيها ناصحا حين لقنك إياها. فأنشده: صوت
قفا أخوي إن الدار لـيسـت كما كانت بعهدكما كما تكون
ليالي تعلمـان وآل لـيلـى قطين الدار فاحتمل القطين
فعوجا فانظرا أتبين عـمـا سألناهـا بـه أم لا تـبـين
صفحة : 94
فظلا واقفين وظل دمعـي على خدي تجود به الجفون
فلولا إذ رأيت اليأس منهـا بدا أن كدت ترشقك العيون،
برحت فلم يلمك الناس فيهـا ولم تغلق كما غلق الرهين في البيتين الأولين من هذه الأبيات والأخيرين لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو ويونس.
قصة نصيب مع امرأة عجوز بالجحفة
كان يختلف إليها
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية قال: كان نصيب ينزل على عجوز بالجحفة إذا قدم من الشأم، وكان لها بنية صفراء وكان يستحليها، فإذا قدم وهب لها دراهم وثيابا غير ذلك. فقدم عليهما قدمة وبات بهما، فلم يشعر إلا بفتى قد جاءها ليلا فركضها برجله، فقامت معه فأبطأت ثم عادت، وعاد إليها بعد ساعة فركضها برجله فقالت معه فأبطأت ثم عادت. فلما أصبح نصيب رأى أثر معتركهما ومغتسلهما. فلما أراد أن يرتحل قالت له العجوز وبنتها: بأبي أنت عادتك. فقال لها:
أراك طموح العين ميالة الهوى لهذا وهذا منك ود ملاطـف
فإن تحملي ردفين لا أك منهما فحبي فرد لست ممن يرادف ولم يعطها شيئا ورحل.
حديث النصيب مع امرأة من ملل
كان الناس ينزلون عندها
قال أيوب: وكانت بملل امرأة ينزل بها الناس، فنزل بها أبو عبيدة بن عبد الله بن زمعة وعمران بن عبد الله بن مطيع ونصيب فلما رحلوا وهب لها القرشيان ولم يكن مع نصيب شيء، فقال لها: اختاري إن شئت أن أضمن لك مثل ما أعطياك إذا قدمت، وإن شئت قلت فيك أبياتا تنفعك. قالت: بل الشعر أحب إلي. فقال:
ألا حي قبل البـين أم حـبـيب وإن لم تكن منا غدا بـقـريب
لئن لم يكن حبيك حبا صدقـتـه فما أحد عندي إذا بـحـبـيب
تهام أصابت قلـبـه مـلـلـية غريب الهوى يا ويح كل غريب فشهرها بذلك، فأصابت بقوله ذلك فيها خيرا.
عمر ينهاه عن التشبيب بالنساء
قال أيوب: ودخل النصيب على عمر بن عبد العزيز - رحمة الله عليه - بعد ما ولي الخلافة. فقال له: إيه يا أسود أنت الذي تشهر النساء بنسيبك فقال: إني قد تركت ذلك يا أمير المؤمنين، وعاهدت الله عز وجل ألا أقول نسيبا، وشهد له بذلك من حضر وأثنوا عليه خيرا. فقال: أما إذ كان الأمر هكذا فسل حاجتك. فقال: بنيات لي نفضت عليه سوادي فكسدن، أرغب بهن عن السودان ويرغب عنهن البيضان. قال: فتريد ماذا? قال: تفرض لهن، ففعل. قال: ونفقة لطريقي. قال: فأعطاه حلية سيفه وكساه ثوبيه، وكانا يساويان ثلاثين درهما.
اجتماع النصيب والكميت ذي الرمة
وتناشدهم الشعر
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال: اجتمع النصيب والكميت وذو الرمة، فأنشدهما الكميت قوله:
هل أنت عن طلب الأيفاع منقلب حتى بلغ إلى قوله فيها:
أم هل ظغائن بالعلياء نـافـعة وإن تكامل فيها الأنس والشنب فعقد نصيب واحدة. فقال له الكميت: ماذا تحصي? قال: خطأك، باعدت في القول، ما الأنس من الشنب، ألا قلت كما قال ذو الرمة:
لمياء في شفتيها حوة لعـس وفي اللثات وفي أنيابها شنب ثم أنشدهما قوله:
أبت هذه النفس إلا ادكارا حتى بلغ إلى قوله:
إذا ما الهجارس غنينها تجاوبن بالفلوات الوبارا فقال له النصيب: والوبار لا تسكن الفلوات. ثم أنشد حتى بلغ منها:
كأن الغطامط من غليهـا أراجيز أسلم تهجو غفارا فقال النصيب: ما هجت أسلم غفارا قط، فانكسر الكميت وأمسك.
نصيب وعبد الرحمن بن الضحاك
ابن قيس الفهري
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي:
صفحة : 95
أن نصيبا مدح عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، فأمر له بعشر قلائص، وكتب بها إلى رجلين من الأنصار، واعتذر إليه وقال له: والله ما أملك إلا رزقي، وإني لأكره أن أبسط يدي في أموال هؤلاء القوم. فخرج حتى أتى الأنصاريين فأعطاهما الكتاب مختوما. فقرآه وقالا: قد أمر لك بثمان قلائص، ودفعا ذلك إليه. ثم عزل وولي مكانه رجل من بني نصر بن هوازن، فأمر بأن يتتبع ما أعطى ابن الضحاك ويرتجع، فوجد باسم نصيب عشر قلائص، فأمر بمطالبته بها. فقال: والله ما دفع إلي إلا ثماني قلائص فقال: والله ما تخرج من الدار حتى تؤدي عشر قلائص أو أثمانها، فلم يخرج حتى قبض ذلك منه. فلما قدم على هشام سمر عنده ليلة وتذاكروا النصري، فأنشده قوله فيه:
أفي قلائص جرب كن من عمل أردى وتنزع من أحشائي الكبد
ثمانيا كن في أهلي وعنـدهـم عشر فأي كتاب بعدنا وجـدوا
أخانني أخوا الأنصار فانتقصـا منها فعندهما الفقد الذي فقـدوا
وإن عاملك النصري كلفـنـي في غير نائرة دينا له صـعـد
أذنب غيري ولم أذنب يكلفنـي أم كيف أقتل لا عقل ولا قـود قال: فقال هشام: لا جرم والله، لا يعمل لي النصري عملا أبدا، فكتب بعزله عن المدينة.
شعر لنصيب في الجفر من نواحي ضرية
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرنا الزبير بن بكار إجازة عن هارون بن عبد الله الزبيري عن شيخ من الجفر قال: قدم علينا النصيب فجلس في هذا المجلس وأومأ إلى مجلس حذاءه، فاستنشدناه، فأنشدنا قوله:
ألا يا عقاب الوكر وكـر ضـرية سقتك الغوادي من عقاب ومن وكر
تمر الليالـي مـا مـررن ولا أرى مرور الليالي منسياتي ابنة النضـر
وقفت بذي دوران أنشد نـاقـتـي ومالي لديها من قلوص ولا بكـر
وما أنشـد الـرعـيان إلا تـعـلة بواضحة الأنياب طيبة الـنـشـر
أما والذي نادى من الطور عـبـده وعلم أيام المنـاسـك والـنـحـر
لقد زادني للجفر حـبـا وأهـلـه ليال أقامتهن ليلى على الـجـفـر نصيب وعبد الملك بن مروان
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال أخبرني عمر بن إبراهيم السعدي عن يوسف بن يعقوب بن العلاء بن سليمان عن سلمة بن عبد الله بن أبي مسروح قال: قال عبد الملك بن مروان لنصيب أنشدني، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
ومضمر الكشح يطويه الضجيع به طي الحمائل لا جاف ولا فقـر
وذي روادف لا يلغي الإزار بهـا يلوى ولو كان سبعا حين يأتـزر فقال له عبد الملك: يا نصيب، من هذه? قال: بنت عم لي نوبية، لو رأيتها ما شربت من يدها الماء. فقال له: لو غير هذا قلت لضربت الذي فيه عيناك.
رحلة نصيب إلى عبد العزيز ابن مروان كل عام يستميحه العطاء
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا الحارث بن محمد بن أبي أسامة قال حدثنا المدائني قال: كان عبد العزيز بن مروان اشترى نصيبا وأهله وولده فأعتقهم، وكان نصيب يرحل إليه في كل عام مستميحا فيجيزه ويحسن صلته. فقال فيه نصيب:
يقول فيحسن القول ابن ليلى ويفعل فوق أحسن ما يقول
فتـى لا يرزأ الـخـلان إلا مودتهم ويرزؤه الـخـلـيل
فبشر أهل مصر فقد أتاهـم مع النيل الذي في مصر نيل نصيب وشاعر هجاه من أهل الحجاز
أخبرني هاشم بن محمد بن هارون بن عبد الله بن مالك الخزاعي أبو دلف قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: كان نصيب يكنى أبا الحجناء، فهجاه شاعر من أهل الحجاز فقال:
رأيت أبا الحجناء في الناس حائرا ولون أبي الحجناء لون البهـائم
تراه على ما لاحه مـن سـواده وإن كان مظلوما له وجه ظالـم
صفحة : 96
فقيل لنصيب: ألا تجيبه فقال: لا، ولو كانت هاجيا لأحد لأجبته ولكن الله أوصلني بهذا الشعر إلى خير، فجعلت على نفسي ألا أقوله في شر، وما وصفني إلا بالسواد وقد صدق. أفلا أنشدكم ما وصفت به نفسي? قالوا بلى. فأنشدهم قوله:
ليس السواد بناقصـي مـادام لـي هذا اللسـان إلـى فـؤاد ثـابـت
من كان ترفعه منـابـت أصـلـه فبيوت أشعاري جعلن منـابـتـي
كم بين أسـود نـاطـق بـبـيانـه ماضي الجنان وبين أبيض صامت
إني ليحسدنـي الـرفـيع بـنـاؤه من فضل ذاك وليس بي من شامت ويروى مكان من فضل ذاك ، فضل البيان وهو أجود.
أخبرني عمي ومحمد بن خلف قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال حدثني عمي عن محمد بن سعد قال: قال قائل للنصيب: أيها العبد، مالك وللشعر? فقال: أما قولك عبد فما ولدت إلا وأنا حر، ولكن أهلي ظلموني فباعوني. وأما السواد فأنا الذي أقول:
وإن أك حالكا لـونـي فـإنـي لعقل غير ذي سـقـط وعـاء
وما نزلت بي الـحـاجـات إلا وفي عرضي من الطمع الحياء شعره في جارية طلبت منه أن يشبب بها
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال حدثت عن السدوسي قال: وقف نصيب على أبيات فاستسقى ماء، فخرجت إليه جارية بلبن أو ماء فسقته، وقالت: شبب بي: فقال: وما اسمك? فقالت: هند. ونظر إلى جبل وقال: ما اسم هذا العلم? قالت: قنا. فأنشأ يقول:
أحب قنا من حب هند ولم أكن أبالي أقربا زاده الله أم بعـدا
ألا إن بالقيعان من بطن ذي قنا لنا حاجة مالت إليه بنا عمـدا
أروني قنا انظر إليه فإنـنـي أحب قنا إني رأيت به هنـدا قال: فشاعت هذه الأبيات، وخطبت هذه الجارية من أجلها، وأصابت بقول نصيب فيها خيرا كثيرا.
قصته مع جارية خطبها فأبت ثم تزوجته
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل بن نبيه قال حدثنا محمد بن سلام قال: دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك، فقال له: حدثني يا نصيب ببعض ما مر عليك. فقال: نعم، يا أمير المؤمنين علقت جارية حمراء، فمكثت زمانا تمنيني بالأباطيل، فلما ألححت عليها قالت: إليك عني، فوالله لكأنك من طوارق الليل. فقلت لها: وأنت والله لكأنك من طوارق النهار. فقالت: ما أظرفك يا أسود فغاظني قولها، فقلت لها: هل تدرين ما الظرف? إنما الظرف العقل. ثم قالت لي: انصرف حتى أنظر في أمرك. فأرسلت إليها هذه الأبيات:
فإن أك حالكا فالمسك أحـوى وما لسواد جلدي مـن دواء
ولي كرم عن الفحشـاء نـاء كبعد الأرض من جو السماء
ومثلي في رجالكـم قـلـيل ومثلك ليس يعدم في النسـاء
فإن ترضي فردي قول راض وإن تأبي فنحن على السواء قال: فلما قرأت الشعر قالت: المال والشعر يأتيان على غيرهما، فتزوجتني.
استجادة الأصمعي شعرا لنصيب
أخبرنا هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال: أنشدنا الأصمعي لنصيب وكان يستجيد هذه الأبيات ويقول إذا أنشدها: قاتل الله نصيبا ما أشعره.
فإن يك من لوني السواد فـإنـنـي لكالمسك لا يروى من المسك ذائقه
وما ضر أثوابي سوادي وتحتـهـا لباس من العلياء بيض بـنـائقـه
إذا المرء لم يبذل من الود مثل مـا بذلت له فاعلم بأنـي مـفـارقـه نصيب وجرير
أخبرني الفضل بن الحباب أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام عن خلف: أن نصيبا أنشد جريرا شيئا من شعره، فقال له: كيف ترى يا أبا حرزة? فقال له: أنت أشعر أهل جلدتك.
نصيب والوليد بن عبد الملك
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران بن محمد عن المسور بن عبد الملك قال:
صفحة : 97
قال نصيب لعبد الرحمن بن أزهر: أنشدت الوليد بن عبد الملك، فقال لي: أنت أشعر أهل جلدتك، والله ما زاد عليها فقال لي عبد الرحمن: يا أبا محجن، أفرضيت منه أن جعلك أشعر السودان فقط? فقال له: وردت والله يابن أخي أنه أعطاني أكثر من هذا، ولكنه لم يفعل ولست بكاذبك.
نصيب ووصفه لشعره وشعر معاصريه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال: قال لي محمد بن عبد ربه: دخلت مسجد الكوفة، فرأيت رجلا لم أر قط مثله ولا أشد سوادا منه، ولا أنقى ثيابا منه، ولا أحسن زيا. فسألت عنه، فقيل: هذا نصيب. فدنوت منه فحدثته، ثم قلت له: أخبرني عنك وعن أصحابك. فقال: جميل إمامنا، وعمر بن أبي ربيعة أوصفنا لربات الحجال، وكثير أبكانا على الدمن وأمدحنا للملوك، وأما أنا فقد قلت ما سمعت. فقلت له: إن الناس يزعمون أنك لا تحسن أن تهجو. فضحك ثم قال: أفتراهم يقولون: إني لا أحسن أن أمدح? فقلت لا. فقال: أفما تراني أحسن أن أجعل مكان عافاك الله أخزاك الله? قال قلت بلى. قال: فإني رأيت الناس رجلين: إما رجل لم أسأله شيئا فلا ينبغي أن أهجوه فأظلمه، وإما رجل سألته فمنعني فنفسي كانت أحق بالهجاء، إذ سولت لي أن أساله وأن أطلب ما لديه.
نصيب وكثير والأحوص
في مجلس امرأة من بني أمية
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني عبد الله بن إسماعيل بن أبي عبيد الله كاتب المهدي قال: وجدت في كتاب أبي بخطه: حدثني أبو يوسف التجيبي قال حدثني إسماعيل بن المختار مولى آل طلحة وكان شيخا كبيرا قال: حدثني النصيب أبو محجن أنه خرج هو وكثير والأحوص غب يوم أمطرت فيه السماء، فقال: هل لكم في أن نركب جميعا فنسير حتى نأتي العقيق فنمتع فيه أبصارنا? فقالوا نعم. فركبوا أفضل ما يقدرون عليه من الدواب، ولبسوا أحسن ما يقدرون عليه من الثياب، وتنكروا ثم ساروا حتى أتوا العقيق، فجعلوا يتصفحون ويرون بعض ما يشتهون، حتى رفع لهم سواد عظيم فأموه حتى أتوه، فإذا وصائف ورجال من الموالي ونساء بارزات، فسألنهم أن ينزلوا، فاستحيوا أن يجيبوهن من أول وهلة، فقالوا: لا نستطيع أو نمضي في حاجة لنا. فحلفنهم أن يرجعوا إليهن، ففعلوا وأتوهن، فسألنهم النزول فنزلوا. ودخلت امرأة من النساء فاستأذنت لهم، فلم تلبث أن جاءت المرأة فقالت: ادخلوا. فدخلنا على امرأة جميلة برزة على فرش لها، فرحبت وحيت، وإذا كراسي موضوعة، فجلسنا جميعا في صف واحد كل إنسان على كرسي. فقالت: إن أحببتم أن ندعو بصبي لنا فنصيحه ونعرك أنذه فعلنا، وإن شئتم بدأنا بالغداء. فقلنا: بل تدعين بالصبي ولن يفوتنا الغداء. فأومأت بيدها إلى بعض الخدم، فلم يكن إلا كلا ولا حتى جاءت جارية جميلة قد سترت بمطرف، فأمسكوه عليها حتى ذهب بهرها، ثم كشف عنها وإذا جارية ذات جمال قريبة من جمال مولاتها، فرحبت بهم وحيتهم، فقالت لها مولاتها: خذي - ويحك - من قول النصيب عافى الله أبا محجن:
ألا هل من البين المفرق من بد وهل مثل أيام بمنقطع السعـد
تمنيت أيامي أولئك، والمـنـى على عهد عاد ما تعيد ولا تبدي فغنته، فجاءت به كأحسن ما سمعته قط بأحلى لفظ وأشجى صوت. ثم قالت لها: خذي أيضا من قول أبي محجن عافى الله أبا محجن:
أرق الـمـحـب وعـــاده ســـهـــده لطـوارق الـهـم الـــتـــي تـــرده
وذكـرت مـن رقـت لــه كـــبـــدي وأبـى فـلـيس تـرق لـي كـــبـــده
لا قومه قومي ولا بلدي فنكون حينا جيزة بلده
ووجدت وجدا لم يكن أحد قبـلـي مـن أجـل صـبـــابة يجـــده
إلا ابـن عـجـلان الـذي تـبـــلـــت هنـد فـفـات بـنـفـسـه كـــمـــده قال: فجاءت به أحسن من الأول، فكدت أطير سرورا. ثم قالت لها: ويحك خذي من قول أبي محجن عافى الله أبا محجن:
فيا لك من ليل تمتعت طـولـه وهل طائف من نائم متمـتـع
نعم إن ذا شجو متى يلق شجوه ولو نائما مستعتـب أو مـودع
له حاجة قد طالما قد أسـرهـا من الناس في صدر بها يتصدع
تحملها طول الزمان لعـلـهـا يكون لها يوما من الدهر منزع
صفحة : 98
وقد قرعت في أم عمرو لي العصا قديما كما كانت لذي الحلم تقـرع قال: فجاءت والله بشيء حيرني وأذهلني طربا لحسن الغناء وسرورا باختيارها الغناء في شعري، وما سمعت فيه من حسن الصنعة وجودتها وإحكامها. ثم قالت لها: خذي أيضا من قول أبي محجن، عافى الله أبا محجن:
يا أيها الركب إني غير تابعكم حتى تلموا وأنتم بي ملمونـا
فما أرى مثلكم ركبا كشكلكم يدعوهم ذو هوى إلا يعوجونا
أم خبروني عن دائي بعلمكـم وأعلم الناس بالداء الأطبونـا قال نصيب: فوالله لقد زهيت بما سمعت زهوا خيل إلي أني من قريش، وأن الخلافة لي. ثم قالت: حسبك يا بنية هات الطعام يا غلام فوثب الأحوص وكثير وقالا: والله لا نطعم لك طعاما ولا نجلس لك في مجلس؛ فقد أسأت عشرتنا واستخففت بنا، وقدمت شعر هذا على أشعارنا، واستمعت الغناء فيه، وإن في أشعارنا لما يفضل شعره، وفيها من الغناء ما هو أحسن من هذا. فقالت: على معرفة كل ما كان مني، فأي شعركما أفضل من شعره? أقولك يا أحوص:
يقر بعيني ما يقر بـعـينـهـا وأحسن شيء ما به العين قرت أو قولك يا كثير في عزة:
وما حسـبـت ضـمـرية جـدوية سوى التيس ذي القرنين أن لها بعلا أم قولك فيها:
إذا ضمرية عطست فنكها فإن عطاسها طرف السفاد قال: فخرجا مغضبين واحتبستني، فتغديت عندها، وأمرت لي بثلثمائة دينار وحلتين وطيب، ثم دفعت إلي مائتي دينار وقالت: ادفعها إلى صاحبيك؛ فإن قبلاها وإلا فهي لك. فأتيتهما منازلهما فأخبرتهما القصة. فأما الأحوص فقبلها، وأما كثير فلم يقبلها، وقال: لعن الله صاحبتك وجائزتها ولعنك معها فأخذتها وانصرفت.
فسألت النصيب: ممن المرأة?. فقال: من بني أمية ولا أذكر اسمها ما حييت لأحد.
رثاء نصيب عبد العزيز وقد مات بسكر
من قرى الصعيد
أخبرني عيسى بن يحيى الوراق عن أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال: وقع الطاعون بمصر في ولاية عبد العزيز بن مروان إياها، فخرج هاربا منه فنزل بقرية من الصعيد يقال لها سكر . فقدم عليه حين نزلها رسول لعبد الملك، فقال له عبد العزيز: ما اسمك? فقال: طالب بن مدرك. فقال: أوه، ما أراني راجعا إلى الفسطاط أبدا ومات في تلك القرية. فقال نصيب يرثيه:
أصبت يوم الصعيد من سكـر مصيبة ليس لي بهـا قـبـل
تالله أنسى مصـيبـتـي أبـدا ما أسمعتني حنينهـا الإبـل
ولا التبكي عـلـيه أعـولـه كل المصيبات بعده جـلـل
لم يعلم النعش ما عليه من ال عرف ولا الحاملون ما حملوا
حتى أجنوه في ضريحـهـم حين انتهى من خليلك الأمـل غنى في هذه الأبيات ابن سريج، ولحنه رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، وذكر الهشامي أن له فيه لحنا من الهزج، وذكر ابن بانة أن الرمل لابن الهربذ.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزبيري عن مشيخة من أهل الحجاز: أن نصيبا دخل على عبد الملك بن مروان، فقال له: أنشدني بعض ما رثيت به أخي؛ فأنشده قوله:
عرفت وجربت الأمور فمـا أرى كماض تلاه الغابر المـتـأخـر
ولكن أهل الفضل من أهل نعمتي يمرون أسلافا أمامي وأغـبـر
فإن أبكه أعذر وإن أغلب الأسـى بصبر فمثلي عندما اشتد يصبـر
وكانت ركابي كلما شئت تنتحـي إليك فتقضي نحبها وهي ضمـر
ترى الورد يسرا والثواء غنـيمة لديك وتثنى بالرضا حين تصـدر
فقد عريت بعد ابن ليلى فإنـمـا ذراها لمن لاقت من الناس منظر
ولو كان حيا لم يزل بدفـوفـهـا مراد لغربان الطريق ومنـقـر
فإن كن قد نلن ابن ليلـى فـإنـه هو المصطفى من أهله المتخير فلما سمع عبد الملك قوله:
فإن أبكه أعذر وإن أغلب الأسى بصبر فمثلي عندما اشتد يصبر
صفحة : 99
قال له: ويلك أنا كنت أحق بهذ الصفة في أخي منك فهلا وصفتني بها وجعل يبكي.
نصيب وعبد الله بن إسحاق البصري
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي يحيى محمد بن كناسة قال: قال لي عبد الله بن إسحاق البصري: لو وليت العراق لاستكتبت نصيبا. قلت: لماذا? قال لفصاحته وحسن تخلصه إلى جيد الكلام، ألم تسمع قوله:
فلا النفس ملتها ولا العين تنتهي إليها سوام الطرف عنها فترجع
رأتها فما ترتد عنـهـا سـآمة ترى بدلا منها به النفس تقنـع نصيب وإبراهيم بن هشام
أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن الحسن قال: دخل نصيب على إبراهيم بن هشام فأنشده مديحا له. فقال إبراهيم: ما هذا بشيء أين هذا من قول أبي دهبل لصاحبنا ابن الأزرق حيث يقول:
إن تغد من منقلي نخلان مرتحـلا يرحل من اليمن المعروف والجود قال: فغضب نصيب ونزع عمامته وبرك عليها، وقال: لئن تأتونا برجال مثل ابن الأزرق نأتكم بمثل مديح أبي دهبل أو أحسن؛ إن المديح والله إنما يكون على قدر الرجال. قال: فأطرق ابن هشام، وعجبوا من إقدام نصيب عليه، ومن حلم ابن هشام وهو غير حليم.
نصيب وأم بكر الخزاعية
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري: أن نصيبا كان ربما قدم من الشأم فيطرح في حجر أم بكر الخزاعية أربعمائة دينار، وأن عبد الملك بن مروان ظهر على تعلقه بها ونسيبه فيها، فنهاه عن ذلك حتى كف.
نصيب وشيء من أوصافه الخلقية
أخبرني محمد بن يزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبيه قال: رأيت النصيب بالطائف، فجاءنا وجلس في مجلسنا وعليه قميص قوهي ورداء وحبرة، فجعل ينشدنا مديحا لابن هشام، ثم قال: إن الوادي مسبعة، فمن أهل المجلس? قالوا: ثقيف؛ فعرف أنا نبغض ابن هشام ويبغضنا، فقال: إنا لله أبعد ابن ليلى أمتدح ابن جيداء فقال له أهل المجلس: يا أبا محجن، أتطلب القريض أحيانا فيعسر عليك? فقال: إي والله لربما فعلت، فآمر براحلتي فيشد بها رحلي، ثم أسير في الشعاب الخالية، وأقف في الرباع المقوية، فيطربني ذلك ويفتح لي الشعر. والله إني على ذلك ما قلت بيتا قط تستحي الفتاة الحيية من إنشاده في ستر أبيها. قال إسحاق قال عثمان بن حفص فوصفه أبي وقال: كأني أراه صدعا خفيف العارضين ناتىء الحنجرة.
نصيب وابن أبي عتيق
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة قال: أنشد نصيب قوله:
وكدت ولم أخلق من الطير إن بدا لها بارق نحو الحجـاز أطـير فسمعه ابن أبي عتيق، فقال: يابن أم، قل غاق فإنك تطير. يعني أنه غراب أسود.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال أخبرني أحمد بن محمد الأسدي أسد قريش قال: قال ابن أبي عتيق لنصيب: إني خارج، أفترسل إلى سعدى بشيء? قال: نعم، بيتي شعر. قال: قل، فقال:
أتصبر عن سعدى وأنت صبـور وأنت بحسن الصبر منك جـدير
وكدت ولم أخلق من الطير إن بدا سنى بارق نحو الحجاز أطـير قال: فأنشد ابن أبي عتيق سعدى البيتين، فتنفست تنفسة شديدة. فقال ابن أبي عتيق: أوه أجبته والله بأجود من شعره، ولو سمعك خليلك لنعق وطار إليك.
نصيب والحكم بن المطلب
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الكاتب قال حدثني أبو هفان عن إسحاق الموصلي عن المسيبي قال: قال أبو النجم: أتيت الحكم بن المطلب فمدحته، وخرج إلى السعاية فخرجنا معه ومعه عدة من الشعراء. فبينا هو مع أصحابه يوما واقف، إذا براكب يوضع في السراب وإذا هو نصيب، فتقدم إليه فمدحه فأمر بإنزاله، فمكث أياما حتى أتاه فقال: إني قد خلفت صبية صغارا وعيالا ضعافا. فقال له: ادخل الحظيرة فخذ منها سبعين فريضة. فقال له: جعلني الله فداك قد أحسنت ومعي ابن لي أخاف أن يثلمها علي. قال: فادخل فخذ له سبعين فريضة أخرى؛ فانصرف بمائة وأربعين فريضة.
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن عثمان عن أبيه قال:
صفحة : 100
قيل لنصيب: هرم شعرك. قال: لا والله ما هرم، ولكن العطاء هرم، ومن يعطيني مثل ما أعطاني الحكم بن المطلب خرجت إليه وهو ساع على بعض صدقات المدينة، فلما رأيته قلت:
أبا مروان لست بخارجـي وليس قديم مجدك بانتحـال
أغر إذا الرواق انجاب عنه بدا مثل الهلال على المثال
تراءاه العيون كما تـراءى عشية فطرها وضح الهلال قال: فأعطاني أربعمائة ضائنة ومائة لقحة، وقال: ارفع فراشي؛ فرفعته فأخذت من تحته مائتي دينار.
نصيب وكثير عند أبي عبيدة
ابن عبد الله بن زمعة
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير قال حدثني أسعد بن عبد الله المري عن إبراهيم بن سعيد بن بشر بن عبد الله بن عقيل الخارجي عن أبيه قال: والله إني لمع أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة في حواء له، إذ جاءه كثير فحياه، فاحتفى به، ودعا بالغداء فشرعنا فيه وشرع معنا كثير؛ وجاء رجل فسلم فرددنا عليه السلام واستدنيناه، فإذا نصيب في بزة جميلة قد وافى الحج قادما من الشأم، فأكب على أبي عبيدة فعانقه وسأله ثم دعاه إلى الغداء، فأكل مع القوم، فرفع كثير يده وأقلع عن الطعام، وأقبل عليه أبو عبيدة والقوم جميعا يسألونه أن يأكل، فأبى فتركوه. وأقبل كثير على نصيب فقال: والله يا أبا محجن، إن أثر أهل الشأم عليك لجميل، لقد رجعت هذه الكرة ظاهر الكبر قليل الحياء. فقال له نصيب: لكن أثر الحجاز عليك يا أبا صخر غير جميل. لقد رجعت وإنك لزايد النقص، كثير الحماقة. فقال كثير: أنا والله أشعر العرب حيث أقول لمولاتك:
إذا أمسيت بطن مجاح دوني وعمق دون عزة فالبقـيع
فليس بلائمي أحد يصـلـي إذا أخذت مجاريها الدموع فقال له نصيب: أنا والله أشعر منك حيث أقول لابنة عمك:
خليلي إن حلت كـلـية فـالـربـا فذا أمج فالشعب ذا الماء والحمض
فأصبح من حوران رحلي بمـنـزل يبعده من دونـهـا نـازح الأرض
وأيأستما أن يجمع الدهـر بـينـنـا فخوضا لي السم المصرح بالمحض
ففي ذاك من بعض الأمور سـلامة وللموت خير من حياة على غمض قال: فاقتحم إليه كثير، وثبت له النصيب. فلما نالته رجلاه رمحه نصيب بساقه رمحة طاح منها بعيدا عنه، فما زال راقدا حتى أيقظناه عشيا لرمي الجمار.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير عن محمد بن موسى بن طلحة عن عبد الله بن عمر بن عثمان النحوي عن أنيس بن ربيعة الأسلمي أنه قال: غدوت يوما إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة وهو محتل بالرحبة، فألفيت عنده جماعة منا ومن غيرنا، فأتاه آت فقال له: ذاك النصيب منذ ثلاث بالفرش من ملل متلدد كأنه واله في أثر قوم ظاعنين. فنهض أبو عبيدة ونهضنا معه، فإذا نصيب على المنحر من صفر. فلما عايننا وعرف أبا عبيدة هبط؛ فسأله عن أمره، فأخبره أنه تبع قوما سائرين وأنه وجد آثارهم ومحلهم بالفرش فاستولهه ذلك. فضحك به أبو عبيدة والقوم، وقالوا له: إنما يهتر إذا عشق من انتسب عذريا، فأما أنت فما لك ولهذا? فاستحيا وسكن. وسأله أبو عبيدة: هل قلت في مقامك شعرا? قال: نعم وأنشد:
لعمري لئن أمسيت بالفرش مقصـدا ثوياك عبـود وعـدنة أو صـفـر
ففرع صبـا أو تـيمـم مـصـعـدا لربع قديم العهد ينـتـكـف الأثـر
دعا أهله بالشأم بـرق فـأوجـفـوا ولم أر متبوعا أضر من الـمـطـر
لتستبدلن قلبـا عـينـا سـواهـمـا وإلا أتى قصدا حشاشتـك الـقـدر
خليلي فيما عشـتـمـا أو رأيتـمـا هل اشتاق مضرور إلى من به أضر
نعم ربما كان الـشـقـاء مـتـيحـا يغطي على سمع ابن آدم والبصـر قال: فانصرف به أبو عبيدة إلى منزله، وأطعمه وكساه وحمله، وانصرف وهو يقول:
أصاب دواء علتك الطـبـيب وخاض لك السلو ابن الربيب
وأبصر من رقاك منفـثـات وداؤك كان أعرف بالطبيب نصيب ويزيد بن عبد الملك
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال:
صفحة : 101
دخل نصيب على يزيد بن عبد الملك ذات يوم، فأنشده قصيدة امتدحه بها، فطرب لها يزيد واستحسنها، فقال له: أحسنت يا نصيب سلني ما شئت. فقال: يدك يا أمير المؤمنين بالعطاء أبسط من لساني بالمسألة فأمر به فملىء فمه جوهرا، فلم يزل به غنيا حتى مات.
نصيب وإبراهيم بن هشام
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا أبو غزية عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال: دخل نصيب على إبراهيم بن هشام وهو وال على المدينة، فأنشده قوله:
يابن الهشامين لا بيت كبيتهمـا إذا تسامت إلى أحسابها مضر فقال له إبراهيم: قم يا أبا محجن إلى تلك الراحلة المرحولة فخذها برحلها. فقام إليها نصيب متباطئا والناس يقولون: ما رأينا عطية أهنأ من هذه ولا أكرم ولا أعجل ولا أجزل. فسمعهم نصيب فأقبل عليهم وقال: والله إنكم قلما صاحبتم الكرام وما راحلة ورحل حتى ترفعوهما فوق قدرهما نصيب وهشام بن عبد الملك
أخبرني الحرمي وعيسى بن الحسين قالا حدثنا الزبير عن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان عن أبيه قال: استبطأ هشام بن عبد الملك حين ولي الخلافة نصيبا ألا يكون جاءه وافدا عليه مدحا له ووجد عليه. وكان نصيب مريضا، فبلغه ذلك حين برأ، فقدم عليه وعليه أثر المرض وعلى راحلته أثر النصب، فأنشده قصيدته التي يقول فيها:
حلفت بمن حجت قريش لبـيتـه وأهدت له بدنا عليهـا الـقـلائد
لئن كنت طالت غيبتي عنك إننـي بمبلغ حولي في رضاك لجاهـد
ولكنني قد طال سقمي وأكثـرت علي العهاد المشفقات الـعـوائد
صريع فراش لا يزلن يقلـن لـي بنصح وإشفاق متى أنت قـاعـد
فلما زجرت العيس أسرت بحاجتي إليك وذلت للسـان الـقـصـائد
وإني فلا تستبطنـي بـمـودتـي ونصحي وإشفاقي إليك لعـامـد
فلا تقصني حتى أكون بصـرعة فييأس ذو قربي ويشمت حـاسـد
أنلني وقربنـي فـإنـي بـالـغ رضاك بعفو مـن نـداك وزائد
أبت نائما أما فـؤادي فـهـمـه قليل وأما مس جلـدي فـبـارد
وقد كان لي منكم إذا ما لقيتـكـم ليان ومعروف وللـخـير قـائد
إليك رحلت العيس حتى كأنـهـا قسي السرى ذبلا برتها الطـرائد
وحتى هواديها دقاق وشـكـوهـا صريف وباقي النقي منها شرائد
وحتى ونت ذات المراح فأذعنـت إليك وكل الراسمات الحـوافـد قال: فرق له هشام وبكى، قال له: ويحك يا نصيب لقد أضررنا بك وبرواحلك. ووصله وأحسن صلته واحتفل به.
نصيب وعبد الواحد النصري أمير المدينة
أخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمه عن أيوب بن عبابة قال: قدم نصيب على عبد الواحد النصري وهو أمير المدينة بفرض من أمير المؤمنين يضعه في قومه من بني ضمرة، فأدخلهم عليه ليفرض لهم وفيهم أربعة غلمة لم يحتلموا، فردهم النصري. فكلمه نصيب كلاما غليظا إدلالا بمنزلته عند الخليفة، فأشار إليه إبراهيم بن عبد الله بن مطيع أن اسكت وكف واخرج، فإني كافيك. فلما خرج إبراهيم لقيه نصيب، فقال له: أشرت إلي فكرهت أن أغضبك، فما كرهت لي من مراجعته والصلابة له ومن ورائي المستعتب من أمير المؤمنين? فقال إبراهيم: هو رجل عربي حديد غلق، وخشيت إن جاذبته شيئا ألا يرجع عنه وأن يمضي عليه ويلج فيه، وهو مالك للأمر وله فيه سلطان، فأردت أن تخرج قبل أن يلج ويظهر منه ما لا يرجع عنه فيمضي عليه ويلج فيه، فتنتظر لتصادف منه طيب نفس فتكلمه ونرفدك عنده. فقال نصيب:
يومان يوم لزريق فسل يومه الآخر سمح فضل أنا - جعلت فداءك - فاعل ذلك، فإذا رأيت القول فأشر إلي حتى أكلمه.
قال: ودخل إليه نصيب عشيات، كل ذلك يشير إليه ابن مطيع ألا يكلمه، حتى صادف عشية من العشيات منه طيب نفس، فأشار إليه أن كلمه. فكلمه نصيب فأصاب مختله بكلامه، ثم قال: إني قد قلت شعرا فاسمعه أيها الأمير وأجزه، ثم قال:
أهاج البكا ربع بأسفل ذي الـسـدر عفاه اختلاف العصر بعدك والقطر
صفحة : 102
نعم فثناني الوجد فاشتـقـت لـلـذي ذكرت وليس الشوق إلا مع الذكـر
حلفت برب الموضعـين لـربـهـم وحرمة ما بين المقام إلى الحـجـر
لئن حاجتي يوما قضيت ورشتـنـي بنفحة عرف من يديك أبـا بـشـر
لتعترفـن الـدهـر مـنـي مـودة ونصحا على نصح وشكرا على شكر
سقى الله صوب المزن أرضا عمرتها بري وأسقاها بلاد بـنـي نـصـر
بوجهك فاستعملت ما دمـت خـائفـا لربك تقضي راشدا آخـر الـدهـر
لتنقذ أصحابـي وتـسـتـر عـورة بدت لك من صحبي فإنك ذو ستـر
فما بأمير المؤمـنـين إلـى الـتـي سألت فأعطاني لقومي مـن فـقـر
وقد خرجت منه إلـيك فـلا تـكـن بموضع بيضات الأنوق من الوكـر قال: فقال عثمان بن حيان المري وهو عنده - وكان قد جاءه بالقود من ابن حزم -: قد احتلم الآن القوم أيها الأمير، واستوجبوا الفرض. ورفده ابن مطيع فأحسن، واشتد عليه أن شركه ابن حيان في رفده وتشييعه وقال النصري لابن مطيع وابن حيان: صدقتما قد احتلموا واستوجبوا الفرض، افرض لهم يا فلان - لكاتب من كتابه - ففرض لهم.
عشقه أمة لبني مدلج وشعره فيها
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني جعفر بن علي اليشكري قال حدثني الرياشي عن العتبي قال: دخل نصيب على عبد العزيز بن مروان، فقال له عبد العزيز وقد طال الحديث بينهما: هل عشقت قط? قال: نعم، أمة لبني مدلج. قال: فكنت تصنع ماذا? قال: كانوا يحرسونها مني، فكنت أقنع أن أراها في الطريق وأشير إليها بعيني أو حاجبي، وفيها أقول:
وقفت لها كيما تمـر لـعـلـنـي أخالسها التسليم إن لـم تـسـلـم
ولما رأتني والـوشـاة تـحـدرت مدامعها خوفـا ولـم تـتـكـلـم
مساكين أهل العشق ما كنت أشتري جميع حياة العاشـقـين بـدرهـم فقال عبد العزيز: ويحك فما فعلت? قال: بيعت فأولدها سيدها. قال: فهل في نفسك منها شيء? قال: نعم، عقابيل أحزان.
عبد العزيز يحمل دينا عن نصيب
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي: أن إبلا لنصيب أجدبت وحالت، وكان لرجل من أسلم عليه ثمانية آلاف درهم قال: فأخبرني أبي وعمي أنه وفد على عبد العزيز بن مروان، فقال له: جعلني الله فداءك إني حملت دينا في إبل ابتعتها مجدبات حيال، وقد قلت فيها شعرا.
قال: انشده، فأنشده:
فلما حملت الدين فيها وأصبحـت حيالا مسنات الهوى كدت أنـدم
على حين أن راث الربيع ولم يكن لها بصعيد من تهامة مقـضـم
ثمانية للأسـلـمـي ومـا دنـا لفحش ولا تدنو إلى الفحش أسلم فقال له عبد العزيز: فما دينك? ويحك قال: ثمانية آلاف، فأمر له بثمانية آلاف درهم. فلما رجع أنشد الأسلمي الشعر فترك ماله عليه، قال: الثمانية الآلاف لك.
نصيب والنسوة الثلاث في المسجد الحرام
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني الموصلي عن ابن أبي عبيدة قال: أتى نصيب مكة فأتى المسجد الحرام ليلا. فبينما هو كذلك إذ طلع نسوة فجلسن قريبا منه وجعلن يتحدثن ويتذاكرن الشعر والشعراء، وإذا هن من أفصح النساء وآدابهن. فقالت إحداهن: قاتل الله جميلا حيث يقول:
وبين الصفا والـمـروتـين ذكـرتـكـم بمختلـف مـا بـين سـاع ومـوجـف
وعند طـوافـي قـد ذكـرتـك ذكـرة هي الموت بل كادت على الموت تضعف فقالت الأخرى: بل قاتل الله كثير عزة حيث يقول:
طلعن علينا بين مروة والصـفـا يمرن على البطحاء مور السحائب
فكدن لعمر الله يحـدثـن فـتـنة لمختشع من خشية الـلـه تـائب فقالت الأخرى: قاتل الله ابن الزانية نصيبا حيث يقول:
ألام على ليلى ولو أستطيعـهـا وحرمة ما بين البنية والسـتـر
لملت على ليلى بنفسـي مـيلة ولو كان في يوم التحالق والنحر
صفحة : 103
فقام نصيب إليهن فسلم عليهن، فرددن عليه السلام. فقال لهن: إني رأيتكن تتحادثن شيئا عندي منه علم. فقلن: ومن أنت? فقال: اسمعن أولا. فقلن: هات. فأنشدهن قصيدته التي أولها:
ويوم ذي سلم شاقـتـك نـائحة ورقاء في فنن والريح تضطرب فقلن له: نسألك بالله وبحق هذه البنية، من أنت? فقال: أنا ابن المظلومة المقذوفة بغير جرم نصيب . فقمن إليه فسلمن عليه ورحبن به، واعتذرت إليه القائلة، وقالت: والله ما أردت سوءا، وإنما حملني الاستحسان لقولك على ما سمعت. فضحك وجلس إليهن. فحادثهن إلى أن انصرفن.
أخبار ابن محرز ونسبه
نسب ابن محرز
هو مسلم بن محرز. فيما روى ابن المكي، ويكنى أبا الخطاب، مولى بني عبد الدار ابن قصي. وقال ابن الكلبي: اسمه سلم. قال ويقال: اسمه عبد الله. وكان أبوه من سدنة الكعبة، أصله من الفرس، وكان أصفر أحنى طويلا.
وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني أخي هارون عن عبد الملك بن الماجشون قال: اسم ابن محرز سلم، وهو مولى بني مخزوم. وذكر إسحاق أنه كان يسكن المدينة مرة ومكة مرة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلم الضرب من عزة الميلاء، ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر. ثم شخص إلى فارس فتعلم ألحان الفرس وأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشأم فتعلم ألحان الروم وأخذ غناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يستحسن من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها فمزج بعضها ببعض وألف منها الأغاني التي صنعها في أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع مثله. وكان يقال له صناج العرب.
ابن محرز أول من غنى الرمل
أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: قال أبي: أول من غنى الرمل ابن محرز وما غني قبله. فقلت له: ولا بالفارسية? قال: ولا بالفارسية، وأول من غنى رملا بالفارسية سلمك في أيام الرشيد، استحسن لحنا من ألحان ابن محرز، فنقل لحنه إلى الفارسية وغنى فيه.
سبب خمول ذكره
قال أبو أيوب وقال إسحاق: كان ابن محرز قليل الملابسة للناس، فأخمل ذلك ذكره فما يذكر منه إلا غناؤه، وأخذت أكثر غنائه جارية كانت لصديق له من أهل مكة كانت تألفه، فأخذه الناس عنها. ومات بداء كان به. وسقط إلى فارس فأخذ غناء الفرس، وإلى الشأم فأخذ غناء الروم، فتخير من نغمهم ما تغنى به غناءه. وكان يقدم بما يصيبه فيدفعه إلى صديقه ذاك فينفقه كيف شاء، لا يسأله عن شيء منه، حتى إذا كاد أن ينفد جهزه وأصلح من أمره، وقال له: إذا شئت فارحل، فيرحل ثم يعود. فلم يزل كذلك حتى مات.
ابن محرز أول من غنى بزوج من الشعر
واقتدى به المغنون في ذلك
قال : وهو أول من غنى بزوج من الشعر، وعمل ذلك بعده المغنون اقتداء به. وكان يقول: الأفراد لا تتم بها الألحان. وذكر أنه أول ما أخذ الغناء أخذه عن ابن مسجح. قال إسحاق: وكانت العلة التي مات بها الجذام، فلم يعاشر الخلفاء ولا خالط الناس لأجل ذلك.
قال أبو أيوب قال إسحاق: قدم ابن محرز يريد العراق، فلما نزل القادسية لقيه حنين، فقال له: كم منتك نفسك من العراق? قال: ألف دينار. قال: فهذه خمسمائة دينار فخذها وانصرف واحلف ألا تعود.
علو كعبه في صنعة الغناء
وقال إسحاق: وقلت ليونس: من أحسن الناس غناء? قال: ابن محرز. قلت: وكيف قلت ذاك. قال: إن شئت فسرت، وإن شئت أجملت. قلت: أجمل. قال: كأنه خلق من كل قلب، فهو يغني لكل إنسان بما يشتهي. وهذه الحكاية بعينها قد حكيت في ابن سريج، ولا أدري أيهما الحق.
قال إسحاق: وأخبرني الفضل بن يحيى بن خالد أنه سأل بعض من يبصر الغناء: من أحسن الناس غناء? فقال: أمن الرجال أم من النساء? فقلت: من الرجال. فقال: ابن محرز. فقلت: فمن النساء? فقال: ابن سريج. قال: وكان إسحاق يقول: الفحول ابن سريج، ثم ابن محرز، ثم معبد ثم الغريض، ثم مالك.
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد: قرأت على أبي حدثنا بعض أهل المدينة، وأخبرني بهذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أخي هارون عن عبد الملك بن الماجشون قال:
صفحة : 104
كان ابن محرز أحسن الناس غناء، فمر بهند بنت كنانة بن عبد الرحمن بن نضلة بن صفوان بن أمية بن محرث الكناني حليف قريش، فسألته أن يجلس لها ولصواحب لها، ففعل وقال: أغنيكن صوتا أمرني الحارث بن خالد بن العاص بن هشام أن أغنيه عائشة بنت طلحة بن عبيد الله في شعر له قاله فيها وهو يومئذ أمير مكة? قلن نعم. فغناهن: صوت
فوددت إذ شحطوا وشطت دارهم وعدتهم عنا عـواد تـشـغـل
أنا نطاع وأن تنـقـل أرضـنـا أو أن أرضهم إلينـا تـنـقـل
لترد من كثب إلـيك رسـائلـي بجوابها ويعود ذاك المـرسـل عروضه من الكامل. الغناء في هذه الأبيات خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر، ذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز، وذكر إسحاق أنه لابن سريج.
ابن محرز وحنين الحيري
وقال أبو أيوب المديني في خبره: بلغني أن ابن محرز لما شخص يريد العراق لقيه حنين فقال له: غنني صوتا من غنائك. فغناه: صوت
وحسن الزبرجد في نظـمـه على واضح الليث زان العقودا
يفـصـل ياقــوتـــه دره وكالجمر أبصرت فيه الفريدا عروضه من المتقارب. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر - قال: فقال له حنين حينئذ: كم أملت من العراق? قال: ألف دينار. فقال له: هذه خمسمائة دينار فخذها وانصرف. ولما شاع ما فعل لامه أصحابه عليه؛ فقال: والله لو دخل العراق لما كان لي معه فيه خبز آكله، ولا طرحت وسقطت إلى آخر الدهر. وهذا الصوت أعنى:
وحسن الزبرجد في نظمه من صدور أغاني ابن محرز وأوائلها وما لا يتعلق بمذهبه فيه ولا يتشبه به أحد. ومما يغنى فيه من قصيدة نصيب التي أولها:
أهاج هواك المنزل المتقادم صوت
لقد راعني للبين نوح حمـامة على غصن بان جاوبتها حمائم
هواتف أما من بكين فعـهـده قديم وأما شجـوهـن فـدائم الغناء لابن سريج من رواية يونس وعمرو وابن المكي، وهو ثاني ثقيل بالبنصر، وهو من جيد الألحان وحسن الأغاني، وهو مما عارض ابن سريج فيه ابن محرز وانتصف منه.
ذكر الأصوات التي رواها جحظة
عن أصحابه وحكى أنها من الثلاثة المختارة
صوت
إلى جيداء قد بعثوا رسـولا ليحزنها فلا صحب الرسول
كأن العام ليس بعـام حـج تغيرت المواسم والشكـول الشعر للعرجي، والغناء لإبراهيم الموصلي، ولحنه المختار ماخوري بالوسطى. وهو من خفيف الثقيل الثاني على مذهب إسحاق. وفيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة. في مجرى البنصر، وذكر عمرو بن بانة أن الماخوري لابن سريج.
أخبار العرجي ونسبه
نسب العرجي من قبل أبويه
هو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. وقد شرح هذا النسب في نسب أبي قطيفة. وأم عفان وجميع بني أبي العاص آمنة بنت عبد العزى بن حرثان بن عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب. وأم عثمان أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس. وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، وهي أخت عبد الله بن عبد المطلب أبى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لأمه وأبيه ولدا في بطن واحد. وأم عمرو بن عثمان أم أبان بنت جندب الدوسية.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن صالح عن يعقوب بن محمد بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال حدثني محرز بن جعفر عن أبيه عن جده قال:
صفحة : 105
قدم جندب بن عمرو بن حممة الدوسي المدينة مهاجرا في خلافة عمر بن الخطاب، ثم مضى إلى الشأم وخلف ابنته أم أبان عند عمر، وقال له: يا أمير المؤمنين، إن وجدت لها كفئا فزوجه بها ولو بشراك نعله، وإلا فأمسكها حتى تلحقها بدار قومها بالسراة. فكانت عند عمر، واستشهد أبوها، فكانت تدعوا عمر أباها ويدعوها ابنته. قال: فإن عمر على المنبر يوما يكلم الناس في بعض الأمر إذ خطر على قلبه ذكرها، فقال: من له في الجميلة الحسيبة بنت جندب بن عمرو بن حممة، وليعلم امرؤ من هو فقام عثمان فقال: إنا يا أمير المؤمنين. فقال أنت لعمر الله كم سقت إليها? قال: كذا وكذا. قال: قد زوجتكها، فعجله؛ فإنها معدة. قال: ونزل عن المنبر. فجاء عثمان رضي الله عنه بمهرها، فأخذه عمر في ردنه فدخل به عليها، فقال: يا بنية، مدي حجرك، ففتحت حجرها، فألقى فيه المال، ثم قال: يا بنية، قولي اللهم بارك لي فيه. فقالت: اللهم بارك لي فيه، وما هذا يا أبتاه? قال: مهرك. فنفحت به وقالت: واسوأتاه فقال: احتسبي منه لنفسك ووسعي منه لأهلك، وقال لحفصة: يا بنتاه، أصلحي من شأنها وغيري بدنها واصبغي ثوبها، ففعلت. ثم أرسل بها مع نسوة إلى عثمان. فقال عمر لما فارقته: إنها أمانة في عنقي أخشى أن تضيع بيني وبين عثمان، فلحقهن فضرب على عثمان بابه، ثم قال: خذ أهلك بارك الله لك فيهم. فدخلت على عثمان، فأقام عندها مقاما طويلا لا يخرج إلى حاجة. فدخل عليه سعيد بن العاص فقال له: يا أبا عبد الله، لقد أقمت عند أهل الدوسية مقاما ما كنت تقيمه عند النساء. فقال: أما إنه ما بقيت خصلة كنت أحب أن تكون في امرأة إلا صادفتها فيها ما خلا خصلة واحدة. قال: وما هي? قال: إني رجل قد دخلت في السن، وحاجتي في النساء الولد، وأحسبها حديثة لا ولد فيها اليوم. قال: فتبسمت. فلما خرج سعيد من عنده قال لها عثمان: ما أضحكك. قالت: قد سمعت قولك في الولد، وإني لمن نسوة ما دخلت امرأة منهن على سيد قط فرأت حمراء حتى تلد سيد من هو منه. قال: فما رأت حمراء حتى ولدت عمرو بن عثمان. وأم عمر بن عمرو بن عثمان وأم ولد. وأم العرجي آمنة بنت عمر بن عثمان؛ وقال إسحاق: بنت سعيد بن عثمان، وهي لأم ولد.
سبب تلقبه بالعرجي ونحوه نحو عمر بن أبي ربيعة في شعره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي: أنه إنما لقب العرجي لأنه كان يسكن عرج الطائف. وقيل: بل سمي بذلك لماء كان له ومال عليه بالعرج. وكان من شعراء قريش، ومن شهر بالغزل منها، ونحا نحو عمر بن أبي ربيعة في ذلك وتشبه به فأجاد. وكان مشغوفا باللهو والصيد حريصا عليهما قليل المحاشاة لأحد فيهما. ولم يكن له نباهة في أهله، وكان أشقر أزرق جميل الوجه. وجيداء التي شبب بها هي أم محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان ينسب بها ليفضح ابنها لا لمحبة كانت بينهما؛ فكان ذلك سبب حبس محمد إياه وضربه له، حتى مات في السجن.
وأخبرني محمد بن مزيد إجازة عن حماد بن إسحاق فذكر أن حمادا حدثه عن إسحاق عن أبيه عن بعض شيوخه: أن العرجي كان أزرق كوسجا ناتىء الحنجرة، وكان صاحب غزل وفتوة، وكان يسكن بمال له في الطائف يسمى العرج؛ فقيل له العرجي ونسب إلى ماله. وكان من الفرسان المعدودين مع مسلمة بن عبد الملك بأرض الروم، وكان له معه بلاء ونفقة كثيرة.
قال إسحاق: قد ذكر عتبة بن إبراهيم اللهبي: أن العرجي فيما بلغه باع أموالا عظاما كانت له وأطعم ثمنها في سبيل الله حتى نفد ذلك كله. وكان قد اتخذ غلامين، فإذا كان الليل نصب قدره وقام الغلامان يوقدان، فإذا نام واحد قام الآخر، فلا يزالان كذلك حتى يصحبا، يقول: لعل طارقا يطرق.
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثني مصعب، وأخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمه مصعب، وعن محمد بن الضحاك بن عثمان عن أبيه قال، دخل حديث بعضهم في بعض، وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن مصعب قال: العرجي خليفة عمر بن أبي ربيعة
صفحة : 106
كانت حبشية من مولدات مكة ظريفة صارت إلى المدينة، فلما أتاهم موت عمر بن أبي ربيعة اشتد جزعها وجعلت تبكي وتقول: من لمكة وشعابها وأباطحها ونزهها ووصف نسائها وحسنهن وجمالهن ووصف ما فيها فقيل لها: خفضي عليك؛ فقد نشأ فتى من ولد عثمان رضي الله عنه يأخذ مأخذه ويسلك مسلكه. فقالت: أنشدوني من شعره، فأنشدوها؛ فمسحت عينها وضحكت وقالت: الحمد لله الذي لم يضيع حرمه.
العرجي وكلابة مولاة العبلى
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب، وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عورك اللهبي: أن مولاة لثقيف يقال لها كلابة كانت عند عبد الله بن القاسم الأموي العبلي، وكان يبلغها تشبيب العرجي بالنساء وذكره لهن في شعره، وكانت كلابة تكثر أن تقول: لشد ما اجترأ العرجي على نساء قريش حين يذكرهن في شعره ولعمري ما لقي أحدا فيه خير، ولئن لقيته لأسودن وجهه فبلغه ذلك عنها. قال إسحاق في خبره: وكان العبلى نازلا على ماء لبني نصر بن معاوية يقال له الفتق على ثلاثة أميال من مكة على طريق من جاء من نجران أنو تبالة إلى مكة، والعرج أعلاها قليلا مما يلي الطائف. فبلغ العرجي أنه خرج إلى مكة، فأتى قصره فأطاف به، فخرجت إليه كلابة وكان خلفها في أهله، فصاحت به: إليك، ويلك وجعلت ترميه بالحجارة وتمنعه أن يدنو من القصر. فاستسقاها ماء فأبت أن تسقيه، وقالت: لا يوجد والله أثرك عندي أبدا فيلصق بي منك شر. فانصرف وقال: ستعلمين وقال: صوت
حور بعثن رسولا فـي مـلاطـفة ثقفا إذا غفل الـنـسـاءة الـوهـم
إلي أن إيتـنـا هـدأ إذا غـفـلـت أحراسنا وافتضحنا إن هم علـمـوا
فجئت أمشي على هول أجـشـمـه تجشم المرء هولا في الهوى كـرم
إذا تخوفت مـن شـيء أقـول لـه قد جف فامض بشيء قدر القـلـم
أمشي كما حـركـت ريح يمـانـية غصنا من البان رطبا طلـه الـديم
في حلة من طراز السوس مشـربة تعفو بهدابـهـا مـا أثـرت قـدم
خلت سبيلي كما خـلـيت ذا عـذر إذا رأته عتاق الـخـيل ينـتـجـم
وهن في مجلس خـال ولـيس لـه عين عليهـن أخـشـاهـا ولا نـدم
حتى جلست إزاء الباب مكتـتـمـا وطالب الحاج تحت الليل مكـتـتـم
أبدين لي أعينا نجلا كمـا نـظـرت أدم هجان أتاها مصـعـب قـطـم
قالت كلابة من هذا? فقلـت لـهـا أنا الذي أنت من أعـدائه زعـمـوا
أنا امرؤ جد بي حب فأحـرضـنـي حتى بليت وحتى شفنـي الـسـقـم
لا تكلينـي إلـى قـوم لـو أنـهـم من بغضنا أطعموا الحمى إذا طعموا
وأنعمي نعمة تجزي بأحـسـنـهـا فطالما مسني من أهلـك الـنـعـم
ستر المحبين في الدنـيا لـعـلـهـم أن يحدثوا توبة فـيهـا إذا أثـمـوا
هذي يميني رهن بالـوفـاء لـكـم فارضي بها ولأنف الكاشح الرغـم
قالت رضيت ولكن جئت في قـمـر هلا تلبثت حتى تدخـل الـظـلـم
فبت أسقي بـأكـواس أعـل بـهـا من بارد طاب منها الطعم والنـسـم
حتى بدا ساطع للفجر نـحـسـبـه سنى حريق بليل حـين يضـطـرم
كغرة الفرس المنسوب قد حسـرت عنه الجلال تلالا وهـو يلـتـجـم
ودعتهـن ولا شـيء يراجـعـنـي إلا البنان وإلا الأعـين الـسـجـم
إذا أردن كلامي عنده اعتـرضـت من دونه عبرات فانثنـى الـكـلـم
تكاد إذ رمن نهضا للـقـيام مـعـي أعجازهن من الأنصاف تنـقـصـم
صفحة : 107
قال: فسمع ابن القاسم العبلي بالشعر يغنى به، وكان العرجي قد أعطاه جماعة من المغنين وسألهم أن يغنوا فيه، فصنعوا في أبيات منه عدة ألحان، وقال: والله لا أجد لهذه الأمة شيئا أبلغ من إيقاعها تحت التهمة عند ابن القاسم ليقطع مأكلتها من ماله. قال: فلما سمع العبلي بالشعر يغنى به أخرج كلابة واتهمها، ثم أرسل بها بعد زمان على بعير بين غرارتي بعر، فأحلفها بمكة بين الركن والمقام إن العرجي كذب فيما قاله. فحلفت سبعين يمينا، فرضي عنها وردها. فكان بعد ذلك إذا سمع قول العرجي:
فطالما مسني من أهلم النعم قال: كذب والله ما مسه ذلك قط. وقال إسحاق: وقد قيل: إن صاحب هذه القصيدة والقصة أبو حراب العبلي، وإن كلابة كانت أمة لسعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان، وكان العرجي قد خطبها وسميت به، ثم خطبها يزيد بن عبد الملك أو الوليد بن يزيد فزوجته، فقال العرجي هذا الشعر فيها. غنى في قوله:
أمشي كما حركت ريح يمانية علي بن هشام هزجا مطلقا بالبنصر، وفيه للمسدود هزج آخر طنبوري، ذكر ذلك جحظة. وفي:
لا تكليني إلى قوم لو أنهم رمل لابن سريج عن ابن المكي وإسحاق بالسبابة في مجرى الوسطى. وفي قالت كلابة والذي بعده لعبيد الله بن أبي غسان لحن من خفيف الرمل. ولنبيه في أنا امرؤ جد بي وما بعده، هزج بالوسطى. ولدحمان في حور بعثن وما بعده، هزج بالوسطى، وروى عنه الهشامي فيه ثقيلا أول. ولأبي عيسى بن المتوكل في وأنعمي نعمة وبيتين بعده، ثقيل أول.
وأخبرني بخبر العرجي وكلابة هذه الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب، وأخبرني به وكيع عن أبي أيوب المديني عن مصعب وذكر نحوا مما ذكره إسحاق؛ وزعما أن كلابة كانت قيمة لأبي حراب العبلي وهو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس.
أيوب بن مسلمة وأشعب يتذكران شعره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني مسلمة بن إبراهيم بن هشام قال: كنت عند أيوب بن مسلمة ومعنا أشعب، فذكر قول العرجي:
أين ما قلت مت قـبـلـك أينـا أين تصديق ما وعـدت إلـينـا
فلقد خفت منك أن تصرمي الحب ل وأن تجمعي مع الصرم بينـا
ما تقولين في فتى هـام إذ هـا م بمن لا ينال جهـلا وحـينـا
فاجعلي بينـنـا وبـينـك عـدلا لا تحيفي ولا يحـيف عـلـينـا
واعلمي أن في القضاء شهـودا أو يمينا فأحضري شـاهـدينـا
خلتي لو قدرت منك علـى مـا قلت لي في الخلاء حين التقينـا
ما تحرجت من دمي علـم الـل ه ولو كنت قد شهدت حـنـينـا قال فقال أيوب لأشعب: ما تظن أنها وعدته? قال: أخبرك يقينا لا ظنا أنها وعدته أن تأتيه في شعب من شعاب العرج يوم الجمعة إذا نزل الرجال إلى الطائف للصلاة، فعرض لها عارض شغل فقطعها عن موعده. قال: فمن كان الشاهدان? قال: كسير وعوير، وكل غير خير: فند أبو زيد مولى عائشة بنت سعد، وزور الفرق مولى الأنصار. قال: فمن العدل الحكم? قال: حصين بن غرير الحميري. قال: فما حكم به? قال: أدت إليه حقه وسقطت المؤنة عنه. قال: يا أشعب، لقد أحكمت صناعتك قال: سل علامة عن علمه.
شعره في عاتكة زوجة طريح الثقفي
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عورك اللهبي قال: قال العرجي في امرأة من بني حبيب بطن من بني نصر بن معاوية يقال لها عاتكة، وكانت زوجة طريح بن إسماعيل الثقفي:
يا دار عاتكة التي بالأزهـر أو فوقه بقفا الكثيب الأحمر
لم ألق أهلك بعد عام لقيتهم يا ليت أن لقاءهم لم يقـدر صوت
بفناء بيتك وابن مشعب حاضـر في سامر عطر وليل مقمـر
مستشعرين ملاحـفـا هـروية بالزعفران صباغها والعصفر
فتلازما عند الفراق صـبـابة أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر
صفحة : 108
الأزهر: على ثلاثة أميال من الطائف. وابن مشعب الذي عناه مغن من أهل مكة كان في زمن ابن سريج. والغناء في هذه الأبيات له رمل بالوسطى. قال إسحاق: كان ابن مشعب من أحسن الناس وجها وغناء، ومات في تلك الأيام، فأدخل الناس غناءه في غناء ابن سريج والغريض. قال: وهذا الصوت ينسبه من لا يعلم إلى ابن محرز، يعني:
بفناء بيتك وابن مشعب حاضر قال: وهو الذي غنى:
أقفر ممن يحله الـسـنـد فالمنحنى فالعقيق فالجمـد
ويحي غدا إن غدا علي بما أحذر من فرقة الحبيب غد والناس ينسبونه إلى ابن سريج.
حكاية يرويها ابن مخارق عن العرجي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن ثابت بن إبراهيم الأنصاري قال حدثني ابن مخارق قال: واعد العرجي هوى له شعبا من شعاب عرج الطائف إذا نزل رجالها يوم الجمعة إلى مسجد الطائف. فجاءت على أتان لها معها جارية لها، وجاء العرجي على حمار معه غلام له، فواقع المرأة، وواقع الغلام الجارية، ونزا الحمار على الأتان. فقال العرجي: هذا يوم قد غاب عذاله: غنى العرجي
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا النضر بن عمرو عن ابن داحة قال: كان العرجي يستقي على إبله في شملتين، ثم يغتسل ويلبس حلتين بخمسمائة دينار، ثم يقول:
يوما لأصحابي ويوما للمال مدرعة يوما ويوما سربال أخبرني محمد بن مزبد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن بعض رجاله: أن العرجي كان غازيا فأصابت الناس مجاعة، فقال للتجار: أعطوا الناس وعلي ما تعطون، فلم يزل يعطيهم ويطعم الناس حتى أخصبوا، فبلغ ذلك عشرين ألف دينار، فألزمها العرجي نفسه. وبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز فقال: بيت المال أحق بهذا، فقضى التجار ذلك المال من بيت المال.
العرجي وأم الأوقص
وهو محمد بن عبد الرحمن المخزومي القاضي
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه، وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبيري وغيره: أن العرجي خرج إلى جنبات الطائف متنزها، فمر ببطن النقيع فنظر إلى أم الأوقص، وهو محمد بن عبد الرحمن المخزومي القاضي، وكان يتعرض لها، فإذا رآها رمت بنفسها وتسترت منه، وهي امرأة من بني تميم، فبصر بها في نسوة جالسة وهن يتحدثن، فعرفها وأحب أن يتأملها من قرب، فعدل عنها ولقي أعرابيا من بني نصر على بكر له ومعه وطبا لبن، فدفع إليه دابته وثيابه وأخذ قعوده ولبنه ولبس ثيابه، ثم أقبل على النسوة فصحن به: يا أعرابي، أمعك لبن? قال: نعم، ومال إليهن وجلس يتأمل أم الأوقص، وتواثب من معها إلى الوطبين، وجعل العرجي يلحظها وينظر أحيانا إلى الأرض كأنه يطلب شيئا وهن يشربن من اللبن. فقالت له امرأة منهن: أي شيء تطلب يا أعرابي في الأرض? أضاع منك شيء? قال: نعم قلبي. فلما سمعت التميمية كلامه نظرت إليه وكان أزرق فعرفته، فقالت: العرجي بن عمر ورب الكعبة ووثبت وسترها نساؤها وقلن: انصرف عنا لا حاجة بنا إلى لبنك. فمضى منصرفا، وقال في ذلك:
أقول لصاحبي ومثل ما بي شكاه المرء ذو الوجد الأليم
إلى الأخوين مثلهما إذا مـا تأوبه مؤرقه الـهـمـوم
لحيني والبلاء لقيت ظهـرا بأعلى النقع أخت بني تميم
فلما أن رأت عيناني منهـا أسيل الخد في خلق عمـيم
وعيني جؤذر خرق وثغرا كلون الأقحوان وجـيد ريم
حنا أترابها دوني علـيهـا حنو العائدات على السقـيم قال إسحاق في خبره: فقال رجل من بني جمع يقال له ابن عامر للأوقص وقضى عليه بقضية فتظلم منه: والله لو كنت أنا عبد الله بن عمر العرجي لكنت قد أسرفت علي. فضربه الأوقص سبعين سوطا.
ابو السائب المخزومي وشعر العرجي
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه قال: أتاني أبو السائب المخزومي ليلة بعد ما رقد السامر فأشرفت عليه. فقال: سهرت وذكرت أخا لي أستمتع به، فلم أجد سواك. فلو مضينا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا فمضينا، فأنشدته في بعض ذلك بيتين للعرجي:
صفحة : 109
باتا بأنعـم لـيلة حـتـى بـدا صبح تلوح كالأغر الأشـقـر
فتلازما عند الفراق صـبـابة أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر فقال: أعده علي، فأعدته. فقال: أحسن والله امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته. قال: فلقينا عبد الله بن حسن بن حسن، فلما صرنا إليه وقف بنا وهو منصرف من ماله يريد المدينة، فسلم ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب? فقال:
فتلازما عند الفراق صـبـابة أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر فالتفت إلي فقال: متى أنكرت صاحبك? فقلت: منذ الليلة. فقال: إنا لله وأي كهل أصيبت منه قريش ثم مضينا، فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالا له على بغلة له ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة، فسلم ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب? فقال:
فتلازما عند الفراق صـبـابة أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر قلت: آنفا. فلما أراد المضي قلت: أفتدعه هكذا? ولله ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق قال: صدقت، يا غلام قيد البغلة، فأخذ القيد فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويشير بيده إليه يري أنه يفهم عنه قصته. ثم نزل الشيخ وقال لغلامه: يا غلام، احمله على بغلتي وألحقه بأهله. فلما كان بحيث علمت أنه فاته أخبرته بخبره، فقال: قبحك الله ماجنا فضحت شيخا من قريش وغررتني.
ابن أبي عتيق وشعر العرجي
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عروة بن عبد الله بن عروة بن الزبير عن عروة بن أذينة قال: أنشد ابن جندب الهذلي ابن أبي عتيق قول العرجي:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولـهـا لخادمها قومي اسألي لي عن الوتر
فقالت يقول الناس في ست عشـرة فلا تعجلي منه فإنك فـي أجـر
فما ليلة عندي وإن قـيل جـمـعة ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطـر
بعادلة الإثنين عندي وبـالـحـرى يكون سواء منهما لـيلة الـقـدر فقال ابن أبي عتيق: أشهدكم أنها حرة من مالي إن أجاز ذلك أهلها، هذه والله أفقه من ابن شهاب.
شعر العرجي في زوجته أم نعمان
بنت بكير بن عمرو بن عثمان بن عفان
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: تزوج العرجي أم عثمان بنت بكير بن عمرو بن عثمان بن عفان، وأمها سكينة بنت مصعب بن الزبير، فقال فيها:
إن عثمـان والـزبـير أحـلا دارها بالـيفـاع إذ ولـداهـا
إنها بنـت كـل أبـيض قـرم نال في المجد من قصي ذراها
سكن الناس بالظواهر منـهـا وتبوا لنفسـه بـطـحـاهـا قال إسحاق: ولما تزوج الرشيد زوجته العثمانية أعجب بها، فكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات.
العرجي وأبو عدي العبلي
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: حدثت أن أبا عدي العبلي خرج يريد واديا نحو الطائف يقال له جلدان، فمر بعبد الله بن عمر العرجي وهو نازل هناك بواد يقال له العرج، فأرسل إليه غلاما له فأعلمه بمكانه، فأتاه الغلام فقال له: هذا أبو عدي، فأمر أن ينزله في مسجد الخيف، فأنزل وأبطأ عليه في الخروج. فقال للغلام: ويحك ما يحبس مولاك? قال: عنده ابن وردان مولى معاوية، وهما يأكلان القسب والجلجلان. ثم بعث إليه بخبز ولبن، وبعث لرواحله بحمض وقدم إلى رواحل ابن وردان القت والشعير. فكتب إليه أبو عدي:
أبا عمر لم تنزل الركب إذ أتـوا منازلهم والركب يحفون بالركب
رفعت لئام الناس فوق كرامهـم وآثرتهم بالجلجلان والقـسـب
فأما بعيرانا فبالحـمـض غـذيا وأوثر عباد بن وردان بالقضب فكتب إليه العرجي:
أتانـا فـلـم نـشـعـر بـه غـير أنـه له لحية طالت على حـمـق الـقـلـب
كراية بـيطـار بـأعـلــى حـــديدة إذا نصبت لم تكسب الحمد بـالـنـصـب
أتانا على سـغـب يعـرض بـالـقـرى وهل فوق قرض من قرى صاحب السغب قال: فارتحل أبو عدي مغضبا وقال: مزحت معه فهجاني، وأنشأ يقول في العرجي:
صفحة : 110
سرت ناقتي حتى إذا ملت السـرى وعارضها عرج الجبانة والخصـب
طواها الكرى بعد السرى بمعـرس جديب وشيخ بئس مستعرض الركب
وهمت بتعريس فحلـت قـيودهـا إلى رجل بالعرج ألأم من كـلـب
تمطى قلـيلا ثـم جـاء بـصـربة وقرص شعير مثل كركرة السقـب
فقلت لـه أردد قـراك مـذمـمـا فلست إليه بالفقير ولا صـحـبـي
جزى الله خيرا خيرنا عنـد بـيتـه وأنحرنا للكوم في اليوم ذي السغب
لقد علمت فهـر بـأنـك شـرهـا وآكل فهر للخبيث من الـكـسـب
وتلبس للجـارات إتـبـا ومـئزرا ومرطا فبئس الشيخ يرفل في الإتب
يدخن بالعـد الـيلـنـجـوج مـرة وبالضرو والسوداء والمائع الرطب
فإن قلت عثمان بن عفـان والـدي فقد كان عثمان بريئا من الـوشـب
وقدما يجيء الحي بالنسـل مـيتـا ويأتي كريم الناس بالوكل الثـلـب
له لحية قد مـزقـت فـكـأنـهـا مقمة حشاش محالـفة الـعـشـب فلما بلغ ذلك العرجي أتى عمه علي بن عبد الله بن علي العبلي فشق قميصه بين يديه وشكاه إليه. فبعث إلى ابن عدي فنهاه عنه وقال: لئن عدت لا كلمتك أبدا فكف عنه.
كان العرجي من أفرس الناس وأرماهم
وأبراهم لسهم
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سليمان بن عثمان بن يسار: رجل من أهل مكة وكان هيبا أديبا قال: كان للعرجي حائط يقال له العرج في وسط بلاد بني نصر بن معاوية، فكانت إبلهم وغنمهم تدخل فيه فيعقر كل ما دخل منها، فكانت تضر به ويضر بأهلها ويشكونه ويشكوهم. وكان من أفرس الناس وأرماهم وأبراهم لسهم، فكان ربما برى مائة سهم من الرمان، ثم يقول: والله لا أنقلب حتى أقتل بها مائة خلفة من إبل بني نصر، فيفعل ذلك.
حبس العرجي
قال إسحاق: فحدثني ابن غرير قال: لما حبس العرجي وضرب وأقيم على البلس قال:
معي ابن غرير واقفا في عبـاءة لعمري لقد قرت عيون بني نصر فقال فتى من بني نصر يجيبه - وكان حاضرا لضربه وإقامته -:
أجل قد أقر اللـه فـيك عـيونـنـا فبئس الفتى والجار في سالف الدهر وقال إسحاق في خبره: قال رجل للعرجي: جئتك أخطب إليك مودتك. قال: بل خذها زنا، فإنها أحلى وألذ تمثل امرأة بشعره في الحج
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسماعيل بن مجمع عن المدائني عن عبد الله بن سلم قال: قال عبد الله بن عمر العمري: خرجت حاجا، فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام أرفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة الله، ألست حاجة أما تخافين الله فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمل يا عم فإنني ممن غنا العرجي بقوله: صوت
أماطت كساء الخز عن حر وجهها وأدنت على الخدين بردا مهلهـلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسـبة ولكن ليقتلن البريء المـغـفـلا قال فقلت لها: فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار. قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: أما والله لو كان من بعض بغضاء العراق لقال لها: اغربي قبحك الله ولكنه ظرف عباد أهل الحجاز. وقد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم الأعرج وهو سلمة بن دينار، وقد روى أبو حازم عن أبي هريرة وسهل بن سعد وغيرهما، وروى عنه مالك وابن أبي أيوب. والحكاية عنه في هذا أصح منها عن عبد الله العمري، حدثنا بهذا وكيع. والغناء في هذه الأبيات لعرار المكي ثاني ثقيل. وفيه خفيف ثقيل لمعبد، وفيها لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول، ويقال إن خفيف الثقيل لابن سريج، ويقال للغريض.
غناء عبد الله بن العباس الربيعي بشعره
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني ابو ثوبة قال: قال عبد الله بن العباس: دعاني المتوكل، فلما جلست مجلس المنادمة قال لي: يا عبد الله، تغن، فغنيته في شعر مدحته به، فقال: أين هذا من غنائك في:
أماطت كساء الخز عن حر وجهها ومن صنعتك في:
أقفر ممن يحله سرف
صفحة : 111
فقلت: يا أمير المؤمنين، إن صنعتي حينئذ كانت وأنا شاب عاشق، فإن استطعت رد شبابي وعشقي صنعت مثل تلك الصنعة. فقال هيهات وقد لعمري صدقت، ووصلني. والأبيات التي فيها الغناء المذكور من شعر العرجي يقوله في جيداء أم محمد بن هشام بن إسماعيل المخزومي، وكان يهجوه ويشبب بأمه وبامرأته، وكان محمد تياها شديد الكبر جبارا، فلم يزل يتطلب عليه العلل حتى حبسه وقيده بعد أن ضربه بالسوط وأقامه على البلس للناس. واختلف الرواة في السبب الذي اعتل به عليه، وقد ذكرت ذلك في رواياتهم: هجاؤه محمد بن هشام المخزومي
وتشبيبه بأمه
أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة، وأخبرنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب ومحمد بن الضحاك الحزامي عن الضحاك بن عثمان، وذكره حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية، ونسخته أيضا من رواية محمد بن حبيب قالوا: كان محمد بن هشام خال هشام بن عبد الملك، فلما ولي الخلافة ولاه مكة، وكتب إليه يحج بالناس، فهجاه العرجي بأشعار كثيرة.
منها قوله فيه:
كأن العام ليس بـعـام حـج تغيرت المواسم والشكـول
إلى جيداء قد بعثوا رسـولا ليخبرها فلا صحب الرسول ويروى: ليحزنها وهكذا يغني.
ومنها قوله:
ألا قل لمن أمسى بمكة قاطـنـا ومن جاء من عمق ونقب المشلل
دعوا الحج لا تستهلكوا نفقاتـكـم فما حج هذا العام بالمـتـقـبـل
وكيف يزكي حج من لم يكن لـه إمام لدى تجمـيره غـير دلـدل
يظل يرائي بالـصـيام نـهـاره ويلبس في الظلماء سمطى قرنفل فلم يزل محمد يطلب عليه العلل حتى وجدها فحبسه.
قال الزبير في خبره عن عمه ومحمد الضحاك، وقال إسحاق في خبره عن أيوب بن عباية: كان العرجي يشبب بأم محمد بن هشام، وهي من بني الحارث بن كعب، ويقال لها جيداء: صوت
عوجي علينا ربة الـهـودج إنك إن لا تفعلي تحـرجـي
إني أتيحـت لـي يمـانـية إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كـامـلا كـلـه ما نلتقي إلا على مـنـهـج
في الحج إن حجت وماذا منى وأهله إن هي لم تـحـجـج
أيسر ما نال مـحـب لـدى بين حبـيب قـولـه عـرج
نقض إليكم حاجة أو نـقـل هل لي مما بي من مخـرج قال إسحاق في خبره: فحدثني حمزة بن عتبة اللهبي قال: أنشد عطاء بن أبي رباح قول العرجي:
في الحج إن حجت وماذا مني وأهله إن هي لم تحـجـج فقال: الخير والله كله بمنى وأهله حجت أو لم تحج. قال: ولقي ابن سريج عطاء وهو راكب بمنى على بغلته، فقال له: سألتك بالله إلا وقفت لي حتى أسمعك شيئا. قال: ويحك دعني فإني عجل. قال: امرأته طالق لئن لم تقف مختارا للوقوف لأمسكن بلجام بغلتك ثم لا أفارقها ولو قطعت يدي حتى أغنيك وأرفع صوتي لا أسره. قال: هات وعجل؛ فغناه:
في الحج إن حجت وماذا منى وأهله إن هي لم تحـجـج قال: الخير كله والله بمنى، لاسيما وقد غيبها الله عن مشاعره خل سبيل البغلة.
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثني حمزة بن عتبة اللهبي عن عبد الوهاب بن مجاهد أو غيره قال: كنت مع عطاء بن أبي رباح فجاءه رجل فأنشده قول العرجي:
إني أتيحـت لـي يمـانـية إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كـامـلا كـلـه لا نلتقي إلا على مـنـهـج
في الحج إن حجت وماذا منى وأهله إن هي لم تـحـجـج فقال عطاء: خير كثير بمنى إذ غيبها الله عن مشاعره.
تشبيبه بزوجة محمد بن هشام
قال: وقال في زوجته جبرة المخزومية يعني زوجة محمد بن هشام : صوت
عوجي علي فسلمي جبـر فيم الصدود وأنتم سـفـر
ما نلتقي إلا ثـلاث مـنـى حتى يفرق بيننا الـنـفـر
الحول بعد الحول يتبـعـه ما الدهر إلا الحول والشهر
صفحة : 112
قال حماد بن إسحاق في خبره: حدثني ابن أبي الحويرث الثقفي عن ابن عم لعمارة ابن حمزة قال حدثنا سليمان الخشاب عن داود المكي قال: كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده جماعة فيهم عبد الله بن المبارك وعدة من العراقيين، إذ مر به ابن تيزن المغني وقد ائتزر بمئزر على صدره، وهي إزرة الشطار عندنا، فدعاه ابن جريج فقال له: أحب أن تسمعني. قال: إني مستعجل، فألح عليه؛ فقال: امرأته طالق إن غناك أكثر من ثلاثة أصوات. فقال له: ويحك ما أعجلك إلى اليمين غنني الصوت الذي غناه ابن سريج في اليوم الثاني من أيام منى على جمرة العقبة فقطع طريق الذاهب والجائي حتى تكسرت المحامل. فغناه:
عوجي علي فسلمي جبر فقال له ابن جريج: أحسنت والله ثلاث مرات ، ويحك أعده. قال: من الثلاثة فإني قد حلفت. قال: أعده، فأعاده. فقال: أحسنت فأعده من الثلاثة، فأعاده وقام ومضى، وقال: لولا مكان هؤلاء الثقلاء عندك لأطلت معك حتى تقضي وطرك. فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال: لعلكم أنكرتم ما فعلت فقالوا: إن لننكره عندنا بالعراق ونكرهه. قال: فما تقولون في الرجر? يعني الحداء . قالوا: لا بأس به عندنا: قال: فما الفرق بينه وبين الغناء? اضطغان ابن هشام عليه وحبسه
قال إسحاق في خبره: بلغني أن محمد بن هشام كان يقول لأمه جيداء بنت عفيف : أنت غضضت مني بأنك أمي، وأهلكتني وقتلتني. فتقول له: ويحك وكيف ذاك? قال: لو كانت أمي من قريش ما ولي الخلافة غيري. قالوا: فلم يزل محمد بن هشام مضطغنا على العرجي من هذه الأشعار التي يقولها فيه ومتطلبا سبيلا عليه حتى وجده فيه، فأخذه وقيده وضربه وأقامه للناس، ثم حبسه وأقسم: لا يخرج من الحبس مادام لي سلطان. فمكث في حبسه نحوا من تسع سنين حتى مات فيه.
روايات أخرى في سبب الخصومة بينهما وذكر إسحاق في خبره عن أيوب بن عباية ووافقه عمر بن شبة ومحمد بن حبيب: أن السبب في ذلك أن العرجي لاحى مولى كان لأبيه فأمضه العرجي، فأجابه المولى بمثل ما قاله له. فأمهله حتى إذا كان الليل أتاه مع جماعة من مواليه وعبيده فهجم عليه في منزله وأخذه وأوثقه كتافا، ثم أمر عبيده أن ينكحوا امرأته بين يديه ففعلوا، ثم قتله وأحرقه بالنار. فاستعدت امرأته على العرجي محمد بن هشام فحبسه.
وذكر الزبير في خبره عن الضحاك بن عثمان: أن العرجي كان وكل بحرمه مولى له يقوم بأمورهن، فبلغه أنه يخالف إليهن، فلم يزل يرصده حتى وجده يحدث بعضهن، فقتله وأحرقه بالنار. فاستعدت عليه امرأة المولى محمد بن هشام المخزومي وكان واليا على مكة في خلافة هشام، وكان العرجي قد هجاه قبل ذلك هجاء كثيرا لما ولاه هشام الحج فأحفظه. فلما وجد عليه سبيلا ضربه وأقامه على البلس للناس، وسجنه حتى مات في سجنه.
وذكر الزبير أيضا في خبره عن عمه وغيره أن أشعب كان حاضرا للعرجي وهو يشتم مولاه هذا، وأنه طال شتمه إياه. فلما أكثر رد المولى عليه، فاختلط من ذلك، فقال لأشعب: اشهد على ما سمعت. قال أشعب: وعلام أشهد، قد شتمته ألفا وشتمك واحدة. والله لو أن أمك أم الكتاب، وأمه حمالة الحطب ما زاد على هذا تعذيب محمد بن هشام للعرجي وما كان يقوله العرجي من الشعر في ذلك
قال الزبير وحدثني حمزة بن عتبة اللهبي قال: لما أخذ محمد بن هشام المخزومي العرجي أخذه وأخذ معه الحصين بن غرير الحميري، فجلدهما، وصب على رءوسهما الزيت، وأقامهما في الشمس على البلس في الحناطين بمكة؛ فجعل العرجي ينشد:
سينصرني الخليفة بعـد ربـي ويغضب حين يخبر عن مساقي
علي عباءة بلـقـاء لـيسـت مع البلوى تغيب نصف ساقي
وتغضب لي بأجمعها قـصـي قطين البيت والدمث الرقـاق ثم يصيح: يا غرير أجياد، يا غرير أجياد فيقول له الحميري المجلود معه: ألا تدعنا ألا ترى ما نحن فيه من البلاء يعني بقوله: يا غرير، الحصين بن غرير الحميري المجلود معه، وكان صديقا للعرجي وخليطا. وذكر إسحاق تمام هذه الأبيات وأولها:
وكم من كاعب حوراء بكـر ألوف الستر واضحة التراقي
بكت جزعا وقد سمرت كبول وجامعة يشد بها خـنـاقـي
صفحة : 113
على دهماء مشرفة سـمـوق ثناها القمح مزلقة التـراقـي
علي عباءة بلـقـاء لـيسـت مع البلوى تغيب نصف ساقي
كأن على الخدود وهن شعـث سجال الماء يبعث في السواقي
فقلت تجلدا وحلفـت صـبـرا أبالي اليوم ما دفعت مـآقـي
سينصرني الخليفة بعـد ربـي ويغضب حين يخبر عن مساقي
وتغضب لي بأجمعها قـصـي قطين البيت والدمث الرقـاق
بمجتمع السـيول إذ تـنـحـى لئام الناس في الشعب العمـاق قال: فكان إذا أنشد هذا البيت التفت إلى ابن غرير فصاح به: يا غرير أجياد، يا غرير أجياد يعني بني مخزوم، وكانت منازلهم في أجياد، فعيرهم بأنهم ليسوا من أهل الأبطح.
وقال الزبير في خبره ووافقه إسحاق فذكر أن رجلا مر بالعرجي وهو واقف على البلس ومعه ابن غرر وقد جلدا وحلقا وصب الزيت على رءوسهما وألبسا عباءتين واجتمع الناس ينظرون إليهما. قال: وكان الرجل صديقا للعرجي، وكان فأفاء، فوقف عليه فأراد أن يتوجع لما ناله ويدعو له، فلجلج لما كان في لسانه كما يفعل الفأفاء. فقال له ابن غرير: عني، لا خرجت من فيك أبدا فقال له الرجل: فمكانك إذا لا برحت منه أبدا.
قال: ومر به صبيان يلقطون النوى، فوقفوا ينظرون إليه، فالتفت إلى ابن غرير وقال له: ما أعرف في الدنيا سخلين أشأم مني ومنك إن هؤلاء الصبيان لأهلهم عليهم في كل يوم على كل واحد منهم مد نوى، فقد تركوا لقطهم للنوى، وقد وقفوا ينظرون إلي وإليك وينصرفون بغير شيء فيضربون، فيكون شؤمنا قد لحقهم.
قال: وقال العرجي في حبسه: صوت
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثـغـر
وصبر عند معترك المنـايا وقد شرعت أسنتها بنحري
أجرر في الجوامع كـل يوم فيا لله مظلمتي وصـبـري
كأني لم أكن فيهم وسـيطـا ولم تك نسبتي في آل عمرو <H6 أبو حنيفة وجار له كان يغني بشعره</H6 أخبرني محمد بن زكريا الصحاف قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي قال: كان لأبي حنيفة جار بالكوفة يغني، فكان إذا انصرف وقد سكر يغني في غرفته، ويسمع أبو حنيفة غناءه فيعجبه. وكان كثيرا ما يغني:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثـغـر فلقيه العسس ليلة فأخذوه وحبس، ففقد أبو حنيفة صوته تلك الليلة، فسأل عنه من غد فأخبر، فدعا بسواده وطويلته فلبسهما، وركب إلى عيسى بن موسى فقال له: إن لي جارا أخذه عسسك البارحة فحبس، وما علمت منه إلا خيرا. فقال عيسى: سلموا إلى أبي حنيفة كل من أخذه العسس البارحة، فأطلقوا جميعا. فلما خرج الفتى دعا به أبو حنيفة وقال له سرا: ألست كنت تغني يا فتى كل ليلة:
أضاعوني واي فتى أضاعوا فهل أضعناك? قال: لا والله أيها القاضي، ولكن أحسنت وتكرمت، أحسن الله جزاءك. قال: فعد إلى ما كنت تغنيه، فإني كنت آنس به، ولم أر به باسا. قال: أفعل.
<H6 تمثل عبد الله بن علي بقوله أضاعوني</H6 وقال إسحاق في خبره: لما حبس المنصور عبد الله بن علي، كان يكثر التمثل بقول العرجي:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثـغـر فبلغ ذلك المنصور، فقال: هو أضاع نفسه بسوء فعله، فكانت أنفسنا عندنا آثر من نفسه.
<H6 حكاية كناس بالبصرة كان يتمثل بهذا البيت</H6 قال إسحاق: وقال الأصمعي: مررت بكناس بالبصرة يكنس كنيفا ويغني:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثـغـر فقلت له: أما سداد الكنيف فأنت ملىء به. وأما الثغر فلا علم لي بك كيف أنت فيه - وكنت حديث السن فأردت العبث به - فأعرض عني مليا، ثم أقبل علي فأنشد متمثلا:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتهـا وحقك لم تكرم على أحد بعدي
صفحة : 114
قال فقلت له: والله ما يكون من الهوان شيء أكثر مما بذلتها له، فبأي شيء أكرمتها? فقال: بلى والله إن من الهوان لشرا مما أنا فيه. فقلت: وما هو? فقال: الحاجة إليك وإلى أمثالك من الناس. فانصرفت عنه أخزى الناس. قال محمد بن مزيد: فحدثني حماد قال قال لي أبي: اختصر الأصمعي - فيما أرى - الجواب، وستر أقبحه على نفسه، وإلا فكناس كنيف قائم يكنسه ويعبث به هذا العبث، فيرضى بهذا الجواب الذي لا يجيب بمثله الأحنف بن قيس لو كانت المخاطبة له.
اقتصاص الوليد من محمد بن هشام وأخيه وإبراهيم بن هشام
وقال إسحاق في خبره: كان الوليد بن يزيد مضطغنا على محمد بن هشام لأشياء كانت تبلغه عنه في حياة هشام، فلما ولي الخلافة قبض عليه وعلى أخيه إبراهيم بن هشام وأشخصا إليه إلى الشأم، ثم دعا بالسياط. فقال له محمد: أسألك بالقرابة. قال: وأي قرابة بيني وبينك وهل أنت إلا من أشجع قال: فأسألك بصهر عبد الملك. قال: لم تحفظه. فقال له: يا أمير المؤمنين، قد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب قرشي بالسياط إلا في حد. قال: ففي حد أضربك وقود، أنت أول من سن ذلك على العرجي، وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان، فما رعيت حق جده ولا نسبه بهشام، ولا ذكرت حينئذ هذا الخبر، وأنا ولي ثأره، اضرب يا غلام، فضربهما ضربا مبرحا، وأثقلا بالحديد، ووجه بهما إلى يوسف بن عمر بالكوفة، وأمره باستصفائهما وتعذيبهما حتى يتلفا، وكتب إليه: احبسهما مع ابن النصرانية - يعني خالدا القسري - ونفسك نفسك إن عاش أحد منهم. فعذبهم عذابا شديدا، وأخذ منهم مالا عظيما حتى لم يبق فيهم موضع للضرب. فكان محمد بن هشام مطروحا، فإن أرادوا أن يقيموه أخذوا بلحيته فجذبوه بها. ولما اشتدت عليهما الحال، تحامل إبراهيم لينظر في وجه محمد، فوقع عليه فماتا جميعا، ومات خالد القسري معهما في يوم واحد. فقال الوليد بن يزيد لما حملهما إلى يوسف بن عمر:
قد راح نحو العراق مشخلبه قصاره السجن بعده الخشبه
يركبها صاغرا بلا قـتـب ولا خطام وحوله جلـبـه
فقل لدعجاء إن مررت بها لن يعجز الله هارب طلبـه
قد جعل الله بعد غلبـتـكـم لنا عليكم يا دلدل الغلـبـه
لست إلى هاشـم ولا أسـد ولا إلى نوفل ولا الحجبـه
لكنما أشجع أبوك سـل ال كلبي لا ما يزوق الكذبـه الرشيد وإسحاق حين غناه بيت العرجي أضاعوني
قال إسحاق في خبره: غنيت الرشيد يوما في عرض الغناء:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثـغـر فقال لي: ما كان سبب هذا الشعر حتى قاله العرجي? فأخبرته بخبره من أوله إلى أن مات، فرأيته يتغيظ كلما مر منه شيء. فأتبعته بحديث مقتل ابني هشام، فجعل وجهه يسفر وغيظه يسكن. فلما انقضى الحديث، قال لي: يا إسحاق والله لولا ما حدثتني به من فعل الوليد لما تركت أحدا من أماثل بني مخزوم إلا قتلته بالعرجي.
والصوت الآخر من رواية جحظة عن أصحابه: صوت
إذا ما طواك الدهر يا أم مالك فشأن المنايا القاضيات وشانـيا
تمر الليالي والشهور وتنقضي وحبك مـا يزداد إلا تـمـاديا
خليلي إن دارت على أم مالـك صروف الليالي فابغيا لي ناعيا
ولا تتركاني لا لخير معـجـل ولا لبقاء تنـظـران بـقـائيا الشعر للمجنون، ومن الناس من يروي البيت الأول منها لقيس بن الحدادية وهو جاهلي. والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى. وذكر حبش وابن المكي أن فيه لإسحاق لحنا آخر من الثقيل الثاني بالخنصر والبنصر.
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
أخبار مجنون بني عامر ونسبه
نسبه وتصحيح اسمه
هو - على ما يقوله من صحح نسبه وحديثه - قيس، وقيل: مهدي، والصحيح أنه قيس بن الملوح بن مزاحم بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ومن الدليل على أن اسمه قيس قول ليلى صاحبته فيه:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة متى رحل قيس مستقل فراجع
صفحة : 115
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال: سمعت من لا أحصي يقول: اسم المجنون قيس بن الملوح.
قيل كانت به لوثة ولم يكن مجنونا
وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي، وأخبرني الجوهري عن عمر بن شبة أنهما سمعا الأصمعي يقول - وقد سئل عنه -: لم يكن مجنونا ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري.
اختلاف الرواة في وجوده
وأخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن الحزامي قال حدثني أيوب بن عباية قال: سألت بني عامر بطنا بطنا عن مجنون بني عامر فما وجدت أحدا يعرفه.
وأخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن دأب قال: قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئا? قال: أو قد فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين إنهم لكثير فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق، فقال: هيهات بنو عامر أغلظ أكبادا من ذاك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها، الصعلة رؤوسها، فأما نزار فلا.
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال سمعت الأصمعي يقول: رجلان ما عرفا في الدنيا قط إلا بالاسم: مجنون بني عامر، وابن القرية، وإنما وضعهما الرواة.
وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن أبي سعد عن الحزامي قال: ولم أسمعه من الحزامي فكتبته عن ابن أبي سعد قال أحمد: وحدثنا به ابن أبي سعد عن الحزامي قال حدثنا عبد الجبار بن سعيد بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جده قال: سعيت على بني عامر فرأيت المجنون وأتيت به وأنشدني.
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا إسماعيل بن مجمع عن المدائني قال: المجنون المشهور بالشعر عند الناس صاحب ليلى قيس بن معاذ من بني عامر، ثم من بني عقيل، أحد بني نمير بن عامر بن عقيل، قال: ومنهم رجل آخر يقال له: مهدي بن الملوح من بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
قيل إن فتى من أمية نحله شعره وأخبرني عمي عن الكراني قال حدثنا ابن أبي سعد عن علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: حدثت أن حديث المجنون وشعره وضعه فتى من بني أمية كان يهوى ابنة عم له، وكان يكره أن يظهر ما بينه وبينها، فوضع حديث المجنون وقال الأشعار التي يرويها الناس للمجنون ونسبها إليه.
أخبرني الحسين بن يحيى وأبو الحسن الأسدي قالا: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: اسم المجنون قيس بن معاذ أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
وأخبرني أبو سعد الحسن بن علي بن زكريا العدوي قال حدثنا حماد بن طالوت بن عباد: أنه سأل الأصمعي عنه، فقال: لم يكن مجنونا، بل كانت به لوثة أحدثها العشق فيه، كان يهوى امرأة من قومه يقال لها ليلى، واسمه قيس بن معاذ.
وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه أن اسمه قيس بن معاذ.
وذكر شعيب بن السكن عن يونس النحوي أن اسمه قيس بن الملوح، قال أبو عمرو الشيباني: وحدثني رجل من أهل اليمن أنه رآه ولقيه وسأله عن اسمه ونسبه، فذكر أنه قيس بن الملوح.
وذكر هشام بن محمد الكلبي أنه قيس بن الملوح، وحدث أن أباه مات قبل اختلاطه، فعقر على قبره ناقته وقال في ذلك:
عقرت على قبر الملوح ناقـتـي بذي السرح لما أن جفاه الأقارب
وقلت لها كوني عقيرا فـإنـنـي غدا راجل أمشي وبالأمس راكب
فلا يبعدنك اللـه يابـن مـزاحـم فكل بكأس الموت لاشك شارب وذكر إبراهيم بن المنذر الحزامي وأبو عبيدة معمر بن المثنى أن اسمه البحتري بن الجعد.
وذكر مصعب الزبيري والرياشي وأبو العالية أن اسمه الأقرع بن معاذ. وقال خالد بن كلثوم: اسمه مهدي ابن الملوح.
وأخبرني الأخفش عن السكري عن أبي زياد الكلابي، قال: ليلى صاحبة المجنون هي ليلى بنت سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.
أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال حدثنا أبو قلابة الرقاشي، قال حدثني عبد الصمد بن المعذل، قال: سمعت الأصمعي وقد تذاكرنا مجنون بني عامر يقول: لم يكن مجنونا وإنما كانت به لوثة، وهو القائل:
صفحة : 116
أخذت محاسن كـل مـا ضنت محاسنه بحسنـه
كاد الغزال يكـونـهـا لولا الشوى ونشوز قرنه لقب بالمجنون كثير غيره
وكلهم كان يشبب بليلى
وأخبرني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال: سألت أعرابيا من بني عامر بن صعصعة عن المجنون العامري فقال: عن أيهم تسألني? فقد كان فينا جماعة رموا بالجنون، فعن أيهم تسأل? فقلت: عن الذي كان يشبب بليلى، فقال: كلهم كان يشبب بليلى، قلت: فأنشدني لبعضهم، فأنشدني لمزاحم بن الحارث المجنون:
ألا أيها القلب الذي لج هائمـا بليلى وليدا لم تقطع تمائمـه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أنى لك اليوم أن تلقى طبيبا تلائمه
أجدك لا تنسيك ليلى مـلـمة تلم ولا عهد يطول تقـادمـه قلت: فأنشدني لغيره منهم، فأنشدني لمعاذ بن كليب المجنون:
ألا طالما لاعبت ليلى وقـادنـي إلى اللهو قلب للحسان تـبـوع
وطال امتراء الشوق عيني كلما نزفت دموعا تستـجـد دمـوع
فقد طال إمساكي على الكبد التي بها من هوى ليلى الغداة صدوع قلت: فأنشدني لغير هذين ممن ذكرت، فأنشدني لمهدي بن الملوح:
لو أن لك الدنيا وما عدلت به سواها وليلى بائن عنك بينها
لكنت إلى ليلى فقيرا وإنمـا يقود إليها ود نفسك حينهـا قلت له: فأنشدني لمن بقي من هؤلاء، فقال: حسبك فوالله إن في واحد من هؤلاء لمن يوزن بعقلائكم اليوم.
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال قال ابن الأعرابي: كان معاذ بن كليب مجنونا، وكان يحب ليلى، وشركه في حبها مزاحم بن الحارث العقيلي، فقال مزاحم يوما للمجنون:
كلانا يا معـاذ يحـب لـيلـى بفي وفيك من ليلى الـتـراب
شركتك في هوى من كان حظي وحظك من مودتها الـعـذاب
لقد خبلت فـؤادك ثـم ثـنـت بقلبي فهو مخبـول مـصـاب قال فيقال: إنه لما سمع هذه الأبيات التبس وخولط في عقله.
وذكر أبو عمرو الشيباني: أنه سمع في الليل هاتفا يهتف بهذه الأبيات، فكانت سبب جنونه.
وذكر إبراهيم بن المنذر الحزامي عن أيوب بن عباية: أن فتى من بني مروان كان يهوى امرأة منهم فيقول فيها الشعر وينسبه إلى المجنون، وأنه عمل له أخبارا وأضاف إليها ذلك الشعر، فحمله الناس وزادوا فيه.
إنكار وجوده
والقول بأن شعره مولد عليه
وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن العتبي عن عوانة أنه قال: المجنون اسم مستعار لا حقيقة له، وليس له في بني عامر أصل ولا نسب، فسئل من قال هذه الأشعار? فقال: فتى من بني أمية.
وقال الجاحظ: ما ترك الناس شعرا مجهول القائل قيل في ليلى إلا نسبوه إلى المجنون، ولا شعرا هذه سبيله قيل في لبنى إلا نسبوه إلى قيس بن ذريح.
وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني الحكم بن صالح قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله العشق. فقال: هذا باطل، إنما يقتل العشق هذه اليمانية الضعاف القلوب.
أخبرنا أحمد بن عمر بن موسى قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثني أيوب بن عبابة قال حدثني من سأل بني عامر بطنا بطنا عن المجنون فما وجد فيهم أحدا يعرفه.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا أحمد بن الحارث عن ابن الأعرابي أنه ذكر عن جماعة من بني عامر أنهم سئلوا عن المجنون فلم يعرفوه، وذكروا أن هذا الشعر كله مولد عليه.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن محمد ابن الحكم عن عوانة قال: ثلاثة لم يكونوا قط ولا عرفوا: ابن أبي العقب صاحب قصيدة الملاحم، وابن القرية، ومجنون بني عامر.
أخبرني أبوالحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال سمعت الأصمعي يقول: الذي ألقي على المجنون من الشعر وأضيف إليه أكثر مما قاله هو.
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال: أنشدت أيوب بن عباية هذين البيتين:
صفحة : 117
وخبرتمانـي أن تـيمـاء مـنـزل لليلى إذا ما الصيف ألقى المراسيا
فهذي شهور الصيف عنا قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى المـرامـيا وسألته عن قائلهما، فقال: جميل، فقلت له: إن الناس يروونهما للمجنون، فقال: ومن هو المجنون? فأخبرته، فقال: ما لهذا حقيقة ولا سمعت به.
وأخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب بن هارون بن موسى الفروي قال: سألت أبا بكر العدوي عن هذين البيتين فقال: هما لجميل، ولم يعرف المجنون، فقلت: فهل معهما غيرهما? قال: نعم، وأنشدني:
وإني لأخشى أن أموت فـجـاءة وفي النفس حاجات إليك كما هي
وإني لينسيني لقـاؤك كـلـمـا لقيتك يوما أن أبـثـك مـا بـيا
وقالوا بـه داء عـياء أصـابـه وقد علمت نفسي مـكـان دوائيا وأنا أذكر مما وقع إلي من أخباره جملا مستحسنة، متبرئا من العهدة فيها، فإن أكثر أشعاره المذكورة في أخباره ينسبها بعض الرواة إلى غيره وينسبها من حكيت عنه إليه، وإذا قدمت هذه الشريطة برئت من عيب طاعن ومتتبع للعيوب.
بدء تعشقه ليلى
أخبرني بخبره في شغفه بليلى جماعة من الرواة، ونسخت ما لم أسمع من الروايات وجمعت ذلك في سياقه خبره ما اتسق ولم يختلف، فإذا اختلف نسبت كل رواية إلى راويها.
فممن أخبرني بخبره أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة عن رجاله وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، ونسخت أخباره من رواية خالد بن كلثوم وأبي عمرو الشيباني وابن دأب وهشام بن محمد الكلبي وإسحاق بن الجصاص وغيرهم من الرواة.
قال أبو عمرو الشيباني وأبو عبيدة: كان المجنون يهوى ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة ابن الحريش بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وتكنى أم مالك، وهما حينئذ صبيان، فعلق كل واحد منهما صاحبه وهما يرعيان مواشي أهلهما، فلم يزالا كذلك حتى كبرا فحجبت عنه، قال: ويدل على ذلك قوله: صوت
تعلقت ليلـى وهـي ذات ذؤابة ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم في هذين البيتين للأخضر الجدي لحن من الثقيل الثاني بالوسطى، ذكره هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات والهشامي.
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية ونسخت هذا الخبر بعينه من خط هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثني أبو عتاب البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: بينا ابن مليكة يؤذن إذ سمع الأخضر الجدي يغني من دار العاص بن وائل:
وعلقتـهـا غـراء ذات ذوائب ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم قال فأراد أن يقول: حي على الصلاة فقال: حي على البهم، حتى سمعه أهل مكة فغدا يعتذر إليهم.
وقال ابن الكلبي: حدثني معروف المكي والمعلى بن هلال وإسحاق بن الجصاص قالوا: كان سبب عشق المجنون ليلى، أنه أقبل ذات يوم على ناقة له كريمة وعليه حلتان من حلل الملوك، فمر بامرأة من قومه يقال لها: كريمة، وعندها جماعة نسوة يتحدثن فيهن ليلى، فأعجبهن جماله وكماله، فدعونه إلى النزول والحديث، فنزل وجعل يحدثهن وأمر عبدا له كان معه فعقر لهن ناقته، وظل يحدثهن بقية يومه، فبينا هو كذلك، إذ طلع عليهم فتى عليه بردة من برد الأعراب يقال له: منازل يوسق معزى له، فلما رأينه أقبلن عليه وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:
أأعقر من جـرا كـريمة نـاقـتـي ووصلي مفروش لوصل مـنـازل
إذا جاء قعقعن الحـلـي ولـم أكـن إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل
متى ما انتضلنا بالسهام نـضـلـتـه وإن نرم رشقا عندها فهو ناضـلـي
صفحة : 118
قال: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقة له أخرى ومضى متعرضا لهن، فألفى ليلى قاعدة بفناء بيتها وقد علق حبه بقلبها وهويته، وعندها جويريات يتحدثن معها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره? فقال: إي لعمري، فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس، فأرادت أن تعلم، هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه وشغفته واستملحها، فبينا هي تحدثه، إذ أقبل فتى من الحي فدعته وسارته سرارا طويلا، ثم قالت له: انصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وانتقع لونه وشق عليه فعلها، فأنشأت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضا وكل عند صاحبه مكـين
تبلغنا العيون بمـا أردنـا وفي القلبين ثم هوى دفين فلما سمع البيتين شهق شهقة شديدة وأغمي عليه، فمكث على ذلك ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه حتى بلغ منه كل مبلغ.
خطبته لليلى واختيارها عليه وشعره في ذلك أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني عبد الرحمن بن إبراهيم عن هشام بن محمد بن موسى المكي عن محمد بن سعيد المخزومي عن أبي الهيثم العقيلي قال: لما شهر أمر المجنون وليلى وتناشد الناس شعره فيها، خطبها وبذل لها خمسين ناقة حمراء، وخطبها ورد بن محمد العقيلي وبذل لها عشرا من الإبل وراعيها، فقال أهلها: نحن مخيروها بينكما، فمن اختارت تزوجته، ودخلوا إليها فقالوا: والله لئن لم تختاري وردا لنمثلن بك، فقال المجنون:
ألا يا ليل إن ملكت فـينـا خيارك فانظري لمن الخيار
ولا تستبدلـي مـنـي دنـيا ولا برما إذا حب القـتـار
يهرول في الصغير إذا رآه وتعجزه ملمـات كـبـار
فمثل تأيم مـنـه نـكـاح ومثل تمؤل منه افتـقـار فاختارت وردا فتزوجته على كره منها.
حكاية أبيه عن جنونه بليلى وأخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا: حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة بن حريم المري قال: خرجت إلى أرض بني عامر لألقى المجنون، فدللت عليه وعلى محلته، فلقيت أباه شيخا كبيرا وحوله إخوة للمجنون مع أبيهم رجالا؛ فسألتهم عنه فبكوه، وقال الشيخ: أما والله لهو كان آثر عندي من هؤلاء جميعا، وإنه عشق امرأة من قومه والله ما كانت تطمع في مثله، فلما فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجه إياها بعد ما ظهر من أمرهما، فزوجها غيره، وكان أول ما كلف بها يجلس إليها في نفر من قومها فيتحدثون كما يتحدث الفتيان، وكان أجملهم وأظرفهم وأرواهم لأشعار العرب، فيفيضون في الحديث فيكون أحسنهم فيه إفاضة، فتعرض عنه وتقبل على غيره، وقد وقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فظنت به ما هو عليه من حبها، فأقبلت عليه يوما وقد خلت فقالت: صوت
كلانا مظهر للناس بغضـا وكل عند صاحبه مـكـين
وأسرار الملاحظ ليس تخفي إذا نطقت بما تخفي العيون غنت في الأول عريب خفيف رمل، وقيل: إن هذا الغناء لشارية، والبيت الأخير ليس من شعره - قال: فخر مغشيا عليه ثم أفاق فاقدا عقله، فكان لا يلبس ثوبا إلا خرقه ولا يمشي إلا عاريا ويلعب بالتراب ويجمع العظام حوله، فإذا ذكرت له ليلى أنشأ يحدث عنها عاقلا ولا يخطىء حرفا، وترك الصلاة، فإذا قيل له: ما لك لا تصلي لم يرد حرفا، وكنا نحبسه ونقيده، فيعض لسانه وشفته، حتى خشينا عليه فخلينا سبيله فهو يهيم.
قصته مع عمر بن عبد الرحمن بن عوف
قال الهيثم؛ فولى مروان بن الحكم عمر بن عبد الرحمن بن عوف صدقات بني كعب وقشير وجعدة، والحريش وحبيب وعبد الله، فنظر إلى المجنون قبل أن يستحكم جنونه فكلمه وأنشده فأعجب به، فسأله أن يخرج معه، فأجابه إلى ذلك، فلما أراد الرواح جاءه قومه فأخبروه خبره وخبر ليلى، وأن أهلها استعدوا السلطان عليه، فأهدر دمه إن أتاهم، فأضرب عما وعده وأمر له بقلائص، فلما علم بذلك وأتي بالقلائص ردها عليه وانصرف.
صفحة : 119
وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم عن جماعة من الرواة: أن المجنون هو الذي سأل عمر بن عبد الرحمن أن يخرج به، قال له: أكون معك في هذا الجمع الذي تجمعه غدا، فأرى في أصحابك، وأتجمل في عشيرتي بك، وأفخر بقربك، فجاءه رهط من رهط ليلى وأخبروه بقصته، وأنه لا يريد التجمل به، وإنما يريد أن يدخل عليهم بيوتهم ويفضحهم في امرأة منهم يهواها، وأنهم قد شكوه إلى السلطان فأهدر دمه إن دخل عليهم، فأعرض عما أجابه إليه من أخذه معه وأمر له بقلائص، فردها وقال في ذلك :
رددت قلائص القرشي لما بدا لي النقض منه للعهود
وراحوا مقصرين وخلفوني إلى حزن أعالجه شـديد قال: ورجع آيسا فعاد إلى حاله الأولى، قال: فلم تزل تلك حاله، إلا أنه غير مستوحش، إنما يكون في جنبات الحي منفردا عاريا لا يلبس ثوبا إلا خرقه، ويهذي ويخطط في الأرض ويلعب بالتراب والحجارة، ولا يجيب أحدا سأله عن شيء، فإذا أحبوا أن يتكلم أو يثوب عقله ذكروا له ليلى، فيقول: بأبي هي وأمي، ثم يرجع إليه عقله فيخاطبونه ويجيبهم، ويأتيه أحداث الحي فيحدثونه عنها وينشدونه الشعر الغزل، فيجيبهم جوابا صحيحا وينشدهم أشعارا قالها، حتى سعى عليهم في السنة الثانية بعد عمر بن عبد الرحمن نوفل بن مساحق، فنزل مجمعا من تلك المجامع فرآه يلعب بالتراب وهو عريان، فقال لغلام له: يا غلام، هات ثوبا، فأتاه به، فقال لبعضهم: خذ هذا الثوب فألقه على ذلك الرجل، فقال له: أتعرفه جعلت فداك? قال: لا، قال: هذا ابن سيد الحي، لا والله ما يلبس الثياب ولا يزيد على ما تراه يفعله الآن، وإذا طرح عليه شيء خرقه، ولو كان يلبس ثوبا لكان في مال أبيه ما يكفيه، وحدثه عن أمره، فدعا به وكلمه، فجعل لا يعقل شيئا يكلمه به، فقال له قومه: إن أردت أن يجيبك جوابا صحيحا فاذكر له ليلى، فذكرها له وسأله عن حبه إياها، فأقبل عليه يحدثه بحديثها ويشكو إليه حبه إياها وينشده شعره فيها، فقال له نوفل: الحب صيرك إلى ما أرى? قال نعم، وسينتهي بي إلى ما هو أشد مما ترى، فعجب منه وقال له: أتحب أن أزوجكها? قال: نعم، وهل إلى ذلك من سبيل? قال: انطلق معي حتى أقدم على أهلها بك وأخطبها عليك وأرغبهم في المهر لها، قال: أتراك فاعلا? قال: نعم، قال: انظر ما تقول قال: لك علي أن أفعل بك ذلك، ودعا له بثياب فألبسه إياها، وراح معه المجنون كأصح أصحابه يحدثه وينشده، فبلغ ذلك رهطها فتلقوه في السلاح، وقالوا له: يابن مساحق لا والله لا يدخل المجنون منازلنا أبدا أو يموت، فقد أهدر لنا السلطان دمه، فأقبل بهم وأدبر، فأبوا، فلما رأى ذلك قال للمجنون: انصرف، فقال له المجنون: والله ما وفيت لي بالعهد، قال له: انصرافك بعد أن آيسني القوم من إجابتك أصلح من سفك الدماء، فقال المجنون: صوت
أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه فاصبح مذهوبا به كل مذهـب
خليا من الخـلان إلا مـعـذرا يضاحكني من كان يهوى تجنبي الغناء للحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى من جامع أغانيه:
إذا ذكرت ليلى عقلـت وراجـعـت روائع عقلي من هوى متـشـعـب
وقالوا صحيح ما بـه طـيف جـنة ولا الهم إلا بافـتـراء الـتـكـذب
وشاهد وجدي دمع عيني وحـبـهـا برى اللحم عن أحناء عظمي ومنكبي صوت
تجنبت ليلى أن يلج بك الـهـوى وهيهات كان الحب قبل التجنـب
ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـك صدى أينما تذهب به الريح يذهب الغناء لإسحاق خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وفيه لابن جامع هزج من رواية الهشامي وهي قصيدة طويلة.
ومما يغنى فيه منها قوله: صوت
فلم أرى ليلى بعد موقـف سـاعة بخيف منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت بـه من البرد أطراف البنان المخضب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظـر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـك صدى إينما تذهب به الريح يذهب
صفحة : 120
فيه ثقيل أول مطلق باستهلال، ذكر ابن المكي أنه لأبيه يحيى، وذكر الهشامي أنه للواثق، وذكر حبش أنه لابن محرز، وهو في جامع أغاني سليمان منسوب إليه.
أنشدني الأخفش عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب للمجنون
فواللـه ثـم الـلـه إنـي لـدائب أفكر ما ذنبي إليهـا وأعـجـب
ووالله ما أدري علام قتلـتـنـي وأي أموري فيك يا ليل أركـب
أأقطع حبل الوصل فالموت دونه أم أشرب رنقا منكم ليس يشرب
أم أهرب حتى لا أرى لي مجاورا أم أصنع ماذا أم أبوح فأغـلـب
فأيهما يا ليل مـا تـرتـضـينـه فإني لمظلوم وإنى لـمـعـتـب حجه مع أبيه إلى مكة لسلوان ليلى
ودعوته هو استزادة حبها ودوامه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: ذكر هشام بن الكلبي ووافقه في روايته أبو نصر أحمد بن حاتم وأخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني علي ابن الصباح عن هشام ابن الكلبي عن أبيه: أن أبا المجنون وأمه ورجال عشيرته اجتمعوا إلى ليلى فوعظوه وناشدوه الله والرحم، وقالوا له: إن هذا الرجل لهالك، وقبل ذلك ففي أقبح من الهلاك بذهاب عقله، وإنك فاجع به أباه وأهله، فنشدناك الله والرحم أن تفعل ذلك، فوالله ما هي أشرف منه، ولا لك مثل مال أبيه، وقد حكمك في المهر، وإن شئت أن يخلع نفسه إليك من ماله فعل، فأبى وحلف بالله وبطلاق أمها إنه لا يزوجه إياها أبدا، وقال: أفضح نفسي وعشيرتي وآتي ما لم يأته أحد من العرب، واسم ابنتي بميسم فضيحة فانصرفوا عنه، وخالفهم لوقته فزوجها رجلا من قومها وأدخلها إليه، فما أمسى إلا وقد بنى بها، وبلغه الخبر فأيس منها حينئذ وزال عقله جملة، فقال الحي لأبيه: أحجج به إلى مكة وادع الله عز وجل له، ومره أن يتعلق بأستار الكعبة، فيسأل الله يعافيه مما به ويبغضها إليه، فلعل الله أن يخلصه من هذا البلاء، فحج به أبوه، فلما صاروا بمنى سمع صائحا في الليل يصيح: يا ليلى، فصرخ صرخة ظنوا أن نفسه قد تلفت وسقط مغشيا عليه، فلم يزل كذلك حتى أصبح ثم أفاق حائل اللوان ذاهلا، فأنشأ يقول: صوت
عرضت على قلبي العزاء فقال لـي من الآن فاياس لا أعزك من صبـر
إذا بان من تهـوى وأصـبـح نـائيا فلا شيء أجدى من حلولك في القبر
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منـى فهيج أطراب الـفـؤاد ومـا يدري
دعا باسم ليلى غيرهـا فـكـأنـمـا أطار بليلى طائرا كان في صـدري
دعا باسم ليلى ظلل الـلـه سـعـيه وليلى بأرض عنه نـازحة قـفـر الغناء لعريب خفيف ثقيل - ثم قال له أبوه: تعلق بأستار الكعبة واسأل الله أن يعافيك من حب ليلى، فتعلق بأستار الكعبة. وقال: اللهم زدني لليلى حبا وبها كلفا ولا تنسني ذكرها أبدا، فهام حينئذ واختلط فلم يضبط. قالوا: فكان يهيم في البرية مع الوحش ولا يأكل إلا ما ينبت في البرية من بقل ولا يشرب إلا مع الظباء إذا وردت مناهلها، وطال شعر جسده ورأسه وألفته الظباء والوحوش فكانت لا تنفر منه، وجعل يهيم حتى يبلغ حدود الشأم، فإذا ثاب إليه عقله سأل من يمر به من أحياء العرب عن نجد، فيقال له: وأين أنت من نجد قد شارفت الشأم أنت في موضع كذا، فيقول: فأروني وجهة الطريق، فيرحمونه ويعرضون عليه أن يحملوه وأن يكسوه فيأبى، فيدلونه على طريق نجد فيتوجه نحوه.
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرنا حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن أبي مسكين قال:
صفحة : 121
خرج منا فتى حتى إذا كان ببئر ميمون إذا جماعة فوق بعض تلك الجبال، وإذا معهم فتى أبيض طوال جعد كأحسن من رأيت من الرجال على هزال منه وصفرة، وإذا هم متعلقون به، فسألته عنه، فقيل لي: هذا قيس المجنون خرج به أبوه يستجير له بالبيت، وهو على أن يأتي به قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدعو له هناك لعله يكشف ما به، فإنه يصنع بنفسه صنيعا يرحمه منه عدوه، يقول: أخرجوني لعلني أتنسم صبا نجد، فيخرجونه فيتوجهون به نحو نجد، ونحن مع ذلك نخاف أن يلقي نفسه من الجبل، فإن شئت الأجر دنوت منه فأخبرته أنك أقبلت من نجد، فدنوت منه وأقبلوا عليه فقالوا له: يا أبا المهدي، هذا الفتى أقبل من نجد، فتنفس تنفسة ظننت أن كبده قد انصدعت، ثم جعل يسألني عن واد واد وموضع موضع، وأنا أخبره وهو يبكي أحر بكاء وأوجعه للقلب، ثم أنشأ يقول:
ألا ليت شعري عن عوارضتي قنا لطول الليالي هل تغيرتا بـعـدي
وهل جارتانا بالبتيل إلى الحـمـى على عهدنا أم لم تدوما على العهد
وعن علويات الـرياح إذا جـرت بريح الخزامى هل تهب على نجد
وعن أقحوان الرمل ما هو فاعـل إذا هو أسرى ليلة بثرى جـعـد
وهل أنفضن الدهر أفنان لمـتـى على لاحق المتنين مندلق الوخـد
وهل أسمعن الدهر أصوات هجمة تحدر من نشز خصيب إلى وهـد سؤاله زوج ليلى عن عشرته معها
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي والعتبي قالا: مر المجنون بزوج ليلى وهو جالس يضطلي في يوم شات، وقد أتى ابن عم له في حي المجنون لحاجة، فوقف عليه ثم أنشأ يقول: صوت
بربك هل ضممت إليك ليلى قبيل الصبح أو قبلت فاهـا
وهل رفت عليك قرون ليلى رفيف الأقحوانة في نداها فقال: اللهم إذ حلفتني فنعم، قال: فقبض المجنون بكلتا يديه قبضتين من الجمر، فما فارقهما حتى سقط مغشيا عليه، وسقط الجمر مع لحم راحتيه، وعض على شفته فقطعها، فقام زوج ليلى مغموما بفعله متعجبا منه فمضى.
غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر الحسين بن محرز، ولحنه رمل بالوسطى عن الهشامي.
مروره بجبلي نعمان وشعره في ذلك
أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال قال محمد بن الحكم عن عوانة: إنه حدثه ووافقه ابن نصر وابن حبيب قالوا: إن أهل المجنون خرجوا به معهم إلى وادي القرى قبل توحشه ليمتاروا خوفا عليه من أن يضيع أو يهلك، فمروا في طريقهم بجبلي نعمان، فقال له بعض فتيان الحي: هذان جبلا نعمان، وقد كانت ليلى تنزل بهما، قال: فأي الرياح يأتي من ناحيتهما? قالوا: الصبا، قال: فوالله لا أريم هذا الموضع حتى تهب الصبا، فأقام ومضوا فامتاروا لأنفسهم، ثم أتوا عليه فأقاموا معه ثلاثة أيام حتى هبت الصبا، ثم انطلق معهم فأنشأ يقول: صوت
أيا جبلي نعمان بـالـلـه خـلـيا سبيل الصبا يخلص إلي نسيمهـا
أجد بردها أو تشف مني حـرارة على كبد لم يبق إلا صميمـهـا
فإن الصبا ريح إذا ما تنسـمـت على نفس محزون تجلت همومها ارتحال أهل ليلى وما قاله في ذلك
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسين بن الحرون قال حدثني الكسروي عن جماعة من الرواة قال: لما منع أبو ليلى المجنون وعشيرته من تزويجه بها، كان لا يزال يغشى بيوتهم ويهجم عليهم، فشكوه إلى السلطان فأهدر دمه لهم، فأخبروه بذلك فلم يرعه وقال: الموت أروح لي فليتهم قتلوني، فلما علموا بذلك وعرفوا أنه لا يزال يطلب غرة منهم حتى إذا تفرقوا دخل دورهم، فارتحلوا عنها وأبعدوا، وجاء المجنون عشية فأشرف على دورهم فإذا هي منهم بلاقع، فقصد منزل ليلى الذي كان بيتها فيه، فألصق صدره به وجعل يمرغ خديه على ترابه ويبكي ، ثم أنشأ يقول، - وذكر هذه الأبيات ابن حبيب وأبو نصر له بغير خبر -:
أيا حرجات الحي حيث تحملوا بذي سلم لا جادكـن ربـيع
وخيماتك اللاتي بمنعرج اللوى بلين بلى لم تبـلـن ربـوع
صفحة : 122
ندمت على ما كان مني نـدامة كما يندم المغبـون حـين يبـيع
فقدتك من نفس شعاع فإنـنـي نهيتك عن هذا وأنت جـمـيع
فقربت لي غير القريب وأشرفت إليك ثنايا ما لـهـن طـلـوع حديثه مع نسوة فيهن ليلى
وذكر خالد بن جميل وخالد بن كلثوم في أخبارهما التي صنعاها أن ليلى وعدته قبل أن يختلط أن تستزيره ليلة إذا وجدت فرصة لذلك، فمكث مدة يراسلها في الوفاء وهي تعده وتسوفه، فأتى أهلها ذات يوم والحي خلوف، فجلس إلى نسوة من أهلها حجرة منها بحيث تسمع كلامه، فحادثهن طويلا ثم قال: ألا أنشدكن أبياتا أحدثها في هذه الأيام? قلن: بلى، فأنشدهن: صوت
يا للرجال لهـم بـات يعـرونـي مستطرف وقديم كـاد يبـلـينـي
من عاذري من غريم غير ذي عسر يأبى فيمطلنـي دينـي ويلـوينـي
لا يبعد النقد من حقي فـينـكـره ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكرى شكر لو يوافـقـنـي ولا مناي سـواه لـو يوافـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم في أمره وهواه وهو يعصـينـي قال: فقلن له: ما أنصفك هذا الغريم الذي ذكرته وجعلن يتضاحكم وهو يبكي، فاستحيت ليلى منهن ورقت له حتى بكت، وقامت فدخلت بيتها وانصرف هو.
- في الثلاثة الأبيات الأولى من هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود - قالا في خبرهما هذا: وكان للمجنون ابنا عم يأتيانه فيحدثانه ويسليانه ويؤانسانه، فوقف عليهما يوما وهما جالسان، فقالا له: يا أبا المهدي ألا تجلس? قال: لا، بل أمضي إلى منزل ليلى فاترسمه وأرى آثارها فيه، فأشفي بعض ما في صدري بها، فقالا له: فنحن معك، فقال: إذا فعلتما أكرمتما وأحسنتما، فقاما معه حتى أتى دار ليلى، فوقف بها طويلا يتتبع آثارها ويبكي ويقف في موضع موضع منها ويبكي ثم قال: صوت
يا صاحبي ألما بـي بـمـنـزلة قد مر حين عليهـا إيمـا حـين
إني أرى رجعات الحب تقتلـنـي وكان في بدئها ما كان يكفـينـي
لا خير في الحب ليست فيه قارعة كأن صاحبها في نزع مـوتـون
إن قال عذاله مهلا فـلان لـهـم قال الهوى غير هذا القول يعنيني
ألقى من اليأس تارات فتقتلـنـي وللرجاء بشاشات فـتـحـيينـي الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل من جامع غنائه وقال هشام بن الكلبي عن أبي مسكين: إن جماعة من بني عامر حدثوه قالوا: كان رجل من بني عامر ابن عقيل يقال له: قيس بن معاذ، وكان يدعى المجنون، وكان صاحب غزل ومجالسة للنساء، فخرج على ناقة له يسير، فمر بامرأة من بني عقيل يقال لها: كريمة، وكانت جميلة عاقلة، معها نسوة فعرفنه ودعونه إلى النزول والحديث، وعليه حلتان له فاخرتان وطيلسان وقلنسوة، فنزل فظل يحدثهن وينشدهن وهن أعجب شيء به فيما يرى، فلما أعجبه ذلك منهن عقر لهن ناقته، وقمن إليها فجعلن يشوين ويأكلن إلى أن أمسى، فأقبل غلام شاب حسن الوجه من حيهن فجلس إليهن، فأقبلن عليه بوجوههن يقلن له: كيف ظللت يا منازل اليوم? فلما رأى ذلك من فعلهن غضب، فقام وتركهن وهو يقول:
أأعقر من جـرا كـريمة نـاقـتـي ووصلي مفروش لوصل مـنـازل
إذا جاء قعقن الحـلـي ولـم أكـن إذا جئت أرضى صوت تلك الخلاخل قال: فقال له الفتى: هلم نتصارع أو نتناضل، فقال له: إن شئت ذلك فقم إلى حيث لا تراهن ولا يرينك، ثم ما شئت فافعل، وقال:
إذا ما انتضلنا في الخلاء نضلتـه وإن يرم رشقا عندها فهو ناضلي
صفحة : 123
وقال ابن الكلبي في هذا الخبر: فلما أصبح لبس حلته وركب ناقته ومضى متعرضا لهن، فالفى ليلى جالسة بفناء بيتها، وكانت معهن يومئذ جالسة، وقد علق بقلبها وهويته، وعندها جويريات يحدثنها، فوقف بهن وسلم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره? قال: إي لعمري، فنزل وفعل فعلته بالأمس، فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تعرض عن حديثه ساعة بعد ساعة وتحدث غيره، وقد كان علق حبها بقلبه وشغفه واستملحها، فبينا هي تحدثه إذ أقبل فتى من الحي فدعته فسارته سرارا طويلا ثم قالت له انصرف، فانصرف، ونظرت إلى وجه المجنون قد تغير وامتقع وشق عليه ما فعلت، فأنشأت تقول:
كلانا مظهر للناس بغضا وكل عند صاحبه مكـين
تبلغنا العيون مقالـتـينـا وفي القلبين ثم هوى دفين قد نسبت هذا الشعر متقدما فلما سمع هذين البيتين شهق شهقة عظيمة وأغمي عليه فمكث كذلك ساعة، ونضحوا الماء على وجهه حتى أفاق، وتمكن حب كل واحد منهما في قلب صاحبه وبلغ منه كل مبلغ.
حدثني عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن إبراهيم بن محمد بن إسماعيل القرشي قال حدثنا أبو العالية عن أبي ثمامة الجعدي قال: لا يعرف فينا مجنون إلا قيس بن الملوح.
حديث اتصاله بليلى في صباه
قال: وحدثني بعض العشيرة قال: قلت لقيس بن الملوح قبل أن يخالط: ما أعجب شيء أصابك في وجدك بليلى? قال: طرقنا ذات ليلة أضياف ولم يكن عندنا لهم أدم، فبعثني أبي منزل أبي ليلى وقال لي: اطلب لنا وقال لي: اطلب لنا منه أدما، فأتيته فوقفت على خبائه فصحت به، فقال: ما تشاء? فقلت: طرقنا ضيفان ولا أدم عندنا لهم فأرسلني أبي نطلب منك أدما، فقال: يا ليلى، أخرجي إليك ذلك النحي، فاملئن له إناءه من السمن، فأخرجته ومعي قعب، فجعلت تصب السمن فيه ونتحدث، فألهانا الحديث وهي تصب السمن وقد امتلأ القعب ولا نعلم جميعا، وهو يسيل استنقعت أرجلنا في السمن، قال: فأتيتهم ليلة ثانية أطلب نارا، وأنا متلفع ببرد لي، فأخرجت لي نارا في عطبة فأعطتنيها ووقفنا نتحدث، فلما احترقت العطبة خرقت من بردي خرقة وجعلت النار فيها، فكلما احترقت خرقت أخرى وأذكيت بها النار حتى لم يبق علي من البرد إلا ما وارى عورتي، وما أعقل ما أصنع، وأنشدني:
أمستقبلي نفح الصبا ثم شـائقـي ببرد ثنـايا أم حـسـان شـائق
كأن على أنيابها الخمر شجـهـا بماء الندى من آخر الليل عاتق
وما شمته إلا بعيني تـفـرسـا كما شيم في أعلى السحابة بارق ومن الناس من يروي هذه الأبيات لنصيب، ولكن هكذا روي في هذا الخبر.
حدث الأصمعي أنه لم يكن مجنونا
أخبرنا محمد بن خلف وكيع عن عبد الملك بن محمد الرقاشي عن عبد الصمد بن المعذل قال: سمعت الأصمعي يقول - و قد تذاكرنا مجنون بني عامر - قال: هو قيس ابن معاذ العقيلي، ثم قال: لم يكن مجنونا إنما كانت به لوثة، وهو القائل:
أخذت محاسن كـل مـا ضنت محاسنه بحسنـه
كاد الغزال يكـونـهـا لولا الشوى ونشوز قرنه قال: وهو القائل: صوت
ولم أر ليلى بعد مـوقـف سـاعة بخيف منى ترمي جمار المحصب
ويبدي الحصى منها إذا قذفت بـه من البرد أطراف البنان المخصب
فأصبحت من ليلى الغداة كناظـر مع الصبح في أعقاب نجم مغرب
ألا إنمـا غـادرت يا أم مـالـك صدى إينما تذهب به الريح يذهب في هذه الأبيات لحن من الثقيل الأول، ابتداؤه نشيد من صنعة الواثق وهو المشهور. وذكره ابن المكي لأبيه يحيى. وهو في جامع غناء سليم بن سلام له. وذكره حبش في موضعين من كتابه فنسبه في طريقه الثقيل الأول في أحدهما إلى ابن محرز، والآخر إلى يحيى المكي. وزعم الهشامي أن فيه لسليم بن سلام لحنا آخر من الثقيل الأول.
صفحة : 124
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبد الجبار الصوفي قال حدثني إبراهيم بن سعد الزهري قال: أتاني رجل من عذرة لحاجة، فجرى ذكر العشق والعشاق، فقلت له: أنتم أرق قلوبا أم بنو عامر? إنا لأرق الناس قلوبا، ولكن غلبتنا بنو عامر بمجنونها.
شيء من أوصافه
أخبرني أحمد بن عمر بن موسى بن زكويه القطان إجازة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال أخبرني عبد الجبار بن سليمان بن نوفل بن مساحق عن أبيه عن جده قال: أنا رأيت مجنون بني عامر، وكان جميل الوجه أبيض اللون قد علاه شحوب، واستنشدته فأنشدني قصيدته التي يقول فيها:
تذكرت ليلى والسنين الخوالـيا وأيام لا أعدي على اللهو عاديا أخبرني محمد بن الحسن الكندي خطيب مسجد القادسية قال حدثنا الرياشي قال: سمعت أبا عثمان المازني يقول: سمعت معاذا وبشر بن المفضل جميعا ينشدان هذين البيتين وينسبانهما لمجنون بني عامر:
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا تقطع أعناق الرجال المطامع
ودانيت ليلى في خلاء ولم يكن شهود على ليلى عدول مقانع وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو خليفة الفضل بن الحباب عن ابن سلام قال: قضى عبيد الله الحسن بن الحصين بن أبي الحر العنبري على رجل من قومه قضية أوجبها الحكم عليه، وظن العنبري أنه تحامل عليه وانصرف مغضبا، ثم لقيه في طريق، فأخذ بلجام بغلته وكان شديدا أيدا، ثم قال له: إيه يا عبيد الله
طمعت بليلى أن تريع وإنمـا تقطع أعناق الرجل المطامع فقال عبيد الله:
وبايعت ليلى في خلاء ولم يكن شهود عدول عند ليلى مقانـع خل عن البغلة. قال الصولي في خبره هذا: والبيتان للبعيث هكذا، قال: فلا أدري أمن قوله هو أم حكاية عن أبي خليفة.
زيارة ليلى له وحديثه معها
أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري عن عبد الله بن خلف الدلال قال حدثنا زكريا بن موسى عن شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال: لما اختلط عقل قيس بن الملوح وترك الطعام والشراب، مضت أمه إلى ليلى فقالت لها: إن قيسا قد ذهب حبك بعقله، وترك الطعام والشراب، فلو جئته وقتا لرجوت أن يثوب إليه بعض عقله، فقالت ليلى: أما نهارا فلا لأنني لا آمن قومي على نفسي ولكن ليلا، فأتته ليلا فقالت له: يا قيس، إن أمك تزعم أنك جننت من أجلي وتركت المطعم والمشرب، فاتق الله وأبق على نفسك، فبكى وأنشأ يقول:
قالت جننت على أيش فقلت لها الحب أعظم مما بالمـجـانـين
الحب ليس يفيق الدهر صاحبـه وإنما يصرع المجنون في الحين قال: فبكت معه، وتحدثا حتى كاد الصبح أن يسفر، ثم ودته وانصرفت، فكان آخر عهده بها.
سبب جنونه بيت شعر قاله
أخبرنا ابن المرزبان قال قال القحذمي: لما قال المجنون:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا سلب عقله. الغناء لحكم ثقيل أول، وقيل إنه لابن الهربذ. وفيه لمتيم خفيف ثقيل أول من جامع أغانيها. وحدثني جحظة بهذا الخبر عن ميمون بن هارون أنه بلغه أنه لما قال هذا البيت برص.
سبب تسميته المجنون
واختلاف الرواة في ذلك
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن طاهر القرشي عن ابن عائشة قال: إنما سمي المجنون بقوله:
ما بال قلبك يا مجنون قد خـلـعـا في حب من لا ترى في نيله طمعا
الحب والود نيطا بالـفـؤاد لـهـا فأصبحا في فؤادي ثابتـين مـعـا حدثنا وكيع عن ابن يونس قال قال الأصمعي: لم يكن المجنون، إنما جننه العشق، وأنشد له:
يسمونني المجنون حين يرونني نعم بي من ليلى الغداة جنـون
ليالي يزهى بي شباب وشـرة وإذ بي من خفض المعيشة لين أخبرني محمد بن المرزبان عن إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني علي بن سهل عن المدائني: أنه ذكر عنده مجنون بني عامر فقال: لم يكن مجنونا، وإنما قيل له المجنون بقوله:
وإني لمجنون بلـيلـى مـوكـل ولست عزوفا عن هواها ولا جلدا
إذا ذكرت ليلى بكـيت صـبـابة لتذكارها حتى يبل البكا الـخـدا
صفحة : 125
أخبرني عمر بن جميل العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عون بن عبد الله العامري أنه قال: ما كان والله المجنون الذي تعزونه إلينا مجنونا، إنما كانت به لوثة وسهو أحدثهما به حب ليلى، وأنشد له:
وبي من هوى ليلى الذي لو أبـثـه جماعة أعدائي بكت لي عيونـهـا
أرى النفس عن ليلى أبت أن تطيعني فقد جن من وجدي بليلى جنونـهـا أخبرني ابن المرزبان قال قال العتبي: إنما سمي المجنون بقوله:
يقول أناس عل مجنـون عـامـر يروم سلوا قلت أنى لـمـا بـيا
وقد لامني في حب ليلى أقاربـي أخي وابن عمي وابن خالي وخاليا
يقولون ليلى أهـل بـيت عـداوة بنفسي ليلى من عـدو ومـالـيا
ولو كان في ليلى شذا من خصومة للويت أعناق المطي الـمـلاويا أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل قال قال ابن سلام: لو حلفت أن مجنون بني عامر لم يكن مجنونا لصدقت، ولكن توله لما زوجت ليلى وأيقن اليأس منها، ألم تسمع إلى قوله:
أيا ويح من أمسى تخلس عقلـه فأصبح مذهوبا به كل مذهـب
خليعا من الخلان إلا مجـامـلا يساعدني من كان يهوى تجنبي
إذا ذكرت ليلى عقلت وراجعت عوزاب قلبي من هوى متشعب أخبرني به الحسن بن علي عن دينار بن عامر التغلبي عن مسعود بن سعد عن ابن سلام ونحوه.
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني صالح بن سعيد قال أنشدني يعقوب بن السكيت للمجنون.
يسمونني المجنون حين يرونني نعم بي من ليلى الغداة جنون قال: وأنشدنا له أيضا: صوت
وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان فيك فإنه شـغـلـي
وأديم لحظ محـدثـي لـيرى أن قد فهمت وعندكم عقلـي الحديث عن تكنيته ليلى بأم مالك
أخبرني ابن المرزبان عن محمد بن الحسن دينار الأحول عن علي بن المغيرة الأثرم عن أبي عبيدة: أن صاحبة مجنون بني عامر التي كلف بها ليلى بنت مهدي بن سعد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكنيتها أم مالك، وقد ذكر هذه الكنية المجنون في شعره فقال:
تكاد بلاد الله يا أم مـالـك بما رحبت يوما علي تضيق وقال أيضا:
فإن الذي أملت من أم مـالـك أشاب قذالي واستهـام فـؤاديا
خليلي إن دارت على أم مالـك صروف الليالي فابغيا لي ناعيا وقال أبو عمرو الشيباني: علق المجنون ليلى بنت مهدي بن سعد من بني الحريش، وكنيتها أم مالك، فشهر بها وعرف خبره فحجبت عنه، فشق عليه فخطبها إلى أبيها فرده وأبى أن يزوجه إياها، فاشتد به الأمر حتى جن وقيل له: مجنون بني عامر فكان على حاله يجلس في نادي قومه فلا يفهم ما يحدث به ولا يعقله إلا إذا ذكرت ليلى. وأنشد له أبو عمرو: صوت
الرائية
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعـي بليل ولا يجـري بـذلـك طـائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت بليلى ولكن ليس للطـير زاجـر
أزالت عن العهد الذي كان بينـنـا بذي الأثل أم قد غيرتها المـقـادر
فوالله ما في القرب لي منك راحة ولا البعد يسليني ولا أنا صـابـر
ووالـلـه مـا أدري بـأية حـيلة وأي مرام أو خطـار أخـاطـر
وتالله إن الدهر في ذات بـينـنـا علي لها في كل حـال لـجـائر
فلو كنت إذ أزمعت هجري تركتني جميع القوى والعقل منـي وافـر
ولكن أيامي بـحـقـل عـنـيزة وبالرضم أيام جناها الـتـجـاور
وقد أصبح الود الذي كان بـينـنـا أماني نفس والـمـؤمـل حـائر
لعمري لقد رنقـت يا أم مـالـك حياتي وساقتني إليك الـمـقـادر قال أبو عمرو: وأخبرني بعض الشأميين قال: دخلت أرض بني عامر، فسألت عن المجنون الذي قتله الحب، فخبروني عنه أنه كان عاشقا لجارية منهم يقال لها ليلى، ربا معها ثم حجبت عنه، فاشتد عليه وذهب عقله، فأتاه إخوان من إخوانه يلومونه على ما يصنع بنفسه، فقال: صوت
صفحة : 126
يا صاحبي ألما بي بمـنـزلة قد مر حين عليها أيما حـين
في كل منزلة ديوان معـرفة لم يبق باقية ذكـر الـدواوين
إني أرى رجعات الحب تقتلني وكان في بدئها ما كان يكفيني الغناء لابن جامع خفيف ثقيل.
جنونه بليلى وهيامه على وجهه
من أجلها
أخبرني هاشم الخزاعي عن العباس بن الفرج الرياشي قال: ذكر العتبي عن أبيه قال: كان المجنون في بدء أمره يرى ليلى ويألفها ويأنس بها ثم غيبت عن ناظره، فكان أهله يعزونه عنها ويقولون: نزوجك أنفس جارية في عشيرتك، فيأبى إلا ليلى ويهذي بها ويذكرها فكان ربما استراح إلى أمانيهم وركن إلى قولهم ، وكان ربما هاج عليه الحزن والهم فلا يملك مما هو فيه أن يهيم على وجهه، وذلك قبل أن يتوحش مع البهائم في القفار، فكان قومه يلومونه ويعذلونه، فأكثروا عليه في الملامة والعذل يوما فقال: صوت
يا للرجال لهـم بـت يعـرونـي مستطرف وقديم كان يعـنـينـي
على غريم مليء غـير ذي عـدم يأبى فيمطلني دينـي ويلـوينـي
لا يذكر البعض من ديني فينكـره ولا يحدثني أن سوف يقضـينـي
وما كشكري شكر لو يوافـقـنـي ولا منى كمـنـاه إذ يمـنـينـي
أطعته وعصيت النـاس كـلـهـم في أمره ثم يأبى فهو يعصـينـي
خيري لمن يبتغي خيري ويأمـلـه من دون شري وشري غير مأمون
وما أشارك في رأيي أخا ضعـف ولا أقول أخي مـن لا يواتـينـي في هذه الأبيات هزج طنبوري للمسدود من جامعه.
وقال أبو عمرو الشيباني: حدثني رباح العامري قال: كان المجنون أول ما علق ليلى كثير الذكر لها والإتيان بالليل إليها، والعرب ترى ذلك غير منكر أن يتحدث الفتيان إلى الفتيات، فلما علم أهلها بعشقه لها منعوه من إتيانها وتقدموا إليه، فذهب لذلك عقله ويئس منه قومه واعتنوا بأمره، واجتمعوا إليه ولاموه وعذلوه على ما يصنع بنفسه، وقالوا: والله ما هي لك بهذه الحال، فلو تناسيتها رجونا أن تسلو قليلا، فقال لما سمع مقالتهم وقد غلب عليه البكاء: صوت
فواكبدا من حب من لا يحبنـي ومن زفرات ما لهـن فـنـاء
أريتك إن لم أعطك الحب عن يد ولم يك عنـدي إذ أبـيت إبـاء
أتاركتي للموت أنـت فـمـيت وما للنفوس الخائفـات بـقـاء ثم أقبل على القوم فقال: إن الذي بي ليس بهين، فاقلوا من ملامكم فلست بسامع فيها ولا مطيع لقول قائل.
قصة حبه ليلى برواية رباح العامري أخبرني عمي ومحمد بن حبيب وابن المرزبان عن عبد الله بن أبي سعد عن عبد العزيز صالح عن أبيه عن ابن دأب عن رباح بن حبيب العامري: أنه سأله عن حال المجنون وليلى، فقال: كانت ليلى من بني الحريش وهي بنت مهدي بن سعيد بن مهدي بن ربيعة بن الحريش، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأحسنهن جسما وعقلا وأفضلهن أدبا وأملحهن شكلا، وكان المجنون كلفا بمحادثة النساء صبا بهن، فبلغه خبرها ونعتت له، فصبا إليها وعزم على زيارتها، فتأهب لذلك ولبس أفضل ثيابه ورجل جمته ومس طيبا كان عنده، وارتحل ناقة له كريمة برحل حسن وتقلد سيفه وأتاها، فسلم فردت عليه السلام وتحفت في المسئلة، وجلس إليها فحادثته وحادثها فأكثرا، وكل واحد منهما مقبل على صاحبه معجب به، فلم يزالا كذلك حتى أمسيا، فانصرف إلى أهله فبات بأطول ليلة شوقا إليها، حتى إذا أصبح عاد إليها فلم يزل عندها حتى أمسى، ثم انصرف إلى أهله فبات بأطول من ليلته الأولى واجتهد أن يغمض فلم يقدر على ذلك، فأنشأ يقول:
نهاري نهار الناس حتى إذا بـدا لي الليل هزتني إليك المضاجع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والهم بالليل جامـع
لقد ثبتت في القلب منك محـبة كما ثبتت في الراحتين الأصابع
صفحة : 127
- عروضه من الطويل، والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالوسطى عن عمرو - قال: وأدام زيارتها وترك من يأتيه فيتحدث إليه غيرها، وكان يأتيها في كل يوم فلا يزال عندها نهاره أجمع حتى إذا أمسى انصرف، فخرج ذات يوم يريد زيارتها فلما قرب من منزلها لقيته جارية عسراء فتطير منها، وأنشأ يقول:
وكيف يرجى وصل ليلى وقد جـرى بجد القوى والوصل أعسر حاسـر
صديع العصا صعب المرام إذا انتحى لوصل امرىء جدت عليه الأواصر ثم سار إليها في غد فحدثها بقصته وطيرته ممن لقيه، وأنه يخاف تغير عهدها وانتكاثه وبكى، فقالت: لا ترع، حاش لله من تغير عهدي، لا يكون والله ذلك أبدا إن شاء الله، فلم يزل عندها يحادثها بقية يومه، ووقع له في قلبها مثل ما وقع لها في قلبه، فجاءها يوما كما كان يجيء، وأقبل يحدثها فأعرضت عنه، وأقبلت على غيره بحديثها، تريد بذلك محنته وأن تعلم ما في قلبه، فلما رأى ذلك جزع جزعا شديدا حتى بان في وجهه وعرف فيه، فلما خافت عليه أقبلت عليه كالمسرة إليه فقالت:
كلانا مظهر للناس بغضنا وكل عند صاحبه مكين فسري عنه وعلم ما في قلبها، فقالت له: إنما أردت أن أمتحنك والذي لك عندي أكثر من الذي لي عندك، وأعطي الله عهدا إن جالست بعد يومي هذا رجلا سواك حتى أذوق الموت إلا أن أكره على ذلك، قال: فانصرفت عنه وهو من أشد الناس سرورا وأقرهم عينا، وقال:
أظن هواها تاركي بـمـضـلة من الأرض لا مال لدي ولا أهل
ولا أحد أفضي إلـيه وصـيتـي ولا صاحب إلا المطية والرحل
محا حبها حب الألى كن قبلـهـا وحلت مكانا لم يكن حل من قبل شعره بعد أن تزوجت وأيس منها أخبرني جعفر بن قدامة عن أبي العيناء عن العتبي قال: لما حجبت ليلى عن المجنون خطبها جماعة فلم يرضهم أهلها، وخطبها رجل من ثقيف موسر فزوجوه وأخفوا ذلك عن المجنون ثم نمي إليه طرف منه لم يتحققه، فقال:
دعوت إلهي دعوة ما جهلتـهـا وربي بما تخفي الصدور بصير
لئن كنت تهدي برد أنيابها العـلا لأفقر مني إنـنـي لـفـقـير
فقد شاعت الأخبار أن قد تزوجت فهل يأتيني بالطـلاق بـشـير وقال أيضا:
ألا تلك ليلى العامرية أصبـحـت تقطع إلا من ثقيف حـبـالـهـا
هم حبسوها محبس البدن وابتغـى بها المال أقوام ألا قل مـالـهـا
إذا التفتت والعيس صعر من البرى بنخلة جلت عبرة العين حالـهـا قال: وجعل يمر بيتها فلا يسأل عنها ولا يلتفت إليه، ويقول إذا جاوزه: صوت
ألا أيها البيت الـذي لا أزوره وإن حله شخص إلي حبـيب
هجرتك إشفاقا وزرتك خائفـا وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعتب الأيام فيك لعلـهـا بيوم سرور في الزمان تؤوب الغناء لعريب ثاني ثقيل بالوسطى. قال: وبلغه أن أهلها يريدون نقلها إلى الثقفي فقال: صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح - عروضه من الوافر. الغناء لابن المكي خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وفيه خفيف ثقيل آخر لسليمان مطلق في مجرى البنصر، وفيه لإبراهيم رمل بالوسطى في مجراها عن الهشامي - قال: فلما نقلت ليلى إلى الثقفي قال: <H6 قصيدته العينية</H6
طربت وشاقتك الحمول الـدوافـع غداة دعا بالبـين أسـفـع نـازع
شحا فاه نعبا بـالـفـراق كـأنـه حريب سليب نازح الـدار جـازع
فقلت ألا قد بين الأمر فانـصـرف فقد راعنا بالبـين قـبـلـك رائع
سقيت سموما من غراب فأنـنـي تبينت ما خبرت مـذ أنـت واقـع
ألم تر أنـي لا مـحـب ألـومـه ولا ببديل بعـدهـم أنـا قـانـع
ألم تر دار الحي في رونق الضحى بحيث انحنت للهضبتين الأجـارع
صفحة : 128
وقد يتناءى الإلف من بـعـد ألـفة ويصدع ما بين الخليطـين صـادع
وكم من هوى أو جيرة قد ألفتـهـم زمانا فلم يمنعهم الـبـين مـانـع
كأني غداة الـبـين مـيت جـوبة أخو ظمأ سدت عليه المـشـارع
تخلس من أوشـال مـاء صـبـابة فلا الشرب مبذول ولا هو نـاقـع
وبيض تطلى بالعـبـير كـأنـهـا نعاج الملا جيبت عليها البـراقـع
تحملن من وادي الأراك فأومضـت لهن بأطراف العيون الـمـدامـع
فما رمن ربع الدار حتى تشابهـت هجائنها والجون منها الخـواضـع
وحتى حلمن الحور من كل جانـب وخاضت سدول الرقم منها الأكارع
فلما استوت تحت الخدور وقد جرى عبير ومسك بالـعـرانـين رادع
أشرن بأن حثوا الجمال فـقـد بـدا من الصيف يوم لافح الحر ماتـع
فلما لحقنا بالحمـول تـبـاشـرت بنا مقصرات غاب عنها المطامـع
يعرضن بالدل الـمـلـيح وإن يرد جناهن مشغوف فهـن مـوانـع
فقلت لأصحابي ودمعي مـسـبـل وقد صدع الشمل المشتت صـادع
أليلى بأبواب الخدور تـعـرضـت لعيني أم قرن من الشمس طالـع مروره على حمامة تهدل
وما قال في ذلك من الشعر
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي: أن أبا المجنون حج به ليدعو الله عز وجل في الموقف أن يعافيه، فسار ومعه ابن عمه زياد بن كعب بن مزاحم، فمر بحمامة تدعو على أيكة فوقف يبكي، فقال له زياد: أي شيء هذا? ما يبكيك أيضا? سر بنا نلحق الرفقة، فقال:
أأن هتفـت يومـا بـواد حـمـامة بكيت ولم يعذرك بالجهـل عـاذر
دعت ساق حر بعد ما علت الضحى فهاج لك الأحزان أن نـاح طـائر
تغني الضحى والصبح في مرجحنة كثاف الأعالي تحتها المـاء حـائر
كأن لم يكن بالغيل أو بـطـن أيكة أو الجزع من تول الأشاءة حاضـر
يقول زياد إذ رأى الحي هـجـروا أرى الحي قد ساروا فهل أنت سائر
وإني وإن غال التقـادم حـاجـتـي ملم على أوطان ليلـى فـنـاظـر هيامه إلى نواحي الشأم
وما يقوله من الشعر عند عوده ورؤبة التوباد
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن الزبير عن محمد بن عبد الله البكري عن موسى بن جعفر بن أبي كثير وأخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير وأخبرني ابن المرزبان عن ابن الهيثم عن العمري عن العتبي قالوا جميعا: كان المجنون وليلى وهما صبيان يرعيان غنما لأهلها عند جبل في بلادهما يقال له التوباد، فلما ذهب عقله وتوحش، كان يجيء إلى ذلك الجبل فيقيم به، فإذا تذكر أيام كان يطيف هو وليلى به جزع جزعا شديدا واستوحش فهام على وجهه حتى يأتي نواحي الشأم، فإذا ثاب إليه عقله رأى بلدا لا يعرفه فيقول للناس الذين يلقاهم: بأبي أنتم، أين التوباد من أرض بني عامر? فيقال له: وأين أنت من أرض بني عامر أنت بالشأم عليك بنجم كذا فأمه، فيمضي على وجهه نحو ذلك النجم حتى يقع بأرض اليمن، فيرى بلادا ينكرها وقوما لا يعرفهم فيسألهم عن التوباد وأرض بني عامر، فيقولون: وأين أنت من أرض بني عامر عليك بنجم كذا وكذا، فلا يزال كذلك حتى يقع على التوباد، فإذا رآه قال في ذلك: أبياته التي يصف فيها انصباب الدمع
وأجهشت للتوباد حـين رأيتـه وكبر للرحمـن حـين رآنـي
وأذريت دمع العين لما عرفتـه ونادى بأعلى صوته فدعـانـي
فقلت له قد كان حولـك جـيرة وعهدي بذاك الصرم منذ زمان
فقال مضوا واستودعوني بلادهم ومن ذا الذي يبقى على الحدثان
وإني لأبكي اليوم من حذري غدا فراقك والحيان مجتـمـعـان
سجالا وتهتـانـا ووبـلا وديمة وسحا وتسجاما إلى هـمـلان سبب ذهاب عقله
صفحة : 129
أخبرني عمي عن عبد الله بن شبيب عن هارون بن موسى الفروي عن موسى بن جعفر بن أبي كثير قال: لما قال المجنون:
خليلي لا واللـه لا أمـلـك الـذي قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها لغيري وابتلاني بحـبـهـا فهلا بشيء غير ليلى ابـتـلانـيا سلب عقله.
وحدثني جحظة عن ميمون بن هارون عن إسحاق الموصلي أنه لما قالهما برص.
شعره حين توهم هاتفا باسم ليلى
قال موسى بن جعفر في خبره المذكور: وكان المجنون يسير مع أصحابه فسمع صائحا يصيح: يا ليلى في ليلة ظلماء أو توهم ذلك، فقال لبعض من معه: أما تسمع هذا الصوت? فقال: ما سمعت شيئا، قال: بلى، والله هاتف يهتف بليلى، ثم أنشأ يقول:
أقول لأدنى صـاحـبـي كـلـيمة أسرت من الأقصى أجب ذا المناديا
إذا سرت في الأرض الفضاء رأيتني أصانع رحلـي أن يمـيل حـيالـيا
يمينا إذا كانت يمـينـا وإن تـكـن شمالا ينازعني الهوى عن شمالـيا شعر له في منى وغيرها
يرويه غرير بن طلحة
وقال ابن شبيب وحدثني هارون بن موسى قال: قلت لغريز بن طلحة المخزومي: من أشعر الناس ممن قال شعرا في منى ومكة وعرفات? فقال: أصحابنا القرشيون، ولقد أحسن المجنون حيث يقول:
وداع دعا إذ نحن بالخيف من منى فهيج أحزان الفـؤاد ومـا يدري
دعا باسم ليلى غرها فـكـأنـمـا أطار بليلى طائرا كان في صدري فقلت له: هل تروي للمجنون غير هذا? قال: نعم، وأنشدني له:
أما والذي أرسى ثبيرا مـكـانـه عليه السحاب فوقه يتـنـصـب
وما سلك الموماة من كل جسـرة طليح كجفن السيف تهوي فتركب
لقد عشت من ليلى زمانا أحبـهـا أخا الموت إذ بعض المحبين يكذب أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كانت كنية ليلى أم عمرو، وأنشد للمجنون: صوت
أبى القلب إلا حـبـه عـامـرية لها كنية عمرو وليس لها عمـرو
تكاد يدي تندى إذا ما لمـسـتـهـا وينبت في أطرافها الورق الخضر الغناء لعريب ثقيل أول، وقال حبش: فيه لإسحاق خفيف ثقيل.
خطبة ليلى برجل من ثقيف
وما قاله المجنون في ذلك من الشعر
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة قال: خطب ليلى صاحبة المجنون جماعة من قومها فكرهتهم، فخطبها رجل من ثقيف موسر فرضيته، وكان جميلا فتزوجها وخرج بها، فقال المجنون في ذلك:
ألا إن ليلى كالمنيحة أصـبـحـت تقطع إلا من ثقيف حـبـالـهـا
فقد حبسوها محبس البدن وابتغـى بها الريح أقوام تساحت مـالـهـا
خليلي هل من حيلة تعلـمـانـهـا يدني لنا تكليم ليلى احـتـيالـهـا
فإن أنتما لم تعلماها فـلـسـتـمـا بأول بـاغ حـاجة لا ينـالـهــا
كأن مع الركب الذين اغتدوا بـهـا غمامة صيف زعزعتها شمالـهـا
نظرت بمفضى سيل جوشن إذ غدوا تخب بأطراف المـخـارم آلـهـا
بشافية الأحزان هـيج شـوقـهـا مجـامـعة الآلاف ثـم زيالـهـا
إذا التفتت من خلفها وهي تعتـلـي بها العيس جلى عبرة العين حالهـا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر أحمد بن حاتم قال: وأنشدناه المبرد للمجنون فقال: صوت
وأحـبـس عـنـك الـنـفـس والـنـفـــس صـــبة بذكـراك والـمـــمـــشـــى ألـــيك قـــريب
مخـافة أن تـسـعــى الـــوشـــاة بـــظـــنة وأحــرســـكـــم أن يســـتـــريب مـــريب
فقد جعلت نفسي وأنت اجترمتهوكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل لك الـدهـر مـنـي مـــا حـــييت نـــصـــيب
أمـا والـذي يبـلـو الــســـرائر كـــلـــهـــا ويعـلـم مــا تـــبـــدي بـــه وتـــغـــيب
لقـد كـنـت مـمـن تـصـطـفـي الـنـفـس خـــلة لهـا دون خـلان الــصـــفـــاء حـــجـــوب ذكر يحيى المكي أنه لابن سريج ثقيل أول، وقال الهشامي: إنه منحول يحيى إليه.
خبر أبي الحسن الببغاء
والمرأة التي أحبت صديقا له من قريش
صفحة : 130
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال حدثني إسحاق الموصلي، وأخبرني به محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني سعيد بن سليمان عن أبي الحسن الببغاء قال: بينا أنا وصديق لي من قريش نمشي بالبلاط ليلا، إذا بظل نسوة في القمر، فسمعت إحداهن تقول: أهو هو? فقالت لها أخرى معها: أي والله إنه لهو هو? فدنت مني ثم قالت: يا كهل، قل لهذا الذي معك:
ليست لياليك في خاخ بعائدة كما عهدت ولا أيام ذي سلم فقلت: أجب فقد سمعت، فقال: قد والله قطع بي وأرتج علي فأجب عني، فقلت:
فقلت لها يا عز كل مـصـيبة إذا وطنت يوما لها النفس ذلت ثم مضينا حتى إذا كنا بمفرق طريقين مضى الفتى إلى منزله ومضيت إلى منزلي، فإذا أنا بجويرية تجذب ردائي فالتفت، فقالت لي: المرأة التي كلمتها تدعوك، فمضيت معها حتى دخلت دارا واسعة ثم صرت إلى بيت فيه حصير، وقد ثنت لي وسادة فجلست عليها، ثم جاءت جارية بوسادة مثنية فطرحتها، ثم جاءت المرأة فجلست عليها، فقالت لي: أنت المجيب? قلت: نعم، قالت: ما كان أفظ لجوابك وأغلظه فقلت لها: ما حضرني غيره، فسكتت، ثم قالت: لا والله ما خلق الله خلقا أحب إلي من إنسان كان معك فقلت لها: أنا الضامن لك عنه ما تحبين، فقالت: هيهات أن يقع بذلك وفاء، فقلت: أنا الضامن وعلي أن آتيك به في الليلة القابلة فانصرفت، فإذا الفتى ببابي، فقلت: ما جاء بك? قال: ظننت أنها سترسل إليك وسألت عنك فلم أعرف لك خبرا، فظننت أنك عندها، فجلست أنتظرك، فقلت له: وقد كان الذي ظننت، وقد وعدتها أن آتيك فأمضي بك إليها في الليلة المقبلة، فلما أصبحنا تهيأنا وانتظرنا المساء، فلما جاء الليل رحلنا إليها، فإذا الجارية منتظرة لنا، فمضت أمامنا حين رأتنا حتى دخلت تلك الدار ودخلنا معها، فإذا رائحة طيبة ومجلس قد أعد ونضد، فجلسنا على وسائد قد ثنيت لنا، وجلست مليا ثم أقبلت عليه فعاتبته مليا ثم قالت: صوت
وأنت الذي أخلفتني ما وعدتني وأشمت بي من كان فيك يلوم
وأبرزتني للناس ثم تركتنـي لهم غرضا أرمى وأنت سليم
فلو كان قول يكلم الجلد قد بدا بجلدي من قول الوشاة كلوم هذه الأبيات لأميمة امرأة ابن الدمينة، وفيها غناء لإبراهيم الموصلي ذكره إسحاق ولم يجنسه. وقال الهشامي: هو خفيف رمل. وفيه لعريب خفيف ثقيل أول ينسب إلى حكم الوادي وإلى يعقوب. قال: ثم سكتت وسكت الفتى هنيهة ثم قال:
غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن وفي بعض هذا للمحب عـزاء
جزيتك ضعف الود ثم صرمتني فحبك من قلـبـي إلـيك أداء فالتفتت إلي فقالت: ألا تسمع ما يقول قد خبرتك، فغمزته أن كف فكف، ثم أقبلت عليه وقالت: صوت
تجاهلت وصلي حين جدت عمايتي فهلا صرمت الحبل إذ أنا أبصـر
ولي من قوى الحبل الذي قد قطعته نصيب وإذ رأيي جميع مـوفـر
ولكنما آذنت بـالـصـرم بـغـتة ولست على مثل الذي جئت أقـدر - الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو - فقال:
لقد جعلت نفسي وأنت اجترمتهوكنت أعز الناس عنك تطيب قال: فبكت، ثم قالت: أو قد طابت نفسك لا، والله ما فيك بعدها خير، ثم التفتت إلي وقالت: قد علمت أنك لا تفي بضمانك ولا يفي به عنك. وهذا البيت الأخير للمجنون، وإنما ذكر هذا الخبر هنا وليس من أخبار المجنون لذكره فيه.
رجع الخبر إلى سياق أخبار المجنون
رأى المجنون أبيات أهل ليلى فقال شعرا
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي أن رهط المجنون اجتازوا في نجعة لهم بحي ليلى، وقد جمعتهم نجعة فرأى أبيات أهل ليلى ولم يقدم على الإلمام بهم وعدل أهله إلى جهة أخرى، فقال المجنون:
لعمرك إن البيت بالقبـل الـذي مررت ولم ألمم عليه لشـائق
وبالجزع من أعلى الجنيبة منزل شجا حزن صدري به متضايق
كأني إذا لم ألق ليلى معـلـق بسبين أهفوا بين سهل وحالـق
صفحة : 131
على أنني لو شئت هاجت صبابتي علي رسوم عي فيها التنـاطـق
لعمرك إن الحـب يا أم مـالـك بقلبي براني الله منه لـلاصـق
يضم علي الليل أطراف حبـكـم كما ضم أطراف القميص البنائق صوت
وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
نعم صدق الواشون إنت حبـيبة إلي وإن لم تصف منك الخلائق الغناء لمتيم ثقيل أول من جامعها. وفيه لدعامة رمل عن حبش.
حديث ليلى جارة لها من عقيل
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أحمد بن الطيب قال قال ابن الكلبي: دخلت ليلى على جارة لها من عقيل وفي يدها مسواك تستاك به، فتنفست ثم قالت: سقى الله من أهدى لي هذا المسواك؛ فقالت لها جارتها: من هو? قالت: قيس بن الملوح، وبكت ثم نزعت ثيابها تغتسل؛ فقالت: ويحه لقد علق منى ما أهلكه من غير أن أستحق ذلك، فنشدتك الله، أصدق في صفتي أم كذب? فقالت: لا والله، بل صدق؛ قال: وبلغ المجنون قولها فبكى ثم أنشأ يقول:
نبئت ليلى وقد كنا نـبـخـلـهـا قالت سقى المزن غيثا منزلا خربا
وحبذا راكب كـنـا نـهـش بـه يهدي لنا من أراك الموسم القضبا
قالت لجارتها يوما تـسـائلـهـا لما استحمت وألقت عندها السلبـا
يا عمرك الله ألا قـلـت صـادقة أصدقت صفة المجنون أم كـذبـا ويروى: نشدتك الله ويروى: أصادقا وصف المجنون أم كذبا .
خروج ليلى مع زوجها وشعره فيه
وقال أبو نصر في أخباره: لما زوجت ليلى بالرجل الثقفي سمع المجنون رجلا من قومها يقول لآخر: أنت ممن يشيع ليلى? قال: ومتى تخرج? قال: غدا، ضحوة أو الليلة، فبكى المجنون ثم قال: صوت
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليليى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح الغناء ليحيى المكي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، وفيه رمل ينسب إلى إبراهيم وإلى أحمد بن يحيى المكي؛ وقال حبش: فيه خفيف ثقيل بالوسطى لسليم.
وعظه رجل من بني عامر فأنشده شعرا
وقال الهيثم بن عدي في خبره. حدثني عبد الله بن عياش الهمداني قال حدثني رجل من بني عامر قال: مطرنا مطرا شديدا في ربيع ارتبعناه، ودام المطر ثلاثا ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو وخرج الناس يمشون على الوادي، فرأيت رجلا جالسا حجرة وحده فقصدته، فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي فوعظته وكلمته طويلا وهو ساكت لم يرفع رأسه إلي، ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه أبدا وحرقته.
صوت
جرى السيل فاستبكاني السيل إذ جرى وفاضت له من مقلـتـي غـروب
ومـا ذاك إلا حـين أيقـنـت أنـه يكـون بـواد فـــيه قـــريب
يكون أجاجا دونكم فـإذا انـتـهـى إليكم تلقـى طـيبـكـم فـيطـيب
أظل غريب الدار في أرض عامـر ألا كل مهجـور هـنـاك غـريب
وإن الكثيب الفرد من أيمن الحمـى إلـي وإن لـم آتـه لـحـبــيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لـم تـزر حبيبا ولم يطـرب إلـيك حـبـيب وأول هذه القصيدة - وفيه أيضا غناء -: صوت
ألا أيها البيت الذي لا أزوره وهجرانه منى إلـيه ذنـوب
هجرتك مشتاقا وزرتك خائفا وفيك علي الدهر منك رقيب
سأستعطف الأيام فيك لعلهـا بيوم سرور في هواك تثيب هذه الأبيات في شعر محمد بن أمية مروية، ورويت ها هنا للمجنون في هذه القصيدة . وفيها لعريب ثقيل أول. ولعبد الله بن العباس ثاني ثقيل. ولأحمد بن المكي خفيف ثقيل.
وأفردت إفراد الطريد وبـاعـدت إلى النفس حاجات وهن قـريب
لئن حال يأس دون ليلى لـربـمـا أتى اليأس دون الأمر فهو عصيب
ومنيتني حتـى إذا مـا رأيتـنـي على شرف للـنـاظـرين يريب
صددت وأشمت العدو بصرمـنـا أثابك يا ليلى الـجـزاء مـثـيب
صفحة : 132
لقاؤه في توحشه ليلى وشعره في ذلك
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق قال حدثنا بعض مشايخ بني عامر أن المجنون مر في توحشه فصادف حي ليلى راحلا ولقيها فجأة فعرفها وعرفته فصعق وخر مغشيا على وجهه، وأقبل فتيان من حي ليلى فأخذوه ومسحوا التراب عن وجهه، وأسندوه إلى صدورهم وسألوا ليلى أن تقف له وقفة، فرقت لما رأته به، وقالت: أما هذا فلا يجوز أن أفتضح به، ولكن يا فلانة - لأمة لها - اذهبي إلى قيس فقولي له: ليلى تقرأ عليك السلام، وتقول لك: أعزز علي بما أنت فيه، ولو وجدت سبيلا إلى شفاء دائك لوقيتك بنفسي منه، فمضت الوليدة إليه وأخبرته بقولها، فأفاق وجلس وقال: أبلغيها السلام وقولي لها هيهات إن دائي ودوائي أنت، وإن حياتي ووفاتي لفي يديك، ولقد وكلت بي شقاء لازما وبلاء طويلا. ثم بكى وأنشأ يقول:
أقـول لأصـحـابـي هـي الـشـمـــس ضـــوءهـــا قريب ولـكـن فـي تــنـــاولـــهـــا بـــعـــد
لقـد عـارضـتـنـا الـريح مـنـهــا بـــنـــفـــحة علـى كـبـدي مــن طـــيب أرواحـــهـــا بـــرد
فمـا زلـت مـغـشـيا عـلـــي وقـــد مـــضـــت أنـــاة ومـــا عـــنـــدي جـــــــواب ولا رد
أقـــلـــب بـــالأيدي وأهـــلـــي بـــعـــولة يفـدونـنـي لـو يســتـــطـــيعـــون أن يفـــدوا
ولـم يبـق إلا الـجـلـــد والـــعـــظـــم عـــاريا ولا عـــظـــم لـــي إن دام بـــي ولا جـــلـــد
أدنـياي مـالـي فـي انـقـطـاعـي وغـــربـــتـــي إلـــيك ثـــواب مـــنـــك دين ولا نـــقـــــد
عديني بنفسي أنت وعدا فربماجلا كربة المكروب عن قلبه الوعد
وقد يبتلى قوم ولا كبليتي ولا مـثـل جـدي فـي الـشـقـــاء بـــكـــم جـــد
غزتـنـي جـنـود الـحـب مـــن كـــل جـــانـــب إذا حـان مـن جـنـد قــفـــول أتـــى جـــنـــد وقال أبو نصر أحمد بن حاتم: كان أبو عمرو المدني يقول قال نوفل بن مساحق: أخبرت عن المجنون أن سبب توحشه أنه كان يوما بضرية جالسا وحده إذ ناداه مناد من الجبل:
كلانا يا أخـي يحـب لـيلـى بفي وفيك ومن ليلى التـراب
لقد خبلت فـؤادك ثـم ثـنـت بقلبي فهو مهموم مـصـاب
شركتك في هوى من ليس تبدي لنا الأيام منه سوى اجتـنـاب خبر نوفل بن مساحق مع المجنون
قال: فتنفس الصعداء وغشي عليه، وكان هذا سبب توحشه فلم ير له أثر حتى وجده نوفل بن مساحق. قال نوفل: قدمت البادية فسألت عنه، فقيل لي: توحش وما لنا به عهد ولا ندري إلى أين صار، فخرجت يوما أتصيد الأروى، ومعي جماعة من أصحابي، حتى إذا كنت بناحية الحمى إذا نحن بأراكة عظيمة قد بدا منها قطيع من الظباء، فيها شخص إنسان يرى من خلل تلك الأراكة، فعجب أصحابي من ذلك، فعرفته وأتيته وعرفت أنه المجنون الذي أخبرت عنه، فنزلت عن دابتي وتخففت من ثيابي وخرجت أمشي رويدا حتى أتيت الأراكة فارتقيت حتى صرت على أعلاها وأشرفت عليه وعلى الظباء؛ فإذا به وقد تدلى الشعر على وجهه، فلم أكد أعرفه إلا بتأمل شديد، وهو يرتعي في ثمر تلك الأراكة، فرفع رأسه فتمثلت ببيت من شعره:
أتبكي على ليلى ونفسك باعدت مزارك من ليلى وشعباكما معا قال: فنفرت الظباء، واندفع في باقي القصيدة ينشدها، فما أنسى حسن نغمته وحسن صوته وهو يقول:
فما حسن أن تأتي الأمـر طـائعـا وتجزع أن داعي الصبابة أسمـعـا
بكت عيني اليسرى فلما زجرتـهـا عن الجهل بعد الحلم اسبلتا مـعـا
وأذكر أيام الحمـى ثـم أنـثـنـي على كبدي من خشية أن تصـدعـا
فليست عشيات الحمـى بـرواجـع عليك ولكن خل عينيك تـدمـعـا
معي كل غر قد عصى عـاذلاتـه بوصل الغواني من لدن أن ترعرعا
إذا راح يمشي في الرداءين أسرعت إليه العيون الناظرات التطـلـعـا قال: ثم سقط مغشيا عليه، فتمثلت بقوله:
يا دار ليلى بسقط الحي قد درست إلا الثمام وإلا مـوقـد الـنـار
ما تفتأ الدهر من ليلى تموت كذا في موقف وقفته أو علـى دار
أبلى عظامك بعد اللحم ذكركهـا كما ينحت قدح الشوحط الباري
صفحة : 133
فرفع رأسه إلي وقال: من أنت حياك الله? فقلت: أنا نوفل بن مساحق، فحياني فقلت له: ما أحدثت بعدي في يأسك منها? فأنشدني يقول:
ألا حجبت ليلى وآلى أمـيرهـا علي يمينا جاهـدا لا أزورهـا
وأوعدني فيها رجـال أبـوهـم أبي وابوها خشنت لي صدورها
غلى غير جرم غير أني أحبهـا وأن فؤادي رهنها وأسـيرهـا قال: ثم سنحت له ظباء فقام يعدو في أثرها حتى لحقها فمضى معها.
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: لما قال مجنون بني عامر:
قضاها لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء غير ليلى ابتلانيا نودي في الليل: أنت المتسخط لقضاء الله والمعترض في أحكامه واختلس عقله فتوحش منذ تلك الليلة وذهب مع الوحش على وجهه. وهذه القصيدة التي قال فيها هذا البيت من أشهر أشعاره، والصوت المذكور بذكره أخبار المجنون ها هنا منها. وفيها أيضا عدة أبيات يغنى فيها، فمن ذلك: صوت
قصديته اليائية
أعد الليالـي لـيلة بـعـد لـيلة وقد عشت دهرا لا أعد الليالـيا
أراني إذا صليت يممت نحوهـا بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك ولكن حـبـهـا كعود الشجا أعيا الطبيب المداويا
أحب من الأسماء ما وافق اسمها وأشبهه أو كان منـه مـدانـيا في هذه الأبيات هزج خفيف لمعان معزفي: صوت
وخبر تمانـي أن تـيمـاء مـنـزل لليلى إذا ما الصيف القى المراسـيا
فهذي شهور الصيف عني قد انقضت فما للنوى ترمي بليلى الـمـرامـيا في هذين البيتين لحن من الرمل صنعته عجوز عمير الباذغيسي على لحن إسحاق:
أماوي إن المال غاد ورائح وله حديث قد ذكر في أخبار إسحاق. وهذا اللحن إلى الآن يغنى، لأنه أشهر في أيدي الناس، وإنما هو لحن إسحاق أخذ فجعل على هذه الأبيات وكيد بذلك: صوت
فلـو كـان واش بـــالـــيمـــامة بـــيتـــه وداري بـأعـلـى حـضـرمـوت اهـتـدى لـــيا
وماذا لهم لا أحسن الله حالهم من الحظ تصريم ليلى حباليا
فأنت التي إن شئت أشقيت عيشتي وإن شـئت بـعـد الـلـه أنـعـمــت بـــالـــيا
وأنـت الـتـي مـا مـــن صـــديق ولا عـــدا يرى نـضـو مـا ابــقـــيت إلا رثـــى لـــيا
أمـضـروبة لـيلــى عـــلـــى أن أزورهـــا ومـتـخـذ ذنـبــا لـــهـــا أن تـــرانـــيا
إذا سـرت فـي الأرض الـفـضـاء رأيتـــنـــي أصـانـع رحـلـــي أن يمـــيل حـــيالـــيا
يمـينـا إذا كـانـت يمـــينـــا وإن تـــكـــن شمـالا ينـازعـنـي الـهـوى عـن شـمــالـــيا
أحـب مـن الـسـمـاء مـا وافـق اسـمـــهـــا وأشـبـهـه أو كــان مـــنـــه مـــدانـــيا
هي الـسـحـر إلا أن لـلـســـحـــر رقـــية وإنـي لا ألـفـي لـهــا الـــدهـــر راقـــيا وأنشد أبو نصر للمجنون وفيه غناء: صوت
تكاد يدي تندى إذا ما لمـسـتـهـا وينبت في أطرافها الورق الخضر
أبى القلب إلا حبـهـا عـامـرية لها كنية عمرو وليس لها عمـرو الغناء لعريب ثقيل أول، وذكر الهشامي أن فيه لإسحاق خفيف ثقيل.
رثاؤه لأبيه
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: أنشدني جماعة من بني عقيل للمجنون يرثي أباه، ومات قبل اختلاطه وتوحشه، فعقر على قبره ورثاه بهذه الأبيات:
عقرت على قبر الملوح ناقتـي بذي السرح لما أن جفته أقاربه
وقلت لها كوني عقيرا فإنـنـي غداة غد ماش بالأمس راكـبـه
فلا يبعدنك الله يابـن مـزاحـم وكل امرىء للموت لابد شاربه
فقد كنت طلاع النجاد ومعطى ال جياد وسيفا لا تفل مـضـاربـه وعظه رجل من بني جعدة فقال شعرا
صفحة : 134
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن الحزامي عن محمد بن معن قال: بلغني أن رجلا من بني جعدة بن كعب كان أخا وخلا للمجنون، مر به يوما وهو جالس يخط في الأرض ويعبث بالحصى، فسلم عليه وجلس عنده فأقبل يخاطبه ويعظه ويسليه، وهو ينظر إليه ويلعب بيده كما كان وهو مفكر قد غمره ما هو فيه، فلما طال خطابه إياه قال: يا أخي، أما لكلامي جواب? فقال له: والله يا أخي ما علمت أنك تكلمني فاعذرني، فإني كما ترى مذهوب العقل مشترك اللب وبكى، ثم أنشأ يقول: صوت
وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان منك فإنه شـغـلـي
وأديم لحظ محـدثـي لـيرى أن قد فهمت وعندكم عقلـي شعره في حمام يتجاوب
الغناء لعلويه. وقال الهيثم: مر المجنون بواد في أيام الربيع وحمامه يتجاوب فأنشأ يقول: صوت
ألا يا حمام الإيك مـا لـك بـاكـيا أفارقت إلفـا أم جـفـاك حـبـيب
دعاك الهوى والشوق لما ترنـمـت هتوف الضحى بين الغصون طروب
تجاوب ورقا قد أذن لـصـوتـهـا فكل لكـل مـسـعـد ومـجـيب الغناء لرذاذ ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى.
خروج زوج ليلى وأبيها إلى مكة
واختلاف المجنون إليها
قال خالد بن حمل: حدثني رجال من بني عامر أن زوج ليلى وأباها خرجا في أمر طرق الحي إلى مكة، فأرسلت ليلى بأمة لها إلى المجنون فدعته فأقام عندها ليلة فأخرجته في السحر، وقالت له: سر إلي في كل ليلة ما دام القوم سفرا، فكان يختلف إليها حتى قدموا. وقال فيها في آخر ليلة لقيها وودعته:
تمتع بليلى إنـمـا أنـت هـامة من الهام يدنو كل يوم حمامهـا
تمتع إلى أن يرجع الركب إنهـم متى يرجعوا يحرم عليك كلامها مرض ولم تعده ليلى فقال شعرا
وقال الهيثم: مرض المجنون قبل أن يختلط فعاده قومه ونساؤهم ولم تعده ليلى فيمن عاده، فقال: صوت
ألا ما لليلى لا ترى عند مضجعـي بليل ولا يجري بهـا لـي طـائر
بلى إن عجم الطير تجري إذا جرت بليلى ولكن ليس للطـير زاجـر
أحالت عن العهد الذي كان بينـنـا بذي الرمث أم قد غيبتها المقابـر الغناء لسليم ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي.
فوالله ما في القرب لي منك راحة ولا البعد يسليني ولا أنا صـابـر
ووالـلـه مـا أدري بـأية حـيلة وأي مرام أو خطـار أخـاطـر
ووالله إن الدهر في ذات بـينـنـا علي لها في كل أمـر لـجـائر
فلو كنت إذ أزمعت هجري تركتني جميع القوى والعقل منـي وافـر
ولكن أيامي بـحـفـل عـنـيزة وذي الرمث أيام جناها التجـاور
فقد أصبح الود الذي كان بـينـنـا أماني نفس إن تخـبـر خـابـر
لعمري لقد أرهقت يا أم مـالـك حياتي وساقتني إليك الـمـقـادر خبر الظبي الذي ذكره
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: حدثني بعض بني عقيل قال: قيل للمجنون أي شيء رأيته أحب إليك? قال: ليلى، قيل: دع ليلى فقد عرفنا ما لها عندك ولكن سواها، قال: والله ما أعجبني شيء قط فذكرت ليلى إلا سقط من عيني وأذهب ذكرها بشاشته عندي، غير أني رأيت ظبيا مرة فتأملته وذكرت ليلى فجعل يزداد في عيني حسنا، ثم إنه عارضه ذئب وهرب منه فتبعته حتى خفيا عني فوجدت الذئب قد صرعه وأكل بعضه، فرميته بسهم فما أخطأت مقتله، وبقرت بطنه فأخرجت ما أكل منه، ثم جمعته إلى بقية شلوه، ودفنته وأحرقت الذئب، وقلت في ذلك:
أبى الله أن تبقى لحـي بـشـاشة فصبرا على ما شاء الله لي صبرا
رأيت غزالا يرعتي وسط روضة فقلت أرى ليلى تراءت لنا ظهرا
فيا ظبي كل رغدا هنيئا ولا تخف فإنك لي جار ولا ترهب الدهـرا
وعندي لكم حصن حصين وصارم حسام إذا أعملته أحسن الهـبـرا
صفحة : 135
فما راعني إلا وذئب قد انتـحـى فأعلق في أحشائه الناب والظفـرا
ففوقت سهمي في كتوم غمزتـهـا فخالط سهمي مهجة الذئب والنحرا
فأذهب غيظي قتله وشفـى جـوى بقلبي إن الحر قد يدرك الـوتـرا شعره وقد بلغه أن زوج ليلى سبه
قال أبو نصر: بلغ المجنون قبل توحشه أن زوج ليلى ذكره وعضهه وسبه وقال: أو بلغ من قدر قيس ابن الملوح أن يدعي محبة ليلى وينوه باسمها فقال ليغيظه بذلك:
فإن كان فيكم بعل ليلى فإنـنـي وذي العرش قد قبلت فاها ثمانيا
وأشهد عند اللـه أنـي رأيتـهـا وعشرون منها أصبعا من ورائيا
أليس من البلوى التي لا شوى لها بأن زوجت كلبا وما بذلت لـيا خبر رفقة أبوا صحبته إلى رهط ليلى
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: خرج المجنون في عدة من قومه يريدون سفرا لهم، فمروا في طريق يتشعب وجهتين: إحداهما ينزلها رهط ليلى وفيها زيادة مرحلة فسألهم أن يعدلوا معه إلى تلك الوجهة فأبوا، فمضى وحده وقال: صوت
أأترك ليلى ليس بيني وبينـهـا سوى ليلة إني إذا لـصـبـور
هبوني امرأ منكم أضل بعـيره له ذمة إن الـذمـام كـبــير
وللصاحب المتروك أعظم حرمة على صاحب من أن يضل بعير
عفا الله عن ليلى الغداة فإنـهـا إذا وليت حكما علي تـجـور الغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش، وفيه لابن المارقي خفيف ثقيل عن الهشامي، وفيه لعلويه رمل بالبنصر.
هتفت حمامة فقال شعرا
وذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه: أن المجنون كان ذات ليلة جالسا مع أصحاب له من بني عمه وهو وله يتلظى ويتململ يعظونه ويحادثونه، حتى هتفت حمامة من سرحة كانت بإزائهم، فوثب قائما وقال: صوت
لقد غردت في جنح ليل حمامة على إلفها تبكي وإني لـنـائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا لما سبقتني بالبكاء الحـمـائم ثم بكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، فما أفاق حتى حميت الشمس عليه من غد. الغناء في هذين البيتين لعبد الله بن دخمان ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى.
مرور رجل به وهو برمل يبرين
وذكر أبو نصر عن أصحابه أن رجلا مر بالمجنون وهو برمل يبرين يخطط فيه، فوقف عليه متعجبا منه وكان لا يعرفه، فقال له: ما بك يا أخي? فرفع رأسه إليه وأنشأ يقول:
بي اليأس والداء الهيام أصابني فإياك عني لا يكن بك ما بـيا
كأن جفون العين تهمي دموعها غداة رأت أظعان ليلى غواديا
غروب أمرتها نواضح بـزل على عجل عجم يروين صاديا مر به نفر من اليمن فقال شعرا
قال خالد بن جمل: ذكر حماد الرواية أن نفرا من أهل اليمن مروا بالمجنون، فوقفوا ينظرون إليه فأنشأ يقول:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أمسى هوانا يمانـيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنـا وحب إلينا بطن نعمـان واديا يقول في هذا القصيدة: صوت
ألا يا حمامي قصر ودان هجتما علي الهوى لما تغنيتـمـا لـيا
فأبكيتماني وسط صحبي ولم أكن أبالي دموع العين لو كنت خاليا غنى في هذين البيتين علويه غناء لم ينسب.
فوالله إني لا أحب، لـغـير أن تحل بها ليلى البراق الأعالـيا
ألا يا خليلي حب ليلى مجشمي حياض المنايا أو مقيدي الأعاديا
ويا أيها القمريتـان تـجـاوبـا بلحنيكما ثم اسجعا عـلـلانـيا
فإن أنتما استطربتما وأردتـمـا لحاقا بأطراف الغضى فاتبعانيا رحيل زوج ليلى بها وشعره بذلك
قال أبو نصر: وذكر خالد بن كلثوم أن زوج ليلى لما أراد الرحيل بها إلى بلده بلغ المجنون أنه غاد بها فقال: صوت
أمزمعة للبين ليلى ولم تمت كأنك عما قد أظلك غافل
صفحة : 136
ستعلم إن شطت بهم غربة النوى وزالوا بليلـى أن لـبـك زائل الغناء للزبير بن دحمان ثقيل أول بالوسطى.
قال أبو نصر قال خالد: وحدثني جماعة من بني قشير أن المجنون سقم سقاما شديدا قبل اختلاطه حتى أشفى على الهلاك، فدخل إليه أبوه يعلله فوجده ينشد هذه الأبيات ويبكي أحر بكاء وينشج أحر نشيج:
ألا أيها القلب الذي لـج هـائمـا بليلى وليدا لم تقطع تـمـائمـه
أفق قد أفاق العاشقون وقد أنـى لحالك أن تلقى طبيبـا تـلائمـه
فما لك مسلوب العزاء كـأنـمـا ترى نأى ليلى مغرما أنت غارمه
أجدك لا تنسيك لـيلـى مـلـمة تلم ولا ينسيك عهدا تـقـادمـه خبر نظره إلى أظعان ليلى وقد رحل بها زوجها
قال: وقف مستترا ينظر إلى أظعان ليلى وقد رحل بها زوجها وقومها، فلما رآهم يرتحلون بكى وجزع، فقال له أبوه: ويحك إنما جئنا بك متخفيا ليتروح بعض ما بك بالنظر إليهم، فإذا فعلت ما أرى عرفت، وقد أهدر السلطان دمك إن مررت بهم، فأمسك أو فانصرف، فقال: ما لي سبيل إلى النظر إليهم يرتحلون وأنا ساكن غير جازع ولا باك فانصرف بنا، فانصرف وهو يقول: صوت
ذد الدمع حتى يظعن الحي إنما دموعك إن فاضت عليك دليل
كأن دموع العين يوم تحمـلـوا جمان على جيب القميص يسيل أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أنشدني إسحاق بن محمد عن بعض أصحابه عن ابن الأعرابي للمجنون: صوت من المائة المختارة
ألا ليت ليلى أطفأت حـر زفـرة أعالجها لا أستطـيع لـهـا ردا
إذا الريح من نحو الحمى نسمت لنا وجدت لمسراها ومنسمها بـردا
على كبد قد كاد يبدي بها الهـوى ندوبا وبعض القوم يحسبني جلـدا هذا البيت الثالث خاصة يروى لابن هرمة في بعض قصائده، وهو من المائة المختارة التي رواها إسحاق أوله:
أفاطم إن النأي يسلي من الهوى وقد أخرج في موضع آخر. غنى في هذين البيتين عبد آل الهذلي، ولحنه المختار على ما ذكره جحظة ثاني ثقيل، وهما في هذه القصيدة:
وإني يماني الهوى منجد الـنـوى سبيلان ألقى من خلافهما جـهـدا
سقى الله نجدا من ربـيع وصـيف وماذا يرجى من ربيع سقى نجـدا
بلى إنه قد كان لـلـعـيش قـرة وللصحب والركبان منزلة حمـدا
أبى القلب أن ينفك من ذكر نسـوة رقاق ولم يخلقن شؤما ولا نـكـدا
إذا رحن يسحبن الـذيول عـشـية ويقتلن بالألحاظ أنفسنـا عـمـدا
مشى عيطلات رجح بحضورهـا روادف وعثات ترد الخـطـا ردا
وتهتز ليلى العامـرية فـوقـهـا ولاثت بسب القز ذا غدر جـعـدا
إذا حرك المدرى ضفائرها العـلا مججن ندى الريحان والعنبر الوردا وأخبار الهذليين تذكر في غير هذا الموضع إن شاء الله لئلا تنقطع أخبار المجنون، ولهما في المائة الصوت المختارة أغان تذكر أخبارها معا إن شاء الله.
خبر ظبية سأل صياديها أن يطلقاها
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال ذكر الهيثم بن عدي، وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان عن أحمد بن الهيثم عن العمري عن الهيثم بن عدي قال: مر المجنون برجلين قد صادا ظبية فربطاها بحبل وذهبا بها، فلما نظر إليها وهي تركض في حبالهما دمعت عيناه، وقال لهما: حلاها وخذا مكانها شاة من غنمي - وقال ميمون في خبره: وخذا مكانها قلوصا من إبلي - فأعطاهما وحلاها فولت تعدو هاربة. وقال المجنون للرجلين حين رآها في حبالهما:
يا صاحبي اللذين اليوم قـد أخـذا في الحبل شبها لليلى ثم غلاهـا
إني أرى اليوم في أعطاف شاتكما مشابها أشبهت ليلى فـحـلاهـا قال: وقال فيها وقد نظر إليها وهي تعدو أشد عدو هاربة مذعورة: صوت
أيا شبه ليلى لا تراعي فإنني لك اليوم من وحشية لصديق
ويا شبه ليلى لو تلبثت ساعة لعل فؤادي من جواه يفـيق
صفحة : 137
تفر وقد أطلقتها من وثاقها فأنت لليلى لو علمت طليق خبره مع نسوة عذلنه في ليلى
وذكر أبو نصر عن جماعة من الرواة وذكر أبو مسلم ومحمد بن الحسن الأحول أن ابن الأعرابي أخبرهما أن نسوة جلسن إلى المجنون فقلن له: ما الذي دعاك إلى أن أحللت بنفسك ما ترى في هوى ليلى، وإنما هي امرأة من النساء، هل لك في أن تصرف هواك عنها إلى إحدانا فنساعفك ونجزيك بهواك ويرجع إليك ما عزب من عقلك وجسمك? فقال لهن: لو قدرت على صرف الهوى عنها إليكن لصرفته عنها وعن كل أحد بعدها وعشت في الناس سويا مستريحا؛ فقلن له: ما أعجبك منها? فقال: كل شيء رأيته وشاهدته وسمعته منها أعجبني، والله ما رأيت شيئا منها قط إلا كان في عيني حسنا وبقلبي علقا، ولقد جهدت أن يقبح منها عندي شيء أو يسمج أو يعاب لأسلو عنها فلم أجده؛ فقلن له: فصفها لنا، فأنشأ يقول:
بيضاء خالصة البياض كأنهـا قمر توسط جنح ليل مـبـرد
موسومة بالحسن ذات حواسـد إن الجمال مظنة للـحـسـد
وترى مدامعها ترقرق مقـلة سوداء ترغب عن سواد الإثمد
خود إذا كثر الكلام تـعـوذت بحمى الحياء وإن تكلم تقصد قال: ثم قال ابن الأعرابي: هذا والله من حسن الكلام ومنقح الشعر.
وأنشد أبو نصر للمجنون أيضا، وفيه غناء، قال:
كأن فؤادي في مخالـب طـائر إذا ذكرت ليلى يشد بها قبـضـا
كأن فجاج الأرض حلقة خـاتـم علي، فما تزداد طولا ولا عرضا أودع رجلا شعرا ينشده ليلى
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو مسلم عن القحذمي قال: قال رجل من عشيرة المجنون له: إني أريد الإلمام بحي ليلى فهل تودعني إليها شيئا? فقال: نعم قف بحيث تسمعك ثم قل: صوت
الله يعلم أن النـفـس هـالـكة باليأس منك ولكني أعـنـيهـا
منيتك النفس حتى قد أضر بهـا واستيقنت خلفا مما أمـنـيهـا
وساعة منك ألهوها وإن قصرت أشهى إلي من الدنيا وما فيهـا قال: فمضى الرجل، ولم يزل يرقب خلوة حتى وجدها، فوقف عليها ثم قال لها: يا ليلى لقد أحسن الذي يقول:
الله يعلم أن النفس هالكة باليأس منك ولكني أعنيها وأنشد الأبيات؛ فبكت بكاء طويلا ثم قالت: أبلغه السلام وقل له:
نفسي فداؤك، لو نفسي ملكـت إذا ما كان غيرك يجزيها ويرضيهـا
صبرا على ما قضاه الله فيك على مرارة في اصطباري عنك أخفيها قال: فأبلغه الفتى البيتين وأخبره بحالها؛ فبكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، ثم أفاق وهو يقول:
عجبت لعروة العذري أضحى أحاديثا لقـوم بـعـد قـوم
وعروة مات موتا مستريحـا وها أنا ميت فـي كـل يوم أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي نصر للمجنون: صوت
أيا زينة الـدنـيا لا ينـالـهـــا مناي ولا يبدو لقلبي صـريمـهـا
بعيني قذاة من هـواك لـو أنـهـا تداوى بمن تهوى لصح سقيمـهـا
وما صبرت عن ذكرك النفس ساعة وإن كنت أحيانا كثيرا ألـومـهـا أبوه يحتال أن يبلغه أن ليلى تشتمه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: سأل الملوح أبو المجنون رجلا قدم من الطائف أن يمر بالمجنون فيجلس إليه فيخبره أنه لقي ليلى وجلس إليها، ووصف له صفات منها ومن كلامها يعرفها المجنون، وقال له: حدثه بها، فإذا رأيته قد اشرأب لحديثك واشتهاه فعرفه أنك ذكرته لها ووصفت ما به فشتمته وسبته، وقالت: إنه يكذب عليها ويشهرها بفعله، وإنها ما اجتمعت معه قط كما يصف؛ ففعل الرجل ذلك، وجاء إليه فأخبره بلقائه إياها؛ فأقبل عليه وجعل يسائله عنها، فيخبره بما أمره به الملوح، فيزداد نشاطا ويثوب إليه عقله، إلى أن أخبره بسبها إياه وشتمها له؛ وقال وهو غير مكترث لما حكاه عنها: صوت
تمر الصبا صفحا بساكن ذي الغضى ويصدع قلبي أن يهب هبـوبـهـا
صفحة : 138
إذا هبت الريح الشمال فـإنـمـا جواي بما تهدى إلي جنـوبـهـا
قريبة عهد بالـحـبـيب وإنـمـا هوى كل نفس حيث كان حبيبهـا
وحسب الليالي أن طرحنك مطرحا بدار قلى تمسي وأنت غريبـهـا
حلال لليلى شتمنا وانتقـاصـنـا هنيئا ومغفور لليلـى ذنـوبـهـا ذكر أبو أيوب المديني أن الغناء في هذا الشعر لابن سريج ولم يذكر طريقته. وفيه لمتيم غناء ينسب. وذكر الهيثم بن عدي أن المجنون قال - وفيه غناء -: صوت
كأن لم تكن ليلى تزار بذي الأثل وبالجزع من أجزاع ودان فالنخل
صديق لنا فيما نرى غير أنـهـا ترى أن حبي قد أحل لها قتلـي وصف لليلى فبكت وقالت شعرا
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة بن حريم عن أشياخ من بني مرة قالوا: خرج منا رجل إلى ناحية الشأم والحجاز وما يلي تيماء والسراة وأرض نجد، في طلب بغية له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له وقد أصابه المطر فعدل إليها وتنحنح، فإذا امرأة قد كلمته فقالت: انزل، فنزل. قال وراحت أبلهم وغنمهم فإذا أمر عظيم، فقالت: سلوا هذا الرجل من أين أقبل؛ فقلت: من ناحية تهامة ونجد؛ فقالت: ادخل أيها الرجل، فدخلت إلى ناحية من الخيمة، فأرخت بيني وبينها سترا ثم قالت لي: يا عبد الله، أي بلاد نجد وطئت? فقلت: كلها؛ قالت: فبمن نزلت هناك? قلت: ببني عامر؛ فتنفست الصعداء ثم قالت: فبأي بني عامر نزلت? فقلت: ببني الحريش؛ فاستعبرت ثم قالت: فهل سمعت بذكر فتى منهم يقال له: قيس بن الملوح ويلقب بالمجنون? قلت: بلى والله وعلى أبيه نزلت، وأتيته فنظرت إليه يهيم في تلك الفيافي، ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم إلا أن تذكر له امرأة يقال لها ليلى، فيبكي وينشد أشعارا قالها فيها. قال: فرفعت الستر بيني وبينها، فإذا فلقة قمر لم تر عيني مثلها، فبكت حتى ظننت - والله - أن قلبها قد انصدع، فقلت: أيتها المرأة، اتقي الله فما قلت بأسا، فمكثت طويلا على تلك الحال من البكاء والنحيب ثم قالت:
ألا ليت شعري والخطوب كثيرة متى رحل قيس مستقل فراجع
بنفسي من لا يستقل برحـلـه ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع ثم بكت حتى سقطت مغشيا عليها، فقلت لها: من أنت يا أمة الله? وما قصتك? قالت: أنا ليلى صاحبته المشئومة والله عليه غير المؤنسة له؛ فما رأيت مثل حزنها ووجدها عليه قط .
خبر شيخ من بني مرة لقيه ميتا في واد
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال ذكر الهيثم ابن عدي عن عثمان بن عمارة، وأخبرني عثمان عن الكراني عن العمري عن لقيط، وحدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قال ذكر الهيثم بن عدي عن عثمان بن عمارة، وذكر أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأبو مسلم المستملي عن ابن الأعرابي - يزيد بعضهم على بعض -
صفحة : 139
أن عثمان بن عمارة المري أخبرهم أن شيخا منهم من بني مرة حدثه أنه خرج إلى أرض بني عامر ليلقى المجنون، قال: فدللت على محلته فأتيتها، فإذا أبوه شيخ كبير وإخوة له رجال، وإذا نعم كثير وخير ظاهر، فسألتهم عنه فاستعبروا جميعا، وقال الشيخ: والله لهو كان آثر في نفسي من هؤلاء وأحبهم إلي وإنه هوي امرأة من قومه، والله ما كانت تطمع في مثله، فلما أن فشا أمره وأمرها كره أبوها أن يزوجها منه بعد ظهور الخبر فزوجها من غيره، فذهب عقل ابني ولحقه خبل وهام في الفيافي وجدا عليها، فحبسناه وقيدناه، فجعل يعض لسانه وشفتيه حتى خفنا عليه أن يقطعها فخلينا سبيله، فهو يهيم في هذه الفيافي مع الوحوش يذهب إليه كل يوم بطعامه فيوضع له حيث يراه، فإذا تنموا عنه جاء فأكل منه. قال: فسألتهم أن يدلوني عليه، فدلوني على فتى من الحي صديقا له وقالوا: إنه لا يأنس إلا به ولا يأخذ أشعاره عنه غيره، فأتيته فسألته أن يدلني عليه؛ فقال: إن كنت تريد شعره فكل شعر قاله إلى أمس عندي، وأنا ذاهب إليه غدا فإن قال شيئا أتيتك به؛ فقلت: بل أريد أن تدلني عليه لآتيه؛ فقال لي: إنه إن نفر منك نفر مني فيذهب شعره، فأبيت إلا أن يدلني عليه؛ فقال اطلبه في هذه الصحاري إذا رأيته فادن منه مستأنسا ولا تره أنك تهابه، فإنه يتهددك ويتوعدك أن يرميك بشيء، فلا يروعنك واجلس صارفا بصرك عنه والحظه أحيانا، فإذا رأيته قد سكن من نفاره فأنشده شعرا غزلا، وإن كنت تروي من شعر قيس بن ذريح شيئا فأنشده إياه فإنه معجب به؛ فخرجت فطلبته يومي إلى العصر فوجدته جالسا على رمل قد خط فيه بأصبعه خطوطا، فدنوت منه غير منقبض، فنفر مني نفور الوحش من الإنس، وإلى جانبه أحجار فتناول حجرا فأعرضت عنه، فمكث ساعة كأنه نافر يريد القيام، فلما طال جلوسي سكن وأقبل يخط بأصبعه، فأقبلت عليه وقلت: أحسن والله قيس بن ذريح حيث يقول:
ألا يا غراب البين ويحك نبني بعلمك في لبنى وأنت خبير
فإن أنت لم تخبر بشيء لمته فلا طرت إلا والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك فـيهـم كما قد تراني بالحبيب أدور فأقبل علي وهو يبكي فقال: أحسن والله، وأنا أحسن منه قولا حيث أقول:
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزها شرك فباتت تجاذبه وقد علق الجناح فأمسكت عنه هنيهة، ثم أقبلت عليه فقلت: وأحسن الله قيس بن ذريح حيث يقول:
وإني لمفن دمع عيني بالبـكـا حذارا لما قد كان أو هو كائن
وقالوا غدا أو بعد ذاك بـلـيلة فراق حبيب لم يبن وهو بـائن
وما كنت أخشى أن تكون منيتي بكفيك إلا أن من حان حـائن قال: فبكى - والله - حتى ظننت أن نفسه قد فاضت، وقد رأيت دموعه قد بلت الرمل الذي بين يديه، ثم قال: أحسن لعمر الله، وأنا والله أشعر منه حيث أقول: صوت
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي بقول يحل العصم سهل الأباطح
تناءيت عني حين لا لي حـيلة وخلفت ما خلفت بين الجوانـح - ويروى: وغادرت ما غادرت... - ثم سنحت له ظبية فوثب يعدو خلفها حتى غاب عني وانصرفت، وعدت من غد فطلبته فلم أجده، وجاءت امرأة كانت تصنع له طعامه إلى الطعام فوجدته بحاله، فلما كان في اليوم الثالث غدوت وجاء أهله معي فطلبناه يومنا فلم نجده، وغدونا في اليوم الرابع نستقري أثره حتى وجدناه في واد كثير الحجارة خشن، وهو ميت بين تلك الحجارة، فاحتمله أهله فغسلوه وكفنوه ودفنوه.
ندم أبي ليلى على عدم تزويجه بها
صفحة : 140
قال الهيثم: فحدثني جماعة من بني عامر: أنه لم تبق فتاة من بني جعدة ولا بني الحريش إلا خرجت حاسرة صارخة عليه تندبه؛ واجتمع فتيان الحي يبكون عليه أحر بكاء، وينشجون عليه أشد نشيج، وحضرهم حي ليلى معزين وأبوها معهم فكان أشد القوم جزعا وبكاء عليه، وجعل يقول: ما علمنا أن الأمر يبلغ كل هذا، ولكني كنت امرأ عربيا أخاف من العار وقبح الأحدوثة ما يخافه مثلي، فزوجتها وخرجت عن يدي، ولو علمت أن أمره يجري على هذا ما أخرجتها عن يده ولا احتملت ما كان علي في ذلك. قال: فما رئي يوم كان أكثر باكية وباكيا على ميت من يومئذ.
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني منها الصوت الذي أوله:
ألا يا غراب البين ويحك نبني بعلمك في لبنى وأنت خبير الغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي، وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لحكم. وفي رواية ابن الأعرابي أنه أنشده مكان:
ألا يا عراب البين ويحك نبني بعلمك في لبنى وأنت خبير صوت
ألا يا غراب البين هل أنت مخبـري بخير كما خبرت بالنـأي والـشـر
وخبرت أن قد جد بـين وقـربـوا جمالا لبين مثقلات مـن الـغـدر
وهجت قذى عين بلبنـى مـريضة إذا ذكرت فاضت مدامعها تجـري
وقلت كذاك الدهر مازال فاجـعـا صدقت وهل شيء بباق على الدهر الشعر لقيس بن ذريح، والغناء لابن جامع، ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لبحر ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. وفيه لدحمان ثاني ثقيل عن الهشامي وعبد الله بن موسى.
ومنها الصوت الذي أوله.
كأن القلب ليلة قيل يغدى بليلي العامرية أو يراح ومنها الصوت الذي أوله:
وأدنيتني حتى إذا ما سبيتـنـي بقول يحل العصم سهل الأباطح الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي.
بكاء أبي ليلى على المجنون
وشعر وجد بعد موت المجنون في خرقة
أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا الفضل الربعي عن محمد بن حبيب قال: لما مات مجنون بني عامر وجد أرض خشنة بين حجارة سود، فحضر أهله وحضر معهم أبو ليلى - المرأة التي كان يهواها - وهو متذمم من اهله، فلما رآه ميتا بكى واسترجع وعلم أنه قد شرك في هلاكه، فبينما هم يقلبونه إذ وجدوا خرقة فيها مكتوب:
ألا أيها الشيخ الذي ما بنا يرضـى شقيت ولا هنيت من عيشك الغضا
شقيت كما أشقيتني وتركـتـنـي أهيم مع الهلاك لا أطعم الغمضا صوت
كأن فؤادي في مخالـب طـائر إذا ذكرت ليلى يشد بها قبضـا
كأن فجاج الأرض حلقة خاتـم علي فما تزداد طولا ولا عرضا في هذين البيتين رمل ينسب إلى سليم وإلى ابن محرز، وذكر حبش والهشامي أنه لإسحاق.
عوتب على التغني بالشعر فقال
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب قال حدثني بعض القشيريين عن أبيه قال: مررت بالمجنون وهو مشرف على واد في أيام الربيع، وذاك قبل أن يختلط، وهو يتغنى بشعر لم أفهمه، فصحت به: يا قيس، أما تشغلك ليلى عن الغناء والطرب فتنفس تنفسا ظننت أن حيازيمه قد انقدت، ثم قال: صوت
وما أشرف الأيفاع إلا صـبـابة ولا أنشد الأشعـار إلا تـداويا
وقد يجمع الله الشتيتين بعـد مـا يظنان جهد الظن أن لا تلاقـيا
لحي الله أقواما يقولون إنـنـي وجدت طوال الدهر للحب شافيا التقاؤه بقيس بن ذريح
وطلبه منه إبلاغ سلامه لليلى
صفحة : 141
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال: اجتاز قيس بن ذريح بالمجنون وهو جالس وحده في نادي قومه، وكان كل واحد منهما مشتاقا إلى لقاء الآخر، وكان المجنون قبل توحشه لا يجلس إلا منفردا ولا يحدث أحدا ولا يرد على متكلم جوابا ولا على مسلم سلاما، فسلم عليه قيس بن ذريح فلم يرد عليه السلام؛ فقال له: يا أخي أنا قيس بن ذريح فوثب إليه فعانقه وقال: مرحبا بك يا أخي، أنا والله مذهوب بي مشترك اللب فلا تلمني، فتحدثا ساعة وتشاكيا وبكيا، ثم قال له المجنون: يا أخي، إن حي ليلى منا قريب، فهل لك أن تمضي إليها فتبلغها عني السلام? فقال له: أفعل. فمضى قيس بن ذريح حتى أتى ليلى فسلم وانتسب؛ فقالت له: حياك الله، ألك حاجة? قال: نعم، ابن عمك أرسلني إليك بالسلام؛ فأطرقت ثم قالت ما كنت أهلا للتحية لو علمت أنك رسوله، قل له عني: أرأيت قولك:
أبت ليلة بالـغـيل يا أم مـالـك لكم غير حب صادق ليس يكذب
ألا إنمـا أبـقـيت يا أم مـالـك صدى أينما تذهب به الريح يذهب أخبرني عن ليلة الغيل، أي ليلة هي? وهل خلوت معك في الغيل أو غيره ليلا أو نهارا? فقال لها قيس: يابنة عم، إن الناس تأولوا كلامه على غير ما أراد، فلا تكوني مثلهم، إنما أخبر أنه رآك ليلة الغيل فذهبت بقلبه، لا أنه عناك بسوء؛ قال: فأطرقت طويلا ودموعها تجري وهي تكفكفها، ثم انتحبت حتى قلت تقطعت حيازيمها، ثم قال: اقرأ على ابن عمي السلام، وقل له: بنفسي أنت والله إن وجدي بك لفوق ما تجد، ولكن لا حيلة لي فيك؛ فانصرف قيس إليه ليخبره فلم يجده.
رأى ليلى فبكى ثم قال شعرا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عمي عن ابن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال: مر المجنون بعد اختلاطه بليلى وهي تمشي في ظاهر البيوت بعد فقد لها طويل، فلما رآها بكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، فانصرفت خوفا من أهلها أن يلقوها عنده، فمكث كذلك مليا ثم أفاق وأنشأ يقول:
بكى فرحا بلـيلـى إذ رآهـا محب لا يرى حسنا سواهـا
لقد ظفرت يداه ونال ونال ملكا لئن كانت تراه كمـا يراهـا الغناء لابن المكي رمل بالبنصر. وفيه لعريب ثقيل أول عن الهشامي. وفيه خفيف رمل ليزيد حوراء. وقد نسب لحنه إلى ابن المكي ولحن ابن المكي إليه.
صوت من المائة المختارة
من رواية علي بن يحيى
رب ركب قد أناخوا عندنـا يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا وكذاك الدهر حالا بعد حال الشعر لعدي بن زيد العبادي، والغناء لابن محرز ولحنه المختار خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه خفيف رمل آخر بالبنصر ابتداؤه نشيد ذكر عمرو بن بانة أنه لابن طنبورة، وذكر أحمد بن المكي أنه لأبيه. وهذه الأبيات قالها عدي بن زيد العبادي على سبيل الموعظة للنعمان بن المنذر، فيقال: إنها كانت سبب دخوله في النصرانية.
عظة عدي بن زيد للنعمان بن المنذر
وتنصر النعمان
حدثني بذلك أحمد بن عمران المؤدب قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: خرج النعمان بن المنذر إلى الصيد ومعه عدي بن زيد فمروا بشجرة، فقال له عدي بن زيد: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه الشجرة? قال: لا، قال تقول:
رب ركب قد أناخوا عندنـا يشربون الخمر بالماء الزلال
عصف الدهر بهم فانقرضوا وكذاك الدهر حالا بعد حال قال: ثم جاوز الشجرة فمر بمقبرة، فقال له عدي: أيها الملك، أتدري ما تقول هذه المقبرة? قال: لا، قال تقول:
أيها الركب المـخـبـو ن على الأرض المجدون
فكـمـا أنـتـم كـنــا وكما نحن تـكـونـون
صفحة : 142
فقال له النعمان: إن الشجرة والمقبرة لا يتكلمان، وقد علمت أنك إنما أردت عظتي، فما السبيل التي تدرك بها النجاة? قال: تدع عبادة الأوثان وتعبد الله وتدين بدين المسيح عيسى ابن مريم؛ قال: أو في هذا النجاة? قال: نعم فتنصر يومئذ. وقد قيل: إن هذه الفصة كانت لعدي مع النعمان الأكبر بن المنذر، وإن النعمان الذي قتله هو ابن المنذر بن النعمان الأكبر الذي تنصر. وخبر هذا يأتي مع أحاديث عدي.
ذكر عدي بن زيد ونسبه وقصته ومقتله
نسبه
هو عدي بن زيد بن حماد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.
عدي بن زيد لا يعد في فحول الشعراء وكان أيوب هذا فيما زعم ابن الأعرابي أول من سمي من العرب أيوب، شاعر فصيح من شعراء الجاهلية، وكان نصرانيا وكذلك كان أبوه وأمه وأهله، وليس ممن يعد في الفحول، وهو قروي. وكانوا قد أخذوا عليه أشياء عيب فيها. وكان الأصمعي وأبو عبيدة يقولان: عدي بن زيد في الشعراء بمنزلة سهيل في النجوم يعارضها ولا يجري معها مجراها. وكذلك عندهم أمية بن أبي الصلت، ومثلهما كان عندهم من الإسلاميين الكميت والطرماح. قال العجاج: كانا يسألاني عن الغريب فأخبرهما به، ثم أراه في شعرهما وقد وضعاه في غير مواضعه؛ فقيل له: ولم ذاك? قال: لأنهما قرويان يصفان ما لم يريا فيضعانه في غير موضعه، وأنا بدوي أصف ما رأيت فأضعه في مواضعه. وكذلك عندهم عدي وأمية.
سبب نزول آل عدي الحيرة قال ابن الأعرابي فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب عنه وعن هشام بن الكلبي عن أبيه قال: سبب نزول آل عدي بن زيد الحيرة أن جده أيوب بن محروف كان منزله اليمامة في بني امرىء القيس بن زيد مناة، فأصاب دما في قومه فهرب فلحق بأوس بن قلام أحد بني الحارث بن كعب بالحيرة. وكان بين أيوب بن محروف وبين أوس بن قلام هذا نسب من قبل النساء، فلما قدم عليه أيوب بن محروف أكرمه وأنزله في داره، فمكث معه ما شاء الله أن يمكث، ثم إن أوسا قال له: يابن خال، أتريد المقام عندي وفي داري? فقال له أيوب: نعم، فقد علمت أني إن أتيت قومي وقد أصبت فيهم دما لم أسلم، وما لي دار إلا دارك آخر الدهر؛ قال أوس: إني قد كبرت وأنا خائف أن أموت فلا يعرف ولدي لك من الحق مثل ما أعرف، وأخشى أن يقع بينك وبينهم أمر يقطعون فيه الرحم، فانظر أحب مكان في الحيرة إليك فأعلمني به لأقطعكه أو أبتاعه لك؛ قال: وكان لأيوب صديق في الجانب الشرقي من الحيرة، وكان منزل أوس في الجانب الغربي، فقال له: قد أحببت أن يكون المنزل الذي تسكننيه عند منزل عصام بن عبدة أحد بني الحارث بن كعب؛ فابتاع له موضع داره بثلمثائة أوقية من ذهب وأنفق عليها مائتي أوقية ذهبا. وأعطاه مائتين من الإبل برعائها وفرسا وقينة؛ فمكث في منزل أوس حتى هلك، ثم تحول إلى داره التي في شرقي الحيرة فهلك بها. وقد كان أيوب اتصل قبل مهلكه بالملوك الذين كانوا بالحيرة وعرفوا حقه وحق ابنه زيد بن أيوب، وثبت أيوب فلم يكن منهم ملك يملك إلا ولولد أيوب منه جوائز وحملان.
<H6 مقتل زيد بن أيوب</H6
صفحة : 143
ثم إن زيد بن أيوب نكح امرأة من آل قلام فولدت له حمادا، فخرج زيد بن أيوب يوما من الأيام يريد الصيد في ناس من أهل الحيرة وهم منتدون بحفير - المكان الذي يذكره عدي بن زيد في شعره - فانفرد في الصيد وتباعد من أصحابه، فلقيه رجل من بني امرىء القيس الذين كان لهم الثأر قبل أبيه، فقال له - وقد عرف فيه شبه أيوب -: ممن الرجل? قال: من بني تميم، قال: من أيهم? قال: مرئي؛ قال له الأعرابي: وأين منزلك? قال: الحيرة؛ قال أمن بني أيوب أنت? قال: نعم، ومن أين تعرف بني ايوب? واستوحش من الأعرابي وذكر الثأر الذي هرب أبوه منه؛ فقال له: سمعت بهم، ولم يعلمه أنه قد عرفه؛ فقال له زيد بن أيوب: فمن أي العرب أنت? قال: أنا امرؤ من طيء؛ فأمنه زيد وسكت عنه، ثم إن الأعرابي اغتفل زيد بن أيوب: فرماه بسهم فوضعه بين كتفيه ففلق قلبه، فلم يرم حافر دابته حتى مات؛ فلبث أصحاب زيد حتى إذا كان الليل طلبوه وقد افتقدوه وظنوا أنه قد أمعن في طلب الصيد، فباتوا يطلبونه حتى يئسوا منه، ثم غدوا في طلبه فاقتفوا أثره حتى وقفوا عليه ورأوا معه أثر راكب يسايره فاتبعوا الأثر حتى وجدوه قتيلا، فعرفوا أن صاحب الراحلة قتله، فاتبعوه وأغدوا السير فأدركوه مساء الليلة الثانية، فصاحوا به وكان من أرمى الناس فامتنع منهم بالنبل حتى حال الليل بينهم وبينه وقد أصاب رجلا منهم في مرجع كتفيه بسهم فلما أجنه الليل مات وأفلت الرامي، فرجعوا وقد قتل زيد بن أيوب ورجلا آخر معه من بني الحارث بن كعب.
تولى حماد بن زيد الكتابة للنعمان الأكبر فمكث حماد في أخواله حتى أيفع ولحق بالوصفاء؛ فخرج يوما من الأيام يلعب مع غلمان بني لحيان، فلطم اللحياني عين حماد فشجه حماد، فخرج أبو الليحاني فضرب حمادا، فأتى حماد أمه يبكي، فقالت له: ما شأنك? فقال: ضربني فلان لأن ابنه لطمني فشججته، فجزعت من ذلك وحولته إلى دار زيد بن أيوب وعلمته الكتابة في دار أبيه، فكان حماد أول من كتب من بني أيوب، فخرج من أكتب الناس وطلب حتى صار كاتب الملك النعمان الأكبر، فلبث كاتبا له حتى ولد له ابن من امرأة تزوجها من طيء فسماه زيدا باسم أبيه.
<H6 سبب اتصال زيد بن حماد بكسرى</H6 وكان لحماد صديق من الدهاقين العظماء يقال له فروخ ماهان، وكان محسنا إلى حماد، فلما حضرت حمادا الوفاة أوصى بابنه زيد إلى الدهقان، وكان من المرازبة، فأخذه الدهقان إليه فكان عنده مع ولده، وكان زيد قد حذق الكتابة والعربية قبل أن يأخذه الدهقان، فعلمه لما أخذه الفارسية فلقنها، وكان لبيبا فأشار الدهقان على كسرى أن يجعله على البريد في حوائجه، ولم يكن كسرى يفعل ذلك إلا بأولاد المرازبة، فمكث يتولى ذلك لكسرى زمانا.
<H6 تمليك زيد بن حماد على الحيرة</H6 ثم إن النعمان النصري اللخمي هلك، فاختلف أهل الحيرة فيمن يملكونه إلى أن يعقد كسرى الأمل لرجل ينصبه، فأشار عليهم المرزبان يزيد بن حماد، فكان على الحيرة إلى أن ملك كسرى المنذر بن ماء السماء ونكح زيد بن حماد نعمة بنت ثعلبة العدوية فولدت له عديا، وملك المنذر وكان لا يعصيه في شيء، وولد للمرزبان ابن فسماه شاهان مرد .
تعلم عدي بن زيد الفارسية
فلما تحرك عدي بن زيد وأيفع طرحه أبوه في الكتاب، حتى إذا حذق أرسله المرزبان مع ابنه شاهان مرد إلى كتاب الفارسية، فكان يختلف مع ابنه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية حتى خرج من أفهم الناس بها وأفصحهم بالعربية وقال الشعر، وتعلم الرمي بالنشاب فخرج من الأساورة الرماة، وتعلم لعب العجم على الخيل بالصوالجة وغيرها.
اتصاله بكسرى وتوليه الكتابة له
صفحة : 144
ثم إن المرزبان وفد على كسرى ومعه ابنه شاهان مرد فبينما هما واقفان بين يديه إذ سقط طائران على السور فتطاعما كما يتطاعم الذكر والأنثى فجعل كل واحد منقاره في منقار الآخر، فغضب كسرى من ذلك ولحقته غيرة، فقال للمرزبان وابنه: ليرم كل واحد منكما واحدا من هذين الطائرين، فإن قتلتماهما أدخلتكما بيت المال وملأت أفواهكما بالجوهر، ومن أخطأ منكما عاقبته؛ فاعتمد كل واحد منهما طائرا منهما ورميا فقتلاهما جميعا، فبعثهما إلى بيت المال فملئت أفواههما جوهرا، وأثبت شاهان مرد وسائر أولاد المرزبان في صحابته؛ فقال فروخ ماهان عند ذلك للملك: إن عندي غلاما من العرب مات أبوه وخلفه في حجري فربيته، فهو أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية، والملك محتاج إلى مثله، فإن رأى أن يثبته في ولدي فعل؛ فقال: ادعه، فأرسل إلى عدي بن زيد، وكان جميل الوجه فائق الحسن وكانت الفرس تتبرك بالجميل الوجه، فلما كلمه وجده أظرف الناس وأحضرهم جوابا، فرغب فيه وأثبته مع ولد المرزبان.
عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى فكان عدي أول من كتب بالعربية في ديوان كسرى، فرغب أهل الحيرة إلى عدي ورهبوه، فلم يزل بالمدائن في ديوان كسرى يؤذن له عليه في الخاصة وهو معجب به قريب منه، وأبوه زيد بن حماد يومئذ حي إلا أن ذكر عدي قد ارتفع وخمل ذكر أبيه، فكان عدي إذا دخل على المنذر قام جميع من عنده حتى يقعد عدي، فعلا له بذلك صيت عظيم، فكان إذا أراد المقام بالحيرة في منزله ومع أبيه واهله استأذن كسرى فأقام فيهم الشهر والشهرين وأكثر وأقل.
إرسال كسرى له إلى ملك الروم ثم إن كسرى أرسل عدي بن زيد إلى ملك الروم بهدية من طرف ما عنده، فلما أتاه عدي بها أكرمه وحمله إلى عماله على البريد ليريه سعة أرضه وعظيم ملكه - وكذلك كانوا يصنعون - فمن ثم وقع عدي بدمشق، وقال فيها الشعر. فكان مما قاله بالشأم وهي أول شعر قاله فيما ذكر:
رب دار بأسفل الجزع مـن دو مة أشهى إلي مـن جـيرون
وندامى لا يفرحون بـمـا نـا لوا ولا يرهبون صرف المنون
قد سقيت الشمول في دار بشر قهوة مرة بـمـاء سـخـين ثم كان أول ما قاله بعدها قوله:
لمن الدار تعفـت بـخـيم أصبحت غيرها طول القدم
ما تبين العين من آياتـهـا غير نؤي مثل خط بالقلـم
صالحا قد لفها فاستوسقـت لف بازي حماما في سلـم تولية أهل الحيرة زيدا أبا عدي على الحيرة وإبقاء اسم الملك للمنذر قال: وفسد أمر الحيرة وعدي بدمشق حتى أصلح أبوه بينهم، لأن أهل الحيرة حين كان عليهم المنذر أرادوا قتله لأنه كان لا يعدل فيهم، وكان يأخذ من أموالهم ما يعجبه، فلما تيقن أن أهل الحيرة قد أجمعوا على قتله بعث إلى زيد بن حماد بن زيد بن أيوب، وكان قبله على الحيرة، فقال له: يا زيد أنت خليفة أبي، وقد بلغني ما أجمع عليه أهل الحيرة فلا حاجة لي في ملككم، دونكموه ملكوه من شئتم؛ فقال له زيد: إن الأمر ليس إلي، ولكني أسبر لك هذا الأمر ولا آلوك نصحا، فلما أصبح غدا إليه الناس فحيوه تحية الملك، وقالوا له: ألا تبعث إلى عبدك الظالم - يعنون المنذر- فتريح منه رعيتك? فقال لهم: أولا خير من ذلك قالوا: أشر علينا؛ قال: تدعونه على حاله فإنه من أهل بيت ملك، وأنا آتيه فأخبره أن أهل الحيرة قد اختاروا رجلا يكون أمر الحيرة إليه إلا أن يكون غزو أو قتال، فلك اسم الملك وليس إليك سوى ذلك من الأمور؛ قالوا: رأيك أفضل. فأتى المنذر فأخبره بما قالوا؛ فقبل ذلك وفرح، وقال: إن لك يا زيد علي نعمة لا أكفرها ما عرفت حق سبد - وسبد صنم كان لأهل الحيرة - فولى أهل الحيرة زيدا على كل شيء سوى اسم الملك فإنهم أقروه للمنذر. وفي ذلك يقول عدي:
نحن كنا قد علمتم قبلكـم عمد البيت وأوتاد الإصار قدوم عدي للحيرة وخروج المنذر للقائه قال: ثم هلك زيد وابنه عدي يومئذ بالشأم. وكانت لزيد ألف ناقة للحمالات كان أهل الحيرة أعطوه إياها حين ولوه ما ولوه، فلما هلك أرادوا أخذها؛ فبلغ ذلك المنذر، فقال: لا، واللات والعزى لا يؤخذ مما كان في يد زيد ثفروق وأنا أسمع الصوت.
صفحة : 145
ففي ذلك يقول عدي بن زيد لابنه النعمان بن المنذر:
وأبوك المرء لـم يشـنـأ بـه يوم سيم الخسف منا ذو الخسار قال: ثم إن عديا قدم المدائن على كسرى بهدية قيصر، فصادف أباه والمرزبان الذي رباه قد هلكا جميعا، فاستأذن على كسرى في الإلمام بالحيرة فإذن له فتوجه إليها، وبلغ المنذر خبره فخرج فتلقاه في الناس ورجع معه. وعدي أنبل أهل الحيرة في أنفسهم، ولو أراد أن يملكوه لملكوه، ولكنه كان يؤثر الصيد واللهو واللعب على الملك، فمكث سنين يبدو في فصلي السنة فيقيم في جفير ويشتو بالحيرة، ويأتي المدائن في خلال ذلك فيخدم كسرى، فمكث كذلك سنين، وكان لا يؤثر على بلاد بني يربوع مبدى من مبادي العرب ولا ينزل في حي من أحياء بني تميم غيرهم، وكان أخلاؤه من العرب كلهم بني جعفر، وكانت إبله في بلاد بني ضبة وبلاد بني سعد، وكذلك كان أبوه يفعل: لا يجاوز هذين الحيين بإبله.
<H6 تزوجه هند بنت النعمان</H6 ولم يزل على حاله تلك حتى تزوج هند بنت النعمان بن المنذر، وهي يومئذ جارية حين بلغت أو كادت. وخبره يذكر في تزويجها بعد هذا.
قال ابن حبيب وذكر هشام بن الكلبي عن إسحاق بن الجصاص وحماد الراوية وأبي محمد بن السائب قال: كان لعدي بن زيد أخوان: أحدهما اسمه عمار ولقبه أبي، والآخر اسمه عمرو ولقبه سمي، وكان لهم أخ من أمهم يقال له عدي بن حنظلة من طيء، وكان أبي يكون عند كسرى، وكانوا أهل بيت نصارى يكونون مع الأكاسرة، ولهم معهم أكل وناحية، يقطعونهم القطائع ويجزلون صلاتهم.
<H6 جعل المنذر ابنه النعمان في حجر عدي</H6 وكان المنذر لما ملك جعل ابنه النعمان بن المنذر في حجر عدي بن زيد، فهم الذين أرضعوه وربوه، وكان للمنذر ابن آخر يقال له الأسود أمه مارية بنت الحارث بن جلهم من تيم الرباب، فأرضعه ورباه قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا ينتسبون إلى لخم وكانوا أشرافا. وكان للمنذر سوى هذين من الولد عشرة، وكان ولده يقال لهم الأشاهب من جمالهم، فذلك قول أعشى بن قيس بن ثعلبة:
وبنو المنذر الأشاهب في الحي رة يمشون غدوة كالسـيوف <H6 سعي عدي بن زيد في ولاية النعمان</H6 ابن المنذر وسبب الخلاف بينه وبين عدي بن مرينا
صفحة : 146
وكان النعمان من بينهم أحمر أبرش قصيرا، وأمه سلمى بنت وائل بن عطية الصائغ من أهل فدك، فلما احتضر المنذر وخلف أولاده العشرة، وقيل: بل كانوا ثلاثة عشر، أوصى بهم إلى إياس بن قبيصة الطائي، وملكه على الحيرة إلى أن يرى كسرى رأيه، فمكث عليها أشهرا وكسرى في طلب رجل يملكه عليهم، وهو كسرى بن هرمز، فلم يجد أحدا يرضاه فضجر فقال: لأبعثن إلى الحيرة اثني عشر ألفا من الأساورة، ولأملكن عليهم رجلا من الفرس، ولآمرنهم أن ينزلوا على العرب في دورهم ويملكوا عليهم أموالهم ونساءهم، وكان عدي بن زيد واقفا بين يديه، فأقبل عليه وقال: ويحك يا عدي: من بقي من آل المنذر? وهل فيهم أحد فيه خير? فقال: نعم أيها الملك السعيد، إن في ولد المنذر لبقية وفيهم كلهم خير، فقال: ابعث إليهم فأحضرهم، فبعث عدي إليهم فأحضرهم وأنزلهم جميعا عنده، ويقال: بل شخص عدي بن زيد إلى الحيرة حتى خاطبهم بما أراد وأوصاهم، ثم قدم بهم على كسرى. قال: فلما نزلوا على عدي بن زيد أرسل إلى النعمان: لست أملك غيرك فلا يوحشنك ما أفضل به إخوتك عليك من الكرامة فإني إنما أغترهم بذلك، ثم كان يفضل إخوته جميعا عليه في النزل والإكرام والملازمة ويريهم تنقصا للنعمان وأنه غير طامع في تمام أمر على يده، وجعل يخلو بهم رجلا رجلا فيقول: إذا أدخلتكم على الملك فالبسوا أفخر ثيابكم وأجملها، وإذا دعا لكم بالطعام لتأكلوا فتباطئوا في الأكل وصغروا اللقم ونزروا ما تأكلون، فإذا قال لكم: أتكفونني العرب? فقولوا: نعم، فإذا قال لكم: فإن شذ أحدكم عن الطاعة وأفسد، أتكفوننيه? فقولوا: لا، إن بعضنا لا يقدر على بعض، ليهابكم ولا يطمع في تفرقكم ويعلم أن للعرب منعة وبأسا فقبلوا منه، وخلا بالنعمان فقال له: البس ثياب السفر وادخل متقلدا بسيفك، وإذا جلست للأكل فعظم اللقم وأسرع المضغ والبلع وزد في الأكل وتجوع قبل ذلك، فإن كسرى يعجبه كثرة الأكل من العرب خاصة، ويرى أنه لا خير في العربي إذا لم يكن أكولا شرها، ولاسيما إذا رأى غير طعامه وما لا عهد له بمثله، وإذا سألك هل تكفيني العرب? فقل: نعم، فإذا قال لك: فمن لي بإخوتك? فقل له: إن عجزت عنهم فإني عن غيرهم لأعجز. قال: وخلا ابن مرينا بالأسود فسأله عما أوصاه به عدي فأخبره، فقال: غشك والصليب والمعمودية وما نصحك، لئن أطعتني لتخالفن كل ما أمرك به ولتملكن، ولئن عصيتني ليملكن النعمان ولا يغرنك ما أراكه من الإكرام والتفضيل على النعمان، فإن ذلك دهاء فيه ومكر، وإن هذه المعدية لا تخلو من مكر وحيلة، فقال له: إن عديا لم يألني نصحا وهو أعلم بكسرى منك، وإن خالفته أوحشته وأفسد علي وهو جاء بنا ووصفنا وإلى قوله يرجع كسرى، فلما أيس ابن مرينا من قبوله منه قال: ستعلم. ودعا بهم كسرى، فلما دخلوا عليه أعجبه جمالهم وكمالهم ورأى رجالا قلما رأى مثلهم، فدعا لهم بالطعام ففعلوا ما أمرهم به عدي، فجعل ينظر إلى النعمان من بينهم ويتأمل أكله، فقال لعدي بالفارسية: إن لم يكن في أحد منهم خير ففي هذا، فلما غسلوا أيديهم جعل يدعو بهم رجلا رجلا فيقول له: أتكفيني العرب? فيقول: نعم أكفيكها كلها إلا إخوتي، حتى انتهى النعمان آخرهم فقال له: أتكفيني العرب? قال: نعم قال: كلها? قال: نعم، قال: فكيف لي بإخوتك? قال: إن عجزت عنهم فأنا عن غيرهم أعجز، فملكه وخلع عليه وألبسه تاجا قيمته ستون ألف درهم فيه اللؤلؤ والذهب.
<H6 توعد عدي بن مرينا لعدي بن زيد</H6 <H6 بأن يهجوه ويبغيه الغوائل ما بقي </H6
صفحة : 147
فلما خرج وقد ملك قال ابن مرينا للأسود: دونك عقبى خلافك لي. ثم إن عديا صنع طعاما في بيعة وأرسل إلى ابن مرينا أن ائتني بمن أحببت فإن لي حاجة فأتى في ناس فتغدوا في البيعة، فقال عدي بن زيد لابن مرينا: يا عدي، إن أحق من عرف الحق ثم لم يلم عليه من كان مثلك، وإني قد عرفت أن صاحبك الأسود بن المنذر كان أحب إليك أن يملك من صاحبي النعمان، فلا تلمني على شيء كنت على مثله، وأنا أحب ألا تحقد علي شيئا لو قدرت عليه ركبته، وأنا أحب أن تعطيني من نفسك ما أعطيت من نفسي، فإن نصيبي في هذا الأمر ليس بأوفر من نصيبك، وقام إلى البيعة فحلف ألا يهجوه أبدا ولا يبغيه غائلة؛ ولا يزوي عنه خيرا، أبدا فلما فرغ عدي بن زيد، قام عدي بن مرينا فحلف مثل عينه ألا يزال يهجوه أبدا ويبغيه الغوائل ما بقي. وخرج النعمان حتى نزل منزل أبيه بالحيرة، فقال عدي بن مرينا لعدي بن زيد:
ألا أبلغ عـديا عـن عـدي فلا تجزع وإن رثت قواكا
هياكلنا تبر لـغـير فـقـر لتحمد أو يتم به غـنـاكـا
فإن تظفر فلم تظفر حمـيدا وإن تعطب فلا يبعد سواكا
ندمت ندامة الكسعي لـمـا رأت عيناك ما صنعت يداكا <H6 تدبير عدي بن مرينا المكيدة لعدي</H6 قال: ثم قال عدي بن مرينا للأسود: أما إذا لم تظفر فلا تعجزن أن تطلب بثأرك من هذا المعدي الذي فعل بك ما فعل، فقد كنت أخبرك أن معدا لا ينام كيدها ومكرها وأمرتك أن تعصيه فخالفتني، قال: فما تريد? قال: أريد ألا تأتيك فائدة من مالك وأرضك إلا عرضتها علي ففعل. وكان ابن مرينا كثير المال والضيعة، فلم يكن في الدهر يوم يأتي إلا على باب النعمان هدية من ابن مرينا، فصار من أكرم الناس عليه حتى كان لا يقضي في ملكه شيئا إلا بأمر ابن مرينا، وكان إذا ذكر عدي بن زيد عند النعمان أحسن الثناء عليه وشيع ذلك بأن يقول: إن عدي بن زيد فيه مكر وخديعة، والمعدي لا يصلح إلا هكذا. فلما رأى من يطيف بالنعمان منزلة ابن مرينا عنده لزموه وتابعوه، فجعل يقول لمن يثق به من أصحابه: إذا رأيتموني أذكر عديا عند الملك بخير فقولوا: إنه لكذلك، ولكنه لا يسلم عليه أحد وإنه ليقول: إن الملك - يعني النعمان - عامله، وإنه هو ولاه ما ولاه، فلم يزالوا بذلك حتى أضغنوه عليه، فكتبوا كتابا على لسانه إلى قهرمان له ثم دسوا إليه حتى أخذوا الكتاب منه وأتوا به النعمان فقرأه فاشتد غضبه، فأرسل إلى عدي بن زيد: <H6 حبس النعمان لعدي بن زيد</H6 <H6 وما خاطب به عدي النعمان من الشعر </H6 عزمت عليك إلا زرتني فإني قد اشتقت إلى رؤيتك، وعدي يومئذ عند كسرى، فاستأذن كسرى فأذن له. فلما أتاه لم ينظر إليه حتى حبسه في محبس لا يدخل عليه فيه أحد، فجعل عدي يقول الشعر وهو في الحبس، فكان أول ما قاله وهو محبوس من الشعر:
ليت شعري عن الهمام ويأتي ك بخبر الأنباء عطف السؤال
أين عنا إخطارنا المال والأنف س إذ ناهدوا ليوم المـحـال
ونضالي في جنبك الناس يرمو ن وأرمي وكلنا غـير آلـي
فأصيب الذي تريد بلا غـش وأربي عـلـيهـم وأوالـي
ليت أني أخذت حتفي بكفـي ولم ألـق مـيتة الأقـتـال
محلوا محلهم لصرعتنا العـا م فقد أوقعوا الرحا بالثفـال وهي قصيدة طويلة. قالوا وقال أيضا وهو محبوس:
أرقت لمكفهـر بـات فـيه بوارق يرتقين رؤوس بشيب
تلوح الـمـشـرفـية ذراه ويجلو صفح دخدار قشـيب ويروي: تخال المشرفية. والدخدار: فارسية معربة وهو الثوب المصون. يقول فيها:
سعى الأعداء لا يألون شـرا علي ورب مكة والصلـيب
أرادوا كي تمهل عن عـدي ليسجن أو يدهده في القليب
وكنت لزاز خصمك لم أعرد وقد سلكوك في يوم عصيب
أعالنهم وأبطـن كـل سـر كما بين اللحاء إلى العسيب
ففزت عليهم لما التـقـينـا بتاجك فوزة القدح الأريب
وما دهري بأن كدرت فضلا ولكن ما لقيت من العجيب
صفحة : 148
ألا من مبلغ النعمـان عـنـي وقد تهدى النصيحة بالمغـيب
أحظي كان سلـسـلة وقـيدا وغلا والبيان لـدى الـطـيب
أتاك بأنني قد طال حـبـسـي ولم تسأم بمسجـون حـريب
وبيتي مـقـفـر إلا نـسـاء أرامل قد هلكن من النحـيب
يبادرن الدموع عـلـى عـدي كشن خانه خـرز الـربـيب
يحاذرن الوشاة عـلـى عـدي وما اقترفوا عليه من الذنـوب
فإن أخطأت أو أوهمت أمـرا فقد يهم المصافي بالحـبـيب
وإن أظلم فقد عاقبتـمـونـي وإن أظلم فذلك من نصـيبـي
وإن أهلك تجد فقدي وتـخـذل إذا التقت العوالي في الحروب
فهل لك أن تدارك ما لـدينـا ولا تغلب على الرأي المصيب
فإني قد وكلت الـيوم أمـري إلى رب قريب مسـتـجـيب قالوا: وقال فيه أيضا:
طال ذا الليل علينا واعتكـر وكأني ناذر الصبح سـمـر
من نجي الهم عنـدي ثـاويا فوق ما أعلن منـه وأسـر
وكأن اللـيل فـيه مـثـلـه ولقد ما ظن بالليل القصـر
لم أغمض طوله حتى انقضى أتمنى لو أرى الصبح جشر
غير ما عشق ولكن طـارق خلس النوم وأجداني السهـر وفيها يقول:
أبلغ النعمان عني مـالـكـا قول من قد خاف ظنا فاعتذر
أنني والله، فاقبل حـلـفـي لأبيل كلمـا صـلـى جـأر
مرعد أحشاؤه فـي هـيكـل حسن لمته وافي الـشـعـر
ما حملت الغل من أعدائكـم ولدى الله من العلم المـسـر
لا تكونن كآسي عـظـمـه بأسا حتى إذا العظم جـبـر
عاد بعد الجبر يبغي وهـنـه ينحنون المشي منه فانكسـر
واذكر النعمى التي لم أنسهـا لك في السعي إذا العبد كفر وقال له أيضا - وهي قصيدة طويلة -:
أبلغ النعمان عـنـي مـألـكـا أنه قد طال حبسي وانتظـاري
لو بغير الماء حلـقـي شـرق كنت كالغصان بالماء اعتصاري
ليت شعري عن دخيل يفـتـري حيثما أدرك ليلـي ونـهـاري
قاعدا يكرب نفـسـي بـثـهـا وحراما كان سجني واحتصاري
أجل نعمـى ربـهـا أولـكـم ودنوي كان منكم واصطهـاري في قصائد كثيرة كان يقولها فيه، ويكتب بها إليه فلا تغني عنده شيئا. )هذه رواية الكلبي(.
<H6 رواية المفضل الضبي في سبب ذلك</H6 وأما المفضل الضبي فإنه ذكر أن عدي بن زيد لما قدم على النعمان صادفه لا مال ولا أثاث ولا ما يصلح لملك، وكان آدم إخوته منظرا وكلهم أكثر مالا منه، فقال له عدي: كيف أصنع بك ولا مال عندك فقال له النعمان: ما أعرف لك حيلة إلا ما تعرفه أنت، فقال له: قم بنا نمض إلى ابن قردس - رجل من أهل الحيرة من دومة - فأتياه ليقترضا منه مالا، فأبى أن يقرضهما وقال: ما عندي شيء فأتيا جابر بن شمعون وهو الأسقف أحد بني الأوس بن قلام بن بطين بن جمهير بن لحيان من بني الحارث بن كعب فاستقرضا منه مالا، فأنزلهما عنده ثلاثة أيام يذبح لهم ويسقيهم الخمر، فلما كان في اليوم الرابع قال لهما: ما تريدان? فقال له عدي: تقرضنا أربعين ألف درهم يستعين بها النعمان على أمره عند كسرى، فقال: لكما عندي ثمانون ألفا، ثم أعطاهما إياها، فقال النعمان لجابر: لا جرم لا جرى لي درهم إلا على يديك إن أنا ملكت. قال: وجابر هو صاحب القصر الأبيض بالحيرة، ثم ذكر من قصة النعمان وإخوته وعدي وابن مرينا مثل ما ذكره ابن الكلبي. وقال المفضل خاصة: إن سبب حبس النعمان عدي بن زيد، أن عديا صنع ذات يوم طعاما للنعمان، وسأله أن يركب إليه ويتغدى عنده هو وأصحابه، فركب النعمان إليه فاعترضه عدي بن مرينا فاحتبسه حتى تغدى عنده هو وأصحابه وشربوا حتى ثملوا، ثم ركب إلى عدي ولا فضل فيه، فأحفظه ذلك، ورأى في وجه عدي الكراهة فقام فركب ورجع إلى منزله، فقال عدي بن زيد في ذلك من فعل النعمان:
صفحة : 149
أحسبت مجلسنـا وحـس ن حديثنا يودي بمـالـك
فالمال والأهلون مـص رعة لأمرك أو نكالـك
ما تأمـرن فـينـا فـأم رك في يمينك أو شمالك قال: وأرسل النعمان ذات يوم إلى عدي بن زيد فأبى أن يأتيه ثم أعاد رسوله فأبى أن يأتيه، وقد كان النعمان شرب فغضب وأمر به فسحب من منزله حتى انتهي به إليه، فحبسه في الصنين ولج في حبسه وعدي يرسل إليه بالشعر، فمما قاله له:
ليس شيء على المنون ببـاق غير وجه المسبح الـخـلاق
إن نكن آمنين فاجـأنـا شـر مصيب ذا الود والإشـفـاق
فبرىء صدري من الـظـلـم للرب وحنث بمعقد الميثـاق
ولقد ساءنـي زيارة ذي قـر بى حبيب لودنـا مـشـتـاق
ساءه ما بنا تـبـين فـي الأي دي وإشناقها إلى الأعـنـاق
فاذهبي يا أميم غـير بـعـيد لا يؤاتي العناق من في الوثاق
واذهبي يا أميم إن يشأ الـلـه ينفس من أزم هذا الخـنـاق
أو تكن وجهة فتلك سبيل النـا س لا تمنع الحتوف الرواقي ويقول فيها:
وتقول الـعـداة أودى عـدي وبنوه قد أيقـنـوا بـغـلاق
يا أبا مسهر فأبـلـغ رسـولا إخوتي إن أتيت صحن العراق
أبلغا عامـرا وأبـلـغ أخـاه أنني موثق شـديد وثـاقـي
في حديد القسطاس يرقبني الحا رس والمرء كل شيء يلاقي
في حديد مضاعف وغـلـول وثياب منضـحـات خـلاق
فاركبوا في الحرام فكوا أخاكم إن عيرا قد جهزت لانطلاق يعني الشهر الحرام. قالوا جميعا: وخرج النعمان إلى البحرين، فأقبل رجل من غسان فأصاب في الحيرة ما أحب، ويقال: إنه جفنة بن النعمان الجفني، فقال عدي بن زيد في ذلك:
سما صقر فأشعل جانبيها وألهاك المروح والعزيب المروح: الإبل المروحة إلى أعطانها. والعزيب: ما ترك في مراعيه.
وثبن لدى الثوية ملجمـات وصبحن العباد وهن شيب
ألا تلك الغنـيمة لا إفـال ترجيها مـسـومة ونـيب
ترجيها وقد صابت بـقـر كما ترجو أصاغرها عتيب <H6 لما طال سجنه كتب إلى أخيه</H6 <H6 في ذلك شعرا فأجابه </H6 وقالوا جميعا: فلما طال سجن عدي بن زيد كتب إلى أخيه أبي وهو مع كسرى بهذا الشعر:
ابلـغ أبـيا عـلـى نـأيه وهل ينفع المرء ما قد علم
بأن أخاك شقـيق الـفـؤا د كنت به واثقا ما سـلـم
لدى ملك موثق في الحـد يدإما بحق وإمـا ظـلـم
فلا أعرفنك كذات الغـلام ما لم تجد عارما تعـتـرم
فأرضك أرضك إن تأتينـا تنم نومة ليس فيها حـلـم قال: فكتب إليه أخوه أبي:
إن يكن خانك الزمان فلا عـا جز باع ولا ألف ضـعـيف
ويمـين الإلـه لـو أن جـأوا ء طحونا تضيء فيها السيوف
ذات رز مجتابة غمرة الـمـو ت صحيح سربالها مكفـوف
كنت في حميها لجئتك أسعـى فاعلمن لو سمعت إذ تستضيف
أو بمال سألـت دونـك لـم يم نع تلاد لحـاجة أو طـريف
أو بأرض أسطيع آتيك فـيهـا لم يهلني بعد بها أو مخـوف
إن تفتني والله إلفا فـجـوعـا لا يعقبك ما يصوب الخـريف
في الأعادي وأنت مني بـعـيد عز هذا الزمان والتعـنـيف
ولعمري لئن جزعت عـلـيه لجزوع على الصديق أسـوف
ولعمري لئن ملكـت عـزائي لقليل شرواك فيمـا أطـوف <H6 أمر كسرى النعمان بإطلاق عدي فقتله</H6 <H6 قبل وصول الرسول إليه </H6
صفحة : 150
قالوا جميعا: فلما قرأ أبي كتاب عدي قام إلى كسرى فكلمه في أمره وعرفه خبره، فكتب إلى النعمان يأمره بإطلاقه، وبعث معه رجلا، وكتب خليفة النعمان إليه: إنه كتب إليك في أمره، فأتى النعمان أعداء عدي من بني بقيلة وهم من غسان، فقالوا له: اقتله الساعة فأبى عليهم، وجاء الرسول، وقد كان أخو عدي تقدم إليه ورشاه وأمره أن يبدأ بعدي فيدخل إليه محبوس بالصنين، فقال له: ادخل عليه فانظر ما يأمرك به فامتثله، فدخل الرسول على عدي، فقال له: إني قد جئت بإرسالك، فما عندك? قال: عندي الذي تحب ووعده بعدة سنية، وقال له: لا تخرجن من عندي وأعطني الكتاب حتى أرسله إليه، فإنك والله إن خرجت من عندي لأقتلن، فقال: لا أستطيع إلا أن آتي الملك بالكتاب فأوصله إليه، فانطلق بعض من كان هناك من أعدائه فأخبر النعمان أن رسول كسرى دخل على عدي وهو ذاهب به، وإن فعل والله لم يستبق منا أحدا أنت ولا غيرك، فبعث إليه النعمان أعداءه فغموه حتى مات ثم دفنوه. ودخل الرسول إلى النعمان فأوصل الكتاب إليه، فقال: نعم وكرامة، وأمر له بأربعة آلاف مثقال ذهبا وجارية حسناء، وقال له: إذا أصبحت فادخل أنت بنفسك فأخرجه، فلما أصبح ركب فدخل السجن، فأعلمه الحرس أنه قد مات منذ أيام ولم نجترىء على إخبار الملك خوفا منه، وقد عرفنا كراهته لموته. فرجع إلى النعمان، وقال له: إني كنت أمس دخلت على عدي. وهو حي، وجئت اليوم فجحدني السجان وبهتني، وذكر أنه قد مات منذ أيام. فقال له النعمان: أيبعث بك الملك إلي فتدخل إليه قبلي كذبت، ولكنك أردت الرشوة والخبث، فتهدده ثم زاده جائزة وأكرمه، وتوثق منه ألا يخبر كسرى إلا أنه قد مات قبل أن يقدم عليه. فرجع الرسول إلى كسرى، وقال: إني وجدت عديا قد مات قبل أن أدخل عليه. وندم النعمان على قتل عدي وعرف أنه احتيل عليه في أمره، واجترأ عليه وهابهم هيبة شديدة.
<H6 مدح النعمان لدى كسرى زيدا</H6 <H6 بن عدي فاتخذه كاتبا </H6 ثم إنه خرج إلى صيده ذات يوم فلقي ابنا لعدي يقال له زيد، فلما رآه عرف شبهه، فقال له: من أنت? فقال: أنا زيد بن عدي بن زيد، فكلمه فإذا غلام ظريف، ففرح به فرحا شديدا وقربه وأعطاه ووصله واعتذر إليه من أمر أبيه وجهزه، ثم كتب إلى كسرى: إن عديا كان ممن أعين به الملك في نصحه ولبه، فأصابه ما لابد منه وانقطعت مدته وانقضى أجله، ولم يصب به أحد أشد من مصيبتي، وأما الملك فلم يكن ليفقد رجلا إلا جعل الله له منه خلفا لما عظم الله من ملكه وشأنه، وقد بلغ ابن له ليس بدونه، رأيته يصلح لخدمة الملك فسرحته إليه، فإن رأى الملك أن يجعله مكان أبيه فليفعل وليصرف عمه عن ذلك إلى عمل آخر. وكان هو الذي يلي المكاتبة عن الملك إلى ملوك العرب في أمورها وفي خواص أمور الملك. وكانت له من العرب وظيفة موظفة في كل سنة: مهران أشقران يجعلان له هلاما، والكمأة الرطبة في حينها واليابسة والأقط والأدم وسائر تجارات العرب، فكان زيد بن عدي يلي ذلك له وكان هذا عمل عدي. فلما وقع زيد بن عدي عند الملك هذا الموقع سأله كسرى عن النعمان، فأحسن الثناء عليه. ومكث على ذلك سنوات على الأمر الذي كان أبوه عليه. وأعجب به كسرى، فكان يكثر الدخول عليه والخدمة له.
<H6 كيد زيد للنعمان عند كسرى</H6 <H6 حتى غضب عليه فقتله </H6
صفحة : 151
وكانت لملوك العجم صفة من النساء مكتوبة عندهم، فكانوا يبعثون في تلك الأرضين بتلك الصفة، فإذا وجدت حملت إلى الملك، غير أنهم لم يكونوا يطلبونها في أرض العرب ولا يظنونها عندهم. ثم إنه بدا للملك في طلب تلك الصفة، وأمر فكتب بها إلى النواحي، ودخل إليه زيد بن عدي وهو في ذلك القول، فخاطبه فيما دخل إليه فيه، ثم قال: إني رأيت الملك قد كتب في نسوة يطلبن له وقرأت الصفة وقد كنت بآل المنذر عارفا، وعند عبدك النعمان من بناته وأخواته وبنات عمه وأهله أكثر من عشرين امرأة على هذه الصفة، قال: فاكتب فيهن، قال: أيها الملك، إن شر شيء في العرب وفي النعمان خاصة أنهم يتكرمون - زعموا في أنفسهم - عن العجم، فأنا أكره أن يغيبهن عمن تبعث إليه أو يعرض عليه غيرهن، وإن قدمت أنا عليه لم يقدر على ذلك، فابعثني وابعث معي رجلا من ثقاتك يفهم العربية حتى أبلغ ما تحبه، فبعث معه رجلا جلدا فهما، فخرج به زيد، فجعل يكرم الرجل ويلطفه حتى بلغ الحيرة، فلما دخل عليه أعظم الملك وقال: إنه قد احتاج إلى نساء لنفسه وولده وأهل بيته، وأراد كرامتك بصهره فبعث إليك، فقال: ما هؤلاء النسوة? فقال: هذه صفتهن قد جئنا بها. وكانت الصفة أن المنذر الأكبر أهدى إلى أنوشروان جارية كان أصابها إذ أغار على الحارث الأكبر بن أبي شمر الغساني، فكتب إلى أنوشروان بصفتها، وقال: إني قد وجهت إلى الملك جارية معتدلة الخلق، نقية اللون والثغر، بيضاء قمراء وطفاء كحلاء دعجاء حوراء عيناء قنواء شماء برجاء زجاء أسيلة الخد، شهية المقبل، جثلة الشعر، عظيمة الهامة، بعيدة مهوى القرط، عيطاء، عريضة الصدر، كاعب الثدي، ضخمة مشاش المنكب والعضد، حسنة المعصم، لطيفة الكف، سبطة البنان، ضامرة البطن، خميصة الخصر، غرثى الوشاح، رداح الأقبال، رابية الكفل، لفاء الفخذين، ريا الروادف، ضخمة المأكمتين، مفعمة الساق، مشبعة الخلخال، لطيفة الكعب والقدم، قطوف المشي، مكسال الضحى، بضة المتجرد، سموعا للسيد، ليست بخنساء ولا سفعاء، رقيقة الأنف، عزيزة النفس، لم تغذ في بؤس، حيية رزينة، حليمة ركينة، كريمة الخال، تقتصر على نسب أبيها دون فصيلتها، وتستغني بفصيلتها دون جماع قبيلتها، قد أحكمتها الأمور في الأدب، فرأيها رأي أهل الشرف، وعملها عمل أهل الحاجة، صناع الكفين، قطيعة اللسان ورهو الصوت ساكنته، تزين الولي، وتشين العدو، إن أردتها اشتهت، وإن تركتها انتهت، تحملق عيناها، وتحر وجنتاها، وتذبذب شفتاها، وتبادرك الوثبة إذا قمت، ولا تجلس إلا بأمرك إذا جلست. قال: فقبلها أنوشروان وأمر بإثبات هذه الصفة في دواوينه، فلم يزالوا يتوارثونها حتى أفضى ذلك إلى كسرى بن هرمز. فقرأ زيد هذه الصفة على النعمان، فشقت عليه؛ وقال لزيد والرسول يسمع: أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته فقال الرسول لزيد بالفارسية: ما المها والعين? فقال له بالفارسية: كاوان أي البقر؛ فأمسك الرسول. وقال زيد للنعمان: إنما أراد الملك كرامتك، ولو علم أن هذا يشق عليك لم يكتب إليك به. فأنزلهما يومين عنده، ثم كتب إلى كسرى: إن الذي طلب الملك ليس عندي، وقال لزيد: اعذرني عند الملك. فلما رجعا إلى كسرى؛ قال زيد للرسول الذي قدم معه: اصدق الملك عما سمعت، فإني سأحدثه بمثل حديثك ولا أخالفك فيه. فلما دخلا على كسرى، قال زيد: هذا كتابه إليك، فقرأه عليه. فقال له كسرى: وأين الذي كنت خبرتني به? قال: قد كنت خبرتك بضنتهم بنسائهم على غيرهم، وإن ذلك من شقائهم واختيارهم الجوع والعري على الشبع والرياش، وإيثارهم السموم والرياح على طيب أرضك هذه، حتى إنهم ليسمونها السجن، فسل هذا الرسول الذي كان معي عما قال، فإني أكرم الملك عن مشافهته بما قال وأجاب به. قال للرسول: وما يقال أيها الملك، إنه قال: أما كان في بقر السواد وفارس ما يكفيه حتى يطلب ما عندنا، فعرف الغضب في وجهه، ووقع في قلبه منه ما وقع، لكنه لم يزد على أن قال: رب عبد قد أراد ما هو أشد من هذا ثم صار أمره إلى التباب. وشاع هذا الكلام حتى بلغ النعمان، وسكت كسرى أشهرا على ذلك.
<H6 النعمان يسلم نفسه لكسرى</H6
صفحة : 152
وجعل النعمان يستعد ويتوقع حتى أتاه كتابه: أن أقبل فإن للملك حاجة إليك، فانطلق حين أتاه كتابه فحمل سلاحه وما قوي عليه، ثم لحق بجبلي طي وكانت فرعة بنت سعد بن حارثة بن لأم عنده، وقد ولدت له رجلا وامرأة، وكانت أيضا عنده زينب بنت أوس بن حارثة، فأراد النعمان طيئا على أن يدخلوه الجبلين ويمنعوه فأبوا ذلك عليه، وقالوا له: لولا صهرك لقتلناك، فإنه لا حاجة بنا إلى معاداة كسرى، ولا طاقة لنا به. وأقبل يطوف على قبائل العرب ليس أحد منهم يقبله، غير أن بني رواحة بن قطيعة بن عبس قالوا: إن شئت قاتلنا معك، لمنة كانت له عندهم في أمر مروان القرظ، قال: ما أحب أن أهلككم، فإنه لا طاقة لكم بكسرى. فأقبل حتى نزل بذي قار في بني شيبان سرا، فلقي هانىء بن قبيصة، وقيل بل هانىء بن مسعود بن عامر بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وكان سيدا منيعا، والبيت يومئذ من ربيعة في آل ذي الجدين لقيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدين، وكان كسرى قد أطعم قيس بن مسعود الأبلة، فكره النعمان أن يدفع إليه أهله لذلك، وعلم أن هانئا يمنعه مما يمنع منه نفسه.
وقال حماد الراوية في خبره: إنه إنما استجار بهانىء كما استجار بغيره فأجاره، وقال له: قد لزمني ذمامك وأنا مانعك مما أمنع نفسي وأهلي وولدي منه ما بقي من عشيرتي الأدنين رجل، وإن ذلك غير نافعك لأنه مهلكي ومهلكك، وعندي رأي لك، لست أشير به عليك لأدفعك عما تريده من مجاورتي ولكنه الصواب؛ فقال: هاته؛ فقال: إن كل أمر يجمل بالرجل أن يكون عليه إلا أن يكون بعد الملك سوقة، والموت نازل بكل أحد، ولأن تموت كريما خير من أن تتجرع الذل أو تبقى سوقة بعد الملك، هذا إن بقيت، فأمض إلى صاحبك وارسل إليه هدايا ومالا وألق نفسك بين يديه، فإما أن صفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن أصابك فالموت خير من أن يتلعب بك صعاليك العرب ويتخطفك ذئابها وتأكل مالك وتعيش فقيرا مجاورا أو تقتل مقهورا؛ فقال: كيف بحرمي? قال: هن في ذمتي، لا يخلص إليهن حتى يخلص إلى بناتي؛ فقال: هذا وأبيك الرأي الصحيح، ولن أجاوزه. ثم اختار خيلا وحللا من عصب اليمن وجوهرا وطرقا كانت عنده، ووجه بها إلى كسرى وكتب إليه يعتذر ويعلمه أنه صائر إليه، ووجه بها مع رسوله، فقبلها كسرى وأمره بالقدوم؛ فعاد إليه الرسول فأخبره بذلك وأنه لم ير له عند كسرى سوءا. فمضى إليه حتى إذا وصل إلى المدائن لقيه زيد بن عدي على قنطرة ساباط، فقال له: انج نعيم، إن استطعت النجاء؛ فقال له: أفعلتها يا زيد أما والله، لئن عشت لك لأقتلنك قتلة لم يقتلها عربي قط ولألحقنك بأبيك فقال له زيد: امض لشأنك نعيم، فقد والله أخيت لك أخيه لا يقطعها المهر الأرن.
<H6 وصول النعمان لكسرى وموته</H6 فلما بلغ كسرى أنه بالباب بعث إليه، فقيده وبعث به إلى سجن كان له بخانقين، فلم يزل فيه حتى وقع الطاعون هناك فمات فيه.
وقال حماد الراوية والكوفيون: بل مات بساباط في حبسه. وقال ابن الكلبي: ألقاه تحت أرجل الفيلة فوطئته حتى مات، واحتجوا بقول الأعشى:
فذاك وما أنجى من الموت ربه بساباط حتى مات وهو محزرق قال: المحرزق: المضيق عليه. وأنكر هذا من زعم أنه مات بخانقين، وقالوا: لم يزل محبوسا مدة طويلة، وإنه إنما مات بعد ذلك بحين قبيل الإسلام، وغضبت له العرب حينئذ، وكان قتله سبب وقعه ذي قار.
عدي بن زيد وهند بنت النعمان أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح وأخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال علي بن الصباح حدثني هشام بن الكلبي عن أبيه قال: كان عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب الشاعر العبادي يهوى هند بنت النعمان بن المنذر بن المنذر بن امرىء القيس بن النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن مسعود بن مالك بن غنم بن نمارة بن لخم وهو مالك بن عدي بن الحارث بن مرة بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ولها يقول:
علق الأحشاء من هند علق مستسر فيه نصب وأرق وهي قصيدة طويلة. وفيها أيضا يقول:
من لقلب دنف أو معتـمـد قد عصى كل نصوح ومغد
صفحة : 153
وهي طويلة. وفيها أيضا يقول:
يا خليلي يسرا التـعـسـيرا ثم روحا فهجرا تهـجـيرا
عرجا بي على ديار لهـنـد ليس أن عجتما المطي كبيرا <H6 قصة تزوجه بهند</H6 قال ابن الكلبي: وقد تزوجها عدي. وقال ابن أبي سعد، وذكر ذلك خالد ابن كلثوم أيضا قالا: كان سبب عشقه إياها أن هندا كانت من أجمل نساء أهلها وزمانها، وأمها مارية الكندية؛ فخرجت في خميس الفصح، وهو بعد السعانين بثلاثة أيام، تتقرب في البيعة، ولها حينئذ إحدى عشرة سنة، وذلك في ملك المنذر؛ وقد قدم عدي حينئذ بهدية من كسرى إلى المنذر، والنعمان يومئذ فتى شاب، فاتفق دخولها البيعة وقد دخلها عدي ليتقرب، وكانت مديدة القامة عبلة الجسم، فرآها عدي وهي غافلة فلم تنتبه له حتى تأملها، وقد كان جواريها رأين عديا وهو مقبل فلم يقلن لها ذلك، كي يراها عدي، وإنما فعلن هذا من أجل أمة لهند يقال لها مارية، وقد كانت أحبت عديا فلم تدر كيف تأتي له. فلما رأت هند عديا ينظر إليها شق ذلك عليها، وسبت جواريها ونالت بعضهن بضرب؛ فوقعت هند في نفس عدي، فلبث حولا لا يخبر بذلك أحدا. فلما كان بعد حول وظنت مارية أن هندا قد أضربت عما جرى وصفت لها بيعة دومة - وقال خالد بن كلثوم: بيعة توما وهو الصحيح - ووصفت لها من فيها من الرواهب، ومن يأتيها من جواري الحيرة، وحسن بنائها وسرجها؛ وقالت لها: سلي أمك الإذن لك في إتيانها، فسألتها ذلك فأذنت لها، وبادرت مارية إلى عدي فأخبرته الخبر فبادر فلبس يلمقا كان فرخانشاه مرد قد كساه إياه وكان مذهبا لم ير مثله حسنا، وكان عدي حسن الوجه، مديد القامة، حلو العينين، حسن المبسم، نقي الثغر. وأخذ معه جماعة من فتيان الحيرة، فدخل البيعة؛ فلما رأته مارية قالت لهند: انظري إلى هذا الفتى فهو والله أحسن من كل ما ترين من السرج وغيرها قالت: ومن هو? قالت: عدي بن زيد؛ قالت: أتخافين أن يعرفني إن دنوت منه لأراه من قريب? قالت: ومن أين يعرفك وما رآك قط من حيث يعرفك فدنت منه وهو يمازح الفتيان الذين معه وقد برع عليهم بجماله، وحسن كلامه وفصاحته، وما عليه من الثياب، فذهلت لما رأته وبهتت تنظر إليه. وعرفت مارية ما بها وتبينته في وجهها، فقالت لها: كلميه، فكلمته، وانصرفت وقد تبعته نفسها وهويته، وانصرف بمثل حالها. فلما كان الغد تعرضت له مارية، فلما رآها هش لها، وكان قبل ذلك لا يكلمها، وقال لها: ما غدا بك? قالت: حاجة إليك، قال: اذكريها، فوالله لا تسأليني شيئا إلا أعطيتك إياه، فعرفته أنها تهواه، وأن حاجتها الخلوة به على أن تحتال له في هند، وعاهدته على ذلك؛ فأدخلها حانوت خمار في الحيرة ووقع عليها، ثم خرجت فأتت هندا، فقالت: أما تشتهي أن تري عديا? قالت: وكيف لي به? قالت: أعده مكان كذا وكذا في ظهر القصر وتشرفين عليه؛ قالت: افعلي، فواعدته إلى ذلك المكان، فأتاه وأشرفت هند عليه، فكادت تموت، وقالت: إن لم تدخليه إلي هلكت. فبادرت الأمة إلى النعمان فأخبرته خبرها وصدقته، وذكرت أنها قد شغفت به، وأن سبب ذلك رؤيتها إياه في يوم الفصح، وأنه إن لم يزوجها به افتضحت في أمره أو ماتت؛ فقال لها: ويلك وكيف أبدؤه بذلك فقالت: هو أرغب في ذلك من أن تبدأه أنت، وأنا أحتال في ذلك من حيث لا يعلم أنك عرفت أمره. وأتت عديا فأخبرته الخبر، وقالت: ادعه، فإذا أخذ الشراب منه فاخطب إليه فإنه غير رادك؛ قال: أخشى أن يغضبه ذلك فيكون سبب العدواة بيننا؛ قالت: ما قلت لك هذا حتى فرغت منه معه؛ فصنع عدي طعاما واحتفل فيه، ثم أتى النعمان بعد الفصح بثلاثة أيام، وذلك في يوم الإثنين، فسأله أن يتغدى عنده هو وأصحابه، ففعل. فلما أخذ منه الشراب خطبها إلى النعمان، فأجابه وزوجه وضمها إليه بعد ثلاثة أيام.
<H6 ترهب هند بعد قتل عدي</H6 قال خالد بن كلثوم: فكانت معه حتى قتله النعمان، فترهبت وحبست نفسها في الدير المعروف بدير هند في ظاهر الحيرة. وقال ابن الكلبي: بل ترهبت بعد ثلاث سنين ومنعته نفسها واحتبست في الدير حتى ماتت، وكانت وفاتها بعد الإسلام بزمان طويل في ولاية المغيرة بن شعبة الكوفة، وخطبها المغيرة فردته.
<H6 خطبها المغيرة بن شعبة فردته</H6
صفحة : 154
أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن هشام بن محمد بن الكلبي عن أبيه والشرقي بن القطامي قالا: مر المغيرة بن شعبة لما ولاه معاوية الكوفة بدير هند، فنزله ودخل على هند بنت النعمان بعد أن استأذن عليها، فأذنت له وبسطت له مسحا فجلس عليه، ثم قالت له: ما جاء بك? قال: جئتك خاطبا؛ قالت: والصليب لو علمت أن في خصلة من جمال أو شباب رغبتك في لأجبتك، ولكنك أردت أن تقول في المواسم: ملكت مملكة النعمان بن المنذر ونكحت ابنته، فبحق معبودك هذا أردت? قال: إي والله؛ قال: فلا سبيل إليه؛ فقام المغيرة وانصرف وقال فيها:
أدركت ما منيت نفسي خالـيا لله درك يابنة الـنـعـمـان
فلقد رددت على المغيرة ذهنه إن الملوك نـقـية الأذهـان وفي رواية أخرى:
إن الملوك بطية الإذعـان
يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي فالصدق خير مقالة الإنسان <H6 حديث عشقها لزرقاء اليمامة</H6 وقد روى عن ابن الكلبي غير علي بن الصباح في هند أنها كانت تهوى زرقاء اليمامة، وأنها أول امرأة أحبت امرأة في العرب، فإن الزرقاء كانت ترى الجيش من مسيرة ثلاثين ميلا؛ فغزا قوم من العرب اليمامة، فلما قربوا من مسافة نظرها قالوا: كيف لكم بالوصول، مع الزرقاء فاجتمع رأيهم على أن يقتلعوا شجرا تستر كل شجرة منها الفارس إذا حملها؛ فقطع كل واحد منهم بمقدار طاقته وساروا بها؛ فأشرفت، كما كانت تفعل، فقال لها قومها: ما ترين يا زرقاء? وذلك في آخر النهار؛ قالت: ارى شجرا يسير؛ فقالوا: كذبت أو كذبتك عينك، واستهانوا بقولها؛ فلما أصبحوا صبحهم القوم، فاكتسحوا أموالهم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأخذوا الزرقاء فقعلوا عينها فوجدوا فيها عروقا سوداء، فسئلت عنها فقالت: إني كنت أديم الاكتحال بالإثمد فلعل هذا منه، وماتت بعد ذلك بأيام؛ وبلغ هندا خبرها فترهبت ولبست المسوح وبنت ديرا يعرف بدير هند إلى الآن، فأقامت فيه حتى ماتت.
<H6 قيل إن النعمان أكرهه على طلاقها</H6 وروى ابن حبيب عن ابن الأعرابي: أن النعمان لما حبس عديا أكرهه في أمرها على طلاقها ولم يزل به حتى طلقها. قال ابن حبيب: وذكر عدي بن زيد صهره هذا للنعمان في قصائده وكان زوج أخته - هكذا ذكر العلماء من أهل الحيرة. وقالت رواة العرب: إنه كان زوج ابنته هند - فمن ذلك قوله في قصيدته التي أولها:
أبصرت عيني عشاء ضوء نار فقال فيها:
أجل نعمى ربـهـا أولـكـم ودنوي كان منكم واصطهاري
نحن كنا قد علمتم قـبـلـهـا عمد البيت وأوتـاد الإصـار سبب تنصر النعمان وما وقع بينه وبين عدي في ذلك أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا إبراهيم بن فهد قال حدثنا خليفة بن خياط شباب العصفري قال حدثنا هشام بن محمد قال حدثنا يحيى بن أيوب البجلي قال حدثنا أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي قال: سمعت جدي جرير بن عبد الله يقول، وأخبرني به عمي قال حدثنا أحمد بن عبيد الله قال أخبرنا محمد بن يزيد بن زياد الكلبي أبو عبد الله قال حدثني معروف بن خربوذ عن يحيى بن أيوب عن أبي زرعة بن عمرو قال: سمعت جدي جرير بن عبد الله - ولفظ هذا الخبر لأحمد ابن عبيد الله وروايته أتم - قال: كان سبب تنصر النعمان - وكان يعبد الأوثان قبل ذلك، وقال أحمد بن عبيد الله في خبره: النعمان بن المنذر الأكبر - أنه كان قد خرج يتنزه بظهر الحيرة ومعه عدي بن زيد، فمر على المقابر من ظهر الحيرة ونهرها؛ فقال له عدي بن زيد: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر? قال: لا، وقال أحمد بن عبيد الله في خبره: فقال له تقول:
أيها الركب المـخـبـو ن على الأرض المجدون
كمـا أنـتـم كـنـــا وكما نحن تـكـونـون وقال الصولي في خبره: فقال له تقول:
كنا كما كنتم حـينـا فـغـيرنـا دهر فسوف كما صرنا تصيرونا قال: فانصرف وقد دخلته رقة، فمكث بعد ذلك يسيرا؛ ثم خرج خرجة أخرى فمر على تلك المقابر ومعه عدي، فقال له: أبيت اللعن، أتدري ما تقول هذه المقابر? قال: لا؛ قال: فإنها تقول:
من رآنا فليحدث نفـسـه أنه موف على قرن زوال
صفحة : 155
وصروف الدهر لا يبقى لـهـا ولما تأتي به صم الـجـبـال
رب ركب قد أناخوا عـنـدنـا يشربون الخمر بالماء الـزلال
والأبـاريق عـلـيهـا فــدم وجياد الخيل تردي في الجلال
عمروا دهرا بعـيش حـسـن آمني دهرهم غـير عـجـال
ثم أضحوا عصف الدهر بـهـم وكذاك الدهر يودي بالرجـال
وكذاك الدهر يرمي بالـفـتـى في طلاب العيش حالا بعد حال قال الصولي في خبره وهو الصحيح: فرجع النعمان فتنصر؛ وقال أحمد بن عبيد الله في خبره عن الزيادي الكلبي: فرجع النعمان من وجهه وقال لعدي: ائتني الليلة إذا هدأت الرجل لتعلم حالي، فأتاه فوجده قد لبس المسوح وتنصر وترهب وخرج سائحا على وجهه فلا يدرى ما كانت حاله، فتنصر ولده بعده، وبنوا البيع والصوامع، وبنت هند بنت النعمان بن المنذر بن النعمان بن المنذر الدير الذي بظهر الكوفة ويقال له: دير هند فلما حبس كسرى النعمان الأصغر أباها ومات في حبسه ترهبت هند ولبست المسوح وأقامت في ديرها مترهبة حتى ماتت فدفنت فيه.
<H6 رأي المؤلف أن النعمان هو الذي تنصر</H6 قال مؤلف هذا الكتاب: إنما ذكرت الخبر الذي رواه الزيادي على ما فيه من التخليط لأني إذا أتيت بالقصة ذكرت كل ما يروى في معناها. وهو خبر مختلط، لأن عدي بن زيد إنما كان صاحب النعمان بن المنذر وهو المحبوس والنعمان الأكبر لا يعرفه عدي ولا رآه ولا هو جد النعمان الذي صحبه عدي كما ذكر ابن زياد، وقد ذكرت نسب النعمان آنفا، ولعل هذا النعمان الذي ذكره عم النعمان بن المنذر الأصغر بن المنذر الأكبر، والمتنصر السائح على وجهه ليس عدي بن زيد أدخله في النصرانية، وكيف يكون هو المدخل له في النصرانية وقد ضربه مثلا للنعمان في شعره لما حبسه مع من ضربه مثلا له من الملوك السالفة.
<H6 حكاية خالد بن صفوان مع هشام</H6 <H6 بن عبد الملك وتذكره قصة النعمان وتنصره </H6 حدثنا بخبر ذلك الملك جعفر بن محمد الفريابي وأحمد بن عبد العزيز بن الجعد الوشاء قالا: حدثنا إسحاق بن البهلول الأنباري قال حدثني أبي البهلول بن حسان التنوخي قال حدثني إسحاق بن زياد من بني سامة بن لؤي عن شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان بن الأهتم قال:
صفحة : 156
أوفدني يوسف بن عمر إلى هشام بن عبد الملك في وفد أهل العراق قال: فقدمت عليه وقد خرج بقرابته وحشمه وغاشيته وجلسائه، فنزل في أرض قاع صحصح منيف أفيح، في عام قد بكر وسميه وتتابع وليه، وأخذت الأرض فيه زينتها على اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق فهو في أحسن منظر، وأحسن مختبر، وأحسن مستمطر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور؛ قال: وقد ضرب له سرادق من حبرة كان يوسف بن عمر صنعه له باليمن، فيه فسطاط فيه أربعة أفرشة من خز أحمر مثلها مرافقها، وعليه دراعة من خز أحمر مثلها عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم؛ قال: فأخرجت رأسي من ناحية السماط فنظر إلي شبه المستنطق لي فقلت: أتم الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه، وجعل ما قلدك من هذا الأمر رشدا، وعاقبة ما يؤول إليه حمدا، وأخلصه لك بالتقى، وكثره لك بالنماء، ولا كدر عليك منه ما صفا، ولا خالط سروره بالردى، فلقد أصبحت للمؤمنين ثقة ومستراحا، إليك يقصدون في مظالمهم، ويفزعون في أمورهم، وما أجد شيئا يا أمير المؤمنين هو أبلغ في قضاء حقك، وتوقير مجلسك، وما من الله جل وعز علي به من مجالستك من أن أذكرك نعم الله عليك، وأنبهك لشكرها، وما أجد في ذلك شيئا هو أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن أمير المؤمنين أخبرته به؛ قال: فاستوى جالسا وكان متكئا ثم قال: هات يابن الأهتم، قال: قلت يا أمير المؤمنين إن ملكا من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامك هذا إلى الخورنق والسدير في عام قد بكر وسميه، وتتابع وليه، وأخذت الأرض فيه زينتها على اختلاف ألوان نبتها في ربيع مونق، فهو في أحسن منظر، وأحسن مختبر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، وقد كان أعطي فتاء السن مع الكثرة والغلبة والقهر، فنظر فأبعد النظر ثم قال لجلسائه: لمن مثل هذا، هل رأيتم مثل ما أنا فيه وهل أعطي أحد مثل ما أعطيت قال: وعنده رجل من بقايا حملة الحجة، والمضي على أدب الحق ومنهاجه، قال: ولم تخل الأرض من قائم لله بحجة في عباده؛ فقال: أيها الملك إنك سألت عن أمر، أفتأذن في الجواب عنه? قال: نعم؛ قال: أرأيت هذا الذي أنت فيه، أشيء لم تزل فيه، أم شيء صار إليك ميراثا وهو زائل عنك وصائر إلى غيرك كما صار إليك? قال: كذلك هو؛ قال: فلا أراك إلا عجبت بشيء يسير تكون فيه قليلا وتغيب عنه طويلا، وتكون غدا بحسابه مرتهنا؛ قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب? قال: إما أن تقيم في ملكك فتعمل فيه بطاعة الله ربك على ما ساءك وسرك، وأمضك وأرمضك، وإما أن تضع تاجك، وتخلع أطمارك، وتلبس أمساحك، وتعبد ربج حتى يأتيك أجلك؛ قال: فإذا كان السحر فاقرع علي بابي فإني مختار أحد الرأيين، وربما قال إحدى المنزلتين، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا يعصى، وإن اخترت فلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقا لا يخالف؛ قال: فقرع عليه عند السحر بابه فإذا هو قد وضع تاجه، وخلع أطماره، ولبس أمساحه، وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما، وهو حيث يقول عدي بن زيد أخو بني تميم:
أيها الشأمت الـمـعـير بـالـد هر أأنت المبـرأ الـمـوفـور
أم لديك العهد الوثـيق مـن الأي ام بل أنت جـاهـل مـغـرور
من رأيت المنون خلـدن أم مـن ذا عليه من أن يضـام خـفـير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر وان أم أين قـبـلـه سـابـور
وبنو الأصفر الكرام ملـوك الـر وم لم يبق مـنـهـم مـذكـور
وأخو الحضـر إذ بـنـاه وإذ دج لة تجبـى إلـيه والـخـابـور
شاده مرمرا وجلـلـه كـلـس ا فللـطـير فـي ذراه وكـور
لم يهبه ريب المنون فباد الملـك عنـه فـبـابـه مـهـجـور
وتذكر رب الخورنق إذ أشـرف يومـا ولـلـهـدى تـفـكـير
سره ماله وكثـرة مـا يمـلـك والبحر معـرضـا والـسـدير
فارعوى قلبه فقال وما غـبـطة حي إلـى الـمـمـات يصـير
ثم بعد الفلاح والـمـلـك والإمة وارتهـم هـنـاك الـقـبـور
ثم صاروا كأنهم ورق جف فألوت به الـصـبـا والــدبـــور
صفحة : 157
قال: فبكى والله هشام حتى أخضل لحيته، وبل عمامته، وأمر بنزع أبنيته، وبنقلان قرابته وأهله وحشمه وغاشيته من جلسائه، ولزم قصره، فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت إلى أمير المؤمنين أفسدت عليه لذته، ونغصت عليه مأدبته، فقال: إليكم عني فإني عاهدت الله عز وجل ألا أخلو بملك إلا ذكرته الله عز وجل.
قصرا الحضر والخورنق فأما خبر الحضر وصاحبه، والخورنق وصاحبه، فإني أذكرخبرهما ها هنا لأنه مما يحسن ذكره بعقب هذه الأخبار ولا يستغنى عنه، والشيء يتبع الشيء.
أخبرني بخبره إبراهيم بن السري عن أبيه عن شعيب عن سيف، وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا الحارث بن محمد قال حدثنا محمد بن سعد عن الواقدي، وأخبرني به علي بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين عن السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل بن سلمة الضبي، وهشام بن الكلبي عن أبيه، وإسحاق بن الجصاص عن الكوفيين: أن الحضر كان قصرا بحيال تكريت بين دجلة والفرات، وأن أخا الحضر الذي ذكره عدي بن زيد هو الضيزن بن معاوية بن العبيد بن الأجرام بن عمرو بن النخع بن سليح من بني تزيد بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وأمه جبهلة امرأة من بني تزيد بن حلوان أخي سليح بن حلوان، وكان لا يعرف إلا بأمه هذه، وكان ملك تلك الناحية وسائر أرض الجزيرة، وكان معه من بني الأجرام ثم من بني العبيد ابن الأجرام وسائر قبائل قضاعة ما لا يحصى، وكان ملكه قد بلغ الشأم. فأغار الضيزن فأصاب أختا لسابور ذي الأكتاف وفتح مدينة نهر شير وفتك فيهم، فقال في ذلك عمرو بن السيح بن حدي بن الدها بن غنم بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة:
لقيناهم بجمع من عـلاف وبالخيل الصلادمة الذكور
فلاقت فارس منا نـكـالا وقتلنا هرابذ شهـرزور
دلفنا للأعاجم من بـعـيد بجمع م الجزيرة كالسعير قالوا: ثم إن سابور ذا الأكتاف جمع لهم وسار إليهم، فأقام على الحضر أربع سنين لا يستغل منهم شيئا. ثم إن النضيرة بنت الضيزن عركت - أي حاضت - فأخرجت إلى الربض، وكانت من أجمل أهل دهرها، وكذلك كانوا يفعلون بنسائهم إذا حضن، وكان سابور من أجمل أهل زمانه، فرآها ورأته، وعشقها وعشقته، فأرسلت إليه: ما تجعل لي أن دللتك على ما تهدم به هذه المدينة وتقتل أبي? قال: أحكمك وأرفعك على نسائي، وأخصك بنفسي دونهن؛ قالت: عليك بحمامة مطوقة ورقاء، فاكتب في رجلها بحيض جارية بكر تكون زرقاء، ثم أرسلها فإنها تقع على حائط المدينة فتتداعى المدينة، وكان ذلك طلسمها لا يهدمها إلا هو، ففعل وتأهب لهم، وقالت له: أنا أسقي الحرس الخمر، فإذا صرعوا فاقتلهم وادخل المدينة، ففعل فتداعت المدينة، وفتحها سابور عنوة، فقتل الضيزن يومئذ، وأباد بني العبيد، وأفنى قضاعة الذين كانوا مع الضيزن فلم يبق منهم باق يعرف إلى اليوم، وأصيب قبائل حلوان وانقرضوا ودرجوا، فقال في ذلك عمرو بن آلة وكان مع الضيزن:
ألم يحزنك والأنبـاء تـنـمـي بما لاقت سراة بني العـبـيد
ومصرع ضيزن وبنـي أبـيه وأحلاس الكتائب مـن تـزيد
أتاهم بالـفـيول مـجـلـلات وبالأبطال سابور الـجـنـود
فهدم من أواسي الحضر صخرا كأن ثقـالـه زبـر الـحـديد قال: فأخرب سابور المدينة واحتمل النضيرة بنت الضيزن فأعرس بها بعين التمر، فلم تزل ليلتها تتضور من خشانة في فرشها وهي من حرير محشو بالقز، فالتمس ما كان يؤذيها فإذا هي ورقة آس ملتصقة بعكنة من عكنها قد أثرت فيها. قال: وكان ينظر إلى مخها من لين بشرتها. فقال لها سابور: ويحك باي شيء كان أبوك يغذيك? قالت: بالزبد والمخ وشهد الأبكار من النحل وصفوة الخمر فقال: وأبيك لأنا أحدث عهدا بمعرفتك، وآثر لك من أبيك الذي غذاك بما تذكرين ثم أمر رجلا فركب فرسا جموحا وضفر غدائرها بذنبه، ثم استركضه فقطعها قطعا، فذلك قول الشاعر:
أقفرا الحضر من نضير فالمر باع منها فجانب الـثـرثـار قالوا: وكان الضيزن صاحب الحضر يلقب الساطرون، وقال غيرهم: بل الساطرون صاحب الحضر كان رجلا من أهل باجرمى والله أعلم أي ذلك كان. هذا خبر صاحب الحضر الذي ذكره عدي.
صفحة : 158
وأما صاحب الخورنق فهو النعمان بن الشقيقة، وهو الذي ساح على وجهه فلم يعرف له خبر، والشقيقة أمه بنت أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان. وهو النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عيد بن نصر بن ربيعة بن الضخم اللخمي، وهو صاحب الخورنق، فذكر ابن الكلبي في خبره الذي قدمنا ذكره ورواية علي بن الصباح أياه عنه: أنه كان سبب بنائه الخورنق أن يزدجرد بن سابور كان لا يبقى له ولد، فسأل عن منزل مريء صحيح من الأدواء والأسقام، فدل على ظهر الحيرة، فدفع ابنه بهرام جور بن يزدجرد إلى النعمان بن الشقيقة، وكان عامله على أرض العرب، وأمره بأن يبني الخورنق مسكنا له ولابنه وينزله إياه معه، وأمره بإخراجه إلى بوادي العرب، وكان الذي بنى الخورنق رجلا يقال له سنمار فلما فرغ من بنائه عجبوا من حسنه وإتقان عمله، فقال: و علمت أنكن توفوني أجرتي وتصنعون بي ما أستحقه، لبنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت، فقالوا: وإنك لتبني ما هو أفضل منه ولم تبنه أمر به فطرح من أعلى الجوسق. وقال: في بعض الروايات أنه قال له: إني لأعرف في هذا القصر موضع عيب إذا هدم تداعى القصر أجمع، فقال له: أما والله لا تدل عليه أحدا أبدا، ثم رمي به من أعلى القصر، فقالت الشعراء في ذلك أشعارا كثيرة منها قول أبي الطمحان القيني:
جزاء سنمار جزوها وربـهـا وباللات والعزى جزاء المكفر ومنها قول سليط بن سعد:
جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار وقال عبد العزى بن امرىء القيس الكلبي - وكان أهدى إلى الحارث بن مارية الغساني أفراسا، ووفد إليه فأعجب به واختصه، وكان للملك ابن مسترضع في بني عبد ود من كلب فنهشته حية، فظن الملك أنهم اغتالوه، فقال لعبد العزى: جئني بهؤلاء القوم، فقال: هم قوم أحرار ليس لي عليهم فضل في نسب ولافعل، فقال: لتأتينى بهم أو لأفعلن وأفعلن، فقال له: رجونا من حبائك امرا حال دون عقابك ودعا ابنيه شراحيل وعبد الحارث - فكتب معهما إلى قومه:
جزاني جزاه الله شـر جـزائه جزاء سنمار وما كان ذا ذنـب
سوى رصه البنيان عشرين حجة يعلى عليه بالقراميد والسكـب وهي أبيات، قال: فقتله النعمان، وكان أمره قد عظم وجعل معه كسرى كتيبتين: أحداهما يقال لها: دوسر وهي لتنوخ، والأخرى: الشهباء وهي للفرس، وكانتا أيضا تسميان القبيلتين، وكان يغزو بهما بلاد الشأم، وكل من لم يدن له من العرب. فجلس يوما يشرف من الخورنق فأعجبه ما رأى من ملكه. ثم ذكر باقي خبره مثل ما ذكره خالد بن صفوان لهشام من مخاطبة الواعظ وجوابه وما كان من اختياره السياحة وتركه ملكه.
<H6 رثاء النابغة الذبياني للنعمان</H6 أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محم دبن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن عمرو قال ذكر ابن حمزة عن مشايخه: أن النعمان بن المنذر لما نعي إلى النابغة الذبياني وحدث بما صنع به كسرى قال: طلبه من الدهر طالب الملوك ثم تمثل:
من يطلب الدهر تدركه مخالبـه والدهر بالوتر ناج غير مطلوب
ما من أناس ذوي مجد ومكرمة إلا يشـد شـــدة الـــذيب
حتى يبيد على عمد سـراتـهـم بالنافذات من النبل المصـاييب
إني وجدت سهام الموت معرضة بكل حتف من الآجال مكتـوب الغناء في شعر عدي بن زيد
وفي سائر قصائد عدي بن زيد التي كتب بها إلى النعمان يستعطفه ويعتذر إليه أغان.
منها: صوت
لم أر مثل الفتيان في غبن ال أيام ينسون ما عواقـبـهـا
ينسون إخوانهم ومصرعهـم وكيف تعتاقهم مخالـبـهـا
ماذا ترجى النفوس من طلب الخير وحب الحياة كاربهـا
تظن أن لن يصيبها عـنـت الدهر وريب المنون صائبها ويروى عقب الدهر - يقول: الأيام تغبن الناس فتخدعهم وتختلهم مثل الغبن في البيع. وتعتاقهم: تحبسهم، يقال: اعتاقه واعتقاه. وكاربها ها هنا: غامها، وهو في موضع آخر القريب منها، يقال كربه الأمر وكرثه وبهضه وغنظه إذا غم - الغناء في هذه الأبيات لابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة.
صفحة : 159
وفيها رمل بالبنصر، نسبه حبش ودنانير إلى حنين، ونسبه الهشامي وابن المكي إلى الهذلي.
ومنها: صوت
يا لبينى أوقدي النـارا إن من تهوين قد حارا
رب نار بت أرمقهـا تقضم الهندي والغارا
عندها ظبي يؤرثـهـا عاقد في الجيد تقصارا عروضه من المديد - حار يحير هنا: ضل، وحار في موضع آخر: رجع. والغار: شجر طيب الريح، والغار أيضا: شجر السوس، والغار: الغيرة. ويؤرثها: يوقدها ويكثر حطبها. والتقصار: المخنقة - الغناء لحنين خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه خفيف رمل يقال إنه لعريب.
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق، وأخبرنا به يحيى بن علي عن داود بن محمد عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن عائشة عن يونس النحوي قال: مات رجل من جند أهل الشأم عظيم القدر، له فيهم عز وعدد ؛ فحضر الحجاج جنازته وصلى عليه وجلس على قبره، وقال: لينزل إليه بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوي عليه: رحمك الله أبا قنان، إن كنت ما علمت لتجيد الغناء، وتسرع رد الكأس، ولقد وقعت في موضع سوء لا تخرج منه والله إلى يوم القيامة. قال: فما تمالك الحجاج أن ضحك، وكان لا يكثر الضحك في جد ولا هزل. فقال له: أهذا موضع هذا لا أم لك فقال: أصلح الله الأمير، فرسه حبيس في سبيل الله لو سمعه الأمير وهو يغني:
يا لبينى أوقدي النـارا إن من تهوين قد حارا لا نتشر الأمير على سعنة، وكان الميت يلقب بسعنة، فقال: إنا لله أخرجوه من القبر ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم يا أهل الشأم قال: وكان سعنة هذا الميت من أوحش خلق الله كلهم صورة، وأذمهم قامة. فلم يبق أحد حضر القبر إلا استفرغ ضحكا.
ومنها من قصيدته التي أولها:
لمن الدار تعفت بخيم صوت
وثلاث كالحمامات بـهـا بين مجثاهن توشيم الحمم
أسأل الدار وقد أنكرتهـا عن حبيبي فإذا فيها صمم - ويروى: توشيم العجم. والتوشيم أراد به آثار الوقود قد صار فيها كالوشم. والثلاث يعني الأثافي التي تنصب عليها القدر - الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن عمرو وابن المكي. وفيه لحكم لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس. وهذه القصيدة التي أولها:
لمن الدار تعفـت بـخـيم أصبحت غيرها طول القدم
ما تبين العين من آياتـهـا غير نؤي مثل خط بالقلـم وبعده.
وثلاث كالحمامات بهـا بين مجثاهن توشيم الحمم وعلى هذا خفض قوله: وثلاث كالحمامات.
ومنها قوله:
كفى غير الأيام للمرء وازعا صوت
بنات كرام لـم يربـن بـضـرة دمى شرقات بالعبـير روادعـا
يسارقن م الأستار طرفا مفـتـرا ويبرزن من فتق الخدور الأصابعا بنات كرام موضعه نصب وهو يتبع ما قبله وينصب به وهو قوله:
وأصبى ظباء في الدمقس خواضعا بنات كرام هكذا في القصيدة على تواليها، وقد يجوز رفعه على الابتداء. ويروى: بضرة وبضرة جمعا بالضم والفتح. والدمى: الصور، واحدتها دمية. الغناء في هذين البيتين لابن قندح ثقيل أول بالبنصر عن عمرو، وذكر الهشامي أنه لمحمد بن إسحاق بن عمرو بن بزيع، وذكر حبش أنه لإبراهيم.
صوت
أرقت لمكفهر بـات فـيه بوارق يرتقين رؤوس شيب
تروح المشرفية فـي ذراه ويجلو صفحة الذيل القشيب والمكرهف والمرهف: السحاب المتوالي المتراكب. والشيب: السحائب التي فيها سواد وبياض شبهها بالرؤوس الشيب، وقال قوم: بل شيب: جبل معروف. شبه البرق في السحاب بلمعان السيوف. ورواه ابن الأعرابي:
ويجلو صفح دخدار قشيب وقال: الدخدار: الثوب المصون، وهو أعجمي معرب أصله تخت دار. والقشيب: الجديد. الغناء لعريب ثقيل أول بالبنصر.
ومنها من قصيدته التي أولها:
ألا يا طال ليلي والنهار صوت
ألا من مبلغ النعمان عني علانية فقد ذهب السرار
بأن المرء لم يخلق حديدا ولا هضبا توقاه الوبـار
صفحة : 160
ولكن كالشهاب فثم يخـبـو وحادي الموت عنه ما يحار
فهل من خالد إما هلكـنـا وهل بالموت يا للناس عار الهضب: الجبل. والوبار: جمع وبر. والشهاب: السراج. ويخبو: يطفأ. الغناء لبابويه ثقيل أول بالبنصر عن حبش والهشامي.
ومنها: صوت
ألا من مبلغ النعمان عنـي فبينا المرء أغرب إذ أراحا
أطعت بني بقيلة في وثاقي وكنا في حلوقهم ذبـاحـا
منحتهم الفرات وجانـبـيه وتسقينا الأواجن والملاحـا الغناء لحنين خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.
ومنها: صوت
من لقلب دنف أو معتمـد قد عصى كل نصيح ومفد
لست إن سلمى نأتني دارها سامعا فيها إلى قول أحـد المعتمد: الذي عمده الوجع بعمده عمدا. غناه ابن محرز ولحنه خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه لمالك خفيف ثقيل آخر بالوسطى عن عمرو. وذكر يونس أن فيه لمالك لحنا، ولسنان الكاتب لحنا، وهو ثقيل أول بالوسطى عن حبش.
ومنها: صوت
أرواح مـودع أم بـكــور لك فاعمد لأي حال تصـير
ويقول العـداة أودى عـدي وعدي بسخـط رب أسـير
أيها الشأمت المعير الـدهـر أأنت المبـرأ الـمـوفـور
أم لديك العهد الوثيق من الأيام بل أنت جاهـل مـغـرور يريد: ارواح نودعك فيه أم بكور? أيهما تريد? فاعمد للذي تصير إليه من أمر آخرتك. والموفور: الذي لم تصبه نوائب الدهر. الغناء لحنين من كتاب يونس ولم يذكر طريقته، وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أن حنينا غناه خالدا القسري أيام حرم الغناء، فرق له وقال: غن ولا تعاشر سفيها ولا معربدا. والخبر في ذلك يذكر في أخبار حنين.
ومما يغنى فيه أيضا من شعر عدي صوت
ألا يا ربـمـا عــز خليلي فتـهـاونـت
ولو شئت على مقـد رة مني لعـاقـبـت
ولكن سرني أن يعلموا قدري فأقـلـعـت
ألا لا فاسألوا الفتـية ما قالوا وقد قـمـت الغناء لسياط رمل عن الهشامي. وفيه ليحيى المكي خفيف ثقيل نسبه إلى مالك وليس له. ولعريب في البيتين الأولين ثقيل أول. وبعدهما بيت ليس من العشر وهو:
ولكن حبيبي جل عندي فتغافلت ومما يغنى فيه من شعره: صوت
تعرف أمس من لميس الطلل مثل الكتاب الدارس الأحول الذي قد درس فلا يقرأ.
أنعم صباحا علقم بن عـدي أثويت الـيوم أم تـرحـل
قد رحل الفتـيان عـيرهـم واللحم بالغيطان لم ينـشـل
إذ هي تسبى الناظرين وتجلو واضحا كالأقحـوان رتـل الرتل: المستوي البنية.
عذبا كما ذقت الجني من التفاح مسقيا ببرد، الطل هكذا يغنى. والذي قاله عدي: يسقيه برد الطل. الغناء لحنين رمل بالوسطى عن عمرو.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي أن عمرو بن امرىء القيس المكنى بأبي سريح وعلقمة بن عدي - وقيل علقم بن عدي بن كعب - وعمرو بن هند خرجوا إلى الصيد فأتوا قصر ابن مقاتل فمكثوا فيه يتصيدون، فزعموا أن علقمة بن عدي تبع حمادا فصرعه والشمس لم تطلع، ثم لحق آخر فطعنه فانقصف الرمح فيه ومر به فرسه يركض، فجال به العير فضربه فأصاب صدره فقتله، وقيل: إن الرمح المنقصف دخل في صدره فقتله، وذلك في أيام الربيع، وكان عدي بن زيد معهم وإليه قصدوا، وكان نازلا في قصر ابن مقاتل، فقال عدي هذه القصيدة يرثيه بها.
صوت من المائة المختارة
عفا من سليمى مسحلان فحامره تمشى به ظلمـانـه وجـآذره
بمستأسد القريان عاف نـبـاتـه فنواره ميل إلى الشمس زاهره
رأت عارضا جونا فقامت غريرة بمسحاتها قبل الظلام تـبـادره
فما برحت حتى أتى الماء دونها وسدت نواحـيه ورفـع دابـره
صفحة : 161
عروضه من الطويل. عفا: درس. مسحلان: موضع. وحامره: موضع أضافه إلى مسحلان. والظلمان: ذكور النعام واحدها ظليم. والجآذر: أولاد البقر واحدها جؤذر وجؤذر بضم الذال وفتحها. وتمشى: تكثر المشي. والقريان: مجاري الماء إلى الرياض وحدها قري. والمستأسد: ما التف منها وطال. والنوار يقال: إنه يكون أبدا حيال الشمس يستقبلها بوجهه، فيقول: إن نوار هذه الروضة يميل زاهره حيال الشمس. والعارض: السحاب. والجون: الأسود. والغريرة: الناعمة التي لم تجرب الأمور، يقول: لما رأت هذه المرأة السحابة السوداء قامت بمسحاتها تصلح النؤي حوالي بيتها وهو الحاجز بينه وبين الأرض المستوية. وقوله: رفع دابره أي مؤخره الذي يلي الماء من النؤي. الشعر للحطيئة يهجو الزبرقان بن بدر. والغناء لابن عائشة ولحنه المختار خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر حبش أن فيه لحنا آخر من الثقيل الثاني.
خبر الحطيئة ونسبه
والسبب الذي من أجله هجا الزبرقان بن بدر
نسبه
الحطيئة لقب لقب به، واسمه جرول بن أوس بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار. وهو من فحول الشعراء ومتقدميهم وفصحائهم، متصرف في جميع فنون الشعر من المديح والهجاء والفخر والنسيب، مجيد في ذلك أجمع، وكان ذا شر وسفه، ونسبه متدافع بين قبائل العرب، وكان ينتمي إلى كل واحدة منها إذا غضب على الآخرين وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم ثم ارتد وقال في ذلك.
إسلامه وارتداده وشعره في ذلك
أطعنا رسول الله إذ كان بيننـا فيا أحباد الله ما لأبي بـكـر
أيورثها بكرا إذا مات بـعـده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر سبب لقبه الحطيئة
ويكنى الحطيئة أبا مليكة، وقيل: إن الحطيئة غلب عليه ولقب به لقصره وقربه من الأرض وقال حماد الراوية قال أبو نصر الأعرابي: سمي الحطيئة لأنه ضرط ضرطة بين قوم، فقيل له: ما هذا? فقال: إنما هو حطيئة، فسمي الحطيئة. وقال المدائني قال أبو اليقظان: كان الحطيئة يدعي أنه ابن عمرو بن علقمة أحد بني الحارث ابن سدوس، قال: وسمي الحطيئة لقربه من الأرض.
انتماؤه إلى بني ذهل ابن ثعلبة
أخبرني الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة في كتابه إلي بإجازته لي يذكر عن محمد بن سلام: أن الحطيئة كان ينتمي إلى بني ذهل بن ثعلبة فقال:
إن اليمامة خير ساكنهـا أهل القرية من بني ذهل قال: والقرية: منازلهم، ولم ينبت الحطيئة في هؤلاء.
تلونه وانتسابه إلى عدة قبائل وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن ابن الكلبي قال: سمعت خراش بن إسماعيل وخالد بن سعيد يقولان: كان الحطيئة إذا غضب على بني عبس يقول: أنا من بني ذهل، وإذا غضب على بني ذهل قال: أنا من بني عبس.
أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال قال حماد بن إسحاق قال أبي قال ابن الكلبي: كان الحطيئة مغموز النسب، وكان من أولاد الزنا الذين شرفوا. قال إسحاق وقال الأصمعي: كان الحطيئة يضرب بنسبه إلى بكر بن وائل فقال في ذلك.
قومي بنو عوف بن عمرو إن أراد العلـم عـالـم
قوم إذا ذهبـت خـضـا رم منهم خلفت خضـارم
لا يفشلون ولا تبيت علـى أنوفهـم الـمـخـاطـم قال الأصمعي وقدم الحطيئة الكوفة فنزل في بني عوف بن عامر بن ذهل يسألهم وكان يزعم أنه منهم وقال في ذلك:
سيري أمام فإن المال يجـمـعـه سيب الإله وإقبـالـي وإدبـاري
إلى معاشر منـهـم ياأمـام أبـي من آل عوف بدوء غير أشـرار
نمشي على ضوء أحساب أضأن لنا ما ضوأت ليلة القمراء للسـاري خبره مع أخويه من أوس بن مالك
صفحة : 162
وقال ابن دريد في خبره عن عمه عن ابن الكلبي عن أبيه، وحماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال: كان أوس بن مالك بن جؤية بن مخزوم بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس تزوج بنت رياح بن عمرو بن عوف بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، وكان له أمة يقال لها الضراء فأعلقها بالحطيئة ورحل عنها. وكان لبنت رياح أخ يقال له: الأفقم، وكان طويلا أفقم، صغير العينين، مضغوط اللحيين، فولدت الضراء الحطيئة فجاءت به شبيها بالأفقم، فقالت لها مولاتها: من أين هذا الصبي? فقالت لها: من أخيك، وهابت أن تقول لها من زوجك، فشبهته بأخيها؛ فقالت لها: صدقت. ثم مات أوس وترك ابنين من الحرة، وتزوج الضراء رجل من بني عبس فولدت له رجلين فكانا أخوي الحطيئة من أمه. فأعتقت بنت رياح الحطيئة وربته فكان كأنه أحدهما. وترك الأفقم نخلا باليمامة. فأتى الحطيئة أخويه من أوس بن مالك وقد كانت أمه لما أعتقتها بنت رياح اعترفت أنها اعتلقت من أوس بن مالك، فقال لهم: أفردوا إلي من مالكم قطعة فقالا: لا، ولكن أقم معنا فنحن نواسيك فقال:
أأمرتماني أن أقيم عليكمـا كلا لعمر أبيكما الحـبـاق
عبدان خيرهما يشل بضبعه شل الأجير قلائص الوراق خبره وقد سأل أمه من أبوه
قال: وسأل الحطيئة أمه: من أبوه فخلطت عليه فقال:
تقول لي الضراء لست لـواحـد ولا اثنين فانظر كيف شرك أولئكا
وأنت امرؤ تبغي أبا قد ضللـتـه هبلت ألما تستفق من ضلالـكـا خبره مع إخوته من بني الأفقم
قال: وغضب عليها فلحق بإخوته بني الأفقم فقال:
سيري أمام فإن المال يجمعه سيب الإله وإقبالي وإدباري قال: فلم يدفعوه ولم يقبلوه فقال:
إن اليمامة خير ساكنهـا أهل القرية من بني ذهل وسألهم ميراثه من الأفقم فأعطوه نخلات من نخل أبيهم تدعى نخلات أم مليكة، وأم مليكة: امرأة الحطيئة، فقال:
ليهني تراثي لامرىء غير ذلة صنابير أحدان لهن حفـيف قال: ثم لم تقنعه النخيلات، وقد أقام فيهم زمانا فسألهم ميراثه كاملا من الأفقم فلم يعطوه شيئا وضربوه، فغضب عليهم وقال:
تمنيت بكرا أن يكونوا عمارتي وقومي وبكر شر تلك القبائل
إذا قلت بكري نبوتم بحاجتـي فيا ليتني من غير بكر بن وائل فعاد إلى بني عبس وانتسب إلى أوس بن مالك. وقال الأصمعي في خبره: لما أتى أهل القرية، وهم بنو ذهل، يطلب ميراثه من الأفقم مدحهم فقال:
إن اليمامة خر ساكـنـهـا أهل القرية من بني ذهـل
الضامنون لمال جـارهـم حتى يتم نواهض البـقـل
قوم إذا انتسبوا ففرعـهـم فرعي وأثبت أصلهم أصلي قال: فلم يعطوه شيئا، فقال يهجوهم:
إن اليمامة شر ساكنـهـا أهل القرية من بني ذهل تزوجت أمه فهجاها
وقال أبو اليقظان في خبره: كان الرجل الذي تزوج أم الحطيئة أيضا ولد زنا اسمه الكلب بن كنيس بن جابر بن قطن بن نهشل، وكان كنيس زنى بأمة لزرارة يقال لها رشية، فولدت له الكلب ويربوعا، فطلبهم من زرارة فمنعه منهم، فلما مات طلبهم من أبيه لقيط فمنعه؛ وقال لقيط في ذلك:
أفي نصف شهر ما صبرتم لحقنا ونحن صبرنا قبل ذاك سنـينـا وهي أبيات. فتزوج الكلب الضراء أم الحطيئة؛ فهجاه الحطيئة وهجا أمه فقال:
ولقد رأيتك في النساء فـسـؤتـنـي وأبا بنيك فساءني في الـمـجـلـس
إن الذلـيل لـمـن تـزور ركـابـه رهط ابن جحش في الخطوب الحوس
قبح الإلـه قـبـيلة لـم يمـنـعـوا يوم المجيمر جارهم من فـقـعـس
أبلغ بني جحـش بـأن نـجـارهـم لؤم وأن أبـاهـم كـالـهـجـرس وقال الحطيئة يهجو أمه:
جزاك الله شرا من عجـوز ولقاك العقوق من البنـين
فقد ملكت أمر بنيك حتـى تركتهم أدق من الطحـين
فإن تخلى وأمرك لا تصولي بمشتد قـواه ولا مـتـين
لسانك مبرد لا خـير فـيه ودرك در جـاذبة دهـين وقال يهجو أمه أيضا:
صفحة : 163
تنحي فاجلسي مني بعـيدا أراح الله منك العالمينـا
أغر بالا إذا استودعت سرا وكانونا على المتحدثـينـا
حياتك ما علمت حياة سوء وموتك قد يسر الصالحينا كان هجاء دنىء النفس فاسد الدين
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: كان الحطيئة جشعا سؤولا ملحفا، دنىء النفس، كثير الشر، قليل الخير، بخيلا، قبيح المنظر، رث الهيئة، مغموز النسب، فاسد الدين، وما تشاء أن تقول في شعر شاعر من عيب إلا وجدته، وقلما تجد ذلك في شعره.
أخبرني ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: بخلاء العرب أربعة: الحطيئة، وحميد الأرقط، وأبو الأسود الدولي، وخالد بن صفوان.
أخبرنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال قال أبو عبيدة: كان الحطيئة بذيا هجاء، فالتمس ذات يوم إنسانا يهجوه فلم يجده، وضاق عليه ذلك فأنشأ يقول:
أبت شفتاي اليوم إلا تكلمـا بشر فما أدري لمن أنا قائله وجعل يدهور هذا البيت في أشداقه ولا يرى إنسانا، إذ اطلع في ركي أو حوض فرأى وجهه فقال:
أرى لي وجها شوه الله خلقه فقبح من وجه وقبح حامله قدم المدينة فجمعت له العطايا خوفا منه نسخت من كتاب الحرمي بن أبي العلاء: حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال: قدم الحطيئة المدينة فأرصدت قريش له العطايا خوفا من شره، فقام في المسجد فصاح: من يحملني على بغلين.
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال أبو عبيدة والمدائني ومصعب: كان الحطيئة سؤولا جشعا، فقدم المدينة وقد أرصدت له قريش العطايا، والناس في سنة مجدبة وسخطة من خليفة، فمشى أشراف أهل المدينة بعضهم إلى بعض، فقالوا: قد قدم علينا هذا الرجل وهو شاعر، والشاعر يظن فيحقق، وهو يأتي الرجل من أشرافكم يسأله، فإن أعطاه جهد نفسه بهرها، وإن حرمه هجاه، فأجمع رأيهم على أن يجعلوا له شيئا معدا يجمعونه بينهم له، فكان أهل البيت من قريش والأنصار يجمعون له العشرة والعشرين والثلاثين دينارا حتى جمعوا له أربعمائة دينار، وظنوا أنهم قد أغنوه، فأتوه فقالوا له: هذه صلة آل فلان وهذه صلة آل فلان وهذه صلة آل فلان، فأخذها؛ فظنوا أنهم قد كفوه عن المسئلة، فإذا هو يوم الجمعة قد استقبل الإمام ماثلا ينادي: من يحملني على بغلين وقاه الله كبة جهنم.
متانة شعره
ووصف أبو عبيدة ومحمد بن سلام شعر الحطيئة فجمعت متفرق ما وصفاه به في هذا الخبر، أخبرنا به أبو خليفة عن محمد بن سلام وابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قالا: طلب من كعب بن زهير أن يقول شعرا يضعه فيه بعده فقال، وهجاه لذلك مزرد بن ضرار كان الحطيئة متين الشعر، شرود القافية، وكان دنىء النفس، وما تشاء أن تطعن في عشر شاعر إلا وجدت فيه مطعنا، وما أقل ما تجد ذلك في شعره. قالا: فبلغ من دناءة نفسه أنه أتى كعب بن زهير - وكان الحطيئة راوية زهير وآل زهير - فقال له: قد علمت روايتي لكم أهل البيت وانقطاعي إليكم، وقد ذهب الفحول غيري وغيرك، فلو قلت شعرا تذكر فيه نفسك وتضعني موضعا بعدك - وقال أبو عبيدة: تبدأ بنفسك فيه ثم تثني بي - فإن الناس لأشعاركم أروى وإليها أسرع فقال كعب:
فمن للقوافي شانها من يحوكها إذا ما ثوى كعب وفور جرول
كفيتك لا تلقى من الناس واحدا تنخل منها مثل ما نتـنـخـل
نقول فلا نعيا بشيء نقـولـه ومن قائليها من يسيء ويجمل
نثقفها حتى تلين مـتـونـهـا فيقصر عنها كل ما يتمـثـل قال: فاعترضه مزرد بن ضرار، واسمه يزيد وهو أخو الشماخ، وكان عريضا أي شديد العارضة كثيرها، فقال:
باستك إذ خلفتني خلف شاعـر من الناس لم أكفىء ولم أتنخل
فإن تخشبا أخشب وإن تتنخـلا وإن كنت أفتى منكما أتنخـل
فلست كحسان الحسام ابن ثابت ولست كشماخ ولا كالمخبـل أنشد عمر شعرا هجا به قومه
ومدح إبله
صفحة : 164
نسخت من كتاب الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك قال: أنشد الحطيئة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قصيدة نال فيها من قومه ومدح إبله فقال:
مهاريس يروي رسلها ضيف أهلها إذا الريح أبدت أوجه الخـفـرات
يزيل القتاد جذبـهـا بـأصـولـه إذا أصبحت مقورة خـرصـات دخوله حفل سعيد بن العاص
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن التوزي عن أبي عبيدة قال: بينا سعيد بن العاص يعشي الناس بالمدينة والناس يخرجون أولا أولا، إذ نظر على بساطه إلى رجل قبيح المنظر، رث الهيئة، جالس مع أصحاب سمره، فذهب الشرط يقيمونه فأبى أن يقوم، وحانت من سعيد التفاتة فقال: دعوا الرجل، فتركوه؛ وخاضوا في أحاديث العرب وأشعاره مليا؛ فقال لهم الحطيئة: والله ما أصبتم جيد الشعر ولا شاعر العرب؛ فقال له سعيد: أتعرف من ذلك شيئا? قال: نعم؛ قال: فمن أشعر العرب? قال: الذي يقول:
لا أعد الإقتار عدما ولكن فقد من قد رزئته الإعدام وأنشدها حتى أتى عليها؛ فقال له: من يقولها? قال: أبو داود الإيادي؛ قال: ثم من? قال: الذي يقول:
أفلح بما شئت فقد يدرك بال جهل وقد يخـدع الأريب ثم أنشدها حتى فرغ منها؛ قال: ومن يقولها? قال عبيد بن الأبرص؛ قال: ثم من? قال: والله لحسبك بي عند رغبة أو رهبة إذا رفعت إحدى رجلي على الأخرى ثم عويت في أثر القوافي عواء الفصيل الصادي؛ قال: ومن أنت? قال: الحطيئة؛ قال: فرحب به سعيد، ثم قال: أسأت بكتماننا نفسك منذ الليلة؛ ووصله وكساه.
خبره مع عتيبة بن النهاس
ومضى لوجهه إلى عتيبة بن النهاس العجلي فسأله؛ فقال له: ما أنا على عمل فأعطيك من عدده، ولا في مالي فضل عن قومي؛ قال له: فلا عليك، وانصرف. فقال له بعض قومه: لقد عرضتنا ونفسك للشر قال: وكيف قالوا: هذا الحطيئة وهو هاجينا أخبث هجاء؛ فقال ردوه: فردوه إليه، فقال له: لم كتمتنا نفسك كأنك كنت تطلب العلل علينا اجلس فلك عندنا ما يسرك؛ فجلس فقال له: من أشعر الناس? قال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الـشـتـم يشـتـم فقال له عتيبة: إن هذا من مقدمات أفاعيك؛ ثم قال لوكيله: اذهب معه إلى السوق فلا يطلب شيئا إلا اشتريته له؛ فجعل يعرض عليه الخز ورقيق الثياب فلا يريدها ويومىء إلى الكرابيس والأكسية الغلاظ فيشتريها له حتى قضى أربه ثم مضى؛ فلما جلس عتيبة في نادي قومه أقبل الحطيئة، فلما رآه عتيبة قال: هذا مقام العائذ بك يا أبا مليكة من خيرك وشرك؛ قال: كنت قلت بيتين فاستمعهما ثم أنشأ يقول:
سئلت فلم تبخل ولم تعـط طـائلا فسيان لا ذم عـلـيك ولا حـمـد
وأنت امرؤ لا الجود منك سـجـية فتعطى ولا يعدي على النائل الوجد ثم ركض فرسه فذهب.
ليس في شعره مطعن
أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد البوشنجي قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني محمد بن عمرو الجرجرائي عن أبي صفوان الأحوزي قال: ما من أحد إلا لو أشاء أن أجد في شعره مطعنا لوجدته إلا الحطيئة.
قول إسحاق أنه أشعر الشعراء بعد زهير
وفتيان صدق من عدي عـلـيهـم صفائح بصرى علقت بالعواتـق
إذا ما دعوا لم يسألوا من دعاهـم ولم يمسكوا فوق القلوب الخوافق
وطاروا إلى الجرد العتاق فألجموا وشدوا على أوساطهم بالمناطـق
أولئك آباء الغريب وغـاثة الـص ريخ ومأوى المرملين الـدرادق
أحلوا حياض الموت فوق جباههم مكان النواصي من وجوه السوابق ويروى:
إذا اسـتـلـحـــمـــوا... وإذا ركبوا لم ينظروا عن شمالهم ويروى: أولئك أبناء العزيف - ثم قال: أما إني ما أزعم أن أحدا بعد زهير أشعر من الحطيئة.
وافقه ابن ميادة في شطر فعرف أنه شاعر أخبرني الحسين بن يحيى حماد بن إسحاق عن أبيه قال: بلغني أنه لما قال ابن ميادة:
تمشي به ظلمانه وجآذره
صفحة : 165
قيل له: قد سبقك الحطيئة إلى هذا، فقال: والله ما علمت أن الحطيئة قال هذا قط، والآن علمت والله أني شاعر حين واطأت الحطيئة.
شعره وقول الأصمعي أفسده بالهجاء قال حماد: قال أبي: وقال لي الأصمعي وقد أنشدني شيئا من شعر الحطيئة: أفسد مثل هذا الشعر الحسن بهجاء الناس وكثرة الطمع.
سئل من أشعر الناس فأخرج لسانه يعني نفسه قال حماد: قال أبي: وبلغني عن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قال: لقيت الحطيئة بذات عرق فقلت له: يا أبا مليكة، من أشعر الناس? فأخرج لسانه كأنه لسان الحية ثم قال: هذا إذا طمع.
قابل حسان متنكرا وسمع من شعره ونسخت من كتاب أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير قال حدثني يحيى بن محمد بن طلحة وكان قد قارب ثمانين سنة قال: أخبرني بعض أشياخنا أن أعرابيا وقف على حسان بن ثابت وهو ينشد، فقال له حسان: كيف تسمع يا أعرابي? قال: ما أسمع بأسا؛ قال حسان: أما تسمعون إلى الأعرابي ما كنيتك أيها الرجل? قال: أبو مليكة، قال: ما كنت قط أهون علي منك حين أكتنيت بامرأة، فما اسمك? قال: الحطيئة، فأطرق حسان ثم قال له: امض بسلام.
كان بخيلا يطرد أضيافه
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني قال: مر ابن الحمامة بالحطيئة وهو جالس بفناء بيته، فقال: السلام عليكم؛ فقال: قلت ما لا ينكر؛ قال: إني خرجت من عند أهلي بغير زاد؛ فقال: ما ضمنت لأهلك قراك؛ قال: أفتأذن لي أن آتي ظل بيتك فأتفيأ به? قال: دونك الجبل يفيء عليك؛ قال: أنا ابن الحمامة؛ قال: انصرف وكن ابن أي طائر شئت.
وأخبرنا بهذا الخبر اليزيدي عن الخزاز عن المدائني فحكى ما ذكرناه من قول الحطيئة عن أبي الأسود الدؤلي.
وأخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة والمدائني قالا: أتى رجل الحطيئة وهو في غنم له فقال له: يا صاحب الغنم، فرفع الحطيئة العصا وقال: إنها عجراء من سلم؛ فقال الرجل: إني ضيف؛ فقال: للضيفان أعددتها، فانصرف عنه. قال إسحاق: وقال غيرهما: إن الرجل قال له: السلام عليكم؛ فقال له: عجراء من سلم؛ فقال: السلام عليكم؛ فقال: أعددتها للطراق؛ فأعاد السلام فقال له: إن شئت قمت بها إليك؛ فانصرف الرجل عنه.
كان يقول إنما أنا حسب موضوع
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال: زعم الجاحظ أن الحطيئة كان يقول: إنما أنا حسب موضوع؛ فسمع عمرو بن عبيد رجلا يحكي ذلك عنه يقال له عبد الرحمن بن صديقة، فقال عمرو: كذب ترحه الله إنما ذلك التقوى.
هجاؤه أضيافه وقد ضافه صخر بن أعيى فتهاجيا
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال الأصمعي: لم ينزل ضيف قط بالحطيئة إلا هجاه، فنزل به رجل من بني أسد لم يسمه الأصمعي، وذكر أبو عبيدة أنه صخر بن أعيى الأسدي أحد بني أعيى ابن طريف بن عمرو بن قعين، فسقاه شربة من لبن، فلما شربها قال:
لما رأيت أن من يبتغي القـرى وأن ابن أعيى لا محالة فاضحي
شددت حيازيم ابن أعيى بشـربة على ظمأ سدت أصول الجوانح وروى الأصمعي شدت بالشين المعجمة.
ولم أك مثل الكاهلـي وعـرسـه بغى الود من مطروفة العين طامح
غدا باغيا يبغي رضـاهـا وودهـا وغابت له غيب امرىء غير ناصح
دعـت ربـهـا ألا يزال بـفـاقة ولا يغتدي إلا علـى حـد بـارح قال فأجابه صخر بن أعيى فقال:
ألا قـبـح الـحـطـيئة إنـه على كل ضيف ضافه هو سالح
دفعت إليه وهو يخنق كـلـبـه ألا كل كلب لا أبا لـك نـابـح
بكيت على مذق خبيث قـريتـه ألا كل عبسي على الزاد شائح قال أبو عبيدة وهجا الحطيئة أيضا رجلا من أضيافه فقال:
وسلم مرتين فقلت مـهـلا كفتك المرة الأولى السلاما
ونقنق بطنه ودعا رؤاسـا لما قد نال من شبع ونامـا أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن يونس أن الحطيئة خرج في سفر له ومعه امرأته أمامة وابنته مليكة، فنزل منزلا وسرح ذودا له ثلاثا، فلما قام للرواح فقد إحداها فقال:
أذئب القفـر أم ذئب أنـيس أصاب البكر أم حدث الليالي
صفحة : 166
ونحن ثـلاثة وثـلاث ذود لقد جار الزمان على عيالي أخبرني محمد بن خلف وكيع والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد عن أبيه قال قال أبو عمرو بن العلاء: لم تقل العرب بيتا قط أصدق من بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس فقيل له: فقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تـزود فقال: من يأتيك بها ممن زودت أكثر، وليس بيت مما قالته الشعراء إلا وفيه مطعن إلا قول الحطيئة:
لا يذهب العرف بين الله والناس قال إسحاق قال المدائني قال سلم بن قتيبة: ما أعلم قافية تستغني عن صدرها وتدل عليه وإن لم ينشد مثل قول الحطيئة:
لا يذهب العرف بين الله والناس كتب له الأصمعي أربعين قصيدة في ليلة
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا الرياشي قال سمعت الأصمعي يقول: كتبت للحطيئة في ليلة أربعين قصيدة.
قوله لا يذهب العرف مكتوب في التوراة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال: بلغني أن هذا البيت في التوراة، ذكره غير واحد عن أبي بن كعب. يعني قول الحطيئة:
لا يذهب العرف بين الله والناس قال إسحاق وذكر عبد الله بن مروان عن أيوب بن عثمان الدمشقي عن عثمان بن أبي عائشة قال: سمع كعب الحبر رجلا ينشد بيت الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس فقال: والذي نفسي بيده إن هذا البيت لمكتوب في التوراة. قال إسحاق قال العمري: والذي صح عندنا في التوراة لا يذهب العرف بين الله والعباد .
أوصى ابن شداد ابنه محمدا بشعره
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال قال أبو عدنان: لما حضرت عبيد الله ابن شداد الوفاة دعا ابنه محمدا فأوصاه وقال له: يا بني أرى داعي الموت لا يقلع، وبحق أن من مضى لا يرجع، ومن بقي فإليه ينزع. يا بني، ليكن أولى الأمور بك تقوى الله في السر والعلانية، والشكر لله، وصدق الحديث والنية، فإن للشكر مزيدا، والتقوى خير زاد، كما قال الحطيئة:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو الـسـعـيد
وتقوى الله خير الزاد ذخـرا وعند الله للأتـقـى مـزيد
وما لابـد أن يأتـي قـريب ولكن الذي يمضـي بـعـيد مدحه أبا موسى الأشعري
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حماد الراوية البصرة على بلال بن أبي بردة وهو عليها؛ فقال له: ما أطرفتني شيئا يا حماد؛ قال: بلى، ثم عاد إليه فأنشده للحطيئة في أبي موسى الأشعري يمدحه:
جمعت من عامر فيه ومن جشم ومن تميم ومن حاء ومن حـام
مستحقبات رواياها جحافلـهـا يسمو بها أشعري طرفه سامي فقال له بلال: ويحك أيمدح الحطيئة أبا موسى الأشعري وأنا أروي شعر الحطيئة كله فلا أعرفها ولكن أشعها تذهب في الناس.
وذكر المدائني أن الحطيئة قال هذه القصيدة في أبي موسى، وأنها صحيحة. قالها فيه وقد جمع جيشا للغزو فأنشده:
جمعت من عامر فيه ومن أسد وذكر البتين وبينهما هذا البيت وهو:
فما رضيتهم حتى رفدتـهـم بوائل رهط ذي الجدين بسطام فوصله أبو موسى؛ فكتب إليه عمر رضي الله عنه يلومه على ذلك؛ فكتب إليه: إني اشتريت عرضي منه بها؛ فكتب إليه عمر: إن كان هذا هكذا وإنما فديت عرضك من لسانه ولم تعطه للمدح والفخر فقد أحسنت. ولما ولى بلال ابن أبي بردة أنشده إياها حماد الراوية فوصله أيضا.
كذبه عمر في بيت قاله
ونسخت من كتاب لحماد بن إسحاق حدثني به أبي وأخبرني به عمي عن الكراني عن الرياشي قال حدثني محمد بن الطفيل عن أبي بكر بن عياش عن الحارث بن عبد الرحمن بن مكحول قال: سبق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على فرس له فجثا على ركبتيه وقال: إنه لبحر ؛ قال عمر: كذب الحطيئة حيث يقول:
وإن جياد الخيل لا تسـتـفـزنـا ولا جاعلات الريط فوق المعاصم لو ترك هذا أحد لتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أراد سفرا فاستعطفته امرأته فرجع
صفحة : 167
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابي عبيدة أن الحطيئة أراد سفرا فأتته امرأته وقد قدمت راحلته ليركب، فقال:
أذكر تحنننا إليك وشوقنـا واذكر بناتك إنهن صغار فقال: حطوا، لا رحلت لسفر أبدا.
رؤية صاحب الحطيئة الجني
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي ومحمد بن الحسن بن دريد قالا حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن أبيه قال: قال رجل: ضفت قوما في سفر وقد ضللت الطريق، فجاءوني بطعام أجد طعمه في فمي وثقله في بطني، ثم قال شيخ منهم لشاب: أنشد عمك؛ فأنشدني:
عفا من سليمى مسحلان فحامره تمشى به ظلمـانـه وجـآذره فقلت له: أليس هذا للحطيئة? فقال: بلى، وأنا صاحبه من الجن.
ابن شبرمة يستجيد شعره
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: قال ابن عيينة: سمعت ابن شبرمة يقول: أنا والله أعلم بجيد الشعر، لقد أحسن الحطيئة حيث يقول:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا الـبـنـى وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعماء فيهم جزوا بـهـا وإن أنعموا لا كدروهـا ولا كـدوا
وإن قال مولاهم على جـل حـادث من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا قال: وقال الأصمعي وقد سأله أبو عدنان عن هذا البيت: ما واحد البنى، قال: بنيه؛ فقال له: أتجمع فعلة على فعل? قال: نعم مثل رشوة ورشى وحبوة وحبى.
نزوله على بني مقلد بن يربوع
حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن أحمد بن صدقة الأنباري قال حدثنا ابن الأعرابي عن المفضل: أن الحطيئة أقحمته السنة، فنزل ببني مقلد بن يربوع، فمشى بعضهم إلى بعض وقالوا: إن هذا الرجل لا يسلم أحد من لسانه، فتعالوا حتى نسأله عما يحب فنفعله وعما يكره فنجتنبه؛ فأتوه فقالوا له: يا أبا مليكة، إنك اخترتنا على سائر العرب ووجب حقك علينا، فمرنا بما تحب أن نفعله وبما تحب أن ننتهي عنه؛ فقال: لا تكثروا زيارتي فتملوني، ولا تقطعوها فتوحشوني، ولا تجعلوا فناء بيتي مجلسا لكم، ولا تسمعوا بناتي غناء شبانكم، فإن الغناء رقية الزنا. قال: فأقام عندهم. وجمع كل رجل منهم ولده وقال: أمكم الطلاق، لئن تغنى أحد منكم والحطيئة مقيم بين أظهرنا لأضربنه ضربة بسيفي أخذت منه ما أخذت. فلم يزل مقيما فيما يرضى حتى انجلت عنه السنة، فارتحل وهو يقول:
جاورت آل مقلد فحمدتـهـم إذ ليس كل أخي جوار يحمد
أيام من يرد الصنيعة يصطنع فينا ومن يرد الزهادة يزهد خبره مع الزبرقان وسبب هجائه إياه
فأما خبره مع الزبرقان بن بدر والسبب في هجائه إياه، فأخبرني به أبو خليفة عن محمد بن سلام ولم يتجاوزه به، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام عن يونس، وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة، وأخبرني اليزيدي عن عمه عبيد الله عن أبي حبيب عن ابن الأعرابي وقد جمعت رواياتهم وضممت بعضها إلى بعض:
صفحة : 168
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ولى الزبرقان بن بدر بن امرىء القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم عملا، وذكر مثل ذلك الأصمعي، وقال: الزبرقان: القمر، والزبرقان: الرجل الخفيف اللحية. قال: وأقره أبو بكر رضي الله عنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم على عمله، ثم قدم على عمر في سنة مجدبة ليؤدي صدقات قومه، فلقيه الحطيئة بقرقرى ومعه ابناه أوس وسوادة وبناته وامرأته؛ فقال له الزبرقان وقد عرفه ولم يعرفه الحطيئة: أين تريد? قال: العراق، فقد حطمتنا هذه السنة؛ قال: وتصنع ماذا? قال وددت أن أصادف بها رجلا يكفيني مؤونة عيالي وأصفيه مدحي أبدا؛ فقال له الزبرقان: قد أصبته، فهل لك فيه يوسعك لبنا وتمرا ويجاورك أحسن جوار وأكرمه? فقال له الحطيئة: هذا وأبيك العيش، وما كنت أرجو هذا كله؛ قال: فقد أصبته؛ قال: عند من? قال: عندي؛ قال: ومن أنت? قال: الزبرقان بن بدر؛ قال وأين محلك? قال: اركب هذه الإبل، واستقبل مطلع الشمس، وسل عن القمر حتى تأتي منزلي. قال يونس: وكان اسم الزبرقان الحصين بن بدر، وإنما سمي الزبرقان لحسنه، شبه القمر. وقيل: بل لبس عمامة مزبرقة بالزعفران فسمي الزبرقان لذلك. وقال أبو عبيدة في خبره: فقال له: سر إلى أم شذرة وهي أم الزبرقان وهي أيضا عمة الفرزدق، وكتب إليها أن أحسني إليه، وأكثري له من التمر واللبن. وقال آخرون: بل وكله إلى زوجته. فلحق الحطيئة بزوجته على رواية ابن سلام، وهي بنت صعصعة بن ناجية المجاشعية، واسمها هنيدة، وعلى رواية أبي عبيدة: أنها أمه، وذلك في عام صعب مجدب، فأكرمته المرأة وأحسنت إليه؛ فبلغ ذلك بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن جعفر وهو أنف الناقة بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، وبلغ إخوته وبني عمه فاغتنموها. وفي خبر اليزيدي عن عمه قال ابن حبيب عن ابن الأعرابي: وكانوا يغضبون من أنف الناقة، وإنما سمي جعفر أنف الناقة لأن أباه قريعا نحر ناقة فقسمها بين نسائه، فبعثت جعفرا هذا أمه، وهي الشموس من وائل ثم من سعد هذيم، فأتى أباه ولم يبق من الناقة إلا رأسها وعنقها، فقال: شأنك بهذا؛ فأدخل يده في أنفها وجر ما أعطاه؛ فسمي أنف الناقة. وكان ذلك كاللقب لهم حتى مدحهم الحطيئة، فقال:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا فصار بعد ذلك فخرا لهم ومدحا، وكانوا ينازعون الزبرقان الشرف - يعني بغيضا وإخوته وأهله - وكانوا أشرف من الزبرقان، إلا أنه قد كان استعلاهم بنفسه. وقال أبو عبيدة في خبره: كان الحطيئة دميما سيء الخلق، لا تأخذه العين، ومعه عيال كذلك. فلما رأت أم شذرة حاله هان عليها وقصرت به، ونظر بغيض وبنو أنف الناقة إلى ما تصنع به أم شذرة، فأرسلوا إليه: أن ائتنا، فأبى عليهم وقال: إن من شأن النساء التقصير والغفلة، ولست بالذي أحمل على صاحبها ذنبها. فلما ألح عليه بنو أنف الناقة، وكان رسولهم إليه شماس بن لأي وعلقمة بن هوذة وبغيض بن شماس والمخبل الشاعر، قال لهم: لست بحامل على الرجل ذنب غيره، فإن تركت وجفيت تحولت إليكم؛ فأطعموه ووعدوه وعدا عظيما. وقال ابن سلام في خبره: فلما لم يجبهم دسوا إلى هنيدة زوجة الزبرقان أن الزبرقان إنما يريد أن يتزوج ابنته مليكة؛ وكانت جميلة كاملة، فظهرت من المرأة للحطيئة جفوة وهي في ذاك تداريه. ثم أرادوا النجعة، قال أبو عبيدة: فقالت له أم شذرة - وقال ابن سلام: فقالت له هنيدة -: قد حضرت النجعة فاركب أنت وأهلك هذا الظهر إلى مكان كذا وكذا، ثم اردده إلينا حتى نلحقك فإنه لا يسعنا جميعا؛ فأرسل إليها: بل تقدمي أنت فأنت أحق بذلك؛ ففعلت وتثاقلت عن ردها إليه وتركته يومين أو ثلاثة، وألح بنو أنف الناقة عليه وقالوا له: قد تركت بمضيعة. وكان أشدهم في ذلك قولا بغيض بن شماس وعلقمة بن هوذة، وكان الزبرقان قد قال في علقمة:
لي ابــن عـــم لا يزا ل بعيني ويعـين عـائب
وأعينـه فـي الـنـائبـا ت ولا يعين على النوائب
تسـري عـقـاربــه إل ى ولا تدب له عـقـارب
لاه ابـن عـمـك لا يخـا ف المحزنات من العواقب
صفحة : 169
قال: فكان علقمة ممتلئا غيظا عليه. فلما ألحوا على الحطيئة أجابهم وقال: أما الآن فنعم، أنا صائر معكم. فتحمل معهم، فضربوا له قبة، وربطوا بكل طنب من أطنابها جلة هجرية، وأراحوا عليه إبلهم، وأكثروا له من التمر واللبن، وأعطوه لقاحا وكسوة. قال: فلما قدم الزبرقان سأل عنه فأخبر بقصته، فنادى في بني بهدلة بن عرف، وهم لأم دون قريع، أمهم السفعاء بنت غنم بن قتيبة من باهلة. فركب الزبرقان فرسه، وأخذ رمحه، وسار حتى وقف على نادي بني شماس القريعيين، فقال: ردوا علي جاري؛ فقالوا: ما هو لك بجار وقد اطرحته وضيعته؛ فألم أن يكون بين الحيين حرب، فحضرهم أهل الحجا من قومهم، فلاموا بغيضا وقالوا: اردد على الرجل جاره؛ فقال: لست مخرجه وقد آويته، وهو رجل حر مالك لأمره، فخيروه فإن اختارني لم أخرجه، وإن اختاره لم أكرهه. فخيروا الحطيئة فاختار بغيضا ورهطه؛ فجاء الزبرقان ووقف عليه وقال له: أبا مليكة، أفارقت جواري عن سخط وذم? قال: لا؛ فانصرف وتركه. هذه رواية ابن سلام، وأما أبو عبيدة فإنه ذكر أنه كان بين الزبرقان ومن معه من القريعيين تلاح وتشاح. وزعم غيرهما أن الزبرقان استعدى عمر بن الخطاب على بغيض، فحكم عمر بأن يخرج الحطيئة حتى يقام في موضع خال بين الحيين وحده ويخلى سبيله، ويكون جار أيهما اختار؛ ففعل ذلك به، فاختار القريعيين. قال: وجعل الحطيئة يمدحهم من غير أن يهجو الزبرقان، وهم يحضونه على ذلك ويحرضونه فيأبى ويقول: لا ذنب للرجل عندي؛ حتى أرسل الزبرقان إلى رجل من النمر بن قاسط يقال له دثار بن شيبان، فهجا بغيضا فقال:
أرى إبلي بجوف الماء حلـت وأعوزها به المـاء الـرواء
وقد وردت مياه بنـي قـريع فما وصلوا القرابة مذ أساءوا
تحلأ يوم ورد الناس إبـلـي وتصدر وهي محنقة ظمـاء
ألم أك جار شماس بـن لأي فأسلمني وقد نزل الـبـلاء
فقلت تحـولـي يا أم بـكـر إلى حيث المكارم والعـلاء
وجدنا بيت بهدلة بـن عـوف تعالى سمكه ودجا الفـنـاء
وما أضحى لشماس بـن لأي قديم في الفعـال ولا ربـاء
سوى أن الحطيئة قال قـولا فهذا من مقـالـتـه جـزاء فحينئذ قال الحطيئة يهجو الزبرقان ويناضل عن بغيض قصيدته التي يقول فيها:
والله ما معشر لاموا امرأ جنبـا في آل لأي بن شماس بأكـياس
ما كان ذنب بغيض لا أبا لـكـم في بائس جاء يحدو آخر النـاس
لقد مريتـكـم لـو أن درتـكـم يوما يجيىء بها مسحي وإبساسي
وقد مدحتكم عمـدا لأرشـدكـم كيما يكون لكم متحي وإمراسي
لما بدا لي منكم غيب أنفسـكـم ولم يكن لجراحي فيكـم آسـي
أزمعت يأسا مبينا من نوالـكـم ولن يرى طاردا للحر كالـياس
جار لقوم أطالوا هون منـزلـه وغادروه مقيما بـين أرمـاس
ملوا قراه وهرتـه كـلابـهـم وجرحوه بـأنـياب وأضـراس
دع المكارم لا ترحل لبغـيتـهـا واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
من يفعل الخير لا يعدم جـوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
ما كان ذنبي أن فلت معاولـكـم من آل لأي صفاة أصلها راسي
قد ناضلوك فسلوا من كنائنـهـم مجدا تليدا ونبلا غير أنـكـاس - الجنب: الغريب. والإبساس: أن يسكنها عند الحلب. والماتح: المستقي الذي يجذب الدلو من فوق. والإمراس: أن يقع الحبل في جانب البكرة فيخرجه -.
استعدى الزبرقان عليه فحبسه فاستعدى عليه الزبرقان عمر بن الخطاب، فرفعه عمر إليه واستنشده فأنشده؛ فقال عمر لحسان: أتراه هجاه? قال: نعم وسلح عليه، فحبسه عمر: <H6 فصل زياد بنحو ما فصل عمر</H6 <H6 في أمر الزبرقان والحطيئة </H6
صفحة : 170
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية عن أبي عبد الرحمن الطائي عن عبد الله بن عياش عن الشعبي قال: شهدت زيادا وأتاه عامر بن مسعود بأبي علاثة التيمي، فقال: إنه هجاني؛ قال: وما قال لك? قال قال:
وكيف أرجي ثروها ونمـاءهـا وقد سار فيها خصية الكلب عامر فقال أبو علاثة: ليس هكذا قلت؛ قال: فكيف قلت? قال قلت:
وإني لأرجو ثروها ونماءهـا وقد سار فيها ناجذ الحق عامر قال زياد: قاتل الله الشاعر، ينقل لسانه كيف شاء، والله لولا أن تكون سنة لقطعت لسانك فقام قيس بن فهد الأنصاري فقال: أصلح الله الأمير، ما أدري من الرجل، فإن شئت حدثتك عن عمر بما سمعت منه - قال: وكان زياد يعجبه الحديث عن عمر رضي الله عنه - قال: هاته، قال شهدته وأتاه الزبرقان بن بدر بالحطيئة فقال: إنه هجاني؛ قال ما قال لك? قال قال لي:
دع المكارم لا ترحل لبغيتـهـا وقاعد فإنك أنت الطاعم الكاسي فقال عمر: ما أسمع هجاء ولكنها معاتبة؛ فقال الزبرقان: أو ما تبلغ مروؤتي إلا أن آكل وألبس فقال عمر: علي بحسان، فجيء به فسأله؛ فقال: لم يهجه ولكن سلح عليه - قال ويقال: إنه سأل لبيدا عن ذلك فقال: ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حمر النعم - فأمر به عمر فجعل في نقير في بئر ثم ألقي عليه شيء، فقال:
ماذا تقول لأفـراخ بـذي مـرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظـلـمة فاغفر عليك سلام الله يا عمـر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبـه ألقى إليك مقاليد النهى البـشـر
لم يؤثروك بها إذ قدمـوك لـهـا لكن لأنفسهم كانت بـك الأثـر فأخرجه وقال له: إياك وهجاء الناس؛ قال: إذا يموت عيالي جوعا، هذا مكسبي ومنه معاشي؛ قال: فإياك والمقذع من القول؛ قال: وما المقذع? قال: أن تخاير بين الناس فتقول: فلان خير من فلان، وآل فلان خير من آل فلان؛ قال: فأنت والله أهجى مني. ثم قال: والله لولا أن تكون سنة لقطعت لسانك، ولكن اذهب فأنت له، خذه يا زبرقان؛ فألقى الزبرقان في عنقه عمامة فاقتاده بها؛ وعارضته غطفان فقالوا له: يا أبا شذرة، إخوتك وبنو عمك، هبه لنا؛ فوهبه لهم. فقال زياد لعامر بن مسعود: قد سمعت ما روي عن عمر، وإنما هي السنن، فاذهب به فهو لك؛ فألقى في عنقه حبلا أو عمامة، وعارضته بكر بن وائل فقالوا له: أخوالك وجيرانك؛ فوهبه لهم.
<H6 استعطف عمر بشعر فأطلقه</H6 أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة: أن الحطيئة لما حبسه عمر قال وهو أول ما قاله:
أعوذ بجـدك إنـي امـرؤ سقتني الأعادي إليك السجالا
فإنك خير من الزبـرقـان أشد نكالا وأرجـى نـوالا
تحنن علي هداك المـلـيك فإن لكل مـقـام مـقـالا
ولا تأخذني بقول الـوشـاة فإن لكـل زمـان رجـالا
فإن كان ما زعموا صادقـا فسيقت إليك نسائي رجـالا
حواسر لا يشتكين الـوجـا يخفضن آلا ويرفـعـن آلا فلم يلتفت عمر إليه حتى قال أبياته التي أولها:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ أخبرني الحرمي بن أبي العلاء ومحمد بن العباس اليزيدي وعمر بن عبد العزيز بن أحمد وطاهر بن عبد الله الهشامي قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك بن عثمان الحزامي قال حدثني عبد الله بن مصعب عن ربيعة بن عثمان عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: أرسل عمر إلى الحطيئة وأنا جالس عنده وقد كلمه فيه عمرو بن العاص وغيره فأخرجه من السجن فأنشده قوله:
ماذا تقول لأفـراخ بـذي مـرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظـلـمة فاغفر عليك سلام الله يا عمـر
أنت الإمام الذي من بعد صاحبـه ألقى إليك مقاليد النهي البـشـر
لم يؤثروك بها إذ قدمـوك لـهـا لكن لأنفسهم كانت بـك الأثـر
صفحة : 171
فامنن على صبية بالرمل مسكنهم بين الأباطح تغشاهم بها القـرر
أهلي فداؤك كم بيني وبـينـهـم من عرض داوية تعمى بها الخبر - قال فبكى حين قال:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ فقال عمرو بن العاص: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء أعدل من رجل يبكي على تركه الحطيئة - فقال عمر: علي بالكرسي، فأتي به، فجلس عليه ثم قال: أشيروا علي في الشاعر، فإنه يقول الهجر وينسب بالحرم ويمدح الناس ويذمهم بغير ما فيهم، ما أراني إلا قاطعا لسانه، ثم قال: علي بالطست، فأتي بها، ثم قال: علي بالمخصف، علي بالسكين، لا بل علي بالموسى، فهو أوحى؛ فقالوا لا يعود يا أمير المؤمنين، فأشاروا إليه أن قل لا أعود؛ فقال: لا أعود يا أمير المؤمنين؛ فقال له: النجاء. قال: فلما ولى قال له عمر: يا حطيئة، كأني بك عند فتى من قريش، قد بسط لك نمرقة وكسر له أخرى وقال: غننا يا حطيئة فطفقت تغنيه بأعراض الناس. قال ابن أسلم: فما انقضت الدنيا حتى رأيت الحطيئة عند عبيد الله بن عمر قد بسط له نمرقة وكسر له أخرى وقال: غننا يا حطيئة، فجعل يغنيه، فقلت له: يا حطيئة، أتذكر قول عمر? ففزع وقال: يرحم الله ذلك المرء، أما إنه لو كان حيا ما فعلت. قال: وقلت لعبيد الله: سمعت أباك يقول كذا وكذا فكنت أنت ذلك الرجل.
اشترى منه عمر أعراض المسلمين وروي عن عبد الله بن المبارك أن عمر رضي الله عنه لما أطلق الحطيئة أراد أن يؤكد عليه الحجة فاشترى منه أعراض المسلمين جميعا بثلاثة آلاف درهم؛ فقال الحطيئة في ذلك:
وأخذت أطراف الكلام فلم تدع شتما يضر ولا مديحا ينـفـع
وحميتني عرض اللئيم فلم يخف دمي وأصبح آمنـا لا يفـزع شفاعة ابن عوف له عند عمر أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن نافع بن أبي نعيم: أن عبد الرحمن بن عوف هو الذي استرضى عمر بن الخطاب وكلمه في أمر الحطيئة حتى أخرجه من السجن. قال حماد وأخبرني أبي عن أبي عبيدة أن عمر رضي الله عنه لما أطلقه قال الشاعر النمري الذي كان الزبرقان حمله على هجاء بغيض:
دعاني الأثبجان ابنا بـغـيض وأهلي بالعلاة فـمـنـيانـي
وقالوا سر بأهلـك فـأتـينـا إلى حب وأنـعـام سـمـان
فسرت إليهم عشرين شـهـرا وأربعة فـذلـك حـجـتـان
فلما أن أتيت ابنـي بـغـيض وأسلمني بـدائي الـداعـيان
يبيت الذئب والعثواء ضـيفـا لنا بالليل بئس الـضـائفـان
أمارس منهمـا لـيلا طـويلا أهجهج عن بنـي ويعـروان
تقول حليلتي لما اشـتـكـينـا سيدركنا بنو القرم الهـجـان
سيدركنا بنو القمر بـن بـدر سراج الليل للشمس الحصان
فقلت ادعي وأدعـو إن أنـدى لصـوت أن ينـادي داعـيان
فمن يك سائلا عنـي فـإنـي أنا النمري جار الزبـرقـان
طريد عشيرة وطريد حـرب بما اجترمت يدي وجنى لساني
كأني إذ نزلـت بـه طـريدا نزلت على الممنع من أبـان
أتيت الزبرقان فلم يضعـنـي وضيعني بتريم من دعـانـي مكثه في بني قريع
إلى أن أخصبوا وأجازوه فرحل عنهم ومدحهم
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال: لم يزل الحطيئة في بني قريع يمدحهم حتى إذا أحيوا قال لبغيض: ف لي بما كنت تضمنت؛ فأتى بغيض علقمة بن هوذة فقال له: قد جاء الله بالحيا، فف لي بما قلت - وكان قد ضمن له مائة بعير - وأبرئني مما تضمنته عهدتي؛ فقال: نعم، سل في بني قريع فمهما فضل بعد عطائهم أن يتم مائة أتممته، ففعل فجمعوا له أربعين أو خمسين بعيرا، كان الرجل يعطيه على قدر ماله البعير والبعيرين؛ قال: فأتمها علقمة له مائة وراعيين فدفعت إليه فلم يزل يمدحهم وهو مقيم بينهم حتى قال كلمته السينية واستعدى الزبرقان عليه عمر رضي الله عنه. فلما رحل عنهم قال:
لا يبعد الله إذ ودعت أرضهم أخي بغيضا ولكن غيره بعدا
صفحة : 172
لا يبعد الله من يعطي الجزيل ومن يحبو الجليل وما أكدي ولا نكـدا
ومن تلاقيه بالمعروف مبتهـجـا إذا اجرهد صفا المذموم أو صلدا
لاقيته ثلجـا تـنـدى أنـامـلـه أن يعطك اليوم لا يمنعك ذاك غدا
إني لرافده ودي ومنـصـرتـي وحافظ غيبه إن غاب أو شهـدا سؤاله ابن عباس في هجاء الناس
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن دأب عن عبد الله بن عياش المنتوف قال: بينا ابن عباس جالس في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما كف بصره وحوله ناس من قريش، إذ أقبل أعرابي يخطر وعليه مطرف وجبة وعمامة خز، حتى سلم على القوم فردوا عليه السلام، فقال: يابن عم رسول الله، أفتني؛ قال: فيماذا? قال أتخاف علي جناحا إن ظلمني رجل فظلمته وشتمني فشتمته وقصر بي فقصرت به? فقال: العفو خير، ومن انتصر فلا جناح عليه؛ فقال: يابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت امرأ أتاني فوعدني وغرني ومناني ثم أخلفني واستخف بحرمتي، أيسعني أن أهجوه? قال: لا يصلح الهجاء، لأنه لابد لك من أن تهجو غيره من عشيرته فتظلم من لم يظلمك، وتشتم من لم يشتمك، وتبغي على من لم يبغ عليك، والبغي مرتع وخيم، وفي العفو ما قد علمت من الفضل؛ قال: صدقت وبررت؛ فلم ينشب أن أقبل عبد الرحمن بن سيحان المحاربي حليف قريش، فلما رأى الأعرابي أجله وأعظمه وألطف في مسئلته، وقال: قرب الله دارك يا أبا مليكة، فقال ابن عباس: أجرول? قال: جرول؛ فإذا هو الحطيئة، فقال ابن عباس: لله أنت أي مردي قذاف، وذائد عن عشيرة، ومثن بعارفة تؤتاها أنت يا أبا مليكة والله لو كنت عركت بجنبك بعض ما كرهت من أمر الزبرقان كان خيرا لك، ولقد ظلمت من قومه من لم يظلمك، وشتمت من لم يشتمك؛ قال: إني والله بهم يا أبا العباس لعالم؛ قال ما أنت بأعلم بهم من غيرك؛ قال: بلى والله يرحمك الله ثم أنشأ يقول:
أنا ابن بجدتهم علما وتـجـربة فسل بسعد تجدني أعلم النـاس
سعد بن زيد كثير إن عددتهـم ورأس سعد بن زيد آل شماس
والزبرقان ذناباهـم وشـرهـم ليس الذنابى أبا العباس كالراس فقال ابن عباس: اقسمت عليك ألا تقول إلا خيرا، قال: أفعل. ثم قال ابن عباس: يا أبا مليكة، من أشعر الناس? قال: أمن الماضين أم من الباقين? قال: من الماضين؛ قال: الذي يقول:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الـشـتـم يشـتـم وما بدونه الذي يقول:
ولست بمستبق أخا لا تـلـمـه على شعث أي الرجال المهذب ولكن الضراعة أفسدته كما أفسدت جرولا - يعني نفسه - والله يابن عم رسول الله لولا الطمع والجشع لكنت أشعر الماضين، فأما الباقون فلا تشك أني أشعرهم وأصردهم سهما إذا رميت.
الزبرقان وبنو أنف الناقة
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: روي لنا عن أبي عبيدة والهيثم بن عدي وغيرهما: أن عبد الله بن أبي ربيعة لما قدم من البحرين نزل على الزبرقان بن بدر بمائه فحلأه وهو الماء الذي يقال له بنيان، فنزل على بني أنف الناقة بمائهم وهو الذي يقال له وشيع، فأكرموه وذبحوا له شاة وقالوا: لو كانت إبلنا منا قريبة لنحرنا لك؛ فراح من عندهم يتغنى فيهم بقوله:
وما الزبرقان يوم يمنع مـاءه بمحتسب التقوى ولا متوكـل
مقيم على بنيان يمنـع مـاءه وماء وشيع ماء ظمآن مرمل قال: فركب الزبرقان إلى عمر رضي الله عنه فاستعداه على عبد الله وقال: إنه هجاني يا أمير المؤمنين؛ فسأل عمر عن ذلك عبد الله؛ فقال له: يا أمير المؤمنين، إني نزلت على مائه فحلأني عنه؛ فقال عمر رضوان الله عليه: يا زبرقان، أتمنع ماءك من ابن السبيل قال: يا أمير المؤمنين ألا أمنع ماء حفر آبائي مجاريه ومستقره وحفرته أنا بيدي فقال عمر: والذي نفسي بيده، لئن بلغني أنك منعت ماءك من أبناء السبيل لا ساكنتني بنجد أبدا فقال بعض بني أنف الناقة يعير الزبرقان ما فعله:
أتدري من منعت ورود حوض سليل خضارم منعوا البطاحـا
صفحة : 173
أزاد الركب تمنع أم هشاما وذا الرمحين أمنعهم سلاحا
هم منعوا الأباطح دون فهر ومن بالخيف والبدن اللقاحا
بضرب دون بيضتهم طلخف إذ الملهوف لاذ بهم وصاحا
وما تدري بأيهـم تـلاقـي صدور المشرفية والرماحا وصيته عند موته بالشعراء والفقراء
وللحطيئة وصية ظريفة يأتي كل فريق من الرواة ببعضها، وقد جمعت ما وقع إلي منها في موضع واحد وصدرت بأسانيدها.
أخبرني بها محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثنا عيينة بن المنهال عن الأصمعي، وأخبرني بها أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، ونسختها من كتاب محمد بن الليث عن محمد بن عبد الله العبدي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن أبي عمرة عن أبيه، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة، وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قالوا: لما حضرت الحطيئة الوفاة اجتمع إليه قومه فقالوا: يا أبا مليكة: أوص فقال: ويل للشعر من راوية السوء؛ قالوا: أوص رحمك الله يا حطىء؛ قال: من الذي يقول:
إذا أنبض الرامون عنها ترنمت ترنم ثكلى أوجعتها الجنـائز? قالوا: الشماخ؛ قال: أبلغوا غطفان أنه أشعر العرب؛ قالوا: ويحك أهذه وصية أوص بما ينفعك قال: أبلغوا أهل ضابىء أنه شاعر حيث يقول:
لكل جديد لذة غير أنـنـي رأيت جديد الموت غير لذيذ قالوا: أوص ويحك بما ينفعك قال: أبلغوا أهل امرىء القيس أنه أشعر العرب حيث يقول:
فيا لك من ليل كأن نجومـه بكل مغار الفتل شدت بيذبل قالوا: اتق الله ودع عنك هذا؛ قال: أبلغوا الأنصار أن صاحبهم أشعر العرب حيث يقول:
يغشون حتى ما تهر كلابهم لا يسألون عن السواد المقبل قالوا: هذا لا يغني عنك شيئا، فقل غير ما أنت فيه؛ فقال:
الشعر صعب وطويل سلمه إذا ارتقى فيه الذي لا يعلمه
زلت به إلى الحضيض قدمه يريد أن يعربه فيعجـمـه قالوا: هذا مثل الذي كنت فيه؛ فقال:
قد كنت أحيانا شديد المعتـمـد وكنت ذا غرب على الخصم ألد
فوردت نفسي وما كادت ترد قالوا: يا أبا مليكة، ألك حاجة? قال: لا والله، ولكن أجزع على المديح الجيد يمدح به من ليس له أهلا. قالوا: فمن أشعر الناس? فأومأ بيده إلى فيه وقال: هذا الحجير إذا طمع في خير )يعني فمه( واستعبر باكيا؛ فقالوا له: قل لا إله إلا الله؛ فقال:
قالت وفيها حيدة وذعر عوذ بربي منكم وحجر فقالوا له: ما تقول في عبيدك وإمائك? فقال: هم عبيد قن ما عاقب الليل النهار؛ قالوا: فأوص للفقراء بشيء؛ قال: أوصيهم بالإلحاح في المسئلة فإنها تجارة لا تبور، واست المسئول أضيق.
قالوا: فما تقول في مالك? قال: للأنثى من ولدي مثل حظ الذكر؛ قالوا: ليس هكذا قضى الله جل وعز لهن؛ قال: لكني هكذا قضيت.
قالوا: فما توصي لليتامى? قال: كلوا أموالهم ونيكوا أمهاتهم؛ قالوا: فهل شيء تعهد فيه غير هذا? قال: نعم، تحملونني على أتان وتتركونني راكبها حتى أموت فإن الكريم لا يموت على فراشه، والأتان مركب لم يمت عليه كريم قط؛ فحملوه على أتان وجعلوا يذهبون به ويجيئون عليها حتى مات وهو يقول:
لا أحد ألأم مـن حـطـيه هجا بنيه وهجا الـمـريه
من لؤمه مات على فريه والفرية: الأتان.
الغناء في شعر الحطيئة
ذكر ما غني فيه من القصائد التي مدح بها الحطيئة بغيضا وقومه وهجا الزبرقان وقومه منها: صوت
ألا طرقتنا بعد ما هجعـوا هـنـد وقد جزن غورا واستبان لنا نجـد
وإن التي نكبتها عـن مـعـاشـر علي غضاب أن صددت كما صدوا الغناء لعلويه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، وهذه القصيدة التي يقول فيها:
أتت آل شماس بن لأي وإنمـا أتاهم بها الأحلام والحسب العد
صفحة : 174
فإن الشقي من تعـادي صـدورهـم وذو الجد من لانوا إليه ومـن ودوا
يسوسون أحلاما بـعـيدا أنـاتـهـا فإن غضبوا جاء الحفيظة والـجـد
أقلـوا عـلـيهـم لا أبـا لأبـيكـم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا الـبـنـى وإن عاهدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا
وإن كانت النعمى عليهم جزوا بهـا وإن أنعموا لا كدروهـا ولا كـدوا
وإن قال مولاهم على جـل حـادث من الدهر ردوا فضل أحلامكم ردوا
مطاعين في الهيجا مكاشيف للدجـى بنى لهم آباؤهـم وبـنـى الـجـد ومنها: صوت
وأدماء حرجوج تعاللت مـوهـنـا بسوطي فارمدت نجاء الخـفـيدد
إذا آنست وقعا من السئوط عارضت به الجور حتى يستقيم ضحى الغـد
وتشرب بالقعب الصغير وإن تقـد بمشفرها يوما إلى الحوض تنقـد الموهن: وقت من الليل بعد مضي صدر منه. وارمدت: نجت، والارمداد: النجاء. والخفيدد: الظليم.
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر الهشامي: أن فيه لإبراهيم خفيف رمل آخر، وهو في جامع إبراهيم غير مجنس. وفيه خفيف ثقيل مجهول، وذكر حبش: أنه لمعبد؛ ويشبه أن يكون ليحيى المكي.
عده بعضهم أشعر الناس
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن ابن عباية عن محمد بن مسلم الجوسق عن رجل من كعب قال: جئت سوق الظهر فإذا بكثير، وإذا الناس متقصفون عليه، فتخلصت حتى دنوت منه فقلت: أبا صخر؛ قال: ما تشاء? قلت: من أشعر الناس? قال: الذي يقول:
وآثرت إدلاجي على ليل حـرة هضيم الحشا حسانة المتجـرد
تفرق بالمدرى أثيثـا نـبـاتـه على واضح الذفرى أسيل المقلد قال: قلت: هذا الحطيئة? قال: هو ذاك.
كذبه سيدنا عمر في شعر له
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني عن علي ابن مجاهد عن هشام بن عروة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنشد قول الحطيئة:
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره تجد نار عندها خير مـوقـد فقال عمر: كذب، بل تلك نار موسى نبي الله صلى الله عليه وسلم.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية: أن رجلا دخل على الحطيئة، وهو مضطجع على فراشه وإلى جانبه سوداء قد أخرجت رجلها من تحت الكساء، فقال له: ويحك أفي رجلك خف? قال: لا والله ولكنها رجل سوداء، أتدري من هي? قال: لا؛ قال: هي والله التي أقول فيها:
وآثرت إدلاجي على ليل حرة - وذكر البيتين - والله لو رأيتها يابن أخي لما شربت الماء من يدها؛ قال: فجعلت تسبه أقبح سب وهو يضحك.
ومنها: صوت
ما كان ذنب بغيض لا أبا لكـم في بائس جاء يحدو أنيقا شزبـا
طافت أمامة بالـركـبـان آونة يا حسنها من خيال زار منتقبـا
إذ تستبيك بمصقول عوارضـه حمش اللثات ترى في مائه شنبا
قد أخلقت عهدها من بعد جدتـه وكذبت حب ملهوف وما كذبـا الغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة.
ومنها: صوت
جزى الله خيرا والجزاء بكفهبأحسن ما يجزي الرجال بغيضا
فلو شاء إذ جئناه صد فلم يلم وصـادف مـنـأى فـي الــبـــلاد عـــريضـــا الغناء للهدلي ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي.
أخبار ابن عائشة ونسبه
اسمه وكنيته ونسبه إلى أمه
صفحة : 175
محمد بن عائشة ويكنى أبا جعفر، ولم يكن يعرف له أب فكان ينسب إلى أمه، ويلقبه من عاداه أو أراد سبه ابن عاهة الدار . وكان يزعم أن اسم أبيه جعفر؛ وليس يعرف ذلك. وعائشة أمه مولاة لكثير بن الصلت الكندي حليف قريش. وقيل: إنها مولاة لآل المطلب بن أبي وداعة السهمي، ذكر ذلك إسحاق عن محمد بن سلام. وحكى ابن الكلبي القول الأول، وقال إسحاق: هو الصحيح، يعني قول ابن الكلبي. وقال إسحاق فيما رواه لنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه: إن محمد بن معن الغفاري ذكر له عن أبي السائب المخزومي أن ابن عائشة مولى المطلب بن أبي وداعة السهمي وإنه كان لغير رشدة، فأدركت المشيخة وهم إذا سمعوا له صوتا حسنا قالوا: أحسن ابن المرأة. قال إسحاق وقال عمران بن هند الأرقمي: بل كان مولى لكثير بن الصلت.
سأله الوليد عن نسبه لأمه فأجابه قال إسحاق: قال عبيد الله بن محمد بن عائشة: قال الوليد بن يزيد لابن عائشة: يا محمد، ألغية أنت? قال: كانت أمي يا أمير المؤمنين ماشطة، وكنت غلاما، فكانت إذا دخلت إلى موضع قالوا: ارفعوا هذا لابن عائشة؛ فغلبت على نسبي.
كان يفتن كل من سمعه
وأخذ عن معبد ومالك
قال إسحاق: وكان ابن عائشة يفتن كل من سمعه، وكان فتيان من المدينة قد فسدوا في زمانه بمحادثته ومجالسته. وقد أخذ عن معبد ومالك ولم يموتا حتى ساواهما على تقديمه لهما واعترافه بفضلهما.
كان جيد الغناء دون الضرب وقد قيل: إنه كان ضاربا ولم يكن بالجيد الضرب؛ وقيل: بل كان مرتجلا لم يضرب قط.
كان يضرب بابتدائه المثل وكان أحسن المغنين بعد معبد وابتداؤه بالغناء كان يضرب به المثل، فيقال للابتداء الحسن كائنا ما كان من قراءة قرآن، أو إنشاد شعر، أو غناء يبدأ به فيستحسن: كأنه ابتداء ابن عائشة. قال إسحاق: وسمعت علماءنا قديما وحديثا يقولون: ابن عائشة أحسن الناس ابتداء، وأنا أقول: إنه أحسن الناس ابتداء وتوسطا وقطعا بعد أبي عباد معبد، وقد سمعت من يقول: إن ابن عائشة مثله؛ وأما أنا فلا أجسر على أن أقول ذلك.
وكان ابن عائشة غير جيد اليدين فكان أكثر ما يغني مرتجلا. وكان أطيب الناس صوتا.
قال إسحاق وحدثني محمد بن سلام قال قال لي جرير: لا تخدعن عن أبي جعفر محمد بن عائشة، فلولا صلف كان فيه لما كان بعد أبي عباد مثله.
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه عن جده قال: ثلاثة من المغنين كانوا أحسن الناس حلوقا: ابن عائشة وابن تيزن وابن أبي الكنات.
ابن أبي عتيق وانتصاره له حدثني عمي قال حدثنا محمد بن داود بن الجراح قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب الزبيري عن أبيه قال: رأى ابن أبي عتيق حلق ابن عائشة مخدشا فقال: من فعل هذا بك? قال: فلان، فمضى فنزع ثيابه وجلس للرجل على بابه، فلما خرج أخذ بتلبيبه وجعل يضربه ضربا شديدا والرجل يقول له: مالك تضربني أي شيء صنعت وهو لا يجيبه حتى بلغ منه؛ ثم خلاه وأقبل على من حضر فقال: هذا أراد أن يكسر مزامير داود: شد على ابن عائشة فخنقه وخدش حلقه.
لولا آخر غنائه لفاق ابن سريج قال إسحاق في خبره: وحدثني أبي عن سياط عن يونس الكاتب قال: ما عرفنا بالمدينة أحسن ابتداء من ابن عائشة إذا غنى، ولو كان آخر غنائه مثل أوله لقدمته على ابن سريج. قال إبراهيم: هو كذاك عندي، وقال إسحاق مثل قولهما. قال: وقال يونس: كان ابن عائشة يضرب بالعود ولم يكن مجيدا، وكان غناؤه أحسن من ضربه، فكان لا يكاد يمس العود إلا أن تجتمع جماعة من الضراب فيضربون عليه ويضرب هو ويغني، فناهيك به حسنا.
كان يصلح لمنادمة الخلفاء والملوك أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان أنه ذكر يوما المغنين بالمدينة، فقال: لم يكن بها أحد بعد طويس أعلم من ابن عائشة ولا أظرف مجلسا ولا أكثر طيبا؛ وكان يصلح أن يكون نديم خليفة أو سمير ملك. قال إسحاق: فأذكرني هذا القول قول جميلة له: وأنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح أن تكون.
الحسن يكرهه على غناء مائة صوت
صفحة : 176
قال إسحاق وحدثني المدائني قال حدثني جرير قال: كان ابن عائشة تائها سيىء الخلق، فإن قال له إنسان: تغن، قال: ألمثلي يقال هذا وإن قال له إنسان وقد ابتدأ هو بغناء: أحسنت، قال: ألمثلي يقال أحسنت ثم يسكت، فكان قليلا ما ينتفع به. فسال العقيق مرة فدخل عرصة سعيد بن العاصي الماء حتى ملأها، فخرج الناس إليها وخرج ابن عائشة فيمن خرج، فجلس على قرن البئر، فبينا هم كذلك إذ طلع الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، على بغلة وخلفه غلامان أسودان كأنهما من الشياطين، فقال لهما: امضيا رويدا حتى تقفا بأصل القرن الذي عليه ابن عائشة، فخرجا حتى فعلا ذلك. ثم ناداه الحسن: كيف أصبحت يابن عائشة? قال: بخير، فداك أبي وأمي، قال: انظر من إلى جنبك، فنظر فإذا العبدان، فقال له: أتعرفهما? قال: نعم، قال: فهما حران لئن لم تغنني مائة صوت لآمرنهما بطرحك في البئر، وهما حران لئن لم يفعلا لأقطعن أيديهما، فاندفع ابن عائشة فكان أول ما ابتدأ به صوتا له وهو:
ألا للـه درك مـن فتى قوم إذا رهبوا ثم لم يسكت حتى غنى مائة صوت، فيقال إن الناس لم يسمعوا من ابن عائشة أكثر مما سمعوا في ذلك اليوم، وكان آخر ما غنى: صوت
قل للمنازل بالظهران قد حانا أن تنطقي فتبيني القول تبيانا قال جرير: فما رئي يوم أحسن منه، ولقد سمع الناس شيئا لم يسمعوا مثله، وما بلغني أن أحدا تشاغل عن استماع غنائه بشيء، ولا انصرف أحد لقضاء حاجة ولا لغير ذلك حتى فرغ. ولقد تبادر الناس من المدينة وما حولها حيث بلغهم الخبر لاستماع غنائه، فيقال: إنه ما رئي جمع في ذلك الموضع مثل ذلك الجمع، ولقد رفع الناس أصواتهم يقولون له: أحسنت والله، أحسنت والله، ثم انصرفوا حوله يزفونه إلى المدينة زفا.
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت
ألا لـلـه درك مــن فتى قوم إذا رهبـوا
وقالوا من فتى للحـر ب يرقبنا ويرتـقـب
فكنت فتاهـم فـيهـا إذا تدعي لها تـثـب
ذكرت أخي فعاودنـي رداع السقم والوصب
كما يعتاد ذات البو بعد سلوهـا الـطـرب
على عبد بن زهرة بت طول الليل أنتـحـب الشعر لأبي العيال الهذلي. والغناء لمعبد، وله فيه لحنان، أحدهما ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق يبدأ فيه بقوله:
ذكرت أخي فعاودني رداع السقم والوصب والآخر خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة. وفيه لابن عائشة خفيف رمل آخر، وقيل: بل هو لحن معبد. وذكر حماد بن إسحاق أن خفيف الرمل لمالك. البو: جلد يحشى تبنا ويجفف لكيلا تحبث رائحته، ويدنى إلى الناقة التي قد نحر فصيلها أو مات لتشمه فتدر عليه.
ومنها: صوت
قل للمنازل بالظهـران قـد حـانـا أن تنطقي فتبيني القـول تـبـيانـا
قالت ومن أنت قل لي قلت ذو شغف هجت له من دواعي الحب أحزانـا الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن عائشة خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحبش.
غنى بالموسم فحبس الناس عن المسير
وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات حدثني عبد الرحمن بن سليمان عن علي بن الجهم الشاعر قال حدثني رجل: أن ابن عائشة وافقا بالموسم متحيرا، فمر به بعض أصحابه فقال له: ما يقيمك ها هنا? فقال: إني أعرف رجلا لو تكلم لحبس الناس ها هنا فلم يذهب أحد ولم يجيء؛ فقال له الرجل: وما ذاك? قال أنا، ثم اندفع يغني:
جرت سنحا فقلت لها أجيزي نوى مشمولة فمتى اللقـاء قال: فحبس الناس، واضطربت المحامل، ومدت الإبل أعناقها، وكادت الفتنة أن تقع. فأتي به هشام بن عبد الملك، فقال له: يا عدو الله، أردت أن تفتن الناس قال: فأمسك عنه وكان تياها، فقال له هشام: ارفق بتيهك، فقال: حق لمن كانت هذه مقدرته على القلوب أن يكون تياها، فضحك منه وخلى سبيله.
نسبة هذا الصوت الذي غناه ابن عائشة صوت
جرت سنحا فقلت لها أجيزي نوى مشمولة فمتى اللقـاء
بنفسي من تذكـره سـقـام أعانيه ومطلـبـه عـنـاء
صفحة : 177
السانح: ما أقبل من شمالك يريد يمينك، والبارح ضده. وقال أبو عبيدة: سمعت يونس بن حبيب يسأل رؤبة عن السانح والبارح، فقال: السانح: ما ولاك ميامنه، والبارح: ما ولاك مشائمه. وقوله: أجيزي أي انفذي. قال الأصمعي: يقال: أجزت الوادي إذا قطعته وخلفته، وجزته أي سرت فيه فتجاوزته، وجاوزته مثله. قال أوس بن مغراء:
ولا يريمون في التعريف موقفهم حتى يقال أجيزوا آل صوفانـا ومشمولة: سريعة الانكشاف. أخذه من السحابة المشمولة، وهي التي تصيبها الشمال فتكشفها، ومن شأن الشمال أن تقطع السحاب، واستعارها ها هنا في النوى لسرعة انكشافهم فيها عن بلدهم، وأجرى ذلك مجرى الذم للسانح لأنه يتشاءم به. البيت الأول من الشعر لزهير بن أبي سلمى، والثاني محدث ألحقه المغنون به لا أعرف قائله. والغناء لابن عائشة، ولحنه خفيف ثقيل أول بالبنصر.
غنى الوليد بحضرة معبد ومالك
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق وأخبرني به محمد بن مزيد والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال: كتب الوليد بن يزيد إلى يوسف بن عمر: أما بعد، فإذا قرأت كتابي هذا فسرح إلي حمادا الراوية على ما أحب من دواب البريد، وأعطه عشرة آلاف درهم يتهيأ بها. قال: فأتاه الكتاب وأنا عنده فنبذه إلي، فقلت: السمع والطاعة، فقال: يا دكين، مر شجرة يعطيه عشرة آلاف درهم، فأخذتها. فلما كان اليوم الذي أردت الخروج فيه أتيت يوسف بن عمر، فقال: يا حماد، أنا بالموضع الذي قد عرفته من أمير المؤمنين، ولست مستغنيا عن ثنائك؛ فقلت: أصلح الله الأمير إن العوان لا تعلم الخمرة وسيبلغك قولي وثنائي. فخرجت حتى انتهيت إلى الوليد وهو بالبخراء، فاستأذنت عليه فأذن لي، فإذا هو على سرير ممهد، وعليه ثوبان أصفران: إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئا، وإذا عنده معبد ومالك بن أبي السمح وأبو كامل مولاه، فتركني حتى سكن جأشي، ثم قال أنشدني:
أمن المنون وريبها تتوجع فأنشدته حتىأتيت على آخرها؛ فقال لساقيه: يا سبرة اسقه، فسقاني ثلاثة أكؤس خثرن ما بين الذؤابة والنعل. ثم قال يا مالك، غنني:
ألا هل هاجك الأظعا ن إذ جاوزن مطلحا ففعل. ثم قال له: غني:
جلا أمية عني كل مـظـلـمة سهل الحجاب وأوفى بالذي وعدا ففعل. ثم قال له: غنني:
أتنسى إذ تودعنا سليمـى بفرع بشامة سقي البشام ففعل. ثم قال: يا سبرة، أو يا أبا سبرة، اسقني بزب فرعون؛ فأتاه بقدح معوج فسقاه به عشرين، ثم أتاه الحاجب فقال: أصلح الله أمير المؤمنين، الرجل الذي طلبت بالباب؛ قال: أدخله، فدخل شاب لم أر شابا أحسن وجها منه، في رجله بعض الفدع، فقال: يا سبرة اسقه، فسقاه كأسا؛ ثم قال له: غنني:
وهي إذ ذاك عليها مئزر ولها بيت جوار من لعب فغناه؛ فنبذ إليه الثوبين. ثم قال له: غنني:
طاف الخيال فمرحبا ألفا برؤية زينـبـا فغضب معبد وقال: يا أمير المؤمنين، إنا مقبلون عليك بأقدارنا وأسناننا، وإنك تركتنا بمزجر الكلب، وأقبلت على هذا الصبي فقال: والله يا أبا عباد، ما جهلت قدرك ولا سنك، ولكن هذا الغلام طرحني في مثل الطناجير من حرارة غنائه. قال حماد الراوية: فسألت عن الغلام فقيل لي هو ابن عائشة.
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت
جلا أمية عني كل مـظـلـمة سهل الحجاب أوفى بالذي وعدا
إذا حللت بأرض لا أراك بـهـا ضاقت علي ولم أعرف بها أحدا الغناء لابن عباد الكاتب خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أنه لعمر الوادي. وذكر حبش أن فيه لمالك لحنا من خفيف الثقيل الأول بالوسطى.
ومنها: صوت
أتنسى إذ تودعنا سلـيمـى بفرع بشامة سقي البشـام
متى كان الخيام بذي طلوح سقيت الغيث أيتها الخـيام
أتمضون الخيام ولم نسلـم كلامكم علـي إذا حـرام
بنفسي من تجنبـه عـزيز علي ومن زيارته لمـام
ومن أمسي وأصبح لا أراه ويطرقني إذا رقد النـيام
صفحة : 178
الشعر لجرير. والغناء لابن سريج، وله في هذه الأبيات ثلاثة ألحان: أحدها في الأول والرابع ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق. والآخر في الثاني ثم الأول ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو، والآخر في الثالث وما بعده رمل بالبنصر عن الهشامي وحبش. وللدلال في الثاني والثالث ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق والمكي. وللغريض في الأول والثاني والثالث خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. وفيها لمالك ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي. ولابن جامع في الأول والثاني والرابع والخامس هزج عن الهشامي. وفيها لابن جندب خفيف ثقيل بالبنصر.
ومنها الصوت الذي أوله في الخبر:
وهي إذ ذاك عليها مئزر وأوله صوت
عهدتنـي نـاشـئا ذا غـرة رجل الجمة ذا بطن أقـب
أتبع الولدان أرخي مـئزري ابن عشر ذا قريط من ذهب
وهي إذ ذاك عليهـا مـئزر ولها بيت جوار من لعـب الشعر لامرىء القيس، ويقال: إنه أول شعر شبب فيه بالنساء. والغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي ودنانير وحماد بن إسحاق. وفيه خفيف ثقيل بالبنصر ذكر حماد في أخبار جميلة أنه لها، وذكر حبش والهشامي أنه لابن سريج، وقيل: إنه لغيرهما.
ومنها: صوت
ألا هل هاجك الأظعان إذ جاوزن مـطـلـحــا
نعم ولو شـك بـينـهـم جرى لك طائر سنحـا
أخذن الماء مـن ركـك وضوء الفجر قد وضحا
يقلن مـقـيلـنـا قـرن نباكر ماءه صـبـحـا
تبعتهم بطرف الـعـين حتى قيل لي افتضحـا
يودع بعضنا بـعـضـا وكل بالهوى جـرحـا
فمن يفـرح بـينـهـم فغيري إذ غدوا فرحـا الشعر ترويه الرواة جميعا لعمر بن أبي ربيعة سوى الزبير بن بكار فإنه رواه عن عمه وأهله لجعفر بن الزبير بن العوام، وقد ذكر خبره في هذا مع أخباره المذكورة في آخر الكتاب. ورواه الزبير
إذ جاوزن من طلحا وقال: ليس على وجه الأرض موضع يقال له: مطلح. والغناء لمالك وله فيه لحنان: ثقيل أول بالبنصر عن إسحاق، وخفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيه لمعبد ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لابن سريج في الخامس - وهو تبعتهم بطرف العين إلى آخر الأبيات - ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيها للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي، قال: وهو الذي فيه استهلال. وذكر ابن المكي أن الثقيل الثاني لمالك، وخفيف العقيل للغريض.
صوت
طرق الخيال فمرحبا ألفا برؤية زينـبـا
أنى اهتديت لفـتـية سلكوا السليل فعليبا طرب أبي جعفر الناسك لغناء ابن عائشة
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن سلام قال حدثني جرير قال: أخذ بعض ولاة المدينة المغنين والمخنثين والسفهاء بلزوم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان في المسجد رجل ناسك يكنى أبا جعفر مولى لابن عياش بن أبي ربيعة المخزومي يقرىء الناس القرآن، وكان ابن عائشة يلازمه، فخلا لابن عائشة يوما الموضع مع أبي جعفر فقرأ له فطرب ورجع، فسمع الشيخ صوتا لم يسمع مثله قط، فقال له: يابن أخي، أفسدت نفسك وضيعتها، فلو أنك لزمت المسجد وتعلمت القرآن لأقمت للناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان، ولأصبت بذلك من الولاة خيرا، فوالله ما دخل أذني قط صوت أحسن من صوتك؛ فقال ابن عائشة: فكيف لو سمعت يا أبا جعفر صوتي في الأمر الذي صنع له قال وما هو? قال: انطلق معي حتى أسمعكه، فخرج معه إلى ميضأة ببقيع الغرقد عند دار المغيرة بن شعبة، وكان أبو جعفر يتوضأ عندها كل يوم، فاندفع ابن عائشة يغني:
ألآن أبصرت الهـدى وعلا المشيب مفارقي فبلغ ذلك من الشيخ كل مبلغ، وقال: يابن أخي، هذا حسن وأنا أشتهي أن أسمعه، ولكن لا أطلبه ولا أمشي إليه؛ قال ابن عائشة: فعلي أن أسمعكه؛ فكان يرصده، فإذا خرج أبو جعفر يتوضأ خرج ابن عائشة في أثره حتى يقف خلف جدار الميضأة بحيث غناءه، فيغنيه أصواتا حتى يفرغ أبو جعفر من وضوئه. فلم يزل يفعل ذلك حتى أطلقوا من لزوم المسجد.
صفحة : 179
نسبة هذا الصوت
صوت
طرق الخيال المعتري وهنا فؤاد العـاشـق
طيف ألم فهـاجـنـي للبين أم مـسـاحـق
ألآن أبصرت الهـدى وعلا المشيب مفارقي
وتركت أمر غوايتـي وسلكت قصد طرائقي
ولقد رضيت بعيشـنـا إذ نحن بـين حـدائق
وركائب تهوي بـنـا بين الدروب فـدابـق الشعر للوليد بن يزيد، ويقال: إنه لابن رهيمة. والغناء لابن عائشة رمل بالبنصر عن عمرو، وذكره يونس أيضا له في كتابه. وفيه لأبي زكار الأعمى خفيف رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي. وذكر ابن خرداذبه أنه لأبي زكار الأعمى وهو قديم، وأنه وجد ذلك في كتاب يونس. وفيه لحكم الوادي لحن في كتاب يونس غير مجنس، ولاأدري أيها هو. وفي هذه الأبيات خفيف ثقيل متنازع فيه نسب إلى معبد وإلى مالك، ولم أجده لهما عن ثقة، وأظنه لحن حكم.
أكرهه الحسن ليخرج معه إلى البغيبغة ليغنيه
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي والحسين بن يحيى الأعور المرداسي قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلام عن أبيه قال: كان الحسن بن الحسن مكرما لابن عائشة محبا له، وكان ابن عائشة منقطعا إليه، وكان من أتيه خلق الله وأشده ذهابا بنفسه، فسأله الحسن أن يخرج معه إلى البغيبغة فامتنع ابن عائشة من ذلك؛ فأقسم عليه فأبى؛ فدعا بغلمان له حبشان وقال: نفيت من أبي لئن لم تسر معي طائعا لتسيرن كارها، ونفيت من أبي لئن لم ينفذوا أمري فيك لأقطعن أيديهم. فلما رأى ابن عائشة ما ظهر من الحسن علم أنه لابد من الذهاب، فقال له: بأبي أنت وأمي، أنا أمضي معك طائعا لا كارها. فأمر الحسن بإصلاح ما يحتاج إليه وركب، وأمر لابن عائشة ببغلة فركبها ومضيا، حتى صارا إلى البغيبغة فنزلا الشعب، وجاءهم ما أعدوا فأكلوا؛ ثم أمرالحسن بأمره وقال يا محمد؛ فقال له: لبيك يا سيدي؛ قال: غنني؛ فاندفع فغناه: صوت
يدعو النبي بعمه فـيجـيبـه يا خير من يدعو النبي جلالا
ذهب الرجال فلا أحس رجالا وأرى الإقامة بالعراق ضلالا
وأرى المرجي للعراق وأهله ظمآن هـاجـرة يؤمـل آلا
وطربت إذ ذكر المدينة ذاكر يوم الخميس فهاج لي بلبـالا
فظللت أنظر في السماء كأنني أبغي بناحية السمـاء هـلالا - الشعر لابن المولى من قصيدة طويلة قالها وقد قدم إلى العراق لبعض أمره فطال مقامه بها واشتاق إلى بلده. وقد ذكر خبره في موضعه من هذا الكتاب. والغناء لابن عائشة ثقيل أول بالبنصر عن حماد والهشامي وحبش. وقال الهشامي خاصة: فيه لحن لقراريط - فقال له الحسن: أحسنت والله يابن عائشة فقال ابن عائشة: والله لا غنيتك في يومي هذا شيئا؛ فقال الحسن: فوالله لا برحت البغيبغة ثلاثة أيام فاغتم ابن عائشة ليمينه وندم وعلم أنه لا حيلة له إلا المقام، فأقاموا. فلما كان اليوم الثاني قال له الحسن: هات ما عندك فقد برت يمينك، وكانوا جلوسا على شيء مرتفع، فنظروا إلى ناقة تقدم جماعة إبل، فاندفع ابن عائشة فغنى:
تمر كجندلة الـمـنـجـنـي ق يرمى بها السور يوم القتال
فماذا تخـطـرف مـن قـلة ومن حدب وإكـام تـوالـي
ومن سيرها العنق المسبطـر والعجرفية بـعـد الـكـلال فقال له الحسن: ويلك يا محمد لقد أحسنت الصنعة؛ فسكت ابن عائشة؛ ثم قال له: غنني، فغناه:
إذا ما انتشيت طرحت اللجا م في شدق منجرد سلهب
يبذ الجـياد بـتـقـريبـه ويأوي إلى حضر ملهـب
كميت كأن على مـتـنـه سبائك من قطع المذهـب
كأن القرنفل والزنجـبـيل يعل على ريقها الأطـيب
صفحة : 180
فقال له الحسن: أحسنت يا محمد، فقال له ابن عائشة: لكنك، بأبي أنت وأمي، قد ألجمتني بحجر فما أطيق الكلام. فأقاموا باقي يومهم يتحدثون؛ فلما كان اليوم الثالث قال الحسن: هذا آخر أيامك يا محمد؛ فقال ابن عائشة: عليه وعليه إن غناك إلا صوتا واحدا حتى تنصرف، وعليه وعليه إن حلفت ألا أبر قسمك ولو في ذهاب روحه فقال له الحسن: فلك الأمان على محبتك؛ فاندفع فغناه: صوت
أنعم الله لي بذا الوجـه عـينـا وبه مرحبا وأهـلا وسـهـلا
حين قالت لا تذكرن حـديثـي يابن عمي أقسمت قلت أجل لا
لا أخون الصديق في السر حتى ينقل البحر بالغرابـيل نـقـلا قال: ثم انصرف القوم، فما رأى الحسن بن الحسن ابن عائشة بعدها.
نسبة ما لم تمض نسبته في الخبر من هذه الأصوات
منها: نسبة الغناء في الشعر الذي غنى به ابن عائشة ذلك اليوم صوت
تمر كجندلة المنجنيق يرمى بها السور يوم الـقـتـال
فماذا تخطرف مـن قـلة ومن حدب وإكام تـوالـي
ومن سيرها العنق المسبطر والعجرفية بعد الـكـلال
ألا يا لقوم لطيف الـخـيا ل أرق من نازح ذي دلال
يثني التحية بعـد الـسـلا م ثم يفدي بـعـم وخـال
خيال لسلمى فقد عاد لـي بنكس من الحب بعد اندمال أما الذي قاله الشاعر في هذا الشعر فإنه قال: يمر بالياء لأنه وصف به حمارا وحشيا، ولكن المغنين جميعا يغنونه بالتاء على لفظ المؤنث، وقد وصف في هذه القصيدة الناقة ولم يذكر من صفتها إلا قوله:
ومن سيرها العنق المسبطر ولكن المغنين أخذوا من صفة العير شيئا ومن صفة الناقة شيئا فخلطوها وغنوا فيهما. وقوله:
فماذا تخطرف من قلة يعني أنه يمر بالموضع المرتفع فيطفره. وروى الأصمعي:
فماذا تخطرف من حالق ومن قلة وحجاب وجال فالحالق: ما أشرف. والحجاب: ما حجب عنك ما بين يديك من الأرض.
والجال: حرف الشيء، يقال له: جال وجول. والعنق المسبطر: المسترسل السهل.
والعجرفية: التعسف والإسراع. يقول: أذا كلت وتعبت تعجرفت في السير من بقية نفسها وشدتها. وروى الأصمعي فيها:
خيال لجعدة قد هـاج لـي نكاسا من الحب بعد اندمال يقال: نكس ونكاس بمعنى واحد وهو عود المرض بعد الصحة. والاندمال: الإفاقة من العلة، واندمال الجرح: برؤه. فأما الأبيات التي يصف فيها الناقة فقوله:
فسل الـهـمـوم بـعـيرانة مواشكة الرجع بعد انتـقـال
ذمول تزف زفيف الـظـلـي م شمر بالنعف وسط الـرئال
وترمد همـلـجة زعـزعـا كما انخرط الحبل فوق المحال
ومن سيرها العنق المسبطـر والعجرفية بـعـد الـكـلال
كأني ورحلـي إذا رعـتـهـا على جمزى جازىء بالرمال وأما صفة الحمار في هذه القصيدة فقوله فيه وفي الأتن:
فظـل يسـوف أبـوالـهـــا ويوفي زيازي حـدب الـتـلال
فطاف بتعـشـيره وانـتـحـى جوائلها وهو كالـمـسـتـجـال
تهـادى حـوافـرهـا جـنـدلا زواهق ضرب قـلات بـقـال
رمى بالجزاميز عرض الوجـي ن وآرمد في الجري بعد انفتـال
بشأو لـه كـضـريم الـحـري ق أو شقة البرق في عرض خال
يمر كجـنـدلة الـمـنـجـنـي ق يرمى بها السور يوم القـتـال
فماذا تخـطـرف مـن حـالـق ومن حـدب وحـجـاب وجـال
صفحة : 181
الشعر لأمية بن أبي عائذ الهذلي. والغناء لابن عائشة. ولحن ابن عائشة مشكوك فيه: أي الألحان المصنوعة في هذا الشعر هو، فيقال: إنه خفيف الرمل، ويقال: إنه هو الثقيل الأول، ويقال: إنه الرمل. فأما خفيف الرمل فهو بالخنصر في مجرى الوسطى، وذكره إسحاق في موضع فتوقف عنه ولم ينسبه، ونسبه في موضع آخر إلى ابن أبي يزن المكي. ونسبه عمرو بن بانة إلى معبد وقال: فيه خفيف رمل آخر لمالك. وذكره يونس في أغاني ابن أبي يزن المكي ونسبه ولم يجنسه. وذكر ابن خرداذبه والهشامي أن فيه لهشام بن المرية لحنا من الثقيل الأول، ورأيت ذلك ايضا في بعض الكتب بخط علي بن يحيى المنجم كما ذكرا. وذكر إسحاق أن الرمل مطلق في مجرى الوسطى وأنه لابن عائشة. وذكر أحمد بن المكي أنه لأبيه، وذكر غيره أنه غلط وأن لحن أبيه هو الثقيل الأول والرمل لابن عائشة. وقال حبش: فيه لابن سريج هزج خفيف بالوسطى.
ومنها، - وقد مضى تفسيره في الخبر واقتصر على البيت الأول منه -: صوت
إذا انتشيت طرحت اللجـا م في شدق منجرد سلهب الشعر للنابغة الجعدي. والغناء لابن عائشة: خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحماد.
ومنها الصوت الذي أوله:
أنعم الله لي بذا الوجه عينا وقد جمع مع سائر ما يغنى فيه من القصيدة، وهو:
أثل جودي على المـتـيم أثـل لا تزيدي فؤادي أثـل خـبـلا
أثل إني والراقصات بـجـمـع يتبـارين فـي الأزمة فـتـلا
سابحات يقطعن من عـرفـات بين أيدي المطي حزنا وسهـلا
والأكف المطهرات على الرك ن لشعث سعوا إلى البيت رجلا
لا أخون الصديق في السر حتى ينقل البحر بالغرابـيل نـقـلا
أو تمور الجبال مور سـحـاب مرتق قد وعى من الماء ثقـلا
أنعم الله لي بذا الوجـه عـينـا وبه مرحبا وأهـلا وسـهـلا
حين قالت لا تفشـين حـديثـي يابن عمي أقسمت قلت أجل لا
فاتقي الله واقبلي العذر مـنـي وتجافي عن بعض ما كان زلا
إن أكن سؤتكم به فلك الـعـت بى لـدينـا وحـق ذاك وقـلا
لم أرحب بأن سخطت ولـكـن مرحبا أن رضيت عنا وأهـلا
إن شخصا رأيتـه لـيلة الـبـد ر عليه ابتنى الجمـال وحـلا
جعل اللـه كـل أنـثـى فـداء لك بل خدها لرجلـيك نـعـلا
وجهك الوجه لو سألت به المز ن من الحسن والجمال استهـلا الشعر للحارث بن خالد المخزومي. والغناء لمعبد في الأربعة الأبيات الأول: خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو بن بانة. ولابن هوبر في الأول والثاني ثقيل أول عن إسحاق. ولابن سريج في الأول والثاني والخامس ثقيل أول وآخر بالبنصر أوله استهلال. وللغريض في الخامس وما بعده إلى التاسع خفيف ثقيل بالوسطى. ولدحمان في التاسع والثالث عشر والرابع عشر خفيف ثقيل أول بالبنصر. ولمالك في التاسع إلى آخر الثاني عشر لحن من كتاب يونس ولم يقع إلي من يجنسه. ولابن سريج فيها بعينها رمل بالوسطى عن الهشامي. وفيها أيضا للغريض خفيف رمل بالبنصر. ولابن عائشة في السابع والثامن لحن ذكره حماد عن أبيه ولم يجنسه.
غنى الوليد فطرب وقبل كل أعضائه
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس الشيعي وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن سلام، وأخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلام عن أبيه عن شيخ من تنوخ، ولم يقل عمر بن شبة في خبره: محمد بن سلام عن أبيه، ورواه عن محمد عن شيخ من تنوخ، قال: كنت صاحب ستر الوليد بن يزيد، فرأيت ابن عائشة عنده وقد غناه: صوت
إني رأيت صبيحة النـفـر حورا نفين عزيمة الصبـر
مثل الكوكب في مطالعهـا بعد العشاء أطفن بالـبـدر
وخرجت أبغي الأجر محتسبا فرجعت موفورا من الوزر
صفحة : 182
- قال إسحاق في خبره: والشعر لرجل من قريش، والغناء لمالك. هكذا في خبر إسحاق. وما وجدته ذكره لمالك في جامع أغانيه. ووجدته في غناء ابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي - قال: فطرب الوليد حتى كفر وألحد، وقال: يا غلام، اسقنا بالسماء الرابعة، وكان الغناء يعمل فيه عملا ضل عنه من بعده؛ ثم قال: أحسنت والله يا أميري أعد بحق عبد شمس، فأعاد؛ ثم قال: أحسنت والله يا أميري أعد بحق أمية، فأعاد؛ ثم قال: أعد بحق فلان، أعد بحق فلان، حتى بلغ من الملوك نفسه، فقال: أعد بحياتي؛ فأعاده. قال: فقام إليه فأكب عليه فلم يبق عضو من أعضائه إلا قبله وأهوى إلى هنه؛ فجعل ابن عائشة يضم فخذيه عليه؛ فقال: والله العظيم لا تريم حتى أقبله، فأبداه له فقبل رأسه، ثم نزع ثيابه فألقاها عليه، وبقي مجردا إلى أن أتوه بمثلها، ووهب له ألف دينار، وحمله على بغلة وقال: اركبها - بأبي أنت - وانصرف، فقد تركتني على مثل المقلى من حرارة غنائك؛ فركبها على بساطه وانصرف.
أمر لمحتاج بمال فابى إلا سماعه
فحكى ذلك للوليد فجعله في ندمائه
وأخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن الحسن النخعي قال حدثني محمد بن الحارث بن كليب بن زيد الربعي قال: خرج ابن عائشة المدني من عند الوليد بن يزيد وقد غناه:
أبعدك معقلا أرجو وحصنـا قد اعيتني المعاقل والحصون - وهي أربعة أبيات، هكذا في الخبر، ولم يذكر غير هذا البيت منها -قال فأطربه فأمر له بثلاثين ألف درهم وبمثل كارة القصار كسوة. فبينا ابن عائشة يسير إذ نظر إليه رجل من أهل وادي القرى كان يشتهي الغناء ويشرب النبيذ، فدنا من غلامه وقال: من هذا الراكب? قال: ابن عائشة المغني؛ فدنا منه وقال: جعلت فداءك، أنت ابن عائشة أم المؤمنين? قال: لا، أنا مولى لقريش وعائشة أمي وحسبك هذا فلا عليك أن تكثر؛ قال: وما هذا الذي أراه بين يديك من المال والكسوة? قال: غنيت أمير المؤمنين صوتا فأطربته فكفر وترك الصلاة وأمر لي بهذا المال وهذه الكسوة؛ قال: جعلت فداءك، فهل تمن علي بأن تسمعني ما أسمعته إياه? فقال له: ويلك أمثلي يكلم بمثل هذا في الطريق قال فما أصنع? قال: الحقني بالباب. وحرك ابن عائشة بغلة شقراء كانت تحته لينقطع عنه؛ فعدا معه حتى وافيا الباب كفرسي رهان، ودخل ابن عائشة فمكث طويلا طمعا في أن يضجر فينصرف، فلم يفعل؛ فلما أعياه قال لغلامه: أخله؛ فلما دخل قال له: ويلك من أين صبك الله علي قال: أنا رجل من أهل وادي القرى أشتهي هذا الغناء؛ فقال له: هل لك فيما هو أنفع لك منه? قال: وما ذاك? قال: مائتا دينار وعشرة أثواب تتصرف بها إلى أهلك؛ فقال له: جعلت فداءك، والله إن لي لبنية ما في أذنها - علم الله - حلقة من الورق فضلا عن الذهب، وإن لي لزوجة ما عليها - يشهد الله - قميص. ولو أعطيتني جميع ما أمر لك به أمير المؤمنين على هذه الخلة والفقر اللذين عرفتكهما وأضعفت لي ذلك، لكان الصوت أعجب إلي - وكان ابن عائشة نائها لا يغني إلا لخليفة أو لذي قدر جليل من إخوانه - فتعجب ابن عائشة منه ورحمه، ودعا بالدواة وكان يغني مرتجلا، فغناه الصوت؛ فطرب له طربا شديدا، وجعل يحرك رأسه حتى ظن أن عنقه سينقصف، ثم خرج من عنده ولم يرزأه شيئا، وبلغ الخبر الوليد بن يزيد فسأل ابن عائشة عنه، فجعل يغيب عن الحديث. ثم جد الوليد به فصدقه عنه، وأمر بطلب الرجل فطلب حتى أحضر، ووصله صلة سنية، وجعله في ندمائه ووكله بالسقي، فلم يزل معه حتى مات.
سمع الشعبي غناءه فمدحه
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني عمر بن أبي خليفة قال: كان الشعبي مع أبي في أعلى الدار، فسمعنا تحتنا غناء حسنا، فقال له أبي: هل ترى شيئا? قال: لا، فنظرنا فإذا غلام حسن الوجه حديث السن يتغنى:
قالت عبيد تـجـرمـا في القول فعل المازح فما سمعت غناء كان أحسن منه، فإذا هو ابن عائشة، فجعل الشعبي يتعجب من غنائه، ويقول: يؤتي الحكمة من يشاء.
نسبة هذا الصوت
صوت
قالت عبيد تـجـرمـا في القول فعل المازح
أنجز بعمرك وعـدنـا فأظن حبك فاضحـي
صفحة : 183
فاجبتها لـو تـعـلـم ين بما تجن جوانحي
فيما أرى لرحمتنـي من خمل حب فـادح
ما في البرية لي هوى فاسمع مقالة ناصـح
أشكو إليه جفـاءكـم إلا سلام مصافحـي زعم حبش أن الغناء لابن عائشة خفيف ثقيل بالبنصر.
حج ولقيه جماعة من قريش
فاحتالوا عليه حتى غنى لهم
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني بعض أهل المدينة قال: حدثني من رأى ابن عائشة حاجا وقد دعاه فتية من بني هاشم فأجابهم، قال: وكنت فيهم، فلما دخلنا جعلوا صدر المجلس لابن عائشة فجلس فتحدثوا حتى حضر الطعام؛ فلما طعموا دعا بشراب فشربوا، وكان ابن عائشة إذا سئل أن يغني أبى ذلك وغضب، فإذا تحدث القوم بحديث ومضى فيه شعر قد غنى فيه ابتدأ هو فغناه، فكان من فطن له يفعل ذلك به، فقال رجل منهم: حدثني اليوم رجل من الأعراب ممن ان يصاحب جميلا بحديث عجيب؛ فقال القوم: وما هو? فقال: حدثني أن جميلا بينما هو يحدثه كما كان يحدثه إذ أنكره ورأى منه غير ما كان يرى، فثار نافرا، مقشعر الشعر، متغير اللون إلى ناقة له مجتمعة قريبة من الأرض، موثقة الخلق، فشد عليها رحله ثم أتاها بمحلب فيه لبن فشربته، ثم ثنى فشربت حتى رويت، ثم قال: اشدد أداة رحلك واشرب واسق جملك، فإني ذاهب بك إلى بعض مذاهبي، ففعلت، فجال في ظهر ناقتي، فسرنا بياض يومنا وسواد ليلتنا، ثم أصبحنا فسرنا يومنا لا والله ما نزلنا إلا للصلاة؛ فلما كان اليوم الثالث دفعنا إلى نسوة فمال إليهم فوجدنا الرجال خلوفا، وإذا قدر لبأ وقد جهدت جوعا وعطشا، فلما رأيت القدر اقتحمت عن بعيري وتركتهم جانبا، ثم أدخلت رأسي في القدر ما يثنيني حرها حتى رويت، فذهبت أخرج رأسي من القدر فضاقت علي وإذا هي على رأسي قلنسوة، فضحكن مني وغسلن ما أصابني. وأتي جميل بقرى فوالله ما التفت إليه؛ فبينا هو يحدثهن إذا رواعي الإبل، وقد كان السلطان أحل لهم دمه إن وجدوه في بلادهم، وجاء الناس فقلن: ويحك انج وتقدم، فوالله ما أكبرهم ذلك الإكبار، فإذا بهم يرمونه، ويطردونه، فإذا غشوه قاتلهم ورمى فيهم، وقام بي جملي، فقال لي: يسر لنفسك مركبا خلفي، فأردفني خلفه، لا والله ما انكسر ولا انحل عن فرصته حتى رجع إلى أهله، وقد سار ست ليال وستة أيام وما التفت إلى طعام وقال في ذلك:
إن المنازل هيجت أطرابي واستعجمت آياتها بجوابي وهي قصيدة طويلة. وقال أيضا:
وأحسن أيام وأبهج عيشتـي إذا هيج بي يوما وهن قعود قال فقال ابن عائشة: أفلا أغني لكم ذلك? فقلنا: بلى والله، فاندفع فغناه، فما سمع السامعون شيئا أحسن من ذلك، وبقي أصحابنا يتعجبون من الحديث وحسنه والغناء وطيبه؛ فقال له أصحابنا: يا أبا جعفر، إنا مستأذنوك، فإن أذنت لنا سألناك، وإن كرهت تركناك؛ فقال: سلوا، فقالوا: نحب أن تغنينا في مجلسنا هذا ما نشطت هذا الصوت فقط؛ فقال لهم: نعم ونعمة عين وكرامة، فما زلنا في غاية السرور حتى انقضى المجلس.
نسبة هذا الغناء
صوت
إن المنازل هيجت أطرابـي واستعجمت آياتها بجـوابـي
قفر تلوح بذي اللجين كأنهـا أنضاء وشم أو سطور كثاب
لما وقفت بها القلوص تبادرت مني الدموع لفرقة الأحبـاب
وذكرت عصرا يا بثينة شاقني إذ فاتني وذكرت شرخ شبابي الشعر لجميل. والغناء للهذلي ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.
أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال حدثني عمرو بن أبي الكنات الحكمي قال حدثني يونس الكاتب قال:
صفحة : 184
كنا يوما متنزهين بالعقيق أنا وجماعة من قريش، فبينا نحن على حالنا إذ أقبل ابن عائشة يمشي ومعه غلام من بني ليث وهو متوكىء على يده، فلما رأى جماعتنا وسمعني أغني جاءنا فسلم وجلس إلينا وتحدث معنا، وكانت الجماعة تعرف سوء خلقه وغضبه إذا سئل أن يغني، فاقبل بعضهم على بعض يتحدثون بأحاديث كثير وجميل وغيرهما من الشعراء، يستجرون بذلك أن يطرب فيغني، فلم يجدوا عنده ما أرادوا، فقلت لهم أنا: لقد حدثني اليوم بعض الأعراب حديثا يأكل الأحاديث، فإن شئتم حدثتكم إياه؛ قالوا: هات؛ قلت: حدثني هذا الرجل أنه مر بناحية الربذة فإذا صبيان يتغاطسون في غدير، وإذا شاب جميل منهوك الجسم عليه أثر العلة، والنحول في جسمه بين، وهو جالس ينظر إليهم، فسلمت عليه فرد علي السلام وقال: من أين وضح الراكب? قلت: من الحمى؛ قال: ومتى عهدك به? قلت: رائحا؛ قال: وأين كان مبيتك? قلت: ببني فلان؛ فقال: أوه وألقى بنفسه على ظهره وتنفس الصعداء تنفسا قلت إنه قد خرق حجاب قلبه؛ ثم أنشأ يقول: صوت
سقى بلدا أمست سليمى تحلـه من المزن ما يروى به ويسيم
وإن لم أكن من قاطنيه فإنـه يحل به شخص علي كـريم
ألا حبذا من ليس يعدل قربـه لدي وإن شط المزار نـعـيم
ومن لامني فيه حميم وصاحب فرد بغيظ صاحب وحـمـيم ثم سكن كالمغشي عليه، فصحت بالصبية، فأتوا بماء فصببته على وجهه، فأفاق وأنشأ يقول:
إذا الصب الغريب رأى خشوعي وأنفاسي تزين بـالـخـشـوع
ولي عين أضر بها التـفـاتـي إلى الأجزاع مطلقة الـدمـوع
إلى الخلوات يأنس فيك قلـبـي كما أنس الغريب إلى الجمـيع فقلت له: ألا أنزل فأساعدك، أو أكر عودي على بدئي إلى الحمى في حاجة إن كانت لك حاجة أو رسالة? فقال: جزيت وصحبتك السلامة امض لطيتك، فلو أني علمت أنك تغني عني شيئا لكنت موضعا للرغبة وحقيقا بإسعاف المسئلة، ولكنك أدركتني في صبابة من حياتي يسيرة؛ فانصرفت وأنا لا أراه يمسي ليلته إلا ميتا، فقال القوم: ما أعجب هذا الحديث واندفع ابن عائشة فتغنى في الشعرين جميعا وطرب وشرب بقية يومه، ولم يزل يغنينا إلى أن انصرفنا.
فأما نسبة هذين الصوتين فإن في الأول منهما لحنا من خفيف الرمل الثقيل المطلق في مجرى الوسطى، نسبه يحيى المكي إلى معبد، وذكر الهشامي أنه منحول. وفي هذا الخبر: أن ابن عائشة غناه، وهو يغني في البيت الأول والثاني من الأبيات. وفيه للضيزني الملقب بنبيكة لحن جيد من الثقيل الأول. وكان نبيكة هذا من حذاق المغنين وكبارهم، وقد خدم المعتمد ثم شخص إلى مصر فخدم خمارويه بن أحمد، ثم قدم بغداد في أيام المقتدر، ورأيناه وشاهدناه، وكانت في يده صبابة قوية من إفضال ابن طولون واستغنى بها حتى مات، وله صنعة جيدة قد ذكرت ما وقع إلي منها في المجرد . وذكرت مما وقع إلي له في هذا الكتاب لحنا جيدا في شعر سعد ذلفاء، وهو:
ولما وقفنا دون سرحة مالك في موضعه من أخباره.
وأما الشعر الثاني الذي ذكرت في هذا الخبر الماضي: أن ابن عائشة غناه فما رأيت له نسبة في كتاب ولا سمعت فيه صنعة من أحد، ولعله مما انطوى عني أو لم يشتهر فسقط عن الناس.
سبب موته
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه، وأخبرني به الحسن بن علي عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن حماد عن أبيه عن يعقوب بن طلحة الليثي عن بعض مشايخه من أهل المدينة قال: أقبل ابن عائشة من الشأم حتى نزل قصر ذي حشب ومعه مال وطيب وكسا فشرب فيه، ثم تطرقوا إلى ظهر القصر فصعدوا، ثم نظر فإذا بنسوة يتمشين في ناحية الوادي، فقال لأصحابه: هل لكم فيهن? قالوا: وكيف لنا بهن? فنهض فلبس ملاءة مدلوكة، ثم قام على شرفة من شرفات القصر فتغنى:
وقد قالت لأتراب لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب لنا العيش تعالينا فأقبلن إليه فطرب واستدار حتى سقط من السطح؛ وهذا الخبر يذكر على شرحه في خبر وفاته.
كان يعشق شعر الحطيئة
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد: قرأت على أبي عن محمد بن سلام عن جرير أبي الحصين قال:
صفحة : 185
كان ابن عائشة إذا غنى في صوت له من شعر الحطيئة وهو:
عفا من سليمى مسحلان فحامره نظر إلى أعطافه في كل رنة، فسئل يوما - وقد دب فيه الشراب - عن ذلك، فقال: أنا عاشق لهذا الصوت، وعاشق لحديثه، وعاشق لغريبه، وعاشق لقول الحطيئة، إن الغناء رقية من رقى النيك، ويعجبني فهم الحطيئة بالغناء وليس هو من أهله ولا بصاحب غناء، وكيف لا أعجب به ومحله مني هذا المحل وكان لا يسأله أحد إياه إلا غناه، فمن فطن له أكثر سؤاله إياه. وكان جرير يقول: إنه أحسن صوت له وأرقه وأجوده.
وفاة ابن عائشة
توفي في خلافة الوليد بن يزيد وتوفي ابن عائشة فيما قيل في أيام هشام بن عبد الملك، وقيل في أيام الوليد. وما أظن الصحيح إلا أنه توفي في أيام الوليد، لأنه أقدمه إليه. وذكر من زعم أنه توفي في خلافة هشام: أنه إنما وفد على الوليد وهو ولي عهد.
روايات أخرى في سبب موته أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: ذكر عمران بن هند: أن الغمر بن يزيد خرج إلى الشأم، فلما نزل قصر ذي خشب شرب على سطحه، فغنى ابن عائشة صوتا طرب له الغمر، فقال: اردده، فأبى، وكان لا يرد صوتا لسوء خلقه، فأمر به، فطرح من أعلى السطح فمات. ويقال: بل قام من الليل وهو سكران ليبول فسقط من السطح فمات.
قال إسحاق فحدثني المدائني قال حدثني بعض أهل المدينة قال: أقبل ابن عائشة من عند الوليد بن يزيد وقد أجازه وأحسن إليه فجاء بما لم يأت به أحد من عنده، فلما قرب من المدينة نزل بذي خشب على أربعة فراسخ من المدينة، وكان واليها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، ولاه هشام وهو خاله، وكان في قصر هناك، فقيل له: أصلح الله الأمير، هذا ابن عائشة قد أقبل من عند الوليد بن يزيد، فلو سألته أن يقيم عندنا اليوم فيطربنا وينصرف من غد فدعا به فسأله المقام عنده فأجابه إلى ذلك، فلما أخذوا في شربهم أخرج المخزومي جواريه، فنظر إلى ابن عائشة وهو يغمز جارية منهن، فقال لخادمه: إذا خرج ابن عائشة يريد حاجته فارم به، وكانوا يشربون فوق سطح ليس له إفريز ولا شرفات، وهو يشرف على بستان، فلما قام ليبول رمى به الخادم من فوق السطح فمات، فقبره معروف هناك.
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرني به الحسن بن علي عن هارون بن محمد بن عبد الملك بن حماد بن إسحاق عن أبيه عن يعقوب بن طلحة الليثي عن بعض مشايخه من أهل المدينة قال: أقبل ابن عائشة من الشأم حتى نزل بقصر ذي خشب ومعه مال وطيب وكسا، فشرب فيه، ثم تطرقوا إلى ظهر القصر فصعدوا، ثم نظر فإذا بنسوة يتمشين في ناحية الوادي، فقال لأصحابه: هل لكم فيهن? قالوا: وكيف لنا بهن? فنهض فلبس ملاءة مدلوكة، ثم قام على شرفة من شرف القصر فتغنى في شعر ابن أذينة:
وقد قالت لأتراب لها زهر تلاقينا
تعالين فقد طاب لنا العيش تعالينا فأقبلن إليه؛ وطرب فاستدار فسقط فمات. قال: وقال قوم: بل قدم المدينة فمات بها.
بكى عليه أشعب فأضحك الناس
قال: ولما مات قال أشعب: قد قلت لكم، ولكنه لا يغني حذر من قدر: زوجوا ابن عائشة ربيحة الشماسية تخرج لكم بينهما مزامير داود فلم تفعلوا، وجعل يبكي والناس يضحكون منه.
نسبة هذا الصوت الذي غناه
صوت
سليمى أزمعت بـينـا فأين تقـولـهـا أينـا
وقد قـالـت لأتـراب لها زهر تـلاقـينـا
تعالين فـقـد طـاب لنا العيش تعـالـينـا
وغاب البـرم الـلـيل ة والعين فلا عـينـا
فأقبلن إلـيهـا مـس رعـات يتـهـادينـا
إلى مثل مهـاة الـرم ل تكسو المجلس الزينا
إلى خـود مـنـعـمة حففن بهـا وفـدينـا
تمـنـين مـنـاهـن فكنا مـا تـمـنـينـا الشعر لعروة بن أذينة. والغناء لابن عائشة لحنان أحدهما رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، والآخرثاني ثقيل بالوسطى عن حبش.
كان مالك بن أنس يكره الغناء
أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال:
صفحة : 186
سمعت إبراهيم بن سعد يحلف للرشيد وقد سأله عمن بالمدينة يكره الغناء، فقال: من قنعه الله بخزيه مالك بن أنس، ثم حلف له إنه سمع مالكا يغني:
سليمى أزمعت بينا فأين تقولها أينـا في عرس رجل من أهل المدينة يكنى أبا حنظلة.
خبر ابن عائشة وابن أذينة
وطلبه إليه أن يقول له شعرا يغنيه
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى عن بعض أصحابه قال: مر ابن عائشة بابن أذينة فقال له: قل أبياتا هزجا أغن فيها؛ فقال له: اجلس فجلس؛ فقال:
سليمى أزمعت فينا الأبيات. قال أبو غسان: فحدثت أن ابن عائشة رواها، ثم ضحك لما سمع قوله:
تمنين مناهن فكنا ما تمنينا ثم قال له: يا أبا عامر، تمنيتك لما أقبل بخرك، وأدبرذفرك، وذبل ذكرك فجعل يشتمه. هذا لفظ إسماعيل بن يونس.
أخبرني الجوهري وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال فحدثني حماد الخشبي قال: ذكر ابن أذينة عند عمر بن عبد العزيز، فقال: نعم الرجل أبو عامر، على أنه الذي يقول:
وقد قالت لأتراب لها زهر تلاقينا غنى للوليد بن يزيد بمكة فأجازه
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد عن أبيه عن المدائني عن إسحاق بن أيوب القرشي قال: كان هشام بن عبد الملك مكرما للوليد بن يزيد، وكان عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبا للوليد، وكان، فيما يقال، زنديقا، فحمل الوليد على الشراب والاستخفاف بدينه، فاتخذ ندماء وشرب وتهتك، فأراد هشام قطعهم عنه، فولاه الموسم في سنة عشر ومائة، فرأى الناس منه تهاونا واستخفافا بدينه، وأمر مولاه عيسى فصلى بالناس، وبعث إلى المغنين فغنوه وفيهم ابن عائشة فغناه:
سليمى أجمعت بينا فنعر الوليد نعرة أذن لها أهل مكة. وأمر لابن عائشة بألف دينار، وخلع عليه عدة خلع، وحمله.
فخرج ابن عائشة من عنده بأمر أنكره الناس، وأمر للمغنين بدون ذلك، فتكلم أهل الحجاز وقالوا: أهذا ولي عهد المسلمين وبلغ ذلك هشاما فطمع في خلعه، وأراده على ذلك فأبى؛ وتنكر هشام للوليد، وتمادى الوليد في الشرب واللذات فأفرط، وتعبث هشام بالوليد وخاصته ومواليه، فنزل بالأزرق بين أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الأغدق، حتى مات هشام. انقضت أخباره .
ومن المائة صوت المختارة من أغانيه
غناؤه في صوت من المائة الصوت المختارة
صوت
من رواية علي بن يحيى:
حنت إلى برق فقلت لها قـري بعض الحنين فإن شجوك شائقي
بأبي الوليد وأم نفسي كـلـمـا بدت النجوم وذر قرن الشـارق
أثوى فأكرم في الثواء وقضـيت حاجاتنا من عند أروع بـاسـق
لا تبـعـدن إداوة مـطـروحة كانت حديثا للشراب العـاتـق ويروي: بالشراب العاتق. عروضه من الكامل. حنت، يعني ناقته. وهذا البيت يتبع بيتا قبله وهو:
فإلى الوليد اليوم حنت ناقتي تهوي بمغبر المتون سمالق وبعده حنت إلى برق... وقوله: قري من الوقار، كأنها لما حنت أسرعت ونازعت إلى الوطن أو المقصد، فقال يخاطبها: قري. وذر قرن الشارق: طلع قرن الشمس؛ يريد: بأبي الوليد وأمي في كل ليل ونهار أبدا. وأثوى: أنزل.
والثواء: الإقامة؛ قال الأعشى:
لقد كان في حول ثواء ثويته تقضى لبانات ويسأم سـائم والباسق: الطويل؛ قال الله عز وجل: والنخل باسقات أي طوالا. ويروي:
لا تبعدن إداوة مطروحة الشعر لعبد الرحمن بن أرطاة المحاربي. والغناء لابن عائشة. ولحنه المختار ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وفيه للهذلي لحن آخر من الثقيل الأول عن الهشامي وابن المكي. فأول لحن الهذلي استهلال في:
حنت إلى برق فقلت لها قري وأول لحن ابن عائشة:
بأبي الوليد وأم نفسي كلـمـا بدت النجوم وذر قرن الشارق
أخبار ابن أرطاة ونسبه
نسبه
صفحة : 187
هو عبد الرحمن بن أرطاة، وقيل: عبد الرحمن بن سيحان بن أرطاة بن سيحان بن عمرو بن نجيد بن سعد بن لاحب بن ربيعة بن شكم بن عبد الله بن عوف بن زيد بن بكر بن عمير بن علي بن جسر بن محارب بن خصفة بن قيس بن غيلان بن مضر بن نزار. وأم جسر بن محارب كأس بنت لكيز بن أقصى بن عبد القيس، وأم علي بن جسر ماوية بنت علي بن بكر بن وائل، هذه رواية أبي عمرو الشيباني أخبرني بها عمي والصولي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه، قال وشكم بن عبد الله أول محاربي ساد قومه وأبذهم رأسا بنفسه، وكانوا جيرانا في هوازن؛ وآل سيحان حلفاء حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وبمنزلة بعضهم عندهم خاصة وعند سائر بني أمية عامة.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن عمران قال: بنو سيحان من بني جسر بن محارب، وبنو مناف تقوي حلفهم، وهم عندي أعزاؤهم وليسوا بأحلافهم.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى أبو غسان قال: لما قتل هشام بن الوليد أبا أزيهر، بعثت قريش أرطاة بن سيحان حليف حرب بن أمية إلى الشراة يحذر من بها من تجار قريش، وخرج حاجز الأزدي ليخبر قومه، فسبقه أرطاة، وقال في ذلك وقد حذرهم فنجوا:
مثل الحليف يشد عـروتـه يثني العناج لها مع الكرب
زلم إذا يسـروا بـه يسـر ومناضل يحمي عن الحسب
هل تشكرن فهر وتاجرهـا دأب الشرى بالليل والخبب
حتى جلوت لهم يقـينـهـم ببيان لا ألـس ولا كـذب وكان حليفا لبني أمية ومدحهم
وكان عبد الرحمن شاعرا مقلا إسلاميا ليس من الفحول المشهورين ولكنه كان يقول في الشراب والغزل والفخر ومدح أحلافه من بني أمية، وهو أحد المعاقرين للشراب والمحدودين فيه، وكان بني أمية كواحد منهم إلا أن اختصاصه بآل أبي سفيان وآل عثمان خاصة كان أكثر، وخصوصه بالوليد بن عثمان ومؤانسته إياه أزيد من خصوصه بسائرهم، لأنهما كانا يتنادمان على الشراب.
وهذه الأبيات التي فيها الغناء يقولها في الوليد بن عثمان، وقيل: بل في الوليد بن عتبة. وخبره في ذلك يذكر بعد هذا.
أصابه خمار فداواه منه الوليد بن عثمان
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال عتبة بن المنهال المهلبي حدثني غير واحد من أهل الحجاز قالوا: كان ابن سيحان حليفا لقريش ينزل بالمدينة، وكان نديما للوليد بن عثمان، فأصابه ذات يوم خمار، فذهب لسانه وسكنت أطرافه وصرخ أهله عليه، فأقبل الوليد إليه فزعا، فلما رآه قال: أخي مخمور ورب الكعبة، ثم أمر غلاما له فأتاه بشراب من منزله في إداوة فأمر به فأسخن ثم سقاه إياه وقيأه، وصنع له حساء وجعل على رأسه دهنا وجعل رجليه في ماء سخن، فما لبث أن انطلق وذهب ما كان به. ومات الوليد بعد ذلك. فبينا ابن سيحان يوما جالس وبعض متاعه ينقل من بيت إلى بيت، إذ مرت الخادم بإدواة الوليد التي كان داواه بما فيها من الشراب وقد يبست وتقبضت، فانتحب وقال:
لا تبعدن إداوة مطـروحة كانت حديثا للشراب العاتق وذكر باقي الأبيات.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن معاوية عن الواقدي قال حدثنا عبد الله بن أبي عبيدة عن أبيه قال: كان الوليد بن عثمان بن عفان يشرب مع الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وابن سيحان وكان يخمر فأصابه من ذلك شيء شديد حتى خيف عليه وشق النساء عليه الجيوب، فدعي له ابن سيحان، فلما رآه قال: اخرجن عني وعن أخي، فقال له: الصبوح أبا عبد الله، فجلس مفيقا؛ فذلك حين يقول ابن سيحان:
بأبي الوليد وأم نفسي كلـمـا بدت النجوم وذر قرن الشارق
أثوى فأكرم في الثواء وقضيت حاجاتنا من عند أروع باسـق
كم عنده من نائل وسـمـاحة وفضائل معـدودة وخـلائق
وسماحة للمعتفين إذا اعتفـوا في ماله حقا وقول صـادق
لا تبعـدن إداوة مـطـروحة كانت حديثا للشراب العاتـق كان من ندماء الوليد بن عثمان
صفحة : 188
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان الوليد بن عثمان يكنى أبا الجهم، وكان لابن سيحان صديقا ونديما، وكان صاحب شراب، فمرض فعاده الوليد وقال: ما تشتهي? قال: شرابا، فبعث فجاءه بشراب في إدواة. ثم ذكر باقي الخبر نحو الذي قبله.
<H6 قيل إنه خرج معه إلى الحجاز لجني تمره</H6 <H6 ولما عاد أعطاه إداوة وذكره بها فمدحه </H6 أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال: كان الوليد بن عثمان ذا غلة في الحجاز يخرج إليها في زمان التمر بنفر من قومه، يجنون له ويعاونونه، فكان إذا حضر خروجهم دفع إليهم نفقات لأهليهم إلى رجعتهم، فخرج بهم مرة كما كان يخرج وفيهم ابن سيحان، فأتى ابن سيحان كتاب من أهله يسألونه القدوم لحاجة لابد منها، فاستأذنه فأذن له، فقال له ابن سيحان: زودوني من شرابكم هذا، فزودوه إداوة ملأها له من شرابهم، فكان يشربها في طريقه حتى قدم على أهله، فألقاها في جانب بيته فارغة، فمكث زمانا لا يذكرها، ثم كنسوا البيت فرآها ملقاة في الكناسة فقال:
لا تبـعـدن إداوة مـطـروحة كانت حديثا للشراب العـاتـق
إن تصبحي لا شيء فيك فربمـا أترعت من كأس تلـذ لـذائق
بأبي الوليد وأم نفسي كـلـمـا بدت النجوم وذر قرن الشـارق
كم عنده من نـائل وسـمـاحة وشمـائل مـيمـونة وخـلائق
وكرامة للمعتفين إذا اعتـفـوا في ماله حقا وقـول صـادق
أثوى فأكرم في الثواء وقضـيت حاجاتنا من عند أروع بـاسـق
لما أتينـاه أتـينـا مـاجـد ال أخلاق سباقا لـقـرم سـابـق
قال الوليد يدي لكم رهن ربمـا حاولتم من صامت أو نـاطـق
فإلى الوليد اليوم حنت ناقـتـي تهوي بمغبر المتون سمـالـق
حنت إلى برق فقلت لها قـري بعض الحنين فإن شجوك شائقي حده مروان بالخمر ومنع منه معاوية
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عبد الله التميمي الأصبهاني المعروف بالحزنبل قال حدثني عمرو ابن أبي عمرو الشيباني عن أبيه وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال قال حماد بن إسحاق: قرأت على أبي، قالا جميعا: كان عبد الرحمن بن سيحان قد غاظ مروان بن الحكم أيام كان معاوية يعاقب بينه وبين سعيد بن العاص في ولاية الحرمين، وأنكر عليه أشياء بلغته فغاظته: من مدحه سعيدا وانقطاعه إليه وسروره بولايته، فرصده حتى وجده خارجا من دار الوليد بن عثمان وهو سكران فضربه الحد ثمانين سوطا. وقدم البريد من المدينة على معاوية فسأله عن أخبار الناس فجعل يخبره بها، حتى انتهى به الحديث إلى ابن سيحان فأخبره أن مروان ضربه الحد ثمانين؛ فغضب معاوية وقال: والله لو كان حليف أبي العاص لما ضربه ولكنه ضربه لأنه حليف حرب، أليس هو الذي يقول:
وإني آمرؤ حلف إلى أفضل الورى عديدا إذا ارفضت عصا المتخلف كذب والله مروان، لا يضربه في نبيذ أهل المدينة وشكهم وحمقهم؛ ثم قال لكاتبه: أكتب إلى مروان: فليبطل الحد عن ابن سيحان، وليخطب بذلك على المنبر، وليقل إنه كان ضربه على شبهة ثم بان له أنه لم يشرب مسكرا، وليعطه ألفي درهم. فلما ورد الكتاب على مروان عظم ذلك عليه، ودعا بابنه عبد الملك فقرأه عليه وشاوره فيه؛ فقال له عبد الملك: راجعه ولا تكذب نفسك، ولا تبطل حكمك؛ فقال مروان: أنا أعلم بمعاوية إذا عزم على شيء أو أراده، لا والله لا أراجعه. فلما كان يوم الجمعة وفرغ من الخطبة قال: وابن سيحان فإنا كشفنا أمره فإذا هو لم يشرب مسكرا، وإذا نحن قد عجلنا عليه؛ وقد أبطلت عنه الحد. ثم نزل فأرسل إليه بألفي درهم.
خبر الوليد ومروان أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية عن الواقدي قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال:
صفحة : 189
كان عبد الرحمن بن سيحان المحاربي شاعرا، وكان حلو الحديث، عنده أحاديث حسنة غريبة من أخبار العرب وأيامها وأشعارها، وكان على ذلك يصيب من الشراب، فكان كل من قدم من ولاة بني أمية وأحداثهم ممن يصيب الشراب يدعوه وينادمه، فلما ولي الوليد بن عتبة بن أبي سفيان وعزل مروان وجد مروان في نفسه وكان قد سبعه، فحقد عليه مروان واضطغنه، وكان الوليد يصيب من الشراب ويبعث إلى ابن سيحان فيشرب معه، وابن سليمان لا يطن أن مروان يفعل به الذي فعله، وقد كان مدحه ابن سليمان ووصله مروان، ولكن مروان أراد فضيحة الوليد، فرصده ليلة في المسجد، وكان ابن سيحان يخرج في السحر من عند الوليد ثملا فيمر في المقصورة من المسجد حتى يخرج في زقاق عاصم، وكان محمد بن عمرو يبيت في المسجد يصلي، وكذلك عبد الله بن حنظلة وغيرهما من القراء يبيتون في المسجد يتهجدون، فلما خرج ابن سيحان ثملا من دار الوليد أخذه مروان وأعوانه، ثم دعا له محمد بن عمرو وعبد الله بن حنظلة فأشهدهما على سكره وقد سأله أن يقرأ أم القرآن فلم يقرأها، فدفعه إلى صاحب شرطته فحبسه؛ فلما أصبح الوليد بلغه الخبر وشاع في المدينة وعلم أن مروان إنما أراد أن يفضحه، وأنه لو لقي ابن سيحان ثملا خارجا من عند غيره لم يعرض له، فقال الوليد: لا يبرئني من هذا عند أهل المدينة إلا ضرب ابن سيحان، فأمر صاحب شرطته فضربه الحد ثم أرسله.
مكث في بيته استحياء فحمله عبد الرحمن بن الحارث على الخروج إلى المسجد فجلس ابن سيحان في بيته لا يخرج حياء من الناس، فجاءه عبد الرحمن بن الحارث بن هشام في ولده وكان له جليسا فقال له: ما يجلسك في بيتك? قال: الاستحياء من الناس؛ قال: اخرج أيها الرجل، وكان عبد الرحمن قد حمل له معه كسوة، فقال له: البسها ورح معنا إلى المسجد فهذا أحرى أن يكذب به مكذب، ثم ترحل إلى أمير المؤمنين فتخبره بما صنع بك الوليد فإنه يصلك ويبطل هذا الحد عنك؛ فراح مع عبد الرحمن في جماعة ولده متوسطا لهم حتى دخل المسجد فصلى ركعتين، ثم تساند مع عبد الرحمن إلى الأسطوانة؛ فقائل يقول: لم يضرب، وقائل يقول: رحل إلى معاوية وشفع فيه يزيد فعفا عنه وكتب بذلك إلى الوليد أنا رأيته يضرب، وقائل يقول: عزر أسواطا. فمكث أياما ثم رحل إلى معاوية فدخل إلى يزيد فشرب معه، وكلم يزيد أباه معاوية في أمره فدعا به فأخبره بقصته وما صنعه به مروان، فقال: قبح الله الوليد ما أضعف عقله أما استحيا من ضربك فيما شرب وأما مروان فإني كنت لا أحسبه يبلغ هذا منك مع رأيك فيه ومودتك له، ولكنه أراد أن يضع الوليد عندي ولم يصب، وقد صير نفسه في حد كنا ننزهه عنه، صار شرطيا ثم قال لكاتبه: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله معاوية أمير المؤمنين إلى الوليد بن عتبة. أما بعد، فالعجيب لضربك ابن سيحان فيما تشرب منه، ما زدت على أن عرفت أهل المدينة ما كنت تشربه مما حرم عليك، فإذا جاءك كتابي هذا فأبطل الد عن ابن سيحان، وطف به في حلق المسجد وأخبرهم أن صاحب شرطك تعدى عليه وظلمه، وأن أمير المؤمنين قد أبطل ذلك عنه، أليس ابن سيحان الذي يقول:
وإني امرؤ أنمى إلى أفضل الورى عديدا إذا ارفضت عصا المتحلف
إلى نضد من عبد شمس كأنـهـم هضاب أجا أركانها لم تقـصـف
ميامين يرضون الكفاية إن كفـوا ويكفون ما ولوا بغير تـكـلـف
غطارفة ساسوا البلاد فأحسـنـوا سياستها حتى أقـرت لـمـردف
فمن يك منهم موسرا يفش فضلـه ومن يك منهم معسرا يتعـفـف
وإن تبسط النعمى لهم يبسطوا بهـا أكفا سباطا نفعها غير مـقـرف
وإن تزو عنهم لا يضجوا وتلفهـم قليلي التشكي عندها والتكـلـف
إذا انصرفوا للحق يوما تصرفـوا إذا الجاهل الحيران لم يتصـرف
سموا فعلوا فوق البرية كـلـهـا ببنيان عال من منيف ومـشـرف
صفحة : 190
قال: وكتب له بأن يعطى أربعمائة شاة وثلاثين لقحة مما يوطن السيالة وأعطاه هو خمسمائة دينار، وأعطاه يزيد مائتي دينار. ثم قدم بكتاب معاوية إلى الوليد، فطاف به في المسجد، وأبطل ذلك الحد عنه، وأعطاه ما كتب به له معاوية. وكتب معاوية إلى مروان يلومه فيما يفعله بابن سيحان، وما أراده بذلك. ودعا الوليد عبد الرحمن بن سيحان إلى أن يعود للشرب معه؛ فقال: والله لا ذقت معك شرابا ابدا.
<H6 ضربه مروان الحد فأبطله معاوية</H6 أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو مسلم الغفاري قال حدثني موسى بن عبد العزيز قال: أخذ ابن سيحان الجسري - هكذا قال وهو غلط - في شراب في إمارة مروان، وكان حليفا لأبي سفيان ابن حرب، فضربه مروان ثمانين سوطا على رؤوس الناس، فكتب إلى معاوية يشكوه، فكتب إليه معاوية: أما بعد فإنك أخذت حليف حرب فضربته ثمانين على رؤوس الناس، والله لتبطلنها عنه، أو لأقيدنه منك؛ فقال مروان لابنه عبد الملك: ماترى? قال: أرى والله ألا تفعل؛ قال: ويحك أنا أعلم بعزمات معاوية منك، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إنا كنا ضربنا ابن سيحان بشهادة رجل من الحرس ووجدناه غير عدل ولا رضا، فاشهدوا أني قد أبطلت ذلك الحد عنه.
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبد العزيز بن عمران قال: ضرب مروان عبد الرحمن بن سيحان في الخمر ثمانين سوطا، فكتب إليه معاوية: أما بعد، فإنك ضربت عبد الرحمن في نبيذ أهل الشأم الذي يستعملونه وليس بحرام، وإنما ضربته حيث كان حلفه إلى أبي سفيان بن حرب، وايم الله لو كان حليفا للحكم ما ضربته، فأبطل عنه الحد قبل أن أضرب من أخذ معه: أخاك عبد الرحمن بن الحكم؛ فأبطل مروان عنه الحد؛ فقال ابن سيحان في ذلك يذكر حلفه:
إني امرؤ عقدي إلى أفضل الورى عديدا إذا ارفضت عصا المتحلف وقال الطوسي: كان عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان يشرب مع ابن سيحان، فلما ضربه مروان الحد كتب إليه معاوية: والله لتبطلنه عنه أو لأبعثن إلى أخيك من يضرب ظهره بالسوط في السوق، أليس ابن سيحان الذي يقول:
سموت بحلفي للطوال من الـربـى ولم تلقني قنا لدى مبرك الـجـرب
إذا ما حليف الذل اقمـأ شـخـصـه ودب كما دب الحسير على نـقـب
وهصت الحصى لا أخنس الأنف قابعا إذا أنا راخى لي خناقي بنو حـرب كان مع سعيد بن عثمان حين قتله
وهرب عنه ثم رثاه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء وأحمد بن سليمان الطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب وغيره قالوا: قدم سعيد بن عثمان المدينة فقتله غلمان جاء بهم من الصغد، وكان معه عبد الرحمن بن أرطاة بن سيحان حليف بني حرب بن أمية، فهرب عنه لما قتلوه، فقال خالد بن عقبة بن أبي معيط يرثي سعيد بن عثمان - وعثمان أخوه لأمه -:
يا عين جودي بدمع منك تهتانـا وابكي سعيد بن عثمان بن عفانا
إن ابن زينة لم تصدق مودتـه وفر عنه ابن أرطاة بن سيحانا فقال ابن سيحان يعتذر من ذلك:
يقول رجال قد دعاك فلم تـجـب وذلك من تلقاء مـثـلـك رائع
فإن كان نادى دعوة فسمعـتـهـا فشلت يدي واستك مني المسامع
وإلا فكانت بالذي قـال بـاطـلا ودارت عليه الدائرات القـوارع
يلومونني أن كنت في الدار حاسرا وقد فر عنه خـالـد هـو دارع فقال بعض الشعراء يجيبه:
فإنك لم تسمـع ولـكـن رأيتـه بعينيك إذ مجراك في الدار واسع
وأسلمته للصغد تدمي كـلـومـه وفارقته والصوت في الدار شائع
وما كان فيها خالـد بـمـعـذر سواء عليه صم أو هو سـامـع
فلا زلتما في غل سوء بعـبـرة ودارت عليكم بالشمات القـوارع أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال: لما قتل سعيد بن عثمان بن عفان قالت أمه: أشتهي أن يرثيه شاعر كما في نفسي حتى أعطيه ما يحتكم؛ فقال ابن سيحان:
إن كنت باكـية فـتـى فابكي هبلت على سعيد:
صفحة : 191
فارقت أهـلـك بـغـتة وجلبت حتفك من بعـيد
أذري دموعك والـدمـا ء على الشهيد ابن الشهيد فقالت: هكذا كنت أشتهي أن يقال فيه، ووصلت ابن سيحان. وكانت تندبه بهذا الشعر.
وقال أبو عمرو في روايته التي ذكرتها عن عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال: جلس ابن سيحان وخالد بن عقبة بعد مقتل سعيد بن عثمان يتحدثان، فجرى ذكره فبكيا جميعا عليه، فقال ابن سيحان يرثيه:
ألا إن خير الناس إن كنت سائلا سعيد بن عثمان القتيل بلا ذحل
تداعت عليه عصبة فـارسـية فأضحى سعيد لا يمر ولا يحلي وقال خالد بن عقبة:
ألا إن خير الناس نفسـا ووالـدا سعيد بن عثمان قتيل الأعـاجـم
بكت عين من لم يبكه وسط يثرب مدى الدهر منه بالدموع السواجم
فإن تكن الأيام أردت صروفهـا سعيدا، فمن هذا عليها بسـالـم قال الحزنبل: أنشدني عمرو بن أبي عمرو عن أبيه لابن سيحان قال عمي وأنشدني السكري عن ابن حبيب والطوسي له: صوت
رحم الله صاحبي ابـنـي الـحـا رث إذ ينهـانـنـي أن أبـوحـا
بالـتـي تـيمـت فـؤادي وأن أذ ري دموعي على ردائي سفوحـا
في مغاني منـازل مـن حـبـيب باشرت بعـده قـطـارا وريحـا
ولقد قـلـت لـلـفـؤاد ولـكـن كان قدما إلى هـواه جـمـوحـا
قلت أقصر عن بعض حبك أروى إن بعض الحباب كان فضـوحـا
فعصاني، فلـيس يسـمـع قـولا من حمام على الأراك، جنـوحـا
أم يحيى تـقـبـل الـلـه يحـيى بقبول كـمـا تـقـبـل نـوحـا
أم يحيى لولا طلابك قـد سـحـت مع الوحش أو لبست المسـوحـا
ولـقـد قـلـت لا أحـدث سـرا سر أخرى ما دامت أمشي صحيحا الغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس. وفيه للغريض ثقيل أول عن الهشامي. وفيه لزريق رمل.
قال أبو عمرو: وابن سيحان الذي يقول:
ألا هل هاجك الأظعا ن إذ جاوزن مطلحا بنو مطيع وذمه لهم
والناس يروونه لعمر بن أبي ربيعة لغلبته على أهل الحجاز جميعا. وقال أبو عمرو في خبره: كان ابن سيحان يحدث قال: كنت آلف من قريش أهل بيتين سوى من كنت منقطعا إليه من بني أمية: بني عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وبني مطيع، فلما ضربني مروان الحد جئت فجلست إلى بني مطيع كما كنت أجلس، فلما رأوني عرفت الكراهة في وجوههم، والله ما أقبلوا بوجوههم علي بحديثم ولا وسعوا لي، فانصرفت ورحت إلى بني عبد الرحمن، فلما رأوني أقبلوا بوجوههم علي وحيوا ورحبوا وسهلوا ووسعوا ورفعوني إلى حيث لم أكن أجلس وأقبلوا علي بوجوههم يحدثونني، وقالوا: لعلك خشعت للذي لحقك، أما والله لقد علم الناس أنك مظلوم، وظلموا مروان في فعله، ورأوا أنه قد أساء وأخطأ في شأنك، وقالوا: ما ضرك ذلك ولا نقصك ولا زادك إلا خيرا، ولم يزالوا حتى بسطوني، فقلت أمدحهم وأذم بني مطيع:
لقد حرمت ود بني مـطـيع حرام الدهن للرجل الحـرام
وإن جنف الزمان مددت حبلا متينا من حبال بني هـشـام
رطيب عودهـم أبـدا وريق إذا ما اغبر عيدان الـلـئام ما وقع له مع إمرأته بسبب سكره
وقال أبو عمرو في خبره: كان عبد الرحم بن سيحان ينادم الوليد بن عثمان على الشراب فيبيت عنده خوفا من أن يظهر وهو سكران فيحد، فقالت له امرأته: قد صرت لا تبيت في منزلك وأظنك قد تزوجت، وإلا فما مبيتك عن أهلك فقال لها:
لا تعدميني نديما مـاجـدا أنـفـا لا قائلا قاذفا خلقا بـبـهـتـان
أغر راووقـه مـلآن صـافـية تنفي القذى عن جبين غير خزيان
سبيئة من قرى بيروت صـافـية عذراء أو سبئت من أرض بيسان
إنا لنشربها حتـى تـمـيل بـنـا كما تمايل وسنـان بـوسـنـان حثه ابن عمه على شرب الخمر
صفحة : 192
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال: كان ابن سيحان صاحب شراب، فدخل على ابن عم له يقال له الحارث بن سريع فوجده يشرب نبيذ زبيب، فجعل يعظه ويأمره بشرب الخمر، وقال له: يابن سريع، إن كنت تشربه على أن نبيذ الزبيب حلال فإنك أحمق، وإن كنت تشربه على أنه حرام تستغفر الله منه وتنوي التوبة فاشرب أجوده فإن الوزر واحد، ثم قال:
دع ابن سريع شرب ما مات مـرة وخذها سلافا حية مزة الطـعـم
تدعك على ملك ابن ساسان قـادرا إذا حرمت قراؤنا حلب الـكـرم
فشتان بين الحي والميت فاعـتـزم على مزة صفراء راووقها يهمي
فإن سريعا كان أوصى بحـبـهـا بنيه وعمي جاوز الله عن عمـي
ويا رب يوم قد شهدت بنـي أبـي عليها إلى أن غاب تالية النـجـم
حسوها صلاة العصر والشمس حية تدار عليهم بالصغير وبالضـخـم
فماتوا وعاشوا والمدامة بـينـهـم مشعشعة كالنجم توصف بالوهـم أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال: كان ابن سيحان حليف حرب بن أمية ينادم الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ويشرب معه الخمر، وهو القائل:
إصبح نديمك من صهباء صافـية حتى يروح كريما ناعم الـبـال
واشرب هديت أبا وهب مجاهرة واختل فإنك من قوم أولى خـال
أنت الجواد أبا وهب إذا جمـدت أيدي الرجال بما تحويه من مال
لولا رجاؤك قد شمرت مرتحـلا عنسا تعاقب تخـويدا بـإرقـال
لما تواصوا بقتلي قمت معتزمـا حتى حميت من الأعداء أوصالي
عم الوليد بمعروف عـشـيرتـه والأبعدون حظوا منه بإفضـال شعره في الوليد وقد حماه من أخواله
قال: وكان ابن سيحان قد ضرب رجلا من أخواله بالسيف فقطع يده ولم تقم عليه بينة، فتآمر به القوم ومنع منه ابن خال له منهم؛ وخاف الوليد بن عقبة أن يرجع إلى المدينة هاربا منهم وخوفا من جنايته عليهم فيفارقه وينقطع عنه، فدعاهم وأرضاهم وأعطاهم دية صاحبهم. فلم يزل عند الوليد حتى عزل وهو نديمه وصفيه. وهو القائل في الوليد - وفيه غناء -: صوت
بات الوليد يعاطيني مشعـشـعة حتى هويت صريعا بين أصحابي في الغناء: بات الكريم يعاطيني.
لا أستطيع نهوضا إن هممت به وما أنهنه من حسو وتشـراب
حتى إذا الصبح لاحت لي جوانبه وليت أسحب نحو الفوم أثوابـي
كأنني من حميا كأسـه جـمـل صحت قوائمه من بعد أوصاب ويروى:
كأنني من حميا كأسه ظلع الغناء ليحيى المكي - وروي: ضلع - خفيف ثقيل بالبنصر عن الهشامي وبذل: قالت بذل: وفيه لحن آخر ليحيى، ولم تذكر طريقته.
خبره مع سعيد بن العاص
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو فهيرة قال: دخل عبد الرحمن بن أرطاة على سعيد بن العاص وهو أمير المدينة؛ فقال له: ألست القائل:
إنا لنشربها حتى تميل بنا كما تمايل وسنان بوسنان فقال له عبد الرحمن: معاذ الله أن أشربها وأنعتها، ولكني الذي أقول:
سموت بحلفي للطـوال مـن الـذرى ولم تلقني كالنسر في ملتقـى جـدب
إذا ما حليف القوم أقعـى مـكـانـه ودب كما يمشي الحسير من النقـب
وهصت الحصى لا أرهب الضيم قائما إذا أنا راخى لي خناقي بنـو حـرب وقام يجر مطرفه بين الصفين حتى خرج. فأقبل عمرو بن سعيد على أبيه فقال: لو أمرت بهذا الكب فضرب مائتي سوط كان خيرا له؛ فقال: يا بني، أضربه وهو حليف حرب بن أمية ومعاوية خليفة بالشأم إذا لا يرضى فلما حج معاوية لقيه بمنى، فقال: إيه يا سعيد أمرك أحمقك بأن تضرب حليفي مائتي سوط أما والله لو جلدته سوطا لجلدتك سوطين فقال له سعيد: ولم ذاك? أو لم تجلد أنت حليفك عمر بن جبلة فقال له معاوية: هو لحمي آكله ولا أوكله. قال: وكان ابن سيحان قد قال:
صفحة : 193
لا يعدمني نديمي ماجدا أنـفـا لا قائلا خالطا زورا ببهـتـان
أمسي أعاطيه كأسا لذ مشربها كالمسك حفت بنسرين وريحان
سبيئة من قرى بيروت صافـية أو التي سبئت من أرض بيسان
إنا لنشربها حتى تمـيل بـنـا كما تمايل وسنان بـوسـنـان انقضت أخباره.
أحد الأصوات من المائة المختارة
من رواية علي بن يحيى
يا خليلي هجرا كي تروحـا هجتما للرواح قلبا قريحـا
إن تريغا لتعلما سر سعـدى تجداني بسر سعدى شحيحا
إن سعدى لمنية المتمـنـي جمعت عفة ووجها صبيحا
كلمتني وذاك ما نلت منهـا إن سعدى ترى الكلام ربيحا الشعر لابن ميادة. والغناء لحنين، ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أن فيه لدحمان لحنا من الثقيل الأول بالبنصر، وأظنه هذا، وأن عمرا غلط في نسبته إلى دحمان.
أخبار ابن ميادة ونسبه
نسبه
اسمه الرماح بن أبرد بن ثوبان بن سراقة بن حرملة، هكذا قال الزبير بن بكار في نسبه. وقال ابن الكلبي: ثوبان بن سراقة بن سلمى بن ظالم ويقال سراقة بن قيس بن سلمى بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر.
كان يزعم أن أمه فارسية وأمه ميادة أم ولد بربرية، وروي أنها كانت صقلبية. ويكنى أبا شرحبيل، وقيل بل يكنى أبا شراحيل.
وكان ابن ميادة يزعم أن أمه فارسية، وذكر ذلك في شعره فقال:
أنا ابن سلمى وجـدي ظـالـم وأمي حصان أخلصتها الأعاجم
أليس غلام بين كسرى وظالـم بأكرم من نيطت عليه التمـائم <H6 كذبه موسى بن سيار أن أمه فارسية</H6 أخبرني بذلك الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو مسلمة مرهوب بن سيد وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني موسى بن زهير الفزاري قال أخبرني موسى بن سيار بن نجيح المزني قال: أنشدني ابن ميادة أبياته التي يقول فيها:
أليس غلام بين كسرى وظالم بأكرم من نيطت عليه التمائم فقلت له: لقد أشحطت بدار العجوز وأبعدت بها النجعة، فهلا غربت يريد أنها صقلبية ومحلها بناحية المغرب فقال: إي بأبي أنت، إنه من جاع انتجع، فدعها تسر في الناس فإنه من يسمع يخل . قال الزبير قال ابن مسلمة: ولما قال ابن ميادة هذه الأبيات قال الحكم الخضري يرد عليه: <H6 رد عليه الحكم الخضري فخره بأمه وهجاه</H6
وما لك فيهم من أب ذي دسيعة ولا ولدتك المحصنات الكـرائم
وما أنت إلا عبدهم إن تربـهـم من الدهر يوما تستربك المقاسم
رمى نهبل في فرج أمك رمية بحوقاء تسقيها العروق الثواجم قال أبو مسلمة: ونهبل عبد لبني مرة كانت ميادة تزوجته بعد سيدها، وكانت صقلبية. وابن ميادة شاعر فصيح مقدم مخضرم من شعراء الدولتين. وجعله ابن سلام في الطبقة السابعة، وقرن به عمر بن لجأ والعجيف العقيلي والعجير السلولي.
<H6 كان يتعرض للمهاجاة ويقول لأمه اصبري</H6 <H6 على الهجو </H6 أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا الحسن بن الحسين السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: كان ابن ميادة عريضا للشر، طالبا مهاجاة الشعراء ومسابة الناس. وكان يضرب بيده على جنب أمه ويقول:
اعرنزمي مياد للقوافي أي إني سأهجو الناس فيهجونك.
وأخبرنا يحيى بن علي عن أبي هفان بهذه الحكاية مثله، وزاد فيها:
اعرنزمي مياد للقوافي واستسمعيهن ولاتخافي
ستجدين ابنك ذا قذاف <H6 استنشد امرأة أمام أمه ما هجيت به</H6
صفحة : 194
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا داود بن علفة الأسدي قال: جاورة امرأة من الخضر: رهط الحكم الخضري أبيات ابن ميادة، فجاءت ذات يوم تطلب رحى وثفالا لتطحن، فأعاروها إياهما فقال لها ابن ميادة: يا أخت الخضر، أتروين شيئا مما قاله الحكم الخضري لنا، يريد بذلك أن تسمع أمه، فجعلت تأبى، فلم يزل حتى أنشدته:
أمياد قد أفسدت سيف ابن ظالم ببظرك حتى عاد أثلم بـالـيا قال: وميادة جالسة تسمع. فضحك الرماح، وثارت ميادة إليها بالعمود تضربها به وتقول: أي زانية هيا زانية أإياي تعنين وقام ابن ميادة يخلصها، فبعد لأي ما أنقذها، وقد انتزعت منها الرحى والثفال.
<H6 إنشاده شماطيط هجاء أمه</H6 أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو حرملة منظور بن أبي عدي الفزاري قال حدثني شماطيط - وهو الذي يقول:
أنا شماطيط الذي حدثت به متى أنبه للغداء أنتـبـه
حتى يقال شره ولست به - قال: كنت جالسا مع ابن ميادة فوردت عليه أبيات للحكم الخضري يقول فيها:
أأنت ابن أشبانية أدلجت بـه إلى اللؤم مقلات لئيم جنينها - أشبانية: صقلبية - قال: وأمه ميادة تسمع فضرب جنبها وقال:
اعرنزمي مياد للقوافي فقالت: هذه جنايتك يابن من خبث وشر، وأهوت إلى عصا تريد ضربه بها؛ ففر منها وهو يقول:
يا صدقها ولم تكن صدوقا فصحت به: أيهما المعني? فقال: أضرعهما خدين وألأمهما جدين؛ فضربت جنبها الآخر وقلت: فهي إذا ميادة، وخرجت أعدو في أثر الرماح، وتبعتنا ترمينا بالحجارة وتفتري علينا حتى فتناها.
أمه ميادة وقصة تزوجها أبرد أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو داود الفزاري: أن ميادة كانت أمة لرجل من كلب زوجة لعبد له يقال له نهبل، فاشتراها بنو ثوبان بن سراقة فأقبلوا بها من الشأم، فلما قدموا وصبحوا بها المليحة وهي ماءة لبني سلمى ورحل بن ظالم بن جذيمة نظر رجل من بني سلمى إليها وهي ناعسة تمايل على بعيرها، فقال: ما هذه? قالوا: اشتراها بنو ثوبان؛ فقال: وأبيكم إنها لميادة تميد وتميل على بعيرها، فغلب عليها ميادة . وكان أبرد ضلة من الضلل ورثة من الرثث جلفا لا تخلص إحدى يديه من الأخرى، يرعى على إخوته وأهله، وكانت إخوته كلهم ظرفاء غيره. فأرسلوا ميادة ترعى الإبل معه فوقع عليها، فلم يشعروا بها إلا قد أقعسها بطنها، فقالوا لها: لمن ما في بطنك. قالت: لأبرد، وسألوه فجعل يسكت ولا يجيبهم، حتى رمت بالرماح فرأوا غلاما فدغما نجيبا، فأقر به أبرد. وقالت بنو سلمى: ويلكم يا بني ثوبان ابتطنوه فلعله ينجب؛ فقالوا: والله ما له غير ميادة، فبنوا لها بيتا وأقعدوها فيه، فجاءت بعد الرماح بثوبان وخليل وبشير بني أبرد، وكانت أول نسائه وآخرهن، وكانت امرأة صدق، ما رميت بشيء ولا سبت إلا بنهبل. قال عبد الرحمن بن جهيم الأسدي في هجائه ابن ميادة:
لعمري لئن شابت حليلة نهبل لبئس شباب المرء كان شبابها
ولم تدر حمراء العجان أنهبل أبوه أم المري تب تبابـهـا هجا بني مازن فرد عليه رجل منهم قال أبو داود: وكان ابن ميادة هجا بني مازن وفزارة بن ذبيان، وذلك أنهم ظلموا بني الصارد - والصارد من مرة - فأخذوا مالهم وغلبوهم عليه حتى الساعة؛ فقال ابن ميادة:
فلأوردن على جماعة مـازن خيلا مقلصة الحصى ورجالا
ظلوا بذي أرك كأن رءوسهم شجر تخطاه الربيع فـحـالا فقال رجل من بني مازن يرد عليه:
يابن الخبيثة يابن طلة نهـبـل هلا جمعت كما زعمت رجالا
أببظر ميدة أم بخصيي نهـبـل أم بالفساة تنـازل الأبـطـالا
ولئن وردت على جماعة مازن تبغي القتال لتلـقـين قـتـالا قال: وبنو مرة يسمون الفساة لكثرة امتيارهم التمر، وكانت منازلهم بين فدك وخيبر فلقبوا بذلك لأكلهم التمر. وقال يحيى بن علي في خبره - ولم يذكره عن أحد -: وقال ابن ميادة يفتخر بأمه: شعره في الفخر بنسبه
أنا ابن ميادة تهوي نجبـي صلت الجبين حسن مركبي
صفحة : 195
ترفعني أمي وينمينـي أبـي فوق السحاب ودوين الكوكب قال يحيى بن علي في خبره عن حماد عن أبيه عن أبي داود الفزاري: إن ابن ميادة قال يفخر بنسب أبيه في العرب ونسب أمه في العجم:
أليس غلام بين كسرى وظالم بأكرم من نيطت عليه التمائم
لو أن جميع الناس كانوا بتلعة وجئت بجدي ظالم وابن ظالم
لظلت رقاب الناس خاضعة لنا سجودا على أقدامنا بالجماجم سمع الفرزدق شيئا من شعره فانتحله
فأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: كان ابن ميادة واقفا في الموسم ينشد:
لو أن جميع الناس كانوا بتلعة وذكر تمام البيت والذي بعده. قال: والفرزدق واقف عليه في جماعة وهو متلثم، فلما سمع هذين البيتين أقبل عليه ثم قال: أنت يابن أبرد صاحب هذه الصفة كذبت والله وكذب من سمع ذلك منك فلم يكذبك؛ فأقبل عليه فقال: فمه يا أبا فراس؛ فقال: أنا والله أولى بهما منك، ثم أقبل على روايته فقال: اضممهما إليك:
لو أن جميع الناس كانوا بتلعة وجئت بجدي دارم وابن دارم
لظلت رقاب الناس خاضعة لنا سجودا على أقدامنا بالجماجم قال: فأطرق ابن ميادة فما أجابه بحرف، ومضى الفرزدق فانتحلهما.
كان له أخوان شاعران
وقد أتاهم الشعر من قبل جدهم زهير
أم بني ثوبان - وهو أبرد أبو ابن ميادة والعوثبان وقريض وناعضة، وكان العوثبان وقريض شاعرين - أمهم جميعا سلمى بنت كعب بن زهير بن أبي سلمى.
مهاجاته لعقبة بن كعب بن زهير ويقال: إن الشعر أتى ابن ميادة عن أعمامه من قبل جدهم زهير. قال إسحاق في خبره هذا: وحدثني حميد بن الحارث أن عقبة بن كعب بن زهير نزل المليحة على بني سلمى بن ظالم فأكلوا له بعيرا، وبلغ ابن ميادة أن عقبة قال في ذلك شعرا، فقال ابن ميادة يرد عليه:
ولقد حلفت برب مكة صادقا لولا قرابة نسوة بالحاجـر
لكسوت عقبة كسوة مشهورة ترد المناهل من كلام عائر وهي قصيدة؛ فقال له عقبة:
ألوما أنني أصبحـت خـالا وذكر الخال ينقص أو يزيد
لقد قلدت من سلمى رجالا عليهم مسحة وهم العبـيد فقال ابن ميادة:
أن تك خالنا فقبحت خـالا فأنت الخال تنقص لا تزيد
فيوما في مزينة أنت حـر ويوما أنت محتدك العبـيد
أحق الناس أن يلقى هوانا ويؤكل ماله العبد الطريد أوصاف ابن ميادة
قال إسحاق فحدثني عجرمة قال: كان ابن ميادة أحمر سبطا عظيم الخلق طويل اللحية، وكان لباسا عطرا، ما دنوت من رجل كان أطيب عرفا منه.
مقارنة بينه وبين النابغة
قال إسحاق: وحدثني أبو داود قال: سمعت شيخا عالما من غطفان يقول: كان الرماح أشعر غطفان في الجاهلية والإسلام، وكان خيرا لقومه من النابغة، لم يمدح غير قريش وقيس، وكان النابغة إنما يهذي باليمن مضللا حتى مات.
هو كثير السقط في شعره
قال إسحاق: وحدثني أبو داود أن بني ذبيان تزعم أن الرماح بن ميادة كان آخر الشعراء. قال إسحاق: وحدثني أبو صالح الفزاري أن القاسم بن جندب الفزاري، وكان عالما، قال لابن ميادة: والله لو أصلحت شعرك لذكرت به، فإني لأراه كثير السقط؛ فقال له ابن ميادة: يابن جندب، إنما الشعر كنبل في جفيرك ترمى به الغرض، فطالع وواقع وعاصد وقاصد.
كان زمن هشام وبقي إلى خلافة المنصور
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال: كان ابن ميادة حديث العهد لم يدرك زمان قتيبة بن مسلم، ولا دخل فيمن عناه حين قال: أشعر قيس الملقبون من بني عامر والمنسوبون إلى أمهاتهم من غطفان ، ولكنه شاعر مجيد كان في أيام هشام بن عبد الملك وبقي إلى زمن المنصور.
مدح بني أمية وبني هاشم
أخبرنا يحيى بن علي قال: كان ابن ميادة فصيحا يحتج بشعره، وقد مدح بني أمية وبني هاشم: مدح من بني أمية الوليد بن يزيد وعبد الواحد بن سليمان، ومدح من بني هاشم المنصور وجعفر بن سليمان.
علم أنه شاعر حين وافق الحطيئة
صفحة : 196
في بيت قاله
وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال أخبرني طماح ابن أخي الرماح ابن ميادة قال: قال لي عمي الرماح: ما علمت أني شاعر حتى واطأت الحطيئة، فإنه قال:
عفا مسحلان من سليمى فحامره تمشى به ظلمـانـه وجـآذره فوالله ما سمعته ولا رويته فواطأته بطبعي فقلت:
فذو العش والممدور أصبح قاويا تمشى به ظلمـانـه وجـآذره فلما أنشدتها قيل لي: قد قال الحطيئة:
تمشى به ظلمانه وجآذره فعلمت أني شاعر حينئذ.
كان ينسب بأم جحدر وشعره فيها
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني موسى بن زهير بن مضرس قال: كان الرماح بن أبرد المعروف بابن ميادة ينسب بأم جحدر بنت حسان المرية إحدى نساء بني جذيمة، فحلف أبوها ليخرجنها إلى رجل من غير عشيرته ولا يزوجها بنجد؛ فقدم عليه رجل من الشأم فزوجه إياها؛ فلقي عليها ابن ميادة شدة، فرأيته وما لقي عليها، فأتاها نساؤها ينظرن إليها عند خروج الشأمي بها. قال: فوالله ما ذكرن منها جمالا بارعا ولا حسنا مشهورا، ولكنها كانت أكسب الناس لعجب. فلما خرج بها زوجها إلى بلاده اندفع ابن ميادة يقول:
ألا ليت شعري هل إلى أم جحدر سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا
إذا نزلت بصرى تراخى مزارها وأغلق بوابان من دونها قصـرا
فهل تأتيني الريح تدرج موهـنـا برياك تعروري بها جرعا عفرا قال الزبير: وزادني عمي مصعب فيها:
فلو كان نذر مدنـيا أم جـحـدر إلي لقد أوجبت في عنقي نـذرا
ألا لا تلطي الستر يا أم جحـدر كفى بذرا الأعلام من دوننا سترا
لعمري لئن أمسيت يا أم جحـدر نأيت لقد أبليت في طلب عـذرا
فبهرا لقومي إذ يبيعون مهجتـي بغانية بهرا لهم بعدهـا بـهـرا قال الزبير: بهرا ها هنا: يدعو عليهم أن ينزل بهم من الأمور ما يبهرهم، كما تقول: جدعا وعقرا. وفي أول هذه القصيدة - على ما رواه يحيى بن علي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن حميد بن الحارث - يقول:
ألا لا تعدلي لوعة مثل لوعـتـي عليك بأدمى والهوى يرجع الذكرا
عشية ألوي بالرداء على الحـشـا كأن ردائي مشعل دونه جـمـرا زاوج أم جحدر وما قاله في ذلك قال حميد بن الحارث: وأم جحدر امرأة من بني رحل بن ظالم بن جذيمة بن يربوع بن غيظ بن مرة.
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير عن موهوب بن رشيد عن جبر بن رباط النعامي: أن أم جحدر كانت امرأة من بني مرة ثم من بني رحل، وأن أباها بلغه مصير ابن ميادة إليها، فحلف ليزوجنها رجلا من غير ذلك البلد، فزوجها رجلا من أهل الشأم فاهتداها وخرج بها إلى الشأم، فتبعها ابن ميادة، حتى أدركه أهل بيته فردوه مصمتا لا يتكلم من الوجد بها؛ فقال قصيدة أولها:
خليلي من أبنـاء عـذرة بـلـغـا رسائل منا لا تـزيدكـمـا وقـرا
ألما على تيماء نـسـأل يهـودهـا فإن لدى تيماء من ركبهـا خـبـرا
وبالغمر قد جازت وجاز مطـيهـا عليه فسل عن ذاك نيان فالغـمـرا
ويا ليت شعري هل يحلن أهـلـهـا وأهلك روضات ببطن اللوى خضرا قصة عشقه لها
صفحة : 197
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني أبو سعيد يعني عبد الله بن شبيب قال حدثني أبو العالية الحسن بن مالك وأخبرني به الأخفش عن ثعلب عن عبد الله بن شبيب عن أبي العالية الحسن بن مالك الرياحي العذري قال حدثني عمر بن وهب العبسي قال حدثني زياد بن عثمان الغطفاني من بني عبد الله بن غطفان قال: كنا بباب بعض ولاة المدينة فغرضنا من طول الثواء، فإذا أعرابي يقول: يا معشر العرب، أما منكم رجل يأتيني أعلله إذ غرضنا من هذا المكان فأخبره عن أم جحدر وعني? فجئت إليه فقلت: من أنت? فقال: أنا الرماح بن أبرد، قلت: فأخبرني ببدء أمركما؛ قال: كانت أم جحدر من عشيرتي فأعجبتني، وكانت بيني وبينها خلة، ثم إني عتبت عليها في شيء بلغني عنها، فأتيتها فقلت: يا أم جحدر إن الوصل عليك مردود؛ فقالت: ما قضى الله فهو خير. فلبثت على تلك الحال سنة، وذهبت بهم نجعة فتباعدوا، واشتقت إليها شوقا شديدا، فقلت لامرأة أخ لي: والله لئن دنت دارنا من أم جحدر لآتينها ولأطلبن إليها أن ترد الوصل بيني وبينها، ولئن ردته لا نقضته أبدا، ولم يكن يومان حتى رجعوا، فلما أصبحت غدوت عليهم فإذا أنا ببيتين نازلين إلى سند أبرق طويل، وإذا امرأتان جالستان في كساء واحد بين البيتين، فجئت فسلمت، فردت إحداهما ولم ترد الأخرى، فقالت: ما جاء بك يا رماح إلينا? ما كنا حسبنا إلا أنه قد انقطع ما بيننا وبينك؛ فقلت: إني جعلت علي نذرا لئن دنت بأم جحدر دار لآتينها ولأطلبن منها أن ترد الوصل بيني وبينها، ولئن هي فعلت لا نقضته أبدا وإذا التي تكلمني امرأة أخيها وإذا الساكتة أم جحدر؛ فقالت امرأة أخيها: فادخل مقدم البيت فدخلت، وجاءت فدخلت من مؤخره فدنت قليلا، ثم إذا هي قد برزت، فساعة برزت جاء غراب فنعب على رأس الأبرق فنظرت إليه وشهقت وتغير وجهها؛ فقلت: ما شأنك? قالت: لا شيء، قلت: بالله إلا أخبرتني؛ قالت: أرى هذا الغراب يخبرني أنا لا نجتمع بعد هذا اليوم إلا ببلد غير هذا البلد، فتقبضت نفسي، ثم قلت: جارية والله ما هي في بيت عيافة ولا قيافة، فأقمت عندها، ثم تروحت إلى أهلي فمكنت عندهم يومين، ثم أصبحت غاديا إليها، فقالت لي امرأة أخيها: ويحك يا رماح أين تذهب? فقلت: إليكم؛ فقالت: وما تريد? قد والله زوجت أم جحدر البارحة، فقلت: بمن ويحك? قالت: برجل من أهل الشأم من أهل بيتها، جاءهم من الشأم فخطبها فزوجها وقد حملت إليه، فمضيت إليهم فإذا هو قد ضرب سرادقات، فجلست إليه فأنشدته وحدثته وعدت إليه أياما، ثم إنه احتملها فذهب بها فقلت:
أجارتنا إن الخطـوب تـنـوب علينا وبعض الآمنين تـصـيب
أجارتنا لست الـغـداة بـبـارح ولكن مقيم ما أقـام عـسـيب
فإن تسأليني هل صبرت فإننـي صبور على ريب الزمان صليب قال علي بن الحسين: هذه الأبيات الثلاثة أغار عليها ابن ميادة فأخذها بأعيانها، أما البيتان الأولان فهما لامرىء القيس قالهما لما احتضر بأنقرة في بيت واحد وهو:
أجارتنا إن الخطوب تنوب وإني مقيم ما أقام عسيب والبيت الثالث لشاعر من شعراء الجاهلية، وتمثل به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في رسالة كتب بها إلى أخيه عقيل بن أبي طالب، فنقله ابن ميادة نقلا. ونرجع إلى باقي شعر ابن ميادة:
جرى بانبتات الحبل من أم جحدر ظباء وطير بالفراق نـعـوب
نظرت فلم أعتف وعافت فبينت لها الطير قبلي واللبيب لبـيب
فقالت حرام أن نرى بعد هـذه جميعـين إلا أن يلـم غـريب
أجارتنا صبرا فيا رب هـالـك تقطع من وجد عليه قـلـوب رحل إلى الشأم لرؤيتها فردته
صفحة : 198
قال: ثم انحدرت في طلبها، وطمعت في كلمتها: إلا أن نجتمع في بلد غير هذا البلد . قال: فجئت فدرت الشأم زمانا فتلقاني زوجها فقال: مالك لا تغسل ثيابك هذه أرسل بها إلى الدار تغسل، فأرسلت بها؛ ثم إني وقفت أنتظر خروج الجارية بالثياب، فقالت أم جحدر لجاريتها: إذا جاء فاعلميني؛ فلما جئت إذا أم جحدر وراء الباب فقالت: ويحك يا رماح قد كنت أحسب أن لك عقلا أما ترى أمرا قد حيل دونه وطابت أنفسنا عنه? انصرف إلى عشيرتك فإني أستحي لك من هذا المقام؛ فانصرفت وأنا أقول: صوت
عسى إن حججنا أن نرى أم جحدر ويجمعنا من نخلـتـين طـريق
وتصطك أعضاد المطي وبينـنـا حديث مسـر دون كـل رفـيق في هذين البيتين لحن من الثقيل الثاني ذكر الهشامي أنه للحجبي شعره فيها وقال حين خرج إلى الشأم - هذه رواية ابن شبيب -:
ألا حييا رسما بذي العش مقـفـرا وربعا بذي الممدور مستعجما قفرا
فأعجب دار دارهـا غـير أنـنـي إذا ما أتيت الدار ترجعني صفـرا
عشية أثني بالرداء على الحـشـى كأن الحشى من دون أشعرت جمرا
يميل بنا شحط النوى ثم نلـتـقـي عداد الثريا صادفـت لـيلة بـدرا
وبالغمر قد جازت وجاز مطـيهـا فأسقى الغوادي بطن نيان فالغمـرا
خليلي من غيظ بن مـرة بـلـغـا رسائل مني لا تزيدكـمـا وقـرا
ألا ليت شعري هل إلى أم جحـدر سبيل، فأما الصبر عنها فلا صبرا
فإن يك نذر راجـعـا أم جـحـدر علي لقد أوذمت في عنقـي نـذرا
وإني لاستنشي الحديث من أجلـهـا لأسمع منها وهي نـازحة ذكـرا
وإني لأستحيى مـن الـلـه أن أرى إذا غدر الخلان أنوي لهـا غـدرا أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال أنشدني أبو داود لابن ميادة وهو يضحك منذ أنشدني إلى أن سكت:
ألم تـر أن الـصـاردية جـاورت ليالي بالمـمـدور غـير كـثـير
ثلاثا فلـمـا أن أصـابـت فـؤاده بسهمين من كحل دعت بهـجـير
بأصهب يرمي للـزمـام بـرأسـه كأن على ذفراه نـضـخ عـبـير
جلت إذ جلت عن أهل نجد حمـيدة جلاء غـنـى لا جـلاء فـقـير
وقالت وما زادت على أن تبسمـت عذيرك مـن ذي شـيبة وعـذيري
عدمت الهوى ما يبرح الدهر مقصدا لقلبي بسهم فـي الـيدين طـرير
وقد كان قلبي مات للـوجـد مـوتة فقد هم قلبي بعـدهـا بـنـشـور قال: فقلت: وما أضحكك? فقال: كذب ابن ميادة، والله ما جلت إلا على حمار وهو يذكر بعيرا ويصفه وأنها جلت جلاء غنى لا جلاء فقير، فأنطقه الشيطان بهذا كله كما سمعت.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني موسى بن زهير قال: مكثت أم جحدر عند زوجها زمانا ثم مات زوجها عنها ومات ولدها منه، فقدمت نجدا على إخوتها وقد مات أبوها .
آخر عهده بها
صفحة : 199
أخبرني سيار بن نجيح المزني قال: لقيت ابن ميادة وهو يبكي فقلت له: ويحك مالك? قال: أخرجتني أم جحدر وآلت يمينا ألا تكلمني، فانطلق فاشفع لي عندها؛ فخرجت حتى غشيت رواق بيتها فوجدتها وهي تدمك جريرا لها بين الصلاية والمدق تريد أن تخطم به بعيرا تحج عليه؛ فقالت: إن كنت جئت شفيعا لابن ميادة فبيتي حرام عليك أن تلقي فيه قدمك. قال: فحجت، ولا والله ما كلمته ولا رآها ولا رأته. قال موسى قال سيار: فقلت له: اذكر لي يوما ما رأيته منها؛ فقال لي: أما والله لأخبرنك يا سيار بذلك: بعثت إليها عجوزا منهم فقلت: هل ترين من رجال? فقالت: لا والله، ما رأيت من رجل؛ فألقيت رحلي على ناقتي ثم أرسلتها حتى أنختها بين أطناب بيتهم؛ ثم جعلت أقيد الناقة، فما كان إلا ذاك حتى دخلت وقد ألقت لي فراشا مرقوما مطموما، وطرحت لي وسادتين على عجز الفراش وأخريين على مقدمه؛ قال: ثم تحدثنا ساعة وكأنما تلعقني بحديثها الرب من حلاوته، ثم إذا هي تصب في عس مخصوب بالحناء والزعفران من ألبان اللقاح، فأخذت منها ذلك العس وكأنه قناة فراوحته بين يدي، ما ألقمته فمي ولا دريت أنه معي حتى قالت لي عجوز: ألا تصلي يابن ميادة لا صلى الله عليك فقد أظلك صدر النهار ولا أحسب إلا أنني في أول البكرة؛ قال: فكان ذلك اليوم آخر يوم كلمتها فيه حتى زوجها أبوها، وهو أظرف ما كان بيني وبينها.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني حكم بن طلحة الفزاري ثم المنظوري قال: قال ابن ميادة: إني لأعلم أقصر يوم مر بي من الدهر، قيل له: وأي يوم هو يا أبا الشرحبيل? قال: يوم جئت فيه أم جحدر باكرا فجلست بفناء بيتها فدعت لي بعس من لبن فأتيت به وهي تحدثني، فوضعته على يدي وكرهت أن أقطع حديثها إن شربت، فما زال القدح على راحتي وأنا أنظر إليها حتى فاتتني صلاة الظهر وما شربت.
قال الزبير: وحدثني أبو مسلمة موهوب بن رشيد بمثل هذا، وزاد في خبره: وقال ابن ميادة فيها أيضا:
ألم تـر أن الـصـاردية جـاورت ليالي بالمـمـدور غـير كـثـير
ثلاثا فلـمـا أن أصـابـت فـؤاده بسهمين من كحل دعت بهـجـير
بأحمر ذيال الـعـسـيب مـفـرج كأن على ذفراه نـضـخ عـبـير
حلفت برب الراقصات إلى مـنـى زفيف القطا يقطعن بطن هـبـير
لقد كان حب الصاردية بـعـدمـا علا في سواد الرأس نبـذ قـتـير
يكون سفاهـا أو يكـون ضـمـانة على ما مضى من نعمة وعصور
عدمت الهوى لا يبرح الدهر مقصدا لقلبي بسهم في الـفـؤاد طـرير
وقد كان قلبي مات للحـب مـوتة فقد هم قلبي بعـدهـا بـنـشـور
جلت إذ جلت عن أهل نجد حمـيدة جلاء غـنـى لا جـلاء فـقـير ومما يغنى فيه من أشعار ابن ميادة في النسيب بأم جحدر قوله : صوت
ألا يا لقومي للهوى والتذكـر وعين قذى إنسانها أم جحدر
فلم تر عيني مثل قلبي لم يطر ولا كضلوع فوقه لم تكسـر الغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى.
سيار يروي خبر جاريته
أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا حكيم بن طلحة الفزاري عن رجل من كلب قال: جنيت جناية فغرمت فيها، فنهضت إلى أخوالي بني مرة فاستعنتهم فأعانوني، فأتيت سيار بن نجيح أحد بني سلمى بن ظالم فأعانني، ثم قال: انهض بنا إلى الرماح بن أبرد - يعني ابن ميادة - حتى يعينك، فدفعنا إلى بيتين له، فسألنا عنه فقيل: ذهب أمس؛ فقال سيار: ذهب إلى أمة لبني سهيل، فخرجنا في طلبه فوقعنا عليه في قرارة بيضاء بين حرتين، وفي القرارة غنم من الضأن سود وبيض، وإذا حمار مقيد مع الغنم وإذا به معها، فجلسنا فإذا شابة حلوة صفراء في دراعة مورسة، فسلمنا وجلسنا؛ فقال: أنشديهم مما قلت فيك شيئا؛ فأنشدتنا:
يمنونني منك الـلـقـاء وإنـنـي لأعلم لا ألقاك مـن دون قـابـل
إلى ذاك ما حارت أمورك وانجلت غياية حبيك انجلاء الـمـخـايل
إذا حل أهلي بالجناب وأهـلـهـا بحيث التقى الغلان من ذي أرائل
صفحة : 200
أقل خلة بانت وأدبـر وصـلـهـا تقطع منها بـاقـيات الـحـبـائل
وحالت شهور الصيف بين وبينـهـا ورفع الأعادي كل حق وبـاطـل
أقول لعـذالـي لـمـا تـقـابـلا علي بلوم مثل طعن الـمـعـابـل
لا تكثرا عنها الـسـؤال فـإنـهـا مصلصلة من بعض تلك الصلاصل
من الصفر لا ورهاء سمج دلالهـا وليست من السود القصار الحـوائل
ولكنها ريحانة طـاب نـشـرهـا وردت عليها بالضحى والأصـائل ثم قال لها: قومي فاطرحي عنك دراعتك، فقالت: لا حتى يقول ليس سيار بن نجيح ذلك، فأبى سيار؛ فقال له ابن ميادة: لئن لم تفعل لافضيت حاجتكما، فقال لها فقامت فطرحتها، فما رأيت أحلى منها. فقال له سيار : فما لك يا أبا الشرحبيل لا تشتريها? فقال: إذا يفسد حبها.
ابن ميادة وصخر بن الجعد الخضري
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثتني مغيرة بنت أبي عدي بن عبد الجبار بن منظور بن زبان ابن سيار الفزارية قالت أخبرني أبي قال: جمعني وابن ميادة وصخر بن الجعد الخضري، مجلس، فأنشدنا ابن ميادة قوله:
يمنونني منك اللقاء وإنـنـي لأعلم لا ألقاك من دون قابل فأقبل عليه صخر فقال له: المحب المكب يرجو الفائت ويغم الطير، وأراك حسن العزاء يا أبا الشرحبيل؛ فأعرض عنه ابن ميادة. قال أبو عدي فقلت:
صادف درء السيل سيلا يردعه بهضـبة تـرده وتـدفـعـه - ويروي: درء السيل سيل - فقال لي: يا أبا عدي، والله لا أتلطخ بالخضر مرتين وقد قال أخو عذرة:
هو العبد أقصى همه أن تـسـبـه وكان سباب الحر أقصى مدى العبد قال الزبير: قوله يغم الطير يقول: إذا رأى طيرا لم يزجرها مخافة أن يقع ما يكره.
قال: فلم يحر إليه صخر بن الجعد جوابا. يعني بقوله: لا أتلطخ بالخضر مرتين مهاجاته الحكم الخضري، وكانا تهاجيا زمانا ثم كف ابن ميادة وسأله الصلح فصالحه الحكم.
ابن ميادة والحكم الخضري أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو مسلمة موهوب بن رشيد عن عبد الرحمن بن الأحول التغلبي ثم الخولاني قال: كان أول ما بدأ الهجاء بين ابن ميادة وحكم بن معمر الخضري أن ابن ميادة مر بالحكم بن معمر وهو ينشد في مصلى النبي صلى الله عليه وسلم في جماعة من الناس قوله:
لمن الديار كأنها لم تعـمـر بين الكناس وبين برق محجر حتى انتهى إلى قوله:
يا صاحبي ألم تشـيمـا بـارقـا نضح الصراد به فهضب المنحر
قد بت أرقبه وبات مـصـعـدا نهض المقيد في الدهاس الموقر فقال له ابن ميادة: ارفع إلي راسك أيها المنشد، فرفع حكم إليه رأسه؛ فقال له: من أنت? قال: أنا حكم بن معمر الخضري؛ قال: فوالله ما أنت في بيت حسب، ولا في أرومة شعر؛ فقال له حكم: وماذا عبت من شعري? قال: عبت أنك أدهست وأوقرت؛ قال له حكم: ومن أنت? قال أنا ابن ميادة، قال: ويحك فلم رغبت عن أبيك وانتسبت إلى أمك? قبح الله والدين خيرهما ميادة، أما والله لو وجدت في أبيك خيرا ما انتسبت إلى أمك راعية الضأن. وأما إدهاسي وإبقاري فإني لم آت خيبر إلا ممتارا لا متحاملا، وما عدوت أن حكيت حالك وحال قومك، فلو كنت سكت عن هذا لكان خيرا لك وأبقى عليك. فلم يفترقا إلا عن هجاء.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال حدثني عمير بن ضمرة الخضري قال: أول ما هاج الهجاء بين ابن ميادة وبين حكم بن معمر بن قنبر بن جحاش بن سلمة بن ثعلبة بن مالك بن طريف بن محارب - قال: والخضر ولد مالك بن طريف، سموا بذلك لأن مالكا كان شديد الأدمة، وكذلك خرج ولده فسموا الخضر - أن حكما نزل بسمير بن سلمة بن عوسجة بن أنس بن يزيد بن معاوية بن ساعدة بن عمرو وهو خصيلة بن مرة. فأقبل ابن ميادة إلى حكم ليعرض عليه شعره وليسمع من شعره، وكان حكم أسنهما، فأنشدا جميعا جماعة القوم، ثم قال ابن ميادة: والله لقد أعجبني بيتان قلتهما يا حكم؛ قال: أو ما أعجبك من شعري إلا بيتان فقال:
صفحة : 201
والله لقد أعجباني، يردد ذلك مرارا لا يزيده عليه؛ فقال له حكم: فأي بيتين هما? قال: حين تساهم بين ثوبيها وتقول:
فوالـلـه مـا أدري أزيدت مـلاحة وحسنا على النسوان أم ليس لي عقل
تساهم ثوباها فـفـي الـدرع غـادة وفي المرط لفاوان ردفهما عـبـل فقال له حكم: أو ما أعجبك غير هذين البيتين? فقال له ابن ميادة: قد أعجباني، فقال: أو ما في شعري ما أعجبك غيرهما? فقال: لقد أعجباني؛ فقال له حكم: فإني سوف أعيب عليك قولك:
ولا برح الممدور ريان مخصبا وجيد أعالي شعبه وأسافـلـه فاستسقيت لأعلاه وأسفله وتركت وسطه وهو خير موضع فيه؛ فقال: وأي شيء تريد تركته لا يزال ريان مخصبا. وتهاترا فغضب حكم فارتحل ناقته وهدر ثم قال:
فإنه يوم قريض ورجز فقال رجل من بني مرة لابن ميادة: اهدركما هدر يا رماح، فقال: إنما يغط البكر. ثم قال الرماح:
فإنه يوم قـريض ورجـز من كان منكم ناكزا فقد نكز
وبين الطرف النجيب فبرز قال الزبير: يريد بقوله ناكزا: غائضا قد نزف. قال الزبير: وسمعت رجلا من أهل البادية ينزع على إبل له كثيرة من قليب ويرتجز:
قد نكزت أن لم تكن خسيفا أو يكن البحر لها حليفـا أم جحدر وهجاء الحكم وعملس لها
قال الزبير قال الجمحي قال عمير بن ضمرة: فهذا أول ما هاج التهاجي بينهما. قال الزبي قال الجمحي: وحدثني عبد الرحمن بن ضبعان المحاربي قال: كان ابن ميادة وحكم الخضري وعملس بن عقيل بن علفة متجاورين متحالين، وكانوا جميعا يتحدثون إلى أم جحدر بنت حسان المرية، وكانت أمها مولاة، ففضلت ابن ميادة على الحكم وعملس فغضبا. وكان ابن ميادة قال في أم جحدر:
ألا ليت شعري هل إلى أم جـحـدر سبيل فأما الصبر عنها فلا صبـرا
ويا ليت شعري هل يحلن أهـلـهـا وأهلك روضات ببطن اللوى خضرا وقال فيها أيضا :
إذا ركدت شمس النهار ووضعت طنافسها ولينها الأعين الخـزرا الأبيات؛ فقال عملس بن عقيل وحكم الخضري يهجوانها - وهي تنسب إلى حكم -:
لا عوفيت في قبرها أم جـحـدر ولا لقيت إلا الكلاليب والجمـرا
كما حادثت عبدا لئيما وخـلـتـه من الزاد إلا حشو ريطاته صفرا
فيا ليت شعري هل رأت أم جحدر أكشك أو ذاقت مغابنك القـشـرا
وهل أبصرت أرساغ أبرد أو رأت قفا أم رماح إذا ما استقت دفـرا
وبالغمر قد صرت لقاحا وحادثـت عبيدا فسل عن ذاك نيان فالغمرا وقال عملس بن عقيل بن علفة ويقال: بل قالها علفة بن عقيل:
فلا تضعا عنها الطنافـس إنـمـا يقصر بالمرماة من لم يكن صقرا وزاد يحيى بن علي مع هذا البيت عن حماد عن أبيه عن جرير بن رباط وأبي داود قال: يعرض بقوله: )من لم يكن صقرا( بابن ميادة أي إنه هجين ليس من أبوين متشابهين كما الصقر. وبعده بيت آخر من رواية يحيى ولم يروه الزبير معه:
منعمة لم تلق بؤسـا وشـفـوة بنجد ولم يكشف هجين لها سترا قالوا جميعا: فقال ابن ميادة يهجو علفة:
أعلف إن الصقر لـيس بـمـدلـج ولكنه بالـلـيل مـتـخـذ وكـرا
ومفترش بين الجناحين سـلـحـه إذا الليل ألقى فوق خرطومه كسرا
فإن يك صقرا بـعـد لـيلة أمـه وليلة جحاف فأف لـه صـقـرا
تشد بكفـيهـا عـلـى جـذل أيره إذا هي خافت من مطيها نـفـرا
صفحة : 202
يريد أن أم علفة من بني أنمار، وكان أبوه عقيل بن علفة ضربها، فأرسلت إلى رجل من بني أنمار يقال له جحاف، فأتاها ليلا فاحتملها على جمل فذهب بها. وقال يحيى بن علي خاصة في خبره عن حماد عن أبيه عن أبي داود: إن جحاف بن إياد كان رجلا من بني قتال بن يربوع بن غيظ بن مرة، وكان يتحدث إلى امرأة عقيل بن علفة - وهي أم ابنه علفة بن عقيل - ويتهم بها، وهي امرأة من بني أنمار بن بغيض بن ريث بن غطفان يقال لها سلافة، وكانت من أحسن الناس وجها، وكان عقيل من أغير الناس، فربطها بين أربعة أوتاد ودهنها بإهالة، وجعلها في قرية نمل، فمر بها جحاف بن إياد ليلا فسمع أنينها، فأتاها فاحتملها حتى طرحها بفدك، فاستعدت واليها على عقيل. وقال عقيل من جوف الليل فأوقد عشوة ونظرها فلم يجدها ووجد أثر جحاف فعرفه وتبعه حتى صبح القرية، وخنس جحاف عنها؛ فأتى الوالي فقال: إن هذه رأتني وقد كبرت سني وذهب بصري فاجترأت علي، وكان عقيل رجلا مهيبا فلم يعاقبه الوالي بما صنعه لموضعه من صهر بني مروان. قال: فعير ابن ميادة علفة بن عقيل بأمر جحاف هذا في قوله:
فإن يك صقرا بعد ليلة أمـه وليلة جحاف فأف له صقرا قال: ولج الهجاء بينهما. وقال فيه ابن ميادة وفي حكم الخضري وقد عاون علفة:
لقد ركب الخضري مني وتربـه على مركب من نابيات المراكب وقال لعلفة:
يابن عقيل لا تكن كـذوبـا أأن شربت الحزر والحليبا
من شول زيد وشممت الطيبا جهلا تجنيت لي الذنـوبـا قال: ثم لم يلبثه ابن ميادة أن غلبه، وهاج التهاجي بينه وبين حكم الخضري، وانقطع عنه علفة مفضوحا. قال: وماتت أم جحدر التي كان ينسب بها ابن ميادة على تفيئة ما كان بينه وبين علفة من المهاجاة، ونعيت له فلم يصدق حتى أتاه رجل من بني رحل يقال له عمار فنعاها له؛ فقال:
ما كنت أحسب أن القوم قد صدقوا حتى نعاها لي الرحلي عـمـار وقال يرثيها:
خلت شعب الممدور لست بواجـد به غير بال من عضاه وحرمـل
تمنيت أن تلقي بـه أم جـحـدر وماذا تمني من صدى تحت جندل
فللموت خير مـن حـياة ذمـيمة وللبخل خير من عناء مـطـول أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الله بن إبراهيم عن ساعدة ابن مرمىء، وذكره إسحاق أيضا عن أصحابه: أن ابن ميادة وحكما الخضري تواعدا المدينة ليتواقفا بها، وجاء نفر من قريش - أمهاتهم من مرة - إلى ابن ميادة فمنعوه من مواقفة حكم، وقالوا: أتتعرض له ولست بكفئه فيشتم أمهاتنا وأخوالنا وخالاتنا وهو رجل خبيث اللسان - قال: وكان حكم يسجع سجعا كثيرا - فقال: والله لئن واقفته لأسجعن به قبل المقارضة سجعا أفضحه به فلم يلقه. وذكر الزبير له سجعا طويلا غثا لا فائدة فيه، لأنه ليس برجز منظوم ولا كلام فصيح ولا مسجع سجعا مؤتلفا كائتلاف القوافي، إلا أن من أسلمه قوله: والله لئن ساجعتني سجاعا، لتجدني شجاعا، للجار مناعا، ولأجدنك هياعا، للحسب مضياعا، ولئن باطشتك بطاشا، لأدهشنك إدهاشا، ولأدقن منك مشاشا، حتى يجيء بولك رشاشا. وهذا من غث السجع ورذله، وإنما ذكرته ليستدل به على ما هو دونه مما ألغيت ذكره. قال: ورجز به فقال:
يا معدن اللؤم وأنت جبلـه وآخر اللؤم وأنـت أولـه
جاريت سباقا بعيدا مهـلـه كان إذا جارى أباك يفشله
فكيف ترجوه وكيف تأملـه وأنت شر رجل وأنـذلـه
ألأمه في مأزق وأجهـلـه أدخله بيت المخازي مدخله
فاللؤم سربال له يسربـلـه ثوبا إذا أنهـجـه يبـدلـه فأجابه حكم:
يابن التي جيرانها كانت تضـر وتتبع الشول وكانت تمتصـر
كيف إذا مارست حرا تنتصر ولهما أراجيز كثيرة طويلة جدا أسقطتها لكثرتها وقلة فائدتها.
الحكم ولقاء ابن ميادة وتهاجيهما
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن عبد الله بن إبراهيم قال: أخبرني بعض من لقيت من الخضر: أن حكما الخضري خرج يريد لقاء ابن ميادة بالرقم من غير موعد فلم يلفه، إما لأنه تغيب عنه وإما لأنه لم يصادفه، فقال حكم:
صفحة : 203
فر ابن ميادة الرقطاء من حكم بالصغر مثل الأعقد الـدهـم
أصبحت في أقر تعلو أطاوله تفر مني وقد أصبحت بالرقم وقال إسحاق في روايته عن أصحابه: قال ابن ميادة يهجو حكما وينسب بأم جحدر:
يمنونني منك اللقاء وإنـنـي لأعلم لا ألقاك من دون قابل وقد مضى أكثر هذه الأبيات متقدما، فذكرت ها هنا منها ما لم يمض وهو قوله:
فيا ليت رث الوصل من أم جحدر لنا بجديد مـن أولاك الـبـدائل
ولم يبق مما كان بيني وبـينـهـا من الود إلا مخفيات الـرسـائل
وإني إذا استنبهت من حلو رقـدة رميت بحبيها كرمي المناضـل صوت
فما أنس م الأشياء لا أنس قولها وأدمعها يذرين حشو المكاحل
تمتع بذا اليوم القصير فـإنـه رهين بأيام الدهور الأطـاول الغناء في هذين البيتين لعلي بن يحيى المنجم، ولحنه من الثقيل الثاني.
وكنت امرأ أرمي الزوائل مـرة فأصبحت قد ودعت رمي الزوائل
وعطلت قوس اللهو من سرعانها وعادت سهامي بين رث وناصل السرعان: وتر يعمل من عقب المتن، وهو أطول العقب.
إذا حل بيتي بين بدر ومازن ومرة نلت الشمس كاهلي يعني بدر بن عمرو بمن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان، ومرة بن عوف بن سعد بن ذبيان، ومرة بن فزارة، ومازن بن فزارة. وهي طويلة.
قال أبو الفرج الأصبهاني: أخذ إسحاق الموصلي معنى بيت ابن ميادة في قوله: نلت الشمس واشتد كاهلي فقال:
عطست بأنف شامخ وتناولت يداي الثريا قاعدا غير قائم ولعمري لئن كان استعار معناه لقد اضطلع به وزاد فأحسن وأجاد.
وفي هذه القصيدة يقول:
فضلنا قريشا غير رهط محمـد وغير بني مروان أهل الفضائل ضربه إبراهيم بن هشام لدعواه أنه فضل قريشا
قال يحيى بن علي وأخبرني علي بن سليمان بن أيوب عن مصعب، وأخبرني به الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب قال: قال إبراهيم بن هشام بن إسماعيل لابن ميادة: أنت فضلت قريشا وجرده فضربه أسواطا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: لما قال ابن ميادة:
فضلنا قريشا غير رهط محمـد وغير بني مروان أهل الفضائل قال له الوليد بن يزيد: قدمت آل محمد قبلنا، فقال: ما كنت يا أمير المؤمنين أظنه يمكن غير ذلك. فلما أفضت الخلافة إلى بني هاشم وفد ابن ميادة إلى المنصور ومدحه؛ فقال له أبو جعفر لما دخل إليه: كيف قال لك الوليد? فأخبره بما قال، فجعل المنصور يتعجب.
ابن ميادة والحكم بعريجاء
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال: حدثني العباس بن سمرة بن عباد بن شماخ بن سمرة عن ريحان بن سويد الخضري، وكان رواية حكم بن معمر الخضري، قال: تواعد حكم وابن ميادة عريجاء - وهي ماءة - يتواقفان عليها، فخرج كل واحد منهما في نفر من قومه، وأقبل صخر بن الجعد الخضري يؤم حكما، وهو يومئذ عدو لحكم لما فرط بينهما من الهجاء في أركوب من بني مازن بن مالك بن طريف بن خلف بن محارب؛ فلما لقيه قال له: يا حكم، أهؤلاء الذين عرضت للموت وهم وجوه قومك فوالله ما دماؤهم على بني مرة إلا كدماء جداية، فعرف حكم أن قول صخر هو الحق فرد قومه، وقال لصخر: قد وعدني ابن ميادة أن يواقفني غدا بعريجاء لأن أناشده، فقال له صخر: أنا كثير الإبل - وكان حكم مقلا - فإذا وردت إبلي فارتجز، فإن القوم لا يشجعون عليك وأنت وحدك، فإن لقيت الرجل نحر وأطعم فانحر وأطعم وإن أتيت على مالي كله. قال ريحان راويته: فورد يومئذ عريجاء وأنا معه فظل على عريجاء ولم يلق رماحا ولم يواف لموعده، وظل ينشد يومئذ حتى أمسى، ثم صرف وجوه إبل صخر وردها. وبلغ الخبر ابن ميادة وموافاة حكم لموعده، فأصبح على الماء وهو يرتجز ويقول:
أنا ابن ميادة عقار الجـزر كل صفي ذات ناب منفظر توافيهما بحمى ضرية وصلحهما
صفحة : 204
وظل على الماء فنحر وأطعم. فلما بلغ حكما ما صنع ابن ميادة من نحره وإطعامه شق عليه مشقة شديدة. ثم إنهما بعد توافيا بحمى ضرية. قال ريحان بن سويد: وكان ذلك العام عام جدب وسنة إلا بقية كلأبضرية. قال: فسبقنا ابن ميادة يومئذ فنزلنا على مولاة لعكاشة بن مصعب بن الزبير ذات مال ومنزلة من السلطان. قال: وكان حكم كريما على الولاة هناك يتقى لسانه. قال ريحان: فبينا نحن عند المولاة وقد حططنا براذع دوابنا إذا راكبان قد أقبلا، وإذا نحن برماح وأخيه ثوبان - ولم يكن لثوبان ضريب في الشجاعة والجمال - فأقبلا يتسايران، فلما رآهما حكم عرفهما، فقال: يا ريحان، هذان ابنا أبرد، فما رأيك? أتكفيني ثوبان أم لا? قال: فأقبلا نحونا ورماح يتضاحك حتى قبض على يد حكم وقال: مرحبا برجل سكت عنه ولم يسكت عني، وأصبحت الغداة أطلب سلمه يسوقني الذئب والسنة، وأرجو أن أرعى الحمى بجاهه وبركته، ثم جلس إلى جنب حكم وجاء ثوبان فقعد إلى جنبي، فقال له حكم: أما ورب المرسلين يا رماح لولا أبيات جعلت تعتصم بهن وترجع إليهن - يعني أبيات ابن ظالم - لاستوسقت كما استوسق من كان قبلك. قال ريحان: وأخذا في حديث أسمع بعضه ويخفى علي بعضه، فظللنا عند المرأة وذبح لنا وهما في ذلك يتحادثان، مقبل كل واحد منهما على صاحبه لا ينظران شدنا، حتى كان العشاء فشددنا للرواح نؤم أهلنا، فقال رماح لحكم: يا أبا منيع - وكانت كنية حكم -: قد قضيت حاجتك وحاجة من طلبت له من هذا العامل، وإن لنا إليه حاجة في أن يرعينا؛ فقال له حكم: قد والله قضيت حاجتي منه وإني لأكره الرجوع إليه، وما من حاجتك بد، ثم رجع معه إلى العامل، فقال له بعد الحديث معه: إن هذا الرجل من قد عرفت ما بيني وبينه، وقد سأل الصلح وأناب إليه، فأحببت أن يكون ذلك على يدك وبمحضرك. قال: فدعا به عامل ضرية وقال: هل لك حاجة غير ذلك? قال: لا والله، ونسي حاجة رماح، فأذكرته إياها، فرجع فطلبها واعتذر بالنسيان. فقال العامل لابن ميادة: ما حاجتك? فقال: ترعيني عريجاء لا يعرض لي فيها أحد، فأرعاه إياها. فأقبل رماح على حكم فقال: جزاك الله خيرا يا أبا منيع، فوالله لقد كان ورائي من قومي من يتمنى أن يرعى عريجاء بنصف ماله. قال فلما عزما على الانصراف ودع كل واحد منهما صاحبه وانصرفا راضيين وانصرف ابن ميادة إلى قومه فوجد بعضهم قد ركب إلى ابن هشام فاستغضبه على حكم في قوله:
وما ولدت مـرية ذات لـيلة من الدهر إلا زاد لؤما جنينها فأطرده وأقسم: لئن ظفر به ليسرجنه وليحملن عليه أحدهم. فقال رماح - وساءه ما صنعوا -: عمدتم إلى رجل قد صلح ما بيني وبينه وأرعيت بوجهه فاستعديتم عليه وجئتم بإطراده وبلغ الحكم الخبر فطار إلى الشأم فلم يبرحها حتى مات.
قال العباس بن سمرة: مات بالشأم غرقا، وكان لا يحسن العوم فمات في بعض أنهارها. قال: وهو وجهه الذي مدح فيه أسود بن بلال المحاربي ثم السوائي في قصيدته التي يقول فيها:
واستيقنت أن لا براح من السرى حتى تناخ بأسـود بـن بـلال
قرم إذا نزل الوفـود بـبـابـه سمت العيون إلى أشم طـوال مناقضات حكم وابن ميادة ولحكم الخضري وابن ميادة مناقضات كثيرة وأراجيز طوال طويت ذكر أكثرها وألغيته، وذكرت منها لمعا من جيد ما قالاه لئلا يخلو هذا الكتاب من ذكر بعض ما دار بينهما ولا يستوعب سائره فيطول. فما قاله حكم في ابن ميادة قوله:
خليلي عوجا حييا الدار بالجـفـر وقولا لها سقيا لعصرك من عصر
وماذا تحي من رسوم تـلاعـبـت بها حرجف تذري بأذيالها الكـدر ومن جيد قوله فيها يفتخر:
إذا يبست عيدان قـوم وجـدتـنـا وعيداننا تغشى على الورق الخضر
إذا الناس جاءوا بالقروم أتـيتـهـم بقرم يساوي راسه غـرة الـبـدر
لنا الغور والأنجاد والخيل والقـنـا عليكم وأيام المكـارم والـفـخـر ومن جيد هجائه قوله:
فيا مر قد أخزاك في كل مـوطـن من اللؤم خلات يزدن على العشـر
فمنهن أن العبد حـامـي ذمـاركـم وبئس المحامي العبد عن حوزة الثغر
صفحة : 205
ومنهن أن لم تمسحوا وجـه سـابـق جواد ولم تأتوا حصانا على طـهـر
ومنهن أن المـيت يدفـن مـنـكـم فيفسو على دفانه وهو في القـبـر
ومنهن أن الجار يسكن وسـطـكـم بريئا فيلقى بـالـخـيانة والـغـدر
ومنهن أن عدتـم بـأرقـط كـودن وبئس المحامي أنت يا ضرطة الجفر
ومنهن أن الشـيخ يوجـد مـنـكـم يدب إلى الجارات محدودب الظهـر
تبيت ضباب الضغن تخشى احتراشها وإن هي أمست دونها ساحل البحـر فأجابه ابن ميادة بقصيدة طويلة، منها قوله مجيبا له عن هذه الخصال التي سبهم بها:
لقد سبقت بالمخـزيات مـحـارب وفازت بخلات على قومها عشـر
فمنهن أن لم تـعـقـروا ذات ذروة لحق إذا ما احتيج يوما إلى العقـر
ومنهن أن لم تمسـحـوا عـربـية من الخيل يوما تحت جل على مهر
ومنهن أن لم تضربوا بسـيوفـكـم جماجم إلا فيشل القرح الـحـمـر
ومنهن أن كانت شيوخ مـحـارب كما قد علمتم لا تريش ولا تبـري
ومنهن أخزى سوءة لو ذكـرتـهـا لكنتم عبيدا تخدمـون بـنـي وبـر
ومنهن أن الضأن كانت نـسـاءكـم إذا اخضر أطراف الثمام من القطر
ومنهن أن كانت عجوز مـحـارب تريغ الصبا تحت الصفيح من القبر
ومنهن أن لو كان في البحر بعضكم لخبث ضاحي جلده حومة البـحـر ومما قاله ابن ميادة في حكم قوله من قصيدة أولها:
ألا حييا الأطلال طالت سنينهـا بحيث التقت زبد الجناب وعينها ويقول فيها:
فلما أتاني ما تـقـول مـحـارب تغنت شياطيني وجن جنـونـهـا
ألم تر أن الله غشـى مـحـاربـا إذا اجتمع الأقوام لونا يشـينـهـا
ترى بوجوه الخضر خضر محارب طوابع لؤم ليس ينفت طـينـهـا
لقد ساهمتناكم سـلـيم وعـامـر فضمناهم إنا كـذلـك نـدينـهـا
فصارت لنا أهل الضئين محـارب وصارت لهم جسر وذاك ثمينهـا
إذا أخذت خضرية قائم الـرحـى تحرك قنباها فطار طحـينـهـا
وما حملت خـضـرية ذات لـيلة من الدهر إلا ازداد لؤما جنينهـا فقال حكم يجيبه عن هذه بقصيدته:
لأنت ابن أشبانـية أدلـجـت بـه إلى اللؤم مقلات لئيم جنـينـهـا
فجاءت بـرواث كـأن جـبـينـه إذا صغا في خرقتيها جبـينـهـا
فما حمـلـت مـرية قـط لـيلة من الدهر إلا ازداد لؤما جنينـهـا
وما حملت إلا لألأم مـن مـشـى ولا ذكرت إلا بأمـر يشـينـهـا
تزوج عثوان الضئين وتبـتـغـي بها الدر لا درت بخير لبـونـهـا
أظنت بنو عثوان أن لست شاتـمـا بشتمي وبعض القوم حمقى ظنونها
مدانيس أبـرام كـأن لـحـاهـم لحى مستهبات طوال قـرونـهـا قال الزبير: فحدثني موهوب بن رشيد قال: فسمع هذه القصيدة أحد بني قتال بن مرة فقال: ما له أخزاه الله يهجو صبيتنا وهم أجفى قوم غضبا لصبيتهم وقد هجاهم بما هجاهم به.
قال: وبلغ إبراهيم بن هشام قوله في نساء بني مرة إذ يقول:
وما حملت إلا لألأم من مشى فغضب ثم نذر دمه فهرب من الحجاز إلى الشأم فمات بها.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن ضبعان الخضري قال: لقي ابن ميادة صخر بن الجعد الخضري فقال له: يا صخر، أعنت علي ابن عمك الحكم بن معمر فقال له صخر: لا والله يا أبا الشرحبيل ما أعنته عليك، ولكن خيل إليك ما كان يخيل إلي، ولقد هاجيته فكنت أظن أن شجر الوادي يعينه علي.
ومن جيد قول ابن ميادة في حكم قصيدته التي أولها: صوت
لقد سبقتك اليوم عيناك سـبـقة وأبكاك من عهد الشباب ملاعبه
فوالله ما أدري أيغلبني الهـوى إذا جد جد البين أم أنا غالـبـه
صفحة : 206
فإن أستطع أغلب وإن يغلب الهوى فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبـه - في هذه الأبيات غناء ينسب - يقول فيها في هجاء حكم:
لقد طال حبس الوفد وفد محارب عن المجد لم يأذن لهم بعد حاجبه
وقال لهم كروا فلـسـت بـآذن لكم أبدا أو يحصي الترب حاسبه وهي قصيدة طويلة: الوليد بن يزيد يفضله على الشعراء
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني جلال بن عبد العزيز المري ثم الصادري عن أبيه: - قال جلال: وقد رأيت ابن ميادة في بيت أبي، قال: قال لي ابن ميادة: وصلت أنا والشعراء إلى الوليد بن يزيد وهو خليفة. وكان مولى من موالي خرشة يقال له شقران يعيب ابن ميادة ويحسده على مكانه من الوليد، فلما اجتمعت الشعراء قال الوليد بن يزيد لشقران: يا شقران، ما علمك في ابن ميادة? قال علمي فيه يا أمير المؤمنين أنه:
لئيم يباري فيه أبرد نهبـلا لئيم أتاه اللؤم من كل جانب فقال الوليد: يابن ميادة، ما علمك في شقران? قال: علمي يا أمير المؤمنين أنه عبد لعجوز من خرشة كاتبته على أربعين درهما ووعدها - أو قال: وعدته - أن تجيزه بعشرين درهما فقبضته إياها، فأغنه عني يا أمير المؤمنين، فليس له أصل فاحتفره ولا فرع فأهتصره، فقال له الوليد: اجتنبه يا شقران فقد أبلغ إليك في الشتيمة، فقصر شقران صاغرا، ثم أنشدته، فأقيمت الشعراء جميعا غيري، وأمر لي بمائة لقحة وفحلها وراعيها وجارية بكر وفرس عتيق فاختلت ذلك اليوم وقلت:
أعطيتني مائة صفرا مدامعهـا كالنخل زين أعلى نبته الشرب ويروى:
كأنها النخل روى نبتها الشرب
يسوقها يافع جعد مفارقه مثل الغراب غذاه الصر والحلب
وذا سبيب صهيبـيا لـه عـرف وهامة ذات فرق نابها صخـب ولم يذكر الزبير في خبره غير هذه الأبيات الثلاثة، وهي من قصيدة للرماح طويلة يمدح فيها الوليد بن يزيد، وقد أجاد فيها وأحسن؛ وذكرت من مختارها ها هنا طرفا، وأولها:
هل تعرف الدار بالعلياء غيرها سافي الرياح ومستن له طنب
دار لبيضاء مسود مسائحـهـا كأنها ظبية ترعى وتنتصـب المسائح: ما بين الأذن إلى الحاجب من الشعر: تقف إذا ارتاعت منتصبة تتوجس.
تحنو لأكحل ألقته بمضيعة فقلبها شفقا من حوله يجب يقول فيها:
يا أطيب الناس ريقا بعد هجعتـهـا وأملح الناس عينا حين تـنـتـقـب
ليست تجود بنـيل حـين أسـألـهـا ولست عند خلاء اللهو أغتـصـب
في مرفقيها إذا ما عونقـت جـمـم على الضجيع وفي أنيابها شـنـب
ولـيلة ذات أهـوال كـواكـبـهـا مثل القناديل فيها الزيت والعطـب
قد جبتها جوب ذي المقراض ممطرة إذا استوى مغفلات البيد والـحـدب
بعنتريس كأن الدبـر يلـسـعـهـا إذا ترنم حاد خـلـفـهـا طـرب
إلى الوليد أبي العباس ما عجـلـت ودونه المعط من لبنان والـكـثـب وبعد هذا البيت قوله:
أعطيتني مائة صفرا مدامعها... الخ
لما أتيتك من نجد وساكنه نفحت لي نفحة طارت بها العـرب
إني امرؤ أعتفي الحاجات أطلبـهـا كما اعتفى سنق يلقى له العـشـب السنق: الذي قد شبع حتى بشم، يقول: أطلب الحاجة بغير حرص ولا كلب، كما يعتفي هذا البعير البشم من غير شره ولا شدة طلب.
ولا ألح على الـخـلان أسـألـهـم كما يلح بعظم الغـارب الـقـتـب
ولا أخـادع نـدمـانـي لأخـدعـه عن ماله حين يسترخي به اللـبـب
وأنت وابناك لم يوجد لـكـم مـثـل ثلاثة كلهم بالتـاج مـعـتـصـب
الطيبون إذا طـابـت نـفـوسـهـم شوس الحواجب والأبصار إن غضبوا
قسني إلى شعراء النـاس كـلـهـم وادع الرواة إذا ما غب ما اجتلـبـوا
إنـي وإن قـال أقـوام مـديحـهـم فأحسنوه وما حابـوا ومـا كـذبـوا
صفحة : 207
أجري أمامهم جري امرىء فلج عنانه حين يجري ليس يضطرب سبب الهجاء بينه وبين شقران
أخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال أخبرني أبو الحسن - أظنه المدائني - قال أخبرني أبو صالح الفزاري قال: أقبل شقران مولى بني سلامان بن سعد هذيم أخي عذرة بن سعدا بن هذيم، قال: وهذيم عبد حبشي كان حضن سعدا فغلب عليه، وهو ابن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة من اليمامة ومعه تمر قد امتاره - فلقيه ابن ميادة فقال له: ما هذا معك? قال: تمر امترته لأهلي يقال له: زب رباح، فقال له ابن ميادة يمازحه:
كأنك لم تقفل لأهلك تمـرة إذا أنت لم تقفل بزب رباح فقال له شقران:
فإن كان هذا زبه فانطلق به إلى نسوة سود الوجوه قباح فغضب ابن ميادة وأمضه وأنحى عليه بالسوط فضربه ضربات وانصرف مغضبا؛ فكان ذلك سبب الهجاء بينهما.
قال حماد عن أبيه وحدثني أبو علي الكلبي قال: اجتمع ابن ميادة وشقران مولى بني سلامان عند الوليد بن يزيد، فقال ابن ميادة: يا أمير المؤمنين، أتجمع بيني وبين هذا العبد وليس بمثلي في حسبي ولا نسبي ولا لساني ولا منصبي فقال شقران:
لعمري لئن كنت ابن شيخي عشيرتي هرقل وكسرى وما أراني مقصرا
وما أتمنـى أن أكـون ابـن نـزوة نزاها ابن أرض لم تجد متمـهـرا
على حائل تلوي الصرار بكـفـهـا فجاءت بخوار إذا عض جرجـرا أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار وأخبرنا يحيى بن علي عن أيوب المديني، عن زبير قال حدثني جلال بن عبد العزيز وقال يحيى بن خلاد عن أبي أيوب ابن عبد العزيز قال: استأذن ابن ميادة على الوليد بن يزيد وعنده شقران مولى قضاعة فأدخله في صندوق وأذن لابن ميادة؛ فلما دخل أجلسه على الصندوق واستنشده هجاء شقران فجعل ينشده، ثم أمر بفتح الصندوق فخرج عليه شقران وجعل يهدر كما يهدر الفحل ويقول:
سأكعم عن قضاعة كلب قيس على حجر فينصت للكعـام
أسير أمـام قـيس كـل يوم وما قيس بسائرة أمـامـي وقال أيضا وهو يسمع:
إني إذا الشعراء لاقى بعضهم بعضا ببلقعة يريد نضالـهـا
وقفوا المرتجز الهدير إذا دنت منه البكارة قطعت أبوالهـا
فتركتهم زمرا ترمز باللحـى منها عنافق قد حلقت سبالها فقال له ابن ميادة: يا أمير المؤمنين اكفف عني هذا الذي ليس له أصل فأحفره، ولا فرع فأهصره؛ فقال الوليد: أشهد أنك قد جرجرت كما قا شقران:
فجاءت بخوار إذا عض جرجرا تفاخره مع عقال بالشعر
قال يحيى في خبره: واجتمع ابن ميادة وعقال بن هاشم بباب الوليد بن يزيد، وكان عقال شديد الرأي في اليمن، فغمز عقال ابن ميادة واعتلاه؛ فقال ابن ميادة:
فجرنا ينابيع الكـلام وبـحـره فأصبح فيه ذو الرواية يسـبـح
وما الشعر إلا شعر قيس وخندف وقول سواهم كلفة وتـمـلـح فقال عقال يجيبه:
ألا أبلغ الرماح نقـض مـقـالة بها خطل الرماح أو كان يمـزح
لئن كان في قيس وخندف ألسـن طوال وشعر سائر لـيس يقـدح
لقد خرق الحي اليمانون قبلـهـم بحور الكلام تستقى وهي تطفـح
وهم علموا من بعدهم فتعلـمـوا وهم أعربوا هذا الكلام وأوضحوا
فللسابقين الفضل لا يجـحـدونـه وليس لمخلوق عليهم تـبـجـح شعره في حنينه إلى وطنه
وحوار الوليد إياه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا جلال بن عبد العزيز عن أبيه قال حدثني ابن ميادة قال: قلت وأنا عند الوليد بن يزيد بأباين - وهو موضع كان الوليد ينزله في الربيع -:
لعمـرك إنـي نـازل بـأبـاين لصوءر مشتاق وإن كنت مكرما
أبيت كأني أرمد العين سـاهـر إذا بات أصحابي من الليل نوما قال: فقال لي الوليد: يابن ميادة كأنك غرضت من قربنا، فقلت: ما مثلك يا أمير المؤمنين يغرض من قربه، ولكن:
صفحة : 208
ألا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة بحرة ليلى حيث ربتـنـي أهـلـي
وهل أسمعن الدهر أصوات هجـمة تطالع من هجل خصيب إلى هجـل
بلاد بها نيطت عـلـي تـمـائمـي وقطعن عني حين أدركني عقـلـي
فإن كنت عن تلك المواطن حابسـي فأيسر علي الرزق واجمع إذا شملي فقال: كم الهجمة? قلت: مائة ناقة؛ فقال: قد صدرت بها كلها عشراء. قال ابن ميادة: فذكرت ولدانا لي بنجد إذا استطعموا الله عز وجل أطعمهم وأنا، وإذا استسقوه سقاهم الله وأنا، وإذا استكسوه كساهم الله وأنا، فقال: يابن ميادة، وكم ولدانك? فقلت: سبعة عشر، منهم عشرة نفر وسبع نسوة، فذكرت ذلك منهم فأخذ بقلبي؛ فقال: يابن ميادة، قد أطعمهم الله وأمير المؤمنين، وسقاهم الله وأمير المؤمنين، وكساهم الله وأميرا لمؤمنين؛ أما النساء فأربع حلل مختلفات الألوان، وأما الرجال فثلاث حلل مختلفات الألوان، وأما السقي فلا أرى مائه لقحة إلا سترويهم، فإن لم تروهم زدتهم عينين من الحجاز؛ قلت: يا أمير المؤمنين، لسنا بأصحاب عيون يأكلنا بها البعوض، وتأخذنا بها الحميات؛ قال: فقد أخلفها الله عليك؛ كل عام لك فيه مثل ما أعطيتك العام: مائة لقحة وفحلها وجارية بكر وفرس عتيق.
عارض ابن القتال وانتحل بيتا من شعره
وأخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني شداد بن عقبة عن عبد السلام ابن القتال قال: عارضني ابن ميادة فقال: أنشدني يابن التقال، فأنشدته:
ألا ليت شعري هل أبيتـن لـيلة بصحراء ما بين التنوفة والرمل
وهل أزجرن العيس شاكية الوجى كما عسل السرحان بالبلد المحل
وهل أسمعن الدهر صوت حمامة تغني حمامات على فنن جـثـل
وهل أشربن الدهر مزن سحـابة على ثمد الأفعاة حاضره أهلـي
بلاد بها نيطت علي تـمـائمـي وقطعن عني حين أدركني عقلي قال: فأتاني الرواة بهذا البيت وقد اصطرفه ابن ميادة وحده.
جازه الوليد إبلا فأرادوا إبدالها فقال شعرا
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم قال حدثني رجل من كلب وأخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي علي الكلبي قال: أمر الوليد بن يزيد لابن ميادة بمائة من الإبل من صدقات بني كلب، فلما أتى الحول أرادوا أن يبتاعوها له من الطرائد، وهي الغرائب، وأن يمسكوا التلاد؛ فقال ابن ميادة:
ألم يبلغك أن الحي كلـبـا أرادوا في عطيتك ارتدادا
وقالوا إنها صهب وورق وقد أعطيتها دهما جعادا فعلموا أن الشعر سبيلغ الوليد فيغضبه؛ فقالوا له: انطلق فخذها صفرا جعادا.
شعره في رثاء الوليد
وقال يحيى بن علي في روايته: لما قتل الوليد بن يزيد قال ابن ميادة يرثيه:
ألا يا لهفتي علـى ولـيد غداة أصابه القدر المتاح
ألا ابكي الوليد فتى قريش وأسمحها إذا عد السمـاح
وأجبرها لذي عظم مهيض إذا ضنت بدرتها اللقـاح
لقد فعلت بنو مروان فعلا وأمرا ما يسوغ به القراح قال يحيى: وغنى فيه عمر الوادي ولم يذكر طريقة غنائه.
ابن ميادة وعثمان بن عمرو
ابن عثمان بن عفان
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن زهير بن مضرس الفزاري عن أبيه قال: أخصب جناب الحجاز الشأمي فمالت لذلك الخصب بنو فزارة وبنو مرة، فتحالوا جميعا به. قال: فبينا ذات يوم أنا وابن ميادة جالسان على قارعة الطريق عشاء إذا راكبان يوجفان راحلتين حتى وقفا علينا، فإذا أحدهما بحر الريح وهو عثمان بن عمرو بن عثمان بن عفان معه مولى له، فنسبنا وانتسب لنا، وقد كان ابن ميادة يعللني بشعره، فلما انقضى كلامنا مع القرشي ومولاه استعدت ابن ميادة ما كنا فيه، فأنشدني فخرا له يقول فيه:
وعلى المليحة من جذيمة فتـية يتمارضون تمـارض الأسـد
وترى الملوك الغتر تحت قبابهم يمشون في الحلقات والـقـد
صفحة : 209
قال: فقال له القرشي: كذبت؛ قال ابن ميادة: أفي هذا وحده أنا والله في غيره أكذب؛ فقال له القرشي: إن كنت تريد في مديحك قريشا فقد كفرت بربك ودفعت قوله، ثم قرأ عليه: لإيلاف قريش حتى أتى على آخرها، ونهض هو ومولاه وركبا راحلتيهما؛ فلما فاتا أبصارنا قال ابن ميادة:
سمين قريش مانع منك نفسه وغث قريش حيث كان سمين ابن ميادة وسنان بن جابر
أخبرنا يحيى بن علي عن حماد عن أبيه عن أبي الحارث المري قال: كان ابن ميادة قد هاجى سنان بن جابر أحد بني حميس بن عامر بن جهينة بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم؛ فقال ابن ميادة له فيما قال من هجائه:
لقد طالما عللت حجـرا وأهـلـه بأعراض قيس يا سنان بن جابـر
أأهجوا قريشا ثم تكـره ريبـتـي ويسرقني عرضي حميس بن عامر قال: وقال فيهم أيضا
قصار الخطى فرق الخصى زمر اللحى كأنهم ظرابى اهترشن عـلـى لـحـم
ذكرت حمام الـقـيظ لـمـا رأيتـهـم يمشون حولي في ثـيابـهـم الـدسـم
وتبدي الحـمـيسـيات فـي كـل زينة فروجا كآثار الصغار مـن الـبـهـم قال: ثم إن ابن ميادة خرج يبغي إبلا له حتى ورد جبارا - وهو ماء لحميس بن عامر - فأتى بيتا فوجد فيه عجوزا قد أسنت، فنشدها إبله فذكرتها له وقالت: ممن أنت? قال: رجل من سليم بن منصور؛ فأذنت له وقالت: ادخل حتى نقريك وقد عرفته وهو لا يدري؛ فلما قرته قال ابن ميادة: وجدت ريح الطيب قد نفح علي من البيت، فإذا بنت لها قد هتكت الستر، ثم استقبلتني وعليها إزار أحمر وهي مؤتزرة به، فأطلقته وقالت: انظر يابن ميادة الزانية أهذا كما نعت فلم أر امرأة أضخم قبلا منها؛ فقالت: أهذا كما قلت:
وتبدي الحميسيات في كل زينة فروجا كآثار الصغار من البهم قال: قلت: لا والله يا سيدتي، ما هكذا قلت ولكن قلت:
وتبدي الحميسيات في كل زينة فروجا كآثار المقيسرة الدهم وانصرف يتشبب بها، فذلك حين يقول:
نظرنا فهاجتنا على الشوق والهوى لزينب نار أوقـدت بـجـبـار
كأن سناها لاح لي من خصـاصة على غير قصد والمطي سواري
حميسية بالرملتـين مـحـلـهـا تمد بحلـف بـينـنـا وجـوار قال أبو داود: وكانت بنو حميس حلفاء لبني سهم بن مرة، ثم للحصين بن الحمام. وتمد وتمت واحد.
رجع إلى الشعر
تجاور من سهم بن مـرة نـسـوة بمجتمع النقبـين غـير عـواري
نواعم أبكـارا كـأن عـيونـهـا عيون ظبـاء أو عـيون صـوار
كأنا نراها وهـي مـنـا قـريبة على متن عصماء الـيدين نـوار
تتبع من حجـر ذرا مـتـمـنـع لها معقل في رأس كل طـمـار
يدور بها ذو أسهـم لا ينـالـهـا وذو كلبات كالقـسـي ضـواري
كأن على المتنـين مـنـهـا ودية سقتها السواقـي مـن ودي دوار
يظل سحيق المسك يقطر حولهـا إذا الماشطات احتفنه بـمـداري
وما روضة خضراء يضربها الندى بها قنة مـن حـنـوة وعـرار
بأطيب من ريح القرنفل ساطـعـا بما التف من درع لها وخـمـار
وما ظبية ساقت لها الريح نغـمة على غفلة فاستسمعت لـخـوار
بأحسن منها يوم قامت فأتلـعـت على شرك مـن روعة ونـفـار
فليتك يا حسـنـاء يابـنة مـالـك يبيع لنا منـك الـمـودة شـاري ابن ميادة وزينب بنت مالك
وأخبرني بهذا الخبر الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني أبو حرملة منظور بن أبي عدي الفزاري ثم المنظوري عن أبيه قال حدثني رماح بن أبرد قال:
صفحة : 210
خرجت قافلا من السلع إلى نجد حتى إذا كنت ببعض أهضام الحرة هكذا في نسختي، وأظنه هضاب الحرة رفع لي بيت كالطراف العظيم، وإذا بفنائه غنم لم تسرح، فقلت: بيت من بيوت بني مرة وبي من العيمة إلى اللبن ما ليس بأحد، فقلت: آتيهم فأسلم عليهم وأشرب من لبنهم، فلما كنت غير بعيد سلمت فردت علي امرأة برزة بفناء البيت، وحيت ورحبت واستنزلتني فنزلت، فدعت بلبن ولبأ ورسل من رسل تلك الغنم، ثم قالت: هيا فلانة البسي شفا واخرجي، فخرجت علي جارية كأنها ثمعة ما رأيت في الخلق لها نظيرا قبل ولا بعد، فإذا شفها ذاك ليس يواري منها شيئا وقد نبا عن ركبها ما وقع عليه من الثوب فكأنه قعب مكفأ، ثم قالت: يابن ميادة الخبيثة، أأنت القائل:
وتبدي الحميسيات في كـل زينة فروجا كآثار الصغار من البهم? فقلت: لا والله - جعلني الله فداك يا سيدتي - ما قلت هذا قط، وإنما قلت:
وتبدي الحميسيات في كل زينة فروجا كآثار المقيسرة الدهم قال: وكان يقال للجارية الحميسية: زينب بنت مالك، وفيها قال ابن ميادة قصيدته:
ألما فزورا اليوم خير مزار أعطاه الوليد جارية فقال فيها شعرا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني موهوب ابن رشيد الكلابي قال: أعطى الوليد بن يزيد ابن ميادة جارية طبرية أعجمية لا تفصح، حسناء جميلة كاملة لولا العجمة، فعشقها وقال فيها:
جزاك الله خيرا من أمير فقد أعطيت مبرادا سخونا
بأهلي ما الذك عند نفسي لو أنك بالكلام تعربـينـا
كأنك ظبية مضغت أراكا بوادي الجزع حين تبغمينا ملاحاته مع رجل من بني جعفر
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني إسحاق بن شعيب بن إبراهيم بن محمد بن طلحة قال: وردت على بني فزارة ساعيا، فأتاني ابن ميادة مسلما علي، وجاءتني بنو فزارة ومعها رجل من بني جعفر بن كلاب كان لهم جارا وكان مخططا موسوما بجمال، فلما رأيته أعجبني، فأقبلت على بني فزارة وقلت لهم: أي أخوالي هذا? فوالله إنه ليسرني أن أرى فيكم مثله؛ فقالوا: هذا - أمتع الله بك - رجل من بني جعفر بن كلاب وهو لنا جار. قال: فأصغى إلي ابن ميادة، وكان قريبا مني، وقال: لا يغرنك - بأبي أنت - ما ترى من جسمه فإنه أجوف لا عقل له؛ فسمعه الجعفري فقال: أفي تقع يابن ميادة وأنت لا تقري ضيفك? فقال له ابن ميادة: إن لم أقره قراه ابن عمي وأنت لا تقري ولا ابن عمك. قال ابن عمران: فضحكت مما شهد به ابن ميادة على نفسه.
كان بخيلا لا يكرم أضيافه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل الجعفري عن المعلى بن نوح الفزاري قال حدثني خال لي كان شريفا من سادات بني فزارة قال: ضفت ابن ميادة فأكرمني وتحفى بي وفرغ لي بيتا فكنت فيه ليس معي أحد، ثم جاءني بقدح ضخم من لبن إبله فشربته ثم ولى، فلم ينشب أن جاءني بآخر فتناولت منه شيئا يسيرا، فما لبثت حتى عاد بآخر فقلت: حسبك يا رماح فلا حاجة لي بشيء؛ فقال: اشرب بأبي أنت، فوالله لربما بات الضيف عندنا مدحورا.
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب عن جدي عبد الله بن مصعب قال: أتينا ابن ميادة نتلقى منه الشعر؛ فقال لنا: هل لكم في فضل شنة? فظنناها تمرا، فقلنا له: هات، لنبسطه بذلك، فإذا شنة فيها فضلة من خمر قد شرب بعضها وبقي بعض، فلما رأيناها قمنا وتركناه.
يرفض وليمة ضرب الناس فيها بالسياط أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن الكثيري قال حدثني نعمة الغفاري قال: قدم ابن ميادة المدينة فدعي في وليمة فجاء فوجد على باب الدار التي فيها الوليمة حرسا يضربون الزلالين بالسياط يمنعونهم من الدخول، فرجع وهو يقول:
لما رأيت الأصبحية قـنـعـت مفارق شمط حيث تلوى العمائم
تركت دفاع الباب عمـا وراءه وقلت صحيح من نجا وهو سالم وسأله الوليد من تركت عند نسائك
أخبرني يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق قال:
صفحة : 211
قال الوليد بن يزيد لابن ميادة في بعض وفاداته عليه: من تركت عند نسائك? قال: رقيبين لا يخالفاني طرفة عين: الجوع والعري. وهذا القول والجواب يروى أن عمر بن عبد العزيز وعقيل بن علفة تراجعاهما، وقد ذكرا في أخبار عقيل.
مدحه لأبي جعفر المنصور
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب وأخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبير وأخبرنا يحيى بن علي قال: حدثنا أبو أيوب المديني عن مصعب: أن ابن ميادة مدح أبا جعفر المنصور بقصيدته التي يقول فيها:
طلعت علينا العيس بالرماح ثم خرج من عند أهله يريده، فمر على إبله فحلبت له ناقة من إبله، وراح عليه راعيه بلبنها فشربه ثم مسح على بطنه ثم قال: سبحان الله إن هذا لهو الشره يكفيني لبن بكرة وأنا شيخ كبير، ثم أخرج وأغترب في طلب المال ثم رجع فلم يخرج. هذه القصيدة من جيد شعر ابن ميادة، أولها:
وكواعب قد قلـن يوم تـواعـد قول المجد وهن كـالـمـزاح
يا ليتنا في غـير أمـر فـادح طلعت علينا العيس بالـرمـاح
بينا كذاك رأينني متـعـصـبـا بالخز فـوق جـلالة سـرداح
فيهن صفراء المعاصم طـفـلة بيضاء مثل غريضة التـفـاح
فنظرن من خلل الحجال بأعـين مرضى مخالطها السقام صحاح
وارتشن حين أردن أن يرميننـي تبـلا بـلا ريش ولا بـقـداح يقول فيها في مدح المنصور وبني هاشم:
فلئن بقيت لألحقن بأبحـر ينمين لا قطع ولا أنزاح
ولآتين بني علـي إنـهـم من يأتهم يتلق بالإفـلاح
قوم إذا جلب الثناء إليهـم بيع الثناء هناك بالأرباح
ولأجلسن إلى الخليفة إنـه رحب الفناء بواسع نجباح وهي قصيدة طويلة.
قوله فيما أصاب الحاج من المطر
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إسحاق بن أيوب قال: اعتمرت في رجب سنة خمس ومائة، فصادفني ابن ميادة بمكة وقدمها معتمرا، فأصابنا مطر شديد تهدمت منه البيوت وتوالت فيه الصواعق، فجلس إلي ابن ميادة الغد من ذلك اليوم، فجعل يأتيني قوم من قومي وغيرهم فأستخبرهم عن ذلك الغيث فيقولون: صعق فلان وانهدم منزل فلان؛ فقال ابن ميادة: هذا العيث لا الغيث؛ فقلت: فما الغيث عندك? فقال:
سحائب لا من صيب ذي صواعـق ولا محرقات مـاؤهـن حـمـيم
إذا ما هبطن الأرض قد مات عودها يكين بها حـتـى يعـيش هـشـيم كان ينشد من شعره فيستحسنه الناس
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني موسى بن زهير عن أبيه قال: جلست أنا وعيسى بن عميلة وابن ميادة ذات يوم، فأنشدنا ابن ميادة شعره مليا، ثم أنشدنا قوله:
ألا ليت شعري هل أبـيتـن لـيلة بحرة ليلى حيث ربتنـي أهـلـي
بلاد بها نيطت علـي تـمـائمـي وقطعن عني حين أدركني عقلـي
وهل أسمعن الدهر أصوات هجمة تطالع من هجل خصيب إلى هجل
صهيبية صفراء تلقي ربـاعـهـا بمنعرج الصمان والجرع السهـل تلقى رباعها: تطرح أولادها. وواحد الرباع ربع.
وهل أجمعن الدهر كفـي جـمـعة بمهضومة الكشحين ذات شوى عبل
محللة لـي لا حـرامـا أتـيتـهـا من الطيبات حين تركض في الحجل
تميل إذا مال الضجيع بعـطـفـهـا كما مال دعص من ذرا عقد الرمل فقال له عيسى بن عميلة: فأين قولك يا أبا الشرحبيل:
لقد حرمت أمي علي عدمتها كرائم قومي ثم قلة مـالـيا فقلت له: فاعطف إذا إلى أمة بني سهيل فهي أعند وأنكد، وقد كنت أظن أن ميادة قد ضربت جأشك على اليأس من الحرائر، وأنا أداعبه وأضاحكه؛ فضحك وقال:
ألم تر قوما ينكحون بمالهـم ولو خطبت أنسابهم لم تزوج أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب وغيره:
صفحة : 212
أن حسينة اليسارية كانت جميلة - وآل يسار من موالي عثمان رضوان الله عليه يسكنون تيماء، ولهم هناك عدد وجلد، وقد انتسبوا في كلب إلى يسار بن أبي هند فقبلهم بنو كلب - قال: وكانت عند رجل من قومها يقال له: عيسى بن إبراهيم بن يسار، وكان ابن ميادة يزورها؛ وفيها يقول:
ستأتينا حسينة حـيث شـئنـا وإن رغمت أنوف بني يسار قال: فدخل عليها زوجها يوما فوجد ابن ميادة عندها، فهم به هو وأهلها؛ فقاتلهم وعاونته عليهم حسينة حتى أفلت تتابن ميادة؛ فقال في ذلك:
لقد ظلت تعاوننـي عـلـيهـم صموت الحجل كاظمة السوار
وقد غادرت عيسى وهو كلـب يقطع سلحه خلف الـجـدار أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني إبراهيم بن سعد بن شاهين قال حدثني عبد الله بن خالد بن دفيف التغلبي عن عثمان بن عبد الرحمن بن نميرة العدوي عن أبي العلاء بن وثاب قال: ابن ميادة وعبد الواحد بن سليمان
قدم ابن ميادة المدينة زائرا لعبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وهو أميرها وكان يسمر عنده في الليل، فقال عبد الواحد لأصحابه: إني أهم أن أتزوج، فابغوني أيما؛ فقال له ابن ميادة: أنا أدلك، أصلحك الله أيها الأمير؛ قال: على من يا أبا الشرحبيل? قال: قدمت عليك أيها الأمير فدخلت مسجدكم فإذا أشبه شيء به وبمن فيه الجنة وأهلها، فوالله لبينا أنا أمشي فيه إذ قادتني رائحة عطر رجل حتى وقفت بي عليه، فلما وقع بصري عليه استلهاني حسنه فما أقلعت عنه حتى تكلم، فخلته لما تكلم يتلو زبورا ويدرس إنجيلا أو يقرأ قرآنا حتى سكت فلولا معرفتي بالأمير لشككت أنه هو، ثم خرج من مصلاه إلى داره، فسألت: من هو? فأخبرت أنه للحيين وبين الخليفتين، وأن قد نالته ولادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لها نور ساطع من غرته وذؤابته، فنعم المنكح ونعم حشو الرحل وابن العشيرة، فإن اجتمعت أنت وهو على ولد ساد العباد وجاب ذكره البلاد. فلما قضى ابن ميادة كلامه قال عبد الواحد ومن حضره: ذاك محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وأمه فاطمة بنت الحسين، فقال ابن ميادة:
لهم نبوة لم يعطها الله غيرهم وكل قضاء الله فهو مقسـم قال يحيى بن علي: ومما مدح به عبد الواحد لما قدم عليه قوله:
من كان أخطأه الربـيع فـإنـمـا نصر الحجاز بغيث عبد الـواحـد
إن المدينة أصبحت مـعـمـورة بمتوج حلو الشـمـائل مـاجـد
ولقد بلغت بغير أمـر تـكـلـف أعلى الحظوظ برغم أنف الحاسد
وملكت ما بين العـراق ويثـرب ملكا أجار لمسـلـم ومـعـاهـد
ماليهما ودميهما مـن بـعـد مـا غشى الضعيف شعاع سيف المارد التقاؤه جماعة يرتجزون بشعره
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني سعيد بن زيد السلمي قال: إنا لنزول أنا وأصحاب لي قبل الفطر بثلاث ليال على ماء لنا، فإذا راكب يسير على جمل ملتف بثوب والسماء تغسله حتى أناخ إلى أجم عرفته، فلما رأيناه لثقا قمنا إليه فوضعنا رحله وقيدنا جمله، فلما أقلعت السماء عنا وهو معنا قاعد قام غلمة منا يرتجزون والرجل لم ينتسب لنا ولا عرفناه، فارتجز أحدهم فقال:
أنا ابن ميادة لباس الـحـلـل أمر من مر وأحلى من عسل حتى قال له الرجل: يابن أخي، أتدري، من قال هذا الشعر? قال: نعم، ابن ميادة قال: فأنا هو ابن ميادة الرماح بن أبرد، وبات يعللنا من شعره، ويقطع عنا الليل بنشيده، وسرينا راحلين فصبحنا مكة فقضينا نسكنا، ولقيه رجلان من قومه من بني مرة فعرفهما وعرفاه، وأفطرنا بمكة، فلما انصرفنا من المسجد يوم الفطر إذا نحن بفارسين مسودين وراجلين مع المريين يقولون: أين ابن ميادة? فقلنا: ها هو وقد برزنا من خيمة كنا فيها، فقلنا لابن ميادة: ابرز؛ فلما نظر إلى المريين قال:
إحدى عشياتك يا شميرج - قال: وهذا رجز لبعض بني سليم يقوله لفرسه:
أقول والركبة فوق المنسج إحدى عشياتك يا شميرج
صفحة : 213
ويروى: مشمرج - فقالوا لابن ميادة: أجب الأمير عبد الصمد بن علي، وخذ معك من أصحابك من أحببت؛ فخرج وخرج معه منا أربعة نفر أنا أحدهم حتى وقفنا على باب دار الندوة، فدخل أحد المسودين، ثم خرج فقال: ادخل يا أبا شجرة، فدخلت على عبد الصمد بن علي فوجدته جالسا متوشحا بملحفة موردة؛ فقال لي: من أنت? قلت: رجل من بني سليم؛ فقال: مالك تصاحب المري وقد قتلوا معاوية بن عمرو وقالت الخنساء:
ألا ما لعينـي ألا مـا لـهـا لقد أخضل الدمع سربالهـا
فآليت آسى علـى هـالـك وأسـأل نـائحة مـالـهـا
أبعد ابن عمرو من ال الشري د حلت به الأرض أثقالهـا
فإن تـك مـرة أودت بــه فقد كان يكثر تقـتـالـهـا أترويها? قلت: نعم أصلح الله الأمير، وما زال من المعركة حتى قتل به خفاف بن عمرو المعروف بابن ندبة كبش القوم مالك بن حمار الفزاري ثم الشمخي، أما سمع الأمير قول خفاف بن ندبة في ذلك:
فإن تك خيلي قد أصيب صميمها فعمدا على عين تيممت مالكـا
تيممت كبش القوم حين رأيتـه وجانبت شبان الرجال الصعالكا
أقول له والرمح يأطر متـنـه تأمل خفافا إننـي أنـا ذلـكـا وقد توسط معاوية بن عمرو خيلهم فأكثر فيهم القتل، وقتل كبش القوم الذي أصيب بأيديهم؛ فقال: لله درك إذا ولدت النساء فليلدن مثلك وأمر لي بالف درهم، فدفعت إلي وخلع علي. وأدخل ابن ميادة فسلم عليه بالإمرة؛ فقال له: لا سلم الله عليك يا ماص كذا من أمه: فقال ابن ميادة: ما أكثر الماصين فضحك عبد الصمد، ودعا بدفتر فيه قصيدة ابن ميادة التي يقول فيها:
لنا الملك إلا أن شيئا تـعـده قريش ولو شئنا لداخت رقابها ثم قال لابن ميادة: أعتق ما أملك إن غادرت منها شيئا إن لم أبلغ غيظك، فقال ابن ميادة: أعتق ما أملك إن أنكرت منها بيتا قلته أو أقررت ببيت لم أقله؛ فقرأها عبد الصمد ثم قال له: أأنت قلت هذا? قال نعم؛ قال: أفكنت أمنت يابن ميادة أن ينقض عليك باز من قريش فيضرب رأسك فقال: ما أكثر البازين أفكان ذلك البازي آمنا أن يلقاه باز من قيس وهو يسير فيرميه فتشول رجلاه فضحك عبد الصمد ثم دعا بكسوة فكساهم.
تمثل بعض ولد الحسن بشعره
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الصمد بن شبيب قال قال أبو حذافة السهمي: سب رجل من قريش في أيام بني أمية بعض ولد الحسن بن علي، فأغلظ له وهو ساكت، والناس يعجبون من صبره عليه، فلما أطال أقبل الحسني عليه متمثلا بقول ابن ميادة:
أظنت سفاها من سفاهة رأيهـا أن أهجوها لما هجتني محارب
فلا وأبيها إنني بـعـشـيرتـي ونفسي عن ذاك المقام لراغب فقام القرشي خجلا وما رد عليه جوابا.
مدحه لجعفر بن سليمان أميرالمدينة
أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال: مدح ابن ميادة جعفر بن سليمان وهو على المدينة، فأخبرني مسمع بن عبد الملك أنه قام له بحاجته عند جعفر وأوصلها إليه. قال فقال له : جزاك الله خيرا ممن أنت رحمك الله? قلت: أحد بني مسمع؛ قال: ممن? قلت: من قيس بن ثعلبة؛ قال: ممن? عافاك الله قلت: من بكر بن وائل؛ قال: والله لو كنت سمعت ببكر بن وائل قط أو عرفتهم لمدحتك، ولكني ما سمعت ببكر قط ولا عرفتهم، ثم مدح جعفرا فقال:
لعمرك ما سيوف بني علـي بنابية الظـبـاة ولا كـلال
هم القوم الألى ورثوا أباهـم تراث محمد غير انتـحـال
وهم تركوا المقال لهم رفيعا وما تركوا عليهم من مقـال
حذوتم قومكم ما قد حـذوتـم كما يحذى المثال على المثال
فردوا في جراحكم أسـاكـم فقد أبلغتم مـر الـنـكـال يشير عليه بالعفو عن بني أمية ويذكره بأرحامهم.
أخبرنا بهذا الخبر يحيى بن علي عن سليمان المديني عن محمد بن سلام، قال يحيى قال أبو الحارث المري فيما ذكره إسحاق من أخباره: قال جعفر بن سليمان لابن ميادة: أتحب أن أعطيك مثل ما أعطاك ابن عمك رياح بن عثمان? فقال: لا، أيها الأمير، ولكن أعطني كما أعطاني ابن عمك الوليد بن يزيد.
صفحة : 214
قال يحيى وأخبرنا حماد عن أبيه عن أبي الحارث قال قال جعفر بن سليمان لابن ميادة: أأنت الذي تقول:
بني أسد أن تغضوا ثم تغضـبـوا وتغضب قريش تحم قيسا غضابها قال: لا والله ما هكذا قلت؛ قال: فكيف قلت? قال: قلت:
بني أسد إن تغضبوا ثم تغضبوا وتعدل قريش تحم قيسا غضابها هجا بني أسد وبني تميم
قال: صدقت هكذا قلت. وهذه القصيدة يهجو بها ابن ميادة بني أسد وبني تميم، وفيها يقول بعد هذا البيت الذي ذكره له جعفر بن سيمان:
وأحقر محقـور تـمـيم أخـوكـم وإن غضبت يربوعها وربـابـهـا
ألا ما أبالي أن تخنـدف خـنـدف ولست أبالي أن يطـن ذبـابـهـا
ولو أن قيسا قيس عيلان أقسـمـت على الشمس لم يطلع عليكم حجابها
ولو حاربتنا الجن لم نرفع الـقـنـا عن الجن حتى لا تهر كـلابـهـا
لنا المـلـك إلا أن شـيئا تـعـده قريش ولو شئنا لذلت رقـابـهـا
وإن غضبت من ذا قريش فقل لهـا معاذ الإله أن أكـون أهـابـهـا
وإن لقـوال الـجـواب وإنـنـي لمفتجر أشياء يعـيي جـوابـهـا
إذا غضبت قيس عليك تقـاصـرت يداك وفات الرجل منك ركابـهـا ابن ميادة وسماعة بن أشول
قال إسحاق في خبره فحدثني جبر بن رباط بن عامر بن نصر قال: فقال سماعة بن أشول النعامي يعارض ابن ميادة:
لعل ابن أشبانية عـارضـت بـه رعاء الشوي من مريح وعازب
يسامي فروعا من خزيمة أحرزت عليه ثنايا المجد من كل جـانـب فقال ابن ميادة: من هذا? لقد أغلق علي أغلق الله عليه قالوا: سماعة بن أشول؛ فقال: سماعة يسمع بي، وأشول يشول بي، والله لا أهاجيه أبدا، وسكت عنه.
هجاه عبد الرحمن بن جهيم الأسدي
وقال عبد الرحمن بن جهيم الأسدي أحد بني الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد يرد على ابن ميادة، وهي قصيدة طويلة ذكرت منها أبياتا:
لقد كذب العبد ابـن مـيادة الـذي ربا وهي وسط الشول تدمى كعابها
شرنبثة الأطراف لم يقن كـفـهـا خضاب ولم تشرق بعطر ثيابـهـا
أرماح إن تغضب صناديد خنـدف يهج لك حربا قصبها واعتيابـهـا ويروى اغتيابها من الغيبة. واعتيابها من العيب.
ولو أغضبت قيس قريشا لجـدعـت مسامع قيس وهي خضع رقابـهـا
لقد جر رماح ابن واهصة الخصـى على قومه حربا عظيما عـذابـهـا
وقد علم المملوح بـالـشـؤم رأسـه قتيبة أن لم تحم قيسا غـضـابـهـا
ولم تحمهـا أيام قـتـل ابـن حـازم وأيام قتلى كان خزيا مـصـابـهـا
ولا يوم لاقينا نـمـيرا فـقـتـلـت نمير وفرت كعبـهـا وكـلابـهـا
وإن تدع قيسا لا تجبـك وحـولـهـا خيول تميم سـعـدهـا وربـابـهـا
ولو أن قيسا قيس عيلان أصـحـرت لأنواء غنم غرقتـهـا شـعـابـهـا
ولو أن قرن الشمس كان لمـعـشـر لكان لنا إشراقها واحـتـجـابـهـا
ولكنـهـا لـلـه يمـلـك أمـرهـا بقدرته إصعادها وانـصـبـابـهـا
لعمري لئن شابت حلـيلة نـهـبـل لبئس شباب المرء كان شـبـابـهـا
ولم تدر حمراء العجـان أنـهـبـل أبوه أم الـمـري تـب تـبـابـهـا
فإن يك رمـاح بـن مـيادة الـتـي يصن إذا باتت بـأرض تـرابـهـا
جرى جري موهون القوى قصرت به لئمة أعراق إلـيه انـتـسـابـهـا
فلن تسبق المضمار في كل موطـن من الخيل عند الجد إلا عـرابـهـا
ووالـلـه لـولا أن قـيســـا أذلة لئام فلا يرضى لحـر سـبـابـهـا
لالحقتها بالـزنـج ثـم رمـيتـهـا بشنعاء يعيي القـائلـين جـوابـهـا ابن ميادة وأبان بن سعيد
أخبرني يحيى بن علي عن حماد عن أبيه قال: وجدت في كتاب أبي عمرو الشيباني فعرضته على أبي داود فعرفه أو عامته، قال:
صفحة : 215
إنا لجلوس على الهجم في ظل القصر عشية، إذ أقبل إلينا ثلاثة نفر يقودون ناقة حتى جلسوا إلى أبان بن سعيد بن عيينة بن حصن وهو في جماعة من بني عيينة، قال: فرأيت أجلة ثلاثة ما رأيتهم قط، فقلنا: من القوم? فقال أحدهم: أنا ابن ميادة وهذان من عشيرتي؛ فقال أبان لأحد بنيه: اذهب بهذه الناقة فأطلق عنها عند بيت أمك؛ فقال له ابن ميادة: هذه يا أبا جعفر السعلاة، أفلا أنشدك ما قلت فيها? قال: بلى فهات؛ فقال:
قعدت على السعلاة تنفض مسحهـا وتجذب مثل الأيم في برة الصفـر
تيمم خير الناس مـاء وحـاضـرا وتحمل حاجات تضمنهـا صـدري
فإني على رغم الأعـادي لـقـائل وجدت خيار الناس حي بني بـدر
لهم حاضر بالهجم لم أر مثـلـهـم من الناس حيا أهل بدو ولا حضـر
وخير معد مجلسا مجـلـس لـهـم يفيء عليه الظل من جانب القصر
أخص بـهـا روقـي عـيينة إنـه كذاك ضحاح الماء يأوي إلى الغمر
فأنتم أحق الناس أن تتـخـيروا ال مياه وأن ترعوا ذرى البلد القفـر قال: فكان أول قائم من القوم ركضة بن علي بن عيينة، وهو ابن عم أبان وعبدة بنت أبان، وكانت إبله في العطن وهي أكرم نعم بني عيينة وأكثره، فقال: ما سمعت كاليوم مديح قوم قط ، حكمك ماض في هذه الإبل؛ ثم قام آخر فقال مثل ذلك، وقام آخر وآخر؛ فقال ابن ميادة: يا بني عيينة، إني لم آتكم لتتبارى في شياطينكم في أموالكم، إنما كان علي دين فأردت أن تعطوني أبكرا أبيعها في ديني. فأقام عند أبان بن سعيد خمسة عشر يوما، ثم راح بتسع عشرة ناقة، فيها ناقة لابن أبان عشراء أو رباعية. قال يحيى في خبره: وقال يعقوب بن جعفر بن أبان بن سعيد بن عيينة: إني على الهجم يوما إذا أقبل رجل فجعل يصرف راحلته في الحياض فيرده الرجل بعد الرجل، فدعوته فقلت: اشرع في هذا الحوض؛ فلما شرع فسقى قال: من هذا الفتى? فقيل: هذا جعفر بن أبان بن سعيد بن عيينة؛ فقال:
بنو الصالحين الصالحون ومن يكن لآباء سوء يلقهـم حـيث سـيرا
فما العود إلا نابت فـي أرومـه أبي شجر العـيدان أن يتـغـيرا قال إسحاق: سألت أبا داود عن قوله:
كذاك ضحاح الماء يجري إلى الغمر فقال: أراد أن الأمر كله والسؤدد يصير إليه، كما يصير الماء إلى الغمرة حيث كانت.
ابن ميادة وأيوب بن سلمة
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال أخبرني مصعب بن الزبير قال: ضاف ابن ميادة أيوب بن سلمة فلم يقره، وابن ميادة من أخوال أيوب بن سلمة، فقال فيه:
ظللنا وقوفا عند باب ابـن أخـتـنـا وظل عن المعروف والمجد في شغل
صفا صلد عنـد الـنـدى ونـعـامة إذا الحرب أبدت عن نواجذها العصل ابن ميادة ورياح ابن عثمان
قال أبو أيوب وأخبرني مصعب قال: قدم ابن ميادة على رياح بن عثمان، وقد ولي المدينة وهو جاد في طلب محمد بن عبد الله بن حسن وإبراهيم أخيه، فقال له: اتخذ حرسا وجندا من غطفان واترك هؤلاء العبيد الذين تعطيهم دراهمك، وحذار من قريش؛ فاستخف بقوله ولم يقبل رأيه؛ فلما قتل رياح قال ابن ميادة:
أمرتك يا رياح بأمر حـزم فقلت هشيمة من أهل نجد
وقلت له تحفظ من قـريش ورقع كل حاشـية وبـرد
فوجدا ما وجدت على رياح وما أغنيت شيئا غير وجدي تشبيبه بالنساء
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال حدثني أكثم بن صيفي المري ثم الصاردي عن أبيه قال: كان ابن ميادة رأى امرأة من بني جشم بن معاوية ثم من بني حرام يقال لها: أم الوليد، وكانوا ساروا عليه، فأعجب بها وقال فيها:
ألا حبذا أم الوليد ومربع لنا ولها نشتو به ونصيف ويروي:
... ومـــربــــــع لنا ولها بالمشتوى ومصـيف
حرامية أما مـلاث إزارهـا فوعث وأما خصرها فلطيف
كأن القرون السود مقـذهـا إذا زال عنها برقع ونصيف
صفحة : 216
بها زرجونات بقفر تنسمت لها الريح حتى بينهن رفيف قال: فلما سمع زوجها هذه الأبيات أتاها فحلف بطلاقها: لئن وجد ابن ميادة عندها ليدقن فخذها، ثم أعرض عنها واغترها، حتى وجده يوما عند بيتها فدق فخذها، واحتمل فرحل ورحل بها معه؛ فقال ابن ميادة:
أتانا عام سار بنو كـلاب حراميون ليس لهم حرام
كأن بيوتهم شجر صغـار بقيعان تقيل بها النـعـام
حراميون لا يقرون ضيفا ولا يدرون ما خلق الكرام قال: ثم سارت عليهم بعد ذلك بنو جعفر بن كلاب، فأعجب بامرأة منهم يقال لها أم البختري، وكان يتحدث إليها مدة مقامهم، ثم ارتحلوا فقال فيها:
أرقت لبرق لا يفـتـر لامـعـه بشهب الربى والليل قد نام هاجعه
أرقت له من بعد ما نام صحبتـي وأعجبني إيماضه وتـتـابـعـه
يضيىء صبيرا من سحاب كأنـه هجان أرنت للحنـين نـوازعـه
هنيئا لأم البختـري الـروي بـه وإن أنهج الحبل الذي النأي قاطعه
لقد جعل المستبضع الغش بينـنـا ليصرح حبلينا تجوز بضـائعـه
فما سرحة تجري الجداول تحتهـا بمطرد القيعان عذب ينـابـعـه
بأحسن منها يوم قالت بذي الغضـا أترعى جديد الحبل أم أنت قاطعه وخطب إلى بني سلمى بن مالك
فلم يزوجوه فقال شعرا
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن ابي طاهر قال حدثني أحمد بن إبراهيم قال: وذكر أبو الأشعث أن ابن ميادة خطب امرأة من بين سلمى بن مالك بن جعفر ثم من بني البهثة - وهم بطن يقال لهم البهثاء - فأبوا أن يزوجوه وقالوا: أنت هجين ونحن أشرف منك؛ فقال:
فلو طاوعتني آل سلمى بن مالـك لأعطيت مهرا من مسرة غالـيا
وسرب كسرب العين من آل جعفر يغادين بالكحل العيون السـواجـيا
إذا ما هبطن النيل أو كـن دونـه بسرو الحمى ألقين ثم المـراسـيا مات في صدر خلافة المنصور
قال أحمد بن إبراهيم: مات ابن ميادة في صدر من خلافة المنصور، وقد كان مدحه ثم لم يفد إليه ولا مدحه، لما بلغه من قلة رغبته في مدائح الشعراء وقلة ثوابه لهم.
أخبار حنين الحيري
نسبه
حنين بن بلوع الحيري مختلف في نسبه، فقيل: إنه من العباديين من تميم، وقيل: إنه من بني الحارث بن كعب، وقيل من قوم بقوا من جديس وطسم فنزلوا في بني الحارث بن كعب فعدوا فيهم، ويكنى أبا كعب، وكان شاعرا مغنيا فحلا من فحول المغنين، وله صنعة فاضلة متقدمة، وكان يسكن الحيرة ويكري الجمال إلى الشأم وغيرها، وكان نصرانيا. وهو القائل يصف الحيرة ومنزله بها: صوت
أنا حنين ومنزلي الـنـجـف وما نديمي إلا الفتى القصف
أقرع بالكأس ثغـر بـاطـية مترعة، تـارة وأغـتـرف
من قهوة باكر التجار بـهـا بيت يهود قرارها الخـزف
والعيش غض ومنزلي خصب لم تغذني شقوة ولا عـنـف الغناء والشعر لحنين، ولحنه خفيف رمل بالبنصر. وفيه لابن المكي خفيف ثقيل قديم. ولعريب فيه خفيف ثقيل آخر عن الهشامي.
غنى هشام بن عبد الملك في الحج
أخبرنا وكيع قال قال حماد حدثني أبي عن أبي الخطاب قال وحدثني ابن كناسة عن سليمان بن داود: مولى ليحيى، وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن قعنب بن المحرز الباهلي عن المدائني قالوا جميعا: حج هشام بن عبد الملك وعديله الأبرش الكلبي، فوقف له حنين بظهر الكوفة ومعه عوده وزامر له، وعليه قلنسية طويلة، فلما مر هشام عرض له، فقال: من هذا? فقيل: حنين، فأمر به فحمل في محمل على جمل وعديله زامره، وسير به أمامه وهو يتغنى: صوت
أمن سلمى بظهر الكو فة الآيات والطـلـل
يلوح كما تلوح علـى جفون الصيقل والخلل - الصنعة في هذا الصوت لحنين ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى حنين أيضا وإلى غيره - قال: فأمر له هشام بمائتي دينار، وللزامر بمائة. وذكر إسحاق في خبره عن أبي الخطاب أنه غنى هشاما:
صفحة : 217
صوت
صاح هل أبصرت بالخب تين من أسـمـاء نـارا
موهنا شبـت لـعـينـي ك ولم توقـد نـهـارا
كتلالي البرق في المـز ن إذا البرق استـطـارا
أذكرتني الوصل من سع دى وأيامـا قـصـارا - الشعر للأحوص، والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. ونسبه ابن المكي إلى الغريض. وقال يونس: فيه لحنان لمالك ولم يجنسهما. وقال الهشامي: فيه لمالك خفيف رمل - قال: فلم يزل هشام يستعيده حتى نزل من النجف، فأمر له بمائتي دينار.
كان يغلي بغنائه الثمن وقال إسحاق: قيل لحنين: أنت تغني منذ خمسين سنة ما تركت لكريم مالا ولا دارا ولا عقارا إلا أتيت عليه فقال: بأبي أنتم، إنما هي أنفاسي أقسمها بين الناس، أفتلومونني أن أغلي بها الثمن.
غنى في ظل بيت أبي موسى الأشعري أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه ومصعب بن الزبير عن بعض المكيين، وأخبرني به الحرمي بن أبي العلاء وحبيب بن نصر قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال حدثني شيخ من المكيين يقال له شريس قال: إن لبالأبطح أيام الموسم نشتري ونبيع إذ أقبل شيخ أبيض الرأس واللحية على بغلة شهباء ما ندري أهو أشد بياضا أم بغلته أم ثيابه؛ فقال: أين بيت أبي موسى? فأشرنا له إلى الحائط؛ فمضى حتى انتهى إلى الظل من بيت أبي موسى، ثم استقبلنا ببغلته ووجهه ثم اندفع يغني: صوت
أسعـدينـي بـدمـعة أسـراب من دموع كثيرة الـتـسـكـاب
إن أهل الحصاب قد تركـونـي مغرما مولعا بأهل الحـصـاب
فارقوني وقد علـمـت يقـينـا ما لمـن ذاق مـيتة مـن إياب
سكنوا الجزع جزع بيت أبي مـو سى إلى النخل من صفي السباب
كم بذاك الحجون من حي صـدق وكـهـول أعـفة وشـبــاب
أهل بيت تتايعـوا لـلـمـنـايا ما على الموت بعدهم من عتاب
فلي الويل بعدهـم وعـلـيهـم صرت فردا وملني أصحـابـي - الشعر لكثير بن كثير بن المطلب بن أبي وداعة السهمي. والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى. وفيه لابن أبي دباكل الخزاعي ثاني ثقيل بالوسطى عن ابن خرداذبة - قال: ثم صرف الرجل بغلته وذهب، فتبعناه حتى أدركناه، فسألناه من هو، فقال: أنا حنين بن بلوع وأنا رجل جمال أكري الأبل ثم مضى.
خاف أن يفوقه ابن محرز بالعراق
فرده عنه
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد على أبي عن المدائني، قال: كان حنين غلاما يحمل الفاكهة بالحيرة، وكان لطيفا في عمل التحيات، فكان إذا حمل الرياحين إلى بيوت الفتيان ومياسير أهل الكوفة وأصحاب القيان والمتطربين إلى الحيرة ورأوا رشاقته وحسن قده وحلاوته وخفة روحه استحلوه، وأقام عندهم وخف لهم، فكان يسمع الغناء ويشتهيه ويصغي إليه ويستمعه ويطيل الإصغاء إليه، فلا يكاد ينتفع به في شيء إذا سمعه، حتى شدا منه أصواتا فأسمعها الناس - وكان مطبوعا حسن الصوت - واشتهوا غناءه والاستماع منه وعشرته، وشهر بالغناء ومهر فيه، وبلغ منه مبلغا كبيرا، ثم رحل إلى عمر بن داود الوادي وإلى حكم الوادي، وأخذ منهما، وغنى لنفسه في أشعار الناس، فأجاد الصنعة وأحكمها، ولم يكن بالعراق غيره فاستولى عليه في عصره. وقدم ابن محرز حينئذ إلى الكوفة فبلغ خبره حنينا، وقد كان يعرفه، فخشي أن يعرفه الناس فيستحلوه ويستولي على البلد فيسقط هو، قال له: كم منتك نفسك من العراق? قال: ألف دينار، قال: فهذه خمسمائة دينار عاجلة فخذها وانصرف واحلف لي أنك لا تعود إلى العراق؛ فأخذها وانصرف.
أخبرني عمي وعيسى بن الحسين قالا حدثنا أبو أيوب المدائني عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال: كان ابن محرز قدم الكوفة وبها بشر بن مروان، وقد بلغه أنه يشرب الشراب ويسمع الغناء، فصادفه وقد خرج إلى البصرة؛ وبلغ خبره حنين بن بلوع فتلطف له حتى دعاه؛ فغناه ابن محرز لحنه - قال أحمد بن إبراهيم وهو من الثقيل الثاني من جيد الأغاني -: صوت
وحر الزبرجد في نـظـمـه على واضح الليت زان العقودا
صفحة : 218
يفـصـل ياقـوتـــه دره وكالجمر أبصرت فيه الفريدا قال: فسمع شيئا هاله وحيره، فقال له حنين: كم منتك نفسك من العراق? قال: ألف دينار، فقال: هذه خمسمائة دينار حاصلة عاجلة ونفقتك في عودتك وبدأتك ودع العراق لي وامض مصاحبا حيث شئت - قال: وكان ابن محرز صغير الهمة لا يحب عشرة الملوك ولا يؤثر على الخلوة شيئا - فأخذها وانصرف.
خرج إلى حمص وغنى بها
فلم يستطعم أهلها غناؤه
وقال حماد في خبره قال أبي حدثني بعض أهل العلم بالغناء عن حنين قال: خرجت إلى حمص ألتمس الكسب بها وأرتاد من أستفيد منه شيئا، فسألت عن الفتيان بها وأين يجتمعون، فقيل لي: عليك بالحمامات فإنهم يجتمعون بها إذا أصبحوا فجئت إلى أحدها فدخلته، فإذا فيه جماعة منهم، فأنست وانبسطت، وأخبرتهم أني غريب، ثم خرجوا وخرجت معهم، فذهبوا بي إلى منزل أحدهم، فلما قعدنا أتينا بالطعام فأكلنا وأتينا بالشراب فشربنا، فقلت لهم: هل لكم في مغن يغنيكم? قالوا: ومن لنا بذلك? قلت: أنا لكم به، هاتوا عودا فأتيت به، فابتدأت في هنيات أبي عباد معبد، فكأنما غنيت للحيطان لا فكهوا لغنائي ولا سروا به، فقلت: ثقل عليهم غناء معبد لكثرة عمله وشدته وصعوبة مذهبه، فأخذت في غناء الغريض فإذا هو عندهم كلا شيء، وغنيت خفائف ابن سريج، وأهزاج حكم، والأغاني التي لي، واجتهد في أن يفهموا، فلم يتحرك من القوم أحد، وجعلوا يقولون: ليت أبا منبه قد جاءنا، فقلت في نفسي: أرى أني سأفتضح اليوم بأبي منبه فضيحة لم يتفضح أحد قط مثلها. فبينا نحن كذلك إذ جاء أبو منبه، وإذا هو شيخ عليه خفان أحمران كأنه جمال، فوثبوا جميعا إليه وسلموا عليه وقالوا: يا أبا منبه أبطأت علينا، وقدموا له الطعام وسقوه أقداحا، وخنست أنا حتى صرت كلا شيء خوفا منه، فأخذ العود ثم اندفع يغني:
طرب البحر فاعبري يا سفينه لا تشقي على رجال المدينة فأقبل القوم يصفقون ويطربون ويشربون، ثم أخذ في نحو هذا من الغناء؛ فقلت في نفسي: أنتم ها هنا لئن أصبحت سالما لا أمسيت في هذه البلدة. فلما أصبحت شددت رحلي على ناقتي واحتقبت ركوة من شراب ورحلت متوجها إلى الحيرة، وقلت:
ليت شعري متى تخب بي النا قة بين السدير والـصـنـين
محقبا ركوة وخـبـز رقـاق وبقولا وقطـعة مـن نـون
لست أبغي زادا سواها من الشا م وحسبي علالة تكـفـينـي
فإذا أبت سالما قلت سـحـقـا وبعادا لمعشر فـارقـونـي غنى خالد القسري بعد ما حرم الغناء
أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، وأخبرنا به وكيع في عقب أخبار رواها عن حماد بن إسحاق عن أبيه فقال: وقال لي إسحاق، فلا أدري أأدرج الإسناد وهو سماعه أم ذكره مرسلا، قال إسحاق وذكر ابن كناسة: أن خالد بن عبد الله القسري حرم الغناء بالعراق في أيامه، ثم أذن للناس يوما في الدخول عليه عامة ، فدخل إليه حنين ومعه عود تحت ثيابه، فقال: أصلح الله الأمير، كانت لي صناعة أعود بها على عيالي فحرمها الأمير فأضر ذلك بي وبهم، فقال: وما صناعتك? فكشف عن عوده وقال: هذا؛ فقال له خالد: عن، فحرك أوتاره وغنى: صوت
أيها الشأمت المعير بـالـده ر أأنت المبرأ المـوفـور
أم لديك العهد الوثيق من الأي ام بل أنت جاهل مغـرور
من رأيت المنون خلدن أم من ذا عليه من أن يضام خفـير قال: فبكى خالد وقال: قد أذنت لك وحدك خاصة فلا تجالسن سفيها ولا معربدا. فكان إذا دعي قال: أفيكم سفيه أو معربد? فإذا قيل له: لا، دخل.
شعر هذا الصوت المذكور لعدي بن زيد، والغناء لحنين رمل بالوسطى عن عمرو. وقوله: المبرأ، يعني المبرأ من المصائب. والموفور: الذي لم يذهب من ماله ولا من حاله شيء، يقال: وفر الرجل يوفر. ولديك بمعنى عندك ها هنا.
غنى بشر بن مروان بحضور الشعبي
صفحة : 219
أخبرني أبو صالح محمد بن عبد الواحد الصحاف الكوفي قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي قال أخبرنا الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش وعن مجالد عن الشعبي جميعا، وأخبرني محمد بن مزيد وحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش عن الشعبي قال: لما ولي بشر بن مروان الكوفة كنت على مظالمه، فأتيته عشية وحاجبه أعين صاحب حمام أعين جالس، فقلت له: استأذن لي على الأمير فقال لي: يا أبا عمرو، هو على حال ما أظنك تصل إليه معها؛ فقلت: أعلمه - وخلاك ذم - فقد حدث أمر لابد لي من إنهائه إليه - وكان لا يجلس بالعشي - فقال: لا، ولكن اكتب حاجتك في رقعة حتى أوصلها إليه؛ فكتبت رقعة، فما لبث أن خرج التوقيع على ظهرها: ليس الشعبي ممن يحتشم منه فأذن له، فأذن لي فقال: ادخل، فدخلت فإذا بشر بن مروان عليه غلالة رقيقة صفراء وملاءة تقوم قياما من شدة الصقال، وعلى رأسه إكليل من ريحان، وعلى يمينه عكرمة بن ربعى، وعلى يساره خالد بن عتاب بن ورقاء، وإذا بين يديه حنين بن بلوع معه عوده، فسلمت فرد علي السلام ورحب وقرب، ثم قال: يا أبا عمرو، لو كان غيرك لم آذن له على هذه الحال، فقلت: أصلح الله الأمير، عندي لك الستر لكل ما أرى منك والدخول معك فيما لا يجمل، والشكر على ماتوليني؛ فقال: كذلك الظن بك، ثم التفت إلى حنين وعوده في حجره وعليه قباء خشك شوي - وقال إسحاق: خشكون - ومستقة حمراء وخفان مكعبان، فسلم علي؛ فقلت له: كيف أنت ابا كعب، فقال: بخير أبا عمرو؛ فقلت: احزق الزير وأعرخ البم ففعل؛ وضرب فأجاد؛ فقال بشر لأصحابه: تلومونني على أن آذن له في كل حال ثم أقبل علي فقال: أبا عمرو، من أين وقع لك حزق الزير? فقلت: ظننت أن الأمر هناك، فقال: فإن الأمر كما ظننت هناك كله. ثم قال: فمن أين تعرف حنينا? فقلت: هذا بطة أعراسنا فكيف لا أعرفه فضحك، وغنى حنين فأجاد فطرب وأمر له بجائزة، ثم ودعته وقمت بعد أن ذكرت له ما جئت فيه، فأمر لي بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب، فقمت مع الخادم حتى قبضت ذلك منه وانصرفت. وقد وجدت هذا الخبر بخط أبي سعيد السكري يأثره عن محمد بن عثمان المخزومي عن أبيه عن جده: أنه كان عند بشر بن مروان يوم دخل عليه الشعبي هذا المدخل وأن حنين بن بلوع غناه:
هم كتموني سيرهم حين أزمعوا وقالوا اتعدنا للرواح وبكـروا وهذا القول خطأ قبيح، لأن هذا الشعر للعباس بن الأحنف، والغناء لعلويه رمل بالوسطى، وغني للمأمون فيه فقال: سخروا من أبي الفضل أعزه الله.
شيء من أوصاف الحيرة
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق: قرأت على أبي، وقال أبو عبيد الله الكاتب حدثني سليمان بن بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان قال: وكان بعض ولاة الكوفة يذم الحيرة في أيام بني أمية، فقال له رجل من أهلها - وكان عاقلا ظريفا -: أتعيب بلدة يضرب بها المثل في الجاهلية والإسلام قال: وبماذا تمدح? قال: بصحة هوائها، وطيب مائها، ونزهة ظاهرها، تصلح للخف والظلف، سهل وجبل، وبادية وبستان، وبر وبحر، محل الملوك ومزارهم، ومسكنهم ومثواهم، وقد قدمتها - أصلحك الله - مخفا فرجعت مثقلا ووردتها مقلا فأصارتك مكثرا، قال: فكيف نعرف ما وصفتها به من الفضل? قال: بأن تصير إلي، ثم ادع ما شئت من لذات العيش، فوالله لا أجوز بك الحيرة فيه؛ قال: فاصنع لنا صنيعا واخرج من قولك؛ قال: أفعل، فصنع لهم طعاما وأطعمهم من خبزها وسمكها وماصيد من وحشها: من ظباء ونعام وأرانب وحبارى، وسقاهم من ماءها في قلالها، وخمرها في آنيتها، وأجلسهم على رقمها - وكان يتخذ بها من الفرش أشياء ظريفة - ولم يستخدم لهم حرا ولا عبدا إلا من مولديها ومولداتها من خدم ووصائف ووصفاء كأنهم اللؤلؤ لغتهم لغة أهلها، ثم غناهم حنين وأصحابه في شعر عدي بن زيد شاعرهم وأعشى همدان لم يتجاوزهما، وحياهم برياحينها، ونقلهم على خمرها، وقد شربوا بفواكهها؛ ثم قال له: هل رأيتني استعنت على شيء مما رأيت وأكلت وشربت وافترشت وشممت وسمعت بغير ما في الحيرة? قال: لا والله، لقد أحسنت صفة بلدك ونصرته فأحسنت نصرته والخروج مما تضمنته، فبارك الله لكم في بلدكم.
المغنون المشهورون بالحيرة غير حنين ونوع غنائهم
صفحة : 220
قال إسحاق: ولم يكن بالحيرة مذكور في الغناء سوى حنين إلا نفرا من السدريين يقال لهم: عباديس، وزيد بن الطليس، وزيد بن كعب، ومالك بن حممة، وكانوا يغنون غناء الحيرة بين الهزج والنصب وهو إلى النصب أقرب ولم يدون منه شيء لسقوطه وأنه ليس من أغاني الفحول. وما سمعنا نحن لأحد من هؤلاء خبرا إلا لمالك بن حممة، أخبرني به عمي عن عبد الله بن أبي سعد.
عمره ونسبه
وقال وكيع في خبره عن إسحاق حدثني أبو بشر الفزاري قال حدثني بشر بن الحسين بن سليمان بن سمرة بن جندب قال: عاش حنين بن بلوع مائة سنة وسبع سنين، وكان يقال أنه من جديس؛ قال وقيل أيضا: إنه من لخم، وكان هو يزعم أنه عبادي وأخواله من بني الحارث بن كعب غنى حفيده لإبراهيم بن المهدي
وقص عليه خبر جده مع ابن سريج
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال: كنت مع الرشيد في السنة التي نزل فيها على عون العبادي، فأتاني عون بابن ابن حنين بن بلوع، وهو شيخ، فغناني عدة أصوات لجده، فما استحسنتها، لأن الشيخ كان مشوه الخلق، طن الغناء، قليل الحلاوة، إلا أنه كان لا يفارق عمود الصوت أبدا حتى يفرغ منه، فغناني صوت ابن سريج:
فتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم فما أذكر أني سمعته من أحد قط أحسن مما سمعته منه، فقلت له: لقد أحسنت في هذا الصوت، وما هو من أغاني جدك، وإني لأعجب من ذلك فقال لي الشيخ: والصليب والقربان ما صنع هذا الصوت إلا في منزلنا وفي سرداب لجدي، ولقد كاد أن ياتي على نفس عمتي؛ فسألته عن الخبر في ذلك فقال: ضافه ابن سريج متنكرا فأكرمه ثم بالغ في إكرامه لما عرفه حدثني أبي أن عبيد بن سريج قدم الحيرة ومعه ثلثمائة دينار. فأتى بها منزلنا في ولاية بشر بن مروان الكوفة، وقال: أنا رجل من أهل الحجاز من أهل مكة، بلغني طيب الحيرة وجودة خمرها وحسن غنائك في هذا الشعر:
حنتني حانيات الدهر حـتـى كأني خاتـل يدنـو لـصـيد
قريب الخطو يحسب من رآني ولست مقـيدا أنـي بـقـيد فخرجت بهذه الدنانير لأنفقها معك وعندك ونتعاشر حتى تنفد وأنصرف إلى منزلي. فسأله جدي عن اسمه ونسبه فغيرهما وانتمى إلى بني مخزوم، فأخذ جدي المال منه وقال: موفر مالك عليك ولك عندنا كل ما يحتاج إليه مثلك ما نشطت للمقام عندنا، فإذا دعتك نفسك إلى بلدك جهزناك إليه ورددنا عليك مالك وأخلفنا ما أنفقته عليك إلى أن جئتنا، وأسكنه دارا كان ينفرد فيها، فمكث عندنا شهرين لا يعلم جدي ولا أحد من أهلنا أنه يغني، حتى انصرف جدي من دار بشر بن مروان في يوم صائف مع قيام الظهيرة، فصار إلى باب الدار التي كان أنزل ابن سريج فيها فوجده مغلقا فارتاب بذلك، ودق الباب فلم يفتح له ولم يجبه أحد، فصار إلى منازل الحرم فلم يجد فيها ابنته ولا جواريه، ورأى ما بين الدار التي فيها الحرم ودار ابن سريج مفتوحا، فانتضى سيفه ودخل الدار ليقتل ابنته؛ فلما دخلها رأى ابنته وجواريه وقوفا على باب السرداب، وهن يومئن إليه بالسكوت وتخفيف الوطء، فلم يلتفت إلى إشارتهن لما تداخله، إلى أن سمع ترنم ابن سريج بهذا الصوت، فألقى السيف من يده وصاح به - وقد عرفه من غير أن يكون رآه، ولكن بالنعت والحذق -: أبا يحيى، جعلت فداءك، أتيتنا بثلثمائة دينار لتنفقها عندنا في حيرتنا فوحق المسيح لا خرجت منها إلا ومعك ثلثمائة دينار وثلثمائة دينار وثلثمائة دينار سوى ما جئت به معك، ثم دخل إليه فعانقه ورحب به ولقيه بخلاف ما كان يلقاه به، وسأله عن هذا الصوت، فأخبره أنه صاغه في ذلك الوقت. فصار معه إلى بشر بن مروان فوصله بعشرة آلاف درهم أول مرة، ثم وصله بعد ذلك بمثلها؛ فلما أراد الخروج رد عليه جدي ماله وجهزه ووصله بمقدار نفقته التي أنفقها من مكة إلى الحيرة، ورجع ابن سريج إلى أهله وقد أخذ جميع من كان في دارنا منه هذا الصوت.
استقدمه ابن سريج والغريض ومعبد إلى الحجاز فقدم وغنى فازدحم الناس فسقط عليه السطح فمات أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني حسان بن محمد الحارثي قال حدثنا عبد الله قال حدثنا عبيد بن حنين الحيري قال:
صفحة : 221
كان المغنون في عصر جدي أربعة نفر ثلاثة بالحجاز وهو وحده بالعراق، والذين بالحجاز: ابن سريج والغريض ومعبد، فكان يبلغهم أن جدي حنينا قد غنى في هذا الشعر:
هلا بكيت على الشباب الذاهـب وكففت عن ذم المشـيب الآئب
هذا ورب مسوفين سقـيتـهـم من خمر بابل لذة لـلـشـارب
بكروا علي بسحرة فصبحتـهـم من ذات كوب مثل قعب الحالب
بزجاجة ملء الـيدين كـأنـهـا قنديل فصح في كنيسة راهـب قال: فاجتمعوا فتذاكروا أمر جدي وقالوا: ما في الدنيا أهل صناعة شر منا، لنا أخ بالعراق ونحن بالحجاز، لا نزوره ولا نستزيره. فكتبوا إليه ووجهوا إليه نفقة وكتبوا يقولون: نحن ثلاثة وأنت وحدك فأنت أولى بزيارتنا، فشخص إليهم، فلما كان على مرحلة من المدينة بلغهم خبره فخرجوا يتلقونه، فلم ير يوم كان أكثر حشرا ولا جمعا من يومئذ، ودخلوا، فلما صاروا في بعض الطريق قال لهم معبد: صيروا إلي؛ فقال له ابن سريج: إن كان لك من الشرف والمروءة مثل ما لمولاتي سكينة بنت الحسين عطفنا إليك؛ فقال: مالي من ذلك شيء، وعدلوا إلى منزل سكينة. فلما دخلوا إليها أذنت للناس إذنا فغصت الدار بهم وصعدوا فوق السطح، وأمرت لهم بالأطعمة فأكلوا منها، ثم إنهم سألوا جدي حنينا أن يغنيهم صوته الذي أوله:
هلا بكيت على الشباب الذاهب فغناهم إياه بعد أن قال لهم: ابدءوا أنتم؛ فقالوا: ما كنا لنتقدمك ولا نغني قبلك حتى نسمع هذا الصوت؛ فغناهم إياه، وكان من أحسن الناس صوتا، فازدحم الناس على السطح وكثروا ليسمعوه، فسقط الرواق على من تحته فسلموا جميعا وأخرجوا أصحاء، ومات حنين تحت الهدم؛ فقالت سكينة: لقد كدر علينا حنين سرورنا، انتظرناه مدة طويلة وكأنا والله كنا نسوقه إلى منيته.
نسبة ما في الخبر الأول من الغناء
الغناء في الأصوات المتقدمة صوت
وتركته جزر السباع ينشنه ما بين قلة رأسه والمعصم
إن تغدفي دوني القناع فإنني طب بأخذ الفارس المستلئم الشعر لعنترة بن شداد العبسي، والغناء فيه لحنين ثاني ثقيل.
ومنها: صوت
حنتني حانيات الدهر حـتـى كأني خاتـل يدنـو لـصـيد
قريب الخطو يحسب من رآني ولست مقـيدا أنـي بـقـيد الغناء لحنين الحيري ثقيل أول: وفيه لإبراهيم الموصلي ماخوري جميعا عن ابن المكي، ووافقه عمرو بن بانة في لحن إبراهيم الموصلي. ونسبة الشعر الذي غناه حنين في منزل سكينة يقال: إنه لعدي بن زيد، وقيل: إن بعضه له وقد أضافه المغنون إليه. ولحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.
صوت من المائة المختارة
راع الفؤاد تفرق الأحـبـاب يوم الرحيل فهاج لي أطرابي
فظللت مكتئبا أكفكف عبـرة سحا تفيض كواشل الأسراب
لما تنادوا للرحـيل وقـربـوا بزل الجمال لطـية وذهـاب
كاد الأسى يقضي عليك صبابة والوجه منك لبين إلفك كابي عروضه من الكامل. والشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء للغريض، ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. وقال حبش: وفيه لأبي كامل ثاني ثقيل بالوسطى . وذكر حبش: أن للغريض أيضا فيه خفيف ثقيل بالوسطى. ولمالك ثقيل أول بالوسطى. وهذه الأبيات قالها عمر بن أبي ربيعة في بنت لعبد الملك بن مروان كانت حجت في خلافته.
ابن أبي ربيعة مع بنت عبد الملك
أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال أخبرني أبو هفان عن إسحاق بن إبراهيم عن الزبيري والمدائني ومحمد بن سلام والمسيبي:
صفحة : 222
أن بنتا لعبد الملك بن مروان حجت، فكتب الحجاج إلى عمر بن أبي ربيعة يتوعده إن ذكرها في شعره بكل مكروه؛ وكانت تحب أن يقول فيها شيئا وتتعرض لذلك، فلم يفعل خوفا من الحجاج. فلما قضت حجها خرجت فمر بها رجل فقالت له: من أين أنت? قال: من أهل مكة؛ قالت: عليك وعلى أهل بلدك لعنة الله قال: ولم ذاك? قالت: حججت فدخلت مكة ومعي من الجواري ما لم تر الأعين مثلهن، فلم يستطع الفاسق ابن أبي ربيعة أن يزودنا من شعره أبياتا نلهو بها في الطريق في سفرنا قال: فإني لا أراه إلا قد فعل؛ قالت: فأتنا بشيء إن كان قاله ولك بكل بيت عشرة دنانير؛ فمضى إليه فأخبره؛ فقال: لقد فعلت، ولكن أحب أن تكتم علي؛ قال: أفعل؛ فأنشده:
راع الفؤاد تفرق الأحـبـاب يوم الرحيل فهاج لي أطرابي وهي طويلة. وأنشده:
هاج قلبي تذكر الأحبـاب واعترتني نوائب الأطراب وهي طويلة أيضا، يقول فيها:
اقتليني قتلا سريعـا مـريحـا لا تكوني علي سـوط عـذاب
شف عنها محـقـق جـنـدي فهي كالشمس من خلال سحاب - ذكر حبش: أن في هذه الثلاثة الأبيات للهذلي ثاني ثقيل بالبنصر - قال: فعاد إليها الرجل فأنشدها هاتين القصيدتين فدفعت إليه ما وعدته به.
ذكر الغريض وأخباره
اسمه وكنيته وسبب لقبه
الغريض لقب لقب به، لأنه كان طري الوجه نضرا غض الشباب حسن المنظر، فلقب بذلك. والغريض: الطري من كل شيء. وقال ابن الكلبي: شبه بالإغريض وهو الجمار فسمي به، وثقل ذلك على الألسنة فحذفت الألف منه، فقيل له: الغريض: واسمه: عبد الملك، وكنيته: أبو يزيد.
وأخبرنا إسماعيل بن يونس الشيعي عن عمر بن شبة عن أبي غسان عن جماعة من المكيين: أنه كان يكنى أبا مروان. وهو مولى العبلات، وكان مولدا من مولدي البربر. وولاؤه وولاء يحيى قيل وسمية للثريا صاحبة عمر بن أبي ربيعة وأخواتها: الرضيا وقريبة وأم عثمان بنات علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر، وقد مضت أخبارهن في صدر الكتاب.
أخذه الغناء عن ابن سريج
فلما رأى ابن سريج مخايل التفوق فيه حده وطرده
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد بن نصر الضبعي قال حدثني عبد الكريم بن أبي معاوية العلابي عن هشام بن الكلبي عن أبيه وعن أبي مسكين، وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى، وأخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن أبي الأزهر حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبيري والمدائني ومحمد بن سلام، وقد جمعت رواياتهم في قصة الغريض، قالوا: كان الغريض يضرب بالعود وينقر بالدف ويوقع بالقضيب، وكان جميلا وضيئا، وكان يصنع نفسه ويبرقها. وكان قبل أن يغني خياطا. وأخذ الغناء في أول أمره عن ابن سريج، لأنه كان يخدمه. فلما رأى ابن سريج طبعه وظرفه وحلاوة منطقه خشي أن يأخذ غناءه فيغلبه عليه عند الناس ويفوقه بحسن وجهه وجسده؛ فاعتل عليه، وشكاه إلى مولياته، وهن كن دفعنه إليه ليعلمه الغناء، وجعل يتجنى عليه ثم طرده؛ فشكا ذلك إلى مولياته وعرفهن غرض ابن سريج في تنحيته إياه عن نفسه، وأنه حسده على تقدمه؛ تعلم النوح وكان ينوح في المآتم
فقلن له: هل لك في أن تسمع نوحنا على قتلانا فتأخذه وتغني عليه? قال: نعم فافعلن، فأسمعنه المراثي فاحتذاها وخرج غناء عليها كالمراثي، وكان ينوح مع ذلك فيدخل المآتم وتضرب دونه الحجب ثم ينوح فيفتن كل من سمعه. ولما كثر غناؤه اشتهاه الناس وعدلوا إليه لما كان فيه من الشجا. فكان ابن سريج لا يغني صوتا إلا عارضه الغريض فيه لحنا آخر. فلما رأى ابن سريج موقع الغريض اشتد عليه وحسده، فغنى الأرمال والأهزاج فاشتهاها الناس؛ فقال له الغريض: يا أبا يحيى، قصرت الغناء وحذفته؛ قال: نعم يا مخنث حين جعلت تنوح على أمك وأبيك.
صفحة : 223
قال إسحاق وحدثني أبو عبيدة قال: لما غضب ابن سريج على الغريض فأقصاه وهجره لحق بحوراء وبغوم - جاريتين نائحتين كانتا في شعب ابن عامر بمكة، ولم يكن قبلهما ولا بعدهما مثلهما - فرأتاه يوما يعصر عينيه ويبكي؛ فقالتا له: ما لك تبكي? فذكر لهما ما صنع به ابن سريج؛ فقالتا له: لا أرقأ الله دمعك ألزز رأسك بين ما أخذته عنه وبين ما تأخذه منا، فإن ضعت بعدها فأبعدك الله.
عداده في الأربعة المشهورين بالغناء
قال إسحاق وحدثني أبو عبد الله الزبيري قال: رأيت جريرا في مجلس من مجالس قريش فسمعته يقول: كان المغنون بمكة أربعة، فسيد مبرز وتابع مسدد؛ فسألناه عن ذاك، فقال: كان السيد أبو يحيى بن سريج والتابع أبو يزيد الغريض. وكان هناك رجل عالم بالصناعة فقال: كان الغريض أحذق أهل زمانه بمكة بالغناء بعد ابن سريج، كان الناس لا يفرقون بينه وبين ابن سريج وما زال أصحابنا لا يفرقون بينهما لمقاربتهما في الغناء. قال الزبيري وقال بعض أهلي: لو حكمت بين أبي يحيى وابي يزيد لما فرقت بينهما، وإنما تفضيلي أبا يحيى بالسبق، فأما غير ذلك فلا، لأن أبا يزيد عنه أخذ ومن بحره اغترف وفي ميدانه جرى، فكان كأنه هو؛ ولذلك قالت سكينة لما غنى الغريض وابن سريج:
عوجي علينا ربة الهودج والله ما أفرق بينكما، وما مثلكما عندي إلا كمثل اللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان لا يدرى أي ذلك أحسن.
<H6 قيل كان أشجى غناء من ابن سريج</H6 قال إسحاق: وسمعت جماعة من البصراء عند أبي يتذاكرونهما، فأجمعوا على أن الغريض أشجى غناء، وأن ابن سريج أحكم صنعة.
غنى الناس بجمع فحسبوه من الجن
قال إسحاق وحدثني أبو عبد الله الزبيري قال حدثني بعض أهلي قال: حججنا فلما كنا بجمع سمعنا صوتا لم نسمع أحسن منه ولا أشجى، فأصغى الناس كلهم إليه تعجبا من حسنه، فسألت: من هذا الرجل? فقيل لي: الغريض، فتتابع جماعة من أهل مكة فقالوا: ما نعرف اليوم أحسن غناء من الغريض، ويدلك على ذلك أنه يعترض بصوته الحاج وهم في حجهم فيصغون إليه. فسألوا الغريض عن ذلك، فقال: نعم، فسألوه أن يغنيهم فأجابهم، وخرج فوقف حيث لا يرى ويسمع صوته فترنم ورجع صوته وغنى في شعر عمر بن أبي ربيعة:
أيها الرائح المجد ابتـكـارا قد قضى من تهامة الأوطارا فما سمع السامعون شيئا كان أحسن من ذلك الصوت، وتكلم الناس فقالوا: طائفة من الجن حجاج.
نسبة هذا الصوت
صوت
أيها الرائح المجد ابتـكـارا قد قضى من تهامة الأوطارا
من يكن قلبه الغـداة خـلـيا ففؤادي بالخيف أمسى معارا
ليت ذا الحج كان حتما علينـا كل شهرين حجة واعتمـارا عروضه من الخفيف. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن محرز، ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الثاني بالخنصر في مجرى الوسطى. وفيه لحن للغريض من رواية حماد عن أبيه.
غنى هو ومعبد وابن سريج
على أبي قبيس فعفا الوالي عنهم بعد الأمر بنفيهم
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم قال: بلغني أن معبدا وابن سريج والغريض اجتمعوا بمكة ذات ليلة فقالوا: هلم نبك أهل مكة، ووجدت هذا الخبر بغير إسناد مرويا عن يونس الكاتب: أن أميرا من أمراء مكة أمر بإخراج المغنين من الحرم، فلما كان في الليلة التي عزم بهم على النفي في غدها اجتمعوا على أبي قبيس - وكان معبد قد زارهم - فبدأ معبد فغنى - كذا روي عن يونس ولم يذكره الباقون: صوت
أتربي من أعلى معد هديتما أجدا البكا إن التفرق باكر
فما مكثنا دام الجميل عليكما بثهلان إلا أن تزم الأباعر - عروضه من الطويل. هكذا ذكره ولم ينسبه ولا جنسه - قال: فتأوه أهل مكة وأنوا وتمخطوا. واندفع الغريض يغني:
أيها الرائح المجد ابتـكـارا قد قضى من تهامة الأوطارا فارتفع البكاء والنحيب. واندفع ابن سريج يغني:
جددي الوصل يا قريب وجودي لمحب فـراقـه قـد ألـمـا
ليس بين الحياة والـمـوت إلا أن يردوا جمالهم فـتـزمـا
صفحة : 224
فارتفع الصراخ من الدور بالويل والحرب. قال يونس في خبره: واجتمع الناس إلى الأمير فاستعفوه من نفيهم فأعفاهم. وذكر الباقون أن الغريض ابتدأ بلحنه:
أيها الراكب المجد ابتكارا وتلاه ابن سريج في جددي الوصل. قال: وارتفع الصراخ فلم يسمع من معبد شيء ولم يقدر على أن يغني.
غنت شطباء المغنية علي بن جعفر فطرب
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عبد الرحمن بن محمد السعدي قال: حضرت شطباء المغنية جارية علي بن جعفر ذات يوم تغني:
ليس بين الرحيل والبين إلا أن يردوا جمالهم فتزمـا فطرب علي بن جعفر وصاح: سبحان الله العظيم ألا يوكون قربة ألا يشدون محملا ألا يعلقون سفرة ألا يسلمون على جار هذه والله العجلة.
لما ماتت الثريا ناح عليها الغريض
أخبرني أحمد بن عبد العزيز وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى قال زعم عبيد بن يعلى قال: قال لي كثير بن كثير السهمي: لما ماتت الثريا أتاني الغريض فقال لي: قل لي شعرا أبك به عليها؛ فقلت: صوت
ألا يا عين ما لك تدمعينـا أمن رمد بكيت فتكحلينـا
أم أنت مريضة تبكين شجوا فشجوك مثله أبكى العيونا فناح به عليها. قال: وأخبرني من رآه بين عمودي سريرها ينوح به. الغناء للغريض في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكي. وفيه ثقيل أول مجهول.
تحاكم هو وابن سريج إلى سكينة
بنت الحسين فساوت بينهما
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن سلام وأخبرنا وكيع قال: حدثنا محمد بن إسماعيل عن محمد بن سلام عن جرير، ورواه حماد عن أبيه عن ابن سلام عن جرير أيضا: أن سكينة بنت الحسين حجت فدخل إليها ابن سريج والغريض وقد استعار ابن سريج حلة لامرأة من قريش فلبسها؛ فقال لها ابن سريج: يا سيدتي، إني كنت صنعت صوتا وحسنته وتنوقت فيه، وخبأته لك في حريرة في درج مملوء مسكا فنازعنيه هذا الفاسق - يعني الغريض - فأردنا أن نتحاكم إليك فيه. فأينا قدمته فيه تقدم؛ قالت: هاته، فغناها:
عوجي علينا ربة الهودج إنك إلا تفعلي تحرجي فقالت: هاته أنت يا غريض؛ فغناها إياها؛ فقالت لابن سريج: أعده، فأعاده، وقالت: يا غريض، أعده، فأعاده؛ فقالت: ما أشبهكما إلا بالجديين: الحار والبارد لا يدرى أيهما أطيب. وقال إسحاق في خبره: ما أشبهكما إلا باللؤلؤ والياقوت في أعناق الجواري الحسان لا يدرى أيهما أحسن.
نسبة هذا الصوت
صوت
عوجي علينا ربة الـهـودج إنك إلا تفعلي تـحـرجـي
إني أتيحـت لـي يمـانـية إحدى بني الحارث من مذحج
نلبث حولا كـامـلا كـلـه لا نلتقي إلا على مـنـهـج
في الحج إن حجت وماذا مني وأهله إن هي لم تـحـجـج
أيسر ما نال مـحـب لـدى بين حبـيب قـولـه عـرج عروضه من السريع. والشعر للعرجي. والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو. وفيه للغريض ثقيل أول بالوسطى عن حبس. ولإسحاق في الأول والثالث ثقيل أول بالبنصر عن عمرو. وللأبجر فيه ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن ابن المكي. ولعلوية خفيف ثقيل عن الهشامي. ولحكم خفيف رمل عنه أيضا.
غنى عطاء بشعر العرجي فرده عليه
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن بشر قال حدثني إبراهيم بن المنذر قال حدثني حمزة بن عتبة اللهبي عن عبد الوهاب بن مجاهد أو غيره قال: كنت مع عطاء بن ابي رباح فجاءه رجل فأنشده قول العرجي:
إني أتيحت لي يمانية وذكر الأبيات وختمها بقوله:
في الحج إن حجت وماذا منى وأهله إن هي لم تحـجـج قال فقال عطاء: بمنى والله وأهله خير كثير إذ غيبها الله وإياه عن مشاعره.
قصة الأوقص المخزومي مع سكران يغني
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال: ولي قضاء مكة الأوقص المخزومي فما رأى الناس مثله في عفافه ونبله، فإنه لنائم ليلة في جناح له إذ مر به سكران يتغنى:
عوجي علينا ربة الهودج
صفحة : 225
فأشرف عليه فقال: يا هذا شربت حراما وأيقظت نياما وغنيت خطأ خذه عني فأصلحه له وانصرف.
عطاء بن رباح والأبجر المغني
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق عن حمزة بن عتبة اللهبي قال: مر الأبجر بعطاء وهو سكران فعذله وقال: شهرت نفسك بالغناء واطرحتها وأنت ذو مروءة، فقال: امرأته طالق ثلاثا إن برحت أو أغنيك صوتا، فإن قلت لي: هو قبيح تركته؛ فقال له عطاء: هات ويحك فقد أضررت بي، فغناه:
في الحج إن حجت وماذا مني وأهله إن هي لم تحـجـج فقال له عطاء: الخير والله كله هناك حجت أو لم تحج، فاذهب الآن راشدا فقد برت يمينك.
ابن أبي عتيق والغريض
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني المغيرة بن محمد قال حدثني هارون بن موسى الفروي قال حدثني بعض المدنيين قال: خرج ابن أبي عتيق على نجيب له من المدينة قد أوقره من طرف المدينة المشارب وغير ذلك، فلقي فتى من بني مخزوم مقبلا من بعض ضياعه، فقال: يابن أخي، أتصحبني? قال: نعم؛ قال المخزومي: فمضينا حتى إذا قربنا من مكة جنبنا عنها حتى جزناها فصرنا إلى قصر، فاستأذن ابن أبي عتيق فأذن له، فدخلنا فإذا رجل جالس كأنه عجوز بربرية مختضبة، لا أشك في ذلك، وإذا هو الغريض وقد كبر، فقال له ابن أبي عتيق: تشوقنا إليك، وأهدى له ما كان معه، ثم قال له: نحب أن نسمع؛ قال: أدع فلانة - جارية له - فجاءت فغنت، فقال: ما صنعت شيئا، ثم حل خضابه وغنى:
عوجى علينا ربة الهودج فما سمعت أحسن منه قط، فأقمنا عنده أياما كثيرة وخبازه وطعامه كثير.
ثم قال له ابن أبي عتيق: إني أريد الشخوص، فلم يبق بمكة تحفة عدني ولا يمان ولا عود إلا أوقر به راحلته. فلما ارتحلنا وبرزنا صاح به الغريض: هيا هيا، فرجعنا إليه؛ فقال: ألم ترووا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يحشر من بقيعنا هذا سبعون ألفا على صورة القمر ليلة البدر فقال له ابن أبي عتيق: بلى، فقال: هذه سن لي انتزعت فأحب أن تدفنها بالبقيع، فخرجنا والله أخسر اثنين لم نعتمر ولم ندخل مكة، حاملين سن الغريض حتى دفناها بالبقيع.
غنى بعض أهل المدينة فطربوا لغنائه
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن بعض أهل المدينة قال: خرج الغريض مع قوم فغناهم هذا الصوت:
جرى ناصح بالود بيني وبينهـا فقربني يوم الحصاب إلى قتلي فاشتد سرور القوم، وكان معهم غلام أعجبه، فطلب إليهم أن يكلموا الغلام في الخلوة معه ساعة ففعلوا، فانطلق مع الغلام حتى توارى بصخرة، فلما قضى حاجته أقبل الغلام إلى القوم، وأقبل الغريض يتناول حجرا حجرا يقرع به الصخرة، ففعل ذلك مرارا، فقالوا له: ما هذا يا غريض? قال: كأني بها قد جاءت يوم القيامة رافعة ذيلها تشهد علينا بما كان منا إلى جانبها، فأردت أن أجرح شهادتها علي ذلك اليوم.
نسبة هذا الصوت
صوت
جرى ناصح بالود بيني وبينـهـا فقربني يوم الحصاب إلى قتلـي
فقالت وأرخت جانب الستر إنمـا معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
فقلت لها ما بي لهم منه ترقـب ولكن سري ليس يحمله مثـلـي عروضه من الطويل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج رمل بإطلاق الوتر مجرى البنصر عن إسحاق في الثلاثة الأبيات. وذكر يونس أن فيه لحنا لمالك، وفيه للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش والهشامي وعلي بن يحيى وحماد بن إسحاق. ولمعبد فيه ثقيل أول بالبنصر عن حبش. ولابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عنه.
كان عمر وجميل يتعارضان في الشعر
حدثني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان عن إسحاق بن إبراهيم عن المسيبي والمدائني وابن سلام:
صفحة : 226
أن عمر بن أبي ربيعة كان يعارض جميلا، إذا قال هذا قصيدة قال هذا مثلها، فيقال: إن عمر في الرائية والعينية أشعر من جميل، وإن جميلا أشعر منه في اللامية. وقال الزبير فيما أخبرني به الحرمي بن أبي العلاء عنه: من الناس من يفضل قصيدة جميل اللامية على قصيدة عمر، وأنا لا أقول هذا، لأن قصيدة جميل مختلفة غير مؤتلفة، فيها طوالع النجد وخوالد المهد، وقصيدة عمر بن أبي ربيعة ملساء المتون، مستوية الأبيات، آخذ بعضها بأذناب بعض، ولو أن جميلا خاطب في قصيدته مخاطبة عمر لأرتج عليه وعثر كلامه به.
أخبرني الحريم قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثني شيخ من أهلي عن أبي الحارث بن نابتة مولى هشام بن الوليد المخزومي وهو الذي يقول له عمر بن أبي ربيعة:
يا أبا الحارث قلبي طـائر فاستمع قول رشيد مؤتمن قال: شهدت عمر بن أبي ربيعة وجميلا بالأبطح، فأنشد جميل قصيدته التي يقول فيها:
لقد فرح الواشون أن صرمت حبلي بثينة أو أبدت لنا جانب الـبـخـل ثم قال: يا أبا الخطاب، هل قلت في هذا الوزن شيئا? قال: نعم؛ فأنشده قوله:
جرى ناصح بالود بيني وبينها فقال جميل: هيهات يا أبا الخطاب، والله لا أقول مثل هذا سجيس الليالي، والله ما خاطب النساء مخاطبتك أحد وقام مشمرا.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: رأيت علماءنا جميعا لا يشكون في أن أحسن ما يروى في تعظيم السر قول عمر:
ولكن سري ليس يحمله مثلي قال الزبير: وحدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني ابن أبي الزناد قال: إنما اجتمع عمر بن أبي ربيعة وجميل بالجناب.
سمع الفرزدق شعر ابن أبي ربيعة فمدحه
أخبرني محمد بن أحمد الطلاس قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني: أن الفرزدق سمع عمر بن أبي ربيعة ينشد هذه القصيدة، فلما بلغ إلى قوله:
فقمن وقد أفهمن ذا اللـب أنـمـا فعلن الذي يفعلن من ذاك من أجلي صاح الفرزدق وقال: هذا والله الشعر الذي أرادته الشعراء فأخطأته وبكت الديار.
نسبة ما في قصيدة عمر وسائر هذه الأخبار من الأغاني سوى قصيدة جميل فإن لها أخبارا تذكر مع أخباره فمن ذلك قصيدة عمر التي أولها:
جرى ناصح بالود بيني وبينها صوت
قفي البغلة الشهباء بالله سلـمـي عزيزة ذات الدل والخلق الجزل
فلما تواقفنا عرفت الـذي بـهـا كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
فقلن لها هذا عشـاء وأهـلـنـا قريب ألما تسأمي مركب البغـل عروضه من الطويل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لمعبد في الأول والثاني ثقيل أول بالوسطى عن عمرو بن بانة وعلي بن يحيى، وقيل إنه لمالك. ولابن محرز في الثاني والثالث خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي. ولابن سريج في الأول ثقيل والثاني خفيف آخر بالوسطى وهو الذي فيه استهلال. ولمالك في الثاني والثالث ثاني ثقيل بالبنصر. ولإبراهيم فيهما خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكي.
صوت
يا أبا الحارث قلبي طـائر فاستمع قول رشيد مؤتمن
ليس حب فوق ما أحببتكـم غير أن أقتل نفسي أو أجن
حسن الوجه نقـي لـونـه طيب النشر لذيذ المحتضن عروضه من الرمل. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، وقيل: إنه لابن عائشة: وذكر ابن المكي أنه للغريض في الثاني والثالث، وفيهما رمل يقال إنه لأهل مكة، ويقال: إنه لعبد الله بن يونس صاحب أيلة. وفيه ثقيل أول ذكر حبش أنه لابن سريج، وذكر غيره أنه لمحمد ابن السندي المكي، وأنه غناه بحضرة إسحاق فأخذه عنه.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمربن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى قال: كان ابن عائشة يغني الهزج والخفيف؛ فقيل له: إنك لا تستطيع أن تغني غناء شجيا ثقيلا؛ فغنى:
يا أبا الحارث قلبي طائر رجع الحديث إلى أخبار الغريض
قيل إنه كان يتلقى غناءه عن الجن أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية عن مولى لآل الغريض قال:
صفحة : 227
حدثني بعض مولياتي وقد ذكرن الغريض فترحمن عليه وقلن: جاءنا يوما يحدثنا بحديث أنكرناه عليه ثم عرفنا بعد ذلك حقيقته، وكان من أحسن الناس وجها صغيرا وكبيرا، وكنا نلقى من الناس عنتا بسببه، وكان ابن سريج في جوارنا فدفعناه إليه فلقن الغناء، وكان من احسن الناس صوتا ففتن أهل مكة بحسن وجهه مع حسن صوته، فلما رأى ذلك ابن سريج نحاه عنه، وكانت بعض مولياته تعلمه النياحة فبرز فيها، فجاءني يوما فقال: نهتني الجن أن أنوح وأسمعتني صوتا عجيبا فقد ابتنيت عليه لحنا فاسمعيه مني، واندفع فغنى بصوت عجيب في شعر المرار الأسدي.
حلفت لها بالله ما بين ذي الغضـا وهضب القنان من عيان ولا بكر
أحب إلينا منـك دلا ومـا نـرى به عند ليلى من ثواب ولا أجـر فكذبناه وقلنا: شيء فكر فيه وأخرجه على هذا اللحن، فكان في كل يوم يأتينا فيقول: سمعت البارحة صوتا من الجن بترجيع وتقطيع قد بنيت عليه صوت كذا وكذا بشعر فلان، فلم يزل على ذلك ونحن ننكر عليه؛ فإنا لكذلك ليلة وقد اجتمع جماعة من نساء مكة في جمع لنا سهرنا فيه ليلتنا والغريض يغنينا بشعر عمر بن أبي ربيعة:
أمن آل زينب جد البكور نعم فلأي هواها تصير إذ سمعنا في بعض الليل عزيفا عجيبا وأصواتا مختلفة ذعرتنا وأفزعتنا، فقال لنا الغريض: إن في هذه الأصوات صوتا إذا نمت سمعته، وأصبح فأبني عليه غنائي، فأصغينا إليه فإذا نغمته نغمة الغريض بعينها فصدقناه تلك الليلة.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
حلفت لها................ البيتان عروضه من الطويل. غناه الغريض ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى عن حبش. قال: ولعلويه فيه ثقيل أول آخر بالبنصر ومنها: صوت
أمن آل زينب جد البكـور نعم فلأي هواها تصـير
أبالغور أم أنجدت دارهـا وكانت حديثا بعهدي تغور
نظرت بخيف منى نظـرة إليها فكاد فـؤادي يطـير
هي الشمس تسري بها بغلة وما خلت شمسا بليل تسير
ألم تر أنك مسـتـشـرف وأن عدوك حولي حضور عروضه من المتقارب. الشعر للنميري، وقيل: إنه ليزيد بن معاوية. والغناء لسياط خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو. ولابن سريج فيه خفيف ثقيل بالوسطى، أوله:
هي الشمس تسري بها بغلة وفيه للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي وحماد، وذكر غيرهما أنه لابن جامع. وذكر حبش أن فيها لابن محرز ثقيلا أول بالبنصر.
أرسله ابن أبي ربيعة إلى سكينة
فغناها ونسوة معها بشعره
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال قال أبو عبد الله مصعب الزبيري: اجتمع نسوة فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره وظرفه وحسن مجلسه وحديثه وتشوقن إليه وتمنينه؛ فقالت سكينة: أنا لكن به، فبعثت إليه رسولا ووعدته الصورين لليلة سمتها، فوافاها على رواحله ومعه الغريض، فحدثهن حتى وافى الفجر وحان انصرافهن، فقال لهن: إني والله لمشتاق إلى زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصلاة في مسجده، ولكن لا أخلط بزيارتكن شيئا، ثم انصرف إلى مكة وقال:
ألمم بزينب إن البين قـد أفـدا قل الثواء لئن كان الرحيل غدا قال: وانصرف عمر بالغريض معه، فلما كان بمكة قال عمر: يا غريض، إني أريد أن أخبرك بشيء يتعجل لك نفعه ويبقى لك ذكره، فهل لك فيه? قال: افعل من ذلك ما شئت وما أنت أهله، قال: إني قد قلت في هذه الليلة التي كنا فيها شعرا فامض به إلى النسوة فأنشدهن ذلك وأخبرهن أني وجهت بك فيه قاصدا؛ قال: نعم، فحمل الغريض الشعر ورجع إلى المدينة فقصد سكينة وقال لها: جعلت فداك يا سيدتي ومولاتي، إن أبا الخطاب - أبقاه الله - وجهني إليك قاصدا، فقالت: أو ليس في خير وسرور تركته? قال: نعم؛ قالت: وفيم وجهك أبو الخطاب حفظه الله? قال: جعلت فداك، إن ابن أبي ربيعة حملني شعرا وأمرني أن أنشدك إياه؛ قالت: فهاته، قال فأنشدها:
ألمم بزينب إن البين قـد أفـدا قل الثواء لئن كان الرحيل غدا
صفحة : 228
الشعر كله، قالت: فيا ويحه فما كان عليه ألا يرحل في غده فوجهت إلى النسوة فجمعتهن وأنشدتهن الشعر، وقالت للغريض: هل عملت فيه شيئا? قال: قد غنيته ابن أبي ربيعة؛ قالت: فهاته، فغناه الغريض؛ فقالت سكينة: أحسنت والله وأحسن ابن أبي ربيعة، لولا أنك سبقت فغنيته عمر قبلنا لأحسنا جائزتك، يا بنانة، أعطيه بكل بيت ألف درهم، فأخرجت إليه بنانة أربعة آلاف درهم فدفعتها إليه وقالت سكينة: لو زادنا عمر لزدناك.
نسبة هذا الغناء
صوت
ألمم بزينب إن البـين قـد أفـدا قل الثواء لئن كان الرحيل غـدا
قد حلفت ليلة الصورين جاهـدة وما على الحر إلا الصبر مجتهدا
لأختها ولأخرى من مناصفـهـا لقد وجدت به فوق الذي وجـدا
لعمرها ما أراني إن نوى نزحت وهكذا الحب إلا ميتـا كـمـدا عروضه من البسيط. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج، وله فيه لحنان: أحدهما رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، والآخر خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه لحن للغريض خفيف ثقيل بالبنصر عن الهشامي وحماد، وذكر عمرو: أنه لمالك، أوله الرابع ثم الأول، ومن الناس من ينسب هذا إلى معبد، وأوله:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا وذلك خطأ، اللحن الذي عمله معبد غير هذا هو: صوت
يا أم طلحة إن البـين قـد أفـدا قل الثواء لئن كان الرحيل غـدا
أمسى العراقي لا يدري إذا برزت من ذا تطوف بالأركان أو سجدا عروضه من البسيط. الشعر للأحوص، ويقال: إنه لعمر أيضا. والغناء لمعبد، ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو والهشامي.
غنى عائشة بنت طلحة فأجزلت صلته
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام قال: حجت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله فجاءتها الثريا وأخواتها ونساء أهل مكة القرشيات وغيرهن، وكان الغريض فيمن جاء، فدخل النسوة عليها فأمرت لهن بكسوة وألطاف كانت قد أعدتها لمن يجيئها، فجعلت تخرج كل واحدة ومعها جاريتها ومعها ما أمرت لها به عائشة والغريض بالباب حتى خرج مولياته مع جواريهن الخلع والألطاف؛ فقال الغريض: فأين نصيبي من عائشة? فقلن له: أغفلناك وذهبت عن قلوبنا؛ فقال: ما أنا ببارح من بابها أو آخذ بحظي منها فإنها كريمة بنت كرام، واندفع يغني بشعر جميل:
تذكرت ليلى فالفؤاد عمـيد وشطت نواها فالمزار بعيد فقالت: ويلكم هذا مولى الصلات بالباب يذكر بنفسه هاتوه، فدخل، فلما رأته ضحكت وقالت: لم أعلم بمكانك، ثم دعت له بأشياء أمرت له بها، ثم قالت له: إن أنت غنيتني صوتا في نفسي فلك كذا وكذا شيء سمته له ذهب عن ابن سلام قال: فغناها في شعر كثير:
ومازلت من ليلى لدن طر شارب إلى اليوم أخفي حبهـا وأداجـن
وأحمل في ليلى لقوم ضـغـينة وتحمل في ليلى علي الضغـائن فقالت له: ما عدوت ما في نفسي، ووصلته فأجزلت. قال إسحاق: فقلت لأبي عبد الله: وهل علمت حديث هذين البيتين? ولم سالت الغريض ذلك? قال: نعم.
الشعبي عند مصعب وزوجه عائشة حدثني أبي قال قال الشعبي: دخلت المسجد فإذا أنا بمصعب بن الزبير على سرير جالس والناس عنده، فسلمت ثم ذهبت لأنصرف، فقال لي: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، ثم قال: إذا قمت فاتبعني، فجلس قليلا ثم نهض فتوجه نحو دار موسى بن طلحة فتبعته، فلما طعن في الدارالتفت إلي فقال: ادخل، فدخلت معه ومضى نحو حجرته وتبعته، فالتفت إلي فقال: ادخل، فدخلت معه، فإذا حجلة، وإنها لأول حجلة رأيتها لأمير، فقمت ودخل الحجلة فسمعت حركة، فكرهت الجلوس ولم يأمرني بالانصراف، فإذا جارية قد خرجت فقالت: يا شعبي، إن الأمير يأمرك أن تجلس، فجلست على وسادة ورفع سجف الحجلة، فإذا أنا بمصعب بن الزبير، ورفع السجف الآخر فإذا أنا بعائشة بنت طلحة، قال: فلم أر زوجا قط كان أجمل منهما: مصعب وعائشة، فقال مصعب: يا شعبي، هل تعرف هذه? فقلت: نعم أصلح الله الأمير، قال: ومن هي? قلت: سيدة نساء المسلمين عائشة بنت طلحة؛ قال: لا، ولكن هذه ليلى التي يقول فيها الشاعر:
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي
صفحة : 229
وذكر البيتين. ثم قال: إذا شئت فقم، فقمت. فلما كان العشي رحت وإذا هو جالس على سريره في المسجد فسلمت، فلما رآني قال لي: ادن، فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغى إلي فقال: هل رأيت مثل ذلك لإنسان قط? قلت: لا والله؛ قال: أفتدري لم أدخلناك? قلت: لا، قال: لتحدث بما رأيت. ثم التفت إلى عبد الله بن أبي فروة فقال: أعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبا، فما انصرف يومئذ أحد بمثل ما انصرفت به، بعشرة آلاف درهم وبمثل كارة القصار ثيابا وبنظرة من عائشة بنت طلحة.
<H6 عائشة بنت طلحة وأزواجها</H6 قال: وكانت عائشة عند عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وكان أبا عذرتها ثم هلك، فتزوجها مصعب فقتل عنها، ثم تزوجها عمر بن عبيد الله بن معمر فبنى بالحيرة، ومهدت له يوم عرسه فرش لم ير مثلها: سبع أذرع في عرض أربع، فانصرف تلك الليلة عن سبع مرات؛ فلقيته مولاة لها حين أصبح فقالت: يا أبا حفص، كملت في كل شيء حتى في هذا. فلما مات ناحت عليه وهي قائمة، ولم تنح على أحد منهم قائمة - وكانت العرب إذا ناحت المرأة قائمة على زوجها علم أنها لا تريد أن تتزوج بعده - فقيل لها: يا عائشة، ما صنعت هذا بأحد من أزواجك قالت: إنه كان فيه خلال ثلاث لم تكن في أحد منهم: كان سيد بني تيم، وكان أقرب القوم بي قرابة، وأردت ألا أتزوج بعده.
وأخبرني بخبر مصعب والشعبي وعائشة أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال أخبرنا محمد بن الحكم عن عوانة قال: خرج مصعب بن الزبير من دار الإمارة يريد دار موسى بن طلحة، فمر بالمسجد فأخذ بيد الشعبي. ثم ذكر باقي الحديث مثله، ولم يذكر شيئا من حديث المغنين. قال ابن عمار: وأخبرني به داود بن جميل بن محمد بن جميل الكاتب عن ابن الأعرابي: قال ابن عمار وأخبرني به أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني أن الشعبي قال: دخلت المسجد وفيه مصعب بن الزبير فاستدناني فدنوت حتى وضعت يدي على مرافقه، فأصغى إلي وقال: إذا قمت فاتبعني. ثم ذكر باقي الحديث أيضا مثل الذي تقدمه.
نسبة هذا الصوت
صوت
وما زلت من ليلى لدن طر شاربي إلى اليوم أخفي حبهـا وأداجـن
وأحمل في ليلى ضغائن معـشـر وتحمل في ليلى علي الضغـائن عروضه من الطويل. والشعر لكثير بن عبد الرحمن. والغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر عن حبش. وفيه لحن للغريض.
كان اذا غنى بشعر لكثير قال أنا سريجي
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كان الغريض إذا غنى بيتين لكثير قال: أنا السريجي حقا، ولم يكن يقول ذلك في شيء من غنائه وكان من جيد غنائه.
قدم يزيد مكة فغناه الغريض
وقدم يزيد بن عبد الملك مكة فبعث إلى الغريض سرا فأتاه فغناه بهذا اللحن وهو فيهما:
وإني لأرعى قومها من جـلالـهـا وإن أظهروا غشا نصحت لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقـومـهـا صديقا ولم أحمل على قومها حقدي فأشير إلى الغريض أن اسكت؛ وفطن يزيد فقال: دعوا أبا يزيد حتى يغنيني بما يريد، فأعاد عليه الصوت مرارا، ثم قال: زدني مما عندك فغناه بشعر عمرو بن شأس الأسدي:
فواندمي على الشبـاب ووانـدم ندمت وبان اليوم مني بغير ذم
أردت عرارا بالهوان ومن يرد عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم قال: فطرب يزيد وأمر له بجائزة سنية. قال إسحاق: فحدثت أبا عبد الله هذا الحديث. وقد أخذنا في أحاديث الخلفاء ومن كان منهم يسمع الغناء أيضا، فقال أبو عبد الله: كان قدوم يزيد مكة وبعثته إلى الغريض سرا قبل أن يستخلف، فقلت له: فلم أشير إلى الغريض أن يسكت حين غناه بشعر كثير:
وإني لأرعى قومها من جلالها وما السبب في ذلك? فقال أبو عبد الله: أنا أحدثكه: غضب عاتكة على زوجها عبد الملك
بن مروان احتيال عمر بن بلال على الصلح بينهما
صفحة : 230
حدثني أبي قال: كان عبد الملك بن مروان من أشد الناس حبا لعاتكة امرأته، وهي ابنة يزيد بن معاوية وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر بن كريز، وهي أم يزيد بن عبد الملك، فغضبت مرة على عبد الملك، وكان بينهما باب فحجبته وأغلقت ذلك الباب، فشق غضبها على عبد الملك وشكا إلى رجل من خاصته يقال له: عمر بن بلال الأسدي، فقال له: ما لي عندك إن رضيت? قال: حكمك. فأتى عمر بابها وجعل يتباكى، وأرسل إليها بالسلام، فخرجت إليه حاضنتها ومواليها وجواريها فقلن: ما لك? قال: فزعت إلى عاتكة ورجوتها، فقد علمت مكاني من أمير المؤمنين معاوية ومن أبيها بعده، قلن: ومالك? قال: ابناي لم يكن لي غيرهما فقتل أحدهما صاحبه، فقال أمير المؤمنين: أنا قاتل الآخر به، فقلت: أنا الولي وقد عفوت؛ قال: لا أعود الناس هذه العادة، فرجوت أن ينجي الله ابني هذا على يدها؛ فدخلن عليها فذكرن ذلك لها؛ فقالت: وكيف أصنع مع غضبي عليه وما أظهرت له? قلن إذا والله يقتل، فلم يزلن حتى دعت بثيابها فأجمرتها ثم خرجت نحو الباب، فأقبل حديج الخصي قال أمير المؤمنين: هذه عاتكة قد أقبلت؛ قال: ويلك ما تقول? قال: قد والله طلعت فأقبلت وسلمت فلم يرد عليها، فقالت: أما والله لولا عمر ما جئت، إن أحد ابنيه تعدى على الآخر فقتله فأردت قتل الآخر وهو الولي وقد عفا؛ قال: إني أكره أن أعود الناس هذه العادة؛ قالت: أنشدك الله يا أمير المؤمنين، فقد عرفت مكانه من أمير المؤمنين معاوية ومن أمير المؤمنين يزيد، وهو ببابي؛ فلم تزل به حتى أخذت برجله فقبلتها؛ فقال: هو لك، ولم يبرحا حتى اصطلحا؛ ثم راح عمر بن بلال إلى عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين، كيف رأيت? قال: رأينا أثرك، فهات حاجتك؛ قال: مزرعة بعدتها وما فيها، وألف دينار وفرائض لولدي وأهل بيتي وعيالي؛ قال: ذلك لك. ثم اندفع عبد الملك يتمثل بشعر كثير:
وإني لأرعى قومها من جلالها البيتين؛ فعلمت عاتكة ما أراد. فلما غني يزيد بهذا الشعر كرهته مواليه إذ كان عبد الملك تمثل به في أمه، ولم يكرهه يزيد وقال: لو قيل هذا الشعر فيها ثم غني به لما كان عيبا، فكيف وإنما هو مثل تمثل به أمير المؤمنين في أجمل العالمين رأس ابن الأشعث و عبد الملك
قال أبو عبد الله: وأما خبره فلما غنى بشعر عمرو بن شأس فإن ابن الأشعث لما قتل بعث الحجاج إلى عبد الملك برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس، فلما ورد به وأوصل كتاب الحجاج جعل عبد الملك يقرؤه، فكلما شك في شيء سأل عرارا عنه فأخبره، فعجب عبد الملك من بيانه وفصاحته من سواده، فقال متمثلا:
وإن عرارا إن لم يكن غير واضح فإني أحب الجون ذا المنكب العمم فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك؛ فقال له: مم ضحكت ويلك قال: أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر? قال: لا؛ قال: فأنا والله هو؛ فضحك عبد الملك وقال: حظ وافق كلمة، ثم أحسن جائزته وسرحه.
قال أبو عبد الله: وإنما أراد الغريض أن يغني يزيد بمتمثلات عبد الملك في الأمور العظام، فلما تبين كراهة مواليه غناءه فيما تمثل به في عاتكة أراد أن يعقبه ما تمثل به في فتح عظيم كان لعبد الملك، فغناه بشعر عمرو بن شأس في عرار.
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت
وإني لأرعى قومها من جـلالـهـا وإن أظهروا غشا نصحت لهم جهدي
ولو حاربوا قومي لكنت لقـومـهـا صديقا ولم أحمل على قومها حقدي عروضه من الطويل. الشعر لكثير. والغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر حبش أن فيه لقفا النجار ثاني ثقيل بالوسطى، وفيه لعلويه ثقيل أول.
خرج إليه معبد بمكة وسمع غناءه
وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني إبراهيم عن يونس الكاتب قال حدثني معبد قال: خرجت إلى مكة في طلب لقاء الغريض وقد بلغني حسن غنائه في لحنه:
وما أنس الأشياء لا أنس شادنا بمكة مكحولا أسيلا مدامعه
صفحة : 231
وقد كان بلغني أنه أول لحن صنعه وأن الجن نهته أن يغنيه لأنه فتن طائفة منهم، فانتقلوا عن مكة من أجل حسنه، فلما قدمت مكة سألت عنه فدللت على منزله، فأتيته فقرعت الباب فما كلمني أحد، فسألت بعض الجيران فقلت: هل في الدار أحد? قالوا لي: نعم، فيها الغريض، فقلت: إني قد أكثرت دق الباب، فما أجابني أحد قالوا: إن الغريض هناك، فرجعت فدققت الباب فلم يجبني أحد، فقلت: إن نفعني غنائي يوما نفعني اليوم، فاندفعت فغنيت لحني في شعر جميل:
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل إلـى الـيوم ينـمــي ويزيد فوالله ماسمعت حركة الباب، فقلت: بطل سحري وضاع سفري وجئت أطلب ما هو عسير علي، واحتقرت نفسي وقلت: لم يتوهمني لضعف غنائي عنده، فما شعرت إلا بصائح يصيح: يا معبد المغني، افهم وتلق عني شعر جميل الذي تغني فيه يا شقي البخت، وغنى: للغريض ولم تذكر طريقته
صوت
وما أنس من الأشياء لا أنس قولها وقد قربت نضوي أمصر تـريد
ولا قولها لولا العيون التي تـرى أتيتك فاعذرني فـدتـك جـدود
خليلي ما أخفي من الوجد باطـن ودمعي بما قلت الغداة شـهـيد
يقولون جاهد يا جميل بـغـزوة وأي جـهـاد غـيرهـن أريد
لكل حديث عنـدهـن بـشـاشة وكل قتيل بـينـهـن شـهـيد عروضه من الطويل. قال: فلقد سمعت شيئا لم أسمع أحسن منه، وقصر إلي نفسي وعلمت فضيلته علي بما أحس من نفسه، وقلت: إنه لحري بالاستتار من الناس تنزيها لنفسه وتعظيما لقدره، وإن مثله لا يستحق الابتذال، ولا أن تتداوله الرجال، فأردت الانصراف إلى المدينة راجعا، فلما كنت غير بعيد إذا بصائح يصيح بي: يا معبد، انتظر أكلمك، فرجعت، فقال لي: إن الغريض يدعوك؛ فأسرعت فرحا فدنوت من الباب؛ فقال لي: أتحب الدخول? فقلت: وهل إلى ذلك من سبيل? فقرع الباب ففتح، فقال لي: ادخل ولا تطل الجلوس؛ فدخلت فإذا شمس طالعة في بيت، فسلمت فرد السلام، ثم قال: اجلس فجلست، فإذا أنبل الناس وأحسنهم وجها وخلقا وخلقا، فقال: يا معبد، كيف طرأت إلى مكة? فقلت: جعلت فداءك وكيف عرفتني? فقال: بصوتك؛ فقلت: وكيف وأنت لم تسمعه قط قال: لما غنيت عرفتك به وقلت: إن كان معبد في الدنيا فهذا؛ فقلت: جعلت فداءك، فكيف أجبتني بقولك:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها وقد قربت نضوي أمصر تريد فقال: قد علمت أنك تريد أن أسمعك صوتي:
وما أنس م الأشياء لا أنس شادنا بمكة مكحولا أسيلا مدامعـه ولم يكن إلى ذلك سبيل لأنه صوت قد نهيت أن أغنيه فغنيتك هذا الصوت جوابا لما سألت وغنيت، فقلت: والله ما عدوت وما أردت، فهل لك حاجة? فقال لي: يا أبا عباد، لولا ملالة الحديث وثقل إطالة الجلوس لاستكثرت منك، فاعذر؛ فخرجت من عنده، وإنه لأجل الناس عندي، ورجعت إلى المدينة فتحدثت بحديثه وعجبت من فطنته وقيافته، فما رأيت إنسانا إلا وهو أجل منه في عيني.
خبر جميل وبثينة
وتوسيطه رجلا من بني حنظلة في لقائها
صفحة : 232
وذكرت جميلا وبثينة فقلت: ليتني عرفت إنسانا يحدثني بقصة جميل وخبر الشعر فأكون قد أخذت بفضيلة الأمر كله في الغناء والشعر. فسألت عن ذلك فإذا الحديث مشهور، وقيل لي: إن أردت أن تخبر بمشاهدته فأت بني حنظلة، فإن فيهم شيخا منهم يقال له فلان يخبرك الخبر؛ فأتيت الشيخ فسألته فقال: نعم، بينا أنا في إبلي في الربيع إذا أنا برجل منطو على رحله كأنه جان فسلم علي ثم قال: ممن أنت يا عبد الله? فقلت: أحد بني حنظلة؛ قال: فانتسب، فانتسبت حتى بلغت إلى فخذي الذي أنا منه؛ ثم سألني عن بني عذرة أين نزلوا؛ فقلت له: هل ترى ذلك السفح? فإنهم نزلوا من ورائه؛ قال: يا أخا بني حنظلة، هل لك في خير تصطنعه إلي? فوالله لو أعطيتني ما أصبحت تسوق من هذه الإبل ما كنت بأشكر مني لك عليه؛ فقلت نعم، ومن أنت أولا? قال: لا تسألني من أنا ولا أخبرك غير أني رجل بيني وبني هؤلاء القوم ما يكون بين بني العم، فإن رأيت أن تأتيهم فإنك تجد القوم في مجلسهم فتنشدهم بكرة أدماء تجر خفيها غفلا من السمة، فإن ذكروا لك شيئا فذاك، وإلا استأذنتهم في البيوت وقلت: إن المرأة والصبي قد يريان ما لا يرى الرجال، فتنشدهم ولا تدع أحدا تصيبه عينك ولا بيتا من بيوتهم إلا نشدتها فيه؛ فأتيت القوم فإذا هم على جزور يقتسمونها، فسلمت وانتسبت لهم ونشدتهم ضالتي، فلم يذكروا لي شيئا؛ فاستأذنتهم في البيوت وقلت: إن الصبي والمرأة يريان ما لا ترى الرجال، فأذنوا؛ فأتيت أقصاها بيتا ثم استقريتها بيتا بيتا أنشدهم فلا يذكرون شيئا، حتى إذا انتصف النهار وآذاني حر الشمس وعطشت وفرغت من البيوت وذهبت لأنصرف حانت مني التفاتة فإذا بثلاثة أبيات، فقلت: ما عند هؤلاء إلا ما عند غيرهم، ثم قلت لنفسي: سوءة وثق بي رجل وزعم أن حاجته تعدل مالي ثم آتيه فأقول: عجزت عن ثلاثة أبيات فانصرفت عامدا إلى أعظمها بيتا، فإذا هو قد أرخي مؤخرة ومقدمه، فسلمت فرد علي السلام، وذكرت ضالتي، فقالت جارية منهم: يا عبد الله، قد أصبت ضالتك وما أظنك إلا قد اشتد عليك الحر واشتهيت الشراب، قلت: أجل، قالت: ادخل، فدخلت فأتتني بصحفة فيها تمر من تمر هجر، وقدح فيه لبن، والصحفة مصرية مفضضة والقدح مفضض لم أر إناء قط أحسن منه، فقالت: دونك فتجمعت وشربت من اللبن حتى رويت، ثم قلت: يا أمة الله، والله ما أتيت اليوم أكرم منك ولا أحق بالفضل، فهل ذكرت من ضالتي شيئا? فقالت: هل ترى هذه الشجرة فوق الشرف? قلت: نعم؛ قالت: فإن الشمس غربت أمس وهي تطيف حولها ثم حال الليل بيني وبينها؛ فقمت وجزيتها الخير وقلت: والله لقد تغذيت ورويت فخرجت حتى أتيت الشجرة فأطفت بها فوالله ما رأيت من أثر، فأتيت صاحبي فإذا هو متشح في الإبل بكسائه ورافع عقيرته يغني، قلت: السلام عليك؛ قال: وعليك السلام ما وراءك? قلت؛ ما ورائي من شيء؛ قال: لا عليك فأخبرني بما فعلت، فاقتصصت عليه القصة حتى انتهيت إلى ذكر المرأة وأخبرته بالذي صنعت؛ فقال: قد أصبت طلبتك؛ فعجبت من قوله وأنا لم أجد شيئا، ثم سألني عن صفة الإناءين: الصحفة والقدح فوصفتهما له، فتنفس الصعداء وقال: قد أصبت طلبتك ويحك ثم ذكرت له الشجرة وأنها رأتها تطيف بها؛ فقال: حسبك فمكث حتى إذا أوت إبلي إلى مباركها دعوته إلى العشاء فلم يدن منه، وجلس مني بمزجر الكلب، فلما ظن أني قد نمت رمقته فقام إلى عيبة له فاستخرج منها بردين فأتزر بأحدهما وتردى بالآخر، ثم انطلق عامدا نحو الشرجة. واستبطنت الوادي فجعلت أخفي نفسي حتى إذا خفت أن يراني انبطحت، فلم أزل كذلك حتى سبقته إلى شجرات قريب من تلك الشجرة بحيث أسمع كلامهما فاستترت بهن، وإذا صاحبته عند الشجرة، فأقبل حتى كان منها غير بعيد، فقالت: اجلس، فوالله لكأنه لصق بالأرض، فسلم عليها عن حالها أكرم سؤال سمعت به قط وأبعده من كل ريبة، وسألته مثل مسئلته، ثم أمرت جارية معها فقربت إليه طعاما، فلما أكل وفرغ، قالت أنشدني ما قلت، فأنشدها:
علقت الهوى منها وليدا فلم يزل إلى اليوم ينمي حبـهـا ويزيد
صفحة : 233
فلم يزالا يتحدثان، ما يقولان فحشا ولا هجرا، حتى التفتت التفاتة فنظرت إلى الصبح، فودع كل واحد منهما صاحبه أحسن وداع ما سمعت به قط ثم انصرفا، فقمت فمضيت إلى إبلي فاضطجعت وكل واحد منهما يمشي خطوة ثم يلتفت إلى صاحبه، فجاء بعد ما أصبحنا فرفع برديه ثم قال: يا أخا بني تميم، حتى متى تنام فقمت وتوضأت وصليت وحلبت إبلي وأعانني عليها وهو أظهر الناس سرورا، ثم دعوته إلى الغداء فتغدى، ثم قام إلى عيبته فافتتحها فإذا فيها سلاح وبردان مما كسته الملوك، فأعطاني أحدهما وقال: أما والله لو كان معي شيء ما ذخرته عنك، وحدثني حديثه وانتسب لي، فإذا هو جميل بن معمر والمرأة بثينة، وقال لي: إني قد قلت أبياتا في منصرفي من عندها، فهل لك إن رأيتها أن تنشدها? قلت: نعم فأنشدني:
وما أنس م الأشياء لا أنس قولها وقد قربت نضوي أمصر تريد الأبيات، ثم ودعني وانصرف، فمكثت حتى أخذت الإبل مراتعها، ثم عمدت إلى دهن كان معي فدهنت به رأسي، ثم ارتديت بالبرد وأتيت المرأة فقلت: السلام عليكم، إني جئت أمس طالبا واليوم زائرا، أفتأذنون? قالت: نعم، فسمعت جويرية تقول لها: يا بثينة، عليه والله برد جميل؛ فجعلت أثني على ضيفي وأذكر فضله، وقلت: إنه ذكرك فأحسن الذكر، فهل أنت بارزة لي حتى أنظر إليك? قالت: نعم، فلبست ثيابها ثم برزت ودعت لي بطرف ثم قالت: يا أخا بني تميم، والله ما ثوباك هذان بمشتبهين، ودعت بعيبتها فأخرجت لي ملحفة مروية مشبعة من العصفر، ثم قالت: أقسمت عليك لتقومن إلى كسر البيت ولتخلعن مدرعتك ثم لتأتزرن بهذه الملحفة فهي أشبه ببردك؛ ففعلت ذلك وأخذت مدرعتي بيدي فجعلتها إلى جانبي، وأنشدتها الأبيات فدمعت عيناها، وتحدثتا طويلا من النهار، ثم انصرفت إلى إبلي بملحفة بثينة وبرد جميل ونظرة من بثينة. قال معبد: فجزيت الشيخ خيرا وانصرفت من عنده وأنا والله أحسن الناس حالا بنظرة من الغريض واستماع لغنائه، وعلم بحديث جميل وبثينة فميا غنيت أنا به وفيما غنى به الغريض على حق ذلك وصدقه، فما رأيت ولا سمعت بزوجين قط أحسن من جميل وبثينة، ومن الغريض ومني.
?نسبة هذه الأصوات التي ذكرت في هذا الخبر وهي كلها من قصيدة واحدة.
ومنها: ?صوت
علقت الهوى منها وليدا فـلـم يزل إلى اليوم ينمـي حـبـهـا ويزيد
وأفنيت عمري في انتظاري نوالهـا وأفنت بذاك الدهـر وهـو جـديد
فلا أنا مـردود جـئت طـالـبـا ولا حـبـهـا فـيمـا يبـيد يبـيد
وما أنس م الأشياء لا أنس قولـهـا وقد قربت نضوي أمصـر تـريد
ولا قولها لولا العيون التـي تـرى لزرتك فاعذرني فـدتـك جـدود
إذا قلت ما بي يا بثـينة قـاتـلـي من الحب قـالـت ثـابـت ويزيد
وإن قلت ردي بعض عقلي أعش به تولت وقالت ذاك مـنـك بـعـيد عروضه من الطويل. الشعر لجميل بن معمر. والغناء لمعبد في الأول والثاني والثالث والسادس والسابع. ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو بن بانة. وذكر عمرو والهشامي أن فيه ثقيلا أول آخر للهذلي، وأن فيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى الغريض وإلى إبراهيم، أوله: وما أنس م الأشياء . وفي الأربعة الأبيات الأول ثاني ثقيل بالبنصر لابن أبي قباحة. ولإسحاق في الثالث والسادس ثاني ثقيل آخر بالوسطى عن الهشامي. وأول هذه القصيدة فيه غناء أيضا، وهو موصول بأبيات أخر: ?صوت
ألا ليت ريعان الشبـاب جـديد ودهرا تولى يا يا بثـين يعـود
فنغنى كما كنا نكـون وأنـتـم قريب وما قد تبـذلـين زهـيد
ألا ليت شعري هل أبيتن لـيلة بوادي القرى إني إذا لسـعـيد
وهل ألقين سعدى من الدهر ليلة وما رث من حبل الصفاء جديد
فقد تلتقي الأهواء بعد تـفـاوت وقد تطلب الحاجات وهي بعيد في البيتين الأولين خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر، ذكر حبش أنه لإسحاق؛ وليس يشبه أن يكون له. وفي الثالث وما بعده لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش أيضا.
?قال ابن أبي ربيعة في شعر له القريض
صفحة : 234
فغيره الغريض باسمه لما غناه
أخبرني إسماعيل بن يونس إجازة قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال حدثني الوليد بن هشام عن محمد بن معن عن خالد بن سلمة المخزومي قال: خرجت مع أعمامي وأنا على نجيب ومعنا شيخ، فلما أسحرنا قال لي أعمامي: انزل عن نجيبك واحمل عليه هذا الشيخ واركب جمله، ففعلت؛ فإذا الشيخ قد أخرج عودا له من غلاف، ثم ضرب به وغنى:
هاج الغريض الذكر لما غدوا فانشمروا فقلت لبعض أصحابنا: من هذا? قال: الغريض.
?نسبة هذا الصوت
?صوت
هاج الغريض الذكر لما غدوا فانشمروا
على بغال شـحـج قد ضمهن السفـر
فيهن هند ليتـنـي ما عمرت أعمـر
حتى إذا ما جاءهـا حتف أتاني القـدر عروضه من الرجز. الذي قال عمر:
هاج القريض الذكر بالقاف، فجعله الغريض لما غنى فيه: الغريض يعني نفسه. الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء لابن سريج. ذكر يونس أن له فيه لحنين. وذكر إسحاق أن أحدهما رمل مطلق في مجرى البنصر ولم يذكر الآخر، وذكر الهشامي أن الآخر خفيف رمل. وفيه للغريض ثقيل أول بالبنصر، وقيل: إنه لحن ابن سريج، وإن خفيف الرمل للغريض. وأول هذا الصوت في كتاب يونس:
هاج فؤادي محضر بذي عكاظ مقفـر
حتى إذا ما واونوا ال مروة حين ائتمروا
قيل انزلوا فعرسـوا من ليلكم وانشمروا
وقولها لأخـتـهـا أمطمـئن عـمـر ?الوليد وابن أبي ربيعة والغريض
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال وذكر السعدي: أن الوليد بن عبد الملك قدم مكة، فأراد أن يأتي الطائف، فقال: هل من رجل عالم يخبرني عنها? فقالوا: عمر بن أبي ربيعة؛ قال: لا حاجة لي به، ثم عاد فسأل، فذكروه فأباه، ثم عاد فذكروه فقال: هاتوه، وركب معه فجعل يحدثه، ثم حول عمر رداءه ليصلحه على نفسه، فرأى الوليد على ظهره أثرا، فقال: ما هذا الأثر? قال: كنت عند جارية لي إذ جاءتني جارية برسالة من عند جارية أخرى وجعلت تسارني بها، فغارت التي كنت عندها فعضت منكبي، فما وجدت ألم عضتها من لذة ما كانت تلك تنفث في أذني حتى بلغت ما ترى، والوليد يضحك. فلما رجع عمر قيل له: ما الذي كنت تضحك به أمير المؤمنين? قال: مازلنا في حديث الزنا حتى رجع. وكان قد حمل الغريض معه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن عندي أجمل الناس وجها وأحسنهم حديثا، فهل لك أن تسمعه? قال: هاته فدعا به فقال: أسمع أمير المؤمنين أحسن شيء قلته، فاندفع يغني بشعر عمر - ومن الناس من يرويه لجميل -: ?صوت
إني لأحفظ سركـم ويسـرنـي لو تعلمين بصالح أن تذكـري
ويكون يوم لا أرى لك مرسـلا أو نلتقي فيه علي كـأشـهـر
يا ليتني ألقى المـنـية بـغـتة إن كان يوم لقائكـم لـم يقـدر
ما كنت والوعد الذي تعدينـنـي إلا كبرق سحابة لم تـمـطـر
تقضى الديون وليس ينجز عاجلا هذا الغريم لنا وليس بمعـسـر - عروضه من الكامل. وذكر حبش أن الغناء للغريض، ولحنه ثقيل أول بالبنصر - قال: فاشتد سرور الوليد بذلك وقال له: يا عمر، هذه رقيتك، ووصله وكساه وقضى حوائجه.
?وصف نصيب لنفسه وللشعراء الثلاثة
جميل وكثير وابن أبي ربيعة
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحارث بن محمد عن المدائني عن عوانة قال حدثني رجل من أهل الكوفة قال: قدم نصيب الكوفة، فأرسلني أبي إليه، وكان له صديقا، فقال: أقرئه مني السلام وقل له: إن رأيت أن تهدي لنا شيئا مما قلت فأتيته في يوم جمعة وهو يصلي، فلما فرغ أقرأته السلام وقلت له: فقال قد علم أبوك أني لا أنشد في يوم الجمعة ولكن تلقاني في غيره فأبلغ ما تحب، فلما خرجت وانتهيت إلى الباب رددت إليه؛ فقال: أتروي شيئا من الشعر? قلت نعم؛ قال: فأنشدني، فأنشدته قول جميل:
إني لأحفظ غيبكم ويسرنـي لو تعلمين بصالح أن تذكري
صفحة : 235
الأبيات المتقدمة، فقال نصيب: أمسك أمسك لله دره ما قاله أحد إلا دون ما قال، ولقد نحت للناس مثالا يحتذون عليه. ثم قال: أما أصدقنا في شعره فجميل، وأما أوصفنا لربات الحجال فكثير، وأما أكذبنا فعمر بن أبي ربيعة، وأما أنا فأقول ما أعرف.
?سمع أصوات رهبان فصنع لحنا عليها
وقال هارون بن محمد الزيات حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه: أن الغريض سمع أصوات رهبان بالليل في دير لهم فاستحسنها، فقال له بعض من معه: يا أبا يزيد، صغ على مثل هذا الصوت لحنا؛ فصاغ مثله في لحنه:
يا أم بكر حبك الـبـادي لا تصرميني إنني غادي فما سمع بأحسن منه.
?نسبة هذا الصوت
?صوت
يا أم بكر حبك الـبـادي لا تصرميني إنني غادي
جد الرحيل وحثني صحبي وأريد إمتاعا من الـزاد عروضه من مزاحف الكامل. الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري. والغناء للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى. وفيه لابن المكي ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش. وفيه لإبراهيم بن أبي الهيثم هزج.
?إبراهيم بن أبي الهيثم والرجل الناسك
وأخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن أيوب بن عباية عن عمرو بن عقبة - وكان يعرف بابن الماشطة - قال: خرجت أنا وأصحاب لي فيهم إبراهيم بن أبي الهيثم إلى العقيق، ومعنا رجل ناسك كنا نحتشم منه، وكان محموما نائما، وأحببنا أن نسمع من معنا من المغنين ونحن نهابه ونحتشمه، فقلت له: إن فينا رجلا ينشد الشعر فيحسن، ونحن نحب أن نسمعه، ولكنا نهابك؛ قال: فما علي منكم أنا محموم نائم، فاصنعوا ما بدا لكم، فاندفع إبراهيم بن أبي الهيثم فغنى:
يا أم بكر حبك الـبـادي لا تصرميني إنني غادي
جد الرحيل وحثني صحبي وأريد إمتاعا من الـزاد فأجاده وأحسنه. قال: فوثب الناسك فجعل يرقص ويصيح: أريد إمتاعا من الزاد، والله أريد إمتاعا من الزاد، ثم كشف عن أيره وقال: أنا أنيك أم الحمى قال: يقول لي ابن الماشطة: اعتقت ما أملك إن كان ناك أم الحمى أحد قبله.
أخبرني به الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب فذكر الخبر ولم يذكر فيه كشف الناسك عن سوءته وما قاله بعد ذلك.
?هروبه إلى اليمن خوفا من ابن علقمة
وكانت وفاة الغريض في أيام سليمان بن عبد الملك أو عمر بن عبد العزيز لم يتجاوزها. والأشبه أنه مات في خلافة سليمان، لأن الوليد كان ولى نافع بن علقمة مكة فهرب منه الغريض وأقام باليمن واستوطنها مدة ثم مات بها. وأخبرني بخبره الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسيبي قال أخبرني بعض المخزوميين أيضا بخبره.
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان: أن نافع بن علقمة لما ولي مكة خافه الغريض - وكان كثيرا ما يطلبه فلم يجئه - فهرب منه واستخفى في بعض منازل إخوانه. قال: فحدثني رجل من اهل مكة كان يخدمه: أنه دفع إليه يوما ربعة له وقال له: صر بها إلى فلان العطار يملؤها لي طيبا، قال: فصرت بها إليه، فلقيني نافع بن علقمة فقال: هذه ربعة الغريض والله فلم أقدر أن أكتمه، فقلت: نعم؛ قال: ما قصته? فأخبرته الخبر؛ فضحك وقال: سر معي إلى المنزل ففعلت، فملأها طيبا وأعطاني دنانير، وقال: أعطه وقل له يظهر فلا بأس عليه؛ فسرت إليه مسرورا فأخبرته بذلك فجزع وقال: الآن ينبغي أن أهرب، إنما هذه حيلة احتالها علي لأقع في يده، ثم خرج من وقته إلى اليمن فكان آخر العهد به.
قال إسحاق فحدثني هذا المخزومي: أن الغريض له صار إلى اليمن وأقام به اجتزنا به بعض أسفارنا؛ قال: فلما رآني بكى؛ فقلت له: ما يبكيك? قال: بأبي أنت وأمي وكيف يطيب لي أن أعيش بين قوم يرونني أحمل عودي فيقولون لي: يا هناه، أتبيع آخرة الرحل فقلت له: فارجع إلى مكة ففيها أهلك، فقال: يابن أخي، إنما كنت أستلذ مكة وأعيش بها مع أبيك ونحوه، وقد أوطنت هذا المكان ولست تاركه ما عشت؛ قلنا له: فغننا بشيء من غنائك فتأبى، ثم أقسمنا عليه فأجاب، وعمدنا إلى شاة فذبحناها وخرطنا من مصرانها أوتارا، فشدها على عوده واندفع فغنى في شعر زهير:
جرى دمعي فهيج لي شجونا فقبلي يستجن به جنـونـا
صفحة : 236
فما سمعنا شيئا أحسن منه؛ فقلنا له: ارجع إلى مكة، فكل من بها يشتاقك. ولم نزل نرغبه في ذلك حتى أجاب إليه. ومضينا لحاجتنا ثم عدنا فوجدناه عليلا، فقلنا: ما قصتك? قال: جاءني منذ ليال قوم، وقد كنت أغني في الليل، فقالوا: غننا؛ فأنكرتهم وخفتهم، فجعلت أغنيهم، فقال لي بعضهم غنني:
لقد حثوا الجمال ليه ربوا منا فلم يئلوا ففعلت، فقام إلي هن منهم أزب فقال لي: أحسنت والله ودق رأسي، حتى سقطت لا أدري أين أنا، فأفقت بعد ثالثة وأنا عليل كما ترى، ولا أراني إلا سأموت. قال: فأقمنا عنده بقية يومنا ومات من غد فدفناه وانصرفنا.
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي غسان قال: زعم المكيون أن الغريض خرج إلى بلاد عك فغنى ليلا:
هم ركب لقوا ركبا كما قد تجمع السبل فصاح به صائح: أكفف يا أبا مروان، فقد سفهت حلماءنا، وأصبيت سفهاءنا، قال: فأصبح ميتا.
?رواية أخرى في وفاته أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن الخطاب قال حدثنا رجل من آل أبي قبيل - يقال له محرز - عن أبي قبيل قال: رأيت الغريض، وقال إسحاق في خبره المذكور: حدثني محمد بن سلام عن أبي قبيل - وهو مولى لآل الغريض - قال: شهدت مجمعا لآل الغريض إما عرسا أو ختانا، فقيل له: تغن؛ فقال: هو ابن زانية إن فعل؛ فقال له بعض مواليه: فأنت والله كذلك قال: أو كذلك أنا? قال: نعم، قال: أنت أعلم بي والله ثم أخذ الدف فرمى به وتمشى مشية لم أر أحسن منها، ثم تغنى:
تشرب لون الرازقـي بـياضـه أو الزعفران خالط المسك رادعه فجعل يغنيه مقبلا ومدبرا حتى التوت عنقه وخر صريعا، وما رفعناه إلا ميتا، وظننا أن فالجا عاجله. قال إسحاق وحدثني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال: إنما نهته الجن أن يتغنى بهذا الصوت، فلما أغضبه مواليه تغناه فقتلته الجن في ذلك.
?نسبة هذه الأصوات
?صوت
منها
جرى دمعي فهيج لي شجونا فقلبي يستجن به جنـونـا
أأبكي للفراق وكـل حـي سيبكي حين يفتقد القرينـا
فإن تصبح طليحة فارقتنـي ببين فالرزية أن تـبـينـا
فقد بانت بكرهي يوم بانـت مفارقة وكنت بها ضنينـا الشعر لزهير، والغناء للغريض عن حبش. وقيل: إنه لدحمان. وفيه لأبي الورد خفيف رمل بالوسطى عن حبش والهشامي .
انقضت أخبار الغريض.
ومنها: ?صوت من المائة المختارة
في رواية جحظة
لقد حثوا الجمال لـيه ربوا منا فلـم يئلـوا
على آثـارهـن مـق لص السربال معتمل
وفيهم قلبك المـتـبـو ل بالحسناء مختـبـل
مخففة بحمل حـمـا ئل الديباج والحـلـل
أسائل عاصما في السر أين تراهـم نـزلـوا
فقال هم قـريب مـن ك لو نفعوك إذ رحلوا الشعر للحكم بن عبدل الأسدي. والغناء في اللحن المختار للغريض، ولحنه خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى في الأول والثاني من الأبيات. وذكر الهشامي أن فيهما لحنا لمعبد من الثقيل الأول. وفي الثالث وما بعده من الأبيات لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيها لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن حبش. وذكر أحمد بن عبيد أن الذي صح فيه أربعة ألحان: منها لحنان في خفيف الثقيل للغريض ومالك، ولحنان في الرمل لابن سريج ومخارق. وذكر ابن الكلبي أن فيها لعريب رملا ثالثا، وذكر حبش أن فيها لابن سريج خفيف رمل بالبنصر، ولابن مسجح رملا بالبنصر، ولابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر. هذه الألحان كلها في لقد حثوا والذي بعده.
?أخبار الحكم بن عبدل ونسبه
?نسبه ونشأته
هو الحكم بن عبدل بن جبلة بن عمرو بن ثعلبة بن عقال بن بلال بن سعد بن حبال بن نصر بن غاضرة بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، شاعر مجيد مقدم في طبقته، هجاء خبيث اللسان، من شعراء الدولة الأموية؛ وكان أعرج أحدب. ومنزله ومنشؤه الكوفة.
?كان يكتب بحاجته على عصاه فلا ترد
صفحة : 237
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثنا محمد بن إدريس القيسي بواسط قال حدثنا العتبي قال: كان الحكم بن عبدل الأسدي أعرج لا تفارقه العصا، فترك الوقوف بأبواب الملوك، وكن يكتب على عصاه حاجته ويبعث بها مع رسله، فلا يحبس له رسول ولا تؤخر له حاجة؛ فقال في ذلك يحيى بن نوفل:
عصا حكم في الـدار أول داخـل ونحن على الأبواب نقصى ونحجب
وكانت عصا موسى لفرعـون آية وهذي لعمر الله أدهى وأعـجـب
تطاع فلا تعصى ويحذر سخطهـا ويرغب في المرضاة منها وترهب قال: فشاعت هذه الأبيات في الكوفة وضحك الناس منها؛ فكان ابن عبدل بعد ذلك يقول ليحيى: يابن الزانية ما أردت من عصاي حتى صيرتها ضحكة? واجتنب أن يكتب عليها كما كان يفعل، وكاتب الناس بحوائجه في الرقاع.
?حبس هو وأبو علية صاحبه
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني، وأخبرني ابن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثنا أبو جعفر القرشي قال: كان للحكم بن عبدل صديق أعمى يقال له أبو علية، وكان ابن عبدل قد أقعد، فخرجا ليلة من منزلهما إلى منزل بعض إخوانهما، والحكم يحمل وأبو علية يقاد، فلقيهما صاحب العسس بالكوفة فأخذهما فحبسهما، فلما استقرا في الحبس نظر الحكم إلى عصا أبي علية موضوعة إلى جانب عصاه، فضحك وأنشأ يقول:
حبسي وحبس أبي عـلـي ة من أعاجيب الـزمـان
أعمـى يقـاد ومـقـعـد لا الرجل منه ولا الـيدان
هذا بـلا بـصـر هـنـا ك وبي يخب الحامـلان
يا من رأى ضب الـفـلا ة قرين حوت في مكـان
طرفي وطلارف أبي علي ة دهرنا مـتـوافـقـان
من يفـتـخـر بـجـواده فجـيادنـا عـكـازتـان
طرفان لا علـفـاهـمـا يشرى ولا يتـصـاولان
هبـنـي وإياه الـحـري ق أكان يسطع بالدخـان قال: وكان اسم أبي علية يحيى، فقال فيه الحكم أيضا:
أقول ليحيى ليلة الحبـس سـادرا ونومي به نوم الأسير الـمـقـيد
أعني على رعي النجوم ولحظهـا أعنك على تحبير شعر مقـصـد
ففي حالتينا عـبـرة وتـفـكـر وأعجب شيء حبس أعمى ومقعد
كلانا إذا العكـاز فـارق كـفـه ينيخ صريعا أو على الوجه يسجد
فعكازة تهدي إلى السبل أكمـهـا وأخرى مقام الرجل قامت مع اليد ?قوله وقد ولي الشرطة والإمارة أعرجان
ولقي سائلا أعرج
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل قال حدثني أحمد بن بكير الأسدي قال حدثني محمد بن أنس السلامي الأسدي عن محمد بن سهل راوية الكميت قال: ولي الشرطة بالكوفة رجل أعرج، ثم ولي الإمارة آخر أعرج، وخرج ابن عبدل وكان أعرج، فلقي سائلا أعرج وقد تعرض للأمير يسأله، فقال ابن عبدل للسائل:
ألق العصا ودع التخامع والتمس عملا فهذي دولة العـرجـان
لأميرنا وأمير شرطتنـا مـعـا يا قومنا لكلـيهـمـا رجـلان
فإذا يكون أمـيرنـا ووزيرنـا وأنا فإن الرابع الـشـيطـان فبلغت أبياته ذلك الأمير فبعث إليه بمائتي درهم وسأله أن يكف عنه. وحدثنيه الأخفش عن عبيد الله اليزيدي عن سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة عن عمر بن عبد العزيز قال: ولي عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب الكوفة وضم إليه رجل من الأشعريين يقال له سهل، وكانا جميعا أعرجين. ثم ذكر باقي الحديث مثل حديث يعقوب بن نعيم.
?ابن عبدل وعبد الملك بن بشر
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن المحرز الباهلي عن الهيثم الأحمري قال: كانت لابن عبدل الأسدي حاجة إلى عبد الملك بن بشر بن مروان، فجعل يدخل عليه ولا يتهيأت له الكلام، حتى جاءه رجل فقال: إني رأيت لك رؤيا، فقال: هاتها، فقصها عليه؛ فقال ابن عبدل: وأنا قد رأيت أيضا؛ قال: هات ما رأيت؛ فقال:
صفحة : 238
أغفيت قبل الصبح نوم مسهد في ساعة ما كنت قبل أنامها
مخبوتني فيما أرى بـولـيدة مغنوجة حسن علي قيامهـا
وببدرة حملت إلي وبـغـلة شهباء ناجية يصل لجامهـا
ليت المنابر يابن بشر أصبحت ترقى وأنت خطيبها وإمامها فقال له ابن بشر: إذا رأيت هذا في اليقظة أتعرفه? قال: نعم وإنما رأيته قبيل الصبح؛ قال: يا غلام، ادع فلانا، فجاء بوكيله، فقال: هات فلانة فجاءت، فقال: أين هذه مما رأيت? قال: هي هي؛ وإلا فعليه وعليه؛ ثم دعا له ببدرة، فقال: مثل ذلك، وببغلة فركبها وخرج؛ فلقيه قهرمان عبد الملك، قال: أتبيعها? قال: نعم، قال: بكم? قال: بستمائة، قال: هي لك؛ فأعطاه ستمائة، فقال له: أما والله لو أبيت إلا ألفا لأعطيتك؛ قال: إياي تندم لو أبيت إلا ستة لبعتك.
?هجاؤه ابن حسان وقد تزوج قيسية
أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم عن ابن عياش عن لقيط قال: تزوج محمد بن حسان التيمي امرأة من ولد قيس بن عاصم وهي ابنة مقاتل بن طلبة بن قيس، زوجها إياه رجل منهم يقال له زياد، فقال ابن عبدل:
أبـاع زياد سـود الـلـه وجـهـه عقيلة قـوم سـادة بـالـدراهـم
وما كان حسان بن سعد ولا ابـنـه أبو المسك من أكفاء قيس بن عاصم
ولكنه رد الزمان عـلـى اسـتـه وضيع أمر المحصنات الـكـرائم
خذي دية منـه تـكـن لـك عـدة وجيئي إلى باب الأمير فخاصمـي
فلو كنت في روح لما قلت خاصمي ولكنما ألقيت في سـجـن عـارم قال: فلما بلغ أهلها شعره أنفوا من ذلك، فاجتمعوا على محمد بن حسان حتى فارقها. قال: وكان محمد بن حسان عاملا على بعض كور السواد، فسأله ابن عبدل حاجة فرده عنها، فقال فيه هذا الشعر وغيره وهجاه هجاء كثيرا.
أخبرني بهذا الخبر محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أحمد بن بكير الأسدي عن محمد بن بشر السلامي عن محمد بن سهل راوية الكميت، فذكر نحوا مما ذكره عمي وزاد فيه قال: وكانت المرأة التي تزوجها معاذة بنت مقاتل بن طلبة، فلما سمعت ما قال ابن عبدل فيها نشزت على زوجها وهربت إلى أهلها، فتوسطوا ما بينهما وافتديت منه بمال وفارقها.
?مسامرته امرأة تنشد شعره
أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن عطاء عن يحيى بن نصر أبي زكريا قال: سمع ابن عبدل الأسدي امرأة وهي تتمشى بالبلاط تتمثل بقوله:
وأعسر أحيانا فتشـتـد عـسـرتـي وأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي فقال لها ابن عبدل - وكان قريبا منها -: يا أخيا، أتعرفين قائل هذا الشعر? قالت: نعم، ابن عبدل الأسدي، قال: أفتثبتينه معرفة? قالت: لا؛ قال: فأنا هو، وأنا الذي أقول:
وأنعظ أحيانا فينـقـد جـلـده وأعذله جهدي فلا ينفع العذل
وأزداد نعظا حين أبصر جارتي فأوثقه كيما يثوب له عـقـل
وربتما لم أدر ما حيلتـي لـه إذا هو آذاني وغر به الجهـل
فآويته في بطن جاري وجارتي مكابرة قدما وإن رغم البعـل فقالت له المرأة: بئس والله الجار للمغيبة أنت، فقال: إي والله، وللتي معها زوجها وأبوها وابنها وأخوها.
?خبر وفوده على ابن هبيرة
أخبرني محمد بن زكريا الصحاف قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي قال حدثنا الهيثم بن عدي وأخبرني به حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الحسن قال حدثني أبو خالد الخزاعي الأسلمي عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: قدم الحكم بن عبدل الشاعر الكوفي واسطا على ابن هبيرة وكان بخيلا، فأقبل حتى وقف بين يديه ثم قال:
أتيتك في أمر من أمر عشيرتي وأعيا الأمور المفظعات جسيمها
فإن قلت لي في حاجتي أنا فاعل فقد ثلجت نفسي وولت همومها
صفحة : 239
قال: أنا فاعل إن اقتصدت، فما حاجتك? قال: غرم لزمني في حمالة؛ قال: وكم هي? قال: أربعة آلاف، قال: نحن مناصفوكها، قال: أصلح الله الأمير، أتخاف علي التخمة إن أتممتها? قال: أكره أن أعود الناس هذه العادة؛ قال: فأعطني جميعها سرا وامنعني جميعها ظاهرا حتى تعود الناس المنع وإلا فالضرر عليك واقع إن عودتهم نصف ما يطلبون؛ فضحك ابن هبيرة وقال: ما عندنا غير ما بذلناه لك؛ فجثا بين يديه وقال: امرأته طالق لا أخذت أقل من أربعة آلاف أو أنصرف وأنا غضبان؛ قال: أعطوه إياها قبحه الله فإنه - ما علمت - حلاف مهين؛ فأخذها وانصرف.
?رثاؤه قوما من بني غاضرة
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثني مشايخنا من بني أسد محمد بن أنس وغيره قالوا: لما وقع الطاعون بالكوفة أفنى بني غاضرة ومات فيه بنو زر بن حبيش الناضري صاحب علي بن أبي طالب، وكانوا ظرفاء، وبنو عم لهم، فقال الحكم بن عبدل الغاضري يرثيهم:
أبعد بني زر وبعـد ابـن جـنـدل وعمرو أرجي لذة العيش في خفض
مضوا وبقينا نأمل العيش بـعـدهـم ألا إن من يبقى علىإثر من يمضي
فقد كان حولي من جـياد وسـالـم كهول مساعير وكل فـتـى بـض
يرى الشح عارا والسمـاحة رفـعة أغر كعود البانة الناعـم الـغـض ?هجاؤه ابن حسان لحاجة لم يقضها له
قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب أبي محلم قال: سأل الحكم بن عبدل أخو بني نصر بن قعين محمد بن حسان بن سعد حاجة لرجل سأله مسألته إياها؛ فرده ولم يقضها؛ فقال فيه ابن عبدل:
رأيت محمدا شرها ظلومـا وكنت أراه ذا ورع وقصـد
يقول أمانتي ربي خـداعـا أمات الله حسان بن سـعـد
فلولا كسبه لوجدت فـسـلا لئيم الكسب شأنك شأن عبـد
ركبت إليه في رجل أتانـي كريم يبتغي المعروف عندي
فقلت له وبعض القول نصح ومنه ما أسر لـه وأبـدي
توق دراهم البكـري إنـي أخاف عليك عاقبة التعـدي
أقرب كل آصـرة لـيدنـوا فما يزداد مني غير بـعـد
فأقسم غير مستثـن يمـينـا أبا بخر لتتـخـمـن ردي أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن بكير الأسدي قال حدثني محمد بن أنس السلامي قال حدثني محمد بن سهل الأسدي راوية الكميت: أن الحكم بن عبدل الأسدي أتى محمد بن حسان بن سعد التميمي وكان على خراج الكوفة، فكلمه في رجل من العرب أن يضع عنه ثلاثين درهما من خراجه؛ فقال: أماتني الله إن كنت أقدر أن أضع من خراج أمير المؤمنين شيئا؛ فانصرف ابن عبدل وهو يقول:
دع الثلاثين لا تعرض لصاحبها لا بارك الله في تلك الثلاثينـا
لما علا صوته في الدار مبتكرا كأشتفان يرى قوما يدوسونـا
أحسن فإنك قد أعطيت مملـكة إمارة صرت فيها اليوم مفتونا
لا يعطك الله خيرا مثلها أبـدا أقسمت بالله إلا قلت آمـينـا قال: فلم يضع له شيئا مما على الرجل؛ فقال فيه:
رأيت محمدا شرها ظلـومـا وكنت أراه ذا ورع وقـصـد
يقول أماتني ربـي خـداعـا أمات الله حسان بـن سـعـد
فما صادفت في قحطان مثلـي ولا صادفت مثلك في مـعـد
أقـل بـراعة وأشـد بـخـلا وألأم عند مـسـئلة وحـمـد
نحوت محمـدا ودخـان فـيه كريح الجعر فوق عطين جلد
فأقسم غير مستـثـن يمـينـا أبا بخر لـتـتـخـمـن ردي
فلو كنت المهذب مـن تـمـيم لخفت ملامتي ورجوت حمدي
نكهت علي نـكـهة أخـدري شتيم أعـصـل الأنـياب ورد
فما يدنو إلـى فـمـه ذبـاب ولو طليت مشافره بـقـنـد
فإن أهديت لي من فيك حتفـا فإني كالذي أهديت مـهـدي
صفحة : 240
قال محمد بن سهل: وما زال ابن عبدل يزيد في قصيدته هذه الدالية حتى مات وهي طويلة جدا. قال: واشتهرت حتى إن كان المكاري ليسوق بغله أو حماره فيقول: عد
أمات الله حسان بن سعد فإذا سمع ذلك أبوه قال: بل أمات الله ابني محمدا، فهو عرضني لهذا البلاء في ثلاثين درهما.
?ابن عبدل وأبو المهاجر
أخبرني أحمد بن محمد زكريا الصحاف قال حدثنا قعنب بن محرز قال أخبرنا الهيثم بن عدي قال: دعا أبو المهاجرالحكم بن عبدل ليشرب عنده وله جارية تغني فغنت؛ فقال ابن عبدل:
يا أبا المهاجر قد أردت كرامتي فأهنتني وضررتني لو تعـلـم
عند التي لو مس جلدي جلدهـا يوما بقيت مخـلـدا لا أهـرم
أو كنت في أحمى جهنم بقـعة فرأيتها بردت علي جـهـنـم قال: فجعل أبو المهاجر يضحك ويقول له: ويحك والله لو كان إليها سبيل لوهبتها لك، ولكن لها مني ولد.
?ابن عبدل وعمر بن يزيد الأسدي
أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني قال: كان عمر بن يزيد الأسدي مبخلا، ووجده أبوه مع أمة له فكان يعير بذلك، وجاءه الحكم بن عبدل الأسدي ومعه جماعة من قومه يسألونه حاجة، فدخلوا إليه وهو يأكل تمرا فلم يدعهم إليه، وذكروا له حاجتهم فلم يقضها؛ فقال فيه ابن عبدل:
جئنا وبين يديه التمر في طبـق فما دعانا أبو حفص ولا كـادا
علا على جسمه ثوبان من دنس لؤم وجبن ولـولا أيره سـادا ?ابن عبدل يقتضي ديون امرأة من الكوفة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا محمد بن الحسن الأحول عن أبي نصر عن الأصمعي قال: كانت امرأة موسرة بالكوفة وكانت لها على الناس ديون بالسواد، فاستعانت بابن عبدل في دينها، وقالت: إني امرأة ليس لي زوج، وجعلت تعرض بأنها تزوجه نفسها؛ فقام ابن عبدل في دينها حتى اقتضاه؛ فلما طالبها بالوفاء كتبت إليه:
سيخطئك الذي حاولت منـي فقطع حبل وصلك من حبالي
كما أخطأك معروف ابن بشر وكنت تعد ذلـك رأس مـال قال: وكان ابن عبدل أتى ابن بشر بالكوفة فسأله؛ فقال له: أخمسمائة أحب إليك الآن عاجلة أم ألف في قابل? قال: ألف في قابل. فلما أتاه قال له: ألف أحب إليك أم ألفان في قابل? قال: ألفان؛ فلم يزل ذلك دأبه حتى مات ابن بشر وما أعطاه شيئا.
?ابن عبدل وعبد الملك بن بشر
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال: دخل ابن عبدل على عبد الملك بن بشر، فقال له: ما أحدثت بعدي? قال: خطبت امرأة من قومي مزقت علي جواب رسالتي ببيتي شعر؛ قال: وما هما? قال: قالت:
سيخطئك الذي حاولت منـي فقطع حبل وصلك من حبالي
كما أخطأك معروف ابن بشر وكنت تعد ذلـك رأس مـال فضحك عبد الملك، ثم قال: لجاد ما أذكرت بنفسك وأمر له بألفي درهم.
?ابن عبدل وبشر بن مروان
أخبرني أبو الحسن الأسدي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا الحسن بن عليل قال حدثنا محمد بن معاوية الأسدي قال حدثني منجاب بن الحارث قال حدثني عبد الملك بن عفان قال: كان الحكم بن عبدل الأسدي ثم الغاضري صديقا لبشر بن مروان، فرأى منه جفاء لشغل عرض له، فغبر عنه شهرا، ثم التقيا فقال: يابن عبدل، مالك تركتنا وقد كنت لنا زوارا? فقال ابن عبدل:
كنت أثني عليك خيرا فلـمـا أضمر القلب من نوالك ياسـا
كنت ذا منصب قنـيت حـيائي لم أقل غير أن هجرتك باسـا
لم أطق ما أردت بي يابن مروا ن ستلقـى إذا أردت أنـاسـا
يقبلون الخسيس منك ويثـنـو ن ثناء مدخمسا دخـمـاسـا فقال له: لا نسومك الخسيس ولا نريد منك ثناء مدخمسا، ووصله وحمله وكساه.
?ابن عبدل وقد طلبه بن هبيرة للغزو
أخبرني الأسدي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال وحدثني محمد بن معاوية قال حدثني منجاب بن الحارث عن عبد الملك بن عفان قال:
صفحة : 241
أراد عمر بن هبيرة أن يغزي الحكم بن عبدل الغاضري، فاعتل بالزمانة فحمل وألقي بين يديه فجرده فإذا هو أعرج مفلوج، فوضع عنه الغزو وضمه إليه وشخص به معه إلى أواسط؛ فقال الحكم بن عبدل:
لعمري لقد جردتني فوجدتني كثير العيوب سيىء المتجرد
فأعفيتني لما رأيت زمانتـي ووفقت مني للقضاء المسدد فلما صار عمر إلى واسط شكا إليه الحكم بن عبدل الضبعة، فوهب له جارية من جواريه، فواثبها ليلة صارت إليه فنكحها تسعا أو عشرا طلقا، فلما أصبحت قالت له: جعلت فداك من أي الناس أنت? قال: امرؤ من أهل الشام؛ فقالت: بهذا العمل نصرتم.
?أعفاء الحجاج من الغزو
أخبرني بهذا الخبر محمد بن عمران الصيرفي، قال حدثنا الحسن بن عليل قال حدثنا أحمد بن بكير الأسدي عن محمد بن أنس السلامي عن محمد بن سهل راوية الكميت فقال فيه: ضرب الحجاج البعث على المحتلمين ومن أنبت من الصبيان، فكانت المرأة تجيء إلى ابنها وقد جرد فتضمه إليها وتقول له: بأبي جزعا عليه، فسمي ذلك الجيش جيش بأبي، وأحضر ابن عبدل فجرد فوجد أعرج فأعفي؛ فقال في ذلك:
لعمري لقد جردتني فوجدتني البيتين، وزاد معهما ثالثا وهو:
ولست بذي شيخين يلتزمانـه ولكن يتيم ساقط الرجل واليد ?تزوج همدانية ولما كرهها قال
فيها شعرا
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن معاوية عن منجاب عن عبد الملك بن عفان قال: تزوج ابن عبدل امرأة من همدان فقالوا له: على كم تزوجت? فقال:
تزوجت همدانية ذات بهجة على نمط عـادية ووسـائد
لعمري لقد غاليت بالمهر إنه كذاك يغالى بالنساء المواجد قال: فلما دخل بها كرهها فقال:
أعاذلتي من لـوم دعـانـي أقلا اللوم إن لم تعـذرانـي
فإني قد دللت على عـجـوز مبرقعة مخصبة الـبـنـان
تغضن جلدها واخـضـر إلا إذا ما ضرجت بالزعفـران
فلما أن دخلت وحادثـتـنـي أظلتـنـي بـيوم أرونـان
تحدثني عن الأزمان حـتـى سمعت نداء حـر بـالأذان
فقالت قد نكحت اثنين شتـى فلما صاحباني طلـقـانـي
وأربعة نكحتهـم فـمـاتـوا فليت عريف حي قد نعانـي
وقالت ما تلادك قلت مالـي حمار ظالـع ومـزادتـان
وبـوري وأربــعة زيوف وثوبا مفلس متـخـرقـان
وقطعة جلة لا تمـر فـيهـا ودنا عومة مـتـقـابـلان
فقالت قد رضيت فسم ألـفـا ليسمع ما تقول الشـاهـدان
وما لك عندنا ألـف عـتـيد ولا تسع تعـد ولا ثـمـان
ولا سبع ولا سـت ولـكـن لكم عندي الطويل من الهوان ?كان منقطعا إلى بشر بن مروان
فلما مات رثاه
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن أبيه ابن الكلبي قال: كان الحكم بن عبدل الأسدي منقطعا إلى بشر بن مروان، وكان يأنس به ويحبه ويستطيبه، وأخرجه معه إلى البصرة لما وليها، فلما مات بشر جزع عليه الحكم وقال يرثيه:
أصبحت جم بلابل الصـدر متعجبا لتصرف الـدهـر
مازلت أطلب في البلاد فتى ليكون لي ذخرا من الذخر
ويكون يسعدني وأسـعـده في كل نائبة مـن الأمـر
حتى إذا ظفـرت يداي بـه جاء القضاء بحينه يجـري
إني لفي هم يبـاكـرنـي منه وهم طـارق يسـري
فلأصبرن ومـا رأيت دوى للهم غير عزيمة الصبـر
والله ما استعظمت فرقتـه حتى أحاط بفضله خبـري ?خروجه مع عمال بني أمية إلى الشأم
وكان يسمر عند عبد الملك فأنشده ليلة شعرا
أخبرني ابن دريد قال حدثني عمي عن أبيه عن ابن الكلبي قال: لما ظفرابن الزبير بالعراق وأخرج عنها عمال بني أمية خرج ابن عبدل معهم إلى الشأم، وكان ممن يدخل إلى عبد الملك ويسمر عنده، فقال لعبد الملك ليلة:
صفحة : 242
يا ليت شعري وليت ربما نفعـت هل ابصرن بني العوام قد شملوا
بالذل والأسر والتشـريد إنـهـم على البرية حتف حيثما نزلـوا
أم هل أراك بأكناف العراق وقد ذلت لعزك أقوام وقد نـكـلـوا فقال عبد الملك - ويروى أنه قائل هذا الشعر -:
إن يمكن الله من قيس ومن جدس ومن جذام ويقتل صاحب الحرم
نضرب جماجم أقوام على حنـق ضربا ينكل عنا سـائر الأمـم ?يزيد بن عمر بن هبيرة وبنت ابن عبدل
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني هارون بن علي بن يحيى المنجم عن أبيه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني عن رجل من بني أسد قال: خرج يزيد بن عمر بن هبيرة يسير بالكوفة فانتهى إلى مسجد بني غاضرة، وأقيمت الصلاة، فنزل يصلي، واجتمع الناس لمكانه في الطريق وأشرف النساء من السطوح، فلما قضى صلاته قال: لمن هذا المسجد? قالوا لبني غاضرة، فتمثل قول الشاعر:
ما إن تركن من الغواضر معصرا إلا فصمن بساقهـا خـلـخـالا فقالت له امرأة من المشرفات:
ولقد عطفن على فزارة عطفة كر المنيح وجلن ثم مـجـالا فقال يزيد: من هذه? فقالوا: بنت الحكم بن عبدل؛ فقال: هل تلد الحية إلا حية وقام خجلا.
?ابن عبدل وصاحب العسس
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال: كان ابن عبدل الأسدي أعرج أحدب، وكان من أطيب الناس وأملحهم، فلقيه صاحب العسس ليلة وهو سكران محمول في محفة؛ فقال له: من أنت? فقال له: يا بغيض، أنت أعرف بي من أن تسألني من أنا، فاذهب إلى شغلك، فإنك تعلم أن اللصوص لا يخرجون بالليل للسرقة محمولين في محفة؛ فضحك الرجل وانصرف عنه.
?ابن عبدل يعرض بابن هبيرة في شعره
أخبرني: هاشم بن محمد قال حدثنا العباس بن ميمون طائع قال حدثني أبو عدنان عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: رأيت ابن عبدل الأسدي وقد دخل على ابن هبيرة، فقال له: أنشدني شيئا فقال: أنشدك مقولة أيها الأمير? قال: هات؛ فأنشده هذه الأبيات - وهي قديمة وقد تمثل بها ابن الأشعث حين خرج، ويروى أنها لأعشى همدان -
نجم ولا نعطى وتعطى جيوشهم وقد ملئوا من مالنا ذا الأكـارع
وقد كلفـونـا عـدة وروائعـا فقد وأبي رعناكـم بـالـروائع
ونحن جلبنا الخيل من ألف فرسخ إليكم بمجمر من الموت ناقـع قال: فغضب ابن هبيرة من تعريضه به، وقال به: والله لولا أني قد أمنتك واستنشدتك لضربت عنقك.
?وولدت له جارية سوداء ولدا
فقال فيه شعرا
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان أبو عبد الله قال حدثنا القاسم بن عبد الرحمن قال: كانت للحكم بن عبدل جارية سوداء، وقد كان يميل إليها فولدت له ابنا أسود، فكان من أعرم الصبيان، فقال فيه:
يا رب خال لك مسود القـفـا لا يشتكي من رجله مس الحفا
كأن عـينـيه إذا تـشـوفـا عينا غراب فوق نيق أشرفـا ?هجا عمر بن يزيد الأسدي لبخله
أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان أبو عبد الله قال حدثنا عبيد الله بن محمد قال حدثنا المدائني قال: كان عمر بن يزيد الأسدي بخيلا على الطعام، فدخل عليه الحكم بن عبدل الشاعر وهو يأكل بطيخا، فسلم فلم يرد عليه السلام ولم يدعه إلى الطعام؛ فقال ابن عبدل يهجوه.
في عمر يزيد خلتـا دنـس بخل وجبن ولولا أيره سـادا
جئناه يأكل بطيخا على طبق فما دعانا أبو حفص ولا كادا قال وكان عمر على شرطة الحجاج وكان بخيلا جدا، فأصابه قولنج فحقنه الطبيب بدهن كثير، فانحل ما في بطنه في الطست، فقال للغلام: ما تصنع به? قال: أصبه؛ قال: لا ولكن ميز منه الدهن واستصبح به.
?ابن عبدل ومحمد ابن عمير
كاتب عبد الملك بن بشر
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا أبو هفان قال:
صفحة : 243
كان لعبد الملك بن بشر بن مروان كاتب يقال له محمد بن عمير وكان كلما مدحه ابن عبدل بشيء وأمر له بجائزة دافعه بها وعارضه فيها، فدخل يوما إلى عبد الملك وكاتبه هذا يساره، فوقف وأنشأ يقول:
ألقيت نفسك في عروض مشقة وحصاد أنفك بالمناجل أهـون
فبحق أمك وهي غير حقـيقة باللين واللطف الذي لا يخزن
لا تدن فاك إلى الأمير ونحـه حتى يداوي نتنه لـك أهـون
إن كان للظربان حجر منـتـن فلحجر أنفك يا محمد أنـتـن ?خطب امرأة فابت
فقال فيها شعرا يعيرها
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني أحمد بن بكير الأسدي عن محمد بن أنس السلامي عن محمد بن سهل راوية الكميت قال: خطب ابن عبدل امرأة من همدان يقال لها: أم رياح فلم تتزوجه، فقال: أما والله لأفضحنك ولأعيرنك فقال:
فلا خير في الفتيان بعد ابن عبدل ولا في الزواني بعـد أم رياح
فأيري بحمد الله ماض مجـرب وأم رياح عرضة لنـكـاحـي ?ولد له ولد سماه بشرا تيمنا ببشر
ابن مروان
قال: فتحاماها الناس فما تزوجت حتى أسنت. وبهذا الإسناد عن محمد بن سهل قال: ولد للحكم بن عبدل ابن فسماه بشرا، ودخل على بشر بن مروان فأنشده:
سميت بشرا ببشر الندى فلا تفضحني بتصداقها
إذا ما قريش البـطـا ح عند تجمع آفاقهـا
تسامت قرومهم للنـدى تباري الرياح بأوراقها
فمالك أنفع أموالـهـا وخلقك أكرم أخلاقها فأمر له بألفي درهم، وقال: استعن بهذه على أمرك.
?عبد الملك بن بشر يقضي دينه وبإسناده عن محمد بن سهل قال: اقترض ابن عبدل مالا من التجار وحلف لهم بالطلاق ثلاثا أن يقضيهم المال عند طلوع الهلال، فلما بقي من الشهر يومان قال:
قد بات همي قرنا أكـابـده كأنما مضجعي على حجـر
من رهبة أن يرى هلال غد فإن رأوه فحق لي حـذري
من فقد بيضاء غادة كملـت كأنها صورة من الـصـور
أصبحت من أهلي الغداة ومن مالي على مثل ليلة الصـدر فبلغ خبره عبد الملك بن بشر فأعطاهم مالهم عليه وأضعفه له؛ فقال فيه:
لما أتاه الـذي أصـبـت بـه وأنشدوه إياه فـي شـعـري
جاد بضعفي ما حل من غرمي عفوا فزالت حرارة الصـدر
لأشكرن الذي مـنـنـت بـه ما دمت حيا وطال لي عمري ?فضله الحجاج في الجائزة على الشعراء
وقال محمد بن سهل بهذا الإسناد: اجتمع الشعراء إلى الحجاج وفيهم ابن عبدل، فقالوا للحجاج: إنما شعر ابن عبدل كله هجاء وشعر سخيف؛ فقال له: قد سمعت قولهم فاستمع مني؛ قال هات فأنشده قوله:
وإني لأستغني فما أبطـر الـغـنـى وأعرض ميسوري لمن يبتغي قرضي
وأعسر أحيانا فتشـتـد عـسـرتـي فأدرك ميسور الغنى ومعي عرضي حتى انتهى إلى قوله:
ولست بذي وجهين فيمـن عـرفـتـه ولا البخل فاعلم من سمائي ولا أرضي فقال له الحجاج: أحسنت وفضله في الجائزة عليهم بألفي درهم.
?أحد الأصوات المائة المختارة
?صوت من المائة المختارة
أجد بعمـرة غـنـيانـهـا فتهجر أم شأننا شـأنـهـا
فإن تمس شطت بها دارهـا وباح لك اليوم هجرانـهـا
فما روضة من رياض القطا كأن المصابيح حوذانـهـا
بأحسن منـهـا ولا مـزنة دلوح تكشف إدجـانـهـا
وعمرة من سروات النسـا ء تنفح بالمسك أردانـهـا أجد: أستمر. وغنيانها: استغناؤها. أم شأننا شانها: يقول أم هي على ما نحب. وشطت: بعدت، قال ابن الأعرابي: يقال: شطت وشطنت وشسعت وتشسعت وبعدت ونأت وتزحزحت وشطرت؛ قال الشاعر:
لا تتركني فيهم شطيرا ومنه سمي الشاطر. وباح: ظهر؛ ومنه باحة الدار وأنشد:
أتكتم حب سلمى أم تبوح والروضة: موضع فيه نبت وماء مستدير، وكذلك الحديقة. وقوله:
كأن المصابيح حوذانها
صفحة : 244
أراد كأن حوذانها المصابيح فقلب، والعرب تفعل ذلك؛ قال الأعشى:
... كأن الجمر مثل ترابها أراد كأن ترابها مثل الجمر. والمزنة: السحابة. والدلوح: الثقيلة، يقال: مر يدلح بحمله إذا مر به مثقلا. والدجن: إلباس الغيم السحاب برش وندى، يقال: أدجنت السماء؛ وقوله: تكشف إدجانها، إذا انكشف السواد عنها، وذلك أحسن لها، وأراد مزنة بيضاء. والأردان: ما يلي الذراعين جميعا والإبطين من الكمين.
الشعر لقيس بن الخطيم، والغناء لطويس خفيف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
الجزء الثالث
ذكر قيس بن الخطيم وأخباره ونسبه
نسبه
هو قيس بن الخطيم بن عدي بن عمرو بن سود بن ظفر، ويكنى قيس أبا يزيد.
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد، قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: أنشد ابن أبي عتيق قول قيس بن الخطيم:
بين شكول النساء خلقتهـا حذوا فلا جبلة ولا قضف فقال: لولا أن أبا يزيد قال: حذوا ما درى الناس كيف يخشون هذا الموضع أخذه بثأر أبيه وجده
واستعانته في ذلك بخداش بن زهير
وكان أبوه الخطيم قتل وهو صغير، قتله رجل من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج، فلما بلغ قتل قاتل أبيه ونشبت لذلك حروب بين قومه وبين الخزرج وكان سببها.
فأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرني أحمد بن يحيى ثعلب عن أبي الأعرابي عن المفضل قال: كان سبب قتل الخطيم أن رجلا من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج يقال له مالك اغتاله فقتله، وقيس يومئذ صغير، وكان عدي أبو الخطيم أيضا قتل قبله، قتله رجل من عبد القيس، فلما بلغ قيس بن الخطيم وعرف أخبار قومه وموضع ثأره لم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب فقتله، وظفر بقاتل جده بذي المجاز، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، ولم يكن معه إلا رهط من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدار الفزاري، فاستنجده فلم ينجده، فأتى خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتى أتوا قاتل عدي، فإذا هو واقف على راحلته في السوق، فطعنه قيس بحرية فقتله، ثم استمر. فأراده رهط الرجل، فحالت بنو عامر دونه؛ فقال في ذلك قيس بن الخطيم:
ثأرت عديا والخطيم فلـم أضـع ولاية أشياخ جعـلـت إزاءهـا
ضربت بذي الزجين ربقة مالـك فأبت بنفس قد أصبت شفـاءهـا
وسامحني فيها ابن عمرو بن عامر خداش فأدى نـعـمة وأفـاءهـا
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثـائر لها نفذ لولا الشعـاع أضـاءهـا
ملكت بها كفي فأنهرت فتقـهـا يرى قائم من دونها مـاوراءهـا هذه رواية ابن الأعرابي عن المفضل. وأما ابن الكلبي فإنه ذكر أن رجلا من قريش أخبره عن أبي عبيدة أن محمد بن عمار بن ياسر، وكان عالما بحديث الأنصار، قال:
صفحة : 245
كان من حديث قيس بن الخطيم أن جده عدي بن عمرو قتله رجل من بني عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة يقال له مالك، وقتل أباه الخطيم بن عدي رجل من عبد القيس ممن يسكن هجر؛ وكان قيس يوم قتل أبوه صبيا صغيرا، وقتل الخطيم قبل أن يثأر بأبيه عدي؛ فخشيت أم قيس على ابنها أن يخرج فيطلب بثأر أبيه وجدك، فكان قيس لايشك أن ذلك على ذلك. ونشأ أيدا شديد الساعدين، فنازع يوما فتى من فتيان بني ظفر، فقال له: ومن قاتل أبي وجدي? قال: سل أمك تخبرك? فأخذ السيف ووضع قائمة على الأرض وذبابة بين ثدييه وقال لأمه: أخبريني من قتل أبي وجدي? قالت: ماتا كما يموت الناس وهذان قبراهما بالفناء؛ فقال: والله لتخبرينني من قتلهما أو لأتحاملن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري؛ فقالت: أما جدك فقتله رجل من بني عمرو بن عامر بن ربيعة يقال له مالك، وأما أبوك فقتله رجل من عبد القيس ممن يسكن هجر؛ فقال: والله لأنتهي حتى أقتل قاتل أبي وجدي؛ فقالت: يا بني إن مالكا قاتل جدك من قوم خداش بن زهير، ولأبيك عن خداش نعمة هو لها شاكر، فأته فاستشره في أمرك واستعنه يعنك؛ فخرج قيس من ساعته حتى أتى ناصحه وهو يسقي نخله، فضرب الجرير بالسيف فقطعه، فسقطت الدلو في البئر، وأخذ برأس الجمل فحمل على غرارتين من تمر، وقال: من يكفيني أمر هذه العجوز? )يعني أمه( فإن مت أنفق عليها من هذا الحائط حتى تموت ثم هو له، وإن عشت فمالي عائد إلي وله منه ما شاء أن يأكل من تمره؛ فقال رجل من قومه: أنا له، فأعطاه الحائط ثم خرج يسأل عن خداش بن زهير حتى دل عليه بمر الظهران، فصار إلى خبائه فيم يده، فنزل تحت شجرة يكون تحتها أضيافه، ثم نادى امرأة خداش: هل من طعام? فأطلعت إليه فأعجبها جماله، وكان من أحسن الناس وجها؛ فقالت: والله ما عندنا من نزل نرضاه لك إلا تمرا؛ فقال: لا أبالي، فأخرجي ما كان عندك؛ فأرسلت إليه بقباع فيه تمر، فأخذ منه تمرة فأكل شقها ورد شقها الباقي في القباع، ثم أمر بالقباع فأدخل على امرأة خداش بن زهير، ثم ذهب لبعض حاجاته. ورجع خداش فأخبرته امرأته خبر قيس، فقال: هذا رجل متحرم. وأقبل قيس راجعا وهو مع امرأته يأكل رطبا؛ فلما رأى خداش رجله وهو على بعيره قال لامرأته: هذا ضيفك? قالت: نعم؛ قال: كأن قدمه قدم الخطيم صديقي اليثربي؛ فلما منه قرع طنب البيت بسنان رمحه واستأذن، فأذن له خداش فدخل إليه، فنسبه فانتسب وأخبره بالذي جاء له، وسأله أن يعينه وأن يشير عليه في أمره؛ فرحب به خداش وذكر نعمة أبيه عنده، وقال: إن هذا الأمر مازلت أتوقعه منك منذ حين. فأما قاتل جدك فهو ابن عم لي وأنا أعينك عليه، فإذا اجتمعا في نادينا جلست إلى جنبه وتحدثت معه، فإذا ضربت فخذه فثب إليه فاقتله. فقال قيس: فأقبلت معه نحوه حتى قمت على رأسه لما جالسه خداش، فحين ضرب فخذه فثب إليه فاقتله. فقال قيس: فأقبلت معه نحوه حتى قمت على رأسه لما جالسه خداش، فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له: ذو الخرصين، فثار إلي القوم ليقتلوني، فحال خداش بينهم وبيني وقال: دعوه فإنه والله ما قتل إلا قاتل جده. ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه، وانطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه، حتى إذا كانا قريبا من هجر أشار عليه خداش أن ينطلق حتى يسأل عن قاتل أبيه، فإذا دل عليه قال له: إن لصا من لصوص قومك عارضني فأخذ متاعا لي، فسألت من سيد قومه فدللت عليك، فانطلق معي حتى تأخذ متاعي منه؛ فإن اتبعك وحده فستنال ما تريد منه، وإن أخرج معه غيره فاضحك، فإن سألك مم ضحكت فقل: إن الشريف عندنا لايصنع كما صنعت إذا دعي إلى اللص من قومه، إنما يخرج وحده بسوطه دون سيفه، فإذا رآه اللص أعطى كل شيء أخذ هيبة له، فإن أمر أصحابه بالرجوع فسبيل ذلك، وإن أبى إلا أن يمضوا معه فأتني به، فإني أرجو أن تقتله وتقتل أصحابه. ونزل خداش تحت ظل شجرة، وخرج قيس حتى أتى العبدي فقال له ما أمره خداش فاحفظه، فأمر أصحابه فرجعوا ومضى مع قيس، فلما طلع على خداش، قال له: اختر يا قيس إما أن أعينك وإما أن أكفيك؛ قال: لا أريد واحدة منهما، ولكن إن قتلني فلا يفلتنك؛ ثم ثار إليه فطعنه قيس بالحربة في خاصرته فأنفذها من الجانب الآخر فمات مكانه، فلما فرغ منه قال له خداش: إنا إن قررنا الآن طلبنا قومه، ولكن ادخل بنا مكانا قريبا من مقتله، فإن
صفحة : 246
قومه لا يظنون أنك قتلته وأقمت قريبا منه، ولكنهم إذا افتقدوه اقتفوا أثره، فإذا وجدوه قتيلا، فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ثم رجعوا، فكان من أمرهم ما قال خداش. وأقاما مكانهما أياما ثم خرجا، فلم يتكلما حتى لآتيا منزل خداش، ففارقه عنده قيس بن الخطيم ورجع الى أهله. ففي ذلك يقول قيس:ه لا يظنون أنك قتلته وأقمت قريبا منه، ولكنهم إذا افتقدوه اقتفوا أثره، فإذا وجدوه قتيلا، فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ثم رجعوا، فكان من أمرهم ما قال خداش. وأقاما مكانهما أياما ثم خرجا، فلم يتكلما حتى لآتيا منزل خداش، ففارقه عنده قيس بن الخطيم ورجع الى أهله. ففي ذلك يقول قيس:
تذكر ليلى حسنهـا وصـفـاءهـا وبانت فما إن يستطيع لـقـاءهـا
ومثلك قد أصبيت ليسـت بـكـنة ولاجارة أفضت إلي خـبـاءهـا
إذا ما اصطبحت أربعا خط مئزري وأتبعت دلوي في السماح رشاءها
ثأرت عديا والخطيم فـلـم أضـع وصية أشياخ جعـلـت إزاءهـا وهي قصيدة طويلة.
استنشد رسول الله شعره وأعجب بشجاعته
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن اسرائيل قال حدثنا زكريا بن يحيى المنقري قال حدثنا زياد بن بيان العقيلي قال حدثنا أبو خولة الأنصاري عن أنس بن مالك قال: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس ليس فيه إلا خزرجي ثم استنشدهم قصيدة قيس بن الخطيم، يعني قوله:
أتعرف رسما كاطراد المذاهب لعمرة وحشا غير موقف راكب فأنشده بعضهم إياها، فلما بلغ إلى قوله:
أجالدهم يوم الحديقة حـاسـرا كأن يدي بالسيف مخراق لاعب فالتفت إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل كان كما ذكر ؛ فشهد له ثابت بن قيس بن شماس وقال له: والذي بعثك بالحق يا رسول الله، لقد خرج إلينا يوم سابع عرسه عليه غلالة وملحفة مورسة فجالدنا كما ذكر. هكذا في هذه الرواية.
وقد أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال: لم تكن بينهم في هذه الأيام حروب إلا في يوم بعاث فإنه كان عظيما، وإنما كانوا يخرجون فيترامون بالحجارة ويتضاربون بالخشب.
قال الزبير وأنشدت محمد بن فضالة قول قيس بن الخطيم:
أجالدهم يوم الحديقة حـاسـرا كأن يدي بالسيف مخراق لاعب فضحك وقال: ما اقتتلوا يومئذ إلا بالرطائب والسعف قال أبو الفرج: وهذه القصيدة التي استنشدهم إياها رسول الله صلى الله عليه وسلم من جيد شعر قيس بن الخطيم، ومما أنشده نابغة بني دبيان فاستحسنه وفضله وقدمه من أجله.
أنشد النابغة من شعره فاستجاده أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال قال أبو غزية قال حسان بن ثابت: قدم النابغة المدينة فدخل السوق فنزل عن راحلته، ثم جثا على ركبتيه، ثم اعتمد على عصاه، ثم أنشأ يقول:
عرفت منازلا بعريتنـات فأعلى الجزع للحي المبن فقلت: هلك الشيخ ورأيته قد تبع قافية منكرة. قال ويقال: إنه قالها في موضعه، فما زال ينشد حتى أتى على آخرها، ثم قال: ألا رجل ينشد? فتقدم قيس بن الخطيم فجلس بين يديه وأنشده: أتعرف رسما كاطراد المذاهب حتى فرغ منه؛ فقال: أنت أشعر الناس يابن أخي. قال حسان: فدخلني منه، وإني في ذلك لأجد القوة في نفسي عليهما، ثم تقدمت فجلست بين يديه؛ فقال: أنشد فو الله إنك لشاعر قبل أن تتكلم، قال: وكان يعرفني قبل ذلك، فأنشدته؛ فقال أنت أشعر الناس. قال الحسن بن موسى: وقالت الأوس: لم يزد قيس بن الخطيم النابغة على: أتعرف رسما كاطراد المذاهب -نصف البيت-حتى قال أنت أشعر الناس صفاته الجثمانية
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال قال سليمان بن داود المجمعي: كان قيس بن الخطيم مقرون الحاجبين أدعج العينين أحمر الشفتين براق الثنايا كأن بينهما برقا، ما رأته حليلة رجل قط إلا ذهب عقلها.
أمر حسان الخنساء بهجوه فأبت
صفحة : 247
أخبرني الحسن قال حدثنا محمد قال حدثنا الزبير قال حدثني حسن بن موسى عن سليمان بن داود المجمعي قال: قال حسان بن ثابت للخنساء: أهجي قيس بن الخطيم؛ فقالت: لا أهجو أحدا أبدا حتى أراه. قال: فجاءته يوما فوجدته في مشرقة ملتفا في كساء له، فنخسته برجلها وقالت: قم، فقام؛ فقالت: أدبر، فأدبر؛ ثم قالت: أقبل، فأقبل. قال: والله لكأنها تعترض عبدا تشتريه، ثم عاد إلى حاله نائما؛ فقالت: والله لا أهجو هذا أبدا.
عرض عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم الإسلام فاستنظره حتى يقدم المدينة:
قال الزبير وحدثني عمي مصعب قال: كانت عند قيس بن الخطيم حواء بنت يزيد بن سنان بن كريز بن زعوراء فأسلمت، وكانت تكتم قيس بن الخطيم إسلامها، فلما قدم قيس مكة عرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فاستنظره قيس حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فاستنظره قيس حتى يقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتنب زوجته حواء بنت يزيد، وأوصاه بها خيرا، وقال له: إنها قد أسلمت؛ ففعل قيس وحفظ وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ رسول صلى الله عليه وسلم؛ فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: وفي الأديعج قال أبو الفرج وأحسب هذا غلطا من مصعب، وأن صاحب هذه القصة قيس بن شماس، وأما قيس بن الخطيم فقتل قبل الهجرة.
قتله الخزرج بعد هدأة الحرب بينهم وبين الأوس: أخبرني علي بن سليمان الأخفش النحوي عن أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل: أن حرب الأوس والخزرج لما هدأت، تذكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته فيهم، فتوامروا وتواعدو قتله؛ فخرج عشية من منزله في ملاءتين يريد مالا له بالشوط حتى مر بأطم بني حارثة، فرمي من الأطم بثلاثة أسهم، فوقع أحدها في صدره، فصاح صيحة سمعها رهطه، فجاؤوا فحملوه الى منزله، فلم يروا له كفئا إلا أبا صعصعة يزيد بن عوف بن مدرك النجاري، فاندس إليه رجل حتى اغتاله في منزله، فضرب عنقه واشتمل على رأسه، فأتى به قسا وهو بآخر رمق، فألقاه بين يديه وقال: يا قيس قد أدركت بثأرك؛ فقال: عضعضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة فقال: هو أبو صعصعة، وأراه الرأس فلم يلبث قيس بعد ذلك أن مات.
مهاجاته حسان بن ثابت
وهذا الشعر أعني: )أجد بعمرة غنيانها( فيما قيل يقوله قيس بن عمرة بنت رواحة، وقيل: بل قاله في عمرة: امرأة كانت لحسان بن ثابت، وهي عمرة بنت صامد بن خالد. وكان حسان ذكر ليلى بنت الخطيم في شعره، فكافأه قيس بذلك، وكان هذا في حربهم التي يقال لها يوم الربيع.
فأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال أخبرنا الزبير قال حدثني مصعب قال: مر حسان بن ثابت بليلى بنت الخطيم-وقيس بن الخطيم أخوها بمكة حين خرجوا يطلبون الحلف في قريش- فقال لها حسان: اظعني فالحقي بالحي فقد ظعنوا، وليت شعري ما خلفك وما شأنك: أقل ناصرك أم راث رافدك? فلم تكلمه وشتمه نساؤها؛ فذكرها في شعره في يوم الربيع الذي يقول فيه:
لقد هاج نفسك أشجانهـا وعاودها اليوم أديانـهـا
تذكرت ليلى وأني بـهـا إذا قطعت منك أقرانهـا
وحجل في الدار غربانهـا وخف من الدار سكانهـا
وغيرها معصرات الرياح وسح الجنوب وتهتانـهـا
مهاة من العين تمشي بها وتتبعها ثم غـزلانـهـا
وقفت عليها فساءلتـهـا وقد ظعن الحي: ما شأنها
فعيت وجاوبني دونـهـا بما راع قلبي أعوانـهـا وهي طويلة. فأجابه قيس بن الخطيم بهذه القصيدة التي أولها: )أجد بعمرة غنيانها(، وفخر فيها بيوم الربيع وكان لهم فقال:
ونحن الفوارس يوم الربي ع قد علموا كيف فرسانها
حسان الوجوه حداد السـيو ف يبتدر المجد شبانـهـا وهي أيضا طويلة.
غنت عزة الميلاء النعمان بن بشير بشعره
صفحة : 248
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا الأصمعي قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان عن أبي السائب المخزومي، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال ذكر لي عن جعفر بن محرز السدوسي، قالوا: دخل النعمان بن بشير الأنصاري المدينة أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير، فقال: والله لقد أخفقت أذناي من الغناء فأسمعوني؛ فقيل له: لو وجهت إلى عزة فإنها من قد عرفت قال: إي ولارب البيت، إنها لمن يزيد النفس طيبا والعقل شحذا ابعثوا إليها عن رسالتي، فإن أبت صرنا إليها؛ فقال له بعض القوم: إن النقلة تشتد عليها لثقل بدنها وما بالمدينة دابة تحملها؛ فقال النعمان: وأين النجائب عليها الهوادج فوجه إليها بنجيب فذكرت علة، فلما عاد الرسول الى النعمان قال لجليسه أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا؛ فقام هو مع خواص أصحابه حتى طرقوها، فأذنت وأكرمت واعتذرت، فقبل النعمان عذرها وقال: غنيني فغنته:
أجد بعمرة غنيانهـا فتهجر أم شأننا شأنها فأشير إليها أنها أمة فسكتت؛ فقال: غنيني فو الله ما ذكرت إلا كرما وطيبا لا تغنيني سائر اليوم غير؛ فلم تزل تغنيه هذا اللحن فقط حتى انصرف.
وتذاكروا هذا الحديث عند الهيثم بن عدي، فقال: ألا أزيدكم فيه طريفة قلنا بلى يا أبا الرحمن؛ قال قال لقيط: كنت عند سعيد الزبيري قال سمعت عامرا الشعبي يقول: اشتاق النعمان بن بشير إلى الغناء فصار إلى منزل عزة، فلما انصرف إذا امرأة بالباب منتظرة له، فلما خرج شكت إليه كثرة غشيان زوجها إياها، فقال لها النعمان بن بشير: لأقضين بينكما بقضية لاترد علي، قد أحل الله له من النساء مثنى وثلاث ورباع، فله امرأتان بالنهار وامرأتان بالليل. فهذا يدل على أن المعنية بهذا الشعر عمرة بنت رواحة وأما ما ذكر أنه عني عمرة امرأة حسان بن ثابت، فأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه: أن قيس بن الخطيم لما ذكر حسان أخته ليلى في شعره ذكر امرأته عمرة، وهي التي يقول فيها حسان: أزمعت عمرة صرما فابتكر حسان بن ثابت وزوجة عمرة بنت الصامت وما قاله فيها من الشعر بعد طلاقها: أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب قال: تزوج حسان عمرة بنت الصامت بن خالد بن عطية الأوسية ثم إحدى بني عمرو بن عوف
فكان كل واحد منهما معجبا بصاحبه، وإن الأوس أجاروا مخلد بن الصامت الساعدي فقال في ذلك أبو قيس بن الأسلت:
أجرت مخلدا ودفعت عنه وعند الله صالح ما أتيت فتكلم حسان في أمره بكلام أغضب عمرة، فعيرته بأخواله وفخرت عليه بالأوس؛ فغضب لهم فطلقها، فأصابها من ذلك ندم وشدة؛ وندم هو بعد فقال: صوت
أزمعت عمرة صرما فابتكر إنما يدهن للقلب الحصـر
لا يكن حبك حبا ظـاهـرا ليس هذا منك يا عمر بسر
سألت حسان من أخـوالـه إنما يسأل بالشيء الغمـر
قلت أخوالي بنوكـعـب إذا أسلم الأبطال عورات الدبر يريد يدهن القلب، فأدخل اللم زائدة للضرورة. عمر: ترخيم عمرة. والسر: الخالص الحسن. غنت في هذه الأبيات عزة الميلاء ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش.
وتمام القصيدة:
رب خال لي لـو أبـصـرتـه سبط المشية في اليوم الخصـر
عند هذا البـاب إذ سـاكـنـه كل وجه حسن النـقـبة حـر
يوقد النـار إذا مـا أطـفـئت يعمل القدر بأثبـاج الـجـزر
من يغر الـدهـر أو يأمـنـه من قبيل بعد عمرو وحـجـر
ملكا من جبل الـثـلـج إلـى جانبي أيلة من عـبـد وحـر
ثم كانا خير من نـال الـنـدى سبقا الناس بـإقـسـاط وبـر
فارسي خيل إذا ما أمسـكـت ربة الخدر بأطراف السـتـر
أتـيا فـارس فـي دارهــم فتناهوا بعد إعـصـار بـقـر
ثم نادوا يالغـسـان اصـبـروا إنه يوم مصـالـيت صـبـر
اجعلوا معقلـهـا أيمـانـكـم بالصفيح المصطفى غير الفطر
بضـراب تـأذن الـجـن لـه وطعان مثل أفـواه الـفـقـر
صفحة : 249
ولقد يعلـم مـن حـاربـنـا أننا ننفع قـدمـا ونـضـر
صبر للموت إن حـل بـنـا صادقوا البأس غطاريف فخر
وأقام العز فينـا والـغـنـى فلنا فيه على الناس الكـبـر
منهم أصلي فمن يفخـر بـه يعرف الناس بفخر المفتخـر
نحن أهل العز والمجد مـعـا غير أنكاس ولا ميل عسـر
فاسألوا عنا وعن أفعـالـنـا كل قوم عندهم علم الخـبـر قال الزبير فحدثني عمي قال: ثم إن حسان بن ثابت مر يوما بنسوة فيهن عمرة بعد ما طلقها، فأعرضت عنه وقالت لامرأة منهن: إذا حاذاك هذا الرجل فاسأليه من هو وانسبيه وانسبي أخواله وهي متعرضة له، فلما حاذاهن سألته من هو ونسبته فانتسب لها، فقالت: فمن أخوالك? فأخبرها، فبصقت عن شمالها وأعرضت عنه؛ فحدد النظر إليها وعجب من فعلها وجعل ينظر إليها، فبصر بامرأته وهي تضحك فعرفها الأمر وعلم أن الأمر من قبلها أتى، فقال في ذلك:
قالت له يوما تـخـاطـبـه ريا الروادف غادة الصلـب
أما المروءة والـوسـامة أو حشم الرجال فقد بدا، حسبي
فوددت أنك لو تـخـبـرنـا من والداك ومنصب الشعـب
فضحكت ثم رفعت متصـلا صوتي كرفع المنطق الشغب
جدي أبـو لـيلـى ووالــده عمرو وأخوالي بنو كـعـب
وأنا مـن الـقـوم الـذين إذا أزم الشتاء بحلقة الـجـدب
أعطى ذوو الأموال معسرهم والضاربين بموطن الرعـب قال مصعب: وأبو ليلى الذي عناه حسان: حرام بن عمرو بن زيد مناة
ومما فيه صنعة من المائة المختارة
من شعر قيس بن الخطيم:
صوت
حوراء ممكورة منـعـمة كأنما شف وجهها نـزف
تنام عن كبر شأنهـا فـإذا قامت رويدا تكاد تنقصف
أوحش من بعد خلة سرف فالمنحنى فالعقيق فالجرف
الشعر لقيس بن الخطيم سوى البيت الثالث.
والغناء لقفا النجار
ولحنه المختار ثاني ثقيل، هكذا ذكر يحيى بن علي في الاختيار الواثقي. وهو في كتاب إسحاق لقفا النجار ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ولعله غير هذا اللحن المختار.
الحرب بين مالك بن العجلان وبني عمر بن عوف وسبب ذلك: سبب قول قيس لهذا الشعر
صفحة : 250
وهذا الشعر يقوله قيس بن الخطيم في حرب كانت بينهم وبين بني جحجبى وبني خطمة، ولم يشهدها قيس ولا كانت في عصره، وإنما أجاب عن ذكرها شاعرا منهم يقال له: درهم بن يزيد. قال أبو المنهال عتيبة بن المنهال: بعث رجل من غطفان من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان إلى يثرب بفرس وحلة مع رجل من غطفان وقال: ادفعهما إلى أعز أهل يثرب-قال وقيل: إن الباعث بهما عبد يا ليل بن عمرو الثقفي. قال وقيل: بل الباعث بهما علقمة بن علاثة - فجاء الرسول بهما حتى ورد سوق بني قنيقاع فقال ما أمر به، فوثب إليه رجل من غطفان كان جارا لمالك بن العجلان الخزرجي يقال له كعب الثعلبي، فقال: مالك بن العجلان أعز أهل يثرب؛ وقام رجل آخر فقال: بل أحيحة بن الجلاح أعز أهل يثرب، وكثر الكلام؛ فقيل لرسول الغطفاني قول الثعلبي الذي كان جارا لمالك بن العجلان ودفعهما إلى مالك؛ فقال كعب الثعلبي: ألم أقل لكم: إن حليفي أعزكم وأفضلكم ? فغضب رجل من بني عمرو بن عوف يقال له سمير فرصد الثعلبي حتى قتله، فأخبر مالك بذلك، فأرسل إلى بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس: إنكم قتلته بنو جحجبى: إنما قتلته بنو زيد؛ ثم أرسلوا إلى مالك: إنه قد كان في السوق التي قتل فيها صاحبكم ناس كثير، ولا يدري أيهم قتله؛ وأمر مالك أهل تلك السوق أن يتفرقوا، فلم يبق فيها غير سمير وكعب، فأرسل مالك إلى بني عمرو بن عوف بالذي بلغه من ذلك وقال: إنما قتله سمير، فأرسلوا به إلي أقتله؛ فأرسلوا إليه: إنه ليس لك أن تقتل سميرا بغير بينة؛ وكثرت الرسل بينهم في ذلك: يسألهم مالك أن يعطوه سميرا ويأبون أن يعطوه إياه. ثم إن بني عمرو بن عوف كرهوا أن ينسبوا بينهم وبين مالك حربا، فأرسلوا إليه يعرضون عليه الدية فقبلها؛ فأرسلوا إليه: إن صاحبكم حليف وليس لكم فيه إلا نصف الدية، فغضب مالك وأبى أن يأخذ فيه إلا الدية كاملة أو يقتل سميرا؛ فأبت بنو عمرو بن عوف أن يعطوه إلا دية الحليف وهي نصف الدية، ثم يأخذ فيه إلا الدية كاملة أو يقتل سميرا؛ فأبت بنو عمرو بن عوف أن يعطوه إلا دية الحليف وهي نصف الدية، ثم دهوه أن يحكم بينهم وبينه عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الخزرج وهو جد عبد الله بن رواحة ففعل؛ فانطلقوا حتى جاءوه في بني الحارث بن الخزرج، فقضى على مالك بن العجلان أنه ليس له في حليفة إلا دية الحليف، وأبى مالك أن يرضى بذلك وآذن بني عمرو بن عوف بالحرب، واستنصر قبائل الخزرج، فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره غضبا حين رد قضاء عمرو بن امرئ القيس؛ فقال مالك بن العجلان يذكر خذلان بني الحارث بن الخزرج له وحدب يني عمرو بن عوف على سمير، ويحرض بني النجار على نصرته:
إن سميرا أرى عـشـيرتـه قد حدبوا دونه وقد أنـفـوا
إن يكن الظن صادقا ببني الن جار لا يطعموا الذي علفـوا
لا يسلمونا لمـعـشـر أبـدا مادام منا ببطنـهـا شـرف
لكن موالي قـد بـدا لـهـم رأي سوى ما لدي أو ضعفوا يقال: علفوا الضيم إذ أقروا به، أي ظني أنهم لا يقبلون الضيم صوت
بين بني جحجبى وبـين بـنـي زيد فأنى لجـاري الـتـلـف
يمشون في البيض والدروع كما تمشي جمال مصاعب قطـف
كما تمشي الأسود في رهج ال موت إليه وكلـهـم لـهـف غنى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل عن إسحاق، وذكر الهشامي أن فيه لحنا من الثقيل الأول للغريض وقال درهم بن يزيد بن ضبيعة أخو سمير في ذلك:
يقوم لا تقتلوا سـمـيرا فـإ ن القتل فيه البوار والأسـف
إن تقتلوه ترن نـسـوتـكـم على كريم ويفزع السـلـف
إني لعمر الذي يحج له الـن اس ومن دون بيتـه سـرف
يمين بر باللـه مـجـتـهـد يحلف إن كان ينفع الحلـف
لا نرفع العبد فوق سـنـتـه مادام منا ببطنـهـا شـرف
إنك لاق غدا غـواة بـنـي عمي فانظر ما أنت مزدهف
فأبدأ سيماك يعرفوك كـمـا يبدون سيماهم فتـعـتـرف
صفحة : 251
معنى قوله فأبد سيماك : أن مالك بن العجلان كان إذا شهد الحرب يغير لباسه ويتنكر لئلا يعرف فيقصد وقال درهم بن يزيد في ذلك:
يا مال لا تبغين ظلامتـنـا يامال إنا معـاشـر أنـف
يا مال والحق إن قنعت بـه فيه وفينا لأمرنا نـصـف
إن بجيرا عبد فخذ ثـمـنـا فالحق يوفى به ويعتـرف
ثم اعلمن إن أردت ضيم بني زيد فإني ومن له الحلـف
لأصبحن داركم بذي لجـب جون له من أمامه عـزف
البيض حصن لهم إذا فزعوا وسابغات كأنها النـطـف
والبيض قد ثلمت مضاربها بها نفوس الكماة تختطـف
كأنها في الأكف إذ لمعـت وميض برق يبدر وينكسف وقال قيس بن الخطيم الظفري أحد بني النبيت في ذلك، ولم يدركه وإنما قاله بعد هذه الحرب بزمان، ونم هذه القصيدة الصوت المذكور:
رد الخليط الجمال فانصرفوا ماذا عليهم لو أنهم وقـفـوا
لو وقفوا ساعة نسـائلـهـم ريث يضحي جماله السلف
فيهم لعوب العشاء آنـسة ال دل عروب يسوءها الخلـف
بين شكول النساء خلقتـهـا قصد فلا جبلة ولاقـضـف
تنام عن كبر شأنـهـا فـإذا قامت رويدا تكاد تنـغـرف
تغترف الطرف وهي لاهية كأنما شف وجههـا نـزف
حوراء جيداء يستضاء بـهـا كأنها خوط بـانة قـصـف
قضى لها الله حين صورهاال خالق أن لا يكنهـا سـدف
خوذ يغث الحديث ماصمتـت وهو بفيها ذو لـذة طـرف
تخزنه وهو مشتهى حـسـن وهو إذا ما تكلمـت أنـف وهي طويلة يقول فيها:
أبلغ بني جحجبى وإخوتهـم زيدا بأنـا وراءهـم أنـف
إنا وإن قل نصرنـا لـهـم أكبادنا من ورائهم تـجـف
لما بدت نحونا جبـاهـهـم حنت إلينا الأرحام والصحف
نفلي بحد الصفيح هامـهـم وفلينا هامهم بهـا جـنـف
يتبع آثارها إذا اختـلـجـت سخن عبيط عروقه تكـف
إن بني عمنا طغوا وبـغـوا ولج منهم في قومهم سرف فرد عليه حسان بن ثابت ولم يدرك ذلك
ما بال عينيك دمعـهـا يكـف من ذكر خود شطت بها قذف
بانت بها غـربة تـؤم بـهـا أرضا سوانا والشكل مختلـف
ما كنت أدري بوشك بـينـهـم حتى رأيت الحدوج تنـقـذف
دع ذا وعد القريض في نفـر يرجون مدحي ومدحي الشرف
إن تدع قومي للمجد تلـفـهـم أهل فعال يبدو إذا وصـفـوا
إن سميرا عبد طغى سـفـهـا ساعده أعبد لـهـم نـطـف اليهود والأوس والخزرج قال: ثم أرسل مالك بن العجلان إلى بني عمرو بن عوف يؤذنهم بالحرب، ويعدهم يوما يلتقون فيه، وأمر قومه فتهيؤا للحرب، وتحاشد الحيان وجمع بعضهم لبعض. وكانت يهود قد حالفت قبائل الأوس والخزرج، إلا بني قريظة وبني النضير فإنهم لم يحالفوا أحدا منهم، حتى كان هذا الجمع، فأرسلت إليهم الأوس والخزرج، كل يدعوهم إلى نفسه، فأجابوا الأوس وحالفوهم، والتي حالفت قريظة والنضير من الأوس أوس الله وهي خطمة وواقف وأمية ووائل، فهذه قبائل أوس الله. ثم زحف مالك بمن معه من الخزرج، وزحفت الأوس بمن معها من حلفائها من قريظة و النضير، فالتقوا بفضاء كان بين بئر سالم وقباء، وكان أول يوم التقوا فيه، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انصرفوا وهم منتصفون جميعا، ثم التقوا مرة أخرى عند أطم بني قنيقاع، فاقتتلوا حتى حجز الليل بينهم، وكان الظفر يومئذ للأوس على الخزرج، فقال أبو قيس بن الأسلت في ذلك:
لقد رأيت بني عمرو فما وهنـوا عند اللقاء وما هموا بتـكـذيب
ألا فدى لهم أمـي ومـا ولـدت غداة بمشون إرقال المصاعـيب
بكل سلهـبة كـالأيم مـاضـية وكل أبيض ماضي الحد مخشوب
صفحة : 252
أصل المخشوب: الحديث الطبع، ثم صار كل مصقول مخشوبا؛ فشبهها الحية في انسلالها قال: فلبث الأوس والخزرج متحاربين عشرين سنة في أمر سمير يتعاودون القتال في تلك السنين، وكانت لهم فيها أيام ومواطن لم تحفظ، فلما رأت الأوس طول الشر وأن مالكا لاينوع، قال لهم سويد بن صامت الأوسي- وكان يقال له الكامل في الجاهلية، وكان الرجل عند العرب إذا كان شاعرا شجاعا كاتبا سابحا راميا سموه الكامل، وكان سويد أحد الكملة: يا قوم، أرضوا هذا الرجل من حليفه، ولا تقيموا على حرب إخوتكم فيقتل بعضكم بعضا ويطمع فيكم غيركم، وإن حملتم على أنفسكم بعض الحمل. فأرسلت الأوس إلى مالك بن العجلان يدعونه إلى أن بحكم بينه وبينهم ثابت بن المنذر بن حرام أبو حسان بن ثابت، فأجابهم إلى ذلك، فخرجوا حتى أتوا ثابت بن المنذر، وهو في البئر التي يقال لها سميحة، فقالوا: إنا قد حكمناك بيننا؛ فقال: لا حاجة لي في ذلك؛ قالوا: ولم? قال: أخاف أن تردوا حكمي كما رددت حكم عمرو بن امرئ القيس؛ قالوا: فإنا لانرد حكمك فاحكم بيننا؛ قال: لا أحكم بينكم حتى تعطوني موثقا وعهدا لترضون بحكمي وما قضيت به ولتسلمن له؛ فأعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، فحكم بأن يودى حليف مالك دية الصريح ثم تكون السنة فيهم بعده على ما كانت عليه؛ الصريح على ديته والحليف على ديته، وأن تعد القتلى الذين أصاب بعضهم من بعض في حربهم ثم يكون بعض ببعض ثم يعطوا الدية جار مالك معونة لإخوتهم، و على بني عمرو بن عوف نصفها؛ فرأت بنو عمرو بن عوف أنهم لم يخرجوا إلا الذي كان عليهم، ورأى مالك أنه قد أدرك ما كان يطلب، وودي جاره دية الصريح. ويقال: بل الحاكم المنذر أبو ثابت.
ذكر طويس وأخباره
اسمه وكنيته
طويس لقب غلب عليه، واسمه عيسى بن عبد الله، وكنيته أبو عبد المنعم وغيرها المخنثون فجعلوها أبا عبد النعيم، وهو مولى بني مخزوم. وقد حدثني جحظة عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد: قال سعد بن أبي وقاص: كني طويس أبا عبد المنعم.
أول من غنى بالعربية في المدينة
وألقى الخنث بها:
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسيبي ومحمد بن سلام الجمحي، وعن الواقدي ابن أبي الزناد؛ وعن المدائني عن زيد بن أسلم عن أبيه، وعن ابن الكلبي عن أبيه وعن أبي مسكين.
قالوا: أول من غنى بالعربي بالمدينة طويس، وهو أول من ألقى الخنث بها، وكان طويلا أحول يكنى أبا المنعم، مولى بني مخزوم، وكان لا يضرب بالعود. إنما كان ينقر بالدف، وكان ظريفا عالما بأمر المدينة وأنساب أهلها، وكان يتقى للسانه.
شؤمه
قالوا: وسئل عن مولده فذكر أنه ولد يوم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات أبو بكر، وخثن يوم قتل عمر، وزوج يوم قتل عثمان، وولد له ولد يوم قتل علي رضوان الله عليهم أجمعين. قال وقيل: إنه ولد له ولد يوم مات الحسن بن علي عليه السلام. قال: وكانت أمي تمشي بين نساء الأنصار بالنميمة. قالوا: وأول غناء غناه وهزج به: صوت
كيف يأتي من بـعـيد وهو يخفيه القـريب
نازح بالشـأم عـنـا وهو مكسال هـيوب
قد يراني الحب حتـى كدت من وجدي أذوب الغناء لطويس هزج بالبنصر.
بعض ما روي عن شؤمه قال إسحاق: أخبرني الهيثم بن عدي قال قال صالح بن حسان الأنصاري أنبأني أبي قال: اجتمع يوماجماعة بالمدينة يتذاكرون أمر المدينة إلى أن ذكروا طويسا، فقالوا: كان وكان؛ فقال رجل منا: أما لو شاهدتموه لرأيتم ما تسرون به علما وظرفا وحسن غناء وجودة نقر الدف، ويضحك كل ثكلى حرى؛ فقال بعض القوم: والله إنه على ذلك كان مشؤوما؛ وذكر خبر ميلاده كما قال الواقدي، إلا أنه قال: ولد يوم مات نبينا صلى الله عليه وسلم، وفطم يوم مات صديقنا، وختن يوم قتل فاروقنا، وزوج يوم قتل نورنا، وولد له يوم قتل أخو نبينا؛ وكان مع ذلك مخنثا يكيدنا ويطلب عثراتنا؛ وكان مفرطا في طوله مضطربا في خلقه أحول. فقال رجل من جلة أهل المجلس: لئن كان كما قلت لقد كان ممتعا فهما يحسن رعاية من حفظ له حق المجالسة، ورعاية حرمة الخدمة، وكان لا يحمل قول من لا يرعى له بعض ما يرعاه له.
كان يحب قريشا ويحبونه:
صفحة : 253
ولقد كان معظما لمواليه بني مخزوم
ومن والاهم من سائر قريش، ومسالما لمن عاداهم دون التحكيك به؛ وما يلام من قال بعلم وتكلم على فهم، والظالم الملوم، والبادئ أظلم. فقال رجل آخر: لئن كان ما قلت لقد رأيت قريشا يكتنفونه ويحدقون به ويحبون مجالسته وينصتون إلى حديثه ويتمنون غناءه، وما وضعه شيء إلا خنثه ولولا ذلك ما بقي رجل من قريش والأنصار وغيرهم إلا أدناه.
أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثني إسماعيل بن جامع عن سياط قال: كان أول من تغنى بالمدينة غناء يدخل في الإيقاع طويس، وكان مولده يوم مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفطامه في اليوم الذي نوفي فيه أبو بكر، وختانه في اليوم الذي قتل فيه عمر، وبناؤه بأهله في اليوم الذي قتل فيه عثمان، وولد له يوم قتل علي رضوان الله عليهم أجمعين، وولد وهو ذاهب العين اليمنى.
كان يلقب بالذائب وسبب ذلك
وكان يلقب بالذائب، وإنما لقب بذلك لأنه غنى:
قد يراني الحب حتـى كدت من وجدي أذوب أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال أخبرني ابن الكلبي عن أبي مسكين قال:
مروان بن الحكم والنغاشي المخنث: كان بالمدينة مخنث يقال له النغاشي، فقيل لمروان بن الحكم: إنه لا يقرأ من كتاب الله شيئا، فبعث إليه يومئذ، وهو على المدينة، فاستقرأه أم الكتاب؛ فقال: والله ما معي بناتها، أو ما أقرأ البنات فكيف أقرأ أمهن فقال: أتهزأ لا أم لك فأمر به فقتل في موضع يقال له بطحان، وقال: من جاءني بمخنث فله عشرة دنانير.
طلبه مروان في المخنثين
ففر منه حتى مات:
فأتي طويس وهو في بني الحارث بن الخزرج من المدينة، وهو يغني بشعر حسان بن ثابت:
لقد هاج نفسك أشجانهـا وعاودها اليوم أديانـهـا
تذكرت هندا وماذكرهـا وقد قطعت منك أقرانها
وقفت عليها فساءلتـهـا وقد ظعن الحي ما شأنها
فصدت وجاوب من دونها بما أوجع القلب أعوانها فأخبر بمقالة مروان فيهم؛ فقال: أما فضلني الأمير عليهم بفضل حتى جعل في وفيهم أمرا واحدا ثم خرج حتى نزل السويداء- على ليلتين من المدينة في طريق الشأم-فلم يزل بها عمره، وعمر حتى مات في ولاية بن الوليد بن عبد الملك.
هيت المخنث وبادية بنت غيلان
قال إسحاق وأخبرني ابن الكلبي قال أخبرني خالد بن سعيد عن أبيه وعوانة قالا: قال هيت المخنث لعبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله عليكم الطائف فسل النبي صلى الله عليه وسلم بادية بنت غيلان بن سلمة بن معتب، فإنها هيفاء شموع نجلاء، إن تكلمت تغنت، وإن قامت تثنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، مع ثغر كأنه الأقحوان، وبين رجليها كالإناء المكفوء، كما قال قيس بن الخطيم:
تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نـزف
بين شكول النساء خلقتهـا قصد فلا جبلة ولاقضـف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد غلغلت النظر ياعدو الله ، ثم جلاه عن المدينة إلى الحمى. قال هشام: وأول ما اتخذت النعوش من أجلها. قال: فلما فتحت الطائف تزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له بريهة. فلم يزل هيت بذلك المكان حتى قبض النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلما ولي أبو بكر رضي الله عنه كلم فيه فأبى أن يرده؛ فلما ولي عمر رضي الله عنه كلم فيه فأبى أن يرده وقال: إن رأيته لأضربن عنقه؛ فلما ولي عثمان رضي الله عنه كلم فيه فأبى أن يرده؛ فقيل له: قد كبر وضعف واحتاج؛ فأذن له أن يدخل كل جمعة فيسأل ويرجع إلى مكانه. وكان هيت مولى لعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة المخزومي، وكان طويس له؛ فمن ثم قيل الخنث.
وجلس يوما فغنى في مجلس فيه ولد لعبد الله بن أبي أمية:
تغترق الطرف وهي لاهية إلى أخر البيتين؛ فأشير إلى طويس أن اسكت؛ فقال: والله ما قيل هذان البيتان في ابنة غيلان بن سلمة وإنما هذا مثل ضربة هيت في أم بريهة؛ ثم التفت إلى ابن عبد الله فقال: يابن الطاهر، أوجدت علي في نفسك? أقسم بالله قسما حقا لاأغني بهذا الشعر أبدا.
ضافه عبد الله بن جعفر فأكرمه وغناه
صفحة : 254
قال إسحاق وحدثنا أبو الحسن الباهلي الراوية عن بعض أهل المدينة، وحدثنا الهيثم بن عدي والمدائني، قالوا: كان عبد الله بن جعفر معه إخوان له في عشية من عشايا الربيع، فراحت عليهم المساء بمطر جود فأسأل كل شيء؛ فقال عبد الله: هل لكم في العقيق?-وهو منتزه أهل المدينة في أيام الربيع والمطر-فركبوا دوابهم ثم انتهوا إليه فوقفوا على شاطئه وهو يرمي بالزبد مثل مد الفرات، فإنهم لينظرون إذ هاجت السماء، فقال عبد الله لأصحابه ليس معنا جنة نستجن بها وهذه سماء خليقة أن تبل ثيابنا، فهل لكم في منزل طويس فإنه قريب منا فنستكن فيه ويحدثنا ويضحكنا? وطويس في النظارة يسمع كلام عبد الله بن جعفر؛ فقال له عبد الرحمن بن حسان بن ثابت: جعلت فداءك وما تريد من طويس عليه غضب الله: مخنث شائن لمن عرفه؛ فقال له عبد الله: لا تقل ذلك، فإنه مليح خفيف لنا فيه أنس؛ فلما استوفى طويس كلامهم تعجل إلى منزله فقال لامرأته: ويحك قد جاءنا عبد الله بن جعفر سيد الناس، فما عندك? قالت: نذبح هذه العناق، وكانت عندها عنيقة قد ربتها باللبن، واختبز خبزا رقاقا؛ فبادر فذبحها وعجنت هي. ثم خرج فتلقاه مقبلا إليه؛ فقال له طويس: بأبي أنت وأمي؛ هذا المط، فهل لك في المنزل فتستكن فيه إلى أن تكف السماء? قال: إياك أريد؛ قال: فامض ياسيدي على بركة الله، وجاء يمشي بين يديه حتى نزلوا، فتحدثوا حتى أدرك الطعام، فقال: بأبي أنت وأمي، تكرمني إذ دخلت منزلي بأن تتعشى عندي؛ قال: هات ما عندك؛ فجاءه بعناق سمينة ورقاق، فأكل وأكل القوم حتى تملئوا، فأعجبه طيب طعامه، فلما غسلوا أيديهم قال: بأبي أنت وأمي، أتمشى معك وأغنيك? قال: افعل ياطويس؛ فأخذ ملحفة فأتزر بها وأرخى بها ذنبين، ثم أخذ المربع فتمشى وأنشأ يغني:
يا خليلي نابني سهـدي لم تنم عيني ولم تـكـد
كيف تلحوني على رجل آنس تلـتـذه كـبـدي
مثل ضوء البدر طلعته ليس بالزميلة النـكـد فطرب القوم وقالوا أحسنت والله ياطويس. ثم قال: يا سيدي، أتدري لمن هذا الشعر? قال: لا والله، ما أدري لمن هو، إلا أن سمعت شعرا حسنا؛ قال: هو لفارعة بنت ثابت أخت حسان بن ثابت وهي تتعشق عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وتقول فيه هذا الشعر؛ فنكس القوم رؤوسهم، وضرب عبد الرحمن برأسه على صدره، فلو شقت الأرض له لدخل فيها.
خبره مع سعيد بن عبد الرحمن قال وحدثني ابن الكلبي والمدائني عن جعفر بن محرز قال: خرج عمر بن عبد العزيز، وهو على المدينة، إلى السويداء وخرج الناس معه، وقد أخذت المنازل، فلحق بهم يزيد بن بكر بن دأب الليثي وسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت الأنصاري، فلقيهما طويس فقال لهما: بأبي أنتما وأمي عرجا إلى منزلي؛ فقال يزيد لسعيد: مل بنا مع أبي عبد النعيم؛ فقال سعيد: أين تذهب مع هذا المخنث فقال يزيد: إنما هو منزل ساعة فمالا، واحتمل طويس الكلام على سعيد، فأتيا منزله فإذا هو قد نصحه ونصعه، فأتاهما بفاكهة من فاكهة الماء؛ ثم قال سعيد: لو أسمعتنا يا أبا عبد النعيم فتناول خريطة فاستخرج منها دفا ثم نقره وقال:
يا خليلي نابني سهـدي لم تنم عيني ولم تـكـد
فشاربي ماأسـيغ ومـا أشتكي ما بي إلى أحد
كيف تلحوني على رجل آنس تلـتـذه كـبـدي
مثل ضوء البدر صورته ليس بالزميلة النـكـد
من نبي آل المغـيرة لا خامل نكس ولاجـحـد
نظرت يوما فلا نظرت بعده عيني إلـى أحـد ثم ضرب بالدف الأرض، فقال سعيد: ما رأيت كاليوم قط شعرا أجود ولاغناء أحسن كمه؛ فقال له طويس: يا بن الحسام، أتدري من يقوله? قال: لا؛ قال: قالته عمتك خولة بنت تشبب بعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي؛ فخرج سعيد وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط مثل ما استقبلني به هذا المخنث والله لايفلتني فقال يزيد: دع هذا وأمته ولا ترفع به رأسا. قال أبو الفرج الأصبهاني: هذه الأبيات، فيما ذكر الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار، لابن زهير المخنث مدح ابن سريج غناءه
قال إسحاق وحدثني الهيثم بن عدي عن ابن عياش، وابن الكلبي عن أبي مسكين، قالا:
صفحة : 255
قدم ابن سريج المدينة فغناهم، فاستظرف الناس غناءه وآثروه على كل غنى؛ وطلع عليهم طويس فسمعهم وهم يقولون ذلك، فاستخرج دفا من حضنه ثم نقر به وغناهم بشعر عمارة بن الوليد المخزومي في خولة بنت ثابت، عارضها بقصيدتها فيه:
يا خليلي فيكـم وجـدي وصدع حبكم كـبـدي
فقلبي مسعـر حـزنـا بذات الخال في الخـد
فما لاقى أخو عـشـق عشير العشر من جهدي فأقبل عليهم ابن سريج فقال: والله هذا أحسن الناس غناء أخبرني وكيع محمد بن خلف قال حدثنا إسماعيل بن مجمع قال حدثني المدائني قال: قدم ابن سريج المدينة فجلس يوما في جماعة وهم يقولون: أنت والله أحسن الناس غناء، إذ مر بهم طويس فسمعهم وما يقولون: فاستل دفه من حضنه ونقره وتغنى:
إن المجنـبة الـتـي مرت بنا قبل الصباح
في حـلة مـوشـية مكية غرثى الوشـاح
زين لمشهد قطرهـم وتزينهم يوم الأضاحي -الشعر لابن زهير المخنث. والغناء لطويس هزج، أخبرنا بذلك الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار-فقال ابن سريج: هذا والله أحسن الناس غناء لا أنا.
تبع جارية فزجرته ثم تغنى بشعر
قال إسحاق حدثني المدائني قال: حدثت أن طويسا تبع جارية فراوغته فلم ينقطع عنها، فخبت في المشي فلم ينقطع عنها؛ فلما جازت بمجلس وقفت ثم قالت: يا هؤلاء، لي صديق ولي زوج ومولى ينكحني، فسلوا هذا ما يريد مني فقال أضيق ما قد وسعوه. ثم جعل يتغنى:
أفق يا قلب عن جمـل وجمل قطعت حبـلـي
أفق عنها فقـد عـنـي ت حولا في هوى جمل
وكيف يفيق مـحـزون بجمل هائم الـعـقـل
براه الحب في جـمـل فحسبي الحب من ثقـل
وحسبي فيك ما ألـقـى من التفنـيد والـعـذل
وقدما لامـنـي فـيهـا فلم أحفل بهم أهـلـي حديث طويس والرجل المسحور
قال إسحاق وقال المدائني قال مسلمة بن محارب حدثني رجل من أصحابنا قال: خرجنا في سفرة ومعنا رجل، فانتهينا إلى واد فدعونا بالغداء، فمد الرجل يده إلى الطعام فلم يقدر عليه، وهو قبل ذلك يأكل معنا في كل منزل، فخرجنا نسأل عن حاله فلقينا رجلا طويلا أحول الخلق في زي الأعراب، فقال لنا: مالكم? فأنكرنا سؤاله لنا، فأخبرنا خبر الرجل؛ فقال: ما اسم صاحبكم? فقلنا: أسيد؛ فقال: هذا واد قد أخذت سباعه فارحلوا، فلو قد جاوزتم الوادي استمر صاحبكم وأكل. قلنا في أنفسنا: هذا من الجن، ودخلتنا فزعة؛ ففهم ذلك وقال: ليفرخ روعكم فأنا طويس. قال له بعض من معنا من بني غفار أو من بني عبس: مرحبا بك يا أبا عبد النعيم، ما هذا الزي فقال: دعاني بعض أودائي من الأعراب فخرجت إليهم وأحببت أن أتخطى الأحياء فلا ينكروني. فسألت الرجل أن يغنينا؛ فاندفع ونقر بدف كان معه مربع، فلقد تخيل لي أن الوادي ينطق معه حسنا، وتعجبنا من علمه وما أخبرنا به من أمر صاحبنا.
وكان الذي غنى به شعر عروة بن الورد في سلمى امرأته الغفارية حيث رهنها على الشراب:
سقوني الخمر ثم تكنـفـونـي عداة اللـه مـن كـذب وزور
وقالوا لست بعد فداء سلـمـى بمفن مـا لـديك ولا فـقـير
فلا والله لو مـلـكـت أمـري ومن لي بالتدبر فـي الأمـور
إذا لعصيتهم في حب سلـمـى على ما كان من حسك الصدور
فيا للناس كيف غلبـت أمـري على شيء ويكرهه ضمـيري قصة عروة وامرأته سلمى الغفارية
قال إسحاق وحدثني الواقدي قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال:
صفحة : 256
لما غزا النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وأجلاهم عن المدينة خرجوا يريدون خيبر يضربون بدفوف ويزمرون بالمزامير وعلى النساء المعصفرات وحلي الذهب مظهرين لذلك تجلدا، ومرت في الظعن يومئذ سلمى امرأة عروة بن الورد العبسي ، وكان عروة حليفا في بني عمرو بن عوف، وكانت سلمى من بني غفار، فسباها عروة من قومها وكانت ذات جمال فولدت له أولادا وكان شديد الحب لها وكان ولده يعيرون بأمهم ويسمون بني الأخيذة- أي السبية - فقالت: ألا ترى ولدك يعيرون? قال: فماذا ترين? قالت: أرى أن تردني إلى قومي حتى يكونوا هم الذين يزوجونك فأنعم لها، فأرسلت إلى قومها أن ألقوه بالخمر ثم اتركوه حتى يسكر ويثمل فإنه لا يسأل حينئذ شيئا إلا أعطاه؛ فلقوه وقد نزل في بني النضير فسقوه الخمر، فلما سكر سألوه سلمى فردها عليهم ثم أنكحوه بعد. إلا أعطاه؛ فلقوه وقد نزل في بني النضير فسقوه الخمر، فلما انتشى منعوه ولاشيء معه إلا هي فرهنها، ولم يزل يشرب حتى غلقت؛ فلمنا قال لها: انطلقي قالت: لا سبيل إلى ذلك، قد أغلقتني. فبهذا صارت عند بني النضير. فقال في ذلك:
سقوني الخمر ثم تكنفوني عداة الله من كذب وزور هذه الأبيات مشهورة بأن لطويس فيها غناء ، وما وجدته في شيء من الكتب مجنسا فتذكر طريقته.
كان يغري بين الأوس والخزرج
ويتغنى بالشعر الذي قيل في حروبهم:
قال إسحاق وحدثني المدائني قال: كان طويس ولعا بالشعر الذي قالته الأوس والخزرج في حروبهم، وكان يريد بذلك الإغراء فقل مجلس اجتمع فيه هذان الحيان فغنى فيه طويس إلا وقع فيه شيء؛ فنهي عن ذلك، فقال: والله لا تركت الغناء بشعر الأنصار حتى يوسدوني التراب؛ وذلك لكثرة تولع القوم به، فكان يبدي السرائر ويخرج وكان يستحسن غناؤه ولا يصبر عن حديثه ويستشهد على معرفته، فغنى يوما بشعر قيس بن الخطيم في حرب الأوس والخزرج وهو:
رد الخليط الجمال فانصرفوا ماذا عليهم لو أنهم وقفـوا
لو وقفوا ساعة نسائلـهـم ريث يضحي جماله السلف
فليت أهلي وأهل أثلة في ال دار قريب من حيث نختلف فلما بلغ إلى آخر بيت غنى فيه طويس من هذه القصيدة وهو:
أبلغ بني جحجبى وقومهم خطمة أنا وراءهم أنف تكلموا وانصرفوا وجرت بينهم دماء، وانصرف طويس من عندهم سليما لم يكلم ولم يقل شيء سبب الحرب بين الأوس والخزرج قال إسحاق فحدثني الواقدي وأبو البختري، قالا: قال قيس بن الخطيم هذه القصيدة لشغب أثاره القوم بعد دهر طويل. ونذكر سبب أول ما جرى بين الأوس والخزرج من الحرب: قال إسحاق قال أبو عبد الله اليزيدي وأبو البختري، قالا: قال قيس بن الخطيم هذه القصيدة لشغب أثاره القوم بعد دهر طويل ونذكر سبب أول ما جرى بين الأوس والخزرج من الحرب:
صفحة : 257
قال إسحاق قال أبو عبد الله اليزيدي وأبو البختري ، وحدثني مشايخ لنا قالوا: كانت الأوس والخزرج أهل عز ومنعة وهما أخوان لأب وأم وهما ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر، وأمهما قيلة بنت جفنة بن عتبة بن عمرو؛ وقضاعة تذكر أنها قيلة بنت كاهل بن عذرة بن سعد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. وكانت أول حرب جرت بينهم في مولى كان لمالك بن العجلان قتله سمير بن يزيد بن مالك، وسمير رجل من الأوس ثم أحد بني عمرو بن عوف، وكان مالك سيد الحيين في زمانه، وهو الذي ساق تبعا إلى المدينة وقتل الفطيون صاحب زهرة وأذل اليهود للحيين جميعا، فكان له بذلك الذكر والشرف عليهم، وكانت دية المولى فيهم-وهو الحليف- خمسا من الإبل، ودية الصريح عشرا، فبعث مالك إلى عمرو بن عوف: ابعثوا إلي سميرا حتى أقتله بمولاي فإنا نكره أن تنشب بيننا وبينكم حرب، فأرسلوا إليه: إنا نعطيك الرضا من مولاك فخذ منا عقلة، فإنك قد عرفت أن الصريح لا يقتل بالمولى؛ قال: لا آخذ في مولاي دون دية الصريح، فأبوا إلا دية المولى. فلما رأى ذلك مالك بن العجلان جمع قومه من الخزرج، وكان فيهم مطاعا، وأمرهم بالتهيؤ للحرب. فلما بلغ الأوس استعدوا لهم وتهيئوا للحرب واختاروا الموت على الذل؛ ثم خرج بعض القوم إلى بعض فالتقوا بالصفينة بين بئر سالم وبين قباء )قرية لنبي عمرو بن عوف( فاقتتلوا قتالا شديدا حتى نال بعض القوم من بعض. ثم إن رجلا من الأوس استعدوا لهم وتهيئوا للحرب واختاروا الموت على الذل؛ ثم خرج بعض القوم إلى بعض فالتقوا بالصفينة بين بئر سالم وبين قباء )قرية لبني عمرو بن عوف( فاقتتلوا قتالا شديدا حتى نال بعض القوم من بعض. ثم إن رجلا من الأوس نادى: يا مالك، ننشدك الله والرحم - وكانت أم مالك إحدى نساء بني عمرو بن عوف-فاجعل بيننا وبينك عدلا من قومك فما حكم علينا سلمنا لك؛ فارعوى مالك عند ذلك، وقال نعم؛ فاختاروا عمرو بن امرئ القيس أحد بني الحارث بن الخزرج فرضي القوم به، واستوثق منهم، ثم قال: فإني أقضي بينكم: إن كان سمير قتل صريحا من القوم فهو به قود، وإن قبلوا العقل فلهم دية الصريح، وإن كان مولى فلهم دية المولى بلا نقص، ولايعطى فوق نصف الدية، وما أصبتم منا في هذه الحرب ففيه الدية مسلمة إلينا، وما أصبنا منكم فيها علينا فيه دية مسلمة إليكم. فلما قضى بذلك عمرو بن امرئ القيس غضب مالك بن العجلان ورأى أن يرد عليه رأيه، وقال: لا أقبل هذا القضاء؛ وأمر قومه بالقتال، فجمع القوم بعضهم لبعض ثم التقوا بالفضاء عند آطام بني قنيقاع، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم تداعوا إلى الصلح فحكموا ثابت بن حرام بن المنذر أبا حسان بن ثابت النجاري، فقضى بينهم أن يدوا مولى مالك بن العجلان بدية الصريح ثم تكون السنة فيهم بعده على مالك وعليهم كما كانت أول مرة: المولى على ديته؛ والصريح على ديته؛ فرضي مالك وسلم الآخرون. وكان ثابت إذ حكموه أراد إطفاء النائرة فيما بين القوم ولم شعثهم، فأخرج خمسا من الإبل من قبيلته حين أبت عليه الأوس أن تؤدي إلى مالك أكثر من خمس وأبي مالك أن يأخذ دون عشر. فلما أخرج ثابت الخمس أرضى مالكا بذلك ورضيت الأوس، واصطلحوا بعهد وميثاق ألا يقتل رجل في داره ولا معقله- والمعاقل: النخل-فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية له ولا عقل. ثم انظروا في القتلى فأي الفريقين فضل على صاحبه ودى له صاحبه. فأفضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر فودتهم الأوس واصطلحوا. ففي ذلك يقول حسان بن ثابت لما كان أبوه أصلح بينهم ورضاهم بقضائه في ذلك:
وأبي في سميحة القائل الـفـا صل حين التفت عليه الخصوم وفي ذلك يقول قيس بن الخطيم قصيدته وهي طويلة:
رد الخليط الجمال فانصرفوا ماذا عليهم لو أنهم وقفـوا رأي عمر بن عبد العزيز في شعره
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه قال: كان عمر بن عبد العزيز ينشد قول قيس بن الخطيم:
بين شكول النساء خلقتهـا قصد فلا جبلة ولاقضـف
تنام على كبر شأنهـا فـإذا قامت رويدا تكاد تنقصف
تغترق الطرف وهي لاهية كأنما شف وجهها نـزف
صفحة : 258
ثم يقول: قائل هذا الشعر أنسب الناس.
ومما في المائة المختارة من أغاني طويس
صوت
يا لقومي قد أرقتني الهموم ففؤادي مما يجن سـقـيم
أندب الحب في فؤادي ففيه لو تراءى للناظرين كلوم يجن: يخفى، والجنة من ذلك، والجن أيضا مأخوذ منه. وأندب: أبقى فيه ندبا وهو أثر الجرح؛ قال ذو الرمة:
تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولاندب الشعر لابن قيس الرقيات فيما قيل. والغناء لطويس، ولحنه المختار خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى، قال إسحاق: وهو أجود لحن غناه طويس، ووجدته في كتاب الهشامي خفيف رمل بالوسطى منسوبا إلى ابن طنبورة. قال وقال ابن المكي: إنه لحكم، وقال عمرو بن بانة: إنه لابن عائشة أوله هذان البيتان، وبعدهما:
ما لذا الهم لايريم فـؤادي مثل ما يلزم الغريم الغريم
إن من فرق الجماعة منـا بعد خفض ونعمة لذمـيم انقضت أخبار طويس
صوت من المائة المختارة
من صنعة قفا النجار
حجب الألى كنا نسر بقربـهـم ياليت أن حجابهـم لـم يقـدر
حجبوا ولم نقض اللبانة منهـم ولنا إليهم صبوة لم تقـصـر
ويحيط مئزرها بردف كامـل رابى المجسة كالكثيب الأعفر
وإذا مشت خلت الطريق لمشيها وحلا كمشي المرجحن الموقر لم يقع إلينا قائل الشعر. والغناء لقفا النجار، ولحنه المختار من النقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. ويقال: إن فيه لحنا لابن سريج. وذكر يحيى بن علي ابن يحيى في الاختبار الواثقي أن لحن قفا النجار المختار من الثقيل الأول
صوت من المائة المختارة
أفق يادرامي فقد بـلـيتـا وإنك سوف توشك أن تموتا
أراك تزيد عشقـا كـل يوم إذا ما قلت إنك قد بـريتـا الشعر والغناء جميعا لسعيد الدرامي، ولحنه المختار من خفيف الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى.
ذكر الدرامي وخبره ونسبه
نسبه وكان من الشعراء وأرباب النوادر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: الدارمي من ولد سويد بن زيد الذي كان جده قتل أسعد بن عمرو بن هند، ثم هربوا إلى مكة فحالفوا بني نوفل بن عبد مناف.
وكان الدرامي في أيام عمر بن عبد العزيز
وكانت له أشعار ونوادر، وكان من ظرفاء أهل مكة، وله أصوات يسيرة. وهو الذي يقول:
لمـا رأيتـك أولـيتـنـي ال قبيح وأبعدت عني الجمـيلا
تركت وصالك في جـانـب وصادفت في الناس خلا بديلا شبب بذات خمار اسود
فنفقت الخمر السود ولم تبق فتاة إلا لبسته:
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إسحاق بن إبراهيم عن الأصمعي، وأخبرني عمي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق بن إبراهيم عن الأصمعي، وأخبرني عمي قال حدثنا أبو الفضل الرياشي عن الأصمعي، قال وحدثني به النوشجاني عن شيخ له من البصريين عن الأصمعي عن ابن أبي الزناد، ولم يقل عن ابن أبي الزناد غيره : أن تاجرا من أهل الكوفة قدم المدينة بخمر فباعها كلها وبقيت السود منها فلم تنفق، وكان صديقا للدرامي، فشكا ذاك إليه، وقد كان نسك وترك الغناء وقول الشعر؛ فقال له: لاتهتم بذلك فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع؛ ثم قال: صوت
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا صنعت براهب متعبـد
قد كان شمر للصلاة ثـيابـه حتى وقفت له بباب المسجد وغنى فيه، وغنى فيه أيضا سنان الكاتب، وشاع في الناس وقالوا: قد فتك الدارمي ورجع عن نسكه؛ فلم تبق في المدينة ظريفة إلا ابتاعت خمارا أسود حتى نفذ ما كان مع العراقي منها؛ فلما علم بذلك الدارمي رجع إلى نسكه ولزم المسجد.
فأما نسبة هذا الصوت فإن الشعر فيه للدارمي والغناء أيضا، وهو خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لسنان الكاتب رمل بالوسطى عن حبش. وذكر حبش أن فيه لابن سريج هزجا بالبنصر.
صفحة : 259
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني أبو هفان قال: حضرت يوما مجلس بعض قواد الأتراك وكانت له ستارة فنصبت، فقال لها: غني صوت الخمار الأسود المليح، فلم ندر ما أراد حتى غنت: قل للمليحة في الخمار الأسود ثم أمسك ساعة ثم قال لها غني: إني خريت وجئت أنتقله فضحكت ثم قالت: هذا يشبهك فلم ندر أيضا ما أراد حتى غنت: إن الخليط أجد منتقله بخله وظرفه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد قال حدثني محمد بن أخي سلم الخزاعي قال حدثني الحرمازي قال زعم لي ابن مودود قال: كان الدارمي المكي شاعرا ظريفا وكانت متفتيات أهل مكة لا يطيب لهن متنزه إلا بالدارمي، فاجتمع جماعة منهن في منتزه لهن، وفيهن صديقة له، وكل واحدة منهن قد واعدت هواها، فخرجن حتى أتين الجحفة وهو معهن؛ فقال بعضهن لبعض: كيف لنا أن نخلو مع هؤلاء الرجال من الدارمي? فإنا إن فعلنا قطعنا في الأرض قالت لهن صاحبته: أنا أكفيكنه؛ قلن: أنا نريد إلا يلومنا؛ قالت: علي أن ينصرف حامدا، وكان أبخل الناس، فأتته فقالت: يادارمي، إنا قد تفلنا فاجلب لنا طيبا؛ قال نعم هو ذا، آتي سوق الجحفة آتيكن منها بطيب؛ فأتى المكارين فاكترى حمارا فصار عليه إلى مكة وهو يقول:
أنا بـالـلـه ذي الـعـز وبالركن وبالـصـخـرة
من اللائي يردن الـطـي ب في اليسر وفي العسرة
وما أقـوى عـلـى هـذا ولو كنت على البصـره فمكث النسوة ماشئن. ثم قدم من مكة فلقيته صاحبته ليلة في الطواف، فأخرجته إلى ناحية المسجد وجعلت تعاتبه على ذهابه ويعاتبها، إلى أن قالت له: يادارمي، بحق هذه البنية أتحبني? فقال نعم، فبريها أتحبني? قالت نعم؛ قال: فيا لك الخير فأنت تحبيني وأنا أحبك، فما مدخل الدراهم بيننا.
الدارمي وعبد الصمد بن علي
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال: كان الدارمي عند عبد الصمد بن علي يحدثه، فأغفى عبد الصمد فعطس الدارمي عطسة هائلة، ففزع عبد الصمد فزعا شديدا وغضب غضبا شديدا، ثم استوى جالسا وقال: يا عاض كذا من أمه أتفزعني قال: لا والله ولكن هكذا عطاسي قال: والله لأنقعنك في دمك أو تأتيني ببينة على ذلك؛ قال: فخرج ومعه حرسي لا يدري أين يذهب به، فلقيه ابن الريان المكي فسأله؛ فقال: أنا أشهد لك؛ فمضى حتى دخل على عبد الصمد؛ فقال له: بم تشهد لهذا? قال: أشهد أني رأيته مرة عطس عطسة فسقط ضرسه؛ فضحك عبد الصمد وخلى سبيله.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد قال حدثنا الزبير قال: قال محمد بن إبراهيم الإمام للدارمي: لو صلحت عليك ثيابي لكسوتك؛ قال: فديتك إن لم تصلح علي ثيابك صلحت علي دنانيرك.
الدارمي مع نسوة من الأعراب
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير، ونسخت من كتاب هارون بن محمد: حدثنا الزبير قال حدثني يونس بن عبد الله الخياط قال: خرج الدارمي مع السعاة، فصادف جماعة منهم قد نزلوا على الماء فسألهم فأعطوه دراهم، فأتى بها في ثوبه، وأحاط به أعرابيات فجعلن يسألنه وألححن عليه وهو يردهن؛ فعرفته صبية منهن فقالت: يا أخواتي، أتدرين من تسألن منذ اليوم? هذا الدارمي السأل. ثم أنشدت:
إذا كنت لابد مستطعـمـا فدع عنك من كان يستطعم فولى الدارمي هاربا منهن وهن يتضاحكن به الدارمي والأوقص القاضي
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال أخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب الزبيري قال: أتى الدارمي الأوقص القاضي بمكة في شيء فأبطأ عليه فيه، وحاكمه إليه خصم له في حق، فحبسه به حتى أداه إليه. فينا الأوقص يوما في المسجد الحرام يصلي ويدعو ويقول: يارب أعتق رقبتي من النار، إذ قال له الدارمي والناس يسمعون: أولك رقبة تعتق? لا والله ما جعل الله، وله الحمد، لك من عتق ولارقبة? فقال له الأوقص: ويلك? من أنت? قال: أنا الدارمي، حسبتني وقتلتني؛ قال: لا تقل ذلك وأتني فإني أعوضك فأتاه ففعل ذلك به.
نادرة له مع عبد الصمد بن علي
أخبرني الحرمي أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال:
صفحة : 260
مدح الدارمي عبد الصمد بن علي بقصيدة واستأذنه في الإنشاد فأذن له؛ فلما فرغ أدخل إليه رجل من الشراة؛ فقال لغلامه: أعط هذا مائة دينار واضرب عنق هذا؛ فوثب الدارمي فقال: بأبي أنت وأمي? برك وعقوبتك جميعا نقد? فإن رأيت أن تبدأ بقتل هذا، فإذا فرغ منه أمرته فأعطاني? فإني لن أريم من حضرتك حتى يفعل ذلك؛ قال: لوم ويلك? قال: أخشى أن يغلط فيما بيننا، والغلط في هذا لايستقال؛ فضحك وأجابه إلى ما سأل.
نادرة له في مرضه
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال: أصابت الدارمي قرحة في صدره، فدخل إليه بعض أصدقائه يعوده. فرآه قد نفث من فيه نفثا أخضر، فقال له: أبشر، قد اخضرت القرحة وعوفيت؛ فقال: هيهات? والله لو نفثت كل زمردة في الدنيا ما أفلت منها.
صوت من المائة المختارة
يا ربع سلمى لقد هيجت لي طربا زدت الفؤاد على علاته وصبـا
ربع تبدل ممن كـان يسـكـنـه عفر الظباء وظلمانا به عصبـا الشعر لهلال بن الأشعر المازني، أخبرني بذلك وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه. وهكذا هو في رواية عمرو بن أبي عمرو الشيباني. ومن لايعلم ينسبه إلى عمر ابن أبي ربيعة وإلى الحارث بن خالد ونصيب، وليس كذلك. والغناء في اللحن المختار لعزور الكوفي، ومن الناس من يقول عزون بالنون وتشديد الزاي، وهو رجل من أهل الكوفة غير مشهور ولاكثير الصنعة، ولا أعلم أني سمعت له بخبر ولاصنعة غير هذا الصوت. ولحن هذا المختار ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق، وهكذا في الاختيار الواثقي. وذكر عمرو بن بانة أن فيه لابن عائشة لحنا من الثقيل الأول بالبنصر. وفي أخبار الغريض عن حماد أن له فيه ثقيلا أول. وقال الهشامي: فيه لعبد الله بن العباس لحن من الثقيل الثاني. وذكر حبش أن فيه لحسين بن محرز خفيف رمل بالبنصر.
أخبار هلال ونسبه
نسبه وهو شاعر أموي شجاع أكول
هو، فيما ذكر خالد بن كلثوم، هلال بن الأسعر بن خالد بن الأرقم بن قسيم بن ناشرة بن رزام بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم. شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وأظنه قد أدرك الدولة العابشية، وكان رجلا شديدا عظيم الخلق أكولا معدودا من الأكلة. قال أبو عمرو: وكان هلال فارسا شجاعا شديد البأس والبطش أكثر الناس أكلا وأعظمهم في حرب غناء . هذا لفظ أبو عمرو. وقال أبو عمرو: وعمر بن هلال بن أسعر عمرا طويلا ومات بعد بلايا عظام مرت على رأسه. قال: زكان رجل من قومه من بني رزام بن مالك يقال له المغيرة بن قنبر يعوله ويفضل عليه ويحتمل ثقله وثقل عياله فهلك، فقال هلال يرثيه: كان المغيرة بن قنبر يعوله فلما مات رثاه:
ألا ليت المغيرة كـان حـيا وأفنى قبله الناس الفـنـاء
لبيك على المغيرة كل خيل إذا أفنى عرائكها اللـقـاء
ويبك على المغيرة كل كـل فقير كان ينعشه العـطـاء
ويبك على المغيرة كل جيش تمور لدى معاركه الدمـاء
فتى الفتيان فارس كل حرب إذا شالت وقد رفع اللـواء
لقد وارى جديد الأرض منه خصالا عقد عصمتها الوفاء
فصبرا للنوائب إن ألـمـت إذا ماضاق بالحدث الفضاء
هزبر تنجلي الغمرات عنه نقي العرض همته العلاء
إذا شهد الكريهة خاض منها بحورا لاتكدرهـا الـدلاء
جسور لايروع عـنـد روع ولايثني عزيمتـه أتـقـاء
حليم في مشاهـده إذا مـا حبا الحلماء أطلقها المراء
حميد في عشيرتـه فـقـيد يطيب عليه في الملأ الثناء
فإن تكن المنية أقصـدتـه وحم عليه بالتلف القضـاء
فقد أودى به كـرم وخـير وعود بالفضائل وابـتـداء
وجود لايضـم إلـيه جـودا مراهنه إذا جد الـجـراء كان عادي الخلق صبورا على الجوع:
صفحة : 261
وقال خالد بن كلثوم: كان هلال بن الأسعر، فيما ذكروا، مع الإبل فيأكل ماوجد عند أهله ثم يرجع إليها ولايتزود طعاما ولاشرابا حتى يرجع يوم ورودها، لايذوق فيما بين ذلك طعاما ولاشرابا، وكان عادي الخلق لاتوصف صفته.
حكايات عن قوته
قال خالد بن كلثوم فحدثنا عنه من أدركه: أنه كان يوما في إبل له، وذلم عند الظهيرة قي يوم شديد وقع الشمس محتدم الهاجرة وقد عمد إلى عصاه فطرح عليها كساءه ثم أدخل رأسه تحت كسائه من الشمس، فبينا هو كذلك إذ مر به رجلان أحدهما من بني نهشل والآخر من بني فقيم، كانا أشد تميميين في ذلك الزمان بطشا، يقال لأحدهما الهياج، وقد أقبلا من البحرين ومعهما أنواط من تمر هجر، وكان هلال بناحية الصعاب؛ فلما انتهيا إلى الإبل، ولايعرفان هلالا بوحهه ولايعرفان أن الإبل له، ناديا: ياراعي، أعندك شراب تسقينا? وهما يظنانه عبدا لبعضهم؛ فناداهما هلال ورأسه تحت كسائه: عليكما الناقة التي صفتها كذا في موضع كذا فأنيخاها فإن عليها وطبين من لبن، فاشربا منهما مابدا لكما. قال فقال له أحدهما: ويحك? انهض ياغلام فأت بذلك اللبن? فقال لهما: إن تك لكما حاجة فستأتيانها فتجدان الوطبين فتشربان؛ قال فقال أحدهما: إنك يابن اللخناء لغليظ الكلام، قم فاسقنا، ثم دنا من هلال وهو على تلك الحال. وقال لهما، حيث قال له أحدهما: ))إنك يابن اللخناء لغليظ الكلام، قم فاسقنا، ثم دنا من هلال وهو على تلك الحال. وقال لهما، حيث قال له أحدهما: )إنك يا ابن اللخناء لغليظ الكلام(، أراكما والله ستلقيان هوانا وصغارا؛ وسمعا ذلك منه، فدنا أحدهما فأهوى له ضربا بالسوط على عجزه وهو مضطجع، فتناول هلال يده فاجتذبه إليه ورماه تحت فخذه ثم ضغطه ضغطة ، فنادى صاحبه: ويحك أغثني قد قتلني فدنا صاحبه منه، فتناوله هلال أيضا فاجتذبه فرمى به تحت فخذه الأخرى، ثم أخذ برقابهما فجعل يضك برؤوسهما بعضا ببعض لايستطيعان أن يمتنعا منه؛ فقال أحدهما: كن هلالا ولا نبالي ماصنعت؛ فقال لهما: أنا والله هلال، ولا والله لاتفلتان مني حتى تعطياني عهدا وميثاقا لاتخيسان به: به: لتأتيان المربد إذا قدمتما البصرة، ثم لتناديان بأعلى أصواتكما بما كان مني ومنكما؛ فعاهداه وأعطياه نوطا من التمر الذي معهما، وقدما البصرة فأتيا المربد فناديا بما كان منه ومنهما.
وحدث خالد عن كنيف بن عبد الله المازني قال: كنت يوما مع هلال ونحن نبغي لإبلا لنا، فدفعنا إلى قوم من بكر بن وائل وقد لغبنا وعطشنا، وإذا نحن بفتية شباب عند ركية لهم وقد وردت إبلهم، فلما رأوا هلالا استهولوا خلقه وقامته، فقام رجلان منهم إليه فقال له أحدهما: ياعبد الله، هل لك في الصراع? فقال له هلال: أنا إلى غير ذلك أحوج؛ قال: وماهو? قال: إلى لبن و ماء فإنني لغب ظمآن؛ قال: ماأنت بذائق من ذلك شيئا حتى تعطينا عهدا لتجنيبننا إلى الصراع أذا أرحت ورويت؛ فقال لهما هلال: إنني لكم ضيف، والضيف لايصارع آهله و رب منزله، وأنتم مكتفون من ذلك بما أقول لكم: اعمدوا إلى أشد فحل في إبلكم وأهيبه صولة وإلى أشد رجل منكم ذراعا، فإن لم أقبض على هامة البعير وعلى يد صاحبكم فلا يمتنع الرجل ولا البعير حتى أدخل يد الرجل في فم البعير، فإن لم أفعل ذلك فقد صرعتموني، وإن فعلته علمتم أن صراع أحدكم أيسر من ذلك. قال: فعجبوا من مقالته تلك، وأومئوا إلى فحل في إبلهم هائج صائل قطم؛ فأتاه هلال ومعه نفر من أولئك القوم وشيخ لهم، فأخذ بهامة الفحل مما فوق مشفره فضغطها ضغطة جرجر الفحل منها واستخذى ورغا، وقال: ليعطني من أحببتم يده أولجها في فم هذا الفحل. قال فقال الشيخ: ياقوم تنكبوا هذا الشيطان، فوالله ماسمعت فلانا - يعني الفحل - جرجر منذ بزل قبل اليوم، فلا تعرضوا لهذا الشيطان. وجعلوا يتبعونه وينظرون إلى خطوه ويعجبون من طول أعضائه حتى جازهم.
صارع في المدينة عبدا بأمر أميرها: قال وحدثنا من سمع هلالا يقول
صفحة : 262
قدمت المدينة وعليها رجل من آل مروان، فلم أزل أضع عن إبلي وعليها أحمال للتجار حتى أخذ بيدي وقيل لي: أجب الأمير. قال: قلت لهم: ويلكم إبلي وأحمالي فقيل: لابأس على إبلك وأحمالك. قال: فانطلق بي حتى أدخلت على الأمير، فسلمت عليه ثم قلت: جعلت فداك ?? إبلي وأمانتي. قال فقال: نحن ضامنون لإبلك وأمانتك حتى نؤديها إليك. قال فقلت عند ذلك: فمل حاجة الأمير إلي جعلني الله فداه? قال فقال لي- وإلى جنبه رجل أصفر، لا والله مارأيت رجلا قط أشد خلقا منه ولاأغلظ عنقا، ماأدري أطوله أكثر أم عرضه -: إن هذا العبد الذي ترى لاوالله ماترك بالمدينة عربيا يصارع إلا صرعه، وبلغني عنك قوة، فأردت أن يجري الله صرع هذا العبد على يديك فتدرك ماعنده من أوتار العرب. قال فقلت: جعلني الله فداء الأمير، إني لغب نصب جائع، فإن رأى الأمير أن يدعني اليوم حتى أضع عن إبلي وأؤدي أمانتي وأريح يومي هذا وأجيئه غدا فليفعل. قال فقال لأعوانه: انطلقوا معه فأعينوه على الوضع عن إبله وأداء أمانته وانطلقوا به إلى المطبخ فأشبعوه؛ ففعلوا جميع ماأمرهم به. قال: فظللت بقية يومي وبت ليلتي تل: بأحسن حال شبعا وراحة وصلاح أمر، فلما كان من الغد غدوت عليه وعلي جبة لي صوف وبت وليس علي إزار إلا أني قد شددت بعمامتي وسطي، فلما كان من الغد غدوت عليه وعلي جبة لي صوف وبت وليس علي إزار إلا أني قد شددت بعمامتي وسطي، فسلمت عليه فرد علي السلام، وقال للأصفر: قم إليه، فقد أرى أنه أتاك الله بما يخزيك؛ فقال العبد: اتزر باأعرابي؛ فأخذت بتي فاتزرت به على جبتي؛ فقال: هيهات -هذا لايثبت، إذا قبضت عليه جاء في يدي؛ قال فقلت: والله مالي من إزار؛ قال: فدعا الأمير بملحفة مارأيت قبلها ولاعلا جلدي مثلها، فشددت بها على حقوي وخلعت الجبة؛ قال: وجعل العبد يدور حولي ويريد ختلي وأنا منه وجل ولاأدري كيف أصنع به، ثم دنا مني دنوة فنقد جبهتي نقدة حتى ظننت أنه قد شجني وأوجعني، فغاظني ذلك، فجعلت أنظر في خلقه بم أقبض منه، فما وجدت في خلقه شيئا أصغر من رأسه، فوضعت إبهامي في صدغيه وأصابعي الأخر في أصل أذنيه، ثم غمزته غمزة صاح منها: قتلتني: قتلتني: فقال الأمير: اغمس رأس العبد في التراب؛ قال فقلتله: ذلك لك علي؛ قال: فغمست والله رأسه في التراب ووقع شبيها بالمغشي عليه، فضحك الأمير حتى استلقى وأمر لي بجائزة وكسوة وانصرفت.
قتل رجلا من بني جلان استجار بمعاذ فقبض عليه للثأر منه، ثم فر إلى اليمين وشعره في ذلك: قال أبو الفرج: ولهلال أحاديث كثيرة من أعاجيب شدته. وقد ذكره حاجب بن ذبيان فقال لقوم من بني رباب من بني حنيفة في سيء كان بينهم فيه أربع ضربات بالسيف، فقال حاجب:
وقائلة وباكية بـشـجـو لبئس سيف بني ربـاب
ولو لاقى هلال بني رزام لعجله إلى يوم الحسـاب
صفحة : 263
وكان هلال بن الأسعر هضربه رجل من بني عنزة ثم من بني جلان يقال له عبيد بن جري في شيء كان بينهما، فشجه وخمشه خماشة ، فأتى هلال بن جلان فقال: إن صاحبكم قد فعل بي ماترون فخذوا لي بحقي، فأوعدوه وزجروه؛ فخرج من عندهم وهو يقول: عسى أن يكون لهذا جزاء حتى أتى بلاد قومه؛ فمضى لذلك هلالا وما كان بينه وبينه فتخوفه؛ فسأل عن أعز أهل الماء، فقيل له: معاذ بن جعدة بن ثابت بن زرارة بن ربيعة بن سيار بن رزام بن مازن؛ فأتاه فوجده غائبا عن الماء، فعقد عبيد بن جري طرف ثيابه إلى جانب طنب بيت معاذ- وكانت العرب إذا فعلت ذلك وجب على المعقود بطنب بيته للمستجير به أن يجبره وأن يطلب له بظلامته - وكان يوم فعل ذلك غائبا عن الماء، فقيل: رجل استجار بآل معاذ بن جعدة. ثم خرج عبيد بن جري ليستقي، فوافق قدوم هلال بإبله يوم وروده، وكان إنما يقدمها في الأيام، فلما نظر هلال إلى ابن جري ذكر ما كان بينه وبينه، ولم يعلم باستجارته بمعاذ بن جعدة، فطلب شيئا يضربه به فلم يجده، فانتزع المحور من السانية فعلاه به ضربة على رأسه فصرع وقيذا، وقيل: قتل هلال بن الأسعر جار معذ بن جعدة ? فلما سمع ذلك هلال تخوف بني جعدة فصرع وقيذا، وقيل: قتل هلال بن الأسعر جار معاذ بن حعدة فلما سمع ذلك هلال تخوف بني جعدة الرزاميين، وهم بنو عمهظن فأتى راحلته ليركبها. قال هلال: فأتتني خولة بنت يزيد بن ثابت أخي بني جعدة بن ثابت، وهي جدة أبي السفاح زهيد بن عبد الله بن مالك أم أبيه، فتعلقت بثوب هلال، ثم قالت: أي عدو الله قتلت جارنا والله لاتفارقني حتى يأتيك رجالنا قال هلال: والمحور في يدي لم أضعه؛ قال: فهممت أن أعلو به رأس خولة، ثم قلت في نفسي: عجوز لها سن وقرابة قال: فضربتها برجلي ضربة رميت بها من بعيد، ثم أتيت ناقتي فأركبها ثم أضربها هاربا. وجاء معاذ بن جعدة وإخوته - وهم يومئذ تسعة إخوة -وعبد الله بن مالك زوج لبنت معاذ و يقال لها جبيلة، وهو مع ذلك ابن عمتهم خولة بنت يزيد بن ثابت، فهو معهم كأنه معضهم؛ فجاؤوا من آخر النهار فسمعوا الواعية على الجلاني وهو دنف لم يمت، فسألوا عن تلك الواعية فأخبروا بما كان من استجارة الجلاني بمعاذ بن جعدة وضرب هلال له من بعد ذلك؛ فركب الأخوة التسعة وعبد الله بن مالك عاشرهم، وكانوا أمثال الجبال في شدة خلقهم مع نجدتهم، وركبوا معهم بعشرة غلمة لهم أشد منهم خلقا لايقع لأحد منهم سهم في غير موضع يريده من رميته، حتى تبعوا هلالا؛ وقد نسل هلال من الهرب يومه ذلك كله وليلته، فلما أصبح أمنهم وظن أن قد أبعد في الأرض ونجا منهم؛ وتبعوه، فلما أصبحوا من تلك الليلة قصوا أثرهظن وكان لايخفى أثره على أحد لعظم قدمه، فلحقوه من بعد الغد، فلما أدركوه وهو عشرون ومعهم النبل والقسي والسيوف والترسة، ناداهم: يابني جعدة، إني أنشدكم الله ? أن أكون قتلت رجلا غريبا طلبته بترة تقتلوني وأنا ابن عمكم وظن أن الجلاني قد مات، ولك يكن مات إلى أن تبعوه وأخذوه؛ فقال معاذ: والله لو أيقنا أنه قد مات ماناظرنا بك القتل من ساعتنا ولكنا تركناه ولم يمت، ولسنا نحب قتلك إلا أن تمتنع منا، ولانقدم عليك حتى نعلم مايصنع جارنا؛ فقاتلهم وامتنع منهم، فجعل معاذ يقول لأصحابه وغلمانه: لاترموه بالنبل ولاتضربوه بالسيوف، ولكن ارموه بالحجارة واضربوه بالعصي حتى تأخذوه؛ ففعلوا ذلك، فما قدروا على أخذه حتى كسروا من إحدى يديه ثلاث أصابع ومن الأخرى إصبعين، ودقوا ضلعين من أضلاعه وأكثروا الشجاج في رأسه، ثم أخذوه وما كادوا يقدرون على أخذه، فوضعوا في رجله أدهم، ثم جاءوا به وهومعروض على بعير حتى انتهوا به إلى الوقبى فدفعوه إلى الجلاني ولم يمت بعد، فقالوا: انطلقوا به معكم إلى بلادكم ولاتحدثوا في أمره شيئا حتى تنظروا مايصنع بصاحبكم، فإن مات فاقتلوه وإن حيي فأعلمونا حتى نحمل لكم أرش الجناية. فقال الجلانيون: وفت ذمتكم يابني جعدة، وجزاكم الله أفضل مايجزي به خيار الجيران، إنا نتخوف أن ينزعه منا قومكم إن خليتم عنا وعنهم وهو في أيدينا؛ فقال اهم معاذ: فإني أحمله معكم وأشيعكم حتى تردوا بلادكم، ففعلوا ذلك، فحمل معروضا على بعير وركبت أخته جماء بنت الأسعر معه، وجعل يقول: قتلتني بنو جعدة وتأتيه أخته بمغرة فيشربها فيقال: يمشي بالدم، لأن بين جعدة فرثوا كبده
صفحة : 264
في جوفه. فلما بلغوا أدنى لبلاد بكر بن وائل قال الجلانيون لمعاذ وأصحابه: أدام الله عزكم، وقد وفيتم فانصرفوا. وجعل هلال يريهم أنه يمشي في الليلة عشرين مرة. فلما ثقل الجلاني وتخوف هلال أن يموت من ليلته أو يصبح ميتا، تبرز هلال كما كان يصنع وفي رجله الأدهم كأنه يقضي حاجة، ووضع كساءه على عصاه في ليلة ظلماء، ثم اعتمد على الأدهم فحطمه، ثم طار تحت ليلته على رجليه، وكان أدل الناس فتنكب الطريق التي تعرف ويطلب فيها وجعل يسلك المسالك التي لا يطمع فيها. حتى انتهى إلى رجل من بني أثاثه بن مازن يقال له السعر بن يزيد ين طلق بن جبيلة بن أثاثة بن مازن، فحمله السعر على ناقه له يقال لها ملوة، فركبها ثم تجنب بها الطريق فأخذ نحوبلاد قيس بن عيلان، تخوفا من بني مازن أن يتبعوه أيضا فيأخذوه، فسار ثلاث ليال وأيامها حتى نزل اليوم الرابع، فنحر الناقة فأكل لحمها كله إلا فضلة فضلت منها فاحتملها، ثم أتى بلاد اليمن فوقع بها، فلبث زمانا وذلك عند مقام الحجاج بالعراق، فبلغ إفلاته من بالبصرة من بكر بن وائل، فانطلقوا إلى الحجاج فاستعدوه وأخبروه بقتله صاحبهم؛ فيعث الحجاج إلى عبد الله بن شعبة بن العلقم، وهو يومئذ عريف بني مازن حاضرتهم وباديتهم، فقال له: لتأتيني بهلال أو لأفعلن بك ولأفعلن؛ فقال له عبد الله بن شعبة: إن أصحاب هلال وبني عمه قد صنعوا كذا وكذا: فاقتص عليه ماصنعوا في طلبه وأخذه ودفعه إلى الجلانيين وتشييعهم إياه حتى وردزا بلاد بكر بن وائل؛ فقال له الحجاج: ويلك ماتقول? قال فقال بعض البكريين: صدق، أصلح الله الأمير؛ قال فقال الحجاج: فلا يرغم الله أنوفكم، اشهدوا أني قد آمنت كل قريب لهلال وحميم وعريف ومنعت من أخذ أحد به ومن طلبه حتى يظفر به البكريون أو يموت قبل ذلك. فلما وقع هلال إلى بلاد اليمن بعث إلى بني رزام بن مازن بشعر يعاتبهم فيه ويعظم عليهم حقه ويذكر قرابته، وذلك أن سائر بني مازن قاموا ليحملوا ذلك الدم، فقال معاذ: لا أرضى والله أن يحمل لجاري دم واحد حتى يحمل له دم ولجواري دم آخر، وإن أراج هلال الأمان وسطنا حمل له دم ثالث؛ فقال هلال في ذلك:ي جوفه. فلما بلغوا أدنى لبلاد بكر بن وائل قال الجلانيون لمعاذ وأصحابه: أدام الله عزكم، وقد وفيتم فانصرفوا. وجعل هلال يريهم أنه يمشي في الليلة عشرين مرة. فلما ثقل الجلاني وتخوف هلال أن يموت من ليلته أو يصبح ميتا، تبرز هلال كما كان يصنع وفي رجله الأدهم كأنه يقضي حاجة، ووضع كساءه على عصاه في ليلة ظلماء، ثم اعتمد على الأدهم فحطمه، ثم طار تحت ليلته على رجليه، وكان أدل الناس فتنكب الطريق التي تعرف ويطلب فيها وجعل يسلك المسالك التي لا يطمع فيها. حتى انتهى إلى رجل من بني أثاثه بن مازن يقال له السعر بن يزيد ين طلق بن جبيلة بن أثاثة بن مازن، فحمله السعر على ناقه له يقال لها ملوة، فركبها ثم تجنب بها الطريق فأخذ نحوبلاد قيس بن عيلان، تخوفا من بني مازن أن يتبعوه أيضا فيأخذوه، فسار ثلاث ليال وأيامها حتى نزل اليوم الرابع، فنحر الناقة فأكل لحمها كله إلا فضلة فضلت منها فاحتملها، ثم أتى بلاد اليمن فوقع بها، فلبث زمانا وذلك عند مقام الحجاج بالعراق، فبلغ إفلاته من بالبصرة من بكر بن وائل، فانطلقوا إلى الحجاج فاستعدوه وأخبروه بقتله صاحبهم؛ فيعث الحجاج إلى عبد الله بن شعبة بن العلقم، وهو يومئذ عريف بني مازن حاضرتهم وباديتهم، فقال له: لتأتيني بهلال أو لأفعلن بك ولأفعلن؛ فقال له عبد الله بن شعبة: إن أصحاب هلال وبني عمه قد صنعوا كذا وكذا: فاقتص عليه ماصنعوا في طلبه وأخذه ودفعه إلى الجلانيين وتشييعهم إياه حتى وردزا بلاد بكر بن وائل؛ فقال له الحجاج: ويلك ماتقول? قال فقال بعض البكريين: صدق، أصلح الله الأمير؛ قال فقال الحجاج: فلا يرغم الله أنوفكم، اشهدوا أني قد آمنت كل قريب لهلال وحميم وعريف ومنعت من أخذ أحد به ومن طلبه حتى يظفر به البكريون أو يموت قبل ذلك. فلما وقع هلال إلى بلاد اليمن بعث إلى بني رزام بن مازن بشعر يعاتبهم فيه ويعظم عليهم حقه ويذكر قرابته، وذلك أن سائر بني مازن قاموا ليحملوا ذلك الدم، فقال معاذ: لا أرضى والله أن يحمل لجاري دم واحد حتى يحمل له دم ولجواري دم آخر، وإن أراج هلال الأمان وسطنا حمل له دم ثالث؛ فقال هلال في ذلك:
صفحة : 265
بني مازن لاتطردوني فـإنـنـي أخوكم وإن جزت جرائرهـا يدي
ولاتثلجوا أكباد بـكـر بـن وائل يترك أخيكم كالخليع الـمـطـرد
ولاتجعلوا حفظي بظهر وتحفظـا بعيدا ببغضـاء يروح ويغـتـدي
فإن القريب حيث كان قـريبـكـم وكيف بقطع الكف من سائر اليد
وإن البعيد إن دنا فهـو جـاركـم وإن شط عنكم فهو أبعـد أبـعـد
وإني وإن أوجدتموني لـحـافـظ لكم حفظ راض عنكم غير موجد
سيحمي حماكم بي وإن كنت غائبا أغـر إذا مـاريع لـم يتـبـلـد
وتعلم بكر أنكـم حـيث كـنـتـم وكنت من الأرض الغريبة محتدي
وأني ثقيل حيث كنت على العـدا وأني وإن اوحدت لست بـأوحـد
وأنهم لما أرادوا هـضـيمـتـي منوا بجمبع القلب عضب مهنـد
حسام متى يعزم على الأمر بأتـه ولم يتوقف للعواقـب فـي غـد
وهم بدءوا بالبغي حتى إذا جـزوا بأفعالهم قالوا لـجـازيهـم قـد
فلم يك منهم في البديهة منصـف ولم يك فيهم في العواقب مهتـدي
ولم يفعلوا فعل الحليم فيجمـلـوا ولم يفعلوا فعل العزيز الـمـؤيد
فإن يسر لي إيعاد بكر فـربـمـا منعت الكرى بالغيظ من متوعـد
ورب حمى قوم أبحـت ومـورد وردت بفتيان الصبـاح ومـورد
وسجف دجوجي من الليل حالـك رفعت بعجلي الرجل موارة الـيد
سفينة خواض بحور هـمـومـه فيلي التياث العزم عند الـتـردد
جسور على الأمر المهيب إذا ونى أخو الفتك ركاب قرى المتـهـدد وقال وهو بأرض اليمن:
أقول وقد جاوزت نعمي وناقـتـي تحن إلى جنبي فليج مع الفـجـر
سقى الله ياناق البلاد التـي بـهـا هواك، وإن عنا نأت، سبل القطـر
فما عن قلى منا لها خفت الـنـوى بنا على مراعيها وكـثـبـانـهـا
ولكن صرف الدهر فرق بـينـنـا وبين الأداني، والفتى غرض الدهر
فسقيا لصحراء الأهالة مـربـعـا وللوقبى من منزل دمث مـثـري
وسقيا ورعيا حيث حلت لـمـازن وأيامها الغر المحجـلة الـزهـر قال خالد بن كلثوم: ولما دفع هلال إلى أولياء الجلاني ليقتلوه بصاحبهم جاء رجل يقال له: حفيد كان هلال قد وتره فقال: والله لأونبنه ولأصغرن إليه نفسي وهو في القيود مصبور للقتل، فأتاه فلم يدع له شيئا مما يكره إلا عدة عليه. قال: وإلى جنب هلال حجر يملأ الكف، فأخذه هلال به للرجل فأصاب جبينه فاجتلف جلفة من وجهه ورأسه، ثم رمى بها وقال: خذ القصاص مني الآن، وأنشأ يقول:
أنا ضربت كربا وزيدا وثابتا مشيتـهـم رويدا
كما أفدت حينه عبـيدا وقد ضربت بعده حفيدا قال: وهؤلاء كلهم من بني رزام بن مازن، وكلهم كان هلال قد نكأ فيهم أدى عنه ديسم الدية لبني جلان فمدحه
قال خالد بن كلثوم: ولما طال مقام هلال باليمن نهضت بنو مازن بأجمعهم إلى بني رزام بن مازن رهط هلال ورهط معاذ بن كعدة جار الجلاني المقتول، فقالوا: إنكم قد أسأتم بابن عمكم وجزتم الحد في الطلب بدم جاركم، فنحن نحمل لكم ماأردتم، فحمل ديسم بن المنهال بن خزيمة بن شهاب بن أثاثة بن ضباب بن حجية بن كابية بن حرقوص بن مازن الذي طلب معاذ بن جعدة أن يحمل لجاره، لفضل عزه وموضعه في عشيرته، وكان الذي طلب ثلثمائة بعير؛ فقال هلال في ذلك:
ان ابن كابية المرزأ ديسـمـا وارى الزناد بعيد ضوء النار
من كان يحمل ماتحمل ديسـم من حائل فنـق وأم حـوار
عيت بنو عمرو بحمل هنـائد فيها العشار ملابىء الأبكـار
حتى تلافاها كـريم سـابـق بالخير حل منـازل الأخـيار
حتى إذا وردت جميعا أرزمت جلان بعد تشمـس ونـفـار
ترعى بصحراء الإهالة روبة والعنظوان منابت الجرجـار
صفحة : 266
أعان قمير بن سعد علي بكر بن وائل وقال في ذلك شعرا: وقال خالد بن كلثوم: كان قمير بن سعد مصدقا على بكر بن وائل، فوجد منهم رجلا قد سرق صدقته، فأخذه قمير ليحبسه، فوثب قومه وأرادوا أن يحولوا بين قمير وبينه وهلال حاضر، فلما رأى ذلك هلال وثب على البكريين فجعل يأخذ الرجلين منهم فيكنفهما ويناطح بين رؤوسهما، فانتهى إلى قمير أعوانه فقهروا البكريين؛ فقال هلال في ذلك:
دعاني قمـير دعـوة فـأجـبـتـه فأي امرىء في الحرب حين دعاني
معي مخذم قد أخلص القـين حـده يخفض عند الروع روع جنـانـي
ومازلت مذ شدت يميني حجـزتـي أحارب أو في ظل حرب ترانـي أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا حكيم بن سعد عن زفر بن هبيرة قال: حبسه بلال بن أبي بردة وأفنكه فيسم
تقاوم هلال بن أسعر المازني، وهو أحد بني رزام بن مازن، ونهيس الجلاني من عنزة وهما يسقيان إبلهما، فخذف هلال نهيسا بمحور في يده فأصابه فمات، فاستعدى ولده بلال بن أبي بردة على هلال فحبسه فأسلمه قومه بنو رزام وعمل في أمره ديسم بن المنهال أحد بين كابية بن حرقوص فافتكه بثلاث ديات، فقال هلال يمدحه:
تدارك ديسم حسبا ومـجـدا رزاما بعدما انشقت عصاها
همو حملوا المئين فألحقوها بأهليها فكان لهم سنـاهـا
وماكانت لتحمـلـهـا رزام بأستاه معقصة لحـاسـهـا
بكابية بن حرقـوص وجـد كريم لافتى إلا فـتـاهـا الحديث عن هلال في نهمه وكثرة أكله
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثني نصر بن علي الجهضمي قال حدثنا الأصمعي، وأخبرني أبو عبيد محمد بن أحمد بن المؤمل الصيرفي قال حدثنا فضل بن الحسن قال حدثنا نصر بن علي عن الأصمعي قال حدثنا المعتمر بن سليمان قال: قلت لهلال بن أسعر: مأكلة أكلتها بلغتني عنك? قال: جعت مرة ومعي بعيري فنحرته وأكلته إلا ماحملت منه على ظهري، قال أبو عبيد في حديثه عن فضل: ثم أردت امرأتي فم أقدر على جماعها؛ فقالت لي: ويحك كيف تصل إلي وبيني وبينك بعير قال المعتمر: فقلت له: كم تكفيك هذه الأكلة? قال: أربعة أيام. وحدجثني به أبن عمار قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن معاوية عن الأصمعي عن معتمر بن سليمان عن أبيه قال: قلت لهلال بن الأسعر - هكذا قال ابن أبي سعد: معتمر عن أبيه وقال في خبره: فقلت له؛ كم تكفيك هذه الأكلة? فقال: خمسا أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا نصر بن علي قال حدثني الأصمعي قال حدثني شيخ من بني مازن قال: أتانا هلال بن أسعر المازني فأكل جميع مابيتنا، فبعثنا إلى الجيران نقترض الخبز فلما رأى الخبز قد اختلف عليه قال: كأنكم أرسلتم إلى الجيران، أعندكم سويق? قلنا: نعم، فجئته بجراب طويل فيه سويق وببرنية نبيذ، فصب السويق كله وصب عليه النبيذ حتى أتى على السويق والنبيذ كله.
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني: أن هلال بن أسعر مر على رجل نمن بني مازن بالبصرة وقد حمل من بستانه رطبا في زواريق، فجلس على زورق صغير منها وقد كثب الرطب فيه وغطي بالبواري؛ قال له: يابن عم آكل من رطبك هذا? قال: نعم؛ قال: مايكفيني? قال: مايكفيك؛ فجلس على صدر الزورق وجعل يأكل إلى أن اكتفى، ثم قام فانصرف، فكشف الزورق فإذا هو مملوء نوى قد أكل رطبه وألقى النوى فيه.
قال المدائني وحدثني من سأله عن أعجب شيء أكله، فقال: مائتي رغيف مع مكوك ملح.
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن ين علي بن منصور الأهوازي، وكان كهلا سريا معدلا، قال حدثني شبان النيلي عن صدقة بن عبيد المازني قال: أولم علي أبي لما تزوجت فعملنا عشر جفان ثريدا من جزور. فكان أول من جاءنا هلال بن أسعر المازني، فقدمنا إليه جفنة فأكلها ثم أخرى ثم أخرى حتى أتى على العشر، ثم استسقى فأتي بقربة من نبيذ فوضع طرفها في شدقه ففرغها في جوفه، ثم قام فخرج؛ فاستأنفنا عمل الطعام.
صفحة : 267
حدث أبو عمرو بن العلاء أنه لم ير أطول منه
أخبرني الجوهري قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق قال حدثنا نصر بن علي عن الأصمعي قال: حدثني أبو عمرو بن العلاء قال: رأيت هلال بن أسعر ميتا ولم أره حيا، فما رأيت أحدا على سرير أطول منه.
غنى مخارق الرشيد فأعتقه
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني بعض حاشية السلطان قال: غنى إبراهيم الموصلي الرشيد يوما:
ياريع سلمى لقد هيجت لي طربا زدت الفؤاد على علاته وصبـا -قال: والصنعة فيه لرجل من أهل الكوفة يقال له عزون -فأعجب به الرشيد وطرب له واستعاده مرارا؛ فقال له الموصلي: يا أمير المؤمنين فكيف لو سمعته من عبدك مخارق، فإن أخذه عني وهو يفضل فيه الخلق جميعا ويفضلني، فأمر بإحضار مخارق، فأحضر فقال له غنني:
ياريع سلمى لقد هيجت لي طربا زدت الفؤاد على علاته وصبـا فغناه إياه؛ فبكى وقال: سل حاجتك قال مخارق: فقلت: تعتقني ياأمير المؤمنينمن الرق وتشرفني بولائك، أعتقك الله من النار، قال: أنت حر لوجه الله، أعد الصوت؛ قال: فأعدته، فبكى وقال: سل حاجتك، فقلت: يأمر لي أمير المؤمنين بمنزل وفرشه ومايصلحه وخادم فيه؛ قال: ذلك لك، أعده؛ فأعدته فيكى وقال: سل حاجتك؛ قلت: حاجتي ياأمير المؤمنين أن يطيل الله بقاءك ويديم عزك زيجعلني من كل سوء فداءك؛ قال: فكان إبراهيم الموصلي سبب عتقه بهذا الصوت أخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن مخارق، وحدثني به الصولي أيضا عن وكيع عن هارون بن مخارق قال: كان أبي إذا غنى هذا الصوت:
ياريع سلمى لقد هيجت لي طربا زدت الفؤاد على علاته وصبـا يقول: أنا مولى هذا الصوت؛ فقلت له يوما: ياأبت، وكيف ذلك? فقال: غنيته مولاي الرشيد فبكى وقال: أحسنت، أعد فأعدت؛ فبكى وقال: أحسنت أنت حر لوجه الله وأمر لي بخمسة آلاف دينار، فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي، وذكر قريبا مما ذكره المبرد من باقي الخبر.
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثني إسحاق النجعي عن حسين بن الضحاك عن مخارق: أن الرشيد أقبل يوما على المغنين وهو مضطجع، فقال: من منكم يغني:
ياريع سلمى لقد هيجت لي طربا زدت الفؤاد على علاته وصبـا قال: فقمت فقلت: أنا، فقال: هاته؛ فغنيته فطرب وشرب، ثم قال: علي بهرثمة، فقلت في نفسي: ماتراه يريد منه فجاءوا بهرثمة فأدخل إليه وهو يجر سيفه، فقال: ياهرثمة، مخارق الشاري الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته? فقال: أبو المهنا؛ فقال: انصرف فانصرف؛ ثم أقبل علي فقال: قد كنيتك أبا المهنا لإحسانك، وأمر لي بمائة ألف درهم، فانصرفت بها وبالكنية.
صوت من المائة المختارة
من رواية جحظة عن أصحابه
وخل كنت عين الرشد منه إذا نظرت ومستمعا سميعا
أطاف بغيه فعدلت عـنـه وقلت له أرى أمرا فظيعا الشعر لعروة بن الورد، والغناء في اللحن المختار لسياط ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة. وفيه لإبراهيم ماخوري بالوسطى عن عمرو أيضا.
أخبار عروة بن الورد ونسبه
نسبه، شاعر جاهلي فارس جواد مشهور
عروة بن الورد بن زيد، وقيل: ابن عمرو بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن هريم بن لديم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد ين قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانها وصعلوك من صعاليكها المعدودين المقدمين الأجواد.
كان يلقب بعروة الصعاليك وسبب ذلك
وكان يلقب عروة الصعاليك لجمعه إياهم وقيامه بأمرهم إذا أخفقوا في غزواتهم ولم يكن لهم معاش ولا مغزى، وقيل: بل لقب عروة الصعاليك لقوله:
لحي الله صعلوكا إذا جن ليلـه مصافي المشاش آلفا كل مجزر
يعد الغنى من دهره كـل لـيلة أصاب قراها من صديق ميسر
ولله صعلوك صفيحة وجـهـه كضوء شهاب القابس المتنـور شرف نسبه وتمنى الخلفاء أن يصاهروه
أو ينتسبوا إليه:
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن معاوية قال:
صفحة : 268
لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم.
أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي، وحدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قلا جميعا: قال عبد الملك بن مروان: ما يسرني أن أحدا من العرب ولدني ممن لم يلدني إلا عروة بن الورد لقوله:
إني امرؤ عافي إنـائي شـركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحـد
أتهزأ مني أن سمنت وأن تـرى بجسمي مس الحق والحق جاهد
أفرق جسمي في جسوم كثـيرة وأحسوا قراح الماء والماء بارد قال الحطيئة لعمر بن الخطاب
كنا نأتم في الحرب بشعره:
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال: بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للحطيئة: كيف كنتم في حربكم? قال: كيف كنتم في حربكم? قال: كنا ألف حازم، قال: وكيف? قال: كان فينا قيس بن زهير وكان حازما وكنا لا نعصيه، وكنا نقدم إقدام عنترة، ونأتم بشعر عروة بن الورد، وننقاد لأمر الربيع بن زياد.
قال عبد الملك إنه أجود من حاتم
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال ويقال: إن عبد الملك قال: من زعم أن حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد.
منع عبد الله بن جعفر معلم ولده من أن يرويهم قصيدة له يحث فيها على الاغتراب: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا معن بن عيسى قال: سمعت أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب قال لمعلم ولده: لا تروهم قصيدة عروة بن الورد التي يقول فيها:
دعيني للغنى أسعى فإنـي رأيت الناس شرهم الفقير ويقول: إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم خبر عروة مع سلمى
سببته وفداء أهلها بها:
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبد العزيز بن عمران الزهري عن عامر بن جابر قال: أغار عروة بن الورد على مزينة فأصاب منهم امرأة من كنانة ناكحا، فاستاقها ورجع وهو يقول:
تبغ عديا حيث حـلـت ديارهـا وأبناء عوف في القرون الأوائل
فإلا أنل أوسا فإني حسـبـهـا بمنبطح الأدغال من ذي السلائل ثم أقبل سائرا حتى نزل ببني النضير، فلما رأوها أعجبتهم فسقوه الخمر، ثم استوهبوها منه قوهبها لهم، وكان لا يمس النساء، فلما أصبح وصحا ندم فقال:
سقوني الخمر ثم تكنفوني الأبيات: قال: وجلاها النبي صلى الله عليه وسلم مع من جلا من بني النصير
صفحة : 269
وذكر أبو عمرو الشيباني من خبر عروة بن الورد وسلمى هذه أنه أصاب امرأة من بني كنانة بكرا يقال لها أنها أرغب الناس فيه، وهب تقول له: لو حججت بي فأمر على أهلي وأراهم فحج بها، فأتى مكة ثم أتى المدينة، وكان يخالط من أهل يثرب بني النضير فيقرضونه إن احتاج ويبايعهم إذا غنم، وكان قومها يخالطون بني النضير، فأتوهم وهو عندهم؛ فقالت لهم سلمى: إنه خارج بي قبل أن يخرج الشهر الحرام، فتعالوا إليه وأخبروه أنكم تستحيون أن نكون امرأة منكم معروفة النسب صحيحته سبية ، وافتدوني منه فإنه لا يرى أني أفارقه ولا أختار عليه أحدا، فأتوه فسقوه الشراب، فلما ثمل قالوا له: فادنا بصاحبتنا فإنها وسيطة النسب فينا معروفة، وإن علينا سبة أن تكون سبية، فإذا صارت إلينا وأردت معاودتها فاخطبها إلينا فإننا ننكحك؛ فقال لهم: ذاك لكم، ولكن لي الشرط فيها أن تخيروها، فإن اختارتني انطلقت معي إلى ولدها وإن اختارتكم انطلقتم بها؛ قالوا: ذاك لك؛ قال: دعوني أله بها الليلة وأفادها غدا، فلما كان الغد جاءوه فامتنع من فدائها؛ فقالوا له: قد فاديتنا بها منذ البارحة، وشهد عليه بذلك جماعة ممن حضر، فلم يقدر على الامتناع وفاداها، فلما فادوه بها خيروها فاختارت أهلها، ثم أقبلت عليه فقالت: ياعروة أما إني أقول فيك وإن فارقتك الحق: والله ماأعلم امرأة من العرب ألقت سترها على بعل خير منك وأغض طرفا وأقل فحشا وأجود يدا وأحمى لحقيقة؛ وما مر علي يوم منذ كنت عندك إلا والموت فيه أحب إلي من الحياة بين قومك، لأني لم أكن أشاء أن أسمع امرأة من قومك تقول: قالت أمة عروة كذا وكذا إلا سمعته؛ ووالله لا أنظر في وجه غطفانية أبدا، فارجع راشدا إلى ولدك وأحسن إليهم. فقال عروة في ذلك:
سقوني الخمر ثم كنفوني وأولها:
أرقت وصحبتي بمضيق عميق لبرق من تهامة مستـطـير
سقى سلمى وأين ديار سلمـى إذا كانت مجاورة الـسـرير
إذا حلت بأرض بني عـلـي وأهلي بـين إمـرة وكـير
ذكرت منازلا مـن أم وهـب محل الحي أسفل من نـقـير
وأحدث معهد مـن أم وهـب معرسنا بدار نبي بني النضير
وقالوا ما تشاء فقلت ألـهـو إلى الأصباح آثـر ذي أثـير
بآنسة الحديث رضاب فـيهـا بعيد النوم كالعنب العـصـير وأخبرني علي بن سليمان الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابي بهذه الحكاية كما ذكر أبو عمرو، وقال فيها: إن قومها أغلوا بها الفداء، وكان معه طلق وجبار أخوه وابن عمه، فقالا له: والله لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدا، وأنت على النساء قادر متى شئت، وكان قد سكر فأجاب إلى فدائها، فلما صحا ندم فشهدوا عليه بالفداء فلم يقدر على الامتناع. وجاءت سلمى تثني عليه فقالت: والله إنك ما علمت لضحوك مقبلا كسوب مدبرا خفيف على متن الفرس ثقيل على العدو طويل العماد كثير الرماد راضي الأهل والجانب، فاستوص ببنيك خيرا، ثم فارقته. فتزوجها رجل من بني عمها، فقال لها يوما من الأيام: يا سلمى، أثني علي كما أثنيت على عروة -وقد كان قولها فيه شهر-فقالت له: لا تكلفني ذلك فإني إن قلت الحق غضبت ولا واللات والعزى لا أكذب؛ فقال: عزمت عليك لتأتيني في مجلس قومي فلتثنين علي بما تعلمين، وخرج فجلس في ندي القوم، وأقبلت فرماها القوم والله إن شملتك لإلتحاف، وإن شربك لاستفاف، وإنك لتنام ليلة تخاف، وتشبع ليلة تضاف، وما ترضي الأهل ولا الجانب، ثم انصرفت. فلامه قومه وقالوا: ما كان أغناك عن هذا القول منها.
كان يجمع الصعاليك ويكرمهم ويغير بهم
أخبرني الأخفش عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال حدثني أبو فقعس قال:
صفحة : 270
كان عروة بن الورد إذا أصابت الناس سني شديدة تركوا في دارهم المريض والكبير والضعيف، وكان عروة بن الورد يجمع أشباه هؤلاء من دون الناس من عشيرته في الشدة ثم يحفر لهم الأسراب ويكنف عليهم الكنف ويكسبهم، ومن قوي منهم-إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته-خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا، حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى، فلذلك سمي عروة الصعاليك، فقال في ذلك بعض السنين وقد ضاقت حاله:
لعل ارتيادي في البلاد وبغيتي وشدي حيازيم المطية بالرحل
سيدفعني يوما إلى رب هجمة يدافع عنها بالعقوق وبالبخل أغار مع جماعة من قومه على رجل
فأخذ إبله وامرأته ثم اختلف معهم فهجاهم:
فزعموا أن الله عز وجل قيض له وهو مع قوم من هلاك عشيرته في شتاء شديد ناقتين دهماوين، فنحر لهم إحداهما وحمل متاعهم وضعفاءهم على الأخرى، وجعل ينتقل بهم من مكان إلى مكان، وكان بين النقرة والربذة فنزل بهم مابينهما بموضع يقال له: ماوان. ثم إن الله عز وج قيض له رجلا صاحب مائة من الإبل قد فر بها من حقوق قومه- وذلك أول ما ألبن الناس-فقتله وأخذ إبله وامرأته، وكانت من أحسن النساء، فأتى بالإبل أصحاب الكنيف فحلبها لهم وحملهم عليها، حتى إذا دنوا من عشيرتهم أقبل يقسمها بينهم وأخذ مثل نصيب أحدهم، فقالوا: لا واللات والعزى لا نرضى حتى نجعل المرأة نصيبا فمن شاء أخذها، فجعل يهم بأن يحمل عليهم فيقتلهم وينتزع الإبل منهم، ثم يذكر أنهم صنيعته وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان يصنع، فأفكر طويلا ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله، فأبوا ذلك عليه، حتى انتدب رجل منهم فجعل له راحلة من نصيبه؛ فقال عروة في ذلك قصيدته التي أولها:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم كما الناس لما أمرعوا وتمولوا
وإني لمدفـوع إلـي ولاؤهـم بماوان إذ نمشي وإذ نتملمـل
وإني وإياهم كذي الأم أرهنت له ماء عينيها تفدي وتحمـل
فباتت بحد المرفقين كليهـمـا توحوح مما نالها وتـولـول
تخير من أمرين ليسا بغبـطة هو الثكل إلا أنها قد تجـمـل سبي ليلى بنت شعواء ثم اختارت أهلها فقال شعرا: وقال ابن الأعرابي في هذه الرواية أيضا: كان عروة قد سبى امرأة من بني هلال بن عامر بن صعصعة يقال لها: ليلى بنت شعواء، فمكثت عنده زمانا وهي معجبة له تريه أنها تحبه، ثم استزارته أهلها فحملها حتى أتاهم بها، فلما أراد الرجوع أبت أن ترجع معه، وتوعده قومها بالقتل فانصرف عنهم، وأقبل عليها فقال لها: يا ليلى، خبري صواحبك عني كيف أنا؛ فقالت: ما أرى لك عقلا أتراني قد اخترت عليك وتقول: خبري عني فقال في ذلك:
تحن إلى ليلى بجـو بـلادهـا وأنت عليها بالملا كنت أقـدر
وكيف ترجيها وقد حيل دونهـا وقد جاوزت حيا بتيماء منكرا
لعلك يوما أن تسـري نـدامة علي بما جشمتني يوم غضورا وهي طويلة. قال: ثم إن بني عامر أخذوا امرأة من بني عبس ثم من بني سكين يقال لها أسماء، فما لبثت عندهم إلا يوما حتى استنقذها قومها؛ فبلغ عروة أن عامر بن الطفيل فخر بذلك وذكر أخذه إياها، فقال عروة يعيرهم بأخذه ليلى بنت شعواء الهلالية:
إن تأخذوا أسماء موقـف سـاعة فمأخذ ليلى وهي عذراء أعجب
لبسنا زمانا حسنها وشـبـابـهـا وردت إلى شعواء والرأس أشيب
كمأخذنا حسناء كرها ودمعـهـا غداة اللوي معصوية يتصـبـب خرج ليغير فمنعته امرأته فعصاها وقال في ذلك شعرا: إغاثته لعبس في مجاعتهم وقال ابن الأعرابي:
صفحة : 271
أجدب ناس من بين عبس في سنة أصابتهم فأهلكت أموالهم وأصابهم جوع شديد وبؤس، فأتوا عروة بن الورد فجلسوا أمام بيته، فلما بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك، أغثنا؛ فرق لهم وخرج ليغزو بهم ويصيب معاشا، فنهته امرأته عن ذلك لما تخوفت عليه من الهلاك، فعصاها وخرج غازيا، فمر بمالك بن حمار الفزاري ثم الشمخي؛ فسأله: أين يريد? فأخبره، فأمر له بجزور فنحرها فأكلوا منها؛ وأشار عليه مالك أن يرجع، فعصاه ومضى حتى انتهى إلى بلاد بين القين، فأغار عليهم فأصاب هجمة عاد بها على نفسه وأصحابه؛ وقال في ذلك:
أرى أم حسان الغداة تلومـنـي تخوفني الأعداء والنفس أخوف
تقول سليمى لو أقمت لسـرنـا ولم تدر أنى للمقـام أطـوف
لعل الذي خوفتنا من أمامـنـا يصادفه في أهله المتخـلـف وهي طويلة: وقال في ذلك أيضا:
أليس ورائي أن أدب على العصا فيشمت أعدائي ويسأمني أهلي
رهينة قعر البيت كل عـشـية يطيف بي الولدان أهدح كالرأل
أقيموا بين لبني صدور ركابكـم فكل منايا النفس خير من الهزل
فإنكم لن تبلغوا كل هـمـتـي ولاأربى حتى تروا منبت الأثل
لعل ارتيادي في البلاد وحيلتـي وشدي حيازيم المطية بالرحـل
سيدفعني يوما إلى رب هجـمة يدافع عنها بالعقوق وبالبـخـل قصته مع هزلي أغار على فرسه
صفحة : 272
نسخت من كتاب أحمد بن القاسم بن يوسف قال حدثني حر بن قطن أن ثمامة بن الوليد دخل على المنصور؛ فقال: يا ثمامة، أتحفظ حديث ابن عمك عروة الصعاليك بن الورد العبسي? فقال: أي حديثه يا أمير المؤمنين? فقد كان كثير الحديث حسنه؛ قال: حديثه مع الهذلي الذي أخذ فرسه؛ قال: ما يحضرني ذلك فأرويه يا أمير المؤمنين؛ فقال المنصور: خرج عروة حتى دنا من منازل هذيل فكان منها على نحو ميلين وقد جاع فإذا هو بأرنب فرماها ثم أورى نارا فشواها وأكلها ودفن النار على مقدار ثلاث أذرع وقد ذهب الليل وغارت النجوم، ثم أتى سرحة فصعدها وتخوف الطلب، فلما تغيب فيها إذ الخيل قد جاءت وتخوفوا البيات. قال: فجاءت جماعة منهم ومعهم رجل على فرس فجاء حتى ركز رمحه في موضع النار وقال: لقد رأيت النار هاهنا؛ فنزل رجل فحفر قدر ذراع فلم يجد شيئا، فأكب القوم على الرجل يعذلونه ويعيبون أمره ويقولون: عنيتنا في مثل هذه الليلة القرة وزعمت لنا شيئا كذبت فيه؛ فقال: ما كذبت، ولقد رأيت النار في موضع رمحي؛ فقالوا: ما رأيت شيئا ولكن تحذلقك وتدهيك هو الذي حملك على هذا، وما نعجب إلا لأنفسنا حين أطعنا أمرك واتبعناك؛ ولم يزالوا بالرجل حتى رجع عن قوله لهم. واتبعهم عروة، حتى إذا وردوا منازلهم جاء عروة فتمكن في كسر بيت؛ وجاء الرجل إلى امرأته وقد خالفه إليها عبد أسود، وعرة ينظر، فأتاها العبد بعلبة فيها لبن فقال: اشربي؛ فقالت لا، أو تبدأ، فبدأ الأسود فشرب؛ فقالت للرجل حين جاء: لعن الله صلفك عنيت قومك منذ الليلة؛ قال: لقد رأيت نارا، ثم دعا بالعلبة ليشرب، فقال حين ذهب ليكرع: ريح رجل ورب الكعبة فقالت امرأته: وهذه أخرى، أي ريح رجل تجده في إنائك غير ريحك ثم صاحت، فجاء قومها فأخبرتهم خبره، فقالت: يتهمني ويظن بي الظنون فأقبلوا عليه باللوم حتى رجع عن قوله؛ فقال عروة: هذه ثانية. قال ثم أوى الرجل إلى فراشه، فوثب عروة إلى الفرس وهو يريد أن يذهب به، فضرب الفرس بيده وتحرك، فرجع عروة إلى موضعه، ووثب الرجل فقال: ما كنت لتكذبيني فمالك? فأقبلت عليه امرأته لوما وعدلا. قال: فصنع عروة ذلك ثلاثا وصنعه الرجل، ثم أوى الرجل إلى فراشه وضجر من كثرة ما يقوم، فقال: لا أقوم إليك الليلة؛ وأتاه عروة فحال في متنه وخرج ركضا، وركب الرجل فرسا عنده أنثى. قال عروة: فجعلت أسمعه خلفي يقول: الحقي فإنك من نسله. فلما انقطع عن البيوت، قال له عروة قال له عروة بن الورد: أيها الرجل قف، فإنك لو عرفتني لم تقدم علي، أنا عروة بن الورد، وقد رأيت الليلة منك عجبا، فأخبرني به وأرد إليك فرسك؛ قال: وما هو? قال: جئت مع قومك حتى ركزت رمحك في موضع نار قد كنت أوقدتها فثنوك عن ذلك فانثنيت وقد صدقت، ثم اتبعتك حتى أتيت منزلك وبينك وبين النار ميلان فأبصرتها منهما، ثم شممت رائحة رجل في إنائك، وقد رأيت الرجل حين آثرته زوجتك بالإناء، وهو عبدك الأسود وأظن أن بينهما مالا تحب، فقلت: ريح رجل؛ فلم تزل تثنيك عن ذلك حتى انثنيت، ثم خرجت إلى فرسك فأردته فاضطرب وتحرك فخرجت إليه، ثم خرجت وخرجت، ثم أضربت عنه، فرأيتك في هذه الخصال أكمل الناس ولكنك تنثني وترجع؛ فضحك وقال: ذلك لأخوال السوء، والذي رأيت من صرامتي فمن قبل أعمامي وهم هذيل، وما رأيت من كعاعتي فمن قبل أخوالي وهم بطن من خزاعة والمرأة التي رأيت عندي امرأة منهم وأنا نازل فيهم، فذلك التي رأيت عندي امرأة منهم وأنا نازل فيهم، فذلك الذي يثنيني عن أشياء كثيرة، وأنا لاحق بقومي وخارج عن أخوالي هؤلاء ومخل سبيل المرأة، ولولا ما رأيت من كعاعتي لم يقو على مناوأة قومي أحد من العرب. فقال عروة: خذ فرسك راشدا؛ قال: ما كنت لآخذه منك وعندي من نسله جماعة مثله، فخذه مباركا لك فيه. قال ثمامة: إن له عندنا أحاديث كثيرة ما سمعنا له بحديث هو أظرف من هذا.
قصة غزوان لماوان وحديثه مع غلام تبين بعد أنه ابنه: قال المنصور: أفلا أحدثك له بحديث هو أظرف من هذا? قال: بلى يا أمير المؤمنين، فإن الحديث إذا جاء منك كان له فضل على غيره؛ قال: خرج عروة وأصحابه حتى أتى ماوان فنزل أصحابه وكنف عليهم كنيفا من الشجر، وهم أصحاب الكنيف الذي سمعته قال فيهم:
ألا إن أصحاب الكنيف وجدتهم كما الناس لما أمرعوا وتمولوا
صفحة : 273
وفي هذه الغزاة يقول عروة:
أقول لقوم في الكنيف تروحوا عشية قلنا حول ماوان رزح وفي هذه القصيدة يقول:
ليبلغ عذرا أو يصيب غنـيمة وملغ نفس عذرها مثل منجح ثم مضى يبتغي لهم شيئا وقد جهدوا، فإذا هو بأبيات شعر وبامرأة قد خلا من سنها وشيخ كبير كالحقاء الملقى، فكمن في كسر بيت منها، وقد أجدب الناس وهلكت الماشية، فإذا هو في البيت بسحور ثلاثة مشوية - فقال ثمامة: ومالسحور? قال: الحلقوم بما فيه- والبيت خال فأكلها، وقد مكث قبل ذلك يومين لا يأكل شيئا فأشبعته وقوي، فقال: لا أبالي من لقيت بعد هذا. ونظرت المرأة فظنت أن الكلب أكلها فقالت للكلب: أفعلتها ياخبيث وطردته. فإنه لكذلك إذا هو عند المساء بإبل قد ملأت الأفق وإذا هي تلتفت فرقا، فعلم أن راعيها جلد شديد الضرب لها، فلما أتت المناخ بركت، ومكث الراعي قليلا ثم أتى ناقة منها فمرى أخلاقها، ثم وضع العلبة على ركبتيه وحلب حتى ملأها، ثم أتى الشيخ فسقاه، ثم أتى ناقة أخرى ففعل بها ذلك وسقى العجوز، ثم أتى أخرى ففعل بها كذلك فشرب هو، ثم التفع بثوب واضطجع ناحية، فقال الشيخ للمرأة وأعجبه ذلك: كيف ترين ابني? فقالت: ليس بابنك قال: فابن من ويلك? قالت: ابن عروة بن الورد، قال: ومن أين? قالت: أتذكر يوم مر بنا يريد سوق ذي المجاز فقلت: هذا عروة بن الورد، ووصفته لي بجلد فإني استطرفته. قال: فسكت، حتى إذا نوم وثب عروة وصاح بالإبل فاقتطع منها نحوا من النصف ومضى ورجا ألا يتبعه الغلام- وهو غلام حين بدا شاربه-فاتبعه. قال: فاتخذا وعالجه، قال: فضرب به الأرض فيقع قائما، فتخوفه على نفسه، ثم واثبه فضرب به وبادره، فقال: إني عروة بن الورد، وهو يريد أن يعجزه عن نفسه. قال: فارتدع، ثم قال مالك ويلك لست ينهاك عن شيء، قال: الذي بقي من عمر الشيخ قليل، وأنا مقيم معه مابقي، فإن له حقا وذماما، فإذا هلك فما أسرعني إليك، وخذ من هذا الإبل بعيرا؛ قلت: لا يكفيني، إن معي أصحابي قد خلفتهم؛ قال: فثانيا، قلت لا؛ قال: فثالثا، والله لازدتك على ذلك. فأخذها ومضى إلى أصحابه، ثم إن الغلام لحق به بعد هلاك الشيخ. قال: والله يا أمير المؤمنين لقد زينته عندنا وعظمته في قلوبنا؛ قال: فهل أعقب عنكم? قال لا، ولقد كنا نتشاءم بأبيه، لأنه هو الذي وقع الحرب بين عبس وفزاره بمراهنته حذيفة، ولقد بلغني أنه كان له ابن أسن من عروة فكان يؤثره على عروة فيما يعطيه ويقربه، فقيل له: أتؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضعفه قال: أترون هذا الأصغر لئن بقي مع ما رأى من شدة نفسه ليصبرن الأكير عيالا عليه.
صوت من المائة المختارة
أزرى بنا أننا شالت نعامتنـا فخالني دونه بل خلته دوني
فإن تصبك من الأيام جائحة لم أبك منك على دنيا ولادين الشعر لذي الإصبع العدواني، والغناء لفيل مولى العبلات هزج خفيف بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. معنى قوله أزرى بنا: قصر بنا، يقال: زريت عليه إذا عبت عليه فعله، وأزريت به إذا قصرت به في شيء. وشالت نعامتهم إذا انتقلوا بكليتهم، يقال: شالت نعامتهم، وزف رألهم، إذا انتقلوا عن لاموضع فلم يبق فيه منهم أحد ولم يبق لهم فيه شيء. وخالني: ظنني، يقال: خلت كذا وكذا فأنا أخاله إذ ظننته. والجائحة: النازلة التي تحتاج ولاتبقى على ما نزلت به.
ذكر ذي الإصبع العدواني ونسبه وخبره
نسبه وهو شاعر فارس جاهلي
هو حرثان بن الحارث بن محرث بن ثعلبة بن سيار بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان بن عمرو بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، أحد بني عدوان وهم بظن من جديلة. شارع فارس من قدماء الشعراء في الجاهلية وله غارات كثيرة على العرب ووقائع مشهورة فنيت عدوان فرثاها
أخبرنا محمد بن خلف وكيع وابن عمار والأسدي، قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو عثمان المازني عن الأصمعي قال: نزلت عدوان على ماء فأحصوا فيهم سبعين ألف غلام أغرل سوى من كان مختونا لكثرة عددهم، ثم وقع بأسهم بينهم فتفانوا فقال ذو الإصبع: صوت
عذير الحي من عدوا ن كانوا حية الأرض
صفحة : 274
بغى بعضهم بعـضـا فلم يبقوا على بعـض
فقد صـاروا أحـاديث برفع القول والخفض
ومنهم كانت الـسـادا ت والموفون بالقرض
ومنهم من يجيز الـنـا س بالسنة والفـرض
ومنهم حكم يقـضـي فلا ينقض ما يقضي وأما قول ذي الأصبع
ومنهم حكم يقضي فإنه يعني عامر بن الظرب العدواني، كان حكما للعرب تحتكم إليه.
من قرعت له العصا: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي عن محمد بن حبيب قال: قيس تدعى هذه الحكومة وتقول: إن عامر بن الظرب العدواني هو الحكم وهو الذي كانت العصا تقرع له، وكان قد كبر فقال له الثاني من ولده: إنك ربما أخطأت في الحكم فيحمل عنك؛ قال: فاجعلوا لي أمارة أعرفها فإذا زغت فسمعتها رجعت إلى الحكم والصواب، فكان يجلس قدام بيته ويقعد ابنه في البيت ومعه العصا، فإذا زاغ أو هفا قرع له الجفنة فرجع إلى الصواب. وفي ذلك يقول المتلمس:
لذي الحلم قبل اليوم ما تقرع العصا وماعلم الإنسان إلا لـيعـلـمـا قال ابن حبيب: وربيعه تدعيه لعبد الله بن عمرو بن الحارث بن همام. واليمن تدعيه لربيعة بن مخاشن، وهو ذو الأعواد، وهو أول من جلس على منبر أو سرير وتكلم،؛ وفيه يقول الأسود بن يعفر:
ولقد علمت لوأن علمي نافعي أن السبيل سبيل ذي الأعواد أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال أهبرنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال: زعم أبو عمر بن العلاء أنه ارتحلت عدوان من منزل، فعد فيهم أربعون ألف غلام أقلف. قال الرياشي وأخبرني رجل عن هشام بن الكلبي قال: وقع على إياد البق فأصاب كل رجل منهم بقتان.
استعراض عبد الملك أحياء العرب
وسؤاله عن ذي الإصبع:
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال أخبرني محمد بن زياد الزيادي، وأخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة ولم يسنده إلى أحد وروايته أتم: أن عبد الملك بن مروان لما قدم الكوفة بعد قتله مصعب بن الزبير جلس لعرض أحياء العرب-وقال عمر بن شبة: إن مصعب بن الزبير كان صاحب هذه القصة- فقام إليه معبد بن خالد الجدلي، وكان قصيرا دميما، فتقدمه إليه رجل منا حسن الهيئة؛ قال معبد: فنظر عبد الملك إلى الرجل وقال: ممن أنت? فسكت ولم يقل شيئا وكان منا، فقلت من خلف: نحن يا أمير المؤمنين من جديلة؛ فأقبل على الرجل وتركني? فسكت ولم يقل شيئا وكان منا، فقلت من خلفه: نحن يا أمير المؤمنين منجديلة؛ فأقبل على الرجل وتركني، فقال: من أيكم ذو الإصبع? قال الرجل: لا أدري؛ فقلت: نهشته حية في إصبعه فيبست؛ فأقبل على الرجل وتركني، فقال: وبم كان يسمى قبل ذلك? قال الرجل: لا أدري؛ قلت: كان يسمى حرثان؛ فأقبل على الرجل وتركني، فقال: من أي عدوان كان? فقلت من خلفه: من بني ناج الذين يقول فيهم الشاعر:
وأما بنو ناج فلا تذكرنـهـم ولاتتبعن عينيك ما كان هالكا
إذا قلت معروفا لأصلح بينهم يقول وهيب لا أسالم ذلكـا وروى عمر بن شبة: لاأسلم
فأضحى كظهر الفحل جب سنامه يدب إلى الأعداء أحدب باركـا فأقبل على الرجل وتركني وقال أنشدني قوله:
عذير الحي من عدوان قال الرجل: لست أرويها؛ قلت يا أمير المؤمنين إن شئت أنشدتك؛ قال: ادن مني، فإني أراك بقومك عالما؛ فأنشدته:
وليس المرء في شيء من الإبرام والنقـص
إذا أبـرم أمـرا خـا له يقضي وما يقضي
يقول اليوم أمـضـيه ولا يملك ما يمضـي
عذير الحي من عـدوا ن كانوا حية الأرض
بغى بعضهم بعـضـا فلم يبقوا على بعـض
فقد صـاروا أحـاديث برفع القول والخفض
ومنهم كانت الـسـادا ت والموفون بالقرض
ومنهم حكم يقـضـي فلا ينقض ما يقضي
ومنهم من يجيز الـنـا س بالسنة والفـرض
وهم من ولدوا أشبـوا بسر الحسب المحض
صفحة : 275
ومـمـن ولـدوا عــام ر ذو الطول وذو العرض
وهـم بـووا ثـقـيفـا دا ر لاذل ولاخـفـــض فأقبل على الرجل وتركني وقال: كم عطاؤك? فقال: ألفان، فأقبل علي فقال: كم عطاؤك? فقلت: خمسمائة؛ فأقبل على كاتبه وقال: اجعل الألفين لهذا والخمسمائة لهذا؛ فانصرفت بها.
وقوله: ومنهم من يجيز الناس فإن إجازة الحج كانت لخزاعة فأخذتها منهم عدوان فصارت إلى رجل منهم يقال له أبو سيارة أحد بني وابش بن يزيد بن عدوان وله يقول الراجز:
خلوا السبيل عن أبي سيارة وعن مواليه بن فـزاره
حتى يجيز سالما حمـاره مستقبل الكعبة يدعو جاره قال: وكان أبو سيارة يجيز الناس في الحج بأن يتقدمهم على حمار، ثم يخطبهم فيقول: اللهم أصلح بين نسائنا، وعاد بين رعائنا، واجعل المال في سمحائنا، أوفوا بعهدكم، وأكرموا جاركم، واقروا ضيفكم، ثم يقول: أشرق ثبير كما نغير، وكانت هذه إجازته، ثم ينفر ويتبعه الناس. ذكر ذلك أبو عمرو الشيباني والكلبي وغيرهما.
قصته مع بناته الأربع وقد أردن الزواج
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثنا محمد بن داود الهشامي قال: كان لذي الإصبع أربع بنات وكن يخطبن إليه فيعرض ذلك عليهن فيستحين ولا يزوجهن، وكانت أمهن تقول: لو زوجتهن فلا يفعل. قال: فخرج ليلة إلى متحدث لهن فاستمع عليهن وهن لا يعلمن فقلن: تعالين نتمنى ولنصدق، فقالت الكبرى:
ألا ليت زوجي من أناس ذوي غنى حديث الشباب طيب الريح والعطر
طبيب بأدواء الـنـسـاء كـأنـه خليفة جان لاينـام عـلـى وتـر فقلن لها: أنت تحبين رجلا ليس من قومك. فقالت الثانية:
ألا هل أراها ليلة وضـجـيعـهـا أشم كنصل السيف غير مـبـلـد
لصوق بأكباد النـسـاء وأصـلـه إذا ما انتمى من سر أهلي ومحتدي فقلن لها: أنت تحبين رجلا من قومك. فقالت الثالثة:
ألا ليته يملا الجفـان لـضـيفـه له جفنة يشقى بها النيب والجـزر
له حكمات الدهر من غير كبـرة تشين ولا الفاني ولا الضرع الغمر فقلن لها: أنت تحبين رجلا شريفا. وقلن للصغرى: تمني؛ فقالت: ماأريد شيئا؛ قلن: والله لاتبرجين حتى نعلم ما في نفسك؛ قالت: زوج من عود خير من قعود. فلما سمع ذلك أبوهن زوجهن أربعتهن. فمكثن برهة ثم اجتمعن إليه، فقال للكبرى: يا بنية، ما مالكم? قالت: الإبل؛ قال: فكيف تجدونها? قالت: خير مال، نأكل لحومها مزعا، ونشرب ألبانها جرعا، وتحملنا وضيفنا معا؛ قال: فكيف تجدين زوجك? قالت: خير زوج يكرم الحليلة، ويعطي الوسيلة؛ قال: فكيف تجدين زوجك? قالت: خير زوج يكرم الحليلة، ويعطي الوسيلة؛ قال: مال عميم وزوج كريم. ثم قال للثانية: يا بنية ما مالكم? قالت: البقر؛ قال: فكيف تجدونها؛ قالت: خير مال، تألف الفناء، وتودك السقاء، وتملأ الإناء، ونساء في نساء؛ قال: فكيف تجدين زوجك? قالت: خير زوج يكرم أهله وينسى فضله؛ قال: حظيت ورضيت. ثم قال للثالثة: ما مالكم? قالت: المغزى؛ قال: فكيف تجدونها? قالت: لابأس بها نولدها فطما، ونسلخها أدما؛ قال: فكيف تجدين زوجك? قالت: لابأس به ليس بالبخيل الحكر ولا بالسمح البذر، قال: جدوى مغنية. ثم قال للرابعة: يا بنية، مالكم? قالت: الضأن؛ قال: وكيف تجدونها? قالت: شر مال، جوف لا يشبعن، وهيم لاينقعن، وصم لايسمعن، وأمر مغويتهن يتبعن؛ قال: فكيف تجدين زوجك? قالت: شر زوج، يكرم نفسه ويهين عرسه؛ قال: أشبه أمرأ بعض بزه .
وذكر الحسن بن عليل العنزي في خبر عدوان الذي رواه عن أبي عمرو بن العلاء أنه لا يصح من أبيات ذي الإصبع الضادية إلا الأبيات التي أنشدها وأن سائرها منحول.
خرف واهترأ وقال في ذلك شعرا
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل قال حدثني عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: عمر ذو الإصبع العدواني عمرا طويلا حتى خرف وأهتر وكان يفرق ماله، فعذله أصهاره ولاموه وأخذوا على يده؛ فقال في ذلك:
أهلكنا الليل والنهار مـعـا والدهر يعدو مصمما جذعا
صفحة : 276
فليس فيما أصابني عـجـب إن كنت شيبا أنكرت أو صلعا
وكنت إذ رونق الشبـاب بـه ماء شبابي تخالـه شـرعـا
والحي فيه الفتاة ترمـقـنـي حتى مضى شأو ذاك فانقشعا
صوت
إنكما صاحبـي لـم تـدعـا لومي ومهما أضق فلن تسعا
لم تعقلا جفوة علـي ولـم أشتم صديقا ولم أنل طبعـا
إلا بأن تكذبـا عـلـي ومـا أملك أن تكذبا وأن تـلـعـا لابن سريح في هذه الأبيات لحنان: أحدهما ثاني ثقيل بالسبابة والبنصر عن يحيى المكي، والآخر ثقيل أول عن الهشامي.
وإنني سوف أبتـدي بـنـدى ياصاحبي الغداة فآستـمـعـا
ثم سلا جارتي وكـنـتـهـا هل كنت فيمن أراب أو خدعا
أو دعتاني فلم أجب، ولـقـد تأمن من حليلتي الفـجـعـا
آبى فلا أقرب الـخـبـاء إذا ماربه بعد هـدأة هـجـعـا
ولا أروم الفـتـاة زورتـهـا إن نام عنها الحليل أو شسعـا
وذاك في حقبة خلت ومضت والدهر ياي على الفتى لمعـا
إن تزعما أنني كبرت فـلـم أفل ثقيلا نكـسـا ولاورعـا
إما ترى شكتي رمـيح أبـي سعد فقد أحمل السلاح معـا أبو سعد: ابنه، ورميح: عصا كانت لابنه يلعب بها مع الصبيان يطاعنهم بها كالرمح، فصار يتوكأ هو عليها ويقوده ابنه هذا بها:
السيف والرمح والكنـانة قـد أكملت فيها معابلا صنـعـا
والمهر صافي الأديم أصنعـه يطير عنه عفـاؤه قـزعـا
أقصر مـن قـيده وأردعـه حتى إذا السرب ريع أو فزعا
كان أمام الجـياد يقـدمـهـا يهز لدنا وجؤجـؤا تـلـعـا
فغامس الموت أو حمى ظعنا أو رد نهبا لأي ذاك سـعـى وصيته لابنه عند موته
قال أبو عمرو: ولما احتضر ذو الإصبع دعا ابنه سيدا فقال له: يا بني، إن أباك قد فني وهو حي وعاش حتى سشم العيش، وإني موصيك بما إن حفظته بلغت في قومك ما بلغته، فاحفظ عني: ألن جانبك لقومك يحبوك، وتواضع لهم يرفعوك، وابسط لهم وجهك يطيعوك، ولا تستأثر عليهم بشيء يسودوك؛ وأكرم صغارهم كما تكرم كبارهم يكرمك كبارهم ويكبر على مودتك صغارهم، واسمح بمالك، واحم حريمك، وأعزز جارك، وأعن من استعان بك، وأكرم ضيفك، وأسرع النهضة في الصريخ، فإن لك أجلا لا يعدوك، وصن وجهك عن مسألة أحد شيئا، فبذلك يتم سوددك؛ ثم أنشأ يقول:
أأسـيد إن مـالا مـلـك ت فسر به سيرا جمـيلا
آخ الكرام إن استـطـع ت إلى إخائهم جملا ذلولا
وأشرب بكـأسـهـم وإن شربوا به السم الثـمـيلا
أهن الـلـئام ولاتـكـن لإخائهم جـمـلا ذلـولا
إن الـكـرام إذا تـــوا خيهم وجدت لهم فضولا
ودع الذي يعد العـشـي رة أن يسيل ولن يسـيلا
ابـنـي إن الـمــال لا يبكي إذا فقد الـبـخـيلا صوت
أأسيد إن أزمعـت مـن بلد إلى بـلـد رحـيلا
فاحفظ وإن شحط المـزا ر أخـيك أو الـزمـيلا
واركب بنفسك إن همـم ت بها الحزونة والسهولا
وصل الكرام وكن لمـن ترجو مودتـه وصـولا الغناء للهذلي خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.
ودع التوانـي فـي الأمـو ر وكن لها سلسـا ذلـولا
وابسط يمينـك بـالـنـدى وامدد بها بـاعـا طـويلا
وابسط يديك بمـا مـلـك ت وشيد الحسـب الأثـيلا
واعـزم إذا حـاولــت أم را يفرج الهـم الـدخـيلا
وابذل لضـيفـك ذات رح لك مكرما حـتـى يزولا
واحلل علـى الأيفـاع لـل عافين واجتنب المـسـيلا
وإذا القـوم تـخـاطـرت يوما وارعدت الخـصـيلا
فاهصر كهصر الليث خض ب من فريسته الـتـلـيلا
وانزل إلى الـهـيجـا إذا أبطالها كرهوا الـنـزولا
صفحة : 277
وإذا دعيت إلى المه م فكن لفادحه حمولا استنشد معاوية قيسيا وزراد في عطائه: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال: جرى بين عبد الله بن الزبير وعتبة بن أبي سفيان لحاء بين يدي معاوية، فجعل ابن الزبير يعدل بكلامه عن عتبة ويعرض بمعاوية، حتى أطال وأكثر من ذلك ، فالتفت إليه معاوية متمثلا وقال:
ورام بعوران الكـلام كـأنـهـا نوافر صبح نفرتها الـمـراتـع
وقد يدحض المرء الموراب بالخنا وقد تدرك المرء الكريم المصانع ثم قال لابن الزبير: من يقول هذا? فقال: ذو الإصبع؛ فقال: أترويه? قال لا؛ فقال: من هاهنا يروي هذه الأبيات? فقام رجل من قيس فقال: أنا أرويها يا أمير المؤمنين؛ فقال: أنشدني؛ فأنشده حتى أتى على قوله:
وسـاع بـرجـلـيه لآخـر قـاعـد ومعـط كـريم ذو يسـار ومـانـع
وبان لأحـسـاب الـكـرام وهـادم وخافض مولاه سـفـاهـا ورافـع
ومغض على بعض الخطوب وقد بدت له عورة من ذي القرابة ضـاجـع
وطالب حوب باللـسـان وقـلـبـه سوى الحق لاتخفى عليه الـشـرائع فقال له معاوية: كم عطاءك? قال: سبعمائة؛ قال: اجعلوها ألفا، وقطع الكلام بين عبد الله وعتبة.
شعره في ابن عمه وقد عاداه
قال أبو عمرو: وكان لذي الإصبع ابن عم يعاديه فكان يتدسس إلى مكارهه ويمشي به إلى أعدائه ويولب عليه ويسعى بينه وبين عمه ويبغيه عندهم شرا؛ فقال فيه- وقد أنشدنا الأحفش هذا الأبيات ايضا عن ثعلب والأحول السكري:
ياصاحبي قفـا قـلـيلا وتخبرا عني لمـيسـا
عمن أصابت قـلـبـه في مرها غدا نكيسـا
ولـي ابـن عـم لايزا ل إلي منكره دسيسـا
دبت له فـأحـس بـع د البرء من سقم وسيسا
إمـا عـلانـــية وإم ا مخمرا أكلا وهيسـا
إني رأيت بنـي أبـي ك يحمجون إلي شوسا
حنقا علي ولـن تـرى لي فيهم أثرا بـئيسـا
أنحوا على حر الوجـو ه بحد مئشار ضروسا
لو كنت ماء لم تـكـن عذب المذاق ولامسوسا
ملحا بعيد القعـر قـد فلت حجارته الفؤوسـا
مناع ما مـلـكـت يدا ك وسائل لهم نحوسـا وأنشدنا الأخفش عن هؤلاء الرواة بعقب هذه الأبيات- وليس من شعر ذي الإصبع ولكنه معناه-:
لو كنت ماء كنت غير عـذب أو كنت سيفا كنت غير عضب
أو كنت طرفا كنت غير نـدب أو كنت لحما كنت لحم كلـب
لو كنت مخا كنت مـخـاريرا أو كنت بردا كنت زمهـريرا
أو كنت ريحا كانت الدبـورا سبب تفرق عدوان وتقاتلهم
قال أبو عمرو، وكان السبب في تفرق عدوان وقتال بعضهم بعضا حتى تفانوا: أن بني ناج بن يشكر بن عدوان أغاروا على بني عوف بن سعد بن ظرب بن عمرو بن عباد بن يشكر بن عدوان، ونذرت بهم بنو عوف فاققتلوا، فقتل بنو ناج ثمانية نفر، فيهم عمير بن مالك سيد بني عوف، وقتلت بنو عوف رجلا منعم يقال له سنان بن جابر، وتفرقوا على حرب. وكان الذي أصابوه من بني واثلة بن عمرو بن عباد وكان سيدا، فاصطلح سائر الناس على الديات أن يتعاطوها ورضوا بذلك، وأبى مرير بن جابر أن يقبل بسنان بن جابر دية ، واعتزل هو وبنو أبيه ومن أطاعهم ومن والاهم، وتبعه علىذلك كرب بن خالد أحد بني عبس بن ناج، فمشى إليهما ذو الإصبع وسألهما قبول الدية وقال: قد قتل منا ثمانية نفر فقبلنا الدية وقتل منكم رجل فاقبلوا ديته؛ فأبيا ذلك وأقاما الحرب، فكان ذلك مبدأ حرب بعضهم بعضا حتى تفانوا وتقطعوا. فقال ذو الإصبع في ذلك:
ويابؤس للأيام والدهر هالـكـا وصرف الليالي يختلفن كذلكـا
أبعد بني ناج وسعـيك فـيهـم فلاتتبعن عينيك ما كان هالكـا
إذا قلت معروفا لأصلح بينـهـم يقول مرير لاأحـاول ذلـكـا
فأضحوا كظهر العود جب سنامه تحوم عليه الطير أحدب باركـا
صفحة : 278
فإن تك عدوان بن عمرو تفرقت فقد غنيت دهرا ملوكا هنالكـا قصيدته النونية وقال أبو عمرو: وفي مرير بن جابر يقول ذو الأصبع - وهذه القصيدة هي التي منها الغناء المذكور -وأولها:
يامن لقلب شديد الـهـم مـحـزون أمـسـى تـذكـر ريا أم هـارون
أمسى تذكرها من بعد ما شحـطـت والدهر ذو غلظ حـينـا وذو لـين
فإن يكن حبها أمسى لنـا شـجـنـا وأصبح الولي منـهـا لايوايتـينـي
فقد غنينا وشمل الدار يجـمـعـنـا أطـيع ريا وريا لاتـعـاصـينـي
نرمي الوشاة فلا نخطي مقاتلـهـم بخالص من صفاء الود مـكـنـون
ولي ابن عم علي ما كان من خلـق مختلفـان فـأقـلـيه ويقـلـينـي
أزرى بنا أننا شالت تـعـامـتـنـا فخالني دونه بل خـلـتـه دونـي
لاه ابن عمك لاأفضلت من حـسـب شيئا ولاأنت دياني فـتـحـزونـي
ولاتقوت عـيالـي يوم مـسـغـبة ولابنفسك في العزاء تـكـفـينـي
فإن ترد عرض الدنيا بمنقـصـتـي فإن ذلك ممـا لـيس يشـجـينـي
ولاترى في غير الصبر منـقـصة وماسواه فـإن الـلـه يكـفـينـي
لولا أواصرقربى لست تحفـظـهـا ورهبة الله في مولـى يعـادينـي
إذا بريتك بـريا لا أنـجـبـار لـه إني رأيتك لاتـنـفـك تـبـرينـي
إن الذي تقبض الدنيا ويبـسـطـهـا إن كان أغناك عني سوف يغنينـي
الله يعلمكـم والـلـه يعـلـمـنـي والله يجزيكم عـنـي ويجـزينـي
ماذا علي وإن كنتـم ذوي رحـمـي ألا أحبكـم إن لـم تـحـبـونـي
لو تشربون دمي لم يرو شـاربـكـم ولادماؤكـم جـمـعـا تـروينـي
ولي ابن عم لو أن الناس في كبـدي لظل محتجزا بالنـبـل يرمـينـي
ياعمرو إن لا تدع شتمي ومنقصتـي ظاضربك حتى تقول الهامة اسقوني
كل امرىء صائر يوما لشـيمـتـه ظغن تخلق أخـلاقـا إلـى حـين
إني لعمرك مابابـي بـذي غـلـق عن الصديق ولاخيري بمـمـنـون
ولا لساني على الأدنى بمنـطـلـق بالمنكرات ولافتكـي بـمـأمـون
لايخرج القسر مني غير مغـضـبة ولاألين لمـن لايبـتـغـي لـينـي
وأنتم معـشـر زيد عـلـى مـائة فأجمعوا أمركم شتى فـكـيدونـي
فإن علمتم سبيل الرشد فانطـلـقـوا ظغن غبيتم طريق الرشد فأتـونـي
يارب ثوب حواشـيه كـأوسـطـه لاعيب في الثوب من حسن ومن لين
يوما شددت على فرغـاء فـاهـقة يوما من الدهر تارات تـمـارينـي
ماذا علي إذا تدعـونـنـي فـزعـا ألا أجـيبـكـم إذ لاتـجـيبـونـي
وكنت أعطيكم مالي وأمـنـحـكـم ودي على مثبت في الصدر مكنون
يارب حي شديد الشغب ذي لـجـب ذعرت من راهنمنهم ومـرهـون
رددت باطلهم في رأس قـائلـهـم حتى يظلوا خصـومـا ذا أفـانـين
ياعمرو لو كنت لي ألفيتينـي يسـرا سمحا كريما أجازي من يجازينـي قصيدته في رثاء قومه
قال ابو عمرو: وقالذو الإصبع يرثي قومه:
ولـــيس الـــمـــــرء قـــــــي شـــــــيء من الإبـــــرام والـــــــنـــــــقـــــــض
لإذا يفــــــعـــــــل شـــــــيئا خـــــــا له يقـــضـــي ومـــــا يقـــــــضـــــــي
جديد الـــعـــيش مــــــلـــــــبـــــــوس وقــــد يوشـــــــك أن ينـــــــضـــــــي
وقد مضى بعض هذه القصيدة متقدما في صدر هذه الأخبار، وتمامها:
وأمر اليوم أصلحه ولاتـــعـــرض لـــمـــا يمــــــضـــــــي
فبـــينـــا الـــمـــكـــرء فـــي عـــــــيش له مـــــن عـــــــيشة خـــــــفـــــــض
أتـــــــاه طـــــــبـــــــق يومــــــــا علـــــى مـــــــزلـــــــقة دحـــــــض
وهـــم كـــانـــوا فـــلا تـــــــكـــــــذب ذوي الـــقـــوة والــــــنـــــــهـــــــض
وهـــــم إن ولـــــــدوا أشـــــــبـــــــوا بســـر الـــحـــســـب الـــمـــحـــــــض
لهـــم كـــانــــــت أعـــــــالـــــــي الأر ض فـــالـــســـران فـــالـــــعـــــــرض
صفحة : 279
إلى ما حـازه الـحـزن فما أسهل للـحـمـض
إلى الكفرين من نـخـل ة فالداءة فـالـمـرض
لهـم كـان الــمـــا ء ولا المزجى ولاالبرص
فكان النـاس إذا هـمـوا بيسر خاشع مـغـضـي
تنـادوا ثـم ســاروا ب رئيس لهـم مـرضـي
فمن ساجلـهـم حـربـا ففي الخيبة والـخـفـش
وهم نالوا على الـشـنـآ ن والشحناء والبـغـض
معالي لم ينلـهـا الـنـا س في بسط ولاقـبـض شعر أمامة في رثاء قومها قال أبو عمرو: قالت أمامة بنت ذي الإصبع وكانت شاعرة ترثي قومها:
كم من فتى كانت له مـيعة أبلج مثل القمر الـزاهـر
قد مرت الخيل بحـافـاتـه كمر غيث لجب مـاطـر
قد لقيت فهم وعـدوانـهـا قتلا وهلكا آخر الـغـابـر
كانوا ملوكا سادة في الذرى دهرا لها الفخر على الفاخر
حتى تساقوا كأسهم بينـهـم بغيا فيا للشارب الخـاسـر
بادوا فمن يحلل بأوطانـهـم يحلل برسم مـقـفـر دائر شعره في الكبر
قال أبو عمرو: ولأمامة ابنته هذه يقول ذو الإصبع ورأته قد نهض فسقط وتوكأ على العصا فبكت فقال:
جزعت أمامة أن مشيت على العصا وتذكرت إذ نـحـن م الـفـتـيان
فلـقـبـل مـارام الإلـه بـكـيده إرما وهذا الـحـي مـن عـدوان
بعد الحكومة والفضيلة والـنـهـي طاف الزمـان عـلـيهـم بـأوان
وتفرقوا وتقطـعـت أشـلاؤهـم وتبددوا فـرقـا بـكـل مـكـان
جدب البلاد فأعقمت أرحـامـهـم والدهر غيرهم مـع الـحـدثـان
حتى أبادهـم عـلـى أخـراهـم صرعى بكل نـقـيرة ومـكـان
لاتعجبن أمـام مـن حـدث عـرا فالدهر غـيرنـا مـع الأزمـان
ذكر قيل مولى العبلات
ولاؤه وغناؤه
قال هارون بن محمد بن عبد الملك: أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان يحيى قيل عبدا للثريا ورضيا وأخواتهما بنات علي بن عبد الله بن الحارث بن أمية الأصغر بن عبد شمس مخهنو قال وحدثني حماد قال حدثني أبي قال حدثني ابن جناح قال حدثنا مقاحف بن ناصح مولى عبد الله بن عباس قال قال حدثني هشام بن المرية- وهي أمة، وهومولى بني مخزوك - قال: كان يحيى قيل عبدا لامرأة من العبلات، وله من الغناء: صوت
وأخرجها من بطن مكة بعد ما أصات المنادي للصلاة وأعتما
فمرت ببطن الليث تهوي كأنما تبادر بالإصباح نهبا مقسمـا والشعر لأبي دهبل الجمحي. وأول هذه القصيدة: ألا علق القلب المتيم كلثما
أبو دهبل الجمحي
وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني بحيى بن المقداد الزمعي قال حدثني عمي موسى بن يعقوب الزمعي قال أنشدني أبو دهبل الجمحي لنفسه:
ألا علق القلب المتيم كـلـثـمـا لجوجا ولم يلزم من الحب ملزمـا
خرجت بها من بطن مكة بعدمـا أصات المنادي للصلاة وأعتـمـا
فما نام من راع ولاارتد سـامـر من الحي حتى جاوزت بي يلملما
ومرت ببطن الليث تهوي كأنـهـا تبادر بالإدلاج نهبا مـقـسـمـا
أجازت على البزواء والليل كاسر جناحين بالبزواء وردا وأدهـمـا
فما ذر قرن الشمس حتى تبينـت بعليب نخلا مشرفا ومـخـيمـا
ومرت على أشطان دومة بالضحى فما خرزت للماء عينا ولافـمـا
وما شربت حتى ثنيت زمامـهـا وخفت عليها أن تحز وتكـلـمـا
فقلت لها قد تعـت غـير ذمـيمة وأصبح وادي البزك غيثا مديمـا قال فقلت له : ياعم ما كنت إلا على الريح فقال: يابن أخي إن عمك كان إذا هم فعل، وهي العجاجة، أما سمعت قول أخي ببني مرة:
إذا أقبلت قلت مشـحـونة أقلت لها الريح قلعا جفولا
صفحة : 280
وإن أدبرت قلـت مـذعـورة من الرمد تتبع هيقـا ذمـولا
وإن أغرضت خال فيها البصي رمـالايكـلـفـه أن يفـيلا
يدا سرحا ماثرا ضـبـعـهـا تسوم وتقدم رجـلا زجـولا
فمرت على كـشـب غـدوة ومرت فـويق أريك أصـيلا
تخبـط بـالـلـيل حـزانـه كخبط القوي العزيز الذلـيلا أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني ابن أصبغ السملي قال: جاء إنسان يغني إلى عياش المنقري بالعقيق فجعل يغنيه قول أبي دهبل: )ألا علق القلب المتيم كلثما( وجعل يعيده فلما أكثر قال له عياش: كم تنذر بالعجوز عافاك الله اسم أمي كلثم، قال: وتسمع العجوز، فقالت: لا والله ما كان بيني وبينه شيء. قال: ومن غنائه:
أزرى بنا أننا شالت نعامتنا فخالني دونه بل خلته دوني
فإن تصبك من الأيام جائحة لانبك منك على دنيا ولادين وأول هذه الأبيات فيما أنشدناه علي بن سليمان الأخفش عن ثعلب
صوت من المائة المختارة
لي ابن عم على ما كان من خلق مختلفان فاقـلـيه ويقـلـينـي
لاه ابن عمك لاأفضلت في حسب عني ولاأنت دياني فتخـزونـي غنى هذين البيتين الهذلي ثاني ثقيل بالوسطى
وقد عجبت ومافي الدهر من عجب يد تشج وأخرى منك تـأسـونـي
صوت من المائة المختارة
ارفع ضعيفك لايحر بك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نمـا
يجزيك أو يثنى عليك وإن مـن أثنى عليك بما فعلت فقد جزى عروضه من الكامل . الشعر لغريض اليهودي وهو السموءل بن عادياء، وقيل إنه لابنه صعية بن غريض، وقيل إنه لزيد بن عمرو بن نفيل، وقيل إنه لورقة بن نوفل، وقيل إنه لزهير بن جناب، وقيل إنه لعامر بن المجنون الجرمي الذي يقال له: مدرج الريح، والصحيح أنه لغريض أو لابنه.
خبر غريض اليهودي
نسبه وأصل قومه
وغريض هذا من اليهود من ولد الكاهن بن هارون بن عمران صلى الله عليه وسلم، وكان موسى عليه الصلاة والسلام وجه جيشا إلى العماليق وكانوا قد طغوا ولغت غاراتهم إلى الشام وأمرهم إن ظفروا بهم أن يقتلوهم أجمعين، فظفروا بهم فقتلوهم أجمعين سوى ابن لملكهم كان غلاما جميلا فرحموه واستبقوه، وقدموا الشأم بعد وفاة موسى عليه السلام فأخبروا بني اسرائيل بما فعلوه؛ فقالوا: أنتم عصاة لاتدخلون الشأم علينا أبدا، فأخرجوهم عنها. فقال بعضهم لبعض: مالنا بلد غير البلد الذي ظفرنا به وقتلنا أهله؛ فرجعوا إلى يثرب فأقاموا بها وذلك قبل ورود الأوس والخزرج لإياها عند وقوع سيل العرم باليمن، فمن هؤلاء اليهود قريظة والنضير وبنو قنيقاع وغيرهم ولم أجد لهم نسبا فأذمكره لأنهم ليسوا من العرب فتدون العرب أنسابهم إنما حلفاؤهم، وقد شرحت أخبارهم ومايغنى به من أشعارهم في موضع آخر من هذا الكتاب.
والغناء في اللحن المختار لابن صاحب الوضوء واسمه محمد وكنيته أبو عبد الله، وكان أبوه على الميضأة بالمدينة فعرف بذلك، وهو يسير الصناعة ليس ممن خدم الخلفاء ولاشهر عندهم شهرة غيره. وهذا الغناء ماخوري بالبنصر وفيه ليونس ثاني ثقيل بالبنصر نسب له شعر هو لورقة بن نوفل
أخبرني محمد بن العباس اليزيد قال حدثنا الرياشي وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن الأصمعيعن ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة قال:
ارفع ضعيفك لايحر بك ضعفه لغـريض الــيهـــودي تمثلت عائشة أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعر نزل بمعناه الوحي: وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن عيسى قال حدثنا مؤمل بن عبد الرحمن الثقفي قال حدثنا سهل بن المغيرة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أتمثل بهذين البيتين:
ارفع ضعيفك لايحر بك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نمـا
يجزيك أو يثني عليك وإن مـن أثنى عليك بما فعلت فقد جزى
صفحة : 281
فقال صلى الله عليه وسلم ردي على قول اليهودي قاتله الله? لقد أتاني جبريل برسالة من ربي: أيما رجل صنع إلى أخيه صنيعة فلم يجد له جزاء إلا الثناء عليه والدعاء له فقد كافأه قال أبو زيد: وقد حدثني أبو عثمان محمد بن يحيى أن هذا الشعر لورقة بن نوفل، وقد ذكر الزبير بن بكارأيضا أن هذا الشرعر لورقة بن نوفل وذكر هذين البيتين في قصيدة أولها:
رحلت قتيلة عيرها قبل الصـحـى وأخال أن شحطت بجارتك النـوى
أو كلما رحـلـت قـتـيلة غـدوة وغدت مفارقة لأرضهـم بـكـى
ولقد ركبن على السفين ملـجـجـا أذر الصديق وأنتحي دار الـعـدا
ولقد دخلت البيت يخشـى أهـلـه بعد الهدوء وبعدما سقـط الـنـدى
فوجـدت فـيه حـرة قـد زينـت بالحلي تحسبه بها جمر الغـضـا
فنعمت بالا إذ أتـيت فـراشـهـا وسقطت منها حين جئت على هوى
فلتلك لذات الشبـاب قـضـيتـهـا عني فسائل بعضهم ماذا قـضـى
فرج الرباب فليس يؤدي فـرجـه لاحاجة قضـى ولامـاء بـغـى
فارفع ضعيفك لايحر بك ضعـفـه يوما فتدركه العواقب قـد نـمـا
يجزيك أو يثني عـلـيك وإن مـن أثنى عليك بما فعلت فقـد جـزى
?ذكر ورقة بن نوفل ونسبه
نسبه وهو جاهلي اعتزل عبادة الأوثان
هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي بن قصي، وأمه هند بنت أبي كثير بن عبد بن قصي. وهو أحد من اعتزل عبادة الأوثان في الجاهلية وطلب الدين وقرأ الكتب وامتنع من أكل ذبائح الأوثان.
نسبة مافي هذا الشعر من الغناء
غير ارفع ضعيفك صوت
ولقد طرقت البيت يخشى أهله بعد الهدوء وبعدما سقط الندى
فوجدت فيه حرة قـد زينـت بالحلي تحسبه بها جمر الغضا الشعر لورقة بن نوفل. والغناء لابن محرز من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق.
أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الله بن معاذ عن معمر عن الزهري عن عروة بن الزبير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وزرقة بن نوفل كما بلغنا فقال: قد رأيته في المنام كان عليه ثيابا بيضا فقد أظن أن بو كان من أهل النار لم أر عليه البياض قال الزبير وحدثنا عبد الله بن معاذ عن معمر عن الزهري عن عائشة: أن خديجة بنت خةيل انطلقت بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزي وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبارني فيكتب بالعبرانية من الانجيل ما شاء أن يكتب، وكان شيخا كبيرا قد عمي، فقالت خديجة: أي ابن عم، اسمع من ابن أخيك؛ قال ورقة: يابن أخي ماذا ترى? فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر مارأى فقال ورقة: ههذ الناموس الذي أنزله الله تبارك وتعالى على موسى؛ ياليتني فيها جذع، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مخرجي هم قال ورقة: نعم، لم يأت رجل قط بمثل كاجئت به إلا عودي، وإن يدركنب يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا، ثم لم ينشب ورقة أن توفي.
رأى بلالا يعذب لإسلامه فقال شعرا قال الزبير حدثني عثمان بن الضحاك بن عثمان بن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال عروة: كان بلاب لجارية من بين جمح بن عمرو، وكان يعذبونه برمضاء مكة، يلصقون ظهره بالرمضاء ليشرك بالله؛ فيقول: احد أحد، فيمر عليه ورقة بن نوفل وهو على ذلك يقول: أحد أحد، فيقول ورقة بن نوفل: أحد أحد والله يابلاب? والله لئن قتلتموه لاتخذته حنانا كأنه يقول: لأتمسحن به. وقال ورقة بن نوفل في ذلك:
لقد نصحت لأقوام وقلت لـهـم أنا النذير فلا يغـرركـم أحـد
لاتعبدن إلها غـير خـالـقـكـم فإن دعوكم فقولوا بينـنـا حـدد
سبحان ذي العرش سبحانا نعوذ به وقبل قد سبح الجودي والجـمـد
مسخر كل ماتحت السمـاء لـه لاينبغي أن يناوي ملـكـه أحـد
لاشيءمما ترى تبقى بشاشـتـه يبقى الأله ويودي المال والولـد
صفحة : 282
لم تغن عن هرمز يوما خزائنـه والخلد قد حاولت عاد فما خلدوا
ولاسليمان إذ دان الشعـوب لـه والجن والإنس تجري بينها البرد مدح النبي صلى الله عليه وسلم له
والنهي عن سبه:
قال الزبير حدثني عمي قال حدثنا الضحاك بن عثمان بن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأخي ورقة بن نوفل أو لابن أخيه: شعرت أني رأيت لورقة جنة ، أو جنتين . بشك هشام.
قال عروة: ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سب ورقة.
وقال الزبير وحدثني عمي قال حدثني الضحاك عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه: أن خديجة كانت تأتي ورقة بما يخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيه، فيقول ورقة: لئن كان مايقول حقا إنه ليأتيه الناموس الأكبر ناموس عيسى ابن مريم الذي لايجيزه أهل الكتاب إلا بثمن، ولئن نطق وأنا حي لأبلين فيه الله بلاء حسنا.
خبر زيد بن عمرو ونسبه
نسبه من قبل أبويه
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزي بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب. وأمه جيداء بن جابر بن أبي حبيب بن فهم. وكانت جيداء عند نفيل بن عبد العزي فولدت له الخطاب أبا عمر بن الخطاب و عبدنهم، ثم مات عنها نفيل فتزوجها ابنه عمرو فولدت له زيدا، وكان هذا نكاحا ينكحه أهل الجاهلية.
اعتزل عبادة الأوثان وكان يعيب قريشا: وكان أحد من اعتزل عبادة الأوثان
وامتنع من أكل ذبائحهم، وكان يقول: يامعشر قريش، أيرسل الله قطر السماء وينبت بقل الأرض ويخلق السائمة فترعى فيه وتذبحوها لغيره ? والله ماأعلم على ظهر الأرض أحدا على دين إبراهيم غيري.
أخرجه عن مكة خطاب بن نفيل وقريش لمخالفته دينهم: أخبرنا الطوسي قالحدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب بن عبد الله ومحمد بن الضحاك عن أبيه، قالا: كان الخطاب بن نفيل قد أخرج زيد بن عمرو من مكة وجماعة من قريش ومنعوه أن يدخلها حين فارق أهل الأوثان، وكان أشدهم عليه الخطاب بن نفيل. وكان زيد بن عمرو إذا خلص إلى البيت استقبله ثم قال: لبيك حقا حقا؛ تعبدا ورقا؛ البر أرجو لا الخال، وهل مهجر كمن قال ثم يقول :
عدت بما عاذ به إبراهـيم مستقبل الكعبة وهو قائم
يقول أنفي لك عان راغم مهما تجشمني فإني جاشم ثم يسجد. قال محمد بن الضحاك عن أبيه: و هو الذي يقول:
لاهم إني حرم لاحـلـه وإن داري أوسط المحلة عند الصفا ليست بها مضلة شعره في ترك عبادة الأوثان
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت: قال زيد بن عمرو بن نفيل:
عزلت الجن والجنان عـنـي كذلك يفعل الجلد الصـبـور
فلا العزى أدين ولاأبنيتـهـا ولاصنمي بني غـنـم أزور
ولاهـبـلا أدين وكـان ربـا لنا في الدهر إذ حلمي صغير
أربـا واحـدا أم ألـف رب أدين إذا تقسـمـت الأمـور
ألم تعلم بـأن الـلـه أفـنـى رجالا كان شأنهم الفـجـور
وأبقى آخـرين بـبـر قـوم فيربو منهم الطفل الصغـير
وبينا المرء يعثر ثـاب يومـا كما يتروح الغصن النضـير فقال ورقة بن نوفل بزيدج بن عمرو بن نفيل:
رشدت وأنعمت ابن عمرو وإنما تجنبت تنورا من النار حامـيا
بدينك ربا ليس رب كمـثـلـه وتركك جنان الجبال كما هـيا
أقول إذا مازرت أرضا مخوفة حنانيك لاتظهر على الأعـاديا
حنانيك إن الجن كانت رجاءهم وأنت إلهي ربـنـا ورجـائيا
أدين لرب يستـجـيب ولاأرى أدين لمن لايسمع الدهر داعـيا
أقول إذا صليت في كل بـيعة تباركت قد أكثرت باسمك داعيا يقول: خلقت خلقا كثيرا يدعون ياسمك
صفحة : 283
قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله قال حدثني الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة قال سمعت من أرضي يحدث: امتناعه عن ذبائح قريش
وقصته مع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:
أن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: الشاة خلقها الله وأنزل من السماء ماء وأنبت لها من الأرض نباتا ثم تذبحونها على غير اسم الله إنكارا لذلك وإعظاما له.
قال الزبي: وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أنه سمع عبد الله بن عمر يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح، وكان قبل أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدم إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سفرة فيها لحم، فأبى أن يأكل، وقال: إني لاآكل إلا ماذكر اسم الله عليه.
اجتمع بالشأم مع يهودي ونصراني فسألهما عن الدين واعتنق دين ابراهيم: قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد على موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله قال - قال موسى: لاأراه إلا حدثه عن عبد الله بن عمر-: إن زيد بن عمرو خرج إلى الشأم يسألأ عن الدين ويتبعه، فلقي عالما فسأله اليهود عن دينهم فقال: لعلي أدين بدينكم فأخبرني بدينكم؛ فقال اليهودي: إنك لاتكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله؛ فقال زيد بن عمرو: لاأفر إلا من غضب الله وماأحمل من غضب الله شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلني على دين ليس فيه هذا? قال: ماأعلمه إلا أن يكون حنيفا؛ قال: وماالحنيف? قال: دين إبراهيم؛ فخرج من عنده وتركه. فأتى عالما من علماء النصارى فقال له نحوا مما قال لليهودي، فقال له النصراني: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله؛ فقال: إني لاأمل من لعنة الله ولا من غضبه شيئا أبدا وأنا أستطيع، فهل تدلين على دين ليس فيه هذا? فقال له نحوا مما قال اليهودي: لاأعلمه إلا أن يكون حنيفا؛ فخرج من عندهما وقد رضي بما أخبراه واتفقا عليه من دين إبراهيم، فلما برز رفع يديه وقال؛ اللهم إني على دين إبراهيم بلغته البعثة فخرج من الشام فقتله أهل ميفعة: قال الزبير وحدثني مصعب بن عبد الله عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد بن عمرو قال: سألأت أنا وعمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيد فقال: يأتي يوم القيامة أمة واحدة وأنشد محمد بن الضحاك عن الحزامي عن أبيه لزيد بن عمرو:
أسلمت وجهي لمن أسلـمـت له المزن تحمل عذبـا زلالا
وأسلمت وجهي لمن أسلمـت له الأرض تحمل صخرا ثقالا
دحاها فلما استـوت شـدهـا سواء وأرسى عليها الجبـالا
زهير بن جناب وشعره في الكبر
وأما زهير بن جناب الكلبي فإنه أحد المعمرين، يقال: إنه عمر مائة وخمسين سنة وهو-فيما ذكر-أحد الذين شربوا الخمر في الجاهلية حتى قتلتهم؛ وكان قد بلغ من السن الغاية التي ذكرناها، فقال ذات يوم: إن الحي ظاعن، فقال: من هذا الذي يخالفني منذ اليوم قيل: ابن أخيك عبد اللع بن عليم؛ فقال: أو هاهنا أحد ينهاه عن ذلك قالوا: لا، فغضب وقال: لاأراني قد خولفت، ثم دعا بالخمر فشربها صرفا بغير مزاج وعلى غير طعام حتى قتلته. وهو الذي يقول في ذم لكبر وطول الحياة:
الموت خير للـفـتـى فليهلكن وبـه بـقـية
من أن يرى الشيخ البجا ل إذ تهادى بالعشـية
ابني إن أهلـك فـقـد أورثتكم مجدا بـنـية
وتركتكم أبـنـاء سـا دات زنـادكـم ورية
بل كل مانال الفـتـى قد نلته إلا الـتـحـية
مدرج الريح وسبب التسمية
وأما مدرج الريح فاسمه عامر بن المجنون الجرمي، وإنما سمي مدرج الريح بشعر قاله في امرأة كان يزعم أنه يهواها من الجن وأنها تسكن الهواء وتتراءى له، وكان محمقا؛ وشعره هذا: صوت
لابنة الجني في الجو طـل دارس الأيات عاف كالخلل
صفحة : 284
درسته الريح من بين صبا وجنوب درجت حينا وطل الغناء فيه لحنين ثقل أول بالوسطى عن الهشامي وابن المكي، وذكر حبش أنه لمعبد، وذكر عمرو بانة أن لحن حنين من خفيف الثقل الأول بالبنصر. وأخبار عامر بن المجنون تذكر في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
سعية بن غريض وشعره وهو يحتضر
وأما سعية بن غريض فقد كان ذكر خبر جده السموءل بن غريض بن عاديا في موضع غير هذا. وكان سعية بن غريض شاعرا، وهو الذي يقول لما حضرته الوفاء يرثي نفسه: صوت
ياليت شعري حين يذكر صالحي ماذا تؤنبنـي بـه أنـواحـي
أيقلن لاتبعـد، فـري كـريهة فرجتها ببـشـارة وسـمـاح
وإذا دعيت لصعبة سهلـتـهـا أدعى بأفلح تـارية ونـجـاح -غناه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمر -وأسلم سعية وعمر عمرا طويلا، ويقال: إنه مات في آخر خلافة معاوية سعية بن غريض ومعاوية بن أبي سفيان
فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية عن الهيثم بن عدي قال: حج معاوية حجتين في خلافته، وكانت له ثلاثون بغلة يحج عليه نساؤه وجواريه. قال: فحج في إحداهما فرأى شيخا يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا? قالوا: سعية بن غريض حج معاوية حجتين في خلافته، وكانت له ثلاثون بغلة يحج عليها نساؤه وجواريه. قال: فحج في إحداهما فرأى شيخا يصلي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان، فقال: من هذا? قالوا: سعية بن غري، وكان من اليهود، فأرسل إليه يدعوه، فأتاه رسوله فقال: أجب أمير المؤمنين؛ قال: أوليس قد مات أمير المؤمنين قيل: فأجب معاوية؛ فأتاه رسوله فقال: أجب أمير المؤمنين؛ قال: أو ليس قد مات أمي رالمؤمنين قيل: فأجب معاوية؛ فأتاه فيم يسلم عليه الخلافة؛ فقال له معاوية: مافعلت أرضك التي بتيماء? قال: يكسى منها العري ويرد فضلها على الجار؛ قال: أفتبيعها? قال: نعم؛ قال: بكم? قال: بستين ألف دينار، ولولا خلة أصابت الحي لم أبعها؛ قال: لقد أغليت قال: أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم دينار ثم لم تبل قال: أجل، وإذا بخلت بأرضك فأنشدني شعر أبيك يرثي به نفسه؛ فقال: قال أبي:
ياليت شعري حين أندب هالكا ماذا تؤنبنـي بـه أنـواحـي
أيقلن لاتبعد، فـرب كـريهة فرجتها بشجـاعة وسـمـاح
ولقد أخذت الحق غير مخاصم ولقد رددت الحق غير ملاحي
وإذا دعيت لصعبة سهلتـهـا أدعى بأفلح مـرة ونـجـاح فقال: أنا كنت بهذا الشهر أولى من أبيك؛ قال: كذبت ولؤمت؛ قال: أما كذبت فنعم، وأما لؤمت فلم، قال: لأنك كنت ميت الحق في الجاهلية وميته في الأسلام، أما في الجاهلية فقاتلت النبي صلى الله عليه وسلم والوحي حتى جعل الله عز وجل كيدك المردود، وأما في الإسلام فمنعت ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلافة، وماأنت وهي وأنت طليق ابن طليق فقال معاوية: قد خرف الشيخ فأقيموه، فأخذ بيده فأقيم.
وسعية هذا هو الذي يقول: صوت
يادار سعدى بأقصى تلعة النـعـم حييت دارا على الإقواء والقـدم
ومابجزعك إلا الوحش سـاكـنة وهامد من رماد القدر والحمـم
عجنا فما كلمتنا الدار إذ سـئلـت ومابها عن جواب خلت من صمم الشعر لسعية بن غريض، والغناء لابن محرز ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر.
أخبار ابن صاحب الوضوء ونسبه
نسبه وولاؤه وسبب تسمية أيه
اسمه محمد بن عبد الله، ويكنى أبا عبد الله، مولى بني أمية، وهو من أهل المدينة؛ وكان أبوه على ميضأة المدينة فسمي صاحب الوضوء.
وهو قليل الصنعة لم يذكر له إسحاق إلا صوتين كلاهما خفيف الثقيل الثاني المعروف باالماخوري ولاذكر له غير إسحاق سواهما إلا ماهو مرسوم في الكتاب الباطل المنسوب إلى إسحاق فإن له فيه شيئا لاأصل له، وفي كتاب حبش الصيني . وهو رجل لايحصل مايقوله ويرويه.
مدح يونس الكاتب غناءه
صفحة : 285
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بت إسحاق عن أبيه عن جده عن سياط عن يونس الكاتب قال: غني ابن صاحب الوضوء في شعر النابغة:
خطاطيف حجن في حبال متينة تمد بـهـا إيد إلـيك نـوازع وفي شعر بعض اليهود:
إرفع ضعيفك لايحر بك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نمـا فأجاد فيهما ماشاء وأحسن غاية الإحسان؛ فقيل له: ألا تزيد وتصنع شيئا آخر ? فقال: لا والله حتى أرى غيري قد صنع مثل ماصنعت وأزيد، وإلا فحسبي هذا.
نقل له صوت فغناه في المحراب
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس الشيعي، قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي-قال ابن عمار في خبره: وكان يسمى المبارك - قال حدثنا أبو مسلمة المصبحي قال: قدم علينا أسود من أهل الكوفة فغنى:
ارفع ضعيفك لايحر بك ضعفه يوما فتدركه العواقب قد نمـا قال: فممرت بعبد الله بن عامر الأسلمي، وكان يؤمنا وهو قائم يصلي الظهر، فقلت له : قدم علينا أسود من الكوفة يغني كذا وكذا فأجاده ؛ فأشار إلي بيده أن اجلس؛ فلما قضى صلاته قال: أخذته عنه? قلت: نعم، قال: فأمره علي، ففعلت؛ قال: فلما كان بالليل صلى بنا فأداه في المجراب
صوت من المائة المختارة
التي رواها علي بن يحيى
ياليلتـي تـزداد نـكـرا من حب من أحببت بكرا
حوراء إن نظرت إلـي ك سقتك بالعينين خمرا الشعر لبشار، والغناء في اللحن والغناء ليزيد حوراء رمل بالبنصر عن عمرو ويحيى المكي وإسحاق. وفيه لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وإبراهيم الموصلي.
أخبار بشار بن برد ونسبه
نسبه وكنيته وطبقته في الشعراء
هو، فيما ذكره الحسن بن علي عن محمد بن القاسم بن مهروية عن غيلان الشعوبي، بشار بن برد بن يرجوخ بن أزدكرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز بن كرديه بن ماهفيدان بن دادان بن بهمن بن بن أزدكرد بن حسيس بن مهران بن خسروان بن أخشين بن شهر داد بن نبوذ بن ماخرشيدا نماذ بن شهريار بن بنداد سيحان بن مكر بن أدريوس بن يستاسب بن لهراسف . قال: وكان يرجوخ من طخارستان من سبى المهلب بن أبي صفرة. ويكنى بشار أبا معاذ. ومحله في الشعر وتقدمه طبقات المحدثين فيه بإجماع الرواة ورياسته عليهم من غير اختلاف في ذلك يغني عن وصفه وإطالة ذكر محله. وهو من مخضرمي شعراء الدولتين العباسية والأموية، قد شهر فيهما ومدح وهجا وأخذ سني الجوائز مع الشعراء.
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال قال حميد بن سعيد.
كان بشار من شعب أدريوس بن يستاسب الملك بن لهراسف الملك. قال: وهو بشار بن برد بن بهمن بن أزدكرد بن شروستان بن بهمن بن دارا بن فيروز. قال: وكان يكنى أبا معاذ.
ولاؤه لبني عقيل: وأخبرني يحيى بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي وغيرهما عن الحسن بن عليل العنزي عن خالد بن يزيد بن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه قال: كان بشار بن برد بن يرجوخ وأبوه برد من قن خيرة القشيرية امرأة المهلب بن أبي صفرة، وكان مقيما لها في ضيعتها بالبصرة المعروفة بخيرتان مع عبيد لها وإماء، فوهبت برادا بعد أن زوجته لامرأة من بني عقيل كانت متصلة بها، فولدت له امرأته وهو في ملكها بشارا فأعتقته العقيلية وأخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان برد أبو بشار مولى أم الظباء العقيلية السدوسية، فادعى بشار أنه مولى بني عقيل لنزوله فيهم.
وأخبرني امد بن العباس العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثني رجل من ولد بشار يقال له حمدان كان قصارا بالبصرة، قال: ولاؤنا لبني عقيل؛ فقلت لأيهم? فقال: لبني ربيعة بن عقيل وأخبرني وكيع قال حدثني سليمان المدني قال قال أحمد بن معاوية الباهلي: كان بشار وأمه لرجل من الأزد، فتزوج امراة من بني عقيل، فساق إليها بشارا وأمه في صداقها، وكان بشار ولد مكفوفا فأعتقته العقيلية.
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي قال حدثني محمد بن الحجاج قال:
صفحة : 286
باعت أم بشار بشارا على أم الظباء السدوسية بدينارين فأعتقته. وأم الظباء امراة أوس بن ثعلبة أحد بن تيم اللات بن ثعلبة، وهو صاحب قصر أوس بالبصرة؛ وكان أوس أحد فرسان بكر بن وائل بن بخراسان كان أبوه طسانا
وقد هجاه بذلك حماد عجرد: أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن زيد العجلي قال أخبرني بدر بن مزاحم: أن بردا أبا بشار كان طيانا يضرب اللبن، وأراني أبي بيتين لنا فقال لي: لبن هذين البيتين من ضرب برد أبي بشار. فسمع هذه الحكاية حماد عجرد فهجاه فقال:
يابن برد إخسأ إليك فمثـل ال كلب في الناس أنت لا الإنسان
بل لعمري لأنت شر من الكل ب وأولى منه بكـل هـوان
ولريح الخنزير أهون من ري حك يابن الطيان ذي التـبـان أنشد للمهدي شعرا في أنه عجمي
بحضور أبي دلامة:
أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن أبي الصلت البصري عن أبي عدنان قال حدثني يحيى بن الجون العبدي رواية بشار قال: قال: لما دخلت على المهدي قال لي: فيمن تعتذ يابشار? فقلت: اما اللسان والزي فعربيان، وأما الأصل فعجمي، كما قلت في شعري ياأمير المؤمنين:
ونبئت قـومـا بـهـم جـنة يقولون من ذا وكنت العـلـم
ألا أيها السـائلـي جـاهـدا ليعرفني أنا أنـف الـكـرم
نمت في الكرام بني عـامـر فروعي وأصلي قريش العجم
فإني لأغني مقـام الـفـتـى وأصبي الفتاة فما تعتـصـم قال: وكان أبو دلامة حاضرا فقال: كلا لوجهك أقبح من ذلك ووجهي مع وجهك؛ فقلت: كلا والله مارأيت رجلا أصدق على نفسه وأكذب على جليسه منك، والله إني لطويل القامة عظيم الهامة تام الألواح أسحج الخدين، ولرب مسترخي المذورين للعين فيه مراد قد جلس من الفتاة حجرة وجلست منها حيث أريد، فأنت مثلي يامرضعان قال : فسكت عني، ثم قال لي المهدي: فمن أي العجم أصلك? فقلت: من أكثرها في الفرسان، وأشدها على الأقران، أهل طخازستان؛ فقال بعض القوم: أولئك الصغد؛ فقلت: لا، الصغد تجار؛ فقال بعض القوم: اولئك الصغد؛ فقلت: لا الصغد تجار؛ فلم يردد ذلك المهدي كان كثير التلون في ولائه
للعرب مرة وللعجم أخرى:
وكان بشار كثير التلون في ولائه، شديد الشغب والتعصب للعجم، مرة يقول يفتخر بولائه في قيس:
أمنت مضرة الفحشـاء أنـى أرى قيسا تضر ولاتـضـار
كأن الناس حين تغيب عنـهـم نبات الأرض أخطأه القطـار
وقد كانت بتذمر خـيل قـيس فكان لتدمـر فـيهـا دمـار
بحي من بني عـيلان شـوس يسير الموت حيث يقال ساروا
ومانلـقـاهـم إلا صـدرنـا بري منـهـم وهـم حـرار ورمة يتبرأ من ولاء العرب فيقول
أصبحت مولى ذي الجلال وبعضهم مولى العريب فخذ بفضلك فافخر
مولاك أكرم من تمـيم كـلـهـا أهل الفعال ومن قريش المشعـر
فارجع إلى مولاك غير مـدافـع سبحان مولاك الأجـل الأكـبـر وقال يفتخر بولاء بني عقيل:
إنني من بني عقيل بن كـعـب موضع السيف من طلى الأعناق كان يلقب بالمرعث وسبب ذلك
ويكنى أبا بشار أبا معاذ، ويلقب بالمرعث.
أخبرني عمي ويحيى بن علي قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني محم بن سلام قال: بشار المرعث هو بشار بن برد، وإما سمي المرعث بقوله:
قال ريم مـرعــث ساحر الطرف والنظر
لست والـلـه نـائلـي قلت أو يغلب القـدر
أنت إن رمت وصلنـا فانج، هل تدرك القمر قال أبو أيوب: وقال لنا ابن سلام مرة أخرى: إنما سمي بشار المرعث، لأنهه كان لقميصه جيبان: جيب عن يمينه وجيب عن شماله، فإذا أراد لبسه ضمه عليه من غير أن يدخل رأسه فيه، وإذا أراد نزعه حل أزاره وخرج منه، فشبهت تلك الجيوب بالرعاث لاسترسالها وتدليلها، وسمي من أجلها المرعث.
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثني أبو حانم قال قال لي أبو عبيدة:
صفحة : 287
لقب بشار بالمرعث لأنه كان في أذنه وهو صغير رعاث. والرعاث: القرطة، واحدتها رعثة وجمعها رعاث، ورعثات . ورعثات الديك: اللحم المتدلي تحت حنكه؛ قال الشاعر:
سقيت أب المصرع إذ أتأني وذو الرعثات منتصب يصيح
شرابا يهرب الئبـان مـنـه ويلثغ حين يشربه الفصـيح قال: والرعث: الاسترسال والتساقط. فكان اسم القرطة اشتق منه.
كان أشد الناس تبرما بالناس
أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثنا محمد بن بدر العجلي قال: سمعت الأصمعي يذكر أن بشارا كان من أشد الناس تبرما بالناس، وكان يقول: الحمد لله الذي دهب ببصري؛ فقيل له: ولم يا أبا معاذ? قال: لئلا ارى من أبغض. وكان يلبس قميصا له لبنتان، فإذا أراد أن ينزعه نزعه من أسفله، فبذلك سمي المرعث صفاته
أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا قعنب بن محز عن الأصمعي قال: كان بشار ضخما، عظيم الخلق والوجه، مجدورا، طويلا، جاحظ المقلتين قد تغشاهما لحم أحمر، فكان أقبح الناس عمى وأفظعه منظرا وكان إذا أراد أن ينشد صفق بيديه وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ثم ينشد فيأتي بالعجب ولد أعمى وهجى بذلك وشعره في العمى أخبرنا يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني عن محمد بن سلام قال: ولد بشار أعمى، وهو الأكمه. وقال في تصداق ذلك أبو هشام الباهلي يهجوه:
وعبدي فقا عينيك في الرحم أيره فجشت ولم تعلم لعينيك فـاقـيا
أأمك يابشار كانـت عـفـيفة? علي إذا مشي إلى البيت حافـيا قال: ولم يزل بشار منذ قال فيه هذين البيتين منكرسا: أخبرنا هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قل: ولد بشار أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وكان يشبه الأشياء بعضها ببعض في شعره فيأتي بما لايقدر البصراء أن يأتوا بمثله؛ فقيل له يوما وقد أنشد قوله:
كأن مثار النقع فوق رؤوسنا وأسافنا ليل تهاوى كواكبـه ماقال أحد أحسن من هذا التشبيه، فمن أين لك هذا ولم تر الدنيا قط ولاشيئا فيها? فقال: إن عدم النظر يقوي ذكاء القلب ويقطع عنه الشغل بما ينظر إليه من الأشياء فيتوفر حسه وتذكو قريحته؛ ثم أنشدهم قوله:
عميت جنينا والذكاء من العمـى فجئت عجيب الظن للعلم موثلا
وغاض ضياء العين للعلم رافـدا لقلب إذا ماضيع الناس حصـلا
وشعر كنور الروض لاءمت بينه بقول إذا ما أحزن الشعر أسهلا أخبرنا هاشم قال حدثنا العنزي عن قعنب بن وحرز عن أبي عبد الله الشرادني قال: كان أبو بشار أعمى طويلا ضخما آدم مجدورا.
وأخبرني يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني قال قال الحمراني قالت لي عمتي: زرت قرابة لي في بني عقيل فإذا أنا بشيخ أعمى ضخم ينشد:
من المفتون بشـار بـن بـرد إلى شيبان كهلـهـم ومـرد
بأن فتاتكم سـلـبـت فـؤادي فنصف عندها والنصف عندي فسألت عنه فقيل لي: هذا بشار كان يقول أزري بشعر الأذان
أخبرني محمد بن يحيى الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو زيد قال سمعت أبا محمد التوزي يقول: قال بشار: أزري بشعري الأذان. يقول: إنه إسلامي قال الشعر وهو ابن عشر سنين
وأخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شية قال قال أبو عبيدة: قال بشار الشعر ولم يبلغ عشر سنين، ثم بلغ الحلم وهو مخشي معرة لسانه هجا جريرا فأعرض عنه استصغارا له: قال: وكان بشار يقول: هجوت جريرا فأعرض عني واستصغرني، ولو أجابني لكنت أشعر الناس.
كان الأصمعي يقول هو خاتمة الشعراء
وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال: كان الأصمعي يقول: بشار خاتمة الشعراء، والله لولا أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم.
قال أبو زيد: كتن راجزا مفصدا جودة نقده للشعر
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثني أبو عبيدة: قال سمعت بشارا يقول وقد أنشد في شعر الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكـرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا
صفحة : 288
فأنكره، وقال: هذا بيت مصنوع مايشبه كلام الأعشى؛ فعجبت لذلك. فلما كان بعد هذا بعشر سنين كنت جالسا عند يونس، فقال: حدثني أبو عمرو بن العلاء أنه صنع هذا البيت وأدخله في شعر الأعشى:
وأنكرتني وما كان الذي نكـرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا فجعلت حينئذ أزداد عجبا من فطنة بشار وصحة قريحته وجودة نقده للشعر أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة. قال: له اثنا عشر ألف قصيدة: قال بشار: لي اثنا عشر ألف بيت عين؛ فقيل له: هذا مالم يكن يدعيه أحد قط سواك؛ فقال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة، لعنها الله ولعن قائلها إن لم يكن في كل واحدة منها بيت عين وأخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا علي بن مهدي عن أبي حاتم قال: رأي أبي عبيدة فيه وفي ابن أبي حفصة
قلت لأبي عبيدة: أمروان عندك أشعر أم بشار? فقال: حكم بشار لنفسه بالاستظهار أنه قال ثلاثة عشر ألأف بيت جيد، ولايكون عدد الجيد من شعر شعراء الجاهلية والإسلام هذا العدد، وماأحسبهم برزوا في مثلها، ومروان أمدح للملوك.
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي قال: قال بشار الشعر وله عشر سنين، فما بلغ الحلم إلا وهو مخشي معرة اللسان بالبصرة. قال: وكان يقول: هجوت جريرا فاستصغرني وأعرض عني، ولو أجابني لكنت أشعر أهل زماني أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثنا أبو العوناذل زكريا بن هارون قال: قال بشار: لي اثنا عشر ألف بيت جيد؛ فقيل به: كيف? قال: لي اثنتا عشرة ألف قصيدة، أما في كل قصيدة منها بيت جيد كلام الجاحظ عنه
وقال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وقد ذكره: كان بشار شاعرا خطيبا صاحب منثور ومزدوج وسجع ورسائل، وهو من المطبوعين أصحاب الإبداع والاختراع المتفنينين في الشعر القائلين في أكثر أجناسه وضروبه؛ قال الشعر في حياة جرير وتعرض له، وحكي عنه أنه قال: هجوت جريرا فأعرض عني، ولو هاجاني لكنت أشعر الناس.
كان يدين بالرجعة ويكفر جميع الأمة: قال الجاحظ: زكان بشار يدين بالرجعة، ويكفر جميع الأمة، ويصوزب رأي إبليس في تقديم الناء على الطين، وذكر ذلك في شعره فقال:
الأرض مظلمة والنار مشرقة والنار معبودة مذ كانت النار هجاء واصل بن عطاء فخطب الناس بالحادة وكان يتجنب في خطبه الراء قال: وبلغه عن أبي حذيفة واصل بن عطاء إنكار لقوله وهتف به، فقال يهجوه:
مالي أشايع غزالا له عنـق كنقنق الدو إن ولى وإن مثلا
عنق الزرافة مابالي وبالكـم تكفرون رجالا كفروا رجلا قال: فلما تتابع على واصل منه مايشهد على إلحاده خطب به واصل، وكان ألثغ على الراء فكان يجتنبها في كلامه، فقال: أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنف المكني بأبي معاذ من يقتله? أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله أو في حفله، ثم كان لايتولى ذلك إلا عقيلي أو سدوسي فقلا أبا معاذ ولم يقل بشارا، وقال المشنف ولم يقل المرعث، وقال: من سجايا الغالية وبم يقل الرافضة، وقال: في منزله ولم يقل في داره، وقال: يبعج بطنه ولم يقل يبقر، للثغة التي كانت به في الراء.
قال: وكان واصل قد بلغ من اقتداره على الكلام وتمكنه من العبارة أن حذف الراء من جميع كلامه وخطبه وجعل مكانها مايقوم مقامها.
هو أحد أصحاب الكلام الستة: أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن عافية بن شبيب قال حدثني أبو سهيل قال حدثني سعيد ين سلام قال:
صفحة : 289
كان بالبصرة ستة من أصحاب الكلام: عمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى، وصالح بت عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء، ورجل من الأزد -قال أبو أحمد: يعني جرير بن حازم -فكانوا يجتمعون في منزل الأزدي ويختصمون عنده. فأما عمرو وواصل فصارا إلى الاعتزال. وأما عبد الكريم وصالح فصححا التوبة. وأمابشار فبقي متحيرا مخلطا. وأما الأزدي فمال إلى قول السمينة، وهو مذهب من مذاهب الهند، وبقي ظاهره على ما كان عليه. قال: فكان عبد الكريم بفسد الأحداث؛ فقال له عمرو بن عبيد: قد بلغني إنك تخلو بالحدث من أحداثنا فتفسده وتستزله وتدخله في دينك، فإن خرجت من مصرنا وإلا قمت فيك مقاما آتي فيه على نفسك؛ فلحق بالكوفة، فدل عليه محمد بن سليمان فقتله وصلبه بها. وله يقول بشار:
قل لعبد الكريم يابـن أبـي الـو جاء بعت الإسلام بالكفر موقـا
لاتصلي ولاتصـوم فـإن صـم ت فبعض النهار صوما رقيقـا
لاتبالي إذا أصبت مـن الـخـم ر عتيقا ألا تنكـون عـتـيقـا
ليت شعري غذاة حليت في الجي د حنيفا حـلـيت أم زنـديقـا
أنت ممن يدور في لعـنة الـل ه صديق لمن ينيك الصـديقـا رأي الأصمعي فيه وفي ابن أبي حفصة
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الرياشي قال: سئل الأصمعي عن بشار ومروان أيهما أشعر? فقال: بشار؛ فسئل عن السبب في ذلك، فقال: لأن مروان سلك طريقا كثر من يسلكه فلم يلحق من تقدمه، وشركه فيه من كان في عصره، ويشار سلك طريقا لم يسلك وأحسن فيه وتفرد به، وهو أكثر تصرفا وفنون شعر وأغزر وأوسع بديعا، ومروان لم يتجاوز مذاهب الأوائل أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني العنزي عن أبي حاتم قال سمعت الأصمعي وقد عاد إلى البصرة من بغداد فسأله رجل عن مروان بن أبي حفصة، فقال: وجد أهل بغداد قد ختموا به الشعراء وبشار أحق بأن يختموهم به من مروان؛ فقيل له: ولم? فقال: وكيف لايكون كذلك وملكان مروان في حياة بشار يقول شعراحتى يصلحه له بشار ويقومه وهذا سلم الخاسر من طبقة مروان يزاحمه بين أيدي الخلفاء بالشعر ةيساويه في الجوائز، وسلم معتوف بأنه تبع لبشار.
مقارنته بامرىء القيس والقطامي
أخبرني جحظة قال سمعت علي بن يحيى المنجم يقول: سمعت من لاأحصي من الواة يقولون: أحسن الناس ابتداء في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول:
ألا أنعم صباحا أيها الطلل البالي وحيث يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل وفي الإسلام القطامي حيث يقول:
إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ومن المحدثين بشار حيث يقول: صوت
أبى طلل بالجزع أن يتكلما وماذا عليه لو أجاب متيما
وبالفرع آثار بقين وباللوى ملاعب لايعرفن إلا توهما وفي هذين البيتين لابن المكي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى من كتابه. وفيهما لابن جؤذر رمل.
مقارنة بينه وبين مروان بن أبي حفصة
أخبرني عمي عن الكرني عن أبي حاتم قال: كان الأصمعي يعجب بشعر بشار لكثرة فنونه وسعة تصرفه، ويقول: كان مطبوعا لايكلف طبعه شيئا متعذرا لاكمن يقول البيت ويحككه أياما. زكان يشبه بشارا بالأعشى والنابغة الذبياني، ويشبه مروان بزهير والحطيئة، ويقول: هو متكلف قال الكراني: قال أبو حاتم: وقلت لأبي زيد: أيما أشعر بشار أم مروان? فقال: بشار أشعر، ومروان أكفر. قال أبو حاتم: وسألت أبا زيد مرة أخرى عنهما فقال: مروان أجد وبشار أهزل؛ فحدثت الأصمعي بذلك؛ فقال: بشار يصلح للجد والهزل، ومروان لايصلح إلا لأحدهما.
كان شعره سيارا يتناشده الناس
نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثنا نجم بن النطاح قال: عهدي بالبصرة وليس فيها غزل ولاغزلة إلا يروي من شعر بشار، ولانائحة ولامغنية إلا لتكسب به، ولا ذو شرف إلا وهو يهابه ويخاف معرة لسانه.
لم يأت في شعره بلفظ مستنكر: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أحمد بن المبارك قال حدثني أبي قال:
صفحة : 290
قلت لبشار: ليس لأحد من شعراء العرب شعر إلا وقد قال فيه شيئا استنكرته العرب من ألفاظهم وشك فيه، وإنه ليس في شعرك مايشك؛ قال: ومن أين يأتيني الخطأ ولدت هاهنا ونشأت في حجورثمانين شيخا من فصحاء بني عقيل مافيهم احد يعرف كلمة من الخطأ، وإن دخلت إلى نسائهم فنساؤهم أفصح منهم، وأيفعت فأبديت إلى أن أدركت، فمن أين يأتيني الخطأ أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز ويحيى بن علي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال: كان الأصمعي يقول: إن بشارا خاتمة الشعراء، والله لولا ظأن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم.
هو أول الشعراء في جملة من اغراض الشعر
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبو الفضل المروزي قال حدثني بن المحرز الباهلي قال قال الأصمعي: لقي أبو عمرو بن العلاء بعض الرواة فقال له: يا أبا عمرو، من أبدع الناسبيتا? قال: الذي يقول:
لم يطل ليلي ولكن لـم أنـم ونفى عني الكرى طيف ألم
روحي عني قليلا واعلمـي أنني ياعبد من لـحـم ودم قال: فمن أمح الناس? قال: الذي يقول:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنـى ولم أدر أن الجود من كفه يعدي
فلا أنا منه ماأفاد ذوو الغـنـى أفدت وأعداني فأتلفت ماعنـدي قال: فمن أهجى الناس? قال: الذي يقول:
رأيت السهيلين استوى الجود فيهما على بعد ذا من ذاك في حكم حاكم
سهيلبن عثمـان يجـود بـمـابـه كما جاد بالوجعا سهيل بن سـالـم قال: وهذه الأبيات كلها لبشار نسبة مافي هذا الخبر من الأشعار التي يغني فيها صوت
لم يطل ليلي ولكن بـم أنـم ونفى عني الكرى طيف ألم
وإذا قلت لها جـودي لـنـا خرجت بالصمت عن لاونعم
نفسي ياعبد عني واعلـمـي أنني ياعبد من لـحـم ودم
إن في بردى جسما نـاحـلا لو تركأت علـيه لأنـهـدم
حتم الحب لها في عنـقـي موضع الخاتم من أهل الذمم غناه إبراهيم هزجا بالسبابة في مجرى الوسطى عن ابن المكي والهشامي. وفيه لقعنب الأسود خفيف ثقيل. فأما الأبيات التي ذكر أبو عمرو أنه فيها أمدح الناس وأولها:
لمست بكفي كفه أبتغي الغنى فإنه ذكر لبشار. وذكر الزبير بن بكار أنها لابن الخياط في المهدي، وذكر له فيها معه خبرا طويلا قد ذكرته في أخبار ابن الخياط في هذا الكتاب.
هجا صديقه ديسما لأنه يروي هجاءه
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا علي بن مهدي الكسروي قال حدثنا أبو حاتم قال: كان شار كثير الولوع بديسم العنزي وكان صديقا له وهو مع ذلك يكثر هجاءه، وكان ديسم لايزال يحفظ شيئا من شعر حماد وأبي هشام الباهلي في بشار؛ فبلغه ذلك فقال فيه:
أديسم يابن الذئب من نحـل زارع أتروي هجائي سادرا غير مقصر قال أبو حاتم: فأنشدت أبا زيد هذا البيت وسألأته مايقول فيه، فقال: لمن هذا الشعر? فقلت: لبشار يقوله في ديسم العنزي؛ فقال: قاتله الله ماأعلمه بكلام العرب ثم قال: الديسم: ولد الذئب من الكلبة، ويقال للكلاب: أولاد زارع. والعسبار: ولد الضبع من الذئب. والسمع: ولد الذئب من الضبع. وتزعم العرب أ، السمع لايموت حتف أنفه، وأنه أسرع من الريح وإنما هلاكه بعرض من أعراض الدنيا.
مزاحه مع حمدان الخراط
أخبرنا حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال: كان بالبصرة رجل يقال له: حمدان الخراط، فاتخذ جاما لإنسان كان بشار عنده، فسألأه بشار أن يتخذ له لجاما فيه صور طير تطير، فاتخذه له وجاءه به، فقال له: مافي هذا اللجام? فقال: صور طير تطير؛ فقاتل له: قد كان ينبغي أن تتخذ فوق هذه الطير طائرا من الجوارح كأن يريد صيدها، فإنه كان أحسن؛ قال: لم أعلم؛ قال: بلى قد علمت، ولكن علمت أني أعمى لاأبصر شيئا وتهدده بالهجاء، فقال له حمدان: لاتفعل فإنك تندم؛ قال: أو تهددني أيضا قال: نعم؛ قال: فأي شيء تستطيع أن تصنع بي إن هجوتك قال: أصورك على باب داري بصورتك هذه وأجعل من خلفك قردا ينكحك حتى يراك الصادر والوارد؛ قال بشار: اللهم أخزه، أنا أمازحه وهو يأبى إلا الجد مفاخرة جرير بن علي
صفحة : 291
ابن يحيى والحسن بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي قالوا: حدثنا العنزي قال حدثني جعفر بن محمد العدوي عن محمد بن سلام قال حدثني مخلد أبو سفيان قال: كان جرير بن المنذر السدوسي يفاخر بشارا؛ فقال فيه بشار:
أمثل بني مـصـر وائل فقدتك من فاخر ماأجن
افي النوم هذا أبا منـذر فخيرا رأيت وخيرا يكن
رأيتك والفخر في مثلها كعاجنة غير ماتطحـن وقال يحيى في خبره: فحدثني محمد بن القاسم قال حدثني عاصم بن وهب أبو شبل الشاعر البرجمي قال حدثني محمد بن الحجاج الساداني قال: كنا عند بشار وعنده رجل ينازعه في اليمانية والمضرية إذ أذن المؤذن، فقال له بشار: رويدا، تفهم هذا الكلام؛ فلما قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال له بشار: أهذا الذي نودي باسمه مع اسم الله عز وجل من مضر هو أم من صدأ وعك وحمير? فسكت الرجل نقده للشرع: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال أنشد بشار قول الشاعر:
وقد جعل الأعداء ينتقصوننا ونطمع فينا ألسن وعيون
ألا إنما ليلى عصا خيرزانة إذا غـمـزوهـا بــالأكـــف تـــلـــين فقال: والله لو زعم أنها عصا مخ أو عصا زبد، لقد كان جهعلها جافية خشنة بعد أن جعلها عصا ألا قال كما قلت:
ودعجاء المحاجر من معد كأن حديثها ثمر الجنـان
إذا قامت لمشيتها تثـنـت كأن عظامها من خيرزان اعتداده بنفسه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرني محمد بن صالح بن الحجاج قال: قلت لبشار: إني أنشدت فلانا قولك:
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربـه فقال لي: ما كنت أظنه إلا لرجل كبير؛ فقال لي بشار: ويلك أفلا قلت له: هو الله لأكبر الجن والإنس وعدته امرأة واعتذرت فعاتبها بشعر
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبو الشبل عن محمد بن الحجاج قال: كان بشار يهوى امرأة من أهل البصرة فراسلها يسألها زيارته، فوعدته بذلك ثم أخلفته، وجعل ينتظرها ليلته حتى أصبح، فلما لم تأته أرسل إليها يعاتبها فاعتذرت بمرض أصابها؛ فكتب إليها بهذه الأبيات:
ياليلـتـي تـزداد نـكـرا من حب من أحببت بكـرا
حوراء إن نظـرت إلـي ك سقتك بالعينين خـمـرا
وكأن رجـع حـديثـهـا قطع الرياض كسين زهرا
وكأن تحـت لـسـانـهـا هاروت ينفث فيه سحـرا
وتخال ماجمعـت عـلـي ه ثيابها ذهبـا وعـطـرا
وكأنـهـا بـرد الـشـرا ب صفا ووافق منك فطرا
جنــية إنـــســـية أو بين ذاك من أجل أمرا
وكفـاك أنـي لـم أحـط بشكاة من أحببت خـبـرا
إلا مـــقـــالة زائر نثرت لي الأحزان نـثـرا
متخشعا تحـت الـهـوى عشرا وتحت الموت عشرا كان إسحاق الموصلي لايعتد به ويفضل عليه مروان: حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى قال: كان إسحاق الموصلي لايعتد ببشار
ويقول: هو كثير التخليط في شعره، وأشعاره مختلفة، لايشبه بعضها بعضا؛ أليس هو القائل:
إنما عظم سليمـى حـبـتـي قصب السكر لاعظم الجمـل
وإذا أدنيت منـهـا بـصـلا غلب المسك على ريح البصل لو قال كل شيء جيد ثم أضيف إلى هذا لزيفه. قال: وكان يقدم عليه مروان ويقول: هذا هو أشد استواء شعر منه، وكلامه ومذهبه اشبه بكلام العرب ومذاهبها، وكان لايعد أبا نواس البتة ولايرى فيه خبرا أنشد إبراهيم بن عبد الله هجوه للمنصور
ولما قتل غيرها وجعلها في هجو أبي مسلم:
حدثنا محمد بن علي بن يحيى قال حدثنا محمد بن زكريا قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن التيمي قال: دخل بشار إلى إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فأنشده قصيدة يهجو فيها المنصور ويشير عليه برأي يستعمله في أمره، فلما قتل إبراهيم خاف بشار، فقلب الكنية، وأظهر أنه كان قالها في أبي مسلم وحذف منها أبياتا وأولها:
صفحة : 292
أبا جعفر ما كول عيش بدائم ولاسالم عما قليل بسـالـم قلب هذا البيت فقال: أبا مسلم
على الملك الجبار يقتحم الردى ويصرعه في المأزق المتلاحم
كأنك لم تسمع بقتـل مـتـوج عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم
تقسم كسرى رهطه بسيوفهـم وأمسى أبو العباس أحلام نائم يعني الوليد بن يزيد:
وقد كان لايخشى انقـلاب مـكـيدة عليه ولاجري النـحـوس الأشـائم
مقيما على اللذات حتـى بـدت لـه وجوه المنايا حاسرات الـعـمـائم
وقـد تـرد الأيام غـرا وربـمــا وردن كلوحـا بـاديات اشـكـائم
ومروان قد دارت على رأسه الرحى وكان لما أجرمت نزر الـجـرائم
فأصبحت تجري سادرا في طريقهم ولاتتقي أشبـاه تـلـك الـنـقـائم
تجردت للإسلام تغـفـو سـبـيلـه وتعري مطاه ببيوث الـضـراغـم
فمازلت حتى استنصر الدينـأهـلـه عليك فعاذزا بالسيوف الـصـوارم
فرم وزرا ينـجـيك يابـن سـلامة فلست بناج من مـضـيم وضـائم جعل موضع يابن سلامة يابن وشيكة وهي أم أبي مسلم:
لحا الله قوما رأسوك عـلـيهـم ومازلت مرؤوسا خبيث المطاعم
أقول لبـسـام عـلـيه جـلالة غدا أريحيا عاشقا للـمـكـارم
من الفاطميين الدعاة إلى الهـدى جهارا ومن يهديك مثل ابن فاطم هذا البيت الذي خافه و حذفه بشار من الأبيات:
سراج لعين المستضـيء وتـارة يكون ظلاما للعدو الـمـزاحـم
إذا بلغ الرأي المشورة فاستـعـن برأي نصيح أو نصـيحة حـازم
ولاتجعل الشورى عليه غضـاضة فإن الخوافي قـوة لـلـقـوادم
وماخير كف أمسك الغل أختـهـا وماخير سـيف لـم يؤيد بـقـائم
وخل الهوينا للضعيف ولاتـكـن نؤوما فإن الحزم لـيس بـنـائم
وحارب إذا لم تعـط إلا ظـلامة شبا الحرب خير من قبول المظالم قال محمد بن يحيى: فحدثني الفضل بن الحباب قال سمعت أبا عثمان المازني يقول سمعت أبا عبيدة يقول: ميمية بشار هذه أحب إلي من ميميتي جرير والفرزدق.
قال محمد: وحدثني ابن الرياشي قال حدثني أبي قال: حديث بشار في المشورة
قال الأصمعي قلت لبشار: يا أبا معاذ، إن الناس يعجبون من أبيتك في المشورة؛ فقال لي: يا أبا سعيد، إن المشاور بين صواب يفوز بثمرته أو خطأ يشارك في مكروهه؛ فقلت له: أنت والله في قولك هذا أشعر منك في شعرك.
بشار والمعلي بن طريف
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق وحدثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه قال: كان بشار جالسا في دار المهدي والناس ينتظرون الإذن، فقال بعض موالي المهدي لمن حضر: ماعندكم في قول الله عز وجل: وأوحى ربك إلى النحل أن أتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر فقال له بشار: النحل التي يعرفها الناس؛ قال هيهات يا أبا معاذ، النحل: بنو هاشم، وقوله: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس يعني العلم؛ فقال له بشار: أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم، فقد أوسعتنا غثاثة ؛ فغضب وشتم بشارا؛ وبلغ المهدي الخبر فدعا بهما فسألهما عن القصة، فحدثه بشار بها؛ فضحك حتى أمسك بطنه، ثم قال للرجل: أجل فجعل طعامك وشرابك مما يخرج من بطون بني هاشم، فإنك بارد غث. وقال محمد بن مزيد في خبره: إن الذي خاطب بشارا بهذه الحكاية وأجابه عنها من موالي المهدي المعلى بن طريف.
بشار ويزيد بن منصور الحميري
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد بنإسحاق عن أبيه قال:
صفحة : 293
دخل يزيد بن منصور الحميري على المهدي وبشار بين يديه ينشده قصيدة امتدحه بها؛ فلما فرغ منها أقبل عليه يزيد بن منصور الحميري، وكانت فيه غفلة، فقال له: ياشيخ، ماصناعتك? فقال: فقال: أثقب اللؤلؤ؛ فضحك المهدي ثم قال لبشار: أعزب ويلك؛ أتتنادر على خالي فقال له: وماأصنع به يرى شيخا أعمى ينشد الخليفة شعرا ويسأله عن صناعته ترك جواب رجل عاب شعره للؤمه
أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال: وقف على بشار بعض المجان وهو ينشد شعرا؛ قال له: استر شعرك كما تستر عورتك؛ فصفق بشار بيديه وغضب وقال له: قال: أنا أعزك الله رجل من باهلة، وأخوالي من سلول، وأصهاري عكل، واسمي كلب، ومولدي بأضاخ، ومنزلي بنهر بلال، فضحك بشار ثم قال: اذهب ويلك فأنت عتيق لؤمك، قد علم الله أنك استترت مني بحصون من حديد وصف قاص قصرا كبيرا في الجنة فعاب
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني الفضل بن سعيد قال حدثني أبي قال: مر بشار بقاص بالبصرة فسمعه يقول في قصصه: من صام رجبا وشعبان ورمضان بنى الله له قصرا في الجنة صحنه ألف فرسخ في مثلها وعله ألف فرسخ وكل باب من أبواب بيوته ومقاصره عشرة فراسخ في مثلها، قال: فالتفت بشار إلى قائده. فقال: بئست والله الدار هذه في كانون الثاني.
سمع صخبا في الجيران فقال
كأن القيامة قامت:
قال الفصل بن سعيد وحدثني رجل من أهل البصرة ممن كان يتزوج بالنهاريات قال: تزوجت امرأة منهن فاجتمعت معها في علو بيت وبشار تحتنا، أو كنا في أسفل البيت وبشار في علوه مع امرأة، فنهق حمار في الطريق فأجابه حمار في الجيران وحمار في الدار فارتجت الناحية بنهيقها، وضرب الحمار الذي في الددار الأرض برجله وجعل يدقها بها دقا شديدا فسمعت بشارا يقول للمرأة: نفخ -يعلم الله-في الصور وقامت القيامة أماتسمعين كيف يدق أهل القبور حتى يخرجوا منها قال: ولم يلبث أن فزعت شاة كانت في السطح فقطعت حبلها وعدت فألقت طبقا وغضارة إلى الدار فانكسرا، وتطاير حمام ودجاج كن في الدار لصوت الغضارة وبكى صبي في الدار؛ فقال بشار: صح والله الخبر ونشر أهل القبور من قبورهم أزفت-يشهد الله-الآزفة وزلزلت الأرض زلزالها؛ فعجبت من كلامه وغاظني؛ فسألت من المتكلم? فقيل لي: بشار، فقلت: قد علمت أنه لايتكلم بمثل هذا غيربشار.
نكتة له مع رجل رمحته بغلة فشكرالله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن محمد جدار قال حدثني قدامة بن نوح قال: مربشار برجل قد رمحته بغلة وهو يقولك الحمد لله شكرا، فقال له بشار: استزده يزدك. قال: ومر به قوم يحملون جنازة وهم يشرعون المشي بها، فقال: مالهم مسرعين أتراهم سرقوه فهم يخافون أن يلحقوا فيؤخذ منهم.
مات ابن له فرثاه
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن عافية بن شبيب، وأخبرني به وكيع عن محمد بن عمر بن محمد بن عبد الملك عن الحسن بن جمهور، قالا: توفي ابن لبشار فجزع عليه؛ فقيل له: أجر قدمته، وفرط افترطته، وذخر أحرزته، فقال: ولد دفنته، وثكل تعجلته، وغيب وعدته فانتظرته؛ والله لئن لم أجزع للنقص لاأفرح للزيادة. وقال يرثيه:
أجارتنا لاتجـزعـي وأنـيبـي أتاني من الموت المطل نصيبي
بني على رغمي وسخطي رزئته وبدل أحجـار وجـال قـلـيب
وكان كريحان الغصون تخـالـه ذوي بعد إشارق يسر وطـيب
أصيب بني حين أورق غصنـه وألقى علي الهم كـل قـريب
عجبت إسراع المنـية نـحـوه وماكان لومليتـه بـعـجـيب نوادره
أخبرني يحيى بن علي قالذكر عافية بن شبيب عن أبي عثمان الليثي، وحدثني به الحسن بن علي عن ابن مهروية عن أبي مسلم، قلا: رفع غلام بشار إليه في حساب نفقته جلاء مرآة عشرة دراهم، فصاح به بشار وقال: والله مافي الدنيا أعجب من جلاء مرآة أعمى بعشرة دراهم، والله لو صدئت عين الشمس حتى يبقى العالم في ظلمة مابلغت أجره من يجلوها عشرة دراهم.
صفحة : 294
أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثنا أبو معاذ النميري قال: قلت لبشار: لم مدحت يزيد ين حاتم ثم هجوته? قال: سألني أن أنيكه فلم أفعل؛ فضحكت ثم قلت: فهو كان ينبغي له أن يغضب، فما موضغ الهجاء فقال: أظنك تحب أن تكون شريكه؛ فقلت: أعوذ بالله من ذلك ويلك سئل عن شعره الغث فأجاب
حدثني الحسن بن علي قالحدثنا ابن مهروية قال حدثنا أحمد بن خلاد، وأخبرنا يحيى بن علي ومحمد بن عمران الصيرفي، قلا حدثنا العنزي قال حدثنا أحمد بن خلاد قال حدثني أبي قالت قلت لبشار: إنك لتجيء بالشي الهجين المتفاوت، قال: وماذاك? قال قلت: بينما تقول شعرا تثير به النقع وتخلع به القلوب، مثل قولك:
إذا ماغضبنا غـضـبة مـضـرية هتكنا حجاب الشمي أو تمطر الدما
إذا ماأعرنـا سـيدا مـن قـبـيلة ذرى منبر صلى علينا وسـلـمـا تقول:
ربـابة ربة الـبـيت تصب الخل في الزيت
لها عشر دجـاجـات وديك حسن الصـوت فقال: لكل وجه وموضع، فالقول الأول جد، وهذا قلته في ربابة جارتي، وأنا لاآكل البيض من السوق، وربابة هذه لها عشر دجاجات وديك فهي تجمع لي البيض وتحفظه عندها، فهذا عندها من قولي أحسن من:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل عندك.
غنني للغريض يابن قنان فقيل له: من ابن قنان هذا، لسنا نعرفه من مغني البصرة? قال: وماعليكم منه ألكم قبلة دين فتطالبوه به، أو ثأر تريدون أن تدركوه، أو كفلت لكم به فإذا غاب طالبتموني بإحضاره? قالوا: ليس بيننا وبينه شيء من هذا، وإنما أردنا أن نعرفه، فقال: هو رجل يغني لي ولايخرج من بيتي؛ فقالوا له: إلى متى? قال: مذ يوم ود إلى يوم يموت. قال: وأنشدنا أيضا في هذه القصيدة:
........ ووافـــــــا ني هلال السماء في البردان فقلنا: يا أبا معاذ. أين البردان هذا? لسنا نعرفه بالبصرة، فقال: هو بيت في بيتي سميته البردان، أفعليكم من تسميتي داري وبيوتها شيء فتسألوني عنه حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني أبو غسان دماذ-واسمه رفيع بن سلمة - قال حدثني يحيى بن الجون العبدي راوية بشار قال: كنا عند بشار يوما فأنشدنا قوله:
وجارية خلقت وحـدهـا كأن النساء لديهـا خـدم
دوار العذارى إذا زرنهـا أطفن بحوراء مثل الصنم
ظمئت إليها فلنم تسقـنـي بري ولم تشفني من سقـم
وقالت هويت فمت راشدا كما مات عروة غما بغـم
فلما رأيت الهوى قاتـلـي ولست بجارولابابـن عـم
دسست إليها أبا مـجـلـز وأي فتى إن أصاب اعتزم
فمازال حتى أنابـت لـه فراح وحل لنا مـاحـرم فقال له رجل: ومن أبو مجلز هذا يا أبا معاذ? قال: وماحاجتك إليه لك عليه دين أو تطالبه بطائله هو رجل يتردد بيني وبين نعارفي في رسائل. قال: وكان كثيرا مايحشو شعره بمثل هذا.
شعره في قينة
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كانت بالبصرة قينة لبعض ولد سليمان بن علي وكانت محسنة بارعة الظرف، وكان بشار صديقا لسيدها وداحا له، فحضر مجلسه يوما والجارية تغني؛ فسر بحضوره وشرب حتى سكر ونام، ونهض بشار؛ فقالت: يا أبا معاذ، أحب أن أتذكر يومنا هذا في قصيدة ولاتذكر فيها اسمي ولا اسم سيدي وتكتب بها إليه؛ فانصرف وكتب إليه:
وذات دل كأن البدر صـورتـهـا باتت تغني عميد القلب سكـرانـا:
إن العيون التي في طرفهـا حـور قتلننا ثـم لـم يحـيين قـتـلانـا
فقلت أحسنت يا سؤلي ويا أمـلـي فأسمعيني جزاك الله إحـسـانـا:
يا حبذا جبل الـريان مـن جـبـل وحبذا ساكن الـريان مـن كـانـا
قالت فهلا، فدتك النفس، أحسن من هذا لمن كان صب العين أحـيانـا
فقلت أحسنت أنت الشمس طالـعة أضرمت في القلب والأحشاء نيرانا
فأسمعيني صوتا مطربـا هـزجـا يزيد صبا محبا فـيك أشـجـانـا
صفحة : 295
ياليتني كنت تفـاحـا مـفـلـجة أو كنت من قضب الريحان ريحانا
حتى إذا وجدت ريحي فأعجبـهـا ونحن في خلوه مثلث إنـسـتـا
فحركت عودها ثم انثنت طـربـا تشدو به ثم لاتخفيه كـتـمـانـا:
أصبحت أطوع خلق الله كـلـهـم لأكثر الخلق لي في الحب عصيانا
فقلت أطربتنا يازين مجـلـسـنـا فهات إنك بـالإحـسـان أولانـا
لو كانت أعلم أن الحب يقتلـنـي أعددت لي قبل أن ألقاك أكفـانـا
فغنت الشرب صوتا مؤنقا رمـلا يذكي السرور ويبكي العين ألوانا:
لا يقتل الله من دامـت مـودتـه والله يقتل أهل الغـدر أحـيانـا ووجه بالأبيات إليها، فبعث إليه سيدها بألفي دينار وسر بها سرورا شديدا أغضبه أعرابي عند مجزأة فهجاه
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثني علي بن منصور أبو الحسن الباهلي قال حدثني أبو عبد الله المقرىء الجحدري الذي كان يقرأ في المسجد الجامع بالبصرة، قال: دخل أعرابي على مجزأة بن ثور السدوسي وبشار عنده وعليه بزة الشعراء، فقال الأعرابي: من الرجل? فقالوا: رجل شاعر؛ فقال: أمولى هو أم عربي? قالوا: بل مولى؛ فقال الأعرابي: وما للموالي وللشعر? فغضب بشار وسكت هنيهة، ثم قال: أتأذن لي أبا ثور? قال: قل ما شئت يا أبامعاذ؛ فأنشأ بشار يقول:
خليلي لاأنام على اقـتـسـار ولاآبى على مولـى وجـار
سأخبر فاخر الأعراب عنـي وعنه حين تأذن بالـفـخـار
أحيس كسيت بعد العري خـزا ونادمت الكرام على العقـار
تفاخـر ياابـن راعـية وراع بني الأحرار حسبك منخسـار
وكنت إذا طمئت إلـى قـراح شركت الكلب في ولغ الإطار
تريغ بخطبة كسر المـوانـي وينسيك المكارم صـيد فـار
وتغدو للقـنـافـذ تـدريهـا ولم تعـقـل بـدراج الـديار
وتتشح الشمال لـلابـسـيهـا وترعى الضأن بالبلد القفـار
مقامك بيننا دنـس عـلـينـا فليتك غائب فـي حـر نـار
وفخرك بين خنزير وكـلـب على مثلي من الحدث الكبـار فقال مجزأة للأعرابي: قبحك الله? فأنت كسبت هذا الشر لنفسك ولأمثالك?.
خشي لسانه حاجب محمد بن سليمان
فأذن له بالدخول:
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني العنزي عن الرياشي قال: حضر بشار باب محمد بن سليمان، فقال له الحاجب: اصبر؛ فقال: إن الصبر لايكون إلا علي بلية؛ فقال له الحاجب: إني أظن أن وراء قولك هذا شرا ولن أتعرض له، فقم فادخل
بشار وهلال الرأي
أخبرني وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام قال: قال هلال الرأي -وهوهلال بن عطية-لبشار وكان صديقا يمازحه: إن الله لم يذهب بصر أحد إلا عوضه بشيء، فماعوضك? قالل: الطويل العريض؛ قال: وماهذا? قال: ألا أراك ولاأمثالك من الثقلاء. ثم قال له: ياهلال أتطيعني في نصيحة أخصك بها? قال نعم؛ قال: إنك كنت تسرق الحمير زمانا ثم تبت وصرت رافضيا، فعد إلى سرقة الحمير، فهي والله خير لك من الرفض قال محمد بن سلام: وكان هلال يستثقل، وفيه يقول لبشار:
وكيف يخف لي بصري وسمعي وحولي عسكران من الثـقـال
قعودا حول دسكرتي وعـنـدي كأن لهم على فـضـول مـال
إذا ماشئت صبحـنـي هـلال وأي الناس أثقل مـن هـلال وأخبرني أبو دلف الخزاعي بهذا الخبر عن يسى بن اسماعيل عن ابن عائشة، فذكر أن الذي خاطب بشارا بهذه المخاطبة ابن سيابة، فلما أجابه بشار بالجواب المذكور، قال له: من أنت? قال: ابن سيابة؛ فقال له: ياابن سيابة، لو نكح الأسد ماالفترس؛ قال: وكان يتهم بالأبنة ذم أناسا كانوا مع ابن أخيه: قال أيوب وحدثني محمد بن سلام وغيره قالوا: مر ابن أخي بشار به ومعه قوم؛ فقال لرجل معه: من هذا? فقال: ابن أخيك؛ قال: أشهد أن أصحابه أنذال؛ قال: وكيف علمت? قال: ليست لهم نعال
صفحة : 296
كان دقيق الحسك أخبرنا محمد بن علي قال حدثني عافية بن شبيب عن أبي دهمان الغلابي، قال: مررت ببشار يوما وهو جالس على بابه وحده وليس معه خلق وبيده مخصرة يلعب بها وقدامه طبق فيه تفاح وأترج، فلما رأيته وليس عنده أحد تاقت نفسي إلى أن أسرق ما بين يديه، فجئت قليلا قليلا وهو كاف يده حتى مددت يدي لأتناول منه، فرفع القضيب وضرب به يدي ضربة حتى كاد يكسرها، فقلت له قطع الله يدك يا ابن الفاعلة، أنت الآن أعمى? فقال: يا أحمق، فأين الحدس.
حديثه مع نسوة أخذن شعره لينحن به
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني العنزي قال حدثني خالد بن يزيد بن وهب بن جرير عن أبيه قال: كان لبشار في داره مجلسان: مجلي يجلس فيه بالغداة يسميه البردان ومجلس يجلس فيه بالعشي اسمه الرقيق فأصبح ذات يوم فاحتجم وقال لغلامه: أمسك على بابي واطبخ لي من طيب طعامي وصف نبيذي. قال: فإنه لكذلك إذ قرع لباب قرعا عنيفا؛ فقال: ويحك ياغلام؛ انظر من يدق الباب دق الشرط؛ قال: فنظر الغلام، فقال له: نسوة خمس بالباب يسألن أن تقول لهن سعرا ينحن به؛ فقال: أدخلهن، فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه في جانب بيته؛ قال: فقالت واحدة منهن: هو خمر، وقالت الأخرى: هو زبيب وعسل؛ وقالت الثالثة: نقيع زبيب؛ فقال: لست بقائل لكن حرفا أو تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي؛ قال: فتماسكن ساعة، ثم قالت واحدة منهن: ماعليكن? هو أعمى فكلن من طعامه واشربن من شرابه وخذن شرعه؛ فبلغ ذلك الحسن البصري فعابه وهتف بشار؛ فبلغه ذلك -وكان بشار يسمى الحسن البصري القس-فقال:
لما طلعن مـن الـرقـي ق علي بالبردان خمسـا
وكـأنـهــن أهـــلة تحت الثياب زففن شمسا
باكرن عطـر لـطـيمة وغمسن في الجادي غمسا صوت
لما طلعن حـفـفـنـهـا وأصخن مايهمسن همسـا
فسألتني من فـي الـبـيو ت فقلت مايؤوين إنـسـا
ليت العـيون الـطـارف ت طمسن عنا اليوم طمسا
فأصبن من طرف الحـدي ث لذاذة وخرجن ملـسـا
لولا تعـرضـهـن لـي ياقس كنت كأنت قـسـا غنى في هذه الأبيات يحيى المكي، ولحنه رمل بالبنصر عن عمرو نهاه مالك بن دينار عن التشبب بالنساء
فقال شعرا:
أخبرنا يحيى قال حدثني العنزي قال حدثنا علي بن محمد قال حدثني جعفر بن محمد النوفلي-وكان يروي شعر بشار بن برد -قال: جئت بشارا ذات يوم فحدثني، قال: ماشعرت منذ أيام إلا بقارع يقرع بابي مع الصبح، فقلت: ياجارية انظري من هذا، فرجعت إلي وقالت: هذا مالك بن دينار؛ فقلت: ماهو من أشكالي ولاأضرابي، ثم قلت: ائذني له، فدخل فقال: يا أبا معاذ، أتشتم أعراض الناس وتشبب بنسائهم? فلم يكن عندي إلا أن دفعت عن نفسي وقلت: لاأعود، فخرج عني، وقلت في أثره:
غدا مالك بـمـلامـاتـه علي ومابات من بـالـية
تناول خودا هضيم الحشـي من الحور محظوظة عالية
فقلت دع اللوم في حبـهـا فقبلك أعـييت عـذالـية
وإني لأكتمـهـم سـرهـا غداة تقول لها الجـالـية
عبيدة مالـك مـسـلـوبة وكنت معطـرة حـالـيه
فقلت على رقبة: إنـنـي رهنت المرعث خلخالـيه
بمجلس يوم سـأوفـي بـه ولو أجلب الناس أحوالـيه شعره في محبوبته فاطمة
أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا العنزي قال حدثني السميدع بن محمد الأزدي قال حدثني عبد الرحمن بن لاجهم عن هشام الكلبي قال: كان أول بدء بشار أنه عشق جارية يقال لها فاطمة ، وكان قد كف وذهب بصره، فسمعها تغني فهويها وأنشأ يقول:
درة بـحـرية مـكـنــونة مازها الناجر من بين الـدرر
عجبت فطمة من نعتي لـهـا هل يجيد النعت مكفوف البصر
أمـتـا بـدد هـذا لـعـبـي ووشاحي حله مكفوف البصر
فدعـينـي مـعـه ياأمــت علنا في خلوة نقضي الوطـر
أقبلت مغضبة تـضـربـهـا واعتراها كجنون مسـتـعـر
صفحة : 297
بأبي والـلـه مـاأحـسـنـه دمع عين يغسل الكحل قطر
أيها النوام هـبـوا ويحـكـم واسألوني اليوم ما طعم السهر عبث به رجل من آل سوار فلم يجبه
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني خالد بن يويد بن وهب بن جرير قال حدثني أبي عن الحكم بن مخلد بن حازم قال: مررت أنا ورجل من عكل من أبناء سوار بن عبد الله بقصر أوس، فإذا نحن ببشار في ظل القصر وحده، فقال له العكلي: لابد لي من أن أعبث ببشار؛ فقلت: ويحك، مه لاتعرض بنفسك وعرضك؛ فقال: إني لاأجده في وقت أخلي منه في هذا الوقت؛ قال فوقفت ناحية ودنا منه فقال: يابشار؛ فقال: من هذا الذي لايكنيني ويدعوني باسمي? قال: سأخبرك من أنا، فأخبرني أنت عن أمل: أولدتك أعمى أم عميت بعدما ولدتك? قال: وماتريد إلى ذلك? قال: وددت أنه فسح لك في بصرك ساعة لتنظر إلى وجهك في المرآة، فعسى أن تمسك عتن هجاء الناس وتعرف قدرك؛ فقال: ويحكم ? من هذا? أما أحد يخبرني من هذا? فقال له: على رسلك، أنا رجل من عكل وخالي يبيع الفحم بالعبلاء فما تقدر أن تقول لي? قال: لاشيء اذهب، بأبي أنت، في حفظ الله.
مدح خالد البرمكي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني هارون علي بن يحيى المنجم قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني العباس بن خالد البرمكي قال: كان الزوار يسمون في قديم الدهر إلى أيام خالد بن برمك السؤال؛ فقال خالد: هذا والله اسم استثقله لطلاب الخير، وأرقع قدر الكريم عن أن يسمي به أمثال هؤلاء المؤملين، لأن فيهم الأشراف والأحرار وأبناء النعيم ومن لعله خير ممن يقصد وأفضل أدبا، ولكنا نسميهم الزوار؛ فقال بشار يمدحه بذلك:
حذا خالد في فعله حذو برمك فمجد له مستطرف وأصـيل
وكان ذوو الآمال يدعون قبله بلفظ على الإعدام فيه دلـيل
يسمون بالسؤال في كل موطن وإن كان فيهم نابة وجـلـيل
فسماهم الزوار سترا عليهـم فأستاره في المجتدين سـدول قال: وقال بشار هذا الشعر في مجلس خالد في الساعة التي تكلم خالد بهذا الكلام في أمر الزوار، فأعطاه لكل بيت ألف درهم.
بشار وصديقه تسنيم بن الحواري
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبو شبل عاصم بن وهب قال: نهق حمار ذات يوم بقرب بشار، فخطر بباله فقال:
ماقام أير حمار فامتلا شبـقـا إلا تحرك عرق في است تسنيم قال: ولم يرد تسنيما بالهجاء؛ ولكنه لما بلغ إلى قولهك إلا تحرق عرق قال: في است من? ومر به تسنيم بن الحواري وكان صديقه، فسلم عليه وضحك، فقال: في است تسنيم علم الله؛ فقال له: أيش ويحك?? فأنشده البيت؛ فقال له: عليك لعنة الله? فما عندك فرق بين صديقك وعدزك، أي شيء حملك على هذا? ألا قلت: في است حماد الذي هجاك وفضحك وأعياك، ووليست قافيتك على الميم فأعذرك? قال: صدقت والله في هذا كله، ولكن مازلت أقول: في است من? في است من? ولايخطر ببالبي أحد حتى مررت وسلمت فرزقته؛ فقال له تسنيم: إذا كان هذا جواب السلام عليك فلا سلم الله عليك ولاعلي حين سلمت عليك؛ وجعل بشار يضحك ويصفق بيديه وتسنيم يشتمه.
أخبرنا عيسى بن الحسين قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن عمه قال: قالت امرأة لشار: ماأدري لم يهابك الناس مع قبح الله وجهك? فقال لها بشار: ليس من حسنه يهاب الأسد الملاحاة بينه وبين عقبة بن رؤية في حضرة عقبة بن سلم: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنتا عمر بن شبة قالحدثنا محمد بن الحجاج قال: دخل بشار على عقبة بن سلم، فأنشده بعض مدائحه فيه زعنده عقبة بن رؤبة ينشده رجزا يمدحه به، فسمعه بشار وجعل يستحسن ماقال إلى أن فرغ؛ ثم أقبل على بشار فقال: هذا طراز لاتحسنه أنت يا أبا معاذ؛ فقال له بشار: ألي يقال هذا? أنا والله أرجز منك ومن أبيك وجدك؛ ارحمهم رحمك الله ? فقال عقبة: أتستخف بي يا أبا معاذ وأنا شاعر ابن شاعر? فقال له بشار: فأنت إذا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا؛ ثم خرج من عنده عقبة مغضبا. فلما كان من غد غدا على عقبة بن سلم وعنده عقبة بن رؤية، فأنشده أرجوزته التي مدحه فيها:
صفحة : 298
ياطل الحي بذات الـصـمـد بالله خبر كيف كنت بعـدي
أوحشت من دعد وترب دعـد سقيا لأسمـاء ابـنة الأشـد
قامت تراءى إذ رأتني وحدي كالشمس تحت الزبرج المنقذ
صدت بخد وجلت عـن خـد ثم انثنت كالنفس الـمـرتـد
فنحن من جهد الهوى في جهد وزاهر من سبـط وجـعـد
أهدى له الدهر ولم ستـهـد أفواف نور الحبر المـجـد
يلقى الضحى ريحانه بسجـد بدلت من ذاك بمى لايجـدي
وافق حظا من سعى بـجـد ماضر أهل النو ضعف الجد
الحر يلحى والعصا للعـبـد وليس للملحف مثـل الـرد
والنصف يكفيك من التعـدي وصاحب كالدمل الـمـمـد
حملته في رقعة من جلـدي أرقب منه مثـل يوم الـورد
حتى مضر غير فقيد الفـقـد ومادرى مارغبتي من زهدي
اسلم وحـييت أبـا الـمـلـد مفتاح باب الحدث المنـسـد
مشترك النيل وري الـزنـد أغر لباس ثياب الـحـمـد
ماكان مني لـك غـير الـود ثم ثناه مـثـل ريح الـورد
نسجته في محكمـات الـنـد فالبس طرازي غير مستـرد
للـه أيامـك فـي مـعــد وفي بني قحطان غير عـد
يوما بذي طخفة عند الـحـد ومثله أودعت أرض الهنـد
بالمرهفات والحديد الـسـرد والمقربات المبعدات الجـرد
إذا الحيا أكدى بها لاتـكـدي تلحم أمرا وأمورا تـسـدي
وابن حكـيم إن أتـاك يردي أصم لايسمع صوت الرعـد
حييته بـتـحـفة الـمـعـد فانهد مثل الجبل المـنـهـد
كل امرىء رهن بمـا يؤدي ورب ذي تاج كريم الـجـد
كآل كـسـرى وكـآل بـرد أنكب جاف عن سبيل القصد
فصلته عن ماله والـولـد فطرب عقبة بن سلم وأجزل صلته، وقام عقبة بن رؤبة فخرج عن المجلس بخزي، وهرب من تحت ليلته فلم يعد إليه.
وذكر لي أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي هذا الخبر عن الجاحظ، وزاد فيه الجاحظ قال: فانظر إلى سوء أدب عقبة بن رؤية وقد أجمل بشار محضره وعشرته، فقابله بهذه المقابلة القبيحة، وكان أبوه أعلم خلق الله به، لأنه قال له وقد فاخره بشعره: أنت يابني ذهبان الشعر إذا مت مات شعرك معك، فلم يوجد من يرويه بعدك؛ فكان كما قال له، مايعرف به بين واحد ولاخبر غير هذا الخبر القبيح الإخبار عنه الدال على سخفه وسقوطه وسوء أدبه.
كان يهوى امرأة من البصرة
وقال فيها الشعر لما رحلت:
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ قال حدثنا أبو عبيدة قال: كان بشار يهوى امرأة من أهل البصرة ثقال لهاعبيدة، فخرجت عن البصرة إلى عمان مع زوجها، فقال بشار فيها: صوت
هوى صاحبي ريح الشمـال وأشفى لقلبي أن تهب جنوب
وماذاك إلا أنها حين تنتـهـي تناهى وفبها من عبيدة طيب
عذيري من العذال إذ يعذلونني سفاها وما في العاذلين لبيب صوت
يقولون لو عزيت قلبك لارعوى فقلت وهل للعاشقين قـلـوب
إذا نطق القوم الجلوس فإننـي مكب كأني في الجميع غريب بشار زأبو الشمقمق: أخبرني هاشم قال حدثني دماذ حدثني رجل من الأنصار قال: جاء أبو الشمقمق إلى بشار يشكو إليه الضيقة ويحلف له أنه ماعنده شيء؛ فقال له بشار: والله ماعندي شيء يغنيك ولكن قم معي إلى عقبة بن سلم، فقام معه فذكر له أبا الشمقمق وقال: هو شاعر وله شكر وثناء، فأمر له بخمسمائة درهم؛ فقال له بشار:
ياواحد العرب الـذي أمسى وليس له نظير
لوكان مثلـك آخـر ماكان في الدنيا فقير فأمر للبشار بألفي درهم، فقال له أبو الشمقمق: نفعتنا ونفعناك يا أبا معاذ، فجعل بشار يضحك.
بشار وأبو جعفر المنصور
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال دحثنا زكريا بن يحيى أبو السكين الطائي قال حدثني زحر بن حصن قال:
صفحة : 299
حج المنصور فاستقبلناه بالرضم الذي بين زبالة والشقوق، فلما رحل من الشقوق رحل أبو السكين فلم يركب القبة وركب نجيبا فسار بيننا، فجعلت الشمس تضحك بين عينيه، فقال: إني قائل بيتا فمن أجازه وهبت له جبتي هذه؛ فقلنا: يقول أمير المؤمنين، فقال:
وهاجرة نصبت لها جبينـي يقطع ظهرها ظهر العظاية فبدر بشار الأعمىفقال:
وقفت بها القلوص ففاض دمعي على خدي وأقصر واعظـاية فنزع الجبة وهو راكب فدفعها إليه. فقلت لبشار بعد ذلك: مافعلت بالجبة? فقال بشار: بعتها والله بأربعمائة دينار كان له شعر غث يعير به
أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن محمد النوفلي قالحدثني عبد الرحمن بن العباس بن الفضل بن عبد الرحمن بن عياش بن أبي ربيعة عن أبيه قال: كان بشار منقطعا إلي وإلى إخوتي فكان يغشانا كثيرا، ثم خرج إبارهيم بن عبد الله فخرج معه عدة منا، فلما قتل إبرايهم توارينا، وحبس المنصور منا عدة من إخوتي، فلما ولي المهدي أمن الناس جميعا وأطلق المحبوسين، فقدمت بغداد أناوإخوتي نلتمس أمانا من المهدي، وكان الشعراء يجلسون بالليل في مسجد الرصافة ينشدون ويتحدثون، فلم أطلع بشارا على نفسي إلا بعد أن أظهر لنا المهدي الأمان، وكتب أخي إلى خليفته بالليل، فصحت به: يا أبا معاذ من الذي يقول:
أحب الخاتم الأحم ر من حب مواليه فأعرض عني وأخذ في بعض إنشاده شعره، ثم صحتك يا أبا معاذ من الذي يقول:
إن سلمى خلقت من قصـب قصب السكر لاعظيم الجمل
وإذا أدنيت منـهـا بـصـلا غلب المسك على ريح البص فغضب وصاح: من الذي يقرعنا بأشياء كنا نعبث بها في الحداثة فهو يعيرنما بها? فتركته ساعة ثم صحت به: يا أبا معاذ من الذي يقول:
أخشاب حقا أن دارك تزعج وأن الذي بيني وبينك ينهج فقال: ويحك ? عن مثل هذا فسل، ثم أنشدها حتى أتى على آخرها، وهي من جيد شعره، وفيه غناء: صوت
فواكيدا قد أنضج الشوق نصفهـا ونصف على نار الصبابة ينضج
وواحزنا منهن يخففـن هـودجـا وفي الهودج المحفوف بدر متوج
فإن جئتها بين النساء فقـل لـهـا عليك سلام مـات مـن يتـزوج
بكيت ومافي الدمع منك خـلـيفة ولكن أحزاني علـيك تـوهـج الغناءلسليم بن سلام رمل بالوسطى. ووجدت هذا الخبر بخط ابن مهروية فذكر أنه قالهذه القصيدة في امرأة كانت تغشى مجلسه وكان إليها مائلا يقال لهاخشابة، فارسية، فزوجت وأخرجت عن البصرة أنشده أبو النضير شعره فاستحسنه
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني أبو حاتم: قال أبو النضير الشاعر: أنشدت بشارا قصيدة لي، فقاللي: أيجيئك شعرك هذا كلما شئت أم هذا شيء يجيئك في الفينة بعد الفينة إذا تعملت له? فقلت: بل هذا شعر يجيئني كلما أردته؛ فقال لي: قل فإنك شارع؛ فقلت له: لعلك حابيتني أبا معاذ وتحملت لي؛ فقال: أنت أبقاك الله أهون علي من ذلك.
حاول تقبيل جارية لصديق له
وقال شعرا يعتذر فيه عن ذلك: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن عباس بن عباس الزنادي عن رجل من باهلة قال: كنت عند بشار الأعمى فأتاه رجل فسلم عليه، فسأله عن خبر جارية عنده وقال: كيف ابنتي? قال: في عافية تدعوك اليوم؛ فقال بشار: ياباهلي انهض بنا، فجئنا إلى منزل نظيف وفرش سري، فأكلنا، ثم جيء بالنبيذ فشربنا مع الجارية، فلما أراد الانصراف قامت فأخذت بيد بشار، فلما صارا في الصحن أومأ إليها ليقبلها، فأرسلت يدها من يده، فجعل يجول في العرصة؛ وخرج المولى فقال: مالك يا أبا معاذ? فقال: أذنبت ذنبا ولاأبرح أو أقول شعرا، فقال:
أتوب إلـيك مـن الـسـيئات واستغفر الله من فعـلـتـي
تناولـت مـالـم أرد نـيلـه على جهل أمري وفي سكرتي
ووالـلـه مـاجـــئتـــه لعمد ولاكان من هـمـتـي
وإلا فـمـت إذا ضـائعــا وعذبني الله فـي مـيتـتـي
فما نال خيرا عـلـى قـبـلة فلا بارك الله في قبـلـتـي كتب شعرا على باب عقبة يستنجزه وعده
صفحة : 300
اخبرنا هاشم بن محمد الزاعي قال حدثنا الرياشي عن الصمعي قال: لما أنشد بشار أرجوزته:
ياطلل الحي بذات الصمد أبا الملد عقبة بن سلم أمر له بخمسين ألف درهم، فأخرها عنه وكيله ثلاثة أيام، فأمر غلامه بشار أن يكتب علي باب عقبة بن نافع عن يمين الباب:
مازال مامنيتني مـن هـمـي والوعد غم فأزح من غمـي
إن لم ترد حمدي فراقب ذمي فلما خرج عقبة رأى ذلك، فقال: هذه من فعلات بشار، ثم دعا بالقهرمان، فقال: هل حملت إلى بشار ماأمرت له به.? فقال: أيها الأمير نحن مضيقون وغدا أحملها إليه؛ فقال: زد فيها عشرة آلاف درهم واحملها إليه الساعة؛ فحملها من وقته.
نهي المهدي له عن التشبيب بالنساء
وسبب ذلك:
أخبرني هاشم قال حدثنا أبو غسان دماذ قال: سألت أبا عبيدة عن السبب الذي من أجله نهى المهدي بشارا عن ذكر النساء قال: كان أول ذلك استهتارا نساء البصرة وسبانها بشعره، حتى قال سةار بن عبد الله الأكبر ومالك بن دينار؛ ماشيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى؛ ومازالا يعظانه؛ وكان واصل بن عطاء يقول: إن من أخدع حبائل الشيطان وأغواها لكلمات هذا الأعمى الملحد. فلما كثر ذلك وانتهى خبره من وجوه كثيرة إلى المهدي، وأنشد المهدي مالمدحه به، نهاه عن ذكر النساء وقول التشبيب، وكان المهدي من أشد الناس غيرة؛ قال: فقلت له: ماأحسب شعر هذاأبلغ في هذه المعاني من شعر كثير وجميل وعروة بن جزام وقيس ين ذريح وتلك الطبقة؛ فقال: ليس كل من يسمع تلك الأشعار يعرف المراد منها، وبشار يقارب النساء حتى لايخفى عليهن مايقول ومايري، وأي حرة حصان تسمع قول بشار فلا يؤثر في قلبها، فكيف بالمرأة الغزلة والفتاة التي لاهم لها إلا الرجال ثم أنشد قوله:
قد لامـنـي فـي خـلـيلـتـــي عـــمـــر والـنـوم فـي غـير كـنـهـن صـــجـــر
قال أفـق قـلـت لا فـــقـــال بـــلـــى قد شـاع فـي الـنـاس مـنـكـمـا الـخـبــر
قلت وإذ شاع مااعتذارك مما ليس لي فيه عندهم عذر
ماذا عليهم ومالهم خرسوا لوأنـهـم فـي عـيوبــهـــم نـــظـــروا
أعــشـــق وحـــدي ويؤخـــذون بـــه كالـتـرك تـغـزو فـتـؤخـذ الـــحـــزر
ياعـجـبـا لـلـخـــلاف ياعـــجـــبـــا بفـي الـذي لام فـي الـهـوى الـحــجـــر
حسـبـي وحـسـب الـي كـلــفـــت بـــه منـي ومـنـه الـحـديث والـــنـــظـــر
أو قــبـــلة فـــي خـــلال ذاك ومـــا بأس إذا لـــم تـــحـــل لـــــس الأزر
أو عـضة فــي ذراعـــهـــا ولـــهـــا فوق ذراعـي مـن عــضـــهـــا أثـــر
أو لـمـسة دون مـــرطـــهـــا بـــيدي والـبـاب قـد حـال دونـه الـــســـتـــر
والـسـاق بـراقة مـخـلــخـــلـــهـــا أو مـص ريق وقـد عــلا الـــبـــهـــر
واسـتـرخـت الـكـف لــلـــعـــراك وق لت إيه عـنـي والـدمـع مـــنـــحـــدر
انـهـض فـمـا أنـت كـالـذي زعـــمـــوا أنـــت وربـــي مـــغـــازل أشـــر
قد غـابـت الـيوم عـنـك حـاضـنـــتـــي والـلـه لـي مـنـك فـيك ينـــتـــصـــر
يارب خـذ لـي فـقـد تــرى ضـــرعـــي من فـاسـق جـاء مـــابـــه ســـكـــر
أهـوى إلـى مـعـضـدي فــرضـــضـــه ذو قـوة مـــايطـــاق مـــقـــتـــدر
ألـثـق بـي لـحـية لــه خـــشـــنـــت ذات ســـواد كـــأنـــهـــا الإبــــر
حتـى عـلانـــي وأســـرتـــي غـــيب ويلـي عـلـيهـم لـوأنـهــم حـــضـــروا
أقـسـم بـالـلـه لانـــجـــوت بـــهـــا فاذهـب فـأنـت الـمـسـاور الـظـــفـــر
كيف بـــأمـــي إذا رأت شـــفـــتـــي أم كـيف إن شـاع مـنـك ذا الــخـــبـــر
قد كـنـت أخـشـى الـذي ابـتـلـــيت بـــه منـك فـــمـــاذا أقـــول ياعـــبـــر
قلـت لـهـا عـنــد ذاك ياســـكـــنـــي لابـأس إنــي مـــجـــرب خـــبـــر
قولـي لـهـا بـقة لـــهـــا ظـــفـــر إن كـان فـي الـبـق مـالـــه ظـــفـــر ثم قال له: بمثل هذا الشرع تميل القلوب ويلين الصعب قال دماذ قال لي أبو عبيدة: قال رجل يوما لبشار في المسجد الجامع يعابثه: يا أبا معاذ، أيعجبك الغلام الجادل? فقال غير محتشم ولامكترث: لا، ولكن تعجبني أمه.
ورد على خالد البرمكي بفارس وامتدحه
أخبرني عمي قال حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن سهل عن محمد بن الحجاج قال:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق