اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الأربعاء، 12 أكتوبر 2022

ج6.كتاب الأغاني- أبو الفرج الأصفهاني {صفحة:1500}

 

ج6.

صفحة:1500 .

 

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعمومته، أن مطيع بن إياس وعمارة بن حمزة من بني هاشم، وكان مرميين بالزندقة، نزعا إلى عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب لما خرج في آخر دولة بني أمية، وأول ظهور الدولة العباسية بخراسان، وكان ظهر على نواح من الجبل: منها أصبهان وقم ونهاوند، فكان مطيع وعمارة ينادمانه ولا يفارقانه.

قال النوفلي: فحدثني إبراهيم بن يزيد بن الخشك قال: دخل مطيع بن إياس على عبد الله بن معاوية يوما وغلام واقف على رأسه يذب عنه بمنديل ولم يكن في ذلك الوقت مذاب، إنما المذاب عباسية قال: وكان الغلام الذي يذب أمرد حسن الصورة، يروق عين الناظر، فلما نظر مطيع إلى الغلام كاد عقله يذهب، وجعل يكلم ابن معاوية يلجلج، فقال:

إني وما أعمل الحـجـيج لـه                      أخشى مطيع الهوى على فرج

أخشى عليه مغامسـا مـرسـا                      ليس بـذي رقـبة ولا حـرج ما قاله هو وعمارة في صاحب شرطة ابن معاوية أخبرني أحمد بن عبيد الله قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: حدثني أبي عن عمه عيسى قال: كان لابن معاوية صاحب شرطة يقال له: قيس بن عيلان العنسي النوفلي وعيلان اسم أبيه، وكان شيخا كبيرا دهريا لا يؤمن بالله ، وكان إذا عس لم يبق أحد إلا قتله، فأقبل يوما فنظر إليه ابن معاوية ومعه عمارة بن حمزة ومطيع بن إياس، قال:

إن قيسا وإن تقنع شـيبـا                      لخبيث الهوى على شمطه أجزيا عمارة. فقال:

ابن سبعين منظرا ومشيبا                      وابن عشر يعد في سقطه فأقبل على مطيع فقال: أجز. فقال:

وله شرطة إذا جنه اللـي                      ل فعوذوا بالله من شرطه قال النوفلي: وكان مطيع فيما بلغني مأبونا، فدخل عليه قومه فلاموه على فعله، وقالوا له: أنت في أدبك وشرفك وسؤددك وشرفك ترمى بهذه الفاحشة القذرة? فلو أقصرت عنها فقال: جربوه أنتم ثم دعوا إن كنتم صادقين. فانصرفوا عنه. وقالوا: قبح الله فعلك وعذرك، وما استقبلتنا به.

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا حماد عن أخيه عن النضر بن جديد قال: أخبرني أبو عبد الملك المرواني قال: حدثني مطيع بن إياس قال: قال لي حماد عجرد: هل لك في أن أريك خشة صديقي، وهي المعروفة بظبية الوادي? قلت: نعم. قال: إنك إن قعدت عنها وخبثت عينك في النظر أفسدتها علي. فقلت: لا والله لا أتكلم بكلمة تسوءك. ولأسرنك. فمضى وقال: والله لا أتكلم، لئن خالفت ما قلت لأخرجنك. قال: قلت: إن خالفت ما تكره فاصنع بي ما أحببت. قال: امض بنا. فأدخلني على أظرف خلق الله وأحسنهم وجها، فلما رأيتها أخذني الزمع وفطن لي: فقال: اسكن يا ابن الزانية. فسكنت قليلا، فلحظتني ولحظتها أخرى، فغضب ووضع قلنسيته عن رأسه، وكانت صلعته حمراء كأنها است قرد، فلما وضعها وجدت للكلام موضعا فقلت:

وار السوأة السـوآ                      ء يا حماد عن خشه

عن الأترجة الغض                      ة والتفاحة الهشـه فالتفت إلي، وقال: فعلتها يا ابن الزانية? فقالت له: أحسن والله، ما بلغ صفتك بعد، فما تريد منه? فقال لها: يا زانية فقالت له: الزانية أمك وثاورته وثاورها، فشقت قميصه، وبصقت في وجهه، وقالت له: ما تصادقك وتدع مثل هذا إلا زانية وخرجنا وقد لقي كل بلاء، وقال لي: ألم أقل لك يا ابن الزانية: إنك ستفسد علي مجلسي. فأمسكت عن جوابه، وجعل يهجوني ويسبني، ويشكوني إلى أصحابنا، فقالوا لي: اهجه ودعنا وإياه. فقلت فيه:

ألا يا ظبية الـوادي                      وذات الجسد الراد

وزين المصر والدار                      وزين الحي والنادي

وذات المبسم العذب                      وذات الميسم البادي

أما بالله تستـحـيي                      ن من خلة حمـاد

فحماد فتـى لـيس                      بذي عز فتنقـادي

ولا مـال ولا عـز                      ولا حظ لمـرتـاد

فتوبي واتقي الـلـه                      وبتي جبل جـراد

فقد ميزت بالحسـن                      عن الخلق بإفـراد

وهذا البين قد حـم                      فجودي منك بالزاد في الأول والثاني والسابع والثامن من هذه الأبيات لحكم الوادي رمل.

 

 

صفحة : 1501

 

قال: فأخذ أصحابنا رقاعا فكتبوا الأبيات فيها، وألقوها في الطريق، وخرجت أنا فلم أدخل إليهم ذلك اليوم، فلما رآها وقرأها قال لهم: يا أولاد الزنا، فعلها ابن الزانية، وساعدتموه علي قال: وأخذها حكم الوادي فغنى فيها، فلم يبق بالكوفة سقاء ولا طحان ولامكار إلا غنى فيها، ثم غنيت مدة وقدمت، فأتاني فما سلم علي حتى قال لي: يا ابن الزانية، ويلك أما رحمتني من قولك لها:

أما بالله تستحيي                      ن من خلة حماد بالله قتلتني قتلك الله والله ما كلمتني حتى الساعة. قال: قلت: اللهم أدم هجرها له وسوء آرائها فيه، وآسفه عليها، وأغره بها فشتمني ساعة. قال مطيع: ثم قلت له: قم بنا حتى أمضي بك فأريك أختي. قال مطيع، فمضينا فلما خرجت إلينا دعوت قيمة لها فأسررت إليها في أن تصلح لنا طعاما وشرابا، وعرفتها أن الذي معي حماد. فضحكت ثم أخذت صاحبتي في الغناء، وقد علمت بموضعه وعرفته، فكان أول صوت غنت:

أما بالله تستحيي                      ن من خلة حماد فقال لها: يا زانية وأقبل علي فقال لي: وأنت يا زاني يا ابن الزانية. وشاتمته صاحبتي ساعة، ثم قامت فدخلت، وجعل يتغيظ علي فقلت: أنت ترى أني أمرتها أن تغني بما غنت? قال: أرى ذلك وأظنه ظنا، لا والله، ولكني أتيقنه فحلفت له بالطلاق على بطلان ظنه، فقالت: وكيف هذا? فقلت: أراد أن يفسد هذا المجلس من أفسد ذلك المجلس. فقالت: قد والله فعل. وانصرفنا.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجل من أصحابه قال: قال يحيى بن زياد الحارثي لمطيع بن إياس: انطلق بنا إلى فلانة صديقتي، فإن بيني وبينها مغاضبة، لتصلح بيننا، وبئس المصلح أنت. فدخلا إليها فأقبلا يتعاتبان، ومطيع ساكت، حتى إذا أكثر قال يحيى لمطيع، ما يسكتك، أسكت الله نأمتك? فقال لها مطيع:

أنت معتلة عليه ومـا زا                      ل مهينا لنفسه في رضاك فأعجب يحيى بما سمع، وهش له مطيع:

فدعيه وواصلي ابن إياس                      جعلت نفسي الغداة فداك فقام يحيى إليه بوسادة في البيت، فما زال يجلد بها رأسه ويقول: ألهذا جئت بك يا ابن الزانية ومطيع يغوث حتى مل يحيى، والجارية تضحك منهما، ثم تركه وقد سدر.

حدثني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: مرض حماد عجرد، فعاده أصدقاؤه جميعا إلا مطيع بن إياس، وكان خاصة به، فكتب إليه حماد:

كفاك عيادتي من كان يرجـو                      ثواب الله في صلة المريض

فإن تحدث لك الأيام سقـمـا                      يحول جريضه دون القريض

يكن طول التأوه منك عنـدي                      بمنزلة الطنين من البعوضأم أخبرني محمد بن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه قال: قدم مطيع بن إياس من سفر فقدم بالرغائب، فاجتمع هو وحماد عجرد بصديقته ظبية الوادي، وكان عجرد على الخروج مع محمد بن أبي العباس إلى البصرة، وكان مطيع قد أعطى صاحبته من طرائف ما أفاد، فلما جلسوا يشربون غنت ظبية الوادي فقالت:

أظن خليلي غدوة سـيسـير                      وربي على أن لا يسير قدير فما فرغت من الصوت حتى غنت صاحبة مطيع:

ما أبالي إذا النوى قربتـهـم                      ودنونا من حل منهم وساروا فجعل مطيع يضحك وحماد يشتمها.

 

أظن خليلي غـدوة سـيسـير                      وربي على أن لا يسير قـدير

عجبت لمن أمسى محبا ولم يكن                      له كفن في بـيتـه وسـرير غنى في هذين البيتين إبراهيم الموصلي، ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر، وفيهما لحن يمان قديم خفيف رمل بالوسطى.

حدثني الحسن قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن المدبر عن محمد بن عمر الجرجاني قال: كان لمطيع بن إياس صديق يقال له: عمر بن سعيد، فعاتبه في أمر قينة يقال لها مكنونة كان مطيع يهواها حتى اشتهر بها، وقال له: إن قومك يشكونك ويقولون، إنك تفضحهم بشهرتك نفسك بهذه المرأة، وقد لحقهم العيب والعار من أجلها فأنشأ مطيع يقول:

قد لامني في حبيبتي عـمـر                      واللوم في غير كنهه ضجـر

قال أفق قلت لا قـال بـلـى                      قد شاع في الناس عنكما الخبر

 

صفحة : 1502

 

 

قلت قد شاع فاعتذاري ممـا                      ليس لي فيه عندهم عـذر

عجز لعمري وليس ينفعنـي                      فكف عني العتاب يا عمـر

وارجع إليهم وقل لهم قد أبى                      وقال لي لا أفيق فانتحـروا

أعشق وحدي فيؤخذون بـه                      كالترك تغزو فيقتل الخزر أخبرني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني ابن أبي أحمد عن أبي العير الهاشمي قال: حدثني أبي أن مطيع بن إياس مر بيحيى بن زياد، وحماد الراوية وهما يتحدثان، فقال لهما: فيم أنتما? قالا: في قذف المحصنات. قال: أو في الأرض محصنة فتقذفانها? حدثني عيسى بن الحسن الوراق قال: حدثني عمر بن عبد الملك الزيات. وحدثنيه الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني محمد بن هارون قال: أخبرني الفضل بن إياس الهذلي الكوفي أن المنصور كان يريد البيعة للمهدي، وكان ابنه جعفر يعترض عليه في ذلك، فأمر بإحضارالناس فحضروا، وقامت الخطباء فتكلموا، وقالت الشعراء فأكثروا في وصف المهدي وفضائله، وفيهم مطيع بن إياس، فلما فرغ من كلامه في الخطباء وإنشاده في الشعراء قال للمنصور: يا أمير المؤمنين، حدثنا فلان عن فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:  المهدي منا محمد بن عبد الله وأمه من غيرنا، يملؤها عدلا كما ملئت جورا  . وهذا العباس بن محمد أخوك يشهد على ذلك. ثم أقبل على العباس، فقال له: أنشدك الله هل سمعت هذا? فقال: نعم. مخافة من المنصور، فأمر المنصور الناس بالبيعة للمهدي.

قال: ولما انقضى المجلس، وكان العباس بن محمد لم يأنس به، قال: أرأيتم هذا الزنديق إذ كذب على الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم حتى استشهدني على كذبه، فشهدت له خوفا، وشهد كل من حضر علي بأني كاذب? وبلغ الخبر جعفر بن أبي جعفر، وكان مطيع منقطعا إليه يخدمه، فخافه وطرده عن خدمته. قال: وكان جعفر ماجنا، فلما بلغه قول مطيع هذا غاظه، وشقت عليه البيعة لمحمد، فأخرج أيره ثم قال: إن كان أخي محمد هو المهدي فهذا القائم من آل محمد.

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: كان مطيع بن إياس يخدم جعفر بن أبي جعفر المنصور وينادمه، فكره أبو جعفر ذلك، لما شهر به مطيع في الناس وخشي أن يفسده، فدعا بمطيع وقال له: عزمت علي أن تفسد ابني علي وتعلمه زندقتك? فقال: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من أن تظن بي هذا، والله ما يسمع مني إلا ما إذا وعاه جمله وزينه ونبله فقال: ما أرى ذلك ولا يسمع منك إلا ما يضره ويغره. فلما رأى مطيع إلحاحه في أمره قال له: أتؤمنني يا أمير المؤمنين عن غضبك حتى أصدقك? قال: أنت آمن. قال: وأي مستصلح فيه? وأي نهاية لم يبلغها في الفساد والضلال? قال: ويلك، بأي شيء? قال: يزعم أنه ليعشق امرأة من الجن وهو مجتهد في خطبتها، وجمع أصحاب العزائم عليها، وهم يغرونه ويعدونه بها ويمنونه، فوالله ما فيه فضل لغير ذلك من جد ولا هزل ولا كفر إيمان. فقال له المنصور: ويلك، أتدري ما تقول? قال: الحق والله أقول. فسل عن ذلك، فقال له: عد إلى صحبته واجتهد أن تزيله عن هذا الأمر، ولا تعلمه أني علمت بذلك حتى أجتهد في أزالته عنه.

أخبرني عمي قال: حدثني الكراني عن ابن عائشة قال: كان مطيع بن إياس منقطعا إلى جعفر بن أبي جعفر المنصور، فدخل أبوه المنصور عليه يوما، فقال لمطيع: قد أفسدت ابني يا مطيع. فقال له مطيع: إنما نحن رعيتك فإذا أمرتنا بشيء فعلنا.

قال: وخرج جعفر من دار حرمه فقال لأبيه: ما حملك على أن دخلت داري بغير إذن? فقال له أبو جعفر: لعن الله من أشبهك، ولعنك فقال: والله لأنا أشبه بك منك بأبيك - قال: وكان خليعا - فقال: أريد أن أتزوج امرأة من الجن فأصابه لمم، فكان يصرع بين يدي أبيه والربيع واقف، فيقول له: يا ربيع، هذه قدرة الله.

وقال المدائني في خبره الذي ذكرته عن عيسى بن الحسين عن أحمد بن الحارث عنه: فأصاب جعفرا من كثرة ولعه بالمرأة التي ذكر أنه يتعشقها من الجن صرع، فكان يصرع في اليوم مرات حتى مات، فحزن عليه المنصور حزنا شديدا، ومشى في جنازته، فلما دفن وسوي قبره قال للربيع، أنشدني قول مطيع بن إياس في مرثية يحيى بن زياد. فأنشده:

 

صفحة : 1503

 

 

يا أهلي ابكوا لقلبي الـقـرح                      وللدموع الذوارف السـفـح

راحوا بيحيى ولو تطاوعني ال                      أقدار لم يبتـكـر ولـم يرح

يا خير من يحسن البكاء له ال                      يوم ومن كان أمس للـمـدح قال: فبكى المنصور، وقال: صاحب هذا القبر أحق بهذا الشعر.

أخبرني به عمي أيضا عن الخزاز عن المدائني، فذكر مثله.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني يعقوب بن إسرائيل قال: حدثني المغيرة بن هشام الربعي قال: سمعت ابن عائشة يقول: مر مطيع بن إياس بالرصافة، فنظر إلى جارية قد خرجت من قصر الرصافة كأنها الشمس حسنا وحواليها وصائف يرفعن أذيالها، فوقف ينظر إليها إلى أن غابت عنه، ثم التفت إلى رجل كان معه وهو يقول:

لما خرجن من الرصـا                      فة كالتماثيل الحـسـان

يحففن أحور كالـغـزا                      ل يميس في جدل العنان

قطعن قلبـي حـسـرة                      وتقسما بين الأمـانـي

ويلي على تلك الشـمـا                      ئل واللطيف من المعاني

يا طول حر صبابـتـي                      بين الغواني والـقـيان أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن أبي سعيد، عن ابن توبة صالح بن محمد، قال: حدثني بعض ولد منصور بن زياد عن أبيه قال: قال محمد بن الفضل بن السكوني: رحل مطيع بن إياس إلى هشام بن عمرو وهو بالسند مستمحيا له، فلما رأته بنته قد صحح العزم على الرحيل بكت، فقال لها:

اسكتي قد حززت بالدمع قلبي                      طالما حز دمعكن القلـوبـا

ودعي أن تقطعي الآن قلبـي                      وتريني في رحلتي تعـذيبـا

فعسى الله أن يدافع عـنـي                      ريب ما تحذرين حتى أءوبـا

ليس شيء يشأوه ذو المعالـي                      بعزيز عليه فادعي المجيبـا

أنا في قبضة الإلـه إذا مـا                      كنت بعدا أو كنت منك قريبا ووجدت هذه الأبيات في شعر مطيع بغير رواية، فكان أولها:

ولقد قلت لابنتي وهي تكوي                      بانسكاب الدموع قلبا كئيبـا وبعده بقية الأبيات.

أخبرني الحسن بن علي الحفاف قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، عن صالح الأصم قال: كان مطيع بن إياس مع إخوان له على نبيذ، وعندهم قينة تغنيهم، فأومأ إليها مطيع بقبلة، فقالت له: تراب فقال مطيع:

إن قلبي قد تصابـى                      بعد ما كان أنـابـا

ورماه الحب مـنـه                      بسهام فـأصـابـا

قد دهـاه شـادن يل                      بس في الجيد سخابا

فهو بدر في نقـاب                      فإذا ألقى النقـابـا

قلت شمس يوم دجن                      حسرت عنها السحابا

ليتني منه على كـش                      حين قد لانا وطابـا

أحضر الناس بما أك                      رهه منه جـوابـا

فإذا قلت أنـلـنـي                      قبلة قـال تـرابـا لحكم الوادي في هذه الأبيات هزج بالنبصر، من رواية الهشامي.

أخبرنا أبو الحسن الأسدي قال: ذكر موسى بن صالح بن سنح بن عميرة أن مطيع بن إياس كان أحضر الناس جوابا ونادرة، وأنه ذات يوم كان جالسا يعدد بطون قريش ويذكر مآثرها ومفاخرها، فقيل له: فأين بنو كنانة? قال:

بفلسطين يسرعون الركوبا أراد قول عبيد الله بن قيس الرقيات:

حلق من بني كنانة حولـي                      بفلسطين يسرعون الركوبا أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال: كان أبو دهمان صديقا لمطيع، وكان يظهر للناس تألها ومروءة وسمتا حسنا، وكان ربما دعا مطيعا ليلة من الليالي أن يصير إليه، ثم قطعه عنه شغل، فاشتغل وجاء مطيع فلم يجده، فلما كان من الغد جلس مطيع مع أصحابه، فأنشدهم فيه:

ويلي ممن جفانـي                      وحبه قد بـرانـي

وطيفه يلـقـانـي                      وشخصه غير دان

أغر كالبدر يعشـى                      بحسنه العـينـان

جاري لا تعذلانـي                      في حبه ودعانـي

فرب يوم قـصـير                      في جوسق وجنان

بالراح فـيه يحـيا                      والقصف والريحان

 

صفحة : 1504

 

 

وعندنـا قـينـتـان                      وجهاهما حسـنـان

عوداهمـا غـردان                      كأنما ينـطـقـان

وعندنا صـاحـبـان                      للدهر لا يخضعـان

فكـنـت أول حـام                      وأول السـرعـان

في فتية غير مـيل                      عند اختلاف الطعان

من كل خوف مخيف                      في السر والإعلان

حمال كل عـظـيم                      تضيق عند الـيدان

وإن ألـح زمــان                      لم يستكن للزمـان

فزال ذاك جمـيعـا                      وكل شـيء فـان

من عاذري من خليل                      موافـق مـلـدان

مداهـن مـتــوان                      يكنى أبي دهمـان

متى يعـدك لـقـاء                      فالنجم والفرقـدان

ولـيس يعـتـم إلا                      سكران مع سكران

يسقـيه كـل غـلام                      كأنه غصـن بـان

من خندريس عقـار                      كحمرة الأرجـوان قال: فلقيه بعد ذلك أبو دهمان، فقال: عليك لعنة الله فضحتني، وهتفت بي، وأذعت سري، لا أكلمك أبدا، ولا أعاشرك ما بقيت، فما تفرق بين صديقك وعدوك.

أخبرني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي العطار بالكوفة، قال: حدثني علي بن عمروس عن عمه علي بن القاسم قال: كنت آلف مطيع بن إياس، وكان جاري، وعنفني في عشرته جماعة، وقالوا لي: إنه زنديق. فأخبرته بذلك، فقال: وهل سمعت مني أو رأيت شيئا يدل على ذلك، أو هل وجدتني أخل بالفرائض في صلاة أو صوم? فقلت له: والله ما اتهمتك ولكني خبرتك بما قالوا. واستحييت منه. فعجل على السكر ذات يوم في منزله، فنمت عنده ومطرنا في جوف الليل وهو معي، فصاح بي مرتين أو ثلاثا، فعلمت أنه يريد أن يصطبح، فكسلت أن أجيبه، فلما تيقن أني نائم جعل يردد على نفسه بيتا قاله، وهو قوله:

أصبحت جم بلابل الصدر                      عصرا أكاتمه إلى عصر فقلت في نفسي: هذا يعمل شعرا في فن من الفنون. فأضاف إليه بيتا ثانيا، وهو قوله:

إن بحت طل دمي وإن تركت                      وقدت علي توقد الجـمـر فقلت في نفسي: ظفرت بمطيع. فتنحنحت، فقال لي: أما ترى هذا المطر وطيبه، أقعد بنا حتى نشرب أقداحا. فاغتنمت ذلك، فلما شربنا أقداحا قلت له: زعمت أنك زنديق. قال: وما الذي صحح عندك أني زنديق? قلت: قولك: إن بحت طل دمي وأنشدته البيتين، فقال لي: كيف حفظت البيتين ولم تحفظ الثالث? فقلت: والله ما سمعت منك ثالثا. فقال: بلى قد قلت ثالثا. قلت: فما هو? قال:

مما جناه علي أبي حسن                      عمر وصاحبه أبو بكر وحدثني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن المدبر قال: حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال: جاء مطيع بن إياس إلى إخوان له وكانوا على شراب، فدخل الغلام يستأذن له، فلما سمع صاحب البيت بذكره خرج مبادرا، فسمعه يقول:

أمسيت جم بلابل الـصـدر                      دهرا أزجـيه إلـى دهـر

إن فهت طل دمي وإن كتمت                      وقدت علي توقد الجـمـر فلما أحس مطيع بأن صاحب البيت قد فتح له استدرك البيتين بثالث فقال:

مما جناه علي أبي حسن                      عمر وصاحبه أبو بكر وكان صاحب البيت يتشيع، فأكب على رأسه يقبله ويقول: جزاك الله يا أبا مسلم خيرا وذكر أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الكاتب: أن الرشيد أتي ببنت مطيع بن إياس في الزنادقة، فقرأت كتابهم واعترفت به، وقالت: هذا دين علمنيه أبي، وتبت منه. فقبل توبتها وردها إلى أهلها.

قال أحمد: ولها نسل بجبل في قرية يقال لها: الفراشية قد رأيتهم، ولا عقب لمطيع إلا منهم.

أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن ابن عائشة قال: كان مطيع بن إياس نازلا بكرخ بغداد، وكان بها رجل يقال له: الفهمي، مغن محسن، فدعاه مطيع ودعا بجماعة من إخوانه وكتب إلى يحيى بن زياد يدعوه بهذه الأبيات. قال:

عندنا الفهمي مسرو                      ر وزمار مـجـيد

ومـعـاذ وعــياذ                      وعمـير وسـعـيد

وندامى يعملـون ال                      لقز والقلـز شـديد

بعضهم ريحان بعض                      فهم مسـك وعـود

 

صفحة : 1505

 

قال: فأتاه يحيى، فأقام عنده وشرب معهم، وبلغت الأبيات المهدي، فضحك منها، وقال: تنايك القوم ورب الكعبة.

قال الكراني: القلز: المبادلة.

وجدت هذا الخبر بخط ابن مهرويه، عن إبراهيم بن المدبر عن محمد بن عمر الجريدي. فذكر أن مطيعا اصطبح يوم عرفة وشرب يومه وليلته، واصطبح يوم الأضحى، وكتب إلى يحيى من الليل بهذه الأبيات:

قد شربنا ليلة الأض                      حى وسقـينـا يزيد

عندنا الفهمي مسرو                      ر وزمار مـجـيد

وسليمـان فـتـانـا                      فهو يبـدي ويعـيد

ومـعـاذ وعــياذ                      وعمـير وسـعـيد

وندامى كلـهـم يق                      لز والقلـز شـديد

بعضهم ريحان بعض                      فهم مسـك وعـود

غالت الأنحس عنهم                      وتلقتهـم سـعـود

فترى القوم جلوسـا                      والخنا عنهم بـعـيد

ومطـيع بـن إياس                      فهو بالقصف ولـيد

وعلى كر الجـديدي                      ن وما حل جـلـيد ووجدت في كتاب بعقب هذا: وذكر محمد بن عمر الجرجاني أن عوف بن زياد كتب يوما إلى مطيع: أنا اليوم نشيط للشرب، فإن كنت فارغا فسر إلي، وإن كان عندك نبيذ طيب، وغناء جيد جئتك. فجاءته رقعته وعنده حماد الراوية وحكم الوادي، وقد دعوا غلاما أمرد، فكتب إليه مطيع:

نعم لنا نـبـيذ                      وعندنا حمـاد

وخيرنا كثـير                      والخير مستزاد

وكلنا من طرب                      يطير أو يكـاد

وعندنا وادينـا                      وهو لنا عماد

ولهونـا لـذيذ                      لم يلهه العبـاد

إن تشته فسـادا                      فعندنا فـسـاد

أو تشته غلاما                      فعنـدنـا زياد

ما إن به التواء                      عنا ولا بعـاد قال: فلما قرأ الرقعة صار إليهم، فأتم به يومه معهم.

أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو بكر العامري عن عنبسة القرشي الكريزي عن أبيه قال: مدح مطيع بن إياس الغمر بن يزيد بقصيدته التي يقول فيها:

لا تلح قلبك في شـقـائه                      ودع الميتم فـي بـلائه

كفكف دموعك أن يفض                      ن بناظر غرق بـمـائه

ودع النـسـيب وذكـره                      فبحسب مثلك من عنائه

كم لذة قـد نـلـتـهـا                      ونعيم عيش في بـهـائه

بنوا عم شبـه الـدمـى                      والليل في ثنيي عمـائه

واذكر فتـى بـيمـينـه                      حتف الزمان لدى التوائه

وإذا أمـية حـصـلـت                      كان المهذب في انتمائه

وإذا الأمور تفـاقـمـت                      عظما فمصدرها بـرائه

وإذا أردت مـديحـــه                      لم يكد قولك في بـنـائه

في وجهه علم الـهـدى                      والمجد في عطفي ردائه

وكأنما الـبـدر الـمـن                      ير مشبه به في ضـيائه فأمر له بعشرة آلاف درهم، فكانت أول قصيدة أخذ بها جائزة سنية، وحركته ورفعت من ذكره، ثم وصله بأخيه الوليد فكان من ندمائه.

أنشدني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه، لمطيع بن إياس يستعطف يحيى بن زياد في هجرة كانت بينهما وتباعد:

يا سمي النبـي الـذي خ                      ص به الله عبده زكـريا

فدعاه الإله يحيى ولـم يج                      عل له الله قبل ذاك سميا

كن بصب أمسى بحبك برا                      إن يحيى قد كان برا تقيا وأنشدني له يرثي يحيى بعد وفاته:

قد مضى يحيى وغودرت فردا                      نصب ما سرعيون الأعـادي

وأرى عيني مذ غـاب يحـيى                      بدلت من نومها بالـسـهـاد

وسدته الكف مـنـي تـرابـا                      ولقد أرثي لـه مـن وسـاد

بين جيران أقاموا صـمـوتـا                      لا يحيرون جواب المـنـادي

أيها المزن الذي جاد حـتـى                      أعشبت منه متون الـبـوادي

اسق قبرا فيه يحـيى فـإنـي                      لك بالشكر مـواف مـغـاد نسخت من نسخة بخط هارون بن محمد بن عبد الملك قال:

 

صفحة : 1506

 

لما بيعت جوهر التي كان مطيع بن إياس يشبب بها قال فيها وفيه غناء من خفيف الرمل أظنه لحكم:

صاح غراب البين بالـبـين                      فكدت أنقد بـنـصـفـين

قد صار لي خدنان من بعدهم                      هم وغـم شـر خـدنـين

أفدي التي لم ألق من بعدهـا                      أنسا وكانت قـرة الـعـين

أصحبت أشكو فرقة البـين                      لما رأت فرقتهـم عـينـي أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا العباس بن ميمون بن طائع قال: حدثني ابن خرداذبة قال: خرج مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد حاجين، فقدما أثقالهما وقال أحدهما للآخر: هل لك في أن نمضي إلى زرارة فنقصف ليلتنا عنده، ثم نلحق أثقالنا? فما زال ذلك دأبهم حتى انصرف الناس من مكة. قال: فركبا بعيريهما وحلقا رؤسهما ودخلا مع الحجاج المنصرفين. وقال مطيع في ذلك:

ألم ترني ويحيى قد حججنـا                      وكان الحج من خير التجاره

خرجنا طالبـي خـير وبـر                      فمال بنا الطريق إلى زراره

فعاد الناس قد غنموا وحجوا                      وأبنا موقرين من الخسـاره وقد روي هذا الخبر لبشار وغيره.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي عن إبراهيم الموصلي عن محمد بن الفضل قال: خرج جماعة من الشعراء في أيام المنصور عن بغداد في طلب المعاش، فخرج يحيى بن زياد إلى محمد بن العباس وكنت في صحابته، فمضى إلى البصرة، وخرج حماد عجرد إليها معه، وعاد حماد الراوية إلى الكوفة، وأقام مطيع بن إياس ببغداد وكان يهوى جارية يقال لها: ريم لبعض النخاسين وقال فيها:

لولا مكانك فـي مـدينـتـهـم                      لظعنت في صحبي الألى ظعنوا

أوطنت بـغـدادا بـحـبـكـم                      وبغيرها لـولاكـم الـوطـن قال: وقال مطيع في صبوح اصطبحه معها:

ويوم ببغداد نعـمـنـا صـبـاحـه                      على وجه حوراء المدامع تطـرب

ببيت ترى فـيه الـزجـاج كـأنـه                      نجوم الدجى بين الندامى تـغـلـب

يصرف ساقـينـا ويقـطـب تـارة                      فيا طيبها مقطوبة حـين يقـطـب

علينا سحيق الزعفـران وفـوقـنـا                      أكاليل فيها الياسمـين الـمـذهـب

فما زلت أسقى بين صنج ومزهـر                      من الراح حتى كادت الشمس تغرب وفيها يقول:

أمسى مطيع كلفا                      صبا حزينا دنفـا

حر لمن يعشقـه                      برقه معتـرفـا

يا ريم فاشفي كبدا                      حرى وقلبا شغفا

ونوليني قـبـلة                      واحدة ثم كفـى قال وفيها يقول:

يا ريم قد أتلفت روحي فـمـا                      منها معي إلا القليل الحـقـير

فأذنبي إن كنت لـم تـذنـبـي                      في ذنوبا إن ربـي غـفـور

ماذا على أهلك لو جـدت لـي                      وزرتني يا ريم فـيمـن يزور

هل لك في أجر تجـازي بـه                      في عاشق يرضيه منك اليسير

يقبل مـا جـدت بـه طـائعـا                      وهو وإن قل لديه الـكـثـير

لعمري من أنت له صـاحـب                      ما غاب عنه في الحياة السرور قال وفيها يقول:

يا ريم يا قاتـلـتـي                      إن لم تجودي فعدي

بيضت بالمطل وإخلا                      فك وعدي كـبـدي

حالف عيني سهـدي                      وما بها مـن رمـد

يا ليتني فـي الأحـد                      أبليت مني جسـدي

لمن به من شقوتـي                      أخذت حتفي بـيدي أنشدني علي بن سليمان الأخفش قال: أنشدني محمد بن الحسن بن الحرون عن ابن النطاح لمطيع بن إياس، يقوله في جوهر جارية بربر:

يا بأبي وجهك من بينـهـم                      فإنه أحسن مـا أبـصـر

يا بأبي وجهـك مـن رائع                      يشبهه البـدر إذا يزهـر

جارية أحسن من حلـيهـا                      والحلي فيه الدر والجوهر

وجرمها أطيب من طيبهـا                      والطيب فيه المسك والعنبر

جاءت بها بربر مكـنـونة                      يا حبذا ما جلبت بـربـر

كأنما ريقـتـهـا قـهـوة                      صب عليها بارد أسـمـر

 

صفحة : 1507

 

أخبرني الحسين بن القاسم قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني منصور بن بشر العمركي عن محمد بن الزبرقان قال: كان مطيع بن إياس كثير العبث، فوقف على أبي العمير: رجل من أصحاب المعلى الخادم، فجعل يعبث به ويمازحه إلى أن قال:

ألا أبلغ لديك أبـا الـعـمـير                      أراني الله في استك نصف أير فقال له أبو العمير: يا أبا سلمى، لوجدت لأحد بالأير كله لجدت به إلى ما بيننا من الصداقة، ولكنك بحبك لا نريده كله إلا لك. فأفحمه، ولم يعاود العبث به.

قال: وكام مطيع يرمى بالأبنة.

قال: وسقط لمطيع حائط، فقال له بعض أصدقائه: احمد الله على السلامة قال: احمد الله أنت الذي لم ترعك هدته، ولم يصبك غباره، ولم تعدم أجرة بنائه.

أخبرني إسماعيل بن يونس بن أبي اليسع الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: وفد مطيع بن إياس إلى جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري وقد مدحه بقصيدته:

أمن آل ليلى عزمن الـبـكـورا                      ولم تلق ليلى فتشفي الضمـيرا

وقد كنت دهـرك فـيمـا خـلا                      لليلى وجارات لـيلـى زءورا

ليالي أنـت بـهـا مـعـجـب                      تهيم إليها وتعـصـي الأمـيرا

وإذ هي حوراء شبـه الـغـزا                      ل تبصر في الطرف منها فتورا

تقول ابنتـي إذ رأت حـالـتـي                      وقربت للبين عنـسـا وكـورا

إلى من أراك وقتـك الـحـتـو                      ف نفسي تجشمت هذا المسـيرا

فقلت: إلى الـبـجـلـي الـذي                      يفك العناة ويغنـي الـفـقـير

أخي العرف أشبه عند الـنـدى                      وحمل الـمـئين أبـاه جـديرا

عشير الندى ليس يرضى النـدى                      يد الدهر بعد جـرير عـشـيرا

إذا استكثر المجتدون الـقـلـي                      ل للمعتفين استقـل الـكـثـير

إذا عسر الخير في المجـتـدي                      ن كان لـديه عـتـيدا يسـيرا

ولـيس بـمـانـع ذي حـاجة                      ولا خاذل من أتى مستـجـيرا

فنفسـي وقـتـك أبـا خـالـد                      إذا ما الكماة أغاروا النـمـورا

إلـى ابـن يزيد أبـي خـالـد                      أخي العرف أعملتها عيسجورا

لنلقى فـواضـل مـن كـفـه                      فصادفت منـه نـوالا غـزيرا

فإن يكن الشكر حسـن الـثـنـا                      ء بالعرف مني تجدني شكـورا

بصيرا بمـا يسـتـلـذ الـروا                      ة من محكم الشعر حتى يسـيرا فلما بلغ يزيد خبر قدومه دعا به ليلا، ولم يعلم أحد بحضوره، ثم قال له: قد عرفت خبرك، وإني متعجل لك جائزتك ساعتي هذه، فإذا حضرت غدا فإني سأخاطبك مخاطبة فيها جفاء، وأزودك نفقة طريقك وأصرفك، لئلا يبلغ أبا جعفر خبري فيهلكني. فأمر له بمائتي دينار، فلما أصبح أتاه، فاستأذنه في الإنشاد، فقال له: يا هذا لقد رميت بآمالك غير مرمى، وفي أي شيء أنا حتى ينتجعني الشعراء? لقد أسأت إلي لأني لا أستطيع تبليغك محابك، ولا آمن سخطك وذمك. فقال له: تسمع ما قلت فإني أقبل ميسورك، وأبسط عذرك. فاستمع منه كالمتكلف المتكره، فلما فرغ قال لغلامه: يا غلام كم مبلغ ما بقي من نفقتنا? قال: ثلاثمائة درهم. قال: أعطه مائة درهم لنفقة طريقه، ومائة درهم ينصرف بها إلى أهله، واحتبس لنفقتنا مائة درهم. ففعل الغلام ذلك، وانصرف مطيع عنه شاكرا، ولم يعرف أبو جعفر خبره.

أنشدني وكيع عن حماد بن إسحاق عن أمه، لمطيع بن إياس، وفيه غناء:

واها لشخص رجوت نائله                      حتى انثنى لي بوده صلفا

لانت حواشيه لي وأطمعني                      حتى إذا قلت نلته انصرفا قال: وأنشدني حماد أيضا عن أبيه، لمطيع بن إياس، وفيه غناء أيضا:

خليلي مخـلـف أبـدا                      يمنيني غـدا فـغـدا

وبعد غد وبـعـد غـد                      كذا لا ينقضـي أبـدا

له جمر على كـبـدي                      إذا حركـتـه وقـدا

وليس بلابث جمـر ال                      غضى أن يحرق الكبدا وفي هذه الأبيات لعريب هزج.

أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال: حدثنا العنزي عن مسعود بن بشر قال:

 

صفحة : 1508

 

قال الوليد بن يزيد لمطيع بن إياس: أي الأشياء أطيب عندك? قال: صهباء صافيه، تمزجها غانية، بماء غادية.

قال: صدقت.

أخبرني محمد بن خلف ين المرزبان قال: حدثني أبو عبد الله التميمي قال: حدثنا أحمد بن عبيد. وأخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال: سكر مطيع بن إياس ليلة، فعربد على يحيى بن زياد عربدة قبيحة وقال له وقد حلف بالطلاق:

لا تحلفا بطـلاق مـن                      أمست حوافرها رقيقة

مهلا فقد علـم الأنـا                      م بأنها كانت صـديقة فهجر يحيى وحلف ألا يكلمه أبدا، فكتب إليه مطيع:

إن تصلني فمثلك اليوم يرجـى                      عفوه الذنب عن أخيه ووصله

ولئن كنت قد هممت بهجـري                      للذي قد فعلت إنـي لأهـلـه

وأحق الرجال أن يغفـر الـذن                      ب لإخوانه الموفر عـقـلـه

الكريم الذي له الحسـب الـثـا                      قب في قومه ومن طاب أصله

ولئن كنت لا تـصـاحـب إلا                      صاحبا لا تزل ما عاش نعلـه

لا تجده وإن جـهـدت وأنـى                      بالذي لا يكاد يوجـد مـثـلـه

إنما صاحبي الذي يغفـر الـذن                      ب ويكفيه من أخـيه أقـلـه

الذي يحفظ القديم مـن الـعـه                      د وإن زل صاحب قل عذلـه

ورعى ما مضى من العهد منه                      حين يؤذي من الجهالة جهلـه

ليس من يظهر المودة إفـكـا                      وإذا قال خالف القول فعـلـه

وصله للصديق يوما فـإن طـا                      ل فيومان ثم ينبـت حـبـلـه قال: فصالحه يحيى وعاود عشرته.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا أبو أيوب المدني قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الكاتب قال: حدثني أبي عن رجل من أهل الشأم قال: كنت يوما نازلا بدير كعب، قد قدمت من سفر، فإذا أنا برجل قد نزل الدير معه ثقل وآلة وعيبة، فكان قريبا من موضعي، فدعا بطعام فأكل، ودعا الراهب فوهب له دينارين، وإذا بينه وبينه صداقة، فأخرج له شرابا فجلس يشرب ويحدث الراهب، وأنا أراهما، إذ دخل الدير رجل فجلس معهما، فقطع حديثهما وثقل في مجلسه، وكان غث الحديث، فأطال. فجاءني بعض غلمان الرجل النازل فسألته عنه، فقال: هذا مطيع بن إياس. فلما قام الرجل وخرج كتب مطيع على الحائط شيئا، وجعل يشرب حتى سكر، فلما كان من غد رحل، فجئت موضعه فإذا فيه مكتوب:

طربة ما طربت في دير كـعـب                      كدت أقضي من طربتي فيه نحبي

وتـذكـرت إخـوتـي ونـدامـا                      ي فهاج البكاء تذكار صحـبـي

حين غابوا شتى وأصبحـت فـردا                      ونأوا بين شـرق أرض وغـرب

وهم ما هم فـحـسـبـي لا أب                      غي بديلا بهم لعمرك حـسـبـي

طلحة الخير منهم وأبـو الـمـن                      ذر خلي ومـالـك ذاك تـربـى

أيها الداخل الـثـقـيل عـلـينـا                      حين طاب الحديث لي ولصحبـي

خف عنا فـأنـت أثـقـل والـل                      ه علينا من فرسخي دير كـعـب

ومن الناس من يخف ومـنـهـم                      كرحى البزر ركبت فوق قلبـي أخبرنا الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عمر بن محمد قال: حدثنا الحسين بن إياس، ويحيى بن زياد، وزاد العمل حتى حلف يحيى بن زياد على بطلان شيء كلمه به مما دار بينهما، فقال مطيع:

لا تحلفا بطـلاق مـن                      أمست حوافرها رقيقه

هيهات قد علم الأمـي                      ر بأنها كانت صديقـه فغضب يحيى وحلف ألا يكلم مطيعا أبدا، وكانا لا يكادان يفترقان في فرح ولا حزن، ولا شدة ولا رخاء، فتباعد ما بين يحيى وبينه، وتجافيا مدة، فقال مطيع في ذلك، وندم على ما فرط منه إلى يحيى، فكتب إليه بهذا الشعر، قال:

كنت ويحـيى كـيد واحـدة                      نرمي جميعا وترانا مـعـا

إن عضني الدهر فقد عضـه                      يوجعنا ما بعضنا أوجعـنـا

أو نام نامـت أعـين أربـع                      منا وإن أسهر فلن يهجـعـا

يسرني الـدهـر إذا سـره                      وإن رماه فلنـا فـجـعـا

حتى إذا ما الشيب في مفرقي                      لاح وفي عارضه أسرعـا

 

صفحة : 1509

 

 

سعى وشاة فمشوا بـينـنـا                      وكاد حبل الود أن يقطعـا

فلم ألم يحيى على فـعـلـه                      ولم أقل مـل ولا ضـيعـا

لكن أعداء لـنـا لـم يكـن                      شيطانهم يرى بنا مطمعـا

بينا كذا غاش علـى غـرة                      فأوقد النيران مستجمـعـا

فلـم يزل يوقـدهـا دائبـا                      حتى إذا ما اضطرمت أقلعا أخبرنا الحسين بن يحيى المرداسي، عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل السكوني. وأخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه. قال إسحاق في خبره: دخل على إخوان يشربون وقال الأصمعي: دخل سراعة بين الزندبور على مطيع بن إياس ويحيى بن زياد، وعندهما قينة تغنيهما، فسقوه أقداحا وكان على الريق، فاشتد ذلك عليه، فقال مطيع للقينة: غني سراعة. فقالت له: أي شيء تختار? فقال: غني:

طبيبي داويتما ظـاهـرا                      فمن ذا يداوي جوى باطنا ففطن مطيع لمعناه. فقال: إبك أكل? قال: نعم. فقدم إليه طعاما فأكل ثم شرب معهم. والله أعلم.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن هارون الأزرقي مولى بني هاشم أخي أبي عشانة قال: حدثني الفضل بن محمد بن الفضل الهاشمي عن أبيه قال: كان مطيع بن إياس يهوى ابن مولى لنا يقال له محمد بن سالم، فأخرجت أباه إلى ضيعة لي بالري لينظر فيها، فأخرجه أبوه معه، ولم أكن عرفت خبر مطيع معه حتى أتاني، فأنشدني لنفسه:

أيا ويحه لا الصبر يملك قـلـبـه                      فيصبر لما قيل سار مـحـمـد

فلا الحزن يفنيه ففي الموت راحة                      فحتى متى في جهده يتـجـلـد

قد اضحى صريعا باديات عظامه                      سوى أن روحا بينهـا تـتـردد

كئيبا يمني نـفـسـه بـلـقـائه                      على نأيه والله بالحـزن يشـهـد

يقول لها صبرا عسى الـيوم آئب                      بإلفك أو جاء بطلعـتـه الـغـد

وكنت يدا كانت بها الدهر قوتـي                      فأصبحت مضنى منذ فارقني يدي في أخبار مطيع التي تقدم ذكرها آنفا أغان أغفلت عن نسبتها حتى انتهيت إلى هذا الموضع فنسبتها فيه:

طبيبي داويتمـا ظـاهـرا                      فمن ذا يداوي جوى باطنا

فقوما اكوياني ولا ترحمـا                      من الكي مستحصفا راصنا

ومرا على منزل بالغمـيم                      فإني عهدت بـه شـادنـا

فتور القيام رخيم الـكـلا                      م كان فؤادي به راهـنـا الشعر فيما ذكر عبد الله بن شبيب عن الزبير بن بكار، لعمرو بن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل القرشي العدوي، والغناء لمعبد، ولحنه ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق وعمرو، وفيه لأبي العبيس بن حمدون ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر، وهو من صدور أغانيه ومختارها وما تشبه فيه بالأوائل. ولو قال قائل: إنه أحسن صنعة له صدق.

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، أن غيلان بن خرشة الصبي دخل إلى قوم من إخوانه وعندهم قينة، فجلس معهم وهو لا يدري فيم هم، حتى غنت القينة:

طبيبي داويتما ظـاهـرا                      فمن ذا يداوي جوى باطنا وكان أعرابيا جافيا به لوثة، فغضب ووثب وهو يقول: السوط ورب غيلان يداوي ذلك الجوى وخرج من عندهم.

وهذا الخبر مذكور في أخبار معبد من كتابي هذا وغيره، ولكن ذكره ها هنا حسن فذكرته.

 

أمسيت جم بلابل الـصـدر                      دهرا أزجـيه إلـى دهـر

إن فهت طل دمي وإن كتمت                      وقدت علي توقد الجـمـر الغناء لحكم الوادي، هزج بالبنصر عن حبش الهشامي.

أخبرني ابن الحسين قال حدثنا حماد بن إسحاق عن صباح بن خاقان قال: دخلت علينا جوهر المغنية جارية بربر، وكانت محسنة جميلة ظريفة، وعندنا مطيع بن إياس وهو يلعب بالشطرنج، وأقبل عليها بنظره وحديثه، ثم قال:

ولقد قلت معـلـنـا                      لسعيد وجـعـفـر

إن أتتني مـنـيتـي                      فدمي عند بـربـر

قتلتني بمـنـعـهـا                      لي من وصل جوهر قال: وجوهر تضحك منه.

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبي سعيد عن أبي توبة قال:

 

صفحة : 1510

 

بلغ مطيع بن إياس أن حماد عجرد عاب شعرا ليحيى بن زياد قاله في منقذ بن بدر الهلالي، فأجابه منقذ عنه بجواب، فاستخفهما حماد عجرد، وطعن عليهما، فقال فيه مطيع:

أيها الشاعـر الـذي                      عاب يحيى ومنقـذا

أنت لو كنت شاعـرا                      لم تقل فيهمـا كـذا

لست والله فاعـلـم                      ن لدي النقد جهبـذا

تعدل الصبر بالرضى                      شائب الصفو بالقذى أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا عبد الله بن أبي توبة عن ابن أبي منيع الأحدب قال: كنت جالسا مع مطيع بن إياس، فمرت بنا مكنونة جارية المروانية، وكان مطيع وأصحابنا يألفونها، فلم تسلم، وعبث بها مطيع بن إياس فشتمته، فالتفت إلي وأنشأ يقول:

فديت من مر بـنـا                      يوما ولم يتـكـلـم

وكان فيما خلا مـن                      ه كلما مـر سـلـم

وإن رآنـي حــيا                      بطرفه وتـبـسـم

لقد تـبـدل فـيمـا                      أظن واللـه أعـلـم

فليت شعـري مـاذا                      علي في الود ينقـم

يا رب إنك تـعـلـم                      أني بمكنون مغـرم

وأنني في هـواهـا                      ألقى الهوان وأعظم

يا لائمي في هواهـا                      احفظ لسانك تسلـم

واعلم بأنك مهـمـا                      أكرمت نفسك تكرم

إن الملـول إذا مـا                      مل الوصال تجـرم

أو لا فما لي أجفـى                      من غير ذنب وأحرم  مطيع يشبب بجوهر ثم يهجو

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان مطيع بن إياس يألف جواري بربر، ويهوى منهن جاريتها المسماة جوهر، وفيها يقول؛ ولحكم فيه غناء:

خافي اله يا بـربـر                      لقد أفسدت ذا العسكر

إذا ما أقبلت جوهـر                      يفرح المسك والعنبر

وجوهر درة الـغـوا                      ص من يملكها يحبر

لها ثغر حكـى الـدر                      وعينا رشـإ أحـور في هذه الأبيات هزج لحكم الوادي. قال وفيها يقول:

أنت يا جوهر عندي جوهره                      في قياس الدرر المشتهره

أو كشمس أشرقت في بيتها                      قذفت في كل قلب شرره

وكأني ذائق من فـمـهـا                      كلما قبلت فاها سـكـره

وكأني حين أخلو مـعـهـا                      فائز بالجنة المختـضـره قال: فجاءها يوما، فاحتجبت عنه فسأل عن خبرها، فعرف أن فتى من أهل الكوفة يقال له ابن الصحاف يهواها متخل معها، فقال مطيع يهجوها:

ناك والله جوهر الصحـاف                      وعليها قميصها الأفـواف

شام فيها أيرا له ذا ضلـوع                      لم يشنه ضعف ولا إخطاف

جد دفعا فيها فقالت ترفـق                      ما كذا يا فتى تناك الظراف أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هرون بن محمد بن عبد الملك قال: قال محمد بن صالح بن النطاح، أنشد المهدي قول مطيع بن إياس:

خافي اللـه يا بـربـر                      لقد أفتنت ذا العسكـر

بريح المسك والعنبـر                      وظبي شادن أحـور

وجوهر درة الـغـوا                      من يملكهـا يحـبـر

أما والله يا جـوهـر                      لقد فقت على الجوهر

فلا والله ما الـمـهـد                      ي أولى منك بالمنبـر

فإن شئت ففي كفـي                      ك خلع ابن أبي جعفر فقال المهدي: اللهم العنهما جميعا، ويلكم اجمعوا بين هذين قبل أن تخلعنا هذه القحبة. وجعل يضحك من قول مطيع. ووجدت أبيات مطيع الثلاثة التي هجا بها جوهر في رواية يحيى بن علي أتم من رواية إسحاق وهي بعد البيتين الأولين:

زعموها قالت وقد غاب فيها                      قائما في قيامه استحصـاف

وهو في جارة استها يتلظـى                      يا فتى هكذا تناك الظـراف

ناكها ضيفها وقبـل فـاهـا                      يا لقومي لقد طغى الأضياف

لم يزل يرهز الشهية حتـى                      زال عنها قميصها والعطاف وقال هارون بن محمد في خبره: بيعت جوهر جارية بربر، فاشترتها امرأة هاشمية من ولد سليمان بن علي كانت تغني بالبصرة وأخرجتها، فقال مطيع فيها:

لا تبعدي يا جوهـر                      عنا وإن شط المزار

 

صفحة : 1511

 

 

ويلي لقد بـعـدت ديا                      رك سلمت تلك الديار

يشفى بريقتها السقـا                      م كأن ريقتها العقار

بيضاء واضخه الجبي                      ن كأن غرتها نهـار

القلب قلبي وهو عـن                      د الهاشمية مستعـار أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال: حدثنا علي بن منصور المؤدب أن صديقا لمطيع دعاه إلى بستان له بكلواذي، فمضى إليها، فلم يستطبها، فقال يهجوها:

بلدة تمطر التراب على الـنـا                      س كما يمطر السماء الرذاذا

وإذا مـا أعـاذ ربـي بـلادا                      من خراب كبعض ما قد أعاذا

خربت عاجلا ولا أمهلـت يو                      ما ولا كان أهلها كـلـواذي أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا طلحة بن عبد الله أبو إسحاق الطلحي قال حدثني عافية بن شبيب بن خاقان التميمي أبو معمر قال: كان لمطيع بن إياس معامل من تجار الكوفة، فطالت صحبته إياه وعشرته له حتى شرب النبيذ، وعاشر تلك الطبقة، وأفسدوا دينه، فكان إذا شرب يعمل كما يعملون، وقال كما يقولون، وإذا صحا تهيب ذلك وخافه، فمر يوما بمطيع بن إياس وهو جالس على باب داره، فقال له: من أين أقبلت? قال: شيعت صديقا لي حج، ورجعت كما ترى ميتا من ألم الحر والجوع والعطش. فدعا مطيع بغلامه وقال له: أي شيء عندك? فقال له: عندي من الفاكهة كذا، ومن البوارد والحار كذا، ومن الأشربة والثلج والرياحين كذا، وقد رش الخيش وفرغ من الطعام. فقال له: كيف ترى هذا? فقال: هذا والله العيش وشبه الجنة. قال: أنت الشريك فيه على شريطة إن وفيت بها وإلا انصرفت. قال: وما هي? قال: تشتم الملائكة وتنزل. فنفر التاجر وقال: قبح الله عشرتكم قد فضحتموني وهتكتموني. ومضى فلم يبعد حتى لقيه حماد عجرد فقال له: ما لي أراك نافرا جزعا? فحدثه حديثه. فقال: أساء مطيع - قبحه الله وأخطأ، وعندي والله ضعف ما وصف لك؛ فهل لك فيه? فقال: أجل ، بي والله إليه أعظم فاقة. قال: أنت الشريك فيه على أن تشتم الأنبياء فإنهم تعبدونا بكل أمر معنت متعب، ولا ذنب للملائكة فنشتمهم. فنفر التاجر وقال: أنت أيضا فقبحك الله، لا أدخل ومضى فاجتاز بيحيى بن زياد الحارثي فقال له: ما لي أراك يا أبا فلان مرتاعا? فحدثه بقصته. فقال: قبحهما الله لقد كلفاك شططا، وأنت تعلم أن مروءتي فوق مروءتهما، وعندي والله أضعاف ما عندهما، وأنت الشريك فيه على خصلة تنفعك ولا تضرك، وهي خلاف ما كلفاك إياه من الكفر. قال: ما هي? قال: تصلي ركعتين تطيل ركوعهما وسجودهما، وتصليهما وتجلس، فنأخذ في شأننا، فضجر التاجر وتأفف وقال: هذا شر من ذاك، أنا تعب ميت، تكلفني صلاة طويلة في غير بر ولا لإطاعة يكون ثمنها أكل سحت وشرب خمر وعشرة فجرة وسماع مغنيات قحاب. وسبه وسبهما ومضى مغضبا. فبعث خلفه غلاما وأمره برده، فرده كرها، وقال: انزل الآن على ألا تصلي اليوم بتة. فشتمه أيضا وقال: ولا هذا. فقال: انزل الآن كيف شئت وأنت ثقيل غير مساعد. فنزل عنده. ودعا يحيى مطيعا وحمادا، فعبثا بالتاجر ساعة وشتماه، ثم قدم الطعام، فأكلوا وشربوا وصلى التاجر الظهر والعصر، فلما دبت الكأس فيه قال له مطيع: أيما أحب إليك: تشتم الملائكة أو تنصرف? فشتمهم. فقال له حماد: أيما أحب إليك: تشتم الأنبياء أو تنصرف? فشتمهم. فال له يحيى: أيما أحب إليك: تصلي ركعتين أو تنصرف? فقام فصلى الركعتين، ثم جلس فقالوا له: أيما أحب إليك: تترك باقي صلاتك اليوم أو تنصرف? قال: بل أتركها يا بني الزانية ولا أنصرف. فعمل كل ما أرادوه منه.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل السكوني قال:

 

صفحة : 1512

 

رفع صاحب الخبر إلى المنصور أن مطيع بن إياس زنديق، وأنه يعاشر ابنه جعفرا وجماعة من أهل بيته، ويوشك أن يفسدوا أديانهم وينسبوا إلى مذهبه. فقال له المهدي: أنا به عارف، أما الزندقة فليس من أهلها، ولكنه خبيث الدين فاسق مستحل للمحارم. قال: فأحضره وانهه عن صحبة جعفر وسائر أهله. فأحضره المهدي وقال له: يا خبيث يا فاسق، قد أفسدت أخي ومن تصحبه من أهلي، والله لقد بلغني أنهم يتقادعون عليك، ولا يتم لهم سرور إلا بك، فقد غررتهم وشهرتهم في الناس، ولولا أني شهدت لك عند أمير المؤمنين بالبراءة مما نسبت إليه بالزندقة، لقد كان أمر بضرب عنقك. وقال للربيع: اضربه مائتي سوط واحبسه. قال: ولم يا سيدي? قال: لأنك سكير خمير قد أفسدت أهلي كلهم بصحبتك. فقال له: إن أذنت وسمعت احتججت. قال: قل. قال: أنا امرؤ شاعر، وشوقي إنما تنفق مع الملوك، وقد كسدت عندكم، وأنا في أيامكم مطرح، وقد رضيت فيها مع سعتها للناس جميعا بالأكل على مائدة أخيك، لا يتبع ذلك عشيرة، وأصفيته على ذلك شكري وشعري، فإن كان ذلك عائبا عندك تبت منه. فأطرق، ثم قال: قد رفع إلي صاحب الخبر أنك تتماجن على السؤال وتضحك منهم. قال: لا، والله ما ذلك من فعلي ولا شأني، ولا جرى مني قط إلا مرة؛ فإن سائلا أعمى اعترضني وقد عبرت الجسر على بغلتي وظنني من الجند، فرفع عصاه في وجهي ثم صاح: اللهم سخر الخليفة لأن يعطي الجند أرزاقهم، فيشتروا من التجار المتعة، ويربح التجار عليهم فتكثر أموالهم، فتجب فيها الزكاة عليهم، فيصدقوا علي منها. فنفرت بقلبي من صياحه ورفعة عصاه في وجهي حتى كدت أسقط في الماء، فقلت: يا هذا ما رأيت أكثر فضولا منك، سل الله أن يرزقك ولا تجعل هذه الحوالات والوسائط التي لا يحتاج إليها، فإن هذه المسائل فضول، فضحك الناس منه، ورفع علي في الخبر قولي له هذا. فضحك المهدي وقال: خلوه ولا يضرب ولا يحبس. فقال له: أدخل عليك لموجدة وأخرج عن رضى وتبرأ ساحتي من عضيهة وأنصرف بلا جائزة? قال: لا يجوز هذا، أعطوه مائتي دينار ولا يعلم بها الأمير، فيتجدد عنده ذنوبه.

قال: وكان المهدي يشكر له قيامه في الخطباء ووضعه الحديث لأبيه في أنه المهدي. فقال له: اخرج عن بغداد ودع صحبة جعفر حتى ينساك أمير المؤمنين غدا. فقال له: فأين أقصد? قال: أكتب لك إلى سليمان بن علي فيوليك عملا ويحسن إليك. قال: قد رضيت. فوفد إلى سليمان بكتاب المهدي، فولاه الصدقة بالبصرة وكان عليها داود بن أبي هند، فعزله به.

حدثني محمد بن هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة عن ابن عائشة أن مطيع بن إياس قدم على سليمان بن علي بالبصرة وواليها على الصدقة داود بن أبي هند فعزله وولى عليها مطيعا.

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبى سعد قال حدثني أبو توبة عن بعض البصريين قال: كان مالك بن أبى سعدة عن عم جابر الشطرنجي جميل الوجه حسن الجسم، وكان يعاشر حماد عجرد ومطيع بن إياس وشرب معهما فافسد بينهما وبينه وتباعد، فقال حماد عجرد يهجوه:

أتوب إلى الله من مـالـك                      صديقا ومن صحبتي مالكا

فإن كنت صاحبتـه مـرة                      فقد تبت يا رب من ذلكـا قال: وأنشدها مطيعا، فقال له مطيع: سخنت عينك هكذا تهجو الناس? قال: فكيف كنت أقول? قال: كنت تقول:

نظرة ما نظرتـهـا                      يوم أبصرت مالكـا

في ثياب معصفـرا                      ت على الوجه باركا

تركتني ألـوط مـن                      بعدما كنت ناسـكـا

نظرة ما نظرتـهـا                      أو ردتني المهالكـا  مطيع يشكو المنصور ويمدح أيام بني أمية

اخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: كان مطيع بن إياس منقطعا إلى جعفر بن المنصور، فطالت صحبته له بغير فائدة، فاجتمع يوما مطيع وحماد عجرد ويحيى بن زياد، فتذكروا أيام بني أمية وسعتها ونضرتها وكثرة ما أفادوا فيها، وحسن مملكتهم وطيب دراهم بالشأم، وما هم فيه ببغداد من القحط في أيام المنصور، وشدة الحر، وخشونة العيش، وشكو الفقر فأكثروا، فقال مطيع بن إياس: قد قلت في ذلك شعرا فاسمعوا. قالوا: هات. فأنشدهم:

حبذا عيشنا الذي زال عنا                      حبذا ذاك حين لا حبذا ذا

 

صفحة : 1513

 

 

أين هذا من ذاك سقيا لـهـذا                      ك ولسنا نقول سقـيا لـهـذا

بلدة تمطر التراب على الـنـا                      س كما يمطر السماء الرذاذا

خربت عاجلا وأخرب ذو العر                      ش بأعمال أهلها كـلـواذي أخبرني عيسى بن الحسين عن حماد عن أبيه قال: لما خرج حماد بن العباس إلى البصرة، عاشر جماعة من أهلها وأدبائها وشعرائها، فلم يجدهم كما يريد، ولم يستطب عشرتهم واستغلظ طبعهم، وكان هو ومطيع بن إياس وحماد الراوية ويحيى بن زياد كأنهم نفس واحدة، وكان أشدهم أنسا به مطيع إياس ، فقال حماد يتشوقه:

لست واللـه بـنـاس                      لمطـيع بـن إياس

ذاك إنسان له فـض                      ل على كـل أنـاس

غرس الله لـه فـي                      كبدي أحلى غـراس

فإذا ما الكاس دارت                      واحتساها من أحاسي

كان ذكرانا مطـيعـا                      عندها ريحان كاسي  مطيع يصف ليالي قضاها في الكرخ

ويتشوق إلى يحيى بن زياد

حدثنا عيسى بن الحسين عن حماد عن أبيه قال: دعا مطيع بن إياس صديقا له من أهل بغداد إلى بستان له بالكرخ، يقال له بستان صباح، فأقام معه ثلاثة أيام في فتيان من أهل الكرخ مرد وشبان، ومغنين ومغنيات، فكتب مطيع إلى يحيى بن زياد الحارثي يخبره بأمره ويتشوقه قال:

كم ليلة بالكرخ قد بتـهـا                      جذلان في بستان صبـاح

في مجلس تنفح أرواحـه                      يا طيبها من ريح أرواح

يدير كأسا فإذا مـا دنـت                      حفت بأكـواب وأقـداح

في فتية بيض بهاليل مـا                      إن لهم في الناس من لاح

لم يهنني ذاك لفقد امرىء                      ابيض مثل البدر وضاح

كأنما يشرق من وجـهـه                      إذا بدا لي ضوء مصباح قال: فلما قرأ يحيى هذه الأبيات قام من وقته، فركب إليهم، وحمل إليهم ما يصلحهم من طعام وشراب وفاكهة، فأقاموا فيه أياما على قصفهم حتى ملوا، ثم انصرفوا.

روايته شعرا لفتى كوفي

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل قال: قال مطيع بن إياس: جلست أنا ويحيى بن زياد إلى فتى من أهل الكوفة كان ينسب إلى الصبوة ويكتم ذاك، ففاوضناه وأخذنا في أشعار العرب ووصفها البيد وما أشبه ذلك، فقال:

لأحسن من بيد يحار بها القطـا                      ومن جبلي طي ووصفكما سلعا

تلاحظ عيني عاشقين كلاهـمـا                      له مقلة في وجه صاحبه ترعى  المهدي يعاتب مطيع بن إياس

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو المضاء قال: عاتب المهدي مطيع بن إياس في شيء بلغه عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن كان ما بلغك عني حقا فما تغني المعاذير، وإن كان باطلا فما تضر الأباطيل. فقبل عذره وقال: فإنا ندعك على حملتك ولا نكشفك. والله أعلم.

مطيع وأصحابه وجوهر المغنية

حدثني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال: اجتمع حماد الراوية ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد وحكم الوادي يوما على شراب لهم في بستان بالكوفة، وذلك في زمن الربيع، ودعوا جوهر المغنية، وهي التي يقول فيها مطيع:

أنت يا جوهر عندي جوهره                      في قياس الدرر المشتهره فشربوا تحت كرم معروش حتى سكروا، فقال مطيع في ذلك:

خرجنا نمتطي الزهرا                      ونجعل سقفنا الشجرا

ونشربها مـعـتـقة                      تخال بكأسها شـررا

وجوهر عندنا تحكـي                      بدارة وجهها القمرا

يزيدك وجهها حسنـا                      إذا ما زدته نـظـرا

وجوهر قد رأيناهـا                      فلم نر مثلها بـشـر غنى فيه حكم غناء خفيفا، فلم يزالوا يشربون عليه بقية يومهم. وقد روي أن بعض هذا الشعر للمهدي وأنه قال منه واحدا، وأجازه بالباقي بعض االشعراء. وهذا أصح. لحن حكم في هذا الشعر خفيف رمل بالوسطى.

مطيع يهجو أباه

حدثنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني حماد عن أبيه قال:

 

صفحة : 1514

 

كان مطيع بن إياس عاقا بأبيه شديد البغض له وكان يهجوه، فأقبل يوما من بعد، ومطيع يشرب مع إخوان له، فلما رآه أقبل على أصحابه فقال:

هذا إياس مـقـبـــلا                      جاءت به إحدى الهنات

هوز فـوه وأنـفـــه                      كلمن في إحدى الصفات

كأن سعفص بـطـنـه                      والثغر شين قـريشـات

لمـا رأيتــك آتـــيا                      أيقنـت أنـك شـرآت  مطيع يمدح معن بن زائدة

حدثني جعفر بن قدامه بن زياد الكاتب قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل السكوني قال: مدح مطيع بن إياس معن بن زائدة بقصيدته التي أولها:

أهلا وسهلا بـسـيد الـعـرب                      ذي الغرر الواضحات والنجـب

فتى نزار وكهلـهـا وأخـي ال                      جود حوى غايتيه مـن كـثـب

قيل أتاكم أبـو الـولـيد فـقـا                      ل الناس طرافي السهل والرحب

أبو العـفـاة الـذي يلـوذ بـه                      من كان ذا رغـبة وذا رهـب

جاء الذي تفرج الـهـمـوم بـه                      حين يلز الوضين بـالـحـقـب

جاء وجاء المـضـاء يقـدمـه                      رأي إذا هم غـير مـؤتـشـب

شهم إذا الحـرب شـب دائرهـا                      أعادها عودة على الـقـطـب

يطفىء نـيرانـهـا ويوقـدهـا                      إذا خبت نارها بـلا حـطـب

إلا بوقع المـذكـرات يشـبـه                      ن إذا ما انتضين بـالـشـهـب

لم أر قـرنـا لـه يبـــارزه                      إلا أراه كالصقـر والـخـرب

ليث بخفان قد حـمـى أجـمـا                      فصار منها في منـزل أشـب

شبلاه قـد أدبـا بـه فـهـمـا                      شبهاه في جـده وفـي لـعـب

قد ومقـا شـكـلـه وسـيرتـه                      وأحكمـا مـنـه أكـرم الأدب

نعم الفتى تقرن الصـعـاب بـه                      عند تجاثي الخصوم لـلـركـب

ونعم ما ليلة الـشـتـاء إذا اس                      تنبح كلب القرى فـلـم يجـب

لا ونعـم عـنـده مـخـالـفة                      مثل اختلاف الصعود والصبـب

يحصر من لا فـلا يهـم بـهـا                      ومنه تضحي نعم عـلـى أرب

ترى له الحلم والنهـى خـلـقـا                      في صولة مثل جاحم اللـهـب

سيف الإمـامــين ذاك وذا إذا                      قل بناة الـوفـاء والـحـسـب

ذا هودة لا يخـاف نـبـوتـهـا                      ودينـه لا يشـاب بـالــريب فلما سمعها معن قال له: إن شئت مدحناك كما مدحتنا وإن شئت أثبناك. فاستحيا مطيع من اختيار الثواب على المديح وهو محتاج إلى الثواب، فأنشأ يقول لمعن:

ثناء من أمير خير كسـب                      لصاحب فاقة وأخى ثراء

ولكن الزمان برى عظامي                      وما مثل الدراهم من دواء فضحك معن حتى استلقى وقال: لقد لطفت حتى تخلصت منها، صدقت، لعمري ما مثل الدراهم من دواء وأمر له بثلاثين ألف درهم، وخلع عليه وحمله  مطيع وصديق له عربي

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني المهلبي عن أبيه عن إسحاق قال: كان لمطيع بن إياس صديق من العرب يجالسه، فضرط ذات يوم وهو عنده، فاستحيا وغاب عن المجلس، فتفقده مطيع وعرف سبب انقطاعه، فكتب إليه وقال:

أظهرت منك لنا هجرا ومقلـية                      وغبت عنا ثلاثا لست تغشـانـا

هون عليك فما في الناس ذو إبل                      إلا وأنيقـه يشـردن أحـيانـا  مجون مطيع وأصحابه في الصلاة

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني العباس بن ميمون طائع قال حدثنا بعض شيوخنا البصريين الظرفاء وقد ذكرنا مطيع بن إياس، فحدثنا عنه قال: اجتمع يحيى بن زياد ومطيع بن إياس وجميع أصحابهم، فشربوا أياما تباعا، فقال لهم يحيى ليلة من الليالي وهم سكارى: ويحكم ما صلينا منذ ثلاثة أيام فقوموا بنا حتى نصلي. فقالوا: نعم. فقام مطيع فأذن وأقام، ثم قالوا: من يتقدم? فتدافعوا ذلك، فقال مطيع للمغنية: تقدمي فصلي بنا. فتقدمت تصلي بهم عليها غلالة رقيقة مطيبة بلا سراويل، فلما سجدت بان فرجها، فوثب مطيع وهي ساجدة فكشف عنه وقبله وقطع صلاته، ثم قال:

ولما بدا فرجها جاثمـا                      كرأس حليق ولم تعتمد

 

صفحة : 1515

 

 

سجدت إليه وقـبـلـتـه                      كما يفعل الساجد المجتهد فقطعوا صلاتهم، وضحكوا وعادوا إلى شربهم  إعجاب المهدي بتهنئة مطيع

حدثني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن القاسم مولي موسى الهادي قال: كتب المهدي إلى أبي جعفر يسأله أن يوجه إليه بابنه موسى، فحمله إليه، فلما قدم عليه قامت الخطباء تهنئه، والشعراء تمدحه، فأكثروا حتى آذوه وأغضبوه، فقام مطيع بن إياس فقال:

أحمد اللـه إلـه ال                      خلق رب العالمينـا

الذي جاء بمـوسـى                      سالما في سالمينـا

الأمير ابن الأمير اب                      ن أمير المؤمنـينـا فقال المهدي: لا حاجة بنا إلى قول بعد ما قاله مطيع. فأمسك الناس، وأمر له بصلة.

مطيع ينصح يحيى بن زياد

قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب لأبي سعيد السكري بخطه. قال: حدثني ابن أبي فنن. أخبرني يحيى بن علي بن يحيى بهذا الخبر فيما أجاز لنا أن يرويه عنه عن أبى أيوب المدائني عن ابن أبي الدواهي، وخبر السكري أتم واللفظ له، قال: كان بالكوفة رجل يقال له أبو الأصبغ له قيان، وكان له ابن وضيء حسن الصورة يقال له الأصبغ ، لم يكن بالكوفة أحسن وجها منه، وكان يحيى بن زياد ومطيع بن إياس وحماد عجرد وضرباؤهم يألفونه ويعشقونه ويطرفونه ، وكلهم كان يعشق ابنه أصبغ، حتى كان يوم نوروز وعزم أبو الأصبغ على أن يصطبح مع يحيى بن زياد، وكان يحيى قد أهدى له من الليل جداء ودجاجا وفاكهة وشرابا، فقال أبو الأصبع لجواريه: إن يحيى بن زياد يزورنا اليوم، فأعددن له كل ما يصلح لمثله. ووجه بغلمان له ثلاثة في حوائجه، ولم يبق بين يديه أحد، فبعث بابنه أصبغ إلى يحيى يدعوه ويسأله التعجيل، فلما جاءه استأذن له الغلام، فقال له يحيى: قل له يدخل، وتنح أنت وأغلق الباب ولا تدع الأصبغ يخرج إلا بإذني. ففعل الغلام ودخل الأصبغ، فأدى إليه رسالة أبيه، فلما فرغ راوده يحيى عن نفسه، فامتنع، فثاوره يحيى وعاركه حتى صرعه، ثم رالم حل تكته، فلم يقدر عليها، فقطعها وناكه، فلما فرغ أخرج من تحت مصلاه أربعين دينار، فأعطاه إياها، فأخذها، وقال له يحيى: امض فإني بالأثر. فخرج اصبغ من عنده، فوافاه مطيع بن إياس، فرآه يتبخر ويتطيب ويتزين، فقال له: كيف أصبحت? فلم يجبه، وشمخ بأنفه، وقطب حاجبيه، وتفخم؛ فقال له: ويحك مالك? نزل عليك الوحي? كلمتك الملائكة? بويع لك بالخلافة? وهو يومىء برأسه: لا لا، في كل كلامه، فقال له: كأنك قد نكت أصبغ بن أبي الأصبغ قال: إي والله الساعة نكته، وأنا اليوم في دعوة أبيه. فقال مطيع: فامرأته طالق إن فارقتك أو نقبل متاعك. فأبداه له يحيى حتى قبله، ثم قال له: كيف قدرت عليه? فقال يحيى ما جرى وحدثه بالحديث، وقام يمضي إلى منزل أبي الأصبغ، فتبعه مطيع، فقال له: ما تصنع معي والرجل لم يدعك? وإنما يريد الخلوة. فقال: أشيعك إلى بابه ونتحدث. فمضى معه، فدخل يحيى ورد الباب في وجه مطيع، فصبر ساعة، ثم دق الباب فاستأذن، فخرج إليه الرسول، وقال له: يقول لك أنا اليوم على شغل لا أتفرغ معه لك . فتعذر قال: فابعث إلي بدواة وقرطاس، فكتب إليه مطيع :

يا أبا الأصبغ لا زلت على                      كل حال ناعما متـبـعـا

لا تصيرنى في الود كمـن                      قطع التكة قطعا شنـعـا

وأتى ما يشتهي لم يثـنـه                      خيفة أو حفظ حق ضيعا

لو ترى الأصبغ ملقى تحته                      مستكينا خجلا قد خضعـا

وله دفع علـيه عـجـل                      شبق شاءك ما قد صنعـا

فادع بالأصبغ واعلم حالـه                      سترى أمرا قبيحا شنعـا

 

صفحة : 1516

 

قال فقال أبو الأصبغ ليحيى: فعلتها يا ابن الزانية? قال: لا والله. فضرب بيده إلى تكة ابنه، فرآها مقطوعة، وأيقن يحيى بالفضيحة، فتلكأ الغلام، فقال له يحيى: قد كان الذي كان، وسعى بي إليك مطيع ابن الزانية، وهذا ابني وهو والله أفره من ابنك، وأنا عربي ابن عربية وأنت نبطي ابن نبطية، فنك ابني عشر مرات مكان المرة التي نكت ابنك، فتكون قد ربحت الدنانير، وللواحد عشرة فضحك وضحك الجواري، وسكن غضب أبي الأصبغ، وقال لابنه: هات الدنانير يا بن الفاعلة. فرمى بها إليه، وقام خجلا، وقال يحيى: والله لا أدخل مطيع الساعي ابن الزانية فقال أبو الأصبغ وجواريه: والله ليدخلن، فقد نصحنا وغششتنا. فأدخلناه وجلس يشرب ومعهم يحيى يشتمهم بكل لسان، وهو يضحك، والله أعلم.

أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال: حضر مطيع بن إياس وشراعة بن الزندبوذ ويحيى بن زياد ووالبة بن الحباب وعبد الله بن العياش المنتوف وحماد عجرد، مجلسا لأمير من أمراء الكوفة، فتكايدوا جميعا عنده، ثم اجتمعوا على مطيع يكايدونه ويهجونه فغلبهم جميعا، حتى قطعهم ثم هجاهم بهذين البيتين وهما.

 

وخمسة قد أبانوا لي كيادهـم                      وقد تلظى لهم ملقى وطنجير

لو يقدرون على لحمي لمزقه                      قرد وكلب وجرواه وخنزير أخبرني وكيع عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن الفضل قال: دخل صديق لمطيع بن إياس، فرأى غلاما تحته ينيكه، وفوق مطيع غلام له يفعل كذلك، فهو كأنه في تخت، فقال له: ما هذا يا أبا سلمى? قال: هذه اللذة المضاعفة.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كان حماد الراوية قد هجر مطيعا لشيء بلغه عنه، وكان مطيع حلقيا، فأنشد شعرا ذات يوم وحماد حاضر، فقيل له: من يقول هذا يا أبا سلمى? قال: الحطيئة. قال حماد: نعم هذا شعر الحطيئة لما حضر الكوفة وصار بها حلقيا. يعرض حماد بأنه كذاب، وأنه حلقي، فأمسك مطيع عن الجواب وضحك.

حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن إسحاق البغوي قال حدثنا بن الأعرابي عن الفضل قال: جاء رجل إلى مطيع بن إياس فقال: قد جئتك خاطبا، قال: لمن? قال: لمودتك. قال: قد أنكحتكها وجعلت الصداق ألا تقبل في قول قائل. ويقال إن الأبيات التي فهيا الغناء المذكور بذكرها أخبار مطيع بن إياس يقولها في جارية له يقال لها جودانة كان باعها فندم، فذكر الجاخظ أن مطيعا حلف أنها كانت تستلقي على ظهرها فيشخص كتفاها ومأكمتاها، فتدخرج تحتها الرمان فينفذ إلى الجانب الآخر. ويقال إنه قالها في امرأة من أبناء الدهاقين كان يهواها، وشعره يدل على صحة هذا القول، والقول الأول غلط.

أخبرني بخبره مع هذه الجارية أبو الحسن الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن سعيد بن سالم قال: أخبرني مطيع بن إياس الليثي - وكان أبوه من أهل فلسطين من أصحاب الحجاج بن يوسف - أنه كان مع سلم بن قتيبة، فلما خرج إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، كتب إليه المنصور يأمره باستخلاف رجل على عمله والقدوم عليه في خاصته على البريد، قال مطيع: وكانت لي جارية يقال لها جودانة كنت أحبها، فأمرني سلم بالخروج معه، فاضطررت إلى بيع الجارية، فبعتها وندمت على ذلك بعد خروجي وتمنيت أن أكون أقمت، وتتبعتها نفسي، ونزلنا حلوان، فجلست على العقبة أنتظر ثقلي وعنان دابتي في يدي وأنا مستند إلى نخلة على العقبة وإلى جانبها نخلة أخرى، فتذكرت الجارية واشتقتها وقلت:

أسعداني يا نخلتـي حـلـوان                      وابكيا لي من ريب هذا الزمان

واعلما أن ريبـه لـم يزل يف                      رق بين الألاف والـجـيران

ولعمري لو ذقتما ألـم الـفـر                      قة قد أبكاكما الذي أبكـانـي

أسعداني وأيقنـا أن نـحـسـا                      سوف يلقاكما فتـفـتـرقـان

كم رمتني صروف هذي الليالي                      بفراق الأحبـاب والـخـلان

غير أني لم تلق نفسي كمـا لا                      قيت من فرقة ابنة الدهـقـان

جارة لي بالري تذهب همـي                      ويسلي دنـوهـا أحـزانـي

فجعتني الأيام أغبط مـا كـن                      ت بصدع للبين غـير مـدان

 

صفحة : 1517

 

 

وبرغمي أن أصبحت لا تراها ال                      عين مني وأصبحت لا ترانـي

إن نكن ودعت فقد تركـت بـي                      لهبا في الضمـير لـيس بـوان

كحريق الضرام في قصب الغـا                      ب زفته ريحان تخـتـلـفـان

فعليك السلام مـنـي مـا سـا                      غ سلاما عقلي وفاض لسانـي هكذا ذكر أبو الحسن الأسدي في هذا الخبر وهو غلط.

نسخت خبر هذا من خط أبي أيوب المدائني عن حماد، ولم يقل عن أبيه عن سعيد بن سالم عن مطيع قال: كانت لي بالري جارية أيام مقامي بها مع سلم بن قتيبة، فكنت أتستر بها، وكنت أتعشق امرأة من بنات الدهاقين كنت نازلا إلى جنبها في دار لها، فلما خرجنا بعت الجارية وبقيت في نفسي علاقة من المرأة التي كنت أهواها، فلما نزلنا عقبة حلوان جلست مستندا إلى إحدى النخلتين اللتين على العقبة فقلت:

أسعداني يا نخلـتـي حـلـوان                      وارثيا لي من ريب هذا الزمان وذكر الأبيات، فقال لي سلم: ويلك هذه الأبيات? أفي جاريتك? فاستحييت أن أصدقه فقلت: نعم. فكتب من وقته إلى خليفته أن يبتاعها لي، فلم ألبث أن ورد كتابه: إني وجدتها قد تداولها الرجال، فقد عزفت نفسي عنها، فأمر لي بخمسة آلاف درهم، ولا والله ما كان في نفسي منها شيء، ولو كنت أحبها لم أبال إذا رجعت إلي بمن تداولها، ولم أبال لوناكها أهل منى كلهم.

أخبرني عمي عن الحسن عن أحمد بن أبي طاهر عن عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن الفضل الهاشمي عن سلام الأبرش، قال: لما خرج الرشيد إلى طوس هاج به الدم بحلوان، فأشار عليه الطبيب أن يأكل جمارا، فأحضر دهقان حلوان وطلب منه جمارا، فأعلمه أن بلده ليس بها نخل، ولكن على العقبة نخلتان، فمر بقطع إحداهما، فقطعت، فأتي الرشيد بجمارتها، فأكل منها وراح. فلما انتهى إلى العقبة نظر إلى إحدى النخلتين مقطوعة والأخرى قائمة، وإذا على القائمة مكتوب:

أسعداني يا نخلتـي حـلـوان                      وابكيا لي من ريب هذا الزمان

أسعداني وأيقنـا أن نـحـسـا                      سوف يلقاكما فتـفـتـرقـان فاغتم الرشيد، وقال: يعز علي أن أكون نحستكما، ولو كنت سمعت بهذا الشعر ما قطعت هذه النخلة ولو قتلني الدم.

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارثي بن أبي أسامة قال حدثني محمد بن أبي محمد القيسي عن أبي سمير عبد الله بن أيوب قال: لما خرج المهدي فصار بعقبة حلوان استطاب الموضع فتغدى ودعا بحسنة فقال لها: أما ترين طيب هذا الموضع? غنيني بحياتي حتى أشرب ها هنا أقداحا، فأخذت محكة كانت في يده وأوقعت على مخدة وغنته:

أيا نخلتي وادي بوانة حبـذا                      إذا نام حراس النخيل جناكما فقال: أحسنت، ولقد هممت بقطع هاتين النخلتين - يعني نخلتي حلوان - فمنعني منهما هذا الصوت. قالت له حسنة: أعيذك بالله يا أمير المؤمنين أن تكون النحس المفرق بينهما. فقال لها: وما ذاك? فأنشدته أبيات مطيع هذه.

فلما بلغت إلى قوله:

أسعداني وأيقنا أن نحسا                      سوف يلقاكما فتفترقان قال: أحسنت والله فيما قلت، إذ نبهتني على هذا، والله لا أقطعهما أبدا، ولأوكلن بهما من يحفظهما ويسقيهما ما حييت. ثم أمر بأن يفعل، فلم يزل في حياته على ما رسمه إلى أن مات.

 

أيا نخلتي وادي بـوانة حـبـذا                      إذا نام حراس النخيل جناكمـا

فطيبكما أربى على النخل بهجة                      وزاد على طول الفتاء فتاكما يقال إن الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة، وفيه لعطرد رمل بالوسطى من روايته ورواية الهشامي.

أخبرني عمي عن أحمد بن طاهر عن الخراز عن المدائني أن المنصور اجتاز بنخلتي حلوان وكانت إحداهما على الطريق، فكانت تضيقه وتزحم الأثقال عليه، فأمر بقطعهما، فأنشد قول مطيع:

واعلما ما بقيتما أن نحسا                      سوف يلقاكما فتفترقان قال: لا والله ما كنت ذلك النحس الذي يفرق بينهما، وتركهما.

وذكر أحمد بن إبراهيم عن أبيه عن جده إسماعيل بن داود المهدي قال: قد أكثر الشعراء في نخلتي حلوان ولهممت أن آمر بقطعهما. فبلغ قوله المنصور، فكتب إليه:

 

صفحة : 1518

 

بلغني أنك هممت بقطع نخلتي حلوان، ولا فائدة لك في قطعهما، ولا ضرر عليك في بقائهما، فأنا أعيذك بالله أن تكون النحس الذي يلقاهما، فتفرق بينهما. يريد قول مطيع.

ومما قالت الشعراء في نخلتي حلوان قول حماد عجرد، وفيه غناء قد ذكرته في أخبار حماد:

جعل الله سدرتي قصر شيري                      ن فداء لنخلتـي حـلـوان

جئت مستسعدا فلم يسعدانـي                      ومطيع بكت له النخلـتـان وأنشدني جحظة ووكيع عن حماد عن أبيه لبعض الشعراء ولم يسمه:

أيها العاذلان لا تعذلانـي                      ودعاني من الملام دعاني

وابكيا لي فإنني مستحـق                      منكما بالبكاء أن تسعداني

إنني منكما بذلـك أولـى                      من مطيع بنخلتي حلوان

فهما تجهلان ما كان يشكو                      من هواه وأنتما تعلمـان وقال فيهما أحمد بن إبراهيم الكاتب في قصيدة:

وكذاك الزمان ليس وإن أل                      ف يبقى عليه مؤتلـفـان

سلبت كفه الغـري أخـاه                      ثم ثنى بنخلتي حـلـوان

فكأن الغري قد كان فـردا                      وكأن لم تجاور النخلتـان أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب الزبيري عن أبيه قال: جلس مطيع بن إياس في العلة التي مات فيها في قبة خضراء وهو على فرش خضر، فقال له الطبيب: أي شيء تشتهي اليوم? قال: أشتهي ألا أموت. قال: ومات في علته هذه، وذلك بعد ثلاثة أشهر مضت له من خلافة الهادي.

قال أبوالفرج: ما وجدت فيه غناء من شعر مطيع، قال:

أمر مدامة صرفا                      كأن صبيبها ودج

كأن المسك نفحتها                      إذا بزلت لها أرج

فظل تخاله ملكـا                      يصرفها ويمتزج الغناء لإبراهيم، ثاني ثقيل بالخنصر والوسطى عن ابن المكي. وفيه لحن آخر لابن جامع. وهذه الطريقة بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق.

 

جدلت كجدل الخيزرا                      ن وثنيت فتثـنـت

وتيقنت أن الـفـؤا                      د يحبهـا فـأدلـت الغناء لعبد الله بن عباس الربيعي خفيف رمل، وذكر حبش أنه لمقامة.

 

أيها المبتغي بلوى رشـادي                      اله عني فما عليك فسادي

أنا خلو من الذي بي وما يع                      لم ما بي إلا القريح الفؤاد الغناء ليونس رمل بالبنصر من كتابه ورواية الهشامي.

 

إلا إن أهل الدار قد ودعـوا الـدارا                      وقد كان أهل الدار في الدار أجوارا

يبكي على إثر الجـمـيع فـلا يرى                      سوى نفسه فيها من الـقـوم ديارا الغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة. وذكر ابن المكي أن فيه لابن سريج لحنا من الثقيل الأول بالبنصر.

انقضت أخبار مطيع ولله الحمد

في انقباض وحشـمة فـإذا                      صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها                      وقلت ما قلت غير محتشم الشعر لمحمد بن كناسة الأسدي، والغناء لقلم الصالحية، ثقيل أول بالوسطى. وذكر ابن خرداذبة أن فيه لإسماعيل بن صالح لحنا.

 

أخبار محمد بن كناسة ونسبه

هو محمد بن كناسة، واسم كناسة عبد الله بن عبد الأعلى بن عبيد الله بن خليفة بن زهير بن نضلة بن أنيف بن مازن بن صهبان - واسم صهبان كعب - بن دويبة بن أسامة بن نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، ويكنى أبا يحيى. شاعر من شعراء الدولة العباسية، كوفي المولد والمنشأ، قد حمل عنه شيء من الحديث، وكان إبراهيم بن إدهم الزاهد خاله، وكان امرأ صالحا لا يتصدى لمدح ولا لهجاء، وكانت له جارية شاعرة مغنية يقال لها دنانير، وكان أهل الأدب وذوو المروءة يقصدونها للمذاكرة والمساجلة في الشعر.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني إبراهيم بن أبي عثمان قال حدثني مصعب الزبيري قال: قلت لمحمد بن كناسة الأسدي ونحن بباب أمير المؤمنين: أأنت الذي تقول في إبراهيم بن أدهم العابد:

رأيتك ما يغنيك ما دونه الغـنـى                      وقد كان يغنى دون ذاك ابن أدهما

وكان يرى الدنيا صغيرا عظيمهـا                      وكان لحق الله فيها معـظـمـا

وأكثر ما تلقاه في القوم صامـتـا                      فإن قال بذ القائلين وأحـكـمـا

 

صفحة : 1519

 

فقال محمد بن كناسة: أنا قلتها وقد تركت أجودها. فقال:

أهان الهوى حتى تجنبـه الـهـوى                      كما اجتنب الجاني الدم الطالب الدما أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني علي بن مسرور العتكي قال حدثني أبي قال قال ابن كناسة: لقد كنت أتحدث بالحديث فلو لم يجد سامعه إلا القطن الذي على وجه أمه في القبر لتعلل عليه حتى يستخرجه ويهديه إلي، وأنا اليوم أتحدث بذلك الحديث فما أفرغ منه حتى أهيء له عذرا.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان إجازة قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني عبيد الله بن يحيى بن فرقد قال سمعت محمد بن كناسة يقول: كنت في طريق الكوفة، فإذا أنا بجويرية تلعب بالكعاب كأنها قضيب بان، فقلت لها: أنت أيضا لو ضعت لقالوا ضاعت جارية، ولو قالوا ضاعت ظبية كانوا أصدق. فقالت: ويلي عليك يا شيخ وأنت أيضا تتكلم بهذا الكلام? فكسفت والله إلى بالي ثم تراجعت فقلت:

وإني لحلو مخبري إن خبرتنـي                      ولكن يغطيني ولا ريب بي شيخ فقالت لي وهي تلعب وتبسمت: فما أصنع بك أنا إذا? فقلت: لا شيء. وانصرفت.

أخبرنا ابن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سألت محمد بن كناسة عن قول الشاعر:

إذا الجوزاء أردفت الثريا                      ظننت بآل فاطمة الظنونا فقال: يقول إذا صارت الجوزاء في الموضع الذي ترى فيه الثريا خفت تفرق الحي من مجمعهم، والثريا تطلع بالغداة في الصيف، والجوزاء تطلع بعد ذلك في أول القيظ.

أخبرني ابن المرزبان قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني صالح بن أحمد بن عباد قال: مر محمد بن كناسة في طريق بغداد، فنظر إلى مصلوب على جذع، وكانت عنده امرأة يبغضها، وقد ثقل عليه مكانها، فقال يعنيها:

أيا جذع مصلوب أتى دون صلبه                      ثلاثون حولا كاملا هل تبـادل

فما أنت بالحمل الذي قد حملتـه                      بأضجر مني بالذي أنا حامـل أخبرني ابن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد. وأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن محمد بن عمران عن عبيد بن حسن قال: رأى رجل محمد بن كناسة يحمل بيدة بطن شاة، فقال: هاته أحمله عنك. فقال: لا. ثم قال:

لا ينقص الكامل من كماله                      ما جر من نفع إلى عياله أخبرني وكيع قال أخبرني ابن أبي الدنيا قال حدثنا محمد بن علي بن عثمان عن أبيه قال: كنت يوما عند ابن كناسة، فقال لنا: أعرفكم شيئا من فهم دنانير? يعني جاريته. قلنا: نعم. فكتب إليها: إنك أمة ضعيفة لكعاء، فإذا جاءك كتابي هذا فعجلي بجوابي. والسلام. فكتبت إليه: ساءني تهجينك إياي عند أبي الحسين، وإن من أعيا العي الجواب عما لا جواب له. والسلام.

أخبرني وكيع قال أخبرني ابن أبي الدنيا قال كتب إلي الزبير بن بكار أخبرني علي بن عثمان الكلابي قال: جئت يوما إلى منزل محمد بن كناسة فلم أجده، ووجدت جاريته دنانير جالسة، فقالت لي: ما لك محزونا يا أبا الحسين? فقلت: رجعت من دفن أخ لي من قريش، فسكتت ساعة ثم قالت:

بكيت على أخ لك من قريش                      فأبكانا بكـاؤك يا عـلـي

فمات وما خبرناه ولـكـن                      طهارة صحبه الخبر الجلي أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال: أملق محمد بن كناسة فلامه قومه في القعود عن السلطان وانتجاعه الأشراف بأدبه وعلمه وشعره، فقال لهم مجيبا عن ذلك:

تؤنبني أن صنت عرضي عصـابة                      لها بين أطناب اللـئام بـصـيص

يقولون لوغمضت لازددت رفـعة                      فقلت لهم إنـي إذن لـحـريص

أتكلـم وجـهـي لا أبـا لأبـيكـم                      مطامع عنها للكـرام مـحـيص

معاشي دوين القوت والعرض وافر                      وبطني عن جدوى اللئام خمـيص

سألقى المنايا لـم أخـالـط دنـية                      ولم تسر بي في المخزيات قلوص حدثنا الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال حدثني إسحاق الموصلي قال: أنشدني محمد بن كناسة لنفسه قال:

في انقباض وحشـمة فـإذا                      صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها                      وقلت ما قلت غير محتشم

 

صفحة : 1520

 

قال إسحاق فقلت لابن كناسة: وددت أنه نقص من عمري سنتان وأني كنت سبقتك إلى هذين البيتين فقلتهما.

حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني محمد بن المقدام العجلي قال: كانت أم محمد بن كناسة امرأة من بني عجل، وكان إبراهيم بن أدهم خاله أو ابن خاله، فحدثني ابن كناسة أن إبراهيم بن أدهم قدم الكوفة فوجهت أمه إليه بهدية معه، فقبلها ووهب له ثوبا، ثم مات إبراهيم، فرثاه ابن كناسة فقال:

رأيتك ما يكفيك ما دونه الـغـنـى                      وقد كان يكفي دون ذاك ابن أدهما

وكان يرى الدنيا قليلا كـثـيرهـا                      فكان لأمر الله فيهما معـظـمـا

أمات الهوى حتى تجنبـه الـهـوى                      كما اجتنب الجاني الدم الطالب الدما

وللحلم سلطان على الجهل عـنـده                      فما يستطيع الجهل أن يترمـرمـا

وأكثر ما تلقاه في القوم صـامـتـا                      وإن قال بذ القائلـين وأحـكـمـا

يرى مستكينا خاضعا متـواضـعـا                      وليثا إذا لاقى الكتيبة ضـيغـمـا

على الجدث الغربـي مـن آل وائل                      سلام وبـر مـا أبـر وأكـرمـا أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني زكريا بن مهران قال: عاتب محمد بن كناسة صديق له شريف كان ابن كناسة يزوره ويألفه على تأخره عنه، فقال ابن كناسة:

ضعفت عن الإخوان حتى جفوتهم                      على غير زهد في الوفاء ولا الود

ولكن أيامي تخـرمـن مـنـتـي                      فما أبلغ الحاجات إلا على جهـد حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال أنشدني ابن كناسة قال الضبي، وكان يحيى يستحسنها ويعجب بها:

ومن عجب الدنيا تبقيك لـلـبـلـى                      وأنك فـيهـا لـلـبـقـاء مـريد

وأي بـنـي الأيام إلا وعـنـــده                      من الدهر ذنـب طـارف وتـلـيد

ومن يأمن الأيام أمـا انـبـياعـهـا                      فخطر وأما فجـعـهـا فـعـتـيد

إذا اعتادت النفس الرضاع من الهوى                      فإن فطام النـفـس عـنـه شـديد حدثني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال قال لي عبيد بن الحسن: قال لي ابن كناسة ذات يوم في زمن الربيع: اخرج بنا ننظر إلى الحيرة فإنها حسنة في هذا الوقت. فخرجت معه حتى بلغنا الخورنق، فلم يزل ينظر إلى البر وإلى رياض الحيرة وحمرة الشقائق، فأنشأ يقول:

الآن حين تزين الـظـهـر                      ميثاؤه وبراقـه الـعـفـر

بسط الربيع بها الرياض كما                      بسطت قطوع اليمنة الخمر

برية في البـحـر نـابـتة                      يجبى إليها البر والـبـحـر

وجرى الفرات على مياسرها                      وجرى على أيمانها الزهـر

وبدا الخورنق في مطالعهـا                      فردا يلوح كأنه الـفـجـر

كانت منازل للملـوك ولـم                      يعلم بها لممـلـك قـبـر قال: ثم قال يصف تلك البلاد:

سفلت عن برد أرض                      زادها البرد عذابـا

وعلت عن حر أخرى                      تلهب النار التهـابـا

مزجت حينا بـبـرد                      فصفا العيش وطابـا أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني إسحاق بن محمد الأسدي قال حدثني عبد الأعلى بن محمد بن كناسة قال: رآني أبي مع أحداث لم يرضهم، فقال لي:

ينبيك عن عيب الفتـى                      ترك الصلاة أو الخدين

فإذا تهاون بـالـصـلا                      ة فما له في الناس دين

ويزن ذو الحدث المري                      ب بما يزن به القرين

إن العفيف إذا تـكـن                      فه المريب هو الظنين أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد قال أخبرنا عباد بن الحسين بن عباد بن كناسة - قال: كان محمد بن كناسة عم أبيه - قال: كان يجيء إلى محمد بن كناسة رجل من عشيرته فيجالسه، وكان يكتب الحديث ويتفقه ويظهر أدبا ونسكا، وظهر محمد بن كناسة منه على باطن يخالف ظاهره، فما جاءه قال له:

 

صفحة : 1521

 

 

ما من روى أدبا فلم يعمل به                      ويكف عن دفع الهوى بأديب

حتى يكون بما تعلم عـامـلا                      من صالح فيكون غير معيب

ولقلما يغنـي إصـابة قـائل                      أفعاله أفعال غير مصـيب أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن كناسة عن أبيه عن جده قال: أتيت امرأة من بني أود تكحلني من رمد كان أصابني، فكحلتني ثم قالت: اضطجع قليلا حتى يدور الدواء في عينك. فاضطجعت ، ثم تمثلت قول الشاعر:

أمخترمي ريب المنون ولم أزر                      طيب بني أود على النأي زينبا فضحكت ثم قالت: أتدري فيمن قيل هذا الشعر? قلت: لا والله. فقالت: في والله قيل، وأنا زينب التي عناها، وأنا طبيب أود، أفتدري من الشاعر? قلت: لا. قالت: عمك أبو سماك الأسدي.

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني علي بن عثام الكلابي قال: كانت لابن كناسة جارية شاعرة مغنية، يقال لها دنانير، وكان له صديق يكنى أبا الشعثاء، وكان عفيفا مزاحا، فكان يدخل إلى ابن كناسة يسمع غناء جاريته ويعرض لها بأنه يهواها. فقالت فيه:

لأبي الشعثـاء حـب بـاطـن                      ليس فيه نهضة للـمـتـهـم

يا فؤادي فازدجـر عـنـه ويا                      عبث الحب به فاقـعـد وقـم

زارني منـه كـلام صـائب                      ووسيلات المحبين الـكـلـم

صائد تـأمـنـه غـزلانــه                      مثل ما تأمن غزلان الـحـرم

صل إن أحببت أن تعطى المنى                      يا أبا الشعثـاء لـلـه وصـم

ثم ميعادك يوم الحـشـر فـي                      جنة الخلـد إن الـلـه رحـم

حيث ألقاك فـلامـا نـاشـئا                      يافعا قد كملت فيه الـنـعـم أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن محمد الأسدي قال حدثني جدي موسى بن صالح قال: ماتت دنانير جارية بن كناسة، وكانت أديبة شاعرة، فقال يرثيها بقوله:

الحمد للـه لا شـريك لـه                      يا ليت ما كان منك لم يكن

إن يكن القول قل فيك فما                      أفحمني غير شدة الحزن قال أبو الفرج: وقد روى ابن كناسة حديثا كثيرا، وروى عنه الثقات من المحدثين، فممن روى ابن كناسة عنه سليمان بن مهران الأعمش، وإسماعيل بن أبي خالد، وهشام بن عروة بن الزبير، ومسعر بن كدام، وعبد العزيز بن أبي داود، وعمر بن ذر الهمداني، وجعفر بن برقان، وسفيان الثوري، وفطر بن خليفة ونظراؤهم.

طائفة مما روي من الأحاديث أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن سعد العوفي قال حدثنا محمد بن كناسة قال حدثنا الأعمش عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال: قلت: يا رسول الله إن الرجل يحب القوم ولم يلحق بهم. قال: المرء مع من أحب أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا محمد بن كناسة قال حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  خير نسائها مريم بنت عمران، وخير نسائنا خديجة  . والله أعلم.

أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن سعد قال حدثنا ابن كناسة قال حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن زر بن حبيش قال: كانت في أبي بن كعب شراسة، فقلت له: يا أبا المنذر، اخفض جناحك يرحمك الله، وأخبرنا عن ليلة القدر. فقال: هي ليلة سبع وعشرين. وقد روى حديثا كثيرا ذكرت منه هذه الأحاديث فقط، ليعلم صحة ما حكيته عنه، وليس استيعاب هذا الجنس مما يصلح ها هنا.

 

أخبار قلم الصالحية

كانت قلم الصالحية جارية مولدة صفراء حلوة حسنة الغناء والضرب حاذقة، قد أخذت عن إبراهيم وابنه إسحاق، ويحيى المكي، وزبير بن دحمان. وكانت لصالح بن عبد الوهاب أخي أحمد بن عبد الوهاب كاتب صالح بن الرشيد، وقيل: بل كانت لأبيه. وكانت لها صنعة يسيرة نحو عشرين صوتا، واشتراها الواثق بعشرة آلاف دينار.

فأخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثني رذاذ أبو الفضل رالمغني مولى المتوكل على الله، قال حدثني أحمد بن الحسين بن هشام، قال: كانت قلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب إحدى المغنيات المحسنات المتقدمات، فغنى بين يدي الواثق لحن لها في شعر محمد بن كناسة، قال:

 

صفحة : 1522

 

 

في انقباض وحشـمة فـإذا                      صادفت أهل الوفاء والكرم

أرسلت نفسي على سجيتها                      وقلت ما قلت غير محتشم فسأل: لمن الصنعة فيه? فقيل: لقلم الصالحية جارية صالح بن عبد الوهاب. فبعث إلى محمد بن عبد الملك الزيات فأحضره. ويلك? من صالح بن عبد الوهاب هذا فأخبره: قال: أين هو? قال: ابعث فأشخصه وأشخص معه جاريته. فقدما على الواثق، فدخلت عليه قلم، فأمرها بالجلوس والغناء، فغنت، فاستحسن غناءها وأمر بابتياعها. فقال صالح: أبيعها بمائة ألف دينار وولاية مصر. فغضب الواثق من ذلك، ورد عليه. ثم غنى بعد ذلك زرزور الكبير في مجلس الواثق صوتا، الشعر فيه لأحمد بن عبد الوهاب أخي صالح، والغناء لقلم، وهو:

أبت دار الأحبة أن تبينـا                      أجدك ما رأيت لها معينا

تقطع نفسه من حب ليلى                      نفوسا من أثبن ولا جزينا فسأل: لمن الغناء? فقيل: لقلم جارية صالح، فبعثت إلى ابن الزيات: أشخص صالحا ومعه قلم. فلما أشخصهما دخلت على الواثق، فأمرها أن تغنيه هذا الصوت، فغنته، فقال لها: الصنعة فيه لك? نعم يا أمير المؤمنين. قال: بارك الله عليك. وبعث إلى صالح فأحضر، فقال: أما إذا وقعت الرغبة فيها من أمير المؤمنين فما يجوز أن أملك شيئا له فيه رغبة، وقد أهديتها إلى أمير المؤمنين، فإن من حقها علي إذا تناهيت في قضائه أن أصيرها ملكه، فبارك الله له فيها. فقال له الواثق: قد قبلتها. وأمر ابن الزيات أن يدفع إليه خمسة آلاف دينار، وسماها احتياطا، فلم يعطه ابن الزيات المال ومطله به، فوجه صالح إلى قلم من أعلمها ذلك، فغنت الواثق وقد اصطبح صوتا، فقال لها: بارك الله فيك وفيمن رباك. فقالت: يا سيدي وما نفع من رباني مني إلا التعب والغرم علي والخروج مني صفرا? قال: أو لم آمر له بخمسة آلاف دينار? قالت: بلى ولكن ابن الزيات لم يعطه شيئا. فدعا بخادم من خاصة الخدم ووقع إلى ابن الزيات بحمل الخمسة آلاف الدينار إليه، وخمسة آلاف دينار أخرى معها.

قال صالح: فصرت مع الخادم إليه بالكتاب، فقربني وقال: أما الخمسة الآلاف الأولى فخذها فقد حضرت، والخمسة الآلاف الأخرى أنا أدفعها إليك بعد جمعة. فقمت، ثم تناساني كأنه لم يعرفني، وكتبت أقتضيه، فبعث إلي: اكتب لي قبضا بها وخذها بعد جمعة. فكرهت أن أكتب قبضا بها فلا يحصل لي شيء، فاستترت وهو في منزل صديق لي، فلما بلغه استتاري خاف أن أشكوه إلى الواثق، فبعث إلي بالمال وأخذ كتابي بالقبض. ثم لقيني الخادم بعد ذلك فقال لي: أمرني أمير المؤمنين أن أصير إليك فأسألك، هل قبضت المال? قلت: نعم قد قبضته. قال صالح: وابتعت بالمال ضيعة وتعلقت بها وجعلتها معاشي، وقعدت عن عمل السلطان فما تعرضت منه لشيء بعدها.

أخبرني محمد بن يحيى قال أخبرني ابن إسحاق الخراساني. قال: وحدثني محمد بن مخارق قال: لما بويع الواثق بالخلافة دخل عليه علي بن الجهم فأنشده قوله:

قد فاز ذو الدنيا وذو الـدين                      بدولة الـواثـق هـارون

وعم بالإحسان من فعـلـه                      فالناس في خفض وفي لين

ما أكثر الداعي له بالبـقـا                      وأكثر التـالـي بـآمـين وأنشده أيضا قوله فيه:

وثقت بالملـك الـوا                      ثق بالله النـفـوس

ملك يشقى به الـمـا                      ل ولا يشقى الجليس

أسد تضحك عن شـد                      اته الحرب العبوس

أنس السيف به واس                      توحش العلق النفيس

يا بني العباس يأبى ال                      له إلا أن تسوسـوا وتغنت قلم جارية صالح بن عبد الوهاب في هذين الشعرين، فسمع الواثق الشعرين واللحنين من غيرها فأراد شراءها، وأمر محمد بن عبد الملك الزيات بإحضار مولاها وإحضارها، واشتراها منه بعشرة آلاف دينار.

 

وكنت أعير الدمع قبلك من بكى                      فأنت على من فات قبلك شاغله

سقى جدثا أعراف غمرة دونـه                      ببيشة ديمات الربيع ووابـلـه

وما بي حب الأرض إلا جوارها                      صداه وقول ظن أني قـائلـه

 

صفحة : 1523

 

الشعر للشمردل بن شريك من قصيدة طويلة مشهورة يرثي بها أخاه، والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول بالوسطى، ابتداؤه نشيد، ولمقاسة بن ناصح فيه خفيف رمل بالوسطى جميعا عن الهشامي، وذكر حبش أن خفيف الرمل لخزرج.

 

أخبار الشمردل ونسبه

الشمردل بن شريك بن عبد الملك بن رؤبة بن مكرم بن ضبارى بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع. وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، كان في أيام جرير والفرزدق.

أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ واسمه رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: كان الشمردل بن شريك شاعرا من شعراء بن تميم في عهد جرير والفرزدق، وقد خرج هو وإخوته حكم ووائل وقدامة إلى خراسان مع وكيع بن أبي سود، فبعث وكيع أخاه وائلا في بعث لحرب الترك، وبعث أخاه قدامة إلى فارس في بعث آخر، وبعث أخاه حكما في بعث إلى سجستان، فقال له: الشمردل: إن رأيت أيها الأمير أن تنفذنا معا في وجه واحد، فإنا إذا اجتمعنا تعاونا وتناصرنا وتناسبنا. فلم يفعل ما سأله، وأنفذهم إلى الوجوه التي أرادها، فقال الشمردل يهجوه، وكتب بها إلى أخيه حكم مع رجل من بني جشم بن أد بن طابخة:

إني إليك إذا كتبت قـصـيدة                      لم يأتني لجوابها مـرجـوع

أيضيعها الجشمي فيما بينـنـا                      أم هل إذا وصت إليك تضيع

ولقد علمت وأنت عني نـازح                      فيما أتى كبد الحمار وكـيع

وبنو غدانة كان معروفا لهـم                      أن يهضموا ويضيمهم يربوع

وعمارة العبد المـبـين إنـه                      واللؤم في بدن القميص جميع قال أبو عبيدة: ولم ينشب أن جاءه نعي أخيه قدامة من فارس، قتله جيش لقوهم بها، ثم تلاه نعي أخيه وائل بعده بثلاثة أيام، فقال يرثيهما:

أعاذل كم من روعة قد شهـدتـهـا                      وغصة حزن في فـراق أخ جـزل

إذا وقعت بين الـحـيازيم أسـدفـت                      علي الضحى حتى تنسيني أهـلـي

وما أنا إلا مثل مـن ضـربـت لـه                      أسى الدهر عن ابني أب فارقا مثلي

أقول إذا عزيت نـفـسـي بـإخـوة                      مضوا لاضعاف في الحياة ولا عزل

أبى الموت إلا فجع كـل بـنـي أب                      سيمسون شتى غير مجتمعي الشمـل

سبيل حبيبـي الـلـذين تـبـرضـا                      دموعي حتى أسرع الحزن في عقلي

كأن لم نسر يوما ونحـن بـغـبـطة                      جميعا وينزل عند رحليهما رحـلـي

فعيني إن أفضلـتـمـا بـعـد وائل                      وصاحبه دمعا فعودا على الفـضـل

خليلي من دون الأخلاء أصـبـحـا                      رهيني وفاء من وفاة ومـن قـتـل

فلا يبعـدا لـلـداعـيين إلـيهـمـا                      إذا اغبر آفاق السماء من المـحـل

فقد عدم الأضياف بعدهما الـقـرى                      وأخمد نار الليل كل فـتـى وغـل

وكانا إذا أيدي الغضاب تحـطـمـت                      لواغر صدر أو ضغائن من تـبـل

تحاجز أيدي جهل القوم عـنـهـمـا                      إذا أتعب الحلم التترع بـالـجـهـل

كمستأسدي عريسة لـهـمـا بـهـا                      حمى هابه من بالخزونة والسـهـل ومنها الصوت الذي ذكرت أخباره بذكره.

قال أبو عبيدة: وقال يرثي أخاه وائلا، وهي من مختار المراثي وجيد شعره:

لعمري لئن غالت أخي دار فرقة                      وآب إلينا سـيفـه ورواحـلـه

وحلت به أثقالها الأرض وانتهـى                      بمثواه منها وهو عف مـآكـلـه

لقد ضمنت جلد القوى كان يتقـى                      به جانب الثغر المخوف زلازلـه

وصول إذا استغنى وإن كان مقترا                      من المال لم يحف الصديق مسائله

محل لأضياف الشتـاء كـأنـمـا                      هم عنـده أيتـامـه وأرامـلـه

رخيص نضيج اللحم مغل بـنـيئه                      إذا بردت عند الصلاء أنامـلـه

أقول وقد رجمت عنه فأسرعـت                      إلي بأخبار اليقين محـاصـلـه

إلى الله أشكو لا إلى الناس فقـده                      ولوعة حزن أوجع القلب داخلـه

 

صفحة : 1524

 

 

وتحقيق رؤيا في المـنـام رأيتـهـا                      فكان أخي رمحا ترفض عامـلـه

سقى جدثا أعراف غـمـرة دونـه                      ببيشة ديمـات الـربـيع ووابـلـه

بمثوى غريب لـيس مـنـا مـزاره                      بدان ولا ذو الود منـا مـواصـلـه

إذا ما أتى يوم مـن الـدهـر دونـه                      فحياك عنـا شـرقـه وأصـائلـه

سنا صبح إشراق أضاء ومـغـرب                      من الشمس وافى جنح لـيل أوائلـه

تحية من أدى الـرسـالة حـبـبـت                      إليه ولم ترجع بـشـيء رسـائلـه

أبى الصبر أن العين بعـدك لـم يزل                      يخالط جفنـيهـا قـذى لا يزايلـه

وكنت أعير الدمع قبلك من بـكـى                      فأنت على من مات بعدك شاغـلـه

يذكرني هيف الجنوب ومنـتـهـى                      مسير الصبا رمسا عليه جـنـادلـه

وهتافة فوق الغصون تـفـجـعـت                      لفقد حمام أفـردتـهـا حـبـائلـه

من الورق بالأصياف نواحة الضحى                      إذا الغرقد التفت عليه غـياطـلـه

وسورة أيدي القوم إذا حلت الحـبـا                      حبا الشيب واستعوى أخا الحلم جاهله

فعيني إذ أبكاكما الدهـر فـابـكـيا                      لمن نصره قد بان مـنـا ونـائلـه

إذا استعبرت عوذ النساء وشـمـرت                      مآزر يوم ما تـوارى خـلاخـلـه

وأصبح بيت الهجر قد حـال دونـه                      وغال امرأ ما كان يخشى غـوائلـه

وثقن به عند الحفـيظة فـارعـوى                      إلى صوتـه جـاراتـه وحـلائلـه

إلى ذائد في الحرب لم يك خـامـلا                      إذا عاذ بالسيف المجرد حـامـلـه

كما ذاد عن عريسة الغيل مـخـدر                      يخاف الردى ركبانـه ورواحـلـه

فما كنت ألفي لامرىء عند موطـن                      أخا بأخي لـو كـان حـيا أبـادلـه

وكنت به أغشى القتـال فـعـزنـي                      عليه من المقدار من لا أقـاتـلـه

لعمرك إن الموت منـا لـمـولـع                      بمن كان يرجى نفعـه ونـوافـلـه

فما البعد إلا أننـا بـعـد صـحـبة                      كأن لم نـبـايت وائلا ونـقـايلـه

سقى الضفرات الغيث مـا دام ثـاويا                      بهن وجادت أهل شوك مـخـايلـه

وما بي حب الأرض إلا جـوارهـا                      صداه وقـول ظـن إنـي قـائلـه قال أبو عبيدة: ثم قتل أخوه حكم أيضا في وجهه، وبرز بعض عشيرته إلى قاتله فقتله، وأتى أخاه الشمردل أيضا نعيه فقال يرثيه:

يقولون احتسب حكما وراحوا                      بأبـيض لا أراه ولا يرانـي

وقبل فراقـه أيقـنـت أنـي                      وكل ابني أب متـفـارقـان

أخ لي لو دعوت أجاب صوتي                      وكنت مجيبه أنـى دعـانـي

فقد أفنى البكاء عليه دمـعـي                      ولو أني الفقيد إذا بـكـانـي

مضى لسبيله لم يعط ضـيمـا                      ولم ترهب غوائلـه الأدانـي

قتلنا عنـه قـاتـلـه وكـنـا                      نصول به لدى الحرب العوان

قتيلا ليس مثل أخـي إذا مـا                      بدا الخفرات من هول الجنان

وكنت سنان رمحي من قناتي                      وليس الرمح إلا بالـسـنـان

وكنت بنان كفي من يمـينـي                      وكيف صلاحها بعد البـنـان

وكان يهابك الأعـداء فـينـا                      ولا أخشى وراءك من رماني

فقد أبدوا ضغائنـهـم وشـدوا                      إلي الطرف واغتمزوا لياني

فداك أخ نبا عـنـه غـنـاه                      ومولى لا تصـول لـه يدان حدثني هاشم بن محمد الخزاعي، قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة عن أبي عمرو وأبي سهيل قالا: وقف الفرزدق علىالشمردل وهو ينشد قصيدة له فمر فيها هذا البيت:

وما بين من لم يعط سمعا وطاعة                      وبين تميم غير جز الحـلاقـم فقال له الفرزدق: والله يا شمردل لتتركن لي هذا البيت، أو لتتركن لي عرضك. فقال: خذه لا بارك الله لك فيه. فادعاه وجدله في قصيدة ذكر فيها قتيبة بن مسلم التي أولها:

 

صفحة : 1525

 

 

تحن بزوراء المدينة ناقتـي                      حنين عجول تبتغي البو رائم حدثنا هاشم قال حدثنا غسان بن أبي عبيدة قال: رأى الشمردل فيما يرى النائم كأن سنان رمحه سقط، فعبره على بعض من يعبر الرؤيا، فأتاه نعي أخيه وائل، فذلك قوله:

وتحقيق رؤيا في المنام رأيتهـا                      فكان أخي رمحا ترفض عامله حدثنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: كان الشمردل مغرما بالشراب، وكان له نديما يعاشرانه في حانات الخمارين بخراسان، أحدهما يقال له ديكل من قومه، والآخر من بني شيبان يقال له قبيصة، فاجتمعوا يوما على جزور ونحروه وشربوا حتى سكروا، وانصرف قبيصة حافيا وترك نعله عندهم، وأنسيها من السكر، فقال الشمردل:

شربت ونادمت الملوك فلـم أجـد                      على الكأس ندمانا لها مثل ديكـل

أقل مكاسا في جزور وإن غلـت                      وأسرع إنضاجا وإنزال مـرجـل

ترى البازل الكوماء فوق خوانـه                      مفصلة أعضاؤها لم تـفـصـل

سقيناه بعد الري حتـى كـأنـمـا                      يرى حين أمسى أبرقي ذات مأسل

عشية أنسينا قـبـيصة نـعـلـه                      فراح الفتى البكري غير منـعـل حدثنا هاشم قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: مدح الشمردل بن شريك هلال بن أحوز المازني واستماحه، فوعده الرفد، ثم ردده زمانا طويلا حتى ضجر، ثم أمر له بعشرين درهما فدفعها إليه وكيله غلة فردها، وقال يهجوه:

يقول هلال كـلـمـا جـئت زائرا                      ولا خير عند المـازنـي أعـاوده

ألا ليتني أمسي وبـينـي وبـينـه                      بعيد مناط الماء غـبـر فـدافـده

غدا نصف حول منه إن قال لي غدا                      وبعد غد منه كـحـول أراصـده

ولو أننـي خـيرت بـين غـداتـه                      وبين بـرازي ديلـمـيا أجـالـده

تعوضت من ساقي عشرين درهما                      أتاني بها من غلة السوق نـاقـده

ولو قيل مثلا كنز قـارون عـنـده                      وقيل التمس موعـوده لا أعـاوده

ومثلك منـقـوص الـيدين رددتـه                      إلى محتد قد كان حينـا يجـاحـده حدثنا هاشم قال: حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة أن رجلا من بني ضبة كان عدوا للشمردل، وكان نازلا في بني دارم بن مالك، ثم خرج في البعث الذي بعث مع وكيع، فلما قتل إخوة الشمردل وماتوا، بلغه عن الضبي سرور بذلك، وشماتة بمصيبته فقال:

يأيها المبتغي شتمـي لأشـتـمـه                      إن كان أعمى فأني عنك غير عـم

ما أرضعت مرضع سخلا أعق بها                      في الناس لا عرب منها ولا عجـم

من ابن حنكلة كانت وإن عـربـت                      مذالة لقدور الـنـاس والـحـرم

عوى ليكسبها شرا فـقـلـت لـه                      من يكسب الشر ثـديي أمـه يلـم

ومن تعرض شتمي يلق معطـسـه                      من النشوق الذي يشفى من اللمـم

متى أجئك وتسمع ما عـنـيت بـه                      تطرق على قذع أو ترض بالسلـم

أولا فحسبك رهطـا أن يفـيدهـم                      لا يغدرون ولا يوفون بـالـذمـم

ليسوا كثعلبة المغبـوط جـارهـم                      كأنه في ذرى ثـهـلان أو خـيم

يشبهون قريشا من تـكـلـمـهـم                      وطول أنضية الأعـنـاق والأمـم

إذا غدا المسك يجري في مفارقهـم                      راحوا كأنهم مرضى من الـكـرم

جزوا النواصي من عجل وقد وطئوا                      بالخيل رهط أبي الصهباء والحطم

ويوم أفلتهـن الـحـوفـزان وقـد                      شالت عليه أكف القوم بـالـجـذم

إني وإن كنت لا أنسى مصابـهـم                      لم أدفع الموت عن زيق ولا حكـم

لا يبعدا فـتـيا جـود ومـكـرمة                      لدفع ضيم وقتل الجوع والـقـرم

والبعد غالهما عـنـي بـمـنـزلة                      فيها تفـرق أحـياء ومـخـتـرم

وما بـنـاء وإن سـدت دعـائمـه                      إلا سيصبح يوما خـاوي الـدعـم

لئن نجوت من الأحداث أو سلمـت                      منهن نفسك لم تسلم مـن الـهـرم حدثنا هاشم قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:

 

صفحة : 1526

 

كان عمر بن يزيد الأسيدي صديقا للشمردل بن شريك، ومحسنا إليه كثير البر به والرفد له، فأتاه نعيه وهو بخراسان، فقال يرثيه:

لبس الصباح وأسلمـتـه لـيلة                      طالت كأن نجومها لا تـبـرح

من صولة يجتاح أخرى مثلهـا                      حتى ترى السدف القيام النـوح

عطلن أيديهن ثم تـفـجـعـت                      ليل التمام بهن عبرى تصـدح

وحلـيلة رزئت وأخـت وابـنة                      كالبدر تنظره عـيون لـمـح

لا يبعد ابن يزيد سـيد قـومـه                      عند الحفاظ وحاجة تستنـجـح

حامي الحقيقة لا تـزال جـياده                      تغدو مـسـومة بـن وتـروح

للحرب محتسب القتال مشمـر                      بالدرع مضطمر الحوامل سرح

ساد العراق وكـان أول وافـد                      تأتي الملوك به المهارى الطلح

يعطي الغلاء بكل مجد يشتـري                      إن المغالي بالمـكـارم أربـح حدثنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: كان الشمردل صاحب قنص وصيد بالجوارح، وله في الصقر والكلب أراجيز كثيرة، وأنشدنا قوله:

قد أغتدى والصبح في حجانـه                      والليل لـم يأو إلـى مـآبـه

وقد بدا أبلق من مـنـجـابـه                      بتوجي صاد فـي شـبـابـه

معاود قد ذل في إصـعـابـه                      قد خرق الضفار من جذابـه

وعرف الصوت الذي يدعى به                      ولمعة الملمع فـي أثـوابـه

فقلت للقـانـص إذ أتـى بـه                      قبل طلوع الآل أو سـرابـه

ويحك ما أبصـر إذ رأى بـه                      من بطن ملحوب إلى لبـابـه

قشعا ترى التبت من جنـابـه                      فانقض كالجلمود إذ علا بـه

غضبان يوم قنـية رمـى بـه                      فهن يلقين من اغتـصـابـه

تحت جديد الأرض أو ترابـه                      من كل شحاج الضحى ضغابه

إذ لا يزال حربه يشقـى بـه                      منتزع الفؤاد من حـجـابـه

جاد وقد أنشب فـي إهـابـه                      مخالبا ينشبن في إنـشـابـه

مثل مدى الجزار أو حـرابـه                      كأنما بالحلق من خـضـابـه

عصفرة الفؤاد أو قـضـابـه                      حوى ثمانين على حـسـابـه

من خرب وخزر يعلـى بـه                      لفتية صـيدهـم يدعـى بـه

واعدهم لمنـزل بـتـنـا بـه                      يطهى به الخربان أو يشوى به

فقام للطبـخ ولاحـتـطـابـه                      أروع يهتاج إذا هجـنـا بـه أخبرنا هاشم قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: كان ذئب قد لازم مرعى غنم للشمردل، فلا يزال يفرس منها الشاة بعد الشاة، فرصده ليلة حتى جاء لعادته، ثم رماه بسهم فقتله وقال فيه:

هل خبر السرحان إذ يستخبر                      عني وقد نام الصحاب السمر

لما رأيت الضأن منه تنـفـر                      نهضت وسنان وطار المئزر

وراع منها مرح مستـيهـر                      كأنه إعصار ريح أغـبـر

فلم أزل أطـرده ويعـكـر                      حتى إذا استيقنت ألا أعـذر

وإن عقرى غنمي ستكـثـر                      طار بكفي وفؤادي أوجـر

ثمت أهويت لـه لا أزجـر                      سهما فولى عنه وهو يعثـر

وبت ليلي آمـنـا أكـبـر أخبرنا أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال: قال الشمردل بن شريك وكان يستجيد هذه الأبيات ويستحسنها، ويقول: إنها لمن ظريف الكلام:

ثم استقل منعمـات كـالـدمـى                      شمس العتاب قلـيلة الأحـقـاد

كذب المواعد ما يزال أخو الهوى                      منهـن بـين مـودة وبـعـاد

حتى ينال حبالهـن مـعـلـقـا                      عقل الشريد وهن غـير شـراد

والحب يصلح بعد هجر بينـنـا                      ويهيج معتـبة بـغـير بـعـاد

خليلي لا تستعـجـلا أن تـزودا                      وإن تجمعا شملي وتنتظرا غـدا

وإن تنظراني اليوم أقض لبـانة                      وتستوجبا منا علي وتـحـمـدا الشعر للحصين بن الحمام المري، والغناء لبذل الكبرى ثاني ثقيل بالبنصر، من روايتها ومن رواية الهشامي.

 

الجزء الرابع عشر

 

أخبار الحصين بن الحمام ونسبه

 

 

صفحة : 1527

 

هو الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بن حرام بن واثلة، بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان الحصين بن الحمام سيد بني سهم بن مرة، وكان خصيلة بن مرة وصرمة بن مرة وسهم بن مرة أمهم جميعا حرقفة بنت مغنم بن عوف بن بلي بن عمرو بن الحاف بن قضاعة، فكانوا يدا واحدة على من سواهم، وكان حصين ذا رأيهم وقائدهم ورائدهم. وكان يقال له: مانع الضيم.

وحدثني جماعة من أهل العلم أن ابنه أتى باب معاوية بن أبي سفيان فقال لآذنه: استأذن لي على أمير المؤمنين وقل: ابن مانع الضيم، فاستأذن له، فقال له معاوية: ويحك لا يكون هذا إلا ابن عروة بن الورد العبسي، أو الحصين بن الحمام المري، أدخله. فلما دخل إليه قال له: ابن من أنت? قال: أنا ابن مانع الضيم الحصين بن الحمام، فقال: صدقت، ورفع مجلسه وقضى حوائجه.

أخبرني ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان ناس من بطن من قضاعة يقال لهم: بنو سلامان بن سعد بن زيد بن الحاف بن قضاعة. وبنو سلامان بن سعد إخوة عذرة بن سعد، وكانوا حلفاء لبني صرمة بن مرة ونزولا فيهم. وكان الحرقة وهم بنو حميس بن عامر بن جهينة حلفاء لبني سهم بن مرة، وكانوا قوما يرمون بالنبل رميا سديدا، فسموا الحرقة لشدة قتالهم. وكانوا نزولا في حلفائهم بني سهم بن مرة. وكان في بني صرمة يهودي من أهل تيماء يقال له جهينة بن أبي حمل. وكان في بني سهم يهودي من أهل وادي القرى يقال له غصين بن حي، وكانا تاجرين في الخمر. وكان بنو جوشن - أهل بيت من عبد الله بن غطفان - جيرانا لبني صرمة، وكان يتشاءم بهم ففقدوا منهم رجلا يقال لهم خصيلة كان يقطع الطريق وحده. وكانت أخته وإخوته يسألون الناس عنه، وينشدونه في كل مجلس وموسم. فجلس ذات يوم أخ لذلك المفقود الجوشني في بيت غصين بن حي جار بني سهم يبتاع خمرا، فبينما هو يشتري إذ مرت أخت المفقود تسأل عن أخيها خصيلة، فقال غصين:

تسائل عن أخيها كل ركب                      وعند جهينة الخبر اليقين فأرسلها مثلا، يعني بجهينة نفسه. فحفظ الجوشني هذا البيت، ثم أتاه من الغد فقال له: نشدتك الله ودينك هل تعلم لأخي علما? فقال له: لا وديني لا أعلم. فلما مضى أخو المفقود تمثل:

لعمرك ما ضلت ضلال ابن جوشن                      حصاة بليل ألقيت وسط جـنـدل أراد أن تلك الحصاة يجوز أن توجد، وأن هذا لا يوجد أبدا فلما سمع الجوشني ذلك تركه، حتى إذا أمسى أتاه فقتله. وقال الجوشني:

طعنت وقد كاد الظلام يجـنـنـي                      غصين بن حي في جوار بني سهم

 

صفحة : 1528

 

فأتي حصين بن الحمام فقيل له: إن جارك غصينا اليهودي قد قتله ابن جوشن جار بني صرمة. فقال حصين: فاقتلوا اليهودي الذي في جوار بني صرمة، فأتوا جهينة بن أبي حمل فقتلوه. فشد بنو صرمة على ثلاثة من حميس بن عامر جيران بني سهم فقتلوهم. فقال حصين: اقتلوا من جيرانهم بني سلامان ثلاثة نفر، ففعلوا. فاستعر الشر بينهم. قال: وكانت بنو صرمة أكثر من بني سهم رهط الحصين بكثير. فقال لهم الحصين: يا بني صرمة، قتلتم جارنا اليهودي فقتلنا به جاركم اليهودي، فقتلتم من جيراننا من قضاعة ثلاثة نفر وقتلنا من جيرانكم بني سلامان ثلاثة نفر، وبيننا وبينكم رحم ماسة قريبة، فمروا جيرانكم من بني سلامان فيرتحلون عنكم، ونأمر جيراننا من قضاعة فيرتحلون عنا جميعا، ثم هم أعلم. فأبى ذلك بنو صرمة، وقالوا: قد قتلتم جارنا ابن جوشن، فلا نفعل حتى نقتل مكانه رجلا من جيرانكم، فإنك تعلم أنكم أقل منا عددا وأذل، وإنما بنا تعزون وتمنعون. فناشدهم الله والرحم فأبوا. وأقبلت الخضر من محارب، وكانوا في بني ثعلبة بن سعد، فقالوا: نشهد نهب بني سهم إذا انتهبوا فنصيب منهم. وخذلت غطفان كلها حصينا، وكرهوا ما كان من منعه جيرانه من قضاعة. وصافهم حصين الحرب وقاتلهم ومعه جيرانه، وأمرهم ألا يزيدوهم على النبل، وهزمهم الحصين، وكف يده بعد ما أكثر فيهم القتل. وأبى ذلك البطن من قضاعة أن يكفوا عن القوم حتى أثخنوا فيهم. وكان سنان بن أبي حارثة خذل الناس عنه لعداوته قضاعة، وأحب سنان أن يهب الحيان من قضاعة، وكان عيينة بن حصن وزبان بن سيار بن عمرو بن جابر ممن خذل عنه أيضا. فأجلبت بنو ذبيان على بني سهم مع بني صرمة، وأجلبت محارب بن خصفة معهم.

فقال الحصين بن الحمام في ذلك من الأبيات:

ألا تقبلون النصف منـا وأنـتـم                      بنو عمنا لا بل هامكم القـطـر

سنأبى كما تأبون حتى تلـينـكـم                      صفائح بصرى والأسنة والأصر

أيؤكل مولانا ومولى ابن عمـنـا                      مقيم ومنصور كما نصرت جسر

فتلك التي لم يعلم الناس أنـنـي                      خنعت لها حتى يغيبني القـبـر

فليتكم قد حـال دون لـقـائكـم                      سنون ثمان بعدها حجج عشـر

أجدي لا ألقاكم الـدهـر مـرة                      على موطن إلا خدودكم صعـر

إذا ما دعوا للبغي قاموا وأشرقت                      وجوههم والرشد ورد له نـفـر

فواعجبا حتى خصيلة أصبحـت                      موالي عز لا تحل لها الخـمـر قوله: موالي عز، يهزأ بهم. ولا تحل لهم الخمر، أراد فحرموا الخمر على أنفسهم كما يفعل العزيز، وليسوا هناك:

ألما كشفنا لأمة الذل عنـكـم                      تجردت لا بر جميل ولا شكر

فإن يك ظني صادقا تجز منكم                      جوازي الإله والخيانة والغدر قال: فأقاموا على الحرب والنزول على حكمهم، وغاظتهم بنو ذبيان ومحارب بن خصفة. وكان رئيس محارب حميضة بن حرملة. ونكصت عن حصين قبيلتان من بني سهم وخانتاه، وهما عدوان وعبد عمرو بنا سهم، فسار حصين، وليس معه من بني سهم إلا بنو وائله بن سهم وحلفاؤهم وهم الحرقة، وكان فيهم العدد، فالتقوا بدارة موضوع، فظفر بهم الحصين وهزمهم وقتل منهم فأكثر. وقال الحصين بن الحمام في ذلك:

جزى الله أفناء العشـيرة كـلـهـا                      بدارة موضوع عقوقا ومـأثـمـا

بني عمنا الأدنين منهم ورهطـنـا                      فزارة إذا رامت بنا الحرب معظما

ولما رأيت الود ليس بـنـافـعـي                      وإن كان يوما ذا كواكب مظلـمـا

صبرنا وكان الصبر منـا سـجـية                      بأسيافنا يقطعن كفا ومعـصـمـا

نفلق هامـا مـن رجـال أعـزة                      علينا وهم كانوا أعق وأظـلـمـا

نطاردهم نستنقذ الجرد بـالـقـنـا                      ويستقذون السمهري المـقـومـا نستنقذ الجرد، أي نقتل الفارس فنأخذ فرسه. ويستنقذون السمهري وهو القنا الصلب، أي نطعنهم فتجرهم الرماح

لدن غدوة حتى أتى الليل ما ترى                      من الخيل إلا خارجيا مسومـا

وأجرد كالسرحان يضربه الندى                      ومحبوكة كالسيد شقاء صلدمـا

 

صفحة : 1529

 

 

يطأن من القتلى ومن قصد القنـا                      خبارا فما يجرين إلا تقـحـمـا

عليهم فتيان كساهـم مـحـرق                      وكان إذا يكسو اجاد وأكـرمـا

صفائح بصرى أخلصتها قيونهـا                      ومطردا من نسج داود مبهـمـا

جزى الله عنا عبد عمرو مـلامة                      وعدوان سهـم مـا أذل وألامـا

فلست بمبتاع الـحـياة بـسـبة                      ولا مرتق من خشية الموت سلما وقال أبو عبيدة:

وقتل في تلك الحرب نعيم بن الحارث بن عباد بن حبيب بن وائلة بن سهل، قتلته بنو صرمة يوم دارة موضوع، وكان وادا للحصين فقال يرثيه:

قتلنا خمسة ورموا نعيما                      وكـــــان الـــــــقـــــــتـــــــل لـــــــلـــــــفـــــــتـــــــيان زينـــــــا

لعــــمـــــــر الـــــــبـــــــاكـــــــيات عـــــــلـــــــى نـــــــعـــــــيم                      لقـــــــد جـــــــلـــــــت رزيتـــــــه عـــــــلـــــــــــينـــــــــــــــا

فلا تـــــــبـــــــعـــــــد نـــــــعـــــــيم فـــــــكـــــــل حــــــــــــي                      سيلـــــــقـــــــى مـــــــن صـــــــروف الـــــــدهـــــــر حـــــــينـــــــا قال أبو عبيدة: ثم إن بني حميس كرهوا مجاورة بني سهم ففارقوهم ومضوا، فلحق بهم الحصين بن الحمام فردهم ولامهم على كفرهم نعمته وقتاله عشيرته عنهم، وقال في ذلك:

إن امرأ بعدي تبدل نـصـركـم                      بنصر بني ذبيان حقا لخـاسـر

أولئك قـوم لا يهـان ثـويهـم                      إذا صرحت كحل وهب الصنابر وقال لهم أيضا:

ألا أبلغ لديك أبا حـمـيس                      وعاقبة الملامة للمـلـيم

فهل لكم إلى مولى نصور                      وخطبكم من الله العظـيم

فإن دياركم بجنـوب بـس                      إلى ثقف إلى ذات العظوم بس: بناء بنته غطفان شبهوه بالكعبة. وكانوا يحجونه ويعظمونه ويسمونه حرما، فغزاهم زهير بن جناب الكلبي فهدمه:

غذتكم في غداة الناس حجا                      غذاء الجائع الجدع اللـئيم

فسيروا في البلاد وودعونا                      بقحط الغيث والكلإ الوخيم قال أبو عبيدة: قال عمرو: زعموا أن المثلم بن رباح قتل رجلا يقال له حباشة في جوار الحارث بن ظالم المري، فلحق المثلم بالحصين بن الحمام، فأجاره. فبلغ ذلك الحارث بن ظالم، فطلب الحصين بدم حباشة، فسأل في قومه وسأل في بني حميس جيرانه فقالوا: إنا لا نعقل بالإبل، ولكن إن شئت أعطيناك الغنم. فقال في ذلك وفي كفرهم نعمته:

خليلي لا تـسـتـعـجـلا أن تـزودا                      وأن تجمعا شملي وتنـتـظـرا غـدا

فما لبـث يومـا بـسـائق مـغـنـم                      ولا سرعة يومـا بـسـابـقة غـدا

وإن تنظراني الـيوم أقـض لـبـانة                      وتستوجبا منـا عـلـي وتـحـمـدا

لعمرك إني يوم أغدو بـصـرمـتـي                      تنـاهـى حـمـيس بـادئين وعـودا

وقد ظهرت مـنـهـم بـوائق جـمة                      وأفرع مولاهم بـنـا ثـم أصـعـدا

وما كان ذنبي فـيهـم غـير أنـنـي                      بسطت يدا فيهم وأتـبـعـتـهـا يدا

وأني أحامي مـن وراء حـريمـهـم                      إذا ما المنادي بـالـمـغـيرة نـددا

إذا الفوج لا يحـمـيه إلا مـحـافـظ                      كريم المحيا مـاجـد غـير أجـردا

فإن صرحت كحل وهـبـت عـرية                      من الريح لم تترك لذي العرض مرفدا

صبرت على وطء الموالي وخطبهـم                      إذ ضن ذو القربى عليهـم وأجـمـدا أخبرني ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان البرج بن الجلاس الطائي خليلا للحصين بن الحمام ونديما له على الشراب، وفيه يقول البرج بن الجلاس:

وندمان يزيد الكأس طيبـا                      سقيت وقد تغورت النجوم

رفعت برأسه فكشفت عنه                      بمعرقة ملامة من يلـوم

ونشرب ما شربنا ثم نصحو                      وليس بجانبي خدي كلـوم

ونجعل عبأها لبني جعـيل                      وليس إذا انتشوا فيهم حليم

 

صفحة : 1530

 

كانت للبرج أخت يقال لها العفاطة، وكان البرج يشرب مع الحصين ذات يوم فسكر وانصرف إلى أخته فافتضها، وندم على ما صنع لما أفاق، وقال لقومه: أي رجل أنا فيكم? قالوا: فارسنا وأفضلنا وسيدنا. قال: فإنه إن علم بما صنعت أحد من العرب أو أخبرتم به أحدا ركبت رأسي فلم تروني أبدا، فلم يسمع بذلك أحد منهم. ثم أن أمة لبعض طيىء وقعت إلى الحصين بن الحمام، فرأت عنده البرج الطائي يوما وهما يشربان. فلما خرج من عنده قالت للحصين: إن نديمك هذا سكر عندك ففعل بأخته كيت وكيت، وأوشك أن يفعل ذلك بك كلما أتاك فسكر عندك. فزجرها الحصين وسبها، فأمسكت. ثم إن البرج بعد ذلك أغار على جيران الحصين بن الحمام من الحرقة فأخذ أموالهم، وأتى الصريخ الحصين بن الحمام، فتبع القوم، فأدركهم، فقال للبرج: ما صبك على جيراني يا برج? فقال له: وما أنت وهم هؤلاء من أهل اليمن وهم منا، وأنشأ يقول:

أنى لك الحرقات فيما بيننا                      عنن بعيد منك يا بن حمام

أقبلت تزجي ناقة متباطئا                      علطا تزجيها بغير خطام تزجي: تسوق، علطا: لا خطام عليها ولا زمام، أي أتيت هكذا من العجلة فأجابه الحصين بن الحمام:

برج يؤثمني ويكفر نعمـتـي                      صمي لما قال الكفيل صمام

مهلا أبا زيد فإنك إن تـشـأ                      أوردك عرض مناهل أسدام

أوردك أقلبة إذا حافلـتـهـا                      خوض القعود خبيئة الأخصام

أقبلت من أرض الحجاز بذمة                      عطلا أسوقها بغير خـطـام

في إثر إخوان لنا من طـيىء                      ليسوا بأكفـاء ولا بـكـرام

لا تحسبن أخا العفاطة أننـي                      رجل بخبرك ليس بالـعـلام

فاستنزلوك وقد بللت نطاقهـا                      عن بنت أمك والذيول دوامي ثم ناصب الحصين بن الحمام البرج الحرب، فقتل من أصحابه البرج عدة وهزم، سائرهم واستنقذ ما في أيديهم، وأسر البرج، ثم عرف له حق ندامه وعشرته إياه فمن عليه وجز ناصيته وخلى سبيله. فلما عاد البرج إلى قومه وقد سبه الحصين بما فعل بأخته لامهم وقال:أشعتم ما فعلت بأختي وفضحتموني، ثم ركب رأسه وخرج من بين أظهرهم فلحق ببلاد الروم، فلم يعرف له خبر إلى الآن.

وقال ابن الكلبي: بل شرب الخمر صرفا حتى قتلته.

أخبرني ابن دريد قال: حدثنا أبوحاتم عن أبي عبيدة قال: جمع الحصين بن الحمام جمعا من بني عدي ثم أغار على بني عقيل وبني كعب فأثخن فيهم واستاق نعما كثيرا ونساء، فأصاب أسماء بنت عمرو سيد بني كعب فأطلقها ومن عليها، وقال في ذلك:

فدى لبني عدي ركض ساقي                      وما جمعت من نعم مـراح

تركنا من نساء بني عـقـيل                      أيامى تبتغي عقد النـكـاح

أرعيان الشوي وجدتمـونـا                      أم أصحاب الكريهة والنطاح

لقد علمت هوازن أن خيلـي                      غداة النعف صادقة الصباح

عليها كل أروع هـبـرزي                      شديد حده شاكي الـسـلاح

فكر عليهم حتى التـقـينـا                      بمصقول عوارضها صباح

فأبنا بالنهاب وبـالـسـبـايا                      وبالبيض الخرائد واللـقـاح

وأعتقنا ابنة المري عـمـرو                      وقد خضنا عليها بالـقـداح أخبرنا ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة أن الحصين بن الحمام أدرك الإسلام. قال: ويدل على ذلك قوله:

وقـافـية غـير إنـســية                      قرضت من الشعر أمثالهـا

شرود تلمع بالـخـافـقـين                      إذا أنشدت قيل من قالـهـا

وحيران لا يهتدي بالنـهـار                      من الظلع يتبع ضلالـهـا

وداع دعا دعوة المستـغـيث                      وكنت كمن كان لبى لـهـا

إذا الموت كان شجا بالحلوق                      وبادرت النفس أشغـالـهـا

صبـرت ولـم أك رعـديدة                      وللصبر في الروع أنجى لها

ويوم تسعر فيه الـحـروب                      لبست إلى الروع سربالهـا

مضعـفة الـسـرد عـادية                      وعضب المضارب مفصالها

ومـطـردا مـن ردينــية                      أذود عن الورد أبطـالـهـا

فلم يبق من ذاك إلا التـقـى                      ونفس تعـالـج آجـالـهـا

 

صفحة : 1531

 

 

أمور من الله فوق السمـاء                      مقادير تنزل أنـزالـهـا

أعوذ بربي من المـخـزيا                      ت يوم ترى النفس أعمالها

وخف الموازين بالكافـرين                      وزلزلت الأرض زلزالها

ونادى مناد بأهل القـبـور                      فهبوا لتبرز أثـقـالـهـا

وسعرت النار فيها العذاب                      وكان السلاسل أغلالـهـا حدثنا ابن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: مات حصين بن الحمام في بعض أسفاره، فسمع صائح في الليل يصيح لا يعرف في بلاد بني مرة:

ألا هلك الحلو الحلال الحلاحل                      ومن عقده حزم وعزم ونائل الحلو: الجميل، والحلال: الذي لبس عليه في ماله عيب. والحلاحل: الشريف العاقل:

ومن خطبه فصل إذا القوم أفحموا                      يصيب مرادي قوله من يحـاول المرادي: جمع مرادة، وهي صخرة تردى بها الصخور، أي تكسر قال: فلما سمع أخوه معية بن الحمام ذلك قال: هلك والله الحصين، ثم قال يرثيه:

إذا لاقيت جمعـا أو فـئامـا                      فإني لا أرى كـأبـي يزيدا

أشد مهـابة وأعـز ركـنـا                      وأصلب ساعة الضراء عواد

صفيي وابن أمي والمواسـي                      إذا ما النفس شارفت الوريدا

كأن مصدرا يحـبـو ورائي                      إلى أشباله يبغـي الأسـودا المصدر: العظيم الصدر، شبه أخاه بالأسد.

 

لأ أرق الله عيني من أرقت لـه                      ولا ملا مثل قلبي قلبه ترحـا

يسرني سوء حالي في مسرتـه                      فكلما ازددت سقما زادني فرحا الشعر لمحمد بن يسير، والغناء لأحمد بن صدقة، رمل بالوسطى.

 

أخبار محمد بن يسير ونسبه

محمد بن يسير الرياشي، يقال إنه مولى لبني رياش الذين منهم العباس بن الفرج الرياشي الأخباري الأديب، ويقال له إنه منهم صلبية. وبنو رياش يذكرون أنه من خثعم، ولهم بالبصرة خطة وهم معروفون بها، وكان محمد بن يسير هذا شاعرا ظريفا من شعراء المحدثين، متقلل، لم يفارق البصرة، ولا وفد إلى خليفة ولا شريف منتحعا، ولا تجاوز بلده، وصحبته طبقته، وكان ماجنا هجاء خبيثا.

أخبرني عمي الحسن بن محمد قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني عي بن القاسم بن علي بن سليمان طارمة قال: بعث إلي محمد بن أيوب بن سليمان بن جعفر بن سليمان - وهو يتولى البصرة حينئذ - في ليلة صبيحتها يوم سبت، فدخلت إليه وقد بقي من الليل ثلثه أو أكثر. فقلت له: أنمت وانتبهت أم لم تنم بعد? فقال: قد قضيت حاجتي من النوم، وأريد أن أصطبح وأبتدىء الساعة بالشرب، وأصل ليلتي بيومي محتجبا عن الناس، وعندي محمد بن رباح، وقد وجهت إلى إبراهيم بن رياش، وحضرت أنت، فمن ترى أن يكون خامسنا? قلت: محمد بن يسير. فقال: والله ما عدوت ما في نفسي. فقال لي ابن رباح: اكتب إلى محمد بن يسير بيتين تدعوه فيهما وتصف له طبب هذا الوقت، وكان يوم غيم، والسماء تمطر مطرا غير شديد ولا متتابع، فكتب إليه ابن رباح:

يوم سبـت وشـنـبـذ ورذاذ                      فعلام الجلوس يا بن يسـير

قم بنا نـأخـذ الـمـدامة م                      ن كف غزال مضمخ بالعبير في هذين البيتين لعباس أخي بحر ثقيل أول بالبنصر وبعث إليه بالرقعة، فإذا الغلمان قد جاءوا بالجواب. فقال لهم: بعثتكم لتجيئوني برجل فجئتموني برقعة فقالوا: لم نلقه، وإنما كتب جوابها في منزله، ولم تأمرنا بالهجوم عيه فنهجم. فقرأها فإذا فيها:

أجيء على شرط فإن كنت فاعلا                      وإلا فإنـي راجـع لا أنـاظـر

ليسرج لي البرذون في حال دلجتي                      وأنت بدلجاتي مع الصبح خابـر

لأقضي حاجاتي إلـيه وأنـثـنـي                      إليك وحجام إذا جـئت حـاضـر

فيأخذ من شعري ويصلح لحيتـي                      ومن بعد حمام وطيب وجـامـر

ودستيجة من طيب الراح ضخـمة                      يرودنيهـا طـائعـا لا يعـاسـر

 

صفحة : 1532

 

فقال محمد بن أيوب: ما نقول? فقلت: إنك لا تقوى على مطاولته، ولكن اضمن له ما طلب، فكتب إليه: قد أغد لك - وحياتك - كل ما طلبت فلا تبطىء، فإذا به قد طلع علينا، فأمر محمد بن أيوب بإحضار المائدة. فلما أحضرت أمر محمد بن يسير فشد بحبل إلى أسطوانة من أساطين المجلس، وجلسنا نأكل بحذائه. فقال لنا: أي شيء يخلصني? قلنا: تجيب نفسك عما كتبت به أقبح جواب. فقال: كفوا عن الأكل إذا ولا تستبقوني به فتشغلوا خاطري، ففعلنا ذلك وتوقفنا، فأنشأ يقول:

أيا عجبا من ذا التسري فإنه                      له نخوة في نفسه وتكابر

يشارط لما زار حتى كأنه                      مغن مجيد أو غلام مؤاجر

فلولا ذمام كان بيني وبينـه                      للطم بشار قفـاه وياسـر فقال محمد: حسبك، لم نرد هذا كله، ثم حله وجلس يأكل معنا، وتممنا يومنا.

أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: كان محمد بن يسير من شعراء أهل البصرة وأدبائهم، وهو من خثعم وكان من بخلاء الناس، وكان له في داره بستان قدره أربعة طوابيق قلعها من داره، فغرس فيه أصل رمان وفسيلة لطيفة، وزرع حواليه بقلا، فأفلتت شاة لجار له يقال له: منيع، فأكلت البقل ومضغت الخوص، ودخلت إلى بيته فلم تجد فيه إلا القراطيس فيها شعره وأشياء من سماعاته، فأكلتها وخرجت، فعدا إلى الجيران في المسجد يشكو ما جرى عليه، وعاد فزرع البستان، وقال يهجو شاة منيع:

لي بـسـتـان أنـيق زاهـر                      ناضر الخضـرة ريان تـرف

راسخ الأعراق ريان الـثـرى                      غدق تربته لـيسـت تـجـف

لمجاري المـاء فـيه سـنـن                      كيفما صرفته فيه انـصـرف

مشرق الأنوار مـياد الـنـدى                      منثن في كل ريح منعـطـف

تملـك الـريح عـلـيه أمـره                      فإذا لم يؤنـس الـريح وقـف

يكتسي في الشوق ثوبي يمـنة                      ومع الليل عليهـا يلـتـحـف

ينطوي الـلـيل عـلـيه فـإذا                      واجه الشرق تجلى وانكشـف

صابر لـيس يبـالـي كـثـرة                      جز بالمنجل أو منـه نـتـف

كلما ألحـف مـنـه جـانـب                      لم يتلبث منه تعجيل الخـلـف

لا ترى لـلـكـف فـيه أثـرا                      فيه بل ينمي على مس الأكف

فترى الأطباق لا تـمـهـلـه                      صادرات واردات تخـتـلـف

فيه للخـارف مـن جـيرانـه                      كلما احتاج إليه مـخـتـرف

أقـحـوان وبـهـار مـونـق                      وسوى ذلك من كل الطـرف

وهو زهر للنـدامـى أصـلا                      برضا قاطفهم ممـا قـطـف

وهو فـي الأيدي يحـيون بـه                      وعلى الآناف طورا يستشـف

أعـفـه يا رب مـن واحـدة                      ثم لا أحفل أنـواع الـتـلـف

اكفه شـاة مـنـيع وحـدهـا                      يوم لا يصبح في البيت علـف

اكفـه ذات سـعـال شـهـلة                      متعت في شر عيش بالخـرف

اكفه يا رب وقصاء الطـلـى                      ألحم الكتفين منها بالـكـتـف

وكـلـوح أبـدا مـفـتــرة                      لك عن هتم كلـيلات رجـف

ونـئوس الأنـف لا يرقـا ولا                      أبـدا تـبـصـره إلا يكـف

لم تزل أظـلافـهـا عـافـية                      لم يظلف أهلها منها ظـلـف

فتـرى فـي كـل رجـل ويد                      من بقاياهن فوق الأرض خف

تنسف الأرض إذا مـرت بـه                      فلها إعصار ترب منتـسـف

ترهج الطرق على مجتازهـا                      بيد في المشي والخطو القطف

في يديها طرق مـشـيتـهـا                      حلقة القوس وفي الرجل حنف

فإذا ما سعلـت واحـد ودبـت                      جاوب البعر عليها فخـصـف

وأحص الشعر منها جـلـدهـا                      شنة في جوف غار منخسـف

ذات قرن وهـي جـمـاء ألا                      إن ذا الوصف كوصف مختلف

وإذا تدنو إلى مسـتـعـسـب                      عافها نتنا إذا ما هـو كـرف

لا ترى تيسا عليهـا مـقـدمـا                      رميت من كل تيس بالصلـف

 

صفحة : 1533

 

 

شوهة الخلقة ما أبصـرهـا                      من جميع الناس إلا وحلـف

ما رأى شاة ولا يعلـمـهـا                      خلقت خلقتها فيمـا سـلـف

عجبا منها ومن تـألـيفـهـا                      عجبا من خلقها كيف ائتلـف

لو ينادون عليهـا عـجـبـا                      كسبوا منها فلوسـا ورغـف

ليتها قد أفلتت فـي جـفـنة                      من عجين أو دقيق مجتـرف

فتلقت شفـرة مـن أهـلـه                      قدر الإصبع شيئا أو أشـف

أحكمت كفا حكيم صنعـهـا                      فأتت مجدولة فيهـا رهـف

أدمجت من كل وجه غير مـا                      ألل الأقيان من حد الطـرف

قابض الرونق فيهـا مـاتـع                      يخطف الأبصار منها يستشف

لمحتها فاستخفت نـحـوهـا                      عجلا ثم أحالت تنـتـسـف

فتناهت بين أضعاف المعـى                      وتبوت بين أثناء الـشـغـف

أو رمتها قرحة زادت لـهـا                      ذوبانـا كـل يوم ونـحـف

كل يوم فـيه يدنـو يومـهـا                      أو ترى واردة حوض الدنف

بينما ذاك بها إذ أصـبـحـت                      كحميت مفعم أو مثل جـف

شاغرا عرقوبها قد أعتـبـت                      بطنة من بعد إدمان الهـيف

وغدا الصبية من جيرانـهـا                      ليجروها إلى مأوى الجـيف

فتراها بينهـم مـسـحـوبة                      تجرف الترب بجنب منحرف

فإذا صاروا إلى المأوى بهـا                      أعملوا الآجر فيها والخـزف

ثم قالوا: ذا جـزاء لـلـتـي                      تأكل البستان منا والصحـف

لا تلوموني فلو أبـصـرت ذا                      كله فيها إذن لم أنـتـصـف أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا عبد الله بن محمد بن يسير، وحدثني سوار بن أبي شراعة قال حدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال: هوي أبي قينة من قيان أبي هاشم بالبصرة، فكتبت إليه أمي تعاتبه، فكتب إليها:

لا تذكري لوعة إثري ولا جزعـا                      ولا تقاسن بعدي الهم والهـلـعـا

بل ائتسي تجدي إن ائتسـيت أسـا                      بمثل ما قد فجعت اليوم قد فجعـا

ما تصنعين بعين عنك قد طمحـت                      إلى سواك وقلب عنك قد نـزعـا

إن قلت قد كنت في خفض وتكرمة                      فقد صدقت ولكن ذاك قد نـزعـا

وأي شيء من الدنيا سمعـت بـه                      إلا إذا صار في غاياته انقطـعـا

ومن يطيق خليعا عند صـبـوتـه                      أم من يقوم لمستور إذا خـلـعـا أخبرني عمي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن يسير أن أباه دعي إلى وليمة وحضرها مغن يقال له أبو النجم، فعبث بأبي وباغضه وأساء أدبه، فقال يهجوه:

نشت بأبي النجم المغني سحـابة                      عليه من الأيدي شآبيبها القـفـد

نشا نوءها بالنحس حتى تصرمت                      وغابت فلم يطلع لها كوكب سعد

سقته بجادت فارتوى من سجالها                      ذو رأسه والوجه والجيد والخـد

فلا زال يسقيه بها كل مجـلـس                      به فتية أمثالها الهزل والـجـد أراد به يسقيانه.

أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال وحدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال: كان لأبي صديق يقال له داود من أسمج الناس وجها وأقلهم أدبا، إلا أنه كان وافر المتاع، فكان القيان يواصلنه ويكثرن عنده، ويهدين إليه الفواكه والنبيذ والطيب، فيدعو بأبي فيعاشره. فهويته قنية من قيان البصرة، كانت من أحسن الناس وجها، فبعثت إلى داود برقعة طويلة جدا تعاتبه فيها وتستجفيه وتستزيره. فسأل أبي أن يجيبها عنه، فقال أبي: اكتب يا بني قبل أن أجيب عنها:

وابلائي من طول هذا الكتاب                      أسعدوني عليه يا أصحابـي

أسعدوني على قراة كـتـاب                      طوله مثل طول يوم الحساب

إن فيه مني البلاء مـلـقـى                      ولغيري فيه الهوى والتصابي

وله الود والهوى وعـلـينـا                      فيه للكاتبـين رد الـجـواب

ثم ممن يا سيدي وإلـى مـن                      منهضيم الحشا لعوب كعاب

وإلى من إن قلت فيه بعـيب                      لم أحط في مقالتي بالصواب

 

صفحة : 1534

 

 

لا يساوي على التأمل والتـف                      تيش يوما في الناس كف تراب فقال عبد الله: وكان أبي إذا انصرف من مجلس فيه داود هذا أخذه معه، فيمشي قدامه، فإن كان في الطريق طين أو بئر أو أذى لقي داود شره وحذره أبي. فمات داود. وانصرف أبي ذات ليلة وهو سكران، فعثر بدكان وتلوث بطين ودخل في رجله عظم ولقي عنتا، فقال يرثي داود:

أقول والأرض قد غشى وجلـلـهـا                      ثوب الدجى فهو فوق الأرض ممدود

وسد كل فروج الجو مـنـطـبـقـا                      وكل فرج به في الجـو مـسـدود

وفي الوداع وفي الإبداء لي عـنـت                      دون المسير وباب الـدار مـسـدود

من لي بداود في ذي الحال يرشدنـي                      من لي بـداود لـهـفـي أين داود

لهفي على رجـلـه ألا أقـدمـهـا                      قدام رجلي فتلقـاهـا الـجـلامـيد

إذا لا أزال إذا أقبلـت ينـكـبـنـي                      حرف وجـرف ودكـان وأخـدود

فإن تكن شوكة كانـت تـحـل بـه                      أو نكتة في سواد الـلـيل أو عـود أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني القاسم بن الحسن مولى جعفر بن سليمان الهاشمي قال: هجمت شاة منيع البقال على دار ابن يسير وهو غائب، وكانت له قراطيس فيها أشعار وآداب مجموعة، فأكلتها كلها، فقال في ذلك:

قل لبغاة الآداب ما صنعـت                      منها إليكم فلا تضيعـوهـا

وضمنوها صحف الدفاتر بال                      حبر وحسن الخطوط أوعوها

فإن عجزتم ولم يكن عـلـف                      تسيغه عندكم فـبـيعـوهـا أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني ابن شبل البرجمي قال: كان محمد بن يسير يعاشر يوسف بن جعفر بن سليمان، وكان يوسف أشد خلق الله عربدة، وكان يخاف لسان ابن يسير فلا يعربد عليه. ثم جرى بينهما ذات يوم كلام على النبيذ ولحاء، فعربد يوسف عليه وشجه، فقال ابن يسير يهجوه:

لا تجلسن مع يوسف في مجلس                      أبدا ولم تحمـل دم الأخـوين

ريحانه بدم الشباب مـلـطـخ                      وتحية الندمان لطـم الـعـين أخبرني جعفربن قدامة قال حدثني الحسين بن يحيى المنجم قال حدثني أبو علي بن الخراساني قال: كان لمحمد بن يسير البصري بابان يدخل من أحدهما وهو الأكبر، ويدخل إليه إخوانه من الباب الآخر وهو الأصغر، ومن يستشرط من المرد. فجاء يوما غلام قد خرجت لحيته، كانت عادته أن يدخل من الباب الأصغر، فمر من ذلك الباب، فجعل يخاصم لدالته، وبلغ ابن يسير فكتب إليه:

قل لمن رام بجهـل                      مدخل الظبي الغرير

بعد أن علق فـي خ                      ديه مخلاة الشعـير

ليته يدخـل إن جـا                      ء من الباب الكبـير وأخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني القاسم بن الحسن مولى جعفر بن سليمان قال: كنا في مجلس ومعنا محمد بن يسير وعمرو القصافي، وعندنا مغنية حسنة الوجه شهلة تغني غناء حسنا، فكنا معها في أحسن يوم، وكان القصافي يعين في كل شيء يستحسنه ويحبه، فما برحنا من المجلس حتى عانها، فانصرفت محمومة شاكية العين. فقال ابن يسير:

إن عمرا جنى بعينـيه ذنـبـا                      قل مني فيه عليه الـدعـاء

عان عينا فعينه للـتـي عـا                      ن فدى وقل منـه الـفـداء

شر عين تعين أحسـن عـين                      تحمل الأرض أو تظل السماء أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا القاسم بن الحسن قال: استعار ابن يسير من بعض الهاشميين من جيرانه حمارا كان له ليمضي عليه في حاجة أراده فأبى عليه، فمضى إليها ماشيا، وكتب إلى عمرو القصافي - وكان جارا للهاشمي وصديقا - يشكوه إليه ويخبره بخبره:

إن كنت لا عير لي يوما يبلغنـي                      حاجي وأقضي عليه حق إخواني

وضن أهل العواري حين أسألهـم                      من أهل ودي وخلصاني وجيراني

فإن رجلي عندي لا عدمتـهـمـا                      رجلا أخي ثقة مذ كان جولانـي

تبلغاني حاجـاتـي وإن بـعـدت                      وتدنياني مما لـيس بـالـدانـي

كأن خلفي إذا ما جد جـدهـمـا                      إعصار عاصفة ممـا تـثـيران

 

صفحة : 1535

 

 

رجلاي لم تألما نكبا كـأنـهـمـا                      قطا وقـدا وإدمـاجـا مـداكـان

كأن ما بهما أخطـوا إذا أرتـهـيا                      في سكة من أي ذاك سمـا كـان

إن تبعثا في دهاس تبعثا رهـجـا                      أوفى حزون ذكا فيها شـهـابـان

فالحمد لله يا عمرو الذي بـهـمـا                      عن العواري وعن ذا الناس أغناني أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن داود بن الجراح قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال: كنا في حلقة التوزي، فلما تقوضت أنشدنا محمد بن يسير لنفسه قوله:

جهد المقل إذا أعطاه مصطبـرا                      ومكثر من غنى سيان في الجود

لا يعدم السائلون الخير أفعـلـه                      إما نوالي وإما حسـن مـردود فقلنا له: ما هذا التكارم وقمنا إلى بيته فأكلنا من جلة تمر كانت عنده أكثرها وحملنا بقيتها. فكتب إلى والي البصرة عمر بن حفص:

يا أبا حفص بحرمـتـنـا                      عن نفسا حين تنتـهـك

خذ لنا ثارا بجـلـتـنـا                      فبـك الأوتـار تـدرك

كهف كفي حين تطرحها                      بين أيدي القوم تبـتـرك

زارنا زور فلا سلـمـوا                      وأصيبوا أية سـلـكـوا

أكلوا حتى إذا شـبـعـوا                      أخذوا الفضل الذي تركوا قال: فبعث إلينا فأحضرنا فأغرمنا مائة درهم، وأخذ من كل واحد منا جلة تمر، ودفع ذلك إليه.

أخبرني الأخفش قال حدثنا أبو العيناء قال: كان بين محمد بن يسير وأحمد بن يوسف الكاتب شر، فزجه أحمد يوما بحماره تعرضا لشره وعبثا به، فأخذ ابن يسير بأذن الحمار وقال له: قل لهذا الحمار الراكب فوقك لا يؤذي الناس، فضحك أحمد ونزل، فعانقه وصالحه.

أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن علي الشامي قال: طلب محمد بن يسير من ابن أبي عمرو المديني فراخا من الحمام الهداء، فوعده أن يأخذها له من المثنى بن زهير، ثم نور عليه أي أعطاه فراخا غير منسوبة دلسها عليه وأخذ المنسوبة لنفسه. فقال محمد بن يسير:

يا رب رب الرائحـين عـشـية                      بالقوم بين منـى وبـين ثـبـير

والواقفين على الجبـال عـشـية                      والشمس جانحة إلى الـتـغـوير

حتى إذا طفل العشي ووجـهـت                      شمس النهار وآذنـت بـغـئور

رحلوا إلى خيف نواحل ضمـهـا                      طول السفار وبعد كل مـسـير

ابعث على طير المدينـي الـذي                      قال المحال وجاءنـي بـغـرور

ابعث على عجل إليها بـعـدمـا                      يأخذون زينتهن في التـحـسـير

في كل ما وصفوا المراحل وابتدوا                      في المبتدين بهن والـتـكـسـير

ومضين عن دور الخريبة زلـفة                      دون القصور وحجرة الماخـور

مع كل ريح تغتدي بهـبـوبـهـا                      في الجو بين شواهن وصـقـور

من كل أكلف بات يدجـن لـيلـه                      فغدا بغدوة ساغب مـمـطـور

ضرم يقلب طرفـه مـتـأنـسـا                      شيئا فكن لـه مـن الـتـقـدير

يأتي لهن مـيامـنـا ومـياسـرا                      صكا بكل مزلـق مـمـكـور

من طائر متحير عـن قـصـده                      أو ساقط خلج الجنـاح كـسـير

لم ينج منه شريدهن فـإن نـجـا                      شيء فصار بجانـبـات الـدور

لمشمرين عن السواعـد حـسـر                      عنها بكـل رشـيقة الـتـوتـير

سدد الأكف إلى المقاتـل صـيب                      سمت الحتوف بجؤجؤ ونـحـور

ليس الذي تخـطـي يداه رمـية                      منهم بـمـعـدود ولا مـعـذور

يتبوعون وتـمـتـطـي أيديهـم                      في كل معطية الجذاب نـتـور

عطف السيات دوائرا في عطفهـا                      تعزى صناعتها إلى عصـفـور

ينفثن عن جذب الأكف ثـواقـبـا                      متشابهـات الـقـد والـتـدوير

تجري بها مهج النفـوس وإنـهـا                      لنواصل سلت من الـتـحـبـير

ما إن تقصر عن مدى متبـاعـد                      في الجو يحسر طرف كل بصير

 

صفحة : 1536

 

 

حتى تراه مـزمـلا بـدمـائه                      فكأنه متـضـمـح بـعـبـير

فيظل يومهم بعـيش نـاصـب                      نصب المراجل معجلي التنوير

ويئوب ناجيهن بـين مـضـرج                      بدم ومخلوب إلى مـنـسـور

عاري الجناح من القوادم والقرا                      كاس عليه مـائر الـتـامـور

فيئوده متبهنـس فـي مـشـيه                      خطف المؤخر مشبع التصدير

ذو حلكه مثل الدجى أو غـبـثة                      شغب شديد الجد والتـشـمـير

فيمر منها في البراري والقرى                      من كل أعصل كالسنان هصور

في حين تؤذيها المبايت موهنـا                      أو بعد ذلك آخر التـسـحـير

يختص كل سليل سابـق غـاية                      محض النجار مجرب مخبـور

عجل عليه بما دعوت لـه بـه                      أره بذاك عقـوبة الـتـنـوير

حتى يقول جميع من هو شامت                      هذي إجابة دعوة ابـن يسـير

فلألفينك عند حالـي حـسـرة                      وتأسف وتـلـهـف وزفـير

ولتلفين إذا رمتك بسـهـمـهـا                      أيدي المصائب منك غير صبور أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني القاسم بن الحسن مولى جعفر بن سليمان قال: خرجنا مع بعض ولد النوشجاني إلى قصر له في بستانهم بالجعفرية، ومعنا محمد بن يسير، وكان ذلك القصر من القصور الموصوفة بالحسن، فإذا هو قد خرب واختل، فقال فيه محمد بن يسير:

ألا يا قصر قصر النوشجاني                      أرى بك بعد أهلك ما شجاني

فلو أعفى البـلاء ديار قـوم                      لفضل منهم ولعظـم شـان

لما كانت ترى بـك بـينـات                      تلوح عليك آثار الـزمـان أخبرني عمي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن أبي حرب قال أنشدنا يوما محمد بن يسير في مجلس أبي محمد الزاهد صاحب الفضيل بن عياض لنفسه قال:

ويل لمن لم يرحـم الـلـه                      ومن تكون النار مـثـواه

واغفلتا في كل يوم مضى                      يذكرني الموت وأنـسـاه

من طال في الدنيا به عمره                      وعاش فالموت قصـاراه

كأنه قد قيل في مجـلـس                      قد كنت آتـيه وأغـشـاه

محمد صـار إلـى ربـه                      يرحـمـنـا الـلـه وإياه قال: فأبكى والله جميع من حضر.

أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو الشبل قلا: كان محمد بن يسير صديقا لداود بن أحمد بن أبي داود كثير الغشيان له ففقده أهل أياما وطلبوه فلم يجدوه، وكان مع أصحاب له قد خرجوا يتنزهون فجاءوا إلى داود بن أحمد يسألونه عنه، فقال لهم: اطلبوه في منزل حسن المغنية فإن وجدتموه وإلا فهو في حبس أبي شجاع صاحب شرطة خمار التركي. فلما كان بعد أيام جاءه ابن يسير فقال له: إيه أيها القاضي، كيف دللت علي أهلي? قال: كما بلغك، وقد قلت في ذلك أبياتا: قال: أو فعلت ذلك أيضا? زدني من برك، هات، أيش قلت? فأنشده:

ومرسـلة تـوجـه كـل يوم                      إلي وما دعا للصبـح داعـي

تسائلني وقد فقـدوه حـتـى                      أرادوا بعده قسم الـمـتـاع

إذا لم تلقه في بـيت حـسـن                      مقيما للشراب وللـسـمـاع

ولم ير في طريقي بني سدوس                      يخط الأرض منه بالـكـراع

يدق حزونها بالوجـه طـورا                      وطورا بالـيدين وبـالـذراع

فقد أعياك مطلبـه وأمـسـى                      فلا تغلط حبيس أبي شجـاع قال: فجعل ابن يسير يضحك ويقول: أيها القاضي لو غيرك يقول لي هذا لعرف خبره. ثم لم يبرح ابن يسير حتى أعطاه داود مائتي درهم وخلع عليه خلعة من ثيابه.

أخبرني عمي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني علي بن القاسم طارمة قال: كنت مع المعتصم لما غزا الروم، فجاء بعض سراياه بخبر عمه، فركب من فوره وسار أجد سير وأنا أسايره، فسمع منشدا يتمثل في عسكره:

إن الأمور إذا اسندت مسالكهـا                      فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا

لا تياسن وإن طالت مـطـالـبة                      إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا

 

صفحة : 1537

 

فسر بذلك وطابت نفسه، ثم التفت إلي وقال لي: يا علي أتروي هذا الشعر? قلت: نعم. قال: من يقوله? قلت: محمد بن يسير. فتفاءل باسمه ونسبه. وقال: أمر محمود وسير سريع يعقب هذا الأمر. ثم قال: أنشدني الأبيات، فأنشدته قوله:

ماذا يكلفك الـروحـات والـدلـجـا                      البر طورا وطورا تركب اللـجـجـا

كم من فتى قصرت في الرزق خطوته                      ألفيته بسهام الـرزق قـد فـلـجـا

لا تيأسـن وإن طـالـت مـطـالـبة                      إذا استعنت بصبر أن تـرى فـرجـا

إن الأمور إذا اسندت مـسـالـكـهـا                      فالصبر يفتح منها كل ما ارتـتـجـا

أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجـتـه                      ومدمن القرع لـلأبـواب أن يلـجـا

فاطلب لرجلك قبل الخطو موضعهـا                      فمن علا زلقا عـن غـرة زلـجـا

ولا يغرنك صـفـو أنـت شـاربـه                      فربما كان بالتكـدير مـمـتـزجـا

لا ينتج النـاس إلا مـن لـقـاحـهـم                      يبدو لقاح الفتـى يومـا إذا نـتـجـا أخبرني عيسى بن الحسين والحسن بن علي وعمي قالوا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني أبوالشبل قال: كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان ذات يوم ومعنا محمد بن يسير ونحن على شراب، فأمر أن نبخر ونطيب، فأقبلت وصيفة له حسنة الوجه، فجعلت تبخرنا وتغلفنا بغالية كانت معه. فلما غلفت ابن يسير وبخرته التفت إلي - وكان إلى جانبي - فأنشدني:

يا باسطا كفه نـحـوي يطـيبـنـي                      كفاك أطيب يا حبي مـن الـطـيب

كفاك يجري مكان الطيب طيبهـمـا                      فلا تزدني عليها عنـد تـطـييبـي

يا لائمي في هواها أنت لـم تـرهـا                      فأنت مغرى بتأنيبـي وتـعـذيبـي

انظر إلى وجهها هل مثل صورتهـا                      في الناس وجه مجلى غير محجوب? فقلت له: اسكت ويلك لا، تصفع والله وتخرج. فقال: والله لو وثقت بأن نصفع جميعا لأنشدته الأبيات، ولكني أخشى أن أفرد بالصفع دونك.

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا الرياشي قال: كان محمد بن يسير جالسا في حلقتنا في مسجد البصرة، وإلى جانبنا حلقة قوم من أهل الجدل يتصايحون في المقالات والحجج فيها، فقال ابن يسير: اسمعوا ما قلت في هؤلاء، فأنشدنا قوله:

يا سائلي عن مقالة الـشـيع                      وعن صنوف الأهواء والبدع

دع عنك ذكر الأهواء ناحـية                      فليس ممن شهدت ذو ورع

كل أناس بـديهـم حـسـن                      ثم يصيرون بعد للـسـمـع

أكثر ما فيه أن يقال لـهـم                      لم يك في قوله بمنقـطـع أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن علي الشامي قال: كان محمد بن يسير يصف نفسه بالذكاء والحفظ والاستغناء عن تدوين شيء يسمعه، من ذلك قوله:

إذا ما غدا الطلاب للعلم ما لهـم                      من الحظ إلا ما يدون في الكتب

غدوت بتشمير وجد عـلـيهـم                      فمحبرتي أذني ودفترها قلبـي أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني إبراهيم بن المدبر، قال: كان إبراهيم بن رياح إذا حزبه الأمر يقطعه بمثل قول محمد بن يسير:

تخطي النفوس مع العـيا                      ن وقد تصيب مع المظنة

كم من مضيق في الفضا                      ء ومخرج بين الأسـنة أخبرني عمي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني الحسن بن أبي السري قال: مر ابن يسير بأبي عثمان المازني فجلس إليه ساعة، فرأى من في مجلسه يتعجبون من نعل كانت في رجله خلق وسخة مقطعة، فأخذ ورقة وكتب فيها:

كم أرى ذا تعجب من نعالي                      ورضائي منها بلبس البوالي

كل جرداء قد تكـتـفـيهـا                      من أقطارها بسود النقـال

لا تداني وليس تشبه في الخل                      قة إن أبرزت نعال الموالي

من يغال من الرجال بنعـل                      فسواي إذا بهـن يغـالـي

لو حذاهن للجمـال فـإنـي                      في سواهن زينتي وجمالي

في إخائي وفي وفائي ورأيي                      ولساني ومنطقي وفعالـي

ما وقاني الحفا وبلغني الحـا                      جة منها فإنني لا أبـالـي أخبرني عمي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال:

 

صفحة : 1538

 

دعا قثم بن جعفر بن سليمان أبي فشرب عنده، فلما سكر سرق منه ألواح آبنوس كانت تكون في كمه، فقال في ذلك:

عين بكي بعبـرة تـسـفـاح                      وأقـيمـي مـآتـم الألـواح

أوحشت حجزتي وردناي منها                      في بكوري وعند كـل رواح

واذكريها إذا ذكرت بمـا قـد                      كان فيها من مرفق وصـلاح

آبنوس دهماء حالـكة الـلـو                      ن لباب من اللطاف المـلاح

ذات نفع خفيفة القدر والمـح                      مل حلكوكة الذرا والنواحـي

وسريع جفوفها إن مـحـاهـا                      عند ممل مستعجل القوم ماحي

هي كانت على علومـي والآ                      داب والفقه عدتي وسلاحـي

كنت أغدو بها على طلب العل                      م إذا ما غدوت كل صـبـاح

هي كانت غذاء زوري إذا زا                      ر وري النديم يوم اصطباحي يعني أنه يعمل فيها الشعر ويطلب لزواره المأكول والمشروب.

 

آب عسري وغاب يسري وجودي                      حين غابت وغاب عني سماحي أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: كان محمد بن يسير يعادي أحمد بن يوسف، فبلغه أنه يتعشق جارية سوداء مغنية، فقال ابن يسير يهجوه:

أقول لما رأيته كـلـفـا                      بكل سوداء نزرة قـذره

أهل لعمري لما كلفت به                      عند الخنازير تنفق العذره أخبرني وكيع قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا أبو العواذل قال: عوتب محمد بن يسير على حضور المجالس بغير ورق ولا محبرة، وأنه لا يكتب ما يسمعه، فقال:

ما دخل الحمام من علمـي                      فذاك ما فاز به سهـمـي

والعلم لا ينفعني جمـعـه                      إذا جرى الوهم على فهمي أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان محمد بن يسير يعاشر ولد جعفر بن سليمان، فأخذ منه قثم بن جعفر ألواح آبنوس كان يكتب فيها بالليل، فقال ابن يسير في ذلك:

أبقت الألـواح إذ أخـذت                      حرقة في القلب تضطرم

زانها فصان من صـدف                      واحمرار السير والقلـم

وتولى أخـذهـا قـثـم                      لا تولى نفعـهـا قـثـم أخبرني الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان محمد بن يسير يعاشر بعض الهاشميين، ثم جفاه الهاشمي لملال كان فيه فكتب إليه ابن يسير قوله:

قد كنت منقبضا وأنت بسطتـنـي                      حتى انبسطت إليك ثم قبضتنـي

أذكرتني خلق النفاق وكـان لـي                      خلقا فقد أحسنت إذ أذكرتـنـي

لو دام ودك وانبسطت إلى امرىء                      في الود بعدك كنت أنت غررتني

فهلم نجتذب التـذاكـر بـينـنـا                      ونعود بعد كأننا لـم نـفـطـن أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا مسعود بن يسير قال: شرب محمد بن يسير نبيذا مع قوم فأسكروه، حتى خرج من عندهم وهو لا يعقل فأخذ رداءه وعثر في طريقه وأصاب وجهه آثار، فلما أفاق أنشأ يقول:

شاربت قوما لم أطق شربهم                      يغرق في بحرهم بحـري

لما تجـارينـا إلـى غـاية                      قصر عن صبرهم صبري

خرجت من عندهم مثخنـا                      تدفعني الجدر إلى الجـدر

مقبح المشي كسير الخطـا                      تقصر عند الجد عن سيري

فلست أنسى ما تجشمت من                      كدح ومن جرح ومن أثر

وشق ثـوب وتـوى آخـر                      وسقطة بان بها ظـفـري حدثني عمي وجحظة عن أحمد بن الطبيب قال: حدثنا بعض أصحابنا عن مسعو بن يسير، ثم ساق الخبر مثله سواء.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو العيناء قال: اجتمع جعيفران الموسوس ومحمد بن يسير في بستان، فنظر إلى محمد بن يسير وقد انفرد ناحية للغائط، ثم قام عن شيء عظيم خرج منه، فقال جعيفران:

قد قلت لابـن يسـير                      لما رمى من عجانه

في الأرض تل سماد                      علا على كثبـانـه

طوبى لصاحب أرض                      خرئت في بستـانـه قال: فجعل ابن يسير يشتم جعيفران ويقول: أي شيء أردت مني يا مجنون يا بن الزانية حتى صيرتني شهرة بشعرك

 

صفحة : 1539

 

أخبرني جحظة قال: حدثني سوار بن أبي شراعة قال: حدثني عبد الله بن محمد بن يسير قال: كان أبي مشغوفا بالنبيذ مشتهرا بالشرب، وما بات قط إلا وهو سكران، وما نبذ قط نبيذا، وإنما كان يشربه عند إخوانه ويستسقيه منهم، فأصبحنا بالبصرة يوما على مطر هاد، ولم تمكنه معه الحركة إلى قريب من إخوانه ولا بعيد وكاد يجن لما فقد النبيذ. فكتب إلى والي البصرة وكان هاشميا، وهو محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان قال:

كم في علاج نبيذ التمر لي تعـب                      الطبخ والدلك والمعصار والعكر

وإن عدلت إلى المطبوخ معتمـدا                      رأيتني منه عند الناس أشتـهـر

نقل الدنان إلى الجيران يفضحنـي                      والقدر تتركني في القوم أعتـذر

فصرت في البيت أستسقي وأطلبه                      من الصديق ورسلي فيه تبتـدر

فمنهم باذل سمح بـحـاجـتـنـا                      ومنهم كاذب بالـزور يعـتـذر

فسقني ري أيام لتـمـنـعـنـي                      عمن سواك وتغنيني فقد خسروا

إن كان زق فـزق أو فـوافـرة                      من الدساتيج لا يزري بها الصفر

وإن تكن حاجتي ليست بحاضـرة                      وليس في البيت من آثارها أثـر

فاستسق غيرك أو فاذكر له خبري                      إن اعتراك حياء منه أو حصـر

ما كان من ذلكم فليأتني عـجـلا                      فإنني واقف بالبـاب أنـتـظـر

لا لي نبيذ ولا حر فـيدعـونـي                      وقد حماني من تطفيلي المطـر قال: فضحك لما قرأها. وبعث إليه بزق نبيذ ومائتي درهم، وكتب إليه: اشرب النبيذ: وأنفق الدراهم إلى أن يمسك المطر ويتسع لك التطفيل، ومتى أعوزك مكان فاجعلني فيئة لك، والسلام.

 

أنت حديثي في النوم واليقظة                      أتعبت مما أهذي بك الحفظة

كم واعظ فيك لي وواعـظة                      لو كنت ممن تنهاه عنك عظه الشعر لديك الجن الحمصي. والغناء لعريب، هزج، ذكر ذلك ذكاء وجه الرزة وقمري جميعا، والله أعلم.

 

أخبار ديك الجين ونسبه

ديك الجن لقب غلب عليه، واسمه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن يزيد بن تميم. وكان جده تميم ممن أنعم الله عز وجل عليه بالإسلام من أهل مؤتة على يدي حبيب بن مسلمة الفهري، وكان شديد التشعب والعصبية على العرب، يقول: ما للعرب علينا فضل، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم صلى الله عليه وسلم، وأسلمنا كما أسلموا، ومن قتل منهم رجلا منا قتل به، ولم نجد الله عز وجل فضلهم علينا، إذ جمعنا الدين.

وهو شاعر مجيد يذهب مذهب أبي تمام والشاميين في شعره. من شعراء الدولة العباسية. وكان من ساكني حمص، ولم يبرح نواحي الشأم، ولا وفد إلى العراق ولا إلى غيره منتجعا بشعره، ولا متصديا لأحد. وكان يتشيع تشيعا حسنا، وله مراث كثيرة في الحسين بن علي عليهما السلام منها قوله:

ياعين لا للقضا ولا الكـتـب                      بكا الرزايا سوى بكا الطرب وهي مشهورة عند الخاص والعام، ويناح بها. وله عدة أشعار في هذا المعنى، وكانت له جارية يهواها، فاتهمها بغلام له فقتلها، واستنفد شعره بعد ذلك في مراثيها.

قال أبو الفرج: ونسخت خبره في ذلك من كتاب محمد بن طاهر، أخبره بما فيه ابن أخ لديك الجن يقال له أبو وهب الحمصي قال: كان عمي خليعا ماجنا معتكفا على القصف واللهو، متلافا لما ورث عن آبائه، واكتسب بشعره من أحمد وجعفر ابني علي الهاشميين، وكان له ابن عم يكنى أبا الطيب يعظه وينهاه عما يفعله، ويحول بينه وبين ما يؤثره ويركبه من لذاته وربما هجم عليه وعنده قوم من السفهاء والمجان وأهل الخلاعة، فيستخف بهم وبه. فلما كثر ذلك على عبد السلام قال فيه:

مولاتنا يا غلام مـبـتـكـره                      فباكر الكأس لي بلا نـظـره

غدت على اللهو والمجون على                      أن الفتاة الحيية الـخـفـره

لحبها لا عدمـتـهـا حـرق                      مطوية في الحشا ومنتشـره

ما ذقت منها سوى مقبـلـهـا                      وضم تلك الفروع منـحـدره

وانتهرتني فمـت مـن فـرق                      يا حسنها في الرضا ومنتهره

 

صفحة : 1540

 

 

ثم انثنت سورة الخـمـار بـنـا                      خلال تلك الغـدائر الـخـمـره

وليلة أشرفـت بـكـلـكـلـهـا                      علي كالطيسـان مـعـتـجـره

فتقت ديجـورهـا إلـى قـمـر                      أثوابه بالعفـاف مـسـتـتـره

عج عبرات المدام نـحـوي مـن                      عشر وعشرين واثنتي عـشـره

قد ذكر النـاس عـن قـيامـهـم                      ذكرى بعقلي ما أصبحت نكـره

معرفتي بالـصـواب مـعـرفة                      غراء إما عرفـتـم الـنـكـره

يا عجبا من أبي الخـبـيث ومـن                      سروحه في البـقـائر الـدثـره

يحمل رأسا تنبو المـعـاول عـن                      صفحته والجـلامـد الـوعـره

لو البغال الكمت ارتقـت سـنـدا                      فيه لـمـدت قـوائمـا خـدره

ولا المجـانـيق فـيه مـغـنـية                      ألف تسامى وألـف مـنـكـدره

انظر إلى موضع المقص من ال                      هامة تلك الصفيحة الـعـجـره

فلو أخذتم لها المـطـارق حـر                      انية صـنـعة الـيد الـخـبـره

إذا لراحـت أكـف جـلـتـهـم                      كلـيلة والأداة مـنـكـســره

كم طربات أفـسـدتـهـن وكـم                      صفوة عيش غادرتـهـا كـدره

وكم إذا مـا رأوك يا مـلـك ال                      موت لهم من أنامـل خـصـره

وكم لهـم دعـوة عـلـيك وكـم                      قذفة أم شنعـاء مـشـتـهـره

كريمة لؤمك اسـتـخـف بـهـا                      ونالها بـالـمـثـالـب الأشـره

قفوا على رحله تـروا عـجـبـا                      في الجهل يحكي طرائف البصره

يا كـل مـنـي وكـل طـالـعة                      نحس ويا كل سـاعة عـسـره

سبحان من يمسك السماء على ال                      أرض وفيها أخلاقـك الـقـذره قال: وكان عبد السلام قد اشتهر بجارية نصرانية من أهل حمص هويها وتمادى به الأمر حتى غلبت عليه وذهبت به. فلما اشتهر بها دعاها إلى الإسلام ليتزوج بها، فأجابته لعلمها برغبته فيها، وأسلمت على يده، فتزوجها، وكان اسمها وردا، ففي ذلك يقول:

انظر إلى شمس القصور وبدرها                      وإلى خزاماها وبهجة زهرهـا

لم تبل عينك أبيضـا فـي أسـود                      جمع الجمال كوجهها في شعرها

وردية الوجنات يختبر اسـمـهـا                      من ريقها من لا يحيط بخبرهـا

وتمايلت فضحكت من أردافـهـا                      عجبا ولكني بكيت لخصـرهـا

تسقيك كأس مدامة من كـفـهـا                      وردية ومدامة مـن ثـغـرهـا قال: وكان قد أعسر واختلت حاله، فرحل إلى سلمية قاصدا لأحمد بن علي الهاشمي، فأقام عنده مدة طويلة، وحمل ابن عمه بغضه إياه بعد مودته له وإشفاقه عليه بسبب هجائه له على أن أذاع على تلك المرأة التي تزوجها عبد السلام أنها تهوى غلاما له، وقرر ذلك عند جماعة من أهل بيته وجيرانه وإخوانه، وشاع ذلك الخبر حتى أتى عبد السلام، فكتب إلى أحمد بن علي شعرا يستأذنه في الرجوع إلى حمص ويعلمه ما بلغه من خبر المرأة من قصيدة أولها:

إن ريب الزمان طال انتكاثه                      كم رمتني بحادث أحداثـه يقول فيها:

ظبي إنس قلبي مقيل ضحاه                      وفؤادي بريره وكبـاثـه وفيها يقول:

خيفة أن يخون عهدي وأن يض                      حي لغير حجوله ورعـاثـه ومدح أحمد بعد هذا، وهي طويلة. فأذن له فعاد إلى حمص، وقدر ابن عمه وقت قدومه، فأرصد له قوما يعلمونه بموافاته باب حمص. فلما وافاه خرج إليه مستقبلا ومعنفا على تمسكه بهذه المرأة بعدما شاع من ذكرها بالفساد، وأشار عليه بطلاقها، وأعلمه أنها قد أحدثت في مغيبه حادثة لا يجمل به معها المقام عليها، ودس الرجل الذي رماها به، وقال له: إذا قدم عبد السلام ودخل منزله فقف على بابه كأنك لم تعلم بقدومه، وناد باسم ورد، فإذا قال: من أنت? فقل: أنا فلان. فلما نزل عبد السلام منزله وألقى ثيابه، سألها عن الخبر وأغلظ عليها، فأجابته جواب من لم يعرف من القصة شيئا. فبينما هو في ذلك إذ قرع الرجل الباب فقال: من هذا? فقال: أنا فلان. فقال لها عبد السلام: يا زانية، زعمت أنك لا تعرفين من هذا الأمر شيئا ثم اخترط سيفه فضربها به حتى قتلها، وقال في ذلك:

 

صفحة : 1541

 

 

ليتني لم أكن لعطفـك نـلـت                      وإلى ذلك الوصال وصـلـت

فالذي مني اشتملـت عـلـيه                      ألعار ما قد عليه اشتمـلـت

قال ذو الجهل قد حلمت ولا أع                      لم أني حلمت حتى جهـلـت

لاثم لي بجـهـلـه ولـمـاذا                      أنا وحدي أحببت ثم قتـلـت

سوف آسى طول الحياة وأبكي                      ك على ما فعلت لا ما فعلت وقال فيها أيضا:

لك نفس مـواتـيه                      والمنايا مـعـاديه

أيها القلب لا تعـد                      لهوى البيض ثانيه

ليس برق يكون أخ                      لب من برق غانيه

خنت سري ولم أخن                      ك فموتي علانـية قال: وبلغ السلطان الخبر فطلبه، فخرج إلى دمشق فأقام بها أياما. وكتب أحمد بن علي إلى أمير دمشق أن يؤمنه، وتحمل عليه بإخوانه حتى يستوهبوا جنايته فقدم حمص وبلغه الخبر على حقيقته وصحته، واستيقنه فندم، ومكث شهرا لا يستفيق من البكاء ولا يطعم من الطعام إلا ما يقيم رمقه، وقال في ندمه على قتلها:

يا طلعة طلع الحمام عـلـيهـا                      وجنى لها ثمر الردى بـيديهـا

رويت من دمها الثرى ولطالمـا                      روى الهوى شفتي من شفتيهـا

قد بات سيفي في مجال وشاحها                      ومدامعي تجري على خـديهـا

فوحق نعليها وما وطىء الحصى                      شيء أعز علي من نعـلـيهـا

ما كان قتليها لأنـي لـم أكـن                      أبكي إذا سقط الذباب علـيهـا

لكن ضننت على العيون بحسنها                      وأنفت من نظر الحسود إليهـا وهذه الأبيات تروى لغير ديك الجن.

أخبرني بها محمد بن زكريا الصحاف قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن منصور قال: كان من غطفان رجل يقال له السليك بن مجمع، وكان من الفرسان، وكان مطلوبا في سائر القبائل بدماء قوم قتلهم، وكان يهوى ابنة عم له، وكان خطبها مدة فمنعها أبوها، ثم زوجه إياها خوفا منه، فدخل بها في دار أبيها ثم نقلها بعد أسبوع إلى عشيرته، فلقيه من بني فزارة ثلاثون فارسا كلهم يطلبه بذحل، فحلقوا عليه، وقاتلهم وقتل منهم عددا، وأثخن بالجراح آخرين، وأثخن هو حتى أيقن بالموت. فعاد إليها فقال: ما أسمح بك نفسا لهؤلاء، وإني أحب أن أقدمك قبلي. قالت: افعل، ولو لم تفعله أنت لفعلته أنا بعدك. فضربها بسيفه حتى قتلها، وأنشأ يقول:

يا طلعة طلع الحمام عليها وذكر الأبيات المنسوبة إلى ديك الجن، ثم نزل إليها فتمرغ في دمها وتخضب به، ثم تقدم فقاتل حتى قتل. وبلغ قومه خبره، فحملوه وابنة عمه فدفنوهما. قال: وحفظت فزارة عنه هذه الأبيات فنقلوها. قال: وبلغني أن قومه أدركوه وبه رمق، فسمعوه يردد هذه الأبيات، فنقلوها وحفظوها عنه، وبقي عندهم يوما ثم مات.

وقال ديك الجن في هذه المقتولة:

أشفقت أن يرد الزمان بـغـدره                      أو ابتلى بعد الوصال بهـجـره

قمر أنا استخرجته من دجـنـه                      لبليتي وجلـوتـه مـن خـدره

فقتلتـه ولـه عـلـي كـرامة                      ملء الحشى وله الفؤاد بأسـره

عهدي به ميتا كأحـسـن نـائم                      والحزن يسفح عبريت في نحره

لو كان يدري الميت ماذا بعـده                      بالحي حل بكى له في قـبـره

غصص تكاد تفيظ منها نفـسـه                      وتكاد تخرج قلبه من صـدره وقال فيها أيضا:

أساكن حفـرة وقـرار لـحـد                      مفارق خلة من بـعـد عـهـد

أجبني إن قدرت على جـوابـي                      بحق الود كيف ظللت بـعـدي

وأين حللت بعد حلول قـلـبـي                      وأحشائي وأضلاعي وكـبـدي

أما والله لـو عـاينـت وجـدي                      إذا استعبرت في الظلمات وحدي

وجد تنفـسـي وعـلا زفـيري                      وفاضت عبرتي في صحن خدي

إذا لعلمـت أنـي عـن قـريب                      ستحفر حفرتي ويشق لـحـدي

ويعذلني السفيه علـى بـكـائي                      كأني مبتلى بالـحـزن وحـدي

يقول قتلتها سـفـهـا وجـهـلا                      وتبكيها بـكـاء لـيس يجـدي

كصياد الطيور لـه انـتـحـاب                      عليها وهو يذبـحـهـا بـحـد وقال فيها أيضا:

 

صفحة : 1542

 

 

ما لامرىء بيد الدهر الـخـئون يد                      ولا على جلد الدنـيا لـه جـلـد

طوبى لأحباب أقـوام أصـابـهـم                      من قبل أن عشقوا موت فقد سعدوا

وحقـهـم إنـه حـق أضـن بـه                      لأنفدن لهم دمعي كـمـا نـفـدوا

يا دهر إنك مسقـي بـكـأسـهـم                      ووارد ذلك الحوض الـذي وردوا

الخلق ماضون والأيام تتـبـعـهـم                      نفنى جميعا ويبقى الواحد الصمـد وقال فيها:

أما آن للطـيف أن يأتـيا                      وأن يطرق الوطن الدانيا

وإني لأحسب ريب الزما                      ن يتركني جسدا بـالـيا

سأشكر ذلك لا نـاسـيا                      جميل الصفاء ولا قالـيا

وقد كنت أنشره ضاحكـا                      فقد صرت أنشره باكـيا وقال أيضا:

قل لمن كان وجهه كضياء الش                      مس في حسنه وبدر مـنـير

كنت زين الأحياء إذ كنت فيهم                      ثم قد صرت زين أهل القبور

بأبي أنت في الحياة وفي المـو                      ت وتحت الثرى ويوم النشور

خنتني في المغيب والخون نكر                      وذميم في سالفات الـدهـور

فشفاني سيفي وأسرع فـي ح                      ز التراقي قطعا وحز النحور قال أبو الفرج: ونسخت من هذا الكتاب قال: كان ديك الجن يهوى غلاما من أهل حمص يقال له بكر، وفيه يقول وقد جلسا يوما يتحدثنان إلى أن غاب القمر:

دع البدر فليغرب فأنت لـنـا بـدر                      إذا ما تجلى من محاسنك الفـجـر

إذا ما انقضى سحر الذين بـبـابـل                      فطرفك لي سحر وريقك لي خمـر

ولو قيل لي قم فادع أحسن من تـرى                      لصحت بأعلى الصوت يا بكر يا بكر قال: وكان هذا الغلام يعرف ببكر بن دهمرد. قال: وكان شديد التمنع والتصون. فاحتال قوم من أهل حمص فأخرجوه إلى متنزه لهم يعرف بميماس، فأسكروه وفسقوا به جميعا، وبلغ ديك الجن الخبر فقال فيه:

قل لهضيم الكشح مـياس                      انتقض العهد من النـاس

يا طلعة الآس التي لم تمد                      إلا أذلت قـضـب الآس

وثقت بالكأس وشرابـهـا                      وحتف أمثالك في الكاس

وحال ميماس ويا بعدمـا                      بين مغيثيك ومـيمـاس

تقطيع أنفاسك في أثرهـم                      وملكهم قطع أنفـاسـي

لا بأس مولاي على أنهـا                      نهاية المكروه والـبـاس

هي الليالي ولـهـا دولة                      ووحشة من بعد إينـاس

بينا أنافت وعلت بالفتـى                      إذ قيل حطته على الراس

فاله ودع عنك أحاديثهـم                      سيصبح الذاكر كالناسـي وقال فيه أيضا:

يا بكر ما فعلت بـك الأرطـال                      يا دار ما فعـلـت بـك الأيام

في الدار بعد بقية نستـامـهـا                      إذ ليس فيك بقـية تـسـتـام

عرم الزمان على الديار برغمهم                      وعليك أيضا للزمـان عـرام

شغل الزمان كراك في ديوانـه                      فتفرغـت لـدواتـك الأقـلام قال فيه أيضا:

قولا لبكر بن دهمرد إذا اعتكـرت                      عساكر الليل بين الطاس والجـام

ألم أقل لك إن البغـي مـهـلـكة                      والبغي والعجب إفسـاد لأقـوام

قد كنت تفرق من سهم بـغـانـية                      فصرت غير رميم رقعة الرامي

وكنت تفزع من لمس ومن قـبـل                      فقد ذللـت لإسـراج وإلـجـام

إن تدم فخذاك من ركض فربتمـا                      أمسي وقلبي عليك الموجع الدامي أخبرني أبو المعتصم عاصم بن محمد الشاعر بأنطاكية، وبها أنشدني قصيدة البحتري:

ملامك إنـه عـهـد قـريب                      ورزء ما انقضت منه الندوب وأنشدني لديك الجن يعزي جعفر بن علي الهاشمي:

نغفل والأيام لا تـغـفـل                      ولا لنا من زمن مـوئل

والدهر لا يسلم من صرفه                      أعصم في القنة مستوعل

يتخذ الشعرى شعارا لـه                      كأنما الأفق له مـنـزل

كأنه بين شنـاظـيرهـا                      بارقة تكمن أو تمـثـل

 

صفحة : 1543

 

 

ولا حباب صلتان السـرى                      أرقم لا يعرف ما يجهـل

نضناض فيفـاء يرى أنـه                      بالرمل غان وهو المرمل

يطلب من فاجئة معـقـلا                      وهو لما يطلب لا يعقـل

والدهر لا يسلم من صرفه                      مسربل بالسرد مستبسـل

ولا عقنباة السلامى لـهـا                      في كل أفق علق مهمـل

فتخاء في الجـو خـدارية                      كالغيم والغيم لها مثـقـل

آمن من كل لصرف الردى                      أنزلها من جوها مـنـزل

والدهر لا يحجبه مـانـع                      يحجبه العامل والمنصـل

يصغي جديداه إلى حكمـه                      ويفعل الدهر بما يفـعـل

كأنه من فـرط عـز بـه                      أشوش إذ أقبل أو أقـبـل الأقبل: الذي في عينه قبل، وهو دون الحول.

 

في حسب أوفى له جحـفـل                      يقدمه مـن رأيه جـحـفـل

بينا على ذلـك إذ عـرشـت                      في عرشه داهـية ضـئبـل

إن يك في العز له مشـقـص                      ماض فقد تاح له مـقـتـل

جاد على قبـرك مـن مـيت                      بالروح رب لـك لا يبـخـل

وحنت المزن علـى قـبـره                      بعارض نجوتـه مـحـفـل

غيث ترى الأرض على وبلـه                      تضـحـك إلا أنـه يهـمـل

يصل والأرض تصـلـي لـه                      من صلوات معـه تـسـأل

أنت أبا العباس عـبـاسـهـا                      إذا استطار الحدث المعضـل

وانت ينـبـوع أفـانـينـهـا                      إذا هم في سـنة أمـحـلـوا

وأنت علام غـيوب الـنـثـا                      يوما إذا نـسـأل أو نـسـأل

نحن نعزيك ومنـك الـهـدى                      مستخرج والنور مستقـبـل

نقول بالعـقـل وأنـت الـذي                      نأوي إلـيه وبـه نـعـقـل

نحـن فـداء لـك مــن أمة                      والأرض والآخــر والأول

إذا غفا عـنـك وأودى بـهـا                      ذا الدهر فهو المحسن المجمل قال أبو المعتصم: ثم مات جعفر بن علي الهاشمي، فرثاه ديك الجن فقال:

على هذه كانـت تـدور الـنـوائب                      وفي كل جمع للذهـاب مـذاهـب

نزلنا على حكـم الـزمـان وأمـره                      وهل يقبل النصف الألد المشاغـب

وتضحك سن المرء والقلب موجـع                      ويرضى الفتى عن دهره وهو عاتب

ألا أيها الركـبـان والـرد واجـب                      قفوا حدثوناما تـقـول الـنـوادب

إلى أي فتيان الندى قـصـد الـردى                      وأيهم نـابـت حـمـاه الـنـوائب

فيا لأبي العـبـاس كـم رد راغـب                      لفقدك ملهوفا وكـم جـب غـارب

ويا لأبي العـبـاس إن مـنـاكـبـا                      تنوء بما حـمـلـهـا لـنـواكـب

فيا قبره جد كـل قـبـر بـجـوده                      ففـيك سـمـاء ثـرة وسـحـائب

فإنك لو تدري بما فـيك مـن عـلا                      علوت وباتت في ذراك الكـواكـب

أخا كنت أبـكـيه دمـا وهـو نـائم                      حذارا وتغمى مقلتي وهـو غـائب

فمات ولا صبري على الأجر واقف                      ولا أنا في عمر إلى اللـه راغـب

أأسعى لأحظى فيك بـالأجـر إنـه                      لسعي إذن مني لدى الـلـه خـائب

وما الإثم إلا الصبر عنـك وإنـمـا                      عواقب حمد أن تـذم الـعـواقـب

يقولون: مقدار على المـرء واجـب                      فقلت: وإعوال على المرء واجـب

هو القلب لمـا حـم يوم ابـن أمـه                      وهي جانب منه وأسـقـم جـانـب

ترشفـت أيامـي وهـن كـوالـح                      عليك وغالبت الردى وهو غـالـب

ودافعت في صدر الزمان ونـحـره                      وأي يد لي والـزمـان مـحـارب

وقلت له: خل الـجـواد لـقـومـه                      وهأنذا فـازدد فـإنـا عـصـائب

فوالله إخلاصا من القـول صـادقـا                      وإلا فحـبـي آل أحـمـد كـاذب

لو ان يدي كانت شفـاءك أو دمـي                      دم القلب حتى يقضب القلب قاضب

لسلمت تسليم الرضا وتـخـذتـهـا                      يدا للردى ما حـج الـلـه راكـب

فتى كان مثل السيف من حيث جئتـه                      لنائبة نابـتـك فـهـو مـضـارب

 

صفحة : 1544

 

 

فتى همه حمد على الدهر رابح                      وإن غاب عنه ماله فهو عازب

شمائل إن يشهد فهن مشـاهـد                      عظام وإن يرحل فهن كتـائب

بكاك أخ لم تـحـوه بـقـرابة                      بلى إن إخوان الصفاء أقـارب

وأظلمت الدنيا التي كانت جارها                      كأنك للدنـيا أخ ومـنـاسـب

يبرد نيران المصـائب أنـنـي                      أرى زمنا لم تبق فيه مصائب قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب محمد بن طاهر عن أبي طاهر: إن خطيب أهل حمص كان يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر ثلاث مرات في خطبته، وكان أهل حمص كلهم من اليمن، لم يكن فيهم من مضر إلا ثلاثة أبيات، فتعصبوا على الإمام وعزلوه، فقال ديك الجن:

سمعوا الصلاة على النبي توالى                      فتفرقوا شيعـا وقـالـوا لا لا

ثم استمر على الصلاة إمامـهـم                      فتحزبوا ورمى الرجال رجـالا

يا آل حمص توقعوا من عارهـا                      خزيا يحل عـلـيكـم ووبـالا

شاهت وجوهكم وجوها طالمـا                      رغمت معاطسها وساءت حـالا

أيا بنة عبد اللـه وابـنة مـالـك                      ويا بنة ذي البردين والفرس بارد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسي لـه                      أكيلا فإني لست آكلـه وحـدي عروضه من الطويل. الشعر لقيس بن عاصم المنقري، والغناء لعلويه، ثقيل أول بالوسطى.

 

أخبار قيس بن عاصم ونسبه

هو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن مقاعس. واسم مقاعس الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. ويكنى أبا علي. وأمه أم أصعر بنت خليفة بن جرول بن منقر.

وهو شاعر فارس شجاع حليم كثير الغارات، مظفر في غزاوته. أدرك الجاهلية والإسلام فساد فيهما. وهو أحد من وأد بناته في الجاهلية، وأسلم وحسن إسلامه، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه في حياته، وعمر بعده زمانا وروى عنه عدة أحاديث.

أخبرني عمي الحسن بن قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال: وفد قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأله بعض الأنصار عما يتحدث به عنه من الموءودات التي وأدهن من بناته، فأخبر أنه ما ولدت له بنت قط إلا وأدها. ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحدثه فقال له: كنت أخاف سوء الأحدوثة والفضيحة في البنات، فما ولدت لي بنت قط إلا وأدتها، وما رحمت منهن موءودة قط إلا بنية لي ولدتها أمها وأنا في سفر، فدفعتها أمها إلى أخوالها فكانت فيهم، وقدمت فسألت عن الحمل، فأخبرتني المرأة أنها ولدت ولدا ميتا. ومضت على ذلك سنون حتى كبرت الصبية ويفعت، فزارت أمها ذات يوم، فدخلت فرأيتها وقد ضفرت شعرها وجعلت في قرونها شيئا من خلوق ونظمت عليها ودعا، وألبستها قلادة جزع، وجعلت في عنقها مخنقة بلح: فقلت، من هذه الصبية فقد أعجبني جمالها وكيسها? فبكت ثم قالت: هذه ابنتك، كنت خبرتك أني ولدت ولدا ميتا، وجعلتها عند أخوالها حتى بلغت هذا المبلغ. فأمسكت عنها حتى اشتغلت عنها، ثم أخرجتها يوما فحفرت لها حفيرة فجعلتها فيها وهي تقول: يا أبت ما تصنع بي? وجعلت أقذف عليها التراب وهي تقول: يا أبت أمغطي أنت بالتراب? أتاركي أنت وحدي ومنصرف عني? وجعلت أقذف عليها التراب ذلك حتى واريتها، وانقطع صوتها، فما رحمت أحدا ممن واريته غيرها. فدمعت عينا النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:  إن هذه لقسوة، وإن من لا يرحم لا يرحم  أو كما قال صلى الله عليه وسلم.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثني عمي أبو فراس محمد بن فراس عن عمر بن أبي بكار عن شيخ من بني تميم عن أبي هريرة: أن قيس بن عاصم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حجره بعض بناته يشمها، فقال له: ما هذه السخلة تشمها? فقال: هذه ابنتي. فقال: والله لقد ولد لي بنون ووأدت بنيات ما شممت منهن أنثى ولا ذكرا قط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  فهل إلا أن ينزع الله الرحمة من قلبك  . قال أحمد بن الهيثم قال عمي فحدثني عبد الله بن الأهتم:

 

صفحة : 1545

 

أن سبب وأد قيس بناته أن المشمرج اليشكري أغار على بني سعد منهم نساء واستاق أموالا، وكان في النساء امرأة، خالها قيس بن عاصم، وهي رميم بنت أحمر بن جندل السعدي، وأمها أخت قيس. فرحل قيس إليهم ويسألهم أن يهبوها له أو يفدوها، فوجد عمرو بن المشمرج قد اصطفاها لنفسه. فسأله فيها، فقال: قد جعلت أمرها إليها فإن اختارتك فخذها. فخيرت، فاختارت عمرو بن المشمرج. فانصرف قيس فوأد كل بنت، وجعل ذلك سنة في كل بنت تولد له، واقتدت به العرب في ذلك، فكان كل سيد يولد له بنت يئدها خوفا من الفضيحة.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي بن العباس بن هشام عن أبيه عن جده قال: تزوج قيس بن عاصم المنقري منفوسة بنت زيد الفوارس الضبي، وأتته في الليلة الثانية من بنائه بها بطعام، فقال: فأين أكيلي? فلم تعلم ما يريد، فأنشأ يقول:

أيا بنة عبد الـلـه وابـنة مـالـك                      ويا بنة ذي البردين والفرس الورد

إذا ما صنعت الزاد فالتمسـي لـه                      أكيلا فإني لست آكـلـه وحـدي

أخا طارقا أو جار بيت فـإنـنـي                      أخاف ملامات الأحاديث من بعدي

وإني لعبد الضيف مـن غـير ذلة                      وما بي إلا تلك من شيم العـبـد قال: فأرسلت جارية لها مليحة فطلبت له أكيلا، وأنشأت تقول له:

أبى المرء قيس أن يذوق طعامه                      بغـير أكـيل إنـه لـكـريم

فبوركت حيا يا أخا الجود والندى                      وبوركت ميتا قد حوتك رجـوم أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: جاور رجل من بني القين من قضاعة قيس بن عاصم، فأحسن جواره ولم ير منه إلا خيرا حتى فارقه، ثم نزل عند جوين الطائي أبي عامر بن جوين، فوثب عليه رجال من طيىء فقتلوه وأخذوا ماله، فقال العباس بن مرداس يهجوهم ويمدح قيسا:

لعمري لقد أوفى الجواد ابن عاصم                      وأحصن جارا يوم يحدج بـكـره

أقام عزيزا منتدى القـوم عـنـده                      فلم ير سوءات ولم يخش غـدره

أقام بسعد يشرب الـمـاء آمـنـا                      ويأكل وسطاها ويربض حجـره

فإنك إذ بادلت قيس بـن عـاصـم                      جوينا لمختار المـنـازل شـره

فأصبح يحدو رحلـه بـمـفـازة                      وماذا عدا جارا كريمـا وأسـره

يظل بأرض الغدر يأكل عـهـده                      جوين وشمخ خاربـين بـوجـره

يذمان بالأزواد والـزاد مـحـرم                      سروقان من عرق شرورا وفجره أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني دماذ عن أبي عبيدة قال: قال الأحنف: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم المنقري، فقيل له: وكيف ذلك يا أبا بحر.? فقال: قتل ابن أخ له ابنا له فأتى بابن أخيه مكتوفا يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى. ثم أقبل عليه فقال: يا بني، نقصت عددك، وأوهيت ركنك، وفتت في عضدك، وأشمت عدوك، وأسأت بقومك. خلوا سبيله، واحملوا إلى أم المقتول ديته، قال: فانصرف القاتل وما حل قيس حبوته، ولا تغير وجهه.

أخبرني عبيد الله الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن ابن جعدبة وأبي اليقظان قالا: وقد قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام:  هذا سيد أهل الوبر  .

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي حاتم قال: جاور داري كان يتجر في أرض العرب قيس بن عاصم، فشرب قيس ليلة حتى سكر، فربط الداري وأخذ ماله، وشرب من شرابه فازداد سكرا، وجعل من السكر يتطاول ويثاور النجوم ليبلغها وليتناول القمر، وقال:

وتاجر فاجر جاء الإله به                      كأن عثنونه أذناب أجمال ثم قسم صدقة النبي صلى الله عليه وسلم في قومه وقال:

ألا أبلغا عني قـريشـا رسـالة                      إذا ما أتتهم مهـديات الـودائع

حبوت بما صدقت في العام منقرا                      وأيأست منها كل أطلس طامـع قال: فلما فعل بالداري ما فعل وسكر، جعل ماله نهبى، فلم تزل امرأته تسكنه حتى نام. فلما أصبح أخبر بما كان منه، فآلى ألا يدخل الخمر بين أضلاعه أبدا.

أخبرني وكيع قال حدثنا المدائني قال:

 

صفحة : 1546

 

ولي قيس بن عاصم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات بني مقاعس والبطون كلها، وكان الزبرقان بن بدر قد ولي صدقات عوف والأبناء. فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جمع كل واحد من قيس والزبرقان صدقات من ولي صدقته دس إليه الزبرقان من زين له المنع لما في يده وخدعه بذلك، وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي، فهلم نجمع هذه الصدقة ونجعلها في قومنا، فإن استقام الأمر لأبي بكر وأودت العرب إليه الزكاة جمعنا له الثانية. ففرق قيس الإبل في قومه، فانطلق الزبرقان إلى أبي بكر بسبعمائة بعير فأداها إليه، وقال في ذلك:

وفيت بأذواد النبـي مـحـمـد                      وكنت امرأ لا أفسد الدين بالغدر فلما عرف قيس ما كاده به الزبرقان قال: لو عاهد الزبرقان أمه لغدر بها.

أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا الحارث بن أسامة قال حدثنا المدائني، وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ثعلب على ابن الأعرابي قال: قيل لقيس بن عاصم: بماذا سدت? قال: ببذل الندى، وكف الأذى، ونصر الموالي.

أخبرني وكيع قال حدثنا العمري عن الهيثم قال: كان قيس بن عاصم يقول لبنيه: إياكم والبغي، فما بغى قوم قط إلا قلوا وذلوا. فكان بعض بنيه يلطمه قومه أو غيرهم فينهى إخوته عن أن ينصروه.

أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا الحارث عن المدائني عن ابن جعدبة: أن قيس بن عاصم قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرحب به وأدناني، فقلت: يا رسول الله، المال الذي لا يكون علي فيه تبعة ما ترى في إمساكه لضيف إن طرقني، وعيال إن كثروا علي? فقال:  نعم المال الأربعون، والأكثر الستون، وويل لأصحاب المئين - ثلاثا - إلا من أعطى من رسلها وأطرق فحلها، وأفقر ظهرها، ومنح غزيرتها، وأطعم القانع والمعتر  .

فقلت له: يا رسول الله، ما أكرم هذه الأخلاق إنه لا يحل بالوادي الذي أنا فيه من كثرتها. قال:  فكيف تصنع في الإطراق  ? قلت: يغدو الناس، فمن شاء أن يأخذ برأس بعير ذهب به، قال:  فكيف تصنع في الإقفار  ? فقلت إني لأفقر الناب المدبرة والضرع الصغيرة. قال:  فكيف تصنع في المنيحة  ? قلت: إني لأمنح في السنة المائة. قال:  إنما لك من مالك ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأبقيت  .

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: قيس بن عاصم هو الذي حفز الحوفزان بن شريك الشيباني، طعنه في استه في يوم جدود.

وكان من حديث ذلك اليوم أن الحارث بن شريك بن عمرو الصلب بن قيس بن شراحيل بن مرة بن همام كانت بينه وبين بني يربوع موادعة، ثم هم بالغدر بهم، فجمع بني شيبان وبني ذهب واللهازم: قيس بن ثعلبة وتيم الله بن ثعلبة وغيرهم، ثم غزا بني يربوع، فنذر به عتيبة بن الحارث بن شهاب بن شريك، فنادى في قومه بني جعفر بن ثعلبة من بني يربوع فوادعه وأغار الحارث بن شريك على بني مقاعس وإخوتهم بني ربيع فلم يجيبوهم، فاستصرخوا بني منقر فركبوا حتى لحقوا بالحارث بن شريك وبكر بن وائل وهم قائلون في يوم شديد الحر. فما شعر الحوفزان إلا بالأهتم بن سمي بن سنان بن خالد بن منقر - واسم الأهتم سنان - وهو واقف على رأسه، فوثب الحوفزان إلى فرسه فركبه وقال للأهتم: من أنت? فانتسب له، وقال: هذه منقر قد أتتك. فقال الحوفزان: فأنا الحارث بن شريك فنادى الأهتم: يا آل سعد ونادى الحوفزان: يا آل وائل وحمل كل واحد منهما على صاحبه، ولحقت بنو منقر، فاقتتلوا أشد قتال وأبرحه، ونادت نساء بني ربيع: يا آل سعد فاشتد قتال بني منقر لصياحهن، فهزمت بكر بن وائل، وخلوا من كان في أيديهم من بني مقاعس، وما كان في أيديهم من أموالهم، وتبعهتم بنو منقر بين قتل وأسر، فأسر الأهتم حمران بن عبد عمرو، وقصد قيس بن عاصم الحوفزان، ولم يكن له همة غيره، والحارث على فرس له قارح يدعى الزبد، وقيس على مهر، فخاف قيس أن يسبقه الحارث، فحفزه بالرمح في استه، فتحفز به الفرس فنجا، فسمي الحوفزان. وأطلق قيس أموال بني مقاعس وبني ربيع وسباياهم، وأخذ أموال بكر بن وائل وأساراهم.

وانتقضت طعنة قيس على الحوفزان بعد سنة فمات. وفي هذا اليوم يقول قيس بن عاصم:

جزى الله يربوعا بأسوأ فعلهـا                      إذا ذكرت في النائبات أمورها

 

صفحة : 1547

 

 

ويوم جدود قد فضحتـم ذمـاركـم                      وسالمتم والخيل تدمى نحـورهـا

ستخطم سعد والرباب أنـوفـكـم                      كما حز في أنف القضيب جريرها وقال سوار بن حيان المنقري:

ونحن حفزنا الحوفزان بطـعـنة                      سقته نجيعا من دم الجوف أشكلا

وحمران قسرا أنزلته رماحـنـا                      فعالج غلا في ذراعيه مقـفـلا قال: وأغار قيس بن عاصم أيضا على اللهازم، فتبعه بنو كعب بن سعد بالبناح وثيتل، فتخوف أن يكره أصحابه لقاء بكر بن وائل، وقد كان يتناجون في ذلك، فقام ليلا فشق مزادهم، لئلا يجدوا بدا من لقاء العدو، فلما فعل ذلك أذعنوا بلقائهم وصبروا له، فأغار عليهم، فكان أشهر يوم يوم ثيتل لبني سعد، وظفر قيس بما شاء، وملا يديه من أموالهم وغنائمهم. وفي ذلك يقول ابنه علي بن قيس بن عاصم:

أنا ابن الذي شق المزاد وقد رأى                      بثيتل أحياء اللهـازم حـضـرا

فصبحهم بالجيش قيس بن عاصم                      وكان إذا ما أورد الأمر أصدرا قال: وأغار قيس أيضا ببني سعد على عبد القيس، وكان رئيس بني سعد يومئذ سنان بن خالد، وذلك بأرض البحرين، فأصابوا ما أرادوا، واحتالت عبد القيس في أن يفعل ببني تميم كما فعل بهم بالمشقر حين أغلق عليهم بابهم فامتنعوا، فقال في ذلك سوار بن حيان:

فيا لك من أيام صدق أعدها                      كيوم جؤاثى والنباج وثيتلا قال: وكان قيس بن عاصم رئيس بني سعد يوم الكلاب الثاني، فوقع بينه وبين الأهتم اختلاف في أمر عبد يغوث بن وقاص بن صلاءة الحارثي حين أسره عصمة بن أبير التيمي ودفعه إلى الأهتم، فرفع قيس قوسه فضرب فم الأهتم بها فهتم أسنانه، فيومئذ سمي الأهتم.

أخبرنا هشام بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة، وأخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن عدي قال: جمع قيس بن عاصم ولده حين حضرته الوفاة قال: يا بني، إذا مت فسودوا كباركم، ولا تسودوا صغاركم فيسفه الناس كباركم. وعليكم بإصلاح المال فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم. وإذا مت فادفنوني في ثيابي التي كنت أصلي فيها وأصوم. وإياكم والمسألة فإنها آخر مكاسب العبد، وإن امرأ لم يسأل إلا ترك مكسبه. وإذا دفنتموني فأخفوا قبري عن هذا الحي من بكر بن وائل، فقد كان بيننا خماشات في الجاهلية. ثم جمع ثمانين سهما فربطها بوتر، ثم قال: اكسروها فلم يستطيعوا، ثم قال: فرقوا. ففرقوا. فقال: اكسروها سهما سهما، فسكروها. فقال: هكذا أنتم في الاجتماع وفي الفرقة. ثم قال:

إنما المجد ما بنى والد الصـد                      ق وأحيا فعاله الـمـولـود

وتمام الفضل الشجاعة والحل                      م إذا زانه عفـاف وجـود

وثلاثـون يا بـنـي إذا مـا                      جمعتهم في النائبات العهـود

كثلاثين مـن قـداح إذا مـا                      شدها للزمان قـدح شـديد

لم تكسر وإن تفرقـت الأس                      هم أودى بجمعها التـبـديد

وذوو الحلم والأكابـر أولـى                      أن يرى منكم لهم تـسـويد

وعليكم حفظ الأصاغر حتـى                      يبلغ الحنث الأصغر المجهود ثم مات، فقال عبدة بن الطبيب يرثيه:

عليك سلام الله قيس بن عاصم                      ورحمته ما شاء أن يترحمـا

تحية من أوليته منك نـعـمة                      إذا زار عن شحط بلادك سلما

فما كان قيس هلكه هلك واحد                      ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: لما مات عبد الملك بن مروان اجتمع ولده حوله، فبكى هشام حتى اختلفت أضلاعه، ثم قال: رحمك الله يا أمير المؤمنين فأنت والله كما قال عبدة بن الطبيب:

وما كان قيس هلكه هلك واحد                      ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا فقال له الوليد: كذبت يا أحول يا مشئوم، لسنا كذلك، ولكنا كما قال الآخر:

إذا مقرم منا ذرا حد نابـه                      تخمط فينا ناب آخر مقرم أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلابي عن أبيه قال:

 

صفحة : 1548

 

كان بين قيس بن عاصم وعبدة بن الطبيب لحاء، فهجره قيس بن عاصم، ثم حمل عبدة دما في قومه، فخرج يسأل فيما تحمله، فجمع إبلا، ومر به قيس بن عاصم وهو يسأل في تمام الدية، فقال: فيم يسأل عبدة? فأخبر، فساق إليه الدية كاملة من ماله، وقال: قولوا له ليستمتع بما صار إليه، وليسق هذه إلى القوم. فقال عبدة: أما والله لولا أن يكون صلحي إياه بعقب هذا الفعل عارا علي لصالحته، ولكني أنصرف إلى قومي ثم أعود فأصالحه. ومضى بالإبل ثم عاد، فوجد قيسا قد مات، فوقف على قبره وأنشأ يقول:

عليك سلام الله قيس بن عاصم                      ورحمته ما شاء أن يترحمـا الأبيات.

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال ذكر عاصم بن الحدثان وهشام بن الكلبي عن أشياخهما: أن قيس بن عاصم المنقري سكر من الخمر ليلة قبل أن يسلم، فغمز عكنة ابنته - أو قال أخته - فهربت منه. فلما صحا منها، فقيل له: أو ما علمت ما صنعت البارحة? قال: لا. فأخبروه بصنعه، فحرم الخمر على نفسه، وقال في ذلك:

وجدت الخمر جامحة وفيهـا                      خصال تفضح الرجل الكريما

فلا والله أشربهـا حـياتـي                      ولا أدعو لها أبـدا نـديمـا

ولا أعطي بها ثمنا حـياتـي                      ولا أشفى بها أبدا سقـيمـا

فإن الخمر تفضح شاربـيهـا                      وتجشمهم بها أمرا عظيمـا

إذا دارت حمياها تـعـلـت                      طوالع تسفه الرجل الحليمـا أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال: قال الزبرقان: إن تاجرا ديافيا مر بحمل خمر على قيس بن عاصم فنزل به، فقال قيس: اصبحني قدحا، ففعل. ثم قال له: زدني، فقال له: أنا رجل تاجر طالب ربح وخير، ولا أستطيع أن أسقيك بغير ثمن. فقام إليه قيس فربطه إلى دوحة في داره حتى أصبح، فكلمته أخته في أمره، فلطمها وخمش وجهها - وزعموا أنه أرادها على نفسها - وجعل يقول:

وتاجر فاجر جاء الإله به                      كأن لحيته أذناب أجمال فلما أصبح قال: من فعل هذا بضيفي? قالت له أخته: الذي صنع هذا بوجهي، أنت والله صنعته، وأخبرته بما فعل. فأعطى الله عهدا ألا يشرب الخمر أبدا. فهو أول عربي حرمها على نفسه في الجاهلية، وهو الذي يقول:

فوالله لا أحسو يد الدهر خـمـرة                      ولا شربة تزري بذي اللب والفخر

فكيف أذوق الخمر والخمر لم تزل                      بصاحبها حتى تكسع في الـغـدر

وصارت به الأمثال تضرب بعدما                      يكون عميد القوم في السر والجهر

ويبدرهم في كل أمـر ينـوبـهـم                      ويعصمهم ما نابهم حادث الدهـر

فيا شارب الصهباء دعها لأهلها ال                      غواة وسلم للحسـيم مـن الأمـر

فإنك لا تدري إذا ما شـربـتـهـا                      وأكثرت منها ما تريش وما تبري أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن منصور قال أخبرني أبو جعفر المباركي قال أخبرني المدائني عن مسلمة بن محارب قال: قال الأحنف بن قيس: ذكرت بلاغة النساء عند زياد، فحدثته أن قيس بن عاصم أسلم وعنده امرأة من بني حنيفة، فأبى أهلها وأبوها أن يسلموا وخافوا إسلامها، فاجتمعوا إليها وأقسموا إنها إن أسلمت لم يكونوا معها في شيء ما بقيت. فطالبت قيسا بالفرقة، ففارقها، فلما احتملت لتلحق بأهلها قال لها قيس: أما والله لقد صحبتني سارة، ولقد فارقتني غير عارة، لا صحبتك مملولة، ولا أخلاقك مذمومة، ولولا ما اخترت ما فرق بيننا إلا الموت، ولكن أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحق أن يطاع. فقالت له: أنبئت بحسبك وفضلك، وأنت والله إن كنت للدائم المحبة، الكثير المودة، القليل اللائمة، المعجب الخلوة، البعيد النبوة. ولتعلمن أني لا أسكن بعدك إلى زوج. فقال قيس: ما فارقت نفسي شيئا قط فتبعته كما تبعتها.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني أبو فراس قال: كان قيس بن عاصم يكنى أبا علي، وكان خاقان بن الأهتم إذا ذكره قال: بخ من مثل أبي علي

تطيف به كعب بن سعد كأنما                      يطيفون عمارا ببيت محرم

 

صفحة : 1549

 

وقال علان بن الحسن الشعوبي: بنو منقر قوم غدر، يقال لهم الكودان، ويلقبون أيضا أعراف البغال، وهم أسوأ خلق الله جوارا، يسمون الغدر كيسان، وفيهم بخل شديد.

وأوصى قيس بن عاصم بنيه، فكان أكثر وصيته إياهم أن يحفظوا المال، والعرب لا تفعل ذلك وتراه قبيحا. وفيهم يقول الأخطل بن ربيعة بن النمر بن تولب:

يا منقر بن عبـيد إن لـؤمـكـم                      مذ عهد آدم في الديوان مكتـوب

للضيف حق على من كان ذا كرم                      والضيف في منقر عريان مسلوب وقال النمر بن تولب يذكر الغدر كيسان في قصيدة هجاهم بها:

إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم                      إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد قال: وهذا شائع في جميع بني سعد، إلا أنهم يتدافعونه إلى بني منقر، وبنو منقر يتدافعونه إلى بني سنان بني خالد بن منقر، وهو جد قيس بن عاصم.

وحكى ابن الكلبي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح مكة قدمت عليه وفود العرب، فكان فيمن قدم عليه قيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم ابن عمه، فلما صارا عند النبي صلى الله عليه وسلم تسابا وتهاترا، فقال قيس لعمرو بن الأهتم: والله يا رسول الله ما هم منا، وإنهم لمن أهل الحيرة. فقال عمرو بن الأهتم: بل هو والله يا رسول الله من الروم وليس منا. ثم قال له:

ظللت مفـتـرش الـهـلـبـاء تـشـتـمـنـى                      عند الرسـول فـلـم تـصـدق ولـم تـصـب

الهلباء يعني استه، يعيره بذلك، وبأن عانته وافية.

إن تبغضونا فإن الروم أصلكم                      والروم لا تمـلـك الـبـغـضـاء لـلـعـرب

سدنـا فـسـوددنـا عــود وســـوددكـــم                      مؤخـر عـنـد أصـل الـعـجـب والـذنـب قال: وإنما نسبه إلى الروم لأنه كان أحمر. فيقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن هذا القول في قيس، وقال: إن إسمعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم كان أحمر. فأجابه قيس بن عاصم فقال:

ما في بني الأهتم من طـائل                      يرجى ولا خير له يصلحون

قل لبني الحيري مخصوصة                      تظهر منهم بعض ما يكتمون

لولا دفاعي كنـتـم أعـبـدا                      مسكنها الحيرة فالسيلحـون

جاءت بكم عفرة من أرضها                      حيرية ليست كما تزعمـون

في ظاهر الكف وفي بطنها                      وسم من الداء الذي تكتمـون وذكر علان أن قيسا ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام، وآمن بسجاح، وكان مؤذنها، وقال في ذلك:

أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها                      وأصبحت أنبياء الله ذكرانا قال: ثم لما تزوجت سجاح بمسيلمة الكذاب الحنفي وآمنت به آمن به قيس معها. فلما غزا خالد بن الوليد اليمامة وقتل الله مسيلمة أخذ قيس بن عاصم أسيرا، فادعى عنده أن مسيلمة أخذ ابنا له، فجاء يطلبه. فأحلفه خالد على ذلك، فحلف فخلى سبيله، ونجا منه بذلك.

قال: ومما يعيرون به أن عبادة بن مرثد بن عمرو بن مرثد أسر قيس بن عاصم وسبى أمه وأختيه يوم أبرق الكبريت، ثم من عليهم فأطلقهم بغير فداء، فلم يثبه قيس ولم يشكره على فعله بقول يبلغه. فقال عبادة في ذلك:

على أبرق الكبريت قيس بن عاصم                      أسرت وأطراف القنا قصد حمر

متى يعلق السعدي مـنـك بـذمة                      تجده إذا يلقى وشيمتـه الـغـدر قال: وكان قيس بن عاصم يسمى في الجاهلية الكودن.

وكان زيد الخيل الطائي خرج عن قومه وجاور بني منقر، فأغارت عليهم بنو عجل وزيد فيهم، فأعانهم وقاتل بني عجل قتالا شديدا، وأبلى بلاء حسنا، حتى انهزمت عجل، فكفر قيس فعله وقال: ما هزمهم غيري. فقال زيد الخيل يعيره ويكذبه في قصيدة طويلة:

ولست بوقاف إذا الخيل أجحمت                      ولست بكذاب كقيس بن عاصم ومما روى قيس بن عاصم عن النبي صلى الله عليه وسلم: حدثنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي قال: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال: حدثنا وكيع قال: حدثنا سفيان الثوري عن الأغر المنقري عن خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم عن أبيه عن جده أنه أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأمره النبي عليه السلام أن يغتسل بماء وسدر.

وحدثنا حامد قال حدثنا أبو خثيمة قال حدثنا جرير عن المغيرة عن أبيه شعبة عن التوءم قال:

 

صفحة : 1550

 

سأل قيس بن عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف: فقال:  لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية  أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا ابن عائشة قال: حدثني رجل من الرباب قال: ذكر رجل قيس بن عاصم عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لقد هممت أن آتيه فأفعل به وأصنع به، كأنه توعده. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم  إذا تحول سعد دونه بكراكرها  .

قال: ولما مات قيس رثاه مرداس بن عبدة بن منبه فقال:

وما كان قيس هلكه هلك واحد                      ولكنه بنيان قـوم تـهـدمـا

خذ من العـيش مـا كـفـى                      ومن الـدهـر مـا صـفـا

حسـن الـغـدر فـي الأنـا                      م كما استـقـبـح الـوفـا

صل أخـا الـوصـل إنــه                      ليس بالهجـر مـن خـفـا

عين مــــن لا يريد وص                      لك تـبـدي لـك الـجـفـا الشعر لمحمد بن حازم الباهلي، والغناء لابن القصار الطنبوري، رمل بالبنصر. أخبرني بذلك جحظة.

 

أخبار محمد بن حازم ونسبه

هو محمد بن حازم بن عمرو الباهلي. ويكنى أبا جعفر. وهو من ساكني بغداد مولده ومنشؤه البصرة. أخبرني بذلك ابن عمار أبو العباس عن محمد بن داود بن الجراح عن حسن بن فهم.

وهو من شعراء الدولة العباسية، شاعر مطبوع، إلا أنه كان كثير الهجاء للناس، فاطرح، ولم يمدح من الخلفاء إلا المأمون، ولا اتصل بواحد منهم، فيكون له نباهة طبقته. وكان ساقط الهمة، متقللا جدا، يرضيه اليسير، ولا يتصدى لمدح ولا طلب.

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال: سمعت محمد بن حازم الباهلي في منزلنا يقول: بعث إلي فلان الطاهري - وكنت قد هجوته فأفرطت - بألف دينار وثياب، وقال: أما ما قد مضى فلا سبيل إلى رده، ولكن أحب ألا تزيد عليه شيئا. فبعثت إليه بالألف الدينار والثياب، وكتبت:

لا ألبس النعماء من رجل                      ألبسته عارا على الدهر أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أبو علي - وسقط اسمه من كتابي - قال قرأت في كتاب عمي: قال لي محمد بن حازم الباهلي: مر بي أحمد بن سعيد بن سالم وأنا على بابي فلم يسلم علي سلاما أرضاه، فكتبت رقعة وأتبعته بها، وهي:

وباهلـي مـن بـنـي وائل                      أفـاد مـالا بـعـد إفـلاس

قطب في وجهي خوف القرى                      تقطيب ضرغام لدى البـاس

وأظهر التـيه فـتـايهـتـه                      تيه امرىء لم يشق بالنـاس

أعرته إعراض مستـكـبـر                      في موكب مـر بـكـنـاس أخبرني ابن عمار قال حدثني أبو علي قال: لقيت محمد بن حازم في الطريق فقلت له: يا أبا جعفر، كيف ما بينك وبين صديقك سعد بن مسعود اليوم وهو أبو إسحاق بن سعد، وكان يكتب للنوشجاني فأنشدني:

راجع بالعتبى فأعتـبـتـه                      وربما أعتبك الـمـذنـب

وإن في الدهر على صرفه                      بين الصديقين لمستعتـب أخبرني محمد بن القاسم الأنباري وابن الوشاء جميعا قالا حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: قال ابن الأعرابي: أحسن ما قال المحدثون من شعراء هذا الزمان في مديح الشباب وذم الشيب:

لا حين صبر فخل الدمع ينهمـل                      فقد الشباب بيوم المرء متـصـل

سقيا ورعيا لأيام الـشـبـاب وإن                      لم يبق منه له رسم ولا طـلـل

جر الزمان ذيولا في مفـارقـه                      وللزمان على إحسانـه عـلـل

وربما جر أذيال الصبـا مـرحـا                      وبين برديه غصن ناعم خضـل

يصبي الغواني ويزهاه بشـرتـه                      شرخ الشباب وثوب حالك رجل

لا تكذبن فما الدنيا بأجـمـعـهـا                      من الشبـاب بـيوم واحـد بـدل

كفاك بالشيب عيبا عنـد غـانـية                      وبالشباب شفيعا أيهـا الـرجـل

بان الشباب وولى عنك باطـلـه                      فليس يحسن منك اللهو والغـزل

أما الغواني فقد أعرضن عنك قلى                      وكان إعراضهن الدل والخجـل

أعرنك الهجر ما لاحت مطـوقة                      فلا وصال ولا عهـد ولا رسـل

 

صفحة : 1551

 

 

ليت المنايا أصابتني بأسهمهـا                      فكن يبكين عهدي قبل أكتهـل

عهد الشباب لقد أبقيت لي حزنا                      ماجد ذكرك إلا جد لي ثكـل

إن الشباب إذا مـا حـل رائده                      في منهل راد يقفو إثره أجل قال ابن الوشاء خاصة: وما أساء ولا قصر عن الأولى، حيث يقول في هذا المعنى:

أبكى الشباب لندمـان وغـانـية                      وللمغاني وللأطلال والكـثـب

وللصريح وللآجام في غـلـس                      وللقنا السمر والهندية القضـب

وللخيال الذي قد كان يطرقـنـي                      وللندامى وللـذات والـطـرب

يا صاحبا لم يدع فقدي له جلـدا                      أضعت بعدك إن الدهر ذو عقب

وقد أكون وشعبانا معـا رجـلا                      يوم الكريهة فراجا عن الكـرب أخبرني ابن عمار عن العنزي قال: كان محمد بن حازم الباهلي مدح بعض بني حميد فلم يثبه وجعل يفتش شعره فيعيب فيه الشيء بعد الشيء، وبلغه ذلك فهجاه هجاء كثيرا شنيعا، منه قوله:

عدواك المكارم والـكـرام                      وخلك دون خلتك الـلـئام

ونفسك نفس كلب عند زور                      وعقبى زائر الكلب التـدام

تهر على الجليس بلا احترام                      لتحشمه إذا حضر الطعـام

إذا ما كانت الهمم المعالـي                      فهمك ما يكون به المـلام

قبحت ولا سقاك الله غيثـا                      وجانبك التحية والـسـلام قال: فبعثت إليه ابن حميد بمال واعتذر إليه وسأله الكف، فلم يفعل، ورد المال عليه، وقال فيه:

موضع أسرارك المريب                      وحشو أثوابك الـعـيوب

وتمنع الضيف فضل زاد                      ورحلك الواسع الخصيب

يا جامعا مانعـا بـخـيلا                      ليس له في العلا نصيب

أبالرشا يستمال مثـلـي?                      كلا ومن عنده الغـيوب

لا أرتدي حلة لـمـثـن                      بوجهه من يدي نـدوب

وبين جنبيه لـي كـلـوم                      دامية ما لهـا طـبـيب

ما كنت في موضع الهدايا                      منك ولا شعبنـا قـريب

أني وقد نشت المكـاوي                      عن سمة شأنها عجـيب

وسار بالذم فيك شعـري                      وقيل لي محسن مصيب

مالك مال اليتيم عـنـدي                      ولا أرى أكلـه يطـيب

حسبك من موجز بـلـيغ                      يبلغ ما يبلغ الخـطـيب حدثني عمي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني علي بن الحسين الشيباني قال: بعث الحسن بن سهل محمد بن حميد في وجهة، وأمره بجباية مال، وبحرب قوم من الشراة، فخان في المال وهرب من الحرب، فقال فيه محمد بن حازم الباهلي:

تشبه بالأسد الـثـعـلـب                      فغادره معنقـا يجـنـب

وحاول ما ليس في طبعـه                      فأسلمه الناب والمخلـب

فلم تغن عنه أبـاطـيلـه                      وحاص فأحرزه المهرب

وكان مضيا علـى غـدره                      فعيب والغـادر الأخـيب

أيا بن حميد كفرت النعـي                      م جهلا ووسوسك المذهب

ومنتك نفسك ما لا يكـون                      وبعض المنى خلب يكذب

وما زلت تسعى على منعم                      ببغي وتنهى فلا تعـتـب

فأصبحت بالبغي مستبـدلا                      رشادا وقد فات مستعتـب قال: وقال فيه لما شخص إلى حيث وجهه الحسن بن سهل:

إذا استقلت بك الـركـاب                      فحيث لا درت السحـاب

زالت سراعا وزلت يجري                      ببينك الظبي والـغـراب

بحيث لا يرتـجـى إياب                      وحيث لا يبلغ الكـتـاب

فقبل معروفك امـتـنـان                      ودون معروفك العـذاب

وخير أخلاقك اللـواتـي                      تعاف أمثالها الـكـلاب حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني أبي قال: قال يحيى بن أكثم لمحمد بن حازم الباهلي: ما نعيب شعرك إلا أنك لا تطيل، فأنشأ يقول:

أبى لي أن أطيل الشعر قصدي                      إلى المعنى وعلمي بالصواب

وإيجازي بمختـصـر قـريب                      حدفت به الفضول من الجواب

فأبعثهن أربـعة وخـمـسـا                      مثقـفة بـألـفـاظ عـذاب

 

صفحة : 1552

 

 

خوالد ما حدا لـيل نـهـارا                      وما حسن الصبا بأخي الشباب

وهن إذا وسمت بهن قـومـا                      كأطواق الحمائم في الرقاب

وهن إذا أقمت مسـافـرات                      تهادتها الرواة مع الركـاب حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال: كان بالأهواز رجل يعرف بأبي ذؤيب من التتار، وكان مقصد الشعراء وأهل الأدب، فقصده محمد بن حازم، فدخل عليه يوما وعليه ثياب بذة، وهيئة رثة، ولم يعرفه نفسه، وصادفهم يتكلمون في شيء من معاني الشعر، وأبو ذؤيب يتكلم متحققا بالعلم بذلك. فسأله محمد بن حازم - وقد دخل عليه يوما - عن بيت من شعر الطرماح جهله، فرد عليه جوابا محالا كالمستصغر له وازدراه، فوثب عن مجلسه مغضبا. فلما خرج قيل له: ماذا صنعت بنفسك وفتحت عليها من الشر? أتدري لمن تعرضت? قال: ومن ذاك? قيل: محمد بن حازم الباهلي، أخبث الناس لسانا وأهجاهم. فوثب إليه حافيا حتى لحقه، فحلف له أنه لم يعرفه، واستقاله فأقاله، وحلف أنه لا يقبل له رفدا ولا يذكره بسوء مع ذلك أبدا، وكتب إليه بعد أن افترقا:

أخطا ورد علي غير جـوابـي                      وزرى علي وقال غير صواب

وسكنت من عجب لذاك فزادني                      فيما كرهت بظنه المـرتـاب

وقضى علي بظاهر من كسـرة                      لم يدر ما اشتملت عليه ثيابـي

من عفة وتـكـرم وتـحـمـل                      وتجلد لـمـصـيبة وعـقـاب

وإذا الزمان جنى علي وجدتنـي                      عودا لبعض صفائح الأقـتـاب

ولئن سألت ليخبـرنـك عـالـم                      أني بحـيث أحـب مـن آداب

وإذا نبا بي مـنـزل خـلـيتـه                      قفرا مجال ثـعـالـب وذئاب

وأكون مشترك الغنى متـبـدلا                      فإذا افترقت قعدت عن أصحابي

لكنه رجعـت عـلـيه نـدامة                      لما نسبت وخاف مض عتابـي

فأقلتـه لـمـا أقـر بـذنـبـه                      ليس الكريم على الكريم بنـاب أخبرني حبيب بن نصر قال: حدثنا النوفلي قال: كان سعد بن مسعود القطربلي: أبو إسحاق بن سعد صديقا لمحمد بن حازم الباهلي، فسأله حاجة فرده عنها، فغضب محمد وانقطع عنه، فبعث إليه بألف درهم وترضاه، فردها وكتب إليه:

متسع الصدر مطيق لـمـا                      يحار فيه الحول القـلـب

راجع بالعتبى فأعتـبـتـه                      وربما أعتبك الـمـذنـب

أجل وفي الدهر على أنـه                      موكل بالبين مستـعـتـب

سقيا ورعيا لزمان مضـى                      عني وسهم الشامت الأخيب

قد جاءني منك مويل فـلـم                      أعرض له والحر لا يكذب

أخذي مالا منك بعـد الـذي                      أودعتنيه مركب يصـعـب

أبيت أن أشرب عند الرضـا                      والسخط إلا مشربا يعـذب

أعزني اليأس وأغنى فـمـا                      أرجو سوى الله ولا أهرب

قارون عندي في الغنى معدم                      وهمتي ما فوقها مـذهـب

فأي هاتين تـرانـي بـهـا                      أصبو إلى مالك أو أرغب? حدثنا محمد بن العباس اليزيدي وعيسى بن الحسين الوراق، واللفظ له، قالا:حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني، قال، حدثنا حماد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن يحيى قال: آخر ما فارقت عليه محمد بن حازم أنه قال: لم يبق شيء من اللذات إلا بيع السنانير. فقلت له: سخنت عينك أيش لك في بيع السنانير من اللذات? قال: يعجبني أن تجيئني العجوز الرعناء، تخاصمني وتقول: هذا سنوري سرق مني، وأخاصمها وأشتمها وتشتمني، وأغيظها وأباغضها، ثم أنشدني:

صل خمرة بخمـار                      وصل خمارا بخمر

وخذ بحظك منـهـا                      زادا إلى حيث تدري قال: قلت: إلى أين ويحك? قال: إلى النار يا أحمق.

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني الحسن بن ابي السري قال: كان إسحاق بن أحمد بن أبي نهيك آنسا بمحمد بن حازم الباهلي يدعوه ويعاشره مدة. فكتب إليه يستزيره ويعاتبه عتابا أغضبه، وبلغه أنه غضب، فكتب إليه:

ما مستزيرك فـي ود رأى خـلـلا                      في موضع الأنس أهلا منك للغضب

 

صفحة : 1553

 

 

قد كنت توجب لي حقا وتعـرف لـي                      قدري وتحفظ منـي حـرمة الأدب

ثم انحرفت إلى الأخرى فأحشمـنـي                      ما كان منك بلا جـرم ولا سـبـب

وإن أدنى الذي عنـدي مـسـامـحة                      في حاجتي بعد أن أعذرت في الطلب

فاختر فعندي مـن ثـنـتـين واحـدة                      عذر جميل وشكر ليس بالـلـعـب

فإن تجدد كما قد كـنـت تـفـعـل                      ............................ حدثني محمد بن يونس الأنباري المعروف بمحصنة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: قال محمد بن حازم الباهلي: عرضت لي حاجة في عسكر أبي محمد الحسن بن سهل، فأتيته، وقد كنت قلت في السفينة شعرا، فلما دخلت على محمد بن سعيد بن سالم انتسبت له، فعرفني، فقال: ما قلت فيه شيئا? فقال له رجل كان معي: بلى، قد قال أبياتا وهو في السفينة، فسألني أن أنشده، فأنشدته قولي:

وقالوا لو مدحت فتى كريمـا                      فقلت وكيف لي بفتى كريم?

بلوت الناس مذ خمسين عاما                      وحسبك بالمجرب من علـيم

فما أحـد يعـد لـيوم خـير                      ولا أحد يعـود ولا حـمـيم

ويعجبني الفتى وأظن خـيرا                      فأكشف منه عن رجل لـئيم

تقيل بعضهم بعضا فأضحـوا                      بني أبـوين قـدا مـن أديم

فطاف الناس بالحسن بن سهل                      طوافهم بزمزم والحـطـيم

وقالوا سيد يعطـي جـزيلا                      ويكشف كربة الرجل الكظيم

فقلت مضى بذم القوم شعري                      وقد يؤتى البريء من السقيم

وما خبر ترجمه ظـنـونـي                      بأشفى من معاينة الحـلـيم

فجئت وللأمور مبـشـرات                      ولن يخفى الأغر من البهـيم

فإن يك ما تنشر عنه حـقـا                      رجعت بأهبة الرجل المقـيم

وإن يك غير ذاك حمدت ربي                      وزال الشك عن رجل حكيم

وما الآمال تعطفني عـلـيه                      ولكن الكريم أخو الـكـريم قال: فلما أنشدته هذا الشعر، قال لي: بمثل هذا الشعر تلقى الأمير والله لو كان نظيرك لما جاز أن تخاطبه بمثل هذا فقلت: صدقت، فكذلك قلت، إنني لم أمدحه بعد، ولكنني سأمدحه مدحا يشبه مثله. قال: فافعل، وأنزلني عنده ودخل إلى الحسن فأخبره بخبري وعجبه من جودة البيت الأخير فأعجبه، فأمر بإدخالي إليه بغير مدح، فأدخلت إليه. فأمرني أن أنشد هذا الشعر، فاستعفيته فلم يعفني، وقال: قد قنعنا منك بهذا القدر إذا لم تدخلنا في جملة من ذممت، وأرضيناك بالمكافأة الجميلة. فأنشدته إياه، فضحك وقال: ويحك ما لك والناس تعمهم بالهجاء? حسبك الآن من هذا النمط وأبق عليهم. فقلت: وقد وهبتهم للأمير. قال: قد قبلت، وأنا أطالبك بالوفاء مطالبة من أهديت إليه هدية فقبلها وأثاب عليها. ثم وصلني فأجزل وكساني. فقلت في ذلك وأنشدته:

وهبت القوم للحسن بن سهل                      فعوضني الجزيل من الثواب

وقال دع الهجاء وقل جمـيلا                      فإن القصد أقرب للـثـواب

فقلت له: برئت إليك منهـم                      فليتهم بمنقطـع الـتـراب

ولولا نعمة الحسن بن سهـل                      علي لسمتهم سوء العـذاب

بشعر يعجب الشعراء منـه                      يشبه بالهجاء وبالـعـتـاب

أكيدهم مـكـايدة الأعـادي                      وأختلهم مخـاتـلة الـذئاب

بلوت خيارهم فبلوت قومـا                      كهولهم أخس من الشبـاب

وما مسخوا كلابا غير أنـي                      رأيت القوم أشباه الكـلاب قال: فضحك وقال: ويحك الساعة ابتدأت بهجائهم وما أفلتوا منك بعد. فقلت: هذه بغية طفحت على قلبي، وأنا كاف عنهم ما أبقى الله الأمير.

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الشيباني قال: كان لمحمد بن حازم الباهلي صديق على طول الأيام، فنال مرتبة من السلطان وعلا قدره، فجفا محمدا وتغير له، فقال في ذلك محمد بن حازم:

وصل الملوك إلى التعالي                      ووفا الملوك من المحال

مالـي رأيتـك لا تـدو                      م على المودة للرجـال

إن كـان ذا أدب وظـر                      ف قلت ذاك أخو ضلال

 

صفحة : 1554

 

 

أو كان ذا نـسـك ودي                      ن قلت ذاك من الثقال

أو كان في وسط من ال                      أمرين قلت يريغ مالي

فبمثل ذا ثكلتـك أمـك                      تبتغي رتب المعالـي? حدثني الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال: حدثني الحسن بن علي الشيباني قال: كان محمد بن حازم الباهلي قد نسك وترك شرب النبيذ، فدخل يوما على إبراهيم بن المهدي، فحادثه وناشده وأكل معه لما حضر الطعام، ثم جلسوا للشراب، فسأله إبراهيم أن يشرب، فأبى وأنشأ يقول:

أبعد خمسين أصبـو?                      والشيب للجهل حرب

سن وشيب وجهـل                      أمر لعمرك صعـب

يا بن الإمام فـهـلا                      أيام عودي رطـب

وشيب رأسي قـلـيل                      ومنهل الحب عـذب

وإذ سهامي صـياب                      ونصل سيفي عضب

وإذ شفاء الغـوانـي                      مني حديث وقـرب

فالآن لما رأى بي ال                      عذال لي ما أحبـوا

وأقصر الجهل منـي                      وساعد الشيب لـب

وآنس الرشد مـنـي                      قوم أعاب وأصبـو

آليت أشرب كـأسـا                      ما حج للـه ركـب حدثني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني الحسن بن أبي السري قال: وعد النوشجاني محمد بن حازم شيئا سأله إياه ثم مطله، وعاتبه فلم ينتفع بذلك، واقتضاه، فأقام على مطله، فكتب إليه:

أبا بشر تطاول بي الـعـتـاب                      وطال بي التردد والـطـلاب

ولم أترك مـن الأعـذار شـيئا                      ألام به وإن كثر الـخـطـاب

سألتك حاجة فطويت كشـحـا                      على رغم وللدهر انـقـلاب

وسمتني الدنية مـسـتـخـفـا                      كما خزمت بآنفها الصـعـاب

كأنك كنت تطلبـنـي بـثـأر                      وفي هذا لك العجب العجـاب

فإن تك حاجتي غلبت وأعـيت                      فمعذور وقد وجب الـثـواب

وإن يك وقتها شيب الـغـراب                      فلا قضيت ولا شاب الغـراب

رجوتك حين قيل لي ابن كسرى                      وإنك سر ملكهـم الـلـبـاب

فقد عجلت لي من ذاك وعـدا                      وأقرب من تناوله السـحـاب

وكل سوف ينشر غـير شـك                      ويحلمه لطـيتـه الـكـتـاب أخبرني الحسن قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني الحسن بن أبي السري قال: قصد محمد بن حازم بعض ولد سعيد بن سالم وقد ولي عملا، واسترفده، فأطال مدته ولم يعطه شيئا، وانصرف عنه وقال:

أللدنيا أعـدك يا بـن عـمـي                      فأعلم أم أعدك للـحـسـاب

إلى كم لا أراك تنيل حـتـى                      أهزك قد برئت من العتـاب

وما تنفك من جمـع ووضـع                      كأنك لست تـوقـن بـالإياب

فشرك عن صديقك غير نـاء                      وخيرك عند منقطع التـراب

أتيتك زائرا فأتـيت كـلـبـا                      فحظي من إخائك للـكـلاب

فبئس أخو العشيرة ما علمنـا                      وأخبث صاحب لأخي اغتراب

أيرحل عنك ضيفك غير راض                      ورحلك واسع خصب الجناب

فقد أصبحت من كرم بـعـيدا                      ومن ضد المكارم في اللبـاب

وما بي حاجة لجـداك لـكـن                      أردك عن قبيحك للـصـواب حدثني عمي قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: كنا عند المتوكل يوما وقد غاضبته قبيحة، فخرج إلينا فقال: من ينشدني منكم شعرا في معنى غضب قبيحة علي، وحاجتي أن أخضع لها حتى ترضى? فقلت له: لقد أحسن محمد بن حازم الباهلي يا أمير المؤمنين حيث يقول:

صفحت برغمي عنك صفح ضرورة                      إليك وفي قلبي ندوب من العـتـب

خضعت وما ذنبي إن الحب عزنـي                      فأغضب صفحا عن معالجة الحـب

وما زال بي فقـر إلـيك مـنـازع                      يذلل مني كل ممتـنـع صـعـب

إلى الله أشكو أن ودي مـحـصـل                      وقلبي جميعا عند مقتسم الـقـلـب والغناء لعبيدة الطنبورية رمل بالوسطى قال: أحسنت وحياتي يا يزيد وأمر بأن يغنى فيه، وأمر لي بألف دينار.

حدثني الحسن بن علي قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثنا علي بن خالد البرمكي قال:

 

صفحة : 1555

 

سافر محمد بن حازم الباهلي سفرا، فمر بقوم من بني نمير، فسلوا منه بعيرا له عليه ثقله، فقال يهجوهم:

نمير: أجبنا حيث يختلف الـقـنـا                      ولؤما وبخلا عـنـد زاد ومـزود

ومنع قرى الأضياف من غير علة                      ولا عـدم إلا حـذار الـتـعـود

وبغيا على الجار الغريب إذا طـرا                      عليكم وختل الراكب المـتـفـرد

على أنكم ترضون بالذل صاحـبـا                      وتعطون من لا حاكم الضيم عن يد

أما وأبي إنا لـنـعـفـو وإنـنـا                      على ذاك أحيانا نجور ونعـتـدي

نكيد العدا بالحلـم مـن غـير ذلة                      ونغشى الوغى بالصدق لا بالتوعد

نفى الضيم عنا أنفـس مـضـرية                      صراح وطعن الباسل المتـمـرد

وإنا لمن قيس بن عيلان في التـي                      هي الغاية القصوى بعز وسـودد

وإن لنا بالترك قبـرا مـبـاركـا                      وبالصين قبرا عز كـل مـوحـد

وما نابنا صرف الزمـان بـسـيد                      بكينا عـلـيه أو يوافـي بـسـيد

ولو أن قوما يسلمون مـن الـردى                      سلمنا ولكن المنـايا بـمـرصـد

أبى الله أن يهدي نميرا لرشـدهـا                      ولا يرشد الإنسان إلا بـمـرشـد حدثني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن القاسم ورجل من ولد البختكان من الأهوازيين. أن محمد بن حامد ولي بعض كور الأهواز في أيام المأمون، وأن محمد بن حازم الباهلي قدم عليه زائرا ومدحه، فوصله وأحسن إليه، وكتب له إلى تستر بحنطة وشعير، فمضى بكتابه، وأخذ ما كتب له به، وتزوج هناك امرأة من الدهاقين، فزرع الحنطة والشعير في ضيعتها، وولى محمد بن حامد رجلا من أهل الكوفة الخراج بتستر، فوكل بغلة محمد بن حازم، وطالبه بالخراج فأداه، فقال يهجوه:

زرعنا فلما سلم الله زرعـنـا                      وأوفى عليه منجل بحـصـاد

بلينا بكوفي حلـيف مـجـاعة                      أضر علينا مـن دبـا وجـراد

أتى مستعدا مـا يكـذب دونـه                      ولج بـإرغـام لـه وبـعـاد

فطورا بإلحاح علي وغـلـظة                      وطورا بخبـط دائم وفـسـاد

ولولا أبو العباس أعنى ابن حامد                      لرحلته عن تسـتـر بـسـواد

فكفوا الأذى عن جاركم وتعلموا                      بأني لكم في العالمين منـادي فبعث محمد بن حامد إلى عامله فصرفه عن الناحية، وقال له: عرضتني لما أكره، واحتمل خراج محمد بن حازم.

أخبرني محمد بن الحسين بن الكندي المؤدب قال: حدثنا الرياشي قال: سمعت الأصمعي يقول: قال هذا الباهلي محمد بن حازم في وصف الشيب شيئا حسنا، فقال له أبو محمد الباهلي: تعني قوله:

كفاك بالشيب ذنبا عند غانية                      وبالشباب شفيعا أيها الرجل فقال: إياه عنيت. فقال له الباهلي: ما سمعت لأحد من المحدثين أحسن منه.

حدثني عمي قال: حدثنا حسين بن فهم قال: حدثني أبي قال: دخل محمد بن حازم على محمد بن زبيدة وهو أمير، فدعاه إلى أن يشرب معه، فامتنع وقال:

أبعد خمسين أصـبـو                      والشيب للجهل حرب

سن وشيب وجـهـل                      أمر لعمرك صعـب

يا بن الإمام فـهـلا                      أيام عـودي رطـب

وشيب رأسي قـلـيل                      ومنهل الحب عـذب

وإذ شفاء الغـوانـي                      مني حديث وشـرب

الآن حـين رأى بـي                      عواذلي ما أحـبـوا

آليت أشرب كـأسـا                      ما حج للـه ركـب قال: فأعطاه محمد بن زبيدة ووصله.

 

أخبار ابن القصار ونسبه

اسمه فيما أخبرني به أبوالفضل بن برد الخيار، سليمان بن علي: وذكره جحظة في كتاب الطنبوريين، فتله في نفسه وأخلاقه ومدح صنعته، وقال: مما أحسن فيه قوله:

أرقت لبرق لاح في فحمة الدجى                      فأذكرني الأحباب والمنزل الرحبا قال: وهذا خفيف رمل مطلق. ومما أحسن فيه أيضا:

تعالي نجدد عهد الصـبـا                      ونصفح للحب عما مضى وهو خفيف رمل مطلق أيضا:

 

صفحة : 1556

 

وذكر أنه كان مع أبيه قصارا، وتعلم الغناء فبرع فيه. ومن طيب ما ثلبه به جحظة وتنادر عليه به - وأراها مصنوعة - أنه مر يوما على أبيه، ومعه غلاما يحمل قاطرميز نبيذ، وجوامرجة مذبوحة مسموطة، فقال: الحمد لله الذي أراني ابني قبل موتي يأكل لحم الجواميرات، ويشرب نبيذ القاطرميزات.

وحدث عن بعض جيرانه أن ابن القصار غنى له يوما بحبل ودلو، وأن إسماعيل بن المتوكل وهب له مائتي أترجة كانت بين يديه، فباعها بثلاثة دنانير، وأنه يحمل بلبكيذة إلى دار السلطان، وله فيه خبز وجبن فيأكله ويحمل في البلبكيذ ما يوضع بين يديه في دار السلطان، فيدعو إخوانه عليه. وأكثر من ثلب الرجل مما لا فائدة فيه. ولو أراد قائل أن يقول فيه ما لا يبعد من هذه الأخلاق لوجد مقالا واسعا، ولكنه مما يقبح ذكره، سيما وقد لقيناه وعاشرناه. عفا الله عنا وعنه.

أخبرنا ذكاء وجه الرزة قال: كنا نجتمع مع جماعة في الطنبوريين، ونشاهدهم في دور الملوك وبحضرة السلطان، فما شاهدت منهم أفضل من المسرور وعمر الميداني وابن القصار.

وحدثني قمرية البكتمرية قالت: كنت لرجل من الكتاب يعرف بالبلوري، وكان شيخا، وكانت ستي التي ربتني مولاته، وكانت مغنية شجية الصوت حسنة الغناء، وكانت تعشق ابن القصار، وكانت علامة مصيره إليها أن يجتاز في دجلة وهو يغني، فإن قدرت على لقائه أوصلته إليها، وإلا مضى. فأذكره وقد اجتاز بنا في ليلة مقمرة وهو يغني خفيف رمل قال:

أنا في يمنـى يديهـا                      وهي في يسرى يديه

إن هذا لـقـضـاء                      فيه جـور يا أخـيه ويغني في آخره رده:

ويل ويلي يا أبيه وكانت ستي واقفة بين يدي مولاها، فما ملكت نفسها أن صاحت: أحسنت والله يا رجل فتفضل وأعد، ففعل وشرب رطلا وانصرف، وعلم أنه لا يقدر على الوصول إليها. وكان مولاها يعرف الخبر، فتغافل عنها لموضعها من قلبه، فلا أذكر أني سمعت قط أحسن من غنائه

باح بالوجد قلبك المستهـام                      وجرت في عظامك الأسقام

يوم لا يملك البكاء أخو الشو                      ق فيشفـى ولا يرد سـلام لم يقع إلي قائل هذا الشعر. والغناء لمعبد اليقطيني ثاني ثقيل بالبنصر عن أحمد بن المكي.

 

أخبار معبد

كان معبد اليقطيني غلاما مولدا خلاسيا من مولدي المدينة، اشتراه بعض ولد علي بن يقطين. وقد شدا بالمدينة، وأخذ الغناء عن جماعة من أهلها، وعن جماعة أخرى من علية المغنين بالعراق في ذلك الوقت، مثل إسحاق وابن جامع وطبقتهما، ولم يكن فيما ذكر بطيب المسموع، ولا خدم أحدا من الخلفاء إلا الرشيد، ومات في أيامه، وكان أكثر انقطاعه إلى البرامكة.

أخبرني عمي الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال: حدثني معبد الصغير المغني مولى علي بن يقطين قال: كنت منقطعا إلى البرامكة، آخذ منهم وألازمهم. فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا بابي يدق، فخرج غلامي ثم رجع إلي فقال: على الباب فتى ظاهر المروءة يستأذن عليك، فأذنت له. فدخل علي شاب ما رأيت أحسن وجها منه، ولا أنظف ثوبا، ولا أجمل زيا منه، من رجل دنف عليه آثار السقم ظاهرة، فقال لي: إني أرجو لقاك منذ مدة فلا أجد إليه سبيلا، وإن لي حاجة. قلت: ما هي? فأخرج ثلثمائة دينار فوضعها بين يدي، ثم قال: أسألك أن تقبلها وتصنع في بيتين قلتهما لحنا تغنيني به. فقلت: هاتهما، فأنشدهما، وقال:

والله يا طرفي الجاني على بدني                      لتظفئن بدمعي لوعة الحـزن

أو لأبوحن حتى يحجبوا سكنـي                      فلا أراه ولو أدرجت في كفني

 

صفحة : 1557

 

والغناء فيه لمعبد اليقطيني ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى قال: فصنعت فيهما لحنا ثم غنيته إياه، فأغمي عليه حتى أكظننته قد مات. ثم أفاق فقال: أعد فديتك فناشدته الله في نفسه وقلت: أخشى أن تموت. فقال: هيهات أنا أشقى من ذاك. وما زال يخضع لي ويتضرع لي حتى أعدته، فصعق صعقة أشد من الأولى، حتى ظننت أن نفسه قد فاظت. فلما أفاق رددت الدنانير عليه ووضعتها بين يديه، وقلت: يا هذا خذ دنانيرك وانصرف عني، فقد قضيت حاجتك، وبلغت وطرا مما أردته، ولست أحب أن أشرك في دمك. فقال: يا هذا  لا حاجة لي في الدنانير. فقلت: لا والله ولا بعشرة أضعافها إلا على ثلاث شرائط. قال: وما هن? قلت: أولها أن تقيم عندي وتتحرم بطعامي، والثانية أن تشرب أقداحا من النبيذ تشد قلبك وتسكن ما بك، والثالثة أن تحدثني بقصتك. فقال: أفعل ما تريد. فأخذت الدنانير، ودعوت بطعام فأصاب منه إصابة معذر، ثم دعوت بالنبيذ فشرب أقداحا، وغنيته بشعر غيره في معناه، وهو يشرب ويبكي. ثم قال: الشرط أعزك الله، فغنيته، فجعل يبكي أحر بكاء وينشج أشد نشيج، وينتحب. فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه، ورأيت النبيذ قد شد من قلبه، كررت عليه صوته مرارا، ثم قلت: حدثني حديثك. فقال: أنا رجل من أهل المدينة خرجت متنزها في ظاهرها وقد سال العقيق، في فتية من أقراني وأخداني، فبصرنا بقينات قد خرجن لمثل ما خرجنا له، فجلسن حجرة منا، وبصرت فيهن بفتاة كأنها قضيب قد طله الندى، تنظر بعينين ما ارتد طرفهما إلا بنفس من يلاحظهما. فأطلنا وأطلن، حتى تفرق الناس، وانصرفن وانصرفنا، وقد أبقت بقبي جرحا بطيئا اندماله. فعدت إلى منزلي وأنا وقيذ. وخرجت من الغد إلى العقيق، وليس به أحد، فلم أر لها ولا لصواحباتها أثرا. ثم جعلت أتتبعها في طرق المدينة وأسواقها، فكأن الأرض أضمرتها، فلم أحس لها بعين ولا أثر، وسقمت حتى أيس مني أهلي. ودخلت ظئري فاستعلمتني حالي، وضمنت لي حالها والسعي فيما أحبه منها، فأخبرتها بقصتي، فقالت: لا بأس عليك هذه أيام الربيع، وهي سنة خصب وأنواء، وليس يبعد عنك المطر، وهذا العقيق، فتخرج حينئذ وأخرج معك، فإن النسوة سيجئن. فإذا فعلن ورأيتها تبعتها حتى أعرف موضعها، ثم أصل بينك وبينها، وأسعى لك في تزويجها. فكأن نفسي اطمأنت إلى ذلك، ووثقت به وسكنت إليه، فقويت وطمعت وتراجعت نفسي، وجاء مطر بعقب ذلك، فأسال الوادي، وخرج الناس وخرجت مع أخواني إليه، فجلسنا مجلسنا الأول بعينه، فما كنا والنسوة إلا كفرسي رهان. وأومأت إلى ظئري فجلست حجرة منا ومنهن، وأقبلت على إخواني فقلت: لقد أحسن القائل حيث قال:

رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت                      وقد غادرت جرحا به وندوبـا فأقبلت على صواحباتها فقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول:

بنا مثل ما تشكو فصبرا لعلنا                      نرى فرجا يشفي السقام قريبا

 

صفحة : 1558

 

فأمسكت عن الجواب خوفا من أن يظهر مني ما يفضحني وإياها، وعرفت ما أرادت. ثم تفرق الناس وانصرفنا، وتبعتها ظئري حتى عرفت منزلها، وصارت إلي فأخذت بيدي ومضينا إليها. فلم تزل تتلطف حتى وصلت إليها. فتلاقينا وتداورنا على حال مخالسة ومراقبة. وشاع حديثي وحديثها، وظهر ما بيني وبينها، فحجبها أهلها، وتشدد عليها أبوها. فما زلت أجتهد في لقائها فلا أقدر عليه. وشكوت إلى أبي - لشدة ما نالني - حالي، وسألته خطبتها لي. فمضى أبي ومشيخة أهلي إلى أبيها فخطبوها. فقال: لو كان بدأ بهذا قبل أن يفضحها ويشهرها لأسعفته بما التمس، ولكنه قد فضحها، فلم أكن لأحقق قول الناس فيها بتزويجه إياها، فانصرفت على يأس منها ومن نفسي. قال معبد: فسألته أن ينزل، مخبرني وصارت بيننا عشرة. ثم جلس جعفر بن يحيى للشرب فأتيته، فكان أول صوت غنيته صوتي في شعر الفتى، فطرب عليه طربا شديدا، وقال: ويحك إن لهذا الصوت حديثا، فما هو? فحدثته، فأمر بإحضار الفتى، فأحضر من وقته، واستعاده الحديث، فأعاده عليه. فقال: هي في ذمتي حتى أزوجك إياها، فطابت نفسه، وأقام معنا ليلتنا حتى أصبح. وغدا جعفر إلى الرشيد فحدثه الحديث، فعجب منه، وأمر بإحضارها جميعا، فأحضرنا، وأمر بأن أغنيه الصوت فغنيته، وشرب عليه، وسمع حديث الفتى، فأمر من وقته بالكتاب إلى عامل الحجاز بإشخاص الرجل وابنته وجميع أهله إلى حضرته، فلم يمض إلا مسافة الطريق حتى أحضر. فأمر الرشيد بإيصاله إليه فأوصل، وخطب إليه الجارية للفتى، وأقسم عليه ألا يخالف أمره، فأجابه وزوجه إياها، وحمل إليه الرشيد ألف دينار لجهازها، وألف دينار لنفقة طريقه، وأمر للفتى بألف دينار، وأمر جعفر لي وللفتى بألف دينار. وكان المدني بعد ذلك في جملة ندماء جعفر بن يحيى.

 

هل نفسك المستهامة الـسـدمة                      سالـية مـرة ومـعـتـزمـه

عن ذكر خود قضى لها الملك ال                      خالق ألا تكـنـهـا ظـلـمـه الشعر لابن أبي الزوائد، والغناء لحكم رمل بالوسطى عن الهشامي.

 

أخبار ابن أبي الزوائد ونسبه

اسمه سليمان بن يحيى بن زيد بن معبد بن أيوب بن هلال بن عوف بن نضلة بن عصية بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن بن منصور. ويقال له ابن أبي الزوائد أيضا. شاعر مقل، من مخضرمي الدولتين، وكان يؤم الناس في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبرني بذلك محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا ابن أبي خيثمة عن بعض رجاله عن الأصمعي، وأخبرني وكيع قال: حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي قال: أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل قال: كان ابن أبي الزوائد يتعشق جارية سوداء مولاة الصهيبيين، وكان يختلف إليها وهي في النخل بحاجزة. فلما حان الجداد قال:

حجيج أمسى جداد حاجـزة                      فليت أن الجداد لـم يحـن

وشت بين وكنت لي سكـنـا                      فيما مضى كان ليس بالسكن

قد كان لي منك ما أسر بـه                      وليت ما كان منك لم يكـن

نعف في لهونا ويجمعنـا ال                      مجلس بين العريش والجرن

يعجبنا اللهو والـحـديث ولا                      نخلط في لهونا هنا بـهـن

لو قد رحلت الحمار منكشفا                      لم أرها بعدها ولم تـرنـي فقال له أبو محمد الجمحي: إن الشعراء يذكرون في شعرهم أنهم رحلوا الإبل والنجائب، وأنت تذكر أنك رحلت حمارا. فقال: ما قلت إلا حقا، والله ما كان لي شيء أرحله غيره. قال: وقال فيها أيضا:

يا ليت أن العرب استلحـقـوا                      ريم الصهـيبـيين ذاك الأجـم

وكان منـهـم فـتـزوجـتـه                      أو كنت من بعض رجال العجم أخبرني وكيع قال: حدثني طلحة بن عبد الله بن الزبير بن بكار عن عمه قال: كان أبو عبيدة بن عبد الله بن ربيعة صديقا لابن أبي الزوائد. ثم تباعد ما بينهما لشيء بلغ أبا عبيدة عنه، فهجره من أجله، فهجاه، فقال:

قطع الصفاء ولم أكـن                      أهلا لذاك أبو عـبـيده

لا تحسبـنـك عـاقـلا                      فلأنت أحمق من حميده حميدة: امرأة كانت بالمدينة رعناء يضرب بها المثل في الحمق.

حدثني عمي ووكيع قالا: حدثنا الكراني عن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة قال:

 

صفحة : 1559

 

دخل ابن أبي الزوائد إلى حماد بن عمران الطليحي، وكان يلقب بعطعط، وكان له قيان يسمعهن الناس عنده، فرآهن ابن الزوائد فقال فيهن:

أقول وقد صفت البظر لي:                      أللبظر أدخلني عطعـط?

فإني امرؤ لا أحب الزنـا                      ولا يستفزني الـبـربـط

ولو بعضهن ابتغى صبوتي                      لخالط هامتها المخـبـط

لبئس فعال امرىء قد قرا                      وهمت عوارضه تشمـط

وما كنت مفترشا جارتـي                      وسيدهـا نـائم يضـرط

أأفرغ في جارتي نـطـفة                      حراما كما يفرغ المسعط أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثني أبو هفان قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني المسيبي: أن ابن أبي الزوائد كانت عنده امرأة أنصارية، فطال لبثها عنده حتى ملها وأبغضها، فقال يهجوها:

يا رمل أنت الغول بين رمـال                      لم تظفري ببقى ولا بجـمـال

يا رمل لو حدثت أنك سلـفـع                      شوهاء كالسعلاة بين سعالـي

ما جاء يطلبك الرسول بخطـبة                      مني ولا ضمت عليك حبالـي

ولقد نهى عنك النصيح وقال لي                      لا تقـرنـن بـذية بـعـيال

لما هززت مهندي وقـذفـتـه                      فيها وقد أرهفته بـصـقـال

رجع المهند ما له مـن حـيلة                      وهناك تصعب حيلة المحتـال

وكأنما أولـجـتـه فـي قـلة                      قد بردت للصوم أو بـوقـال

ورأيت وجها كاسفا متـغـيرا                      وحرا أشق كمركن الغـسـال

ما كان أير الفيل بالغ قـعـره                      بتحامـل عـنـه ولا إدخـال

ولقد طعنت مبالها بسلاحـهـا                      فوجدت أخبث مسلح ومـبـال قال: وقال لها وقد فخرت:

هلا سألت منـازلا بـغـرار                      عمن عهدت به من الأحـرار

أين انتأوا ونحاهم صرف النوى                      عنا وصرف مقحم مـغـيار

كره المقام وظن بي وبأهلهـا                      ظنا فكان بنا علـى إصـرار

عدي رجالك واسمعي يا هـذه                      عني مقالة عالم مـفـخـار

سأعد سادات لنا ومـكـارمـا                      وأبوة ليست عـلـي بـعـار

قيس وخندف والداي كلاهمـا                      والعم بعد ربيعة بـن نـزار

من مثل فارسنا دريد فـارسـا                      في كل يوم تعانـق وكـرار

وبنو زياد من لقومك مثلـهـم                      أو مثل عنترة الهزبر الضاري

والحي من سعد ذؤابة قومهـم                      والفخر منهم والسنام الـواري

والمانعون من العدو ذمارهـم                      والمدركون عدوهم بالـثـار

والناكحون بنات كل مـتـوج                      يوم الوغى غصبا بلا إمهـار

وبنو سليم نكل مـن عـاداهـم                      وحيا العفاة ومعقل الـفـرار

ليسوا بأنكاس إذا حاستـهـم ال                      موت العداة وصمموا لمغـار أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال: كان ابن أبي الزوائد وفد إلى بغداد في أيام المهدي، فاستوخمها، فقال يتشوق إلى المدينة ويخاطب أبا غسان محمد بن يحيى وكان معه نازلا:

يا بن يحيى ماذا بدا لـك مـاذا                      أمقام أم قد عزمت الـخـياذا

فالبراغيث قد تثـور مـنـهـا                      سامر ما نلوذ منـهـا مـلاذا

فنحك الجلود طورا فتـدمـى                      ونحك الصـدور والأفـخـاذا

فسقى الله طيبة الوبل سـحـا                      وسقى الكرخ والصراة الرذاذا

بلدة لا ترى بها العـين يومـا                      شاربا لـلـنـبـيذ أو نـبـاذا

أو فتى ماجنا يرى اللهو والبـا                      طل مجدا أو صاحبـا لـواذا

هذه الذال فاسمعوها وهـاتـوا                      شاعرا قال في الروي على ذا

قالها شاعر لو أن القـوافـي                      كن صخرا أطارهـن جـذاذا قال الزبير: وأنشدني له أبو غسان محمد بن يحيى، وكان قد دخل إلى رجلين من أهل الحجاز يقال لأحدهما أبو الجواب، والآخر أبو أيوب، فسقياه نبيذا على أنه طري لا يسكر، فأسكره، فقال:

 

صفحة : 1560

 

 

سقاني شربة فسكرت منهـا                      أبو الجواب صاحبي الخبيث

وعاونه أبـو أيوب فـيهـا                      ومن عاداته الخلق الخبيث

فلما أن تمشت في عظامي                      وهمت وثبتي منها تـريث

علمت بأنني قد جئت أمـرا                      تسوء به المقالة والحـديث

فدعهم لا أبا لك واجتنبـهـم                      فإن خليطهم لهو الـلـويث وتمام الأبيات التي فيها الغناء بعد البيتين المذكورين:

كالشمس في شرقها إذا سفرت                      عنها ومثل المهاة ملتـثـمـه

ما صور الله حين صـورهـا                      في سائر الناس مثلها نسـمـه

كل بلاد الإلـه جـئت فـمـا                      أبصرت شبها لها وقد علمـه

أنثى من العالمين تشبـهـهـا                      عابسة هكذا ومبـتـسـمـه

فتانة المقلتين مـخـطـفة ال                      أحشاء منها البنان كالعنـمـه

إذا تعاطـت شـيئا لـتـأخـذه                      قلت غزال يعطو إلى برمـه

يا طيب فيها وطيب قبلـتـهـا                      والقرب منها في الليلة الشجمه

إن من اللذة الـتـي بـقـيت                      غشيانك الخود من بني سلمـه

لا تهجر الخود إن تغال بـهـا                      بعد سلو وقـبـل ذاك فـمـه

آتي معدا لها الـكـلام فـمـا                      أنطق من هيبة ولا كـلـمـه

أحـب والـلـه أن أزوركــم                      وحدي كذا أو أزوركم بلـمـه

هذا الجمال الذي سمعـت بـه                      سبحان ذي الكبرياء والعظـمة

من أبصرت عينه لها شبـهـا                      حل عليه العذاب والنـقـمـه

يا هند يا هند نـولـي رجـلا                      وكيف تنويل من سفكت دمـه

أو تدركي نفسه فقد هلـكـت                      أو ترحميه فمثلكـم رحـمـه أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن جعفر بن قادم مولى بني هاشم قال: حدثني عمي أحمد بن جعفر عن ابن دأب قال: خرجت أنا وأخي يحيى وابن أبي السعلاء ومعنا مصعب بن عبد الله النوفلي وثابت والزبير ابنا خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير وابن أبي الزوائد السعدي وابن أبي ذئب متنزهين إلى العقيق، وقد سأل يومئذ، إذا أتانا آت ونحن جلوس، فسألناه عن الخبر بالمدينة? ورد كتاب أمير المؤمنين المنصور أن لا تتزوج منافية إلا منافيا. قال ابن أبي ذئب: إذن والله لا يخطب قرشي إلا من لا يحبها، ولا يرغب فيمن لا يرغب فيها ممن لا فضل له عليها، وكان غير حسن الرأي في بني هاشم. وتكلم ابنا خبيب بمثل ذلك، وقال أحدهما. إن نسبنا من بني عبد مناف قد طال، فأدالنا الله منهم. قال: فغضب مصعب النوفلي وكان أحول فازدادت عيناه انقلابا، فقال: أما أنت يا بن أبي ذئب فو الله ما شرفتك جاهلية ولا رفعك إسلام، فيقع في بال أحد أنك عنيت بما جرى. وأما أنتما يا بني خبيب فبغضكما لبني عبد مناف تالد موروث، ولا يزال يتجدد كلما ذكرتم قتل الزبيرن وإنكم لمن طينتين مختلفتين: أما إحداهما فمن صفية، وهي الطينة الأبطحية السنية، تنزعان إليها إذا نافرتما، وتفخران بها إذا افتخرتما، والأخرى الطينة العوامية التي تعرفانها، ولو شئت أن أقول لقلت، ولكن صفية تحجزني، فأحسنا الشكر لمن رفعكما، ولا تميلا عليه بمن وضعكما. فقالا له: مهلا، فوالله لقد يمنا في الإسلام أفضل من قديمك، ولحظنا فيه بالزبير أفضل من حظك. فقال مصعب: والله ما تفرخان في نسبكما إلا بعمتي، ولا تفضلان في دينكما إلا بابن عمي صلى الله عليه وسلم، فمفاخره لي دونكما. ثم تفرقوا، فقال ابن أبي الزوائد:

لعمركما يا بني خبيب بن ثابـت                      تجاوزتما في الفخر جهلا مداكما

وأنكرتما فضل الذين بفضلـهـم                      سمت بين أيدي الأكرمين يداكما

فإنكما لم تعرفا إذ سـمـوتـمـا                      إلى العز من آل النبي أباكـمـا

ولم تعرفا الفضل الذي قد فخرتما                      فليس من العوام حقا أتـاكـمـا

فلولا الكرام الغر من آل هاشـم                      فلا تجهلا لم تدفعا من رماكمـا

محـب صــد آلـــفـــه                      فلـيس لـلـيلـه صـبـــح

 

صفحة : 1561

 

 

يقلبه على مضـض                      مواعد ما لها نجـح

له في عينه غـرب                      وفي أحشائه جـرح

صحا عنه الذي يرجو                      زيارته وما يصحـو الشعر لأبي الأسد، والغناء لعلويه، هزج بالوسطى وخفيف ثقيل بالوسطى.

 

أخبار أبي الأسد ونسبه

اسمه، فيما ذكر لنا عيسى بن الحسين الوراق عن عيسى بن إسماعيل تينة عن القحذمي، نباته بن عبد الله الحماني. وذكر أبو هفان المهزمي أنه من بني شيبان. وهو شاعر مطبوع متوسط الشعر، من شعراء الدولة العباسية من أهل الدينور. وكان طبا مليح النوادر مزاحا خبيث الهجاء، وكان صديقا لعلويه المغني الأعسر، ينادمه ويواصل عشرته ويصله علويه بالأكابر، ويعرضه للمنافع، وله صنعة في كثير من شعره.

فأخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال: كان أبو الأسد الشاعر صديقا لعلويه، وكان كثيرا ما يغنى في شعره. فدعانا علويه ليلة، ووعدته جارية لآل يحيى بن معاذ وكانت تأخذ عنه الغناء أن تزوره تلك الليلة، وكانت من أحسن الناس وجها وغناء، وكان علويه يهيم بها، فانتظرناها حتى أيسنا منها احتباسا. فقال علويه لأبي الأسد: قل في هذا شعرا، فقال:

محب صـد ألـفـه                      فليس لليله صـبـح

صحا عنه الذي يرجو                      زيارته وما يصحـو قال: فصنع علويه فيه لحنا من خفيف الثقيل هو الآن مشهور في أيدي الناس، وغنانا فيه، فلم نزل نشرب عليه حتى أصبحنا. وصنع في تلك الليلة بحضرتنا فيه الرمل في شعر أبي وجزة السعدي:

قتلتني بغير ذنب قـتـول                      وحلال لها دمي المطلول

ما على قاتل أصاب قتيلا                      بدلال ومقلتـين سـبـيل أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبو هفان قال: كتب أبو الأسد وهو من بني حمان إلى موسى بن الضحاك:

لموسى أعبد وأنـا أخـوه                      وصاحبه ومالي غير عبد

فلو شاء الإله وشاء موسى                      لآنس جانبي فرج بسعـد قال: وفرج غلام كان لأبي الأسد، وسعد غلام كان لموسى فبعث إليه موسى بسعد، وقاسمه بعده بقية غلمانه، فأخذ شطرهم وأعطاه شطرهم.

أخبرني محمد الخزاعي قال: حدثني العباس بن ميمون طائع قال: هجا أبو الأسد أحمد بن أبي داود فقال:

أنت امرؤ غث الصنيعة رثـهـا                      لا تحسن النقمى إلى أمثـالـي

نعماك لا تعدوك إلا في امـرىء                      في مسك مثلك من ذوي الأشكال

وإذا نضرت إلى صنيعك لم تجـد                      أحدا سموت به إلى الإفـضـال

فاسلم بغير سلامة ترجى لـهـا                      إلا لـسـدك خـلة الأنـــذال قال: فأدى إليه سلامة وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عائشة هذه الأبيات عن أبي الأسد، فبعث إليه ببرد واستكفه، وبعث بابن عائشة إلى مظالم ما سبذان، وقال له: قد شركته في التوبيخ لنا فشركناك في الصفقة، فإن كنتما صادقين في دعواكما كنتما من الأنذال، وإن كنتما كاذبين فقد جريتما بالقبيح حسنا.

حدثني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن الحسن بن الحرون قال: كان سبب هجاء أبي الأسد أحمد بن أبي داود أنه مدحه فلم يثبه، ووعده بالثواب ومطله، فكتب إليه:

ليتك إذ نبـتـنـي بـواحـدة                      تقنعني مـنـك آخـر الأبـد

تخلـف ألا تـبـرنـي أبـدا                      فإن فيها بردا علـى كـبـدي

اشف فؤادي منـي فـإن بـه                      مني جرحا نـكـأتـه بـيدي

إن كان رزقي إليك فارم بـه                      في ناظري حية على رصـد

قد عشت دهرا وما أقـدر أن                      أرضى بما قد رضيت من أحد

فكيف أخطأت لا أصبـت ولا                      نهضت من عثرة إلـى سـدد

لو كنت حرا كما زعمت وقـد                      كددتني بالمـطـال لـم أعـد

صبرت لما أسـأت بـي فـإذا                      عدت إلى مثلها فـعـد وعـد

فإنني أهل ذاك في طمـعـي                      وفي خطائي سبيل معتـمـد

أبعدني الله حين يحـمـلـنـي                      حرصي على مثل ذا من الأود

 

صفحة : 1562

 

 

الآن أيقنت بعد فعـلـك بـي                      أني عبـد لأعـبـد قـفـد

فصرت من سوء ما رميت به                      أكنى أبا الكلب لا أبا الأسـد أخبرني علي بن الحسين بن عبد السميع المروزي قال: حدثني عيسى بن إسماعيل تينة عن القحذمي قال: كان أبو الأسد الشاعر واسمه نباته بن عبد الله الحماني منقطعا إلى الفيض بن صالح وزير المهدي، وفيه يقول:

ولائمة لامتك يا فيض فـي الـنـدى                      فقلت لها لن يقدح اللوم في البـحـر

أرادت لتنهى الفيض عن عادة النـدى                      ومن ذا الذي يثني السحاب عن القطر

مواقع جود الفيض في كـل بـلـدة                      مواقع ماء المزن في البلد القـفـر

كأن وفود الفيض لمـا تـحـمـلـوا                      إلى الفيض لاقوا عنده ليلة الـقـدر وكان أبو الأسد قبله منقطعا إلى أبي دلف مدة، فلما قدم عليه علي بن جبلة العكوك غلب عليه، وسقطت منزلة أبي الأسد عنده، فانقطع إلى الفيض بعد عزله عن الوزارة ولزومه منزله، وذلك في أيام الرشيد. وفيه يقول:

أتيت الفيض مشتكيا زمـانـي                      فأعداني علـيه جـود فـيض

وفاضت كفه بالـبـذل مـنـه                      كما كف ابن عيسى ذات غيض أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني علي بن الحسن بن الأعرابي، قال: سأل أبو الأسد بعض الكتاب، وهو علي بن يحيى المنجم، حاجة يسأل فيها بعض الوزراء، فلم يفعل. وبلغ حمدون بن إسماعيل الخبر، فسأل له فيها مبتدئا ونجزها وأنفذها إليه.

فقال أبو الأسد يهجو الرجل الذي كان سأله الحاجة، ويمدح حمدون بن إسماعيل:

صنع من الله أني كنت أعـرفـكـم                      قبل اليسار وأنتم في الـتـبـابـين

فما مضت سنة حـتـى رأيتـكـم                      تمشون في القز والقوهي والـلـين

وفي المشاريق ما زالت نسـاؤكـم                      يصحن تحت الدوالي بالـوراشـين

فصرن يرفلن في وشي العراق وفي                      طرائف الخز من دكن وطارونـي

أنسين قطع الحلاوي من معادنـهـا                      وحملهن كشوثا في الـشـقـابـين

حتى إذا أيسروا قالوا وقـد كـذبـوا                      نحن الشهاريج أولاد الـدهـاقـين

في است أم ساسان أيرى إن أقربكم                      وأير بغل مشظ في اسـت شـيرين

لو سيل أوضعهم قدرا وأنـذلـهـم                      لقال من فخره إني ابـن شـوبـين

وقال أقطعني كسـرى وورثـنـي                      فمن يفاخرنـي أم مـن ينـاوينـي

من ذا يخبر كسرى وهو في سقـر                      دعوى النبيط وهم بيض الشياطـين

وأنهم زعمـوا أن قـد ولـدتـهـم                      كما ادعى الضب إني نطفة النـون

فكان ينحز جـوف الـنـار واحـدة                      تفري وتصدع خوفا قلـب قـارون

أما تراهم وقد حطوا بـرادعـهـم                      عن أتنهم واستبـدوا بـالـبـراذين

وأفرجوا عن مشارات البقول إلـى                      دور الملوك وأبواب الـسـلاطـين

تغلي على العرب من غيظ مراجلهم                      عداوة لرسول الـلـه فـي الـدين

فقل لهـم وهـم أهـل لـتـزنـية                      شر الخليقة يا بخر الـعـثـانـين

ما الناس إلا نزار في أرومـتـهـا                      وهاشم سرجها الشم الـعـرانـين

والحي من سلفي قحطـان إنـهـم                      يزرون بالنبط اللكن الـمـلاعـين

فما على ظهرها خلق له حـسـب                      مما يناسب كسرى غير حـمـدون

قرم عليه شهـنـشـاهـية ونـبـا                      ينبيك عن كسروي الجد مـيمـون

وإن شككت ففي الإيوان صـورتـه                      فانظر إلى حسب باد ومـخـزون أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر.

أن أبا الأسد زار أبا دلف في الكرج، فحجب عنه أياما، فقال يعاتبه وكتب بها إليه:

ليت شعري أضاقت الأرض عني                      أم بفـج أنـا الـغـداة طـريد

أم أنا قانـع بـأدنـى مـعـاش                      همتي القوت والقليل الـزهـيد

مقولي قاطع وسيفـي حـسـام                      ويدي حـرة وقـلـبـي شـديد

رب باب أعز من بـابـك الـيو                      م عليه عـسـاكـر وجـنـود

 

صفحة : 1563

 

 

قد ولجنـاه داخـلـين غـدوا                      ورواحا وأنت عـنـه مـذود

فاكفف اليوم من حجابك إذ لس                      ت أميرا ولا خميسا تـقـود

واغترب في فدافد الصد إذ لس                      ت أسيرا ولا عـلـي قـيود

لا يقيم العزيز في بلد الـهـو                      ن ولا يكبت الأريب الجـلـيد أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال: أنشدني أبو هفان لأبي الأسد في صديق له يقال له بسطام كان برا به قال: وهذا من جيد شعره، وقد سرق البحتري معناه منه في شعر مدح به علي بن يحيى المنجم:

أعدو على مال بسطام فأنهبه                      كما أشاء فلا تثنى إلـي يدي

حتى كأني بسطام بما احتكمت                      فيه يداي وبسطام أبو الأسـد أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال: حدثني أبو هفان، وأخبرني به يحيى بن علي بن يحيى قال: حدثني أبو أيوب المدايني قال: حدثنا أبو هفان قال: حدثني أبو دعامة قال: لما مات إبراهيم الموصلي قيل لأبي الأسد - وكان صديقه - ألا ترثيه? فقال يرثيه:

تولى الموصلي فقد تولـت                      بشاشات المزاهر والقـيان

وأي ملاحة بقيت فتبـقـى                      حياة الموصلي على الزمان

ستبكيه المزاهر والملاهـي                      ويسعدهن عاتقة الـدنـان

وتبكيه الغـوية إذ تـولـى                      ولا تبكيه تالـية الـقـران فقيل له: ويحك فضحته وقد كان صديقك. فقال: هذه فضيحة عند من لا يعقل، أما من يعقل فلا. وبأي شيء كنت أذكره وأثيه به? أبالفقه أم بالزهد أم بالقراءة? وهل يرثى إلا بهذا وشبهه قال أبو الفرج: نسخت من كتاب لأحمد بن علي بن يحيى، أخبرني أبو الفضل الكاتب وهو ابن خالة أبي عمرو الطوسي قال: كنت مقيما بالجبل فمر بي أبو الأسد الشاعر الشيباني، فأنزلته عندي أياما، وسألته عن خبره فقال: صادفت شاهين بن عيسى ابن أخي أبي دلف، فما احتبسني ولا برني ولا عرض علي المقام عنده، وقد حضرني فيه أبيات فأكتبها، ثم أنشدني:

إني مررت بشاهين وقد نفحـت                      ريح العشي وبرد الثلج يؤذينـي

فما وقى عرضه مني بكسـوتـه                      لا بل ولا حـسـب دان ولا دين

إن لم يكن لبـن الـدايات غـيره                      عن طبع آبائه الشم العـرانـين

فربما غاب بعل عن حلـيلـتـه                      فناكها بعض سواس الـبـراذين

وما تحرك أير فامتلا شـبـقـا                      إلا تحرك عرق في است شاهين ثم قال: لأمزقنه كل ممزق، ولأصيرن إلى أبي دلف فلأنشدنه. ومضى من فوره يريد أبا دلف، فلم يصل إليه، حتى بلغ أبا دلف الشعر، فشق عليه وغمه. وأتاه أبو الأسد فدخل عليه، فسأله عن قصته مع شاهين، فأخبره بها، فقال: هبه لي. قال قد فعلت. وأمر له بعشرة آلالف درهم، فأمسك عنه.

قال أبو الفرج: هذا البيت الأخير لبشار كان عرض له فقال:

وما تحرك أير فامتلا شبـقـا                      إلا تحرك عرق في است .... ثم قال: في است من? ومر به تسنيم بن الحواري فسلم عليه، فقال: في است تسنيم والله. فقال له: أي شيء ويلك? فقال: لا تسل. فقال: قد سمعت ما أكره، فاذكر لي سببه. فأنشده البيت، فقال: ويلك أي شيء حملك على هذا? قال: سلامك علي. لا سلم الله عليك ولا علي إن سلمت عليك بعدها، وبشار يضحك. وقد مضى هذا الخبر بإسناده في أخبار بشار.

وقد جمع معه كل ما يغنى في هذه القصيدة:

أجدك إن نعم نـأت أنـت جـازع                      قد اقتربت لـو أن ذلـك نـافـع

وحسبك من نـأي ثـلاثة أشـهـر                      ومن حزن أن شاق قلبـك رابـع

بكت عين من أبكاك ليس لك البكى                      ولا تتخالجك الأمـور الـنـوازع

فلا يسمعن سري وسرك ثـالـث                      ألا كل سر جاوز اثـنـين شـائع

وكيف يشيع السر مـنـي ودونـه                      حجاب ومن فوق الحجاب الأضالع

كأن فؤادي بين شقين من عـصـا                      حذار وقوع البين والبـين واقـع

وقالت وعيناها تفيضـان عـبـرة                      بأهلي بين لي متى أنـت راجـع

فقلت لها باللـه يدري مـسـافـر                      إذا أضمرته الأرض ما الله صانع

فشدت على فيها اللثام وأعرضـت                      وأقبلن بالكحل السحيق المـدامـع

 

صفحة : 1564

 

عروضه من الطويل. الشعر لقيس بن الحدادية، والغناء لإسحاق في الأول والثاني من الأبيات خفيف رمل بالوسطى، وفي الثالث وما بعده أربعة.

 

أخبار قيس بن الحدادية ونسبه

هو قيس بن منقذ بن عمرو بن عبيد بن ضاطر بن صالح بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة وهو خزاعة بن عمرو وهو مزيقياء بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة بن مازن بن الأزد، وهو رداء ويقال: رديني، وقد مضى نسبه متقدما، والحدادية أمه، وهي امرأة من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، ثم من قبيلة منهم يقال لهم بنو حداد. شاعر من شعراء الجاهلية، وكان فاتكا شجاعا صعلوكا خليعا، خلعته خزاعة بسوق عكاظ وأشهدت على أنفسها بخلعها إياه، فلت تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه.

قال أبو الفرج: نسخت خبره من كتاب أبي عمرو الشيباني: لما خلعت خزاعة بن عمرو - وهو مزيقياء بن عامر، وهو ماء السماء بن الحارث - قيس بن الحدادية، كان أكثرهم قولا في ذلك وسعيا لقوم منهم يقال لهم: بنو قمير بن حبشية بن سلول، فجمع لهم قيس شذاذا من العرب وفتاكا من قومه، وأغار عليهم بهم، وقتل منهم رجلا يقال لهم ابن عش، واستاق أموالهم، فلحقه رجل من قومه كان سيدا، وكان ضلعه مع قيس فيما جرى عليه من الخلع، يقال له ابن محرق، فأقسم عليه أنيرد ما استاقه، فقال: أما ما كان لي ولقومي فقد أبررت قسمك فيه، وأما ما اعتورته أيدي هذه الصعاليك فلا حيلة لي فيه، فرد سهمه وسهم عشيرته، وقال في ذلك:

فاقسم لولا أسهم ابـن مـحـرق                      مع الله ما أكثرت عد الأقـارب

تركت ابن عش يرفعون برأسـه                      ينوء بساق كعبها غـير راتـب

وأنهاهم خلعي على غير مـيرة                      من اللحم حتى غيبوا في الغوائب وقال أبو عمرو: أغار أبو بردة بن هلال بن غويمر، أخو بني مالك بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن امرىء القيس على هوازن في بلادها، فلقي عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وبني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزمت بنو عامر وبنو نصر، وقتل أبو بردة قيس بن زهير أخا خداش بن زهير الشاعر، وسبى نسوة من بني عامر: منهن صخرة بنت أسماء بن الضريبة النصري، وامرأتين منهم يقال لهما: بيقر وريا، ثم انصرفوا راجعين، فلما انتهوا إلى هرشى خنقت صخرة نفسها فماتت، وقسم أبو بردة السبي والنعم والأموال في كل من كان معه، وجعل فيه نصيبا لمن غاب عنها من قومه وفرقه فيهم.

ثم أغارت هوازن على بني ليث، فأصابوا حيا منهم يقال لهم: بنو الملوح بن يعمر بن عوف، ورعاء لبني ضاطر بني حبشية، فقتلوا منهم رجلا وسبوا منهم سبيا كثيرا واستاقوا أموالهم، فقال في ذلك مالك بن عوف النصري:

نحن جلبنا الخيل من بطن لـية                      وجلدان جردا منعلات ووقحـا

فأصبحن قد جاوزن مرا وجحفة                      وجاوزن من أكناف نخلة أبطحا

تلقطن ضيطاري خزاعة بعد ما                      أبرن بصحراء الغميم الملوحـا

قتلناهم حتى تركنـا شـريدهـم                      نساء وأيتاما ورجلا مسـدحـا

فإنك لو طالعتهم لحسبـتـهـم                      بمنعرج الصفراء عترا مذبحـا فلما صنعت هوازن ببني ضاطر ما صنعت، جمع قيس بن الحدادية قومه، فأغار على جموع هوازن، فأصاب سبيا ومالا، وقتل يومئذ من بني قشير: أبا زيد وعروة وعامرا ومروحا، وأصاب أبياتا من كلاب خلوفا، واستاق أموالهم وسبيا، ثم انصرف وهو يقول.

 

نحن جلبنا الخيل قبـا بـطـونـهـا                      تراها إلى الداعي المثوب جنـحـا

بكل خزاعي إذا الحرب شـمـرت                      تسربل فيهـا بـرده وتـوشـحـا

قرعنا قشيرا في المحـل عـشـية                      فلم يجدوا في واسع الأرض مسرحا

قتلـنـا أبـا زيد وزيدا وعـامـرا                      وعروة أقصدنا بـهـا ومـروحـا

وأبنا بإبل القوم تـحـدى ونـسـوة                      يبكين شلوا أو أسـيرا مـجـرحـا

غداة سقينا أرضهم مـن دمـائهـم                      وأبنا بأدم كن بـالأمـس وضـحـا

ورعنا كلابـا قـبـل ذاك بـغـارة                      فسقنا جلادا في المبـارك قـرحـا

 

صفحة : 1565

 

 

لقد علمت أفناء بكر بن عامـر                      بأنا نذود الكاشح المتزحزحـا

وأنا بلا مهر سوى البيض والقنا                      نصيب بأفناء القبائل منكـحـا وقال أبو عمرو: وزعموا أن قيس بن عيلان رغبت في البيت، وخزاعة يومئذ تليه، وطمعوا أن ينزعوه منهم، فساروا ومعهم قبائل من العرب ورأسوا عليهم عامر بن الظرب العدواني، فساروا إلى مكة في جمع لهام، فخرجت إليهم خزاعة فاقتتلوا، فهزمت قيس، ونجا عامر على فرس له جواد. فقال قيس بن الحدادية في ذلك:

لقد سمت نفسك يا بن الظرب                      وجشمتهم منزلا قد صـعـب

وحملتهم مركبـا بـاهـظـا                      من العبء إذ سقتهم للشغـب

بحرب خزاعة أهـل الـعـلا                      وأهل الثناء وأهل الحـسـب

هم المانعو البـيت والـذائدون                      عن الحرمات جميع العـرب

نفوا جرهما ونفوا بـعـدهـم                      كنانة غصبا ببيض القضـب

وسمر الرماح وجرد الـجـياد                      عليها فوارس صدق نـجـب

وهم ألحقـوا أسـدا عـنـوة                      بأحياء طي وحازوا السـلـب

خزاعة قومي فإن أفـتـخـر                      بهم يزك معتصري والنسـب

هم الرأس والناس من بعدهـم                      ذنابى وما الرأس مثل الذنـب

يواسى لدى المحل مـولاهـم                      وتكشف عنه غموم الكـرب

فجـارهـم آمـن دهـــره                      بهم إن يضام وأن يغتـصـب

يلبون في الحرب خوف الهجاء                      ويبرون أعداءهم بالـحـرب

ولو لم ينجـك مـن كـيدهـم                      أمين الفصوص شديد العصب

لزرت المنايا فلا تـكـفـرن                      جوادك نعماه يا بن الظـرب

فإن يلتقوك يزرك الـحـمـا                      م أو تنج ثانـية بـالـهـرب قال أبو الفرج: هذه القصيدة مصنوعة، والشعر بين التوليد.

وقال أبو عمرو: أغارت هوازن على خزاعة وهم بالمحصب من منى، فأوقعوا ببطن منهم يقال لهم بنو العنقاء، وبقوم من بني ضاطر، فقتلوا منهم عبدا وعوفا وأقرم وغبشان، فقال ابن الأحب العدواني يفخر بذلك:

غداة التقينا بالمحصب من منـى                      فلاقت بنو العنقاء إحدى العظائم

تركنا بها عوفا وعبدا وأقـرمـا                      وغبشان سؤرا للنسور القشاعم فأجابه قيس بن الحدادية، فقال يعيره أن فخر بيوم ليس لقومه:

فخرت بيوم لم يكن لك فـخـره                      أحاديث طسم إنما أنـت حـالـم

تفاخر قوما أطردتك رماحـهـم                      أكعب بن عمرو هل يجاب البهائم

فلو شهدت أم الصبيين حمـلـنـا                      وركضهم لابيض منها المـقـادم

غداة توليتم وأدبـر جـمـعـكـم                      وأبنا بأسراكم كأنـا ضـراغـم قال أبو عمرو: وكان ابن الحدادية أصاب دما في قوم من خزاعة هو وناس من أهل بيته، فهربوا فنزلوا في فراس بن غنم، ثم لم يلبثوا أن أصابوا أيضا منهم رجلا، فهربوا فنزلوا في بجيلة على أسد بن كرز، فآواهم وأحسن إلى قيس وتحمل عنهم ما أصابوا في خزاعة وفي فراس، فقال قيس بن الحدادية يمدح أسد بن كرز:

لا تعذلينى سلمى اليوم وانتظـري                      أن يجمع الله شملا طالما افترقا

إن شتت الدهر شملا بين جيرتكم                      فطال في نعمة يا سلم ما اتفقـا

وقد حللنا بقسـري أخـي ثـقة                      كالبدر يجلو دجى الظلماء والأفقا

لا يجبر الناس شيئا هاضه أسـد                      يوما ولا يرتقون الدهر ما فتقـا

كم من ثناء عظيم قـد تـداركـه                      وقد تفاقم فيه الأمر وانخـرقـا قال أبو عمرو: وهذه الأبيات من رواية أصحابنا الكوفيين، وغيرهم يزعم أنها مصنوعة، صنعها حماد الراوية لخالد القسري في أيام ولايته، وأنشده إياها فوصله، والتوليد بين فيها جدا.

وقال أبو عمرو: غزا الضريس القشيري بني ضاطر في جماعة من قومه، فثبتوا له وقاتلوه حتى هزموه، وانصرف ولم يفز بشيء من أموالهم، فقال قيس بن الحدادية في ذلك:

فدى لبـنـي قـيس وأفـنـاء مـالـك                      لدى الشسع من رجلي إلى الفرق صاعدا

 

صفحة : 1566

 

 

غداة أتى قوم الضريس كأنـهـم                      قطا الكدر من ودان أصبح واردا

فلم أر جمعا كان أكرم غـالـبـا                      وأحمى غلاما يوم ذلك أطـردا

رميناهم بالحو والكمت والقـنـا                      وبيض خفاف يختلين السواعـدا قال أبو عمرو: ولما خلعت خزاعة قيسا، تحول من قومه، ونزل عند بطن من خزاعة، يقال لهم بنو عدي بن عمرو بن خالد، فآووه وأحسنوا إليه، وقال يمدحهم:

جزى الله خيرا عن خليع مطرد                      رجالا حموه آل عمرو بن خالد

فليس كمن يغزو الصديق بنوكه                      وهمته في الغزو كسب المزاود

عليكم بعرصات الديار فإنـنـي                      سواكم عديد حين تبلى مشاهدي

ألا وذتم حتى إذا مـا أمـنـتـم                      تعاورتم سجعا كسجع الهداهـد

تجنى علي المازنان كلاهـمـا                      فلا أنا بالمغصي ولا بالمساعـد

وقد حدبت عمرو علي بعزهـا                      وأبنائها من كل أروع مـاجـد

مصاليت يوم الروع كسبهم العلا                      عظام مقيل الهام شعر السواعد

أولئك إخواني وجل عشـيرتـي                      وثروتهم والنصر غير المحارد أخبرني أحمد بن سليمان الطوسي، والحرمي بن أبي العلاء قالا: حدثنا الزبير بن بكار قال: أخبرني عمي أن خزاعة أغارت على اليمامة، فلم يظفروا منها بشيء، فهزموا وأسر منهم أسرى، فلما كان أوان الحج، أخرجهم من أسرهم إلى مكة في الأشهر الحرم ليبتاعهم قومهم، فغدوا جميعا إلى الخلصاء، وفيهم قيس بن الحدادية، فأخرجوهم وحملوهم، وجعلوهم في حظيرة ليحرقوهم، فمر بهم عدي بن نوفل، فاستجاروا به، فابتاعهم وأعتقهم، فقال قيس يمدحه:

دعوت عديا والكبول تكبـنـي                      ألا يا عدي يا عدي بن نوفـل

دعوت عديا والمنـايا شـوارع                      ألا يا عدي للأسير المكـبـل

فما البحر يجري بالسفين إذا غدا                      بأجود سيبا منه في كل محفـل

تداركت أصحاب الحظيرة بعدما                      أصابهم منا حريق المحـلـل

وأتبعت بين المشعرين سـقـاية                      لحجاج بيت الله أكرم منـهـل قال أبو عمرو: وكان قيس بن الحدادية يهوى أم مالك بنت ذؤيب الخزاعي، وكانت بطون من خزاعة خرجوا جالين إلى مصر والشام لأنهم أجدبوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، رأوا البوارق خلفهم، وأدركهم من ذكر لهم كثرة الغيث والمطر وغزارته، فرجع عمرو بن عبد مناة في ناس كثير إلى أوطانهم، وتقدم قبيصة بن ذؤيب ومعه أخته أم مالك، واسمها نعم بنت ذؤيب، فمضى، فقال قيس بن الحدادية هذه القصيدة التي فيها الغناء المذكور:

أجدك إن نعم نـأت أنـت جـازع                      قد اقتربت لـو أن ذلـك نـافـع

قد اقتربت لو أن في قرب دارهـا                      نوالا ولكن كل من ضن مـانـع

وقد جاورتنا في شهـور كـثـيرة                      فما نولت واللـه راء وسـامـع

فإن تلقين نعمى هديت فـحـيهـا                      وسل كيف ترعى بالمغيب الودائع

وظني بها حفظ لغيبـي ورعـية                      لما استرعيت والظن بالغيب واسع

وقلت لها في السر بيني وبينـهـا                      على عجل أيان من سار راجـع

فقالت لقاء بـعـد حـول وحـجة                      وشحط النوى إلا الذي العهد قاطع

وقد يلقى بعد الشتات أولو النـوى                      ويسترجع الحي السحاب اللوامـع

وما إن خذول نازعت حبل حابـل                      لتنجو إلا استسلمت وهي ظالـع

بأحسن منها ذات يوم لـقـيتـهـا                      لها نظر نحوي كذي البت خاشـع

رأيت لها نارا تـشـب ودونـهـا                      طويل القرا من رأس ذروة فارع

فقلت لأصحابي اصطلوا النار إنها                      قريب فقالوا بل مكانـك نـافـع

فيا لك من حاد حـبـوت مـقـيدا                      وأنحى على عرنين أنفك جـادع

أغيظا أرادت أن تخب حمالـهـا                      لتفجع بالإظعان من أنت فـاجـع

فما نطفة بالطـود أو بـضـرية                      بقية سيل أحرزتـهـا الـوقـائع

 

صفحة : 1567

 

 

يطيف بهـا حـران صـاد ولا يرى                      إليها سبـيلا غـير أن سـيطـالـع

بأطيب من فيها إذا جـئت طـارقـا                      من الليل واخضلت عليك المضاجـع

وحسبك مـن نـأي ثـلاثة أشـهـر                      ومن حزن أن زاد شـوقـك رابـع

سعى بينهـم واش بـأفـلاق بـرمة                      لتفجع بالأظعان مـن هـو جـازع

بكت من حـديث بـثـه وأشـاعـه                      ورصفه واش من الـقـوم راصـع

بكت عين من أبكاك لا يعرف البكـا                      ولا تتخالجـك الأمـور الـنـوازع

فلا يسمعن سـري وسـرك ثـالـث                      ألا كل سر جـاوز اثـنـين شـائع

وكيف يشيع السـر مـنـي ودونـه                      حجاب ومن فوق الحجاب الأضالـع

وحب لهذا لربع يمـضـي أمـامـه                      قليل القلى مـنـه جـلـيل ورادع

لهوت به حتى إذا خـفـت أهـلـه                      وبين منه للـحـبـيب الـمـخـادع

نزعـت فـمـا سـري لأول سـائل                      وذو السر ما لم يحفظ السـر مـاذع

وقد يحمد الله العزاء مـن الـفـتـى                      وقد يجمع الأمر الشتيت الجـوامـع

ألا قد يسلى ذو الهوى عن حـبـيبـه                      فيسلى وقد تردي المطي المطامـع

وما راعني إلا المنادى ألا اظعـنـوا                      وإلا الرواغي غدوة والـقـعـاقـع

فجئت كأني مسـتـضـيف وسـائل                      لأخبرها كـل الـذي أنـا صـانـع

فقالت: تزحزح ما بنا كبـر حـاجة                      إليك ولا مـنـا لـفـقـرك راقـع

فما زلت تحت الستر حتى كأنـنـي                      من الحر ذو طمرين في البحر كارع

فهزت إلي الرأس مني تـعـجـبـا                      وعضض مما قد فعلت الأصـابـع

فأيهمـا مـا أتـبـعـن فـإنـنـي                      حزين علـى إثـر الـذي أنـا وادع

بكى من فراق الحي قيس بن منـقـذ                      وإذراء عيني مثله الـدمـع شـائع

بأربعة تنـهـل لـمـا تـقـدمـت                      بهم طرق شتـى وهـن جـوامـع

وما خلت بين الحي حتـى رأيتـهـم                      ببينونة السفلى وهـبـت سـوافـع

كأن فؤادي بين شقين مـن عـصـا                      حذار وقوع البـين والـبـين واقـع

يحث بـهـم جـاد سـريع نـجـاؤه                      ومعرى عن الساقين والثوب واسـع

فقلت لها يا نعم حلـي مـحـلـنـا                      فإن الهوى يا نعم والعيش جـامـع

فقالت وعيناها تفـيضـان عـبـرة                      بأهلي بين لي متـى أنـت راجـع

فقلت لها تالـلـه يدري مـسـافـر                      إذا أضمرته الأرض ما الله صانـع

فشدت على فيه اللثـام وأعـرضـت                      وأقبلن بالكحل السحيق الـمـدامـع

وإني لـعـهـد الـود راع وإنـنـي                      بوصلك ما لم يطوني الموت طامـع قال أبو عمرو: فأنشدت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله هذه القصيدة، فاستحسنتها وبحضرتها جماعة من الشعراء. فقالت: من قدر منكم أن يزيد فيها بيتا واحدا يشبهها ويدخل في معناها فله حلتي هذه ، فلم يقدر أحد منهم على ذلك.

قال أبو عمرو: وقال قيس أيضا يذكر بين الحي وتفرقهم وينسب بنعم:

سقى الله أطلالا بنـعـم تـرادفـت                      بهن النوى حتى حللن المـطـالـيا

فإن كـانـت الأيام يا أم مـالــك                      تسليكم عني وتـرضـي الأعـاديا

فلا يأمنن بعدي امرؤ فـجـع لـذة                      من العيش أو فجع الخطوب العوافيا

وبدلت مـن جـدواك يا أم مـالـك                      طوارق هم يحتـضـرن وسـاديا

وأصبحت بعد الأنـس لابـس جـبة                      أساقي الكماة الدارعين الـعـوالـيا

فيوماي يوم في الحديد مـسـربـلا                      ويوم مع البـيض الأوانـس لاهـيا

فلا مدركا حظـا لـدى أم مـالـك                      ولا مستريحا في الحياة فقـاضـيا

خليلي إن دارت علـى أم مـالـك                      صروف الليالي فابعثا لي نـاعـيا

ولا تتركاني لا لـخـير مـعـجـل                      ولا لبـقـاء تـنـظـران بـقـائيا

 

صفحة : 1568

 

 

وإن الذي أملت من أم مـالـك                      أشاب قذالي واستهـام فـؤاديا

فليت المنايا صبحتـنـي غـدية                      بذبح ولم أسمع لبـين مـنـاديا

نظرت ودوني يذبل وعـمـاية                      إلى آل نعم منظرا مـتـنـائيا

شكوت إلى الرحمن بعد مزارها                      وما حملتني وانقطـاع رجـائيا

وقلت ولم أملك أعمرو بن عامر                      لحتف بذات الرقمتين يرى لـيا

وقد أيقنت نفسي عشية فارقـوا                      بأسفل وادي الدوح أن لا تلاقيا

إذ ما طواك الدهر يا أم مالـك                      فشأن المنايا القاضيات وشانـيا قال أبو عمرو: وقد أدخل الناس أبياتا من هذه القصيدة في شعر المجنون.

قال أبو عمرو: وكان من خبر مقتل قيس بن الحدادية أنه لقي جمعا من مزينة يريدون الغارة على بعض من يجدونه منه غرة، فقالوا له: استأسر، فقال: وما ينفعكم مني إذا استأسرت وأنا خليع? والله لو أسرتموني ثم طلبتم بي من قومي عنزا جرباء جدماء ما أعطيتموها، فقالوا له: استأسر لا أم لك فقال: نفسي علي أكرم من ذاك، وقاتلهم حتى قتل. وهو يرتجز ويقول:

أنا الذي تخلعه مـوالـيه                      وكلهم بعد الصفاء قالـيه

وكلهم يقسـم لا يبـالـيه                      أنا إذا الموت ينوب غاليه

مختلط أسفله بـعـالـيه                      قد يعلم الفتيان أني صاليه

إذا الحديد رفعت عواليه وقيل: إنه كان يتحدث إلى امرأة من بني سليم، فأغاروا عليه وفيهم زوجها، فأفلت فنام في ظل وهو لا يخشى الطلب، فاتبعوه فوجدوه، فقاتلهم، فلم يزل يرتجز وهو يقاتلهم حتى قتل.

 

صرمتني ثم لا كلمـتـنـي أبـدا                      إن كنت خنتك في حال من الحال

ولا اجترمت الذي فيه خيانتـكـم                      ولا جرت خطرة منه على بالي

فسوغيني المنى كيما أعيش بهـا                      وأمسكي البذل ما أطلعت آمالي

أو عجلي تلفي إن كنت قاتلـتـي                      أو نوليني بإحسـان وإجـمـال الشعر لابن قنبر، والغناء ليزيد بن حوراء خفيف رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة، وذكر إسحاق أنه لسليم ولم يذكر طريقته.

 

أخبار ابن قنبر ونسبه

هو الحكم بن محمد بن قنبر المازني مازن بني عمرو بن تميم، بصري شاعر ظريف من شعراء الدولة الهاشمية، وكان يهاجي مسلم بن الوليد الأنصاري مدة، ثم غلبه مسلم.

قال أبو الفرج: نسخت من كتاب جدي يحيى بن محمد بن ثوابة بخطه: حدثني الحسن بن سعيد قال: حدثني منصور بن جهور قال: لما تهاجى مسلم بن الوليد وابن قنبر، أمسك عنه مسلم بعد أن بسط عليه لسانه، فجاء مسلما ابن عم له فقال: أيها الرجل، إنك عند الناس فوق هذا الرجل في عمود الشعر، وقد بعثت عليك لسانك ثم أمسكت عنه، فإما أن قاذعته، وإما أن سالمته، فقال له مسلم: إن لنا شيخا وله مسجد يتهجد فيه، وله دعوات يدعوها، ونحن نسأله أن يجعل بعض دعواته في كفايتنا إياه، فأطرق الرجل ساعة ثم قال:

غلب ابن قنبر واللئيم مغلب                      لما اتقيت هجاءه بدعـاء

مازال يقذف بالهجاء ولذعه                      حتى اتقوه بدعوة الآبـاء قال: فقال له مسلم: والله ما كان ابن قنبر ليبلغ مني هذا، فأمسك عني لسانك وتعرف خبره بعد، قال: فبعث الرجل والله عليه من لسان مسلم ما أسكته.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن عبد الله العبدي القسري قال: رأيت مسلم بن الوليد والحكم بن قنبر في مسجد الرصافة في يوم جمعة، وكل واحد منهما بإزاء صاحبه، وكانا يتهاجيان، فبدأ مسلم فأنشد قصيدته

أنا النار في أحجارها مستكـنة                      فإن كنت ممن يقدح النار فاقدح وتلاه ابن قنبر فأنشده قوله:

قد كدت تهوي وما قوسي بموترة                      فكيف ظنك بي والقوس في الوتر فوثب مسلم وتواخزا وتواثبا حتى حجز الناس بينهما فتفرقا، فقال رجل لمسلم - وكان يتعصب له - ويحك أعجزت عن الرجل حتى واثبته? قال: أنا وإياه لكما قال الشاعر:

هنيئا مريئا أنت بالفحش أبصر وكان ابن قنبر مستعليا عليه مدة، ثم غلبه مسلم بعد ذلك، فمن مناقضتهما قول ابن قنبر:

 

صفحة : 1569

 

 

ومن عجب الأشـياء أن لـمـسـلـم                      إلي نزاعا في الهـجـاء ومـا يدري

والله مـا قـيسـت عـلـي جـدوده                      لدي مفخر في الناس قوسا ولا شعري ولابن قنبر قوله:

كيف أهجوك يا لئيم بشعـري                      أنت عندي فاعلم هجاء هجائي

يا دعي الأنصار بل عبدها النذ                      ل تعرضت لي لدرك الشقاء أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أبو توبة، عن محمد بن جبير عن الحسين بن محرز المغني المديني قال: دخلت يوما على المأمون في يوم نوبتي وهو ينشد:

فما أقصر اسم الحب يا ويح ذي الحب                      وأعظم بلواه على العاشق الـصـب

يمر به لفظ الـلـسـان مـشـمـرا                      ويغرق من ساقاه في لجج الكـرب فلما بصر بي قال: تعال يا حسين، فجئت، فأنشدني البيتين، ثم أعادهما علي حتى حفظتهما، ثم قال: اصنع فيهما لحنا، فإن أجدت سررتك، فخلوت وصنعت فيهما لحني المشهور، وعدت فغنيته إياه، فقال: أحسنت، وشرب عليه بقية يومه، وأمر لي بألف دينار، والشعر لحكم بن قنبر.

أخبرني محمد بن الأزهر قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن محمد بن سلام قال: أنشدني ابن قنبر لنفسه:

ويلي على من أطار النوم وامتنـعـا                      وزاد قلبي على أوجاعـه وجـعـا

ظبي أغر ترى في وجهه سـرجـا                      تعشي العيون إذا ما نوره سطـعـا

كأنما الشمس في أثوابـه بـزغـت                      حسنا أو البدر في أردانه طـلـعـا

فقد نسيت الكرى من طول ما عطلت                      منه الجفون وطارت مهجتي قطعـا قال ابن سلام: ثم قال ابن قنبر: لقيتني جوار من جواري سليمان بن علي في الطريق الذي بين المربد وقصر أوس، فقلن لي: أنت الذي تقول:

ويلي على من أطار النوم وامتنعا فقلت: نعم. فقلن: أمع هذا الوجه السمج تقول هذا? ثم جعلن يجذبنني ويلهون بي حتى أخرجنني من ثيابي، فرجعت عاريا إلى منزلي. قال: وكان حسن اللباس.

أخبرني محمد بن الحسين الكندي مؤدبي قال: حدثني علي بن محمد النوفلي قال: حدثني عمي قال: دخل الحكم بن قنبر على عمي - وكان صديقا له - فبش به ورفع مجلسه، وأظهر له الأنس والسرور، ثم قال: أنشدني أبياتك التي أقسمت فيها بما في قلبك. فأنشده:

وحق الذي في القلب مـنـك فـإنـه                      عظيم لقد حصنت سرك في صـدري

ولكنمـا أفـشـاه دمـعـي وربـمـا                      أتى المرء ما يخشاه من حيث لا يدري

فهب لي ذنوب الدمـع إنـي أظـنـه                      بما منه يبدو إنما يبـتـغـي ضـري

ولو يبتغي نفعي لخلـى ضـمـائري                      يرد على أسرار مكنونـهـا سـتـر. فقال لي: يا بني اكتبها واحفظها، ففعلت وحفظتها يومئذ وأنا غلام.

أخبرني اليزيدي قال: أخبرني عمي عن ابن سلام، وأخبرني به أحمد بن ابن عباس العسكري عن القنبري عن محمد بن سلام قال: أنشدني ابن قنبر لنفسه قوله:

صرمتن ثم لا كلمـتـنـي أبـدا                      إن كنت خنتك في حال من الحال

ولا اجترمت الذي فيه خيانتـكـم                      ولا جرت خطرة منه على بالي قال: فقلت له وأنا أضحك: يا هذا لقد بالغت في اليمين. فقال: هي عندي كذاك، وإن لم تكن عندك كما هي عندي. قال اليزيدي: قال عمي وهو الذي يقول وفيه غناء:

ليس فيها ما يقال لـه                      كملت لو أن ذا كملا

كل جزء من محاسنها                      كائن في فضله مثلا

لو تمنت في ملاحتها                      لم تجد من نفسها بدلا فيه لحن لابن القصار رمل.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني ابن مهرويه قال: قال لي إبراهيم بن المدبر: أتعرف الذي يقول:

إن كنت لا ترهب ذمي لـمـا                      تعرف من صفحي عن الجاهل

فاخش سكوتي فطنا منصـتـا                      فيك لتحسين خـنـا الـقـائل

مقالة السـوء إلـى أهـلـهـا                      أسهل من مـنـحـدر سـائل

ومن دعا الـنـاس إلـى ذمـه                      ذموه بالحـق وبـالـبـاطـل فقلت: هذه للعتابي، فقال: ما أنشدتها إلا لابن قنبر، فقلت له: من شاء منهما فليقلها، فإنه سرقه من قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة:

 

صفحة : 1570

 

 

وإن أنا لم آمر ولم أنه عنكما                      سكت له حتى يلج ويستشري أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبو مسلم يعني محمد بن الجهم قال: أطعم رجل من ولد عبد الله بن كريز صديقا له ضيعة، فمكثت في يده مدة، ثم مات الكريزي، فطالب ابنه الرجل بالضيعة، فمنعه إياها، فاختصما إلى عبيد الله بن الحسن، فقيل له: ألا تستحي تطالب بشيء إن كنت فيه كاذبا أثمت، وإن كنت صادقا فإنما تريد أنت تنقض مكرمة لأبيك، فقال له ابن الكريزي - وكان ساقطا - الشحيح أعظم من الظالم أعزك الله، فقال له عبيد الله بن الحسن: هذا الجواب والله أعز من الخصومة ويحك، وهذا موضع هذا القول، اللهم اردد على قريش أخطارها، ثم أقبل علينا فقال: لله در الحكم بن قنبر حيث يقول:

إذا القرشي لم يشبه قريشـا                      بفعلهم الذي بذ الـفـعـالا

فجرمي له خلق جـمـيل                      لدى الأقوام أحسن منه حالا أخبرني محمد بن الحسين الكندي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا مسعود بن بشر قال: شكا العباس بن محمد إلى الرشيد أن ربيعة الرقي هجاه فقال له: قد سمعت ما كان مدحك به، وعرفت ثوابك إياه، وما قال في ذمك بعد ذلك، فما وجدته ظلمك به، ولله در ابن قنبر حيث قال:

ومن دعا الناس إلى ذمه                      ذموه بالحق وبالباطـل وبعد، فقد اشتريت عرضك منه، وأمرته بأن لا يعود لذمك تعريضا ولا تصريحا.

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا محمد بن سلام قال: مرض ابن قنبر فأتوه بخصيب الطبيب يعالجه، فقال له:

ولقد قلت لأهـلـي                      إذ أتوني بخصـيب

ليس والله خصـيب                      للذي بي بطـبـيب

إنمـا يعـرف دائي                      من به مثل الذي بي قال: وكان خصيب عالما بمرضه، فنظر إلى مائه فقال: زعم جالينوس أن صاحب هذه العلة إذا صار ماؤه هكذا لم يعش، فقيل له: إن جالينوس ربما أخطأ، فقال: ما كنت إلى خطئه أحوج مني إليه في هذا الوقت. قال: ومات من علته.

 

خليلي من سعد ألما فسلـمـا                      على مريم لا يبعد الله مريما

وقولا لها هذا الفراق عزمته                      فهل من نوال قبل ذاك فنعلما الشعر للأسود بن عمارة النوفلي، والغناء لدهمان ثاني ثقيل بالوسطى.

 

أخبار الأسود ونسبه

هو فيما أخبرني به الحرمي بن أبي العلاء والطوسي، عن الزبير بن بكار، عن عمه الأسود بن عمارة بن الوليد بن عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، وكان الأسود شاعرا أيضا.

قال الزبير فيما حدثنا به شيخانا المذكوران عنه: وحدثني عمي قال: كان عمارة بن الوليد النوفلي أبو الأسود بن عمارة شاعرا، وهو الذي يقول:

تلك هند تصد للـبـين صـدا                      أدلالا أم هند تهـجـو جـدا

أم لتنكا بـه قـروح فـؤادي                      أم أرادت قتلي ضرارا وعمدا

قد براني وشفني الوجد حتـى                      صرت مما ألقى عظاما وجلدا

أيها الناصح الأمـين رسـولا                      قل لهند عني إذا جئت هنـدا

علم الله أن قد اوتـيت مـنـي                      غير من بذاك نصـحـا وودا

ما تقربت بالصـفـاء لأدنـو                      منك إلا نأيت وازددت بعـدا الغناء لعبادل خفيف رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق، وفي كتاب حكم: الغناء له خفيف رمل، وفي كتاب يونس: فيه لحن ليونس غير مجنس، وفيه ليحيى المكي أو لابنه أحمد بن يحيى ثقيل أول: قال الزبير: قال عمي ومن لا يعلم: يروى هذا الشعر لعمارة بن الوليد النوفلي، قال: وكان الأسود يتولى بيت المال بالمدينة، وهو القائل:

خليلي من سعد ألما فسلـمـا                      على مريم لا يبعد الله مريما

وقولا لها هذا الفراق عزمته                      فهل من نوال قبل ذاك فنعلما قال: وهو الذي يقول لمحمد بن عبيد الله بن كثير بن الصلت:

ذكرناك شرطيا فأصبحت قاضيا                      وصرت أميرا أبشري قحطان

أرى نزوات بينهـن تـفـاوت                      وللدهر أحداث وذا حـدثـان

 

صفحة : 1571

 

 

أقيمي بني عمرو بن عوف أو اربعي                      لكـل أنـــاس دولة وزمـــان قال: وإنما خاطب بني عمرو بن عوف ها هنا لأن الكثيري كان تزوج إليهم، وإنما قال: أبشري قحطان لأن كثير بن الصلت من كندة حليف لقريش.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن سليمان النوفلي أحد بني نوفل بن عبد مناف قال: كان أبي يتعشق جارية مولدة مغنية لامرأة من أهل المدينة، ويقال للجارية مريم، فغاب غيبة إلى الشأم، ثم قدم فنزل في طرف المدينة، وحمل متاعه على حمالين، وأقبل يريد منزله، وليس شيء أحب إليه من لقاء مريم، فبينا هو يمشي إذ هو بمولاة مريم قائمة على قارعتها، وعيناها تدمعان، فساءلها وساءلته، فقال للعجوز: ما هذه المصيبة التي أصبت بها? قالت: لم أصب بشيء إلا مبيعي مريم، قال: وممن بعتها? قالت: من رجل من أهل العراق، وهو على الخروج، وإنما ذهبت بها حتى ودعت أهلها، فهي تبكي من أجل ذلك، وأنا أبكي من أجل فراقها، قال: الساعة تخرج? قالت: نعم الساعة تخرج، فبقي متبلدا حائرا، ثم أرسل عينيه يبكي، وودع مريم وانصرف، وقال قصيدته التي أولها:

خليلي من سعد ألما فسلـمـا                      على مريم لا يبعد الله مريما

وقولا لها هذا الفراق عزمته                      فهل من نوال قبل ذاك فنعلما قال: وهي طويلة، وقد غنى بعض أهل الحجاز في هذين البيتين غناء زيانبيا. هكذا قال ابن عمار في خبره.

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أبو العباس أحمد بن مالك اليمامي، عن عبد الله بن محمد البواب قال: سألت الخيزران موسى الهادي أن يولي خاله الغطريف اليمن، فوعدها بذلك ودافعها به، ثم كتبت إليه يوما رقعة تتنجزه فيها أمره، فوجه إليها برسولها يقول: خيريه بين اليمن وطلاق ابنته، أو مقامي عليها ولا أوليه اليمن، فأيهما فاختار فعلته، فدخل الرسول إليها - ولم يكن فهم عنه ما قال - فأخبرها بغيره، ثم خرج إليه فقال: تقول لك: ولاية اليمن، فغضب وطلق ابنته وولاه اليمن، ودخل الرسول فأعلمه بذلك، فارتفع الصياح من داره، فقال: ما هذا? فقالوا: من دار بنت خالك، قال: أو لم تختر ذلك قالوا: لا، ولكن الرسول لم يفهم ما قلت فأدى غيره، وعجلت بطلاقها، ثم ندم ودعا صالحا صاحب المصلى وقال له: أقم على رأس كل رجل بحضرتي من الندماء رجلا بسيف، فمن لم يطلق امرأته منهم فلتضرب عنقه، ففعل ذلك، ولم يبرح من حضرته أحد إلا وقد طلق امرأته، قال ابن البواب: وخرج الخدم إلي فأخبروني بذلك وعلى الباب رجل واقف متلفع بطيلسانه يراوح بين رجليه، فخطر ببالي:

خليلي من سعد ألما فسلـمـا                      على مريم لا يبعد الله مريما

وقولا لها هذا الفراق عزمته                      فهل من نوال قبل ذاك فنعلما فأنشدته فيعلما بالياء، فقال لي: فنعلما بالنون، فقلت له: فما الفرق بينهما? فقال: إن المعاني تحسن الشعر وتفسده، وإنما قال: فنعلما ليعلم هو القصة، وليس به حاجة إلى أن يعلم الناس سره ، فقلت: أنا أعلم بالشعر منك، قال: فلمن هو? قلت: للأسود بن عمارة، قال: أو تعرفه? قلت: لا، قال: فأنا هو، فاعتذرت إليه من مراجعتي إياه، ثم عرفته خبر الخليفة فيما فعله، فقال: أحسن الله عزاءك، وانصرف وهو يقول: هذا أحق منزل بترك.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: كان محمد بن عبيد الله بن كثير بن الصلت على شرطة المدينة، ثم ولى القضاء، ثم ولاه أبو جعفر المدينة وعزل عبد الصمد بن علي، فقال الأسود بن عمارة:

ذكرتك شرطيا فأصبحـت قـاضـيا                      فصرت أميرا أبشري قـحـطـان

أرى نـزوات بـينـهـن تـفـاوت                      وللـدهـر أحـداث وذا حـدثـان

أرى حدثا ميطان مـنـقـطـع لـه                      ومنقـطـع مـن بـعـده ورقـان

أقيمي بني عمرو بن عوف أو اربعي                      لكـل أنـــاس دولة وزمـــان

هل لدهر قد مضـى مـن مـعـاد                      أو لـهـم داخـل مـن نـفـــاد

أذكـرتـنـي عـيشة قـد تـولـت                      هاتفات نحـن فـي بـطـن وادي

هجن لي شوقـا وألـهـبـن نـارا                      للهوى في مـسـتـقـر الـفـؤاد

 

صفحة : 1572

 

 

بأن أحبابي وغودرت فـردا                      نصب ما سر عيون الأعادي الشعر لعلي بن الخليل، والغناء لمحمد الرف، ولحنه خفيف رمل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة.

 

أخبار علي بن الخليل

هو رجل من أهل الكوفة مولى لمعن بن زائدة الشيباني، ويكنى أبا الحسن، وكان يعاشر صالح بن عبد القدوس لا يكاد يفارقه، فاتهم بالزندقة، وأخذ مع صالح ثم أطلق لما انكشف أمره.

قال محمد بن داود بن الجراح: حدثني محمد بن الأزهر عن زياد بن الخطاب عن الرشيد، أنه جلس بالرافقة للمظالم، فدخل عليه علي بن الخليل وهو متوكىء على عصا، وعليه ثياب نظاف، وهو جميل الوجه حسن الثياب، في يده قصة، فلما رآه أمر بأخذ قصته، فقال له يا أمير المؤمنين: أنا أحسن عبارة لها، فإن رأيت أن تأذن لي في قراءتها فعلت. قال: اقرأها، فاندفع ينشده فيها قصيدته:

يا خير من وخدت بأرحله                      نجب الركاب بمهمه جلس فاستحسنها الرشيد وقال له: من أنت? قال: أنا علي بن الخليل الذي يقال فيه إنه زنديق، فضحك وقال له: أنت آمن، وأمر له بخمسة آلاف درهم، وخص به بعد ذلك وأكثر مدحه.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: كان الرشيد قد أخذ صالح بن عبد القدوس وعلي بن الخليل في الزندقة وكان علي بن الخليل استأذن أبا نواس في الشعر فأنشده علي بن الخليل:

يا خير من وخدت بأرحـلـه                      نجب تخب بمهمه جـلـس

تطوي السباسب في أزمتهـا                      طي التجار عمائم الـبـرس

لما رأتك الشمس إذ طلعـت                      كسفت بوجهك طلعة الشمس

خير البرية أنـت كـلـهـم                      في يومك الغادي وفي أمس

وكذاك لن تنفـك خـيرهـم                      تمسي وتصبح فوق ما تمسي

لله ما هـرون مـن مـلـك                      بر السريرة طاهر النفـس

ملك علـيه لـربـه نـعـم                      تزداد جدتها على اللـبـس

تحكي خلافته ببهـجـتـهـا                      أنق السرور صبيحة العرس

من عترة طابت أرومتـهـم                      أهل العفاف ومنتهى القدس

نطق إذا احتضرت مجالسهم                      وعن السفاهة والخنا خرس

إني إليك لجأت مـن هـرب                      قد كان شردني ومن لبـس

واخترت حكمك لا أجـاوزه                      حتى أوسد في ثرى رمسي

لما استخرت الله في مـهـل                      يممت نحوك رحلة العنـس

كم قد قطعت إليك مـدرعـا                      ليلا بهيم اللون كالـنـقـس

إن هاجني من هاجس جـزع                      كان التوكل عنده تـرسـي

ما ذاك إلا أنـنـي رجــل                      أصبو إلى بقر مـن الإنـس

بقر أوانس لا قـرون لـهـا                      نجل العيون نواعم لـعـس

ردع العبير على تـرائبـهـا                      يقبلن بالترحيب والخـلـس

وأشاهد الفـتـيان بـينـهـم                      صفراء عند المزج كالورس

للماء في حافاتهـا حـبـب                      نظم كرقم صحائف الفـرس

والله يعلـم فـي بـقـيتـه                      ما إن أضعت إقامة الخمس فأطلقه للرشيد، وقتل صالح بن عبد القدوس، واحتج عليه في أنه لا يقبل له توبة بقوله:

والشيخ لا يتـرك أخـلاقـه                      حتى يوارى في ثرى رمسه وقال: إنما زعمت ألا تترك الزندقة ولا تحول عنها أبدا.

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أحمد بن زهير بن حرب، قال: كان عافية بن يزيد يصحب ابن علاثة، فأدخله على المهدي، فاستقضاه معه بعسكر المهدي وكانت قصة يعقوب مع أبي عبيد الله كذلك، أدخله إلى المهدي ليعرض عليه، فغلب عليه، علي بن الخليل في ذلك:

عجبا لتصـريف الأمـو                      ر مسـرة وكـراهـيه

رثت ليعـقـوب بـن دا                      ود حـبـال مـعـاويه

وعدت على ابن علاثة ال                      قاضي بوائق عـافـيه

أدخلته فـعـلا عـلـي                      ك كذاك شؤم الناصـية

وأخذت حتفك جـاهـدا                      بيمينك الـمـتـراخـيه

يعقوب ينظر في الأمـو                      ر وأنت تنظر نـاحـيه

 

صفحة : 1573

 

أخبرني عمي الحسن بن محمد قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عمرو بن فراس الذهلي عن أبيه قال: قال لي محمد بن الجهم البرمكي: قال لي المأمون يوما: يا محمد: أنشدني بيتا من المديح جيدا فاخرا عربيا لمحدث حتى أوليك كورة تختارها. قال قلت: قول علي بن الخليل:

فمع السماء فروع نبعـتـهـم                      ومع الحضيض منابت الغرس

متهللين عـلـى أسـرتـهـم                      ولدى الهياج مصاعب شمس فقال: أحسنت، وقد وليتك الدينور، فأنشدني بيت هجاء على هذه الصفة حتى أوليك كورة أخرى، فقلت: قول الذي يقول:

قبحت مناظرهم فحين خبرتهم                      حسنت مناظرهم لقبح المخبر فقال: قد أحسنت، قد وليتك همذان، فأنشدني مرثية على هذا حتى أزيدك كورة أخرى، فقلت: قول الذي يقول:

أرادوا ليخفوا قبره عـن عـدوه                      فطيب تراب القبر دل على القبر فقال: وقد أحسنت، قد وليتك نهاوند، فأنشدني بيتا من الغزل على هذا الشرط حتى أوليك كورة أخرى، فقلت: قول الذي يقول:

تعالي نجدد دارس العلم بيننـا                      كلانا على طول الجفاء ملوم فقال: قد أحسنت، قد جعلت الخيار إليك فاختر، فاخترت السوس من كور الأهواز، فولاني ذلك أجمع ووجهت إلى السوس بعض أهلي.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد، عن التوزي، قال: نزل أبو دلامة بدهقان يكنى أبا بشر، فسقاه شرابا أعجبه، فقال في ذلك:

سقاني أبو بشر من الراح شربة                      لها لذة ما ذقـتـا لـشـراب

وما طبخوها غير أن غلامهـم                      سعى في نواحي كرمها بشهاب قال: فأنشد علي بن الخليل هذين البيتين فقال: أحرقه العبد أحرقه الله.

أخبرني الحسن بن علي، وعمي الحسن بن محمد، قالا: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني محمد بن عمران الضبي عن علي بن يزيد قال: ولد ليزيد بن مزيد ابن، فأتاه علي بن الخليل فقال: اسمع أيها الأمير تهنئة بالفارس الوارد، فتبسم وقال: هات، فأنشده:

يزيد يا بن الصـيد مـن وائل                      أهل الرياسات وأهل المعال

يا خير من أنـجـبـه والـد                      ليهنك الفارس ليث الـنـزال

جاءت به غـراء مـيمـونة                      والسعد يبدو في طلوع الهلال

عليه من مـعـن ومـن وائل                      سيما تباشير وسيمـا جـلال

واللـه يبـقـيه لـنـا سـيدا                      مدافعا عنا صروف الـلـيال

حتى نراه قد علا مـنـبـرا                      وفاض في سؤاله بالـنـوال

وسد ثغرا فـكـفـى شـره                      وقارع الأبطال تحت العوال

كمـا كـفـانـا ذاك آبـاؤه                      فيحتذي أفعالهم عن مـثـال فأمر له عن كل بيت بألف دينار.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني ابن الأعرابي المنجم الشيباني، عن علي بن عمرو الأنصاري، قال: دخل علي بن الخليل على المهدي فقال له: يا علي، أنت على معاقرتك الخمر وشربك لها? قال: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: وكيف ذاك? قال: تبت منها، قال: فأين قولك?

أولعت نفسي بلـذتـهـا                      ما ترى عن ذاك إقصارا وأين قولك:

إذا ما كنت شاربها فـسـرا                      ودع قول العواذل واللواحي قال: هذا شيء قلته في شبابي، وأنا القائل بعد ذلك:

على اللذات والراح الـسـلام                      تقضى العهد وانقطع الذمـام

مضى عهد الصبا وخرجت منه                      كما من غمده خرج الحسـام

وقرت على المشيب فليس مني                      وصال الغانيات ولا الـمـدام

وولى اللهو والقينـات عـنـي                      كما ولى عن الصبح الظـلام

حلبت الدهر أشطره فعـنـدي                      لصرف الدهر محمـود وذام

 

صفحة : 1574

 

أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني محمد بن الحسن بن الحرون، عن علي بن عبيدة الشيباني، قال: دخل علي بن الخليل ذات يوم إلى معن بن زائدة فحادثه وناشده، ثم قال له معن: هل لك في الطعام? قال: إذا نشط الأمير، فأتيا بالطعام، فأكلا، ثم قال: هل لك في الشراب? قال: إن سقيتني ما أريد شربت، وإن سقيتني من شرابك فلا حاجة لي فيه، فضحك ثم قال: قد عرفت الذي تريد، وأنا أسقيك منه، فأتي بشراب عتيق، فلما شرب منه وطابت نفسه أنشأ يقول:

يا صاح قد أنعمت إصباحي                      ببارد السلسـال والـراح

قد دارت الكأس برقـراقة                      حياة أبــــدان وأرواح

تجري على أغيد ذي رونق                      مهذب الأخلاق جحجـاح

ليس بفحاش على صاحـب                      ولا على الراح بفضـاح

تسره الكأس إذا أقـبـلـت                      بريح أتـرج وتـفــاح

يسعى بها أزهر في قرطق                      مقلد الـجـيد بـأوضـاح

كأنها الزهرة فـي كـفـه                      أو شعلة في ضوء مصباح حدثنا علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان لعلي بن الخليل الكوفي صديق من الدهاقين يعاشره ويبره، فغاب عنه مدة طويلة وعاد إلى الكوفة وقد أصاب مالا ورفعة، وقويت حاله، فادعى أنه من بني تميم، فجاءه علي بن الخليل فلم يأذن له، ولقيه فلم يسلم عليه، فقال يهجوه:

يروح بنسبة المولـى                      ويصبح يدعي العربا

فلا هـذا ولا هــذا                      ك يدركه إذا طلـبـا

أتـينـاه بـشـبـوط                      ترى في ظهره حدبا

فقال أما لبخلـك مـن                      طعام يذهب السغبـا

فصد لأخيك يربوعـا                      وضبا واترك اللعبـا

فرشت له قريح المس                      ك والنسرين والغربا

فأمسك أنفه عـنـهـا                      وقام مولـيا هـربـا

يشم الشيح والقيصـو                      م كي يستوجب النسبا

وقام إلـيه سـاقـينـا                      بكأس تنظم الحبـبـا

معـتـقة مــروقة                      تسلي هم من شربـا

فآلى لا يسلسـلـهـا                      وقال اصبب لنا حلبـا

وقد أبصرتـه دهـرا                      طويلا يشتهي الأدبـا

فصار تشبها بالـقـو                      م جلفا جافيا جشـبـا

إذا ذكر البرير بكـى                      وأبدى الشوق والطربا

وليس ضميره في القو                      م إلا التين والعنـبـا

جحدت أباك نسبـتـه                      وأرجو أن تفـيد أبـا قال علي بن سليمان: وأنشدني محمد بن يزيد وأحمد بن يحيى جميعا لعلي بن الخليل في هذا الذكر، وذكر ثعلب أن إسحاق بن إبراهيم أنشد هذه الأبيات لعلي، قال:

يأيها الراغـب عـن أصـلـه                      ما كنت في موضع تهـجـين

متى تعربت وكـنـت امـرأ                      من الموالى صـالـح الـدين

لو كنت إذ صرت إلى دعـوة                      فزت من القوم بـتـمـكـين

لكف من وجدي ولـكـنـنـي                      أراك بين الضـب والـنـون

فلو تـراه صـارفـا أنـفـه                      من ريح خـيري ونـسـرين

لقلت جلف مـن بـنـي دارم                      حن إلى الـشـيح بـيبـرين

دعموص رمل زل عن صخرة                      يعاف أرواح الـبـسـاتـين

تنبو عن الناعـم أعـطـافـه                      والخز والسنجـاب والـلـين أخبرني جحظة ومحمد بن مزيد جميعا، قالا: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه قال: كان علي بن الخليل جالسا مع بعض ولد المنصور، وكان الفتى يهوى جارية لعتبة مولاة المهدي، فمرت به عتبة في موكبها والجارية معها، فوقفت عليه وسلمت، وسألت عن خبره، فلم يوفها حق الجواب، لشغل قلبه بالجارية، فلما انصرفت أقبل عليه علي بن الخليل، فقال له:

راقب بطرفك من تـخـا                      ف إذا نظرت إلى الخليل

فإذا أمنت لـحـاظـهـم                      فعليك بالنظر الجـمـيل

إن العيون تـدل بـالـن                      ظر المليح على الدخـيل

إما علـى حـب شـدي                      د أو على بغض أصـيل

 

صفحة : 1575

 

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال: كان علي بن الخليل يصحب بعض ولد جعفر بن المنصور، فكتب إليه والبة بن الحباب يدعوه، ويسأله ألا يشتغل بالهاشمي يومه ذلك عنه، ويصف له طيب مجلسه وغناء حصله وغلاما دعاه، فكتب إليه علي بن الخليل:

أما ولـحـاظ جـارية                      تذيب حشاشة المـهـج

وسحر جفونها المضني                      ك بين الفتر والـدعـج

مليحة كـل شـيء مـا                      خلا من خلقها السمـج

وحرمة دنك المـبـزو                      ل والصهباء منه تجـي

كأن مجيئها في الـكـأ                      س حين تصب من ودج

لو انعرج الأنـام إلـى                      بشاشة مجلس بـهـج

وكنت بجـانـب جـدب                      لكان إليك منعـرجـي وصار إليه في إثر الرقعة.

 

أخبار محمد الزف

هو محمد بن عمرو مولى بني تميم، كوفي الأصل والمولد والمنشأ، والزف: لقب غلب عليه، وكان مغنيا ضاربا طيب المسموع، صالح الصنعة، مليح النادرة، أسرع خلق الله أخذا للغناء، وأصحهم أداء له، وأذكاهم، إذا سمع الصوت مرتين أو ثلاثا أداه لا يكون بينه وبين من أخذه عنه فرق، وكان يتعصب على ابن جامع، ويميل إلى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فكانا يرفعان منه، ويقدمانه ويجتلبان له الرفد والصلات من الخلفاء، وكانت فيه عربدة إذا سكر، فعربد بحضرة الرشيد مرة فأمر بإخراجه، ومنعه من الوصول إليه، وجفاه وتناساه، وأحسبه مات في خلافته أو في خلافة الأمين.

أخبرني بذلك ذكاء وجه الرزة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل.

أخبرني ابن جعفر جحظة قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غنى ابن جامع يوما بحضرة الرشيد:

جسور على هجري جبان على وصلي                      كذوب غدا يستتبع الوعد بالمـطـل

مقدم رجل في الـوصـال مـؤخـر                      لأخرى يشوب الجد في ذاك بالهـزل

يهم بنا حـتـى إذا قـلـت قـد دنـا                      وجاد ثني عطفا ومال إلى البـخـل

يزيد امتناعا كلـمـا زدت صـبـوة                      وأزداد حرصا كلما ضن بـالـبـذل فأحسن فيه ما شاء وأجمل، فغمزت عليه محمدا الزف، وفطن لما أردت، واستحسنه الرشيد، وشرب عليه، واستعاده مرتين أو ثلاثا، ثم قمت للصلاة وغمزت الزف وجاءني، وأومأت إلى مخارق وعلويه وعقيد فجاءوني، فأمرته بإعادة الصوت، فأعاده وأداه كأنه لم يزل يرويه، فلم يزل يكرره على الجماعة حتى غنوه ودار لهم، ثم عدت إلى المجلس، فلما انتهى الدور إلي بدأت فغنيته قبل كل شيء غنيته، فنظر إلي ابن جامع محددا نظره، وأقبل علي الرشيد فقال: أكنت تروي هذا الصوت? فقلت: نعم يا سيدي. فقال ابن جامع: كذب والله، ما أخذه إلا مني الساعة. فقلت: هذا صوت أرويه قديما، وما فيمن حضر أحد إلا وقد أخذه مني، وأقبلت عليه، فغناه علويه ثم عقيد ثم مخارق، فوثب ابن جامع فجلس بين يديه وحلف بحياته وبطلاق امرأته أن اللحن صنعه منذ ثلاث ليال، ما سمع منه قبل ذلك الوقت، فأقبل علي فقال: بحياتي اصدقني عن القصدة، فصدقته، فجعل يضحك ويصفق ويقول: لكل شيء آفة، وآفة ابن جامع الزف.

لحن هذا الصوت خفيف ثقيل أول بالبنصر، والصنعة لابن جامع من رواية الهشامي وغيره.

قال أبو الفرج: وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد، عن حماد عن أبيه بخلاف هذه الرواية، فقال فيه قال: محمد الزف أروى خلق الله للغناء، وأسرعهم أخذا لما سمعه منه، ليست عليه في ذلك كلفة، وإنما يسمع الصوت مرة واحدة وقد أخذه، وكنا معه في بلاء إذا حضر، فكان من غنى منا صوتا فسأله عدو له أو صديق أن يلقيه عليه، فبخل ومنعه إياه، سأل محمدا الزف أن يأخذه، فما هو إلا أن يسمعه مرة واحدة حتى قد أخذه وألقاه على من سأله، فكان أبي يبره ويصله ويجديه من كل جائزة وفائدة تصل إليه، فكان غناؤه عنده حمى مصونا لا يقربه، ولم يكن طيب المسموع، ولكنه كان أطيب الناس نادرة، وأملحهم مجلسا، وكان مغرى بابن جامع خاصة من بين المغنين لبخله، فكان لا يفتح ابن جامع فاه بصوت إلا وضع عينه عليه، وأصغى سمعه إليه، حتى يحكيه، وكان في ابن جامع بخل شديد لا يقدر معه على أن يسعفه ببر ورفد.

فغنى يوما بحضرة الرشيد:

أرسلت تقرىء السلام الرباب                      في كتاب وقد أتانا الكتـاب

 

صفحة : 1576

 

 

فيه لو زرتنا لزرنـاك لـيلا                      بمنى حيث تستقل الركـاب

فأجبت الرباب قد زرت لكن                      لي منكم دون الحجاب حجاب

إنما دهرك العتـاب وذمـي                      ليس يبقي على المحب عتاب ولحنه من الثقيل الأول، فأحسن فيه ما شاء، ونظرت إلى الزف فغمزته وقمت إلى الخلاء، فإذا هو قد جاءني، فقلت له: أي شيء عملت? فقال: قد فرغت لك منه، قلت: هاته، فرده علي ثلاث مرات، وأخذته وعدت إلى مجلسي، وغمزت عليه عقيدا ومخارقا، فقاما، وتبعهما فألقاه عليهما، وابن جامع لا يعرف الخبر، فلما عاد إلى المجلس أومأت إليهما أسألهما عنه، فعرفاني أنهما قد أخذاه، فلما بلغ الدور إلي كان الصوت أول شيء غنيته، فحدد الرشيد نظره إلي، ومات ابن جامع وسقط في يده، فقال لي الرشيد: من أين لك هذا? قلت: أنا أرويه قديما، وقد أخذه عني مخارق وعقيد، فقال: غنياه. فغنياه، فوثب ابن جامع فجلس بين يديه ثم حلف بالطلاق ثلاثا بأنه صنعه في ليلته الماضية، ما سبق إليه ابن جامع أحد، فنظر الرشيد إلي، فغمزته بعيني أنه صدق، وجد الرشيد في العبث به بقية يومه، ثم سألني بعد ذلك عن الخبر، فصدقته عنه وعن الزف، فجعل يضحك ويقول: لكل شيء آفة، وآفة ابن جامع الزف، قال حماد: وللزف صنعة يسيرة جيدة منها في الرمل الثاني:

لمن الظعائن سيرهن تزحـف                      عوم السفين إذا تقاذف مجذف

مرت بذي حسم كأن حمولهـا                      نخل بيثرب طلعها متزحـف

فلئن أصابتني الحروب لربمـا                      أدعى إذا منع الرداف فأردف

فأثير غارات وأشهد مشـهـدا                      قلب الجبان به يطيش فيرجف قال: ومن مشهور صنعته في هذه الطريقة:

إذا شئت غنتني بأجـراع بـيشة                      أو النخل من تثليث أو من يلملما

مطوقة طوقا وليس بـحـلـية                      ولا ضرب صواغ بكفيه درهما

تبكي على فرخ لها ثم تغـتـدي                      مدلهة تبغي له الدهر مطعمـا

تؤمل منه مؤنسا لانـفـرادهـا                      وتبكي عليه إن زقا أو ترنمـا ومن صنعته في هذه الطريقة:

يا زائرينا من الـخـيام                      حياكما الله بالـسـلام

يحزنني أن أطعتمانـي                      ولم تنالا سوى الكـلام

بورك هارون من إمـام                      بطاعة الله ذي اعتصام

له إلى ذي الجلال قربى                      ليس لعـدل ولا إمـام وله في هذه الطريقة:

بان الحبيب فلاح الشيب في راسي                      وبت منفردا وحـدي بـوسـواس

ماذا لقيت فدتك النفس بـعـدكـم                      من التبرم بالـدنـيا وبـالـنـاس

لو كان شيء يسلي النفس عن شجن                      سلت فؤادي عنكم لـذة الـكـاس

بأبــي ريم رمـــى قـــل                      بي بـألـحـــاظ مـــراض

وحـمـى عـينــي أن تـــل                      تذ طـيب الإغـتــمـــاض

كلـمـا رمـت انـبـسـاطــا                      كف بـسـطـي بـانـقـبـاض

أو تـعـالـى أمـلـي فـــي                      ه رمـاه انــخـــفـــاض

فمـتـى ينـتـصـف الـمــظ                      لوم والـظـالـم قــاضـــي الشعر لأبي الشبل البرجمي، والغناء لعثعث الأسود، خفيف ثقيل أول بالوسطى، وفيه لكثير رمل، ولبنان خفيف رمل.

 

أخبار أبي الشبل ونسبه

نسبه

أبو الشبل اسمه عاصم بن وهب من البراجم، مولده الكوفة، ونشأ وتأدب بالبصرة.

مجونه واتصاله بالمتوكل

أخبرني بذلك الحسن بن علي، عن ابن مهرويه، عن علي بن الحسن الأعرابي.

وقدم إلى سر من رأي في أيام المتوكل ومدحه، وكان طبا نادرا، كثير الغزل ماجنا، فنفق عند المتوكل بإيثاره العبث، وخدمه، وخص به، فأثرى وأفاد، فذكر لي عمي عن محمد بن المرزبان بن الفيرزان عن أبيه أنه لما مدحه بقوله:

أقبلي فالخير مقـبـل                      واتركي قول المعلل

وثقي بالنجـح إذ أب                      بصرت وجه المتوكل

ملك ينصـف يا ظـا                      لمتي فـيك ويعـدل

فهو الغـاية والـمـأ                      مول يرجوه المؤمل

 

صفحة : 1577

 

أمر له بألف درهم لكل بيت، وكانت ثلاثين بيتا، فانصرف بثلاثين ألف درهم.

الغناء في هذه الأبيات لأحمد المكي رمل بالبنصر.

أخبرني يحيى بن علي، عن أبي أيوب المديني، عن أحمد بن المكي قال: غنيت المتوكل صوتا شعره لأبي الشبل البرجمي وهو:

أقبلي فالخير مقبل                      ودعي قول المعلل فأمر لي بعشرين ألف درهم، فقلت: يا سيدي أسأل الله أن يبلغك الهنيدة، فسأل عنها الفتح فقال: يعني مائة سنة، فأمر لي بعشرة آلاف أخرى.

وحدثنيه الحسن بن علي عن هارون بن محمد الزيات، عن أحمد بن المكي مثله.

دعنه جاريته فقال شعرا حدثني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهروية قال: حدثني أبو الشبل عاصم بن وهب الشاعر، وهو القائل:

اقبلي فالخير مقبل                      ودعي قول المعلل قال: كانت لي جارية اسمها سكر، فدخلت يوما منزلي ولبست ثيابي لأمضي إلى دعوة دعيت إليها، فقالت: أقم اليوم في دعوتي أنا، فأقمت وقلت:

أنا في دعـوة سـكـر                      والهوى ليس بمنكـر

كيف صبري عن غزال                      وجهه دلـو مـقـير فلما سمعت الأول ضحكت وسرت، فلما أنشدتها البيت الثاني قامت إلى تضربني وتقول لي: هذا البيت الأخير الذي فيه  دلو  لمالك ، لولا الفضول؛ فما زالت-يعلم الله- تضربني حتى غشي علي.

مدحه مالك بن طوق ثم ذمه

ذكر ابن المعتز أن أبا الأغر الأسدي حدثه قال: مدح أبو الشبل مالك بن طوق بمدح عجيب، وقدر منه ألف درهم، فبعث إليه صرة مختومة فيها مائة دينار، فظنها دراهم، فردها وكتب معها قوله:

فليت الذي جادت به كف مـالـك                      ومالك مدسوسان في أست أم مالك

فكان إلى يوم القيامة في أستـهـا                      فأيسر مفقـود وأيسـر هـالـك وكان مالك يومئذ أميرا على الأهواز، فلما قرأ الرقعة أمر بإحضاره، فأحضر، فقال له: يا هذا ظلمتنا واعتديت علينا، فقال: قد قدرت عندك ألف درهم فوصلتني بمائه درهم، فقال: افتحها، ففتحتها فإذا فيها مائة دينار، فقال: أقلني أيها الأمير. قال: قد أقلتك، ولك عندي كل ما تحب أبدا ما بقيت وقصدتني.

رئاؤه لطبيب

حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: قال لي أبو الشبل البرجمي: كان في جيراني طبيب أحمق، فمات فرثيته فقلت:

قد بكاه بول المريض بـدمـع                      واكف فوق مقلـتـيه ذروف

ثم شقت جيوبهـن الـقـواري                      ر عليه ونحن نوح اللـهـيف

ياكساد الخيار شـنـبـر والأق                      راص طرا ويا كساد السفوف

كنت تمشي مع القوي فإن جـا                      ء ضعيف لم تكترث بالضعيف

لهف نفس على صنوف رقاعا                      ت تولت منه وعقل سخـيف  عبثه بخالد بن الوليد

حدثنا الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا أبو الشبل قال: إن خالد بن يزيد بن هبيرة كان يشرب النبيذ، فكان يغشانا، وكانت له جارية صفراء مغنية يقال لها لهب، فكانت تغشانا معه، فكنت أعبث بهما كثيرا ويشتماني، فقام مولاها يوما إلى الخابية يستقي نبيذا، فإذا قميصه قد أنشق، فقلت فيه:

قالت له لهب يوما وجـادلـهـا                      بالشعر في باب فعلان ومفعول

أما القميص فقد أودى الزمان به                      فليت شعري ما حال السراويل? فبلغ الشعرأبا الجهم أحمد بن يوسف فقال:

حال السراويل حال غير صالحة                      تحكي طرائقه نسج الغرابـيل

وتحته حفرة قـوراء واسـعة                      تسيل فيها ميازيب الأحـالـيل قال أبو الشبل: وكانت أم خالد هذا ضراطة، تضرط على صوت العيدان وغيرها في الإيقاع، فقلت فيه:

في الحي من لا عدمت خلتـه                      فتى إذا ما قطعتـه وصـلا

له عجوز بالحبق أبصر مـن                      أبصرته ضاربا ومرتـجـلا

نادمتها مرة وكـنـت فـتـى                      ما زلت أهوى وأشتهي الغزلا

حتى إذا ما أمالـهـا سـكـر                      يبعث في قلبها لهـا مـثـلا

اتكأت يسرة وقـد حـرقـت                      أشرجها كي تقوم الـرمـلا

فلم تزل بأستها تطـارحـنـي                      اسمع إلى من يسومني العللا  عرض شعره على المازني فذمه

 

 

صفحة : 1578

 

حدثني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبو الشبل قال: لما عرض لي الشعر أتيت جارا لي نحويا وأنا يومئذ حديث السن أظنه قال إنه المازني فقلت له: إن رجلا لم يكن من أهل الشعر ولا من أهل الرواية قد جاش صدره بشيء من الشعر، فكره أن يظهره حتى تسمعه. قال: هاته، وكنت قد قلت شعرا ليس بجيد، إنما هو قول مبتدىء، فأنشدته إياه، فقال: من العاض بظر أمه القائل لهذا? فقمت خجلا، فقلت لأبي الشبل: فأي شيء قلت له أنت? قال: قلت في نفسي: أعضك الله بظر أمك وبهضك  بعض نوادره

أخبرني عمي عن محمد بن المرزبان بن الفيرزان قال: كنت أرىأبا الشبل كثيرا عند أبي، وكان إذا حضر أضحك الثكلى بنوادره، فقال له أبي يوما: حدثنا ببعض نوادرك وطرائفك؛ قال: نعم، من طرائف أموري أن أبني زنى بجارية سندية لبعض جيراني، فحبلت وولدت، وكانت قيمة الجارية عشرين دينارا، فقال: يا أبت، الصبي والله أبني، فساومت به، فقيل لي: خمسون دينارا، فقلت له: ويلك كنت تخبرني الخبر وهي حبلى فأشتريها بعشرين دينارا، ونربح الفضل بين الثمنين، وأمسكت عن المساومة بالصبي حتى اشتريته من القوم بما أرادوا. ثم أحبلها ثانيا فولدت له ابنا آخر، فجاءني يسألني أن أبتاعه، فقلت له: عليك لعنة الله، ما يحملك أن تحبل هذه? فقال: يا أبت لا أستحب العزل ، وأقبل على جماعة عندي يعجبهم مني، ويقول: شيخ كبير يأمرني بالعزل ويستحله فقلت له: يا بن الزانية، تستحل الزنا وتتحرج من العزل فضحكنا منه.

خبره مع خمار يهودي

وقلت له: وأي شيء أيضا? قال: دخلت أنا ومحمود الوراق إلى حانة يهودي خمار، فأخرج إلينا منها شيئا عجيبا، فظنناه خمرا بنت عشر، قد أنضجها الهجير فأخرج إلينا منها شيئا عجيبا وشربنا، فقلت له: أشرب معنا، قال: لا أستحل شرب الخمر، فقال لي محمود: ويحك رأيت أعجب مما نحن فيه. يهودي يتحرج من شرب الخمر، ونشربها ونحن مسلمون فقلت له: أجل، والله لا نفلح أبدا، ولا يعبأ الله بنا، ثم شربنا حتى سكرنا، وقمنا في الليل فنكنا بنته وامرأته وأخته، وسرقنا ثيابه، وخرينا في نقيرات نبيذ له وانصرفنا.

هجاؤه هبة الله بن إبراهيم

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: أخبرنا عون بن محمد الكندي، قال: وقعت لأبي الشبل البرجمي إلى هبة الله بن إبراهيم بن المهدي حاجة فلم يقضها فهجاه، فقال:

صلف تندق منه الـرقـبة                      ومساو لم تطقها الكـتـبة

كلما بادره ركـب بـمـا                      يشتهيه منه نـادى يا أبـه

ليته كان التوى الفرج بـه                      لم يزد في هاشم هذي هبه يعني غلاما لهبة الله كان يسمى بدرا، وكان غالبا على أمره.

حدثني الصولي قال: حدثني القاسم بن إسماعيل قال: قال رأى أبو الشبل إبراهيم بن العباس يكتب، فأنشأ يقول:

ينظم اللؤلؤ المنثور منطـقـه                      وينظم الدر بالأقلام في الكتب حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني أبو الشبل البرجمي قال: حضرت مجلس عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وكان إلي محسنا، وعلي مفضلا، فجرى ذكر البرامكة، فوصفهم الناس بالجود وقالوا في كرمهم وجوائزهم وصلاتهم فأكثروا، فقمت في وسط المجلس، فقلت لعبيد الله: أيها الوزير، إني قد حكمت في هذا الخطب حكما نظمته في بيتي شعر لا يقدر أحد أن يرده علي، وإنما جعلته شعرا ليدور ويبقى، فيأذن الوزير في إنشادهما قال: قل، فرب صواب قد قلته، فقلت:

رأيت عبيد الله أفضـل سـوددا                      وأكرم من فضل ويحيى بن خالد

أولئك جادوا والزمان مسـاعـد                      وقد جاد ذا والدهر غير مساعد فتهلل وجه عبيد الله وظهر السرور فيه، وقال: أفرطت أبا الشبل، ولا كل هذا، فقلت: والله ما حابيتك أيها الوزير و لا قلت إلا حقا، واتبعني القوم في وصفه وتقريظه، فما خرجت من مجلسه إلا وعلي الخلع، وتحتي دابة بسرجه ولجامه، وبين يدي خمسة آلاف درهم.

قصته مع جاريتين

حدثني الحسن قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثني علي بن الحسن الشيباني قال: حدثني أبو الشبل الشاعر قال: كنت أختلف إلى جاريتين من جواري النخاسين كانت تقولان الشعر، فأتيت إحداهما فتحدثت إليها، ثم أنشدتها بيتا لأبي المستهل شاعر منصور بن المهدي في المعتصم:

 

صفحة : 1579

 

 

أقام الإمام منار الهـدى                      وأخرس ناقوس عموريه ثم قلت لها: أجيزي؛ فقالت:

كساني الميلك جلابيبه                      ثياب علاها بسموريه ثم دعت بطعام فأكلنا، وخرجت من عندها، فمضيت إلى الأخرى، فقالت: من أين ياأبا الشبل? فقلت: من عند فلانة، قالت: قد علمت أنك تبدأ بها وصدقت، كانت أجملهما فكنت ابدأ بها ثم قالت: أما الطعام فأعلم أنه لا حيلة لي في أن تأكله، لعلمي بأن تلك لا تدعك تنصرف أو تأكل. فقلت: أجل قالت: فهل لك في الشراب قلت: نعم، فأحضرته و أخذنا في الحديث، ثم قالت: فأخبرني ما دار بينكما? فأخبرتها، فقالت: هذه المسكينة كانت تجد البرد، وبيتها أيضا هذا الذي جاءت به يحتاج إلى سمورية، أفلا قالت:

فأضحى به الدين مستبشرا                      وأضحت زنادهما واريه فقلت: أنت والله أشعر منها في شعرها، وأنت والله في شعرك فوق أهل عصرك. والله أعلم.

شعره في الشيب

أخبرنا الحسن قال: حدثنا ابن مهروية قال: أنشدني أبو الشبل لنفسه:

عذيري من جواري الحي                      إذ يرغبن عن وصلـي

رأين الشـيب قـد ألـب                      سني أبـهة الـكـهـل

فأعرضـن وقـد كـن                      إذا قيل أبو الـشـبـل

تساعين فـرقـعـن ال                      كوى بالأعين النـجـل قال: وهذا سرقه من قول العتبي:

رأين الغواني الشيب لاح بمفرقي                      فأعرضن عني بالحدود النواضر

وكن إذا أبصرنني أو سمعـنـي                      سعين فرقعن الكوى بالمحاجـر  خبره مع حاتم بن الفرج

حدثني الحسن قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني أبو الشبل قال: كان حاتم بن الفرج يعاشرني ويدعوني، وكان أهتم، قال أبو الشبل: وأنا أهتم؛ وهكذا كان أبي وأهل بيتي، لا تكاد تبقى في أفواهم حاكة ، فقال أبو عمر أحمد بن المنجم:

لحاتم في بخـلـه فـطـنة                      أدق حسا من خطا النـمـل

قد جعل الهتمان ضيفـا لـه                      فصار في أمن من الأكـل

ليس على خبر امرىء ضيعة                      أكيله عصم أبو الـشـبـل

ما قدر ما يحمـلـه كـفـه                      إلى فم من سنـه عـطـل

فحاتم الجـود أخـو طـيىء                      مضى وهذا حاتم البـخـل  شعره في جارية سوداء يحبها

أخبرني بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو العيناء قال: كانت لأبي الشبل البرجمي جارية سوداء، وكان يحبها حبا شديدا، فعوتب فيها، فقال:

غدت بـــــــــــــــــــــــــــــــطـــــــــــــــــــــــــــــــول الـــــــــــــــــــــــــــــــمـــــــــــــــــــــــــــــــلام عــــــــــــــــــــــــــــــــــــاذلة                      تلـــــــــــــــومـــــــــــــــنـــــــــــــــي فـــــــــــــــي الـــــــــــــــســــــــــــــــــــــواد والـــــــــــــــــــــــــــــــدعـــــــــــــــــــــــــــــــج

ويحـــــــــــــــك كـــــــــــــــيف الـــــــــــــــســـــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــــــــــــــو عـــــــــــــــــــــــــــــــن غـــــــــــــــــــــــــــــــرر                      مفـــــــــــــــتـــــــــــــــرقـــــــــــــــات الأرجـــــــــــــــاء، كـــــــــــــــالــــــــــــــــــــــســـــــــــــــــــــــــــــــبـــــــــــــــــــــــــــــــح

يحـــــــــــــــمـــــــــــــــلـــــــــــــــن بـــــــــــــــين الأفـــــــــــــــخــــــــــــــــــــــــاذ أســـــــــــــــــــــــــــــــنـــــــــــــــــــــــــــــــمة                      تحـــــــــــــــرق أوبـــــــــــــــــــــارهـــــــــــــــــــــــــــــــا مـــــــــــــــــــــــــــــــن الـــــــــــــــــــــــــــــــوهـــــــــــــــــــــــــــــــج

لا عـــــــــــــــذب الـــــــــــــــلـــــــــــــــه مـــــــــــــــســـــــــــــــلـــــــــــــــمـــــــــــــــا بــــــــــــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــــــــم                      غيري ولا حـــــــــــــــان مـــــــــــــــــــنـــــــــــــــــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــــــــم فـــــــــــــــــــــــــــــــرجـــــــــــــــــــــــــــــــي

فإنـــــــــــــــنـــــــــــــــي بـــــــــــــــالـــــــــــــــســـــــــــــــواد مـــــــــــــــبـــــــــــــــتـــــــــــــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــــــــج                      وكـــــــــــــــنـــــــــــــــت بـــــــــــــــالـــــــــــــــبـــــــــــــــيض غـــــــــــــــير مـــــــــــــــبـــــــــــــــتـــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــج

حدثني عمي قال: حدثني أحمد بن الطيب قال: حدثني أبو هريرة البصري النحوي الضرير قال: كان أبو الشبل الشاعر البرجمي يعابث قينة لهاشم النحوي يقال لها خنساء، وكانت تقول الشعر، فعبث بها يوما فأفرط حتى أغضبها، فقالت له: ليت شعري، بأي شيء تدل? أنا والله أشعر منك، لئن شئت لأهجونك حتى أفضحك، فأقبل، عليها وقال:

حسناء قد أفرطت علينا                      فلـــــــــــــــيس مـــــــــــــــنـــــــــــــــهـــــــــــــــا لـــــــــــــــنــــــــــــــــــــــــــا مـــــــــــــــــــــــــــــــجـــــــــــــــــــــــــــــــير

تاهـــــــــــــــت بـــــــــــــــأشـــــــــــــــعـــــــــــــــارهـــــــــــــــا عـــــــــــــــــــــــــلـــــــــــــــــــــــــــــــينـــــــــــــــــــــــــــــــا                      كأنـــــــــــــــمـــــــــــــــــــــــــا نـــــــــــــــــــــــــــــــاكـــــــــــــــــــــــــــــــهـــــــــــــــــــــــــــــــا جـــــــــــــــــــــــــــــــرير قال: فخجلت حتى بان ذلك عليها وأمسكت عن جوابه.

شعره في ذم المطر

قال عمي: قال أحمد بن الطيب: حدثني أبو هريرة هذا قال: حدثني أبو الشبل أنها وعدته أن تزوره في يوم بعينه كان مولاها غائبا فيه، فلما حضر ذلك اليوم جاء مطر منعها من الوفاء بالموعد، قال: فقلت أذم المطر:

دع المواعيد لا تعرض لوجهتهـا                      إن المواعيد مقرون بها المطـر

إن المواعيد والأعياد قد مـنـيت                      منه بأنكد ما يمنى بـه بـشـر

أما الثياب فلا يغررك إن غسلت                      صحو شديد ولا شمس ولا قمر

وفي الشخوص له نوء وبـارقة                      وإن تبيت فذاك الفالج الـذكـر

وإن هممت بأن تدعو مـغـنـية                      فالغيث لا شك مقرون به السحر

 

صفحة : 1580

 

حدثني عمي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: كان لعبيد الله بن يحيى بن خاقان غلام يقال له نسيم، فأمره عبيد بقضاء حاجة كان أبو الشبل البرجمي سأله إياها، فأخرها نسيم، فشكاه إلى عبيد الله، فأمر عبيد الله غلاما آخر فقضاها بين يديه، فقال أبو الشبل يهجو نسيما:

قل لنسيم أنت في صـورة                      خلقت من كلب وخنـزيره

رعيت دهرا بعد أعفاجهـا                      في سلح مخمور ومخموره

حتى بدا رأسك من صدغها                      زانية بالفسق مشـهـوره

لا تقرب الماء إذا أجنـبـت                      ولا ترى أن تقرب النـوره

ترى نبات الشعر حول أستها                      درابزينا حول مقـصـوره حدثني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثني ابن مهرويه قال: كان أبو الشبل يعاشر محمد بن حماد بن دلقيش، ثم تهاجرا بشيء أنكره عليه، فقال أبو الشبل فيه:

لابـن حـمـاد أياد                      عندنا ليست بـدون

عنده جـارية تـش                      في من الداء الدفين

ولها في رأس مولا                      ها أكالـيل قـرون

ذات صدع حاتمي ال                      فعل في كن مكـين

لا يرى منع الذي يح                      وي ولو أم البنـين حدثني عمي قال: حدثني أحمد بن الطيب قال: حدثني أبو هريرة النحوي قال: كان أبو الشبل البرجمي قد اشترى كبشا للأضحى، فجعل يعلفه ويسمنه، فأفلت يوما على قنديل له كان يسرجه بين يديه، وسراج وقارورة للزيت، فنطحه فكسره، وانصب الزيت على ثيابه وكتبه وفراشه، فلما عاين ذلك ذبح الكبش قبل الأضحى، وقال يرثي سراجه:

يا عين بكي لفقـد مـسـرجة                      كانت عمود الضياء والـنـور

كانت إذا ما الظلام ألبـسـنـي                      من حندس الليل ثوب ديجـور

شقت بنيرانـهـا غـياطـلـه                      شقا دعا اللـيل بـالـدياجـير

صينية الصين حين أبـدعـهـا                      مصور الحسن بالـتـصـاوير

وقبـل ذا بـدعة أتـيح لـهـا                      من قبل الدهر قرن يعـفـور

وصكها صكة فمـا لـبـثـت                      أن وردت عسكر المكـاسـير

وإن تولت فقد لهـا تـركـت                      ذكرا سيبقى على الأعاصـير

من ذا رأيت الزمـان ياسـره                      فلم يشب يسره بـتـعـسـير

ومن أباح الزمان صـفـوتـه                      فلم يشب صفـوه بـتـكـدير

مسرجتي لو فديت ما بخـلـت                      عنك يد الجود بـالـدنـانـير

ليس لنـا فـيك مـا نـقـدره                      لكنما الأمـر بـالـمـقـادير

مسرجتي كم كشفت من ظلـم                      جليت ظلمـاءهـا يتـنـوير

وكم غزال علـى يديك نـجـا                      من دق خصييه بالطـوامـير

من لي إذا ما النـديم دب إلـى                      الندمان في ظلمة الـدياجـير

وقـام هـذا يبـوس ذاك، وذا                      يعنق هـذا بـغـير تـقـدير

وأزدوج القوم في الظلام فمـا                      تسمع إلا الرشاء في الـبـير

فما يصلون عند خـلـوتـهـم                      إلا صلاة بغـير تـطـهـير

أوحشت الدار من ضـيائك وال                      بيت إلى مطـبـخ وتـنـور

إلى الرواقين فالمجالـس فـال                      مربد مذ غبت غير معـمـور

قلبي حزين عليك إذ بـخـلـت                      عليك بالدمع عـين تـنـمـير

إن كان أودى بك الزمان فقـد                      أبقيت منك الحديث في الـدور

دع ذكرها واهج قرن ناطحهـا                      وأسرد أحاديثه بـتـفـسـير

كان حديثي أني اشتريت فما اش                      تريت كبشا سلـيل خـنـزير

فلم أزل بالـنـوى أسـمـنـه                      والتبن والـقـت والأثـاجـير

أبرد الماء فـي الـقـلال لـه                      واتقي فـيه كـل مـحـذور

تخدمه طول كـل لـيلـتـهـا                      خدمة عبد بـالـذل مـأسـور

وهي من التيه ما تكلمـنـي ال                      فصيح إلا من بعد تـفـكـير

 

صفحة : 1581

 

 

شمس كأن الظلام ألبـسـهـا                      ثوبا من الزفـت أو الـقـير

من جلدها خفها وبرقـعـهـا                      حوراء في غير خلقة الحـور

فلم يزل يغتذي السرور، وما ال                      محزون في عيشة كمسـرور

حتى عدا طوره، وحق لـمـن                      يكفر نعمى بقـرب تـغـيير

فمد قرنيه نـحـو مـسـرجة                      تعد في صون كل مـذخـور

شد عليها بقـرن ذي حـنـق                      معود للنطـاح مـشـهـور

وليس يقوى بـروقـه جـبـل                      صلد من الشمخ الـمـذاكـير

فكيف تقوى علـيه مـسـرجة                      أرق من جوهر الـقـوارير

تكسرت كـسـرة لـهـا ألـم                      وما صحيح الهوى كمكسـور

فأدركته شعوب فأنشـعـبـت                      بالروع والشلو غير مقـتـور

أديل مـنـه فـأدركـتــه يد                      من المنايا بـحـد مـطـرور

يلتهب الموت في ظباه كـمـا                      تلتهب النار في المسـاعـير

ومزقته المدى فمـا تـركـت                      كف القرا منه غير تعـسـير

وأغتاله بعد كـسـرهـا قـدر                      صيره نهـزه الـسـنـانـير

فمزقت لحمـه بـراثـنـهـا                      وبـذرتـه أشـد تـبـــذير

واختلسته الحداء خلسا مـع ال                      غربان لم تزدجر لتـكـبـير

وصار حظ الكلاب أعظـمـه                      تهشم أنحاءهـا بـتـكـسـير

كم كاسر نـحـوه وكـاسـرة                      سلاحها في شفا المـنـاقـير

وخامـع نـحـوه وخـامـعة                      سلاحها في شبـا الأظـافـير

قد جعلت حول شلوه عـرسـا                      بلا افتقـار إلـى مـزامـير

ولا مغن سوى هماهـمـهـا                      إذا تمطـت لـوارد الـعـير

يا كبش ذق إذ كسرت مسرجتي                      لمدية الموت كأس تـنـحـير

بغيت ظلما والبغي مصرع من                      بغى على أهلـه بـتـغـيير

أضحية ما أظن صاحـبـهـا                      في قسمه لحمها بـمـأجـور أخبرني الحسن بن علي الشيباني قال: دخلت على أبي الشبل يوما فوجدت تحت مخدته ثلث قرطاس، فسرقته منه ولم يعلم بي، فلما كان بعد أيام جاءني فأنشدني لنفسه يرثي ذلك الثلث القرطاس.

 

فكــر تـــعـــتـــري وحـــزن طـــويل                      وسـقـيم أنـحـى عـلـــيه الـــنـــحـــول

ليس يبـكـي رسـمـــا ولا طـــلـــلا مـــح                      كمـا تـنـدب الــربـــا والـــطـــلـــول

إنـمـا حـزنـه عــلـــى ثـــلـــث كـــا                      ن لـحـاجـاتـه فــغـــالـــتـــه غـــول

كان لــلـــســـر والأمـــانة والـــكـــت                      مان إن بـاح بــالـــحـــديث الـــرســـول

كان مـثـل الـوكـــيل فـــي كـــل ســـوق                      إن تــلـــكـــا أو مـــل يومـــا وكـــيل

كان لـلـهـم إن تـراكـــم فـــي الـــصـــد                      ر فـلـم يشـف مـن عـــلـــيل غـــلـــيل

لم يكن يبتغي الحجاب من الحجاب إن قيل ليس فيها دخول

إن شكا حاجبا تشدد في الإذ                      ن فـلـلـحـاجـب الـشـقـــي الـــعـــويل

يرفـع الـخـير عـنـه والــرزق والـــكـــس                      وة فـهـو الـمـطــرود وهـــو الـــذلـــيل

كان يثـنـى فــي جـــيب كـــل فـــتـــاة                      دونــهـــا خـــنـــدق وســـور طـــويل

يقـــف الـــنـــاس وهـــو أول مــــن يد                      خلـه الـقـصــر غـــادة عـــطـــبـــول

فإذا أبـــرزتـــه بـــاح بـــه فـــــي ال                      قصـر مـسـك وعـنـبــر مـــعـــلـــول

ولـه الـحـــب والـــكـــرامة مـــمـــن                      بات صـبـا والـشــم والـــتـــقـــبـــيل ليس كالكاتب الذي بأبي الخطاب يكنى قد شابه التطفيل

ذا كريم يدعى، وهذا طفيلي وهذا وذا جميعا دليل

ذاك بالبشر والجماعة يلقى                      ولـهـذا الـحـجـاب والـتـنـــكـــيل

لم يفـد وفـده الـزمــان عـــلـــى الأل                      سن مـنـه عـطـــف ولا تـــنـــويل

كان مـع ذا عـدل الـشـهـادة مـقــبـــو                      لا إذا عـز شـــاهـــدا تـــعـــديل

وإذا مـا الـتـوى الـهـوى بـالألــيفـــي                      ن فـلـم يرع واصـــلا مـــوصـــول

فهـو الـحـاكـم الـذي قــولـــه بـــي                      ن الألـيفـين جــائز مـــقـــبـــول

 

صفحة : 1582

 

 

فلئن شتت الزمـان بـه شـم                      ل دواتي وحان منه رحـيل

لقديما ما شتت الـبـين والأل                      فة من صاحب، فصبر جميل

لا تلمني على البكاء عـلـيه                      إن فقد الخليل خطب جلـيل قال: فرددته عليه، وكان اتهم به أبا الخطاب الذي هجاه في هذه القصيدة، فقال لي: ويلك، نحيت ووقع أبو الخطاب بلا ذنب، ولو عرفت أنك صاحبها لكان هذا لك، ولكنك قد سلمت.

 

أخبار عثعث

نسبه كان عثعث أسود مملوكا لمحمد بن يحيى بن معاذ، ظهر له منه طبع وحسن أخذ وأداء، فعلمه الغناء، وخرجه وأدبه، فبرع في صناعته، ويكنىأبا دليجة وكان مأبونا؛ والله أعلم.

أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن ميمون بن هارون قال: حدثني عثعث الأسود، قال: مخارق كناني بأبي دليجة، وكان السبب في ذلك أن أول صوت سمعني أغنيه:

أبا دليجة من توصـي بـأرمـلة                      أو من لأشعث ذي طمرين ممحال فقال لي: أحسنت ياأبا دليجة، فقبلها وقبلت يده: أنا يا سيدي أبا المهنا؛ أتشرف بهذه الكنية إذا كانت نحلة منك. قال ميمون: وكان مخارق يشتهي غناؤه ويحزنه إذا سمعه.

ما وقع له في مجلس غناء قال أبو الفرج: نسخت من كتاب علي بن محمد بن نصر بخطه، حدثني يعني ابن حمدون قال: كنا يوما مجتمعين في منزل أبي عيسى بن المتوكل، وقد عزمنا على الصبوح ومعنا جعفر بن المأمون، وسليمان بن وهب، وإبراهيم بن المدبر، وحضرت عريب وشارية وجواريهما، ونحن في أتم سرور، فغنت بدعة جارية عريب:

أعاذلتي أكثرت جهـلا مـن الـعـذل                      على غير شيء من ملامي وفي عذلي والصنعة لعريب؛ وغنت عرفان:

إذا رام قلبي هجرها حال دونه                      شفيعان من قلبي لها جـدلان والغناء لشارية، وكان أهل الظرف والمتعانون في ذلك الوقت صنفين: عريبية وشارية ، فمال كل حزب إلى من يتعصب له منهما من الاستحسان والطرب والاقتراح، وعريب وشارية ساكتتان لا تنطقان، وكل واحدة من جواريهما تغني صنعة ستها لا تتجاوزها، حتى غنت عرفان:

بأبي من زارني في منامي                      فدنا مني وفـيه نـفـار فأحسنت ما شاءت، وشربنا جميعا، فلما أمسكت قالت عريب لشارية: يا أختي لمن هذا اللحن? قالت لي، كنت صنعته في حياة سيدي، تعني إبراهيم بن المهدي، وغنيته إياه فاستحسنه، وعرضه على إسحاق فاستحسنوه، فأسكتت عريب، ثم قالت لأبي عيسى: احب يا بني فديتك أن تبعث إلى عثعث فتجيئني به، فوجه إليه، فحضر وجلس، فلما اطمأن وشرب وغنى، قالت له: ياأبا دليجة أو تذكر صوت زبير بن دحمان عندي وأنت حاضر، فسألته أن يطرحه عليك? قال: وهل تنسى العذراءأبا عذرها ، نعم، والله إني لذاكره حتى كأننا أمس افترقنا عنه. قالت: فغنه، فاندفع فغنى الصوت الذي ادعته شارية حتى استوفاه وتضاحكت عريب، ثم قالت لجواريها: خذوا في الحق، ودعونا من الباطل، وغنوا الغناء القديم. فغنت بدعة وسائر جواري عريب، وخجلت شارية وأطرقت وظهر الانكسار فيها، ولم تنتفع هي يومئذ بنفسها، ولا أحد من جواريها ولا متعصبيها أيضا بأنفسهم.

قال: وحدثني يحيى بن حمدون قال: قال لي عثعث الأسود: دخلت يوما على المتوكل هو مصطبح وابن المارقي يغنيه قوله:

أقاتلتي بالجيد والـقـد والـخـد                      وباللون في وجه أرق من الورد وهو على البركة جالس، قد طرب واستعاده الصوت مرارا وأقبل عليه، فجلست ساعة ثم قمت لأبول، فصنعت هزجا في شعر البحتري الذي يصف فيه البركة:

إذا النجوم تراءت في جوانبهـا                      ليلا حسبت سماء ركبت فيهـا

وإن علتها الصبا أبدت لها حبكا                      مثل الجواشن مصقولا حواشيهم

وزادها زينة من بعد زينتـهـا                      أن اسمه يوم يدعى من أساميها فما سكت ابن المارقي سكوتا مستوجبا حتى اندفعت أغني هذا الصوت، فاقبل علي وقال لي : أحسنت وحياتي، أعد، فأعدت، فشرب قدحا، ولم يزل يستعيدنيه ويشرب حتى اتكأ، ثم قال للفتح: بحياتي ادفع إليه الساعة ألف دينار وخلعة تامة واحمله على شهري فاره بسرجه ولجامه، فانصرفت بذلك أجمع.

نسبه ما في هذه الأخبار من الغناء صوت

أعاذلتي أكثرت جهلا مـن الـعـذل                      على غير شيء من ملامي ولا عذلي

 

صفحة : 1583

 

 

نأيت فلم يحدث لي الناس سـلـوة                      ولم ألف طول النأي عن خلة يسلي عروضه من الطويل، الشعر لجميل، والغناء لعريب، ثقيل أول بالبنصر، ومنها: صوت

إذا رام قلبي هجيرها حال دونه                      شفيعان من قلبي لها جـدلان

إذا قلت لا، قالا بلى، ثم أصبحا                      جميعا على الرأي الذي يريان عروضه من الطويل، والناس ينسبون هذا الشعر إلى عروة بن حزام، وليس له.

الشعر لعلي بن عمرو الأنصاري، رجل من أهل الأدب والرواية، كان بسر من رأى كالمنقطع إلى إبراهيم بن المهدي، والغناء لشارية، ثقيل أول بالوسطى، وقيل إنه من صنعة إبراهيم، ونحلها إياه، وفيه لعريب خفيف رمل بالبنصر.

ومنها: صوت

بأبي من زارني في منامـي                      فدنا مـنـي وفـيه نـفـار

ليلة بـعـد طـوع الـثـريا                      وليالي الصيف بتر قصـار

قلت هلكي أم صلاحي فعطفا                      دون هذا منك فيه الـدمـار

فدنا مني وأعطى وأرضـى                      وشفى سقمي ولذ الـمـزار لم يقع إلينا لمن الشعر، والغناء لزبير بن دحمان، ثقيل أول بالوسطى، وهو من جيد صنعته وصدور أغانيه.

غناؤه في شعر أخبرني ابن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا أحمد بن طيفور قال: كتب صديق لأحمد بن يوسف الكاتب في يوم دجن: يومنا يوم ظريف النواة، رقيق الحواشي، قد رعدت سماؤه وبرقت، وحنت وارجحنت ، وأنت قطب السرور، ونظام الأمور، فلا تفردنا منك فنقل، ولا تنفرد عنا فنذل، فإن المرء بأخيه كثير، وبمساعدته جدير. قال: فصار أحمد بن يوسف إلى الرجل، وحضرهم عثعث بن الأسود، فقال أحمد: صوت

أرى غيما يؤلفه جـنـوب                      وأحسبه سيأتينا بهـطـل

فعين الرأي أن تأتي برطل                      فتشربه وتدعو لي برطل

وتسقيه ندامانا جـمـعـيا                      فينصرفون عنه بغير عقل

فيوم الغيم يوم الغم إن لـم                      تبادر بالمدامة كل شغـل

ولا تكره محرمها عليهـا                      فإني لا أراه لها بـأهـل قال: وغنى فيه عثعث اللحن المشهور الذي يغنى به اليوم صوت

ترى الجند والأعراب يغشون بابه                      كما وردت ماء الكلاب هوامله

إذا ما أتوا أبوابه قال: مرحـبـا                      لجوا الدار حتى يقتل الجوع قاتله عروضه من الطويل. الهوامل: التي لا رعاء لها، ولجوا: أدخلوا، يقال: ولج يلج ولجا. وقوله: حتى يقتل الجوع قاتله: أي يطعمكم فيذهب جوعكم، جعل الشبع قاتلا للجوع.

الشعر لعبد الله بن الزبير الأسدي، والغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.

 

أخبار عبد الله الزبير ونسبه

نسبه عبد الله بن الزبير بن الأشم بن الأعشى بن بجرة بن قيس بن منقذ بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة.

أخبرني بذلك أحمد عن الخراز عن أبن الأعرابي؛ وهو شاعر كوفي المنشأ والمنزل، من شعراء الدولة الأموية، وكان من شيعة بني أمية وذوي الهوى فيهم والتعصب والنصرة على عدوهم، فلما غلب مصعب بن الزبير على الكوفة أتي به أسيرا فمن عليه ووصله وأحسن إليه، فمدحه وأكثر، وانقطع إليه، فلم يزل معه حتى قتل مصعب ثم عمي عبد الله بن الزبير بعد ذلك، ومات في خلافة عبد الملك بن مروان، ويكنى عبد الله أبا كثير، وهو القائل يعني نفسه:

فقالت: ما فعلتأبـا كـثـير                      أصح الود أم أخلفت بعدي? وهو أحد الهجائين للناس، المرهوب شرهم.

خبره مع عبد الرحمن بن أم الحكم

 

صفحة : 1584

 

قال ابن الأعرابي: كان عبد الرحمن بن أم الحكم على الكوفة من قبل خاله معاوية بن أبي سفيان، وكان ناس من بني علقمة بن قيس بن وهب بن الأعشى بن بجرة بن قيس بن منقذ قتلوا رجلا من بني الأشيم، من رهط عبد الله بن الزبير دنية ، فخرج عبد الرحمن بن أم الحكم وافدا إلى معاوية، ومعه ابن الزبير ورفيقان له من بني أسد، يقال لأحدهما أكل بن ربيعة من بني جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين، وعدي بن الحرث أحد بني العدان من بني نصر، فقال عبد الرحمن بن أم الحكم لابن الزبير: خذ من بني عمك ديتين لقتيلك، فأبى ابن الزبير، وكان ابن أم الحكم يميل إلى أهل القاتل، فغضب عليه عبد الرحمن ورده عن الوفد من منزل يقال له فياض، فخالف ابن الزبير الطريق إلى يزيد بن معاوية، فعاذ به، فأعاده وقام بأمره، وأمره يزيد بأن يهجو ابن أم الحكم، وكان يزيد يبغضه وينتقصه ويعيبه، فقال فيه أين الزبير قصيدة أولها قوله:

أبى الليل بالمران أن يتصـرمـا                      كأني أسوم العين نوعا محرمـا

ورد بثنـييه كـأن نـجـومـه                      صوار تنتهي من إران فقومـا

إلى الله أشكو لا إلى الناس أننـي                      أمص بنات الدر ثديا مصرمـا

وسوق نساء يسلبـون ثـيابـهـا                      يهادونها همدان رقا وخثعـمـا

على أي شيء يا لؤي بن غالـب                      تجيبون من أجرى علي وألجمـا

وهاتوا فقصوا آية تقـرءونـهـا                      أحلت بلادي أن تباح وتظلـمـا

وإلا فأقصى الله بيني وبـينـكـم                      وولى كثير اللؤم من كان ألأمـا

وقد شهدتنا من ثقـيف رضـاعة                      وغيب عنها الحوم قوام زمزمـا

بنو هاشم لو صادفوك تجـدهـا                      مججت ولم تملك حيازيمك الدما

ستعلم إن زلت بك النـعـل زلة                      وكل أمرئ لاقي الذي كان قدما

بأنك قد ما طلـت أنـياب حـية                      تزجي بعينيها شجاعا وأرقـمـا

وكم من عدو قد أراد مسـاءتـي                      بغيب ولو لاقيتـه لـتـنـدمـا

وأنتم بني حام بن نوح أرى لكـم                      شفاها كأذناب المشاجر ورمـا

فإن قلت خالي من قريش فلم أجد                      من الناس شرا من أبيك وألأمـا

صغيرا ضغا في خرقة فأمضـه                      مربية حتى إذ أهم وأفـطـمـا

رأى جلدة من آل حـام مـتـينة                      ورأسا كأمثال الجريب مؤومـا

وكنتم سقيطا في ثقيف، مكانكـم                      بني العبد، لا توفي دماؤكمودما شعره حين عزل عبد الرحمن عن الكوفة قال ابن الأعرابي: ثم عزل ابن أم الحكم عن الكوفة، ووليها عبيد الله بن زباد، فقال ابن الزبير:

أبلغ عبيد الله عـنـي فـإنـنـي                      رميت ابن عوذ إذ بدت لي مقاتله

على قفرة إذ هابه الوفد كلـهـم                      ولم أك أشوي القرن حين أناضله

وكان يماري مـن يزيد بـوقـعة                      فما زال حتى استدرجته حبائلـه

فتقصيه من ميراث حرب ورهطة                      وآل إلى مـا ورثـتـه أوائلـه

وأصبح لما أسلمته حـبـالـهـم                      ككلب القطار حل عنه جلاجلـه ونسخت من كتاب جدي لأمي يحيى بن محمد بن ثوابة، قال يحيى بن حازم وحدثنا علي بن صالح صاحب المصلى عن القاسم بن معدان: أن عبد الرحمن بن أم الحكم غضب على عبد الله بن الزبير الأسدي لما يلغه أنه هجاه، فهدم داره، فأتى معاوية فشكاه إليه، فقال له: كم كانت قيمة دارك? فاستشهد أسماء بن خارجة ، وقال له: سله عنها؛ فسأله؛ فقال: ما أعرف يا أمير المؤمنين قيمتها، ولكنه بعث إلى البصرة بعشرة آلاف درهم للساج ،فأمر له معاوية بألف درهم، قال: وإنما شهد له أسماء كذلك ليرفده عند معاوية، ولم تكن داره إلا خصائص قصب.

وكان عبد الرحمن بن أم الحكم لما ولي الكوفة أساء بها السيرة، فقدم قادم من الكوفة إلى المدينة، فسألته امرأة عبد الرحمن عنه، فقال لها: تركته يسأل إلحافا، وينفق إسرافا، وكان محمقا ، ولاه معاوية خاله عدة أعمال، فذمه أهلها وتظلموا منه، فعزله وأطرحه ، وقال له: يا بني، قد جهدت أن أنفقك وأنت تزداد كسادا .

 

 

صفحة : 1585

 

وقالت له أخته أم الحكم بنت أبي سفيان بن حرب: يا أخي، زوج ابني بعض بناتك؛ فقال: ليس لهن بكفء؛ فقالت له: زوجني أبو سفيان أباه، وأبو سفيان خير منك؛ وأنا خير من بناتك، فقال لها: يا أخية، إنما فعل ذلك أبو سفيان لأنه كان حينئذ يشتهي الزبيب، وقد كثر الآن الزبيب عندنا، فلن نزوج إلا كفئا خبره مع عمرو بن عثمان بن عفان حدثنا الحسن بن الطيب البلخي قال: حدثني أبو غسان قال: بلغني أن أول من أخذ بعينه في الإسلام عمرو بن عثمان بن عفان، أتاه عبد الله بن الزبير الأسدي، فرأى عمرو تحت ثيابه ثوبا رثا، فدعا وكيله وقال: اقترض لنا مالا؛ فقال: هيهات ما يعطينا التجار شيئا. قال: فأربحهم ما شاءوا، فاقترض له ثمانية آلاف درهم، وثانيا عشرة آلاف، فوجه بها إليه مع تخت ثياب، فقال عبد الله بن الزبير في ذلك:

سأشكر عمرا إن تراخت منـيتـي                      أيادي لم تمنن وإن هـي جـلـت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه                      ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

رأى خلتي من حيث يخفي مكانهـا                      فكانت قذى عينيه حتى تـجـلـت مدحه أسماء بن خارجة أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال: حدثني أحمد بن عرفة المؤدب قال: أخبرني أبو المصبح عادية بن المصبح السلولي قال: أخبرني أبي قال: كان عبد الله بن الزبير الأسدي قد مدح أسماء بن خارجة الفزاري فقال:

تراه إذا ما جئته مـتـهـلـلا                      كأنك تعطيه الذي أنت نائلـه

ولو لم يكن في كفه غير روحه                      لجاد بها فليتق اللـه سـائلـه فاثابه أسماء ثوابا لم يرضه، فغضب وقال يهجوه:

بنت لكم هند بتلذيع بـظـرهـا                      دكاكين من جص عليها المجالس

فوالله لولا رهز هند ببظـرهـا                      لعد أبوها في اللئام العـوابـس فبلغ ذلك أسماء، فركب إليه، فاعتذر من فعله بضيقة شكاها، وأرضاه وجعل على نفسه وظيفة في كل سنة، واقتطعه جنتيه، فكان بعد ذلك يمدحه ويفضله. وكان أسماء يقول لبنيه: والله ما رأيت قط جصا في بناء ولا غيره إلا ذكرت بظر أمكم هند فخجلت.

حبسه ابن أم الحكم وشعره أخبرني عمي عن ابن مهرويه، عن أبي مسلم، عن ابن الأعرابي قال: حبس ابن أم الحكم عبد الله بن الزبير وهو أمير في جناية وضعها عليه، وضربه ضربا مبرحا لهجائه إياه، فاستغاث بأسماء بن خارجة، فلم يزل يلطف في أمره، ويرضي خصومه ويشفع إلى ابن أم الحكم في أمره حتى يخلصه، فاطلق شفاعته، وكساه أسماء ووصله وجعل له ولعياله جراية دائمة من ماله، فقال فيه هذه القصيدة التي أولها الصوت المذكور بذكر أخبار ابن الزبير، يقول فيها:

ألم تر أن الجود أرسل فأنـتـقـى                      حليف صفاء وأتـلـى لا يزايلـه

تخير أسماء بن حصن فبـطـنـت                      بفعل العلا أيمانـه وشـمـائلـه

ولا مجد إلا مجد أسمـاء فـوقـه                      ولا جرى إلا جري أسماء فاضله

ومحتمل ضغنا لأسماء لـو جـرى                      بسجلين من أسماء فارت اباجلـه

عوى يستجيش النابحـات وإنـمـا                      بأنيابه صم الصفـا وجـنـادلـه

وأقصر عن مجراة أسماء سـعـيه                      حسيرا كما يلقي من الترب ناخله

وفضل أسماء بن حصن علـيهـم                      سماحة أسماء بن حصن ونـائلـه

فمن مثل أسماء بن حصن إذا غدت                      شآبـيبـه أم أي شـيء يعـادلـه

وكنت إذا لاقيت منهـم حـطـيطة                      لقيت أبا حسان تنـدى أصـائلـه

تضيفه غسـان يرجـون سـيبـه                      وذو يمن أحبوشـه ومـقـاولـه

فتى لا يزال الدهر ما عاش مخصبا                      ولو كان الموماة تخدي رواحـلـه

فأصبح: ما في الأرض خلق علمته                      من الناس إلا باع أسماء طـائلـه

تراه إذا ما جـئتـه مـتـهـلـلا                      كأنك تعطيه الذي أنـت سـائلـه

ترى الجند والأعراب يغشون بابـه                      كما وردت ماء الكلاب نواهـلـه

إذا ما أتوا أبوابه قال: مـرحـبـا                      لجو الباب حتى يقتل الجوع قاتلـه

ترى البازل البختي فوق خـوانـه                      مقطعة أعضاؤه ومـفـاصـلـه

 

صفحة : 1586

 

 

إذا ما أتوا أسماء كان هو الذي                      تحلب كفاه الندى وأنامـلـه

تراهم كثيرا حين يغشون بابه                      فتسترهم جدرانه ومنـازلـه قال: فأعطاه أسماء حين أنشده هذه القصيدة ألفي درهم.

شعره بين يدي عبيد الله بن زياد أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا العباس بن ميمون طائع قال: حدثني أبو عدنان عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش، وقال ابن الأعرابي أيضا: دخل عبد الله بن الزبير على عبيد الله بن زياد بالكوفة وعنده أسماء بن خارجة حين قدم ابن الزبير من الشأم، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:

حنت قلوصي وهنا بعد هدأتـهـا                      فهيجت مغرما صبا على الطرب

حنت إلى خير من حث المطي له                      كالبدر بين أبي سفيان والعـتـب

تذكرت بقرى البلـقـاء نـائلـه                      لقد تذكرته مـن نـازح عـزب

والله ما كان بـي لـولا زيارتـه                      وأن ألاقي أبا حسان مـن أرب

حنت لترجعني خلفي فقلت لهـا                      هذا أمامك فالقيه فتى الـعـرب

لا يحسب الشر جارا لا يفارقـه                      ولا يعاقب عند الحلم بالغضـب

من خير بيت علمناه وأكـرمـه                      كانت دماؤهم تشفى من الكلـب قال ابن الأعرابي: كانت العرب تقول : من أصابه الكلب والجنون لا يبرأ منه إلى أن يسقى من دم ملك فيقول: إنه من أولاد الملوك.

بقية أخبار عبد الله بن الزبير معاونة ابن زياد على قتل هانىء بن عروة أخبرني أحمد بن عيسى العجلي بالكوفة قال: حدثنا سليمان بن الربيع البرجمي قال: حدثنا مضر بن مزاحم، عن عمرو بن سعد، عن أبي مخنف، عن عبد الرحمن بن عبيد بن أبي الكنود، وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا الحارث بن محمد قال: حدثنا ابن سعد عن الواقدي، وذكر بعض ذلك ابن الأعرابي في روايته عن المفضل، وقد دخل حديث بعضهم في حديث الآخرين، أن المختار بن أبي عبيد خطب الناس يوما على المنبر فقال: لتنزلن نار من السماء، تسوقها ريح حالكة دهماء، حتى تحرق دار أسماء وآل أسماء وكان لأسماء بن خارجة بالكوفة ذكر قبيح عند الشيعة، يعدونه في قتلة الحسين عليه السلام، لما كان من معاونته عبيد الله بن زياد على هانىء بن عروة المرادي حتى قتل، وحركته في نصرته على مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وقد ذكر ذلك شاعرهم فقال:

أيركب أسماء الهماليج آمنا                      وقد طلبته مذحج بقتـيل يعني يالقتيل هانىء بن عروة المرادي، وكان المختار يحتال ويدبر في قتله من غير أن يغضب قيسا فتنصره، فبلغ أسماء قول المختار فيه، فقال: أوقد سجع بي أبو إسحاق لا قرار على زأر من الأسد ،وهرب إلى الشأم، فأمر المختار بطلبه ففاته، فأمر بهدم داره، فما تقدم عليها مضري بتة لموضع أسماء وجلالة قدره في قيس، فتولت ربيعة واليمن هدمها، وكانت بنو تيم الله وعبد القيس مع رجل من بني عجل كان على شرطة المختار ، فقال في ذلك عبد الله بن الزبير :

تأوب عين ابن الزبير سهـودهـا                      وولى على ما قد عراها هجودها

كأن سواد العين أبطـن نـحـلـه                      وعادها ممـا تـذكـر عـيدهـا

محضرة من نحل جيحان صعـبة                      لوى بجناحيهـا ولـيد يصـيدهـا

من الليل وهنأ، أو شظية سنـبـل                      أذاعت به الأرواح يذرى حصيدها

إذا طرفت أذرت دموعا كأنـهـا                      نثير جمان بان عنهـا فـريدهـا

وبت كأن الـصـدر فـيه ذبـالة                      شبا حرها القنديل ذاك وقـودهـا

فقلت أناجي النفس بيني وبينـهـا                      كذاك الليالي نحسها وسعـودهـا

فلا تجزعي مما ألـم فـإنـنـي                      أرى سنة لم يبـق إلا شـريدهـا

أتاني وعرض الشام بيني وبينـهـا                      أحاديت والأنباء ينمي بـعـيدهـا

بأن أبـا حـسـان تـهــدم داره                      لكيز سعت فساقها وعـبـيدهـا

جزت مضرا عني الجوازي بفعلها                      ولا أصبحت إلا بشر جـدودهـا

فما خيركم? لا سيدا تنصـرونـه                      ولا خائفا إن جاء يوما طريدهـا

أخذلانـه فـي كـل يوم كـريهة                      ومسألة ما إن ينـادى ولـيدهـا

 

صفحة : 1587

 

 

لأمـكـم الـويلات أنـى أتـيتــم                      جماعات أقوام كـثـير عـديدهـا

فيا ليتكم من بعـد خـذلانـكـم لـه                      جوار على الأعناق منها عقودهـا

ألم تغضبوا تبا لكم إذ سطت بـكـم                      مجوس القرى في داركم ويهودها

تركتم أبـا حـسـان تـهـدم داره                      مشـيدة أبـوابـهـا وحـديدهــا

يهدمها العجلي فـيكـم بـشـرطة                      كما نب في شبل التيوس عتـودهـا

لعمري لقد لف الـيهـودي ثـوبـه                      على غدرة شنعاء باق نـشـيدهـا

فلو كان من قحطان أسماء شمـرت                      كتائب من قحطان صعر خدودهـا

ففي رجب أو غرة الشهـر بـعـده                      تزوركم حمر المنـايا وسـودهـا

ثمانون ألفا دين عثـمـان دينـهـم                      كتائب فيهـا جـبـرئيل يقـودهـا

فمن عاش منكم عاش عبدا ومن يمت                      ففي النار سقياه هنـاك صـديدهـا وقال ابن مهرويه: أخبرني به الحسن بن علي عنه، حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي: أن مصعب بن الزبير لما ولي العراق لأخيه هرب أسماء بن خارجة إلى الشام، وبها يومئذ عبد الملك بن مروان قد ولي الخلافة، وقتل عمرو بن سعيد، وكان أسماء أموي الهوى، فهدم مصعب بن الزبير داره وحرقها، فقال عبد الله بن الزبير في ذلك:

تأوب عين ابن الزبير سهودها وذكر القصيدة بأسرها، وهذا الخبر أصح عندي من الأول، لآن الحسن بن علي حدثني قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب قال: لما ولي مصعب بن الزبير العراق، دخل إليه عبد الله بن الزبير الأسدي، فقال له: إيه يا بن الزبير، أنت القائل:

إلى رجب السبعين أو ذاك قبله                      تصبحكم حمر المنايا وسودها

ثمانون ألفا نصر مروان دينهم                      كتائب فيها جبرئيل يقـودهـا فقال: أنا القائل لذلك، وإن الحقين ليأبى العذرة ، ولو قدرت على جحده لجحدته، فاصنع ما أنت صانع؛ فقال: أما إني ما أصنع بك إلا خيرا، أحسن إليك قوم فاحببتهم وواليتهم ومدحتهم، ثم أمر له بجائزة وكسوة، ورده إلى منزله مكرما، فكان ابن الزبير بعد ذلك يمدحه ويشيده بذكره، فلما قتل مصعب بن الزبير اجتمع ابن الزبير وعبيد الله بن زياد بن ظبيان في مجلس، فعرف ابن الزبير خبره وكان عبيد الله هو الذي قتل مصعب بن الزبير فاستقبله بوجهه وقال له:

أبا مطر شلت يمـين تـفـرعـت                      بسيفك رأس ابن الحواري مصعب فقال له ابن ظبيان: فكيف النجاة من ذلك? قال: لا نجاة، هيهات سبق السيف العذل، قال: فكان ابن ظبيان بعد قتله مصعبا لا ينتفع بنفسه في نوم ولا يقظه، كان يهول عليه في منامه فلا ينام، حتى كل جسمه ونهك، فلم يزل كذلك حتى مات.

شعره عند عبيد الله بن زياد وقال ابن الأعرابي لما قدم ابن الزبير من الشأم إلى الكوفة دخل على عبيد الله بن زياد بكتاب من يزيد بن معاوية إليه يأمره بصيانته وإكرامه وقضاء دينه وحوائجه وإدرار عطائه، فأوصله إليه، ثم استاذنه في الإنشاد، فأذن له، فأنشده قصيدته التي أولها: صوت

أصرم بليلى حادث أم تجنـب                      أم الحبل منها واهن متقضب

أم الود من ليلى كعهدي مكانه                      ولكن ليلى تستزيد وتعـتـب غنى في هذين البيتين حنين ثاني ثقيل عن الهشامي.

 

ألم تعلمـي يا لـيل أنـي لـين                      هضوم وأني عنبس حين أغضب

وأني متى أنفق من المال طارفا                      فإني أرجو أن يثوب المـثـوب

أأن تلف المال التلاد بـحـقـه                      تشمس ليلى عن كرمي وتقطب

عشية قالت والركـاب مـنـاخة                      بأكوارها مشدودة: أين تذهـب?

أفي كل مصر نازح لك حـاجة                      كذلك ما أمر الفتى المتشـعـب

فوالله ما زالت تلبث نـاقـتـي                      وتقسم حتى كادت الشمس تغرب

دعيني ما للموت عـنـي دافـع                      ولا للذي ولى من العيش مطلب

إليك عبيد الله تهوي ركـابـنـا                      تعسف مجهول الفـلاة وتـدأب

وقد ضمرت حتى كأن عيونهـا                      نطاف فلاة ماؤها متـصـبـب

 

صفحة : 1588

 

 

فقلت لها: لا تشتـكـي الأين إنـه                      أمامك قرم من أمية مـصـعـب

إذا ذكروا فضل امرىء كان قبلـه                      ففضل عبيد الله أثـرى وأطـيب

وأنك لو يشفي بك القرح لـم يعـد                      وأنت على الأعداء ناب ومخلـب

تصافى عبيد الله والمجد صفوة ال                      حليفين ما أرسى ثبـير ويثـرب

وأنت إلى الخـيرات أول سـابـق                      فابشر، فقد أدركت ما كنت تطلب

أعني بسجل من سجالـك نـافـع                      ففي كل يوم سرى لك محـلـب

فإنك لـو إياي تـطـلـب حـاجة                      جرى لك أهل في المقال ومرحب قال: فقال له عبيد الله وقد ضحك من هذا البيت الأخير: فإني لا أطلب إليك حاجة، كم السجل الذي يرويك? قال: نوالك أيها الأمير يكفيني، فأمر له بعشرة آلاف درهم.

شعره في صديقه قال ابن الأعرابي: كان نعيم بن دجانة بن شداد بن حذيفة بن بكر بن قيس بن منقذ بن طريف صديقا لعبيد الله بن الزبير، ثم تغير عليه، وبلغه عنه قول قبيح فقال في ذلك:

ألا طرقت رويمة بعـد هـدء                      تخطى هول أنـمـار وأسـد

تجوس رحالنا حتى أتـتـنـا                      طروقا بين أعراب وجـنـد

فقالت: ما فعلت أبـا كـثـير                      اصح الود أم أخلفت عهدي?

كأن المسك ضم على الخزامى                      إلى أحشائها وقضـيب رنـد

ألا من مبلغ عنـي نـعـيمـا                      فسوف يجرب الإخوان بعدي

رأيتك كالشموس ترى قريبـا                      وتمنع مسح نـاصـية وخـد

فإني إن أقع بـك لا أهـلـل                      كوقع السيف ذي الأثر الفرند

فأولى ثـم أولـى ثـم أولـى                      فهل للدر يحلب من مـرد? رثاؤه لصديقه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثني عيسى بن إسمعيل تينة، وأخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثني عيسى بن إسمعيل عن المدائني عن خالد بن سعيد عن أبيه قال: كان عبد الله بن الزبير صديقا لعمرو بن الزبير بن العوام، فلما أقامه أخوه ليقتص منه بالغ كل ذي حقد عليه في ذلك، وتدسس فيه من يقترب إلى أخيه، وكان أخوه لا يسأل من ادعى عليه شيئا بينة، ولا يطالبه بحجة، وإنما يقبل قوله ثم يدخله إليه السجن ليقتص منه، فكانوا يضربونه والقيح ينتضح من ظهره وأكتافه على الأرض لشدة ما يمر به، ثم يضرب وهو على تلك الحال، ثم أمر بأن يرسل عليه الجعلان ، فكانت تدب عليه فتثقب لحمه، وهو مقيد مغلول يستغيث فلا يغاث، حتى مات على تلك الحال، فدخل الموكل به على أخيه عبد الله بن الزبير وفي يده قدح لبن يريد أن يتسحر به وهو يبكي فقال له: مالك? أمات عمرو? قال: نعم، قال: أبعده الله، وشرب اللبن، ثم قال: لا تغسلوه ولا تكفنوه، وادفنوه في مقابر المشركين، فدفن فيها، فقال ابن الزبير الأسدي يرثيه ويؤنب أخاه بفعله، وكان له صديقا وخلا ونديما:

أيا راكـبـا إمـا عـرضــت فـــبـــلـــغـــن                      كبـير بـنـي الـعـوام إن قـيل مـن تـعـــنـــي

ستـعـلـم إن جـالـت بـك الـــحـــرب جـــولة                      إذا فـوق الـرامـون أسـهـم مـن تـــغـــنـــي

فأصـبـحـت الأرحــام حـــين ولـــيتـــهـــا                      بكـفـيك أكـراشـا تـجــر عـــلـــى دمـــن

عقـدتـم لـعـمــرو عـــقـــدة وغـــدرتـــم                      بابـيض كـالـمـصـبـاح فـي لــيلة الـــدجـــن

وكـبـلـتـه حـولا يجــود بـــنـــفـــســـه                      تنـوء بـه فـي سـاقـه حـلــق الـــلـــبـــن

فما قال عمرو إذ يجود بنفسهلضاربه حتى قضى نحبه: دعني

تحدث من لاقيت أنك عائذ                      وصـرعـت قـتـلـى بـين زمــزم والـــركـــن

جعـلـتـم لـضـرب الـظـهـر مـنـه عـصـيكــم                      تراوحـه، والأصـبـحــية لـــلـــبـــطـــن

تعـذر مـنـه الآن لــمـــا قـــتـــلـــتـــه                      تفـاوت أرجـاء الـقـلـيب مـن الـــشـــطـــن

فلـم أر وفـدا كـان لــلـــغـــدر عـــاقـــدا                      كوفـدك شـدوا غـير مــوف ولا مـــســـنـــي

وكـنـت كـذات الـفـسـق لـم تـدر مـــا حـــوت                      تخـير حـالـيهــا أتـــســـرق أم تـــزنـــي

جزى الـلـه عـنـي خـالـدا شــر مـــا جـــزى                      وعـروة شـرا، مـن خــلـــيل، ومـــن خـــدن

قتـلـتـم أخـاكـم بـالـــســـياط ســـفـــاهة                      فيا لـك لـلـرأي الـمـــضـــلـــل والأفـــن

 

صفحة : 1589

 

 

فلو أنكم أجهـزتـم إذ قـتـلـتـم                      ولكن قتلتم بالسياط وبـالـسـجـن

وإني لأرجو أن أرى فيك ما تـرى                      به من عقاب الله ما دونه يغـنـي

قطعت من الأرحام ما كان واشجـا                      على الشيب، وابتعت المخافة بالأمن

وأصبحت تسعى قاسطا بـكـتـيبة                      تهدم ما حول الحطيم ولا تـبـنـي

فلا تجز عن من سنة قد سنـتـهـا                      فما للدماء الدهر تهرق من حقـن رثاؤه يعقوب بن طلحة أخبرني عمي قال: حدثني الخراز عن المدائني قال: قتل يعقوب بن طلحة يوم الحرة ، وكان يعقوب ابن خالة يزيد بن معاوية فقال يزيد: يا عجبا قاتلني كل أحد حتى ابن خالتي قال: وكان الذي جاء بنعيه إلى الكوفة رجل يقال له الكروس، فقال ابن الزبير الأسدي يرثيه:

لعمرك ما هذا بعيش فيبتغـى                      هنىء ولا موت يريح سـريع

لعمري لقد جاء الكروس كاظما                      على أمر سوء حين شاع فظيع

نعى أسرة يعقوب منهم فأقفرت                      منازلهم من رزمة فـبـقـيع

وكلهم غيث إذا قحـط الـورى                      ويعقوب منهم للأنـام ربـيع وقال ابن الأعرابي: كان على ابن الزبير دين لجماعة، فلازموه ومنعوه التصرف في حوائجه، وألح عليه غريم له من بني نهشل يقال له: ذئب، فقال ابن الزبير:

أحابس كيد الفيل عن بطـن مـكة                      وأنت على ما شئت جم الفواضـل

أرحني من اللائي إذا حل على دينهم                      يمشون في الدارات مشي الأرامل

إذا دخلوا قالوا: السـلام عـلـيكـم                      وغير السلام بـالـسـلام يحـاول

ألين إذا اشتد الـغـريم وألـتـوي                      إذا استد حتى يدرك الدين قـابـل

عرضت على زيد ليأخذ بعض مـا                      يحاوله قبل اشتغال الـشـواغـل

تثاءب حتى قلت: داسع نـفـسـه                      وأخرج أنيابا لـه كـالـمـعـاول دخوله المدينة مع عبد الرحمن بن الحكم وقال ابن الأعرابي: استجار ابن الزبير بمروان بن الحكم وعبد الله بن عامر لما هجا عبد الرحمن بن أم الحكم، فأجاراه وقاما بأمره، ودخل مع مروان إلى المدينة ، وقال في ذلك:

أجدي إلى مروان عدوا فقلصـي                      وإلا فروحي واغتدي لابن عامر

إلى نفر حول النبـي بـيوتـهـم                      مكاريم للعافي رقاق الـمـآزر

لهم سورة في المجد قد علمت لهم                      تذبذب باع المتعب المتقـاصـر

لهم عامر البطحاء من بطن مكة                      ورومة تسقي بالجمال القياسـر حبسه زفر فقال شعرا وقال ابن الأعرابي: عرض قوم من أهل المدراء لابن الزبير الأسدي في طريقه من الشام إلى الكوفة وقد نزل بقرقيسياء ، فاستعدوا عليه زفر بن الحارث الكلابي وقالوا: إنه أموي الهوى، وكانت قيس يومئذ زبيرية، وقرقيسياء وما وإلاها في يد ابن الزبير، فحبسه زفر أياما وقيده، وكان معه رفيق من بني أمية يقال له: أبو الحدراء، فرحل وتركه في حبسه أياما، ثم تكلمت فيه جماعة من مضر، فأطلق، فقال في ذلك:

أغاد أبو الحـدراء أم مـتـروح?                      كذاك النوى مما تجـد وتـمـزح

لعمري لقد كانت بـلاد عـريضة                      لي الروح فيها عنك والمتسـرح

ولكنه يدنو البغـيض ويبـعـد ال                      حبيب وينأى في المزار وينـزح

ألا ليت شعري هل أتى أم واصـل                      كبول أعضوها بساقي تـجـرح

إذا ما صرفت الكعب صاحت كأنها                      صريف خطا طيف بدلوين تمتـح

تبغي أباها في الرفاق وتنـثـنـي                      وألوى به في لجة البحر تمـسـح

أمرتحل وفد العـراق وغـودرت                      تحن بأبـواب الـمـدينة صـيدح

فإنك لا تدرين فيمـا أصـابـنـي                      أريثك أم تعجيل سـيرك أنـجـح

أظن أبو الحدراء سجني تـجـارة                      ترجى وما كل التجارة تـربـح خبره مع الحجاج

 

صفحة : 1590

 

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل قال: حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال: لما قدم الحجاج الكوفة واليا عليها صعد المنبر، فخطبهم فقال: يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق، ومساوىء الأخلاق، إن الشيطان قد باض وفرخ في صدوركم، ودب ودرج في حجوركم، فأنتم له دين، وهو لكم قرين،  ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا  ثم حثهم على اللحاق بالمهلب بن أبي صفرة، وأقسم ألا يجد منهم أحدا اسمه في جريدة المهلب بعد ثالثة بالكوفة إلا قتله، فجاء عمير بن ضابىء البرجمي فقال: أيها الأمير، إني شيخ لا فضل في، ولي ابن شاب جلد، فاقبله بدلا مني، فقال له عنبسة بن سعيد بن العاص: أيها الأمير، هذا جاء إلى عثمان وهو مقتول، فرفسه وكسر ضلعين من أضلاعه، وهو يقول:

أين تركت ضابئا يا نعثل فقال له الحجاج: فهلا يومئذ بعثت بديلا، يا حرسي  اضرب عنقه، وسمع الحجاج ضوضاء، فقال: ما هذا? فقال: هذا البراجم جاءت لتنصر عميرا فيما ذكرت، فقال: أتحفوهم برأسه، فرموهم برأسه، فولوا هاربين، فازدحم الناس على الجسر للعبور إلى المهلب حتى غرق بعضهم ، فقال عبد الله بن الزبير الأسدي:

أقول لإبراهيم لمـا لـقـيتـه                      أرى الأمر أمسى واهيا متشعبا

تخير فإما أن تزور ابن ضابىء                      عميرا وإما أن تزور المهلبـا

هما خطتا خسف نجاؤك منهمـا                      ركوبك حوليا من الثلج أشبهـا

فأضحى ولو كنت خراسان دونه                      رآها مكان السوق أو هي أقربا أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني علي عثام الكلابي قال: دخل عبد الله بن الزبير الأسدي على مصعب بن الزبير بالكوفة لما وليها وقد مدحه، فاستأذنه الإنشاد، فلم يأذن له، وقال له: ألم تسقط السماء علينا وتمنعنا قطرها في مديحك لأسماء بن خارجة ثم قال لبعض من حضر: أنشدها، فأنشده:

إذا مات ابن خارجة بن حصـن                      فلا مطرت على الأرض السماء

ولا رجع الوفود بغـنـم جـيش                      ولا حملت على الطهر النسـاء

ليوم مـنـك خـير مـن أنـاس                      كثير حولـهـم نـعـم وشـاء

فبورك في بنيك وفـي أبـيهـم                      إذا ذكروا ونحن لـك الـفـداء فالتفت إليه مصعب وقال له: اذهب إلى أسماء، فمالك عندنا شيء، فانصرف، وبلغ ذلك أسماء، فعوضه حتى أرضاه، ثم عوضه مصعب بعد ذلك، وخص به، وسمع مديحه، وأحسن عليه ثوابه.

مدحه لبشر بن مروان قال ابن الأعرابي: لما ولي بشر بن مروان الكوفة أدنى عبد الله بن الزبير الأسدي وبره وخصه بأنسه، لعلمه بهواه في بني أمية، فقال يمدحه:

ألم ترني والحـمـد لـلـه أنـنـي                      برئت وداواني بمعـروفـه بـشـر

رعى ما رعى مروان مني قبـلـه                      فصحت له مني النصيحة والشكـر

ففي كل عام عاشه الدهر صالـحـا                      علي لرب العـالـمـين لـه نـذر

إذا ما أبو مروان خلـى مـكـانـه                      فلا تهنأ الدنيا ولا يرسل الـقـطـر

ولا يهنىء الناس الـولادة بـينـهـم                      ولا يبق فوق الأرض من أهلها شفر

فليس البحور بالتي تخـبـرونـنـي                      ولكن أبو مروان بشر هو البـحـر وقال فيه أيضا فذكر أمه قطبة بنت بشر بن مالك ملاعب الأسنة:

جاءت به عجز مـقـابـلة                      ما هن من جرم ومن عكل

يابشر يا بن الجعفـرية مـا                      خلق الإله يديك للـبـخـل

أنت ابن سادات لأجمعـهـم                      وفي بطن مكة عزة الأصل

بحر من الأعياص جدن بـه                      في مغرس للجود والفضل

متـهـلـل تـنـدى يداه إذا                      ضن السحاب بوابل سجـل خروجه مع الحجاج أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عباس قال: أخبرني مشيخة من بني أسد أن ابن الزبير الأسدي لما قفل من قتال الأزارقة صوب بعث إلى الري، قال: فكنت فيه، وخرج الحجاج إلى القنطرة يعني قنطرة الكوفة التي بزبارة ليعرض الجيش، فعرضهم، وجعل يسأل عن رجل رجل من هو? فمر به ابن الزبير، فسأله من هو? فأخبره، فقال أنت الذي تقول:

 

صفحة : 1591

 

 

تخير فإما أن تزور ابن ضابىء                      عميرا، وإما أن تزور المهلبا قال: بلى، أنا الذي أقول:

ألم تر أني قد أخذت جـعـيلة                      وكنت كمن قاد الجنيب فأسمحا قال له الحجاج: ذلك خير لك، فقال:

وأوقدت الأعداء يا مي فأعلمي                      بكل شرى نارا فلم أر مجمحا فقال له الحجاج: قد كان بعض ذلك، فقال:

ولا يعدم الداعي إلى الخير تابعـا                      ولا يعدم الداعي إلى الشر مجدحا فقال له الحجاج: إن ذلك كذلك، فامض إلى بعثك، فمضى إلى بعثه فمات بالري.

مدح ابن أم الحكم فلم يعطه فهجاه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي قال: لما ولي عبد الرحمن ابن أم الحكم الكوفة، مدحه عبد الله بن الزبير، فلم يثبه، وكان قدم في هيئة رثة، فلما اكتسب وأثرى بالكوفة تاه وتجبر، فقال ابن الزبير فيه:

تبقلت لمـا أن أتـيت بـلادكـم                      وفي مصرنا أنت الهمام القلمس

ألست ببـغـل أمـه عـربـية                      أبوك حمار أدبر الظهر ينخس قال: وكان بنو أمية إذا رأوا عبد الرحمن يلقبونه البغل، وغلبت عليه حتى كان يشتم من ذكر بغلا، يظنه يعرض به .

شعره في مقتل عبد الله بن الزبير أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال: لما قتل عبد الله بن الزبير صلب الحجاج جسده، وبعث برأسه إلى عبد الملك، فجلس على سريره وأذن للناس فدخلوا عليه، فقام عبد الله بن الزبير الأسدي فاستأذنه في الكلام، فقال له: تكلم ولا تقل إلا خيرا، وتوخ الحق فيما تقوله، فأنشأ يقول:

مشى ابن الزبير القهقرى فتقدمت                      أمية حتى أحرزوا القصـبـات

وجئت المجلي يا بن مروان سابقا                      أمام قريش تنفض الـعـذرات

فلا زلت سباقا إلى كـل غـاية                      من المجد نجاء من الغـمـرات قال: فقال له: أحسنت فسل حاجتك: فقال له: أنت أعلى عينا بها وأرحب صدرا يا أمير المؤمنين؛ فأمر له بعشرين ألف درهم وكسوة، ثم قال له: كيف قلت? فذهب بعيد هذه الأبيات، فقال: لا، ولكن أبياتك في المحل في وفي الحجاج التي قلتها: فأنشده: شعره في المحل وفي الحجاج

كأني بعبد الله يركـب ردعـه                      وفيه سنان زاعبي مـحـرب

وقد فر عنه الملحدون وحلقت                      به وبمن آساه عنقاء مغـرب

تولوا فخلوه فشال بـشـلـوه                      طويل من الأجذاع عار مشذب

بكفي غلام من ثقيف نمت بـه                      قريش وذو المجد التليد معتب فقال له عبد الملك: لا تقل غلام، ولكن همام، وكتب له إلى الحجاج بعشرة آلاف درهم أخرى؛ والله أعلم هجاؤه عبد الله بن الزبير أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: خدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد قال: قتل ابن الزبير من شيعة بني أمية قوما بلغه أنهم يتجسسون لعبد الملك، فقال فيه عبد الله بن الزبير في ذلك يهجوه ويعبره بفعله:

أيها العائذ في مـكة كـم                      من دم أهرقته في غير دم

أيد عـائذة مـعـصـمة                      ويد تقتل من حل الحـرم مدحه بشر بن مروان قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب لإسحاق بن إبراهيم الموصلي فيه إصلاحات بخطه، والكتاب بخط النضر بن حديد من أخبار عبد الله بن الزبير وشعره، قال: دخل عبد الله بن الزبير على بشر بن مروان وعليه ثياب كان بشر خلعها عليه، وكان قد بلغ بشرا عنه شيء يكرهه، فجفاه، فلما وصل إليه وقف بين يديه، وجعل يتأمل من حواليه من بني أمية، ويجيل بصره فيهم كالمتعجب من جمالهم وهيئتهم، فقال له بشر، إن نظرك يا بن الزبير ليدل أن وراءه قولا؛ فقال: نعم؛ قال: قل؛ فقال:

كأن بني امية حول بـشـر                      نجوم وسطها قمر مـنـير

هو الفرع المقدم من قريش                      إذا أخذت مآخذها الأمـور

لقد عمت نوافله فأضـحـى                      غنيا من نوافله الـفـقـير

جبرت مهيضنا وعدلت فينـا                      فعاش البائش الكل الكسـير

فأنت الغيث قد علمت قريش                      لنا، والواكف الجون المطير قال: فأمر له بخمسة آلاف درهم ورضي عنه، فقال ابن الزبير:

لبشر بن مروان على الناس نعمة                      تروح وتغدو لا يطاق ثوابـهـا

 

صفحة : 1592

 

 

به أمن الله النفوس مـن الـردى                      وكانت بحال لا يقـر ذبـابـهـا

دمغت ذوي الأضغان يا بشر عنوة                      بسيفك حتى ذل منها صعابـهـا

وكنت لنا كهفا وحصنا ومعـقـلا                      إذا الفتنة الصماء طارت عقابها

وكم لك يا بشر بن مروان من يد                      مهذبة بيضاء راس ظـرابـهـا

وطدت لنا دين النبـي مـحـمـد                      بحلمك إذا هرت سفاها كلابهـا

وسدت ابن مروان قريشا وغيرها                      إذا السنة الشهباء قل سحابـهـا

رأبت ثآنا واصطـنـعـت أياديا                      إلينا ونار الحرب ذاك شهابـهـا شعره لبشر بن مروان قال النضر بن حديد في كتابه هذا: ودخل عبد الله بن الزبير إلى بشر بن مروان متعرضا له ويسمعه بيتا من شعره فيه، فقال له بشر: أراك متعرضا لأن أسمع منك وهل أبقى أسماء بن خارجة منك أو من شعرك أو من ودك شيئا? لقد نزحت فيه بحرك يا بن الزبير؛ فقال: أصلح الله الأمير، إن أسماء بن خارجة كان للمدح أهلا، وكانت له عندي أياد كثيرة، وكنت لمعروفه شاكرا، وأيادي الأمير عندي أجل، وأملي فيه أعظم، وإن كان قولي لا يحيط بها ففي فضل الأمير على أوليائه ما قبل به ميسورهم، وإن أذن لي في الإنشاد رجوت أن أوفق للصواب. فقال: هات، فقال:

تداركني بشر بن مروان بـعـدمـا                      تعاونت إلى شلوي الذئاب العواسـل

غياث الضعاف المرملين وعصمة ال                      يتامى ومن تأوي إليه العـبـاهـل

قريع قريش والهـمـام الـذي لـه                      أقرت بنو قحـطـان طـرا ووائل

وقيس بن عيلان وخنـدف كـلـهـا                      أقرت وجن الأرض طرا وخـابـل

يداك ابن مروان يد تقـتـل الـعـدا                      وفي يدك الأخـرى غـياث ونـائل

إذا أمطرتنا منـك يومـا سـحـابة                      روينا بما جادت علـينـا الأنـامـل

فلا زلت يابشر بـن مـروان سـيدا                      يهل علينـا مـنـك طـل ووابـل

فأنت المصفى يا بن مروان والـذي                      توافت إليه بالعـطـاء الـقـبـائل

يرجون فضل الله عـنـد دعـائكـم                      إذا جمعتكم والحجـيج الـمـنـازل

ولولا بنو مروان طاشت حلـومـنـا                      وكنا فراشا أحرقتهـا الـشـعـائل شعره في أمير المؤمنين فأمر له بجائزة وكساه خلعة، وقال له: إني أريد أن أوفدك على أمير المؤمنين، فتهيأ لذلك يا بن الزبير، قال: أنا فاعل أيها الأمير، قال: فماذا تقول له إذا وفدت عليه ولقيته إن شاء الله. فارتجل من وقته هذه القصيدة ثم قال:

أقول: أمير المؤمنين عصمتـنـا                      ببشر من الدهر الكثير الزلازل

وأطفأت عنا نار كل مـنـافـق                      بأبيض بهلول طويل الحـمـائل

نمته قروم من أمـية لـلـعـلا                      إذا افتخر الأقوام وسط المحافل

هو القائد الميمون والعصمة التي                      أتى حقها فينا على كل باطـل

أقام لنا الدين القويم بـحـلـمـه                      ورأي له فضل على كل قـائل

أخوك أمير المؤمنين ومـن بـه                      نجاد ونسقي صوب أسحم هاطل

إذا ما سألنا رفده هطلـت لـنـا                      سحابة كفـيه بـجـود ووابـل

حليم على الجهال منـا ورحـمة                      على كل حاف من معد وناعـل فقال بشر لجلسائه: كيف تسمعون? هذا والله الشعر، وهذه القدرة عليه فقال له حجار بن ابجر العجلي، وكان من أشراف أهل الكوفة، وكان عظيم المنزلة عند بشر: هذا أصلح الله الأمير أشعر الناس وأحضرهم قولا إذا أراد، فقال محمد بن عمير بن عطارد وكان عدوا لحجار أيها الأمير، إنه لشاعر، وأشعر منه الذي يقول: شعر الفرزدق في بشر بن مروان

لبشر بن مـروان عـلـى كـل حـالة                      من الدهر فضل في الرخاء وفي الجهد

قريع قـريش والـذي بـاع مـالــه                      ليكسب حمـدا حـين لا أحـد يجـدي

ينافس بشر في السـمـاحة والـنـدى                      ليحرز غايات المكـارم بـالـحـمـد

فكم جبرت كفاك يا بشر مـن فـتـى                      ضريك، وكم عيلت قوما على عـمـد

 

صفحة : 1593

 

 

وصيرت ذا فقر غنيا، ومثـريا                      فقيرا، وكلا قد حذوت بلا وعد خبره مع حجار بن أبجر فقال بشر: من يقول هذا? قال: الفرزدق، وكان بشر مغضبا عليه، فقال، أبعث إليه فأحضره، فقال له: هو غائب بالبصرة، وإنما قال هذه الأبيات وبعث بها لأنشدكها ولترضى عنه، فقال بشر: هيهات لست راضيا عنه حتى يأتيني، فكتب محمد بن عمير إلى الفرزدق، فتهيأ للقدوم على بشر، ثم بلغه أن البصرة قد جمعت له مع الكوفة، فأمام وأنتظر قدومه، فقال عبد الله بن الزبير لمحمد بن عمير في مجلسه ذلك بحضرة بشر:

بني دارم هل تعرفون مـحـمـدا                      بدعوته فيكم إذا الأمـر حـقـقـا

وساميتم قوما كراما بـمـجـدكـم                      وجاء سكيتا آخر القوم مخـفـقـا

فأصلك دهمان بن نصر فـردهـم                      ولا تك وغدا في تميم مـعـلـقـا

فإن تميما لست منـهـم ولا لـهـم                      أخا يا بن دهمان فلا تك أحمـقـا

ولولا أبو مـروان لاقـيت وابـلا                      من السوط ينسيك الرحيق المعتقـا

أحين علاك الشيب أصبحت عاهرا                      وقلت أسقني الصهباء صرفا مروقا

تركت شراب المسلمـين ودينـهـم                      وصاحب وغدا من فزارة أزرقـا

نبيتان من شرب المـدامة كـالـذي                      أتيح له حبل فأضحى مـخـنـقـا فقال بشر: أقسمت عليك إلا كففت، فقال: أفعل أصلحك الله، والله لولا مكانك لأنفذت حضنيه بالحق وكف ابن الزبير وأحسن بشر جائزته وكسوته، وشمت حجار بن أبحر بمحمد بن عمير وكان عدوه وأقبلت بنو أسد على ابن الزبير فقالوا: عليك غضب الله، أشمت حجارا بمحمد، والله لا نرضى عنك حتى تهجوه هجاء يرضى به محمد بن عمير عنك، أو لست تعلم أن الفرودق أشعر العرب? قال: بلى، ولكن محمدا ظلمني وتعرض لي، ولم أكن لأحلم عنه إذ فعل، فلم تزل به بنو أسد حتى هجا حجارا، فقال:

سليل النصارى سدت عجلا ولم تكن                      لذلك أهلا أن تسود بني عـجـل

ولكنهم كانوا لئامـا فـسـدتـهـم                      ومثلك من ساد اللئام بـلا عـقـل

وكيف بعجل إن دنا الفصح واغتدت                      عليك بنو عجل ومرجلكم يغـلـي

وعندك قسيس النصارى وصلبهـا                      وعانية صهباء مثل جنى النـحـل قال: فلما بلغ حجارا قوله شكاه إلى بشر بن مروان، فقال له بشر: هجوت حجارا? فقال: لا والله أعز الله الأمير، ما هجوته، لكنه كذب علي، فأتاه ناس من بني عجل وتهددوه بالقتل، فقال فيهم:

تهددني عجل، وما خلـت أنـنـي                      خلاة لعجل والصليب لها بـعـل

وما خلتني والدهر فيه عـجـائب                      أعمر حتى قد تهددنـي عـجـل

وتوعدني بالقتل منهـم عـصـابة                      وليس لهم في العز فرع ولا أصل

وعجل أسود في الرخاء، ثعالـب                      إذا التقت الأبطال واختلف النبـل

فإن تلقنا عجل هناك فـمـا لـنـا                      ولا لهم م الموت منجى ولا وعل منعه عبد الرحمن الخروج إلى الشام وقال النضر في كتابه: لما منع عبد الرحمن بن أم الحكم عبد الله بن الزبير الخروج إلى الشأم، وأراد حبسه، لجأ إلى سويد بن منجوف، واستجار به، فأخرجه مع بني شيبان في بلادهم، وأجازه عمل ابن أم الحكم، فقال يمدحه:

أليس ورائي إن بلاد تجـهـمـت                      سويد بن منجوف وبكر بـن وائل

حصون براها الله لم ير مثـلـهـا                      طوال أعاليها شـداد الأسـافـل

هم أصبحوا كنزي الذي لست تاركا                      ونبلي التي أعددتها للمـنـاضـل حاجب بشر قال شعرا وقال أيضا في هذا الكتاب: جاء عبد الله بن الزبير يوما إلى بشر بن مروان، فحجبه حاجبه، وجاء حجار بن أبجر فأذن له، وانصرف ابن الزبير يومئذ، ثم عاد بعد ذلك إلى بشر وهو جالس جلوسا، فدخل إليه، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:

ألم تر أن الله أعطى فـخـصـنـا                      بأبيض قرم مـن أمـية أزهـرا

طلوع ثنايا المجد، سام بـطـرفـه                      إذا سئل المعروف ليس بـأوعـرا

فلولا أبو مروان بشر لقـد غـدت                      ركابي في فيف من الأرض أغبرا

 

صفحة : 1594

 

 

سراعا إلى عبد الـعـزيز دوائبـا                      تخلل زيتونا بمصـر وعـرعـرا

وحاربت في الإسلام بكر بـن وائل                      كحرب كليب أو أمـر وأمـقـرا

إذا قادت الإسلام بـكـر بـن وائل                      فهب ذاك دينا قد تغير مـهـتـرا

بأي بـلاء أم بـأي نـصـــيحة                      تقدم حجارا أمامي ابـن أبـجـرا

ومازلت مذ فارقت عثمان صـاديا                      ومروان ملتاحا عن المـاء أزورا

ألا لتني قدمت واللـه قـبـلـهـم                      وأن أخي مروان كان المـؤخـرا

بهم جمع الشمل الشتيت، وأصلح ال                      إله، وداوى الصدع حتى تجـبـرا

قضى الله: لا ينفك منهم خـلـيفة                      كريم يسوس الناس يركب منبـرا فاعتذر إليه بشر ووصله وحمله، وأنكر على حاجبه ما تشكاه، وأمر أن ياذن له عند إذنه لأخص أهله وأوليائه شعر لأبيه وقال النضر في كتابه هذا: كان الزبير بن الأشيم أبو عبد الله بن الزبير شاعرا، وكان لعبد الله بن الزبير ابن يقال له الزبير شاعر، فأما ابوه الزبير بن ألشيم فهو الذي يقول:

ألا يا لقومي للرقـاد الـمـؤرق                      وللربع بعد الغبطة المتـفـرق

وهم الفتى بالأمر من دون نيلـه                      مراتب صعبات على كل مرتقي

ويوم بصحراء البديدين قـلـتـه                      بمنزلة النعمان وابن مـحـرق

وذلك عيش قد مضي كان بعـده                      أمور أشابت كل شأن ومفـرق

وغير ما استنكرت يا ام واصـل                      حوادث إلا تكسر العظم تعـرق

فراق حبـيب أو تـغـير حـالة                      من الدهر أورام لشخصي مفوق

على أنني جلد صـبـور مـرزأ                      وهل تترك أليام شيئا لمشفـق? شعر لابنه وأما ابنه الزبير بن عبد الله بن الزبير، فهو القائل يمدح محمد بن عيينة بن اسماء بن خارجة الفزاري:

قالت عبيدة مـوهـنـا                      اين أعتراك الهم أينـه

هل تبلغن بك المـنـى                      ما كنت تأمل في عيينه

بدر له الشيم الـكـرا                      ئم كاملات فاعتلـينـه

والجوع يقتله الـنـدى                      منه إذا قحط تـرينـه

فهناك يحمـده الـورى                      أخلاق غيركم اشتكينه قال: وهو القائل في بعض بني عمه:

ومولى كداء البطن أو فـوق دائه                      يزيد موالي الصدق خيرا وينقص

تلومت أرجو أن يثوب فيرعـوي                      به الحلم حتى استيأس المتربص هروبه إلى معاوية وقال النضر في كتابه هذا: لما هرب ابن الزبير من عبد الرحمن بن أم الحكم إلى معاوية، أحرق عبد الرحمن داره، فتظلم منه وقال: أحرق لي دارا قد قامت علي بمائة ألف درهم، فقال معاوية: ما أعلم بالكوفة دارا أنفق عليها هذا القدر، فمن يعرف صحة ما ادعيت? قال: هذا المنذر بن الجارود حاضر ويعلم ذلك، فقال معاوية للمنذر: ما عندك في هذا? قال: إني لم آبه لنفقته على داره ومبلغها، ولكني لما دخلت الكوفة وأردت الخروج عنها، أعطاني عشرين ألف درهم وسألني أن ابتاع له بها ساجا من البصرة، ففعلت، فقال معاوية: إن دارا اشترى لها ساج بعشرين ألف درهم لحقيق أن يكون سائر نفقتها مائة ألف درهم وأمر له بها، فلما خرجا أقبل معاوية على جلسائه، ثم قال لهم: أي الشيخين عندكم أكذب? والله إني لأعرف داره، وما هي إلا خصاص قصب، ولكنهم يقولون فنسمع، ويخادعوننا فننخدع، فجعلوا يعجبون منه.

مدحه إبراهيم بن الأشتر أخرجه الحسن بن علي ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن عبد الله بن الضحاك، عن الهيثم بن عدي قال: أتى عبد الله بن الزبير إبراهيم بن الأشتر النخعي فقال له: إني قد مدحتك بابيات فاسمعهن، فقال: إني لست أعطي الشعراء، فقال: اسمعها مني وترى رأيك، فقال: هات إذا، فأنشده قوله:

الله أعطاك المهابة والـتـقـى                      وأحل بيتك في العديد الأكـثـر

وأقر عينك يوم وقـعة خـازر                      والخيل تعثر بالقنا المتكـسـر

وإني مدحتك إذ نبا بي منزلـي                      وذممت إخوان الغنى من معشر

وعرفت أنك لا تخيب مدحتـي                      ومتى أكن بسبيل خير أشـكـر

فهلم نحوي من يمينـك نـفـحة                      إن الزمان ألح يابن الأشـتـر

 

صفحة : 1595

 

فقال: كم ترجو أن أعطيك? فقال: ألف درهم أصلح بها أمر نفسي وعيالي، فأمر له بعشرين ألف درهم.

صوت

ما هاج شوقك من بكاء حمامة                      تدعو إلى فنن الأراك حمامـا

تدعو أخا فرخين صادف ضاريا                      ذا مخلبين من الصقور قطاما

إلا تذكرك الأوانس بـعـدمـا                      قطع المطي سباسبا وهـيامـا الشعر لثابت قطنة؛ وقيل إنه لكعب الأشقري، والصحيح أنه لثابت، والغناء ليحيى المكي، خفيف ثقيل أول بالبنصر، من رواية ابنه والهشامي أيضا.

 

أخبار ثابت قطنة

نسبه هو ثابت بن كعب، وقيل ابن عبد الرحمن بن كعب، ويكنىأبا العلاء، أخو بني اسد بن الحارث بن العتيك ، وقيل: بل هو مولى لهم، ولقب قطنة لأن سهما أصابه في إحدى عينيه فذهب بها في بعض حروب الترك، فكان يجعل عليها قطنة، وهو شاعر فارس شجاع من شعراء الدولة الأموية، وكان في صحابة يزيد بن المهلب، وكان يوليه أعمالا من أعمال الثغور، فيحمد فيها مكانه لكفايته وشجاعته.

فأخبرني إبراهيم بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة، وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان ثابت قطنة وقد ولي عملا من أعمال خراسان، فلما صعد المنبر يوم الجمعة رام الكلام، فتعذر عليه وحصر، فقال:  سيجعل الله بعد عسر يسرا  ، وبعد عي بيانا، وأنتم إلى أمير فعال، أحوج منكم إلى أمير قوال:

وإلا أكن فيكم خطيبا فإننـي                      بسيفي إذا جد الوغى لخطيب فبلغت كلماته خالد بن صفوان ويقال الأحنف بن قيس فقال : والله ما علا ذلك المنبر أخطب منه في كلماته هذه، ولو أن كلاما استخفني، فأخرجني من بلادي إلى قائله استحسانا له، لأخرجتني هذه الكلمات إلى قائلها، وهذا الكلام بخالد بن صفوان أشبه منه بالأحنف.

صلاته الجمعة بالناس

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني أحمد بن زهير بن حرب، عن دعبل بن علي، قال: كان يزيد بن المهلب تقدم إلى ثابت قطنة في أن يصلي بالناس يوم الجمعة، فلما صعد المنبر ولم يطق الكلام، قال حاجب الفيل يهجوه:

أبا العلاء لقد لقيت معـضـلة                      يوم العروبة من كرب وتخنيق

أما القران فلم تخلق لمحكـمـه                      ولم تسدد من الدنيا لـتـوفـيق

لما رمتك عيون الناس هبتـهـم                      فكدت تشرق لما قمت بالـريق

تلوي اللسان وقد رمت الكلام به                      كما هوى زلق من شاهق النيق  خبر حاجب الفيل مع يزيد بن المهلب

أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الصباح قال: كان سبب هجاء حاجب بن ذبيان المازني وهو حاجب الفيل، والفيل لقب لقبه به ثابت قطنة وكعب الأشقري أن حاجبا دخل على يزيد بن المهلب، فلما مثل بين يديه أنشده:

إليك امتطيت العيس تسـعـين لـيلة                      أرجي ندى كفيك يابن المـهـلـب

وأنت امرؤ جادت سـمـاء يمـينـه                      على كل حي بين شرق ومـغـرب

فجد لي بطرف أعوجي مـشـهـر                      سليم الشظا عبل القوائم سـلـهـب

سبوح طموح الطرف يستن مرجـم                      أمر كإمرار الرشـاء الـمـشـذب

طوى الضمر منه البطن يستن مرجم                      عقاب تدلت من شماريخ كـبـكـب

تبادر جنح اللـيل فـرحـين أقـوياء                      من الزاد في قفر من الرض مجدب

فلما رأت صيدا تـدلـت كـأنـهـا                      دلاة تهاوى مرقبا بـعـد مـرقـب

فشكت سواد القلب من ذئب قـفـرة                      طويل القرا عاري العظام معصـب

وسابغة قد أتقن القين صـنـعـهـا                      وأسمر خطـي طـويل مـحـرب

وأبيض من مـاء الـحـديد كـأنـه                      شهاب متى يلق الضريبة يقـضـب

وقل لي إذا ما شئت في حومة الوغى                      تقدم أو اركب حومة الموت أركـب

فإني امرؤ من عـصـبة مـا زينة                      نماني أب ضخم كريم الـمـركـب

 

صفحة : 1596

 

قال: فأمر له يزيد بدرع وسيف ورمح وفرس، وقال له: قد عرفت ما شرطت لنا على نفسك? فقال: اصلح الله الأمير، حجتي بينة، وهي قول الله عز وجل:  والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون  . فقال له ثابت قطنة: ما أعجب ما وفدت به من بلدك في تسعين ليلة مدحت الأمير ببيتين، وسألته حوائجك في عشرة أبيات، وختمت شعرك ببيت تفخر عليه فيه، حتى إذا أعطاك ما أردت حدت عما شرطت له على نفسك فأكذبتها كأنك كنت تخدعه، فقال له يزيد: مه يا ثابت، فإنا لا نخدع، ولكنا نتخادع، وسوغه ما أعطاه، وأمر له بألفي درهم. ولج حاجب يهجو ثابتا فقال فيه:

لا يعرف الناس منه غير قطنته                      وما سواها من الأنساب مجهول  خبره مع حاجب الفيل عند يزيد

قال: ودخل حاجب يوما على يزيد بن المهلب، وعنده ثابت قطنة وكعب الأشقري وكانا لا يفارقان مجلسه فوقف بين يديه فقال له: تكلم يا حاجب، فقال: يأذن لي الأمير أن أنشده أبياتا، قال: لا حتى تبدأ فتسأل حاجتك، قال: أيها الأمير، إنه ليس أحد ولو أطنب في وصفك موفيك حقك، ولكن المجتهد محسن، فلا تهجني بمعنى الإنشاد، وتأذن لي فيه، فإذا سمعت فجودك أوسع من مسألتي . فقال له يزيد: هات، فما زلت مجيدا محسنا مجملا. فأنشده:

كم من كمي في الهياج تركتـه                      يهوي لفيه مجدلا مـقـتـولا

جللت مفرق رأسـه ذا رونـق                      عضب المهزة صارما مصقولا

قدت الجياد وأنـت غـر يافـع                      حتى التهلت ولم نزل مأمـولا

كم قد حربت وقد جبرت معاشر                      وكم امتننت وكم شفيت غلـيلا فقال له يزيد: سل حاجتك، فقال: ما على الأمير بها خفاء، فقال: قل، قال: إذا لا أقصر ولا أستعظم عظيما أسأله الأمير أعزه الله مع عظم قدره، قال: أجل، فقل يفعل، فلست بما تصير إليه أغبط منا، قال: تحملني وتخدمني وتجزل جائزتي، فأمر له بخمسة تخوت ثياب وغلامين وجاريتين وفرس وبغل وبرذون وخمسة آلاف درهم، فقال حاجب:

شم الغيث وأنظرويك أين تبعجت                      كلاه تجدها في يد ابن المهلـب

يداه يد يخزي بها الله من عصى                      وفي يده الأخرى حياة المعصب قال: فحسده ثابت قطنة وقال: والله لو على قدر شعرك أعطاك لما خرجت بملء كفك نوى، ولكنك أعطاك على قدره، وقام مغضبا، وقال لحاجب يزيد بن المهلب: إنما فعل الأمير هذا ليضع منا بإجزاله العطية لمثل هذا، وإلا فلو أنا اجتهدنا في مديحه ما زادنا على هذا، وقال ثابت قطنة يهجو حاجبا حينئذ:

أحاجـب لـولا أن أصـلـك زيف                      وأنك مطبوع على اللؤم والكـفـر

وأني لو أكثرت فـيك مـقـصـر                      رميتك رمـيا لا يبـيد يد الـدهـر

فقل لي ولا تكذب فـإنـي عـالـم                      بمثلك هل في مازن لك من ظهر?

فإنك منهم غـير شـك ولـم يكـن                      أبوك من الغر الجحا جحة الزهـر

أبـوك ديافـي وأمــك حـــرة                      ولكنها لا شك وافـية الـبـظـر

فلست بهـاج ابـن ذبـيان إنـنـي                      سأكرم نفسي عن سباب ذوي الهجر  هجاء حاجب له

فقال حاجب: والله لا أرضى بهجاء ثابت وحده، ولا بهجاء الأزد كلها، ولا أرضى حتى أهجو اليمن طرا؛ فقال يهجوهم:

دعوني وقحطانا وقولوا لثـابـت                      تنح ولا تقرب مصاولة البـزل

فللزنج خير حين تنسـب والـدا                      من أبناء قحطان العفاشلة الغزل

أناس إذا الهيجاء شبت رأيتـهـم                      أذل على وطء الهوان من النعل

نساؤهم فوضى لمن كان عاهـرا                      وجيرانهم نهب الفوارس والرجل  شعره عن نفسه

أخبرني وكيع قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: وحدثني دعبل قال: بلغني أن ثابت قطنة قال هذا البيت في نفسه وخطر بباله يوما فقال:

لا يعرف الناس منه غير قطنته                      وما سواها من الأنساب مجهول

 

صفحة : 1597

 

وقال: هذا بيت سوف أهجى به أو بمعناه، وأنشده جماعة من أصحابه وأهل الرواية وقال: اشهدوا أني قائله، فقالوا: ويحك ما أردت إلا أن تهجو نفسك به، ولو بالغ عدوك ما زاد على هذا. فقال: لا بد من أن يقع على خاطر غيري، فأكون قد سبقته إليه، فقالوا له: أما هذا فشر قد تعجلته، ولعله لا يقع لغيرك، فلما هجاه به حاجب الفيل استشهدهم على أنه هو قائله، فشهدوا على ذلك، فقال يرد على حاجب:

هيهات ذلك بيت قد سبقت به                      فاطلب له ثانيا يا حاجب الفيل أخبرني أحمد بن عثمان العسكري المؤدب قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي عن أبي عبيدة قال: كان ثابت قطنة قد جالس قوما من الشراة وقوما من المرجئة كانوا يجتمعون فيتجادلون بخراسان، فمال إلى قول المرجئة وأحبه، فلما اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء:

يا هند إني أظن العيش قـد نـفـذا                      ولا أرى المر إلا مدبـرا نـكـدا

إني رهينة يوم لسـت سـابـقـه                      إلا يكن يومنا هـذا فـقـد أفـدا

بايعت ربي بـيعـا إن وفـيت بـه                      جاورت قتلى كراما جاوروا أحـدا

يا هند فاستمعي لي إن سـيرتـنـا                      أن نعبد الله لم نشـرك بـه أحـدا

نرجي الأمور إذا كانت مشـبـهة                      ونصدق القول فيمن جار أو عنـدا

المسلمون على الإسـلام كـلـهـم                      و المشركون أشتوا دينـهـم قـددا

ولا أرى أن ذنـبـا بـالـغ أحـدا                      م الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا

لانسـفـك الـدم إلا أن يراد بـنـا                      سفك الدماء طريقا واحـدا جـددا

من يتق الله في الـدنـيا فـإن لـه                      أجر التقي إذا وفى الحساب غـدا

وما قضى الله من أمر فلـيس لـه                      رد، وما يقض من شيء يكن رشدا

كل الخوارج مخط في مقـالـتـه                      ولو تعبد فيما قـال واجـتـهـدا

وأما علي وعثمـان فـإنـهـمـا                      عبدان لم يشركا بالله مـذ عـبـدا

وكان بينهما شغـب وقـد شـهـدا                      شق العصا، وبعين الله ما شـهـدا

يجزي علي وعثمان بسعـيهـمـا                      ولـسـت أدري بـحـق أية وردا

الله يعلـم مـاذا يحـضـران بـه                      وكل عبد سيلقى تـااه مـنـفـردا قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب بخط المرهبي الكوفي في شعر ثابت قطنة؛ قال: لما ولي سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية خراسان بعد عزل عبد الرحمن بن نعيم، جلس يعرض الناس وعنده حميد الرؤاسي وعبادة المحاربي، فلما دعي بثابت قطنة تقدم، وكان تام السلاح، جواد الفرس، فارسا من الفرسان، فسأله عنه، فقيل: هذا ثابت قطنة، وهو أحد فرسان الثغور، فأمضاه وأجاز على اسمه، فلما انصرف قال له حميد وعبادة: هذا أصلحك الله الذي يقول:

إنا لضرابون في حمس الوغى                      رأس الخليفة إن أراد صدودا فقال سعيد: علي به، فردوه وهو يريد قتله، فلما أتاه قال له: أنت القائل: إنا لضرابون في حمس الوغى قال: نعم، أنا القائل:

إنا لضرابون في حمس الوغى                      رأس المتوج إن إراد صدودا

عن طاعة الرحمن أو خلفائه                      إن رام إفسادا وكر عـنـودا فقال له سعيد: أولى لك، لولا أنك خرجت منها لضربت عنقك، قال: وبلغ ثابتا ما قاله حميد وعبادة، فأته عبادة معتذرا، فقال له : قد قبلت عذرك، ولم يأته حميد، فقال ثابت يهجو:

وما كان الجـنـيد ولا أخـوه                      حميد من رءوس في المعالي

فإن يك دغفل أمسى رهـينـا                      وزيد و المقـيم إلـى زوال

فنعدكم ابن بشر فـاسـألـوه                      بمرو الروذ يصدق في المقال

ويخبـر أنـه عـبـد زنـيم                      لئيم الجد مـن عـم وخـال

 

صفحة : 1598

 

قال: واجتاز ثابت قطنة في بعض أسفاره بمدينة كان أميرها محمد بن مالك بن بدر المهداني ثم الخيواني ، وكان يغمز في نسبه، وخطب إلى قوم من كندة فردوه، فعرف خبر ثابت في نزوله، فلم يكرمه، ولا أمر له بقرى، ولا تفقده بنزل ولا غيره، فلما رحل عنه قال يهجوه ويعيره برد من خطب إليه:

لو أن بكيلا هـم قـومـه                      وكان أبوه أبا الـعـاقـب

لأكرمنا إذا مـررنـا بـه                      كرامة ذي الحسب الثاقب

ولكن خيوان هـم قـومـه                      فبئس هم القوم للصاحـب

وانت سنيد بهم مـلـصـق                      كما ألصقت رقعة الشاعب

وحسبك حسبك عند النـثـا                      بأفعال كندة مـن عـائب

خطبت فجازوك لما خطبت                      جزاء يسار من الكاعـب

كذبت فزيفت عقد النكـاح                      لمتك بالنسـب الـكـاذب

فلا تخطبن بعدهـا حـرة                      فتثنى بوسم على الشـارب  هجاؤه لقتيبة بن مسلم

قال أبو الفرج: ونسخت من هذا الكتاب قال: كان لثابت قطنة راوية يقال له النضر، فهجا ثابت قطنة قتيبة بن مسلم وقومه، وغيرهم بهزيمة انهزموها عن الترك، فقال:

توافت تميم في الطعـان وعـردت                      بهيلة لما عاينت معشـرا غـلـبـا

كماة كفاة يرهب النـاس حـدهـم                      إذا ما مشوا في الحرب تحسبهم نكبا

تسامون كعبا في العلا وكـلابـهـا                      وهيهات أن تلقوا كلابا ولا كعـبـا قال: فأفشى عليه راويته ما قاله، فقال ثابت فيه وقد كان استكتمه هذه الأبيات:

يا ليت لي بأخي نضر أخـا ثـقة                      لا أرهب الشر منه غاب أم شهدا

اصبحت منك على أسباب مهلكة                      وزلة خائفا منـك الـردى أبـدا

ما كنت إلا كذئب السوء عارضه                      أخوه يدمى ففرى جلـده قـددا

أو كابن آدم خلى عن أخيه وقـد                      أدمى حشاه ولم يبسـط إلـيه يدا

أهم بالصرف أحيانا فيمنـعـنـي                      حيا ربيعة والعقد الذي عـقـدا  رثاؤه المفضل بن المهلب

ونسخت منه أيضا قال: لما قتل المفضل بن المهلب دخل ثابت قطنة على هند بنت المهلب، والناس حولها جلوس يعزونها، فأنشدها:

يا هند كيف بنصب بات يبـكـينـي                      وعائر في سـواد الـلـيل يؤذينـي

كأن لـيلـي والأصـداء هـاجـدة                      ليل السلـيم، وأعـيا مـن يداوينـي

لما حنى الدهر من قوسي وعذرنـي                      شيبي وقاسيت أمر الغلظ والـلـين

إذا ذكرت أبـا غـسـان أرقـنـي                      هم إذا عرس السارون يشجـينـي

كان المفضل عزا فـي ذوي يمـن                      وعصمة وثمالا لـلـمـسـاكـين

ما زلت بعدك في هم تـجـيش بـه                      نفسي وفي نصب قد كاد يبلـينـي

إني تذكرت قتلى لو شـهـدتـهـم                      في حومة الموت لم يصلوا بها دوني

لا خير في العيش إن لم أجن بعدهـم                      حربا تبىء بهم قتلى فيشـفـونـي فقالت له هند:اجلس يا ثابت،فقد قضيت الحق،وما من المرثية بد،وكم من ميتة ميت أشرف من حياة حي،وليست المصيبة في قتل ممن استشهد ذابا عن دينه،مطيعا لربه،وإنما المصيبة فيمن قلت بصيرته،وخمل ذكره بعد موته،وأرجو ألا يكون المفضل عند الله خاملا،يقال:إنه ما عزي يومئذ بأحسن من كلامها.

رده على ابن الكواء

قال أبو الفرج:ونسخت من كتابه أيضا قال:كان ابن الكواء اليشكري مع الشراة والمهلب يحاربهم،وكان بعض بني أخيه شاعرا فهجا المهلب وعم الأزد بالهجاء،فقالت لثابت:أجبه فقال له ثابت:

كل القبائل من بـكـر نـعـدهـم                      واليشكريون منهم ألأم الـعـرب

أثرى لجيم وأثرى الحصن إذ قعدت                      بيشكر أمه المعرورة الـنـسـب

نحاكم عن حياض المجد والـدكـم                      فما لكم في بني الرشاء من نسب

أنتم تحلون من بكر اذا نـسـبـوا                      مثل القراد حوالي عكوة الـذنـب

نبئت أن بني الكواء قد نـبـحـوا                      فعل الكلاب تتلى الليث في الأشب

يكوي الأبيجر عبد الله شـيخـكـم                      ونحن نبرى الذي يكوى من الكلب  كتابه إلى يزيد بن المهلب

ونسخت من كتابه أيضا قال:كتب ثابت قطنة إلى يزيد بن المهلب يحرضه:

 

صفحة : 1599

 

 

إن امرأ حدبت ربيعة حـولـه                      والحي من يمن وهاب كـئودا

لضعيف ما ضمت جوانح صدره                      إن لم يلف إلى الجنود جـنـودا

أيزيدكن في الحرب إذ هيجتهـا                      كأبيك لا رعشـا ولا رعـديدا

شاورت أكرم من تناول ماجـد                      فرأيت همك في الهموم بعـيدا

ما كان في أبويك قادح هجـنة                      فيكون زندك في الزناد صلودا

إنا لضرابون في حمس الوغـى                      رأس المتوج إن أراد صـدودا

وقر اذا كفر العجاج ترى لـنـا                      في كل معركة فوراس صـيدا

ياليت أسرتك الـذين تـغـيبـوا                      كانوا ليومك بالعراق شـهـودا

وترى مواطنهم إذا اختلف القنـا                      والمشرفية يلتـظـين وقـودا فقال يزيد لما قرأ كتابه:إن ثابتا لغافل عما نحن فيه،ولعمري لأطيعنه،وسيرى ما يكون،فاكتبوا إليه بذلك.

أخبرني عمي قال:حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال:أنشد مسلمة بن عبد الملك بعد قتل يزيد بن المهلب قول ثابت قطنة:

يا ليت أسرتك الذين تغيبوا                      كانو ليومك يا يزيد شهودا فقال مسلمة:وأنا والله لوددت أنهم كانوا شهودا يومئذ،فسقيتهم بكأسه،قال:فكان مسلمة أحد من أجاب شعرا بكلام منثور فغلبه.

خطب امرأة فدفعه عنها جويبر بن سعيد

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال:حدثني عبيد الله بن أحمد بن محمد الكوفي قال:حدثني محمد القحذمي عن سليمان بن ناصح الأسدي قال :خطب ثابت قطنة امرأة كان يميل إليها،فجعل السفير بينه وبينها جويبر بن سعيد المحدث،فاندس فخطبها لنفسه،فتزوجها ودفع عنها ثابتا،فقال ثابت حين بان له الأمر:

أفشي علي مقالة ما قلـتـهـا                      وسعى بامر كان غير سـديد

إني دعوت الله حين ظلمتنـي                      ربي وليس لمن دعا ببـعـيد

أن لا تزال متيمـا بـخـريدة                      تسبي الرجال بمقلتـين وجـيد

حتى إذا وجب الصداق تلبست                      لك جلد أغضف بارز بصعيد

تدعو عليك الحاريات مـبـرة                      فترى الطلاق وأنت غير حميد قال:فلقى جويبر كل ما دعا عليه ثابت به،ولحقه من المرأة كل شر وضر حتى طلقها بعد أن قبضت صداقها منه.

رثاؤه يزيد بن المهلب

أخبرني جعفر بن قدامة قال:حدثني حماد بن اسحاق عن أبيه قال:كان ثابت قطنة مع يزيد بن المهلب في يوم العقر ،فلما خذله أهل العراق وفروا عنه فقتل،قال ثابت قطنة يرثيه:

كل القبائل بايعوك على الـذي                      تدعو إليه وتابعوك وسـاروا

حتى إذا حمس الوغى وجعلتهم                      نصب الأسنة أسلموك وطاروا

إن يقتلوك فإن قتلك لـم يكـن                      عارا عليك،وبعض قتل عـار  هجاؤه لربيعة

قال أبو الفرج :ونسخت من كتاب المرهبي قال:كانت ربيعة لما حالفت اليمن وحشدت مع يزيد بن المهلب تنزل حواليه هي والأزد ،فاستبطأته ربيعة في بعض الأمر،فشغبت عليه حتى أرضاها فيه،فقال ثابت قطنة يهجوهم:

عصافير تنزو في الفساد،وفي الوغى                      إذا راعها روع جمـامـيح بـروق الجماميح:ما نبت على رؤوس القصب مجتمعا،وواحده جماح،فإذا دق تطاير.وبروق:نبت ضعيف.

 

أأحلم عن ذبان بـكـر بـن وائل                      ويعلق من نفسي الأذى كل معلق

ألم أك قد قلدتكم طـوق خـزية                      وأنكلت عنكم فيكم كل ملصـق

لعمرك ما استخلفت بكرا ليشغبوا                      علي، وما في حلفكم من معلـق

ضممتكم ضـمـا إلـي وأنـتـم                      شتات كفقع القاعة المتـفـرق

فأنتم على الأدنى أسـود خـفـية                      وأنتم على الأعداء خزان سملـق  شعره لما منعه قتيبة بن مسلم

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو بكر العامري قال: قال القحذمي: دخل ثابت قطنة على بعض أمراء خراسان أظنه قتيبة بن مسلم فمدحه وسأله حاجة، فلم يقضها له، فخرج من بين يديه وقال لأصحابه: لكن يزيد بن المهلب لو سألته هذا أو أكثر منه لم يردني عنه، وأنشأ يقول:

أبا خالد لم يبق بعـدك سـوقة                      ولا ملك ممن يعين على الرفد

 

صفحة : 1600

 

 

ولا فاعل يرجوا المقلون فضلـه                      ولا قائل ينكا العدو على حـقـد

لو أن المنايا سامحت ذا حفـيظة                      لأكر منه أو عجن عنه على عمد  شعره في قومه

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: عتب ثابت قطنة على قومه من الأزد في حال استنصر عليها بعضهم فلم ينصره في ذلك:

تعففت عن شتم العشـيرة إنـنـي                      وجدت أبي قد عف عن شمتها قبلي

حليما إذا ما الحلـم كـان مـروءة                      وأجهل أحيانا إذا التمسوا جهـلـي  خبره مع أمية بن عبد الله بن خالد

أخبرني عمي قال: حدثني العنزي عن مسعود بن بشر قال: كان ثابت قطنة بخراسان، فوليها أمية بن عبد الله بن خالد بن أسد لعبد الملك بن مروان، فأقام بها مدة، ثم كتب إلى عبد الملك:  إن خراج خراسان لا يفي بمطبخي  ، وكان أمية يحمق، فرفع ثابت قطنة إلى البريد رقعة وقال: أوصل هذه معك، فلما أتى عبد الملك أوصل إليه كتاب أمية، ثم نثل كنانته بين يديه فقرأ ما فيها، حتى انتهى إلى رقعة ثابت قطنة، فقرأها ثم عزله عن خراسان.

 

صوت

 

طربت وهاج لي ذاك ادكـارا                      بكش وقد أطلت به الحصارا

وكنت ألذ بعض العيش حتـى                      كبرت وصار لي همي شعارا

رأيت الغانيات كرهن وصلـي                      وأبدين الصريمة لي جهـارا الشعر لكعب الأشقري، ويقال إنه لثابت قطنة، والصحيح أنه لكعب، والغناء للهذلي، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمر بن بانة، وذكر في نسخته الثانية أن هذا اللحن لقفا النجار.

 

أخبار كعب الأشقري ونسبه

نسبه وبعض أخباره

هو كعب بن معدان الأشقري، والأشاقر : قبيلة من الأزد، وأمه من عبد القيس، شاعر فارس خطيب معدود في الشجعان، من أصحاب المهلب والمذكورين في حروبه للأزارقة، وأوفده المهلب إلى الحجاج، وأوفده الحجاج إلى عبد الملك.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثنا أبي قال حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي عن قتادة قال: سمعت الفرزدق يقول: شعراء الإسلام أربعة: أنا وجرير، والأخطل، وكعب الأشقري.

أخبرني وكيع قال: حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال:حدثنا أبي قال: حدثنا وهب بن جرير قال: حدثنا أبي عن المتلمس قال: قلت للفرزدق: ياأبا فراس، أشعرت أنه نبغ من عمان شاعر من الأزد يقال له كعب? فقال الفرزدق: إي والذي خلق الشعر  شعره للحجاج عن وقعة الأزارقة

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد، وأخبرني عمي، قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري عن العتبي واللفظ له وخبره أتم قال: أوفد المهلب بن أبي صفرة كعبا الأشقري ومعه مرة بن التليد الأزدي إلى الحجاج بخبر وقعة كانت له مع الأزارقة، فلما قدما عليه ودخلا داره بدر كعب بن معدان فأنشد الحجاج قوله:

يا حـفـص إنـي عـدانـي عـنـكـم الـسـفـــر                      وقـد سـهـرت فـآذى عـينـي الــســـهـــر

علـقـت يا كـعـب بـعـد الـشـيب غـــانـــية                      والـشـيب فـيه عـن الأهـــواء مـــزدجـــر

أممسك أنت منها بالذي عهدت أم حبلها إذ نأتك اليوم منبتر

ذكرت خودا بأعلى الطف منزلها                      في غـرفة دونـهـا الأبـواب والـــحـــجـــر

وقـد تـركـت بـشـط الــزابـــيين لـــهـــا                      دارا بـهـا يسـعـد الـبـادون والــحـــضـــر

واخـتـرت دارا بـهـا قـوم أســـر بـــهـــم                      ما زال فـيهـم لـمـن تـخـتــارهـــم خـــير

أبـا سـعـيد فـإنـي سـرت مـنـتــجـــعـــا                      وطـالـب الـخـير مـرتـاد ومـنــتـــظـــر

لولا الـمـهـلـب مـــا زرنـــا بـــلادهـــم                      ما دامـت الأرض فـيهـا الـمـاء والـشــجـــر

ومـا مـن الـنـاس مـن حـي عـلـمـتــهـــم                      إلا يرى فـيهـم مـن ســـيبـــكـــم أثـــر وهي قصيدة طويلة قد ذكرها الرواة في الخبر، فتركت ذكرها لطولها ، يقول فيها:

فما يجاوز باب الـجـسـر مـن أحـد                      قد عضت الحرب أهل المصر فانجحروا

كنا نـهـون قـبـل الـيوم شـأنـهـم                      حتى تفـاقـم أمـر كـان يحـتـقـر

لما وهنا وقـد حـلـوا بـسـاحـتـنـا                      واستنفر الناس تارات فـمـا نـفـروا

نادى امرؤ لا خلاف فـي عـشـيرتـه                      عنه وليس به عن مثـلـهـا قـصـر

 

صفحة : 1601

 

حتى انتهى إلى قوله بعد وصفه وقائعهم مع المهلب في بلد بلد،فقال:

خبوا كمينهم بالسفح إذ نـزلـوا                      بكازرون فما عزوا وما نصروا

باتت كتائبنا تـردى مـسـومة                      حول المهلب حتى نور القمـر

هناك ولوا خزايا بعد ما هزموا                      وحال دونهم الأنهار والـجـدر

تأبى علينا حزازات النفوس فما                      نبقي عليهم ولا يبقون إن قدروا فضحك الحجاج وقال له:إنك لمنصف يا كعب،ثم قال الحجاج:أخطيب أنت أم شاعر?فقال :شاعر وخطيب.فقال له: كيف كانت حالكم مع عدوكم?قال:كنا إذا لقيناهم بعفونا وعفوهم،فعفوهم تأنيس منهم،فإذا لقيناهم بجهدنا وجهدهم طمعنا فيهم،قال:فكيف كان بنو المهلب?قال:حماة للحريم نهارا،وفرسان بالليل أيقاظا،قال:فأين السماع من العيان?قال:السماع دون العيان،قال:صفهم رجلا رجلا،قال:المغيرة فارسهم وسيدهم، نار ذاكية،وصعدة عالية،وكفى بيزيد فارسا شجاعا،ليث غاب،وبحر جم العباب،وجوادهم قبيصة،ليث المغار،وحامي الذمار،ولا يستحي الشجاع أن يفر من مدرك،فكيف لا يفر من الموت الحاضر،والأسد الخادر،وعبد الملك سم نافع،وسيف قاطع،وحبيب الموت الذعاف،إنما هو طود شامخ،وفخر باذخ،وأبو عيينة البطل الهمام،والسيف الحسام،وكفاك بالمفضل نجدة،ليث هدار،وبحر موار،ومحمد ليث غاب ،وحسام ضراب،قال:فأيهم أفضل?قال:هم كالحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها،قال :فكيف جماعة الناس?قال:على أحسن حال،أدركوا ما رجوا،وأمنوا مما خافوا،وأرضاهم العدل،وأغناهم النفل،قال:فكيف رضاهم عن المهلب?قال:أحسن رضا،وكيف لا يكونون كذلك وهم لا يعدمون منه رضا الوالد،ولا يعدم منهم بر الولد?قال:فكيف فاتكم قطري?قال:كدناه فتحول عن منزله وظن أنه قد كادنا ،قال:فهلا تبعتموهقال:حال الليل بيننا وبينه،فكان التحرز-إلى أن يقع العيان،ويعلم امرؤ ما يصنع-أحزم،وكان الحد عندنا آثر من الفل،فقال له المهلب:كان أعلم بك حيث بعثك وأمر له بعشرة آلاف درهم،وحمله على فرس،وأوفده على عبد الملك بن مروان فأمر له بعشرة آلاف أخرى.

شعره في المهلب وولده

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال:حدثني أبو عمروبندار الكرجي قال:حدثنا أبو غسان التميمي عن أبي عبيدة قال:كان عبد الملك بن مروان يقول للشعراء:تشبهوني مرة بالأسد،ومرة بالبازي،ومرة بالصقر،ألا قلتم كما قال كعب الأشقري في المهلب وولده

براك الله حين بـراك بـحـرا                      وفجر منك أنـهـارا غـزارا

بنوك السابقون إلى المعـالـي                      إذا ما أعظم الناس الخـطـارا

كأنهـم نـجـوم حـول بـدر                      دراري تكمـل فـاسـتـدارا

ملوك ينزلـون بـكـل ثـغـر                      إذا ما الهام يوم الروع طـارا

رزان في الأمور ترى عليهـم                      من الشيخ الشمائل والنـجـارا

نجوم يهـتـدى بـهـم إذا مـا                      أخو الظلماء في الغمرات حارا وهذه الأبيات من القصيدة التي أولها:

طربت وهاج لي ذاك ادكارا التي فيها الغناء.

تهاجيه وزياد الأعجم

أخبرني محمد بن الحسين الكندي قال:حدثنا غسان بن ذكوان الأهوازي قال:ذكر العتبي أن زيادا الأعجم هاجى كعبا الأشقري،واتصل الهجاء بينهما،ثم غلبه زياد،وكان سبب ذلك أن شرا وقع بين الأزد وبين عبد القيس،وحربا سكنها المهلب وأصلح بينهم،وتحمل ما أحدثه كل فريق على الآخر،وأدى دياته،فقال كعب يهجو عبد القيس:

إني وإن كنت فرع الأزد قد علموا                      أخزى إذا قيل عبد القيس أخوالي

فهم أبو مالك بالمجد شـرفـنـي                      ودنس العبد عبد القيس سربالـي قال:فبلغ قوله زيادا الأعجم فغضب وقال: يا عجبا للعبد بن العبد بن الحيتان والسرطان ، يقول هذا في عبد القيس، وهو يعلم موضعي فيهم والله لأدعنه وقومه غرضا لكل لسان، ثم قال يهجوه:

نبئت أشقر تهحونا فقلت لـهـم                      ما كنت أحسبهم كانوا ولا خلقوا

لا يكثرون وإن طالت حياتـهـم                      ولو يبول عليهم ثعلب غرقـوا

قوم من الحسب الأدنى بمنـزلة                      كالفقع بالقاع لا أصل ولا ورق

إن الأشاقر قد أضحوا بمنـزلة                      لو يرهنون بنعلي عبدنا غلقـوا قال: وقال فيه أيضا :

 

صفحة : 1602

 

 

هل تسمع الأزد ما يقال لهـا                      في ساحة الدار أم بها صمم?

اختتن القوم بعد ما هـرمـوا                      واستعربوا ضلة وهم عجـم قال: فشكاه كعب إلى المهلب وأنشده هذين البيتين، وقال: والله ما عنى بهما غيرك، ولقد عم بالهجاء قومك، فقال المهلب: أنت أسمعتنا هذا وأطلقت لسانه فينا به، وقد كنت غنيا عن هجاء عبد القيس وفيهم مثل زياد، فاكفف عن ذكره، فإنك أنت بدأته، ثم دعا بزياد فعاتبه، فقال: أيها الأمير، اسمع ما قال في وفي قومي فإن كنت ظلمته فانتصر، وإلا فالحجة عليه، ولا حجة على امرىء انتصر لنفسه وحسبه وعشيرته، وأنشده قول كعب فيهم:

لعل عبيد القيس تـحـسـب أنـهـا                      كتغلب في يوم الحفـيظة أو بـكـر

يضعضع عبد القيس في الناس منصب                      دنيء وأحساب جبرن على كـسـر

إذا شاع أمر الناس وأنشقت العـصـا                      فإن لكـيزا لا تـريش ولا تـبـري فقال المهلب: قد قلت له أيضا، قال: لا والله ما انتصرت، ولولاك ما قصرت وأي انتصار في قولي له :

يأيها الجاهل الجاري ليدركـنـي                      أقصر فإنك إن أدركت مصروع

يا كعب لاتك كالعنز التي بحثـت                      عن حتفها وجناب الأرض مربوع وقولي :

لئن نصبت لي الروقين معترضـا                      لأرمينك رمـيا غـير تـرفـيع

إن المآثر والأحسـاب أورثـنـي                      منها المجاجيع ذكرا غير موضوع  هجاؤه عبد القيس

يعني مجاعة بن مرة الحنفي، ومجاعة بن عمرو بن عبد القيس، فأقسم عليهما المهلب أن يصطلحا، فاصطلحا وتكافا، ومما هجا كعب الأشقري عبد القيس به قوله:

ثوى عامين في الجيف اللواتي                      كطرحة على باب الفصـيل

أحب إلي مـن ظـل وكـن                      لعبد القيس في أصل الفسيل

إذا ثار الفساء بهم تـغـنـوا                      ألم تربع على الدمن المثـول

تظل لها ضبابـات عـلـينـا                      موانع من مبيت أو مـقـيل  هجاؤه ربيعة واليمن

قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب للنضر بن حديد: كانت ربيعة واليمن متحالفة، فكان المهلب وابنه يزيد ينزلان هاتين القبيلتين في محلتهما، فقال كعب الأشقري ليزيد:

لا ترجون هـنـائيا لـصـالـحة                      واجعلهم وهدادا أسوة الـحـمـر

حيان مالهما فـي الأزد مـأثـرة                      غير النواكة والإفراط في الهـذر

واجعل لكيزا وراء الناس كلـهـم                      أهل الفساء وأهل النتن والـقـذر

قوم علينا ضباب من فـسـائهـم                      حتى ترانا له ميدا من السـكـر

أبلغ يزيد بأنا لـيس ينـفـعـنـا                      عيش رغيد ولا شيء من العطر

حتى تحل لكـيزا فـوق مـدرجة                      من الرياح على الأحياء من مضر

ليأخذوا لنزار حـظ سـبـتـهـا                      كما أخذنا بحظ الحلف والصهـر  شعره في المهلب أمام رسول الحجاج

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال: حدثنا أبي قال: كتب الحجاج بن يوسف إلى المهلب يأمره بمناجزة الأزارقة ويستبطئه ويضعفه، ويعجزه في تأخيره أمرهم ومطاولتهم ، فقال المهلب لرسوله: قل له: إنما البلاء أن الأمر إلى من يملكه لا إلى من يعرفه، فإن كنت نصبتني لحرب هؤلاء القوم على أن أدبرها كما أرى، فإن أمكنتني الفرصة انتهزتها، وإن لم تمكني توقفت ، فأنا أدبر ذلك بما يصلحه، وإن أردت مني أن أعمل وأنا حاضر برأيك وأنت غائب، فإن كان صوابا فلك، وإن كان خطأ فعلي، فابعث من رأيت مكاني، وكتب من فوره بذلك إلى عبد الملك، فكتب إليه عبد الملك: لا تعارض المهلب فيما يراه ولا تعجله، ودعه يدبر أمره، وقام الأشقري إلى المهلب فأنشده بحضرة رسول الحجاج:

إن ابن يوسف غره من غزوكم                      خفض المقام بجانب الأمصار

لو شاهد الصفين حين تـلاقـيا                      ضاقت عليه رحيبة الأقطـار

من أرض سابور الجنود، وخيلنا                      مثل القداح بريتها بـشـفـار

من كل خنذيذ يرى بلـبـانـه                      وقع الظباة مع القنا الخطـار

ورأى معاودة الرباع غـنـيمة                      أزمان كان محالف الإقـتـار

 

صفحة : 1603

 

 

فدع الحروب لشيبها وشبابها                      وعليك كل خريدة معطار فبلغت أبياته الحجاج، فكتب إلى المهلب يأمره بإشخاص كعب الأشقري إليه، فأعلم المهلب كعبا بذلك، وأوفده إلى عبد الملك من تحت ليلته، وكتب إليه يستوهبه منه، فقدم كعب على عبد الملك ، واسنشده فأعجبه ما سمع منه، فأوفده إلى الحجاج، وكتب إليه يقسم عليه أن يعفو عنه ويعرض عما بلغه من شعره، فلما وصل إليه ودخل عليه قال: إيه يا كعب.

ورأى معاودة الرباع غنيمة ققال له: أيها الأمير، والله لقد وددت في بعض ما شاهدته في تلك الحروب وأزماتها، وما يوردناه المهلب من خطرها، أن أنجو منها وأكون حجاما أو حائكا، فقال له الحجاج: أولى لك، لولا قسم أمير المؤمنين لما نفعك ما أسمع، فالحق بصاحبك، ورده من وقته.

هروبه إلى عمان

قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب النضر بن حديد: لما عزل يزيد بن المهلب عن خراسان ووليها قتيبة بن مسلم، مدحه كعب الأشقري، ونال من يزيد وثلبه، ثم بلغته ولاية يزيد على خراسان، فهرب إلى عمان على طريق الطبسين وقال:

وإني تارك مروا ورائي                      إلى الطبسين معتام عمانا

لآوي معقلا فيها وحرزا                      فكنا أهل ثروتها زمانـا فأقام بعمان مدة ثم اجتواها ، وساءت حاله بها، فكتب إلى المهلب معتذرا:

بئس التبدل من مرو وسـاكـنـهـا                      أرض عمان وسكنى تحت أطـواد

يضحي السحاب مطيرا دون منصفها                      كأن أجبالها عـلـت بـفـرصـاد

يا لهف نفسي على أمر خطلت بـه                      وما شفيت به غمري وأحـقـادي

أفنيت خمسين عاما في مـديحـكـم                      ثم اغتررت بقول الظالم الـعـادي

أبلغ يزيد قرين الجنـود مـألـكـه                      بان كعبـا أسـير بـين أصـفـاد

فإن عفوت فبيت الجـود بـيتـكـم                      والدهر طوران من غي وإرشـاد

وإن مننت بصفح أو سمـحـت بـه                      نزعت نحوك أطنـابـي وأوتـادي وذكر المدائني أن يزيد بن المهلب حبسه ودس إليه ابن أخ له فقتله.

شعره في مقتل بني الأهتم

قال أبو الفرج: ونسخت من كتاب النضر أيضا أن الحجاج كتب إلى يزيد بن المهلب يأمره بقتل بني الأهتم، فكتب إليه يزيد: إن بني الأهتم أصحاب مقال وليسوا بأصحاب فعال، فلا تقدر أن نحدث فيهم ضررا ، وفي قتلهم عاروسبة؛ واستوهبهم منه ، فتغافل عنهم، ثم انضموا إلى المفضل بن المهلب، فكتب إليه الحجاج يأمره بقتلهم، فكتب إليه بمثل ما كتب به أخوه، فأعفاهم ، ثم ولي قتيبة بن مسلم، فخرجوا إليه والتقوا معه، وذكروا بني المهلب فعابوهم، فقبلهم قتيبة واحتوى عليهم، فكانوا يغرون الجند عليه ويحملونهم على سوء الطاعة، فكتب يشكوهم إلى الحجاج، فكتب إليه يأمره بقتلهم، فقتلهم جميعا، فقال كعب الأشقري في ذلك:

قل للأهاتم من يعود بفضله                      بعد المفضل والأغـر يزيد

ردا صحائف حتفكم بمعاذر                      رجعت أشائم طيركم بسعود

ردا على الحجاج فيكم أمره                      فجزيتم غحسانه بجـحـود

فاليوم فاعتبروا فعال أخيكم                      إن القياس لجاهل ورشـيد  شعره في عمرو بن عمير

قال أبو الفرج: ونسخت من كتابه أيضا قال: ولى يزيد بن المهلب رجلا من اليحمد يقال له عمرو بن عمير الزم، فلقيه كعب الأشقري فقال له: أنت شيخ من الأذد يوليك الزم. ويولي ربيعة الأعمال السنية، وأنشده:

لقد فازت ربيعة بالمعالي                      وفاز اليحمدي بعهـد زم

فإن تك راضيا منهم بهـذا                      فزادك ربنا غما بـغـم

إذا الأزدي وضح عارضاه                      وكانت أمه من حي جرم

فثم حماقة لا شك فـيهـا                      مقابلة فمن خـال وعـم فرد اليحمدي عهد يزيد عليه، فحلف لا يستعمله سنة، فلما أجحفت به المئونة قال لكعب:

لوكنت خليتني يا كعب مـتـكـئا                      في دور زم لما أقفرت من علف

ومن نبيذ ومن لـحـم أعـل بـه                      لكن شعرك أمر كان من حرفي

إن الشقي بمرو من أقـام بـهـا                      يقارع الشوق من بيع ومن حلف أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثني الرياشي عن الأصمعي قال: قال كعب الأشقري يهجو زيادا الأعجم:

 

صفحة : 1604

 

 

وأقلف صلى بعد ما نـاك أمـه                      يرى ذاك في دين المجوس حلالا فقال له زياد: يا بن النمامة أهي أخبرتك أني أقلف? فغلبه زياد.

والقصيدة التي أولها:

طربت وهاج لي ذاك ادكارا  شعر له فيه غناء

وفيه الغناء المذكور بذكره خبر كعب الأشقري، يمدح بها المهلب بن أبي صفرة ويذكر قتاله الأزارقة، وفيها يقول بعد الأبيات الأربعة التي فيها الغناء:

غرضن بمجلسي وكرهن وصلي                      أوان كسيت من شمـط عـذارا

زرين علي حين بدا مـشـيبـي                      وصارت ساحتي لـلـهـم دارا

أتاني والـحـديث لـه نـمـاء                      مقالة جـائر أحـفـى وجـارا

سلوا أهل الأباطح مـن قـريش                      عن العز المـؤبـد اين صـارا

ومن يحمي الثغور إذا استحـرت                      حروب لا ينون لـهـا غـرارا

لقومي الأزد في الغمرات أمضى                      وأوفـى ذمة وأعـز جــارا

هم قادوا الجياد علـى وجـاهـا                      من الأمصار يقذفن المـهـارا

بكل مفـازة وبـكـل سـهـب                      بسابس لا يرون لهـا مـنـارا

إلى كرمان يحملـن الـمـنـايا                      بكـل ثـنـية يوقـدن نــارا

شوازب لم يصبن الثـار حـتـى                      رددناهـا مـكـلـمة مـرارا

ويشجرن العوالي السمر حـتـى                      ترى فيها عن الأسـل ازورارا

غداة تركن مصرع عـبـد رب                      يثرن عليه من رهج عـصـارا

ويوم الزحف بالأهواز ظـلـنـا                      نروي منهم الأسـل الـحـرارا

فقرت أعـين كـانـت حـديثـا                      ولم يك نـومـهـا إلا غـرارا

صنائعنا الشوابـغ والـمـذاكـى                      ومن بالمصر يحتلب العـشـار

فهن يبحن كل حـمـى عـزيز                      ويحمين الحـقـائق والـذمـارا

طوالات الـمـتـون يصـن إلا                      إذا سار المهلـب حـيث سـارا

فلولا الشيخ بالمصـرين ينـفـي                      عدوهم لقـد تـركـوا الـديارا

ولكن قارع الأبـطـال حـتـى                      أصابوا الأمن واجتنبوا الفـرارا

إذا وهنوا وحل بـهـم عـظـيم                      يدق العظم كان لهـم جـبـارا

ومبهمة يحيد النـاس عـنـهـا                      تشب الموت شد لـهـا الإزارا

شهاب تنجلي الظلـمـاء عـنـه                      يرى في كل مبهـمة مـنـارا

بل الرحمن جـارك إذ وهـنـا                      بدفعك عن محارمنا اخـتـيارا

براك الله حـين بـراك بـحـرا                      وفجر منـك أنـهـارا غـزارا وقد مضت هذه الأبيات متقدمة فيما سلف من أخبار كعب وشعره.

شعره في المهلب وولده

أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدثني العمري عن العتبي قال: قال عبد الملك بن مروان: يا معشر الشعراء، تشبهوننا بالأسد الأبخر، والجبل الوعر، والملح الأجاج? ألا قلتم كما قال كعب الأشقري في المهلب وولده:

لقد خاب أقوام سروا ظـلـم الـدجـى                      يؤمون عمرا ذا الشـعـير وذا الـبـر

يؤمون من نال الغنـى بـعـد شـيبـه                      وقاسي وليدا ما يقاسي ذوو الـفـقـر

فقل للجيم حـيا صـمـيمـا نـفـيتـم                      بخيلكم بالرغم مـنـه وبـالـصـغـر

فلو كنتـم حـيا صـمـيمـا نـفـيتـم                      بخيلكم بالرغم مـنـه وبـالـصـغـر

ولـكـنـكـم يا آل بـكـر بـن وائل                      يسودكم من كان في الـمـال ذا وفـر

هو المانع الكلب الـنـبـاح وضـيفـه                      خميص الحشا يرعى النجوم التي تسري  هجاؤه لأخيه وخبر ذلك

قال: وكان بين كعب وبين ابن أخيه هذا تباعد وعداوة، وكانت أمه سوداء فقال يهجوه:

إن السواد الذي سربلت تعرفه                      ميراث جدك عن آبائه النوب

أشبهت خالك خال اللؤم مؤتسيا                      بهديه سالكا في شر أسلـوب  مقتله

 

 

صفحة : 1605

 

قال المدائني في خبره: وكان ابن أخي كعب هذا عدوا له يسعى عليه، فلما سأل مجزأة بن زياد بن المهلب أباه في كعب فخلاه، دس إليه زياد بن المهلب ابن أخيه الشاعر، وجعل له ملا على قتله، فجاءه يوما وهو نائم تحت شجرة، فضرب رأسه بفأس فقتله، وذلك في فتنة يزيد بن المهلب وهو بعمان يومئذ، وكان لكعب أخ غير أخيه الذي قتله ابنه، فلما قتل يزيد بن المهلب فرق مسلمة بن عبد الملك أعماله على عمال شتى فولي البصرة وعمان عبد الرحمن بن سليمان الكلبي، فاستخلف عبد الرحمن على عمان محمد بن جابر الراسبي، فأخبر أخو كعب الباقي ابن أخيه الذي قتل كعبا، فقدمه إلى محمد بن جابر، وطلب القود منه بكعب، فقيل له: قتل أخوك بالأمس، وتقتل قاتله وهو ابن أخيك اليوم وقد مضى أخوك وانقضى، فتبقى فردا كقرن الأعضب  فقال: نعم إن أخي كعبا كان سيدنا وعظيمنا ووجهنا، فقتله هذا، وليس فيه خير، ولا في بقائه عز، ولا هو خلف من كعب فأنا أقتله به، فلا خير في بقائه بعد كعب، فقدمه محمد بن جابر فضرب عنقه والله أعلم.

مدحه لقتيبة بن مسلم

أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي ولقيط وغيرهما، قالوا: حاصر يزيد بن المهلب مدينة خوارزم في أيام ولايته، فلم يقدر على فتحها، واستصعب عليه، ثم عزل وولي قتيبة بن مسلم، فزحف إليها، فحاصرها ففتحها، فقال كعب الأشقري يمدحه ويهجو يزيد بن المهلب بقوله:

رمتك فيل بما فيها وما ظلـمـت                      من بعد ما رامها الفجفاجة الصلف

قيس صريح وبعض الناس يجمعهم                      قرى وريف ومنسوب ومقتـرف

منهم شناس ومرداذاء نـعـرفـه                      وفسخراء، قبور حشوها القـلـف

لم يركبوا الخيل إلا بعدما هرمـوا                      فهم ثقال على أكتافهـا عـنـف قال: الفيل الذي ذكره هو حصن خوارزم يقال له والكهندر: الحصن العتيق، والفجفاجة: الكثير الكلام. وشناس: اسم أبي صفرة، فغيره، وتسمى ظالما، ومرداذاء: أبو أبي صفرة، وسموه بسراق لما تعربوا، وفسخراء: جده، وهم قوم من الخوز من أهل عمان، نزلوا الأزد، ثم ادعوا أنهم صليبة صرحاء منهم،

صوت

 

لأسماء رسم أصبح اليوم دارسا                      وقفت يوما إلى الليل حابـسـا

فجئنا بهيت لا نرى غير منـزل                      قليل به الآثار إلا الروامـسـا

يدورون بي في ظل كل كنيسة                      فينسونني قومي وأهوى الكنائسا البيت الأول من الشعر للعباس بن مرداس السلمي، وبيت العباس مصراعه الثاني:

توهمت منه رحرحان فراكسا وغيره يزيد بن معاوية فقال مكان هذا المصراع:

وقفت به يوما إلى الليل حابسا والبيت الثاني للعباس بن مرداس، والثالث ليزيد بن معاوية، ذكر بعض الرواة أنه قاله على هذا الترتيب وأمر بديحا أن يغني فيه، ففعل؛ ولم يأت ذلك من جهة يوثق بها، والصحيح أن الغناء لمالك، خفيف ثقيل بالبنصر عن الهشامي ويحيى المكي، وهذا صوت زعموا أن مالكا صنعه على لحن سمعه من الرهبان.

أخبرني الحسن بن يحيى، عن حماد بن إسحاق، عن أحمد المكي، عن أبيه، عن سياط، أن مالكا دخل مع الوليد بن يزيد ديرا، فسمع لحنا من بعض الرهبان، فاستحسنه، فصنع عليه.

 

ليس رسم على الدفين ببالي فلما غناه الوليد قال له: الأول أحسن فعد إليه. اللحن الثاني الذي لمالك، ثقيل بالبنصر عن الهشامي وعمرو، وأوله:

در در الشباب والشعر الأس                      ود والضامرات تحت الرحال

والخناذيذ كالقداح من الـشـو                      حط يحملن شكة الأبـطـال

أخبار العباس بن مرداس ونسبه

نسبه

العباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد قيس بن رفاعة بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار، ويكنىأبا الهيثم، وإياه يعني أخوه سراقة بقوله يرثيه:

أعين ألا أبكي أبا الهـيثـم                      وأذري الدموع ولا تسأمي

 

صفحة : 1606

 

وهي أبيات تذكر في أخباره، وأمه الخنساء الشاعرة بنت عمرو بن الشريد، وكان العباس فارسا شاعرا شديد العارضة والبيان، سيدا في قومه من كلا طرفيه، وهو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام، ووفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أعطى المؤلفة قلوبهم فضل عليه عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، فقام وأنشده شعرا قاله في ذلك، فأمر بلالا فأعطاه حتى رضي، وخبره في ذلك يأتي بعد هذا الموضع؛ والله أعلم.

خبره مع صنم كان لهم

أخبرني محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق عن منصور بن المعتمر، عن قبيصة، عن عمرو والخزاعي عن العباس بن مرداس بن أبي عامر أنه قال: كان لأبي صنم اسمه ضمار ، فلما حضره الموت أوصاني به وبعبادته والقيام عليه، فعمدت إلى ذلك الصنم فجعلته في بيت، وجعلت آتيه في كل يوم وليلة مرة، فلما ظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعت صوتا في جوف الليل راعني، فوثبت إلى ضمار، فغذا الصوت في جوفه يقول:

قل للقبائل من سلـيم كـلـهـا                      هلك الأنيس وعاش أهل المسجد

إن الذي ورث النبوة والـهـدى                      بعد ابن مريم من قريش مهتدي

أودى الضمار وكان يعبد مـرة                      قبل الكتاب إلى النبي محـمـد قال: فكتمت الناس ذلك، فلم أحدث به أحدا حتى انقضت غزوة الأحزاب، فبينا أنا في إبلي في طرف العقيق وأنا نائم، إذ سمعت صوتا شديدا، فرفعت رأسي فإذا أنا برجل على حيالي بعمامة يقول: إن النور الذي وقع بين الأثنين وليلة الثلاثاء، مع صاحب الناقة العضباء ، في ديار بني أخي العنقاء ، فأجابه طائف عن شماله لا أبصره فقال: بشر الجن وأجناسها، أن وضعت المطي أحلاسها ، وكفت السماء أحراسها، وأن يغص السوق أنفاسها ، قال: فوثبت مذعورا وعرفت أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم مصطفى، فركبت فرسي وسرت حتى انتهيت إليه فبايعته وأسلمت، وانصرفت إلى ضمار فأحرقته بالنار.

خروجه إلى النبي وإسلامه

وقال أبو عبيدة: كانت تحت العباس بن مرداس حبيبة بنت الضحاك بن سفيان السلمي أحد بني رعل بن مالك، فخرج عباس حتى انتهى إلى إبله وهو يريد النبي صلى الله عليه وسلم، فبات بها، فلما أصبح دعا براعيه فأوصاه بإبله، وقال له: من سألك عني فحدثه أني لحقت بيثرب، ولا أحسبني إن شاء الله تعالى إلا آتيا محمدا وكائنا معه، فإني أرجو أن نكون برحمة من الله ونور، فإن كان خيرا لم أسبق إليه، وإن كان شرا نصرته لخئولته، على أني قد رأيت الفضل البين وكرامة الدنيا والآخرة في طاعته ومؤازرته، واتباعه ومبايعته، وإيثار أمره على جميع الأمور، فإن مناهج سبيله واضحة، وأعلام ما يجيء به من الحق نيرة، ولا أرى أحدا من العرب ينصب له إلا أعطي عليه الظفر والعلو، وأراني قد ألقيت علي محبة له، وأنا باذل نفسي دون نفسه أريد بذلك رضا إله السماء والأرض، قال: ثم سار نحو النبي صلى الله عليه وسلم، وانتهى الراعي نحو إبله، فأتى امرأته فأخبرها بالذي كان من أمره ومسيره إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقامت فقوضت بيتها، ولحقت بأهلها، فذلك حيث يقول عباس بن مرداس، حين أحرق ضمارا ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم:

لعمري إني يوم أجـعـل جـاهـدا                      ضمارا لرب العالمين مـشـاركـا

وتركي رسول الله والأوس حـولـه                      أولئك أنصار لـه، مـا أولـئكـا?

كتارك سهل الأرض، والحزن يبتغي                      ليسلك في عيب الأمور المسالـكـا

فآمنت بالـلـه الـذي أنـا عـبـده                      وخالفت من أمسى يريد الممالـكـا

ووجهت وجهي نحو مكة قـاصـدا                      وتابعت بين الأخشبين المـبـاركـا

نبي أتانا بعد عـيسـى بـنـاطـق                      من الحق فيه الفصل منه كذلـكـا

أمينا على الفـرقـان أول شـافـع                      وآخر مبعوث يجيب الـمـلائكـا

تلافى عرا الإسلام بعد انفصامـهـا                      فأحكمها حتى أقام المـنـاسـكـا

رأيت يا خـير الـبـرية كـلـهـا                      توسطت في القربى من المجد مالكا

سبقتهم بالمجد والـجـود والـعـلا                      وبالغاية القصوى تفوت السنابـكـا

 

صفحة : 1607

 

 

فأنت المصفى من قريش إذا سمت                      غلاصمها تبغي القروم الفواركـا قال: فقدم عباس على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حيث أراد المسير إلىمكة عام الفتح، فواعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قديدا ، وقال: القنى أنت وقومك بقديد، فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قديدا وهو ذاهب، لقيه عباس في ألف من بني سليم، ففي ذلك يقول عباس بن مرداس:

بلغ عباد الـلـه أن مـحـمـدا                      رسول الإله راشد أين يمـمـا

دعا قومه واستنصر اللـه ربـه                      فأصبح قد وافى الإله وأنعمـا

عشية واعدنا قديدا مـحـمـدا                      يؤم بنا أمرا من الله محكـمـا

حلفت يمينا بـرة لـمـحـمـد                      فأوفيته ألفا من الخيل معلـمـا

سرايا يراها الله وهو أمـيرهـا                      يؤم بها في الدين من كان أظلما

على الخيل مشدودا علينا دروعنا                      وخيلا كدفاع الأتي عرمرمـا

أطعناك حتى أسلم الناس كلهـم                      وحتى صبحنا الخيل أهل يلملما وهي قصيدة طويلة.

زوجته تؤنبه على إسلامه

قال: ولما عرف راعي العباس بن مرداس زوجته بنت الضحاك بن سفيان خبره وإسلامه قوضت بيتها، وارتحلت إلى قومها، وقالت تؤنبه:

ألم ينه عباس بن مرداس أنـنـي                      رأيت الورى مخصوصة بالفجائع

أتاهم من النصار كـل سـمـيذع                      من القوم يحمي قومه في الوقائع

بكل شديد الوقع عضـب، يقـوده                      إلى الموت هام المقربات البرائع

لعمري لئن تابعت دين مـحـمـد                      وفارقت إخوان الصفا والصنائع

لبدلت تلك النـفـس ذلا بـعـزة                      غداة اختلاف المرهفات القواطع

وقوم هم الرأس المقدم في الوغى                      وأهل الحجا فينا وأهل الدسـائع

سيوفهم عز الذلـيل وخـيلـهـم                      سهام الأعادي في الأمور الفظائع  شعره حين فضل غيره عليه في الغنائم

فأخبرني أحمد بن محمد بن الجعد قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، وأخبرني عمر بن إسمعيل بن أبي غيلان الثقفي قال: حدثنا داود بن عمرو الضبي قال: حدثنا محمد بن راشد عن ابن إسحاق، وحدثنيه محمد بن جرير قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا سلمة عن ابن إسحاق وقد دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غنائم هوزان ، فأكثر العطايا لأهل مكة، وأجزال القسم لهم ولغيرهم ممن خرج إلى حنين، حتى إنه كان يعطي الرجل الواحد مائة ناقة، والآخر ألف شاة، وزوى كثيرا من القسم عن أصحابه، فأعطى الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن والعباس بن مرداس عطايا فضل فيها عيينة والأقرع على العباس، فجاءه العباس فأنشده:

وكانت نهابـا تـلافـيتـهـا                      بكري على المهر في الأجرع

وإيقاظي الـحـي أن يرقـدوا                      إذا هجع القوم لـم أهـجـع

فأصبح نهبي ونهب العـبـي                      د بـين عـيينة والأقـــرع

وقد كنت في الحرب ذا تـدرإ                      فلم أعط شـيئا ولـم أمـنـع

وما كان حصن ولا حـابـس                      يفوقان مرداس في مجـمـع

وما كنت دون امرىء منهمـا                      ومن تضع الـيوم لا يرفـع

 

صفحة : 1608

 

فبلغ قوله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاه فقال له: أنت القائل:  أصبح نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينه  ? فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، لم يقل كذلك، ولا والله ما أنت بشاعر، ولا ينبغي لك الشعر، وما أنت براوية، قال: فكيف قال? فأنشده أبو بكر رضي الله عنه، فقال: هما سواء، لا يضرك بأيهما بدأت: بالأقرع أم بعيينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقطعوا عني لسانه، وأمر بأن يعطوه من الشاء والنعم ما يرضيه ليمسك، فأعطي، قال: فوجدت الأنصار في أنفسها، وقالوا: نحن أصحاب موطن وشدة، فآثر قومه علينا، وقسم قسما لم يقسمه لنا، وما نراه فعل هذا إلا وهو يريد الإقامة بين أظهرهم، فلما بلغ قولهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاهم في منزلهم فجمعهم، وقال: من كان ها هنا من غير الأنصار فليرجع إلى أهله فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار، قد بلغتني مقالة قلتموها، وموجدة وجدتموها في أنفسكم، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله? قالوا: بلى. قال: ألم آتكم قليلا فكثركم الله? قالوا: بلى. قال: ألم آتكم أعداء فألف الله بين قلوبكم? قالوا: بلى.

قال محمد بن إسحاق: وحدثني يعقوب بن عيينة أنه قال: ألم آتكم وأنتم لا تركبون الخيل فركبتموها? قالوا: بلى. قال: أفلا تجيبون يا معشر الأنصار? قالوا: لله ولرسوله علينا المن والفضل، جئتنا يارسول الله ونحن في الظلمات، فأخرجنا الله بك إلى النور، وجئتنا يا رسول الله ونحن على شفا حفرة من النار، فأنقذنا الله، وجئتنا يا رسول الله ونحن أذلة قليلون فأعزنا الله بك، فرضينا الله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا. فقال صلى الله عليه وسلم: أما والله لو شئتم لأجبتموني بغير هذا، فقلتم: جئتنا طريدا فآويناك، ومخذولا فنصرناك، وعائلا فأغنيناك، ومكذبا فصدقناك، وقبلنا منك ما رده عليك الناس، لقد صدقتم. فقال الأنصار: لله ولرسوله علينا المن والفضل ، ثم بكوا حتى كثر بكاؤهم، وبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا معشر الأنصار وجدتم في أنفسكم في الغنائم أن آثرت بها ناسا أتألفهم على الإسلام ليسلموا، ووكلتكم إلى الإسلام، أو لا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والإبل، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم? والذي نفس محمد بيده لو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، ولولا الهجرة لكنت أمرأ من الأنصار، ثم بكى القوم ثانية حتى أخضلوا لحاهم، وقالوا: رضينا يا رسول الله بالله وبرسوله حظا وقسما، وتفرق القوم راضين، وكانوا بما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد اغتباطا من المال.

وقال أبو عمرو الشيباني في هذا الخبر: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أشراف العرب عطايا يتألف بها قلوبهم وقومهم على الإسلام، فأعطى كل رجل من هؤلاء النفر وهم: أبو سفيان بن حرب، وابنه معاوية، وحكيم بن حزام، والحرث بن هشام، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى، وصفوان بن أمية، والعلاء بن حارثة الثقفي حليف بني زهرة، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى كل واحد من مخرمة بن نوفل وعمير بن وهب أحد بني عامر بن لؤي وسعيد بن يربوع، ورجلا من بني سهم دون ذلك ما بين الخمسين وأكثر وأقل، وأعطى العباس بن مرداس أبا عر، فتسخطها وقال الأبيات المذكورة، فأعطاه حتى رضي.

كتب عبد الملك لابن الزبير يتوعده

حدثنا وكيع قال:حدثنا الكراني قال:حدثنا عطاء بن مصعب،عن عاصم بن الحدثان قال:كتب عبد الملك بن مروان إلى عبد الله بن الزبير كتابا يتوعده فيه وكتب فيه:

إني لعند الحرب تحمل شكـتـي                      إلى الروع جرداء السيالة ضامر والشعر للعباس بن مرادس.فقال ابن الزبير :أبا لشعر يقوى علي?والله لا أجيبه إلا بشعر هذا الرجل؛فكتب إليه:

إذا فرس العوالي لم يخالـج                      همومي غير نصر واقتراب

وإنا والسوابـح يوم جـمـع                      وما يتلو الرسول من الكتاب

هزمنا الجمع جمع بني قسي                      وحكت بركها ببنـي رئاب هذه الأبيات من قصيدة يفخر فيها العباس برسول الله صلى الله عليه وسلم ونصره له،وفيها يقول:

بذي لجب رسول الله فيه                      كتيبته تعرض للضراب

 

صفحة : 1609

 

 

ولو أدركن صرم بني هلال                      لآم نساؤهم والنقع كابـي  خبر قتل أخيه هريم

قال أبو عبيدة:وكان هريم بن مرادس مجاورا في خزاعة في جوار رجل منهم يقال له عامر،فقتله رجل من خزاعة يقال له خويلد،وبلغ ذلك أخاه العباس بن مرادس،فقال يحض عامرا على الطلب بثأر جاره،فقال:

إذا كان باغ منك نال ظـلامة                      فإن شفاء البغي سيفك فافصل

ونبئت أن قد عوضوك أباعرا                      وذلك للجيران غزل بمغـزل

فخذها فليست للغزيزبنصـرة                      وفيها متاع لا مرىء متدلـل وهذا البيت الأخير كتب به الوليد بن عقبة إلى معاوية لما دعاه علي عليه السلام إلى البيعة،وتحدث الناس أنه وعده أن يوليه الشأم إذا بايعه.قال:فلما بلغته هذه الأبيات آلى لا يصيب رأسه ولا جسده ماء بغسل حتى يثأربهريم،ثم إن أبا حليس النصري لقي خويلدا قاتل هريم فقتله،فقال بنو نصر:بؤ بدم فلان النصري-رجل كانت خزاعة قتلته-فقال أبو الحليس:لا،بل هو بؤ بدم هريم بن مرادس،وبلغ العباس،فقال يمدحه بقوله:

أتاني من الأنباء أن ابن مالـك                      كفى ثائرا من قومه من تغببا

ويلقاك ما بين الخميس خويلـد                      أرى عجبا بل قتله كان أعجبا

فدى لك أمي إذ ظفرت بقتلـه                      وأقسم أبغي عنك أما ولا أبـا

فمثلك أدى نصرة القوم عنـوة                      ومثلك أعيا ذا السلاح المجربا  خروجه لحرب بني نصر

قال أبو عبيدة:أغارت بنو نصر بن معاوية على ناحية من أرض بني سليم،فبلغ ذلك العباس بن مرداس، فخرج إليهم في جمع من قومه، فقاتلهم حتى أكثر فيهم القتل، وظهرت عليهم بنو سليم، وأسروا ثلاثين رجلا منهم، وأخذت بنو نصر فرسا للعباس عائرة يقال لها زرة ، فانطلق بها عطية بن سفيان النصري وهو يؤمئذ رئيس القوم فقال في ذلك العباس:

أبى قومنا إلا الفرار ومـن تـكـن                      هوازن مولاه من النـاس يظـلـم

أغار علينا جمعهـم بـين ظـالـم                      وبين ابن عم كـاذب الـود أيهـم

كلاب وما تفعل كـلاب فـإنـهـا                      وكعب سراة البيت ما لـم تـهـدم

فإن كان هذا صنعكم فـتـجـردوا                      لألفـين مـنـا حـاسـر ومـلأم

وحرب إذا المرء السمين تمرسـت                      بأعطافه بالسـيف لـم يتـرمـرم

ولم أحتسب سفيان حتـى لـقـيتـه                      على مأقط إذ بيننا عطر مـنـشـم

فقلت وقد صاح النساء خـلالـهـم                      لخيلي شدي إنـهـم قـوم لـهـذم

فما كان تهليل لدن أن رمـيتـهـم                      بزرة ركضا حاسرا غير ملـجـم

إذا هي صدت نحرها عن رماحهـم                      أقدمها حتـى تـنـعـل بـالـدم

ومازال منهم رائغ عن سبـيلـهـا                      وآخر يهوي لـلـيدين ولـلـفـم

لدن غدوة حتى استبيحـوا عـشـية                      وذلوا فكانوا لحمة الـمـتـلـحـم

فآبوا بها عرفا وألقيت كلـكـلـي                      على بطل شاكي السلاح مكـلـم

ولن يمنـع الأقـوام إلا مـشـايح                      يطارد في الأرض الفضاء ويرتمي قال: ثم إن العباس بن مرداس جمع الأسارى من بني نصر وكانوا ثلاثين رجلا فأطلقهم، وظن أنهم سيثيبونه بفعله، وأن سفيان سيرد عليه فرسه زرة، فلم يفعلوا، فقال في ذلك:

أزرة خير أم ثلاثون منكم                      طليقا رددناه إليكم مسلما قال: وجعل العباس يهجو بني نصر، فبلغه أن سفيان بن عبد يغوث يتوعده في ذلك، فلقيه عباس في المواسم، فقال له سفيان: والله لتنتهين أو لأصرمنك، فقال عباس:

أتوعدني بالصرم إن قلت اوفـنـي                      فأوف وزد في الصرم لهزمة النتن وقال العباس أيضا فيه:

ألا من مبلغ سفيان عـنـي                      وظني أن سيلغه الرسـول

ومولاه عـطـية أن قـيلا                      خلا مني وأن قد بات قـيل

سئمتم ربكم وكفـرتـمـوه                      وذلكم بأرضكـم جـمـيل

ألا توفي كما أوفى شبـيب                      فحل له الولاية والشمـول

أبوه كان خـيركـم وفـاء                      وخيركم إذا حمد الجمـيل

ألام على الهجاء وكـل يوم                      تلاقيني من الجيران غـول

سأجعلها لأجمعكم شـعـارا                      وقد يمضي اللسان بما يقول

 

صفحة : 1610

 

وهذه الأبيات من شعر العباس بن مرداس التي ذكرنا أخباره بذكرها، وفيه الغناء المنسوب من قصيدة قالها في غزاة غزاها بني زبيد باليمن.

حربه مع بني زبيد

قال أبو عمرو وأبو عبيدة: جمع العباس بن مرداس بن أبي عامر- وكان يقال للعباس: مقطع الأوتاد جمعا من بني سليم فيه من جميع بطونها، ثم خرج بهم حتى صبح بني زبيد بتثليث من أرض اليمن بعد تسع وعشرين ليلة، فقتل فيها عددا كثيرا، وغنم حتى ملأ يديه، فقال في ذلك:

لأسماء رسم أصبح اليوم دارسا                      وقفت به يوما إلى الليل حابسا يقول فيها:

فدع ذا ولكن هل أتاك مـقـادنـا                      لأعدائنا نزجي الثقال الكـوادسـا

سمونا لهم تسعا وعـشـرين لـيلة                      نجيز من الأعراض وحشا بسابسا

فلم أر مثل الحي حيا مصـبـحـا                      ولا مثلنا يوم التقـينـا فـوارسـا

إذا ما شددنا شدة نصـبـوا لـنـا                      صدور المذاكى والرماح المداعسا

وأحصننا منهم فما يبـلـغـونـنـا                      فوارس منا يحبسون المحابـسـا

وجرد كأن الأسد فوق متـونـهـا                      من القوم مرءوسا كمـيا ورائسـا

وكنت أمام الـقـوم أول ضـارب                      وطاعنت إذ كان الطعان مخالسـا

ولو مات منهم من جرحنا لأصبحت                      ضياع بأكناف الأراك عـرائسـا فأجابه عمرو بن معد يكرب عن من هذه القصيدة بقصيدة أولها:

لمن طلل بالخيف أصبح دراسا                      تبدل آراما وعينا كـوانـسـا وهي طويلة، لم يكن في ذكرها مع أخبار العباس فائدة، وإنما ذكرت هذه الأبيات من قصيدة العباس لأن الغناء المذكور في أولها.

شعره في جلاء بني النضير

وجواب خوات له

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا أبو غزية عن فليح بن سليمان قال: قال العباس يذكر جلاء بني النضير ويبكيهم بقوله:

لو أن قطين الدار لم يتحمـلـوا                      وجدت خلال الدار ملهى وملعبا

فإنك عمري هل رأيت ظعائنـا                      سلكن على ركن الشظاة فميثنـا

عليهن عين من ظبـاء تـبـالة                      أوانس يصبين الحليم المجـربـا

إذا جاء باغي الخير قلن بشـاشة                      له بوجوه كالدنانير: مـرحـبـا

وأهلا فلا ممنوع خير طلبـتـه                      ولا أنت تخشى عندنا أن تؤنبـا

فلا تحسبني كنت مولى ابن مشكم                      سلام ولا مولى حيي بن أخطبـا فقال خوات بن جبير يجيب العباس:

اتبكي على قتلى يهـود وقـد تـرى                      من الشجو لو تبكي أحق وأقـربـا

فهلا على قتلـى بـبـطـن أوارة                      بكيت وما تبكي من الشجو مغضبـا

إذا السلم دارت في الصديق رددتهـا                      وفي اليدين صدادا وفي الحرب ثعلبا

وإنك لمـا أن كـلـفـت بـمـدحة                      لمن كان مينا مـدحـه وتـكـذبـا

وجئت بأمر كنت أهلا لـمـثـلـه                      ولم تلف فيهم قائلا لك مـرحـبـا

فهلا إلى قوم ملوك مـدحـتـهـم                      بنوا من ذرا المجد المقدم منصـبـا

إلى معشر سادوا الملوك وكـرمـوا                      ولم يلف فيهم طالب الحق مجـدبـا

أولئك أولى مـن يهـود بـمـدحة                      تراهم وفيهم عزة المجد تـرتـبـا فقال عباس بن مرداس يجيبه:

هجوت صريح الكاهنين وفيكـم                      لهم نعم كانت من الدهر ترتبـا

أولئك أحرى إن بكيت علـيهـم                      وقومك لو أدوا من الحق موجبا

من الشكر إن الشكر خير مغبة                      وأوافق فعلا للذي كان أصوبـا

فصرت كمن أمسى يقطع رأسه                      ليبلغ عزا كان فيه مـركـبـا

فبك بني هارون وأذكر فعالهـم                      وقتلهم للجوع إذ كنت مسغبـا

 

صفحة : 1611

 

قال الزبير: فحدثني محمد بن الحسن عن محرز بن جعفر قال: التقى عباس بن مرداس وخوات بن خبير يوما عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال خوات: يا عباس أأنت الذي رثيت اليهود، وقد كان منهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان فقال عباس: إنهم كانوا أخلائي في الجاهلية، وكانوا أقواما أنزل بهم فيكرمونني، ومثلي يشكر ما صنع إليه من الجميل، وكان بينهما قول حتى تجاذبا، فقال له خوات: أما والله لئن استقبلت غرب شبابي، وشبا أنيابي، وخشن جوابي، لتكرهن عتابي. فقال عباس: والله يا خوات، لئن استقبلت عني وفني وذكاء سني، لتفرن مني، إياي تتوعد يا خوات، يا عاني السوآت والله لقد استقبلك اللؤم فردعك ، واستدبرك فكسعك ، وعلاك فوضعك، فما أنت بمهجوم عليك من ناحية إلا عن فضل لؤم؛ إياي ثكلتك أمك تروم? وعلي تقوم? والله ما نصبت سوقك، ولأظهرن عليك بعد؛ فقال عمر لهما: إما أن تسكتا وإما أن أوجعكما ضربا، فصمتا وكفا، أخبرني بذلك علي بن نصر قال: حدثني الحسن بن محمد بن جرير، وحدثني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا عبد الرحمن بن الحسن عن أبيه مثل ذلك. وللعباس مع خوات مناقصات أخر في هذا المعنى، كرهت الإطالة بذكرها.

رثاه أخوه بشعر

قال أبو عبيدة: وكان العباس وسراقة وحزن وعمرو بنو مرداس كلهم من الخنساء بنت عمرو بن الشريد، وكلهم كان شاعرا، وعباس أشعرهم، وأشهرهم وأفرسهم وأسودهم، ومات في الإسلام، فقال أخوه سراقة يرثيه:

أعين ألا أبكي أبا الهـيثـم                      وأذري الدموع ولا تسأمي

وأثـنـي عـلـيه بـآلائه                      بقول امرىء موجع مؤلم

فما كنت بائعه بـامـرىء                      أراه ببـدو ولا مـوسـم

أشد على رجـل ظـالـم                      وأدهى لداهـية مـيثـم وقالت أخته عمرة ترثيه:

لتبك ابن مرداس على ما عراهم                      عشيرته إذ حم أمس زوالـهـا

لدى الخصم إذ عند الأمير كفاهم                      فكان إليه فصلها وجـدالـهـا

ومعضلة للحاملين كـفـيتـهـا                      إذا أنهلت هوج الرياح طلالها وقد روى العباس بن مرداس عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقل عنه الحديث.

دعاء النبي عليه السلام لأمته

حدثنا الحسين بن الطيب الشجاعي البلخي بالكوفة قال: حدثنا أيوب بن محمد الطلحي قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال: حدثنا عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي أن أباه حدثه عن جده عباس بن مرداس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة قال: فأجيب لهم بالمغفرة إلا ما كان من مظالم العباد بعضهم لبعض، قال: فإني آخذ للمظلوم من الظالم، قال: أي رب إن شئت أعطيت للمظلوم من الجنة، وغفرت للظالم، فلم يجب في حينه، فلما أصبح في المزدلفة أعاد الدعاء، فأجيب لهم بما سأل، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم أو تبسم، فقال أبو بكر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها أو تبسم، فقال: إن إبليس لما علم أن الله غفر لأمتي جعل يحثو التراب على رأسه، ويدعو بالويل والثبور، فضحكت من جزعه. تمت أخبار العباس .

 

صوت

 

أرجوك بعد أبي العباس إذ بـانـا                      يا أكرم الناس أعراقا وعـيدانـا

أرجوك من بعده إذ بان سـيدنـا                      عنا ولولاك لاستسلمت إذ بـانـا

فأنت أكرم من يمشي على قـدم                      وأنضر الناس عند المحل أغصانا

لو مج عود على قوم عصارتـه                      لمج عودك فينا المسك والبـانـا الشعر لحماد عجرد، والغناء لحكم الوادي، ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها.

 

أخبار حماد عجرد ونسبه

نسبه

هو حماد بن يحيى بن عمر بن كليب، ويكنىأبا عمر ، مولى بني عامر بن صعصعة وذكر ابن النطاح أنه مولى بني سراة، وذكر سليمان بن أبي شيخ عن صالح بن سليمان أنه مولى بني عقيل، وأصله ومنشؤه بالكوفة، وكان يبري النبل، وقيل: بل أبوه كان نبالا، ولم يتكسب هو بصناعة غير الشعر.

 

 

صفحة : 1612

 

وقال صالح بن سليمان: كان عم لحماد عجرد يقال له مؤنس بن كليب، وكانت له هيئة وابن عمه عمارة بن حمزة بن كليب انتقلوا عن الكوفة ونزلوا واسطا، فكانوا بها، وحماد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، إلا أنه لم يشتهر في أيام بني أمية شهرته في أيام بني العباس، وكان خليعا ماجنا، متهما في دينه، مرميا بالزندقة.

كان أبوه مولى لبني هند  وهجاء بشار له

أخبرني عمي قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: قال أبو دعامة: حدثني عاصم بن أفلح بن مالك بن أسماء قال: كان يحيى أبو حماد عجرد مولى لبني هند بنت أسماء بن خارجة، وكان وكيلا لها في ضيعتها بالسواد ، فولدت هند من بشر بن مروان عبد الملك بن بشر، فجر عبد الملك ولاء موالي أمه فصاروا مواليه. قال: ولما كان والد حماد عجرد بالسواد في ضيعتها نبطه بشار لما هجاه بقوله:

وأشدد يديك بحماد أبي عمر                      فإنه نبطي من زنـابـير قال: وإنما لقبه بعجرد عمرو بن سندي، مولى ثقيف لقوله فيه:

سبـحـت بـغـلة ركـبـت عـلـيهـــا                      عجـبـا مـنـك خـيبة لـلـمـســـير

زعـمـت أنـهـا تــراه كـــبـــيرا                      حملـهـا عـجـرد الـزنـا والـفـجـور

إن دهـرا ركـبـت فـيه عـلـى بـــغ                      ل وأوقـفـتـه بـــبـــاب الأمـــير

لجــدير ألا نـــرى فـــيه خـــيرا                      لصـغـير مـنـا ولا لــكـــبـــير

ما أمـرؤ ينـتـقـيك يا عـقـده الـكــل                      ب لأسـراره بـجـــد بـــصـــير

لاولا مجلس أجنك للذات يا عجرد الخنا بستير يعني بهذا القول محمد بن أبي العباس السفاح، وكان عجرد في ندمائه، فبلغ هذا الشعرأبا جعفر، فقال لمحمد: مالي ولعجرد يدخل عليك? لا يبلغني أنك أذنت له، فقال: وعجرد مأخوذ من المعجرد، وهو العريان في اللغة، يقال: تعجرد الرجل إذا تعرى فهو يتعجرد تعجردا: وعجردت الرجل أعجرده عجردة إذا عريته.

الحمادون الثلاثة أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، ونسخت من كتاب عبد الله بن المعتز، حدثني الثقفي عن إبراهيم بن عمر العامري قال: كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمادون: حماد عجرد وحماد الراوية، وحماد بن الزبرقان، يتنادمون على الشراب، ويتناشدون الأشعار ويتعاشرون معاشرة جميلة، وكانوا كأنهم نفس واحدة، يرمون بالزندقة جميعا وأشهرهم بها حماد عجرد.

أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة إجازة عن التوزي : أن حمادا لقب بعجرد لأن أعرابيا مر به في يوم شديد البرد وهو عريان يلعب مع الصبيان فقال له: تعجردت يا غلام؛ فسمي عجردا.

قال أبو خليفة: المتعجرد: المتعري؛ والعجرد أيضا: الذهب.

سبب مهاجاة بشار أخبرني أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى، عن علي بن مهدي، عن عبد الله بن عطية، عن عباد بن الممزق، وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: كان السبب في مهاجاة حماد عجرد بشارا أن حمادا كان نديما لنافع بن عقبة، فسأله بشار تنجز حاجة له من نافع، فأبطأ عنها، فقال بشارفيه:

مواعيد حماد سـمـاء مـخـيلة                      تكشف عن رعد ولكن ستبـرق

إذا جئته يوما أحال علـى غـد                      كما وعد الكمون ما ليس يصدق

وفي نافع عني جفاء، وإنـنـي                      لأطرق أحيانا، وذو اللب يطرق

وللنقرى قوم فلو كنت مـنـهـم                      دعيت ولكن دوني الباب مغلـق

أبا عمر خلفت خلفك حاجـتـي                      وحاجة غيري بين عينيك تبرق

وما زلت أستأنيك حتى حسرتني                      بوعد كجاري الآل يخفى ويخفق قال: فغضب حماد وأنشد نافعا الشعر، فمنعه من صلة بشار، فقال بشار:

أبا عمر ما في طلابيك حـاجة                      ولا في الذي منيتنا ثم أصحـرا

وعدت فلم تصدق وقلت غدا غدا                      كما وعد الكمون شربا مؤخرا  كان من كبار الزنادقة

 

 

صفحة : 1613

 

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني أبو إسحاق الطلحي قال: حدثني أبو سهبل قال: حدثني أبو نواس قال: كنت أتوهم أن حماد عجرد إنما رمي بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حبست في حبس الزنادقة، فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرءون به في صلاتهم، قال: وكان له صاحب يقال له حريث على مذهبه، وله يقول بشار حين مات حماد عجرد على سبيل التعزية له:

بكى حريث فوقره بتـعـزية                      مات ابن نهيا وقد كانا شريكين

تفاوضا حين شابا في نسائهمـا                      وحللا كل شيء بين رجلـين

أمسى حريث بما سدى له غيرا                      كراكب اثنين يرجو قوة اثنين

حتى إذا أخذا في غير وجههما                      تفرقا وهوى بين الطريقـين يعني أنه كان يقول بقول الثنوية في عبادة اثنين، فتفرقا وبقي بينهما حائرا، قال: وفي حماد يقول بشار أيضا وينسبه إلى أنه ابن نهيا

يا بن نهيا رأس علي ثـقـيل                      واحتمال الرؤوس خطب جليل

ادع غيري إلى عبادة الاثنـي                      ن فإني بواحـد مـشـغـول

يابن نهيا برئت منك إلى الـل                      ه جهارا، وذاك مني قـلـيل قال: فأشاع حماد هذه الأبيات لبشار في الناس، وجعل فيها مكان  فإني بواحد مشغول  :  فإني عن واحد مشغول  ليصحح عليه الزندقة والكفر بالله تعالى، فما زالت الأبيات تدور في أيدي الناس حتى انتهت إلى بشار، فاضطرب منها وتغير وجزع وقال: أشاط ابن الزانية بدمي ، والله ما قلت إلا فإني بواحد مشغول فغيرها حتى شهرني في الناس بما يهلكني  هجاء بشار له

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني صالح بن سليمان الخثعمي قال: قيل لعبد الله بن ياسين : إن بشارا المرعث هجا حمادا فنبطه، فقال عبد الله: قد رأيت جد حماد، وكان يسمى كليبا، وكانت صناعته صناعة لا يكون فيها نبطي، كان يبري النبال ويريشها، وكان يقال له: كليب النبال، مولى بني عامر بن صعصعة.

هجاء بشار له ولصديقه سليم أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني أحمد بن خلاد قال: كان بشار صديقا لسليم بن سالم مولى بني سعد، وكان المنصور أيام استتر بالبصرة نزل على سليم بن سالم، فولاه أبو جعفر حين أفضى المر إليه السوس وجنديسابور، فانضم إليه حماد عجرد، فأفسده على بشار، وكان له صديقا، فقال بشار يهجوهما:

أمـسـى سـلـيم بـأرض الـسـوس مـرتـفــقـــا                      في خـزهـا بــعـــد غـــربـــال وأمـــداد

ليس الـنــعـــيم وإن كـــنـــا نـــزن بـــه                      إلا نــعـــيم ســـلـــيم ثـــم حـــمـــاد

نيكا وناكا ولم يشعر بذا أحد في غفلة من نبي الرحمة الهادي فنشب الشر بين حماد وبشار دخل بينه وبين بشار رجل بصري أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، عن عمر بن شبة، عن أبي أيوب الزبالي ، قال: كان رجل من أهل البصرة يدخل بين حماد وبشار على اتفاق منهما ورضا بأن ينقل إلى كل واح منهما وعنه الشعر، فدخل يوما إلى بشار فقال له: إيه يا فلان، و ما قال ابن الزانية في ?فأنشده:

إن تاه بشار عليكم فقد                      أمكنت بشارا من التيه فقال بشار: بأي شيء ويحك?فقال:

وذاك إذ سميته بآسمه                      ولم يكن حر يسميه فقال: سخنت عينه ، فبأي شيء كنت أعرف? إيه، فقال:

فصار إنسانا بذكري لـه                      ما يبتغي من بعد ذكريه? فقال: ما صنع شيئا، إيه ويحك? فقال:

لم أهج بشارا ولكنني                      هجوت نفسي بهجائيه فقال: على هذا المعنى دار، وحوله حام ، إيه أيضا، وأي شيء قال? فأنشده:

أنـت ابـن بـرد مــثـــل بـــر                      د فـي الـنــذالة والـــرذالـــه

من كان مثل أبيك يا أعمى أبوه فلاأبا له فقال: جود ابن الزانية، وتمام الأبيات الأول:

لم آت شيئا قط فيما مضى                      ولست فيما عشت آتـيه

أسوأ لي في الناس أحدوثة                      من خطأ أخطأتـه فـيه

فاصبح اليوم بسبـي لـه                      أعظم شأنا من مـوالـيه أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة، عن خلاد الأرقط قال: أنشد بشارا راويته قول عجرد فيه:

 

صفحة : 1614

 

 

دعيت إلى بـرد وأنـت لـغـيره                      فهبك ابن برد نكت أمك من برد? فقال بشار لراويته: ها هنا أحد? قال: لا، فقال: أحسن والله ما شاء ابن الزانية.

أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني محمد بن يزيد المهلبي قال: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي عيينة قال: قال حماد عجرد لما أنشد قول بشار فيه:

يابن نهيا رأس علي ثقـيل                      واحتمال الرأسين أمر جليل

فادع غيري إلى عبادة ربي                      ن فإني بواحد مشـغـول والله ما أبالي بهذا من قوله، وإنما يغيظني منه تجاهله بالزندقة، يوهم الناس إنه يظن أن الزنادقة تعبد رأسا ليظن الجهال أنه لا يعرفها، لأن هذا قول تقوله العامة لا حقيقة له، وهو والله أعلم بالزندقة من ماني .

أخبرني أحمد بن عبد العزيز وأحمد بن عبيد بن عمار وحبيب بن نصر المهلبي، قالوا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا أبو أيوب الزبالي قال: قال بشار لراوية حماد: ما هجاني به اليوم حماد? فأنشده:

ألا من مبلغ عني الذي                      والـــده بـــرد فقال: صدق ابن الفاعلة، فما يكون?فقال:

إذا ما نسب الناس                      فلا قبل ولا بعد فقال: كذب ابن الفاعلة، وأين هذه العرصات من عقيل? فما يكون? فقال:

وأعمى قلطبان ما                      على قاذفه حـد فقال: كذب ابن الفاعلة، بل عليه ثمانون جلدة، هيه، فقال:

وأعمى يشبه القرد                      إذا ما عمي القرد فقال: والله ما أخطأ ابن الزانية حين شبهني بقرد، حسبك حسبك، ثم صفق بيديه، وقال: ما حيلتي? يراني فيشبهني ولا أراه فأشبهه.

وقال: أخبرني بهذا الخبر هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ فذكر مثله، وقال فيه: لما قال حماد عجرد في بشار:

شبيه الوجه بالقرد                      إذا ما عمي القرد بكى بشار، فقال له قائل: أتبكي من هجاء حماد? فقال: والله ما أبكي من هجائه ولكن أبكي لأنه يراني ولا أراه، فيصفني ولا أصفه، قال: وتمام هذه الأبيات:

ولو ينكه في صـلـد                      صفا لا نصدع الصلد

دني لـم يرح يومـا                      إلى مجد ولـم يغـد

ولم يحضر مع الحضا                      ر في خير ولم يبـد

ولـم يخـش لـه ذم                      ولم يرج له حـمـد

جرى بالنحس مذكان                      ولم يجر له سـعـد

هو الكلب إذا ما مـا                      ت لم يوجد له فقـد أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني خلاد الأرقط قال: أشاع بشار في الناس أن حماد عجرد كان ينشد شعرا ورجل بإزائه يقرأ القرآن وقد اجتمع الناس عليه، فقال حماد: علام اجتمعوا? فوالله لما أقول أحسن مما يقول.

قال: وكان بشار يقول: لماسمعت هذا من حماد مقته عليه.

هجاء بشار له أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: أخبرني أبو إسحاق الطلحي قال: حدثني أبو سهيل عبد الله بن ياسين أن بشارا قال: في حماد عجرد وسهيل بن سالم، وكان سهيل من أشراف أهل البصرة، وكان من عمال المنصور، ثم قتله بعد ذلك بالعذاب، وكان حماد وسهيل نديمين:

ليس النعيم وإن كنـا نـزن بـه                      إلا نعيم سـهـيل ثـم حـمـاد

ناكا ونيكا إلا لاح شـبـيهـمـا                      في غفلة عن نبي الرحمة الهادي

فهـدين طـورا وفـهـادين آونة                      ما كان قبلهما فهـد بـفـهـاد

سبحانك الله لو شئت امتسختهمـا                      قردين فاعتلجا في بـيت قـراد قال: يعني بقوله ما كان قبلهما فهد بفهاد أي لم يكن الفهد فهادا، كما تقول: لم يكن زيد بظريف، ولم يكن زيد ظريفا، قال ابن ياسين: وفيه يقول بشار أيضا:

مالمت حمادا على فسقه                      يلومه الجاهل والمـائق

وما هما من أيره واسته?                      ملكه إياهما الخـالـق

ما بات إلا فوقه فاسـق                      ينيكه أو تحته فـاسـق هجاؤه لبشار أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: أنشدني ابن أبي سعد لحماد عجرد في بشار قال وهو من أغلظ ما هجاه به عليه:

نهاره أخبـث مـن لـيلـه                      ويومه أخبث من أمـسـه

وليس بالمقلـع عـن غـيه                      حتى يوارى في ثرى رمسه

 

صفحة : 1615

 

قال: وكان أغلظ على بشار من ذلك كله وأوجعه له قوله فيه:

لو طليت جلدته عنبـرا                      لأفسدت جلدته العنبرا

أو طليت مسكا ذكيا إذا                      تحول المسك عليه خرا قال ابن أبي سعد: وقد بالغ بشار في هجاء حماد، ولكن حكم الناس عليه لحماد بهذه الأبيات  اتصاله بالربيع

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني أحمد بن إسحاق قال: حدثني عثمان بن سفيان العطار قال: اتصل حماد عجرد بالربيع يؤدب ولده، فكتب إليه بشار رقعة، فأوصلت إلى الربيع، فطرده لما قرأها، وفيها مكتوب:

ياأبا الفضل لا تنـم                      وقع الذئب في الغنم

إن حماد عـجـرد                      إن رأى غفلة هجم

بين فخـذيه حـربة                      في غلاف من الأدم

إن خلا البيت ساعة                      مجمج الميم بالقلـم فلما قرأها الربيع قال: صيرني حماد دريئة الشعراء، أخرجوا عني حمادا، فأخرج.

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة، عن علي بن مهدي، عن عبد الله بن عطية، عن عباد بن الممزق أن حماد عجرد كان يؤدب ولد العباس بن محمد الهاشمي، فكتب إليه بشار بهذه الأبيات المذكورة، فقال العباس: مالي ولبشار? أخرجوا عني حمادا، فأخرج.

هجاؤه لبشار

أخبرني يحيى بن علي قال: حدثني محمد بن القاسم قال: حدثني عبد الله بن طاهر بن أبي أحمد الزبيري قال: لما أخرج العباس بن محمد حمادا عن خدمته، وانقطع عنه ما كان يصل إليه منه، أوجعه ذلك، فقال يهجو بشارا:

لقد صار بشار بصيرا بـدبـره                      وناظره بـين الأنـام ضـرير

له مقلة عمياء واست بصـيرة                      إلى الأير من تحت الثياب تشير

على وده أن الحمير تـنـيكـه                      وأن جميع العالمـين حـمـير قال أبو الفرج الأصبهاني: وقد فعل مثل هذا بعينه حماد عجرد بقطرب  شعره في قطرب

أخبرني عمي عن عبد الله بن المعتز قال: حدثني أبو حفص الأعمى المؤدب، عن الزبالي قال: اتخذ قطرب النحوي مؤدبا لبعض ولد المهدي، وكان حماد عجرد يطمع في أن يجعل هو مؤدبه، فلم يتم له ذلك، لتهتكه وشهرته في الناس بما قاله فيه بشار، فلما تمكن قطرب في موضعه صار حماد عجرد كالملقى على الرضف ، فجعل يقول ويقعد بقطرب في الناس، ثم أخذ رقعة فكتب فيها:

قل للإمام جزاك الـلـه صـالـحة                      لا تجمع الدهر بين السخل والـذيب

السخل غر وهم الذئب فـرصـتـه                      والذئب يعلم ما في السخل من طيب فلما قرأ هذين البيتين قال: انظروا لا يكون هذا المؤدب لوطيا، ثم قال : انفوه عن الدار، فأخرج عنها، وجيء بمؤدب غيره، ووكل به تسعون خادما يتناوبون، يحفظون الصبي، فخرج قطرب هاربا مما شهر به إلى عيسى بن إدريس العجلي بن أبي دلف فأقام معه بالكرج إلى أن مات.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني قال: لما قال حماد عجرد في بشار:

ويا أقبح من قـرد                      إذا ما عمي القرد قال بشار: لا إله إلا الله، قد والله كنت أخاف أن يأتي به، والله لقد وقع لي هذا البيت منذ أكثر من عشرين سنة، فما نطقت به خوفا من أن يسمع فأهجى به، حتى وقع عليه النبطي ابن الزانية.

كان أبو حنيفة صديقا له

قال أبو الفرج: نسخت من كتاب عبد الله بن المعتز، حدثني العجلي قال: حدثني أبو دهمان قال: كان أبو حنيقة الفقيه صديقا لحماد عجرد، فنسك أبو حنيفة وطلب الفقه، فبلغ فيه ما بلغ، ورفض حمادا وبسط لسانه فيه، فجعل حماد يلاطفه حتى يكف عن ذكره، وأبو حنيفة يذكره، فكتب إليه حماد بهذه الأبيات:

إن كان نسـكـك لا يتـم                      بغير شتمي وانتقـاصـي

أو لـم تـكـن إلا بــه                      ترجو النجاة من القصاص

فاقعد وقم بي كـيف شـئ                      ت مع الأداني والأقاصي

فلطـالـمـا زكـيتـنـي                      وأنا المقيم على المعاصي

ايام تـأخـذهـا وتـــع                      طي في أباريق الرصاص قال: فأمسك أبو حنيفة رحمة الله بعد ذلك عن ذكره خوفا من لسانه.

كان يحيى بن زياد صديقا له

 

 

صفحة : 1616

 

وقد أخبرني بهذه الخبر محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن النضر بن حديد قال: كان حماد عجرد صديقا ليحيى بن زياد، وكانا يتنادمان ويجتمعان على ما يجتمع عليه مثلهما، ثم إن يحيى بن زياد أظهر تورعا وقراءة ونزوعا عما كان عليه، وهجر حمادا وأشباهه، فكان إذا ذكر عنده ثلبه وذكر تهتكه ومجونه، فبلغ ذلك حمادا، فكتب إليه:

هل تذكرن دلـجـي إلـي                      ك على المضمرة القلاص

أيام تـعـطـينـي وتــأ                      خذ من اباريق الرصاص

إن كـان نـسـك لا يتـم                      بغير شتمي وانتقـاضـي

أو كنت لسـت بـغـير ذا                      ك تناك منزلة الخـلاص

فعليك فـاشـتـم آمـنـا                      كل الأمان من القصـاص

واقعد وقـم بـي مـا بـدا                      لك في الأداني والأقاصي

فلطـالـمـا زكـيتـنـي                      وأنا المقيم على المعاصي

أيام أنــت إذا ذكـــر                      ت مناضل عني مناصـي

وأنا وأنت علـى ارتـكـا                      ب الموبقات من الحراص

وبنـا مـواطـن مـا ينـا                      في البر آهلة الـعـراص فاتصل هذا الشعر بيحيى بن زياد، فنسب حمادا إلى الزندقة ورماه بالخروج عن الإسلام، فقال حماد فيه:

لا مؤمن يعرف إيمـانـه                      وليس يحيى بالفتى الكافر

منافق ظاهـره نـاسـك                      مخالف الباطن للظاهـر  شعره لصديق انقطع عن مجلسه

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا ابن أبي سعد، عن النضر بن عمرو قال: كان لحماد عجرد إخوان ينادمونه، فانقطع عنه الشراب، فقطعوه، فقال لبعضهم:

لست بغضبان ولكـنـنـي                      أعرف ما شأنك يا صاح

أأن فقدت الراح جانبتنـي                      ما كان حبيك على الراح

قد كنت من قبل وأنت الذي                      يعنيك إمسائي وإصباحـي

وما أرى فعلـك إلا وقـد                      أفسدني من بعد إصلاحي

أنت من الناس وإن عبتهـم                      دونكها مني بـإفـصـاح  كان من ندماء الوليد بن يزيد

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثني ميمون بن هارون عن أبي محلم أن الوليد بن يزيد أمر شراعة بن الزندبوذ أن يسمي له جماعة ينادمهم من ظرفاء اهل الكوفة، فسمى له مطيع بن إياس وحماد عجرد والمطيعي المغني، فكتب في إشخاصهم إليه، فأشخصوا، فلم يزالوا في ندمائه إلى أن قتل، ثم عادوا إلى أوطانهم.

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثني حماد عن أبيه عن محمد بن الفضل السكوني قال: تزوج حماد عجرد امرأة، فدخلنا إليه صبيحة بنائه بها نهنئه ونسأله عن خبره، فقال لنا: كنت البارحة جالسا مع أصحابي أشرب، وأنا منتظر لامرأتي أن يؤتى بها، حتى قيل لي: قد دخلت، فقمت إليها فوالله ما لبثتها حتى افتضضتها، وكتبت من وقتي إلى أصحابي:

قد فتحت الحصن بعد امتناع                      بمشيح فاتـح لـلـقـلاع

ظفرت كفي بتفريق شمـل                      جاءنا تفريقه باجـتـمـاع

فغذا شعبي وشعب حبيبـي                      إنما يلتام بعـد انـصـداع  اجتماعه بوجوه البصرة

أخبرني محمد بن القاسم الأنباري عن أبيه، وأخبرني الحسن بن علي عن القاسم بن محمد الأنباري، قال حدثنا الحسن بن عبد الرحمن عن أحمد بن الأسود بن الهيثم، عن إبراهيم بن محمد بن عبد الحميد، قال: اجتمع عمي سهم بن عبد الحميد وجماعة من وجوه أهل البصرة عند يحيى بن حميد الطويل، ومعهم حماد عجرد، وهو يومئذ هارب من محمد بن سليمان، ونازل على عقبة بن سلم وقد أمن، وحضر الغداء، فقيل له: سهم بن عبد الحميد يصلي الضحى، فانتظر، وأطال سهم الصلاة، فقال حماد:

ألا أيهذا القانت المـجـتـهـد                      صلاتك للرحمن أم لي تسجد?

أما والذي نادى من الطور عبده                      لمن غير ما بر تقوم وتقـعـد

قيت الـلـه إذ كـنـت والـيا                      بصنعاء تبري من وليت وتجرد

ويشهد لي أني بذلـك صـادق                      حريث ويحيى لي بذلك يشهـد

وعند أبي صفوان فيك شهـادة                      وبكر، وبكر مسلم متـهـجـد

 

صفحة : 1617

 

 

فإن قلت زدني في الشهود فإنه                      سيشهد لي أيضا بذاك محمـد قال: فلما سمعها قطع الصلاة وجاء مبادرا، فقال له: قبحك الله يا زنديق، فعلت بي هذا كله لشرهك في تقديم أكل وتأخيره هاتوا طعامكم فأطعموه لا أطعمه الله تعالى، فقدمت المائدة  ?شعر للسكوني يعتذر إليه به

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، عن أبيه، عن إسحاق الموصلي، عن محمد بن الفضل السكوني قال: لقيت حماد عجرد بواسط وهو يمشي وأنا راكب، فقلت له: انطلق بنا إلى المنزل، فإني الساعة فارغ لنتحدث، وحبست عليه الدابة، فقطعني شغل عرض لي لم أقدر على تركه، فمضيت وأنسيته، فلما بلغت المنزل خفت شره، فكتبت إليه:

أبا عمر أغفر هديت فـإنـنـي                      قد اذنبت ذنبا مخطئا غير عامد

فلا تجدن فيه علـي فـإنـنـي                      أقر بإجرامي ولسـت بـعـائد

وهبه لنا تفديك نفسي فـإنـنـي                      أرى نعمة إن كنت لست بواجد

وعد منك بالفضل الذي أنت أهله                      فإنك ذو فضل طريف وتـالـد فكتب إلى مع رسولي:

محمد يابن الفضل يا ذا المحامد                      ويا بهجة النادي وزين المشاهد

حقك ما أذنبت منذ عرفتـنـي                      على خطأ يوما ولا عمد عامد

ولو كان، ما ألفيتني متسرعـا                      إليك به يوما تـسـرع واجـد أي لو كان لك ذنب ما صادفتني مسرعا إليك بالمكافأة :

ولو كان ذو فضل يسمى لفضله                      بغير اسمه سميت أم القـلائد قال: فبينا رقعته في يدي وأنا أقرؤها إذ جاءني رسوله برقعة فيها:

قد غفرنا الذنب يا بن ال                      فضل والذنب عظـيم

ومسيء أنت يا بـن الأ                      فضل في ذاك مـلـيم

حين تخشاني على الذن                      ب كما يخشى الـلـيئم

ليس لي إن كان ماخف                      ت من الأمـر حـريم

أنـا والـلــه ولا أف                      خر للغـيظ كـظـوم

ولأصـحـابــي ولاء                      ربـه بـر رحـــيم

وبما يرضيهم عـنـي                      ويرضـينـي عـلـيم  مديحه لجلة من أبناء ملوك فارس

اخبرني يحيى بن علي، عن أبيه عن إسحاق قال: خرج حماد عجرد مع بعض الأمراء إلى فارس، وبها جلة من أبناء الملوك، فعاشر قوما من رؤسائها، فأحمد معاشرتهم، وسر بمعرفتهم، فقال فيهم:

رب يوم بـفـســـاء                      ليس عـنـدي بـذمـيم

قد قرعت العـيش فـيه                      مع نـدمـان كــريم

من بني صيهون في البي                      ت المعلى والصـمـيم

في جنـان بـين أنـهـا                      ر وتـعـريش كـروم

نتعاطى قـهـوة تـش                      خص يقظان الهـمـوم

بنت عشر تترك المـك                      ثر منـهـا كـالأمـيم

فبـهـا دأبـا أحــيي                      ويحـيينـي نـديمـي

في إنـاء كـســروي                      مستخف لـلـحـلـيم

شربة تـعـدل مـنـه                      شربـتـي أم حـكـيم

عنـدنـا دهـقـــانة                      حسـانة ذات هـمـيم

جمعت ما شئت من حس                      ن ومـن دل رخــيم

في اعتدال مـن قـوام                      وصـفـاء مــن أديم

وبنـان كـالـمـداري                      وثنـايا كـالـنـجـوم

لم أنل منها سـوى غـم                      زة كـف أو شـمـيم

غير أن أقرض منـهـا                      عكنة الكشح الهـضـيم

وبلى ألـطـم مـنـهـا                      خدهـا لـطـم رحـيم

وبنـفـسـي ذاك يا أس                      ود مـن خـد لـطـيم يعني الأسود بن خلف كاتب عيسى بن موسى.

?حريث بن أبي الصلت يعيبه بالبخل

وشعر له في ذلك

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه عن أبي النضر قال: كان حريث بن أبي الصلت الحنفي صديقا لحماد عجرد، وكان يعابثه بالشعر، ويعيبه بالبخل، وفيه يقول:

حريث أبو الفضل ذو خبرة                      بما يصلح المعد الفاسـده

تخوف تخـمة أضـيافـه                      فعودهـم أكـلة واحـده  ?قوله في رجل حبق في مجلسه

 

 

صفحة : 1618

 

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة، عن ابن عائشة قال: ضرط رجل في مجلس فيه حماد عجرد ومطيع بن إياس، فتجلد ، ثم ضرط أخرى متعمدا، ثم ثلث، ليظنوا أن ذلك كله تعمد، فقال له حماد: حسبك يا أخي فلو ضرطت ألفا لعلم بأن المخلف الأول مفلت  شعر له في قريش حين صلى به

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ ثال: حدثني معاذ بن عيسى مولى بني تيم قال: كان سليمان بن الفرات على كسكر ، ولاه أبو جعفر المنصور، وكان قريش مولى صاحب المصلى بواسط في ضياع صالح وهو سندي فحدثني معاذ بن عيسى قال: كنا في دار قريش، فحضرت الصلاة، فتقدم قريش فصلى بنا وحماد عجرد إلى جنبي، فقال لي حماد حين سلم: اسمع ما قلت، وأنشدني:

قد لقيت العام جهدا                      من هنات وهنـات

من هموم تعترينـي                      وبلايا مطبـقـات

وجوى شيب رأسي                      وحنى مني قناتـي

وغدوي ورواحـي                      نحو سلم بن الفرات

وائتمامي بالقمـارى                      قريش في صلاتي  خبره مع غلام أمرد

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا أبو أيوب المديني عن مصعب الزبيري قال: حدثني أبو يعقوب الخريمي قال: كنت في مجلس فيه حماد عجرد، ومعنا غلام أمرد، فوضع حماد عينه عليه وعلى الموضع الذي ينام فيه، فلما كان الليل اختلفت مواضع نومنا، فقمت فنمت في موضع الغلام، قال: ودب حماد إلى يظنني الغلام، فلما أحسست به أخذت يده فوضعتها على عينى العوراء لأعلمه أني أبو يعقوب قال: فنتر يده ومضى في شأنه وهو يقول:  وفديناه بذبح عظيم  .

شعره في جوهر

أخبرني عمي قال: حدثني مصعب قال: كان حماد عجرد ومطيع بن إياس يختلفان إلى جوهر جارية أبي عون نافع بن عون بن المقعد، وكان حماد يحبها ويجن بها، وفيها يقول:

إني لأهوى جوهرا                      ويحب قلبي قلبها

وأحب من حبي لها                      من ودها وأحبهـا

وأحب جارية لهـا                      تخفي وتكتم ذنبها

وأحب جيرانا لهـا                      وابن الخبيثة ربها  رثاؤه للأسود بن خلف

أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن سعد الكراني قال: حدثني أبيض بن عمرو قال: كان حماد عجرد يعاشر الأسود بن خلف ولا يكادان يفترقان، فمات الأسود قبله، فقال يرثيه وفي هذا الشعر غناء: صوت

قلـت لـحـنـانة دلـوح                      تسح من وابـل سـفـوح

جادت علينا لـهـا ربـاب                      بواكف هاطل نـضـوح

أمي الضريح الذي أسمـي                      ثم استهلي على الضـريح

على صدى أسود الموارى                      في اللحد والترب والصفيح

فأسـقـيه ريا وأوطـنـيه                      ثم اغتدي نحوه وروحـي

اغدي بسيقاي فاصبـحـيه                      ثم اغبقيه مع الصـبـوح

ليس من العدل أن تشحـي                      على امرىء ليس بالشحيح الغناء ليونس الكاتب ذكره في كتابه ولم يجنسه.

هجا أبا عون مولى جوهر بشعر

أخبرني عمي قال: أنشدنا الكراني قال: أنشد مصعب لحماد عجرد يهجوأبا عون مولى جوهر، وكان يقين عليها، وكان حماد عجرد يميل إليها، فإذا جاءهم ثقل، ولم يمكن أحدا من أصدقائها أن يخلو بها، فيضر ذلك بأبي عون، فجاءه يوما وعنده أصدقاء لجاريته، فحجبها عنه، فقال فيه:

إن أبا عـون ولـن يرعـوي                      ما رقصت رمضاؤها جندبا

ليس يرى كسبا إذا لـم يكـن                      من كسب شفري جوهر طيبا

فسلط الله علـى مـا حـوى                      مئزرها الأفعى أو العقربـا

ينسب بالكشخ ولا يشتـهـي                      بغير ذاك الإسم أن ينسـبـا وقال فيه أيضا:

إن تكن أغلقت دوني بابا                      فلقد فتحت للشكخ بابـا وقال فيه أيضا:

قد تخرطمت علينـا لأنـا                      لم نكن نأتيك نبغي الصوابا

إنما تكرم من كان مـنـا                      لسنان الحقوا منها قرابـا وقال فيه أيضا:

يا نافع ابن الفاجرة                      يا سيد المؤاجـرة

يا حلف كل داعر                      وزوج كل عاهره

ما أمة تملكـهـا                      أو حرة بطاهـره

 

صفحة : 1619

 

 

تجارة أحـدثـتـهـا                      في الكشخ غير بائره

لو دخلـت عـفـيفة                      بيتك صارت فاجـره

حتى متى ترتع في ال                      خسران يا بن الخاسره

تجمع في بيتـك بـي                      ن العرس والبرابـره وقال يهجوه:

أنت إنسان تسمـى                      داره دار الزواني

قد جرى ذلك بالكر                      خ على كل لسـان

لك في دار حر يز                      ني وفي دار حران وقال فيه:

تفرح إن نيكت، وإن لم تنك                      بت حزين القلب مستعبرا

أسكرك القوم فساهلتـهـم                      وكنت سهلا قبل أن تسكرا وقال فيه:

قل للشقي الجد غير الأسعـد                      أتحب أنك فقحه ابن المقعد?

لو لم يجد شيئا يسكنهـا بـه                      يوما لسكنها بزت المسجـد وقال فيه:

أبا عون لقد صف                      ر زوارك أذنيكا?

وعيناك ترى ذاك                      فأعمى الله عينيكا  هجا بشارا ببيت من الشعر

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: لما قال حماد عجرد في بشار:

نسبت إلى برد وأنت لـغـيره                      وهبك لبرد نكت أمك من برد? قال بشار: تهيأ له علي في هذا البيت خمسة معان من الهجاء، قوله  نسبت إلى برد  معنى؛ ثم قوله: وأنت لغيره معنى آخر، ثم قوله: فهبك لبرد معنى ثالث، وقوله: نكت أمك شتم مفرد، واستخفاف مجدد، وهو معنى رابع، ثم ختمها بقوله: من برد? ولقد طلب جرير في هجائه للفرزدق تكثير المعاني، ونحا هذا النحو، فما تهيأ له أكثر من ثلاثة معان في بيت، وهو قوله:

لما وضعت على الفرزدق ميسمي                      وضغا البعيث جدعت أنف الأخطل فلم يدرك أكثر من هذا.

هجاؤه له أيضا أخبرني حبيب بن نصر قال: حدثنا عمر بن شبة قال: قال أبو عبيدة: ما زال بشار يهجو حمادا ولا يرفث في هجائه إياه حتى قال حماد:

من كان مثـل أبـيك يا                      أعمى أبوه فلاأبـا لـه

أنت ابن برد مثـل بـر                      د في النذالة والـرذالة

زحرتك من حجر استها                      في الحشن خارئة غزالة

من حيث يخرج جعر من                      تنة مـدنـسة مــذالة

أعمى كست عينيه مـن                      وذح استها وكست قذاله

خنزيرة بـظـراء مـن                      تنة البداهة والعـلالـه

رسحاء خضراء المغـا                      بن ريحها ريح الإهالـه

عذراء حبلـى يا لـقـو                      مي للمجانة والضلالـه

مرقت فصارت قـحـبة                      بجعالة وبلا جـعـالـه

ولقد أقلتـك يا بـن بـر                      د فاجترأت فلا إقـالـه فلما بلغت هذه الأبيات بشارا أطرق طويلا، ثم قال: جزى الله ابن نهيا خيرا، فقيل له: علام تجزيه الخير? أعلى ما تسمع? فقال: نعم، والله لقد كنت أرد على شيطاني أشياء من هجائه إبقاء على المودة، ولقد أطلق من لساني ما كان مقيدا عنه، وأهدفني عورة ممكنة منه، فلم يزل بعد ذلك يذكر أم حماد في هجائه إياه، ويذكر أباه أقبح ذكر، حتى ماتت أم حماد، فقال فيها يخاطب جارا لحماد:

أبا حامد إن كنت تزني فأسعـد                      وبك حرا ولت به أم عـجـرد

حرا كان للعزاب سهلا ولم يكن                      أبيا على ذي الزوجة المتـودد

أصيب زناة القوم لما توجهـت                      به أم حماد إلى المضجع الردي

لقد كان للأدنى وللجار والعـدا                      وللقاعد المعتـر والـمـتـزيد  راوية بشار ينشده شعرا لحماد

أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم قال: قال يحيى بن الجون العبدي راوية بشار: أنشدت بشارا يوما قول حماد:

ألا قل لعبد الـلـه إنـك واحـد                      ومثلك في هذا الزمان كـثـير

قطعت إخائي ظالما وهجرتنـي                      وليس أخي من في الإخاء يجور

أديم لأهل الـود ودي، وإنـنـي                      لمن رام هجري ظالما لهجـور

ولو أن بعضي رابني لقطعـتـه                      وإني بقطع الـرائبـين جـدير

فلا تحسبن منحي لك الود خالصا                      لعز ولا أنـي إلـيك فـقـير

ودونك حظي منك لسـت أريده                      طوال الليالي ما أقـام ثـبـير

 

صفحة : 1620

 

فقال بشار: ما قال حماد شعرا قط هو أشد علي من هذا، قلت: كيف ذاك ولم يهجك فيه? وقد هجاك في شعر كثير فلم تجزع. قال: لأن هذا شعر جيد ومثله يروى، وأنا أنفس عليه أن تقول شعرا جيدا.

إعجاب محمد بن النطاح بشعره

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني هارون بن علي بن يحيى المنجم قال: حدثني علي بن مهدي قال: حدثني محمد بن النطاح قال: كنت شديد الحب لشعر حماد عجرد، فأنشدت يوما أخي بكر بن النطاح قوله في بشار:

أسأت في ردي على ابن استها                      إساءة لم تـبـق إحـسـانـا

فصار إنسانا بـذكـري لـه                      ولم يكن من قبل إنـسـانـا

قرعت سني ندمـا سـادمـا                      لو كان يغني نـدمـي الآنـا

ياضيعة الشعر ويا سـوءتـا                      لي ولأزمـانـي أزمـانـا

من بعد شتمي القرد لا والذي                      أنـزل تـوارة وقـرآنــا

ما أحد من بعد شتـمـي لـه                      أنذل مني، كان مـن كـانـا قال: فقال لي: لمن هذا الشعر? فقلت: لحماد عجرد في بشار، فأنشأ يتمثل بقول الشاعر:

ما يضر البحر أمسى زاخرا                      أن رمى فيه غلام بحجـر ثم قال: يا أخي، إنس هذا الشعر فنسيانه أزين بك، والخرس كان أستر على قائله.

هجاه بشار أكثر مما هجاه هو

أخبرني علي بن سليمان قال: حدثني هرون بن يحيى قال: حدثني علي بن مهدي قال: أجمع العلماء بالبصرة أنه ليس في هجاء حماد عجرد لبشار شيء جيد إلا أربعين بيتا معدودة، ولبشار فيه من الهجاء أكثر من ألف بيت جيد، قال: وكل واحد منهما هو الذي هتك صاحبه بالزندقة وأظهرها عليه، وكانا يجتمعان عليها، فسقط حماد عجرد وتهتك بفضل بلاغة بشار وجودة معانيه، وبقي بشار على حاله لم يسقط، وعرف مذهبه في الزندقة فقتل به.

مجاشع بن مسعدة يهجو حمادا

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل عن إسحاق الموصلي أن مجاشع بن مسعدة أخا عمرو بن مسعدة هجا حماد عجرد وهو صبي حينئذ ليرتفع بهجائه حمادا، فترك حمادا وشبب بأمه، فقال:

راعتك أم مجـاشـع                      بالصد بعد وصالهـا

واستبدلت بك والبـلا                      ء عليك في استبدالها

جنية مـن بـربـر                      مشهورة بجمالـهـا

فحرامها أشهى لنـا                      ولها من استحلالهـا فبلغ الشعر عمرو بن مسعدة، فبعث إلى حماد بصلة، وسأله الصفح عن أخيه، ونال أخاه بكل مكروه، وقال له: ثكلتك أمك، أتتعرض لحماد وهو يناقف بشارا ويقاومه، والله لو قاومته لما كان لك في ذلك فخر، ولئن تعرضت له ليهتكنك وسائر أهلك، وليفضحنا فضيحة لا نغسلها أبدا عنا.

شعره في جارية

أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدثني أبو علي بن عمار قال: كان حماد عجرد عند أبي عمرو بن العلاء، وكانت لأبي عمرو جارية يقال لها منيعة، وكانت رسحاء عظيمة البطن، وكانت تسخر بحماد، فقال حماد لأبي عمرو: أغن عني جاريتك فإنها حمقاء، وقد استغلقت لي، فنهاها أبو عمرو فلم تنته فقال لها حماد عجرد:

لو تأتى لك التحول حـتـى                      تجعلي خلفك اللطيف أماما

ويكون القدام ذو الخلقة الجز                      لة خلقا مؤثلا مستكـامـا

لإذا كنت يا مـنـيعة خـير                      الناس خلفا وخيرهم قدامـا  شعره في محمد بن طلحة

أخبرني عمي قال: حدثني الكراني قال: حدثني الحسن بن عمارة قال: نزل حماد عجرد على محمد بن طلحة، فأبطأ عليه بالطعام، فاشتد جوعه، فقال فيه حماد:

زرت أمرأ في بيته مرة                      له حـياء ولـه خـيرا

يكره أن يتخم أضـيافـه                      إن أذى التخمة محذور

ويشتهي أن يؤجروا عنده                      بالصوم والصالح مأجور قال: فلما سمعها محمد قال له: عليك لعنة الله، أي شيء حملك على هجائي، وإنما انتظرت أن يفرغ لك من الطعام? قال: الجوع وحياتك حملني عليه، وإن زدت في الإبطاء زدت في القول، فمضى مبادرا حتى جاء بالمائدة.

رده على حفص بن أبي وزة

حين طعن على مرقش

 

 

صفحة : 1621

 

أخبرني الحسين بن يحيى وعيسى بن الحسين ووكيع وابن أبي الأزهر قالوا: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان حفص بن أبي وزة صديقا لحماد عجرد، وكان حفص مرميا بالزندقة، وكان أعمش أفطس أغضف مقبح الوجه، فاجتمعوا يوما على شراب، وجعلوا يتحدثون ويتناشدون، فأخذ حفص بن أبي وزة يطعن على مرقش ويعيب شعره ويلحنه، فقال له حماد:

لقد كان في عينيك يا حفص شاغل                      وأنف كثيل العود عما تـتـبـع

تتبع لحنا فـي كـلام مـرقـش                      ووجهك مبني على اللحن أجمـع

فأذناك إقواء وأنـفـك مـكـفـأ                      وعيناك إيطاء فأنت الـمـرقـع  شعره في جبة لبعض الكتاب

أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: ذكر أبو دعامة عن عاصم بن الحارث بن أفلح، قال: رأى حماد عجرد على بعض الكتاب جبة خز دكناء فكتب إليه:

إنني عاشق لجـبـتـك الـك                      ،ناء عشقا قد هاج لي أطرابي

فبحـق الأمـير إلا أتـتـنـي                      في سراج مقرونة بالجـواب

ولـك الـلـه والأمـانة أن أج                      ،علها أشهرا أمـير ثـيابـي فوجه إليه بها. وقال للرسول: قل له وأي شيء لي من المنفعة في أن تجعلها أمير ثيابك? وأي شيء علي من الضرر في غير ذلك من فعلك، لو جعلت مكان هذا مدحا لكان أحسن، ولكنك رذلت لنا شعرك فاحتملناك.

مرض فلم يعده مطيع بن إياس فقال

أخبرني أحمد بن العباس العسكري والحسن بن علي الخفاف، قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن علي بن منصور قال: مرض حماد عجرد فلم يعده مطيع بن إياس، فكتب إليه:

كفاك عيادتي من كان يرجـو                      ثواب الله في صلة المريض

فإن تحدث لك الأيام سقـمـا                      يحول جريضه دون القريض

يكن طول التأوه منك عنـدي                      بمنزلة الطنين من البعوض أخبرني عمي قال: حدثنا ابن أبي سعد قال: زم أبو دعامة أن التيحان بن أبي التيحان قال: كنت عند حماد عجرد فأتاه والبة بن الحباب ، فقال له: ما صنعت في حاجتي? فقال: ما صنعت شيئا، فدعا والبة بدواة وقرطاس وأملى علي:

عثمان ما كانـت عـدا                      تك بالعدات الكـاذبـه

فعلام ياذا المـكـرمـا                      ت وذا الغيوث الصائبه

أخرت وهـي يسـيرة                      في الرزء حاجة والبه?

فأبـوا أسـامة حـقـه                      أحد الحقوق الواجـبـه

فاستحـي مـن تـرداده                      في حاجة متـقـاربـه

ليست بـكـاذبة ، ولـو                      والله كانـت كـاذبـه

فقضيتها أحمدت غـب                      قضائها في العـاقـبة

إني ومـا رأيي بـعـا                      دم عاتب أو عـاتـبـه

لأرى لمثلـك كـلـمـا                      نابت عـلـيه نـائبـه

ألا يرد يد أمـــرىء                      بسطت إلـيه خـائبـه قال: فلقيت والبة بعد ذلك فقلت له: ماصنعت? فقال: قضى حاجتي وزاد.

خبره مع المفضل بن بلال

أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن الزبالي قال: بلغ حماد عجرد أن المفضل بن بلال أعان بشارا عليه وقدمه وقرظه، فقالفيه.

 

عجبا للمفضل بن بـلال                      ما له ياأبا الزبير ومالي

عربي لا شك فيه ولا مر                      ية ما باله وبال الموالي قال: وأبو الزبير هذا الذي خاطبه هو قبيس بن الزبير، وكان قبيس ويونس بن أبي فروة كاتب عيسى بن موسى صديقين له، وكانوا جميعا زنادقة، وفي يونس يقول حماد عجرد وقد قدم من غيبة كان غابها:

كيف بعدي كنت يا يو                      نس لازلت بـخـير

وبغـير الـخـير لازا                      ل قبيس بن الـزبـير

أنت مطبوع على مـا                      شئت من خير ومـير

وهو إنسـان شـبـيه                      بكـسـير وعــوير

رغمه أهون عند الناس                      من ضـرطة عـير  خبره مع سعاد الجارية

اخبرني علي بن سليمان الأخفش ووكيع قالا: حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال: حدثني إسحاق الموصلي عن السكوني فقال: ذكر محمد بن سنان أن حماد عجرد حضر جارية مغنية يقال لها سعاد وكان مولاها ظريفا ومعه مطيع بن إياس، فقال مطيع:

 

صفحة : 1622

 

 

قبليني سعاد بالـلـه قـبـلـه                      واسأليني لها فديتك نـحـلـه

فورب السماء لو قـلـت لـي                      صل لوجهي جعلته الدهر قبله فقالت لحماد: اكفنيه يا عم، فقال حماد:

إن لي صاحبا سواك وفـيا                      لا ملولا لنا كما أنت ملـه

لا يباع التقبيل بيعا ولا يش                      رى فلا تجعل التعشق عله فقال مطيع: يا حماد، هذا هجاء: وقد تعديت وتعرضت، ولم تأمرك بهذا؛ فقالت الجارية وكانت بارعة ظريفة أجل؛ ما أردنا هذا كله، فقال حماد:

أنا والله أشتهي مثلـهـا مـن                      ك بنحل، والنحل في ذاك حله

فأجيبي وأنعمي وخذي الـبـذ                      ل وأطفي بقبلة منك غـلـه فرضي مطيع ، وخجلت الجارية: وقالت اكفياني شركما اليوم، وخذا فيما جئتما له.

خبره مع غلام بعث به إليه مطيع

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا أبو أيوب المديني، عن مصعب الزبيري عن أبي يعقوب الخريمي قال: أهدى مطيع بن إياس إلى حماد عجرد غلاما وكتب إليه: قد بعثت إليك بغلام تتعلم عليه كظم الغيظ.

شعر له ولمطيع في بنت دهقان

أخبرني وكيع قال: حدثنا أبو أيوب المديني قال: ذكر محمد بن سنان أن مطيع بن إياس خرج هو وحماد عجرد ويحيى بن زياد في سفر، فلما نزلوا في بعض القرى عرفوا، ففرغ لهم منزل، وأتوا بطعام وشراب وغناء، فبينا هم على حالهم يشربون في صحن الدار، إذ أشرفت بنت دهقان من سطح لها بوجه مشرق رائق، فقال مطيع لحماد: ما عندك? فقال حماد: خذ فيما شئت فقال مطيع:

ألا يا بأبي النـاظ                      ر من بينهم نحوي فقال حماد عجرد:

ألا يا ليت فوق الحق                      و منها لاصقا حقوي فقال مطيع:

وأن البضع يا حـمـا                      د منها شوبك المروي فقال يحيى بن زياد:

ويا سقيا لسطـح أش                      رقت من بينهم حذوي أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه: أن حماد عجرد قال في جوهر جارية أبي عون: قال: وفيه غناء : صوت

إني أحبك فاعلمـي                      إن لم تكوني تعلمينا

حبا أفـل قـلـيلـه                      كجميع حب العالمينا  شعره في وداع أبي خالد الأحوال

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان حماد عجرد صديقا لأبي خالد الأحوال أبي أحمد بن أبي خالد، فأراد الخروج إلى واسط، وأراد وداع أبي خالد، فلما جاءه لذلك حجبه الغلام وقال له: هو مشغول في هذا الوقت، فكتب إليه يقول :

عليك السـلام أبـا خـالـد                      وما للوداع ذكرت السلامـا

ولكن تحية مـسـتـطـرب                      يحبك حب الغوي المدامـا

أردت الشخوص إلى واسط                      ولست أطيل هناك المقامـا

فإن كنت مكتفيا بـالـكـتـا                      ب دون اللمام تركت اللماما

وإلا فأوص هداك المـلـي                      ك بوابكم بي وأوص الغلاما

فإن جئت أدخلت في الداخلي                      ن إما قعودا وإمـا قـيامـا

فإن لم أكن منك أهلا لـذاك                      فلا لوم لست أحب الملامـا

لأنـي أذم إلـيك الأنـــا                      م أخزاهم الله طرا أنـامـا

فإني وجدتـهـم كـلـهـم                      يميتون حمدا ويحيون ذامـا

سوى عصبة لست أعنـيهـم                      كرام فإني أحب الكـرامـا

وأقلل عديدهـم إن عـددت                      فما أكثر الأرذلين اللـئامـا  ممازحته لمطيع بن إياس

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثني أبو أيوب المديني قال: قال ابن عبد الأعلى الشيباني: حضر حماد عجرد ومطيع بن إياس مجلس محمد بن خالد وهو أمير الكوفة لأبي العباس، فتمازحا، فقال حماد:

يا مطيع يا مطيع                      أنت إنسان رقيع

وعن الخير بطيء                      وإلى الشر سريع فقال مطيع:

إن حـمـادا لـئيم                      سفلة الأصل عديم

لا تراه الدهـر إلا                      يهن العير يهـيم فقال له حماد: ويلك، أترميني بدائك، والله لولا كراهتي لتمادي الشر ولحاج الهجا لقلت لك قولا يبقى، ولكني لا أفسد مودتك، ولا أكافئك إلا بالمديح، ثم قال:

 

صفحة : 1623

 

 

كل شيء لـي فـداء                      لمـطـيع بـن إياس

رجل مستملـح فـي                      كل لـين وشـمـاس

عدل روحي بين جـن                      بي وعيني بـراسـي

غرس اللـه لـه فـي                      كبدي أحلى غـراس

لست دهري لمطيع ب                      ن إياس ذا تـنــاس

ذاك إنسان لـه فـض                      ل على كـل أنـاس

فإذا ما الكـأس دارت                      واحتساها من أحاسي

كان ذكرانا مطـيعـا                      عندها ريحان كاسـي  هجاؤه عيسى بن عمرو

أخبرني أحمد بن العباس العسكري ومحمد بن عمران الصيرفي قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا التوزي قال: كان عيسى بن عمرو بن يزيد صديقا لحماد عجرد ، وكان يواصله أيام خدمته للربيع، فلما طرده الربيع واختلت حاله جفاه عيسى، وإنما كان يصله لحوائج يسأل له الربيع فيها، فقال حماد عجرد فيه:

أوصل الناس إذا كـانـت لـه                      حاجة عيسى وأقضاهم لـحـق

ولعيسى إن أتـى فـي حـاجة                      ملق ينسى بـه كـل مـلـق

فإن استغنـى فـمـا يعـدلـه                      نخوة كسرى على بعض السوق

إن تكن كنت بعيسـى واثـقـا                      فبهذا الخلق من عيسى فـثـق وله يهجوه أيضا قال العنزي: وأنشدني بعض أصحابنا لحماد في عيسى بن عمر أيضا:

كم من أخ لك لست تنكـره                      ما دمت من دنياك في يسر

متصنع لك فـي مـودتـه                      يلقاك بالترحيب والبـشـر

يطري الوفاء وذا الوفاء ويل                      حى الغدر مجتهدا وذا الغدر

فإذا عدا والدهـر ذو غـير                      دهر عليك عدا مع الدهـر

فارفض بإجمال مودة مـن                      يقلي المقل ويعشق المثري

وعليك مـن حـالاه واحـدة                      في العسر إما كنت واليسر

لا تخلطنـهـم بـغـيرهـم                      من يخلط العقيان بالصفـر  هجا حشيشا الكوفي

أخبرني يحيى بن علي بن يحبى إجازة قال: حدثني ابن أبي فنن قال: حدثني العتابي، وأخبرني عمي عن أحمد بن أبي طاهر قال: قال العتابي: وحديث ابن طاهر أتم، قال: كان رجل من أهل الكوفة من الأشاعثة يقال له حشيش وكانت أمه حارثية، فمدحه حماد عجرد فلم يثبه، وتهاون به، فقال يهجوه:

يا لقومـي لـلـبـلاء                      ومعاريض الشـقـاء

قسمـت ألـوية بـي                      ن رجـال ونـسـاء

ظفرت أخت بني الحار                      ث منـهـا بـلـواء

حادث في الأرض يرتا                      ع له أهل السـمـاء قال: فعرضت أسماء العمال على المنصور فكان فيها اسم حشيش، فقال: أهو الذي يقول فيه الشاعر:

يا لقومي للـبـلاء                      ومعاريض الشقاء? قالوا: نعم يا أمير المؤمنين؛ فقال: لو كان في هذا خير ما تعرض لهذا الشاعر، ولم يستعمله، قال: وقال حماد فيه أيضا يخاطب سعيد بن الأسود ويعاتبه على صحبة حشيش وعشرته:

صرت بعدي يا سعيد                      من أخلاء حشـيش

أتلوطـت أم اسـتـخ                      لفت بعدي أن لأيش

حلـقـي اسـتـه أو                      سع من است بحيش

ثم بـغـاء عـلـىذا                      أبلغ الناس لـفـيش

يا بني الأشعث ما عي                      شكم عندي بـعـيش

حين لا يوجد منـكـم                      غيره قـائد جـيش قال: وكان بحيش هذا رجلا من أهل البصرة لم يكن بينه وبين حماد شيء، فلما بلغه هذا الشعر وفد من البصرة إلى حماد قاصدا، وقال له: يا هذا، مالي ولك، وما ذنبي إليك? قال: ومن أنت? قال: أنا بحيش، أما وجدت أحدا أوسع دبرا مني يتمثل به? فضحك ثم قال: هذه بلية صبتها عليك القافية ، وأنت ظريف وليس يجري بعد هذا مثله.

هجا أبا عون

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن الحسن بن الحرون. قال: كان حماد عجرد يعاشرأبا عون جد ابن أبي عون العابد؛ وكان ينزل الكرخ، وكان عجرد إذا قدم بغداد زاره، فبلغ أبا عون أنه يحدث الناس أنه يهوى جارية يقال لها جوهر، فحجبه وجفاه واطرحه، فقال يهجوأبا عون:

أبا عون لحاك الل                      ه يا عرة إنسانـا

 

صفحة : 1624

 

 

فقد اصبحت في الناس                      إذا سميت كشخـانـا

بنيت اليوم في الكشح                      لأهل الكرخ بنـيانـا

وشرفت لهم فـي ذا                      لنا أبوابا وحيطـانـا

وألفيت عـلـى ذاك                      من الفساق أعـوانـا

ومجانا ولـن تـعـد                      م من يمجن مجـانـا

فأخزى الله من كنـت                      أخاه كان من كـانـا

ولا زلــت ولا زال                      بأخلاقـك خـزيانـا

وعريانا كما أصـبـح                      ت من دينك عريانـا وقال فيه أيضا:

إن أبا عـون ولا                      أقول فيه كذبـا

غاو أتـى مـدينة                      فسن فيها عجبـا

إخوانه قد جعلـوا                      أم بنيه مركـبـا

واتخذوا جوهـرة                      مبولة وملعـبـا

إن نكتها أرضيته                      أو لم تنكها غضبا

أحبهم إلـيه مـن                      أدخل فيها ذنبـا

ومن إذا ما لم ينك                      جر إليها جلـبـا  هجاؤه غيلان جد عبد الصمد بن المعذل

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا اللابي عن مهدي بن سابق قال: استعمل محمد بن أبي العباس وهو يلي البصرة غيلان جد عبد الصمد بن المعذل على بعض أعشار البصرة، وظهر منه على خيانة، فعزله، وأخذ ما خانه فيه، فقال حماد عجرد يهجوه:

ظهر الأمير عليك يا غـيلان                      إذ خنته إن الأمير مـعـان

أمع الدمامة قد جمعت خيانة                      قبح الدميم الفاجر الخـوان أخبرني عمي قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر عن أبي دعامة قال: أنشد بشار قول حماد عجرد في غلام كان يهواه يقال له أبو بشر: صوت

أخي كف عن لومي فـإنـك لا تـدري                      بما فعل الحب المبرح فـي صـدري

أخي أنت تلحـانـي وقـلـبـك فـارغ                      وقلبي مشغول الجوانـح بـالـفـكـر

أخـي إن دائي لـيس عـنــدي دواؤه                      ولكن دوائي عند قلـب أبـي بـشـر

دوائي ودائي عـنـد مـن لـو رأيتـه                      يقلب عينيه لأقصـرت عـن زجـري

فأقسم لو أصبحت في لـوعة الـهـوى                      لأقصرت عن لومي وأطنبت في عذري

ولكن بـلائي مـنـك أنـك نـاصـح                      وأنـك لا تـدري بـأنـك لا تــدري فطرب بشار ثم قال: ويلكم، أحسن والله من هذا? قالوا: حماد عجرد؛ قال: أوه، وكلتموني والله بقية يومي بها طويل، والله لا أطعم بقية يومي طعاما ولأصوم غما بما يقول النبطي ابن الزانية مثل هذا.

في الأول والثاني، عن حماد بن إسحاق، عن أبيه لحماد عجرد:

خلـيلـــي ر يفـــي أبـــدا                      يمـنـينـي غـدا فـــغـــدا

وبعد غد وبعد غد كذا لا ينقضي ابدا

له جمر على كبدي                      إذا حـركـتــه اتـــقـــدا  شعره في يحيى بن زياد

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا الزبالي قال: كان المهدي سأل أباه أن يولي يحيى بن زياد عملا، فلم يجبه، وقال: هو خليع متخرق في النفقة ماجن، فقال: إنه قد تاب و أناب، وتضمن عنه ما يحب، فولاه بعض أعمال الأهواز، فقصده حماد عجرد إليها، وقال فيه:

فمن كان يسأل أين الفعـال                      فعندي شفاء لذا البـاحـث

محل الندى وفعال النـهـى                      وبيت العلا في بني الحارث

حللن بيحيى فحـالـفـنـه                      حياء من الباعث الـوارث

فلا تعـدلـن إلـى غـيره                      لعـاجـل أمـر ولا رائث

فإن لـديه بــلا مـــنة                      عطاء المرحل والمـاكـث قال: وقال فيه ايضا:

يحيى امـرؤ زينـه ربـه                      بفعله الأقـدم والأحـدث

إن قال لم يكذب، وإن ود لم                      يقطع، وإن عاهد لم ينكث

أصبح في أخلاقه كلـهـا                      موكلا بالأسهـل الأدمـث

طبيعة منه عليهـا جـرى                      في خلق ليس بمستحـدث

ورثـه ذاك أبـوه فـــيا                      طيب نثا الوارث والمورث فوصله يحيى بصلة سنية وحمله وكساه، واقام عنده مدة ثم انصرف.

شعره في عيسى بن عمرو

 

 

صفحة : 1625

 

أخبرني عمي قال: حدثني الكراني عن النضر بن عمرو قال: ولي عيسى بن عمرو إمارة البصرة من قبل محمد بن أبي العباس السفاح لما خرج عنها عليلا، فقال له حماد عجرد:

قل لعيسى الأمير عيسى بن عمرو                      ذي المساعي العظام في قحطـان

والبناء العالي الذي طـال حـتـى                      قصـرت دونـه يدا كـل بـان

يا بن عمرو عمرو المكارم والتق                      وى وعمرو الندى وعمرو الطعان

لك جار بالمصر لم يجعـل الـل                      ه له منـك حـرمة الـجـيران

لا يصـلـي ولا يصــوم ولا يق                      رأ حرفا من محـكـم الـقـرآن

إنما معدن الزنـاة مـن الـسـف                      لة في بيته ومـأوى الـزوانـي

وهو خدن الصبيان وهو ابن سبعي                      ن، فماذا يهوى من الصـبـيان?

طهر المصر منه يأيهـا الـمـو                      لى المسمى بالعدل والإحـسـان

وتقـرب بـذاك فـيه إلـى الـل                      ه تفز منه فوز أهل الـجـنـان

يابن برد إخسأ إليك فـمـثـل ال                      كلب في الناس أنت لا الإنـسـان

ولعمري لأنت شر مـن الـكـل                      ب وأولى منـه بـكـل هـوان  هجا يقطينا بشعر

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني محمد بن صالح الجبلي قال: كان حماد عجرد قد مدح يقطينا فلم يثبه، فقال يهجوه:

متى أرى فيما أرى دولة                      يعز فيها ناصر الـدين

ميمونة مجدها ربـهـا                      بصادق النية مـيمـون

ترد يقطينا وأشـياعـه                      منها إلى أبزار يقطـين قال: وكان يقطين قبل ظهور الدولة العباسية بخراسان حائكا.

قال: ومر يوما بيونس بن فروة الذي كان الربيع يزعم أنه ابنه، فلم يهش له كما عوده، فقال يهجوه:

أما ابن فروة يونس فكأنه                      من كبره ابن للإمام القائم وقال فيه:

ولقد رضيت بعصبة آخيتهـم                      وإخاؤهم لك بالمعـرة لازم

فعلمت حين جعلتهم لك دخلة                      أني لعرضي في إخائك ظالم  شعره في ولد لبشار

أخبرني عمي قال: حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال: حدثني أبو معاذ النميري أن بشارا ولد له ابن، فلما ولد قال فيه حماد عجرد:

سائل أمامة يآبـن بـر                      د من أبو هذا الغـلام?

أمن الحلال أتـت بـه                      أم من مقارفة الحـرام

فلتـخـبـرنـك أنـه                      بين العراقي والشآمـي

والآخـر الـرومــي                      والنبطي أيضا وابن حام

أجعلت عرسك شقـوة                      غرضا لأسهم كل رام أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني مسعود بن بشر قال: مر حماد عجرد بقصر شيرين، فاستظل من الحر بين سدرتين كانتا بإزاء القصر، وسمع إنسانا يغني في شعر مطيع بن إياس:

أسعداني يا نخلتـي، حـلـوان                      وارثيا لي من ريب هذا الزمان

أسعداني وأيقنـا أن نـحـسـا                      سوف يلقاكما فتـفـتـرقـان قال شعرا حين سمع بيتي مطيع فقال حماد عجرد:

جعل الله سدرتي قصر شيري                      ن فداء لنخلتـي حـلـوان

جئت مستسعدا فلم يسعدانـي                      ومطيع بكت له النخلـتـان  استجازه محمد بن أبي العباس وعدا

أخبرني يحيى بن علي إجازة عن أبيه، عن إسحاق، عن محمد بن الفضل السكوني قال: كان محمد بن أبي العباس قد وعد حماد عجرد أن يحمله على بغل، ثم تشاغل عنه، فكتب إليه حماد:

طلبت البذل ممـن خ                      لقت كفاه لـلـبـذل

ومن ينفي عن الممـح                      ل بالجود أذى المحل

ألا يآبن أبي الـعـبـا                      س يا ذا النائل الجزل

أما تـذكـر يا مـولا                      ي ميعادك في البغل?

وذاك الرجس في الدار                      جليس لأبي سـهـل

يريك الحزم في الإخلا                      ف للميعاد والمطـل  شعره في عثمان بن شيبة

 

 

صفحة : 1626

 

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا سليمان المديني قال: كان عثمان بن شيبة مبخلا، وكان حماد عجرد يهجوه، فجاء رجل كان يقول الشعر إلى حماد فقال له:

أعني من غناك ببيت شعـر                      على فقري لعثمان بن شيبة فقال له حماد :

فإنك إن رضيت به خلـيلا                      ملأت يديك من فقر وخيبة فقال له الرجل: جزاك الله خيرا، فقد عرفتني من أخلاقه ما قطعني عن مدحه، فصنت وجهي عنه.

هجاؤه مطيع بن إياس

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال: حدثنا ابن إسحاق عن أبيه قال: كان حماد عجرد يهوى غلاما من أهل البصرة من موالي العتيك يقال له: أبو بشر الحلو ابن الحلال أحسبه من موالي المهلب وكان موصوفا بالجمال، فاندس له مطيع بن إياس، ولم يزل يحتال عليه حتى وطئه، فغضب حماد عجرد من ذلك، ونشب بينهما بسببه هجاء، فقال فيه حماد:

يا مطيع النذل أنت ال                      يوم مخذول جهـول

لا يغرنـك غـرور                      ذو أفانـين مـلـول

ليس يحلو الفعل منه                      وهو يحلو ما يقـول

ملذاني مـع الـري                      ح إذا مالـت يمـيل

وجواد بالمـواعـي                      د وبالبـذل بـخـيل

ليس يرضيه من الجع                      ل كثير أو قـلـيل

ذاك ما اخترت خليلا                      بئس والله الخـلـيل

إنمـا يكـفـيك أن يأ                      تيك في السر رسول

ساخرا منك يمـنـي                      ك أماني تـطـول وقال في مطيع أيضا وقد لج الهجاء بينهما:

عجبت للمدعي في الناس مـنـزلة                      وليس يصلح لـلـدنـيا ولـلـدين

لو أبصروا فيك وجه الرأي ما تركوا                      حتى يشدوك كرها شد مـجـنـون

ما نال قط مطيع فضـل مـنـزلة                      إلا بأن صرت أهجوه ويهجـونـي

ولو تركت مطـيعـا لا أجـاوبـه                      لكان ما فيه م الآفـات يكـفـينـي

يختار قرب الفحول المرد معتـمـدا                      جهلا ويترك قرب الخرد الـعـين  مدحه وتعزيته داود بن إسماعيل

ابن علي بن عبد الله بن العباس

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة عن أبيه عن إسحاق قال: قال حماد عجرد في داود بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن العباس يمدحه ويعزيه عن ابن مات له ويستجيزه:

إن أرجى الأنام عـنـدي وأولا                      هم بمدحي ونـصـرتـي داود

إن يعش لي أبو سليمـان لا أح                      فل ما كادني بـه مـن يكـيد

هدركني فقدي أباك فـقـد ش                      د بك اليوم ركني الـمـهـدود

قائل فـاعـل أبـي وفـــي                      متلف مخلف مـفـيد مـبـيد

وفتى السن في كمال ابن خمسي                      ن دهـاء وإربة بـــل يزيد

مخـلـط مــزيل أريب أديب                      راتق فاتـق قـريب بـعـيد

وهو الذائد المـدافـع عـنـي                      وعزيز مـمـنـع مـن يذود أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني عبد الملك بن شيبان قال: ولى أبو جعفر المنصور محمد بن أبي العباس السفاح البصرة، فقدمها ومعه جماعة من الشعراء والمغنين منهم حماد عجرد، وحكم الوادي ودحمان، فكانوا ينادمونه ولا يفارقونه، وشرب الشراب وعاث ، فبلغ ذلك أبا جعفر فعزله، قال: وكان ابن أبي العباس كثير الطيب، يملأ لحيته بالغالية حتى تسيل على ثيابه فتسود، فلقبوه أبا الدبس ،وقال فيه بعض شعراء أهل البصرة:

صرنا من الربح إلى الوكس                      اذ ولي المصر أبو الدبـس

ما شئت من لؤم على نفسه                      وجنسه من أكرم الجنـس  كان ماجنا زنديقا

 

 

صفحة : 1627

 

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: حدثني أبي قال: كان أبو جعفر المنصور يبغض محمد بن أبي العباس ويحب عيبه، فولاه البصرة بعقب مقتل إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فقدمها، وأصحبه المنصور قوما يعاب بصحبتهم مجانا زنادقة: منهم حماد عجرد، وحماد بن يحيى، ونظراء لهم، ليغض منه ويرتفع ابنه المهدي عند الناس، وكان محمد بن أبي العباس محمقا، فكان يغلف لحيته إذا ركب بأواق من الغالي، فتسيل على ثيابه فيصير شهرة، فلقبه أهل البصرةأبا الدبس؛ قال ولما أقام بالبصرة مدة قال لأصحابه: قد عزمت على أن أعترض أهل البصرة بالسيف في يوم الجمعة، فأقتل كل من وجدت، لأنهم خرجوا مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن، فقالوا له: نعم، نحن نفعل ذلك، لما يعرفونه منه، ثم جاءوا إلى أمه سلمة بنت أيوب بن سلمة المخزومية فأعلموها بذلك، وقالوا: والله لئن هم بها ليقتلن ولنقتلن معه، فإنما نحن في أهل البصرة أكلة رأس، فخرجت إليه وكشفت عن ثدييها وأقسمت عليه بحقها حتى كف عما كان عزم عليه.

أدبه محمد بن أبي العباس

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال: حدثني أبي عن إسحاق الموصلي قال: كان حماد عجرد في ناحية محمد بن أبي العباس السفاح، وهو الذي أدبه، وكان محمد يهوى زينب بنت سليمان بن علي، وكان قد قدم البصرة أميرا عليها من قبل عمه أبي جعفر، فخطبها، فلم يزوجوه لشيء كان في عقله، وكان حماد وحكم الوادي ينادمانه، فقال محمد لحماد: قل فيها شعرا، فقال حماد فيها على لسان محمد بن أبي العباس، وغنى فيه حكم الوادي: صوت

زينب ما ذنبي وماذا الـذي                      غضبتم منه ولم تغضبـوا

والله ما أعرف لي عندكـم                      ذنبا ففيم الهجر يا زينب?

أن كنت قد أغضبتكم ضلة                      فاستعتبوني إنني أعـتـب

عودوا على جهلي بأحلامكم                      إني وإن لم أذنب المذنـب الغناء لحكم في هذه الأبيات خفيف ثقيل، القول بالوسطى عن عمرو والهشامي وفيه هزج يقال: إنه لخليد بن عبيد الوادي، ويقال لعريب.

نسيب ابن أبي العباس بزينب بنت سليمان

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا الحسين بن يحيى أبو الجمان الكاتب قال: حدثني عمرو بن بانة قال: كان لمحمد بن أبي العباس السفاح شعر في زينب وغنى فيه حكم الوادي: صوت

قولا لـزينـب لــو رأي                      ت تشوفي لك واشترافـي

وتـلـفـتـي كـيمـا أرا                      ك وكان شخصك غير خاف

وشممت ريحك سـاطـعـا                      كالبيت جمر لـلـطـواف

فتـركـتـنـي وكـأنـمـا                      قلبي يغـرز بـالأشـافـي  خطبته لها

أخبرني محمد بن يحيى أيضا قال: حدثني الحارث بن أبي أسامة عن المدائني قال: خطب محمد بن أبي العباس زينب بنت سليمان، ثم ذكر مثل هذا الحديث سواء إلا أنه قال فيه: فقال محمد بن أبي العباس فيها، وذكر البيات كلها ونسبها إلى محمد ولم يذكر حمادا.

قال أبو الفرج مؤلف هذا الكتاب: هذا فيما أراه غلط من رواته، لما سمعوا ذكر زينب ولحن حكم، نسبوه إلى محمد بن أبي العباس، وقد ذكر هذا الشعر بعينه إسحاق الموصلي في كتابه، ونسبه إلى ابن رهيمة وهو من زيانب يونس الكاتب المشهورة، معروف ومنها فيه يقول:

فذكرت ذاك ليونـس                      فذكرته لأخ مصاف وذكر إسحاق أن لحن يونس فيه خفيف رمل بالبنصر في مجرى الخنصر، وأن لحن حكم من الثقيل الأول بالبنصر، قال محمد بن يحيى: ولمحمد بن أبي العباس في زينب أشعار كثيرة مما غنى فيها المغنون، منها: صوت

زينب ما لي عنك من صبر                      وليس لي منك سوى الهجر

وجهك والله وإن شفـنـي                      أحسن من شمس ومن بدر

لو أبصر العاذل منك الـذي                      ابصرته أسرع بالـعـذر الغناء في هذه الأبيات لحكم خفيف رمل بالوسطى  غنى دحمان في شعر قيس بن الخطيم

 

 

صفحة : 1628

 

وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد قال: دخل دحمان المغني مولى بني مخزوم وهو المعروف بدحمان الأشقر على محمد بن أبي العباس وعنده حكم الوادي، فأحضر محمد عشرة آلاف درهم وقال: من سبق منكما إلى صوت يطريني فهذه له؛ فابتدأ دحمان فغنى في شعر قيس بن الخطيم:

حوراء ممكورة منعمة                      كأنما شف وجهها ترف فلم يهش له، فغنى حكم في شعر محمد في زينب:

زينب مالي عنك من صبر                      وليس لي منك سوى الهجر قال: فطرب وضرب برجله وقال له: خذها، وأمر لدحمان بخمسة آلاف درهم، قال: ومن شعره فيها الذي غنى فيه حكم أيضا: صوت

أحببت من لا ينصـف                      ورجوت من لا يسعف

نسب تـلـيد بـينـنـا                      وودادنا مستـطـرف

بالله أحلـف جـاهـدا                      ومصدق من يحلـف

إني لأكتـم حـبـهـا                      جهدي لما أتـخـوف

والحب ينطق إن سكت                      بمـا أجـن ويعـرف الغناء في هذه الأبيات لحكم الوادي، ولحنه ثقيل أول  شعر لابن أبي العباس غنى فيه

فال: ومن شعر محمد فيها الذي غنى فيه حكم: صوت

أسعد الصب يا حكم                      وأعنه علـى الألـم

وأدر فـي غـنـائه                      نغما تشبه النـعـم

أجميل بـأن تـرى                      نائما وهو لـم ينـم

لائمى في هواي زي                      نب أنصف ولا تلـم

لبس الجسـم حـلة                      في هواها من السقم غناه حكم، ولحنه هزج.

سكر حماد مع حكم الوادي عنده

وقد أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أبو أيوب المديني قال: قال بريه الهاشمي حدثني من حضر محمد بن أبي العباس وبين يديه حماد وحكم الوادي يغنيه، وندماؤه حضور، وهم يشربون حتى سكر وسكروا، فكان محمد أول من أفاق منهم، فقام إلى جماعتهم ينبههم رجلا رجلا، فلم يجد فيهم فضلا سوى حماد عجرد وحكم الوادي، فانتبها، وابتدءوا يشربون، فقال عجرد على لسانه، وغنى فيه حكم:

أسعد الصب يا حكم                      وأعنه على الألـم

أجميل بـأن تـرى                      نائما وهو لم ينـم هكذا ذكر هذا الخبر الحسن، ولم يزد على هذين البيتين شيئا.

ابن أبي العباس يشبب بزينب

أخبرني محمد بن يحيى قال: أنشدني أبو خليفة وأبو ذكوان والغلابي لمحمد بن أبي العباس في زينب بنت سليمان بن علي:

يا قمر المربد قد هجت لي                      شوقا فما أنفك بالمـربـد

أراقب الفرقد من حبـكـم                      كأنني وكلت بالـفـرقـد

أهيم ليلي ونهاري بـكـم                      كأنني منكم على مـوعـد

علقتها ريا الشوى طـفـلة                      قريبة المولد من مولـدي

جدي إذا ما نسبت جـدهـا                      في الحسب الثاقب والمحتد

والله ما أنساك في خلوتـي                      يا نور عيني ولا مشهـدي  كان محمد نهاية في الشدة

أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني الحارث بن أبي أسامة قال: حدثني المدائني قال: كان محمد بن أبي العباس نهاية في الشدة، فعاتبه يوما المهدي، فغمز محمد ركابه، حتى انضغطت رجل المهدي في الركاب، ثم لم تخرج حتى رد محمد الركاب بيده، فأخرجها المهدي حيئذ.

حماد يمدح ابن أبي العباس

أخبرني محمد قال: حدثنا أبو ذكوان قال: حدثنا العتبي قال: كان محمد بن أبي العباس شديدا قويا جوادا ممدحا، وكان يلوي العمود ثم يلقيه إلى أخته ريطة فترده، وفيه يقول حماد عجرد:

أرجوك بعد أبي العباس إذ بـانـا                      يا أكرم الناس أعراقا وعـيدانـا

فأنت أكرم من يمشي على قـدم                      وأنضر الناس عند المحل أغصانا

لو مج عود على قوم عصارتـه                      لمج عودك فينا المسك والبـانـا  خبر عزل ابن أبي العباس عن البصرة

أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن قال: لما أراد محمد بن أبي العباس الخروج عن البصرة لما عزله المنصور عنها قال:

أيا وقفة البين ماذا شببـت                      من النار في كبد المغرم

رميت جوانحه إذ رمـيت                      بقوس مسددة الأسـهـم

 

صفحة : 1629

 

 

وقفـنـا لـزينـب يوم الـوداع                      على مثل جمر الغضى المضرم

فمن صرف دمع جرى للفـراق                      لمـمـتـزج بـعـده بـالـدم  شبب حماد بزينب بنت سليمان

أخبرني محمد قال: حدثنا الفضل بن الحباب قال: حدثنا أبو عثمان المازني قال: قال حماد عجرد يشبب بزينب بنت سليمان على لسان محمد بن أبي العباس:

ألا من لقلب مستهام مـعـذب                      بحب غزال في الحجال مربب

يراه فلا يسطيع ردا لطرفـه                      إليه حذار الكاشح المتـرقـب

ولولا مليك نافذ فيه حكـمـه                      لأدنى وصالا ذاهبا كل مذهب

تغبرت خلف اللهو بعد صراوة                      فبحت بما ألقاه من حب زينب قال: فبلغ الشعر محمد بن سليمان، فنذر دمه، ولم يقدر عليه لمكانه من محمد.

رثى حماد ابن أبي العباس بشعر

أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني الغلابي عن محمد بن عبد الرحمن قال: مات محمد بن أبي العباس في أول سنة خمسين ومائة، فقال حماد يرثيه بقوله:

صرت للدهر خاشعا مستكـينـا                      بعد ما كنت قد قهرت الدهـورا

حين أودى الأمير ذاك الذي كـن                      ت به حيث كنت أدعى أمـيرا

كنت إذ كان لي أجير بـه الـده                      ر فقد صرت بعده مستـجـيرا

يا سمي الـنـبـي يابـن أبـي                      العباس حققت عندي المحـذورا

سلبتني الهموم إذ سلـبـتـنـي                      ك سروري فلست أرجو سرورا

ليتني مت حين مـوتـك لا بـل                      ليتني كنت قبلك الـمـقـبـورا

أنت ظللتني الغمام بـنـعـمـا                      ك ووطأت لي وطـاء وثـيرا

لم تدع إذ مضيت فينـا نـظـيرا                      مثل ما لم يدع أبـوك نـظـيرا  خبر موت ابن أبي العباس

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال: كان خصيب الطبيب نصرانيا نبيلا، فسقى محمد بن أبي العباس شربة دواء وهو على البصرة، فمرض منها، وحمل إلى بغداد فمات بها، واتهم خصيب فحبس حتى مات، وسئل عن علته وما به فقال: قال جالينوس: إن مثل هذا لا يعيش صاحبه، فقيل: له إن جالينوس ربما أخطأ، فقال: ما كنت قط إلى خطئه أحوج مني اليوم، وفي خصيب يقول ابن قنبر:

ولقد قلت لأهـلـي                      إذ أتوني بخصـيب

ليس والله خصـيب                      للذي بي بطـبـيب

إنما يعرف ما بـي                      من به مثل الذي بي  تنصله لأخي زينب بشعر

أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز وإسماعيل بن يونس، قالوا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن شيبان وابن داحة، وأخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال: حدثني أبي عن إسحاق قال: لما مات محمد بن أبي العباس طلب محمد بن سليمان حماد عجرد لما كان يقوله في أخته زينب من الشعر، فعلم أنه لا مقام له معه بالبصرة، فمضى فاستجار بقبر أبيه سليمان بن علي، وقال فيه:

من مقر بالذنب لم يوجـب الـل                      ه عـلـيه بـسـيء إقــرارا

ليس إلا بفضل حلـمـك يعـتـد                      بلاء، ومـا يعـد اعـتـذتـرا

يا بن بنت النبـي أحـمـد لا أج                      عل إلا إليك مـنـك الـفـرارا

غير أني جعـلـت قـبـر أبـي                      أيوب لي من حوادث الدهر جارا

وحري من استـجـار بـذاك ال                      قبر أن يأمن الردى والعـثـارا

لم أجد لي من العبـاد مـجـيرا                      فاستجرت التراب والأحـجـارا

لست أعتاض منك فـي بـغـية                      العزة قحطان كلـهـا ونـزارا

فأنا اليوم جار من ليس فـي الأر                      ض مجير أعز مـنـه جـوارا

يا بن بيت النبـي يا خـير مـن                      حطت إليه الغـوارب الأكـوارا

إن أكن مذنبا فأنت ابن مـن كـا                      ن لمن كان مـذنـبـا غـفـارا

فاعف عني فقد قدرت وخـير ال                      عفو ما قلت كن فكان اقـتـدارا

لو يطيل الأعمار جـار لـعـز                      كان جاري يطـول الأعـمـارا  اعتذر إلى محمد بن سليمان بشعر

 

 

صفحة : 1630

 

أخبرني أحمد بن العباس العسكري ومحمد بن عمران الصيرفي قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني علي الصباح قال: كان محمد بن سليمان قد طلب حماد عجرد بسبب نسبيه بأخته زينب، ولم يكن يقدر عليه لمكانه من محمد بن أبي العباس، فلما هلك محمد جد ابن سليمان في طلبه، وخافه حماد خوفا شديدا، فكتب إليه:

يا بن عم النبي وابن الـنـبـي                      لعلي إذا أنتـمـي وعـلـي

أنت بدر الدجى المضيء إذا أظ                      لم واسود كل بـدر مـضـي

وحيا الناس في المحول إذا لـم                      يجد غيث الربيع والوسـمـي

إن مولاك قد أسـاء ومـن أع                      تب من ذنبه فغـير مـسـي

ثم قد جاء تائبا فاقبـل الـتـو                      بة منه يا بن الوصي الرضي  هجاؤه محمد بن سليمان

قال ومضى إلى قبر أبيه سليمان بن علي فاستجار به، فبلغه ذلك، فقال: والله لأبلن قبر أبي من دمه، فهرب حماد إلى بغداد، فعاذ بجعفر بن المنصور، فأجاره، فقال: لا أرضي أو تهجو محمد بن سليمان، فقال يهجوه:

قل لوجه الخصي ذي العار إني                      سوف أهدي لزينب الأشعـارا

قد لعمري فررت من شد الخو                      ف وأنكرت صاحبي نـهـارا

وظننت القبور تمـنـع جـارا                      فاستجرت التراب والأحجـارا

كنت عند استجارتي بأبـي اي                      وب أبغي ضلالة وخـسـارا

لم يجرني ولم أجد فيه حـظـا                      أضرم الله ذلك القـبـر نـارا قال: وقال فيه:

له حزم برغوث وحلم مكاتب                      وغلمة سنور بليل تـولـول وقال أيضا يهجوه وقال فيه يهجوه:

يا ابن سليمان يا مـحـمـد يا                      من يشتري المكرمات بالسمن

إن فخرت هاشم بمـكـرمة                      فخرت بالشحم منك والعكـن

لؤمك بـاد لـمـن يراك إذا                      أقبلت في العارضين والذقن

ليتك إذ كنت ضيقـا نـكـرا                      لم تدع من هاشم ولم تـكـن

جداك جدان لم تعب بـهـمـا                      لكنما العيب منك في البـدن قال: فبلغ هجاؤه محمد بن سليمان فقال: والله لا يفلتني أبدا، وإنما يزداد حتفا بلسانه، ولا والله لا أعفو عنه ولا أتغافل أبدا.

وقد اختلف في وفاة حماد.

خبر مقتله

فأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو داحة وعبد الملك بن شيبان أن حمادا هرب من محمد بن سليمان فأقام بالأهواز مستترا، وبلغ محمدا خبره، فأرسل مولى له إلى الأهواز، فلم يزل يطلبه حتى ظفر به فقتله غيلة.

شعر له وهو يحتضر وأخبرني أحمد بن العباس وأحمد بن يحيى ومحمد بن عمران قالوا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن أحمد بن خلاد أن حمادا نزل بالأهواز على سليم بن سالم فأقام عنده مدة مستترا من محمد بن سليمان، ثم خرج من عنده يريد البصرة، فمر بشيرزاذان في طريقه، فمرض بها، فاضطر إلى المقام بها بسبب علته، فاشتد مرضه، فمات هناك ودفن على تلعة ، وكان بشار بلغه أن حمادا عليل لما به، ثم نعي إليه قبل موته، فقال بشار:

لو عاش حماد لهونا به                      لكنه صار إلى النار فبلغ هذا البيت حمادا قبل أن يموت وهو في السياق ، فقال يرد عليه:

نبئت بشارا نعـانـي ولـل                      موت براني الخالق الباري

يالبتني مت ولـم أهـجـه                      نعم ولو صرت إلى النـار

وأي خزي هو أخزى من أن                      يقال لي يا سـب بـشـار قال: فلما قتل المهدي بشارا بالبطيحة اتفق أن حمل إلى منزله ميتا، فدفن مع حماد على تلك التلعة، فمر بهما أبو هشام الباهلي الشاعر البصري الذي كان يهاجي بشارا، فوقف على قبريهما وقال:

قد تبع الأعمى قفا عجـرد                      فأصبحا جـارين فـي دار

قالت بقاع الأرض لا مرحبا                      بقرب حـمـاد وبـشـار

تجاورا بعد تـنـائيهـمـا                      ما أبغض الجار إلى الجار

صارا جميعا في يدي مالك                      في النار والكافر في النار

صوت

 

هل قلبك اليوم عن شنباء منصرف                      وأنت ما عشت مجنون بها كلف

ما تذكر الدهر إلا صدعت كبـدا                      جرى عليك وأذرت دمعة تكـف

 

صفحة : 1631

 

ذكر أبو عمرو الشيباني أن الشعر لحريث بن عتاب الطائي، وذكر عمرو بن بانة أنه لإسماعيل بن بشار النساء، والصحيح أنه لحريث، والغناء لغريض ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، وذكر الهشامي أنه لمالك.

 

أخبار حريث ونسبه

نسبه

حريث بن عناب  بالنون  بن مطر بن سلسلة بن كعب بن عوف بن عنين بن نائل بن أسودان، وهو نبهان بن عمرو بن الغوث بن طيء، شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وليس بمذكور من الشعراء، لأنه كان بدويا مقلا غير متصد بالشعر للناس في مدح ولا هجاء، ولا يعدو شعره أمر ما يخصه.

يشبب بحبى بنت الأسود

أخبرني بنسبه وما أذكره من أخباره عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني، عن أبيه، وتمام الأبيات التي فيها الغناء بعد البيتين الأولين قوله:

يدوم ودي لمن دامـت مـودتـه                      وأصرف النفس أحيانا فتنصرف

يا ويح كل مـحـب خـلة أبـدا                      على الخيانة إن الخائن الظـرف

كأنها ريشة في أرض بـلـقـعة                      من حيثما واجهتها الريح تنصرف

ينسي الخليلين طول النأي بينهمـا                      وتلتقي طرف شتى فتـأتـلـف قال أبو عمرو، قال حريث هذه القصيدة في أمرأة يقال لها حبى بنت الأسود من بني بحتر بن عتود، وكان يهواها ويتحدث إليها، ثم خطبها، فوعده أهلها ان يزوجوه ووعدته ألا تجيب إلى تزويج إلا به، فخطبها رجل من بني ثعل وكان موسرا فمالت إليه وتركت حريثا، وقد خيرت بينهما فاختارت الثعلي، فتزوجها، فطفق حريث يهجو قومها وقوم المتزوج بها من بني بحتر وبني ثعل، فقال يهجو بني ثعل:

بني ثعل أهل الخنا ما حديثـكـم                      لكم منطق غاو وللناس منطـق

كأنكم معزى قـواصـع جـرة                      من العي أو طير بخفان ينعـق

ديافية قلف كأن خـطـيبـهـم                      سراة الضحى في سلحه يتمطق قال أبو عمرو: ولم يزل حريبث يهجو بني بحتر وبني ثعل من أجل حبى، فبينا هو ذات يوم بخيبر وقد نزل على رجل من قريش وهو جالس بفنائه ينشد الشعر الذي قاله يهجو به بني ثعل وبني بحتر ابني عتود، وبخيبر يومئذ رجل من بني جشم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر يقال له أوفى بن حجر بن أسيد بن يحيى بن ثرملة بن ثرغل بن خيثم بن أبي حارثة عند بني أخت له من قريش ، فمر أوفى هذا بحريث بن عناب وهو ينشد شعرا هجا به بني بحتر، فسمعه أوفى ينشد قوله:

وإن أحق الناس طرا إهانة                      عتود يباريه فرير وثعلب العتود: التيس الهرم. والفرير: ولد الظبية. ويباريه: يفعل فعله. فدنا نه أوفى وقال: إني رجل أصم لا أكاد أسمع، فتقرب إلي، فقال له: ومن أنت? فقال: أنا رجل من قيس، وأنا أهاجي هذا الحي من بني ثعل وبني بحتر، وأحب أن أروي ما قيل فيهم من الهجاء، فأدنوه منه، وكانت معه هراوة وقد اشتمل عليها، فلما تمكن من ابن عتاب جمع يديه بالهراوة ثم ضرب بها أنفه فحطمه، وسقط على وجهه ووثب القرشي على أوفى فأخذه، فوثب بنو أخته فانتزعوه من القرشي، وكاد أن يقع بينهم شر، وأفلت أوفى ودوري ابن عتاب حتى صلح واستوى أنفه، فقال أوفى في ذلك:

لاقى ابن عناب بخيبر ماجـدا                      يزع اللئام وينصر الأحسابـا

فضربته بهراوتي فتركـتـه                      كالحلس منعفر الجبين مصابا قال:ثم لحق أوفى بقومه، فلما كان بعد ذلك بمدة اتهمه رجل من قريش بأنه سرق عبدا له وباعه بخيبر، فلم يزل القريشي يطلبه حتى أخذه وأقام عليه البينة، فحبس في سجن المدينة، وجعلت للقرشي يده، فبعث ابن عناب إلى عشيرته بني نبهان، فأبوا أن يعاونوه، وأقبل عرفاء بني بحتر إلى المدينة يريدون أن يؤدوا صدقات قومهم فيهم حصن وسلامة ابنا معرض، وسعد بن عمرو بن لأم، ومنصور بن الوليد بن حارثة، وجبار بن أنيف، فلقوا القرشي وانتسبوا له، وقالوا: نحن نعطيك العوض من عبدك ونرضيك، ولم يزالوا به حتى قبل وخلى سبيله، فقال حريث يمدحهم ويهجو قومه الأدنين من بني نبهان:

لما رأيت العبد نبهان تـاركـي                      بلماعه فيها الحوادث تخـطـر

نصرت بمنصور وبابني معرض                      وسعد وجبار بل الله ينـصـر

وذو العرش أعطاني المودة منهم                      وثبت ساقي بعدما كدت أعثـر

 

صفحة : 1632

 

 

إذا ركب الناس الطريق رأيتهم                      لهم خابط أعمى وآخر مبصر

لكل بني عمرو بن غوث رباعه                      وخيرهم في الشر والخير بحتر  مر بنسوة فضحكن منه فقال شعرا

وقال أبو عمرو: مر ابن عناب بعدما أسن بنسوة من بني قليع وهو يتوكأ على عصا فضحكن منه، فوقف عليهن وأنشأ يقول:

هزئت نساء بني قلـيع أن رأت                      خلق القميص على العصا يتركع

وجعلنني هزؤا ولو يعرفنـنـي                      لعلمن أني عند ضـيمـي أروع  خبر إغارته على قوم من بني أسد

قال أبو عمرو: وكان حريث بن عناب أغار على قوم من بني أسد فاستاق إبلا لهم، فطلبه السلطان، فهرب من نواحي المدينة وخيبر إلى جبلين في بلاد طيىء يقال لهما: مرى والشموس حتى غزم عنه قومه ما طلب، ثم عاود وقال في ذلك:

إذا الـدين أودى بـالـفـســاد فـــقـــل لـــه                      يدعـنـا وركـنـا مـن مـعـد نــصـــادمـــه

ببـيض خـفـاف مـرهـفـلـــت قـــواطـــع                      لداود فــيهـــا أثـــره وخـــواتـــمـــه

وزرق كـسـتـهـا ريشـهـا مــضـــرحـــية                      أثـيت خـوافـي ريشـــهـــا وقـــوادمـــه

إذا ما خرجنا خرت الأكمسجدالعز علا حيزومه وعلاجمه

إذا نحن سرنا بين شرق ومغرب                      تحـرك يقـظـان الـــتـــراب ونـــائمـــه

وتـفـزع مـنـا الإنـس والـجـن كــلـــهـــا                      ويشـرب مـهـجـور الـمـــياه وعـــائمـــه

ستـمـنـع مـرى والـشـمـوس أخـاهـــمـــا                      إذا حـكـم الـسـلـطـان حـكـمـا يضـاجـمــه يميل فيه. ويروى: يصاحمه، وقال أبو عمرو: يصاحمه: يزاحمه. والأصحم منه مأخوذ.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الجزء الخامس عشر

 

صوت

 

هل في آدكار الحبيب من حرج                      أم هل لهم الفؤاد مـن فـرج

أم كيف أنسى رحيلنا حـرمـا                      يوم حللنا بالنخـل مـن أمـج

يوم يقول الرسول قـد أذنـت                      فائت على غير رقبة فـلـج

أقبلت أسعى إلى رحـالـهـم                      في نفحة من نسيمهـا الأرج الشعر لجعفر بن الزبير ،والغناء للغريض، خفيف ثقيل أول، بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أنه لدحمان في هذه الطريقة والمجرى. وذكره يونس بغير طريقة وقال: فيه لحنان: لابن سريج والغريض. وذكر الهشامي أن لحن ابن سريج رمل بالوسطى.

 

أخبار جعفر بن الزبير ونسبه

جعفر بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وأم جعفر بن الزبير زينب بنت بشر بن عبد عمرو، من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

أخبرني الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني مصعب بن عثمان قال: أخبرني جدك عبد الله بن مصعب عن أبي عثمان بن مصعب، عن شعيب بن جعفر بن الزبيرقال: فرض سليمان بن عبد الملك للناس في خلافته، وعرض الفرض. قال: وكان ابن حزم في ذلك محسنا يعلم الله، إنه كان يأمر الغلمان أن يتطاولوا على خفافهم ليرفعهم بذلك.

قال شعيب بن جعفر بن الزبير: فقال لي سليمان بن عبد الملك: من أنت? قلت: شعيب بن جعفر بن الزبير.

فقال: ما فعل جعفر? فقال له عمر بن عبد العزيز: ياأمير المؤمنين على الكبر والعيال. فقال: قل له يحضر الباب فقال لجعفر، احضر الباب. فدعا المنذر بن عبيدة بن الزبير، فرفع معه رقعة وأرسله إلى عمر بن عبد العزيز، فيها قوله:

يا عمر بن عمر بن الخـطـاب                      إن وقوفي من وراء الأبـواب

يعدل عندي حطم بعض الأنياب قال: فلما قرأها عمر عذره عند سليمان، فأمر له سليمان بألف دينار في دينه، وألف دينار معونة على عياله، وبرقيق من البيض والسودان، وكثير من طعام الجاري ، وأن يدان من الصدقة بألفي دينار. قال: فلما جاء ذلك إلى أبي قال: أعطيته من غير مسألة? فقيل: نعم. قال: الحمد لله، ما أسخى هذا الفتى ما كان أبوه سخيا ولا ابن سخي. ولكن هذا كأنه من آل حرب. ثم قال:

فما كنت ديانا فقد دنت إذا بـدت                      صكوك أمير المؤمنين تـدور

بوصل أولي الأرحام قبل سؤالهم                      وذلك أمر في الكرام كـثـير

 

صفحة : 1633

 

قال بعض من روى هذا الخبر عن الزبير: الناس لاينظرون في عيب أنفسهم، وما كان لجعفر أن يعيب أحدا بالبخل؛ وما رئي في الناس أحد أبخل منهم أهل البيت ولامن عبد الله بن الزبير خاصة، وماكان فيهم جواد غير مصعب.

قال الزبير: حدثني عمي، قال: كان السلطان بالمدينة إذا جاء مال الصدقة أدان من أراد من قريش منه ، وكتب بذلك صكا عليه، فيستعبدهم به، ويختلفون إليه، ويديرونه ، فإذا غضب على أحد منهم استخرج ذلك منه ، حتى كان هارون الرشيد، فكلمه عبد الله بن مصعب في صكوك بقيت من ذلك على غير واحد من قريش؛ فأمر بها فخرقت عنهم، فذلك قول ابن الزبير:

فما كنت ديانا فقد دنت إذ بدت                      صكوك أمير المؤمنين تدور قال الزبير: وحدثني عمي مصعب قال: شهد جعفر بن الزبير مع أخيه عبد الله حربة، واستعمله عبد الله على المدينة، وقاتل يوم قتل عبد الله بن الزبير، حتى جمد الدم على يده؛ وفي ذلك يقول جعفر:

لعمرك إني يوم أجلت ركائبـي                      لاطيب نفسا بالجلاد لدى الركن

ضنين بمن خلفي شحيح بطاعتي                      طراد رجال لامطاردة الحصن -الحصن: جمع حصان، يقول: هذا طراد القتال لاطراد الخيل في الميادين-

غداة تحامتنا تـجـيب وغـافـق                      وهمدان تبكي من مطاردة الضبن قال الزبير: وحدثني عمي مصعب بن عثمان؛ أن جعفر بن الزبير كانت بينه وبين أخيه عروة معاتبة، فقال في ذلك:

لا تلحيني يابن أمي فـإنـنـي                      عدو لمن عاديت ياعرو جاهد

وفارقت إخواني الذين تتابعـوا                      وفارقت عبد الله والموت عاند

ولولا يمـين لاأزال أبـرهـا                      لقد جمعتنا بالفناء المقـاعـد قال الزبير: انشدتني عمتي أسماء بنت مصعب بن ثابت، لجعفر بن الزبير، وأنشدنيه غيرها يرثي ابنا له :

أهاجك بين من حبيب قد احتمـل                      نعم ففؤادي هائم العقل محتبـل

وقالوا صحيرات اليمام وقـدمـوا                      أوائلهم من آخر الليل في الثقـل

مررن على ماء العشيرة والهوى                      على ملل يالهف نفسي على ملل

فتى السن كهل الحلم يهتز للنـدى                      أمر من الدفلى وأحلى من العسل في هذه الأبيات خفيف رمل بالبنصر، نسبه يحيى المكي إلى ابن سريج، ونسبه الهشامي إلى الأبجر، قال: ويقال إنه لابن سهيل.

فأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني-وخبره أتم-قال: اصطحب قوم في سفر، ومعم رجل يغني، وشيخ عليه أثر النسك والعبادة، فكانوا يشتهون أن يغنيهم الفتى ويستحيون من الشيخ إلى أن بلغوا إلى صحيرات اليمام، فقال له المغني: أيها الشيخ إن علي يمينا أن أنشد شعرا إذا انتهيت إلى هذا الموضع، وإني أهابك وأستحي منك؛ فإن رأيت أن تأذن لي في إنشاده أو تتقدم حتى أوفي بيميني ثم نلحق بك فافعل. قال: وما علي من إنشادك? أنشد ما بدا لك. فاندفع يغني:

وقالوا صحيرات اليمام وقدمـوا                      أوائلهم من آخر الليل في الثقـل

وردن على ماء العشيرة والهوى                      على ملل يالهف نفسي على ملل فجعل الشيخ يبكي أحر بكاء وأشجاه، فقالوا له: مالك ياعم تبكي? فقال: لاجزيتم خيرا؛ هذا معكم طول هذا الطريق وأنتم تبخلون علي به اتفرج به ويقطع عني طريقي؛ وأتذكر أيام شبابي. فقالوا: لاوالله ماكان يمنعنا منه غير هيبتك. قال: فأنتم إذا معذورون. ثم أقبل عليه؛ فقال: عد فديتك إلى ماكنت عليه. فلم يزل يغنيهم طول سفرهم حتى افترقوا.

قال: الزبير: وأخبرني مصعب بن عثمان أن أم عروة بنت جعفر بن الزبير أنشدته لأبيها جعفر وكان يرقصها بذلك:

ياحبذا عروة في الدمالج                      أحب كل داخل وخارج قال: وأخبرتني أن أخاها صالح بن جعفرغزا أرض الروم، فقال فيه جعفر:

قدراح يوم السبت حين راحوا                      مع الجمال والتقى صـلاح

من كل حي نفـر سـمـاح                      بيض الوجوه عرب صحاح

وفزعـوا وأخـذ الـسـلاح                      وهم إذا ما كره الـشـياح

مصاعب يكرهها الجـراح

 

صفحة : 1634

 

قال: الزبير: ولجعفر شعر كثير قد نحل عمر بن أبي ربيعة ودخل في شعره. فأما الأبيات التي ذكرت فيها الغناء فمن الناس من يرويها لعمر بن أبي ربيعة، ومنهم من يرويها للأحوص وللعرجي؛ وقد أنشدنيها جماعة من أصحابنا لجعفر بن الزبير. وأخبرني بذلك الحرمي، والطوسي، وحبيب بن نصر المهلبي، وذكر الأبيات. وأخبرنيه عمي عن ابن أبي سعد عن سعيد بن عمرو عن أم عروة بنت جعفر مثله. قال ابن أبي سعد : قال الخزامي الناس يروونها للعرجي، وأم عروة أصدق.

أخبرني الطوسي قال حدثنا الزبيري قال:حدثني سعيد بن عمرو الزبيري قال: تزوج جعفر بن الزبير امرأة من خزاعة وفيها يقول:

هل في ادكار الحبيب من حرج الأبيات وزاد فيها بيتين وهما:

تسفر عن واضح إذا سفرت                      ليس بذي آمة ولا سـمـج وسقط البيت الآخر من الأصل.

قال الزبير في رواية الطوسي: حدثني مصعب بن عثمان وعمي مصعب قالا: كان جماعة من قريش منتحين عن المدينة، فصدر عن المدينة بدوي فسألوه: هل كان لمدينة خبر? قال: نعم مات أبو الناس. قالوا: وأنى ذلك? قال: شهده أهل المدينة جميعا؛ وبكي عليه من كل دار. فقال القوم: هذا جعفر بن الزبير، فجاءهم الخبر بعد أن جعفر بن الزبير مات.

أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني إبراهيم بن معاوية عن أبي محمد الأنصاري، عن عروة بن هشام بن عروة عن أبيه؛ قال: أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني إبراهيم بن معاوية عن أبي محمد الأنصاري، عن عروة بن هشام بن عروة عن أبيه؛ قال: لما تزوج الحجاج وهو أمير المدينة بنت عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، أتى رجل سعيد بن المسيب فذكر له ذلك، فقال: إني لأرجو أن لايجمع الله بينهما، ولقد دعا داع بذلك فابتهل، وعسى الله ، فإن أباها لم يزوج إلا الدراهم. فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان أبرد البريد إلى الحجاج، وكتب إليه يغلظ له ويقصر به، ويذكر تجاوزه قدره، ويقسم بالله لئن هو مسها ليقطعن أحب اعضائه إليه، ويأمره بتسويغ أبيها المهر ، وبتعجيل فراقها.

ففعل، فما بقي أحد فيه خير إلا سره ذلك.

وقال جعفر بن الزبير وكان شاعرا في هذه القصة:

وجدت أمير المؤمنين ابن يوسـف                      حميا من الأمر الذي جئت تنكـف

ونبئت أن قد قال لما نكحـتـهـا                      وجاءت به رسل تخب وتوجـف

ستعلم أني قد أنفت لـمـا جـرى                      ومثلك منه عمرك الـلـه يؤنـف

ولولا انتكاس الدهر ما نال مثلهـا                      رجاؤك إذ لم يرج ذلـك يوسـف

أبنت المصفى ذي الجناحين تبتغي                      لقد رمت خطبا قدره ليس يوصف

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا                      أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلـهـا فـأبـادنـا                      صروف الليالي والجدود العواثـر عروضه من الطويل. الشعر فيما ذكر ابن إسحاق صاحب المغازي لمضاض بن عمروالجرهمي. وقال غيره: بل هو لحارث بن عمر بن مضاض.

أخبرنا بذلك الجوهري عن عمر بن شبة عن أبي غسان محمد بن يحيى عن غسان بن عبد الحميد. وقال عبد العزيز بن عمران : هو عمر بن الحارث بن مضاض. والغناء ليحيى المكي، رمل بالوسطى عن عمرو. وفيه لإبراهيم الموصلي ما خوري بالبنصر. وفيه لأهل مكة لحن قديم ذكره إبراهيم ولم يجنسه.

 

ذكر خبر مضاض بن عمرو

هو مضاض بن عمرو بن الحارث الجرهمي. وكان جده مضاض قد زوج ابنته رعلة، إسماعيل بن إبراهيم خليل الرحمن، فولدت له إثنى عشر رجلا أكبرهم قيذار ونابت. وكان أبوه إبراهيم عليه السلام أمره بذلك لأنه لما بنى مكة وأنزلها ابنه قدم عليه قدمة من قدماته، فسمع كلام العرب وقد كانت طائفة من جرهم نزلت هنالك مع إسماعيل، فأعجبته لغتهم واستحسنها فأمر إسماعيل عليه السلام أن يتزوج إليهم، فتزوج بنت مضاض بن عمرو، وكان سيدهم.

فأخبرنا محمد بن جرير، قال: حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق. وأخبرني محمد بن جعفر النحوي قال: حدثنا إسحاق بن أحمد الخزاعي قال حدثنا محمد بن عبد الله الأزرقي قال: حدثني جدي عن سعيد بن سالم عن عثمان بن ساج عن محمد بن إسحاق. ورواية إسحاق بن احمد أتم. وقد جمعتها:

 

صفحة : 1635

 

أن نابت بن إسماعيل ولي البيت بعد أبيه ثم توفي،فولى مكانه جده لأمه مضاض بن عمرو الجرهمي، فضم ولد نابت بن إسماعيل إليه، ونزلت جرهم مع ملكهم مضاض بن عمرو بأعلى مكة، ونزلت قطوراء مع ملكهم السميدع أجياد، أسفل مكة . وكان هذان البطنان خرجا سيارة من اليمين ، وكذلك كانوا لايخرجون إلا مع ملك يملكونه عليهم، فلما رأوا مكة رأوا بلدا طيبا، وماء وشجرا، فنزلا ورضي كل واحد منهما بصاحبه ولم ينازعه، فكان مضاض يعشر من جاء مكة من أعلاها، وكان السميدع يعشر من جاءها من أسفلها ومن كداء لايدخل أحدهما على صاحبه في أمره، ثم إن جرهما وقطوراء بغى كل واحد منهما على صاحبه، فتنافسوا في الملك حتى نشبت الحرب بينهم؛ وكانت ولاية البيت إلى مضاض دون السميدع، فخرج مضاض من بطن قعيقعان مع كتيبته في سلاح شاك يتقعقع-فيقال: ماسميت قعيقعان إلا بذلك-وخرج السميدع من شعب أجياد، في الخيل الجياد والرجال-ويقال: ماسميت أجيادا إلا بذلك- حتى التقوا بفاضح، فاقتتلوا قتالا شديدا، وفضحت قطوراء- ويقال: ماسمي فاضحا إلا بذلك-ثم تداعى القوم إلى الصلح فساروا حتى نزلوا المطابخ شعبا بأعلى مكة، وهو الذي يقال له الآن شعب بن عامر فاصطلحوا هناك، وسلموا الأمر إلى مضاض؛ فلما اجتمع له أمرمكة، وصار ملكها دون السميدع نحر للناس فطبخوا هناك الجزر، فأكلوا، وسمي ذلك الموضع المطابخ. فيقال: إن هذا أول بغي بمكة، فقال مضاض بن عمر في تلك الحرب :

نحن قتلنا سيد الحـي عـنـوة                      فأصبح منها وهو حيران موجع - يعني أن الحي أصبح حيران موجعا-

وما كان يبغي أن يكون سـواؤنـا                      بها ملكا حتى أتانـا الـسـمـيدع

فذاق وبالا حين حاول مـلـكـنـا                      وحاول منا غـصة تـتـجـرع

ونحن عمرنا البيت كـنـا ولاتـه                      نضارب عنه من أتانـا ونـدفـع

وما كان يبغي ذاك في الناس غيرنا                      ولم يك حي قبلـنـا ثـم يمـنـع

وكنا ملوكا في الدهور التي مضت                      ورثنا ملوكا لاترام فـتـوضـع قال عثمان بن ساج في خبره: وحدثني بعض أهل العلم أن سيلا جاء فدخل البيت فانهدم، فأعادته جرهم على بناء إبراهيم، بناه لهم رجل منهم يقال له أبو الجدرة وأسمه عمر الجارود، وسمي بنوه الجدرة. قال: ثم استخف جرهم بحق البيت، وارتكبوا فيه أمورا عظاما، وأحدثوا فيه أحداثا قبيحة، وكان للبيت خزانة، وهي بئر في بطنه، يلقى فيها الحلي والمتاع الذي يهدى له، وهو يومئذ لاسقف عليه، فتواعد عليه خمسة من جرهم أن يسرقوا كل مافيه، فقام على كل زاوية من البيت رجل منهم واقتحم الخامس، فجعل الله عز وجل أعلاه أسفله، وسقط منكسا فهلك، وفر الأربعة الآخرون.

قالوا: ودخل إساف ونائلة البيت ففجرا فيه، فمسخهما الله حجرين، فأخرجا من البيت. وقيل إنه لم يفجر بها في البيت، ولكنه قبلها في البيت.

وذكر عثمان بن ساج عن أبي الزناد، أنه إساف بن سهيل، وأنها نائلة بنت عمرو بن ذئب. وقال غيره: إنها نائلة بنت ذئب. فأخرجا من الكعبة، ونصبا ليعتبر بهما من رآهما، ويزدجر الناس عن مثل ما راتكبا، فلما غلبت خزاعة على مكة ونسي حديثهما، وحولهما عمرو بن لحي بن كلاب بعد ذلك؛ فجعلهما تجاه الكعبة يذبح عندهما عند موضع زمزم.

قالوا: فلما كثر بغي جرهم بمكة قام فيهم مضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض فقال: يا قوم احذروا البغي، فإنه لا بقاء لأهله، وقد رأيتم من كان قبلكم من العماليق استخفوا بالحرم ولم يعظموه وتنازعوا بينهم واختلفوا، حتى سلطكم الله عليهم فاجتحتموهم فتفرقوا في البلاد، فلا تستخفوا بحق الحرم وحرمة بيت الله، ولا تظلموا من دخله وجاءه معظما لحرماته، أو خائفا، أو رغب في جواره، فإنكم إن فعلتم ذلكم تخوفت أن تخرجوا منه خرج ذل وصغار، حتى لا يقدر أحد منكم أن يصل إلى الحرم، ولا إلى زيارة البيت الذي هو لكم حرز وأمن، والطير تأمن فيه.

 

 

صفحة : 1636

 

فقال قائل منهم يقال له مجدع: ومن الذي يخرجنا منه? ألسنا أعز العرب وأكثرهم مالا وسلاحا?فقال مضاض: إذا جاء الأمر بطل ما تذكرون؛ فقد رأيتم ما صنع الله بالعماليق قالوا: وقد كانت العماليق بغت في الحرم، فسلط الله عز وجل عليهم الذر فأخرجهم منه، ثم رموا بالجدب من خلفهم حتى ردهم الله إلى مساقط رؤوسهم، ثم أرسل عليهم الطوفان- قال: والطوفان: الموت- قال: فلما رأى مضاض بن عمرو بغيهم ومقامهم عليه، عمد إلى كنوز الكعبة، وهي غزالان من ذهب، وأسياف قلعية ، فحفرلها ليلا في موضع زمزم ، ودفنها.

فبيناهم على ذلك إذ سارت القبائل من أهل مأرب، ومعهم طريقة الكاهنة، حين خافوا سيل العرم، وعليهم مزيقياء وهو عمرو بن ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الزد بين الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، فقالت لهم طريقة لما قاربوا مكة:وحق ما أقول ، وما علمني ما أقول إلا الحكيم المحكم، رب جميع الأمم، من عرب وعجم. قالوا لها: ما شانك ياطريقة? قالت:خذوا البعير الشدقم ، فخضبوه بالدم، تكن لكم أرض جرهم، جيران بيته المحرم. فلما انتهوا إلى مكة وأهلها أرسل إليهم عمرو ابنه ثعلبة، فقال لهم: ياقوم، إنا قد خرجنا من بلادنا فلم ننزل بلدة إلا أفسح أهلها لنا،وتزحزحوا عنا، فنقيم معهم حتى نرسل روادا فيرتادوا لنا بلدا يحملنا، فافسحوا لنا في بلادكم حتى نقيم قدر ما نستريح، نرسل روادنا إلى الشأم وإلى الشرق، فحيثما بلغنا أنه أمثل لحقنا به، وأرجوا أن يكون مقامنا معكم يسيرا، فأبت ذلك جرهم إباء شديدا، واستكبروا في أنفسهم، وقالوا: لا والله؛ ما نحب أن تنزلوا فتضيفوا علينا مرابعنا ومواردنا، فارحلوا عنا حيث أحببتم، فلا حاجة لنا بجواركم. فأرسل إليهم: إنه لابد من المقام بهذا البلد حولا، حتى ترجع إلي رسلي التي أرسلت، فإن أنزلتموني طوعا نزلت وحمدتكم وآسيتكم في الرعي والماء، وإن أبيتم أقمت على كرهكم ثم لم ترتعوا معي إلا فضلا ، ولم تشربوا إلا رنقا ، وإن قاتلتموني قاتلتكم، ثم إن ظهرت عليكم سبيت النساء وقتلت الرجال، ولم أترك منكم أحدا ينزل الحرم أبدا فأبت جرهم أن تنزله طوعا وتعبت لقتاله ، فاقتتلوا ثلاثة أيام أفرغ عليهم فيها الصبر، ومنعوا النصر ، ثم انهزمت جرهم فلم يفلت منهم إلا الشريد. وكان مضاض بن عمرو قد اعتزل حربهم ولم يعنهم في ذلك، وقال: قد كنت أحذركم هذا. ثم رحل هو وولده وأهل بيته حتى نزلوا قنونى وما حوله، فبقايا جرهم به إلى اليوم ، وفني الباقون؛ أفناهم السيف في تلك الحروب.

قالوا: فلما حازت خزاعة أمر مكة وصاروا وأهلها جاءهم بنو إسماعيل وقد كانوا اعتزلو حرب جرهم وخزاعة، فلم يدخلوا في ذلك، فسألوهم السكنى معهم وحولهم فأذنوا لهم، فلما رأى ذلك مضاض بن عمرو بن الحارث وقد كان أصابه من الصبابة إلى مكة أمر عظيم، أرسل إلى خزاعة يستأذنها، ومت إليهم برأيه وتوريعه قومه عن القتال ، وسوء العشرة في الحرم، واعتزاله الحرب، فأبت خزاعة أن يقروهم ونفوهم عن الحرم كله، وقال عمرو بن لحي لقومه: من وجد منكم جرهميا قد قارب الحرم فدمه هدر  فنزعت إبل لمضاض بن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عمرو، من قنونى تريد مكة، فخرج في طلبها حتى وجد أثرها قد دخلت مكة، فمضى على الجبال نحو أجياد، حتى ظهر على أبي قبيس يتبصر الإبل في بطن واديمكة، فأبصرالإبل تنحر وتؤكل ولا سبيل له إليها، فخاف إن هبط الوادي أن يقتل، فولى منصرفا إلى أهله وانشأ يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفـا                      أنيس ولم يسمر بـمـكة سـامـر

ولم يتربع واسـطـا فـجـنـوبـه                      إلى المنحنى من ذي الأراكة حاضر

بلى نحن كنا أهـلـهـا فـأبـادنـا                      صروف الليالي والجود العـواثـر

وأبدلنـا ربـي بـهـا دار غـربة                      بها الذئب يعوي والعدو المخـامـر

أقول إذا نام الـخـلـي ولـم أنـم                      أذا العرش لايبعد سهيل وعـامـر

قد ابدلت منهم أوجـهـا لاأريدهـا                      وحمير قد بدلتـهـا والـيحـابـر

فإن تمل الدنيا علـينـا بـكـلـهـا                      ويصبح شر بينـنـا وتـشـاجـر

فنحن ولاة البيت من بعـد نـابـت                      نمشي به والخير إذ ذاك ظـاهـر

 

صفحة : 1637

 

 

وأنكح جدي خير شخص علمته                      فأبناؤه منا ونحن الأصـاهـر

وأخرجنا منها الملـيك بـقـدرة                      كذلك ياللناس تجري المـقـادر

فصرنا أحاديثا وكنا بـغـبـطة                      كذلك عضتنا السنون الغوابـر

وسحت دموع العين تبكي لبلـدة                      بها حرم أمن وفيها المشاعـر

وياليت شعري من بأجياد بعدنـا                      أقام بمفضى سيله والظواهـر

فبطن منى أمس كأن لم يكن به                      مضاض ومن حيى عدي عمائر

فهل فرج آت بشيء نـحـبـه                      وهل جزع منجيك مما تحـاذر قالوا: وقال أيضا:

ياأيها الحي سيروا إن قصـركـم                      أن تصبحوا ذات يوم لاتسيرونـا

إنا كما أنتـم كـنـا فـغـيرنـا                      دهر بصرف كما صرنا تصيرونا

أزجوا المطي وأرخوا من أزمتها                      قبل الممات وقضوا ما تقضونـا

قد مال دهر علينا ثم أهلـكـنـا                      بالبغي فيه فقد صرنا أفـانـينـا

كنا زمانا ملوك الناس قبـلـكـم                      نأوي بلادا حراما كان مسكونـا قال الأزرقي: فحدثني محمد بن يحيى قال: حدثني عبد العزيز بن عمران قال: وخرج أبو سلمة بن عبد أسد المخزومي قبيل الإسلام في نفر من قريش يريدون اليمن فأصابهم عطش شديد ببعض الطريق، وأمسوا على غير الطريق، فتشاوروا جميعا، فقال لهم أبو سلمة: إني أرى ناقتي تنازعني شقا ؛ أفلا أرسلها وأتبعها? قالوا: فافعل. فأرسل ناقته وتبعها فأضحوا على ماء وحاضر ، فاستقوا وسقوا، فإنهم لعلى ذلك إذ أقبل إليهم رجل فقال: من القوم? قالوا: من قريش. فرجع إلى شجرة أمام الماء فتكلم عندها بشيء ثم رجع إلينا، فقال: أينطلق معي أحدكم إلى رجل ندعوه . قال أبو سلمة: فانطلقت معه فوقف بي تحت شجرة، فإذا وكر معلق فصوت: يا أبت فزعزع شيخ رأسه ، فأجابه فقال: هذا الرجل. فقال لي: ممن الرجل? قلت: من قريش. قال: من أيها? قلت: من بني مخزوم بن يقظة. قال: من أيهم? قلت: أنا أبو سلمة بن عبد الأسد بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم بن يقظة. قال: أيهات منك  أنا ويقظة سن ، أتدري من يقول:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا                      أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلـهـا فـأبـادنـا                      صروف الليالي والجدود العواثر قلت: لا.قال: أنا قائلها، أنا عمروبن الحارث بن مضاض الجرهمي. أتدري لم سمى أجياد أجيادا? قلت:لا.قال: جادت بالدماء يوم التقينا نحن وقطوراء؛ أتدري لم سمي قبعقا،? قلت:لا. قال:لتقعقع السلاح علىظهورنا لما طلعنا عليهم منه.

أخبرني بهذا الخبر الحرمي بن أبي العلاء؛قال حدثنا الزبيربن بكار قال: حدثني إبراهيم بن المنذرالحزامي؛ قال حدثنا عبد العزيز بن عمران؛ قال حدثني راشد بن حفص بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف، قال: قال أيو سلمة بن عوف : وخرجت في نفر من قريش يريدون اليمن. وذكر الخبر مثل حديث الأزرقي. والله أعلم.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني محمد بن يحيى قال: حدثنا غسان بن عبد العزيز بن عبد الحميد أن ربيعة بن أمية بن خلف كان قد أدمن الشراب، وشرب في شهر رمضان، فضربه عمر رضي الله عنه وغربه إلى ذي المروة، فلم يززل بها حتى توفي واستخلف عثمان رضي الله عنه؛ فقيل له: قد توفي عمر واستخلف عثمان فلو دخلت المدينة ماردك أحد. قال:لا والله لاأدخل المدينة فتقول قريش قد غربه رجل من بني عدي بن كعب. فلحق بالروم وتنصر، فكان قيصر يحبوه ويكرمه، فأعقب بها.

قال غسان: حدثني أبي قال: قدم رسول يزيد بن معاوية على معاوية من بلاد الروم؛ فقال له معاوية: هل كان للناس خبر? قال: بينا نحن محاصرون مدينة كذا وكذا إذ سمعنا رجلا فصيح اللسان مشرفا من بين شرفتين من شرف الحصن، وهو ينشد:

كأن لم يكن بن الحجون إلى الصفا                      أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر فقال معاوية: ويحك، ذاك الربيع بن أمية يتغنى بشعر عمرو بن الحارث بن مضاض الجرهمي.

 

 

صفحة : 1638

 

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال؛ حدثني إسحاق بن إبراهيم قال: قال لي أبي: مر بالدواب تسرج سحرا حتى نغدو إلى ابن جامع نستقبله بالياسرية بسحرة لا تأخذنا الشمس قال: فأمرت بذلك. وركبنا في السحر فأصبحنا دون الياسرية، وقد طلعت علينا الشمس. قال: فجئنا إلى ابن جامع وإذا به مختضب وعلى رأسه ولحيته خرق الخضاب، وغذا بقدر تطبخ في الشمس؛ فلما نظر إلينا رحب بنا، وقام إلينا فسلم علينا، ثم دعا الماء فغسل رأسه ولحيته، ثم دعا بالغداء فأتي بغدائه، فغرف لنا من تلك القدر التي في الشمس، فتقززت وبشعت من ذلك الطعام الذي طبخ، فأشار إلي أبي: بأن كل. فأكلنا حتى فرغنا من غدائنا، فلما غسلنا أيدينا نادى ابن جامع: يا غلام هات شرابنا فأتي بنبيذ في زكرة قد كانت الزكرة في الشمس ، فكرهت ذلك، فأشار إلي أبي، أن لاتمتنع، ثم أتوا بقدح جيشاني ملء الكف، فصب النبيذ فيه وهويشبه ماء قد أغلي بالنار، ثم غنى ابن جامع فقال:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا                      أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلهـا فـأزالـنـا                      صروف الليالي والجدود العواثر ثم غنى للعرجي :

لو أن سلمى رأتنا لايراع لنـا                      لما هبطنا جميعا أبطن السوق

وكشرنا وكبول القين تنكـؤنـا                      كالأسد تكثر عن أنيابها الروق ثم تغنى:

أجرر في الجوامع كل يوم                      فيا لله مظلمتي وصبـري ثم أمر بالرحيل. وقد غنى هذه الثلاثة الأصوات. فقال لي أبي: يابني بشعت لما رأيت من طعام ابن جامع وشرابه؛ فعلي عتق ما أملك إن لم يكن شرب الدم مع هذا طيبا. ثم قال: أسمعت بني غناء قط أحسن من هذا? فقلت: لا والله ما سمعت. قال: ثم خرج ابن جامع حتى نزل بباب أميرالمؤمنين الرشيد ليلا، واجتمع المغنون على الباب، وخرج الرسول إليهم فأذن لهم؛ والرشيد خلف الستارة، فغنوا إلى السحر؛ فأعطاهم ألف دينار إلا ابن جامع فلم يعطه شيئا، وانصرفوا متوجهين له، وعرضوا عليه جميعا فلم يقبل، وانصرفوا، فلما كان في الليلة الثانية دعوا فغنوا ساعة، ثم كشفت الستارة، وغنى جامع صوتا عرض فيه بحاله وهو:

تقول أقم فينا فقيرا ومـا الـذي                      ترى فيه ليلي أن أقيم فـقـيرا

ذريني أمت ياليل أو أكسب الغنى                      فإني أرى غير الغني حـقـيرا

يدفع في النادي ويرفض قولـه                      وإن كان بالرأي السدسد جـديرا

ويلزم ما يجني سواه وإن يطـف                      بذنب يكن منه الصغير كبـيرا قالوا: فأعجب الرشيد ذلك الشعر واللحن فيه، وأمال رأسه نحوه كالمستدعي له. وغناه أيضا:

لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي                      واخلفني منها الذي كنـت آمـل

فما كل ما يخشى الفتى نازل به                      ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل

ووالله مافرطت في وجه حـيلة                      ولكن ما قد قدر الـلـه نـازل

وقد يسلم الإنسان من حيث يتقـي                      ويؤتى الفتى من أمنه وهو غافل ثم أمر بالانصراف فانصرفوا، فلما بلغوا الستر صاح به الخادم: ياقرشي مكانك. فوقف مكانه فخرج إليه بخلع وسبعة آلاف دينار، وأمر إن شاء أن يقيم، وإن شاء أن ينصرف.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: ذكر الكلبي عن أبيه: أن الناس بيناهم في ليلة مقمررة في المسجد الحرام، إذ بصروا بشخص قد أقبل كأن قامته رمح، فهربوا من بين يديه وهابوه؛ فأقبل حتى طاف بالبيت الحرام سبعا ثم وقف فتمثل:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا                      أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر قال: فأتاه رجل من أهل مكة؛ فوقف بعيدا منه ثم قال: سألتك بالذي خلقك أجني أنت أم إنسي ? فقال:بل إنسي، انا امرأة من جرهم، كنا سكان هذه الأرض وأهلها، فأزالناعنها هذا الزمان الذي يبلي كل جديد ويغيره ثم انصرفت خارجة عن المسجد حتى غابت عنهم، ورجعوا إلى مواضعهم.

 

 

صفحة : 1639

 

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي عن جدي قال: قال لي يحيى بن خالد يوما: أخبرك برؤيا رأيتها? قلت: خيرا رأيت. قال: رأيت كأني خرجت من داري راكبا، ثم التفت يمينا وشمالا فلم أر معي أحدا، حتى صرت إلى الجسر، فإذا بصائح يصيح من ذلك الجانب:

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا                      أنيس ولم يسمر بمـكة سـامـر فأجبته بقوله:

بلى نحن كنا أهلهـا فـأبـادنـا                      صروف الليالي والجدود العواثر فانصرفت إلى الرشيد فغنيته الصوت، وخبرته الخبر، فعجب منه. وما مضت الأيام حتى أوقع بهم

شافني الزائرات قصر نفيس                      مثقلات الأعجاز قب البطون

يتربعنـه الـربـيع وينـزل                      ن إذا صفن منزل الماجشون يتربعنه: ينزلنه في أيام الربيع. قال لمنزل القوم في أيام الربيع: متربعهم. قال الشاعر:

أمن آل ليلى بالملا مـتـربـع                      كما لاح وشم في الذراع مرجع والماجشون: رجل من أهل المدينة يروى عنه الحديث. والماجشون لقب به سكينة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب- عليهم السلام-وهو اسم لون من الصبغ أصفر تخالطه حمرة، وكذلك كان لونه. ويقال: إنها ما لقبت أحدا قط بلقب إلا لصق به.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا مصعب الزبيري، قال: حدثني ابن الماجشون، قال: نظرت سكينة إلى أبي، فقالت: كأن هذا الرجل الماجشون-وهو صبغ أصفر تخالطه حمرة-فلقب بذلك.

قال عبد العزيز: ونظرت إلى رجل من ولد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكانت فيه غلظة، فقالت: هذا الرجل في قريش كالشيرج في الأدهان فكان ذلك الرجل يسمى: فلان شيرج حتى مات.

الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لإبراهيم الموصلي. خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر، وفيه لبصبص جارية ابن نفيس التي قيل هذا الشعر فيها: رمل. وذكر حبش أن لها فيه أيضا ثقيل أول بالوسطى.

 

ذكر أخبار بصبص جارية ابن نفيس

كانت بصبص هذه جارية مولدة من مولدات المدينة، حلوة الوجه، حسنة الغناء، قد أخذت عن الطبقة الأولى من المغنين، وكان يحيى بن نفيس مولاها-وقيل نفيس بن محمد، والأول أصح- صاحب قيان يغشاه الأشراف، ويسمعون غناء جواريه، وله في ذلك قصص نذكرها بعد، وكانت بصبص هذه أنفسهن وأشدهن تقدما.

وذكر ابن خرداذبه: ان المهدي اشتراها وهو ولي والعهد سرا من أبيه بسبعة عشر ألف دينار، فولدت منه علية بنت المهدي.

وذكر غيره أن ابن خرداذبة غلط في هذا، وأن الذي صح أن المهدي اشترى بهذه الجملة جارية غيرها، وولدت علية.

وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات: ان ابن القداح حدثه قال: كانت مكنونة جارية المروانية-وليست من آل مروان بن الحكم؛ وهي زوجة الحسين بن عبد الله بن العباس-أحسن جارية بالمدينة وجها، وكانت رسحاء ، وكان بعض من يمازحها يعبث بها، ويصيح: طست طست  وكانت حسنة الصدر والبطن، وكانت توضح بهما ، وتقول: ولكن هذا فاشتريت للمهدي في حياة أبيه بمائة ألف درهم فغلبت عليه، حتى كانت الخيرزان تقول: ما ملك أمة أغلظ علي منها. واستتر أمرها على المنصور حتى مات. وولدت من المهدي علية بنت المهدي.

والذي قال ابن خرداذبه غير مردود إذا كان هذا صحيحا.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن غرير بن طلحة قال: اتعد محمد بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين، وعبد الله بن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن مصعب الزبيري، وأبو بكر بن محمد بن عثمان الربعي، ويحيى بن عقبة، أن يأتوا بصبص جارية ابن نفيس، فعجل محمد بن يحيى، وكان من أصحاب عيسى بن موسى، ليخرج إلى الكوفة، فقال عبد الله بن مصعب.

 

أرائح أنـت أبـا جـعـفـر                      من قبل أن تسمع من بصبصا

هيهات أن تسمع منـهـا إذا                      جاوزت العيس بك الأعوصا

فخذ عليها مجـلـسـي لـذة                      ومجلسا من قبل أن تشخصـا

أحلف بالـلـه يمـينـا ومـن                      يحلف بالله فقـد أخـلـصـا

لو أنها تـدعـو إلـى بـيعة                      بايعتها ثم شققت الـعـصـا قال: وفيها غناء لبصبص.

قال: فاشتراها أبو غسان مولى منيرة للمهدي بسبعة عشر ألف دينار.

 

 

صفحة : 1640

 

قال حماد: وحدثني أبي عن الزبير أن عبد الله بن مصعب خاطب بهذا الشعر أبا جعفر المنصور لما حج فاجتاز بالمدينة منصرفا من الحج، لاأبا جعفر محمد بن يحيى بن زيد.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي إجازة قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني محمد بن سلام قال: حدثني موسى بن مهران قال: كانت بالمدينة قينة لآل نفيس بن محمد يقال لها بصبص، وكان مولاها صاحب قصر نفيس الذي يقول قيه الشاعر:

شاقني الزائرات قصر نفيس                      مثقلات الأعجاز قب البطون قال: وكان عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يأتيها، فيسمع منها، وكان يأتيها فتيان من قريش فيسمعون منها، فقال عبد الله بن مصعب حين قدم المنصور منصرفا من الحج ومر بالمدينة يذكر بصبص:

أراحل أنت أبـا جـعـفـر                      من قبل أن تسمع من بصبصا وذكر الأبيات، فبلغت أبا جعفر، فغضب فدعا به؛ فقال: أما إنكم يا آل الزبير قديما ما قادتكم النساء، وشققتم معهن العصا، حتى صرت أنت آخر الحمقى تبايع المغنيات؛ فدونكم با آل الزبير هذا المرتع الوخيم.

قال: ثم بلغ أبا جعفر بعد ذلك أن عبد الله بن مصعب قد اصطبح مع بصبص وهي تغنيه بشعره:

إذا تمـززت صـراحـية                      كثل ريح المسك أو أطيب

ثم تغنى لي بـأهـزاجـه                      زيد أخو الأنصار أو أشعب

حسبت أني مالك جـالـس                      حفت به الأملاك والموكب

فلا أبالـي وإلـه الـورى                      أشرق العالم أم غـربـوا الغناء لزيد الأنصاري، هزج مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي وغيره، وذكر غيره أنه لأشعب. فقال أبو جعفر: العالم لايبالون كيف أصبحت وكيف أمسيت.

ثم قال أبو جعفر: ولكن الذي يعجبني أن يحدو بي الحادي الليلة بشعر طريف العنبري، فهو آلف في سمعي من غناء بصبص، وأحرى أن يختاره أهل العقل. قال: فدعا فلانا الحادي- قد ذكره وسقط اسمه-وكان إذا حدا وضعت الإبل رؤؤسها لصوته وانقادت انقيادا عجيبا ، فسأله المنصور: ما بلغ من حسن حدائه? قال: تعطش الإبل ثلاثا أو قال خمسا وتدني من الماء، ثم أحدو فتتبع كلها صوتي، ولا تقرب الماء. فحفظ الشعر، وكان :

إني وإن كان ابن عمي كاشحا                      لمزاحم مـن دونـه وورائه

وممدة نصري وإن كان أمرأ                      متزحزحا في أرضه وسمائه

وأكون مأوى سره وأصونـه                      حتى يحق عـلـي يوم أدائه

وإذا أتى من غيبه بـطـريفة                      لم أطلع: ماذا وراء خبـائه

وإذا تحيفت الحوادث مـالـه                      قرنت صحيحتنا إلى جربائه

وإذا تريش في غناه وفرتـه                      وإذا تصعلك كنت من قرنائه

وإذا غدا يوما ليركب مركبـا                      صعبا قعدت له على سيسائه فلما كان الليل حدا به الحادي بهذه الأبيات، فقال: هذا والله أحث على المروءة وأشبه باهل الأدب من غناءبصبص. قال: فحدا به ليلة، فلما أصبح قال: ياربيع أعطه درهما. فقال له: يا أمير المؤمنين؛ حدوت بهشام بن عبد الملك، فأمر لي بعشرين ألف درهم وتأمر أنت بدرهم قال: إنا لله ذكرت مالم نحب أن تذكره؛ ووصفت ان رجلا ظالما أهذ مال الله من غير حله؛ وانفقه في غير حقه ياربيع، اشدد، يديك به حتى يرد المال. فبكى الحادي، وقال: يا أمير المؤمنين قد مضت لهذا السنون وقضيت به الديون، وتمزقته النفقات؛ ولا والذي أكرمك بالخلافة ما بقي عندي منه شيء. فلم يزل أهله وخاصته يسألونه حتى كف عنه، وشرط عليه أن يحدو به ذاهبا وراجعا، ولا يأخذ منه شيئا.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني القاسم بن زيد المديني؛ قال: اجتمع ذات يوم عند بصبص جارية ابن نفيس عبد الله بن مصعب الزبيري ومحمد ابن عيسى الجعفري، في أشراف من أهل المدينة، فتذاكروا مزبدا المديني صاحب النوادر وبخله، فقالت بصبص: أنا اخذ لكم منه درهما.

فقال لها مولاها: أنت حرة لئن فعلت إن لم أشترلك مخنقة بمائة ألف دينار وإن لم أشترلك ثوب وشي بما شئت؛ وأجعل لك مجلسا بالعقيق أنحر لك فيه بدنة لم تقتب ولم تركب. فقالت:جيء به وارفع عني الغيرة.

 

 

صفحة : 1641

 

فقال: أنت حرة أن لو رفع برجليك لأعنته على ذلك. فقال عبد الله بن مصعب: فصليت الغداة في مسجد المدينة، فإذا أنا به، فقلت: أبا إسحاق، أما تحب أن ترى بصبص جارية ابن نفيس? فقال: امرأته طالق إن لم يكن الله ساخطا علي فيها، وإن لم أكن أساله أن يرينيهامنذ سنة فما يفعل. فقلت له: اليوم إذا صليت العصر فوافني ههنا.

قال: امرأته طالق إن برحت من ههنا حتى تجيء صلاة العصر. قال: فتصرفت في حوائجي حتى كان العصر، ودخلت المسجد فوجدته فيه، فأخذت بيده وأتيتهم به، فأكلوا وشربوا، وتساكر القوم وتناوموا، فأقبلت بصبص على مزبد، فقالت: أبا إسحاق، كأن في نفسك تشتهي أن أغنيك الساعة:

لقد حثوا الجمال ليه                      ربوا منا فلم يئلـو فقال: زوجته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في اللوح المحفوظ قال: فغنته ساعة ثم مكثت ساعة فقالت: أبا إسحاق كأن في نفسك تشتهي أن تقوم من مجلسك فتجلس إلى جانبي فتقرصني قرصات، وأغنيك.

 

قالت وقد أبثثتها وجدي فبحـت بـه                      قد كنت قدما تحب الستر فاستتـر

ألست تبصر من حولي فقلت لـهـا                      غطى هواك وما ألقى على بصري فقال: امرأته طالق إن لم تكوني تعلمين ما في الأرحام وما تكسب الأنفس غدا، وبأي أرض تموت فغنته ثم قال: برح الخفاء ، أنا أعلم أنك تشتهي أن تقبلني شق التين وأغنيك هزجا:

أنا أبصرت باللـيل                      غلاما حسن الـدل

كغصن البان قد أص                      بح مسقيا من الطل لم يذكر صانعه، وهو هزج على ماذكر.

فقال: أنت نبية مرسلة فغنته ثم قالت: أبا إسحاق، أرأيت أسقط من هؤلاء يدعونك ويخرجونني إليك ولايشترون ريحانا بدرهم، أي أبا إسحاق؛ هلم درهما نشتري به ريحانا فوثب وصاح: واحرباه ، أي زانية ، أخطات استك الحفرة ، انقطع والله عنك الوحي الذي كان يوحى إليك وعطعط القوم بها ، وعلموا أن حيلتها لم تنفذ عليه، ثم خرجوا فلم يعد إليها، وعاود القوم مجلسهم، فكان أكثر شغلعم فيه حيدث مزبد معها والضحك منه.

وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات: أنشدني الزبير بن بكار، قال: أنشدني غرير بن طلحة لابن أبي الزوائد- وهو ابن ذي الزوائد- في بصبص:

بصبص أنت الشمس مـزدانة                      فإن تبذلت فأنـت الـهـلال

سبحانك اللهـم مـا هـكـذا                      فيما مضى كان يكون الجمال

إذا دعت بالعود في مشـهـد                      وعاونت يمنى يديها الشمـال

غنت غناء يستفز الـفـتـى                      حذقا وزان الحذق منها الدلال قال هارون: قال الزبير: وأنشدني غرير أيضا لنفسه يهجو مولاها:

ياويح بصبص من يحيى لقد رزقت                      وجها قبيحا وأنفا من جعـامـيس

يمج من فيه في فيها إذا هجعـت                      ريقا خبيثا كأرواح الـكـرابـيس أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير قال حدثني عمي قال: هوي محمد بن عيسى الجعفري بصبص جارية ابن نفيس، فهام بها وطال ذلك عليه فقال لصديق له: لقد شغلتني هذه عن صنعتي وكل أمري، وقد وجدت مس السلو فاذهب بنا حتى أكاشفها بذلك فأستريح. فأتياها فلما غنت لهما قال لها محمدبن عيسى: أتغنين:

وكنت أحبكم فسلوت عنكم                      عليكم في دياركم السلام فقالت: لاولكني أغني:

تحمل أهلها عنها فبـانـوا                      على آثار من ذهب العفاء فاستحيا وازداد بها كلفا، ولها عشقا، فأطرق ساعة ثم قال: أتغنين:

وأخضع بالعتبي إذا كنت مذنبا                      وإن أذنبت كنت الذي أتنصل قالت: نعم وأغني أحسن منه:

فإن تقبلوا بالود نقبل بمثله                      وننزلكم منا بأقرب منزل قال: فتقاطعا في بيتين، وتواصلا في بيتين. وفي هذه الأبيات الأربعة غناء كان محمد قريضي ، وذكاء، وغيرهما ممن شاهدنا من الحذاق يغنونه في الابتداءين لحنين من الثقيل الأول، وفي الجوابين لحنين من خفيف الثقيل، ولا أعرف صانعهما.

أخبرني عمي قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثني أبو أيوب المديني عن مصعب قال: حضر أبو السائب المخزومي مجلسا في بصبص جارية يحيى بن نفيس، فغنت:

قلبي حبيس عليك مـوقـوف                      والعين عبرى والدمع مذروف

 

صفحة : 1642

 

 

والنفس في حسرة بغصتهـا                      قد شف أرجاءها التسـاويف

إن كنت بالحسن قد وصفت لنا                      فإنني بالهوى لمـوصـوف

يا حسرتا حسرة أموت بـهـا                      إن لم يكن لي لديك معروف قال: فطرب أبو السائب ونعر ، وقال: لاعرف الله قدره إن لم أعرف لك معروفك. ثم أخذ قناعها عن رأسها وجعله على رأسه وجعل يلطم ويبكي، ويقول لها: بأبي والله أنت، إني لأرجو أن تكوني عند الله أفضل من الشهداء، لما توليناه من السرور، وجعل يصيح، واغوثاه يا لله لما يلقى العاشقون.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري قال حدثني عمرو بن عبد الله قال: حدثناالحسين بن يحيى عن عثمان بن محمد الليثي قال: كنت يوما في مجلس ابن نفيس، فخرجت إلينا جاريته بصبص، وكان في القوم فتى يحبها، فسألته حاجة، فقام ليأتيها بها، فنسي أن يلبس نعله، ومشى حافيا؛ فقالت: يافلان،نسيت نعلك. فلبسها وقال: أنا والله كما قال الأول:

وحبك ينسيني عن الشيء في يدي                      ويشغلني عن كل شيء أحاولـه فأجابته فقالت:

وبي مثل ما تشكوه مني وإنني                      لاشفق من حب أراك تزاوله

يشتاق قلبي إلى ملـيكة لـو                      أمست قريبا ممن يطالبـهـا

ما أحسن الجيد من مليكة وال                      لبات إذ زانهـا تـرائبـهـا

ياليتني لـيلة إذا هـجـع ال                      ناس ونام الكلاب صاحبهـا

في ليلة لايرى بـهـا أحـد.                      يسعى علينا إلا كواكـبـهـا الشعر لأحيحة بن الجلاح، والغناء لابن سريج. رمل بالخنصر في مجرى البنصر. وفيه لحن لمالك من رواية يونس.

 

ذكر أحيحة بن الجلاح

ونسبه وخبره والسبب الذي من أجله قال الشعر هو أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس. ويكنى أحيحةأبا عمرو.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيزقال: ركب الوليد بن عبد الملك إلى المساجد، فأتى مشجد العصبة ، فلما صلى قال للأحوص: يا أحوص أين الزوراء التي قال فيها صاحبكم:

إني أقيم على الزوراء أعمـرهـا                      إن الكريم على الإخوان ذو المال

لها ثلاث بئار في جـوانـبـهـا                      في كلها عقب تسقى بـأقـبـال

استغن او مت ولا يغررك ذو نشب                      من ابن عـم ولا عـم ولا خـال قال الزبير؛ العقب الذي في أول المال عند مدخل الماء، والطلب الذي في آخره . قال: فأشار له الأحوص إليها وقال: هاهي تلك، لو طولت لأشقرك هذا لجال عليها ، فقال الوليد: إن أبا عمرو كان يراه غنيا بها، فعجب الناس يومئذ لعناية الوليد بالعلم، حتى علم أن كنية أحيحة أبو عمرو.

وفي بعض هذا الشعر غناء، وهو:

استغن أو مت ولايغررك ذو نشب                      من ابن عم ولا عـم ولا خـال

يلوون مالهم عن حق أقـربـهـم                      وعن عشيرتهم؛ والحق للوالـي غناه الهذلي رملا بالوسطى من رواية الهشامي وعمرو بن بانة وأما السبب في قول أحيحة هذا الشعر فإن أحمد بن عبيد المكتب ذكر أن محمد بن يزيد الكلبي حدثه، وحدثه أيضا هشام بن محمد عن الشرقي بن القطامي قال هشام: وحدثني به أبي أيضا.

قال: وحدثني رجل من قريش عن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر، قال: وحدثني عبد الرحمن بن سليمان الأنصاري، قالوا جميعا: أقبل تبع الأخير وهو أبو كرب بن حسان بن أسعد الحميري، من اليمين سائرا يريد المشرق كما كانت التبابعة تفعل، فمر بالمدينة فخلف بها ابنا له، ومضى حتى قدم الشأم ثم سار من الشأم حتى قدم العراق فنزل بالمشقر ، فقتل ابنه غيلة بالمدينة، فبلغه وهو بالمشقر مقتل ابنه، فكر راجعا إلى المدينة وهو يقول:

ياذا معاهر ماتـزال تـرود                      رمد بعينك عادها أم عـود

منع الرقاد فما أغمص ساعة                      نبط بيثرب آمنون قـعـود

لاتستقي بيديك إن لم تلقـهـا                      حربا كأن أشاءها مجـرود

 

صفحة : 1643

 

ثم أقبل حتى دخل المدينة وهو مجمع على إخرابها وقطع نخلها، واستئصال أهلها، وسبي الذرية؛ فنزل بسفح أحد فاحتفر بها بئرا-فهي البئر التي يقال لها إلى اليوم بئرالملك-ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوه فكان فيمن أرسل إليه زيد بن ضبيعة بن زيد بن عمرو بن عوف، وابن عمه زيد بن أمية بن زيد، وابن عمه زيد بن عبيد بن زيد -وكانوا يسمون الأزياد- وأحيحة بن الجلاح؛ فلما جاء رسوله قال الأزدياد: إنما أرسل إلينا ليملكنا على أهل يثرب. فقال أحيحة: والله ما دعاكم لخير وقال:

ليت حظي من أبي كرب                      أن يرد خيره خـبـلـه فذهبت مثلا. وكان يقال: إن مع أحيحة تابعا من الجن يعلمه الخبر لكثرة صوابه؛ لأنه كان لايظن شيئا فيخبربه قومه إلا كان كما يقول. فخرجوا إليه، وخرج أحيحة ومعه قينة له، وخباء، فضرب الخباء وجعل فيه القينة والخمر، ثم خرج حتى استأذن على تبع، فأذن له، واجلسه معه على زربية تحته ، وتحدث معه وسأله عن أمواله بالمدينة؛ فجعل يخبره عنها، وجعل تبع كلما أخبره عن شيء منها يقول: كل ذلك على هذه الزربية. يريد بذلك تبع قتل أحيحة، ففطن أحيحة أنه يريد قتله فخرج من عنده فدخل خباءه، فشرب الخمر، وقرض أبياتا، وأمر القينة أن تغنيه بها، وجعل تبع عليه حرسا، وكانت قينته تدعى مليكة فقال:

يشتاق قلبي إلى مليكة لو                      أمست قريبا ممن يطالبها الأبيات. وزاد فيها مماليس فيه غناء:

لتبكني قينة ومزهـرهـا                      ولتبكني قهرة وشاربهـا

ولتبكني ناقة اذا رحلـت                      وغاب في سردح مناكبها

ولتبكني عصبة إذا جمعت                      لم يعلم الناس ما عواقبها

 

صفحة : 1644

 

فلم تزل القينة تغنيه بذلك يومه وعامة ليلته ؛ فلما نام الحراس قال لها: إني ذاهب إلى أهلي فشدي عليك الخباء، فإذا جاء رسول الملك فقولي له: هو نائم؛ فإذا أبوا إلا أن يوقظوني فقولي: قد رجع إلى أهله وأرسلني إلى الملك برسالة. فإن ذهبوا بك إليه فقولي له: يقول لك أحيحة: اغدر بقينة أودع.ثم انطلق فتحصن في أطمه الضحيان، وأرسل تبع من جوف الليل إلى الأزياد فقتلهم على فقارة من فقار تلك الحرة. وأرسل إلى أحيحة ليقلته، فخرجت إليهم القينة، فقالت: هو راقد. فانصرفوا وترددوا عليها مرارا؛ كل ذلك تقول: هو راقد. ثم عادوا فقالوا: لتوقظنه أو لندخلن عليك. قالت: فإنه قد رجع إلى أهله، وأرسلني إلى الملك برسالة. فذهبوا بها إلى الملك، فلما دخلت عليه سألها عنه، فأخبرته خبره، وقالت: يقول لكاغدر بقينة أودع. فذهبت كلمة أحيحة هذه مثلا؛ فجرد له كتيبة من خيله، ثم أرسلهم في طلبه فوجدوه قد تحصن في أطسه، فحاصروه ثلاثا؛ يقاتلهم بالنهار ويرميهم بالنبل والحجارة، ويرمي إليهم بالليل بالتمر، فلما مضت الثلاث رجعوا إلى تبع فقالوا: بعثتنا إلى رجل يقاتلنا بالنهار، ويضيفنا بالليل فتركه؛ وأمرهم أن يحرقوا نخله. وشبت الحرب بين أهل المدينة: أوسها وخزرجها ويهودها، وبين تبع، وتحصنوا في الآطام. فخرج رجل من أصحاب تبع حتى جاء بني عدي بن النجار؛ وهم متحصنون في أطمهم، الذي كان في قبلة مسجدهم، فدخل حديقة من حدائقهم، فرقي عذقا منها يجدها ، فاطلع إليه رجل من بني عدي بن النجار من الأطم يقال له أحمر أو صخر بن سليمان من بني سلمة، فنزل إليه فضربه بمنجل حتى قتله ثم ألقاه في بئر وقال: جاءنا يجد نخلنا ، إنما النخل لمن أبره ظن فأرسلها مثلا. فلما انتهى ذلك إلى تبع زاده حنقا وجرد إلى بني النجار جريدة من خيله ؛ فقاتلهم بنو النجار ورئيسهم عمرو بن طلة أخو بني معاوية بن مالك بن النجار، وجاء بعض تلك الخيول إلى بني عدي وهم متحصنون في أطمهم الذي في قلبة مسجدهم، فراموا بني عدي بالنبل، فجعلت نبلهم تقع في جدار الأطم، فكان على أطمهم مثل الشعر من النبل، فسمي ذلك الأطم الأشعر-ولم تزل بقيا النبل فيه حتى جاء الله عزوجل بالإسلام- وجاء بعض جنوده إلى بني الحارث بن الخزرج، فجذموا نخلهم من أنصافها، فسميت تلك النخل جذمان ، وجدعوا هم فرسا لتبع، فكان تبع يقول: لقد صنع بي أهل يثرب شيئا ما صنعه بي أحد؛ قتلوا ابني وصاحبي، وجدعوا فرسي قالوا: فبينا تبع يريد إخراب المدينة، وقتل المقاتلة، وسبي الذرية، وقطع الأموال أتاه حبران من اليهود فقالا، أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة، وإنا نجد اسمها كثيرا في كتابنا، وأنها مهاجر نبي من بني إسماعيل اسمه أحمد، يخرج من هذا الحرم من نحو البيت الذي بمكة، تكون داره وقراره، ويتبعه أكثر أهلها. فأعجبه ماسمع منهما، وكف عن الذي أراد بالمدينة وأهلها، وصدق الحبرين بما حدثاه، وانصرف تبع عما كان أراد بها، وكف عن حربهم، وآمنهم حتى دخلوا عسكره، ودخل جنده المدينة؛ فقال عمرو بن مالك بن النجار، يذكر شأن تبع، ويمدح عمرو بن طلة:

أصحا أم انتحـى ذكـره                      أم قضى من لذة وطره

بعدما ولى الشباب ومـا                      ذكره الشباب أو عصره

إنهـا حـرب يمـانـية                      مثلها آتى الفتى عبـره

سائلي عمـران أو أسـدا                      إذا أتت تعدو مع الزهره

فيلـق فـيه أبـوكـرب                      سبـع أبـدانـه ذفـره

ثم قالوا مـن يؤم بـنـا                      أبنو عوف أم النـجـرة

يا بني النجـار إن لـنـا                      فيكـم ذحـلا وإن تـره

فتلقـتـهـم مـسـايفة                      مدها كالغبية الـنـثـره -الغبية :السحابة التي فيها مطر وبرق برعد-.

 

فيهم عمرو بن طلة لا                      هم فامنح قومه عمره

سيد سامي الملوك ومن                      يدع عمرا لاتجذ قدره وقال في ذلك رجل من اليهود:

تكلفني من تكـالـيفـهـا                      نخيل الأساويف والمصنعة

نخيلا حمتها بنـو مـالـك                      جنود أبي كرب المقطعه وقال أحيحة يرثي الأزياد الذين قتلهم تبع:

ألا يالهف نفسي أي لهـف                      على أهل الفقارة أي لهف

 

صفحة : 1645

 

 

مضوا قصد السبيل وخلفوني                      إلى خلف من الأبرام خلف

سدى لايكتفون ولا أراهـم                      يطيعون أمرا إن كان يكفي قالوا: فلما كف تبع عن أهل المدينة اختلطوا بعسكره فبايعوه وخالطوهم. ثم إن تبعا استوبأ بئره التي حفرها ، وشكا بطنه عن مائها؛ فدخلت عليه امرأة من بني زريق يقال لها فكهة بنت زيد بن كلدة بن عامر بن زريق، وكانت ذات جلد وشرف في قومها، فشكا إليها وبأبئره، فانطلقت فأخذت قربا وحمارين حتى استقت له من ماء رومة، فشربه فأعجبه، وقال: زيديني من هذا الماء. فكانت تختلف إليه في كل يوم بماء رومة، فلما حان رحيله دعاها، فقال لها: يا فكهة، إنه ليس معنا من الصفراء والبيضاء شيء ، ولكن لك ما تركنا من أزوادنا ومتاعنا. فلما خرج تبع نقلت ما تركوه من ازوادهم ومتاعهم؛ فيقال إنه لم تزل فكهة أكثر بني زريق مالا حتى جاء الإسلام.

قال: وخرج تبع يريد اليمن ومعه الحبران اللذان نهياه عن المدينة، فقال حين شخص من منزله: هذه قباء الأرض. فسميت قباء . ومر بالجرف فقال؛ هذا جرف الأرض. فسمي الجرف؛ وهو أرفعها. ومر بالعرضة وتسمي السليل فقال: هذه عرضة الأرض. ثم انحدر في العقيق فقال: هذا عقيق الأرض. فسمي القيق. ثم خرج يسير حتى نزل البقيع، فنزل على غدير ماء يقال له براجم، فشرب منه شربة فدخلت في حلقه علقة فاشتكى منها. فقال فيما ذكر أبو مسكين قوله:

ولقد شربت على براجم شربة                      كادت بباقية الـحـياة تـذيع ثم مضى حتى إذا كان بحمدان جاءه نفر من هذيل فقالوا له: اجعل لنا جعلا وندلك على بيت مال فيه كنوز من اللؤلؤ والياقوت والزبرجد والذهب والفضة ، ليست لأهله منعة ولا شرف. فجعل لهم على ذلك جعلا، فقالوا له: هو البيت الذي تحجه العرب بمكة. وأرادوا بذلك هلاكه. فتوجه نحوه فأخذته ظلمة منعته من السير،فدعا الحبرين فسألهما، فقالا: هذا لماأجمعت عليه في هذا البيت؛ والله مانعه منك، ولن تصل إليه،فاحذر أن يصيبك ما أصاب من انتهك حرمات الله؛ وإنما أراد القوم الذين أمروك به هلاكك؛ لأنه لم يرمه أحد قط بشر إلاأهلكه الله، فأكرمه وطف به، واحلق رأسك عنده، فترك الذي كان أجمع عليه، وأمر بالهذليين فقطع أيديهم وأرجلهم، ثم خرج يسير حتى أتى مكة فنزل بالشعب من الأبطح، وطاف بالبيت، وحلق رأسه،وكساه الخصف .

قال هشام: وحدثني ابن لجرير بن البجلي عن جعفر بن محمد عن أبيه. قال هشام: وحدثني أبي عن صالح عن ابن عباس قال: لما أقبل تبع يريد هدم البيت وصرف وجوه العرب إلى اليمن، بات صحيحا فأصبح وقد سالت عيناه على خديه، فبعث إلى السحرة والكهان والمنجمين، فقال: مالي، فوالله لقد بت ليلتي ما أجد شيئا، وقد صرت إلى ماترون. فقالوا: حدث نفسك بخير. ففعل فارتد بصيرا، وكسا البيت الخصف.

هذه رواية جعفر بن محمد عن أبيه. وفي رواية ابن عباس: فأتي في المنام فقيل له: أكسه أحسن من هذا. فكساه الوصائل-قال: وهي برود العصب ، سميت الوصائل لأنها كانت يوصل بعضها ببعض-قال: فأقام بمكة ستة أيام يطعم الطعام، وينحر في كل يوم ألف بعير، ثم سار إلى اليمن وهو يقول:

ونحرنا بالـشـعـب سـتةآلا                      ف ترى الناس نحوهن ورودا

وكسونا البيت الذي حرم الـل                      ه ملاء معضـدا وبـرودا?

وأقمنا به من الشهـر سـتـا                      وجعلنـا لـه بـه إقـلـيدا

ثم أبنا مـنـه نـؤم سـهـيلا                      قد رفعنا لواءنا المعـقـودا قال: وتهود تبع وأهل اليمن بذينك الحبرين.

أخبرني محمد بن مزيد قال: أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: حدثني أبو البختري عن أبي إسحاق، قال: أخبرني أيوب بن عبد الرحمن:

 

صفحة : 1646

 

أن رجلا من بني مازن بن النجار يقال له كعب بن عمرو، تزوج امرأة من بني سالم بن عوف فكان يختلف إليها، فقعد له رهط من بني جحجبى بمرصد، فضربوه حتى قتلوه أو كادوا، فأدركه القوافل فاسنقدوه؛ فلما بلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو خرج وخرج معه بنو النجار وخرج أحيحة بن الجلاح ببني عمرو بن عوف، فالتقوا بالرحابة ، فاقتلوا قتالا شديدا، فقتل أخا عاصم يومئذ أحيحة بن الجلاح، وكان يكنى أبا وحوحة، فأصابه في صحابه حين انهزموا، وطلب عاصم أحيحة حتى انتهى إلى البيوت، فأدركه عاصم عند باب داره فزجه بالرمح، ودخل أحيحة الباب، ووقع الرمح في الباب، ورجع عاصم وأصحابه فمكث أياما. ثم إن عاصما طلب أحيحة ليلا ليقتله في داره، فبلغ ذلك أحيحة، وقيل له إن عاصما قد رئي البارحة عند الضحيان والغابة -وهي أرض لأحيحة، والضحيان: أطم له-وكان أحيحة إذ ذاك سيد قومه من الأوس، وكان رجلا صنعا للمال ، شحيحا عليه، يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم، وكان له تسع وتسعون بعيرا كلها ينضحعليها، وكان له بالجرف أصوار من نخل قل يوم يمر به إلا يطلع فيه، وكان له أطمان: أطم في قومه يقال له المستظل، وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تبعا أسعد أبا كرب الحميري، وأطمه الضحيان بالعصبة في أرضه التي يقال لها الغابة بناه بحجارة سود وبنى عليه نبرة بيضاء مثل الفضة، ثم جعل عليها مثلها، يراها الراكب من مسيرة يوم أو نحوه، وكانت الآطام هي عزهم ومنعتهم وحصونهم التي يتحرزون فيها من عدوهم. ويزعمون أنه لما بناه أشرف هو غلام له، ثم قال: لقد بنيت حصنا حصينا مابنى مثله رجل من العرب أمنع ولا أكرم، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع لوقع جميعا فقال غلامه: أنا أعرفه. فقال: فأرينه يابني. قال: هو هذا. وصرف إليه رأسه، فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات، وإنما قتله إرادة ألا يرعف ذلك الحجر أحد. ولما بناه قال:

بنيت بعد مستظل ضـاحـيا                      بنيته بعصبة مـن مـالـيا

والسر مما يتبع القـواصـيا                      أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا وكان أحيحة إذا أمس جلس بحذاء حصنه الضحيان، ثم أرسل كلابا له تنبح دونه على من يأتيه ممن لايعرف، حذرا أن يأتيه عدو يصيب منه غرة؛ فأقبل عاصم بن عمرو يريده في مجلسه ذلك ليقتله بأخيه، وقد أخذ معه تمرا، فلما نجته الكلاب حين دنا منه ألقى لها التمر فوقفت، فلما راها أحيحة قد سكنت حذر فقام فدخل حصنه، ورماه عاصم بسهم فأحرزه من الباب ، فوقع السهم بالباب، فلما سمع أحيحة وقع السهم صرخ في قومه، فخرج عاصم بن عمرو، فأعجزهم حتى أتى قومه. ثم إن أحيحة جمع لبني النجار، فاراد أن يغترهم فواعدهم وقومه لذلك ، وكانت عن أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش إحدى نساء بني عدي بن النجار، له منها عمرو بن أحيحة، وهي أم عبد المطلب بن هاشم، خلف عليها هاشم بعد أحيحة، وكانت امرأة شريفة لا تنكح الرجال إلا وأمرها بيدها، إذا كرهت من رجل شيئا تركته.

 

 

صفحة : 1647

 

فزعم ابن إسحاق أنه حدثه أيوب بن عبد الرحمن ، وهو أحد رهطها، قال: حدثني شيخ منا أن أحيحة لما أجمع بالغارة علىقومها ومعها ابنها عمرو بن أحيحة، وهو يومئذ فطيم أو دون الفطيم، وهو مع أحيحة في حصنه عمدت إلى ابنها فربطته بخيط، حتى إذا أوجعت الصبي تركته فبات يبكي، وهي تحمله؛ وبات أحيحة معها ساهرا، يقول: ويحك مالابني? فتقول: والله ما أدري ماله. حتى إذا ذهب الليل أطلقت الخيط عن الصبي فنام وذكروا أنها ربطت رأس ذكره، فلما هدأ الصبي قالت: وارأساه فقال: أحيحة: هذا والله مالقيت من سهر هذه الليلة. فبات يعصب لها رأسها ويقول: ليس بك بأس. حتى إذا لم يبق من الليل إلا أقله قالت له: قم فنم، فإني أجدني صالحة قد ذهب عني ماكنت أجده. وإنما فعلت به ذلك ليثقل رأسه، وليشتد نومه على طول السهر فلما نام قامت وأخذت حبلا شديدا وأوثقته برأس الحصن، ثم تدلت منه وانطلقت إلى قومها، فأنذرتهم وأخبرتهم بالذي أجمع هو وقومه من ذلك، فحذر القوم وأعدوا واجتمعوا. فأقبل أحيحة في قومه فوجد القوم على حذرقد استعدوا، فلم يكن بينهم كبير قتال؛ ثم رجع أحيحة فرجعوا عنه،وقد فقدها أحيحة حين أصبح؛ فلما رأى القوم على حذر قال: هذا عمل سلمى خدعتني حتى بلغت ما أرادت. وسماها قومها المتدلية؛ لتدليها من رأس الحصن. فقال في ذلك أحيحة وذكر ما صنعت به سلمى:

تفهم أيها الرجل الجهـول                      ولا يذهب بك الرأي الوبيل

فإن الجهل محمله خفـيف                      وإن الحلم محمله ثـقـيل وفيها يقول:

لعمر أبيك ما يغني مقامـي                      من الفتيان رائحة جهـول

نؤوم ما يقلص مسـتـقـلا                      على الغابات مضجعه ثقيل

إذا باتت أعصبها فنـامـت                      علي مكانها الحمى الشمول

لعل عصابها يبغيك حربـا                      ويأتيها بعورتـك الـدلـيل

وقد أعدت للحدثان عـقـلا                      لوآن المرء تنفعه العقـول وقال فيها وفيما صنعت به:

أخلق الربع من سعاد فأمسى                      ربعه مخلقا كدرس المـلاة

باليا بعد حاضـر ذي أنـيس                      من سليمى إذ تغتدي كالمهاة وهي قصيدة طويلة، يقال إن في هذين البيتين منها غناء.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه عن أبي مسكين: أن قيس بن زهير بن جذيمة أتى أحيحة بن الجلاح لما وقع الشر بينه وبين بني عامر؛ وخرج إلى المدينة ليتجهز، بعث إليهم حين قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة، فقال قيس لأحيحة: يا أبا عمرو، نبئت أن عندك درعا ليس بيثرب درع مثلها؛ فإن كانت فضلا فبعنيها، أو فهبها لي. فقال: يا أخا بني عبس، ليس مثلي يبيع السلاح ولا يفضل عنه ، ولولا أني أكره أن أستليم إلى بني عامر لوهبتها لك، ولحملتك على سوابق خيلي، ولكن اشترها يا أبا أيوب ، فإن البيع مرتخص وغال. فأرسلها مثلا. فقال له قيس: فما تكره من استلامتك إلى بني عامر? قال: كيف لا أكره ذلك وخالد بن جعفر الذي يقول:

إذا ما أردت العز في آل يثـرب                      فناد بصوت يا أحيحة تـمـنـع

رأيت أبا عمرو أحـيحة جـاره                      يبيت قرير العين غير مـروع

ومن يأته من خائف ينس خوفـه                      ومن ياته من جائع الجوف يشبع

فضائل كانت للـجـلاح قـديمة                      وأكرم بفخر من خصالك الأربع فقال قيس: وماعليك بعد ذلك من لوم. فلها عنه ثم عاوده فساومه، فغضب أحيحة وقال له: بت عندي. فبات عنده، فلما شرب تغنى أحيحة وقيس يسمع:

ألا يا قيس لاتسمن درعي                      فما مثلي يساوم بالـدرع

فلولا خـلة لأبـي جـوي                      وأني لست عنها بالنـزوع

لأبت بمثلها عشر وطرف                      لحوق الإطل جياش تلـيع

ولكن سم ما أحببت فيهـا                      فليس بمنكر غبن البـيوع

فما هبة الدروع أخا بغيض                      ولا الخيل السوابق بالبديع وقال: فأمسك بعد ذلك عن مساومته: أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال: حدثني أخي أحمد بن علي عن عافية بن شبيب، قال: حدثني أبو جعفر الأسدي، عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وأخبرنا به إسماعيل بن يونس الشيعي إجازة، عن عمر بن شبة عن إسحاق قال:

 

صفحة : 1648

 

دعاني الفضل بن الربيع يوما فأتيته، فإذا عنده شيخ حجازي حسن الوجه والهيئة، فقال لي: أتعرف هذا? قلت:لا.قال: هذا ابن أنيسة بنت معبد، فسله عما أحببت من غناء جده. فقلت: يا أخا أهل الحجاز، غناء جدك? قال:صوتا. ثم غناني:

ما أحسن الجيد من مليكة وال                      لبات إذ زانهـا تـرائبـهـا قال: فغناه أحسن غناء في الأرض، ولم آخذه منه اتكالا على قدرتي عليه. واضطرب الأمر على الفضل وصار إلى التغيب، وشخص الشيخ إلى المدينة، فبقيت أنشد الشعر وأسأل عنه مشايخ المغنين، وعجائز المغنيات، فلاأجد أحدا يعرفه، حتى قدمت البصرة، وكنت آتي جزيرتها في القيظ فأبيت بها ثم أبكر بالغداة إلى منزلي فإني لداخل يوما إذا بامرأتين نبيلتين ، قد قدمنا فأخذتا بالجام حماري، فقلت لهما: مه قال أبو زيد في خبره: فقالت إحداهما: كيف عشقك اليوم ل ما أحسن الجيد من مليكة وشغفك به، فقد بلغنمي أنك كنت تطلبه من كل أحد? وقد كنت رأيتك في مجلس الفضل وقد استخفك الطرب لهذا الصوت حتى صفقت. قال: فقلت لها: أشد والله ما كنت عشقا له، وقد ألهبت بذكرك آياه في قلبي جمرا، ولقد طلبته ببغداد كلها فلم أجد أحدا يسمعنيه. قالت: أفتحب أن أغنيك إياه. قلت: نعم. فغنته والله أحسن مما سمعته قديما بصوت خافض، فنزلت إليها فقبلت يديها ورجليها وقلت: جعلني الله فداك، لوشئت لصرت معي إلى منزلي. قالت: أصنع ماذا? قلت: أغنيك وتغنيني يومنا إلى الليل. قالت: أنت والله أطفس من أن تفعل ذاك، وإنما هو عرض، ولكني أغنيك حتى تأخذه. فقلت: بأبي أنت وأمي، وجعلني الله فداك من أنت? قالت: أنا وهبة جارية محمد بن عمران القروي، التي يقول فيها فروح الرفاء الطلحي:

يا وهب لم يبق لي شيء أسربه                      إلاالجلوس فتسقيني وأسـقـيك

وتمزجين بريق منك لي قـدحـا                      كأن فيه رضاب المسك من فيك

ياأطيب الناس ريقا غير مختبـر                      إلا شهادة أطراف المـسـاويك

قد زرتنا زورة في الدهر واحدة                      ثني ولاتجعليها بيضـه الـديك

ما نلت منك سوى شيء أسر به                      ولست أبصر شيئا من مسـاويك

قالت ملكت ولم تملك فقلت لهـا                      ماكل مالكة تزري بممـلـوك قال أبو زيد خاصة: قال إسحاق: وأنشدتنيه وغنتني فيه بصوت مليح قد صنعته فيه، ثم صارت إلي بعد ذلك، وكانت من أحسن الناس غناء، وأحسنهم رواية. فما كانت تفوق فيه من صنعتها سائر الناس صوتها، وهو:

لابد من سكرة على طـرب                      لعل روحا يدال من كـرب

فعاطنيها صفراء صـافـية                      تضحك من لؤلؤ على ذهب قال: ولها فيه عمل فاضل. ومن صنعتها قوله:

الكأس بعد الكـأس قـد                      تصبي لك الرجل الحليما

وتقرب النسب البـعـي                      د وتبسط الوجه الشتيمـا قال: ومما برزت فيه من صنعتها:

هاتهـا سـكـرية كـشـعـاع ال                      شمس لاقرقفـا ولا خـنـدريسـا

في ربي يخلع الولـي عـلـيهـا                      ما يحيى به الحليس الـجـلـيسـا

فلـنـوارهـا نـسـيم إذا مـــا                      حركته الرياح رد الـنـفـوسـا

أمسى لسلامة الزرقاء في كبـدي                      صدع مقيم طوال الدهـر والأبـد

لايستطيع صناع القـوم يشـعـبـه                      وكيف يشعب صدع الحب في الكبد

إلا بوصل التي من حبها انصدعـت                      تلك الصدوع من أسقام والكـمـد الشعر والغناء لمحمد بن الأشعث بن فجوة الكاتب الكوفي، أحمد بني زهرة من قريش. ولحنه من خفيف الثقيل الأول بلبنصر.

 

سلامة الزرقاء

وسلامة الزرقاء هذه جارية ابن رامين، وكانت إحدى القينات المحسنات.

ذكر خبرها وخبر محمد بن الأشعث

نسخت ذلك من كتاب هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات ، ذكر أن أبا أيوب المديني حثه عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال: كان محمد بن الأشعث القرشي ثم الزهري كاتبا، وكان من فتيان أهل الكوفة وظرفائهم وأدبائهم، وكان يقول الشعر ويتغنى فيه. فمن ذلك قوله في زرقاء جارية ابن رامين، وكان يألفها:

أمسى لسلامة الزرقاء كبدي وذكر الأبيات: شعر محمد بن الأشعث في سلامة:

 

صفحة : 1649

 

قال: ومن شعره فيها يخاطب مولاها وقد كان حج وأخرج جواريه كلهن-هكذا ذكر أحمد بن إبراهيم. وهذا الشعر الثاني لإسماعيل بن عمار الأسدي، وقد ذكرت أخباره في موضع آخر.

 

أية حال يابـن رامـين                      حال المحبين المساكين

تركتهم موتى ولم يتلفوا                      قد جرعوا منك الأمرين -ويروي: تركتهم موتى وما موتوا، وجدته بخط حماد .-

وسرت في ركب على طية                      ركبب تـهـام ويمـانـين

ياراعي الذود لقد رعتهـم                      ويلك من روع المحـبـين

فرقت جمعا لايرى مثلهـم                      بين دروب الروم والصين الغناء لمحمد بن الأشعث نشيد خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها، عن ابن المكي وغيره.

قال: ودخل ابن الأشعث يوما على ابن رامين فخرجت إليه الزرقاء، فبينما هو يلقي عليها إذبصر بوصيفة من وصائفهم فأعجبته، فقال شعرا في وقته، وتغنى فيه، فأخذته منه الزرقاء، وهو قوله:

قل لأختي التي أحب رضاها                      أنت لي فاعلميه ركن شديد

إن لي حاجة إليك فقولـي:                      بين أذني وعاتقي مـاتـريد يعني قولي: ماتريد في عنقي حتى أفعله. ففطنت الزرقاء للذي أراد، فوهبت له الوصيفة، فخرج بها.

الغناء فيه رمل بالوسطى. ذكر عمرو بن بانة أنه لابن سريج، وقد وهم في ذلك، بل الغناء لمحمد بن الأشعث لايشك فيه.

قال هارون: وحدثني حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: وحدثني أبو عبد الله الأسك أمير المغنين أن محمد بن الأشعث الزهري، وهشام بن محمد بن أبي عثمان السلمي، اجتمعا عند ابن رامين، وكان هشام قد أنفق في منزله مالا عظيما، وكان يقال لأبيه بسياردرم ، وتفسيره بالعربية: الكثير الدراهم، فقال محمد بن الأشعث: يا هشام قل ما تشاء. قال:

قل أختي التي أحب رضاها                      انت لي فاعلميه ركن شديد وأشار بذلك إلى سلامة الزرقاء. قالت وقد سمعت: فقل. فقال:

إن لي حاجة إليك فقولي                      بين أذني وعاتقي ماتريد ففطنت الزرقاء للذي أراد، فقالت: بين أذني وعاتقي ما تريد، فما هو? قال: وصيفتك هذه فإنها قد أعجبتني. قالت: هي لك. فأخذها فما رد ذلك ابن رامين ولا تكلم فيه.

وهذا الشعر والغناء فيه لمحمد بن الأشعث.

قال هارون: وحدثني أبو أيوب عن أحمد بن إبراهيم قال: ذكر عمرو بن نوفل بن أنس بن زيد التميمي ، أن محمد بن الأشعث كان ملازما لابن رامين ولجاريته سلامة الزرقاء، فشهر بذلك ، وكان رجلا قصافا فلامه قومه في فعله فلم يحفل بمقالتهم وطال ذلك منه ومنهم، حتى رأى بعض ما كره في منزل ابن رامين، فمال إلى سحيقة جارية زريق بن منيح، مولى عيسى بن موسى. وكان زريق شيخا سخيا كريما نبيلا يجتمع إليه أشراف الكوفة من كل حي، وكان الغالب على منزله رجلا من ولد القاسم بن عبد الغفار العجلي، كغلبة محمد بن الأشعث على منزل ابن رامين، فتواصلا على ملازمة بيت زريق. ففي ذلك يقول محمد بن الأشعث:

يابن رامين بحت بالـتـصـريح                      في هواي سحيقة ابـن مـنـيح

قينة عـفة ومـولـى كــريم                      ونديم من اللـبـاب الـصـريح

ربـعـي مـهـذب أريحــي                      يشتري الحمد بالفعال الـربـيح

نحن منه في كل ماتشتهـي الأن                      فس من لـذة وعـيش نـجـيح

عند قرم من هاشم فـي ذراهـا                      وعناء من الغـزال الـمـلـيح

في سرور وفي نـعـيم مـقـيم                      قد أمنا من كـل أمـر قـبـيح

فاسل عنا كما سـلـونـاك إنـي                      غير سال عن ذات نفس وروحي

حافظ منك كل ما كنت قـد ض                      يعت مما عصيت فيه نصيحـي

فالقلى ما حييت مني لـك الـده                      ر بود لمـنـيتـي مـمـنـوح

يابن رامين فالزمن مسجـد الـح                      ي وطول الصلاة والتـسـبـيح قال عمرو بن نوفل: فلم يدع ابن رامين شريفا بالكوفة إلا تحمل به على ابن الأشعث وأن يرضى عنه، ويعاود زيارته، فلم يفعل، حتى تحمل عليه بالحجواني، وهو محمد بن بشربن حجوان الأسدي، وكان يومئذ على الكوفة، فكلمه فرضي عنه ورجع إلى زيارته، ولم يقطع منزل زريق. وقال في سحيقة:

سحيقة أنت واحدة القيان                      فمالك مشبه فيهن ثان

 

صفحة : 1650

 

 

فضلت على القيان بفضل حـذق                      فحزت على المدى قصب الرهان

سجدن لك القـيان مـكـفـرات                      كما سجد المجوس لـمـرزبـان

ولا سيمـا إذا غـنـيت صـوتـا                      وحركت المثالث والـمـثـانـي

شربت الخمر حتى خـلـت أنـي                      أبو قابوس أو عـبـد الـمـدان

فإعمال اليسار علـى الـمـلاوي                      ومن يمناك تـرجـمة الـبـيان أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان عن حماد عن أبيه قال: كان روح بن حاتم المهلبي كثير الغشيان لمنزل ابن رامين، وكان يختلف إلى الزرقاء جارية ابن رامين، وكان يهواها محمد بن جميل وتهواه، فقال لها: إن روح بن حاتم قد ثقل علينا. قالت: فما أصنع . قد غمر مولاي ببره فقال: احتالي له. فبات عندهم روح ليلة، فأخذت سراويله وهو نائم فغسلته، فلما أصبح سأل عنه فقالت: غسلناه. ففطن أنه أحدث فيه فاحتيج إلى غسله، فاستحيا من ذلك وانقطع عنها، وخلا وجهها لابن جميل.

قال هارون: واخبرني حماد عن أبيه قال: ابن رامين اسمه عبد الملك بن رامين، مولى عبد الملك بن بشربن مروان. وجواريه سعدة، وربيحة، وسلامة الزرقاء. وفيهن يقول إسماعيل بن عمار الأسدي وأنشدناه الحرمي عن الزبير عن عمه، وروايته أتم:

هل من شفاء لقلب لج مـحـزون                      صبا، وصب إلى ريم ابن رامـين

إلى ربيحة إن اللـه فـضـلـهـا                      بحسنها وسـمـاع ذي أفـانـين

نعم شفاؤك منها أن تقـول لـهـا                      قتلتني يوم دير اللج فـاحـيينـي

أنت الطبيب لداء قد تلـبـس بـي                      من الجوى فانفثي في في وارقيني

نفسي تأبى لـكـم إلا طـواعـية                      وأنت تحمين أنفا أن تطـيعـينـي

فتلك قسمة ضيزي قد سمعت بهـا                      وأنت تتلينها ما ذاك فـي الـدين

ما عائذ الله لـي إلـف ولا وطـن                      ولا ابن رامين، لولا ما يمنـينـي

يارب مالابن رامينـن لـه بـقـر                      عين وليس لنا غـير الـبـراذين

لوشئت أعطيته مالا عـلـى قـدر                      يرضى به منك غير الخرد العين

لعائذ الله بـيت مـامـررت بـه                      إلا وجئت على قلبي بـسـكـين

ياسعدة القينة البيضاء، أنـت لـنـا                      أنس لأنك في دار ابـن رامـين

لاتحسبن بياض الجص يؤنسـنـي                      وأنت كنت كمثل الخزفي الـلـين

لولا ربيحة ما استأنست ما عمـدت                      نفسي إليك ولو مثلت فـي طـين

لم أنس صعدة والزرقاء يومهـمـا                      باللج شرقية فـوق الـدكـاكـين

تغنيان ابن رامين ضحـاءهـمـا                      بالمسجحي وتشبيب المـحـبـين

فما دعوت به من عيش ممـلـكة                      ولم نعش يومنا عيش المسـاكـين

أذاك أنعـم أم يوم ظـلـلـت بـه                      منعم العيش في بستـان سـورين

يشوي لنا الشيخ سورين دواجـنـه                      بالجردناج وسحاج الشـقـابـين

نسقي شرابا لعمـران يعـتـقـه                      يمسي الأصحاء منه كالمجـانـين يعني عمران بن موسى بن طلحة بن عبد الله-

إذا ذكرنا صلاة بعدما فـرطـت                      قمنا غليها بلا عـقـل ولا دين

نمشي إليها بطاء لاحراك بـنـا                      كأن أرجلنا تقلعـن مـن طـين

نمشي وأرجلنا عوج مطارحهـا                      مشي الإوز التي تأتي من الصين

أو مشي عميان دبر لادليل لهـم                      إلا العصي، إلى عيد السعانـين وقال فيه أيضا:

لابن رامين خرد كمها الـرم                      ل حسان وليس لي غير بغل

رب فضلته علي ولـوشـئ                      ت لفضلتني عليه بفـضـل قال حماد: وأخبرني أبي قال: حدثني السكوني، أن جعفر بن سليمان اشترى ربيحة بمائة ألف درهم، واشترى صالح بن علي سعدة بتسعين ألف درهم، واشترى معن بن زائدة الزرقاء.

قال مؤلف هذا الكتاب: هذا خطأ، الزرقاء اشتراها جعفر بن سليمانه، ولعل معنا اشترى غيرها.

 

 

صفحة : 1651

 

أخبرني حبيب بن نصر قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الحسن الشيباني، عن عبد الملك بن ثوبان قال: قال إسماعيل بن عمار: كنت أختلف إلى منزل ابن رامين فأسمع جاريتيه: الزرقاء وسعدة، وكانت سعدة أظرف من الزرقاء، فأعجبت بها وعلمت ذلك مني، وكانت سعدة كاتبة، فكتبت إليها أشكو ما ألقى بها، فوعدتني فكتبت إليها رقعة مع بعض خدمهم:

يارب إن ابن رامين له بقر                      عين وليس لنا غير البراذين وذكر الأبيات الماضية. قال: فجاءني الخادم وقال: مازالت تقرأ رقعتك وتضحك من قولك:

فإن تجودي بذاك الشيء أحي به                      وإن بخلت به عني فزنـينـي وكتبت إلي: حاشاك من أن أزنيك، ولكني أسير إليك فأغنيك وألهيك وأرضيك. وصارت إلي فأرضتني بعد ذلك.

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه، عن الحسين بن محمد الحراني، وأخبرني الجوهري عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه: أن جعفر بن سليمان اشترى الزرقاء صاحبة ابن رامين بثمانين ألف درهم، وسترها عن أبيه-وأبوه يومئذ على البصرة في خلافة المنصور، وقد تحرك في تلك الأيام عبد الله بن علي-فهجم عليهما يوما سليمان بن علي فأخفيا العود تحت السرير ودخل، فقال له: ويحك نحن على هذه الحال نتوقع الصيلم وأنت تشتري جارية بثمانين ألف درهم وأظهر له غضبا عليه وتسخطا لما فعل، فغمز خادما كان على رأسه فأخرجها إلى سليمان، فأكبت على رأسه فقبلته، ودعت له، وكانت عاقلة مقبولة متكلمة، فأعجبه مارأى منها، وقام عنهما فلم يعد لمعاتبة ابنه بعد ذلك.

قال: ولما مضت لها مدة عند جعفر سألها يوما: هل ظفر منك أحد ممن كان يهواك بخلوة أو قبلة? فخشيت أن يبلغه شيء كانت فعلته بحضرة جماعة أو يكون قد بلغه، فقالت: لاوالله إلا يزيد بن عون العبادي الصيرفي؛ فإنه قبلني قبلة وقذف في في لؤلؤة بعتها بثلاثين ألف درهم. فلم يزل جعفر يحتال له ويطلبه حتى وقع في يده، فضربه بالسياط حتى مات.

قال هارون: وحدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال. حدثني أبو عوف الدوسي، عن عبد الرحمن بن مقرن قال: كتبت إلى ابن رامين أستأذنه في إتيانه، فكتب إلي: قد سبقك روح بن حاتم، فإن كنت لا تحتشم منه فرح. فرحت، فكنا كأننا فرسا رهلان، والتقينا فعانقني وقال لي: أنى تريد ? قلت: حيث أردت. قال: فالحمد الله. فدخلنا فخرجت الزرقاء في إزار ورداء قوهيين موردين، كأن الشمس طالعة من بين رأسها وكتفيها ،فغنتنا ساعة ثم جاء الخادم الذي يأذن لها ، وكان الإذن عليها دون مولاها، فقام دون الباب وهي تغني، حتى إذا قطعت نظرت إليه فقالت: من ? فقال: يزيد بن عون العبادي الصيرفي، الملقب الماجن، على الباب. فقالت: أدخله. فلما استقبلها كفر ثم أقعى بين يديها. قال: فوجدت والله له ورأيت أثر ذلك، وتنوقت تنوقا خلاف ما كانت تفعل بنا. فأدخل يده في ثوبه فأخرج لؤلؤتين وقال: انظري يا زرقاء جعلت فداك ثم حلف أنه نقد فيهما بالأمس أربعين ألف درهم. فقالت: فما أصنع بذلك? قال: أردت أن تعلمي. فغنت صوتا ثم قالت: يا ماجن هبهما لي ويحك. قال: إن شئت والله فعلت: قالت: قد شئت. قال: واليمين التي حلفت بها لازمة لي إن أخذتها إلا بشفتيك من شفتي قال: فذهب روح يتسرع إليه، فقلت له: ألك في بيت القوم حاجة? قال: نعم. فقلت: إنما يتكسبون مما ترى. وقام ابن رامين فقال: ضع لي ياغلام ماء. ثم خرج عنا فقالت: هاتهما. فمشى على ركبيتهه وكفيه وهما بين شفتيه. فقال:هاك. فلما ذهبت بشفتيها جعل يصد عنها يمينا وشمالا ليستكثر منها، فغمزت جارية على رأسها فخرجت كأنها تيرد حاجة،ثم عطفت عليه، فلما دنا منها وذهب ليزوغ دفعت منكبيه وأمسكتهما حتى أخذت الزرقاء اللؤلؤتين بشفتيها من فمه، وشرح جبينها حياء منا. ثم تجلدت علينا فأقبلت عليه فقالت له: المغبون في استه عود فقال: أما أنا فما أبالي، لايزال طيب هذه الرائحة في أنفي وفمي أبدا ماحييت.

 

 

صفحة : 1652

 

قال هارون: وحدثني ابن النطاح عن المدائني، عن علي بن أبي سليمان، عن أبي عبد الله القرشي، عن أبي زاهر بن أبي الصباح، قال: أتيت منزل ابن رامين مع رجل من قريش، فأخرج الزرقاء، وسعدة، فقام القرشي ليبول وترك مطرفه ، فلبسته سعدة وخرجت، فرجع القرشي وعليها المطرف قد خاطته فصار درعا ، فقالت: أرأيتم أسرع من هذا? صار المطرف درعا فقال القرشي: هو لك. قال: وعلي طيلسان مثنى، فأردت أن أبول فلففته وقمت، فقالت سعدة: دع طيلسانك. فقلت: لاأدعه، أخاف أن يتحول مطرفا.

وحدثني قبيصة بن معاوية قال: قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي: شربت زرقاء ابن رامين دواء فأهدى لها ابن المقفع ألف دراجة على جمل قراسي .

قال هارون: وحدثني حماد عن أبيه: أن محمد بن جميل كان يتعشق الزرقاء، وكان أبو جميل يغدو كل يوم يسأل من يقدم عن ابنه محمد، إلى أن مر به صديق له يكنى أبا ياسر، فسأله عنه فقال له أبو ياسر: تركته أعظم الناس قدرا، يعامل الخليفة كل يوم في خراجه، فيحتاج إليه ولده، وصاحب شرطته، وصاحب حرسه، وخدمه. فقال له: ياأخي: فكيف بهذه الجارية التي قد شهر بها? فقال له الرجل: لاتهتم بها، قد مازحه أمير المؤمنين فيها، وخاطبه بشعر قيل فيه. قال:وما هو? قال:

وابن جميل فاعلموا عاجـلا                      لابد موقوف على مسطبـه

يوقف في زرقاء مشهـورة                      تجيد ضرب العود والعرطبه فقال جميل: والله مابي من هذا الأمر إلا أني أتخوف أن يكون قد شهر بها هذه الشهرة ولم ينكها.

قال هارون: وأحسب هذه القصة لزرقاء الزراد ، لا زرقاء ابن رامين.

قال هارون: وحدثني أبو أيوب قال: حدثني محمد بن سلام، قال: اجتمع عند ابن رامين معن بن زائدة، وروح بن حاتم، وابن المقفع، فلما تغنت الزرقاء وسعدة، بعث معن إليها بدرة فصبت بين يديها، فبعث روح إليها أخرى فصبت بين يديها، ولم يكن عند ابن المقفع دراهم فبعث فجاء بصك ضيعته وقال: هذه عهدة ضيعتي خذيها، فأما الدراهم فما عندي منها شيء.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا فضل اليزيدي قال: حدثني إسحاق الموصلي قال: قال سليمان الخشاب: دخلت منزل ابن رامين فرأيت الزرقاء جاريته وهي وصيفة، حين شال نهودها ثوبها عن صدرها، لها شارب كأنه خط بمسك، يلحظه الطرف ويقصر عنه الوصف، وابن الأشعث الكوفي يلقي عليها، والغناء له:

أية حـال يا ابـن رامـين                      حال المحبين المسـاكـين

تركتها موتى وما مـوتـوا                      قد جرعوا منك الأمـرين

وسرت في ركب على طية                      ركب تـهـام ويمـانـين

يا راعي الذود لقد رعتنـا                      ويلك من روع المحـبـين

فرقت جمعا لايرى مثلهـم                      فجعتهم بالربرب الـعـين أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني هارون بن محمد الزيات قال: قال أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل: كان ابن رامين مولى الزرقاء أجل مقين بالكوفة وأكبرهم، ورامين أبوه مولى بشر بن مروان.

قال هارون: فحدثني سليمان المديني قال: قال حماد بن إسحاق قال أبي: قال معاذ بن الطبيب: أتيت ابن رامين وعنده جواريه: الزرقاء وصواحباتها، وعندهن فتى حسن الوجه نظيف الثياب، عطر الريح، يلقى عليهن، فسألت عنه فقيل لي: هذا محمد بن الأشعث بن فجوة الزهري. فمضيت به إلى منزلي وسألته المقام ففعل، وأتيته بطعام وشراب وغنيته أصواتا من غناء أهل الحجاز، فسألني أن ألقيها عليه، فقلت: نعم وكرامة وحبا، على أن تلقي علي أصواتا من صنعتك ألتذ بها، وأقطع طريقي بروايتها، وأطرف أهل بلدي بها، ففعلت وفعل، فكان مما أخذته عنه من صنعته:

صاح إني عاد لي ماذهبـا                      من هوى هاج لقبلي طربا

أذكرتني الشوق سلامة أن                      لم أكن قضيت منها أربـا

وإذا مـا لام فـيهــا لائم                      زاد في قلبي لحبي عجبـا

من ذوات الدل لو دب على                      جلدها الذر لأبدى نـدبـا الغناء لمحمد بن الأشعث، ثقيل أول عن الهشامي. وفيه ليونس خفيف ثقيل بالسبابة، في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر أحمد بن عبيد أن فيه لحنا من الثقيل الثاني لايدري لمن هو? قال: ومنها.

 

لذكر الحبيب النازح الـمـتـعـتـب                      طربت ومن يعرض له الشوق يطرب

 

صفحة : 1653

 

لحنه رمل: وقال منها:

خليلي عوجا ساعة ثم سلـمـا                      على زينب سقيا ورعيا لزينب لحنه رمل. وقال منها:

رحبت بلادك يا أمـامـه                      وسلمت ما سجعت حمامه

وسقـى ديارك كـلـمـا                      حنت إلى الشقيا غمامـه

إني وإن أقـصـيتـنـي                      سفها أحب لك الكـرامة

وأرى أمـورك طــاعة                      مفروضة حتى القيامـه لحنه خفيف رمل.قال: ومنها :

ما بالمغاني مـن أحـد                      إلا حمـامـات فـرد

أضحت خـلاء درسـا                      للريح فيها مـطـرد

عهدي بها فيما مضـى                      ينتابها بـيض خـرد

فاستبدلت وحشا بـهـم                      والورق تدعو والصرد لحنه هزج. قال: ومنها:

ليت من طير نومي                      رد في عيني المناما

أوشفى جسما سقيما                      زاده الهجر سقامـا

نظرت عيني إليهـا                      نظرة هاجت غراما

تركت قلبي حزينـا                      بهواها مستهـامـا لحنه رمل.

قال ابن الطبيب: وأخذت منه مع هذه أصواتا كثيرة، ورأيت الناس بعد ذلك ينسبونها إلى قدماء المغنين.

مصير الزرقاء وبيحة إلى جعفر ومحمد بن سليمان: قال هارون: وحدثني حماد بن إسحاق عن ابيه قال: حدثني إسماعيل بن جعفر بن سليمان: أن الزرقاء صاحبة ابن رامين صارت إلى ابيه، وكان يقال لها أم عثمان. وأن ربيحة جارية ابن رامين صارت إلى محمد بن سليمان، وكانت حظية عنده. قال إسماعيل: فأتى سليمان بن علي ابنه جعفر فأخرج إليه الزرقاء، فقال لها سليمان: غنيني. قالت: اي شيء تحب? قال: غنيني:

إذا ما أم عبد الـل                      ه لم تحلل بـواديه

ولم تشف سقيماهي                      ج الحزن دواعيه فقالت: فديتك، قدترك الناس هذا منذ زمان. ثم غنته إياه.

قال إسماعيل: قد مات سليمان منذ ثلاث وسبعين سنة، وينبغي أن يكون رأى الزرقاء قبل موته بسنتين أوثلاث. قال: وقالت هي: قد ترك الناس هذا منذ زمان. فهذا من أقدم ما يكون من الغناء.

قال هارون: وقال شراعة بن الزندبود:

قالوا شراعة عنين فقـلـت لـهـم                      الله يعـلـم أنـي غـير عـنـين

فإن ابيتم وقلتم مـثـل قـولـهـم                      فأقحموني فـي دار ابـن رامـين

ثم انظروا كيف طعني عند معتركي                      في حر من كنت أرميها وترميني فال هارون: وحدثني أبو أيوب المديني، عن احمد بن إبراهيم قال: قال بعض المدنيين: أتيت منزل ابن رامين، فوجدته عنده جارية قد رفع ثديها قميصا، لها شارب أخضر ممتد على شفتيتها امتدادالطراز، كانما خطت طرتها وحاجباها بقلم، لايحلقها في ضرب من ضروب حسنها وصف واصلإ، فسألت عن اسمها فقيل: هذه الزرقاء.

نسبة الصوت الذي في الخبر

 

إذا ما أم عبـد الـل                      ه لم تحلـل بـواديه

ولم تشف سقـيمـا ه                      يج الحزن دواعـيه

غزال راعة القـنـا                      ص تحميه صواصيه

عرفت الربع بالإكلي                      ل عفته سـوافـيه

بجو ناعـم الـحـوذا                      ، ملـتـف روابـيه

وما ذكرى حبـيبـاو                      قلـيلا مـا أواتـيه

كذي الخمر تمناهـا                      وقد أسرف ساقـيه ذكر الزبير بن بكار ان الشعر لعدي بن نوفلن وقيل إنه للنعمان بن بشير النصاري وذاك أصح.

وقد أخرجت أخبار النعمان فيه مفردة في موضع آخر، ذكرت القصيدة بأسرها. ورواها ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني للنعمانن ولم يذكر انها لعدي غير الزبير بن بكار.

والغناء فيما ذكر عمرو بن بانة لمعبد، خفيف رمل بالوسطى. وذكر إسحاق أن فيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر، يمان . وفيه للغريض ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي، في الأول والثاني والرابع والخامس.

 

نسب عدي بن نوفل وخبره

هو عدي بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وامه آمنة بنت جابر بن سفيان، اخت تأبط شرا.

وكان عمر بن الخطاب رضوان الله عليه استعمله، أو عثمان بن عفان رضي الله عنه- فيما أخبرنا به الطوسي عن الزبير بن بكار-على حضرموت.

داره وما قيل فيها من الشعر:

 

صفحة : 1654

 

قال الزبير: ودار عدي بن نوفل بين المسجد والسوق معروفة ، وفيها يقول إسماعيل بن يسارالنسائي :

إن ممشاك نـحـو دار عـدي                      كان للقلب شقـوة وفـتـونـا

إذ تراءات على البلاط فلـمـا                      واجهتها كالشمس تعشي العيونا

قال هارون قف فيا ليت أنـي                      كنت طاوعت ساعة هارونـا وقد قيل إن هذه البيات لعمر بن أبي ربيعة .

قال الزبير: كان تحت عدي بن نوفل أم عبد الله بنت أبي الختري بن هاشم بن الحارث بن أسد بن عبد العزى، فغاب مدة وكتب إليها أن تشخص إليه، فلم تفعل، فكتب إليها قوله:

إذا ما أم عبد الل                      ه لم تحلل بواديه وذكر البيتين فقط، فقال لها أخوها الأسود بن أبي البختري، وهما لأب وأم، وأمها عاتكة بنت أميةبن الحارث بن أسد بن عبد العزى: قد بلغ الأمر هذا من ابن عمك. فاشخص إليه .

 

أعيني جودا ولا تجمـدا                      ألا بكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجري الجميل                      ألا نبكيان الفتى السـيدا الشعر للخنساء بنت عمرو بن الشريد، ترثي أخاها صخرا، والغناء لإبراهيم الموصلي، ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر، عن إسحاق. وفيه لابن سريح خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو، والهشامي، وحبش.

 

نسب الخنساء وخبرها

وخبر مقتل أخويها صخر ومعاوية هي الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر. واسمها تماضر.

والخنساء لقب غلب عليها ، وفيها يقول دريد بن الصمة، وكان خطبها فردته، وكان رآها تهنأ بعيرا:

حيوا تماضر وأربعوا صحبي                      وقفوا فإن وقوفكم حسبـي

أخناس قد هام الفؤاد بـكـم                      وأصابه تبل مـن الـحـب

ما إن رأيت ولا سمعت بـه                      كاليوم طالي أينـق جـرب

متبذلا تبـدو مـحـاسـنـه                      يضع الهناء مواضع النقب قال أبو عبيدة ومحمد بن سلام: لما خطبها دريد بعثت خادما لها وقالت: انظري إليه إذا بال، فإن كان بوله يخرق الأرض ويخد فيها ففيه بقية، وإن كان بوله يسبح على وجهها فلا بقية فيه. فرجعت إليها وأخبرتها، فقالت: لابقية في هذا. فأرسلت إليه: ما كنت لأدع بني عمي وهم مثل عوالي الرماح، وأتزوج شيخا فقال:

وقاك الله يا ابنة آل عمرو                      من الفتيان أشباهي ونفسي

وقالت إنني شيخ كـبـير                      وما نبأتها أني ابن أمـس

فلا تلدي ولا ينكحك مثلي                      إذا ما ليلة طرقتبنـحـس

تريد شرنبث القدمين ششنا                      يباشر بالعشية كل كـرس فقالت الخنساء تجيبه:

معاذ الله ينكحني حبركـى                      يقال أبوه من جشم بن بكر

ولو أصبحت في جشم هديا                      إذا أصبحت في دنس وفقر وهذا الشعر ترثي به أخاها صخرا وقتله زيد بن ثور الأسدي يوم ذي الأثل.

أخبرنا بالسبب في ذلك محمد بن الحسن بن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، وأضفت إليه رواية الأثرم عن أبي عبيدة قال: غزا صخر بن عمرو، وأنس بن عباس الرعلي في بني سليم، بني أسد بن خزيمة ،-قال أبو عبيدة: وزعم السلمي أن هذا اليوم يقال له يوم الكلاب ويم ذي الأثل-في بني عوف وبني خفاف، وكانا متساندين، وعلى بني خفاف صخر بن عمرو الشريدي، وعلى بني عوف أنس بن عباس. قال: فأصابوا في بني أسد بن خزيمة غنائم وسبيا، وأخذ صخر يومئذ بديلة امرأة . قال: وأصابت صخرا يومئذ طعنة، طعنه رجل يقال له ربيعة بن ثور، ويكنى أبا ثور، فأدخل جوفه حلقا من الدرع فاندمل عليه حتى شق عنه بعد سنين، وكان سبب موته.

قال أبو عبيدة: وقال غيره: بل ورد هو وبلعاء بن قيس الكناني. قال: وكانا أجمل رجلين في العرب. قال: فشربا عند يهودي خمار كان بالمدينة. قال:فحسدهما لما رأى من جمالهما وهيأتهما، وقال: إني لآحسد العرب أن يكون فيهم مثل هذين فسقاهما شربة جويا منها . قال: فمر بصخر طبيب بعد ما طال مرضه، فأراهما به،فقال: أشق عنك فتفيق. قال: فعمد إلى شفار فجعل يحميها قم يشق بها عنه، فلم ينشب أن مات.

 

 

صفحة : 1655

 

قال أبو عبيدة: واما أبو بلال بن سهم فإنه قال: اكتسح صخر أموال بني أسد وسبى نساءهم، فأتاهم الصريح فتبعوه فتلاحقوا بذات الأثل، فاقتتلوا قتالا شديدا، فطعن ربيعة بن ثور السدي صخرا في جنبه، وفات القوم فلم يقعص وجوي منها، ومرض قريبا من حول، حتى مله اهله. قال: فسمع صخر امرأة وهي تسأل سلمى امرأة صخر: كيف بعلك? فقالت سلمى:لاحي فيرجى، ولاميت فينعى، لقينا منه الأمرين قال: وزعم آخر أن التي قالت هذه المقالة بديلة الأسدية التي كان سباها من بني أسد فاتخذها لنفسه. فأنشد هذا البيت:

ألا تلكم عرسي بديلة أوجسـت                      فراقي وملت مضجعي ومكاني وأما أبو بلال بن سهم فزعم أن صخرا حين سمع مقالة سلمى امرأته قال:

أرى أم صخر لاتمل عـيادتـي                      وملت سليمى مضجعي ومكاني

وما كنت أخشى أن أكون جنازة                      عليك ومن يغتر بالـحـدثـان

أهم بأمر الحزم لو أستطـيعـه                      وقد حيل بين العير والنـزوان

لعمري لقد نبهت من كان نائمـا                      وأسمعت من كانت لـه أذنـان

وللموت خير من حياة كأنـهـا                      محلة يعسوب برأس سـنـان

وأي امرىء ساوى بأم حـلـيلة                      فلا عاش إلا في شقا وهـوان فلما طال عليه البلاء وقد نتأت قطعة مثل اللبد في جنبه في موضع الطعنة، قالوا له: لو قطعتها لرجونا ان تبرأ. فقال: شأنكم. فأشفق عليه بعضهم فنهاهم، فأبى وقال: الموت أهون علي مما أنا فيه فأحموا له شفرة ثم قطعوها فيئس من نفسه.

قال: وسمع صخر أخته الخنساء تقول: كيف كان صبره? فقال صخر في ذلك:

أجارتناإن الـخـطـوب تـنـوب                      على الناس، كل المخطئين تصيب

فإن تسأليني هل صبرت فإنـنـي                      صبور على ريب الزمان صلـيب

كأني وقد أدنوا إلـي شـفـارهـم                      من الصبر دامي الصفحتين ركوب

أجارتنا لست الغـداة بـظـاعـن                      ولكن مقـيم مـا اقـام عـسـيب عن أبي عبيدة: عسيب: جبل بأرض بني سليم إلى جنب المدينة، فقبره هناك معلم.

وقال أبو عبيدة: فمات فدفن هناك، فقبره قريب من عسيب.

فقالت الخنساء ترثيه:

ألاما لعينـك أم مـا لـهـا                      لقد أخضل الدمع سربالهـا

ابعد ابن عمرو من آل الشري                      د حلت به الأرض أثقالهـا

فإن تـك مـرة أودت بــه                      فقد كان يكثرتـقـتـالـهـا

سأحمل نفسي علـى خـطة                      فإما علـيهـا وإمـا لـهـا

فإن تصبر النفس تلق السرور                      وإن تجزع النفس أشقى لها غنى فيه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر.

قال السلمي: ليست هذه في صخر، هذه إنما رثت بها معاوية اخاها، وبنو مرة قتلته. ولكنها قالت في صخر:

قذى بعينـك أم بـالـعـين عـوار                      أم أقفرت إذ خلت من أهلها الـدار

تبكي لصخر، هي العبرى وقد ثكلت                      ودونه من جديد التـرب أسـتـار

لابد من ميتة في صرفـهـا غـير                      والدهر في صرفه حول وأطـوار

يا صخر وراد مـاء قـد تـنـاذره                      أهل الموارد ما فـي ورده عـار

مشى السبنتى إلى هيجاء معضـلة                      له سـلاحـان أنـياب وأظـفـار

فما عجول على بو تـطـيف بـه                      لها حنينـان إصـغـار وإكـبـار

ترتع ما رتعت حتـى إذا ادكـرت                      فإنـمـا هـي إقـبـال وإدبـار

لاتسمن الدهر في أرض وإن رتعت                      فإنما هي تحـنـان وتـسـجـار

يوما بأوجد منـي يوم فـارقـنـي                      صخر وللدهـر إحـلاء وإمـرار

فإن صخـرا لـوالـينـا وسـيدنـا                      وإن صخرا إذا نشتـو لـنـحـار

وإن صخرا لتـأتـم الـهـداة بـه                      كأنـه عـلـم فـي راسـه نـار -غنى في هذين البيتين الأولين ابن سريج، من رواية يونس-:

لم ترأه جارة يمشي بساحتها                      لربية حين يخلي بيته الجار

ولا تراه وما في البيت يأكله                      لكنه بارز بالصحن مهمار

مثل الرديني لم تنفد شبيبتـه                      كأنه تحت طي البرد أسوار

 

صفحة : 1656

 

 

في جوف رمس مقيم قد تضمنه                      في رمسه مقمطرات وأحجار

طلق البدين بفعل الخير ذو فجر                      ضخم الدسيعة بالخيرات أمـار

ورفقة حار هاديهم بمهـلـكة                      كأن ظلمتها في الطخية القـار عروضه ثان من البسيط.

العوار والعائر: وجع، وهو مثل الرمد. وذرفت: قطرت قطرا متتبعا لايبلغ أن يكون سيلا. والعبرى، يقال امرأة عبرى وعابر. والعبرة : سخنة العين . والوله : ما يصيب الرجل والمرأة من شدة الجزع على الولد. حول وأطور، أي تحول وتقلب وتصرف. قد تناذره، أي أنذر بعضهم بعضا هوله وصعوبته. ويروى: تبادره وقولها مافي ورده عار أرادت ما في ترك ورده عار، أي لايعير أحد إن عجز عنه من صعوبة ورده .

العجول: الثكول. والبو: أن ينحر ولد الناقةويؤخذ جلده فيحشى ويدنى من أمه فترأمه. إحلاء وإمرار، يقال: ماأحلى ولاأمر. أي ما أتى بحلوة ولامرة . والمعنى أن الدهر يأتي بالمشقة والمحبة . كأنه علم في رأسه نار أي إنه مشهور. والعلم: الجبل، وجمعه أعلام. كأنه تحت طي البردأسوار، أي من لطافة بطنه وهيفه شبيه أسوار من ذهب.والرديني: الرمح منسوب إلى ردينة: امرأة كانت تقوم الرماح. أي هو معصوب البدن ليسبمهيج منحل. وهذا كله من انفاخ الجلد والسمن والاسترخاء. وقال أبو عمرو: مقمطرات: صخور عظام.والأحجار صغار .ذو فجر: يتفجر بالمعروف. والدسيعة: العطاء. الطخية، من الطخاء، وهو الغيم الرقيق الذي يواري النجوم فيتحير الهادي .

وقالت الخنساء أيضا ترثي صخرا:

بكت عيني وعاودها قذاهـا                      بعوار فما تقضي كـراهـا

على صخر وأي فتى كصخر                      إذا ما الناب لم ترأم طلاهـا -الطلا:الولد،أي لم تعطف عليه من الجدب-

فتى الفتيان ما بلغوا مداها                      ولايكدي إذا بلغت كداهـا

لئن جزعت بنو عمرو عليه                      لقد رزئت بنو عمرو فتاها -غنى في هذه الأبيات ابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. وذكر حبش أن لهأيضافيه خفيف رمل بالبنصر-

ترى الشم الجحاجح من سليم                      وقد بلت مدامعها لحـاهـا -إذا وصف السيد بالشمم فإنه لايدنو لدناءة، ولايضع لها أنفه-

وخيل قد كففت بجول حيل                      فدارت بين كبشيها رحاها -وجول خيل: جولان. ويقال: قطعة خيل تجول، أي تذهب وتجيء-

ترفع فضـل سـابـغة دلاص                      على خيفانة خفق حـشـاهـا

وتسعى حين تشتجر العـوالـي                      بكأس الموت ساعة مصطلاها

محافظة ومـحـمـية إذا مـا                      نبا بالقوم من جزع لـظـاهـا

فتتركها قد اشتجرت بطـعـن                      تضمنه، إذا اختلفت، كـلاهـا

هنالك لو نزلت بـال صـخـر                      قرى الأضياف سخنا من ذراها

فمن للضيف إن هبت شـمـال                      مزعزعة يجاوبهـا صـداهـا

وألجأ بردها الأشـوال حـدبـا                      إلى الحجرات بارزة كـلاهـا

أمطعمكم وحاملكم تركـتـهـم                      لدى غبراء منهـدم رجـاهـا

ليبك عليك قومك للمـعـالـي                      وللهيجاء إنك مـا فـتـاهـا

وقد فوزت طلعة فاستراحـت                      فليت الخيل فارسهـا يراهـا وقال خفاف بن عمير يرثي صخرا ومعاوية ابني عمرو، ورجالا منهم أصيبوا:

تطاول همه ببـراق سـعـر                      لذكراهـم وأي أوان ذكـر

كأن النار تخرجهـا ثـيابـي                      وتدخل بعد نوم الناس صدري

لباتت تضرب الأمثال عنـدي                      على ناب شريت بها وبكـر

وتنسى من أفارق غير قـال                      وأصبر عنهم من آل عمـرو

وهل تدرين أن مارب خـرق                      رزئتمبرأ بقصـاص وتـر

أخى ثقة إذا الضراء نـابـت                      وأهل حباء أضياف ونحـر

كصخر للـسـرية غـادروه                      بذرة أو معاوية بن عمـرو

وميت بالجناب أثل عـرشـي                      كصخر أو كعمرو أو كبشر

وآخر بالنواصف مـن هـدام                      فقد أودى ورب أبيك صبري

فلم أرمثلهم حـيا لـقـاحـا                      أقاموا بين قاصية وحـجـر

أشد على صروف الدهـر إذا                      وآمرمنهم فيهـا بـصـبـر

 

صفحة : 1657

 

 

وأكـرم، حـين ضـن الـنـاس، خـيمــا                      وأحـمـد شـيمة ونـشـــيل قـــدر

إذا الـحـسـنـاء لـم تـرحـض يديهــا                      ولم يقـصـر لـهـا بـصـر بـسـتـر

قروا أضـيافـهـم ربـحـا بـــبـــح                      تجـيء يعـبـقـري الـودق سـمـــر

رمـاح مـثـقـف حـمـلـت نـصــالا                      يلـحـن كـأنـهـن نـجـوم فـجـــر

جلاها الـصـيقـلـون فـأخـلـصـوهـا                      مواضـي كـلـهـا يفـري بـبـتـــر

هم الأيسـار إن قـحـطـت جـمـــادى                      بكـل صـبـير سـارية وقـــطـــر

يصـدون الـمـغـيرة عـن هـواهـــا                      بطـعـن يفـلـق الـهـامـات شــزر

تعلم أن خير الناس طرالولدانغداة الريح غبر

وأرملة ومعتر مسيف                      عديم الـمـال، عـجـزة أم صـخـــر ومما رثت به الخنساء صخرا وغني فيه:

أعيني جودا ولا تـجـمـدا                      ألا تبكيان لصخر الـنـدى

ألا تبكيان الجريء الجمـيل                      ألا تبكيان الفتـى الـسـيدا

طويل النجاد رفيع العـمـا                      د ساد عشـيرتـه أمـردا

إذا القـوم مـدوا بـأيديهـم                      إلى المجـد مـد إلـيه يدا

فنال الـذي فـوق لأيديهـم                      من المجد ثم مضى مصعدا

يحمله القوم ما عـالـهـم                      وإن كان أصغرهم مولـدا

ترى المجد يهوي إلى بيتـه                      يرى أفضل المجد أن يحمدا

وإن ذكر المجد ألـفـيتـه                      تأزر بالمجـد ثـم ارتـدى ونذكر الآن ها هنا خبر مقتل معاوية بن عمرو أخيهما، إذكانت أخبارهما وأخبارها يدعوبعضها إلى بعض.

قال أبو عبيدة: حدثني أبو بلال بن سهم بن عباس بن مرداس بن أبي عامر بن حارثة بن عبد بن عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم بن منصور قال: غزامعاوية بن عمرو أخو خنساء، بني سعد بن ذبيان وبني فزارة، ومع خفاف بن عمير بن الحارث، وأمه ندبة سوداء، وإليها ينسب، فاعتوره هاشم ودريد ابنا حرملة المريان. قال ابن الكلبي: وحرملة هو حرملة بن الأسعر بن إياس بن مريطة بن ضمرة بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. قال أبو عبيدة فاستطرد له أحدهما ثم وقف، وشد عليه الآخر فقتله، فما تنادوا: قتل معاوية قال خفاف: قتلني الله إن رمت حتى أثاربه فشد على مالك بن حمار الشمخي، وكان سيد بني شمخ بن فزارة، فقتله-أقال: وهو مالك بن حمارين حزن بن عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال بن مازن بن فزارة -فقال خفاف في ذلك:

فإن تك خيلي قد أصيب صممها                      فعمدا على عين تيممت مالكـا يعني مالك بن حمار الشمخي.

قال أبو عبيدة: فأجمل أبو بلال الحديث.

قال: وأما غيره فذكر أن معاوية وافى عكاظ في موسم من مواسم العرب، فبينا هو يمشي بسوق عكاظ، إذ لقي أسماء المرية، وكانت جميلة، رغم انها كانت بغيا، فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه وقالت: أما علمت أني عند سيد العرب هاشم بن حرملة? فقال: أما والله لأقار عنه عنك. قالت: شأنك وشأنه. فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما قال معاوية وما قالت له، فقال هاشم: فلعمري لا يريم أبياتنا حتى ننظر ما يكون من جهده. قال: فلما خرج الشهر الحرام وتراجع الناس عن عكاظ، خرج معاوية بن عمرو غازيا يريد بني مرة وبني فزارة، في فرسان أصحابه من بني سليم، حتى إذا كان بمكان يدعى الجوزة- والشك من أبي عبيدة-دومت عليه طير وسنح له ظبي، فتطير منهما ورجع في أصحابه، وبلغ ذلك هاشم بن حرملة فقال: ما منعه من الإقدام إلا الجبن قال: فلما كانت السنة المقبلة غزاهم، حتى إذا كان في ذلك المكان سنح له ظبي وغراب فتطير فرجع، ومضى أصحابه وتخلف في تسعة عشر فارسا منهم لايريدون قتالا،إنما تخلف عن عظم الجيش راجعا إلى بلاده ، فوردوا ماء وإذا عليه بيت شعر، فصاحوابأهله فخرجت إليهم امرأة فقالوا ما أنت ممن أنت?قالت: امرأة من جهينة، أحلاف لبني سهم بن مرة بن غطفان. فوردوا الماء يسقون، فانسلت فأتت هاشم بن حرملة، فأخبرته أنهم غير بعيد، وعرفته عدتهم وقالت: لاأرى إلا معاوية في القوم. فقال: بالكاع، أمعاوية في تسعة عشر رجلا، شبهت أو أبطلت. قالت: بل قلت الحق، ولئن شئت لأصفنهم لك رجلا رجلا. قال: هاتي.

قالت: رأيت فيهم شابا عظيم الجمة، جبهته قد خرجت من تحت مغفره، صبيح الوجه، عظيم البطن، على فرس غراء. قال: نعم هذه صفته. يعني معاوية وفرسه الشماء.

 

 

صفحة : 1658

 

قالت: ورأيت رجلا شديد الأدمة شاعرا ينشدهم. قال: ذلك خفاف بن عمير.

قالت: ورأيت رجلا ليس يبرح وسطهم، إذا نادوه رفعوا أصواتهم. قال: ذلك عباس الأصم.

قالت:ورأيت رجلا طويلا يكنونه أبا حبيب، ورأيتهم أشد شيء له توفيرا. قال: ذاك نبيشة بن حبيب.

قالت: ورأيت شابا جميلا له وفرة حسنة. قال: ذاك العباس بن مرداس السلمي.

قالت: ورأيت شيخا له ضفيرتان، فسمعته يقول لمعاوية:بأبي أنت أطلت الوقوف قال: ذاك عبد العزى زوج الخنساء أخت معاوية.

قال: فنادى هاشم في قومه وخرج، وزعم المري أنه لم يخرج إليهم إلا في مثل عدتهم من بني مرة.قال: فلم يشعر السلميون حتى طلعوا عليهم، فثاروا إليهم فلقوهم فقال لهم خفاف: لاتنازلوهم رجلا رجلا؛ فإن خيلهم تثبت للطراد وتحمل ثقل السلاح، وخيلكم قد أمنها الغزو وأصابها الحفا .

قال: فاقتلوا ساعة وانفرد هاشم ودريد ابنا حرملة المريان لمعاوية، فاستطرد له أحدهما فشد عليه معاوية وشغله، واغتره الآخر فطعنه فقتله. واختلفوا أيهما استطرد له وأيهما قتله، وكانت بالذي استطردله طعنة طعنه إياها معاوية. ويقال: هو هاشم. وقال آخرون: بل دريد أخو هاشم.

شعر خفاف في ذلك

قال: وشد خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد على مالك بن حمار سيد بني شمخ بن فزارة فقتله. وقال خفاف في ذلك وهو ابن ندبة، وهي أمة سوداء كانت سباها الحارث، بن الشريد حين أغار على بني الحارث بن كعب فوهبها لابنه عمير فولدت له خفافا . ويقال في ندبة إنها ابنة الشيطان بن بنان، من بني الحارث بن كعب فقال:

أقول له والرمح يأطر مـتـنـه                      تأمل خفافا إنـنـي أنـا ذلـكـا

وقفت له جلوى وقد خام صحبتي                      لأبني مجـدا ولأثـأرهـالـكـا

لدن ذر قرن الشمس حين رأيتهم                      سرعا على خيل تؤم المسالـكـا

فلما رأيت القـوم لاود بـينـهـم                      شريجين شتى طالبا ومواشـكـا

تيممت كبش القوم حتى عرفتـه                      وجانبت شبان الرجال الصعالكـا

فجادت له يمنى يدي بـطـعـنة                      كست متنه من أسود اللون حالكا

أنا الفارس الحامي الحقيقة والذي                      به أدرك الأبطال قدما كذلـكـا

فغن ينج منها هاشم فبـطـعـنة                      كسته نجيعا من دم الجوف صائكا فحقق خفاف في شعره أن الذي طعن معاوية هو هاشم بن حرملة.

وقالت الخنساء ترثي أخاها معاوية:

ألا لا رأى في الناس مثل معاوية                      إذا طرقت إحدى الليالي بداهـية

بداهية يصغي الكلاب حسيسهـا                      وتخرج من سر النجي علانـية

ألا لا رأى كفارس الورد فارسـا                      إذا ما علته جـرأة وغـلابـيه

وكان لزاز الحرب عند شبوبهـا                      إذا شمرت عن ساقها وهي ذاكية

وقواد خيل نحو اخرى كـانـهـا                      سعال وعقبان عليهـا زبـانـيه

بلينا وما تبلى تعـار ومـا تـرى                      على حدث الأيام إلا كمـا هـيه

فأقسمت لاينفك دمعي وعولتـي                      عليك بحز ما دعا اللـه داعـيه وقالت الخنساء في كلمة اخرى ترثيه أيضا:

إلا ما لعينـيك أم مـالـهـا                      لقد أخضل الدمع سربالهـا

أبعد ابن عمرو من آل الشري                      د حلت به الأرض أثقالهـا

وأقسمت آسى على هـالـك                      وأسـأل نـائحة مـالـهـا

سأحمل نفسـي عـلـى آلة                      فإنا علـيهـا وإمـا لـهـا

نهين النفوس وهون النـفـو                      س يوم الكريهة أبقى لـهـا

ورجراجة فوقها بـيضـهـا                      عليها المضاعف زفنا لهـا

ككر فئة الغيث ذات الصبـي                      ر ترمي السحاب ويرمي لها

وقافية مثـل حـد الـسـنـا                      ن تبقى ويهلك من قالـهـا

نطقت ابن عمرو فسهلتـهـا                      ولم ينطق الناس أمثـالـهـا

فإن تـك مـرة أودت بــه                      فقد كان يكثر تقـتـالـهـا

فزال الكواكب مـن فـقـده                      وجللت الشمس أجـلالـهـا

وداهـية جـرهـا جــارم                      تبيل الحواصن أحبـالـهـا

 

صفحة : 1659

 

 

كفاها ابن عمرو ولم يستعن                      ولو كان غيرك ادنى لهـا

وليس بأولـى ولـكـنـه                      سيكفي العشيرة ما عالهـا

بمعتـرك ضـيق بـينـه                      تجر المـنـية اذيالـهـا

وبيض منعت غداة الصبـا                      ح تكشف للروع اذيالهـا

ومعملة سقتهـا قـاعـدا                      فأعلمت بالسيف أغفالهـا

وناجية كأتـان الـثـمـي                      ل غادرت بالخل أوصالها

إلى ملك لا إلـى سـوقة                      وذلك ما كان إعمالـهـا

وتمنح خيلك أرض العـدو                      وتنبذ بالغزو اطفـالـهـا

ونوح بعثت كمـثـلالإرا                      خ آنست العين أسبالـهـا التفسير عن أبي عبيدة: قوله حلت به الأر، قال بعضهم: حلت من الحلية أي زينت به الأرض موتاها، حين دفن بها. وقال بعضهم: حلت من حللت الشيء. والمعنى القت مراسيها، كانه ثقلا عليها. قال: اللفظ لفظ الاستفهام والمعنى خبر، كما قال جرير:

أستم خير من ركب المطايا                      واندى العالمين بطون راح قال: جواب أبعد في آسى أي أبعد ابن عمرو آسى وأسأل نائحة مالها.

وقال أبو عبيدة: هذا البيت لمية بنت ضرار بن عمرو الضبية ترثي أخاها . قال أبو الحسن الأثرم: سمعتأبا عمرو الشيباني يقول: أمور الناس جارية على أذلالها، أي على مسالكها، واحدها ذل . آلة: حالة. تقول: فإما أن اموت وإما أن انجو. ولو قالت علىألة لم تنج؛ لأن الألة هي الحربة.

هممت بنفسن قال أبو عبيدة: هذا توعد. قال الأصمعي:  كل الهموم  . قال الأثرم: كأنها أرادت أن تقتل نفسها .

أبو عبيدة؛ التكدس: التتابع، يتبع بعضها بعضا، أي يغزو ويجاهد في الغزو، كما تتوقل الوعول في الجبال، عن ابي عبدة. قال الأصمعي: التكدس: أن تحرك مناكبها إذا مشت وكانها تنصب إلى بين يديها، وإنما وصفتهابهذا. تقول: لاتسرع إلى الحرب، ولكن تمشي إليها رويدا. وهذا أثبت له من أن يلقاها وهو يركضز ويقالك جاء فلان يتكدس، وهي مشية من مشي الغلاظ القصارز وقال أبو زياد الكلابي: الكداس :عطاس الضأن. قالالسلمي: التكدس: تكدس الأوعال، وهو القحم. والتكدس هو أن يومي بنفسه رميا شديدا في جريه.

نهين النفوس، تريد غداة الكريهة. وقولها:  أبقى لها  لأنها إذا تذامرت وغشيت القتال كان أسلم لهاغ من الانهزام. كقول بشر بن أبي خازم:

ولا ينجى من الغمراتإلا                      براكاء القتال أو الفرار قال بعضهم: أبقى لها في الذكر وحسن القول. والرجراجة: التي تتمخض من كثرتها. وقال الأصمعي: الكرفئة، وجمعها كرفيء: قطع من السحاب بعضها فوق بعضز وقوله: ترمي السحاب أي تنضم إليه وتتصل به.ويرمي لها، أي ينضم إليها السحاب حتى يستوي. مثل حد السنان، لآنها ماضية. سهلتها: جئت بها سهلة. وجللت الشمس، أي كسفت الشمس وصار عليها مثل الجل. تبيل الحواصن، وهي الحوامل من النساء، اولادها من شدة الفزع. أي ما كان وليها ولادنا إليها، ولكنه يكفي القريب والبعيد. ما عالها ، قالأبو عمرو:عالها: غلبها. وقال أبو عبيدة: يقال إنه ليعولني ما عالك، أي يغمني ما مك. ويقال: افعل كذا وكذا ولا يعللك أن تاتي غيره، أي لا يعجزك. ويقال: قد يعولك ان تفعل كذا، أي قد دنا لك أن تفعل ذاك. وانشد:

ضربا كما تكدس الوعول                      يعول أن أنبطها يعـول أي قد دنا ذلك. ويقال: عال كذا وكذا منك، أي دنا منك. ويروى:  وليس بأدنى ولكنه  . وقولها معملة : إبل. وقولها: قاعدا، اي على فرسك. قال النابغة:

قعودا على آل الوجيه ولا حق والأغفال: مالاسمة عليها، واحدها غفل. والأتان: الصخرة. والثميل:بقية الماء في الصخرة. والخل: الطريق في الرمل. يقول: أعيت فتركتها هنالك. ويروى:

غادرت بالنخل أوصالها قال الأصمعي: ناجية: سريهة. ويروى: إلى ملك وإلى شأنيء. تقول: تقود خيلك إلى ملكأو عدو. ويروى: ما كان إكلالها. ماصلة . الإراخ: بقر الوحش. تقول: خرجت من بيوتهن كما خرجت هذه البقر من كنسها فرحا بالمطر. ومثله في الفرح بالمطر لابن الأحمر قوله:

مارية لؤلؤان اللون أوردهـا                      طل وبنس عنها فرقد خصر أي قوى أنفسها المطر، لما رأته. ومثله:

 

صفحة : 1660

 

 

ألاهلك امرؤ قامت علـيه                      بجنب عنيزة البقي الهجود أي لم يقرن في البيوت فتسترهن البيوت، بل هن ظواهر. وإنما شبه اجتماع هؤلاء النساءباجتماع العين وخروجهن للمطر. قال: وبقر الوحش تفرح بالمطر.

وقال دريد يرثي أخا الخنساء، لما قتلته بنو مرة:

ألا بكرت تلوم بـغـير قـدر                      فقد أحفيتني ودخلت سـتـري

فإن لم تتركي عذلي سفـاهـا                      تلمك علي نفسك أي عصـر

أسرك أن يكون الدهـر هـذا                      علي بشـره يغـدوويسـري

وألا ترزئي نـفـسـا ومـالا                      يضرك هلكه في طول عمري

فقد كذبتك نفسك فاكـذبـيهـا                      فإن جزع وإن إجمال صبـر

وإن الرزء يوم وقفـت أدعـو                      فلم أسمع معاوية بن عمـرو

رأيت مكانه فعرضـت بـذءا                      وأي مقيل رزء يا ابن بـكـر

إلـى ارم وأحـجـار وصـير                      وأغصان من السلمات سمـر -صير، الواحدة صيرة، وهي حظيرة الغنم. وقوله: وأغصان من السلمات، أي ألقيت على قبره-

وبنيان القبور اتى عـلـيهـا                      طوال الدهر من سنة وشهر

ولو اسمعته لسرى حـثـيثـا                      سريع السعي أو لأناك يجري

بشكة حـازم لاعـيب فـيه                      إذا لبس الكماة جلود نـمـر -أي كان الوانهم الوان النمور، سواد وبياض من السلاح. عن أبي عبيدة-

فإما تمس في جدث مقـيمـا                      بمسهكة من الأرواح قفـر

فعز علي هلكك يا ابن عمرو                      ومالي عنك من عزم وصبر قال أبو الحسن الأثرم: فلما دخل الشهر الحرام-فيما ذكر أبو عبيدة عن أبي بلال بن سهم-من السنة المقبلة، خرج صخر بن عمرو حتى أتى بني مرة بن عوف بن ذبيان، فوقف على ابني حرملة، فإذا أحدهما به طعنة في عضده- قال: لم يسمه أبو بلال بن سهم. فأما خفاف بن عمير فزعم في كلمته تلك أن المطعون هاشم-فقال: أيكما قتل أخي معاوية? فسكتا فلم يحيرا إليه شيئا ، فقال الصحيح للجريح: مالك لاتجبه? فقال: وقفت لهفطعنني هذه الطعنة في عضدي، وشد أخي عليه فقتله، فأينا قتلت أدركت ثأرك، إلا أنا لم نسلب أخاك. قال: فما فعلت فرسه الشماء? قال: هاهي تلك خذها. فردها عليه فأخذها ورجع، فلما أتى صخر قومه قالوا له: اهجهم. قال: إن ما بيننا أجل من القذع، ولو لم أكفف نفسي إلا رغبة عن الخنا لفعلت.

شعره في ذلك

وقال صخر في ذلك:

وعاذلة هبت بليل تلومنـي                      الألاتلوميني كفى اللوم مابيا -قال: اراد تباكره باللوم، ولم يرد الليل نفسه، إنما أراد عجلتها عليه باللوم، كما قال النمر بن تولب العكلي:

بكرت باللوم تلحانا وقال غيره: تلومه بالليل لشغله بالنهار عنها بفعل المكارم، والأضياف، والنظر في الحمالات وامور قومه، لأنه قوامهم -

تقول ألا تهجو فوارس هـاشـم                      ومالي إذ أهجوهم ثـم مـالـيا

أبى الشتم أني قد أصابوا كريمتي                      وأن ليس إهداء الخنا من شماليا أي شمائلي. ويروى: منفعاليا -

إذا ذكر الإخوان رقرقـت عـبـرة                      وحييت رمـسـا عـنـدلـية ثـاويا

إذا ما امرؤ أهدى لـمـيت تـحـية                      فحياك رب الناس عنـي مـعـاويا

وهون وجدي أنـنـي لـم أقـل لـه                      كذبت ولم أبخل عـلـيه بـمـا لـيا

فنعم الفتى ادى ابـن صـرمة بـزه                      إذا الفحل اضحى أحدب الظهر عاريا قال أبو عبيدةك ثم زاد فيها بيتا بعد ان اوقع بهم، فقال:

وذي إخوة قطعت أقران بينهم                      كما تركوني واحدا لاأخالـيا قال أبو عبيدة: فلما كان في العام المقبل غزاهم وهو على فرسه الشماء، فقال: إني أخاف أن يعرفوني ويعرفوا غرة الشماء، فيتاهبوا. قال: فحمم غرتها . قال: فلما أشرفت على أدنى الحي رأوها. فقالت فتاة منهم: هذه والله الشماء فنظروا فقالوا: الشماء غراء وهذه بهيم فلم يشعروا إلا والخيل دوائس ، فاقتتلوا فقتل صخر دريدا، وأصحاب بني مرة فقال:

ولقد قتلتكم ثـنـاء مـوحـدا                      وتركت مرة مثل أمس المدبر قال الأثرم: مثنى وثناء لاينونان. قال ابن عنمة الضبي:

يباعون بالنغران مثنى وموحدا

 

صفحة : 1661

 

لاينونان لأنهما مما صرف عن جهته، والوجه أن يقول: اثنتيت اثنتين. وكذلك ثلاث ورباع. قال صخرالغي :

منت لك أن تلاقيني المنـايا                      احاد أحاد في الشهر الحلال قال: ولا تجاوز العرب الرياع، غير أن الكميت قال

فلم يستريثوك حتى رميت فوق الرجال خصالا عشارا

ولقد دفعت إلى دريد بطعنة                      نجـلاي تـزغـل مـثـل عـط الـمـنـحـــر تزغل: تخرج الدم قطعا قطعا. قال: والزغلة: الدفعة الواحدة من الدم والبول. قال:

فأزغلت في الحلق إزغالة وقال صخر أيضا فيمن قتل من بني مرة:

قتلت الخالدين به وبـشـرا                      وعمرا يوم حوزة وابن بشر

ومن شمخ قتلت رجال صدق                      ومن بدر فقد أوفيت نـذري

ومرة قد صبحناها المـنـايا                      فرؤينا الأسنة، غير فخـر

ومن أفناء ثعلبة بن سـعـد                      قتلت وما أبيئهـم بـوتـر

ولكنـا نـريد هـلاك قـوم                      فنقتلهم ونشربهم بـكـسـر وقال صخر أيضا:

ألا لاأرى مستعتب الدر معـتـبـا                      ولا آخذ منه الرضا إن تغـضـبـا

وذي إخوة قطعت أقران بـينـهـم                      إذا ما النفوس صرن حسى ولغبـا

أقول لرمـس بـين أجـراع بـيشة                      سقاك الغوادي الوابل المتحـلـبـا

لنعم الفتى ادى ابـن صـرمة بـزه                      إذا الفحل أمسى عاري الظهر أحدبا قال أبو عبيدة: ثم إن هاشم بن حرملة خرج غازيا، فلما كان ببلاد جشم بن بكر بن هوازن نزل منزلا وأخذ صفنا وخلا لحاجته بين شجر، ورأى غفلته قيس بن الأصور الجشمي فتبعه وقال: هذا قاتل معاوية لا وألت نفس إن وأل فلما قعد على حاجته تقتر له بين الشجر ، حتى إذا كان خلفه أرسل إليه معبلة فتله.

فقالت الخنساء في ذلك-قال ابن الكلبي: وهي الخنساء بنت عمرو بن الحارث بن شريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم-:

فدى للفارس الجشمي نفسي                      وأفديه بمن لي من حمـيم

أفديه بجل بـنـي سـلـيم                      بظاعنهم بوالأنس المقـيم

كما من هاشم أقررت عيني                      وكانت لاتنـام ولاتـنـيم قال أبو عبيدة: وكان هاشم بن حرملة بن صرمة بن مرة أسود العرب وأشدهم، وله يقول الشاعر:

أحيا أباه هاشم بن حرملـه                      يوم الهباتين ويم اليعمـلـه

يقتل ذا الذنب ومن لاذنب له                      إذ الملوك حوله مغربلـه

وسيفه للوالدات مثكـلـه حدثني علي بن سليمان الخفش قال: حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال: حدثنا الكسروي عن الأصمعي قال: مررت بأعرابي وهو يخضد شجرة وقد اعجبته سماحتها، وهو يرتجز ويقول:

لوكنت إنسانا لكنت حاتما                      أو الغلام الجشمي هاشما قلت: من هاشم هذا? قال: أولاتعرفه? قالت:لا.قال:هو الذي يقول:

وعاذلة هبت بليل تـلـومـنـي                      كأني إذا انفقت مالي أضيمهـا

دعيني فإن الجود لن يتلف الفتى                      ولن يخلد النفس اللئيمة لومهـا

وتذكر أخلاق الفتى، وعظامـه                      مفرقة في القبر باد رميمـهـا

سلي كل قيس هل أباري خيارها                      ويعرض عني وغدها ولئيمهـا

وتذكر فتيانيتـي وتـكـرمـي                      إذا ذم فتيانيهـا وكـريمـهـا قلت:لاأعرفه. قال:لاعرفت،هوالذي يقول فيه الشاعر:

أحيا أباه هاشم بـن حـرمـلـه                      يقتل ذا الذنب ومن لاذنب لـه

ترى الملوك حوله مغـربـلة

تأبد الربع من سلمى بأحفار                      وأقفرت من سليمى دمنة الدار

وقد تحل بها سلمى تحـدثـنـي                      تساقط الحلي حاجاتي وأسراري الشعر للأخطل، والغناء لهمر الوادي، هزج بالسبابة في مجرى الوسطي، وفيهما رمل بالبنصر يقال إنه لابن جامع ويقال إنه لغيره، وفيهما خفيف رمل بالوسطى، ذكر الهشامي أنه لحكم. وذكر حبش أن فيهما لإبراهيم خفيف ثقيل أول بالوسطى.

ومما يغني فيه من هذه القصيدة:

وشارب مربح بالكأس نـادمـنـي                      لابالحصور ولا فـيهـا بـسـار

نازعته طيب الراح الشمـول وقـد                      صاح الدجاج وحانت وقعة الساري

 

صفحة : 1662

 

 

لما أتوها بمصباح ومبـزلـهـم                      سمت إليهم سمو البجل الضاري الغناء في هذه الأبيات لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي. وذكر غيره أنها للدلال. ومنها:

قرد تغنيه ذبان الـرياض كـمـا                      غنى الغواة بصنج عنـد إسـوار

كأنه من ندى القراص مغتـمـر                      بالورس أو خارج من بيت عطار غناه ابن سريج، ولحنه من القدر الأوسط، من الثقيل الول، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر الهشامي أن لملك فيه ثقيلا أولا. ووافقه يونس في نسبته إلى مالك، ولحكم في قوله:

فرد تغنيه دبان الرياض كما وبعده قوله:

صهباء قد عنست من طول ما حبست                      في مخدع بين جـنـات وأنـهـار خفيف ثقيل بالبنصر. ومنها:

لسكنتني قريش في ظلالهـم                      ومولتني قريش بعد إقتـار

قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم                      عن النساء ولو باتت بأطهار ليونس فيها لحن من كتابه ولم يجنسه.

وهذه القصيدة مدح بها الأخطل يزيد بن معاوية لما منع من قطع لسانه حين هجاالأنصار، وكان يزيد هوالذي أمره بهجائهم. فقيل: إن السبب في ذلك كان تشبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية، وقيل بل حمي لعبد الرحمن بن الحكم.

أخبرني الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو يحيى الزهري قال: حدثني ابن أبي زريق قال: شبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية فقال:

رمل هل تذكرين يوم غـزال                      إذ قطعنا مسيرنا بالتمـنـي

إذ تقولين عمرك الله هل شي                      ء وإن جل سوف يسليك عني

أم هل اطمعت منكم بابن حسا                      ن كما قد أراك أطمعت مني قال: قبلغ ذلك يزيد بن معاوية فغضب، فدخل على معاوية فقال: يا امير المؤمنين، ألا ترى إلى هذا العلج من اهل يثرب، يتهكم بأعراضنا ويشبب بنسائنا? قال: ومنهو? قال عبد الرحمن بن حسان، وأنشده ماقال، فقال: يايزيد ليست العقوبة من أحد أقبح منها من ذوي القدرة، ولكن امهل حتى يقدم وفد الأنصار ثم ذكرني. قال: فلما قدموا أذكره به ، فلما دخلوا عليه قال: ياعبد الرحمن، ألم يبلغني أنك تشبب برملة بنت أمير المؤمنين?قال: بلى، ولوعلمت أن احد أشرف به شعري أشرف منها لذكرته. قال: وأين أنت عن أختها هند? قال: وإن لها لأختا? قال: نعم. قال: وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعا فيكذب نفسه. قال: فلم يرض يزيد ما كان من معاوية في ذلك: أن يشبب بهما جميعا، فأرسل إلى كعب بن جعيل فقال: اهج الأنصار. فقال: أفرق من أمير المؤمنين ؛ ولكن أدلك على الشاعر الكافر الماهر. قال: ومن هو? قال: الأخطل. قال: فدعا به فقال: اهج النصار. قال: أفرق من أمير المؤمنين فقال: لاتخف شيئا؛ أنا لك بذلك. قال: فهجاهم فقال:

وإذا نسبت ابن الفريعة خلتـه                      كالجحش بين حمارة وحمار

لعن الإله من اليهود عصـابة                      بالجزع بين صليصل وصرار

قوم إذا هدر العصير رأيتهـم                      حمرا عيونهم من المصطار

خلوا المكارم لستم من اهلهـا                      وخذوا مساحيكم بني النجـار

إن الفوارس يعلمون ظهوركم                      أولاد كل مـقـبـح أكـار

ذهب قريش بالمكارم والعـلا                      واللؤم تحت عمائم النصـار فبلغ ذلك النعمان بن بشير فدخل على معاوية فحسر عن رأسه عمامته، وقال: ياأمير المؤمنين: أترى لؤما? قال: لابل أرى كرما وخيرا، ماذاك? قال: زعم الخطل ان اللؤم تحت عمائمنا. قال: أوفعل? قال: نعم. قال:لك لسانه. وكتب فيه أن يؤتى به. فلما أتي به سأل الرسول ليدخل إلى يزيد أولا، فأدخله عليه، فقال: هذا الذي كنت أخاف. قال: لاتخف شيئا. ودخل على معاوية فقال: علام أرسل إلي هذا الرجل وهو يرمي من وراء جمرتنا? قال: هجا الأنصار. قال: ومن زعم ذلك? قال النعمان بن بشير. قال: لاتقبل قوله عليه وهو يدعي لنفسه، ولكن تدعوه بالبينة، فإن ثبت شيئا أخذته به له. فدعاه بالبينة فلم يأت بها، فخلى سبيله، فقال الأخطل:

وإني غداة استعبرت أم مالك                      لراض منالسلطان أن يتهددا

ولولا يزيد ابنم الملوك وسعيه                      تجللت حدبارا من الشر أنكدا

 

صفحة : 1663

 

 

فكم انقذتني من خطوب حـبـالـه                      وخرساء بو يرمى بها الفيل بلـدا

ودافع عني يوج جـلـق غـمـرة                      وهما ينسيني السلاف الـمـبـردا

وبات نجيا فـي دمـشـق لـحـية                      إذا عم لم ينم السلـيم فـاقـصـدا

قحافتـه طـورا وطـورا إذا رأى                      من الوجه إقـبـالا أح وأجـهـدا

واطفات عني نار نعمان بـعـدمـا                      أعد لـمـر فـاجـر وتـجـردا

ولما رأى النعمان دوني ابن حـرة                      طوى الكشح إذ لم يستطعني وعردا حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا احمد بن الحارث الخراز قال: حدثنا المدائني عن أبي عبد الرحمن بن المبارك قال: شبب عبد الرحمن بن حسان باخت معاوية، فغضب يزيد فدخل على معاوية فقال: يا أمير المؤمنين،اقتل عبد الرحمن بن حسان. قال: ولم? قال: شبب بعمتي. قال: وما قال? قال قال:

طال ليلي وبت كالمجزون                      ومللت الثواء في جيرون قال معاوية: يابني وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده الله? قال: إنه يقول:

فلذاك اغتربت بالشام حتـى                      ظن أهلي مرجمات الظنون قال: يابني وما علينا من ظن اهله? قال: إنه يقول:

هي زهراء مثل لؤلؤة الغواص ميزت من جوهر مكنون قال:صدق يابني. قال: غنه يقول:

وإذا ما نسبتها لم تجـدهـا                      في سناء من المكارم دون قال: صدق يابني هي هكذا. قال: إنه يقول:

ثم خاصرتها إلى القبة الخض                      راء تمشي في مرمر مسنون خاصرتها: اخذت بخصرها وأخذت بخصري. قال: ولا كل هذا يابني ثم ضحك وقال: أنشدني ما قال أيضا. فانشده قوله:

قبة من مراجل نصبـوهـا                      عند حد الشتاء في قبطـون

عن يساري إذا دخلت من البا                      ب وإن كنت خارجا فيميني

تجعل الند والألوة والـعـو                      د صلاء لها على الكانـون

وقباب قد أشرجت وبـيوت                      نطقت بالريحان والزرجون قال: يابني، ليس يجب القتل في هذا، والعقوبة دون القتل، ولكنا نكفه بالصلة له والتجاوز.

 

هي زهراء مثل لؤلؤة الغـو                      اص ميزت من جوهر مكنون

وإذا ما نسبتها لـم تـجـدهـا                      في سناء من المـكـار دون نسخت من كتاب ابن النطاح: وذكر ابن النطاح: وذكر الهيثم بن عدي عن ابن دأب قال: حدثنا شعيب بن صفوان أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت كان يشبب بابنة معاوية، ويذكرها في شعره، فقال الناس لمعاوية: لو جعلته نكالا? فقال: لا،ولكن أداويه بغير ذلك. فأذن له وكان يدخل عليه في أخريات الناس، ثم أجلسه على سريره معه، وأقبل عليه بوجهه وحديثه ثم قال: ابنتي الأخرى عاتبة عليك. قال: في أي شيء? قالك في مدحتك أختها وتركك إياها. قال:فلها العتبى وكرامة، انا ذاكرها وممتدحها . فلما فعل وبلغ ذلك الناس قالوا: قد كنا نرى أن نسيب بن حسان بابنة معاوية ليء، فإذا هو عن رأي معاوية وامره. وعلم من كان يعرف أن ليس له بنت أخرى، أنه إنما خدعه ليشبب بها، ولا أصل لها فيعلم الناس أنه كذب على الأولى لما ذكر الثانية.

وقد قيل في حمل يزيد بن معاوية الأخطل على هجاء النصار: إنه فعل ذلك تعصبا لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص بن أمية، أخي مروان بن الحكم في مهاجاته عبد الرحمن، وغضبا له، لما ساتعلاه ابن حسان في الهجاء.

خبرهما في التهاجي والسبب في ذلك

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال: حدثنا أبو غسان دماذ ، عن أبي عبيدة قال: أخبرني أبو الخطاب الأنصاري قال:

 

صفحة : 1664

 

كان عبد الرحمن بن حسان خليلا لعبد الرحمن بن الحكم بن العاص مخالطا له، فقيل له: إن ابن حسان يخلفك في أهلك. فراسل امرأة ابن حسان فأخبرت بذلك زوجها وقالت: أرسل إلي: إني أحبك حبا أراه قاتلي فأرسل ابن حسان إلى امرأة ابن الحكم وكانت تواصله وقال للرسول: إذهب إليها وقل لها: إن امرأتي تزور أهليها اليوم فزوريني حتى نخلو. فزارته فقعد معها ساعة قم قال لها: قد والله جاءت امرأتي. فأدخلها بيتا إلى جنبه وأمر امراته فأرسلت إلى عبد الرحمن بن الحكم: إنك ذكرت حبك إياي وقد وقع ذلك في قلبي، وإن ابن حسان قد خرج اليوم إلى ضيعته فهلم فتهيأ ثن أقبل. فإنه لقاعد معها إذ قالت له: قد جاء ابن حسان فادخل هذا البيت فإنه لايشعر بك. فأدخلته البيت الذي فيه امرأته، فلما رآها أيقن بالسوأة ووقع الشر بينهما وهجا كل واحد منهما صاحبه.

قال أقبو عبيدة: هذه رواية أبي الخطاب الأنصاري، وأما قريش فإنهم يزعمون أن مرأة ابن حسان كانت تحب عبد الرحمن وتدعوه إلى نفسها فيأبى ذلك، حفظا لما بينه وبين زوجها، وبلغ ذلك ابن حسان فراسل امرأة ابن الحكم حتى فضحها، وبلغ ذلك ابن الحكم وقيل له: إنك إذا أتيت ضيعتك أرسلت إلى ابن حسان فكان معها، فأمر ابن الحكم أهله فقال: عالجوا سفرة حتى أطالع مالي بمكان كذا وكذا. فخرج وبعثت امراته إلى ابن حسان فجاء كما كان يفعل، ورجع ابن الحكم حين ظن أن ابن حسان قد صار عندها، فاستفتح فقالت: ابن الحكم والله وخبأته خلفها في بيت، ودخل عبد الرحمن فبعث إلى امرأة ابن حسان: غنه قد وقعت لك في قلبي مقة ، فأقبلي إلي الساعة، فتهيأت وأقبلت حتى دخلت عليه، فوضعت ثيابها وزوجها ينظر فقال لها: قد كنت أكثرت الإرسال إلي فما شأنك? قالت: إني والله هالكة من حبك. قال: وزوجها يسمع، وإنما أراد أن يعلمه أنها قد كانت ترسل إليه ويأبى عليها. وزعم انها هي التي قالت لابن الحكم إن ابن حسان يخلفك في أهلك. فلما فرغ من كلامه وأسمعه زوجها قال لها: قد جاءت امراتي. وأدخلها البيت الذي فيه ابن حسان، فلما جمعهما في مكان واحد خرج عنهما، فخرجا وطلق امرأته.

أخبرني ابن دريد قال: اخبرني الرياشي قال: حدثنا ابن بكير عن هشام بن الكلي عن خالد بن سعيد عن ابيه قال: رأيت مروان بن الحكم يطوف بالبيت ويقول: اللهم أذهب عني الشعر وأخوه عبد الرحمن يقول: اللهم اني أسألك ما استعاد منه فذهب الشعر عن مروان، وقاله عبد الرحمن.

وأما هشام بن الكلبي فإنه حدث عن خالد وإسحاق ابنى سعيد بن العاصي، أن سبب التهاجي بينهما آنهما خرجا إلى الصيد بأكلب لهما في غمارة مروان، فقال ابن الحكم لابن حسان:

ازجر كلابك انها قلـطـية                      بقع ومثل كلابكم لم تصطد فرد عليه ابن حسان:

من كـان ياكـل مـن فـــريسة صـــيده                      فالـتـمـر يغـنـينـا عـن الـمـتـصـيد

إنا اناس ريقون وأمكمككلابكم في الولغ والمتر

حزناكم للضب تحتر شونه                      والـريف، نـمـنـعـكـم بـكـل مـهـنـد ثم رجعا إلى المدينة فجعلا يتقارضا، فقال عبد الرحمن بن الحكم في قصيدة:

ومثل أمك أم العبد قد ضربت                      عندي ولي بفناتي مزهر جرم

وانت عند ذناباهاتـعـاونـهـا                      على القدور تحسى حائر البرم فنقضها عبد الرحمن بن حسان عليه بقصيدته التي يقول فيها:

ياأيها الراكب المزجـي مـطـيه                      إذا عرضت فسائل عن بني الحكم

القـائلـين إذا لاقـوا عـدوهـم                      فروا فكروا على النسوان والنعم

كم من أمين نصيح الجيب قال لكم                      ألا نهيتم أخاكم يابني الـحـكـم

عن رجل لابغيض في عشيرتـه                      ولا ذليل قصير الباع معتـصـم وقال ابن حسان:

صار الذليل عزيزا والـعـزيزبـه                      ذل وصار فروع النـاس أذنـابـا

إني لملمس حـتـى يبـين لـكـم                      فيكم متى كنتم للـنـاس أربـابـا

فارقوا على ظلعكم ثم انظروا وسلوا                      عنا وعنكم قديم العـلـم نـسـابـا

فسوف يضحك أو تعـتـاده ذكـر                      يابؤس للدهر لـلإنـسـان ريابـا ولهما نقائض كثيرة لامعنى لذكر جميعها ههنا.

قال دماذ: وحدثني أبو عبيدة عن أبي الخطاب قال:

 

صفحة : 1665

 

لما كثر التهاجي بينهما وأفحشا كتب معاوية يومئذ وهو الخليفة، إلى سعيد بن العاص وهوعامله على المدينة، أن يجلد كل واحد منهما مائة سوط. قال: وكان ابن حسان صديقا لسعيد، وما مدح أحدا قط غيره، فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمه، فأمسك عنهما، ثم ولي مروان فلما قدم أخذ ابن حسان فضربه مائة سوط ولم يضرب أخاه، فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو بلشأم، وكان كبيرا مكينا عند معاوية:

ليت شـعـري أغـائب أنـت بـالـــشـــا                      م خـلـيلـي أم راقــد نـــعـــمـــان

أية مـا يكـن فـقـد يرجـــع الـــغـــا                      ثب يومـا ويوقـــط الـــوســـنـــان

إن عــمـــرا وعـــامـــرا أوينـــا                      وحرامـا قـدمـا عـلـى الـعـهـد كـانـوا

أفهم ما نعوك أم قلة المتاب أم أنت عاتب غضبان

أم جفاءأم أعوزتك القراطي                      س أم أمـري بـه عـــلـــيك هـــوان

يوم أنـبــئت أن ســـاقـــي رضـــت                      واتـاكـم بـذلـــك الـــركـــبـــان

ثم قـالـوا إن ابـن عـمـك فـــي بـــل                      وى أمـور أتـى بـهـا الــحـــدثـــان

فتـئط الأرحــام والـــود والـــصـــح                      بة فـيمـا اتـى بــه الـــحـــدثـــان

إنـمـا الـرمـح فـاعـلـمـن قـــنـــاة                      أو كـبـعـض الـعـيدان لـولا الـسـنــان وهي قصيدة طويلة-فدخل النعمان على معاوية فقال له: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت سعيدا أن يضرب ابن حسان وابن الحكم مائة مائة فلم يفعل، ثم وليت مروان فضرب ابن حسان ولم يضرب أخاه. قال: فتريد ماذا? قال: أنت تكتب إليه بمثل ما كتبت إلى سعيد. فكتب إلى معاوية يعزم عليه أن يضرب أخاه مائة، وبعث إلى ابن حسان بحلة، فلما قدم الكتاب على مروان بعث إلى ابن حسان: إني مخرجك، وإنما أنا مثل والدك، وما كان ماكان مني إليك إلا على سبيل التأديب لك.واعتذر إليه، فقال حسان: مابدا له في هذا إلا لشيء قد جاءه. وأبى أن يقب منه، فأبلغ الرسول ذلك مروان فوجهه إليه بالحلة فرمى بها في الحش . فقيل له: حلة أمير المؤمنين وترمي بها في الحش? قال: نعم وما أصنع بها وجاءه قومه فاخبروه الخبر فقال: قد علمت أن لم يفعل ما فعل إلا لأمر قد حدث. قال الرسول لمروان: ما تصنع بهذا، قد أبى أن يعفو فهلم أخاك. فبعث مروان إلى الأنصار وطلب إليهم أن يطلبوا إليه أن يضربه خمسين فإنه ضعيف. فطلبوا إليه فأجابهم، فأخرجه فضربه خمسين، فلقي ابن حسان بعض من كان لايهوى ما ترك من ذلك، فقال له: أضربك مائة ويضربه خمسين، بئس ما صنعت إذ وهبتها له. قال: إنه عبد وإنما ضربه ما يضرب العبد نصف ما يضرب الحر فحمل هذا الكلام حتى شاع بالمدينة وبلغ ابن الحكم فشق عليه، فاتى أخاه مروان فخبره الخبر وقال: فضحتني، لاحاجة لي فيما تركت فهلم فاقتص.

فضرب ابن الحكم خمسين أخرى، فقال عبد الرحمن يهجو ابن الحكم:

دع ذا وعد قريض شعرك في امرىء                      يهذي ونشد شعـره كـالـفـاخـر

عثمان عمكـم ولـسـتـم مـثـلـه                      وبنـو أمـية مـنـكـم كـالآمـر

وبنو أبـيه سـخـيفة أحـلامـهـم                      فحش النفوس لدى الجلـيس الـزائر

أحياؤهم عـار عـلـى أمـواتـهـم                      والمـيتـون مـسـبة لـلـغـابـر

هم ينـظـرون إذا مـددت إلـيهـم                      نظر التيوس إلى شفـار الـجـازر

خزر العيون منكـسـي أذقـانـهـم                      نظر الدليل إلى العزيز الـقـاهـر فقال ابن الحكم:

لقد أبقى بنو مروان حزنا                      مبينا عاره لبني سـواد

أطاف به صبيح من مشيد                      ونادى دعوة: يابني سعاد

لقد أسمعت لوناديت حـيا                      ولكن لاحياة لمن تنـادي قال أبو عبيدة: قاعتن أبو واسع أحد بني الاسعر من بني أسد بن خزيمة، لابن حسان دون ابن الحكم، فهجاه وعيره بضرب ابن المعطل أباه حسان على رأسه، وعيرهم بأكل الخصى، فقال:

إن ابن المعطـل مـن شـلـيم                      أذل قيادة رأسك بالـخـطـام

عمدت إلى الخصى فأكلت منها                      لقد أخطأت فاكهة الـطـعـام

وما للجار حين يحـل فـيكـم                      لديكم يا بني الـنـجـار حـام

يظل الجار مـفـتـرشـا يديه                      مخافتكم لدى ملـث الـظـلام

وينظر نظـرة فـي مـذروية                      وأخرى في استه والطرف سام

 

صفحة : 1666

 

قال:فلما عم بني النجار بالهجاء ولا ذنب لهم دعوا الله عز وجل عليه، فخرج من المدينة يريد أهله فعرض له الأسد فقضقضه ، فقال ابن حسان في ذلك:

أبلغ بني الأسعر إن جئتـم                      ما بال أبناء بنـي واسـع

والليث يعلـوه بـأنـيابـه                      معتفرا في دمه النـاقـع

إذ تركوه وهو يدعـوهـم                      بالنسب الداني وبالشاسـع

لايرفع الرحمن مصروعكم                      ولا يوهي قوة الصـارع فقالت له امرأته: مادعا أحد قبلك للأسد بخير قط. قال: ولا نصر أحدا كما نصرني.

وقال ابن الكلبي: كان الأخطل ومسكين الدرامي صديقين لابن الحكم، فاستعان بهما على ابن حسان، فهجاء الأخطل، وقال له مسكين: ما كنت لأهجوا أحدا أو أعذر إليه. فكتب إليه مسكين بقصيدته اللامية يدعوه إلى المفاخرة والمنافرة، فقال في أولها:

ألا إن الشباب ثياب لـبـس                      وما الأموال إلا كالـظـلال

فإن يبل الشباب فكل شـيء                      سمعت به سوى الرحمن بال وهي طويلة جدا، يفخر فيها بماثر بني تميم. فأجابه ابن حسان فقال:

أتاني عنك يا مسكـين قـول                      بذلت النصف فيه غـير آل

دعوت إلى التناضل غير فحم                      ولا غمر بطير لدى النضال وهي أطول من قصيدة مسكين. ثم انقطع التناضل بينهما.

قال دماد: فحدثني أبو عبيدة قال: حدثني أبو حية النميري قال: الفرزدق قال: كنا في ضيافة معاوية، ومعنا كعب بن جعيل الثعلبي، فحدثني أن يزيد بن معاوية قال له: إن ابن حسان فضح عبد الرحمن بن الحكم وغلبه، وفضحنا، فأهج الأنصار. قال: فقلت له: أرادي أنت في الشرك، أأهجو قوما نصروا رسول الله) وآله وآووه? ولكني أدلك على غلام منا نصراني لايبالي أن يهجوهم، كان لسانه لسان ثور.

قال: من هو? قالت: الأخطل. فدعاه وأمره بهجائهم، فقال: على أن تمنعني? قال: نعم.

قال أبو عبيدة: إن معاوية دس إلى كعب وأمره بهجائهم، فدله على الأخطل، فقال الأخطل قصيدته التي هجا فيها الأنصار، وقد مضت ومضى خبرها وخبر النعمان بن بشير.

 

وزاد أبو عبيدة عن روينا ذلك عنه: أن النعمان بن بشير رد على الخطل فقال:

أبلغ قبائل تغلب ابنة وائل                      من بـــالـــفـــرات وجـــانـــب الـــثـــرثـــــار

فالـــلـــؤم بـــين أنـــوف تـــغـــلـــب بــــــين                      كالـــرقـــم فـــوق ذراع كـــل حــــــمـــــــار قال: فخافه الأخطل أن يهجوه، فقال فيه:

عذرت بني الفريعة أن هجوني                      فما بالي وبال بنـي بـشـير

أفيحج من بني النجـار شءن                      شديد القصرين من السحـور ولم يرد على هذين البيتين شيئا في ذكره.

قال أبو عبيدة في خبره أيضا: إن الأنصار لما استعدوا عليه معاوية قال لهم: لكم لسانه إلا أن يكون ابني يزيد قد أجاره. ودس إلى يزيد من وقته: إني قد قلت للقوم كيت وكيت فأجره. فأجاره، فقال يزيد بن معاوية في إجارته إياه:

دعا الأخطل الملهوف بالشر دعوة                      فأي مجيب كنت لمـا دعـانـيا

ففرج عنه مشهد القوم مشهـدي                      وألسنة الواشين عنه لـسـانـيا

كان لي ياشقير حـبـك حـينـا                      كاد يقضي علي لما التـقـينـا

يعلم الـلـه أنـكـم لـو نـأيتـم                      أو قربتم أحـب شـيء إلـينـا الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لحبابة جارية يزيد بن عبد الملك، ولحنها ثاني ثقيل بالوسطى، وجعلت مكان  ياشقير  . وفي هذا الشعر للهذلي خفيف ثقيل أول مطلق بالوسطى. وزعم عمرو بن بانة أنه للأبجر. وقال الهشامي: لحن الأبجر ثقيل أول بالبنصر. وفيه للدارمي وابن فروخ خفيف ثقيل، ولحن الدارمي فيهما مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق.

 

أخبار حبابة

كانت حبابة مولدة من موالدات المدينة، لرجل من أهلها يعرف بابن رمانة، وقيل ابن مينا. وهو خرجها وأدبها. وقيل: كانت لآل لاحق المكيين. وكانت حلوة جميلة الوجه ظريفة حسنة الغناء، طيبة الصوت ضاربة بالعود. وأخذت الغناء عن ابن سريج، وابن محرز، ومالك، ومعيد، وعم جميلة وعزة الميلاء. وكانت تسمى العالية ، فسماها يزيد لما اشتراها حبابة. وقيل: إنها كانت لرجل يعرف بابن مينا.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال:حدثني حاتم بن قبصة قال:

 

صفحة : 1667

 

وكانت حبابة لرجل يدعى ابن مينا، فأدخلت على يزيد بن عبد الملك في إزارله ذنبان، وبيدها دف ترمي به وتتلقاه، وتتغنى:

ماأحسن الجيد من مليكة واللبات إذ زانها ترائبها

ياليتني ليلة إذا هجع الناس ونام الكلاب صاحبها

في ليلة لايرى بها أحد                      يسـعـى عـلـينـا إلا كـوكـبـــهـــا ثم خرج بها مولاها إلى إفريقية، فلما كان بعد ماولى يزيد اشتراها.

وروى حماد عن أبيه عن المدائني عن جرير المديني، ورواه الزبير بن بكار عن إسماعيل بن أبي أويس عن أبيه قال: قال لي يزيد بن عبد الملك: ما تقر عيني بما اوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة جارية مصعب بن سهيل الزهري، وحبابة جارية لاحق المكية. فأرسل فاشتريتا له، فلما اجتمعنا عنده قال: أنا الآن كما قال القائل :

فألقت عصاها واستقرت بها النوى                      كما فر عينا بالإياب المسـافـر قال إسحاق: وحدثني أبو أيوب عن عباية قال: كانت حبابة لآل رمانة، ومنهم ابتيعت ليزيد.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني الزبير بن بكارقال: أخبرني محمد بن سلمة عن ابن مافنه عن شيخ من أهل ذي خشب قال: خرجنا نريد ذا خشب ونحن مشاة، فإذا قبة جارية، وإذا هي تغني:

سلكوا بطن محيص                      ثم ولوا راحيعينـا

أورثوني حين ولوا                      طول حزن وانينا قال: فسرنا معها حتى أتينا ذا خشب، فخرج رجل معها، فسألناه، وإذا هي حبابة جارية يزيد، فلما صارت إلى يزيد أخبرته بنا، فكتب إلى والي المدينة يعطي كل واحد منا ألف درهم ألف درهم.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق عن المدائني. وروى هذا الخبر حماد بن إسحاق عن ابيه عن المدائني، وخبره أتم: أن حبابة كانت تسمى العالية، وكانت لرجل من الموالي بالمدينة، فقدم يزيد بن عبد الملك في خلافة سليمان فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عثمان، على عشرين ألف دينار، وربيحة بنت محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر على مثل ذلك، واشترى العالية بأربعة آلاف دينار ، فبلغ ذلك سليمان فقال:لأحجرن عليه.

فبلغ يزيد قول سليمان فاستقال مولى حبابة ، ثم اشتراها بعد ذلك رجل من أهل إفريقية، فلما ولى يزيد اشترتها سعدة امرأته وعلمت أنه لابد طالبها ومشتريها، فلما حصلت عندها قالت له: هل بقي عليك من الدنياشيء لم تنله? فقال: نعم، العالية. فقالت: هذه هي، وهي لك. فسماها حبابة، وعظم قدر سعدة عنده. ويقال إنها أخذت عليها قبل أن تهبها له أن توطئ لابنها عنده في ولاية العهد وتحضرها ما تحب إذا حضرت .

وقيل إن أم الحجاج أم الوليد بن يزيد هي التي ابتاعتها له، وأخذت عليها ذلك، فوفت لها بذلك. هكذا ذكرالزبير فيما أخبرنا به الحسن بن علي عن هارون بن محمد، عنه عن عمه. قال: ومن زعم أن سعدة اشترتها فقد أخطأ.

قال المدائني: ثم خطب يزيد إلى أخيها خالد بنت أخ له، فقال: أما يكفيه أن سعدة عنده حتى يخطب إلى بنات أخي? وبلغ يزيد فغضب، فقدم عليه خالد يسترضيه، فبينا هو في فسطاطه إذ أتته جارية لحبابة في خدمها فقالت له: أم داود تقرأ عليك السلام وتقول لك: قد كلمت أمير المؤمنين فرضي عنك. فالتفت فقال: من أم داود? فأخبره من معه أنها حبابة، وذكر لد قدرها وكانها من يزيد. فرفع رأسه إلى الجارية فقال: قولي لها: إن الرضا عني بسبب لست به. فشكت ذاك إلى يزيد بغضب، وأرسل إلى خالد فلم يعلم بشيء حتى اتاه رسول حبابة به فيمن معه من الأعوان، فاقتلعوا فساطه وقلعوا اطنابه، حتى سقط عليه وعلى أصحابه، فقال: ويلكم ما هذا? قالوا: رسل حبابة، هذا ماصنعت بنفسك. فقال: مالها أخزاها الله، ما أشبه رضاها بغضبها قال إسحاق: وحدثني محمد بن سلام عن يونس بن حبيب، إن يزيد بن عبد الملك اشترى حبابة، وكان اسمها العالية، بأربعة آلاف دينار، فلما خرج بها قال الحراث بن خالد فيها:

ظعن الأمير بأحسن الخلق                      وغدوا بلبك مطلع الشرق

مرت على قرن يقادبهـا                      تعدو امام بـراذن زرق

فظللت كالمقمور مهجتـه                      هذا الجنون وليس بالعشق

ياظبية عبق العبير بـهـا                      عبق الدهان بجانب الحق

 

صفحة : 1668

 

وغنته حبابة في الشعر، وبلغ يزيد فسألها عنه فأخبرته، فقال لها: غنيني به. فغنته بأجادت وأطربته، فقال إسحاق: ولعمري إنه من جيد غنائها.

قال أبو الفرج الأصبهاني: هذا غلط ممن رواه في ابيات الحارث بن خالد؛ لأنه قالها في عائشة بنت طلحة، لما تزوجها مصعب بن الزبير وخرج بها . وفي ابياته يقول:

في البيت ذي الحسب الرفيع ومن                      اهل التقى والبـر والـصـدق وقد شرح ذلك في اخبار عائشة بنت طلحة.

قال إسحاق: واخبرني الزبيري ان يزيد اشتراها وهو امير، فلما أراد الخروج بها قال الحارث بن خالد فيها:

قد سل جسمي وقد أودى به سقم                      من أجل حي جلواعن بلدة الحرم

يحن قلبي إليها حـين أذكـرهـا                      وما تذكرت شوقا آب من أمـم

إلا حينينا إلـيهـا إنـهـا رشـأ                      كالشمس رود ثقال سهلة الشـيم

فضلها الله رب الناس إذ خلقـت                      على النساء من اهل الحزم والكم وقال فيها الشعراء فأكثروا، وغنى في أشعارهم المغنون من اهل مكة والمدينة، وبلغ ذلك يزيد فاستشنعة، فقال: هذا قبل رحلتنا وقد هممنا، فكيف لو ارتحلنا? وتذكر القوم شدة الفراق، وبلغه أيضا أن سليمان قد تكلم في ذلك، فردها، ولم تزل في قلبه حتى ملك، فاشترتها سعدة امرأته العثمانية، ووهبتها له.

أخبرني ابن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال: حدثني أبو ذفافة المنهال بن عبد المك، عن مروان بن بشر بن أبي سارة مولى الوليد بن يزيد، قال: أول ما ارتفعت به منزلة حبابة عن يزيد انه أقبل يوما إلى البيت الذيهي فيه، فقام من وراء الستر فسمعها تترنم وتغني وتقول:

كان لي يايزيد حبك حينـا                      كاد يقضى علي لما التقينا -والشعر كان ياشقير -فرفع الستر فوجدها مضطجعة مقبلة على الجدار، فعلم أنها لم تعلم به ولم يكنذاك لمكانه، فألقى نفسه عليها وحركت منه.

قال المدائني: غلبت حبابة غعلى يزيد، وتبنى بها عمر بن هبيرة فعلت منزلته، حتى كان يدخل على يزيد في أي وقت شاء، وحسد ناس من بني أمية مسلمة بن عبد الملك على ولايته، وقدحوا فيه عند يزيد، وقالوا: إن مسلمة إن اقتطع الخراج لم يحسن ياأمير المؤمنين ان تفتشه أو تكشفه عن شيء، لسنه وحقه ، وقد علمت أن امير المؤمنين لم يدخل أحدا من اهل بيته في الخراج. فوقر ذلك في قلب يزيد ، وعزم على عزله، وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حبابة، فعلمت له في ذلك. وكان بين ابن هبيرة وبين القعقاع بن خالد عداوة، وكانا يتنازعان ويتحاسدان، فقيل للقعقاع لقد: نزل ابن هبيرة من امير الؤمنين منزلة، إنه لصاحب العراق غدا. فقال ومن يطيق ابن هبيرة? حبابة بالليل، وهداياه بالنهار، مع أنه وإن بلغ فإنه رمل من بني سكين . فلم تزل حبابة تعمل له حتى وليها.

حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم يحدث بهذا الحديث، فحفظته ولم أحفظ إسناده. وحدثنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني احمد بن زيهر قال: حدثنا مصعب الزبيري، عن مصعب بن عثمان. وقد جمعت روايتيهماقالا: أراد يزيد بن عبد الملك ان يشبه بعمر بن عبد العزيز وقال: بماذا صار عمر أزجى لربه جل وعز مني? فشق ذلك على حبابة?فأرسلت إلى الأحوص.

هكذا في رواية وكيع، واما عمر بن شبة فإنه ذكر ان مسلمة أقبل على يزيد يلومه في الإلحاح على الغناءوالشرب، وقال له: إنك وليت بعقب عمر بن عبد العزيز وعدله، وقد تشاغلت بهذه الأمة عن النظر في الأمور، والوفود ببابك، وأصحاب الظلامات يصيحون، وأنت غافل عنهم. فقال: صدقت والله وأعتبه وهم يترك الشرب، ولم يدخل على حبابة أياما، فدست حبابة إلى الحوص أن يقول أبيانا في ذلك وقالت له: إن ردته عن رأيه فلك ألف دينار. فدخل الأحوص إلى يزيد، فاستأذن في الإنشاد، فأذن له.

قال إسحاق في خبره: فقال الأحوص:

ألا لا تلـمـه الـيوم أن يتـبـلـدا                      فقد غلب المحزون أن يتـجـلـدا

بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني                      ومن شاء آسى في البكاء وأسعـدا

وإني وإن فندت في طلب الغـنـى                      لأعلم أني لست في الحب أوحـدا

إذا أنت لم تعشق ولم تر ما الهـوى                      فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

 

صفحة : 1669

 

 

فما العيش إلا ما تلد وتشتهي                      وإن لام فيه ذو الشنان وفتدا الغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالبنصر، وفيه رمل للغريض. ويقال إنه لحبابة.

قال : وكث جمعة لايرى حبابة ولا يدعو بها، فلما كان يوم الجمعة قالت لبعض جواريها: إذا خرج أمير المؤمنين إلى الصلاة فأعلميني. فلما أراد الخروج أعلمتها، فتلقته والعود في يدها، فغنت البيت الأول، فغطى وجهه وقال: مه لاتفعلي. ثم غنت:

وما العيش إلا ما تلد وتشتهي فعدل إليها وقال: صدقت والله، فقبح الله، فقبح الله من لامني فيك، ياغلام مر مسلمة أن يصلي بالناس. وأقام معها يشرب وتغنيه، وعاد إلى حاله .

وقال عمر بن شبة في حديثه: فقال يزيد: صدقت والله، فعلى مسلمة لعنة الله وعاود ما كان فيه، ثم قال لها: من يقول هذا الشعر? قالت: الأحوص. فأحضره ثم أنشده قصيدة مدحه فيها، واولها قوله:

يا موقد النار بالعلياء مـن إضـم                      اوقد فقد هجت شوقا غير منصرم وهي طويلة. فقال له يزيد: ارفع حوائجك. فكتب إليه في نحو من أربعين ألف درهم من دين وغيره، فامر له بها.

وقال مصعب في خبره: بل استأذن الحوص على يزيد، فاذن له، فاستاذن في الإنشاد، فقال: ليس هذا وقتك. فلم يزل به حتى أذن له. فأنشده البيات، فلما سمعها وثب حتى دخل حبابة وهو يتمثل:

وما العيش إلا ما تلد وتشتهي                      وإن لام فيه ذو الشنان وفندا فقالت له: ماردك يا أمير المؤمنين? فقال: أبيات انشدنيها الحوص، فسلي ماشئت. قالت: الف دينار تعطيها الحوص. فاعطاه الف دينار.

 

يا موقد النار بالعلياء مـن إضـم                      اوقد فقد هجت شوقا غير منصرم

يا موقد النار اوقدها فـإن لـهـا                      سنا يهيج فؤاد العاشـق الـسـدم الشعر لأحوص، والغناء لمعبد، خفيف ثقيل أول بالوسطى، عن يونس وإسحاق وعمرو. وذكر حبش أن فيه خفيف ثقيل آخر لابن جامع.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني علي بن القاسم بن بشير قال: لما غلب يزيد بن عبد الملك اهله وأبى ان يسمع منهم كلموا مولى له خراسانيا ذا قدر عندهم، وكانت فيه لكنة، فأقبل على يزيد يعظه وينهاه عما قد ألح عليه من السماع للغناء والشراب، فقال له يزيد: فإني احضرك هذا المر الذي تنهى عنه، فإن نهيتني عنه بعد ما تبلوه وتحضره انتهيتن وإني مخبر جوارى انك عم من عومتي، فإياك أن تتكلم فيعلمن اني كاذب، وانك لست بعمي. ثم ادخله عليهن فغنين، والشيخ يسمع ولا يقول شيئا، حتى غنين:

وقد كنت آتيكم بعلة غيركم                      فأفنيت علاتي فكيف أقول فطرب الشيخ وقال: لافيف، جعلني الله فداكن يريد: لاكيف. فعلمن انه ليس عمه، وقمن إليه بعيد انهن ليضربنه بها، حتى حجز هن يزيد عنه. ثم قال له بعدما انقضى امرهن: ما تقول الان ادع هذا أم لا? قالك لاتدعه أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني خالد بن يزيد بن بحر الخزاعي الأسلمي، عن محمد بن سلمة، عن أبيه عن حماد الرواية قال: كانت حبابة فائقة في الجمال والحسن، وكان يزيد لها عاشقا، فقال لها يوما: قد استخلفتك على ما ورد علي. ونصبت لذلك مولاي فلانا فاستخلفيه لأقيم معك أياما واستمع بك. قالت: فإني قد عزلتهز فغضب عليها وقال: قد استعملته وتعزلينه? وخرج من عندها مغضبا، فلما ارتفع النهار وطال عليه هجرها دعا خصيا له وقال: انطلق فانظر أي شيء تصنع حبابة? فانطلق الخادم ثم أتاه، فقال: رأيتها مؤتزرة بإزار خلوقي قد جعلت له ذنبين وهي تلعب بلعبها. فقال: ويحك احتل لها حتى تمر بها علي. فانطلق الخادم إليها فلاعبها ساعة، ثم استلب لعبة من لعبها وخرج، فجعلت تحضر في أثره، فمرت بيزيد فوثب وهو يقول: قد عزلته وهي تقول: قد استعملته فعزل مولاه وولاه وهو لا يدري. فمكث معها خاليا أياما حتى دخل عليه أخوه مسلمة فلامه، وقال: ضيعت حوائج الناس واحتجت عنهم، أترى هذا مستقيما لك? وهي تسمع مقالته، فعنت لما خرج:

ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا فذكرت الأبيات. فطربو قال: قا تلك الله أبيت إلا أن ترديني إليك. وعاد إلى ما كان عليه.

أخبرني إسماعيل قال: حدثني عمي قال: حدثني إسحاق قال: حدثني الهيثم بن عدي، عن صالح بن حسان قال:

 

صفحة : 1670

 

قال مسلمة ليزيد: تركت الظهور وشهود الجمعة الجامعة، وقعدت في منزلك مع هذه الإماء وبلغ ذلك حبابة وسلامة فقالتا للأحوص: قل في ذلك شعرا فقال:

وما العيش إلا ما تلد وتشـتـهـي                      وإن لام فيه ذو الشنـان وفـنـدا

بكيت الصبا جهدي فمن شاء لامني                      ومن شاء آسى في البكاء وأسعـدا

وإني وإن اغرقت في طلب الصبـا                      لأعلم اني لست في الحب اوحـدا

إذا كنت عزهاة عن اللهو والصبـا                      فكن حجزا من يابس الصخر جلمدا قال: فغنتنا يزيد فيه، فلما فرغتا ضرب بخيزرانته الأرض وقال: صدقتما صدقتما فعلى مسلمة لعنة الله وعلى ما جاء به.

قال: وطرب يزيد فقال: هاتيا. فغنتاه من هذه القصيدة:

وعهدي بها صفراء رودا كأنـمـا                      نضا عرق منها على اللون مجسدا

مهفهفة العلى وأسفل خلـقـهـا                      جرى لحمه ما دون أن يتـخـددا

من المدمجات اللحم جدلا كانـهـا                      عنان صناع مدمج الفتل محصـدا

كأن ذكي المسك بـاد وقـد بـدت                      وريح خزامي طلة تنفح الـنـدى فطرب يزيد واخذ فيه من الشراب قدره الذي كان يطرب منه ويسره، ولم تره اظهر شيئا مما كان يفعله عند طربه فغنتهك

ألا لا تلمـه الـيوم ان يتـبـلـدا                      فقد غلب المحزون ان يتـجـلـدا

نظرت رجاء بالمـوقـر ان ارى                      أكاريس يحتلون خاخا فمـنـشـدا

فأوفيت في نشز من الأرض يافع                      وقد تسعف الأيفاع من كان مقصدا فلما غنته بهذا طرب طربه الذي تعهده، وجعل يدور ويصيح: الدخن بالنوى، والسمك في بيطار جنان . وشق حلته وقال لهاك أتأذنين ان أطير? قالت: وإلى من تدع الناس? قال: إليك .

قال: وغنته سلامة من هذه القصيدةك

فقلت الا ياليت أسماء أصـقـبـت                      وهل قول ليت جامع مـا تـبـددا

وإني لهواها وأهـوى لـقـاءهـا                      كما يشتهي الصادي الشراب المبردا

علاقة حيب لج في سنن الـصـبـا                      فأبـلـى ومـا يزداد إلا تـجـددا

سهوب وأعلام تخـال سـرابـهـا                      إذا استن في القيظ الملاء المعضدا قال: وغنته حبابة منها أيضا:

كريم قريش حين ينسـب والـذي                      اقرت له بالملك كهـلا وامـردا

وليس عطاء كان منـه بـمـانـع                      وإن جل من إضعاف أضعافه غدا

أهان تلاد المال في الحمـد إنـه                      إمام هدى يجري على ما تعـودا

تردى بمـجـد مـن أبـيه وأمـه                      وقد اورثا بنيان مـجـد مـشـيدا فقال لها يزيد: ويحك يا حبابة، ومن ومن قريش هذا? قالت: انت. قال: ومن يقول هذا الشعر? قالت: الأحوص يا امير المؤمنين. وقالت سلامة: فليسمع أمير المؤمنين باقي ثنائه عليه فيها. ثم اندفعت فغنته:

ولو كان بذل الجود والمال مخلدا                      من الناس غنسانا لكنت المخلدا

فأقسم لا أنفك ما عشت شاكـرا                      لنعماك ما طار الحمام وغـردا أخبرني إسماعيل قال: حدثنا عمر بن شبة قال: علي بن الجعد قال: حدثني أبو يعقوب الخريمي، عن أبي بكر بن عياش: أن حبابة وسلامة اختلفتا في صوت معبد:

ألا حي الديار بسعـد إنـي                      أحب لحسب فاطمة الديارا فبعث يزيد إلى معبد فاتى به، فسأل: لم بعث إليه? فأخبر، فقال: لأيتهما المنزلة عن امير المؤمنين? فقيل: لحبابة. فلما عرضتا عليه الصوت قضى لحبابة، فقالت سلامة: والله ما قضى إلا للمنزلة، وإنه ليعلم أن الصواب ما غنيت، ولكن ائذن لي يا أمير المؤمنين في صلته لن له علي حقا. قال: قد أذنت. فكان ما وصلته به أكثر من حبابةز

ألا حي الديار بسـعـد إنـي                      أحب لحب فاطـمة الـديارا

إذا ما حل اهلك يا سلـيمـى                      بدارة صلصل شحطوا مزارا الشعر لجرير، والغناء لابن محرز، خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر.

أخبرني احمد بن عبد العزيز لجوهري قالك حدثنا عمر بن شبة قال: نزل الفرزدق على الحوص حين قدم المدينة فقال له الحوص: ما تشتهي? قالك شراء وطلاء وغناء .

قال: ذلك لك. ومضى به إلى قينة بالمدينة فغنته:

ألا حي الديار بسعد إنـي                      أحب لحب فاطمة الديارا

 

صفحة : 1671

 

 

أراد الظاعنون ليحزنـونـي                      فهاجوا صدع قلبي فاستطارا فقال الفرزدق: ما أرق أشعاركم يا اهل الحجاز واملحها قال: أو ما تدري لمن هذا الشعر? فقال: لا واللهز قال: هو لجرير، يهجوك به. فقال: ويل ابن المراغة ما كان احوجه مع عفافه إلى صلابة شعري، واحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره.

وقد روى صالح بن حسان ان الصوت الذي اختلفت فيه حبابة وسلامة هو:

وترى لها دلا إذا نطقت به                      تركت بنات فؤاده صعرا ذكر ذلك حماد عن ابيه عن الهيثم بن عدي: أنهما اختلفتا في هذا الصوت بين يدي يزيد، فقال لهما: من أين جاء اختلافكما، والصوت لمعبد ومنه اخذتماه? فاقلت هذه: هكذا أخذته، وقالت الخرى: هكذا أخذته. فقال يزيد: قد اختلفتما ومعبد حي بعد? فكتب إلى عامله بالمدينة يامره بحمله غليه.

ثم ذكر باقي الخبر مثل ما ذكره أبو بكر بن عياش.

قال صالح بن حسان:فلما دخل معبد غليه لم يساله عن الصوت، ولكنه امره أن يغني، فغناه فقال:

فيا عز إن واش وشى بي عندكم                      فلا تكرميه أن تقولي له مهلا فاستحسنه وطرب ثم قال: إن هاتين اختلفتا في صوت لك فاقض بينهما. فقال لحبابة: غني. فغنت، وقال لسلامة: غني فغنت، وقال: الصواب ما قالت حبابة. فقالت سلامة: والله يا ابن الفاعلة إنك لتعلم أن الصواب قا قلت، ولكنك سالت أيتهما آثر عند امير المؤمنين فقيل لك حبابة، فاتبعت هواه ورضاه فضحك يزيد وطرب، واخذ وسادة فصيرها على رأسه، وقام يدور في الدار ويرقص ويصيح:السمك الطري اربعة أرطال، عند بيطار حبان جتى دار الدار كلها ثم رجع فجلس مجلسه وقال شعرا، وامر معبدا ان يغني فيه، فغنى فيه وهو:

أبلغ حبابة أسقى ربعها المطـر                      ما للفؤاد سوى ذكراكم وطـر

إن سار صحبي لم املك تذكركم                      او عرسوا فهموم النفس والسهر فاستحسنه وطرب. هكذا ذكر إسحاق في الخبر. وغيره يذكر ان الصنعة فيه لحبابة، ويزعم ابن خرداذبه ان الصنعة فيه ليزيد. وليس كما ذكر، وإنما اراد ان يوالي بين الخلفاء في الصنعة، فذكره على غير تحصيل، والصحيح انه لمعبد.

قال معبد: فسر يزيد لما غنيته في هذين البيتين، وكساني ووصلني، ثم لما انصرم مجلسه انصرفت إلى منزلي الذي انزلته، فإذا ألطاف سلامة قد سبقت ألطاف حبابة، وبعثت إلي: إني قد عذرتك فيما فعلت، ولكن كان الحق أولى بك. فلم ازل في ألطافهما جميعا جتى أذم لي يزيد، فرجعت إلى المدينة.

 

فيا عز إن واش وشى بي عندكم

ألم يأن لي ياقلب أن أترك الجهلا                      وان يحدث الشب الملم لي العقلا

على حين صار الرأس من كأنما                      علت فوقه نذافة العطب الغـزلا

فيا عز إن واش بـي عـنـدكـم                      فلا تكرميه أن تقولي له مهـلا

كما لووش واش بودك عـنـدنـا                      لقنا تزحزح لا قريبا ولا سهـلا

فأهلا وسه بالذي شد وصـلـنـا                      ولا مرحبا بالقائل اصرم لها حبلا الشعر لكثير، والغناء لحنين، ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وذكر ابن المكي وعمرو والهشامي أنه لمعبد. وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج، وليس بصحيح.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني الزبير قال: حدثني ظبية قالت: أنشدت حبابة يوما يزيد بن عبد الملك:

لعمرك إنني لأحب سلعـا                      لرؤيتها ومن بجنوب سلع ثم تنفست تنفسا شديدا فقال لها: مالك، أنت في ذمة أبي، لئن شئت لأنقلنه إليك حجرا حجرا. قال: وما أصنع به، ليس إياه أردت، إنما أردت صاحبه. وربما قالت: ساكنة.

 

لعمرك غنني لأحب سلـعـا                      لرؤيتها ومن بجنوب سـلـع

تقر بقربهـا عـينـي وإنـي                      لأخشى أن تكون تريد فجعي

حلفت برب مـكة والـهـدايا                      وأيدي السابحات غداة جمـع

لأنت على التنائي فاعلـمـيه                      احب إلي من بصري وسمعي الغناء لمعبد خفيف ثقيل بالوسطى، مما لايشك فيه من غنائه.

قال الزبير: وحدثني ظبية ان يزيد قال لحبابة وسلامة: أيتكما غنتني ما في نفسي فلها حكمها. فغنت سلامة فلم تصب ما في نفسه، وغنته حبابة:

خلق من بني كنانة حولـي                      بفلسطين يسرعون الركوبا

 

صفحة : 1672

 

فأصابت ما في نفسه فقال: احتكمي. فقالت: سلامة، تهيها لي ومالها. قال: اطلبي غيرها.فأبت، فقال:أنت أولى بها ومالها. فلقيت سلامة من ذلك أمرا عظيما، فقالت لها حبابة: لاترين إلا خيرا فجاء يزيد فسألها أن تبيعه إياها بحكمها، فقالت: أشهدك انها حرة، واخطبها إلي الان حتى ازوجك مولاتي.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق عن المدائني بنحو هذه القصة. وقال فيها: فجزعت سلامة، فقالت لها: لاتجزعي فإنما ألاعبه.

 

حلق من بني كنانة حـولـي                      بفلسطين يسرعون الركوبـا

هرئت أن رأت مشيبي عرسي                      لاتلومي ذوائبي أن تـشـيبـا الشعر لابن قيس الرقيات، والغناء لابن سريج، ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.

قال حماد بن إسحاق : حدثني أبي عن المدائني، وايوب بن عباية قالا: كانت سلامة المتقدمة منهما في الغناء، وكانت حبابة تنظر إليها بتلك العين، فلما حظيت عند يزيد ترفعت عليها فقالت لها سلامة: ويحك أين تاديب الغناء وحق التعليم? انسيت قول جميلة لك: خذي أحكام ما أطارحك إياه من سلامة? فلن تزالي بخير ما بقيت لك وكان أمركما مؤتلفا. قالت: صدقت يا خليلتي، والله لا عدت إلى شيء تكرهينه. فماعادت بعد ذلك لها إلى مكروه. وماتت حبابة وعاشة سلامة بعدها دهرا.

قال المدائني: فرأى يزيد يوما حبابة جالسة فقال: مالك? فقالت: أنتظر سلامة. قال: تحبين أن أهبها لك? قالت: لا والله، ما أحب أن تهب لي أختي.

قال المدائني: وكانت حبابة إذا غنت وطرب يزيد قال لها: اطير? فتقول له: فإلى من تدع الناس? فيقول إليك. والله تعالى أعلم.

أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أيوب بن عباية، أن البيذق النصاري القارئ كان يعرف حبابة ويدخل عليها بالحجاز، فلما صارت إلى يزيد بن عبد الملك وارتفع أمرها عنده، خرج إليها يتعرض لمعروفها ويستميحها، فذكرته ليزيد واخبرته بحسن صوته. قال: فدعاني يزيد ليلة فدخلت عليه وهو على فرش مشرفة قد ذهب فيها إلى قريب من ثدييه، وإذا حبابة على فرش أخر مرتفعة، وهي تدونه، فسلمت فرد السلام، وقالت حبابة: يا أمير المؤمنين، هذا أبي. وأشارت إلي بالجلوس، فجلست وقالت لي حبابة: اقرأيا أبت. فقرأت فنظرت إلى دموعه تنحدر، ثم قالت: إيه ياأبت حدث أمير المؤمنين، وأشارت إلي أن غنه. فاندفعت في صوت ابن سريج:

من لصب مفنـد                      هائم القلب مقصد فطرب والله يزيد فحذفني بمدهن فيه فصوص من ياقوت وزبرجد، فضرب صدري، فأشارت إلي حبابة: أن خذه. فأخذته فأدخلته كمي، فقال: يا حبابة ألا ترين ما صنع بنا أبوك، أخذ مدهننا فأدخله في كمه? فقالت: يا أمير المؤمنين ما أحوجه والله إليه ثم خرجت من عنده فأمر لي بمائة دينار.

 

من لصب مفـنـد                      هائم القلب مقصد

انت زودته الضنى                      بئس زاد المـزود

ولو اني لا أرتجي                      ك لقد خف عودي

ثاويا تحـت تـربة                      رهن رمس بفدفد

غير أني أعلل الن                      فس باليوم أوغـد الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان. وذكر الزبير بن بكار انه لجعفر بن الزبير، والغناء لابن سريج، خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى.

وقال حماد: حدثني أبي عن مخلد بن خداش وغيره، أن حبابة غنت يزيد صوتا لابن سريج، وهو قوله:

ما أحسن الجيد من مليكة وال                      لبات إذ زانهـا تـرائبـهـا

 

صفحة : 1673

 

فطرب يزيد وقال: هل رأيت أحدا أطرب مني? قلت: نعم، ابن الطيار معاوية بن عبد الله بن جعفر، فكتب فيه إلى عبد الرحمن بن الضحاك فحمل إليه، فلما قدم أرسلت إليه حبابة: إنما بعث إليك لكذا وكذا- واخبرته- فإذا دخلت عليه فلا تظهرن طربا حتى أغنيه الصوت الذي غنيته. فقال:سواة على كبر سني? فدعا به يزدي وهو على طنفسة خز، ووضع لمعاوية مثلها، فجاءوا بجامين فيهما مسك فوضعت إحداهما بين يدي يزيد والأخرى بين يدي معاوية، فقال: فلم أدر كيف أصنع. فقلت: انظر كيف يصنع فاصنع مثله. فكان يقلبه فيفوح ريحه وأفعل مثل ذلك، فدعا بحبابة فغنت، فلما غنت ذلك الصوت أخذ معاوية الوسادة فوضعها على رأسه وقام يدور وينادي: الدخن بالنوى يعني اللوبيا. قال: فامر له بصلات عدة دفعات إلى أن خرج، فكان مبلغها ثمانية آلاف دينار.

أخبرني إسماعيل بن يونس قال: اخبرني الزبير بن أبي بكر، عن ظبية: أن حبابة غنت يوما بين يدي يزيد فطرب ثم قال لها: هل رأيت قط اطرب مني? قالت: نعم، مولاي الذي باعني. فغاظه ذلك فكتب في حمله مقيدا، فلما عرف خبره أمر بإدخاله إليه، فأدخل يرسف في قيده، وامرها فغنت بغتة:

تشط غدا دار جيراننا                      وللدار بعد غد أبعد فوثب حتى القى نفسه على الشمعة فأحرق لحيته، وجعل يصيح: الحريق يا أولاد الزنا فضحك يزيد وقال: اعمري إن هذا لأطرب الناس فأمر بحل قيوده، ووصله بألف دينار، ووصلته حبابة، ورده إلى المدينة.

أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: قال إسحاق: كان يزيد بن عبد الملك قبل ان تفضي إليه الخلافة، تختلف إليه مغنية طاعنة في السن تدعى أم عوف، وكانت محسنة، فكان يختار عليها:

متى أجر خائفا تسرح مطيته                      وإن أخف آمنا تنبوبه الـدار

سيروا إلي وأرخوا من أعنتكم                      إني لكل امرئ من وتره جار فذكرها يزيد يوما لحبابة، وقد كانت أخذت عنها فلم تقدر أن تطعن عليها إلا بالسن، فغنت:

أبى القلب إلا أم عوف وحبهـا                      عجوزا ومن يحيي عجوزا يفند فضحك وقال: لمن هذا الغناء? فقالت: لمالك. فكان إذا جلس معها للشرب يقول: غنيني صوت مالك في أم عوف.

أخبرني احمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن أحمد بن الحارث العدوي قال: حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال: حدثني أبو غانم الزدي قال: نزل يزيد بن عبد الملك ببيت رأس بالشام، ومعه حبابة فقال: زعموا انه لاتصفو لأحد عيشة يوما إلى الليل إلا يكدرها شيء عليه، وسأجرب ذلك. ثم قال لمن معه: إذا كان غدا فلا تخبروني بيء ولا تأتوني بكتاب. وخلا هو وحبابة فأتيا بما يأكلان، فأكلت رمانة فشرقت بحبة منها فماتت، فأقام لايدفنها ثلاثا حتى تغيرت وانتنت، وهو يشمها ويرشفها، فعاتبه على ذلك ذوو قرابته وصديقه ، وعابوا عليه ما يصنع، وقالوا: قد صارت جيفة بين يديك حتى اذن لهم في غسلها ودفنها، وامر فأخرجت في نطع، وخرج معها لايتكلم حتى جلس على قبرها، فلما دفنت قال: أصبحت والله كما قال كثير:

فإن يسل عنك القلب أو يدع الصبا                      فبالبأس يسلو عنك لا بالتجـلـد

وكل خليل راءني فـهـو قـائل                      من أجلك: هذا هامة اليوم أو غد فما أقام إلا خمس عشرة ليلة حتى دفن إلى جنبها.

أخبرني أحمد قال: حدثني عمر قال: حدثني إسحاق الموصلي قال: حدثني الفضل بن الربيع عن، أبيه عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة عن أبيه أن مسلمة بن عبد الملك قال: ماتت حبابة فجزع عليها يزيد، فجعلت أوسيه واعزيه، وهو ضارب بذقنه على صدره ما يكلمني حتى دفنها ورجع، فلما بلغ إلى بابه التفت إلي وقال:

فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا                      فباليأس تسلو عنك لابالتـجـلـد ثم دخل بيته فمكث أربعين يوما ثم هلك.

قال: وجزع عليها في بعض أيامه فقال: انبشوها حتى أنظر غليها. فقيل: تصير حديثا فرجع فلم ينبشها.

 

 

صفحة : 1674

 

وقد روى المدائني أنه اشتاق غليها بعد ثلاثة أيام من دفنه إياها، فقال: لابد من أن تنبش. فنبشت وكشف له عن وجهها وقد تغير تغيرا قبيحا فقيل له: يا امير المؤمنين، اتق الله، ألا ترى كيف قد صارت? فقال: ما رأيتها قط أحسن منها اليوم، أخرجوها. فجاءه مسلمة ووجوه أهله، فلم يزالوابه حتى أزالوه عن ذلك ودفنوها، وانصرف فكمد كمدا شديدا حتى مات، فدفن إلى جانبها.

قال إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الشفافي عن العباس بن محمد، ان يزيد بن عبد الملك أراد الصلاة على حبابة، فكلمه مسلمة في ان لايخرج وقال: أنا أكفيك الصلاة عليها. فتخلف يزيد ومضى مسلمة، حتى إذا مض الناس انصرف مسلمة وأمر من صلى عليها.

وروى الزبير، عن مصعب بن عثمان، عن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: خرجت مع ابي إلى الشأم في زمن يزيد بن عبد الملك، فلما ماتت حبابة وأخرجت لم يستطع يزيد الركوب من الجزع ولا المشي، فحمل على منبر على رقاب الرجال، فلما دفنت قال: لم أصل عليها، انبشوا عنها. فقال له مسلمة: نشدتك الله يا أمير المؤمنين، إنما هي أمة من الإماء، وقد واراها الثرى فلم يأذن للناس بعد حبابة إلا مرة واحدة. قال: فوالله ما استتم دخول الناس حتى قال الحاجب: أجيزوا رحمكم الله. ولم ينشب يزيد أن مات كمدا.

أخبرني احمد بن عبد الله بن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني إسحاق قال حدثني ابن أبي الحويرث الثقفي، قال: لما ماتت حبابة جزع عليها يزيد جزعا شديدا، فضم جويرية لها كانت تخدمها إليه، فكانت تحدثه وتؤنسه، فبينا هو يوما يدور في قصره إذ قال لها: هذا الموضع الذي كنا فيه. فتمثلت:

كفى حزنا للهائم الصب أن يرى                      منازل من يهوى معطلة قفرا فبكى حتى كاد يموت. ثم لم تزل تلك الجويرية معه يتذكر بها حبابة حتى مات.

 

أيدعونني شيخا وقد عشت حقبة                      وهن من الأزواج نحوي نوازع

وما شاب رأسي من سنين تابعت                      علي ولكن شيبتـه الـوقـائع الشعر لأبي الطفيل صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والغناء لإبراهيم، خفيف ثقيلأول بالوسطى، عن عمرو وغيره.

 

أخبار أبي الطفيل ونسبه

هو عامر بن وائلة بن عبد الله بن عمير بن جابر بن حميس بن جدي بن يعد بن ليث بن بكربن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار.

وله صحبة برسول الله صلى الله عليه وسلم ورواية عنه. وعمر بعده عمرا طويلا؛ وكان مع أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وروى عنه أيضا، وكان من وجوه سيعته، وله منه محل خاص يستغني بشهرته عن ذكره، ثم خرج طالبا بدم الحسين بن علي عليهما السلام، مع المختار بن أبي عبيد، وكان معه حتى قتل وأفلت هو، وعمر أيضا بعد ذلك.

حدثني أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن يويف بن أسوار الجمحي بمكة، قال: حدثنا يزيد بن ابي حكيم قال: حدثني يزيد بن مليل، عن أبي الطفيل أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع يطوف بالبيت الحرام على ناقته، ويستلم الركن بمحجنه.

أخبرناه محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثنا أبو عاصم عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل بمثله، وزاد فيه: ثم يقبل المحجن.

حدثني أبو عبيد الله الصيرفي قال: حدثنا الفضل بن الحسن المصري قال: حدثنا أبو نعيم عن بسام الصيرفي عن ابي الطفيل قال: سمعت عليا عليه السلام يخطب فقال: سلوني قبل أن تفقدوني. فقام إليه ابن الكواء، فقال: ما )الذاريات ذروا(? قال: الرياح. قال)فالجاريات يسرا(? قال: السفن. قال: )فالحاملات وقرا(? قال: السحاب. قال)فالمقسمات أمرا(? قال: الملائكة. قال: فمن )الذين بدلوا نعمة الله كفرا(? قال: الأفجران من قريش: بنو امية وبنو مخزوم. قال: فما كان ذو القرنين، أنبيا أم ملكا? قال: كان عبدا مؤمنا- أو قال صالحا - أحب الله وأحبه، ضرب ضربة على قرنه الأيمن فمات، ثم بعث وضرب ضربة على قرنع الأيسر فمات. وفيكم مثله.

وكتب إلي إسماعيل بن محمد المري الكوفي يذكر أن أبا نعيم حدثه بذلك عن بسام. وذكر مثله أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: بلغني أن بشر بن مروان حين كان على العراق قال لأنس بن زنيم: أنشدني أفضل شعر قالته كنانة. فانشده قصيدة أبي الطفيل:

 

صفحة : 1675

 

 

أيدعونني شيخا وقد عشت برهة                      وهن من الزواج نحوي نوازع فقال له بشر: صدقت هذا أشعر شعرائكم. قال: وقال له الحجاج أيضا: أنشدني قول شاعركم: أيدعونني شيخا فأنشده إياه فقال: قالتله الله منافقا، ما اشعره حدثني أحمد بن عيسى العجلي الكوفي، المعروف بابن أبي موسى، قال: حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم قال: حدثني أبي قال حدثني عمرو بن شمر عن جابر الجعفي قال: سمعت ابن حذيم الناجي يقول: لما استقام لمعاوية أمره لم يكن شيء أحب إليه من لقاء أبي الطفيل عامرو بن العاص ونفر معه، فقال لهم معاوية: اما تعرفون هذا? هذا خليل ابي الحسن. ثم قال: يا أبا الطفيل ما بلغ من حبك لعلي? قال حيب أم موسى لموسى. قال: فما بلغ من بكائك عليه? قال: بكاء العجوز الثكلى والشيخ الرقوب ، وإلى الله أشكو التقصير.

قال معاوية: إن أصحابي هؤلاء لو سئلوا عني ما قالوا: إذا والله ما نقول الباطل. قال لهم معاوية: لا والله ولا الحق تقولون. ثم قال معاوية: وهو الذي يقول:

إلى رجب السبعين تعتـرفـونـنـي                      مع السيف في حواء جـم عـديدهـا

رجوف كمتن الطود فيها مـعـاشـر                      كغلب السباع نمـرهـا وأسـودهـا

كهول وشبـان وسـادات مـعـشـر                      على الخيل فرسان قليل صـدودهـا

كأن شعاع الشمس تـحـت لـوائهـا                      إذا طلعت اعش العـيون حـديدهـا

يمورون مور الريح إمـا ذهـلـتـم                      وزالت باكفال الرجـال لـبـودهـا

شعارهـم سـيمـا الـنـبـي، وراية                      بها انتقم الرحمن ممـن بـكـيدهـا

تخطفـهـم إياكـم عـنـد ذكـرهـم                      كخطف ضواري الطير طيرا تصيدها فقال معاوية لجلسائه: أعرفتموه? قالوا: نعم، هذا أفحش شاعر وألام جليس. فقال معاوية: يا أبا الطفيل أتعرفهم? فقال: ما أعرفهم بخير، ولا أبعدهم من شر. قال: وقام خزيمة الأسدي فأجابه فقال:

إلى رجب أو غرة الشهـر بـعـده                      نصبحكم حمر المنـايا وسـودهـا

ثمانون الفا دين عثـمـان دينـهـم                      كتائب فيهـا جـبـرئيل يقـودهـا

فمن عاش منكم عاش عبدا ومن يمت                      ففي النار سقياه هنـاك صـديدهـا أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا أحمد بن الحارث قال: حدثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق، قال: لما رجع محمد بن الحنيفة من الشام حبسه ابن الزبير في سجن عارم، فخرج إليه جيش من الكوفة عليهم أبو الطفيل عامر بن وائلة، حتى أتوا سجن عارم فكسروه وأخرجوه، فكتب ابن الزبير إلى أخيه مصعب: أن يسير نساء كل من خرج لذلك. فأخرج مصعب نساءهم وأخرج فيهن أم الطفيل امرأة أبي الطفيل، وابنا له صغيرا يقال له يحيى، فقال أبو الطفيل في ذلك:

إن يك سيرهـا مـصـعـب                      فإني إلى مصعب مـذنـب

أقود الكتيبة مـسـتـلـمـا                      كاني أخـو عـرة أجـرب

علـي دلاص تـخـيرتـهـا                      وفي الكف ذو رونق مقضب أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل عن فطربن خليفة قال: سمعت أبا الطفيل يقول: لم يبق من الشيعة غيري. ثم تمثل:

وخلفت سهما في الكنـانة وجـدا                      سيرمى به أو يكسر السهم كاسره أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو عاصم قال: حدثني أبو عاصم قال: حدثني شيخ من بني تيم اللات قال: كان أبو الطفيل مع المختار في القصر، فرمى بنفسه قبلأن يؤخذ وقال:

ولما رأيت الباب قد حيل دونه                      تكسرت باسم الله فيمن تكسرا أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا احمد بن عبد الله بن شداد الشابي قال: حدثني المفضل بن غسان قال: حدثني عيسى بن واضح، عن سليم بن مسلم المكي، عن ابن جريج عن عطاء قال: دخل عبد اله بن صفوان على عبد الله بن الزبير، وهو يومئذ بمكة، فقال: أصبحت كما قال الشاعر :

فإن تصبك من الأيام جـائحة                      لا أبك منك على دنيا ولا دين

 

صفحة : 1676

 

قال: وما ذاك يا أعرج? قال: هذا عبد الله بن عباس يفقه الناس، وعبيد الله أخوه يطعم الناس، فما بقيالك? فأحفظه ذلك فأرسل صاحب شرطته عبد الله بن مطيع فقال له: انطلق إلى ابني عباس فقل لهما: أعمدتما إلى راية ترابية قد وضعها الله فنصبتماها، بددا عني جمعكما ومن ضوى إليكما من ضلال أهل العراق، وإلا فعلت وفعلت فقال ابن عباس: قل لابن الزبير: يقول لك ابن عباس: ثكلتك أمك، والله ما يأتينا من الناس غير رجلين: طالب فقه أو طالب فضل، فأي هذين تمنع? فأنشأ أبو الطفيل عامر بن واثلة يقول:

لادر در الليالي كيف تضـحـكـنـا                      منها خطوب أعاجيب وتـبـكـينـا

ومثل ما تـحـدث الأيام مـن غـير                      يا ابن الزبير عن الدنـيا يسـلـينـا

كنا نجيء ابن عباس فـيقـبـسـنـا                      علما ويكسبـنـا أجـرا ويهـدينـا

ولا يزال عـبـيد الـلـه مـتـرعة                      جفانه مطعما ضيفا ومـسـكـينـا

فالبر والدين والـدنـيا بـدارهـمـا                      ننال منها الذي نبـغـي إذا شـينـا

إن النبي هو النور الذي كـشـفـت                      به عمايات بـاقـينـا ومـاضـينـا

ورهطه عصمة في ديننـا ولـهـم                      فضل علينا وحـق واجـب فـينـا

ولست فاعلمه أولى منهـم رحـمـا                      يا ابن الزبير ولا أولـى بـه دينـا

ففيم تمنعهم عـنـا وتـمـنـعـنـا                      منهم، وتؤذيهـم فـينـا وتـؤذينـا

لن يؤتى الله من أخزى ببغـضـهـم                      في الدين عزا ولا في الأرض تمكينا أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد المك الزيات قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني بعض أصحابنا: أن أبا الطفيل عامر بن واثلة دعي في مادبة، فغنت فيها قينة قوله يرثي ابنه:

خلى طفيل علي الهم وانشعبا                      وهد ذلك ركني هدة عجبـا فبكى حتى كاد يموت.

وقد أخبرني بهذا الخبر عمي عن طلحة بن عبد الله الطلحي، عن أحمد بن إبراهيم: أن أيا الطفيل دعي إلى وليمة فغنت قينة عندهم:

خلى علي طفيل الهم وانشعبـا                      وهد ذلك ركني هدة عجـبـا

وابني سمية لا انساهمـا أبـدا                      فيمن نسيت وكل كان لي وصبا فجعل ينشج ويقول: هاه هاه طفيل ويبكي حتى سقط على وجهه ميتا.

وأخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد عن ابيه بخبر أبي الطفيل هذا، فذكر مثل ما مضى، وزاد في الأبيات:

فاملك عزاءك إن رزء بليت به                      فلن يرد بكاء المرء ما ذهبـا

وليس يشفي حزينا من تذكـره                      إلا البكاء إذا ما ناح وانتحبـا

فإذ سلكت سبيلا كنت سالكهـا                      ولا محالة ان يأتي الذي كتبـا

فما لبطنك من ري ولا شبـع                      ولا ظللت بباقي العيش مرتغبا وقال حماد بن إسحاق حدثني ابي قال: حدثني أبو عبد الله الجمحي عن أبيه قال: بينا فتية من قريش بطن محسر يتذاكرون الأحاديث ويتناشدون الأشعار، إذا أقبل طويس وعليه قميص قوهي وحبرة قد ارتدى بها ، وهو يخطر في مشيته، فسلم ثم جلس، فقال له القوم: يا أبا عبد المنعم، لو غنيتنا? قال: نعم وكرامة اغتنيكم بشعر شيخ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام، وصاحب رايته، أدرك الجاهلية والإسلام، وكان سيد قومه وشاعرهم. قالوا: ومن ذاك يا أبا عبد المنعم فدتك أنفسنا? قال: ذلك أبو الطفيل عامر بن واثلة، ثم اندفع فغنى:

أيدعونني سيخا وقد عشت حقبة                      وهن من الزواج نحوي نوازع فطرب القوم وقالوا: ما سمعنا قط غناء أحسن من هذا.

وهذا الخبر يدل على ان فيه لحنا قديما ولكنه ليس يعرف

لمـن الـدار اقـفــرت بـــمـــعـــان                      بين شـاطـي الـيرمـوك فـالـصــمـــان

فالقريات من بلاس فداريا فسكاء فالقصور الدواني

ذاك مغنى لآل جفنة في الده                      ر وحـــق تـــصـــرف الأزمــــان

صلـوات الـمـسـيح فـي ذلـــك الـــدي                      ر دعـاء الـقـسـيس والـــرهـــبـــان الشعر لحسان بن ثابت، والغناء لحنين بن لوع، خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى.

وهذا الصوت من صدور الغاني ومختارها، وكان إسحاق يقدمه وبفضله. ووجدت في بعض كتبه بخطة قال: الصيحة التي في لحن حنين:

 

صفحة : 1677

 

 

لمن الدار أقفرت بمعان أخرجت من الصدر، ثم من الحلق، قم من الأنف، ثم من الجبهة، ثم نبرت فأخرجت من القحف، ثم نونت مردودة إلى النف، ثم قطعت.

وفي هذه الأبيات وأبيات غيرها من القصيدة الحان لجماعة اشتركوا فيها، واختلف أيضا مؤلفو الأغاني في ترتيبها ونسبة بعضها مع بعض إلى صاحبها الذي صنعها، فذكرت ها هنا على ذلك وشرح ما قالوه فيها. فمنها:

قد عفا جاسم إلى بـيت رأس                      فالحواني فجانب الـجـولان

فحمى جاسم فأبـنـية الـص                      فر مغنى قنابـل وهـجـان

فالقريات من بـلاس فـداريا                      فسكاء فالقصور الـدوانـي

قد دنا الفصح فالولائد ينظـم                      ن سراعا أكلة المـرجـان

يتبارين في الدعاء إلـى الـل                      ه وكل الذعاء للـشـيطـان

ذاك مغنى لآل جفنة في الده                      ر وحق تصرف الـزمـان

صلوات المسيح في ذلك الدي                      ر دعاء القسيس والرهبـان

قد أراني هناك حق مـكـين                      عند ذي التاج مقعدي ومكاني ذكر عمرو بن بانة ان لابن محرز في الأول من هذه الأبيات والرابع خفيف ثقيل أول بالبنصر وذكر علي بن يحيى أن لابن سريج في الرابع والخامس رملا بالوسطى، وأن لمعبد فيهما وفيما بعدهما من الأبيات خفيف ثقيل، ولمحمد بن إسحاق بن برثع ثقيل أول في الرابع والثامن.

وذكر الهشامي ان في الأول لمالك خفيف ثقيل، وواقفه حبش. وذكر حبش أن لمعب في الأول والثاني والرابع ثقيلا أول بالبنصر.

 

أخبار حسان وجبلة بن الأيهم

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا عمر بن شبة قال حدثني هارون بن عبد الله الزهري قال: حدثني يوسف بن الماجشون عن أبيه قال: قال حسان بن ثابت: أتيت جبلة بن الأيهم الغساني وقد مدحته، فأذن لي فجلست بين يديه، وعن يمينه رجل له ضفيرتنان، وعن يساره رجل لا أعرفه، فقال: أتعرف هذين? فقلت: أما هذا فأعرفه، وهو النابغة ، وأما هذا فلا أعرفه. قال: فهو علقمة بن عبدة، فإن شئت استنشدتهما وسمعت منهما، ثم إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت، وإن شئت أن تسكت سكت. قلت: فذاك. قال: فأنشده النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصـب                      وليل أقاسيه بطيء الكواكب قال: فذهب نصفي. ثم قال لعلقمة: أنشد. فأنشد:

طحابك قلب في الحسان طروب                      بعيد الشباب عصر حان مشيب فذهب نصفي الآخر فقال لي: أنت أعلم، الآن إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت، وإن شئت أن تسكت سكت. فتشددت ثم قلت: لابل، أنشد. قال: هات. غأنشدته:

لله در عصـابة نـادمـتـهـا                      يوما بجلق في الزمـان الأول

أولاد جفنة عند قبـر أبـيهـم                      قبر ابن مارية الكريم المفضل

يسقون من ورد البريص عليهم                      كأسا تصفق بالرحيق السلسل

يغشون حتى ما تهر كلابـهـم                      لايسألون عن السواد المقبـل

بيض الوجه كريمة أحسابهـم                      شم النوف من الطراز الأول فقال لي: انه، ادنه، لعمري ما أنت بدونهما. ثم أمر لي بثلثمائة دينار، وعشرة أقمصة لها جيب واحد، وقال: هذا لك عندنا في كل عام.

وقد ذكر ابو عمرو الشيباني هذه القصة لحسان ووصفها وقال: إنما فضله عمرو بن الحارث الأعرج، ومدحه بالقصيدة اللامية. واتى بالقصة اتم من هذه الرواية.

قال أبو عمرو: قال حسان بن ثابت: قدمت على عمرو بن الحارث فاعتاص الوصول علي غليه، فقلت للحاجب بعد مدة: إن أذنت لي عليه وإلا هجوت اليمن كلها ثم انقلبت عنكم. فأذن لي فدخلت عليه فوجدت عنده النابغة وهو جالس عن يمينه، وعلقمة بن عبدة وهو جالس عن يساره، فقال لي: يا ابن الفريعة، قد عرفت عيصك ونسبك في غسان فارجع فإني باعث إليك بصلة سنية، ولا أحتاج إلى الشعر، فإني أخاف عليك هذين السبعين: النابغة وعلقمة، أن يفضحاك، وفضيحتك فضيحتي، وانت والله لاتحسن أن تقول:

رقاق النعال طيب حجزاتهـم                      يحيون بالريحان يوم السباسب فأبيت وقلت: لابد منه. فقال: ذاك إلى عميك. فقلت لهما: بحق الملك إلا قدمتماني عليكما. فقالا: قد فعلنا. فقال عمرو بن الحارث: هات يا ابن الفريعة. فأنشأت:

 

صفحة : 1678

 

 

أسألت رسم الدار أم لم تسأل                      بين الحواني فالبضيع فحومل فقال: فلم يزل عمرو بن الحارث يزحل عن موضعه سرورا حتى شاطر البيت وهو يقول: هذا وابيك الشعر، لا ماتعللآني به منذ اليوم هذه والله البتارة التي قد بترت المدائح، أحسنت يا ابن الفريعة، هات له ياغلام ألف دينار مرجوحة وهي التي في كل دينار عشرة دنانير. فأعطيت ذلك ثم قال: لك علي في كل سنة مثلها.

ثم أقبل على النابغة فقال: قم يا زياد فهات الثناء المسجوع. فقام النابغة فقال: ألا انعم صباحا أيها الملك المبارك، السماء غطاؤك، والأرض وطاؤك، ووالداي فداؤك، والعرب وقاؤك، والعجم حماؤك ، والحكماء جلساؤك، والمداره سمارك ، والمقاول إخوانك ، والعقل شعارك، والحلم دثارك، والسكينة مهادك، والوقار غشاؤك، والبروسادك، والصدق رداؤك، واليمن حذاؤك ، والسخاء ظهارتك، والحمية بطانتك، والعلاء علايتك ، وأكرم الأحياء أحياؤك ، واشرف الأجداد أجدادك، وخير الآباء آباؤك، وأفضل الأعمام اعمامك، وأسرى الأخوال أخوالك، واعف النساء حلائلك، وأفخر الشبان أبناؤك، وأطهر الأمهات أمهاتك، واعلى النيان بنيانك، واعذب المياه أمواهك، وافيح الدارات داراتك ، وأنزه الحدائق حدائقك ، وأرفع اللباس لباسك، قد حالف الإضريج عاتقيك ، ولاءم المسك مسكك وجاور العنبر ترائبك، وصاحب النعيم جسدك. العسجد آنيتك، واللجين صحافك، والعصب مناديلك ، والحواري طعامك ، والشهد إدامك، واللذات غذاؤك ، والخرطوم شرابك ، والأبكار مستراحك، والأشراف مناصفك ، والخير بفنائك، والشر بساحة اعدائك، والنصر منوط بلوائك، والخذلان مع ألوية حسادك، والبر فعلك. قد طحطح عدوكغضبك ، وهزم مغايبهم مشهدك ؛ وسار في الناس عدلك، وشسع بالنصر ذكرك وسكن قوارع الأعداء ظفرك. الذهب عطاؤك، والدواة رمزك ، والأوراق لحظك وإطراقك، وألف دينار مرجوحة إنماؤك .

أيفاخرك المنذر اللخمي، فوالله قفاك خير من وجهه، ولشمالك خير من يمينه، ولأخمصك خيرمن رأسه ، ولخطاؤك خير من صوابه ، ولصمتك خير من كلامه، ولأمك خير من أبيه، ولخدمك خير من قومه. فهب لي أسارى قومي، واسترهن بذلك شكري ؛ فإنك من أشراف قحطان، وأنا من سروات عدنان.

فرفع عمرو رأسه إلى جارية كانت قائمة على رأسه وقال: بمثل هذا فليثن على الملوك، ومثل ابن الفريعة فليمدحهم وأطلق له أسرى قومه.

وذكر ابن الكلبي، هذه القصة نحو هذا وقال: فقال له عمرو: اجعل المفاضلة بيني وبين المنذر شعرا فإنه أسير . فقال:

ونبـئت أن أبـا مـنـذر                      يساميك للحدث الأكبـر

قذالك أحسن من وجهـه                      وامك خير من المنـذر

ويسراك أجود من كفه ال                      يمين فقـولا لـه أخـر وقد ذكر المدائني أن هذه الأبيات والسجع الذي قبلها لحسان، وهذا أصح.

 

 

صفحة : 1679

 

قال أبو عمرو الشيباني: لما أسلم جبلة بن الأيهم الغساني وكان من ملوك آل جفنة، كتب إلى عمرو رضي الله عنه يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له عمر فخرج غليه في خمسمائة من اهل بيته، من عك وغسان، حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلى عمر يعلمه بقدومه، فسر عمر رضوان الله عليه، وأمر الناس باستقباله، وبعث إليه بأنزال ، وامر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا الديباج والحرير، وركبوا الخيول معقودة أذنابها، وألبسوها قلائد الذهب والفضة، ولبس جبلة تاجه وفيه قرطا مارية- وهي جدته- ودخل المدينة، فلم يبق بها بكر ولا عانس إلا تبرجت وخرجت تنظر إليه وإلى زيه، فلما انتهى إلى عمر رحب به والطفه وادنى مجلسه، ثم أراد عمر الحج فخرج معه جبلة، فبينا هو يطوف بالبيت وكان مشهورا بالموسم، إذ وطىء إزاره رجل من بني فزارة فانحل، فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فاستعدى عليه عمر رضوان الله عليه، فبعث إلى جبلة فأتاه فقال: ما هذا? قال: نعم يا أمير المؤمنين، إنه تعمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف فقال له عمر: قد أقررت فإما أن رضي الرجل وإما أن قيده منك. قال جبلة: ماذا تصنع بي? قال: آمر بهشم أنفك كما فعلت. قال: وكيف ذاك ياأمير المؤمنين، وهو سوقة وأنا ملك? قال: إن الإسلام جمعك وإياه، فلست تفضله بشيء إلا بالتقى والعافية قال جبلة: قد ظننت يا أمير المؤمنين أني اكون في الإسلام أعز مني في الجاهلية. قال عمر: دع عنك هذا فإنك إن لم ترضى الرجل أقدته منك. قال: إذا أتنصر. قال: إن تنصرت ضربت عنقك، لآنك قد أسلمت، فإن ارتددت قتلتك. فلما رأى جبلة الصدق من عمر قال: أنا ناظر في هذا ليلتي هذه. وقد اجتمع بباب عمر من حي هذا وحي هذا خلق كثير، حتى كادت تكون بينهم فتنة، فلما أمسوا أذن له عمر في الانصراف، حتى إذا نام الناس وهدءوا تحمل جبلة بخيله ورواحله إلى الشأم، فأصبحت مكة وهي منهم بلاقع، فلما انتهى إلى الشأم تحمل في خمسمائة رجل من قومه حتى أتى القسطنطينية، فدخل إلى هرقل، فتنصر هو وقومه، فسر هرقل بذلك جدا وظن أنه فتح من الفتوح عظيم، وأقطعه حيث شاء، وأجرى عليه من النزل ما شاء، وجعله من محدثيه وسماره. هكذا ذكر أبو عمرو.

وذكر ابن الكلبي أن الفزاري لما وطئ إزار جبلة لطم جبلة كما لطمه، فوثبت غسان فهشموا أنفه واتو به عمر، ثم ذكر باقي الخبر نحو ما ذكرناه.

وذكر الزبير بن بكار فيما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عنه أن محمد بن الضحاك حدثه عن أبيه: أن جبلة قدم على عمر رضي الله عنه في ألف من أهل بيته فأسلم. قال: وجرى بينه وبين رجل من أهل المدينة كلام، فسب المديني فرد عليه، فلطمه جبلة فلطمه المديني، فوثب عليه أصحابه فقال: دعوه حتى أسأل صاحبه وأنظر ما عنده. فجاء إلى عمر فأخبره فقال: إنك فعلت به فعلا ففعل بك مثله. قال: أو ليس عندك من الأمر إلا ما أرى. قال: لافما الأمر عندك يا جبلة? قال: من سبنا ضربناه، ومن ضربنا قتلناه. قال: إنما أنزل القرآن بالقصاص. فغضب وخرج بمن معه ودخل أرض الروم فتنصر، ثم ندم وقال:

تنصرت الأشراف من عار لطمة وذكر الأبيات، وزاد فيها بعد:

وميا ليت لي بالشأم أدنـى مـعـيشة                      أجالس قومي ذاهب السمع والبصر

أدين بمـا دانـوا بـه مـن شـريعة                      وقد يحبس العود الضجور على الدبر وذكر باقي خبره فيما وجه به إلى حسان مثله، وزاد فيه: أن معاوية لما ولي بعث إليه فدعاه إلى الرجوع إلى الإسلام، ووعده إقطاع الغوطة بأسرها، فأبى ولم يقبل.

 

 

صفحة : 1680

 

ثم إن عمر رضي الله عنه بدا له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الله جل وعز إلى الإسلام، ووجه إليه رجلا من أصحابه، وهو جثامة بن مساحق الكناني، فلما انتهى إليه الرجل بكتاب عمر أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد الرسول الانصراف قال له هرقل: هل رأيت ابن عمك هذا الذي جاءنا راغبا في ديننا? قال: لا. قال: فالقه. قال الرجل: فتوجهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة والحسن والسرور ما لم أر بباب هرقل مثله، فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم، وفيه من التصاوير مالا أحسن وصفه، وإذا هو جالس على سرير من قوارير، قوائمه أربعة أسد من ذهب، وإذا هو رجل أصهب سبال وعثنون، وقد امر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس، فما بين يديه من آنية الذهب والفضة يلوح، فما رأيت أحسن منه. فلما سلمت رد السلام ورحب بي، وألطفني ولامني على تركي النزول عنده، ثم أقعدني على شيء لم أثبته، فإذا هو كرسي من ذهب، فانجدرت عنه فقال: مالك? فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا. فقال جبلة أيضا مثل ثولي في النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكرته، وصلى عليه. ثم قال: يا هذا إنك إذا طهرت قلبك لم يضرك ما لبسته ولا ماجلست عليه. ثم سألني عن الناس وألحف في السؤال عن عمر، ثم جعل يفكر حتى رأيت الحزن في وجهه، فقلت: ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام? قال: أبعد الذي قد كان? قلت: قد ارتد الأشعث بن قيس.

ومنعهم الزكاة وضربهم بالسيف ثم رجع إلى الإسلام. فتحدثنا مليا ثم أومأ إلى غلام على رأسه فولي يحضر، فما كان إلا هنيهة حتى أقبلت الأخونة يحملها الرجال فوضعت، وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت منه، فوضع أمامي خوان خلنج وجامات قوارير ، وأديرت الخمر فاستعفيت منها، فلما فرغنا دعا بكأس من ذهب فشرب به خمسا عددا. ثم أومأ إلى غلام فولي يحضر، فما شعرت إلا بعشر جوار يتكسرن في الحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله، ثم سمعت وسوسة من ورائي، فإذا أنا بعشر أفضل من الأول عليهن الوشي والحلي، فقعد خمس عن يمينه وخمس عن شماله، وأقبلت جارية على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة، مؤدب، وفي يدها اليمنى جام فيه مسك وعنبر قد خلطا وانعم سحقهما، وفي اليسرى جام فيه ماء ورد، فألقت الطائر في ماء الورد، فتمعك بين جناحيه وظهر بطنه ، ثم اخرجته فألقته في جام المسك والعنبر، فتمعك فيها حتى لم يدع فيها شيئا، ثم نفرته فطار فسقط على تاج جبلة، ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي عليه شيء إلا سقط على رأس جبلة، ثم قال للجواري: أطربنني. فخفقن بعيد انهن يغنين:

الله در عصابة نادمـتـهـا                      يوما بجلق في الزمان الأول

بيض الوجوه كريمة أحسابهم                      شم النوف من الطراز الول

يغشون حتى ما تهر كلابهـم                      لايسألون عن الواد المقبـل فاستهل واستبشر وطرب ثم قال: زدنني. فاندفعن يغنين:

لمـن الـدار أقـفـرت بــمـــعـــان                      بين شـاطـي الـيرمـوك فـالـصـمـان

فحمى جاسم فأبنيه الصفر مغنى قنابل وهجان

فالقريات من بلاس فداريا فسكاء فالقصور الدواني

ذاك مغنى لآل جفنة في الد                      ار وحـق تـعـــاقـــب الأزمـــان

قد دنـا الـفـصـح فـالـولائد ينـظـــم                      ن سـراعـا أكـلة الــمـــرجـــان

لم يعـلـلـن بـالـمـغـافـير والـصــم                      غ ولانـقـف حـنـظـل الــشـــريان

قد أرانـي هـنـاك حـقـا مـكــينـــا                      عند ذي الـتـاج مـقـعـدي ومـكـانـي فقال: أتعرف هذه المنازل? قلت: لا. قال: هذه منازلنا في ملكنا بأكتاف دمشق، وهذا شعر ابن الفريعة حسان بن ثابت، شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قلت: أما إنه مضرور البصر كبير السن. قال: يا جارية هاتي. فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب من الديباج، فقال: ادفع هذا إلى حسان وأقرئه مني السلام.

ثم أرادني على مثلها، فأبيت فبكى، ثم قال لجواريه: أبكينني. فوضعن عيدانهن وأنشأن يقلن:

تنصرت الأشراف من عار لـطـمة                      وما كان فيها لو صبرت لها ضـرر

تكفنـي فـيهـا لـجـاج ونـخـوة                      وبعت بها العين الصحيحة بالعـور

فيا ليت أمي لم تلـدنـي ولـيتـنـي                      رجعت إلى القول الذي قال لي عمر

 

صفحة : 1681

 

 

وياليتني أرعى المخاض بـقـفـرة                      وكنت أسيرا في ربيعة أو مضـر

وياليت لي بالشأم أدنـى مـعـيشة                      أجالس قومي ذاهب السمع والبصر ثم بكى وبكيت معه حتى رأيت دموعه تجول على لحيته كانها اللؤلؤ، ثم سلمت عليه وانصرفت، فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وجبلة، فقصصت عليه القصة من أولها غلى آخرها، فقال: أو رأيت جبلة يشرب الخمر? قلت: نعم. قال: أبعده الله، تعجل فانية اشتراها باقية، فلما ربحت تجارته، فهل سرح معك شيئا? قلت: سرح إلى حسان خمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج. فقال: هاتها. وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتى دنا فسلم، وقال: يا أمير المؤمنين، إني لأجد لأرواح آل جفنة. فقال عمر رضي الله عنه: قد نزع الله تبارك وتعالى لك منه على رغم أنفه، وأتاك بمعونة. فانصرف عنه وهو يقول:

إن ابن جفنة من بقية معشر                      لم يغذهم آباؤهم بـالـلـوم

لم ينسني بالشأم إذ هو ربها                      كلا ولا متنصرا بـالـروم

يعطى الجزيل ولا يراه عنده                      إلا كبعض عطية المذمـوم

وأتيته يوما فقرب مجلسـي                      وسقىفرواني من الخرطوم فقال له رجل مجلس عمر: أتذكر قوما كانوا ملوكا فأبادهم الله وأفناهم? فقال: ممن الرجل? قال: مزني. قال: أما والله لولا سوابق قومك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لطوقتك طوق الحمامة. وقال: ما كان خليلي ليخل بي، فما قال لك? قال: قال إن وجدته حيا فادفعها إليه، وإن ودته ميتا فاطرح الثياب على قبره، وابتع بهذه الدنانير بدنا فانحرها على قبره. فقال حسان: ليتك وجدتني ميتا ففعلت ذلك بي? أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير قال: قال لي عبد الرحمن بن عبد الله الزبيري: قال الرسول الذي بعث به إلى جبلة. ثم ذكر قصته مع الجارية التي جاءت بالجامين والطائر الذي تمعك فيهما، وذكر قول حسان:

إن ابن جفنة من بقية معشر ولم يذكر غير ذلك. هكذا روى أبو عمرو في هذا الخبر.

وقد أخبرني به أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال: قال عبد الله بن سعدة الفزاري: وجهني معاوية إلى ملك الروم، فدخلت عليه، فإذا عنده رجل على سرير من ذهب دون مجلسه، فكلمني بالعربية فقلت: من أنت يا عبد الله? قال: أنا رجل غلب عليه الشقاء، أنا جبلة بن الأيهم، إذا صرت إلى منزلي فألقني. فلما انصرف وانصرفت أتيته في داره فألفيته على شرابه، وعنده قينتان تغنيانه بشعر حسان بن ثابت:

قد عفا جاسم إلى بيت رأس                      فالحواني فجانب الجولان وذكر الأبيات. فلما فرغتا من غنائهما أقبل علي ثم قال: ما فعل حسان بن ثابت? قلت: شيخ كبير قد عمي. فدعا بألف دينار فدفعها إلي، وأمرني أن أدفعها إليه ثم قال: أترى صاحبك يفي لي إن خرجت إليه? قال: قلت قل ما شئت أرعضه عليه. قال: يعطيني الثنية فإنها كانت منازلنا، وعشرين قرية من الغوطة منها دارياوسكاء، ويفرض لجماعتنا ويحسن جوائزنا. قال: قلت أبلغه. فلما قدمت على معاوية قال: وددت أنك أجبته إلى ما سأل فأجزته له. وكتب إليه معاوية يعطيه ذلك، فوجده قد مات.

قال: وقدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقيت حسان فقلت: يا أبا الوليد، صديقك جبلة يقرأ عليك السلام. فقال: هات ما معك. قلت: وما علمك أن معي شيئا، قال: ما أرسل إلي بالسلام قط إلا ومعه شيء. قال: فدفعت إليه المال.

أخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال: حدثنا عبد الله بن مسلم قال: حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه، عن أهل المدينة قالوا: بعث جبلة إلى حسان بخمسمائة دينار وكسى وقال للرسول: إن وجدته قد مات فابسط هذه الثياب على قبره. فجاء فوجده حيا، فأخبره فقال: لوددت أنك وجدتني ميتا.

 

تنصرت الأشراف من عار لطمة                      وكا كان فيها لو صبرت لهاضرر الأبيات الخمسة.

الشعر لجبلة بن الأيهم، والغناء لعريب نصب خفيف، وبسيط رملي بالوسطى. ومنها:

إن ابن جفنة من بقية معشر                      لم يغذهم آباؤهم بالـلـوم الأبيات الأربعة الشعر لحسان بن ثابت، والغناء لعيرب، هزيج بالبنصر.

 

 

صفحة : 1682

 

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا عمر يوسف بن محمد قال: حدثني عمر إسماعيل بن أبي محمد قال: قال الواقدي: حدثني محمد بن صالح قال: كان حسان بن ثابت يغدو على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في اهاه، فقال: لو وفدت على الحارث بن أبي شمر الغساني، فإن قرابة ورحما بصاحبي، وهو أبذل الناس للمعروف، وقد يئس مني أن أفد عليه، لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة.

قال: فخرجت في السنة التي كنت أقيم فيها بالمدينة، حتى قدمت على الحارث وقد هيأت له مديحا، فقال: لي حاجبه، وكن لي ناصحا: إن الملك قد سر بقدومك عليه، وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة، فإياك أن تقع فيه فإنه إنما يختبرك، وإن رآك قد وقعت فيه زهد فيك؛ وإن رآك تذكر محاسنه ثقل عليه فلا تبتديء بذكره، وإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه، امسح ذكره مسحا، وجاوزه إلى غيره، فإن صاحبك- يعني جبلة- أشد إغضاء عن هذا من هذا ، أي أشد تغافلا وأقل حفلا به، وذلك أن صاحبك أعقل من هذا وأبين، وليس لهذا بيان، فإذا دخلت عليه فسوف يدعوك إلى الطعام، وهو رجل يثقل عليه أن يؤكل طعامه ولا يبالي الدرهم والدينار، ويثقل عليه أن يشرب شرابه أيضا؛ فإذا وضع طعامه فلا تضع يدك حتى يدعوك، وإذا دعاك فأصب من طعامه بعض الإصابة. قال: فشكرت لحاجبه ما أمرني به.

قال: ثم دخلت عليه فسألني عن البلاد وعن الناس، وعن رجال يهود، وكيف ما بيننا من تلك الحروب. فكل ذلك أخبره حتى انتهى إلى ذكر جبلة، فقال: كيف تجد جبلة، فقد انقطعت إليه وتركننا? فقلت: إن جبلة منك وانت منه. فلم أجر إلى مدح ولا عيب، وجاز ذلك إلى غيره ثم قال: الغداء. فأتى بالغداء ووضع الطعام، فوضع يده فأكل أكلا شديدا، وإذا رجل جبار، فقال بعد ساعة: ادن فأصب من هذا .فدنوت فخططت تخطيطا، فأتي بطعام كثير، ثم رفع الطعام وجاء وصفاء كثير عددهم، معهم الأباريق فيها ألوان الأشرابة. ومعهم مناديل اللين فقاموا على رؤوسنا، ودعا أصحاب برابط من الروم فأجلسهم وشرب فألهوه، وقام الساقي على رأسي فقال: اشرب. فأبيت حتى قال هو: اشرب. فشربت، فلما أخذ فينا الشراب أنشدته شعرا فأعجبه ولد به، فأقمت عنده أياما فقال لي حاجبه: إن له صديقا هو أخف الناس عليه، وهو جاء، فإذا هو جاء جفاك وخلص به وقد ذكر قدومه، فاستأذنة قبل أن يقدم عليه، فإنه قبيح أن يجفوك بعد الأكرام، والإذن اليوم أحسن. قلت: ومن هو? قال: نابغة بني ذبيان. فقلت للحارث: إن رأى المك أن يأذن لي في الانصراف إلى أهلي فعل. قال: قد أذنت لك وأمرت لك بخمسمائة دينار وكسى وحملان . فقبضتها وقدم النابغة وخرجت إلى اهلي.

 

ألاإن ليلى العامرية أصـبـحـت                      على النأي مني ذنب غيري تنقم

وما ذاك من شيء أكون اجتر منه                      إليها فتجزبني به حـيث أعـلـم

ولكن إنسانا إذا مـل صـاحـبـا                      وحاول صوما لم يزل يتـجـرم

وما زال بي ما يحدث النأي والذي                      أعالج حتى كدت بالعـيش أبـرم

وما زال بي الكتمان حتى كأننـي                      برجع جواب السائلي عنك أعجم

لأسلم من قول الوشاة وتسلـمـي                      سلمت وهل حي من الناس يسلم عروضه من الطويل. الشعر لنصيب، ومن الناس من يروي الثلاثة الأبيات الأول للمجنون. والغناء لبديح مولىعبد الله بن جعفر رحمهماالله.

وفي الأبيات الأول منها ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش. وذكره حماد بن إسحاق ولم يجنسه. وفيه لابن سريج هزج خفيف بالبنصر في مجراها عن إسحاق في البيتين الأخيرين. وفيه لمعبد في البيتين الأولين خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق.

 

خبر بديح في هذا الصوت وغيره

بديح مولى عبد الله بن جعفر، وكان يقال له بديح المليح. وله صنعة يسيرة وإنما كان يغني أغاني غيره مثل سائب خاثر، ونشيط، وطويس، وهذه الطبقة. وقد روى بديح الحديث عن عبد الله بن جعفر.

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري قال: حدثنا أبو عاصم النبيل عن جويرية بن أسماء، عن عيسى بن عمر بن موسى، عن بديح مولى عبد الله بن جعفر قال:

 

صفحة : 1683

 

لما قدم يحيى بن الحكم المدينة دخل إليه عبد الله بن جعفر في جماعة فقال له يحيى: جئتني بأوباش من أوباش خبثة ? فقال عبد الله: سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم طيبة وتسميها أنت خبثة ? أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: قال دواد بن جميل حدثني من سمع هذا الحديث من ابن العتبي يذكره عن أبيه قال: دخل عبد الله بن جعفر على عبد الملك بن مروان وهو يتأوه، فقال: يا أمير المؤمنين، لو أدخلت عليك من يؤنسك بأحاديث العرب وفنون الأسمار? قال: لست صاحب هزل، والجد مع علتي أحجى بي. قال: وما علتك يا أمير المؤمنين? قال: هاج بي عرق النسا في ليلتي هذه، فبلغ مني. قال: فإن بديحا مولاي أرقى الناس منه. فوجه إليه عبد المك فلما مضر الرسول سقط في يدي ابن جعفر وقال: كذبة قبيحة عند خليفة. فما كان باسرع من أن طلع بديح فقال: كيف رقيتك من عرق النسا. قال: أرقى الخلق يا أمير المؤمنين. قال: فسري عن عبد اللهللأن بديحا كان صاحب فكاهة يعرف بها؛ فمد رجله فتفل عليها ورقاها مرارا، فقال عبد المك: الله أكبر، وجدت والله خفا ، يا غلام ادع فلانة حتى تكتب الرقية، فإنا لا نأمن هيجها بالليل فلا نذعر بديحا. فلما جاءت الجارية قال بديح: يا أمير المؤمنين، أمراته الطلاق إن كتبتها حتى تجعل حبائي. فأمر له بأربعة آلاف درهم فلما صارالمال بين يديه قال: وامرأته الطلاق إن كتبتها أو يصير المال إلى منزلي. فأمر به فحمل إلى منزله، فلما أحرزه قال: ياأمير المؤمنين، امرأته الطلاق إن كنت قرأت على رجلك إلا أبيات نصيب:

ألا إن ليلى العامرية أصبحـت                      على النأي مني ذنب غيري تنقم وذكر الأبيات وزارد فيها:

وما زلت أستصفي لك الود أبتغي                      محاسنة حتى كأنـي مـجـرم قال: ويلك ما تقول? قال امرأته الطلاق إن كان رقاك إلا بما قال: فاكتمها علي. قال: وكيف ذاك وقد سارت بها البرد إلى أخيك بمصر? فطفق عبد المك ضاحكا يفحص برجليه.

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبه قال: حدثني الأصمعي عن المنتجع النبهاني، عن أبيه بهذا الخبر مثل الذي قبله. وزاد في الشعر:

فلا تصر ميني حين لالي مرجع                      ورائي ولا لي عنكم متـقـدم وقال فيه: فسكن ما كان يجده عبد الملك، وأمر لبديح بأربعة آلاف درهم، فقال ابن جعفر لبديح: ما سمعت هذا الغناء منك مذ ملكتك فقال: هذا من نتف سائب خاثر.

أخبرني إسماعيل قال حدثنا عمر قال حدثني القاسم بن محمد بن عباد عن الأصمعي عن ابن أبي الزناد عن نافع-أراه نافع الخير مولى ابن جعفر- بهذا الخبر مثله، وزارد فيه أن بديحا رفع صوته يغنيه به لما قال له أن يكتب الرقية. وزاد فيه: فجعل عبد المك يقول: مهلا يابديح. فقال: إنما رقيتك كما علمت يا امير المؤمنين.

أخبرني إسماعيل قال حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو سلمة الغفاري عن عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال: كان ابن جعفر يحب أن يسمع عبد الملك غناء بديح، فدخل إليه يوما فشكا إليه عبد الملك ركبته فقال له ابن جعفر: يا أمير المؤمنين، إن لي مولى كانت أمه بربرية، وكنت ترقى من هذه العلة، وقد أخذ ذلك عنها. قال: فادع به. فدعي بديح، فجعل يتفل على ركبة عبد المك ويهمهم، ثم قال: قم يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك.

فقام عبد الملك لايجد شيئا، فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين مولاك لابد له من صلة. قال: حتى تكتب رقيته ثم أمر جارية له فكتبت: بسم الله الرحمن الرحيم. فقال: ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم. قال: كيف تكون ويلك رقية ليس فيها بسم الله الرحمن الرحيم? قال: فاكتبيها على مافيها. فأملى عليها:

ديار سليمى بين عيقة فالمـهـدي                      سقيت، وإن لم تنطقي، سبل الرعد ثم قال له ابن جعفر: لو سمعته منه. قال: أو يجيد? قال:نعم. قال: هات. فما برح والله حتى أفرغها في مسامعه.

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال حدثني عمي عبيد الله قال: حدثني سليمان بن أبي شيخ قال:كنا عند أبي نعيم الفضل بن دكين فجاءه رجل فقال: يا أبا نعيم، إن الناس يزعمون أنك رافضي. قال: فأطرق ساعة ثم رقع رأسه وهو يبكي وقال: يا هذا أصبحت فيكم كما قال نصيب:

وما زال بي الكتمان حتى كأنني                      نرجع جواب السائلي عنك أعجم

 

صفحة : 1684

 

 

لأسلم من قول الوشاة وتسلمـي                      سلمت وهل حي من الناس يسلم

ياغراب البين أسمعـت فـقـل                      إنما تنطق شـيئا قـد فـعـل

إن للخـير ولـلـشـر مـدى                      لكـلا ذينـك وقـت وأجــل

كل بـؤس ونــعـــيم زائل                      وبنات الدهر يلعـبـن بـكـل

والعطيات خـسـاس بـينـهـم                      وسواء قبـر مـثـر ومـقـل الشعر لعبد الله بن الزبعري السهمي، يقوله في غزاة أحد، وهو يومئذ مشرك. والغناء لابن سريج خفيف ثقيل أول بالبنصر، عن عمرو على مذهب إسحاق. وفيه لحن لابن مسجح من رواية حماد عن ابيه في كتاب ابن مسجح.

 

نسب ابن الزبعري وأخباره

 

وقصة غزوة أحد

هو عبد الله بن الزبعري بن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن زار.

وهو أحد شعراء قريش المعدودين. وكان يهجو المسلمين ويحرض عليهم كفار قريش في شعره، ثم أسلم بعد ذلك فقبل النبي صلى الله عليه وسلم إسلامه وأمنه يوم الفتح.

وهذه الأبيات يقولها ابن الزبعري في غزوةأحد.

حدثنا بالخير في ذلك محمد بن جرير الطبري قال حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حيان ، وعاصم بن عمرو بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمروبن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث ببعض هذا الحديث، فقد اجتمع حديثهم كلهم فيما سقت من الحديث عن يوم احد. قالوا: لما أصيبت قريش، أو من قاله منهم يوم بدر من كفار قريش، من أصحاب القليب، فرجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بن حرب بعيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، في رجال من قريش، ممن أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة، فقال أبو سفيان: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك ثأرا ممن أصيب منا. فعلوا، فاجتمعت قريش لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فعل ذلك أبو سفيان وأصحاب العير بأحابيشها ومن أطاعها من قبائل كنانة وأهل تهامة، وكل أولئك قد استغووا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو عزة عمرو بن عبد الله الجمحي قد من عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، وكان في الأسارى فقال: يار رسول الله، إني فقير ذو عيال وحاجة قد عرفتها، فامنن علي صلى الله عليك فمن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم،فقال صفوان بن أمية: يا أباعزة، إنك امرؤ شاعر فاخرج معنا فأعنا بنفسك. فقال: إن محمدا قد من علي، فلا أريدأن أظاهر عليه. فقال: بلى فأعنا بنفسك، ولك الله إن رجعت أن أعينك، وإن أصبت أن جعل بناتك مع بناتي، يصيبهن ما أصابهن من عسر أو يسر. فخرج أبو عزة يسير في تهامة ويدعو بني كنانة، وخرج مسافع بن عبدة بن وهب بن حذافة بن جمح إلى بني مالك بن كنانة يحرضهم ويدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا جبير بن مطعمغلاما يقال له وحشي، وكان حبشيا ثقذف بحربة له قذف الحبشة، قلما يخطيء بها، فقال:اخرج مع الناس ، فإن أنت قتلت عم محمد بعمى طعيمة بن عدي فأنت عتيق. وخرجت قريش بحدها وأحابيشها ومن معها من بني كنانة وأهل تهامة، وخرجوا بالظعن التماس الحفيظة، ولئلا يفروا. وخرج أبو سفيان بن حرب وهو قائد الناس، معههند بنت عتبة بن ربيعة، وخرج عكرمة بن أبي جهل بن هشام بن المغيرة وخرج صفوان بن أمية بن خلف ببرزة-وقيل ببرة من قول أبي جعفر-بنت مسعود بن عمرو بن عمير الثقفية، وهي أم عبد الله بن صفوان. وخرج عمرو بن العاص ، وخرج طلحة بن أبي طلحة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الداربسلافة بنت سعد بن شهيل ، وهي أم بني طلحة: مسافع، والجلاس، وكلاب، قتلوا يومئذ وأبوهم. وخرجت خناس بنت مالك بن المضرب إحدى نساء بني مالك بن حسل مع ابنها أبي عزة بن عمير، وهي أم مصعب بن عمير. وخرجت عمرة بنت علقمة إحدى نساء بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة.

 

 

صفحة : 1685

 

وكانت هند بنت عتبة بين ربيعة إذا مرت بوحشي أو مربها قالت: إيه أبا دسمة اشتف . فنزلوا ببطن السبخة من قناة على شفير الوادي مما يلي المدينة، فلما سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون قد نزلواحيث نزلوا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين: إني قد رأيت بقرا تذبح فأولتها خيرا، ورأيت في ذباب سيفي ثلما،ورأيت أني أدخلت يدي في درع حصينة، وهي المدينة ، فإن رأيتم أت تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا فيها قاتلناهم.

ونزلت قريش منزلها من أحد يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم ويم الخميس ويموم الجمعة، وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الجمعة فأصبح بالشعب من أحد، فالتقوا يوم السبت للنصف من شوال. وكان رأي عبد الله بن أبي سول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأيه في ذلك: أن لايخرج إليهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسامين، ممن أكرم الله جل ثناؤه بالشهادة يوم وأحد وغيرهم ممن فاته بدر وحضوره: يا رسول الله صلى الله عليك وسلم اخرج بنا إلى أعدائنا لايرون أنا جبنا عنهم وضعفنا. فقال عبد الله بن أبي بن سلول: يا رسول الله أقم بالمدينة، ولا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا منها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا يدخلها علينا إلا أصبنا منهم، فدعهم يا رسول الله، فإن أقاموا بشر مجلس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوق رؤوسهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين كما جاءوا. فلم يزل برسول الله صلة الله عليه وسلم الذين كان من أمرهم حب لقاء العدو، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة، حين فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة. وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار يقال له مالك بن عمرو، أحد بني النجار فصلى علية رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خرج عليهم، وقد ندم الناس: وقالوا أستكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك لنا فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فقالوا: يا رسول الله اسكرهناك ولم يكن ذلك لنا، فإن شئت فاقعد صلى الله عليك. فقال عليه السلام: ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل قال: فخرج رسول الله صلى الله عيه وسلم في ألف رجل من أصحابه، حتى إذا كانوا بالشرط، بين أحد والمدينة، انخزل عنه عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس، وقال أطاعهم فخرج وعصاني، والله ما ندري علام نقتل أنفسنا ها هنا أيها الناس. فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه، من أهل النفاق والريب، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أحد بني سلمة يقول: ياقوم أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوهم.فقالوا: لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكنا لانرى أنه يكون قتال. فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الانصراف قال: أبعدكم الله أعداء الله، فسيغني الله عز وجل عنكم.

وقال محمد بن عمر الواقدي: انخزل عبد الله بن أبي عن رسول الله صلى الله عيه وسلم من الشيخين بثبثمائة، فبقي رسول الله صالى الله عليه وسلم في سبعمائة، وكان المشركون في ثلاثة آلاف، والخيل مائتا فارس، والظعن خمس عشرة امرأة.

قال: وكان في المشركين سبعمائة دارع، ولم يكن معهم من الخيل إلا فرسان: فرس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفرس لأبي بردة بن نيار الحارثي. فادلج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشيخين حتى طلع الحمراء، وهما أطمان كان يهودي ويهودية أعميان يقومان عليهما فيتحدثان، فلذلك سميا الشيخين، وهما في طرف المدينة.

قال: وعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم لمقاتلة بعد المعزب، فأجاز من أجاز، ورد من رد. قال: وكان فيمن ردزيد بن ثابت، وأبو عمرو أسيد بن ظهير، والبراء بن عازب، وعرابة بن أوس. قال: وهو عرابة الذي قال فيه الشماخ:

إذا ما راية رفعت لمجد                      تلقاها عرابة باليمـين قال: ورد أبا سعيد الخدري، وأجاز سمرة بن جندب، ورافع بن خديج. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استصغر رافعا، فقام على خفين له فيهما رقاع، وتطاول على أطراف أصابعه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم أجازه.

 

 

صفحة : 1686

 

قال محمد بن جرير: فحدثني الحاث قال: حدثنا ابن سعد قال: أخبرني محمد بن عمر قال: كانت أم سمرة تحت مري بن سنان بن ثعلبة . عم أبي سعيد الخدري، وكان ربيه ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد وعرض أصحابه فرد من استصغر، رد سمرة بن جندب، واجاز رافع بن خديج، فقال سمرة لربيبه مري بن سنان: أجاز رافعا وردني وأنا أصرعه فقال يا رسول الله: رددت ابني واجزت رافع بن خديج وابني يصرعه? فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرافع وسمرة: اصطرعا. فصرع سمرة رافعا، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشهدها مع المسلمين، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم أبو خيثمة الحارثي.

رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سلك في حرة بني حارثة، فذب فرس بذنبه فأصاب كلاب سيف فاستله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-وكان يحب الفأل ولا يعتاف- لصاحب السيف: شم سيفك فإني أرى السيوف ستستل اليوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:  من رجل يخرج بنا على القوم من كثب من طريق لايمر بنا عليهم?  ، فقال أبوخيثمة، أخو بني حارثة بن الحارث: انا يا رسول الله. فقدمه فنفذ به في حرة بني حارثة وبين أموالهم، حتى سلكبه في مال المربع بن قيظي، وكان رجلا منا فقا ضرير البصر، فلما سمع حس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين قالم يحثي التراب في وجوههم ويقول: إن كنت رسول الله فلا أحل لك أن تدخل حائطي. قال: وقد ذكر لي أنه أخذ حفنة من تراب في يده قم قال: لو أني أعلم أني لا أصيب بها غيرك لضربت بها وجهك فابتدره القوم ليقتلوه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم  لاتفعلوا فهذا الأعمى البصر الأعمى القلب  وقد بدر إليه سعد بن زيد أخو بني عبد الأشهل حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، فضربه بالقوس في رأسه فشجه، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجهه حتى نزل السعب من أحد في عدوة الوادي إلى الجبل، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وقال: لا يقاتلن أحد أحدا حتى نأمره بالقتال. وقد سرحت قريش الظهر والكراع في زروع كانت بالصمعة من قناة للمسلمين، فقال رجل من المسلمين حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال: أترعى زروع بني قيلة ولما نضارب وتعبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في سبعمائة رجل، وتعبأت قريش وهم ثلاثة آلاف، ومعهم مائتا فارس قد جنبوا خيولهم، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف، وهو يومئذ معلم بثياب بيض، والرماة خمسمون رجلا، وقال: انضح عنا الخيل بالنبل لا يأتونا من خلفنا إن كانت لنا أو علينا، فأثبت بمكانك لا تؤتين من قبلك. وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين.

قال محمد بن جرير: فحدثنا هارون بن إسحاق قال: حدثنا مصعب بن المقدام قال: حدثنا أبو إسحاق عن البراء قال: لما كان يوم أحد ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا بإزاء الرماة، وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: لاتبرحوا مكانكم وإن رأيتمونا ظهرنا عليهم، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا.

فلما لقي القوم هزم المشركين، حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن وبدت خلاخيلهن فجعلوا يقولون: الغنيمة الغنيمة فقال عبد الله: مهلا أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأبو فانطلقوا، فلما أتوهم صرفت وجوههم فأصيب من المسلمين سبعون رجلا.

قال محمد بن جرير: حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قال:

 

صفحة : 1687

 

أقبل أبو سفيان في ثلاث ليال خلون من شوال حتى نزل أحدا، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن في الناس فاجتمعوا، وأمر الزبير على الخيل، ومعه يومئذ المقداد الكندي، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم الراية رجلا من قريش يقال له مصعب بن عمير، وخرج حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه بالجيش، وبعث حمزة بين يديه. وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين، ومعه عكرمة بن أبي جهل، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير، وقال: استقبل خالد بن الوليد فكن بإزائه حتى أوذنك. وأمر بخيل أخرى فكانوا من جانب آخر، فقال: لاتبرحن حتى أوذنكم. وأقبل أبو سفيان يحمل الآت والعزى، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل، فحمل على خالد بن الوليد فهزمه الله تعالى ومن معه، فقال جل وعز:)ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه( إلى قوله تبارك اسمه وتعالى)من بعدما أراكم ما تحبون( وإن الله تعالى وعد المؤمنين النصر وأنه معهم. وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس فكانوا من ورائهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كونوا ها هنا، فردوا وجه من فرمنا وكونوا حرسا لنا من قبل ظهورنا. وإنه عليه السلام لما هزم القوم هو وأصحابه قال الذين كانوا جعلوا من ورائهم بعضهم لبعض-ورأوا النساء مصعدات في الجبل، ورأو الغنائم-: انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدركوا الغنائم قبل أن تسبقوا إليها. وقالت طائفة أخرى: بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا. فقال ابن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذ.

قال محمد بن جرير: حدثني محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن الفضل قال حدثنا أسباط عن السدي قال: لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد إلى المشركين أمر الرماة فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين وقال لهم:لاتبرحوا مكانكم إن رأيتم قد هزمناهم، فإنا لانزال غالبين ما ثبتم مكانكم. وأمر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوات بن جببير. ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال: يا معاشر أصحاب محمد، إنكم تزعمون أن الله عز وجل تعجلنا بسيوفكم إلى النار، وتعجلكم بسيوفنا إلى الجنة، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة، أو يعجلني بسيفه إلى النار? فقالم إليه علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: والذي نفسي بيده لا أفارقك حتى يعجلك الله عز وجل بسيفي إلى النار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة فضربه علي فقطع رجله فبدت عورته فقال: أنشدك الله والرحم يا ابن عم. فتركه فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال لعلي وأصحابه: ما منعك أن تجهز عليه? قال: إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته، قاستحييت منه. ثم شد الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود على المشركين فهزماهم، وحمل النبي صلى الله عليه وسلم واصحابه فهزموا أبا سفيان، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل فرمته الرماة فانقمع ، فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتبهونه بادروا الغنيمة فقال بعضهم: لانترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانطلق عامتهم فلحقوا بالعسكر، فلما رأى خالد قلة الرماة صاح في خيله، ثم حمل فقتل الرماة، وحمل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل تبادروا فشدوا على المسلمين فهزموهم وقتلوهم.

رجع إلى حديث ابن إسحاق

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأخذ هذا السيف بحقه? فقالم إليه رجال، فأمسكه بينهم، حتى قام إليه أبو دجانة سماك بن خرشة أخو بني ساعدة فقال: وما حقه يارسول الله? قال: أن تضرب به في العدو حتى ينحني . فقال: أنا آخذه بحقه يا رسول الله. فأعطاه إياه. وكان أبو دجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب إذا كانت، وكان إذا أعلم على رأسه بعصابة له حمراء علم الناس أنه سيقاتل، فلما أخذ السيف من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله أخذ عصابته تلك فعصب بها رأسه، ثم جعل يتبختر بين الصفين.

 

 

صفحة : 1688

 

قال محمد بن إسحاق: حدثني جعفر بن عبد الله بن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عن رجل من الأنصار من بني سلمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأى أبا دجانة يتبختر: إنها مشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن. وقد أرسل أبو سفيان رسولا فقال: يا معشر الأوس والخزرج، خلوا بيننا وبين ابن عمنا ننصرف عنكم، فإنه لاحاجة بنا إلى قتالكم. فردوه بما يكره.

وعن محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن أبا عمرو بن صيفي بن النعمان بن مالك بن أمية، أحد بني ضبيعة وقد خرج إلى مكة مباعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه خمسون غلاما من الأوس، منهم عثمان بن حنيف-وبعض الناس يقول: كانوا خمسة عشر- فكان يعد قريشا أن لو قد لقي محمدا لم يختلف عليه منهم رجلان. فلما التقى الناس كان أول من لقيهم أبو عمر في الأحابيش وعبدان أهل مكة، فنادى: يا معشر الأوس، أنا أبو عامر.

قالوا: فلا أنعم الله بك عينا يا فاسق. وكان أبو عامر يسمى في الجاهلية الراهب، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاسق. فلما سمع ردهم عليه قال: لقد أصاب قومي بعدي شر ثم قاتلهم قتالا شديدا ثم راضخهم بالحجارة . وقد قال أبو سفيان لأصحاب اللواء من بني عبد الدار يحرضهم بذلك على القتال: يا بني عبد الدار، إنكم وليتم لواءنا يوم بدر فأصابنا ما قد رأيتم، وغنما يؤتى الناس من قبل راياتهم، إذا زالت زالوا، فإما أن تكفونا لواءنا، وإما أن تخلوا بيننا وبينه فسنكفيكموه، فهموا به وتوعدوه وقالوا: نحن نسلم إليك لواءنا? ستعلم غدا إذا التقينا كيف نصنع وذلك الذي أراد أبو سفيان. فلما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللواتي معها، وأخذن الدفوف يضربن خلف الرجال، ويحرضنهم، فقالت هند فيما تقول:

إن تقبلوا نعانـق                      ونفوس النمارق

أو تدبروا تفارق                      فراق غير وامق وتقول:

إيها بني عبد الدار                      أيها حماة الأدبار

ضربا بكل بتار واقتل الناس حتى حميت الحرب، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب عليهما السلام في رجال من المسلمين، فأنزل الله نصره، وصدقهم وعده، فحسوهم بالسيف حتى كشفوهم، وكانت الهزيمة.

وعن محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن ابيه عن جده قال قال الزبير: والله لقد رأيتني أنظر إلى هند بنت عتبة وصواحبها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذا مالت الرماة إلى الكر حتى كشفنا القوم عنه يريدون النهب، وخلوا ظهورنا للخيل، فأتينا من ادبارنا وصرخ صارخ: ألا إن محمد قد قتل: فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء، حتى ما يدنو إليه أحد من القوم.

وعن محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم أن اللواء لم يزل صريعا حتى أخذته عمرة بنت علقمة الحارثية، فرفعته لقريش فلا ذوابها، وكان اللواء مع صواب غلام لبني أبي طلحة جشي، فكان آخر من أخذه منهم، فقاتل حتى قطعت يداه، فبرك عليه وأخذ اللواء بصدره وعنقه حتى قتل عليه وهو يقول: اللهم قد أعذرت فقال حسان بن ثابت في قطع يد صواب حين تقادفوا بالشعر:

فخرتم ياللواء وشـر فـخـر                      لواء حين رد إلـى صـواب

جعلتم فخركم فيهـا لـعـبـد                      من الأم من وطي عفر التراب

ظننتم والسفـيه لـه ظـنـون                      وما إن ذاك من أمر الصواب

بأن جلادنـا يوم الـتـقـينـا                      بمكة بيعكم حمـر الـعـياب

أقر العين إن عـصـبـت يداه                      وما أن يعصبان على خضاب قال محمد بن جرير: وحدثنا أبو كريب قال: حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا حبان بن علي عن محمد بن عبد الله بن أبي رافع، عن أبيه عن جده قال:

 

صفحة : 1689

 

لما قتل أصحاب الأولوية يوم أحد-قتلهم علي بن أبي طالب عليه السلام- أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من مشركي قريش فقال لعلي: احمل عليهم. فحمل علي ففرق جمعهم، وقتل عمرو بن عبد الله بن الجمحي، ثم أبصر جماعة من مشركي قريش فقال لعلي؛ احمل. فحمل علي ففرق جمعهم، وقتل شيبة بن مالك أحد بني عامر بن لؤي، فقال جبريل عليه السلام: يار رسول الله إن هذه للمواساة . فقال رسول الله صالى الله عليه وسلم  هو مني وأنا منه  ، فقال جبريل عليه السلام:وانا منكم قال: فسمعوا صوتا:

لاسيف إلا ذو الفقا                      ر ولا فتى إلا علي فلما أتي المسلمون من خلفهم انكشفوا، وأصاب منهم المشركون، وكان المسلمون لما أصابهم ما أصابهم من البلاء أثلاثا: وثلث جريح، وثلث منهزم وقد جهدته الحرب حتى ما يدري ما يصنع. وأصيبت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم السفلى، وسقت شفته، وكلم في وجنته وجبهته في أصول شعره، وعلاه ابن قمئة بالسيف على شقه الأيمن، وكان الذي أصابه عتبة بن أبي وقاص.

قال محمد بن جرير: وحدثنا ابن يسار قال حدثنا ابن أبي عدي عن حميد عن انس بن مالك قال: لما كان يوم أحد كسرت رباعية رسول الله صلى الله عله وسلم وشج، فجعل الدم يسيل على وجهه، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول:  كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى الله تعالى  . فأنزل الله عز وجل: )ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم(. الآية. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غشية القوم: من رجل يشري لي نفسه?.

قال محمد: فحدثني ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن محمود بن عمرو بن يزيد بن السكن قال: فقام زياد بن السكن في نفر خمسة من الأنصار- وبعض الناس يقول: إنما هو عمارة بن زياد بن السكن- فقاتلوا دون رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاثم رجلا، يقتلون دونه حتى كان آخرهم زياد بن عمارة بن زياد بن السكن، فقاتل حتى أثبتته الجراحة، ثم فاءت من المسلمين فئة حتى أجهضوهم عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أدنوه مني. فأدنوه منه فوسده قدمه، فمات وخده على قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وترس من دون النبي صلى الله عليه وسلم أبو دجانة بنفسه، يقع النبل في ظهره وهو منحن عليه حتى كثرت فيه النبل. ورمى سعد بن أبي وقاص دون رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سعد: فلقد رأيته يناولني ويقول: فداكأبي وأمي، حتى إنه ليناولني السهم ما فيه نصل فيقول: ارم به وعن محمد بن إسحاق قال حدثني عاصم بن عمر بن قنادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى عن قوسه حتى اندقت سيتها، فأخذها قتادة بن النعمان فكانت عنده، واصيبت يومئذ عين قنادة حتى وقعت على وجنته.

 

 

صفحة : 1690

 

وعن محمد بن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قنادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها بيده فكانت أحسن عينيه وأحدهما. وقاتل مصعب بن عمير دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه لؤلؤة حتى قتل، وكان الذي أصابه ابن قمئة الليثي وهو يظن أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرجع إلى قريش فقال: قد قتلت محمدا فلما قتل مصعب بن عمير أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء علي بن طالب عليه السلام. وقاتل حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حتى قتل أرطاة بن شر حبيل بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، وكان أحد النفر الذين يحملون اللواء، ثم مر به سباع بن عبد العزى الغبشاني، وكان يكنى أبا نيار، فقال له حمزة : هلم إلي يا ابن مقطعة البظور- وكانت أمه ختانة بمكة مولاة شريق بن عمرو بن وهب الثقفي- فلما التقيا ضربه حمزة عليه السلام فقتله، فقال وحشي غلام جبير بن مطعم: إني لأنظر إلى حمزة يهد الناس بسيفه ما يليق شيئا يمر به ، مثل الجمل الأورق، إذ تقدمني إليه سباع بن عبد العزى فقال له حمزة: هلم إلي يا ابن مقطعة البظور. فضربه فلما أخطأ رأسه، وهززت حربتي حتى إذا ما رضيت دفعتها عليه فوقعت عليه في لبته حتى خرجت من بين رجليه، وأقبل نحوي فغلب فوقع، فأمهلته حتى إذا مات جئت فأخذت حربتي ثم تنحيت إلى العسكر، ولم يكن لي بشيء حاجة غيره. وقد قتل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، أحد بني عمرو بن عوف، مسافع بن طلحة وأخاه كلاب بن طلحة، كلاهما يشعره سهما فيأتي أمهفيضع رأسه في حجرها فتقول: يا بني من أصابك? فيقول: سمعت رجلا يقول حين رماني: خذها إليك وأنا ابن أبي الأقلح فتقول: أقلحي? فنذرت لله إن الله أمكنها من رأس عاصم أن تشرب فيه الخمر. وكان عاصم قد عاهد الله عز وجل أن لايمس مشركا ولا يمسه.

عن ابن إسحاق قال حدثني القاسم بن عبد الرحمن بن رافع، أخو بني عدي بن النجار قال: انتهى أنس بن النضر، عم أنس بن مالك، إلى عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله، في رجال من المهاجرين والأنصار، وقد ألقوا بأيديهم، فقال: ما يجلسكم ههنا? فقالوا: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فما تصنعون بالحياة بعده? قوموا فموتوا كراما على مامات عليه. ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل. وبه سمي أنس بن مالك.

عن ابن إسحاق قال: حدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: لقد وجدنا بأنس بن النضر يومئذ سبعين ضربة وطعنة، فما عرفته إلا أخته، عرفته بحسن بنانه.

عن ابن إسحاق قال: كان أول من عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهزيمة وقول الناس: قتل رسول الله -كما حدثني ابن شهاب الزهري- كعب بن مالك أخو بني سلمة. قال: عرفت عينيه تزهران تحت المغفر، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إلي عليه السلام: أن أنصت. فلما عرف المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم نهضوا به، ونهض نحو الشعب معه أبو بكر بن أبي قحافة، وعمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، والحارث بن الصمة، في رهط من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين.

 

 

صفحة : 1691

 

فلما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، أدركه أبي خلف وهو يقول: يا محمد لانجوت إن نجوتفقال القوم: يار سول الله أيعطف عليه رجل منا? فقال: دعوه. فلما دنا تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارثبن الصمة. قال: يقول بعض الناس فيما ذكر لي: فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفض بها انتفاضة تطايرنا عنه تطايرالشعراء من ظهر البعير إذا انتفض، ثم استقبله فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ بها عن فرسهمرارا . وكان أبي بن خلف- كما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن صالح عن إبراهيم بن عبد الرحمنبن عوف-يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة فيقول: يامحمد، إن عندي العود اعلفه كل يوم فرقا من ذرة أقتلك عليه فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أنا أقتلك إن شاء الله تعالى. فلما رجع إلى قريش وقد خدشه في حلقه خدشا غير كبير، فاحتقن الدمقال: قتلني والله محمد قالوا: ذهب والله فؤادك، والله ما بك بأس. قال: إنه كان بمكة قال لي : أنا أقتلك، فوالله لو بصق علي لقتلني. فمات عدو الله بسرف وهم قافلون به إلى مكة، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلمإلى فم الشعب خرج علي بن أبي طالب حتى ملأ درقته من المهراس ثم جاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشرب منه وغسل عن وجهه الدم، وصب على رأسه وهو يقول:  اشتد غضب الله عز وجل على من دمى وجه نبيه  .

قال محمد بن إسحاق: حدثني صالح بن كيسان عمن حدثه عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يقول: والله ماحرصت على قتل رجل قط ما حرصت على قتل عتبة بن أبي وقاص، وإن كان ما علمت لسيء الخلق مبغضا في قومه، ولقد كفاني منه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:  اشتد غضب الله على من دمى وجه رسول الله  قال حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني صالح بن كيسان قال: خرجت هند والنسوة اللواتي معها يمثلن بالقتلى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجدعن الآذان والآنف، حتى اتخذت هند من آذان الرجال وآنفهم خدما وقلائد ، وأعطت خدمها وقلائدها وقرطها وحشيا غلام جبير بن مطعم، وبقرت عن كبد حمزة عليه السلام، فأخرجت كبده فلاكتها، فلم تستطع أن تسيغها فلفظتها، ثم علت على صخرة مشرفة فصاحت بأعلى صوتها بما قالت من الشعر حين ظفروا بما أصابوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال حدثني صالح بن كيسان أنه حدث أن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه قال لحسان: يا ابن الفريعة، لو سمعت ما تقثرل هند ورأيت أشرها قائمة على صخرة ترتجز بنا وتذكر ما صنعت بحمزة? قال له حسان: والله إني لأنظر إلى الحربة تهوي وإني على رأس فارع-يعني أطمه- فقلت: والله، إن هذه لسلاح ما هي بسلاح العرب، وكأنها إنما تهوي إلى حمزة ولا أدري، أسمعني بعض قولها أكفكموها. قال: فأنشده عمر بعض ما قالت، فقال حسان يهجو هندا:

أشرت لكاع وكان عادتهـا                      لؤما إذا أشرت من الكفر

لعن الإله وزوجها معهـا                      هند الهنود طويلة البظـر

أخرجت مرقصة إلى أحد                      في القوم مقتبة غلى بكر

بكر ثفـال لاحـراك بـه                      لاعن معاتـبة ولا زجـر

وعصاك استك تتقين بهـا                      دقي العجابة منك بالفهـر

قرحت عجيزتها ومشرجها                      من دأبها نصا على الفتـر

ظلت تداويها زميلـتـهـا                      بالماء تنضحه والـسـدر

أخرجت ثـائرة مـبـادرة                      بأبيك فاتـك يوم ذي بـدر

وبعمك المستوه فـي ردع                      واخيك منعفرين في الجفر

ونسيت فاحشة أتيت بـهـا                      ياهند ويحك سيئة الذكـر

فرجعت صاغرة بلا تـرة                      منا ظفرت بها ولا نصـر

زعم الولائد أنهـا ولـدت                      ولدا صغيرا كان من عهر قال محمد بن جرير: ثم إن أبا سفيان بن حرب أشرف على القوم فيما حدثنا هارون بن إسحاق قال:حدثنا مصعب بن المقدام قال حدثنا إسرائيل، وحدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي عن إسرائيل قال حدثنا ابن إسحاق عن البراء قال:

 

صفحة : 1692

 

ثم إن أبا سفيان أشرف علينا فقال: أفي القوم محمد? فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لاتجيبوه مرتين، ثم قال: أفي القوم ابن أبي قحافة? ثلاثا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:لاتجيبوه . ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما هؤلاء فقد قتلوا، لو كانوا في الأحياء لأجابوا فلم يملك عمر بن الخطاب رضي الله عنه نفسه أن قال: كذبت ياعدوا الله، قد أبقى الله لك ما يخزيك. فقال: أعل هبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول? قال: قولوا الله أعلى وأجل قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا ما تقول? قال: قولوا: ما نقول? قال: قولوا الله مولانا ولا مولى لكم. قال أبوسفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، أما إنكم ستجدون في القوم مثلا لم أمر بها ولم تسؤني.

لما أجاب عمر رضي الله عنه أبا سفيان قال له أبو سفيانك هلم يا عمر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ايته فانظر ما شأنه? فجاءه فقال له سفيان: أنشدك الله يا عمر أقتلنا محمدا? فقال عمر: اللهم لا، وإنه ليسمع كلامك الآن. قال: أنت أصدق عندي من ابن قمئة وأبر؛ لقول ابن قمئة لهم: إني قتلت محمدا. ثم نادى أبو سفيان فقال: إنه قد كان مثل والله ما رضيت ولا سخطت، ولا أمرت ولا نهيت، وقد كان الحليس بن زبان، أخو بني الحارث بن عبد مناة، وهو يومئذ سيد الأحابيش، قد مر بأبي سفيان بن حرب وهو يضرب في شدق حمزة عليه السلام وهو يقول: ذق عقق  فقال الحليس: يا بني كنانة، هذا سيد قريش يصنع بابن عمه كما ترون لحما  فقال اكتمها عليفإنها كانت زلة قال: فلما انصرف أبو سفيان ومن معه نادى: ان موعدكم بدر، العام المقبل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله لرجل من أصحابه: قل: نعم، هي بيننا وبينك موعد.

خروج علي بن أبي طالب في أثر المشركين: ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: اخرج في آثار القوم فانظر ماذا يصنعون، فإن كانوا قد جبنوا متطوا الإبل فإنهم يريدون مكة، وإن ركبوا الخيل وساقوا الإبل فهم يريدون المدينة، فوالذي نفسي بيده لئن أرادوها لأسيرن إليهم ثم لأناجزنهم. قال علي: فخرجت في آثارهم أنظر ما يصنعون، فلما جنبوا الخيل وامتطوا الإبل توجهوا إلى مكة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي: أي ذلك كان فأخفه حتى يأتيني. قال علي: فلما رايتهم قد توجهوا إلى مكة أقبلت أصيح، ما أستطيع أن أكتم الذي أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما بي من الفرح، إذ رأيتهم انصرفوا إلى مكة عن المدينة،وفرغ الناس لقتلاهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم-كما حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعه المازني أخي بني النجار.

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:  من رجل ينظر لي ما فعل سعد بن الربيع-وسعد أخو بني الحارث بن الخزرج-أفي الأحياء هو أم في الأموات?  . فقال رجل من الأنصار: أنا أنظر لك يار رسول الله ما فعل. فنظر فوجده جريحا في القتلى به رمق. قال: فقلت له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن انظر له افي الأحياء أنت أم في الأموات? قال: فأنا في الأموات. أبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقل له: إن سعد بن الربيع يقول لك: جزاك الله خير ما جزى نبيا عن امته، وأبلغ قومك عني السلام وقل لهم: إن سعد بن لاربيع يقول: لاعذر لكم عند الله جل وعز إن خلص إلى نبيكم وفيكم عين تطرف. ثم لم أبرح حتى مات رحمه الله، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته.

وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما بلغني، يلتمس حمزة بن عبد المطلب عليه السلام، فوجده ببطن الوادي قد يقر بطنه عن كبده، ومثل به فجدع أنفه وأذناه.

 

 

صفحة : 1693

 

وعن ابن إسحاق قالك فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رأى بحمزة ما رأى:  لولا أن تحزن صفية أو تكون سنة من بعدي لتركته حتى يكون في أجواف السباع ومواصل الطير، ولئن أنا أظهرني الله على قريش في موطن من المواطن لأمثلن بثلاثين رجلا منهم  . فلما رأى المسلمون حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيظه على ما فعل بعمه قالوا: والله لئن أظهرنا الله عليهم يوما من الدهر لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط.

وعن محمد بن إسحاق قال: حدثني بريدة بن سفيان بن فروة الأسلمي عن محمد بن كعب القرظي، عن ابن عباس. قال ابن حميدة قال سلمة، وحدثني محمد بن إسحاق قال: فحدثنا الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس: أن الله عز وجل أنزل في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ) وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين( إلى آخر السورة. فعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصبر، ونهى عن المثلة.

قال ابن إسحاق فيما بلغني: خرجت صفية بنت عبد المطلب لتنظر إلى حمزة وكان أخاها لأمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: القها فأرجعها لاترى ما بأخيها. فلقيها الزبير فقال: يا أمه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر أن ترجعي. فقالت: ولم، فقد بلغني أنه مثل بأخي، وذلك في الله جل وعز قليل، فما أرضانا بما كان من ذلك، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله تعالى? فلما جاء الزبير رسول الله صلى اله عليه وسلم فأخبره بذلك قال: خل سبيلها. فأتته فنظرت إليه وصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به فدفن.

قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد، رجع حسيل بن جابر-وهو اليمان أبو حذيفة بن اليمان-وثابت بن وفش بن زعورا في الآطام مع النساء والصبيان، فقال أحدهما لصاحبه وهما شيخان كبيران: لا أبا لك ما تنتظر، فوالله إن بقي لواحد منا من عمره إلا ظمء حمار ، إنما نحن هامة اليوم أوغد ، أفلا تأخذ أسيافنا ثم نلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم لعل الله يرزقنا شهادة معه. فأخذا أسيافهما ثم خرجا حتى دخلا في الناس، ولم يعلم أحد بهما. فأما ثابت بن وقش فقتله المشركون، وأما حسيل بن جابر اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولم يعرفوه، فقال حذيفة: أبي قالوا: والله إن عرفناه وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يديه ، فتصدق حذيفة بديته على المسلمين، فزادته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا قال حدثني محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: كان فينا رجل أتي لاندري من أين هو، يقال له قزمان، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا ذكره:  إنه من أهل النار  فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا فقتل هو وحده ثمانية من المشركين أو تسعة، وكان شهما شحاعا ذا بأس، فأثبتته الجراحة فاحتمل إلى دار بني ظفر، قال:فجعل رجال من المسلمين يقولون: والله لقد أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر. قال: بم أبشر? فوالله أن قاتلت إلا على حساب قومي، لولا ذلك ما قاتلت. فلما اشتدت عليه جراحته أخذ سهما من كنانته فقطع رواهشه فنزفه الدم فمات، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إني رسول الله حقا.

وعن محمد بن إسحاق قال: حدثني حسين بن عبد الله عن عكرمة قال:

 

صفحة : 1694

 

كان يوم أحد يوم السبت للنصف من شوال، فلما كان الغد من يوم أحد، وذلك يوم الأحد لست عشرة ليلة خلت من شوال، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس بطلب العدو، وأذن مؤذنه أن لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس. فكلمه جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري فقال: يارسول الله، إن أبي كان خلفني على أخوات لي سبع وقال لي: يا بني، إنه لاينبغي لي ولا لك أن نترك هؤلاء النسوة بلا رجل فيهن، ولست بالذي أوثرك بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي، فتخلف على أخواتك. فتخلفت عليهن. فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج معه، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مرهبا للعدو، وانهم خرجوا في طلبهم فيظنون أن بهم قوة، وان الذي أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم.

عن محمد بن إسحاق: قال فحدثني عبد الله بن خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان بن عفان، أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني عبد الأشهل كان شهد أحدا. قال: فشهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا واخ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي وقال لي: أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما لنا من دابة نركبها، وما منا إلا جريح ثقيل. فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت إيسر جرحا منه، فكنت إذا غلب عليه حملته عقبة حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتهينا إلى حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال، فأقام بها ثلاثا: الاثنين والثلاثاء والأربعاء، ثم رجع إلى المدينة.

قال ابن إسحاق عن عبد الله بن ابي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم معبد الخزاعي، وكان خزاعة مسلمهم ومشركهم عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لايخفون عليه شيئا كان بها، ومعبد يومئذ مشرك، فقال: يا محمد لقد عز علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددت أن الله قد أعفاك منهم. ثم خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بحمراء الأسد حتى لقي أبا سفيان بن حرب بالروحاء ومن معه، وقد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أصبنا جد أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثم رجعنا قبل أن نستأصلهم، لنكرن على بقيتهم فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبدا قال: ما وراءك يا معبد? قال: محمد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثله قط يتحرقون عليكم تحرقا، قد اجتمع معه من كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على ما صنعوا فيهم من الحنق عليكم، شيء لم أر مثله قط. قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: فوالله لقد أجمعناالكرة لنستأصل شأفتهم . قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيت على أن قلت فيه أبياتا من شعر.

قال: وماذا قلت? قال قلت:

كادت تهد من الأصوات راحلتي                      إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل

فظلت عدوا أظن الأرض مائلة                      لما سموا برئيس غير مخـذول

فقلت ويل بن حرب من لقائكـم                      إذا تغطمطت البطحاء بالجـيل

إني نذير لأهل السيل ضـاحـية                      لكل ذي إربه منهم ومعـقـول

من جيش أحمد لاوخش تنـابـلة                      وليس يوص ما أنذرت بالقـيل قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومر به ركب من عبد القيس فقال: أين تريدون? قالوا: نريد المدينة. قال: فلم? قالوا: نريد الميرة. قال: فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمل لكم إبلكم هذه غدا زبيبا بعكاظ إذا وافيتموها? قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أن قد أجمعنا السير إليهوإلى أصحابه، لنستأصل شأفتهم. فمر الركب برسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسول الله صلى عليه وسلم وأصحابه:  حسبنا الله ونعم الوكيل  .

 

أمن ريحانة الداعي السميع                      يؤرقني وأصحابي هجوع

براني حب من لا أستطيع                      ومن هو للذي أهوى منوع

إذا لم تستطع شيئا فـدعـه                      وجاوزه إلى ما تستطـيع

 

صفحة : 1695

 

الشعر لعمرو بن معد يكرب الزبيدي، والغناء للهذلي، ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، منرواية إسحاق. وفيه ثقيل أول على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة. وفيه لابن سريج رمل بالوسطى من رواية حماد عن أبيه.

 

ذكر عمرو بن معد يكرب وأخباره

هو عمرو بن معد يكرب بن عبد الله بن عمرو بن عصم بن عمرو بن زبيد، وهو منبه.

هكذا ذكر محمد بن سلام فيما أخبرنا به أبو خليفة عنه.

وذكر عمر بن شبة عن أبي عبيدة أنه عمرو بن معد يكرب بن ربيعة بن عبد الله بن عمرو بن عصم بن زبيد بن منبه بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مذحج بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعب بن قحطان.

ويكنى أبا ثور، وأمه وأم أخيه عبد الله امرأة من جرم فيما ذكر، وهي معدودة من المنجبات.

أخبرنا محمد بن دريد قال: أخبرنا أو حاتم عن أبي عبيدة قال: عمرو بن معد يكرب فارس اليمن، وهومقدم على زيد الخيل في الشدة والبأس.

وروى علي بن محمد المدائني عن زيد بن قحيف الكلابي قال: سمعت أشياخنا يزعمون أن عمرو بن معد يكرب كان يقال له مائق بني زبيد، فبلغهم أن خثعم تريدهم، فتأهبوا لهم، وجمع معد يكرب بني زبيد، فدخل عمرو على أخته فقال: أشبعني إني غدا لكتيبة . قال: فجاء معد يكرب فأخبرته ابنته فقال: هذا المائق يقول ذاك? قالت: نعم. قال: فسليه ما يشبعه. فسألته فقال: فسليه ما يشبعه. فسألته فقال: فرق من ذرة، وعنز رباعية. قال: وكان الفرق يومئذ ثلاثة أصوع . فصنع له ذلك.

وذبح العنز وهيأ له الطعام. قال: فجلس عليه فسلته جميعا. وأتتهم خثعم الصباح فلقوهم، وجاء عمرو فرمى بنفسه. ثم رفع رأسه فإذا لواء أبيه قائم، فوضع رأسه فإذا لواء أبيه قد زال، فقام كأنه سرحةمحرقة، فتلقى أباه وقد انهزموا فقال: انزل عنها، فاليوم ظلم . فقال له: إليك يا مائق فقال له بنو زبيد: خله أيها الرجل وما يريد، فإن قتل كفيت مؤقته، وإن ظهر فهو لك. فألقى إليه سلاحه فركب، ثم رمى خثعم بنفسه حتى خرج من بين أظهرهم، ثم كر عليهم وفعل ذلك مرارا، وحملت عليهم بنو زبيد فانهزمت خثعم وقهروا، فقيل له يومئذ: فارس زبيد.

قال أبو عمرو الشيباني: كان من حديث عمرو بن معد يكرب بن ريعة بن عبد الله بز زبيد بن منبه بن سلمة بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك- وهو مذحج- بن أددين زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، أنه قال لقيس بن مكشوح المرادي، وهو ابن أخت عمرو، حين انتهى إليهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا قيس، إنك سيد قومك، وقد ذكر لنا أن رجلا من قريش يقال له محمد قد خرج بالحجاز، يقال له نبي، فانطلق بنا حتى نعلم علمه، وبادرفروة لايغلبك على الأمر. فأبى قيس ذلك وسفه رأيه وعصاه، فركب عمرو متوجها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: خالفتني ياقيس وقال عمرو في ذلك:

أمرتك يوم ذي صنعا                      ء أمرا بينا رشـده

أمرتك باتقـاء الـل                      ه تأتيه وتـتـعـده

فكنت كذي الحمير غ                      رة من أيوه وتـده قال أبو عبيدة: حدثنا غير واحد من مذحج قالوا: قدم علينا وفد مذحج، مع فروة بن مسيك المرادي، على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلموا وبعث فروة صدقات من أسلم منهم وقال له: ادع اللناس وتألفهم، فإذاوجدت الغفلة فاهبلها واغز.

فال أبو عمرو الشيباني: وإنما رحل فروة مفارقا لملوك كندة مباعدا لهم، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كانتقبل الإسلام بين مراد وهمدانوقعة أصابت فيها همدان من مراد حتى أثختوهم، في يوم يقال له يوم الرزم ، وكان الذي قاد همدان إلى مراد الأجدع بن مالك بن حريم الساعر الهمداني بن مسروق بن الأجدع، ففضحهميومئذ وفي ذلك يقول فروة بن مسيك المرادي:

فإن نغلب فغلابون قدما                      وإن نهزم فغير مهزمينا فلما توجه فروة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنشأ يقول:

لما رأيت ملوك كندة أعرضـت                      كالرجل خان الرجل عرق نساها

يممت راحلتي أمـام مـحـمـد                      أرجو فواضلها وحسن ثـراهـا

 

صفحة : 1696

 

فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له فيما بلغنا: هل ساءك ما أصاب قومك يوم الرزم ? قال: يا رسول الله، من ذا الذي يصيب قومه مثل الذي أصاب قومي ولا يسوءه. فقال له: أما إن ذلك لم يزد قومك في الإسلام إلا خيرا واستعمله على مراد وزبيد ومذحج كلها.

قال أبو عبيدة: فلم يلبث عمرو أن ارتد عن الإسلام، فقال حين ارتد:

وجدنا ملك فروة شر ملـك                      حمار ساف منخره بقـذر

وإنك لو رأيت أبا عـمـر                      ملأت بديك من غدر وختر قال أبو عبيدة: فلما ارتد عمرو مع من ارتد عن الإسلام من مذحج، استجاش فروة النبي صال الله عليه وسلم، فوجه إليهم خالد بن سعيد بن العاص وخالد بن الوليد، وقال لهما: إذا اجتمعتم فعلي بن أبي طالب أميركم وهو على الناس. ووجه عليا عليه السلام فاجتمعوا بكسر من أرض اليمن، فاقتتلوا وقتل بعضهم ونجا بعض، فلم يزل جعفر وزبيد وأود بنو سعد العشيرة بعدها قليلة.

وفي هذا الوجه وقعت الصمصامة إلى آل سعيد، وكان سبب وقوعها إليهم أن ريحانة بنت معد يكرب سبيت يومئذ، ففداها خالد، وأثابه عمرو الصمصامة ، فصار إلى أخيه سعيد، فوجد سعيد جريحا يوم عثمان بن عفان رضي الله عنه حين حصر وقد ذهب السيف والغمد، ثم وجد الغمد، فلما قام معاوية جاءه إعرابي بالسيف بغير غمد، وسعيد حاصر، فقال سعيد: هذا سيفي فجحد الأعرابي مقالته، فقال سعيد: الدليل على أنه سيفي أن تبعث إلى غمده فتغمده فيكون كفافه. فبعث معاوية إلى الغمد فأتى به من منزل سعيد فإذا هو عليه، فأقر الأعرابي أنه أصابه يوم الدار، فأخذه سعيد منه وأثابه، فلم يزل عنده حتى أصعد المهدي من البصرة، فلما كان بواسط بعث إلى سعيد فيه، فقال: إنه للسبيل. فقال: خمسون سيفا قاطعا أغنى من سيف واحد. فأعطاهم خمسين ألف درهم وأخذه.

وذكر ابن النطاح أن المدائني حكى عن أبي اليقظان عن جويرية بن أسماء قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من غزاة تبوكيريد المدينة، فأدركه عمرو بن معد يكرب الزبيدي في رجال من زبيد، فتقدم عمرو ليلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمسك حت أوذن به، فلما تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير قال: حياك الله إلهك، أبيت اللعن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  إنلعنة الله وملائكته والناس أجمعين على الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. فآمن بالله يؤمنك يوم الفزع الأكبر  . فقال عمرو بن معد يكرب: وما الفزع الأكبر? قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  إنه فزع ليس كما تحسب وتظن، إنه يصاح بالناس صيحة لايبقى حي إلا مات، إلا ماشاء الله من ذلك، ثم يصاح بالناس صيحة لايبقى ميت إلا نشر، ثم تلج تلك الأرض بدوي تنهد منه الأرض، وتخر منه الجبال، وتنشق السماء انشقاق القبطية الجديد ما شاء الله في ذلك، ثم تبرز النار فينظر إليها حمراء مظلمة قد صارلها لسان في السماء، ترمي بمثل رؤوس الجبال من شرر النار، فلا يبقى ذو روح إلا انخلع قلبه، وذكر ذنبه. أين أنت يا عمرو قال: إني أسمع أمرا عظيما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عمروأسلم تسلم. فأسلم وبايع لقومه على الإسلام، وذلك منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزاة تبوك، وكانتفي رجب من سنة تسع .

وقال أبو هارون السكسكي البصري: حدثني أبو عمرو المديني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا نظر إلى عمرو قال: الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمرا تعجبا من عظم خلقه.

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة عن خالد بن خداش عن أبي نميلة قال: أخبرني رميح عن أبيه قال: رأيت عمرو بن معد يكرب في خلافة معاوية شيخا أعظم ما يكون من الرجال، أجش الصوت، إذا التفت التفت بجميع جسده. وهذا خطأ من الراوية.

والصحيح أنه مات في آخر خلافة عمر رضي الله عنه، ودفن بروذة بين قم والري. ومن الناس من يقول إنه قتل في وقعة نهاوند، قبره في ظاهرها موضع يعرف بقبد يشجان ، وانه دفن هناك يومئذ هو والنعمان بن مقرن.

وروى أيضا من وجه ليس بالموثوق به، أنه أدرك خلافة عثمان رضي الله عنه، روى ذلك ابن النطاح عن مروان بن ضرار عن أبي إياس البصري، عن أبيه، عن جويرية الهذلي في حيث طويل قال:

 

صفحة : 1697

 

رأيت عمرو بن معد يكرب وأنا في مسجد الكوفة في خلافة عثمان، حين وجهه إلى الري، كأنه يعير مهنوء.

وقال ابن الكلبي: حدثني أسعر، عن عمرو بن جرير الجعفي قال: سمعت خالد بن قطن يقول: خرج عمرو بن معد يكرب في خلافة عثمان رضي الله عنه إلى الري ودستبي ، فضربه الفالج في طريقه فمات بروذة.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال: أخبرني خالد بن خداش قال حدثنا حماد بن زيد عن مجالد عن الشعبي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فرض لعمرو بن معد يكرب في ألفين، فقال له: يا أمير المؤمنين ألف ههنا وأومأ إلى شق بطنه الأيمن، وألف ههنا وأومأ إلى شق بطنه الأيسر- فما يكون ها هنا? وأومأ إلى وسط بطنه.

فضحك عمرو رضوان الله عليه وزاده خمسمائة.

قال علي بن محمد : قال أبو اليقظان: قال عمرو بن معد يكرب: لو سرت بظعية وحدي على مياه معد كلها ماخفت أن أغلب عليها، مالم يلقني حراها أو عبداها . فأما الحران فعامر بن الطفيل وعيبة بن الحارث بن شهاب، واما العبدان فأسود بني عبس، يعني عنترة والسليك بن السلكة، وكلهم قد لقيت. فأما عامر بن الطفيل فسريع الطعن على الصوت، و?أما عتيبة فأول الخيل إذا غارت، وآخرها إذا آبت. وأما عنترة فقليل الكبوة شديد الكلب . وأما السليك فبعيد الغارة، كالليث الضاري. قالوا: فما تقول في العباس بن مرادس? قال: أقول فيه ما قال في:

إذا مات عمرو قلت للخيل أوطئوا                      زبيدا فقد أودى بنجدتها عمـرو وقام مغضبا وعلم أنهم أرادوا توبيخه بالعباس.

قال علي: وقال أبو اليقظان: أحسب في اللفظ غلطا وأنه إنما قال: هجينا مضر؛ لأن عنترة استرق والعباس لم يسترق قط.

أخبرني أبو خليفة قال حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أحمدبن جناب عن عيسى بن يونس، عن إسماعيل ،عن قيس :أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص: إني قد أمددتك بألفي رجل عمرو بن معد يكرب، وطليحة بن خويلد-وهو طليحة الأسدي-فشاورهما في الحرب ولا تولهما شيئا.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أحمد بن جناب قال حدثناعيسى بن يونس،عن إسماعيل، عن قيس قال: شهدت القادسية وكان سعد على الناس، فجاء رستم فجعل يمر بنا وعمرو بن معد يكرب الزبيدي يمر على الصفوف يحض الناس ويقول: يا معشر المهاجرين، كونوا أسداا أغنى شأنه ، فإنماالفارسي تيسبعد أن يلقي نيزكه .

قال: وكان مع رستم أسوار لاتسقط له نشابة. فقال له: يا أبا ثور، اتق ذاك فإنا لنقول له ذلك إذ رماه رمية فأصاب فرسه، وحمل عليه عمرو فاعتنقه ثم ذبحه، وسلبه سواري ذهب كانا عليه، وقباء ديباج.

قال أبو زيد : فذكر أبو عبيدة أن عمرا حمل يومئذ على رجل فقتله ثم صاح: يا معشر بني زبيد، دونكم فإن القوم يموتون وقال علي بن محمد المدائني: واخبرنا محمد بن الفضل وعبد ربه بن نافع، عن إسماعيل عن قيس بن أبي حازم قال: حضر عمرو الناس وهم يقاتلون، فرماه رجل من العجم بنشابة فوقعت في كتفه، وكانت عليه درع حصينة فلم تنفذ، وحمل على العلج فعانقه فسقطا إلى الأرض، فقتله عمرو وسلبه، ورجع بسلبه وهو يقول:

أنا أبو ثور وسيفي ذو النـون                      أضربهم ضرب غلام مجنون

يال زبيد إنهـم يمـوتـون قال أبو عبيدة: وقال في ذلك عمرو بن معد يكرب:

ألم بسلمى قبل أن تظعنا                      إن لنا من حبهـا ديدنـا

قد علمت سلمى وجاراتها                      ما قطر الفارس إلا أنـا

شككت بالرمح حياز يمه                      والخيل تعدو زيما بيننـا عنى فيه الغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر. وفيه رمل بالبنصر يقال إنه امعبد. ويقال إنه من منحول يحيى المكي.

قال أبو عبيدة في رواية أبي ويد عمر بن شبة: شهد عمرو بن معد يكرب القادسية وهو ابن مائة وست سنين. وقال بعضهم: بل ابن مائة وعشر. وقال: ولما قتل العلج عبر نهر القادسية هو وقيس بن مكشوح المرادي، ومالك بن الحارث الأشتر.

 

 

صفحة : 1698

 

قال: فحدثني يونس أن عمرو بن معد يكرب كان آخرهم، وكانت فرسه ضعيفة فطلب غيرها، فأتي بفرس فأخذ بعكوة ذنبه وأخلد به إلى الأرض، فأفعى الفرس فرده، وأتى بآخر ففعل به مثل ذلك فتحلحل ولم يقع فقال: هذا على كل حال أقوى من تلك، وقال لأصحابه: إني حامل وعايبر الجسر، فإن أسرعتم بمقدار جزر الجزور وجدتموني وسيفي بيدي أقاتل به تلقاء وجهي، وقد عقر بي القوم وأنا قائم بينهم وقد قتلت وجردت. وإن أبطأتم وجدتموني قتيلا بينهم وقد قتلت وجردت. ثم انغمس فحمل في القوم فقال بعضهم: يا بني زبيد، تدعون صاحبكموالله مانرى أن تدركوه حيا. فحملوا فانتهوا إليه وقد صرع عن فرسه، وقد اخذ برجل فرس رجل من العجم فأمسكها، وإن الفارس ليضرب الفرس فما تقدر أن تتحرك من يده. فلما غشيناه رمى الأعجمي بنفسه وخلى فرسه، فركبه عمرو وقال: أنا أبو ثور، كدتم والله تفقدونني قالوا: أين فرسك? قال رمي بنشابة فشب فصرعني وعار .

وروى هذا الخبر محمد بن عمر الواقدي عن ابن أبي سبرة عن أبي عيسى الخياط. ورواه علي بن محمد أيضا عن مرة عن أبي إسماعيل الهمذاني عن طلحة بن مصرف. فذكرا مثل هذا.

قال الواقدي: وحدثني أسامة بن زيد، عن أبان بن صالح قال: قال عمرو بن معد يكرب يوم القادسية: ألزموا خراطيم الفيلة السيوف، فإنه ليس لها مقتل إلا خراطيمها. ثم شدعلى رستم وهو على الفيل فضرب فيله فجذم عرقوبيه فسقط، وحمل رستم على فرس وسقط من تحته خرج فيه أربعون ألف دينار، فحازه المسلمون، وسقط رستم بعد ذلك عن فرسه فقتله.

قال علي بن محمد المدائني: حدثني علي بن مجاهد عن ابن إسحاق قال: لما ضرب عمرو الفيل وسقط رستم، سقط على رستم خرج كان على ظهر الفيل فيه أربعونألف دينار،فمات رستم من ذلك، وانهزم المشركون.

وقال الواقدي: حدثني ابن أبي سبرة، عن موسى بن عقبة عن أبي حبيبة مولى آل الزبير قال:حدثنا نيار بن مكرم الأسلمي ، قال: شهدت القادسية فرأيت يوما اشتد فيه القتال بيننا وبين الفرس، ورأيت رجلا يفعل يومئذ بالعدو أفاعيل، يقاتلفارسا ثم يقتحم عن فرسه ويربط مقوده في حقوه فيقاتل، فقلت: من هذا جزاه الله خيرا? قالوا: هذا عمر بن معد يكرب.

أخبرني محمد ين الحسن بن دريد قال: أخبرنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي، عن خالد بن سعيد، عن أبي محمد المرهبي قال: كان شيخ يجالس عبد الملك بن عمير، فسمعته يحدث قال: قد عيينة بن حصن الكوفة فأقام بها أياما ثم قال: والله مالي بأبي ثور عهد منذ قدمنا هذا الغائط- يعني عمرو بن معد يكرب- أسرج لي يا غلام. فأسرج له فرسا أنثى من خيله، فلما قربها إليه قال له: ويحك أرأيتني ركبت أنثى في الجاهلية فأركبها في الإسلام? فأسرج له حصانا فركبه، وأقبل إلى محلة بني زبيد فسأل عن محلة عمرو فأرشد إليها، فوقف ببابه ونادى: أي أبا ثور، اخرج إلينا. فخرج إليه مؤتزرا كأنما كسر وجبر، فقال: انعم صباحا أيا مالك. فقال: أوليس قد أبدلنا الله تعالى بهذا: السلام عليكم? قال: دعنا مما لانعرف، انزل فإن عندي كبشا ساحا . فنزل فعمد إلى الكبش فذبحه ثم كشط عنه وعضاه ، وألقاه في قدر جماع ، وطبخة حتى إذا أدرك جاء بجفنة عظيمة فثرد فيها فأكفأ القدر عليها، فقعدا فأكلاه، ثم قال له: أي الشراب أحب إليك: اللبن أم ماكنا نتنادم عليه في الجاهلية? قال: أوليس قد حرمها الله جل وعز علينا في الإسلام? قال: أنت أكبرسنا أم أنا? قال: أنت. قال: فأنت أقدم إسلاما أما أنا? قال: أنت. قال: فإني قد قرأت مابين دفتي المصحف فوالله ما وجدت لها تحريما إلا أنه قال: )فهل أنتم منتهون( فقلنا: لا. فسكت وسكتنا فقال له: أنت أكبر سنا وأقدم إسلاما. فجاءا فجلسا يتناشدان ويشربان، ويذكران أيام الجاهلية، حتى مسيا، فلما أراد عيينة الانصراف. قال عمرو: لئن تنصرف أبو ملك بغير حباء إنه لوصمة علي. فأمر بناقة له أرحبية كأنها جبيرة لجين ، فارتحلها وحمله عليها، ثم قال: يا غلام هات المزود. فجاء بمزود فيه أربعة ألاف درهم، فوضعها بين يديه، فقال: أما المال فوالله لاقبلته. قال: والله إنه لمن جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه. فلم يقبله عيينه وانصرف وهو يقول:

جزيت أبا ثور جزاء كـرامة                      فنعم الفتى المزدار والمتضيف

 

صفحة : 1699

 

 

قريت فأكرمت القرى وأفـدتـنـا                      نخيلة علم لم يكـن قـط يعـرف

وقلت: حـلال أن تـدير مـدامة                      كلون انعقاق البرق والليل مسدف

وقدمت فـيهـا حـجة عـربـية                      ترد إلى الإنصاف من ليس ينصف

وأنت لنا والله ذي العـرش قـدوة                      إذا صدنا عن شربها المتكـلـف

تقول: أبو ثور أحـل حـرامـهـا                      وقول أبي ثـور أسـد وأعـرف وقال علي بن محمد: حدثني عبد الله بن محمد الثقفي عن أبيه، والهذلي عن الشعبي قال: جاءت زيادة من عند عمر بعد القادسية فقال عمرو بن معد يكرب لطليحة: أما ترى أن هذه الزعانف تزاد ولا نزاد، انطلق بنا إلى هذا الرجل حتى نكلمه. فقال: هيهات، وكلا والله لا ألقاه في هذا أبدا ، فلقد لقيني في بعض فجاج مكة فقال: ياطليحة، أقتلت عكاشة ? فتوعدني وعيدا ظننت أنه قالتلي، ولا آمنه. قال عمرو: لكني ألقاه. قال: أنت وذاك. فخرج إلى المدينة فقدم على عمر رضي الله عنه وهو يغدي الناس وقد جفن لعشرة عشرة، فأقعده عمر مع عشرة فأكلوا وتهضوا، ولم يقم عمرو، فأقعد معه تكملة عشرة فأكلوا ونهضوا ولم يقم عمرو، فأقعده مع عشرة حتىأكل مع ثلاثين ثم قام، فقال: يا أمير المؤمنين إنه كانت لي ما كل في الجاهلية منعني منها الإسلام، وقد صررت في بطن صرتين وتركت بينهما هواء فسده. قال: عليك حجارة من حجارة الحرة فسده به يا عمرو، إنه بلغني أنك تقول إن لي سيفا يقال له الصمصامة، وعندي سيف أسميه المصمم، وإني إن وضعته بين أذنيك لم أرفعه حتى يخالط أضراسك.

وذكر ابن الكلبي ومحمد بن كناسة أن جبيلة بن سويد بن ربيعة بن رباب، لقي عمرو بن معد يكرب وهو يسوق ظعنا له فقال عمرو لأصحابه: قفوا حتى آتيكم بهذه الظعن. فقرب نحوه حتى إذا دنا منه قال: خل سبيل الظعن. قال: فلم إذا ولدتني? ثم شد على عمرو فطعنه فأذراه عن فرسه وأخذ فرسه، فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما وراءك? قال: كأني رأيت منيتي في سنانه.

وبنو كنانة يذكرون أن ربيعة بين مكدم الفراسي، طعن عمرو بن معد يكرب فأذراه عن فرسه وأخذ فرسه. وأنه لقيه مرة أخرى فضربه فوقعت الضربة في قربوس السرج فقطعه حتى عض السيف بكاثبة الفرس، فسالمه عمرو وانصرف.

قال المدائني: حدثني مسلمة بن محارب، عن دواد بن أبي هند قال: حمل عمرو بن معد يكرب حمالة ، فأتى مجاشع بن سمعود يسأله فيها.

وقال خالد بن خداش: حدثني أبو عوانة عن حصين بن عبد الرحمن قال: بلغني أن عمرا أتى مجاشع بن مسعود فقال له: أسألك حملان مثلي، وسلاح مثلي. قال: إن شئت أعطيتك ذاك من مالي. ثم أعطاه حكمه. وكان الأحنف أمر له بعشرين ألف درهم، وفرس جواد عتيق، وسيفصارم، وجارية نفيسة، فمر ببني حنظلة فقالوا له: يا أبا ثور، كيف رأيت صاحبك? فقال: لله بنو مجاشع ما أشد في الحرب لقاءها، واجزل في اللزبات عطاءها ، وأحسن في المكرمات ثناءها، لقد قاتلتها فما أقللتها ، وسألتها فما أبخلتها، وهاجيتها فما أفحمتها.

وقال أبو المنهال عيينة بن المنهال: سمعت أبي يحدث قال: جاء رجل وعمرو بن معد يكرب واقف بالكناسة على فرس له، فقال: لأنظرن ما بقي من قوة أبي ثور. فأدخل يده بين ساقيه وبين السرج، وفطن عمرو فضمها عليه وحرك فرسه، فجعل الرجل يعدو مع الفرس لايقدرأن ينزع يده، حتى إذا بلغ منه قال: يا ابن أخي، مالك? قال: يدي تحت ساقك فخلى عنه، وقال: يا ابن أخي، إن في عمك لبقية وكان عمرو مع ما ذكرنا من محله مشهورا بالكذب: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي المبرد ولم يتجاوزه. وذكر ابن النطاح هذا الخبر بعينه عن محمد بن سلام، وخبر المبرد أتم قال: كانت الأشراف بالكوفة يخرجون إلى ظاهرها يتناشدون الأشعار، ويتحدثون ويتذكرون أيام الناس، فوقف عمرو إلى جانب خالدين الصقعب النهدي، فأقبل عليه يحدثه ويقول: أغرت على بني نهد فخرجوا إلي مسترعفين بخالد بن الصقعب يقدمهم، فطعنته طعنة فوقع، وضربته بالصمصامة حتى فاضت نفسه  فقال له الرجل: يا أبا ثور إن مقتولك الذي تحدثه. فقال: اللهم غفرا إنما أنت محدث فاسمع، إنما نتحدث بمثل هذا وأشباهه لنرهب هذه المعدية.

 

 

صفحة : 1700

 

قال محمد بن سلام: وقال يونس: أبت العرب إلا ان عمرا كان يكذب. قال: وقلت لخلف الأحمر وكان مولى الأشعريين، وكان يتعصب لليمانية، أكان عمرو يكذب? قال: كان يكذب باللسان، ويصدق بالفعال.

أخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة : أن سعدا كتب إلى عمر ضي الله عنه يثني على عمرو بن معد يكرب، فسأله عمر عن سعد فقال: هولنا كالأب أعرابي في نمرته ، أسد في تامورته ، يقسم بالسوية، ويعدل في القضية، وينفرد في السرية، وينقل إلينا حقنا كما تنقل الذرة فقال عمر رضوان الله عليه: لشد ما تقارضتما الثناء .

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث عن ابن سعد عن الواقدي عن بكير بن مسمار عن زياد مولى سعد قال: سمعت سعدا يقول وبلغه أن عمرو بن معد يكرب وقع في الخمر، وأنه قد دله. فقال: لقد كان له موطن صالح يوم القادسية، عظيم الغناء، شديد النكاية للعدو. فقيل له: فقيس بن مكشوح? فقال: هذا أبذل لنفسه من قيس، وإن قيسا لشجاع.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة. ونسخت هذا الخبر من رواية ابن الكلبي خاصة: حدثني أسعر بن عمرو بن جرير، عن خالد بن قطن قال: حدثني من شهد موت عمرو بن معد يكرب، والرواية قريبة، وحكايتا عمر بن شبة وابن قتيبة عن أنفسهما ولم يتجاوزاها، قالا: كانت مغازي العرب إذ ذاك الري ودستبى ، فخرج عمرو مع شباب من مذحج حتى نزل الخان الذي دون روذة، فتغدى القوم ثم ناموا، وقام كل رجل منهم لقضاء حاجته، وكان عمرو إذا أراد الحاجة لم يحجترىء أحد أن يدعوه وإن أبطأ، فقالم الناس للرحيل وترحلوا إلا من كان في الخان الذي فيه عمرو، فلما أبطأ صحنا به: يا أبا ثور. فلم يجبنا وسمعنا علزا شديدا، ومراسا في الموضع الذي دخله، وقصدناه فإذا به محمرةعيناه، مائلا شدقه مفلوجا، فحملناه على فرس وأمرنا غلاما شديد الذراع فارتدفه ليعدل ميله، فمات بروذة ودفن على قارعة الطريق.

فقالت امرأته الجعفية ترثيه:

لقد غادر الركب الذين تحمـلـوا                      بروذة شخصا لاضعيفا ولا غمرا

فقل لزبيد بل لمذحـج كـلـهـا                      فقدتم أبا ثور سنانكـم عـمـرا

فإن تجزعوا لايغن ذلك عنـكـم                      ولكن سلوا الرحمن يعقبكم صبرا والبيات العينية التي فيها الغناء، وبها افتتح ذكر عمرو ، يقولها في أخته ريحانة بنت معد يكرب لما سباهاالصمة بن بكر، وكان اغار على بني زبيد في قيس فاستاق أموالهم وسبى ريحانة، وانهزمت زبيد بين يديه، وتبعه عمرو وأخوه عبد الله ابنا معد يكرب، ثم رجع عبد الله واتبعه عمرو.

فأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام أن عمرا اتبعه يناشده أن يخلي عنها، فلم يفعل، فلما يئس منها ولى وهي تناديه بأعلى صوتها: ياعمرو فلم يقدر على انتزاعها، وقال:

أمن ريحانة الداعي السمـيع                      يؤرقني وأصحابي هجـوع

سباها الصمة الجشمي غصبا                      كأن بياض غرتهـا صـديع

وحالت دونها فرسان قـيس                      نكشف عن سواعدها الذروع

إذا لم تستطع شـيئا فـدعـه                      وجاوزه إلى ما تستـطـيع وزاد الناس في هذا الشعر وغنى فيه:

وكيف أحب من لا أستطـيع                      ومن هو للذي أهوى منـوع

ومن قد لامني فيه صديقـي                      وأهلي ثـم كـلا لاأطـيع

ومن لو أظهر البغضاء نحوي                      أتانى قابض الموت السريع

فدى لهم معا عمي وخـالـي                      وشرخ شبابهم إن لم يطيعوا وقد أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي: وأما قصة ريحانة فإن عمرو بن معد يكرب تزوج امرأة من مراد، وذهب مغيرا قبل أن يدخل بها، فلما قدمأخبر أنه قد ظهر بها وضح-وهو داء تحذره العرب-فطلقها وتزوجها رجل آخر من بني مازن بن ربيعة، وبلغ ذلكعمرا وأن الذي قيل فيها باطل، فأخذ يشب بها، فقال قصيدته وهي طويلة:

أمن ريحانة الداعي السميع                      يؤرقني وأصحابي هجوع

 

صفحة : 1701

 

وكان عبد الله بن معد يكرب، اخو عمرو، رئيس بني زبيد، فجلس مع بني مازن في شرب منهم . فتعنى عنده حبشي عبد للمخزم، احد بني مازن، في امرأة من بني زبيد، فلطمه عبد الله وقال له: اما كفاك أن تشرب معنا حتى تشبب بالنساء? فنادى الحبشي: يا آل بني مازن فقاموا إلى عبد الله فقتلوه، وكان الحبشي عبدا للمخزم، فرئس عمرو مكان اخيه، وكان عمرو غزا هو وأبي المرادي فأصابوا غنائم، فادعى ابي أنه قد كان مساندا، فأبى عمرو أن يعطيه شيئا، وكره أبي أن يكون بينهما شر، لحداثة قتل أبيه، فأمسك عنه. وبلغ عمرا أنه توعده، فقال عمرو في ذلك قصيدة له أولها:

أعاذل شكتي بدني ورمحي                      وكل مقلص سلس القـياد

أعاذل إنما أفنى شـبـابـي                      وأقرح عاتقي ثقل النجـاد

تمناني لـيلـقـانـي أبـي                      وددت وأينما منـي ودادي

ولولاقيتني ومعي سلاحـي                      تكشف شحم قلبك عن سواد

أريد حباءه ويريد قـتـلـي                      عذيرك من خليلك من مراد وتمام هذه الأبيات:

تمناني وسابـغـتـي دلاص                      كان قتيرها حدق الـجـراد

وسيفي كان من عهد ابن صد                      تخيره الفتى من قـوم عـاد

ورمحي العنبري تخال فـيه                      سنانا مثل مقبـاس الـزنـاد

وعجلزة يزل اللبد عـنـهـا                      أمر سراتها حلق الـجـياد

إذا ضربت سمعت لها أزيزا                      كوقع القطر في الأدم الجلاد

إذا لوجدت خالك غير نكـس                      ولا متعلما قتـل الـوحـاد

يقلب للأمور شر نـبـثـات                      بأظفار مغـارزهـا حـداد لابن سريج في الأول والثاني ثاني ثقيل بالبنصر، ولابن محرز في السادس والخامس ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى، وفي الرابع والخامس والسادس لحن للهذلي من رواية يونس.

وهذا البيت الخامس كان علي بن أبي طالب عليه السلام إذا نظر إلى ابن ملجم تمثل به أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا حيان بن بشر قال عن حمزة الزيات قال: كان علي عليه السلام إذا نظر إلى ابن ملجم قال:

أريد حباءه ويريد قـتـلـي                      عذيرك من خليلك من مراد حدثني العباس بن علي بن العباس، ومحمد بن خلف وكيع قالا: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني قال: كان علي بن أبي طالب إذا أعطى الناس فرأى ابن ملجم قال:

أريد حباءه ويريد قـتـلـي                      عذيرك من خليلك من مراد حدثني محمد بن الحسن الأشناني قال: حدثنا فطر بن خليفة عن ابي الطفيل عامر بن واثلة ، والأصبغ بن نباتة قال: قال علي عليه السلام: ما يحبس أشقاها ? والذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذا.

بايعه، ثم قال: ما يحبس أشقاها? فوالذي نفسي بيده لتخضبن هذه من هذا. ثم تمثل بهذين البيتين:

اشدد حيا زيمك للموت                      فإن المـوت يأتـيك

ولاتجزع من القـتـل                      إذا حـل بــواديك  رجع الخبر إلى سياقة خبر عمرو

قال: وجاءت بنو مازن إلى عمرو فقالوا: إن أخاك قتله رجل من سفيه وهو سكران، ونحن يدك وعضدك، فنسألك الرحم وإلا أخذت الدية ما أحببت فهم عمرو بذلك. وقال:

إحدى يدي أصابتني ولم ترد فبلغ ذلك أختا لعمرو يقال لها كبشة، وكانت ناكحا في بني الحارث بن كعب، فغضبت، فلما وافى الناس من الموسم قالت شعرا تعير عمرا:

أرسل عبد اللـه إذ حـان يومـه                      إلى قومه لاتعقلوا لـهـم دمـي

ولا تأخذوا منهم إفـالا وأبـكـرا                      وأترك في بيت بصعدةمظـلـم

ودع عنك عمرا إن عمرا مسالـم                      وهل بطن عمرو غير شبرلمطعم

فإن أنتم لم تقـبـلـوا واتـديتـم                      فمشوا بآذان النعام المـصـلـم

أيقتل عبد الـلـه سـيد قـومـه                      بنو مازن أن سب راعى المخزم فقال عمرو قصيدة له عند ذلك يقول فيها:

أرقت وأمسيت لا أرقـد                      وساورني الموجع الأسود

وبت لذكري بني مـازن                      كأني مرتـفـق أرمـد فيه لحن من خفيف الثقيل الأول بالوسطى، نسبه يحيى المكي إلى ابن محرز، وذكر الهشامي أنه منحول.

 

 

صفحة : 1702

 

ثم أكب على بني مازن وهم غارون فقتلهم، وقال في ذلك شعرا:

خذوا حققا مخطمة صفايا                      وكيدي يا مخزم أن أكـيدا

قتلتم سادتي وتركتمـونـي                      على أكتافكم عبثا جـديدا

فمن يأبى من الأقوام نصرا                      ويتركنا فإنـا لـن نـريدا وأرادت بنو مازن أن ترد عليهم الدية لما آذنهم بحرب، فأبى عمرو، وكانت بنو مازن من اعداء مذحج، وكان عبد الله أخا كبشة لأبيها وأمها دون عمرو، وكان عمرو قد هم بالكف عنهم حين قتل من قتل منهم، فركبت كبشة في نساء من قومها وتركت عمرا أخاها وعيرته فأحمته، فأكب عليهم أيضا بالقتل، فلما أكثر فيهم القتل تفرقوا، فلحقت بنو مازن بصاحبهم بتميم، ولحقت ناشرة بني أسد، وهم رهط الصقعب بن الصحصح، ولحقت فالج بسليم بن منصور. وفالج وناشرة ابنا أ نمار بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة، وأمهما هند بنت عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم. فقال كابية بن حرقوص بن مازن:

ياليلتي ما ليلتي بـالـبـلـدة                      ردت علي نجومها فارتـدت

من كان أسرع في تفرق فالج                      فلبونه جربت معا وأغـدت

هلا كنا شرة الذي ضيعـتـم                      كالغصن في غلوائه المتنبت وقال عمرو في ذلك:

تمنت مازن جهلا خلاطـي                      فذاقت مازن طعم الخلاط

أطلت فراطكم عاما فعامـا                      ودين المذحجي إلى رفراط

أطلت فراطكم حتى إذا مـا                      قتلت سراتكم كانت قطـاط

غدرتم غدرة وغدرت أخرى                      فما إن بيننـا أبـدا يعـاط أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي قال المدائني: حدثني رجل من قريش قال: كنا عند فلان القرشي فجاءه رجل بجارة فعنته:

بالله ياظبي بني الـحـارث                      هل من وفى بالعهد كالناكث وغنته أيضا بغناء ابن سريج:

يا طول ليلي وبت لم أنـم                      وسادى الهم مبطن سقمي فأعجبته واستام مولاها، فاشتط عليه فأبى شراءها، وأعجبت الجارية بالفتى، فلما امتنع مولاها من البيعإلا بشطط قال القرشي: فلا حاجة لنا في جارتك. فلما قامت الجارية للانصراف رفعت صوتهاتغني وتقول:

إذا لم تستطع شيئا فدعه                      وجاوزه إلى ماتستطيع قال: فقال الفتى القرشي: أفأنا لاأستطيع شراءك، والله لأشترينك بما بلغت.

قالت الجارية: فذاك أردت. قال القرشي: إذا لأجبتك. وابتاعها من ساعته. والله أعلم.

 

بالله ياظبي بني الـحـارث                      هل من وفى بالعهد كالناكث

لاتخدعني بالمنـى بـاطـلا                      وأنت بي تلعب كالعـابـث عروضه من السريع، الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء لابن سريج، رمل بالبنصر، وفيه لسياط خفيف ثقيل أول بالوسطى، وفيه لإبراهيم الموصلي لحن من رواية بدل. ومنها:

يا طول لـيلـي وبـت لـم أنـم                      وسادي الهم مبطـن سـقـمـي

إذ قمت ليلا على البـلاط فـأب                      صرت ربيبا فـلـيت لـم أقـم

فقلت عوجي تخـبـري خـبـرا                      وأنت منه كصاحـب الـحـلـم

قالت بل أخشى العيون إذ حضرت                      حولى وقلي مـبـاشـر الألـم عروضه من المنسرح . والشعر والغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق.

مناظر محمد بن العباس الصولي وعلي بن الهيثم في حضرة المأمون وذكر محمد بن الفضل الهاشمي قال حدثنا أبي قال: كان المأمون قد أطلق لأصحابه الكلام والمناظرة في مجلسه، فناظر بين يديه محمد بن العباس الصولي علي بن الهيثم جونقا في الإمامة، فتقلدها أحدهما ودفعها الآخر، فلجت المناظرة بينهما إلى أن نبط محمد عليا فقال له علي: إنما تكلمت بلسان غيرك، ولو كنت في غير هذا المجلس لسمعت أكثر مما قلت فغضب المأمون وأنكر على محمد ما قاله وما كان منه من سوء الأدب بحضرته، ونهض عن فرشه ونهض الجلساء فخرجوا، وأراد محمد الآنصراف فمنعه علي بن صالح صاحب المصلى، وهو إذ ذاك يحجب المأمون، وقال: أفعلت ما فعلت بحضرة أمير المؤمنين ونهض على الحال التي رأيت، ثم تنصرف بغير إذن، اجلس حتى تعرف رأيه فيك. وامر بأن يجلس.

 

 

صفحة : 1703

 

قال: ومكث المأمون ساعة فجلس على سريره، وأمر بالجلساء فردوا إليه، فدخل إليه علي بن صالح فعرفه ما كان من قول علي بن محمد في الانصراف، وما كان من منعه إياه، فقال: دعه ينصرف إلى لعنة الله. فانصرف، وقال المأمون لجلسائه: أتدرون لم دخلت إلى النساء في هذا الوقت? قالوا: لا.قال: إنه لما كان من امر هذاالجاهل ما كان لم آمن فلتات الغضب، وله بنا حرمة، فدخلت إلى النساء فعابثتهن حتى سكن غضبي.

قال: وما مضى محمد عن وجهه إلا إلى طاهر، فسأله الركوب إلى المأمون، وأن يستوهبه جرمه، فقال طاهر: ليس هذا من أوقاتي، وقد كتب إلي خليفتي في الدار انه قد دعا بالجلساء. فقال: أكره أن أبيت ليلة وأمير المؤمنين علي ساخط. فلم يزل به حتى ركب طاهر معه، فأذن له فدخل ومجير الخادم واقف على رأس المأمون، فلما بصر المأمون بطاهر أخذ منديلا فمسح به عينيه مرتين أو ثلاثا، إلى أن وصل إليه وحرك شفتيه بشيء أنكره طاهر، ثم دنا فسلم، فرد السلام وأمره بالجلوس فجلس في موضعه، فسأله عن مجيئه في غير وقته، فعرفهالخبر واستوهبه ذنب محمد، فوهبه له وانصرف؛ وعرف محمدا ذلك. ثم دعا بهارون بن خنعويه، وكان شيخا خراسانيا داهية ثقة عنده، فذكر له فعل المأمون وقال له: الق كاتب مجير والطف له، واضمن له عشرةآلاف درهم على تعريفك ما قاله المأمون ففعل ذلك ولطف له، فعرفه أنه لما رأى طاهرا دمعت عيماه وترحم على محمد الأمين، ومسح دمعه بالمنديل، فلما عرف ذلك طاهر ركب من وقته إلى أحمد بن أبي خالد الأحول- وكان طاهرلا يركب إلى أحد من أصحاب المأمون، وكلهم يركب إليه-فقال له: جئتك لتوليني خراسان وتحتال لي فيها. وكان أحمد يتولى فض الخرائط بين يدي المامون، وغسان بن عباد يتولى إ ذاك خراسان، فقال له أحمد: هلا أقمت بمنزلك وبعثت إلي حتى أصير إليك ولا يشهر الخبر فيما تريده بما ليس من عادتك، لأن المأمون يعلم أنك لاتركب إلى أحد من اصحابه، وسيبلغه هذا فينكره، فاتصرف وأغض عن هذا الأمر وأمهلني مدة حتى أحتال لك. ولبث مدة، وزور ابن أبي خالد كتابا عن غسان بن عباد إلى المأمون، يذكر فيه أنه عليل وانه لا يامن على نفسه، ويسأل أن يستخلف غيره على خراسان، وجعله في خريطة وفضها بين يدي المأمون، في خرائط وردت عليه، فلما قرأ على المأمون الكتاب اغتم به وقال له: ما ترى? فقال: لعل هذه علة عارضة تزول، وسيرد بعد هذا غيره فيرى حينئذ أمير المؤمنين رأيه. ثم امسك أياما وكتب كتابا آخر ودسه في الخرائط، يذكر فيه انه تناهى في العلة إلى مالايرجو معه نفسه، فلما قرأه المأمون قلق وقال: با أحمد، إنه لا مدفع لأمر خراسان فما ترى? فقال: هذا رأي إن أشرت فيه بما أرى فلم أصب لم أستقبله، وأمير المؤمنين أعلم بخدمه ومن يصلح بخراسان منهم. قال: فجعل المأمون يسمي رجالا ويطعن أحمد على واحد واحد منهم، إلى أن قال: فما ترى في الأعور? قال: إن كان عند أحد قيام بهذا الأمر ونهوض فيه فعنده. فدعا به المامون فعقد له على خراسان، وأمره أن يعسكر، فعسكر بباب خراسان. ثم تعقب الرأي فعلم أنه قد أخطأ، فتوقف عن أمضائه وخشي أن يوحش طاهرا بنقضه، فمضى شهر تام وطاهر مقيم بمعسكره. ثم إن المأمون في السحر من ليلة أحد وثلاثين يوما من عقده له، عقد اللواء لطاهر ظاهرا، وأمر بإحضار مخارق المغني، فأحضر وقد صلى المأمون الغداة مع طلوع الفجر، فقال: يا مخارق، أتغني.

 

إذا لم تستطع شيئا فـدعـه                      وجاوزه إلى ما تستطـيع

وكيف تريد أن تدعى حكيما                      وأنت لكل ماتهوى تبـوع

 

صفحة : 1704

 

قال: نعم.قال: هاته. فغماه فقال: ما صنعت شيئا، فهل تعرف من يقوله أحسن مما تقوله? قال نعم، علويه الأعسر. فأمر بإحضاره فكأنه كان وراء الستر، فأمره أن يغنيه، فغناه واحتفل فقال : ما صنعت شيئاأتعرف من يقوله أحسن مما تقوله? قال: نعم عمرو بن بانة شيخنا. فامر بإحضاره فدخل في مقدار دخول علويه، فأمر بأن يغنيه الصوت، فغناه فأحسن فقال: أحسنت ماشئت ، هكذا ينبغي أن يقال. ثم قال: يا غلام اسقني رطلا واسق صاحبيه رطلا رطلا. ثم دعا له بعشرة آلاف درهم، وخلعة ثلاثة أثواب، ثم أمره بإعادته، فأعاده فرد القول الذي قاله، وأمر له بمثل ما أمر، حتى فعل ذلك عشرا، وحصل لعمرو مائة ألف درهم وثلاثون ثوبا، ودخل المؤذنون فأذنوه بالظهر، فعقد إصبعه الوسطى بإبهامه وقال: برق يمان، برق يمان. وكذلك كان يفعل إذا أراد أن ينصرف من بحضرته من الجلساء. فقال عمرو: يا أمير المؤمنين، قد أنعمت علي واحسنت إلي، فإن رأيت أن تأذن لي في مقاسمة أخوى ما وصل إلي فقد حضراه? فقال: ما احسن ما استمحت لهما، بل نعطيهما نحن ولا نلحقهما بك. وأمر لكل واحد بمثل نصف جائزة عمرو، وبكر إلى طاهر فرحله، فلما ثنى عنان دابته منصرفا دنا منه حميد الطوسي فقال: اطرح على ذنبه ترابا. فقال: اخسأ يا كلب ونفذ طاهر لوجهه، وقدم غسان بن عباد فسأله عن علته وسببها، فحلف له أنه لم يكن عليلا، ولا كتب بشيء في هذا. فعلم المأمون أن طاهرا احتال عليه بابن أبي خالد، وأمسك على ذلك. فلما كان بعد مدة من مقدم طاهر إلى خراسان قطع الدعاء للمأمون على المنبر يوم الجمعة، فقال له عون بن مجاشع بن مسعدة صاحب البريد: لم تدع في هذه الجمعة لأمير المؤمنين? فقال: سهو وقع فلا تكتب به. وفعل مثل ذلك في الجمعة الثانية، وقال لعون: لاتكتب به، وفعله في الجمعة الثالثة فقال له عون: إن كتب التجار لاتنقطع من بغداد، وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيرنا لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي. فقال: اكتب بما أحببت. فكتب إلى المأمون بالخبر، فلما وصل كتابه دعا بأحمد بن أبي خالد وقال: إنه لم يذهب علي احتيالك علي في أمر طاهر، وتمويهك له، وانا أعطى الله عهدا لئن لم تشخص حتى توافيني به كما أخرجته من قبضتي وتصلح ما أفسدته علي من أمر ملكي لأبيدن غضراءك فشخص أحمد وجعل يتلوم في الطريق ، ويقول لأصحاب البرد : اكتبوا بخبر علة أجدها. فلما وصل الري لقيته الأخبار ووافاه رسل طلحة بن طاهر بوفاة طاهر، فأغد السير حتى قدم خراسان، فلقيه طلحة على حد غفله فقال له أحمد: لاتكلمين ولا ترني وجهك فإن أباك عرضني للعطب وزوال النعمة، مع احتيالي له وسعي كان في محبته. فقال له: أبي قد مضى لسبيله ولو ادركته لما خرج عن طاعتك، وأما أنا فأحلف لك بكل ما تسكن به نفسك وأبذل كل ما عندي من مال وغيره، فاضمن له عني حسن الطاعة، وضبط الناحية، والإخلاص في النصيحة. فكتب أحمد بخبره وخبر طاهر وخبر طلحة إلى المأمون، وأشار بتقليده، فأنفذ المأمون إليه اللواء والخلع والعهد، وانصرف أحمد إلى مدينة السلام.

أخبرني وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد لالملك الزيات قال: حدثني حماد بن غسحاق عن ابيه قال: مدح ابن هرمة رجلا من قريش فلم يثبه، فقال له ابن عم له: لا تفعل، فإنه شاعر مفوه. فلم يقبل منه، فقال فيه الن هرمة:

فهلا إذا عجزت عن المعالي                      وعما يفعل الرجل القـريع

أخذت برأي عمرووحين ذكى                      وشب لناره الشرف الرفيع

إذا لم تستطع شـيئا فـدعـه                      وجاوزه إلى ما تستـطـيع ومما قاله عمرو بن معد يكرب في ريحانة أخته، وغني فيه، قوله:

هاج لك الشوق من ريحانة الطربا                      إذ فارقتك وأمست دارها غربـا

ما زلت أحبس يوم البين راحلتـي                      حتى استمروا وأذرت دمعها سربا

حتى ترفع بالحزان يركـضـهـا                      مثل المهاة مرته الريح فاضطربا

والغانيات يقتـلـن الـرجـال إذا                      ضرجن بالزعفران الريط والنقبا

من كل آنسة لـم يغـذهـا عـدم                      ولا تشد لشيء صوتها صخـبـا

إن الغواني قد أهلكنـنـي وأرى                      حبالهن ضعيفات القـوى كـذبـا غنى في هذا الشعر ابن سريج خفيف ثقيل من رواية حماد، وفيه رمل نسبه حبش إليه أيضا.

 

 

صفحة : 1705

 

وقال الأصمعي: هذا الشعر لسهل بن الحنظلية الغنوي ثم الضبيني ثم الجابري، وهو جابر بن ضبينة.

قال أبو الفرج الأصبهاني: وسهل بن الحنظلية أحد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلمن وقد روى عنه حديثا كثيرا.

فذكر الأصمعي أن السبب في قوله هذا الشعر أنه اجتمع ناس من العرب بعكاظ، منهم قرة بن هبيرة القشيري، في سنين تتابعت على الناس، فتواعدوا وتوافقوا أن لا يتغوروا حتى يخصب الناس ثم قالوا: ابعثوا إلى المنتشر بن وهب الباهلي ثم الوائلي فليشهد أمرنا، ولنخله معنا. فأتاهم فأعلموه ما صنعوه، قال: فما يأكل قومي إلى ذاك? فقال له ابن جارم الضبي : إنك لهناك يا أخا باهلة? قال: أما أنا فالغسل والنساء علي حرام حتى آكل من قمع إبلك . فتفرقوا ولم يكن إلا ذلك. وقال ابن جارم للمنتشر عند قوله: استك أضيق من ذاك فاغار المنتشر على ابن جارم، فلما رآه ابن جارم رمى بنفسه في وجار ضبع، وأطرد المنتشر إله ورعاءها، فقال سهل في ذلك:

هاج لك الشوق من ريحانة الطربا في قصيدة طويلة له حسنة. وقال في ذلك أعشى باهلة:

فدى لك نفسي إذ تركت ابن جارم                      أجب السنام بعد ما كان مصعبـا وقال المخبل في ذلك:

إن قشيرا مـن لـقـاح ابـن جـارم                      كغاسلة حيضا وليسـت بـطـاهـر

وأنـبـأ تـمـانـي أن قـرة آمــن                      فناك أبـاه مـن مـجـير وخـافـر

فلا توكلوها الباهـلـي وتـقـعـدوا                      لدى غرض أرميكـم بـالـنـواقـر

إذا هي حلت بالذهـاب وذي حـسـى                      وراحت خفاف الوطء حوس الخواطر أخبرنا أحمد بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل، قال حدثني فعنب بن المحرز قال أخبرنا الهيثم بن عدي عن ابن عياش عن محمد بن المنتشر قال: أخبرني من شهد الأشعث بن قيس وعمرو بن معد يكربوقد تنازعا في شيء، فقال عمرو للأشعث: نحن قتلناأباك ونكنا أمك فقال سعد: قوما أف لكما فقال الأشعث لعمرو: والله لأضرطنك. فقال: كلا إنها عزوز موثقة .

قال جرير بن عبد الله البجلي: فأخذت بيد الأشعث فنترته فوقع على وجهه، ثم أخذت بيد عمرو فجذبته فما تحلحل والله، لكانما حركت أسطوانة القصر.

وقال أبو عبيدة: قدم عمرو بن معد يكرب والأجلح بن وقاص الفهمي على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأتياه وبين يديه مال يوزن، فقال: متى قدمتما? قالا: يوم الخميس. قال: فما حبسكما? قالا: شغلنا بالمنول يوم قدمنا، ثم كانت الجمعة، ثم غدونا عليك اليوم. فلما فرغ من وزن المال نحاه، ثم أقبل عليهما فقال: هيه فقالعمرو: يا أمير المؤمنين، هذا الأجلح بين وقاص، شديد المرة، بعيد الفرة، وشيك الكرة، والله ما رأيت مثله من الرجال صارعا ومصروعا، والله لكأنه لايموت فقال عمر للأجاح بن وقاص، وأقبل عليه: هيه. قال: وانا أعرف الغضب في وجهه، فقلت: يا أمير المؤمنين؛ الناس صالحون كثير نسلهم، دارة أرزاقهم، خصب نباتهم، أجرياء على عدوهم، جبان عدوهم عنهم، صالحون بصلاح إمامهم، والله ما رأينا ملك من تقدمك، فنستمتع الله بك.

فقال: ما منعك أن تقول في صاحبك مثل الذي قال فيك? منعني ما رأيت في وجهك. قال: قد أصبت أما لوقلت له مثل الذي قال لك لأوجعتكما عقوبة، فإن تركتك لنفسك فسوف أتركه لك، والله لوددت لو سلمت لكم حالكم هذه أبدا، اما إنه سيأتي عليك يوم تعضه وينهشك، وتهره وينبحك، ولست له يومئذ وليس لك، فإن لم يكن بعهدكم فما أقربه منكم .

قال أبو عبيدة: حدثنا يونس وأبو الخطاب قالا: لما كان يوم القادسية أصاب المسلمون أسلحة وتيجانا ومناطق ورقابا فبلغت مالا عظيما، فعزل سعد الخمس ثم فض البقية، فأصاب الفارس ستةآلاف، والرجل ألفان، فبقي مال دثر . فكتب إلى عمر رضي الله عنه بما فعل، فكتب إلبه أن رد على المسملمين الخمس، واعط من لحق بك ممن لم يشهدالواقعة. ففعل فأجراهممجرى من شهد، وكتب إلى عمر بذلك، فكتب إليه أن فض ما بقي على حملة القرآن. فأتاه عمرو بن معدي يكربفقال: ما معك من كتاب الله تعالى? فقال: إني أسلمت باليمن، ثم غزوت فشغلت عنحفظ القرآن. قال:مالك في هذا المال نصيب.

قال: وأتاه بشر بن ربيعة الخثعمي، صاحل جبانة بشر فقال: مامعك من كتاب الله ? قال: بسم الله الرحمن الرحيم. فضحك القوم منه ولم يعطه شيئا، فقال عمرو في ذلك:

 

صفحة : 1706

 

 

إذا قتلنا ولا يبكي لـنـا أحـد                      قالت قريش ألا تلك المقادير

نعطى السوية من طعن له نفذ                      ولا سوية إذ تعطى الدنانـير وقال بشر بن ربيعة:

أنخت بباب القادسية ناقتـي                      وسعد بن وقاص علي أمير

وسعد أمير شره دون خـيره                      وخير أمير بالعراق جـرير

وعند أمير المؤمنين نوافـل                      وعند المثنى فضة وحـرير

تذكر هداك الله ةوقع سيوفنا                      بباب قديس والمكرعسـير

عشية ود القوم لو أن بعضهم                      يعار جناحي طائر فيطـير

إذا ما فرغنا من قراع كتيبة                      دلفنا لأخرى كالجبال تسـير

ترى القوم فيها واجمين كأنهم                      جمال بأحمال لهـن زفـير فكتب سعد إلى عمر رضي الله تعالى عنه بما قال لهما وما ردا عليه، وبالقصيدتين، فكتب أن أعطهماعلى بلائهما. فأعطى كل واحد منهما ألفي درهم.

قال: وحدثني أبو حفص السلمي قال: كتب عمر إلى سلمان بن ربيعة الباهلي : إن في جندك عمرو بن معد يكرب، وطلحة بن خويلد الأسدي، فإذا حضر الناس فأدنهما وشاورهما وابعثما في الطلائع، وإذا وضعت الحرب أوزارها فضعها حيث وضعا أنفسها. يعني بذلك ارتدادهما، وكان عمرو ارتد وطليحة تنبأ.

قال: وحدثنا أبو حفص السلمي قال: عرض سلمان بن ربيعة جنده بأرمينية، فجعل لا يقبل إلا عتيقا، فمر به عمرو بن معد يكرب بفرس غليظ، فقال سلمان: هذا هجين: فقال عمرو: والهجين يعرف الجهين فبلغ عمر رضى الله تعالى عنه قوله فكتب إليه: أما فإنك القاتل لأميرك ما قلت، وإنه بلغني أعندك سيفا تسميه الصمصامة، وعندي سيف أسميه مصمما ، وأقسم لئن وضعته بين أذنيك لاأقله حتى يبلغ قحفك ، وكتب إلى سلمان يلومه في حلمه عنه.

قال: وزعموا أن عمرا شهد فتح اليرموك، وفتح القادسية، وفتح نهاوند مع النعمان بن مقرن المزني، وكتب عمر إلى النعمان: إن في جندك رجلين: عمرو بن معد يكرب، وطليحة بن خويلد الأسدي من بني قعين، فأحضرهما الحرب وشاورهما في الأمر، ولا تولهما عملا. والسلام.

 

خليلي هبا طالما قد رقدتـمـا                      أجدكما الاتقضيان كراكـمـا

سأبكيكما طول الحياة وما الذي                      يرد على ذي لوعة إن بكاكما ويروي: ذي عولة.

الشعر لقس بن ساعدة الإيادي، فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي في خبر أنا ذاكره هاهنا.

وذكر يعقوب بن السكيت أنه لعيسى بن قدامة الأسدي .

وذكر العتبي أنه لرجل من بني عامر بن صعصعة، يقال له الحسن بن الحارث. والغناء لهاشم بن سليمان، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.

هو قس بن ساعدة بن عمرو- وقيل مكان عمرو شمر- بن عدي بن مالك بن أيدعان بن النمر بن واثلة بن الطمثان بن زيد مناة بن يقدم بن أفص بن دعمي بن إياد. خطب العرب وساعرها، وحليمها وحكيمها في عصره.

يقال: إنه أول من علا على شرف وخطب عليه. وأول من قال في كلامه: أما بعد، وأول من اتكأ عند خطبته على سيف أو عصا.

وأدركه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ورآه بعكاظ فكان يأثر عنه كلاما سمعه منه، وسئل عنه فقال: يحشر أمه واحدة.

وقد سمعت خبره من جهات عدة، إلا أنه لم يحضرني وقت كتبت هذا الخبر غيره، وهو وإن لم يكن من أقواها على مذهب أهل الحديث إسنادا، فهو من اتمها.

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أبو شعيب صالح بن عمران قال: حدثني عمر بن عبد الرحمن بن حفص النسائي قال: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثني الحسن بن علد الله قال: حدثني محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس قال: لما قدم وفد إياد على النبي صالى الله عليه وسلم قال: ما فعل قس بن ساعدة? قالوا: مات يارسول الله. قال:  كاني أنظر إليه بوسق عكاظ على جمل له أورق وهويتكل بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه  . فقال رجل من القوم: أنا أحفظه يا رسول الله قال: كيف سمعته يقول? قال سمعته يقول:

 

صفحة : 1707

 

أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت. ليل داج، وسماء ذات أبراج، بحار تزخر، ونجوم تزهر ، وضوء وظلام، وبر وآثام، ومطعم ومشرب، وملبس ومركب. مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تركوا فناموا. وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه، وأدرككم أوانه، فطوبى لمن أدركه فاتبعه، وويل لمن خالفه. ثم أنشأ يقول:

في الـذاهـبـين الأولـي                      ن من القرون لنا بصـائر

لمــا رأيت مـــواردا                      للموت ليس لها مصـادر

ورأيت قومي نـحـوهـا                      يمضي الأصاغر والأكابر

أيقـنـت أنـي لامـحـا                      لة حيث صار القوم صائر فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  يرحم الله قسا، إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحدة .

فقال رجل يا رسول الله: لقد رأيت من قس عجبا. قال: وما رأيت? قال: بينا أنا بجبل يال له سمعان في يوم شديد الحر، إذا أنا بقس بن ساعدة تحت ظل شجرة عند عين ماء، وعنده سباع، كلما زأر سبع منها على صاحبه ضربه بيده وقال: كف حتى يشرب الذي ورد قبلك. قال: ففرقت ، فقال: لاتخف. وإذا أنا بقبرين بينهما مسجد، فقلتله: ماهذا القبران? قال هذان قبرا أخوين كانا لي فماتا، فتخذت بينهما مسجدا أعبد الله جل وعز فيه حتى ألحق بهما. ثم ذكر أيامهما فبكى، ثم أنشأ يقول:

خليلي هبا طالما قد رقدتـمـا                      أجدكما الاتقضيان كراكـمـا

ألم تعلما أني بسمعان مفـرد                      ومالي فيه من حبيب سواكما

أقيم على قبريكما لست بارحا                      طوال الليالي أو يجيب صداما

كأنكما والموت أقرب غـاية                      بجسمي في قبريكما قد أتاكما

فلو جعلت نفس لنفس وقـاية                      لجدت بنفسي أن تكون فداكما فقال النبي صلى الله عليه وسلم:  يرحم الله قسا  .

أما الحكاية عن يعقوب بن السكيت أن الشعر لعيسى بن قدامة الأسدي فأخبرني بها علي بن سليمان الأخفش، عن السكوني قال: قال يعقوب بن السكيت: قال عيسلى بن قدامة الأسدي، وكان قدم قاسان ، وكان له نديمان فماتا، وكان يجيء فيجلس عند القبرين، وهما براوند ، في موضع يقال له خزاق، فيشرب ويصب على القبرين حتى يقضي وطره، ثم ينصرف وينشد وهو يشرب:

خليلي هبا طـالـمـا قـدرقـدتـمـا                      أجدكمـا لاتـقـضـيان كـراكـمـا

ألم تعلـمـا مـالـي بـروانـد هـذه                      ولا بخـزاق مـن نـديم سـوامـكـا

مقيم على قبريكمـا لـسـت بـارحـا                      طوال الليالي أو يجـيب صـداكـمـا

جرى الموت مجرى اللحم والعظم منكما                      كأن الذي يسقي العقار سـقـاكـمـا

تحمل من يهوى الـقـفـول وغـادروا                      أخالكما أشجاه ما قـد شـجـاكـمـا

فأي أخ يجفـر أخـا بـعـد مـوتـه                      فلست الذي من بعد موت جفـاكـمـا

أصب على قبـريكـمـا مـن مـدامة                      فإلا تذوقا أرو مـنـهـا ثـراكـمـا

أناديكما كيما تـجـيبـا وتـنـطـقـا                      وليس مجابا صوته مـن دعـاكـمـا

أمن طول نوم لاتـجـبـيبـان داعـيا                      خليلي ما هذا الـذي قـد دهـاكـمـا

قضـيت بـأنـي لامـحـالة هـالـك                      وأني سعيروني الذي قد عـراكـمـا

سأبكيكما طـول الـحـياة ومـا الـذي                      يرد على ذي عـولة إن بـكـاكـمـا وأخبرني ابن عمار أبو العباس أحمد بن عبيد الله بخير هؤلاء، عن أحمد بن يحيى اللاذري قال: حدثنا عبد الله بن صالح بن مسلم العجلي قال: بلغني أن ثلاثة نفر من أهل الكوفة كانوا في الجيش الذي وجهه الحجاج إلى الديلم، وكانوا يتنادمون لايخالطون غيرهم، فإنهم لعلى ذلك إذ مات أحدهم فدفنه صاحباه، وكانا يشربان عند قبره،فإذا بلغه الكأس هراقاها على قبره وبكيا. ثم إن الثاني مات فدفنه الباقي إلى جانب صاحبه، وكان يجلس عند قبريهما فيشرب ويصب الكأس على الذي يليه ثم على الآخر وبكي، وقال فيهما:

نديمي هبا طالما قد رقدتما وذكر بعض الأبيات التي تقدم ذكرها. وقال مكان برواند هذه: بقزوين، وسائر الخبر نحو ما ذكرناه. قال ابن عمار: فقبورهم هناك تعرف بقبور الندماء.

 

 

صفحة : 1708

 

وذكرالعتبي عن أبيه أن الشعر للحزين بن الحارث، أحد بني عامر بن صعصعة، وكان أحد نديميه من بني أسد والآخر من بني حنيفة، فلما مات أحدهما كان يشرب ويصب على قبره ويقول.

 

لاتصرف هامة من كأسها                      واسقه الخمر وإن كان قبر

كان حرا فهوى فيمن هوى                      كل عود ذي شعوب ينكسر قال: ثم مات الآخر فكان يشرب عند قبريهما وينشد:

خليلي هبا طالما قد رقدتما الأبيات: قال: ثم قالت له كاهنة: إنك لاتموت حتى تنهشك حية في شجرة بوادي كذا وكذا. فورد ذلك الوادي في سفر له وسأل عنه فعرفه، وقد كان خط في أصل شجرة ، ومد رجله عليها، فنهشته حية فأنشأ يقول:

خليلي هذا حيث رمسي فعرجـا                      علي فإني نـازل فـمـعـرس

لبست رداء العيش أحوى أجرهال                      عيشات حتى لم يكن فيه ملبـس

تركت خبائي حيث أرسى عمـاده                      علي، وهذا مرمسي حيث أرمس

أحتفي الذي لابد أنـك قـاتـلـي                      هلم فما في غابر العيش منفـس

أبعد نديمي الـلـذين بـعـاقـل                      بكيتهما حولا مـدى أتـوجـس

ذكر هاشم بن سليمان وبعض أخباره

هوهاشم بن سليمان مولى بني أمية، ويكنى أبا العباس، وكان موسى الهادي يسميه أبا الغريض. وهو حسن الصنعة عزيزها، وفيه يقول الشاعر:

يا وحشتي بعدك ياهاشـم                      غبت فشجوى بك لي دائم

اللهو واللـذة ياهـاشـم                      مالم تكن حاضره مأتـم أخبرني علي بن عبد العزيز قال حدثنا عبيد الله بن عبيد الله بن خرداذبه قال: كان موسى الهادي يميل إلى هاشم بن سليمان ويمازحه، ويلقبه أبا الغريض.

وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال: بلغني أن هاشم بن سليمان دخل يوما على موسى الهادي فغناه:

لويرسل الأزل الظـبـا                      ء ترود ليس لهن قـائد

لتيممـتـك تـدلـهـا                      رياك للسبل المـوارد

وإذا الرياح تنـكـرت                      نكبا هواجرها صوارد

فالنـاس سـائلة إلـي                      ك فصادرا تغني ووارد الشعر لطريح بن إسماعيل الثقفي، يقوله في الوليد بن يزيد بن عبد الملك. والغناء لهاشم بن سليمان، خفيف ثقيل أول بالبنصر.

فطرب موسى، وكان بين يديه كانون كبير ضخم عليه فحم، فقال له: سلني ما شئت. قال: تملأ لي هذا الكانون. فأمر له بذلك، وفرغ الكانون فوسع ست بدور ، فدفعها إليه.

وقد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بي أبي سعد، عن أبي توبة، عن هاشم بن سليمان قال: أصبح موسى أمير المؤمنين يوما وعنده جماعة منا، فقال: ياهاشم غنني:

أبهار قد هيجت لي أوجاعا فإن أصبت مرادي فيه فلك حاجة مقضية. فغنيته فقال: قد أصبت واحسنت سل حاجتك. فقال: يا أمير المؤمنين تأمر أن يملأ هذا الكانون دراهم. قال: وبين يديه كانون عظيم، فأمر به فملئ فوسع ثلاثين ألف درهم، فلما حصلتها قال: يا ناقص الهمة، والله لو سألتني أن أملأه دنانير لفعلت. فقلت: أقلني يا أمير المؤمنين فقال: لاسبيل إلى ذلك فلم يسعدك الجد به.

 

أبهار قد هيجت لي أوجـاعـا                      وتركتني عبدا لكم مطـواعـا

بحديثك الحسن الذي لو كلمـت                      وحش الفلاة به لجئن سراعـا

وإذا مررت على البهار منضدا                      في الشوق هيج لي إليك نزاعا

والله لو علم البهـار بـأنـهـا                      أضحت سمية لصار ذراعـا الغناء لهاشم، ثاني ثقيل بالبنصرعن عمرو، وفيه ثقيل أول بالبنصر، ينسب إلى إبراهيم الموصلي، وإلى يحيى المكي، وإلى إسحاق.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز وإسماعيل بن يونس قالا: حدثنا عمر بن شبة قال حدثني بعض أصحابنا قال:

 

صفحة : 1709

 

كنا في منزل محمد بن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس، وكان عالما بالغناء والفقه جميعا، وقد كان يحيى بن أكثم وصفه للمأمون بالفقه، ووصفه أحمد بن يوسف بالعلم بالغناء فقال المأمون: ما أعجب ما اجتمع فيه: العلم بالفقه، والغناء فكتبت إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن يتحول إلينا وكان في جوارنا، وعندنا يومئذ محمد بن أيوب بن جعفر بن سليمان، وذكاء وصغير غلاما أحمد بن يوسف الكاتب، فكتب إلينا إسحاق: جعلت فداءكم، قد أخذت دواء، فإذا خرجت منه حملت قدري وصرت إليكم. وكتب في أسفل كتابه:

أنا شماطيط الذي حدثت به                      متى أنبه للغداء أنتـبـه

ثم أدور حوله وأحتـبـه                      حتى يقال شره ولست به ثم جاءنا ومعه بديح غلامه، فتغدينا وشربنا، فغنى ذكاء غلام أحمد بن يوسف:

أبهار قد هيجت لي أوجاعا فسأله إسحاق أن يعيده فأعاده مرارا، ثم قال له: ممن أخذت هذا? فقال: من معاذ بن الطبيب. قال: والصنعة فيه له. فقال له إسحاق: أحب أن تلقيه على بديح. ففعل. فلما صليت العشاء انصرف ذكاء، وقعد أبو جعفر يشرب-يعني مولاه -وعنده قوم، وتخلف صغير فغنانا، فقال له إسحاق: أنت والله ياغلام ماخوري. وسكر محمد بن إسماعيل في آخر النهار فغنانا:

دعوني أغص إذا ما بدت                      وأملك طرفي فلا أنظر فقال إسحاق لمحمد بن الحسن: آجرك الله في ابن عمك أي قد سكر فأقدم على الغناء بحضرتي.

 

هبوني أغض إذا ما بـدت                      وأملك طرفي فلا أنظـر

فكيف احتيالي إذا ما الدموع                      نطقن فبحن بما أضـمـر

أيا من سروري به شقـوة                      ومن صفو عيشي به أكدر

أمني تخاف انتشار الحديث                      وحظي في ستـره أوفـر

ولو لم أصنه لبقيا عـلـيك                      نظرت لنفسي كما تنظـر الشعر للعباس بن الأحنف، والغناء للزبير بن دحمان، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو في الأبيات الثلاثة الأول. وفيها لعمرو بن بانة ماخوري. وفي:

أيا من سروري به شقوة لسليم هزج. وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى حسين بن محرز، وإلى عباس منار.

 

هذا أوان الشد فاشتـدي زيم                      قد لفها الليل بسواق حطـم

ليس براعي إبل ولا غـنـم                      ولا بجزار على ظهر وضم عروضه من الرجز. الشعر لرشيد بن رميض العنزي يقوله في الحطم، وهو شريح بن ضبيعة، وأمه هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد، والغناء ليزيد حوراء، خفيف ثقيل أول بالبنصر، وفيه خفيف رمل يقال إنه لأحمد المكي.

قال أبو عبيدة: كان شريح بن ضبيعة غزا اليمن في جموع جمعها من ربيعة، فغنم وسبى بعد حرب كانت بينه وبين كندة، أسر فيها فرعان بن مهدي بن معد يكرب عم الأشعث بن قيس، وأخذ على طريق مفازة فضل بهم دليلهم ثم هرب منهم ومات فرعان في أيديهم عطشا، وهلك منهم ناس كثير بالعطش. وجعل الحطم يسوق بأصحابه سوقا عنيفا . حتى نجوا ووردوا الماء. فقال فيه رشيد:

هذا أوان الشد فاشتدي زيم                      ليس براعي إبل ولا غنـم

ولا بجزار على ظهر وضم                      نام الحداة وابن هند لم ينـم

باتت بقاسيها غلام كالزلـم                      خدلمج الساقين خفاق القدم

قد لفها الليل بسواق حطم فلقب يومئذ الحطم لقول رشيد هذا فيه.

وأدرك الحطم الإسلام فأسلم، ثم ارتد بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا عبد الله بن سعد الزهري قال أخبرنا عمي يعقوب قال: أخبرني سيف قال: خرج العلاء بن الحضرمي نحو البحرين، وكان من حديث البحرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مات ارتدوا ففاءت عبد القيس منهم، وأما بكر فتمت على ردتها. وكان الذي ثنى عبد القيس الجارود بن المعلى.

فذكر سيف عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن بن أبي الحسن قال: قدم الجارود بن المعلى على النبي صلى الله عليه وسلم مرتادا، وقال: أسلم يا جارود. فقال: إن لي دنيا. فقال له النبي صالى الله عليه وسلم:  إن دينك يا جارود ليس بشيء، وليس بدين.  فقال له الجارود: فإن أنا أسلمت فما كان من تبعة في الإسلام فعليك? قال: نعم . فأسام وأقام بالمدينة حتى فقه.

 

 

صفحة : 1710

 

حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل عن أبي إسحاق قال: اجتمعت ربيعة بالبحيرن، فقالوا: ردوا الملك في آل المنذر، فملكوا المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، ثم أسلم بعد ذلك وقال: لست بالغرور ولكني المغرور.

حدثنا محمد بن جرير قال: حدثنا عبد الله بن سعد قال: أخبرني عمي قال أخبرني عمي قال أخبرنا سيف عن إسماعيل بن مسلم عن عمير بن فلان العبدي قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج الحطم بن ضبيعة، في بني قيس بن ثعلبة ومن اتبعه من بكر بن وائل على الردة، ومن تأشب إليه من غير المتدين ممن لم يزل كافرا، حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط و من كان بهما من الزط والسيابجة، وبعث بعثا إلى دارين فأقا موا له ليجعل عبد القيس بينهم وبينه، وكانوا مخالفين له يمدون المنذر و المسلمين، وأرسل إلى الغرور بن سويد بن المنذر بن أخي النعمان بن المنذر، فقال له: اثبت فإني إن ظفرت ملكتك البحرين، حتى تكون كالنعمان بالحيرة. وبعث إلى رواثا وقيل إلى جؤاثا، فحاصهم وألح عليهم، فاشتد الحصار على المحصورين من المسلمين، وفيهم رجل من صالحي المسلمين يقال له عبد الله بن حذف، أحد بني أبي بكر بن كلاب، فاشتد عليه وعليهم الجوع حتى كادوا يهلكون، فقال عبد الله بن حذف:

ألا أبلغ أبـا بـكـر رسـولا                      وفتيان المدينة أجـمـعـينـا

فهل لكـم إلـى قـوم كـرام                      قعود في جؤاثا محصـرينـا

كأن دماءهم فـي كـل فـج                      شعاع الشمس يعشى الناظرينا

توكلنا على الـرحـمـن إنـا                      وجدنا النصر للمتوكـلـينـا حدثني محمد بن جرير قال كتب إلى السري بن يحيى عن شعيب بن إبراهيم، عن سيف بن عمر، عن الصقعب بن عطية بن بلال، عن سهم بن منجاب، عن منجاب ابن راشد قال:

 

صفحة : 1711

 

بعث أبو بكر العلاء بن الحضرمي على قتال أهل الردة بالبحرين، فتلاحق به من لم يرتد من المسلمين ، وسلك بنا الدهناء حتى إذا كنا في بحبوحتها أراد الله عز وجل أن يرينا آية، فنزل العلاء وأمر الناس بالنزول ، فنفرت الإبل في جوف الليل، فما بقي بعير ولا زاد ولا مزاد ولا بناء-يعني الخيم قبل أن يحطوا-فما علمت جمعا هجم عليه من الغم ما هجم علينا، وأوصى بعضنا إلى بعض، ونادى منادي العلاء: اجتمعوا. فاجتمعنا إليه فقال: ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم? فقال الناس: وكيف نلام ونحن إن بلغنا غدا لم تحم شمسه حتى نصير حديثا. فقال: أيها الناس، لاتراعوا، أستم مسلمين? ألستم في سبيل الله? أستم أنصار الله? قالوا: بلى قال: فأبشروا، فوالله لايخذل الله تبارك وتعالى من كان في مثل حالكم. ونادى المنادي بصلاة الصبح حين طلع الفجر، فصلى بنا ومنا المتيمم ومنا من لم يزل على طهوره، فلما قضى صلاته جثا لركبتيه، وجثا الناس معه، فنصب في الدعاء ونصبوا فلمع لهم سراب فأقبل على الدعاء، ثم لمع لهم آخر كذلك فقال الرائد: ماء. فقام وقام الناس فمشينا حتى نزلنا عليه فشربنا واغتسلنا، فما تعالى النهار حتى أقبلت الإبل من كل وجه وأناخت إلينا، فقام كل رجل إلى ظهره فأخذه، فما فقدنا سلكا ، فأرويناها العلل بعد النهل وتروحنا. وكان أبو هريرة رفيقي، فلما غبنا عن ذلك المكان قال لي: كيف علمك بموضع ذلك الماء? فقلت: أنا أهدى الناس بهذه البلاد. قال: فكر معي حتى تقيمني عليه. فكررت به فأنخت على ذلك المكان بعينه، فإذا هو لا غدير به، ولا أثر للماء، فقلت له: والله لولا أني لا أرى الغدير لأخبرتك أن هذا هو المكان، وما رأيت بهذا المكان ماء قبل ذلك . فنظر أبو هريرة فإذا إداوة مملوءة فقال: يا سهم، هذا والله المكان ولهذا رجعت ورجعت بك. وملأت إداوتي هذه ثم وضعتها على شفير الوادي فقلت: إن كان منا من المن وكانت آية عرفتها، وإن كان غياثا عرفته. فإذا من من المن وحمدت الله جل وعز. ثم سرنا حتى نزلنا هجر فأرسل العلاء إلى الجارود ورجل آخر: أن انضما في عبد القيس حتى تنزلا على الحطم مما يليكما. وخرج هو فيمن معه وفيمن قد عليه جتى ينزل مما يلي هجر. وتجمع المسلمون كلهم إلى العلاء بن الحضرمي، ثم خندق المسلمون والمشركون فكانوا يتراوحون القتال ويرجعون إلى خندقهم، فكانوا كذلك شهرا. فبينا الناس ليلة كذلك إذسمع المسلمون في عسكر المشركين ضوضاء شديدة، فكأنها ضوضاء هزيمة فقال العلاء: من يأتينا بخير القوم? فقال عبد الله بن حذف: أنا آتيكم بخير القوم-وكانت أمه عجيلة-فخرج حتى إذا دنا من خندقهم أخذوه فقالوا له: من أنت? فانتسب لهم وجعل ينادي يا أبجراه فجاء أبجر بن بجير فعرفه فقال: ما شأنك? فقال لا أضيعن الليلة بين اللهازم، علام أقتل وحولي عساكر من عجل وتيم اللات وعنزة وقيس، أيتلاعب بي الحطم ونزاع القبائل وأنتم شهود فتخلصه وقال: والله إني لأظنك بئس ابن الأخت لأخوالك الليلة.

 

 

صفحة : 1712

 

قال: دعني من هذا وأطعمني، فقد مت جوعا. فقرب إليه طعاما فأكل. ثم قال: زودني واحملني وجوزني انطلق إلى طيتي. ويقول ذلك لرجل قد علب عليه الشراب، ففعل وحمله على بعير وزوده وجوزه. وخرج عبد الله حتى دخل عسكر المسلمين، فأخبرهم أن القوم سكارى، فخرج القوم عليهم حتى اقتحموا عسكرهم فوضعوا فيهم السيوف حيث شاءوا، واقتحمو الخندق هرابا، فمترد، وناج، ودهش، ومقتول، ومأسور. واستولى المسلمون على مافي العسكر، ولم يفلت رجل إلا بما عليه. فاما أبجر فأفلت، وأما الحطم فإنه بعل ودهش وطار فؤاده ، فقام إلى فرسه والمسلمون خلالهم يجرسونهم ليركبه، فلما وضع رجله في الركاب انقطع، فمر به عفيف بن المنذر أحد بني عمرو بن تميم، والحطم يستغيث ويقول: ألا رجلك أعقلك. فأعطاه رجله يعقلها فنفحها فأطنها من الفخذ وتركه، فقال: أجهز علي. فقال: إني لأحب أن لاتموت حتى أمضك. وكان مع عفيف عدة من ولد أبيه فأصيبوا ليلتئذ، وجعل الحطم يقول ذلك لمن لا يعرفه حتى مر به قيس بن عاصم فقال له ذلك فعرفه، فمال عليه فقتله ، فلما رأى فخذه نادرة فال: واسوأتاه لو عرفت الذي به لم أحركه. وخرج المسلمون، بعد ما أحرزوا الخندق، على القوم يطلبونهم، فاتبعوهم فلحق قيس بن عاصم أبجر، وكان فرس أبجر أقوى من فرس قيس، فلما خشي أن يفوته طعنه في العرقوب فقطع العصب وسلم النسا. فقال عفيف بن المنذر في ذلك:

فإن يرقأ العرقوب لا يرقأ النسا                      وما كل من تلقى بذلك عالـم

ألم ترأنا قد فللنا حـمـاتـهـم                      بأسرة عمرو والرباب الأكارم وأسر عفيف بن المنذر، الغرور بن اخي النعمان بن المنذر، فلمته الرباب فيه وكان ابن أختهم وسالوه أن يجيره، فجاء به إلى العلاء قال: إني أجرته. قال: ومن هو? قال: الغرور. قال العلاء: انت غررت هؤلاء? قال: أيها الملك أني لست بالغرور، ولكني المغرور. قال: أسلم. فأسلم وبقي بهجر. وكان الغرور اسمه، ليس بلقب. وقل العفيف أيضا المنذر بن سويد أخا الغرور لأمه، وكان له يومئذ بلاء عظيم فأصبح العلاء يقسم الأنفال، ونفل رجالا من أهل البلاء قيابا، فكان فيمن نفل عفيف بن المنذر، وقيس بن عاصم، وثمامة بن أثال. فأما ثمامة فنفلثيابا فيها خميصة ذات أعلام ، وكان الحطم يباهي فيها. وباع الباقي، وهرب الفل إلى دارين فركبوا إليها السفن، فجمعهم الله عز وجل بها، وندب العلاء الناس إلى دارين، وخطبهم فقال: إن الله عز وجل قد جمع لكم أحزاب السيطان، وشذاذ الحرب في هذا اليوم ، وقد أراكم من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر، فانهضوا إلى عدوكم ثم استعرضوا البحر إليهم، فإن الله جل وعز قد جمعهم به. فقالوا: نفعل ولا نهاب والله بعد الدهناء هولا ما بقينا فارتحل وارتحلوا حتى أتى ساحل البحر فاقتحموا على الخيل، هم والحمولة والإبل وابغال، الراكب والرجل ، ودعا ودعوا، وكان دعاؤه و دعائهم: با أرحم الراحمين، ياكريم يا حليم، يا صمد يا حي يا محيي الموتى، يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت يا ربنا فأجازوا ذلك الخليج بإذن الله، يمشون على مثل رملة ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، وبين الساحل ودارين مسيرة يوم وليلة لسفن البحر. ووصل المسلمون إليها فما تركوا من المشركين بها مخبرا ، وسبوا الذراري، واستاقوا الأموال، فبلغ من ذلك نفل الفارس من المسلمين ستة آلاف، والراجل ألفين. فلما فرغوا رجعوا عودهم على بدئهم، وفي ذلك يقول عفيف:

ألم تر أن اللـه ذلـل بـحـره                      وأنزل بالكفار إحدى الجـلائل

دعونا الذي شق البحار فجاءنـا                      بأعجب من شق البحار الأوائل

 

صفحة : 1713

 

وأقفل العلاء الناس إلا من أحب المقام، فاختار ثمامة بن أثال الذي نفله العلاء خميصة الحطم حين نزل على ماء لبني قيس بن ثعلبة، فلما رأوه عرفوا الخميصة فبعثوا أليه رجلا فسألوه: أهو الذي قتل الحطم? فقال: لا، ولوددت أنى قتلته. قال: فأنى لك حلته? قال: نفلتها. قالوا: وهل ينفل إلا القاتل. قال: إنها لم تكن عليه إنما كانت في رحله. قالوا: كذبت. فقتلوه، وكان بهجر راهب فأسلم فقيل له: ما دعاك إلى الإسلام فقال: ثلاثة أشياء خشيت أن يمسخني الله بعدها إن انا لم افعل: فيض في الرمال، وتمهيد أثباج البحور، ودعاء سمعته في عسكرهم في الهواء من السحر. قالوا: وما هو? قال:  اللهم إنك أنت الرحمن الرحيم، لا إله غيرك، والبديع ليس قبلك شيء، والدائم غير الغافل، والحي الذي لايموت، وخالق مايرى ومالا يرى، وكل يوم أنت في شأن، وعلمت اللهم كل شيء بغير تعليم  . فعلمت أن القوم لم يعاونوا بالملائكة إلا وهم على امر الله جل وعز فلقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعون هذا من ذلك الهجري بعد.

 

يا خليلي من ملام دعانـي                      وألما الغداة بالأظـعـان

لاتلوما في آل زينب إن ال                      قلب رهن بآل زينب عان الشعر لعمر بن أبي ربيعة، والغناء للغريض، خفيف رمل بالبنصر. وهذا الشعر يقوله في زينب بنت موسى، أخت قدامة بن موسى الجمحي.

أخبرني حرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة، قال: حدثني قدامة بن موسى قال: خرجت بأختي زينب بنت موسى إلى العمرة، فلما كنت بسرف لقيني عمر بن أبي ربيعة على فرس فسلم علي، فقلت: إني أراك متوجها يا أبا الخطاب? قال: ذكرت لي امرأة من قومي برزة الجمال ، فأردت الحديث معها. قلت: أما علمت أنها أختي? قال:لا والله. واستحيا وثنى عنق فرسه راجعا إلى مكة.

أخبرني حرمي قال حدثني الزبير: قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري قال: نسب ابن أبي ربيعة بزينب بنت موسى الجمحي، أخت قدامة بن موسى، فقال:

يا خليلي من ملام دعاني وذكر البيتين وبعدهما:

لم تدع للنساء عندي نصـيا                      غير ما قلت مازحا بلساني فقال له ابن أبي عتيق: أما قلبك فمغيب عنا، وأما لسانك فشاهد عليك.

أخبرني الحرمي قال: حدثني الزبير قال: قال عبد الرحمن بن عبيد الله بن عبد العزيز الزهري: لما نسب عمر بن أبي ربيعة بزينب قال:

لم تدع لنساء عندي نصيبـا                      غير ما قلت مازحا بلساني قال له ابن أبي عتيق: رضيت لهما بالمودة، وللنساء بالدهفشة .

قال: والدهفشة: التجميش والخديعة بالشيء اليسير.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير قال: أخبرني مثل ذلك عبد الملك بن عبد العزيز، عن يوسف بن الماجشون قال: فبلغ ذلك أبا وداعة السهمي فأنكره، فقيل لابن أبي عيتق: لأبو وداعة قد اعترض لعمر بن أبي ربيعة دون زينب بنت موسى الجمحي وقال: لا أقر له أن يذكر في الشعر امرأة من بينر هصيص. فقال ابن ابي عتيق: لا تلوموا أبا وداعة أن ينعظ من سمر قند على أهل عدن.

قال عبد الملك: وفيها يقول أيضا عمر:

طال عن آل زينب الإعـراض                      للتعزي وما بـنـا الإبـغـاض

ووليدا قد كان علقـهـا الـقـل                      ب إلى أن علا الرءوس البياض

حبلها عندنا متـين وحـبـلـي                      عندها واهن القوى أنـقـاض غناه ابن محرز رمل بالبنصر عن حبش. وفيها يقول أيضا:

أيها الكاشـح الـمـعـير بـالـصـر                      م ترحزح فمـا بـهـا الـهـجـران

لامـطـاع فـي آل زينـب فـارجـع                      أو تكـلـم حـتـى يمـل الـلـسـان

فاجعل الليل مـوعـدا حـين يمـسـي                      ويعـفـي حـديثـنـا الـكـتـمـان

كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص                      بر عن بـعـض نـفـسـه إنـسـان

ولقد أشـهـد الـمـحـدث عـنـد ال                      قصـر فـيه تـعـفــف وبـــيان

في زمـان مـن الـمـعـيشة لـــذ                      قد مضـى عـصـره وهـذا زمـان

 

صفحة : 1714

 

عروضه من الخفيف، غناه ابن سريج، ولحنه رمل بالوسطى من نسخة عمرو بن بانة الثانية، ووافقته دنانير. وذكر يونس أن فيه لابن محرز ولابن عباد الكاتب لحنين، ولم يجنسهما. وأول لحن عباد: لا مطاع في آل زينب، وأول لحن ابن محرز: ولقد أشهد المحدث.

قال: وفيها يقول أيضا:

أحدث نفسـي والأحـاديث جـمة                      وأكبر همي والأحـاديث زينـب

إذا طلعت شمس النهار ذكرتهـا                      وأحدث ذكراها إذا الشمس تغرب ذكر حماد عن أبيه أن فيه للهذلي لحنا لم ينسبه.

 

يا نصـب عـينـي لا أرى                      حيث التفت سـواك شـيا

إنـي لـمـيت إن صـدد                      ت وإن وصلت رجعت حيا الشعر لعلي بن أديم الجعفي الكوفي، والغناء لعمرو بن بانة، رمل بالوسطى.

 

ذكر علي بن أديم وخبره

هو رجل من تجار أهل الكوفة كان يبيع البز، وكان متأدبا صالح الشعر، يهوى جارية يقال لها منهلة، واستهيم بها مدة ثم بيعت فمات أسفا عليها. وله حديث طويل معها في كتاب مفرد مشهور، صنعه أهل الكوفة لهما، فيه ذكر قصصهما وقتا وقتا، وما قال فيها من الأشعار. وأمرهما متعالم عند العامة، وليس مما يصلح الإطالة به.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: قال دعبل بن علي: كان بالكوفة رجل يقال له علي بن أديم، وكان يهوى جارية لبعض أهلها، فتعاظم أمره وبيعت الجارية فمات جزعا عليها، وبلغها خبره فماتت.

قال: وحدثني بعض أهل الكوفة أنه علقها وهي صبية تختلف إلى كتاب، فكان يجئ إلى ذلك المؤدب فيجلس عنده لينظر إليها، فلما أن بلغت باعها مواليها لبعض الهاشميين، فمات جزعا عليها. قال: وأنشدني له أيضا.

 

صاحوا الرحيل وحثني صحببي                      قالوا الرواح فطيروا لـبـي

واشتقت شوقا كاد يقتـلـنـي                      والنفس مشرفة على نـحـب

لم يلق عند البـين ذو كـلـف                      يوما كما لاقيت مـن كـرب

لا صبر لي عند الفراق علـى                      فقد الحبيب ولوعة الـحـب الشعر لعلي بن أديم الكوفي الجعفي، والغناء لحكم الوادي. وذكر حبش أن لإبراهيم بن أبي الهيثم فيه لحنا . والله أعلم.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزيان قال: حدثني أبو بكر العمري قال: حدثني دعبل بن علي قال: كان بالكوفة رجل من بني أسد يقال له علي بن أديم، فهوي جارية لبعض نساء بني عبس، فباعتها لرجل من بني هاشم، فخرج بها عن الكوفة، فمات علي بن أديم جزعا عليها بعد ثلاثة أيايم من خروجها، وبلغها خبره فماتت بعده ، فعمل أهل الكوفة لهما أخبارا هي مشهورة عندهم.

حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أبو بكر العمري قال حدثنا أبو صالح الأزدي قال: حدثنا محمد بن الحسين الكوفي قال: حدثنا محمد بن سماعة قال: آخر من مات من العشق علي بن أديم الجعفي، مر بمكتب في بني عبس بالكوفة، فرأى فيه جارية تسمى منهلة، عليها ثياب سواد، فاستهيم بها وأعجبته، وكلف بها وقال فيها:

إني لمـا يعـتـادنـي                      من حب لابسة السواد

في فـتـنة وبـلــية                      ما إن يطيقهما فؤادي

فبقيت لادنـيا أصـب                      ت وفاتني طلب المعاد وسأل عنها فإذا لها مالكة عبسية، وكان ابن أديم خزازا ، فتحمل أبوه بجماعة من التجار على مولاتها لتبيعها فأبت، وخرج إلى أم جعفر ورفع إليها قصته يسألها فيها المعونة على الجارية، فخرج له توقيع بما أحب، وأقام يتنجز تمام أمره. فينا هو ذات يوم على باب أم جعفر إذ خرجت امرأة من دارها فقالت: أين العاشق? فأشاروا إليه فقالت: انت عاشق وبينك وبين من تحب القناطر والجسور، والمياه والأنهار، مع مالا يؤمن من حدوث الحوادث، فكيف تصبر على هذا، إنك لجسور صبور فخامر قلبه هذا القول وجزع، فبادر فاكترى بغلا إلى الكوفة، على الدخول، فمات يوم دخول الكوفة.

 

 

صفحة : 1715

 

هو عمرو بن محمد بن سليمان بن راشد، مولى ثقيف. وكان أبوه صاحب ديوان ووجها من وجوه الكتاب، وينسب إلى أمه بانة بنت روح القحطبية . وكان مغنيا محسنا، وشاعرا صالح الشعر، وصنعته صنعة متوسطة، النادر منها ليس بالكثير ، وكان يقعده عن اللحاق بالمتقدم في الصنعة أنه كان مرتجلا، والمرتجل من المحدثين لا يلحق الضراب. وعلى ذلك فما فيه مطعن، ولا يقصر جيد صنعته عن صنعة غيره من طبقته وإن كانت قليلة، وروايته أحسن رواية.

وكتابه في الأغاني أصل من الأصول، وكان يذهب مذهب إبراهيم بن المهدي في الغناء وتجنيسه، ويخالف إسحاق ويتعصب عليه تعصبا شديدا، ويواجهه بذلك وينصر إبراهيم بن المهدي عليه. وكان تياها معجبا شديد الذهاب بنفسه، وهو معدود في ندماء الخلفاء ومغنيهم، على ما كان به من الوضح. وفيه يقول الشاعر:

أقول لعمرو وقد مر بي                      فسلم تسلمـية جـافـية

لئن فضلوك بفضل الغناء                      لقد فضل الله بالعافـية وقال ابن حمدون: كان عمرو حسن الحكاية لمن أخذ الغناء عنه، حتى كان من يسمعه لو توارى عن عينه عمرو ثم غنيى لم يشكك في أنه هو الذي أخذ عنه، لحسن حكايته، وكان محظوظا ممن يعلمه، ما علم أحدا قط إلا خرج نادرا مبرزا.

فأخبرني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون قال: قال لي عمرو بن بانه: علمت عشرة غلمان كلهم تبينت فيهم الثقافة والحذق، وعلمت أنه يتقدم، احدهم أنت، وتمرة، وما تبينت قط من أحد خلاف ذلك فعلمته.

وقال محمد بن الحسن الكاتب: حدثني أبو حارثة الباهلي عن أخيه أبي معاوية قال: سمعت عمرو بن بانة يقول لإسحاق في كلام جرى بينهما: ليس مثلي يقاس بمثلك، لأنك تعلمت الغناء تكسبا، وتعلمته تطربا، وكنت أضرب لئلا أتعلمه، وكنت تضرب حتى تتعلمه.

وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال: اجتمع عمرو بن بانة والحسين بن الضحاك في منزل ابن شعوف، وكان له خادم يقال له مفحم ، وكان عمرو يتهم به، فلما أخذ فيه الشراب سأل عمرو الحسين بن الضحاك أن يقول في مفحم شعرا ليغني فيه، فقال الحسين:

وأبأبي مفحم لـغـرتـه                      قلت له إذا خلوت مكتتما

تحب بالله من يخصك بالح                      سب فما قال لا ولا نعما الشعر للحسين بن الضحاك، والغناء لعمرو بن بانة، ثاني ثقيل بالبنصر.

قال: فغنى فيه عمرو. ولم يزل هذا الشعر غناءهم، وفيه طربهم، إلى أن تفرقوا. وأتاهم في عشيتهم إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسألوا ابن شعوف أن لا يأذن له، فحجبه، وانصرف إسحاق بن إبراهيم الموصلي إلى منزله، فلما تفرقوا مر به الحسين بن الضحاك وهو سكران، فأخبره بجميع ما دار بينهما في مجلسهم، فكتب إسحاق إلى ابن شعوف:

يا ابن شعوف أما سمعت بما                      قد صار في الناس كلهم علما

أتاك عمرو فبـات لـيلـتـه                      في كل ما يشتهى كما زعما

حتى إذا ما الظلام خالـطـه                      سرى دبيبا فجامع الخـدمـا

ثمت لم يرضى أن يفوز بـذا                      سرا ولكن أبدى الذي كتمـا

حتى تغنى لفرط صبـرتـه                      صوتا شفى من فؤاده السقما

وابأبي مفـحـم لـغـرتـه                      قلت له إذ خلوت مكتتـمـا

تحب بالله من يخصـك بـال                      ود فما قال لا ولا نـعـمـا فهجر ابن شعوف عمرو بن بانة مدة وقطع عشرته.

وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي بهذا الخبر قال: حدثني ميمون بن الأزرق قال: كان لمحمد بن شعوف الهاشمي ثلاثة غلمان مغنين، ومنهم اثنان صقلبيان محبوبان: خاقان وحسين، وكان خاقان أحسن الناس غناء، وكان حسين يغني غناء متوسطا، وهو مع ذلك أضرب الناس، وكان قليل الكلام جميل الأخلاق، أحسن الناس وجها وجسما، وكان الغلام الثالث فحلا يقال له حجاج، حسن الوجه رومي حسن الغناء، فتعشق عمرو بن بانة منهم المعروف بحسين وقال فيه:

وابأبي مفحم لـغـرتـه                      قلت له إذ خلوت مكتتما

تحب بالله من يخصك بال                      ود فما قال لا ولا نعما ولم يذكر غير هذا.

وقال محمد بن الحسن: حدثني أبو الحسين العاصمي قال:

 

صفحة : 1716

 

دخلت أنا وصديق لي على عمرو بن بانة في يوم صائف، فصاد فناه جالسا في ظل طويل ممتع ، فدعناني إلى مشاركته فيه، وجعل يغنينا يومه كله لحنه:

نقابك فاتن لاتفتـنـينـا                      ونشرك طيب لاتحرمينا

وخاتمك اليماني غير شك                      ختمت به رقاب العالمينا الغناء لعمرو بن بانة، هزج خفيف بالبنصر.

قال: فما طربت لغناء قط طربي له، ولا سمعت أشجى ولا أكثر نغما، ولا أحسن من غنائه .

وأخبرني جحظة قال: حدثني أبو حشيشة قال: كنت يوما عند عمرو بن بانة، فزاره خادم كان يحبه فأقام عنده، فطلب عمرو في الدنيا كلها من يضرب عليه فلم يجد أحدا، فقال له جعفر الطبال: إن أنا غنيتك اليوم على عود يضرب به عليك، أي شيء لي عندك? قال: مائة درهم ودستيجة نبيذ. وكان جعفر متقدما نادرا طيبا، وكان نذل الهمة ، فقال: أسمعني مخرج صوتك. ففعل فسوى عليه طلبه كما يسوي الوتر، واتكأ عليه بركبته فأوقع عليه . ولم يزل عمرو يغني بقية يومه على غيقاعه لا ينكر من شيئا حتى انقضى يومنا ودفع إليه ائة درهم، وأحضر الدستيجة فلم يكن له من يحملها فحملها جعفر على عنقه، وغطاها بطيلسانة وانصرفنا.

قال أبو حشيشة: فحدثت بهذا الحديث إسحاق بن عمرو بن بزيع، وكان صديق إبراهيم بن المهدي، فحدثني أن أبراهيم بن المهدي قال له: يا جعفر حذق فلانة جاريتي ضرب الطبل، ولك مائة دينار أعجل لك منها خمسين.

قال: نعم. فعجلت له الخمسون وعلمها، فلما حذقت طالب إبراهيم بتتمة المائة فلم يعطه، فاستعدى عليه أحمد بن أبي دواد الحسني خليفته فأعداه، ووكل إبراهيم وكيلا، فلما تقدم مع الوكيل إلى القاضي أراد الوكيل أن يكسر حجة جعفر فقال: أصلح اله القاضي، سله من أين له هذا الذي يدعي? وما سببه? فقال جعفر: أصلح الله القاضي أنا رجل طبال، وشارطني إبراهيم على مائة دينار على أن أحذق جاريته فلانة، وعجل لي بخمسين دينارا ومنعني الباقي بعد أن رضي حذقها، فيحضر القاضي الجارية وطبلها، وأحضر أنا طبلي، وسمعنا القاضي، فإن كانت مثلي قضى لي عليه، وإلا حذقتها فيه حتى يرضى القاضي. فقال له القاضي: قم عليك وعليها لعنة الله، وعلى من يرضى بذلك منك ومنها. فأخذ الأعوان بيده فأقاموه.

وقال علي بن محمد الهشامي : حدثني جدي ابن حمدون قال: كنت عند عمرو بن بانة يوما ففتح باب داره فإذا بخادم ابيض شيخ قد دخل يقود بغلا له عليه مزادة، فلما رآه عمرو صرخ:لا إله إلا الله، ما أعجب أمرك يا دنيا فقلت له: مالك? قال: ياأبا عبد الله ، هذا الخادم رزق غلام علوية المغني، الذي يقول فيه الحسين بن الضحاك الشاعر:

ياليت رزقا كان من رزقي                      ياليته حظي من الخـلـق قد صار إلى ما ترى. ثم غناني لحنا له في هذا الشعر، فما سمعت أحسن منه منذ خلقت.

 

ياليست رزقا كان من رزقي                      ياليته حظي من الخـلـق

يا شادنا ملـكـتـه رقـي                      فلست أرجو راحة العتـق الشعر للحسين بن الضحاك، والغناء لعمرو بن بانة، ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى.

وقال علي بن محمد الهشامي: حدثني جدي-يعني ابن حمدون-قال: كنا عند المتوكل ومعنا عمرو بن بانة، في آخر يوم من شعبان فقال له عمرو: يا أمير المؤمنين، جعلني الله فداءك، تامر لي بمنزل فإنه لا منزل لي يسعني. فأمر المتوكل عبيد الله بن يحيى بأن يبتاع له منزلا يختاره. قال: وهجم الصوم وشغل عبيد الله، وانقطع عمرو عنا، فلما أهل شوال دعا بنا المتوكل فكان أول صوت غناه عمرو في شعر هذا:

ملاك ربي الأعياد تخلقهـا                      في طول عمر ياسيد الناس

دفعت عن منزل أمرت به                      فإنني عنه مباعـد خـاس

فمر بتسليمه إلـي عـلـى                      رغم عدوي بحرمة الكاس

أعوذ بالله والـخـلـيفة أن                      يرجع ما قلته على راسي لحن عمرو في هذا الموضع هزج بالبنصر.

فدعا المتوكل بعبيد الله بن يحيى فقال له: لم دافعت عمرا بابتياع المنزل الذي كنت أمرتك بابتياعه? فاعتل بدخول الصوم وتشعب الأشغال. فتقدم إليه أن لا يؤخر ابتياع ذلك إليه، فابتاع له الدور التي في دور سر من رأى، بحضرة المعلى بن أيوب. وفيها توفي عمرو.

 

 

صفحة : 1717

 

أخبرني محمد بن إبراهيم قريص قال: سمعت أحمد بن أبي العلاء بحدث أستاذي-يعني محمد بن دواد بن الجراح قال: جمع عبد الله بن طاهر بين المغنين وأراد أن يمتحنهم، وأخرج بدرة دراهم سبقا لمن تقدم منهم وأحسن، فحضره مخارق، وعلويه، وعمرو بن بانة، ومحمد بن الحارث بن بسخنر، فغنى فلم يصنع شيئا، وتبعه محمد بن الحارث فكانت هذه سبيله، وامتدت الأعين إلى مخارق وعمرو، فبدأ مخارق فغنى:

إني امرؤمن خيرهـم                      عمي وخالي من جذام فما نهنهه عمرو مع انقطاع نفسه حتى غنى:

يا ربع سلامة بالمنحنى                      بخيف سلع جادك الوابل وكان إبراهيم بن المهدي حاضرا فبكى طربا وقال: أحسنت والله واستحققت، فإن أعطيته وإلا فخذه من مالي، يا حبيبي عني أخذت هذا الصوت، وقد والله زدت علي فيه وأحسنت غاية الإحسان، ولا يزال صوتي عليك أبدا.فقال له عبد الله: من حكمت له بالسبق فقد حصل. وأمر له بالبدرة فحملت إلى عمرو.

ثم حدثنا بعد ذلك أن إسحاق لقي عمرو بن راشد الخناق فقال له: قد بلغني خبر المجلس الذي جمع عبد الله فيه المغنين يمتحنهم، ولو شاء لكان في راحة من ذلك. قلت: وكيف? قال: أما مخارق فأحسن القوم غناء إذا اتفق له أن يحسن، وقلما يتفق له ذلك. وأما محمد بن الحارث فأحسنهم شمائل، وأملحهم إشارة بأطراف وجهه في الغناء، وليس له غير ذلك. وأما عمرو بن بانة فأعلم القوم وأرقاهم. وأما علويه فمن أدخله ابن الزانية مع هؤلاء?.

 

إني أمرؤمن خيرهـم                      عمي وخالي من جذام

خود كضوء البـدر أو                      أضوا لدى الليل التمام

يجري وشاحاها علـى                      نحر نقي كالـرخـام والغناء لابن جامع، رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق.

 

يا خليلي مـن بـنـي شـيبـان                      أنا لا شك ميت فـابـكـيانـي

إن روحي لم يبق منها سوى شي                      ويسير معـلـق بـلـسـانـي الشعر لأبي العتاهية، والغناء لإبراهيم، رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي وإبراهيم.

وهذا الشعر يخاطب به أبو العتاهية عبد الله، وزائدة بن معن بن زائدة الشيباني، وكان صديقا وخاصا بهما.

ثم إن يزيد بن معن غضب لمولاة لهم يقال لها سعدى، وكان أبو العتاهية يشبب بها، فضربه مائة سوط، فهجاه وهجا إخوته، ثم أصلح بينهم مندل بن علي العبدي، وهو مولى أبي العتاهية، فعاد إلى ما كان عليه لهم.

فأخبرني وكيع قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه. وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قالا: قول أبي العتاهية:

يا خليلي من بني شيبان يخاطب به عبد الله ويزيد ابني معن بن زائدة، او قال عبد الله وزائدة.

أخبرني ابن عمار قال: حدثني زيد بن موسى بن حماد. وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني محمد بن سعيد. قال حدثني أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية قال: كان أبو العتاهية في حداثته يهوى امرأة من أهل الحيرة نائحة ، لها حسن وجمال ودمائه، وكان ممن يهواها أيضا عبد الله بن معن بن زائدة أبو الفضل؛ وكانت مولاة لهم يقال لها سعدى، وكان أبو العتاهية مغرما بالنساء فقال فيها:

ألا يا ذوات السحق في الغرب والشرق                      أفقن فإن النيك أشهى من السـحـق

أفقن فإن الخبـز بـالأدم يشـتـهـى                      وليس يسوغ الخبز بالخبر في الحلـق

أراكن ترقعن الخروق بـمـثـلـهـا                      وأي لبيب يرقع الخرق بـالـخـرق

وهل يصلح الـمـراس إلا بـعـوده                      إذا احتيج منـه ذات يوم إلـى الـدق قال وقال فيه أيضا:

قلت لقلب إذ طوى وصل سعدى                      لهواه الـبـعـيدة الأنـسـاب

أنت مقل الذي يفر من الـقـط                      ر حذار الندى إلى الـمـيزاب قال محمد بن محمد في خبره: فغضب عبد الله بن معن لسعدى ، فضرب أبا العتاهية مائة فقال:

جلدتني بكـفـهـا                      بنت معن بن زائدة

جلدتني بكـفـهـا                      بأبي أنت جـالـده

جلدتني وبالـغـت                      ومائة غير واحـده

اجلدي اجلدي اجلدي                      إنما أنـت والـده بين عبد الله بن معن وأبي العتاهية أخبرني وكيع قال: حدثني أبو أيوب المديني قال:

 

صفحة : 1718

 

احتال عبد الله بن معن فضرب أبا العتاهية ضربا غير مبرح، إشفاقا مما يغنى به، فقال:

اجلدي اجلدي اجلدي                      إنما أنـت والـده أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا الغلابي قال: حدثني مهدي قال: تهدد عبد الله بن معن أبا العتاهية وخوفه ونهاه أن يعرض لمولاته سعدى، فقال أبو العتاهية قوله:

ألا قل لابن معن والذي في الود قد حالا

لقد بلغت ماقال                      فمـا بــالـــيت مـــا قـــالا

ولــو كـــان مـــن الأســـد                      لمـــــا راع ولا هـــــــالا

فصـغ مـاكـنــت حـــلـــيت                      به سـيفــك خـــلـــخـــالا

فمـا تـصـنـع بــالـــســـيف                      إذا لـــم تـــك قـــتــــالا

ولـــو مـــد إلـــى أذنـــي                      ه كـفـــيه لـــمـــا نـــالا

قصـير الـطـول والـــطـــول                      فلاشـــــب ولا طـــــــالا

أرى قـــومـــك أبـــطـــالا                      وقـد أصـبـحــت بـــطـــالا أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسن بن علي الرازي قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال: كنا عند ابن الأعرابي فذكر قول يحيى بن نوفل في عبد الملك بن عمير القاضي:

إذا كلمتـه ذات دل لـحـاجة                      فهم بأن يقضي تنحنح أو سعل وأن عبد الملك بن سليمان بن عمير قال: تركني والله وإن السعلة لتعرض لي في الخلاء فاذكر قوله فأتركها. قال: فقلت له: هذا عبد الله بن معن بن زائدة يقول له أبو العتاهية:

فصغ ما كنت حليت                      به سيفك خلخـالا

وما تصنع بالسـيف                      إذا لم تك قـتـالا قال: فقال عبد الله: ما لبست السيف قط فلمحني إنسان إلا قلت إنه يحفظ شعر أبي العتاهية في، فينظر إلي بسببه. فقال ابن الأعرابي: اعجبوا إليه لعنة الله يهجو مولاه  وكان أبو العتاهية من موالي بني شيبان.

وقال محمد بن موسى في خبره: وقال أبو العتاهية يهجو عبد الله بن معن:

لاتكثرا يا صاحبي رحـلـي                      في شتم من أكثر من عذلي

سبحان من خص ابن معن بما                      أرى به من قلة الـعـقـل

قال ابن معن وجلا نفـسـه                      علي من الجلوة يا أهـلـي

أنا فتـاة الـحـي مـن وائل                      في الشرف الباذخ والنـبـل

ما في بني شيبان أهل الحجى                      جارية واحـدة مـثـلــي

ياليتـنـي أبـصـرت دلالة                      تدلني اليوم علـى فـحـل

والهفتا اليوم عـلـى أمـرد                      يلصق مني القطرط بالحجل

أتيته يوما فـصـافـحـتـه                      فقال دع كفي وخذ رجلـي

يكنى أبا الفضل فيا من رأى                      جارية تكنى أبا الـفـضـل

قد نقطت في خدها نـقـطة                      مخافة العين من الكـحـل

إن زرتموها قال حجابـهـا                      نحن عن الزوار في شغـل

مولاتنا خـالـية عـنـدهـا                      بعل ولا إذن على البـعـل

قولا لعبد الله لاتـجـهـلـن                      وأنت رأس النوك والجهـل

أتجلد النـاس وأنـت امـرؤ                      تجلد في الدبر وفي القـبـل

تبذل ما يمنع أهـل الـنـدى                      هذا لعمري منتهى الـبـذل

ما ينبغي للناس أن ينسـبـوا                      من كان ذا جود إلى البخـل وقال في ضربه إياه:

ضربتني بكفها بنت مـعـن                      أوجعت كفها وما أوجعتني

ولعمري لولا أذى كفهـا إذ                      ضربتني بالسوط ما تركتني أخبرني ابن عمار قال حدثني محمد بن موسى. وأخبرني محمد بن يحيى قال حدثني جبلة بن محمد قالا: لما اتصل هجاء أبي العتاهية بعبد الله بن معن غضب من ذلك أخوه يزيد بن معن، فهجاه أبو العتاهية فقال:

بني معـن ويهـدمـه يزيد                      كذاك الله يفعـل مـا يريد

فمعن كان للحسـاد غـمـا                      وهذا قد يسر به الحسـود

يزيد يزيد في منع وبـخـل                      وينقص في النوال ولا يزيد

 

صفحة : 1719

 

أخبرني محمد بن يحيى عن جبلة بن محمد قال حدثني أبي قال: لما هجا أبو العتاهية بني معن فمضوا إلى مندل وحيان ابني علي العنزبين الفقيهين، وكانا من سادات أهل الكوفة، وهما من بني عمرو بن عمرو، بطن من يقدم بن عنزة ، فقالوا لهما: نحن بيت واحد وأهل ولا فرق بيننا ، وقد أتانا من مولاكم هذا مالو أتى من بعيد الولاء لوجب أن تردعاه. فأحضر أبا العتاهية ولم يكن يمكنه الخلاف عليهما، فأصلحا بينه وبين عبد الله ويزيد ابني معن، وضمنا عنه خلوص النية، وعنهما ألا يتتبعاه بسوء وكانا ممن لايمكن خلافهما، فرجعت الحال إلى المودة والصفاء، وجعل الناس يعذلون أبا العتاهية فيما فرط منه، ولامه آخرون على صلحه لهم، فقال:

ما لعذالـي ومـالـي                      أمروني بالـضـلال

عذلوني في اغتفـاري                      لابن معن واحتمالـي

أنا منه كنـت أكـبـى                      زندة في كـل حـال

كل ما قد كان مـنـه                      فلقبـح مـن فـعـال

إنما كـانـت يمـينـي                      صرمت جهلا شمالي

ماله بل نفـسـه لـي                      وله نفسـي ومـالـي

قل لمن يعجب من حس                      ن رجوعي وانتقالـي

قد رأينـا ذا كـثـيرا                      جاريا بين الـرجـال

رب وصل بعـد صـد                      وقلى بـعـد وصـال أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا محمد بن موسى قال: كان أبو العباس زائدة بن معن صديقا لأبي العتاهية، ولم يعن أخويه عليه، فمات فرثاه فقال:

حزنت لمـوت زائدة بـن مـعـن                      حقيق أن يطول عـلـيه حـزنـي

فتى الفتـيان زائدة الـمـصـفـى                      أبو العباس كـا، أخـي وخـدنـي

فتى قومـي وأي فـتـى تـوارت                      به الأكفان تحـت ثـرى ولـبـن

ألا ياقـبـر زائدة بـن مـعـــن                      دعوتك كي تجيب فلم تـجـبـنـي

سل الأيام عـن أركـان قـومــي                      أصبت بهن ركـنـا بـعـد ركـن

فما روضة بالحزن طيبة الـثـرى                      يمج الندى جثجاثهـا وعـرارهـا

بأطيب من أردان عـزة مـوهـنـا                      وقد أوقدت بالمندل الرطب نارهـا

فإن خفيت كانت لـعـينـيك قـرة                      وإن تبد يوما لم يعممـك عـارهـا

من الخفرات البيض لم تر شـقـوة                      وفي الحسب المكنون صاف نجارها الشعر لكثير، والغناء لمعبد في الأول الثاني، ولحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطىعن إسحاق.

وذكر عمرو بن بانة أنه لابن سريج. وللغريض في الرابع والثالث ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وحبش.

وذكر الهشامي أن الأول والثاني رملا لابن سريج بالوسطى.

ذكر عمرو وحبش أن فيه رملا لابن جامع بالبنصر.

وفي الأبيات خفيف ثقيل يقال إنه لمعبد، ويقال إنه للغريض، وأحسبه للغريض.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة هكذا موقوفا لم يتجاوز. وأخبرني أن كثير بن عبن الرحمن كان غاليا في التشيع. وأخبر عن قطام صاحبة ابن ملجم في قدمة قدمها الكوفة فأراد الدخول عليها ليوبخها، فقيل له: لاتردها فإن جوابا. فأبى وأتاها فوقف على بابها فقرعه فقالت: من هذا? فقال: كثير بن عبد الرحمن الشاعر. فقالت لبنات عم لها: تنحين حتى يدخل الرجل. فولجن البيت وأذنت له، فدخل وتنحت من بين يديه، فرآها وقد ولت فقال لها: أنت قطام? قالت: نعم. قال: صاحبة علي بن أبي طالب عليه السلام? قالت: صاحبة عبد الرحمن بن ملجم. قال: أليس فيك قتل علي بن أبي طالب? قالت: بل مات بأجله. قال: أما والله لقد كنت أحب أن أراك، فلما رأيتك نبت عيني عنك، فما احلوليت في خلدي. قالت: والله إنك لقصير القامة، عظيم الهامة، قبيح المنظر، وإنك لكما قال الأول: تسمع بالمعبدي خير من أن تراه . فقال:

رأت رجلا أودى السفار بوجهه                      فلم يبق إلا منظر وجنـاجـن

فإن أك معروق العظام فإننـي                      إذا وزن الأقوام بالقـوم وازن

وإني لما استودعتني من أمـانة                      إذا ضاعت الأسرار لسر دافن فقالت: أنت لله أبوك كثير عزة? قال: نعم. قالت: الحمد لله الذي قصر بك فصرت لاتعرف إلا بامرأة فقال: الأمر كذلك، فوالله لقد سار بها شعري وطار بها ذكري، وقرب من الخليفة مجلسي، وأنا لكما قلت:

 

صفحة : 1720

 

 

فإن خفيف كان لعينـك قـرة                      وإن تبد يوما لم يعمك عارهـا

فما روضة بالحزن طيبة الثرى                      يمج الندى جثجاثها وغرارهـا

بأطيب من أردان عزة موهنـا                      وقد أوقدت بالمندل اللدن نارها فقالت: با لله ما رأيت شاعرا قط أنقص عقلا منك، ولا أضعف وصفا، أين أنت من سيدك امرىء القيس حيث يقول:

ألم ترياني كلما جئت طارقـا                      وجدت بها طيبا وإن لم تطيب فخرج وهو يقول:

الحق أبلج لايخيل سبيلـه                      والحق يعرفه ذوو الألباب

هاك فاشربها خـلـيلـي                      في مدى الليل الـطـويل

قهـوة فـي ظـل كـرم                      سبيت من نـهـر بـيل

في لسان المرء مـنـهـا                      مثل طعم الزنـجـبـيل

قل لمن يلـحـاك فـيهـا                      من فـقـيه أو نـبــيل

أنت دعها وارج أخـرى                      من رحيق السلـسـبـيل

تعطش اليوم وتـسـقـى                      في غد نعت الظـلـول الشعر لآدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، والغناء لإبراهيم الموصلي، هزج بالبنصر عن حبش. ولإبراهيم بن المهدي في الخامس والسادس والأول خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي. ولهاشم فيها ثاني ثقيل بالبنصر، وقيل لعبد الرحيم .

 

ذكر ادم بن عبد العزيز وأخباره

آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف.

وأمه أم عاصم بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم أيضا.

وهو أحد من من عليه أبو العباس السفاح من بني أمية لما قتل من وجد منهم.

وكان آدم في أول أمره خليعا ماجنا منهمكا في الشراب، ثم نسك بعد ما عمر، ومات على طريقة محمود.

وأخبرني الحسين بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي، عن الزبير بين بكار عن عمه: أن المهدي أنشد هذه الأبيات وعنى فيها بحضرته:

أنت دعها وارج أخرى                      من رحيق السلسبـيل فسئل عن قائلها فقيل آدم بن عبد العزيز بن عرو بن عبد العزيز، فدعا به فقال له: ويلك تزندقت? قال: لا والله يا أمير المؤمنين، ومتى رأيت قرشيا تزندق? والمحنة في هذا إليك ، ولكنه طرب غلبني، وشعر طفح على قلبي في حال الحداثة فنطقت به. فخلى سبيله.

قال: وكان المهدي يحبه ويكرمه، لظرفه وطيب نفسه.

وروي هذا الخبر عن مصعب الزبيري وإسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: كان آدم بن عبد العزيز يشرب الخمر ويفرط في المجون، وكان شاعرا، فأخذه المهدي فضربه ثلثمائة سوط على أن يقر بالزندقة، فقال: والله ما أشركت با لله طرفة عين، ومتى رأيت قرشيا تزندق? قال: فأين قولك:

اسقني واسق غصينا                      لا تبع بالنقد دينـا

اسقنيها مزة الطـع                      م تريك الشين زينا في هذين البيتين لعمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى، ولإبراهيم هزج بالبنصر-.

قال: فقال لئن كنت ذاك فما هو مما يشهد على قاتله بالزندقة. قال: فأين قولك:

اسقني واسق خليلـي                      في مدى الليل الطويل

قهوة صهباء صرفـا                      سبيت من نهـر بـيل

لونها أصفـر صـاف                      وهي كالمسك الفنـيل

في لسان المرء منهـا                      مثل طعم الزنجبـيل

ريحها ينفسح منـهـا                      ساطعا من رأس ميل

من ينل منهـا ثـلاثـا                      ينس منهاج السـبـيل

فمتى ما نال خمـسـا                      تركته كـالـقـتـيل

ليس يدري حين ذاكـم                      ما دبير مـن قـبـيل

إن سمعي عن كلام ال                      لائمي فيها الثـقـيل

لشديد الـوفـر، إنـي                      غير مطـواع ذلـيل

قل لمن يلحاك فـيهـا                      من فقـيه أو نـبـيل

أنت دعها وارج أخرى                      من رحيق السلسبـيل

نعطش اليوم ونسقـى                      في غد نعت الطلـول فقال: كنت فتى من فتيان قريش، أشرب النبيذ وأقول ما قلت على سبيل المجون، والله ما كفرت با لله قط، ولا شككت فيه. فخلى سبيله ورق له.

قال مصعب: وهو الذي يقول:

اسقني يا معاوية                      سبعة أو ثمانية

اسقنيها وغننـي                      قبل أخذ الزبانيه

 

صفحة : 1721

 

 

اسقنيهـا مـدامة                      مزة الطعم صافية ثم من لامنا علي-ها فذاك ابن زانيه فيه خفيف رمل بالبنصر ينسب إلى أحمد بن المكي، وإلى حكم الوادي.

قال: وآدم الذي يقول:

أقول وراعني إيوان كسـرى                      برأس معان أو أدروسـفـان

وأبصرت البغال مربـطـات                      به من بعد أزمـنة حـسـان

يعز على ابي ساسان كسـرى                      بموقفكن في هذا الـمـكـان

شربت على تذكر عيش كسرى                      شرابا لونه كالـزعـفـران

ورحت كأنني كسرى إذا مـا                      علاه التاج يوم المهـرجـان قال وهو الذي يقول:

أحبـك حـبـين لـي واحـد                      وآخـر انـك أهـل لــذاك

فأما الذي هو حيب الطـبـاع                      فشيء خصصت به عن سواك

وأما الذي هو حب الجـمـال                      فلست أرى ذاك حتـى أراك

ولست أمـن بـهـذا عـلـيك                      لك المن فـي ذا وهـذا وذاك أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني عمي عن فليح بن سليمان قال: مررنا يوما مع خالصة في موكبها، فوقفت على آدم بن عبد العزيز فقالت: يا أخي طلبت منا حاجة فرفعناها لك إلى السيدة وأمرت بها وهي في الديوان، فساء ظنك بها فقعدت عن تنجزها. قال: فموه لها عذرا اعتذر به فوقفت عن الموكب حتى مضت، ثم قلت له: أخملت نفسك، والله ما أحسب أنه حبسك عنها إلا الشراب، أنت ترى الناس يركضون خلفها وهي ترف عليك لحاجتك . فقال: والله هو ذاك، إذا أصبحت فكل كسرة ولو بملح، وافتح دنك فإن كان حامضا دبغ معدتك، وإن كان حلوا خرطك ، وإن كان مدركا فهو الذي أردت. قلت: لا بارك الله عليك. ومضيت، ثم أقلع بعد ذلك وتاب. فاستأذن يوما على يعقوب بن الربيع وأنا عنده فقال يعقوب: ارفعوا الشراب فإن هذا قد تاب وأحسبه يكره أن يراه. فرفع وأذن له، فلما دخل قال: )إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون(. قال يعقوب: هو الذي وجدت، ولكننا ظننا أن يثقل عليك لتركك الشراب. قال: إي والله، إنه ليثقل علي ذاك. قال: فهل قلت في ذلك شيءا منذ تركته? قال قتل:

ألا هل فتى عن شربها اليوم صابر                      ليجـزيه يومـا بـذلـك قــادر

شربت فلمـا قـيل لـيس ينـازع                      نزعت وثوبي من أذى اللوم طاهر أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال: حدثني أبو هفان عن إسحاق قال: كان مع المهدي رجل من أهل الموصل يقال له سليمان بن المختار، وكانت له لحية عظيمة، فذهب يوما ليركب فوقعت لحيته تحت قدمه في الركاب فذهب عامتها، فقال آدم بن عبد العزيز قوله:

قد استوجب في الحكم                      سليمان بن مختـار

بما طول من لحـي                      ته جزا بمـنـشـار

أو السيف أو الحلـق                      أو التحريق بالنـار

فقد صار بهـا أشـه                      ر من رابة بيطـار فقال: ثم أنشدها عمر بن بزيغ المهدي فضحك، وسارت الأبيات، فقال أسيد بن أسيد، وكان وافر اللحية: ينبغي لأمير المؤمنين أن يكف هذا الماجن عن الناس. فبلغت آدم بن عبد العزيز فقال:

لحية تمت وطالـت                      لأسيد بـن أسـيد

كشراع من عبـاء                      قطعت حبل الوريد

يعجب الناظر منها                      من قريب وبعـيد

هي إن زادت قليلا                      قطعت حبل الوريد وقال: وكان المهدي يدني آدم ويحبه ويقربه، وهو الذي قال لعبد الله بن علي لما أمر بقتله في بني أمية بنهر أبي فطرس : إن أبي لم يكن كابائهم، وقد علمت مذهبه فيكم. فقال: صدقت، وأطلقه. وكان طيب النفس متصوفا، ومات على توبة ومذهب جميل.

 

ألا ياصاح للعـجـب                      دعوتك ثم لم تـجـب

إلى القـينـات والـذا                      ت والصهباء والطرب

ومنهن التي تـبـلـت                      فؤادك ثم لـم تـتـب الشعر ليزيد بن معاوية، يقوله للحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام. والغناء لسائب خائر، خفيف رمل الوسطى عن حبش.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني المادائني قال: قدم سلم بن زياد على يزيد فنادمه، فقال له ليلة: ألا أوليك خراسان? قال: بل وسجستان. فعقد له في ليلته فقال:

اسقني شربة فرو عظامي                      ثم عد واسق مثلها ابن زياد

 

صفحة : 1722

 

 

موضع السر والأمانة مني                      وعلى ثغر مغنمي وجعادي قال: ولما رجع في خلافة أبيه جلس بالمدينة على شراب، فاستأذن عليه عبد الله بن العباس، والحسين بن علي، فأمر بشرابه فرفع وقيل له: إن ابن عباس إن وجد ريح شرابك عرفه. فحجبه وأذن للحسين، فلما دخل وجد رائحة الشراب مع الطيب فقال: لله در طيبك هذا ما أطيبه، وما كنت أحسب أحدا يتقدما في صنعة الطيب، فما هذا يا ابن معاوية? فقال: يا أبا عبد الله، هذا طيب يصنع لنا بلشأم. ثم دعا بقدح فشربه، ثم دعا بقدح آخر فقال: اسق أبا عبد الله ياغلام. فقال الحسين: عليك شرابك أيها المرء، لا عين عليك مني. فشرب وقال:

ألا يا صاح للعـجـب                      دعوتك ثم لم تـجـب

إلى القينـات والـلـذا                      ت والصهباء والطرب

وبـاطـية مـكـلـلة                      عليها سادة الـعـرب

وفيهن التي تـبـلـت                      فؤادك ثم لـم تـتـب فوثب الحسين عليه السلام وقال: بل فؤادك يا ابن معاوية.

 

أأن نادى هديلا يوم فـلـج                      مع الإشراق في فنن حمام

ظللت كأن دمعك در سلك                      وهي خيطا وأسلمه النظام

تموت تشوقا طورا وتحـيا                      وأنت جدير أنك مستهـام

كأنك من تذكر أم عمـرو                      وحبل وصالها خلق رمـام

سلام الله يا مطر علـيهـا                      وليس عليك يا مطر السلام

فإن يكن النكاح أحل انثـى                      فإن نكاحها مطرا حـرام

ولاغفر إلا له لمنكحـيهـا                      ذنوبهم وإن صلوا أو ساموا

فطلقها فلست لها بكـفء                      وإلا عض مفرقك الحسام الشعر للأحوص، والغناء لمعبد من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجرى الوسطى. ولإبراهيم الموصلي في الأربعة الأبيات الأول ثاني ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر.

أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني محمد بن ثابت بن إبراهيم بن خلاد الأنصاري قال: حدثني أبو عبد الله بن سعد الأنصاري قال: قدم الأحواص البصرة فخطب إلى رجل من تميم ابنته، وذكر له نسبه، فقال: هات لي شاهدا واحدا يشهد أنك ابن حمي الدبر وأزوجك. فجاءه بمن شهد له على ذلك، فزوجه إياها، وشرطت عليه ألا يمنعها من أحد من أهلها، فخرج إلى المدينة وكانت أختها عند رجل من بني تميم قريبا من طريقهم، فقالت له: اعدل بي إلى أختي. ففعل، فذبحت لهم وأكرمتهم، وكانت من أحسن الناس، وكان زوجها في إبله، فقالت زوجة الأحوص له: أقم حتى يأتي. فلما أمسوا راح مع إبله ورعائه، وراحت غنمه فراح من ذلك أمر كثير . وكان يمسى مطرا، فلما رآه الأحوص ازدراه واقتحمته عينه، وكان قبيحا دميما ، فقالت له زوجته: قم إلى سلفك وسلم عليه. فقال وأشار إلى أخت زوجته بإصبعه:

سلام الله يامطر علـيهـا                      وليس عليك يامطر السلام وذكر الأبيات وأشار إلى مطر بإصبعه، فوثب إليه مطر وبنوه، وكاد الأمر يتفاقم حتى حجز بينهم .

قال الزبير: قال محمد بن ثابت: أبو عبد الله بن سعد الذي حدث بهذا الحديث، امه بنت الأحوص، وأمها التميمية أخت زوجة مطر.

وأخبرنا الحسين بن يحيى قال: حدثنا حماد عن أبيه، أن امرأة الأحوص التي تزوجها، إحدى بني سعد بن زيد مناه بن تيمم. وذكر باقي القصيدة، وهو قوله:

كأنك من تذكر أم عـمـرو                      وحبل وصالها خلق رمـام

صريع مدامة علبت علـيه                      تموت لها المفاصل والعظام

وأني من بلادك أم عمـرو                      سقى دارا تحل بها الغمـام

تحل النعف من أحد وأدنـى                      مساكنها الشبيكة أو سـنـام

فلو لم ينكحـوا إلا كـفـيا                      لكان كفيها الملك الهـمـام أخبرني الحسين قال: قال حماد: قرأت على أبي: حدثنا ابن كناسة قال: مر بنا أشعب ونحن جماعة في المجلس، فأتى جار لنا صاحب جوار يقال له أبان بن سليمان، وعليه رداء خلق، قد بدا منه ظهره وبه آثار، فسلم علينا فرددنا عليه السلام، فلما مضى قال بعض القوم: مدني مجلود فأراه سمعها أو سمعها رجل يمشي معه فأخبره، فلما انصرف وانتهى إلى المجلس قال:

سلام الله يا مطر علـيهـا                      وليس عليك يا مطر السلام فقلت للقوم: أنتم والله مطر.

 

 

صفحة : 1723

 

ومثل ما جرى في هذا الخبر من قوله في المرأة، خبر له آخر شبيه به مع ابن حزم.

أخبرني الحرمي قال: حدثنا محمد بن فضالة، عن جميع بن يعقوب قال: خطب أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم، بنت عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، إلى أخيها معمر بن عبد الله فزوجه إياها، فقال الأحوص أبيانا وقال لفتى من بني عمرو بن عرف: أنشدها معمر بن عبد الله في مجلسه ولك هذه الجبة. فقال الفتى: نعم. فجاءه وهو في مجلسه فقال:

يا معمر يا ابن زيد حين تنكحها                      وتستبد بأمر الغي والـرشـد فقال: كان ذلك الرجل غائبا. فقال الفتى:

أما تذكرت صيفيا فتـحـفـظـه                      أو عاصما أو قتيل الشعب من أحد قال: ما فعلت ولا تذكرت. فقال الفتى:

أكنت تجهل حزما حين تنكحهـا                      أم خفت،لا زلت فيها جائع الكبد قال معمر: لم أجهل حزما. فقال الفتى:

أبعد صهر بني الخطاب تجعلهم                      صهرا وبعد بني العوام من أسد فقال معمر: قد كان ذلك. فقال الفتى:

هبها سليلة خيل غير مـقـرفة                      مظلومة حبست للعير في الجدد قال: نعم أعانها الله وصبرها. فقال الفتى:

فكل ما نالنا من عار منكحها                      شوى إذا فارقته وهي لم تلد قال: نعم إلى الله عز وجل في ذلك الرغبة.

قال الزبير: أما قوله صهر بني الخطاب فإن جميلة بنت أبي الأقلح كانت عند عمر بن الخطاب، فولدت له عاصم بن عمرو. وأما صهر بني العلوم فإن نهيسة بنت النعمان بن عبد الله بن أبي عقبة، كانت عند يحيى بن حمزة بن عبد الله بن الزبير، فولدت له أبا بكر ومحمدا.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير قال: حدثني مصعب قال: قال الهدير: كرهت أم جعفر أصواتا من الغناء القديم، فأرسلت لها رسولا يلقيها في البحر، ثم غنتها جارية بعد ذلك:

سلام الله يا مطر علـيهـا                      وليس عليك يا مطر السلام فقالت: هذا أرسلوا به رسولا مفردا إلى دهلك ليلقيه في البحر خاصة. قال: والذي حمل أم جعفر على هذا التطير على ابنها محمد بن الأمين من هذه الأصوات، أيام محاربته المأمون فمنها قوله:

كليب لعمري كان أكثر ناصرا                      وأيسر جرما منك ضرج بالدم ومنها قوله:

هم قتلوه كي يكونوا مـكـانـه                      كما غدرت يوما بكسرى مرازبه ومنها قوله:

رأيت زهيرا تحت كلكل خالد                      فأقبلت أسعى كالعجول أبادر ومنها قوله:

أبا منذر أفنيت فاستبق بعـضـنـا                      حنانيك بعض الشرأهون من بعض مضى الحديث.

 

وكنا كند ماني جذيمة حـقـبة                      من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأنـي ومـالـكـا                      لطول اجتماع لم نبت ليلة معا الشعر لمتمم بن نويرة، يرثي أخاه مالكا. والغناء لسياط.

 

ذكر متمم وأخباره وخبر مالك ومقتله

هو متمم بن نويرة بن عمرو بن شداد بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بنن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار. ويكنى متمم بن نوبرة أبا نهشل.

ويكنى أخوه مالك أبا المغوار. وكان مالك يقال له فارس ذي الخمار، قيل له ذلك بفرس كان عنده يقال له ذو الخمار، وفيه يقول وقد أحمده في بعض وقائعه:

جزاني دوائي ذو الحمار وصنعتي                      بما بات أطواء بني الأصـاغـر أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان مالك بن نويرة شريفا فارسا، وكان فيه خيلاء وتقدم، وكان ذا لمة كبيرة، وكان يقال له الجفول .

وكان مالك قتل في الردة، قتله خالد بن الوليد بالبطاح في خلافة أبي بكر، وكان مقيما بالبطاح، فلما تنبأت سجاح اتبعها ثم أظهر أنه مسلم، فضرب خالد عنقه صبرا، فطعن عليه في ذلك جماعة من الصحابة، منهم عمر بن الخطاب، وأبو قتادة الأنصاري، لأنه تزوج امرأة مالك بعده، وقد كان يقال إنه يهواها في الحاهلية واتهم لذلك أنه قتله مسلما ليتزوج امرأته بعده.

حدثنا بالسبب في مقتل مالك بن نويرة محمد بن جرير الطبري قال:

 

صفحة : 1724

 

كتب إلي السري بن يحيى، يذكر عن شعيب بن إبراهيم التيمي، عن سيف بن عمر، عن الصقعب بن عطية عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل عماله على بني تميم، فكان مالك بن نويرة عامله على بني يربوع. قال: ولما تنبأت سجاح بنت الحارث بن سويد بن عقفان وسارت من الجزيرة، راسلت مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، فأجابها وقناها عن غزوها، وحملها على أحياء من بني تميم، فأجابته وقالت: نعم فسأنك بمن رأيت، وإنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فهو ملككم. فلما تزوجها مسيلمة الكذاب ودخل بها انصرفت إلى الجزيرة وصالحتهأن يحمل عليها النصف من غلات اليمامة، فارعوى حينئذ مالك بن نويرة وندم وتحير في أمره، فلحق بالبطاح، ولم يبق في بلاد بني حنظلة شيء يكره إلا ما بقي من أمر مالك بن نويرة ومن تأشب إليه بالبطاح، فهو على حاله متحير ما يدري ما يصنع.

وقال سيف: فحدثني سهل بن يوسف، عن القاسم بن محمد وعمرو بن شعيب قالا: لما أراد خالد بن الوليد المسير خرج من ظفر وقد استبرأ أسدا وغطفان وطيئا ، فسار يريد البطاح دون الحزن، عليها مالك بن نويرة وقد تردد عليه أمره وقد ترددت الأنصار على خالد وتخلفت عنه، وقالوا: ما هذا بعهد الخليفة إلينا؛ فقد عهد إلينا إن نحن فرغنا من البراخة واستبرأنا بلاد القوم، أن يكتب إلينا بما نعمل. فقال خالد: إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إلي أن أمضي، وأنا الأمير وإلي تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني له كتاب ولا أمر ثم رأيت فرصة إن أعلمته بها فاتتني لم أعلمه حتى أنتهزها. وكذلك لو ابتلينا بأمر ليس منه عهد إلينا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما بحضرتنا ونعمل به. وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان، ولست أكرههم . ومضى خالد وبرمت الأنصار وتذامروا وقالوا: لئن أصاب القوم خيرا إنه لخير حرمتموه، ولئن أصابتهم مصيبة ليجتنبكم الناس. فأجمعوا على اللحاق بخالد، وجردوا إليه رسولا، فأقام عليهم حتى لحقوا به، ثم سار حتى لحق البطاح فلم يجد به أحدا.

قال السري عن سعيب، عن سيف عن خزيمة بن شجرة العقفاني عن عثمان بن سويد، عن سويد بن المنعبة الرياحي قال: قدم خالد بن الوليد البطاح فلم يجد عليه أحدا، ووجد مالك بن نويرة قد فرقهم في أموالهم ونهاهم عن الاجتماع، فبعث السرايا وأمرهم بداعية الإسلام ، فمن أجاب فسالموه ومن لم يجب وامتنع فاقتلوه. وكان فيما أوصاهم أبو بكر: إذا نزلتم منزلا فأذنوا وأقيموا، فإن أذن القوم وأقاموا فكفوا عنهم، وإن لم يفعلوا فلا شيء إلا الغارة. ولا كلمة. فجادته الخيل بمالك بن نويرة في نفر معه من بني ثعلبة بن يربوع، ومن بني عاصم ، وبيد، وعرين ، وجعفر، واختلفت السيرة فيهم، وفيهم أبو قنادة. وكان ممن شهد أنهم قد أذنوا وأقاموا وصلوا. فلما اختلفوا فيهم أمر بحبسهم، في ليلة باردة لايقوم لها شيء، وجعلت تزدادبردا، فأمر خالد مناديا فنادى: دافئوا أسراكم. وكان في لغة كنانة إذا قالوا: دافأنا الرجل وأذفئوه، فذلك معنى اقتلوه من الدفء. فظن القوم أنه يريد القتل فقتلوهم . فقتل ضرار بن الأزور مالكا، فسمع خالد الواعية ، فخرج وقد فرغوا منهم فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه. وقد اختلف القوم فيهم فقال أبو قتادة: هذا عملك.

فزيره خالد فغضب ومضى حتى أتى أبا بكر، فغضب عليه أبو بكر حتى كلمه عمر بن الخطاب فيه، فلم يرضى إلا بأن يرجع إليه، فرجع إليه فلم يزل معه حتى قدم المدينة، وقد كان تزوج خالد أم تميم بنت المنهال وتركها لينقضي طهرها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب وتعايره، فقال عمر لأبي بكر: إن في سيف خالدرهقا، وحق عليه أن تقيده . وأكثر عليه في ذلك. وكان أبو بكر لايقيد من عماله ولا من زوعته ، فقال: هبه ياعمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد. وودى مالكا، وكتب إلى خالد أن يقدم عليه، ففعل وأخبره خبره فعذره. وقبل منه، وعنفه بالتزوج الذي كانت العرب تعيب عليه من ذلك.

 

 

صفحة : 1725

 

فذكر سيف عن هشام بن عروة عن ابيه قال: شهد قوم من السرية أنهم أذنوا وأقاموا وصلوا، وشهد آخرون أنه لم يكن من ذلك شيء فتلوا. وقدم أخوه متمم ينشد أبا بكر دمه ويطلب إليه في سبيهم، فكتب له برد السبي، وألح عليه عمر في خالد أن يعزله وقال: إن في سيفه لرهقا فقال له: لا ياعمر، لم أكن لأشيم سيفا سله الله على الكافرين.

حدثنا محمد بن إسحاق قال: كتب إلى السري عن شعيب عن سيف عن خزيمة عن عثمان عن سويد قال: كان مالك من أكثر الناس شعرا، وإن أهل العسكر أثفوا القدور بروءسهم ، فما منها رأس إلا وصلت النار إلى بشرته، ما خلا مالكا فإن القدر نضجت وما نضج رأسه من كثرة شعره،ووقى الشعر البشرة من حر النار أن تبلغ منه ذلك.

قال: وأنشد متمم عمر بن الخطاب، ذكر خمسه- يعني قوله:

لقد كفن المنهال تـحـت ردائه                      فتى غير مبطان العشيات أروعا فقال: أكذاك كان يا متمم? قال: أما ما أعني فنعم.

أخبرني اليزيدي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب. وحدثنيه أحمد بن الجعد قال: حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال: حدثنا محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: أن مالك بن نويرة كان من أكثر الناس شعرا، وأن خالدا لما قتله أمر برأسه فجعل أثفية لقدر، فنضج ما فيها قبل أن تبلغ النار إلى شواته.

أخبرني محمد بن جرير قال: حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق، عن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.

أن أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه: أن إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم فيها أذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم ماذا نقموا، وإذا لم تسمعوا، وإذا لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة واقتلوا وحرقوا. فكان ممن شهد لمالك بالإسلام أبو قتادة الأنصاري، واسمه الحارث بن ربعي أخو بني سلمة، وقد كانعاهد الله أنه لا يشهد حربا بعدها أبدا. وكان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل، فأخذ القوم السلاح. قال: فقلنا لهم: إنا المسلمون فقالوا: ونحن المسلمون. قلنا : فما بال السلاح معكم? فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح. ففعلوا ثم صلينا وصلوا. وكان خالد يعتذر في قتله أنه قال له وهو يراجعه: ما إخال صاحبكم-يعني النبي صلى الله عليه وسلم- إلا وقد كان يقول كذا وكذا. فقال خالد: أو ما تعده صاحبا? ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه، فلما بلغ قتلهم عمر بن الخطاب تكلم فيه عند أبي بكر رضي الله عنه، وقال: عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله، ثم نزا على امرأته.

وأقبل خالد بن الوليد قافلا حتى دخل المسجد وعليه قباء له، وعليه صدأ الحديد، معتجرا بعمامة قد غرز فيها أسهما، فلما أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطمها ثم قال: أقتلت أمرأ مسلما ثم نزوتعلى امرأته، والله لأرجمك باحجارك  ولا يكلمه خالد بن الوليد ولا يظن إلا أن رأى أبي بكر على مثل رأي غمر فيه، حتى دخل على أبي بكر فأخبره الخبر واعتذر إليه، فعذره أبو بكر وتجاوز له عما كان في حربه تلك.

فخرج خالد حين رضي عنه أبو بكر، وعمر جالس في المسجد الحرام، فقال: هلم إلي يا ابن أم شملة . فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه، فلم يكلمه ودخل بيته. وكان الذي قتل مالك بن نويرة عبد بن الأزور الأسدي.

ضرار قاتل مالك وقال محمد بن جرير: قال ابن الكلبي: الذي قتل مالك بن نويرة ضرار بن الأزور.

وهكذا روى أبو زيد عمر بن شبة عن أصحابه، وأبو خليفة عن محمد بن سلام قال: قدم مالك بن نويرة على النيب صالى الله عليه وسلم فيمن قدم من أمثاله من العرب، فولاه صدقات قومه بني يربوع، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم اضطرب فيها فلم يحمد أمره، وفرق ما في يده من إيل الصدقة، فكلمه الأقرع بن حابس المجاشعي، والقعقاع بن معبد بن زرارة الدرامي فقال له: إن لهذا الأمر قائما وطالبا، فلا تعجل بتفرقة ما في يدك. فقال:

أراني الله بالنعم المـنـدى                      ببرقة رحرحان وقد أراني

تمشى يا بن عوذة في تميم                      وصاحبك الأقيرع تلحياني

حميت جميعها بالسيف صلتا                      ولم ترعش يداي ولا بناني يعني أم القعقاع، وهي معاذة بنت ضرار بن عمرو. وقال أيضا:

 

صفحة : 1726

 

 

وقلت خذوا أموالكم غير خائف                      ولا ناظر فيما يجيء من الغد

فإن قام بالأمر المخوف قـائم                      منعنا وقلنا الدين دين محمـد قال ابن سلام : فمن لا يعذر خالدا يقول: إنه قال لخاد: ويهذا أمرك صاحبك- يعني النبي صلى الله عليه وسلم- وانه أراد بهذه القرشية. ومن يعذر خالدا يقول: إنه أراد انتفاء من النبوة، ويحتج بشعريه المذكورين آنفا. ويذكر خالد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلا ابن جلندى قال له: يا أبا سليمان، إن رأت عينك مالكا فلا تزايله أو تقتله.

قال محمد بن سلام: وسمعني يوما يونس وأنا أراد التميمية في خالد وأعذره، فقال لي: يا أباعبد الله، أما سمعت بساقي أن تميم? يعني زوجة مالك التي تزوجها خالد لما قتله-وكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها. قال وأحسن ما سمعت من عذر خالد قول متمم بان أخاه لم يستشهد. ففيه دليل على غدر خالد.

أخبرنا اليزيدي قال: حدثنا الرياشي قال: حدثني محمد بن الحكم البجلي عن الأنصاري قال: صلى متمم بن نويرة مع أبي بكر الصبح، ثم أنشده قوله:

نعم القتيل إذا الرياح تنـاوحـت                      تحت الإزار قتلت يا ابن الأزور

أدعوته بالـلـه ثـم قـتـلـتـه                      لو هو دعاك بـذمة لـم يغـدر فقال أبو بكر: والله ما دعوته ولا قتلته. فقال:

لايضمر الفحشاء تحـت ردائه                      حلو شمائله عفيف الـمـئزر

ولنعم حشو الدرع أنت وحاسرا                      ولنعم مأوى الطارق المتنور قال: ثم بكى حتى سالت عينه، ثم انخرط على سية قوسه متكئا . يعني مغشيا عليه.

أخبرني اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني محمد بن صخر بن خلخلة قال: ذكر متمم بن نويرة أخاه في المدينة فقيل له: إنك لتذكر اخاك، فما كانت صفته، او صفه لنا? فقال: كان يركب الجمل الثفا في الليلة الباردة، يرتوي لأهله بين المزادتين المضرجتين ، عليه الشملة الفلوت ، يقود الفرس الجرور ، ثم يصبح ضاحكا.

أخبرني اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن زهير، عن الزبير بن حبيب بن بدر الطائي وغيره: ان المنهال: رجلا من بني يربوع، مر على أشلاء مالك بن نويرة لما قتله خالد، فأخذ ثوبا وكفنه فيه ودفنه، فقيه يقول متمم:

لعمري وما دهري بتأبين مالـك                      ولا جزع مما أصاب فأوجعـا

لقد كفن المنهال تـحـت ردائه                      فتى غير مبطان العشيات أروعا غناه عمرو بن أبي الكنات، ثقيل أول بالوسطى عن حبش.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا الحسن بن محمد البصري، قال: حدثنا الحسن بن إسماعيل القضاعي قال حدثني أحمد بن عمار العبدي ، وكان من العلم بموضع قال: حدثني أبي عن جدي قال: صليت مع عمر بن الخطاب الصبح، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبا قوسا ، وبيده هرواة، فقال: من هذا? فقال: متمم بن نويرة. فاستنشده قوله في أخيه، فأنشده:

لعمري وما دهري بتأبين مالـك                      ولا جزع مما أصاب فأوجعـا

لقد كفن المنهال تحـت ثـيابـه                      فتى غير مبطان العشيات أروعا حتى بلغ إلى قوله:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبة                      من الدهر حتى قيل بن يتصدعا

فلما تفرقنا كأنـي ومـالـكـا                      لطول اجتماع لم نبت ليلة معا فقال عمر: هذا والله التابين، و لوددت أني أحسن الشعر فأرثى أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك. فقال متمم: لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته-وكان قتل باليمامة شهيدا، وأمير الجيش خالد بن الوليد- فقال عمر: ما عزاني أحد عن اخي بمثل ما عزاني به متمم.

قال: وكان عمر يقول: ما هبت الصبا من نحو اليمامة إلا خيل إلي أنى أشم ريح أخي زيد .

قال: وقيل لمتمم: ما بلغ من وجدك على أخيك? فقال أصبت بإحدى عيني فما قطرت منها دمعة عشرين سنة، فلما قتل أخي استهلت فما ترقأ .

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو أحمد الزبير قال: حدثنا عبد الله بن لاحق، عن ابن أبي مليكة قال: مات عبد الرحمن بن أبي بكر بالحبشي خارج مكة ، فحمل فدفن بمكة، فقدمت عائشة فوقفت على قبره وقالت متمثلة:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبة                      من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

 

صفحة : 1727

 

 

فلما تفرقنا كأني ومـالـكـا                      لطول اجتماع لم نبت ليلة معا أما والله لو حضرتك لدفنت حيث مت، ولو شهدتك مازرتك.

أخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن سملم بن قنيبة: أن متمم بن نويرة دخل على عمر بن الخطاب فقال له عمر: ما أرى في أصحابك مثلك. فقال: يا أمير المؤمنين أما والله إني مع ذلك لأركب الجمل الثفال، وأعتقل الرمح الشطون ، وألبس الشملة الفلوت. ولقد أسترني بنو تغلب في الجاهلية فبلغ ذلك أخي مالكا فجاء ليفديني منهم ، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدثهم فأعجبهم حديثه، فأطلقوني له بغير فداء.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني النوقلي عن أبيه وأهله قالوا: لما أنشد بن نويرة عمر بن الخطاب قوله يرثي أخاه مالكا:

وكنا كندماني جـذيمة حـقـبة                      من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأنـي ومـالـكـا                      لطول اجتماع لم نبت ليلة معا قال له عمر: هل كان مالك يحبك مثل محبتك إياه، أم هل كان مثلك? فقال: وأين أنا من مالك، وهل أبلغ مالكا، والله يا أمير المؤمنين لقد أسرني حي من العرب فشدوني وثاقا بالقد، وألقوني بفنائهم، فبلغه خبري فأقبل على رحلته حتى انتهى إلى القوم وهم جلوس في ناديهم، فلما نظر إلي أرعض عني، ونظر القوم إليه فعدل إليهم وعرفت ما أراد، فسلم عليهم وحادثهم وضاحكهم وأنشدهم، فوالله إن زال كذلك حتى ملأهم سرورا، وحضر غداؤهم فسأله ليتغدى معهم فنزل وأكل، ثم نظر إلي وقال: إنه لقبيح بنا أن نأكل ورجل ملقى بين أيدينا لا يأكل معنا وأمسك يده عن الطعام. فلما رأى ذلك القوم نهضوا وصبوا الماء على قدى حتى لان وخلوني، ثم جاءوا فأجلسوني معهم على الغداء، فلما أكلنا قال لهم: أما ترون تحرم هذا بنا وأكله معنا، إنه لقبيح بكم أن تردوه إلى القد، فخلوا سبيلي فكان كما وصفت. وما كذبت في شيء من صفته إلا أني وصفته خميص البطن، وكان ذا بطن.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن نصر العتيقي قال: حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي، عن أبيه عن مروان بن موسى. ووجدت هذا الخبر أيضا في كتاب محمد بن علي بن حمزة العلوي، عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه: أن عمر بن الخطاب قال لمتمم بن نويرة: إنكم أهل بيت قد تفانيتم، فلو تزوجت عسى أن ترزق ولدا يكون فيه بقية منكم. فتزوج امرأة بالمدينة فلم ترضى أخلاقه لشدة حزنه على أخيه، وقلة حفله بها، فكانت تماظه وتؤذيه، فطلقها وقال:

أقول لهند حين لم أرض فعلهـا                      أهذا دلال الحب أم فعل فارك

أم الصرم ما تبغي، وكل مفارق                      يسير علينا فقده بعـد مـالـك أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أحمد بن معاوية، عن سلمويه بن أبي صالح ، عن عبد الله بن المبارك عن نعيم بن أبي عمرو الرازي قال: بينا طلحة والزبير يسيران بين مكة والمدينة إذ عرض لهما أعرابي، فوقفا ليمضي فوقف فتعجلا ليسبقاه فتعجل، فقالا: ما أثقلك يا أعرابي تعجلنا لنسبقك فتعجلت ، فوقفنا لتمضي فوقفت? فقال: لا إله إلا الله مفني أغدر الناس ، أغدر بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم? هباني خفت الضلال فأحببت أن أستدل بكما؛ أو خفت الوحشة فأحببت أن أستأنس بكما. فقال طلحة: من أنت? قال: أنا متمم بن نويرة. فقال طلحة: واسوأتاه، لقد مللنا غير مملول.

هات بعض ما ذكرت في أخيك من البكاء. فزوجوه أم خالد، فبينا هو واضع رأسه على فخذها إذ بكى فقالت: لا إله إلا الله، أما تنسى أخاك. فأنشأ يقول:

أقول لها لما نهتني عن البـكـا                      أفي مالك تلحيننـي أم خـالـد

فإن كان إخواني أصيبوا وأخطأت                      بني أمك اليوم الحتوف الرواصد

فكل بـنـي أم سـيمـون لـيلة                      ولم يبق من أعيانهم غير واحـد أما معنى قول متمم: وكنا كندماني جذيمة حقبة فإنه يعني نديمي جذيمة الأبرش الملك، وهو جذيمة بن مالك بن فهم بن دوس بن عدثان الأسدي .

 

 

صفحة : 1728

 

وكان الخبر في ذلك ما اخبرنا به علي بن سليمان الأخفش، عن أبي سعيد السكري، عن محمد بن حبيب. وذكر ابن الكلبي عن أبيه والشرقي وغيره من الواة أن جذيمة الأبرش-وأصله من الأزد، وكان أول من ملك قضاعة بالحيرة، وأول من حدا النعال، وأدلج من الملوك، ورفع له الشمع -قال يوما لجلسائه: قد ذكر لي عن غلام من لخم، مقيم في أخواله من إياد، له ظرف ولب، فلو بعثت إليه يكون في ندماني، ووليته كأسي والقيام بمجلسي، وكان الرأي. فقالوا: الرأي ما رأى الملك، فليبعث إليه. ففعل فلما قدم فعل به ما أراد له، فمكث كذلك مدة كويلة ثم أشرفت عليه يوما رقاش ابنة الملك، أخت جذيمة، فلم تزل تراسله حتى اتصل بينهما، ثم قالت له: ياعدي، إذا سقيت القوم فامزج لهم واسق الملك صرفا، فإذا أخذت منه الخمر فاخطبني إليه فإنه يزوجك، وأشهد القوم عليه إن هو فعل. ففعل الغلام ذلك فخطبها فزوجه، وانصرف الغلام بالخبر إليها فقالت: عرش بأهلك ففعل فلما أصبح غدا مضرجا بالخلوق، فقال له جذيمة: ما هذه الآثار يا عدي? قال آثار العرس. قال: أي عرس? قال: عرس رقاس. قال: فنخر وأكب على الأرض، ورفع عدي جراميزه، فأسرع جذيمة في طلبه فلم يحسسه ، وقيل إنه قتله وكتب إلى أخته:

حدثيني رقاش لاتكذبيني                      أبحر زنيت أم بهجـين

أم بعبد فأنت أهل لعبـد                      أم بدون فأنت أهل لدون قالت: بل زوجتني أمرأ عربيا. فنقلها جذيمة وحصنها في قصره، واشتملت على حمل فولدت منه غلاما وسمته عمرا وربته، فلما ترعرع حلته وعطرته وألبسته كسوة مثله ، ثم أرته خاله فأعجب به، وألفيت عليه منه محبة ومودة، حتى إذا وصف خرج الغلمان خرج الغلمان يجتنون الكمأة في سنة قد أكمات، فخرج معهم، وقد خرج جذيمة فبسط له في روضة، فكان الغلمان إذا أصابوا الكمأة أكلوها، وإذا أصابها عمرو خبأها، ثم أقبلوا يتعادون وهو معهم يقدمهم ويقول:

هذا جناي وخياره فـيه                      إذا كل جان يده إلى فيه فالتزمه جذيمة وحباه وقرب من قبله، وحل منه بكل مكان. ثم إن الجن استطارته، فلم يزل جذيمة يرسل في الآفاق في طلبه فلم يسمع له بخبر، فكف عنه. ثم أقيل رجلان يقال لأحدهما عيقيل والآخر مالك، ابنا فالج، وهما يريدان الملك بهدية، فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها أم عمرو، فتصبت قدرا وأصلحت طعاما، فينما هما يأكلان إذا أقبل رجل أشعث أغبر، قد طالت أظفاره وساءت حاله، حتى جلس مزجر الكلب، فمد يده فناولته شيئا فأكاه، ثم مد يده فقالت: إن يعط العبد كراعا يتسع ذراعا فأرسلتها مثلا. ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكات دنها، فقال عمرو بن عدي:

صددت الكأس عنا ام عمرو                      وكان المأس مجراها اليمينا

وما شر الثلاثة أم عمـرو                      بصاحبك الذي لا تصبحينـا غناه معبد فيما ذكر عن إسحاق في كتابه الكبير. وقد زعم بعض الرواة أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب .

وأخبرنا اليزيدي قال: حدثنا الخليل بن أسد التوشجاني قال: حدثنا حفص بن عمرو، عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش ، أن هذا الشعر لعمرو بن معد يكرب في ربيعة بن نصر اللخمي.

رجع الحديث إلى سياقه

فقال: الرجلان: ومن أنت? فقال: إن تنكراني أو تنكرا نيبي، فإنني عمرو وعدي أبي ، فقاما إليه فلثماه، وغسلا رأسه وقلما أظفاره، وقصرا من لمته، وألبساه من طرائف قيابهما وقالا: ما كنا لنهدي إلى الملك هدية أنفس عنده ولا هو عليها أحسن صفدا من ابن أخته، فقد رده الله عز وجل إليه. فخرجا حتى إذا دفعا إلى باب الملك بشراه به، فصرفه إلى أمه، فألبسته ثيابا من ثياب الملوك، وجعلت في عنقه طوقا كانت تلبسه إيادوهو صغير، وأمرته بالدخول على خاله، فلما رآه قال: شب عمرو عن الطوق فأرسلها مثلا. وقال للرجلين اللذين قدما به: احكما فلكما حكمكما. قالا: منادمتك مابقيت وبقينا. قال: ذلك لكما. فهما نديما جذيمة اللذان ذكرهما متمم، وضربت بهما الشعراء المثل. قال أبو خراش الهذلي:

ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا                      خليلا صفاء مالك وعقيل

 

صفحة : 1729

 

قال ابن حبيب في خبره : وكان جذيمة من أفضل الملوك رأيا، وأبعدهم مغارا، واشدهم نكاية، وهو أول من استجمع له الملك بأرض العراق، وكانت منازله مابين الأنبار وبقة وهيت وعين التمر، وأطراف البر والقطقطانة والحيرة فقصد في جموعه عمرو بن الظرب حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي، من عاملة العماليق ، فجمع عمرو جموعه ولقيه، فقتله جذيمة وفض جموعه، فتفلوا وملكوا عليهم ابنته الزباء، وكانت من أحزم الناس، فخافت أن تغزوها ملوك العرب فاتخذت لنفسها نفقا في حصن كان لها على شاطئ الفرات، وسكرت الفرات في وقت قلة الماء، وبنت أزجا من الآجر والكلس، متصلا بذلك النفق، وجعلت نفقا آخر في البرية متصلا بمدينة لأختها، ثم أجرت الماء عليه، فكانت إذا خافت عدوا دخلت النفق. فلما اجتمع لها أمرها واستحكم ملكها أجمعت على غزو جذيمة ثاثرة بأبيها، فقالت لها أختها وكانت ذات رأي وحزم: إنك إن غزوت جذيمة فإنه امرؤ له ما يصده، فإن ظفرت أصبت ثأرك، وإن ظفر بك فلا بقية لك، والحرب سجال، ولا تدرين كيف تكون ألك أم عليك، ولكن ابعثي إليك فأعلميه أنك قد رغبت في أن تتزوجيه وتجمعي ملكك إلى ملكه، وسليه أن يجيبك إلى ذلك، لأنهإن اغتر ففعل ظفرت به بلا مخاطرة. فكتبت الزباء في ذلك إلى جذيمة تقول له: إنها قد رغبت في صلة لدها ببلده، وإنها في ضعف من سلطانها، وقلة ضبط لمملكتها، وإنها لم تجد كفئا غيره، وتسأله الإقبال عليها وجمع ملكها إلى ملكه. فلما وصل ذلك إليه استخفه وطمع فيه، فشاور أصحابه فكل صوب رأيه في قصدها وإجابتها، إلا قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة بن لخم، فقال: هذا رأي فاتر، فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا فلا تمكنها من نفسك فتقع في حبالها وقد وترتها في أبيها. فلم يوافق جذيمة ما قال وقال لهك أنت أمرؤ رأيك في الكن لا في الضح . ورحل فقال له قصير في طريقة: انصرف ودمك في وجهك. فقال جذيمة: ببقة قضي الأمر فأرسلها مثلا. ومضى حتى إذا شارف مدينتها قال لقصير: ما الرأي? قال: ببقة تركت الرأي. قال: فما ظنك بالزباء? قال: القول وداف، والحزم عيرانة لا تخاف . واستقبله رسلها بالهدايا والأ لطاف فقال: يا قصير، كيف ترى? خطر يسير في خطب كبير ، وستلقاك الخيول، فإن سارت أمامك فالمرأة صادقة، وإن أخذت في جنبيك وأحاطت بك فالقوم غادرون. فلقيته الخيول فأحاطت به، فقال له قصير: اركب العصا قإنها لا تدرك ولا تسبق - يعني فرسا له كانت تجنب - قبل أن يحولوا بينك وبين جنودك. فلم يفعل، فجال قصير في ظهرها فمرت به تعدو في أول أصحاب جذيمة. ولما أحيط بجذيمة التفت فرأى قصيرا على فرسه العصا في أول القوم، فقال: لحازم من يجري العصا في أول القوم. فذكر أبو عبيدة والأصمعي أنها لم تكن تقف، حتى جرت ثلاثين ميلا، ثم وقفت فبالت هناك فبني على ذلك الموضع برج يسمى العصا- وأخذ جذيمة فأدخل على الزباء فاستقبلته قد كشفت عن فرجها، فإذا هي قد ضفرت الشعر عليه، فقالت: يا جذيم أذات عروس ترى? قال: بل أرى متاع أمة لكعاء غير ذات خفر. ثم قال: بلغ المدى، وجف الثرى، وأمر غدر أرى. قالت: والله ما ذلك من عدم مواس ، ولا قلة أواس ، ولكنها شيمة ما أناس . ثم قالت لجواريها: خذن بعضد سيدكن. ففعلن ثم دعت بنطع فأجلسته عليه، وأمرت برواهشه فقطعت في طست من ذهب يسيل دمه فيه، وقالت له: يا جذيم لا يضعن من دمك شيء فإني أريده للخبل فقال ها: وما يحزنك من دم اضاعه أهله. وإنما كان بعض الكهان قال لها: إن نقط من دمه شيء في غير الطست أدرك بثأره. فلم يزل دمه يجري في الطست حتى ضعف، فتحرك فنقطت من دمه نقطة على أسطوانة رخام ومات.

قال: والعرب تتحدث في أن دماء الملوك شفاء من الخبل. قال المتلمس :

من الدارميين الذين دماؤهـم                      شفاء من الداء المجنة والخبل

 

صفحة : 1730

 

قال: وجمعت دمه في برنية وجعلته في خزانتها، ومضى قصير إلى عمرو بن عبد الحر التنوخي فقال اطلب بدم ابن عمك وإلا سبتك به العرب. فلم يحفل بذلك فخرج قصير إلى عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فقال: هل لك في أن أصرف الجنود إليك على أن تطلب بثأر خالك? فجعل ذلك له، فأتى القادة والأعلام فقال لهم: أنتم القادة والرؤساء، وعندنا الأموال والكنوز. فانصرف إليه منهم بشر كثير، فالتقى بعمرو التنوخي فلما صافوا القتال تابعه التوخي ومالك بن عمرو بن عدي، فقال له قصير: انظر ما وعدتني في الزباء. فقال: وكيف وهي أمنع من عقاب الجو? فقال: أما إذا أبيت فإني جادع أنفي وأذني، ومحتال لقتالها، فأعني وخلاك ذم. فقال له عمرو: وأنت أبصر. فجدع قصير أنفه ثم انطلق حتى دخل على الزباء فقالت: من أنت? قال: انا قصير، لا ورب البشر ما كان على ظهر الأرض أحد أنصح لخدمته مني ولا أغش لك حتى جدع عمرو بن عدي أنفي وأذني، فعرفت أني لن اكون مع احد أثقل عليه منك. فقالت: اي قصير نقبل ذلك منك، ونصر لك في بضاعتنا. وأعطته مالا للتجارة، فأتى بيت مال الحيرة فأخذ منه بأمر عدي ما ظن أنه يرضيها، وانصرف إليها به، فلما رأت ما جاء به فرحت وزادته، ولم يزل حتى أنست به فقال لها: إنه ليس من ملك ولا ملكة إلا وقد ينبغي له أن يتخذ نفقا يهرب إليه عند حدوث حادثة يخافها. فقالت: اما أني قد فعلت واتخذت نفقا تحت سريري هذا، يخرج إلى نفق تحت سرير أختي. وأرته إياه، فأظهر لها سرورا بذلك، وخرج في تجارته كما كان يفعل، وعرف عمرو بن عدي ما فعله، فركب عمرو في ألفي دارع على ألف بعير في الجوالق حتى إذا صاروا إليها تقدم قصير يسبق الإبل ودخل على الزباء فقال لها: اصعدي في حائط مدينتك فانظري إلى مالك، وتقدمي إلى بوابك فلا يعرض لشيء من أعكامنا ، فإني قد جئت بمال صامت. وقد كانت امنته فلم تكن تتهمه ولا تخافه، فصعدت كما أمرها فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت- وقيل مصنوع منسوب إليها-:

ما للجمال مشيها وئيدا                      أجندلا يحملن أم حديدا

أم صرفنا باردا شديدا                      أم الرجال جثما قعودا فلما دخل آخر الجمال نخس البواب عكما من الأعكام بمنخسة معه، فأصابت خاصرة رجل فضرط، فقال البواب: شر والله عكمتم به في الجوالقات . فثاروا بأهل المدينة ضربا بالسيف، فانصرفت راجعة فاستقلها عمرو بن عدي فضربها فقتلها، وقيل بل مصت خاتمها وقالت: بيدي لا بيد عمرو، وخرجت المدينة وسبيت الذراري، وغنم عمرو كل شيء كان لها ولأبيها وأختها، وقال الشعراء في ذلك تذكر ما كان من قصير في مشورته على جذيمة، وفي حدعه انفه، فأكثروا. قال عدي بن زبد:

ألا يأيها المثري الـمـرجـى                      ألم تسمع بخطب الـولـينـا

دعا بالبـقة الأمـراء يومـا                      جذيمة ينتحي عصبا ثبـينـا

فطاوع أمرهم وعصى قصيرا                      وكان يقول لو سمع اليقـينـا وهي طويلة. وقال المتلمس يذكر جدع قصير أنفه:

ومن حذر الأيام مـا حـز أنـفـه                      قصير وخاض الموت بالسيف بيهس وفي هذا المعنى أشعار كثيرة يطول ذكرها.

وكان جذيمة الملك شاعرا، وإنما قيل له الوضاح لبرص كان به، وكان يعظم أن يسمى بذلك، فجعل مكانه الأبرش والوضاح. وهو الذي يقول:

والملك كان لـذي نـوا                      س حولة تردي يحابـر

بالسابغات وبـالـقـنـا                      والبيض تبرق والمغافر

أزمان لا ملـك يجـي                      ر ولا ذمام لمن يجاور

أودى بهم غير الـزمـا                      ن فمنجد منهم وغـائر وهو الذي يقول:

ربما أوفيت فـي عـلـم                      ترفعن ثوبي شـمـالات

في شباب أنـا رابـئهـم                      هم لذي العورة صمـات

ليست شعري ما أطاف بهم                      نحن أدلجنا وهم بـاتـوا

ثم ابنا غـانـمـين وكـم                      كرناس قبلـنـا مـاتـوا فيه غناء يقال إنه ليمان، ويقال إنه لمعبد، ولم يصح.

 

في كفه خيزران ريحه عبـق                      من كف أروع في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته                      فما يكلم إلا حـين يبـتـسـم الشعر لحزين بن سليمان الديلي، والغناء لإسحاق، ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش، وفيه لعريب رمل عمله على لحن ابن سريج.

 

 

صفحة : 1731

 

 

أخبار الحزين ونسبه

ذكر الواقدي أنه من كنانة وأنه صليبة ، وأن الحزين لقب غلب عليه، وان اسمه عمرو بن وهيب بن مالك - ويكنى أبا الشعثاء - بن حريث بن جابر بن بحير - وهو راعي الشمس الأكبر - بن يعمر بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة.

أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة، عن الواقدي.

قال: وأما عمر بن شبة فإنه ذكر أن الحزين مولى، وانه الحزين بن سليمان، ويكنى سليمان أبا الشعثاء، ويكنى الحزين أبا الحكم. من شعراء الدولة الأموية حجازي مطبوع ليس من فحول طبقته. وكان هجاء خبيث اللسان ساقطا، يرضيه اليسير، ويتكسب بالشر وهجاء الناس، وليس ممن خدم الخلفاء ولا انتجعهم بمدح، ولا كان يريم الحجاز حتى مات.

وهذا الشعر يقوله الحزين في عبد الله بن عبد الملك بن مروان. وكان عبد الله من فتيان بني أمية وظرفاتهم، وكان حسن الوجه حسن المذهب، وأمه أم ولد. وزوجة عبد الله رملة بنت عبد الله - وعبد الله هذا هو عبد الحجر بن عبد المدان بن الديان بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن عمرو. وزوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن ربيعة بن الأسود بن مطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي - تزوجها لما كان يقال إنها ناتق في ولادها ، فمات عنها ولم تلد له، فخلفه محمد بن علي بن عبد الله بن العباس على رملة فولدت له محمدا وإبراهيم وموسى، وبنات.

أخبرني بذلك عمر بن عبد الله بن جميل العتكي، وأحمد بن عبد العزيز الجوهري، ويحيى بن علي بن يحيى، قالوا: حدثنا عمر بن شبة عن ابن رواحة وعغيره. وأخبرني به الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه.

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثني الزبير قال: حدثني عمي أن عبد الله بن عبد الملك حج؛ فقال له أبوه: سيأتيك الحزين الشاعر بالمدينة، وهو ذرب اللسان، فإياك أن تحتجب عنه، وأرضه. وصفته أنه أشعر ذو بطن عظيم الأنف. فلما قدم عبد الله المدينة وصفه لحاجبه وقال له: إياك أن ترده. فلم يأت الحزين حتى قام فدخل لينام، فقال له الحاجب: قد ارتفع. فلما ولى ذكر ملحقه فقال: ارجع، فاستأذن له فأدخله، فلما صار بين يديه ورأى جماله وبهاءه، وفي يده قضيب خيزران، وقف ساكتا، فأمهله عبد الله حتى ظن أنه قد أراح ثم قال له: السلام رحمك الله أولا. فقال: عليك السلاو وحيا الله وجهك أيها الأمير، إني قد كنت مدحتك بشعر، فلما دخلت عليك ورأيت جمالك وبهاءك أذهلني عنه فأنسيت ما كنت قلته، وقد قلت في مقامي هذا بيتين. فقال: ما هما? قال:

في كفه خيزران ريحها عبـق                      من كف أروع في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته                      فما يكلم إلا حين تـبـتـسـم فأجازه فقال: أخدمني أصلحك الله، فإنه لا خادم لي. فقال: اختر أحد هذين الغلامين، فأخذ أحدهما فقال له عبد الله: أعلينا ترذل ، خذ الأكبر.

والناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أياته التي يمدح بها علي بن الحسين بن أبي طالب عليه السلام، التي أولها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته                      والبيت يعرفه والحل والحـرم وهو غلظ ممن رواه فيها. وليس هذان البيتان مما مدح به مثل علي بن الحسين عليهما السلام وله من الفضل المتعالم ما ليس لأحد.

حدثني محمد بن محمد بن سليمان الباغندي قال: حدثني محمد بن عمر العدني قال: حدثني سفيان بن عيينه عن الزهري قال: ما رأيت هاشميا أفضل من علي بن الحسين.

حدثني محمد قال حدثنا يوسف بن موسى القطان قال: حدثنا جرير بن المغيرة قال: كان علي بن الحسين يبخل، فلما مات وجدوه يعول مائة أهل بيت بالمدينة.

حدثني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن معرس قال حدثنا محمد بن ميمون قال حدثنا سفيان عن ابن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره فيتصدق به ويقول: إن صدقة الليل تطفىء غضب الرب.

حدثني أبو عبد الله الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسين المصري قال: حدثنا أحمد بن سليمان قال حدثنا ابن عائشة قال: حدثنا سعد بن عامر، عن جويرية بن أسماء، عن نافع قال:  قال علي بن الحسين: ما أكلت بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا قط.

 

صفحة : 1732

 

حدثنا الحسن بن علي قال: حدثني عبد الله بن احمد بن حنبل قال: حدثني إسحاق بن موسى الأنصاري قال: حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون ما يدرون من أين عيشهم، قلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به بالليل.

وأما الأ بيات التي مدح بها الفرزدق علي بن الحسين وخبره فيها، فحدثني بها أحمد بن محمد بن الجعد، ومحمد بن يحيى قالا: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثنا ابن عائشة قال: حج هشام بن عبد الملك في خلافة الولي أخيه، ومعه رؤساء أهل الشام، فجهد أن يستلم الحجر فلم يقدر من ازدحام الناس، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر إلى الناس، وأقبل علي بن الحسين وهو احسن الناس وجها، وأنظفهم ثوبا، وأطيبهم رائحة، فطاف بالبيت، فلما بلغ الحجر الأسود تنحى الناس كلهم وأخلوا له الحجر ليستلمه، هيبة وإجلالا له، فغاظ ذلك هشاما وبلغ منه، فقال رجل لهشام: من هذا أصلح الله الأمير? قال: لا أعرفه، وكان به عارفا، ولكنه خاف أن يرغب فيه أهل الشام ويسمعوا منه. فقال الفرزدق وكان لذلك كله حاضرا: أنا أعرفه، فسلني يا شامي. قال: ومن هو? قال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأتـه                      والبيت يعرفه والحل والـحـرم

هذا ابن خير عباد اللـه كـلـهـم                      هذا التقي النقي الطاهر العـلـم

إذا رأته قريش قـال قـائلـهـا                      إلى مكارم هذا ينتهـي الـكـرم

يكاد يمسكه عـرفـان راحـتـه                      ركن الحطيم إذا ما جاء يستـلـم

فليس قولك من هـذا بـضـائره                      العرب تعرف من أنكرت والعجم

أي الخلائق ليست في رقابـهـم                      لأولـية هـذا أولـه نـعـــم

من يعرف الله يعـرف أولـية ذا                      فالدين من بيت هذا نالـه الأمـم فحبسه هشام فقال الفرزدق:

أيحبسني بين المدينة والـتـي                      إليها قلوب الناس يهوي منيبها

يقلب أسا لم يكـن رأس سـيد                      وعينا له حولاء باد عيوبهـا فبعث إليه هشام فأخرجه، ووجه إليه علي بن الحسين عشرة آلاف درهم وقال: اعذر أبا فراس، فلو كان عندنا في هذا الوقت أكثر من هذا لوصلناك به. فردها وقال: ما قلت ما كان إلا لله، وما كنت لأرزأ عليه شيئا. فقال له علي: قد رأى الله مكانك فشكرك، ولكنا أهل بيت إذا أنفذنا شيئا ما نرجع فيه. فأقسم عليه فقبلها.

ومن الناس أيضا من يروي هذه الأ بيات لدواد بن سلم في قثم بن العباس، ومنهم من يرويها لخالد بن يزيد فيه؛ فهي في روايته:

كم صارخ بك من راج وراجية                      يرجوك ياقثم الخيرات يا قثـم

أي العمائر ليست في رقابهـم                      لأولـية هـذا أولـه نـعــم

في كفه خيزران ريحها عبـق                      من كف أروع في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته                      فما يكلم إلا حـين يبـتـسـم وممن ذكر لنا ذلك الصولي عن الغلابي عن مهدي بن سابق، أن دواد بن سلم قال هذه الأبيات الأربعة سوى البيت الأول في شعره في علي بن الحسين عليه السلام.

وذكر الرياشي عن الأصمعي أن رجلا من العرب يقال له دواد وقف لقثم فناداه وقال:

يكاد يمسكه عرفـان راحـتـه                      ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم

كم صارخ بك من راج وراجية                      في الناس يا قثم الخيرات يا قثم فأمر له بجائزة سنية.

والصحيح أنها للحزين في عبد الله بن عبد المك. وقد غلط ابن عائشة في إدخاله البيتين في تلك الأبيات وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني متشابهة، تنبىء عن نفسها، وهي:

الله يعلم أن قـد جـبـت ذا يمـن                      ثم العراقين لا يثنـينـي الـسـأم

ثم الجزيرة أعلاها وأسـفـلـهـا                      كذاك تسري على الأهوال بي القدم

ثم المواسم قد أو طنتـهـا زمـنـا                      وحيث تحلق عند الجمرة اللـمـم

قالوا دمشق ينبيك الخـبـير بـهـا                      ثم ائت مصر فثم النائل الـغـمـم

لما وقفت عليها في الجموع ضحى                      وقد تعرضت الحجـاب والـخـدم

حييته بسـلام وهـو مـرتـفـق                      وضجة القوم عند الباب تـزدحـم

 

صفحة : 1733

 

 

في كفه خيزران ريحها عـبـق                      من كف أروع، في عرنينه شمم

يغضي حياء ويغضى من مهابته                      فما يكلـم إلا حـين يبـتـسـم

ترى رءوس بني مروان خاضعة                      يمشون حول ركابيه وما ظلموا

إن هش هشواله واستبشروا جذلا                      وإن هم آنسوا إعراضه وجموا

كلتا يديه ربيع عند ذي خـلـف                      بحريفيض وهادي عارض هزم ومن الناس من يقول: إن الحزين قالها في عبد العزيز بن مروان، لذكره دمشق ومصر. وقد كان ثم عبد الله بن عبد الملك أيضا في مصر، والحزين بها.

أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان عن عبد العزيز بن عمران الزهري قال: وفد الحزين على عبد الله بن عبد الملك، وفي الرقيق أخوان، فقال عبد الله للحزين. أي الرقيقأعجب إليك? قال: ليختر لي الأمير. قال عبد الله: قد رضيت لك هذا - لأحمدهما - فإني رايته حسن الصلاح. قال الحزين: لا حاجة لي به فأعطني أخاه. فأعطاه إياه. قال: والغلامان مزاحم مولى عمر بن العزيز، وتميم أبو محمد بن تميم، وهو الذي اختاره الحزين. قال: فقال في عبد الله يمدحه:

الله يعلم أن ذا يمن وذكر القصيدة بطولها على هذا السبيل.

أخبرني وكيع عن محمد بن علي بن حمزة العلوي قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال: كان على المدينة طائف يقال له صفوان، مولى لآل مخرمة بن نوفل، فجاء الحزين الديلي إلى شيخ من أهل المدينة فاستعاره حماره، وذهب إلى العقيق فشرب، وأقبل على الحمار وقد سكر، فجاء به الحمار حتى وقف به على باب المسجد كما كان صاحبه عوده إياه، فمر به صفوان فأخذه فحبسه وحبس الحمار، فأصبح والحمار محبوس معه. فأنشأ يقول:

أيا أهل المدينة خبرونـي                      بأي جريرة حبس الحمار

فما للعير من جرم إليكـم                      وما بالعير إن ظلم انتصار فردوا الحمار على صاحبه، وضربوا الحزين الحد، فأقبل إلى مولى صفوان وهو في المسجد فقال:

نشدتك بالبيت الذي طيف حوله                      وزمزم والبيت الحرام المحجب

لزانية صفـوان أم لـعـفـيفة                      لأعلم ما ىتى وما أتـجـنـب فقال مولاه: هو لزانية. فخرج وهو ينادي: إن صفوان ابن الزانية فتعلق به صفوان فقال: هذا مولاك يشهد أنك ابن زانية. فخلى عنه.

وقال محمد بن علي بن حمزة: وأخبرني الرياشي أن ابن عم للحزين استشاره في امرأة يتزوجها، فقال له: إن لها إخوة مشائيم وقد ردوا عنها غير واحد، وأخشى أن يردوك فتطلق عليك ألسنا كانت عنك خرسا. فخطبها ولم يقبل منه فردوه، فقال الحزين:

نهيتك عن أمر فلم تقبل النهى                      وحذرتك اليوم الغواة الأشائما

فصرت إلى ما لم أكن منه آمنا                      وأشمت أعدائي وأنطقت لائما

وما بهم من رغبة عنك قل لهم                      فإن تسألوني تسألوا بي عالما وأخبرني عيسى بن الحسن قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثني عمر بن سلام مولى عمر بن الجعاب : أن الحزين الديلي خرج مع ابن لسهيل بن عبد الرحمن بن عوف، إلى منتزه لهم، فسكر الحزين وانصرف فبات في الطريق وسلب ثيابه، فأرسل إلى سهيل بخبره الخبر ويستمنحه فلم يمنحه، وبلغ الخبر سفيان بن عاصم بن عبد العزيز بن مروان فأرسل إليه بجميع ما يحتاج إليه، وعوضه ثمن ثيابه، فقال الحزين في ذلك:

هلا سهيلا أشبهت أو بعض أعما                      مك يا ذا الخلائق الشـكـسـه

ضيعت ندمانك الكريم ولم تـش                      فق عليه من لـيلة نـحـسـه

ثم تـعـالـلـت إذ أتـاك لـه                      صبحا رسول بعلة طـفـسـه

لكن سفـيان لـم يكـن وكـلا                      لما أتتنا صـلاتـه سـلـسـه

سما به أروع ونـفـس فـتـى                      أروع ليست كنفسك الـدنـسة حدثنا الصولي قال: حدثنا ثعلب قال حدثني عبد الله بن شبيب قال: مر الحزين الديلي على مجلس لبني كعب بن خزاعة وهو سكران، فضحكوا عليه، فوقف عليهم وقال:

لا بارك الله في كعب ومجلـسـهـم                      ماذا تجمع من لـؤم ومـن ضـرع

لا يدرسون كتـاب الـلـه بـينـهـم                      ولا يصومون من حرص على الشبع

 

صفحة : 1734

 

فوثب إليه مشايخهم فاعتذروا منه، وسألوه الكف وأن لا يزيد شيئا على ما قاله، فأجابهم وانصرف أخبرني الحرمي قال: حدثنا عمرو بن أبي بكر المؤملي قال: حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال: كان الحزين قد ضرب على كل رجل من قريش درهمين درهمين في كل شهر، منهم ابن أبي عتيق، فجاءه لأخذ درهميه وهو على حمار أعجف، قال: وكثير مع ابن أبي عتيق، فدعا ابن أبي عتيق للحزين بدرهمين فقال له الحزين: من هذا معك? قال: هذا أبو صخر كثير بن أبي جمعة. قال: وكان قصيرا دميما، فقال له الحزين: أتأذن لي أن أهجوه ببيت? قال: لا لعمري لا آذن لك أن تهجو جليسي، ولكن أشتري عرضه منك بدرهمين آخرين. ودعا له بهما، فأصغى ثم قال: لا بد لي من هجائه ببيت. قال: أو أشتري ذلك منك بدرهمين آخرين? ودعا له بهما فأخذهما وقال: ما أنا بتاركه حتى أهجوه. قال: أو أشتري منك بدرهمين آخرين? فقال له كثير: ائذن له، وما عسى أن يقول في? فأذن له ابن أبي عتيق فقال:

قصير القميص فاحش عند بيته                      يعض القراد باسته وهو قائم فوثب كثير إليه فوكزه فسقط هو والحمار، وخلص ابن أبي عتيق بينهما وقال الكثير: قبحك الله أتأذن له وتبسط إليه يدك. قال كثير: وأنا ظننته يبلغ في هذا كله في بيت واحد.

ولكثير مع الحزين أخبار أخر قد ذكرت في أخبار كثير.

أخبرني الحرمي قال: حدثني عمي عن الضحاك بن عثمان قال: حدثني ابن عروة بن أذينة قال: كان الحزين صديقا لأبي وعشيرا على النبيذ، وكان كثيرا ما يأتيه، وكان بالمدينة قينة يهواها الحزين ويكثر غشيانها، فبيعت وأخرجت عن المدينة، فأتى الحزين أبي وهو كئيب حزين كاتمه، فقال له أبي: مالك يا أبا حكيم? قال: أنا والله يا أبا عامر كما قال كثير:

لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى                      بغى سقما إنـي إذا لـسـقـيم

سألت حكيما أين شطت بها النوى                      فخبرني ما لا أحـب حـكـيم فقال له أبي: أنت مجنون إن أقمت على هذا.

أخبرني أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني مصعب قال: مر الحزين على جعفر بن محمد بن عبد الله بن نوفل بن الحارث، وعليه أطمار، فقال له: يا ابن أبي الشعثاء، إلى أين أصبحت غاديا? قال: أمتع الله بك، نزل عبد الله بن عبد الملك الحرة يريد الحج، وقد كنت وفدت إليه بمصر فأحسن إلي. قال: أفما وجدت شيئا تلبسه غير هذه الثياب? قال: قد استعرت من أهل المدينة فلم يعرني أحد منهم غير هذه الثياب. فدعا جعفر غلاما فقال: ائتني بجبة صوف، وقميص ورداء. فجاء بذلك فقال: أبل وأخلق. فلما ولى الحزين قال جلساء جعفر له: ما صنعت? إنه يعمد إلى هذه الثياب التي كسوته إياها فبيعها، ويفسد بثمنها. قال: ما أبالي إذا مافأته بثيابه ما صنع بها. فسمع الحزين قولهم وما رد عليهم، ومضى حتى أتى عبد الله بن عبد الملك فأحسن إليه وكساه. فلما أصبح الحزين أتى جعفرا ومعه القوم الذين لاموه بالأمس وأنشدة:

وما زال ينمو جعفر بن محمـد                      إلى المجد حتى عبهلته عواذلـه

وقلن له هل من طريف وتـالـد                      من المال إلا أنت في الحق باذله

يحاولنه عن شيمة قد علمنـهـا                      وفي نفسه أمر كريم يحـاولـه ثم قال له: بأبي أنت وأمي، سمعت ما قالوا وما رددت عليهم.

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال: صحب الحزين رجلا من بني عامر بن لؤي يلقب أبا بعرة، وكان استعمل على سعايات فلم يصنع إليه خيرا ، وكان قد صحب قبله عمرو بن مساحق وسعد بن نوفل فأحمدهما ، فقال له:

صحبتك عاما بعد سعد بن نـوفـل                      وعمرو فما أشبهت سعدا ولا عمرا

وجادا كما قصرت في طلب العـلا                      فحزت به ذما وحازا به شـكـرا قال: وأبو بعرة هذا هو الذي كان يعبث بجارية لابن أبي عتيق، فشكته إليه فقال لها: عديه فإذا جاءك فأدخليه إلي. ففعلت فأدخلته عليه، وهو وشيخ من نظراته جالسان في حجلة ، فلما رآهما قال: أقسم بالله ما اجتمعتما إلا على ربية. فقال له ابن أبي عتيق استر علينا ستر الله عليك.

قال: وآل أبي بعرة هم موالي آل أبي سمير. قال: فلما ولي المهدي باعوا ولاءهم منه.

 

 

صفحة : 1735

 

قال الزبير: وأنشدني عمي تمام الأبيات التي هجا بها أبا بعرة - وسماه لي فقال: وكان اسمه عيسى - وهي:

أولاك الجعاد البيض من آل مالك                      وأنتم بنوقين لحقتـم بـه نـزرا - نصب نزار على الحال، كأنه قال: لحقتم به نزرا قليلا من الرجال-

نسوق بيعورا أميرا كـأنـمـا                      نسوق به في كل مجمعة وبرا

فإن يكن البيعـور ذم رفـيقـه                      قراه فقد كانت إمارته نـكـرا

ومتبع البيعور يرجـو نـوالـه                      فقد زاده البيعور في فقره فقرا أخبرني الحرمي قال: حدثني الزبير قال: حدثني صالح، عن عامر بن صالح قال: مدح الحزين عمرو بن الزبير فلم يعطه شيئا.

وأخبرني بهذا الخبر عمي تاما واللفظ له، ولم يذكر الزير منه إلآ يسيرا، قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري قال: حدثني عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان قال: دخل الحزين على عمرو بن عمرو بن الزبير بن العوام منزله، فامتدحه وسأله حاجة، فقال له: ليس إلى ما تطلب سبيل، ولا نقدر أن نملأ الناس معاذير، وما كل من سألنا حاجة استحق أن نقضيها، ولرب مستحق لها قد منعناه حاجته. فقال الحزين: أفمن المستحقين أنا? قال: لا والله، وكيف تكون مستحقا لشيء من الخير وأنت تشتم أعراض الناس وتهتك حريمهم، وترميهم بالمعضلات، إنما المستحق من كف أذاه، وبذل نداه، ووقم أعداه .

فقال له الحزين: افمن هؤلاء أنت? فقال له عمرو: أين تبعدني لا أم لك من هذه المنزلة وأفضل منها فوثب الحزين من عنده وأنشأ يقول:

حلفت وما صبرت على يمين                      ولو أدعى إلى أيمان صبـر

برب الراقصان بشعث قـوم                      يوافون الجمار لصبح عشر

لو أن اللؤم كان مع الـثـريا                      لكان حليفه عمرو بن عمرو

ولو أني عرفت بأن عـمـرا                      حليف اللؤم ماضيعت شعري فقال العمري: وحدثني لقيط أن الحزين قال فيه أيضا يهجوه ويمدح محمد بن مروان بن الحكم، وجاءه فشكا إليه عمرا، فوصله وأحسن إليه. قال:

إذا لم يكن للمـرء فـضـل يزينـه                      سوى ما ادعى يوما فليس له فضل

وتلقى الفتى ضخما جـمـيلا رواؤه                      يروعك في النادي وليس له عقـل

وآخر تنبو العين عـنـه مـهـذب                      يجود إذا ما الضخم نهنه البـخـل

فيا راجيا عمرو بن عمرو وسـيبـه                      أتعرف عمرا أم أتاه بك الجـهـل

فإن كنت ذا جهل فقد يخطىء الفتى                      وإن كنت ذا حزم إذا حارت النبـل

جهلت ابن عمرو فالتمس سيب غيره                      ودونك مرمى ليس في جده هـزل

عليك ابن مروان الغر مـحـمـدا                      تجده كريما لا يطـيش لـه نـبـل قال لقيط: فلما أنشد الحزين محمد بن مروان هذا الشعر أمر له بخمسة آلاف درهم، وقال له: اكفف يا أخا بني ليث عن عمرو بن عمرو ولك حكمك. فقال: لا والله ولا بحمر النعم وسودها، لو أعطيتها ما كففت عنه، لأنه ما علمت كثير الشر، قليل الخير، متسلط على صديقه، فظ على أهله. وخير ابن عمرو بالثريا معلق.

فقال له محمد بن مروان : هذا شعر. فقال: بعد ساعة يصير شعرا، ولو شئت لعجلته. ثم قال:

شر ابن عمرو حاضر لـصـديقـه                      وخير ابن عمرو بالثريا مـغـلـق

ووجه ابن عمرو باسر إن طلبـتـه                      نوالا إذا جاد الكـريم الـمـوفـق

فبئس الفتى عمرو بن عمرو إذا غدت                      كتائب هيجاء الـمـنـية تـبـرق

فلا زال عـمـرولـلـبـلايا درية                      تباكره حـتـى يمـوت وتـطـرق

يهز هرير الكلب عـمـرو إذا رأى                      طعاما فما ينفك يبكـي ويشـهـق قال: فزجوه محمد عنه، وقال له: أف لك، قد أكثرت الهجاء وأبلغت في الشتيمة.

قال العمري: وحدثني عطاء بن مصعب عن عبد الله بن الليث الليثي، قال: قال الحزين الديلي يهجو عمرو بن عمرو بن الزبير:

لعمرك ما عمرو بن عمرو بماجد                      ولكنـه كـز الـيدين بـخـيل

ينام عن التقوى ويوقظه الخـنـا                      فيخبط أثنـاء الـظـلام يجـول

فلا خير في عمروو لجار ولا له                      ذمام ولكـن لـلـثـام وصـول

 

صفحة : 1736

 

 

مواعيد عمرو ترهـات ووجـهـه                      على كل ماقد قلـت فـيه دلـيل

جبـان وفـحـاش لـئيم مـذمـم                      واكذب خلق الـلـه حـين يقـول

كلام ابن عمرو صوفة وسط بلقـع                      وكف ابن عمرو في الرخاء تطول

وغن حزبته الحازبات تشـنـجـت                      يداه ورمح في الـهـياج كـلـيل فبلغ شعره عمرا فقال: ما له لعنه الله ولعن من ولده، لقد هجاني بنية صادقة ولسان صنع ذلق، وما عداني إلى غيري. قال: فلقي الحزين عروة بن أذينة الليثي فأنشده هذه الأيات فقال له: ويحك، بعضها كان يكفيك، فقد بنيتها ولم تقم أودها، وداخلتها وجعلت معانيها في أكمتها. قال الحزين: ذلك والله أرغب للناس فيها. فقال له عروة: خير الناس من حلم عن الجهال، وما أراه إلا قد حلم عنك. فقال الحزين: حلم والله عني شاء أو أبى ، برغمه وصغره .

لقي شبان من ولد الزبير الخزين، فتناولوه بألسنتهم، وهموا بضربه، فحال بينهم وبينه ابن لمصعب بن الزبير ، فقال الحزين يهجوهم ويهجو جماعة من بني أسد بن عبد العزى، سوى بني مصعب الذين منعوهم منه، قال:

لحا الله حيا من قريش تـحـالـفـوا                      على البخل بالمعروف والجود بالنكر

فصاروا لخلق الله في اللـؤم غـاية                      بهم تضرب الأمثال في النثر والشعر

فيا عمرو لو أشبهت عمرا ومصعبـا                      حميدت ولكن أنت منقبض البـشـر

بني أسد، سادت قريش بـجـودهـا                      معدا وسادتكم مـعـد يد الـدهـر

تجود قريش بـالـنـدى ورضـيتـم                      بني أسد باللـؤم والـذل والـغـدر

أعمرو بن عمرو، لست ممن تعـده                      قريش إذا ما كاثروا الناس بالفخـر

أبت لك يا عمرو بن عمـرو دنـاءة                      وخلق لئيم أن تـريش وأن تـبـري أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني محمد بن الضحاكالحزامي قال: حدثني أبي قال: كان الحزين سفيها نذلا يمدح بالنزر إذا أعطيه، ويهجو على مثله إذا منع، فنزل بعاصم بن عمرو بن عثمان فلم يقره، فقال يهجوه بقوله:

سيروا فقد جن الظلام عـلـيكـم                      فباست الذي يرجو القى عند عاصم

ظللنا عليه وهو كالتيس طاعـمـا                      نشد على أكبادنـا بـالـعـمـائم

ومالي من ذنب إليه عـلـمـتـه                      سوى أنني قد جئته غـير صـائم فقيل له: إن عاصما كثيرا ما تسمي به قريش. فقال: أما والله لأبيننه لهم فقال:

إليك ابن عثمان بن عفان عـاصـم ب                      ن عمرو وسرت عنسي فخاب سراها

فقد صادفت كـز الـيدين مـبـخـلا                      جبانا إذا ما الحرب شب لـظـاهـا

بخيلا بما فـي رحـلـه غـير أنـه                      إذا ما خلت عرس الخلـيل أتـاهـا اخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن ابيه قال: قال الحزين لهلال بن يحيى بن طلحة قوله:

هلال بن يحيى غزة لا خـفـا بـهـا                      على الناس في عسر الزمان ولا اليسر

وسعد بن إبراهـيم ظـفـر مـوسـخ                      فهل يستريح الناس من وسخ الظفـر يعني سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، وكان ولي قضاء المدينة من هشام بن عبد الملك، فلم يعط الحزين شيئا فهجاه. وقال فيه أيضا:

أتيت هلالا أرتجي فضـل سـيبـه                      فأفلتـنـي مـمـا أحـب هـلال

هلال بن يحيى غرة لا خفـابـهـا                      لكـل أنـاس غـرة وهـــلال

ألم تشهد الجونين والشعب ذا الصفـا                      وكرات قيس يوم دير الجـمـاجـم

تحرض يا بن القين قيسا ليجعـلـوا                      لقومك يومـا مـثـل يوم الأراقـم

بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع                      ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم

ضربت به عند الإمام فأرعـشـت                      يداك وقالوا محدث غـير صـارم الشعر لجرير، والغناء لابن محرز، ثقيل أول بالبنصر.

وهذه الأ بيات يقولها جرير يهجو الفرزدق، ويعيره بضرية ضربها بسيفه رجلا من الروم، فحضره سليمان بن عبد الملك فلم يصنع شيئا.

 

 

صفحة : 1737

 

فحدثنا بخبره في ذلك محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال: حدثنا صالح بن سليمان، عن إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي، وكان شيخا كبيرا، وكان من أصحاب عبد الملك بن مروان، ثم كان من أصحاب المنصور، قال: كنت حاضرا سليمان بن عبد الملك.

وأخبرنا علي بن سليمان الأخفش واليزيدي عن السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة، وعن قنادة عن أبي عبيدة في كتاب النقائض، عن رؤبة بن العجاج قال: حج سليمان بن عبد الملك ومعه الشعراء، وحججت معهم فمر بالمدينة منصرفا فأتي بأسرى من الروم نحو من أربعمائة ، فقعد سليمان وعنده عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام، وعليه ثويانممصران ، وهو أقربهم منه مجلسا، فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة ، فقال لعبد الله بن الحسن: قم فاضرب عنقه. فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفا كليلا، فضربه فأبان عنقه وذراعه، واطن ساعده وبعض الغل. فقال له سليمان: اجلس فوالله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك . وجعل يدفع الأسرى إلى الوجوهوإلى الناس فيقتلونهم، حتى دفع إلى جرير رجلا، فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض، فضربه فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسيرا فدست إليه القيسية سيفا كليلا، فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا، فضحك سليمان وضحك الناس معه.

هذه رواية أبي عبيدة عن رؤبة.

وأما سليمان بن أبي شيخ فإنه ذكر في خبره أن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا وقال له: اقتله به.

فقال: لا بل أضربه بسيف مجاشع، واخترط سيفه فضربه به لم يغن شيئا، فقال له سليمان: أما والله لقد بقي عليك عارها وسنارها فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها، ومنها الصوت المذكور، وأولها قوله:

ألا حي ربع المنزل المتقادم                      وما حل مذ حلت به أم سالم وهي طويلة. فقال الفرزدق:

فهل ضربة الرومي جاعلة لكم                      أبا عن كليب أو أبا مثل دارم

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا                      وتقطع أحيانا مناط التـمـائم

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهـم                      إذا أثقل الأعناق حمل المغارم ذكر يونس أن في هذه الأبيات لحنا لابن محرز، ولم يجنسه.

وقال يعرض بسليمان ويعيره بنبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر - وبتو عبس أخوال سليمان - قال:

فإن يك سيف خان أو قدر أتـى                      بتعجيل نفس حتفها غير شاهـد

فسيف بني عبس وقد ضربوا به                      نبا بيدي وررقاء عن رأس خالد

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا                      وتقطع أحيانا منـاط الـقـلائد وروي هذا الخبر عن عوانة بن الحكمن قال فيه: إن الفرزدق قال لسليمان: أيا أمير المؤمنين، هب لي هذا الأسير. فوهبه له فاعتقه، وقال الأبيات التي تقدم ذكرها، ثم أقبل على رواته وأصحابه فقال: كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال:

بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع                      ضربت ولم تضرب بسيف ابنه ظالم

ضربت به عند الإمام بـأرعـشـت                      يداك وقالوا محدث غـير صـارم قال: فما لبثنا غير مدة يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها هذان البيتان، فعجبنا من فطنة الفرزدق.

وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا محمد بن عيسى بن حمزة العلوي، قال: حدثنا أبو عثمان المازني قال: زعم جهم بن خلف أن رؤية بن العجاج حدثه. فذكر هذه القصيدة وزاد فيها.

قال: واستوهب الفرزدق الأسير فوهبه له سليمان، فأعتقه وكساه، وقال قصيدته التي يقول فيها:

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم                      إذا أثقل الأعناق حمل المغارم قال: وقال في ذلك:

تباشر يربوع بنـبـوة ضـربة                      ضربت بها بين الطلا والحراقد

ولو شئت قد السيف ما ين عنقه                      إلى علق بين الحجابين جامـد

فإن ينب سيف أوتر اخت منـية                      لميقات نفس حتفها غير شاهد

فسيف بني عبس وقد ضربوا به                      نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد قال: وقال في ذلك:

أيضحك الناس أن أضحكت سيدهم                      خليفة الله يستقى به الـمـطـر

فما نبا السيف عن جبن ولا دهش                      عند الإمام ولكن أحـر الـقـدر

 

صفحة : 1738

 

 

ولو ضربت به عمرا مـقـلـده                      لخر جثمانه ما فـوقـه شـعـر

وما يقدم نفسا قبـل مـيتـتـهـا                      جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر فأما يوم الجونين الذي ذكره جرير، فهو اليوم الذي أغار فيه عتيبة بن الحارث بن شهاب على بني كلاب، وهو يوم الرغام .

أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي، عن السكري عن ابن حبيب، ودماذ عن أبي عبيدة عن إبراهيم بن سعدان عن أبيه: أن عتيبة بن الحارث بن شهاب أغار في بني ثعلبة بن يربوع على طوائف من بني كلاب يوم الجونين فاطرد إبلهم، وكان أنس بن العباس الأسم، اخو بني رعل من بني سليم، مجاورا في بني كلاب، وكان بين بني ثعلبة بن يربوع وبين بني رعل عهد: لا يسفك دم ولا يؤكل مال. فلما سمع الكلابيون الدعوى: يال ثعلبة يال عبيد يال جعفر  عرفوهم، قالوا لأنس بن العباس: قد عرفنا ما بين بني رعل وبني ثعلبة بن يربوع، فادركهم فاحسبهم علينا حتى نلحق. فخرج أنس في آثارهم حتى أدركهم، فلما دنا منهم قال عتيبة بن الحارث لأخيه حنظلة: أغن عنا هذا الفارس فاستقبله حنظلة فقال له أنس: إنما أنا أخوكم وعقيدكم، وكنت في هؤلاء القوم فأغرتم على إبلي فيما أغرتم عليه، وهو معكم. فرجع حنظلة إلى أخيه فأخبره الخبر فقال له: حياك الله، وهلم فوال إبلك ، أي اعزلها.

قال: والله ما أعرفها، وبنو أخي وأهل بيتي معي وقد أمرتهم بالركوب في أثري، وهم أعرف بها مني. فطلع فوارس بني كلاب فاستقبلهم حنظلة بن الحارث في فوارس فقال لهم أنس: إنما هم بني وبنو أخي . وإنما يربثهم لتلحق فوارس بني كلاب. فلحقوا فحمل الحوثره بن قيس بن جزء بن خالد بن جعفر على حنظلة فقتله ، وحمل لأم بن سلمة أخو بني ضبارى بن عبيد بن ثعلبة على الحوثرة هو وابن مزنة أخو بني عاصم بن عبيد، فأسراه ودفعاه إلى عتيبة فقتله صبرا، وهزم الكلابيون ومضى بنو ثعلبة بالإبل وفيها إبل أنس، فلم تقر أنسا نفسه حتى اتبعهم رجاء أن يصيب منهم غرة وهم يسيرون في شجراء . فتخلف عتيبة لقضاء حاجته، وامسك برأس فرسه فلم يشعر إلا بأنس قد مر في آثارهم، فتقدم حتى وثب عليه فأسره، فأتى به عتيبة أصحابه فقال بنو عبيدة: قد عرفنا أن لأم بن سلمة وابن مزنة قد أسرا الحوثرة فدفعاه إليك فضربت عنقه؛ فأعقبهما في أنس بن عباس، فمنقتلته خير من أنس. فأبى عتيبة أن يفعل ذلك حتى افتدى أنس نفسه بمائتي بعير.

فقال العباس بن مرداس يعير عتيبة بن الحارث بفعله:

كثر الضجاج وما سمعت بغادر                      كعتيبة بن الحارث بن شهـاب

جللت حنظلة المخانة والخـنـا                      ودنست آخر هذه الأحـقـاب

وأسرتم أنسا فمـا حـاولـتـم                      بإسار جاركم بني المـيقـات - الميقاب: التي تلد الحمقى. والوقب: الأحمق-.

 

باست التي ولدتك واست معاشر                      تركوك تمرسهم من الأحساب فقال عتيبة بن الحارث:

غدرتـم غـدرة وغــدرت أخـــرى                      فلـيس إلـى تـوافـينـا ســبـــيل

كأنكم غداة بني كلابتفاقد تم علي لكم دليل قوله: تفاقدتم، دعاء عليهم أن يفقد بعضهم بعضا.

 

وبالعفر دار من جميلة هـيجـت                      سوالف حب في فؤادك منصـب

وكنت إذا ناءت بها غربة النـوى                      شديد القوى لم تدرما قول مشغب

كريمة حر الوجه لم تدع هالـكـا                      من القوم هلكا في غد غي معقب

أسيلة مجرى الدمع خمصانة الحشا                      بروق الثنايا ذات خلق مشرعـب العفر : منازل لقيس بالعالية. سوالف: مواض. يقول: هيجت حبا قد كان ثم انقطع. ومنصب: ذو نصب. ونأت وناءت وبانت بمعنى واحد، أي بعدت. ومشغب عليك وخلاف في حبها. ويروى: مشعب أي متعدد يصرفك عنها. وقوله: لم تدع هالكا أي لم تندب هالكا هلك فلم يخلف غيره ولم يعقب. ومعنى ذلك أنها في عدد وقوم يخلف بعضهم بعضا في المكارم، لا كمن إذا مات سيد قومها أو كريم منهم لم يقم أحد منهم مقامه. والمشرعب: الجسيم الطويل. والشرعبي: الطويل.

الشعر لطفيل الغنوي، والغناء لجميلة ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. وذكره حماد عن أبيه لها ولم يجنسه. وروى إسحاق عن ابيه عن سياط عن يونس أن هذا أحسن صوت صنعته جميلة.

 

نسب الطفيل الغنوي وأخباره

 

 

صفحة : 1739

 

قال ابن الكبي: هو طفيل بن عوف بن كعب بن خلف بن ضبيس بن خليف بن مالك بن سعد بن عوف بن كعب بن غنم بن غني بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان.

ووافقه ابن حبيب في النسب إلا في خلف بن ضبيس فإنه لم يذكر خلفا وقال: هو طفيل بن عوف بن ضبيس. قال أبو عبيدة: اسم غني عمرو ، واسم أعصر منبه، وإنما سمي أعصر لقوله:

قالت عميرة ما لرأسك بعدما                      فقد الشبباب أتعى بلون منكر

أعمير إن أباك غـير راسـه                      مر الليالي واختلاف الأعصر فسمي بذلك.

وطفيل شاعر جاهلي من الفحول المعدودين، ويكنى أبا قران، يقال إنه من أقدم شعراء قيس. وهو من أوصف العرب للخيل.

أخبرني هاشم بن محمد بن هارون بن عبد الله بن مالك أبو دلف الخزاعي، قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن قريب الأنصاري قال: قال لي عمي: إن رجلا من العرب سمع الناس يتذاكرون الخيل ومعرفتها والبصر بها، فقال: كان يقال إن طفيلا ركب الخيل ووليها لأهله، وإن أبا دواد الأيادي ملكها لنفسه ووليها لغيره، كان يليها للملوك، وان النابغة الجعدي لما أسلم الناس وآمنوا اجتمعوا وتحدثوا ووصفوا الخيل، فسمع ما قالوه فأضافه إلى ما كان سمع وعرف قبل ذلك في صفة الخيل. وكان هؤلاء نعات الخيل.

أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عبد الرحمن، قال حدثني عمي قال: كان طفيل أكبر من النابغة: وليس في قيس فحل أقدم منه.

قال: وكان معاوية يقول: خلوا لي طفيلا وقولوا ما شئتم في غيره من الشعراء.

أخبرني عبد الله بن مالك النحوي قال: حدثنا محمد بن حبيب قال: كان طفيل الغنوي يسمى طفيل الخيل لكثرة وصفه إياها.

أخبرني محمد بن الحسين الكندي خطيب مسجد القادسية، قال: حدثني الرياشي قال: حدثني الأصمعي قال: كان أهل الجاهلية يسمون طفيلا الغنوي المحبر؛ لحسن وصفه الخيل .

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن يزيد قال: قال أبو عبيدة: طفيل الغنوي، والنابغة الجعدي، وأبو دواد الإبادي، أعلم العرب بالخيل وأوصفهم لها.

أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدثنا العمري عن لقيط قال: قتيبة بن مسلم للأعرابي من غني قدم عليه من خراسان: أي بيت قالته العرب أعف? قال: قول طفيل الغنوي:

ولا أكون وكاء الزاد أحبسه                      لقد علمت بأن الزاد مأكول قال: فأي بيت قالته العرب في الحرب أجود? قال: قول طفيل:

بحي إذا قيل اركبوا لم يقل لـهـم                      عوارير يخشون الردى أين نركب قال: فأي بيت قالته العرب في الصبر أجود? قال: قول نافع بن خليفة الغنوي:

ومن خير ما فينا من الأ مر أنـنـا                      متى ما نوافي موطن الصبر نصبر قال: فقال قتيبة: ما تركت لأخوانك من بالهلة? قال: قول صاحبهم:

وإنا أناس ما تزال سوامـنـا                      تنور نيرآن العدو مناسـمـه

وليس لنا حي نضاف إلـيهـم                      ولكن لنا عود شديد شكائمـه

حرام وإن صليته ودهـنـتـه                      تأوده ما كان في السيف قائمه وهذه القصيدة المذكورة فيها الغناء يقولها طفيل في وقعة أوقعها قومه بطيىء، وحرب كانت بينه وبينهم.

وذكر أبو عمرو الشيباني والطوسي فيما رواه عن الأصمعي وابي عبيدة: أن رجلا من غني يقال له قيس الندامى ، وفد على بعض الملوك، وكان قيس شيدا جوادا، فلما حفل المجلس أقبل الملك على من حضره من وفود العرب فقال: لأضعن تاجي على أكرم رجل من العرب، فوضعه على رأس قيس وأعطاه ما شاء، ونادمه مدة، ثم أذن له في الانصراف إلى بلده، فلما قرب من بلاد طيىء خرجوا إليه وهم لا يعرفونه، فلقوه برمان فقتلوه، فلما علموا أنه قيس ندموا لأ ياديه كانت فيهم، فدفنوه وبنوا عليه بيتا.

ثم إن طفيلا جمع جموعا من قيس فأغار على طيىء فاستاق من مواشيهم ما شاء، وقتل منهم قتلى كثيرة. وكانت هذه الوقعة بين القنان وشرقي سلمى ، فذلك قول طفيل في هذه القصيدة:

فذوقوا كما ذقنا غادة محجـر                      من الغيظ في أكبادنا والتحوب

فبالقتل قتل والسوام بمـثـلـه                      وبالشل شل الغائط المتصوب أخبرني علي بن الحسن بن علي قال: حدثنا الحارث بن محمد، عن المدائني، عن سلمة بن محارب قال:

 

صفحة : 1740

 

لما مات محمد بن يوسف جزع عليه الحجاج جزعا شديدا، ودخل الناس عليه يعزونه ويسلونه، وهو لا يسلو ولا يزداد إلا جزعا وتفجعا، وكان فيمن دخل عليه رجل كان الحجاج قتل ابنه يو الزاوية، فلما رأى جزعه وقة ثباته للمصيبة شمت به وسر لما ظهر له منه، وتمثل بقول طفيل:

فذوقوا كما ذقنا غداة محجـر                      من الغيظ في أكبادنا والتحوب وفي هذه القصيدة يقول طفيل:

ترى العين ما تهوى وفيها زيادة                      من اليمن إذا تبدو وملهى لملعب

وبيت تهب الريح في حجراتـه                      بأرض فضاء بابه لم يحـجـب

سماوته أسمال بـرد مـحـبـر                      وصهوته من اتحمي معصـب أخبرني عيسى بن الحسين بن الوراق قال: حدثنا الرياشي عن العتبي عن أبيه قال: قال عبد الملك بن مروان لولده وأهله: أي بيت ضربته العرب على عصابة ووصفته أشرف جواء، وأهلا وبناء? فقالوا فأكثروا، وتكلم من حضر فأطلوا، فقال عبد الملك: اكرم بيت وصفته العرب بيت طفيل الذي يقول فيه:

وبيت تهب الريح في حجـراتـه                      بأرض فضاء بابه لـم يحـجـب

سماوته أسمـال بـرد مـحـبـر                      وصهوته من أتحمي معـصـب

وأطنابه أرسان جـرد كـأنـهـا                      صدور القنا من بادىء ومعقـب

نصبت على قوم تدر رماحـهـم                      عروق الأعادي من غرير وأشيب وقال أبو عمرو الشيباني: كانت فزارة لقبت بني أبي بكر بن كلاب وجيرانهم من محارب، فأوقعت بهم وقعة عظيمة، ثم ادركتهم عني فاستنقذتهم، فلما قتلت طيىء قيس الندامى، وقتلت بنو عبس هريم بن سنان بن عمرو بن يربوع بن طريف بن خرشة بن عبيد بن سعد بن كعب بن جلان بن غنم بن غني، وكان فارسا حسيبا قد ساد ورأس، قتله ابن هدم العبسي طريد الملك، فقال له الملك ،: كيف قتلته? قال: حملت عليه في الكبة، وطعنته في السبة، حتى خرج الرمح من اللبة . وقتل أسماء بن واقد بن رفيد بن رياح بن يربوع بن ثعلبة بن سعد بن عوف بن كعب بن جلان، وهو من النجوم، وحصن بن يربوع بن طريف وأمهم جندع بنت عمرو بن الأغر بن مالك بن سعد بن عوف. فاستغاثت غني ببني أبي بكر وبني محارب فقعدوا عنهم، فقال طفيل في ذلك يمن عليهم بما كان منهم في نصرتهم، ويرثي القتلى، قال:

تأوبني هم من الليل مـنـصـب                      رجاء من الأ خبار ما لا أكـذب

تتابعن حتى لم تـكـن لـي ريبة                      ولم يك عما خبروا متـعـقـب

وكان هريم من سنـان خـلـيفة                      وحصن ومن أسماء لما تغيبـوا

ومن قيس الثاوي برمان بـيتـه                      ويوم حقيل فا آخر مـعـجـب

أشم طويل السـاعـدين كـأنـه                      فنيق هجان في يديه مـركـب

وبالسهب ميمون النقيبة قـولـه                      لملتمس المعروف أهل ومرحب

كواكب دجن كلما انقض كوكب                      بدا وانجلت عنه الدجنة كوكـب الغناء لسليم أخي بابويه، ثاني ثقيل عن الهشامي. وهي قصيدة طويلة، وذكرت منها هذه الأبيات من أجل الغناء الذي فيها. ومن مختار مرثيته فيها قوله:

لعمري لقد خلى ابن جندع ثلمة                      ومن أين إن لم يرأب الله ترأب

نداماي أمسوا قد تخليت عنـهـم                      فكيف ألد الخمر أم كيف أشرب

مضوا سلفا قصد السبيل عليهـم                      وصرف المنايا بالرجال تقلـب

فديت مـن بـات يغـنـينــي                      وبـت أسـقـيه ويسـقـينـي

ثم اصطبحنا قهـوة عـتـقـت                      من عهـد سـابـور وشـيرين الشعر والغناء لمحمد بن حمزة بن نصير وجه القرعة، ولحنه فيه رمل أول بالبنصر، لا نعرف له صنعة غيره.

 

نسب محمد بن حمزة بن نصير الوصيف

 

وأخباره

نسب محمد بن حمزة وتلقيبه وجه القرعة هو محمد بن حمزة بن نصير الوصيف مولى المنصور، ويكنى أبا جعفر، ويلقب وجه القرعة.

وهو أحد المغنين الحذاق الضراب الرواة. وقد أخذ عن إبراهيم الموصلي وطبقته، وكان حسن الأداء طيب الصوت، لا علة فيه، إلا أنه كان إذا غنى الهزج خاصة خرج بسبب لا يعرف ، إلا لآفة تعرض للحس في جنس من الأجناس فلا يصح له بتة.

 

 

صفحة : 1741

 

فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن إسحاق بن محمد الهاشمي حدثه عن أبيه، أنه شهد إسحاق بن إبراهيم الموصلي عند عمه هارون بن عيسى، وعنده محمد بن الحسن بن مصعب، قال: فأتانا محمد بن حمزة وجه القرعة، فسر به عمي . وكان شرس الخلق أبي النفس، فكان إذا سئل الغناء أباه، فإذا أمسك عنه كان هو المبتدىء به، فأمسكنا عنه حتى طلب العود فأتي به فغنى، وقال:

مربي سرب ظباء                      رائحات من قباء قال: وكان يحسنه ويجيده، فجعل إسحاق يشرب ويستعيده حتى شرب ثلاثة أرطال ثم قال: أحسنت يا غلام، هذا الغناء لي وانت تتقدمني فيه، ولا يخلق الغناء ما دام مثلك ينشأ فيه .

قال: وحدثني إسحاق الهاشمي عن أبيه قال: كنا في البستان المعروف ببستان خالص النصراني ببغداد،ومعنا محمد بن حمزة وجه القرعة، فيغنينا قوله:

يا دار أقفر رسمـهـا                      بين المحصب والحجون

يا بشر إني فاعلـمـي                      والله مجتهدا يمـينـي فإذا برجل راكب على حمار يؤمنا وهو يصيح: أحسنت يا أبا جعفر، أحسنت والله فقلنا: اصعد إلينا كائنا من كنت. فصعد وقال: لو منعتموني من الصعود لما امتنعت. ثم سفر اللثام عن وجهه فإذا هو مخارق، قال: يا أبا جعفر أعد علي صوتك. فأعاده فشرب رطلا من شرابنا وقال: لو لا أني مدعو الخليفة لأ قمت عندكم واستمعت هذا الغناء الذي هو أحسن من الزهر، غب المطر.

منها:

مر بي سرب ظباء                      رائحات من قباء

زمرا نحو المصلى                      يتمشـين حـذائي

فتجاسرت والقـي                      ت سرابيل الحياء

وقديما كان لهـوي                      وقتوني بالنسـاء الغناء لإسحاق مما لا يشك فيه من صنعته، ولحنه من ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وذكر محمد بن أحمد المكي أنه لجده يحيى. وذكر حبش أن فيه لا بن جامع ثاني ثقيل بالوسطى.

 

يا بشر إني فاعلـمـي                      والله مجتهدا يمـينـي

ما إن صرمت حبالكـم                      فصلي حبالي أو ذريني

استبدلوا طلب الحـجـا                      زوسرة البلـد الأمـين

بحـدائق مـحـفـوفة                      بالبيت من عنب وتـين

يا دار أقفر رسمـهـا                      بين المحصب والحجون

أقـوت وغـير آيهــا                      طول التقادم والسنـين الشعر للحارث بن خالد، والغناء لابن جامع في الأربعة الأبيات الأول، رمل بالوسطى، ولا بن سريج في الخامس والسادس والأول والثاني ثقيل أول بالبنصر.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني الفضل بن المغني، عن محمد بن جبر قال: دخلنا على إسحاق بن إبراهيم الموصلي نعوده من علة كان وجدها، فصادفنا عنده مخارفا، وعلوية، وأحمد بن المكي وهم يتحدثون، فاتصل الحديث بينهم، وعرض إسحاق عليهم أن يقيموا عنده ليتفرج بهم، ويخرج إليهم ستارته يغنون من ورائها، ففعلوا وجاء محمد بن حمزة وجه القرعة على بقية ذلك فاحتبسه إسحاق معهم، ووضع النبيذ وغنوا، فغنى أو علوية صوتا من الغناء القديم، فخالفه محمد فيه وفي صانعه، وطال مراؤهما في ذلك، وإسحاق ساكت، ثم تحاكما إليه فحكم لمحمد وراجعه علوية، فقال له إسحاق: حسبك، فوالله ما فيكم أدرى بما يخرج من رأسه منه. ثم غنى أحمد بن يحيى المكي قوله:

قل للجمانة لا تعجل بإسراج فقال محمد: هذا اللحن لمعبد ولا يعرف له هزج غيره. فقال أحمد: أما على ما شرط أبو محمد آنفا من أنه ليس في الجماعة أدرى بما يخرج من رأسه منك فلا معارض لك. فقال له إسحاق: يا أبا جعفر، ما عنيتك والله فيما قلت، ولكن قد قال إنه لا يعرف لمعبد هزج غير هذا، وكلنا نعلم إنه لمعبد، فأكذبه أنت بهزج آخر له مما لا يشك فيه. فقال أحمد: ما أعرف.

قال محمد بن الحسن: وحدثني إسحاق الهاشمي عن أبيه:

 

صفحة : 1742

 

أن محمدا دخل معه على إسحاق الموصلي مهنءا له بالسلامة من علة كان فيها، فدعا بعود فأمر به إسحاق فدفع إلى محمد، فغنى أصواتا للقدماء وأصواتا لإبراهيم، وأصواتا لإسحاق، في إيقاعات مختلفة، فوجه إسحاق خادما بين يديه إلى جواري أبيه، فخرجن حتى سمعنه من وراء حجاب، ثم ودعه وانصرف، فقال إسحاق للجواري: ما عنكن في هذا الفتى? فقلن: ذكرنا و الله أباك فيما غناه. فقال: صدقتن. ثم أقبل علينا فقال: هو مغن محسن، ولكنه لا يصلح للمطارحة لكثرة زوائده، ومثله إذا طارح جسر الذي يأخذ عنه فلم ينتفع له، ولكنه ناهيك به من مغن مطرب.

قال إسحاق: وحدثت أنه صار إلى مخارق عائدا، فصادف عنده المغنين جميعا، فلما طلع تغامزوا عليه، فسلم على مخارق وسأله به، فأقبل عليه مخارق ثم قال له: يا أبا جعفر، إن جواريك اللواتي في ملكي قد تركن الدرس من مدة، فأحب أن تدخل إليهن وتأخذ عليهن وتصلح من غنائهن. ثم صاح بالخدم فسعوا بين يديه إلى حجرة الجواري، ففعل ما سأله مخارق، ثم خرج فأعلمه أنه قد أتى ما احبه، والتفت إلى المغنين فقال: قد رأيت غمزكم، فهل فيكم أحد رضي أبو المهنا أعزه الله حذقه وأدبه وأمانته، ورضيه لحواريه غيري? ثم ولى فكأنما ألقمهم حجرا، فما أجابه أحد.

 

عفت الديار محلها فمقامـهـا                      بمنى تأبد غولها فرجـامـهـا

فمدافع الريان عري رسمـهـا                      خالقا كما ضمن الوحي سلامها

فاقنع بما قسم الإ له فـإنـمـا                      قسم الخلائق بيننا عـلامـهـا عروضه من الكامل. عفت: درست. ومنى: موضع في بلاد بني عامر، وليس منى مكة. تأبد: توحش والغول والرجام: جبلان بالحمى. والريان: واد. مدافعه: مجاري الماء فيه. وعري رسمها، اي ترك وارتحل عنه. يقول: عري من أهله. وسلامها: صخورها، واحدتها سلمة.

الشعر للبيد بن ربيعة العامري، والغناء لابن سريج، رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيه لابن محرز خفيف رمل أول بالوسطى عن حبش، وذكر الهشامي إن فيه رملا آخر للهذلي في الثالث والأول.

 

نسب لبيد وأخباره

هو لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر.

وكان يقال لأ بيه ربيع المقترين لجوده وسخائه. وقتلته بنو أسد في الحرب التي كانت بينهم وبين قومهم وقومه.

وعمه أبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة، سمي بذلك لقول أوس بن حجر فيه:

فلا عب أطراف الأسنة عامر                      فراح له حظ الكتيبة أجمـع وأم لبيد تامرة بنت زنباع العبسية، إحدى بنات جذيمة بن رواحة.

ولبيد أحد شعراء الجاهلية المعدودين فيها والمخضرمين ممن أدرك الإسلام، وهو من أشراف الشعراء المجيدين الفرسان القاء المعمرين، يقال إنه عمر مائة وخمسا وأربعين سنة.

أخبرني بخبره في عمره أحمد بن عبد العزيزي الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم. وأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد، عن علي بن الصباح، عن ابن الكلبي، وعن علي بن المسور عن الأصمعي، وعن رجال ذكرهم، منهم أبو اليقظان وابن دأب، وابن جعدبة، والوقاصي.

أن لبيد بن ربيعة قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد بني كلاب بعد وفاة أخيه أربد وعامر بن الطفيل، فأسلم وهاجر وحسن إسلامه، ونزل الكوفة أيام عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فأقام بها. ومات بها هناك في آخر خلافة معاوية، فكان عمره مائة وخمسا وأربعين سنة، منها تسعون سنة في الجاهلية، وبقيتها في الإسلام.

قال عمر بن شبة في خبره: فحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم أن لبيدا قال حين بلغ سبعا وسبعين سنة:

قامت تشكى إلي النفس مجهشة                      وقد حملتك سبعا بعد سبعينـا

فإن تزادي ثلاثا تبلغـي أمـلا                      وفي الثلاث وفاء للثمانـينـا فلما بلغ التسعين قال:

كأني وقد جاوزت عشرين حجة                      خلعت بها عن منكبـي ردائيا فلما بلغ مائة وعشرا قال:

أليس في مائة قد عاشها رجل                      وفي تكامل عشر بعدها عمر فلما جاوزها قال:

ولقد سئمت من الحاة وطولها                      وسؤال هذا الناس كيف لبيد

 

صفحة : 1743

 

 

غلب الرجال وكان غير مغلب                      دهر طـويل دائم مـمـدود

يوما أرى يأتي علـي ولـيلة                      وكلاهما بعد المضاء يعـود

وأراه يأتي مثل يوم لـقـيتـه                      لم ينتقص وضعفت وهو يزيد أخبرني محمد بن دريد قال حدثنا أبو حاتم السجستاني قال حدثنا الأصمعي قال: وفد عامل بن مالك ملاعب الأسنة، وكان يكنى أبا البراء، في رهط من بني جعفر، ومعه لبيد بن ربيعة، ومالك بن جعفر، وعامر بن مالك عم لبيد، على النعمان، فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسي وأمه فاطمة بنت الخرشب، وكان الربيع نديما للنعمان مع رجل من تجار الشام يقال له زرجون بن توفيل ، وكان حريفا للنعمان يبايعه ، وكان أديبا حسن الحديث والندام، فاستخفه النعمان، وكان إذا أراد أن يخلو على شرابه بعث إليه وإلى النطاسي: متطبب كان له، وإلى الربيع بن زياد فخلا بهم، فلما قدم الجعفريون كانوا يحضرون النعمان لحاجتهم، فإذا خرجوا من عنده خلا به الربيع فطعن فيهم وذكر معايبهم، وكانت بنو جعفر له أعداء ، فلم يزل بالنعمان حتى صده عنهم، فدخلوا عليه يوما فرأوا منه جفاء، وقد كان يكرمهم ويقربهم، فخرجوا غضابا ولبيد متخلف في رحالهم يحفظ متعاعهم، ويغدوا بإبلهم كل صباح يرعاها، فأتاهم ذات ليلة وهم يتذكرون أمر الربيع، فسألهم عنه فكتموه، فقال: والله لا حفظت لكم متاعا، ولا سرحت لكم بعيرا أو تخبروني فيم أنتم? وكانت أم لبيد يتيمة في حجر الربيع، فقالوا: خالك قد غلبنا على الملك وصد عنا وجهه. فقال لبيد: هل تقدرون على أن تجمعوا بيني وبينه فأزجره عنكم بقول ممض لا يلتفت إليه النعمان أبدا? فقالوا: وهل عندك شيء? قال: نعم.

قالوا: فإنا نبلوك. قال: وما ذاك? قالوا: تشتم هذه البقلة - وقدامهم بقلة دقيقة القضبان، قليلة الورق، لاصقة بالأرض، تدعى التربة - فقال: هذه التربة التي لا تذكي نارا ولا تؤهل دارا، ولا وتسر جارا، عودها ضئيل، وفرعها كليل، وخيرها قليل، أقبح البقول مرعى، وأقصرها فرعا، وأشدها شاسع، وآكلها جائع، والمقيم عليها قانع، فالقوا بي أخا عبس، أرده عنكم بتعس، وأتركه من أمره في لبس. قالوا: نصبح ونرى فيك رأينا فقال عامر: انظروا إلى غلامكم هذا - يعني لبيدا - فإن رأيتموه نائما فليس أمره بشيء، إنما هو يتكلم بما جاء على لسانه، وإن رأيتموه ساهرا فهو صاحبه. فرمقوه فوجدوه وقد ركب رحلا وهو يكدم وسطه حتى أصبح، فقالوا: أنت والله صاحبه. فعمدوا إليه فحلقوا رأسه وتركوا ذؤابته، وألبسوه حلة ثم غدا معهم وأدخلوه على النعمان، فوجدوه يتغدى ومعه الربيع بن زياد، وهما يأكلان لا ثلث لهما، والدار والمجالس مملوءة من الوفود، فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه، وقد كان أمرهم تقارب، فذكروا الذي قدموا له من حاجتهم، فاعترض الربيع بن زياد في كلامهم، فقال لبيد في ذلك:

أكل يوم هامتـي مـقـزعـه                      يا رب هيجاهي خير من دعه

نحن بني أم البـنـين الأربـعة                      سيوف حزوجفان مـتـرعـه

نحن خيار عامر بن صعصـعة                      الضاربون الهام تحت الخيضعة

والمطمعون الجفنة المدعدعـه                      مهلا أبيت اللعن لا تأكل معـه

إن استه من برص ملـمـعـه                      وإنه يدخل فيهـا إصـبـعـه

يدخلها حتى يواري أشجـعـه                      كأنه يطلـب شـيئا ضـيعـه فرفع النعمان يده من الطعام وقال: خبثت والله علي طعامي يا غلام؛ وما رأيت كاليوم. فأثبل الربيع على النعمان فقال: كذب والله ابن الفاعلة ، ولقد فعلت بأمه كذا. فقال له لبيد: مثلك فعل ذلك بربيبة أهلة والقريبة من أهله، وإن أمي من نساء لم يكن فواعل ما ذكرت. وقضى النعمان حوائج الجعفريين، ومضى من وقته وصرفهم، ومضى الربيع بن زياد إلى منزله من وقته، فبعث إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه، وأمره بالا نصراف إلى أهله، فكتب إليه الربيع: إني قد عرفت أنه قد وقع في صدرك ما قال لبيد، وإني لست بارحا حتى تبعث إلي من يجردني فيعلم من حضرك من الناس أني لست كما قال لبيد. فأرسل إليه: إنك لست صانعا بانتفائك مما قال لبيد شيئا، ولا قادرا على رد ما زلت به الألسن، فالحق بأهلك. فلحق بأهله ثم أرسل إلى النعمان بأبيات شعر قالها، وهي:

 

صفحة : 1744

 

 

لئن رحلت جمال لا إلـى سـعة                      ما مثلها سعة عرضا ولا طـولا

بحيث لو وردت لخم بأجمعـهـا                      لم يعدلوا ريشة من ريش سمويلا

ترعى الروائم أحرار البقول بهـا                      لا مثل رعيكم ملحا وغـسـويلا

فاثبت بأرضك بعدي واخل متكئا                      مع النطاسي طورا وابن توفيلا فأجابه النعمان بقوله:

شرد برحلك عـنـي حـيث شـئت ولا                      تكثر علـي ودع عـنـك الأبـاطـيلا

فقد ذكرت بـشـيء لـسـت نـاسـيه                      ما جاورت مصر أهل الشام والـنـيلا

فما انتفاؤك منه بـعـد مـا جـزعـت                      هوج المطي به نحو ابـن سـمـويلا

قد قـيل ذلـك إن حـقـا وإن كـذبـا                      فما اعـتـذارك مـن قـول إذا قـيلا

فالحق بـحـيث رأيت الأرض واسـعة                      فانشر بها الطرف إن عرضا وإن طولا قال: وقال لبيد يهجو الربيع بن زياد - ويزعمون أنها مصنوعة. قال:

ربيع لا يسقك نحوي سـائق                      فتطلب الأ ذحال والحقـائق

ويعلم المعيا به والـسـابـق                      ما أنت إن ضم عليك المازق

إلا كشيء عاقـه الـعـوائق                      إنك حاس حـسـوة فـذائق

لا بد أن يغمز منك العـاتـق                      غمزا ترى أنك منـه ذارق

إنك شيخ خـائن مـنـافـق                      بالمخزيات ظاهر مطابـق كان يخفي بعض شعره ثم أظهره وكان لبيد يقول الشعر ويقول: لا تظهروه، حتى قال:

عفت الديار محلها فمقامها وذكر ما صنع الربيع بن زياد، وضمرة بن ضمرة . ومن حضرهم من وجوه الناس، فقال لهم لبيد حينئذ: أظهروها.

قال الأصمعي في تفسير قوله: الخيضعة، أصله الخضعة بغير ياء، يعني الجلبة والأصوات، فزاد فيها الياء. وقال في قوله بالمخزيات ظاهر مطابق: يقال طابق الدابة، إذا وضع يديه ثم رفعهما فوضع مكانهما رجليه، وكذلك إذا كان يطأ في شوك. والمأزق: المضيق. والنازق: الخفيف.

نسخت من كتاب مروي عن أبي الحكم قال: حدثني العلاء بن عبد الله الموقع قال: اجتمع عند الوليد بن عقبة سماره وهو أمير الكوفة وفيهم لبيد، فسأل لبيدا عما كان بينه وبين الربيع بن زياد عند النعمان، فقال له لبيد: هذا كان من أمر الجاهلية وقد جاء الله بالإسلام. فقال له: عزمت عليك - وكانوا يرون لعزمة الأمير حقا - فجعل يحدثهم، فحسده رجل من غني فقال: ما علمنا بهذا. قال: أجل با أبن أخي، لم يدرك أبوك مثل ذلك، وكان أبوك ممن لم يشهد تلك المشاهد فيحدثك.

أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري قال: حدثني الهيثم عن ابن عياش عن محمد بن المنتشر قال: لم يسمع من لبيد فخره في الإسلام غير يوم واحد، فإنه كان في رحبة غني مستلقيا على ظهره قد سجى نفسه بثوبه، إذا أقبل شاب من غني فقال: قبح الله طفيلا حيث يقول:

جزى الله عنا جعفرا حيث أشرفت                      بنا نعلنا في الواطـين فـزلـت

أبوا أن يملونـا ولـو أن أمـنـا                      تلاقي الذي يلقون منا لـمـلـت

فذو المال موفور وكل معصـب                      إلى حجرات أدفـأت وأظـلـت

وقالت هلموا الدار حتى تبـينـوا                      وتنجلي الغماء عمـا تـجـلـت ليت شعري ما الذي رأى من بني جعفر حيث يقول هذا فيهم? قال: فكشف لبيد الثوب عن وجهه وقال: يا ابن أخي، إنك أدركت الناس وقد جعلت لهم شرطة يرعون بعضهم عن بعض، ودار رزق تخرج الخادم بجرابها فتأتي برزق أهلها، وبيت مال يأخذون منه أعطيتهم، ولو أدركت طفيلا يوم يقول هذا لم تلمه. ثم استلقى وهو يقول: أستغفر الله. فلم يزل يقول: أستغفر الله؛ حتى قام.

أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد قال: قال مر لبيد بالكوفة على مجلس بني نهد وهو يتوكأ على محجن له فبعثوا إليه رسولا يسأله عن أشعر العرب، فسأله فقال: الملك الضليل ذو القروح. فرجع فأخبرهم فقالوا: هذا امرؤ القيس. ثم رجع إليه فسأله: ثم من? فقال له: الغلام المقتول من بني بكر. فرجع فأخبرهم فقالوا: هذا طرفة. ثم رجع فسأله ثم من? قال: ثم صاحب المحجن، يعنى نفسه أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو عبيدة قال:

 

صفحة : 1745

 

لم يقل لبيد في الإسلام إلا سلام واحدا، وهو:

الحمد لله إذا لم ياتني أجـلـي                      حتى لبست من الإسلام سربالا أخبرني أحمد قال: أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي قال: حدثنا نصر بن دأب عن دواد بن أبي هند عن الشعبي قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة: أن استنشد من قبلك من شعراء مصرك ما قالوا في الإسلام. فأرسل إلى الأغلب الراجز العجلي، فقال له: أنشدني. فقال:

أرجزا تريد أم قصـيدا                      لقد طلبت هينا موجودا ثم أرسل إلى لبيد فقال: أنشدني. فقال: إن شئت ما عفي عنه - يعني الجاهلية - فقال: لا، أنشدني ما قلت في الإسلام. فانطلق فكتب سورة البقرة في صحيفة ثم أتى بها وقال: أيدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر.

فكتب بذلك المغيرة إلى عمر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد، فكان عطاؤه ألفين وخمسمائة، فكتب الأغلب: يا أمير المؤمنين أتنقص عطائي أن أطعتك? فرد عليه خمسائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة.

قال أبو زيد: وأراد معاوية أن ينقصه من عطائه لما ولي الخلافة، وقال: هذان الفودان- يعني الألفين - فما بال العلاوة? يعني الخمسمائة. فقال له لبيد: إنما أنا هامة اليوم أو غد، فأعرني اسمها ، فلعلي لا أقبضها أبدا فتبقى لك العلاوة والفودان . فرق له وترك عطاءه على حاله، فمات ولم يقبضه.

وقال عمر بن شبة في خبره الذي ذكره عن عبد الله بن محمد بن حكيم. وأخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم قالا: كان لبيد من جوداء العرب ، وكان قد آلى في الجاهلية أن لا تهب صبا إلآ أطعم، وكان له جفنتان يغدو بهما ويروح في كل يوم على مسجد قومه فيطعمهم، فهبت الصبا يوما والوليد بن عقبة على الكوفة، فصعد الوليد المنبر فخطب الناس ثم قال: إن أخاكم لبيد بن ربيعة قد نذر في الجاهلية ألا تهب صبا إلا أطعم، وهذا يوم من أيامه، وقد هبت صبا فأعينوه، وأنا أول من فعل. ثم نزل عن المنبر فأرسل إليه بمائة بكرة، وكتب إليه بأبيات قالها:

أرى الجزار يشحذ شفرتـيه                      إذا هبت رياح أبي عقـيل

أشم الأنف أصيد عـامـري                      طويل الباع كالسيف الصقيل

وفى ابن الجعفري بحلفتـيه                      على العلات والمال القلـيل

بنحر الكوم إذ سحبت علـيه                      ذيول صبا تجاوب بالأصيل فلما بلغت أبياته لبيدا قال لآبنته: أجيبيه، فلعمري لقد عشت برهة وما أعيا بجواب شاعر. فقالت ابنته:

إذا هبت رياح أبي عـقـيل                      دعونا عند هبتهـا الـولـيدا

أشم الأنف أروع عبشـمـيا                      أعان على مروءته لـبـيدا

بأمثال الهضاب كأن ركـبـا                      عليها من بني حام قـعـودا

أبا وهب جزاك اللـه خـيرا                      نحرناها فأطعمنا الـثـريدا

فعد إن الكريم لـه مـعـاد                      وظني يا ابن أروى أن تعودا فقال لها لبيد: أحسنت لولا أنك استطعمته. فقالت: إن الملوك لا يستحيا من مسألتهم. فقال: وأنت يا بنية في هذه أشعر.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال: حدثني القاسم بن يعلي عن المفضل الضبي قال: قدم الفرزدق فمر بمسجد بني أقيصر، وعليه رجل ينشد قول لبيد:

وجلا السيول عن الطلول كأنها                      زبر تجد متونها أقـلامـهـا فسجد الفرزدق فقيل له: ما هذا يا أبا فراس? فقال: أنتم تعرفون سجدة القرآن، وأنا أعرف سجدة الشعر.

أخبرنا أحمد بن عبد الله بن عمار قال: حدثنا يعقوب الثقفي، وابن عياش، وسمعر بن كدام، كلهم عن عبد الملك بن عمير قال:

 

صفحة : 1746

 

أخبرني من أرسله القراء الأشراف - قال الهيثم: فقلت لابن عياش: من القراء الأشراف? قال: سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري ، وخالد بن عرفطة الزهري، ومسروق بن الأجدع الهمداني، وهانئ بن عروة المرادي - إلى ربيعة وهو في المسجد، وفي يده محجن فقلت: يا أبا عقيل، إخوانك يقرونك السلام ويقولون: أي العرب أشعر? قال: الملك الضليل ذو القروح. فردوني إليه وقالوا: ومن ذو القروح? قال: امرؤ القيس. فأعدوني إليه وقالوا: ثم من? قال: الغلام ابن ثمان عشرة سنة. فردوني إليه فقلت: ومن هو? فقال: طرفة. فردوني إليه فقلت: ثم من? قال: صاح المحجن حيث يقول:

إن تقوى ربنا خير نـفـل                      وبإذن الله ريثي وعجـل

أحمد الـلـه ولا نـد لـه                      بيديه الخير ما شاء فعـل

من هداه سبل الخير اهندى                      ناعم البال ومن شاء أضل يعني نفسه. ثم قال: أستغفر الله.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشعبي قال: حدثنا عمر بن شبة عن ابن البواب قال: جلس المعتصم يوما للشراب، فعناه عض المغنين قوله:

وبنو العباس لا بأتون لا                      وعلى ألسنهم خفت نعم

زينت أحلامهم أحسابها                      وكذاك الحلم زين للكرم فقال: ما أعرف هذا الشعر، فلمن هو? قيل: للبيد. فقال: وما للبيد وبني العباس? قال المغني: إينما قال:

وبنو الديان لا يأتون فجعلته وبنو العباس. فاستحسن فعله ووصله.

وكان يعجب بشعر لبيد فقال: من منكم يروي قوله:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالع فقال بعض الجلساء: أنا . فقال: أنشدنيها. فأنشد:

بلينا وما تبلى النجوم الطوالـع                      وتبقى الجبال بعدنا والمصانـع

وقد كنت في أكناف جار مضنة                      ففارقني جار بـأريد نـافـع فبكى المعتصم حتى جرت دموعه، وترحم على المأمون، وقال: هكذا كان رحمة الله عليه ثم اندفع وهو ينشد باقيها ويقول:

فلا جزع إن فرق الدهر بـينـنـا                      فكل امرىء يوما له الدهر فاجـع

وما الناس إلا كالـديار وأهـلـهـا                      بها يوم حلوها وبـعـد بـلا قـع

ويمضون أرسالا ونخلف بعـدهـم                      كما ضم إحدى الراحتين الأصابـع

وما المرء إلا كالشهـاب وضـوئه                      يحور رمادا بعد إذ هـو سـاطـع

وما البر إلا مضمرات من التـقـى                      ومـا الـمـال إلا عـاريات ودائع

أليس ورائي إن تراخت مـنـيتـي                      لزوم العصا تحنى عليها الأصابـع

أخبر أخبار القرون التي مـضـت                      أدب كأني كلمـا قـمـت راكـع

فأصبحت مثل السيف أخلق جفـنـه                      تقادم عهد القين والنصل قـاطـع

فلا تبعدن إن الـمـنـية مـوعـد                      علينا فدان للـطـلـوع وطـالـع

أعـاذل مـا يدريك إلا تـظـنــيا                      إذا رحل الفتيان من هـو راجـع

أتجزع مما أحدث الدهر بالـفـتـى                      وأي كريم لم تصـبـه الـقـوارع

لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى                      ولا زاجرات الطير ما الله صانـع قال: فعجبنا والله من حسن ألفاظه، وصحة إنشاده، وجودة اختياره.

أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه. وحدثنا محمد بن جرير الطبري قال: حدثنا محمد بن حميد الرازي قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق قال : كان عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة، فتفكر يوما في نفسه فقال: والله ما ينبغي لمسلم أن يكون آمنا في جوار كافر ورسول الله صلى الله عليه وسلم خائف. فجاء إلى الوليد بن المغيرة فقال له: أحب أن تبرأ من جواري. قال: لعله رابك ريب. قال: لا، ولكن أحب أن تفعل. فقال: فاذهب بنا حتى أبرأ منك حيث أجرتك . فخرج معه إلى المسجد الحرام فلما وقف على جماعة قريش قال لهم: هذا ابن مظعون قد كنت أجرته ثم سألني أن أبرأ منه، أكذاك يا عثمان? قال: نعم. قال: اشهدوا أني منه بريء.

قال: وجماعة يتحدثون من قريش معهم لبيد بن ربيعة ينشدهم، فجلس عثمان مع القوم فأنشدهم لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل فقال له عثمان: صدقت. فقال لبيد:

وكل نعيم لا محالة زائل

 

صفحة : 1747

 

فقال عثمان: كذبت. فلم يدر القوم ما عنى. فأشار بعضهم إلى لبيد أن يعيد، فأعاد فصدقه في النصف الأول وكذبه في الآخر، لأن نعيم الجنة لا يزول. فقال لبيد: يا معشر قريش، ما كان مثل هذا يكون في مجالسكم. فقالم أبي بن خلف أو ابنه فلطم وجه عثمان، فقال له قائل: لقد كنت في منعة من هذا بالأمس. فقال له: ما أحوج عيني هذه الصحيحة إلى أن يصيبها ما أصاب الأخرى في الله.

أخبرني محمد بن الزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم قال: حدثني العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش قال: كتب عبد الملك إلى الحجاج يأمره بإشحاص الشعبي إليه، فأشخصه فألزمه ولده، وأمر بتخريجهم ومذاكرتهم، قال: فدعاني يوما في علته التي مات فيها فغص بلقعة وأنا بين يديه، فتساند طويلا ثم قال: أصبحت كما قال الشاعر:

كأني وقد جاوزت سبعـين حـجة                      خلعت بها عنـي عـذار لـجـام

إذا ما رآني الناس قالوا ألـم يكـن                      شديد محال البطش غـير كـهـام

رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى                      وكيف يمن يرمـى ولـيس بـرام

ولو أنني أرمى بـسـهـم رأيتـه                      ولكنني أرمـي بـغـير سـهـام فقال الشعبي: فقالت: إنا لله، استلم الرجل والله للموت فقلت: أصلحك الله، ولكن مثلك ما قال لبيد:

باتت تشكى إلي الموت مجهشة                      وقد حملتك سبعا بعد سبعينـا

فإن تزادي ثلاثا تبلغـي أمـلا                      وفي الثلاث وفاء للثمانـينـا فعاش إلى أن بلغ تسعين سنة فقال :

كأني وقد جاوزت تسعين حجة                      خلعت بها عن منكبـي ردائيا فعاش إلى أن بلغ مائة وعشر سنين فقال:

أليس في مائة قد عاشها رجل                      وفي تكامل عشر بعدها عمر فعاش إلى أن بلغ مائة وعشرين سنة فقال:

ولقد سئمت من الحياة وطولها                      وسؤال هذا الناس كيف لبـيد

غلب الرجال وكان غير مغلب                      دهـر جـديد دائم مـمـدود

يوم أرى يأتي عـلـيه ولـيلة                      وكلاهما بعد المضاء يعـود ففرح وساتبشر وقال: ما أرى بأسا، وقد وجدت خفا . وأمر لي بأربعة الآف درهم، فقبضتها وخرجت، فما بلغت الباب حتى سمعت الواعية عليه.

وغنى في هذه الأبيات التي أولها:

غلب الرجال وكا غير مغلب عمر الوادي خفيف رمل مطلق بالوسطى عن عمرو.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا هارون بن مسلم عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال: نظر النابغة الذبياني إلى لبيد بن ربيعة وهو صبي، مع أعمامه على باب النعمان بن المنذر، فسأل عنه فنسب له، فقال له: يا غلام، إن عينيك لعينا شاعر، أفتقرض من الشعر شيئا? قال: نعم يا عم. قال: فأنشدني شيئا مما قلته. فأنشده قوله:

ألم تربع على الدمن الخوالي فقال له: يا غلام، أنت أشعر بني عامر، زدني يا بني. فأنشده:

طلل لخولة بالرسيس قديم فضرب بيديه إلى جنبيه وقال: أذهب فأنت أشعر من قيس كلها، أو قال: هوزان كلها.

وأخبرني بهذا الخبر عمي قال: حدثنا العمري عن لقيط عن أبيه، وحماد الرواية عن عبد الله بن قتادة المحاربي قال: كنت مع النابغة بباب النعمان بن المنذر، فقال لي النابغة: هل رأيت لبيد بن ربيعة فيمن حضر? قلت: نعم قال: أيهم أشعر? قلت: الفتى الذي رأيت من حاله كيت وكيت. فقال: اجلس بنا حتى يخرج إلينا. قال: فجلسنا فلما خرج قال له النابغة: إلي يا ابن أخي. فأتاه فقال: إنشدني. فأنشده قوله:

ألم تلمم على الدمن الخوالي                      لسلمى بالمذانب فالقفـال فقال له النابغة: أنت أشعر بني عامر، زدني. فأنشده:

طلل لخولة بالرسيس قديم                      فبعاقل فلأنعمين رسوم فقال له: أنت أشعر هوازن، زدني. فأنشده قوله:

عفت الديار محلها فمقامها                      بمنى تأبد غولها فرجامها فقال له النابغة: اذهب فأنت أشعر العرب.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم، عن خالد بن سعيد، أن لبيدا لما حضرته الوفاة قال لابن أخيه ولم يكن له ولد ذكر: يا بني، إن أباك لم يمت ولكنه فني. فإذا طعموا فقل لهم فليحضروا جنازة أخيهم. ثم أنشد قوله:

 

صفحة : 1748

 

 

وإذا دفنت أباك فـاج                      عل فوقه خشبا وطنيا

وسقائفا صـمـا روا                      سيها يسددن الغصونا

ليقين حر الوجه سـف                      ساف التراب ولن يقينا قال: وهذه الأبيات من قصيدة طويلة.

وقد ذكر يونس أن لابن سريج لحنا في أبيات من قصيدة لبيد هذه، ولم يجنسه.

 

أبني هل أبـصـرت أع                      مامي بني أم البـنـينـا

وأبي الـذي كـان الأرا                      مل في الشتاء له قطينـا

وأبا شـريك والـمـنـا                      زل في المضيق إذا لقينا

ما إن رأيت ولا سـمـع                      ت بمثلهم في العالمينـا

فبقيت بـعـدهـم وكـن                      ت بطول صحبتهم ضنينا

دعني وما ملكـت يمـي                      ني إن سددت بها الشؤونا

وافعل بمالـك مـا بـدا                      لك مستعانا أو معـينـا قال: وقال لابنتيه حين احتضر ، وفيه غناء:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبـوهـمـا                      وهل أنا إلا من ربيعة أو مضـر

فإن حان يوما أن يموت أبوكـمـا                      فلا تخمشا وجها ولا تحلقا شعـر

وقولا هو المرء الذي لا حلـيفـه                      أضاع، ولا خان الصديق ولا غدر

إلى الحولثم اسم السلام عليكـمـا                      ومن يبك حولا كاملا فقد اعتـذر في هذه الأبيات هزج خفيف مطلق في مجرى الوسطى. وذكر الهشامي إنه لإسحاق. وذكر أحمد بن يحيى أنه لإبراهيم.

قال: فكانت ابنتاه تلبسان ثيابهما في كل يوم، ثم تأتيان مجلس بني جعفر بن كلاب فترثيانه ولا تعولان، فأقاما على ذلك حولا ثم انصرفتا.

 

سألناه الجزيل فما تـأبـى                      فأعطى فوق منيتنا وزادا

وأحسن ثم أحسن ثم عدنـا                      فأحسن ثم عدت له فعادا

مرارا ما دنوت إلـيه إلا                      تبسم ضاحكا وثنى الوسادا الشعر لزياد الأعجم، والغناء لشارية، خفيف رمل بالبنصر مطلق.

 

أخبار زياد الأعجم ونسبه

زياد بن سليمان ، مولى عبد القيس، أحد بني عامر بن الحارث، ثم أحد بني مالك بن عامر الخارجية .

أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري. وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي، عن عمه عن ابن حبيب قال: هو زياد بن جابر بن عمرو، مولى عبد القيس. وكان ينزل إصطخر فغلبت العجمة على لسانه، فقيل له الأعجم.

وذكر ابن النطاح مثل ذلك في نسبه، وخالف في بلده، وذكر أن أصله ومولده ومنشأه بأصبهان ثم انتقل إلى خراسان، فلم يزل بها حتى مات.

وكان شاعرا جزل الشعر فصيح الألفاظ على لكنة لسانه، وجريه على لفظ أهل بلده.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثت عن المدائني أن زيادا الأعجم دعا غلاما له ليرسله في حاجة، فأبطأ فلما جاءه قال له: منذ لدن دأوتك إلى أن قلت لبى ما كنت تسنأ? يريد منذ لدن دعوتك إلى أن قلت لبيك ماذا كنت تصنع.

فهذه ألفاظه كما ترى في نهاية القبح واللكنة.

وهو الذي يقول يرثي المغيرة بن المهلب بقوله:

قل للقوافل والغـزي إذا غـزوا                      والباكرين وللـمـجـد الـرائح

إن المروءة والسماحة ضـمـنـا                      قبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت بقبره فاعـقـر بـه                      كوم الهجان وكل طرف سابـح

وانضح جوانب قبره بـدمـائهـا                      فلـقـد يكـون أخـادم وذبـائح

يا من بمهوى الشمس من حي إلى                      ما بين مطلع قرنها المتـنـازح

مات المغيرة عد طول تعـرض                      للموت بـين أسـنة وصـفـائح

والقتل ليس إلى القتـال ولا أرى                      حيا يؤخر للشفـيق الـنـاصـح وهي طويلة. وهذا من نادر الكلام، ونقي المعاني، ومختار القصيد، وهي معدودة من مراثي الشعراء في عصر زياد ومقدمها.

لابن جامع في الأبيات الأربعة الأول غناء أوله نشيد كله، ثم تعود الصنعة إلى الثاني والثالث في طريقة الهزج بالوسطى.

وقد أخبرني علي بن سليمان الأخفش، عن السكري عن محمد بن حبيب، أن من الناس من يروي هذه القصيدة لصلتان العبدي. وهذا قول شاذ، والصحيح أنها لزياد قد دونها الرواة، غير مدفوع عنها.

 

 

صفحة : 1749

 

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال: رثى زياد الأعجم المغيرة بن المهلب فقال:

إن الشجاعة والسماحة ضمـنـا                      قبرا بمرو على الطريق الواضح

فإذا مررت يقبره فاعـقـر بـه                      كوم الهجان وكل طرف سابـح فقال له يزيد بن المهلب: يا أبا أمامة، أفعقرت أنت عنده? قال: كنت على بنت الهمار . يريد الحمار.

أخبرني مالك بن محمد الشيباني قال: كنت حاضرا في مجلس أبي العباس، فقلت وقدقرىء عليه شعر زياد الأعجم، فقرئت عليه قصيدته:

قل للقوافل والغزي إذا غزوا                      والباكرين وللمجـد الـرائح قال: فقلت إنها من مختار الشعر، ولقد أنشدت لبعض المحدثين في نحو هذا المعنى أبياتا حسنة. ثم أنشدنا:

أيها الناعيان مـن تـنـعـيان                      وعلى من أراكما تـبـكـيان

اندبا الماجد الـكـريم أبـا إس                      حاق رب المعروف والإحسان

واذهبا بي إن لم يكن لكما عق                      ر إلى جنب قبره فاعقرانـي

وانضحا من دمي عليه فق كـا                      ن دمي من نداه لو تعلـمـان أخبرني وكيع قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة عن أبيه قال: كان المهلب بن أبي صفرة بخراسان، فخرج إليه زياد الأعجم فمدحه، فأمر له بجائزة فأقام عنده أياما. قال: فإنا ليعشية نشرب مع حبيب بن المهلب في دار له، وفيها حمامة، فقال زياد:

تغنى أنت في ذممي وعهدي                      وذمة والدي إن لم تطـاري

وبيتك فاصلحيه ولا تخافـي                      على صفر مزغبة صغـار

فإنك كلما غنـيت صـوتـا                      ذكرت أحبتي وذكرت داري

فإما يقتلوك طلـبـت ثـارا                      له نبأ لأنك فـي جـواري فقال حبيب: يا غلام، هات القوس. فقال له زياد: وما تصنع بها? قال: أرمي جارتك هذه. قال: والله لئن رميتها لاستعدين عليك الأمير. فأتى بالقوس فنزع لها سهما فقتلها، فوثب زياد فدخل على المهلب فحدثه الحديث وأنشده الشعر، فقال المهلب: علي بأبي بسطام، فأتي بحبيب فقال له: أعط أبا أمامة دية جارته ألف دينار. فقال: أطال الله بقاء الأمير، إنما كنت ألعب. قال: أعطه كما آمرك. فأنشأ زياد يقول:

فلله عينا مـن رأى كـقـضـية                      قضى لي بها قرم العراق المهلب

رماها حبيب بن المهلـب رمـية                      فأثبتها بالسهم والسـهـم يغـرب

فألزمه عقل الفتـيل ابـن حـرة                      وقال حبيب: إنما كنـت ألـعـب

فقـال: زياد لا يروع جـــاره                      وجارة جاري مثل جلدي وأقرب قال: فحمل حبيب إليه ألف دينار على كره منه، فإنه ليشرب مع حبيب يوما إذا عربد عليه حبيب، وقد كان حبيب ضغن عليه مما جرى، فأمر بشق قباء ديباج كان عليه، فقام فقال:

لعمرك ما الديباج خرقت وحده                      ولكنما خرقت جلد المهـلـب فبعث المهلب إلى حبيب فأحضره، وقال له: صدق زياد، ما خرقت إلا جلدي، تبعث هذا على أن يهجوني .

ثم بعث إليه فأحضره، فأستل سخيمته من صدره وأمر له بمال وصرفه.

وقد أخبرني وكيع بهذا الخبر أيضا. قال أحمد بن الهيثم بن فراس، قال العمري عن الهيثم بن عدي قال: تهاجى قتادة بن مغرب اليشكري وزياد الأعجم بخراسان، وكان زياد يخرج وعليه قباء ديباج، تشبها بالأعجم، فمر به يزيد بن المهلب وهو على حاله تلك، فأمر به فقنع أسواطا، ومزقت ثيابه وقال له: أبأهل الكفر والشرك تتشبه لا أم لك? فقال زياد:

لعمرك ما الديباج خرقت وحده                      ولكنما خرقت جلد المهـلـب وذكر باقي الخبر مثله وقال فيه: فدعا به المهلب فقال له: يا أبا أمامة، قلت شيئا آخر? قال: لا والله أيها الأمير. قال: فلا تقل. وأعتبه وكساه وحمله، وأمر له بعشرة آلاف درهم وقال له: اعذر ابن أخيك يا أبا أمامة، فإنه لم يعرفك.

وهذه الأبيات التي فيها الغناء يقولها زياد الأعجم في عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي.

أخبرني بخبره في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: أتى زياد العجم عمر بن عبيد الله بن معمر بفارس، وقدم عليه عراك بن محمد الفقيه من مصر، فكان عراك يحدثه بحديث الفقهاء، فقال زياد:

 

صفحة : 1750

 

 

يحدثـنـا أن الـقـيامة قـد أتـت                      وجاء عراك يبتغي المال من مصر

فكم بين باب النوب إن كنت صادقا                      وإيوان كسرى من فلاة ومن قصر وقال يمدح عمر بن عبيد الله:

سألناه الجزيل فما تأبـى                      وأعطى فوق منيتنا وزادا وذكر الأبيات الثلاثة.

نسخت من كتاب ابن أبي الدنيا: اخبرني محمد بن زياد، عن ابن عائشة. وأخبرني هاشم بن محمد قال: حدثني عيسى بن إسماعيل عن ابن عائشة، وخبر ابن أبي الدنيا أتم. قال: كان زياد الأعجم صديقا لعمر بن عبيد الله بن معمر قبل أن يلي، فقال له عمر: يا أبا أمامة، لو قد وليت لتركتك لا تحتاج إلى لأحد أبدا. فلما ولي فارس قصده، فلما لقيه أنشأ يقول:

أبلغ أبا حفص رسالة ناصـح                      أنت من زياد مستبينا كلامهـا

فإنك مثل الشمس لا ستر دونها                      فكيف أبا حفص علي ظلامها فقال له عمر: لا يكون عليك ظلامها أبدا. فقال زياد:

لقد كنت أدعو الله في السر أن أرى                      أمور معد في يديك نـظـامـهـا فقال له: قد رأيت ذلك. فقال:

فلما أتاني ما أردت تباشـرت                      بناتي وقلن العام لا شك عامها قال: فهو عامهن إن شاء الله تعالى. فقال:

فإني وأرضا أنت فيها ابن معمر                      كمكة لم يطرب لأرض حمامها قال: فهي كذلك يا زياد. فقال:

إذا أخترت أرضا للمقام رضيتها                      لنفسي ولم يثقل علي مقامـهـا

وكنت أمني النفس منك ابن معمر                      أماني أرجو أن يتم تمـامـهـا قال: قد أتمها الله عليك. فقال:

فلا أك كالمجري إلى رأس غاية                      يرجى سماء لم يصبه غمامهـا قال: لست كذلك فسل حاجتك. قال: نجيبة ورحالتها ، وفرس رائع وسائسه، وبدرة وحاملها، وجارية وخادمها، وتخت ثياب ووصيف يحمله. فقال: قد امرنا لك بجميع ما سألت، وهو لك علينا في كل عام.

فخرج من عنده حتى قدم على عبد الله بن الحشرج وهو يسابور، فأنزله وألطفه ، فقال في ذلك:

إن السماحة والمـروءة والـنـدى                      في قبة ضربت على ابن الحشرج

ملـك أغـر مـتـوج ذو نـائل                      للمعتفين يمـينـه لـم تـشـنـج

يا خير من صعد المنابر بالتـقـى                      بعد النبي المصطفى المتـحـرج

لما أتيتـك راجـيا لـنـو الـكـم                      ألفيت باب نوالـكـم لـم يرتـج فأمر له بعشرة آلاف درهم.

أخبرنا محمد بن خلف وكيع، عن عبد الله بن محمد، عن عبيد الله بن الحسن بن عبد الرحمن بهذا الخبر فقال فيه: أتى زياد عبد الله بن عامر بن كريز. والخبر الأول أصح. وزاد في الشعر:

أخ لك لا تراه الدهر إلا                      على العلات بساما جوادا فقال له عمر: أحسنت يا أبا أمامة، ولك لكل بيت ألف. قال: دعني أتمها مائة. قال: أما إنك لو كنت فعلت لفعلت، ولكن لك ما رزقت.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا ابن عائشة قال: حدثني أبي قال: لما خرج ابن أرسل عبد الملك إلى عمر بن عبيد الله بن معمر ليقدم عليه، فلما كان بضمير، وهي من الشأم، مات بالطاعون، فقام عبد الملك على قبره وقال: أما والله لقد علمت قريش أن قد فقدت اليوم نابا من أنيابها. وقال جد خلاد بن أبي عمرو الأعمى، وكانوا موالي أبي عمرو بن أمية: أهو اليوم ناب لما مات، وكان أمس ضرسا كليلة? أما والله لوددت أن السماء وقعت على الأرض فلم يعش بينهما أحد بعده وسمعها عبد الملك فتغافل عنها.

قال: وقال الفرزدق يرثيه:

يا أيها الناس لا تبكوا علـى أحـد                      بعد الذي بضمير وافق الـقـدرا

كانت يداه لنا سيفا نـصـول بـه                      على العدو وغيثا ينبت الشـجـرا

أما قريش أبا حفص فـقـد رزئت                      بالشام إذا فارقتك البأس والظفـرا

من يقتل الجوع من بعد الشهيد ومن                      بالسيف يقتل كبش القوم إذ عكـرا

إن النوائح لم يعددن فـي عـمـر                      ما كان فيه إذا المولى به افتخـرا

إذا عددن فعالا أو لـه حـسـبـا                      ويوم هيجاء يعشى بأسه البصـرا

كم من جبان إلى الهيجا دنوت لـه                      يوم اللقاء ولولا أنت ما صـبـرا

 

صفحة : 1751

 

أخبرنا أحمد حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا عفان بن مسلم، قال: حدثنا حماد بن سلمة قال: أخبرنا حميد عن سليمان بن قتة قال: بعث عمر بن عبد الله بن معمر إلى ابن عمر ، والقاسم بن محمد، بألف دينار، فأتيت عبد الله بن عمر وهو يغتسل في مستحم له، فأخرج يده فصببتها في يده، فقال: وصلت رحما، وقد جاءتنا على حاجة. وأتيت القاسم فأبى أن يقبلها، فقالت لي امرأته: إن كان القاسم ابن عمه فأنا لا بنة عمه. فأعطيتها. قال: فكان عمر يبعث بهذه الثياب العمرية يقسمها بين أهل المدينة، فقال ابن عمر: جزى الله من اقتنى هذه الثياب بالمدينة خيرا. وقال لي عمر: لقد بلغني عن صاحبك شيء كرهته. قلت: وما ذاك? قال: يعطي المهاجرين ألفا ألفا، ويعطى الأنصار سبعمائة سبعمائة. فأخبرته فسوى بينهم .

أخبرنا أحمد قال حدثنا أبو زيد قال: كانت لرجل جارية يهواها، فاحتاج إلى بيعها، فابتاعها منه عمر بن عبيد الله بن معمر، فلما قبض ثمنها أنشأت تقول:

هنيئا لك المال الذي قد قبضته                      ولم يق في كفي غير التحسر

فإني لحزن من فراقك موجع                      أناجي به قلبا طويل التفكـر فقال: لا ترحلي. ثم قال:

ولولا قعود الدهر بي عنك لم يكن                      يفرقنا شيء سوى الموت فاعذري

علـيك سـلام لا زيارة بـينـنـا                      ولا وصل إلا أن يشاء ابن معمر فقال: قد شئت، خذ الجارية وثمنها. فأخذها وانصرف.

أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن زياد قال: حدثني ابن عائشة قال: استبطأ زياد الأعجم عمر بن عبيد الله بن معمر في زيارته إياه فقال:

أصابت علينا جودك العين يا عمر                      فنحن لها نبغي التمائم والنشـر

أصابتك عين في سماحك صلـبة                      ويا رب عين صلبة تفلق الحجر

سنرقيك بالأشعار حتى تملـهـا                      فإن لم تفق يوما رقيناك بالسور فبلغته الأبيات فأرضاه وسرحه.

أخبرني عمي قال: حدثني الكراني قال حدثني العمري قال: حدثني من سمع حمادا الراوية يقول: امتدح زياد العجم عباد بن الحصين الحبطي وكان على شرطة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الذي يقال له القباع، وطلب حاجة فلم يقضها، فقال زياد:

سألت أبا جـهـضـم حـاجة                      وكنت أراه قـريبـا يسـيرا

فلو أنني خفت منـه الـخـلا                      ف والمنع لي لم أسله نقـيرا

وكيف الرجاء لمـا عـنـده                      وقد خالط البخل منه الضميرا

أقلني أبا جهضم حـاجـتـي                      فإني امرؤ كان ظني غرورا أخبرني عمي قال: حدثني الكراني عن العمري، عن عطاء بن مصعب، عن عاصم بن الحدثان قال: مر يزيد بن جناء الضبي بزياد الأعجم وهو ينشد شعرا قد هجا به قتادة بن مغرب، فأفحش فيه، فقال له يزيد بن حبناء: ألم يأن لك أن ترعوي وتترك تمزيق أعراض قومك، ويحك حتى متى تتمادى في الضلال، كأنك بالموت قد صبحك أو مساك فقال زياد فيه:

يحذرني الموت ابن حبناء والفتى                      إلى الموت يغدو جاهدا ويروح

وكل امرىء لابد للموت صائر                      وإن عاش دهرا في البلاد يسيح

فقل ليزيد يا ابن حبناء لا تعـظ                      أخاك وعظ نفسا فأنت جنـوح

تركت التقى والدين دين محمـد                      لأهل التقى والمسلمين يلـوح

وتابعت مراق العراقين سـادرا                      وانت غليظ القصريين صحـيح فقال له يزيد بن عاصم الشني : قبحك الله أتهجو رجلا وعظك وامرك بمعروف بمثل هذا الهجاء، هلا كففت إذ لم تقبل، أراه الله سيأتي على نفسك ثم لا تحبق فيك عنزان ، اذهب ويحك فأته واعتذر إليه لعله يقبل عذرك.

فمشى إليه بجماعة من عبد القيس فشفعوا إليه فيه، فقال: لا تثريب، لست واجدا عليه بعد يومي هذا.

أخبرني أحمد بن علي قال: سمعت جدي علي بن يحيى يحدث عن أبي الحسن عن رجل من جعفي قال: كنت جالسا عند المهلب إذ أقبل رجل طويل مضطرب، فلما رآه المهلب قال: اللهم إني أعوذ بك من شره فجاء فقال: أصلح الله الأمير، اني قد مدحتك ببيت صفده مائة ألف درهم . فسكت المهلب، فاعاد القول فقال له: أنشده فأنشده:

 

صفحة : 1752

 

 

فتى زاده السلطان في الخير رغبة                      إذا غير السلطان كـل خـلـيل فقال له المهلب: يا أبا أمامة، مائة ألف? فوالله ما هي عندنا ولكن ثلاثون ألفا فيها عروض. وأمر له بها، فإذا هو زياد الأعجم.

أخبرني عمي قال: حدثني الكراني وأبو العيناء عن القحذمي قال: لقي الفرزدق زيادا الأعجم فقال له الفرزدق: لقد هممت أن أهجو عبد القيس، وأصف من فسوهم شيئا. قال له زياد: كما أنت حتى أسمعك شيئا. ثم قال: قل إن شئت أو أمسك. قال: هات. قال:

وما ترك الهاجون لي إن هجوتـه                      مصحا أراه في أديم الـفـرزدق

فإنا وما تهدي لنا إن هـجـوتـنـا                      لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق فقال له الفرزدق: حسبك هلم نتتارك . قال: ذلك إليك. وما عاوده بشيء.

وأخبرني بهذا الخبر محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا العتبي عن العباس بن هشام عن أبيه قال: حدثني خراش ، وكان عالما راوية لأبي، ولمؤرج ، ولجابر بن كلثوم، قال: أقبل الفرزدق وزياد ينشد الناس في المربد وقد اجتمعوا حوله، فقال: من هذا? قيل: الأعجم. فأقبل نحوه فقيل له: هذا الفرزدق قد أقبل عليك. فقام فتلقاه وحيا كل واحد منهما صاحبه، فقال له الفرزدق: ما زالت تنازعني نفسي إلى هجاء عبد القيس منذ دهر. قال زياد: وما يدعوك إلى ذلك? قال: لأني رأيت الأشقري هجاكم فلم يصنع شيئا، وأنا أشعر منه، وقد عرفت الذي هيج بينك وبينه. قال: وما هو? قال إنكم اجتمعتم في قبة عبد الله بن الحشرج بخراسان، فقلت له قد قلت شيئا فمن قال مثله فهو أشعر مني، ومن لم يقل مثله ومد إلي عنقه فإني أشعر منه. فقال لك: وما قلت? فقلت: قلت:

وقافية حذاء بت أحوكـهـا                      إذا ما سهيل في السماء تلالا فقال لك الأشقري:

وأقلف صلى بعد ما نـاك أمـه                      يرى ذاك في دين المجوس حلالا فأقبلت على من حضر فقلت: يا لأم كعب أخزاها الله تعالى، ما أنمها حين تخبر ابنها بقلفتي فضحك الناس وغلبت عليه في المجلس.

فقال له زياد: يا أبا فراس، هب لي نفسك ساعة ولا تعجل حتى يأتيك رسولي بهديتي ثم ترى رأيك. وظن الفرزدق أنه سيهدي إليه شيئا يستكفه به، فكتب إليه:

وما ترك الهاجون لـي إن أردتـه                      مصحا أراه في أديم الـفـرزدق

وما تركوا لحما يدقون عـظـمـه                      لآكله ألـقـوه لـلـمـتـعـرق

سأحطم ما أبقوا له من عظـامـه                      فأنكت عظم الساق منه وأنتـقـي

فإنا وما تهدي لنا إن هـجـوتـنـا                      لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق فبعث إليه الفرزدق: لا أهجو قوما أنت منهم أبدا.

قال أبو المنذر: زياد أهجى من كعب الأشقري، وقد أوثر عليه في عدة قصائد. منها التي يقول فيها.

 

قبيلة خيرهـا شـرهـا                      وأصدقها الكاذب الآثـم

وضيفهم وسط أبياتـهـم                      وإن لم يكن صائما صائم وفيه يقول:

إذا عذب الله الرجال بشعرهم                      أمنت لكعب أن يعذب بالشعر وفيه يقول:

أتتك الأزد مصفرا لحـاهـا                      تساقط من مناخرها الجواف أخبرني وكيع قال: حدثني أحمد بن عمر بن بكير قال حدثنا الهيثم عن ابن عياش قال: دخل أبو قلابة الجرمي مسجد البصرة وإذا زياد الأعجم، فقال زياد: من هذا? قال: أبو قلابة الجرمي، فقام على رأسه فقال:

قم صاغرا ياكهل جرم فـإنـمـا                      يقال لكهل الصدق قم غير صاغر

فإنـك شـيخ مـيت ومــورث                      قضاعة ميراث البسوس وقاشـر

قضى الله خلق الناس صم خلقتـم                      بقية خلـق الـلـه آخـر آخـر

فلم تسمعوا إلا بما كان قبـلـكـم                      ولم تدركو إلا بدق الـحـوافـر

فلو رد أهل الحق من مات منكـم                      إلى حقه لم تدفنوا في المقـابـر فقيل له: فأين كانوا يدفنون يا أبا أمامة? قال: في النواويس.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الجزء السادس عشر

 

أخبار شارية

قال أبو الفرج علي بن الحسين:

 

صفحة : 1753

 

كانت شارية مولدة من موالدات البصرة، يقال إن أباها كان رجلا من بني سامة بن لؤي المعروفين ببني ناجية ، وأنه حجدها، وكانت أمها أمة، فدخلت في الرق. وقيل بل سرقت فبيعت، فاشترتها امرأة من بني هاشم، فأدبتها، وعلمتها الغناء، ثم اشتراها إبراهيم بن المهدي، فأخذت غناءها كله أو أكثره عنه، وبذلك يحتج من يقدمها على عريب، ويقول: إن إبراهيم خرجها، وكان يأخذها بصحة الأداء لنفسه، ويمعرفة ما يأخذها به. ولم تكن هذه حال عريب، لأن المراكبي لم يكن يقارب إبراهيم في العلم، ولا يقاس به في بعضه ، فضلا عن سائره.

أخبرني بخبرها محمد بن إبراهيم قريص : أن ابن المعتز دفع إليه كتابه الذي ألفه في أخبارها، وقال له أن يرويه عنه، فتسخت منه ما كان يصلح لهذا الكتاب على شرطي فيه، وأضفت إليه ما وجدته من أخبارها عن غيره في الكتب، وسمعته أنا عمن رويته عنه.

قال ابن المعتز: حدثني عيسى بن هارون المنصوري: أن شارية كانت لامرأة من الهاشميات بصرية، من ولد جعفر بن سليمان. فحملتها لتبيعها ببغداد، فعرضت على إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فأعطى بها ثلثمائة دينار، ثم استغلاها بذلك ولم يردها. فجيء بها إلى إبراهيم بن المهدي، فعرضت عليه، فساوم بها. فقالت له مولاتها: قد بذلتها لإسحاق بن إبراهيم بثلثمائة دينار، وأنت أيها الأمير، أعزك الله، بها أحق. فقال: زنوا لها ما قالت. فوزن لها، ثم دعا بقيمته، فقال: خذي هذه الجارية ولا ترينيها سنة، وقولي للجواري يطرحن عليها، فلما كان بعد سنة أخرجت إليه، فنظر إليها وسمعها. فأرسل إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي فدعاه، وأراه إياها، وأسمعه غناءها. وقال: هذه جارية تباع، فبكم تأخذها لنفسك? قال إسحاق: آخذها بثلاثة آلاف دينار، وهي رخيصة بها. قال له إبراهيم: أتهرفها? قال: لا. قال: هذه الجارية التي عرضتها عليك الهاشمية بثلثمائة دينار، فلم تقبل. فبقي إسحاق متحيرا، يعجب من حالها وما انقلبت إليه.

وقال ابن المعتز: حدثني الهشامي عن محمد بن راشد: أن شارية كانت مولدة البصرة، وكانت لها أم منكرة، تدعي أنها بنت محمد بن زبد، من بني سامة بن لؤي.

قال ابن المعتز: وحدثني غيره، أنها من بني زهرة.

قال الهشامي: فجيء بها إلى بغداد، وعرضت على إبراهيم بن المهدي، فأعجب بها إعجابا شديدا، فلم يزل يعطي بها، حتى بلغت ثمانية آلاف درهم. فقال لي هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: إنه لم يكن عند أبي درهم ولا دانق، فقال لي: ويحك قد أعجبتني والله هذه الجارية إعجابا شديدا، وليس عندنا شيء. فقلت له: نبيع ما نملكه حتى الخزف. ونجمع ثمنها. فقال لي: قد فكرت في شيء؛ اذهب إلى علي بن هشام، فأقرئه مني السلام، وقل له: جعلني الله فداءك قد عرضت علي جارية قد أخذت بمجامع قلبي، وليس عندي ثمنها، فأحب أن تفرضني عشرة آلاف درهم. فقلت له: إن ثمنها ثمانية آلاف درهم، فلم تكثر على الرجل بعشرة آلاف درهم? فقال: إذا اشتريناها بثمانية آلاف درهم، لا بد أن نكسوها، وقيم لها ما تحتاج إليه.

فصرت إلى علي بن هشام، فأبلغته الرسالة، فدعا بوكيل له، وقال له، ادفع إلى خادمه عشرين ألفا، وقل له: أنا لا أصلك، ولكن هي لك حلال في الدنيا والآخرة . قال: فصرت إلى أبي بالدراهم، فلو طلعت عليه بالخلافة، لم تكن تعدل عنده تلك الدراهم.

وكانت أمها خبيثة، فكانت كلما لم يعط إبراهيم ابنتها ما تشتهي، ذهبت إلى عبد الوهاب بن علي، وذفعت إليه رقعة يرفعها إلى المعتصم، تسأله أن تأخذ ابنتها من إبراهيم.

قال ابن المعتز: وأخبرني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخطيب، قال: ذكر يوسف بن إبراهيم المصري صاحب إبراهيم بن المهدي:

 

صفحة : 1754

 

أن إبراهيم وجه به إلى عبد الوهاب بن علي، في حاجة كانت له، قال : فلقيته وانصرفت من عنده، فلم أخرج من دهليز عبد الوهاب حتى اسقبلتني امرأة. فلما نظرت في وجهي سترت وجهها. فأخبرني شاكري أن المرأة هي أم شارية، جارية إبراهيم. فبادرت إلى إبراهيم، وقلت له: أدرك، فإني رأيت أم شارية في دار عبد الوهاب، وهي من تعلم، وما يفجؤك إلا حيلة قد أوقعتها. فقال لي في جواب ذلك: أشهدك أن جاريتي شارية صدقة على ميمونة بنت إبراهيم بن المهدي، ثم أشهد أبنه هبة الله على مثل ذلك . وأمرني بالركوب إلى دار ابن أبي دواد، وإحضار من قدرت عليه من الشهود المعدلين عنده، فأحضرته أكثر من عشرين شاهدا. وأمر بإخراج شارية، فخرجت، فقال لها: اسفري، فجزعت من ذلك. فأعلمها أنه إنما أمرها بذلك لخير يريده بها، ففعلت.

فقال لها: تسمى. فقالت: أنا شارية أمنك. فقال لهم: تأملوا وجهها، ففعلوا. ثم قال: فإني أشهدكم أنها حرة لوجه الله تعالى، وأني قد تزوجتها، وأصدقتها عشرة آلاف درهم. يا شارية مولاة إبراهيم بن المهدي، أرضيت? قالت: نعم يا سيدي قد رضيت، والحمد لله على ما أنعم به علي. فأمرها بالدخول، وأطعم الشهود وطيبهم وأنصرفوا.

فما أحسبهم بلغوا دار بن أبي دواد، حتى دخل علينا عبد الوهاب بن علي، فأقرأ عمه سلام المعتصم، ثم قال له: يقول لك أمير المؤمنين: من المفترض علي طاعتك، وصيانتك عن كل ما يعرك ، إذا كنت عمي، وصنو أبي، وقد رفعت إلي امرأة من قريش قصة، ذكرت فيها أنها من بني زهرة صليبة ، وأنها أم شارية، وأحتجت بأنه لا تكون بنت أمراة من قريش أمة، فإن كانت هذه المرأة صادقة في أن شارية بنتها، وأنها من بني زهرة، فمن المحال أن تكون شارية أمة؛ والأشبه بك والأصلح إخراج شارية من دارك، وسترها عند من تثق به من أهلك، حتى نكشف ما قالت هذه المرأة؛ فإن ثبت ما قلته أمرت من جعلتها عنده بإطلاقها، وكان في ذلك الحظ لك في دينك ومروءتك؛ وإن لم يصح ذلك، أعيدت الجارية إلى منزلك، وقد زال عنك القول الذي لا يليق بك ولا يحسن فقال له إبراهيم: فديتك يا أبا إبراهيم، هب شارية بنت زهرة بن كلاب، أتنكر على ابن عباس بن عبد المطلب أن يكون بعلا لها? فقال عبد الوهاب: لا. فقال إبراهيم: فأبلغ أمير المؤمنين، أطال الله بقاءه السلامة، وأخبره أن شارية حرة، وأني قد تزوجتها بشهادة جماعة من العدول.

وقد كان الشهود بعد منصرفهم من عند إبراهيم صاروا إلى بن أبي دواد. فشم منهم من رائحة الطيب ما أنكره، فسألهم عنه، فأعلموه أنهم حضروا عتق شارية، وتزوج إبراهيم إياها. فركب إلى المعتصم، فحدثه بالحديث معجبا له منه. فقال: ضل سعي عبد الوهاب. ودخل عبد الوهاب على المعتصم، فلما رآه يمشي في صحن الدار، سد المعتصم أنف نفسه، وقال: يا عبد الوهاب، أنا أشم رائحة صرف محرق، وأحسب أن عمي لم يقنعه ردك إلا وعلى أذنك صوفة حتى أحرقها، فشممت رائحتها منك. فقال: الأمر على ماظن أمير المؤمنين وأقبح.

ولما انصرف عبد الوهاب من عند إبراهيم، آبتاع إبراهيم منه بنته ميمونة شارية، بعشرة آلاف درهم، وستر ذلك عنها، فكان عتقه إياها وهي في ملك غيره، ثم أبتاعها من ميمونة، فحل له فرجها، فكان يطؤها على أنها أمته، وهي تتوهم أنه يطؤها على أنها حرة. فلما توفي طلبت مشاركة أم محمد بنت خالد زوجته في الثمن، فأظهرت خبرها. وسئلت ميمونة وهبة الله عن الخبر، فأخبرا به المعتصم. فأمر المعتصم بابتياعها من ميمونة، فابتيعت بخمسة آلاف وخمسماة دينار، فحولت إلى داره، فكانت في ملكه حتى توفي.

قال أبن المعتز: وقد قيل إن المعتصم أبتاعها بثلثمائة ألف درهم.

قال: وكان منصور بن محمد بن واضح يزعم أن إبراهيم أقترض ثمن شارية من ابنته، وملكها إبراهيم ولها سبع سنين، فرباها تربية الولد، حتى لقد ذكرت أنها كانت في حجره جالسة، وقد أعجب بصورت أخذته منه، إذا طمثت أول طمثها، فأحس بذلك، فدعا قيمة له، فأمرها بأن تأتيه بثوب خام، فلفه عليها، فقال: أحمليها، فقد أقشعرت، وأحسب برد الحش قد آذاها .

قال: وحدثت شارية أنها كانت معه في حراقة قد توسط بها دجلة، في ليلة مقمرة، وهي تغني إذ أندفعت فغنت:

لقد حثوا الجمال ليه                      ربوا منا فم يئلـوا

 

صفحة : 1755

 

فقام إليها، فأمسك فاها، وقال: أنت والله أحسن من الغريض وحها وغناء، فما يؤمنني عليك? أمسكي.

قال: وحدث حمدون بن إسماعيل: أنه دخل على إبراهيم يوما، فقال له: أتحب أن أسمعك شيئا لم تسمعه قط? قال: نعم. فقال: هاتوا شارية، فخرجت، فأمرها أن تغني لحن إسحاق:

هل بالديار التي حييتها أحد? قال حمدون: فغنتني شيئا لم أسمع مثله قط، فقلت: لا والله يا سيدي ما سمعت هكذا. فقال: أتحب أن تسمعه أحسن من هذا? فقلت: لا يكون. فقال: بلى والله تقر بذاك. فقلت: على أسم الله. فغناه هو، فرأيت فضلا عجيبا. فقلت: ما ظننت أن هذا يفضل ذاك هذا الفضل. قال: أفتحب أن تسمعه أحسن من هذا وذاك? فقلت: هذا الذي لا يكون: فقال: بلى والله. فقلت: فهات. قال: بحياتي ياشارية، قوليه وأحيلي حلقك فيه. فسمعت والله فضلا بينا، فأكثرت التعجب. فقال لي: يا أبا جعفر، ما أهون هذا على السامع تدري بالله كم مرة رددت عليها موضعا في هذا الصوت? قلت: لا. قال: فقل وأكثر. قلت: مائة مرة قال: أصعد ما بدالك. قلت ثلثمائة.

قال: أكثر والله من ألف مرة، حتى قالته كذا.

قال: وكانت ريق تقول: إن شارية كانت إذا أضطربت في صوت، فغاية ماعنده من عقوبتها، أنه يقيمها تغنيه على رجليها، فإن لم تبلغ الذي يريد، ضربت ريق .

قال: ويقال إن شارية لم تضرب بالعود إلا في أيام المتوكل، لما اتصل الشر بينها وبين عريب، فصارت تقعد بها عند الضرب، فضربت هي بعد ذلك.

قال ابن المعتز: وحدث محمد بن سهل بن عبد الكريم، المعروف بسهل الأحول، وكان قاضي الكتاب في زمانه، وكان يكتب لإبراهيم، وكان شيخا ثقة، قال: أعطى المعتصم إبراهيم بشارية سبعين ألف دينار، فامتنع من بيعها. فعاتبته على ذلك، فلم يجبني بشيء. ثم دعاني بعد أيام، فدخلت وبين يديه مائدة لطيفة. فأحضره الغلام سفودا فيه ثلاث فراريج، فرمى إلي بواحدة، فأكلتها وأكل اثنتين، ثم شرب رطلا وسقانيه، ثم أتي بسفود آخر، ففعل كما فعل، وشرب كما شرب وسقاني. ثم ضرب سترا كان إلى جانبه، فسمعت حركة العيدان، ثم قال: يا شارية تغنى. فسمعت شيئا ذهب بعقلي. فقال: يا سهل، هذه التي عاتبتني في أن أبيعها بسبعين ألف دينار، لا والله، ولا هذه الساعة الواحدة بسبعين ألف دينار.

قال: وكانت شارية تقول: إن أباها من قريش، وإنها سرقت صغيرة، فبيعت بالبصرة من امرأة هاشمية وباعتها من إبراهيم بن المهدي. والله أعلم.

أخبرني عمي، قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، قال: أمرني المعتز ذات يوم بالمقام عنده، فأقمت. فأمر فمدت الستارة، وخرج من كان يغني وفيهن شارية، ولم أكن سمعتها قبل ذلك. فاستحسنت ما سمعت منها، فقال لي أمير المؤمنين المعتز: يا عبد الله، كيف ما تسمع منها عندك ? فقلت: حظ العجب من هذا الغناء، أكثر من حظ الطرب. فاستحسن ذلك، وأخبرها به فاستحسنته.

قال ابن المعتز: واخبرني الهشامي، قال: قالت لي ريق: كنت ألعب أنا وشارية بالنرد بين يدي إبراهيم، وهو متكىء على مخدة ينظر إلينا، فجرى بيني وبين شارية مشاجرة في اللعب، فأغلظت لها في الكلام بعض الغلظة.

فاستوى إبراهيم جالسا، وقال: أرك تستخفين بها، فوالله لا احد يخلفك غيرها. وأومأ إلى حلقه بيده .

قال: وحدثني الهشامي، قال: حدثني عمرو بن بانة، قال: حضرت يوما مجلس المعتصم، وضربت الستارة وخرجت الجواري، وكنت إلى جانب مخارق، فغنت شارية، فأحسنت جدا. فقلت لمخارق: هذه الجارية في حسن الغناء عللى ما تسمع، ووجهها وجه حسن، فكيف لم يتحرم بها إبراهيم بن المهدي? فقال لي: أحد الحظوظ التي رفعت لهذا الخليفة منع إبراهيم بن المهدي من ذلك.

قال عبد الله بن المعتز: وحدثني أبو محمد الحسن بن يحيى أخو علي بن يحيى، عن ريق قالت: استزار المعتصم من إبراهيم بن المهدي جواريه، وكان في جفوة من السلطان تلك الأيام، فنالته ضيقة.

قالت: فتحمل ذهابنا إليه على ضعف، فحضرنا مجلس المعتصم ونحن في سراويلات مرقعة، فجعلنا نرى جواري المعتصم وما عليهن من الجوهر والثياب الفاخرة، فلم تستجمع إلينا أنفسنا حتى غنوا وغنينا، فطرب المعتصم على غنائنا، ورآنا أمثل من جواريه، فتحولت إلينا أنفسنا في التيه والصلف، وأمر لنا المعتصم بمائة ألف درهم.

 

 

صفحة : 1756

 

قال: وحدثني أبو العبيس ، عن أبيه قال: كانت شارية أحسن الناس غناء، منذ توفي المعتصم إلى آخر خلافة الواثق.

قال أبو العبيس: وحدثتني ريق أن المعتصم أفتضها، وأنها كانت معها في تلك الليلة.

قال أبو العبيس: وحدثتني طباع جارية الواثق: أن كان يسميها ستي. وكانت تعلم فريدة، فلم تبق في تعليمها غاية، إلى أن وقع بينهما شيء بحضرة الواثق، فحلفت أنها لا تنصحها ولا تنصح أحدا بعدها، فلم تكن تطرح بعد ذلك صوتا إلا نقصت من نغمه. وكان المعتمد قد تعشق شرة جاريتها، وكانت أكمل الناس ملاحة وخفة روح، وعجز عن شرائها. فسأل أم المعتز أن تشتريها له، فاشترتها من شارية بعشرة آلاف دينار، وأهدتها إليه. ثم تزوجت بعد وفاة المعتمد بابن البقال المغني، وكان يتعشقها. فقال عبد الله بن المعتز، وكان يتعشقها:

أقول وقد ضاقت بأحزانهـا نـفـسـي                      ألا رب تطليق قريب مـن الـعـرس

لئن صرت لـلـبـقـال ياشـر زوجة                      فلا عجب قد يريض الكلب في الشمس وقال يعقوب بن بنان: كانت شارية خاصة بصالح بن وصيف. فلما بلغة رحيل موسى بن بغا من الجبل يريده، بسبب قتله المعتز، أودع شارية جوهره. فظهر لها جوهر كثير بعد ذلك. فلما أوقع موسى بصالح، استترت شارية عند هارون بن شعيب العكبري ، وكان أنظف خلق الله طعاما، وأسراه مائدة، وأوسخه كل شيء بعدذلك؛ وكان له بسر من رأى منزل، فيه بستان كبير، وكانت شارية تسميه أبي، وتزوره إلى منزله. فتحمل معها كل شيء تحتاج إليه، حتى الحصير الذي تقعد عليه.

قال: وكانت شارية من أكرم الناس، عاشرها أبو الحسن علي بن الحسين عند هارون هذا، ثم أضاف في وقت، فاقترض منها على غير رهن، عشرة آلاف دينار، ومكثت عليه أكثر من سنة، ما أذكرته بها، ولا طالبته، حتى ردها ابتداء .

قال يعقوب بن بنان: وكان أهل سر من رأى متحازبين، فقوم مع شارية، وقوم مع عريب، لا يدخل أصحاب هذه مع هؤلاء، ولا أصحاب هذه في هؤلاء. فكان أبو الصقر إسماعيل بن بلبل عربيا، فدعا علي بن الحسين يوم جمعة أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، وعنده عريب وجواريها. فاتصل الخبر بشارية، فبعثت بجواريها إلى علي بن الحسين بعد يوم أو يومين، وامرت إحداهن، وما أدري من هي: مهرجان، أو مطرب، أو قمرية، إلا أنها إحدى الثلاثة، أن تغني قوله:

لا تعودن بعدهـا                      فترى كيف أصنع فلما سمع علي الغناء ضحك، وقال: لست أعود.

قال: وكان المعتمد قد وثق بشارية، فلم يكن إلا طعامها. فمكثت دهرا من الدهور تعد له في كل يوم جونتين ، وكان طعامه منهما في أيام المتوكل.

قال ابن المعتز: وحدثني أحمد بن نعيم عن ريق، قالت: كان مولاي إبراهيم يسمي شارية بنتي، ويسميني أختي.

حدثني جحظة، قال: كنت عند المعتمد يوما، فغنته شارية بشعر مولاها إبراهيم بن المهدي ولحنه:

يا طول علة قلبي المعـتـاد                      إلف الكرام وصحبة الأمجاد فقال لها: أحسنت والله. فقالت: هذا غنائي وأنا عارية، فكيف لو كنت كاسة? فأمر لها بألف ثوب من جميع أنواع الثياب الخاصية، فحمل ذلك إليها. فقال لي علي بن يحيى المنجم: اجعل انصرافك معي. ففعلت، فقال لي: هل بلغك أن خليفة أمر لمغنية بمثل ما أمر به أمير المؤمنين اليوم لشارية? قلت: لا . فأمر بإخراج سير الخلفاء، فأقبل بها الغلمان يحملونها في دفاتر عظام، فتصفحناها كلها؛ فلما وجدنا أحدا قبله فعل ذلك.

 

يا طول علة قلبي المعـتـاد                      إلف الكرام وصحبة الأمجاد

مازلت آلف كل قرم ماجـد                      متقـدم الآبـاء والأجـداد الشعر لإبراهيم بن المهدي، والغناء لعلويه، خفيف رمل لشارية بالبنصر، ولم يقع إلينا فيه طريقة غير هذه.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعيد، قال: حدثني محمد بن مالك الخزاعي، قال: حدثتني ملح العطارة، وكانت من احسن الناس غناء، وإنما سنيت العطارة لكثرة استعمالها العطر المطيب، قالت: غنت شارية يوما بين يدي المتوكل وأنا واقفة مع الجواري:

بالله قولوا لي لمن ذا الرشـا                      المثقل الردف الهضيم الحشا

أظرف ما كان إذا ما صحـا                      وأملح الناس إذا ما انتشـى

وقد بنى برج حـمـام لـه                      أرسل فيه طائرا مرعشـا

 

صفحة : 1757

 

 

يا ليتني كنت حماما لـه                      أو باشقا يفعل بي ما يشا

لو لبس الوهي من رقة                      أرجعه القوهي أو خدشا وهو هزج ، فطرب المتوكل، وقال لشارية: لمن هذا الغناء? فقالت: أخلته من دار المأمون، ولا أدري لمن هو.

فقلت له أنا: أعلم لمن هو. فقال: لمن هو يا ملح? فقلت: أقوله لك سرا. قال: أنا في دار النساء، وليس يحضرني إلا حرمي، فقوليه. فقلت: الشعر والغناء جميعا لخديجة بنت المأمون، قالته في خادم لأبيها كانت تهواه وغنت فيه هذا اللحن. فأطرق طويلا، ثم قال: لا يسمع هذا منك أحد.

 

أحبك يا سلمى علـى غـير ربـية                      وما خير حب لا تعـف سـرائره

أحبك حـبـا لا أعـنـف بـعـده                      محبا، ولكـنـي إذا لـيم عـاذره

وقد مات حبي أول الحب انقضـى                      ولومت أضحى الحب قد مات آخره

ولما تناهى الحب في القلـب واردا                      أقام وسدت فيه عنـه مـصـادره الشعر للحسين بن مطير الأسدي والغناء لإسحق: هزج بالبنصر.

 

أخبار الحسين بن مطير ونسبه

هو الحسين بن مطير بن مكمل، مولى لبني أسد بن خزيمة، ثم لبني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد. وكان جده مكمل عبدا، فاعتقه مولاه. وقيل بل كاتبه، فسعى في مكاتبته حتى أداها وآعتق. وهو من مخضرمي الدولتين: الأموية والعباسية، شاعر متقدم في القصيد والرجز، فصيح، قد مدح بني أمية وبني العباس.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، عن محمد بن داود بن الجراح، عن محمد بن الحسن بن الحرون: أنه كان من ساكني زبالة ، وكان زيه وكلامه يشبه مذاهب الأعراب وأهل البادية. وذلك بين في شعره.

ومما يدل على إدراكه دولة بني أمية، ومدحه إياهم، ما أخبرنا به يحيى بن علي بن يحيى إجازة، قال: أخبرني أبي، عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن مرون بن أبي حفصة، قال: دخلت أنا وطريح بن إسماعيل الثقفي، والحسين بن مطير الأسدي، في عدة من الشعراء، على الوليد بن يزيد وهو في فرش قد غاب فيها ، وإذا رجل كلما أنشد ساعر شعرا، وقف الوليد على بيت بيت منه، وقال: هذا أخذه من موضع كذا وكذا، وهذا المعنى نقله من شعر فلان، حتى أتى على أكثر الشعراء. فقالت: من هذا? قالوا: هذا حماد الراوية. فلما وقفت بين يدي الوليد لأنشده، قلت: ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين وهو لحانة. فتهانف الشيخ، ثم قال: يا بن أخير، أنا رجل أكلم العامة، وأتكلم بكلامها، فهل تروي من أشعار العرب شيئا? فذهب عني الشعر كله، إلا شعر ابن مقبل فقلت: نعم، لابن مقبل. فأنشدته:

سل الدار من جنبي حبر فـواهـب                      إلى ما رأى هضب القليب المضيح ثم جزت. فقال: قف. ماذا يقول? فلم أدر ما يقول. فقال: يا بن أخير، أنا أعلم الناس بكلام العرب، يقال: تراءى الموضعان: إذا تقابلا.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، والحسن بن علي، ويحيى بن علي، قالوا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن علي، قال: حدثني أبي: أن الحسين بن مطير وفد على معن بن زائدة لما ولي اليمن وقد مدحه، فلما دخل عليه انشده:

أتيتك إذ لم يبق غيرك جـابـر                      ولا واهب يعطي اللها والرغائبا فقال له معن: يا أخا بني أسد، ليس هذا يمدح، إنما المدح قول نهار بن توسعة أخي بني تيم الله بن ثعلبة، في مسمع بن مالك.

 

قلدته عرا الأمور نـزار                      قبل أن تهلك السراة البحو قال: وأول هذا الشعر:

اظعني من هراة قد مر فيهـا                      حجج مذ سكنتهـا وشـهـور

اظعني نحو مسمـع تـجـديه                      نعم ذو المثنى ونعم المـزور

سوف يكفيك إن نبت بك أرض                      بخراسان أو جفـاك أمـيرر

من بني الحسن عامل بن بريح                      لا قليل الندى ولا مـنـزور

والذي يفزع الـكـمـاة إلـيه                      حين تدمى من الطعان النحور

فاصطنع يا بن مالك آل بكـر                      واجبر العظم إنه مكـسـور فغدا إليه بأرجوزته التي مدحه بها، وأولها:

حديث ريا حبذا إدلالـهـا

تسأل عن حالي وما سؤالها

عن امرىء قد شفه خيالها

وهيشفاء النفس لو تنا لهـا

سل سيوفا محدثا صقالهـا

صاب على أعدائه وبالهـا

 

صفحة : 1758

 

 

وعند معن ذي الندى أمثالها فاستحسنها وأجزل صلته.

أخبرني ابن عمار ويحيى بن علي، قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني أبو المثنى أحمد بن يعقوب بن أخت أبي بكر الأصم قال: كنا في مجلس الأصمعي، فأنشده رجل لدعبل بن علي:

أين الشباب وأية سلكا فاستحسنا قوله :

لا تعجبي يا سلم من رجـل                      ضحك المشيب برأسه فبكى فقال الأصمعي: هذا أخذه من قول الحسين بن مطير:

أين أهل القباب بـالـدهـنـاء                      أين جيراننا علـى الأحـسـاء

فارقونا والأرض ملـبـسة نـو                      ر الأقاحـي يجـاد بـالأنـواء

كل يوم بـأقـحـوان جـــديد                      تضحك الأرض من بكاء السماء أخبرني يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثني محمد بن القاسم الدينوري، قال: حدثني محمد بن عمران الضبي، قال: قال المهدي للمفضل الضبي: أسهرتني البارحة أبيات الحسين بن مطير الأسدي. قال: وما هي يا أمير المؤمنين? قال: قوله:

وقد تغدر الدنيا فيضحي فقيرهـا                      غنيا ويغنى بعد بؤس فقـيرهـا

فلا تقرب الأمر الحـرام فـإنـه                      حلاوته تفنى ويبقى مـريرهـا

وكم قد رأينا من تـغـير عـيشة                      وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها فقال له المفضل: مثل هذا فليسهرك يا أمير المؤمنين.

وقد أخبرني بهذا الخبر عمي رحمه الله أتم من هذا، قال: نسخت من كتاب المفضل بن سلمة: قال أبو عكرمة الضبي: قال المفضل الضبي: كنت يوما جالسا على بابي وأنا محتاج إلى درهم، وعلي عشرة آلاف درهم ، إذ جاءني رسول المهدي، فقال: أجب أمير المؤمنين. فقالت: ما بعث إلي في هذا الوقت إلا لسعاية ساع. وتخوفته، لخروجي- كان - مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن ، فدخلت منزلي، فتطهرت وليست ثوبين نظيفين، وصرت إليه. فلما مثلت بين يديه سلمت ، فرد علي، وأمرني بالجلوس. فلما سكن جأشي، قال لي: يا مفضل، أي بيت قالته العرب أفخر? فتشككت ساعة، ثم قلت: بيت الخنساء. وكان مستلقيا فاستوى جالسا، ثم قال: وأي بيت هو? قلت قولها:

وإن صخرا لتأتم الهداة به                      كأنه علم في رأسه نار فأومأ إلى إسحاق بن بزيع ، ثم قال: قد قلت له ذلك فأباه. فقلت: الصواب ما قاله أمير المؤمنين. ثم قال: حدثني يا مفضل. قلت: أي الحديث أعجب إلى أمير المؤمنين? قال: حديث النساء. حتى انتصف النهار، ثم قال لي: يا مفضل، أسهرني البارحة بيتا ابن مطير، وأنشد البيتين المذكورين في الخبر الاول. ثم قال: ألهذين ثالث يا مفضل? قلت: نعم يا أمير المؤمنين. فقال: وما هو? فأنشدته قوله:

وكم قد رأينا من تغـير عـيشة                      وأخرى صفا بعد ادرار غديرها وكان المهدي رقيقا فاستعبر، ثم قال: يا مفضل، كيف حالك? قلت: كيف يكون حال من هو مأخوذ بعشرة آلاف درهم? فأمر لي بثلاثين ألف درهم، وقال: اقض دينك، وأصلح شأنك، فقبضتها وانصرفت.

أخبرني يحيى بن علي، عن علي بن يحيى إجازة وحدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم عن عبد الله بن أبي سعد ، قال: حدثني إسحاق بن عيسى بن موسى بن مجمع، أحد بني سواربن الحارث الأسدي، قال: أخبرني جدي موسى بن مجمع، قال: قال الحسين بن مطير في المهدي قصيدته التي يقول فيها:

إليك أمير المؤمنين تـعـفـت                      بنا البيد هوجاء النجاء خبـوب

ولو لم يكن قدامها ما تقاذفـت                      جبال بها مغبـرة وسـهـوب

فتى هو من غير التخلق ماجـد                      ومن غير تأديب الرجال أديب

علا خلقه خلق الرجال وخلقـه                      إذ ضاق أخلاق الرجال رحيب

إذا شاهد الفؤاد سار أمامـهـم                      جريء على ما يتقون وثـوب

وإن غاب عنهم شاهدتهم مهابة                      بها يقهر الأعداء حين يغـيب

يعف ويستحي إذا كان خـالـيا                      كما عف واستحيا بحيث رقيب فلما أنشدها المهدي أمر له بسبعين ألف درهم وحصان جواد.

وكان الحسين من الثعلبية ، وتلك داره بها. قال ابن أبي سعد: وأرانيها الشيخ.

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد عن إسحق بن عيسى، قال: دخل الحسين بن مطير على المهدي، فأنشده قوله:

 

صفحة : 1759

 

 

لو يعبد الناس يا مهدي أفضـلـهـم                      ما كان في الناس إلا أنت معبـود

أضحت يمينك من جود مـصـورة                      لا بل يمينك منها صـور الـجـود

لو أن من نوره مثـقـال خـردلة                      في السود طرا إذن لا بيضت السود فأمر له لكل بيت بألف درهم.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثني أبي، قال: خرج المهدي يوما، فلقيه الحسين بن مطير، فأنشده قوله:

أضحت يمينك من جود مصورة                      لا بل يمينك منها صور الجود فقال: كذبت يا فاسق، وهل تركت من شعرك موضعا لأحد، بعد قولك في معن بن زائدة حيث تقول:

ألما بمعن ثم قـولا لـقـبـره                      سقيت الغوادي مربعا ثم مربعا أخرجوه عني، فأخرجوه.

وتمام الأبيات:

أيا قبر معن كـنـت أول حـفـرة                      من الأرض خطت للمكارم مضجعا

أيا قبر معن كـيف واريت جـوده                      وقد كان منه البر والبحر متـرعـا

بلى قد وسـعـت الـجـود مـيت                      ولو كان حيا ضقت حتى تصدعـا

فتى عيش في معروفه بعد مـوتـه                      كما كان بعد السيل مجراه ممرعـا

أبى ذكر معن أن تموت فـعـالـه                      وإن كان قد لاقى حماما ومصرعا أخبرني أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال: حدثني ابن مهرويه قال: حدثني علي بن عبيد الكوفي قال: حدثني الحسين بن أبي الخصيب الكاتب عن أحمد بن يوسف الكاتب، قال: كنت أنا وعبد الله بن طاهر عند المأمون وهو مستلق على قفاه، فقال لعبد الله بن ظاهر: يا أبا العباس، من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم? قال: أمير المؤمنين أعلم بهذا وأعلى عينا. فقال له: على ذلك فقل، وتكلم أنت أيضا يا أحمد بن يوسف. فقال عبد الله بن طاهر: أشعرهم الذي يقول:

أيا قبر معـن كـنـت أول خـطة                      من الأرض خطت للمكارم مضجعا فقال أحمد بن سوف: بل أشعرهم الذي يقول:

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي                      متـأخـر عـنـه ولا مـتـقـدم فقال: أبيت يا احمد إلا غزلا أين أنتم عن الذي يقول:

يا شقيق النفس من حكم                      نمت عن ليلي ولم أنم أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أبو خليفة عن التوزي، قال: قلت لأبي عبيدة: ما تقول في شعر الحسين بن مطير? فقال: والله لوددت أن الشعراء قاربته في قوله:

مخصرة الأوساط زانت عقودها                      بأحسن مما زينتها عقـودهـا

فصفر تراقيها، وحمر أكفـهـا                      وسود نواصيها، وبيض خدودها أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: أنشدنا محمد بن يزيد للحسين بن مطير، قال: كان سبب قوله هذه الأبيات أن واليا ولي المدينة، فدخل عليه الحسين بن مطير، فقيل له: هذا من أشعر الناس. فأراد أن يختبره، وقد كانت سحابة مكفهرة نشأت، وتتابع منها الرعد والبرق، وجاءت بمطر جود. فقال له: صف هذه السحابة. فقال:

مستضحك بلوامع مستعـبـر                      بمدامع لم تمرهـا الأقـذاء

فله بلا حزن ولا بـمـسـرة                      ضحك يراوح بينه وبـكـاء

كثرت لكثرة ودقه أطـبـاؤه                      فإذا تحلب فاضت الأطـبـاء

وكأن بارقه حريق تلـتـقـي                      ريح عليه وعـرفـج وألاء

لو كان من لجج السواحل ماؤه                      لم يبق في لجج السواحل ماء

إذا مـا أم عـبــد الـــل                      ه لـم تـحـلـل بــواديه

ولـم تـمـس قـريا هــي                      ج الـحــزن دواعـــيه

غزال راعـه الـقـنـــا                      تـحـمـيه صـياصــيه

ومـا ذكـرى حـبـيبــاو                      قلــيل مـــا أواتـــيه

كذى الخـمـر تـمـنـاهـا                      وقـد أنـزف سـاقـــيه

عرفت الربـع بـالإكـلـي                      ل عـفـتـه سـوافـــيه

بجـو نـاعـم الـحـــوذا                      ن مـلـتــف روابـــيه

 

صفحة : 1760

 

الشعر مختلط، بعضه للنعمان بن بشير الأنصاري، وبعضه ليزيد بن معاوية، فالذي للنعمان بن بشير منه الثلاثة الأبيات الأول والبيت الخير، وباقيها ليزيد بن معاوية . ورواه من لا يوثق به وبروايته لنوفل بن أسد بن عبد العزى. فأما من ذكر أنه للنعمان بن بشير فأبو عمرو الشيباني؛ وجدت ذلك عنه في كتابه، وخالد بن كلثوم، نسخته من كتاب أبي سعيد السكري في مجمنوع شعر النعمان. وتمام الأبيات للنعمان بن بشير بعد الأربعة الأبيات التي نسبتها إليه، فإنها متوالية ، قال:

فبحت اليوم بالأمر ال                      لذي قد كنت تخفـيه

فإن أكتـمـه يومـا                      فإني سـوف أبـديه

ومـا زلـت أفـديه                      وأدنـيه وأرقــيه

وأسعى في هـواه أ                      بدا حتـى ألا قـيه

فبات الريم منـي ح                      ذرا زلت مراقـبة والغناء لمعبد: خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. وذكره إسحاق في خفيف الرمل بالسبابة في مجرى البنصر، ولم ينسبه إلى احد. وفيه للغريض ثقيل أول بالوسطى، عن الهشامي وحنين.

 

أخبار النعمان بن بشير ونسبه

هو النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة بن خلاس بن زيد بن مالك الأغر بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج. وأمه عمرة بنت رواحة، وأخت عبد الله بن رواحة، والتي يقول فيها قيس بن الخطيم:

أجد بعمرة غنـيانـهـا                      فتهجر أم شاننا شانهـا

وعمرة من سروات النسا                      ء تنفح بالمسك أردانهـا وله صحبة بالنبي صلى الله عليه وسلم، ولأبيه بشير بن سعد. وكان جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه آخر، ليشهد معه غزوة له فيما قيل، فاستصغرهما فردهما.

وأبوه بشير بن سعد أول من قالم يوم السقيفة من الأنصار إلى أبي بكر رضي الله عنه فبايعه، ثم توالت الأنصار فبايعته. وشهد بشير بيعة العقبة وبدرا وأحدا والخندق والمشاهد كلها، واستشهد يوم عين التمر مع خالد بن الوليد.

وكان النعمان عثمانيا، وشهد مع معاوية صفين، ولم يكن معه من الأنصار غيره، وكان كريما عليه، رفيعا عنده وعند يزيد ابنه بعده، وعمر إلى خلافة مروان بن الحكم، وكان يتولى حمص. فلما بويع لمروان، دعا إلى ابن الزبير، وخالف على مروان، وذلك بعد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط. فلم يجبه أهل حمص إلى ذلك.

فهرب منهم، وتبعوه فأدركوه فقتلوه، وذلك في سنة خمس وستين.

ويقال إن النعمان بن بشير أول مولود ولد بالمدينة بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها. وقد قيل ذلك في عبد الله بن الزبير، إلا أن النعمان أول مولود ولد بعد مقدمه عليه السلام من النصار، روى ذلك عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم.

وروى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم كثيرا.

حدثني أحمد بن محمد بن الجعد الوشاء. قال حدثني أبو بكر بن أبي شبية، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن الحصين، عن الشعبي، قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: أعطاني أبي عطية، فقالت أمي عمرة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله فقال: ابني من عمرة أعطيته عطية فأمرتني أن أشهدك. فقال: أعطيت كل ولدك مثل هذا? قال: لا فقال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم.

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثنا محمد بن سعيد، قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، قال:

 

صفحة : 1761

 

أمر معاوية لأهل الكوفة بزيادة عشرة دنانير في أعطيتهم، وعامله يومئذ على الكوفة وأرضها النعمان بن بشير، وكان عثمانيا، وكان يبغض أهل الكوفة لرأيهم في علي عليه السلام. فأبى النعمان أن ينفذها لهم. فكلموه وسألوه بالله، فأبى أن يفعل. وكان إذا خطب على المنبر أكثر قراءة القرآن. وكان يقول: لا ترون على منبركم هذا أحدا بعدي يقول: إنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصعد المنبر يوما فقال: يا أهل الكوفة. فصاحوا : ننشدك الله والزيادة. فقال: اسكتوا. فلما أكثروا قال: أتدرون ما مثلي ومثلكم? قالوا: لا. قال: مثل الضبع والضب والثعلب: فإن الضبع والثعلب أتيا الضب في وجاره، فنادياه: أبا الحسل. فقال: سميعا دعوتما. قالا: أتيناك لتحكم بيننا. قال: في بيته يؤتي الحكم. قالت الضبع: إني حللت عيبتي. قال: فعل الحرة فعلت. قالت: فلقطت ثمرة. قال: طيبالقطت. قالت: فأكلها الثعلب. قال: لنفسه نظر. قالت: فلطمته. قال: بجرمه. قالت: فلطمني. قال: حر انتصر. قالت: فاقض بيننا. قال: قد فعلت. قال: حدث امرأة حديثين، فإن أبت فعشرة .

فقال عبد الله بن همام السلولي:

زيادتنا نعمان لا تحـبـسـنـهـا                      خف الله فينا والكتاب الذي تتلـو

فإنك قد حمـلـت مـنـا أمـانة                      بما عجزت عنه الصلاخمة البزل

فلا يك باب الشر تحسن فتـحـه                      وباب الندى والخيرات له قـفـل

وقد نلت سلطانا عظيما فلا يكـن                      لغيرك جمات الندى ولك البخـل

وأنت امرؤ حلو اللسان بـلـيغـه                      فما باله عند الـزيادة لا يحـلـو

وقبلك قد كانـوا عـلـينـا أئمة                      يهمهم تقويمنـا وهـم عـصـل

إذا نصبوا للقول قالوا فأحسـنـوا                      ولكن حسن القول خالفه الفعـل

يذمون دنياهم وهم يرضعونـهـا                      أفاويق حتى ما يدر لهم ثـعـل

فيا معشر الأنصار إني أخـوكـم                      وإني لمعروف أنى منكـم أهـل

ومن أجل إيواء النبي ونـصـره                      يحبكم قلبي وغـيركـم الأصـل فقال النعمان بن بشير: لا عليه ألا يتقرب ، فوالله لا أجيزها ولا أنفذها أبدا.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا الأصمعي ، قال: حدثني شيخ قديم من اهل المدينة. وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو غسان، عن أبي السائب المخزومي. وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي عن حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: ذكر لي عن جعفر بن محرز الدوسي قال: دخل النعمان بن بشير المدينة في أيام يزيد بن معاوية وابن الزبير، فقال: والله لقد أخفقت أذناي من الغناء، فأسمعوني. فقيل له: لو وجهت إلى عزة الميلاء، فإنها من قد عرفت. فقال: إي ورب الكعبة، وإنها لمعن تزيد النفس طيبا، والعقل شحذا. ابعثوا إليها عن رسالتي، فإن أبت صرت إليها. فقال له بعض القوم: إن النقلة تشتد عليها، لثقل بدنها، وما بالمدينة دابة تحملها. فقال النعمان بن بشير: وأين النجائب عليها الهوادج? فوجه إليها بنجب، فذكرت علة. فلما عاد الرسول إلى النعمان قال لجليسه: أنت كنت أخبر بها، قوموا بنا. فقام هو مع خواص أصحابه حتى طرقوها. فأذنت وأكرمت واعتذرت، فقبل النعمان عذرها، وقال لها: غني، فغنت:

أجد بعمرة غنـيانـهـا                      فتهجر أم شاننا شانهـا

وعمرة من سروات النسا                      ء تنفح بالمسك أردانهـا قال: فأشير إليها أنها أمه، فأمسكت. فقال: غني، فوالله ما ذكرت إلا كرما وطيبا، ولا تغني سائر اليوم غيره. فلم تزل تغنيه هذا اللحن فقط حتى انصرف.

قال إسحاق: فتذكروا هذا الحديث عند الهيثم بن عدي، فقال: ألا أزيدكم فيه طريفة? فقلنا: بلى، يا أبا عبد الرحمن. فقال: قال لقيط ونحن عند سعيد الزبيري ، قال عامر الشعبي: اشتاق النعمان بن بشير إلى الغناء، فصار إلى منزل عزة الميلاء، فلما انصرف إذا امرأة بالباب منتظرة له. فلما خرج شكت إليه كثرة غشيان زوجها إياها، فقال النعمان: لأفضين بينكما بقضية لا ترد علي، قد أحل الله له من النساء أربعا: مثنى، وثلاث، ورباع، له مرتان بالنهار، ومرتان بالليل.

 

 

صفحة : 1762

 

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال حدثني عمي، عن العباس بن هشام ، عن أبيه؛ وأخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الكلبي . وأخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثني العمري عن الهيثم بن عدي، قالوا: خرج أعشى همدان إلى الشام في ولاية مروان بن الحكم، فلم ينل فيها حظا؛ فجاء إلى النعمان بن بشير وهو عامل على حمص، فشكا إليه حاله. فكلم له النعمان اليمانية، وقال لهم: هذا شاعر اليمن ولسانها، واستماحهم له. فقالوا: نعم، يعطيه كل واحد منا دينارين من عطائه. فقال: أعطه دينارا، واجعلوا ذلك معجلا. فقالوا له: أعطه إياه من بيت المال، واحتسب ذلك على كل رجل من عطائه. ففعل النعمان ذلك، وكانوا عشرين ألفا، فأعطاه عشرين ألف دينار، وارتجعا متهم عند العطاء. فقال الأعشى يمدح النعمان:

ولم أر للحاجات عند التماسهـا                      كنعمان نعمان الندى ابن بشـير

إذا قال أوفى ما يقول ولم يكـن                      كمدل إلى الأقوام حبل غـرور

متى أكفر النعمان لا ألف شاكرا                      وما خير من لا يقتدي بشكـور

فلو لا أخو الأنصار كنت كنازل                      ثوى ماثوى لم ينقلب بنـقـير أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، وحبيب بن نصر المهلبي قاللا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا يحيى الزبيري قال حدثني ابن أبي زريق، قال: شبب عبد الرحمن بن حسان برملة بنت معاوية، فقال:

رمل هل تذكرين يوم غـزال                      إذ قطعنا مسيرنا بالتـمـنـي

لإذ تقولين عمرك الله هل شيء                      وإن جل سوف يسليك عنـي

أم هل اطمعت منكم يا بن حسا                      ن كما قد أراك أطمعت مني فبلغ ذلك يزيد بن معاوية، فغضب ودخل على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، ألا ترى إلى هذا العلج من أهل يثرب، يتهكم بأعراضنا، ويشبب بنسائنا? فقال: ومن هو? قال: عبد الرحمن بن حسان. وأنشده ما قال.

فقال: يا يزيد؛ ليس العقوبة من أحد أقبح منها بذوي القدرة، ولكن أمهل حتى يقدم وفد الأنصار، ثم أذكرني به. فلما قدموا أذكره به. فلما دخلوا، قال: يا عبد الرحمن، ألم يبلغني أنك شببت برملة بنت أمير المؤمنين? قال: بلى، ولو عملت أن أحدا أشرف لشعري منها لذكرته. فقال: فأين أنت عن اختها هند? قال: وإن لها لأختا يقال لها هند? قال: نعم. وإنما أراد معاوية أن يشبب بهما جميعا، فيكذب نفسه. قال: فلم يرضى يزيد ما كان من معاوية في ذلك، فأرسل إلى كعب بن الجعيل، فقال: اهج الأنصار. فقال: أفرق من أمير المؤمنين، ولكن أدلك على هذا الشاعر الكافر الماهر الأخطل. قال: فدعاه، فقال له: أهج الأنصار. فقال: أفرق من امير المؤمنين. قال: لا تخف شيئا، أنا بذلك لك. فهجاهم، فقال:

وإذا نسبت ابن الفريعة خلتـه                      كالجحش بين حمارة وحمار

لعن الإله من اليهود عصـابة                      بالجزع بين صليصل وصدار

قوم إذا هدر العصير رأيتهـم                      حمرا عيونهم من المسطـار

خلو المكارم لستم من أهلهـا                      وخذوا مساحيكم بني النجـار

إن الفوارس يعرفون ظهوركم                      أولاد كل مـقـبـح أكـار

ذهبت قريش بالمكارم والعلا                      واللؤم تحت عمائم الأنصـار فبلغ ذلك النعمان بن بشير، فدخل على معاوية، فحسر عمامته عن رأسه، وقال: يا امير المؤمنين، أترى لؤما? قال: بل أرى كرما وخيرا. قما ذاك? قال: زعم الأخطل أن اللؤم تحت عمائم الأنصار. قال: أو فعل ذلك? قال: نعم. قال لك لسانه. وكتب فيه أن يؤتي به. فلما أتى به، سأل الرسول أن يدخله إلى يزيد أولا، فأدخله عليه. فقال له: هذا الذي كنت أخاف. قال: لا تخف شيئا. ودخل إلى معاوية، فقال: علام أرسل إلى هذا الرجل الذي يمدحنا، ويرمي من وراء جمرتنا ? قال: هجا الأنصار. قال: ومن زعم ذلك? قال: النعمان بن بشير. قال: لا تقبل قوله عليه، وهو المدعى لنفسه، ولكن تدعوه بالبينة، فإن أثبت شيئا أخذت به له. فدعاه بالبينة، فلم يأت بها، فخلى سبيله، فقال الأخطل:

وإني غداة استعبرت أم مالـك                      لراض من السلطان أن يتهددا

ولولا يزيد ابن الملوك وسعيه                      تجللت حد بارا من الشر أنكدا

 

صفحة : 1763

 

 

فكم أنقذتني من خطوب حـبـالـه                      وخرساء لو يرمى بها الفيل بلـدا

ودافع عني يوم جـلـق غـمـرة                      وهما ينسيني الشراب الـمـبـردا

وبات نجيا فـي دمـشـق لـحـية                      إذاا هم لم ينم السلـيم وأقـصـدا

يخافته طـورا، وطـورا إذا رأى                      من الوجه إقبـالا ألـح وأجـهـدا

أبا خالد دافعت عـنـي عـظـيمة                      وأدركت لحمي قبـل أن يتـبـددا

وأطفأت عني نار نعمان بـعـدمـا                      أغـذ لأمـر فـاجـر وتـجـردا

ولما رأى النعمان دوني ابن حـرة                      طوى الكشح إذ لم يستطعني وعردا لما أمر يزيد بن معاوية كعب بن الجعيل بهجاء الأنصار، قال له: أرادي أنت إلى الكفر بعد الإسلام? أأهجو قوما آووا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصروه? قال: أما إذ كنت غير فاعل فأرشدني إلى من يفعل ذلك. قال: غلام منا خبيث الدين نصراني، فدله على الأخطل.

أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن أبي الخطاب، قال: لما كثر الهجاء بين عبد الرحمن بن حسان بن ثابت وعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي، وتفاحشا، كتب معاوية إلى سعيد بن العاصي وهو عامله على المدينة، أن يجلد كل واحد منهما مئة سوط، وكان ابن حسان صديقا لسعيد، وما مدح أحدا غيره قط، فكره أن يضربه أو يضرب ابن عمه، فأمسك عنهما. ثم ولي مروان. فلما قدم أخذ ابن حسان فضربه مئة سوط، ولم يضرب أخاه. فكتب ابن حسان إلى النعمان بن بشير وهو بالشام، وكان كبيرا أثيرا مكينا عند معاوية:

ليت شعري أغائب ليس بالشـا                      م خليلي أم راقـد نـعـمـان

أية ما يكن فقد يرجـع الـغـا                      ئب يوما ويوقظ الـوسـنـان

إن عمرا وعـامـرا أبـوينـا                      وحراما قدما على العهد كانوا

أفهم ما نعـوك أم قـلة الـك                      تاب أم أنت عاتب غضـبـان

أم جفاء أم أعوزتك القراطـي                      س أم امري به عليك هـوان

يوم أنبئت أن ساقـي رضـت                      وأتتكم بـذلـك الـركـبـان

ثم قالوا إن ابن عمك في بـل                      وى أمور أتى بها الحـدثـان

فنسيت الأرحام والود والصـح                      بة فيما أتـت بـه الأزمـان

إنما الرمح فاعلـمـن قـنـاة                      أو كبعض العيدان لو لا السنان وهي قصيدة طويلة. فدخل النعمان بن بشير على معاوية، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك أمرت سعيدا بأن يضرب ابن حسان وابن الحكم مئة مئة، فلم يفعل، ثم وليت أخاه، فضرب ابن حسان ولم يضرب أخاه: قال. فتريد ماذا ? قال: أن تكتب إليه بمثل ما كتبت به إلى سعيد. فكتب معاوية إليه يعزم عليه أن يضرب أخاه مئة. فضربه خمسين، وبعث إلى ابن حسان بحلة، وسأله أن يعفو عن خمسين. ففعل، وقال لأهل المدينة: إنما ضربني حد الحر مئة، وضربه حد العبد خمسين. فشاعت هذه الكلمة حتى بلغت ابن الحكم. فجاء إلى أخيه فأخبره، وقال: لا حاجة لي فيما عفا عنه ابن حسان. فبعث إليه مروان: لا حاجة لنا فيما تركت، فهلم فاقتص من صاحبك. فحضر فضربه مروان خمسين أخرى.

أخبرني الحسن بن علي، قال: أخبرنا أحمد بن الخحارث، قال: حدثنا المدائني، عن يعقوب بن دواد الثقفي ومعاوية بن محارب : أن معاوية تزوج امرأة من كلب، فقال لا مرأته ميسون أم يزيد بن معاوية: ادخلي فانظري إلى ابنة عمك هذه . فأتتها فنظرت إليها، ثم رجعت فقالت: ما رأيت مثلها، ولقد رأيت خالا تحت سرتها ليوضعن تحت مكانهفي حجرها رأس زوجها. فنطير من ذلك، فطلقها، فتزوجها حبيب بن مسلمة، ثم طلقها، فتزوجها النعمان بن بشير، فلما قتل وضعوا رأسه في حجرها.

قالوا: وكان النعمان بن بشير لما قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط، في خلافة مروان بن الحكم، أراد أن يهرب من حمص، وكان عاملا عليها، فخالف ودعا لابن الزبير، فطلبه أهل حمص، فقتلوه واحتزوا رأسه. فقالت امرأته هذه الكلبية: ألقوا رأسه في حجري، فأنا أحق به. فألقوه في حجرها، فضمته إلى جسده، وكفنته ودفنته.

أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، قال: حدثنا أبو عبيدة، فقال:

 

صفحة : 1764

 

نظر معاوية إلى رجل في مجلسه، فراقه حسنا وشارة وجسما، فاستنطقه فوجده سديدا. فقال له: ممن أنت? قال: ممن أنعم الله عليه بالإسلام، فاجعلني حيث شئت يا أمير المؤمنين. قال: عليك بهذه الأزد الطويلة العريضة، الكثر عددها، التي لا تمنع من دخل فيهم، ولا تبالي من خروج منهم. فغضب النعمان بن بشير، ووثب من بين يديه، وقال: أما والله أنك ما علمت لسيء المجالسة لجليسك، عاق بزورك ، قليل الرعاية لأهل الحرمة بك فأقسم عليه إلا جلس فجلس. فضحكه معاوية طويلا، ثم قال له: إن قوما أولهم غسان وآخرهم النصار، لكرام.

وسأله عن حوائجه، فقضاها حتى رضى.

نسخت من كتاب أبي سعيد السكري بخطه: أخبرنا ابن حبيب، قال: قال خالد بن كلثوم.

خرج النعمان بن بشير في ركب من قومه وهو يومئذ حديث السن، حتى نزلوا بأرض من الأردن يقال لها حفي ، وحاضرتها بنو القين. فأهدت لهم امرأة من بني القين يقال لها ليلى، هدية . فبينا القوم يتحدثون ويذكرون الشعراء، إذ قال بعضهم: يا نعمان هل قلت شعرا? قال: لا والله ما قلت، فقال شيخ من الحارث بن الخزرج يقال له ثابت بن سماك: لم تقل شعرا قط? قال: لا. قال: فأقسم عليك لتربطن إلى هذه الرحة، فلا تفارقها حتى يرتحل القوم، أو تقول شعرا. فقال عند ذلك، وهو أول شعر قاله:

يا خليلي ودعا دار لـيلـى                      ليس مثلي يحل دار الهوان

إن قينية تحـل مـحـبـا                      وحفيرا فجنبتي ترفـلان

لا تؤاتيك في المغيب إذا ما                      حال من دونها فروع قنان

إن ليلى ولو كلفت بليلـى                      عاقها عنك عائق غيروان قال: وضرب الدهر على ذلك، وأتى عليه زمن طويل. ثم أن ليلى القينية قدمت عليه بعد ذلك، وهو أمير على حمص، فلما رأها عرفها فأنشأ يقول:

فإن أناسا زرتهم ثم حرمـوا                      عليك دخول البيت غير كرام واحسن صلتها، ورفدها طول مقامها، إلى أن رحلت عنه.

أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن الحسن بن مسعود، عن أبيه، عن مشيخة من النصار، قال: حضرت وفود النصار باب معاوية بن أبي سفيان، فخرج إليهم حاجبه سعد أبو درة - وقد حجب بعده عبد الملك بن مروان- فقالوا له: استاذن للأنصار. فدخل إليه وعنده عمرو بن العاص، فاستأذن لهم. فقال لهم عمرو: ما هذا اللقب يا أمير المؤمنين? اردد القوم إلى أنسابهم. فقال معاوية: إني أخاف من ذلك الشنعة. فقال: هي كلمة تقولها، إن مضت عضتهم ونقصتهم، وإلا فهذا الاسم راجع إليهم. فقال له: اخرج فقل: من كان ههنا من ولد عمرو بن عامر فليدخل. فقالها الحاجب، فدخل ولد عمرو بن عامر كلهم إلا الأنصار. فنظر معاوية إلى عمرو نظرا منكرا، فقال له: باعدت جدا. فقال: اخرج فقل: من كان ههنا من الأوس والخزرج فليدخل. فخرج فقالها، فلم يدخل أحد. فقال له معاوية: أخرج فقل: من كان ههنا من الأنصار فليدخل. فخرج فقالها، فدخلوا يقدمهم النعمان بن بشير وهو يقول:

يا سعد لا تعد الدعاء فما لنـا                      نسب نجيب به سوى الأنصار

نسب تخيره الإله لقـومـنـا                      أثقل به نسبا على الكـفـار

إن الذين ثووا ببدر مـنـكـم                      يوم القليب هم وقود الـنـار فقال معاوية لعمرو: قد كنا أغنياء عن هذا .

والنعمان بن بشير: هو من المعروفين في الشعر سلفا وخلفا، جده شالعر، وأبوه شاعر، وعمه شاعر، وهو شاعر، وألاده وأولاد أولاده شعراء.

فأما جده سعد بن الحصين فهو القاتل.

 

إن كنت سائلة والحق مـعـتـبة                      فالأزد نسبتنا والمـاء غـسـان

شم الأنوف لهم عز ومـكـرمة                      كانت لهم من جبال الطود أركان وعمه الحسين بن سعد أخو بشير بن سعد، القائل:

إذا لم أزلا إلا لآكـل أكـلة                      فلا رفعت كفي إلي طعامي

فما أكلة إن نلتها بـغـنـيمة                      ولا جوعة إن جعتها بغـرام وأبوه بشير بن سعد الذي يقول :

لعمرة بالبطحاء بـين مـعـرف                      وبين المطاف مسكن ومحاضر

لعمري لحي بين دار مـزاحـم                      وبين الجثا لا يجشم السير حاضر

وحي حلال لا يروع سربـهـم                      لهم من وراء القاصيات زوافر

 

صفحة : 1765

 

 

أحق بها مـن فـتـية وركـائب                      يقطع عنها الليل عوج ضوامـر

تقول وتذري الدمع عن حر وجهها                      لعلك نفسي قبل نفسـك بـاكـر

أباح لها بطريق فارس غـائطـا                      لها من ذرا الجولان بقل وزاهر

فقربتها للرحل وهـي كـأنـهـا                      ظليم نعام بالـسـمـاوة نـافـر

فأوردتها ماء فما شـربـت بـه                      سوى أنه قد بل منها المشـافـر

فباتت سراها ليلة ثـم عـرسـت                      بيثرب والأعراب باد وحـاضـر قال خالد بن كلثوم: ودخل النعمان بن بشير على معاوية لما هجا الخطل الأنصار، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:

معاوي إلا تعطنا الحق تعتـرف                      لحى الزد مشدودا عليها العمـائم

أيشتمنا عـبـد الأراقـم ضـلة                      وماذا الذي تجدى عليك الأراقـم

فمالي ثأر غير قطع لـسـانـه                      فدونك من يرضيه عنك الدراهم

وأرع رويدا لا تسـمـتـا دنـية                      لعلك في غب الحـوادث نـادم

متى تلق منا عصبة خـزرجـية                      أو الأوس يوما تخترمك المخارم

وتلقك خيل كالقطا مسـبـطـرة                      سماطيط أرسال عليها الشكـائم

يسومها العمران عمرو بن عامر                      وعمران حتى تستباح المحـارم

ويبدو من الخود الغريرة حجلهـا                      وتبيض من هول السيوف المقادم

فتطلب شعب الصدع بعد انفتاقـه                      فتعيا به فالآن والأمـر سـالـم

وإلا فـبـزي لامة تـبـعــيه                      مواريث آباني وأبـيض صـارم

وأجرد خوار العـنـان كـأنـه                      بدومة موشي الذراعـين صـائم

وأسمر خطي كـن كـعـوبـه                      نوى القسب فيها الهذمي ضبارم

فإن كنت لم تشهد ببـدر وقـيعة                      أذلت قريشا والأنـوف رواغـم

فسائل بناحي لؤي بـن غـالـب                      وأنت بما تخفي من الأمر عالـم

ألم تبتدركم يوم بـدر سـيوفـنـا                      وليلك عما ناب قـومـك نـائم

ضربناكم حتى تفرق جمعـكـم                      وطارت أكف منكم وجمـاجـم

وعاذت على البيت الحرام عوانس                      وأنت على خوف عليك تـمـائم

وعضت قريش بالأنامل بغـضة                      ومن قبل ما عضت علينا الأباهم

فكنا لها في كـل أمـر تـكـيده                      مكان الشجا والأمر فيه تفـاقـم

فما إن رمى رام فأوهى صفاتنـا                      ولا ضامنا يوما من الدهر ضائم

وإني لأغضي عن أمور كثـيرة                      سترقى بها يوما إليك السـلالـم

أصانع فيها عبد شمس وانـنـي                      لتلك التي في النفس مني أكاتـم

فلا تشتمنا يا بن حرب فـإنـمـا                      ترقي إلى تلك الأمور الأشـائم

فما أنت والأمر الذي لست أهلـه                      ولكن ولي الحق والأمر هاشـم

إليهم يصير الأمر بعد شـتـاتـه                      فمن لك بالأمر الذي هـو لازم

بهم شرع الله الهدى واهتدى بهـم                      ومنهم له هـاد إمـام وخـاتـم قال: فلما بلغت هذه الأبيات معاوية، أمر بدفع الأخطل إليه، ليقطع لسانه. فاستجار ببزيد بن معاوية، فمنع منه وأرضوا النعمان، حتى رضى وكف عنه.

وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه: لما ضرب مروان بن الحكم عبد الرحمن بن حسان الحد، ولم يضرب أخاه، حين تهاجيا وتقاذفا، كب عبد الرحمن إلى النعمان بن بشير يشتكي ذلك إليه، فدخل إلى معاوية وأنشأ يقول:

يا بن أبي سفيان ما مثلـنـا                      جار عليه ملـك أو امـير

اذكر بنا مقدم أفـراسـنـا                      بالحنو إذ أنت إلينا فـقـير

واذكر غداة الساعدي الـذي                      آثركم بالأمر فيها بـشـير

واحذر عليهم مثل بدر فقـد                      مر بكم يوم ببدر عـسـير

إن ابن حـسـان لـه ثـائر                      فأعطه الحق تصح الصدور

ومثل أيام لـنـا شـتـتـت                      ملكا لكم أمرك فيها صغير

أما ترى الأزد وأشياعـهـا                      نحوك خزرا كاظمات تزير

 

صفحة : 1766

 

 

يطوف حولي منهم مـعـشـر                      إن صلت صالوا وهم لي نصير

يأبى لنا الضيم فـلا يعـتـلـي                      عز مـنـيع وعـديد كـثـير

وعنصر في حـر جـر ثـومة                      عادية تنتقل عنها الصـخـور أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي، قال: حدثني العمري، عن الهيثم بن عدي قال: حضرت الأنصار باب معاوية ومعهم النعمان بن بشير، فخرج إليهم سعد أبو درة، وكان حاجب معاوية، ثم حجب عبد الملك بن مروان، فقال: استأذن لنا. فدخل، فقال لمعاوية: الأنصار بالباب. فقال له عمرو بن العاص: ما هذا اللقب الذي قد جعلوه نسبا? أردهم إلى نسبهم. فقال معاوية: إن علينا في ذلك شناعة. قال: وما في ذلك? إنما هي كلمة مكان كلمة، ولا مرد لها. فقال له معاوية: اخرج فناد من بالباب من ولد عمرو بن عامر فيدخل. فخرج فنادى بذلك، فدخل من كان هناك منهم سوى الأنصار. فقال له: أخرج فناد من كان هههنا من الأوس والخزرج فليدخل. فخرج فنادى ذلك، فوثب النعمان بن بشير، فأنشأ يقول:

يا سعد لا تعد الدعاء فما لنـا                      نسب نجيب به سوى الأنصار

نسب تخيره الإله لقـومـنـا                      أثقل به نسبا على الكـفـار

إن الذين ثووا ببدر مـنـكـم                      يوم القليب هم وقود الـنـار وقام مغضبا وانصرف. فبعث معاوية فرده، فترضاه وقضى حوائجه وحوائج من حضر معه من الأنصار.

ومن مخار شعر النعمان قوله، رواها خالد بن كلثوم، واخترت منها:

إذا ذكـرت أم الـــحـــويرث أخـــضـــلـــت                      دمـوعـي عـلـى الـسـربـال أربـعة سـكــبـــا

كأنـي لـمـا فـرقـت بـينـــنـــا الـــنـــوى                      أجـاور فـي الأغـلال تـغـلـب أو كـــلـــبـــا

وكـنـا كـمـاء الـعـين والـجــفـــن لا تـــرى                      لواش بـغـى نـقـض الـهـوى بـينـنـــا إربـــا

فأمـسـى الـوشــاة غـــيروا ود بـــينـــنـــا                      فلا صـلة تــرعـــى لـــدي ولا قـــربـــى

جرى بيننا سعي الوشاة فأصبحتكأني ولم أذنب جنيت لها ذنبا

فإن تصرميني تصرمي بي واصلا                      لدي الـود مـعـراضـا إذا مـا الـتـوى صـعـبـــا

عزفـا إذا خـاف الـهـــوان عـــن الـــهـــوى                      ويأبـى فـلا يعـطـي مـودتــه غـــصـــبـــا

فإن أسـتـطـع أصـبـر وإن يغـلــب الـــهـــوى                      فمـثـل الـذي لاقـيت كـلـفـنـي نــصـــبـــا واخترت هذه الأبيات من قصيدة أخرى، وأولها:

أهيج دمعك رسم الـطـلـل                      عفا غير مطرد كالـخـلـل

نعم فاستهـل لـعـرفـانـه                      يسح ويهمى بفيض سـبـل

ديار الألـوف وأتـرابـهـا                      وأنت من الحب كالمخـبـل

ليالي تسبي قلـوب الـرجـا                      ل تحت الخدور بحسن الغزل

من الناهضات بأعجـازهـن                      حين يقوم جزيل الـكـفـل

كأن الرضاب وصوب السحا                      ب بات يشاب بذوب العسـل

من الليل خالـط أنـيابـهـا                      بعيد الكرى واختلاف العلـل أخذ هذا المعنى جميل منه، فقال:

وكأن طارقها على علل الكرى                      والنجم وهنا قد دنا لتـغـور

يشتم ريح مدامه مـعـلـولة                      بسحيق مسك في ذكي العنبر وفي هذه القصيدة يقول النعمان:

وأورع شـرف حـــازم                      صروم وصول حبال الخلل

كريم البلاء صبور اللـقـا                      ء وصافي الثناء قليل العذل

عظيم الرماد طويل العمـا                      د واري الزناد بعيد القفـل

أقمت لـه ولأصـحـابـه                      عمود السرى بذمول رمل

مداخلة سـرحة جـسـرة                      على الأين دوسرة كالجمل ومن شعراء ولد النعمان بن بشير، ابنه عبد الله بن النعمان، وهو القائل:

ماذا رجاؤك غائبـا                      من لا يسرك شاهدا

وإذا دنــوت يزيده                      منك الدنو تباعـدا ومنهم عبد الخالق بن أبان بن النعمان بن بشير، شاعر مكثر، وهو القاتل في قصيدة طويلة:

وشاد أبونا الشيخ عمر بن عامر                      بأعلى ذرا العلياء ركنا نـأثـلا

وخط حياض المجد مترعة لنـا                      ملاء فعل الصفو منها وأنهـلا

وأشرع فيها الناس بعد، فما لهم                      من المجد إلا سؤره حين أفضلا

 

صفحة : 1767

 

 

وفي غيرنا مجد من الناس كلهم                      فأما كمثل العشر من مجدنا فلا وله أشعار كثيرة لم أحب الإطالة بذكرها.

ومنهم شبيب بن يزيد بن النعمان بن بشير، شاعر مكثر مجيد، وهو القاتل من قصيدة طويلة، يعاتب بني أمية عند اختلاف أمرهم في أيام الوليد بن يزيد وبعده، أولها:

يا قلب صبرا جميلا لا تمت حزنـا                      قد كنت من أن ترى جلد القوى قمنا يقول فيها:

بل أيها الراكب المزجي مطيته                      لقيت حيث توجهت الثنا الحسنا

أبلغ أمية أعلاها وأسفـلـهـا                      قولا ينفر عن نوامها الوسنـا

إن الخلافة أمر كان يعظمـه                      خيار أولكم قـدمـا واولـنـا

فقد بقرتم بأيديكم بطـونـكـم                      وقد وعظتم فما أحسنتم الأذنـا

أغريتم بكم جهـلا عـدوكـم                      في غير فائدة فاستو سقوا سننا

لما سفكتم بأيديكـم دمـاءكـم                      بغيا وغشيتم أبوابـكـم درنـا ومنهم إبراهيم بن بشير بن سعد، أخو النعمان، شاعر مكثر، وهو القاتل في قصيدة طويلة:

أشاقتك أظعان الحدوج البـواكـر                      كنخل النجير الشامخات المواقـر

على كل فتلاء الذراعين جـسـرة                      وأعيس نضاخ المهـد عـذافـر

نعم فاستدرت عبرة العـين لـوعة                      وما أنت عن ذكرى سليمى بصابر

ولم أر سلمى بعد إذ نحـن جـيرة                      من الدهر إلا وقفة بالمشـاعـر

ألا رب ليل قـد سـريت سـواده                      إلى ردح الأعجاز غر المحاجـر

ليالي يدعوني الصبـا فـأجـيبـه                      أجر إزاري عاصيا أمر زاجري

وإذ لمتي مثل الـجـنـاح أثـيثة                      أمشي الهوينى لا يروع طـائري

فأصبحت قد ودعت كـم بـغـيره                      مخافة ربي يوم تبلـى سـرائري وبنت النعمان بن بشير، واسمها حميدة، كانت شاعرة ذات لسان وعارضة وشر، فكانت تهجو أزواجها.

وكانت تحت الحارث بن خالد المخزومي، وقيل بل كانت تحت المهاجر بن عبد الله بن خالد، فقالت فيه:

كهول دمشق وشـبـانـهـا                      أحب إلي مـن الـجـالـيه

صماحهم كصمـاح الـتـيو                      س أعيا على المسك والغاليه

وقمل يدب دبـيب الـجـراد                      أكاريس أعيا على الفـالـيه فطلقها. فتزوجها روح بن زنباع، فهجته، وقالت تخاطب أخاها الذي زوجها من روح، وتقول:

أضل الله حلمك من غلام                      متى كانت مناكحنا جذام

أترضى بالأكارع والذنابى                      وقد كنا يقر لنا السـنـام وقالت تهجو روحا.

 

بكى الخز من روح وأنكر جلـده                      وعجت عجيجا من جذام المطارف

وقال العباء نحن كنـا ثـيابـهـم                      وأكـسـية كـدرية وقـطـائف فطلقها روح، وقال: سلط الله عليك بعلا يشرب الخمر ويقيتها في حجرك. فتزوجت بعده الفيض بن أبي عقيل الثقفي، وكان يسكر ويقيء في حجرها. فكانت تقول: أجيبت في دعوة روح. وقالت في الفيض:

سميت فيضا وما شيء تفيض بـه                      إلا بسلحك بين الـبـاب والـدار

فتلك دعوة روح الخير أعرفـهـا                      سقى الإله صداه الأوطف الساري وقالت فيه:

وهل أنا إلا مـهـرة عـربـية                      سليلة أفراس تجللـهـا بـغـل

فإن نتجت مهرا كريما فبالحـرى                      وإن كان إقراف فما أنجب الفحل هكذا روى خالد بن كلثوم هذين البيتين لها، وغيره يرويهما لمالك بن أسماء لما تزوج الحجاج أخته هندا.

وهي القائلة لما تزوج الحجاج أختها أم أبان:

قد كنت أرجو بعض ما يرجو الراج                      أن تكحـيه مـلـكـا أو ذا تـاج

إذا تذكـرت نـكـاح الـحـجـاج                      تضرم القلـب بـحـزن وهـاج

وفاضت العـين بـمـاء ثـجـاج                      لو كان نعمـان قـتـيل الأعـلاج

مستوي الشخص صـحـيح الأوداج                      ما نلت ما تلت بخـتـل الـدراج فأخرجها الحجاج من العراق، وردها إلى الشأم.

 

نفرت قلوصي من حجارة حرة                      بنيت على طلق اليدين وهوب

لا تنفري يا ناق منـه فـإنـه                      شريب خمر مسعر لحـروب

 

صفحة : 1768

 

 

لا يبعدن ربيعة بن مـكـدم                      وسقى الغوادي قبره بذنوب

لولا السفار وبعد خرق مهمه                      لتركتها تجو على العرقوب يقال إن الشعر لحسان بن ثابت الأنصاري، ويقال: إنه لضرار بن الخطاب الفهري.

أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام، قال: الصحيح أن هذه الأبيات لعمرو بن شقيق، أحد بني فهر بن مالك. ومن الناس من يرويها لمكرز بن حفص بن الأحنف الفهري ، وعمرو بن شقيق أولى بها.

والغناء لمالك: خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر .

 

خبر مقتل ربيعة بن مكدم ونسبه

وهذا الشعر قيل في قتل ربيعة بن مكدم بن عامر بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن جذل الطعان بن فراس بن عثمان بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، أحد فرسان مضر المعدودين، وشجعانهم المشهورين، قتله نبيشة بن حبيب السلمى في يوم الكديد.

وكان السبب في ذلك فيما ذكره محمد بن الحسن بن دريد، إجازة عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة؛ ونسخته أيضا من رواية الأصمعي وحماد صاحب أبي غسان دماذ والأثرم، فجمعتها ههنا.

قال أبو عبيدة: قال أبو عمرو بن العلاء: وقع تدارؤ بين نفر من بني سليم بن منصور وبين نفر من بني فراس بن مالك بن كنانة، فقتلت بنو فراس رجلين من بني سليم بن منصور، ثم إنهم ودوهما. ثم ضرب الدهر ضربانه، فخرج نبيشة بن حبيب السلمي غازيا، فلقى ظعنا من بني كنانة بالكديد، في نفر من قومه، وبصر بهم نفر من بني فراس بن مالك، فيهم عبد الله بن جذل الطعان بن فراس، والحارث بن مكدم أبو الفارعة، وقال بعضهم أبو الفرعة، أخو ربيعة بن مكدم، قال: وهو مجدور يومئذ يحمل في محفة، فلما رآهم أبو الفارعة، قال: هؤلاء بنو سليم يطلبون دماءهم. فقال أخوه ربيعة بن مكدم: أنا أذهب حتى أعلم القوم، فآتيكم بخبرهم. فتوجه نحوهم، فلما ولى، قال بعض الظعن: هرب ربيعة. فقالت أخته أم عزة بنت مكدم: أين تنتهي نفرة الفتى? فعطف وقد سمع قول النساء، فقال:

لقد علمن أنني غـير فـرق                      لأطعنن طعنة وأعـتـنـق

أعمل فيهم حين تحمر الحدق                      عضبا حساما وسنانا يأتلـق قال: ثم انطلق يعدو به فرسه، فحمل عليه بعض القوم، فاستطرد له في طريق الظعت. وانفرد به رجل من القوم، فقتله ربيعة. ثم رماه نبيشة أو طعنه، فلحق بالظعن يستدمي، حتى أتى إلى امه أم سيار، فقال: اجعلي على يدي عصابة وهو يرتجز ويقول:

شدي علي العصب أم سيار

لقد رزيت فارسا كالدينار

يطعن بالرمح أمام الأدبار

إنا بنو ثعلبة بن مالك                      مرزأ أخـيارنـا كـذلـك

من بين مقتول وبين هالـك                      ولا يكون الـرزء إلا ذلـك قال أبو عبيدة: وشدت أمه عليه عصابة. فاستسقاها ماء، فقالت: إنك إن شربت الماء مت، فكر على القوم. قكر راجعا يشد على القوم ويذبهم، وتزفه الدم حتى اثخن، فقال للطعن: اوضعن ركابكن خلفي، حتى تنتهين إلى أدنى بيوت الحي، فإني لما بي، وسوف أقف دونكن لهم على العقبة، وأعتمد على رمحي، فلن يقدموا عليكن لمكاني. ففعلن ذلك، فنجو إلى مأمنهن.

قال أبو عبيدة: قال أبو عمرو بن العلاء: ولا نعلم قتيلا ولا يمتا حمى ظعائن غيره. قال: وإنه يومئذ لغلام له ذؤابة. قال: فاعتمد على رمحه، وهو واقف لهن على متن فرسه، حتى بلغن مأمنهن، وما تقدم القوم عليه.

فقال: نبيشة بن حبيب: إنه لمائل العنق، وما أظنه إلا قد مات. فأمر رجلا من خزاعة كان معه أن يرمي فرسه.

فرماها فقمصت وزالت، فمال عنها ينتا. قال: ويقال بل الذي رمى فرسه نبيشة. فانصرفوا عنه، وقد فاتهم الظعن قال أبو عبيدة: ولحقوا يومئذ أبا الفرعة الحارث بن مكدم، فقتلوه، وألقوا على ربيعة أحجارا.

فمر به رجل من بني الحارث بن فهر، فنفرت ناقته من تلك الأحجار التي أهيلت على ربيعة. فقال يرثيه ويعتذر أى يكون عقر ناقته على قبره، وحض على قتلته، وعير من فر وأسلمه من قومه:

نفرت قلوص من حجارة حرة                      بنيت على طلق اليدين وهوب

لاتنفري يا ناق منـه فـإنـه                      سباء خمر مسعر لحـروب

لولا السفار وبعد خرق مهمه                      لتركتها تحبو على العرقوب

فر الفوارس عن ربيعة بعدما                      نجاهم من غمة المـكـروب

 

صفحة : 1769

 

 

يدعو عليا حين أسلم ظهـره                      فلقد دعوت هناك غير مجيب

لله در بنـي عـلـي إنـهـم                      لم يحمشوا غزوا كولغ الذيب

نعم الفتى أدى نـبـيشة بـزه                      يوم الكديد، نبيشة بن حبـيب

لا يبعدن ربيعة بـن مـكـدم                      وسقى الغوادي قبره بذنـوب قال أبو عبيدة: ويقال إن الذي قال هذا الشعر هو ضرار بن الخطاب بن مرداس، أحد بني محارب بن فهر.

وقال آخر: هو حسان بن ثابت. وقال الأثرم: انشدني أبو عبيدة مرة أخرى هذا البيت:

وسقى الغوادي قبره بذنوب واحتج به في قول الله عز وجل: ) ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم( . فسألته لمن هذا البيت، فقال: لمكرز بن حفص بن الأحنف، أحد بني عامر بن لؤي، رجل من قريش الظواهر؛ ولم يسمه ههنا.

وقال عبد الله بن جذل الطعان واسمه بلعاء:

لأطلبن بربيعة بن مـكـدم                      حتى أنال عصية بن معيص يقال إن عصية من بني سليم، وهو عصية بن معيص بن عامر بن لؤي

وتقاد كل طمرة ممـحـوصة                      ومقلص عبل الشوى ممحوص وقال رجل من بني الحارث بن الخزرج من الأنصار يرثي ربيعة بن مكدم. وقال أبو عبيدة: زعم أبو الخطاب الأخفش أنه لحسان بن ثابت، يحض على قتلته.

 

ولأصرفن سوى حذيفة مدحتـي                      لفتى الشتاء وفارس الأجـراف

مأوى الضريك إذا الرياح تناوحت                      ضخم الدسيعة مخلف مـتـلاف

من لا يزال يكب كـل ثـقـيلة                      كوماء غير مسـائل مـنـزاف

رحب المباءة والجناب مـوطـأ                      مأوى لكل مـعـتـق يسـواف

فسقى الغوادي قبك ابن مـكـدم                      من صوب كل مجلجل وكـاف

أبلغ بني بكر وخص فـوارسـا                      لحقوا الملامة دون كل لحـاف

أسلمتم جذل الطـعـان أخـاكـم                      بين الـكـديد وقـلة الأعـراف الأعراف: رمل، قال الأثرم: الأعراف كل ما ارتفع، ومنه قول الله تعالى:) ونادى أصحاب الأعراف(.

 

حتى هوى متزايلا أو صاله                      للحد بين جنادل وقـفـاف

لله در بني علـي إن هـم                      لم يثأروا عوفا وحي خفاف قال الأثرم: وأنشدنا أبو عبيدة هذه القصيدة مرة لقيس بن الخطيم حين قتل قاتل أبيه، فقال:

تذكر ليلى حسنها وصفاءها وقال ابن جذل الطعان في ذلك أيضا:

ألا لله در بـنـي فـراس                      لقد أورثتم حزنا وجـيعـا

غداة ثوى ربيعة في مكر                      تمج عروقه علقا نجيعـا

فلن أنسى ربيعة إذ تع7الى                      بكاء الظعن تدعو يا ربيعا وقال كعب بن زهير، وامه من بني أشجع بن عامر بن الليث بن بكر بن كنانة، يرثي ربيعة بن مكدم، ويحض على بني سليم، ويعير بني كنانة بالدماء التي أدوها إلى بني سليم، وهم لا يدركون قتلاهم عندهم بدرك قتل فيهم ولا دية:

بان الشباب وكـل إلـف بـائن                      ظعن الشباب مع الخليط الظاعن

قالت أميمة ما لجسمك شاحـبـا                      وأراك ذابث ولـسـت بـدائن

غضي ملا مك إن بي من لومكم                      داء أظن مما طلي أو فاتـنـي

أبلغ كنانة غثهـا وسـمـينـهـا                      الباذلين رباعها بـالـقـاطـن

أن المذلة أن تـطـل دمـاؤكـم                      ودماء عوف ضامن في العاهي

أموالكم عوض لهم بدمائهـخـم                      ودماؤكم كلف لهم بـظـعـائن

طلبوا فأدرك وترهم مـولاهـم                      وأبت محاملكم إبـاء الـحـارن

شدوا المآزر فاثأ روابـأخـيكـم                      إن الحفائط نعم ربح الـثـامـن

كيف الحياة ربيعة بـن مـكـدم                      يغدى عليك بمزهـر أو قـائن

وهو التريكة بالعـراء وحـارث                      فقع القراقر بالمكان الـواتـن

كم غادروا لك من أرامل عـيل                      جزر الضباع ومن ضريك واكن وقالت أم عمرو أخت ربيعة ترثي ربيعة:

ما بال عينيك منها الدمع مهراق                      سحا ولا عازب لا لا ولا راقي

أبكي على هالك أو دى وأورثني                      بعد التفرق حزنا بعده بـاقـي

 

صفحة : 1770

 

 

لو كان يرجع ميتا وجد ذي رحـم                      أبقى أخي سالما وجدي وإشفاقـي

أو كان يفدى لكان الأهل كـلـهـم                      وما أثمر مـن مـال لـه واقـي

لكن سهام المنايا من نصـبـن لـه                      لم ينجه طب ذي طب ولا راقـي

فاذهب فلا يبعدنك الله مـن رجـل                      لاقى الذي كل حي مثلـه لاقـي

فسوف أبكيك ما ناحت مـطـوقة                      وما سريت من الساري على ساقي

أبكى لذكرته عبـرى مـفـجـعة                      ما إن يجف لها من ذكره ماقـي وقال عبد الله يرثيه:

خلى علي ربيعة بن مكـدم                      حزنا يكاد له الفـؤاد يزول

فإذا ذكرت ربيعة بن مكـدم                      ظلت لذكراه الدموع تسـيل

نعم الفتى حيا وفارس بهمة                      يردي بشكتـه أقـب ذءول

سقت الغوادي بالكـديد رمة                      والناس إما هالك وقـتـيل

فإذا لقيت ربيعة بن مـكـدم                      فعلى ربيعة من نداه قبـول

كيف العزاء ولا تزال خريدة                      تبكي ربيعة غادة عطبـول

يأبى لي الله المـذلة إنـمـا                      يعطى المذلة عاجز تنبـيل وقال عبد الله أيضا يرثيه:

نادى الظعائن يا ربيعة بعد ما                      لم يبق غير حشاشة وفـواق

فأجابها والرمح في حيزومه                      أنفا بطعن كالشعيب دفـاق

يا ريط إن ربيعة بن مـكـدم                      وربيع قومك آذنا بـفـراق

ولئن هلكت لرب فارس بهمة                      فرجت كربته وضيق خناق وقال أيضا يتوعد بني سليم:

ولست لحاضر إن لم أزركم                      كتائب من كنانة كالصـريم

على قب الأياطل مضمرات                      أضر بنيها علك الشـكـيم أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا يعقوب بن إسرائيل، قال: حدثني الطلحي، قال: أخبرني عبد الله بن إبراهيم الجمحى ومحمد بن الحسن بن زبالة في مجلس واحد، قالا: مر حسان بن ثابت بقبر ربيعة بن مكدم الكناني ، بثنية كعب، ويقال: بثنية غزال، فقلصت به راحلته، فقال :

نفرت قلوصي من حجارة حرة                      بنيت على طلق اليدين وهوب

لا تنفري يا ناق منـه فـإنـه                      شريب خمر مسعر لحـروب

لولا السفار وبعد خرق مهمـه                      لتركتها تحبو على العرقـوب فبلغ شعره بني كنانة، فقالوا: والله لو عقرها لسقنا إليه ألف ناقة سود الحدق.

أخبرني محمد بن الحسين بن دريد، قال: حدثنا السجستاني، قال: حدثنا أبو عبيدة، قال: خرج دريد بن الصمة في فوارس من بني جشم، حتى إذا كانوا بواد لبني كنانة يقال له الأخرم، وهو يريد الغارة على بني كنانة، رفع له رجل من ناحية الوادي معه ظعينة. فلما نظر إليه قال لفارس من أصحابه: صح به أن خل عن الظعينة وانج بنفسك، وهو لا يعرفه. فانتهى إليه الرجل، فصاح به، وألح عليه. فلما أتى ألقى الزمام وقال للظعينة:

سيري على رسلك سير الآمن                      سير رداح ذات جأش ساكن

إن انثنائي دون قرني شائنـي                      وابلي بلائي واخبري وعايني ثم حمل على الفارس فقتله، وأخذ فرسه، فأعطاه الظعينة. فبعث دريد فارسا آخر، لينظر ما صنع صاحبه، فرآه صريعا. فصاح به، فتصامم عنه، فظن أنه لم يسمعه. فغشيه، فألقى الزمام إليها، ثم حمل على الفارس، فطعنه فصرعه، وهو يقول:

خل سبيل الحـرة الـمـنـيعـه                      إنـك لاق دونـهـا ربــيعة

في كفه خـطـية مـطـيعـه                      أو لا، فخذها طعنة سـريعـه

فالطعن مني في الوغى شريعه فلما أبطأ على دريد بعث فارسا آخر لينظر ما صنعا? فانتهى إليهما، فرآهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته، ويجرر رمحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال لها ربيعة: اقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال:

ماذا تريد من شتيم عـابـس                      ألم تر الفارس بع الفـارس

أرداهما عامل رمح يابس? ثم طعنه فصرعه، وانكسر رمحه. فارتاب دريد، وظن أنهم قد أخذوا الظعينة،

سيري على رسلك سير الآمن                      سير رداح ذات جأش ساكن

إن انثنائي دون قرني شائنـي                      وابلي بلائي واخبري وعايني

 

صفحة : 1771

 

ثم حمل على الفارس فقتله، وأخذ فرسه، فاعطاه الظعينة، فبعث دريد فارسا آخر، لينظر ما صنع صاحبه، فرآه صريعا. فصاح به، فتصامم عنه، فظن أنه لم يسمعه. فغشيه، فألقى الزمام إليها، ثم حمل على الفارس، فطعنه فصرعه، وهو يقول:

خل سبيل الـحـرة الـمـنـيعة                      إنـك لاق دونـهـا ربــيعة

في كفه خـطـية مـطـيعـه                      أولا، فخذها طعـنة سـريهـه

فالطعن مني في الوغى شريعه فلما أبطأ على دريد بعث فارسا آخر لينظر ما صنعا? فانتهى إليهما، فرآهما صريعين، ونظر إليه يقود ظعينته، ويجرر رمحه. فقال له الفارس: خل عن الظعينة. فقال لها ربيعة: أقصدي قصد البيوت، ثم أقبل عليه فقال:

ماذا تريد من شتيم عـابـس                      ألم تر الفارس بعد الفارس

أردهما عامل رمح يابس? ثم طعنه فصرعه، وانكسر رمحه. فارتاب دريد، وظن أنهم قد أخذوا الظعينة، وقتلوا الرجل. فلحق بهم، فوجد ربيعة لا رمح معه وقد دنا من الحي، ووجد القوم قد قتلوا. فقال دريد: أيها الفارس، إن مثلك لا يقتل، وإن الخيل ثائرة بأصحابها، ولا رأى معك رمحا، وأراك حديث السن، فدونك هذا الرمح، فإني راجع إلى أصحابي، فمثبط عنك. فأتى دريد أصحابه، وقال: إن فارس الظعينة قد حماها، وقتل فوارسكم، وانتزع رمحي، ولا طمع لكم فيه.

فانصرف القوم. وقال دريد في ذلك:

ما إن رأيت ولا سمعت بمثـلـه                      حامي الظعينة فارسا لم يقـتـل

أردى فوارس لم يكونوا نـهـزة                      ثم استمر كـأنـه لـم يفـعـل

متهلل تـبـدو أسـرة وجـهـه                      مثل الحسام جلته كف الصقـيل

يزجي ظعينته ويسحب رمـحـه                      متوجها بمناه نحو الـمـنـزل

وترى الفوارس من مخافة رمحه                      مثل البغاث خشين وقع الأجـدل

ياليت شعري مـن أبـوه وامـه                      ياصاح من يك مثله لم يجهـل فقال ربيعة:

إن كان ينفعك اليقين فسائلـي                      عني الظعينة يوم وادي الخرم

عل هي لأول من أتاها نهـزة                      لولا طعان ربيعة بن مـكـدم

إذ قال لي أدنى الفوارس ميتة                      خل الظعينة طائعا لا تـنـدم

فصرفت راحلة الظعينة نحوه                      عمدا ليعلم بعض ما لم يعلـم

وهتكت بالرمح الطويل إهابـه                      فهوى صريعا لليدين وللـفـم

ومنحت آخر بـعـده جـياشة                      نجلاء فاغرة كشدق الأضجم

ولقد شفعتهما بآخـر ثـالـث                      وأبى الفرار لي الغداة تكرمي قال: فلم يلبث بنو مالك بن كنانة رهط ربيعة بن مكدم، ان أغاروا على بني جشم رهط دريد، فقتلوا وأسروا وغنموا، وأسروا دريد بن الصمة، فأخفى نسبه. فبينا هو عندهم محبوس، إذ جاء نسوة يتهادين إليه. فصرخت امرأة منهن، فقالت: هلكتم وأهلكتم، ماذا جر علينا قومنا? هذا والله الذي أعطى ربيعة رمحه يوم الظعينة. ثم ألقت عليه ثوبها وقالت: يا آل فراس، أنا جارة له منكم، هذا صاحبنا يوم الوادي. فسألوه من هو? فقال: أنا دريد بن الصمة، فمن صاحبي? قالوا: ربيعة بن مكدم، قال: فما فعل? قالوا: قتله بنو سليم، قال: فمن الظعينة التي كانت معه? قالت المرأة: ريطة بنت جذل الطعان، وأنا هي، وأنا امرأته. فحبسه القوم، وآمروا أنفسهم، وقالوا: لا ينبغي أن تكفر نعمة دريد على صاحبنا. وقال بعضهم: والله لا يخرج من أيدينا إلا برضا المخارق الذذي أسره.

وانبعثت المرأة في الليل، فقالت:

سنجزي دريدا عن ربيعة نعـمة                      وكل فتى يجزى بما كان قدمـا

فإن كان خيرا كان خيرا جـزاؤه                      وإن كان شرا كان شرا مذممـا

سنجزيه نعمى لم تكن بصغـيرة                      بإعطائه الرمح السديد المقومـا

فقد أدركت كفاه فـينـا جـزاءه                      وأهل بأن يجزى الذي كان أنعما

فلا تكفروه حق نعمـاه فـيكـم                      ولا تركبوا تلك التي تملأ الفمـا

فو كان حيا لم يضق بـثـوابـه                      دراعا، غنيا كان أو كان معدوما

ففكوا دريدا من إسار مـخـارق                      ولا تجعلوا البؤس إلى الشر سلما

 

صفحة : 1772

 

فأصبح القوم فتعاونوا بينهم، فأطلقوه، وكسته ريطة وجهزته، ولحق بقومه. ولم يزل كافا عن غزو بني فراس حتى هلك.

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك، قال: حدثني محمد بن يعقوب بن أبي مريم العدوي البصري، قال: حدثني محمد بن عمر الأزدي، قال: حدثني أبو البلاد الغطفاني وقبيصة بن ميمون الصادري، قالا: سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عمرو بن معد يكرب الزبيدي: من أشجع من رأيت? فقال: والله يا أمير الؤمنين لأخبرنك عن أحيل الناس، وعن أشجع الناس، وعن أجبن الناس. فقال له عمر: هات. فقال: أربعتالمدينة، فخرجت كأحسن ما رأيت، وكانت لي فرس شمقمقة طويلة سريعة الإبقاء ، تمطق الشيخ بالمرق، فركبتها، ثم آليت لا ألقي أحدا إلا قتلته. فخرجت وعلي مقدى ، فإذا أنا بفتى بين غرضين فقلت:له: خذ حذرك، فإني قاتلك. فقال: والله ما أنصفتني يا أبا ثو، أنا كما ترى أعزل أميل عوارة- والعوارة: الذي لا ترس معه- فأنظرتي حتى آخذ نبلي. فقلت: وما غناؤها عنك? قال: أمتنع بها. قلت: خذها. قال: لا والله أو تعطيني من العهود ما يثلجني أنك لا تروعني حتى آخذها. فأثلجته، فقال: وإله قريش لا آخذها أبدا. فسلم والله مني وذهبت؛ فهذا أحيل الناس.

ثم مضيت حتى اشتمل علي الليل، فوالله إني لأسير في قمر زاهر ، كالنور الظاهر ، إذا بفتى على فرس يقود ظعينة، وهو يقول:

يا لدينا يا لدينـا                      ليتنا يعدى علينا

ثم يبلى مالدينا ثم يخرج حنظلة من مخلاته، فيرمي بها في السماء، فلا تبلغ? الأرض حتى يظمها بمشقص من نبله. فصحت به: خذ حذرك ثكلتك أمك، فإني قاتلك. فمال عن فرسه فإذا هو في الأرض. فقلت: إن هذا إلا استخفاف. فدنوت منه، وصحت به: ويلك: ما أجهلك فما تحلحل ولا زال عن موضعه، فشككت الرمح في إهابه، فإذا هو كأنه قد مات منذ سنة، فمضيت وتركته؛ فهذا أجبن الناس.

ثم مضيت فأصبحت بين دكادك هرشى إلى غزال ، فنظرت إلى أبيات، فعدلت إليها، فإذا فيها جوار ثلاث، كأنهن نجوم الثريا. فبكين حين رأينني، فقلت: ما يبكين? فقلن: لما ابتليتا به منك، ومن ورائنا أخت هي أجمل منا. فأشرفت من فدفد، فإذا لم أر شئا قط أحسن من وجهه، وإذا بغلام يخصف نعله، عليه ذؤابة يسحبها. فلما نظر إلي وثب على الفرس مبادرا، ثم ركض، فسبقني إلى البيوت، فوجدهن قد ارتعن، فسمعته يقول لهن:

مهلا نسياتس إذن لا ترتـعـن                      إن يمنع اليوم نساء تمنـعـن

أرخين أذيال المروط وارتعن فلما دنوت منه، قال: أتطردني أم اطردك? قلت: أطردك. فركض وركضت في أثره، حتى إذا مكنت السنان في لفتته- واللفتة أسفل من الكتف- اتكأت عليه، فإذا هو والله مع لبب فرسه، ثم استوى في سرجه. فقلت: أقلني. قال: اطرد. فتبعته حتى إذا ظننت أن السنان في ماضغيه اعتمدت عليه، فإذا هو والله قائم على الأرض، والسنان ماض زالج. واستوى على فرسه، فقلت: أقلني. قال: اطرد. فطردته، حتى إذا مكنت السنان في متنه، اتكأت عليه وأنا أظن قد فرغت منه، فمال في ظهر فرسه حتى نظرت إلى يديه في الأرض، ومضى السنان زالجا. ثم استوى وقال: أبعد ثلاث? تريد ماذا? اطردني ثكلتك أمك. فوليت وأنا مرعوب منه. فلما غشيني ووجدت حسن السنان، التفت فإذا هو يطردني بالرمح بلا سنان، فكف عني واستنزلني، فنزلت ونزل، فجز ناصيتي، وقال: أنطلق، فإني بك عن القتل. فكان ذلك والله يا أمير المؤمنين عندي أشد من الموت؛ فذاك أشجع من رأيت وسألت عن الفتى، فقيل: ربيعة بن مكدم الفراسي، من بني كنانة.

وقد أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري هذا الخبر وفيه خلاف للأول. فقال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن موسى الهذلي، قال: حدثني سكين بن محمد، قال:

 

صفحة : 1773

 

دخل عمرو بن معد يكرب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال له: يا أبا ثور، من أين أقبلت? قال: من عند سيد بنب مخزوم، أعظمها هامة، وأمدها قامة، وأقلها ملامة، وأفضلها حلما، وأقدمها سلما، وأجرئها مقدما. قال: ومن هو? قال: سيف الله وسيف رسوله ، قال: وأي شيء صنعت عنده? قال: أتيته زائرا، فدعا لي بكعب وقوس وثور . فقال عمر: وأبيك إن في هذا لشبعا. قال: لي أو لك يا أمير المؤمنين? قال: لي ولك. قال له: فوالله إني لآكل الجذعة، وأشرب التبن من اللبن رثيئةو صرفا، فلم تقول هذا يا أمير المؤمنين? فقال له عمر: أي أحياء قومك خير? قال: مذجح، وكل قد كان فيه خير، شداد فوارسها، فوارس أبطالها، أهل الريا والرياح قال عمر: وأين سعد العشيرة? قال: هم أشدنا شريسا، وأكثرنا خميسا ، وأكرمنا رئيسا، وهم الأوفياء البررة، المساعير الفجرة. قال عمر: يا أبا ثور ألك علم بالسلاح? قال: على الخبير سقطت، سل عما بدا لك. قال: أخبرني على النبل. قال: منايا تخطىء وتصيب. قال: فأخبرني عن الرمح قال: أخوك وربما خانك. قال: فأخبرني عن الترس. قال: ذاك مجن وعليه تدور الدوائر. قال: أخبرني عن الدرع. قال: مشغلة للفارس، متعبة للراجل.

قال: أخبرني عن السيف. قال: عنه قارعتك لأمك الهبل، قال: لا، بل لأمك. قال عمرو: بل لأمك، فرفع عمر الدرة، فضرب بها عمرا، وكان عمرو محتبيا، فانحلت حبوته، فاستوى قائما، وأنشأ يقول:

أتضربني كأنـك ذو رعـين                      بخير معيشة أو ذو نـواس

فكم ملك قـديم قـد رأينـا                      وعز ظاهر الجبروت قاسي

فأضحى أهله بادوا وأضحى                      ينقل من أناس فـي أنـاس قال: صدقت يا أبا ثور، وقد هدم ذلك كله الإسلام، أقسمت عليك لما جلست. فجلس. فقال له عمر: هل كععت من فارس قط ممن لقيت? قال: العم يا أمير المؤمنين، اني لم أستحل الكذب في الجاهلية، فكيف أستحله في الإسلام? ولقد قلت لجبهة من خيلي، خيل بني زبيد، أغيروا بنا على بني البكاء. فقالوا: بعيد علينا العفار. فقلت: فعلى بني مالك بن كنانة، قال: فأتينا على قوم سراة. فقال عمر: ما علمك بأنهم سراة. قال: رأيت مزواد خيلهم كثيرة، وقدورا مثفاة ، وقباب أدم، فعرفت أن القوم سراة. فتركت خيلي حجرة ، وجلست في موضع أتسمع كلامهم، فإذا يجارية منهم قد خرجت من خيمتها، فجلست بين صواحب لها، ثم دعن وليدة من ولائدها، فقالت: اعي فلانا. فدعت لها برجل من الحي، فقالت له: إن نفسي تحدثني أن خيلا تغير على الحي، فكيف أنت إن زوجتك نفسي? فقال: أفعل وأصنع، وجعل يصف نفسه فيفرط. فقالت له: انصرف حتى أرى رأيي. وقالت لصواحباتها: ولا عند هذا هير أيضا. ثن قالت للوليدة ادعي لي ربيعة بن مكدم. فدعته، فقالت له مثل قولها للرجلين، فقال لها: إن أعجز العجز وصف المرء نفسه، ولكني إذا لقيت أعذرت، وحسب المرء غناء أن يعذر. فقالت له: قد زوجتك نفسي، فاحضر غدا مجلس الحي، ليعملوا ذلك. فانصرف من عندها، وانتظرت حتى ذهب الليل، ولاح الفجر، فخرجت من مكمني، وركبت فرسي، وقلت لخيلي: أغيري، فأغارت، وتركتها وقصدت نحو النسوة ومجلسهن، فكسفت عن خيمة المرأة، فإذا أنا بامرأة تامة الحسن. فلما ملأت بصرها مني، أهوت إلي درعها فشقته وقالت: واثكلآه? والله ما أبكي على مال ولا تلاد، ولكن على أخت من وراء هذا الوز ، تبقى بعدي في مثل هذا الغائط، فتهلك ضيعة، وأومأت بيدها إلى قوز رمل إلى جانبهم. فقلت:هذه غنيمة من وراء غنيمة. فدغعت فرسي حتى أوفيت على الأيفاع، فإذا أنا برجل جلد نجد، أهلب أغلب، يخصف نعله، وإلى جنبه فرسه وسلاحه. فلما رآني رمى بنعله، ثم استوى على فرسه، وأخذ رمحه، ومضى ولم يحفل بي. فطفقت أشجره بالرمح خفقا ، وأقول له: يا هذا استأسر . فمضى ما يحفل بي، حتى أشرف على الوادي. فلما رأى الخيل تحوي إبله استعبر باكيا، وانشأ يقول:

قد علمت إذ منحتـنـي فـاهـا                      أني سأحوي اليوم من حواهـا

بل ليت شعري اليوم من دهاها فأجبته:

عمرو على طول الوجى دهاها                      بالخيل يحميها على وجـاهـا

حتى إذا حل بها احتـواهـا فحمل علي وهو يقول:

أهون بنضر العيش في دار ندم                      أفيض دمعا كلما فاض اسنجم

 

صفحة : 1774

 

 

أنا ابن عبد الله محمود الشيم                      مؤتمن الغيب وفي بالذمـم

أكرم من يمشي بساق وقدم                      كالليث إن هم بتقصام قصم فحملت عليه وأنا أقول:

أنا ابن ذي التقليد في الشهر الأصم                      أنا ابن ذي الإكليل قتال البـهـم

من يلقنـي يود كـمـا أودت إرم                      أتركه لحما على ظهـر وضـم وحمل علي وهويقول?:

هذا حمى قد غاب عنه ذائده                      الموت ورد والأنـام وارده وحمل علي فضربني، فرغتوأخطأني، فوقع سيفه في قربوس السرج، فقطعه وما تحته، حتى هجم على مسح الفرس. ثم ثنى بضربة أخرى، فرغت وأخطأني، فوقع سيفه على مؤخر السرج فقطعه حتى وصل إلى فخذ الفرس، وصرت راجلا. فقلت: ويحك من أنت? فوالله ما ظننت أحدا من العرب يقدم علي إلا ثلاثة: الحارث بن ظالم، للعجب والخيلاء؛ وعامر بن الطفيل للسن والتجربة؛ وربيعة بن مكدم للحداثة والغرة، فمن أنت ويلك? قال: بل الويل لك، فمن أنت? قلت: عمرو بن معد يكرب، قال: وأنا ربيعة بن مكدم. قلت: يا هذا، إني قد صرت راجلا، فاختر مني إحدى ثلاث، إن شئت الجتلدنا بسفينا حتى يموت الأعجز، وإن شئت اصطرعنا، فأينا صرع صاحبه حكم فيه؛ وإن شئت سالمتك وسالمتني. قال: الصلح إذن إن كان لقومك فيك حاجة، وما بي أيضا على قومي هوان. قلت: فذاك لك. وأخذت بيده، حتى أتيت أصحابي، وقد حازوا نعمه، فقلت: هل تعلمون أني كععت عن فارس قط من الابطال إذا لقيته? قالوا: نعيذك من ذاك. قال: قلت: فانظروا هذا النعم الذي حزتموه، فخذوه مني غدا في بني زبيد، فإنه نعم هذا الفتى، والله لا يوصل إلى شيء منه وأنا حي. فقالوا لحاك الله فارس قوم أشقيتنا حتى إذا هجمنا على الغنيمة الباردة فثأتنا عنها. قال: قلت إنه لا بد لكم من ذلك، وأن تهبوها لي ولربيعة بن مكدم. فقالوا: وإنه لهو? قلت: نعم. فردوها وسالمته، فأمن حربي وامنت حربه حتى هلك.

وفي بعض هذه الأراجيز التي جرت بين عمرو بن مكدم غناء، نسبته، وقد جمع شعراهما معا في لحن واحد، وهو:

أنا ابن ذي التقليد في الشهر الأصم                      أنا ابن عبد الله قتـال الـبـهـم

أكرم من يمشي بـسـاق وقـدم                      من يلقني يود كـمـا أودت إرم

أتركه لحما على ظـهـر وضـم                      كالليث إن هم بتقصـام قـصـم

مؤتمن الغيب وفي بـالـذمـم ذكر أحمد بن يحيى المكي: ان الغناء في هذا الشعر لحنين، خفيف ثقيل، بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، وذكر الهشامي أنه لابن سرجيس الملقب بقراريط.

حدثني قمرية العمرية جارية عمرو بن بانة، أنها أخذت عن أحمد بن العلاء هذا اللحن، فقال لها: انظري أي صوت أخذت، فو الله لقدأخذته عن مخارق، فلما استوى لي قال لي مخارق: انظر أي صوت أخذت، فوالله لقد أخذته عن يحيى المكي، فلما غنيته الرشيد أطرابه، فوهب ليحيى عشرة آلاف درهم.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني محمد بن الحسن الأحول، عن الطرسوسي، عن ابن الأعرابي، قال: أجود بيت وصفت به الطعنة قول أهبان بن عادياء قاتل ربيعة بن مكدم، حيث يقول:

ولقد طعنت ربيعة بن مـكـدم                      يوم الكديد فخر غير مـوسـد

في ناقع شرقت بما في جوفـه                      منه بأحمر كالعقيق المجـسـد

أدركت ما منيت نفسي خـالـيا                      لله درك يا بنة الـتـعـمـان

إني لحلفك بالصليب مـصـدق                      والصلب أصدق حلفة الرهبان

ولقد رددت على المغيرة ذهنـه                      إن الملوك بـطـيئة الإذعـان

يا هند حسبك قد صدقت فأمسكي                      والصدق خير مقالة الإنـسـان الشعر للمغيرة بن شعبة الثقفي، يقوله في هند بنت النعمان بن المنذر، وقد خطبها فردته. وخبره في ذلك وغيره يذكرها هنا إن شاء الله. والغناء لحنين، ثاني ثقيل بالبنصر، عن الهشامي وإبراهيم.

 

أخبار المغيرة بن شعبة ونسبه

 

 

صفحة : 1775

 

هو المغيرة بن شعبة بن أبي عامر بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي، وهو ثقيف. ويكنى أبا عبد الله. وكان يكنى أبا عيسى، فغيرها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكناه أبا عبد الله. وأمه أسماء بنت الأفقم بن أبي عمرو بن ظويلم بن جعيل بن عمرو بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن.

وكان المغيرة بن شعبة من دهاة العرب وحزمتها، وذوي الرأي منها، والحيل الثاقبة، وكان يقال له في الجاهلية والإسلام مغيرة الرأي، وكان يقال: ما اعتلج في صدر المغيرة أمران إلا اختار أحزمهما.

وصحب النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد معه الحديبةية وما بعدها. وبعثه أبو بكر رضي الله عنه إلى أهل النجير . وشهد فتح اليمامة وفتوح الشام. وكان أعور، أصيبت عينه في يوم اليرموك، وشهد القادسية مع سعد بن أبي وقاص. فلما أراد مراسلة رستم، لم يجد في العرب أدهى منه ولا أعقل، فبعث به إليه، وكان السفير بينهما حتى وقعت الحرب.

وولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدة ولا يات، إحداها البصرة. ففتح وهو إليها ميسان ودست ميسان وأبر قباذ. وقاتل الفرس بالمرغاب فهزمهم، ونهض إلى من كان يسوق الأهواز، فقاتلهم وهزمهم، وفتحها . وانحازوا إلى نهر تيرى ومناذر الكبرى، فزحف إليهم، فقاتلهم وهزمهم وفتحها. وخرج إلى المشرق مع النعمان بن المقرن، وكان المغيرة على مسيرته، وكان عمر قد عهد: إن هلك النعمان، فالأمير حذيفة، فإن هلك حذيفة، فالأمير المغيرة بن شعبة.

ولما فتحت نهاوند، سار المغيرة في جيش إلى همذان ففتحها.

وولاه عمر رضي الله عنه بعد ذلك الكوفة، فقتل عمر وهو واليها. وولاه أيضا إياها مهاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، فكان عليها إلى أن مات بها.

وهو أول من وضع ديوان الإعطاء بالبصرة، ورتب الناس فيه. فاعطاهم على الديوان. ثم صار ذلك رسما لهم بعد ذلك يحتذونه.

قال محمد بن سعد كاتب الواقدي: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حدثني محمد بن سعيد الثقفي، وبعد الرحمن بن عبد العزيز وعبد الملك بن عيسى الثقفي وعبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، ومحمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه وغيرهم، قالوا: قال المغيرة بن شعبة: كنا قوما من العرب منمسكين بديننا، ونحن سدنة اللات، فأراني لو رأيت قوما قد أسلموا ما تبعتهم.

فأجمع نفر من بني مالك الوفود على المقوقس، وأهدوا له هدايا. فاجمعت الخروج معهم. فاستشرت عمي عروة بن مسعود، فنهاني، وقال لي: ليس معك من بني أبيك أحد. فأبين إلا الخروج، وخرجت معهم، وليس معهم أحد من الحلاف غيري، حتى دخلنا الإسكندرية، فإذا المقوقس في مجلس مطل على البحر. فركب قارباحتى حاذيت مجلسه، فنظر إلي فأنكرني، وأمر من يسائلني ما أنا ? وما أريد? فسألني المأمور، فأخبرته بأمرنا، حتى حاذيت مجلسه، فنظر إلي فأنكرني، وأمر من يسائلني ما أنا ? وما أريد? فسألني المأمور، فأخبرته بأمرنا، وقدومنا عليه. فأمر بنا أن ننزل في الكنيسة، وأجرى علينا ضيافة. ثم دعا بنا، فنظر إلى رأس بني مالك، فأدناه إليه، وأجلسه معه، ثم سأله: أكل القوم من بني مالك? فقال: نعم، إلا رجلا واحدا من الأحلاف. فعرفه إياي، فكنت أهون القوم عليه. ووضعوا هداياهم بين يديه، فسر بها، وأمر بقبضها. وأمر لهم بجوائز، وفضل بعضهم على بعض، وقصر بي، فأعطاني شيئا قليلا لا ذكر له.

وخرجنا، فأقبلت بنو مالك يشترون هدايا لأهلهم وهم مسرورون، ولم يعرض علي أحد منهم مواساة. وخرجوا، وحملوا معهم خمرا، فكانوا يشربون منها وأشرب معهم، ونفسي تأبى أن تدعني معهم. وقلت: ينصرفون إلى الطائف بما أصابوا وما حباهم به الملك، ويخبرون قومي بتقصيره بي، وازدرائه إياي. فأجمعت على قتلهم. فقلت: أنا أجد صداعا، فوضعوا شرابهم ودعوني. فقلت: رأسي يصدع، ولكني أجلس وأسقيكم، فلم ينكروا شيئا، وجلست أسقيهم وأشرب القدح بعد القدح. فلما دبت الكأس فيهم، اشتهوا الشراب، فجعلت أصرف لهم وأترع الكأس، فيشربون ولا يدرون. فأهمدتهم الكأس، حتى ناموا ما يعقلون. فوثبت إيهم، فقتلتهم جميعا، وأخذت جميع ما كان معهم.

 

 

صفحة : 1776

 

فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فوجدته جالسا في المسجد مع أصحابه، وعلى ثياب السفر، فسلمت بسلام الإسلام. فنظر إلي أبو بكر بن أبي قحافة، وكان بي عارفا، فقال: ابن أخي عروة? قلت: نعم، جئت أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحمد لله هداك إلى الإسلام. فقال أبو بكر رضي الله عنه: أفمن مصر أقبلتم? قلت: نعم. قال: فما فعل المالكيون الذين كانوا معك? قلت: كان بيني وبينهم بعض ما يكون بين العرب ونحن على دين الشرك، فقتلتهم وأخذت أسلابهم، وجئت بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخمسها، ويرى فيها رأيه، فانما هي غنيمة من مشركين وأنا مسلم مصدق بمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما إسلامك فنقبله ، ولا نأخذ من أموالهم شيئا، ولا نخمسها ، لأن هذا غدر، والغدر لا خير فيه. فأخذني ما قرب وما بعد، وقلت: يا رسول الله، إنما قتلتهم وأنا على دين قومي، ثم أسلمت حين دخلت عليك الساعة. قال: فإن الإسلام يجب ما كان قبله. وكان قتل منهم ثلاثة عشر إنسانا. فبلغ ذلك ثقفيا بالطائف، فتداعو للقتال، ثم اصطلحوا على أن يحمل عمي عروة بن مسعود ثلاث عشرة دية.

قال المغيرة: وأقمت مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى اعتمر عمرة الحديبية، في ذي القعدة سنة ست من الهجرة، فكانتأول سفرة خرجت معه فيها، وكنت أكون مع أبي بكر، وألزم النبي صلى الله عليه وسلم فيمن يلزم.

وبعثت قريش عام الحديبة عروة بن مسعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاه يكلمه، وجعل يمس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قائم على رأسه، مقنع في الحديد. فقلت لعروة، وهو يمس لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم: اكفف يدك قبل الأ تصل إليك.

فقال عروة: يا محمد، من هذا? ما أفظه وأغلظه فقال: هذا ابن أخيك المغيرة بن شعبة. فقال عروة: يا عدو الله ما غسلت عني سوءتك إلا بالأمس، يا غدر.

أخبرني محمد بن خلف، قال: حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي، قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي، قال: قال المغيرة بن شعبة: أول ما عرفني به العرب من الحزم والدهاء، أني كنت في ركب من قومي، في طريق لنا إلى الحيرة. فقالوالي: قد اشتهينا الخمر، وما معنا إلا درهم زائف. فقلت: هاتوه وهلموا زقين. فقالوا: وما يكفيك لدرهم زائف زق واحد? فقلت: أعطوني ما طلبت وخلاكم ذم، ففعلوا وهم يهزءون بي. فصببت في أحد الزقين شيئا من ماء، ثم جئت إلى خمار، فقلت له: كل لي ملء هذا الزق. فملأه. فأخرجت الدرهم الزلف، فأعطيته إياه، فقال لي: ما هذا? ويحك أمجنون أنت? فقلت: مالك? قال: إن ثمن هذا الزق عشرون درهما جيادا، وهذا درهم زائف.

فقلت: أنا رجل بدوي، وظننت أن هذا يصلح كما ترى، فإن صلح، وإلا فخذ شرابك. فاكتال من ما كاله، وبقي في زقي من الشراب بقدر ما كان فيه من الماء، فأفرغته في الزق الآخر، وحملتهما على ظهري، وخرجت، وصببت في الزق الول ماء.

ودخلت إلى خمار آخر، فقلت: إني أريد ملء هذا الزق خمرا، فانظر إلى ما معي منه، فإن كان عندك مثله فأعطني. فنظر إليه، وإنما أردت ألا يستريب بي إذا رددت الخمر عليه. فلما رآه قال: عندي أجود منه. قلت: هات. فأخرج لي شرابا، فاكتلته في الزق الذي فيه الماء. ثم دفعت إليه الدرهم الزائف، فقال لي مثل قول صاحبه.

فقلت: خذ خمرك. فأخذ ما كان كاله لي، وهو يرى أني خلطته بالشراب الذي أريته إياه. وخرجت فجعلته مع الخمر الأول.

ولم أزل أفعل ذلك بكل خمار في الحيرة، حتى ملأت زقي الأول وبعض الآخر. ثم رجعت إلى أصحابي، فوضعت الزقين بين أيديهم، ورددت درهمهم. فقالوا لي: ويحك أي شيء صنعت? فحدثتهم، فجعلوا يعجبون وشاع لي الذكر في العرب بالدهاء حتى اليوم.

قال محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن معاوية النيسابوري، قال: حدثنا دواد بن خالد، عن العباس بن عبد الله بن معبد بن العباس، قال: أول من خضب بالسواد المغيرة بن شعبة. خرج على الناس وكان عهدهم به أبيض الشعر، فعجب الناس منه.

قال محمد: وأخبرني شهاب بن عباد، قال: حدثنا إبراهيم بن حميد الرواسي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي خازم، عن المغيرة بن شعبة، قال:

 

صفحة : 1777

 

كنت جالسا عند أبي بكر، إذ عرض عليه فرس له رجل من الأنصار: احملني عليها. فقال أبو بكر: لأن أحمل عليها غلاما قد ركب الخيل على غرلته ، أحب إلي من أن أحملك عليها. فقال له الأنصاري: أنا خير منك ومن أبيك. قال المغيرة: فغضبت لما قال ذلك لأبي بكر رضي الله عنه، فقمت إليه، فأخذت برأسه، فركبته، وسقط على أنفه، فكأنما كان عزالي مزادة. فتوعدني الأنصار أن يستقيدوا مني، فبلغ ذلك أبا بكر. فقام فقال: أما بعد. فقد بلغني عن رجال منكم زعموا أني مقيدهم من المغيرة. ووالله لأن أخرجهم من دارهم، أقرب إليهم من أن أقيدهم من وزعة الله الذين يزعون إليه.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي وحبيب بن نصر المهلبي، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا محمد بن سلام المحي، قال: ركب المغيرة بن شعبة إلى هند بنت النعمان بن المنذر، وهي بدير هند ، منصرة عمياء، بنت تسعين سنة. فقالت له: من أنت? قال: أنا المغيرة بن شعبة. قالت: أنت عامل هذه المدرة? تعني الكوفة. قال: نعم. قالت: فما حاجتك? قال: جئتك خاطبا إليك نفسك. قالت: أما والله لو كنت جئت تبغي جمالا أو دينا أو حسبا لزوجناك، ولكنك أردت أن تجلس في موسم من مواسم العرب، فتقول: تزوجت بنت النعمان بن المنذر؛ وهذا والصليب أمر لا يكون أبدا، أو ما يكفيك فخرا أن تكون في ملك النعمان وبلاده، تدبرهما كما تريد وبكت.

فقال لها: أي العرب كان أحب إلى أبيك. قالت: ربيعة. قال: فأين كان يجعل قيسا? قالت: ما كان يستعتبهم من طاعة . قال: فأين كان يجعل ثقفيا? قالت: رويدا لا تجعل. بينا أنا ذات يوم جالسة في خدر لي، إلى جنب أبي، إذ دخل عليه رجلان، أحدهما من هوازن، والآخر من بني مازن، كل واحد منهما يقول: إن ثقفيا منا، فأنشأ أبي يقول :

إن ثقيفا لم يكن هوازنـا                      ولم يناسب عامرا ومازنا

إلا قريبا فانشر المحاسنا فخرج المغيرة وهو يقول:

أدركت ما منيت نفسي خاليا                      لله درك يا بنة النعـمـان وذكر الأبيات التي مضت، وذكرت الغناء فيها.

أخبرني محمد بن خلف، قال: أخبرنا الحارث بن محمد، قال أبو عبيدة: قال العلاء بن جرير العنبري: بينا حسان بن ثابت ذات يوم جالس بالخفيف من منى وهو يومئذ مكفوف، إذ زفر زفرة، ثم أنشأ يقول:

وكأن حافرها بكـل خـمـيلة                      صاع بكيل به شحيح مـعـدم

عاري الأشاجع من ثقيف أصله                      عبد ويزعم أنـه مـن يقـدم 3ال: والمغيرة بن شعبة يسمع ما يقول، فبعث إليه بخمسة آلاف درهم. فلما أتاه بها الرسول قال: من بعث بهذه? قال: المغيرة بن شعبة، سمع ما قلت. فقال: واسوءتاه وقبلها.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي ، قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي، قال: أحصن المغيرة بن شعبة إلى أن مات ثمانين امرأة، فيهن ثلاث بنات لأبي سفيان بن حرب، وفيهن حفصة بنت سعد بن أبي وقاص، وهي أم ابنة حمزة بن المغيرة، وعائشة بنت جرير بن عبد الله.

وقال: أبو اليقظان: صلى المغيرة بالناس سنة أربعين، في العام الذي قتل فيه علي بن أبي طالب عليه السلام. فجعل يوم الأضحى يو عرفة، أظنه خاف أن يعزل، فبق ذلك. فقال الراجز:

سيري رويدا وابتغي المغيره                      كلفتها الإدلاج بالظـهـيره ثال: وكان المغيرة مطلاقا. فكان إذا اجتمع عنده أربع نسوة قال: إنكن لطويلات الأعناق، كريمات الأخلاق، ولكني رجل مطلاق، فاعتددن.

وكان يقول: النساء أربع، والرجال أربعة: رجل مذكر وامرأة مؤنثة، فهو قوام عليها؛ ورجل مؤنث وامرأة مذكرة، فهي قوامة عليه؛ ورجل مذكر وامرأة مذكرة، فهما كالوعلين ينتطحان؛ ورجل مؤنث وامرأة مؤنثة، فهما لا يأتبان بخير، ولا يفلحان.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا الأصمعي قال: حدثنا أبو هلال عن مطير الوراق، قال: قال المغيرة بن شعبة: نكحت تسعا وثمانين امرأة، أو قال: أكثر من ثمانين امرأة، فما أمسكت امرأة منهن على حب؛ أمسكها لولها، ولحسبها، ولكذا ولكذا.

 

 

صفحة : 1778

 

قال أبو زيد: وبلغني أنهم ذكروا النساء عند المغيرة بن شعبة، فقال: أنا أعلمكم بهن: تزوجت ثلاثا وتسعين امرأة، منهن سبعون بكرا، فوجدت اليمانية كثوبك: أخذت بجانبه فاتبعك بقيته؛ ووجدت الربعية أمتك: أمرتها فأطاعتك؛ ووجدت المضرية قرنا ساورته، فغلبته أو غلبك.

حدثنا ابن عمار قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو عاصم قال: رأى المغيرة امرأة له تخلل بهد صلاة الصبح، فطلقها. فقالت: علام طلقني ? قيل: رآك تخللين، فظن أنك أكلت. فقالت: أبعده الله والله ما أتخلل إلا من السواك .

أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني موسى بن إسمعيل قال: حدثناحماد بن سلمة، عن زيد بن أسلم: أن رجلا جاء فنادى يستأذن لأبي عيسى، على أمير المؤمنين. فقال عمر: أيكم أبو عيسى? قال المغيرة بن شعبة: أنا. فقال له عمر: هل لعيسى من أب? أما يكفيكم معاشر العرب أن تكتنوا بأبي عبد الله، وأبي عبدعبد الرحمن فقال له رجل من القوم: أشهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه بها. فقال له عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأنا لا أدري ما يفعل بي فكناه أبا عبد الله.

أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة، قال: حدثني عمرو بن بحر أبو عثمان الجاحظ، قال: كان الجمال بالكوفة ينتهي إلى أربعة نفر: المغيرة بن شعبة؛ وجرير بن عبد الله، والأشعث بن قيس، وحجر بن عدي، وكلهم كان أعور؛ فكان المغيرة والأشعث وجرير يوما متواقفين بالكوفة بالكناسة، فطلع عليهم أعرابي. فقال لهم المغيرة: دعوني أحركه. قالوا: لا تفعل، فإن للأعراب جوابا يؤثر. قال: لا بد. قالوا: فأنت أعلم. قال له: يا أعرابي، هل تعرف المغيرة بن شعبة? قال: نعم أعرفه أعور زانيا. فوجم. ثم تجلد فقال: هل تعرف الأشعث بن قيس? قال: نعم، ذاك رجل لا يعرى قومه . قال: وكيف ذاك? قال: لأنه حائك ابن حائك.

قال: فهل تعرف جرير بن عبد الله? قال: وكيف لا أعرف رجلا لولاه ما عرفت عشيرته. قالوا له: قبحك الله، فإنك شر جليس، فهل تحب أن نوقر لك بعيرك هذا مالا وتموت أكرم العرب? قال: فمن يبلغه أهلي إذن? فانصرفوا عنه وتركوه.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثني أبو سعيد السكري، قال: حدثنا محمد بن أبي السري- واسم أبي السري سهل بن سلام الأزدي- قال: حدثني هشام بن محمد قال: أخبرنا عوانة بن الحكم، قال: خرج المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة يومئذ، ومعه الهيثم بن الأسود النخعي، بعد غب مطر، يسير بظهر الكوفة والحوف، فلقي ابن لسان الحمرة، أحد بني تيم الله بن ثعلبة وهو لا يعرف المغيرة. فقال له المغيرة: من أين أقبلت يا أعرابي? قال: من السماوة. قال: فكيف تركت الأرض خلفك? قال: عريضة أريضة . قال: وكيف كان المطر? قال: عفى الأثر، وملأ الحفر. قال: ممن أنت? قال: من بكر بن وائل. قال: فكيف علمك بهم? قال: إن جهلتهم لم أعرف غيرهم. قال: فما تقول في بني شبيان?قال: ساتنا وسادة غيرنا. قال: فما تقول في بني ذهل? قال: ساة نوكى. قال: فقيس بن ثعلبة? إن جاورتهم سرقوك، وإن ائتمنتهم خانوك: قال: فبنوتيم الله بن ثعلبة? قال: رعاء البقر ، وعراقيب الكلاب. قال: فما تقول في بني يشكر? قال: صريح تحسبه مولى.) قال هشام: لأن في ألوانها حمرة(. قال: فعجل? قال: أحلاس الخيل. قال: يطعمون الطعام، ويضربون الهام. قال: فعنزة قال: لا تلتقي بهم الشفتان لؤما . قال: فضبيعة أضجم? قال: جدعا وعقرا . قال: فأخبرني عن النساء. قال: النساء أربع: ربيع مربع، وجميع تجمع، وشيطان سمعمع، وغل لا يخلع . قال: فسر. قال: أما الربيع المربع فالتي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أقسمت عليها أبرتك؛ وأما التي هي جميعتجمع، فالمرأة تتزوجها ولها نشب، فتجمع نشبك إلى نشبها؛ وأما الشيطان السمعمع، فالكالحة في وجهك إذا دخلت، والمولومة في أثرك إذا خرجت؛ وأما الغل الذي لا يخلع، فبنت عمك السوداء القصيرة، الفوهاء الدميمة، التي قد نثرت بطنها، إن طلقتها ضاع ولدك، وإن أمسكتها فعلى جده أنفك. فقال له المغيرة: بلأ أنفك. ثم قالله: ما تقول في أميرك المغيرة بن شعبة? قال: أعور زناء. فقال الهيثم: فض الله فاك ويلك هذا الأمير المغيرة.

 

 

صفحة : 1779

 

فقال: إنها كلمة والله تقال. فانطلق به المغيرة إلى منزله، وعنده يومئذ أربع نسوة، وستون أو سبعون أمة. قال له ويحك هل يزني الحر وعنده مثل هؤلاء? ثم قال لهن المغيرة: ارمين إليه بحلاكن. ففعلن، فخرج الأعرابي بملء كسائه ذهبا وفضة.

أخبرني عبيد الله بن محمد، قال: حدثنا الخراز، عن المدائني، عن أبي مخنف، وأخبرني أحمد بن عيسى العجلي قال: حدثنا الحسن بن نصر، قال: حدثني أبي نصر بن مزاحم قال: حدثنا عمر بن سعد ، عن أبي مخنف عن رجاله: أن المغيرة بن شعبة جاء إلى علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال له: أكتب إلى معاوية فوله السام، ومره بأخذ البيعة لك، فإنك إن لم تفعل وأردت عزله حاربك. فقال علي عليه السلام. )ماكنت متخذ المفصلين عضدا(. فانصرف المغيرة وتركه. فلما كان من غد جاءه، فقال: أني فكرت فيما أشرت به عليك أمس، فوجدته خطأ، ووجدت رأيك أصوب. فقال له علي: لم يخف علي ما أردت؛ قد نصحتني في الأولى، وغشيتني في الآخرة، ولكني والله لا آتي أمر اجد فيه فسادا لديني، طلبا لصلاح دنياي. فانصرف المغيرة.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني إبراهيم بن سعيد بن شاهين، قال: حدثني محمد بن يونس الشيرازي، قال: حدثني محمد بن غسان الضبي، قال: حدثني زاجر بن عبد الله الثقفي، مولى الحجاج بن يوسف، قال: كان بين المغيرة بن شعبة وبين مصقلة بن هبيرة الشيباني تنازع، فضرع له المغيرة، وتواضع في كلامه، حتى طمع فيه مصقلة. واستعلى عليه، فشتمه. فقدمه المغيرة إلى شريح، وهو القاضي يومئذ، فأقام عليه البينة، فضربه الحد. فآلى مصقلة ألا يقيم ببلدة فيها المغيرة بن شعبة ما دام حيا، وخرج إلى بني شيبان، فنزل فيهم إلى أن مات المغيرة. ثم دخل الكوفة، فتلقاه قومه، وسلموا عليه. فما فرغ من التسليم حتى سألهم عن مقابر ثقيف، فأرشدوه إليها. فجعل قوم من مواليه يلتقطون له الحجارة، فقال: ما هذا? قالوا: ظننا أنك تريد أن ترجم قبره. فقال: ألقوا ما في أيديكم. فألقوه، وانطلق حتى وقف على قبره، ثم قال: والله لقد كنت ما علمت نافعا لصديقك، ضائرا لعدوك، ما مثلك إلا كما قال مهلهل في أخيه كليب:

إن تحت الأحجار حزما وعزما                      وخصيمـا ألـد ذا مـعـلاق

حية في الـوجـار أريد لا ين                      فع منه السليم نفث الـراقـي وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزيان، عن أحمد بن القاسم، عن العمري، عن الهيثم بن عدي، عن مجالد، عن الشعبي: أن مصقلة قال له: والله إني لأعرف شبهي في عروة ابنك. فأشهد عليه بذلك، وجلده الحد. وذكر باقي الخبر مثل الذي قبله.

أخبرني محمد بن عبد الله الرازي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني، عن مسلمة بن محارب، قال: قال رجل من قريش لعمر بن الخطاب رضوان الله عليه: ألا تتزوج أم كلثوم بننت أبي بكر، فتحفظه بعد وفاته، وتخلفه في اهله. فقال: عمر: بلى، إني لأحب ذاك؛ فاذهب إلى عائشة، فاذكر لها ذلك، وعد إلي بجوابها. فمضى الرسول إلى عائشة، فأخبرها بما قال عمر، فأجابته إلى ذلك، وقالت له: حبا وكرامة . ودخل إليها بعقب ذلك المغيرة بن شعبة، فرآها مهمومة. فقال لها: مالك يا أم المؤمنين? فأخبرته برسالة عمر، وقالت: إن هذه جارية حدثة، وأردت لها ألين عيشا من عمر. فقال لها: علي أن أكفيك. وخرج من عندها، فدخل على عمر، فقال: بالرفاء والبنين، قد بلغني ما أتيته من صلة أبي بكر في أهله، وخطبتك ام كلثوم. فقال: قد كان ذاك. قال: إلا أنك، يا أمير المؤمنين، رجل شديد الخلق على أهلك، وهذه صبية حديثة السن، فلا تزال تنكر عليها الشيء، فتضربها فتصيح: يا أبتاه فيغمك ذلك، وتتألم له عائشة، ويذكرون أبا بكر، فيبكون عليه، فتجدد لهم المصيبة به، مع قرب عهدها في كل يوم. فقال له: متى كنت عند عائشة ، واصدقني? فقال: آنفا. فقال عمر: أشهد أنهم كرهوني، فتضمنت لهم أن تصرفني عما طلبت، وقد أعفيتهم. فعاد إلى عائشة، فأخبرها بالخبر، وأمسك عمر من معاودتها.

حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال:حدثنا علي بن محمد بن سليمان الباقلاني، عن قتادة، عن غنيم بن قيس، قال:

 

صفحة : 1780

 

كان المغيرة بن شعبة يختلف إلى امرأة من ثقيف يقال لها الرقطاء، فلقيه أبو بكرة، فقال له: أين تريد? قال: أزور آل فلان . فأخذ بتلابيبه، وقال: إن الأمير يزار ولا يزور.

وحدثنا بخبره لما شهد عليه الشهود عند عمر رضي الله عنه، أحمد بن عبيد الله بن عمار، وأحمد بن عبد العزيز، قالا: حدثنا عمر بن شبة، فرواه عن جماعة من رجاله، بحكايات متفرقة.

قال عمر بن شبة: حدثني أبو بكر العيلمي، قال: أخبرنا هشام، عن عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن، عن أبيه عن أبي بكرة.

قال عمر بن شبة: وحدثنا عمرو بن عاصم، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن يزيد، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة.

قال أبو زيد عمر بن شبة: وحدثنا علي بن محمد بن حباب بن موسى، عن مجالد، عن الشعبي.

قال: وحدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: حدثنا عوف، عن قسامة بن زهير.

قال أبو زيد عمر بن شبة: قال الواقدي: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكرة، عن أبيه، عن مالك بن لأوس بن الحدثان.

قال: وحدثني محمد بن الجهم، عن علي بن أبي هاشم، عن إسماعيل بن أبي عبلة، عن عبد العوزيز بن صهيب، عن أنس بن مالك: أن المغيرة بن شعبة كان يخرج من دار غلإمارة وسط النهار، وكان أبو بكرة يلقاه فيقول له: أين يذهب الأمير? فيقول: آتي حاجة. فيقول له: حاجة ماذا? إن الأمير يزار ولا يزور.

قال: وكانت المرأة التي يأتيها جارة لأبي بكرة. قال: فبينا أبو بكرة في غرفة له مع أصحابه وأخويه نافع وزياد، ورجل آخر، يقال له شبل بن معيد، وكانت غرفة جارته تلك بحذاء غرفة أبي بكرة. فضربت الريح باب المرأة ففتحته. فنظر القوم فإذا هم بالمغيرة ينكحها. فقال أبو بكرة: هذه بلية ابتليتم بها، فانظروا. فنظروا حتى أثبتوا. فنزل أبو بكرة فجلس حتى خرج عليه المغيرة من بيت المرأة، فقال له: إنه قد كان من أمرك ما قد علمت، فاعزلنا. قال: وذهب ليصلي بالناس الظهر، فمنعه أبو بكرة، وقال له: لا والله لاتصلي بنا وقد فعلت ما فعلت.

فقال الناس: دعوه فليصل، فإنه الأمير، واكتبوا بذلكم إلى عمر. فكتبوا إليه، فورد كتابه بأن يقدموا عليه جميعا، المغيرة والشهود.

وقال المدائني في حديثه عن حباب بن موسى: وبعث عمر بأبي موسى الأشعري على البصرة. وعزم عليه ألا يضع كتابه من يده حتى يرحل المغيرة بن شعبة. قال: قال علي بن أبي هاشم في حديثه: إن أبا موسى قال لعمر لما أمره أن يرحله من وقته: أو خير من ذلك يا أمير المؤمنين: تتركه يتجهز ثلاثا، ثم يخرج. قال: فصلينا صلاة الغداة بظهر المربد، ودخلنا المسجد، فإذا هم يصلون: الرجال والنساء مختلطين. فدخل رجل على المغيرة، فقال له: إني رأيت أبا موسى في جاني المسجد، عليه برنس. فقال له المغيرة: ما جاء زائرا ولا تاجرا. فدخلنا عليه ومعه صحيفة ملء يده ، فلما رآنا قال: الأمير? فأعطاه أبو موسى الكتاب. فلما قرأه ذهب يتحرك عن سريره. فقال له أبو موسى: مكانك، تجهز ثلاثا.

وقال الآخرون: إن أبا موسى أمره أن يرحل من وقته. فقال له المغيرة: لقد علمت ما وجهت فيه، فألا تقدمت فصليت. فقال له أبو موسى: ما أنا وأنت في هذا الأمر إلا سواء. فقال له المغيرة: فإني أحب أن أقيم ثلاثا لأتجهز. فقال: قد عزم علي أمي المؤمنين ألا أضع عهدي من يدي إذا قراته عليك، حتى أرحلك إليه. قال: إن شئت شفعتني وأبررت قسم أمير المؤمنين. قال: وكيف? قال: تؤجلني إلى الظهر، وتمسك الكتاب في يدك.

قالوا: فقد رئى أبو موسى يمشي مقبلا ومدبرا، وإن الكتاب لفي يده معلقا بخيط. فتجهز المغيرة، وبعث إلى أبي موسى بعقيلة، جارية عربية من سبي اليمامة، من بني حنيفة؛ ويقال إنها مولده الطائف، ومعها خادم لها. وسار المغيرة حين صلى الظهر، حتى قدم على عمر. وقال في حديث محمد بن عيد الله الأنصاري: فلما قدم على عمر. قال له: إنه قد شهد عليك بأمر إن كان حقا لأن تكون مت قبل ذلك كا خيرا لك.

 

 

صفحة : 1781

 

قال أبو زيد: وحدثني الحكم بن موسى، قال: حدثنا يحيى بن حمزة، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة، عن عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري عن مصعب بن سعد: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جلس، ودعا المغيرة والشهود. فتقدم أبو بكرة. فقال له: أرأيته بين فخذيها، قال: نعم والله، لكأني أنظر إلى تشريم جدري بفخذيها. فقال له المغيرة: لقد ألطفت النظر. فقال له لم آل أن أثبت ما يخزيك الله به? فقال له عمر: لا والله حتى تشهد لقد رأيته يلج فيه كما يلج المرود في المكحلة.

فقال: نعم أشهد على ذلك. فقال له: اذهب عنك مغيرة، ذهب ربعك.

ثم دعا نافعا فقال له: علام تشهد? قال: على مثل شهادة أبي بكرة. قال: لا، حتى تشهد أنه كان يلج فيه ولوج المرود في المكحلة. فقال: نعم حتى بلغ قذذه . فقال: اذهب عنك مغيرة، ذهب نصفك. ثم دعا الثالث، فقال: علام تشهد? فقال: على مثل شهادة صاحبي. فقال له علي بن أبي طالب عليه السلام: اذهب عنك مغيرة، ذهب ثلاثة أرباعك. قال: حتى مكث يبكي إلى المهاجرين، فبكوا. وبكى إلى أمهات المؤمنين، حتى بكين معه، وحتى لا يجالس هؤلاء الثلاثة أحد من اهل المدينة.

قال: ثم كتب إلى زياد، فقدم على عمر. فلما رآه جلس له في المسجد، واجتمع إليه رؤوس المهاجرين والأنصار. قال المغيرة: ومعي كلمة قد رفعتها لأكلم القوم. قال: فلما رآه عمر مقبلا قال: إني لأرى رجلا لن يخزي الله على لسانه رجلا من المهاجرين.

قال أبو زيد: وحدثنا عفان، قال: حدثنا السري بن يحيى، قال: حدثنا عبد الكريم بن رشيد، عن أبي عثمان النهدي، قال: لما شهد عند عمر الشاهد الول على المغيرة، تغير لذلك لون عمر. ثم جاء آخر فشهد، فانكسر لذلك انكسارا شديدا. ثم جاء رجل شاب يخطر بين يديم، فرفع عمر رأسه إليه، وقال له: ما عنك يا سلح العقاب وصاح أبو عثمان صيحة تحكي صيحة عمر. قال عبد الكريم: لقد كدت أن يغشى علي.

وقال آخرون: قال المغيرة: فقمت إلى زياد، فقلت له: لا مخبأ لعطر بعد عروس. ثم قلت: يا زيد، اذكر الله، واذكر موقف يوم القيامة؛ فإن الله وكتابه ورسوله وأمير المؤمنين قد حقنوا دمي، إلا أن تتجاوز إلى ما لم تر ما رأيت، فلا يحملك شر منظر رأيته على ان تتجاوزه إلى مالن تر، فوالله لو كنت بين بطني وبطنها ما رأيت أين سلك ذكري منها. قال: فترنقت عيناه، واحمر وجهه، وقال: يا أمير المؤمنين، أما أن أحق ما حق القوم فليس ذلك عندي، ولكني رأيت مجلسا قبيحا، وسمعت نفسا حثيثا وانبهارا، ورأيته متبطنها. فقال له: أرأيته يدخله كالميل في المكحلة. فقال: لا.

وقال غير هؤلاء: إن زيادا قال له: رأيته رافعا برجليها، ورأيت خصيتيه تترددان بين فخذيها، ورأيت حفزا شديدا، وسمعت نفسا عاليا. فقال له: أرأيته يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة? فقال: لا. فقال عمر: الله أكبر. قم إليهم فاضربهم. فقام أبي بكرة، فضربه ثمانين، وضرب الباقين، وأعجبه قول زياد، ودرأ عن المغيرة الرجم. فقال أبو بكرة بعد أن ضرب: فإني أشهد أن المغيرة فعل كذا وكذا. فهم عمر بضربه، فقال له علي عليه السلام: إن ضربته رجمت صاحبك. ونهاه عن ذلك.

قال: يعني أنه إن ضربه جعل شهادته بشهادتين، فوجب بذلك الرجم على المغيرة.

قال: واستتاب عمر أبا بكرة. فقال: إنما تستتيبني لتقبل شهادتي. قال:أجل. قال: لا أشهد بين اثنين ما بقيت في الدنيا. قال: فلما ضربوا الحد قال المغيرة: الله أكبر الحمد لله الذي أخزاكم. فقال له عمر: اسكت أخزى الله مكانا رأوك فيه . قال: وأقام أبو بكرة على قوله، وكان يقول: والله ما أنسى رقط فخذيها. قال: وتاب الاثنان، فقبلت شهادتهما. قال: وكان أبو بكرة بعد ذلك إذا دعي إلى شهادة يقول: اطلب غيري، فإن زيادا قد أفسد علي شهادتي.

قال أبو زيد: وحدثني سليمان بن داود بن علي، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن جده، قال: لما ضرب أبو بكرة أمرت أمه بشاة فذبحت، وجعلت جلدها على ظهره. قال: فكان أبي يقول: ما ذاك إلا من ضرب شديد.

حدثنا ابن عمار والجوهري قاللا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا علي بن محمد، عن يحيى بن زكريا، عن مجالد، عن الشعبي، قال:

 

صفحة : 1782

 

كانت أم جميل بنت عمر، التي رمي بها المغيرة بن شعبة بالكوفة، تختلف إلى المغيرة في حوائجها، فيقضيها لها. قال: ووافقت عمر بالموسم والمغيرة هناك، فقال له عمر: أتعرف هذه? قال: نعم؛ هذه أم كلثوم بنت علي . فقال: له عمر: أنتجاهل علي? والله ما أظن أبا بكرة كذب عليك، وما رأيتك إلا خفت أن أرمى بحجارة من السماء.

حدثني أحمد بن الجعد، قال: حدثنا محمد بن عباد، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن أبي جعفر، قال: قال علي بن أبي طالب عليه السلام: لئن لم ينته المعغيرة لأتبعنه أحجاره. وقال غيره: لئن أخذت المغيرة لأتبعنه أحجاره.

أخبرني ابن عمار والجوهري قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا المائني، قال: قال حسان بن ثابت يهجو المغيرة بن شعبة في هذه القصة:

لو ان اللؤم ينسب كان عبـدا                      قبيح الوجه أعور من ثقيف

تركت الدين والإسلام لـمـا                      بدت لك غدوة ذات النصيف

وراجعت الصبا وذكرت عهدا                      من القينات والغمر اللطيف أخبرني الجوهري وابن عمار، قالا: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا المدائني عن هبد الله بن سلم الفهري قال: لما شخص المغيرة إلى عمر، رأى في طريقه جارية فأعجبته، فخطبها إلى أبيها. فقال له: أنت على هذه الحال? قال: وما عليك? إن أعف، فهو الذي تريد؛ وإن أقتل ترثني. فزوجه.

قال أبو زيد: قال الواقدي. تزوجها بالرقم . وهي امرأة من بني مرة. فلما قدم بها على عمر، قال: إنك لفارغ القلب، طويل الشبق.

وقال محمد بن سعد: أخبرني محمد بن عبد الله الأسدي، قال: حدثنا مسعر، عن زياد بن علاقة، قال: سمعت جرير بن عبد الله حين مات المغيرة بن شعبة يقول: اسغفروا لأميركم هذا، فإنه كان يحب العافية .

قال: وكان المغيرة أصهب الشعر جدا، أكشف، يفرق رأسه قرونا أربعة، أقلص الشفتين، مهتوما، ضخم الهامة، عبل الذراعين، بعيد ما بين المنكبين.

قال:وقال الواقدي، حدثني محمد بن موسى الثقفي، عن أبيه، قال: مات المغيرة بن شعبة بالكوفة سنة خمسين، في خلافة معاوية، وهو ابن سبعين سنة. وكان رجلا طوالا أعور، أصيبت عينه يوم اليرموك.

 

جنية ولها جـن يعـلـمـهـا                      رمى القوب بقوس ما لها وتر

إن كان ذا قدرا يعطيك نافـلة                      منا ويحرمنا، ما أنصف القدر الشعر لمحمد بن بشير الخارجي، والغناء لإبراهيم: هزج بالبنصر، عن الهشامي.

 

أخبار محمد بن بشير الخارجي ونسبه

هو ممحمد بن بشير بن عبد الله بن عقيل بن أسعد بن حبيب بن سنان بن عوف بن بكر بن يشكر بن عدوان الخارجي، من بني خارجة بن عوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر. ويقال لعدوان وفهم: ابنا جديلة، نسبا إلى أمهما جديلة بنت مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر، ويكنى محمد بن بشير أبا سليمان؛ شاعر فصيح حجازي مطبوع، من شعراء الدولة الأموية. وكان منقطعا إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة القرشي، أحد بني أسد بن عبد العزى، وهو جد ولد عبد الله بن الحسن بن الحسن، لأمهم هند بنت أبي عبيدة بن زمعة القرشي؛ ولدت لعبد الله محمدا وإبراهيم وموسى. وكانت لمحمد بن بشير فيه مدائح ومراث مختارة، وهي عيون شعره، وكان يبدو في أكثر زمانه، ويقيم في بوادي المدينة، ولا يكاد يحضر مع الناس.

أخبرني بقطعة من أخباره الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثني مصعب الزبيري. قال أحمد: وحدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش السعدي وعمي مصعب. وحدثني بقطعة أخرى منها عيسى بن الحسن الوراق، عن الزبير، عن سليمان بن عياش. وقد ذكرت كل ذلك في مواضعه.

قال ابن أبي خيثمة في روايته عن مصعب وعن الزبير، عن سليمان بن عياش: كان الخارجي، واسمه محمد بن بشير بن عبد الله بن عقيل بن سعد بن حبيب بن سنان بن عدي بن عوف بن بكر، شاعرا فصيحا، ويكنى أبا سليمان. فقدم البصرة في طلب ميراث له بها، فخطب عائشة بنت يحيى بن يعمر الخارجية؛ من خارجة عدوان. فأبت أن تتزوجه إلا أن يقيم معها بالبصرة، ويترك الحجاز، ويكون أمرها في الفرقة إليها، فأبى أن يفعل، وقال في ذلك:

أرق الحزين وعاده سهده                      لطوارق الهم التي تـرده

وذكرت من لانت له كبدي                      فأبى فليس تلين لي كبده

 

صفحة : 1783

 

 

ونأى فليس بنـازل بـلـدي                      أبدا، وليس بمصلحي بلـده

فصدعت حين أبى مـودتـه                      صدع الزجـاجة دائم أبـده

وعرفت أن الطير قد صدقت                      يوم الكدانة شر ما تـعـده

فاصبر فإن لكـل ذي أجـل                      يوما يجيء فينقضي عـدده

ماذا تعاتب من زمـانـك إذ                      ظعن الحبيب وحل بي كمده قالا: وخاطب أباها يحيى بن يعمر في ذلك، فقال له: إنها امرأة برزة عاقلة، لا يفتات على مثلها بأمرها، وما عندها عنك من رغبة، ولكنها امرأة في خلقها شدة، ولها غيرة، وقد بلغني أن لك زوجتين، وما أراها تصبر على أن تكون ثالثة لهما؛ فانظر في امرك، وشاور فيه: فإما أن أقمت بالبصرة معها، فعفت لك عن صاحبتيك، إذ لا مجاورة بينهما وبينها ولا عشرة، وإن شئت فارقتهما وأخرجها معك. فصار إلى رحله مغموما. وشاور ابن عم له يقال له وراد بن عمرو في ذلك، فقال له: إن في يحيى بن يعمر لرغبة، لثروته وكثرة ماله، وما ذكرته من جمال ابنته، وما نحب أن تفارق زوجتيك- وكانت إحداهما ابنة عمه، والأخرى من أشجع- فتقيم معها السنة بالبصرة، ونمضي نحن ، فإن رغبت فيها تمسكت بها، وأقمت بمكانك، وإن رغبت في العود إلى بلدك، كتبت إلينا فجئناك، حتى تنصرف معنا إلى بلدك.

ففكر ليله أجمع في ذلك، ثم غدا عازما على الرجوع إلى الحجاز، وقال:

لئن أقمت بحيث الفيض فـي رجـب                      حتى أهل به مـن قـابـل رجـبـا

وراح في السفر وراد فهـيجـنـي                      إن الغـريب إذا هـيجـتـه طـرا

إن الغريب يهيج الحزن صـبـوتـه                      إذا المصاحب حـياه وقـد ركـبـا

قد قلت أمس لـوارد وصـاحـبـه                      عوجا على الخارجي اليوم واحتسبـا

أبـلـغـا أم سـعـد أن عـانـيهـا                      أعيا على شفعاء الناس فاجتـنـبـا

لما رأيت نجي القوم قـلـت لـهـم                      هل يعدون نجي القوم مـا كـتـبـا

وقلت إني متى أجلب شفـاعـتـكـم                      أندم وإن أشق الغي ما اجـتـلـبـا

وإن مثلي متى يسمع مقـالـتـكـم                      ويعرف العين يندم قبـل أن يجـبـا

إني وما كبر الحجاج تحـمـلـهـم                      بزل المطايا بجنبي نخلة عـصـبـا

وما أهل به الداعـي ومـا وقـفـت                      عليا ربيعة ترمى بالحصى الحصبـا

جهدا لمن ظن أني سوف أظعنـهـا                      عن ربع غانية أخرى لقـد كـذبـا

أأبتغي الحسن في أخرى وأتركـهـا                      فذاك حين تركت الدين والحـسـبـا

وما انقضى الهم من سعدى وما علقت                      مني الجائل حتى رمتهـا حـقـبـا

وما خلوت بها يوما فتـعـجـبـنـي                      إلا غدا أكثر اليومين لي عـجـبـا

بل أيها السائلـي مـالـيس يدركـه                      مهلا فإنك قد كلفـتـنـي تـعـبـا

كم من شفيع أتاني وهو يحسب لـي                      حسبا فأقصره من دون ما حسـبـا

فإن يكن لهـواهـا أو قـرابـتـهـا                      حب قديم فمـا غـابـا ولا ذهـبـا

هما علي: فإن أرضيتـهـا رضـيا                      عني وإن غضبت في باطل غضبـا

كائن ذهبت فردانـي بـكـيدهـمـا                      عما طلبت وجاءاها بمـا طـلـبـا

وفد ذهبت فلم أصـبـح بـمـنـزلة                      إلا أنازع من أسبـابـهـا سـبـبـا

ولمها خلة لو كـنـت مـسـجـحة                      أو كنت ترجع من عصريك ما ذهبا

أنت الظعينة لا تر مى بـرمـتـهـا                      ولا يفجعها ابن العم ما اصطحـبـا اخبرني عيسى بن الحسن، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش السعدي قال: قدم أعراب من بني سليم أقحمتهم السنة إلى الروحاء، فخطب إلى بعضهم رجل من الموالي من أهل الوحاء، فزوجه. فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وواليها يومئذ إبراهيم بن هشام بن إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة، فاستعداه الخارجي على المولى. فأرسل إبراهيم إليه وإلى النفر السلميين، وفرق بين المولى وزوجته، وضربه مائتي سوط، وحلق رأسه ولحيته وحاجبيه. فقال محمد بن بشير في ذلك:

شهدت غداة خصم بني سلـيم                      وجوها من قضائك غير سود

 

صفحة : 1784

 

 

قضيت بسنة وحكمت عـدلا                      ولم ترث الحكومة من بعـيد

إذا غمز القنا وجدت لعمري                      قناتك حين تغمز خير عـود

إذا عض الثقاف بها اشمأزت                      أبي النفس بائنة الصـعـود

حمى حدبا لحوم بنـات قـوم                      وهم تحت التراب أبو الوليد

وفي المئتين للمولى نـكـال                      وفي سلب الحواجب والخدود

إذا كا فأتهم ببنات كـسـرى                      فهل يجد الموالي من مـزيد

فأي الحق أنصف للمـوالـي                      من اصهار العبيد إلى العبيد حدثني عمي ، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش، قال: كان للخارجي عبد، وكان يتلطف له ويخدمه، حتى أعتقه وأعطاه مالا، فعمل به، وربح فيه. ثم احتاج الخارجي بعد ذلك إلى معونة أو قرض في نائبة لحقته، فبعث إلى مولاه في ذلك، وقد كان المولى أثرى واتسعت حاله، فحلف له أنه لا يملك شيئا، فقال الخارجي في ذلك:

يسعى لك المولى ذليلا مدقعـا                      ويخذلك المولى إذا اشتد كاهله

فأمسك عليك العبد أول وهـلة                      ولا تنفلت من راحتيك حبائله وقال أيضا:

إذا افتقر المولى سعى لك جاهدا                      لترض وإن نال الغنى عنك أدبرا حدثني عيسى بن الحسين ، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني سليمان بن عياش السعدي، قال: كان محمد بن بشير الخارجي بين زوجتين له، فوجه غنما إلى سحابة وقعت برجفان،وهو جبل يطل على مضيق يليل، فشقت غيبتها عليه. فقال لزوجتيه: لو تحولتما إلى غنمنا.

فقالتا له: بل تذهب، فتطلع إليها، وتصرفها إلى موضع قريب، حتى نوافيك فيه. فمضى وزودتاه وطبين، وقالتا له: اجمع لنا اللبن، ووعدتاه موضعا من رجفان، يقال له ذو القشع. فانطلق، فصرف غنمه إلى ذلك الموضع، ثم انتظرهما، فأبطأتا عليه. وخالفته سحابة إليهما، فأقامتا، وقالتا: يبلغ إلى غنمه ثم يأتينا. فجعل يصعد في الجبل وينزل يتبصرهما فلا يراهما. فبينما هو كذلك إذ أبصر امرأتين قد نزلنا ، فقال: أنزل فأتحدث إليهما، فإذا هو بامرأة مسنة، ومعها بنت لها شاية، فأعجبته، فقال لها: أتزوجينني ابنتك هذه? قالت: إن كنت كفؤا. فانتسب لها، فقالت: أعرف النسب ولا أعرف الوجه، ولكن يأتي أبوها. فجاء أبوها فعرفه، فأخبرته امرأته بما طلب. فقال: نعم وزوجه إياها. فساق إليها قطعة من غنمه، ثم بنى بها، وانتظر، فلم ير زوجتيه تقدمان عليه، فارتحل إليهما بزوجته وبقية غنمه. فلما طلع عليهما وقف، فأخذ بيدها، ثم أنشأ يقول:

كأني موف لـلـهـلال عـشـية                      بأسفل ذات القشع منتظر القطـر

وأنتن تلبسن الـجـديدة بـعـدمـا                      طردت بطي الوطبفي البلق والعفر

فكان الذي قلتـن أعـدد بـضـاعة                      لنناهد بيضاء الترائب والـنـحـر

كأن سموط الدر منهـا مـعـلـق                      بجيداء في ضال بوجرة أو سـدر

تكون بلاغا ثم لسـت بـمـخـبـر                      إذا وديت لي ما وددتن من أمـري أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثني مصعب، قال: حدثني أحمد بن زهير؛ وحثني الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش، قالا: كان محمد بن بشير يتحدث إلى امرأة من مزنية، وكان قومها قد جاوروهم، ثم جاء الربيع، وأخصبت بلاد مزينة، فارتحلوا، فقال محمد بن بشير:

لو بينت لك قبل يوم فـراقـهـا                      أن التفرق من عشـية أو غـد

لشكوت إذ علق الفـؤاد بـهـائم                      علق حبائل هـائم لـم يعـهـد

وتبرجت لك فاستبتك بـواضـح                      صلت وأسود في النصيف معقد

بيضاء خالصة البياض كأنـهـا                      قمر توسط ليل صيف مـبـرد

مرسومة بالحسن ذات حـواسـد                      إن الجمال مظنة لـلـحـسـد

لم يطغها سرف الشباب ولم تضع                      عنها معاهدة النصيح المـرشـد

خود إذا كثر الكـلام تـعـوذت                      بحمى الحياء وإن تكلم تقـصـد

وكأن طعم سلامفة مـشـمـولة                      تنصب في إثر السواك الأغـيد

وترى مدانعها ترقـرق مـقـلة                      حوراء ترغب عن سواد الإثمـد

 

صفحة : 1785

 

 

ماذا إذا برزت غداة رحيلـهـا                      م الحسن تحت رقاق تلك الأبرد

ولدت بأسعد أنجم فمـحـلـهـا                      ومسيرها أبدا بطلق الأسـعـد

لله يسعدهـا ويسـقـي دارهـا                      خضل الرباب سرى ولما يرعد أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثني الزبير قال: حدثني سليمان بن عياش، قال: صحب محمد بن بشير من قضاعة إلى مكة ، وكانت فيهم امرأة جميلة، فكان يسايرها ويحادثها. ثم خطبها إلى نفسها ، فقالت: لا سبيل إلى ذلك، لأنك لست لي بعشير ، ولا جاري في بلدي، ولا أنا ممن تطمعه رغبة عن بلده ووطنه. فلم يزل يحادثها ويسايرها حتى انفض الحج، ففرق بينهما نزوعهما إلى أوطانهما، فقال الخارجي في ذلك:

أستغفر الله ربي من مـخـدرة                      يوما بدا لي منها الكشح والكتـد

من رفقة صاحبونا في نـدائهـم                      كل حرام فما ذموا ولا حمـدوا

حتى إذا البدن كانت في مناحرها                      يعلو المناسم منها مزبد جـسـد

وحلق القوم واعتموا عمائمهـم                      واحتل كل حرام رأسـه لـبـد

أقبلت أسألها ما بال رفقـتـهـا                      وما أبالي أغاب القوم أم شهدوا

فقربت لي واحلولت مقالتـهـا                      وعوقتني وقالت بعض ما تجـد

أني ينال حجازي بـحـاجـتـه                      إحدى بني القين أدنى دارها برد أخبرني عيسى بن الحسين، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا سليمان بن عياش، قال: خطب محمد بن بشير امرأة من قومه، فقالت له: طلق امرأتك حتى أتزوجك. فأبى وانصرف عنها، وقال في ذلك:

أأطلب الحسن في أخرى وأتركها                      فذاك حين تركت الدين والحسبا

هي الظعينة لا يرمى برمتـهـا                      ولا يفجعها ابن العم ما اصطحبا

فما خلوت بها يوما فتعجبـنـي                      إلا غدا أكثر اليومين لي عجبـا حدثني عيى قال: حدثنا الزبير، قال: بلغني عن صالح بن قدمة بن إبراهيم أن محمد بن حاطب الجمحي، يروي شيئا من أخبار الخارجي وأشعاره، فأرسلت إليه مولى من موالينا يقال له محمد بن يحيى، كان من الكتاب، وسألته أن يكتب لي ما عنده، فكان فيما كتب لنا، قال: زعم الخارجي، واسمه محمد بن بشير، وكنيته أبو سليمان، وهو رجل من عدوان، وكان يسكن الروحاء قال: بينا نحن بالروحاء في عام جدب قليل الأمطار، ومعنا سليمان بن الحصين وابن أخته ، وإذا بقطار ضخمكثير الثقل يهوي، قادم من المدينة، حتى نزلوا بجانب الروحاء الغربي، بيننا وبينهم الوادي، وإذا هم من الأنصار، وفيهم سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. فلبثنا أياما، ثم إذا بسليمان بن الحصين يقول لي: أرسل إلي النساء يقلن: أما لكم في الحديث حاجة? فقلت لهن: فكيف برجا لكن? قلن: بلغنا أن لكم صاحبا يعرف بالخارجي، صاحب صيد، فإن أتاهم فحدثهم عن الصيد انطلقوا معه، وخلوتم فتحدثتم. قال: فقلت لسليمان: بئس لعمر الله ما أردت مني، أأذهب إلى القوم فأغرهم، وآثم وأتعب وتنالون أنتم حاجتكم دوني? ما هذا لي يرأي.

قال لي سليمان: فأنظرني إذن، أرسل إلى النساء وأخبرهن بقولك. فأرسل إليهن فأخبرهن بما قلت. فقلن: قل له احتل لنا عليهم هذه المرة بما قلنا لك، وعلينا أن نحتال لك المرة الأخرى.

قال الخارجي: فخرجت حتى أتيت القوم فحدثتهم، وذكرت لهم الصيد، فطارت إليه أنفسهم. فخرجت بهم، وأخذت لهم كلابا وشباكا، وتزودنا لثلاث. وانطلقت أحدثهم وألهييهم، فحدثتهم بالصدق حتى نفد. ثم حدثتهم بما يشبه الصدق حتى نفذ . ثم صرحت لهم بمحض الكذب حتى مضت ثلاث، وجعلتلا أحدثهم حديثا إلا قالوا: صدقت. وغبت بهم ثلاثا ما أعلم أنا عاينا صيدا، فقلت في ذلك:

إني لأعجب مني كيف أفكهـهـم                      أم كيف أخدع قوما ما بهم حمق

أظل في البيد أهيهم وأخبـرهـم                      أخبار قوم وما كانوا وما خلقـوا

ولو صدقت لقلت القوم قد قدمـوا                      حين انطلقنا وآتي ساعة انطلقـوا

أم كيف تحرم أيد لم تخـن أحـدا                      شيئا وتظفر أيديهم وقد سـرقـوا

ونرتمي اليوم حتى لا يكـون لـه                      شمس ويرمون حتى يبرق الأفق

 

صفحة : 1786

 

 

يرمون أحور مخضوبا بغـير دم                      دفعا وأنت وشاحا صيدك العلق

تسعى بكلبين تبغـيه وصـيدهـم                      صيد يرجى قليلا ثم يعـتـنـق

ما زلت أحدوهم حتى جعلتـهـم                      في أصل محنية ما إن بها طرق

ولو تركتهم فيها لـمـزقـهـم                      شيخا مزينة إن قالا انعقوا نعقوا

إن كنتم أبدا جاري صـديقـكـم                      والدهر مختلف ألوانـه طـرق

فمتعوني فـإنـي لا أرى أحـدا                      إلا له أجل في الموت مستبـق قال سليمان بن عياش: ومات سليمان بن الحصين هذا، وكان خليلا للخارجي، مصافيا له، وصديقامخلصا، فجزع عليه، وحزن حزنا شديدا، فقال يرثيه:

يأيها المتـمـنـي أن يكـون فـتـى                      مثل ابن ليلى لقد خلى لك الـسـبـلا

إن ترحل العيس كي تسعى مسـاعـيه                      يشفق عليك وتعمل دون ما عـمـلا

لو سرت في الناس أقصاهم وأقربهـم                      في شقة الأرض حتى تحسر إلابـلا

تبغي فتى فوق ظهر الأرض ما وجدوا                      مثل الذي غيبوا في بطنـهـا رجـلا

اعدد ثلاث خصال قـد عـرفـن لـه                      هل سب من أحد أو سب أو بـخـلا قال سليمان بن عياش:لما ات عبد العزيز بن مروان، ونعي إلى أخيه عبد الملك، تمثل بأبيات الخارجي هذه، وجعل يرددها وبكي.

أخبرني عيسى، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني عمي عن أبيه؛ قال: قال الرشيد يوما لجلسائه: أنشدوني شعرا حسنا في امرأة خفرة كريمة، فأنشدوا فأكثروا وأنا ساكت، فقال لي: إيه بابن مصعب، أما أنك لو شئت لكفيتنا سائر اليوم؛ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، لقد أحسن محمد بن بشير الخارجي حيث يقول:

بيضاء خالصة البياض كأنـهـا                      قمر توسط جنح لـيلـمـبـرد

موسومة بالحسن ذات حـواسـد                      إن الحسان مظنة لـلـحـسـد

وترى مدامعها ترقرق مـقـلة                      حوراء ترغب عن سواد الإثمـد

خود إذا كثر الكـلام تـعـوذت                      بحمى الحياء وإن تكلم تقـصـد

لم يطغها شرف الشباب ولم تضع                      منها معاهدة النصيح المـرشـد

وتبرجت لك فاستبتك بـواضـح                      صلت وأسود في النصيف معقد

وكأن طعم سلافة مـشـمـولة                      بالريق في أثر السواك الأغـيد فقال الرشيد: هذا والله الشعر، لا ما أنشد تمونيه سائر اليوم ثم أمر مؤدب ابنيه محمد المين وعبد الله المأمون،فرواهما الأبيات.

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني سليمان بن عياش قال: كان محمد بن بشير الخارجي يتحدث إلى عبدة بنت حسان المنزنية، ويقيل عندها أحيانا، وربما بات عندها ضيفا، لإعجابه بحديثها، فنهاها قومها عنه، وقالوا: ما مبيت رجل بامرأة أيم? فجاءها ذات يوم، فلم تدخله خباءها، وقالت له: قد نهاني قومي عنك، وكان قد أمس، فمنعته المبيت، وقالت: لا تبت عندنا ، فيظن بي وبك شر ، فانصرف وقال فيها:

ظللت لدى أطنابهـا وكـأنـنـي                      أسير معنى في مخلخلـه كـبـل

أخير إما جلـسة عـنـد دارهـا                      وإما مراح لا قريب ولا سـهـل

فإنك لو أكرمت ضيفك لـم يعـب                      عليك الذي تأتين حمو ولا بـعـل

وقد كان ينميها إلى ذروة الـعـلا                      أب لا تخطاه المطية والـرحـل

فهل أنـت إلا جـنة عـبـقـرية                      يخالط من خالطت من حبكم خبل

وهل أنت إلا نبعه كان أصـلـهـا                      نضارا فلم يفضحك فرع ولا أصل

صددت أمرأ عن ظل بيتك مـالـه                      بواديك لو لا كم صديق ولا أهـل أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني سليمان بن عياش، قال:

 

صفحة : 1787

 

خرج محمد وسليمان ابنا عبيد الله بن الحصين الأسلميان، حتى أتيا امرأة من الأنصار، من بني ساعدة فبرزت لهما، وتحدثا عندها، وقالا لها: هل لك في صاحب لنا ظريف شاعر? فقالت: من هو? قالا: محمد بن بشير الخارجي. قالت: لا حاجة بي إلى لقائه، ولا تجيئاني بنه معكما، فإنكما إن أتيتما به لم آذن لكما . فجاءا به معهما، وأخبراه بما قالت لهما، وأجلساه في بعض الطرق، وتقدما إليها، فخرجت إليهما، وجاءهما الخارجي بعد خروجها إليهما، فرحبا به، وسلما عليه، فقالت لهما: من هذا? قالا: هذا الخارجي الذي كنا نخبرك عنه. فقالت: والله ما أرى فيه من خير، وما أشبهه إلا بعبدنا أبي الجون. فاستحيا الخارجي، وجلس هنيهة، ثم قام من عندها وعلقها قلبه، فقال فيها:

ألا قد رابنـي ويريب غـيري                      عشية حكمها حـيف مـريب

وأصبحت المودة عنـد لـيلـى                      منازل ليس لي فيها نـصـيب

ذهبت وقد بدا لي ذاك منـهـا                      لأهجوها فيغلبني الـنـسـيب

وأنسى غيظ نفسي إن قلـبـي                      لمـن واددت فـيئتـه قـريب

فلا قلب مـصـر كـل ذنـب                      ولا راض بغير رضا، غضوب

فدعها لست صاحبهـا وراجـع                      حديثك إن شأنكمـا عـجـيب قال: وبلغ الأشجعية زوجة محمد بن بشير ما قالته له الأنصارية، فعيرته بذلك، وكانت إذا أرادت غيظه كنته أبا الجون، فقال في ذلك:

وأيدي الهدايا ما رأيت مـعـاتـبـا                      من الناس إلا الساعـدية أجـمـل

وقد أخطأتني يوم بطحاء مـنـعـم                      لها كفف يصطاد فيهـا وأحـبـل

وقد قال أهلي خير كسب كسبـتـه                      أبو الجون فاكسب مقلها حين ترحل

فإن بات إيضاعي بأمـر مـسـرة                      لكن فما تسخطن في العيش أطول أخبرني الحسن، قال: حدثنا أحمد، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني سليمان بن عياش، قال: اجتمع محمد بن بشير الخارجي وسائب بن ذكوان راوية كثير بمكة، فوافقا نسوة من بني غفار يتحدثن، فجلسا إليهن، وتحدثنا معهن حتى تفرقن، وبقيت واحدة منهن تحدث الخارجي، وتستنشده شعره حتى أصبحوا؛ فقال لهم رجل مر بهم: أما تبرحون عن هذا الشعر وأنتم حرم، ولا تدعون إنشاده وقول الزور في المسجد فقالت المرأة: كذبت لعمر الله، ما قول الشعر بزور، ولا السلام والحديث حرام على حرم ولا محل. فانصرف الرجل، وقال فيها الخارجي:

أما لك أن تزور وأنت خـلـو                      صحيح القلب أخت بني غفار?

فما برحت تعيرك مقلـتـيهـا                      فتعطيك المنية في استـتـار

وتسهو في حديث القوم حتـى                      يبين بعض ذلك مـا تـوارى

فمت يا قلب ما بك من دفـاع                      فينجيك الـدفـاع ولا فـرار

فلم أر طالبا بدم كـمـثـلـي                      أود وحسن مطلـوب بـثـار

إذا ذكروا بثأري قلت سـقـيا                      لثأري ذي الخواتم والـسـوار

وما عرفت دمي فتبوء مـنـه                      برهن في حبالي أو ضـمـار

وقد زعم العـواذل أن يومـي                      ويومك بالمحصب ذي الجمار

من الإغباء ثم زعـمـت أن لا                      وقلت لدى التنازع والتـمـار

كذبتم ما السلام بـقـول زور                      وما اليوم الحـرام بـيوم ثـار

ولا تسليمنـا حـرمـا بـإثـم                      ولا الحب الكريم لنـا بـعـار

فإن لم نلقكم فسقى الـغـوادي                      بلادك والرويات الـسـواري قال سليمان: وفي هذه المرأة يقول الخارجي وقد رحلوا عن مكة، فودعها وتفرقوا:

يا أحسن الناس لولا أن نائلـهـا                      قدما لمن يبتغي ميسورها عسر

وإنما دلها سحر تـصـيد بـه                      وإنما قلبهاللمشتكـي حـجـر

هل تذكرين كما لمأنس عهدكـم                      وقد يدوم لعهد الخلة الـذكـر

قولي وركبك قد مالت عمائمهم                      وقد سقاهم بكأس الشقوة السفر

يا ليت أني بأثوابي وراحلـتـي                      عبد لأهلك هذا العام مؤتجـر

فقد أطلت اعلا لا دون حاجتنـا                      بالحج أمس فهذا الحل والسفر

ما بال رأيك إذ عهدي وعهدكم                      إلفان ليس لنا في الود مزدجر

 

صفحة : 1788

 

 

فكـان حـظـك مـنـهـا نـظــرة طـــرفـــت                      إنـسـان عـينـك حـتـى مـا بـهـا نـــظـــر

أكـنـت أبـخـل مـن كــانـــت مـــواعـــده                      دينـال إلـى أجـل يرجـــى وينـــتـــظـــر

وقـد نـظـرت ومـا ألــفـــيت مـــن أحـــد                      يعـتـاده الـشـوق إلا بـــدؤه الـــنـــظـــر

أبـقـت شـجـى لـك لا ينـــســـى وقـــادحة                      في أسـود الـقـلـب لـم يشـعـر بـهــا أخـــر

جنـية أولـهــا جـــن يعـــلـــمـــهـــا                      رمـي الـقـلـوب بـقـوس مــال هـــا وتـــر

تجـلـو بـقـادمـتــي ورقـــاء عـــن بـــرد                      حمـر الـمـفـاغـر فـي أطـرافـهـــا أشـــر

خود مـبـتـلة ريا مـــعـــاصـــمـــهـــا                      قدر الـثـياب فـــلا طـــول ولا قـــصـــر

إذ مـجـاسـدهـا اغـتـالـت فـواضــلـــهـــا                      منـهـاروادف فــعـــمـــات ومـــؤتـــزر

إن هـبـت الـريح حـنـت فـي وشــائحـــهـــا                      كمـا يجـاذب عــود الـــقـــينة الـــوتـــر

بيضـاء تـعـشـو بـهـا الأبـصــار إن بـــرزت                      في الـحـج لـيلة إحـدى عـشـرة الـقـــمـــر

ألا رسـول إذا بــانـــت يبـــلـــغـــهـــا                      عنـا وإن لـم تـؤلـف بـينــنـــا الـــمـــرر

أنى بآية وجد قد ظفرت بهمني ولم يك في وجدي بكم ظفر

قتيل يوم تلاقينا وأن دمي                      عنـهـا وعـمـن أجـارت مــن دمـــي هـــرد

تقـضـين فـي ولا أقـضـي عـلــيك كـــمـــا                      يقـضـي الـمـلـيك عـلـى الـمـمـلـوك يقـسـر

إن كـان ذا قـــدرا يعـــطـــيك نـــافـــلة                      منـا ويحـرمـنـا، مـا أنـصـــف الـــقـــدر أخبرني عيسى بن الحسين، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني سليمان بن عياش، قال: كان الخارجي قدم البصرة، فتزوج بها امرأة من عدوان، كانت موسرة، فأقام عندها بالبصرة مدة، ثم توخم البصرة، فطالبها بأن ترحل معه إلى الحجاز، فقالت: ما أنا بتاركة مالي وضيعتي ههنا تذهب وتضيع، وأمضى معك إلى بلد الجدب والفقر والضيق، فإما أن أقمت ها هنا أو طلقتني. فطلقها وخرج إلى الحجاز، ثم ندم وتذكرها، فقال:

دامت لعينك عبـرة وسـجـوم                      وثوت بقلبك زفرة وهـمـوم

طيف لزينب ما يزال مؤرقـي                      بعد الهـدو فـمـا يكـاد يريم

وإذا تعرض في المنام خيالهـا                      نكأ الفؤاد خيالها المـحـلـوم

أجعلت ذنبك ذنبه وظلـمـتـه                      عند التحاكم والمـدل ظـلـوم

ولئن تجنبت الـذنـوب فـإنـه                      ذو الداء يعذر والصحيح يلـوم

ولقد أراك غداة بنت وعهدكـم                      في الوصل لا حرج ولا مذموم

أضحت تحكمك التجارب والنهي                      عنه، ويكلفه بك الـتـحـكـيم

برأ الألى علقوا الحبائل قبـلـه                      فنجوا وأصبح في الوثاق يهـيم

ولقد أردت الصبر عنك فعاقني                      علق بقلبي من هـواك قـديم

ضعفت معاهد حبهن مع الصبا                      ومع الشباب فبن وهو مـقـيم

يبقى على حدث الزمان وريبـه                      وعلى جفـائك إنـه لـكـريم

وجنيت حين صححت وهو بدائه                      شتان ذاك مصحـح وسـقـيم

وأديته زمنا فعاذ بـحـلـمـه                      إن المحب عن الحبيب حـلـيم

وأديته زمنا فعاذ بـحـمـلـه                      إن المحب عن الحبيب حـلـيم

وزعمت أنك تبخلـين وشـفـه                      شوق إليك، وإن بخلـت، ألـيم غنى في هذه الأبيات الدرامي خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي؛ وفيه لعريب خفيف ثقيل مطلق، وهو الذي يغني الآن، ويتعارفه الناس.

أخبرني عيسى بن الحسين، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثني سليمان بن عياش السعدي، قال: كان الخارجي منقطعا إلى أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة، وكان يكفيه مؤونته، ويفضل عليه، ويعطيه في كل سنة ما يكفيه ويغنيه، ويغني قومه وعياله، من البر والتمر والكسوة في الشتاء والصيف، ويقطعه القطعة بعد القطعة من إبله وغنمه، وكان منقطعا إليه وإلى زيد بن الحسن، وابنه الحسن بن زيد، وكلهم به بر، وإليه محسن. فمات أبو عبيدة، وكان ينزل الفرش من ملل، وكان الخارجي ينزل الروحاء، فقال يرثيه:

ألا أيها الناعي ابـن زينـب غـدوة                      نعيت الندى دارت علـيه الـدوائر

لعمري لقد أمسى قرى الضيف عاتما                      بذي الفرش لما غيبتك المـقـابـر

إذا سوفـوا نـادوا صـداك ودونـه                      صفيح وخوار من الـتـرب مـائر

 

صفحة : 1789

 

 

ينادون من أمسى تـقـطـع دونـه                      من البعد أنفاس الصدور الزوافـر

فقومي اضربي عينيك ياهند لن ترى                      أبا مثله تسمو إليه الـمـفـاخـر قال: الزبير: فحدثني سليمان بن عياش، قال: كانت هند بنت أبي عبيدة عند الله بن حسن بن حسن، فلما مات أبوها جزعت عليه جزعا شديدا، ووجدت وجدا عظيما، فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي ان يدخل إليها، فيعزيها ويليها عن أبيها، فدخل إليها معه. فلما نظر إليها صاح بأعلى صوته:

قومي اضربي عينيك يا هند لن تري                      أبا مثله تسمو إليه الـمـفـاخـر

وكنت إذا فاخرت أسـمـيت والـدا                      يزين كمـا زان الـيدين الأسـاور

فإن تعوليه يشـف يومـا عـويلـه                      غليلك أو يعذرك بالـنـوح عـاذر

وتحزنك ليلات طوال وقد مضـت                      بذي الفرش ليلات تسر قـصـائر

فلقاه رب يغفـر الـذنـب رحـمة                      إذ بليت يوم الحسـاب الـسـرائر

إذا ما ابن زاد الركب لم يمس لـيلة                      قفا صفر لم يقرب الفـرش زائر

لقد عـلـم الأقـوام أن بـنـاتـه                      صوادق إذ يند بـنـه وقـواصـر قال: فقامت هند، فصكت وجهها وعينيها، وصاحت بويلها وحربها، والخارجي يبكي معها، حتى لقيا جهدا، فقال له عبد الله بن الحسن: ألهذا دعوتك ويحك? فقال له: أفظننت أني أعزيها عن أبي عبيدة? والله ما يسليني عنه أحد؛ ولا لي عنه ولا عن فقده صبر، فكيف يسليها عنه من ليس يسلو بعده  أخبرني عيسى، قال: حدثني الزبير، قال: حدثني سليمان بن عياش، قال: وعد رجل محمد بن بشير الخارجي بقلوص، فمطله، فقال فيه يذمه، ويمدح زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام:

لعـلـك والـــمـــوعـــود حـــق وفـــاؤه                      بدا لـك فـي تـلـك الــقـــلـــوص بـــداء

فإن الـــذي ألـــقـــى إذا قـــال قــــائل                      من الـنـاس: هـل أحـسـسـتـهـا لـعــنـــاء

يقـول الـذي بـيدي الـشــمـــات وقـــولـــه                      علــي وإشـــمـــات الـــعـــدو ســـواء

دعوت وقد أخلفتني الوعد دعوةبزيد فلم يضلل هناك دعاء

بأبيض مثل البدر عظم حقه                      رجـال مـن آل الـمـصـطـفــى ونـــســـاء فبلغت الأبيات زيد بن الحسن، فبعث إليه يقلوص من خيار إبله، فقال يمدحه:

إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة                      نفس جدبها واخضر بالنبت عودها

وزيد ربيع الناس في كل شـتـوة                      إذا أخلفت أنواؤها ورعـودهـا

حمول لأشنـاق الـديات كـأنـه                      سراج الدجى إذ قارنته سعودهـا أخبرني عيسى، قال: حدثني الزبير، قال: حدثني سليمان بن عياش، قال: نظر الخارجي إلى نعش سليمان بن الحصين وقد أخرج، فهتف بهم، فقال:

ألم تروا أن فتـى سـيدا                      راح على نعش بني مالك

لا أنفس العيش لمن بعـده                      وانفس الهلك على الهالك وقال فيه أيضا:

ألا أيها الـبـاكـي أخـاه وإنـمـا                      تفـرق يوم الـفـدفـد الأخـوان

أخي يوم أحجار الثمـام بـكـيتـه                      ولو حم يومي قبلـه لـبـكـانـي

تداعت به أيامه فـآخـتـر مـنـه                      وأبقين لي شجـوا بـكـل زمـان

فليت الذي ينعى سـلـيمـان غـوة                      بكى عند قبري مثلها ونـعـانـي

فلو قسمت في الجن وغلإنس لوعتي                      عليه بكى من حرهـا الـثـقـلان

ولو كانـت الأيام تـطـلـب فـدية                      إليه وصرف الدهـر مـا لأوانـي أخبرني عيسى، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا سليمان بن عياش، قال: خرج محمد بن بشير يرمي من فوقها، فنزلت قدمه عنها، فصاح حتى سقط على الأرض، وأحدث في ثيابه، فقال الخارجي في ذلك:

حرق يا صـــفـــاة فــــــي ذراك                      بالـنـار إن لـم تـمـنـــعـــي أرواك

تعلمي أن بدذي الأراكأيتها الأورى ذوي عراك

قوما أعدوا شبك الشباك                      يبـغـون ضـبـعـا قـتـلــت أبـــاك

نعـم مـلـوي الـحـــيد الـــمـــداك                      إذ صـوت الـجـالـب فــي أخـــراك

ولـم يقـل مـنـتـــصـــحـــا: إياك                      بين مـقـاطـيهـا ركــبـــت فـــاك

فعـدت والـطـعـن عـلـــى كـــلاك                      مثـل الأضـاحـي بـيد الـنـــســـاك

يرمـي بـالأكـتـاف عــلـــى الأوراك                      كمـا أطـحـت الـعـبـد عـن صـفـاك

 

صفحة : 1790

 

 

أما السيالي فلن ينـسـاك                      لو يرتميك الناس ما رماك أخبرني عيسى، قال: حدثنا الزبير، قال: حدثنا سليمان بن عياش، قال: كانت عند الخارجي بنت عم له، فهجاه بعض قرابتها، فأجابه الخارجي، فغضبت زوجته، وقالت: هجوت قرابتي. فقال الخارجي في ذلك:

أما ما أقول لـهـم فـعـابـت                      علي وقد هجيت فما تـعـيب

فرمت وقد بدا لي ذاك منـهـا                      لأهجوها فيمنعني الـنـسـيب

قلا ثلب بـيصـر كـل ذنـب                      ولا ارض بغير رضا، غضوب أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: وحدثني الزبير عن سليمان بن عياش، قالا: تزوج الخارجي جارية من بني ليث شابة، وقد أسن وأسنت زوجته العدوانية. فضربت دونه حجابا، وتوارت عنه، ودعت نسوة من عشيرتها، فجلسن عندها، يلهون ويتغنين ويضربن بالدفوف، وعرف ذلك محمد فقال:

لئن عانس قد شاب ما بين قرنـهـا                      إلى كعبها وأبيض عنها شبابـهـا

صبت في طلاب اللهو يوما وعلقت                      حجابا لقد كانت يسيرا حجابـهـا

لقد متعت بالعيش حتى تشعـبـت                      من اللهو إذا لا ينكر اللهو بابـهـا

فبيني برغم ثم ظللـي فـربـمـا                      ثرى الرغم منها حيث يثوي نقابها

لبيضاء لم تنسب لجـد يعـيبـهـا                      هجان ولم تنبح لئيمـا كـلابـهـا

تأود في الممشى كأن قنـاعـهـا                      على ظبية أدماء طاب شبـابـهـا

مهفهفة الأعطاف خفاقة الحشـى                      جميل محياها قلـيل عـتـابـهـا

إذا ما دعت بابني نزار وقارعـت                      ذوي المجد لم يردد عليها انتسابهـا حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي عن الضحاك بن عثمان، قال: لما ولي إبراهيم بن هشام الحريمين، دخل إليه محمد بن بشير الخارجي، وكان له قبل ذلك صديقا. فاعرض عنه، ولم يظهر له بشاشة ولا أنسا. ثم عاوده فاستأذنه في الإنشاد، فأعرض عنه، وأخرجه الحاجب من داره، وكان إبراهيم بن هشام تياها، شديد الذهاب بنفسه، فوقف له يوم الجمعة على طريقه إلى المسجد، فلما حاذاه صاح به:

يابن الهشامين طرا حزت مجدهما                      وما تخونـه نـقـض وإمـرار

لا تشمتن بـي الأعـداء إنـهـم                      بيني وبينك سـمـاع ونـظـار

وإن شكري إن ردوا بغيظـهـم                      في ذمة اللـه إعـلان وإسـرار

فاكرر بنائلك المحمود من سـعة                      علي إنك بالمـعـروف كـرار فقال لحاجبه: قل له يرجع إلي إذا عدت. فرجع، فأدخله إليه، وقضى دينه، وكساه ووصله، وعاد إلى ما عهده منه.

أخبرني الحسن قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثني مصعب عن أبيه قال: عثر بعروة بن أذينة حماره عند ثنية العويقل ، فقال عروة:

ليت العويقل مسدود وأصبح من                      فوق الثنية فـيه ردم يأجـوج

فتستريح ذوو الحاجات من غلظ                      ويسلك السهل يمشي كل منتوج فقال محمد بن بشير الخارجي يرد عليه:

سبحان ربك تب مـمـا أتـيت بـه                      ما يسدد الله يصبح وهو مـرتـوج

وهل يسد ولـلـحـجـاج فـيه إذا                      ما أصعدوا فيه تكبير وتـلـجـيج

ما زال منـذ أذل الـلـه مـوطـئه                      ومنذ آذن أن البـيت مـحـجـوج

تهدي له الوفد وفد اللـه مـطـربة                      كأنه شطب بالـقـد مـنـسـوج

خل الطـريق إلـيهـا إن زائرهـا                      والساكنين بهـا الـشـم الأبـالـيج

لا يسدد الله نقبا كان يسـلـكـه ال                      بيض البهاليل والعوج العنـاجـيج

لو سده اللـه يومـا ثـم عـج لـه                      من يسلك النقب أمسى وهو مفروج أخبرني الحسن قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا مصعب، قال: كان للخارجي أخ يقال له بشار بن بشير، وكان يجلس أعداءه، ويعاشر من يعلم أنه مباين له. وفيه يقول:

وإني قد نصحت فلم تصدق                      بنصحي واعتددت فما تبالي

وإني قد بدا لي أن نصحـي                      لغيبك واعتدادي في ضلال

فكم هذا أذودك عن قطاعي                      كتذويد المحلاة الـنـهـال

 

صفحة : 1791

 

 

فلا تبغ الذنوب علي واقصـد                      لأمرك من قطاع أو وصـال

فسوف أرى خلالك من تصافي                      إذا فارقتني وترى خـلالـي

وإن جزاء عهـدك إذ تـولـى                      بأن أغضي وأسكت لا أبالـي أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا سليمان بن عياش، قال: كان الخارجي معجبا بزوجته سعدى، وكانت من أسوأ الناس خلقا، وأشده على عشير ، فكان يلقى منه عنتا. فغاضبها يوما لقول آذته به، ةاعتزلها، وانتثقل إلى زوجته الأخرى، فأقام عندها ثلاثا. ثم اشتاق إلى سعدى، وتذكرها، وبدا له في الرجوع إلى بيتها، فتحول إليها، وقال:

أرني إذا غالبت بالصبر حـبـهـا                      أبى الصبر ما ألقى بسعدى فأغلب

وقد علمت عند التعـاتـب أنـنـا                      إذا ظلمتنا أو ظلمنا سنـعـتـب

وإني وإن لم أجن ذنبا سأبـتـغـي                      رضاها وأعفو ذنبها حين تذنـب

وإني وإن أنبـت فـيهـا يزيدنـي                      بها عجبا من كان فـيهـا يؤنـب أخبرني عيسى قال: حدثنا الزبير قال: حدثنا سليمان بن عياش قال: كان بشار بن بشير أخو محمد بن بشير يعاديه، ويجالس أعداءه . فقال الخارجي فيه:

كفاني الذي ضيعت مني وإنـمـا                      يضيع الحقوق ظالما من أضاعها

صنيعة من ولاك سوء صنيعـهـا                      وولى سواك أحجرها واصطناعها

أبى لك كسب الخير رأي مقصـر                      ونفس أضاق الله بالخير باعاهـا

إذا هي حثته على الخـير مـرة                      عصاها وإن همت بشر أطاعهـا

فلولا رجال كاشحـون يسـرهـم                      أذاك، وقربى لا أحب انقطاعهـا

إذا بان زلت بـك الـنـعـل زلة                      فراق خلال لا تطيق ارتجاعهـا

وأني متى أحمل على ذاك أطلـع                      عليك عيوبا لا أحب اطلاعـهـا

فإن تـك أحـلام تـرد إخـاءنـا                      علينا فمن هذا يرد سمـاعـهـا

سأنهاك نهيا مجمـلا وقـصـائدا                      نواصح تشفى من شئون صاعهـا

ومن يجتلب نحوي القصائد يجتلب                      قراه ويتبع من يحب اتبـاعـهـا

إذا ما الفتى ذو اللب حلت قصـائد                      إليه فيخل للقوافـي ربـاعـهـا أخبرني عيسى بن الوراق قال: حدثنا الزبير قال: حدثنا سيمان بن عياش قال: لما دفن زيد بن حسن وانصرف الناس عن قبره، جاء محمد بن بشير إلى الحسن بن زيد، وعنده بنو هاشم ووجوه قريش يغرونه، فأخذ بعضادتي الباب، وقال:

أعيني جودا بالـدمـوع وأسـعـدا                      بني رحم ما كـان زيد يهـينـهـا

ولا زيد إلا أن يجـود بـعـبــرة                      على القبر شاكي نكبة يستكينـهـا

وما كنت تلقى وجـه زيد بـبـلـدة                      من الأرض إلا وجه زيد يزينـهـا

لعمر أبي الناعي لعمت مـصـيبة                      على الناس واختصت قصيا رصينها

وأنـي لـنـا أمـثـال زيد وجـده                      مبلغ آيات الـهـدى وأمـينـهـا

وكان حليفيه السـمـاحة والـنـدى                      فقد فارق الدنيا نداهـا ولـينـهـا

غدت غدوة ترمي لؤي بن غـالـب                      يجعد الثرى فوة امرىء ما يشينهـا

أغر بطاحي بكـت مـن فـراقـه                      عكاظ فبطحاء الصفا فحجونـهـا

فقل للتي يعلو على الناس صوتهـا                      ألا لا أعان الله مـن لا يعـينـهـا

وأرملة تبكي وقد شـق جـيبـهـا                      عليه فآبت وهي شعث قرونـهـا

ولو فقهت ما يفقه الناس أصبحـت                      خواشع أعلام الفـلاة وعـينـهـا

نعاه لنا الناعي فظلـنـا كـأنـنـا                      نرى الأرض فيها آية حان حينهـا

وزالت بنا أقـدامـنـا وقـلـبـت                      ظهور روابيها بنا وبـطـونـهـا

وآب ذوو الألباب مـنـا كـأنـمـا                      يرون شمالا فارقتهـا يمـينـهـا

سقى الله سقيا رحمة ترب حـفـرة                      مقيم على زيد ثراهـا وطـينـهـا قال: قما رؤي يوم كان أكثر باكيا من يومئذ .

أخبرني محمد بن المرزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فاس قال: حدثني العمري عن لقيط، قال:

 

صفحة : 1792

 

كان محمد بن بشير الخارجي من أهل المدينة، وكانت له بنت عم سرية جميلة، قد خطبها غير واحد من سروات قريش، فلم ترضه. فقال لأبيه: زوجنيها. فقال له: كيف أزوجكها وقد رد عمك عنها أشراف قريش فذهب إلى عمه فخطبها إليه، فوعده بذلك، وقرب منه،. فمضى محمد إلى أبيه فأخبره، فقال له: ما أراه يفعل. ثم عاوده، فزوجه إياها. فغضب الجارية، وقالت له: خطبني إليك أشراف قريش فرددتهم، وزوجتني هذا الغلام الفقير? فقال لها: هو ابن عمك، وأولى الناس بك. فلما بنى لها جعلت تستخف به وتستخدمه، وتبعثه في غنمها مرة، وإلى نخلها أخرى. فلما رأى ذلك من فعلها قال شعرا، ثم خلا في بيت يترنم به ويسمعها. وهو:

تثاقلت أن كنت ابن عم نكـحـتـه                      فملت وقد يشفى ذوو الرأي بالعذل

فإنك إلا تتركي بعـض مـا أرى                      تنازعك أخرى كالقرينة في الحبل

تلزك ما اسطاعت إذا كان قسمهـا                      كقسمك حقا في التلاد وفي البعل

متى تحمليها منك يومـا لـحـالة                      فتتبعها تحملك منها على مـثـل قال: فصلحت، ولم ير منها بعد ما سمعت شيئا يكرهه.

 

علام هجرت ولم تهجري                      ومثلك في الهجر لم يعذر

قطعت حبالك من شـادن                      أغن قطوف الخطا أحور السعر لسديف مولى بني هاشم: والغناء لأبي العبيس بن حمدون. خفيف ثقيل بالسبابة والوسطى.

 

ذكر سديف وأخباره

هو سديف بن ميمون مولى خزاعة. وكان سبب ادعائه ولاء بني هاشم أنه تزوج مولاه لآل أبي لهب، فادعى ولاءهم، ودخل في جملة مواليهم على الأيام. وقيل: بل أبوه هو كان المتزوج مولاة اللهبيين، فولدت منه سديفا فلما يفع، وقال الشعر، وعرف بالبيان وحسن العارضة، ادعى الولاء في موالي أبيه، فغلبوا عليه.

وسديف شاعر مقل، من شعراء الحجاز، ومن مخضومي الدولتين، وكان شديد التعصب لبني هاشم، مظهرالذلك في أيام بني أمية. فكان يخرج إلى أحجار صالإ في ظهر مكة، يقال لها صفي السباب، ويخرج مولى لبني أمية معه يقال له سباب ، فيتسابان ويتشاتمان، ويذكران المثالب والمعايب. ويخرج معهما من سفهاء الفريقين من يتعصب لهذا ولهذا. فلا يبرحون حتى تكون بينهم الجراح والشجاج، ويخرج السلطان إليهم فيفرقهم، ويعاقب الجناة. فلم تزل تلك العصبية بمكة حتى شاعت في العامة والسفلة. فكانوا صنفين، يقال لهما السديفية والسبابية، طول أيام بني أمية. ثم انقطع ذلك في أيام بني هاشم، وصارت العصبية بمكة في الحناطين والحرارين .

أخبرني عمر بن عبيد الله بن جميل العتكي، واحمد بن عبد العزيز الجوهري، قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني فيلح بن إسماعيل قال: قال سديف قصيدة يذكر فيها أمر بني حسن بن حسن ، وأنشها المنصور بعد قتله لمحمد بن عبد الله بن حسن. فلما أتى على هذا البيت:

يا سوءتا للقوم لا كفـوا ولا                      إذ حاربوا كانوا من الأحرار فقال له المنصور: أتحضهم علي يا سديف? فقال: لا، ولكني أؤنبهم يا أمير المؤمنين.

وذكر ابن المعتز أن العوفي حدثه عن أحمد بن إبراهيم الرياحي قال: سلم سديف بن ميمون يوما على رجل من بني عبد الدار. فقال له العبدري: من أنت يا هذا? قال: أنا رجل من قومك، أنا سديف بن ميمون. فقال له: والله ما في قومي سديف ولا ميمون. قال: صدقت. لا والله ما كان قط فيهم ميمون ولا مبارك.

 

لعمرك إنني لأحـب دارا                      تكون بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالـي                      وليس لعاتب عندي عتاب الشعر للحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام. والغناء لابن سريج: رمل بالبنصر. وفيه للهذلي ثقيل أول بالسبابة، في مجرى الوسطى، عن إسحاق.

 

أخبار الحسين بن علي ونسبه

 

 

صفحة : 1793

 

الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب. وقد تكرر هذا النسب في عدة مواضع ممن هذا الكتاب. واسم أبي طالب: عبد مناف، واسم عبد المطلب: شيبة، واسم هاشم: عمرو. وأم علي بن أبي طالب فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف. وكانت أول هاشمية تزوجها هاشمي، وهي أم سائر ولد أبي طالب. وأم الحسين بن علي بن أبي طالب: فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأمها خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي. وكانت خديجة تكنى أم هند، وكانت فاطمة تكنى أم أبيها ، ذكر ذلك قعنب بن محرز، قال: حدثنا أبو نعيم، عن حسين بن زيد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه. وكان علي بن أبي طالب سمى الحسن حربا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن . ثم ولد له الحسين فسماه حربا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسين.

حدثني بذلك أحمد بن الجعد ، قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح، قال: حدثنا يحيى بن عيسى قال: حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد قال: قال علي بن أبي طالب.

كنت رجلا أحب الحرب، فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربا، فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن، فلما ولد الحسين هممت أن أسميه حربا، فسماه رسول الله صلى الله عيه وسلم الحسين . ثم قال سميتهما باسمي ابني هارون: شبر وشبير .

وأخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا محمد بن يحيى الأحول قال: حدثنا خلاد المقرىء قال: حدثنا قيس بن الربيع بن أبي حصين، عن يحيى بن وثاب، عن ابن عمر، قال: كان على الحسن والحسين تعويذتان حشوهما من زغب جناح جبريل عليه السلام.

وهذا الشعر يقوله الحسين بن علي في امرأته الرباب بنت امرىء القيس بن عدي بن أوس بن جابر بن كعب بن عليم بن كلب بن وبرة بن تغلب ابن حلوان بن عمران بن إلحاف بن قضاعة، وأمها هند بنت الربيع بن مسعود بن معاذ بن حصين بن كعب بن عليم بن كلب؛ وفي ابنته منها سكينة بنت الحسين. واسم سكينة: أميمة، وقيل أمينة، وقيل آمنة، وسكينة لقب لقبت به.

قال مصعب فيما أخبرني به الطوسي عن زبير عنه: اسمها آمنة.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز وإسماعيل بن يونس، قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا أبو نعيم، عن عمر بن ثابت، عن مالك بن أعين، قال: سمعت سكينة بنت الحسين تقول عاتب عمي الحسن أبي في أمي، فقال:

لعمرك إنني لأحب دارا                      تكون بها سكينة والرباب

أحبهما وأبذل جل مالـي                      وليس لعاتب عند عتاب حدثنا محمد بن اليزيدي قال: حدثنا الخليل بن أسد قال: حدثنا العمري عن ابن الكلبي عن أبيه، قال: قال لي عبد الله بن الحسن بن الحسن: ما سم سكينة بنت الحسين? فقلت: سكينة. فقال: لا. اسمها آمنة .

وروي أن رجلا سأل عبد الله بن الحسن عن اسم سكينة. فقال: أمينة ، فقال له:إن ابن الكلبي يقول اميمة. فقال: سل ابن الكلبي عن أمه? وسلني عن أمي. وقال المدائني: حدثني أبو إسحاق المالكي قال: سكينة لقب، واسمها آمنة. وهذا هو الصحيح.

حدثني أحمد بن سعيد ، قال: حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال: حدثنا شيخ من قريش، قال حدثنا أبو حذافة أو غيره، قال: أسلم أمرؤ القيس بن عدي على يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فما صلى الله صلاة حتى ولاه عمر، وما أمسى حتى خطب إليه علي عليه السلام ابنته الرباب على ابنه الحسين، فزوجه إياها. فولدت له عبد الله وسكينة ولدي الحسين عليهما السلام. وفي سكينة وأمها يقول:

لعمرك إنني لأحب دارا                      تحل بها سكينة والرباب وذكر البيت الآخر، وزاد على البيتين :

فلست لهم وإن غابوا مضيعا                      حياتي أو يغيبني التـراب ونسخت هذا الخبر من كتاب أبي عبد الرحمن الغلابي، وهو أتم قال: حدثنا علي بن صالح، عن علي بن مجاهد، عن أبي المثنى محمد بن السائب الكلبي، قال: أخبرنا عبد الله بن حسن بن حسن قال: حدثني خالي عبد الجبار بن منظور بن زبان بن سيار الفزاري؛ قال حدثني عوف بن خارجة المري، قال:

 

صفحة : 1794

 

والله إني لعند عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته، إذا أقبل رجل أفحج أجلى أمعر ، يتخطى رقاب الناس، حتى قام بين يدي عمر. فحياة بتحية الخلافة، فقال له عمر: فمن أنت? قال: أنا امرؤ نصراني، أنا امرؤ القيس بن عدي الكلبي. قال: فلم يعرفه عمر . فقال له رجل من القوم: هذا صاحب بكر بن وائل، الذي أغار عليهم في الجاهلية يوم فلج. قال: فما تريد? قال: أريد الإسلام. فعرضه عليه عمر رضي الله عنه، فقبله. ثم دعا له برمح، فعقد له على من أسلم بالشام من قضاعة. فأدبر الشيخ واللواء يهنز على رأسه. قال عوف: فوالله ما رأيت رجلا لم يصل لله ركعة قط أمر على جماعة من المسلمين قبله.

ونهض علي بن أبي طالب رضوان الله عليه من المجلس، ومعه ابناه الحسن والحسين عليهم السلام حتى أدركه، فأخذ بثيابه. فقال له: يا عم، أنا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصهره، وهذان ابناي الحسن والحسين من ابنته، وقد رغبنا في صهرك فأنكحنا. فقال: قد أنكحنك يا علي المحياة بنت امرىء القيس، وأنكحنك يا حسن سلمى بنت امرىء القيس، وأنكحنك يا حين الرباب بنت امرىء القيس.

وقال هشام بن الكلبي: كانت الرباب من خيار النساء وأفضلهن: فخطب بعد قتل الحسين عليه السلام فقالت: ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال المدائني: حدثني أبو إسحاق المالكي، قال: قيل لسكينة واسمها آمنة، وسكينة لقب: أختك فاطمة ناسكة وأنت تمزحين كثيرا? فقالت: لأنكم سميتموها باسم جدتها المؤمنة-تعني فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم- وسميتموني باسم جدتي التي لم تدرك الإسلام.

تعني آمنة بنت وهب، أم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبرني عمي قال: حدثنا الكناني ، عن قعنب بن المحرز الباهلي، عن محمد بن الحكم، عن عوانة، قال: رثت الرباب بنت امرىء القيس أم سكينة بنت الحسين، زوجها الحسين عليه السلام حين قتل، فقالت:

إن الذي كان نورا يستضاء بـه                      بكربلاء قتيل غير مـدفـون

سبط النبي جزاك الله صالـحة                      عنا، وجنبت خرسان الموازين

قد كنت لي جبلا صعبا ألوذ به                      وكنت تصحبنا بالرحم والـدين

من لليتامى ومن للسائلين ومـن                      يغني ويأوي إليه كل مسكـين

والله لا أ?بتغي صهرا بصهركم                      حتى أغيب بين الرمل والطين أخبرني الطوسي قال: حدثني الزبير عن همه قال: أخبرني إسماعيل بن بكار قال: حدثني أحمد بن سعيد، عن يحيى بن الحسين العلوي ، عن الزبير عن عمه، قال: وأخبرني إسماعيل بن يعقوب عن عبد الله بن موسى قالا: كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب خطب إلى عمه الحسين، فقال له الحسين عليهم السلام: يا بن أخير، قد كنت أنتظر هذا منك، انطلق معي، فخرج به حتى أدخله منزله، فخبره في ابنتيه فاطمة وسكينة. فاختار فاطمة، فزوجه إياها. وكان ياقل: إن امرأة تختار على سكينة لمنقطعة القرين في الحسن. وقال عبد الله بن موسى في خبره: إن الحسين خيره، فاستحيا، فقال له: قد اخترت لك فاطمة، فهي أكثرهما شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

حدثني أحمد بن محمد بن سعيد قال: حدثني يحيى بن الحسن العلوي قال: كتب إلي عباد بن يعقوب يخبرني عن جدي يحيى بن سلميان بن الحسين العلوي قال: كانت سكينة في مأتم فيه بنت لعثمان، فقالت بنت عثمان: أنا بنت الشهيد. فسكتت سكينة: فلما قال المؤذن. أشهد أم محمدا رسول الله، قالت سكينة: هذا أبي أو أبوك? فقالت العثمانية: لا جرم لا أفخر عليكم أبدا.

أخبرني أحمد بن محمد قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا مروان بن موسى القروي قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: كانت سكينة تجيء في ستارة يوم الجمعة، فتقوم بإزاء ابن مطيرة، وهو خالد بن عبد الملك بن الحارث بن الحكم، إذا صعد المنبر، فإذا شتم عليا، شتمته هي وجواريها، فكان يأمر الحرس فيضربون جواريها.

أخبرني الطوسي عن الزبير عن عمه مصعب، قال: كانت سكينة عفيفة سلمة برزة من النساء، تجالس الأجلة من قريش، وتجتمع إليها الشعراء، وكانت ظريفة مزاحة.

أخبرني الطوسي قال: حدثنا الزبير عن عمه قال: حدثني معاوية بن بكر، قال: قالت سكينة: أدخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة.

 

 

صفحة : 1795

 

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني محمد بن موسى، عن أبي أبو المديني، عن مصعب، قال: كانت سكينة أحين الناس شعرا؛ فكانت تصفف جمتها تصفيفا لم يرأحسن منه، حتى عرف ذلك. فكانت تلك الجمة تسمى السكسنية. وكان عمر بن عبد العزيز إذا وجد رجلا قد صفف جمته السكينية جلده وحلقه.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن أبي سفيان الحميري، قال: بعثت سكينة بنت الحسين عليهما السلام إلى حبيش بن دلجة بغالية، لأنه كان من أخوالها. فلما وصلت إليه قال: فأين كانت- حبيش بن دلجة- عن الصياح ? يقدر أن الصياح أرفع من الغالية.

قال محمد بن سلام كانت سكينة مزاحة، فلسعتها دبرة فولولت. فقالت لها أمها: مالك يا سيدتي وجزعت? فقالت لسعتني دبيرة، مثل الأبيرة، فأوجعتني قطيرة .

وقال هارون بن أبي عبيد الله، حدثني ضمرة، قال: أجلست سكينة شيخا فارسيا على سلة بيض، وبعثت إلى سليمان بن يسار، كأنها تريد أن تسأله عن شيء. فجاءها إكراما لها، فأمرت من أخرج إليه ذلك الشيخ جالسا على السلة فيها البيض. فولى يسبح.

قال: وبعثت سكينة إلى صاحب الشرطة بالمدينة: أنه دخل علينا شامي، فابعث إلينا بالشرط. فركب ومعه الشرط. فلما أتى إلى الباب، أمرت ففتح له، وأمرت جارية من جواريها فأخرجت إليه برغوثا. فقال: ما هذا? قالت: هذا الشامي الذي شكوناه. فانصرفوا يضحكون.

أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال: حدثنا أحمد بن القاسم قال: حدثنا أبو هفان قال: حدثنا سيف بن إبراهيم صاحب إبراهيم بن المهدي قال: حدثني إبراهيم بن المهدي: أن الرشيد لما ولاه دمشق استوهبه صحبة دبية والغاضري وعبيدة بن وكم الوادي. فوهبهم له فأشخصهم معه.

قال: قكان فيما حدثني به عبيدة قال: قال إبراهيم: ركبت حمارة وهو عديلي، ونمت على ظهرها. فلما بلغنا ثنية العقاب، اشتد علي البرد، فاحتجت إلى الزيادة من الدثار. فدعوت بدواج سمور، فألقيته على ظهري، ودعوت بمن كان معي في سمري في تلك الليلة، وكانوا حولي. فقلت لابن أشعب: حدثني بأعجب ما تعلم من طمع أبيك. فقال: أعجب من طمع أبي طمع ابنه. فقلت: وما بلغ من طمعك? فقال: دعوت آنفا لما اشتد عليك البرد بدواج سمور، لتستدفىء به، فلم أشك أنك دعوت به لتجعله علي. فغلبني الضحك، وخلعت عليه الدواج. ثم قلت له: ما أحسب لك قرابة بالمدينة. فقاللأ: اللهم غفرا، لي بالمدينة قرابات وأي قرابات. قلت: أيكونون عشرة? قال: وما عشرة? قلت: فعشرين? قال: اللهم غفرا، لا تذكر العشرات ولا المئين، وتجاوز ذكر الألوف إلى ما هو أكثر منها. قلت: ويحك ليس بينك وبين أشعب أحد، فكيف يكون هذا? فقال: إن زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان تزوج سكينة بنت الحسين. فخف أبي على قلبها، فأحسنت إليه، وكانت عطاياها خلاف عطايا مولاه. فمال إليها بكليته.

قال: وحج سليمان بن عبد الملك وهو خليفة، فاتأذن زيد بن عمرو سكينة، وأعلمها أنها أول سنة حج فيها الخليفة، وأنه لا يمكنه التخلف عن الحج معه. وكانت لزيد ضيعة ياقل له العرج، وكان له فيها جوار. فأعلمته أنها لا تأذن له إلا أن يخرج أشعب معه، فيكون عينا لها عليه، وما نعا له من العدول إلى العرج، ومن اتخاذ جارية لنفسه في بدأته ورجعته. فقنع بذلك، وأخرج أشعب معه. وكان له فرس كثير الأوضاح، حسن المنظر، يصونه عن الركوب إلا في مسايرة خليفة أو أمير أو يوم زينة؛ وله سرج يصونه، لا يركب به غير ذلك الفرس. وكان معه طيب لايتطيب به إلا في مثل ذلك اليوم الذي يركب فيه؛ وحلة موشية يصونها عن اللبس إلا في يوم يردي التجمل فيه بها.

فحج مع سليمان، وكانت له عنده حوائج كثير، فقضاها ووصله، وأجزل صلته. وانصرف سليمان من حجة، ولم يسلك طريق المدينة. وانصرف بن عثمان يريد المدينة، فنزل على ماء لبني عامر بن صعصة. ودعا أشعب، فأحضره وصرصرة فيها أربعمائة دينار، وأعلمه أنه ليس بينه وبين العرج إلا أميال؛ وأنه إن أذن له في المسير إليها، والمبيت بها عند جواريه، غلس إليه، فوافى وقت ارتحال الناس، ووهب له أربعمائة الدينار. فقبل يده ورجله، وأذن له في السير إلى حيث أحب، وحلف له أنه يحلف لسكينة بالأيمان المحرجة، أنه ما سارإلى العرج، ولا اتخذ جارية منذ فارق سكينة إلى أن رجع إليها. فدفع إليه مولاه الدنانير ومضى.

 

 

صفحة : 1796

 

قال أبو إسحاق: قال ابن أشعب: حدثني أبي أنه لا يتوهم أن مولاه سار نصف ميل حتى رأى في الماء الذي كان عليه رحل زيد جاريتين عليهما قربتان. فألقتا القربتين، وألقتا قيا بهما عنهما، ورمتا بأنفسهما في الغدير، وعامتا فيه، ورأى من مجردهما ما أعجبه واستحسنه. فسألهما عند خروجهما من الماء عن نسبهما. فأعلمتاه أنهما من إماء نسوة خلوف، لبني عامر بن صعصعة، هن بالقرب من ذلك الغدير. فسألهما: هل سبيل إلى مولياتهما، لمحادثة شيخ حسن الخلق، طيب العشرة، كثير النوادر? فقالتا: وأنى لهن بمن هذه صفته? فقال لهما: أنا ذاك. فقالتا: انطلق معنا. فوثب إلى فرس زيد، فأسرجه بسرجه الذي كان يسرجه به ويركبه، ودعا بحلته التي كان يضن بها فلبسها، وأحضر السفط الذي كان فيه طيبه، فتطيب منه وركب الفرس، ومضى معهما حتى وافى الحي، فأقام في محادثة أهله إلى قرب وقت صلاة العصر. فأقبل في ذلك الوقت رجال الحي، وقد انصرفوا غانمين من غزائهم، وأقبلت تمر به الرعلة بعد الرعلة، فيقفون به فيقولون: ممن الرجل? فينتسب في نسب زيد، فيقول كل من اجتاز به: مانرى به بأسا. وينصرفون عنه إلى قرب غروب الشمس، فأقبل شيخ فان على حجر هرمة هزيل، ففعل مثل ما كان يفعل من اجتاز، فسأله مثلما يسألون عنه، فأخبره بمثل ما كان يخبر من تقدمه، فقال مثل قولهم.

قال ابن أشعب: قال أبي: ثم رأيت الشيخ قد وقف بعد قوله، فأوجست منه خيفة لأني رأيته قد جعل يده اليسرى تحت حاجيه، فرفعهما، ثم استدار ليرى وجهي. فركبت الفرس، فما استويت عليه حتى سمعته يقول: أقسم بالله ما هذا قرشي، وما هذا إلا وجه عبد. فركضت وركض خلفي، فرأى حجره مقصرة . فلما يئس من اللحاق بي، انتزع سهما فرماني به، فوقع في مؤخرة السرج، فكسرها. ودخلتني من صوته روعة أحدثت لها في الحلة. ووافيت رحل مولاي، فغسلت الحلة ونشرتها، فلم يجف ليلا. وغلس مولاي من العرج، فوافاني في وقت الرحيل، فرأى الحلة منشورة، ومؤخرة السرج مكسورة، والفرس قد أضر بها الركض، وسفط الطيب مكسور الختم . فسألني عن السبب، فصدقته. فقال لي: ويحك أما كقاك ما صنعت بي حتى انتسبت في نسبي، فجعلتني عند أشرف قومي من العرب جماشا ، وسكت عني، فلم يقل لي: أحسنت ولا أسأت حتى وافينا المدينة، فلما وافاها سألته سكينة عن خبره. فقال لها: يا بنت رسول الله، وما سؤالك إياي ولم يزل ثقتك معي، وهو أمين علي، فسليه عن خبري يصدقك عنه. فسأتلني، فأخبرتها أني لم أنكر عليه شيئا، ولم أمكنه من ابتياع جارية، ولم أطلق له الاجتياز بالعرج. فاستحلفتني على ذلك، فلما حلفت لها بالأيمان المحرجة فيها طلاق أمك، وثب فوقف بين يديها، وقال: أي بنة عم، ويا بنت رسول الله، كذبك والله العلج، ولقد أخذ مني أربعمائة دينار، على أن أذن لي في المصير إلى العرج ؛ فأقمت بها يوما وليلة، وغسلت بها عدة من جواري، وها أنا ذا تائب إلى اله مما كان مني، وقد حعلت توبنتي هبتهن لك، وتقدمت في حملهن إليك، وهن موافيات المدينة في عشية اليوم، فبيعهن أو عتقهن إليك الأمر فيه، وأنت أعلم بما ترين في العبد السوء. فامرتني بإحضار أربعمائة دينار، فأحضرتها. فأمرت بابتياع خشب بثلثمائة دينار، وأمرت بنشره، وليس عندي ولا عند أحد من اهل المدينة علم بما تريده فيه. ثم أمرت بأن يتخذ بيت كبير، وجعلت النفقة عليه في أجرة النجارين من المائة الدينار الباقية.

ثم أمرت بابتياع بيض وتبن وسرجين بما بقي من المائة الدينار بعد أجرة النجارين. ثم أدخلتني البيت، وفيه البيض والتبن والسرجين، وحلفت بحق جدها ألا اخرج من ذلك البيت حتى أحضن ذلك البيض كله إنى أن يفقس، ففعلت ذلك، ولم أزل أحضنه حتى فقس كله. فخرج منه الألوف من الفراريج، وربيت في دار سكينة، فكانت تنسبهن إلي، وتقول بنات أشعب.

قال أبو إسحاق. قال لي: وبقي ذلك النسل في أيدي الناس إلى الآن، فكلهم إخواني وأهلي. قال: فضحكت والله حتى غلبت، وأمرت له بعشرة آلاف درهم، فحملت بحضرتي إليه.

أخبرني الطوسي والحرمي قالا: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب قال:

 

صفحة : 1797

 

تزوجت سكينة بنت الحسين عليه السلام عد أواج، أولهم عبد الله بن الحسن بن علي، وهو ابن عمها وأبو عذرتها، ومصعب بن الزبير، وعبد الله بن عثمان الحزامي، وزيد بن عمرو بن عثمان، والأصبغ بن عبد العزيز بن مروان، ولم يدخل بها، وإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، ولم يدخل بها.

قال مصعب ويحيى بن الحسن العلوي: إن عبد الله بن حسن زوجها كان يكنى أبا جعفر، وأمه بنت السليل بن عبد الله البجلي، أخي جرير بن عبد الله، قال: ثم خلفه عليها مصعب بن الزبير، زوجه إياها أخوها علي بن الحسين، ومهرها مصعب ألف ألف درهم.

قال مصعب: وحدثني مصعب بن عثمان: أن علي بن الحسين أخاها حملها إليه، فأعطاه أربعين ألف دينار.

قال مصعب: وحدثني معاوية بن بكر الباهلي قال: قالت سكينة: دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة.

قال: فولدت من مصعب بنتا، فقال لها: سميها زهراء . قالت: بل أسميها باس إحدى أمهاتي وسمتها الراباب . فلما قتل مصعب ولى أخوه عروة تركته، فزوجها يعني الرباب بنت مصعب ابنه عثمان بن عروة، فماتت وهي صغيرة، فورثها عثمان بن عروة عشرة آلاف دينار.

قال الزبير: فحدثني محمد بن سلام عن شعيب بن صخر ، عن أمه سعدة بنت عبد الله بت سالم، قالت: لقيت سكينة بين مكة ومنى، فقالت: قفي لي يابنة عبد الله، فوقفت. فكشفت عن بنتها من مصعب، فإذا هي قد أثقلتها بالحلي واللؤلؤ، فقالت: ما ألبستها إياه إلا لتفضحه.

قال الزبير: وحدثني عمي. عن الماجشون ، قال: قالت سكينة لعائشة بنت طلحة: أنا أجمل منك. وقالت عائشة: بل أنا أجمل منك. وقالت عائشة: بل أنا. فاختصمنا إلى عمر بن أبي ربيعة، فقال لأقضين بينكما؛ أما أنت يا سكينة فأملح منها، وأما أنت يا عائشة فأجمل منها. فقالت سكينة: قضيت لي والله. وكانت سكينة تسمي عائشة ذات الأذنين، وكانت عظيمة الأذنين.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني أحمد بن زيهر قال: حدثنا المدائني، قال: خطب سكينة بنت الحسين عليه السلام عبد الملك بن مروان. فقالت أمها: لا والله لا يتزوجها أبدا وقد قتل ابن أخي ، تعني مصعبا.

وأما محمد بن سلام الجمحي فإنه ذكر فيما أخبرني به أبو الحسن الأسدي عن الرياشي عنه: أن أبا عذرتها هو عندي عبد الله بن الحسن بن علي. ثم خلف عليها العثماني، ثم مصعب بن الزبير، ثم الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان. فقال فيه بعض المدنيين .

 

نكحت سكينة بالحساب ثلاثة                      فإذا دخلت بها فأنت الرابع قال: وكان يتولى مصر، فكتبت إليه: إن أرض مصر وخمة. فبنى لها مدينة تسمى مدينة الأصيغ. وبلغ عبد الملك تزوجه إياها، فنفس بها عليه. فكتب إليه. اختر مصر أو سكينة: فبعث إليها بطلاقها ولم يدخل بها، ومتعها بعشرين ألف دينار. ومروا بها في طريقها على منزل، فقالت: ما اسم هذا المنزل? قالوا: جوف الحمار. قالت: ما كنت لأدخل جوف الحمار أبدا.

وذكر محمد بن سلام في هذا الخبر الذي رواه الرياشي عن سعيب بن صخر أن الحزامي عبد الله بن عثمان خلف الأصبغ عليها، وولدت منه بنتا. وذكر عن أمه سعدة بنت عبد الله أن سكينة أرتها بنتها من الحزامي، وقد أثقلتها باللؤلؤ، وهي في قبة، فقالت: والله ما ألبستها إياه إلا لتفضحه. تريد أنها تفضح الحلي بحسنها، لأنها أحسن منه.

أخبرني ابن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن صالح بن حسان وغيره: أن سكينة كانت عند عمرو بن حكيم بن حزام، ثم تزوجها بعده زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان، ثم تزوجها مصعب بن الزبير. فلما قتل مصعب، خطبها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فبعث إليه: أبلغ من حمقك أن تبعث إلى سكينة بنت الحسين بن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تخطبها? فأمسك عن ذلك.

 

 

صفحة : 1798

 

قال: ثم تنفست يوما بنانة جارية سكينة وتندت، حتى كادت أضلاعها تتحطم. فقالت لها سكينة: مالك ويلك قالت: أحب أن أرى في الدار جلبة. تعني العرس. فدعت مولى لها تثق به، فقالت له: اذهب إلى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فقل له: إن الذي كنا ندفعك عنه قد بدا لنا فيه؛ أنت من أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحضر بيتك. قال: فجمع عدة من بني زهرة، وأفناء قريش من بني جمح وغيرهم، نحوا من سبعين رجلا أو ثمانين. ثم أرسل إلى علي بن الحسين، والحسن بن الحسن، وغيرهم من بني هاشم. فلما أتاهم الخبر اجتمعوا، وقالوا: هذه السفيهة تريد أن تتزوج إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. فتنادى بنو هاشم واجتمعوا، وقالوا: لا يخرجن أحد منك إلا ومعه عصا. فجاءوا وما بقي إلا الكلام. فقال: اضربوا بالعصي. فاضطربوا هم وبنو زهرة حتى تشاجوا، فشج بينهم يومئذ أكثر من مائة إنسان. ثم قالت بنو هاشم: أين هذه? قالوا: في هذا البيت. فدخلوا إليها، فقالوا: أبلغ هذا من صنعك? ثم جاءوا بكساء طاروقي ، فبسطوه ثم حملوها، وأخذوا بجوانبه- أو قال: بزاوياه الأربع- فالتفتت إلى بنانة فقالت: يا بنانة، أرأيت في الدار جلبة? قالت: إي والله إلا أنها شديدة.

وقال هارون بن الزيات: أخبرني أبو حذيفة عن مصعب، قال: كان أول أزواج سكينة عبد الله بن الحسن بن علي، قتل عنها ولم تلد له. وخلف عليها مصعب، فولدت له جارية . ثم خلف عليها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام، فنشزت عليه، فطلقها ثم خلف عليها الأصبغ بن عبد العزيز فأصدقها صداقا كثيرا. فقال الشاعر:

نكحت سكينة بالحساب ثـلاثة                      فإذا دخلت بها فأنت الرابـع

إن البقيع إذا تتـابـع زرعـه                      خاب البقيع وخاب فيه الزارع وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان فغضب، وقال: أما تزوجنا أحسابنا حتى تزوجنا أموالنا فطلقها. فطلقها فخلف عليها العثماني، وشرطت عليه ألا يطلقها ، ولا يمنعها شيئا تريده، وأن يقيمها حيث خلتها أم منظور، ولا يخالفها في أمر تريده. فكانت تقول له: يا بن عثمان اخرج بنا إلى مكة. فإذا خرج بها فسارت يوما أو يومين، قالت: ارجع بنا إلى المدينة. فإذا رجع يومه ذلك، قالت: اخرج بنا إلى مكة. فقال له سليمان بن عبد الملك: أعلم أنك قد شرطت لها شروطا لم تف بها، فطلقها. فطلقها. فخلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، فكره ذلك أهلها، وخاصموه إلى هشام بن إسماعيل. فبعث إليها بخبرها. فجاء إبراهيم بن عبد الرحمن من حيث تسمع كلامه، فقال لها: جعلت فداءك، قد خيرتك فاختاريني. فقالت : قلت ماذا بأبي، تهزأ به. فعرف ذلك ، فانصرف وخيروها، فقالت: لا أريده.

قال: ومالت فصلى عليها شيبة بن نصاح .

وأما ابن الكلبي فذكر فيما أخبرنا به الجوهري، عن عمر بن شبة، عن عبد الله بن محمد بن حكيم، عنه: أن أول أزواجها الأصبغ، ومات ولم يرها، ثم زيد بن عمر العثماني، قال: وولدت له ابنة عثمان الذي يقال له قرين، ثم الحزامي، ثم خلف عليها مصعب، فولدت له جارية، ثم خلف عليها إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ولم يدخل بها.

قال عمر بن شبة: وحدثني محمد بن يحيى قال: تزوج مصعب سكينة وهو يومئذ بالبصرة، عامل أخيه عبد الله بن الزبير، وكان بين مصعب وبين أخيه رسول يقال له أبو اللاس، وهو الذي جاء بنعيه، فقال ابن قيس فيه:

قد أتانا بما كرهنا أبو السلا                      س كانت بنفسه الأوجـاع وفي هذا الشعر غناء قد ذكر في موضعه. وهذا غلط من محمد بن يحيى، ليست قصة أبي السلاس مع مصعب، وإنما هي مع ابن جعفر.

قال محمد بن يحيى: ولما تزوج مصعب سكينة على ألف ألف، كتب عبد الله بن همام على يد ابي السلاس إلى عبد الله بن الزبير:

أبلغ أمير المؤمنين رسـالة                      من ناصح لك لا يرد خداعا

بضع الفتاة بألف ألف كامل                      وتبيت سادات الجنود جياعا

لو لأبي حفص أقول مقالتي                      وأبث ما أبثثتكم لا رتاعـا

 

صفحة : 1799

 

قال: وكان ابن الزبير قد أوصاه ألا يعطيه أحد كتابا إلا جاء به، فلما أتاه بهذا الكتاب قال: صدق والله، لو يقول هذه المقالة لأبي حفص لارتاع من تزويج امرأة على ألف ألف درهم. ثم قال: إن مصعبا لما وليته البصرة أغمد سيفه، وسل أبره، وعزله عن البصرة، وأمره أن يجيء على ذات الجيش، وقال: إني لأرجو أن يخفف الله بك فيها. فبلغ عبد الملك بن مروان قول عبد الله في مصعب، فقال: لكن عبد الله والله أغمد سيفه وأبره وخيره.

قال ابن زيد أخبرني محمد بن يحيى عن ابن شهاب الزهري قال: ذكر أن زيد: بن عمرو بن عثمان العثماني خرج إلى مال مغاضيا لسكينة، وعمر بن عبد العزيز يومئذ والي المدينة، فأقام سبعة أشهر، فاستعدته سكينة على زيد، وذكرت غيبته مع ولائده سبعة أشهر، وأنها شرطت عليه أنه إن مس امرأة، أو حال بينها وبين شيء من ماله، أو منعها مخرجا ترديه، فهي خلية ، فبعث إليه عمر فأحضره وأمر ابن حزم أن ينظر بينهما.

قال: حدثني أبو بكر بن عبد الله، قال: بعثني عمر، وبعث معي محمد بن معقل بن يسار الأشجعي، إلى ابن حزم، وقال: اشهدا قضاءه، فدخلنا عليه وعنده زيد جالس، وفاطمة امرأة ابن حزم في الحجلة جالسة، وجاءت سكينة، فقال ابن حزم: أدخلوها وحدها. فقالت: والله لا أدخل إلا ومعي ولائدي، فأدخلن معها، فلما دخلت قال: يا جارية اثني لي هذه الوسادة. ففعلت، وجلست عليها، ولصق زيد بالسرير، حتى كان يدخل في جوفه خوفا منها. فقال لها ابن حزم: يابنة الحسين، إن الله عز وجل يحب القصد في كل شيء، فقالت له: وما أنكرت مني، إني وإياك والله كالذي يرى الشعرة في عين صاحبه، ولا يرى الخسبة في عينه. فقال لها: أما والله لو كنت رجلا لسطوت بك. فقالت له: يا بن فرتنى ألا تزال لتوعدني? وشتمته وشتمها. فلما بلغا ذلك قال ابن أبي الجهم العدوي: ما بهذا أمرنا، فأمض الحكم ولا تشاتم. فقالت لمولاة لها: من هذا? قالت: أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم. فقالت: لا أراك ههنا وأنا أشتم بحضرتك. ثم هتفت برجال قريش، وحضت ابن أبي الجهم، وقالت: أما والله لو كان أصحاب الحرة أحياء لقتلوا هذا العبد اليهودي عند شتمه إياي، أي عدو الله، تشتمني وأبوك الخارج مع يهود صبابة بدينهم لما أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أريحاء، يا بن فرتنى. قال: وشتمها وشتمته.

قال: ثم أحضرنا زيدا، فكلمها وخضع لها، فقالت: ما أعرفني بك يا زيد، والله لا تراني أبدا، أتراك تمكث مع جواريك سبعة أشهر لا تقربهن? املأ غينك الآن مني، فإنك لا تراني يعد الليلة أبدا، وجعلت تردد هذا القول ومثله، فكلما تكلمت ترفث لا بن حزم وامرأته في الحجلة، وهو يقلق لسماع امرأته ذلك فيه. ثم حكم بينهما بأن سكينة إن جاءت ببينة على ما ادعته، وإلا فاليمين على زيد. فقامت وقالت لزيد، يا بن عثمان: تزود مني بنظرة، فإنك والله لا تراني بعد الليلة أبدا، وابن حزم صامت. ثم خرجنا وجئنا إلى عمر بن عبد العزيز وهو يتنظرنا في وسط الدار في ليلة شاتية، فسألنا عن الخبر، فأخبرناه، فجعل يضحك حتى أمسك بطنه، ثم دعا زيدا من غد فأحلفه ورد سكينة عليه.

وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني الزبير بن بكار عن عمه قال: قالت سكينة لأم أشعب: سمعت للناس خيرا? قالت: لا، فبعثت إلى إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف فتزوجته، وبلغ ذلك بني هاشم فأنكروه، وحملوا العصي، وجاءوا فقاتلوا بني زهرة حتى كثر الشجاج، ثم فرق بينهم، وخيرت سكينة فأبت نكاح إبراهيم، ثم التفتت إلى أم أشعب وقالت: أترين الآن أنه كان للناس اليوم خبر? قالت: إي والله- بأبي أنت- وأي خبر .

 

 

صفحة : 1800

 

قال هارون بن الزيات: وجدت في كتاب القاسم بن يوسف: حدثني الهيثم بن عدي، عن أشعب، قالال: تزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان سكينة، وكان أبخل قرشي رأيته، فخرج حاجا وخرجت سكينة معه، فلم تدع إوزة ولا دجاجة ولا خبيصا ولا فاكهة إلا حملته معها، وأعطتني مائة دينار، وقالت : يا بن أم حميدة اخرج معنا . فخرجت ومعنا طعام عللى خمسة أجمال، فلما أتينا السيالة نزلنا، وأمرت بالطعام أن يقدم، فلما جيء بالأطباق، أقبل أغيلمة من الأنصار يسلمون على زيد، فلما رآهم قال: أوه. خاصرتي. باسم الله، ارفعوا الطعام، وهاتوا الترياق والماء الحار، فأتي به فجعل يتوجرهما حتى انصرفوا، ورحلنا وقد هلكت جوعا، فلم آكل إلا مما اشتريته من السويق فلما كان من الغد أصبحت وبي من الجوع ما لله أعلم به، ودعا بالطعام وأتي به. قال: فأمر بإسخانه، وجاءته مشيخة من قريش يسلمون عليه، فلما رآهم اعتل بالخاصرة، ودعا بالترياق والماء الحار، فتوجره ورفع الطعام، فلما ذهبوا أمر بإعادته، فأتي به وقد برد، فقال لي: يا أشعب، هل إلى إسخان هذا الجاج سبيل? فقلت له أخبرني عن دجاجك هذا? أمن آل فرعون، فهو يعرض على النار غدوا وعشيا.

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا سليمان بن أبي شيخ، عن محمد بن الحكم، عن عوانة، قال: جاء قوم من أهل الكوفة يسلمون على سكينة فقالت لهم: الله يعلم أني أبغضكم: قتلتم جدي عليا، وأبي الحسين، وأخي عليا، وزوجي مصعبا، فبأي وجه تلقونني، أيتمتعوني صغيرة، وأملتموني كبيرة.

أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن المدائني قال: بينما سكينة ذات ليلة تسير، إذ سمعت حاديا يحدو في الليل يقول:

لولا ثلاث هن عيش الدهر فقالت لقائد قطارها. ألحق بنا هذا الرجل، حتى نسمع منه ما هذه الثلاث. فطال طلبه لذلك حتى أتعبها. فقالت لغلام لها: سر أنت حتى تسمع منه، فرجع إليها فقال: سمعته يقول:

الماء والنوم وأم عمرو فقالت: قبحه الله أتعبني منذ الليلة.

قال: وحدثني المدائني أن أشعب حج مع سكينة، فأمرت له بجمل قوي يحمل أثقاله، فأعطاه القيم جملا ضعبفا، فلما جاء إلى سكينة قالت له: أعطوك ما أردت? قال: عرسه الطلاق، لو انه حمل قتبا على الجمل لما حمله، فكيف يحمل محملا .

أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال: حدثنا عمر بن شبة، عن نعيم بن سالم بن علي النصاري، عن سفيان بن حرب، قال: رأيت سكينة بنت الحسين عليه السلام ترمي الجمار، فسقطت من يدها الحصاة السابعة، فرمت بخاتمها مكانها.

وقال هارون بن الزيات: حدثني أبو حذافة السهمي قال: أخبرني غير واحد، منهم محمد بن طلحة: أن سكينة ناقلت بمالها بالزوراء، إلى قصر يقال له البريدي بلزق الجماء، فلما سال العقيق، خرجت ومعها جواريها تمشي، حتى جاءت السيل، فجلست على جوفه، ومالت برجليها في السيل، ثم قالت: هذا في است المغبون . والله لهذه الساعة من هذا القصر خير من الزوراء. قال : وكان البريدي قصرا لا غلة له، وإنما يتنزه فيه، وكانت غلة الزوراء غلة وارة عظيمة .

وقال هارون: وحدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه، وعمه وغيرهما من مشايخ الهاشميين والطالبيين: أن سكينة بنت الحسين عليه السلام، خرجت بها سلعة في أسفل عينها، فكبرت حتى اخذت وجهها وعينها، وعظم شانها، وكان بدراقس منقطعا إليها في خدمتها، فقالت له: ألا ترى ما قد وقعت فيه? فقال: لها أتصبرين على ما يمسك من الأ لم حتى أعالجك? قالت نعم. فاضجعها، وشق حلد وحهها حتى ظهرت السلعة، ثم كشط الجلد عنها أحمع، وسلخ اللحم من تحتها حتى ظهرت عروق السلعة، وكان منها شيء تحت الحدقة، فرفع الحدقة عنه، حتى جعلها ناحية، ثم سل عروق السلعة من تحتها. فاخرجها أجمع، ورد العين إلى موضعها، وعالجها وسكينة مضطجعة لا تتحرك ولا تئن، حتى فرغ مما أراد، فزال ذلك عنها، وبرئت منها، وبقي أثر تلك الجراحة في مؤخر عينها، فكان أحسن شيء في وجهها، وكان أحسن على وجهها من كل حلي وزينة، ولم يؤثر ذلك في نظرها، ولا في عينها.

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...