اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الأربعاء، 12 أكتوبر 2022

ج5.كتاب الأغاني - ط دار صادر المؤلف أبو الفرج الأصفهاني {ج5. صفحة : 1200}

 

 

ج5. صفحة : 1200

 

وفي هذه القصيدة يقول الأخطل يمدح عبد الملك:

إلى امرئ لا تعـرينـا نـوافـلـه                      أظفره الله فليهنئ لـه الـظـفـر

الخائض الغمر والميمـون طـائره                      خليفة الله يستسقى به الـمـطـر

والهم بعد نجي النـفـس يبـعـثـه                      بالحزم والأصمعان القلب والحـذر

وما الفرات إذا جاشـت غـواربـه                      في حافتيه وفي أوساطه العـشـر

وزعزعته رياح الصيف واضطربت                      فوق الجآجـيء مـن آذيه غـدر

مسحنفر من جبال الـروم يسـتـره                      منها أكافـيف فـيهـا دونـه زور

يوما بأجود منـه حـين تـسـألـه                      ولا بأجهر منه حـين يجـتـهـر

في نبعة من قريش يعصبون بـهـا                      ما إن يوازى بأعلى نبتها الشـجـر

حشد على الخبر عيافو الخنـا أنـف                      إذا ألمت بهم مكروهة صـبـروا

لا يستقل ذوو الأضغان حـربـهـم                      ولا يبين فـي عـيدانـهـم خـور

شمس العداوة حتى يستقـاد لـهـم                      وأعظم الناس أحلامـا إذا قـدروا مدح الرشيد بيتا للأخطل: أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن أبيه: أن الرشيد قال لجماعة من أهله وجلسائه: أي بيت مدح به الحلفاء منا ومن بني أمية أفخر? فقالوا وأكثروا. فقال الرشيد: أمدح بيت وأفخره قول ابن النصرانية في عبد الملك:

شمس العداوة حتى يستقاد لهـم                      وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا مدح آدم بن عمر بن عبد العزيز بيتا للأخطل في مجلس المهدي فأغضبه: أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث عن المدائني قال: قال المهدي يوما وبين يديه مروان بن أبي حفصة: أين ما تقوله فينا من قولك في أمير المؤمنين المنصور:

له لحظات عن حفافي سريره                      إذا كرها فيها عقاب ونـائل فاعترضه آدم بن عمر بن عبد العزيز فقال: هيهات والله يا أمير المؤمنين أن يقول هذا ولا ابن هرمة كما قال الأخطل:

شمس العداوة حتى يستقاد لهـم                      وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا قال: فغضب المهدي حتى استشاط وقال: كذب والله ابن النصرانية العاض بظر أمه وكذبت يا عاض بظر أمك والله لولا أن يقال: إني خفرت بك لعرفتك من أكثر شعرا خذوا برجل ابن الفاعلة فأخرجوه عني فأخرجوه على تلك الحال، وجعل يشتمه وهو يجر ويقول: يابن الفاعلة أراها في رؤوسكم وأنفسكم .

صوت:

إني أرقت ولم يأرق مع صاح                      لمستنكف بعيد النـوم لـواح

دان مسف فويق الأرض هيدبه                      يكاد يدفعه من قام بـالـراح عروضه من البسيط. الشعر لأوس بن حجر وهكذا رواه الأصمعي، أخبرنا بذلك اليزيدي عن الرياشي عنه، ووافقه بعض الكوفيين، وغير هؤلاء يرويه لعبيد بن الأبرص والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. ولحسين بن محرز لحن في البيت الثاني وبعده:

إن شرب الخمر أو أغلى بها ثمنا                      فلا محالة يوما أنـنـي صـاح وطريقته خفيف رمل بالوسطى .

قوله: مستكف: يعني مستديرا؛ وكل طرة كفة. أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا مهدي يقول وهو يصف شجاعا عرض له في طريقه: تبعني شجاع من هذه الشجعان، فمر خلفي كأنه سهم زالج، فحدت عنه، واستكف كأنه كفة حابل، فرميته فنظرت ثلاثة أثنائه وكذلك يقال كفة الحابل وكفة الميزان بالكسر، والأولى مضمومة . ولواح: من قولهم لاح يلوح إذا ظهر. ومسف: قد أسف على وجه الأرض إذا صار عليها أو قرب منها أو دنا إليها؛ ومن هذا يقال: أسف الطائر إذا طار على وجه الأرض؛ ويقال ذلك للسهم أيضا. وهيدبه: الذي تراه كالمتعلق بالسحاب. يقول: هذا السحاب يكاد من قال أن يمسه ويدفعه براحته لقربه من الأرض؛ وهو أحسن ما وصف به السحاب .

 

ذكر أوس بن حجر وشيء من أخباره

وقد اختلف في نسبه، فقال الأصمعي؛ فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي عن الرياشي عنه، هو أوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن نمير. وقال ابن حبيب، فيما ذكره السكري عنه: هو أوس بن حجر من شعراء الجاهلية وفحولها .

 

 

صفحة : 1201

 

وذكر أبو عبيدة أنه من الطبقة الثالثة، وقرنه بالحطيئة نابغة بني جعدة .

في الشعر: فأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة حدثنا يونس عن أبي عمرو قال: كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة وزهير، فهو شاعر تميم في الجاهلية غير مدافع .

أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو يقول: كان أوس بن حجر فحل الشعراء؛ فلما نشأ النابغة طأطأ منه. وأما الكلبي فإنه زعم أن من هذه الطبقة لبيد ابن ربيعة والشماخ بن ضرار. قال: وتميم إلى الآن مقيمة على تقديم أوس. قال: ومنهم من يقول بتقديم عدي؛ وأنشد لحارثة بن بدر الغداني:

والشعراء كان مبيته ومظله                      عند العبادي الذي لا يجهل وقال يعقوب بن سليمان قال حماد: أدركت رجالا من بني تميم لا يفضلون على عدي في الشعر أحدا .

أخبرني اليزيدي عن الرياشي عن الأصمعي قال: تميم تروى هذه القصيدة الحائية لعبيد، وذلك غلط؛ ومن الناس من يخلطها بقصيدته التي على وزنها ورويها لتشابهما .

غنت فتاة أعرابية له في السحاب: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري قال حدثنا علي بن الصباح قال حدثني عبيد الله بن الحسين بن المسود بن وردان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خرج أعرابي مكفوف ومعه ابنة عم له لرعي غنم لهما. فقال الشيخ: أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري. فقالت: أراها كأنها ربرب معزى هزلي. قال: ارعي واحذري. ثم قال لها بعد ساعة: إني أجد ريح النسيم قد دنا، فارفعي رأسك فانظري. فقالت: أراها كأنها بغال دهم تجر جلالها. قال: ارعي واحذري. ثم مكث ساعة ثم قال: إني لأجد ريح النسيم قد دنا، فانظري. قالت: أراها كأنها بطن حمار أصحر. فقال: ارعي واحذري. ثم مكث ساعة فقال: إني لأجد ريح النسيم، فما ترين? قالت: أراها كما قال الشاعر:

دان مسف فوق الأرض هيدبه                      يكاد يدفعه من قال بـالـراح

كأنما بين أعـلاه وأسـفـلـه                      ريط متشرة أو ضوء مصباح

فمن بمحفله كمن بنـجـوتـه                      والمستكن كمن يمشي بقرواح فقال: انجي لا أبا لك فما انقضى كلامه حتى هطلت السماء عليهما .

البيت الثاني من هذه الأبيات ليس من رواية ابن حبيب ولا الأصمعي .

معنى قول الجارية: كأنها بطن حمار أصحر، تعني أنه أبيض فيه حمرة. والصحرة لون كذلك. وقوله: فمن بمحفله كمن بنجوته، يعني من هو بحيث احتفل السيل واحتفال كل شيء معظمه كمن في نجوته. وقد روي: بمحفشه ، وهما واحد، ومعناهما مجرى معظم السيل. يقول: فمن هو في هذا الموضع منه كمن بنجوته أي ناحية عنه سواء لكثرة المطر. والقراح: الفضاء؛ يقال قرواح وقرياح. ويقال في معنى المحفش: حفشت الأودية إذا سالت، وتحشفت المرأة على ولدها إذا قامت عليه .

كان يسير ليلا فصرعته ناقته، فأكرمه فضالة بن كلدة، فمدحه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني علي بن أبي عامر السهمي المصري قال حدثني أبو يوسف الأصبهاني قال حدثني أبو محمد الباهلي عن الأصمعي، وذكر هذا الخبر أيضا التوزي عن أبي عبيدة، فجمعت روايتيهما، قالا: كان أوس بن حجر عزلا مغرما بالنساء؛ فخرج في سفر، حتى إذا كان بأرض بني أسد بين شرج وناظرة ، فبينا هو يسير ظلاما إذ جالت به ناقته فصرعته فاندقت فخذاه فبات مكانه؛ حتى إذا أصبح غدا جواري الحي يجتنين الكمأة وغيرها من نبات الرض والناس في ربيع. فبينا هن كذلك إذ بصرن بناقته تجول وقد علق زمامها في شجرة وأبصرنه ملقى، ففزعن فهربن. فدعا بجارية منهن فقال لها: من أنت? قالت: أنا حليمة بنت فضالة بن كلدة، وكانت أصغرهن؛ فأعطاها حجرا وقال لها: اذهبي إلى أبيك فقولي له: ابن هذا يقرئك السلام. فأخبرته فقال: يا بنية، لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل. ثم احتمل هو وأهله حتى بنى عليه بيته حيث صرع وقال: والله لا أتحول أبدا حتى تبرأ؛ وكانت حليمة تقوم عليه حتى استقل. فقال أوس بن حجر في ذلك:

جدلت على ليلة سـاهـره                      بصحراء شرج إلى ناظره

تزاد ليالي في طـولـهـا                      فليست بطلق ولا ساكـره

أنوء برجل بها ذهـنـهـا                      وأعيت بها أختها الغابـرة وقال في حليمة:

 

صفحة : 1202

 

 

لعمرك ما ملت ثـواء ثـويهـا                      حليمة إذ ألقى مراسي مقـعـد

ولكن تلقت باليدين ضمـانـتـي                      وحل بشرج م القبـائل عـودي

ولم تلهها تلك التكالـيف إنـهـا                      كما شئت من أكرومة وتخـرد

سأجزيك أو يجزيك عني مثـوب                      وقصرك أن يثنى عليك وتحمدي رثى فضالة بن كلدة حين مات: قالا: ثم مات فضالة بن كلدة، وكان يكنى أبا دليجة، فقال فيه أوس بن حجر يرثيه:

يا عين لا بد من سكب وتهمال                      على فضالة جل الرزء العالي ويروى: عيني. العالي: الأمر العظيم الغالب. وهي طويلة جدا. وفيها مما يغنى فيه: صوت:

أبا دليجة من توصـي بـأرمـلة                      أم من لأشعث ذي طمرين ممحال

أبا دليجة من يكفي العـشـيرة إذ                      أمسوا من الأمر في لبس وبلبـال

لا زال مسك وريحـان لـه أرج                      على صداك بصافي اللون سلسال غنى فيه دحمان خفيف رمل بالوسطى عن عمرو. وذكر حبش أن فيه رملا بالوسطى عن عمرو. وذكر حبش أن فيه لابن عائشة رملا بالبنصر، ولداود بن العباس ثاني ثقيل، ولابن جامع خفيف ثقيل .

ومن فاضل مراثيه إياه ونادرها قوله:

أيتها النفس أجملي جـزعـا                      إن الذي تكرهين قد وقعـا

إن الذي جمع السماحة وال                      نجدة والحزم والقوى جمعا

المخلف المتلف المرزأ لـم                      يمتع بضعف ولم يمت طبعا

أودى وهل تنفع الإشاحة من                      شيء لمن قد يحاول البدعا وهي قصيدة أيضا يمدحه بها في حياته ويرثيه بعد وفاته. وله فيه قصائد غير هذه .

صوت:

رأيت زهيرا كلكـل خـالـد                      فأقبلت أسعى كالعجزل أبادر

فشلت يميني يوم أضرب خالدا                      ويمنعه مني الحديد المظاهر عروضه من الطويل. الشعر لورقاء بن زهير. والغناء لكردم، خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق، وذكر عمرو بن بانة أنه لمعبد، وذكر إسحاق أنه ينسبه إلى معبد من لا يعلم، وروى عن أبيه سياط عن يونس أنه أخذه من كردم وأعلمه أن الصنعة فيه له .

 

خبر ورقاء بن زهير

 

ونسبه وقصة شعره هذا:

هو ورقاء بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان، يقول لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ، أباها زهير بن جذيمة .? وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة، ونسخت بعض هذا الخبر عن الأثرم ورواية ابن الكلبي، وأضفت بعض الروايات إلى بعض إلا ما أفردته وجلبته عن راويه. قال أبو عبيدة حدثني عبد الحميد بن عبد الواحد بن عاصم بن عبد الله بن رافع بن مالك بن عبد بن جلهمة ابن حداق بن يربوع بن سعد بن تغلب بن سعد بن عوف بن جلان بن غنم بن أعصر، قال حدثني أبي عبد الواحد وعمي صفوان ابنا عاصم عن أبيهما عاصم بن عبد الله عمن أدرك شأس بن زهير. قال: كان مولد عاصم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وكان عاصم جاهليا. قال: وقال عبد الحميد حدثني سيار بن عمرو أحد بني عبيد بن سعد بن عوف بن جلان بن غنم قال أبو عبيدة: وكان أعلم غني عن شيوخهم: مقتل شأس بن زهير أخيه والبحث عن قاتله ثم محاولة الثأر منه:

 

صفحة : 1203

 

أن شأس بن زهير بن جذيمة أقبل من عند ملك قال أبو عبيدة: أراه النعمان وكان بينه وبين زهير صهر قال أبو عبيدة: ثم حدثني مرة أخرى قال: كانت ابنة زهير عنده فأقبل شأس بن وهير من عنده وقد حباه أفضل الحبوة مسكا وكسا وقطفا وطنافس، فأناخ ناقته في يوم شمال وقرعلى ردهة في جبل ورياح بن الأسك أحد بني رباع بن عبيد بن سعد بن عوف بن رجلان على الردهة ليس غير بيته بالجبل؛ فأنشأ شأس يغتسل بين الناقة والبيت؛ فاستدبره رياح فأوى بسهم فبتر به صلبه. قال أبو عبيدة وحدثني رجل يخيل إلي أنه أبو يحيى الغنوي قال: ورد شأس وقد حباه الملك بحبوة فيها قطيفة حمراء ذات هدب وطيب، فورد منعجا وعليه خباء ملقى لرياح بن الأسك فيه أهله في الظهيرة؛ فألقى ثيابه بفنائه ثم قعد يهرقي عليه الماء، والمرأة قريبة منه يعني امرأة رياح فإذا هو مثل الثور البيض. فقال رياح لامرأته: أنطيني قوسي؛ فمدت إليه قوسه وسهما، وانتزعت المرأة نصله لئلا يقتله؛ فأهوى عجلان إليه فوضع السهم في مستدق الصلب بين فقارتين ففصلهما، وخر ساقطا؛ وحفر له حفرا فهدمه عليه، ونحر جمله وأكله. قال: وقال عبد الحميد: أكل ركوبته وأولج متاعه بيته. وقال عبد الحميد: وفقد شأس وقص أثره ونشد، وركبوا إلى الملك فسألوه عن حاله. فقال لهم الملك: حبوته وسرحته. فقالوا: وما متعته به? قال: مسك وكسا ونطوع وقطف. فأقبلوا يقصون أثره فلم تتضح لهم سبيله. فمكثوا كذلك ما شاء الله، لا أدري كم، حتى رأوا امرأة رياح باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من حباء الملك. فعرفت وتيقنوا أن رياحا ثأرهم. قال أبو عبيدة: وزعم الآخر قال: نشد زهير بن جذيمة الناس، فانقطع ذكره على منعج وسط غني، ثم أصابت الناس جاءحة وجوع، فنحر زهير ناقة ، فأعطى امرأة شطيها فقال: اشترى لي الهدب والطيب. فخرجت بذلك الشحم والسنام تبيعه حتى دفعت إلى امرأة رياح، فقالت: إن معي شحما أبيعه في الهدب والطيب؛ فاشترت المرأة منها. فأتت المرأة زهيرا بذلك، فعرف الهدب، فأتى زهير غنيا، فقالوا: نعم قتله رياح بن الأسك، ونحن برءاء منه. وقد لحق بخاله من بني الطماح وبني أسد بن خزيمة، فكان يكون الليل عنده ويظهر في أبان يريم الأروى ؛ إلى أن أصبح ذات يوم وهو عنده وعبس تريغه . فركب خاله جملا وجعله على كفل وراءه. فبينا هو كذلك إذ دنت، فقالوا : هذه خيل عبس تطلبك. فطمر في قاع شجر فحفر في أصل سوقه. ولقيت الخيل خاله فقالوا: هل كان معك أحد? قال: لا. فقالوا: ما هذا المركب زراءك? لتخبرنا أو لنقتلنك قال: لا كذب، هو رياح في ذلك القاع. فلما دنوا منه قال الحصينان: يا بني عبس دعونا وثأرنا، فخنسوا عنهما. فأخذ رياح نعلين من سبت فصيرهما على صدره حيال كبده، ونادى: هذا غزالكما الذي تبغيان. فحمل عليه أحدهما فطعنه، فأزالت النعل الرمح إلى حيث شاكلته، ورماه رياح موليا فجذم صلبه. قال: ثم جاء الآخر فطعنه فلم يغن شيئا، ورماه موليا فصرعه. فقالت عبس: أين تذهبون إلى هذا والله ليقتلن منكم عدد مراميه، وقد جرحاه فسيموت. قال: وأخذ رياح رمحيهما وسلبيهما وخرج حتى سند إلى أبان. فأتته عجوز وهو يستدمي على الحوض ليشرب منه وقالت: استأسر تحي، فقال: جنبيني حتى أشرب. قال فأبت ولم تنته. فلما غلبته أخذ مشقصا وكنع به كرسوعي يديها. قال فقال عبد الحميد: فلما استبان لزهير بن جذيمة أن رياحا ثأره قال يرثي شأسا: رثاء زهير بن جذيمة لابنه شأس:

بكيت لشأس حـين خـبـرت أنـه                      بماء غني آخر الـلـيل يسـلـب

لقد كان مأتاه الـرداه لـحـتـفـه                      وما كان لولا غرة اللـيل يغـلـب

فتيل غني ليس شكل كـشـكـلـه                      كذاك لعمري الحين للمرء يجلـب

سأبكي عليه إن بكـيت بـعـبـرة                      وحق لشأس عبرة حين تسـكـب

وحزن علـيه مـا حـييت وعـولة                      على مثل ضوء البدر أو هو أعجب

إذا سيم ضيما كان للضيم منـكـرا                      وكان لدي الهيجاء يخشى ويرهـب

وإن صوت الداعي إلى الخير مـرة                      أجاب لما يدعو له حـين يكـرب

ففـرج عـنـه ثـم كـان ولـيه                      فقلبي عليه لو بدا القلب ملـهـب

 

صفحة : 1204

 

وقال زهير بن جذيمة حين قتل شأس: شأس وما شأس والبأس وما البأس لولا مقتل شأس، لم يكن بيننا بأس. قال: ثم انصرف إلى قومه، فكان لا يقدر على غنوي إلا قتله .

قال عبد الحميد: فغزت بنوعبس غنيا قبل أن يطلبوا قودا أو دية مع أخي شأس الحصين بن زهير بن جذيمة والحصين بن أسيد بن جذيمة ابن أخي زهير. فقيل ذلك لغني؛ فقالت لرياح: انج، لعلنا نصالح على شيء أو نرضيهم بدية أو فداء. فخرج رياح رديفا لرجل من بني كلاب وزعم أبو حية النميري أنه من بني جعد وكان معهما صفيحة فيها آراب لحم، لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم، فأرجفا أيديهما في الصحيفة فأخذ كل واخذ منهما وذرة ليأكلها، مترادفين لا يقدران على النزول. قال: فمر فوق رؤوسهما صرد فصرصر، فألقيا اللحم وأمسكا بأيديهما وقالا: ما هذا ثم عادا إلى مثل ذلك فأخذ كل واحد منهما عظما، ومر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر؛ فألقيا العظمين وأمسكا بأيديهما وقالا: ما هذا ثم عادا الثالثة فأخذ كل واحد منهما قطعة، فمر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر، فألقيا القطعتين ؛ حتى فعلا ذلك ثلاث مرات، فإذا هما بالقوم أدنى ظلم وأدنى ظلم أي أدنى شيء، وقد كانا يظنان أنهما قد خالفا وجهة القوم. فقال صاحبه لرياح: اذهب فإني آتي القوم أشاغلهم عنك وأحدثهم حتى تعجزهم ثم ماض إن تركوني. فانحدر رياح عن عجز الجمل فأخذ أدراجه وعدا أثر الراحلة حتى أتى ضفة فاحتفر تحتها مثل مكان الأرنب فولج فيه، ثم أخذ نعليه فجعل إحداهما على سرته والأخرى على صفنه ثم شد عليهما العمامة، ومضى صاحبه حتى لقي القوم، فسألوه فحدثهم وقال: هذه غني كاملة وقد دنوت منهم، فصدقوه وخلوا سربه . فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه، فقالوا: من الذي كان خلفك? فقال: لا مكذبة ذلك رياح في الأوائل من السمرات. فقال الحصينان لمن معهما: قفوا علينا حتى نعلم علمه فقد أمكننا الله من ثأرنا، ولم يريدا أن يشركهما فيه أحد، فمضيا ووقف القوم عنهما. قالوا قال رياح: فإذا هما ينقلان فرسيهما، فما زالا يريغاني، فابتدراني فرميت الأول فبترت صلبه، وطعنني الأخر قبل أن أرميه وأراد السرة فأصاب الربلة ، ومر الفرس يهوي به، فاستدبرته بسهم فرشقت به صلبه فانفقر منحنى الأوصال، وقد بترت صلبيهما. قال أبو عبيدة قال أبو حية: بل قال رياح: استدبرته بسهم وقد خرجت قدمه فقطعتها، فكأنما نشرت بمنشار. قال عبد الحميد: وند فرساهما فلحقا بالقوم. قال رياح: فأخذت رمحيهما فخرجت بهما حتى أتيت رملة فسندت فغرزت الرمحين فيها ثم انحدرت. قال: وطلبه القوم، حتى إذا رفع لهم الرمحان لم يقربوهما علم الله حتى وجدوا أثر رياح خارجا قد فات. وانطلق رياح خارجا حتى ورد ردهة عليها بيت أنمار بن بغيض وفيه امرأة ولها ابنان قريبان منها وجمل راتع في الجبل، وقد مات رياح عطشا. فلما رأته يستدمي طمعت فيه ورجت أن يأتيها ابناها، فقالت له: استأسر. فقال لها: دعيني ويحك أشرب، فأبت. فأخذ حديدة إما سكينا وإما مشقصا فجذم به رواهشها فماتت، وعب في الماء حتى نهل ثم توجه إلى قومه. فقال رياح فيها وفي الحصينين:

قالت لي استأسر لتكتفـنـي                      حينا ويعلو قولها قـولـي

ولأنت أجرأ من أسـامة أو                      مني غداة وقفت للـخـيل

إذ الحصين لدى الحصين كما                      عدل الرجازة جانب المـيل قال الأثرم: الرجازة شيء يكون مع المرأة في هودجها، فإذا هو مال أحد الجانبين وضعته في الناحية الأخرى ليعتدل. قال أبو عبيدة: يعني حصين بن زهير بن جذيمة، وحصين بن أسيد بن جذيمة وهو ابن عمه .

قال أبو عبيدة قال عبد الحميد: والله لقد سمعت هذا الحديث على ما حدثتك به منذ ستين سنة قال عبد الحميد: وما سمعت أن بني عبس أدركوا بواحد منهم ولا اقتادوا ولا أنذروا، ولا سمعت فيه من الشعر لنا ولا لغيرنا في الجاهلية بأكثر مما أنشدتك. وإلى هذا انتهى حديثنا وحديثه، ولا والله ما قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة في حربنا، غير أن الكميت بن زيد الأسدي، وكانت له أمان من غني، ذكر من مقتل أخواله من غني في بني عبس ومن قتلوا من بني نمير بن عامر في كلمة له واحدة؛ فلعله لهذا الحديث قالها وذكر إدراكاتهم وذكر قتل شبيب بن سالم النميري، فقال في ذلك:

 

صفحة : 1205

 

 

أنا ابن غني والـداي كـلاهـمـا                      لأمين فيهم في الفروع وفي الأصل

هم استودعوا هوى شبيب بن سالـم                      وهم عدلوا بين الحصينين بالنـبـل

وهم قتلوا شأس الملوك ورغـمـوا                      أباه زهيرا بالـمـذلة والـثـكـل

فما أدركت فيهم جـذيمة وتـرهـا                      بما قود يوما لـديهـا ولا عـقـل قال أبو عبيدة: فذكر عبد الحميد أنه أتى عليهم هنيئة من الدهر لا أدري كم وقت ذلك بعد انصرام أمر شأس. قال: فما زادوا على هذا فهو باطل. قال الأثرم: هبيئة من الدهر وهنيهة وبرهة وحقبة بمعنى الدهر .

 

مقتل زهير بن جذيمة العبسي

قتله خالد بن جعفر وتعظيم هوازن له: قتله خالد بن جعفر بن كلاب. قال أبو عبيدة قال أبو حية النميري: كان بين انصراف حديث شأس وحديث قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة ما بين العشرين سنة إلى الثلاثين سنة. قال أبو عبيدة: وهوازن بن منصور لا ترى زهير بن جذيمة إلا ربا . قال: وهوازن يومئذ لا خير فيها؛ ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد، فهم أذل من يد في رحم ،وإنما هم رعاء الشاء في الجبال. قال: وكان زهير يعشرهم ، وكان إذا كان أيام عكاظ أتاها زهير ويأتيها الناس من كل وجه، فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم فيأتونه بالسمن والأقط والغنم؛ وذلك بعد ما خلع ذلك من أبي الجناد أخي بني أسيد بن عمرو بن تميم. ثم إذا تفرق الناس عن عكاظ نزل زهير بالنفرات .

حلف خالد أن يقتله وشعره في ذلك: قال أبو عبيدة عن عبد الحميد وأبي حية النميري قالا: فأتته عجوز رهيش من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وقال أبو حية: بل أتته عجوز من هوازن بسمن في نحي، واعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعن على الناس. فذاقه فلم يرض طعمه، فدعها بقوس في يده عطل في صدرها، فاستلقت لحلاوة القفا فبدت عورتها؛ فغضب من ذلك هوازن وحقدت عليه إلى ما كان في صدرها من الغيظ والدمن وأوحرها من الحسك . قال: وقد أمرت عامر بن صعصعة يومئذ؛ فآلى خالد بن جعفر فقال: والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه حتى أقتل أو يقتل. قال: وفي ذلك يقول خالد بن جعفر بن كلاب:

أديروني إدارتـكـم فـإنـي                      وحذفة كالشجا تحت الـوريد

مقـربة أسـويهـا بـجـزء                      وألحفها ردائي في الجـلـيد

وأوصي الراعيين ليؤثـراهـا                      لها لبن الخلية والـصـعـود

تراها في الغزاة هن شعـث                      كقلب العاج في الرسغ الجديد

يبيت رباطها باللـيل كـفـي                      على عود الحشيش وغير عود

لعل الله يمكننـي عـلـيهـا                      جهارا من زهـير أو أسـيد

فإما تثقفوني فاقـتـلـونـي                      فمن أثقف فليس إلى الخلـود

وقيس في المعارك غادرتـه                      قناتي في فوارس كالأسـود

ويربوع بن غـيظ يوم سـاق                      تركناهـم كـجـارية وبـيد

تركت بها نساء بني عـصـيم                      أرامل ما تحـن إلـى ولـيد

يلذن بحارث جزعـا عـلـيه                      يقلن لحارث لـولا تـسـود

ومني بالظويلـم قـارعـات                      تبيد المـخـزيات ولا تـبـيد

وحكت بركها ببني جـحـاش                      وقد أجروا إليها من بـعـيد

تركت ابني جذيمة في مكـر                      ونصرا قد تركت لها شهودي وصف مقتله وما كان قبله من حوادث:

 

صفحة : 1206

 

قال أبو عبيدة وحدثني أبو سرار الغنوي قال: كان زهير رجلا عدوسا ، فانتقل من قومه ببنيه وبني أخويه زنباع وأسيد بركبة يريغ الغيث في عشروات له وشول. قال: وبنو عامر قريب منهم ولا يشعر بهم. قال عبد الحميد وأبو حية: بل بنو عامر بدمخ وزهير بالنفرات وبينهم ليلتان أو ثلاث. قال فقال أبو سرار: فأتى الحارث بني عامر، والله ما تغير طعم اللبن الذي زوده الحارث بن عمرو بن الشريد السلمي حتى أتى بني عامر فأخبرهم. قال أبو عبيدة أخبرني سليمان بن المزاحم المازني عن أبيه قال: بل كانت بنو عامر بالجريئة وزهير بالنفرات، وكانت تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن جذيمة وهي أم ولده. فمر بها أخوها الحارث بن عمرو. فقال زهير لبنيه: إن هذا الحمار لطليعة عليكم فأوثقوه. فقالت أخته لبنيها: أيزوركم خالكم فتوثقوه وتحرموه فخلوه. فقالت تماضر لأخيها الحارث: إنه ليريبني اكبئنانك وقروبك، فلا يأخذن فيك ما قال زهير؛ فإنه رجل بيذارة غيذارة شنوءة . قال: ثم حلبوا له وطبا وأخذوا منه يمينا ألا يخبر عنهم ولا ينذر به أحدا. قال أبو عبيدة: وزعم أبو حية النميري أنه لما أتوه بقراهم أراهم أنه يشربه في الظلمة وجعل يهوي به إلى جيبه فيصبه بين سرباله وصدره أسفا وغيظا. قال: وكان الذي حلب له الوطب وقراه الحارث بن زهير، وبه سمي. قال: فخرج يطير حتى أتى عامرا عند ناديهم، فأتى حاذة أو شجرة غيرها فألقى الوطب تحتها والقوم ينظرون، ثم قال: أيتها الشجرة الذليلة اشربي من هذا اللبن فانظري ما طعمه. فقال أهل المجلس: هذا رجل مأخوذ عليه عهد وهو يخبركم خبرا. فأتوه فإذا هو الحارث بن عمرو، وذاقوا اللبن فإذا هو حلو لم يقرص بعد، فقالوا: إنه ليخبرنا أن طلبنا قريب. فركب معه ستة فوارس لينظروا ما الخبر، وهم خالد بن جعفر بن كلاب على حذفة، وحندج بن البكاء، ومعاوية بن عبادة بن عقيل فارس الهرار وهو الأخيل جد ليلى الأخيلية قال: والأخيل هو معاوية، قال: وهو يومئذ غلام له ذؤابتان، وكان أصغر من ركب ثلاثة فوارس من سائر بني عامر؛ فاقتصوا أثر السير، حتى إذا رأوا إبل بني جذيمة نزلوا عن الخيل. فقالت النساء: إنا لنرى حرجة من عضاه أو غابة رماح بمكان لم نكن نرى به شيئا، ثم راحت الرعاء فأخبروا بمثل ما للنساء. قال: وأخبرت راعية أسيد بن جذيمة أسيدا بمثل ذلك؛ فأتى أسيد أخاه زهيرا فأخبره بما أخبرته به الراعية وقال: إنما رأت الخيل بني عامر ورماحها. فقال زهير: كل أزب نفور فذهبت مثلا؛ وكان أسيد كثير الشعر خناسيا وأين بنو عامر أما بنو كلاب فكالحية إن تركتها تركتك، وإن وطئتها عضتك. وأما بنو كعب فإنهم يصيدون اللأي يريد الثور الوحشي . وأما بنو نمير فإنهم يرعون إبلهم في رؤوس الجبال. وأما بنو هلال فيبيعون العطر. قال: فتحمل عامة بني رواحة، وآلي زهير لا يبرح مكانه حتى يصبح. وتحمل من كان معه غير ابنيه ورقاء والحارث .

 

 

صفحة : 1207

 

قال: وكان لزهير ربيئة من الجن فحدثه ببعض أمرهم حتى أصبح، وكانت له مظلة حتى أصبح، وكانت له مظلة دوج يربط فيها أفراسه لا تريمه حذرا من الحوادث. قال: فلما أصبح صهلت فرس منها حين أحست بالخيل وهي القعساء. فقال زهير: ما لها? فقال ربيئته: أحست الخيل فصهلت إليهن. فلم تؤذنهم بهم إلا والخيل دوائس محاضير بالقوم غدية. فقال أنهم أهل اليمن: يا أسيد ما هؤلاء الذين تعمي حديثهم منذ الليلة. قال: وركب أسيد فمضى ناجيا. قال: ووثب زهير وكان شيخا نبيلا فتدثر القعساء فرسه، وهو يومئذ شيخ قد بدن وهو يومئذ عقوق متهم، واعرورى ورقاء والحارث ابناه فرسيهما، ثم خالفوا جهة مالهم ليعموا على بني عامر مكان مالهم فلا يأخذوه. فهتف هاتف من بني عامر: يا ليحامر يريد يحامر وهو شعار لأهل اليمن لأن يعمي على الجذميين من القوم. فقال زهير: هذه اليمن، قد علمت أنها أهل اليمن وقال لابنه ورقاء: انظر يا ورقاء ما ترى? قال ورقاء: أرى فارسا على شقراء يجهدها ويكدها بالسوط قد ألح عليها يعني خالدا . فقال زهير: شيئا ما يريد السوط إلى الشقراء، فذهبت مثلا، وقال في المرة الثانية: شيئا ما يطلب السوط على الشقراء، وهي حذفة فرس خالد بن جعفر، والفارس خالد بن جعفر. قال: وكانت الشقراء من خيل غني. قال: وتمردت القعساء بزهير؛ وجعل خالد يقول: لا نجوت إن نجا مجدع يعني زهيرا . فلما تمعطت القعساء بزهير ولم تتلعق بها حذفة، قال خالد لمعاوية الأخيل بن عبادة وكان على الهرار حصان أعوج : أدرك معاوي، فأدرك معاوية زهيرا، وجعل ابناه ورقاء والحارث يوطشان عنه أي عن أبيهما . قال فقال خالد: اطعن يا معاوية في نساها، فطعن إحدى رجليها فانخذلت القعساء بعض الانخذال وهي في ذلك تمعط. فقال زهير: اطعن الأخرى، يكيده بذلك لكي تستوي رجلاها فتحامل . فناداه خالد: يا معاوية أفد طعنتك أي اطعن مكانا واحدا فشعشع الرمح في رجلها فانخذلت. قال: ولحقه خالد على حذقة فجعل يده وراء عنق زهير، فاستخف به عن الفرس حتى قلبه، وخر خالد فوقع فوقه، ورفع المغفر عن رأس زهير وقال: يا لعامر اقتلونا معا فعرفوا أنهم بنو عامر. فقال ورقاء: وا انقطاع ظهراه إنها لبنو عامر سائر اليوم. وقال غيره: فقال بعض بني جذيمة: وا انقطاع ظهري . قال: ولحق حندج بن البكاء وقد حسر خالد المغفر عن رأس زهير فقال: نح رأسك يا أبا جزء، لم يحن يومك فنحى خالد رأسه وضرب حندج رأس زهير، وضرب ورقاء بن زهير رأس خالد بالسيف وعليه درعان، وكان أسجر العينين، ازب أقمر، مثل الفالج، فلم يغن شيئا. قال: وأجهض ابنا زهير القوم عن زهير فانتزعاه مرتثا. فقال خالد حين استنقذ زهيرا ابناه. والهفتاه قد كنت أظن أن هذا المخرج سيسعكم  ولام حندجا. فقال حندج وكان لجلالته غصة إذا تكلم. السيف حديد، والساعة شديد، وقد ضربته ورجلاي متمكنتان في الركابين وسمعت السيف قال قب حين وقع برأسه، ورأيت على ظبته مثل ثمر المرار، وذقته فكان حلوا. فقال خالد: قتلته بأبي أنت . ونظر بنو زهير فإذا الضربة قد بلغت الدماغ. ونهي بنو زهير أن يسقوا أباهم الماء، فاستسقاهم فمنعوه حتى نهك عطشا. قال: وذلك أن المأموم يخاف عليه الماء، حتى بلغ منه العطش، فجعل يهتف: أميت أنا عطشا . وينادي: يا ورقاء قال أبو حية: فجعل ينادي يا شأس فلما رأوا ذلك سقوه فمات لثالثة. فقال ورقاء بن زهير:

رأيت زهيرا تحت كلكل خـالـد                      فأقبلت أسعى كالعجـول أبـادر

إلى بطلين ينهضـان كـلاهـمـا                      يريغان نصل السيف والسيف نادر

فشلت يميني إذ ضربت ابن جعفر                      وأحرزه مني الحديد المظـاهـر قال أبو عبيدة: وسمعت أبا عمرو بن العلاء ينشد هذا البيت فيها:

وشلت يميني يوم أضرب خالدا                      وشل بناناها وشل الخناصـر قال أبو عبيدة: وأنشدني أبو سرار أيضا فيها:

فيا ليتني من قبل أيام خالـد                      ويوم زهير لم تلدني تماضر تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن جذيمة. قال أبو عبيدة: أنشدني أبو سرار فيها:

لعمري لقد بشرت بي إذ ولدتني                      فماذا الذي ردت عليك البشائر شعر لخالد بن جعفر يمن على هوازن بقتله زهير:

 

صفحة : 1208

 

وقال خالد بن جعفر يمن على هوازن بقتله زهيرا ويصدق الحديث قال أبو عبيدة أنشدنيه مالك بن عامر بن عبد الله بن بشر بن عامر ملاعب الآسنة:

بل كيف تكفرني هوازن بعدما                      أعتقتهم فتـوالـدوا أحـرارا

وقتلت ربهم زهيرا بعـدمـا                      جدع الأنوف وأكثر الأوتـارا

وجعلت حزن بلادهم وجبالهم                      أرضا فضاء سهلة وعشـارا

وجعلت مهر بناتهم ودمائهـم                      عقل الملوك هجائنا أبكـارا قال أبو عبيدة: ألا ترى أنه ذكر في شعره أن زهيرا كان ربهم وقد كان جدعهم، وأنه قتله من أجلهم لا من أجل غني، وأن غنيا ليسوا من ذلك في ذكر ولا لهم فيه معنى .

شعر لورقاء بن زهير: قال: وقال ورقاء بن زهير:

أما كلاب فإنا نسـالـمـهـا                      حتى يسالم ذئب الثلة الراعي

بنو جذيمة حاموا حول سيدهم                      إلا أسيدا نجا إذ ثوب الداعي شعر للفرزدق ينعي فيه على بني عبس ضربة ورقاء خالدا: قال: ثم نعى الفرزدق على بني عبس ضربة ورقاء خالدا، واعتذر بها إلى سليمان بن عبد الملك فقال:

إن يك سيف خان أو قدر أبـى                      لتأخير نفس حتفها غير شاهـد

فسيف بني عبس وقد ضربوا به                      نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا                      وتقطع أحيانا منـاط الـقـلائد

ولو شئت قد السيف ما بين عنقه                      إلى علق تحت الشراسيف جامد قال: وكان ضلع بني عبس مع جرير، فقال الفرزدق فيهم هذه الأبيات. هذه رواية أبي عبيدة .

وأما الأصمعي فإنه ذكر، فيما رواه الأثرم عنه، قال حدثني غير واحد من الأعراب أن سبب مقتل زهير العبسي أن ابنه شأس بن زهير وفد إلى بعض الملوك فرجع ومعه حباء قد حبي به، فمر بأبيات من بني عامر بن صعصعة وأبيات من بني غني على ماء لبني عامر أو غيرهم الشك من الأصمعي . قال: فاغتسل، فناداه الغنوي: استتر فلم يحفل بما قال. فقال: استتر ويحك البيوت بين يديك؛ فلم يحفل. فرماه الغنوي رياح بن الأسك بسهم أو فقتله والحي خلوف ، فاتبعه أصحاب شأس وهم في عدة، فركب الفلاة واتبعوه فرهقوه ، فقتل حصينا وأخاه حصينا، ثم نجا على وجهه حتى أدركه العطش، فلجأ إلى منزل عجوز من بني إنسان وبنو إنسان حي من بني جشم . فقالت له العجوز: لا تبرح حتى يأتي بني فيأسروك. قال الأصمعي: فأخبرني مخبران اختلفا؛ فقال أحدهما: إنه أخذ سكينا فقطع عصبتي يديها، وقال الآخر: أخذ حجرا فشدخ به رأسها، ثم أنشأ يقول:

ولأنت أشجع مـن أسـامة أو                      مني غداة وقفـت لـلـخـيل

إذ الحصين لدى الحصين كمـا                      عدل الرجازة جانب الـمـيل

وإذا أنهنهـهـا لأفـتـلـهـا                      جاشت ليغلب قولها على قولي قال: فضرب للزمان ضربانه ، فالتقى خالد بن جعفر بن كلاب وزهير بن جذيمة العبسي. فقال خالد لزهير: أما آن لك أن تشتفي وتكف? قال الأصمعي: يعني مما قتل بشأس قال: فأغلظ له زهير وحقره. قال الأصمعي: وأخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب أن ذلك الكلام بينهما كان بعكاظ عند قريش. فلما حقره زهير وسبه قال خالد: عسى إن كان يتهدده ثم قال: اللهم أمكن يدي هذه الشقراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة ثم أعني عليه. فقال زهير: اللهم أمكن يدي هذه البيضاء الطويلة من عنق خالد ثم خل بيننا. فقال قريش: هلكت والله يا زهير . فقال: إنكم والله الذين لا علم لكم .

 

 

صفحة : 1209

 

قال الأصمعي: ثم نرجع إلى حديث العبسيين والعامريين، وبعضه من حديث أبي عمرو بن العلاء. قال: فجاء أخو امرأته فاطمة بنت الشريد السلمية، وهي أم قيس بن زهير، وكان زهير قد أساء إليهم في شيء فجاء أخوها إلى بني عامر فقال: هل لكم في زهير بن جذيمة ينتج إبله ليس معه أحد غير أخيه أسيد بن جذيمة وعبد راع لإبله وجئتكم من عنده، وهذا لبن حلبوه لي. فذاقوه فإذا هو ليس بحازر ، فعلموا أنه قريب. فخرج حندج بن البكاء وخالد ابن جعفر ومعاوية بن عبادة بن عقيل، ، ليس على أحدهم درع غير خالد كانت عليه درع أعاره إياها عمرو بن يربوع الغنوي، وكانت درع ابن الأجلح المرادي كان قتله فأخذها منه، وكان يقال لها ذات الأزمة. وإنما سميت بذلك لأنها كانت لها عرى تعلق فضولها بها إذا أراد أن يشمرها. قال: فطلعوا. فقال أسيد بن جذيمة قال الأصمعي: وكان أسيد شيخا كبيرا، وكان كثير شعر الوجه والجسد أتيت ورب الكعبة. فقال زهير: كل أزب نفور، فذهبت مثلا. فلم يشعر بهم زهير إلا في سواد الليل، فركب فرسه ثم وجهها فلحقه قوم أحدهم حندج أو العقيلي واختلفوا فيهما فطعن فخذ الفرس طعنة خفيفة، ثم أراد أن يطعن الرجل الصحيحة، فناداه خالد: يا فلان لا تفعل فيستويا، أقبل على السقيمة. قال: فطعنها فانخذلت الفرس فأدركوه. فلما أدركوه رمى بنفسه، وعانقه خالد فقال: اقتلوني ومجدعا فجاء حندج وكان أعجم اللسان فقال لخالد وهو فوق زهير: نح رأسك يا أبا جزء، فنحى رأسه فضرب حندج زهيرا ضربة على دهش، ثم ركبوا وتركوه. قال فقال خالد: ويحك يا حندج ما صنعت? فقال ساعدي شديد، وسيفي حديد، وضربته ضربة فقال السيف قب، وخرج عليه مثل ثمرة المرار، فطعمته فوجدته حلوا يعني دماغه . قال: إن كنت صدقت فقد قتلته. قال: فجاء قوم زهير فاحتملوه ومنعوه الماء كراهة أن يبتل دماغه فيموت. فقال: يا آل غطفان أأموت عطشا فسقي فمات، وذلك بعد أيام. ففي ذلك يقول ورقاء بن زهير وكان قد ضرب خالدا ضربة فلم يصنع شيئا، فقال:

رأيت زهيرا تحت كلكل خـالـد                      فأقبلت أسعى كالعجـول أبـادر

إلى بطلين ينهضان كـلاهـمـا                      يريدان نصل السيف والسيف نادر قال الأصمعي: فضرب الدهر من ضربانه إلى أن التقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم .

 

ذكر مقتل خالد بن جعفر بن كلاب

مقتل خالد بن جعفر وسببه: قتله الحارث بن ظالم المري. قال أبو عبيدة: كان الذي هاج من الأمر بين الحارث بن ظالم وخالد بن جعفر أن خالد بن جعفر أغار على رهط الحارث بن ظالم من بني يربوع بن غيظ ابن مرة وهم في واد يقال له حراض، فقتل الرجال حتى أسرع ، والحارث يومئذ غلام، وبقيت النساء. وزعموا أن ظالما هلك في تلك الوقعة من جراحة أصابته يومئذ. وكانت نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم، فلما بقين بغير رجال طفقن يدعون الحارث، فيشد عصاب الناقة ثم يحلبنها، ويبكين رجالهن ويبكي الحارث معهن، فنشأ على بغض خالد. وأردف ذلك قتل خالد زهير بن جذيمة؛ فاستحق العداوة في غطفان. فقال خالد بن جعفر في تلك الواقعة:

تركت نساء يربوع بن غـيظ                      أرامل يشتكـين إلـى ولـيد

يقلن لحارث جزعـا عـلـيه                      لك الخيرات مالك لا تسـود

تركت بني جذيمة في مكـر                      ونصرا قد تركت لدى الشهود

ومني سوف تأتي قـارعـات                      تبيد المخـزيات ولا تـبـيد

وقيس ابن المعارك غادرتـه                      قناتي في فوارس كالأسـود

وحلت بركها ببني جـحـاش                      وقد مدوا إليها مـن بـعـيد

وحي بني سـبـيع يوم سـاق                      تركناهـم كـجـارية وبـيد

 

صفحة : 1210

 

قال أبو عبيدة: فمكث خالد بن جعفر برهة من دهره، حتى كان من أمره وأمر زهير بن جذيمة ما كان، وخالد يومئذ رأس هوازن. فلما استحق عداوة عبس وذبيان أتى النعمان بن المنذر ملك الحيرة لينظر ما قدره عنده، وأتاه بفرس؛ فألفى عنده الحارث بن ظالم قد أهدى له فرسا فقال: أبيت اللعن، نعم صباحك، وأهلي فداؤك هذا فرس من خيل بني مرة ، فلن تؤتى بفرس يشق غباره، إن لم تنسبه انتسب، كنت ارتبطته لغزو بني عامر بن صعصعة؛ فلما أكرمت خالدا أهديته إليك. وقام الربيع بن زياد العبسي فقال: أبيت اللعن نعم صباحك، وأهلي فداؤك هذا فرس من خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنة لم يخفق في غزوة ولم يعتلك في سفر، وفضله على هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم. قال: فغضب النعمان عند ذلك وقال: يا معشر قيس، أرى خيلكم أشباها  أين اللواتي كأن أذنابها شقاق أعلام وكأن مناخرها وجار الضباع، وكأن عيونها بغايا النساء، رقاق المستطعم تعالك اللجم في أشداقها، تدور على مذاودها كأنما يقضمن حصى. قال خالد: زعم الحارث أبيت اللعن أن تلك الخيل خيله وخيل آبائه. فغضب النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم. فلما أمسوا اجتمعوا عند قينة من أهل الحيرة يقال لها بنت عفزر يشربون. فقال خالد: تغني:

دار لهند والرباب وفرتني                      ولميس قبل حوادث الأيام وهن خالات الحارث بن ظالم، فغضب الحارث بن ظالم حتى امتلأ غيظا وغضبا، وقال: ما تزال تتبع أولى بآخره. قال أبو عبيدة: ثم إن النعمان بن المنذر دعاهم بعد ذلك وقدم لهم تمرا؛ فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي نوى ما يأكل من التمر بين يدي الحارث. فلما فرغ القوم قال خالد بن جعفر: أبيت اللعن انظر إلى ما بين يدي الحارث بن ظالم من النوى ما ترك لنا تمرا إلا أكله. فقال الحارث: أما أنا فأكلت التمر وألقيت النوى، وأما أنت فأكلته بنواه . فغضب خالد وكان لا ينازع، فقال: أتنازعني يا حارث وقد قتلت حاضرتك وتركتك يتيما في حجور النساء فقال الحارث: ذلك يوم لم أشهده، وأنا مغن اليوم بمكاني. قال خالد: فهلا تشكر لي إذ قتلت زهير بن جذيمة وجعلتك سيد غطفان . قال: بلى أشكرك على ذلك. فخرج الحارث بن ظالم إلى بنت عفرز، فشرب عندها وقال لها تغني :

تعلم أبيت اللعـن أنـي فـاتـك                      من اليوم أو من بعده بابن جعفر

أخالد قد نبهتـنـي غـير نـائم                      فلا تأمنن فتكي يد الدهر واحذر

أعيرتني أن نلت منا فـوارسـا                      غداة حراض مثل جنان عبقـر

أصابهم الدهر الختور بخـتـره                      ومن لا يق الله الحوادث يعثـر

فعلك يوما أن تنـوء بـضـربة                      بكف فتى من قومه غير جيدر

يغص بها عليا هوازن، والمنـى                      لقاء أبي جزء بأبيض مبـتـر قال: فبلغ خالد بن جعفر قوله فلم يحفل به. فقال عبد الله بن جعدة وهو ابن أخت خالد، وكان رجل قيس رأيا لابنه: يا بني ائت أبا جزء فأخبره أن الحارث بن ظالم سفيه موتور، فأخف مبيتك الليلة؛ فإنه قد غلبه الشراب. فإن أبيت فاجعل بينك وبينه رجلا ليحرسك. فوضعوا رجلا بإزائه، ونام ابن جعدة دون الرجل، وخالد من خلف الرجل. وعرف أن ابن عتبة وابن جعدة يحرسان خالدا. فأقبل الحارث فانتهى إلى ابن جعدة فتعداه، ومضى إلى الرجل وهو يحسبه خالدا فعجنه بكلكله حتى كسره وجعل يكدمه لا يعقل، فخلى عنه والرجل تحته، ومضى إلى خالد وهو نائم، فضربه بالسيف حتى قتله. فقال لعروة : أخبر الناس أني قتلت خالدا. وقال في ذلك:

ألا سائل النعمان إن كنت سـائلا                      وحي كلاب هل فتكت بخـالـد

عشوت عليه وابن جعـدة دونـه                      وعروة يكلا عمه غـير راقـد

وقد نصبا رجلا فباشرت جـوزه                      بكلكل مخشي الـعـداوة حـارد

فأضربه بالسيف يأفـوخ رأسـه                      فصمم حتى نال نوط الـقـلائد

وأفلت عبد الله مـنـي بـذعـره                      وعروة من بعد ابن جعدة شاهدي فلما أبت غطفان أن تجيره غضبت لذلك بنو عبس. وبعث إليه قيس بن زهير بن جذيمة بهذه الأبيات: شعر قيس بن زهير للحارث حين قتل خالدا وإجابته له:

 

صفحة : 1211

 

 

جزاك الله خيرا من خـلـيل                      شفى من ذوي تبولته الخليلا

أزحت بها جوى ودخيل حزن                      تمخخ أعظمي زمنا طـويلا

كسوت الجعفري أبا جـزيء                      ولم تحفل به سيفا صـقـيلا

أبأت به زهير بني بغـيص                      وكنت لمثلها ولها حـمـولا

كشفت له القناع وكنت ممن                      يجلي العار والأمر الجلـيلا فأجابه الحارث بن ظالم:

أتاني عن قييس بني زهير                      مقالة كاذب ذكر التبـولا

فلو كنتم كما قلتم لكـنـتـم                      لقاتل ثأركم حرزا أصـيلا

ولكن قلتم جـاور سـوانـا                      فقد جللتنا حدثـا جـلـيلا

ولو كانوا هم قتلوا أخاكـم                      لما طردوا الذي قتل القتيلا إباء غطفان جوار الحارث ولحوقه ببني تميم وطلب بني عامر له: قال أبو عبيدة: فلما منعته غطفان لحق بحاجب بن زرارة، فأجاره ووعده أن يمنعه من بني عامر. وبلغ بني عامر مكانه في بني تميم، فساروا في عليا هوازن. فلما كانوا قريبا من القوم في أول واد من أوديتهم، خرج رجل من بني غني ببعض البوادي، فإذا هو بامرأة من بني تميم ثم من بني حنظلة تجتني الكمأة، فأخذها فسألها عن الخبر، فأخبرته بمكان الحارث ابن ظالم عند حاجب بن زرارة وما وعده من نصر ومنعه. فانطلق بها الغنوي إلى رحله؛ فانسلت في وسط من الليل، فأتى الغنوي الأحوص بن جعفر، فأخبره أن المرأة قد ذهبت وقال: هي منذرة عليك. فقال له الأحوص: ومتى عهدك بها? قال: عهدي بها والمني يقطر من فرجها. قال: وأبيك إن عهدك بها لقريب. وتبع المرأة عامر بن مالك يقص أثرها حتى انتهى إلى بني زرارة والمرأة عند حاجب وهو يقول لها: أخبريني أي قوم أخذوك? قالت: أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء، ويدبرون بأعجاز النساء. قال: أولئك بنو عامر. قال: فحدثيني من في القوم? قالت: رأيتهم يغدون على شيخ كبير لا ينظر بمآقيه حتى يرفعوا له من حاجبيه. قال: ذلك الأحوص بن جعفر. قالت: ورأيت شابا شديد الخلق، كأن شعر ساعديه حلق الدرع يعذم القوم بلسانه عذم الفرس العضوض. قال: ذلك عتبة بن بشير بن خالد. قالت: ورأيت كهلا إذا أقبل معه فتيان . يشرف القوم إليه، فإذا نطق أنصتوا. قال: ذلك عمرو بن خويلد، والفتيان ابناه زرعة ويزيد. قالت: ورأيت شابا طويلا حسنا، إذا تكلم بكلمة أنصتوا لها ثم يؤلون إليه كما تؤل الشول إلى فحلها. قال: ذلك عامر ابن مالك. قال أبو عبيدة: فدعا حاجب الحارث بن ظالم فأخبره برأيه وخبر القوم وقال: يا ابن ظالم، هؤلاء بنو عامر قد أتوك، فما أنت صانع? قال الحارث: ذلك إليك، إن شئت أقمت فقاتلت القوم، وإن شئت تنحيت. قال حاجب: تنح عني غير ملوم. فغضب الحارث من ذلك وقال: شعر الحارث حين أمره حاجب بالتنحي ورد حاجب عليه:

لعمري لقد جاورت في حـي وائل                      ومن وائل جاورت في حي تغلب

فأصبحت في حي الأراقم لم يقـل                      لي القوم يا حار بن ظالم اذهـب

وقد كان ظني إذ عقلـت إلـيكـم                      بني عدس ظني بأصحاب يثـرب

غداة أتاهم تـبـع فـي جـنـوده                      فلم يسلموا المرين من حي يحصب

فإن تك في عليا هـوازن شـوكة                      تخاف ففيكم حد ناب ومـحـلـب

وإن يمنع المرء الـزراري جـاره                      فأعجب بها من حاجب ثم أعجـب فغضب حاجب فقال:

لعمر أبيك الخير يا حـار إنـنـي                      لأمنع جارا من كلـيب بـن وائل

وقد علم الحي المـعـدي أنـنـا                      على ذاك كنا في الخطوب الأوائل

وأنا إذا ما خـاف جـار ظـلامة                      لبسنا له ثـوبـي وفـاء ونـائل

وأن تميما لم تـحـارب قـبـيلة                      من الناس إلا أولعت بالكـواهـل

ولو حار بتنا عامر يا بن ظـالـم                      لعضت علينا عامر بـالأنـامـل

ولاستيقنت علـيا هـوازن أنـنـا                      سنوطئها في دارها بالقـنـابـل

ولكنني لا أبعث الحرب ظالـمـا                      ولو هجتها لم ألف شحـمة آكـل

 

صفحة : 1212

 

قال: فتنحى الحارث بن ظالم عن بني زرارة فلحق بعروض اليمامة. ودعا معبدا ولقيطا ابني زرارة فقال: سيرا في الظعن، فموعدكما رحرحان؛ فإنا مقيمون في حامية الخيل حتى تأتينا بنو عامر. وخرج عامر بن مالك إلى قومه بالخبر .فقالوا: ما ترى? قال: أن ندعهم بمكانهم ونسبقهم إلى الظعن. قال: فلقوها برحرحان، فاقتتلوا قتالا شديدا فأصابوها، وأسر معبد وجرح لقيط. فبعثوا بمعبد إلى رجل بالطائف كان يعذب الأسرى. فقطعه إربا إربا حتى قتله. وقال عامر بن مالك يرد على حاجب: شعر لعامر بن مالك يرد به على حاجب:

ألكني إلى المرء الزراري حاجب                      رئيس تميم في الخطوب الأوائل

وفارسها فـي كـل يوم كـريهة                      وخير تميم بين حاف ونـاعـل

لعمري لقد دافعت عن حي مالك                      شآبيب من حرب تلقـح حـائل

على كل جرداء السراة طمـرة                      وأجدر خوار العنان مـنـاقـل

نصحت له إن كـنـت لاحـقـا                      بقوم فلا تعـدل بـأبـنـاء وائل

ولو ألجأته عصـبة تـغـلـبـية                      لسرنا إليهم بالقنا والـقـنـابـل

ولو رمتم أن تمـنـعـوه رأيتـم                      هناك أمورا غيها غـير طـائل

لشاب وليد الحي قبل مـشـيبـه                      وعضت تميم كلها بـالأنـامـل

وقامت رجال منكم خـنـدقـية                      ينادون جهرا ليتنا لم نـقـاتـل قتل الحارث لابن النعمان: قال: فخرج الحارث بن ظالم من فوره ذلك حتى اتى سلمى بنت ظالم وفي حجرها ابن النعمان، فقال لها: إنه لن يجيرني من النعمان إلا تحرمي بابنه، فادفعيه إلي. وقد كان النعمان بعث إلى جارات للحارث بن ظالم فسباهن؛ فدعاه ذلك إلى قتل الغلام فقتله .

أخذ النعمان عم الحارث فاعتذر إليه فخلى عنه، وقال شعرا: فوثب النعمان على عم الحارث بن ظالم فقال له: لأقتلنك أو لتأتيني بابن أخيك. فاعتذر إليه فخلى عنه. فأقبل ينطلق فقال:

يا حار إني أحيا مـن مـخـبـأة                      وانت أجرأ من ذي لبدة ضـاري

قد كان بيتي فيكم بالعـلاء فـقـد                      أحللت بيتي بين السـيل والـنـار

مهما أخفك على شيء تجيء بـه                      فلم أخفك على أمثالـهـا حـار

ولم أخفك على ليث لن تخاتـلـه                      عبل الذراعين للأقران هـصـار

وقد علمت بأني لـن ينـجـينـي                      مما فعلت سوى الإقرار بالعـار

فقد عدوت على النعمان ظـالـمة                      في قتل طفل كمثل البدر ومعطار

فاعلم بأنك منه غير مـنـفـلـت                      وقد عدوت على ضرغامة شاري شعر للحارث في قتله ابن النعمان: وقال الحارث بن ظالم في ذلك:

قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتـمـا                      محارب مولاه، وثكـلان نـادم

حسبت أبا قابوس أنك سابـقـي                      ولما تذق فتكي وأنفـك راغـم

أخصي حمار بات يكدم نـحـمة                      أتؤكل جاراتي وجارك سـالـم

تمنيته جهرا علـى غـير ريبة                      أحاديث طسم، إنما أنت حـالـم

فإن تك أذوادا أصبت ونـسـوة                      فهذا ابن سلمى أمره متفـاقـم

علوت بذي الحيات مفرق رأسه                      وكان سلاحي تجتويه الجماجـم

فتكت به فتكا كفتكي بـخـالـد                      وهل يركب المكروه إلا الأكارم

بدأت بهذي ثم أثني بمـثـلـهـا                      وثالثة تبيض منها الـمـقـادم

شفيت غليل الصدر منه بضربة                      كذلك يأبى المغضبون القماقـم فقال النعمان بن المنذر: ما يعني بالثالثة غيري. قال سنان بن أبي حارثة المري وهو يومئذ رأس غطفان: أبيت اللعن والله ما ذمة الحارث لنا بذمة، ولا جاره لنا بجار، ولو أمنته ما أمناه. فبلغ ابن ظالم قول سنان بن أبي حارثة، فقال في ذلك: شعر للحارث يخاطب به النعمان:

ألا أبلغ النعمان عـنـي رسـالة                      فكيف بخطاب الحطوب الأعاظم

وأنت طويل البغي أبلخ مـعـور                      فزوع إذا ما خيف إحدى العظائم

فما غره والمـرء يدرك وتـره                      بأروع ماضي الهم من آل ظالم

أخي ثقة ماضي الجنان مـشـيع                      كميش التوالي عند صدق العزائم

 

صفحة : 1213

 

 

فأقسم لولا من تعـرض دونـه                      لعولي بهندي الحـديدة صـارم

فأقتـل أقـوامـا لـئامـا أذلة                      يعضون من غيظ أصول الأباهم

تمنى سنان ضلة أن يخيفـنـي                      ويأمن، ما هذا بفعل المسـالـم

تمنيت جهدا أن تضيع ظلامتـي                      كذبت ورب الراقصات الرواسم

يمين امرئ لم يرضع اللؤم ثديه                      ولم تتكنـفـه عـروق الألائم أخذ مصدق للنعمان إبلا لديهث فاستجارت بالحارث فردها إليها: قال: فأمنه النعمان، وأقام حينا. ثم إن مصدقا للنعمان أخذ إبلا لامرأة من بني مرة يقال لها ديهث؛ فأتت الحارث فعلقت دلوها بدلوه ومعها بني لها، فقالت: أبا ليلى إني أتيتك مضافة . فقال الحارث: إذا أورد القوم النعم فنادي بأعلى صوتك:

دعوت بالله ولم تـراعـي                      ذلك راعيك فنعم الراعي

وتلك ذود الحارث الكساع                      يمشي لها بصارم قطـاع

يشفي به مجامع الصداع وخرج الحارث في أثرها يقول:

أنا أبو ليلى وسيفي المـعـلـوب                      كم قد أجرنا من حريب محروب

وكم رددنا من سليب مسـلـوب                      وطعنة طعنتها بالمـنـصـوب

ذاك جهيز الموت عند المكروب ثم قال لها: لا تردن عليك ناقة ولا بعير تعرفينه إلا أخذتيه ففعلت؛ فاتت على لقوح لها يحلبها حبشي، فقالت: يا أبا ليلى هذه لي. فقال الحبشي: كذبت. فقال الحارث: أرسلها لا أم لك فضرط الحبشي. فقال الحارث: است الحالب أعلم، فسارت مثلا. قال أبو عبيدة: ففي ذلك يقول في الإسلام الفرزدق:

كما كان أوفى إذ ينادي ابن ديهـث                      وصرمته كالمغنم المـتـنـهـب

فقام أبو ليلى إلـيه ابـن ظـالـم                      وكان متى ما يسلل السيف يضرب

وما كان جارا غير دلو تعلـقـت                      بحبلين في مستحصد القد مكـرب خروج الحارث إلى صديق من كندة: قال أبو عبيدة حدثني أبو محمد عصام العجلي قال: فلما قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر في جوار الملك خرج هاربا حتى أتى صديقا له من كندة يحل شعبي قال: شعبي غير ممدود فلما ألح الأسود في طلب الحارث قال له الكندي: ما أرى لك نجاة إلا أن ألحقك بحضرموت ببلاد اليمن فلا يوصل إليك. فسار معه يوما وليلة ،فلما غربه قال: إنني أنقطع ببلاد اليمن فاغترب بها، وقد برئت منك خفارتي .

لجوءه إلى بني عجل بن لجيم: فرجع حتى أتى أرض بكر بن وائل، فلجأ إلى بني عجل بن لجيم، فنزل على زبان فأجاره وضرب عليه قبة. وفي ذلك يقول العجلي:

ونحن منعنا بالرماح ابن ظالم                      فظل يغني آمنا في خبائنـا قال أبو عبيدة: فجاءته بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا: أخرج هذا المشؤوم من بين أظهرنا، لا يعرنا بشر، فإنا لا طاقة بالملحاء والملحاء كتيبة الأسود فأبت عجل أن تخفره ، فقاتلوه فامتنعت بنو عجل. فقال الحارث بن ظالم في الكندي وفيهم:

يكلفني الكندي سير تـنـوفة                      أكابد فيها كل ذي صبة مثري الصبة: قطعة من الغنم أو بقية منها

وأقبل دوني جمـع ذهـل كـأنـنـي                      خلاة لذهل والزعانف من عـمـرو

ودوني ركب من لجـيم مـصـمـم                      وزبان جاري والخفير علـى بـكـر

لعمري لا أخشـى ظـلامة ظـالـم                      وسعد بن عجل مجمعون على نصري لحوقه بطيء: قال أبو عبيدة: ثم قال لهم الحارث: إني قد اشتهر أمري فيكم ومكاني، وأنا راحل عنكم. فارتحل فلحق بطيئ. فقال الحارث في ذلك:

لعمري لقد حلت بي اليوم ناقتي                      إلى ناصر من طيئ غير خاذل

فأصبحت جارا للمجرة منهـم                      على باذخ يعلو على المتطاول أخذ الأسود أموال جارات له فردها هو إليهن:

 

صفحة : 1214

 

قال أبو عبيدة وحدثني أبو حية أن الأسود حين قتل الحارث خالدا سأل عن أمر يبلغ منه. فقال له عروة بن عتبة: إن له جارات من بلي بن عمرو، ولا أراك تنال منه شيئا أغيظ له من أخذهن وأخذ أموالهن، فبعث الأسود فأخذهن واستاق أموالهن. فبلغ ذلك الحارث، فخرج من الحين فأنساب في غمار الناس حتى عرف موضع جاراته ومرعى إبلهن، فأتى الإبل فوجد حالبين يحلبان ناقة يقال لها اللفاع، وكانت لبونا كأغزر الإبل، إذا حلبت اجترت، ودمعت عيناها، وأصغت برأسها ، وتفاجت تفاج البائل، وهجمت في المخلب هجما حتى تسنمه ، وتجاوبت أحاليلها بالشخب هثا وهثيما حتى تصف بين ثلاثة محالب . فصاح الحارث بهما ورجز فقال:

إذا سمعت حنة اللـفـاع                      فادعابا ليلى ولا تراعـي

ذلك راعيك فنعم الراعـي                      يجبك رحب الباع والذراع

منطقا بصارم قـطـاع خليا عنها فعرفاه فضرط البائن. فقال الحارث: است الضارط أعلم، فذهبت مثلا قال الأثرم: البائن الحالب الأيمن، والمستعلي الحالب الأيسر ثم عمد إلى أموال جاراته وإلى جاراته فجمعهن ورد أموالهن وسار معهن حتى اشتلاهن أي أنقذهم .

رواية أخرى في قتله ابن الملك: قال أبو عبيدة ولحق الحارث ببلاد قومه مختفيا. وكانت أخته سلمى بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المري. قال أبو عبيدة: وكان الأسود بن المنذر قد تبنى سنان بن أبي حارثة المري ابنه شرحبيل، فكانت سلمى بنت كثير بن ربيعة من بني غنم بن دودان امرأة سنان ابن أبي حارثة المري ترضعه وهي أم هرم، وكان هرم غنيا يقدر على ما يعطي سائليه. فجاء الحارث، وقد كان اندس في بلاد غطفان، فاستعار سرج سنان، ولا يعلم سنان، وهم نزول بالشربة، فأتى به سلمى ابنة ظالم فقال: يقول لك بعلك: ابعثي بابن الملك مع الحارث حتى أستأمن له ويتخفر به، وهذا سرجه آية إليك. فزينته ثم دفعته إلى الحارث، فأتى بالغلام، ناحية من الشربة فقتله، ثم أنشأ يقول:

قفا فاسمعا أخبركما إذ سألتما                      محارب مولاه، وثكلان نادم ثكلان نادم: يعني الأسود لأنه قتل ابنه شرحبيل. محارب مولاه: يعني الحارث نفسه. مولاه: سنان

أخصيي حمار بات يكدم نجـمة                      أتؤكل جاراتي وجارك سالـم

حسبت أبيت اللعن أنـك فـائت                      ولما تذق ثكلا وأنفـك راغـم

فإن تك أذوادا أصبت ونـسـوة                      فهذا ابن سلمى رأسه متفاقـم

علوت بذي الحيات مفرق رأسه                      وكان سلاحي تجتويه الجماجم

فتكت به كما فتكت بـخـالـد                      ولا يركب المكروه إلا الأكارم

بدأت بتلك وانثـنـيت بـهـذه                      وثالثة تبيض منها الـمـقـادم قال: ففي ذلك يقول عقيل بن علفة في الإسلام وهو من بني يربوع بن غيظ بن مرة لما هاجى شبيب بن البرصاء، وأبوه يزيد، وهو من بني نشبة بن غيظ بن مرة ابن عم سنان بن أبي حارثة، فعيره بقتل الحارث بن ظالم شرحبيل لأنه ربيب بني حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ رهط شبيب، ففي ذلك يقول عقيل:

قتلنا شرحبيلا ربـيب لأبـيكـم                      بناصية المعلوب ضاحية غصبا

فلم تنكروا أن يغمز القوم جاركم                      بإحدى الدواهي ثم لم تطلعوا نقبا قال أبو عبيدة: وهرب الحارث، فغزا الأسود بني ذبيان إذ نقضوا العهد وبني أسد بشط أريك. قال أبو عبيدة: وسألته عنه فقال: هما أريكان الأسود والأبيض، ولا أدري بأيهما كانت الوقعة. قال أبو عبيدة وقال آخرون: إن سلمى امرأة سنان التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسد. قال: فإنما غزا الأسود بني أسد لدفع الأسدية سلمى ابنه إلى الحارث، فقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى واستاق أموالهم. وفي ذلك يقول الأعشى ميمون:

وشيوخ صرعى بشطـي أريك                      ونساء كأنهـن الـسـعـالـي

من نواصي دودان إذ نقضوا العه                      د وذبيان والهجان الـغـوالـي

رب رفد هرقـتـه ذلـك الـيو                      م وأسرى من معشـر أقـتـال

هؤلاء هـم كــلا احـــذي                      ت نعالا مـحـذوة بـمـثـال

ورأى من عصاك أصبح مخـذو                      لا وكعب الذي يطيعك عـالـي

 

صفحة : 1215

 

وجود نعل شرحبيل بن الأسود في بني محارب وتعذيب الأسود لهم: قال: ووجد نعل شرحبيل عند أضاخ. وهو من الشربة في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان. قال: فاحمي لهم الأسود الصفا التي بصحراء أضاخ وقال لهم: إني أحذيكم نعالا، فأمشاهم على الصفا المحمى فتساقط لحم أقدامهم. فلما كان الإسلام قتل جوشن الكندي رجلا من بني محارب فأقيد به جوشن بالمدينة. وكان الكندي من رهط عباس بن يزيد الكندي فهجا بني محارب فعيرهم بتحريق الأسود أقدامهم فقال:

على عهد كسرى نعلتكم ملوكنا                      صفا من أضاخ حاميا يتلهب قال أبو عبيدة: وصار ذلك مثلا يتوعد به الشعراء من هجوه ويحذرونهم مثل ذلك. ومن ذلك أن ابن عتاب الكلبي ورد على بني النوس من جديلة طيئ، فسرقوا سهاما له؛ فقال يحذرهم:

بني النوس ردوا أسهمي إن أسهمي                      كنعل شرحبيل التي في محـارب وقال في الجاهلية ابن أم كهف الطائي في مدحه لمالك بن حمار الشمخي، فذكر نعل شرحبيل فقال:

ومولاك الذي قتل ابن سلمى                      علانية شرحبيل ابن نعـل لأنه لولا النعل لم يعرف، وإنما عرف بما صنع أبو ببني محارب من أجل نعله التي وجدت في بني محارب .

أخذ الأسود لسنان بن أبي حارثة الذي قتل ابنه عنده واعتذار الحارث بن سفيان عنه: قال أبو عبيدة: وأخذ الأسود سنان بن أبي حارثة؛ فأتاه الحارث بن سفيان أحد بني الصارد ، وهو الحارث بن سفيان بن مرة بن عوف بن الحارث بن سفيان أخو سيار بن عمرو بن جابر الفزاري لأمه، فاعتذر إلى الأسود أن يكون سنان بن أبي حارثة أو اطلع، ولقد كان أطرد الحارث من بلاد غطفان، وقال: علي دية ابنك ألف بعير دية الملوك، فحملها إياه وخلى عن سنان، فأدى إلى الأسود منها ثمانمائة بعير ثم مات. فقال سيار بن عمرو أخوه لأمه: أنا أقوم فيما بقي مقام الحارث بن سفيان. فلم يرض به الأسود. فرهنه سيار قوسه، فأدى البقية. فلما مدح قراد بن حنش الصاردي بني فزارة جعل الحمالة كلها لسيار بن عمرو فقال:

ونحن رهنا القوس تمت فـوديت                      بألف على ظهر الفزاري أقرعا

بعشر مئين للملوك سعى بـهـا                      ليوفي سيار بن عمرو فأسرعـا

رمينا صفاه بالمئين فأصبـحـت                      ثناياه للساعين في المجد مهيعـا قال ويقال: بل قالها ربيع بن قعنب، فرد عليه قراد فقال:

ما كان ثعلب ذي عاج ليحملها                      ولا الفزاري جوفان بن جوفان

ولكن تضمنها ألفا فأخرجـهـا                      على تكاليفها حار بن سفـيان وقال عويف القوافي بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في الإسلام يفخر على أبي منظور الوبري حين هاجاه أحد بني وبر بن كلاب:

فهل وجدتم حاملا كحاملـي                      إذ رهن القوس بألف كامل

بدية ابن الملك الحـلاحـل                      فافتكها من قبل عام قابـل

سيار الموفي بها ذو السائل لحوق الحارث ببني دارم: قال أبو عبيدة: فلما قتل الحارث شرحبيل لحق ببني دارم فلجأ إلى بني ضمرة. قال: وبنو عبد الله بن دارم يقولون: بل جاور معبد بن زرارة فأجاره، فجر جواره يوم رحرحان، وجر يوم رحران يوم جبلة. وطلبه الأسود بن المنذر بخفرته .

فلما بلغه نزوله ببني دارم أرسل فيه إليهم أن يسلموه فأبوا. فقال يمن على بني قطن بن نهشل بن دارم بما كان النعمان بن المنذر في أمر بني رشية وهي رميلة حين طلبهم من لقيط ابن زرارة حتى استنقذهم. ورشية أمة كانت لزرارة بن عدس بن زيد المجاشعي، فوطئها رجل من بني نهشل فأولدها؛ وكان زرارة يأتي بني نهشل يطلب الغلمة التي ولدت، وولدت الأشهب بن رميلة والرباب بن رميلة وغيرهما، وكانوا يسمعونه ما يكره، فيرجع إلى ولده فيقول: أسمعني بنو عمي خيرا وقالوا: سنبعث بهم إليك عاجلا، حتى مات زرارة. فقام لقيط ابنه بأمرهم؛ فلما أتاهم أسمعوه ما كره، ووقع بينهم شر. فذهب النهشلي إلى الملك فقال: أبيت اللعن لا تصلني وتصل قومي بأفضل من طلبتك إلى لقيط الغلمة ليكف عني. فدعاه فشرب معه، ثم استوهبهم منه فوهبهم له. فقال الأسود بن المنذر في ذلك:

كأين لنا من نعمة في رقابكم                      بني قطن فضلا عليكم وأنعما

 

صفحة : 1216

 

 

وكم منة كانت لنا في بيوتـكـم                      وقتل كريم لم تعدوه مغـرمـا

فإنكم لا تمنعـون ابـن ظـالـم                      ولم يمس بالأيدي الوشيج المقوما فأجابه ضمرة بن ضمرة فقال:

سنمنع جارا عائذا في بيوتـكـم                      بأسيافنا حتى يؤوب مسـلـمـا

إذا ما دعونا دارما ما حال دونه                      عوابس يعلكن الشكيم المعجمـا

ولو كنت حربا ما وردت طويلعا                      ولا حوفه إلا خميسا عرمرمـا

تركت بني ماء السماء وفعلهـم                      وأشبهت تيسا بالحجاز مزنمـا

ولن أذكر النعمان إلا بصـالـح                      فإن له فضلا علينا وأنـعـمـا قال: وبلغ ذلك بني عامر، فخرج الأحوص عازيا لبني دارم طالبا بدم أخيه خالد بن جعفر حين انطووا على الحارث وقاموا دونه، فغزاهم فالتقوا برحرحان، فهزمت بنو دارم، وأسر معبد بن زرارة، فانطلقوا به حتى مات في أيديهم، وحديثه في يوم رحرحان يأتي بعد .

أسر بني قيس وبني هزان للحارث وحديثه معهم: ثم أسر بنو هزان الحارث بن ظالم. وقال أبو عبيدة: خرج الحارث من عندهم، فجعل يطوف في البلاد حتى سقط في ناحية من بلاد ربيعة، ووضع سلاحه وهو في فلاة ليس فيها أثر ونام، فمر به نفر من بني قيس بن ثعلبة ومعهم قوم من بني هزان من عنزة وهو نائم، فأخذوا فرسه وسلاحه ثم أوثقوه، فانتبه وقد شدوه فلا يملك من نفسه شيئا. فسألوه من انت? فلم يخبرهم وطوى عنهم الخبر، فضربوه ليقتلوه على تأن يخبرهم من هو فلم يفعل. فاشتراه القيسيون من الهزانيين بزق خمر وشاة ويقال: اشتراه رجل من بني سعد بإغلاق بكرة وعشرين من الشاء ثم انطلقوا به إلى بلادهم. فقالوا له: من أنت? وما حالك? فلم يخبرهم. فضربوه ليموت فأبى. قال: وهو قريب من اليمامة. قال: فبينما هم على تلك الحال وهم يريغونه ضربا مرة وتهددا أخرى ولينا مرة ليخبرهم بحاله وهو يأبى، حتى ملوه، فتركوه في قيد حتى انفلت ليلا، فتوجه نحو اليمامة وهي قريب منه، فلقي غلمة يلعبون، فنظر إلى غلام منهم أخلقهم للخير عنده فقال: من أنت? قال: أنا بجير بن أبجر العجلي، وله ذؤابة يومئذ وأمه امرأة قتادة بن مسلمة الحنفي. فأتاه وأخذ بحقويه والتزمه وقال: أنا لك جار. فيقال: إن عجلا أجارته في هذا اليوم لا في اليوم الأول الذي ذكرناه في أول الحديث. فأتى الغلام أباه فأخبره وأجاره وقال: ائت عمك قتادة بن مسلمة الحنفي فأخبره؛ فأتى قتادة فأخبره فأجاره .

قال أبو عبيدة: وأما فراس فزعم أنه أفلت من بني قيس فأقبل شدا حتى أتى اليمامة، واتبعوه حتى انتهى إلى نادي بني حنيفة وفيه قتادة بن مسلمة. فلما رأوه يهوي نحوهم قال: إن هذا لخائف، وبصر بالقوم خلفه فصاح به: الحصن الحصن فأقبل حتى ولج الحصن. وجاءت بنو قيس، فحال دونه وقال: لو أخذتموه قبل دخوله الحصن لأسلمته إليكم، فأما إذ تحرم بي فلا سبيل إليه. قال فقالوا: أسيرنا اشتريناه بأموالنا، وما هو لك بجار ولا تعرفه، وإنما أتاك هاربا من أيدينا، ونحن قومك وجيرانك. قال: أما أن أسلمه أبدا فلا يكون ذلك، ولكن اختاروا مني: إن شئتم فانظروا ما اشتريتموه به فخذوه مني، وإن شئتم أعطيته سلاحا كاملا وحملته على فرس ودعوه حتى يقطع الوادي بينكم وبينه ثم دونكموه. فقالوا: رضينا. فقال ذلك للحارث فقال نعم. فألبسه سلاحا كاملا وحمله على فرسه وقال له: إن أفلتهم فرد إلي الفرس والسلاح لك. قال: فخرج، وتركوه حتى جاز الوادي، ثم اتبعوه ليأخذوه، فلم يزل يقاتلهم ويطاردهم حتى ورد بلاد بني قشير، وهو قريب من اليمامة أيضا بينهما أقل من يوم. فلما صار إلى بلاد بني قشير يئسوا منه فرجعوا عنه. وعرفه بنو قشير فانطووا عليه وأكرموه. ورد إلى قتادة بن مسلمة فرسه وأرسل إليه بمائة من الإبل، لا أدري أأعطاه إياها بنو قشير من أموالهم ليكافئ بها قتادة أم كانت له، لم يفسر أبو عبيدة أمرها ولا سألته عنها. فقال الحارث بن ظالم في ابني حلاكة وهما من الذين باعوه من القيسيين وفيما كان من أمره قال أبو عبيدة: ويقال أسره راعيان من بني هزان يقال لهما ابنا حلاكة:

أبلغ لديك بني قيس مغلغلة                      أني أقسم في هزان أرباعا

 

صفحة : 1217

 

 

ابنا حلاكة باعاني بـلا ثـمـن                      وباع ذو آل هزان بما بـاعـا

يا بني حلاكة لما تأخذا ثمـنـي                      حتى أقسم أفراسـا وأدراعـا

قتادة الخير نالتـنـي حـذيتـه                      وكان قدما إلى الخيرات طلاعا وقال في ذلك أيضا:

همت عكابة أن تضيم لجيمـا                      فأبت لجيم ما تقول عـكـابة

فأسقي بجيرا من رحيق مدامة                      وأسقي الخفير وطهري أثوابه

جاءت حنيفة قبل جيئة يشكـر                      كلا وجدنـا أوفـياء ذؤابـه مروره برجل من بني أسد: وزعم أبو عبيدة أن الحارث لما هزمت بنو تميم يوم رحرحان مر برجل من بني أسد بن خزيمة؛ فقال: يا حار إنك مشؤوم وقد فعلت ما فعلت، فانظر إذا كنت بمكان كذا وكذا من برقة رحرحان فإن لي به جملا أحمر فلا تعرض له. وإنما يعرض له ويكره أن يصرح فيبلغ الأسود فيأخذه. فلما كان الحارث بذلك المكان أخذ الجمل فنجا عليه، وإذا هو لا يساير من أمامه ولا يسبق من ورائه. فبلغ ذلك الأسود، فأخذ الأسود الأسدي وناسا من قومه. وبلغ ذلك الحارث بن ظالم فقال كأنه يهجوهم لئلا يتهمهم الأسود:

أراني الله بالنعم المـنـدى                      ببرقة رحرحان وقد أراني

لحي الأنكدين وحي عبـس                      وحي نعامة وبني غـدان لحوقه بمكة وانتماؤه إلى قريش: قال: فلما بلغ قوله الأسود خلى عنهم. ولحق الحارث بمكة وانتمى إلى قريش؛ وذلك قوله:

وما قومي بثعلبة بن سعـد                      ولا بفزارة الشعر الرقابـا

وقومي إن سألت بنو لـؤي                      بمكة علموا مضر الضرابا قال: فزوده وحمله رواحة الجمحي على ناقة؛ فذلك قوله:

وهش رواحة الجمحي رحلي                      بناجية ولم يطلـب ثـوابـا

كأن الرحل والأنساع منـهـا                      وميثرتي كسين أقب جـابـا لحوقه بالشام عند ملك من غسان ومقتله: يروى: حش، و هش، وهما لغتان. وحش سوى قال: فلحق الحارث بالشام بملك من ملوك غسان يقال هو النعمان، ويقال بل هو يزيد بن عمرو الغساني فأجاره. وكانت للملك ناقة محماة في عنقها مدية وزناد وصرة ملح، وإنما يختبر بذلك رعيته هل يجترئ عليه أحد منهم. ومع الحارث امرأتان، فوحمت إحدى امرأتيه قال أبو عبيدة: وأصابت الناس سنة شديدة فطلبت الشحم إليه. قال: ويحك وأنى لي بالشحم والوداء فألحت عليه، فعمد إلى الناقة فأدخلها بطن واد فلب في سبلتها أي طعن . فأكلت امرأته ورفعت ما بقي من الشحم في عكتها. قال: وفقدت الناقة فوجدت نحيرا لم يؤخذ منها إلا السنام، فأعلموا ذلك الملك، وخفي عليهم من فعله. فأرسل إلى الخمس التغلبي وكان كاهنا فقال: من نحر الناقة? فذكر أن الحارث نحرها. فتذمم الملك وكذب عنه. فقال: إن أردت أن تعلم علم ذلك فدس امرأة تطلب إلى امرأته شحما، ففعل. فدخل الحارث وقد أخرجت امرأته إليها شحما، فعرف الداء فقتلها ودفنها في بيته. فلما فقدت المرأة قال الخمس: غالها ما غال الناقة، فإن كره الملك أن يفتشه عن ذلك فليأمر بالرحيل، فإذا ارتحل بحث بيته، ففعل. واستثار الخمس مكان بيته؛ فوثب عليه الحارث فقتله؛ فأخذ الحارث فحبس. فاستسقى ماء فأتاه رجل بماء فقال: أتشرب? فأنشأ الحارث يقول:

لقد قال لي عند المجاهد صاحـبـي                      وقد حيل دون العيش هل أنت شارب

وددت باطراف البنـان لـو أنـنـي                      بدى أروني ترمي ورائي الثعالـب الثعالب: من مرة وهم رماة. أرونى: مكان. وقال مرة أخرى: الثعالب بنو ثعلبة. يقول: كانوا يرمون عني ويقومون بأمري قال: فأمر الملك بقتله. فقال: إنك قد أجرتني فلا تغدرني . فقال: لا ضير إن غدرت بك مرة فقد غدرت بي مرارا. فأمر مالك بن الخمس التغلبي أن يقتله بأبيه. فقال: يا بن شر الأظماء أنت تقتلني فقتله. وقال ابن الكلبي: لما قام ابن الخمس إلى الحارث ليقتله قال: من أنت? قال: ابن الخمس. قال: أنت ابن شر الأسماء؛ فقتله فقال رجل من ضري وهم حي من جرهم يرثي الحارث بن ظالم:

يا حـار حـنـيا                      حرا قطـامـيا

ما كنت تـرعـيا                      في البيت ضجعيا

أدعى لـبـاخـيا                      ممـلأ عـــيا

 

صفحة : 1218

 

وأخذ ابن الخمس سيف الحارث بن ظالم المعلوب، فأتى به سوق عكاظ في الحرم، فجعل يعرضه على البيع ويقول: هذا سيف الحارث بن ظالم. فاسترآه إياه قيس بن زهير بن جذيمة فأراه إياه، فعلاه به حتى قتله في الحرم. فقال قيس بن زهير يرثي الحارث بن ظالم:

ما قصرت من حاضن ستر بيتها                      أبر وأوفى منك حار بن ظالـم

أعز وأحمى عنـد جـار وذمة                      وأضرب في كاب من النقع قاتم هذه رواية أبي عبيدة والبصريين. وأما الكوفيين فإنهم يذكرون أن النعمان بن المنذر هو الذي قتله. أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: لما هرب الحارث إلى مكة أسف النعمان بن المنذر على فوته إياه، فلطف له وراسله وأعطاه الأمان، وأشهد على نفسه وجوه العرب من ربيعة ومضر واليمن أنه لا يطلبه بذحل ولا يسوءه في حال، وأرسل به مع جماعة ليسكن الحارث إليهم، وأمرهم أن يتكلفوا له بالوفاء ويضمنوا له عنه أنه لا يهجيه، ففعلوا ذلك. وسكن إليه الحارث، فأتى النعمان وهو في قصر بني مقاتل، فقال للحاجب: استأذن لي، والناس يومئذ عند النعمان متوافرون، فاستأذن له، فقال النعمان: ائذن له وخذ سيفه. فقال له: ضع سيفك وادخل. فقال الحارث: ولم أضعه? قال: ضعه، فلا بأس عليك. فلما ألح عليه وضعه ودخل ومعه الأمان. فلما دخل قال: أنعم صباحا أبيت اللعن. قال: لا أنعم الله صباحك . فقال الحارث: هذا كتابك . قال النعمان: كتابي والله ما أنكره، أنا كتبته لك، وقد غدرت وفتكت مرارا، فلا ضير أن غدرت بك مرة. ثم نادى: من يقتل هذا? فقام ابن الخمس التغلبي وكان الحارث فتك بأبيه فقال: أنا أقتله. وذكر باقي الخبر في قصته مع ابن الخمس مثل ما ذكر أبو عبيدة .

 

خبر الحارث وعمرو بن الإطنابة

وإنما ذكر هنا لاتصاله بمقتل خالد بن جعفر، ولأن فيما تناقضاه من الأشعار أغاني صالح ذكرها في هذا الموضع .

غضب عمرو بن الإطنابة على الحارث لقتله خالدا وشعره في ذلك: قال أبو عبيدة: كان عمرو بن الإطنابة الخزرجي ملك الحجاز، ولما بلغه قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر، وكان خالدا مصافيا له، غضب لذلك غضبا شديدا، وقال: والله لو لقي الحارث خالدا وهو يقظان لما نظر إليه، ولكنه قتله نائما ولو أتاني لعرف قدره؛ ثم دعا بشرابه ووضع التاج على رأسه ودعا بقيانه، فتغنين له:

عللاني وعـلـلا صـاحـبـيا                      وأسقياني من الـمـروق ريا

إن فينا القيان يعزفن بـالـدف                      لفتـيانـنـا وعـيشـا رخـيا

يتبارين في النعـيم ويصـبـب                      ن خلال القرون مسكـا ذكـيا

إنما همـهـن أن يتـحـلـي                      ن سموطا وسنبـلا فـارسـيا

من سموط المرجان فضل بالشذ                      ر فأحسن بجلـيهـن حـلـيا

وفتى يضرب الكتيبة بالـسـي                      ف إذا كانت السيوف عصـيا

إننا لا نسر فـي غـير نـجـد                      إن فينا بها فتـى خـزرجـيا

يدفع الضيم والظلامة عنـهـا                      فتجافي عنه لـنـا يا مـنـيا

أبلغ الحارث بن ظالـم الـرع                      ديد والناذر الـنـذور عـلـيا

أنمـا يقـتـل الـنـيام ولا يق                      تل يقظان ذا سـلاح كـمـيا

ومعي شكتي معابل كـالـجـم                      ر وأعددت صارما مشـرفـيا

لو هبطت البلاد أنسيتك القـت                      ل كما ينسئ النسيء النـسـيا مسير الحارث إلى عمرو وانخذال عمرو عنه وشعر الحارث في ذلك:

 

صفحة : 1219

 

قال: فلما بلغ الحارث شعره هذا ازداد حنقا وغيظا، فسار حتى أتى ديار بني الخزرج، ثم دنا من قبة عمرو بن الإطنابة، ثم نادى أيها الملك أغثني فإني جار مكثور وخذ سلاحك، فأجابه وخرج معه. حتى برز له عطف عليه الحارث وقال: أنا أبو ليلى فاعتركا مليا من الليل. وخشي عمرو أن يقتله الحارث فقال له: يا حار، إني شيخ كبير وإني تعتريني سنة، فهل لك في تأخير هذا الأمر إلى غد? فقال: هيهات ومن لي به في غد فتجاولا ساعة، ثم ألقى عمرو الرمح من يده وقال: يا حار ألم أخبرك أن النعاس قد يغلبني قد سقط رمحي فاكفف، فكف. قال: أنظرني إلى غد. قال: لا أفعل. قال: فدعني آخذ رمحي. قال: خذه قال: أخشى أن تعجلني عنه أو تفتك بي إذا أردت أخذه. قال: وذمة ظالم لا أعجلتك ولا قاتلتك ولا فتكت بك حتى تأخذه. قال: وذمة الإطنابة لا آخذه ولا أقاتلك. فانصرف الحارث إلا قومه وقال مجيبا له:

اعزفا لي بـلـذة قـينـتـيا                      قبل أن يبكر المنون عـلـيا

قبل أن يبكر العـواذل إنـي                      كنت قدما لأمرهن عصـيا

ما أبالي أراشد فاصبحـانـي                      حسبتني عواذلـي أم غـويا

بعد ألا أصـر لـلـه إثـمـا                      في حياتي ولا أخون صفـيا

من سلاف كأنها دم ظـبـي                      في زجاج تخالـه رازقـيا

قد بلغتنا مقالة المرء عمـرو                      فأنفـنـا وكـان ذاك بـديا

قد هممنا بقتلـه إذ بـرزنـا                      ولقينـاه ذا سـلاح كـمـيا

غير ما نائم تعلل بـالـحـل                      م معدا بكفـه مـشـرفـيا

فمننا علـيه بـعـد عـلـو                      بوفاء وكنت قـدمـا وفـيا

ورجعنا بالصفح عنه وكان ال                      من منا عليه بـعـد تـلـيا نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني: منها في شعر عمرو بن الإطنابة: صوت: الغناء في شعر عمرو والحارث:

علـلانـي وعـلـلا صـــاحـــبـــيا                      واسـقـيانـي مـن الـــمـــروق ريا

إن فينا القيان يعزفن بالدف لفتياننا وعيشا رخيا غنته عزة الميلاء من رواية حماد عن أبيه خفيف رمل بالوسطى. قال حماد أخبرني أبي قال بلغني أن معبدا قال: دخلت على جميلة وعندها عزة الميلاء تغنيها في شعر عمرو بن الإطنابة الخزرجي:

عللاني وعللا صاحبيا على معزفة لها وقد أسنت، فما سمعت قط مثلها وذهبت بعقلي وفتنتني، فقلت: هذا وهي كبيرة مسنة فكيف لو أدركتها وهي شابة وجعلت أعجب منها.

ومنها في شعر الحارث بن ظالم: صوت:

ما أبالي إذا اصطحبت ثلاثا                      أرشيدا حسبتيني أم غـويا

من سلاف كأنها دم ظبـي                      في زجاج تخاله رازقـيا غناه فليح بن أبي العوراء رملا بالبنصر عن عمرو بن بانة. وغناه ابن محرز خفيف ثقيل أول بالخنصر من رواية حبش .

ومنها: صوت:

بلغتنا مقالة المرء عمرو                      فأنفنا وكـان ذاك بـديا

قد هممنا بقتله إذ برزنا                      ولقيناه ذا سلاح كمـيا غناه مالك خفيف رمل بالبنصر من رواية حبش، وذكر إسحاق في مجرده أن الغناء في هذين البيتين ليونس الكاتب، ولم ينسب الطريقة ولا جنسها .

ونذكر ها هنا خبر رحرحان ويوم قتله إذ كان مقتل الحارث وخبره خبرهما: يوم رحرحان الثاني والسبب فيه: أخبرني علي بن سليمان ومحمد بن العباس اليزيدي في كتاب النقائض قالا قال أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال: كان من خبر رحرحان الثاني أن الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب غدرا عند النعمان بن المنذر بالحيرة هرب فأتى زرارة بن عدس فكان عنده، وكان قوم الحارث قد تشاءموا به فلاموه، وكره أن يكون لقومه زعم عليه و الزعم المنة فلم يزل في بني تميم عند زرارة حتى لحق بقريش. وكان يقال : إن مرة بن عوف من لؤي بن غالب، وهو قول الحارث بن ظالم ينتمي إلى قريش:

رفعت السيف إذ قالوا قريش                      وبينت الشمائل والقـبـابـا

فما قومي بثعلبة بن سـعـد                      ولا بفزارة الشعر الرقابـا

 

صفحة : 1220

 

وأتاهم لذلك النسب، فكان عند عبد الله بن جدعان. فخرجت بنو عامر إلى الحارث بن ظالم حيث لجأ إلى زرارة وعليهم الأحوص بن جعفر، فأصابوا امرأة من بني تميم وجدوها تحتطب، وكان في رأس الخيل التي خرجت في طلب الحارث بن ظالم شريج بن الأحوص، وأصابوا غلمانا يجتنون الكمأة. وكان الذي أصاب تلك المرأة رجلا من غني، فأرادت بنو عامر أخذها منه، فقال الأحوص: لا تأخذوا أخيذة خالي. وكانت أم جعفر يعني أبا الأحوص خبية بنت رياح الغنوي وهي إحدى المنجبات. ويقال: أتى شريج بن الأحوص بتلك المرأة إليه ، فسألها عن بني تميم، فأخبرتهم أنهم لحقوا بقومهم حين بلغهم مجيئكم ففعها الأحوص إلى الغنوي فقال: اعفجها الليلةواحذر أن تنفلت. فوطئها الغنوي ثم نام، فذهبت على وجهها. فلما أصبح دعوا بها فوجدوها قد ذهبت. فسألوه عنها فقال هذا حري رطبا من زبها. وكانت المرأة يقال لها حنظلة ، وهي بنت أخي زرارة بن عدس. فأتت قومها، فسألها عمها زرارة عما رأت، فلم تستطع أن تنطق. فقال بعضهم: اسقوها ماء حارا فإن قلبها قد برد من الفرق، ففعلوا وتركوها حتى اطمأنت. فقالت: يا عم أخذني القوم أمس وهم فيما أرى يريدونكم، فاحذر أنت وقومك. فقال: لا بأس عليك يا بنت أخي، فلا تذعري قومك ولا تروعيهم، وأخبريني ما هيئة القوم وما نعتهم. قالت: أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء، ويدبرون بأعجاز النساء. قال زرارة: أولئك بنو عامر، فمن رأيت فيهم? قالت: رأيت رجلا قد سقط حاجباه على عينيه فهو يرفع حاجبيه، صغير العينين، عن أمره يصدرون. قال: ذاك الأحوص بن جعفر. قلت: ورأيت رجلا قليل المنطق، إذا تكلم اجتمع القوم لمنطقه كما تجتمع الإبل لفحلها، وهو من أحسن الناس وجها، ومعه ابنان له لا يدبر أبدا إلا وهما يتبعانه، ولا يقبل إلا وهما بين يديه. قال: ذلك مالك بن جعفر، وابناه عامر وطفيل. قالت: ورأيت رجلا أبيض هلقامة جسيما والهلقامة الأفوه وقال: ذلك ربيعة ابن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب. قالت: ورأيت رجلا أسود أخنس قصيرا، إذا تكلم عذم القوم عذم المنخوس. قال: ذلك رببيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب . قالت: ورأيت رجلا صغير العينين، أقرن الحاجبين، كثير شعر السبلة، يسيل لعابه على لحيته إذا تكلم. قال: ذلك حندج بن البكاء. قالت: ورأيت رجلا صغير العينين، ضيق الجبهة طويلا يقود فرسا له، معه جفير لا يجاوز يده. قال: ذلك ربيعة بن عقيل. قالت: ورأيت رجلا آدم، معه ابنان له حسنا الوجه أصهبان، إذا أقبلا نظر القوم إليهما حتى ينتهيا، وإذا أدبرا نظروا إليهما . قال: ذلك عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب ، وابناه يزيد وزرعة. ويقال قالت: ورأيت فيهم رجلين أحمرين جسيمين ذوي غدائر لا يفترقان في ممشى ولا مجلس، فإذا أدبرا اتبعهما القوم بأبصارهم، وإذا أقبلا لم يزالوا ينظرون إليهما حتى يجلسا. قال: ذانك خويلد وخالد ابنا نفيل. قالت: ورأيت رجلا آدم جسيما كأن رأسه مجز غضورة والغضورة: حشيش دقاق خشن قائم يكون بمكة. تريد أن شعره قائم خشن كأنه حشيش قد جز . قال: ذلك عوف بن الأحوص. قالت: ورأيت رجلا كأن شعر فخذيه حلق الدروع. قال: ذلك شريح بن الأحوص. قالت: ورأيت رجلا أسمر طويلا يجول في القوم كأنه غريب. قال: ذلك عبد الله بن جعدة، ويقال قالت: ورأيت رجلا كثير شعر الرأس، صخابا لا يدع طائفة من القوم إلا أصخبها . قال: ذلك عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة .

أسر معبد بن زرارة ومقتله:

 

صفحة : 1221

 

فسارت بنو عامر نحوهم، والتقوا برحرحان، وأسر يومئذ معبد بن زرارة، أسره عامر بن مالك، واشترك في أسره طفيل بن مالك ورجل من غني يقال له أبو عميلة وهو عصمة بن وهب وكان أخا طفيل بن مالك من الرضاعة. وكان معبد بن زرارة رجلا كثير المال. فوفد لقيط بن زرارة على عامر بن مالك في الشهر الحرام وهو رجب، وكانت مضر تدعوه الأصم؛ لأنهم كانوا لا يتنادون فيه يا لفلان ويا لفلان، ولا يتغازون ولا يتنادون فيه بالشعارات ، وهو أيضا منصل الأل. والأل: الأسنة؛ وكانوا إذا دخل رجب أنصلوا ، الأسنة من الرماح حتى يخرج الشهر. وسأل لقيط عامرا أن يطلق أخاه. فقال: أما حصتي فقد وهبتها لك، ولكن أرض أخي وحليفي اللذين اشتركا فيه. فجعل لقيط لكل واحد مائة من الإبل، فرضيا وأتيا عامرأ فأخبراه. فقال عامر للقيط: دونك أخاك، فأطلق عنه. فلما أطلق فكر لقيط في نفسه فقال: أعطيهم مائتي بعير ثم تكون لهم النعمة علي بعد ذلك لا والله لا أفعل ذلك ورجع إلى عامر فقال: إن أبي زرارة نهاني أن أزيد على مائة دية مضر، فإن أنتم رضيتم أعطيتكم مائة من الإبل. فقالوا: لا حاجة لنا في ذلك؛ فانصرف لقيط. فقال له معبد: مالي يخرجني من أيديهم. فأبى ذلك عليه فقال: إذا يقتسم العرب بني زرارة. فقال معبد لعامر بن مالك: يا عامر أنشدك الله لما خليت سبيلي، فإنما يريد ابن الحمراء أن يأكل كل مالي ولم تكن أمه أم لقيط . فقال له عامر: أبعدك الله إن لم يشفق عليك أخوك فأنا أحق ألا أشفق عليك. فعمدوا إلى معبد فشدوا عليه القد وبعثوا به إلى الطائف، فلم يزل به حتى مات. فذلك قول شريح بن الأحوص:

لقيط وأنت امرؤ مـاجـد                      ولكن حلمك لا يهـتـدي

ولما أمنت وساغ الـشـرا                      ب واحتل بيتك في ثهمـد

رفعت برجليك فوق الفرا                      ش تهدي القصائد في معبد

وأسلمته عند جد القـتـال                      وتبخل بالمال أن تفـتـدي شعر لعوف بن عطية يعير لقيطا: وقال في ذلك عوف بن عطية بن الخرع التيمي يعير لقيط بن زرارة:

هلا فوارس رحرحان هجوتهم                      عشرا تناوح في سـرارة واد

لا تأكل الإبل الغراث نبـاتـه                      ما إن يقوم عماده بـعـمـاد

هلا كررت على أخيك معبـد                      والعامري يقوده بـصـفـاد

وذكرت من لبن المحلق شربة                      والخيل تعدو بالصفـاح بـداد بداد : متفرقة. والصفاح: موضع. والمحلق: موسومة بحلق على وجوهها، يقول ذكرت لبنها، يعني إبله

لو كنت إذ لا تستطيع فديتـه                      بهجان أدم طـارف وتـلاد

لكن تركته في عميق قعرها                      جزرا لخامعة وطير عـواد

لو كنت مستحيا لعرضك مرة                      قاتلت أو لفـديت بـالأذواد وفيها يقول نابغة بني جعدة:

هلا سألت بيومي رحرحان وقد                      ظنت هوازن أن العز قد زالا مما قاله الشعراء في وقعة رحرحان: وفيها يقول مقدام أخو بني عدس بن زيد في الإسلام، وقتلت بنو طهية ابنا للقعقاع بن معبد، فتوادوا فأخذت بنو طهية منهم الفضل:

وأنتم بنو ماء السماء زعمتـم                      ومات أبوكم يا بني معبد هزلا وقال المخبل السعدي يذكر معبدا:

فإت تك نالتنا كليب بقـرة                      فيومك فيهم بالمصيفة أبرد

هم قتلوا يوم المصيفة مالكا                      وشاط بأيديهم لقيط ومعبد وفيها يقول عياض بن مرثد بن أسيد بن قريط بن لبيد في الإسلام:

نحن أسرنا معبـدا يوم مـعـبـد                      فما افتك حتى مات من شدة الأسر

ونحن قتلنابالصفا بعـد مـعـبـد                      أخاه بأطراف الردينية السـمـر وهذا يوم شعب جبلة: السبب في يوم جبلة:

 

صفحة : 1222

 

قال أبو عبيدة: وأما يوم جبلة، وكان من عظام أيام العرب؛ وكان عظام أيام العرب ثلاثة : يوم كلاب ربيعة، ويوم جبلة، ويوم ذي قار. وكان الذي هاج ويوم جبلة أن بني عبس بن بغيض حين خرجوا هاربين من بني ذبيان بن بغيض وحاربوا قومهم خرجوا متلددين . فقال الربيع بن زياد العبسي: أما والله لأرمين العرب بحجرها، اقصدوا لبني عامر؛ فخرج حتى نزل مضيقا من وادي بني عامر ثم قال: امكثوا. فخرج ربيع وعامر ابنا زياد والحارث بن خليف حتى نزلوا على ربيعة بن شكل بن كعب بن الحريش ، وكان العقد من بني عامر إلى بني كعب بن ربيعة وكانت الرياسة في بني كلاب بن ربيعة . فقال ربيعة بن شكل: يا بني عبس، شأنكم جليل، وذحلكم الذي يطلب منكم عظيم، وأنا أعلم والله أن هذه الحرب أعز حرب حاربتها العرب قط. ولا والله ما بد من بني كلاب، فأمهلوني حتى أستطلع طلع قومي. فخرج في قوم من بني كعب حتى جاؤوا بني كلاب، فلقيهم عوف بن الأحوص فقال: يا قوم، أطيعوني في هذا الطرف من غطفان، فاقتلوهم ، واغنموهم لا تفلح غطفان بعده أبدا. والله إن تزيدون على أن تسمنوهم وتمنعوهم ثم يصيروا لقومكم أعداء. فأبوا عليه، وانقلبوا حتى نزلوا على الأحوص بن جعفر فذكروا له من أمرهم . فقال لربيعة بن شكل: أظللتهم ظلك وأطعمتهم طعامك? قال نعم، قال: قد والله أجرت القوم فأنزلوا القوم وسطهم بحبوحة دارهم .

وذكر بشر بن عبد الله بن حيان الكلابي أن عبسا لما حاربت قومها أتوا بني عامر وأرادوا عبد الله بن جعدة وابن الحريش ليصيروا حلفاءهم دون كلاب؛ فأتى قيس بن زهير وأقبل نحو بني جعفر هو والربيع بن زياد حتى انتهيا إلى الأحوص جالسا قدام بيته . فقال قيس للربيع: إنه لا حلف ولا ثقة دون أن أنتهي إلى هذا الشيخ. فتقدم إليه قيس فأخذ بمجامع ثوبه من وراء فقال: هذا مقام العائذ بك قتلتم أبي فما أخذت له عقلا ولا قتلت به أحدا، وقد أتيتك لتجيرنا. نعم أنا لك جار مما أجير منه نفسي، وعوف بن الأحوص عن ذلك غائب. فلما سمع عوف بذلك أتى الأحوص وعنده بنو جعفر فقال: يا معشر بني جعفر، أطيعوني اليوم واعصوني أبدا، وإن كنت والله فيكم معصيا. إنهم والله لو لقوا بني ذبيان لولوكم أطراف الأسنة إذا نكهوا في أفواههم بكلام فابدأوا بهم فاقتلوهم واجعلوهم مثل البرغوث دماغه في دمه. فأبوا عليه وحالفوهم. فقال: والله لا أدخل في هذا الحلف قال: وسمعت بهم حيث قر قرارهم بنو ذبيان، فحشدوا واستعدوا وخرجوا وعليهم حصن بن حذيفة بن بدر ومعه الحليفان أسد وذبيان يطلبون بدم حذيفة، وأقبل معهم شرحبيل بن أخضر بن الجون والجون هو معاوية؛ سمي بذلك لشدة سواده ابن آكل المرار الكندي في جمع من كندة، وأقبلت بنو حنظلة بن مالك والرباب عليهم لقيط بن زرارة يطلبون بدم معبد بن زرارة ويثربي بن عدس، وأقبل معهم حسان بن عمرو بن الجون في جمع عظيم من كندة وغيرهم، فأقبلوا إليهم بوضائع كانت تكون بالحيرة مع الملوك وهم الرابطة. وكان في الرباب رجل من أشرافهم يقال له النعمان بن قهوس التيمي، وكان معه لواء من سار إلى جبلة، وكان من فرسان العرب. وله تقول دختنوس بنت لقيط بن زرارة يومئذ: شعر لدختنوس بنت لقيط تعير ابن قهوس:

قر ابن قهوس الـشـجـا                      ع بكفـه رمـح مـتـل

يعدو به حاظي البـضـي                      ع كـأنـه سـمـع أزل

إنـك مـن تـمـيم فـدع                      غطفان إن ساروا ورحلوا متل: مستقيم، يتل به كل شيء. الخاظي: الشيء المكتنز. والسمع: ولد الضبع من الذئب والعسبار: ولد الذئب من الكلبة .

 

لا منك عـدهـم ولا                      آباك إن هلكوا وذلوا

فخر البغي بحدج رب                      تها إذا الناس استقلوا

لا حدجها ركبـت ولا                      لرغال فيه مستظـل

ولقد رأيت أبـاك وس                      ط القوم يربق أو يجل

متقلدا ربـق الـفـرا                      ر كأنه في الجيد غل تشاور بني عامر في أمرهم: يجل: يلقط البعر. والفرار: أولاد الغنم، واحدها فرارة .

 

 

صفحة : 1223

 

قال: وكان معهم رؤساء بني تميم: حاجب بن زرارة ولقيط بن زرارة وعمرو بن عمرو وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وتبعهم غثاء من غثاء الناس يريدون الغنيمة، فجمعوا جمعا لم يكن الجاهلية قط مثله أكثر كثرة، فلم تشك العرب في هلاك بني عامر. فجاؤوا حتى مروا ببني سعد بن زيد مناة، فقالوا لهم: سيروا معنا إلى بني عامر. فقالت لهم بنو سعد: ما كنا لنسير معكم ونحن نزعم أن عامر بن صعصعة ابن سعد بن زيد مناة . فقالوا: أما إذا أبيتم أن تسيروا معنا فاكتموا علينا. فقالوا: أما هذا فنعم. فلما سمعت بنو عامر بمسيرهم اجتمعوا إلى الأحوص بن جعفر، وهو يومئذ شيخ كبير قد وقع حاجباه على عينيه وقد ترك الغزو غير أنه يدبر أمر الناس، وكان مجربا حازما ميمون النقيبة، فأخبروه الخبر، فقال لهم الأحوص: قد كبرت، فما أستطيع أن أجيء بالحزم وقد ذهب الرأي مني. ولكني إذا سمعت عرفت، فأجمعوا آراءكم ثم بيتوا ليلتكم هذه ثم اغدوا علي فاعرضوا علي آراءكم، ففعلوا. فلما أصبح غدوا عليه، فوضعت له عباءة بفتنائه فجلس عليها. ورفع حاجبيه عن عينيه بعصابة ثم قال: هاتوا ما عندكم. فقال قبس بن زهير العبسي: بات في كنانتي الليلة مائة رأي. فقال له الأحوص يكفينا منها رأي واحد حازم صليب مصيب، هات فانثر كنانتك. فجعل يعرض كل رأي رآه حتى أنفد. فقال له الأحوص: ما أرى بات في كنانتك الليلة رأي واحد وعرض الناس آرائهم حتى أنفدوا. فقال: ما أسمع شيئا وقد صرتم إلي، احملوا أثقالكم وضعفاءكم ففعلوا، ثم قال: احملوا ظعنكم فحملوها، ثم قال: اركبوا فركبوا، وجعلوه في محفة وقال: انطلقوا حتى تعلوا في اليمين ، فإن أدرككم أحد كررتم عليه، وإن أعجزتموهم مضيتم. فسار الناس حتى أتوا وادي بحار ضحوة، فإذا الناس يرجع بعضهم على بعض. فقال الأحوص: ما هذا? قيل هذا عمرو بن عبد الله بن جعدة في فتيان من بني عامر يعقرون بمن أجاز بهم ويقطعون بالنساء حواياهن .

فقال الأحوص قدموني، فقدموه حتى وقف عليهم فقال: ما هذا الذي تصنعون ? قال عمرو: أردت أن تفضحنا وتخرجنا هاربين من بلادنا ونحن أعز العرب، وأكثرهم عددا وجلدا وأحدهم شوكة تريد أن تجعلنا موالي في العرب إذ خرجت بنا هاربا . قال: فكيف أفعل وقد جاءنا ما لا طاقة لنا به فما الرأي? قال: نرجع إلى شعب جبلة فنحرز النساء والضعفة والذراري والأموال في رأسه ونكون في وسطه ففيه ثمل أي خصب وماء . فإن أقام من جاءك أسفل أقاموا على غير ماء ولا مقام لهم، وإن صعدوا عليك قاتلتهم من فوق رؤوسهم بالحجارة، فكنت في حرز وكانوا في غير حرز، وكنت على قتالهم أقوى منهم على قتالك. قال: هذا والله الرأي، فأين كان هذا عنك حين استشرت الناس? قال: إنما جائني الآن. قال الأحوص للناس: ارجعوا فرجعوا. ففي ذلك يقول نابغة لبني جعدة:

ونحن حبسنا الحي عبسا وعـامـرا                      لحسان وابن الجون إذ قيل أقـبـلا

وقد صعدت وادي بحار نـسـاؤهـم                      كإصعاد نسر لا يرومون مـنـزلا

عطفنا لهم عطف الضروس فصادفوا                      من الهضبة الحمراء عزا ومعقـلا الضروس: الناقة العضوض فدخلوا شعب جبلة. وجبلة: هضبة حمراء بين الشريف والشرف. والشريف: ماء لبني نمير. والشرف ماء لبني كلاب. وجبلة: جبل عظيم له شعب عظيم واسع، لا يؤتى الجبل إلا من قبل الشعب، والشعب متقارب المدخل وداخله متسع، وبه اليوم عرينة من بجيلة .

دخولهم شعب جبلة: فدخلت بنوعامر شعبا منه يقال له مسلح، فحصنوا النساء والذراري والأموال في رأس الجبل، وحلوا الإبل عن الماء، واقتسموا الشعب بالقداح فأقرع بين القبائل في شظاياه ، فخرجت بنو تميم ومعهم بارق حي من الأزد حلفاء يومئذ لبني نمير. وبارق هو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء. وسمي مزيقياء لأنه كان يمزق عليه كل يوم حلة فولجوا الخليف والخليف: الطريق بين الشعبين شبه الزقاق لأن سهمهم تخلف. وفيه يقول معقر بن أوس بن حمار البارقي:

ونحن الأيمنون بنو نمير                      يسيل بنا أمامهم الخليف

 

صفحة : 1224

 

قال: وكان معقر يومئذ شيخا كبيرا ومعه هؤلاء ابنة له تقود به جمله. فجعل يقول لها: من أسهل من الناس? فتخبره وتقول هؤلاء بنو فلان، وهؤلاء بنو فلان، حتى إذ تناهى الناس قال: اهبطي، لا يزال الشعب منيعا سائر هذا اليوم، وهبط . وكانت كبشة بنت عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب يومئذ حاملا بعامر بن الطفيل. فقالت: ويلكم يا بني عامر ارفعوني فوالله إن في بطني لعز بني عامر. فصفوا القسي على عواتقهم ثم حملوها حتى أثووها بالقنة يقال قنة وقنان . فزعموا أنها ولدت عامرا يوم فرغ الناس من القتال .

من شهد الوقعة من القبائل: فشهدت بنو عامر كلها جبلة إلا هلال بن عامر وعامر بن ربيعة بن عامر، وشهدها مع بني عامر من العرب بنو عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم وكان لهم بأس وحزم وعليهم مرداس بن أبي عامر، وهو أبو العباس بن مرداس. وكانت بنو عبس بن رفاعة حلفاء بني عمرو بن كلاب .

تفرق بجيلة في بطون بني عامر: وزعم بعض بني عامر أن مرداسا كان مع أخواله غني ، وكانت أمه فاطمة بنت جلهمة الغنوية. وشهدتها غني وباهلة وناس من بني سعد بن بكر وقبائل بجيلة كلها إلا قسرا لحرب كانت بين قسر وقومها، فارتحلت بجيلة فتفرقت في بطون بني عامر، فكانت عادية بن عامر ابن قداد من بجيلة في بني عامر بن ربيعة، وكانت سحمة من بجيلة في بني جعفر بن كلاب ويقال: عمرو بن كلاب وكانت عرينة من نجيلة في عمرو بن كلاب وكانت بنو قيس كبة لفرس يقال لها كبة من بجيلة في بني عامر بن ربيعة وكانت فتيان في بني عامر بن ربيعة، وبنو قطيعة من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب، ونصيب بن عبد الله من بجيلة في بني نمير، وكانت ثعلبة والخطام من بجيلة ، في بني عامر بن ربيعة، وبنو عامر بن معاوية بن زيد من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب معهم يومئذ نفير من عكل، فبلغ جمعهم ثلاثين ألفا. وعمي على بني عامر الخبر. فجعلوا لا يدرون ما قرب القوم من بعدهم .

ما فعله كرب بن صفوان لتميم وأسد: وأقبلت تميم وأسد ولفهم نحو جبلة، فلقوا كرب بن صفوان بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن سعيد بن زيد مناة، فقالوا له: أين تذهب? أتريد أن تنذر بنار بني عامر? قال لا. قالوا: فأعطنا عهدا وموثقا ألا تفعل؛ فأعطاهم فخلوا سبيله. فمضى مسرعا على فرس له عري ، حتى إذا نظر إلى مجلس بني عامر وفيهم الأحوص نزل تحت شجرة حيث يرونه؛ فأرسلوا إليه يدعونه، قال: لست فاعلا، ولكن إذا رحلت فأتوا منزلي فإن الخبر فيه. فلما جاؤوا منزله إذا فيه تراب في صرة وشوك قد كسر رؤوسه وفرق جهته، وإذا حنظلة موضوعة، وإذا وطب معلق فيه لبن. فقال الأحوص: هذا رجل قد أخذ عليه المواثيق ألا يتكلم، وهو يخبركم أن القوم مثل التراب كثرة، وان شوكتهم كليلة وهم متفرقون ، وجاءتكم بنو حنظلة. أنظروا ما في الوطب، فاصطبوه فإذا فيه لبن حزر قرص . فقال القوم منكم على قدر حلاب اللبن إلى أن يحزر. فقال رجل من بني يربوع ويقال قالته دختنوس بنت لقيط بن زرارة

كرب بن صفوان بن شجنة لم يدع                      من دارم أحدا ولا من نهـشـل

أجعلت يربوعـا كـقـورة دائر                      ولتحلفن بالله أن لـم تـفـعـل وذلك قول عامر بن الطفيل بعد جبلة بحين:

ألا أبلغ لديك جموع سعـد                      فبيتوا لن نهيجكم نـيامـا

نصحتم بالمغيب ولم تعينـوا                      علينا إنكم كنتـم كـرامـا

ولو كنتم مع ابن الجون كنتم                      كمن أودى وأصبح قد ألاما صعود بني عامر الشعب وتشاور أعدائهم في الصعود إليهم: فلما استيقنت بنو عامر بإقبالهم صعدوا الشعب، وأمر الأحوص بالإبل التي ظمئت قبل ذلك فقال: اعقلوها كل بعير بعقالين في يديه جميعا. وأصبح لقيط والناس نزول به، وكانت مشورتهم إلى لقيط؛ فاستقبلهم جمل عود أجرب أخذ أعصل كاشر عن أنيابه؛ فقال الحزاة من بني أسد والحازي العائف اعقروه. فقال لقيط: والله لا يعقر حتى يكون فحل إبلي غدا. وكان البعير من عصافير المنذر التي أخذها قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير. والعصافير: إبل كانت للملوك نجائب ثم استقبلهم معاوية بن عبادة بن عقيل وكان أعسر فقال:

أنا الغلام الأعسر                      الخير في والشر

والشر في أكثر

 

صفحة : 1225

 

فتشاءمت بنو أسد وقالوا: ارجعوا عنهم وأطيعونا. فرجعت بنو أسد فلم تشهد جبلة مع لقيط إلا نفيرا يسيرا، منهم شأس بن أبي بلي أبو عمرو بن شأس الشاعر، ومعقل بن عامر بن موءلة المالكي. وقال الناس للقيط: ما ترى? فقال: أرى أن تصعدوا إليهم. فقال شأس: لا تدخلوا على بني عامر؛ فإني أعلم الناس بهم، قد قاتلتهم وقاتلوني وهزمتم وهزموني، فما رأيت قوما قط أقلق بمنزل من بني عامر والله ما وجدت لهم مثلا إلا الشجاع؛ فإنه لا يقر في حجره قلقا، وسيخرجون إليكم. والله لئن بتم هذه الليلة لا تشعرون بهم إلا وهم منحدرون عليكم. فقال لقيط: والله لندخلن عليهم. فأتوهم وقد أخذوا حذرهم. وجعل الأحوص ابنه شريحا على تعبئة الناس. فأقبل لقيط وأصحابه مدلين فأسندوا إلى الجبل حتى ذرت الشمس. فصعد لقيط في الناس وأخذ بحافتي الشجن . فقالت بنو عامر للأحوص: قد أتوك. فقال: دعوهم. حتى إذا نصفوا الجبل وانتشروا فيه، قال الأحوص: حلة عقل الإبل ثم احدروها واتبعوا آثارها ، وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة، ففعلوا ثم صاحوا بها، فلم يفجأ الناس إلا الإبل تريد الماء والمرعى، وجعلوا يرمونهم بالحجارة والنبل؛ وأقبلت الإبل تحطم كل شيء مرت به، وجعل البعير يدهدي بيديه كذا وكذا حجرا. وقد كان لقيط واصحابه سخروا منهم حين صنعوا بالإبل ما صنعوا. فقال رجل من بني أسد:

زعمت أن العير لا تقاتل                      بلى إذا تقعقع الرحـائل

واختلف الهندي والذوابل                      وقالت الأبطال من ينازل

بلى وفيها حسب ونائل شعر لبعض بني عامر في الوقعة: فانحط الناس منهزمين من الجبل حتى السهل. فلما بلغ الناس السهل لم يكن لأحد منهم همة إلا أن يذهب على وجهه، فجعلت بنو عامر يقتلونهم ويصرعونهم بالسيوف في آثارهم، فانهزموا شر هزيمة. فجعل رجل من بني عامر يومئذ يرتجز ويقول:

لم أر يوما مثل يوم جبـلـه                      يوم أتتنا أسد وحـنـظـلـه

وغطفان والملوك أزفـلـه                      نضربهم بقضب منتخـلـه

لم تعد أن أفرش عنها الصقله                      حتى حدوناهم حداء الزومله وجعل معقل بن عامر يرتجز ويقول:

يوم حماة الشعب يوم جبله                      بكل عضب صارم ومعبله

وهيكل نهد معا وهيكلـه المعبلة: السهم إذا كان نصله عريضا فهو معبلة، والرقيق: القطبة .

قتال بني تميم ضد بني عامر: وخرجت بنو تميم من الخليف على الخيل فكركروا الناس يعني ردوهم وانقطع شريح بن الأحوص في فرسان حتى أخذ الجرف فقاتل الناس قتالا شديدا هناك، وجعل لقيط يومئذ وهو على برذون له مجفف بديباج أعطاه إياه كسرى وكان أول عربي جفف يقول:

عرفتكم والدمع م العين يكـف                      لفارس أتلفتموه ما خـلـف

إن النشيل والشواء والرغـف                      والقينة الحسناء والكأس الأنف

وصفوة القدر وتعجيل اللقـف                      للطاعنين الخيل والخيل قطف وجعل لا يمر به أحد من الجيش إلا قال له : أنت والله قتلتنا وشتمتنا . فجعل يقول:

يا قوم قد أحرقتموني بالـلـؤم                      ولم أقاتل عامرا قبـل الـيوم

فاليوم إذ قاتلتـهـم فـلا لـوم                      تقدموا وقدمونـي لـلـقـوم

شتان هذا والعنـاق والـنـوم                      والمضجع البارد في ظل الدوم وقال شأس بن أبي بلي يجيبه:

لكن أنا قاتلـتـهـا قـبـل الـيوم                      إذا كنت لا تعصي أموري في القوم وجعل لقيط يقول: من كر فله خمسون ناقة، وجعل يقول:

أكلكم يزجركم أرحب هلا                      ولن تروه الدهر إلا مقبلا

يحمل زغفا ورئيسا حجفلا                      وسائلا في أهله ما فعلا وجعل يقول أيضا:

أشقر إن لم تتقدم تنـحـر                      وإن تأخر عن هياج تعقر ثم عاد يقول:

إن الشواء والنشيل والرغف فأجابه شريح بن الأحوص:

إن كنت ذا صدق فأقحمه الجرف                      وقرب الأشقر حتى تعـتـرف

وجوهنا إنا بنو البيض العطف سقوط لقيط في الموقعة:

 

صفحة : 1226

 

وبينه وبينه جرف منكر، فضرب لقيط فرسه وأقحمه عليه الجرف؛ فطعنه شريح فسقط . وقد اختلفوا في ذلك، فذكروا أن الذي طعنه جزء بن خالد بن جعفر، وبنو عقيل تزعم أن عوف بن المنتفق العقيلي قتله يومئذ وأنشأ يقول:

ظلت تلوم لما بـهـا عـرسـي                      جهلا وأنـت حـلـيمة أمـس

إن تقتلوا بكـري وصـاحـبـه                      فلقد شفيت بسـيفـه نـفـسـي

فقتلته في الشعـب أول فـارس                      في الشرق قبل أن ترحل الشمس فزعموا أن عوفا هذا قتل يومئذ ستة نفر، وقتل ابن له وابن أخ له. وأم العلماء فلا يشكون أن شريحا قتله، وارتث وبه طعنات والارتثاث أن يحمل وهو مجروح، فإن حمل ميتا فليس بمرتث فبقي يوما ثم مات. فجعل لقيط يقول عند موته:

يا ليت شعري عنك دختنوس                      إذا اتاك الخبر المرسـوس

أتحلق القرون أم تـمـيس                      لا بل تميس إنها عـروس دختنوس بنت لقيط بن زرارة، وكانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس. وجعلت بنو عبس يضربونه وهو ميت، فقالت دختنوس: شعر لدختنوس في أبيها:

ألا يا لها الويلات ويلات من بـكـى                      لضرب بني عبس لقيطا وقد قضى

لقد ضربوا وجها عـلـيه مـهـابة                      وما تحفل الصم الجنادل مـن ردى

فلو أنكم كـنـتـم غـداة لـقـيتـم                      لقيطا صبرتم لـلأسـنة والـقـنـا

غدرتم ولكن كنتم مـثـل خـضـب                      أصاب لها القناص من جانب الشرى

فما ثـأره فـيكـم ولـكـن ثـأره                      شريح وأردتـه الأسـنة إذ هـوى

فإن تعقب الأيام من عـامـر يكـن                      عليهم حـريقـا لا يرام إذا سـمـا

ليجزيهم بالقتل قتـلا مـضـعـفـا                      وما في دماء الحمس يا مال من بوا

ولو قتلتنا غالـب كـان قـتـلـهـا                      علينا من العار المجـدع لـلـعـلا

لقد صبرت كـعـب وحـافـظـت                      كلاب وما أنتم هنـاك لـمـن رأى وقالت دختنوس أيضا:

لعمري لئن لاقت من الشـر دارم                      عناء لقد آبت حميدا ضرابـهـا

فما جيئوا بالشعب إذ صبرت لهـم                      ربيعة يدعى كعبها وكـلابـهـا

عصوا بسيوف الهند واعتكرت لهم                      براكاء موت لا يطير غرابـهـا براكاء: مباركة القتال وهو الجد في القتال. يقال للرجل إذا وقع خطب لا يطير غرابه . وقالت دختنوس:

بكر النعي بخير خن                      دف كهلها وشبابها

وبخيرها نسـبـا إذا                      عدت إلى أنسابهـا

فرت بنو أسد خرو                      د الطير عن أربابها

لم يحفلوا نسبا ولـم                      يلووا لفيء عقابها من قتل في الموقعة ومن نجا وأخبارهم: وقتل يومئذ قريظ بن معبد بن زرارة، وزيد بن عمرو بن عدس قتله الحارث بن الأبرص بن ربيعة بن عامر بن عقيل، وقتل الفلتان بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل، وقتل أبو إياس بن حرملة بن جعدة بن العجلان بن حشورة بن عجب بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان وهو يقول:

أقدم قطين إنهم بنـو عـبـس                      المعشر الحلة في القوم الحمس الحلة : لم يكونوا يتشددون في دينهم. قال: واستلحم عمرو بن حسحاس بن وهب بن أعياء ابن طريف الأسدي، فاستنقذه معقل بن عامر بن موءلة فداواه وكساه. فقال معقل في ذلك:

يديت على ابن حسحاس بن وهب                      بأسفل ذي الجـذاة يد الـكـريم

قصرت له من الدهمـاء لـمـا                      شهدت وغاب من له من حمـيم

ولو أني أشاء لكـنـت مـنـه                      مكان الفرقدين من الـنـجـوم

أخبره بـأن الـجـرح يشـوي                      وأنك فوق عجـلـزة جـمـوم يقول: إن الجرح الذي بك شوى لم يصب منك مقتلا

ذكرت تعلة الفتيان يوما                      وإلحاق الملامة بالمليم

 

صفحة : 1227

 

قال: وحمل معاوية بن يزيد الفزاري فأخذ كبشة بنت الحجاج بن معاوية بن قشير، وكانت عند مالك بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، فحمل معاوية بن خفاجة أخو مالك على معاوية بن يزيد فقتله واستنقذ كبشة، وقال: يا بني عامر، إنهم يموتون، وقد كان قيل لهم إنهم لا يموتون. ونزل حسان بن عامر بن الجون وصاح: يا آل كندة فحمل عليه شريح بن الأحوص؛ فاعترض دون ابن الجون رجل من كندة يقال له حوشب، فضربه شريح بن الأحوص في رأسه فانكسر السيف فيه، فخرج يعدو بنصف السيف وكان مما رعب الناس مكانه. وشد طفيل بن مالك بن جعفر فأسر حسان بن الجون، وشد عوف بن الأحوص على معاوية بن الجون فأسره وجز ناصيته وأعتقه على الثواب. فلقيته بنو عبس، فأخذه قيس بن زهير فقتله. فأتاهم عوف فقال: قتلتم طليقي فأحيوه أو ائتوني بملك مثله. فتخوفت بنو عبس شره وكان مهيبا، فقالوا: أمهلنا. فانطلقوا حتى أتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر يستغيثونه على عوف، فقال: دونكم سلمى بن مالك فإنه نديمه وصديقه وكانا مشتبهين أحمرين أشقرين ضخمة أنوفهما، وكان في سلمى حياء فأتوه فقال: سأكلم لكم طفيلا حتى يأخذ أخاه فإنه لا ينجيكم من عوف إلا ذلك، وايم الله ليأتين شحيحا. فانطلقوا إليه، فقال طفيل: قد أتوني بك، ما أعرفني بما جئتم له أتيتموني تريدون مني ابن الجون تقيدون به من عوف، خذوه فأعطاهم إياه؛ فأتوا به عوفا فجز ناصيته وأعتقه؛ فسمي الجزاز. فذلك قول نافع بن الخنجر بن الحكم بن عقيل بن طفيل بن مالك في الإسلام:

قضينا الجون عن عبس وكانت                      منية معبـد فـينـا هـزالا قال: وشهدها لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر وهو ابن تسع سنين، ويقال: كان ابن بضع عشرة سنة، وعامر بن مالك يقول له: اليوم يتمت من أبيك إن قتل أعمامك. وقتل يومئذ زهير بن عمرو بن معاوية، وجد مقتولا بين ظهراني صفوف بني عامر حيث لم يبلغ القتال؛ وهو معاوية الضباب بن كلاب. فقال أخوه حصين للذي قتله:

يا ضبعا عثواء لا تستأنـسـي                      تلتقم الهبر من السقب الـرذي

أقسم بالله وما حجـت بـلـي                      وما على العزى تعزه غنـي

وقد حلفت عند منحر الـهـدي                      أعطيكم غير صدور المشرفي

فليس مثلي عن زهير بغـنـى                      هو الشجاع والخطيب اللوذعي

والفارس الحازم والشهم الأبي                      والحامل الثقل إذا ينـزل بـي وذكروا أن طفيل بن مالك لما رأى القتال يوم جبلة قال: ويلكم وأين نعم هؤلاء فأغار على نعم عمرو وإخوته وهم من بني عبد الله بن غطفان ثم من بني الثرماء، فاستاق ألف بعير. فلقيه عبيدة بن مالك فاستجداه، فأعطاه مائة بعير، وقال: كأني بك قد لقيت ظبيان بن مرة بن خالد فقال لك: أعطاك من ألفه مائة فجئت مغضبا. فلقي عبيدة ظبيان، فقال له: كم أعطاك? قال: مائة. فقال: أمائة من ألف فغضب عبيدة. قال: وذكر أن عبيدة تسرع يومئذ إلى القتال، فنهاه أخواه عامر وطفيل أن يفعل حتى يرى مقاتلا، فعصاهما وتقدم، فطعنه رجل في كتفه حتى خرج السنان من فوق ثديه فاستمسك فيه السنان، فأتى طفيلا فقال له: دونك السنان فانزعه، فأبى أن يفعل ذلك غضبا، فأتى عامرا فلم ينزعه منه غضبا، فأتى سلمى بن مالك فانتزعه منه، وألقي جريحا مع النساء حتى فرغ القوم من القتال. وقتلت بنو عامر يومئذ من تميم ثلاثين غلاما أغرل . وخرج حاجب بن زرارة منهزما، وتبعه الزهدمان زهدم وقيس ابنا حزن بن وهب بن عويمر بن رواحة العبسيان، فجعلا يطردان حاجبا ويقولان له: استأسر وقد قدرا عليه، فيقول: من أنتما? فيقولان: الزهدمان، فيقول: لا أستأسر اليوم لموليين. فبينما هم كذلك إذ أدركهم مالك ذو الرقيبة بن سلمة بن قشير، فقال لحاجب: استأسر. قال: ومن أنت? قال: أنا مالك ذو الرقيبة. فقال: أفعل، فلعمري ما أدركتني حتى كدت أن أكون عبدا. فألقى إليه رمحه؛ واعتنقه زهدم فألقاه عن فرسه. فصاح حاجب: يا غوثاه. وندر السيف، وجعل زهدم يريغ قائم السيف. فنزل مالك فاقتلع زهدما عن حاجب. فمضى زهدم وأخوه فمضى زهدم وأخوه حتى أتيا قيس ابن زهير ابن جذيمة فقالا: أخذ مالك أسيرنا من أيدينا. قال: ومن أسيركما? قالا: حاجب بن زرارة. فخرج قيس يتمثل قول حنظلة بن الشرقي القيني أبي الطمحان رافعا صوته يقول:

 

صفحة : 1228

 

 

أجد بني الشرقي أولـع أنـنـي                      متى أستجر جارا وإن عز يغدر

إذا قلت أوفى أدركـتـه دروكة                      فيا موزع الجيران بالغي أقصر حتى وقف على بني عامر فقال: إن صاحبكم أخذ أسيرنا. قالوا: من صاحبنا? قال: مالك ذو الرقيبة أخذ حاجبا من الزهدمين. فجاءهم مالك فقال: لم آخذه منهما، ولكنه استأسر لي وتركهما. فلم يبرحوا حتى حكموا حاجبا في ذلك وهو في بيت ذي الرقيبة، فقالوا: من أسرك يا حاجب? فقال: أما من ردني عن قصدي ومنعني أن أنجو ورأى مني عورة فتركها فالزهدمان. وأما الذي أستأسرت له فمالك؛ فحكموني في نفسي. قال له القوم: قد جعلنا إليك الحكم في نفسك. فقال: أما مالك فله ألف ناقة، وللزهدمين مائة. فكان بين قيس بن زهير وبين الزهدمين مغاضبة بعد ذلك؛ فقال قيس:

جزاني الزهدمان جزاء سوء                      وكنت المرء يجزى بالكرامه

وقد دافعت قد علمت مـعـد                      بني قرط وعمهم قـدامـه

ركبت بهم طريق الحق حتى                      أثبتهم بها مـائة ظـلامـه وقال جرير في ذلك:

ويوم الشعب قد تركوا لقيطا                      كأن عليه حـلة أرجـوان

وكبل حاجب بشمام حـولا                      فحكم ذا الرقيبة وهو عاني وأما عمرو بن عمرو بن عدس فأفلت يومئذ. فزعمت بنو سليم أن الخيل عرضت على مرداس بن أبي عامر يوم جبلة، وكان أبصر الناس بالخيل، فعرضت عليه فرس لغلام من بني كلاب، فقال: والله لا أعجزها ولا أدركها ذكر ولا أنثى؛ فهذا ردائي بها خمس وعشرون ناقة. فلما انهزم الناس يوم جبلة خرج الكلابي على فرسه تلك يطلب عمرو بن عمرو. قال الكلابي: فراكضته نهارا على السواء، والله ما علمت أنه سبقني بمقدار أعرفه، ثم زاد مكانه ونقصت . فقلت: قمر والله مرداس. وهوى عمرو إلى فرسه فضربها بالسوط فانكشفت، فإذا هي خنثى، لا ذكر ولا أنثى، فأخبرتهم أني سبقت، فقال: قمر السلمي. فقلت لا، ثم أخبرتهم الخبر. فقال مرداس:

تمطت كميت كالهراوة ضامـر                      لعمرو بن عمرو بعدما مس باليد

فلولا مدى الخنثى وبعد جرائهـا                      لقاظ ضعيف النهض حق مقـيد

تذكر ربطا بـالـعـراق وراحة                      وقد خفق الأسياف فوق المقلـد وزعم علماء بني عامر أنه لما انهزم الناس خرجت بنو عامر وحلفاؤهم في آثارهم يقتلون ويأسرون ويسلبون، فلحق قيس بن النتفق بن عامر بن طفيل بن عقيل عمرو بن عمرو فأسره. فأقبل الحارث بن الأبرص بن ربيعة بن عقيل في سرعان الخيل ، فرآه عمرو مقبلا فقال لقيس: إن أدركني الحارث قتلني وفاتك ما تلتمس عندي، فهل أنت محسن إلي وإلى نفسك تجز ناصيتي فتجعلها في كنانتك، ولك العهد لأفين لك، ففعل. وأدركهما الحارث وهو ينادي قيسا ويقول: اقتل اقتل. فلحق عمرو بقومه. فلما كان الشهر الحرام خرج قيس إلى عمرو ويستثيبه، وتبعه الحارث بن الأبرص حتى قدما على عمرو بن عمرو؛ فأمر عمرو بن عمرو ابنة أخيه آمنة بنت زيد بن عمرو فقال: اضربي على قيس الذي أنعم على عمك هذه القبة. وكان الحارث قتل أباها زيدا يوم جبلة. فجاءت بالقبة فرأت الحارث أهيأهما وأجملهما، فظنته قيسا فضربت القبة على رأسه وهي تقول: هذا والله رجل لم يطلع الدهر عليه بما اطلع به علي. فلما رجعت إلى عمها عمرو قال: يابنة أخي، على من ضربت القبة? فنعتت له نعت الحارث. فقال: ضربتها والله على رجل قتل أباك وأمر بقتل عمك. فجزعت مما قال لها عمها. فقال الحارث بن الأبرص:

أمـا تـدرين يابــنة آل زيد                      أمين بما أجن اليوم صـدري

فكم من فارس لـم تـرزئيه                      فتى الفتيان في عيص وقصر

رأيت مكانه فصددت عـنـه                      فأعيا أمره وشـددت أزري

لقد أمرته فعصـى إمـاري                      بأم عزيمة في جنب عمـرو

أمرت به لتخمش حـنـتـاه                      فضيع أمره قـيس وأمـري

 

صفحة : 1229

 

الحنة الزوجة. يقال حنته، وطلته . ثم إن عمرا قال: يا حار، ما الذي جاء بك فوالله ما لك عندي نعمة، ولقد كنت سيء الرأي في، قتلت أخي وأمرت بقتلي. فقال: بل كففت عنك ، ولو شئت إذا أدركتك لقتلتك. قال: ما لك عندي من يد، ثم تذمم منه فأعطاه مائة من الإبل، ثم انطلق فذهب الحارث فلما جاء عمرا قيس أعطاه إبلا كثيرة، فخرج قيس بها، حتى إذا دنا من أهله سمع به الحارث بن الأبرص فخرج في فوارس من بني أبيه عرض لقيس فأخذ ما كان معه. فلما أتى قيس بني أبيه بني المنتفق اجتمعوا إليه وأرادوا الخروج. فقال: مهلا لا تقاتلوا إخوتكم؛ فإنه يوشك أن يرجع وأن يؤول إلى الحق فإنه رجل حسود. فلما رأى الحارث أن قيسا قد كف عنه رد إليه ما أخذ منه .

وأما عتيبة بن الحارث بن شهاب فإنه أسر يومئذ فقيد في القد، وكان يبول على قده حتى عفن. فلما دخل الشهر الحرام هرب فأفلت منهم بغير فداء .

وغنم مرداس بن أبي عامر عنائم وأخذ رجلا فأخذ منه مائة ناقة، فانتزعها منه بنو أبي بكر ابن كلاب؛ فخرج مرداس إلى يزيد بن الصعق، وكان له خليلا، فانتهى إليه مرداس وهو يقول:

لعمرك ما ترجو معد ربيعهـا                      رجائي يزيدا بل رجائي أكثـر

يزيد بن عمرو خير من شد ناقة                      بأقتادها إذا الرياح تصرصـر

تداعت بنو بكر علي كـأنـمـا                      تداعت علي بالأحزة بـربـر

تداعوا علي أن رأوني بخلـوة                      وأنتم بأحدان الفوارس أبصـر ويروى بوحدان. فركب يزيد حتى أخذ الإبل من بني أبي بكر فردها إليه. فطرقه البكريون فسقوه الخمر حتى سكر، ثم سألوه الإبل فأعطاهم إياها. فلما أصبح ندم، فخرج إلى يزيد فوجد الخبر قد جاءه. فقال له يزيد: أصاح أنت أم سكران ? فانصرف فاطرد إبلا من إبل بني جعفر فذهب بها وأنشأ يقول:

أجن بليلى قلـبـه أن تـذكـرا                      منازل منها حول قرى ومحضرا

تخر الهدال فوق خيمات أهلهـا                      ويرسون حسا بالعقال مؤطـرا الحس: الفرس الخفيفة. والمؤطر: العطوف

سآبى وأستغني كما قد أمرتـنـي                      وأصرف عنك العسر لست بأفقرا

وإن سليما والحجاز مـكـانـهـا                      متى اتهم أجد لبـيي مـهـجـرا المهجر: الموضع الصالح؛ يقال: هذا أهجر من هذا إذا كان أجود منه وأصلح

يفرج عني حدهم وعديدهـم                      وأسرج لبدي خارجيا مصدرا

قصرت عليه الحالبين فجوده                      إذا ما عدا بل الحزام وأمطرا الحالبين: الراعيين. يقول احتبستهما

فخذ إبلا إن الـعـتـاب كـمـا تـرى                      على خذم ثم ارم للنـصـر جـعـفـرا

فإن بأكناف الـبـحـار إلـى الـمـلا                      وذي النخل مصحى إن صحوت ومسكرا

وأرعى من الأظلاف أثـلا وحـمـضة                      وترعى من الأطواء أثـلا وعـرعـرا وانصرف يومئذ سنان بن أبي حارثة المري في بني ذبيان على حاميته، فلحق بهم معاوية بن الصموت بن الكامل الكلابي، وكان يسمى الأسد المجدع، ومعه حرملة العكلي ونفر من الناس، فلحق بسنان بن أبي حارثة ومالك بن حمار الفزاري في سبعين فارسا من بني ذبيان. فقال سنان: يا مالك كر واحمنا ولك خولة بنت سنان ابنتي أزوجكها. فكر مالك فقتل معاوية، ثم اتبعه حرملة العكلي وهو يقول:

لأي يوم يخبأ المرء السعه                      مودع ولا ترى فيه الدعه فكر عليه مالك فقتله، ثم اتبعه رجل من بني كلاب، فكر عليه مالك فقتله، ثم اتبعه رجلان من قيس كبة من بجيلة، فكر عليهما فقتلهما، ومضى مالك وأصحابه. فقال مالك في ذلك:

ولقد صددت عن الغنيمة حرملا                      ولقيته لددا وخيلـي تـطـرد

أقبلته صدر الأغر وصـارمـا                      ذكرا فخر على اليدين الأبعـد

وابن الصموت تركت حين لقيته                      في صدر مارنة يقوم ويقعـد

وابنا ربيعة في الغبار كلاهمـا                      وابنا غني عـامـر والأسـود

حتى تنفس بعد نكظ مجـحـرا                      أذهبت عنه والفرائص ترعـد النكظ الجهد. قال:

يعدو ببزي سابح ذو ميعة                      نهد المراكل ذو تليل أقود فخطب إليه مالك خولة فأبى أن يزوجه .

 

 

صفحة : 1230

 

وأما بنو جعفر فيزعمون أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر وجد سنان بن أبي حارثة وابنيه هرما ويزيد على غدير قد كاد العطش أن يهلكهم، فجز نواصيهم وأعتقهم. ثم إن عروة أتى سنانا بعد ذلك يستثيبه ثوابا يرضاه فلم يثبه شيئا .

فقال عروة في ذلك:

ألا من مبلغ عني سـنـانـا                      ألوكا لا أريد بها عـتـابـا

أفي الخضراء تقسم هجمتيكم                      وعروة لم يثب إلا الترابـا

فلو كان الجعافر طاوعوني                      غداة الشعب لم تذق الشرابا

أتجزي القين نعمتها عليكـم                      ولا تجزي بنعمتها كـلابـا وأما بنو عامر فيزعمون أن سنانا انصرف ذات يوم هو وناس من طيئ وغيرهم قبل الوقعة، فبلغه أن بني عامر يقولون: مننا عليه، فأنشأ يقول:

والله ما منوا ولكن شكـتـي                      منت وحادرة المناكب صلدم

بخرير شول يوم يدعى عامر                      لا عاجز ورع ولا مستسلم وأما بارق فتدعي أسر سنان يومئذ على الثواب، ثم أتوه فلم يصنع بهم خيرا. فقال معقر بن أوس بن حمار البارقي:

متى تك في ذبيان منك صنـيعة                      فلا تحمدنها الدهر بعد سنـان

يظل يمنينا بحـسـن ثـوابـه                      لكم مائة يحدو بهـا فـرسـان

مخاض أؤديها وجـل لـقـائح                      وأكرم مثوى منكم من أتانـي

فجئناه للنعمى فكـان ثـوابـه                      رغوث ووطبا حازر مذقـان

وظل ثلاثا يسأل الحي مـا يرى                      يؤامرهم فـينـا لـه أمـلان

فإن كنت هذا الدهر لا بد شاكرا                      فلا تثقن بالشكر في غطفـان تاريخ يوم جبلة: قال: وكان جبلة قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة قبل مولد النبي صلى الله عليه وسلم بتسع عشرة سنة. وولد النبي صلى الله عليه وسلم عام الفيل، ثم أوحى إليه بعد أربعين سنة، وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة، وقدم عليه عامر بن الطفيل في السنة التي قبض فيها صلى الله عليه وسلم، قال: وهو ابن ثمانين سنة .

ما قيل في هذا اليوم من شعر: وقال المعقر بن اوس بن حمار البارقي حليف بني نمير بن عامر:

أمن آل شعثاء الحمول البـواكـر                      مع الليل أم زالت قبيل الأباعـر

وحلت سليمى في هضـاب وأيكة                      فليس علـيهـا يوم ذلـك قـادر

وألقت عصاها واستقرت بها النوى                      كما قر عينا بالإياب المسـافـر

وصبحها أملاكـهـا بـكـتـيبة                      عليها إذا أمست من الله نـاظـر

معاوية بن الجون ذبـيان حـولـه                      وحسان في جمع الرباب مكاثـر

فمروا بأطناب البـيوت فـردهـم                      رجال بأطراف الرماح مساعـر

وقد جمعوا جمعـا كـأن زهـاءه                      جراد هوى في هبوة متـطـاير

فباتوا لنا ضيفا وبتنـا بـنـعـمة                      لنا مسمعات بالدفوف وسـامـر

ولم نقرهم شيئا ولكن قصـدهـم                      صبوح لدينا مطلع الشمس حازر

صبحناهم عند الشروق كـتـائبـا                      كأركان سلمى شبرها متـواتـر

كان نعام الدو بـاض عـلـيهـم                      وأعينهم تحت الحبيك جـواحـر الحبيك في البيض إحكام عملها وطرائقها

من الضاربين الكبش يمشون قدما                      إذا غص بالريق القليل الحناجـر

وظن سراة القـوم ألا يقـتـلـوا                      إذا دعيت بالسفح عبس وعامـر

ضربنا حبيك البيض في غمر لجة                      فلم يبق في الناجين منهم مفاخـر

ولم ينج إلا من يكـون طـمـره                      يوائل أو نهد مـلـح مـثـابـر

هوى زهدم تحت الغبار لحاجـب                      كما انقض أفنى ذو جناحين ماهر

هما بطلان يعثران كـلاهـمـا                      أراد رئاس السيف والسيف نادر

ولا فضل إلا أن يكـون جـراءة                      وذبيان تسمو والرؤوس حواسـر

ينوء وكـفـا زهـدم مـن ورئه                      وقد علقت ما بينهن الأظـافـر

يفرج عنا كل ثـغـر نـخـافـه                      مسح كسرحان القصيمة ضامـر القصيمة من الرمل: ما أنبتت الغضى والرمث

وكل طموح في العنان كـأنـهـا                      إذا اغتمست في الماء فتخاء كاسر

 

صفحة : 1231

 

 

لها ناهض في المهد قد مهدت له                      كما مهدت للبعل حسناء عاقـر وبهذا البيت سمي معقرا واسمه سفيان بن أوس. وإنما خص العاقر لأنها أقل دلا على الزوج من الولود فهي تصنع له وتداريه

تخاف نساء يبتدرن حليلهـا                      محردة قد خردتها الضراء وقال عامر بن الطفيل بعد ذلك بدهر:

ويوم الجمع لاقينا لقيطـا                      كسونا رأسه عضبا حساما

أسرنا حاجبا فثوى بـقـد                      ولم نترك لنسوته سوامـا

وجمع الجون إذ دلفوا إلينا                      صبحنا جمعهم جيشا لهاما وقال لبيد بن ربيعة في ذلك:

وهم حماة الشعب يوم تواكلت                      أسد وذبيان الصفا وتـمـيم

فارتث كلماهم عشية هزمهم                      حي بمنعرج المسيل مقـيم تم اليوم والحمد لله .

صوت:

أيجمل ما يؤتى إلى فتيانكـم                      وأنتم رجال فيكم عدد النمل

فلو أننا كنا رجالا وكنـتـم                      نساء حجال لم نقر بذا الفعل الشعير لعفيرة بنت عفار الجديسية التي يقال لها الشموس. والغناء لعريب خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر، وفيه لحن من الثقيل الأول قديم .

عمليق ملك طسم وجديس وسبب قتله: أخبرني بهذا الشعر والسبب الذي من أجله قيل علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن عمليقا ملك طسم بن لاوذ بن إرم بن سام ابن نوح عليه السلام، وجديس بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام، وكانت منازلهم في موضع اليمامة، كان في أول مملكته قد تمادى في الظلم والغشم والسيرة بغير الحق، وأن امرأة من جديس كان يقال لها هزيلة، وكان لها زوج يقال له قرقس ، فطلقها وأراد أخذ ولدها منها، فخاصمته إلى عمليق، فقال: أيها الملك إني حملته تسعا، ووضعته دفعا، وأرضعته شفعا، حتى إذا تمت أوصاله، ودنا فصاله، أراد أن يأخذه مني كرها، ويتركني من بعده ورها . فقال لزوجها: ما حجتك? قال: حجتي أني قد أعطيتها المهر كاملا، ولم أصب منها طائلا، إلا وليدا خاملا ، فافعل ما كنت فاعلا. فأمر بالغلام أن ينزع منهما جميعا ويجعل في غلمانه، وقال لهزيلة: ابغيه ولدا، ولا تنكحي أحدا، وأجزيه صفدا . فقالت هزيلة: أما النكاح فإنما يكون بالمهر، وأما السفاح فإنما يكون بالقهر، ومالي فيهما من أمر. فلما سمع ذلك عمليق أمر بأن تباع هي وزوجها، فيعطى زوجها خمس ثمنها، وتعطى هزيلة عشر ثمن زوجها. فأنشات تقول:

أتينا أخا طسم ليحكـم بـينـنـا                      فأنفذ حكما في هزيلة ظالمـا

لعمري لقد حكمت لا متورعـا                      ولا كنت فيما تبرم الحكم عالما

ندمت ولم أندم وأنى بعثـرتـي                      وأصبح بعلي في الحكومة نادما أمر ألا تزوج بكر من جديس حتى يفترعها: فلما سمع عمليق قولها أمر ألا تزوج بكر من جديس وتهدى إلى زوجها حتى يفترعها هو قبل زوجها فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا. فلم يزل يفعل هذا حتى زوجت الشموس وهي عفيرة بنت عباد أخت الأسود الذي وقع إلى جبل طيئ فقتلته طيئ وسكنوا الجبل من بعده. فلما أرادوا حملها إلى زوجها انطلقوا بها إلى عمليق لينالها قبله، ومعها القيان يتغنين:

ابدي بعمليق وقومي فاركبي                      وبادري الصبح لأمر معجب

فسوف تلقين الذي لم تطلبي                      وما لبكر عنده من مهـرب تحريض عفيرة بنت عباد قومها عليه: فلما أن دخلت عليه افترعها وخلى سبيلها. فخرجت إلى قومها في دمائها شاقة درعها من قبل ومن دبر والدم يسيل وهي في أقبح منظر، وهي تقول:

لا أحـد أذل مـن جـــديس                      أهكذا يفعـل بـالـعـروس

يرضى بهذا يا لقومـي حـر                      أهدى وقد أعطى وسيق المهر

لأخذة الموت كذا لـنـفـسـه                      خير من أن يفعل ذا بعرسـه وقالت تحرض قومها فيما أتي إليها:

أيجمل ما يؤتى إلى فـتـيانـكـم                      وأنتم رجال فيكم عدد الـنـمـل

وتصبح تمشي في الدماء عفـيرة                      جهارا وزفت في النساء إلى بعل

ولو أننا كنـا رجـالا وكـنـتـم                      نساء لكنا لا نقر بذا الـفـعـل

 

صفحة : 1232

 

 

فموتوا كراما أو أميتوا عـدوكـم                      ودبوا لنار الحرب بالحطب الجزل

وإلا فخلوا بطنهـا وتـحـمـلـوا                      إلى بلد قفر وموتوا من الـهـزل

فللبين خير من مقام عـلـى أذى                      وللموت خير من مقام على الـذل

وإن أنتم لم تغضبوا بـعـد هـذه                      فكونوا نساء لا تعاب من الكحـل

ودونكم طيب العروس فـإنـمـا                      خلقتم لأثواب العروس وللغسـل

فبعدا وسحقا للذي لـيس دافـعـا                      ويختال يمشي بيننا مشية الفحـل ائتمار جديس للغدر به وبقومه: فلما سمع الأسود أخوها ذلك وكان سيدا مطاعا قال لقومه: يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم في داركم إلا بما كان من ملك صاحبهم علينا وعليهم، ولولا عجزنا وإدهاننا ما كان له فضل علينا. ولو امتنعنا لكان لنا منه النصف . فأطيعوني فيما آمركم به، فإنه عز الدهر، وذهاب ذل العمر، وأقبلوا رأيي. قال: وقد أحمى جديسا ما سمعوا من قولها فقالوا: نطيعك، ولكن القوم أكثر وأحمى وأقوى. قال فإني أصنع للملك طعاما ثم أدعوهم له جميعا. فإذا جاءوا يرفلون في الحلل ثرنا إلى سيوفنا وهم عارون فأهمدناهم بها. قالوا: نفعل. فصنع طعاما كثيرا وخرج به إلى ظهر بلدهم، ودعا عمليقا وسأله أن يتغدى عنده هو وأهل بيته، فأجابه إلى ذلك وخرج مع أهله يرفلون في الحلي والحلل، حتى إذا أخذوا مجالسهم ومدوا أيديهم إلى الطعام، أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم، فشد الأسود على عمليق فقتله، وكل رجل منهم على جليسه حتى أماتوهم. فلما فرغوا من الأشراف شدوا على السفلة فلم يدعوا منهم أحدا. فقال الأسود في ذلك:

ذوقي ببغيك يا طسم مـجـلـلة                      فقد أتيت لعمري أعجب العجب

إنا أبينا فلم ننفك نـقـتـلـهـم                      والبغي هيج منا سورة الغضب

ولن يعود علينا بـغـيهـم أبـدا                      ولن يكونوا كذى أنف ولا ذنـب

وإن رعيتم لنا قربـى مـؤكـدة                      كنا الأقارب في الأرحام والنسب غزوة حسان بن تبع لجديس وهروب الأسود وقتل طيئ له: ثم إن بقية طسم لجؤوا إلى حسان بن تبع، فغزا جديسا فقتلها وأخرب بلادها. فهرب الأسود قاتل عمليق، فأقام بجبلي طيئ قبل نزول طيئ إياهما. وكانت طيئ تسكن الجرف من أرض اليمن، وهو اليوم محلة مراد وهمدان، وكان سيدهم يومئذ أسامة بن لؤي بن الغوث بن طيئ، وكان الوادي مسبعة، وهم قليل عددهم، وقد كان ينتابهم بعير في أزمان الخريف ولم يدر أين يذهب ولم يروه إلى قابل، وكانت الأزد قد خرجت من اليمن أيام العرم ، فاستوحشت طيئ لذلك وقالت: قد ظعن إخواننا فصاروا إلى الأرياف. فلما هموا بالظعن قالوا لأسامة: إن هذا البعير يأتينا من بلد ريف وخصب، وإنا لنرى في بعره النوى. فلو أننا نتعهده عند انصرافه فشخصنا معه لكنا نصيب مكانا خيرا من مكاننا هذا. فأجمعوا أمرهم على ذلك. فلما كان الخريف جاء البعير فضرب في إبلهم، فلما انصرف احتملوا واتبعوه يسيرون ويبيتون حيث يبيت حتى هبط على الجبلين. فقال أسامة بن لؤي:

اجعل طريبا كحبيب ينسى                      لكل قوم مصبح وممسى قال: وطريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلون به. فهجمت طيئ على النخل في الشعاب وعلى مواش كثيرة، وإذا هم برجل في شعب من تلك الشعاب وهو الأسود بن عباد، فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوفوه، وقد نزلوا ناحية من الأرض واستبروها هل يرون بها أحدا غيره فلم يروا. فقال أسامة بن لؤي لابن له يقال له الغوث: أي بني إن قومك قد عرفوا فضلك عليهم في الجلد والبأس والرمي، فإن كفيتنا هذا الرجل سدت قومك آخر الدهر، وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد. فانطلق الغوث حتى أتى الرجل فكلمه وساءله. فعجب الأسود من صغر خلق الغوث فقال له: من أين أقبلتم? قال: من اليمن، وأخبره خبر البعير ومجيئهم معه، وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه، وشغلوه بالكلام، فرماه الغوث بسهم فقتله، وأقامت طيئ بالجبلين بعده، فهم هنالك إلى اليوم .

صوت:

إذا أقبل الإنسان آخر يشتهـي                      ثناياه لم يحرج وكان له أجرا

فإن زاد زاد الله في حسنـاتـه                      مثاقيل يمحو الله عنه بها وزرا الشعرلرجل من عذرة. والغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى .

 

 

صفحة : 1233

 

حديث عمرو بن أبي ربيعة عن صاحبه الجعد بن مهجع العذري: نسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن موسى بن حماد قال ذكر الرياشي قال قال حماد الراوية: أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمرو بن أبي ربيعة، فتذاكروا من العذريين، فقال عمر بن أبي ربيعة: كان لي صديق من عذرة يقال له الجعد بن مهجع، وكان أحد سلامان، وكان يلقى مثل الذي ألقى من الصبابة بالنساء والوجد بهن، على أنه كان لا عاهر الخلوة ولا سريع السلوة، وكان يوافي الموسم في كل سنة؛ فإذا راث عن وقته ترجمت عنه الأخبار، وتوكفت له الأسفار حتى يقدم. فغمني ذات سنة إبطاؤه حتى قدم حجاج عذرة، فأتيت القوم أنشد صاحبي، وإذا غلام قد تنفس الصعداء ثم قال: أعن أبي المسهر تسأل? قلت: عنه أسأل وإياه أردت. قال: هيهات هيهات أصبح والله أبو المسهر لا مؤيسا فيهمل ولا مرجوا فيعلل، أصبح والله كما قال القائل:

لعمرك ما حبي لأسماء تاركي                      أعيش ولا أقضي به فأموت قال قلت: وما الذي به? قال: مثل الذي بك من تهوركما في الضلال، وجركما أذيال الخسار، فكأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار. قلت: من أنت منه يابن أخي? قال: أخوه. قلت: والله يابن أخي ما يمنعك أن تسلك مسلك أخيك من الأدب وأن تركب إلا انك وأخاك كالبرد والبجاد لا ترقعه ولا يرقعك، ثم صرفت وجه ناقتي وأنا أقول:

أرائحة حـجـاج عـذرة وجـهة                      ولما يرح في القوم جعد بن مهجع

خليلان نشكو ما نلاقي من الهـوى                      متى ما يقل أسمع وإن قلت يسمع

ألا ليت شعري أي شيء أصـابـه                      فلى زفرات هجن ما بين أضلعي

فلا يبعدنك اللـه خـلا فـإنـنـي                      سألقى كما لاقيت في كل مصرع ثم انطلقت حتى وقفت موقفي من عرفات. فبينا أنا كذلك إذ أنا بإنسان قد تغير لونه وساءت هيئته، فأدنى ناقته من ناقتي حتى خالف بين أعناقهما، ثم عانقني وبكى حتى اشتد بكاؤه. فقلت: ما وراءك? فقال: برح العذل، وطول المطل، ثم أنشأ يقول:

لئن كانت عـدية ذات لـب                      لقد علمت بأن الحـب داء

ألم تنظر إلى تغيير جسمي                      وإني لا يفارقني البـكـاء

ولو أني تفرقت الذي بـي                      لقف الكلم وانكشف الغطاء

فإن معاشري ورجال قومي                      حتوفهم الصبابة واللـقـاء

إذا العذري مات خلي ذرع                      فذاك العبد يبكيه الرشـاء فقلت: يا أبا المسهر إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق الأرض وغربها، فلو دعوت الله كنت قمنا أن تظفر بحاجتك وأن تنصر على عدوك. قال: فتركني وأقبل على الدعاء. فلما نزلت الشمس للغروب وهم الناس أن يفيضوا سمعته يتكلم بشيء، فأصغيت إليه، فإذا هو يقول:

يا رب كـل غـدوة وروحــه                      من محرم يشكو الضحى ولوحه

أنت حسيب الخلق يوم الدوحه الجعد بن مهجع يذكر لعمر سبب عشقه ومسعى عمر في زواجه من عشقها: فقلت له: وما يوم الدوحة? قال: والله لأخبرنك ولو لم تسألني. فيممنا نحو مزدلفة، فأقبل علي وقال: إني رجل ذو مال كثير من نعم وشاء، وذو المال لا يصدره ولا يرويه الثماد . وقطر الغيث أرض كلب، فانتجعت أخوالي منهم، فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني جمة الماء، وكنت فيهم في خير أخوال. ثم إني عزمت على موافقة إبلي لهم يقال له الحوذان، فركبت فرسي وسمطت خلفي شرابا كان أهداه إلي بعضهم ثم مضيت، حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم رفعت لي دوحة عظيمة، فنزلت عن فرسي وشددته بغصن من أغصانها وجلست في ظلها. فبينا أنا كذلك إذ سطع غبار من ناحية الحي ورفعت لي شخوص ثلاثة، ثم تبينت فإذا فارس يطرد مسحلا وأتانا، فتأملته فإذا عليه درع أصفر وعمامة خز سوداء، وإذا فروع شعره تضرب خصريه، فقلت: غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذة الصيد فترك ثوبه ولبس ثوب امرأته. فما جاز علي إلا يسيرا حتى طعن المسحل وثنى طعنة للأتان فصرعهما، وأقبل راجعا نحوي وهو يقول:

نطعنهم سلكى ومخلوجة                      كرك لأمين على نابل فقلت: إنك قد تعبت وأتعبت، فلو نزلت فثنى رجله فنزل فشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة وألقى رمحه وأقبل حتى جلس، فجعل يحدثني حديثا ذكرت به قول أبي ذؤيب:

 

صفحة : 1234

 

 

وإن حديثا منك لو تـبـذلـينـه                      جنى النحل في ألبان عوذ مطافل فقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره ثم رجعت، وقد حسر العمامة عن رأسه، فإذا غلام كأن وجهه الدينار المنقوش. فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحسن صنعتك . فقال: مم ذاك? قلت: مما راعني من جمالك وبهرني من نورك. قال: وما الذي يروعك من حبيس التراب، وأكيل الدواب، ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أم يبأس. قلت: لا يصنع الله بك إلا خيرا. ثم تحدثنا ساعة، فأقبل علي وقال: ما هذا الذي أرى قد سمطت في سرجك? قلت: شراب أهداه إلي بعض أهلك، فهل لك فيه من أرب? قال: أنت وذاك. فأتيته به، فشرب منه وجعل ينكت أحيانا بالسوط على ثناياه، فجعل والله يتبين لي ظل السوط فيهن. فقلت: مهلا فإني خائف أن تكسرهن، فقال: ولم? قلت: لأنهن رقاق وهن عذاب. قال: رفع عقيرته يتغنى:

إذا قبل الإنسان آخر يشتـهـي                      ثناياه لم يأثم وكـان لـه أجـرا

فإن زاد زاد الله في حسنـاتـه                      مثاقيل يمحو الله عنه بها الوزرا ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره ثم رجع. قال: فبرقت لي بارقة تحت الدرع. فإذا ثدي كأنه حق عاج. فقلت: نشدتك الله أمرأة? قالت: إي والله إلا أني أكره العشير وأحب الغزل. ثم جلست فجعلت تشرب معي ما أفقد من أنسها شيئا حتى نظرت إلى عينيها كأنهما عينا مهاة مذعورة. فوالله ما راعني إلا ميلها على الدوحة سكرى. فزين لي والله الغدر وحسن في عيني، ثم إن الله عصمني منه، فجلست حجرة منها. فما لبثت إلا يسيرا حتى انتبهت فزعة، فلاثت عمامتها برأسها، وجالت في متن فرسها، وقالت: جزاك الله عن الصحبة خيرا. قلت: أو ما تزودينني منك زادا? فناولتني يدها، فقبلتها فشممت والله منها ريح المسك المفتوت، فذكرت قول الشاعر:

كأنها إذ تقضى النوم وانتبهت                      سحابة مالها عين ولا أثـر قلت: وأين الموعد? قالت: إن لي أخوة شرسا وأبا غيورا. ووالله لأن أسرك أحب إلي من أضرك، ثم انصرفت. فجعلت أتبعها بصري حتى غابت، فهي والله يابن ربيعة أحلتني هذا المحل وأبلغتني. فقلت له: يا أبا المسهر إن الغدر بك مع ما تذكر لمليح. فبكى واشتد بكاؤه. فقلت: لا تبك؛ فما قلت إلا مازحا، ولو لم أبلغ في حاجتك بمالي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه، فقال لي: خيرا. فلما انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته، ودعوت غلامي فشد على بعير له، وحملت عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة المخزومي، وحملت معي ألف دينار ومطرف خز، وانطلقنا حتى أتينا بلاد كلب، فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادي قومه، وإذا هو سيد الحي وإذا الناس حوله،. فوقفت على القوم فسلمت، فرد الشيخ السلام، ثم قال: من الرجل? قلت: عمرو بن أبي ربيعة بن المغيرة. فقال: المعروف غير المنكر، فما الذي جاء بك? قلت: خاطبا. قال: الكف، والرغبة. قلت: إني لم آت ذلك لنفسي عن غير زهادة فيك ولا جهالة بشرفك، ولكني أتيت في حاجة ابن أختكم العذري، وها هو ذاك. فقال: والله إنه لكفيء الحسب رفيع البيت، غير أن بناتي لم يقعن إلا في هذا الحي من قريش. فوجمت لذلك، وعرف التغير في وجهي فقال: أما إني صانع بك ما لم أصنعه بغيرك. قلت: وما ذاك فمثلي من شكر? قال: أخيرها فهي وما اختارت. قلت: ما أنصفتني إذ تختار لغيري وتولي الخيار غيرك. فأشار إلي العذري أن دعه يخيرها. فأرسل إليها: إن في الأمر كذا وكذا. فأرسلت إليه: ما كنت لأستبد برأي دون القرشي، فالخيار في قوله، حكمه. فقال لي: إنها قد ولتك أمرها فاقض ما أنت قاض. فحمدت الله عز وجل وأثنيت عليه وقلت: اشهدوا أني قد زوجتها من الجعد ابن مهجع وأصدقتها هذا الألف الدينار، وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة، وكسوت الشيخ المطرف، وسألته أن يبني بها عليه في ليلته. فأرسل إلى أمها، فقالت: أتخرج ابنتي كما تخرج الأمة . فقال الشيخ: هجري في جهازها، فما برحت حتى ضربت القبة في وسط الحريم، ثم أهديت إليه ليلا، وبت أنا عند الشيخ. فلما أصبحت أتيت القبة فصحت بصاحبي، فخرج إلي وقد أثر السرور فيه، فقلت: كيف كنت بعدي وكيف هي بعدك? فقال لي: أبدت لي والله كثيرا مما كانت أخفته عني يوم لقيتها. فسألتها عن ذلك فأنشأت تقول: صوت:

 

صفحة : 1235

 

 

كتمت الهوى لما رأيتك جـازعـا                      وقلت فتى بعض الصـديق يريد

وأن تطرحني أو تـقـول فـيتة                      يضر بها برح الهوى فـتـعـود

فوريت عما بي وفي داخل الحشى                      من الوجد برح فاعلمـن شـديد فقلت: أقم على أهلك، بارك الله لك فيهم، وانطلقت وأنا أقول:

كفيت أخي العذري ما كان نابـه                      وإني لأعباء النـوائب حـمـال

أما استحسنت مني المكارم والعلا                      إذا طرحت إني لمالـي بـذال وقال العذري:

إذا ما الخطاب خـلـى مـكـانـه                      فأف لدنيا ليس من أهلها عـمـر

فلا حي فتيان الحجـازين بـعـده                      ولا سقيت أرض الحجازين بالمطر صوت:

إن الخليط قد أزمعوا تركي                      فوقفت في عرصاتهم أبكي

جنية برزت لتقـتـلـنـي                      مطلية الأصداغ بالمسـك

عجبا لمثلك لا يكـون لـه                      خرج العراق ومنبر الملك الشعر لابن قيس الرقيات يقوله في عائشة بنت طلحة. والغناء لمعبد، ثقيل أول السبابة في مجرى البنصر. والسبب في قول ابن قيس هذا الشعر فيها يذكر في أخبارها إن شاء الله تعالى .

 

أخبار عائشة بنت طلحة ونسبها

نسب عائشة بنت طلحة: عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. أخبرني الحسن بن يحيى قال قال حماد قال أبي قال مصعب: كانت لا تستر وجهها وعتاب مصعب لها في ذلك: كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد. فعاتبها مصعب في ذلك، فقالت: إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه الناس ويعرفوا فضلي عليهم، فما كنت لأستره، ووالله ما في وصممة يقدر أن يذكرني بها أحد. وطالت مرادة مصعب إياها في ذلك، وكانت شرسة الخلق. قال: وكذلك نساء بني تميم هن أشرس خلق الله وأحظاه عند أزواجهن. وكانت عند الحسين بن علي صلوات الله عليهما ام إسحاق بنت طلحة، فكان يقول: والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني .

غضبت على مصعب فبعث إليها ابن قيس الرقيات: قال: نالت عائشة من مصعب وقالت: علي كظهر أمي، وقعدت في غرفة وهيأت فيها ما يصلحها. فجهد مصعب أن تكلمه فأبت. فبعث إليها ابن قيس الرقيات، فسألها كلامه، فقالت: كيف بيميني? فقال: ها هنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه. فدخل عليها فأخبرته، فقال: ليس هذا بشيء. فقالت: أتحلني وتخرج خائبا فأمرت له بأربعة آلاف درهم. وقال ابن قيس الرقيات لما رآها:

جنية برزت لتقتـلـنـا                      مطلية الأقراب بالمسك وذكر باقي الأبيات .

غضبت على مصعب فاسترضاها أشعب فرضيت: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق اليعقوبي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم قال: كان أشعب يألف مصعبا، فغضبت عليه عائشة بنت طلحة يوما، وكانت من أحب الناس إليه، فشكا ذلك إلى أشعب فقال: ما لي إن رضيت? قال: حكمك. قال: عشرة آلاف درهم. قال: هي لك. فانطلق حتى أتى عائشة فقال: جعلت فداءك قد علمت حبي لك وميلي قديما وحديثا إليك من غير منالة ولا فائدة. وهذه حاجة قد عرضت تقضين بها حقي وترتهنين لها شكري. قالت: وما عناك? قال: قد جعل لي الأمير عشرة آلاف درهم إن رضيت عنه. قالت: ويحك لا يمكنني ذلك. قال: بأبي أنت فارضي عنه حتى يعطيني ثم عودي إلى ما عودك الله من سوء الخلق. فضحكت منه ورضيت عن مصعب. وقد ذكر المدائني أن هذه القصة كانت لها مع عمرو بن عبيد الله بن معمر، وأن الرسول إليها والمخاطب لها بهذه المخاطبة ابن أبي عتيق .

وصفت عزة الميلاء لها ولعائشة بنت عثمان وأم القاسم بنت زكريا: وأخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال أبي حدثت عن صالح بن حسان قال: كان بالمدينة امرأة حسناء تسمى عزة الميلاء يألفها الأشراف وغيرهم من أهل المروءات، وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء. فأتاها مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن العاص، فقالوا: إنا خطبنا فانظري لنا. فقالت لمصعب: يابن أبي عبد الله ومن خطبت? فقال: عائشة بنت طلحة. فقالت: فأنت يابن أبي أحيحة? قال: عائشة بنت عثمان. قالت: فأنت يابن الصديق? قال: أم القاسم بنت زكريا بن طلحة .

 

 

صفحة : 1236

 

قالت: يا جارية هاتي منقلي تعني خفيها فلبستهما وخرجت ومعها خادم لها، فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضا، فقالت: يا جارية انظري ما هذا. فنظرت ثم رجعت فقالت: امرأة أخذت مع رجل. فقالت: داء قديم، امض ويلك. فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت: فديتك كنا في مأدبة أو مأتم لقريش، فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك، فلم أدر كيف أصفك فديتك. فألقي ثيابك ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتج كل شيء منها. فقالت لها عزة: خذي ثوبك فديتك. فقال عائشة: قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي. قالت عزة: وما هي بنفسي أنت? قالت: تغنيني صوتا. فاندفعت تغني لحنها: صوت:

خليلي عوجا بالمحلة من جمـل                      وأترابها بين الأصيفر والخبـل

نقف بمغان قد محا رسمها البلى                      تعاقبها الأيام بالريح والـوبـل

فلو درج النمل الصغار بجلدهـا                      لأندب أعلى جلدها مدرج النمل

وأحسن خلق الله جيدا ومـقـلة                      تشبه في النسوان بالشادن الطفل الشعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذري. والغناء لعزة الميلاء ثقيل أول بالوسطى فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع الفضة وغير ذلك، فدفعته إلى مولاتها فحملته. وأتت النسوة على مثل ذلك تقول لهن، حتى أتت القوم في السقيفة. فقالوا: ما صنعت? فقالت: يابن أبي عبد الله، أما عائشة فلا والله إن رأيت مثلها مقبلة ومدبرة، محطوطة المتنين، عظيمة العجيزة، ممتلئة الترائب ، نقية الثغر وصفحة الوجه، فرعاء الشعر، لفاء الفخذين، ممتلئة الصدر، خميصة البطن، ذات عكن، ضخمة السرة، مسرولة الساق. يرتج ما بين أعلاها إلى قدميها. وفيها عيبان، أما أحدهما فيواريه الخمار، وأما الآخر فيواريه الخف: عظم القدم والأذن. وكانت عائشة كذلك. ثم قالت عزة: وأما أنت يابن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان لمرأة قط، ليس فيها عيب. والله لكأنما أفرغت إفراغا، ولكن في الوجه ردة ، وإن استشرتني أشرت عليك بوجه تستأنس به. وأما أنت يابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم، كأنها خوط بانة تنثني، وكأنها جدل عنان، أو كأنها جان يتثنى على رمل، لو شئت أن تعقد أطرافها لفعلت. ولكنها شختة الصدر وأنت عريض الصدر؛ فإذا كا ذلك كان قبيحا، لا والله حتى يملأ كل شيء مثله. قال: فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن .

أمها وخالتها، وزواجها من ابن خالها وأولادها منه: أخبرني الطوسي وحرمي عن الزبير عن عمه، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الزبيري والمدائني، ونسخت بعض هذه الأخبار من كتاب أحمد بن الحارث عن المدائني وجمعت ذلك، قالوا جميعا: إن أم عائشة بنت طلحة أم كلثوم بنت أبو بكر الصديق، وأمها حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زهير من بني الخزرج بن الحارث. قالوا: وكانت عائشة بنت طلحة تشبه بعائشة أم المؤمنين خالتها. فزوجتها عائشة عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وهو ابن أخيها وابن خال عائشة بنت طلحة، وهو أبو عذرها ، فلم تلد من أحد من أزواجها سواه؛ ولدت له عمران وبه كانت تكنى، وعبد الرحمن، وأبا بكر، وطلحة، ونفيسة وتزوجها الوليد بن عبد الملك، ولكل هؤلاء عقب. وكان ابنها طلحة من أجواد قريش، وله يقول الحزين الديلي:

فإن تك يا طلح أعـطـيتـنـي                      عذافرة تستخف الـضـفـارا

فما كان نـفـعـك لـي مـرة                      ولا مرتـين ولـكـن مـرارا

أبوك الذي صدق المصطـفـى                      وسار مع المصطفى حيث سارا

وأمـك بـيضـاء تـمـيمـية                      إذا نسب الناس كانوا نـضـارا مصارمتها لزوجها وإيلاؤه منها: قال: فصارمت عائشة بنت طلحة زوجها، وخرجت من دارها غضبى، فمرت في المسجد وعليها ملحفة تريد عائشة أم المؤمنين، فرآها أبو هريرة فقال: سبحان الله كأنها من الحور العين. فمكثت عند عائشة أربعة أشهر. وكان زوجها قد آلى منها، فأرسلت عائشة: إني أخاف عليك الإيلاء ، فضمها إليه وكان موليا منها فقيل له: طلقها، فقال:

يقولون طلقها لأصبح ثـاوبـا                      مقيما علي الهم، أحـلام نـائم

وإن فراقي أهل بيت أحبـهـم                      لهم زلفة عندي لإحدى العظائم زواجها من مصعب بن الزبير:

 

صفحة : 1237

 

فتوفي عبد الله بعد ذلك وهي عنده، فما فتحت فاها عليه، وكانت عائشة أم المؤمنين تعدد عليها هذا في ذنوبها التي تعددها. ثم تزوجها بعده مصعب بن الزبير، فأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك. فبلغ ذلك أخاه فقال: إن مصعبا قدم أيره، وأخر خيره. فبلغ ذلك من قوله عبد الملك بن مروان فقال: لكنه أخر أيره وخيره، وكتب ابن الزبير إلى مصعب يؤنبه على ذلك ويقسم عليه ألا يلحق به بمكة ولا ينزل المدينة ولا ينزل إلا بالبيداء، وقال له: إني لأرجو أن تكون الذي يخسف به البيداء، فما أمرتك بنزولها إلا لهذا. وصار إليه وأرضاه عن نفسه، فأمسك عنه .

كانت تعاسر مصعبا فاحتال له كاتبه ابن أبي فروة حتى ياسرته: قال وحدثني المدائني عن سحيم بن حفص قال: كان مصعب بن الزبير لا يقدر عليها إلا بتلاح ينالها منه وبضربها. فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه. فقال له: أنا أكفيك هذا إن أذنت لي. قال: نعم افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا. فأتاها ليلا ومعه أسودان فاستأذن عليها. فقالت له: أفي مثل هذه الساعة قال نعم. فأدهلته. فقال للأسودين: احفرا ها هنا بئرا. فقالت له جاريتها: وما تصنع بالبئر? قال: شؤم ملاتك، أمرني هذا الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام. فقالت عائشة: فانظرني أذهب إليه. قال: هيهات لا سبيل إلى ذلك، وقال للأسودين: احفرا. فلما رأت الجد منه بكت ثم قالت: يابن فروة إنك لقاتلي ما منه بد? قال: نعم، وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك، ولكنه قد غضب وهو كافر الغضب. قالت: وفي أي شيء غضبه. قال: في امتناعك عنه، وقد ظن أنك تبغضينه وتتطلعين إلى غيره فقد جن. فقالت: أنشدك الله إلا عاودته. قال: إني أخاف أن يقتلني. فبكت وبكى جواريها. فقال: قد رققت لك، وحلف أنه يغرر بنفسه، ثم قال لها: فما أقول? قالت: تضمن عني ألا أعود أبدا. قال: فما لي عندك? قالت: قيام بحقك ما عشت. قال: فأعطيني المواثيق، فأعطته. فقال للأسودين: مكانكما، وأتى مصعبا فأخبره. فقال له: استوثق منها بالأيمان، ففعلت وصلحت بعد ذلك لمصعب .

أخبار لها مع مصعب: قال: ودخل عليها مصعب يوما وهي نائمة متصبحة ومعه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار، فأنبهها ونثر اللؤلؤ في حجرها. فقالت له: نومتي كانت أحب إلي من هذ اللؤلؤ .

قال: وصارمت مصعبا مرة، فطالت له وشق ذلك عليها وعليه، وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر، فشكت عائشة مصارمته إلى مولاة لها. فقالت: الآن يصلح أن تخرجي إليه. فخرجت فهنأته بالفتح وجعلت تمسح التراب عن وجهه. فقال لها مصعب: إني أشفق عليك من رائحة الحديد. فقالت: لهو والله عندي أطيب من ريح المسك الأذفر .

أخبرني ابن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسعر قال: كان مصعب من أشد الناس إعجابا بعائشة بنت طلحة، ولم يكن لها شبه في زمانها حسنا ودمائة وجمالا وهيئة ومتانة وعفة، وإنها دعت يوما نسوة من قريش فلما جئنها أجلستهن في مجلس قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب و المجمر، وخلعت على كل امرأة منهن، خلعة تامة من الوشي والخز ونحوهما، ودعت عزة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفت، ثم قال لعزة: هاتي يا عزة فغنينا، فغنتهن في شعر امرئ القيس:

وثغر أغر شتيت البـنـات                      لذيذ المقبل والمبـتـسـم

وما ذقته غـير ظـن بـه                      وبالظن يقضي عليك الحكم وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له، فقام فانتقل حتى دنن منهن والستور مسبلة، فصاح: يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت، فبارك الله فيك يا عزة ثم أرسل إلى عائشة: أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك، وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا الصوت ثم تعود إليك، ففعلت. وخرجت عزة إليه فغنته هذا الصوت مرارا وكاد مصعب أن يذهب عقله فرحا. ثم قال لها: يا عزة إنك لتحسنين القول والوصف، وأمرها بالعود إلى مجلسها، وتحدث ساعة مع القوم ثم تفرقوا .

خطبها بشر بن مروان فتزوجت عمر بن عبيد الله:

 

صفحة : 1238

 

وقال المدائني، وذكر القحذمي أيضا في خبره: فلما قتل مصعب عن عائشة خطبها بشر بن مروان، وقدم عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي من الشام فنزل الكوفة، فبلغه أن بشر بن مروان خطبها، فأرسل إليها جارية لها وقال: قولي لابنة عمي يقرؤك السلام ابن عمك ويقول لك أنا خير من هذا المبسور المطحول، وأنا ابن عمك وأحق بك، وإن تزوجت بك ملأت بيتك خيرا، وحرك أيرا. فتزجته فبنى لها بالحيرة ومهدت له سبعة أفرشة عرضها أربع أذرع، فأصبح ليلة بنى بها عن تسع. قال: فلقيته مولاة لها فقالت: أبا حفص فديتك قد كملت في كل شيء حتى في هذا .

وقال مصعب في خبره إن بشرا بعث إليها عمر بن عبيد الله بن معمر يخطبها عليه، فقالت له: يا مصارع قلة أما وجد بشر رسولا إلى ابنة عمك غيرك فأين بك عن نفسك ? قال: أو تفعلين? قالت نعم، فتزوجها. وقال مصعب الزبيري في خبره: لما بنى بها عمر قال لها: لأقتلنك الليلة، فلم يصنع إلا واحدة. فقالت له لما أصبح: قم يا قتال. قال: وقالت له حينئذ:

قد رأيناك فلم تحل لـنـا                      وبلوناك فلم نرض الخبر وهذه الحكاية تحامل من مصعب الزبيري وعصبية. والخبر في رضاها عنه والحكاية في هذا غير ما حكاه وهو ما سبق .

ما كان في يوم زواجها من عمر بن عبد الله: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد عن القحذمي أن عمر بن عبيد الله لما قدم الكوفة وتزوج عائشة بنت طلحة، فحمل إليها ألف ألف درهم: خمسمائة ألف درهم مهرا وخمسمائة ألف هدية، وقال لمولاتها: لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة. وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطي بالثياب. وخرجت عائشة فقالت لمولاتها: أهذا فرش أم ثياب? قالت: انظري إليه، فنظرت فإذا مال، فتبسمت. فقالت: أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزبا قالت: لا والله، ولكن لا يجوز دخوله إلا بعد أن أتزين له وأستعد. قالت: فيم ذا فوجهك والله أحسن من كل زينة، وما تمدين يدك إلى طيب أو ثوب أو مال أو فرش إلا وهو عندك. وقد عزمت عليك أن تأذني له. قالت: افعلي. فذهبت إليه فقالت له: بت بنا الليلة. فجاءهم عند العشاء الآخرة ، فأدني إليه طعام فأكل الطعام كله حتى أعرى الخوان، وغسل يده، وسأل عن المتوضأ فأخبرته فتوضأ، وقام يصلي حتى ضاق صدري ونمت، ثم قال: أعليكم إذن? قلت: نعم، فادخل، فأدخلته وأسبلت الستر عليهما. فعددت له في بقية الليل على قلتها سبع عشرة مرة دخل المتوضأ فيها. فلما أصبحنا وقفت على رأسه فقال: أتقولين شيئا? قلت: نعم والله ما رأيت، أكلت أكل سبعة، وصليت صلاة سبعة، ونكت نيك سبعة. فضحك وضرب بيده على منكب عائشة، فضحكت وغطت وجهها وقالت:

قد رأيناك فلم تحل لـنـا                      وبلوناك فلم نرض الخبر ويدل أيضا على على بطلان خبره أنه لما مات ندبته قائمة، ولم تندب أحدا من أزواجها إلا جالسة فقيل لها في ذلك، فقالت: إنه كان أكرمهم علي وأمسهم رحما بي، وأردت ألا أتزوج بعده وكانت ندبة المرأة زوجها قائمة مما تفعله من لا تريد أن تتزوج بعد زوجها أخبرني بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن زهير بن حرب عن محمد بن سلام. وهذا دليل على خلاف ما ذكره مصعب .

ثم رجع الخبر إلى سياقة خبرها: حديث امرأة عنها وقد اختلى بها عمر: قال المدائني في خبره: قالت امرأة: كنت عند عائشة بنت طلحة، فقيل لها: قد جاء الأمير، فتنحيت، ودخل عمر بن عبد الله، وكنت بحيث أسمع كلامهما، فوقع عليها فجاءت بالعجائب ثم خرج، فقلت لها: أنت في نفسك وموضعك وشرفك تفعلين هذا فقالت: إنا نتشهى لهذه الفحول بكل ما حركها وكل ما قدرنا عليه .

طلبت ضرتها من مولاة لها أن تراها متجردة ثم ندمت أن رأتها: قال المدائني: وحدثني مسلمة بن محارب قال: قالت رملة بنت عبد الله بن خلف وكانت تحت عمر بن عبيد الله بن معمر، وقد ولدت منه ابنه طلحة الجود لمولاة عائشة بنت طلحة: أريني عائشة متجردة ولك ألفا درهم. فأخبرت عائشة بذلك. قالت: فإني أتجرد، فأعليمها ولا تعرفيها أني أعلم. فقامت عائشة كأنها تغتسل، وأعلمتها فأشرفت عليها مقبلة ومدبرة، فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم، وقالت: لوددت أني أعطيتك أربعة آلاف درهم ولم أرها. قال: وكانت رملة قد أسنت، وكانت حسنة الجسم قبيحة الوجه عظيمة النف. وفيها وفي عائشة يقول الشاعر:

 

صفحة : 1239

 

 

انعم بعائش عيشا غير ذي رنق                      وانبذ برملة نبذ الجورب الخلق ويقال: إن رملة قد أسنت عند عمر بن عبيد الله، فكانت تجتنبه أيام أقرائها ثم تغتسل، تريه أنها تحيض، وذلك بعد انقطاع حيضها. فقال في ذلك بعض الشعراء:

جعل الله كل قطـرة حـيض                      قطرت منك في حماليق عين أخبرنا بذلك الجوهري عن عمر بن شبة .

أخبار لها مع عمر بن عبيد الله: وذكر هارون بن الزيات عن أبي بكر بن عياش قال: قال عمر بن عبيد الله لعائشة بنت طلحة وقد أصاب منها طيب نفس: ما مر بي مثل يوم أبي فديك . فقالت له: اعدد أيامك واذكر أفضلها، فعد يوم سجستان ويوم قطري بفارس ونحو ذلك. فقالت عائشة: قد تركت يوما لم تكن في أيامك أشجع منك فيه. قال: وأي يوم? قالت: يوم أرخت عليها وعليك رملة الستر، تريد قبح وجهها .

قال: فمكثت عائشة عند عمر بن عبيد الله بن معمر ثماني سنين، ثم مات عنها في سنة اثنتين وثمانين، فتأيمت بعده، فخطبها جماعة فردتهم، ولم تتزوج بعده أحدا .

قال المدائني: كان عمر بن عبيد الله من أشد الناس غيرة، فدخل يوما على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار، فقال لها: انفضي التراب عني. فأخذت منديلا تنفض به عنه التراب، ثم قالت له: ما رأيت الغبار على وجه أحد قط كان أحسن منه على وجه مصعب، قال: فكاد عمر يموت غيظا .

وقال أحمد بن حماد بن جميل حدثني القحذمي قال: كانت عائشة بنت طلحة من أشد الناس مغايظة لأزواجها، وكانت تكون لمن يجيء يحدثها في رقيق الثياب، فإذا قالوا: قد جاء الأمير ضمت عليها مطرفها وقطبت. وكانت كثيرا ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعبا وجماله، تغيظه بذلك فيكاد يموت .

طلبت من الوليد بن عبد الملك أعوانا حين حجت: وقال المدائني حدثني مسلمة بن محارب وعبيد الله بن فائد، وأخبرنا به حرمي عن الزبير عن عمه ومحمد بن الضحاك، قالوا: دخلت عائشة بنت طلحة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة، فقالت: يا أمير المؤمنين، مر لي بأعوان فضم إليها قوما يكونون معها، فحجت ومعها ستون بغلا عليها الهوادج والرحائل. فعرض لها عروة بن الزبير فقال:

عائش يا ذات البغال الستين                      أكل عام هكذا تحـجـين فأرسلت إليه: نعم يا عرية، فتقدم إن شئت، فكف عنها. ولم تتزوج حتى ماتت .

حجت مع سكينة بنت الحسين وكانت أحسن آلة وثقلا: وقال غير المدائني: إن عائشة بنت طلحة حجت وسكينة بنت الحسين عليهما السلام معا، وكانت عائشة أحسن آلة وثقلا . فقال حاديها:

عائش يا ذات البغال الستين                      أكل عام هكذا تحـجـين فشق ذلك على سكينة، ونزل حاديها فقال:

عائش هذي ضرة تشكوك                      لولا أبوها ما اهتدى أبوك فأمرت عائشة حاديها أن يكف فكف .

بهر موكب عاتكة بنت يزيد في الحج: وقال: إسحاق بن إبراهيم في خبره حدثني محمد بن سلام عن يزيد بن عياض قال: استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية عبد الملك في الحج، فأذن لها وقال: ارفعي حوائجك واستظهري؛ فإن عائشة بنت طلحة تحج، ففعلت فجاءت بهيئته جهدت فيها. فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها وفرق جماعتها. فقالت: أرى عائشة بنت طلحة، فسألت عنها فقالوا: هذه خازنتها. ثم جاء موكب آخر أعظم من ذلك فقالوا: عائشة عائشة، فضغطهم، فسألت عنه، فقالوا: هذه ماشطتها. ثم جاءت مواكب على هذا إلى سننها . ثم أقبلت كوكبة فيها ثلثمائة راحلة عليها القباب والهوادج. فقالت عاتكة: ما عند الله خير وأبقى .

وقال هارون بن الزيات حدثني قبيصة عن ابن عائشة عن أمه عن سلامة مولاة جدته أثيلة بنت المغيرة بن عبد الله بن معمر قالت: كان كبر عجيزتها مثار العجب: زرت مع مولاتي خالتها عائشة بنت طلحة وأنا يومئذ وصيفة ، فرأيت عجيزتها من خلفها وهي جالسة كأنها غيرها، فوضعت أصبعي عليها لأعلم ما هي، فلما وجدت مس أصبعي قالت: ما هذا? قلت: جعلت فداءك لم أدر ما هو، فجئت لأنظر. فضحكت وقالت: ما أكثر من يعجب مما عجبت منه .

إعجاب أبي هريرة بجمالها: وزعم بكر بن عبد الله بن عاصم مولى عرينة عن أبيه عن جده: أن عائشة نازعت زوجها إلى أبي هريرة، فوقع خمارها عن وجهها، فقال أبو هريرة: سبحان الله ما أحسن ما غذاك أهلك لكأنما خرجت من الجنة .

 

 

صفحة : 1240

 

وفدت على هشام فأعجب سامروه بعلمها: قال ابن عائشة وحدثني أبي أن عائشة بنت طلحة وفدت على هشام، فقال لها: ما أوفدك? قالت: حبست السماء المطر، ومنع السلطان الحق. قال: فإني أبل رحمك وأعرف حقك، ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال: إن عائشة عندي، فاسمروا عندي الليلة فحضروا، فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه، وما طلع نجم ولا غار إلا سمته. فقال لها هشام: أما الأول فلا أنكره، وأما النجوم فمن أين لك? قالت: أخذتها عن خالتي عائشة. فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة .

مر بها النميري الشاعر فاستنشدته وخبره معها: أخبرني عمي عن الكراني عن المغيرة بن محمد المهلبي عن محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثني ابن عمران البزازي قال: لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة، وبالمدينة سنة، تخرج إلى مال لها بالطائف عظيم وقصر لها فتنزه وتجلس فيه بالعشيات، فتناضل بين الرماة. فمر بها النميري الشاعر، فسألت عنه فنسب لها، فقالت: ائتوني به. فقالت له لما أتوها به: أنشدني مما قلت في زينب . فامتنع وقال: ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية. قالت: أقسمت لما فعلت. فأندشها قوله:

نزلن بفـخ ثـم رحـن عـشـية                      يلبين للرحمـن مـعـتـمـرات

يخبئن أطراف الأكف من التقـى                      ويخرجن شطر الليل معتجـرات

ولما رأت ركب النميري أعرضت                      وكن من أن يلقـينـه حـذرات

تضوع مسكا بطن نعمان أن مشت                      به زينب في نسـوة خـفـرات فقالت: والله ما قلت إلا جميلا، ولا وصفت إلا كرما وطيبا وتقى ودينا، أعطوه ألف درهم. فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها، فقالت: علي به فجاء. فقالت: أنشدني من شعرك في زينب. فقال: أو أنشدك من قول الحارث فيك? فوثب مواليها، فقالت: دعوه؛ فإنه أراد أن يستقيد لابنة عمه، هات. فأنشدها:

ظعن الأمير بأحسن الخلـق                      وغدوا بلبك مطلع الشـوق

وتنوء تثقلها عـجـيزتـهـا                      نهض الضعيف ينوء بالوسق

ما صبحت زوجا بطلعتـهـا                      إلا غدا بكواكب الـطـلـق

قرشية عبق العبـير بـهـا                      عبق الدهان بجانب الحـق

بيضاء من تيم كلفـت بـهـا                      هذا الجنون وليس بالعشـق قالت: والله ما ذكر إلا جميلا، ذكر أني إذا أصبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق، وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق. أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين، ولا تعد لإتياننا يا نميري .

أخر الحارث بن خالد الصلاة لتتم طوافها: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن سلام: أن عبد الملك ولى الحارث بن خالد على مكة. فأذن المؤذن، وخرج للصلاة، فأرسلت إليه عائشة بنت طلحة: قد بقي من طوافي شيء لم آته، وكان يتعشقها، فأمر المؤذن فكف عن الإقامة، ففرغت من طوافها. وبلغ ذلك عبد الملك فعزله. فقال: ما أهون والله غضبه وعزله إياي علي عند رضاها عني .

كانت معناة بعجيزتها: أخبرني أحمد بن عبد العزيز حدثني عمر بن شبة قال: قال سلم بن قتيبة: رأيت عائشة بنت طلحة بمنى أو مسجد الخيف، فسألتني من أنت? قلت: سلم بن قتيبة. فقالت: رحم الله مصعبا ثم ذهبت تقوم ومعها امرأتان تنهضانها، فأعجزتها أليتاها من عظمهما، فقالت: إني بكما لمعناة. فذكرت قول الحارث:

وتنوء تثقلها عـجـيزتـهـا                      نهض الضعيف ينوء بالوسق وروى هذا الخبر بن الزيات عن جعفر بن محمد عن أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عمرو بن خلاد عن المدائني قال: قال أبو هريرة لعائشة بنت طلحة: ما رأيت شيئا أحسن منك إلا معاوية أول يوم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالت: والله لأنا أحسن من النار في الليلة القرة في عين المقرور .

خطبها أبان بن سعيد على يد أخيه فأبت: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة قال: كتب أبان بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة، ففعل. فقالت ليحيى: ما أنزل أخاك أيلة? قال: أراد العزلة. قالت: اكتب إلى أخيك:

حللت محل الضب لا أنت ضائر                      عدوا ولا مستنقع بـك نـافـع

 

صفحة : 1241

 

صوت:

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه                      صنيعة تقوى أو صديق توامقه

منعت وبعض المنع حزم وقوة                      فلم يفتلتك المال إلا حقـائقـه عروضه من الطويل. توامقه: تفاعله من الموامقة، أي توده ويودك؛ يقال: ومقته أمقه أي أحببته. ويفتلتك أي يخرجه من يدك وقبضتك. الشعر لكثير. والغناء لمالك بن أبي السمح، إنه للهذلي، خفيف ثقيل أول بالبنصر .

سئل ابن عمران الطلحي أن يعاون صيرفيا أفلس فتمثل ببيتين لكثير: أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا طلحة بن عبد الله قال حدثني أبو معمر عافية بن شيبة قال حدثني العتبي قال: أفلس صيرفي بالمدينة، فخرج قوم يسألون له، فمروا بابن عمران الطلحي وقد فتح بابه واجتمع له أصحابه، فسألوه فقرع بمخصرته ثم رفع رأسه إليهم فقال:

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه                      صنيعة تقوى أو صديق توامقه

بخلت وبعض البخل حزم وقوة                      فلم يفتلتك المال إلا حقـائقـه إنا والله ما نحيد عن الحق، ولا نتدفق في الباطل، وإن لنا لحقوقا تشغل فضول أموالنا، وما كل من أفلس من صيارفة المدينة قدرنا ان نجبره، فوموا. قال: فقمنا نستبق الباب .

أن يفرض له فأبى فتمثل الأبرش ببيتين لكثير: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو مسلمة المديني قال أخبرني أبي قال: كان رجل من الأنصار من بني حارثة مملقا ليس في ديوان ولا عطاء، وكان صديقا لإبراهيم ابن هشام بن إسماعيل. فقال له يوما: إن أمير المؤمنين مسابق عدا بين الخيل، وقد أمرت الحرس ألا يعرضوا لك حتى تكلمه. قال: فسبق هشاما يومئذ ابن له، وكان السبق يشتد عليه. فعرض له النصاري فقال: يا أمير المؤمنين، أنا امرؤ من الأنصار، وقد بلغت هذه السن ولست في ديوان، فإن رأى أمير المؤمنين أن يفرض لي فعل. قال: فأقبل عليه هشام فقال: والله لا أفرض لك حتى مثل هذه الليلة من السنة المقبلة، ثم أقبل على الأبرش فقال: يا أبرش أخطأ أخو الأنصار المسألة. فقال: يا أمير المؤمنين، ابن أبي جمعة يقول:

إذا المال لم يوجب عليك عطاءه                      صنيعة تقوى أو خليل توامقـه

منعت وبعض المنع حزم وقوة                      فلم يفتلتك المال إلا حقـائقـه من شعر عمرو بن شأس: صوت:

فوانـدمـي عـلــى الـــشـــبـــاب و وانـــدم                      ندمـت وبـان الــيوم مـــنـــي بـــغـــير ذم

وإذ إخـوتـي حــولـــي وإذ أنـــا شـــامـــخ                      وإذ لا أجـيب الـعـاذلات مــن الـــصـــمـــم

أرادت عـــرارا بـــالـــهـــوان ومـــن يرد                      عرارا لـعـمـري بـالـهـوان فـقــد ظـــلـــم

فإن كـنـت مـنـي أو تـريدين صـحـــبـــتـــي                      فكـونـي لـه كـالـسـمـــن ربـــت لـــه الأدم

وإلا فـبـينـي مــثـــل مـــا بـــان راكـــب                      تيمـم خـمــســـا لـــيس فـــي ورده يتـــم

فإن عـــرارا إن يكـــن ذا شــــكـــــــيمة                      تعـافـيتـهـا مـنـه فـمـا أمـلــك الـــشـــيم

وإن عـــرارا إن يكـــن غـــير واضــــــح                      فإنـي أحـب الـجـون ذا الـمـكـنـب الـعــمـــم

وإنـي لـعـطـي غـثـهـا وســمـــينـــهـــا                      وأسـري إذا مـا الـلـيل ذو الـظـلــم ادلـــهـــم

حذارا على ما كان قدم والديإذا روحتهمحرجف تطرد الصرم عروضه من الطويل. الشعر لعمرو بن شأس الأسدي. والغناء في الأول والثاني من الأبيات لمعبد. ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى، عن إسحاق. وذكر عمرو أن فيهما لمالك خفيف رمل بالبنصر. وفي الثامن والتاسع لابن جامع هزج بالوسطى عن الهشامي وعلي بن يحيى، وفيهما لإبراهيم ماخوري بالبنصر من نسخة عمرو الثانية، ولابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن حبش، وفيهما رمل مجهول وقيل: إنه لسليم. الشامخ: الذي يشمخ بأنفه زهوا وكبرا. وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. و الشيمة: الطبيعة. ربت له: يعني للسمن فلا تفسده . والأدم جمع واحدها أديم وجمعها أدم، كما يقال أفيق وأفق . واليتم: الغفلة والضيعة؛ واليتيم مأخوذ من هذا. واليتيم من البهائم: ما اختلج عن أمه. والعرب تقول: لا تخلج الفصيل عن أمه، فإن الذئب عالم بمكان الفصيل اليتيم . ويقال: فلان شديد الشكيمة أي شديد اللسان كثير البيان؛ ومنه شكيمة اللجام، وجمعها شكائم. قال عويف القوافي:

 

صفحة : 1242

 

 

أقول لفتيان كـرام تـروحـوا                      على الجرد في أفواهن الشكائم والواضح: الأبيض. والجون: الأسود والأبيض أيضا، وهو من الأضداد. والعمم: الطويل؛ يقال رجل عمم، وامرأة عمم، ورجل عميم، وامرأة عميمة، ونخل عميم، ونبت عميم. والسرى: السير ليلا. وادلهم: اشتد سواده. والحرجف: الريح الشديدة الباردة. والصرم: جمع صرمة وهي القطعة من الإبل. يعني أن هذه الريح إذا هبت طرد الرعاء الإبل مراحها وأعطانها فتسكنها فيها .

 

نسب عمرو بن شأس وأخباره

 

في هذا الشعر وغيره:

نسب عمرو بن شأس: هو عمرو بن شأس بن عبيد بن ثعلبة بن ذؤيبة بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة. وهذا الشعر يقوله في امرأته أم حسان وابنه عرار بن عمرو، وكانت تؤذيه وتعيره بسواده .

كانت امرأته تؤذي عرارا وتشتمه ويشتمها، فقال هو شعرا يخاطبها به: وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن الأحول قال قال ابن الأعرابي: كانت امرأة عمرو بن شأس من رهطه، ويقال لها أم حسان، واسمها حية بنت الحارث بن سعد، وكان له ابن يقال له عرار من أمة له سوداء وكانت تعيره وتؤذي عرارا وتشتمه ويشتمها. فلما أعيت عمرا قال فيها:

ديار ابنة السعدي هيه تكـلـمـي                      بدافقة الحومان فالسفح من رمـم

لعمر ابنة السعدي إنـي لأتـقـي                      خلائق تؤبى في الثراء وفي العدم

وقفت بها ولم أكن قبل أرتـجـي                      إذا الحبل من إحدى حبائبي انصرم

وإني لمزر بالمطي تـنـقـلـي                      عليه وإيقاعي المهند بالـعـصـم

وإني لأعطي غثها وسـمـينـهـا                      وأسرى إذا ما الليل ذو الظلم ادلهم

إذا الثلج أضحى في الديار كـأنـه                      مناثر ملح في السهول وفي الأكم

حذارا على ما كان قـدم والـدي                      إذا روحتهم حرجف تطرد الصرم

وأترك ندمـانـي يجـر ثـيابـه                      وأوصاله من غير جرح ولا سقم

ولكنـهـا مـن رية بـعـد رية                      معتقة صهبـاء راووقـهـا رذم

من العانيات من مـدام كـأنـهـا                      مذابح غزلان يطيب بها الشـمـم

وإذ أخوتي حولي وإذ أنا شـامـخ                      وإذ لا أجيب العاذلات من الصمم

ألم يأتها أني صـحـوت وأنـنـي                      تحالمت حتى ما أعارم من عـرم

وأطرقت إطراق الشجاع ولو يرى                      مساغا لنابيه الشجـاع لـقـد أزم

وقد علمت سعد بأني عـمـيدهـا                      قديما وأني لست أهضم من هضم يقول: لا أظلم أحدا من قومي وأتهضمه فيطلبني بمثل ذلك، أي أرفع نفسي عن هذا

خزيمة رداني الفعال ومعـشـر                      قديما بنوا لي سورة المجد والكرم

إذا ما وردنا الماء كانت حمـاتـه                      بنو أسد يوما على رغم من رغم

أرادت عرارا بالهوان ومـن يرد                      عرارا لعمري بالهوان فقد ظلـم لما يئس من الصلح بين امرأته وابنه طلقها ثم ندم وقال شعرا: وذكر باقي الأبيات. قال ابن الأعرابي وأبو بكر الشيباني: فجهد عمرو بن شأس أن يصلح بين ابنه وامرأته أم حسان فلم يمكنه ذلك، وجعل الشر يزيد بينهما. فلما رأى ذلك طلقها، ثم ندم ولام نفسه؛ فقال في ذلك:

تذكر ذكرى أم حسـان فـاقـشـعـر                      على دبر لمـا تـبـين مـا ائتـمـر

فكدت أذوق الموت لـو أن عـاشـقـا                      أمر بموساه الشـوارب فـانـتـحـر

تذكرتها وهـنـا وقـد حـال دونـهـا                      رعان وقيعان بها الدهر الزهر والشجر

فكنت كذاب الـبـو لـمـا تـذكـرت                      لها ربعا حنت لـمـعـهـده سـحـر

حفاظـا ولـم تـنـزع هـراي أثـيمة                      كذلك شأو المرء يخـلـجـه الـقـدر قال ابن الأعرابي: الأثيمة الفعيلة من الإثم، وهي مرفوعة بفعلها، كأنه قال: لم تنزع الأثيمة هواي. تخلجه: تصرفه. شأوه: همه ونيته. قال وقال فيها أيضا:

ألم تعلمي يا أم حسان أنني                      إذا عبرة نهنهتها فتخلت

 

صفحة : 1243

 

 

رجعت إلى صدر كجرة حنـتـم                      إذا قرعت صفرا من الماء صلت خبر ابنه عرار مع عبد الملك حين جاءه رسولا من قبل الحجاج: أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق بن محمد بن سلام، وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن سلام: لما قتل الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بعث برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس الأسدي، فلما ورد به وأوصل كتاب الحجاج، جعل عبد الملك يعجب من بيانه وفصاحته مع سواده، فقال متمثلا:

وإن عمرارا إن يكن غير واضـح                      فإني أحب الجون ذا المنكب العمم فضحك عرار من قوله ضحكا غاظ عبد الملك؛ فقال له: مم ضحكت ويحك قال: أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين الذي قيل فيه هذا الشعر ? قال لا. قال: أنا والله هو. فضحك عبد الملك ثم قال: حظ وافق كلمة، وأحسن جائزته وسرحه .

قال شعرا في قتل ملك من غسان يقال له عدي: وقال الطوسي: أغار ملك من ملوك غسان يقال له عدي وهو ابن أخت الحارث بن أبي شمر الغساني علي بني أسد، فلقيته بنو سعد بن ثعلبة بن دودان بالفرات ورئيسهم ربيعة بن حذار ، فاقتتلوا قتالا شديدا، فقتلت بنو سعد عديا، اشترك في قتله عمرو وعمير ابنا حذار أخوا ربيعة، وأمهما امرأة من كنانة يقال لها تماضر إحدى بني فراس بن غنم وهي التي يقال لها مقيدة الحمار. فقالت فاختة بنت عدي:

لعمرك ما خشيت على عدي                      رماح بني مقيدة الحمـار

ولكني خشيت علـى عـدي                      رماح الجن أو إياك حـار تغنى الحارث بن أبي شمر خاله

قتيل ما قتيل ابني حذار                      بعيد الهم طلاع النجار ويروى: جواب الصحارى. فقال عمرو بن شأس في ذلك: صوت:

متى تعرف العينان أطـلال دمـنة                      لليلى بأعلى ذي معارك تـدمـعـا

على النحر والسربال حتى تـبـلـه                      سجوم ولم تجزع على الدار مجزعا

خليلي عوجا اليوم نقـض لـبـانة                      وإلا تعوجا اليوم لا ننطلق مـعـا

وإن تنظراني اليوم أتبعكـمـا غـدا                      قياد الجـنـيب أو أذل وأطـوعـا وهي قصيدة. غنى في هذه الأبيات إبراهيم ثقيلا أول بالوسطى عن الهشامي. والدمنة في هذا الموضع: آثار الناس وما سودوا، وهي في غير هذا الموضع الحقد؛ يقال: في صدره علي إحنة، وترة، وضب، وحسيكة، ودمنة.

وعوجا: احبسا وتلبثا، عاج يعوج عياجا . وما أعيج بكلامك أي ما ألتفت إليه. واللبانة: الحاجة؛ يقال: لي في كذا لبانة ولبونة ولماسة، ووطر، وحوجاء ممدودة. وقوله: لا ننطلق معا، يقول إن لم تقفا تأخرت عنكما فتفرقنا. وتنظراني تنظراني؛ يقال نظرته أنظره، وأنظرته أنظره إنظارا ونظرة أيضا إذا أخرته؛ قال الله عز وجل:  فنظرة إلى ميسرة  . والجنيب: المجنوب من فرس وغيره، والجنيب أيضا الذي يشتكي رئته من شدة العطش .

خطب بنت رجل كان مجاورا له فلما أحس منه امتناعا أراد أن يصيبها سبية ثم تذمم وقال شعرا: وقال الطوسي قال الأصمعي: جاور رجل من بني عامر بن صعصعة عمرو بن شأس ومعه بنت له من أجمل الناس وأظرفهم، فخطبها عمرو إلى أبيها. فقال أبوها: أما دمت جارا لكم فلا، لأني أكره أن يقول الناس غصبه أمره، ولكن إذا أتيت قومي فاخطبها إلي أزوجكها. فوجد عمرو من ذلك في نفسه واعتقد ألا يتزوجها أبدا إلا أن يصيبها مسبية. فلما ارتحل أبوها هم عمرو بغزو قومها، فسار في أثر أبيها. فلما وقعت عينيه عليه وظفر به استحيا من جواره وما كان بينهما من العهد والميثاق، فنظر إلى الجارية أمامهم وقد أخرجت رأسها من الهودج تنظر إليه. فلما رأها رجع مستحييا متذمما منها. وكان عمرو مع شجاعته ونجدته من أهل الخير؛ فقال في ذلك: صوت:

إذا نحن أدلجنا وأنت أمـامـنـا                      كفى لمطايانا بوجـهـك هـاديا

أليس يزيد العـيس خـفة أذرع                      وإن كن حسرى أن تكوني أماميا

ولولا اتقاء الله والعهد قـد رأى                      منيته منـي أبـوك الـلـيالـيا

ونحن بنو خير السـبـاع أكـيلة                      وأحربـه إذا تـنـفـس عـاديا

بنو أسـد وزد يشـق بـنـابـه                      عظام الرجال لا يجيب الرواقيا

 

صفحة : 1244

 

 

متى تدع قيسا أدع خندف إنهـم                      إذا ما دعوا أسمعت ثم الدواعيا

لنا حاضر لم يحضر الناس مثله                      وباد إذا عدوا علينا الـبـواديا الغناء لإسحاق الموصلي ثاني ثقيل في الأول والثاني من الأبيات، وفيه لحن قديم .

سئل ابن سيرين فأنشد بيتين في شعره دلالة على جوازه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى عن رجل عن سويد بن أبي رهم قال: قلت لابن سيرين: ما تقول في الشعر? قال: هو كلام، حسنه حسن، وقبيحه قبيح،. قلت: فما تقول في النسيب? قال: لعلك تريد مثل قول الشاعر:

إذا نحن أدلجنا وأنت أمـامـنـا                      كفى لمطايانا بوجـهـك هـاديا

أليس يزيد العـيس خـفة أذرع                      وإن كن حسرى أن تكوني أماميا قال: وأراد بإنشاده إياهما أنك قد رأيتني أحفظ هذا الجنس وأرويه وأنشدتك إياه، فلو كان به بأس ما أنشدته .

صوت:

فإن تكن القتلى بواء فـإنـكـم                      فتى ما قتلتم آل عوف بن عامر

فتى كان أحيا من فتـاة حـيية                      وأشجع من ليث بخفان خـادر عروضه من الطويل. البواء بالباء: التكافؤ؛ يقال ما فلان لفلان ببواء، أي ما هو له بكفء أن يقتل به. وما في قولها فتى ما قتلتم صلة. وآل عوف نداء. وخفان: موضع مشهور. وخادر: مقيم في مكمنة وغيله، وهو مأخوذ من الخدر .

الشعر لليلى الأخيلية ترثي توبة بن الخمير. والغناء لإسحاق بن إبراهيم الموصلي، رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر. وفيه لإبراهيم ثقيل بالوسطى عن حبش. وفي هذه القصيدة عدة أغان تذكر مع سائر ما قاله توبة في ليلى وقالت فيه من الشعر عند انقضاء الخبر في مقتله إن شاء الله تعالى .

 

ذكر ليلى وخبر توبة بن الحمير معها

 

وخبر مقتله:

نسب ليلى الأخيلية: هي ليلى بنت عبد الله بن الرحال وقيل ابن الرحالة بن شداد بن كعب بن معاوية، وهو الأخيل وهو فارسها الهرار ، ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وهي من النساء المتقدمات في الشعر من شعراء الإسلام .

كان توبة بن الحمير يهواها ونسبه: وكان توبة بن الحمير يهواها. وهو توبة بن الحمير بن حزم بن كعب بن خفاجة بن عمرو ابن عقيل .

جاءها توبة يوما فسفرت له لتحذره: أخبرني ببعض أخبارهما أحمد بن عبد العزيز الجوهري ومحمد بن حبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثنا محمد بن علي أبو المغيرة قال حدثنا أبي عن أبي عبيدة قال حدثني أنيس بن عمرو العامري قال: كان توبة بن الحمير أحد بني الأسدية، وهي عامرة بنت والبة بن الحارث، وكان يتعشق ليلى بنت عبد الله بن الرحالة ويقول فيها الشعر، فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها وزوجها في بني الأدلع. فجاء يوما كما كان يجيء لزيارتها، فإذا هي سافرة ولم ير منها إليه إلا بشاشة، فعلم أن ذلك لأمر ما كان، فرجع إلى راحلته فركبها ومضى، وبلغ بني الأدلع أنه أتاها فتبعوه ففاتهم. فقال توبة في ذلك:

نأتك بليلى دارها ولا تزورهـا                      وشطت نواها واستمر مريرها وهي طويلة، يقول فيها:

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت                      فقد رابني منها الغداة سفورها أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال: كان توبة بن الحمير إذا أتى ليلى الأخيلية خرجت إليه في برقع. فلما شهر أمره شكوه إلى السلطان، فأباحهم دمه إن أتاهم. فمكثوا له في الموضع الذي كان يلقاها فيه. فلما علمت به خرجت سافرة حتى جلست في طريقه فلما رآها سافرة فطن لما أرادت وعلم أنه قد رصد، وأنها أسفرت لذلك تحذره، فركض فرسه فنجا. وذلك قوله:

وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت                      فقد رابني منها الغداة سفورها

 

صفحة : 1245

 

قال أبو عبيدة وحدثني غير أنيس أنه كان يكثر زيارتها، فعاتبه أخوها وقومها فلم يعتب ، وشكوه إلى قومه فلم يقلع، فتظلموا منه إلى السلطان فأهدر دمه إلى أن أتاهم. وعلمت ليلى بذلك، وجاءها زوجها وكان غيورا فحلف لئن لم تعلمه بمجيئه ليقتلنها، ولئن أنذرته بذلك ليقتلنها. قالت ليلى: وكنت أعرف الوجه الذي يجيئني منه، فرصدوه بموضع ورصدته بآخر، فلما أقبل لم أقدر على كلامه لليمين، فسفرت وألقيت البرقع عن رأسي. فلما رأى ذلك أنكره فركب راحلته ومضى ففاتهم .

عرفها رجل من بني كلاب وخبره معها ومع زوجها: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن معاوية بن بكر قال حدثني أبو زياد الكلابي قال: خرج رجل من بني كلاب ثم من بني الصحمة يبتغي إبلا له حتى أوحش وأرمل ، ثم أمسى بأرض فنظر إلى بيت بواد، فأقبل حيث ينزل الضيف، فأبصر امرأة وصبيانا يدورون بالخباء فلم يكلمه أحد. فلما كان بعد هدأة من الليل سمع جرجرة إبل رائحة، وسمع فيها صوت رجل حتى جاء بها فأناخها على البيت، ثم تقدم فسمع الرجل يناجي المرأة ويقول: ما هذا السواد حذاءك? قالت: راكب أناخ بنا حين غابت الشمس ولم أكلمه. قفال لها: كذبت، ما هو إلا بعض خلانك، ونهض فضربها وهي تناشده، قال الرجل: فسمعته يقول: والله لا أترك ضربك حتى ياتي ضيفك هذا فيغيثك. فلما عيل صبرها قالت: يا صاحب البعير يا رجل وأخذ الصحمي هرواته ثم أقبل يحضر حتى أتاها وهو يضربها، فضربه ثلاث ضربات أو أربعا، ثم أدركته المرأة فقالت: يا عبد الله، ما لك ولنا نح عنا نفسك، فانصرف فجلس على راحلته وأدلج ليلته كلها وقد ظن أنه قتل الرجل وهو لا يدري من الحي بعد ، حتى أصبح في أخبية من الناس، ورأى غنما فيها أمة مولدة، فسألها عن أشياء حتى بلغ به الذكر ، فقال: أخبريني عن أناس وجدتهم بشعب كذا . فضحكت وقالت: إنك لتسألني عن شيء وأنت به عالم. فقال: وما ذاك لله بلادك? فوالله ما أنا به عالم. قالت: ذاك خباء ليلى الأخيلية، وهي أحسن الناس وجها، وزوجها رجل غيور فهو يعزب بها عن الناس فلا يحل بها معهم، والله ما يقربها أحد ولا يضيفها، فكيف نزلت أنت بها? قال: إنما مررت فنظرت إلى الخباء ولم أقربه، وكتمها الأمر. وتحدث الناس عن رجل نزل بها فضربها زوجها فضربه الرجل ولم يدر من هو. فلما أخبر باسم المرأة وأقر على نفسه تغنى بشعر دل فيه على نفسه وقال:

ألا يا ليل أخت بني عـقـيل                      أنا الصحمي إن لم تعرفيني

دعتني دعوة فحجزت عنهـا                      بصكات رفعت بها يمينـي

فإن تك غيرة أبرئك منـهـا                      وإن تك قد جننت فذا جنوني سألها الحجاج هل كان بينها وبين توبة ريبة وجوابها له: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا رشد بن خنتم الهلالي قال حدثني أيوب بن عمرو عن رجل يقال له ورقاء قال: سمعت الحجاج يقول لليلى الأخيلية: إن شبابك قد ذهب، واضمحل أمرك وأمر توبة؛ فأقسم عليك إلا صدقتني، هل كانت بينكما ريبة قط أو خاطبك في ذلك قط? فقالت: لا والله أيها الأمير إلا أنه قال لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر، فقلت له:

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها                      فليس إليها ما حييت سبـيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه                      وأنت لأخرى فارغ وحلـيل فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرق بيننا الموت. قال لها الحجاج: فما كان منه بعد ذلك? قالت: وجه صاحبا له إلى حاضرنا فقال: إذا أتيت الحاضر من بني عبادة بن عقيل فاعل شرفا ثم اهتف بهذا البيت:

عفا الله عنها هل أبيتـن لـيلة                      من الدهر لا يسري إلي خيالها فلما فعل الرجل ذلك عرفت المعنى فقلت له:

وعنه عفا ربي وأحسن حفظه                      عزيز علينا حاجة لا ينالهـا نسبة ما في هذا الخبر من الغناء، وهو أجمع في قصيدة توبة .

 

نأتك بليلى دارها لا تزورها صوت:

حمامة بطن الواديين تـرنـمـي                      سقاك من الغر الغوادي مطيرها

أبيني لنا لا زال ريشك نـاعـمـا                      ولا زلت في خضراء دان بريرها

وأشرف بالقوز اليفاع لعـلـنـي                      أرى نار ليلى أو يراني بصيرهـا

 

صفحة : 1246

 

 

وكنت إذا ما جئت ليلى تبـرقـعـت                      فقد رابني منها الغداة سـفـورهـا

علي دماء البدن إن كان بـعـلـهـا                      يرى لي ذنبا غـير أنـي أزورهـا

وأني إذا ما زرتها قلت يا اسلـمـي                      وما كان في قولي اسلمي ما يضيرها

وغيرني إن كنـت لـمـا تـغـيري                      هواجر تكتـنـينـهـا وأسـيرهـا

وأدماء من سر المهـاري كـأنـهـا                      مهاة صوار غير ما مس كـورهـا

قطعت بهـا أجـواز كـل تـنـوفة                      مخوف رداها كلما استن مـورهـا

ترى ضعفاء القوم فيهـا كـأنـهـم                      دعاميص ماء نش عنهـا غـديرهـا غنى في الأربعة الأبيات فليح بن أبي العوراء ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو. وغنى في الثالث والرابع ابن سريح رملا بالوسطى عن الهشامي وعلي بن يحيى المنجم، وذكر غيرهما أنه لمحمد بن إسحاق بن عمرو بن بزيع. وغنى فيها الهذلي ثقيلا أول بالبنصر عن حبش. وغنى ابن محرز في، علي دماء البدن، والذي بعده خفيف رمل بالبنصر عن عمرو. وعن ابن مسجح في:

وغيرني إن كنت لما تغيري وما بعده لحن ذكر أن عبد الله بن جعفر رواه الأبيات وأمره أن يغني بها، أخبرني بذلك إسماعيل بن يونس الشيعي عن عمرو بن شبة عن إسحاق الموصلي عن ابن الكلبي في خبر قد ذكرته في أخبار ابن مسجح ، وذكر الهشامي أن اللحن ثقيل أول بالوسطى .

رأي الأصمعي فيما تضمنه شعر لتوبة: حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن يعقوب بالأنبار قال حدثنا من أنشد الأصمعي:

علي دماء البـدن إن كـان زوجـهـا                      يرى لي ذنبـا غـير أنـي أزورهـا

وأني إذا ما زرتها قلت يا اسـلـمـى                      فهل كان من قولي اسلمي ما يضيرها فقال الأصمعي: شكوى مظلوم، وفعل ظالم .

مقتل توبة وسببه وكيف كان: أخبرني بالسبب في مقتل توبة محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة، والحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن علي ابن المغيرة عن أبيه عن أبي عبيدة، وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي، ورواية أبي عبيدة أتم واللفظ له. قال أبو عبيدة:

 

صفحة : 1247

 

كان الذي هاج مقتل توبة بن الحمير بن حزم بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل بن كعب ابن ربيعة بن عامر بن صعصعة أنه كان بينه وبين بني عامر بن عوف بن عقيل لحاء ، ثم إن توبة شهد بني خفاجة وبني عوف وهم يختصمون عند همام بن مطرف العقيلي في بعض أمورهم. قال: وكان مروان بن الحكم يومئذ أميرا على المدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان، فاستعمله على صدقات بني عامر. قال: فوثب ثور بن أبي سمعان بن كعب بن عامر بن عوف بن عقيل على توبة بن الحمير فضربه بجرز وعلى توبة الدرع والبيضة، فجرح أنف البيضة وجه توبة. فأمر همام بثور بن أبي سمعان فأقعد بين يدي توبة، فقال: خذ بحقك يا توبة. فقال له توبة: ما كان هذا إلا عن أمرك، وما كان ليجترئ علي عند غيرك. وأم همام صوبانة بنت جون بن عامر بن عوف بن عقيل فاتهمه توبة لذلك، فانصرف ولم يقتص منه. فمكثوا غير كثير، وإن توبة بلغه أن ثور بن أبي سمعان خرج في نفر من رهطه إلى ماء من مياه قومه يقال له قوباء يريدون مالهم بموضع يقال له جرير بتثليث قال: وبينهما فلاة فاتبعه توبة في ناس من أصحابه، فسأل عنه وبحث حتى ذكر له أنه عند رجل من بني عامر بن عقيل يقال له سارية بن عمير بن أبي عدي وكان صديقا لتوبة. فقال توبة: والله لا نطرقهم عند سارية الليلة حتى يخرجوا عنه. فأرادوا أن يخرجوا حين يصبحون. فقال لهم سارية. ادرعوا الليل؛ فإني لا آمن توبة عليكم الليلة فإنه لا ينام عن طلبكم. قال: فلما تعشوا ادرعوا الليل في الفلاة. وأقعد له توبة رجلين فغفل صاحبا توبة. فلما ذهب الليل فزع توبة وقال: لقد اغتررت إلى رجلين ما صنعا شيئا، وإني لأعلم أنهم لم يصبحوا بهذه البلاد، فاقتص آثارهم، فإذا بأثر القوم قد خرجوا، فبعث إلى صاحبيه فأتياه، فقال: دونكما هذا الجمل فأوقراه من الماء في مزادتيه ثم اتبعا أثري، فإن خفي عليكما أن تدركاني فإني سأنور لكما إن أمسيتما دوني. وخرج توبة في أثر القوم مسرعا، حتى إذ انتصف النهار جاوز علما يقال له أفيح في الغائط. فقال لأصحابه: هل ترون سمرات إلى جنب قرون بقر? وقرون بقر مكان هنالك فإن ذلك مقيل القوم لم يتجاوزوه فليس وراءه ظل. فنظروا فقال قائل: أرى رجلا يقود بعيرا كأنه يقوده لصيد. قال توبة: ذلك ابن الحبترية، وذلك من أرمى من رمى. فمن له يختلجه دون القوم فلا ينذرون بنا? قال: فقال عبد الله أخو توبة: أنا له. قال: فاحذر لا يضربنك، وإن استطعت أن تحول بينه وبين أصحابه فافعل. فخلي طريق فرسه في غمض من الأرض، ثم دنا منه فحمل عليه، فرماه لابن الحبترية قال: وبنو الحبتر ناس من مذحج في بني عقيل فعقر فرس عبد الله أخي توبة واختل السهم ساق عبد الله، فانحاز الرجل حتى أتى أصحابه فأنذرهم، فجمعوا ركابهم وكانت متفرقة. قال: وغشيهم توبة ومن معه، فلما رأوا ذلك صفوا رحالهم وجعلوا السمرات في نحورهم وأخذوا سلاحهم ودرقهم، وزحف إليهم توبة، فارتمى القوم لا يغني أحدا منهم شيئا في أحد. ثم إن توبة وكان يترس له أخوه عبد الله، قال: يا أخي لا تترس لي؛ فإني رأيت ثورا كثيرا ما يرفع الترس، عسى أن أوافق منه عند رفعه مرمى فأرميه. قال: ففعل، فرماه توبة على حلمة ثديه فصرعه. وجال القوم فغشيهم توبة وأصحابه فوضعوا فيهم السلاح حتى تركوهم صرعى وهم سبعة نفر. ثم إن ثورا قال انتزعوا هذا السهم عني. قال توبة: ما وضعناه لننتزعه. فقال أصحاب توبة: انج بنا نأخذ آثارنا ونلحق راويتنا، فقد أخذنا ثأرنا من هؤلاء وقد متنا عطشا . قال توبة: كيف بهؤلاء القوم الذي لا يمنعون ولا يمتنعون . فقالوا: أبعدهم الله. قال توبة: ما أنا بفاعل وما هم إلا عشيرتكم، ولكن تجيء الراوية فأضع لهم ماء وأغسل عنهم دماءهم وأخيل عليهم من السباع والطير لا تأكلهم حتى أوذن قومهم بهم بعمق . فأقام توبة حتى أتته الراوية قبل الليل، فسقاهم من الماء وغسل عنهم الدماء، وجعل في أساقيهم ماء، ثم خيل لهم بالثياب على الشجر، ثم مضى حتى طرق من الليل سارية بن عويمر بن أبي عدي العقيلي فقال: إنا قد تركنا رهطا من قومكم بسمرات من قرون بقر، فأدركوهم، فمن كان حيا فداووه، ومن كان ميتا فادفنوه، ثم انصرف فلحق بقومه. وصبح سارية القوم فاحتملهم وقد مات ثور بن أبي سمعان ولم يمت غيره. فلم يزل توبة خائفا. وكان السليل بن ثور

 

صفحة : 1248

 

المقتول راميا كثير البغي والشر، فأخبر بغرة من توبة وهو بقنة من قنان الشرف يقال لها قنة بني الحمير، فركب في نحو ثلاثين فارسا حتى طرقه؛ فترقى توبة ورجل من إخوته في الجبل، فأحاطوا بالبيوت، فناداهم وهو في الجبل: هأنذا من تبغون فاجتنبوا البيوت. فقالوا: إنكم لن تستطيعوه وهو في الجبل، ولكن خذوا ما استدف لكم من ماله، فأخذوا أفراسا له ولإخوته وانصرفوا. ثم إن توبة غزاهم، فمر على أفلت بن حزن بن معاوية بن خفاجة ببطن بيشة . فقال: يا توبة أين تريد? قال: أريد الصبيان من بني عوف بن عقيل. قال: لا تفعل فإن القوم قاتلوك، فمهلا. قال: لا أقلع عنهم ما عشت، ثم ضرب بطن فرسه فاستمر به يحضر وهو يرتجز ويقول:قتول راميا كثير البغي والشر، فأخبر بغرة من توبة وهو بقنة من قنان الشرف يقال لها قنة بني الحمير، فركب في نحو ثلاثين فارسا حتى طرقه؛ فترقى توبة ورجل من إخوته في الجبل، فأحاطوا بالبيوت، فناداهم وهو في الجبل: هأنذا من تبغون فاجتنبوا البيوت. فقالوا: إنكم لن تستطيعوه وهو في الجبل، ولكن خذوا ما استدف لكم من ماله، فأخذوا أفراسا له ولإخوته وانصرفوا. ثم إن توبة غزاهم، فمر على أفلت بن حزن بن معاوية بن خفاجة ببطن بيشة . فقال: يا توبة أين تريد? قال: أريد الصبيان من بني عوف بن عقيل. قال: لا تفعل فإن القوم قاتلوك، فمهلا. قال: لا أقلع عنهم ما عشت، ثم ضرب بطن فرسه فاستمر به يحضر وهو يرتجز ويقول:

تنجو إذا قيل لـهـا يعـاط                      تنجو بهم من خلل الأمشاط

 

صفحة : 1249

 

حتى انتهى إلى مكان، يقال له حجر الراشدة، ظليل، أسفله كالعمود، وأعلاه منتشر، فاستظل فيه هو وأصحابه. حتى إذا كان بالهاجرة مرت عليه إبل هبيرة بن السمين أخي بني عوف بن عقيل واردة ماء لهم يقال له طلوب، فأخذها وخلى طريق راعيها، وقال له: إذا أتيت صدغ البقرة مولاك فأخبره أن توبة أخذ الإبل، ثم انصرف توبة يطرد الإبل . قال: فلما ورد العبد على مولاه فأخبره نادى في بني عوف وقال: حتام هذا فتعاقدوا بينهم نحوا من ثلاثين فارسا ثم اتبعوه. ونهضت امرأة من بني خثعم من بني الهرة كانت في بني عوف وكانت تؤخذ لهم، فقالت: أروني أثره، فخرجوا بها فأروها أثره، فأخذت من ترابه فسافته فقالت: اطلبوه فإنه سيحبس عليكم. فطلبوه فسبقهم، فتلاوموا بينهم وقالوا: ما نرى له أثرا، وما نراه إلا وقد سبقكم. قال: وخرج توبة حتى إذا كان بالمضجع من أرض بني كلاب جعل نذارته وحبس أصحابه. حتىإذا كان بشعب من هضبة يقال لها هند من كبد المضجع جعل ابن عم له يقال له قابض بن عبد الله ربيئة له على رأس الهضبة فقال: انظر فإن شخص لك شيء فأعلمنا. فقال عبد الله بن الحمير: يا توبة إنك حائن ، أذكرك الله، فوالله ما رأيت يوما أشبه بسمرات بني عوف يوم أدركناهم في ساعتهم التي أتيناهم فيها منه ، فانج إن كان بك نجاة. قال: دعني، فقد جعلت ربيئة ينظر لنا. قال: ويرجع بنو عوف بن عقيل حين لم يجدوا أثر توبة فيلقون رجلا من غني، فقالوا له: هل أحسست في مجيئك أثر خيل أو أثر إبل? قال: لا والله. قالوا: كذبت وضربوه. فقال: يا قوم لا تضربوني؛ فإني لم أجد أثرا، ولقد رأيت زهاء كذا وكذا إبلا شخوصا في هاتيك الهضبة، وما أدري ما هو. فبعثوا رجلا منهم يقال له يزيد بن رويبة لينظر حتى ما في الهضبة. فأشرف على القوم، فلما رآهم ألوى بثوبه لأصحابه حتى جاءوا، فحمل أولهم على القوم حتى غشي توبة، وفزع توبة وأخوه إلى خيلهما، فقام توبة إلى فرسه فغلبته لا يقدر على أن يلجمها ولا وقفت له، فخلى طريقها، وغشيه الرجل فاعتنقه، فصرعه توبة وهو مدهوش وقد لبس الدرع على السيف فانتزعه ثم أهوى به ليزيد بن رويبة فاتقاه بيده فقطع منها، وجعل يزيد يناشده رحم صفية، وصفية أم له من بني خفاجة. وغشي القوم توبة من ورائه فضربوه فقتلوه، وعلقهم عبد الله بن الحمير يطعنهم بالرمح حتى انكسر. قال: فلما فرغوا من توبة لووا على عبد الله بن الحمير فضربوا رجله فقطعوها. فلما وقع بالأرض أشرع سيفه وحده ثم جثا على ركبتيه وجعل يقول: هلموا، ولم يشعر القوم بما أصابه. وانصرف بنو عوف بن عقيل، وولى قابض منهزما حتى لحق بعبد العزيز بن زرارة الكلابي فأخبره الخبر. قال: فركب عبد العزيز حتى أتى توبة فدفنه وضم أخاه. ثم ترافع القوم إلى مروان ابن الحكم، فكافأ بين الدمين وحملت الجراحات. ونزل بنو عوف بن عقيل البادية ولحقوا بالجزيرة والشام .

رواية لأبي عبيدة في مقتله وسببه:

 

صفحة : 1250

 

قال أبو عبيدة: وقد كان توبة أيضا يغير زمن معاوية بن أبي سفيان على قضاعة وخثعم ومهرة وبني الحارث بن كعب. وكانت بينهم وبين بني عقيل مغاورات ، فكان توبة إذا أراد الغارة عليهم حمل الماء معه في الروايا ثم دفنه في بعض المفازة على مسيرة يوم منها، فيصيب ما قدر عليه من إبلهم فيدخلها المفازة فيطلبه القوم، فإن دخل المفازة أعجزهم فلم يقدروا عليه فانصرفوا عنه. قال: فمكث كذلك حينا. ثم إنه أغار في المرة الأولى التي قتل فيها هو وأخوه عبد الله بن الحمير ورجل يقال له قابض بن أبي عقيل ، فوجد القوم قد حذروا فانصرف توبة مخفقا لم يصب شيئا. فمر برجل من بني عوف بن عامر بن عقيل متنحيا عن قومه، فقتله توبة وقتل رجلا كان معه من رهطه واطرد إبلهما، ثم خرج عامدا يريد عبد العزيز بن زرارة بن جزء بن سفيان بن عوف بن كلاب، وخرج ابن عم لثور بن أبي سمعان المقتول، فقال له خزيمة: صر إلى بني عوف بن عامر بن عقيل فأخبرهم الخبر. فركبوا في طلب توبة فأدركوه في أرض بني خفاجة، وقد أمن في نفسه فنزل، وقد كان أسرى يومه وليلته، فاستظل ببرديه وألقى عنه درعه وخلى عن فرسه الخوصاء تتردد قريبا منه، وجعل قابضا ربيئة له ونام، فأقبلت بنو عوف بن عامر متقاطرين لئلا يفطن لهم أحد، فنظر قابض فأبصر رجلا منهم إلى توبة فأنبهه. فقال توبة: ما رأيت? قال: رأيت شخص رجل واحد، فنام ولم يكترث له، وعاد قابض إلى مكانه فغلبته عيناه فنام. قال: فأقبل القوم على تلك الحال فلم يشعر بهم قابض حتى غشوه، فلما رآهم طار على فرسه. وأقبل القوم إلى توبة، وكان أول من تقدم غلام أمرد على فرس عري يقال له يزيد بن رويبة ابن سالم بن كعب بن عوف بن عامر بن عقيل؛ ثم تلاه ابن عمه عبد الله بن سالم ثم تتابعوا. فلما سمع توبة وقع الخيل نهض وهو وسنان فلبس درعه على سيفه ثم صوت بفرسه الخوصاء فأتته، فلما أراد أن يركبها أهوت ترمحه ، ثلاث مرات، فلما رأى ذلك لطم وجهها فأدبرت، وحال القوم بينه وبينها. فأخذ رمحه وشد على يزيد بن رويبة فطعنه فأنفذ فخذيه جميعا . وشد على توبة ابن عم الغلام عبد الله بن سالم فطعنه فقتله، وقطعوا رجل عبد الله. فلما رجع عبد الله بعد ذلك إلى قومه لاموه وقالوا له: فررت عن اخيك، فقال عبد الله بن الحمير في ذلك . قال أبو عبيدة وحدثني أيضا مزرع بن عبد الله بن همام بن مطرف بن الأعلم قال: كان أهل دار من بني جشم بن بكر بن هوازن يقال لهم بنو الشريد حلفاء لبني عداد بن خفاجة في الإسلام، فكان بينهم وبين خميس بن ربيعة رهط قومه قتال على ماءة تدعى الحليفة وعامتها لجد بن همام. قال وشهد عبد الله بن الحمير ذلك وهو أعرج، عرج يوم قتل توبة فلم يغن كثير غناء. فقالت بنو عقيل: لو توبة تلقاهم لبلوا منه بغير أفوق ناصل . فقال عبد الله بن الحمير يعتذر إليهم: قصيدة لعبد الله بن الحمير يعتذر فيها إلى قومه بعد قتل أخيه:

تأوبني بعـارمة الـهـمـوم                      كما يعتاد ذا الـدين الـغـريم

كأن الهم لـيس يريد غـيري                      ولو أمسى لـه نـبـط وروم

علام تقوم عاذلـتـي تـلـوم                      تؤرقني وما إنجاب الصـريم

فقلت لها رويدا كي تجـلـى                      غواشي النوم والليل البـهـيم

ألما تعلـمـي أنـي قـديمـا                      إذا ما شئت أعصي من يلـوم

وأن المـرء لا يدري إذا مـا                      يهم علام تحمله الـهـمـوم

وقد تعدي على الحاجات حرف                      كركن الرعن ذعلبة عـقـيم

مداخلة الفـقـار وذات لـوث                      على الحزان مقحمة غشـوم

كأن الرحل منها فـوق جـأب                      بذات الحاذ معقله الـصـريم

طباه برجلة الـبـقـار بـرق                      فبات الليل منتصـبـا يشـيم

فبينا ذاك إذ هبطـت عـلـيه                      دلوح المزن واهـية هـزيم

تهب لها الشمال فتمـتـريهـا                      ويعقبها بـنـافـحة نـسـيم

يكب إذا الرذاذ جرى عـلـيه                      كما يصغي إلى الآسي الأميم

إذا ما قال أقشـع جـانـبـاه                      نشت من كل ناحـية غـيوم

فاشعـر لـيلة أرقـا وقـرا                      يسهره كما أرق الـسـلـيم

 

صفحة : 1251

 

 

ألا من يشتري رجلا برجل                      تخونها السلاح فما تسـوم

تلومك في القتال بنو عقيل                      وكيف قتال أعرج لا يقوم

ولو كنت القتيل وكان حـيا                      لقاتل لا ألـف ولا سـئوم

ولا جثـامة ورع هـيوب                      ولا ضرع إذا يمسي جثوم قال: ثم إن خفاجة رهط توبة جمعوا لبني عوف بن عامر عقيل الذين قتلوا توبة، فلما بلغهم الخبر لحقوا ببني الحارث بن كعب، ثم افترقت بنو خفاجة. فلما بلغ ذلك بني عوف رجعوا، فجمعت لهم بنو خفاجة أيضا قبائل عقيل. فلما رأت ذلك بنو عوف بن عامر بن عقيل لحقوا بالجزيرة فنزلوها؛ وهم رهط إسحاق بن مسافر بن ربيعة بن عاصم بن عمرو بن عامر بن عقيل. ثم إن بني عامر بن صعصعة صاروا في أمرهم إلى مروان بن الحكم وهو والي المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، فقالوا: ننشدك الله أن تفرق جماعتنا، فعقل توبة وعقل الآخرين معاقل العرب مائة من الإبل، فأدتها بنو عامر. قال: فخرجت بنو عوف بن عامر قتلة توبة فلحقوا بالجزيرة، فلم يبق بالعالية منهم أحد، وأقامت بنو ربيعة بن عقيل وعروة ابن عقيل وعبادة بن عقيل بمكانهم بالبادية .

رواية أبي عبيدة عن مزرع في مقتله وسببه:

 

صفحة : 1252

 

قال أبو عبيدة وحدثنا مزرع بن عمرو بن همام قال أبو عبيدة: وكان معي أبو الخطاب وغيره قال: توبة بن حمير بن ربيعة بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل، وأمه زبيدة. فهاج بينه وبين السليل بن ثور بن أبي سمعان بن عامر بن عوف بن عقيل كلام، وكان شريرا ونظير توبة في القوة والبأس، فبلغ الحور وهو الكلام إلى أن أوعد كل واحد منهما صاحبه، فالتقى بعد ذلك توبة والسليل على غدير من ماء السماء، فرمى توبة السليل فقتله. ثم إن توبة أغار ثانية على إبل بني السمين بن كعب بن عوف بن عقيل واردة ماءهم فاطردها. واتبعوه وهم سبعة نفر: يزيد بن رويبة، وعبد الله بن سالم، ومعاوية بن عبد الله قال أبو عبيدة: ولم يذكر غير هؤلاء فانصرفوا يجنبون الخيل يحملون المزاد، فقصوا أثر توبة وأصحابه فوجدوهم وقد أخذوا في المضجع من أرض بني كلاب في أرض دمثة تربة، فضلت فرس توبة الخوصاء من الليل، فأقام واضطجع حتى أصبح، وساق أصحابه الإبل، وهم ثلاثة نفر سوى توبة: المحرز أحد بني عمرو بن كلاب، وقابض بن أبي عقيل أحد بني خفاجة، وعبد الله بن حمير أخو توبة لأمه وأبيه. فلما أصبح توبة إذا فرسه الخوصاء راتعة أدنى ظلم قريبة منه ليس دونها وجاح فأشلاها حتى أتته، ثم خرج يعدو حتى لحق بأصحابه، فانتهوا إلى هضبة بكبد المضجع، فارتقى توبة فوقها ينظر الطلب ، فرآه القوم ولم يرهم عند طلوع الشمس، وبالت الخوصاء حين انتهت إلى الهضبة، فقال القوم: إنه لطائر أو إنسان. فركب يزيد بن رويبة وكان أحدث القوم سنا، وأمه بنت عم توبة، فأغار ركضا حتى انتهى إلى الهضبة فإذا بول الفرس وعليه بقية من رغوته، وإذا أثر توبة يعرفونه، فرجع فخبر أصحابه. واندفع توبة وأصحابه حتى نزلوا إلى طرف هضبة يقال لها الشجر من أرض بني كلاب، فقالوا بالظهيرة، فلم يشعر شعره إلا والإبل قد نفرت، وكانت بركا بالهاجرة، من وثيد الخيل. فوثب توبة، وكان لا يضع السيف، فصب الدرع على السيف متقلده وهلا، وداجت القوم، فطلب قائم السيف فلم يقدر عليه تحت الدرع فلم يستطع سله، فطار إلى الرمح فأخذه، فأهوى به طعنا إلى يزيد بن رويبة، وقد كان يزيد عاهد الله ليقتلنه أو ليأخذنه، فأنفذ فخذ يزيد، واعتنقه يزيد فعض بوجنتيه، واستدبره عبد الله بالسيف ففلق رأس توبة، وهيت توبة حين اعتوره الرجلان بقابض: يا قابض فلم يلو عليه، وفر قابض والكلابي، وذب عبد الله بن حمير عن أخيه، فأهوى له معاوية بن عبد الله بالسيف فأصاب ركبته فاختلعت أي سقطت. فأتى قابض من فوره ذلك عبد العزيز بن زرارة أحد بني أبي بكر بن كلاب فقال: قتل توبة. فنادى في قومه، فجاءه أبوه زرارة فقال: أين تريد? فقال: قتل توبة. فقل أبوه طوط سحقا لك أتطلب بدم توبة أن قتلته بنو عقيل ظالما لها باغيا عاديا عليها قال: لكني أجنه إذا. قال أبوه: أما هذه فنعم. فألقى السلاح وانطلق حتى أجنه، وحمل أخاه عبد الله بن حمير. قال: فأهل البادية يزعمون أن محرزا سحر فأخذ عن سيفه. فقالت ليلى الأخيلية بنت عبد الله بن الرحالة بن شداد بن كعب ابن معاوية فارس الهرار ابن عبادة بن عقيل: رثت ليلى توبة بعدة قصائد:

نظرت وركن مـن ذقـانـين دونـه                      مفاوز حوضي أي نظـرة نـاظـر

لأونس إن لم يقصر الطرف عنـهـم                      فلم تقصر الأخبار والطرف قاصري

فوارس أجلي شأوها عـن عـقـيرة                      لعاقرها فيهـا عـقـيرة عـاقـر شأوها : سرعتها وهو الطلق وجريها، وقال غيره: غايتها. عقيرة: تعني توبة. لعاقرها: تعني لعاقر توبة، تريد يزيد بن رويبة. ووجه آخر : في عقيرة عاقر معنى مدح أي عقيرة كريمة لعاقرها. ووجه آخر: عقيرة لعاقرها: فيها الهلاك بعقرها

فآنست خيلا بالرقـي مـغـيرة                      سوابقها مثل القطا المـتـواتـر

قتيل بني عوف وأيصـر دونـه                      قتيل بني عوف قتـيل يحـابـر

توارده أسيافـهـم فـكـأنـمـا                      تصادرن عن أقطاع أبيض باتـر

من الهندوانيات في كل قـطـعة                      دم زل عن أثر من السيف ظاهر

أتته المنايا دون زغف حـصـينة                      وأسمر خطي وخوصاء ضامـر

على كل حرداء السراة وسـابـح                      درأن بشباك الـحـديد زوافـر

 

صفحة : 1253

 

 

عوابس تعدو الثعلبـية ضـمـرا                      وهن شواح بالشكيم الشـواجـر

فلا يبعدنك اللـه يا تـوب إنـمـا                      لقاء المنايا دارعا مثل حـاسـر

فإلا تك القتلـى بـواء فـإنـكـم                      ستلقون يوما ورده غير صـادر

وإن السليل إذ يباوي قـتـيلـكـم                      كمرحومة من عركها غير طاهر

فإن تكن القتلى بـواء فـإنـكـم                      فتى ما قتلتم آل عوف بن عامـر

فتى لا تخطاه الـرفـاق ولا يرى                      لقدر عيالا دون جـار مـجـاور

ولا تأخذ الكوم الجلاد رماحـهـا                      لتوبة في نحس الشتاء الصنابـر

إذا ما رأته قـائمـا بـسـلاحـه                      تقته الخفاف بالثقال الـبـهـازر

إذا لم يجد منها برسل فقـصـره                      ذرى المرهفت والقلاص التواجر

قرى سيفه منها مشاشا وضـيفـه                      سنام المهاريس السباط المشافـر

وتوبة أحـيا مـن فـتـاة حـيية                      وأجرأ من ليث بخـفـان خـادر

ونعم الفتى إن كان توبة فـاجـرا                      وفوق الفتى إن كان ليس بفاجـر

فتى ينهل الحاجات ثـم يعـلـهـا                      فيطلعها عنه ثنايا الـمـصـادر صوت:

كأن فتى الفتيان تـوبة لـم ينـخ                      قلائص يفحصن الحصا بالكراكر

ولم يبن أبرادا عتاقـا لـفـتـية                      كرام ويرحل قبل فيء الهواجر في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول لمحمد بن إبراهيم قريض وهو من خاص صنعته وغنائه

ولم يتجل الصبـح عـنـه وبـطـنـه                      لطيف كطي السـب لـيس بـحـادر

فتى كان للـمـولـى سـنـاء ورفـعة                      وللطارق الساري قرى غـير بـاسـر

ولم يدع يوما لـلـحـفـاظ ولـلـنـدا                      وللحرب يرمي نارهـا بـالـشـرائر

وللبازل الكـومـاء يرغـو حـوارهـا                      وللخيل تعدو بالكمـأة الـمـسـاعـر

كأنك لم تـقـطـع فـلاة ولـم تـنـخ                      قلاصا لدى فـأو مـن الأرض غـائر

وتصبح بمـومـاة كـأن صـريفـهـا                      صريف خطاطيف الصرى في المحاور

طوت نفعهـا عـنـا كـلاب وآسـدت                      بنا أجهلـيهـا بـين غـاو وشـاعـر

وقد كان حقا أن تـقـول سـراتـهـم                      لعا لأخـينـا عـالـيا غـير عـاثـر

ودوية قفـر يحـار بـهـا الـقـطـا                      تخطيتها بالناعـجـات الـضـوامـر

فتالله تـبـنـي بـيتـهـا أم عـاصـم                      على مثله أخرى الليالـي الـغـوابـر

فليس شهاب الحرب تـوبة بـعـدهـا                      بغاز ولا غـاد بـركـب مـسـافـر

وقد كان طلاع الـنـجـاد وبـين الـل                      سان ومدلاج الـسـرى غـير فـاتـر

وقد كان قبل الحادثـات إذا انـتـحـى                      وسـائق أو مـعـبـوطة لـم يغـادر

وكـنـت إذا مـولاك خـاف ظـلامة                      دعاك ولم يهتـف سـواك بـنـاصـر

فإن يك عبـد الـلـه آسـى ابـن أمـه                      وآب بأسلاب الكـمـي الـمـغـاور

وكان كذات البـو تـضـرب عـنـده                      سباعا وقد ألفيتـه فـي الـجـراجـر

فإنـك قـد فـارقـتـه لـك عــاذرا                      وأني لحي عذر من في الـمـقـابـر

فأقسمت أبكي بـعـد تـوبة هـالـكـا                      وأحفل من نالت صروف الـمـقـادر

على مثل هـمـام ولابـن مـطـرف                      لتبك البواكي أو لبشـر بـن عـامـر

غلامان كانـا اسـتـوردا كـل سـورة                      من المجد ثم استوثقا في الـمـصـادر

ربيعي حيا كـانـا يفـيض نـداهـمـا                      على كل مغـمـور نـداة وغـامـر

كأن سنـا نـاريهـمـا كـل شـتـوة                      سنا البرق يبدو للعـيون الـنـواظـر وقالت أيضا ترثي توبة عن أم حمير، وأمها ابنة أخي توبة، عن أمها. قال أبو عبيدة: أم حمير أخت أبي الجراح العقيلي. قال: وأمها بنت توبة بن حمير. قال: وكان الأصمعي يعجب بها:

أيا عين بكي توبة ابن حمـير                      بسح كفيض الجدول المتفجر

لتبك عليه من خفاجة نـسـوة                      بماء شؤون الغبرة المتحـدر

سمعن بهيجا أرهقت فذكرنـه                      ولا يبعث الأحزان مثل التذكر

 

صفحة : 1254

 

 

كأن فتى الفتـيان تـوبة لـم يسـر                      بنجد ولم يطلع مع الـمـتـغـور

ولم يرد الـمـاء الـسـدام إذا بـدا                      سنا الصبح في بادي الحواشي منور

ولم يغلب الخصم الضجاج ويملأ ال                      جفان سديفا يوم نكباء صـرصـر

ولم يعل بالجرد الجـياد يقـودهـا                      بسرة بين الأشمسـات فـايصـر

وصحراء موماة يحـار الـقـطـا                      قطعت على هول الجنان بمنسـر

يقودون قبا كالسـراحـين لاحـهـا                      سراهم وسير الراكب المتهـجـر

فلما بدت أرض العدو سقـيتـهـا                      مجاج بقيات المـزاد الـمـقـير

ولما أهابوا بالنـهـاب حـويتـهـا                      بخاظي البضيع كره غير أعسـر

ممر كـكـر الأنـدري مـثـابـر                      إذا ما ونين مهلب الشد محـضـر

فألوت بأعنـاق طـوال وراعـهـا                      صلاصل بيض سابـغ وسـنـور

ألم تر أن الـعـبـد يقـتـل ربـه                      فيظهر جد العبد من غير مظهـر

قتلتم فتى لا يسقط الروع رمـحـه                      إذا الخيل جالت في قنا متكـسـر

فيا توب للهيجا ويا توب لـلـنـدى                      ويا توب للمستنبـح الـمـتـنـور

ألا رب مكروب أجـبـت ونـائل                      بذلت ومعروف لديك ومـنـكـر وقالت ترثيه:

أقسمت أرثي بعـد تـوبة هـالـكـا                      وأحفل من دارت عـلـيه الـدوائر

لعمرك ما بالموت عار على الفتـى                      إذا لم تصبه في الحياة الـمـعـاير

وما أحد حي وإن عـاش سـالـمـا                      بأخلد ممن غيبـتـه الـمـقـابـر

ومن كان مما يحدث الدهر جـازعـا                      فلا بد يوما أن يرى وهو صـابـر

وليس لذي عيش عن الموت مقصـر                      وليس على الأيام والدهـر غـابـر

ولا الحي مما يحدث الدهر معـتـب                      ولا الميت إن لم يصبر الحي ناشـر

وكل شبـاب أو جـديد إلـى بـلـى                      وكل امرئ يوما إلى الله تعالى صائر

وكـل قـرينـي ألـفة لـتـفـرق                      شتاتا وإن ضنا وطال الـتـعـاشـر

فلا يبعـدنـك الـلـه حـيا ومـيتـا                      أخا الحرب إن دارت عليك الـدوائر ويروى:

فلا يبعدنك الله يا تـوب هـالـكـا                      أخا الحرب إن دارت عليك الدوائر

فآليت لا أنفك أبكـيك مـا دعـت                      على فنن ورقاء أو طـار طـائر

قتيل بني عوف فيا لهـفـتـا لـه                      وما كنت أياهـم عـلـيه أحـاذر

ولكنما أخـشـى عـلـيه قـبـيلة                      لها بدروب الروم باد وحـاضـر وقالت ترثيه:

كم هاتف بك مـن بـاك وبـاكـية                      يا توب للضيف إذ تدعى وللجـار

وتوب للخصم إن جاوروا وإن عدلوا                      وبدلوا الأمر نقضا بـعـد إمـرار

إن يصدروا المر تطلعـه مـوارده                      أو يوردوا الأمر تحللـه يإصـدار وقالت ترثيه:

هراقت بنو عوف دما غير واحد                      له نـبـأ نـجـديه سـيغـور

تداعت له أفناء عوف ولم يكـن                      له يوم هضب الردهتين نصير وقالت ترثيه:

يا عين بكي بدمع دائم الـسـجـم                      وابكي لتوبة عند الروع والبـهـم

على فتى من بني سعد فجعت بـه                      ماذا أجن به في الحفرة الرجـم

من كل صافية صرف وقـافـية                      مثل السنان وأمر غير مقتـسـم

ومصدر حين يعيي القوم مصدرهم                      وجفنة عند نحس الكوكب الشبـم وقالت تعير قابضا:

جزى الله شرا قابضا بصنـيعـه                      وكل امرئ يجزى بما كان ساعيا

دعا قابضا والمرهقـات يردنـه                      فقبحت مدعوا ولـبـيك داعـيا وقالت لقابض وتعذر عبد الله أخا توبة:

دعى قابضا والموت يخفق ظله                      وما قابض إذ لم يجب بنجـيب

وآسى عبيد الله ثـم ابـن أمـه                      ولو شاء نجى يوم ذاك حبيبي خرج توبة إلى الشام فلقيه زنجي وخبره معه:

 

صفحة : 1255

 

أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن معاوية بن بكر قال حدثني أبو الجراح العقيلي عن أمه دينار بنت خيبري بن الحمير عن توبة بن الحمير قال: خرجت إلى الشام، فبينا أنا أسير ليلة في بلاد لا أنيس بها ذات شجر نزلت لأريح، وأخذت ترسي فألقيته فوقي، وألقيت نفسي بين المضطجع والبارك. فلما وجدت طعم النوم إذا شيء قد تجللني عظيم ثقيل قد تجللني عظيم ثقيل قد برك علي، ونشزت عنه ثم قمصت منه قماصا فرميت به على وجهه، وجلست إلى راحلتي فانتضيت السيف، ونهض نحوي فضربته ضربة انخزل منها، وعدت إلى موضعي وأنا لا أدري ما هو أإنسان أم سبع، فلما أصبحت إذا هو أسود زنجي يضرب برجليه وقد قطعت وسطه حتى كدت أبريه، وانتهيت إلى ناقة مناخة موقرة ثيابا من سلبه، وإذا جارية شابة ناهد وقد أوثقها وقرنها بناقته. فسألتها عن خبرها، فأخبرتني أنه قتل مولاها وأخذها منه. فأخذت الجميع وعدت إلى أهلي. قال أبو الجراح قالت أمي: وأنا أدركتها في الحي تخدم أهلنا .

حديث معاوية مع ليلى في توبة: أخبرنا اليزيدي عن ثعلب عن ابن الأعرابي قال أخبرنا عطاء بن مصعب القرشي عن عاصم الليثي عن يونس بن حبيب الضبي عن أبي عمرو بن العلاء قال: سأل معاوية بن أبي سفيان ليلى الخيلية عن توبة بن الحمير فقال: ويحك يا ليلى أكما يقول الناس كان توبة? قالت: يا أمير المؤمنين ليس كل ما يقول الناس حقا، والناس شجرة بغي يحسدون أهل النعم حيث كانوا وعلى من كانت. ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط البنان، حديد اللسان، شجا للأقران، كريم المخبر ، عفيف المئزر، جميل المنظر. وهو يا أمير المؤمنين كما قلت له. قال: وما قلت له? قالت قلت ولم أتعد الحق وعلمي فيه:

بعيد الثرى لا يبلغ القوم قـعـره                      ألد ملد يغلب الحـق بـاطـلـه

إذا حل ركب في ذراه وظـلـه                      ليمنعهم مما تخـاف نـوازلـه

حماهم بنصل السيف من كل فادح                      يخافونه حتى تموت خصـائلـه فقال لها معاوية: ويحك يزعم الناس أنه كان عاهرا خاربا . فقالت من ساعتها:

معاذ إلهي كـان والـلـه سـيدا                      جوادا على العلات جما نوافلـه

أغر خفاجيا يرى البخـل سـبة                      تحلب كفاه النـدى وأنـامـلـه

عفيفا بعيد الهم صلبـا قـنـاتـه                      جميلا محياه قلـيلا غـوائلـه

وقد علم الجوع الذي بات سـاريا                      على الضيف والجيران أنك قاتله

وأنك رحب الباع يا توب بالقرى                      إذا ما لئيم القوم ضاقت منازلـه

يبيت قرير العين من بات جـاره                      ويضحي بخير ضيفه ومنازلـه فقال لها معاوية: ويحك يا ليلى لقد جزت بتوبة قدره. فقالت: والله يا أمير المؤمنين لو رأيته وخبرته لعرفت أني مقصرة في نعته وأني لا أبلغ كنه ما هو أهله. فقال لها معاوية: من أي الرجال كان? قالت:

أتته المنايا حين تم تـمـامـه                      وأقصر عنه كل قرن يطاوله

وكان كليث الغاب يحمي عرينه                      وترضى به أشباله وحلائلـه

غصوب حليم حين يطلب حلمه                      وسم زعاف لا تصاب مقاتلـه قال: فأمر لها بجائزة عظيمة وقال لها: خبريني بأجود ما قلت فيه من الشعر. قالت: يا أمير المؤمنين، ما قلت فيه شيئا إلا والذي فيه من خصال الخير أكثر منه. ولقد أجدت حين قلت:

جزى الله خـيرا والـجـزاء بـكـفـه                      فتى من عقيل سـاد غـير مـكـلـف

فتى كانت الدنـيا تـهـون بـأسـرهـا                      عليه ولا ينـفـك جـم الـتـصـرف

ينـال عـلـيات الآمـور بـهـــونة                      إذا هي أعيت كـل خـرق مـشـرف

هو الذوب بل أري الخـلايا شـبـيهـه                      بدرياقة من خمـر بـيسـان قـرقـف

فيا توب ما في العـيش خـير ولا نـدى                      يعد وقد أمست فـي تـرب نـفـنـف

وما نلت منك النصف حتى ارتميت بك ال                      منايا بسهم صـائب الـوقـع أعـجـف

فيا ألف ألف كنـت حـيا مـسـلـمـا                      لألقاك مثل القسـور الـمـتـطـرف

 

صفحة : 1256

 

 

كما كنت إذ كنت المنحى من الردى                      إذا الخيل جالت بالقنا المتقصـف

وكم من لهيف محجر قد أجبـتـه                      بأبيض قطاع الضريبة مـرهـف

فأنقذته والمـوت يحـرق نـابـه                      عليه ولم يطعن ولـم يتـنـسـف ما كان بين توبة وجميل أمام بثينة: أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن ابن سعد عن القحذمي عن محارب بن غصين العقيلي قال: كان توبة قد خرج إلى الشام، فمر ببني عذرة، فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه، فشق ذلك على جميل، وذلك قبل أن يظهر حبه لها. فقال له جميل: من أنت? قال: أنا توبة بن الحمير. قال: هل لك في الصراع? قال: ذلك إليك، فشدت عليه بثينة ملحفة مورسة فأتزر بها، ثم صارعه فصرعه جميل. ثم قال: هل لك في النضال ? قال: نعم، فناضله فنضله جميل. ثم قال له: هل لك في السباق? فقال: نعم، فسابقه فسبقه جميل. فقال له توبة: يا هذا إنما تفعل بريح هذه الجالسة، ولكن اهبط بنا الوادي، فصرعه توبة ونضله وسبقه .

سأل عبد الملك بن مروان ليلى عما رآه توبة فيها فأجابته: أخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال: بلغني أن ليلى الأخيلية دخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت وعجزت، فقال لها: ما رأى توبة فيك حين هويك? قالت: ما رآه الناس فيك حين ولوك. فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها .

وفود ليلى على الحجاج وحديثه معها: وأخبرني الحسن بن علي عن ابن أبي سعد عن أحمد بن رشيد بن حكيم الهلالي عن أيوب بن عمرو عن رجل من بني عامر يقال له ورقاء قال: كنت عند الحجاج بن يوسف، فدخل عليه الآذن فقال: أصلح الله الأمير، بالباب امرأة تهدر كما يهدر البعير الناد . قال: أدخلها. فلما دخلت نسبها فانتسبت له. فقال: ما أتى بك يا ليلى? قالت: إخلاف النجوم ، وقلة الغيوم ، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرد . قال: فأخبريني عن الأرض. قالت: الأرض مقشعرة ، والفجاج مغبرة، وذو الغنى مختل، وذو الحد منفل. قال: وما سبب ذلك? قالت: أصابتنا سنون مجحفة مظلمة، لم تدع لنا فصيلا ولا ربعا، ولم تبق عافطة ولا ناقطة؛ فقد أهلكت الرجال، ومزقت العيال، وأفسدت الأموال، ثم أنشدته الأبيات التي ذكرناه متقدما . وقال في الخبر: قال الحجاج: هذه التي تقول :

نحن الأخايل لا يزال غلامـنـا                      حتى يدب على العصا مشهورا

تبكي الرماح إذا فقدن أكفـنـا                      جزعا وتعرفنا الرفاق بحـورا ثم قال لها: يا ليلى، أنشدينا بعض شعرك في توبة، فأنشدته قولها:

لعمرك ما بالموت عار على الفتى                      إذا لم تصبه في الحياة المـعـاير

وما أحد حي وإن عاش سـالـمـا                      بأخلد ممن غيبتـه الـمـقـابـر

فلا الحي مما أحدث الدهر معتـب                      ولا الميت إن لم يصبر الحي ناشر

وكل جديد أو شباب إلـى بـلـى                      وكل امرئ يوما إلى الموت صائر

قتيل بني عوف فيا لهـفـتـا لـه                      وما كنت إياهـم عـلـيه أحـاذر

ولكنني أخشـى عـلـيه قـبـيلة                      لها بدروب الشأم باد وحـاضـر فقال الحجاج لحاجبه: اذهب فاقطع لسانها. فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها، فقالت: ويلك إنما قال لك الأمير اقطع لسانها بالصلة والعطاء، فارجع إليه واستأذنه. فرجع إليه فاستأمره ، فاستشاط عليه وهم بقطع لسانه، ثم أمر بها فأدخلت عليه، فقالت: كاد وعهد الله يقطع مقولي، وأنشدته:

حجاج أنت الذي لا فـوقـه أحـد                      إلا الخليفة والمستغفر الصـمـد

حجاج أنت سنان الحرب إن نهجت                      وأنت للناس في الدواجي لنا تقـد أخبرنا الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو الحسن ميمون الموصلي عن سلمة بن أيوب بن مسلمة الهمداني قال: كان جدي عند الحجاج، فدخلت عليه امرأة برزة ، فانتسبت له فإذا هي ليلى الأخيلية. وأخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي، وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: كنت عند الحجاج. وأخبرني وكيع عن عن إسماعيل بن محمد عن المدائني عن جويرية عن بشر بن عبد الله بن أبي بكر: أن ليلى دخلت على الحجاج، ثم ذكر مثل الخبر الأول، وزاد فيه: فلما قالت:

غلام إذا هز القناة سقاها

 

صفحة : 1257

 

قال لها: لا تقولي غلام، قولي همام. وقال فيه: فأمر لها بمائتين. فقالت: زدني، فقال: اجعلوها ثلاثمائة. فقال بعض جلسائه: إنها غنم. فقالت: الأمير أكرم من ذلك وأعظم قدرا من أن يأمر لي إلا بالإبل. قال: فاستحيا وأمر لها بثلاثمائة بعير، وإنما كان أمر لها بغنم لا إبل .

وأخبرنا به وكيع عن إبراهيم بن إسحاق الصالحي عن عمر بن شبة عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه، وقال فيه: ألا قلت مكان غلام همام وذكر باقي الخبر الذي ذكره من تقدم، وقال فيه: فقال لها: أنشدينا ما قلت في توبة، فأنشدتها قولها:

فإن تكن القتلى بـواء فـإنـكـم                      فتى ما قلتم آل عوف بن عامـر

فتى كان أحيا من فـتـاة حـيية                      وأشجع من ليث بخفـان خـادر

أتته المنـايا دون درع حـصـينة                      وأسمر خطي وجرداء ضامـر

فنعم الفتى إن كان توبة فـاجـرا                      وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر

كأن فتى الفتيان تـوبة لـم ينـخ                      قلائص يفحصن الحصا بالكراكر فقال لها أسماء بن خارجة: أيتها المرأة إنك لتصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه العرب فيه. فقالت: أيها الرجل هل رأيت توبة قط? قال: لا. فقالت: أما والله ولو رأيته لوددت أن كل عاتق في بيتك حامل منه؛ فكأنما فقيء في وجه أسماء حب الرمان. فقال له الحجاج: وما كان لك ولها .

وفاتها وكيف كانت: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد عن محمد بن علي بن المغيرة قال سمعت أبي يقول سمعت الأصمعي يذكر أن الحجاج أمر لها بعشرة آلاف درهم، وقال لها: هل لك من حاجة? قالت: نعم أصلح الله الأمير، تحملني إلى ابن عمي قتيبة بن مسلم، وهو على خراسان يومئذ فحملها إليه، فأجازها وأقبلت راجعة تريد البادية، فلما كانت بالري ماتت، فقبرها هناك. هكذا ذكر الأصمعي في وفاتها وهو غلط. وقد أخبرني عمي عن الحزنبل الأصبهاني عمن أخبره عن المدائني، وأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهدي عن ابن أبي سعد عن محمد بن الحسن النخعي عن ابن الخصيب الكاتب، واللفظ في الخبر للحزنبل، وروايته أتم: أن ليلى الأخيلية أقبلت من سفر، فمرت بقبر توبة ومعها زوجها وهي في هودج لها. فقالت: والله لا أبرح حتى أسلم على توبة، فجعل زوجها يمنعها من ذلك وتأبى إلا أن تلم به. فلما كثر ذلك منها تركها، فصعدت أكمة عليها قبر توبة، فقالت: السلام عليك يا توبة، ثم حولت وجهها إلى القوم فقالت: ما عرفت له كذبة قط قبل هذا. قالوا: وكيف? قالت: أليس القائل: صوت:

ولو أن ليلى الأخيلية سـلـمـت                      علي ودوني تـربة وصـفـائح

لسلمت تسليم البـشـاشة أو زقـا                      إليها صدى من جانب القبر صائح

وأغبط من ليلى بمـا لا أنـالـه                      ألا كل ما قرت به العين صالـح فما باله لم يسلم علي كما قال . وكانت إلى جانب القبر بومة كامنة، فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت وطارت في وجه الجمل، فنفر فرمى بليلى على رأسها، فماتت من وقتها، فدفنت إلى جنبه. وهذا هو الصحيح من خبر وفاتها .

غنى في الأبيات المذكورة آنفا حكم الوادي لحنين، أحدهما رمل بالوسطى عن عمرو، والآخر خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش، وقال حبش: وفيها لحنان لجميلة والميلاء رملان بالبنصر، وذكر أبو العبيس بن حمدون أن الرمل لعمر الوادي .

كان توبة شريرا كثير الغارات: قال أبو عبيدة: كان توبة شريرا كثير الغارة على بني الحارث بن كعب وخثعم وهمدان، فكان يزور نساء منهم يتحدث إليهن، وقال:

أيذهب ريعان الشباب ولـم أزر                      غرائر من همدان بيضا نحورها قال أبو عبيدة: وكان توبة ربما ارتفع إلى بلاد مهرة فيغير عليهم، وبين بلاد مهرة وبلاد عقيل مفازة منكرة لا يقطعها الطير، وكان يحمل مزاد الماء فيدفن منه على يوم مزادة ثم يغير عليهم فيطلبونه فيركب بهم المفازة، وإنما كان يتعمد حمارة القيظ وشدة الحر، فإذا ركب المفازة رجعوا عنه .

خبر ليلى مع عبد الملك بن مروان حين رآها عند زوجته عاتكة: أخبرني حرمي عن الزبير عن يحيى بن المقدام الربعي عن عمه موسى بن يعقوب قال:

 

صفحة : 1258

 

دخل عبد الملك بن مروان على زوجته عاتكة بنت يزيد بن معاوية، فرأى عندها امرأة بدوية أنكرها، فقال لها: من أنت? قالت: أنا الوالهة الحرى ليلى الأخيلية. قال: أنت التي تقولين:

أريقت جفان ابن الخليع فأصـبـحـت                      حياض الندى زالت بهن الـمـراتـب

فعافته لهـفـى يطـوفـون حـولـه                      كما أنقض عرش البئر والورد عاصب قالت: أنا التي أقول ذلك. قال: فما أبقيت لنا? قالت: الذي أبقاه الله لك. قال: وما ذاك? قالت: نسبا قرشيا، وعيشا رخيا، وامرأة مطاعة. قال: أفردته بالكرم قالت: أفردته بما أفرده الله به. فقالت عاتكة: إنها قد جاءت تستعين بنا عليك في عين تسقيها وتحميها لها. ولست ليزيد إن شفعتها في شيء من حاجاتها، لتقديمها أعرابيا جلفا على أمير المؤمنين. قال: فوثبت ليلى فقامت على رجلها واندفعت تقول:

ستحملني ورحلـي ذات وخـد                      عليهـا بـنـت آبـاء كـرم

إذا جعلت سواد الشأم جـنـبـا                      وغلق دونهـا بـاب الـلـئام

فليس بـعـائد أبـدا إلـيهـم                      ذوو الحاجات في غلس الظلام

أعاتك لـو رأيت غـداة بـنـا                      عزاء النفس عنكم واعتزامي

إذا لعلمت واستيقـنـت أنـي                      مشيعة ولم ترعي ذمـامـي

أأجعل مثل تـوبة فـي نـداه                      أبا الذبان فوه الدهـر دامـي

معاذ الله ما عسفت برحـلـي                      تغذ السير للبلد الـتـهـامـي

أقلت خليفة فسـواه أحـجـى                      بإمرته وأولـى بـالـلـثـام

لثام الملك حين تعـد كـعـب                      ذوو الأخطار والخطط الجسام فقيل لها: أي الكعبين عنيت? قالت: ما أخال كعبا ككعبي .

رواية أخرى في وفودها على الحجاج: أخبرنا اليزيدي عن الخليل بن أسد عن العمري عن الهيثم بن عدي عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير عن محمد بن الحجاج بن يوسف قال: بينا الأمير جالس إذ استؤذن لليلى. فقال الحجاج: ومن ليلى? قيل: الأخيلية صاحبة توبة. قال: أدخلوها. فدخلت امرأة طويلة دعجاء العينين حسنة المشية إلى الفوه ما هي، حسنة الثغر، فسلمت فرد الحجاج عليها ورحب بها فدنت، فقال الحجاج: دراك ضع لها وسادة يا غلام، فجلست. فقال: ما أعملك إلينا? قالت: السلام على الأمير، والقضاء لحقه، والتعرض لمعروفه. قال: وكيف خلفت قومك? قالت: تركتهم في حال خصب وأمن ودعة. أما الخصب ففي الأموال والكلأ. وأما الأمن فقد أمنهم الله عز وجل بك. وأما الدعة فقد خامرهم من خوفك ما أصلح بينهم. ثم قالت: ألا أنشدك? فقال: إذا شئت. فقالت:

أحجاج إن الله أعطـاك غـاية                      يقصر عنها من أراد مـداهـا

أحجاج لا يفلل سلاحك إنمـا ال                      منايا بكف الله حـيث تـراهـا

إذا هبط الحجاج أرضا مريضة                      تتبع أقصى دائها فشـفـاهـا

شفاها من الداء العضال الذي بها                      غلام إذا هز القناة سـقـاهـا

سقاها دماء المارقين وعلـهـا                      إذا حجمت يوما وخيف أذاهـا

إذا سمع الحجـاج رز كـتـيبة                      أعد لها قبل النـزول قـراهـا

أعد لها مصـقـولة فـارسـية                      بأيدي رجال يحلبون صـراهـا

أحجاج لا تعط العصاة منـاهـم                      ولا الله يعطي للعصاة منـاهـا

ولا كل حلاف تـقـلـد بـيعة                      فأعظم عهد الله ثـم شـراهـا

 

صفحة : 1259

 

فقال الحجاج ليحيى بن منقذ: لله بلادها ما أشعرها فقال: ما لي بشعرها علم. فقال: علي بعبيدة بن موهب وكان حاجبه، فقال: أنشديه فأنشدته، فقال عبيدة: هذه الشاعرة الكريمة، قد وجب حقها. قال: ما أغناها عن شفاعتك يا غلام مر لها بخمسمائة درهم؛ وأكسها خمسة أثواب أحدها كساء حر، وأدخلها على ابنة عمها هند بنت أسماء فقل لها: حليها. فقالت: أصلح الله الأمير. أضر بنا العريف في الصدقة، وقد خربت بلادنا، وانكسرت قلوبنا، فأخذ خيار المال. قال اكتبوا لها إلى الحكم بن أيوب فليبتع لها خمسة أجمال وليجعل أحدها نجيبا ، واكتبوا إلى صاحب اليمامة بعزل العريف الذي شكته. فقال ابن موهب: أصلح الله الأمير، أأصلها? قال نعم، فوصلها بأربعمائة درهم، ووصلتها هند بثلاثمائة درهم، ووصلها محمد بن الحجاج بوصيفتين .

قال الهيثم: فذكرت هذا الحديث لإسحاق بن الجصاص فكتبه عني، ثم حدثني عن حماد الراوية قال: لما فرغت ليلى من شعرها أقبل الحجاج على جلسائه فقال لهم: أتدرون من هذه? قالوا: لا والله ما رأينا امرأة أفصح ولا أبلغ منها ولا أحسن إنشادا. قال: هذه ليلى صاحبة توبة. ثم أقبل عليها فقال لها: بالله يا ليلى أرأيت من توبة أمرا تكرهينه أو سألك شيئا أو سألك شيئا يعاب? قالت: لا والله الذي أسأله المغفرة ما كان ذلك منه قط. فقال: إذا لم يكن فيرحمنا الله وإياه.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن خالد بن سعيد عن أبيه قال: كنت عند الحجاج فدخلت عليه ليلى الأخيلية، ثم ذكر مثل الخبر الأول، وزاد فيه: فلما قالت:

غلام إذا هز القناة سقاها قال: لا تقولي غلام، قولي همام .

صوت:

سألني الناس أين يعمـد هـذا                      قلت آتي في الدار قرما سريا

ما قطعت البلاد أسري ولا يم                      مت إلا إياك يا زكــــريا

كم عطـاء ونـائل وجـزيل                      كان لي منكم هـنـيا مـريا عروضه من الخفيف، الشعر للأقيشرالأسدي. والغناء لدحمان، وله فيه لحنان، أحدهما خفيف ثقيل من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق، والآخر ثقيل أول بالبنصر في الثالث والثاني عن عمرو، وذكر يونس أنه للأبجر ولم يجنسه، وذكر الهشامي أن لحن الأبجر خفيف ثقيل، وأن لحن ابن بلوع في الثالث ثاني ثقيل. وليحيى بن واصل ثقيل أول بالوسطى .

 

ذكر الأقيشر وأخباره

نسب الأقيشر واسمه ولقبه وكنيته: الأقيشر: لقب غلب عليه ، لأنه كان أحمر الوجه أقشر، واسمه المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وكان يكنى أبا معرض، وقد ذكر ذلك في شعره في مواضع عدة، منها قوله:

فإن أبا معرض إذا حـسـا                      من الراح كأسا على المنبر

خطيب لبيب أبو معـرض                      فإن ليم في الخمر لم يصبر وعمر عمرا طويلا، فكان أقعد بني أسد نسبا، وما أخلقه بأن يكون ولد في الجاهلية ونشأ في أول الإسلام؛ لأن سماك بن مخرمة الأسدي صاحب مسجد سماك بالكوفة بناه في أيام عمر، وكان عثمانيا، وأهل تلك المحلة إلى اليوم كذلك. فيروي أهل الكوفة أن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه لم يصل فيه، وأهل الكوفة إلى اليوم يجتنبونه. وسماك الذي بناه هو سماك بن مخرمة بن حمين بن بلث بن عمرو بن معرض بن عمرو بن أسد، والأقيشر أقعد نسبا منه. وقال الأقيشر في ذكر مسجد سماك شعرا .

أخبرني محمد بن الحسن الكندي الكوفي قال أخبرني الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية وكنيته أبو عبد الله محمد بن معاوية قال: الأقيشر من رهط خريم بن فاتك الأسدي. وخريم إنما نسب إلى جد أبيه فاتك، وهو خريم بن الخرم بن شداد بن عمر بن فاتك الأسدي، وفاتك بن قليب بن عمرو بن أسد. والأقيشر هو المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد .

قال في مسجد سماك بالكوفة شعرا ذم فيه بني دودان ثم ترضاهم ببيت: قال: وهو القائل لما بنى سماك بن مخرمة مسجده الذي بالكوفة، وهو أكبر مسجد لبني أسد، وهو في خطة بني نصر بن قعين:

غضبت دودان من مسجدنـا                      وبه يعرفـهـم كـل أحـد

لو هدمنا غـدوة بـنـيانـه                      لانمحت أسماؤهم طول الأبد

 

صفحة : 1260

 

 

اسمهم فيه وهـم جـيرانـه                      واسمه الدهر لعمرو بن أسد

كلما صلوا قسمـنـا أجـره                      فلنا النصف على كل جسـد فحلف بنو دودان ليضربنه. فأتاهم فقال: قد قلت بيتا محوت به كل ما قلت. قالوا: وما هو يا فاسق? قال قلت:

وبنـو دودان حـي سـادة                      حل بيت المجد فيهم والعدد فتركوه .

كان خليعا ماجنا مدمنا لشرب الخمر: أخبرني وكيع عن إسماعيل بن مجمع عن المدائني قال، وأخبرني أبو أيوب المديني عن محمد بن سلام قال: كان الأقيشر كوفيا خليعا ماجنا مدمنا لشرب الخمر، وهو الذي يقول لنفسه:

فإن أبا معرض إذ حـسـا                      من الراح كأسا على المنبر

خطيب لبيب أبو معـرض                      فصار خليعا على المكبـر

أحل الحرام أبو مـعـرض                      فإن ليم في الخمر لم يصبر

يجل اللئام ويلحى الـكـرام                      وإن أقصروا عنه لم يقصر اجتاز على مجلس لبني عبس فناداه أحدهم بلقبه وكان يغضب منه فهجاه: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني، وأخبرني عبد الوهاب ابن عبيد الصحاف الكوفي عن قعنب بن محرز الباهلي عن المدائني: أن القيشر مر يريد الحيرة ، فاجتاز على مجلس لبني عبس، فناداه أحدهم: يا أقيشر، وكان يغضب منها، فزجره الأشياخ، ومضى الأقيشر ثم عاد إليه معه رجل وقال له: قف معي، فإذا أنشدت بيتا فقل لي: ولم ذلك، ثم انصرف، وخذ هذين الدرهمين. فقال له: أنا أصير معك إلى حيث شئت يا أبا معرض ولا أرزؤك شيئا، قال: فافعل. فأقبل به حتى أتى مجلس القوم، فوقف عليهم ثم تأملهم وقد عرف الشاب، فأقبل عليه وقال:

أتدعوني الأقيشر ذلك اسمي                      وأدعوك ابن مطفئة السراج فقال له الرجل: ولم ذاك? فقال:

تناجي خذنها باللـيل سـرا                      ورب الناس يعلم ما تناجي قال قعنب في خبره. فلقب ذلك الرجل ابن مطفئة السراج .

كتب أبو الضحاك التميمي شعرا يذمه فرد عليه وتكرر ذلك: وقال قعنب في خبره عن المدائني أخبرنا به اليزيدي عن الخزار عن المدائني في كتاب الجوابات، ولم يروه الباقون: كان الأقيشر يكتري بغلة أبي المضاء المكاري فيركبها إلى الخمارين بالحيرة. فركبها يوما ومضى لحاجته، وعند أبي المضاء رجل من تميم يكنى أبا الضحاك، فقال له: من هذا? قال: الأقيشر. فأخذ طبق الميزان وكتب فيه:

عجبت لشاعر من حي سوء                      ضئيل الجسم مبطان هجين وقال لأبي المضاء: إذا جاء فأقرئه هذا. فلما جاء أقرأه. فقال له الأقيشر: ممن هو? قال: من بني تميم. فكتب الأقيشر تحت كتابه:

فلا أسدا أسب ولا تـمـيمـا                      وكيف يجوز سب الأكرمـين

ولكن التميمي حـال بـينـي                      وبينك يا ابن مضرطة العجين فهرب إلى الكوفة فلم يزد على هذا .

وقال قعنب في خبره عن المدائني: فجاء التميمي فقرأ ما كتب، فكتب تحته:

يأيها المبتغي حشا لحـاجـتـه                      وجه الأقيشر حش غير ممنوع فلما قرأه قال: اللهم أني أستعديك عليه، وكتب تحته:

إني أتاني مقـال كـنـت آمـنة                      فجاء من فاحش في الناس خلوع

عبد العزيز أبو الضحاك كنيتـه                      فيه من اللؤم وهي غير ممنوع

ولم تبت أمـه إلا مـطـاحـنة                      وأن تؤاجر في سوق المراضيع

ينساب ماء البرايا في استها سربا                      كأنما انساب في بعض البلالـيع

من ثم جاءت به والبظر حنكـه                      كأنه في استها تمثـال يسـروع فلما جاءه جزع ومشى إليه بقوم من بني تميم، فطلبوا أن يكف ففعل. وأما عبد الله بن خلف فذكر عن أبي عمرو الشيباني أن الأقيشر قال هذا في مسكين .

والشعر الذي فيه الغناء يقوله الأقيشر في زكريا بن طلحة الذي يقال له الفياض، وكان مداحا له .

سمع عبد الملك بن مروان شعرا له في طلحة الفياض فمدحه: أخبرني الحسن بن علي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال: غنت جارية عند عبد الملك ابن مروان بشعر الأقيشر:

قرب الله بالـسـلام وحـيا                      زكريا بن طلحة الفـياض

معدن الضيف إن أناخوا إليه                      بعد أين الطلائح الأنقـاض

 

صفحة : 1261

 

 

ساهمات العيون خـوص رذايا                      قد براها الكلال بـعـد إياض

زاده خـالـد ابـن عـم أبـيه                      منصبا كان في العلا ذا انتفاض

فرع تيم من تـيم مـرة حـقـا                      قد قضى ذاك لابن طلحة قاض فقال عبد الملك للجارية: ويحك لمن هذا? قالت: للأقيشر. قال: هذا المدح لا على طمع ولا فرق، وأشعر الناس الأقيشر .

لقيه الكميت فسمع من شعره وأثنى عليه: وذكر عبد الله بن خلف أن أبا عمرو الشيباني أخبره الكميت بن زيد لقي الأقيشر في سفرة ، فقال له: أين تقصد يا أبا معرض? فقال:

سألني الناس أين يقصد هـذا                      قلت آتى في الدار قرما سريا وذكر باقي الأبيات التي فيها الغناء، فلم يزل الكميت يستعيده إياها مرارا، ثم قال: ما كذب من قال إنك أشعر الناس .

كان عنينا فقال شعرا في ضد ذلك داعب به رجلا من قيس: أخبرني عمي عن الكراني عن ابن سلام قال: كان الأقيشر عنينا، وكان لا يأتي النساء، وكان كثيرا ما كان يصف ضد ذلك من نفسه. فجلس إليه يوما رجل من قيس، فأنشده الأقيشر:

ولقد أروح بمشرف ذي شعرة                      عسر المكرة ماؤه يتفـصـد

مرح يطير من المراح لعابه                      وتكاد جلدته بـه تـتـقـدد ثم قال للرجل: أتبصرالشعر? قال نعم. قال: فما وصفت? قال: فرسا قال: أفكنت لو رأيته ركبته? قال: إي والله وأثني عطفه. فكشف عن أيره وقال: هذا وصفت، فقم فاركبه. فوثب الرجل من مجلسه وجعل يقول له: قبحك الله من جليس سائر اليوم .

دعاه عابس وهو في جنازة بنت زياد العصفري لغداء وشراب فقال شعرا: ونسخت من كتاب عبد الله بن خلف: حدثني أبو عمرو الشيباني قال: ماتت بنت زياد العصفري، فخرج الأقيشر في جنازتها، فلما دفنوها انصرف، فلقيه عابس مولى عائذ الله، فقال له: هل لك في غداء وطلاء أتيت به من طيزناباذ قال نعم. فذهب به إلى منزله فغداه وسقاه، فلما شرب قال:

فليت زيادا لا يزلن بـنـاتـه                      يمتن وألقى كلما عشت عابسا

فذلك يوم غاب عنـي شـره                      وأنجحت فيه بعد ما كنت آيسا أخذه الشرط من حانة فتخلص منهم برشوة وقال شعرا: ونسخت من كتابه: حدثني أبو عمرو قال: شرب الأقيشر في بيت خمارة بالحيرة، فجاءه الشرط ليأخذوه، فتحرز منهم وأغلق بابه وقال: لست أشرب، فما سبيلكم علي قالوا: قد رأينا العس في كفك وأنت تشرب. قال: إنما شربت من لبن لقحة لصاحب الدار، فلم يبرحوا حتى أخذوا منه درهمين. فقال:

إنمـا لـقـحـتـنـا بـاطـية                      فإذا ما مزجت كانت عـجـب

لبن أصـفـر صـاف لـونـه                      ينزع الباسور من عجب الذنب

إنما نشـرب مـن أمـوالـنـا                      فسلوا الشرطي ما هذا الغضب سأل عبد الملك وقد بنى أسد عنه وقال إنه شاعرهم: أخبرني الحسن بن علي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال: دخل وفد بني أسد على عبد الملك بن مروان، فقال: من شاعركم يا بني أسد? قالوا: إن فينا لشعراء ما يرضى قومهم أن يفضلوا عليهم أحدا. قال فما فعل الأقيشر? قالوا: مات. قال: لم يمت، ولكنه مشتغل بعشقه، وما أبعد أن يكون شاعركم إلا أنه يضيع نفسه. أليس هو القائل:

يأيها السائل عما مـضـى                      من علم هذا الزمن الذاهب

إن كنت تبغي العلم أو أهله                      أو شاهدا يخبر عن غائب

فاعتبر الأرض بأسمـائهـا                      واعتبر الصاحب بالصاحب سأل جارا له طحانا كان يقرض الناس فلم يعطه فقال فيه شعرا: وذكر عبد الله بن خلف عن أبي عمرو الشيباني أن جارا للأقشير طحانا كان ينسئ الناس يكنى أبا عائشة. فأتاه الأقيشر فلم يعطه، فقال له:

يريد النساء ويأبى الرجال                      فما لي وما لأبي عائشه

أدام له الله كد الرجـال                      وأثكله ابنتـه عـائشـه فأعطاه ما أراد واستعفاه من أن يزيد شيئا .

تعرض له رجل من هجيم فهجاهم فاستكفوه فكف: سخت من كتاب عبيد الله بن محمد اليزيدي بخطه: قال الهيثم بن عدي حدثني عطاف بن عاصم بن الحدثان قال: مر أعرابي من بني تميم كان يهزأ بالأقشير، فقال له:

 

صفحة : 1262

 

 

أبا معرض كن أنت إن مت دافني                      إلى جنب قبر فيه شلو المضلـل

فعلي أن أنجو من النـار إنـهـا                      تضرم للعبد اللئيم الـمـبـخـل

بذلك أوصاها الإلـه ولـم تـزل                      تحش بأوصال وترب وجـنـدل

وأنت بحمد الله إن شئت مفلـتـي                      بحزمك فاحزم يا أقيشر واعجل فقال له: ممن أنت? قال: من بني تميم ثم أحد بني الهجيم بن عمرو بن تميم، فقال الأقشير:

تميم بن مر كفكفوا عن تعمـدي                      بذل فإني لست بالـمـتـذلـل

أيهزأ بي العبد الهجيمي ضـلة                      ومثلي رمي ذا التدرأ المتضلل

بداهية دهياء لا يستطـيعـهـا                      شماريخ من أركان سلمى ويدبل

وبالله لولا أن حلمـي زاجـري                      تركت تميما ضحكة كل محفل

فكفوا رماكم ذو الجلال بخـزية                      تصبحكم في كل مجمع ومنزل

فأنتم لئام الناس لا تنـكـرونـه                      وألامكم طرا حريث بن جنـدل فصار إليه شيوخ من بني الهجيم واعتذروا إليه واستكفوه فكف.

شرب مع مقعد وأعمى وغناهم مغن فطربوا فقال هو شعرا: أخبرني الأخفش قال حدثني أبو الفياض بن أبي شراعة عن أبيه قال: شرب الأقيشر بالحيرة في بيت فيه خياط مقعد ورجل أعمى، وعندهم مغن مطرب، فطرب الأقيشر، فسقاهم من شربه، فلما انتشوا وثب الأعمى يسعى في حوائجهم، وقفز الخياط المقعد يرقص على ظلعة ويجهد في ذلك كل جهد. فقال الأقيشر:

ومقعد قوم قد مشى من شرابنـا                      وأعمى سقيناه ثلاثا فـأبـصـرا

شرابا كريح العنبر الورد ريحـه                      ومسحوق هندي من المسك أذفرا

من الفتيات الغر من أرض بابـل                      إذا شفها الحاني من الدن كبـرا

لها من زجاج الشام عنق غـريبة                      تأنق فيهـا صـانـع وتـخـيرا

ذخائر فرعون التي جبـيت لـه                      وكل يسمى بالعتيق مـشـهـرا

إذا ما رآها بعد إنقاء غسـلـهـا                      تدور علينا صائم القوم أفـطـرا كان صاحب سراب وندامى تفرق أصحابه فقال شعرا: أخبرنا علي بن سليمان قال حدثني أبي قال: كان الأقيشر صاحب شراب وندامى، فأشخص الحجاج بعض ندمائه إلى بعض النواحي ، ومات بعضهم، ونسك بعضهم، وهرب بعضهم؛ فقال في ذلك:

غلب الصبر فاعترتني هموم                      لفراق الثقات من إخوانـي

مات هذا وغاب هذا وهـذا                      دائب في تلاوة الـقـرآن

ولقد كان قبل إظهاره النس                      ك قديما من أظرف الفتيان شعر له في بغل أبي المضاء وكان يكتريه فيركبه إلى الحيرة: وأخبرني أبو الحسن الأسدي قال قال ابن الكلبي حدثني سلمة بن عبد سواع عن أبيه قال: كان الأقيشر لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم، يجعل درهمين في كراء بغل إلى الحيرة، ودرهمين للشراب، ودرهما للطعام. وكان له جار يكنى أبا المضاء له بغل يكريه، وكان يعطيه درهمين ويأخذ بغله فيركبه إلى الحيرة، حتى يأتي بيت الخمار فينزل عنده ويربطه بلجامه وسرجه فيقال إنه أعطى ثمنه في الكراء ثم يجلس فيشرب حتى يمسي، ثم يركبه وينصرف. فقال في ذلك:

يا بغل بغل أبي المضاء تعلمـن                      أني حلفت ولـلـيمـين نـذور

لتعسفن وإن كرهت مهـامـهـا                      فيما أحـب وكـل ذاك يسـير

بالرغم يا ولد الحمار قطعتـهـا                      عمدا وأنت مذلل مـصـبـور

حتى تزور مسمـعـا فـي داره                      وترى المدامة بالأكـف تـدور

لا يرفعون بما يسوءك نـعـرة                      وإذا سخطت فخطب ذاك صغير خدعته امرأة بأنها أم حنين الخمار وأخذت منه درهمين، فأخذ يهجو أم حنين حتى استرضاه حنين:

 

صفحة : 1263

 

قال: فأتى يوما من الأيام بيت الخمار الذي كان يأتيه فلم يصادفه فجعل ينتظره، ودخلت الدار امرأة عبادية ، فقال لها: ما فعل فلان? قالت: مضى في حاجة وانا امرأته، فما تريد? قال: نبيذا. قالت: بكم? قال: بدرهمين. قالت: هلم درهميك وانتظرني. قال لا . قالت: فذلك إليك، ومضت وتبعها، فدخلت دارا لها بابان وخرجت من أحدهما وتركته. فلما طال جلوسه خرج إليه بعض أهل الدار، قالوا: ما يجلسك? فأخبرهم. فقالوا له: تلك امرأة محتالة يقال لها? أم حنين من العباديين. فعلم أنه قد خدع، فانصرف إلى خماره فأخبره بالقصة وقال له: أنسئني اليوم فاسقني ففعل. وأنشأ الأقيشر يقول:

لم يغرر بذات خف سوانـا                      بعد أخت العباد أم حنـين

وعدتنا بدرهمـين نـبـيذا                      أو طلاء معجلا غير دين

ثم ألوت بالدرهمين جميعـا                      يا لقومي لضيعة الدرهمين وذكر هذا الخبر عبد الله بن خلف عن أبي عمرو الشيباني وزاد فيه: أن الخمار كان يسمى بحنين، وأن المرأة المحتالة قالت له: إنها أم حنين الخمار الذي كان يعامله حتى أخذت الدرهمين ثم هربت منه، وذكر الأبيات الثلاثة التي تقدمت، وبعدها:

عاهدت زوجها وقد قال إني                      سوف أغدو لحاجتي ولديني

فدعت كالحصان أبيض جلدا                      وافر الأير مرسل الخصيتين

قال ما أجرذا هديت فقالـت                      سوف أعطيك أجره مرتين

فأبدأ الآن بالسفاح فـلـمـا                      سافحته أرضته بالأخـريين

تلها للجبين ثم امتـطـاهـا                      عالم الأير أفحج الحالـبـين

بينما ذاك منهما وهي تحوي                      ظهره بالبنان والمعصمـين

جاءها زوجها وقد شام فيهـا                      ذا انتصاب موثق الأخدعين

فتأسـى وقـال ويل طـويل                      لحنين من عار أم حـنـين قال: فجاء حنين الخمار فقال له: يا هذا ما أردت بهجائي وهجاء أمي ? قال: أخذت مني درهمين ولم تعطيني شرابا. قال: والله ما تعرف أمي ولا أخذت منك شيئا قط، فانظر إلى أمي فإن كانت هي صاحبتك غرمت لك الدرهمين. قال: لا والله ما أعرف غير أم حنين، ما قالت لي إلا ذلك، ولا أهجو إلا أم حنين وابنها، فإن كانت أمك إياها أعني. وإن كانت أم حنين أخرى فإياها أعني. فقال: إذا لا يفرق الناس بينهما. قال: فما علي إذا أترى درهمي يضيعان فقال له: هلم إذا أغرمهما لك وأقم ما تحتاج إليه، لا بارك الله لك ففعل .

استكتبته العريان بن الهيثم من ملحه ثم أرسل له خمسين درهما فاستقلها وهجاه، ثم استرضاه أبوه الهيثم: قال عبد الله وحدثني أبو عمرو قال: كان العريان بن الهيثم النخعي صديقا للأقيشر، فقال له: يا أقيشر إني أريد أن أمتد إلى الشام فأكتبني من ملحك فأكتبه. فخرج إلى الشام فأصاب مالا، فبعث إلى الأقيشر بخمسين درهما، ففعل وقال: هات. قال المولى: على أن تهجوه إذ وضع منك? قال نعم، فأعطاه خمسين درهما، وقال الأقيشر:

وسألتني يوم الرحيل قصائدا                      فملأتهن قصائدا وكـتـابـا

إني صدقتك إذ وجدتك صادقا                      وكذبتني فوجدتني كـذابـا

وفتحت بابا للخيانة عـامـدا                      لما فتحت من الخيانة بابـا وكان أبو العريان على الشرطة، فخافه الأقيشر من هجاء ابنه، وبلغ الهيثم هذه الأبيات فبعث إليه بخمسمائة درهم وسأله الكف عن ابنه وألا يشهره ، فأخذها وفعل .

خطب رجل من حضرموت امرأة من بني أسد وسأله عنها فهجاه: قال أبو عمرو: وخطب رجل من حضرموت امرأة من بني أسد، فأقبل يسأل عنها وعن حسبها وأمهاتها، حتى جاء الأقيشر فسأله عنها. فقال له: من أين أنت? قال: من حضرموت. فأنشأ يقول:

حضرموت فتشت أحسابنـا                      وإلينا حضرموت تنتسـب

إخوة القرد وهم أعمامـه                      برئت منكم إلى الله العرب طلبت إليه عمته أن يصلي فقال اختاري إما الصلاة أو الوضوء: أخبرني الحسن بن علي عن أبي أيوب المديني قال قال أبو طالب الشاعر حدثني رجل من بني أسد قال:

 

صفحة : 1264

 

سمعت عمة الأقيشر تقول له يوما: اتق الله وقم فصل، فقال: لا أصلي. فأكثرت عليه، فقال: قد أبرمتني، فاختاري خصلة من خصلتين: إما أن أصلي ولا أتطهر، وإما أن أتطهر ولا أصلي. قالت: قبحك الله فإن لم يكن غير هذا فصل بلا وضوء .

جاءه شرطي وهو يشرب فخافه وسقاه بأنبوب من ثقب الباب: قال أبو أيوب: وحدثت أنه شرب يوما في بيت خمار بالحيرة، فجاء شرطي من شرط الأمير ليدخل عليه، فغلق الباب دونه. فناداه الشرطي اسقني نبيذا وأنت آمن. فقال: والله ما آمنك، ولكن هذا ثقب في الباب فاجلس عنده وأنا أسقيك منه، ثم وضع له أنبوبا من قصب في الثقب وصب فيه نبيذا من داخل والشرطي يشرب من خارج الباب حتى سكر. فقال الأقيشر:

سأل الشرطـي أن نـسـقـيه                      فسقيناه بأنبـوب الـقـصـب

إنما نشـرب مـن أمـوالـنـا                      فسلوا الشرطي ما هذا الغضب أعطاه قيس بن محمد مالا ونجمه له فكرر ذلك مرارا فرده فهجاه: أخبرني عمي عن الكراني عن قعنب بن المحرز، وحدثنا محمد بن خلف عن أبي أيوب المديني عن قعنب بن الهيثم بن عدي قال: كان قيس بن محمد بن الأشعث ضرير البصر، فأتاه الأقيشر فسأله، فأمر قهرمانه فأعطاه ثلاثمائة درهم، فقال: لا أريدها جملة، ولكن مر القهرمان أن يعطيني في كل يوم ثلاثة دراهم حتى تنفد. فكان يأخذها منه، فيجعل درهما لطعامه، ودرهما لشرابه، ودرهما لدابة تحمله إلى بيوت الخمارين. فلما نفدت الدراهم أتاه الثانية فسأله فأعطاه وفعل مثل ذلك، وأتاه الثالثة فأعطاه وفعل مثل ذلك، وأتاه الرابعة فسأله. فقال له قيس: لا أبا لك كأنك قد جعلت هذا خراجا علينا. فانصرف وهو يقول:

ألم تر قيس الأكمه ابن مـحـمـد                      يقول ولا تلقاه للـخـير يفـعـل

رأيتك أعمى العين والقلب ممسكـا                      وما خير أعمى العين والقلب يبخل

فلو صم تمت لعنة اللـه كـلـهـا                      عليه وما فيه من الشر أفـضـل فقال قيس: لو نجا أحد من الأقيشر لنجوت منه .

كان سكران فحكموه في الصحابة فقال شعرا: أخبرني أبو الحسن الأسدي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال: اختصم قوم بالكوفة في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فقالوا: نجعل بيننا أول من يطلع علينا. فطلع الأقيشر عليهم وهو سكران. فقال بعضهم لبعض: انظروا من حكمنا. فقالوا: يا أبا معرض قد حكمناك. قال: فيماذا? فأخبروه. فمكث ساعة ثم أنشأ يقول:

إذا صليت خمسا كـل يوم                      فإن الله يغفر لي فسوقي

ولم أشرك برب الناس شيئا                      فقد أمسكت بالحبل الوثيق

وهذا الحق ليس به خفـاء                      ودعني من بنيات الطريق أعطاه ابن رأس البغل مهر ابنة عم له فمدحه فاعترض عليه فأجابه: قال محمد بن معاوية: وتزوج الأقيشر ابنة عم له يقال لها الرباب، على أربعة آلاف درهم، ويقال على عشرة آلاف درهم، فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا؛ فأتى ابن رأس البغل وهو دهقان الصين وكان مجوسيا، فسأله فأعطاه الصداق. فقال الأقيشر:

كفاني المجوسي مهر الرباب                      فدى للمجوسي خالي وعـم

شهدت بأنك رطب المشـاش                      وأن أباك الجواد الخـصـم

وأنك سيد أهل الـجـحـيم                      إذا ما ترديت فيمن ظـلـم

تجاور قارون في قعـرهـا                      وفرعون والمكتنى بالحكـم ذهب إلى عكرمة بن ربعي فلم يعطه فهجاه: فقال له المجوسي: ويحك سألت قومك فلم يعطوك وجئتني فأعطيتك، فجزيتني هذا القول ولم أفلت من شعرك وشرك قال: أو ما ترضى أن جعلتك مع الملوك وفوق أبي جهل ثم جاء إلى عكرمة بن ربعي التميمي فلم يعطه، فقال فيه:

سألت ربيعة مـن شـرهـا                      أبا ثم أما فـقـالـوا لـمـه

فقلت لأعلـم مـن شـركـم                      وأجعل بالسب فـيه سـمـه

فقالوا لعكرمة المـخـزيات                      وماذا يرى الناس في عكرمه

فإن يك عبـدا زكـا مـالـه                      فما غيرذا فيه من مكرمـه شرب بما معه وبثيابه ثم جلس في تبن وحديث الخمار معه:

 

صفحة : 1265

 

قال ابن الكلبي: وشرب الأقيشر في حانة خمار حتى أنفد ما معه، ثم شرب بثيابه حتى غلقت فلم يبق عليه شيء، وجلس في تبن إلى جانب البيت وإلى حلقه مستدفئا به. فمر رجل به ينشد ضالة، فقال: اللهم اردد عليه واحفظ علينا. فقال له الخمار: نخنت عينك أي شيء يحفظ عليك ربك? قال: هذا التبن لا تأخذه فأموت من البرد. فضحك الخمار ورد عليه ثيابه وقال: اذهب فاطلب ما تشرب به، ولا تجئني بثيابك فإني لا أشتريها بعد ذلك .

لقيه هشام الشرطي وهو سكران فحاوره في سكره: قال ابن الكلبي: واجتاز الأقيشر برجل يقال له هشام وكان على شرطة عمرو بن حريث وهو سكران، فدعا به فقال له: أنت سكران? قال لا. قال: فما هذه الرائحة? قال: أكلت سفرجلا، ثم قال:

يقولون لي انكه شربت مدامة                      فقلت كذبتم بل أكلت سفرجلا فضحك منه ثم قال: فإن لم تكن سكران أخبرني كم تصلي في كل يوم. فقال:

يسائلني هشام عن صلاتـي                      صلاة المسلمين فقلت خمس

صلاة العصر والأولى ثمان                      مواترة فما فيهـن لـبـس

وعند مغيب قرن الشمس وتر                      وشفع بعدها فيهن حـبـس

وغدوة اثنتان معا جـمـيعـا                      ولما تبد للـرائين شـمـس

وبعدها لوقتـهـمـا صـلاة                      لنسك بالضحاء إذا نـبـس

أأحصيت الصلاة أيا هشامـا                      فذاك الـخـلاق جـبـس

تعود أن يلام فـلـيس يومـا                      بحامده من الأقـوام إنـس قال: فضحك هشام وقال: بلى أخبرتنا يا أبا معرض، فانصرف راشدا .

استنشد قتيبة بن مسلم مرداس بن جذام شعره في قدامة بن جعدة: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن أبي عبيدة قال: قدم رجل من بني سلول على قتيبة بن مسلم بكتاب عامله على الري وهو المعلى بن عمرو المحاربي، فرآه على الباب قدامة بن جعدة بن هبيرة المخزومي وكان صديقا لقتيبة، فدخل عليه فقال له: ببابك ألأم العرب، سلولي رسول محاربي إلى باهلي. فتبسم قتيبة تبسما فيه غيظ. وكان قدامة بن جعدة يتهم بشرب الخمر، وكان الأقيشر ينادمه. فقال قتيبة: ادعوا لي مرداس بن جذام الأسدي فدعي. فقال له: أنشدني ما قال الأقيشر في قدامة بن جعدة وهو بالحيرة. فأنشده قوله :

رب ندمـان كـريم مـاجـد                      سيد الجدين من فرعي مضر

قد سقيت الكأس حتى هرهـا                      لم يخالط صفوها منه كـدر

قلت قم صل فصلى قـاعـدا                      تتغشاه سمادير الـسـكـر

قرن الظهر مع العصر كما                      تقرن الحقة بالحق الـذكـر

ترك الفجر فمـا يقـرؤهـا                      وقرأ الكوثر من بين السور قال: فتغير لون القرشي وخجل. فقال له قتيبة: هذه بتلك، والبادئ أظلم .

استنشده عبد الملك أبياته في الخمر وحاوره فيها: أخبرني الاخفش عن محمد بن الحسن بن الحرون قال حدثنا الكسروي عن الأصمعي قال: قال عبد الملك للأقيشر: أنشدني أبياتك في الخمر، فأنشده قوله:

تريك القذى من دونها وهي دونه                      لوجه أخيها في الإناء قـطـوب

كميت إذا فضت وفي الكأس وردة                      لها في عظام الشاربـين دبـيب فقال له: أحسنت يا أبا معرض ولقد أجدت وصفها، وأظنك قد شربتها. فقال: والله يا أمير المؤمنين إنه ليريبني منك معرفتك بهذا .

قصة له مع بعض ندمائه في حانة: أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن ابن الكلبي عن رجل من الأزد قال: كان الأقيشر يأتي إخوانا له يسألهم فيعطونه، فأتى رجلا منهم فأمر له بخمسمائة درهم، فأخذها وتوجه إلى الحانة ودفعها إلى صاحبها وقال له: أقم لي ما أحتاج إليه ففعل ذلك، وانضم إليه رفقاء له، فلم يزل معهم حتى نفدت الدراهم، فأتاهم بعد إنفاقها بيوم ثم أتاهم من غد فاحتملوه، فلما أتاهم في اليوم الثالث نظر إليه أصحابه من بعيد فقالوا لصاحب الحانة: أصعدنا إلى غرفتك هذه وأعلم الأقيشر أنا لم نأت اليوم. فلما جاء الأقيشر أعلمه ما قالوه له. فعلم الأقيشر أنه لا فرج له عند صاحب الحانة إلا برهن، فطرح إليه ثيابه وقال له: أقم لي ما أحتاج إليه ففعل. فلما أخذ فيه الشراب أنشأ يقول:

يا خليلي اسقياني كأسـا                      ثم كأسا حتى أخر نعاسا

 

صفحة : 1266

 

 

إن في الغرفة التي فوق رأسي                      لأناسـا يخـادعـون أنـاسـا

يشربون المعتق الراح صرفـا                      ثم لا يرفعون بالـزور راسـا فلما سمع أصحابه هذا الشعر فدوه بآبائهم وأمهاتهم ثم قالوا له: إما أن تصعد إلينا أو ننزل إليك، فصعد إليهم.

قصته مع عمه وبشر بن مروان حين مدح بشرا فوصله: أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهروية قال حدثني أبو مسلم المستملي عن المدائني قال: مدح الأقيشر بشر بن مروان ودخل إليه فأنشده القصيدة وعنده أيمن بن خزيم بن فاتك الأسدي، فقال أيمن: هذا والله كلام حسن من جوف خرب. فأجابه بالبيت المذكور. وقال أبو عمرو أيضا في خبره: فلما صار الأقيشر إلى منزله بعث عمه فأخذ منه الألف الدرهم وقال: والله لا أخليك تفسدها وتشرب بها الخمر. قال: فتصنع بها ماذا? قال: أكسوك وأكسو عيالك وأعد لك قوت عامك. فتركه ودخل على بشر فقال له:

أبلغ أبا مروان أن عطـاءه                      أزاغ به من ليس لي بعيال قال: ومن ذلك? فأخبره الخبر. فأمر صاحب شرطته أن يحضر عمه وينتزع منه الألف الدرهم ويسلمها إليه، وقال: خذها ونحن نقوم لعيالك بما يصلحهم .

مدح خمارة بشعر داعر فسرت به: أخبرني هاشم بن محمد عن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: مر الأقيشر بخمارة بالحيرة يقال لها دومة، فنزل عندها فاشترى منها نبيذا، ثم قال لها جودي لي الشراب حتى أجيد لك المدح ففعلت. فأنشأ يقول:

ألا يا دوم دام لك النعـيم                      وأسمر ملء كفك مستقيم

شديد الأسر ينبض حالباه                      يحم كأنه رجل سـقـيم

يرويه الشراب فيزدهـيه                      وينفخ فيه شيطان رجيم قال: فسرت به الخمارة وقالت: ما قيل في أحسن من هذا ولا أسر لي منه .

مدح فاتك بن فضالة حين وفد على عبد الملك: أخبرني أبو الحسن الأسدي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال: كان فاتك ابن فضالة بن شريك الأسدي كريما على بني أمية، وهو الوافد على عبد الملك بن مروان قبل أن ينهض إلى حرب ابن الزبير، فضمن له على أهل العراق طاعتهم وتسليم بلادهم إليه، وأن يسلموا مصعبا إذا لقيه ويتفرقوا عنه. وله يقول الأقيشر في هذه الوفادة:

وفد الوفود فكنت أفضل وافد                      يا فاتك بن فضالة بن شريك تولى الكوفة رجل من بني تميم فانكسر المنبر من تحته فهجاهم: أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن السكري قال حدثني ابن حبيب قال: ولي الكوفة رجل من بني تميم يقال له مطر ؛ فلما علا المنبر انكسرت الدرجة من تحته فسقط عنها؛ فقال الأقيشر:

أبني تميم ما لمنبر ملكـكـم                      ما يستقر قراره يتمرمـر

إن المنابر أنكرت أستاهكـم                      فادعوا خزيمة يستقر المنبر سئل عن قريظة بن قرظة فتكاسل عن ذكر اسمه فهجاه فرد عليه: أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال: مر رجل من محارب يقال له قريظة بن يقظة بالأقيشر الأسدي وهو مجلس من مجالس بني أسد، فسلم على الأقيشر وكان به عارفا. فقال له القوم: من هذا يا أبا معرض? وكان مخمورا، فقال:

ومن لي بأن أستطيع أن أذكر اسمه                      وأعيا عقالا أن يطيق لـه ذكـرا قال فضحك القوم وقالوا: سبحان الله أي شيء تقول? فقال: اسمه ونسبه أعظم من أن أقدر على ذكرهما في يوم، فإن شئتم سميته اليوم ونسبته غدا، وإن شئتم نسبته اليوم وسميته غدا. قالوا: هات اسمه اليوم. فقال: قريظة . فقال رجل منهم: ينبغي أن يكون ابن يقظة. فقال الأقيشر: صدقت والله وأصبت، ولقد أثقلت اسمه حين ذكرته أن أقول نعم. فبلغ قريظة قوله وكان شاعرا فقال:

لسانك من سكر ثقيل عن التقى                      ولكنه بالمخـزيات طـلـيق

وأنت حقيق يا أقيشر أن تـرى                      كذاك إذا ما كنت غير مفـيق

تسف من الصهباء صرفا تخالها                      جنى النحل يهديه إليك صديق فبلغ الأقيشر قول المحاربي وكان يكنى أبا الذيال، فأجابه فقال:

عدمت أبا الذيال من ذي نوالة                      له في بيوت العاهرات طريق

أبالخمر عيرت امرأ ليس مقلعا                      وذلك رأي لو علمـت وثـيق

 

صفحة : 1267

 

 

سأشربها ما دمت حيا وإن أمت                      ففي النفس منها زفرة وشهيق سمع الرشيد من يتغنى بشعر له في توبته من الخمر فأعجب به: أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال: بلغني أن الرشيد سمع ليلة رجلا يغني:

إن كانت الخمر قد عزت وقد منعت                      وحال من دونها الإسلام والحـرج

فقد أباكرها صرفـا وأشـربـهـا                      أشفي بها غلتي صرفا وأمـتـزج

وقد تقوم على رأسـي مـغـنـية                      لها إذا رجعت في صوتها غـنـج

وترفع الصوت أحيانا وتخفـضـه                      كما يطن ذباب الروضة الـهـزج قال: فوجه في أثر الصوت من جاءه بالرجل وهو يرعد، فقال: لا ترع فإنما أعجبني حسن صوتك. فقال: والله يا أمير المؤمنين ما تغنيت بهذا الشعر إلا وأنا قد تبت من شرب النبيذ، وهذا شعر يقوله الأقيشر في توبته من النبيذ. فقال له الرشيد: وما حملك على تركه? قال: خشية الله. وإني فيه يا أمير المؤمنين كما قال زيد بن ظبيان:

جاءوا بقاقزة صـفـراء مـتـرعة                      هل بين ذي كبرة والخمر من نسب

بئس الشراب شرابا حين تشـربـه                      يوهي العظام وطورا مفتر العصب

إني أخاف مليكـي أن يعـذبـنـي                      وفي العشيرة أن يزري على حسبي فقال له الرشيد: أنت وما اخترت أعلم، فأعد الصوت، فأعاده. وأمر بإحضار المغنين واستعاده، وأمرهم بأخذه عنه فأخذوه، ووصله وانصرف، وكان صوت الرشيد أياما. هكذا ذكر إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبة في هذا الخبر أن الأبيات للأقيشر، ووجدتها في شعر أبي محجن الثففي له لما تاب من الشراب .

خرج لغزو الشام فباع حماره وأنفق ثمنه في الفجور ثم رجع مع الغازين: أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد عن محمد بن حبيب قال: كان القباع ، وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة، قد أخرج الأقيشر مع قومه لقتال أهل الشام، ولم يكن عند الأقيشر فرس فخرج على حمار، فلما عبر جسر سورا فوصل لقرية يقال لها قنين توارى عند خمار نبطي يبرز زوجته للفجور، فباع حماره وجعل ينفقه هناك ويشرب بثمنه ويفجر إلى أن قفل الجيش، وقال في ذلك:

خرجت من المصر الحواري أهلـه                      بلا ندبة فيها احتساب ولا جـعـل

إلى جيش أهل الشام أغزيت كارهـا                      سفاها بلا سيف حـديد ولا نـبـل

ولكن بترس لـيس فـيه حـمـالة                      ورمح ضعيف الزج متصدع النصل

حباني به ظلم القـبـاع ولـم أجـد                      سوى أمره والسير شيئا من الفعـل

فأزمعت أمري ثم أصبحـت غـازيا                      وسلمت تسليم الغزاة على أهـلـي

وقلت لعلـي أن أرى ثـم راكـبـا                      على فرس أو ذا متاع على بـغـل

جوادي حمار كان حينا لـظـهـره                      إكاف وإشناق المزادة والـحـبـل

وقد خان عينـيه بـياض وخـانـه                      قوائم سوء حين يزجر في الوحـل

إذا ما انتحى في الماء والوحل لم ترم                      قوائمه حتى يؤخـر بـالـحـمـل

أنادي الرفاق بارك الـلـه فـيكـم                      رويدكم حتى أجوز إلى الـسـهـل

فسرنا إلـى قـنـين يومـا ولـيلة                      كأنا بغايا ما يسـرن إلـى بـعـل

إذا ما نزلنا لم نـجـد ظـل سـاحة                      سوى يابس الأنهار أو سعف النخل

مررنا على سوراء نسمع جسرهـا                      يئط نقيضا عن سفائنه الـفـضـل

فلما بدا جسر السراة وأعـرضـت                      لنا سوق فراغ الحديث إلى شـغـل

نزلنا إلـى ظـل ظـلـيل وبـاءة                      حلال برغم القلطمان ومـا نـفـل

يشارطه من شـاء كـان بـدرهـم                      عروسا بما بين السبيئة والـنـسـل

فأتبعت رمح السوء سمية نصـلـه                      وبعت حماري واسترحت من الثقل

تقول ظبـايا قـل قـلـيلا ألا لـيا                      فقلت لها إصوي فإني على رسـل

مهرت لها جرديقة فـتـركـتـهـا                      بمرها كطرف العين شائلة الرجـل مما يغنى فيه من شعره:

 

صفحة : 1268

 

ومما يغنى فيه من شعر الأقيشر: صوت:

لا أشربن أبدا راحا مـسـارقة                      إلا مع الغر أبناء البـطـاريق

أفنى تلادي وما جمعت من نشب                      قرع القواقيز أفـواه الأبـاريق الغناء لحنين هزج بالبنصر عن عمرو. وفيه لعمر الوادي رمل بالبنصر عن الهشامي. وفيه ثقيل أول ينسب إلى حنين وعمر وحكم جميعا. وهذا الغناء المذكور من قصيدة للأقيشر طويلة، أولها:

إني يذكرني هنـدا وجـارتـهـا                      بالطف صوت حمامات على نيق صوت:

دعاني دعوة والخيل تردي                      فلا أدري أباسمي أم كناني

وكان إجابـتـي إياه أنـي                      عطفت عليه خوار العنان الشعر لابن الغريزة النهشلي. والغناء ليحيى المكي رمل بالوسطى عن الهشامي. وقد جعل المغنون معه هذا البيت ولم أجده في قصيدته، ولا أدري أهو له أم لغيره:

ألا يا من لذا البرق اليماني                      يلوح كأنه مصباح بـان

أخبار ابن الغريزة ونسبه

نسب ابن الغريزة: كثير بن الغريزة التميمي أحد بني نهشل. والغريزة أمه. وهو مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وقال الشعر فيهما. وهذا الشعر يقوله ابن الغريزة في غزاة غزاها الأقرع بن حابس وأخوه بالطالقان وجوزجان وتلك البلاد، فأصيب من أصحابه قوم بالطالقان فرثاهم ابن الغريزة .

قصيدته التي يذكر فيها يوم الطالقان ويرثي من قتل فيه: أخبرني الصولي عن الحزنبل عن ابن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: بعث عمر بن الخطاب الأقرع بن حابس وأخاه على جيش إلى الطالقان وجوزجان وتلك البلاد، فأصيب من أصحابه قوم بالطالقان، فقال ابن الغريزة النهشلي وقد شهد تلك الوقعة يرثيهم ويذكر ذلك اليوم:

سقى مزن السحاب إذا استهلت                      مصارع فتية بالـجـوزجـان

إلى القصرين من رستاق خوط                      أبادهم هـنـاك الأقـرعـان

وما بي أن أكون جـزعـت إلا                      حنين القلب للبرق اليمـانـي

ومحبور برؤيتـنـا يرجـي ال                      لقاء ولـن أراه ولـم يرانـي

ورب أخ أصاب الموت قبلـي                      بكيت ولو نعيت له بـكـانـي

دعاني دعوة والـخـيل تـردي                      فما أدري أباسمي أم كنـانـي

فكـان إجـابـتـي إياه أنـي                      عطفت عليه خوار العـنـان

وأي فتى دعوت وقد تـولـت                      بهن الخيل ذات العـنـظـوان

وأي فتى إذا ما مـت تـدعـو                      يطرف عنك غاشية السـنـان

فإن أهلك فلـم أك ذا صـدوف                      عن الأقران في الحرب العوان

ولم أذلج لأطرق عرس جاري                      ولم أجعل على قومي لسانـي

ولكنـي إذا مـا هـايجـونـي                      منيع الجار مرتفع الـبـنـان

ويكرهني إذا استبسلت قرنـي                      وأقضي واحدا ما قد قضانـي

فلا تستبعـدا يومـي فـإنـي                      سأوشك مرة أن تفـقـدانـي

ويدركني الـذي لا بـد مـنـه                      وإن أشفقت من خوف الجنـان

وتبكينـي نـوائح مـعـولات                      تركن بدار معترك الـزمـان

حبائس بالعراق منهـنـهـات                      سواحي الطرف كالبقر الهجان

أعاذلتي مـن لـؤم دعـانـي                      وللرشد المبـين فـاهـديانـي

وعاذلتي صوتـكـمـا قـريب                      ونفعكما بعيد الـخـير وانـي

فردا الموت عنـي إن أتـانـي                      ولا أبيكـمـا لا تـفـعـلان صوت:

دار لقاتلة الغرانـق مـا بـهـا                      غير الوحوش خلت له وخلا لها

ظلت تسائل بالمـتـيم مـا بـه                      وهي التي فعلت به أفعالـهـا الشعر لأعشى بني تغلب من قصيدة يمدح بها مسلمة بن عبد الملك ويهجو جريرا ويعين الأخطل عليه. ويروى ربع لقانصة الغرانق وهو الصحيح هكذا، ويغنى دار لقاتلة، لأنه يقول في آخر البيت: خلت له وخلا لها .

والغناء لعبد الله بن العباس ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة وابن المكي. وفيه لمخارق رمل من جميع أغانيه .

 

أخبار أعشى بني تغلب ونسبه

نسب أعشى تغلب وكان نصرانيا:

 

صفحة : 1269

 

قال أبو عمرو الشيباني: اسمه ربيعة. وقال ابن حبيب: اسمه النعمان بن يحيى بن معاوية، أحد بني معاوية بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، شاعر من شعراء الدولة الأموية، وساكني الشام إذا حضر، وإذا بدا نزل في بلاد قومه بنواحي الموصل وديار ربيعة. وكان نصرانيا، وعلى ذلك مات .

قصته مع الحر بن يوسف: أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال: كان أعشى بني تغلب ينادم الحر بن يوسف بن يحيى بن الحكم. فشربا يوما في بستان له بالموصل، فسكر الأعشى فنام في البستان. ودعا الحر بجواريه فدخلن عليه قبته. واستيقظ الأعشى فأقبل ليدخل القبة، فمانعه الخدم، ودافعهم حتى كاد أن يهجم على الحر مع جواريه، فلطمه خصي منهم؛ فخرج إلى قومه فقال لهم: لطمني الحر. فوثب معه رجل من بني تغلب يقال له ابن أدعج وهو شهاب بن همام بن ثعلبة بن أبي سعد، فاقتحما الحائط وهجما على الحر حتى لطمه الأعشى ثم رجعا. فقال الأعشى:

كأني وابن أدعج إذ دخلـنـا                      على قرشيك الورع الجبان

هزبرا غابة وقصا حمـارا                      فظلا حوله يتنـاهـشـان

أنا الجشمي من جشم بن بكر                      عشية رعت طرفك بالبنان أي لطمتك. وقوله أنا الجشمي أي مثلي يفعل ذلك بمثلك

فما يستطيع ذو ملك عقـابـي                      إذا اجترمت يدي وجنى لساني

عشية غاب عنك بنو هـشـام                      وعثمان استها وبـنـو أبـان

تروح إلى منازلهـا قـريش                      وأنت مخـيم بـالـزرقـان والزرقان: قرية كانت للحر بسنجار .

مدح مدركا الكناني فأساء ثوابه فهجاه: قال ابن حبيب: مدح أعشى بني تغلب مدرك بن عبد الله الكناني أحد بني أقيشر بن جذيمة ابن كعب فأساء ثوابه؛ فقال الأعشى:

لعمرك إني يوم أمدح مـدركـا                      لكالمبتني حوضا على غير منهل

أمر الهوى دوني وفيل مدحتـي                      ولو لكريم قلتهـا لـم تـفـيل شعره في شمعلة بن عامر حين قطع الخليفة بضعة من فخذه: قال ابن حبيب: كان شمعلة بن عامر بن عمرو بن بكر أخو بني فائد وهم رهط الفرس نصرانيا وكان ظريفا، فدخل على بعض خلفاء بني أمية، فقال: أسلم يا شمعلة. قال: لا والله أسلم كارها أبدا، ولا أسلم إلا طائعا إذا شئت. فغضب فأمر به فقطعت بضعة من فخذه وشويت بالنار وأطعمها. فقال أعشى بني تغلب في ذلك:

أمن حذة بالفخذ منك تباشـرت                      عداك فلا عار عليك ولا وزر

وإن أمير المؤمنين وجـرحـه                      لكالدهر لا عار بما فعل الدهر وفد على عمر بن عبد العزيز فلم يعطه فقال شعرا: وقال ابن حبيب قال أبو عمرو: كان الوليد عبد الملك محسنا إلى أعشى بني تغلب، فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد إليه ومدحه فلم يعطه شيئا، وقال: ما أرى للشعراء في بيت المال حقا، ولو كان لهم فيه حق لما كان لك؛ لأنك امرؤ نصراني. فانصرف الأعشى وهو يقول:

لعمري لقد عاش الوليد حياتـه                      إمام هدى لا مستزاد ولا نزر

كأن بني مروان بعـد وفـاتـه                      جلاميد لا تندى وإن بلها القطر شعره حين قعد مالك بن مسمع عن معاونة بني شيبان: وقال ابن حبيب عن أبي عمرو: كانت بين بني شيبان وبين تغلب حروب، فعاون مالك بن مسمع بن شيبان في بعضها ثم قعد عنهم. فقال أعشى بني تغلب في ذلك:

بني أمنا مهـلا فـإن نـفـوسـنـا                      تميت عليكم عتبهـا ومـصـالـهـا

وترعى بلا جهـل قـرابة بـينـنـا                      وبينكم لما قطـعـتـم وصـالـهـا

جزى الله شيبـانـا وتـيمـا مـلامة                      جزاء المسيء سعيها وفـعـالـهـا

أبا مسمع من تنكر الحـق نـفـسـه                      وتعجز عن المعروف يعرف ضلالها

أأوقدت نار الحرب حـتـى إذا بـدا                      لنفسك ما تجني الحروب فهـالـهـا

نزعت وقد جردتهـا ذات مـنـظـر                      قبيح مهين حيث ألقـت حـلالـهـا

ألسنا إذا ما الحرب شب سـعـيرهـا                      وكان صفيح المشرقي صـلالـهـا

أجارتنا حـل لـكـم إن تـنـاولـوا                      محارمها وأن تمـيزوا خـلالـهـا

 

صفحة : 1270

 

 

كذبتم يمين الله حتى تـعـاوروا                      صدور العوالي بيننا ونصالهـا

وحتى ترى عين الذي كان شامتا                      مزاحف عقرى بيننا ومجالهـا صوت:

ويفرح بالمولود مـن آل بـرمـك                      بغاة الندى والرمح والسيف والنصل

وتنبسط الآمال فـيه لـفـضـلـه                      ولا سيما إن كان من ولد الفضـل الشعر لأبي النضير. والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع إسحاق. وقال حبش: فيه لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة من مجموع إسحاق. وقال حبش: فيه لإبراهيم الموصلي ثقيل آخر بالوسطى. ولقضيب وبراقش جاريتي يحيى بن خالد فيه لحنان .

 

أخبار أبي النضير ونسبه

اسم أبي النضير ونسبه: أبو النضير اسمه عمر بن عبد الملك، بصري، مولى لبني جمح .

أخبرنا بذلك عمي عن ابن مهرويه عن إسحاق بن محمد النخعي عن إسحاق بن خلف الشاعر قال: قلت لأبي النضير بن أبي الياس: لمن أنت ? فقال: لبني جمح .

هو شاعر بصري انقطع إلى البرامكة فأغنوه: وذكر أبو يحيى اللاحقي أن اسمه الفضل بن عبد الملك. شاعر من شعراء البصريين، صالح المذهب، ليس من المعدودين المتقدمين ولا من المولدين الساقطين. وكان يغني بالبصرة على جوار له مولدات، ويظهر الخلاعة والمجون والفسق، ويعاشر جماعة ممن يعرف بذلك الشأن. وكان أبان اللاحقي يعاشره ثم تصارما، وهجاه وهجا جواريه وافترقا على قلى، ثم انقطع إلى البرامكة فأغنوه إلى أن مات .

قال إسحاق الموصلي إنه أظرف الناس: أخبرنا ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقول: لو قيل لي من أظرف من رأيته قط أو عاشرته، لقلت: أبو النضير .

دخل على الفضل بن يحيى فهنأه بمولود ارتجالا: أخبرني عيسى الوراق عن الفضل اليزيدي عن إسحاق، وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه قال: ولد للفضل بن يحيى مولود، فوفد عليه أبو النضير ولم يكن عرف الخبر فيعد له تهنئة، فلما مثل بين يديه ورأى الناس يهنئونه نثرا ونظما قال ارتجالا:

ويفرح بالمولود مـن آل بـرمـك                      بغاة الندى والسيف والرمح والنصل

وتنبسط الآمال فـيه لـفـضـلـه                      .............................. ثم ارتج عليه فلم يدر ما يقول. فقال الفضل يلقنه:

ولا سيما إن كان من ولد الفضل فاستحسن الناس بديهة الفضل في هذا، وأمر لأبي النضير بصلة .

نقد الفضل بن يحيى شعرا له في مدحهم فأجابه: وأخبرني حبيب بن نصر عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني بعض الموالي قال: حضرت الفضل بن يحيى وقد قال لأبي النضير: يا أبا النضير أنت القائل فيا:

إذا كنت من بغداد في رأس فرسخ                      وجدت نسيم الجود من آل برمك لقد ضيقت علينا جدا. قال: أفلأجل ذلك أيها الأمير ضاقت علي صلتك وضاقت عني مكافأتك وأنا الذي أقول:

تشاغل الناس ببـنـيانـهـم                      والفضل في بنيانه جـاهـد

كل ذوي الفضل وأهل النهى                      للفضل في تدبيره حـامـد وعلى ذلك فما قلت البيت الأول كما بلغ الأمير، وإنما قلت:

إذا كنت من بغداد منقطع الثرى                      وجدت نسيم الجود من آل برمك فقال الفضل: إنما أخرت عنك لأمازحك، وأمر له بثلاثين ألف درهم .

كتب إلى عنان وكان يهواها فأجابته: أخبرني ابن عمار عن أبي إسحاق الطلحي عن أبي سهيل قال: كان أبو النضير يهوى عنان جارية الناطفي، وكتب إليها:

إن لي حاجة فرأيك فـيهـا                      لك نفسي الفدا من الأوصاب

وهي ليست مما يبلغه غـي                      ري ولا أستطيعه بكـتـاب

غير أني أقولها حين ألـقـا                      ك رويدا أسرها من ثيابـي فأجابته وقالت:

أنا مشغولة بمن لسـت أهـوا                      ه وقلبي من دونه في حجاب

فإذا فيها ما أردت أمرا فأسرر                      ه ولا تجعلنه فـي كـتـاب قال: قال أبو النضير فيها: شعر له في عنان: صوت:

أنا والـلـه أهـواك                      وأهواك وأهـواك

وأهوى قبلة منـك                      على برد ثـنـاياك

وأهوى لك ما أهوى                      لنفسي وكفـى ذاك

 

صفحة : 1271

 

 

فهل ينفعـنـي ذل                      ك يوما حين ألقاك

أنا واللـه أهـواك                      وما يشعر مولاك

فإياك بـأن يعـل                      م إياك وإياك فيه لعلى بن المارقي رمل بالبنصر عن الهشامي .

طلبت منه مكتومة المغنية صوتا كان يغنيه فمازحها: حدثنا ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال: كان أبو النضير يغني غناء صالحا، فغنى ذات يوم صوتا كان استفاده ببغداد. فقالت له قينة كانت ببغداد يقال لها مكتومة: اطرح علي هذا الصوت يا أبا النضير. فقال: لا تطيب نفسي به محابيا، ولكني أبيعك إياه. قالت: بكم? قال: برأس ماله. قالت: وما رأس ماله? قال: ناكني فيه الذي أخذته منه. فغطت وجهها وقالت: عليك وعلى هذا الصوت الدمار .

شعر له في مدح أبي جعفر عبد الله بن هشام: أخبرني ابن عمار الطلحي عن أبي سهيل قال: قال أبو النضير، وفيه غناء لإبراهيم: صوت:

أيصحو فؤادك أم يطـرب                      وكيف وقد شحطت زينب

جرى الناس قبل أبي جعفر                      زمانا فلم يدر من غلبـوا

فلما جرى بأبي جعـفـر                      بنو تغلب سبقت تغـلـب قال أبو سهيل: وأبو جعفر الذي عناه أبو النضير هو عبد الله بن هشام بن عمرو التغلبي الذي يذكره العتابي في شعره ورسائله، وكان جوادا سخيا. وكان ابن هشام ولي السند، وفيه يقول أبو النضير:

ألا أيها الغيث الذي سح وبله                      كأنك تحكي راحة ابن هشام

كأنك تحكيها لـكـن جـوده                      يدوم وقد تأتي بـغـير دوام

وفيك جهام ربما كان مخلفا                      وراحته تغدو بغير جـهـام كان يرى أن الغناء على تقطيع العروض: أخبرني ابن عمار عن الطلحي وعن أبي سهيل قال: كان أبو النضير يزعم أن الغناء على تقطيع العروض، ويقول: هكذا كان الذين مضوا يقولون، وكان مستهزئا بالغناء حتى تعاطى أن يغني، وكان إبراهيم الموصلي يخالفه في ذلك ويقول: العروض محدث، والغناء قبله بزمان. فقال إسحاق بن إبراهيم ينصر أباه:

سكت عن الغناء فلا أماري                      بصيرا لا ولا غير البصير

مخافة أن أجنن فيه نفسـي                      كما قد جن فيه أبو النضير قاطعه أبان اللاحقي وقال شعرا يهجوه: أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهروية قال حدثني أبو طلحة الخزاعي عن اللاحقي قال: كان جدي أبان يشرب مع إخوان له على شاطيء دجلة بعد مصارمته أبا النضير، وكان القوم أصدقاء له ولأبي النضير، فذكروه. فقال جدي: إن حضر انصرفت. فقال جدي فيه:

رب يوم بـــشـــط دجـــلة لــــــذ                      ولـيال نـعـمـــت فـــيهـــا لـــذاذ

غيبة لـم تـطـــل عـــلـــي ومـــاذا                      خير قـرب الـمـطـرمــذ الـــمـــلاذ

ترك الأشـربـــات لـــيس بـــعـــاط                      لرسـاطـونـــهـــا ولا الـــراقـــياذ

وحـكـى الأحـمـق الـــذي لـــيس يدري                      أن خـير الـشـراب هـــذا الـــلـــذاذ

ضل رأي أراه ذاك كما ضل غواة لاذوا بشر ملاذ

أنت أعمى فيما ادعيت كما لس                      ت لـصـوغ الـلـحـان بــالأســـتـــاذ

كان ذنـبـا أتـوب مـنـــه إلـــى الـــل                      ه اخـتـياريك صـاحـبــا واتـــخـــاذي

إن لـلـه صـوم شـهـــرين شـــكـــرا                      أن قـضـى مـنـك عـاجـلا إنــقـــاذي

لا لـــدين ولا لــــدنـــــــيا ولا يص                      لح فـي عـلـم مـا ادعـى بــنـــفـــاذ كتب إلى حماد عجرد يسأله عن حاله في الشراب فأجابه: حدثني ابن عمار عن الطلحي عن أبي سهيل قال: كتب أبو النضير إلى حماد عجرد يسأل عن حاله في الشراب وشربه إياه ومن يعاشر عليه. فكتب إليه حماد:

أبا النضير اسمع كلامـي ولا                      تجعل سوى الإنصاف من بالكا

سألت عن حالي، وما حال من                      لم يلق إلا عابـدا نـاسـكـا

يظهر لي ذا فمتى يفـتـرض                      شيئا تجـده عـاديا فـاتـكـا يعني حريث بن عمرو. وكان حماد نزل عليه، وكان حريث هذا مشهورا بالزندقة، وكذلك حماد هذا كان مشهورا به، فنزل عليه لذلك .

كتب إلى حمدان اللاحقي يشكو إليه عمر بن يحيى ويهجوه: أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهروية عن أبي طلحة الخزاعي عن أبي يحيى اللاحقي قال:

 

صفحة : 1272

 

كتب أبو النضير إلى عمي حمدان بن أبان، وكان له صديقا، يشكو إليه عمر بن يحيى الزيادي وكان عربد عليه وشتمه:

أقر حمدان سـلام ال                      له من فضل وقل له

يا فتى لست بحمـد ال                      له أخشى أن أمـلـه

ذاك أن اللـه قـد أن                      هله الظرف وعلـه

وذرا بـيت رقــاش                      وعلاها قـد أحـلـه

إن شتم السفلة الكـش                      خان ذي القرنين ضله

ولو أن القلب هاجـى                      عمرا يوما لـغـلـه

ذاك أن اللـه قـد أخ                      زى ابن يحيى وأذلـه

من يهاجي رجلا يس                      توعب الجردان كلـه

ما يســـيل الأير إلا                      أدخـل الأير وبـلـه

وإذا عــــاين أيرا                      وافي الفيشة غـلـه

هذه قـصة مـن قـد                      جعل المردان شغلـه أنشد الفضل بن الربيع شعرا في امرأة تزوجها وطلقها: حدثني عمي عن أبي العيناء عن أبي النضير قال: دخلت على الفضل بن الربيع فقال: هل أحدثت بعدي شيئا? قلت: نعم، قلت أبياتا في امرأة تزوجتها وطلقتها لغير علة إلا بغضي لها، وإنها لبيضاء بضة، كأنها سبيكة فضة. فقال لي: وما قلت فيها? فقلت قلت:

رحلت سكينة بالطـلاق                      فأرحت من غل الوثاق

رحلت فلم تألـم لـهـا                      نفسي ولم تدمع مآقـي

لو لم تبن بطـلاقـهـا                      لأبنت نفسي بـالإبـاق

وشفاء ما لا تشتـهـي                      ه تالنفس تعجيل الفراق فقال: يا غلام، الدواة والقرطاس، فأتي بهما، فأمرني فكتبت له الأبيات، ثم قلت له: أنت والله تبغض بنت أبي العباس الطوسي. فقال: اسكت أخزاك الله ثم ما لبث أن طلقها .

صوت:

ما بال عينك جائلا أقذاؤهـا                      شرقت بعبرتها وطال بكاؤها

ذكرت عشيرتها وفرقة بينها                      فطوت لذلك غلة أحشاؤهـا الشعر لعبد الله بن عمر العبلي. والغناء لأبي سعيد مولى فائد، رمل مطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي، وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد، وقيل: إنه من منحول يحيى إلى أبي سعيد .

 

أخبار العبلي ونسبه

نسبه، وهو من مخضرمي الدولتين: اسمه عبد الله بن عمر بن عبد الله بن علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس ابن عبد مناف، ويكنى أبا عدي ، شاعر مجيد من شعراء قريش، ومن مخضرمي الدولتين، وله أخبار مع بني أمية وبني هاشم تذكر في غير هذا الموضع .

سبب نسبه إلى العبلات: ويقال له عبد الله بن عمر العبلي، وليس منهم؛ لأن العبلات من ولد أمية الأصغر بن عبد شمس. سموا بذلك لأن أمهم عبلة بنت عبيد بن حارك بن قيس بن مالك بن حنظلة بن مالك ابن زيد مناة بن تميم، وهؤلاء يقال لهم براجم بني تميم، ولدت لعبد شمس بن عبد مناف أمية الأصغر، وعبد أمية ونوفلا، وأمه من بني عبد شمس ، فهؤلاء يقال لهم العبلات، ولهم جميعا عقب. أما أمية الأصغر فإنهم بالحجاز، وهم بنو الحارث بن أمية، منهم علي بن عبد الله بن الحارث، ومنهم الثريا صاحبة ابن أبي ربيعة .

وأما بنو نوفل وعبد أمية فإنهم بالشام كثير. وعبد العزى بن عبد شمس كان يقال له أسد البطحاء. وإنما أدخلهم الناس في العبلات لما صار الأمر لبني أمية الأكبر وسادوا وعظم شأنهم في الجاهلية والإسلام وكثر أشرافهم، فجعل سائر بني عبد شمس من لا يعلم قبيلة واحدة، فسموهم أمية الصغرى، ثم قيل لهم العبلات لشهرة الاسم.

وعلي بن عدي جد هذا الشاعر شهد مع عائشة يوم الجمل. وله يقول شاعر بني ضبة لعنة الله عليه:

يا رب أكبب بعلي جملـه                      ولا تبارك في بعير حمله

إلا علي بن عدي ليس له كان في أيام بني أمية يميل إلى بني هاشم ثم خرج على المنصور مع محمد بن عبد الله بن الحسن: فأما عبد الله بن عمر هذا الشاعر فكان في أيام بني أمية يميل إلى بني هاشم ويذم بني أمية، ولم يكن منهم إليه صنع جميل، فسلم بذلك في أيام بني العباس، ثم خرج على المنصور في أيامه مع محمد بن عبد الله بن الحسن .

فرق هشام بن عبد الملك أموالا ولم يعطه فقال شعرا: أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب الزبيري قال:

 

صفحة : 1273

 

العبلي عبد الله بن عمر بن عبد الله بن علي بن عدي بن ربيعة بن عبد العزى بن عبد شمس، ويكنى أبا عدي، وله أخبار كثيرة مع بني هاشم وبني أمية. وقسم هشام بن عبد الملك أموالا وأجاز بجوائز، فلم يعطه شيئا. فقال:

خس حظي أن كنت من عبد شمس                      ليتني كنت من بنـي مـخـزوم

فأفوز الغداة منـهـم بـسـهـم                      وأبيع الأب الـشـريف بـلـوم استقدمه المنصور واستنشده فغضب عليه فذهب إلى المدينة: فلما استخلف المنصور كتب إلى السري بن عبد الله أن يوجه به إليه ففعل. فلما قدم عليه قال له: أنشدني ما قلت في قومك، فاستعفاه. فقال: لا أعفيك. فقال: أعطني الأمان فأعطاه، فأنشده:

ما بال عينك جائلا أقذاؤهـا                      شرقت بعبرتها فطال بكاؤها حتى انتهى إلى قوله:

فبنو أمية خير من وطيء الحصى                      شرفا وأفضل ساسة أمـراؤهـا فقال له: اخرج عني لا قرب الله دارك فخرج حتى قدم المدينة، فألفى محمد بن عبد الله ابن حسن قد خرج فبايعه .

أخذت حرمه وأمواله فمدح السفاح فأكرمه ورد إليه ما أخذ منه: أخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن العتبي عن أبيه قال: كان أبو عدي الذي يقال له العبلي مجفوا في أيام بني مروان وكان منقطعا إلى بني هاشم، فلما أفضت الدولة إليهم لم يبقوا على أحد من بني أمية، وكان الأمر في قتلهم جدا إلا من هرب وطار على وجهه. فخاف أبو عدي أن يقع به مكروه في تلك الفورة فتوارى؛ وأخذ داود بن علي حرمه وماله؛ فهرب حتى أتى أبا العباس السفاح، فدخل عليه في غمار الناس متنكرا وجلس حجرة حتى تقوض القوم وتفرقوا، وبقي أبو العباس مع خاصته. فوثب إليه أبو عدي فوقف بين يديه وقال:

ألا قل للمنازل بـالـسـتـار                      سقيت الغيث من دمن قفـار

فهل لك بعدنا علم بسـلـمـى                      وأتراب لها شبه الـصـوار

أوانس لا عوابـس جـافـيات                      عن الخلق الجميل ولا عواري

وفيهن ابنة القصوي سلـمـى                      كهم النفس مفـعـمة الإزار

تلوث خمارها بأحـم جـعـد                      تضل الفاليات به الـمـداري

برهرهة منعمة نـمـتـهـا                      أبوتها إلى الحسب النـضـار

فدع ذكر الشباب وعهد سلمى                      فما لك منهما غـير ادكـار

وأهد لهاشم غرر القـوافـي                      تنخلها بـعـلـم واخـتـيار

لعمرك إنني ولـزوم نـجـد                      ولا ألقى حباء بني الـخـيار

لكالبادي لأبرد مـسـتـهـل                      بحوباء كبطن الـعـير عـار

سأرحل رحلة فيها اعـتـزام                      وجد في رواح وابـتـكـار

إلى أهل الرسول غدت برحلي                      عذافرة ترامى بالصـحـاري

تؤم المعشر الأبرار تـبـغـي                      فكاكا للنسـاء مـن الإسـار

أيا أهل الرسول وصيد فهـر                      وخير الواقفين على الجمـار

أتؤخذ نسوتي ويحاز مـالـي                      وقد جاهرت لو أغنى جهاري

واذعر أن دعيت لعبد شمـس                      وقد أمسكت بالحرم الصواري

بنصرة هاشم شهرت نفـسـي                      بداري للعدا وبـغـير داري

بقربى هاشم وبحق صـهـر                      لأحمد لفه طيب الـنـجـار

ومنزل هاشم من عبد شمـس                      مكان الجيد من عليا الفـقـار فقال له السفاح: من أنت? فانتسب له? فقال له: حق لعمري أعرفه قديما ومودة لا أجحدها، وكتب له إلى داود بن علي بإطلاق من حبسه من أهله ورد أمواله عليه وإكرامه، وأمر له بنفقة تبلغه المدينة .

وفد على عبد الله بن حسن وأجازه هو وابناه وزوجه: أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي عن موسى بن عبد الله بن موسى بن عبد الله بن حسن قال حدثني أبي قال: قال سعيد بن عقبة الجهني: إني لعند عبد الله بن الحسن إذ أتاه آت فقال له: هذا رجل يدعوك، فخرجت فإذا أنا بأبي عدي الأموي الشاعر، فقال: أعلم أبا محمد. فخرج إليه عبد الله بن حسن وابناه وقد ظهرت المسودة وهم خائفون، فأمر له عبد الله بن حسن بأربعمائة دينار، فخرج من عندهم بألف دينار .

استنشده عبد الله بن حسن مما رثى به قومه ثم أكرمه هو وأهله:

 

صفحة : 1274

 

وأخبرني حرمي عن الزبير، وأخبرني الأخفش عن المبرد عن المغيرة بن محمد المهلبي عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال: جاء عبد الله بن عمر بن عبد الله العبلي إلى سويقة وهو طريد بني العباس، وذلك بعقب أيام بني أمية وابتداء خروج ملكهم إلى بني العباس، فقصده عبد الله والحسن ابنا الحسن بسويقة، فاستنشده عبد الله شيئا من شعره فأنشده. فقال له: أريد أن تنشدني شيئا مما رثيت به قومك، فأنشده:

تقـول أمـامة لـمـا رأت                      نشوزي عن المضجع النفس

وقلة نومي على مضجعـي                      لدى هجعة العين النـعـس

أبي ما عراك? فقلت الهموم                      عرون أباك فلا تبـلـسـي

عرون أباك فـحـبـسـنـه                      من الذل في شر ما محبـس

لفقد العشـيرة إذ نـالـهـا                      سهام من الحدث المـبـئس

رمتها المنون بـلا نـصـل                      ولا طائشـات ولا نـكـس

بأسهمهما الخالسات النفـوس                      متى ما اقتضت مهجة تخلس

فصرعاهم في نواحي البـلا                      د تلقى بأرض ولم ترمـس

كريم أصـيب وأثـوابـــه                      من العار والذام لم تـدنـس

وآخر قد طار خوف الـردى                      وكان الهمام فلم يحـسـس

فكم غادروا من بواكي العيو                      ن مرضى ومن صبية بؤس

إذا ما ذكرنـهـم لـم تـنـم                      لحر الهموم ولم تـجـلـس

يرجعن مثل بكاء الـحـمـا                      م في مأتم قلق المجـلـس

فذاك الذي غالني فاعلـمـي                      ولا تسأليني فتستنـحـسـي

وأشياء قد ضفنني بالـبـلاد                      ولست لهن بمستـحـلـس

أفاض المدامع قتلـى كـدى                      وقتلى بكثوة لـم تـرمـس

وقتلى بوج وبـالـلابـتـي                      ن من يثرب خير ما أنفـس

وبالزابـيين نـفـوس ثـوت                      وقتلى بنهر أبي فـطـرس

أؤلئك قوم تـداعـت بـهـم                      نوائب من زمن مـتـعـس

أذلت قيادي لمـن رامـنـي                      وألزقت الرغم بالمعـطـس

فما أنس لا أنس قـتـلاهـم                      ولا عاش بعدهم من نسـي قال: فلما أتى عليها بكى محمد بن عبد الله بن حسن. فقال له عمه الحسن بن حسن بن علي عليهم السلام: أتبكي على بني أمية وأنت تريد ببني العباس ما تريد فقال: والله يا عم لقد كنا نقمنا على بني أمية ما نقمنا، فما بنو العباس إلا أفل خوفا لله منهم، وإن الحجة على بني العباس لأوجب منها عليهم. ولقد كانت للقوم أخلاق ومكارم وفواضل ليست لأبي جعفر. فوثب حنس وقال: أعوذ بالله من شرك، وبعث إلى أبي عدي بخمسين دينارا، وأمر له عبد الله بن حسن بمثلها، وأمر له كل واحد من محمد وإبراهيم ابنيه بخمسين خمسين، وبعثت إليه أمهما هند بخمسين دينارا، وكانت منفعته بها كثيرة. فقال أبو عدي في ذلك:

أقام ثوي بـيت أبـي عـدي                      بخير منازل الجيران جـارا

تقوض بيتـه وجـلا طـريدا                      فصادف خير دور الناس دارا

وإني إن نزلـت بـدار قـوم                      ذكرتهم ولـم أذمـم جـوارا فقالت هند لعبد الله وابنيها منه: أقسمت عليكم إلا أعطيتموه خمسين دينارا أخرى فقد أشركني معكم في المدح، فأعطوه خمسين دينارا أخرى عن هند .

ولى الطائف لمحمد بن عبد الله بن حسن ثم فر إلى اليمن وشعره في ذلك: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن أبي أيوب المديني قال ذكر محمد بن موسى مولى أبي عقيل قال: قدم أبو عدي العبلي الطائف واليا من قبل محمد بن عبد الله بن حسن أيام خروجه على أبي جعفر ومعه أعراب من مزينة وجهينة وأسلم فأخذ الطائف وأتى محمد بن أبي بكر العمري حتى بايع، وكان مع أبي عدي أحد عشر رجلا من ولد أبي بكر الصديق، فقدمها بين أذان الصبح والإقامة، فأقام بها ثلاثا، ثم بلغه خروج الحسن بن معاوية من مكة، فاستخلف على الطائف عبد الملك بن أبي زهير وخرج ليتلقى الحسن بالعرج، فركب الحسن البحر، ومضى أبو عدي هاربا على وجهه إلى اليمن. فذلك حين يقول:

 

صفحة : 1275

 

 

هيجت للأجزاع حـول عـراب                      واعتاد قلبـك عـائد الأطـراب

وذكرت عهد معالم بلوي الثـرى                      هيهات تلك معالـم الأحـبـاب

هيهات تلك معالـم مـن ذاهـب                      أمسى بحوضي أو بحقل قبـاب

قد حل بـين أبـارق مـا إن لـه                      فيها من أخوان ولا أصـحـاب

شطت نواه عن الأليف وسـاقـه                      لقرى يمانـية حـمـام كـتـاب

يا أخت آل أبي عدي أقـصـري                      وذري الخضاب فما أوان خضاب

أتخضبين وقد تـخـرم غـالـبـا                      دهر أضر بهـا حـديد الـنـاب

والحرب تعرك غالبا بجرانـهـا                      وتعض وهـي حـديدة الأنـياب

أم كيف نفسك تستلـد مـعـيشة                      أو تنقعـين لـهـا ألـذ شـراب أنشد عبد الله بن حسن من شعره فبكى: وذكر العباس بن عيسى العقيلي عن هارون بن موسى الفروي عن سعيد بن عقبة الجهني قال: حضرت عبد الله بن عمر المكنى أبا عدي الأموي ينشد عبد الله بن حسن قوله:

أفاض المدامع قتلى كدى                      وقتلى بكثوة لم ترمـس قال: فرأيت عبد الله بن حسن وإن دموعه لتجري على خده .

قيل إن القصيدة السينية اشترك فيها آخران معه حين أتاهم قتل بني أمية: وقد أخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن أبي سعيد مولى فائد قال: لما أتانا قتل عبد الله بن علي من قتل من بني أمية كنت أنا وفتى من ولد عثمان وأبو عدي العبلي متوارين في موضع واحد، فلحقني من الجزع ما يلحق الرجل على عشيرته، ولحق صاحبي كما لحقني، فبكينا طويلا، ثم تناولنا هذه القصيدة بيننا، فقال كل واحد منا بعضها غير محصل ما لكل واحد منا فيها، قال: ثم أنشدنيها، فأخذتها من فيه:

تقـول أمـامة لـمـا رأت                      نشوزي عن المضجع الأنفس كان يكره ما يجري عليه بنو أمية من سب علي وشعره في ذلك: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال: كان أبو عدي الأموي يكره ما يجري عليه بنو أمية من ذكر علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسبه على المنابر، ويظهر الإنكار لذلك، فشهد عليه قوم من بني أمية بمكة بذلك ونهوه عنه، فانتقل إلى المدينة وقال في ذلك:

شردوا بي عند امتداحي عليا                      ورأوا ذاك فــي داء دويا

فوربي لا أبرح الدهر حتى                      تختلى مهجتي بحبي علـيا

وبنيه لحـب أحـمـد إنـي                      كنت أحببتهم بحبي النـبـيا

حب دين لا حب دنيا وشر ال                      حب حـب يكـون دنـياويا

صاغني الله في الذؤابة منهم                      لا زنيما ولا سنـيدا دعـيا

عدويا خالي صريحا وجـدي                      عبد شمس وهاشـم أبـويا

فسواء علي لسـت أبـالـي                      عبشميا دعيت أم هاشـمـيا دخل مع وفود قريش على هشام بن عبد الملك ومدحه ففضل هشام بني مخزوم فقال هو شعرا: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي عن أبيه قال: وفد أبو عدي الأموي إلى هشام بن عبد الملك وقد امتدحه بقصيدته التي يقول فيها:

عبد شمس أبوك وهو أبونا                      لا نناديك من مكان بعـيد

والقرابات بيننا واشـجـات                      محكمات القوى بحبل شديد فأنشده إياها، وأقام ببابه مدة حتى حضر بابه وفود قريش فدخل فيهم، وأمر لهم بمال فضل فيه بني مخزوم أخواله، وأعطى أبا عدي عطية لم يرضاها، فانصرف وقال:

خس حظي أن كنت من عبد شمس                      ليتني كنت من بنـي مـخـزوم

فأفوز الغـداة فـيهـم بـسـهـم                      وأبـيع الأب الـكـريم بـلـوم غنى في البيتين المذكورين في هذا الخبر اللذين أولهما:

عبد شمس أبوك وهو أبونا ابن جامع، ولحنه ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق. وأول هذه القصيدة التي قالها في هشام:

ليلتي من كنود بالغور عودي                      بصفاء الهوى من أم أسـيد

ما سمعنا ذاك الهوى ونسينا                      عهده فارجعي به ثم زيدي

قد تولى عصر الشباب فقيدا                      رب جار يبين غير فـقـيد

 

صفحة : 1276

 

 

خلق الثوب من شـبـاب ولـبـس                      وجديد الـشـبـاب غـير جـديد

فاسر عنك الهموم حين تـداعـت                      بعلاة مـثـل الـفـنـيق وخـود

عنتريس توفي الزمـام بـفـعـم                      مثل جذع الأشـاءة الـمـجـرود

وارم جوز الفلا بها ثم سـمـهـا                      عجرفي النجـاء بـالـتـوخـيد

وهشاما خليفة الـلـه فـاعـمـد                      واصرمن مرة القوي الـجـلـيد

تلقه مـحـكـم الـقـوى أريحـيا                      ذا قرى عاجـل وسـيب عـتـيد

ملكا يشـمـل الـرعـية مـنـه                      بأياد لـيت بـذات خــمـــود

أخضر الربع والجناب خـصـيب                      أفيح المستـراد لـلـمـسـتـريد

ذكرت ناقتي البطـاخ فـحـنـت                      حين أن وركت قـبـور ثـمـود

قلت بعض الحنين يا نـاق سـيري                      نحو برق دعا لـغـيث عـمـيد

فأغذت في السير حتـى أتـتـكـم                      وهي قوداء في سـواهـم قـود

قد براها السـرى إلـيك وسـيري                      تحت حر الظهيرة الـصـيخـود

وطوى طائد الـعـرائك مـنـهـا                      غول بيد تجتـابـهـا بـعـد بـيد

وأتتكم حدب الظـهـور وكـانـت                      مسنمات مـمـرهـا بـالـكـديد

واطمأنت أرض الرصافة بالخص                      ب ولم تلق رحلها بـالـصـعـيد

نزلت بامرئ يرى الحمد غـنـمـا                      باذل مـتـلـف مـفـيد مـعـيد

بذل العدل في القصاص فأضحـى                      لا يخاف الضعيف ظـلـم شـديد

من بنى النضر من ذرا منبت النض                      ر بـورى زنـد وأكـرم عــود

فهو كالقلب في الجوانح مـنـهـا                      واسط سر جـذمـهـا والـعـديد

بين مروان والـولـيد فـبـخ بـخ                      للكريم المجـيد غـير الـزهـيد

لو جرى الناس نحو غـاية مـجـد                      لرهان في المحفل المـشـهـود

لعلاهم بسابـغـين مـن الـمـج                      د على النـاس طـارف وتـلـيد

إنكم مـعـشـر أبـي الـلـه إلا                      أن تفوزوا بدرها الـمـحـشـود

لم ير الله معشرا من بـنـي مـر                      وإن أولى بالملـك والـتـسـويد

قادة سـادة مـلـوك بـحـــار                      وبها لـيل لـلـقـروم الـصـيد

أريحيون مـاجـدون خـضـمـو                      ن حماة عند اربـداد الـجـلـود

يقطعون النهار بالـرأي والـحـز                      م ويحيون ليلهـم بـالـسـجـود

أهـل رفـد وسـؤدد وحـــياء                      ووفاء بالـوعـد والـمـوعـود

ويرون الجـوار مـن حـرم الـل                      ه فما الـجـار فـيهـم بـوحـيد

لو بمجد نـال الـخـلـود قـبـيل                      آل مروان فزتـم بـالـخـلـود

يابن خير الأخيار من عبد شـمـس                      يا إمام الـورى ورب الـجـنـود

عبد شمس أبـوك وهـو أبـونـا                      لا نناديك مـن مـكـان بـعـيد

ثم جدي الأدنى وعمـك شـيخـي                      وأبو شيخك الـكـريم الـجـدود

فالقرابـات بـينـنـا واشـجـات                      محكمات القوى بـحـبـل شـديد

فأثبني ثواب مـثـلـك مـثـلـي                      تلقني للـثـواب غـير جـحـود

إن ذا الجـد مـن حـبـوت بـود                      ليس من لا تـود بـالـمـجـدود

وبحسب امرئ من الخـير يرجـى                      كونه عند ظـلـك الـمـمـدود قصيدة له يندب فيها فرقة بني أمية: وأما قصيدته التي أولها:

ما بال عينك جائلا أقذاؤها وهي التي فيها الغناء المذكور، فإنه قالها في دولة بني أمية عند اختلاف كلمتهم ووقوع الفتنة بينهم، يندب بينهم ، وفيها يقول:

واعتادها ذكر العشيرة بالأسـى                      فصباحها ناب بها ومسـاؤهـا

شركوا العدا في أمرهم فتفاقمت                      منها الفتون وفرقت أهواؤهـا

ظلت هناك وما يعاتب بعضهـا                      بعضا فينفع ذا الرجاء رجاؤها

إلا بمرهفة الظبات كـأنـهـا                      شهب تقل إذا هوت أخطاؤهـا

 

صفحة : 1277

 

 

وبعسل زرق يكون خـضـابـهـا                      علق النحور إذا تفيض دمـاؤهـا

فبذاكم أمست تعـاتـب بـينـهـا                      فلقد خشيت بأن يحـم فـنـاؤهـا

ما ذا أؤمـل إن أمـية ودعــت                      وبقاء سكان الـبـلاد بـقـاؤهـا

أهل الرياسة والسـياسة والـنـدى                      وأسود حرب لا يخيم لـقـاؤهـا

غيث البلاد هم وهـم أمـراؤهـا                      سرج يضيء دجى الظلام ضياؤها

فلئن أمـية ودعـت وتـتـايعـت                      لغاوية حميت لها خـلـفـاؤهـا

ليودعن مـن الـبـرية غـزهـا                      ومن البلاد جمالهـا ورجـاؤهـا

ومن البلية أن بقـيت خـلافـهـم                      فردا تهيجك دورهم وخـلاؤهـا

لهفي على حرب العشيرة بينـهـا                      هلا نهى جهالها حـلـمـاؤهـا

هلا نهى تنهى الغوي عن الـتـي                      يخشى على سلطانها غوغـاؤهـا

وتقى وأحـلام لـهـا مـضـرية                      فيها تدمى الـكـلـوم ودواؤهـا

لما رأيت الحرب توقـد بـينـهـا                      ويشب نار وقـودهـا إذكـاؤهـا

نوهت بالملك المـهـيمـن دعـوة                      ورواح نفسي في البلاء دعاؤهـا

ليرد ألفتهـا ويجـمـع أمـرهـا                      بخيارها فخيارهـا رحـمـاؤهـا

فأجاب ربي في أمـية دعـوتـي                      وحمى أمية ان يهـد بـنـاؤهـا

وحبا أمـية بـالـخـلافة إنـهـم                      نور البلاد وزينهـا وبـهـاؤهـا

فبنو أمية خير من وطئ الـثـرى                      شرفا وأفضل سـاسة أمـراؤهـا وهي قصيدة طويلة اقتصرت منها على ما ذكرته .

صوت:

مهلا ذريني فإني غالني خلقـي                      وقد أرى في بلاد الله متسـعـا

ما عضني الدهر إلا زادني كرما                      ولا استكنت له إن خان أو خدعا الشعر لأبي جلدة اليشكري من قصيدة يمدح بها مسمع بن مالك بن مسمع، والغناء لعلويه رمل بالوسطى عن عمرو .

 

أخبار أبي جلدة ونسبه

نسب أبي جلدة: أبو جلدة بن عبيد بن منقذ بن حجر بن عبيد الله بن مسلمة بن حبيب بن عدي بن جشم بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل، شاعر إسلامي، من شعراء الدولة الأموية، ومن ساكني الكوفة. وكان ممن خرج مع ابن الأشعث فقتله الحجاج .

كان أخص الناس بالحجاج ثم صار من أشدهم تحريضا عليه حين خرج مع ابن الأشعث وقتل: أخبرني بخبره في جملة ديوان شعره محمد بن العباس اليزيدي وقرأته عليه قال حدثني عمي عبد الله قال حدثني محمد بن حبيب، وأخبرني به علي بن سليمان الأخفش أيضا عن الحسن ابن الحسن اليشكري عن ابن الأعرابي قال: كان أبو جلدة اليشكري من أخص الناس بالحجاج، حتى إنه بعثه وبعث معه عبد الله بن شداد ابن الهادي الليثي إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام، فخطب الحجاج منه ابنته أم كلثوم. ثم خرج بعد ذلك مع ابن الأشعث، وكان من أشد الناس تحريضا على الحجاج. فلما أتي الحجاج برأسه ووضع بين يديه مكث ينظر إليه طويلا ثم قال: كم من سر أودعته في هذا الرأس فلم يخرج حتى أتيت به مقطوعا. فلما كان يوم الزاوية خرج خرج أبو جلدة بين الصفين، ثم أقبل على أهل الكوفة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها:

فقل للحواريات يبـكـين غـيرنـا                      ولا تبكنا إلا الكـلاب الـنـوابـح

بكين إلينا خشـية أن تـبـيحـهـا                      رماح النصارى والسيوف الجوارح

بكين لكيما يمنعـوهـن مـنـهـم                      وتأبى قلوب أضمرتها الجـوانـح

ونادينـا أين الـفـرار وكـنـتـم                      تغارون أن تبدو البرى والوشـائح

أأسلمتمونا للعدو عـلـى الـقـنـا                      إذا انتزعت منها القرون النواطـح

فما غار منكـم غـائر لـحـلـيلة                      ولا عزب عزت عليه المنـاكـح

 

صفحة : 1278

 

قال: فلما أنشدهم هذه الأبيات أنفوا وثاروا فشدوا شدة تضعضع لهم عسكر الحجاج، وثبت لهم الحجاج وصاح بأهل الشام فتراجعوا وثبتوا، فكانت الدائرة له، فجعل يقتل الناس بقية يومه، حتى صاح به رجل: والله يا حجاج لئن كنا قد أسأنا في الذنب لما أحسنت في العفو، ولقد خالفت الله فينا وما أطعته. فقال له: وكيف ويلك? قال: لأن الله تعالى يقول  فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها  وقد قتلت فأثخنت حتى تجاوزت الحد، فأسر ولا تقتل، ثم قال: أو امنن. فقال أولى لك  ألا كان هذا الكلام منك قبل هذا الوقت ثم نادى برفع السيف وأمن الناس جميعا، قال ابن حبيب قال ابن الأعرابي: فبلغني أن الحجاج قال يوما لجلسائه ما حرض على أحد أبو جلدة؛ فإنه نزل على سرحة في وسط عسكر لابن الأشعث ثم نزع سراويله فوضعه وسلح فوقه والناس ينظرون إليه. فقالوا له: ما لك ويلك أجننت ما هذا الفعل قال: كلكم قد فعلتم هذا إلا أنكم سترتموه وأظهرته. فشتموه وحملوا علي، فما أنساهم وهو يقدمهم ويرتجز:

نحن جلبنا الخيل من زرنجا                      ما لك يا حجاج منا منجى

لتبعجن بالسيوف بعـجـا                      أو لتفرن فذاك أحـجـى فوالله لقد كاد أهل الشام يومئذ يتضعضعون لولا أن الله تعالى أيد بنصره .

قال وقال أبو جلدة يومئذ:

أيا لهفي ويا حزني جميعا                      ويا غم الفؤاد لما لقينـا

تركنا الدين والدنيا جميعا                      وخلينا الحلائل والبنينـا

فما كنا أناسـا أهـل دين                      فنصبر للبلاء إذا بلينـا

ولا كنا اناسا أهـل دنـيا                      فنمنعها وإن لم نرج دينا

تركنا دورنا لطغام عـك                      وأنباط القرى والأشعرينا ذم القعقاع بن سويد بعض ما عامله به فقال فيه شعرا: قال ابن حبيب: وكان أبو جلدة مع القعقاع بن سويد المنقري بسجستان، فذم منه بعض ما عامله به، فقال فيه:

ستعلم أن رأيك رأي سـوء                      إذا ظل الإمارة عنـك زالا

وراح بنو أبيك ولست فيهـم                      بذي ذكر يزيدهم جـمـالا

هناك تذكر الأسلاف منهـم                      إذا الليل القصير عليك طالا فقال له القعقاع: ومتى يطول علي الليل القصير? قال: إذا نظرت إلى السماء مربعة. فلما عزل وحبس أخرج رأسه ليلة فنظر ، فإذا هو لا يرى السماء إلا بقدر تربيع السجن، فقال: هذا والله الذي حذرنيه أبو جلدة .

مدح مسمع بن مالك حين ولي سجستان ورثاه حين توفي: قال: وولي مسمع بن مالك سجستان، وكان مكث أبي جلدة بها، فخرج إليه فتلقاه ومدحه بقصيدته التي أولها:

بانت سعاد وأمسى حبلها انقطـعـا                      وليت وصلا لها من حبلها رجعـا

شطت بها غـربة زوراء نـازحة                      فطارت النفس من وجد بها قطعا

ما قرت العين إذ زالت فينفعـهـا                      طعم الرقاد إذا ما هاجع هجـعـا

منعت نفسي من روح تعـيش بـه                      وقد أكون صحيح الصدر فانصدعا

غدت تلوم على ما فات عاذلـتـي                      وقبل لومك ما أغنيت من منـعـا

مهلا ذريني فإني غالني خلـقـي                      وقد أرى في بلاد الله متـسـعـا

فخري تليد وما أنفقت أخـلـفـه                      سيب الإله وخير المال ما نفـعـا

ما عضني الدهر إلا زادني كرمـا                      ولا استكنت له إن خان أو خدعـا

ولا تلين على العلات معجمـتـي                      في النائبات إذا ما مسني طبـعـا

ولا تلين مـن عـودي غـمـائزه                      إذا المغمز منها لان أو خضـعـا

ولا أخائل رب البيت غـفـلـتـه                      ولا أقول لشيء فات ما صنـعـا

إني لأمدح أقوامـا ذوي حـسـب                      لم يجعل الله في أقوالهم قـذعـا

الطيبين على العلات مـعـجـمة                      لو يعصر المسك من أطرافهم نبعا

بني شهاب بها أعـنـي وإنـهـم                      لأكرم الناس أخلاقا ومصطنـعـا قال: فوصله مسمع بن مالك وحمله وكساه وولاه ناشيتكين وكان مكتبه . قال: ثم توفي مسمع بن مالك سجستان، فقال أبو جلدة يرثيه:

 

صفحة : 1279

 

 

أقول للنفـس تـأسـاء وتـعـزية                      قد كان من مسمع في مالك خلف

يا مسمع الخير من ندعو إذا نزلت                      إحدى النوائب بالأقوام واختلـفـوا

يا مسمعا لعراق لا زعـيم لـهـا                      بمن ترى يؤمن المستشرف النطف

تلك العيون بحيث المصر سـادمة                      تبكيك إذ غالك الأكفان والجـرف

قد وسدوك يمينـا غـير مـوسـدة                      وبذل جود لما أودي بك إلى التلف

كنت الشهاب الذي يرمى العدو بـه                      والبحر منه سجال الجود تغتـرف كان ينادم شقيق بن سليط واستثقل أخاه ثعلبة فهجاه: قال ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال: كان أبو جلدة ينادم شقيق بن سليط بن بديل السدوسي أخا بسطام بن سليط، وكان لهما أخ يقال له ثعلبة بن سليط، وكان ثقيلا بخيلا مبغضا، وكان يطفل عليهم ويؤذيهم. فقال فيه أبو جلدة:

أحب على لذاذتنا شقيقـا                      وأبغض مثل ثعلبة الثقيل

له غم على الجلساء مؤذ                      نوافله إذا شربوا قلـيل أعطى مسمع مالا لعشيرته وجفا بكر فقال هو شعرا فأكرمه وأرضاه: قال ابن حبيب عن ابن الأعرابي: وفرق مسمع بن مالك في عشيرته بني قيس بن ثعلبة عطايا كثيرة وقربهم وجفا سائر بطون بكر بن وائل. فقال أبو جلدة:

إذا نلت مالا قلت قيس عشيرتي                      تجور علينا عامدا في قضائكـا

وإن كانت الأخرى فبكر بن وائل                      بزعمك يخشى داؤها بدوائكـا

هنالك لا نمشي الضراء إليكـم                      بني مسمع إنا هنـاك أولـئكـا

عسى دولة الذهلين يوما ويشكر                      تكر علينا سبغة من عطـائكـا قال: فبعث إليه مسمع فترضاه ووصله وفرق في سائر بطون بكر بن وائل على جذمين، جذم يقال له الذهلان، وجذم يقال له اللهازم. فالذهلان: بنو شيبان بن ثعلبة بن يشكر بن وائل، وبنو ضبيعة بن ربيعة . واللهازم: قيس بن ثعلبة، وتيم اللات بن ثعلبة، وعجل بن لجيم، وعنزة بن أسد بن رببيعة. قال الفرزدق:

وأرضى بحكم الحي بكر بن وائل                      إذا كان في الذهلين أو في اللهازم قال: وقد دخل بنو قيس بن عكابة مع إخوتهم بني قيس بن ثعلبة بن عكابة. وأما حنيفة فلم تدخل في شيء من هذا لانقطاعهم عن قومهم باليمامة في وسط دار مضر، وكانوا لا ينصرون بكرا ولا يستنصرونهم. فلما جاء الإسلام ونزل الناس مع بني حنيفة ومع بني عجل بن لجيم فتلهزموا ودخل معهم حلفاؤهم بنو مازن بن جدي بن مالك بن صعب بن علي، فصاروا جميعا في اللهازم. وقال موسى بن جابر الحنفي السحيمي بعد ذلك في الإسلام:

وجدنا أبانـا كـان حـل بـبـلـدة                      سوى بين قيس قيس عيلان والفزر

فلما نأت عنا العشـيرة كـلـهـا                      أقمنا وحالفنا السيوف على الدهـر

فما أسلمتنا بعـد فـي يوم وقـعة                      ولا نحن أغمدنا السيوف على وتر كان جاره سيف يشرب ويعربد عليه فهجاه: وقال ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال: كان لأبي جلدة بسجستان جار يقال له سيف من بني سعد، وكان يشرب الخمر ويعربد على أبي جلدة، فقال يهجوه:

قل لذوي سيف وسيف ألـسـتـم                      أقل بني سعد حصادا ومزرعـا

كأنكـم جـعـلان دار مـقـامة                      على عذرات الحي أصبحن وقعا

لقد نال سيف في سجستان نهـزة                      تطاول منها فوق ما كان إصبعـا

أصاب الزنا والخمر حتى لقد نمت                      له سرة تسقى الشراب المشعشعا

فلولا هوان الخمر ما ذقت طعمها                      ولا سقت إبريقا بكفك متـرعـا

كما لم يذقها أن تكـون عـزيزة                      أبوك ولم يعرض عليها فيطمعـا

وكان مكان الكلب أو مـن ورائه                      إذا ما المغني للذاذة أسـمـعـا خبره مع القعقاع حين أرجف به فتهدده بالعزل: قال ابن حبيب: وكان أبو جلدة قد استعمله القعقاع بن سويد حين تولى سجستان على بست والرخج، فأرجف الناس بالقعقاع وأرجف به أبو جلدة معهم، وكتب القعقاع إليه يتهدده؛ فكتب إليه أبو جلدة:

يهددني القعقاع في غير كنهـه                      فقلت له بكر إذا رمتني ترسي

 

صفحة : 1280

 

 

كأنا وأياكم إذا الحـرب بـينـنـا                      أسود عليها الزعفران مع الورس

ترى كمصابيح الدياجي وجوهنـا                      إذا ما لقينا والهرقلية الـمـلـس

هناك السعود السانحات جرت لنـا                      وتجري لكم طير البوارح بالنحس

وما أنت يا قعقاع إلا كمن مضى                      كأنك يوما قد نقلت إلى الرمـس

أظن بغال البرد تسـري إلـيكـم                      به غطفانيا وإلا فمـن عـبـس

وإلا فبالبسـال يا لـك إن سـرت                      به غير مغموز القناة ولا نكـس

فعمالنـا أوفـى وخـير بـقـية                      وعمالكم أهل الخيانة واللـبـس

وما لبني عمرو عـلـي هـوادة                      ولا للرباب غير تعس من التعس قال: فلما انتهت هذه القصيدة إلى القعقاع وجه برسول إلى أبي جلدة، وقال: انظر، فإن كان كتب هذا الكتاب بالغداة فاعزله، وإن كان كتبه بالليل فأقرره على عمله ولا تعزله ولا تضربه. وكان أبو جلدة صاحب شراب، فقال للرسول: والله ما كتبته إلا بالعشي. فسأله البينة على ذلك فأتاه بأقوام شهدوا له بما قال، فأقره على عمله وانصرف عنه .

شبب ببنت دهقان فأهدى له ليترك ذكرها: قال ابن حبيب: ومر أبو جلدة بقصر من قصور بست ينزله رجل من الدهاقين، فرأى ابنته تشرف من أعلى القصر، فأنشأ يقول:

إن في القصر ذي الخبا بدر تم                      حسن الدل للفؤاد مـصـيبـا

ولعابا بالخلـوق يأرج مـنـه                      ريح رند إذا استقل مـنـيبـا

يلبس الخز والمطارف والـق                      ز وعصبا من اليماني قشيبـا

ورأيت الحبيب يبـرز كـفـا                      ما رآه المحب إلا خضـيبـا فبلغ ذلك من قوله الدهقان، فأهدى له وبره وسأله ألا يذكر ابنته في شعر بعد ذلك .

لحقه ضيم فلم يمنعه قومه فهتف بمسمع بن مالك وآخرين فسعى له قومه: قال ابن حبيب: ولحق أبا جلدة ضيم من بعض الولاة، فهتف بقومه فلم يقدروا على منعه منه ولا معونته رهبة للسلطان، فهتف بأعلى صوته: يا مسمع بن مالك، يا أمير بن أحمر، ثم أنشأ يقول:

ولما أن رأيت سراة قومي                      سكوتا لا يثوب لهم زعيم

هتفت بمسمع وصدى أمير                      وقبر معمر تلك القـروم قال: فأبكى جميع من حضر، وقاموا جميعا إلى الوالي فسألوه في أمره حتى كف عنه. قال: وأمير بن أحمر رجل من بني يشكر، وكان سيدا جوادا، وفيه يقول زياد الأعجم:

لولا أمير هلكـت يشـكـر                      ويشكر هلكى على كل حال قال ابن الأعرابي: كان أمير بن أحمر واليا على خراسان في أيام معاوية .

ومعمر الذي عناه أبو جلدة معمر بن شمير بن عامر بن جبلة بن ناعب بن صريم، وكان أمير سجستان، وكان سيدا شريفا.

خطب خليعة بنت صعب فأبت وتزوجت غيره فقال شعرا: وقال: خطب أبو جلدة امرأة من بني عجل يقال لها خليعة بنت صعب، فأبت أن تتزوجه وقالت: أنت صعلوك فقير لا تحفظ مالك ولا تلفي شيئا إلا أنفقته في الخمر، وتزوجت غيره. فقال أبو جلدة في ذلك: صوت:

لما خطبت إلى خليعة نفسهـا                      قالت خليعة ما أرى لك مالا

أودى بمالي يا خليع تكرمـي                      وتخرقي وتحملي الأثـقـالا

إني وجدك لو شهدت مواقفي                      بالسفح يوم أجلل الأبـطـالا

سيفي، لسرك أن تكوني خادما                      عندي إذا كره الكماة نـزالا الغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي من كتاب علي بن يحيى .

ضرط بين قوم فضحكوا فأكرههم على أن يضرطوا: قال أبو سعيد السكري وعمر بن سعيد صاحب الواقدي: إن أبا جلدة كان في قرية من قرى بست يقال لها الخيزران ومعهم عمرو بن صوحان أخو صعصعة في جماعة يتحدثون ويشربون، إذ قام أبو جلدة ليبول فضرط، وكان عظيم البطن، فتضاحك القوم منه، فسل سيفه وقال: لأضربن من لايضرط في مجلسه هذا ضربة بسيفي، أمني تضحكون لا أم لكم فما زال حتى ضرطوا جميعا غير عمر بن صوحان. فقال له: قد علمت أن عبد القيس لا تضرط ولك بدلها عشر فسوات. قال: لا والله أو تفصح بها فجعل عمر يجثي وينحني فلا يقدر عليها، فتركه. وقال أبو جلدة في ذلك:

أمن ضرطة بالخيزران ضرطتها                      تشـدد مـنـي دارة وتـلـين

 

صفحة : 1281

 

 

فما هو إلا السيف أو ضرطة لها                      يثور دخان ساطـع وطـنـين قال: ولعمرو بن صوحان يقول أبو جلدة اليشكري وطالت صحبته إياه فلم يظفر منه بشيء:

صاحبت عمرا زمانا ثم قلت لـه                      الحق بقومك يا عمرو بن صوحانا

فإن صبرت فإن الصبر مكـرمة                      وإن جزعت فقد كان الذي كانـا هجا زيادا الأعجم لهجوه بني يشكر: قال ابن سعيد وحدثني أبو صالح قال: بلغ أبا جلدة أن زيادا الأعجم هجا بني يشكر، فقال فيه:

لا تهج يشكـر يا زياد ولا تـكـن                      غرضا وأنت عن الأذى في معزل

واعلم بأنهـم إذا مـا حـصـلـوا                      خير وأكرم مـن أبـيك الأعـزل

لولا زعيم بني المعلى لـم نـبـت                      حتى نصبحكم بجيش جـحـفـل

تمشي الضراء رجالهم وكأنـهـم                      أسد العرين بكل عضب منصـل

فاحـذر زياد ولا تـكـن تــدرأ                      عند الرجال ونهزة لـلـخـتـل مدح سليمان بن عمرو بن مرثد كان صديقا له: وقال ابن حبيب: كان سليمان بن عمرو بن مرثد البكري صديقا لأبي جلدة، وكان فارسا شجاعا، وقتله ابن خازم لشيء بلغه فأنكره؛ وفيه يقول أبو جلدة:

إذا كـنـت مـرتـــادا نـــديمـــا مـــكـــررا                      نمـاه سـراة مـن ســراة بـــنـــي بـــكـــر

فلا تـعـد ذا الـعـلـيا سـلــيمـــان عـــامـــدا                      تجـد مـاجـدا بـالـجـود مـنـشـرح الـــصـــدر

كريمـا عـلـى عــلاتـــه يبـــذل الـــنـــدى                      ويشـربـهـا صـهـبـاء طــيبة الـــنـــشـــر

معتقة كالمسك يذهب ريحها الزكام وتدعو المرء للجود بالوفر

وتترك حاسي الكأس منها مرنحا                      يمـيد كـمـا مـاد الأثـيم مـــن الـــســـكـــر

تلـوح كـعـين الـديك ينـزو حـــبـــابـــهـــا                      إذا مـزجـت بـالـمـاء مـثـل لـظـى الـجـمـــر

فتـلــك إذا نـــادمـــت مـــن آل مـــرثـــد                      علـيهـا نـديمـا ظـل يهـرف بـالـــشـــعـــر

يغـــنـــيك تـــارات وطـــورا يكـــرهـــا                      علـــيك بـــحــــياك الإلـــــــه ولا يدري

تعـود ألا يجـهـل الـــدهـــر عـــنـــدهـــا                      وأن يبـذل الـمـعـروف فـي الـعـسـر والـيســـر

وإن سـلـيمـان بـن عـمــرو بـــن مـــرثـــد                      تألـــى يمـــينــــا أن يريش ولا يبـــــــري

فهـمـتـه بـذل الـنـدى وابـتــنـــا الـــعـــلا                      وضرب طـلـى الأبـطـال فـي الـحـرب بـالـبـتـر

وفـي الأمـن لا ينــفـــك يحـــســـو مـــدامة                      إذا مـا دجـا لـيل إلـى وضــح الـــفـــجـــر قال: فلما بلغت سليمان هذه الأبيات قال: هجاني أخي وما تعمد، لكنه يرى أن الناس جميعا يؤثرون الصهباء كما يؤثرها هو، ويشربونها كما يشربها. وبلغ قوله أبا جلدة فأتاه فاعتذر إليه، وحلف أنه لم يتعمد بذلك ما يكرهه وينكره. قال: قد علمت بذلك وشهدت لك به قبل أن تعتذر، وقبل عذره .

سأل الحضين بن المنذر شيئا فلم يعطه إياه فهجاه: وقال ابن حبيب: سأل أبو جلدة الحضين بن المنذر الرقاشي فلم يعطه إياه، وقال: لا أعطيه ما يشرب به الخمر. فقال أبو جلدة يهجوه:

يا يوم بؤس طلعـت شـمـسـه                      بالنحس لا فارقت رأس الحضين

إن حضـينـا لـم يزل بـاخـلا                      مذ كان بالمعروف كز الـيدين فبلغ الحضين قول أبي جلدة، فقال يهجوه:

عض أبو جلدة مـن أمـه                      معترضا ما جاوز الأسكتين

بظرا طويلا غاشيا رأسـه                      أعقف كالمنجل ذا شعبتين وقال أبو جلدة في حضين أيضا:

لعمرك إني يوم أسند حـاجـتـي                      إليك أبا ساسـان غـير مـسـدد

فلا عالم بالغيب مـن أين ضـره                      ولا خائف بث الأحاديث في غـد

فليت المنايا حلقت بي صروفهـا                      فلم أطلب المعروف عند المصرد

فلو كنت حرا يا حضين بن منـذر                      لقمت بحاجاتي ولـم تـتـبـلـد

تجهمتني خوف القرى واطرحتني                      وكنت قصير الباع غير المقـلـد

ولم تعد ما قد كنت أهلا لمثـلـه                      من اللؤم يابن المستذل المعـبـد تهدده بنو رقاش لهجائه الحضين فقال شعرا: قال: فبلغ أبا جلدة أن بني رقاش تهددوه بالقتل لهجائه الحضين بن منذر، فقال:

تهددني جهـلا رقـاش ولـيتـنـي                      وكل رقاشي على الأرض في الحبل

 

صفحة : 1282

 

 

فباست حضين واست أم رمـت بـه                      فبئس محل الضيف في الزمن المحل

وإن أنا لم أترك رقاش وجمـعـهـم                      أذل على وطء الهوان من النـعـل

فشلت يداي واتبعت سـوى الـهـدى                      سبيلا وقفت للـخـير والـفـضـل

عظام الخصى ثط اللحى معدن الخنـا                      مباخيل بالأزواد في الخصب والأزل

إذا أمنوا ضراء دهر تـعـاظـلـوا                      عظال الكلاب في الدجنة والـوبـل

وإن عضهم دهر بـنـكـبة حـادث                      فأخور عيدانا من الـمـرخ والأثـل

أسود شرى وسط النـدي ثـعـالـب                      إذا خطرت حرب مراجلها تغـلـي شعره في دهقانة كان يختلف إليها: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: عشق أبو جلدة دهقانة ببست وكان إليها ويكون عندها دائما، وقال فيها:

وكأس كأن المسك فيها حسوتها                      ونازعيها صاحب لي مـلـوم

أغر كأن البدر سـنة وجـهـه                      له كفل واف وفرع ومبـسـم

يضيء دجى الظلماء رونق خده                      وينجاب عنه الليل والليل مظلم

وثديان كالحقين والمتن مدمـج                      وجيد عليه نسق در مـنـظـم

وبطن طواه الله طيا ومنـطـق                      رخيم وردف نيط بالحقو مفـأم

به تبلتني واستبتنـي وغـادرت                      لظى في فؤادي نارها تتضرم

أبيت بها أهذي إذا الليل جننـي                      وأصبح مبهوتا فما أتـكـلـم

فمن مبلغ قومي الدنا أن مهجتي                      تبين، لئن بانـت ألا تـتـلـوم

وعهدي بها والله يصلح بالـهـا                      تجود على من يشتهيها وتنعـم

فما بالها ضنت علي بـودهـا                      وقلبي لها يا قوم عان مـتـيم قال: فلما بلغها الشعر سألت عن تفسيره ففسر لها. فلما انتهى المفسر إلى هذين البيتين الأخيرين غضبت فقالت: أنا زانية كما زعم إن كلمته كلمة أبدا. أو كلما اشتهاني إنسان بذلت له نفسي وأنعمت من روحي إذا أي أنا إذا زانية. فصرمته، فلم يقدر عليها وعذب بها وعذب بها زمانا، ثم قال فيها لما يئس منها:

صحا قلبي وأقصر بعـد غـي                      طويل كان فيه من الغـوانـي

بأن قصد السبيل فبـاع جـهـلا                      برشد وارتجى عقبى الزمـان

وخاف الموت واعتصم ابن حجر                      من الحب المبرح بالـجـنـان

وقدما كان معترما جـمـوحـا                      إلى لذاته سـلـس الـعـنـان

وأقلع بعد صبوتـه وأضـحـى                      طويل الليل يهرف بالـقـران

ويدعو الله مجتهـدا لـكـيمـا                      ينال افوز من غرف الجـنـان قال شعرا في يزيد بن المهلب ثم تنصل منه: قال ابن حبيب قال أبو عبيدة: كان يزيد بن المهلب يتهم بالنساء. فقال فيه أبو جلدة:

إذا اعتكرت ظلماء ليل ونومـت                      عيون رجال واستلذوا المضاجعا

سما نحو جار البيت يستام عرسه                      يزيد دبيبا للمعانـاة قـابـعـا

وإن أمكنته جارة البيت أو رنت                      إليه أتاها بعـد ذلـك طـائعـا فشاعت الأبيات ورواها الناس لقتادة بن معرب . فقال أبو جلدة:

أبا خالد ركني ومـن أنـا عـبـده                      لقد غالني الأعداء عمدا لتغضـبـا

فإن كنت قلت اللذ أتاك به الـعـدا                      فشلت يدي اليمنى وأصبحت أعضبا

ولا زلت محمولا عـلـي بـلـية                      وأمسيت شلوا للسبـاع مـتـربـا

فلا تسمعن قول العـدا وتـبـينـن                      أبا خالد عذرا وإن كنت مغضـبـا سئل عنه البعيث فذكر شعرا لقتادة بن معرب يهجوه به: وقال ابن حبيب: قال رجل للبعيث: أي رجل هو أبو جلدة? فقال: قتادة بن معرب أعرف به حيث يقول:

إن أبا جلدة مـن سـكـره                      لا يعرف الحق من الباطل

يزداد غيا وانهمـاكـا ولا                      يسمع قول الناصح العاذل

أعيا أبوه وبـنـو عـمـه                      وكان في الذروة من وائل

فليته لم يك مـن يشـكـر                      فبئس خدن الرجل العاقل

 

صفحة : 1283

 

 

أعمى عن الحق بصير بمـا                      يعرفه كل فتـى جـاهـل

يصبح سكران ويمسي كمـا                      أصبح، لا أسقي من الوابل

شد ركاب الغي ثم اغتـدى                      إلى التي تجلب من بـابـل

فالسجن إن عاش له منـزل                      والسجن دار العاجز الخامل شعر له يناقض به قتادة بن معرب: وقال أبو جلدة يجيبه:

قبحت لو كنت أمرا صالحـا                      تعرف ما الحق من الباطل

كففت عن شتمي بلا إحـنة                      ولم تورط كفة الـحـابـل

لكن أبت نفسك فعل النهـى                      والحزم والنجدة والـنـائل

فتحت لي بالشتم حتـى بـدا                      مكنون غش في الحشا داخل

فاجهد وقل لا تترك جاهـدا                      شتم امرئ ذي نجدة عاقـل

تعذلني فـي قـهـوة مـزة                      درياقة تجلب مـن بـابـل

ولو رآها خر من حـبـهـا                      يسجد للشيطان بالـبـاطـل

يا شر بكر كلها مـحـتـدا                      ونهزة المختـلـس الآكـل

عرضك وفره ودعني ومـا                      أهواه يا أحمق من بـاقـل عربد عليه ابن عم له فاحتمله وقال شعرا: قال ابن حبيب: كان أبو جلدة يشرب مع ابن عم له من بكر بن وائل، فسكر نديمه فعربد عليه وشتمه، فاحتمله أبو جلدة وسقاه حتى نام، وقال في ذلك:

أبى لي أن ألحى نديمي إذا انتشـى                      وقال كلاما سيئا لي على السكـر

وقاري وعلمي بالشراب وأهـلـه                      وما ندم القوم الكرام كذي الحجر

فلست بلاح لـي نـديمـا بـزلة                      ولا هفوة كانت ونحن على الخمر

عركت بجنبي قول خدني وصاحبي                      ونحن على صهباء طيبة النشـر

فلما تمادى قلت خـذهـا عـريقة                      فإنك من قوم جحاجـحة زهـر

فما زلت أسقيه وأشرب مثل مـا                      سقيت أخي حتى بدا وضح الفجر

وأيقنت أن السكر طـار بـلـبـه                      فأغرق في شتمي وقال وما يدري

ولاك لسانا كان إذ كان صـاحـيا                      يقلبه في كل فن من الـشـعـر شعر له وقد دعا رجلا من قومه للشراب فأبى: أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال: كان أبو جلدة اليشكري قد خرج إلى تستر في بعث، فشرب بها في حانة مع رجل من قومه كان ساكنا بها. ثم خرج عنها بعد ذلك وعاد إلى بست والرخج وكان مكتبه هناك، فأقام بها مدة، ثم لقي بها ذلك الرجل الذي نادمه بتستر ذات يوم، فسلم عليه ودعاه إلى منزل، فأكلا، ثم دعا بالشراب ليشربا، فامتنع الرجل وقال: إني قد تركتها لله. فقال أبو جلدة وهو يشرب:

ألا رب يوم لـي بـبـسـت ولـيلة                      ولا مثل أيامي المواضي بتسـتـر

غنيت بها أسقـي سـلاف مـدامة                      كريم المحيا من عرانـين يشـكـر

نبادر شرب الراح حتى نـهـرهـا                      وتتركنا مثل الصريع المـعـفـر

فذلك دهر قـد تـولـى نـعـيمـه                      فأصبحت قد بدلت طول التـوقـر

فراجعني حلمي وأصبحت منهج ال                      شراب وقدما كنت كالـمـتـحـير

وكل أوان الحق أبصرت قـصـده                      فلست وإن نبهت عنه بمـقـصـر

سأركض في التقوى وفي العلم بعدما                      ركضت إلى أمر الغوي المشهـر

وبالله حولي واحتـيالـي وقـوتـي                      ومن عنده عرفي الكثير ومنكـري مر به مسمع بن مالك فوثب إليه وقال فيه شعرا: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن الحارث المدائني قال: مر مسمع بن مالك بأبي جلدة، فوثب إليه وأنشأ يقول:

يا مسمع بن مالك يا مسـمـع                      أنت الجواد والخطيب المصقع

فاصنع كما كان أبوك يصنع فقال له رجل كان جالسا هناك: إن قبل منك والله يا أبا جلدة ناك أمه، فقال له: وكيف ذلك ويحك? قال: لأنك أمرته أن يصنع كما كان أبوه يصنع .

مدح مقاتل بن مسمع طمعا في مثل ما كان مسمع يعطيه فلما رده هجاه: وقال أبو عمرو الشيباني: كان مسمع بن مالك يعطي أبا جلدة، فقال فيه :

 

صفحة : 1284

 

 

يسعى أناس لكـيمـا يدركـوك ولـو                      خاضوا بحارك أو ضحضاحها غرقوا

وأنت في الحرب لا رث القوى بـرم                      عند الـلـقـاء ولا رعـديدة فـرق

كل الحلال التي يسعى الكرام لـهـا                      إن يمدحوك بها يوما فقد صـدقـوا

ساد العراق فحال النـاس صـالـحة                      وسادهم وزمان الناس مـنـخـرق

لا خارجي ولا مستـحـدث شـرفـا                      بل مجد آل شهاب كان مذ خلـقـوا قال: ثم مدح مقاتل بن مسمع طمعا في مثل ما كان مسمع يعطيه، فلم يلتفت إليه وأمر أن يحجب عنه. فقيل له: تعرضت للسان أبي جلدة وخبثه. فقال: ومن هو الكلب وما عسى أن يقول قبحه الله وقبح من كان منه فليجهد جهده. فبلغ ذلك من قوله أبا جلدة فقال يهجوه:

قرى ضيفه الماء القراح ابن مسمع                      وكـان لـئيمـا جـاره يتـذلـل

فلما رأى الضيف القرى غير راهن                      لديه تولـى هـاربـا يتـعـلـل

ينادي بأعلى الصوت بكر بـن وائل                      ألا كل من يرجو قراكم مضـلـل

عميدكم هر الضيوف فمـا لـكـم                      ربيعة أمسى ضيفـكـم يتـحـول

وخفتم بأن تقروا الضيوف وكنـتـم                      زمانا بكم يحيا الضريك المـعـيل

فما بالكم بالله أنـتـم بـخـلـتـم                      وقصرتم والضيف يقرى وينـزل

ويكرم حتى يقترى حين يقـتـرى                      يقول إذا ولى جمـيلا فـيجـمـل

فمهلا بني بكر دعوا آل مسـمـع                      ورأيهم لا يسبق الخيل مـحـثـل

ودونكم أضيافـكـم فـتـحـدبـوا                      عليهم وواسوهم فذلـك أجـمـل

ولا تصبحوا أحدوثة مـثـل قـائل                      به يضرب الأمثال من يتـمـثـل

إذا ما التقى الركبان يوما تذاكـروا                      بني مسمع حتى يحموا ويثـقـلـو

فلا تقربوا أبياتـهـم إن جـارهـم                      وضيفهم سيان أتـى تـوسـلـوا

هم القوم غر الضيف منهم رواؤهم                      وما فـيهـم إلا لـئيم مـبـخـل

فلو ببني شيبان حـلـت ركـائبـي                      لكان قراهم راهنـا حـين أنـزل

أولـئك بـالـمـكـارم كـلـهـا                      وأجدر يوما أن يواسوا ويفضلـوا

بني مسمع لا قرب الـلـه داركـم                      ولا زال واديكم من الماء يمـحـل

فلم تردعوا الأبطال بالبيض والقنـا                      إذا جعلت نار الحـروب تـأكـل

أخبار علويه ونسبه

نسب علويه وأصله: هو علي بن عبد الله بن سيف . وكان جده من السغد الذين سباهم الوليد بن عثمان بن عفان واسترق منهم جماعة اختصهم بخدمته، وأعتق بعضهم، ولم يعتق الباقين فقتلوه. وذكر ابن خرداذبه، وهم ممن لا يحصل قوله ولا يعتمد عليه، أنه من أهل يثرب مولى بني أمية، والقول الأول أصح .

مهارته في الغناء والضرب وبعض أخلاقه ونشأته وسبب وفاته: ويكنى علويه أبا الحسن. وكان مغنيا حاذقا، ومؤدبا محسنا، وصانعا متفننا، وضاربا متقدما، مع خفة روح، وطيب مجالسة، وملاحة نوادر. وكان إبراهيم الموصلي علمه وخرجه وعني به جدا، فبرع وغنى لمحمد الأمين، وعاش أيام المتوكل، ومات بعد إسحاق الموصلي بمديدة يسيرة. وكان سبب وفاته أنه خرج به جرب، فشكاه إلى يحيى بن ماسويه، فبعث إليه بدواء مسهل وطلاء، فشرب الطلاء واطلى بالدواء المستهل، فقتله ذلك. وكان إسحاق يتعصب له في أكثر أوقاته على مخارق. فأما التقديم والوصف فلم يكن إسحاق يرى أحدا من جماعته لهما أهلا، فكانوا يتعصبون عليه لإبراهيم بن المهدي، فلا يضره ذلك مع تقدمه وفضله .

رأي إسحاق الموصلي فيه وفي مخارق:

 

صفحة : 1285

 

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال: قلت لأبي: أيما أفضل عندك مخارق أو علويه? فقال: يا بني علويه أعرفهما فهما بما يخرج من رأسه وأعلمهما بما يغنيه ويؤديه، ولو خيرت بينهما من يطارح جواري أو شاورني من يستنصحني لما أشرت إلا بعلويه؛ لأنه كان يؤدي الغناء، وصنع صنعة محكمة. ومخارق بتمكنه من حلقه وكثرة نعمه لا يقنع بالأخذ منه؛ لأنه لا يؤدي صوتا واحدا كما أخذه ولا يغنيه مرتين غناء واحدا لكثرة زوائده فيه. ولكنهما إذا اجتمعا عند خليفة أو سوقة غلب مخارق على المجلس لطيب صوته وكثرة نغمه .

حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال حدثني أبي قال: اجتمعت مع إسحاق يوما في بعض دور بني هاشم، وحضر علويه فغنى أصواتا ثم غنى من صنعته: صوت:

ونبئت ليلى أرسلت بشفاعة                      إلي فهلا نفس ليلى شفيعها ولحنه ثاني ثقيل فقال له إسحاق: أحسنت والله يا أبا الحسن أحسنت ما شئت . فقام علوية من مجلسه فقبل رأس إسحاق وعينيه وجلس بين يديه وسر بقوله سرورا شديدا، ثم قال: أنت سيدي وابن سيدي، وأستاذي وابن أستاذي، ولي إليك حاجة. قال: قل، فوالله إني أبلغ فيها ما تحب. قال: أيما أفضل عندك أنا أو مخارق? فإني أحب أن أسمع منك في هذا المعنى قولا يؤثر ويحكيه عنك من حضر، فتشرفني به. فقال إسحاق: ما منكم إلا محسن مجمل، فلا ترد أن ترى في هذا شيئا. قال: سألتك بحقي عليك وبتربية أبيك وبكل حق تعظمه إلا حكمت. فقال: ويحك والله لو كنت أستجيز أن أقول غير الحق لقلته فيما تحب، فأما إذ أبيت إلا ما ذكرت فهاك ما عندي: فلو خيرت أنا من يطارح جواري أو يغنيني لما اخترت غيرك، ولكنما إذا غنيتما بين يدي خليفة أو أمير غلبك على إطرابه واستبد عليك بجائزته. فغضب علويه وقام وقال: أف من رضاك وغضبك .

شاع له صوت كان الناس يظنونه لإسحاق: حدثني جعفر بن قدامة قال علي بن يحيى المنجم قال: قدمت من سر من رأى قدمة إلى بغداد، فلقيت أبا محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فجعل يسألني عن أخبار الخليفة وأخبار الناس حتى انتهى إلى ذكر الغناء، فقال: أي شيء رأيت الناس يستحسونه في هذه الأيام من الأغاني، فإن الناس ربما لهجوا بالصوت بعد الصوت? فقلت: صوتا من صنعتك. فقال: أي شيء هو? فقلت: صوت:

ألا يا حمامي قصر دوران هجتما                      بقلبي الهوى لما تغنيتـمـا لـيا

وأبكيتماني وسط صحبتي ولم أكن                      أبالي دموع العين لو كنت خاليا فضحك وقال: ليس هذا لي، هذا لعلويه، ولقد لعمري أحسن فيه وجود ما شاء .

لحن علويه في هذين البيتين ثاني ثقيل بالوسطى .

أتاه بعض أصحابه فأطعمهم وغناهم ألحانا لهم: حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني أحمد بن محمد بن عبد الله الأبزاري قال: أتيت علويه يوما بالعشي، فوجدت عنده خاقان بن حامد وعبد الله بن صالح صاحب المصلى، وكنت حملت معي قفص فراريج كسكرية مسمنة وجرابي دقيق سميذ ، فسلمته إلى غلامه، وبعث إلى بشر بن حارثة: أطعمنا ما عندك، فلم يزل يطعمنا فضلات حتى أدرك طعامه، ثم بعث إلى عبد الوهاب بن الخصيب بن عمرو فحضر، وقدم الطعام فأكل وأكلنا أكل معذرين ، ثم قال: إني صنعت البارحة لحنا أعجبني ن فأسمعوه وقولوا فيه ما عندكم، وغنانا فقال: صوت:

هزئت عميرة أن رأت ظهري انحنى                      وذؤابتي علت بـمـاء خـضـاب

لا تهزئي مني عـمـير فـإنـنـي                      محض كريم شيبتـي وشـبـابـي لحن علويه في هذين البيتين من الثقيل الثاني بالوسطى فقلنا له: حسن والله جميل يا أبا الحسن، وشربنا عليه أقداحا. ثم استؤذن لعثعث غلام أحمد بن يحيى بن معاذ، فأذن له، ومع عثعث كتاب من مولاه أحمد بن يحيى: سمعت يا سيدي منك صوتا عند أمير المؤمنين يعني المعتصم ، فأحب أن تتفضل وتطرحه على عبدك عثعث. وهو: صوت:

فوا حسرتا لم أقض منك لبـانة                      ولم أتمتع بالجوار وبالـقـرب

يقولون هذا آخر العهد منـهـم                      فقلت وهذا آخر العهد من قلبي لحن علويه في هذا الشعر ثقيل أول، وهو من مقدم أغانيه وصدورها. وأول هذا الصوت:

ألا يا حمام الشعب شعـب مـورق                      سقتك الغوادي من حمام ومن شعب

 

صفحة : 1286

 

قال: وإذا مع حسين رقعة من مولاه: سمعتك يا سيدي تغني عند الأمير أبي إسحاق إبراهيم ابن المهدي:

ألا يا حمامي قصر دوران هجمتما                      بقلبي الهوى لما تغنـيتـمـا لـيا أحب أن تطرحه على عبدك حسين. قال: فدعا بغلام له يسمى عبد آل فطحه عليه حتى أحكماه ثم عرضاه عليه حتى صح لهما. فلما أعلم أنه مر لنا يوم يقارب طيب ذلك اليوم وحسنه .

وصف الواثق له: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: سمعت أبي يقول سمعت الواثق يقول: علويه أصح الناس صنعة بعد إسحاق، وأطيب الناس صوتا بعد مخارق، وأضرب الناس بعد ربرب وملاحظ، فهو مصلي كل سابق قادر، وثاني كل أول واصل متقدم. قال: وكان الواثق يقول: غناء علويه مثل نقر الطست يبقى ساعة في السمع بعد سكوته .

خطأ إسحاق لحنا غناه المعتصم فرد هو عليه: نسخت من كتاب أبي العباس بن ثوابة بخطة: حدثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال: اجتمعت يوما بين يدي المعتصم وحضر إسحاق الموصلي، فغنى علويه:

لعبدة دار ما تكلمـنـا الـدار                      تلوح مغانيها كما لاح أسطار فقال إسحاق: أخطأت فيه، ليس هو كذلك. فغضب علويه وقال: أم من أخذنا عنه هكذا زانية. فقال إسحاق: وشتمنا قبحه الله، ، وسكت وبان ذلك فيه. قال: وكان علويه أخذه من أبيه .

كان أعسر وعوده مقلوب الأوتار: حدثني عمي قال حدثنا هارون بن مخارق قال: كان علويه أعسر وكان عوده مقلوب الأوتار: البم أسفل الأوتار كلها، ثم المثلث فوقه، ثم المثنى، ثم الزير، وكان عوده إذا كان في يد غيره على هذه الصفة، وإذا كان معه أخذه باليمنى وضرب باليسرى، فيكون مستويا في يده ومقلوبا في يد غيره .

كان بينه وبين ابن أخته الخلنجي القاضي منازعة فغنى بشعره للمأمون فعزله عن القضاء: أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال كان الخلنجي القاضي، واسمه عبد الله بن محمد ، ابن أخت علويه المغني، وكان تياها صلفا، فتقلد في خلافة الأمين قضاء الشرقية ، فكان يجلس إلى أسطوانة من أساطين المسجد فيستند إليها بجميع جسده ولا يتحرك، فإذا تقدم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده وترك الاستناد حتى يفصل بينهما ثم يعود لحاله. فعمد بعض المجان إلى رقعة من الرقاع التي يكتب فيها الدعاوى فألصقها في موضع ذنبته بالدبق ومكن منها الدبق. فلما تقدم إليه الخصوم وأقبل عليهم بجميع جسده كما كان يفعل انكشفت رأسه وبقيت الذنبة موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخلنجي مغضبا وعلم أنها حيلة وقعت عليه، فغطى رأسه بطيلسانه وقام وانصرف وتركها مكانها، حتى جاء بعض أعوانه فأخذها. وقال بعض شعراء ذلك العصر فيه هذه الأبيات:

إن الخلنجي من تـتـايهـه                      أثقل باد لنا بطـلـعـتـه

ما إن لذي نخوة منـاسـبة                      بين أخاوينه وقصـعـتـه

يصالح الخصم من يخاصمه                      خوفا من الجور في قضيته

لو لم تدبقه كف قانـصـه                      لطار تيها على رعـيتـه قال وشهرت الأبيات والقصة ببغداد، وعمل له علويه حكاية أعطاها للزفانين والمخنثين فأحرجوه فيها، وكان علويه يعاديه لمنازعة كانت بينهما ففضحه، واستعفى الخلنجي من القضاء ببغداد وسأل أن يولى بعض الكور البعيدة، فولي جند دمشق أو حمص. فلما ولي المأمون الخلافة غناه علويه بشعر الخلنجي فقال:

برئت من الإسلام إن كـان ذا الـذي                      أتاك به الواشون عني كمـا قـالـوا

ولـكـنـهـم لـمـا رأوك غـرية                      بهجري تواصوا بالنميمة واحتـالـوا

فقد صرت أذنا للـوشـاة سـمـيعة                      ينالون من عرضي وإن شئت ما نالوا فقال له المأمون: من يقول هذا الشعر? فقال: قاضي دمشق. فأمر المأمون بإحضاره، فكتب إلى صاحب دمشق بإشخاصه فأشخص، وجلس المأمون للشرب وأحضر علويه، ودعا بالقاضي فقال له: أنشدني قولك:

برئت من الإسلام إن كان ذا الذي                      أتاك به الواشون عني كما قالوا

 

صفحة : 1287

 

فقال له: يا أمير المؤمنين هذه أبيات قلتها منذ أربعين سنة وأنا صبي، والذي أكرمك بالخلافة وورثك ميراث النبوة ما قلت شعرا منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد أو عتاب صديق. فقال له: اجلس فجلس، فناوله قدح نبيذ التمر أو الزبيب. فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرف شيئا منها. فأخذ القدح من يده وقال: أما والله لو شربت شيئا من هذا لضربت عنقك، وقد ظننت أنك صادق في قولك كله، ولكن لا يتولى لي القضاء رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام، انصرف إلى منزلك. وأمر علويه فغير الكلمة وجعل مكانها: حرمت مناي منك .

ضربه الأمين بوشاية ابن الربيع ثم تقرب بذلك إلى المأمون فلم ير منه ما يحب: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال: كان علويه بين يدي الأمين، فغنى في بعض غنائه:

ليت هندا أنجزتنا ما تعد                      وشفت أنفسنا مما تجد وكان الفضل بن الربيع يطعن عليه، فقال للأمين: إنما يعرض بك ويستبطئ المأمون في محاربته، فأمر به فضرب خمسين سوطا وجر برجله، وجفاه مدة، حتى ألقى نفسه على كوثر فترضاه له ورد إلى خدمته، وأمر له بخمسة آلاف دينار. فلما قدم المأمون تقرب إليه بذلك، فلم يقع له بحيث يحب، وقال له: إن الملك بمنزلة الأسد أو النار، فلا تتعرض لما يغضبه، فإنه ربما جرى منه ما يتلفك ثم لا تقدر بعد ذلك على تلافي ما فرط منه ، ولم يعطه شيئا .

غضب الأمين على إبراهيم الموصلي بعد موته لتقديم اسم المأمون عليه في شعره وترضاه ابنه إسحاق: ومثل هذا من فعل الأمين، ما حدثني به محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال: دخلت على الأمين فرأيته مغضبا كالحا، فقلت له: ما لأمير المؤمنين تمم الله سروره ولا نغصه أراه كالحائر? قال: غاظني أبوك الساعة لا رحمه الله والله لو كان حيا لضربته خمسمائة سوط، ولولاك لنبشت الساعة قبره وأحرقت عظامه. فقمت على رجلي وقلت: أعوذ بالله من سخطك يا أمير المؤمنين ومن أبي وما مقداره حتى تغتاظ منه وما الذي غاظك فلعل له فيه عذرا? فقال: شدة محبته للمأمون وتقديمه إياه حتى قال في الرشيد شعرا يقدمه فيه علي وغناه فيه، وغنيته الساعة فأورثني هذا الغيظ. فقلت: والله ما سمعت بهذا قط ولا لأبي غناء إلا وأنا أرويه، ما هو? فقال قوله:

أبو المأمون فينا والأمين                      له كنفان من كرم ولين فقلت له: يا أمير المؤمنين لم يقدم المأمون في الشعر لتقديمه إياه في الموالاة، ولكن الشعر لم يصح وزنه إلا هكذا. فقال: كان ينبغي له إذا لم يصح الشعر إلا هكذا أن يدعه إلى لعنة الله. فلم أزل أداريه وأرفق به حتى سكن. فلما قدم المأمون سألني عن هذا الحديث فحدثته به، فجعل يضحك ويعجب منه .

مدحه عبد الله بن طاهر: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: سمعت أبي يقول: لو خيرت لونا من الطعام لا أزيد عليه غيره لاخترت الدراجة ؛ لأني إن زدت في خلها صارت سكباجة ، وإن زدت في مائها صارت إسفيد باجة ، وإن زدت في تصبيرها بل في تشييطها صارت مطجنة ، ولو اقتصرت على رجل واحد لما اخترت سوى علويه؛ لأنه إن حدثني ألهاني، وإن غناني أشجاني، وإن رجعت إلى رأيه كفاني .

حضر عند سعيد بن عجيف فأكرمه ثم طلبه عجيف: حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال: كنت عند سعيد بن عجيف أنا وعبد الوهاب بن الخصيب وعبد الله بن صالح صاحب المصلى، إذ دخل عليه حاجبه فقال له: علويه بالباب، فأذن له فدخل. فقال له: لا تحمدني فإني لم يجئني رسول رجل اليوم، فعرضت إخواني جميعا على قلبي فلم يقع عليه غيرك. فدعا له ببرذون أدهم بسرجه ولجامه فأهداه إليه، وجلسنا نشرب وعلويه يغني. فلما توسطنا أمرنا جاء رسول عجيف يطلبه في منزله، فقالوا له: هو عند ابنه سعيد. فأتاه الرسول فقال له: أجب الأمير. فقلنا: هذا شيء ليس فيه حيلة. وقد جاء الرسول وهو يغني: صوت:

ألم تر أني يوم جـو سـويقة                      بكيت فنادتني هنيدة مـا لـيا

فقلت لها إن البكـاء لـراحة                      به يشتفي من ظن أن لا تلاقيا

 

صفحة : 1288

 

لحن علويه في هذا رمل. والشعر للفرزدق قال: فقام علويه ثم قال: هو ذا، أمضي إلى الأمير فأحدثه بحديثنا وأستأذنه في الانصراف بوقت يكون فيه فضل لكم. فانصرف بعد المغرب ومعه جام، فيه مسك وعشرة آلاف درهم ومنيان فيهما رماطون ، فقال: جئت أشرب عندكم، وآخذه وأنصرف إلى إنسان له عندي أياد يعني علي بن معاذ أخا يحيى ابن معاذ فلم يزل عندنا حتى هم بالانصراف. فلما رأيت ذلك فيه قمت قبله فأتيت منزل علي ابن معاذ، فقيل له: ابن الأبزاري بالباب. فبعث إلي: إن أردت مضاء فخذه يعني غلاما كان يغني ، فقلت له: لست أريده، إنمكا أريدك أنت، فأذن لي فدخلت. فقال: ألك حاجة في هذا الوقت? فقلت: الساعة يجيئك علويه. فقال: وما يدريك? فحدثته بالحديث. ودخل علويه، فقال لي: ما جاء بك إلى ها هنا فقلت : ما كنت لأدع بقية ليلتي هذه تضيع، فما زال يغنينا ونشرب حتى نام الناس ثم انصرفنا .

فضله عمرو بن بانة على نفسه: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثنا هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال: قلت لعمرو بن بانة: أيما أجود صنعتك أم صنعة علويه? فقال: صنعة علويه، لأنه ضارب وأنا مرتجل. ثم أطرق ساعة وقال: لا أكذبك يا أبا المهنأ والله ما أحسن أن أصنع مثل صنعة علويه:

فوا حسرتا لم أقض منك لبانة                      ولم أتمتع بالجوار وبالقرب ولا مثل صنعته:

هزئت أميمة أن رأت ظهري انحنى                      وذؤابتي علت بـمـاء خـضـاب ولا مثل صنعته:

ألا يا حمامي قصر دوران هجتما                      لقلبي الهوى لما تغنيتـمـا لـيا وقد مضت نسبة هذه الأصوات .

غنى في شعر هجى به علي بن الهيثم فأغرى الفضل بن الربيع به الأمين حتى ضربه ثم رضي عنه: حدثني جحظة قال حدثني أحمد بن الحسين بن هشام أبو عبد الله قال حدثني أحمد بن الخليل ابن هشام قال: كان بين علويه وبين علي بن الهيثم جونقا شر في عربدة وقعت بينهما بحضرة الفضل بن الربيع وتمادى الشر بينهما، فغنى علويه في شعر هجاه به أبو يعقوب في حاجة، فهجاه وذكر أنه دعي. وكان جونقا يدعي أنه من بني تغلب، فقال فيه أبو يعقوب:

يا علي بن هيثم يا جونـقـا                      أنت عندي من الأراقم حقا

عربي وجـده نـبـطـي                      فدبنقا لذا الحديث دبـنـقـا

قد أصابتك في التقرب عين                      فاستنارت لشهبها الفلك برقا

وإذا قال إنـنـي عـربـي                      فانتهزه وقل له أنت شفقـا وللخريمي فيه أهاج كثيرة نبطية فغنى علويه لحنا صنعه في هذه الأبيات بحضرة الأمين وكان الفضل بن الربيع حاضرا فقال: يا أمير المؤمنين علي بن الهيثم كابني، وإذا استخف به فإنما استخف بي. فقال الأمين: خذوه، فأخذوه وضرب ثلاثين درة، وأمر بإخراجه. فطرح علويه نفسه على كوثر فاستصلح له الفضل بن الربيع، وترضى له المين حتى رضي عنه ووهب له خمسة آلاف دينار .

ادعى أنه لو شاء جعل الغناء كالجوز فرد عليه إسحاق بما أخجله: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني مخارق قال: غنى علويه يوما بحضرة الواثق هذا الصوت: صوت:

من صاحب الدهر لم يحمد تصرفه                      عنا وللدهـر إحـلاء وإمـرار ولحنه ثقيل أول فاستحسنه الواثق وطرب عليه. فقال علويه: والله لو شئت لجعلت الغناء في أيدي الناس أكثر من الجوز، وإسحاق حاضر بين يدي الواثق، فتضاحك ثم قال: يا أبا الحسن، إذا تكون قيمته مثل قيمة الجوز، ليتك إذ قللته صنعت شيئا، فكيف إذا كثرته فخجل علويه حتى كأنما ألقمه إسحاق حجرا، ما انتفع بنفسه يومئذ .

ترك موعد المأمون ليذهب إلى عريب ثم غناه بما صنعاه فاستظرفه: حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عبد الله بن المعتز قال حدثني عبد الله الهشامي قال:

 

صفحة : 1289

 

قال لي علويه: أمرنا المأمون أن نباكره لنصطبح، فلقيني عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب، فقال: أيها الظالم المعتدي أما ترحم ولا ترق، عريب هائمة من الشوق إليك تدعو الله وتستحكمه عليك وتحلم بك في نومها كل ليلة ثلاث مرات. قال علويه: فقلت أم الخلافة زانية، ومضيت معه. فحين دخلت قلت: استوثق من الباب، فأنا أعرف الناس بفضول الحجاب، فإذا عريب جالسة على كرسي تطبخ ثلاث قدور من دجاج. فلما رأتني قامت فعانقتني وقبلتني وقالت: أي شيء تشتهي? فقلت: قدرا من هذه القدور، فأفرغت قدرا بيني وبينها فأكلنا، ودعت بالنبيذ فصبت رطلا فشربت نصفه وسقتني نصفه، فما زلت أشرب حتى كدت أن أسكر. ثم قالت: يا أبا الحسن، غنيت البارحة في شعر لأبي العتاهية أعجبني، أفتسمعه مني وتصلحه? فغنت: صوت:

عذيري من الإنسان لا إن جفوتـه                      صفا لي ولا إن صرت طوع يديه

وإني لمشتاق إلى ظل صـاحـب                      يروق ويصفو إن كدرت عـلـيه فصيرناه مجلسا. وقالت: قد بقي فيه شيء، فلم أزل أنا وهي حتى أصلحناه. ثم قالت: وأحب تغني أنت فيه أيضا لحنا، ففعلت. وجعلنا نشرب على اللحنين مليا. ثم جاء الحجاب فكسروا الباب واستخرجوني، فدخلت إلى المأمون فأقبلت أرقص من أقصى الإيوان وأصفق وأغني بالصوت، فسمع المأمون والمغنون ما لم يعرفوه فاستظرفوه، وقال المأمون: ادن يا علويه ورده ، فرددته عليه سبع مرات. فقال لي في آخرها عند قولي:

يروق ويصفو إن كدرت عليه يا علويه خذ الخلافة وأعطني هذا الصاحب .

لحن عريب في هذا الشعر رمل. وفيه لعلويه لحنان: ثاني ثقيل، وماخوري .

سمع منه إبراهيم بن المهدي صوتين فحسده: وقال العتابي حدثني أحمد بن حمدون قال: غاب عنا علويه مدة ثم صار إلينا. فقال له إبراهيم بن المهدي: ما الذي أحدثت بعدي من الصنعة يا أبا الحسن? قال: صنعت صوتين. قال: فهاتهما إذا؛ فغناه: صوت:

ألا إن لي نفسين نفسا تقول لـي                      تمتع بليلى ما بدا لك لـينـهـا

ونفسا تقول استبـق ودك واتـئد                      ونفسك لا تطرح على من يهينها لحن علويه في هذين البيتين خفيف ثقيل قال: فرأيت إبراهيم بن المهدي قد كاد يموت من حسده وتغير لونه ولم يدر ما يقول له؛ لأنه لم يجد في الصوت مطعنا، فعدل عن الكلام في هذا المعنى وقال: هذا يدل على أن ليلى هذه كانت من لينها مثل الموم بالبنفسج، فسكت علويه. ثم سأله عن الصوت الآخر فغناه .

صوت:

إذا كان لي شيئان يا أم مالـك                      فإن لجاري منهما ما تخـيرا

وفي واحد إن لم يكن غير واحد                      أراه له أهلا إذا كان مقتـرا والشعر لحاتم الطائي. لحن علويه في هذين البيتين أيضا خفيف ثقيل. وقد روي أن إبراهيم الموصلي صنعه ونحله إياه، وأنا أذكر خبره بعقب هذا الخبر قال أحمد بن حمدون: فأتى والله بما برز على الأول وأوفى عليه؛ وكاد إبراهيم يموت غيظا وحسدا لمنافسته في الصنعة وعجزه عنها. فقال له: وإن كانت لك امرأتان يا أبا الحسن حبوت جارك منهما واحدة? فخجل علويه وما نطق بصوت بقية يومه .

نحله إبراهيم الموصلي صوتا فلم يظهره إلا أمام المأمون: وحدثني عمي عن علي بن محمد عن جده حمدون هذا الخبر، ولفظه أقل من هذا .

فأما الخبر الذي ذكرته عن علويه أن إبراهيم الموصلي نحله هذا الصوت. فحدثني جحظة قال حدثني ابن المكي المرتجل وهو محمد بن أحمد بن يحيى قال حدثني علويه قال: قال إبراهيم الموصلي يوما: إني قد صنعت صوتا وما سمعه مني أحد بعد، وقد أحببت أن أنفعك وأرفع منك بأن ألقيه عليك وأهبه لك، ووالله ما فعلت هذا بإسحاق قط وقد خصصتك به، فانتحله وادعه، فلست أنسبه إلى نفسي وستكسب به مالا. فألقى علي قوله:

إذا كان لي شيئان يا أم مالك                      فإن لجاري منهما ما تخيرا

 

صفحة : 1290

 

فأخذته وادعيته وسترته طول أيام الرشيد خوفا من أتهم فيه وطول أيام الأمين حتى حدث عليه ما حدث. وقدم المأمون من خراسان وكان يخرج إلى الشماسية دائما يتنزه، فركبت في زلال وجئت أتبعه، فرأيت حراقة علي بن هشام، فقلت للملاح: اطرح زلالي على الحراقة ففعل، واستؤذن لي فدخلت وهو يشرب مع الجواري وما كانوا يحجبون جواريهم في ذلك الوقت ما لم يلدن فإذا بين يديه متيم وبذل من جواريه، فغنيته الصوت فاستحسنه جدا وطرب عليه وقال: لمن هذا? فقلت: هذا صوت صنعته وأهديته لك، ولم يسمعه أحد قبلك، فازداد به عجبا وطربا وقال لها: خذيه عنه، فألقيته عليها حتى أخذته، فسر بذلك وطرب، وقال لي : ما أجد لك مكافأة على هذه الهدية إلا إن أتحول عن هذه الحراقة بما فيها وأسلمه إليك أجمع. فتحول إلى أخرى، وسلمت الحراقة بخزانتها وجميع آلاتها إلي وكل شيء فيها، فبعث ذلك بمائة وخمسين ألف درهم واشتريت بها ضيعتي الصالحية .

غنى المأمون لحنا في بيت لم يعرفه أحد ثم عرف بعد: حدثني جحظة قال ابن المكي المرتجل عن أبيه قال قال إسحاق بن حميد كاتب أبي الرازي، وحدثني به عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني حسان بن محمد الحارثي عن إسحاق بن حميد كاتب أبي الرازي قال: غنى علويه الأعسر يوما بين يدي المأمون :

تخيرت من نعمان عود أراكة                      لهند فمن هذا يبلغه هـنـدا فقال المأمون: اطلبوا لهذا البيت ثانيا فلم يعرف، وسأل كل من بحضرته من أهل الأدب والرواة والجلساء عن قائل هذا الشعر فلم يعرفه أحد. فقال إسحاق بن حميد: لما رأيت ذلك عنيت بهذا الشعر وجهدت في المسألة وطلبته ببغداد عند كل متأدب وذي معرفة فلم يعرفه. وقلد المأمون أبا الرازي كور دجلة وأنا أكتب له، ثم نقله إلى اليمامة والبحرين. قال إسحاق ابن حميد: فلما خرجنا ركبت مع أبي الرازي في بعض الليالي على حمارة، فابتدأ الحادي يحدو بقصيدة طويلة، وإذا البيت الذي كنت أطلبه، فسألته عنها فذكر أنها للمرقش الأكبر، فحفظت منها هذه الأبيات:

خليلي عوجا بارك الله فيكـمـا                      وإن لم تكن هند لأرضكما قصدا

وقولا لها ليس الضلال أجازنـا                      ولكننا جزنا لنلقـاكـم عـمـدا

تخيرت من نعمان عـود أراكة                      لهند فمن هذا يبلـغـه هـنـدا

وأنطيته سيفي لكيمـا أقـيمـه                      فلا أودا فيه استنبت ولا خضدا

ستبلغ هندا إن سلمنـا قـلائص                      مهاري يقطعن الفلاة بنا وخـدا

فلما أنحنا العيس قد طار سيرها                      إليهم وجدناهم لنا بالقرى حشـدا

فناولتها المسواك والقلب خـائف                      وقلت لها يا هند أهلكتنا وجـدا

فمدت يدا في حسن دل تـنـاولا                      إليه وقالت ما أرى مثل ذا يهدى

وأقبلت كالمجتـاز أدى رسـالة                      وقامت تجر الميساني والبـردا

تعرض للحـي الـذين أريدهـم                      وما التمست إلا لتقتلني عـمـدا

فما شبه هند غير أدمـاء خـاذل                      من الوحش مرتاع طلا فـردا قال: فكتب بها إلى المأمون فاستحسنت ورويت، وأمر علويه فصنع في البيتين الأولين منها غناء يشبه . أغاني علويه في هذه الأبيات: اللحن الأول في قوله:

تخيرت من نعمان عود أراكة غناه علويه وليس اللحن له، اللحن لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر. ولحنه الثاني الذي أمره أن يصنعه في:

خليلي عوجا بارك الله فيكما رمل .

دفع إلى المعتصم رقعة في أمر رزقه ثم غناه بشعر لابن هرمة: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال: عرض علويه على المعتصم رقعة في أمر رقعة في أمر رزقه وإقطاعه وهو يشرب دفعها إليه من يده، فلما أخذها اندفع علويه يغني: صوت:

إني أستحيتك أن أفوه بحاجتي                      فإذا قرأت صحيفتي فتفهـم

وعليك عهد الله إن خبرتـه                      أحدا ولا أظهرته بتـكـلـم فقرأ المعتصم الرقعة وهو يضحك، ثم وقع له فيها بما أراد .

 

 

صفحة : 1291

 

الشعر لابن هرمة كتب به إلى بعض آل أبي طالب وهو إبراهيم بن الحسن يطلب منه نبيذا وقد خرج هو وأصحابه إلى السيالة ، فكتب إليه البيت الأول على ما رويناه، والثاني غيره المغنون، وهو:

وعليك عهد الله إن أعلمتـه                      أهل السيالة إن فعلت وإن لم فلما قرأ الرقعة قال: علي عهد الله إن لم أعلم به عامل السيالة. وكتب إلى عامل السيالة : إن ابن هرمة وأصحابا له سفهاء يشربون بالسيالة، فاركب إليهم ونذروا به، فهرب، وقال يهجو إبراهيم:

كتبت إليك أستهدي نـبـيذا                      وأدلي بالمودة والحقـوق

فخيرت الأمير بذاك جهلا                      وكنت أخا مفاضحة وموق حدثني بذلك الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير. وقد ذكرته في أخبار ابن هرمة . والغناء لعبادل .

غنى هو ومخارق معترضين بفرس كميت للمعتصم فأعطاهما غيره: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني موسى بن هارون الهاشمي قال حدثني أبي قال: كنت واقفا بين يدي المعتصم وهو جالس على حير الوحش والخيل تعرض عليه وهو يشرب وبين يديه علويه ومخارق يغنيان، فعرض عليه فرس كميت أحمر ما رأيت مثله قط، فتغامز علويه ومخارق، وغناه علويه:

وإذا ما شربوها وانتشوا                      وهبوا كل جواد وطمر فتغافل عنه. وغناه مخارق:

يهب البيض كالظباء وجـردا                      تحت أجلالها وعيس الركاب فضحك ثم قال: اسكتا يا ابني الزانيتين، فليس يملكه والله واحد منكما. قال: ثم دار الدور، فغنى علويه:

وإذا ما شربوها وانتشوا                      وهبوا كل بغال وحمر فضحك وقال: أما هذا فنعم، وأمر لأحدهما ببغل وللآخر بحمار .

اجتمع مع أصحاب له عند زلبهزة ومعه هاشمي حصلوا منه بحيلة على مال: حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الأبزاري قال: كنا عند زلبهزة النخاس، وكانت عنده جارية يقال لها خشف ابتاعها من علويه، وذلك في شهر رمضان، ومعنا رجل هاشمي من ولد عبد الصمد بن علي يقال له عبد الصمد، وإبراهيم بن عمرو بن نهبون وكان يحبها، فأعطى بها زلبهزة أربعة آلاف دينار فلم يبعها منه، وبقيت معه حتى توفيت، فغنتنا أصواتا كان فيها:

أشارت بطرف العين خيفة أهلـهـا                      إشارة محـزون ولـم تـتـكـلـم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحـبـا                      وأهلا وسهلا بالحبيب الـمـسـلـم

وأبرزت طرفي نحوها لأجـيبـهـا                      وقلت لها قول امرئ غير معـجـم

هنيئا لكم قتلي وصـفـو مـودتـي                      وقد سيط في لحمي هواك وفي دمي الغناء لابن عائشة ثقيل أول عن الهشامي قال: فلما وثبنا للانصراف قال لنا وقد اشتد الحر: أقيموا عندي. فوجهت غلاما معي وأعطيته دينارا وقلت له ابتع فراريج بعشرة دراهم وثلجا بخمسة دراهم وعجل، فجاء بذلك فدفعه إلى زلبهزة وأمره بإصلاح الفراريج ألوانا، وكتب إلى علويه فعرفته خبرنا، فجاءنا وأقام، وأمطرنا عند زلبهزة، وشرب منا من كان يستجيز الشراب، وغنى علويه لحنا ذكر أنه لابن سريج ثقيل أول، فاستغربه الجماعة، وهو: صوت:

يا هند إن الناس قد أفسـدوا                      ودك حتى عزني المطلب

يا ليت من يسعى بنا كاذبـا                      عاش مهانا في أذى يتعب

هبيه ذنبا كنـت أذنـبـتـه                      قد يغفر الله لمـن يذنـب

وقد شجاني وجرت دمعتي                      أن أرسلت هند وهي تعتب

ما هكذا عاهدتنا في منـى                      ما أنت إلا ساحر تخلـب

حلفت لي بالله لا تبتـغـي                      غيرك ما عشت ولا نطلب

 

صفحة : 1292

 

قال: وقام عبد الصمد الهاشمي ليبول. فقال علويه: كل شيء قد عرفت معناه: أما أنت فصديق الجماعة، وهذا يتعشق هذه، وهذا مولاها، وأنا ربيتها وعلمتها، وهذا الهاشمي أيش معناه فقلت لهم: دعوني أحكه وآخذ لزلبهزة منه شيئا. فقال: لا والله ما أريد. فقلت له: أنت أحمق، أنا آخذ منه شيئا لا يستحي القاضي من أخذه. فقال: إن كان هكذا فنعم. فقلت له إذا جاء عبد الصمد فقل لي: ما فعل الآجر الذي وعدتني به، فإن حائطي قد مال وأخاف أن يقع، ودعني والقصة. فلما جاء الهاشمي قال لي زلبهزة ما أمرته به، فقلت: ليس عندي آجر، ولكن اصبر حتى أطلب لك من بعض أصدقائي، وجعلت أنظر إلى الهاشمي نظر متعرض به. قال الهاشمي: يا غلام دواة ورقعة، فأحضر ذلك. فكتب له بعشرة آلاف آجرة إلى عامل له، وشربنا حتى السحر وانصرفنا. فجئت برقعته إلى الآجري ثم قلت: بكم تبيعه الآجر? فقال: بسبعة وعشرين درهما الألف. قلت فبكم تشتريه مني? قال: بنقصان ثلاثة دراهم في الألف. فقلت: فهات، فأخذت منه مائتين وأربعين درهما، واشتريت منها نبيذا وفاكهة وثلجا ودجاجا بأربعين درهما، وأعطيت زلبهزة مائتي درهم وعرفته الخبر، ودعونا علويه والهاشمي وأقمنا عند زلبهزة ليلتنا الثانية. فقال علويه: نعم الآن صار للهاشمي عندكم موضع ومعنى .

هو مصلي كل سابق في الصنعة والضرب وطيب الصوت: أخبرني جحظة قال حدثني أحمد بن حمدون قال حدثني أبي قال: قال لنا الواثق يوما: من أحذق الناس بالصنعة? قلنا إسحاق? قال: ثم من? قلنا: علويه. قال: فمن أضرب الناس? قلنا: ثقيف . قال: ثم من? قلنا: علويه? قال: فمن أطيب الناس صوتا? قلنا: مخارق. قال: ثم من? قلنا: علويه. قال: اعترفتم بأنه مصلي كل سابق، وقد جمع الفضائل كلها وهي متفرقة فيهم، فما ثم ثان لهذا الثالث .

غنى المأمون في دمشق بما أسره فغضب عليه وشتمه: وحدثني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي المرتجل قال حدثني أبي قال: دخلت إلى علويه أعود من علة اعتلها ثم عوفي منها، فجرى حديث المأمون، فقال لي: كدت علم الله أذهب دفعة ذات يوم وأنا معه لولا أن الله تعالى سلمني ووهب لي حلمه. فقلت: كيف كان السبب في ذلك? فقال: كنت معه لما خرج إلى الشام، فدخلنا دمشق فطفنا فيها، وجعل يطوف على قصور بني أمية ويتبع آثارهم، فدخل صحنا من صحونهم، فإذا هو مفروش بالرخام الأخضر كله وفيه بركة ماء يدخلها ويخرج منها من عين تصب إليها، وفي البركة سمك، وبين يديها بستان على أربع زواياه أربع سروات كأنها قصت بمقراض من التفافها أحسن ما رأيت من السرو قط قدا وقدرا. فاستحسن ذلك، وعزم على الصبوح، وقال: هاتوا لي الساعة طعاما خفيفا، فأتي ببزماورد فأكل، ودعا بشراب، وأقبل علي وقال: غني ونشطني، فكأن الله عز وجل أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت:

لو كان حولي بنو أمية لم                      تنطق رجال أراهم نطقوا فنظر إلي مغضبا وقال: عليك وعلى بني أمية لعنه الله ويلك أقلت لك سؤني أو سرني ألم يكن لك وقت تذكر فيه بني أمية إلا هذا الوقت تعرض بي . فتحيلت عليه وعلمت أني قد أخطأت ، فقلت: أتلومني على أن أذكر بني أمية هذا مولاكم زرياب عندهم يركب في مائتي غلام مملوك له، ويملك ثلاثمائة ألف دينار وهبوها له سوى الخيل والضياع والرقيق، وأنا عندكم أموت جوعا. فقال أو لم يكن لك شيء تذكرني به نفسك غير هذا فقلت: هكذا حضرني حين ذكرتهم فقال: اعدل عن هذا وتنبه على إرادتي. فأنساني الله كل شيء أحسنه إلا هذا الصوت:

الحين ساق إلى دمشق ولم أكن                      أرضى دمشق لأهلنا بـلـدا فرماني بالقدح فأخطأني فانكسر القدح، وقال: قم عني إلى لعنة الله وحر سقر، وقام فركب. فكانت والله تلك الحال آخر عهدي به، حتى مرض ومات . قال: ثم قال لي: يا أبا جعفر كم تراني أحسن أغني ثلاثة آلاف صوت، أربعة آلاف صوت، خمسة آلاف صوت، أنا والله أغني أكثر من ذلك، ذهب علم الله كله حتى كأني لم أعرف غير ما غنيت. ولقد ظننت أنه لو كانت لي ألف روح ما نجت منه واحدة منها، ولكنه كان رجلا حليما، وكان في العمر بقية .

نسبة هذين الصوتين المذكورين

في الخبر:

صوت:

لو كان حولي بنو أمية لم                      تنطق رجال أراهم نطقوا

 

صفحة : 1293

 

 

من كل قرم محض ضرائبه                      عن منكبيه القميص ينخرق الشعر لعبد الله بن قيس الرقيات. والغناء لمعبد، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، وذكر الهاشمي أنه لابن سريج. وذكر ابن خرداذبه أن فيه لدكين بن عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاصي لحنا من الثقيل الأول، وأن دكينا مدني كان منقطعا إلى جعفر بن سليمان .

صوت:

الحين ساق إلى دمشق وما                      كانت دمشق لأهلنا بلـدا

قادتك نفسك فاستقدت لها                      وأريت أمر غواية رشدا لعمر الوادي في هذا الشعر ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي. قال: وفيه ليعقوب الوادي رمل بالبنصر .

اعترض علي خضابه فأجاب: حدثني عمي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال سمعت الحسن بن وهب الكاتب يحدث: أن علويه كان يصطبح في يوم خضابه مع جواريه وحرمه، ويقول: أجعل صبوحي في أحسن ما يكون عند جواري. فقيل له: إن ابن سيرين كان يقول: لابأس بالخضاب ما لم تغرر به امرأة مسلمة. فقال: إنما كره لئلا يتصنع به لمن لا يعرفه من الحرائر فيتزوجها على أنه شاب وهو شيخ، فأما الإماء فهن ملكي، وما أريد أن أغرهن .

قال الحسن: فتعالل علويه على المعتصم ثلاثة أيام متوالية واصطبح فيها، فدعاني، وكان صوته على جواريه في شعر الأخطل:

كأن عطارة باتت تـطـيف بـه                      حتى تسربل مثل الورس وانتعلا فقال لي: كيف رويته? فقلت له: قرأت شعر الأخطل وكان أعلم الناس به، كان يختار، تسرول، ويقول: إنما وصف ثورا دخل روضة فيها نوار أصفر فأثر في قوائمه وبطنه فكان كالسراويل، لا أنه صار له سربل. ولو قال: تسربل أيضا لم يكن فاسدا، ولكن الوجه تسرول .

مدح إسحاق لحنا له: خبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: قدمت من سر من رأى قدمة بعد طول غيبة، فدخلت إلى إسحاق الموصلي، فسلم علي وسألني خبري وخبر الناس حتى انتهيا إلى ذكر الغناء، فسألني عما يتشاغل الناس من الأصوات المستجادة . فقلت له: تركت الناس كلهم مغرمين بصوت لك. قال: وما هو? فقلت:

ألا يا حمامي قصر دوران هجتما فقال: ليس ذلك لي، ذاك لعلويه. وقد لعمري أحسن فيه وجود ما شاء .

قال المأمون أبياتا فغناه فيها فوصله: أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني علويه قال: خرج المأمون يوما ومعه أبيات قد قالها وكتبها في رقعة بخطه، وهي: صوت:

خرجنا إلى صيد الظباء فصادنـي                      هناك غزال أدعج العـين أخـور

غزال كأن البدر حـل جـبـينـه                      وفي خده الشعرى المنيرة تزهـر

فصاد فؤادي إذا رماني بسهـمـه                      وسهم غزال الإنس طرف ومحجر

فيا من رأى ظبيا يصيد ومـن رأى                      أخا قنص يصطاد قهرا ويقـسـر قال: فغنيته فيها ، فأمر لي بعشرة آلاف درهم .

قال أبو القاسم جعفر بن قدامة: لحن في هذا الشعر ثقيل أول ابتداؤه نشيد .

غنى في مجلس الرشيد بما أغضبه عليه: أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال: غنيت الرشيد يوما:

هما فتاتان لما يعرفا خلقي                      وبالشباب على شيبتي يدلان فطرب وأمر لي بألف دينار. فقال له ابن مجامع وكان أحسد الناس: اسمع غناء العقلاء ودع غناء المجانين وكنت أخذت هذا الصوت من مجنون بالمدينة كان يجيده ثم غنى قوله:

ولقد قالت لأتراب لـهـا                      كالمها يلعبن في حجرتها

خذن عني الظل لا يتبعني                      وغدت تسعى إلى قبتهـا فطرب وأمر له بألف وخمسمائة دينار. ثم تغنى وجه القرعة:

يمشون فيها بكل سابـغة                      أحكم فيها القتير والحلق فاستحسنه وشرب عليه وأمر له بخمسمائة دينار. ثم تغنى علويه:

وأرى الغواني لا يواصلن أمرأ                      فقد الشباب وقد يصلن الأمردا فدعاه الرشيد وقال له: يا عاض بظر أمه تغني في مدح المرد وذم الشيب وستارتي منصوبة وقد شبت كأنك إنما عرضت بي ثم دعا بمسرور فأمره أن يأخذ بيده فيضربه ثلاثين درة ولا يرده إلى مجلسه ففعل ذلك، ولم ينتفع الرشيد يومئذ بنفسه ولا انتفعنا به بقية يومنا، وجفا علويه شهرا فلم يأذن له حتى سألناه فأذن له .

نسبة هذه الأصوات التي تقدمت: صوت:

 

صفحة : 1294

 

 

هما فتاتان لما يعرفـا خـلـقـي                      وبالشباب عـلـى شـيبـي يدلان

كل الفعال الذي يفعلنـه حـسـن                      يضني فؤادي ويبدي سر أشجاني

بل احذرا صولة من صول شيخكما                      مهلا عن الشيخ مهلا يا فتـاتـان لم يقع إلي شاعره. فيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لابن سريج رمل بالبنصر عن عمرو. وفيه لسليمان المصاب رمل كان يغنيه، فدس الرشيد إليه إسحاق حتى أخذه منه، وقيل: بل دس عليه ابن جامع .

خبر أخذ إسحاق صوتا من سليمان المصاب: أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: دعاني الرشيد لما حج، فقال: صر إلى موضع كذا وكذا من المدينة؛ فإن هناك غلاما مجنونا يغني صوتا حسنا، وهو:

هما فتاتان لما يعرفا خلقي                      وبالشباب على شيبي يدلان وله أم، فصر إليها وأقم عندها واحتل حتى تأخذه. فجئت أستدل حتى وقفت على بيتها، فخرجت إلي فوهبت لها مائتي درهم، وقلت لها: أريد أن تحتالي على ابنك حتى آخذ منه الصوت الفلاني. فقالت: نعم، وأدخلتني دارها، وأمرتني فصعدت إلى علية لها، فما لبثت أن جاء ابنها فدخل. فقالت له: يا سليمان فدتك نفسي أمك قد أصبحت اليوم خاثرة مغرمة ، فأحب أن تغني ذلك الصوت:

هما فتاتان لما يعرفا خلقي فقال لها: ومتى حدث لك هذا الطرب? قالت: ما طربت ولكنني أحبت أن أتفرج من هم قد لحقني. فاندفع فغناه، فما سمعت أحسن من غنائه، فقالت له أمه: أحسنت فديتك فقد والله كشفت عني قطعة من همي، فأسألك أن تعيده. قال: والله ما لي نشاط، ولا أشتري غمي بفرحك. فقالت: أعده مرتين ولك درهم صحيح تشتري به ناطفا . قال: ومن أين لك درهم? ومتى حدث لك هذا السخاء? فقالت: هذا فضول لا تحتاج إليه وأخرجت إليه درهما فأعطته إياه، فأخذه وغناه مرتين، فدار لي وكان يستوي، فأومأت إليها من فوق أن تستزيده. فقالت: يا بني بحقي عليك إلا أعدته. فقال: أظن أنك تريدين أن تأخذيه فتصيري مغنية. فقالت: نعم كذا هو. قال لا وحق القبر لا أعدته إلا بدرهم آخر. فأخرجت له درهما آخر. فأخذه وقال: أظنك والله قد تزندقت وعبدت الكبش فهو ينقد لك هذه الدراهم، أو قد وجدت كنزا. فغناه مرتين، وأخذته واستوى لي. ثم قام فخرج يعدو على وجهه. فجئت إلى الرشيد فغنيته به وأخبرته بالقصة، فطرب وضحك وأمر لي بألف دينار، وقال لي: هذه بدل مائتي الدرهم .

صوت:

ولقد قالت لأتراب لـهـا                      كالمها يلعبن في حجرتها

خذن عني الظل لا يتبعني                      وعدت سعيا إلى قبتهـا

لم يصبها نكر فيما مضى                      ظبية تختال في مشيتهـا في هذه الأبيات رمل بالبنصر ذكر الهشامي أنه لابن جامع المكي، وذكر ابن المكي أنه لابن سريج. وهو في أخبار ابن سريج وأغانيه غير مجنس .

صوت:

يمشون فيها بـكـل سـابـغة                      أحكم فيها القتير والـحـلـق

تعرف إنصافهم إذا شـهـدوا                      وصبرهم حين تشخص الحدق الغناء لابن محرز، خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش .

صوت:

يجحدنني ديني النهار وأقتضي                      ديني إذا وقذ النعاس الرقـدا

وأرى الغواني لا يواصلن أمرأ                      فقد الشباب وقد يصلن الأمردا الشعر للأعشى. والغناء لمعبد، خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو .

صوت:

أية حـال يابـن رامــين                      حال المحبين المسـاكـين

تركتهم موتى وما مـوتـوا                      قد جرعوا منك الأمـرين

وسرت في ركب على طية                      ركب تـهـام ويمـانـين

يا راعي الذود لقد رعتهـم                      ويلك من روع المحـبـين الشعر لإسماعيل بن عمار الأسدي. والغناء لمحمد بن الأشعث بن فجوة الزهري الكوفي، ولحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى، عن الهشامي وأحمد بن المكي .

 

نسب إسماعيل بن عمار وأخباره

نسب إسماعيل بن عمار: هو إسماعيل بن عمار بن عيينة بن الطفيل بن جذيمة بن عمرو بن خلف بن زبان بن كعب ابن مالك بن ثعلبة بن دوذان بن أسد بن خزيمة. أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن ابن حبيب .

من مخضرمي الدولتين وكان ينزل الكوفة:

 

صفحة : 1295

 

وإسماعيل بن عمار شاعر، مقل، مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والهاشمية. وكان ينزل الكوفة .

كان ممن يختلف إلى ابن رامين وجواريه: قال ابن حبيب: كان في الكوفة صاحب قيان يقال له ابن رامين، قدمها من الحجاز؛ فكان من يسمع الغناء ويشرب النبيذ يأتونه ويقيمون عنده: مثل يحيى بن زياد الحارثي، وشراعة ابن الزندبوذ، ومطيع بن إياس، وعبد الله بن العباس المفتون، وعون العبادي الحيري، ومحمد بن الأشعث الزهري المغني. وكان نازلا في بني أسد في جيران إسماعيل بن عمار، فكان إسماعيل يغشاه ويشرب عنده. ثم انتقل من جواره إلى بني عائذ الله ، فكان إسماعيل يزوره هناك على مشقة لبعد ما بينهما. وكان لابن رامين جوار يقال لهن سلامة الزرقاء، وسعدة، وربيحة وكن من أحسن الناس غناء، واشترى بعد ذلك محمد بن سليمان سلامة الزرقاء التي يقول فيها محمد بن الأشعث:

أمسى لسلامة الزرقاء في كبـدي                      صدع مقيم طوال الدهر والأبـد

لا يستطيع صناع القوم يشعـبـه                      وكيف يشعب صدع الحب في كبد قصيدة له في جواري ابن رامين: وفي جواريه يقول إسماعيل بن عمار:

هل من شفاء لقلب لج مـحـزون                      صبا وصب إلى رئم ابن رامـين

إلى ربيحة إن اللـه فـضـلـهـا                      بحسنهـا وسـمـاع دي أفـانـين

وهاج قلبي منها مضحك حـسـن                      ولثغة بعد في زاي وفـي سـين

نفسي تأبى لـكـم إلا طـواعـية                      وأنت تأبين لؤما أن تطـيعـينـي

وتلك قسمة ضيزى قد سمعت بهـا                      وأنت تتلينها مـا ذاك فـي الـدين

إن تسعفيني بذاك الشيء أرض به                      وإن ضننت به عني فـزنـينـي

أنت الطبيب لداء قد تلـبـس بـي                      من الجوى فانفثي في في وارقيني

نعم شفاؤك منها أن تقـول لـهـا                      أضنيتني يوم دير اللج فاشفـينـي

يا رب إن ابن رامين لـه بـقـر                      عين وليس لنا غـير الـبـراذين

لو شئت اعطيته مالا علـى قـدر                      يرضى به منك غير الربرب العين

لا أنس سعدة الزرقاء يوم هـمـا                      باللج شرقيه فـوق الـدكـاكـين

يغنين ابن رامين عـلـى طـرب                      بالمسجحي وتشبيب المـحـبـين

أذاك أنعـم أم يوم ظـلـلـت بـه                      فراشي الورد في بستان شـورين

يشوي لنا الشيخ شورين دواجـنـه                      بالجردناج وسحاج الـشـقـابـين

نسقى طلاء لعمـران يعـتـقـه                      يمشي الأصحاء ممنه كالمجانـين

يزل أقدامنا من بعد صـحـتـهـا                      كأنها ثقلا يقلـعـن مـن طـين

نمشي وأرجلنا مـطـوية شـلـلا                      مشي الإوز التي تأتي من الصـين

أو مشي عميان دير لا دليل لـهـم                      سوى العصي إلى يوم السعـانـين

وفي فتية من بني تميم لهوت بهـم                      تيم بـن مـرة لا تـيم الـعـديين

خمر الوجوه كأنا من تحشـمـنـا                      حسناء شمطاء وافت من فلسطين

ما عائذ الله لولا أنت من شجـنـي                      ولا ابن رامين لولا ما يمـنـينـي

في عائذ الله بيت ما مـررت بـه                      إلا وجئت على قلبي بـسـكـين

يا سعدة القينة الخضراء أنت لـنـا                      أنس لأنك فـي دار ابـن رامـين

ما كنت أحسب أن الأسد تؤنسنـي                      حتى رأيت إليك القلب يدعـونـي

لولا ربيحة ما استأنست ما عمـدت                      نفسي إليك ولو مثلت مـن طـين باع ابن رامين سلامة في حجه فقال هو شعرا: قال: وحج ابن رامين وحج بجواريه معه، وكان محمد بن سليمان إذ ذاك على الحجاز، فاشترى منه سلامة الزرقاء بمائة ألف درهم. فقال إسماعيل بن عمار:

أية حـــال يا ابــــن رامـــــــين                      حال الـمـحـبـين الـمــســـاكـــين

تركـتـهـم مـوتـى ومــا مـــوتـــوا                      قد جـرعــوا مـــنـــك الأمـــرين

وسـرت فـي ركـب عــلـــى طـــية                      ركـــب تـــهـــام ويمـــانـــين

حججت بيت الله تبغي به البر ولم ترث لمحرون

 

صفحة : 1296

 

 

يا راعي الذود لقد زعتهم                      ويلك من روع المحبـين

فرقت قوما لا يرى مثلهم                      ما بين كوفان إلى الصين مات له ابن فرثاه: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا السكري عن محمد قال: كان لإسماعيل بن عمار ابن يقال له معن فمات، فقال يرثيه:

يا موت مالك مولعـا بـضـراري                      إني عليك وإن صبـرت لـزاري

تعدو علي كـأنـنـي لـك واتـر                      وأؤول منك كمـا يؤول فـراري

نفس الـبـعـيد إذا أردت قـريبة                      ليست بـنـاجـية مـع الأقـدار

والمرء سوف وإن تطاول عمـره                      يوما بصير لحفـرة الـجـفـار

لما غلا عـظـم بـه فـكـأنـه                      من حسن بنيته قضـيب نـضـار

فجعتني بأعز أهـلـي كـلـهـم                      تعدو عـلـيه عـدوة الـجـبـار

هلا بنفسي أو ببعض قـرابـتـي                      أوقعت أم ما كنت للـمـخـتـار

وتركت ربتي التي من أجـلـهـا                      عفت الجهاد وصرت في الأمصار رفض أن يكون عاملا لما رأى العمال يعذبون وشعره في ذلك: أخبرني علي بن سليمان قال حدثني السكري عن محمد بن حبيب قال: قال رجل من بني أسد كان وجها ، لإسماعيل بن عمار: هلم أركب معك إلى يوسف بن عمر، فإنه صديق، حتى أكلمه فيك يستعملك على عمل تنتفع به. فقال له إسماعيل: دعني حتى يقول الحول. فنظر إسماعيل إلى عمال يوسف يعذبون، فقال في ذلك:

رأيت صبيحة النـيروز أمـرا                      فظيعا عن إمارتهم نهـانـي

فررت من العمالة بعد يحـيى                      وبعد النهشـلـي أبـي أبـان

وبعد الزور ابن أبـي كـثـير                      وفقيد أشجع وأبـي بـطـان

فحاب بها أبا عثمـان غـيري                      فما شأن الإمارة لي بـشـان

أحاذر أن أقصر في خراجـي                      إلى النيروز أو في المهرجان

أعجل إن أتى أجلي بـوقـت                      وحسبي بالمجرحة المـتـان

فما عذري إذا عرضت ظهري                      لألف من سياط الشاهـجـان

تعد ليوسف عدا صـحـيحـا                      ويحفظها عليه الـجـالـدان

وأسحب في سراويلي بقـيدي                      إلى حسان معتقل الـلـسـان

فمنهم قائل بعـدا وسـحـقـا                      ومـنـهـم أخـران يفـديان

كفاني من إمارتهم عـطـائي                      وما أحذيت من سبق الرهـان

كفاني ذاك منهم ما بـقـينـا                      كما فيما مضى لي قد كفاني شعره في بوبة وصيفة عبد الرحمن بن عنبسة: وقال ابن حبيب في الإسناد الذي ذكرناه: إنه كانت لعبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي وصيفة مغنية يؤدبها ويصنعها ليهديها إلى هشام بن عبد الملك يقال لها بوبة. فقال فيها إسماعيل بن عمار:

بوب حييت عن جليسك بوبـا                      مخطئا في تحيتي أو مصيبـا

ما رأينا قتيل حي حبا ألـقـا                      تل بالوتر أن يكون حبـيبـا

غير ما قد رزقت يا بوب مني                      فهنيئا وإن أتـيت عـجـيبـا

غير من به غلـيك وإن كـن                      ت بقدر القيان طبا طبـيبـا

بنت عشر أديبة فـي قـريش                      بخ فأكرم بهم أبا ونـسـيبـا

أدبت في بني أمـية حـتـى                      كملت في حجورهم تـأديبـا قال: ثم أهداها ابن عنبسة إلى هشام. فقال إسماعيل بن عمار:

ألا حـييت عـنـا ث                      م سقيا لك يا بـوبـه

وأكرم بـك مـهـداة                      وأحبب بك مطلوبـه

وواها لك من بـكـر                      وواها لك مثقـوبـه

وواها لك مـلـقـاة                      وواها لك مكبـوبـه

لقد عاين مـن يلـقـا                      ك من حسنك أعجوبه

ويا ويلي ويا عـولـي                      فنفسي الدهر مكروبه

على هيفـاء حـوراء                      على جيداء رعبوبـه

إذا ضاجعها المولـى                      فقد أدرك محبـوبـه هجاؤه لجارية له كان يبغضها: قال ابن حبيب في هذه الرواية: كان لإسماعيل بن عمار جارية قد ولدت منه، وكانت سيئة الخلق قبيحة المنظر، وكان يبغضها وتبغضه، فقال فيها:

بليت بزمردة كالعصـا                      ألص وأخبث من كندش

 

صفحة : 1297

 

 

تحب النساء وتأبى الرجـال                      وتمشي مع الأسفه الأطيش

لها وجـه قـرد إذا ازينـت                      ولون كبيض القطا الأبرش

ومن فوقـه لـمة جـثـلة                      كمثل الخوافي من المرعش

وبطن خواصره كـالـوطـا                      ب زاد على كرش الأكرش

وإن نكهت كدت من نتنـهـا                      أخر على جانب المفـرش

وثدي تدلى على بطـنـهـا                      كقربة ذي الثلة المعطـش

وفخذان بينهـمـا بـسـطة                      إذا مشت مشية المنتـشـي

وسلق يخلخـلـهـا خـاتـم                      كساق الدجاجة أو أحمـش

وفي كل ضرس لهـا أكـلة                      أصل من القبر ذي المنبـش

ولما رأيت خـوا أنـفـهـا                      وفيها وإصلال ما تحتشـي

إلى ضامر مثل ظلف الغزال                      أشد اصفرارا من المشمش

فررت من البيت من أجلهـا                      فرار الهجين من الأعمـش

وأبرد من ثلـج سـاتـيدمـا                      إذا راح كالعطب المنفـش

وأرسح من ضـفـدع عـثة                      تنق على الشط من مرعش

وأوسع من باب جسر الأمير                      تمر المحامل لـم تـخـدش

فهذي صفاتي فلا تـأتـهـا                      فقد قلت طردا لها كشكشي هجا جارا له بنى مسجدا قرب داره: وقال ابن حبيب: كان في جوار إسماعيل بن عمار رجل من قومه ينهاه عن السكر وهجاء الناس ويعذله، وكان إسماعيل له مغضبا. فبنى ذلك الرجل مسجدا يلاصق دار إسماعيل وحسنه وشيده، وكان يجلس فيه هو وقومه وذوو التستر والصلاح منهم عامة نهارهم، فلا يقدر إسماعيل أن يشرب في داره ولا يدخل إليه أحد ممن كان يألفه من مغن أو مغنية أو غيرهما من أهل الريبة. فقال إسماعيل يهجوه وكان الرجل يتولى شيئا من الوقوف للقاضي بالكوفة:

بنى مسجدا بنيانه مـن خـيانة                      لعمري لقدما كنت غير موفق

كصاحبة الرمان لما تصدقـت                      جرت مثلا للخائن المتصـدق

يقول لها أهل الصلاح نصيحة                      لك الويل لا تزني ولا تتصدقي استعدى على غاضري كلف رهطه الطواف: وقال ابن حبيب: ولي العسس رجل غاضري، فأخذ من بني مالك وهم رهط إسماعيل بن عمار بأن كانوا معه، فطافوا إلى الغداة. فلما أصبح غدا على الوالي مستعديا على الغاضري. فقال له الوالي وكان رجلا من همدان: ماذا صنع بك? فأنشأ يقول:

عس بنا لـيلـتـه كـلـهـا                      ما نحن في دنيا ولا آخـره

يأمر أشياخ بـنـي مـالـك                      أن يحرسوادون بني غاضره

والله لا يرضى بـذا كـائنـا                      من حكم همدان إلى الساهره قال فقال له الوالي: قد لعمري صدقت، ووظف على سائر البطون أن يطوفوا مع صاحب العسس في عشائرهم ولا يتجاوزوا قبيلة إلى قبيلة، ويكون ذلك بنوائب بينهم .

كان منقطعا إلى خالد بن خالد بن وليد فلما مات رثاه: وقال ابن حبيب: كان إسماعيل بن عمار منقطعا إلى خالد بن الوليد بن عقبة بن معيط، وكان إليه محسنا، وكان ينادمه. فولي خالد بن خالد عملا للوليد بن يزيد بن عبد الملك فخرج إليه، وكان إسماعيل عليلا فتأخر عنه، ثم لم يلبث خالد أن مات في عمله، فورد نعيه الكوفة في يوم فطر. فقال إسماعيل بن عمار يرثيه:

ما لعيني تفيض غير جـمـود                      ليس ترقا ولا لها من هجـود

فإذا قرت العيون استـهـلـت                      فإذا نمن أولعت بالـسـهـود

ألنعي ابن خالد خالـد الـخـي                      رات في يوم زينة مشـهـود

سنحت لي يوم الخميس غداة ال                      فطر طير بالنحس لا بالسعود

فتـعـيفـت أنـهـن لأمـر                      مفظع ما جرين في يوم عـيد

فنعت خالد بن أروى وجـل ال                      خطب فقدان خالد بن الولـيد سعى به عثمان بن درباس فهجاه فاستعدى عليه السلطان فحبسه: وقال ابن حبيب: كان لإسماعيل بن عمار جار يقال له عثمان بن درباس، فكان يؤذيه ويسعى به إلى السلطان في كل حال، ثم سعى به أنه يذهب مذهب الشراة ، فأخذ وحبس. فقال يهجوه:

من كان يحسدني جاري ويغبطني                      من الأنام بعثمان بـن دربـاس

 

صفحة : 1298

 

 

فقرب الله منـه مـثـلـه أبـدا                      جارا وأبعد منه صالح الـنـاس

جار له باب ساج مغـلـق أبـدا                      عليه من داخل حراس أحـراس

عبد وعبد وبـنـتـاه وخـادمـه                      يدعون مثلهم ما ليس مـن نـاس

صفر الوجوه كأن السل خامرهـم                      وما بهم غير جهد الجوع من باس

له بنون كـأطـبـاء مـعـلـقة                      في بطن خنزيرة في دار كنـاس

إن يفتح الباب عنهم بعد عاشـرة                      تظنهم خرجوا من قعر أرمـاس

فليت دار ابن درباس مـعـلـقة                      بالنجم بين سـلالـيم وأمـراس

فكان آخر عهدي مـنـهـم أبـدا                      وابتعت دارا بغلماني وأفراسـي وقال: قال فيه أيضا:

ليت بـرذونـي وبـغــلـــي                      وجــوادي وحـــمـــاري

كن فـي الـنــاس وأبـــدل                      ت غـدا جـارا بـــجـــار

جار صـدق بـابــن دربـــا                      س وإلا بـــعــــت داري

فتـبـدلـــت بـــه مـــن                      يمـــن أو مـــن نـــزار

بدلا يعــرف مـــا الـــل                      ه ومـا حـق الـــجـــوار

لو تـبـــدلـــت ســـواه                      طاب لـيلـي ونــهـــاري

واسـتـرحـنـا مـن بـــلايا                      ه صـغـار أو كـــبـــار

لو جزيناه بها كنا جميعا في فجار

أو سكتنا كان ذلا                      داخـلا تـحـت الـشـعــار كتب إلى ابن أخيه شعرا من الحبس فأجابه: قال: فلما قال فيه الشعر استعدى عليه السلطان، وذكر أنه من الشراة، وأنهم مجتمعون عنده، وأنه من دعاة عبد الله بن يحيى وأبي حمزة المختار. فكتب من السجن إلى ابن أخ له يقال له معان:

أبلغ معانا عنـي وأخـوتـه                      قولا وما عالم كمن جهـلا

بأنني والمصبحـات مـنـى                      يعدون طورا وتارة رمـلا

لخـائف أن يكـون ودكـم                      إياي بعد الصفا قـد أفـلا

أئن عراني دهري بـنـائبة                      أصبح منها الفؤاد مشتعـلا

حاولتم الصرم أو لعـلـكـم                      ظننتم ما أصابنـي جـلـلا

لا تغفلونا بني أخي فلـقـد                      أصبحت لا أبتغي بكم بـدلا

تمسكوا بالذي امتسكـت بـه                      فإن خير الإخوان من وصلا قال: فكتب إليه ابن أخيه:

يا عم عوفيت من عذابهم الن                      كر وفارقت سجنهم عجـلا

كتبت تشكو بني أخيك وقـد                      أرسل من كان قبلنا مـثـلا

أبدأهم بالصراخ ينهـزمـوا                      فأنت يا عم تبتغي العـلـلا

زعمت أنا نرى بلاءك فـي                      دار بلاء مكـبـلا جـلـلا

يا عم بئس الفتيان نـحـن إذا                      أما وفي رجلك الكبول فـلا

علي إن كنت صادقا حجـج                      للبيت عامين حافـيا رجـلا

بعد عنك الهموم فارج من ال                      له خلاصا وأحسن الأمـلا أطلقه الحكم بن الصلت من السجن وشعره فيه حين عزل: قال: ثم ولي الحكم بن الصلت فأطلقه وأحسن إليه، فلم يزل يشكره ويمدحه. ثم عزل الحكم بعد ذلك، فقال إسماعيل فيه:

تبـارك كـيف أوحـشـت ال                      كوفة أن لم يكن بها الحـكـم

الحكم العذل فـي رعـيتـه ال                      كامل فيه العفاف والـفـهـم

فأصبح القصر والسريران وال                      منبر كالـكـل مـن أب يتـم

يذري عليه السرير عـبـرتـه                      والمبتر المشـرفـي يلـتـدم

والناس من حسن سيرة الحكم ب                      ن الصلت يبكون كلما ظلمـوا

مثل السكارى في فرط وجدهم                      إلا عـدوا عـلـيه يتـهــم

يوم جرى طائر النحوس لـهـم                      ينزع منه القرطاس والقـلـم

فأرغم اللـه حـاسـديه كـمـا                      أرغم هود القرود إذ رغمـوا

في سبتهم يوم كاب خطـبـهـم                      والله ممن عـصـاه ينـتـقـم

إنا إلى اللـه راجـعـون أمـا                      للناس عهـد يوفـى ولا ذمـم

حول علينا، ولـيلـتـان لـنـا                      من لذة العيش، بئسما حكمـوا

لا حكـم إلا الـلـه يظـهـره                      يقضي لضيزائها التي قسمـوا

ماذا ترجي من عيشها مـضـر                      إن كان من شأنها الذي زعموا ذم ولاية خالد القسري:

 

صفحة : 1299

 

وقال ابن حبيب: سمع إسماعيل بن عمار رجلا ينشد أبياتا للفرزدق يهجو بها عمر بن هبيرة الفزاري لما ولي العراق ويعجب من ولايته إياها، وكان خالد القسري في تلك الأيام العراق، فقال إسماعيل: أعجب والله مما عجب منه الفرزدق من ولاية ابن هبيرة، وهو ما لست أراه يعجب منه، ولاية خالد القسري وهو مخنث دعي ابن دعي، ثم قال:

عجب الفرزدق من فزارة أن رأى                      عنها أمية بالمـشـارق تـنـزع

فلقد رأى عجبا وأحـدث بـعـده                      أمر تطير له القلـوب وتـفـزع

بكت المنابر من فزارة شجـوهـا                      فالآن من قسر تضج وتـجـزع

فملوك خندف أضرعونا لـلـعـدا                      لله در ملوكنـا مـا تـصـنـع

كانوا كقاذفة بـينـهـمـا ضـلة                      سفها وغيرهم ترب وتـرضـع شعر له في عينه وقلبه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن سعيد ابن أسيد العامري قال حدثني محمد بن أنس الأسدي قال: شعر له في عينه وقلبه: جلست إلى إسماعيل بن عمار، وإذا هو يفتل أصابعه متأسفا، فقلت: علام هذا التأسف والتلهف? فقال:

عيناي مشؤمتان ويحهمـا                      والقلب حران مبتلى بهما

عرفتاه الهوى لظلمهـمـا                      يا ليتني قبل ذا عدمتهمـا

هما إلى الحين دلتا وهمـا                      ذل على من أحب دمعهما

سأعذر القلب في هواه وما                      سبب كل البلاء غيرهمـا شعر للأعشى وشرحه: صوت:

فكعبة نجران حتم علي                      ك حتى تناخي بأبوابها

نزور يزيد وعبد المسيح                      وقيسا هم خير أربابها

وشاهدنا الجل والياسمي                      ن والمسمعات بقصابها

وبربطنا دائم معـمـل                      فأي الثلاثة أزرى بها

إذا الحبرات فلوت بهم                      وجرو أسافل هدابهـا

فلما التقينا عـلـى آية                      ومدت إلي بأسبابـهـا عروضه من المتقارب. الشعر للأعشى يمدح بني عبد المدان الحارثيين من بني الحارث بن كعب. والغناء لحنين، خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق. وذكر يونس أن فيه لحنا لمالك، وزعم عمرو بن بانة أنه خفيف ثقيل. وزعم أبو عبد الله الهشامي أن فيه لابن المكي خفيف رمل بالوسطى أوله:

تنازعني إذ خلت بردها ومعه باقي الأبيات مخلطة مقدمة ومؤخرة. والكعبة التي عناها الأعشى ها هنا يقال إنها بيعة بناها بنو عبد المدان على بناء الكعبة، وعظموها مضاهاة للكعبة، وسموها كعبة نجران، وكان فيها أساقفة يقيمون، وهم الذين جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى المباهلة، وقيل: بل هي قبة من أدم سموها الكعبة. وكان إذا نزل بها مستجير أو أجير، أو خائف أمن، أو طالب حاجة قضيت، أو مسترفد أعطي ما يريده. والمسمعات: القيان. والقصاب: أوتار العيدان. وقال الأصمعي: قلت لبعض الأعراب: أنشدني شيئا من شعرك. قال: كنت أقول الشعر وتركته. فقلت: ولم ذاك? قال: لأنني قلت شعرا وغنى فيه حكم الوادي وسمعته فكاد يذهل عقلي، فآليت ألا أقول شعرا، وما حرك حكم قصابه إلا توهمت أن الله عز وجل مخلدي بها في النار.

 

الجزء الثاني عشر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أخبار الأعشى وبني عبد المدان

 

وأخبارهم مع غيره :

كان الأعشى قدريا ولبيد مجبرا: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن سماك بن حرب عن يونس بن متى راويةالأعشى قال: كان لبيد مجبرا حيث يقول:

من هداه سبل الخير اهتدى                      ناعم البال ومن شاء أضل وكان الأعشى قدريا حيث يقول:

استأثر الله بالوفـاء وبـال                      عدل وولى الملامة الرجلا فقلت له: من أين أخذ هذا? فقال: أخذه من أساقفة نجران. وكان يعود في كل سنة إلى بني عبد المدان، فيمدحهم ويقيم عندهم يشرب الخمر معهم وينادمهم، ويسمع من أساقفة نجران قولهم؛ فكل شيء في شعره من هذا فمنهم أخذه .

 

خبر أساقفة نجران مع النبي

 

صلى الله عليه وسلم:

خبر أساقفة نجران مع النبي:

 

صفحة : 1300

 

فأما خبر مباهلتهم النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرني به علي بن العباس بن الوليد البجلي المعروف بالمقانعي الكوفي قال أنبأنا بكار بن أحمد بن اليسع الهمداني قال حدثنا عبد الله بن موسى عن أبي حمزة عن شهر بن حوشب. قال بكار وحدثنا إسماعيل بن أبان العامري عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام، وحديثه أتم الأحاديث. وحدثني به جماعة آخرون بأسانيد مختلفة وألفاظ تزيد وتنقص: فمن حدثني به علي بن أحمد بن حامد التميمي قال حدثنا الحسن بن عبد الواحد قال حدثنا حسن بن حسين عن حيان بن علي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن الحسن بن الحسين عن محمد بن بكر عن محمد بن عبد الله بن علي بن أبي رافع عن أبيه عن جده عن أبي رافع. وأخبرني علي بن موسى الحميري في كتابه قال حدثنا جندل بن والق قال حدثنا محمد ابن عمر عن عباد الكليبي عن كامل أبي العلاء عن أبي صالح عن ابن عباس. وأخبرني أحمد بن الحسين بن سعد بن عثمان إجازة قال حدثنا أبي قال حدثنا حصين بن مخارق عن عبد الصمد بن علي عن أبيه عن ابن عباس. قال الحصين وحدثني أبو الجارود وأبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر، قال وحدثني حمد بن سالم وخليفة بن حسان عن زيد بن علي عليه السلام. قال حصين وحدثني سعيد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس. وممن حدثني أيضا بهذا الحديث علي بن العباس عن بكار عن إسماعيل بن أبان عن أبي أويس المدني عن جعفر بن محمد وعبد الله والحسن ابني الحسن. وممن حدثني به أيضا محمد بن الحسين الأشناني قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي قال حدثني يحيى بن سالم عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام . وممن أخبرني به أيضا الحسين بن حمدان بن أيوب الكوفي عن محمد بن عمرو الخشاب عن حسين الأشقر عن شريك عن جابر عن أبي جعفر، وعن شريك عن المغيرة عن الشعبي، واللفظ للحديث الأول. قالوا:

 

صفحة : 1301

 

قدم وفد نصارى نجران وفيهم الأسقف، والعاقب وأبو حبش ، والسيد، وقيس، وعبد المسيح، وابن عبد المسيح الحارث وهو غلام، وقال شهر بن حوشب في حديثه: وهم أربعون حبرا حتى وقفوا على اليهود في بيت المدارس ، فصاحوا بهم: يا بن صوريا يا كعب بن الأشراف، انزلوا يا إخوة القرود والخنازير. فنزلوا إليهم، فقالوا لهم: هذا الرجل عندكم منذ كذا وكذا سنة قد غلبكم أحضروا الممتحنة لنمتحنه غدا. فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح، قاموا فكبروا بين يديه، ثم تقدمهم الأسقف فقال: يا أبا القاسم، موسى من أبوه? قال: عمران. قال: فيوسف من أبوه? قال: يعقوب. قال: فأنت من أبوك? قال: إني عبد الله بن عبد المطلب. قال: فعيسى من أبوه? فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله؛ فانقض عليه جبريل عليه السلام فقال :  إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب  فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنزا الأسقف ثم دير به مغشيا عليه، ثم رفع رأسه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أتزعم أن الله جل وعلا أوحي إليك أن عيسى خلق من تراب ما نجد هذا فيما أوحي إليك، ولا نجده فيما أوحي إلينا؛ ولا تجده اليهود فيما أوحي إليهم. فأوحى الله تبارك وتعالى إليه:  فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع آبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين  . فقال : أنصفتنا يا أبا القاسم، فمتى نباهلك? فقال: بالغداة إن شاء الله تعالى. وانصرف النصارى، وانصرفت اليهود وهي تقول: والله ما نبالي أيهما أهلك الله الحنيفية أو النصرانية. فلما صارت النصارى إلى بيوتها قالوا؛ والله إنكم لتعلمون أنه نبي، ولئن باهلناه إنا لنخشى أن نهلك، ولكن استقيلوه لعله يقيلنا. وغدا النبي صلى الله عليه وسلم من الصبح وغدا معه بعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم. فلما صلى الصبح، انصرف فاستقبل الناس بوجهه، ثم برك باركا، وجاء بعلي فأقامه بين يديه، وجاء بفاطمة فأقامها بين كتفيه، وجاء بحسن فأقامه عن يمينه، وجاء بحسين فأقام عن يساره. فأقبلوا يستترون بالخشب والمسجد فرقا أن يبدأهم بالمباهلة إذا رآهم، حتى بركوا بين يديه، ثم صاحوا: يا أبا القاسم، أقلنا أقالك الله عثرتك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم قال: ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا قط إلا أعطاه فقال: قد أقلتكم فولوا . فلما ولوا قال النبي صلى الله عليه وسلم:  أما والذي بعثني بالحق لو باهلتهم ما بقي على وجه الأرض نصراني ولا نصرانية إلا أهلكهم الله تعالى  . وفي حديث شهر بن حوشب أن العاقب وثب فقال: أذكركم الله أن نلاعن هذا الرجل فوالله لئن كان كاذبا ما لكم في ملاعنته خير، ولئن كان صادقا لا يحول الحول ومنكم نافخ ضرمة فصالحوه ورجعوا .

خبر قبة نجران: وأما خبر القبة التي ذكرها الأعشى فأخبرني بخبرها عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن عمرو الأنصاري عن هشام بن محمد عن أبيه قال: كان عبد المسيح بن دارس بن عربي بن معيقر من أهل نجران، وكانت له قبة من ثلاثمائة جلد أديم، وكان على نهر بنجران يقال النحيردان . قال: ولم يأت القبة خائف إلا أمن، ولا جائع إلا شبع؛ وكان يستغل من ذلك النهر عشرة آلاف دينار، وكانت القبة تستغرق ذلك كله . وكان أول من نزل نجران من بني الحارث بن كعب يزيد بن عبد المدان بن الديان. وذلك أن عبد المسيح بن دارس زوج يزيد بن عبد المدان ابنته رهيمة، فولدت له عبد الله بن يزيد، فهم بالكوفة. ومات عبد المسيح، فانتقل ماله إلى يزيد؛ فكان أول حارثي حل في نجران. وفي ذلك يقول أعشى قيس بن ثعلبة:

فكعبة نجران حتم علي                      ك حتى تناحي بأبوابها

نزور يزيد وعبد المسيح                      وقيسا هم خير أربابها خطب يزيد بن عبد المدان وعامر بن المصطلق بنت أمية بن الأسكر فزوجها ليزيد: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال حدثني بعض بني الحارث بن كعب، وأخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه قال:

 

صفحة : 1302

 

اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ، وقدم أمية بن الأسكر الكناني ومعه ابنة له من أجمل أهل زمانها، فخطبها يزيد وعامر. فقالت أم كلاب امرأة أمية بن الأسكر: من هذان الرجلان. فقال: هذا يزيد بن عبد المدان بن الديان، وهذا عامر بن الطفيل. فقالت: أعرف بني الديان ولا أعرف عامرا. فقال: هل سمعت بملاعب الأسنة ? فقالت: نعم. قال: فهذا ابن أخيه. وأقبل يزيد فقال: يا أمية، أنا ابن الديان صاحب الكثيب ، ورئيس مذحج، ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنظف دما، ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا. فقال أمية: بخ بخ. فقال عامر: جدي الأخرم، وعمي ملاعب الأسنة، وأبي فارس قرزل. فقال أمية: بخ بخ  مرعى ولا كالسعدان . فأرسلها مثلا. فقال يزيد: يا عامر. هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحة إلى رجل من قومك? قال: اللهم لا. قال: فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدائحهم إلى قومي? قال: اللهم نعم. قال: فهل لكم نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان? قال لا. قال: هل ملكناكم ولم تملكونا? قال نعم. فنهض يزيد وأنشأ يقول:

أمي يابن الأسكر بـن مـدلـج                      لا تجعلن هوازنا كـمـذحـج

إنك إن تلهج بـأمـرتـلـجـج                      ما النبع في مغرسه كالعوسـج

ولا الصريح المحض كالممزج قال: فقال مرة بن دودان النفيلي وكان عدوا لعامر:

يا ليت شعري عنك يا يزيد                      ماذا الذي من عامر تريد

لكل قوم فخركم عـتـيد                      أمطلقون نحن أم عـبـيد

لا بل عبيد زادنا الهبـيد قال: فزوج أمية يزيد بن عبد المدان ابنته. فقال يزيد في ذلك:

يا للرجال لطـارق الأحـزان                      ولعامر بن طفيل الوسـنـان

كانت إتاوة قومه لـمـحـرق                      زمنا وصارت بعد للنعـمـان

عد الفوارس هوازن كـلـهـا                      فخرا علي وجـئت بـالـديان

فإذا لي الشرف المبين بـوالـد                      صخم الدسيعة زانني ونمانـي

يا عام إنك فـارس ذو مـيعة                      غض الشباب أخو ندى وقـيان

واعلم بأنك بابن فارس قـرزل                      دون الذي تسعى له وتـدانـي

ليست فوارس عامر بمـقـرة                      لك بالفضيلة في بني عـيلان

فإذا لقيت بني الحماس ومالـك                      وبني الضباب وحي آل قنـان

فاسأل عن الرجل المنوه باسمه                      والدافع العداء عن نـجـران

يعطى المقادة في فوارس قومه                      كرما لعمرك والكريم يمانـي فقال عامر بن الطفيل:

عجبا لواصف طـارق الأحـزان                      ولما يجيء بـه بـنـو الـديان

فخروا علي بحبوة لـمـحـرق                      وإتاوة سيقت إلى الـنـعـمـان

ما أنت وابن محرق وقـبـيلـه                      وإتاوة اللخـمـي فـي عـيلان

فاقصد بفخرك قصد قومك قصرة                      ودع القبائل من بني قحـطـان

إن كان سالـفة الإتـاوة فـيكـم                      أو لا ففخرك فخر كل يمـانـي

وافخر برهط بني الحماس ومالك                      وبني الضباب وزعبل وقـنـان

فأنا المعظم وابن فارس قـرزل                      وأبو براء زاننـي ونـمـانـي

وأبو جزيء ذو الفعال ومـالـك                      منعا الدمار صباح كل طـعـان

وإذا تعاظمت الأمـور هـوازن                      كنت المنوه باسمه والـبـانـي طلب بنو عامر إلى مرة بن دودان أن يهجو بني الديان فأبى: فلما رجع القوم إلى بني عامر، وثبوا على مرة بن دودان وقالوا له: أنت من بني عامر، وأنت شاعر، ولم تهج بني الديان فقال مرة:

تكلفني هوازن فخـر قـوم                      يقولون: الأنام لنـا عـبـيد

أبونا مذحـج وبـنـو أبـيه                      إذا ما عـدت الآبـاء هـود

وهل لي إن فخرت بغير حق                      مقال والأنام لهـم شـهـود

فأنى تضرب الأعلام صفحا                      عن العلياء أم مـن ذا يكـيد

فقولوا يا بني عـيلان كـنـا                      لهم قنا ، فما عنها مـحـيد محاورة ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان والقيسيين:

 

صفحة : 1303

 

وقال ابن الكلبي في هذه الرواية: قدم يزيد بن عبد المدان وعمر بن معد يكرب ومكشوح المرادي على ابن جفنة زوارا، وعنده وجوه قيس: ملاعب الأسنة عامر بن مالك، ويزيد بن عمرو بن الصعق، ودريد بن الصمة. فقال ابن جفنة ليزيد بن عبد المدان: ماذا كان يقول الديان إذا أصبح فإنه كان ديانا . فقال: كان يقول: آمنت بالذي رفع هذه يعني السماء ، ووضع هذه يعني الأرض ، وشق هذه يعني أصابعه ، ثم يخر ساجدا ويقول: سجد وجهي للذي خلقه وهو عاشم ، وما جشمني من شيء فإني جاشم. فإذا رفع رأسه قال:

إن تغفر اللهم تغفر جما                      وأي عبد لك ما ألمـا فقال ابن جفنة: إن هذا لذو دين. ثم مال على القيسيين وقال: ألا تحدثوني عن هذه الرياح: الجنوب والشمال والدبور والصبا والنكباء، لم سميت بهذه الأسماء؛ فإنه أعياني علمها? فقال القوم: هذه أسماء وجدنا العرب عليها لا نعلم غير هذا فيها. فضحك يزيد بن عبد المدان ثم قال: يا خير الفتيان، ما كنت أحسب أن هذا يسقط علمه على هؤلاء وهم أهل الوبر. إن العرب تضرب أبياتها في القبلة مطلع الشمس، لتدفئهم في الشتاء وتزول عنهم في الصيف. فما هب من الرياح عن يمين البيت فهي الجنوب، وما هب عن شماله فهي الشمال، وما هب من أمامه فهي الصبا، وما هب من خلفه فهي الدبور، وما استدار من الرياح بين هذه الجهات فهي النكباء. فقال ابن جفنة: إن هذه للعلم يابن عبد المدان .

سأل ابن جفنة القيسيين عن النعمان بن المنذر فعابوه فرد عليهم يزيد: وأقبل على القيسيين يسألهم عن النعمان بن المنذر. فعابوه وصغروه. فنظر ابن جفنة إلى يزيد فقال له: ما تقول يابن عبد المدان? فقال يزيد : يا خير الفتيان. ليس صغيرا من منعك العراق، وشركك في الشام، وقيل له: أبيت اللعن. وقيل لك: يا خير الفتيان، وألفى أباه ملكا كما ألفيت أباك ملكا، فلا يسرك من يغرك؛ فإن هؤلاء لو سألهم عنك النعمان لقالوا فيك مثل ما قالوا فيه. وايم الله ما فيهم رجل إلا ونعمة النعمان عنده عظيمة فغضب عامر بن مالك وقال له: يابن الديان أما والله لتحتلبن بها دما فقال له: ولم? أزيد في هوازن من لا أعرفه? فقال: لا بل هم الذين تعرف. فضحك يزيد ثم قال: ما لهم جرأة بني الحارث، ولا فتك مراد، ولا بأس زبيد، ولا كيد جعفي ، ولا مغار طيء. وما هم ونحن الفتيان بسواء، وما قتلنا أسيرا قط ولا اشتهينا حرة قط، ولا بكينا قتيلا حتى نبئ به. وإن هؤلاء ليعجزون عن ثأرهم، حتى يقتل السمي بالسمي. والكني بالكني، والجار بالجار. وقال يزيد بن عبد المدان فيما كان بينه وبين القيسيين شعرا غدا به على ابن جفنة:

تمالا على النعمان قـوم إلـيهـم                      موارده في ملكه ومـصـادره

على غير ذنب كان منه إلـيهـم                      سوى أنه جادت عليهم مواطره

فباعدهم من كل شـر يخـافـه                      وقربهم من كل خـير يبـادره

فظنوا وأعراض الظنون كثيرة                      بأن الذي قالوا من الأمر ضائره

فلم ينقصوا بالذي قيل شـعـرة                      ولا فللت أنـيابـه وأظـافـره

وللحارث الجفني أعلم بـالـذي                      ينوء به النعمان إن خف طائره

فيا حار كم فيهم لنعمان نـعـمة                      من الفضل والمن الذي أنا ذاكره

ذنوبا عفا عنـهـا ومـالا أفـاده                      وعظما كسيرا قومته جوابـره

ولو سأل عنك العائبين ابن منـذر                      لقالوا له القول الذي لا يحـاوره قال: فلما سمع ابن جفنة هذا القول عظم يزيد في عينه، وأجلسه معه على سريره، وسقاه بيده، وأعطاه عطية لم يعطها أحدا ممن وفد عليه قط .

استشفع جذامي إلى يزيد عند ابن جفنة فوهبه له: فلما قرب يزيد ركائبه ليرتحل سمع صوتا إلى جانبه، وإذا هو رجل يقول:

أما من شفيع مـن الـزائرين                      يحب الثنـا زنـده ثـاقـب

يريد ابن جـفـنة إكـرامـه                      وقد يمسح الضرة الحـالـب

فينقـذنـي مـن أظـافـيره                      وإلا فـإنـي غـدا ذاهـب

فقد قلت يوما علـى كـربة                      وفي الشرب في يثرب غالب

ألا ليت غسان في ملـكـهـا                      كلخم، وقد يخطئ الشـارب

 

صفحة : 1304

 

 

وما في ابن جفنة من سـبة                      وقد خف حلمي بها العازب

كأني غريب من الأبعـدين                      وفي الحلق مني شجا ناشب فقال يزيد: علي بالرجل، فأتي به. فقال: ما خطبك? أنت تقول هذا الشعر? قال: لا بل قاله رجل من جذام جفاه ابن جفنة، وكانت له عند النعمان منزلة، فشرب فقال على شرابه شيئا أنكره عليه ابن جفنة فحبسه، وهو مخرجه غدا فقاتله. فقال له يزيد: أنا أغنيك . فقال له: ومن أنت حتى أعرفك ? فقال: أنا يزيد بن عبد المدان. فقال: أنت لها وأبيك? قال: أجل قد كفيتك أمر صاحبك ، فلا يسمعنك أحد تنشد هذا الشعر. وغدا يزيد على ابن جفنة ليودعه؛ فقال له: حياك الله يابن الديان حاجتك. قال: تلحق قضاعة الشام بغسان ، وتؤثر من أتاك من وفود مذحج، وتهب لي الجذامي الذي لا شفيع إلا كرمك. قال: قد فعلت. أما إني حبسته لأهبه لسيد أهل ناحيتك، فكنت ذلك السيد، ووهبه له. فاحتمله يزيد معه، ولم يزل مجاورا له بنجران في بني الحارث بن كعب. وقال ابن جفنة لأصحابه: ما كانت يميني لتفي إلا بقتله أو هبته لرجل من بني الديان؛ فإن يميني كانت على هذين الأمرين. فعظم بذلك يزيد في عين أهل الشام ونبه ذكره وشرف .

استغاث هوازني يزيد في فك أسر أخيه فأغاثه: وقال ابن الكلبي في هذه الرواية عن أبيه: جاور رجلان من هوازن، يقال لهما عمرو وعامر، في بني مرة بن عوف بن ذبيان، وكانا قد أصابا دما في قومهما. ثم إن قيس بن عاصم المنقري أغار على بني مرة بن عوف بن ذبيان، فأصاب عامرا أسيرا في عدة أسارى كانوا عند بني مرة، ففدى كل قوم أسيرهم من قيس بن عاصم وتركوا الهوازني، فاستغاث أخوه بوجوه بني مرة: سنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم وهاشم بن حرملة والحصين بن الحمام فلم يغيثوه، فركب إلى موسم عكاظ، فأتى منازل مذحج ليلا فنادى:

دعوت سنانا وابن عوف وحـارثـا                      وعاليت دعوى بالحصين وهاشـم

أعـيرهـم فـي كـل يوم ولـيلة                      بترك أسير عند القيس بن عاصـم

حليفهم الأدنى وجـار بـيوتـهـم                      ومن كان عما سرهم غـير نـائم

فصموا وأحداث الزمـان كـثـيرة                      وكم في بني العلات من متصامـم

فيا ليت شعري من لإطلاق غـلـه                      ومن ذا الذي يحظى به في المواسم قال: فسمع صوتا من الوادي ينادي بهذه الأبيات:

ألا أيهـذا الـذي لـم يجــب                      عليك بحي يجلـي الـكـرب

عليك بذا الحي مـن مـذحـج                      فإنهم للرضـا و الـغـضـب

فناد يزيد بن عـبـد الـمـدان                      وقيسا وعمرو بن معد يكـرب

يفكـوا أخـاك بـأمـوالـهـم                      وأقلل بمثلهم فـي الـعـرب

أولاك الرؤوس فلا تـعـدهـم                      ومن يجعل الرأس مثل الذنب  قال: فاتبع الصوت فلم ير أحدا، فغدا على المكشوح، واسمه قيس بن عبد يغوث المرادي، فقال له: إني وأخي رجلان من بني جشم بن معاوية أصبنا دما في قومنا، وإن قيس بن عاصم أغار على بني مرة وأخي فيهم مجاور فأخذه أسيرا، فاستغثت بسنان بن أبي حارثة والحارث بن عوف والحارث بن ظالم وهاشم بن حرملة فلم يغيثوني. فأتيت الموسم لأصيب به من يفك أخي، فانتهيت إلى منازل مذحج، فناديت بكذا وكذا، فسمعت من الوادي صوتا أجابني بكذا وكذا، وقد بدأت بك لتفك أخي. فقال له المكشوح: والله إن قيس بن عاصم لرجل ما قارضته معروفا قط ولا هو لي بجار، ولكن اشتر أخاك منه وعلي الثمن، ولا يمنعك غلاؤه . ثم أتى عمرو بن معد يكرب فقال له مثل ذلك؛ فقال: هل بدأت بأحد قبلي? قال: نعم بقيس المكشوح قال: عليك بمن بدأت به. فتركه، وأتى يزيد بن عبد المدان فقال له: يا أبا النضر، إن من قصتي كذا وكذا. فقال له: مرحبا بك وأهلا، ابعث إلى قيس ابن عاصم؛ فإن هو وهب لي أخاك شكرته، وإلا أغرت عليه حتى يتقيني بأخيك؛ فإن نلتها وإلا دفعت إليك كل أسير من بني تميم بنجران فاشتريت بهم أخاك. قال: هذا الرضا. فأرسل يزيد إلى قيس بن عاصم بهذه الأبيات:

يا قيس أرسل أسيرا من بني جشم                      إني بكل الذي تأتي بـه جـازي

لا تأمن الدهر أن تشجى بغصته                      فاختر لنفسك إحمادي وإعزازي

 

صفحة : 1305

 

 

فافكك أخا منقر عنه وقل حسنا                      فيما سئلت وعقبه بـإنـجـاز قال: وبعث بالأبيات رسولا إلى قيس بن عاصم؛ فأنشده إياها، ثم قال له : يا أبا علي، إن يزيد بن عبد المدان يقرأ عليك السلام ويقول لك: إن المعروف قروض، ومع اليوم غد. فأطلق لي هذا الجشمي؛ فإن أخاه قد استغاث بأشراف بني مرة وبعمرو بن معد يكرب وبمكشوح مراد فلم يصب عندهم حاجته فاستجار بي. ولو أرسلت إلي في جميع أسارى مضر بنجران لقضيت حقك. فقال قيس بن عاصم لمن حضره من بني تميم: هذا رسول يزيد بن عبد المدان سيد مذحج وابن سيدها ومن لا يزال له فيكم يد، وهذه فرصة لكم، فما ترون? قالوا: نرى أن نغليه عليه ونحكم فيه شططا ؛ فإنه لن يخذله أبدا ولو أتى ثمنه على ماله. فقال قيس: بئس ما رأيتم أما تخافون سجال الحروب ودول الأيام ومجازاة القروض فلما أبوا عليه قال: بيعونيه، فأغلوه عليه، فتركه في أيديهم، وكان أسيرا في يد رجل من بني سعد، وبعث إلى يزيد فأعلمه بما جرى، وأعلمه أن الأسير لو كان في يده أو في بني مقر لأخذه وبعث به، ولكنه في يد رجل من بني سعد. فأرسل يزيد إلى السعدي أن سر إلي بأسيرك ولك فيه حكمك. فأتى به السعدي يزيد بن عبد المدان؛ فقال له: احتكم. فقال: مائة ناقة ورعاؤها فقال له يزيد إنك لقصير الهمة قريب الغنى جاهل بأخطار بني الحارث. أما والله لقد غبنتك يا أخا بني سعد، ولقد كنت أخاف أن يأتي ثمنه على جل أموالنا، ولكنكم يا بني تميم قوم قصار الهمم. وأعطاه ما احتكم. فجاوره الأسير وأخوه حتى ماتا عنده بنجران .

أغار عبد المدان على هوازن في جماعة من بني الحارث فهزموا بني عامر: وقال ابن الكلبي: أغار عبد المدان على هوازن يوم السلف في جماعة من بني الحارث بن كعب، وكانت حمته على بني عامر خاصة. فلما التقى القوم حمل على وبر بن معاوية النميري فصرعه، وثنى بطفيل بن مالك فأجره الرمح، وطار به فرسه قرزل فنجا، واستحر القتل في بني عامر، وتبعت خيل بني الحارث من انهزم من بني عامر، وفي هذه الخيل عمير ومعقل وكانا من فرسان بني الحارث بن كعب، فلم يزالوا بقية يومهم لا يبقون على شيء أصابوه، فقال في ذلك عبد المدان:

عفا من سليمى بطن غول فـيذبـل                      فغمرة فيف الريح فالمـتـنـخـل

ديار التي صـاد الـفـؤاد دلالـهـا                      وأغرت بها يوم النوى حين ترحـل

فإن تك صدت عن هواي وراعهـا                      نوازل أحداث وشـيب مـجـلـل

فيا رب خيل قد هديت بـشـطـبة                      يعارضها عبل الجـزارة هـيكـل

سبوح إذا جـال الـحـزام كـأنـه                      إذا انجاب عنه النقع في الخيل أجدل

يواغل جردا كالـقـنـا حـارثـية                      عليها قنان والحـمـاس وزعـبـل

معاقلـهـم فـي كـل يوم كـريهة                      صدور العوالي والصفيح المصقـل

وزغف من الماذي بيض كـأنـهـا                      نهاء مرتها بالعـشـيات شـمـأل

فما ذر قرن الشمس حتى تلاحقـت                      فوارس يهديها عمـير ومـعـقـل

فجالت على الحي الكلابـي جـولة                      فباكرهم ورد من الموت معـجـل

فغادرن وبرا تحجل الطير حـولـه                      ونجى طفيلا العـجـاجة قـرزل

فلم ينج إلا فارس مـن رجـالـهـم                      يخفف ركضا خشية الموت أعـزل وليزيد بن عبد المدان أخبار مع دريد بن الصمة قد ذكرت مع أخبار دريد في صنعة المعتضد مع أغاني الخلفاء، فاستغني عن إعادتها في هذا الموضع .

أنعم يزيد بن عبد المدان على ملاعب الأسنة وأخيه فلما مات رثته أختهما: أخبرني علي بن سليمان قال أخبرني أبو سعيد السكري قال حدثني محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة وابن الكلبي، قالوا: أغار يزيد بن عبد المدان ومعه بنو الحارث بن كعب على بني عامر، فأسر عامر بن مالك ملاعب الأسنة أبا براء وأخاه عبيدة بن مالك ثم أنعم عليهما. فلما مات يزيد بن عبد المدان واسم عبد المدان عمرو، وكنيته أبو يزيد، وهو ابن الديان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو قالت زينب بنت مالك بن جعفر بن كلاب أخت ملاعب الأسنة ترثي يزيد بن عبد المدان:

 

صفحة : 1306

 

 

بكيت يزيد بن عبد المـدا                      ن حلت به الأرض أثقالها

شريك الملوك ومن فضله                      يفضل في المجد أفضالها

فككت أسارى بني جعفـر                      وكندة إذ نلت أقوالـهـا

ورهط المجالد قد جللـت                      فواضل نعماك أجبالـهـا وقالت أيضا ترثيه:

سأبكي يزيد بن عبد المدان                      على أنه الأحلم الأكـرم

رماح من العزم مركوزة                      ملوك إذا برزت تحكـم قال: فلامها قومها في ذلك وعيروها بأن بكت يزيد؛ فقالت زينب:

ألا أيها الزاري علي بأنني                      نزارية أبكي كريما يمانيا

ومالي لا أبكي يزيد وردني                      أجر جديدا مدرعي وردائيا صوت:

أطل حمل الشناءة لي وبغضـي                      وعش ما شئت فانظر من تضير

إذا أبصرتني أعرضت عـنـي                      كأن الشمس من قبلـي تـدور الشعر لعبد الله بن الحشرج الجعدي. والغناء لابن سريح ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي.

 

أخبار عبد الله بن الحشرج

نسب عبد الله بن الحشرج وأخلاقه: هو عبد الله بن الحشرج بن الأشهب بن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن. وكان عبد الله بن الحشرج سيدا من سادات قيس وأميرا من أمرائها، ولي أكثر أعمال خراسان، ومن أعمال فارس، وكرمان. وكان جوادا ممدحا. وفيه يقول زياد الأعجم :

إن السماحة والشجاعة والـنـدى                      في قبة ضربت على ابن الحشرج وله يقول أيضا :

إذا كنت مرتادا السماحة والندى                      فسائل تخبر عن ديار الأشاهب نسبه إلى الأشهب جده. وفي بني الأشهب يقول نابغة بني جعدة:

أبعد فوارس يوم الشـري                      ف آسى وبعد بني الأشهب بعض أخبار أبيه وعمه زياد: وكان أبو الحشرج بن الأشهب سيدا شاعرا وأميرا كبيرا. وكان غلب على قهستان في زمن عبد الله بن خازم، فبعث إليه عبد الله بن خازم المسيب بن أوفى القشيري، فقتل الحشرج وأخذ قهستان. وكان عمه زياد بن الأشهب أيضا شريفا سيدا، وكان قد سار إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يصلح بينه وبين معاوية على أن يوليه الشام فلم يجبه. وفي ذلك يقول نابغة بني جعدة يعتد على معاوية:

وقام زياد عند باب ابن هاشم                      يريد صلاحا بينكم ويقرب مدحه قدامة بن الأحرز فوصله واعتذر: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال: جاء إلى عبد الله بن الحشرج وهو بقهستان رجل من قشير يقال له قدامة بن الأحرز ، فدخل عليه وأنشأ يقول:

أخ وابن عم جاءكم مـتـحـرمـا                      بكم فارأبوا خلاته يابن حـشـرج

فأنت ابن ورد سدت غير مـدافـع                      معدا على رغم المنوط المعلهـج

فبرزت عفوا إذ جريت ابن حشرج                      وجاء سكيتا كل أعـقـد أفـحـج

سبقت ابن ورد كل حاف ونـاعـل                      بجد إذا حار الأضاميم مـمـعـج

بورد بن عمر فتهـم إن مـثـلـه                      قليل ومن يشر المحامـد يفـلـج

هو الواهب الأموال والمشتري اللها                      وضراب رأس المستميت المدجج قال: فأعطاه أربعة آلاف درهم، وقال: اعذرني يابن عمي؛ فإني في حالة الله بها عليم من كثرة الطلاب، وأنت أحق من عذرني. قال: والله لو لم تعطني شيئا مع ما أعلمه من جميل رأيك في عشيرتك ومن انقطع إليك لعذرتك، فكيف وقد أجزلت العطاء، وأرغمت الأعداء .

بلغه أن ابن عم له نال منه فقال فيه شعرا: وكان لابن الحشرج ابن عم يقول للقشيري: ويحك ليس عنده خير، وهو يكذبك ويملذك . فبلغ ذلك عبد الله بن الحشرج فقال:

أطل حمل الشناءة لي وبغضـي                      وعش ما شئت فانظر من تضير

فمـا بـيديك خـير أرتـجـيه                      وغير صدودك الخطب الكبـير

إذا أبصرتني أعرضت عـنـي                      كأن الشمس من قلبـي تـدور

وكيف تعيب من تمسي فـقـيرا                      إليه حين تـحـزبـك الأمـور

ومن إن بعت منزلة بـأخـرى                      حللت بـأمـره وبـه تـسـير

 

صفحة : 1307

 

 

أتزعم أننـي مـلـذ كـذوب                      وأن المكرمات لـدي بـور

وكيف أكون كذابـا مـلـوذا                      وعندي يطلب الفرج الضرير

أواسي في النوائب من أتانـي                      ويجبر بي أخو الضر الفقير كان يعطي كثيرا فلامته زوجه وأيدها صديق له فقال شعرا: أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم عن العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال: أعطى عبد الله بن الحشرج بخراسان حتى أعطى منشفة كانت عليه وأعطى فراشه ولحافه. فقالت له امرأته: لشد ما تلاعب بك الشيطان، وصرت من إخوانه مبذرا؛ كما قال الله عز وجل:  إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين  فقال عبد الله بن الحشرج لرفاعة بن زوي النهدي وكان أخا له وصديقا: يا رفاعة، ألا تسمع إلى ما قالت هذه الورهاء وما تتكلم به ? فقال: صدقت والله وبرت إنك لمبذر، وإن المبذرين لإخوان الشياطين. فقال ابن الحشرج في ذلك:

متى يأتنـا الـغـيث تـجـد لـنـا                      مكارم ما تعيا بأموالـنـا الـتـلـد

مكارم ما جدنا بـه إذ تـمـنـعـت                      رجال وضنت في الرخاء وفي الجهد

أردنا بما جدنـا بـه مـن تـلادنـا                      خلاف الذي يأتي خيار بنـي نـهـد

تلوم على اتلافي المـال طـلـتـي                      ويسعدها نهد بن زيد على الـزهـد

أنهد بن زيد لست منكم فتشـفـقـوا                      علي ولا منكم غواتـي ولا رشـدي أراد غوايتي فحذف الياء للضرورة

أبيت صغيرا ناشـئا مـا أردتـم                      وكهلا حتى تبصروني في اللحد

سأبذل مالي إن مـالـي ذخـيرة                      لعقبي وما أجني به ثمر الخلـد

ولست بمبكاء على الزاد بـاسـل                      يهر على الأزواد كالأسد الـورد

ولكنني سمح بمـا حـزت بـاذل                      لما كلفت كفاي في الزمن الجحد

بذلك أوصاني الرقاد وقـبـلـه                      أبوه بأن أعطي وأوفي بالعهـد الرقاد: ابن عمرو بن ربيعة بن جعدة بن كعب وهو من عمومته، وكان شجاعا سيدا جوادا .

قال عطاء بن مصعب: وقال عبد الله بن الحشرج أيضا في ذلك هذه القصيدة وقد ذكر ابن الكلبي وأبو اليقظان شيئا من هذه القصيدة في كتابيهما المصنفين ونسباها إليه:

سأجعل مالي دون عرضي وقـاية                      من الذم؛ إن المال يفنى وينـفـد

ويبقي لي الجود اصطناع عشيرتي                      وغيرهم والجـود عـز مـؤبـد

ومتخذ ذنبا علـي سـمـاحـتـي                      بمالي، ونار البخل بالـذم تـوقـد

يبيد الفتى والحمـد لـيس بـبـائد                      ولكنه للمرء فـضـل مـؤكـد

ولا شيء يبقى للفتى غير جـوده                      بما ملكت كفاه والقـوم شـهـد

ولائمة في الجود نهنهت غربـهـا                      وقلت لها بني المكـارم أحـمـد

فلما ألحت في الملامة واعتـرت                      بذلك غيظي واعتراها التـبـلـد

عرضت عليها خصلتين سماحتـي                      وتطليقها والكف عـنـي أرشـد

فلجت وقالت أنت غـاو مـبـذر                      قرينك شيطان مـريد مـفـنـد

فقلت لها بيني فمـا فـيك رغـبة                      ولي عنك في النسوان ظل ومقعد

وعيش أنيق والنـسـاء مـعـادن                      فمنهن غـل شـرهـا يتـمـرد

لها كل يوم فوق رأسي عـارض                      من الشر براق يد الدهـر يرعـد

وأخرى يلد العيش منها، ضجيعهـا                      كريم يغاديه من الطـير أسـعـد

فيا رجلا حرا خذ القصد واترك ال                      بلايا فإن الموت للناس مـوعـد

فعش ناعما واترك مقـالة عـاذل                      يلومك في بذل الـنـدى ويفـنـد

وجد باللها إن السماحة والـنـدى                      هي الغاية القصوى وفيها التمجد

وحسب الفتى مجدا سمحة كـفـه                      وذو المجد محمود الفعال محسـد طلق امرأته لعذله إياه فلامه حنظلة بن الأشهب فقال شعرا:

 

صفحة : 1308

 

قال فقالت له امرأته: والله ما وفقك الله لحظك أنهبت مالك وبذرته وأعطيته هيان بن بيان ومن لا تدري من أي هافية هو قال: فغضب فطلقها، وكان لها محبا وبها معجبا. فعنفه فيها ابن عم لها يقال له حنظلة بن الأشهب بن رميلة ، وقال له: نصحتك فكافأتها بالطلاق فوالله ما وفقت لرشدك، ولا نلت حظك، ولقد خاب سعيك بعدها عند ذوي الألباب. فهلا مضيت لطيتك ، وجريت على ميدانك، ولم تلتفت إلى امرأة من أهل الجهالة والطيش لم تخلق للمشورة ولا مثل رأيها يفتدى به فقال ابن الحشرج لحنظلة:

أحنظل دع عنك الذي نـال مـالـه                      ليحمده الأقوام في كـل مـحـفـل

فكم من فقير بائس قـد جـبـرتـه                      ومن عائل أغنيت بعـد الـتـعـيل

ومن مترف عن منهج الحـق جـائر                      علوت بعضب ذي غرارين مقصـل

وزار علي الجود والجود شيمـتـي                      فقلت له دعني وكن غير مفـضـل

فمثلك قد عاصيت دهرا ولـم أكـن                      لأسمع أقوال اللـئيم الـمـبـخـل

أبى لي جدي البخل مذ كنت يافـعـا                      صغيرا ومن يبخل يلـم ويضـلـل

ويستغن عنه الناس، فاركب محجة ال                      كرام ودع ما أنت عنه بـمـعـزل

فإني امرؤ لا أصحب الدهر باخـلا                      لئيما وخير النـاس كـل مـعـذل

ومستحمق غـاو أتـتـه نـذيرتـي                      فلج ولم يعرف معـرة مـقـولـي

نفحت ببـيت يمـلأ الـفـم شـارد                      له خبر كـأنـه حـبـر مـغـول

فكف ولو لم أرمـه شـاع قـولـه                      وصار كدرياق الذعاف المـثـمـل

وليل دجوجـي سـريت ظـلامـه                      بناجية كالبـرج وجـنـاء عـيهـل

إلى ملك مـن آل مـروان مـاجـد                      كريم المحـيا سـيد مـتـفـضـل

يجود إذا أضنت قريش بـرفـدهـا                      ويسبقها فـي كـل يوم تـفـضـل

أبوه أبو العاصي إذا الحرب شمـرت                      مراها بمسنون الغرارين مـنـجـل

وقور إذا هاجت به الحرب مـرجـم                      صبور عليها غير نكس مـهـلـل

أقام لأهـل الأرض دين مـحـمـد                      وقد أدبروا وارتاب كل مـضـلـل

فما زال حتى قـوم الـدين سـيفـه                      وعز بحزم كـل قـرم مـحـجـل

وغادر أهل الشك شتى، فمـنـهـم                      قتيل وناج فـوق أجـرد هـيكـل

نجا من رماح القوم قدما وقـد بـدا                      تباشيره في العارض المـتـهـلـل قال عاصم: يعني بهذا المدح محمد بن مروان لما قتل مصعب بن الزبير بدير الجاثليق . وكان محمد بن مروان يقوم بأمره، ويوليه الأعمال، ويشفع له إلى أخيه .

حواره مع ابن عم له لامه في تبذيره: أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال: قال عبد الله بن الحشرج لابن عم له لامه في إنهاب ماله وتبذيره إياه، وقال له فيما يقول: امرأتك كانت أعلم بك، نصحتك فكافأتها بالطلاق، فقال له: يابن عم، إن المرأة لم تخلق للمشورة، وإنما خلقت وثارا للباءة . ووالله إن الرشد واليمن لفي خلاف المرأة. يابن عم إياك واستماع كلام النساء والأخذ به؛ فإنك إن أخذت به ندمت. فقال له ابن عمه: والله ليوشكن أن تحتاج يوما إلى بعض ما أتلفت فلا تقدر عليه ولا يخلفه عليك هن وهن . فقال ابن الحشرج:

وعاذلة هبت بليل تـلـومـنـي                      وتعذلني فيمـا أفـيد وأتـلـف

تلومتها حتى إذا هـي أكـثـرت                      أتيت الذي كانت لدي تـوكـف

وقلت عليك الفج أكثرت في الندى                      ومثلي تحاماه الألد المغطـرف

أبى لي ما قد سمتني غير واحـد                      أب وجدود مجدها ليس يوصـف

كهول وشبان مضوا لسبـيلـهـم                      إذا ذكروا فالعين منـي تـذرف

هم الغيث إن ضنت سماء بقطرها                      وعندهم يرجو الحيا متـلـهـف

وحرب يخاف الناس شدة عرهـا                      تظل بأنواع المنـية تـصـرف

 

صفحة : 1309

 

 

حموها وقاموا بالسيوف لحـمـيهـا                      إذا فنيت أضحت لهم وهي تعصـف

فلما أبت إلا طمـاحـا تـنـمـروا                      بأسيافهم والقوم فيهـم تـعـجـرف

فذلت وأعطت بالـقـياد وأذعـنـت                      إذا ما اشتهى قومي وذو الذل ينصف

وكانت طموح الرأس يصرف نابهـا                      من الشر تارات وطورا تقفـقـف

فلما امترينا بالسيوف خـلـوفـهـا                      تأبت علـينـا والأسـنة تـرعـف

فدرت طباقا وأرعوت بعد جهلـهـا                      وكنا رمامـا لـلـذي يتـصـلـف قال لابن زوي شعرا لأنه لامه في تبذيره: قال: وقال عبد الله بن الحشرج لرفاعة بن زوي النهدي فيما كان يلومه فيه من التبذير والجود:

ألام على جودي وما خلـت أنـنـي                      ببذلي وجودي جرت عن منهج القصد

فيا لائمي في الجود أقصر فـإنـنـي                      سأبذل مالي في الرخاء وفي الجهـد

وجدت الفتى يفنى وتبقـى فـعـالـه                      ولا شيء خير في الحديث من الحمد

وإني بالله احـتـيالـي وحـرفـتـي                      أصير جاري بين أحشاي والـكـبـد

أرى حقه في الناس ما عشت واجبـا                      علي وآتي ما أتيت عـلـى عـمـد

وصاحب صدق كان لي ففـقـدتـه                      وصيرني دهري إلـى مـائق وغـد

يلـوم فـعـالـي كـل يوم ولــيلة                      ويعدو على الجيران كالأسـد الـورد

يخالفني فـي كـل حـق وبـاطـل                      ويأنف أن يمشي على منهج الرشـد

فلما تمادى قلـت غـير مـسـامـح                      له: النهج فاركب يا عسيف بني نهـد مدحه زيد الأعجم فوصله: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي قال حدثنا ابن عائشة قال: وفد زياد الأعجم على عبد الله بن الحشرج الجعدي وهو بسابور أمير عليها، فأمر بإنزاله وألطفه وبعث إليه ما يحتاج إليه. ثم غدا عليه زياد فأنشده:

إن السماحة والمـروءة والـنـدى                      في قبة ضربت على ابن الحشرج

ملـك أغـر مـتـوج ذو نـائل                      للمعتفين يمـينـه لـم تـشـنـج

يا خير من صعد المنابر بالتـقـى                      بعد النبي المصطفى المتـحـرج

لما أتيتـك راجـيا لـنـوالـكـم                      ألفيت باب نوالـكـم لـم يرتـج قال: فأمر له بعشر آلاف درهم .

وقد قيل: إن الأبيات التي ذكرتها وفيها الغناء ونسبتها إلى عبد الله بن الحشرج لغيره. والقول الأصح هو الأول. أخبرني بذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن هشام بن الكلبي: أنه سمع أبا باسل الطائي ينشد هذا الشعر، فقلت: لمن هو? فقال: لعمي عنترة بن الأخرس . قال: وكان جدي أخرس، فولد له سبعة أو ثمانية كلهم شاعر أو خطيب . ولعل هذا من أكاذيب ابن الكلبي، أو حكاه عن رجل أدعى فيه ما لا يعلم .

صوت:

أصاح هل من سـبـيل إلـى نـجـد                      وريح الخزامى غضة من ثرى جعد

وهل لليالينا بذي الـرمـث مـرجـع                      فنشفي جوى الأحزان من لاعج الوجد عروضه من الطويل. الشعر للطرماح بن حكيم. والغناء ليحيى المكي، ثقيل أول بالبنصر من كتابه .

 

أخبار الطرماح ونسبه

نسب الطرماح وبعض أخباره: هو الطرماح بن حكيم بن الحكم بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة بن عبد رضا بن مالك بن أمان بن عمرو بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن طيء. ويكنى أبا نفر. وأبا ضبينة . والطرماح: الطويل القامة. وقيل: إنه كان يلقب الطراح. أخبرني بذلك أحمد ابن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال: كان الطرماح بن حكيم يلقب الطراح لقوله: صوت :

ألا أيها الليل الطويل ألا ارتـح                      بصبح وما الإصباح منك بأروح

بلى إن للعينين في الصبح رحمة                      بطرحهما طرفيهما كل مطرح في هذين البيتين لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى من كتابه .

والطرماح من فحول الشعراء وفصحائهم. ومنشؤه بالشام، وانتقل إلى الكوفة بعد ذلك مع من وردها من جيوش أهل الشام، واعتقد مذهب الشراة الأزارقة .

 

 

صفحة : 1310

 

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال: قدم الطرماح بن حكيم الكوفة، فنزل في تيم اللات بن ثعلبة، وكان فيهم شيخ من الشراة له سمت وهيئة، وكان الطرماح يجالسه ويسمه منه، فرسخ كلامه في قلبه، ودعاه الشيخ إلى مذهبه، فقبله واعتقده أشد اعتقاد وأصحه، حتى مات عليه .

أخبرني ابن دريد قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال قال رؤبة: كان الطرماح والكميت يصيران إلي فيسألاني عن الغريب فأخبرهما به، فأراه بعد في أشعارهما .

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال سمعت محمد بن حبيب يقول: سألت ابن الأعرابي عن ثماني عشرة مسألة كلها من غريب شعر الطرماح، فلم يعرف منها واحدة، يقول في جميعها: لا أدري، لا أدري .

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب قال حدثنا ابن قتيبة، قالا: كان الكميت بن زيد صديقا للطرماح، لا يكادان يفترقان في حال من أحوالهما. فقيل للكميت: لا شيء أعجب من صفاء ما بينك وبين الطرماح على تباعد ما يجمعكما من النسب والمذهب والبلد : هو شآمي قحطاني شاري، وأنت كوفي نزاري شيعي، فكيف اتفقتما مع تباين المذهب وشدة العصبية? فقال: اتفقنا على بغض العامة. قال: وأنشد الكميت قول الطرماح:

إذا قبضت نفس الطرماح أخلـقـت                      عرى المجد واسترخى عنان القصائد فقال: إي والله وعنان الخطابة والرواية والفصاحة والشجاعة. وقال عمر بن شبة: والسماحة مكان الشجاعة .

وفد على مخلد بن زياد ومعه الكميت وقصتهما في ذلك: نسخت من كتب جدي لأمي يحيى بن محمد بن ثوابة رحمه الله تعالى بخطه قال حدثني الحسن بن سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: وفد الطرماح بن حكيم والكميت بن زيد على مخلد بن يزيد المهلبي، فجلس لهما ودعاهما . فتقدم الطرماح لينشد؛ فقال له: أنشدنا قائما. فقال: كلا والله ما قدر الشعر أن أقوم له فيحط مني بقيامي وأحط منه بضراعتي، وهو عمود الفخر وبيت الذكر لمآثر العرب. قيل له: فتنح. ودعي بالكميت فأنشد قائما، فأمر له بخمسين ألف درهم. فلما خرج الكميت شاطرها الطرماح، وقال له: أنت أبا ضبينة أبعد همة وأنا ألطف حيلة. وكان الطرماح يكنى أبا نفر وأبا ضبينة .

كان هو والكميت في مسجد الكوفة فقصدهما ذو الرمة فاستنشدهما وأنشدهما: ونسخت من كتابه رضي الله عنه: أخبرني الحسن بن سعيد قال أخبرني ابن علاق قال أخبرني شيخ لنا أن خالد بن كلثوم أخبره قال: بينا أنا في مسجد الكوفة أريد الطرماح والكميت وهما جالسان بقرب باب الفيل، إذ رأيت أعرابيا قد جاء يسحب أهداما له، حتى إذا توسط المسجد خر ساجدا، ثم رمى ببصره فرأى الكميت والطرماح فقصدهما. فقلت: من هذا الحائن الذي وقع بين هذين الأسدين وعجبت من سجدته في غير موضع سجود وغير وقت صلاة فقصدته، ثم سلمت عليهم ثم جلست أمامهم. فالتفت إلي الكميت فقال: أسمعني شيئا يا أبا المستهل؛ فأنشده قوله:

أبت هذه النفس إلا ادكارا حتى أتى على آخرها. فقال له: أحسنت والله يا أبا المستهل في ترقيص هذه القوافي ونظم عقدها  ثم التفت إلى الطرماح فقال: أسمعني شيئا يا أبا ضبينة؛ فأنشده كلمته التي يقول فيها:

أساءك تقويض الخليط المباين                      نعم والنوى قطاعة للقـرائن فقال: لله در هذا الكلام ما أحسن إجابته لرويتك إن كدت لأطيل لك حسدا. ثم قال الأعرابي: والله لقد قلت بعدكما ثلاثة أشعار، أما أحدها فكدت أطير به إلى السماء فرحا. وأما الثاني فكدت أدعي به الخلافة. وأما الثالث فرأيت رقصانا استفزني به الجذل حتى أتيت عليه. قالوا: فهات؛ فأنشدهم قوله :

أأن توهمت من خرقاء منـزلة                      ماء الصبابة من عينيك مسجوم حتى إذا بلغ قوله:

تنجو إذ جعلت تدمى أخشتها                      وابتل بالزبد الجعد الخراطيم قال: أعلمتم أني في هذا البيت منذ سنة، فما ظفرت به إلا آنفا، وأحسبكم قد رأيتم السجدة له. ثم أسمعهم قوله:

ما بال عينك منها الماء ينسكب ثم أنشدهم كلمته الأخرى التي يقول فيها:

إذا الليل عن نشز تجلى رمينه                      بأمثال أبصار النساء الفوارك

 

صفحة : 1311

 

قال: فضرب الكميت بيده على صدر الطرماح، ثم قال: هذه والله الديباج لا نسجي ونسجك الكرابيس . فقال الطرماح: لن أقول ذلك وإن أقررت بجودته. فقطب ذو الرمة وقال: يا طرماح أأنت تحسن أن تقول:

وكائن تخطت ناقتي من مفازة                      إليك ومن أحواض ماء مسدم

بأعقاره القردان هزلى كأنها                      نوادر صيصاء الهبيد المحطم فأصغى الطرماح إلى الكميت وقال له: فانظر ما أخذ من ثواب هذا الشعر قال: وهذه قصيدة مدح بها ذو الرمة عبد الملك، فلم يمدحه فيها ولا ذكره إلا بهذين البيتين، وسائرها في ناقته. فلما قدم على عبد الملك بها أنشده إياها. فقال له: ما مدحت بهذه القصيدة إلا ناقتك، فخذ منها الثواب. وكان ذو الرمة غير محظوظ من المديح فلم يفهم ذو الرمة قول الطرماح للكميت. فقال له الكميت: إنه ذو الرمة وله فضله، فأعتبه فقال له الطرماح: معذرة إليك إن عنان الشعر لفي كفك، فارجع معتبا، وأقول فيك كما قال أبو المستهل .

مر يخطر بمسجد البصرة فسأل عنه رجل فأنشد هو شعرا: أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن إبراهيم بن عباد قال حدثني أبو تمام الطائي قال: مر الطرماح بن حكيم في مسجد البصرة وهو يخطر في مشيته. فقال رجل: من هذا الخطار? فسمعه فقال: أنا الذي يقول: صوت:

لقد زادني حبا لنـفـس أنـنـي                      بغيض إلى كل امرئ غير طائل

وأني شقي بالـلـئام ولا تـرى                      شقيا بهم إلا كريم الـشـمـائل

إذا ما رآني قطع اللحظ بـينـه                      وبيني فعل العارف المتجاهـل

ملأت عليه الأرض حتى كأنهـا                      من الضيق في عينيه كفة حابل في هذه الأبيات لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل أول بالبنصر .

قصته مع خالد القسري حين وفد عليه بمدح: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال أخبرنا إسماعيل بن مجمع قال حدثنا هشام بن محمد قال أخبرنا ابن أبي العمرطة الكندي قال: مدح الطرماح خالد بن عبد الله القسري، فأقبل على العريان بن الهيثم فقال: إني قد مدحت الأمير فأحب أن تدخلني عليه. قال: فدخل إليه فقال له: إن الطرماح قد مدحك وقال فيك قولا حسنا. فقال: ما لي في الشعر من حاجة. فقال العريان للطرماح: تراء له. فخرج معه ، فلما جاوز دار زياد وصعد المسناة إذا شيء قد ارتفع له، فقال: يا عريان انظر، ما هذا? فنظر ثم رجع فقال: أصلح الله الأمير هذا شيء بعث به إليك عبد الله بن أبي موسى من سجستان؛ فإذا حمر وبغال ورجال وصبيان ونساء. فقال: يا عريان، أين طرماحك هذا? قال: ها هنا. قال: أعطه كل ما قدم به. فرجع إلى الكوفة بما شاء ولم ينشده. قال هشام: والطرماح: الطويل .

سمع بيتا لكثير في عبد الملك فقال لم يمدحه بل موه: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال حدثني الحجاجي قال: بلغني أن الطرماح جلس في حلقة فيها رجل من بني عبس، فأنشد العبسي قول كثير في عبد الملك:

فكنت المعلى إذ أجيلت قداحهم                      وجال المنيح وسطها يتقلقـل فقال الطرماح: أما إنه ما أراد به أنه أعلاهم كعبا، ولكنه موه عليه في الظاهر وعنى في الباطن أنه السابع من الخلفاء الذين كان كثير لا يقول بإمامتهم؛ لأنه أخرج عليا عليه السلام منهم، فإذا أخرجه كان عبد الملك السابع، وكذلك المعلى السابع من القداح؛ فذلك قال ما قاله. وقد ذكر ذلك في موضع آخر فقال:

وكان الخلائف بعد الرسـو                      ل لله كـلـهـم تـابـعـا

شيدان من بعد صـديقـهـم                      وكان ابن حرب لهم رابعـا

وكان ابنه بعده خـامـسـا                      مطيعا لمن قبله سـامـعـا

ومروان سادس من قد مضى                      وكان ابنه بعده سـابـعـا قال: فعجبنا من تنبه الطرماح لمعنى قول كثير، وقد ذهب على عبد الملك فظنه مدحا .

فضله أبو عبيدة والأصمعي ببيتين له: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال: كان أبو عبيدة والأصمعي يفضلان الطرماح في هذين البيتين، ويزعمان أنه فيهما أشعر الخلق:

مجتاب حلة برجد لسـراتـه                      قددا وأخلف ما سواه البرجد

يبدو وتضمره البلاد كـأنـه                      سيف على شرف يسل ويغمد

 

صفحة : 1312

 

أثنى أبو نواس على بيت له: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ قال قال أبو نواس: أشعر بيت قيل بيت الطرماح:

إذا قبضت نفس الطرماح أخلـقـت                      عرى المجد واسترخى عنان القصائد

مناقضة بينه وبين حميد اليشكري: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال: فضل الطرماح بني شمخ في شعره على بني يشكر؛ فقال حميد اليشكري:

أتجعلنا إلى شمخ بن جرم                      ونبهان فأف لذا زمـانـا

ويوم الطالقان حماك قومي                      ولم تخضب بها طي سنانا فقال الطرماح يجيبه:

لقد علم المعذل يوم يدعو                      برمثة يوم رمثة إذ دعانا

فوراس طييء منعوه لما                      بكى جزعا ولولاهم لحانا فقال رجل من بني يشكر:

لأقضين قضاء غير ذي جـنـف                      بالحق بين حميد والطـرمـاح

جرى الطرماح حتى دقق مسحله                      وغودر العبد مقرونا بـوضـاح يعني رجلا من بني تميم كان يهاجي اليشكري .

شعر له في الشراة: أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي قال خلف: كان الطرماح يرى رأي الشراة، ثم أنشد له:

للـه در الـشـراة إنـهـم                      إذا الكرى مال بالطلى أرقوا

يرجعـون الـحـنـين آونة                      وإن علا ساعة بهم شهقـوا

خوفا تبيت القلـوب واجـفة                      تكاد عنها الصدور تنفـلـق

كيف أرجي الحياة بعـدهـم                      وقد مضى مؤنسي فانطلقوا

قوم شحاح على اعتقـادهـم                      بالفوز مما يخاف قد وثقـوا أنشد خالدا القسري شعرا في الشكوى فأجازه: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو عثمان عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال: دخل الطرماح على خالد بن عبد الله القسري فأنشده قوله:

وشيبني ما لا أزال مناهـضـا                      بغير غنى أسمو بـه وأبـوع

وان رجال المال أضحوا ومالهم                      لهم عند أبواب الملوك شفـيع

أمخترمي ريب المنون ولم أنل                      من المال ما أعصى به وأطيع فأمر له بعشرين ألف درهم وقال: امض الآن فاعص بها وأطع .

قال المفضل: كأنه يوحى إليه، في الهجاء. ثم أنشد من هجائه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثنا حذيفة بن محمد الكوفي قال قال المفضل: إذا ركب الطرماح الهجاء فكأنما يوحى إليه، ثم أنشد له قوله:

لو حان ورد تميم ثـم قـيل لـهـا                      حوض الرسول عليه الأزد لم ترد

أو أنزل الله وحـيا أن يعـذبـهـا                      إن لم تعد لقتال الأزد لـم تـعـد

لا عز نصر امرئ أضحى له فرس                      على تميم يريد النصر مـن أحـد

لو كان يخفى على الرحمن خافـية                      من خلقه خفيت عنه بـنـو أسـد افتقده بعض أصحابه فلم يرعهم إلا نعشه: أخبرني إسماعيل بن يونس قال أخبرنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال حدثني ابن دأب عن ابن شبرمة، وأخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال أخبرني أبي قال حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال حدثني محمد بن عمران قال حدثني إبراهيم بن سوار الضبي قال حدثني محمد بن زياد القرشي عن ابن شبرمة قال: كان الطرماح لنا جليسا ففقدناه أياما كثيرة، فقمنا بأجمعنا لننظر ما فعل وما دهاه. فلما كنا قريبا من منزله إذا نحن بنعش عليه مطرف أخضر، فقلنا: لمن هذا النعش? فقيل: هذا نعش الطرماح. فقلنا: والله ما استجاب الله له حيث يقول:

وإني لمـقـتـاد جـوادي وقـاذف                      به وبنفسي العام إحدى الـمـقـاذف

لأكـسـب مـالا أو أؤول غـنــى                      من الله يكفيني عـدات الـخـلائف

فيا رب إن حانت وفاتي فلا تـكـن                      على شرجع يعلى بخضر المطارف

ولكن قبري بطن نـسـر مـقـيلـه                      بجو من السماء في نسور عواكـف

وأمسي شهيدا ثاويا فـي عـصـابة                      يصابون في فج من الأرض خـائف

فوارس من شيبـان ألـف بـينـهـم                      تقى الله تزالون عنـد الـتـزاحـف

إذا فارقوا دنـياهـم فـارقـوا الأذى                      وصاروا إلى ميعاد ما في المصاحف صوت:

 

صفحة : 1313

 

 

هل بالديار التي بالقاع مـن أحـد                      باق فيسمع صوت المدلج الساري

تلك المنازل من صفراء ليس بها                      حي يجيب ولا أصوات سـمـار الشعر لبيهس الجرمي. والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو وقال ذكر ذلك يحيى المكي، وأظنه من المنحول. وفيه لطياب بن إبراهيم الموصلي خفيف ثقيل، وهو مأخوذ من لحن ابن صاحب الوضوء:

ارفع ضعيفك ولا يحر بك ضعفه

أخبار بيهس ونسبه

نسبه: هو بيهس بن صهيب بن عامر بن عبد الله بن ناتل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعد بن كثير بن غالب بن عدي بن سميس بن طرود بن قدامة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران ابن إلحاف بن قضاعة، شاعر فارس من شعراء الدولة الأموية. وكان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب وعذرة، ويحضر إذا حضروا فيكون بأجناد الشام .

اتهم بقتل غلام بن قيس فاستجار بمحمد بن مروان: قال أبو عمرو الشيباني: لما هدأت الفتنة بعد وقعة مرج راهط وسكن الناس، مر غلام من قيس بطوائف من جرم وعذرة وكلب، وكانوا متجاورين على ماء هناك لهم. فيقال: إن بعض أحداثهم نخس به ناقته فألقته، فاندقت عنقه فمات. واستعدى قومه عبد الملك بن مروان، فبعث إلى تلك البطون من جاءه بوجوههم وذوي الأخطار منهم، فهرب بيهس بن صهيب الجرمي وكان قد اتهم بأنه هو الذي نخس به فنزل بمحمد بن مروان واستجار به، فأجاره إلا من حد توجبه عليه شهادة، فرضي بذلك .

صوت:

ألا يا حمامات اللوى عدن عودة                      فإني إلى أصواتكـن حـرين

فعدن فلما عدن يمـتـنـنـي                      وكدت باسراري لهـن أبـين

دعون بأصوات الهديل كأنمـا                      شربن حميا أو بهن جـنـون

فلم تر عيني مثلهن حمـائمـا                      بكين ولم تدمع لهـن عـيون الشعر لأعرابي، هكذا أنشدناه جعفر بن قدامة عن أحمد بن حمدون عن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل. والغناء لمحمد بن الحارث بن بسخنر خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي. وقد قيل: إن الشعر لابن الدمينة .

 

أخبار محمد بن الحارث بن بسخنر

نسبه وبعض أخباره: هو محمد بن الحارث بن بسخنر، ويكنى أبا جعفر. وهم فيما يزعمون، موالي المنصور. وأحسبه ولاء خدمة ولا ولاء عتق. وأصلهم من الري. وكان محمد يزعم من ولد بهرام جوبين . وولد محمد بالحيرة . وكان يغني مرتجلا، إلا أن أصل ما غنى عليه المعزفة، وكانت تحمل معه إلى دار الخليفة. فمر غلامه بها يوما، فقال قوم كانوا جلوسا على الطريق: مع هذا الغلام مصيدة الفأر، وقال بعضهم: لا، بل هي معزفة محمد بن الحارث. فحلف يومئذ بالطلاق والعتاق ألا يغني بمعزفة أبدا أنفة من أن تشتبه آلة يغني بها بمصيدة الفأر. وكان محمد أحسن خلق الله تعالى أداء وأسرعه أخذا للغناء، وكان لأبيه الحارث بن بسخنر جوار محسنات. وكان إسحاق يرضاهن ويأمرهن أن يطرحن على جواريه. وقال يوما للمأمون وقد غنى مخارق بين يديه صوتا فآلتاث غناؤه فيه وجاء به مضطربا، فقال إسحاق للمأمون: يا أمير المؤمنين، إن مخارقا قد أعجبه صوته وساء أداؤه في غنائه، فمره بملازمة جواري الحارث بن بسخنر حتى يعود إلى ما تريد .

هو أفضل من أخذ عن إسحاق أصواتا: أخبرني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال: سمعت إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يقول للواثق: قال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي: ما قدر أحد قط أن يأخذ مني صوتا مستويا إلا محمد بن الحارث بن بسخنر، فإنه أخذ مني عدة أصوات كما أغنيها. ثم لم نلبث أن دخل علينا محمد بن الحارث. فقال له الواثق: حدثني إسحاق بن إبراهيم عن إسحاق الموصلي فيك بكذا وكذا. فقال: قد قال إسحاق ذاك لي مرات. فقال له الواثق: فأي شيء أخذت من صنعته أحسن عندك? فقال: هو يزعم أنه لم يأخذ منه أحد قط هذا الصوت كما أخذته منه: صوت:

إذا المرء قاسى الدهر وابيض رأسه                      وثلم تـثـلـيم الإنـاء جـوانـبـه

فليس له في العيش خير وإن بكـى                      على العيش أو رجى الذي هو كاذبه

 

صفحة : 1314

 

الشعر والغناء لإسحاق، ولحنه فيه رمل بالوسطى فأمره الواثق بأن يغنيه، فغناه إياه وأحسن ما شاء وأجاد. واستحسنه الواثق وأمر بأن يردده، فردده مرارا كثيرة، حتى أخذه الواثق وأخذه جواريه والمغنون. قال جحظة قال الهشامي فحدثت بهذا الحديث عمرو بن بانة فقال: ما خلق الله تعالى أحدا يغني هذا الصوت كما يغنيه هبة الله بن إبراهيم بن المهدي. فقلت له: قد سمعت ابن إبراهيم يغنيه، فاسمعه من محمد ثم احكم. فلقيني بعد ذلك فقال: الأمر كما قلت، قد سمعته من محمد فسمعت منه الإحسان كله .

ردد صوتا آخر من جارية أخرى: أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: كنت يوما في منزلي، فجاءني محمد بن الحارث بن بسخنر مسلما وعائدا من علة كنت وجدتها؛ فسألته أن يقيم عندي ففعل، ودعوت بما حضر فأكلنا وشربنا، وغنى محمد بن الحارث هذا الصوت: صوت:

أمن ذكر خود عينك اليوم تدمـع                      وقلبك مشغول بخودك مـولـع

وقائلة لي يوم وليت معـرصـا                      أهذا فراق الحب أم كيف تصنع

فقلت كذاك الدهر يا خود فاعلمي                      يفرق بين الناس طرا ويجمـع أصل هذا الصوت يمان هزج بالوسطى. قال الهشامي: وفيه لفليح ثاني ثقيل، ولإسحاق خفيف رمل قال علي بن يحي: فقلت له وقد ردد هذا الصوت مرارا وغناه أشجى غناء: إن لك في هذا الصوت معنى، وقد كررته من غير أن يقترحه عليك أحد. فقال: نعم هذا صوتي على جارية من القيان كنت أحبها وأخذته منها. فقلت له: فلم لا تواصلها? فقال:

لو لم أنكها دام لي حبها                      لكنني نكت فلا نكـت فأجبته فقلت:

أكثرت من نيكها والنيك مقطعة                      فارفق بنيكك إن الرفق محمود أخذ جواري الواثق منه غناء أخذه من إسحاق: وأخبرني جعفر بن قدامة بن علي بن يحيى أن إسحاق غنى بحضرة الواثق لحنه :

ذكرتك إذ مرت بنـا أم شـادن                      أمام المطايا تشرئب وتسـنـح

من المؤلفات الرمل أدماء حرة                      شعاع الضحى في متنها يتوضح والشعر لذي الرمة، ولحن إسحاق فيه ثقيل أول فأمره الواثق أن يعيده على الجواري، وأحلفه بحياته أن ينصح فيه. فقال: لا يستطيع الجواري أن يأخذنه مني، ولكن يحضر محمد بن الحارث فيأخذه مني وتأخذه الجواري منه: فأحضر وألقاه عليه، فأخذه منه، وأخذته الجواري منه .

أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل المعروف بوسواسة الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق قال: قال لي محمد بن الحارث بن بسخنر: أخذت جارية الواثق مني صوتا أخذته من أبيك، وهو : صوت :

أصبح الشيب في المفارق شاعا                      واكتسى الرأس من مشيب قناعا

وتوالى الشـبـاب إلا قـلـيلا                      ثم يأبى الـقـلـيل إلا وداعـا الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول قال: فسمعه الواثق منها، فاستحسنه وقال لعلويه ومخارق: أتعرفانه? فقال مخارق: أظنه لمحمد بن الحارث. فقال علويه: هيهات ليس هذا مما يدخل في صنعة محمد، هو يشبه صنعة ذلك الشيطان إسحاق. فقال له الواثق: ما أبعدت. ثم بعث إلي فأخبرني بالقصة ؛ فقلت: صدق علويه يا أمير المؤمنين، هذا لإسحاق ومنه أخذته .

غنت جارية صوتا أخذته عنه فأكرمها: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن المعتز قال قال لي أحمد بن الحسين بن هشام:

 

صفحة : 1315

 

جاءني محمد بن الحارث بن بسخنر يوما فقال لي: قم حتى أطفل بك على صديق لي حر، وله جارية أحسن خلق الله تعالى وجها وغناء. فقلت له: أنت طفيلي وتطفل بي هذه والله أخس حال. فقال لي: دع المجون وقم بنا؛ فهو مكان لا يستحي حر أن يتطفل عليه. فقمت معه، فقصد بي دار رجل من فتيان أهل سر من رأى، كان لي صديقا يكنى أبا صالح، وقد غيرت كنيته على سبيل اللقب فكنى أبا الصالحات، وكان ظريفا حسن المروءة، يضرب بالعود على مذهب الفرس ضربا حسنا ، وله رزق سني في الموالي، وكان من أولادهم، ولم يكن منزله يخلو من طعام كثير نظيف لكثرة قصد إخوانه منزله. فلما طرق بابه قلت له: فرجت عني، هذا صديقي وأنا طفيلي بنفسي لا أحتاج أن أكون في شفاعة طفيلي. فدخلنا، وقدم إلينا طعام عتيد طيب نظيف فأكلنا، وأحضرنا النبيذ، وخرجت جاريته إلينا من غير ستارة فغنت غناء حسنا شكلا ظريفا، ثم غنت من صنعة محمد بن الحارث هذا الصوت وكانت قد أخذته عنه وفيه أيضا لحن لإبراهيم، والشعر لابن أبي عيينة: صوت:

ضيعت عهد فتى لعهدك حافـظ                      في حفظه عجب وفي تضييعك

إن تقتليه وتذهـبـي بـفـؤاده                      فبحسن وجهك لا بحسن صنيعك فطرب محمد بن الحارث ونقطها بدنانير مسيفة كانت معه في خريطته، ووجه غلامه فجاءه ببرنية غالية كبيرة فغلفها منها ووهب لها الباقي. وكان لمحمد بن الحارث أخ طيب ظريف يكنى أبا هارون فطرب ونعر ونخر، وقال لأخيه: أريد أن أقول شيئا في السر. قال: قله علانية، قال: لا يصلح، قال: والله ما بيني وبينك شيء أبالي أن تقوله جهرا، فقله. فقال: أشتهي علم الله أن تسأل أبا الصالحات أن ينيكني، فعسى صوتي أن ينفتح ويطيب غنائي. فضحك أبو الصالحات وخجلت الجارية وغطت وجهها وقالت: سخنت عينك فإن حديثك يشبه وجهك .

صوت:

وأي أخ تبلـو فـتـحـمـد أمـره                      إذا لج خصم أو نبـا بـك مـنـزل

إذا أنت لم تنصف أخـاك وجـدتـه                      على طرف الهجران إن كان يعقل

ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتـنـي                      يمينك فانـظـر أي كـف تـبـدل

إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد                      إليه بوجه آخر الـدهـر تـقـبـل الشعر لمعن بن أوس المزني. والغناء لعريب خفيف رمل بالوسطى .

 

أخبار معن بن أوس ونسبه

نسبه، وهو شاعر فحل مخضرم: هو معن بن أوس بن نصر بن زياد بن أسعد بن أسحم بن ربيعة بن عدي بن ثعلبة بن ذؤيب بن عداء بن عثمان بن مزينة بن أد بن طابخة بن مضر بن نزار. ونسبوا إلى مزينة وهي امرأة: مزينة بنت كلب بن وبرة، وأبوهم عمرو بن أد بنة طابخة .

أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي وهاشم بن محمد الخزاعي وعمي قالوا: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: مزينة بنت كلب بن وبرة، تزوجها عمرو بن أد بن طابخة، فولدت له عثمان وأوسا، فغلبت أمهما على نسبهما. فعلى هذا القول عداء هو ابن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة .

ومعن شاعر مجيد فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام وله مدائح في جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ورحمهم، منهم عبد الله بن جحش، وعمر بن أبي سلمة المخزومي. ووفد إلى عمرو بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مستعينا به على بعض أمره، وخاطبه بقصيدته التي أولها:

تأوبه طيف بذات الجراثم                      فنام رفيقاه وليس بنـائم وعمر بعد ذلك إلى أيام الفتنة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم .

أشعر الإسلاميين من مزينة: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز عن يحيى بن عبد الله بن ثوبان عن علقمة بن محجن الخزاعي عن أبيه قال: كان معاوية يفضل مزينة في الشعر، ويقول: كان أشعر أهل الجاهلية منهم وهو زهير، وكان أشعر أهل الإسلام منهم وهو ابنه كعب، ومعن بن أوس .

كان مئناثا وقال شعرا في فضل الإناث: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثنا العتبي قال: كان معن بن أوس مئناثا ، وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهن؛ فولد لبعض عشيرته بنت فكرهها وأظهر جزعا من ذلك؛ فقال معن:

 

صفحة : 1316

 

 

رأيت رجالا يكرهون بناتـهـم                      وفيهن لا تكذب نساء صوالح

وفيهن والأيام تعثر بالفـتـى                      نوادب لا يملـلـنـه ونـوائح مر به عبيد الله بن العباس، وقد كف بصره، فبعث إليه بهبة فمدحه: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي يعني الحسن بن عليل قال حدثني أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف عن أبيه قال: مر عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بمعن بن أوس المزني وقد كف بصره فقال له: يا معن، كيف حالك? فقال له: ضعف بصري وكثر عيالي وغلبني الدين. قال: وكم دينك? قال: عشرة آلاف درهم. فبعث بها إليه. ثم مر به من الغد فقال له: كيف أصبحت يا معن? فقال:

أخذت بعين المال حتى نـهـكـتـه                      وبالـدين حـتـى مـا أكـاد أدان

وحتى سألت القرض عند ذوي الغنى                      ورد فـلان حـاجـتـي وفـلان فقال له عبيد الله: الله المستعان، إنا بعثنا إليك بالأمس لقمة فمالكتها حتى انتزعت من يدك، فأي شيء للأهل والقرابة والجيران وبعث إليه بعشرة آلاف درهم أخرى. فقال معن يمدحه:

إنك فرع مـن قـريش وإنـمـا                      تمج الندى منها البحور الفـوارع

ثووا قادة للناس بطـحـاء مـكة                      لهم وسقايات الحجيج الـدوافـع

فلما دعوا للموت لم تبك منـهـم                      على حادث الدهر العيون الدوامع شيء من خلقه ورحلته إلى الشام: أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني الفضل بن العباس القرشي عن سعيد بن عمرو الزبيري قال: كان لمعن بن أوس امرأة يقال لها ثور ومان لها محبا، وكانت حضرية نشأت بالشام، وكانت في معن أعرابية ولوثة ، فكانت تضحك من عجرفيته . فسافر إلى الشام في بعض أعوامه ، فضلت الرفقة عن الطريق وعدلوا عن الماء، فطووا منزلهم وساروا يومهم وليلتهم، فسقط فرس معن في وجار ضب دخلت يده فيه، فلم يستطع الفرس أن يقوم من شدة العطش حتى حمله أهل الرفقة حملا فأنهضوه، وجعل معن يقوده ويقول:

لو شهدتني وجـوادي ثـور                      والرأس فيه مـيل ومـور

لضحكت حتى يميل الكور قدم على ابن الزبير بمكة فلم يحسن ضيافته، وأكرمه ابن عباس وابن جعفر فمدحهما وذم ابن الزبير: أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال: قدم معن بن أوس مكة على ابن الزبير فأنزله دير الضيفان، وكان ينزلها الغرباء وأبناء السبيل والضيفان، فأقام يومه لم يطعم شيئا؛ حتى إذا كان الليل جاءهم ابن الزبير بتيس هرم هزيل فقال: كلوا من هذا، وهم نيف وسبعون رجلا؛ فغضب معن وخرج من عنده، فأتى عبيد الله بن العباس، فقراه وحمله وكساه، ثم أتى عبد الله بن جعفر وحدثه حديثه، فأعطاه حتى أرضاه، وأقام عنده ثلاثا ثم رحل . فقال يهجو ابن الزبير ويمدح ابن جعفر وابن عباس رضي الله تعالى عنهم أجمعين :

ظللنا بمـسـتـن الـرياح غـدية                      إلى أن تعلى اليوم في شر محضر

لدى ابن الزبير حابسين بـمـنـزل                      من الخير والمعروف والرفد مقفر

رمانا أبو بكر وقد طـال يومـنـا                      بتيس من الشاء الحجازي أعـفـر

وقال اطعموا منه ونـحـن ثـلاثة                      وسبعون إنسانا فيالـؤم مـخـبـر

فقلت له لا تقـرنـا فـأمـامـنـا                      جفان ابن عباس العلا وابن جعفر

وكن آمنا وانعق بـتـيسـك إنـه                      له أعنز ينزو علـيهـا وأبـشـر أنشده الفرزدق بيتا في هجاء مزينة فرد عليه بهجاء تميم: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو عبد الله محمد بن معاوية الأسدي قال: قدم معن بن أوس المزني البصرة، فقعد ينشد في المربد، فوقف عليه الفرزدق فقال: يا معن من الذي يقول:

لعمرك ما مزينة رهط معن                      بأخفاف يطأن ولا سـنـام فقال معن: أتعرف يا فرزدق الذي يقول:

لعمرك ما تميم أهل فلج                      بأرداف الملوك ولا كرام فقال الفرزدق: حسبك إنما جربتك . قال: قد جربت وأنت أعلم. فانصرف وتركه .

تمثل أحد أبناء روح بشعر له وهو على فاحشة: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال:

 

صفحة : 1317

 

دخلت خضراء روح ؛ فإذا أنا برجل من ولده على فاحشة يوما ، فقلت: قبحك الله هذا موضع كان أبوك يضرب فيه الأعناق ويعطي اللهى وأنت تفعل فيه ما أرى فالتفت إلي من غير أن يزول عنها وقال:

ورثنا المجد عن آباء صدق                      أسأنا في ديارهم الصنيعـا

إذا الحسب الرفيع تواكلتـه                      بناة السوء أوشك أن يضيعا قال: والشعر لمعن بن أوس المزني .

سافر إلى الشام وخلف ابنته في جوار ابن أبي سلمة وابن عمر بن الخطاب وقال شعرا: أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة عن الحرمازي قال: سافر معن بن أوس إلى الشام وخلف ابنته ليلى في جوار عمر بن أبي سلمة وأمه أم سلمة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وفي جوار عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه. فقال له بعض عشيرته: على من خلفت ابنتك ليلى بالحجاز وهي صبية ليس لها من يكفلها? فقال معن رحمه الله تعالى:

لعمرك مال ليلى بدار مضـيعة                      وما شيخها أن غاب عنها بخائف

وإن لها جارين لن يغدرا بـهـا                      ربيب النبي وابن خير الخلائف قال عبد الملك بن مروان عنه إنه أشعر الناس: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني مسعود بن بشر عن عبد الملك بن هشام قال: قال عبد الملك بن مروان يوما وعنده عدة من أهل بيت وولده: ليقل كل واحد منكم أحسن شعر سمع به؛ فذكروا لامرئ القيس والأعشى وطرفة فأكثروا حتى أتوا على محاسن ما قالوا فقال عبد الملك: أشعرهم والله الذي يقول:

وذي رحم قلمت أظفار ضغـنـه                      بحلمي عنه وهو ليس له حـلـم

إذا سمته وصل القرابة سامـنـي                      قطيعتها، تلك السفاهة والظـلـم

فاسعى لكي أبني ويهدم صالحـي                      وليس الذي يبني كمن شأنه الهدم

يحاول رغمي لا يحـاول غـيره                      وكالموت عندي أن ينال له رغم

فما زلت في لين له وتعـطـف                      عليه كما تحنو على الـولـد الأم

لأستل منه الضغن حتى سللـتـه                      وإن كان ذا ضغن يضيق به الحلم قالوا: ومن قائلها يا أمير المؤمنين? قال: معن بن أوس المزني .

خروجه إلى البصرة وزواجه من ليلى وطلاقها وقصة ذلك: أخبرني عيسى بن حسين الوراق قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي عن أبيه قال:

 

صفحة : 1318

 

خرج معن بن أوس المزني إلى البصرة ليمتار منها ويبيع إبلا له؛ فلما قدمها نزل بقوم من عشيرته، فتولت ضيافته امرأة منهم يقال لها ليلى، وكانت ذات جمال ويسار، فخطبها فأجابته فتزوجها، وأقام عندها حولا في أنعم عيش، فقال لها بعد حول: يابنة عم، إني قد تركت ضيعة لي ضائعة، فلو أذنت لي فاطلعت طلع أهلي ورممت من مالي فقالت: كم تقيم? قال: سنة، فأذنت له. فأتى أهله فأقام فيهم وأزمن عنها أي طال مقامه فلما أبطأ عليها رحلت إلى المدينة فسألت عنه، فقيل لها: إنه بعمق وهو ماء لمزينة فخرجت، حتى إذا كانت قريبة من عمق نزلت منزلا كريما . وأقبل معن في طلب ذود له قد أضلها وعليه مدرعة من صوف وبت من صوف أخضر قال: والبت: الطيلسان وعمامة غليظة. فلما رفع له القوم مال إليهم ليستسقي، ومع ليلى ابن أخ لها ومولى من مواليها جالس أمام خباء له. فقال له معن: هل من ماء? قال: نعم، وإن شئت سويقا، وإن شئت لبنا؛ فأناخ. وصاح مولى ليلى: يا منهلة وكانت منهلة الوصيفة التي تقوم على معن عندهم بالبصرة فلما أتته بالقدح وعرفها وحسر عن وجهه ليشرب عرفته وأثبتته ، فتركت القدح في يده وأقبلت مسرعة إلى مولاتها فقالت: يا مولاتي، هذا والله معن إلا أنه في جبة صصوف وبت صوف. فقالت: هو والله عيشهم، الحقي مولاي فقولي له: هذا معن، فاحبسه. فخرجت الوصيفة مسرعة فأخبرت. فوضع معن القدح وقال له: دعني حتى ألقاها في غير هذا الزي. فقال: لست بارحا حتى تدخل عليها. فلما رأته قالت: أهذا العيش الذي نزعت إليه يا معن ? قال: إي والله يا بنة عم أما إنك لو أقمت إلى أيام الربيع حتى ينبت البلد الخزامى والرخامى والسخبر والكمأة، لأصبت عيشا طيبا. فغسلت رأسه وجسده، وألبسته ثيابا لينة، وطيبته، وأقام معها ليلته أجمع يهرجها ، ثم غدا إلى عمق حتى أعد لها طعاما ونحر ناقة وغنما . وقدمت على الحي، فلم تبق فيهم امرأة إلا أتتها وسلمت عليها، فلم تدع منهن امرأة حتى وصلتها. وكانت لمعن امرأة بعمق يقال لها أم حقة. فقالت لمعن: هذه والله خير لك مني، فطلقني، وكانت قد حملت فدخله من ذلك وقام. ثم إن ليلى رحلت إلى مكة حاجة ومعن معها. فلما فرغا من حجهما انصرفا، فلما حاذيا منعرج الطريق إلى عمق قال معن: يا ليلى، كأن فؤادي ينعرج إلى ما ها هنا. فلو أقمت سنتنا هذه حتى نحج من قابل ثم نرحل إلى البصرة فقالت: ما أنا ببارحة مكاني حتى ترحل معي إلى البصرة أو تطلقني. فقال: أما إذ ذكرت الطلاق فأنت طالق. فمضت إلى البصرة ، ومضى إلى عمق، فلما فارقته وتبعتها نفسه، فقال في ذلك:

توهمت ربعا بالمعبر واضحـا                      أبت قرتاه اليوم إلا تـراوحـا

أربت عليه رادة حضـرمـية                      ومرتجز كأن فيه المصابحـا

إذا هي حلت كربلاء فلعلـعـا                      فجوز العذيب دونها فالنوابحـا

وبانت نواها من نواك وطاوعت                      مع الشانئين الشامتات الكواشحا

فقولا لليلى هل تعوض نادمـا                      له رجعة قال الطلاق ممازحا

فإن هي قالت لا فقولا لها بلى                      ألا تتقين الجاريات الذوابـحـا وهي قصيدة طويلة. فلما انصرف وليست ليلى معه قالت له امرأته أم حقة: ما فعلت ليلى? قال: طلقتها. قالت والله لو كان فيك خير ما فعلت ذلك، فطلقني أنا أيضا. فقال لها معن:

أعاذل أقصري ودعي بياتي                      فإنك ذات لومات حـمـات

فإن الصبح منتظـر قـريب                      وإنك بالملامة لن تفـاتـي

نأت ليلى فليلى لا تـواتـي                      وضنت بالمودة والبـتـات

وحلت دارها سفوان بعـدي                      فذا قار فنخرق الـفـرات

تراعى الريف دائبة عليهـا                      ظلال ألف مختلط النبـات

فدعها أو تناولها بـعـنـس                      من العيدي في قلص شخات وهي قصيدة طويلة. قال: وقال لأم حقة في مطالبتها إياه بالطلاق:

كأن لم يكـن يا أم حـقة قـبـل ذا                      بميطان مصطاف لنـا ومـرابـع

وإذ نحن في غصن الشباب وقد عسا                      بنـا الآن أن يعـوض جـــازع

فقد أنـكـرتـه أم حـقة حـادثـا                      وأنكرها ما شـئت والـود خـادع

 

صفحة : 1319

 

 

ولو آذنتنا أم حـقة إذ بـنـا                      شباب وإذ لما ترعنا الروائع

لقلنا لها بيني بليل حـمـيدة                      كذاك بلا ذم تؤدي الـودائع صوت:

أعابد حييتم على النأي عابـدا                      سقاك الإله المنشآت الرواعدا

أعابد ما شمس النهار إذا بدت                      بأحسن مما بين عينيك عابـدا ويروى:

أعابد ما شمس النهار بدت لنا ويروى:

أعابد ما الشمس التي برزت لنا                      بأحسن مما بين ثوبيك عابـدا الشعر للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب. والغناء لعطرد ثاني ثقيل بالبنصر. وفيه ليونس لحن من كتابه غير مجنس .

 

أخبار الحسين بن عبد الله

شعره في عابدة قبل زواجه بها: قد تقدم نسبه، وهو أشهر من أن يعاد. ويكنى أبا عبد الله. وكان من فتيان بني هاشم وظرفائهم وشعرائهم. وقد روى الحديث وحمل عنه، وله شعر صالح. وهذه الأبيات يقولها في زوجته عابدة بنت شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهي أخت عمرو ابن شعيب لذى يروى عنه الحديث. وفيها يقول قبل أن يتزوجها: صوت:

أعاذل إن الحب لا شك قـاتـلـي                      لئن لم تقارضني هوى النفس عابده

أعابد خافي الله في قتل مـسـلـم                      وجودي عليه مـرة قـط واحـده

فإن لم تريدي في أجرا ولا هـوى                      لكم غير قتلي يا عبـيد فـراشـده

فكم ليلة قد بت أرعى نجـومـهـا                      وعبدة لا تـدري بـذلـك راقـده الغناء لحكم الوادي، رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق .

فمما حمل عنه من الحديث ما حدثني به أحمد بن سعيد قال حدثني محمد بن عبيد الله ابن المنادي قال حدثني يونس بن محمد قال حدثنا أبو أويس عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة عن ابن عباس قال: مر النبي صلى الله عليه وسلم على حسان بن ثابت وهو في ظل فارع وحوله أصحابه وجاريته سيرين تغنيه بمزهرها:

هل علي ويحكمـا                      إن لهوت من حرج فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:  لا حرج إن شاء الله  .

وكانت أم عابدة هذه عمة حسين بن عبد الله بن عبيد الله، أمها عمرة بنت عبيد الله بن العباس، تزوجها شعيب فولدت له محمدا وشعيبا ابني شعيب وعابدة، وكان يقال لها عابدة الحسن، وعابدة الحسناء .

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن يحيى قال: خطب عابدة بنت شعيب بكار بن عبد الملك وحسين بن عبد الله، فامتنعت على بكار وتزوجت الحسين. فقال له بكار: كيف تزوجتك العابدة واختارتك مع فقرك? فقال له الحسين: أتعيرنا بالفقر وقد نحلنا الله تعالى الكوثر .

تنكر ما بينه وبين عبد الله بن معاوية فتعاتبا بشعر: أخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال: كان حسين بن عبد الله أمه أم ولد، وكان يقول شيئا من الشعر، وتزوج عابدة بنت شعيب وولدت منه، وبسببها ردت على ولد عمرو بن العاص أموالهم في دولة بني العباس. وكان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر صديقا له، ثم تنكر ما بينهما؛ فقال فيه ابن معاوية:

إن ابن عمك وابن أمك معلم شاكي السلاح

يقص العدو وليس ير                      ضى حـين يبـطـش بـالــجـــراح

لا تحسبن أدى ابن عمك شرب ألبان اللقاح

بل كالشجاة ورا اللها                      ة إذا تـســوغ بـــالـــقـــراح

فاخـتـر لـنـفـسـك مــن يجـــي                      بك تـحـت أطـراف الـــرمـــاح

من لا يزال يســـــــــــــوءه                      بالــغـــيب أن يلـــحـــاك لاح فقال حسين له:

أبرق لمن يخشـى وأو                      عد غير قومك بالسلاح

لسنـا نـقـر لـقـائل                      إلا المقرط بالصـلاح قال: ولحسين يقول ابن معاوية:

قل لذي الود والصفاء حسين                      أقدر الود بـينـنـا قـدره

ليس للدابغ المـحـلـم بـد                      من عتاب الأديم ذي البشره

لست إن راغ ذو إخاء وود                      عن طريق بتـابـع أثـره

بل أقيم القناة والود حـتـى                      يتبع الحق بـعـد أو يذره كان صديقا لابن أبي السمح ومدحه بشعر: أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن محمد بن سلام قال:

 

صفحة : 1320

 

كان مالك بن أبي السمح الطائي المغني صديقا للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس ونديما له، وكان يتغنى في أشعاره. وله يقول الحسين رحمه الله تعالى:

لا عيش إلا بمالك بن أبي السم                      ح فلا تلـحـنـي ولا تـلـم

أبيض كالسيف أو كما يلمع ال                      بارق في حندس من الظـلـم

يصيب من لـذة الـكـريم ولا                      يهتك حق الإسلام والـحـرم

يا رب ليل لنا كـحـاشـية ال                      برد ويوم كـذاك لـــم يدم

قد كنت فيه ومالك بن أبي السم                      ح الكريم الأخلاق والـشـيم

من ليس يعصيك إن رشدت ولا                      يجهل آي الترخيص في اللمم قال: فقال له مالك: ولا إن غويت والله بأبي أنت وأمي أعصيك . قال وغنى مالك بهذه الأبيات بحضرة الوليد بن يزيد، فقال له: أخطأ حسين في صفتك، إنما كان ينبغي أن يقول:

أحول كالقرد أو كما يخرج ال                      سارق في حالك من الظلـم أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كان الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس إذا صلى العصر دخل منزله وسمع الغناء عشيته. فأتاه قوم ذات عشية في حاجة لهم فقضاها، ثم جلسوا يحدثونه. فلما أطالوا قال لهم: أتأذنون? فقالوا نعم. فقام في أصحاب له وهو يقول:

قوموا بنا ندرك من العيش لدة                      ولا إنم فيها للتقي ولا عـارا صوت:

إن حربا وإن صخرا أبا سف                      يان حازا مجدا وعزا تلـيدا

فهما وارثا العلا عن جـدود                      ورثوها آباؤهم والـجـدودا الشعر لفضالة بن شريك الأسدي من قصيدة يمدح بها يزيد بن معاوية. وبعد هذين البيتين يقول:

وحوى إرثها معاوية الـقـر                      م وأعطى صفو التراث يزيدا والغناء لإبراهيم بن خالد المعيطي ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي. والله أعلم .

 

أخبار فضالة بن شريك ونسبه

نسبه وشعر لابنه عبد الله في ذم ابن الزبير: هو فضالة بن شريك بن سلمان بن خويلد بن سلمة بن عامر موقد النار بن الحريش بن نمير ابن والبة بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. وكان شاعرا فاتكا صعلوكا مخضرما أدرك الجاهلية والإسلام. وكان له ابنان شاعران، أحدهما عبد الله بن فضالة الوافد على عبد الله بن الزبير والقائل له: إن ناقتي قد نقبت ودبرت فقال له: ارقعها بجلد واخصفها بهلب وسر بها البردين. فقال له: إني قد جئتك مستحملا لا مستثيرا ، فلعن الله ناقة حملتني إليك. فقال له ابن الزبير: إن وراكبها. فانصرف من عنده وهو يقول:

أقول لغلمتي شدو ركـابـي                      أجاوز بطن مكة في سـواد

فمالي حين أقطع ذات عرق                      إلى ابن الكاهلية من معـاد

سيبعد بيننا نص الـمـطـايا                      وتعليق الأداوى والـمـزاد

وكل معبد قـد أعـلـمـتـه                      مناسمهن طلاع الـنـجـاد

أرى الحاجات عند أبي خبيب                      نكدن ولا أمـية بـالـبـلاد

من الأعياص أو من آل حرب                      أغر كغرة الفرس الـجـواد ابنه فاتك ومدح الأقيشر له: حدثنا بذلك محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني. فأما فاتك بن فضالة فكان سيدا جوادا. وله يقول الأقيشر يمدحه:

وفد الوفود فكنت أفضل وافد                      يا فاتك بن فضالة بن شريك مر بعاصم بن عمر بن الخطاب فلم يقره فهجاه: أخبرني بما ذكر من أخباره ها هنا مجموعا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب، وما ذكرته متفرقا فأنا ذاكر إسناده عمن أخذته. قال ابن حبيب: مر فضالة بن شريك بعاصم بن عمر الخطاب رضي الله تعالى عنهما وهو متبد بناحية المدينة، فنزل به فلم يقره شيئا ولم يبعث إليه ولا إلى أصحابه بشيء ، وقد عرفوه مكانهم. فارتحلوا عنه. والتفت فضالة إلى مولى لعاصم فقال له: قل له: أما والله لأطوقنك طوقا لا يبلى. وقال يهجوه:

ألا أيها الباغي القرى لست واجدا                      قراك إذا ما بت في دار عاصم

 

صفحة : 1321

 

 

إذا جئته تبغي القرى بات نائما                      بطينا وأمسى ضيفه غير نائم

فدع عاصما أف لأفعال عاصم                      إذا حصل الأقوام أهل المكارم

فتى من قريش لا يجود بنـائل                      ويحسب أن البخل ضربة لازم

ولولا يد الفاروق قلدت عاصما                      مطوقة يحدى بها في المواسم

فليتك من جزم بن زبان أو بني                      فقم أو النوكى أبان بـن دارم

أناس إذا ما الضيف حل بيوتهم                      غدا جائعا عيمان ليس بغانـم قال : فلما بلغت أبياته عاصما استعدى عليه عمرو بن سعيد بن العاص وهو يومئذ بالمدينة أمير، فهرب فضالة بن شريك فلحق بالشام، وعاذ بيزيد بن معاوية وعرفه ذنبه وما تخوف من عاصم؛ فأعاذه، وكتب إلى عاصم يخبره أن فضالة أتاه مستجيرا به، وأنه يحب أن يهبه له. ولا يذكر لمعاوية شيئا من أمره، ويضمن له ألا يعود لهجائه، فقبل ذلك عاصم وشفع يزيد بن معاوية. فقال فضالة يمدح يزيد بن معاوية:

إذا ما قريش فاخرت بقديمـهـا                      فخرت بمـجـد يا يزيد تـلـيد

بمجد أمير المؤمنـين ولـم يزل                      أبوك أمين الـلـه غـير بـلـيد

به عصم الله الأنام مـن الـردى                      وأدرك تبلا من معاشـر صـيد

ومجد أبي سفيان ذي الباع والندى                      وحرب وما حرب العلا بزهـيد

فمن ذا الذي إن عدد الناس مجدهم                      يجيء بمجد مثـل مـجـد يزيد وقال فيه القصيدة المذكور فيها الغناء في هذه القصيدة بعينها .

هجا ابن مطيع حين طرده المختار عن ولاية الكوفة: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني السكري عن ابن حبيب قال: كان عبد الله بن الزبير قد ولى عبد الله بن الأسود بن نضلة بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب، الكوفة، فطرده عنها المختار بن أبي عبيدة حين ظهر؛ فقال فضالة بن شريك يهجو ابن مطيع:

دعا ابن مطيع للبـياع فـجـئتـه                      إلى بيعة قلبي بها غـير عـارف

فقرب لي خشناء لما لمسـتـهـا                      بكفي لم تشبه أكـف الـخـلائف

معودة حمل الهراوي لقـومـهـا                      فرورا إذا ما كان يوم التـسـايف

من الشثنات الكرم أنكرت لمسهـا                      وليست من البيض السياط اللطائف

ولم يسم إذ بايعته من خلـيفـتـي                      ولم يشترط إلا اشتراط المجازف

متى تلق أهل الشام في الخيل تلفني                      على مقرب لا يزدهى بالمجاذف

ممر كبنيان العبادي مـخـطـف                      من الضاريات بالدماء الخواطـف هجا عمر بن مسعود لأنه تسول في جمع صداق زوجه: وقال ابن حبيب في هذا الإسناد: تزوج عامر بن مسعود بن أمية بن خلف الجمحي امرأة من بني نصر بن معاوية، وسأل في صداقها بالكوفة، فكان يأخذ من كل رجل سأله درهمين درهمين. فقال له فضالة بن شريك يهجوه بقوله:

أنكحتم يا بني نصر فـتـاتـكـم                      وجها يشين وجوه الربرب العين

أنكحتم لا فتى دنـيا يعـاش بـه                      ولا شجاعا إذا انشقت عصا الدين

قد كنت أرجو أبا حفص وسنتـه                      حتى نكحت بأرزاق المساكـين هجا رجلا من بني سليم خان الأمانة: وقال ابن حبيب في هذا الإسناد: أودع فضالة بن شريك رجلا من بني سليم يقال له قيس ناقة، فخرج في سفر، فلما عاد طلبها منه، فذكر أنها سرقت. فقال فيه :

ولـو أنـنـي يوم بـطـن الــعـــقـــيق                      ذكـرت وذو الـلـب ينـسـى كــثـــيرا

مصاب سليم لقاح النبي لم أودع الدهر فيهم بعيرا

وقد فات قيس بعيرانة                      إذا الـظـل كـان مـــداه قـــصـــيرا

من الـلاعـبـات بـفـضـل الـــزمـــام                      إذا أقـلـق الـسـير فـيه الـضــفـــورا

ومـن يبـك مـنـكـم بـنـي مـــوقـــد                      ولـم يرهـم يبـك شـجــوا كـــبـــيرا

هم الـعـاسـفـون صـلاب الـقـــنـــا                      إذا الـحـيل كـانـت مـن الـطـعـن زورا

وأيسـار لـقـمــان إذ أمـــحـــلـــوا                      وعـز لـمـن جـاءهـم مـسـتــجـــيرا

فإن أنـا لـم يقـض لـي ألـــقـــهـــم                      فرأت الـسـلام عـلـيهــم كـــثـــيرا

 

صفحة : 1322

 

عود إلى شعر في ذم ابن الزبير قيل إنه لفضالة: وذكر ابن حبيب في هذه الرواية أن القصيدة التي ذكرتها عن المدائني في خبر عبد الله بن فضالة بن شريك مع ابن الزبير كانت مع فضالة وابن الزبير لا مع ابنه، وذكر الأبيات وزاد فيها:

شكوت إليه أن نقبت قلـوصـي                      فرد جواب مشدود الـصـفـاد

يضن بـنـاقة ويروم مـلـكـا                      محال ذلـكـم غـير الـسـداد

وليت إمارة فبـخـلـت لـمـا                      وليتهم بمـلـك مـسـتـقـاد

فإن ولـيت أمـية أبـدلـوكـم                      بكل سـمـيدع واري الـزنـاد

من الأعياص أو من آل حـرب                      أغر كغرة الفـرس الـجـواد

إذا لم ألقهم بـمـنـى فـإنـي                      ببـيت لا يهـش لـه فـؤادي

سيدنيني لهم نـص الـمـطـايا                      وتعـلـيق الأداوي والـمـزاد

وظهر معبد قـد أعـمـلـتـه                      مناسمهـن طـلاع الـنـجـاد

وعين الحمض حمض خناصرات                      وما بالعرق من سبل الغـوادي

فهن خـواضـع الأبـدان قـود                      كأن رؤوسهـن قـبـور عـاد

كأن مواقع الغربـان مـنـهـا                      منارات بنين عـلـى عـمـاد طلب عبد الملك فضالة فلما وجده قد مات أكرم أهله: قال فلما ولي عبد الملك بعث إلى فضالة يطلبه، فوجده قد مات، فأمر لورثته بمائة ناقة تحمل وقرها برا وتمرا . قال : والكاهلية التي ذكرها زهرة بنت خنثر امرأة من بني كاهل ابن أسد، وهي أم خويلد بن أسد بن عبد العزى .

صوت:

لقد طال عهدي بالإمـام مـحـمـد                      وما كنت أخشى أن يطول به عهدي

فأصبحت ذا بـعـد وداري قـريبة                      فواعجبا من قرب داري ومن بعدي

فيا ليت أن العيد لـي عـاد يومـه                      فإني رأيت العيد وجهك لي يبـدي

رأيتك في برد النـبـي مـحـمـد                      كبدر الدجى بين العمامة والـبـرد الشعر لأبي السمط مروان الأصفر بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة .

والغناء لبنان خفيف رمل مطلق ابتداؤه نشيد. وذكر الصولي أن هذا الشعر ليحيى بن مروان. وهذا غلط قبيح .

 

أخبار مروان الأصغر

كان أهله شعراء وشعره دونهم: قد مر نسبه ونسب أبيه وأهله وأخبارهم متقدما. وكان مروان هذا آخر من بقي منهم يعد في الشعراء، وبقي بعده منهم متوج. وكان ساقطا بارد الشعر. فذكر لي عن أبي هفان أنه قال: شعر آل أبي حفصة بمنزلة الماء الحار. ابتداؤه في نهاية الحرارة ثم تلين حرارته، ثم يفتر ثم يبرد، وكذا كانت أشعارهم، إلا أن ذلك الماء لما انتهى إلى متوج جمد .

وهذ الشعر يقوله مروان في المنتصر، وكان قد أقصاه وجفاه، وأظهر خلافا لأبيه في سائر مذاهبه حتى في التشيع، فطرد مروان لنصبه، وأخرجه عن جلسائه. فقال هذه الأبيات وسأل بنان بن عمرو فغنى فيها المنتصر ليستعطفه. وخبره في ذلك يذكر في هذا الموضع من الكتاب .

مدح المتوكل وولاة عهده فأكرمه وأقطعه ضيعة: أخبرني عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني حماد بن أحمد بن سليمان الكلبي قال حدثني أبو السمط مروان الأصغر قال: لما دخلت إلى المتوكل مدحته ومدحت ولاة العهود الثلاثة، وأنشدته :

سقى الله نجدا والسلام على نجـد                      ويا حبذا نجد على النأي والبـعـد

نظرت إلى نجد وبغـداد دونـهـا                      لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد

ونجد بها قوم هـواهـم زيارتـي                      ولا شيء أحلى من زيارتهم عندي قال: فلما فرغت منها أمر لي بمائة وعشرين ألف درهم وخمسين ثوبا وثلاثة من الظهر فرس وبغلة وحمار، ولم أبرح ختى قلت قصيدتي التي أشكره فيها وأقول:

تخير رب الناس للناس جعفرا                      وملكه أمر العباد تـخـيرا فلما صرت إلى هذا البيت:

فأمسك ندى كفيك عني ولا تزد                      فقد كدت أن أطغى وأن أتجبرا قال لي لا والله لا أمسك حتى أغرقك بجودي .

 

 

صفحة : 1323

 

وحدثني عمر بهذا الخبر قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني حماد بن أحمد بن يحي قال حدثني مروان بن أبي الجنوب، فذكر مثل هذا الخبر سواء، وقال بعد قوله: لا والله لا أمسك حتى أغرقك، سلني حاجتك. فقلت: يا أمير المؤمنين، الضيعة التي أمرت أن أقطعها باليمامة ذكر ابن المدبر أنها وقف المعتصم على ولده فقال: قد قبلتك إياها مائة سنة بمائة درهم. فقلت: لا يحسن أن تضمن ضيعة بدرهم في السنة. فقال ابن المدبر فبألف درهم كل سنة. فقلت نعم. فأمر ابن المدبر أن ينفد ذلك لي، وقال: ليست هذه حاجة، هذه قبالة، فسلني حاجتك. فقلت: ضيعة يقال لها السيوح أمر الواثق بإقطاعي إياها، فمنعنيها ابن الزيات؛ فأمر بامضاء الإقطاع لي .

كان علي بن الجهم يطعن عليه حسدا له على موضعه من المتوكل، فهجاه هو في حضرة المتوكل وغلبه: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحي المنجم قال: كان علي بن الجهم يطعن على مروان بن أبي الجنوب ويثلبه حسدا له على موضعه من المتوكل. فقال له المتوكل يوما : يا علي، أيما أشعر أنت أو مروان? فقال: أنا يا أمير المؤمنين. فأقبل على مروان فقال له: قد سمعت فما عندك? قال: كل أحد أشعر مني يا أمير المؤمنين، وما أصف نفسي ولا أزكيها. وإذا رضيني أمير المؤمنين فما أبالي من زيفني. فقال له: قد صدقتك، علي يزعم سرا وجهرا أنه أشعر منك. فالتفت إليه مروان فقال له: يا علي أأنت أشعر مني? فقال: أوتشك في ذاك? قال: نعم أشك وأشك وهذا أمير المؤمنين بيننا. فقال له علي: إن أمير المؤمنين يحابيك. فقال المتوكل: هذا عي منك يا علي؛ ثم قال لابن حمدون: احكم بينهما. فقال: طرحتني والله يا أمير المؤمنين بين أنياب ومخالب أسدين. قال: والله لتحكمن بينهما. فقال له: أما إذ حلفت يا أمير المؤمنين فأشعرهما عندي أعرفهما في الشعر. قفال له المتوكل: قد سمعت يا علي. قال: قد عرف ميلك إليه فمال معه. فقال: دعنا منك، هذا كله عي، فإن كنت صادقا فاهج مروان. قال: قد سكرت ولا فضل في. فقال المتوكل لمروان: اهجه أنت، وبحياتي لا تبق غاية. فقال مروان :

إن ابن جهم في المغيب يعيبني                      ويقول لي حسنا إذا لاقانـي

صغرت مهابته وعظم بطنـه                      فكأنما في بطـنـه ولـدان

ويح ابن جهم ليس يرحم أمـه                      لو كان يرحمها لما عادانـي

فإذا التقينا ناك شعري شعـره                      ونزا على شيطانه شيطانـي قال: فضحك المتوكل والجلساء منه، وانخزل ابن الجهم، فلم يكن عنده أكثر من أن قال: جمع حيلة الرجال وحيلة النساء. فقال له المتوكل: هذا أيضا من عيك وبردك، إن كان عندك شيء فهاته؛ فلم يأت بشيء. فقال لمروان: بحياتي إن حضرك شيء فهاته، ولا تقصر في شتمك. فقال مروان:

لعمرك ما الجهم بن بدر بشاعر                      وهذا علي بعده يدعي الشعـرا

ولكن أبي قد كان جـارا لأمـه                      فلم ادعى الأشعار أوهمني أمرا قال: فضحك المتوكل وقال: زده بحياتي. فقال فيه:

يابن بدر يا علـيه                      قلت إني قرشيه

قلت ما ليس بحق                      فاسكتي يا نبطيه

اسكتي يا بنت جهم                      اسكتي يا حلقـيه فاخذ عبادة هذه الأبيات فغناها على الطبل وجاوبه من كان يغني، والمتوكل يضحك ويضرب بيديه ورجليه، وعلي مطرق كأنه ميت، ثم قال: علي بالدواة فأتي بها، فكتب:

بلاء لـيس يشـبـهـه بـلاء                      عداوة غير ذي حـسـب ودين

يبيحك منه عرضا لم يصـنـه                      ويرتع منك في عرض مصون قال علي بن الجهم شعرا في حبسه، فعارضه فلم يطلقوه: أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدثني محمد ابن السري قال: لما مدح علي بن الجهم وهو محبوس المتوكل بقوله:

توكلنا على رب السماء                      وسلمنا لأسباب القضاء وذكر فيها جميع الندماء وسبعهم وهجاهم، انتدب له مروان بن أبي الجنوب فعارضه فيها، وقد كان المتوكل رق له، فلما أنشده مروان هذه القصيدة اعتورته ألسنة الجلساء فثلبوه واغتابوه وضربوا عليه، فتركه في محبسه. والقصيدة :

ألم تعلم بأنك يابن جهم                      دعي في أناس أدعياء

 

صفحة : 1324

 

 

أعبد الله تهجو وابن عـمـر                      وبختيشوع أصحاب الوفـاء

هجوت الأكرمين وأنت كلب                      حقيق بالشتيمة والهـجـاء

أترمي بالزناء بنـي حـلال                      وأنت زنـيم أولاد الـزنـاء

أسامة من جدودك يا بن جهم                      كذبت وما بذلك من خفـاء قال في المعتصم شعرا بعدما كان من أمر العباس بن المأمون وعجيف: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى قال حدثني إبراهيم بن الحسن قال: لما كان من أمر العباس بن المأمون وعجيف ما كان، أنشد مروان بن أبي الجنوب المعتصم قصيدة أولها :

ألا يا دولة المعصوم دومي                      فإنك قلت للدنيا استقيمـي فلما بلغ إلى قوله:

هوى العباس حين أراد غدرا                      فوافى إذ هوى قعر الجحـيم

كذاك هوى كمهواء عجـيف                      فأصبح في سواء لظى الحميم قال المعتصم: أبعده الله  مدح أشناس فطرب له وأجازه من غير أن يفهمه: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثنا أبو العيناء قال: دخل مروان الأصغر بن أبي الجنوب على أشناس وقد مدحه بقصيدة فأنشده إياها، فجعل أشناس يحرك رأسه ويومئ بيديه ويظهر طربا وسرورا، وأمر له بصلة. فلما خرج قال له كاتبه: رأيت الأمير قد طرب وحرك رأسه ويديه لما كان يسمعه، فقد فهمه ? قال نعم. قال: فأي شيء كان يقول. قال: ما زال يقول علي رقية الخبز حتى حصل ما أراد وانصرف .

هجا علي بن يحيى المنجم فرد عليه: حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال: كان المتوكل يعابثني كثيرا، فقال في يوم من الأيام لمروان بن أبي جنوب: اهج علي بن يحيى؛ فقال مروان:

ألا إن يحـيى لا يقـاس إلـى أبـــي                      وعرض ابن يحيى لا يقاس إلى عرضي وهي أبيات ذكرها صيانة لعلي بن يحيى. قال: فأجبته عنها فقلت:

صدقت لعمري مـا يقـاس إلـى أبـي                      أبوك، ومن قاس الشواهق بالخـفـض

وهل لك عرض طاهـر فـتـقـيسـه                      إذا قيست الأعراض يوما إلى عرضي

ألستم مـوالـي لـلـعـين ورهـطـه                      أعادي بني العباس ذي الحسب المحض

توالون من عادى النـبـي ورهـطـه                      فترمون من والى أولي الفضل بالرفض

وليس عجيبا أن أرى لك مـبـغـضـا                      لأنك أهل لـلـعـداوة والـبـغـض نقد أبو العنبس الصيمري شعرا له فتهاجرا: حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى قال: أنشد مروان بن أبي جنوب المتوكل ذات يوم:

إني نزلت بساحة الـمـتـوكـل                      ونزلت في أقصى ديار الموصل فقال له بعض من حضر: فكيف الاتصال بين هؤلاء والمراسلة? فقال أبو العنبس الصيمري: كان له حمام هدى يبعث بها إليه من الموصل حتى يكاتبه على أجنحتها. فضحك المتوكل حتى استلقى، وخجل مروان وحلف بالطلاق لا يكلم أبا العنبس أبدا، فماتا متهاجرين. كذا أكبر حفظي أن جحظة حدثني به عن علي بن يحيى؛ فإني كتبته عن حفظي.

أنشد المتوكل في مرضه بالحمى قصيدة، فقال علي بن الجهم أن بعضها منتحل: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال قرأت في كتاب قديم: قال عوف بن محلم لعبد الله بن طاهر في علة اعتلها:

فإن تك حمى الربع شفك وردهـا                      فعقباك منها أن يطول لك العمـر

وقيناك لو نعطى المنى فيك والهوى                      لكان بنا الشكوى وكان لك الأجـر

 

صفحة : 1325

 

قال: ثم حم المتوكل حمى الربع، فدخل عليه مروان بن أبي الجنوب بن مروان بن أبي حفصة، فأنشده قصيدة له على هذا الروي، وأدخل البيتين فيها، فسر بها المتوكل. فقال له علي بن الجهم: يا أمير المؤمنين، هذا شعر مقول، والتفت إلي وقال: هذا يعلم. فالتفت إلي المتوكل وقال : أتعرفه? فقلت: ما سمعته قبل اليوم، فشتم علي بن الجهم وقال له: هذا من حسدك وشرك وكذبك. فلما خرجنا قال علي بن الجهم: ويحك مالك قد جننت أما تعرف هذا الشعر? قلت: بلى وأنشدته إياه. فلما عدت إلى المتوكل من غد قال له: يا أمير المؤمنين، قد اعترف لي بالشعر وأنشدنيه. فقال لي: أكذاك هو? فقلت: كذب يا أمير المؤمنين  ما سمعت به قط فازداد عليه غيظا وله شتما. فلما خرجنا قال لي: ما في الأرض شر منك. فقلت له: أنت أحمق، تريد مني أن أجيء إلى شعر قد قاله فيه شاعر يحبه ويعجبه شعره فأقول له: إني أعرفه فأوقع نفسي وعرضي في لسان الشاعر لترتفع أنت عنده، ويسقط ذاك ويبغضني أنا .

صوت:

ما لإبراهيم في العل                      م بهذا الشأن ثـان

إنما عمر أبـي إس                      حاق زين للزمـان

فإذا غنى أبو إسحـا                      ق أجابته المثانـي

منه يجنى ثمر اللـه                      و وريحان الجنـان

جنة الدنيا أبـو إس                      حاق في كل مكان عروضه من الرمل. الشعر لابن سيابة. والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ابنه .

 

أخبار ابراهيم بن سيابة ونسبه

جده حجام وهو ظريف ويرمى بالأبنة: إبراهيم بن سيابة بني هاشم، وكان يقال: إن جده حجام أعتقه بعض الهاشميين. وهو من مقاربي شعراء وقته، ليست له نباهة ولا شعر شريف، وإنما كان يميل بمودته ومدحه إلى إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق، فغنيا في شعره ورفعا منه، وكانا يذكرانه للخلفاء والوزراء ويذكرانهم به إذا غنيا في شعره، فينفعانه بذلك. وكان خليعا ماجنا، طيب النادرة، وكان يرمى بالأبنة .

شعره في جارية سوداء لامه أهله في عشقه لها: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو زائدة عن جعفر بن زياد قال: عشق ابن سيابة جارية سوداء، فلامه أهله على ذلك وعاتبوه؛ فقال:

يكون الخال في وجه قبـيح                      فيكسوه الملاحة والجمـالا

فكيف يلام معشوق على من                      يراها كلها في العين خـالا قصته مع ابن سوار القاضي ودايته رحاص: أخبرني محمد بن مزيد وعيسى بن الحسين والحسين بن يحيى قالوا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: لقي إبراهيم بن سيابة وهو سكران ابنا لسوار بن عبد الله القاضي أمرد، فعانقه وقبله، وكانت معه داية يقال لها رحاص، فقيل لها: إنه لم يقبله تقبيل السلام، إنما قبله قبلة شهوة فلحقته الداية فشتمته وأسمعته كل ما يكره، وهجره الغلام بعد ذلك. فقال له:

قل للذي ليس لي مـن                      يدي هـواه خـلاص

أأن لثـمـتـك سـرا                      فأبصرتني رحـاص

وقال فـي ذاك قـوم                      على انتقاصي حراص

هجرتنـي وأتـتـنـي                      شتيمة وانـتـقـاص

فهاك فاقتص مـنـي                      إن الجروح قصـاص ويروى أن رحاص هذه مغنية كان الغلام يحبها، وأنه سكر ونام؛ فقبله ابن سيابة. فلما انتبه قال للجارية: ليت شعري ما كان خبرك من ابن سيابة? فقالت له: سل عن خبرك أنت معه؛ وحدثته بالقصة؛ فهجره الغلام؛ فقال هذا الشعر .

جوابه لمن عاتبه على مجونه، ولمن سأل عنه وهو سكران محمول في طبق: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهروية قال حدثنا علي بن الصباح قال: عاتبنا ابن سيابة على مجونه، فقال: ويلكم لأن ألقى الله تبارك وتعالى بذل المعاصي فيرحمني، أحب إلي من ألقاه أتبختر إدلالا بحسناتي فيمقتني .

قال: ورأيت ابن سيابة يوما وهو سكران وقد حمل في طبق يعبرون به على الجسر، فسألهم إنسان ما هذا? فرفع رأسه من الطبق وقال: هذا بقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة يا كشخان .

ولع به أبو الحارث جميز حتى أخجله فهجاه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبو الشبل البرجمي قال:

 

صفحة : 1326

 

ولع يوما أبو الحارث جميز بابن سيابة حتى أخجله. فقال عند ذلك ابن سيابة يهجوه:

بنى أبو الحارث الجميز في وسط                      من ظهره وقريبا من ذراعـين

ديرا لقس إذا ما جـاء يدخـلـه                      ألقى على باب دير القس خرجين

يعدو على بطنه شدا على عجـل                      لا ذو يدين ولا يمشي برجـلـين جوابه لمن اقترض منه فاعتذر: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إبراهيم تينة قال: كتب ابن سيابة إلى صديق له يقترض منه شيئا؛ فكتب إليه يعتذر له ويحلف أنه ليس عنده ما سأله. فكتب إليه: إن كنت كاذبا فجعلك الله صادقا. وإن كنت ملوما فجعلك الله معذورا .

ضرط في جماعة فكلم استه: أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان ابن سيابة الشاعر عندنا يوما مع جماعة نتحدث ونتناشد وهو ينشدنا شيئا من شعره، فتحرك فضرط، فضرب بيده على استه غير مكترث، ثم قال: إما أن تسكتي حتى أتكلم، وإما أن تتكلمي حتى أسكت.

غمز غلاما أمرد فأجابه: أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب قال حدثني أبو هفان قال: غمز ابن سيابة غلاما أمرد ذات يوم فأجابه، ومضى به إلى منزله، فأكلا وجلسا يشربان. فقال له الغلام: أنت ابن سيابة الزنديق? قال نعم. قال: أحب أن تعلمني الزندقة. قال: أفعل وكرامة. ثم بطحه على وجهه، فلما تمكن منه أدخل عليه؛ فصاح الغلام أوه أيش هذا ويحك? قال سألتني أن أعلمك الزندقة، وهذا أول باب من شرائعها.

يرى فقدان الدقيق أكبر مصيبة: أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني محرز بن جعفر الكاتب قال: قال لي إبراهيم بن سيابة الشاعر: إذا كانت في جيرانك جنازة وليس في بيتك دقيق فلا تحضر الجنازة، فإن المصيبة عندك أكبر منها عند القوم، وبيتك أولى بالمأتم من بيتهم .

سخط عليه الفضل بن الربيع فاستعطفه بشعر فرضي عنه ووصله: أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: سخط الفضل بن الربيع على ابن سيابة، فسألته أن يرضى عنه فامتنع. فكتب إليه ابن سيابة بهذه الأبيات وسألني إيصالها:

إن كان جرمي قد أحاط بحرمتي                      فأحط بجرمي عفوك المأمـولا

فكم ارتجيتك في التي لا يرتجى                      في مثلها أحد فنلـت الـسـولا

وضللت عنك فلم أجد لي مذهبا                      ووجدت حلمك لي عليك دلـيلا

هبني أسـأت ومـا أقـر كـي                      يزداد عفوك بعد طولك طـولا

فالعفو أجمل والتفضل بامـرئ                      لم يعدم الراجون منه جـمـيلا فلما قرأها الفضل دمعت عيناه ورضي عن ابن سيابة، وأوصله إليه وأمر إليه بعشرة آلاف درهم .

حواره المقذع مع بشار: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثنا الحسن بن الفضل قال سمعت ابن عائشة يقول: جاء إبراهيم بن سيابة إلى بشار فقال له: ما رأيت أعمى قط إلا وقد عوض من بصره إما الحفظ والذكاء وإما حسن الصوت، فأي شيء عوضت أنت ? قال: ألا أرى ثقيلا مثلك، ثم قال له: من أنت ويحك? قال: إبراهيم بن سيابة. فتضاحك ثم قال : لو نكح الأسد في استه لذل . وكان إبراهيم يرمى بذلك. ثم تمثل بشار:

لو نكح االليث في استه خضعا                      ومات جوعا ولم ينل شبعـا

كذلك السيف عنـد هـزتـه                      لو بصق الناس فيه ما قطعا نزل على سليمان بن يحيى بن معاذ بنيسابور: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن أبي نصر المروزي قال حدثني محمد بن عبد الله الطلحي قال حدثني سليمان بن يحيى بن معاذ قال: قدم إبراهيم بن سيابة نيسابور فأنزلته علي؛ فجاءني ليلة من الليالي وهو مهرب ، فجعل يصيح بي: يا أبا أيوب. فخشيت أن يكون قد غشيه شيء يؤذيه، فقلت: ما تشاء? فقال:

أعياني الشادن الربيب فقلت بماذا? فقال:

أكتب أشكو لا يجيب قال فقلت له: داره وداوه؛ فقال:

من أين أبغي شفاء ما بي                      وإنما دائي الـطـبـيب فقلت: لا دواء إذا إلا أن يفرج الله تعالى. فقال:

يا رب فرج إذا وعجل                      فإنك السامع المجيب ثم انصرف .

في هذا الشعر رمل طنبوري لجحظة .

 

 

صفحة : 1327

 

من قصيدة أخت الوليد بن طريف في رثائه: قصيدة:

أيا شجر الخابور مال مـورقـا                      كأنك لم تحزن على ابن طريف

فتى لا يحب الزاد إلا من التقى                      ولا المال إلا من قنا وسـيوف الشعر لأخت الوليد بن طريف الشاري. والغناء لعبد الله بن طاهر ثقيل أول بالوسطى، من رواية ابنه عبيد الله عنه. وأول هذه الأبيات كما أنشدنا محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد ابن يحيى ثعلب :

بتل بناثا رسـم قـبـر كـأنـه                      على علم فوق الجبال مـنـيف

تضمن جوادا حاتـمـيا ونـائلا                      وسورة مقدام وقلب حصـيف

ألا قاتل الله الجثا حيث أضمرت                      فتى كان بالمعروف غير عفيف

فإن يك أراده يزيد بـن مـزيد                      فيا رب خيل فضها وصفـوف

ألا يا لقوم للـنـوائب والـردى                      ودهر ملح بالكـرام عـنـيف

وللبدر من بين الكواكب إذ هوى                      وللشمس همت بعده بكسـوف

أيا شجر الخابور مالك مورقـا                      كأنك لم تحزن على ابن طريف

فتى لا يحب الزاد إلا من التقى                      ولا المال إلا من قنا وسـيوف

ولا الخيل إلا كل جرداء شطـبة                      وكل حصان بالـيدين غـروف

فلا تجزعا يا ابنا طريف فإننـي                      أرى الموت نزالا بكل شـريف

فقدناك فقدان الربيع ولـيتـنـا                      فديناك من دهمائنـا بـألـوف وهذه الأبيات تقولها أخت الوليد بن طريف ترثيه، وكان يزيد بن مزيد قتله.

ذكر الخبر في ذلك

مقتل الوليد بن طريف: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد عن عمه عن جماعة من الرواة قال: كان الوليد بن طريف الشيباني رأس الخوارج وأشدهم بأسا وصولة وأشجعهم؛ فكان من بالشماسية لا يأمن طروقه إياه ، واشتدت شوكته وطالت أيامه. فوجه إليه الرشيد يزيد بن مزيد الشيباني، فجعل يخاتله ويماكره. وكانت البرامكة منحرفة عن يزيد بن مزيد، فأغروا به أمير المؤمنين، وقالوا: إنما يتجافى عنه للرحم، وإلا فشوكة الوليد يسيرة، وهو يواعده وينتظر ما يكون من أمره. فوجه إليه الرشيد كتاب مغضب يقول فيه: لو وجهت بأحد الخدم لقام بأكثر مما تقوم به، ولكنك مداهن متعصب. وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن أخرت مناجزة الوليد ليوجهن إليك من يحمل رأسك إلى أمير المؤمنين. فلقي الوليد عشية خميس في شهر رمضان. فيقال: إن يزيد جهد عطشا حتى رمه بخاتمه في فيه، فجعل يلوكه ويقول: اللهم إنها شدة شديدة فاسترها. وقال لأصحابه: فداكم أبي وأمي، إنما هي الخوارج ولهم حملة، فاثبتوا لهم تحت التراس ، فإذا انقضت حملتهم فاحملوا؛ فإنهم إذا انهزموا لم يرجعوا. فكان كما قال، حملوا وثبت يزيد ومن معه من عشيرته وأصحابه، ثم حمل عليهم فانكشفوا. ويقال إن أسد بن يزيد كان شبيها بأبيه جدا، وكان لا يفصل بينهما إلى المتأمل، وكان أكثر ما يباعده منه ضربة في وجه يزيد تأخذ من قصاص شعره ومنحرفة على جبهته؛ فكان أسد يتمنى مثلها. فهوت له ضربة فأخرج وجهه من الترس فأصابته في ذلك الموضع. فيقال: إنه لو خطت على مثال ضربة أبيه ما عدا ، جاءت كأنها هي. واتبع يزيد الوليد بن طريف فلحقه بعد مسافة بعيدة فأخذ رأسه. وكان الوليد خرج إليهم حيث خرج وهو يقول:

أنا الوليد بن طريف الشاري                      قسورة لا يصطلى بنـاري

جوركم أخرجني من داري خرجت أخته لتثأر له فزجرها يزيد بن مزيد: فلما وقع فيهم السيف وأخذ رأس الوليد، صبحتهم أخته ليلى بنت طريف مستعدة عليها الدرع والجوشن، فجعلت تحمل على الناس فعرفت. فقال يزيد: دعوها، ثم خرج إليها فضرب بالرمح قطاة فرسها، ثم قال اغربي غرب الله عليك  فقد فضحت العشيرة؛ فاستحيت وانصرفت وهي تقول:

أيا شجر الخابور مالك مورقـا                      كأنك لم تحزن على ابن طريف

فتى لا يحب الزاد إلا من التقى                      ولا المال إلا من قنا وسـيوف

ولا الذخر إلا كل جرداء صلدم                      وكل دقيق الشفرتين خـفـيف

 

صفحة : 1328

 

فلما انصرف يزيد بالظفر حجب برأي البرامكة، وأظهر الرشيد السخط عليه. فقال: وحق أمير المؤمنين لأصيفن وأشتون على فرسي أو أدخل. فارتفع الخبر بذلك فأذن له فدخل. فلما رآه أمير المؤمنين ضحك وسر وأقبل يصيح: مرحبا بالأعرابي حتى دخل وأجلس وأكرم وعرف بلاؤه ونقاء صدره .

من قصيد مسلم بن الوليد في يزيد بن مزيد: ومدحه الشعراء بذلك. فكان أحسنهم مدحا مسلم بن الوليد؛ فقال فيه قصيدته التي أولها:

أجررت حبل خليع في الصبا غـزل                      وشمرت همم العذال في عـذلـي

هاج البكاء على العين الطموح هوى                      مفرق بين تـوديع ومـحـتـمـل

كيف السلو لقلب بات مـخـتـبـلا                      يهذي بصاحب قلب غير مختـبـل وفيها يقول:

يفتر عند افترار الحرب مبتسـمـا                      إذا تغير وجه الفارس الـبـطـل

موف على مهج في يوم ذي رهـج                      كأنه أجـل يسـعـى إلـى أمـل

ينال بالرفق ما يعيا الـرجـال بـه                      كالموت مستعجلا يأتي على مهـل

لا يرحل الناس إلا نحو حجـرتـه                      كالبيت يفضي إليه ملتقى السـبـل

يقري المنية أرواح العـداة كـمـا                      يقري الضيوف شحوم الكوم والبزل

يكسو السيوف رؤوس الناكثين بـه                      ويجعل الهام تيجان القنـا الـذبـل

إذا انتضى سيفه كانت مسـالـكـه                      مسالك الموت في الأبدان والقلـل

لا تكذبن فإن المـجـد مـعـدنـه                      وراثة في بني شيبـان لـم تـزل

إذا الشريكي لم يفخر عـلـى أحـد                      تكلم الفخر عنه غير مـنـتـحـل

الزائديون قـوم فـي رمـاحـهـم                      خوف المخيف وأمن الخائف الوجل

كبيرهم لا تقـوم الـراسـيات لـه                      حلما وطفلهم في هدي مكتـهـل

اسلم يزيد فما في الملـك مـن أود                      إذا سلمت ولا في الدين من خلـل

لولا دفاعك بأس الروم إذ مكـرت                      عن بيضة الدين لم تأمن من الثكـل

والمارق ابن طريف قد دلفـت لـه                      بعارض للمنايا مسـبـل هـطـل

لو أن غير شريكـي أطـاف بـه                      فاز الوليد بقدح الناضل الخـصـل

ما كان جمعهم لما دلـفـت لـهـم                      إلا كمثل جراد ريع مـنـجـفـل

كم آمن لك نائي الدار مـمـتـنـع                      أخرجته من حصون الملك والخول

تراه في الأمن في درع مضاعـفة                      لا يأمن الدهر أن يدعى على عجل

لا يعبق الطيب خديه ومـفـرقـه                      ولا يمسح عينيه مـن الـكـحـل

يأبى لك الذم في يومـيك إن ذكـرا                      عضب حسام وعرض غير مبتـذل

فافخر فما لك في شيبان من مثـل                      كذاك ما لبني شيبان مـن مـثـل وقال محمد بن يزيد: يعني بقوله:

تراه في الأمن في درع مضاعفة كان معن يقدمه على بنيه فعاتبته امرأته فأراها حالهم وحاله:

 

صفحة : 1329

 

خبر يزيد بن مزيد. وذاك أن امرأة معن بن زائدة عاتبت معنا في يزيد وقالت: إنك لتقدمه وتؤخر بنيك، وتشيد بذكره وتحمل ذكرهم، ولو نبهتهم لانتبهوا، ولو رفعتهم لارتفعوا. فقال معن: إن يزيد قريب لم تبعد رحمه، وله علي حكم الولد إذ كنت عمه. وبعد فإنهم ألوط بقلبي وأدنى من نفسي على ما توجبه واجبة الولادة للأبوة في تقديمهم ، ولكني لا أجد عندهم ما أجده عنده. ولو كان ما يضطلع به يزيد في بعيد لصار قريبا، وفي عدو لصار حبيبا. وسأريك في ليلتي هذه ما ينفسح به اللوم عني ويتبين به عذري. يا غلام اذهب فادع جساسا وزائدة وعبد الله فلانا وفلانا، حتى أتى على أسماء ولده؛ فلم يلبث أن جاؤوا في الغلائل المطيبة والنعال السندية، وذلك بعد هدأة من الليل، فسلموا وجلسوا. ثم قال: يا غلام ادع لي يزيد وقد أسبل سترا بينه وبين المرأة، وإذا به قد دخل عجلا وعليه السلاح كله، فوضع رمحه بباب المجلس ثم أتى يحضر . فلما رآه معن قال: ما هذه الهيئة أبا الزبير? وكان يزيد يكنى أبا الزبير وأبا خالد فقال: جاءني رسول الأمير فسبق إلى نفسي أنه يريدني لوجه، فقلت: إن كان مضيت ولم أعرج، وإن يكن الأمر على خلاف ذلك فنزع هذه الآلة أيسر الخطب. فقال لهم: انصرفوا في حفظ الله. فقالت المرأة: قد تبين عذرك. فأنشد معن متمثلا:

نفس عصام سودت عصاما                      وعودته الكر والإقدامـا

وصيرته ملكا همـامـا من شعر أخته في رثائه: وأخبرني محمد بن الحسن الكندي قال حدثنا الرياشي قال: أنشدني الأصمعي لأخت الوليد بن طريف ترثيه:

ذكـرت الـولـيد وأيامـه                      إذ الأرض من شخصه بلقع

فأقبلت أطلبه في السـمـاء                      كما يبتغي أنفـه الأجـدع

أضاعك قومك فليطلـبـوا                      إفادة مثل الذي ضـيعـوا

لو أن السيوف التي حدهـا                      يصيبك تعلم ما تـصـنـع

نبت عنك أو جعلـت هـيبة                      وخوفا لصولك لا تقـطـع بعض أخلاق عبد الله بن طاهر: فأما خبر عبد الله بن طاهر في صنعته هذا الصوت، فإن عبد الله كان بمحل من علو المنزلة وعظم القدر ولطف مكان من الخلفاء، يستغني به عن التقريظ له والدلالة عليه. وأمره في ذلك مشهور عند الخاصة والعامة، وله في الأدب مع ذلك المحل الذي لا يدفع، وفي السماحة والشجاعة ما لا يقاربه فيه كبير أحد .

فرق خراج مصر وقال أبياته أرضى بها المأمون: أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد المبرد أن المأمون أعطى عبد الله بن طاهر مال مصر لسنة خراجها وضياعها، فوهبه كله وفرقه في الناس، ورجع صفرا من ذلك، فغاظ المأمون فعله. فدخل إليه يوم مقدمه فأنشده أبياتا قالها في هذا المعنى، وهي:

نفسي فداؤك والأعناق خاضـعة                      للنائبات أبيا غير مـتـهـضـم

إليك أقبلت من أرض أقمت بهـا                      حولين بعدك في شوق وفي ألـم

أقفو مساعيك اللاتي خصصت بها                      حذو الشراك على مثل من الأدم

فكان فضلي فيها أنـنـي تـبـع                      لما سننت من الإنعام والـنـعـم

ولو وكلت إلى نفسي غنيت بهـا                      لكن بدأت فلم أعجـز ولـم ألـم فضحك المأمون وقال: والله ما نفست عليك مكرمة نلتها ولا أحدوثة حسن عنك ذكرها، ولكن هذا شيء إذا عودته نفسك افترقت ولم تقدر على لم شعثك وإصلاح حالك. وزال ما كان في نفسه .

أتاه معلى الطائي ومدحه فأجازه: أخبرني وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن فرقد قال أخبرني محمد ابن الفضل محمد بن منصور قال: لما افتتح عبد الله بن طاهر مصر ونحن معه، سوغه المأمون خراجها. فصعد المنبر فلم يزل حتى أجاز بها كلها ثلاثة آلاف دينار أو نحوها. فأتاه معلى الطائي وقد أعلموه ما قد صنع عبد الله بن طاهر بالناس في الجوائز، وكان عليه واحدا، فوقف بين يديه تحت المنبر فقال: أصلح الله الأمير أنا معلى الطائي، وقد بلغ مني ما كان منك إلي من جفاء وغلظ. فلا يغلظن علي قبلك، ولا يستخفنك الذي بلغك، أنا الذي أقول:

يا أعظم الناس عفوا عند مقدرة                      وأظلم الناس عند الجود للمال

لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهبا                      لما أشرت إلى خزن بمثقـال

 

صفحة : 1330

 

 

تغلى بما فيه رق الحمد تمـلـكـه                      وليس شيء أعاض الحمد بالغالـي

تفك باليسر كف العسر من زمـن                      إذا استطال على قـوم بـإقـلال

لم تخل كفك من جود لمخـتـبـط                      أ ومرهف قاتل في رأس قـتـال

وما بثثت رعيل الخيل فـي بـلـد                      إلا عصـفـن بـأرزاق وآجـال

إن كنت على بـال مـنـنـت بـه                      فإن شكرك من قلبي علـى بـال

ما زلت منقضبا لولا مـجـاهـرة                      من ألسن خضن في صدري بأقوال قال فضحك عبد الله وسر بما كان منه، وقال: يا أبا السمراء أقرضني عشرة آلاف دينار، فما أمسيت أملكها؛ فأقرضه فدفعها إليه .

أحسن إلى موسى بن خاقان ثم جفاه، فمدح موسى المأمون وعرض به: أخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال: كان موسى بن خاقان مع عبد الله بن طاهر بمصر، وكان نديمه وجليسه، وكان له مؤثرا مقدما؛ فأصاب منه معروفا كثيرا وأجازه بجوائز سنية هناك وقبل ذلك. ثم إنه وجد عليه في بعض الأمر، فجفاه وظهر له منه بعض ما لم يحبه، فرجع حينئذ إلى بغداد وقال: صوت:

إن كان عبد الله خلانا                      لا مبدئا عرفا وإحسانا

فحسبنا الله رضينا بـه                      ثم بعبد الله مـولانـا يعني بعبد الله الثاني المأمون، وغنت فيه جاريته ضعف لحنا من الثقيل الأول، وسمعه المأمون فاستحسنه ووصله وإياها. فبلغ ذلك عبد الله بن طاهر، فغاظه ذلك وقال: أجل صنعنا المعروف إلى غير أهله فضاع .

وكانت ضعف إحدى المحسنات. ومن أوائل صنعتها وصدور أغانيها وما برزت فيه وقدمت فاختيرت، صنعتها في شعر جميل:

أمنك سرى يا بثـن طـيف تـأوبـا                      هدوءا فهاج القلب شوقا وأنصـبـا

عجبت له أن زار في النوم مضجعي                      ولو زارني مستيقظا كان أعجـبـا الشعر لجميل، والغناء لضعف ثقيل أول بالبنصر .

قصته مع محمد بن يزيد الأموي: أخبرني عمي قال حدثني أبو جعفر بن الدهقانة النديم قال حدثنا العباس بن الفضل الخراساني، وكان من وجوه قواد طاهر وابنه عبد الله، وكان أديبا عاقلا فاضلا، قال: لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي يفخر فيها بمآثر أبيه وأهله ويفخر بقتلهم المخلوع، عارضه محمد بن يزيد الأموي الحصني، وكان رجلا من ولد مسلمة بن عبد الملك، فأفرط في السب وتجاوز الحد في قبح الرد، وتوسط بين القوم وبين بني هاشم فأربى في التوسط والتعصب. فكان مما قال فيه:

يا بن بيت النار موقدهـا                      ما لـحـاذيه سـراويل

من حسين من أبوك ومن                      مصعب غالتكم غـول

نسب في الفخر مؤتشب                      وأبــــوات أراذيل

قاتل المخلوع مقـتـول                      ودم المقتول مطـلـول

 

صفحة : 1331

 

وهي قصيدة طويلة. فلما ولي عبد الله مصر ورد إليه تدبير أمر الشام، علم الحصني أنه لا يفلت منه إن هرب ولا ينجو من يده حيث حل، وأحرز حرمه، وترك أمواله ودوابه وكل ما كان يملكه في موضعه، وفتح باب حصنه وجلس عليه، ونحن نتوقع من عبد الله بن طاهر أن يوقع به. فلما شارفنا بلده وكنا على أن نصبحه ، دعاني عبد الله في الليل فقال لي: بت عندي الليلة، وليكن فرسك معدا عندك لا يرد، ففعلت. فلما كان في السحر أمر غلمانه وأصحابه الأ يرحلوا حتى تطلع الشمس، وركب في السحر وأنا وخمسة من خواص غلمانه معه ، فسار حتى صبح الحصني، فرأى بابه مفتوحا ورآه جالسا مفتوحا مسترسلا، فقصده وسلم عليه ونزل عنده وقال له: ما أجلسك ها هنا وحملك على أن فتحت بابك ولم تتحصن من هذا الجيش المقبل ولم تتنح عن عبد الله بن طاهر مع ما في نفسه عليك وما بلغه عنك? فقال: إن ما قلت لم يذهب علي، ولكني تأملت أمري، وعلمت أني أخطأت خطيئة حملني عليها نزق الشباب وغرة الحداثة، وأني هربت منه لم أفته، فباعدت البنات والحرم، واستسلمت بنفسي وكل ما أملك؛ فأنا أهل بيت قد أسرع القتل فينا، ولي بمن مضى أسوة؛ فإني أثق بأن الرجل إذا قتلني وأخذ مالي شفى غيظه ولم يتجاوز ذلك إلى الحرم ولا له فيهن أرب، ولا يوجب جرمي إليه أكثر مما بذلته. قال: فوالله ما اتقاه عبد الله إلا بدموعه تجري على لحيته. ثم قال له: أتعرفني? قال: لا والله قال: أنا عبد الله بن طاهر، وقد أمن الله تعالى روعتك، وحقن دمك، وصان حرمك، وحرس نعمتك، وعفا عن ذنبك. وما تعجلت إليك وحدي إلا لتأمن من قبل هجوم الجيش، ولئلا يخالط عفوي عنك روعة تلحقك. فبكى الحصني وقام فقبل رأسه؛ وضمه إليه عبد الله وأدناه، ثم قال له: إما لا فلا بد من عتاب. يا أخي جعلني الله فداك قلت شعرا في قومي أفخر بهم لم أطعن فيه على حسبك ولا ادعيت فضلا عليك. وفخرت بقتل رجل هو وإن كان من قومك، فهم القوم الذين ثأرك عندهم؛ فكان يسعك السكوت، أو إن لم تسكت لا تغرق ولا تسرف. فقال: أيها الأمير، قد عفوت، فاجعله العفو الذي لا يخلطه تثريب، ولا يكدر صفوه تأنيب. قال: قد فعلت، فقم بنا ندخل إلى منزلك حتى نوجب عليك حقا بالضيافة. فقام مسرورا فأدخلنا، فأتى بطعام كان قد أعده، فأكلنا وجلسنا نشرب في مستشرف له. وأقبل الجيش، فأمرني عبد الله أن أتلقاهم فأرحلهم، ولا ينزل أحد منهم إلا في المنزل، وهو على ثلاثة فراسخ؛ فنزلت فرحلتهم. وأقام عنده إلى العصر . ثم دعا بدواة فكتب له بتسويغه خراجه ثلاث سنين، وقال له: إن نشطت لنا فالحق بنا، وإلا فأقم بمكانك. فقال: فأنا أتجهز بالأمير. ففعل فلحق بنا بمصر ولم يزل مع عبد الله لا يفارقه حتى رحل إلى العراق، فودعه وأقام ببلده .

بعض الأشعار التي غنى فيها وذكر بعض أخبار استدعاها بيانها: فأما الأصوات التي غنى فيها عبد الله بن طاهر فكثيرة . وكان عبيد الله بن عبد الله إذا ذكر شيئا منها قال: الغناء للدار الكبيرة، وإذا ذكر شيئا من صنعته قال: الغناء للدار الصغيرة فمنها ومن مختارها وصدورها ومقدمها لحنه من شعر أخت عمرو بن عاصية وقيل: إنه لأخت مسعود بن شداد فإنه صوت نادر جيد. قال أبو العبيس بن حمدون وقد ذكره ففضله: جاء به عبد الله بن طاهر صحيح العمل مزدوج النغم بين لين وشدة على رسم الحذاق من القدماء، وهو: صوت:

هلا سقيتم بني سهـم أسـيركـم                      نفسي فداؤك من ذي غلة صادي

الطاعن الطعنة النجلاء يتبعـهـا                      مضرج بعد ما جادت بـإزبـاد الشعر لأخت عمرو بن عاصية السلمي ترثيه . وكان بنو سهم، وهم بطن من هذيل، أسروه في حرب كانت بينهم ولم يعرفوه، فلما عرفوه قتلوه. وكان قد عطش فاستسقاهم، فمنعوه وقتلوه على عطشه. وقيل: إن هذا الشعر للفارغة أخت مسعود بن شداد. ولحن عبد الله بن طاهر خفيف ثقيل أول بالوسطى ابتداؤه استهلال .

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال: قتلت بنو سهم، وهم بطن من هذيل، عمرو بن عاصية السلمي، وكان رجلان منهم أخذاه أخذا، فاستسقاهما ماء فمنعاه ذلك، ثم قتلاه. فقالت أخته ترثيه، وتذكر ما صنعوا به:

شبت هذيل وبهز بينها إرة                      فلا تبوخ ولا يرتد صاليها

 

صفحة : 1332

 

ويروى: شبت هذيل وسهم، وهو الصحيح، ولكن كذا قال عمر بن شبة .

 

إن ابن عاصية المقتول بينكما                      خلى علي فجاجا كان يحميها وقالت أيضا ترثيه:

يا لهف نفسي لهفـا دائمـا أبـدا                      على ابن عاصية المقتول بالوادي

هلا سقيتم بنس سهـم أسـيركـم                      نفسي فداؤك من ذي غلة صادي قال: فغزا عرعرة بن عاصية هذيلا يطلبهم بدم أخيه، فقتل منهم نفرا وسبى امرأة فجردها، ثم ساقها معه عارية إلى بلاد بني سليم؛ فقالت عند ذلك :

ألامت سليم في السياق وأفحـشـت                      وأفرط في السوق العنيف إسارها

لعل فتاة مـنـهـم أن يسـوقـهـا                      فوارس منها وهي باد شـوارهـا

فإن سبقت عليا سليم بـذحـلـهـا                      هذيلا فقد باءت فكيف اعتذارهـا

ألا ليت شعري هل أرى الخيل شزبا                      تثير عجاجا مستطيرا غـبـارهـا

فترقا عيون بعد طـول بـكـائهـا                      ويغسل ما قد كان بالأمس عارهـا هذه رواية عمر بن شبة. فأما رواية أبو عبيدة فإنه خالفه في ذلك، وذكر في مقتله، فيما أخبرني به محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال: خرج عمرو بن عاصية السلمي ثم البهزي في جماعة من قومه، فأغاروا على هذيل بن مدركة، فصادفوا حيا من هذيل يقال لهم بنو سهم بن معاوية. وكانت امرأة من هذيل تحت رجل من بني بهز، فقالت لابن لها معه : أي بني انطلق إلى أخوالك فأنذرهم بأن ابن عاصية قد أمسى يريدهم، وذلك حين عزم ابن عاصية على غزوهم وأراد المسير إليهم. فانطلق الغلام من تحت ليلته حتى أتى أخواله فأنذرهم، فقال: ابن عاصية السلمي يريدكم، فخذوا حذركم؛ فبدر القوم واستعدوا. وأصبح عمرو بن عاصية قريبا من الحي، فنزل فربأ لأصحابه على جبل مشرف على القوم ، فإذا هم حذرون. فقال لأصحابه: أرى القوم حذرين إن لهم لشأنا، ولقد أنذروا علينا. فكمن في الجبل يطلب غفلتهم، فأصابه وأصحابه عطش شديد، فقال ابن عاصية لأصحابه: هل فيكم من يرتوي لأصحابه? فقال أصحابه: نخاف القوم، وأبى أحد منهم أن يجيبه إلى ذلك. قال: فخرج على فرس له ومعه قربته. وقد وضعت هذيل على الماء منهم رصدا، وعلموا أنهم لا بد لهم من أن يردوا الماء. فمر بهم عمرو بن عاصية وقد كمن له شيخ وفتيان من هذيل، فلما نظروا إليه هم الفتيان أن يثاوراه . فقال الشيخ مهلا فإنه لم يركما. فكفا. فانتهى ابن عاصية إلى البئر، فنظر يمينا وشمالا فلم ير أحدا والآخرون يرمقونه من حيث لا يراهم. فوثب نحو قربته فأخذها ثم دخل البئر فطفق يملأ القربة ويشرب. وأقبل الفتيان والشيخ معهم حتى أشرفوا عليه وهو في البئر، فرفع رأسه فأبصر القوم؛ فقالوا: قد أخزاك الله يا بن عاصية وأمكن منك قال: ورمى الشيخ بسهم فأصاب أخمصه فأنفذه فصرعه، وشغل الفتيان بنزع السهم من قدم الشيخ، ووثب ابن عاصية من البئر شدا نحو أصحابه، وأدركه الفتيان قبل وصوله فأسراه. فقال لهما حين أخذاه: أروياني من الماء ثم اصنعا ما بدا لكما. فلم يسقياه وتعاوراه بأسيافهما حتى قتلاه. فقالت أخت عمرو بن عاصية ترثي أخاها:

يا لهف نفسي يوما ضلة جزعـا                      على ابن عاصية المقتول بالوادي

إذ جاء ينفض عن أصحابه طفلا                      مشي السبنتي أمام الأيكة العادي

هلا سقيتم بني سهـم أسـيركـم                      نفسي فداؤك من مستورد صادي قال أبو عبيدة: وآب غزي بني سليم بعد مقتل ابن عاصم. قال: فبلغ أخاه عرعرة بن عاصية قتل هذيل أخاه وكيف صنع به، فجمع لهم جمعا من قومه فيهم فوارس من بني سليم منهم عبيدة بن حكيم الشريدي وعمر بن الحارث الشريدي وأبو مالك البهزي وقيس بن عمرو أحد بني مطرود من بني سليم وفوارس من بني رعل. قال: فسرى إليهم عرعرة، فالتقوا بموضع يقال له الجرف فاقتتلوا قتالا شديدا، فظفرت بهم بنو سليم فأوجعوا فيهم وقتلوا منهم قتلى عظيمة، وأسروا أسرى، وأصابوا امرأة من هذيل فعروها من ثيابها واستاقوها مجردة فأفحشوا في ذلك. وقال عرعرة بن عاصية في ذلك يذكر من قتل:

ألا أبلغ هذيلا حيث حلـت                      مغلغلة تخب مع الشفـيق

مقامكم غداة الجرف لمـا                      تواقفت الفوارس بالمضيق

 

صفحة : 1333

 

 

غداة رأيتم فرسان بـهـز                      ورعل ألبدت فوق الطريق

تراميتم قلـيلا ثـم ولـت                      فوارسكم توقل كـل نـيق

بضرب تسقط الهامات منه                      وطعن مثل إشعال الحريق وقال لي: إن هذا الشعر الذي فيه صنعة عبد الله بن طاهر لمسعود بن شداد يرثي أخاه، وزعم أن جرما كانت قتلته وهو عطشان، فقال:

يا عين جودي لمسعود بن شـداد                      بكل ذي عبرات شجـوه بـادي

هلا سقيتم بني جـرم أسـيركـم                      نفسي فداؤك من ذي غلة صادي فأنشدنيها بعض أصحابنا قال أنشدني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال أنشدني أبو حاتم عن أبي عبيدة لفارعة المرية أخت مسعود بن شداد ترثيه، فذكر من الأبيات البيت الأول، وبعده:

يا من رأى بارقا قد بت أرمقـه                      جودا على الحرة السوداء بالوادي

أسقي به قبر من أعني وحب بـه                      قبرا إلي ولو لـم يفـده فـادي

شهـاد أنـدية رفـاع أبـنــية                      شداد ألـوية فـتـاح أســداد

نحار راغـية قـتـال طـاغـية                      حلال رابـية فـكـاك أقــياد

قوال محكمة نقـاض مـبـرمة                      فراج مبهـمة حـبـاس أوراد

حلال ممرعة حمال مضـلـعة                      قراع مفظعة طـلاع أنـجـاد

جماع كل خصال الخير قد علموا                      زين القرين وخطم الظالم العادي

أبا زرارة لا تبعد فكـل فـتـى                      يوما رهين صفيحـات وأعـواد والغناء في هذا الشعر لعبد الله بن طاهر خفيف ثقيل أول بالبنصر. قال عبيد الله بن عبد الله ابن طاهر: لما صنع أبي هذا الصوت لم يحب أن يشيع عنه شيء من هذا ولا ينسب إليه؛ لأنه كان يترفع عن الغناء، وما جس بيده وترا قط ولا تعاطاه، ولكنه كان يعلم من هذا الشأن بطول الدربة وحسن الثقافة ما لا يعرفه كبير أحد. وبلغ من علم ذلك إلى أن صنع أصواتا كثيرة، فألقاها على جواريه، فأخذنها عنه وغنين بها، وسمعها الناس منهن وممن أخذ عنهن. فلما أن صنع هذا الصوت:

هلا سقيتم بني جـرم أسـيركـم                      نفسي فداؤك من ذي غلة صادي نسبه إلى مالك بن أبي السمح. وكان لآل الفضل بن الربيع جارية يقال لها داحة، فكانت ترغب إلى عبد الله بن طاهر لما ندبه المأمون إلى مصر في أن يأخذها معه ، وكانت تغنيه، وأخذت هذا الصوت عن جواريه، وأخذه المغنون عنها ورووه لمالك مدة. ثم قدم عبد الله العراق فحضر مجلس المأمون، وغني الصوت بحضرته ونسب إلى مالك، فضحك عبد الله ضحكا كثيرا. فسئل عن القصة فصدق فيها واعترف بصنعة الصوت. فكشف المأمون عن ذلك. فلم يزل كل من سئل عنه يخبر عمن أخذه عنه، فتنتهي القصة إلى داحة ثم تقف ولا تعدوها. فأحضرت داحة وسئلت فأخبرت بقصته؛ فعلم أنه من صنعته حينئذ بعد أن جاز على إسحاق وطبقته أنه لمالك. ويقال: إن إسحاق لم يعجب من شيء عجبه من عبد الله وحذقه بمذاهب الأوائل وحكاياتهم .

قال: ومن غنائه أيضا: صوت:

راح صحبي وعاود القلب داء                      من حبيب طلابه لي عنـاء

حسن الرأي والمواعيد لا يل                      فى لشيء مما يقول وفـاء

من تعزى عمن يحب فإنـي                      ليس لي ما حييت عنه عزاء الغناء لابن طنبورة خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى. ولحن عبد الله بن طاهر ثاني ثقيل بالبنصر. ومنها:

فمن يفرح ببينـهـم                      فغيري إذ غدوا فرحا شعر لعمر بن أبي ربيعة وسببه: صوت:

يا خليلي قد مـلـلـت ثـوائي                      بالمصلى وقد شنئت البقـيعـا

بلغاني ديار هنـد وسـلـمـى                      وارجعا بي فقد هويت الرجوعا الشعر لعمر بن أبي ربيعة. والغناء للغريض خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق ، وذكر الهشامي أنه لابن سريح. وذكر حبش أن فيه رملا بالبنصر لإبراهيم. وفيه لحن لمعبد ذكره حماد بن إسحاق عن أبيه ولم يجنسه .

 

 

صفحة : 1334

 

أخبرني بخبر عمر بن أبي ربيعة في هذا الشعر وقوله إياه الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا سليمان بن عياش السعدي قال أخبرني السائب بن ذكوان راوية كثير قال : قدم عمر بن أبي ربيعة المدينة، وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص قال، وأخبرني علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن عثمان بن حفص والزبيري والمسيبي، وأخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة موقوفا عليه. وجمعت رواياتهم، وأكثر اللفظ للزبير بن بكار وخبره أتم: أن عمر بن أبي ربيعة قدم المدينة، فزعموا أنه قدمها من أجل امرأة من أهلها، فأقام بها شهرا؛ فذلك قوله:

يا خليلي قد مللت ثـوائي                      بالمصلى وقد شنئت البقيعا خرج هو والأحوص إلى مكة فمرا بنصيب وكثير وتحاوروا: قال: ثم خرج إلى مكة، فخرج معه الأحوص واعتمرا .

قال الزبير في خبره عن سائب راوية كثير إنه قال: لما مرا بالروحاء استتلياني فخرجت أتلوهما، حتى لحقتهما بالعرج عند رواحهما. فخرجنا جميعا حتى وردنا ودان ، فحبسهما النصيب وذبح لهما وأكرمهما، وخرجنا وخرج معنا النصيب. فلما جئنا كلية عدلنا جميعا إلى منزل كثير، فقيل لنا: هبط قديدا ، فذكر لنا أنه في خيمة من خيامها. فقال لي ابن أبي ربيعة: اذهب فادعه لي. فقال النصيب: هو أحمق وأشد كبرا من أن يأتيك. فقال لي عمر: اذهب كما أقول لك فادعه لي. فجئته، فهش لي وقال: اذكر غائبا تره، لقد جئت وأنا أذكرك. فأبلغه رسالة عمر؛ فحدد إلي نظرة وقال: أما كان عندك من المعرفة ما يردعك عن إتياني بمثل هذه الرسالة قلت: بلى والله ولكني سترت عليك فأبى الله إلا أن يهتك سترك. فقال لي: إنك والله يا بن ذكوان ما أنت من شكلي؛ فقل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشيا فأنا قرشي. فقلت له: لا تترك هذا التلصق وأنت تقرف عنهم كما تقرف الصمغة فقال: والله لأنا أثبت فيهم منك في سدوس. ثم قال: وقل له: إن كنت شاعرا فأنا أشعر منك. فقلت له: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: وإلى من هو ومن أولى بالحكم مني وبعد هذا يا بن ذكوان فاحمد الله على لومك ؛ فقد منعك مني اليوم? فرجعت إلى عمر، فقال: ما وراءك? فقلت: ما قال لك نصيب. فقال: وإن. فأخبرته فضحك وضحك صاحباه ظهرا لبطن، ثم نهضوا معي إليه. فدخلنا عليه في خيمة، فوجدناه جالسا على جلد كبش، فوالله ما أوسع للقرشي. فلما تحدثوا مليا فأفاضوا في ذكر الشعر ، أقبل على عمر فقال له: أنت تنعت المرأة فتنسب بها ثم تدعها وتنسب بنفسك. أخبرني يا هذا عن قولك:

قالت تصدى له ليعرفـنـا                      ثم اغمزيه يا أخت في خفر

قالت لها وقد غمزته فأبـى                      ثم اسبطرت تشتد في أثري

وقولها والدموع تسبـقـهـا                      لنفسدن الطواف في عمـر أتراك لو وصفت بهذا هرة أهلك ألم تكن قد قبحت وأسأت وقلت الهجر. إنما توصف الحرة بالحياء والإباء والالتواء والبخل والامتناع، كما يقال هذا وأشار إلى الأحوص:

أدور ولولا أن أرى أم جعفـر                      بأبياتكم ما درت حـيث أدور

وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى                      إذا لم يزر لا بد أن سـيزور

لقد منعت معروفها أم جعفـر                      وإني إلى معروفها لفـقـير قال: فدخلت الأحوص أبهة وعرفت الخيلاء فيه. فلما استبان كثير ذلك فيه قال: أبطل آخرك أولك. أخبرني عن قولك:

فإن تصلي أصلك وإن تبينـي                      بصرمك بعد وصلك لا أبالي

ولا ألفى كمن إن سيم صرما                      تعرض كي يرد إلى الوصال أما والله لو كنت فحلا لباليت ولو كسرت أنفك. ألا قلت كما قال هذا الأسود وأشار إلى نصيب:

بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب                      وقل إن تملينا فما ملك القلـب قال: فانكسر الأحوص، ودخلت النصيب أبهة. فلما نظر أن الكبرياء قد دخلته، قال له: يا ابن السوداء، فأخبرني عن قولك:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت                      فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي

 

صفحة : 1335

 

أهمك من ينيكها بعدك فقال نصيب: استوت القوق ، قال: وهي لعبة مثل المنقلة. ومن هذا الموضع ينفرد الزبير بروايته دون الباقين. قال سائب: فلما أمسك كثير أقبل عليه عمر فقال له: قد أنصتنا لك فاسمع يا مذبوب إلي أخبرني عن تخيرك لنفسك لمن تحب حيث تقول:

ألا ليتنا يا عز كنا لـذي غـنـى                      بعيرين نرعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عر فـمـن يرنـا يقـل                      على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منهلا صاح أهـلـه                      علينا فما ننفك نرمى ونضـرب

وددت وبيت اللـه أنـك بـكـرة                      خجان وأني مصعب ثم نهـرب

نكون بعيري ذي غنى فيضيعـنـا                      فلا هو يرعانا ولا نحن نطلـب وقال: تمنيت لها ولنفسك الرق والطرد والمسخ، فأي مكروه لم تمن لها ولنفسك لقد أصابها منك قول القائل: معاداة عاقل خير من مودة أحمق. قال؛ فجعل يختلج جسده كله. ثم أقبل عليه الأحوص فقال: إلي يا بن استها أخبرك بخبرك وتعرضك للشر وعجزك عنه وإهدافك لمن رماك. أخبرني عن قولك:

وقلن وقد يكذبن فـيك تـعـيف                      وشؤم إذا ما لم تطع صاح ناعقه

وأعييتـنـا لا راضـيا بـكـرامة                      ولا تاركا شكوى الذي أنت صادقه

فأدركت صفو الود منا فلمـتـنـا                      وليس لنا ذنب فنحـن مـواذقـه

وألفيتنا سلما فصدعـت بـينـنـا                      كما صدعت بين الأديم خوالـقـه والله لو احتفل عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على نفسك. قال: فخفق كما يخفق الطائر. ثم أقبل عليه النصيب فقال: أقبل علي يا زب الذباب فقد تمنيت معرفة غائب عندي علمه فيك حيث تقول:

وددت وما تغني الودادة أنني                      بما في ضمير الحاجبية عالم

فإن كان خيرا سرني وعلمته                      وإن كان شرا لم تلمني اللوائم انظر في مرآتك واطلع في جيبك واعرف صورة وجهك، تعرف ما عندها لك . فاضطرب اضطراب العصفور، وقال القوم يضحكون. وجلست عنده؛ فلما هدأ شأوه قال لي: أرضيتك فيهم? فقلت له: أما في نفسك فنعم فقد نحس يومك معهم، وقد بقيت أنا عليك. فما عذرك ولا عذر لك في قولك:

سقى دمنتين لم نجد لهما أهلا                      بحقل لكم يا عز قد رابنا حقلا

نجاء الثريا كـل آخـر لـيلة                      يجودهما جودا ويتبعه وبـلا ثم قلت في آخرها:

وما حسبـت ضـمـرية حـدرية                      سوى التيس ذي القرنين أن لها بعلا أهكذا يقول الناس ويحك ثم تظن أن ذلك قد خفي ولم يعلم به أحد، فتسب الرجال وتعيبهم فقال: وما أنت وهذا? وما علمك بمعنى ما أردت? فقلت: هذا عجب من ذاك. أتذكر امرأة تنسب بها في شعرك وتستغزر لها الغيث في أول شعرك، وتحمل عليها التيس في آخره قال: فأطرق وذل وسكن. فعدت إلى أصحابي فأعلمتهم ما كان من خبره بعدهم. فقالوا: ما أنت بأهون حجارته التي رمي بها اليوم منا. قال فقلت لهم: إنه لم يترني فأطلبه بذحل، ولكني نصحته لئلا يخل هذا الإخلال الشديد، ويركب هذه العروض التي ركب في الطعن على الأحرار والعيب لهم .

شدد والي مكة في الغناء، فخرج فتية إلى وادي محسر وبعثوا لابن سريج فغناهم: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وإسماعيل بن يونس قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني ابن جامع عن السعيدي عن سهل بن بركة وكان يحمل عود ابن سريج قال:

 

صفحة : 1336

 

كان على مكة نافع بن علقمة الكناني، فشدد في الغناء والمغنين والنبيذ، ونادى في المخنثين. فخرج فتية من قريش إلى بطن محسر وبعثوا برسول لهم فأتاهم برواية من الشراب الطائفي. فلما شربوا وطربوا قالوا: لو كان معنا ابن سريج تم سرورنا. فقلت: هو علي لكم. فقال لي بعضهم: دونك تلك البغلة فاركبها وامض إليه. فأتيته فأخبرته بمكان القوم وطلبهم إياه. فقال لي: ويحك وكيف لي بذاك مع شدة السلطان في الغناء وندائه فيه? فقلت له: أفتردهم? قال: لا والله فكيف لي بالعود? فقلت له: أنا أخبؤه لك فشأنك. فركب وسترت العود وأردفني فلما كنا ببعض الطريق إذا أنا بنافع بن علقمة قد أقبل، فقال لي: يابن بركة هذا الأمير فقلت: لا بأس عليك، أرسل عنان البغلة وامض ولا تخف، ففعل. فلما حاذيناه عرفني ولم يعرف ابن سريج، فقال لي يابن بركة: من هذا أمامك? فقلت: ومن ينبغي أن يكون هذا ابن سريج. فتبسم ابن علقمة ثم تمثل:

فإن تنج منها يا أبان مسلمـا                      فقد أفلت الحجاج خيل شبيب ثم مضى ومضينا. فلما كنا قريبا من القوم نزلنا إلى شجرة نستريح، فقلت له: غن مرتجلا؛ فرفع صوته فخيل إلي أن الشجرة تنطق معه، فغنى: صوت:

كيف الثواء ببطن مكة بعد ما                      هم الذين تحب بـالإنـجـاد

أم كيف قلبك إذ ثويت مخمرا                      سقما خلافهم وكربك بـادي

هل أنت إن ظعن الأحبة غادي                      أم قبل ذلك مدلـج بـسـواد الشعر للعرجي. وذكر إسحاق في مجردة أن الغناء فيه لابن عائشة ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى. وحكى حماد ابنه أن اللحن لابن سريج قال سهل: فقلت: أحسنت والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، ولو أن كنانة كلها سمعتك لاستحسنتك فكيف بنافع بن علقمة المغرور من غره نافع. ثم قلت: زدني وإن كان القوم متعلقة قلوبهم بك. فغنى وتناول عودا من الشجرة فأوقع به على الشجرة؛ فكان صوت الشجرة أحسن من خفق بطون الضأن على العيدان إذا أخذتها قضبان الدفلى. قال: والصوت الذي غنى: صوت:

لا تجمعي هجرا علي وغـربة                      فالهجر في تلف الغريب سريع

من ذا فديتك يستطيع لحـبـه                      دفعا إذا اشتملت عليه ضلـوع فقلت: بنفسي أنت والله من لا يمل ولا يكد، والله ما جهل من فهمك اركب فدتك نفسي بنا. فقال: أمهلني كما أمهلتك اقض بعض شأني. فقلت: وهل عما تريد مدفع فقام فصلى ركعتين، ثم ضرب بيده على الشجرة وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم قال: يا حبيبتي إذا شهدت بذاك الشيء فاشهدي بهذا. ثم مضينا والقوم متشوقون. فلما دنونا أحست الدواب بالبغلة فصهلت، وشحجت البغلة، وإذا الغريض يغنيهم لحنه:

من خيل حي ما تـزال مـغـيرة                      سمعت على شرف صهيل حصان فبكى ابن سريج حتى ظننت أن نفسه قد خرجت، فقلت: ما يبكيك يا أبا يحيى? جعلت فداك لا يسوءك الله ولا يريك سوءا  قال: أبكاني هذا المخنث بحسن غنائه وشجا صوته؛ والله ما ينبغي لأحد أن يغني وهذا الصبي حي . ثم نزل فاستراح وركب. فلما سار هنيهة اندفع الغريض فغناهم لحنه:

يا خليلي قد مللت ثـوائي                      بالمصلى وقد شنئت البقيعا قال: ولصوته دوي في تلك الجبال. فقال ابن سريج: ويلك يابن بركة أسمعت أحسن من هذا الغناء والشعر قط? قال: ونظروا إلينا فأقبلوا نشاوى يحبون أعطافهم، وجعلوا يقبلون وجه ابن سريج. فنزل فأقام عندهم ثلاثا والغريض لا ينطق بحرف واحد ، وأخذوا في شرابهم وقالوا: يا حبيب النفس وشقيقها أعطها بعض مناها؛ فضرب بيده إلى جيبه فأخرج منه مضرابا، ثم أخذه بيده ووضع العود في حجره، فما رأيت يدا أحسن من يده، ولا خشبة تخيلت إلي أنها جوهرة إلا هي، ثم ضرب فلقد سبح القوم جميعا ثم غنى فكل قال: لبيك لبيك فكان مما غنى فيه واللحن له هزج: صوت:

لبـيك يا سـيدتــي                      لبـيك ألـفـا عـددا

لبيك مـن ظـالـمة                      أحببتها مجـتـهـدا

قوموا إلى ملعـبـنـا                      نحك الجواري الخردا

وضـع يد فــوق يد                      ترفـعـهــا يدا يدا فكل قال: نفعل ذاك. فلقد رأيتنا نستبق أينا تقع يده على يده. ثم غنى: صوت:

 

صفحة : 1337

 

 

ما هاج شوقك بالصرائم                      ربع أحال لأم عاصـم

ربع تـقـادم عـهـده                      هاج المحب على التقادم

فيه النواعم والـشـبـا                      ب الناعمون مع النواعم

من كل واضحة الجبـي                      ن عيمية ريا المعصـم ثم إنه غنى: صوت:

شجاني مغاني الحي وانشقت العصا                      وصاح غراب البين أنت مـريض

ففاضت دموعي عند ذاك صبـابة                      وفيهن خود كالمهاة غـضـيض

ووليت الغناء محزون الفؤاد مروعا                      كتيبا ودمعي في الـرداء يفـيض الغناء لابن محرز خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر، وفيه خفيف ثقيل آخر لابن جندب قال: فلقد رأيت جماعة طير وقعن بقربنا وما نحس قبل ذلك منها شيئا؛ فقالت الجماعة: يا تمام السرور وكمال المجلس لقد سعد من أخذ بحظه منك، وخاب من حرمك، يا حياة القلوب ونسيم النفوس جعلنا الله فداءك غننا؛ فغنى واللحن له .

صوت:

يا هند إنك لو علم                      ت بعاذلين تتابعا وهذا الصوت يأتي خبره مفردا لأن فيه طولا فبدرت من بينهم فقبلت بين عينيه، فتهافت القوم عليه يقبلونه؛ فلقد رأيتني وأنا أرفعهم عنه شفقة عليه .

ما في الأشعار التي تناشدها عمر وأصحابه من أغان: وفي هذه الأشعار التي تناشدها كثير وعمر ونصيب والأحوص أغان. منها: صوت:

أبصرتها ليلة ونسـوتـهـا                      يمشين بين المقام والحجـر

ما إن طمعنا بها ولا طمعت                      حتى التقينا ليلا على قـدر

بيضا حسانا خرائدا قطـفـا                      يمشين هونا كمشية البقـر الشعر لعمر. والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن الهشامي وحبش. وذكر عمرو أن فيه لابن سريج خفيف ثقيل أول بالبنصر. ولأبي سعيد مولى فائد ثقيل أول، وقيل: إنه لسنان الكاتب. ومن هذه القصيدة أيضا، وهذا أولها: صوت:

يا من لقـلـب مـتـيم كـمـد                      بهذي بخود مريضة الـنـظـر

تمشي رويدا إذا مشت فـضـلا                      وهي كمثل العسلوج م البـسـر

ما إن زال طرفي يحار إذ برزت                      حتى عرفت النقصان في بصري غناه ابن محرز، ولحنه من خفيف ثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى. ومنها: صوت:

قالت لترب لها تحـدثـهـا                      لنفسدن الطواف في عمـر

قالت تصدي له ليعرفـنـا                      ثم اغمزيه يا أخت في خفر

قالت لها قد غمزته فـأبـى                      ثم استطيرت تشتد في أثري غناء يونس خفيف ثقيل أول بالبنصر عن حبش. وقيل: إن فيه لعبد الله بن العباس لحنا جيدا .

ومنها ما لم يمض ذكره في الكتاب: صوت:

ألا ليتنا يا عز من غير بـغـضة                      بعيرين ترعى في الخلاء ونعزب

كلانا به عر فـمـن يرنـا يقـل                      على حسنها جرباء تعدي وأجرب

إذا ما وردنا منهلا صاح أهـلـه                      علينا فما ننفك نرمى ونضـرب الغناء لإبراهيم، رمل بالوسطى عن حبش .

فضلت عزة الأحوص في الشعر على كثير، فأنشدها فنقدته: أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة عن عوانة وعيسى بن يزيد: أن كثيرا دخل على عزة ذات يوم، فقالت له: ما ينبغي لنا أن نأذن لك في الجلوس. قال: ولم? قالت: لأني رأيت الأحوص ألين جانبا في شعره منك وأضرع خدا للنساء، وإنه لأشعر منك حين يقول:

يأيها اللائمي فيها لأصرمـهـا                      أكثرت لو كان يغني منك إكثار

ارجع فلست مطاعا إذ وشيت بها                      لا القلب سال ولا في حبها عار وإني استرققت قوله:

وما كنت زوارا ولكن ذا الهوى                      إذا لم يزر لا بد أن سـيزور وأعجبني قوله:

كم من دني لها قد صرت أتبعـه                      ولو صحا القلب عنها كان لي تبعا

وزادني كلفا بالحب أن منـعـت                      أحب شيء إلى الإنسان ما منعـا وقوله أيضا:

وما العيش إلا ما تلذ وتشتهي                      وإن لام فيه ذو الشنان وفندا فقال كثير: قد والله أجاد فما الذي استجفيت من قولي? قالت: أخزاك الله أما استحييت حين تقول:

 

صفحة : 1338

 

 

يحاذرن مني غيرة قد عرفنها                      لدي فما يضحكن إلا تبسمـا فقال كثير:

وددت وبيت اللـه أنـك بـكـرة                      وأني مصعـب ثـم نـهـرب

كلانا به عر فمـن يرنـا يقـل                      على حسنها جرباء تعدي وأجري

تكون لذي مال كثير مـغـفـل                      فلا هو يرعانا ولا نحن نطلـب فقالت لي: ويحك لقد أردت بي الشقاء الطويل، ومن المنى ما هو أعفى من هذا وأطيب .

أبيات من شعر أبي زبيد وبيان ألحانه: صوت:

قد كنت في منظر ومستـمـع                      عن نصر بهراء غير ذي فرس

لا ترة عندهم فتـطـلـبـهـا                      ولا هم نهزة لـمـخـتـلـس

بكـف حـران ثـائر بـــدم                      طلاب وتر في الموت منغمس

إما تقارش بك الـرمـاح فـلا                      أبكيك إلا للـدلـو والـمـرس

تذب عنه كـف بـهـا رمـق                      طيرا عكوفا كزور الـعـرس

عما قليل يصبحن مـهـجـتـه                      فهن من والغ ومـنـتـهـس الشعر لأبي زبيد الطائي. والغناء لابن محرز في الأول والثاني خفيف ثقيل الأول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر عمر بن بانة أن في الأربعة الأول خفيفي ثقيل كلاهما بالبنصر لمعبد وابن محرز، ووافقه الهشامي في لحن معبد في الأول والثاني وذكر أنه بالوسطى. وفي كتاب ابن مسجح عن حماد له، فيه لحن يقال إنه لابن محرز. ولابن سريج في الأول والخامس والسادس والسابع رمل بالوسطى عن عمرو. وذكر لنا حبش أن الرمل لمعبد وذكر إسحاق أنه لابن سريج أيضا، وأوله:

تذب عنه كف بها رمق وفيه لمالك في السادس والسابع خفيف صقيل آخر. وفيه لابن عائشة رمل. وفيه لحنين ثاني ثقيل. هذه الحكايات الثلاث عن يونس، وطرائقها عن الهشامي. ولمخارق في الرابع والأول خفيف رمل. ولمتيم في الأول والثاني خفيف رمل آخر. وذكر حبش أن لإبراهيم في الأول والثاني ثاني ثقيل بالوسطى، ولابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى .

 

أخبار أبي زبيد ونسبه

اسم أبي زبيد ونسبه: هو حرملة بن المنذر، وقيل المنذر بن حرملة، والصحيح حرملة بن المنذر بن معد يكرب ابن حنظلة بن النعمان بن حية بن سعنة بن الحارث بن ربيعة بن مالك بن سكر بن هنئ بن عمرو بن الغوث بن طيء بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان .

كان نصرانيا ومخضرما: وكان أبو زبيد نصرانيا وعلى دينه مات. وهو ممن أدرك الجاهلية والإسلام فعد في المخضرمين .

جعله ابن سلام في الطبقة الخامسة: وألحقه ابن سلام بالطبقة الخامسة من الإسلاميين، وهم العجير السلولي وذووه وقد مضى أكثر أخباره مع أخبار الوليد بن عقبة بن أبي معيط .

كان من زوار الملوك، وكان عثمان يقربه: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي إجازة قال: حدثني محمد بن سلام الجمحي قال حدثني أبو الغراف قال: كان أبو زبيد الطائي من زوار الملوك وخاصة ملوك العجم، وكان عالما بسيرهم. وكان عثمان بن عفان رضي الله تعالى عنه يقربه على ذلك ويدني مجلسه، وكان نصرانيا. فحضر ذات يوم عثمان وعنده المهاجرون والأنصار ، فتذاكروا مآثر العرب وأشعارها .

استنشده عثمان فأنشده قصيدة فيها وصف الأسد: قال: فالتفت عثمان إلى أبي زبيد وقال: يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك؛ فقد أنبئت أنك تجيد. فأنشده قصيدته التي يقول فيها:

من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا                      أن الفؤاد إليهـم شـيق ولـع

 

صفحة : 1339

 

ووصف فيها الأسد. فقال عثمان رضي الله تعالى عنه: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت. والله إني لأحسبك جبانا هدانا . قال: كلا يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظرا وشهدت منه مشهدا لا يبرح ذكره يتجدد ويتردد في قلبي، ومعذور أنا يا أمير المؤمنين غير ملوم. فقال له عثمان رضي الله عنه: وأنى كان ذلك? قال: خرجت في صيابة أشراف من أفناء قبائل العرب ذوي هيئة وشارة حسنة، ترتمي بنا المهارى بأكسائها ، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشأم؛ فاخروط بنا السير في حمارة القيظ، حتى إذا عصبت الأفواه ، وذبلت الشفاه، وشالت المياه ، وأذكت الجوزاء المعزاء ، وذاب الصيهد ، وصر الجندب ، وضاف العصفور الضب وجاوره في حجره ، قال قائل: أيها الركب غوروا بنا في ضوج هذا الوادي، وإذا واد قد بدا لنا كثير الدغل ، دائم الغلل ؛ شجراؤه مغنة، وأطياره مرنة . فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات فأصبنا من فضلات الزاد وأتبعناها الماء البارد. لإغنا لنصف يومنا ومماطلته ، إذ صر أقصى الخيل أذنيه ، وفحص الرض بيديه. فوالله ما لبث أن جال، ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الفرس الذي يليه واحدا فواحدا، فتضعضعت الخيل، وتكعكعت الإبل، وتقهقرت البغال، فمن نافر بشكاله ، وناهض بعقاله؛ فعلمنا أن قد أتينا وأنه السبع، ففزع كل رجل منا إلى سيفه فاستله من جربانه ، ثم وقفنا له رزدقا أي صفا وأقبل أبو الحارث من أجمته يتظالع في مشيته من نعته كأنه مجنوب ، أو في هجار معصوب ؛ لصدره نحيط ، ولبلاعمه غطيط، ولطرفه وميض، ولأرساغه نقيض ؛ كأنما يخبط هشيما، أو يطأ صريما ، وإذا هامة كالمجن ، وخد كالمسن ، وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان وقصرة ربلة ، ولهزمة رهلة وكتد مغبط ، وزور مفرط ؛ وساعد مجدول، وعضد مفتول؛ وكف شئنة البراثن ، إلى مخالب كالمحاجن . فضرب بيده فأرهج ، وكشر فأفرج، عن أنياب كالمعاول مصقولة، غير مفلولة، وفم أشدق كالغار الأخرق؛ ثم تمطى فأسرع بيديه، وحفز وركيه برجليه، حتى صار ظله مثليه؛ ثم أقعى فاقشعر ، ثم مثل فاكفهر ، ثم تجهم فازبأر . فلا وذو بيته في السماء ما اتقيناه إلا بأول أخ لنا من فزارة، كان ضخم الجزارة ، فوقصه ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه ، فجعل يلغ في دمه. فتذمرت أصحابي ، فبعد لأي ما استقدموا. فهجهجنا به، فكر مقشعرا بزبرته ، كأن به شيهما حوليا ، فاختلج رجلا أعجر ذا حوايا ، فنفضه نفضة تزايلت منها مفاصله، ثم نهم ففرفر ، ثم زفر فبربر ، ثم زأر فجرجر ، ثم لحظ ، فوالله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي، واصطكت الأرجل، وأطت الضلاع ، وارتجت الأسماع، وشخصت العيون، وتحققت الظنون، وانخزلت المتون. فقال له عثمان: اسكت قطع الله لسانك فقد أرعبت قلوب المسلمين .

خوفه من الأسد: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري قال حدثني شعبة قال: قلت للطرماح بن حكيم: ما شأن أبي زبيد وشأن الأسد? فقال: إنه لقيه بالنجف ، فلما رآه سلح من فرقه وقال مرة أخرى: فسلحه فكان بعد ذلك يصفه كما رأيت .

شعره في ضربة المكاء: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبي عمن يثق به أن رجلا من طيئ من بني حية نزل به رجل من بني الحارث بن ذهل بن شيبان يقال له المكاء ، فذبح له شاة وسقاه الخمر، فلما سكر الطائي قال: هلم أفاخرك: أبنو حية أكرم أم بنو شيبان? فقال له الشيباني: حديث حسن ، ومنادمة كريمة أحب إلينا من المفاخرة، فقال الطائي: والله ما مد رجل قط يدا أطول من يدي. فقال الشيباني: والله لئن أعدتها لأخضبنها من كوعها. فرفع الطائي يده، فضربها الشيباني بسيفه فقطعها . فقال أبو زبيد في ذلك:

خبرتنا الركبان أن قد فخرتم                      وفرحتم بضربة المـكـاء

ولعمري لعارها كان أدنى                      لكم من تقى وحق وفـاء

ظل ضيفا أخوكم لأخـينـا                      في صبوح ونعمة وشواء

ثم لما رآه رانت به الخـم                      ر وأن لا يريبه باتـقـاء

لم يهب حرمة النديم وحقت                      يا لقوم للسوءة الـسـوءاء ما قاله في كلبه أكدر حين لقيه الأسد فقتله:

 

صفحة : 1340

 

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي عبيد الله بن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال: كان لأبي زبيد كلب يقال له أكدر، وكان له سلاح يلبسه أياه، فكان لا يقوم له الأسد، فخرج ليلة قبل أن يلبسه سلاحه، فلقيه الأسد فقتله، ويقال: أخذه فأفلت منه، فقال عند ذلك أبو زبيد:

أحال أكدر مخـتـالا كـعـادتـه                      حتى إذا كان بين البئر والعـطـن

لاقى لد ثـلـل الأطـواء داهـية                      أسرت وأكدر تحت الليل في قرن

حطت به شيمة ورهـاء تـطـرده                      حتى تناهى إلى الحولات في السنن

إلى مقابل خطو السـاعـدين لـه                      فوق السراة كذفرى الفالج القمـن

رئبال غاب فلا قحـم ولا ضـرع                      كالبغل يحتطم العلجين في شطـن لامه قومه على كثرة وصفه الأسد مخافة أن تسبهم العرب فأجابهم: وهي قصيدة طويلة. فلامه العرب على كثرة وصفه للأسد، وقالوا له: قد خفنا أن تسبنا العرب بوصفك له. قال: لو رأيتم منه ما رأيت أو لقيكم ما لقي أكدر لما لمتموني. ثم أمسك عن وصفه فلم يصفه بعد ذلك في شعره حتى مات .

وصف النعمان بن المنذر وذكر ما حدث في مجلس له: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري قال حدثني هارون بن مسلم ابن سعدان أبو القاسم قال حدثنا هشام ابن الكلبي قال: كان الأجلح الكندي يحدث عن عمارة ابن قابوس قال: لقيت أبا زبيد الطائي فقلت له: يا أبا زبيد هل أتيت النعمان بن المنذر? قال: إي والله لقد أتيت وجالسته. قال قلت: صفه لي. فقال: كان أحمر أزرق أبرش قصيرا. فقلت له: بالله أخبرني أيسرك أنه سمع مقالتك هذه وأن لك حمر النعم? قال: لا والله ولا سودها؛ فقد رأيت ملوك حمير في ملكها، ورأيت ملوك غسان في ملكها، فما رأيت أحدا قط كان أشد عزا منه. وكان ظهر الكوفة ينبت الشقائق، فحمى ذلك المكان، فنسب إليه فقيل شقائق النعمان .

فجلس ذات يوم هناك وجلسنا بين يديه كأن على رؤوسنا الطير، وكأنه باز. فقام رجل من الناس فقال له: أبيت اللعن أعطني فإني محتاج. فتأمله طويلا ثم أمر به فأدني حتى قعد بين يديه، ثم دعا بكنانة فاستخرج منها مشاقص فجعل يجأبها في وجهه حتى سمعنا قرع العظم، وخضبت لحيته وصدره بالدم، ثم أمر به فنحي. ومكثنا مليا .

ثم نهض آخر فقال له: أبيت اللعن أعطني. فتأمله ساعة ثم قال: أعطوه ألف درهم، فأخذها وانطلق.

ثم التفت عن يمينه ويساره وخلفه، فقال: ما قولكم في رجل أزرق أحمر يذبح على هذه الأكمة، أترون دمه سائلا حتى يجري في هذا الوادي? فقلنا له: أنت أبيت اللعن أعلى برأيك عينا. فدعا برجل على هذه الصفة فأمر به فذبح .

ثم قال: ألا تسألوني عما صنعت? فقلنا: ومن يسألك أبيت اللعن عن أمرك وما تصنع? فقال: أما الأول فإني خرجت مع أبي نتصيد، فمررت به وهو بفناء بابه وبين يديه عس من شراب أو لبن، فتناولته لأشرب منه، فثار إلي فهراق الإناء فملأ وجهي وصدري، فأعطيت الله عهدا لئن أمكنني منه لأخضبن لحيته وصدره من دم وجهه .

وأما الآخر فكانت له عندي يد كافأته بها، ولم أكن أثبته، فتأملته حتى عرفته .

وأما الذي ذبحته فإن لي عينا لي بالشام كتب إلي: إن جبلة بن الأيهم قد بعث إليك برجل صفته كذا وكذا ليغتالك. فطلبته أياما فلم أقدر عليه، حتى كان اليوم .

مات نديم له في غيبته فرثاه وصب الخمر على قبره: أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه قال: كان لأبي زبيد نديم يشرب معه بالكوفة، فغاب أبو زبيد غيبة، ثم رجع فأخبر بوفاته، فعدل إلى قبره قبل دخوله منزله، فوقف عليه ثم قال:

يا هاجري إذ جـئت زائره                      ما كان من عاداتك الهجر

يا صاحب القبر السلام على                      من حال دون لقائه القبـر ثم انصرف. وكان بعد ذلك يجيء إلى قبره فيشرب عنده ويصب الشراب على قبره .

والأبيات التي فيها الغناء المذكور يقولها في غلام له قتلته تغلب، وكان مجاورا فيهم، فدل بهراء على عورتهم وقاتلهم معهم فقتل .

شعره في غلبة تغلب على بهراء وقتل غلامه: أخبرني بخبره أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام. وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال:

 

صفحة : 1341

 

كان أخوال أبي زبيد بني تغلب، وكان يقيم فيهم أكثر أيامه، وكان له غلام يرعى إبله، فغزت بهراء بني تغلب، فمروا بغلامه، فدفع إليهم إبل أبي زبيد وقال: انطلقوا أدلكم على عورة القوم وأقاتل معكم. ففعلوا، والتقوا، فهزمت بهراء وقتل الغلام، فقال أبو زبيد هذه القصيدة وهي:

هل كنت في منظر ومستـمـع                      عن نصر بهراء غير ذي فرس

تسعى إلى فتـية الأراقـم واس                      ستعجلت قبل الجمان والقبـس

في عارض من جبال بهرائها ال                      أولى مرين الحروب عن درس

فبهرة من لقوا حـسـبـتـهـم                      احلى وأشهى من بارد الدبـس

لا ترة عندهم فتـطـلـبـهـا                      ولا هم نهزة لـمـخـتـلـس

جود كـرام إذا هـم نـدبــوا                      غير لئام ضجـر ولا كـسـس

صمت عظام الحلوم إن قعـدوا                      عن غير عي بهم ولا خـرس

تقود أفراسـهـم نـسـاؤهـم                      يزجون أجمالهم مع الغـلـس

صادفت لما خرجت منطلـقـا                      جهم المحيا كبـاسـل شـرس

تخال فـي كـفـه مـثـقـفة                      تلمع فيها كشعـلة الـقـبـس

بكـف حـران ثـائر بـــدم                      طلاب وتر في الموت منغمس

إما تقارن بك الـرمـاح فـلا                      أبكيك إلا للـدلـو والـمـرس

حمدت أمري ولمت أمـرك إذ                      أمسك جلز السنان بالـنـفـس

وقد تصـلـيت حـر نـارهـم                      كما تصلى المقرور من قرس

تذب عنه كـف بـهـا رمـق                      طيرا عكوفا كزور الـعـرس

عما قـلـيل عـلـون جـئتـه                      فهن من والغ ومـنـتـهـس أخذ دية غلامه ثمن إبله من تغلب وقال شعرا: فلما فرغ أبو زبيد من قصيدته بعثت إليه بنو تغلب بدية غلامه وما ذهب من إبله، فقال في ذلك:

ألا أبلغ بني عمرو رسولا                      فإني في مودتكم نفـيس هكذا ذكر ابن سلام في خبره، والقصيدة لا تدل على أنها قيلت فيمن أحسن إليه وودى غلامه ورد عليه ماله. وفي رواية ابن حبيب:

ألا أبلغ بني نصر بن عمرو وقوله أيضا فيها:

فما أنا بالضعيف فتظلموني                      ولا جافي اللقاء ولا خسيس

أفي حق مواساتي أخـاكـم                      بمالي ثم يظلمني السريس السريس: الضعيف الذي لا ولد له وهذا ليس من ذلك الجنس. ولعل ابن سلام وهم .

من المعمرين: وأبو زبيد أحد المعمرين، ذكر ابن الكلبي أنه عمر مائة وخمسين سنة .

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال: كان طول أبي زبيد ثلاثة عشر شبرا .

كان يدخل مكة متنكرا لجماله: أخبرني أحمد بن عبد العزيز وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا محمد بن عبد الله العبدي أبو بكرة قال حدثني أبو مسعر الجشمي عن ابن الكلبي قال: كان أبو زبيد الطائي ممن إذا دخل مكة دخلها متنكرا لجماله .

منادمته الوليد بن عقبة بعد اعتزال الوليد عليا ومعاوية: وأخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مسلم قال: لما صار الوليد بن عقبة إلى الرقة واعتزل عليا عليه السلام ومعاوية، صار أبو زبيد إليه، فكان ينادمه، وكان يحمل في كل أحد إلى البيعة مع النصارى. فبينا هو يوم أحد يشرب والنصارى حوله رفع بصره إلى السماء فنظر ثم رمى بالكأس من يده وقال:

إذا جعل المرء الذي كان حازما                      يحل به حل الحوار ويحـمـل

فليس له في العيش خير يريده                      وتكفينه كيتا أعف وأجـمـل دفن مع الوليد بن عقبة بوصية منه: ومات فدفن هناك على البليخ . فلما حضرت الوليد بن عقبة الوفاة أوصى أن يدفن إلى جنب أبي زبيد. وقد قيل: إن أبا زبيد مات بعد الوليد؛ فأوصى أن يدفن إلى جنب الوليد .

قال ابن الكلبي في خبره الذي ذكره إسحاق عنه: هرب أبو زبيد من الإسلام فجاور بهراء فاستأجر منهم أجيرا لإبله فكان يقبله حلب الجمان والقيس ، وهما ناقتان كانتا له. فلما كان يوم حابس، وهو اليوم الذي التقت فيه بهراء وتغلب خرج أبي زبيد مع بهراء، فقتل وانهزمت بهراء، فمر أبو زبيد به وهو يجود بنفسه، فقال فيه هذه القصيدة .

 

 

صفحة : 1342

 

أخبرني محمد بن يحيى ويحيى بن علي الأيوبي المدائني قالا حدثنا عقبة المطرفي قال: كنا في الحمام ومعي ابن السعدي وأنا أقرأ القرآن، فدخل سعد الرواسي فغنى:

قد كنت في منظر ومستـمـع                      عن نصر بهراء غير ذي فرس فقال ابن السعدي: اسكت اسكت فقد جاء حديث يأكل الأحاديث .

أوصى له الوليد بن عقبة حين احتضر بالخمر ولحوم الخنازير: أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثني العمري قال حدثني أحمد بن حاتم قال حدثني محمد بن عمرو الجماز قال حدثني أبو عبيدة عن يونس وأبي الخطاب النحوي: أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط أوصى لما احتضر لأبي زبيد بما يصلحه في فصحه وأعياده، من الخمر ولحوم الخنازير وما أشبه ذلك. فقال أهله وبنوه لأبي زبيد: قد علمت أنه لا يحل لنا هذا في ديننا، وإنما فعله إكراما لك وتعظيما لحقك، فقدره لنفسك ما شئت أن تعيش، وقوم ما أوصى به لك حتى نعطيك قيمته ولا تفضحنا وتفضح آباءنا بهذا، واحفظه واحفظنا فيه، ففعل أبو زبيد ذلك، وقبله منهم .

صوت:

هل تعرف الدار من عامين أو عام                      دار لهند بجزع الحرج فـالـدام

تحنو لأطلائها عـين مـلـمـعة                      سفع الخدود بعيدات من الرامـي الحرج والدام: موضعان، ويروي مذ عامين. وهذا الأجود، وكلاهما روي. وعين: بقر. وأطلاؤها: أولادها، واحدها طلا. ويروى: بعيدات من الذام، هو الذي يذم .

الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري حين توليته العراق: الشعر للحطيئة يمدح به أبا موسى الأشعري لما ولاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه العراق . والغناء لمالك، خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق. وذكر أن فيه لابن مجامع أيضا صنعة .

قال محمد بن حبيب: أتى الحطيئة أبا موسى يسأله أن يكتبه معه، فأخبره أن العدة قد تمت، فمدحه الحطيئة بهذه القصيدة التي ذكرتها، وأولها:

هل تعرف الدار من عامين أو عام                      دار الهند بجزع الحرج فـالـدام وفيها يقول:

وجحفل كسواد الليل منتـجـع                      أرض العدو ببؤس بعد إنعـام

جمعت من عامر فيه ومن أسد                      ومن تميم ومن جاء ومن حام حاء من مذحج، وحام من خثعم

وما رضيت لهم حتى رفدتهـم                      من وائل رهط بسطام بأصرام

وفيه الرماح وفيه كل سابـغة                      جدلاء محكمة من نسج سلام يعني سليمان النبي

وكل أجرد كالسرحان أضمره                      مسح الأكف وسقى بعد إطعام

مستحقبات رواياها جحافلهـا                      يسمو بها أشعري طرفه سام الروايا: الإبل التي تحمل أثقالهم وأزوادهم، وتجنب الخيل إليها فتضع حجافلها على أعجاز الإبل

لا يزجر الطير إن مرت به سنحا                      ولا يفيض على قـدح بـأزلام وقال المدائني: لما مدح الحطيئة أبا موسى رضي الله عنه بهذه القصيدة وصله أبو موسى وقد كان كتب من أراد وكملت العدة فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب يلومه، فكتب إليه: إني اشتريت منه عرضي، فكتب إليه: أحسنت. قال: وزاد فيه حماد الراوية أنه يعني نفسه أنشدها بلال بن أبي بردة ولم يكن عرفها فوصله .

أخبرني القاضي أبو خليفة إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو عبيدة عن يونس قال: قدم حماد الراوية البصرة على بلال بن أبي بردة وهو عليها فقال له: ما أطرفتني شيئا يا حماد فعاد إليه فأنشده قول الحطيئة في أبي موسى، فقال له: ويحك يمدح الحطيئة أبا موسى وأنا أروي شعره كله ولا أعلم بهذه? أذعها تذهب في الناس .

وكانت ولاية أبي موسى الكوفة بعد أن أخرج أهلها سعيد بن العاص عنها، وتحالفوا ألا يولوا عليها إلا من يريدون .

وجوه أهل الكوفة من القراء يختلفون إلى سعيد بن العاص واختلافهم في تفضيل السهل على الجبل وما ترتب على ذلك: أخبرني بالسبب في ذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق قال:

 

صفحة : 1343

 

كان قوم من وجوه أهل الكوفة من القراء يختلفون إلى سعيد بن العاص ويسألونه، فتذاكروا يوما السهل والجبل، فقال حسان بن محدوج: سهلنا خير من جبلنا: أكثر برا وشعيرا، فيه أنهار مطردة، ونخل باسقات، وقلت فاكهة ينبتها الجبل إلا والسهل ينبت مثلها. فقال له عبد الرحمن بن حبيش: صدقتم، وددت أنه للأمير وأن لكم أفضل منه. فقال الأشتر للأمير: تمن للأمير أفضل ولا تتقرب إليه بأموالنا، فقال: ما ضرك ذلك. والله لويشاء أن يكون له لكان. قال كذبت والله لو أراد ذلك ما قدر عليه. فقال سعيد: والله ما السواد إلا بستان لقريش، ما شئنا أخذنا منه، وما شئنا تركنا. فقال له الأشتر: أنت تقول هذا أصلحك الله وهذا من مركز رماحنا وفيئنا ثم ضربوا عبد الرحمن بن حبيش حتى سقط .

قال المدائني فحدثني علي بن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن الشعبي ومجالد بن حمزة بن بيض عن الشعبي قال: بيننا القراء عند سعيد بن العاص وهم يأكلون تمرا وزبدا إذ قال سعيد: السواد بستان قريش، فما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركنا. فقال له عبد الرحمن بن حبيش وكان على شرطة سعيد: صدق الأمير. فوثب عليه القراء فضربوه، وقالوا له: يا عدو الله، يقول الباطل وتصدقه فقال سعيد: اخرجوا من داري. فخرجوا، فلما أصبحوا أتو المسجد فداروا على الحلق فقالوا: إن أميركم زعم أن السواد بستان له ولقومه وهو فيئنا ومركز رماحنا، فوالله ما على هذا بايعنا ولا عليه أسلمنا. فكتب سعيد إلى عثمان رضي الله عنه: إن قبلي قوما يدعون القراء وهم السفهاء، وثبوا على صاحب شرطتي فضربوه واستخفوا بي. منهم عمرو بن زرارة، وكميل بن زياد، والأشتر وحرفوص بن هبيرة، وشريح بن أوفى، ويزيد بن المكفف، وزيد وصعصعة ابنا صوحان وجندب بن عبد الله. فكتب إليهم عثمان رضي الله عنه يأمرهم أن يخرجوا إلى الشام ويغروا مغازيهم. وكتب إلى سعيد: قد كفيتك الذي أردت فأقرئهم كتابي فإني أراهم لا يخالفون إن شاء الله، واتق الله جل وعز وأحسن السيرة. فأقرأهم الكتاب. فخرجوا إلى دمشق فأكرمهم معاوية وقال: إنكم قدمتم بلدا لا يعرف أهله إلا الطاعة فلا تجادلوهم فتدخلوا الشك قلوبهم. فقال له الأشتر: إن الله جل وعز قد أخذ على العلماء في علمهم ميثاقا أن يبينوه للناس ولا يكتموه. فإن سألنا سائل عن شيء نعلمه لم نكتمه. فقال: قد خفت أن تكونوا مرصدين للفتنة، فاتقوا الله  ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات  فقال عمر بن زرارة: نحن الذين هدى الله. فأمر معاوية بحبسهم. فقال له زيد بن صوحان: إن الذين أشخصونا إليك لم يعجزوا عن حبسنا لو أرادوا. فأحسنوا جوارنا، وإن كنا ظالمين فنستغفر الله، وإن كنا مظلومين فنسأل الله العافية. فقال له معاوية: إني لأرى حبسك أمرا صالحا، فإن أحببت أن آذن لك فترجع إلى مصرك وأكتب إلى أمير المؤمنين بإذنك فعلت. قال حسبي أن تأذن لي وتكتب إلى سعيد. فكتب إليه، فأذن له، فلما أراد زيد الشخوص كلمه في الأشتر وعمرو بن زرارة فأخرجهما. وأقام القوم بدمشق لا يرون أمرا يكرهونه؛ ثم أشخصهم معاوية إلى حمص، فكانوا بها، حتى أجمع أهل الكوفة على إخراج سعيد فكتبوا إليهم فقدموا .

قال أبو زيد قال المدائني حدثني الوقاصي عن الزهري: أن أهل الكوفة لما تقدموا على عثمان يشكون سعيدا قال لهم: أكتب إليه فأجمع بينكم وبينه. ففعل، فلم يحققوا عليه شيئا إلا قوله: السواد بستان قريش، وأثنى عليه الآخرون عليه. فقال عثمان: أرى أصحابكم يسألون إقراره، ولم يثبتوا عليه إلا كلمة واحدة، لم ينتهك بها لأحد حرمة. ولا أرى عزله إلا أن تثبتوا عليه ما لا يحل لأحد تركه معه. فانصرفوا إلى مصركم. فرجع سعيد والفريقان معه، وتقدمهم علي بن الهيثم السدوسي حتى دخل رحبة المسجد فقال: يا أهل الكوفة إنا أتينا خليفتنا فشكونا إليه عاملنا، ونحن نرى أنه سيصرفه عنا، فرده إلينا وهو يزعم أن السواد بستان له. وأنا امرؤ منكم أرضى إذا رضيتم. فقالوا لا نرضى .

الأشتر يخطب محرضا على عثمان:

 

صفحة : 1344

 

وجاء الأشتر فصعد المنبر فخطب خطبة ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما، وذكر عثمان رضي الله عنه فحرض عليه ثم قال: من كان يرى أن لله جل وعز حقا فليصبح بالجرعة، ثم قال لكميل بن زياد: انطلق فأخرج ثابت بن قيس بن الخطيم، فأخرجه. واستعمل أهل الكوفة. أبا موسى الأشعري .

عثمان يخضع لقوة الرأي فيعزل سعيدا ويولي أبا موسى: أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا عفان قال حدثنا أبو محصن قال حدثنا حصين بن عبد الرحمن قال حدثني جهيم قال: أنا شاهد للأمر، قالوا لعثمان: إنك استعملت أقاربك. قال: فليقم أهل كل مصر فليسلموا صاحبهم. فقام أهل الكوفة فقالوا: اعزل عنا سعيدا واستعمل علينا أبا موسى الأشعري. ففعل .

ثناء امرأة على سعد بن أبي وقاص: قال أبو زيد: وكان سعيد قد أبغضه أهل الكوفة لأمور: منها أن عطاء النساء بالكوفة كان مائتين مائتين فحطه سعيد إلى مائة مائة. فقالت امرأة من أهل الكوفة تذم سعيدا وتثني على سعد بن أبي وقاص:

فليت أبا إسحاق كان أميرنا                      وليت سعيدا كان أول هالك

يخطط أشراف النساء ويتقي                      بأبائهن مرهفات النـيازك هدية سعيد بن العاص إلى علي بن أبي طالب: حدثني العباس بن علي بن العباس ومحمد بن جرير الطبري قالا حدثنا يحيى بن معين قال حدثنا أبو داود وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا شعبة بن عمرو بن مرة قال سمعت أبا وائل يحدث عن الحارث بن حبيش قال: بعثني سعيد بن العاص بهدايا إلى المدينة وبعثني إلى علي عليه السلام وكتب إليه: إني لم أبعث إلى أحد بأكثر مما بعثت به إليك إلا شيئا في خزائن أمير المؤمنين. قال: فأتيت عليا فأخبرته، فقال: لشد ما تحظر بنو أمية تراث محمد صلى الله عليه وسلم. أما والله لئن وليتها لأنفضنها نفض القصاب لتراب الوذمة .

قال أبو جعفر: هذ غلط إنما هو لوذام التربة .

قال أبو زيد وحدثني عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن السعدي عن أبيه قال: بعث سعيد ابن العاص مع ابن أبي عائشة مولاه بصلة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام. فقال: والله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا مما أفاء الله على رسول بمثل قوت الأرملة، والله لئن بقيت لأنفضها نفض القصاب لوذام التربة. هكذا في هذه الرواية .

 

رب وعد منك لا أنسـاه لـي                      أوجب الشكر وإن لم تفعلـي

أقطع الدهر بظـن حـسـن                      وأجلي غمرة ما تنـجـلـي

كلما أملت يومـا صـالـحـا                      عرض المكروه لي في أملي

وأرى الأيام لا تدنـي الـذي                      أرتجي منك وتدني أجـلـي عروضه من الرمل؛ الشعر لمحمد بن أمية، والغناء لأبي حشيشة، رمل طنبوري وفيه لحن لحسين بن محرز ثاني ثقيل بالوسطى عن أبي عبد الله الهشامي .

 

أخبار محمد بن أمية وأخيه

 

علي بن أمية وما يغنى فيه من شعرهما:

نسب محمد بن أمية: سألت أحمد بن جعفر جحظة عن نسبه قلت له: إن الناس يقولون ابن أمية وابن أبي أمية، فقال: هو محمد بن أمية بن أبي أمية .

منادمته إبراهيم بن المهدي: قال: وكان محمد كاتبا وشاعرا ظريفا، وكان ينادم إبراهيم بن المهدي، وربما عاشر علي ابن هشام، إلا أن انقطاعه كان إلى إبراهيم، وربما كتب بين يديه. وكان حسن الخط والبيان. وكان أمية بن أبي أمية يكتب للمهدي على بيت المال. وكان إليه ختم الكتب بحضرته، وكان يأنس به لأدبه وفضله، ومكانه من ولائه، فزامله أربع دفعات حجها في ابتدائه ورجوعه .

قال جحظة: وحدثني بذلك أبو حشيشة .

إعجاب أبي العتاهية به في حضرة إبراهيم بن المهدي: وحدثني جحظة قال حدثني أبو حشيشة عن محمد بن علي بن أمية قال حدثني عمي محمد بن أمية قال:

 

صفحة : 1345

 

كنت جالسا بين يدي إبراهيم بن المهدي، فدخل إليه أبو العتاهية وقد تنسك ولبس الصوف وترك قول الشعر إلا في الزهد، فرفعه إبراهيم وسر به، وأقبل له أبو العتاهية: أيها الأمير بلغني خبر فتى في ناحيتك ومن مواليك يعرف بابن أمية يقول الشعر، وأنشدت له شعرا أعجبني، فما فعل? فضحك إبراهيم ثم قال: لعله أقرب الحاضرين مجلسا منك. فالتفت إلي فقال لي: أنت هو فديتك? فتشورت وخجلت وقلت له: أنا محمد بن أمية جعلت فداءك وأما الشعر فإنما أنا شاب أعبث بالبيت والبيتين والثلاثة كما يعبث الشاب؛ فقال لي: فديتك، ذلك والله زمان الشعر وغبانه، وما قيل فيه فهو غرره وعيونه، وما قصر من الشعر وقيل في المعنى الذي تومئ إليه أبلغ وأملح. ومازال ينشطني ويؤنسني حتى أرى أني قد أنست به، ثم قال لإبراهيم بن المهدي: إن رأى الأمير أكرمه الله أن يأمره بإنشادي ما حضر من الشعر. فقال لي إبراهيم: بحياتي يا محمد أنشده. فأنشدته:

رب وعد منك لا أنساه لـي                      أوجب الشكر وإن لم تفعلي وذكر الأبيات الأربعة. قال: فبكى أبو العتاهية حتى جرت دموعه على لحيته وجعل يردد البيت الأخير منها وينتحب، وقام فخرج وهو يردده ويبكي حتى خرج إلى الباب .

هو وخداع جارية خال المعتصم وأشعاره فيها: أخبرني عمي قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال حدثني محمد بن علي بن أمية قال: كان عمي محمد بن أمية يهوى جارية مغنية يقال لها خداع كانت لبعض جواري خال المعتصم، فكان يدعوها، ويعاشره إخوانه إذا دعوه بها أتباعا لمسرته. وأراد المعتصم الخروج والتأهب للغزو، وأمر الناس جميعا بالخروج والتأهب، فدعاه بعض أخوانه قبل خروجهم بيوم، فلما أضحى النهار جاء من المطر أمر عظيم لم يقدر معه أحد أن يطلع رأسه من داره، فكاد محمد أن يموت غما، فكتب إلى صديقه الذي دعاه وقد كان ركب إليه ثم رجع لشدة المطر ، ولم يقدر على لقائه:

تمادى القطر وانقطع السبيل                      من الإلفين إذ جرت السيول

على أني ركبت إليك شوقـا                      ووجه الأرض أودية تجول

وكان الشوق يقدمني دلـيلا                      وللمشتاق معتزمـا دلـيل

فلم أجد للسبيل إلى حـبـيب                      أودعه وقد أفد الـرحـيل

وأرسلت الرسول فغاب عني                      فيالله ما فعل الـرسـول وقال في ذلك أيضا:

مجلس يشفى به الوطـر                      عاق عنه الغيم والمطر

رب خذ لي منهما فهمـا                      رحمة عمت ولي ضرر

ما على مولاي معـتـبة                      عذره باد ومسـتـتـر

شغلت عيني بعبرتـهـا                      واستمالت قلبي الفكـر قال: ثم بيعت خداع هذه فاشتراها بعض ولد المهدي وكان ينزل شارع الميدان، فحجبت عنه وانقطع ما بينهما إلا مكاتبة ومراسلة .

قال محمد بن علي فأنشدني يوما عمي محمد لنفسه فيها:

خطرت الهوى بـذكـر خـداع                      هجن شوقي لا دارسات الطلول

حجبت أن ترى فلسـت أراهـا                      وأرى أهلها بـكـل سـبـيل

وإذا جاءها الـرسـول رآهـا                      ليت عيني مكان عين الرسـول

قد أتاك الرسول ينعت مـا بـي                      فاسمعي منه ما يقول وقولـي وقال فيها أيضا:

بناحية الـمـيدان درب لـو أنـنـي                      أسميه لم أرشد وإن كان مفـسـدي

أخاف على سكانـه قـول حـاسـد                      يشير إليهم بالـجـفـون وبـالـيد

وصائف أبكـار وعـون نـواطـق                      بألسنة تشفي جوى الهائم الـصـدي

يقاربن أهل الود بالقول في الهـوى                      وما النجم من معروفهن بـأبـعـد

يزدن أخا الدنيا مـجـونـا وفـتـنة                      ويشغفن قلب الناسك المـتـعـبـد

وليلة وافى النوم طيف سـرى بـه                      إلي الهوى منهـن بـعـد تـجـرد

فقاسمته الأشجان نصفـين بـينـنـا                      وأوردته من لوعة الحب مـوردي

ونلت الذي أملت بـعـد تـمـنـع                      وعاهدته عهد امـرئ مـتـوكـد

فلما افترقنا خاس بالعهـد بـينـنـا                      وأعرض إعراض العروس من الغد

فواندمـا ألا أكـون ارتـهـنـتـه                      لأخبره في حفظ عهـد ومـوعـد إعجاب أبي العتاهية بشعره:

 

صفحة : 1346

 

أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني حذيفة بن محمد قال قال لي محمد بن أبي العتاهية: سمع أبي يوما مخارقا يغني:

أحـبـك حـبـا لـو يفـض يسـيره                      على الخارق مات الخلق من شدة الحب

وأعلـم أنـي بـعـد ذاك مـقـصـر                      لأنك في أعلى المراتب من قـلـبـي فطرب ثم قال له: من يقول هذا يا أبا المهنا? قال: فتى من الكتاب يخدم الأمير إبراهيم بن المهدي. فقال: تعني محمد بن أمية? قال: نعم. قال أحسن والله، وما يزال يأتي بالشيء المليح يبدو له .

مزاحه مع مسلم بن الوليد: أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن أمية بن أبي أمية قال: لقي أخي محمد بن أمية مسلم بن الوليد وهو يمشي وطويلته مع بعض رواته، فسلم عليه ثم قال له: قد حضرني شيء؛ فقال: على أنه مزاح لا يغضب منه؛ قال: هاته ولو أنه شتم. فقال:

من رأى فيما خلا رجلا                      تيهه يربي على جدتـه

يباهـى راجـلا ولـه                      شاكري في قلنسـيتـه فسكت عنه مسلم ولم يجبه، وضحك منه محمد وافترقا .

مداعبة مسلم له حين نفق برذونه: قال: وكان لمحمد بن أمة برذون يركبه، فلقيه مسلم وهو راجل فقال: ما فعل برذونك? قال: نفق. قال: الحمد لله، فنجازيك إذا على ما كان منك إلينا. ثم قال مسلم:

قل لابن مي لا تكن جازعا                      لن يرجع البرذون باللـيت

طامن أحشاؤك فـقـدانـه                      وكنت فيه عالي الصـوت

وكنت لا تزال عن ظهـره                      ولو من الحش إلى البـيت

ما مات من حتف ولكـنـه                      مات من الشوق إلى الموت تعلقه بإحدى الجواري وما كان بينهما: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني محمد بن علي ابن أمية قال حدثني حسين بن الضحاك قال: دخلت أنا ومحمد بن أمية منزل نخاس بالرقة أيام الرشيد وعنده جارية تغني فوقعت عينها على محمد، ووقعت عينه عليها، فقال لها: يا جارية، أتغنين هذا الصوت:

خبريني من الرسـول إلـيك                      واجعليه من لا ينـم عـلـيك

وأشيري إلي من هو بـالـح                      ظ ليخفى على الـذين لـديك

وأقلي المزاح في المجلس اليو                      م فإن الـمـزاح بـين يديك فقالت له: ما أعرفه، وأشارت إلى خادم كان على رأسها واقفا. فمكثا زمانا والخادم الرسول بينهما. قال: تغنى بشعر له عمرو الغزال فتطير إبراهيم بن المهدي وعلم من في المجلس بنكبة البرامكة: حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني بعض من كان يختلط بالبرامكة قال: كنت عند إبراهيم بن المهدي، وقد اصطبحنا وعنده عمرو بن بانة، وعبيد الله بن أبي غسان، ومحمد بن عمرو الرومي، وعمرو الغزال، ونحن في أطيب ما كنا عليه إذ غنى عمرو الغزال، وكان إبراهيم بن المهدي يستثقله، إلا أنه كان يتخفف بين يديه ويقصده، ويبلغه عنه تقديم له وعصبية، فكان يحتمل ذاك منه، فاندفع عمرو الغزال، فتغنى في شعر محمد بن أمية:

ماتم لي يوم سرور بـمـن                      أهواه مذ كنت إلى الـلـيل

أغبط ما كنت بما نـلـتـه                      منه أتتني الرسل بـالـويل

لا والذي يعلـم كـل الـذي                      أقول ذي العزة والـطـول

ما رمت مذ كنت لكم سخطة                      بالغيب في فعل ولا قـول قال: فتطير إبراهيم، ووضع القدح من يده، وقال: أعوذ بالله من شر ما قلت. فوالله ما سكت وأخذنا نتلافى إبراهيم إذ أتى حاجبه يعدو فقال: مالك ? فقال: خرج الساعة مسرور من دار أمير المؤمنين حتى دخل إلى جعفر بن يحيى، فلم يلبث أن خرج ورأسه بين يديه وقبض على أبيه وإخوته . فقال إبراهيم:  إنا لله وإنا إليه راجعون  ارفع يا غلام ارفع. فرفع ما كان بين أيدينا، وتفرقنا فما رأيت عمرا بعدها في داره .

كان يستطيب الشراب عند هبوب الجنوب: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى الكاتب قال حدثني محمد بن يحيى بن بسخنر قال:

 

صفحة : 1347

 

كنت عند إبراهيم بن المهدي بالرقة وقد عزمنا على الشراب ومعنا محمد بن أمية في يوم من حزيران، فلما هممنا بذلك هبت الجنوب، وتلطخت السماء بغيم ، وتكدر ذلك اليوم، فترك إبراهيم بن المهدي الشرب ولحقه صداع، وكان يناله ذلك مع هبوب الجنوب، فافترقنا؛ فقال لي محمد بن أمية: ما أحب إلي ما كرهتموه من الجنوب فإن أنشدتك بيتين مليحين في معناهما تساعدني على الشرب اليوم? قلت: نعم. فأنشدني:

إن الجنوب إذا هبت وجدت لها                      طيبا يذكرني الفردوس إن نفحا

لما أتت بنسيم منـك أعـرفـه                      شوقا تنفست واستقبلتها فرحـا فانصرفت معه إلى منزله، وغنيت في هذين البيتين وشربنا عليهما بقية يومنا .

ما قاله في تفاحة أهدتها إليه خداع: وجدت في بعض الكتب بغير إسناد: أهدت جارية يقال لها خداع إلى محمد بن أمية، وكان يهواها تفاحة مفلجة منقوشة مطيبة حسنة، فكتب إليها محمد:

خداع أهـديت لـنـا خـدعة                      تفـاحة طـيبة الـنـشــر

ما زلت أرجوك وأخشى الهوى                      معتصما باللـه والـصـبـر

حتى أتتني منـك فـي سـاعة                      زحزحت الأحزان عن صدري

حشوتها مسكا ونـقـشـتـهـا                      ونقش كفيك مـن الـنـحـر

سقيا لـهـا تـفـاحة أهـديت                      لو لم تكن من خدع الـدهـر التقى بجارية يهواها وشعره في ذلك: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن جعفر اليقطيني قال: حدثني أبي جعفر بن علي بن يقطين قال: كنت أسيرا أنا ومحمد بن أمية في شارع الميدان، فاستقبلتنا جارية كان محمد يهواها ثم بيعت وهي راكبة، فكلمها، فأجابته بجواب أخفته فلم يفهمه، فأقبل علي وقد تغير لونه فقال:

يا جعفر بن علي وابن يقـطـين                      أليس دون الذي لاقيت يكفـينـي

هذا الذي لم تزل نفسي تخوفنـي                      منها فأين الذي كانت تمنـينـي

خاطرت إذ أقبلت نحوي وقلت لها                      تفديك نفسي فداء غير ممـنـون

فخاطبتني بما اخفته فانصرفـت                      نفسي بظنين مخشي ومـأمـون تمثل المنتصر ببيت له: حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال: كنت بين يدي المنتصر جالسا فجاءته رقعة لا أعلم ممن هي، فقرأها وتبسم ثم إنه أقبل علي وأنشد:

لطافة كاتب وخشوع ضب                      وفطنة شاعر عند الجواب ثم أقبل علي فقال: من يقول هذا يا يزيد? فقلت: محمد بن أمية يا أمير المؤمنين. فضحك وقال: كأنه والله يصف ما في هذه الرقعة .

عاتبه أخوه وابن قنبر لما لحقه من وله كالجنون لبيع جارية يحبها: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني حذيفة بن محمد قال: كنت أنا وابن قنبر عند محمد بن أمية بعقب بيع جارية كان يحبها وقد لحقه عليها وله كالجنون، فجعل ابن قنبر وأخوه علي بن أمية يعاتبانه على ما يظهر منه، فأقبل بوجهه عليهما ثم قال:

لو كنت جربت الهوى يا بن قـنـبـر                      كوصفك إياه لألهاك عـن عـذلـي

أنا وأخي الأدنى وأنت لـهـا الـفـدا                      وإن لم تكونا في مودتهـا مـثـلـي

أأن حجبت عني أجـود لـغـيرهـا                      بودي وهل يغري المحب سوى البخل

أسر بأن قـالـوا تـضـن بـودهـا                      عليك ومن ذا سر بالبخل من قـبـل قال: فضحك ابن قنبر، وقال: إذا كان الأمر هكذا فكن أنت الفداء لها، وإن ساعدك أخوك فاتفقا على ذلك، وأما أنا فلست أنشط لأن أساعدك على هذا. وافترقنا .

قطع الصوم بينه وبين خداع فقال شعرا: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني محمد بن الحسن بن الحزور لمحمد بن أمية في جارية كان يهواها وقطع الصوم بينهما؛ فقال يخاطب محمد بن عثمان بن خريم المري:

قفا فابكيا إن كنـتـمـا تـجـدان                      كوجدي وإن لم تبكيا فـدعـانـي

ففي الدمع مما تضمر النفس راحة                      إذا لم أطق إظهاره بلـسـانـي

أغص بأسراري إذا ما لقـيتـهـا                      فأبهت مشدوها أعض بـنـانـي

فيابن خريم يا أخي دون إخـوتـي                      ومن هو لي مثلي بكل مـكـان

 

صفحة : 1348

 

 

تأمل أحظي من خداع وحبـهـا                      سوى خدع تذكي الهوى وأماني

وأصبح شهر الصوم قد خال بيننا                      فيا ليت شوالا أتـى بـزمـان شعر له فيها استحسنه ابن المعتز: أنشدني جعفر بن قدامة قال أنشدني عبد الله بن المعتز قال أنشدني أبو عبد الله الهشامي لمحمد بن أمية، وفيه غناء لمتيم، قال واستحسنه عبد الله: صوت:

عجبا عجبت لمذنب متغـضـب                      لولا قبيح فعالـه لـم أعـجـب

أخداع، طال الفراش تقـلـبـي                      وإليك طول تشوفي وتطـربـي

لهفي عليك وما يرد تلـهـفـي                      قصرت يداي وعز وجه المطلب الغناء لمتيم، فيه لحنان: رمل عن ابن المعتز، وخفيف رمل عن الهشامي. وهذا من شعر محمد فيها بعد أن بيعت. قال: وغنتنا هزار هذا الصوت يومئذ .

أشعاره فيها إذ فقدها وحين وجدها: حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن محمد الفيرزان قال حدثني شيبة بن هشام قال: دعانا محمد ابن أمية يوما ووجه إلى جارية كان يحبها فدعاها، وبعث إلى مولاها يحدرها مع رسوله، فأبطأ الرسول حتى انتصف النهار ثم عاد وليست معه وقال: أخذوا مني الدراهم ثم ردوها علي، ورأيتهم مختلطين، ولهم قصة لم يعرفونيها، وقاولوا: ليست ها هنا فإن عادت بعثنا بها إليكم. فتنغص عليه يومه وتغير وجهه وتجمل لنا؛ ثم بكرنا من غد بأجمعنا إلى منزل مولاها فإذا هي قد بيعت، فوجم طويلا ، وسار حتى إذا خلا لنا الطريق اندفع باكيا. فما أنسى حرقة بكائه وهو ينشدني:

تخطى إلي الدهر من بين من أرى                      وسوء مقـادير لـهـن شـؤون

فشتت شملي دون كل أخي هـوى                      وأقصدني بل كلـهـم سـيبـين

ومهما تكن من ضحكة بعد فقدها                      فإني وإن أظهرتـهـا لـحـزين

سلام على أيامـنـا قـبـل هـذه                      إذ الدار دار والسـرور فـنـون قال ومضت على ذلك مدة. ثم أخبرني أنه اجتاز بها، وهي تنظر من وراء شباك، فسلم عليها فأومأت بالسلام إليه ودخلت، فقال:

تطالعني على وجل خـداع                      من الشبك التي عملت حديدا

مطالعتي قفي بالله حـتـى                      أزود مقلتي نظـرا جـديدا

فقالت: إن سها الواشون عنا                      رجونا أن تعود وان نعـودا وأنشدني أيضا في ذلك: صوت:

يا صاحب الشبك الذي اس                      تخفى مكانك غير خاف

أفـمـا رأيت تـلـددي                      بفناء قصرك واختلافـي

أو ما رحمت تخشـعـي                      وتلفتي بعد انصـرافـي صوت:

إن الرجال لهم إلـيك وسـيلة                      إن يأخذوك تكحلي وتخضبـي

وأنا امرؤ إن يأخذوني عـنـوة                      أقرن إلى سير الركاب وأجنب

ويكون مركبك القعود وحدجـه                      وابن النعامة يوم ذلك مركبي عروضه من الكامل. قال ابن العرابي في تفسير قوله:

وابن النعامة يوم ذلك مركبي ابن النعامة: ظل الإنسان أو الفرس أو غيره. قال جرير:

إذ ظل يحسب كل شيء فارسا                      وير نعامة ظلـه فـيحـول يعني بنعامة ظله جسده. وقال أبو عمرو الشيباني: النعامة ما يلي الأصابع في مقدم الرجل. يقول: مركبي يومئذ رجلي. وقال الجاحظ: ذكر علماؤنا البصريون: أن النعامة اسم فرسه. يقول: إني أشد على ركابي السرج فإذا صار للفرس وهو الذي يسمى النعامة ظل وأنا مقرون إليه صار ظله تحتي فكنت راكبا له. وجعل ظلها ها هنا ابنها .

الشعر للحارث بن لوذان بن عوف بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة. وقال ابن سلام: لخزز لوذان. ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى عنترة، وذلك خطأ. وأحد من نسبه إليه إسحاق الموصلي. والغناء لعزة الميلاء. وأول لحنها:

لمن الديار عرفتها بالشربب                      ذهب الذين بها ولما تذهب وبعده إن الرجال .

وطريقته من خفيف الثقيل الأول بالبنصر من روايتي حماد وابن المكي. وفيه للهذيل خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي. وفيه لعريب خفيف رمل. وفيه لعزة المرزوقية لحن. وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات: هذا اللحن لريق، سلخت لحن ومخنث شهد الزفاف وقبله فجعلته لهذا، وهو لحن يشبه صنعة ابن سريج وصنعة حكم في محركاتهما، فمن هنا يغلط فيه ويظن أنه قديم الصنعة .

 

 

صفحة : 1349

 

ابن أبي عتيق يعجب بغناء عزة الميلاء: أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثت عن صالح بن حسان قال: كان ابن أبي عتيق معجبا بغناء عزة الميلاء كثير الزيارة لها، وكان يختار عليها قوله:

لمن الديار عرفتها بالشربب فسألها يوما زيارته فأجابته إلى ذلك ومضت نحوه، فقال لها بعد أن استقر بها المجلس: يا عزة، أحب أن تغنيني صوتي الذي أنا له عاشق. فغنته هذا الصوت، فطرب كل الطرب وسر غاية السرور .

جارية ابن أبي عتيق ومعابثة فتى لها: وكانت له جارية، وكان فتى من أهل المدينة كثيرا ما يعبث بها؛ فأعلمت ابن أبي عتيق بذلك؛ فقال لها: قولي له: وأنا أحبك؛ فإذا قال لك: وكيف لي بك? فقولي له: مولاي يخرج غدا إلى مال له، فإذا خرج أدخلتك المنزل. وجمع ابن أبي عتيق ناسا من أصحابه فأجلسهم في بيته ومعهم عزة الميلاء ، وأدخلت الجارية الرجل. وقال لعزة: غني فأعادت الصوت. وخرجت الجارية فمكثت ساعة ثم دخلت البيت كأنها تطلب حاجة، فقال لها: تعالي. فقالت: الآن آتيك. ثم عادت فدعاها ، فوثب فضرب بها الحجلة ، فوثب ابن أبي عتيق عليه هو وأصحابه، فقال لهم وهو غير مكترث: يا فساق ما يجلسكم ها هنا مع هذه المغنية فضحك ابن أبي عتيق من قوله وقال له: استر علينا ستر الله تعالى عليك. فقالت له عزة: يابن الصديق ، ما أظرف هذا لولا فسقه فاستحيا الرجل فخرج، وبلغه أن ابن أبي عتيق قد آلى إن هو وقع في يده أن يصير به إلى السلطان. فأقبل يعبث بها كلما خرجت، فشكت ذلك إلى مولاها، فقال لها: أو لم يرتدع من العبث بك قالت: لا. قال: فهيئي الرحى وهيئي من الطعام طحين ليلة إلى الغداة. فقالت: أفعل يا مولاي. فهيأت ذلك على ما أمرها به ثم قال لها: عديه الليلة فإذا جاء فقولي له: إن وظيفتي الليلة طحن هذا البر كله ثم اخرجي من البيت واتركيه. ففعلت، فلما دخل طحنت الجارية قليلا، ثم قالت له: إن كفت الرحى فإن مولاي جاء إلي أو بعض من وكله بي، فاطحن حتى نأمن أن يجيئنا أحد، ثم أصير إلى قضاء حاجتك. ففعل الفتى ومضت الجارية إلى مولاها وتركته. وقد أمر ابن أبي عتيق عدة من مولياته أن يتراوحن على سهر ليلتهن ويتفقدن أمر الطحين ويحثثن الفتى عليه كما أمسك؛ ففعلن، وجعلن ينادينه كلما كف: يا فلانة إن مولاك مستيقظ؛ والساعة يعلم أنك كففت عن الطحن، فيقوم إليك بالعصا كعادته مع من كانت نوبتها قبلك إذا هي نامت وكفت عن الطحن. فلم يزل الفتى كلما سمع ذلك الكلام يجتهد في العمل والجارية تتعهد وتقول: قد استيقظ مولاي. والساعة ينام فأصير إلى ما تحب. فلم يزل الرجل يطحن حتى أصبح وفرغ من جميع القمح. فلما فرغ وعلمت الجارية أتته فقالت: قد أصبحت فانج بنفسك. فقال: أوقد فعلتها يا عدوة الله فخرج تعبا نصبا فأعقبه ذلك مرضا شديدا أشرف منه على الموت، وعاهد الله تعالى ألا يعود إلى كلامها، فلم تر منه بعد ذلك شيئا ينكر .

صوت:

أجد اليوم اليوم جيرتك احتمالا                      وحث حداتهم بهم عـجـالا

وفي الأظعان آنسة لـعـوب                      ترى قتلى بغـير دم حـلالا عروضه من الوافر. الشعر للمتوكل الليثي، والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق. وفيه لابن مسجح ثاني ثقيل آخر بالخنصر في مجرى البنصر عنه. وذكر حبش أن هذا اللحن لابن سريج، وفيه لإسحاق هزج .

 

نسب المتوكل الليثي وأخباره

نسبه: هو المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن مسافع بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر بن عوف بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار. من شعراء الإسلام، وهو من أهل الكوفة. كان في عصر معاوية وابنه يزيد، ومدحهما. ويكنى أبا جهمة. وقد اجتمع مع الأخطل وناشده عند قبيصة بن والق، ويقال عند عكرمة بن ربعي الذي يقال له الفياض، فقدمه الأخطل .

وهذه القصيدة التي أولها الغناء قصيدة هجا بها عكرمة بن ربعي وخبره معه يذكر بعد .

أخبرني بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي عن الزبير بن بكار عن عمه .

تناشد هو والأخطل الشعر:

 

صفحة : 1350

 

وأخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: أخبرني هارون بن مسلم قال حدثني حفص بن عمر العمري عن لقيط بن بكير المحاربي قال: قدم الأخطل الكوفة فنزل على قبيصة بن والق، فقال المتوكل بن عبد الله الليثي لرجل من قومه: انطلق بنا إلى الأخطل نستنشده ونسمع من شعره. فأتياه فقالا: أنشدنا يا أبا مالك. فقال: إني لخائر يومي هذا. فقال له المتوكل: أنشدنا أيها الرجل، فوالله لا تنشدني قصيدة إلا أنشدتك مثلها أو أشعر منها من شعري. قال: ومن أنت? قال: أنا المتوكل . قال: أنشدني ويحك من شعرك فأنشده:

للغانيات بذي المجاز رسوم                      فببطن مكة عهدهن قـديم

فبمنحر البدن المقلد من منى                      حلل تلوح كأنهن نـجـوم

لا تنه عن خلق وتأتي مثله                      عار عليك إذا فعلت عظيم

والهم إن لم تمضه لسبيلـه                      داء تضمنه الضلوع مقـيم غنى في هذه الأبيات سائب خائر من رواية حماد عن أبيه ولم يجنسه .

قال وأنشده أيضا:

الشعر لب المرء يعرضه                      والقول مثل مواقع النبل

منها المقصر عن رميته                      ونزافذ يذهبن بالخصـل قال وأنشده أيضا:

إننا معشر خلقنـا صـدورا                      من يسوي الصدور بالأذناب قال له الأخطل: ويحك يا متوكل  لو نبحت الخمر في جوفك كنت أشعر الناس .

ما قاله في زوجته رهيمة حين طلبت الطلاق: قال الطوسي قال الأصمعي: كانت للمتوكل بن عبد الله الكناني امرأة يقال لها رهيمة ويقال أميمة وتكنى أم بكر، فأقعدت، فسألته الطلاق، فقال: ليس هذا حين طلاق. فأبت عليه، فطلقها، ثم إنها برئت بعد الطلاق، فقال في ذلك:

طربت وشاقنـي يا ام بـكـر                      دعاء حمامة تدعو حـمـامـا

فبت وبات همي لـي نـجـيا                      أعزى عنك قلبا مستـهـامـا

إذا ذكرت لقلـبـك أم بـكـر                      يبيت كأنما اغتبق الـمـدامـا

خدلجة ترف غـروب فـيهـا                      وتكسو المتن ذا خصل سخاما

أبى قلبي فما يهوى سـواهـا                      وإن كانت مودتهـا غـرامـا

ينام اللـيل كـل خـلـي هـم                      وتأبى العين مني أن تـنـامـا

أراعي التاليات مـن الـثـريا                      ودمع العين منحدر سجـامـا

على حين ارعويت وكان رأسي                      كأن على مفارقـه ثـغـامـا

سعى الواشون حتى أزعجوهـا                      ورث الحبل فانجذم انجـذامـا

فلست بزائل مـا دمـت حـيا                      مسرا من تذكرهـا هـيامـا

ترجيها وقد شحطـت نـواهـا                      ومنتك المنى عاما فـعـامـا

خدلجة لـهـا كـفـل وثـير                      ينوء بها إذا قـامـت قـيامـا

مخصرة ترى في الكشح منهـا                      على تثقيل أسفلها انهضـامـا

إذا ابتسمت تلألأ ضـوء بـرق                      تهلل في الـدجـنة ثـم دامـا

وإن قامـت تـأمـل رائياهـا                      غمامة صيف ولجت غمامـا

إذا تمشـي تـقـول دبـيب أيم                      تعرج ساعة ثم اسـتـقـامـا

وإن جلست فدمية بـيت عـيد                      تصان ولا ترى إلا لـمـامـا

فلو أشكو الذي أكشـو إلـيهـا                      إلى حجر لراجعني الكـلامـا

أحب دنوهـا وتـحـب نـأيي                      وتعتام التنائي لي اعـتـيامـا

كأني مـن تـذكـر أم بـكـر                      جريح أسنة يشكـو كـلامـا

تساقط أنفسا نفسي عـلـيهـا                      إذا شحطت وتغتم اغتمـامـا

غشيت لها منازل مقـفـرات                      عفت إلا بالأياصر والثمـامـا

ونؤيا قـد تـهـدم جـانـبـاه                      ومبناها بذي سـلـم خـيامـا

صليني واعلمـي أنـي كـريم                      وأن حلاوتي خلطت عرامـا

وأني ذو مجامـحة صـلـيب                      خلقت لمن يماكسني لجـامـا

فلا وأبيك لا أنسـاك حـتـى                      تجاوب هامتي في القبر هاما شعر آخر له في امرأته يمدح فيه حوشبا الشيباني: والقصيدة التي فيها الغناء المذكور في أول خبر المتوكل يقولها أيضا في امرأته هذه ويمدح فيها حوشبا الشيباني، ويقول فيها:

 

صفحة : 1351

 

 

إذا وعدتك معروفـا لـوتـه                      وعجلت التجرم والمـطـالا

لها بشر نقي اللـون صـاف                      ومتن حط فاعتدل اعـتـدالا

إذا تمشى تأود جـانـبـاهـا                      وكاد الخصر ينخزل انخزالا

تنوء بها روادفـهـا إذا مـا                      وشاحاها على المتنين جـالا

فإن تصبح أميمة قد تـولـت                      وعاد الوصل صرما واعتلالا

فقد تدنو النوى بعد اغتـراب                      بها وتفرق الحي الـحـلالا

تعبس لي أميمة بعـد أنـس                      فما أدري أسخـطـا أم دلالا

أبيني لي فرب أخ مصـاف                      رزئت وما أحب بـه بـدالا

أصرم مـنـك هـذا أم دلال                      فقد عنى الـدلال إذا وطـالا

أم استبدلت بي ومللت وصلي                      فيوحي لي به ودعي المحالا

فلا وأبيك ما أهوى خـلـيلا                      أقاتله على وصلـي قـتـالا

وكم من كاشـح يا أم بـكـر                      من البغضاء يأتكل ائتـكـالا

لبست على قـنـاع مـن أذاه                      ولولا الله كنت لـه نـكـالا ومما يغنى به من هذه القصيدة قوله: صوت:

أنا الصقر الذي حدثت عنه                      عتاق الطير تندخل اندخالا

رأيت الغانيات صدفن لمـا                      رأين الشيب قد شمل القذالا

فلم يلووا إذا رحلوا ولكـن                      تولت عيرهم بهم عجـالا غنى فيه عمر الوادي خفيف رمل عن الهشامي. وذكر حبش أن فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى، وأحسبه مضافا إلى لحنه الذي في أول القصيدة .

هجاه معن بن حمل فترفع عنه ثم هجاه واعتذر: وقال الطوسي قال أبو عمرو الشيباني: هجا معن بن حمل بن جعونة بن وهب، أحد بني لقيط بن يعمر المتوكل بن عبد الله الليثي؛ وبلغ ذلك المتوكل، فترفع عن أن يجيبه، ومكث معن سنين يهجوه والمتوكل معرض عنه. ثم هجاه بعد ذلك وهجا قومه من بني الديل هجاء قذعا استحيا منه وندم، ثم قال المتوكل لقومه يعتذر ويمدح يزيد بن معاوية:

خليلي عوجا اليوم وانتـظـرانـي                      فإن الـهـوى والـهـم أم أبـان

هي الشمس يدنو لي قريبا بعيدهـا                      أرى الشمس ما أسطيعها وتراني

نأت بعد قرب دارها وتـبـدلـت                      بنا بدلا والـدهـر ذو حـدثـان

فهاج الهوى والشوق لي ذكر حرة                      من المرجحنات الثقال حـصـان غنى هذه الأبيات ابن محرز من كتاب يونس ولم يجنسه :

سيعلم قومي أنني كنـت سـورة                      من المجد إن داعي المنون دعاني

ألا رب مسرور بموتي لـو أتـى                      وآخر لو أنعى له لـبـكـانـي

خليلي ما لام امرأ مثل نـفـسـه                      إذا هي لامت فاربعا ودعـانـي

ندمت على شتمي العشيرة بعدمـا                      تغنى بها غوري وحن يمـانـي

قلبت لهم ظهر المجن وليتـنـي                      رجعت بفضل من يدي ولسانـي

على أنني لم أرم في الشعر مسلما                      ولم أهج من روى وهـجـانـي

هم بطروا الحلم الذي من سجيتي                      فبدلت قـومـي شـدة بـلـيان

ولو شئتم أولاد وهب نـزعـتـم                      ونحن جميع شمـلـنـا أخـوان

نهيتم أخاكم عن هجائي وقد مضى                      له بعد حول كامـل سـنـتـان

فلج ومـنـاه رجـال رأيتـهـم                      إذا قارنوني يكرهون قـرانـي

وكنت امرأ يأبى لي الضيم أننـي                      صروم إذا الأمر المهم عنـانـي

وصول صروم لا أقول لمـدبـر                      هلم إذا ما اغتشني وعصـانـي

خليلي لو كنت امرأ بي سـقـطة                      تضعضعت أو زلت بي القدمـان

أعيش على بغي العداة ورغمهـم                      وآتي الذي أهوى على الشـنـآن

ولكنني ثبـت الـمـريرة حـازم                      إذا صاح طلابي ملأت عنانـي

خليلي كم من كاشح قد رمـيتـه                      بقافية مـشـهـورة ورمـانـي

فكان كذات الحيض لم تبق ماءها                      ولم تنق عنها غسـلـهـا لأوان ثم إنه يقول فيها ليزيد بن معاوية:

أبا خالد حنت إليك مطيتـي                      على بعد منتاب وهول جنان

 

صفحة : 1352

 

 

أبا خالد في الأرض نأي ومفسح                      لذي مرة يرمى به الـرجـوان

فكيف ينام الليل حـر عـطـاؤه                      ثلاث لرأس الحول أو مـائتـان

تناهت قلوصي بعد إسآدي السرى                      إلى ملك جزل العطاء هجـان

ترى الناس أفواجا ينوبون بـابـه                      لبكر من الحاجات أو لـعـوان معن أجابه مفتخرا: فأجابه معن بن حمل فقال:

ندمت كذاك العبد ينـدم بـعـدمـا                      غلبت وسار الشعر كـل مـكـان

ولا قيت قرما في أرومة مـاجـد                      كريما عزيزا دائم الـخـطـران

أنا الشاعر المعروف وجهي ونسبتي                      أعف وتحمينـي يدي ولـسـانـي

وأغلب من هاجيت عفوا وأنتـمـي                      إلى معشر بيض الوجوه حـسـان

فهات إذا يابن الأتان كصاحـب ال                      ملوك أبـي، أسـيد كـمـهـان

فهات كزيد أو كسيحـان لا تـجـد                      لهم كفوا أو يبـعـث الـثـقـلان هو وعكرمة بن ربعي: أخبرني محمد بن الحسين بن دريد قال حدثنا العتبي عن العباس بن هشام عن أبيه عن عوانة قال: أتى المتوكل الليثي عكرمة بن ربعي الذي يقال له الفياض، فامتدحه فحرمه، فقيل له: جاءك شاعر العرب فحرمته فقال: ما عرفته. فأرسل إليه بأربعة آلاف درهم، فأبى أن يقبلها وقال: حرمني على رؤوس الناس ويبعث إلي سرا .

نسيبه بحسناء وهو يعاني الرمد وهجاؤه عكرمة: فبينا المتوكل بالحيرة وقد رمد رمدا شديدا، فمر به قس فقال: ما لك? قال: رمدت. قال: أنا اعالجك. قال: فافعل. فذره ، فبينا القس عنده وهو مذرور العين مستلق على ظهره، يفكر في هجاء عكرمة وذلك غير مطرد له ولا القول في معناه إذا أتاه غلام له فقال: بالباب امرأة تدعوك. فمسح عينيه وخرج إليها، فسفرت عن وجهها فإذا الشمس طالعة حسنا، فقال لها: ما اسمك? قالت: أمية. قال: فممن أنت? فلم تخبره. قال: فما حاجتك? قالت: بلغني أنك شاعر فأحببت أن تنسب بي في شعرك. فقال: أسفري. ففعلت فكر طرفه في وجهها مصعدا ومصوبا، ثم تلثمت وولت عنه، فاطرد له القول الذي كان استصعب عليه في هجاء عكرمة وافتتحه بالنسيب فقال:

أجد اليوم جيرتك احتمـالا                      وحث حداتهم بهم الجمالا

وفي الأظعان آنسة لعوب                      ترى قتلي بغير دم حلالا

أمية يوم دير القس ضنت                      علينا أن تنولـنـا نـوالا

أبيني لي فرب أخ مصاف                      رزئت وما أحب به بدالا وقال فيها يهجو عكرمة:

أقلني يابن ربعي ثـنـائي                      وهبها مدحة ذهبت ضلالا

وهبها مدحة لم تغن شـيئا                      وقولا عاد أكثـره وبـالا

وجدنا العز من أولاد بكـر                      إلى الذهلين يرجع والفعالا

أعكرم كنت كالمبتـاع دارا                      رأى بيع الندامة فآستقـالا

بنو شيبان أكرم آل بـكـر                      وأمتنهم إذا عقدوا حبـالا

رجال اعطيت أحلام عـاد                      إذا نطقوا وأيديها الطـوالا

وتيم الله حي حـي صـدق                      ولكن الرحى تعلو الثفـالا صوت:

سقى دمنتين لم نجد لهمـا أهـلا                      بحقل لكم يا عز قد رابني حقـلا

فيا عز إن واش وشى بي عندكـم                      فلا تكرميه أن تقولي له مهـلا

كما نحن لو واش وشى بك عندنا                      لقلنا تزحزح لا قريبا ولا سهـلا

ألم يأن يا قلب أن أترك الجهـلا                      وأن يحدث الشيب الملم لي العقلا

على حين صار الرأس مني كأنما                      علت فوقه ندافة العطب الغـزلا عروضه من الطويل. الدمن. آثار الديار، واحدتها دمنة. والحقل: الأرض التي يزرع فيها. والعطب هو القطن .

الشعر لكثير كله إلا البيت الأول فإنه انتحله، وهو الأفوه الأودي. والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي في الثلاثة الأبيات الأول متوالية. وذكر حبش أنه لمعبد. وفي الرابع والخامس والثاني والثالث لحنين ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيه ثقيل أول بالبنصر؛ ذكر ابن المكي أنه لمعبد، وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى المكي .

 

نسب الأفوه الأودي وشيء من أخباره

نسبه:

 

صفحة : 1353

 

الأفوه لقب، واسمه صلاءة بن عمرو بن مالك بن عوف بن الحارث بن عوف بن منبه بن أود بن الصعب بن سعد العشيرة. وكان يقال لأبيه عمر بن مالك فارس الشوهاء؛ وفي ذلك يقول الأفوه:

أبي فارس الشوهاء عمرو بن مالك                      غداة الوغى إذ مال بالجد عـاثـر كان سيد قومه وقائدهم وشاعرهم: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد عن علي بن الصباح عن هشام بن محمد الكلبي عن أبيه قال: كان الأفوه من كبار الشعراء القدماء في الجاهلية، وكان سيد قومه وقائدهم في حروبهم، وكانوا يصدرون عن رأيه. والعرب تعده من حكمائها. وتعد داليته:

معاشر ما بنوا مجدا لقـومـهـم                      وإن بنى غيرهم ما أفسدوا عادوا أبياته التي أخذ منها كثير بيتا: من حكمة العرب وآدابها . فأما البيت الذي أخذه كثير من شعر الأفوه وأضافه إلى أبياته التي ذكرناها وفيها الغناء آنفا فإنه من قصيدة يقول فيها:

نقاتل أقواما فنسبي نسـاءهـم                      ولم ير ذو عز لنسوتنا حجـلا

نقود ونأبى أن نقـاد ولا نـرى                      لقوم علينا في مكارمة فضلا

وإنا بطاء المشي عند نسـائنـا                      كما قيدت بالصيف نجدية بزلا

نظل غيارى عند كل سـتـيرة                      نقلب جيدا واضحا وشوى عبلا

وإنا لنعطي المال دون دمائنـا                      ونأبى غما نستام دون دم عقلا سبب هذه الأبيات: قال أبو عمرو الشيباني: قال الأفوه الأودي هذه الأبيات يفخر بها على قوم من بني عامر، كانت بينه وبينهم دماء، فأدرك بثأره وزاد، وأعطاهم ديات من قتل فضلا على قتلى قومه، فقبلوا وصالحوه .

بنو أود وبنو عامر: وقال أبو عمرو : أغارت بنو أود وقد جمعها الأفوه على بني عامر، فمرض الأفوه مرضا شديدا، فخرج بدله زيد بن الحارث الأودي وأقام الأفوه حتى أفاق من وجعه، ومضى زيد بن الحارث حتى لقي بني عامر بتضارع ، وعليهم عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب. فلما التقوا عرف بعضهم بعضا، فقال لهم بنو عامر: ساندونا فما أصبنا كان بيننا وبينكم. فقالت بنو أود وقد أصابوا منهم رجلين: لا والله حتى نأخذ بطائلتنا . فقام أخو المقتول، وهو رجل من بني كعب بن أود فقال: يا بني أود، والله لتأخذن بطائلتي أو لأنتحين على سيفي. فاقتتلت أود وبنو عامر. فظفرت أود وأصابت مغنما كثيرا. فقال الأفوه في ذلك: صوت:

ألا يا لهف لو شهدت قناتـي                      قبائل عامر يوم الصـبـيب

غداة تجمعت كعـب إلـينـا                      حلائب بين أفناء الحـروب

فلما أن رأونا في وغـاهـا                      كآساد الغريفة والحـجـيب

تداعوا ثم مالوا عن ذراهـا                      كفعل الخامعات من الوجيب

وطاروا كالنعام ببطـن قـو                      مواءلة على حذر الرقـيب صوت:

كان لم تري قبلي أسيرا مكبلا                      ولا رجلا يرمى به الرجوان

كأني جواد ضمه القيد بعدمـا                      جرى سابقا في حلبة ورهان الشعر لرجل من لصوص بني تميم يعرف بأبي النشناش، والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر من روايتي علي بن يحيى والهشامي .

النشناش واعتراضه القوافل وهربه بعد الظفر به، وما كان بينه وبين اللهبي: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب قال: كان أبو النشناش من ملاص بني تميم، وكان يعترض القوافل في شذاذ من العرب بين طريق الحجاز والشام فيجتاحها. فظفر به بعض عمال مروان فحبسه وقيد مدة، ثم أمكنه الهرب في وقت غرة فهرب، فمر بغراب على بانة ينتف ريشه وينعب، فجزع من ذلك . ثم مر بحي من لهب فقال لهم: رجل كان في بلاء وشر وحبس وضيق فنجا من ذلك، ثم نظر عن يمينه فلم ير شيئا ونظر عن يساره فرأى غرابا على شجرة بان ينتف ريشه وينعب. فقال له اللهبي: إن صدقت الطير يعاد إلى حبسه وقيده، ويطول ذلك به، ويقتل ويصلب. فقال له: بفيك الحجر . قال: لا بل بفيك. وأنشأ يقول:

وسائلة أين ارتـحـالـي وسـائل                      ومن يسأل الصعلوك أين مذاهبه

مذاهبه أن الـفـجـاج عـريضة                      إذا ضن عنه بالنـوال أقـاربـه

 

صفحة : 1354

 

 

إذا المرء لم يسرح سواما ولـم يرح                      سواما ولم يبسط له الوجه صاحبـه

فللموت خير للفتـى مـن قـعـوده                      عديما ومن مولى تعاف مشـاربـه

ودوية قفر يحار بـهـا الـقـطـا                      سرت بأبي النشناش فيها ركـائبـه

ليدرك ثأرا أو ليكسب مـغـنـمـا                      ألا إن هذا الدهر تترى عجـائبـه

فلم أر مثل الفقر ضاجعه الفـتـى                      ولا كسواد الليل أخفـق طـالـبـه

فعش معـذرا أو مـت فـإنـنـي                      أرى الموت لا يبقى على من يطالبه

أصادرة حجاج كـعـب ومـالـك                      على كل فتلاء الذراعين محـنـق

أقام القنـاة الـود بـينـي وبـينـه                      وفارقني عن شـيمة لـم تـرنـق عروضه من الطويل. الصادر: المنصرف، وهو ضد الوارد، وأصله من ورود الماء والصدر عنه، ثم يقال لكل مقبل إلى موضع ومنصرف عنه. وكعب: من خزاعة. ومالك: مالك بن النضر بن كنانة: وكان كثير ينتمي وينمي خزاعة إليهم. ومحنق: ضامرة. والشيمة: الخلق والطبيعة. وترنق: تكدر. والرنق: الكدر .

الشعر لكثير عزة يرثي خندقا الأسدي، والغناء للهذلي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر من رواية إسحاق. وفي الثاني من البيتين ثم الأول لسياط رمل بالبنصر عنه وعن الهشامي وعمرو. وفيهما لمعبد لحن ذكره يونس ولم سجنسه. وفي رواية حماد عن أبيه أن لحن الهذلي من الثقيل الأول، فإن كان ذلك كذلك فالثقيل الثاني لمعبد. وذكر أحمد بن عبيد أن الذي صح فيه ثقيل أول أو ثاني ثقيل .

 

أخبار كثير وخندق الأسدي

 

الذي من أجله قال هذا الشعر:

كانا يقولان بالرجعة: حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن حبيب. وأخبرني وكيع قال حدثنا علي ابن محمد النوفلي عن أبيه. وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة عن ابن داحة، قالوا: كان خندق بن مرة الأسدي هكذا قال النوفلي. وغيره يقول: خندق بن بدر صديقا لكثير، وكانا يقولان بالرجعة ، فاجتمعا بالموسم فتذاكرا التشيع. فقال خندق: لو وجدت من يضمن لي عيالي بعدي لوقفت بالموسم فذكرت قضل آل محمد صلى الله عليه وسلم، وظلم الناس لهم وغصبهم إياهم على حقهم، ودعوت إليهم وتبرأت من أبي بكر وعمر. فضمن كثير عياله، فقام ففعل ذلك وسب أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما وتبرأ منهما .

قال عمر بن شبة في خبره فقال: أيها الناس إنكم على غير حق، تركتم أهل بيت نبيكم، والحق لهم وهم الأئمة ولم يقل إنه سب أحدا فوثب عليه الناس فضربوه ورموه حتى قتلوه. ودفن خندق بقنوني . فقال إذ ذاك كثير يرثيه:

أصادرة حجاج كـعـب ومـالـك                      على كل عجلى ضامر البطن محنق

بمرثية فـيهـا ثـنـاء مـحـبـر                      لأزهر من أولاد مـرة مـعـرق

كأن أخاه في الـنـوائب مـلـجـأ                      إلى علم من ركن قدس المنـطـق

ينال رجالا نفعـه وهـو مـنـهـم                      بعيد كعيوق الثـريا الـمـعـلـق

تقول ابنة الضمري مالك شـاحـبـا                      ولونك مصفر وإن لـم تـخـلـق

فقلت لها لا تعجبي، من يمـت لـه                      أخ كأبـي بـدر وجـدك يشـفـق

وأمر يهم النـاس غـب نـتـاجـه                      كفيت وكرب بالدواهي مـطـرق

كشفت أبا بدر إذا القوم أحـجـمـوا                      وعضت ملاقي أمرهم بالمخـنـق

وخـصـم أبـا بـدر ألـد أبـتـه                      على مثل طعم الحنظل المتفـلـق

جزى الله خيرا خندقا مـن كـافـئ                      وصاحب صدق ذي حفاظ ومصدق

أقام قـنـاة الـود بـينـي وبـينـه                      وفارقني عن شـيمة لـم تـرنـق

حلفت على أن قد أجنتك حـفـرة                      ببطن قنوني لو نعيش فنلـتـقـي

لألفيتنـي بـالـود بـعـدك دائمـا                      على عهدنا إذ نحن لـم نـتـفـرق

إذا ما غدا يهتز للمـجـد والـنـدى                      أشم كغصن البـانة الـمـتـورق

وإني لجاز بالـذي كـان بـينـنـا                      بني أسد رهط ابن مـرة خـنـدق كثير وإنكار الطفيل انتسابه إلى كنانة: أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة:

 

صفحة : 1355

 

إن كثيرا لما انتمى إلى قريش وجرى بينه وبين الحزين الديلي من المواثبة والهجاء ما جرى بلغ ذلك الطفيل بن عامر بن واثلة وهو بالكوفة، فأنكر كثير وانتسابه إلى كنانة وتصييره خزاعة منهم، وما فعله الحزين. فحلف لئن رأى مثيرا ليضربنه بالسيف أو ليطعننه بالرمح، فكلمه فيه خندق الأسدي وكان صديقا له ولكثير فوهبه له، واجتمع بمكة فجلسا مع ابن الحنفية. فقال طفيل: لولا خندق لوفيت لك بيميني. فقال يرثيه، وعنه كان أخذ مقالته:

ونال رجالا نفعه وهو منهم                      بعيد كعيوق الثريا المعلق وذكر باقي الأبيات .

نسيبه بعزة: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل قال حدثني حميد بن عبد الرحمن أحد بني عتوارة بن جدي قال: كان كثير قد سلطه الله ينسب بعزة بنت عبد الله، أحد بني حاجب بن عبد الله بن غفار، قال: وكان نسوانهم قد لقينها وهي سائرة في الجلاء ، في عام أصابت أهل تهامة فيه حطمة شديدة، وكانت عزة من أجمل النساء وآدبهن وأعقلهن ، ولا والله ما رأى لها وجها قط، إلا أنه استهيم بها قلبه لما ذكر له عنها. فلقيه رجال من الحي لما بلغهم ذلك عنه، فقالوا له: إنك قد شهرت نفسك وشهرتنا وشهرت صاحبتنا فاكفف نفسك. قال: فإني لا أذكرها بما تكرهون. فخرجوا جالين إلى مصر في أعوام الجلاء. فتبعهم على راحلته فزجروه، فأبى إلا أن يلحقهم بنفسه، فجلس له فتية من جدي، قال: وكان بنو ضمرة كلهم يهون عليهم نسيبه لما يعرفون من براءتها، إلا ما كان من بني جدي فإنهم كانوا صمعا غيرا . فقعد له عون، أحد بني جدي في تسعة نفر على محالج ، فلما جاز بهم تحت الليل أخذوه، ثم عدلوا به عن الطريق إلى جيفة حمار كانوا يعرفونها من النهار، فأدخلوه فيها وربطوا يديه ورجليه، ثم أوثقوا بطن الحمار، فجعل يضطرب فيه ويستغيث، ومضوا عنه، فاجتاز به خندق الأسدي فسمع استغاثته وهو خندق بن بدر فعدل إلى الصوت حين سمعه، فوجد في الجيفة إنسانا، فسأله من هو وما خبره? فأخبره. فأطلقه وحمله وألحقه ببلاده. فقال كثير في ذلك قال الزبير أنشدنيها عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة معمر بن المثنى

أصادرة حجاج كعب ومـالـك                      على كل فتلاء الذراعين محنق وذكر القصيدة كلها على ما مضت .

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي عن أبي عبيدة قال: خندق الأسدي هو الذي أدخل كثيرا في مذهب الخشبية .

كثير يرثي خندقا حين قتل بعرفة: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن حبيب قال: لما قتل خندق الأسدي بعرفة رثاه كثير فقال:

شجا أظعان غاضرة الغوادي                      بغير مشورة عرضا فؤادي

أغاضر لو شهدت غداة بنتم                      حنو العائدات على وسـادي

أويت لعاشق لم تشكـمـيه                      نوافذه تـلـذع بـالـزنـاد

ويوم الخيل قد سفرت وكفت                      رداء العصب رتـل بـراد الرتل: الثغر المستوي النبت

وعن نجلاء تدمع في بـياض                      إذا دمعت وتنظر في سـواد

وعن متكاوس في العقص جثل                      أثيت النبت ذي عذر جـعـاد

وغاضرة الغداة وإن نـأتـنـا                      وأصبح دونها قطر الـبـلاد

أحب ظعينة وبنات نـفـسـي                      إليها لو بللن بـهـا صـوادي

ومن دون الـذي أمـلـت ودا                      ولو طالبتها خرط الـقـتـاد

وقال الناصحون تحل منـهـا                      بذل قبل شيمتهـا الـجـمـاد تحل أصب. يقال: ما حليت من فلان بشيء ولا تحليت منه بشيء، ومنه حلوان الكاهن والراقي وما أشبه ذلك

فقد وعدتك لو أقبـلـت ودا                      فلج بك التدلل فـي تـعـاد

فأسررت الندامة يوم نـادى                      برد جمال غاضرة المنـادي

تمادى البعد دونهم فأمـسـت                      دموع العين لج بها التمـادي

لقد منع الرقاد فبت لـيلـي                      تجافيني الهموم عن الوسـاد

عداني أن أزورك غير بغض                      مقامك بين مصفحة شـداد

وإنـي قـائل إن لـم أزره                      سقت ديم السواري والغوادي

محل أخي بني أسد قنـونـى                      فما والى إلى برك الغمـاد

 

صفحة : 1356

 

 

مقيم بالمجازة من قنـونـى                      وأهلك بالأجيفر والـثـمـاد

فلا تبعد فكل فتى سـيأتـي                      عليه الموت يطرق أو يغادي

وكـل ذخـيرة لابـد يومـا                      ولو بقيت تصير إلى نـفـاد

يعز علي أن نغدو جمـيعـا                      وتصبح ثاويا رهـنـا بـواد

فلو فوديت من حدث المنـايا                      وقيتك بالطريف وبالـتـلاد في هذه القصيدة عدة أصوات هذه نسبتها قد جمعت .

صوت:

أغاضر لو شهدت غداة بنتـم                      حنو العائدات على وسـادي

رثيت لعاشق لم تشـكـمـيه                      نوافذه تـلـذع بـالـزنـاد

عداني أن أزورك غير بغض                      مقامك بين مصفـحة شـداد

فلا تبعد فكل فتى سـيأتـي                      عليه الموت يطرق أو يغادي لمعبد في البيتين الأولين لحن من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو وابن المكي والهشامي. وفيهما لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وأحمد بن عبيد. وفيهما للغريض ثاني ثقيل عن ابن المكي. ومن الناس من ينسب لحن مالك إلى معبد أيضا. وفي الثالث والرابع لابن عائشة ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وعمرو وغيرهما. ويقال: إن لابن سريج وابن محرز وابن جامع فيهما ألحانا .

غاضرة هذه التي ذكرها كثير مولاة لآل مروان بن الحكم، وقد روي في ذكره إياها غير خبر مختلف .

أم البنين وما كان بينها وبين وضاح وكثير: فأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني عبد الله بن أبي عبيدة قال: حجت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت لكثير ووضاح: انسبا بي. فأما وضاح فنسب بها، وأما كثير فنسب بجاريتها غاضرة حيث يقول:

شجا أظعان غاضرة الغوادي                      بغير مشورة عرضا فؤادي قال: وكانت زوجة الوليد بن عبد الملك، فقتل وضاحا ولم يجد على كثير سبيلا .

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن محرز بن جعفر عن أبيه عن بديح قال: قدمت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي عند الوليد بن عبد الملك حاجة، والوليد إذ ذاك خليفة. فأرسلت إلى كثير ووضاح أن انسبا بي ، فنسب وضاح بها ونسب كثير بجاريتها غاضرة في شعره الذي يقول فيه:

شجا أظعان غاضرة الغوادي قال: وكان معها جوار قد فتن الناس بالوضاءة .

لابن قيس الرقيات في أم البنين: قال بديح: فلقيت عبيد الله بن قيس الرقيات فقلت له: بمن نسبت من هذا القطين ? فقال لي:

ما تـصـنـع بــالـــشـــر                      إذا لـم تـك مـجـنـــونـــا

إذا قاسيت ثقل الشر حساك الأمرينا

وقد هجت بما قد قل                      ت أمـرا كـان مـدفــونـــا قال بديح: ثم أخذ بيدي فخلا بي وقال لي: يا بديح، احفظ عني ما أقول لك فإنك موضع أمانة؛ وأنشدني:

أصحوت عن أم البنـي                      ن وذكرها وعنـائهـا

وهجرتها هجر امـرئ                      لم يقل حمل إخـائهـا

من خـيفة الأعـداء أن                      يوهوا أديم صفـائهـا

قرشية كالشـمـس أش                      رق نورها ببـهـائهـا

زادت على البيض الحسا                      ن بحسنها ونـقـائهـا

لما استكبرت للـشـبـا                      ب وقنعـت بـردائهـا

لم تلتفـت لـلـداتـهـا                      ومضت على غلوائهـا عنى ابن عائشة في الثلاثة الأبيات الأول لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي عن يحيى المكي. وفي الرابع وما بعده لحنين لحنان: أحدهما ثاني ثقيل بالبنصر، والآخر ثقيل بالبنصر عن ابنه وغيره. وغنى إبراهيم الموصلي في الأربعة الأول لحنا آخر من الثقيل الأول وهو اللحن الذي فيه استهلال. وذكر الهشامي أن الثقيل الثاني لابن محرز .

قال: فقتل الوليد وضاحا ولم يجد على كثير سبيلا. قال: وحجت بعد ذلك وقد تقدم الوليد إليها وإلى من معها في الحجاب؛ فلقيني ابن قيس حيث خرجت ولم تكلم أحدا ولم يرها، فقال لي: يا بديح: صوت:

بان الخليط الذي بـه نـثـق                      واشتد دون المليحة القـلـق

من دون صفراء في مفاصلها                      لين وفي بعض بطشها خرق

إن ختمت جاز طين خاتمهـا                      كما تجوز العبدية العـتـق

 

صفحة : 1357

 

غنى في هذه الأبيات مالك بن أبي السمح لحنا من الثقيل الأول بالبنصر، عن عمرو ويونس. وفيها لابن مسجح ويقال لابن محرز، وهو مما يشبه غناءهما جميعا وينسب إليهما خفيف ثقيل أول بالبنصر. والصحيح أنه لابن مسجح. وفيها ثاني ثقيل لابن محرز عن ابن المكي. وذكر حبش أن لسياط فيها لحنا ماخوريا بالوسطى. وفي هذه الأبيات زيادة يغنى فيها ولم يذكرها الزبير في خبره، وهي:

إني لأخلي لهـا الـفـراش إذا                      قصع في حضن زوجه الحمق

عن غير بغض لهـا لـدي ول                      كن تلك مني سجـية خـلـق قال الزبير: أراد بقوله في هذه الأبيات:

إن ختمت جاز طين خاتمها أنها كانت عند سلطان جائز الأمر. والعبدية هي الدنانير، نسبها إلى عبد الملك. ثم وصل ابن قيس الرقيات هذه الأبيات يعني الهائية بأبيات يمدح بها عبد الملك فقال: صوت:

اسمع أمير المؤمنـي                      ن لمدحتي وثنـائهـا

أنت ابن عائشة التـي                      فضلت أروم نسائهـا

متعطف الأعياص حو                      ل سريرها وفنائهـا

ولدت أغر مبـاركـا                      كالبدر وسط سمائها غناه ابن عائشة من رواية يونس ولم يجنسه. وهذا الشعر يقوله ابن قيس الرقيات في عبد الملك لا الوليد .

إصرار ابن قيس الرقيات على كلمة في شعره وما كان بينه وبين عبد الملك في ذلك: أخبرني الحسين وابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه عن المدائني: أن عبد الملك لما وهب لابن جعفر جرم عبيد الله بن قيس وأمنه، ثم تواثب أهل الشام ليقتلوه، قال: يا أمير المؤمنين، أتفعل هذا بي وأنا الذي أقول:

اسمع أمير المؤمني                      ن لمدحتي وثنائهـا

أنت ابن معتلج البطا                      ح كديها وكدائهـا

ولبطن عائشة التي                      فضلت أروم نسائها فلما أنشد هذا البيت قال له عبد الملك: قل ولنسل عائشة. قال لا بل ولبطن عائشة. حتى رد ذلك عليه ثلاث مرات وهو يأبى إلا ولبطن عائشة. فقال له عبد الملك: اسحنفر الآن. قال: وعائشة أم عبد الملك بنت معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس. هذه رواية الزبير بن بكار .

وقد حدثنا به في خبر كثير مع غاضرة هذه بغير هذا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا محمد بن حبيب عن هشام بن الكلبي .

محاورة السائب بن حكيم لغاضرة ولم يكن قد عرفها: وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبي عبد الرحمن الأنصاري عن السائب بن حكيم السدوسي راوية كثير قال: والله إني لأسير يوما مع كثير، حتى إذا كنا ببطن جدار جبل من المدينة على أميال إذ أنا بامرأة في رحالة متنقبة، معها عبيد لها يسعون معها، فمرت جنابي فسلمت ثم قالت: ممن الرجل ? قلت: من أهل الحجاز. قالت: فهل تروي لكثير شيئا? قلت: نعم. قالت: أما والله ما كان بالمدينة من شيء هو أحب إلي من أن أرى كثيرا وأسمع شعره، فهل تروي قصيدته:

أهاجك برق آخر الليل واصب قلت: نعم. فأنشدتها إياها إلى آخرها. قالت: فهل تروي قوله:

كأنك لم تسمع ولم تر قبلها                      تفرق ألاف لهن حنـين قلت: نعم وأنشدتها. قالت: فهل تروي قوله أيضا:

لعزة من أيام ذي الغصن شاقني قلت: نعم وأنشدتها إلى آخرها. قالت: فهل تروي قوله أيضا:

أأطلال سعدى باللوى تتعهد قلت: نعم وأنشدتها حتى أتيت على قوله:

فلم أر مثل العين ضنت بمائهـا                      علي ولا مثلي على الدمع يحسد قالت: قاتله الله فهل قال مثل قول كثير أحد على الأرض. والله لأن أكون رأيت كثيرا، أو سمعت منه شعره أحب إلي من مائة ألف درهم. قال: فقلت: هو ذاك الراكب أمامك ، وأنا السائب راويته. قالت: حياك الله تعالى. ثم ركضت بغلتها حتى أدركته فقالت: أنت كثير? قال مالك ويلك فقالت: أنت الذي تقول:

إذا حسرت عنه العمامة راعها                      جميل المحيا أغفلته الدواهـن والله ما رأيت عربيا قط أقبح ولا أحقر ولا ألام منك. قال: أنت والله أقبح مني وألأم. قالت له: أولست القائل:

تراهن إلا أن يؤدين نـظـرة                      بمؤخر عين أو يقلبن معصما

كواظم ما ينطقن إلا محـورة                      رجيعة قول بعد أن يتفهمـا

 

صفحة : 1358

 

 

يحاذرن مني غيرة قد عرفنها                      قديما فما يضحكن إلا تبسما لعن الله من يفرق منك. قال: بل لعنك الله. قالت: أولست الذي تقول:

إذا ضمرية عطست فنكهـا                      فإن عطاسها طرف الوداق قال: من أنت? قالت: لا يضرك أن لم تعرفني ولا من أنا. قال: والله إني لأراك لئيمة الأصل والعشيرة. قالت: حياك الله يا أبا صخر ما كان بالمدينة رجل أحب إلي وجها ولا لقاء منك. قال: ولا حياك الله، والله وما كان على الرض أحد أبغض إلي وجها منك. قالت: أتعرفني? قال: أعرف أنك لئيمة من اللئام. فتعرفت إليه فإذا هي غاضرة أم ولد لبشر بن مروان. قال: وسايرها حتى سندنا في الجبل من قبل زرود . فقالت له: يا أبا صخر أضمن لك مائة ألف درهم عند بشر بن مروان إن قدمت عليه. قال: أفي سبك إياي أو سبي إياك تضمنين لي هذا? والله لا أخرج إلى العراق على هذه الحال فلما قامت تودعه سفرت، فإذا هي أحسن من رأيت من أهل الدنيا وجها. فأمرت له بعشرة آلاف درهم، فبعد شد ما قبلها، وأمرت لي بخمسة آلاف درهم. فلما ولوا قال: يا سائب أين نعني أنفسنا إلى عكرمة، انطلق بنا نأكل هذه حتى يأتينا الموت. قال: وذلك قوله لما فارقتنا:

شجا أظعان غاضرة الغوادي                      بغير مشيئة عرضا فـؤادي وقد روى الزبير أيضا في خبر هذه المرأة غير هذا، وخالف المعاني .

كثير وامرأة لقيها بقديد: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال: كان كثير يلقى حاج المدينة من قريش بقديد في كل سنة، فغفل عاما من الأعوام عن يومهم الذي نزلوا فيه قديدا حتى ارتفع النهار، ثم ركب جملا ثقالا واستقبل الشمس في يوم صائف، فجاء قديدا وقد كل وتعب، فوجدهم قد راحوا. وتخلف فتى من قريش معه راحلته حتى يبرد . قال الفتى القرشي: فجلس كثير إلى جنبي ولم يسلم علي، فجاءت امرأة وسيمة جميلة، فجلست إلى خيمة من خيام قديد واستقبلت كثيرا فقالت: أأنت كثير? قال: نعم. قالت: ابن أبي جمعة? قال: نعم. قالت: الذي يقول:

لعزة أطلال أبت أن تكلما قال: نعم. قالت: وأنت الذي تقول فيها:

وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي                      وظهرن مني هيبة لا تجهمـا فقال: نعم. قالت: أعلى هذا الوجه هيبة? إن كنت كاذبا فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فضجر وقال: من أنت? فلم تجبه بشيء، فسأل الموليات اللواتي في الخباء بقديد عنها، فلم يخبرنه شيئا، فضجر واختلط. فلما سكن من شأوه قالت: أأنت الذي تقول:

متى تحسروا عني العمامة تبصروا                      جميل المحيا أغفلتـه الـدواهـن أهذا الوجه جميل المحيا? إن كنت كاذبا فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فاختلط وقال: والله ما عرفتك، ولو عرفتك لفعلت وفعلت. فسكتت، فلما سكن من شأوه قالت: أأنت الذي تقول:

يروق العيون الناظرات كأنـه                      هرقلي وزن أحمر التبر راجح أهذا الوجه يروق العيون الناظرات? إن كنت كاذبا فعليك لعنة الله ولعنة اللاعنين والملائكة والناس أجمعين. فازداد ضجرا وغيظا واختلاطا وقال لها: قد عرفتك والله لأقطعنك وقومك بالهجاء. ثم قال فالتفت في أثره، ثم رجعت طرفي نحو المرأة فإذا هي قد ذهبت، فقلت لمولاة من مولياتها بقديد: لك الله علي إن أخبرتني من هذه المرأة لأطوين لك ثوبي هذين إذا قضيت حجي ثم أعطيكهما. فقالت: والله لو أعطيتني زنتهما ذهبا ما أخبرتك من هي؛ هذا كثير وهو مولاي قد سألني عنها فلم أخبره. قال الفتى القرشي: فرحت والله وبي أشد مما بكثير .

قال سليمان: وكان كثير دميما قليلا أحمر أقيشر عظيم الهامة قبيحا .

نسبة ما في هذه الأخبار من الشعر الذي يغنى به: صوت: منها:

أشاقك برق آخر الليل واصب                      تضمنه الجبا فالـمـسـارب

كما أومضت بالعين ثم تبسمت                      خريع بدا منها جبين وحاجب

وهبت لليلى ماءه ونـبـاتـه                      كما كل ذي ود لمن ود واهب عروضه من الطويل. الواصب: الدائم، يقال وصب يصب وصوبا أي دام. قال الله سبحانه:  وله الدين واصبا  أي دائما. ومنها: صوت:

لعزة من أيام ذي الغصن شاقني                      بضاحي قرار الروضتين رسوم

 

صفحة : 1359

 

 

هي الدار وحشا غير أن قد يحلها                      ويغني بها شخص علي كـريم

فما برسوم الدار لو كنت عالمـا                      ولا بالتلاع المـقـويات أهـيم

سألت حكيما أين شطت بها النوى                      فخبرني ما لا أحـب حـكـيم

أجدوا فـأمـا آل عـزة غـدوة                      فبانوا وأما واسـط فـمـقـيم

لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى                      بغى سقما إنـي إذا لـسـقـيم حكيم هذا هو أبو السائب بن حكيم راوية كثير. ذكر لنا اليزيدي عن ابن حبيب .

في هذه الأبيات لمعبد لحنان، أحدهما في الثلاثة الأول خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وحبش، وفي الثلاثة الأخر التي أولها:

سألت حكيما أين شطت بها النوى له أيضا ثقيل أول بالبنصر عن يونس وحبش. وذكر حبش خاصة أن فيها لكردم خفيف ثقيل آخر، وفي الثالث والثاني لابن جامع رمل عن الهشامي. وقال أحمد بن عبيد: فيه ثلاثة ألحان: ثقيل أول وخفيفه، وخفيف رمل .

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا المؤملي أن ابن أبي عبيدة كان إذا أنشد قصيدة كثير:

لعزة من أيام ذي الغصن شاقني                      بضاحي قرار الروضتين رسوم يتحازن حتى تقول: إنه يبكي .

تمثل الحزين الكناني بشعر لكثير: أخبرني الحرمي قال حدثنل الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن الضحاك بن عثمان قال: قال عروة بن أذينة: كان الحزين الكناني الشاعر صديقا لأبي، وكان عشيرا له على النبيذ ، فكان كثيرا ما يأتيه، وكانت بالمدينة قينة يهواها الحزين ويكثر غشيانها، فبيعت وأخرجت عن المدينة، فأتى الحزين أبي، وهو كثيب حزين كاسمه، فقال له أبي: يا أبا حكيم مالك? قال: أنا والله يا أبا عامر كما قال كثير:

لعمري لئن كان الفؤاد من الهوى                      بغى سقما إنـي إذا لـسـقـيم

سألت حكيما أين شطت بها النوى                      فخبرني ما لا أحـب حـكـيم فقال له أبي: أنت مجنون إن أقمت على هذا .

قصيدة كثير في عزة لما أخرجت إلى مصر: وهذه القصيدة يقولها كثير في عزة لما أخرجت إلى مصر، وذلك قوله فيها:

ولست براء نحو مصر سحـابة                      وإن بعدت إلا قـعـدت أشـيم

فقد بوجد النكس الدني عن الهوى                      عزوفا ويصبو المرء وهو كريم

وقال خليلي مالها إذ لقـيتـهـا                      غداة الشبا فيها علـيك وجـوم

فقلت له إن الـمـودة بـينـنـا                      على غير فحش والصفاء قـديم

وإني وإن أعرضت عنها تجلـدا                      على العهد فيما بيننا لـمـقـيم

وإن زمانا فرق الدهر بـينـنـا                      وبينكم في صرفه لـمـشـوم

أفي الحق هذا أن قلبك سـالـم                      صحيح وقلبي في هواك سقـيم

وأن بجسمي منك داء مخامـرا                      وجسمك موفور عليك سـلـيم

لعمرك ما أنصفتني في مودتـي                      ولكنني يا عز عـنـك حـلـيم

فإما تريني اليوم أبـدي جـلادة                      فإني لعمري تحت ذاك كـلـيم

ولست ابنة الضمري منك بناقـم                      ذنوب العدا إني إذا لـظـلـوم

وإني لذو وجد إذا عاد وصلـهـا                      وإني على ربـي إذا لـكـريم ومنها: صوت:

لعزة أطلال أبت أن تكـلـمـا                      تهيج مغانيها الفؤاد المـتـيمـا

وكنت إذا ما جئت أجللن مجلسي                      وأظهرن مني هيبة لا تجهمـا

يحاذرن مني غيرة قد عرفنهـا                      قديما فما يضحكن إلا تبسـمـا عروضه من الطويل. غنى فيه مالك بن أبي السمح لحنين عن يونس. أحدهما ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق، وغيره ينسبه إلى معبد. والآخر ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش وفيه لابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي. وغيره يقول: إنه لحن مالك. وفيه لابن سريج خفيف رمل بالبنصر عن عمرو والهشامي وعلي بن يحيى .

الرشيد ومسرور الخادم وما دار بينه وبين جعفر بن يحيى حين أمره بقتله: وأخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني من أثق به عن مسرور الخادم:

 

صفحة : 1360

 

أن الرشيد لما أراد قتل جعفر بن يحيى لم يطلع عليه أحدا بتة . ودخل عليه جعفر في اليوم الذي قتله في ليلته فقال له: اذهب فتشاغل اليوم بمن تأنس به واصطبح فإني مصطبح مع الحرم. فمضى جعفر، وفعل الرشيد ذلك. ولم يزل بر الرشيد وزألطافه وتحفه وتحياته تتابع إليه لئلا يستوحش. فلما كان الليل دعاني فقال لي : اذهب فجئني الساعة برأس جعفر ابن يحيى، وضم إلي جماعة من الغلمان، فمضيت حتى هجمت عليه منزله. وإذا أبو زكار الأعمى يغنيه بقوله :

فلا تبعد فكل فتى سـيأتـي                      عليه الموت يطرق أو يغادي فقلت له: في هذا المعنى ومثله والله جئتك فأجب. فوثب وقال: ما الخبر يا أبا هشام جعلني الله فداءك قلت: قد أمرت بأخذ رأسك. فاكب على رجلي فقبلها وقال: الله الله، راجع أمير المؤمنين في. فقلت: ما لي إلى ذلك سبيل. قال: فأعهد? قلت: ذاك لك. فذهب يدخل إلى النساء فمنعته، وقلت: اعهد في موضعك. فدعا بدواة وكتب أحرفا على دهش ثم قال لي: يا أبا هشام بقيت واحدة. قلت: هاتها. قال: خذني معك إلى أمير المؤمنين حتى أخاطبه. قلت: ما لي إلى ذلك سبيل. قال: ويحك لا تقتلني بأمره على النبيذ. فقلت: هيهات ما شرب اليوم شيئا. قال: فخذني واحبسني عندك في الدار، وعاوده في أمري. قلت: أفعل. فأخذته، فقال لي أبو زكار الأعمى: نشدتك الله إن قتلته إلا ألحقتني به. قلت له: يا هذا لقد اخترت غير مختار. قال: وكيف أعيش بعده وحياتي كانت معه وبه، وأغناني عمن سواه، فما أحب الحياة بعده، فمضيت بجعفر وجعلته في بيت وأقفلت عليه ووكلت به، ودخلت إلى الرشيد، فلما رآني قال: أين رأسه ويلك? فأخبرته بالخبر. فقال: يابن الفاعلة، والله لئن لم يجيئني برأسه الساعة لآخذن رأسك فمضيت إليه فأخذت رأسه ووضعته بين يديه. ثم أخبرته خبره، وذكرت له خبر أبي زكار الأعمى، فلما كان بعد مدة أمرني بإحضاره، فأحضرته، فوصله وبره وأمر بالجراية عليه .

صوت: شعر في خولة غنى فيه:

قفا في دار خولة فاسألاهـا                      تقادم عهدها وهجرتمـاهـا

بمحلال يفوح المسك مـنـه                      إذا هبت بأبطحه صبـاهـا

أترعى حيث شاءت من حمانا                      وتمنعنا فلا ترعى حماهـا عروضه من الوافر. الشعر لرجل من فزارة. والغناء ذكر حماد عن أبيه أنه لمعبد، وذكر عنه في موضع آخر أنه لابن مسجح. وطريقته من الثقيل الأول في مجرى الوسطى .

نسب منظور بن زبان: وهذا الشعر يقول الفزاري في خولة بنت منظور بن زبان بن سيار بن عمرو بن جابر بن عقيل بن هلال بن سمي بن مازن بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان. وكان منظور بن زبان سيد قومه غير مدافع، أمه قهطم بنت هاشم بن حرملة وقد ولدت أيضا زهير بن جذيمة فكان آخذا بأطراف الشرف في قومه. وهو أحد من طال حمل أمه به .

سبب تسميته منظورا وشعر أبيه في ذلك: قال الزبير بن بكار فيما أجاز لنا الحرمي بن أبي العلاء والطوسي روايته عنهما مما حدثا به عنه حدثتني مغيرة بنت أبي عدي. قال الزبير وقد حدثني هذا الحديث أيضا إبراهيم بن زياد عن محمد بن طلحة، وحدثنيه أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة عن يحيى بن الحسن العلوي عن الزبير قالا جميعا: حملت قهطم بنت هاشم بمنظور بن زبان أربع سنين، فولدته وقد جمع فاه فسماه منظورا لذلك يعني لطول ما انتظره وقال فيه على ما رواه محمد بن طلحة:

ما جئت حتى قيل لـيس بـوارد                      فسميت منظورا وجئت على قدر

وإني لأرجو أن تكون كهـاشـم                      وإني لأرجو أن تسود بني بـدر تزوج مليكة زوج أبيه ففرقع بينهما عمر فتبعتها نفسه وقال شعرا: ذكر الهيثم بن عدي عن ابن الكلبي وابن عياش، وذكر بعضه الزبير بن بكار عن عمه عن مجالد: أن منظور بن زبان تزوج امرأة أبيه وهي مليكة بنت سنان بن أبي حارثة المري فولدت له هاشما وعبد الجبار وخولة، ولم تزل معه إلى خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وكان يشرب الخمر أيضا، فرفع أمره إلى عمر، فأحضره وسأله عما قيل، فاعترف به وقال: ما علمت أنها حرام . فحبسه إلى وقت صلاة العصر، ثم أحلفه أنه لم يعلم أن الله عز وجل حرم ما فعله. فحلف فيما ذكر أربعين يمينا. فخلى سبيله، وفرق بينه وبين امرأة أبيه وقال: لولا أنك حلفت لضربت عنقك .

 

 

صفحة : 1361

 

قال ابن الكلبي في خبره: إن عمر قال له: أتنكح امرأة أبيك وهي أمك? أو ما علمت أن هذا نكاح المقت  وفرق بينهما فتزجها محمد بن طلحة .

قال ابن الكلبي في خبره: فلما طلقها أسف عليها وقال فيها:

ألا لا أبالي اليوم ما صنع الدهر                      إذا منعت مني مليكة والخمـر

فإن تك قد أمست بعيدا مزارهـا                      فحي ابنة المري ما طلع الفجر

لعمري ما كانت ملـيكة سـوءة                      ولا ضم في بيت على مثلها ستر وقال أيضا:

لعمر أبي، دين يفرق بيننا                      وبينك قسرا إنه لعظـيم وقال حجر بن معاوية بن عيينة بن حصن بن حذيفة لمنظور:

لبئس ما خلف الآبـاء بـعـدهـم                      في الأمهات عجان الكلب منظور

قد كنت تغمزها والشيخ حاضرها                      فالآن أنت بطول الغمز معـذور تزوجت ابنته خولة الحسن بن علي بعد موت زوجها: قال أبو الفرج الأصبهاني : أخطأ ابن الكلبي في هذا. وإنما طلحة بن عبيد الله الذي تزوجها؛ فأما محمد فإنه تزوج خولة بنت منظور فولدت له إبراهيم بن محمد وكان أعرج، ثم قتل عنها يوم الجمل، فتزوجها الحسن بن علي عليهما السلام، فولدت له الحسن بن الحسن عليهما السلام .وكان إبراهيم بن محمد بن طلحة نازع بعض ولد الحسين بن علي بعض ما كان بينهم وبين بني الحسن من مال علي عليه السلام، فقال الحسيني لأمير المدينة: هذا الظالم الضالع الظالع يعني إبراهيم فقال له إبراهيم: والله إني لأبغضك. فقال له الحسيني: صادق، والله يحب الصادقين، وما يمنعك من ذلك وقد قتل أبي أباك، وناك عمي أمك? لا يكني فأمر بهما فأقيما من بين يدي الأمير .

لقي مليكة بعد فراقها فتعرض لها ولزوجها: رجع الخبر إلى رواية ابن الكلبي قال: فلما فرق عمر رضي الله عنه بينهما وتزوجت رآها منظور يوما وهي تمشي في الطريق وكانت جميلة رائعة الحسن فقال: يا مليكة، لعن الله دينا فرق بيني وبينك فلم تكلمه وجازت، وجاز بعدها زوجها؛ فقال له منظور: كيف رأيت أثر أيري في حر مليكة? قال: كما رأيت أثر أير أبيك فيه، فأفحمه. وبلغ عمر رضي الله عنه الخبر فطلبه ليعاقبه، فهرب منه .

رجع إلى زواج ابنته خولة بالحسن: وقال الزبير في حديثه: فتزوج محمد بن طلحة بن عبيد الله خولة بنت منظور فولدت له إبراهيم وداود وأم القاسم بني محمد بن طلحة، ثم قتل عنها يوم الجمل، فخلف عليها الحسن ابن علي بن أبي طالب عليهما السلام، فولدت له الحسن بن الحسن رضي الله عنهما .

قال الزبير: وقال محمد بن الضحاك الحزامي عن أبيه: تزوج الحسن عليه السلام خولة بنت منظور، زوجه إياها عبد الله بن الزبير وكانت أختها تحته .

وأخبرني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثني يحيى بن الحسن قال حدثني موسى بن عبيد الله بن الحسن قال: جعلت خولة أمرها إلى الحسن عليه السلام فتزوجها، فبلغ ذلك منظور بن زبان فقال: أمثلي يفتات عليه في ابنته فقدم المدينة، فركز راية سوداء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يبق قيسي بالمدينة إلا دخل تحتها، فقيل لمنظور بن زبان: أين يذهب بك تزوجها الحسن بن علي عليه السلام وليس مثله أحد. فلم يقبل. وبلغ الحسن عليه السلام ما فعل، فقال له: ها، شأنك بها. فأخذها وخرج بها. فلما كان بقباء جعلت خولة تندمه وتقول: الحسن بن علي سيد شباب أهل الجنة. فقال: تلبثي ها هنا؛ فإن كانت للرجل فيك حاجة فسيلحقنا ها هنا. قال: فلحقه الحسن والحسين عليهما السلام وابن جعفر وابن عباس، فتزوجها الحسن، ورجع بها. قال الزبير: ففي ذلك يقول جفير العبسي:

إن الندى من بني ذبيان قد علموا                      والجود في آل منظور بن سيار

الماطرين بـأيديهـم نـدى ديمـا                      وكل غيث من الوسمي مـدرار

تزور جاراتهم وهنا فواضلـهـم                      وما فتاهم لهـا سـرا بـزوار

ترضى قريش بهم صهرا لأنفسهم                      وهم رضا لبني أخت وأصهـار لما أسنت خولة بنته برزت للرجال وغناها معبد بشعر قيل فيها فطربت: أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني ابن أبي أيوب عن ابن عائشة المغني عن معبد:

 

صفحة : 1362

 

أن خولة بنت المنظور كانت عند الحسن بن علي عليهما السلام، فلما أسنت مات عنها أو طلقها، فكشفت قناعها وبرزت للرجال. قال معبد: فأتيتها ذات يوم أطالبها بحاجة، فغنيتها لحني في شعر قاله فيها بعض بني فزارة، وكان خطبها فلم ينكحها أبوها:

قفا في دار خولة فاسـألاهـا                      تقادم عهدها وهجرتمـاهـا

بمحلال كأن المـسـك فـيه                      إذا فاحت بأبطحه صبـاهـا

كأنك مزنة بـرقـت بـلـيل                      لحران يضيء له سنـاهـا

فلم تمطر عليه وجـاوزتـه                      وقد أشفى عليها أورجـاهـا

وما يملا فؤادي فاعـلـمـيه                      سلو النفس عنك ولا غناهـا

وترعى حيث شاءت من حمانا                      وتمنعنا فلا نرعى حمـاهـا قال : فطربت العجوز لذلك، وقالت: يا عبد ابن قطن، أنا والله يومئذ أحسن من النار الموقدة في الليلة القرة .

صوت:

لله در عصابة صاحبـتـهـم                      يوم الرصافة مثلهم لم يوجـد

متقلدين صفـائحـا هـنـدية                      يتركن من ضربوا كأن لم يولد

وغدا الرجال الثائرون كأنمـا                      أبصارهم قطع الحديد الموقد عروضه من الكامل. الشعر للجحاف السلمي ببني تغلب في يوم البشر. والغناء للأبجر ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق .

 

خبر الجحاف ونسبه

 

وقصته يوم البشر:

نسبه: هو الجحاف بن حكيم بن عاصم بن قيس بن سباع بن خزاعي بن محاربي بن فالج بن ذكوان ابن ثعلبة بن بهثة بن سليم بن منصور .

قصته يوم البشر وسبب ذلك: وكان السبب في ذلك فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي، وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة، وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة، وقد جمعت روايتهم. وأكثر اللفظ في الخبر لابن حبيب:

 

صفحة : 1363

 

أن عمير بن الحباب لما قتلته بنو تغلب بالحشاك وهو إلى جانب الثرثار، وهو قريب من تكريت أتى تميم بن الحباب أخوه زفر بن الحارث فأخبره بمقتل عمير، وسأله الطلب له بثأره، فكره ذلك زفر، فسار تميم بن الحباب بمن تبعه من قيس، وتابعه على ذلك مسلم بن أبي ربيعة العقيلي. فلما توجهوا نحو بني تغلب لقيهم الهذيل في زراعة لهم؛ فقال: أين تريدون? فأخبروه بما كان من زفر، فقال: أمهلوني ألق الشيخ. فأقاموا ومضى الهزيل فأتى زفر؛ فقال: ما صنعت والله لئن ظفر بهذه العصابة إنه لعار عليك، ولئن ظفروا إنه لأشد؛ قال زفر: فاحبس علي القوم؛ وقام زفر في أصحابه، فحرضهم، ثم شخص واستخلف عليهم أخاه أوسا، وسار حتى انتهى إلى الثرثار فدفنوا أصحابهم، ثم وجه زفر بن الحرث يزيد بن حمران في خيل، فأساء إلى بني فدوكس من تغلب، فقتل رجالهم واستباح أموالهم، فلم يبق في ذلك الجو غير امرأة واحدة يقال لها حميدة بنت امرئ القيس عاذت بابن حمران فأعاذها. وبعث الهذيل إلى بني كعب بن زهير فقتل فيهم قتلا ذريعا. وبعث مسلم بن ربيعة إلى ناحية أخرى فأسرع في القتل. وبلغ ذلك بني تغلب واليمن، فارتحلوا يريدون عبور دجلة، فلحقهم زفر بالكحيل وهو نهر أسفل الموصل مع المغرب فاقتتلوا قتالا شديدا، وترجل أصحاب زفر أجمعون، وبقي زفر على بغل له، فقتلوهم من ليلتهم، وبقروا ما وجدوا من النساء. وذكر أن من غرق في دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، وأن الدم كان في دجلة قريبا من رمية سهم. فلم يزالوا يقتلون من وجدوا حتى أصبحوا؛ فذكر أن زفر دخل معهم دجلة وكانت فيه بحة، فجعل ينادي ولا يسمعه أصحابه، ففقدوا صوته وحبسوا أن يكون قتل، فتذامروا وقالوا: لئن قتل شيخنا لما صنعنا شيئا، فاتبعوه فإذا هو في دجلة يصيح بالناس وتغلب قد رمت بأنفسها تعبر في الماء فخرج من الماء وأقام في موضعه. فهذه الوقعة الحرجية لأنهم أحرجوا فألقوا أنفسهم في الماء. ثم وجه يزيد بن حمران وتميم بن الحباب ومسلم بن ربيعة والهذيل بن زفر في أصحابه، وأمرهم ألا يلقوا أحدا إلا قتلوه، فانصرفوا من ليلتهم، وكل قد أصاب حاجته من القتل والمال، ثم مضى يستقبل الشمال في جماعة من أصحابه، حتى أتى رأس الأثيل، ولم يخل بالكحيل أحدا والكحيل على عشرة فراسخ من الموصل فيما بينها وبين الجنوب فصعد قبل رأس الأثيل، فوجد به عسكرا من اليمن وتغلب، فقاتلهم بقية ليلتهم، فهربت تغلب وصبرت اليمن. وهذه الليلة تسميها تغلب ليلة الهرير. ففي ذلك يقول زفر بن الحارث، وقد ذكر أنها لغيره:

ولما أن نعى الناعي عميرا                      حسبت سماءهم دهيت بليل دهيت بليل، أي أظلمت نهارا كأن ليلا دهاها.

 

وكان النجم يطلع في قـتـام                      وخاف الذل من يمن سهـيل

وكنت قبيلها يا أم عـمـرو                      أرجل لمتي وأجـر ذيلـي

فلو نبش المقابر عن عمـير                      فيخبر من بلاء أبي الهـذيل

غداة يقارع الأبطال حـتـى                      جرى منهم دما مرج الكحيل

قبيل ينهـدون إلـى قـبـيل                      تساقى الموت كيلا بعد كيل وفي ذلك يقول جرير يعير الأخطل:

أنسيت يومك بالجزيرة بعدمـا                      كانت عواقبه علـيك وبـالا

حملت عليك حماة قيس خيلهـا                      شعثا عوابس تحمل الأبطـالا

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم                      خيلا تكر علـيكـم ورجـالا

زفر الرئيس أبو الهذيل أبادكـم                      فسبى النساء وأحرز الأمـوالا أغراه الأخطل بشعره بأخذ الثأر من تغلب ففعل وفر إلى الروم: فلما أن كانت سنة ثلاث وسبعين، وقتل عبد الله بن الزبير هدأت الفتنة واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وتكافت قيس وتغلب عن المغازي بالشام والجزيرة، وظن كل واحد من الفريقين أن عنده فضلا لصاحبه، وتكلم عبد الملك في ذلك ولم يحكم الصلح فيه، فبينا هم على تلك الحال إذ أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان وعنده وجوه قيس قوله:

ألا سائل الجحاف هل هو ثـائر                      بقتلى أصيبت من سليم وعامر

أجحاف أن نهبط عليك فتلتـقـي                      عليك بحور طاميات الزواخـر

تكن مثل أبداء الحباب الذي جرى                      به البحر تزهاه رياح الصراصر

 

صفحة : 1364

 

فوثب الجحاف يجر مطرفه وما يعلم من الغضب، فقال عبد الملك للأخطل: ما أحسبك إلا وقد كسبت قومك شرا. فافتعل الجحاف عهدا من عبد الملك على صدقات بكر وتغلب، وصحبه من قومه نحو من ألف فارس، فثار بهم حتى بلغ الرصافة قال: وبينها وبين شط الفرات ليلة، وهي في قبلة الفرات ثم كشف لهم أمره، وأنشدهم شعر الأخطل، وقال لهم: إنما هي النار أو العار، فمن صبر فليقدم ومن كره فليرجع، قالوا: ما بأنفسنا عن نفسك رغبة، فأخبرهم بما يريد، فقالوا: نحن معك فيما كنت فيه من خير وشر، فارتحلوا فطرقوا صهين بعد رؤبة من الليل وهي في قبلة الرصافة وبينهما ميل ثم صبحوا عاجنة الرحوب في قبلة صهين والبشر وهو واد لبني تغلب فأغاروا على بني تغلب ليلا فقتلوهم، وبقروا من النساء من كانت حاملا، ومن كانت غير حامل قتلوها. فقال عمر بن شبة في خبره: سمعت أبي يقول: صعد الجحاف الجبل فهو يوم البشر، ويقال له أيضا يوم عاجنة الرحوب، يوم مخاشن، وهو جبل إلى جنب البشر، وهو مرج السلوطح لأنه بالرحوب وقتل في تلك الليلة ابنا للأخطل يقال له أبو غياث، ففي ذلك يقول جرير له:

شربت الخمر بعد أبي غياث                      فلا نعمت لك السوءات بالا قال عمر بن شبة في خبره خاصة: ووقع الأخطل في أيديهم، وعليه عباءة دنسة، فسألوه فذكر أنه عبد من عبيدهم، فأطلقوه، فقال ابن صفار في ذلك:

لم تنج إلا بالتعبـد نـفـسـه                      لما تيقن أنـهـم قـوم عـدا

وتشابهت برق العباء عليهـم                      فنجا ولو عرفوا عباءته هوى وجعل ينادي: من كانت حاملا فإلي، فصعدن إليه، فجعل يبقر بطونهن. ثم إن الجحاف هرب بعد فعله، وفرق عنه أصحابه ولحق بالروم، فلحق الجحاف عبيدة بن همام التغلبي دون الدرب، فكر عليه الجحاف فهزمه، وهزم أصحابه وقتلهم، ومكث زمنا في الروم، وقال في ذلك:

فإن تطردوني تطردوني وقد مضى                      من الورد يوم في دمـاء الأراقـم

لدن ذر قرن الشمس حتى تلبسـت                      ظلاما بركض المقربات الصلادم رجع بعد عفو عبد الملك عنه وتمثل بشعر الأخطل: حتى سكن غضب عبد الملك، وكلمته القيسية في أن يؤمنه، فلان وتلكأ، فقيل له: إنا والله لا نأمنه على المسلمين إن طال مقامه بالروم؛ فأمنه، فأقبل فلما قدم على عبد الملك لقيه الأخطل فقال له الجحاف:

أبا مالك هل لمتني إذ حضضتنـي                      على القتل أم هل لامني لك لائمي

أبا مالك إني أطعتك فـي الـتـي                      حضضت عليها فعل حران حازم

فإن تدعني أخرى أجبك بمثلـهـا                      وإني لطب بالوغى جـد عـالـم قال ابن حبيب: فزعموا أن الأخطل قال له: أراك والله شيخ سوء. وقال فيه جرير:

فإنك والجحاف يوم تـحـضـه                      أردت بذاك المكث والورد أعجل

بكى دوبل لا يرقئ اللـه دمـعة                      ألا إنما يبكي مـن الـذل دوبـا

وما زالت القتلى تمور دماؤهـم                      بدجلة حتى ماء دجلة أشـكـل فقال الأخطل: ما لجرير لعنه الله والله ما سمتني أمي دوبلا إلا وأنا صبي صغير ثم ذهب ذلك عني لما كبرت. وقال الأخطل:

لقد أوقع الجحاف بالبشر وقـعة                      إلى الله منها المشتكى والمعول

فسائل بني مروان ما بـال ذمة                      وحبل ضعيف لا يزال يوصـل

فإلا تغيرها قريش بملـكـهـا                      يكن عن قريش مستراد ومزحل حمله الوليد دية قتلى البشر فاستطاع أن يأخذها من الحجاج:

 

صفحة : 1365

 

فقال عبد الملك حين أنشده هذا: فإلى أين يابن النصرانية? قال: إلى النار قال: أولى لك لو قلت غيرها قال: ورأى عبد الملك أنه إن تركهم على حالهم لم يحكم الأمر، فأمر الوليد بن عبد الملك، فحمل الدماء التي كانت قبل ذلك بين قيس وتغلب، وضمن الجحاف قتلى البشر، وألزمه إياها عقوبة له، فأدى الوليد الحمالات، ولم يكن عند الجحاف ما حمل، فلحق بالحجاج بالعراق يسأله ما حمل لأنه من هوازن، فسأل الإذن على الحجاج، فمنعه. فلقي أسماء بن خارجة؛ فعصب حاجته به فقال: إني لا أقدر لك على منفعة، قد علم الأمير بمكانك وأبى أن يأذن لك؛ فقال: لا والله لا ألزمها غيرك أنجحت أو أكدت ، فلما بلغ ذلك الحجاج قال: ما له عندي شيء، فأبلغه ذلك؛ قال: وما عليك أن تكون أنت الذي توئسه فإنه قد أبى، فأذن له فلما رآه قال: أعهدتني خائنا لا أبا لك قال: أنت سيد هوازن، وقد بدأنا بك، وأنت أمير العراقين ، وابن عظيم القريتين ، وعمالتك في كل سنة خمسمائة ألف درهم، وما بك بعدها حاجة إلى خيانة ؛ فقال: أشهد أن الله تعالى وفقك، وأنك نظرت بنور الله، فإذا صدقت فلك نصفها العام، فأعطاه وأدوا البقية .

تنسك وخرج إلى الحج في زي عجيب: قال ثم تأله الجحاف بعد ذلك، واستأذن في الحج، فأذن له، فخرج في المشيخة الذين شهدوا معه، قد لبسوا الصوف وأحرموا، وأبروا أنوفهم أي خزموها وجعلوا فيها البرى ، ومشوا إلى مكة فلما قدموا المدينة ومكة جعل الناس يخرجون فينظرون إليهم، ويعجبون منهم، قال: وسمع ابن عمر الجحاف وقد تعلق بأستار الكعبة وهو يقول: اللهم اغفر لي وما أراك تفعل فقال له ابن عمر: يا هذا، لو كنت الجحاف ما زدت على هذا القول، قال: فأنا الجحاف، فسكت. وسمعت محمد بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وهو يقول ذلك؛ فقال: يا عبد الله، قنوطك من عفو الله أعظم من ذنبك قال عمر بن شبة في خبره: كان مولد الجحاف بالبصرة .

دخل على عبد الملك بعد أن أمنه فأنشده شعرا: قال عبد الله بن إسحاق النحوي: كان الجحاف معي في الكتاب، قال أبو زيد في خبره أيضا: ولما أمنه عبد الملك دخل عليه في جبة صوف، فلبث قائما، فقال له عبد الملك: أنشدني بعض ما قلت في غزوتك هذه وفجرتك، فأنشده قوله:

صبرت سليم للطعان وعامر                      وإذا جزعنا لم نجد من يصبر فقال له عبد الملك بن مروان: كذبت، ما أكثر من يصبر ثم أنشده:

نحن الذين إذا علوا لم يفخـروا                      يوم اللقا وإذا علوا لم يضجروا فقال عبد الملك: صدقت، حدثني أبي عن أبي سفيان بن حرب أنكم كنتم كما وصفت يوم فتح مكة .

عود إلى قصة يوم البشر: حدثت عن الدمشقي عن الزبير بن بكار، وأخبرني وكيع عن عبد الله بن شبيب عن الزبير ابن بكار عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عمرو بن عبد العزيز بن مروان: أنه حضر الجحاف عند عبد الملك بن مروان يوما والأخطل حاضر في مجلسه ينشد:

ألا سائل الجحاف هل هو ثائر                      بقتلى أصيبت من سليم وعامر قال: فتقبض وجهه في وجه الأخطل. ثم إن الأخطل لما قال له ذلك قال له:

نعم سوف نبكيهم بكل مـهـنـد                      ونبكي عميرا بالرماح الخواطر ثم قال: ظننت أنك يابن النصرانية لم تكن تجترئ علي ولو رأيتني لك مأسورا. وأوعده، فما برح الأخطل حتى حم، فقال له عبد الملك: أنا جارك منه؛ قال: هذا أجرتني منه يقظان، فمن يجيرني منه نائما? قال: فجعل عبد الملك يضحك. قال: فأما قول الأخطل:

ألا سائل الجحاف هل هو ثائر                      بقتلى أصيبت من سليم وعامر فإنه يعني اليوم الذي قتلت فيه بنو تغلب عمير بن الحباب السلمي .

وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن الأعرابي عن المفضل:

 

صفحة : 1366

 

أن قيسا وتغلب تحاشدوا لما كان بينهم من الوقائع منذ ابتداء الحرب بمرج راهط، فكانوا يتغاورون . وكانت بنو مالك بن بكر جامعة بالتوباذ وما حوله، وجلبت إليها طوائف تغلب وجميع بطونها، إلا أن بكر بن جشم لم تجتمع أحلافهم من النمر بن قاسط. وحشدت بكر فلم يأت الجمع منهم على قدر عددهم. وكانت تغلب بدوا بالجزيرة لا حاضرة لها إلا قليل بالكوفة، وكانت حاضرة الجزيرة لقيس وقضاعة وأخلاط مضر، ففارقتهم قضاعة قبل حرب تغلب، وأرسلت تغلب إلى مهاجريها وهم بأذربيجان، فأتاهم شعيب بن مليل في ألفي فارس. واستنصر عمير تميما وأسدا فلم يأته منهم أحد؛ فقال:

أيا أخوينا من تمـيم هـديتـمـا                      ومن أسد هل تسمعان المنـاديا

ألم تعلما مذ جاء بكر بـن وائل                      وتغلب ألفافا تهز الـعـوالـيا

إلى قومكم قد تعلمون مكانهـم                      وهم قرب أدنى حاضرين وباديا وكان من حضر ذلك من وجوه بكر بن وائل المجشر بن الحارث بن عامر بن مرة بن عبد الله بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان، وكان من سادات شيبان بالجزيرة فأتاهم في جمع كثير من بني أبي ربيعة. وفي ذلك يقول تميم بن الحباب بعد يوم الحشاك:

فإن تحتجز بالماء بكـر بـن وائل                      بنيعمنا فالـدهـر ذو مـتـغـير

فسوف نخيض الماء أو سوف نلتقي                      فنقتص من أبناء عم المـجـشـر وأتاهم زمام بن مالك بن الحصين من بني عمرو بن هاشم بن مرة في جمع كبير فشهدوا يوم الثرثار، فقتل .

وكان فيمن أتاهم من العراق من بكر بن وائل عبيد الله بن زياد بن ظبيان، ورهصة بن النعمان بن سويد بن خالد من بني أسعد بن همام، فلذلك تحامل المصعب بن الزبير على أبان ابن زياد أخي عبيد الله بن زياد فقتله. وفي هذا السبب كانت فرقة عبيد الله لمصعب، وجمعت تغلب فأكثرت فلما أتى عميرا كثرة من أتى من بني تغلب وأبطأ عنه أصحابه قال يستبطئهم:

أناديهم وقد خذلـت كـلاب                      وحولي من ربيعة كالجبـال

أقاتلهم بحي بـنـي سـلـيم                      ويعصر كالمصاعيب النهال

فدى لفوارس الثرثار قومي                      وما جمعت من أهلي ومالي

فإما أمس قد حانت وفاتـي                      فقد فارقت أعصر غير قال

أبعد فوارس الثرثار أرجـو                      ثراء المال أو عدد الرجال  ثم زحف العسكران، فأتت قيس وتغلب الثرثار، بين رأس الأثيل والكحيل، فشاهدوا القتال يوم الخميس. وكان شعيب بن مليل وثعلبه بن نياط التغلبيان قدما في ألفي فارس في الحديد، فعبروا على قرية يقال لها لبى على شاطئ دجلة بين تكريت وبين الموصل، ثم توجهوا إلى الثرثار، فنظر شعيب إلى دواخن قيس، فقال لثعلبة بن نياط: سر بنا إليهم، فقال له: الرأي أن نسير إلى جماعة قومنا فيكون مقاتلنا واحدا، فقال شعيب: والله لا تحدث تغلب أني نظرت إلى دواخنهم ثم انصرفت عنهم، فأرسل ناسا من أصحابه قدامه وعمير يقاتل بني تغلب. وذلك يوم الخميس، وعلى تغلب حنظلة بن هوبر، أحد بني كنانة بن تميم، فجاء رجل من أصحاب عمير إليه فأخبره أن طلائع شعيب قد أتته، وأنه قد عدل إليه، فقال عمير لأصحابه: أكفوني قتال ابن هوبر، ومضى هو في جماعة من أصحابه، فأخذ الذين قدمهم شعيب، فقتلهم كلهم غير رجل من بني كعب بن زهير يقال له: قتب بن عبيد، فقال عمير: يا قتب، أخبرني ما وراءك? قال: قد أتاك شعيب بن مليل في أصحابه. وفارق ثعلبة بن نياط شعيبا، فمضى إلى حنظلة بن هوبر، فقاتل معه القيسية، فقتل، فالتقى عمير وشعيب فاقتتلوا قتالا شديدا، فما صليت العصر حتى قتل شعيب وأصحابه أجمعون، وقطعت رجل شعيب يومئذ، فجعل يقاتل القوم وهو يقول:

قد علمت قيس ونحن نعلم                      أن الفتى يفتك وهو أجذم فلما قتل نزل أصحابه، فعقروا دوابهم، ثم قاتلوا حتى قتلوا، فلما رآه عمير قتيلا قال: من سره أن ينظر إلى الأسد عقيرا فها هو ذا. وجعلت تغلب يومئذ ترتجز وتقاتل وهي تقول:

انعوا إياسا واندبوا مجاشعا                      كلاهما كان كريما فاجعا

ويه تغلب ضربا ناقعـا

 

صفحة : 1367

 

وانصرف عمير إلى عسكره، وأبلغ بني تغلب مقتل شعيب، فحميت على القتال، وتذامرت على الصبر، فقال محصن بن حصين بن جنجور أحد الأبناء: مضيت أنا ومن أفلت من أصحاب شعيب بعد العصر، فأتينا راهبا في صومعته، فسألنا عن حالنا، فأخبرناه، فأمر تلميذا له، فجاء بخرق فداوى جراحنا، وذلك غداة يوم الجمعة. فلما كان آخر ذلك اليوم أتانا خبر مقتل عمير وأصحابه، وهرب من أفلت منهم .

صوت:

إن جنبي على الفراش لنـاب                      كتجافي الأسر فوق الظراب

من حديث نمى إلي فمـا أط                      عم غمضا ولا أسيغ شرابي

لشرحبيل إذ تـعـاوره الأر                      ماح في حال شدة وشبـاب

فارس يطعن الكماة جـريء                      تحته قارح كلون الغـراب عروضه من الخفيف. الأسر: البعير الذي يكون به السرر، وهي قرحة تخرج في كركرته، لا يقدر أن يبرك إلا على موضع مستو من الأرض، والظراب: النشوز والجبال الصغار، واحدها ظرب. والشعر لغلفاء، وهو معد يكرب بن الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي يرثي أخاه شرحبيل قتيل يوم الكلاب الأول، والغناء للغريض ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وعمرو .

وكان السبب في مقتله وقصة يوم الكلاب فيما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد قال أخبرنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال أخبرني إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قال أخبرني دماذ عن أبي عبيدة قال: كان من حديث الكلاب الأول أن قباذ ملك فارس لما ملك كان ضعيف الملك، فوثبت ربيعة على المنذر الأكبر بن ماء السماء وهو ذو القرنين بن النعمان بن الشقيقة فأخرجوه؛ وإنما سمي ذا القرنين لأنه كانت له ذؤابتان، فخرج هاربا منهم حتى مات في إياد، وترك ابنه المنذر الأصغر فيهم وكان أذكى ولده فانطلقت ربيعة إلى كندة، فجاؤوا بالحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار، فملكوه على بكر بن وائل، واحتشدوا له؛ فقاتلوا معه، فظهر على ما كانت العرب تسكن من أرض العراق، وأبى قباذ أن يمد المنذر بجيش، فلما رأى ذلك المنذر كتب إلى الحارث بن عمرو: إني في غير قومي، وأنت أحق من ضمني، وأنا متحول إليك، فحوله إليه وزوجه ابنته هندا. ففرق الحارث بنيه في قبائل العرب، فصار شرحبيل بن الحارث في بني بكر بن وائل وحنظلة بن مالك وبني أسيد ، وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب، وصار معد يكرب بن الحارث وهو غلفاء في قيس، وصار سلمة بن الحارث في بني تغلب والنمر بن قاسط وسعد بن زيد مناة. فلما هلك الحارث تشتت أمر بنيه، وتفرقت كلمتهم ومشت الرجال بينهم، وكانت المغاورة بين الحياء الذين معهم، وتفاقم الأمر حتى جمع كل واحد منهم لصاحبه الجموع؛ فسار شرحبيل ومن معه من بني تميم والقبائل، فنزلوا الكلاب وهو فيما بين الكوفة والبصرة على سبع ليال من اليمامة وأقبل سلمة بن الحارث في تغلب والنمر ومن معه، وفي الصنائع وهم الذين يقال لهم بنو رقية، وهي أم لهم ينتسبون إليها. وكانوا يكونون مع الملوك يريدون الكلاب. وكان نصحاء شرحبيل وسلمة قد نهوهما عن الحرب والفساد والتحاسد، وحذروهما عثرات الحرب وسوء مغبتها، فلم يقبلا ولم يبرحا، وأبيا إلا التتايع واللجاجة في أمرهم، فقال امرؤ القيس بن حجر في ذلك:

أنى علي استتب لومكـمـا                      ولم تلوما عمرا ولا عصما

كلا يمين الإله يجمـعـنـا                      شيء وأخوالنا بني جشمـا

حتى تزور السباع ملحـمة                      كأنها من ثمـود أو إرمـا وكان أول من ورد كلاب من جمع سلمة سفيان بن مجاشع بن دارم، وكان نازلا في بني تغلب مع إخوته لأمه، فقتلت بكر بن وائل بنين له، فيهم مرة بن سفيان، قتله سالم بن كعب بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان؛ فقال سفيان وهو يرتجز:

الشيخ شيخ ثـكـلان                      والجوف جوف حران

والورد ورد عجـلان                      أنعى مرة بن سفـيان وفي ذلك يقول الفرزدق:

شيوخ منهم عدس بن زيد                      وسفيان الذي ورد الكلابا

 

صفحة : 1368

 

وأول من ورد الماء من بني تغلب رجل من بني عبد بن جشم يقال له النعمان بن قريع بن حارثة بن معاوية بن عبد بن جشم، وعبد يغوث بن دوس، وهو عم الأخطل دوس والفدوكس أخوان على فرس له يقال له الحرون، وبه كان يعرف ثم ورد سلمة، بيني تغلب وسعد جماعة الناس، وعلى بني تغلب يومئذ السفاح واسمه سملة بن خالد بن كعب ابن زهير بن تميم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب وهو يقول:

إن الكلاب ماؤنا فخلوه                      وساجرا والله لن تحلوه فاقتتل القوم قتالا شديدا، وثبت بعضهم لبعض؛ حتى إذا كان في آخر النهار من ذلك اليوم خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب بكر بن وائل، وانصرفت بنو سعد وألفافها عن بني تغلب، وصبر ابنا وائل: بكر وتغلب ليس معهم غيرهم، حتى إذا غشيهم الليل نادى منادي سلمة: من أتى برأس شرحبيل فله مائة من الإبل، وكان شرحبيل نازلا في بني حنظلة وعمر بن تميم، ففروا عنه، وعرف مكانه أبو حنش وهو عصم بن النعمان بن مالك بن غياث بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب فصمد نحوه، فلما انتهى إليه رآه جالسا وطوائف الناس يقاتلون حوله، فطعنه بالرمح، ثم نزل إليه فاحتز رأسه وألقاه إليه. ويقال إن بني حنظلة وبني عمرو بن تميم والرباب لما انهزموا خرج معهم شرحبيل، فلحقه ذو السنينة واسمه حبيب بن عتبة بن حبيب بن بعج بن عتبة بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر وكانت له سن زائدة فالتفت شرحبيل فضرب ذا السنينة على ركبته، فأطن رجله، وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه، أمهما سلمى بنت عدي بن ربيعة بنت أخي كليب ومهلهل، فقال ذو السنينة: قتلني الرجل فقال أبو حنش: قتلني الله إن لم أقتله، فحمل عليه، فلما غشيه قال: يا أبا حنش، أملكا بسوقه? قال: إنه كان ملكي، فطعنه أبو حنش، فأصاب رادفة السرج، فورعت عنه، ثم تناوله فألقاه عن فرسه، ونزل إليه فاحتز رأسه، فبعث به إلى سلمة مع ابن عم له يقال له أبو أجأ بن كعب بن مالك بن غياث، فألقاه بين يديه؛ فقال له سلمة: لو كنت ألقيته إلقاء رفيقا فقال: ما صنع بي وهو حي أشد من هذا، وعرف أبو أجأ الندامة في وجهه والجزع على أخيه، فهرب وهرب أبو حنش فتنحى عنه، فقال سعد يكرب أخو شرحبيل، وكان صاحب سلامة معتزلا عن جميع هذه الحروب:

ألا أبلغ أبا حـنـش رسـولا                      فمالك لا تجيء إلى الثواب

تعلم أن خير الـنـاس طـرا                      قتيل بين أحجار الـكـلاب

تداعت حوله جشم بن بـكـر                      وأسلمه جعاسيس الـربـاب

قتيل ما قتيلك يابن سلـمـى                      تضربه صديقك أو تحابـي فقال أبو حنش مجيبا له:

أحاذر أن أجيئكم فتحبـو                      حباء أبيك يوم صنيبعات

فكانت غدرة شنعاء تهفو                      تقلدها أبواك إلى الممات ويقال: إن الشعر الأول لسلمة بن الحارث .

وقال معد يكرب المعروف بغلفاء يرثي أخاه شرحبيل بن الحارث:

إن جنبي عن الفراش لنابـي                      كتجافي الأسر فوق الظراب

من حديث نمى إلي فـلا تـر                      قأعيني ولا أسيغ شـرابـي

مرة كالذعاف أكتمهـا الـنـا                      س على حر ملة كالشهـاب

من شرحبيل إذ تعـاوره الأر                      ماح في حال لذة وشـبـاب

يابن أمي ولو شهدتـك إذ تـد                      عو تميما، وأنت غير مجاب

لتركت الحسام تجري ظـبـاه                      من دماء الأعداء يوم الكلاب

ثم طاعنت من ورائك حتـى                      تبلغ الرحب أو تبز ثـيابـي

يوم ثارت بنو تـمـيم وولـت                      خيلهم يتـقـين بـالأذنـاب

ويحكم يا بـنـي أسـيد إنـي                      ويحكم ربكم ورب الربـاب

أين معطيكم الجزيل وحابـي                      كم على الفقر بالمئين الكباب

فارس يضرب الكتيبة بالسـي                      ف على نحره كنضح الملاب

فارس يطعن الكماة جـريء                      تحته قارح كلون الـغـراب

 

صفحة : 1369

 

قال: ولما قتل شرحبيل قامت بنو سعد بن زياد مناة بن تميم دون عياله، فمنعوهم وحالوا بين الناس وبينهم، ودفعوا عنهم حتى ألحقوهم بقومهم ومأمنهم. ولي ذلك منهم عوف بن شجنة بن الحارث بن عطارد بن عوف بن سعد بن كعب، وحشد له فيه رهطه ونهضوا معه، فأثنى عليهم في ذلك امرؤ القيس بن حجر، ومدحهم به في شعره فقال:

ألا إن قوما كنتم أمس دونـهـم                      عن استنقذوا جاراتكم آل غدران

عوير ومن مثل العوير ورهطه                      وأسعد في يوم الهزاهز صفوان وهي قصيدة معروفة طويلة: صوت:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة                      ولكن عين السخط تبدي المساويا

وأنت أخي ما لم تكن لي حـاجة                      فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا الشعر لعبد الله بن معاوية بن عبد الله الجعفري، يقوله للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس؛ هكذا ذكر مصعب الزبيري. وذكر مؤرج فيما أخبرنا به اليزيدي عن عمه أبي جعفر عن مؤرج وهو الصحيح أن عبد الله بن معاوية قال هذا الشعر في صديق له يقال له قصي بن ذكوان، وكان قد عتب عليه. وأول الشعر:

رأيات قصيا كان شيئا ملففـا                      فكشفه التمحيص حتى بدا ليا

فلا زاد ما بيني وبينك بعدما                      بلوتك في الحاجات إلا تنائيا والغناء لبنان بن عمرون رمل بالوسطى. وفيه الثقيل الأول لعريب من رواية أبي العنبس وغيره .

 

خبر عبد الله بن معاوية ونسبه

نسبه: هو عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. وأم عبد الله بن جعفر وسائر بني جعفر أسماء بنت عميس بن معد بن تميم بن مالك ابن قحافة بن عامر بن ربيعة بن عامر بن معاوية بن زيد بن مالك بن بشر بن وهب الله بن شهران بن عفرس بن أفتل، وهو خماعة بن خثعم بن أنمار. وأمها هند بنت عوف، امرأة من جرش. هذه الجرشية أكرم الناس أحماء، أحماؤها: رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي وجعفر وحمزة و العباس وأبو بكر رضي الله تعالى عنهم، وإنما صار رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحمائها أنه كان لها أربع بنات: ميمونة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم الفضل زوجة العباس وأم بنته، وسلمى زوجة حمزة بن عبد المطلب، بنات الحارث، وأسماء بنت عميس أخته لأمهن، وكانت عند جعفر بن أبي طالب، ثم خلف عليها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ثم خلف عليها علي بن أبي طالب عليه السلام. وولدت من جميعهم. وهن اللواتي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهن:  إنهن مؤمنات  .

حدثني بذلك أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثني يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا هارون ابن محمد بن موسى الفروي قال: حدثنا داود بن عبد الله قال: حدثني عبد العزيز الدراوردي عن إبراهيم بن عقبة عن كريب عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  الأخوات المؤمنات: ميمونة، وأم الفضل، وسلمى، وأسماء بنت عميس أختهن لأمهن  .

حدثني أحمد قال حدثني يحيى قال حدثنا الحسن بن علي قال حدثني عبد الرزاق قال أخبرني يحيى بن العلاء البجلي عن عمه شعيب بن خالد عن حنظلة بن سمرة بن المسيب عن أبيه عن جده عن ابن عباس قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على فاطمة وعلي، عليهما السلام ليلة بنى بها فأبصر خيالا من وراء الستر؛ فقال:  من هذا?  فقالت: أسماء؛ قال:  بنت عميس  ? قالت: نعم، أنا التي أحرس بنتك يا رسول الله؛ فإن الفتاة ليلة بنائها لا بد لها من امرأة تكون قريبا منها، إن عرضت لها حاجة أفضت بذلك إليها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  فإني أسأل إلهي أن يحرسك من بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك من الشيطان  .

طائفة من أخبار عبد الله بن جعفر: أدرك رسول الله وروى عنه: وقد أدرك عبد الله بن جعفر رحمه الله رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى عنه .

فمما روى عنه ما حدثنيه حامد بن محمد بن شعيب البلخي وأحمد بن محمد بن الجعد قالا حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن أبيه عن عبد الله بن جعفر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل البطيخ بالرطب .

رآه النبي يلعب فداعبه:

 

صفحة : 1370

 

حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن قال حدثنا سلمة بن شبيب قال حدثنا عبد الرزاق قال أخبرني ابن يحيى وعثمان بن أبي سليمان قالا: مر النبي صلى الله عليه وسلم بعبد الله بن جعفر وهو يصنع شيئا من طين من لعب الصبيان فقال:  ما تصنع بهذا  ? قال: أبيعه، قال:  ما تصنع بثمنه  ? قال: أشتري به رطبا فآكله؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم  اللهم بارك له في صفقة يمينه  . فكان يقال: ما اشترى شيئا إلا ربح فيه .

تعرض له الحزين بالعقيق وطلب منه ثيابا: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن جدي عبد الله بن مصعب: أن الحزين قمر في العقيق في غداة باردة ثيابه، فمر به عبد الله بن جعفر وعليه مقطعات خز، فاستعار الحزين من رجل ثوبا، ثم قام إليه فقال:

أقول له حين واجهتـه                      عليك السلام أبا جعفر فقال: وعليك السلام؛ فقال:

فأنت المهذب من غـالـب                      وفي البيت منها الذي تذكر فقال: كذبت يا عدو الله؛ ذاك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:

فهذي ثيابي قد أخلقـت                      وقد عضني زمن منكر قال: هاك ثيابي، فأعطاه ثيابه .

قال الزبير قال عمي: أما البيت الثاني فحدثنيه عمي عن الفضل بن الربيع عن أبي، وما بقي فأنا سمعته من أبي .

تعرض له أعرابي هو على سفر عطاه راحلة بما عليها: حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد قال أخبرنا يحيى بن الحسن قال: بلغني أن أعرابيا وقف على مروان بن عبد الحكم أيام الموسم بالمدينة فسأله، فقال: يا أعرابي، ما عندنا ما نصلك؛ ولكن عليك بابن جعفر. فأتى الأعرابي باب عبد الله بن جعفر فإذا ثقله قد سار نحو مكة، وراحلته بالباب عليها متاعها وسيف معلق، فخرج عبد الله من داره وأنشأ الأعرابي يقول:

أبو جعفر من أهل بـيت نـبـوة                      صلاتهم للمسلـيمـن طـهـور

أبا جعفر إن الحجيج تـرحـلـوا                      وليس لرحلي فاعلمـن بـعـير

أبا جعفر ضن الأمير بـمـالـه                      وأنت على ما فـي يديك أمـير

وأنت امرؤ من هاشم في صميمها                      إليك يصير المجد حيث تصـير فقال: يا أعرابي، سار الثقل فدونك الراحلة بما عليها، وإياك أن تخدع عن السيف فإني أخذته بألف دينار. فأنشأ الأعرابي يقول:

حباني عبد الله، نفـسـي فـداؤه                      بأعيس موار سباط مـشـافـزه

وأبيض من ماء الحـديد كـأنـه                      شهاب بدا والليل داج عساكـره

وكل امرئ يرجو نوال ابن جعفر                      سيجري له باليمن والبشر طائره

فيا خير خلق الله نفسـا ووالـدا                      وأكرمه للجار حـين يجـاوره

سأثني بما أوليتني يابن جعـفـر                      وما شاكره عرفا كمن هو كافره ذكر له شاعر أنه كساه في المنام، فكساه جبة وشى: وحدثني أحمد بن يحيى عن رجل قال حدثني شيخ من بني تميم بخراسان قال: جاء شاعر إلى عبد الله بن جعفر فأنشده:

رأيت أبا جعفر في المنام                      كساني من الخـز دراعة

شكوت إلى صاحبي أمرها                      فقال ستؤتى بها الساعـه

سيكسوها الماجد الجعفري                      ومن كفه الدهر نفاعـه

ومن قال للجود لا تعدنـي                      فقال لك السمع والطاعه فقال عبد الله لغلامه: ادفع إليه دراعتي الخز ثم قال له: كيف لو ترى جبتي المنسوجة بالذهب التي اشتريتها بثلثمائة دينار فقال له الشاعر: بأبي دعني اغفى إغفاءة أخرى فلعلي أرى هذه الجبة في المنام، فضحك منه وقال: يا غلام ادفع إليه جبتي الوشى .

اعترض ابن دأب على شعر الشماخ في مدحه بأنه دون شعره في عرابة: حدثنا أحمد قال قال يحيى قال ابن دأب: وسمع قول الشماخ بن ضرار الثعلبي في عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب رحمه الله:

إنك يابن جعفر نعم الـفـتـى                      ونعم مأوى طـارق إذا أتـى

وجار ضيف طرق الحي سرى                      صادف زادا وحديثا يشتـهـى

إن الحديث طرف من القرى فقال ابن دأب: العجب للشماخ يقول مثل هذا القول لابن جعفر ويقول لعرابة الأوسي:

إذا ما راية رفعت لمجد                      تلقاها عرابة باليمـين

 

صفحة : 1371

 

عبد الله بن جعفر كان أحق بهذا من عرابة .

جوده على أهل المدينة: قال يحيى بن الحسن وكان عبد الله بن الحسن يقول كان أهل المدينة يدانون بعضهم من بعض إلى أن يأتي عطاء عبد الله بن جعفر .

جوده على رجل جلب إلى المدينة سكرا كسد عليه: أخبرني أحمد قال حدثني يحيى قال: حدثني أبو عبيد قال حدثني يزيد بن هارون عن هشام عن ابن سيرين قال: جلب رجل إلى المدينة سكرا فكسد عليه فقيل له: لو أتيت ابن جعفر قبله منك وأعطاك الثمن، فأتى ابن جعفر فأخبره، فأمره بإحضاره وبسط له، ثم أمر به فنثر، فقال للناس: انتبهوا، فلما رأى الناس ينتبهون قال: جعلت فداءك آخذ معهم? قال: نعم، فجعل الرجل يهيل في غرائره، ثم قال لعبد الله: أعطني الثمن فقال: وكم ثمن سكرك? قال: أربعة آلاف درهم، فأمر له بها .

أخبرنا أحمد قال حدثني يحيى بن علي، وحدثني ابن عبد العزيز قال حدثنا أبو محمد الباهلي حسن بن سعيد عن الأصمعي نحوه وزاد فيه، قال: فقال الرجل: ما يدري هذا وما يعقل أخذ أم أعطى لأطلبنه بالثمن ثانية، فغدا عليه فقال: ثمن سكري، فأطرق عبد الله مليا ثم قال: يا غلام، أعطه أربعة آلاف درهم؛ فأعطاه إياها، فقال الرجل قد قلت لكم: إن هذا الرجل لا يعقل أخذ أم أعطى لأطلبنه بالثمن، فغدا عليه فقال: أصلحك الله ثمن سكري، فأطرق عبد الله مليا، ثم رفع رأسه إلى رجل، قال: إدفع إليه أربعة آلاف درهم، فلما ولى ليقبضها قال له ابن جعفر: يا أعرابي، هذه تمام اثني عشر ألف درهم، فانصرف الرجل وهو يعجب من فعله .

باعه رجل جملا وأخذ ثمنه مرارا فمدحه: وأخبرني أبو الحسن الأسدي عن دماذ عن أبي عبيدة: أن أعرابيا باع راحلة من عبد الله بن جعفر، ثم غدا عليه فاقتضى ثمنها فأمر له به، ثم عاود ثلاثا، وذكر في الخبر مثل الذي قبله وزاد فيه: فقال فيه:

لا خير في المجتدى في الحين تسأله                      فاستمطروا من قريش خير مختدع

تخال فيه إذا حـاورتـه بـلـهـا                      من جوده وهو وافي العقل والورع وهذا الشعر يروى لابن قيس الرقيات .

وفاته عام الجحاف: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير قال حدثني مصعب بن عثمان قال: لما ولي عبد الملك الخلافة جفا عبد الله بن جعفر، فراح يوما إلى الجمعة وهو يقول: اللهم إنك عودتني عادة جريت عليها، فإن كان ذلك انقضى فاقبضني إليك، فتوفي في الجمعة الأخرى. قال يحيى: توفي عبد الله وهو ابن سبعين سنة في سنة ثمانين وهو عام الجحاف لسيل كان بمكة جحف الحاج فذهب بالإبل عليها الحمولة، وكان الوالي على المدينة يومئذ أبان بن عثمان في خلافة عبد الملك بن مروان، وهو الذي صلى عليه .

وقف عمرو بن عثمان على قبره ورثاه: حدثني أحمد بن محمد قال أخبرنا يحيى قال حدثنا الحسين بن محمد قال أخبرني محمد بن مكرم قال أخبرني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال أخبرني الأصمعي عن الجعفري قال: لما مات عبد الله بن جعفر شهده أهل المدينة كلهم، وإنما كان عبد الله بن جعفر مأوى المساكين وملجأ الضعفاء، فما تنظر إلى ذي حجا إلى رأيته مستعبرا قد أظهر الهلع والجزع، فلما فرغوا من دفنه قام عمرو بن عثمان فوقف على شفير القبر فقال: رحمك الله يابن جعفر إن كنت لرحمك لواصلا، ولآهل الشر لمبغضا، ولأهل الريبة لقاليا، ولقد كنت فيما بيني وبينك كما قال الأعشى:

رعيت الذي كان بيني وبينكم                      من الود غيبتك المقـابـر فرحمك الله يوم ولدت ويوم كنت رجلا ويوم مت ويوم تبعث حيا؛ والله لئن كانت هاشم أصيبت بك لقد عم قريشا كلها هلكك، فما أظن أن يرى بعدك مثلك .

ووقف عمرو بن سعيد على قبره ورثاه: فقام عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق فقال: لا إله إلا الله الذي يرث الأرض ومن عليها وإليه ترجعون، ما كان أحلى العيش بك يابن جعفر وما أسمج ما أصبح بعدك والله لو كانت عيني دامعة على أحد لدمعت عليك، كان والله حديثك غير مشوب بكذب، وودك غير ممزوج بكدر .

نازع أحد ولد المغيرة عمرو بن سعيد على مدحه له فذمه وأسكته:

 

صفحة : 1372

 

فوثب ابن المغيرة بن نوفل ولم يثبت الأصمعي اسمه فقال: يا عمرو، بمن تعرض بمزج الود وشوب الحديث? أفبابني فاطمة? فهما والله خير منك ومنه، فقال: على رسلك يا لكع  أردت أن أدخلك معهم? هيهات لست هناك، والله لو مت أنت ومات أبوك ما مدحت ولا ذممت، فتكلم بما شئت فلن تجد لك مجيبا؛ فما هو إلا أن سمعهما الناس يتكلمان حتى حجزوا بينهما وانصرفوا .

شعر ابن قيس الرقيات في علته التي مات فيها: قال يحيى وقال عبد الله بن قيس الرقيات في علة عبد الله بن جعفر التي مات فيها:

بات قلبي تشفـه الأوجـاع                      من هموم تجنها الأضـلاع

من حديث سمعته منع النـو                      م فقلبي مما سمعـت يراع

إذ أتانا بما كرهنا أبو اللـس                      لاس، كانت بنفسه الأوجاع

قال ما قال ثم راح سريعـا                      أدركت نفسه المنايا السراع

قال يشكو الصداع وهو ثقيل                      بك لا بالذي عنيت الصداع

ابن أسماء لا أبا لك تنعـى                      أنه غير هـالـك نـفـاع

هاشميا بكفه من سجـال ال                      مجد سجل يهون فيه القباع

نشر الناس كل ذلك مـنـه                      شيمة المجد ليس فيه خداع

لم أجد بعـدك الأخـلاء إلا                      كثماد به قـذى أو نـقـاع

بيته من بيوت عبد مـنـاف                      مد أطنابه المكان الـيفـاع

منتهى الحمد والنبوة والمج                      د إذا قصر اللئام الوضـاع

فستأتيك مدحة مـن كـريم                      ناله من ندى سجالك بـاع من هذا الشعر الذي قاله ابن قيس في عبد الله بن جعفر بيتان يغنى فيهما، وهما: صوت:

قد أتانا بما كرهنا أبو اللس                      لاس كانت بنفسه الأوجاع

قال يشكو الصداع وهو ثقيل                      بك لا بالذي ذكرت الصداع غناه عمرو بن بانة خفيف ثقيل، الأول بالوسطى على مذهب إسحاق. ويقال إن عمرو بن بانة صاغ هذا اللحن في هذا الشعر وغنى به الواثق يعقب علة نالته وصداع تشكاه؛ قال: فاستحسنه وأمر له بعشرة آلاف درهم. وأم معاوية بن عبد الله بن جعفر أم ولد. وكان من رجالات قريش، ولم يكن في ولد عبد الله مثله .

بشروه وهو عند معاوية بولد فسماه باسمه: حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي عبد الرحمن القرشي: أن معاوية بن عبد الله بن جعفر ولد وأبوه عبد الله عند معاوية، فأتاه البشير بذلك وعرف معاوية الخبر فقال: سمه معاوية ولك مائة ألف درهم، ففعل، فأعطاه المال، وأعطاه عبد الله للذي بشره به. قال المدائني: وكان عبد الله بن جعفر لا يؤدب ولده، ويقول إن يرد الله جل وعز بهم يتأدبوا، فلم ينجب فيهم غير معاوية .

خبر ابن هرمة مع معاوية بن عبد الله بن جعفر: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا هرون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا حماد ابن إسحاق عن أبيه، قال هارون وحدثني محمد بن عبد الله بن موسى بن خالد بن الزبير بن العوام قال حدثني عمرو بن الحكم السعيدي وإبراهيم بن محمد ومحمد بن معن بن عنبسة قالوا: كان معاوية بن عبد الله بن جعفر قد عود ابن هرمة البر، فجاءه يوما وقد ضاقت يده وأخذ خمسين دينارا بدين، فرفع إليه مع جاريته رقعة فيها مديح له يسأله فيه أيضا برا، فقال للجارية: قولي له: أيدينا ضيقة، وما عندنا شيء إلا شيء أخذناه بكلفة، فرجعت جاريته بذلك، فأخذ الرقعة فكتب فيها:

فإني ومدحك غير المصـي                      ب كالكلب ينبح ضوء القمر

مدحتك أرجو لديك الثـواب                      فكنت كعاصر جنب الحجر وبعث بالرقعة مع الجارية، فدفعتها إلى معاوية، فقال لها: ويحك قد علم بها أحد قالت: لا والله إنما دفعها من يده إلى يدي؛ قال: فخذي هذه الدنانير فادفعيها إليه، فخرجت بها إليه، فقال: كلا، أليس زعم أنه لا يدفع إلي شيئا ? كان ابنه معاوية صديقا ليزيد بن معاوية فسمى ابنه باسمه: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب قال:

 

صفحة : 1373

 

سمي عبد الله بن جعفر ابنه معاوية بن أبي سفيان. قال: وكان معاوية بن عبد الله بن جعفر صديقا ليزيد بن معاوية خاصة، فسمى ابنه بيزيد بن معاوية .

وصيته لابنه معاوية عند وفاته: قال الزبير: وحدثني محمد بن إسحاق بن جعفر عن عمه محمد: أن عبد الله بن جعفر لما حضرته الوفاة دعا ابنه فنزع شنفا كان في أذنه وأوصى إليه وفي ولده من هو أسن منه وقال له: إني لم أزل أؤملك لها فلما توفى احتال بدين أبيه وخرج فطلب فيه حتى قضاه، وقسم أموال أبيه بين ولده، فلم يستأثر عليهم بدينار ولا درهم ولا غيرهما .

وأم عبد الله بن معاوية أم عون بنت عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. ويقال: بنت عياش بن ربيعة. وقد روى عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وكان معه يوم حنين، وهو أحد من ثبت معه يومئذ .

بعض صفات عبد الله بن معاوية: وكان عبد الله من فتيان بني هاشم وجودائهم وشعرائهم، ولم يكن محمود المذهب في دينه، وكان يرمى بالزندقة ويستولي عليه من يعرف ويشهر أمره فيها، وكان قد خرج بالكوفة في آخر أيام مروان بن محمد، ثم انتقل عنها إلى نواحي الجبل ثم إلى خراسان، فأخذه أبو مسلم فقتله هناك .

مدح ابن هرمة لعبد الله بن جعفر: ويكنى عبد الله بن جعفر أبا معاوية، وله يقول ابن هرمة:

أحب مدحا أبا معاوية الما                      جد لا تلقه حصورا عيبا

بل كريما يرتاح للمجد بسا                      ما إذا هزه السؤال حـيا

إن لي عنده وإن رغم الأع                      داء حظا من نفسه وقفيا قفيا: أثره، يقول: إن لي عنده لأثرة على غيري، وقال قوم آخرون: القفي: الكرامة

إن أمت تبق مدحتي وإخـائي                      وثنائي من الـحـياة مـلـيا

يأخذ السبق بالتقدم في الجـر                      ي إذا ما الندى انتحاه علـيا

ذو وفتاء عند العدات وأوصا                      ه أبـوه ألا يزال وفـــيا

فرعى عقدة الوصاة فأكـرم                      بهما موصيا وهـذا وصـيا

يابن أسماء فاسق دلوى فقد أو                      ردتها منـهـلا يثـج رويا يعني أمه أسماء، وهي أم عون بنت العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب. وأول هذه القصيدة:

عاتب النفس والفؤاد الـغـويا                      في طلاب الصبا فلست صبيا قال يحيى بن علي فيما أجازه لنا: أخبرني أبو أيوب المديني وأخبرناه وكيع عن هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد بن إسحاق عن أبيه قالا: مدح ابن هرمة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فأتاه، فوجد الناس بعضهم على بعض على بابه. قال ابن هرمة: ورآني بعض خدمه فعرفني، فسألته عن الذين رأيتهم ببابه فقال: عامتهم غرماء له، فقلت: ذاك شر. واستؤذن لي عليه فقلت: لم أعلم والله بهؤلاء الغرماء ببابك، قال: لا عليك أنشدني. قلت: أعيذك بالله. واستحييت أن أنشد، فأبى إلا أن أنشده قصيدتي التي أقول فيها:

حللت محل القلب من آل هاشم                      فعشك مأوى بيضها المتفلـق

ولم تك بالمعزى إليها نصابـه                      لصاقا ولا ذا المركب المتعلق

فمن مثل عبد الله أو مثل جعفر                      ومثل أبيك الأريحي المرهق فقال: من ها هنا من الغرماء? فقيل: فلان وفلان، فدعا باثنين منهم فسارهما وخرجا، وقال لي : اتبعهما. قال: فأعطياني مالا كثيرا. قال يحيى: ومن مختار فيه منها قوله:

فإلا توات اليوم سلمـى فـربـمـا                      شربنا بحوض اللهو غير المرنـق

فدعها فقد أعذرت في ذكر وصلها                      وأجريت فيها شأو غرب ومشرق

ولكن لعبد الله فانطـق بـمـدحـه                      تجيرك من عسر الزمان المطبـق

أخ قلت للأذنين لمـا مـدحـتـه                      هلموا وساري الليل م الآن فاطرق

شديد التأني في الأمور مـجـرب                      متى يعر أمر القوم يفر ويخـلـق

ترى الخبر يجري في أسرة وجهه                      كما لألأت في السيف جرية رونق

كريم إذا مـا شـاء عـد لـه أبـا                      له نسب فوق السماك المحـلـق

وأما لها فضل علـى كـل حـرة                      متى ما تسابق بابنها القوم تسبـق ومما يغنى فيه من قصيدة ابن هرمة اليائية التي مدح بها ابن معاوية قوله: صوت:

 

صفحة : 1374

 

 

عجبت جارتي لشيب علانـي                      عمرك الله هـل رأيت بـديا

إنما يعـذر الـولـيد ولا يع                      ذر من عاش في الزمان عتيا غنى فيهما فليح رملا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة ومن رواية حبش فيهما لابن محرز خفيف ثقيل بالبنصر .

خروج عبد الله بن معاوية على بني أمية: حدثنا بالسبب في خروجه أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعمه عيسى، قال ابن عمار وأخبرنا أيضا ببعض خبره أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب الزبيري، قال ابن عمار وأخبرني أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي اليقظان وشهاب بن عبد الله وغيرهما، قال ابن عمار وحدثني به سليمان بن أبي شيخ عمن ذكره. قال أبو الفرج الأصبهاني: ونسخت أنا أيضا بعض خبره من كتاب محمد بن علي بن حمزة عن المدائني وغيره فجمعت معاني ما ذكروه في ذلك كراهة الإطالة: أن عبد الله بن معاوية قدم الكوفة زائرا لعبد الله بن عمر بن عبد العزيز ومستميحا له، فتزوج بالكوفة بنت الشرقي بن عبد المؤمن بن شبث بن ربعي الرياحي، فلما وقعت العصبية أخرجه أهل الكوفة على بني أمية، وقالوا له: اخرج فأنت أحق بهذا الأمر من غيرك، واجتمعت له جماعة، فلم يشعر به عبد الله بن عمر إلا وقد خرج عليه. قال ابن عمار في خبره: إنه إنما خرج في أيام يزيد بن الوليد، ظهر بالكوفة ودعا من آل محمد صلى الله عليه وسلم ولبس الصوف وأظهر سيمى الخير، فاجتمع إليه وبايعه بعض أهل الكوفة، ولم يبايعه كلهم وقالوا: ما فينا بقية قد قتل جمهورنا مع أهل هذا البيت، وأشاروا عليه بقصد فارس وبلاد المشرق فقبل ذلك، وجمع جموعا من النواحي، وخرج معه عبد الله بن العباس التميمي. قال محمد بن علي بن حمزة عن سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة: إن ابن معاوية قبل قصده المشرق ظهر بالكوفة ودعا إلى نفسه، وعلى الكوفة يومئذ عامل ليزيد الناقص يقال له عبد الله بن عمر، فخرج إلى ظهر الكوفة مما يلي الحرة، فقاتل ابن معاوية قتالا شديدا. قال محمد بن علي بن حمزة عن المدائني عن عامر بن حفص، وأخبرني به ابن عمار عن أحمد بن الحارث عن المدائني: أن ابن عمر هذا دس إلى رجل من أصحاب ابن معاوية من وعده عنه مواعيد على أن ينهزم عنه وينهزم الناس بهزيمته، فبلغ ذلك ابن معاوية، فذكره لأصحابه وقال: إذا انهزم ابن حمزة فلا يهولنكم، فلما التقوا انهزم ابن حمزة وانهزم الناس معه فلم يبق غير ابن معاوية، فجعل يقاتل وحده ويقول:

تفرقت الظباء على خداش                      فما يدري خداش ما يصيد ثم ولى وجهه منهزما فنجا، وجعل يجمع من الأطراف والنواحي من أجابه، حتى صار في عدة، فغلب على ماه الكوفة وماه البصرة وهمذان وقم والري وقومس وأصبهان وفارس، وأقام هو بأصبهان. قال: وكان الذي أخذ له البيعة بفارس محارب بن موسى مولى بني يشكر، فدخل دار الإمارة بنعل ورداء واجتمع الناس إليه، فأخذهم بالبيعة؛ فقالوا: علام نبايع? فقال: على ما أحببتم وكرهتم، فبايعوا على ذلك .

وكتب عبد الله بن معاوية فيما ذكر محمد بن علي بن حمزة عن عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري عن أبيه عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن جعفر بن الوليد مولى أبي هريرة ومحرز بن جعفر: أن عبد الله بن معاوية كتب إلى الأمصار يدعو إلى نفسه لا إلى الرضا من آل محمد صلى الله عليه وسلم، قال: واستعمل أخاه الحسن على إصطخر، وأخاه يزيد على شيراز، وأخاه عليا على كرمان، وأخاه صالحا على قم ونواحيها، وقصدته بنو هاشم جميعا منهم السفاح والمنصور وعيسى بن علي. وقال ابن أبي خيثمة عن مصعب: وقصده وجوه قريش من بني أمية وغيرهم، فممن قصده من بني أمية سليمان بن هشام بن عبد الملك وعمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان، فمن أراد منهم عملا قلده، ومن أراد منهم صلة وصله .

وجه إليه مروان بن محمد جيشا لمحاربته بقيادة ابن ضبارة:

 

صفحة : 1375

 

فلم يزل مقيما في هذه النواحي التي غلب عليها حت ولي مروان بن محمد الذي يقال له مروان الحمار، فوجه إليه عامر بن ضبارة في عسكر كثيف، فسار إليه حتى إذا قرب من أصبهان ندب له ابن معاوية أصحابه وحضهم على الخروج إليه، فلم يفعلوا ولا أجابوه، فخرج على دهش هو وإخوته قاصدين لخراسان وقد ظهر أبو مسلم بها ونفى عنها نصر ابن سيار فلما صار في بعض الطريق نزل على رجل من التناء ذي مروءة ونعمة وجاه ، فسأله معونته، فقال له: من أنت من ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم? أأنت إبراهيم الإمام الذي يدعى له بخراسان? قال: لا، قال فلا حاجة لي في نصرتك .

التجأ إلى أبي مسلم فحبسه: فخرج إلى أبي مسلم وطمع في نصرته، فأخذه أبو مسلم وحبسه عنده، وجعل عليه عينا يرفع إليه أخباره، فرفع إليه أنه يقول: ليس في الأرض أحمق منكم يا أهل خراسان في طاعتكم هذا الرجل وتسليمكم إليه مقاليد أموركم من غير أن تراجعوه في شيء أو تسألوه عنه، والله ما رضيت الملائكة الحرام من الله تعالى بهذا حتى راجعته في أمر آدم عليه السلام، فقالت:  أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء  حتى قال لهم:  إني أعلم ما لا تعلمون  .

كتابه إلى أبي مسلم وهو في حبسه: ثم كتب إليه عبد الله بن معاوية رسالته المشهورة التي يقول فيها: إلى أبي مسلم، من الأسير في يديه، بلا ذنب إليه ولا خلاف عليه. أما بعد فإنك مستودع ودائع، ومولى صنائع؛ وإن الودائع مرعية، وإن الصنائع عارية؛ فاذكر القصاص، واطلب الخلاص؛ ونبه للفكر قلبك، واتق الله ربك، وآثر ما يلقاك غدا على ما لا يلقاك أبدا، فإنك لاق أما سلفت، وغير لاق ما خلفت، وفقك الله لما ينجيك، وآتاك شكر ما يبليك .

قتله أبو مسلم ووجه برأسه إلى ابن ضبارة: قال: فلما قرأ كتابه رمى به. ثم قال: قد أفسد علينا أصحابنا وأهل طاعتنا وهو محبوس في أيدينا، فلو خرج وملك أمرنا لأهلكنا، ثم أمضى تدبيره في قتله. وقال آخرون: بل دس إليه سما فمات منه، ووجه برأسه إلى ابن ضبارة فحمله إلى مروان، فأخبرني عمر بن عبد الله العتكي قال: حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن يحيى أن عبد العزيز بن عمران حدثه عن عبد الله بن الربيع عن سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة أنه حضر مروان يوم الزاب وهو يقاتل عبد الله بن علي، فسأل عنه فقيل له: هو الشاب المصفر الذي كان يسب عبد الله ابن معاوية يوم جيء برأسه إليك فقال: والله لقد هممت بقتله مرارا، كل ذلك يحال بيني وبينه،  وكان أمر الله قدرا مقدورا  .

كانت الزنادقة من خاصته: حدثني أحمد بن عبد الله بن عمار قال حدثني النوفلي عن أبيه عن عمه قال: كان عمارة بن حمزة يرمى بالزندقة، فاستكتبه ابن معاوية، وكان له نديم يعرف بمطيع بن إياس، وكان زنديقا مأبونا، وكان له نديم آخر يعرف بالبقلي وإنما سمي بذلك لأنه كان يقول: الإنسان كالبقلة فإذا مات لم يرجع، فقتله المنصور لما أفضت الخلافة إليه. فكان هؤلاء الثلاثة خاصته، وكان له صاحب شرطة يقال له قيس، وكان دهريا لا يؤمن بالله معروفا بذلك، فكان يعس بالليل قلا يلقاه أحد إلا قتله، فدخل يوما على ابن معاوية فلما رآه قال:

إن قيسا وإن تقنع شـيبـا                      لخبيث الهوى على شمطة

ابن تسعين منظرا ومشيبـا                      وابن عشر يعد في سقطه وأقبل على مطيع فقال: أجز أنت، فقال:

وله شرطة إذا جنه اللـي                      ل فعوذوا بالله من شرطه قسوته: قال ابن عمار: أخبرني أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي يقظان وشباب بن عبد الله وغيرهما، قال ابن عمار وحدثني به سليمان بن أبي شيخ عمن ذكره: أن ابن معاوية كان يغضب على الرجل فيأمر بضربه بالسياط وهو يتحدث ويتغافل عنه حتى يموت تحت السياط، وأنه فعل ذلك برجل، فجعل يستغيث فلا يلتفت إليه، فناداه: يا زنديق، أنت الذي تزعم أنه يوحى إليك فلم يلتفت إليه وضربه حتى مات .

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني النوفلي عن أبيه عن عمه عيسى قال:

 

صفحة : 1376

 

كان ابن معاوية أقسى خلق الله قلبا، فغضب على غلام له وأنا جالس عنده في غرفة بأصبهان، فأمر بأن يرمى به منها إلى أسفل، ففعل ذلك به فتعلق بدرابزين كان على الغرفة، فأمر بقطع يده التي أمسكه بها، فقطعت ومر الغلام يهوي حتى بلغ إلى الأرض فمات .

بعض شعره: وكان مع هذه الأحوال من ظرفاء بني هاشم وشعرائهم، وهو الذي يقول:

ألا تزع القلب عن جهـلـه                      وعما تؤنب من أجـلـه

فأبدل بعد الصبا حـلـمـه                      وأقصر ذو العذل عن عذله

فلا تركبن الصنـيع الـذي                      تلوم أخاك على مـثـلـه

ولا يعجبنك قـول امـرئ                      يخالف ما قال في فعـلـه

ولا تتبع الطرف ما لا تنال                      ولكن سل الله من فضلـه

فكم من مقل ينال الغـنـى                      ويحمد في رزقـه كـلـه أنشدنا هذا الشعر له ابن عمار عن أحمد بن خيثمة عن يحيى بن معين. وذكر محمد بن علي العلوي عن أحمد بن أبي خيثمة أن يحيى بن معين أنشده أيضا لعبد الله بن معاوية:

إذا افتقرت نفسي قصرت افتقارهـا                      عليها فلم يظهر لها أبـدا فـقـري

وإن تلقني في الدهر مندوحة الغنـى                      يكن لأخلائي التوسع في الـيسـر

فلا العسر يزري بي إذا هو نالنـي                      ولا اليسر يوما إن ظفرت به فخري وهذا الشعر الذي عنى به أعني قوله:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة يقوله ابن معاوية للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان الحسين أيضا سيء المذهب مطعونا في دينه .

شعره في الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني إبراهيم بن يزيد الخشاب قال: كان ابن معاوية صديقا للحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان حسين هذا وعبد الله بن معاوية يرميان بالزندقة. فقال الناس: إنما تصافيا على ذلك، ثم دخل بينهما شيء من الأشياء فتهاجرا من أجله، فقال عبد الله بن معاوية:

وإن حسينا كان شيئا مـلـفـفـا                      فمحصه التكشيف حتى بدا لـيا

وعين الرضا عن كل عيب كليلة                      ولكن عين السخط تبدي المساويا

وأنت أخي ما لم تكن لي حـاجة                      فإن عرضت أيقنت أن لا أخا ليا وله في الحسين أشعار كلها معاتبات، فمنها ما أخبرني به أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة. قال: أنشدني يحيى بن الحسن لعبد الله بن معاوية، يقوله في الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب:

قل لذي الود والصفاء حسين                      أقدر الود بـينـنـا قـدره

ليس للدابغ المـقـرظ بـد                      من عتاب الأديم ذي البشره قال وقال له أيضا:

إن ابن عمك وابن أمك معلم شاكي السلاح

يقص العدو وليس ير                      ضى حـين يبـطـش بـالـجـنـــاح

لاتحسبن أذى ابن عمك شرب ألبان اللقاح

بل كالشجا تحت اللها                      ة إذا يســـوغ بـــالـــقـــراح

فانـظـر لـنـفـسـك مــن يجـــي                      ك تـحـت أطـراف الـــرمـــاح

من لا يزال يســـــــــــــوءه                      بالـغـيب أن يلــحـــاك لاحـــي خبره مع جده عبد الحميد بن عبيد الله: أخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا الزبير وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد قال حدثنا يحيى ابن الحسن قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى: أن عبد الله بن معاوية مر بجده عبد الحميد في مزرعته بصرام وقد عطش فاستسقاه، فخاض له سويق لوز فسقاه إياه، فقال عبد الله بن معاوية:

شربت طبرزذا بغريض مزن                      كذوب الثلج خالطه الرضاب قال يحيى قال الزبير: الرضاب ماء المسك، ورضاب كل شيء: ماؤه. فقال عبد الحميد ابن عبيد الله يجيب عبد الله بن معاوية على قوله:

ما إن ماؤنا بغريض مـزن                      ولكن الملاح بكـم عـذاب

وما إن بالطبرزذ طاب لكن                      بمسك لا به طاب الشـراب

وأنت إذا وطئت تراب أرض                      يطيب إذا مشيت بها التراب

لأن نداك يطفى المحل عنها                      وتحييها أياديك الـرطـاب تغنى إبراهيم الموصلي في شعره:

 

صفحة : 1377

 

قال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده إبراهيم الموصلي قال: بينا نحن عن الرشيد أنا وابن مجامع وعمرو والغزال إذ قال صاحب الستارة لابن جامع: تغن في شعر عبد الله بن معاوية بن عبد الله جعفر، قال: ولم يكن ابن مجامع يغني في شيء منه، وفطنت لما أراد من شعره، وكنت قد تقدمت فيه، فأرتج على ابن جامع، فلما رأيت ما حل به اندفعت فغنيت: صوت:

يهيم بجمـل ومـا إن يرى                      له من سبيل إلى جمـلـه

كأن لم يكن عاشق قبـلـه                      وقد عشق الناس من قبله

فمنهم من الحب أودى بـه                      ومنهم من أشفى على قتله فإذا يد قد رفعت الستارة، فنظر إلي وقال: أحسنت والله أعد، فأعدته فقال: أحسنت حتى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال لصاحب الستارة كلاما لم أفهمه، فدعا صاحب الستارة غلاما فكلمه، فمر الغلام يسعى فإذا بدرة دنانير قد جاءت يحملها فراش، فوضعت تحت فخذي اليسرى وقيل لي: اجعلها تكأتك ، قال: فلما انصرفنا قال لي ابن جامع: هل كنت وضعت لهذا الشعر غناء قبل هذا الوقت? فقلت: ما شعر قيل في الجاهلية ولا الإسلام يدخل فيه الغناء إلا وقد وضعت له لحنا خوفا من أن ينزل بي ما نزل بك. فلما كان المجلس الثاني وحضرنا قال صاحب الستارة: يابن جامع، تغن في شعر عبد الله بن معاوية، فوقع في مثل الذي وقع فيه بالأمس، قال إبراهيم: فلما رأيت ما حل به اندفعت فغنيت: صوت:

يا قـوم كــيف ســـواغ عـــي                      ش لـيس تـؤمـن فـاجـعـاتــه

ليســت تـــزال مـــطـــلة                      تغـدو عـلـيك مـنـغـصـاتــه

الــمـــوت هـــول داخـــل                      يومـا عـلـى كـره أنـــاتـــه

لابـد لـلـحـذر الــنـــفـــو                      ر مـن أن تـقـنـصـه رمـاتــه

قد أمـنـح الـود الــخـــلـــي                      ل بـغـير مـا شــيء رزاتـــه

وله أقيم قناة ودي ما استقامت لي قناته قال: فأومأ إلي صاحب الستارة أن أمسك، ووضع يده على عينه كأنه يومئ إلي أنه يبكي، قال: فأمسكت ثم انصرفنا ، فقال لي ابن جامع: ما صب أمير المؤمنين على ابن جعفر? قلت: صبه الله عليه لبدرة الدنانير التي أخذتها. قال ثم حضر بعد ذلك، فلما اطمأن بنا مجلسنا قال ابن جامع بكلام خفي: اللهم أنسه ذكر ابن جعفر، قال فقلت: اللهم لا تستجب، فقال صاحب الستارة: يابن جامع تغن في شعر عبد الله بن معاوية، قال: فقال ابن جامع: لو كان عندهم في عبد الله بن معاوية خير لطار مع أبيه ولم يقبل على الشعر، قال إبراهيم: فسمعنا ضحكة من وراء الستارة. قال إبراهيم فاندفعت أغني في شعره: صوت:

سلا ربة الخدر ما شأنـهـا                      ومن أيما شأننا تعـجـب ?

فلست بـأول مـن فـاتـه                      على إربه بعض ما يطلـب

وكائن تعرض من خاطـب                      فزوج غير التي يخـطـب

وأنكحـهـا بـعـده غـيره                      وكانت له قبلة تـحـجـب

وكنا جـديثـا صـفـيين لا                      نخاف الوشاة وما سبـبـوا

فإن شطت الدار عنا بـهـا                      فبانت وفي الناس مستعتـب

وأصبح صدع الذي بـينـنـا                      كصدع الزجاجة ما يشعـب

وكالدر ليسـت لـه رجـعة                      إلى الضرع من بعدما يحلب غنى في البيتين الأولين إبراهيم الموصلي خفيف ثقيل الأول بالوسطى من رواية أحمد بن يحيى المكي ووجدتهما في بعض الكتب خفيف رمل غير منسوب. قال: فقال لي صاحب الستارة: أعد فأعدته، فأحسب أمير المؤمنين نظر إلى ابن جامع كاسف البال، فأمر له بمثل الذي أمر لي بالأمس، وجاؤوني ببدرة فوضعت تحت فخذي اليسرى أيضا، وكان ابن جامع فيه حسد ما يستتر منه، فلما انصرفنا قال: اللهم أرحنا من ابن جعفر هذا، فما أشد بغضي له، لقد بغض إلي جده، فقلت: ويحك تدري ما تقول قال: فمن يدري ما يقول? إذا لوددت أني لم أر إقباله عليك وعلى غنائك في شعر هذا البغيض ابن البغيضة، وأني تصدقت بها يعني البدرة .

وهذا الصوت الأخير يقول شعره عبد الله بن معاوية في زوجته أم زيد بنت زيد بن علي بن الحسين عليهما السلام .

شمتت به امرأته حين خطب امرأة وتزوجها غيره فقال في ذلك شعرا: أخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال:

 

صفحة : 1378

 

خطب عبد الله بن معاوية ربيحة بنت محمد بن عبد الله بن علي بن عبد الله بن جعفر، وخطبها بكار بن عبد الملك بن مروان، فتزوجت بكارا، فشمتت بعبد الله امرأته أم زيد بنت زيد بن علي بن الحسين، فقال في ذلك:

سلا ربة الخدر ما شأنها                      ومن أيما شأننا تعجـب فقال ابن خيثمة في خبره عن مصعب قال له: والله ما شمت ولكني نفست عليك، فقال لها: لا جرم والله لا سؤتك أبدا ما حييت: صوت:

طاف الخيال من أم شيبة فاعترى                      والقوم من سنة نشاوى بالكـرى

طافت بخوص كالقسي وفـتـية                      هجعوا قليلا بعدما ملوا السرى الشعر لأبي وجزة السعدي، والغناء لإسحاق، ثقيل أول بالبنصر .

 

أخبار أبي وجزة ونسبه

نسبه: اسمه يزيد بن عبيد فيما ذكره أصحاب الحديث. وذكر بعض النسابين أن اسمه يزيد بن أبي عبيد، وأنه كان له أخ يقال له عبيد، وانتسب إلى بني سعد بن بكر بن هوازن لولائه فيهم .

دخل مع أبيه في بني سعد: وأصله من سليم من بني ضبيس بن هلال بن قدم بن ظفر بن الحارث بن بهثة بن سليم؛ ولكنه لحق أباه وهو صبي سباء في الجاهلية، فبيع بسوق ذي المجاز، فابتاعه رجل من بني سعد، وأستعبده، فلما كبر استعدى عمر رضي الله عنه وأعلمه قصته، فقال له: إنه لا سباء على عربي، وهذا الرجل قد أمتن عليك فإن شئت فأقم عنده، وإن شئت فالحق بقومك، فأقام في بني سعد وانتسب إليهم هو وولده .

كان بنو سعد أظآر رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبنو سعد أظآر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان مسترضعا فيهم عند امرأة يقال لهم حليمة، فلم يزل فيهم عليه السلام حتى يفع، ثم أخذه جده عبد المطلب منهم فرده إلى مكة، وجاءته حليمة بعد الهجرة، فأكرمها وبرها وبسط لها رداءه فجلست عليه. وبنو سعد تفتخر بذلك على سائر هوازن، وحقيق بكل مكرمة وفخر من اتصل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدنى سبب أو وسيلة .

آثر أبوه الانتساب إلى بني سعد دون قومه بني سليم: أخبرني بخبره الذي حكيت جملا منه في نسبه وولائه أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي عن يونس. وأخبرني أبو خليفة فيما كتب به إلي عن محمد بن سلام عن يونس وأخبرني به عمي عن الكراني عن الرياشي عن محمد بن سلام عن يونس وأخبرني علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري عن يعقوب بن السكيت قالوا جميعا سوى يعقوب .

كان عبيد أبو أبي وجزة السعدي عبدا بيع بسوق ذي المجاز في الجاهلية فابتاعه وهيب بن خالد بن عامر بن عمير بن ملان بن ناصرة بن نصر بن سعد بن بكر بن هوازن، فأقام عنده زمانا يرعى إبله، ثم إن عبيدا ضرب ضرع ناقة لمولاه فأدماه، فلطم وجهه، فخرج عبيد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مستعديا فلما قدم عليه قال: يا أمير المؤمنين، أنا رجل من بني سليم، ثم من بني ظفر أصابني سباء الجاهلية كما يصيب العرب بعضها من بعض، وأنا معروف النسب، وقد كان رجل من بني سعد ابتاعني، فأساء إلي وضرب وجهي، وقد بلغني أنه لا سباء في الإسلام، ولا رق على عربي في الإسلام. فما فرغ من كلامه حتى أتاه مولاه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه على أثره، فقال: يا أمير المؤمنين، هذا غلام ابتعته بذي المجاز، وقد كان يقوم في مالي، فأساء فضربته ضربة والله ما أعلمني ضربته غيرها قط، وإن الرجل ليضرب ابنه أشد منها فكيف بعبده، وأنا أشهدك أنه حر لوجه الله تعالى، فقال عمر لعبيد: قد امتن عليك هذا الرجل، وقطع عنك مؤنه البينة، فإن أحببت فأقم معه، فله عليك منة، وإن أحببت فالحق بقومك، فأقام مع السعدي وانتسب إلى بني سعد بن بكر بن هوازن، وتزوج زينب بنت عرفطة المزنية، فولدت له أبا وجزة وأخاه، وقال يعقوب: وأخاه عبيدا، وذكر أن أباهما كان يقال له أبو عبيد، ووافق من ذكرت روايته في سائر الخبر، فلما بلغ ابناه طالباه بأن يلحق بأصله وينتمي إلى قومه من بني سليم، فقال: لا أفعل ولا ألحق بهم فيعيروني كل يوم ويدفعوني، وأترك قوما يكرموني ويشرفوني، فوالله لئن ذهبت إلى بني ظفر لا أرعى طمة ، ولا أراد جمة، إلا قالوا لي: يا عبد بني سعد قال: وطمة: جبل لهم. فقال أبو وجزة في ذلك:

 

صفحة : 1379

 

 

أنمى فأعقل في ضبيس معقلا                      ضخما مناكبه تميم الهـادي

والعقد في ملان غير مزلـج                      بقوى متينات الحبـال شـداد كان من التابعين وروى عن جماعة من أصحاب رسول الله: وكان أبو وجزة من التابعين، وقد روى عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورأى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ولم يسند إليه حديثا، ولكنه حدث عن أبيه عنه بحديث الاستسقاء، ونقل عنه جماعة من الرواة .

أخبرني محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني إبراهيم بن حمزة قال حدثني موسى بن شيبة قال: سمعت أبا وجزة السعدي يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  ليس شعر حسان بن ثابت ولا كعب بن مالك ولا عبد الله بن رواحة شعرا، ولكنه حكمة  .

فأما خبر الاستسقاء الذي رواه عن أبيه عن عمرو فإن الحسن بن علي أخبرنا به قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني عبد الله بن عمرو عن علي بن الصباح عن هشام بن محمد عن أبيه عن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال: شهدت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقد خرج بالناس ليستسقي عام الرمادة؛ فقام وقام الناس خلفه، فجعل يستغفر الله رافعا صوته لا يزيد على ذلك؛ فقلت في نفسي: ما له لا يأخذ فيما جاء له؛ ولم أعلم أن الاستغفار هو الاستسقاء فما برحنا حتى نشأت سحابة وأظلتنا، فسقي الناس، وقلدتنا السماء قلدا، كل خمس عشرة ليلة، حتى رأيت الأرينة تأكلها صغار الإبل من وراء حقاق العرفط .

مات سنة ثلاثين ومائة: وأخبرني أبو الحسن الأسدي وهاشم بن محمد الخزاعي جميعا عن الرياشي عن الأصمعي عن عبد الله بن عمر العمري عن أبي وجزة السعدي عن أبيه، وذكر الحديث مثله. وأخبرني به إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، واللفظ متقارب وزاد الرياشي في خبره: فقلت لأبي وجزة: ما حقاق العرفط? قال: نبات سنتين وثلاث. وزاد ابن قتيبة في خبره عليهم قال: ومات أبو وجزة سنة ثلاثين ومائة .

هو أحد من شبب بعجوز حيث يقول:

يأيها الرجل الموكل بالصـبـا                      فيم ابن سبعين المعمر من دد?

حتام أنت مـوكـل بـقـديمة                      أمست تجدد كاليماني الـجـيد

زان الجلال كمالها ورسا بهـا                      عقل وفاضلة وشـيمة سـيد

ضنت بنائلها عليك وأنـتـمـا                      غران في طلب الشباب الأغيد

فالآن ترجو أن تثـيبـك نـائلا                      هيهات نائلها مكان الفـرقـد روى صورة استسقاء عمر عن أبيه: وأخبرنا الحرمي بن أبي العلاء والطوسي جميعا قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد ابن الحسن المخزومي عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه عن أبي وجزة السعدي عن أبيه قال: استسقى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فلما وقف على المنبر أخذ في الاستغفار، فقلت: ما أراه يعمل في حاجته ثم قال في آخر كلامه: اللهم إني قد عجزت وما عندك أوسع لهم. ثم أخذ بيد العباس رضي الله تعالى عنه، ثم قال: وهذا عم نبيك، ونحن نتوسل إليك به. فلما أراد عمر رضي الله تعالى عنه أن ينزل قلب رداءه، ثم نزل فتراءى الناس طرة في مغرب الشمس، فقالوا: ما هذا ما رأينا قبل قزعة سحاب أربع سنين? قال: ثم سمعنا الرعد، ثم انتشر، ثم اضطرب، فكان المطر يقلدنا قلدا في كل خمس عشرة ليلة، حتى رأيت الأرينة خارجة من حقاق العرفط تأكلها صغار الإبل .

مدح بني الزبير وأكرموه: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن جدي قال: خرج أبو وجزة السعدي وأبو زيد الأسلمي يريدان المدينة، وقد امتدح أبو وجزة آل الزبير، امتدح أبو زيد إبراهيم بن هشام المخزومي، فقال له أبو وجزة: هل لك في أن أشاركك فيما أصيب من آل الزبير، وتشاركني فيما تصيب من إبراهيم? فقال: كلا والله، لرجائي في الأمير أعظم من رجائك في آل الزبير. فقدما المدينة، فأتى أبو زيد دار إبراهيم، فدخلها وأنشد الشعر وصاح وجلب، فقال إبراهيم لبعض أصحابه: أخرج إلى هذا الأعرابي الجلف فاضربه وأخرجه، فأخرج وضرب. وأتى أبو وجيزة أصحابه فمدحهم وأنشدهم، فكتبوا له إلى مال لهم بالفرع أن يعطي منه ستين وسقا من التمر، فقال أبو وجزة يمدحهم:

راحت قلوصي رواحا وهي حامدة                      آل الزبير ولم تعدل بهـم أحـدا

 

صفحة : 1380

 

 

راحت بستين وسقا في حقيبتـهـا                      ما حملت حملها الأدنى ولا السددا

ذاك القرى لا كأقوام عهـدتـهـم                      يقرون ضيفهم الملوية الـجـددا يعني السياط .

قال أبو الفرج الأصفهاني: قول أبي وجزة:

راحت بستين وسقا في حقيبتها أنها حملت ستين وسقا ولا تحمل ناقة ذلك ولا تطيقه ولا نصفه، وإنما عنى أنه انصرف عنهم وقد كتبوا له بستين سقا فركب ناقته والكتاب معه بذلك قد حملته في حقيبتها، فكأنها حاملة بالكتاب ستين وسقا، لا أنها أطاقت حمل ذلك. وهذا ببيت معنى يسأل عنه .

وقال يعقوب بن السكيت فيما حكيناه من روايته التي ذكرها الأخفش لنا عن السكري في شعر أبي وجزة وأخباره: أحسن عمرو بن زيادة جواره فمدحه: كان أبو وجزة قد جاور مزينة، وانتجع بلادهم لصهره فيهم، فنزل على عمرو بن زياد بن سهيل بن مكدم بن عقيل بن عمرو بن مرة بن مازن بن عوف بن ثور بن هذمة بن لاطم بن عثمان، فأحسن عمرو جواره وأكرم مثواه، فقال أبو وجزة يمدحه:

لمن دمنة بالنعف عاف صعيدها                      تغير باقيها ومـح جـديدهـا

لسعدة من عام الهزيمة إذ بنـا                      تصاف وإذ لما يرعنا صدودها

وإذ هي أما نفسهـا فـأريبـه                      للهو، وأما عن صبا فتذودهـا

تصيد ألباب الرجال بـدلـهـا                      وشيمتها وحشية لا نصـيدهـا

كباسقة الوسمي ساعة أسبلـت                      تلألأ فيها البرق وابيض جيدها الباسقة: التي فضلت غيرها من الغمام وطالت عليه، قال الله تبارك وتعالى:  والنخل باسقات  .

 

كبكر تراني فـرقـدين بـقـفـرة                      من الرمل أو فيحان لم يعس عودها

لعمرو الندى عمر بـن آل مـكـدم                      كثير عليات الأمـور جـلـيدهـا

فتى بين مـسـروج وآل مـكـدم                      وعمرو فتى عثمان طرا وسيدهـا

حليم إذا ما الجهل أفرط ذا النهـي                      على أمره، حامي الحصاة شديدها

وما زال ينحو فعل من كان قبـلـه                      من آبائه يجني العـلا ويفـيدهـا

فكم من خليل قد وصلت وطـارق                      وقربت من أدماء وار قصـيدهـا

وذي كربة فرجت كـربة هـمـه                      وقد ظل مستدا علـيه وصـيدهـا تزوج زينب بنت عرفطة وقال فيها رجزا فأجابته برجز مثله ك أخبرني عمي قال حدثني العنزي قال حدثنا محمد بن معاوية عن يعقوب بن سلام بن عبد الله ابن أبي مسروج قال: تزوج أبو وجزة السعدي زينب بنت عرفطة بن سهل بن مكدم المزنية فولدت له عبيدا وكانت قد عنست ، وكان أبو وجزة يبغضها، وإنما أقام عليها لشرفها، فقال لها ذات يوم:

أعطى عبيدا وعبيد مقـنـع                      من عرمس محزمها جلنفع

ذات عساس ما تكاد تشبـع                      تجتلد الصحن وما إن تبضع

تمر في الـدار ولا تـورع                      كأنها فيهم شجـاع أقـرع فقالت زينب أم وجزة تجيبه:

أعطى عبيدا من شييخ ذي عـجـر                      لا حسن الوجه ولا سـمـح يسـر

يشرب عس المذق في اليوم الخصر                      كأنما يقذف فـي ذات الـسـعـر

تقاذف السيل من الشعب المضـر قال في ابنه عبيد رجزا فأجابه برجز أيضا: قال: وقال وجزة لابنه عبيد:

يا راكب العنس كمرداة العلم                      أصلحك الله وأدنى ورحـم

إن أنت أبلغت وأديت الكلـم                      عنى عبيد بن يزيد لو علـم

قد علم الأقوام أن سينتـقـم                      منك ومن أم تلقتـك وعـم

رب يجازي السيئات من ظلم                      أنذرتك الشدة من ليث أضم

عاد أبي شبلين فرفار لحـم                      فارجع إلى أمك تفرشك ونم

إلىعجوز رأسها مثـل الإرم                      واطعم فإن الله رزاق الطعم فقال عبيد لأبيه:

دعها أبا وجزة واقعد في الغنم                      فسوف يكفيك غلام كالزلـم

مشمر يرقل في نعـل خـذم                      وفي قفاه لقمة من اللـقـم

قد ولهت ألافها غـير لـمـم                      حتى تناهت في قفا جعد أحم هجاه أبو مزاحم وعيره بنسبه فرد عليه: قال يعقوب: وقال أبو المزاحم يهجو أبا وجزة ويعيره بنسبه:

 

صفحة : 1381

 

 

دعتك سليم عبدها فأجـبـتـهـا                      وسعد، وما ندري لآيهما العبد ? فأجابه أبو وجزة فقال :

أعيرتموني أن دعتني أخاهم                      سليم وأعطتني بأيمانها سعد

فكنت وسيطا في سليم معاقدا                      لسعد، وسعد ما يحل لها عقد مدح عبد الله بن الحسن وإخوته فأكرموه: أخبرني أبو جعفر أحمد بن محمد بن نصر الضبعي إجازة قال حدثنا محمد بن مسعود الزرقي عن مسعود بن المفضل مولى آل حسن بن حسن قال: قدم أبو وجزة السعدي على عبد الله بن الحسن وإخوته سويقة ، وقد أصابت قومه سنة مجدبة، فأنشده قوله يمدحه:

أثني علي ابني رسول الله أفضل ما                      أثني به أحد يومـا عـلـى أحـد

السيدين الكريمي كل منـصـرف                      من والدين ومن صهر ومن ولـد

ذرية بعضها من بعضها عمـرت                      في أصل مجد رفيع السمك والعمد

ماذا بنى لهم من صالـح حـسـن                      وحسن وعلي وابـتـنـوا لـغـد

فكرم الله ذاك الـبـيت تـكـرمة                      تبقى وتخـلـد فـيه آخـر الأبـد

هم السدى والندى، ما في قناتـهـم                      إذا تعوجـت الـعـيدان مـن أود

مهذبون هـجـان أمـهـاتـهـم                      إذا نسبن زلال البـارق الـبـرد

بين الفواطم مـاذا ثـم مـن كـرم                      إلى العواتك مجد غير منـتـقـد

ما ينتهي المجد إلا في بني حسـن                      وما لهم دونه من دار ملـتـحـد قال: فأمر له عبد الله بن الحسن وحسن وإبراهيم بمائة وخمسين دينارا وأوقروا له رواحله برا وتمرا، وكسوه ثوبين ثوبين .

فرض له عبد الملك بن يزيد السعدي عطاء في الجند وندبه لحرب أبي حمزة فقال في ذلك رجزا: أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شنة قال حدثني أبو غسان والمدائني جميعا: أن عبد الملك بن يزيد بن محمد بن عطية السعدي كان قد ندب لقتال أبي حمزة الأزدي الشاري لما جاء إلى المدينة فغلب عليها، قال: وبعث إليه مروان بن محمد بمال، ففرقه فيمن خف معه من قومه، فكان فيمن فرض له منهم أبو وجزة وابناه، فخرج معترضا للعسكر على فرس، وهو يرتجز ويقول:

قل لأبي جـمـزة هـيد هـيد                      جئناك بالعـادية الـصـنـديد

بالبطل الـقـرم أبـي الـولـيد                      فارس قيس نجدها المـعـدود

في خيل قيس والكماة الـصـيد                      كالسيف قد سل من الغـمـود

محض هجان ماجـد الـجـدود                      في الفرع من قيس وفي العمود

فدى لعبد المـلـك الـحـمـيد                      مالي من الطارف والـتـلـيد

يوم تنادى الخيل بـالـصـعـيد                      كأنـه فـي جـنـن الـحـديد

سيد مـدل عـز كـل سـيد قال: وسار ابن عطية في قومه، ولحقت به جيوش أهل الشام، فلقي أبا حمزة في اثني عشر ألفا، فقاتله يوما إلى الليل حتى أصاب صناديد عسكره، فنادوه. يابن عطية، إن الله جل وعز قد جعل الليل سكنا، فاسكنوا حتى نسكن، فأبى وقاتلهم حتى قتلهم جميعا .

كان منقطعا لابن عطية مداحا له: قال: وكان أبو وجزة منقطعا إلى ابن عطية، يقوم بقوت عياله وكسوته ويعطيه ويفضل عليه، وكان أبو وجزة مداحا له، وفيه يقول:

حن الفؤاد إلى سعدى ولـم تـثـب                      فيم الكثير من التحنان والـطـرب

قالت سعاد أرى من شيبه عـجـبـا                      مهلا سعاد فما في الشيب من عجب غنى في هذين البيتين إسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها من كتابه:

إما تريني كساني الدهر شيبـتـه                      فإن ما مر منه عنك لـم يغـب

سقيا لسعدى على شيب ألم بـنـا                      وقبل ذلك حين الرأس لم يشـب

كأن ريقتها بعد الكرى اغتبـقـت                      صوب الثريا بماء الكرم من حلب وهي قصيدة طويلة يقول فيها:

أهدى قلاصا عناجيجا أضـربـهـا                      نص الوجيف وتقحيم من العـقـب

يقصدن سيد قـيس وابـن سـيدهـا                      والفارس العد منها غير ذي الكذب

محمد وأبـوه وابـنـه صـنـعـوا                      له صنائع من مجد ومن حـسـب

إني مدحتهـم لـمـا رأيت لـهـم                      فضلا على غيرهم من سائر العرب

 

صفحة : 1382

 

 

إلا تثبني به لا يجزني أحـد                      ومن يثب إذا ما أنت لم تثب والأبيات التي ذكرت فيها الغناء المذكور معه أمر أبي وجزة من قصيدة له مدح بها أيضا عبد الملك بن عطية هذا. ومما يختار منها قوله:

حتى إذا هجـدوا ألـم خـيالـهـا                      سرا، ألا بلمامه كـان الـمـنـى

طرقت بريا روضة مـن عـالـج                      وسمية عذبت وبيتـهـا الـنـدى

يا أم شـيبة أي سـاعة مـطـرق                      نبهتنا، أين المـدينة مـن بـدا ?

إني متى أقض اللبـانة أجـتـهـد                      عنق العتاق الناجيات على الوجى

حتى أزورك إن تـيسـر طـائري                      وسلمت من ريب الحوادث والردى وفيها يقول:

فلأمدحن بني عطـية كـلـهـم                      مدحا يوافي في المواسم والقرى

الأكـرمـين أوائلا وأواخــرا                      والأحلمين إذا تخولجت الحـبـا

والمانعين من الهضمية جارهـم                      والجامعين الراقعين لما وهـى

والعاطفين على الضريك بفضلهم                      والسابقين إلى المكارم من سعى وهي قصيدة طويلة يمدح فيها بني عطية جميعا ويذكر وقعتهم بأبي حمزة الخارجي، ولا معنى للإطالة بذكرها .

مدح عبد الله بن الحسن فغضب ابن الزبير فصالحه بشعر مدحه فيه: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: كان أبو وجزة السعدي منقطعا إلى آل الزبير، وكان عبد الله بن عروة بن الزبير خاصة يفضل عليه ويقوم بأمره، فبلغه أن أبا وجزة أتى عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فمدحه فوصله، فاطرحه ابن عروة، وأمسك يده عنه، فسأل عن سبب غضبه فأخبره به الأصم بن أرطأة، فلم يزل أبو وجزة يمدح آل الزبير، ولا يرجع له عبد الله بن عروة إلى ما كان عليه ولا يرضى عنه حتى قال فيه:

آل الـزبـير بـنـو حــرة                      مروا بالسيوف صدورا خنافا

سل الجرد عنهـم وأيامـهـا                      إذا امتعطوا المرهفات الخفافا امتعطوا: سلوا، ومنه ذئب أمعط، منسل من شعره .

 

يموتون والقتـل داء لـهـم                      ويصلون يوم السياف السيافا

إذا فرج القتل عن عيصهـم                      أبى ذلك العيص إلا التفافا

مطاعيم تحمـد أبـياتـهـم                      إذا قنع الشاهقات الطخافـا

وأجبن من صافر كلبـهـم                      إذا قرعته حصاة أضـافـا فلما أنشد ابن عروة هذه الأبيات رضى عنه وعاد له إلى ما كان عليه .

صوت من المائة المختارة:

ألا هل أسير المالكية مطـلـق                      فقد كاد لو لم يعفه الله يغلـق

فلا هو مقتول، ففي القتل راحة                      ولا منعم يوما عليه فمعـتـق الشعر لعقيل بن علفة البيت الأول منه، والثاني لشبيب بن البرصاء، والغناء لأحمد بن المكي، خفيف ثقيل بالوسطى من كتابه، وفيه لدقاق رمل بالوسطى من كتاب عمرو بن بانة، وأوله:

سلا أم عمرو فيم أضحى أسيرها                      يفادى الأسارى حوله وهو موثق وبعده البيت الثاني وهو:

فلا هو مقتول ففي القتل راحة                      ولا منعم يوما عليه فمعـتـق والبيتان على هذه الرواية لشبيب بن البرصاء .

 

أخبار عقيل بن علفة

نسبه: عقيل بن علفة بن الحارث بن معاوية بن ضباب بن جابر يربوع بن غيظ بن مرة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر، ويكنى أبا العملس وأبا الجرباء .

وأم عقيل بن علفة العوراء، وهي عمرة بنت الحارث بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة. وأمها زينب بنت حصن بن حذيفة. هذا قول خالد بن كلثوم والمدائني. وقال ابن الأعرابي: كانت عمرة العوراء أم عقيل بن علفة والبرصاء أم شبيب ابن البرصاء أختين، وهما ابنتا الحارث بن عوف. واسم البرصاء قرصافة، أمها بنت نجبة ابن ربيعة بن رياح بن مالك بن شمخ .

كان يعتد بنسبه وكانت قريش ترغب في مصاهرته:

 

صفحة : 1383

 

وعقيل شاعر مجيد مقل، من شعراء الدولة الأموية. وكان أعرج جافيا شديد الهوج والعجرفية والبذخ بنسبه في بني مرة، لا يرى أن له كفئا. وهو في بيت شرف في قومه من كلا طرفيه. وكانت قريش ترغب في مصاهرته. تزوج إليه خلفاؤها وأشرافها، منهم يزيد ابن عبد الملك، تزوج ابنته الجرباء، وكانت قبله عند ابن عم لعقيل يقال له مطيع بن قطعة ابن الحارث بن معاوية. وولدت ليزيد بنيا درج . وتزوج بنته عمرة سلمة بن عبد الله بن المغيرة، فولدت له يعقوب بن سلمة، وكان من أشراف قريش وجودائها. وتزوج أم عمرو بنته ثلاثة نفر من بني الحكم بن أبي العاص: يحيى والحارث وخالد .

خطب إليه والي المدينة إحدى بناته فأنكر عليه فضربه فقال شعرا: أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: دخل عليه عقيل بن علفة على عثمان بن حيان وهو يومئذ على المدينة، فقال له عثمان: زوجني ابنتك، فقال: أبكرة من إبلي تعني? فقال له عثمان: ويلك أمجنون أنت قال: أي شيء قلت لي? قال: قلت لك: زوجني ابنتك، فقال: أفعل إن كنت عنيت بكرة من إبلي. فأمر به فوجئت عنقه. فخرج وهو يقول:

كنا بني غيظ الرجال فأصبحت                      بنو مالك غيظا وصرنا كمالك

لحى الله دهرا ذعذع المال كله                      وسود أشباه الإماء العـوارك خطب إليه رجل من بني سلامان فكتفه وألقاه في قرية النمل: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال: كان لعقيل ابن علفة جار من بني سلامان بن سعد، فخطب إليه ابنته، فغضب عقيل، وأخذ السلاماني فكتفه ، ودهن استه بشحم، وألقاه في قرية النمل، فأكلن خصييه حتى ورم جسده، ثم حله وقال: يخطب إلي عبد الملك فأرده، وتجترئ أنت علي .

قال: ثم أجدبت مراعي بني مرة، فانتجع عقيل أرض جذام وقربهم عذرة. قال عقيل: فجاءني هني مثل البعرة، فخطب إلي ابنتي أم جعفر. فخرجت إلى أكمة قريبة من الحي، فجعلت أنبح كما ينبح الكلب، ثم تحملت وخرجت، فاتبعني جمع من حن بطن من عذرة فقالوا: اختر، إن شئت حبسناك، وإن شئت حدرناك وبعيرة من رأس الجبل، فإن سبقتها خلينا عنك. فأرسلوا بعيرة فسبقتها، فخلوا سبيلي، فقلت لهم: ما طمعتم بهذا من أحد قالوا: أردنا أن نضع منك حيث رغبت عنا. فقلت فيهم:

لقد هزئت حن بنا وتلاعـبـت                      وما لعبت حن بذي حسب قبلي

رويدا بني حن تسيحوا وتأمنـوا                      وتنتشر الأنعام في بلد سهـل والله لأموتن قبل أن أضع كرائمي إلا في الأكفاء .

خرج إلى الشام مع أولاده ثم عادوا منها فقال شعرا أجازه ابنه وابنته فرمى ابنه بسهم فعقره: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن الضحاك عن أبيه قال: وجدت في كتاب بخط الضحاك قال: خرج عقيل بن علفة وابناه: علفة وجثامة، وابنته الجرباء حتى أتوا بنتا له ناكحا في بني مروان بالشام فآمت . ثم إنهم قفلوا بها حتى كانوا ببعض الطريق، فقال عقيل بن علفة:

قضت وطرا من دير سعد وطالما                      على عرض ناطحنه بالجماجـم

إذا هبطت أرضا يموت غرابهـا                      بها عطشا أعطينهم بالـخـزائم ثم قال: أنفذ يا علفة، فقال علفة:

فأصبحن بالموماة يحملن فتـية                      نشاوى عن الإدلاج ميل العمائم

إذا علم غـادرنـه بـتـنـوفة                      تذارعن بالأيدي لآخر طاسـم ثم قال أنفذي يا جرباء، فقالت: وأنا آمنة? قال: نعم. فقالت:

كأن الكرى سقاهم صـرخـدية                      عقارا تمشي في المطا والقوائم

 

صفحة : 1384

 

فقال عقيل: شربتها ورب الكعبة لولا الأمان لضربت بالسيف تحت قرطك، أما وجدت من الكلام غير هذا فقال جثامة: وهل أساءت إنما أجازت. وليس غيري وغيرك. فرماه عقيل بسهم فأصاب ساقه وأنفذ السهم ساقه والرحل، ثم شد على الجرباء فعقر ناقتها ثم حملها على ناقة جثامه وتركه عقيرا مع ناقة الجرباء. ثم قال: لولا أن تسبني بنو مرة ما ذقت الحياة. ثم خرج متوجها إلى أهله وقال: لئن أخبرت أهلك بشأن جثامة، أو قلت لهم إنه أصابه غير الطاعون لأقتلنك. فلما قدموا على أهل أبير وهم بنو القين ندم عقيل على فعله بجثامة، فقال لهم: هل لكم في جزور انكسرت? قالوا: نعم. قال: فالزموا أثر هذه الراحلة حتى تجدوا الجزور، فخرج القوم حتى انتهوا إلى جثامة فوجدوه قد أنزفه الدم، فاحتملوه وتقسموا الجزور، وأنزلوه عليهم، وعالجوه حتى برأ، وألحقوه بقومه.

ونسخت هذا الخبر من كتاب أبي عبد الله اليزيدي بخطه ولم أجده ذكر سماعه إياه من أحد قال: قرئ على علي بن محمد المدائني عن الطرماح بن خليل بن أبرد، فذكر مثل ما ذكره الزبير منه وزاد فيه: أن القوم احتملوا جثامة ليلحقوه بقومه؛ حتى إذا كانوا قريبا منهم تغنى جثامة:

أيعذر لاهينا ويلحين في الصبا                      وما هن والفتيان إلا شقـائق فقال له القوم: إنما أفلت من الجراحة التي جرحك أبوك آنفا، وقد عاودت ما يكرهه، فأمسك عن هذا ونحوه إذا لقيته لا يلحقك منه شر وعر . فقال: إنما هي خطرة خطرت، والراكب إذا سار تغنى .

أصابه القولنج فنعتت له الحقنة فأبى فقال ابنه شعرا في ذلك: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال: قدم عقيل بن علفة المدينة فنزل على ابن بنته يعقوب بن سلمة المخزومي، فمرض وأصابه القولنج ، فنعتت له الحقنة فأبى. وقدم ابنه عليه فبلغه ذلك، فقال:

لقد سرني واللـه وقـاك شـرهـا                      نجاؤك منها حين جـاء يقـودهـا

كفى خـزية ألا تـزال مـجـبـيا                      على شكوة توكى وفي استك عودها شد على ابنه علفة بالسيف فحاد عنه فقال في ذلك شعرا: أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا علي بن محمد عن زيد بن عياش التغلبي والربيع بن ثميل قالا: غدا عقيل بن علفة على أفراس له عند بيوته فأطلقها ثم رجع، فإذا بنوه مع بناته وأمهم مجتمعون، فشد على عملس فحاد عنه، وتغنى علفة فقال:

قفي يابنة المري أسألك مـا الـذي                      تريدين فيما كنت منيتـنـا قـبـل

نخبرك إن لم تنجزي الوعـد أنـنـا                      ذوا خلة لم يبق بينهـمـا وصـل

فإن شئت كان الصرم ما هبت الصبا                      وإن شئت لا يفنى التكارم والبـذل فقال عقيل: يابن اللخناء ، متى منتك نفسك هذا وشد عليه بالسيف وكان عملس أخاه لأمه فحال بينه وبينه، فشد على عملس بالسيف وترك علفة لا يلتفت إليه ، فرماه بسهم، فأصاب ركبته؛ فسقط عقلي وجعل يتمعك في دمه ويقول:

إن بني سربلونـي بـالـدم                      من يلق أبطال الرجال يكلم

ومـن يكـن ذا أود يقـوم                      شنشنة أعرفها من أخـزم قال المدائني: شنشنة أعرفها من أخزم، مثل ضربه. وأخزم: فحل كان لرجل من العرب، وكان منجبا، فضرب في إبل رجل آخر ولم يعلم صاحبه فرأى بعد ذلك من نسله جملا فقال: شنشنة أعرفها من أخزم .

عاتبه عمر بن عبد العزيز في شأن بناته فأجابه: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني سليمان المدائني قال حدثني مصعب بن عبد الله قال: قال عمر بن عبد العزيز لعقيل بن علفة: إنك تخرج إلى أقاصي البلاد وتدع بناتك في الصحراء لا كالئ لهن، والناس ينسبونك إلى الغيرة، وتأبى أن تزوجهن إلا الأكفاء. قال: إني أستعين عليهن بخلتين تكلآنهن، وأستغني عن سواهما. قال: وما هما? قال: العري والجوع .

رماه ابنه عملس فأصاب ركبته، فغضب وخرج إلى الشام، وقال في ذلك شعرا: نسخت من كتاب محمد بن العباس اليزيدي: قال خالد بن كلثوم: لما رمى عملس بن عقيل أباه فأصاب ركبته غضب وأقسم ألا يساكن بنيه، فاحتمل وخرج إلى الشام، فلما استوى على ناقته المسماة بأطلال بكت ابنته جرباء وحنت ناقته، فقال:

 

صفحة : 1385

 

 

ألم تريا أطلال حنـت وشـاقـهـا                      تفرقنا يوم الحبيب علـى ظـهـر

وأسبل من جـربـاء دمـع كـأنـه                      جمان أضاع السلك أجرته في سطر

لعمرك إني يوم أغذو عـمـلـسـا                      لكالمتربي حتـفـه وهـو لا يدري

وإني لأسقيه غـبـوقـي وإنـنـي                      لغرثان منهوك الذراعين والنـحـر خرج ابنه علفة إلى الشام أيضا وكتب إلى أبيه شعرا: قال: ومضى علفة أيضا، فافتؤض بالشام وكتب إلى أبيه:

ألا أبلغا عني عـقـيلا رسـالة                      فإنك من حرب عـلـي كـريم

أما تذكـر الأيام إذ أنـت واحـد                      وإذ كل ذي قربى إلـيك ذمـيم

وإذ لا يقيك الناس شيئا تخـافـه                      بأنفسـهـم إلا الـذين تـضـيم

تناول شأو الأبعـدين ولـم يقـم                      لشـأوك بـين الأقـربـين أديم

فأما إذا عضت بك الحرب عضة                      فإنك معطوف عـلـيك رحـيم

وأما إذا آنست أمـنـا ورخـوة                      فإنك للقـربـى ألـد ظـلـوم فلما سمع عقيل هذه الأبيات رضي عنه، وبعث إليه فقدم عليه .

سب عمر بن عبد العزيز ابن أخته فعاتبه في ذلك: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة قال: عاتب عمر بن عبد العزيز رجلا من قريش، أمه أخت عقيل بن علفة فقال له: قبحك الله أشبهت خالك في الجفاء. فبلغت عقيلا فجاء حتى دخل على عمر فقال له: ما وجدت لابن عمك شيئا تعيره به إلا خؤولتي فقبح الله شركما خالا. فقال له صخير بن أبي جهم العدوي وأمه قرشية: آمين يا أمير المؤمنين. فقبح الله شركما خالا وأنا معكما أيضا .

قرأ شيئا من القرآن فأخطأ فاعترض عليه عمر فأجابه: فقال له عمر: إنك لأعرابي جلف جاف، أما لو كنت تقدمت إليك لأدبتك. والله لا أراك تقرأ من كتاب الله شيئا، قال: بلى، إني لأقرأ، قال: فاقرأ. فقرأ:  إذا زلزلت الأرض زلزالها  حتى بلغ إلى آخرها فقرأ فمن يعمل مثقال ذرة شرا يره ومن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، فقال له عمر: ألم أقل لك إنك لا تحسن أن تقرأ? قال: أولم أقرأ? قال: لا، لأن الله جل وعز قدم الخير وأنك قدمت الشر. فقال عقيل:

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنه                      كلا جانبي هرشى لهن طريق فجعل القوم يضحكون من عجرفيته .

وروى هذا الخبر علي بن محمد المدائني، فذكر أنه كان بين عمر بن عبد العزيز وبين يعقوب بن سلمة وأخيه عبد الله كلام، فأغلظ يعقوب لعمر في الكلام فقال له عمر: اسكت فإنك ابن أعرابية جافية. فقال عقيل لعمر: لعن الله شر الثلاثة، مني ومنك ومنه فغضب عمر، فقال له صخير بن أبي الجهم: آمين. فهو والله أيها الأمير شر الثلاثة. فقال عمر: والله إني لأراك لو سألته عن آية من كتاب الله ما قرأها. فقال: بلى والله إني لقارئ لآية وآيات فقال، فقال: فاقرأ، فقرأ: إنا بعثنا نوحا إلى قومه، فقال له عمر: قد أعلمتك أنك لا تحسن. ليس هكذا قال الله، قال: فكيف قال? قال:  إنا أرسلنا نوحا  فقال: وما الفرق بين أرسلنا وبعثنا

خذا أنف هرشى أو قفاها فإنه                      كلا جانبي هرشى لهن طريق دخل المسجد بخفين غليظين وجعل يضرب بهما فضحك الناس منه: أخبرني عبيد الله بن أحمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثني علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن أسلم القرشي قال: قدم عقيل بن علفة المدينة، فدخل المسجد وعليه خفان غليظان، فجعل يضرب برجليه، فضحكوا منه فقال: ما يضحككم? فقال له يحيى بن الحكم وكانت ابنة عقيل تحته: يضحكون من خفيك وضربك برجليك وشدة جفائك، قال: لا، ولكن يضحكون من إمارتك؛ فإنها أعجب من خفي. فجعل يحيى يضحك .

خبره مع يحيى بن الحكم أمير المدينة وزواج ابنته: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي عن عبد الله بن مصعب قاضي المدينة قال:

 

صفحة : 1386

 

دخل عقيل بن علفة على يحيى بن الحكم، وهو يومئذ أمير المدينة. فقال له يحيى: أنكح ابن خالي يعني ابن أوفى فلانة ابنتك? فقال: إن ابن خالك ليرضى مني بدون ذلك، قال: وما هو? قال: أن أكف عنه سنن الخيل إذا غشيت سوامه . فقال يحيى لحرسيين بين يديه: أخرجاه، فأخرجاه، فلما ولى قال: أعيداه إلي، فأعاداه، فقال عقيل له: ما لك تكرني إكرار الناضح ? قال: أما والله إني لأكرك أعرج جافيا. فقال عقيل: كذلك قلت:

تعجبت إذ رأت رأسي تجلـلـه                      من الروائع شيب ليس من كبر

ومن أديم تولى بـعـد جـدتـه                      والجفن يخلق فيه الصارم الذكر فقال له يحيى: أنشدني قصيدتك هذه كلها. قال: ما انتهيت إلا إلى ما سمعت. فقال: أما والله إنك لتقول فتقصر، فقال: إنما يكفي من القلادة ما أحاط بالرقبة. فقال: فأنكحني أنا إحدى بناتك. قال: أما أنت فنعم. قال: أما والله لأملأنك مالا وشرفا. قال: أما الشرف فقد حملت ركائبي منه ما أطاقت، وكلفتها تجشم ما لم تطق، ولكن عليك بهذا المال فإن فيه صلاح الأيم ورضا الأبي. فزوجه ثم خرج فهداها إليه، فلما قدمت عليه بعث إليها يحيى مولاة له لتنظر إليها، فجاءتها فجعلت تغمز عضدها. فرفعت يدها، فدقت أنفها. فرجعت إلى يحيى وقالت: بعثتني إلى أعرابية مجنونة صنعت بي ما ترى فنهض إليها يحيى، فقال لها: ما لك? قالت: ما أردت أن بعثت إلي أمة تنظر إلي ما أردت بما فعلت إلا أن يكون نظرك إلي قبل كل ناظر، فإن رأيت حسنا كنت قد سبقت إلى بهجته، وإن رأيت قبيحا كنت أحق من ستره. فسر بقولها وحظيت عنده .

وذكر المدائني هذا الخبر مثله، إلا أنه قال فيه: فإن كان ما تراه حسنا كنت أول من رآه، وإن كان قبيحا كنت أول من واراه .

زواج يزيد بن عبد الملك من ابنته الجرباء: أخبرني ابن دريد قال حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: خطب يزيد بن عبد الملك إلى عقيل بن علفة ابنته الجرباء، فقال له عقيل: قد زوجتكها، على أن لا يزفها إليك إعلاجك ؛ أكون أنا الذي أجيء بها إليك .

قال: ذلك لك. فتزوجها، ومكثوا ما شاء الله. ثم دخل الحاجب على يزيد فقال له: بالباب أعرابي على بعير، معه امرأة في هودج قال: أراه والله عقيلا. قال: فجاء بها حتى أناخ بعيرها على بابه، ثم أخذ بيدها فأذعنت، فدخل بها على الخليفة فقال له: إن أنتما ودن بينكما، فبارك الله لكما، وإن كرهت شيئا فضع يدها في يدي كما وضعت يدها في يدك ثم برئت ذمتك. فحملت الجرباء بغلام ففرح به يزيد ونحله وأعطاه .

موت ابنته وامتناعه عن أخذ ميراثها: ثم مات الصبي، فورثت أمه منه الثلث، ثم ماتت فورثها زوجها وأبوها فكتب إليه: إن ابنك وابنتك هلكا، وقد حسبت ميراثك منهما فوجدته عشرة آلاف دينار، فهلم فاقبضه. فقال: إن مصيبتي بابني وابنتي تشغلني عن المال وطلبه، فلا حاجة لي في ميراثهما، وقد رأيت عندك فرسا سبقت عليه الناس، فأعطينه أجعله فحلا لخيلي. وأبى أن يأخذ المال، فبعث إليه يزيد بالفرس .

قال لرجل من قريش بالرفاء والبنين فأنكر عليه ذلك: أخبرنا عبيد الله بن محمد قال حدثنا الخراز عن المدائني عن إسحاق بن يحيى قال: رأيت رجلا من قريش يقول له عقيل بن علفة: بالرفاء والبنين والطائر المحمود. فقلت له: يابن علفة؛ إنه يكره أن يقال هذا. فقال: يابن أخي، ما تريد إلى ما أحدث إن هذا قول أخوالك في الجاهلية إلى اليوم لا يعرفون غيره. قال: فحدثت به الزهري فقال: إن عقيلا كان من أجهل الناس. قال: وإنما قال لإسحاق بن يحيى بن طلحة: هذا قول أخوالك، لأن أم يحيى بن طلحة مرية .

خطب إليه رجل كثير المال مغموز في نسبه فقال فيه شعرا: قال المدائني وحدثني علي بن بشر الجشمي قال قال الرميح: خطب إلى عقيل رجل من بني مرة كثير المال، يغمز في نسبه، فقال:

لعمري لئن زوجت من أجل ماله                      هجينا لقد حبت إلي الـدراهـم

أأنكح عبدا بعد يحـيى وخـالـد                      أولئك أكفاني الرجال الأكـارم

أبى لي أن أرضى الدنية أننـي                      أمد عنانا لم تخنـه الـشـكـائم خطب إليه رجل من بني مرة فطعن ناقته بالرمح فصرعته: نسخت من كتاب محمد بن العباس اليزيدي بخطه يأثره عن خالد بن كلثوم بغير إسناد متصل بينهما:

 

صفحة : 1387

 

أن رجلا من بني مرة يقال له داود أقبل على ناقة له، فخطب إلى عقيل بن علفة بعض بناته، فنظر إليه عقيل وإن السيف لا يناله فطعن ناقته بالرمح فسقطت وصرعته، وشد عليه عقيل فهرب، وثار عقيل إلى ناقته فنحرها، وأطعمها قومه وقال:

ألم تقل يا صاحب القـلـوص                      داود الساج وذا الـقـمـيص

كانت عليه الأرض حيص بيص                      حتى يلف عيصه بـعـيصـي

وكنت بالشبان ذا تقـمـيص فقال داود فيه من أبيات:

أراه فتى جعل الحـلال بـبـيتـه                      حراما ويقري الضيف عضبا مهندا فرت منه زوجته الأنمارية فردها إليه عامل فدك: وقال المدائني حدثني جوشن بن يزيد قال: لما تزوج عقيل بن علفة زوجته الأنمارية وقد كبر فرت منه، فلقيها جحاف. أحد بني قتال بن يربوع، فحملها إلى عامل فدك، وأصبح عقيل معها، فقال الأمير لعقيل: ما لهذه تستعدي عليك يا أبا الجرباء? فقال عقيل: كل ذكري، وذهب ذفري ، وتغايب نفري، فقال: خذ بيدها، فأخذها وانصرف، فولدت له بعد ذلك علفة الأصغر .

شعره يحرض بني سهم على بني جوشن: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: لما نشبت الحرب بين بني جوشن وبين بني سهم بن مرة رهط عقيل بن علفة المري، وهو من بني غيظ بن مرة بن سهم بن مرة إخوتهم فاقتتلوا في أمر يهودي خمار كان جارا لهم، فقتلته بنو جوشن من غطفان، وكانوا متقاربي المنازل وكان عقيل بن علفة بالشام غائبا عنها، فكتب إلى بني سهم يحرضهم .

 

فإما هـلـكـت ولـم آتـكـم                      فأبلغ أماثـل سـهـم رسـولا

بان التي سامـكـم قـومـكـم                      لقد جعلوها علـيكـم عـدولا

هوان الحياة وضيم المـمـات                      وكلا أراه طـعـامـا وبـيلا

فإن لم يكن غير أحـداهـمـا                      فسيروا إلى الموت سيرا جميلا

ولا تـقـعـدوا وبـكـم مـنة                      كفى بالحوادث للمـرء غـولا قال: فلما وردت الأبيات عليهم تكفل بالحرب الحصين بن الحمام المري أحد بني سهم، وقال: إلي كتب وبي نوة، خاطب أماثل سهم وأنا من أماثلهم. فأبلى في تلك الحروب بلاء شديدا. وقال الحصين بن الحمام في ذلك من قصيدة طويلة له:

يطأن من القتلى ومن قصد القنا                      خبارا فما ينهض إلا تقحـمـا

عليهن فتيان كساهم مـحـرق                      وكان إذا يكسو أجاد وأكرمـا

صفائح بصرى أخلصتها قيونها                      ومطردا من نسج داود محكما

تأخرت أستبقي الحياة فلم أجـد                      لنفسي حياة مثل أن أتقـدمـا نهب بنو جعفر إبلا لجاره فردها إليه وقال شعرا في ذلك: وقال المدائني قال جراح بن عصام بن بجير: عدت بنو جعفر بن كلاب على جار لعقيل فأطردت إبله وضربوه، فغدا عقيل على جار لهم فضربه، وأخذ إبله فأطردها، فلم يردها حتى ردوا إبل جاره وقال في ذلك:

إن يشرق الكلبي فيكـم بـريقـه                      بني جعفر يعجل لجاركم القتـل

فلا تحسبوا الإسلام غير بعـدكـم                      رماح مواليكم فذاك بكم جـهـل

بني جعفر إن ترجعوا الحرب بيننا                      ندنكم كما كنا ندينـكـم قـبـل

بدأتم بجاري فانثنيت بـجـاركـم                      وما منهما إلا له عندنـا حـبـل أسره بنو سلامان وأطلقه بنو القين: وذكر المدائني أيضا: أن عقيلا كان وحده في إبله، فمر به ناس من بني سلامان فأسروه، ومروا به في طريقه على ناس من بني القين، فانتزعوه منهم، وخلوا سبيله. فقال عقيل في ذلك:

أسعد هذيم إن سـعـدا أبـاكـم                      أبى لا يوافي غاية القين من كلب

وجاء هذيم والركـاب مـنـاخة                      فقيل تأخر يا هذيم على العجـب

فقال هذيم إن في العجب مركبي                      ومركب آبائي وفي عجبها حسبي قال: وسعد هذيم هم عذرة وسلامان والحارث وضبة .

مات ابنه علفة بالشام فرثاه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبو مسلم عن المدائني عن عبد الله الحميد بن أيوب بن محمد بن عميلة قال: مات علفة بن عقيل الأكبر بالشام، فنعاه مضرس بن سوادة لعقيل بأرض الجناب، فلم يصدقه وقال:

قبح الآله ولا أقبـح غـيره                      ثفر الحمار مضرس بن سواد

 

صفحة : 1388

 

 

تنعى امرأ لم يعل أمك مثله                      كالسيف بين خضارم أنجاد ثم تحقق الخبر بعد ذلك، فقال يرثيه:

لعمري لقد جاءت قوافل خبـرت                      بأمر من الدنيا عـلـي ثـقـيل

وقالوا ألا تبكي لمصرع فـارس                      نعته جنود الشام غـير ضـئيل

فأقسمت ألا أبكي على هلك هالك                      أصاب سبيل الله خـير سـبـيل

كأن المنايا تبتغي فـي خـيارنـا                      لها نسبا أو تـهـتـدي بـدلـيل

تحل المنايا حيث شاءت فإنـهـا                      محللة بعد الفتى ابـن عـقـيل

فتى كان مولاه يحـل بـربـوة                      محل الموالي بعده بـمـسـيل حطم رجل من بني صرمة بيوته فأقبل ابنه عملس من الشام فانتقم له: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان عقيل بن علفة قد أطرد بنيه، فتفرقوا في البلاد وبقي وحده. ثم إن رجلا من بني صرمة، يقال له بجيل وكان كثير المال والماشية حطم بيوت عقيل بماشيته، ولم يكن قبل ذلك أحد يقرب من بيوت عقيل إلا لقي شرا. فطردت صافنة أمة له الماشية، فضربها بجيل بعصا كانت معه فشجها. فخرج إليه عقيل وحده وقد هرم يومئذ وكبرت سنه فزجره فضربه بجيل بعصاه، واحتقره، فجعل عقيل يصيح: يا علفة، يا عملس، يا فلان، يا فلان، بأسماء أولاده مستغيثا بهم، وهو يحسبهم لهرمه أنهم معه. فقال له أرطأة بن سهية:

أكلت بنيك الضب حـتـى                      وجدت مرارة الكلأ الوبيل

ولو كان الألى غابوا شهودا                      منعت فناء بيتك من بجيل وبلغ خبر عقيل ابنه العملس وهو بالشام، فأقبل إلى أبيه حتى نزل إليه، ثم عمد إلى بجيل فضربه ضربا مبرحا، وعقر عدة من إبله وأوثقه بحبل، وجاء به يقوده حتى ألقاه بين يدي أبيه، ثم ركب راحلته، وعاد من وقته إلى الشام، لم يطعم لأبيه طعاما، ولم يشرب شرابا .

خبر ابنه المقشعر مع أعرابي نزل: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا ابن عائشة قال: نزل أعرابي على المقشعر بن عقيل بن علفة المري فشربا حتى سكرا وناما، فانتبه الأعرابي مروعا في الليل وهو يهذي، فقال له المقتشعر: ما لك? قال: هذا ملك الموت يقبض روحي. فوثب ابن عقيل فقال: لا والله ولا كرامة ولا نعمة عين له أيقبض روحك وأنت ضيفي وجاري فقال: بأبي أنتم وأمي طال والله ما منعتم الضيم، وتلفف ونام .

تمت أخبار عقيل ولله الحمد والمنة .

قد مضت أخبار عقيل فيما تقدم من الكتاب، ونذكرها هنا أخبار شبيب بن البرصاء ونسبه، لأن المغنين خلطوا بعض شعر ببعض شعر عقيل في الغناء الماضي ذكره، ونعيد ها هنا من الغناء ما شعره لشبيب خاصة وهو: صوت من المائة المختارة:

سلا أم عمرو فيم أضحى أسيرها                      تفادى الأسارى حوله وهو موثق

فلا هو مقتول ففي القتـل راحة                      ولا منعم يوما عليه فمطـلـق ويروي:

ولا هو ممنون عليه فمطلق الشعر لشبيب بن البرصاء، والغناء لدقاق جارية يحيى بن الربيع. رمل بالوسطى عن عمرو. وذكر حبش أن فيه رملا آخر لطويس .

 

أخبار شبيب بن البرصاء ونسبه

نسبه: هو شبيب بن يزيد بن جمرة، وقيل جبرة بن عوف بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ ابن مرة بن سعد بن ذبيان. والبرصاء أمه، واسمها قرصافة بنت الحارث بن عوف بن أبي حارثة، وهو ابن خالة عقيل بن علفة، وأم عقيل عمرة بنت حارثة بن عوف، ولقبت قرصافة البرصاء لبياضها، لا لأنها كان بها برص .

هاجى عقيل بن علفة: وشبيب شاعر فصيح إسلامي من شعراء الدولة الموية، بدوي لم يحضر إلا وافدا أو منتجعا. وكان يهاجي عقيل بن علفة ويعاديه لشراسة كانت في عقيل وشر عظيم. وكلاهما كان شريفا سيدا في قومه، في بيت شرفهم وسؤددهم. وكان شبيب أعور، أصاب عينه رجل من طيء في حرب كانت بينهم .

هاجى أرطأة بن سهية: أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال: دخل أرطأة بن سهية على عبد الملك بن مروان وكان قد هاجى شبيب بن البرصاء فأنشده قوله فيه:

أبي كان خيرا من أبيك ولم يزل                      جنيبا لآبائي وأنـت جـنـيب فقال له عبد الملك: كذبت ثم أنشده البيت الآخر فقال:

 

صفحة : 1389

 

 

وما زلت خيرا منك مذ عض كارها                      برأسك عادي الـنـجـاد ركـوب فقال له عبد الملك: صدقت. وكان أرطأة أفضل من شبيب نفسا، وكان شبيب أفضل من أرطأة بيتا .

فاخره عقيل بن علفة فقال شعرا يهجوه: أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال: فاخر عقيل بن علفة شبيب بن البرصاء فقال شبيب يهجوه، ويعير برجل من طيء كان يأتي أمه عمرة بنت الحارث يقال له حيان، ويهجو غيظ بن مرة:

ألسنا بفرع قد علمـتـم دعـامة                      ورابية تنشق عنها سـيولـهـا

وقد علمت سعد بن ذبيان أنـنـا                      رحاها الذي تأوي إليها وجولها

إذا لم نسسكم في الأمور ولم نكن                      لحرب عوان لاقح من يئولهـا

فلستم بأهدى في البلاد من التـي                      تردد حيرى حين غاب دليلـهـا

دعت جل يربوع عقيلا لحـادث                      من الأمر فاستخفى وأعيا عقيلها

فقلت له: هلا أجبت عـشـيرة                      لطارق ليل حين جاء رسولها

وكائن لنا من ربوة لا تنـالـهـا                      مراقيك أو جرثومة لا تطولهـا

فخرت بأيام لغيرك فـخـرهـا                      وغرتها معروفة وحجـولـهـا

إذا الناس هابوا سوءة عمدت لها                      بنو جابر شبانها وكـهـولـهـا

فهلا بني سعد صبحت بـغـارة                      مسومة قد طار عنها نسيلهـا

فتدرك وترا عـنـد الأم واتـر                      وتدرك قتلى لم تتمم عقولـهـا افتخر عليه عقيل بمصاهرته للملوك فهجاه: وقال أبو عمرو: اجتمع عقيل بن علفة وشبيب بن البرصاء عند يحيى بن الحكم فتكلما في بعض الأمر، فاستطال عقيل على شبيب بالصهر الذي بينه وبين بني مروان وكان زوج ثلاثا من بناته فيهم، فقال شبيب يهجوه:

ألا أبلغ أبا الجربـاء عـنـي                      بآيات التباغض والتـقـالـي

فلا تذكر أباك العبد وافـخـر                      بأم لست مكرمـهـا وخـال

وهبها مهرة لقحت بـبـغـل                      فكان جنينها شر الـبـغـال

إذا طارت نفوسهم شعـاعـا                      حمين المحصنات لدى الحجال

بطعن تعثر الأبطـال مـنـه                      وصرب حيث تقتنص العوالي

أبـى لـي أن آبـائي كـرام                      بنوا لي فوق أشراف طـوال

بيوت المجد ثم نموت منـهـا                      إلى علياء مشرقة الـقـذال

تزل حجارة الرامين عنـهـا                      وتقصر دونها نبل النـضـال

أبالحفاث شر الـنـاس حـيا                      وأعناق الأيور بنـي قـتـال

رفعت مساميا لتنـال مـجـدا                      فقد أصبحت منهم في سفـال قال أبو عمرو: بنو قتال إخوة بني يربوع رهط عقيل بن علفة وهم قوم فيهم جفاء، قال أبو عمرو: مات رجل منهم فلفه أخوه في عباءة له، وقال أحدهما للآخر: كيف تحمله? قال: كما تحمل القربة. فعمد إلى حبل فشد طرفه في عنقه وطرفه في ركبتيه وحمله على ظهره كما تحمل القربة، فلما صار به إلى الموضع الذي يريد دفنه فيه حفر له حفيرة، وألقاه فيها، وهال عليه التراب حتى واراه. فلما انصرفا قال له: يا هناه ، أنسيت الحبل في عنق أخي ورجليه، وسيبقى مكتوفا إلى يوم القيامة. قال: دعه يا هناه، فإن يرد الله به خيره يحلله .

خطب بنت يزيد بن هاشم فرده ثم قبله فأبى: وقال أبو عمرو: خطب شبيب بن البرصاء إلى يزيد بن هاشم بن حرملة المري ثم الصرمي ابنته، فقال: هي صغيرة، فقال شبيب: لا؛ ولكنك تبغي أن تردني، فقال له يزيد: ما أردت ذاك، ولكن أنظرني هذا العام، فإذا انصرم فعلي أن أزوجك. فرحل شبيب من عنده مغضبا، فلما مضى قال ليزيد بعض أهله: والله ما أفلحت خطب إليك شبيب سيد قومك فرددته قال: هي صغيرة، قال: إن كانت صغيرة فستكبر عنده. فبعث إليه يزيد: ارجع فقد زوجتك، فإني أكره أن ترجع إلى أهلك وقد رددتك، فأبى شبيب أن يرجع وقال:

لعمري لقد أشرفت يوم عنـيزة                      على رغبة لو شد نفسي مريرها

ولكن ضعف الأمر ألا تـمـره                      ولا خير في ذي مرة لا يغيرها

تبين أدبار الأمور إذا مـضـت                      وتقبل أشباها عليك صـدورهـا

 

صفحة : 1390

 

 

ترجي النفوس الشيء لا تستطيعه                      وتخشى من الأشياء ما لا يضيرها

ألا إنما يكفي النفوس إذا اتـقـت                      تقى الله ما حاذرت فـيجـيرهـا

ولا خير في العيدان إلا صلابهـا                      ولا ناهضات الطير إلا صقورها

ومستنبح يدعو وقـد حـال دونـه                      من الليل سجفا ظلمة وستورهـا

رفعت له ناري فلما اهتدى لـهـا                      زجرت كلابي أن يهر عقورهـا

فبات وقد أسرى من الليل عقـبة                      بليلة صدق غاب عنها شرورهـا

وقد علم الأضـياف أن قـراهـم                      شواء المتالي عندنـا وقـديرهـا

إذا افتخرت سعد بن ذبيان لم يجـد                      سوى ما بيننا ما يعد فخـورهـا

وإني لتراك الضـغـينة قـد بـدا                      ثراها من المولى فلا أستثيرهـا

مخافة أن تجنى عـلـي وإنـمـا                      يهيج كبيرات الأمور صغيرهـا

إذا قيلت العوراء وليت سمعـهـا                      سواي ولم أسمع بها ما دبيرهـا

وحاجة نفس قد بلـغـت وحـاجة                      تركت إذا ما النفس شح ضميرها

حياء وصبرا في المواطن إنـنـي                      حي لدى أمثال تلك سـتـيرهـا

وأحبس في الحق الكريمة إنـمـا                      يقوم بحق النائبات صـبـورهـا

أحابي بها الحي الذي لا تهـمـه                      وأحساب أموات تعد قـبـورهـا

ألم تر أنـا نـور قـوم وإنـمـا                      يبين في الظلماء للناس نـورهـا تمثل محمد بن مروان بشعره: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم العبدي قال: كانت بين بني كلب وقوم من قيس ديات، فمشى القوم إلى أبناء أخواتهم من بني أمية يستعينون بهم في الحمالة ، فحملها محمد بن مروان كلها عن الفريقين، ثم تمثل بقول شبيب ابن البرصاء:

ولقد وقفت النفس عن حاجاتـهـا                      والنفس حاضرة الشعاع تطـلـع

وغرمت في الحسب الرفيع غرامة                      يعيا بها الحصر الشحيح ويظلـع

إني فتى حـر لـقـدري عـارف                      أعطي به وعليه مـمـا أمـنـع نزل هو وأرطأة بن زفر وعويف القوافي على رجل من أشجع فلم يكرم ضيافتهم فهجوه: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال. حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال. حدثني الحرمازي قال: نزل شبيب بن البرصاء وأرطأة بن زفر وعويف القوافي برجل من أشجع كثير المال يسمى علقمة، فأتاهم بشربة لبن ممذوقة ولم يذبح لهم، فلما رأوا ذلك منه قاموا إلى رواحلهم فركبوها ثم قالوا: تعالوا حتى نهجو هذا الكلب. فقال شبيب:

أفي حدثان الدهر أم في قـديمـه                      تعلمت ألا تقري الضيف علقما ? وقال أرطأة:

لبثنا طـويلا ثـم جـاء بـمـذقة                      كماء السلا في جانب القعب أثلما وقال عويف:

فلما رأينا أنه شر مـنـزل                      رمينا بهن الليل حتى تخرما عاد من سفر فعلم بموت جماعة من بني عمه فرثاهم: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القذاحمي قال: غاب شبيب بن البرصاء عن أهله غيبة، ثم عاد بعد مدة، وقد مات جماعة من بني عمه، فقال شبيب يرثيهم:

تخرم الدهر إخواني وغادرني                      كما يغادر ثور الطارد الفـئد

إني لباق قليلا ثم تـابـعـهـم                      ووارد منهل القوم الذي وردوا هاجى رجلا من غني فأعانه أرطأة بن سهية عليه: قال أبو عمرو: هاجى شبيب بن البرصاء رجلا من غني، أو قال من باهلة، فأعانه أرطأة ابن سهية على شبيب، فقال شبيب:

لعمري لئن كانت سهية أوضعت                      بأرطأة في ركب الخيانة والغدر

فما كان بالطرف العتيق فيشترى                      لفحلته، ولا الجـواد إذا يجـري

أتنصر مني معشرا لست منـهـم                      وغيرك أولى بالحياطة والنصر  ويروي: وقد كنت أولى بالحياطة، وهو أجود .

استعدى عليه رهط أرطاة عثمان بن حيان لهجائه إياهم فهدده ابن حيان بقطع لسانه:

 

صفحة : 1391

 

وقال ابن عمرو: استعدى رهط أرطاة بن سهية على شبيب بن البرصاء إلى عثمان بن حيان المري وقالوا له: يعمنا بالهجاء ويشتم أعراضنا، فأمر بإشخاصه إليه فأشخص، ودخل إلى عثمان وقد أتى بثلاثة نفر لصوص قد أفسدوا في الأرض يقال لهم بهدل ومثغور وهيصم، فقتل بهدلا وصلبه، وقطع مثغورا والهيصم، ثم أقبل على شبيب فقال: كم تسب أعراض قومك وتستطيل عليهم اقسم قسما حقا لئن عاودت هجاءهم لأقطعن لسانك، فقال شبيب:

سجنت لساني يابن حيان بعدمـا                      تولى شبابي، إن عقدك محكم

وعيدك أبقى من لساني قـذاذة                      هيوبا، وصمتا بعد لا يتكـلـم

رأيتك تحلو لي إذا شئت لامرئ                      ومرا مرارا فيه صاب وعلقم

وكل طريد هالك مـتـحـير                      كما هلك الحيران والليل مظلم

أصبت رجالا بالذنوب فأصبحوا                      كما كان مثغور عليك وهيصم

خطاطيفك اللاتي تخطفن بهدلا                      فأوفى به الأشراف جذع مقوم

يداك يدا خير وشر فمنهـمـا                      تضر وللأخرى نوال وأنعـم ذهب دعيج بن سيف بإبله فخرج في طلبها فرماه دعج فأصاب عينه: وقال أبو عمرو: استاق دعيج بن سيف بن جذيمة بن وهب الطائي ثم الجرمي إبل شبيب بن البرصاء فذهب بها، وخرج بنو البرصاء في الطلب، فلما واجهوا بني جرم قال شبيب: اغتنموا بني جرم، فقال أصحابه: لسنا طالبين إلا أهل القرحة ، فمضوا حتى أتوا دعيجا وهو برأس الجبل، فناداه شبيب: يا دعيج، إن كانت الطراف حية فلك سائر الإبل، فقال: يا شبيب تبصر رأسها بين سائر الإبل، فنظر فأبصرها، فقال شبيب: شدوا عليه واصعدوا وراءه، فأبوا عليه، فحمل شبيب وحده، ورماه دعيج فأصاب عينه، فذهب بها وكان شبيب أعور ثم عمي بعد ما أسن، فانصرف وانصرف معه بنو عمه، وفاز دعيج بالأبل، فقال شبيب:

أمرت بني الرصـاء يوم حـزابة                      بأمر جميع لم تشتت مـصـادره

بشول ابن معروف وحسان بعدمـا                      جرى لي يمن قد بدا لي طـائره

أيرجع حر دون جرم ولـم يكـن                      طعان ولا ضرب يذعذع عاسره?

فأذهب عيني يوم سفح سـفـيرة                      دعيج بن سيف، أعوزته معـاذره

ولما رأيت الشول قد حال دونهـا                      من الهضب مغبر عنيف عمائره

وأعرض ركن من سفيرة يتقـى                      بشم الذرا لا يعبد اللـه عـامـره

أخذت بني سيف ومالك مـوقـع                      بما جرى مولاهم وجرت جرائره

ولو أن رجلي يوم فر ابن جوشـن                      علقن ابن ظبي أعوزته مغـاوره هجاه أرطاة بن سهية ونفاه عن بني عوف: أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن عاصم بن الحدثان قال: هجا أرطاة بن سهية بن البرصاء ونفاه عن بني عوف فقال:

فلو كنت عوفيا عميت وأسهلت                      كداك ولكن المريب مـريب قال: فعمي شبيب بن البرصاء بعد موت أرطاة بن سهية، فكان يقول: ليت ابن سهية حيا حتى يعلم أني عوفي، قال: والعمى شائع في بني عوف، إذا أسن الرجل منهم عمي، وقل من يفلت من ذلك منهم .

امتدح شعره عبد الملك بن مروان وفضله على الأخطل: وحدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال: أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان قوله:

بكر العواذل أذا يبتدرن ملامتي                      والعاذلون فكلهم يلـحـانـي

في أن سبقت بشربة مـقـدية                      صرف مشعشعة بماء شنـان فقال له عبد الملك: شبيب بن البرصاء أكرم منك وصفا لنفسه حيث يقول:

وإني لسهل الوجه مـجـلـسـي                      إذا أحزن القاذورة المتـعـبـس

يضيء سنا جودي لمن يبتغي القرى                      وليل بخيل القوم ظلماء حـنـدس

ألين لذي القربى مرارا وتلـتـوي                      بأعناقي أعدائي حبـال تـمـرس كان عبد الملك يتمثل بشعره في بذل النفس عند اللقاء ويعجب به: قال: وكان عبد الملك يتمثل بقول شبيب في بذل النفس عند اللقاء ويعجب به:

دعاني حصن للفرار فسـاءنـي                      مواطن أن يثنى علي فأشتـمـا

فقلت لحصن نح نفسـك إنـمـا                      يذود الفتى عن حوضه أن يهدما

 

صفحة : 1392

 

 

تأخرت أستبقي الحياة فلـم أجـد                      لنفسي حياة مثل أن أتـقـدمـا

سيكفيك أطراف الآسـنة فـارس                      إذا ريع نادى بالجواد وبالحمـى

إذا المرء لم يغش المكاره أوشكت                      حبال الهوينى بالفتى أن تجذمـا سبب مهاجاته عقيل بن علفة: نسخت من كتاب أبي عبد الله اليزيدي ولم أقرأه عليه، قال خالد بن كلثوم: كان الذي هاج الهجاء بين شبيب بن البرصاء وعقيل بن علفة أنه كان لبني تشبة جار من بني سلامان بن سعد، فبلغ عقيلا عنه أنه يطوف في بني مرة يتحدث إلى النساء فامتلأ عليه غيظا، فبينا هو يوما جالس وعنده غلمان له وهو يجز إبلا له على الماء ويسمها إذ طلع عليه السلاماني على راحلته، فوثب عليه وهو وغلمانه فضربوه ضربا مبرحا، وعقر راحلته، وانصرف من عنده بشر، فلم يعد إلى ذلك الموضع، ولج الهجاء بينهما. وكان عقيل شرسا سيء الخلق غيورا .

 

أخبار دقاق

تزوجت يحيى بن الربيع ثم بعده من القواد والكتاب فماتوا وورثتهم: كانت دقاق مغنية محسنة جميلة الوجه قد أخذت عن أكابر مغني الدولة العباسية، وكانت ليحيى بن الربيع، فولدت له أحمد ابنه، وعمر عمرا طويلا وحدثنا عنه جحظة ونظراؤه من أصحابنا، وكان عالما بأمر الغناء والمغنين، وكان يغني غناء ليس بمستطاب ولكنه صحيح. ومات يحيى بن الربيع فتزوجت بعده من القواد والكتاب بعدة، فماتوا وورثتهم .

هجاها عيسى بن زينب: فحدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال: كانت دقاق أم ولد يحيى بن الربيع أحمد المعروف بابن دقاق مغنية محسنة متقنة الأداء والصنعة، وكانت قد انقطعت إلى حمدونة بنت الرشيد ثم إلى غضيض، وكانت مشهورة بالظرف والمجون والفتوة. قال أحمد بن الطيب: وعتقت دقاق فتزوجها بعد مولاها ثلاثة من القواد من وجوههم، فماتوا جميعا، فقال عيسى بن زينب يهجوها:

قلت لـمـا رأيت دار دقـاق                      حسنها قد أضر بالـعـشـاق

حذروا الرابع الشقي دقـاقـا                      لا يكونن نجمه في مـحـاق

أله عن بضعها فـإن دقـاقـا                      شؤم حرها قد سار في الآفاق

لم تضاجع بعلا فهب سلـيمـا                      بل جريحا وجرحه غير راقي كتبت إلى حمدون تصف هنها فرد عليها: أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني الهدادي الشاعر قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون وأخبرني جحظة عن ابن حمدون ورواية الكوكبي أتم قال: كتبت دقاق إلى أبي تصف هنها صفة أعجزه الجواب عنها، فقال له صديق له: ابعث إلى بعض المخنثين حتى يصف متاعك، فيكون جوابها، فأحضر بعضهم وأخبره الخبر، فقال: اكتب إليها: عندي القوق بوق ، الأصلع المزبوق ، الأقرع المفروق، المنتفخ العروق، يسد البثوق ، ويفتق الفتوق، ويرم الخروق، ويقضي الحقوق، أسد بين جملين، بغل بين حملين، منارة بين صخرتين، رأسه رأس كلب، وأصله مترس درب، إذا دخل حفر، وإذا خرج قشر، لو نطح الفيل كوره، ولو دخل البحر كدره، إذا رق الكلام، وتقاربت الأجسام، والتفت الساق بالساق، ولطخ باطنها بالبصاق، وقرع البيض بالذكور ، وجعلت الرماح تمور، بطعن الفقاح ، وشق الأحراح ، صبرنا فلم نجزع، وسلمنا طائعين فلم نخدع. قال: فقطعها .

مجلس بين ابنها وبين أبي الجاموس اليعقوبي: حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب قال حدثني أحمد بن علي بن جعفر قال: حضرت مرة مجلسا وفيه ابن دقاق وفيه النصراني المعروف بأبي الجاموس اليعقوبي البزاز قرابة بلال قال: فعبث ابن دقاق بأبي الجاموس، فلما أكثر عليه قال: اسمعوا مني. ثم حلف بالحنيفية أنه لايكذب، وحدثنا قال: مضيت وأنا غلام مع أستاذي إلى باب حمدونة بنت الرشيد، ومعنا بز نعرضه للبيع، فخرجت إلينا دقاق أم هذا تقاولنا في ثمن المتاع، وفي يدها مروحة على أحد وجهيها منقوش: الحر إلى أيرين أحوج من الأير إلى حرين، وعلى الوجه الآخر: كما أن الرحا إلى بغلين أحوج من البغل إلى رحوين، قال: فأسكته والله سكوتا علمنا معه أنه لو خرس لكان الخرس أصون لعرضه مما جرى .

كان لها غلامان خلاسيان فرماها الناس بهما:

 

صفحة : 1393

 

قال أحمد: وفي دقاق يقول عيسى بن زينب وكان لها غلامان خلاسيان يروحانها في الخيش، فتحدث الناس أنها قالت لواحد منهما أن ينيكها، فعجز فقالت له: نكني وأنت حر، فقال لها نيكيني أنت وبيعيني في الأعراب، فقال فيها عيسى بن زينب:

أحسن من غنى لنا أو شـدا                      دقاق في خفض من العيش

لها غلامان ينـيكـانـهـا                      بعلة الترويح في الخـيش قال فيها إبراهيم بن المهدي شعرا: حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال: كانت دقاق جارية يحيى بن الربيع تواصل جمعة كانوا يميلون إليها وتري كل واحد منهم أنها تهواه، وكانت أحسن أهل عصرها وجها، وأشأمهم على من رابطها وتزوجها، فقال فيها أبو إسحاق يعني أباه: صوت:

عدمتك يا صديقة كل خلـق                      أكل الناس ويحك تعشقينا ?

فكيف إذا خالطت الغث منهم                      بلحم سمينهم لا تبشـمـينـا فيه خفيف رمل ينسب إلى إبراهيم بن المهدي وإلى ريق وإلى شارية .

قال فيها أبو موسى الأعمى شعرا: أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو هفان قال: خرج يحيى بن الربيع مولى دقاق وكانت قد ولدت منه ابنه أحمد بن يحيى إلى بعض النواحي، وترك جاريته دقاق في داره فعملت بعده الأوابد ، وكانت من أحسن الناس وجها وغناء، وأشأمه على أزواجها ومواليها وربطائها، فقال أبو موسى الأعمى فيه:

قل ليحيى نعم صبرت علـى الـمـو                      ت ولم تخش سهم ريب الـمـنـون

كيف قل لي أطلـقـت ويحـك يا يح                      يى على الضعف منك حمل القرون

ويح يحيى مـا مـر بـاسـت دقـاق                      بعد ما غاب من سـياط الـبـطـون صوت من المائة المختارة:

تكاشرني كرها كأنـك نـاصـح                      وعينك تبدي أن صدرك لي دوي

لسانك لي حلو وعينك عـلـقـم                      وشرك مبسوط وخيرك ملتـوي الشعر ليزيد بن الحكم الثقفي والغناء لإبراهيم ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيه لجهم العطار خفيف ثقيل عن الهاشمي .

 

نسب يزيد بن الحكم وأخباره

نسبه وبعض أخبار آبائه: هو يزيد بن الحكم بن عثمان بن أبي العاص صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كذلك وجدت نسبه في نسخة ابن الأعرابي وذكره غيره أنه يزيد بن الحكم بن أبي العاص، وأن عثمان عمه، وهذا هو القول الصحيح. وأبو العاص بن بشر بن عبد دهمان بن عبد الله بن همام بن أبان بن يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي وهو ثقيف .

روى جده عثمان الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وعثمان جده أو عم أبيه أحد من أسلم من ثقيف يوم فتح الطائف هو وأبو بكرة، وشط عثمان بالبصرة منسوب إليه؛ كانت هناك أرض أقطعها وابتاعها وقد روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث، وروى عنه الحسن بن أبي الحسن ومطرف بن عبد الله بن الشخير وغيرهما من التابعين .

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا بشر بن موسى قال حدثنا الحميدي قال حدثنا سفيان، سمعه من محمد بن إسحاق، وسمعه محمد من سعيد بن أبي هند من مطرف بن عبد الله بن الشخير قال: سمعت عثمان بن أبي العاص الثقفي يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم:  أم قومك واقدرهم بأضعفهم فإن منهم الضعيف والكبير وذا الحاجة  . قال الحميدي وحدثنا الفضيل بن عياض عن أشعب عن الحسن عن عثمان بن أبي العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  اتخذوا مؤذنا ولا يأخذ على أذانه أجرا  .

مر به الفرزدق وهو ينشد شعرا فامتدحه: أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا العلاء بن الفضل قال حدثني أبي قال: مر الفرزدق بيزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي وهو ينشد في المجلس شعرا فقال: من هذا الذي ينشد شعرا كأنه من أشعارنا? فقالوا: يزيد بن الحكم، فقال: نعم؛ أشهد بالله أن عمتي ولدته. وأم يزيد بكرة بنت الزبرقان بن بدر، وأمها هنيدة بنت صعصعة بن ناجية. وكانت بكرة أول عربية ركبت البحر فأخرج بها إلى الحكم وهو بتوج ، وكان الزبرقان يكنى أبا العباس، وكان له بنون العباس وعياش .

خبره مع الحجاج وقد ولاه كورة فارس: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا الحزامي قال:

 

صفحة : 1394

 

دعا الحجاج بن يوسف بيزيد بن الحكم الثقفي، فولاه كورة فارس، ودفع إليه عهده بها، فلما دخل عليه ليودعه قال له الحجاج: أنشدني بعض شعرك، وإنما أراد أن ينشده مديحا له؛ فأنشده قصيدة يفخر فيها ويقول:

وأبي الذي سلب ابن كسرى راية                      بيضاء تخفق كالعقاب الطـائر فلما سمع الحجاج فخره نهض مغضبا، فخرج يزيد من غير أن يودعه، فقال الحجاج لحاجبه: ارتجع منه العهد، فإذا رده فقل له: أيهما خير لك: ما ورثك أبوك أم هذا? فرد على الحاجب العهد وقال: قل له:

ورثت جدي مجده وفعـالـه                      وورثت جدك أعنزا بالطائف خرج عن الحجاج مغضبا ولحق بسليمان بن عبد الملك ومدحه: وخرج عنه مغضبا، فلحق بسليمان بن عبد الملك ومدحه بقصيدته التي أولها:

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا                      إذا أقول صحا يعتـاده عـيدا يقول فيها:

سميت باسم امرئ أشبهت شيمـتـه                      عدلا وفضلا سلـيمـان بـن داودا

أحمد به في الورى الماضين من ملك                      وأنت أصبحت في الباقين محمـودا

لا يبرأ الناس من أن يحمدوا ملـكـا                      أولاهم في الأمور الحلم والـجـودا فقال له سليمان: وكم كان أجرى لك لعمالة فارس? قال: عشرين ألفا. قال: فهي لك علي ما دمت حيا. وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته: صوت:

أمسى بأسماء هذا القلب معمودا                      إذا أقول صحا يعتـاده عـيدا

كأن أحور من غزلان ذي بقر                      أهدى لها شبه العينين والجـيدا

أجري على موعد منها فتخلفني                      فلا أمل ولا نومني المواعـيدا

كأنني يوم أمسي لا تكلمـنـي                      ذو بغية يبتغي ما ليس موجودا ومن الناس من ينسب هذه الأبيات إلى عمر بن أبي ربيعة وذلك خطأ .

عروضه من البسيط، والغناء للغريض، ثقيل أول بالبنصر في مجراها عن إسحاق. وذكر عمر بن بانة أنه لمعبد ثقيل أول بالوسطى .

حديثه مع الحجاج وقد سمع شعره في رثاء ابنه عنبس: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال أخبرنا ابن عياش عن أبيه قال: سمعت الحجاج واستوى جالسا ثم قال: صدق والله زهير بن أبي سلمى حيث يقول:

وما العفو إلا لامـرئ ذي حـفـيظة                      متى يعف عن ذنب امرئ السوء يلجج فقال له يزيد بن الحكم: أصلح الله الأمير، إني قد رثيت ابني عنبسا ببيت، إنه لشبيه بهذا. قال: وما هو? قال: قلت:

ويأمن ذو حلم العشيرة جهله                      عليه ويخشى جهله جهلاؤها قال: فما منعك أن تقول مثل هذا لمحمد ابني ترثيه به? فقال: إن ابني والله كان أحب إلي من ابنك .

وهذه الأبيات من قصيدة أخبرني بها عمي عن الكراني عن الهيثم بن عدي. قال: كان ليزيد ابن الحكم ابن يقال له عنبس، فمات عليه جزعا شديدا وقال يرثيه:

جزى الله عني عنبسا كل صالـح                      إذا كانت الأولاد سيئا جـزاؤهـا

هو ابني وأمسى أجره لي وعزني                      على نفسـه رب إلـيه ولاؤهـا

جهول إذا جهل العشيرة يبتـغـى                      حليم ويرضى حلمه حلمـاؤهـا وبعد هذا البيت المذكور في الخبر الأول .

فضله عبد الملك بن مروان على شاعر ثقيف في الجاهلية: أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال قال عبد الملك بن مروان: كان شاعرا ثقيف في الجاهلية خيرا من شاعرهم في الإسلام فقيل له: من يعني أمير المؤمنين? فقال لهم: أما شاعرهم في الإسلام فيزيد بن الحكم حيث يقول:

فما منك الشباب ولست منه                      إذا سألتك لحيتك الخضابا

عقائل من عقائل أهل نجد                      ومكة لم يعقلن الركـابـا

ولم يطردن أبقع يوم ظعن                      ولا كلبا طردن ولا غرابا وقال شاعرهم في الجاهلية:

والشيب إن يظهر فإن وراءه                      عمرا يكون خلاله متنفـس

لم ينتقص مني المشيب قلامة                      ولما بقي مني ألب وأكـيس شعره ليزيد بن المهلب حين خلع يزيد بن عبد الملك: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال قال يزيد بن الحكم الثقفي ليزيد بن المهلب حين خلع يزيد بن عبد الملك:

 

صفحة : 1395

 

 

أبا خالد قد هجت حربا مـريرة                      وقد شمرت حرب عوان فشمر فقال يزيد بن المهلب: بالله أستعين، ثم أنشده، فلما بلغ قوله:

فإن بني مروان قد زال ملكهم                      فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر فقال يزيد بن المهلب: ما شعرت بذلك، ثم أنشده فلما بلغ قوله:

فمت ماجدا أو عش كريما فإن تمت                      وسيفك مشهور بكـفـك تـعـذر فقال: هذا لا بد منه .

قال العمري: وحدثني الهيثم بن عدي عن ابن عياش أن يزيد بن المهلب إنما كتب إليه يزيد ابن الحكم بهذه الأبيات، فوقع إليه تحت البيت الأول: أستعين بالله. وتحت البيت الثاني: ما شعرت. وتحت البيت الثالث: أما هذه فنعم .

مدح يزيد بن المهلب وهو في سجن الحجاج فأعطاه نجما حل عليه: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني الغلابي قال حدثني ابن عائشة قال: دخل يزيد بن الحكم على يزيد بن المهلب في سجن الحجاج وهو يعذب، وقد حل عليه نجم كان قد نجم عليه، وكانت نجومه في كل أسبوع ستة عشر ألف درهم فقال له:

أصبح في قيدك السماحة والجو                      د وفضل الصلاح والحسـب

لا بطر إن تتابـعـت نـعـم                      وصابر في البلاء محتـسـب

بززت سبق الجياد في مهـل                      وقصرت دون سعيك العرب قال: فالتفت يزيد بن المهلب إلى مولى له، وقال له: أعطه نجم هذا الأسبوع، ونصبر على العذاب إلى السبت الآخر.

وقد رويت هذه الأبيات والقصة لحمزة بن بيض مع يزيد .

روى ابنه العباس بعض شعره لجرير فأكرمه: أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني هارون بن مسلم قال حدثني عثمان ابن حفص قال حدثني عبد الواحد عريف ثقيف بالبصرة: أن العباس بن يزيد بن الحكم الثقفي هرب من يوسف بن عمر إلى اليمامة، قال: فجلست في مسجدها وغشيني قوم من أهلها، قال: فوالله إني لكذلك إذا إنا بشيخ قد دخل يترجح في مشيته، فلما رآني أقبل إلي، فقال القوم: هذا جرير، فأتاني حتى جلس إلى جنبي، ثم قال لي: السلام عليك، ممن أنت? قلت: رجل من ثقيف، قال: أعرضت الأديم، ثم ممن? قلت : رجل من بني مالك، فقال: لا إله إلا الله أمثلك يعرف بأهل بيته فقلت: أنا رجل من ولد أبي العاصي، قال: ابن بشر? قلت: نعم. قال: أيهم أبوك? قلت: يزيد بن الحكم. قال: فمن الذي يقول:

فني الشباب وكل شيء فان                      وعلا لداتي شيبهم وعلاني قلت: أبي، قال: فمن الذي يقول:

ألا لا مرحبا بفراق ليلـى                      ولا بالشيب إذ طرد الشبابا

شباب بان محمودا وشـيب                      ذميم لم نجد لهما اصطحابا

فما منك الشباب ولست منه                      إذا سألتك لحيتك الخضابا قلت: أبي، قال: فمن الذي يقول:

تعالوا فعدوا يعلـم الـنـاس أينـا                      لصاحبه في أول الدهر تـابـع

تزيد يربوع بكم فـي عـدادهـا                      كما زيد في عرض الأديم الكارع قال: قلت: غفر الله لك، كان أبي أصون لنفسه وعرضه من أن يدخل بينك وبيني ابن عمك، فقال: رحم الله أباك، فقد مضى لسبيله، ثم انصرف، فنزلني بكبشين، فقال لي أهل اليمامة: ما نزل أحدا قبلك قط .

شعره في جارية مغنية كان يهواها وقد ارتحلت عنه: أخبرني محمد بن يزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن إبراهيم الموصلي عن يزيد حوراء المغني قال: كان يزيد بن الحكم الثقفي يهوى جارية مغنية، وكانت غير مطاوعة له، فكان يهيم بها، ثم قدم رجل من أهل الكوفة فاشتراها، فمرت بيزيد بن الحكم مع غلمة لمولاها وهي راحلة، فلما علم بذلك رفع صوته فقال:

يأيها النازح الشـسـوع                      ودائع القلب لا تضـيع

أستودع الله مـن إلـيه                      قلبي على نأيه نـزوع

إذا تذكرته استـهـلـت                      شوقا إلى وجهه الدموع كتاب الجارية إليه: ومضت الجارية وغاب عنه خبرها مدة، فبينا هو جالس ذات يوم إذ وقف عليه كهل فقال له: أأنت يزيد بن الحكم? قال: نعم، فدفع إليه كتابا مختوما، ففضه فإذا كتابها إليه وفيه:

لئن كوى قلبك الشسوع                      فالقلب مني به صدوع

وبي ورب السماء فاعلم                      إليك يا سيدي نـزوع

أعزز علينا بما تلاقـي                      فينا وإن شفنا الولـوع

 

صفحة : 1396

 

 

فالنفس حرى عليك ولهى                      والعين عبرى لها دموع

فموتنا في يد الـتـنـائي                      وعيشنا القرب والرجوع

وحيثما كنـت يا مـنـايا                      فالقلب مني به خشـوع

ثم عليك السـلام مـنـي                      ما كان من شمسها طلوع قال: فبكى والله حتى رحمه من حضر، وقال لنا الكهل: ما قصته? فأخبرناه بما بينهما، فجعل يستغفر الله من حمله الكتاب إليه، وأحسب أن هذا الخبر مصنوع، ولكن هكذا أخبرنا به ابن أبي الأزهر .

شعر نسب إليه وإلى طرفة بن العبد: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال أنشدني أبو الزعراء رجل من بني قيس بن ثعلبة لطرفة بن العبد:

تكاشرني كرها كأنـك نـاصـح                      وعينك تبدي أن صدرك لي جوي قال: فعجبت من ذلك وأنشدته أبا عمرو بن العلاء وقلت له: أني كنت أرويه ليزيد بن الحكم الثقفي فأنشدنيه أبو الزعراء لطرفة بن العبد، فقال لي أبو عمرو: إن أبا الزعراء في سن يزيد بن الحكم، ويزيد مولد يجيد الشعر، وقد يجوز أن يكون أبو الزعراء صادقا .

قال مؤلف هذا الكتاب: ما أظن أبا الزعراء صدق فيما حكاه، لأن العلماء من رواة الشعر رووها ليزيد بن الحكم، وهذا أعرابي لا يحصل ما يقوله، ولو كان هذا الشعر مشكوكا فيه أنه ليزيد بن الحكم وليس كذلك لكان معلوما أنه ليس لطرفة، ولا موجودا في شعره على سائر الروايات، ولا هو أيضا مشبها لمذهب طرفة ونمطه، وهو بيزيد أشبه، وله في معناه عدة قصائد يعاتب فيها أخاه عبد ربه بن الحكم وابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي العاص. ومن قال إنه ليزيد بن الحكم بن عثمان قال إن عمه عبد الرحمن هو الذي عاتبه، وفيه يقول:

ومولى كذئب السوء لو يستطيعني                      أصاب دمي يوما بغير قـتـيل

وأعرض عما ساءه وكـأنـمـا                      يقاد إلى ما سـاءنـي بـدلـيل

مجاملة منـي وإكـرام غـيره                      بلا حسن منـه ولا بـجـمـيل

ولو شئت لولا الحلم جدعت أنفه                      بإيعاب جـدع بـادئ وعـلـيل

حفاظا على أحلام قوم رزئتهـم                      رزان يزينون النـدى كـهـول وقال في أخيه عبد ربه:

يسر الشحنـاء يضـمـرهـا                      حتى ورى من غمـره الـداء

حران ذو غصة جرعت غصته                      وقد تعرض دون الغصة الماء

حتى إذا ما أساغ الريق أنزلني                      منه كما ينزل الأعداء أعـداء

أسعى فيكفر سعي ما سعيت له                      إني كذاك من الإخوان لقـاء

وكـم يد ويد لـي عـنـده ويد                      يعدهـن تـرات وهـي آلاء فأما تمام القصيدة التي نسبت إلى طرفة فأنا أذكر منها مختارها ليعلم أن مرذول كلام طرفة فوقه:

تصافح من لاقـيت لـي ذا عـداوة                      صفاحا وعني بين عينيك مـنـزوي

أراك إذا لم أهـو أمـرا هـويتـه                      ولست لما أهوى من الأمر بالهوي

أراك اجتويت الخير مني وأجتـوي                      أذاك، فكل يجتوي قرب مجـتـوي

فليت كفافـا كـان خـيرك كـلـه                      وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي

عدوك يخشى صولتي إن لـقـيتـه                      وأنت عدوي، ليس ذاك بمسـتـوي

وكم موطن لولاي صحت كما هوى                      بأجرامه من قلة النيق مـنـهـوي

إذا ما ابتنى المجد ابن عمك لم تعـن                      وقلت ألا يا ليت بـنـيانـه خـوي

كأنك إن نال ابن عمك مـغـنـمـا                      شج أو عميد أو أخـو غـلة لـوي

وما برحت نفس حسود حشـيتـهـا                      تذيبك حتى قيل هل أنت مكـتـوي

جمعت وفحـشـا غـيبة ونـمـيمة                      ثلاث خصال لست عنهن نرعـوي

ويدحو بك الداحي إلى كـل سـوءة                      فيا شر من يدحو إلى شر مدحـوي

بدا منك غش طالما قد كـتـمـتـه                      كما كتمت داء ابنـهـا أم مـدوي وهذا شعر إذا تأمله من له في العلم أدنى سهم عرف أنه لا يدخل في مذهب طرفة ولا يقاربه .

صوت من المائة المختارة:

أبى القلب إلا أم عوف وحبـهـا                      عجوزا، ومن يعشق عجوزا يفند

 

صفحة : 1397

 

 

كثوب يمان قد تقـادم عـهـده                      ورقعته ما شئت في العين واليد الشعر لأبي الأسود الدؤلي والغناء لعلويه، ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة .

 

أخبار أبي الأسود الدؤلي ونسبه

نسبه: اسمه ظالم بن عمرو بن سفيان بن جندل بن يعمر بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار، وهم إخوة قريش، لأن قريشا مختلف في الموضع الذي افترقت فيه مع أبيها، فخصت بهذا الاسم دونهم، وأبعد من قال في ذلك مدى من زعم أن النضر بن كنانة منتهى نسب قريش، فأما النسابون منهم فيقولون إن من لم يلده فهر بن مالك بن النضر فليس قرشيا .

كان من وجوه التابعين وفقهائهم ومحدثيهم: وكان أبو الأسود الدؤلي من وجوه التابعين وفقهاؤهم ومحدثيهم. وقد روى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، فأكثر وروى عن ابن عباس وغيره، واستعمله عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وكان من وجوه شيعة علي. وذكر أبو عبيدة أنه أدرك أول الإسلام وشهد بدرا مع المسلمين . وما سمعت بذلك عن غيره .

وأخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن محمد عبد الرحمن بن عبد الصمد السلمي عن أبي عبيدة مثله .

ولاه علي البصرة: واستعمله علي رضي الله عنه على البصرة بعد ابن عباس، وهو كان الأصل في بناء النحو وعقد أصوله .

كان أول من وضع النحو ورسم أصوله: أخبرنا أبو جعفر بن رستم الطبري النحوي بذلك عن أبي عثمان المازني عن أبي عمر الجرمي عن أبي الحسن الأخفش عن سيبويه عن الخليل بن أحمد عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي عن عنبسة الفيل وميمون الأقرن عن يحيى بن يعمر الليثي .

أن أبا الأسود الدؤلي دخل إلى ابنته بالبصرة فقالت له: يا أبت ما أشد الحر رفعت أشد فظنها تسأله وتستفهم منه: أي زمان الحر أشد? فقال لها: شهر ناجر، يريد شهر صفر. الجاهلية كانت تسمى شهور السنة بهذه الأسماء . فقالت: يا أبت إنما أخبرتك ولم أسألك. فأتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين، ذهبت لغة العرب لما خالطت العجم، وأوشك إن تطاول عليها زمان أن تضمحل، فقال له: وما ذلك? فأخبره خبر ابنته، فأمره فاشترى مصحفا بدرهم، وأمل عليه: الكلام كله لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. وهذا القول أول كتاب سيبويه ، ثم رسم أصول النحو كلها، فنقلها النحويون وفرعوها. قال أبو الفرج الأصبهاني: هذا حفظته عن أبي جعفر وأنا حديث السن، فكتبته من حفظي، واللفظ يزيد وينقص وهذا معنى .

أمره زياد أن ينقط المصاحف فنقطها: أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني قال: أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف، فنقطها ورسم من النحو رسوما، ثم جاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية، ثم زاد بعده عنبسة بن معدان المهري، ثم جاء عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء فزادا فيه، ثم جاء الخليل بن أحمد الأزدي وكان صليبة فلحب الطريق . ونجم علي بن حمزة الكسائي مولى بني كاهل من أسد فرسم للكوفيين رسوما هم الآن يعلمون عليها .

أخذ النحو عن علي بن أبي طالب: أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال حدثنا التوزي والمهري قالا حدثنا كيسان بن المعروف الهجيمي أبو سليمان عن أبي سفيان بن العلاء عن جعفر بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه قال: قيل لأبي الأسود: من أين لك هذا العلم? يعنون به النحو فقال: أخذت حدوده عن علي ابن أبي طالب عليه السلام .

خبره مع زياد في سبب وضع النحو: أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني عبيد الله بن محمد عن عبد الله بن شاكر العنبري عن يحيى بن آدم أبي بكر بن عياش عن عاصم بن أبي النجود قال:

 

صفحة : 1398

 

أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي، جاء إلى زياد بالبصرة فقال له: أصلح الله الأمير، إني أرى العرب قد خالطت هذه الأعاجم، وتغيرت ألسنتهم، أفتأذن لي أن أضع لهم علما يقيمون به كلامهم? قال: لا. قال: ثم جاء زيادا رجل فقال: مات أبانا وخلف بنون، فقال زياد مات أبانا وخلف بنون ردوا علي أبا الأسود الدؤلي، فرد إليه، فقال: ضع للناس ما نهيتك عنه. فوضع لهم النحو. وقد روى هذا الحديث عن أبي بكر بن عياش يزيد بن مهران، فذكر أن هذه القصة كانت بين أبي الأسود وبين عبيد الله بن زياد .

أول باب وضعه في النحو باب التعجب: أخبرني أحمد بن العباس قال حدثنا العنزي عن أبي عثمان المازني عن الأخفش عن الخيل بن أحمد عن عيسى بن عمر عن عبد الله بن أبي إسحاق عن أبي حرب بن أبي الأسود قال: أول باب وضعه أبي من النحو باب التعجب .

كان معدودا في طبقات من الناس وهو في كلها مقدم: وقال الجاحظ: أبو الأسود الدؤلي معدود في طبقات من الناس، وهو في كلها مقدم، مأثور عنه الفضل في جميعها؛ كان معدودا في التابعين والفقهاء والشعراء والمحدثين والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والشيعة والبخلاء والصلع الأشراف والبخر الأشراف .

حديثه عن عمر بن الخطاب: فما رواه من الحديث عن عمر مسندا عن النبي صلى الله عليه وسلم، حدثنا حامد بن محمد ابن شعيب البلخي قال حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا داود بن أبي الفرات عن عبد الله بن أبي بريدة عن أبي الأسود الدؤلي قال: أتيت المدينة فوافقتها وقد وقع فيها مرض فهم يموتون موتا ذريعا، فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فمرت به جنازة فأثني على صاحبها خير، فقال عمر رضي الله عنه: وجبت، ثم مر بأخرى فأثني على صاحبها بشر، فقال عمر: وجبت، فقال أبو الأسود: ما وجبت يا أمير المؤمنين? فقال: قلت كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:  أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة  فقلنا: وثلاثة? قال  وثلاثة  ، فقلنا: واثنان? قال  واثنان  ، ثم لم نسأله عن الواحد .

حدثني حماد بن سعيد قال حدثنا أبو خيثمة قال حدثنا معاذ بن هشام قال حدثني أبي قتادة عن أبي الأسود الدؤلي قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه الناس يوم الجمعة فقال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:  لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة حتى يأتي أمر الله جل وعز  .

حديثه عن علي بن أبي طالب: ومما رواه عن علي بن أبي طالب عليه السلام أخبرنا محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال حدثنا هناد بن السري قال حدثنا عبده بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي عن أبيه أبي الأسود الدؤلي عن علي كرم الله وجهه أنه قال في بول الجارية: يغسل، وفي بول الغلام: ينضح ما لم يأكلا الطعام .

تبع ابن عباس حين خرج من البصرة إلى المدينة ليرده فأبى: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا البغوي قال حدثنا علي بن الجعد قال حدثنا معلى ابن هلال عن الشعبي وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني جميعا قالوا: لما خرج ابن عباس رضي الله عنهما إلى المدينة من البصرة تبعه أبو الأسود في قومه ليرده، فاعتصم عبد الله بأخواله من بني هلال فمنعوه، وكادت تكون بينهم حرب، فقال لهم بنو هلال: ننشدكم الله ألا تسفكوا بيننا دماء تبقى معها العداوة إلى آخر الأبد، وأمير المؤمنين أولى بابن عمه، فلا تدخلوا أنفسكم بينهما، فرجعت كنانة عنه، وكتب أبو الأسود إلى علي عليه السلام فأخبره بما جرى، فولاه البصرة .

كان كاتبا لابن عباس على البصرة: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي ووكيع وعمي قالوا جميعا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني خالد بن عبد الله قال حدثني أبو عبيدة معمر بن المثنى قال: كان أبو الأسود الدؤلي كاتبا لابن عباس على البصرة، وهو الذي يقول:

وإذا طلبت من الحوائج حاجة                      فادع الإله وأحسن الأعمالا

فليعطينك ما أراد بـقـدرة                      فهو اللطيف لما أراد فعالا

إن العباد وشأنهم وأمورهـم                      بيد الإله يقـلـب الأحـوالا

 

صفحة : 1399

 

 

فدع العباد ولا تكن بطلابهم                      لهجا تضعضع للعباد سؤالا كان يكثر الخروج والركوب في كبره وتعليله ذلك: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن محمد بن سلام قال: كان أبو الأسود الدؤلي قد أسن وكبر، وكان مع ذلك يركب إلى المسجد والسوق ويزور أصدقاءه، فقال له رجل: يا أبا الأسود، أراك تكثر الركوب وقد ضعفت عن الحركة وكبرت، ولو لزمت منزلك كان أودع لك. فقال له أبو الأسود: صدقت ولكن الركوب يشد أعضائي، وأسمع من أخبار الناس ما لا أسمعه في بيتي، وأستنشى الريح، وألقى إخواني، ولو جلست في بيتي لاغتم بي أهلي، وأنس بي الصبي، واجترأ علي الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب كلامي، لإلفهم إياي، وجلوسهم عندي؛ حتى لعل العنز وأن تبول علي فلا يقول لها أحد: هس .

سأله بنو الديل المعاونة في دية رجل فأبى وعلل امتناعه: أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثنا أبو عكرمة قال: كان بين بني الدليل وبين بني ليث منازعة، فقتلت بنو الديل منهم رجلا، ثم اصطلحوا بعد ذلك على أن يؤدوا ديته، فاجتمعوا إلى أبي الأسود يسألونه المعاونة على أدائها، وألح عليه غلام منهم ذو بيان وعارضة، فقال له: يا أبا الأسود، أنت شيخ العشيرة وسيدهم، وما يمنعك من معاونتهم قلة ذات يد ولا سؤدد ولا جود، فلما أكثر أقبل عليه أبو الأسود، ثم قال له: قد أكثرت يابن أخي فاسمع مني: إن الرجل والله ما يعطي إلا لإحدى خلال: إما رجل أعطى ماله رجاء مكافأة ممن يعطيه، أو رجل خاف على نفسه فوقاها بماله، أو رجل أراد وجه الله وما عنده في الدار الآخرة، أو رجل أحمق خدع عن ماله، ووالله ما أنتم إحدى هذه الطبقات، ولا جئتم في شيء من هذا، ولا عمك الرجل العاجز فينخدع لهؤلاء، ولما أفدتك إياه في عقلك خير لك من مال أبي الأسود لو وصل إلى بني الديل، قوموا إذا شئتم. فقاموا يبادرون الباب .

استهزأ به رجل فرد عليه فأفحمه وقال في ذلك شعرا: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: كان طريق أبي الأسود الدؤلي إلى المسجد والسوق في بني تيم الله بن ثعلبة وكان فيهم رجل متفحش يكثر الاستهزاء بمن يمر به، فمر به أبو الأسود الدؤلي يوما فقال لقومه: كأن وجه أبو الأسود وجه عجوز راحت إلى أهلها بطلاق، فضحك القوم، وأعرض عنهم أبو الأسود. ثم مر به مرة أخرى، فقال لهم: كأن غضون قفا أبي الأسود غضون الفقاح . فأقبل عليه أبو الأسود فقال له: هل تعرف فقحة أمك فيهن? فأفحمه، وضحك القوم منه، وقاموا إلى أبي الأسود، فاعتذروا إليه مما كان، ولم يعاوده الرجل بعد ذلك، وقال أبو الأسود بعد ذلك حين رجع إلى أهله:

وأهوج ملجاج تصاممت قـبـلـه                      أن أسمعه وما بسمعي مـن بـاس

ولو شئت قد أعرضت حتى أصيبه                      على أنفه حدباء تعضل بـالاسـي

فإن لسانـي لـيس أهـون وقـعة                      وأصغر آثارا من النحت بالفـاس

وذي إحنة لم يبـدهـا غـير أنـه                      كذي الخبل تأبى نفسه غير وسواس

صفحت له صفحا جميلا كصفحـه                      وعيني وما يدري عليه وأحراسي

وعندي له إن فار فـوار صـدره                      فما جبلي لا يعـاوده الـحـاسـي

وخب لحوم الـنـاس أكـثـر زاده                      كثير الخنا صعب المحالة همـاس

تركت له لحمي وأبقيت لـحـمـه                      لمن نابه من حاضر الجن والنـاس

فكر قلـيلا ثـم صـد كـأنـمـا                      يعض بصم من صفا جبل راسـي خبره مع أعرابي جاء يسأله: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال: خرج أبو الأسود الدؤلي ومعه جماعة أصحاب له إلى الصيد، فجاءه أعرابي فقال له: السلام عليك. فقال له أبو الأسود: كلمة مقولة. قال: أدخل? قال: وراؤك أوسع لك. قال: إن الرمضاء قد أحرقت رجلي، قال: بل عليها أو ائت الجبل يفئ عليك. قال: هل عند شيء تطعمنيه? قال نأكل ونطعم العيال، فإن فضل شيء فأنت أحق به من الكلب، فقال الأعرابي: ما رأيت قط ألأم منك. قال أبو الأسود: بلى قد رأيت؛ ولكنك قد أنسيت .

خبره مع ابن أبي حمامة:

 

صفحة : 1400

 

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن المدائني بهذا الخبر فقال فيه: كان أبو الأسود جالسا في دهليزه وبين يديه رطب، فجاز به رجل من الأعراب يقال له ابن أبي الحمامة، فسلم ثم ذكر باقي الخبر، مثل الذي تقدمه، وزاد عليه فقال: أنا ابن أبي الحمامة. قال: كن ابن أبي طاووسة ، وانصرف. قال: أسألك بالله إلا أطعمتني مما تأكل، قال: فألقى إليه أبو الأسود ثلاث رطبات، فوقعت إحداهن في التراب، فأخذها يمسحها بثوبه، فقال له أبو الأسود: دعها فإن الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به، فقال: إنما كرهت أن أدعها للشيطان، فقال له: لا والله ولا لجبريل وميكائيل تدعها .

خطب امرأة من عبد القيس فمنعها أهلها وزوجوها ابن عمها فقال أبو الأسود شعرا في ذلك: أخبرني محمد بن عمران الضبي الصيرفي قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثنا محمد بن معاوية الأسدي قال ذكر الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: خطب أبو الأسود الدؤلي امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد بن غنيم، فأسر أمرها إلى صديق له من الأزد يقال له الهيثم بن زياد، فحدث به ابن عم لها كان يخطبها وكان لها مال عند أهلها فمشى ابن عمها الخاطب لها إلى أهلها الذين مالها عندهم، فأخبرهم خبر أبي الأسود، وسألهم أن يمنعوها من نكاحه، ومن مالها الذي في أيديهم، ففعلوا ذلك، وضاروها حتى تزوجت بابن عمها، فقال أبو الأسود الدؤلي في ذلك:

لعمري لقد أفشيت يوما فخانـنـي                      إلى بعض من لم أخش سرا ممنعا

فمزقه مزق العمى وهو غـافـل                      ونادى بما أخفيت منه فأسمـعـا

فقلت ولم أفحش لعالـك عـاثـرا                      وقد يعثر الساعي إذا كان مسرعا

ولست بجازيك المـلامة إنـنـي                      أرى العفو أدنى للرشاد وأوسعـا

ولكن تعلم أنـه عـهـد بـينـنـا                      فبن غير مذموم ولكن مـودعـا

حديثا أضعناه كـلانـا فـلا أرى                      وأنت نجيا آخر الدهر أجـمـعـا

وكنت إذا ضيعت سرك لم تـجـد                      سواك لـه إلا أشـت وأضـيعـا قال: وقال فيه:

أمنت امرأ في السر لم يك حازما                      ولكنه في النصح غير مـريب

أذاع به في الناس حتى كـأنـه                      بعلياء نار أوقـدت بـثـقـوب

وكنت متى لم ترع سرك تلتبـس                      قوارعه من مخطئ ومصـيب

فما كل ذي نصح بمؤتيك نصحه                      وما كل مؤت نصحه بلـبـيب

ولكن إذا ما استجمعا عند واحـد                      فحق له من طاعة بـنـصـيب اشترى جارية حولاء فعابها أهله فمدحها في شعره: أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: اشترى أبو الأسود جارية، فأعجبته وكانت حولاء فعابها أهله عنده بالحول، فقال في ذلك:

يعيبونها عندي ولا عيب عنـدهـا                      سوى أن في العينين بعض التأخر

فإن يك في العينين سوء فإنـهـا                      مهفهفة الأعلى رداح المؤخـر تحاكم إليه ابنا عم وأحدهما صديق له فحكم على صديقه فقال في ذلك شعرا: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد الزدي قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه قال: كان لأبي الأسود الدؤلي صديق من بني تميم ثم من بني سعد يقال له مالك بن أصرم، وكانت بينه وبين ابن عم له خصومة في دار له، وأنهما اجتمعا عند أبي الأسود فحكماه بينهما، فقال له خصم صديقه: إني بالذي بينك وبينه عارف، فلا يحملنك ها ذاك على أن تحيف علي في الحكم وكان صديق أبي الأسود ظالما فقضى أبو الأسود على صديقه لخصمه بالحق، فقال له صديقه: والله ما بارك الله لي في صداقتك، ولا نفعني بعلمك وفقهك، ولقد قضيت علي بغير الحق، فقال أبو الأسود:

إذا كنت مظلوما فلا تـلـف راضـيا                      عن القوم حتى تأخذ النصف واغضب

وإن كنت أنت الظالم القوم فـاطـرح                      مقالتهم واشغب بهم كل مـشـغـب

وقارب بذي جهل وباعـد بـعـالـم                      جلوب عليك الحق من كل مجـلـب

فإن حدبوا فاقعس وإن هم تقاعـسـوا                      ليستمكنوا مـمـا وراءك فـاحـدب

 

صفحة : 1401

 

 

ولا تدعني للجور واصبر على التي                      بها كنت أقضي للبعيد على أبـي

فإني امرؤ أخشى إلهي وأتـقـي                      معادي وقد جربت ما لم تجـرب كتب مستجديا إلى نعيم بن مسعود فأجابه، وإلى الحصين فأبى الحر فرمى كتابه فقال في ذلك شعرا: كتب إلي أبو خليفة يذكر أن محمد بن سلام حدثه، وأخبرني محمد بن يحيى الصولي عن أبي ذكوان عن محمد بن سلام قال: وجه أبو الأسود الدؤلي إلى الحصين بن أبي الحر العنبري جد عبيد الله بن الحسن القاضي، وهو يلي بعض أعمال الخراج لزياد، وإلى نعيم بن مسعود النهشلي، وكان يلي مثل ذلك برسول، وكتب معه إليهما وأراد أن يبراه، ففعل ذلك نعيم بن مسعود، ورمى الحصين بن أبي الحر بكتاب أبي الأسود وراء ظهره، فعاد الرجل فأخبره، فقال أبو الأسود للحصين:

حسبت كتابي إذ أتاك تـعـرضـا                      لسيبك، لم يذهب رجائي هنالـكـا

وخبرني من كنت أرسلـت أنـمـا                      أخذت كتابي معرضا بشمـالـكـا

نظرت إلى عنوانـه فـنـبـذتـه                      كنبذك نعلا أخلقت من نعـالـكـا

نعيم بن مسعود أحق بـمـا أتـى                      وأنت بما تأتي حقـيق بـذلـكـا

يصيب وما يدري ويخطي وما درى                      وكيف يكون النوك إلا كـذلـكـا قال محمد بن سلام: فتقدم رجل إلى عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن أبي الحر وهو قاضي البصرة مع خصم له فخلط في قوله، فتمثل عبيد الله بقول أبي الأسود:

يصيب وما يدري ويخطي وما درى                      وكيف يكون النوك إلا كـذلـكـا فقال الرجل: إن رأى القاضي أن يدنيني منه لأقول شيئا فعل. فقال له: ادن، فقال له: إن أحق الناس بستر هذا الشعر أنت، وقد علمت فيمن قيل، فتبسم عبيد الله وقال له: إني أرى فيك مصطنعا فقم إلى منزلك، وقال لخصمه: رح إلي، فغرم له ما كان يطالب به .

أراد السفر إلى فارس في الشتاء فأبت عليه ابنته فقال في ذلك شعرا: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن ابن عائشة قال: أراد أبو الأسود الدؤلي الخروج إلى فارس، فقالت له ابنته: يا أبت إنك قد كبرت، وهذا صميم الشتاء، فانتظر حتى ينصرم وتسلك الطريق آمنا، فإني أخشى عليك، فقال أبو الأسود:

إذا كنت معـنـيا بـأمـر تـريده                      فما للمضاء والتوكل مـن مـثـل

توكل وحمل أمرك الـلـه إن مـا                      تراد به آتيك فاقنع بذي الفـضـل

ولا تحسبن السير أقـرب لـلـردى                      من الخفض في دار المقامة والثمل

ولاتحسبيني يابنتي عز مـذهـبـي                      بظنك، إن الظن يكذب ذا العـقـل

وإني ملاق ما قضى الله فاصبـري                      ولا تجعلي العلم المحقق كالجهـل

وإنك لا تدرين: هل مـا أخـافـه                      أبعدي يأتي في رحيلي أو قبلـي ?

وكم قد رأيت حاذرا متـحـفـظـا                      أصيب وألفته المنية فـي الأهـل خبره مع صديقه نسيب بن حميد وشعره في ذلك: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إبراهيم العتكي قال حدثنا ابن عائشة عن أبيه قال: كان لأبي الأسود صديق من بني سليم يقال له نسيب بن حميد، وكان ينشاه في منزله، ويتحدث إليه في المسجد، وكان كثيرا ما يحلف له أنه ليس بالبصرة أحد من قومه ولا من غيرهم آثر عنده منه، فرأى أبو الأسود يوما معه مستقة مخملة أصبهانية من صوف، فقال له أبو الأسود: ما تصنع بهذه المستقة? فقال: أريد بيعها، فقال له أبو الأسود: انظر ما تبلغ فعرفنيه حتى أبعث به إليك، فإنها من حاجتي، قال: لا بل أكسوكها، فأبى أبو الأسود أن يقبلها إلا بثمنها، فبعث بها إلى السوق فقومت بمائتي درهم، فبعث إليه أبو الأسود بالدراهم، فردها وقال: لست أبيعها إلا بمائتين وخمسين درهما، فقال أبو الأسود:

بعني نسيب ولا تثبني إننـي                      لا أستثيب ولا أثيب الواهبـا

إن العطية خير ما وجهتهـا                      وحسبتها حمدا وأجرا واجبا

ومن العطية ما يعود غرامة                      وملامة تبقى ومنا كـاذبـا

وبلوت أخبار الرجال وفعلهم                      فملئت علما منهم وتجاربـا

فأخذت منهم ما رضيت بأخذه                      وتركت عمدا ما هنالك جانبا

 

صفحة : 1402

 

 

فإذا وعدت الوعد كنت كغـارم                      دينا أقر به وأحضر كـاتـبـا

حتى أنفذه علـى مـا قـلـتـه                      وكفى علي به لنفسي طالـبـا

وإذا فعلت فعلت غير محاسـب                      وكفى بربك جازيا ومحاسـبـا

وإذا منعت منعت منعـا بـينـا                      وأرحت من طول العناء الراغبا

لا أشتري الحمد القليل بـقـاؤه                      يوما بذم الدهر أجمع واصـبـا ضرط في مجلس معاوية فطلب منه أن يسترها عليه، فوعده، ولكنه لم يفعل: أخبرني أحمد بن عبيد الله بن محمد الرازي ومحمد بن العباس اليزيدي وعمي قالوا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: زعم أبو بكر الهذلي أن أبا الأسود الدؤلي كان يحدث معاوية يوما فتحرك فضرط، فقال لمعاوية: استرها علي، فقال: نعم، فلما خرج حدث بها معاوية عمرو بن العاص ومروان ابن الحكم، فلما غدا عليه أبو الأسود قال عمرو: ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود بالأمس? قال: ذهبت كما تذهب الريح مقبلة ومدبرة، من شيخ ألان الدهر أعصابه ولحمه عن إمساكها، وكل أجوف ضروط، ثم أقبل على معاوية فقال: إن امرأ ضعفت أمانته ومروءته عن كتمان ضرطة لحقيق بألا يؤمن على أمور المسلمين .

تزوج امرأة برزة فخانته وأفشت سره، فطلقها وقال في ذلك شعرا: أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن عوانة قال: كان أبو الأسود يجلس إلى فناء امرأة بالبصرة فيتحدث إليها، وكانت برزة جميلة، فقالت له: يا أبا الأسود، هل لك في أن أتزوجك? فإني صناع الكف، حسنة التدبير، قانعة بالميسور، قال: نعم، فجمعت أهلها فتزوجته، فوجد عندها خلاف ما قدره، وأسرعت في ماله، ومدت يدها إلى خيانته، وأفشت سره، فغدا على من كان حضر تزويجه إياها، فسالهم أن يجتمعوا عنده ففعلوا، فقال لهم:

أريت أمرا كنت لم أبـلـه                      أتاني فقال اتخذني خلـيلا

فخاللتـه ثـم أكـرمـتـه                      فلم أستفد من لـه فـتـيلا

وألفيتـه حـين جـربـتـه                      كذوب الحديث سروقا بخيلا

فذكرتـه ثـم عـاتـبـتـه                      عتابا رفيقا وقولا جـمـيلا

فألفيته غير مسـتـعـتـب                      ولا ذاكر اللـه إلا قـلـيلا

ألست حقيقـا بـتـوديعـه                      وإتباع ذلك صرما طويلا ? فقالوا: بلى والله يا أبا الأسود قال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها لكم، وأنا أحب أن أستر ما أنكرته من أمرها، فانصرفت معهم .

أنكر عليه معاوية بخره فرد عليه: حدثنا اليزيدي قال حدثنا البغوي قال حدثنا العمري قال: كان أبو الأسود أبخر، فسار معاوية يوما بشيء فأصغى إليه ممسكا بكمه على أنفه، فنحى أبو الأسود يده عن أنفه، وقال: لا والله لا تسود حتى تصبر على سرار المشايخ البخر .

عابه زياد عند علي فقال في ذلك شعرا: أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا محمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال: كان علي بن أبي طالب عليه السلام استعمل أبا الأسود على البصرة، واستكتب زياد بن أبيه على الديوان والخراج، فجعل زياد يسبع أبا الأسود عند علي ويقع فيه ويبغي عليه، فلما بلغ ذلك أبا الأسود عنه قال فيه:

رأيت زيادا ينـتـحـينـي بـشـره                      وأعرض عنه وهو باد مـقـاتـلـه

وكل امرئ، والله بالـنـاس عـالـم                      له عادة قامت علـيهـا شـمـائلـه

تعودها فيما مضـى مـن شـبـابـه                      كذلـك يدعـو كـل أمـر أوائلـه

ويعجبه صفحي لـه وتـجـمـلـي                      وذو الجهل يحذو الجهل من لا يعاجله

فقلت له دعـنـي وشـأنـي إنـنـا                      كلانا عليه معمـل هـو عـامـلـه

فلولا الذي قد يرتجـى مـن رجـائه                      لجربت مني بعض ما أنت جاهـلـه

لجربت أني أمنح الغـي مـن غـوى                      علي وأجزي ما جـزى وأطـاولـه وقال لزياد أيضا في ذلك:

نبئت أن زيادا ظل يشتمـنـي                      والقول يكتب عند الله والعمل

وقد لقيت زيادا ثم قلـت لـه                      وقبل ذلك ما خبت به الرسل

حتام تسرقني في كل مجمـعة                      عرضي، وأنت ما شئت منتفل

 

صفحة : 1403

 

 

كل امرئ صائر يوما لشيمتـه                      في كل منزلة يبلى بها الرجل قال: فلما ادعى معاوية زيادا وولاه العراق كان أبو الأسود يأتيه فيسأله حوائجه، فربما قضاها وربما منعها لما يعلمه من رأيه وهواه في علي بن أبي طالب عليه السلام، وما كان بينهما في تلك الأيام وهما عاملان، فكان أبو الأسود يترضاه ويداريه ما استطاع ويقول في ذلك:

رأيت زيادا صد عنـي وجـهـه                      ولم يك مردودا عن الخير سائلـه

ينفذ حاجات الرجال، وحاجـتـي                      كداء الجوى في جوفه لا يزايلـه

فلا أنا ناس مـا نـسـيت فـآيس                      ولا أنا راء ما رأيت ففـاعـلـه

وفي اليأس حزم للـبـيب وراحة                      من الأمر لا ينسى ولا للمرء نائله أكرمه عبد الرحمن بن أبي بكرة وأفضل عليه فقال يمدحه: وقال المدائني: نظر عبد الرحمن بن أبي بكرة إلى أبي الأسود في حال رثة فبعث إليه بدنانير وثياب، وسأله أن ينبسط إليه في حوائجه ويستمحنه إذا أضاق ، فقال أبو الأسود يمدحه:

أبو بحر أمن الـنـاس طـرا                      علينا بعد حي أبي المغـيره

لقد أبقى لنا الحدثـان مـنـه                      أخا ثقة منافـعـه كـثـيره

قريب الخير سهلا غير وعر                      وبعض الخير تمنعه الوعوره

بصرت بأننا أصحـاب حـق                      ندل بـه وإخـوان وجـيره

وأهل مضيعة فوجدت خـيرا                      من الخلان فينا والعـشـيره

وإنك قد علمت وكل نـفـس                      ترى صفحاتها ولها سـريره

لذو قلب بذي القربى رحـيم                      وذو عين بما بلغت بصـيره

لعمرك ما حباك الله نفـسـا                      بها جشع ولا نفسا شـريره

ولكن أنت لا شرس غـلـيظ                      ولا هشم تنازعـه خـئوره

كأنـا إذا أتـينـاه نـزلـنـا                      بجانب روضة ريا مطـيره كان عبيد الله بن زياد يماطله في قضاء حاجاته فعاتبه في ذلك: قال المدائني: وكان أبو الأسود يدخل على عبيد الله بن زياد، فيشكو إليه أن عليه دينا لا يجد إلى قضائه سبيلا، فيقول له: إذا كان غد فارفع إلي حاجتك فإني أحب قضاءها، فيدخل إليه من غد، فيذكر له أمره ووعده فيتغافل عنه، ثم يعاوده فلا يصنع في أمره شيئا، فقال فيه أبو الأسود:

دعاني أميري كي أفوه بحاجـتـي                      فقلت فما رد الجواب ولا استمـع

فقمت ولم أحسس بشيء ولم أصـن                      كلامي وخير القول ما صين أو نفع

وأجمعت يأسـا لا لـبـانة بـعـده                      ولليأس أدنى للعفاف من الطـمـع سأله رجل فمنعه فأنكر عليه فاحتج ببيت لحاتم: أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي فال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني ابن عائشة قال: سأل رجل أبا الأسود شيئا فمنعه، فقال له: يا أبا الأسود ما أصبحت حاتميا? قال: بلى قد أصبحت حاتميا من حيث لا تدري، أليس حاتم الذي يقول:

أماوي إما مانع فـمـبـين                      وإما عطاء لا ينهنهه الزجر شعره في جار له كان يحسده ويذمه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال: كان لأبي الأسود جار يحسده وتبلغه عنه قوارص، فلما باع أبو الأسود داره في بني الديل وانتقل إلى هذيل، قال جار أبي الأسود لبعض جيرانه من هذيل: هل يسقيكم أبو الأسود من ألبان لقاحه? وكانت لا تزال عنده لقحه أو لقحتان، وكان جاره هذا يصيب من الشراب، فبلغ أبا الأسود قوله، فقال فيه:

إن امرأ نبئتـه مـن صـديقـنـا                      يسائل هل أسقي من اللبن الجارا ?

وإني لأسقي الجار في قعر بـيتـه                      وأشرب ما لا إثم فـيه ولا عـارا

شرابا حلالا يترك المرء صـاحـيا                      ولا يتولى يقلس الإثـم والـعـارا قصد صديقه حوثرة بن سليم فأعرض عنه فهجاه: أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال: كان لأبي الأسود صديق من بني قيس بن ثعلبة يقال له حوثرة بن سليم، فاستعمله عبيد الله ابن زياد على جي وأصبهان، وكان أبو الأسود بفارس، فلما بلغه خبره أتاه فلم يجد عنده ما يقدره، وجفاه حوثرة؛ فقال فيه أبوالأسود وفارقه:

 

صفحة : 1404

 

 

تروحت من رستاق جي عشـية                      وخلفت في رستاق جي أخا لكا

أخا لك إن طال التنائي وجـدتـه                      نسيا وإن طال التعاشر ملـكـا

ولو كنت سيفا يعجب الناس حده                      وكنت له يوما من الدهر فلكـا

ولو كنت أهدى الناس ثم صحبته                      وطاوعته ضل الهوى وأضلكـا

إذا جئته تبغي الهدى خالف الهدى                      وإن جرت عن باب الغواية دلكا ساومه جار له في شراء لقحة وعابها فأبى عليه وقال في ذلك شعرا: قال المدائني: وكان لأبي الأسود جار، يقال له وثاق من خزاعة، وكان يحب اتخاذ اللقاح ويغالي بها ويصفها، فأتى أبا الأسود وعنده لقحة غزيرة يقال لها: الصفوف فقال له: يا أبا الأسود ما بلقحتك بأس لولا عيب كذا وكذا، فهل لك في بيعها? فقال أبو الأسود: على ما تذكر فيها من العيب? فقال: إني أغتفر ذلك لها لما أرجوه من غزارتها، فقال له أبو الأسود: بئست الخلتان فيك، الحرص والخداع، أنا لعيب مالي أشد اغتفارا؛ وقال أبو الأسود فيه:

يريد وثاق ناقـتـي ويعـيبـهـا                      يخادعني عنها وثاق بن جـابـر

فقلت تعـلـم يا وثـاق بـأنـهـا                      عليك حمى أخرى الليالي الغوابر

بصرت بها كوماء حوساء جلـدة                      من الموليات الهام حد الظواهـر

فحاولت خدعي والظنون كـواذب                      وكم طامع في خدعتي غير ظافر ساومه رجل من سدوس في لقحة له وعابها فأبى عليه بيعها وقال في ذلك شعرا: قال: وكانت له لقحة أخرى يقال لها الطيفاء، وكان يقول: ما ملكت مالا قط أحب إلي منها، فأتاه فيها رجل من بني سدوس يقال له أوس بن عامر، فجعل يماكر أبا الأسود ويعيبها، فألفاه بها بصيرا وفيها منافسا، فبذل له فيها ثمنا وافيا، فأبى أن يبيعه وقال فيه:

أتاني في الطيفاء أوس بن عامـر                      ليخدعني عنها بجن ضراسـهـا

فسام قليلا ناسـئا غـير نـاجـز                      وأحصر نفسا وانتهى بمكاسهـا

فأقسم لو أعطيت ما سمت مثلـه                      وضعفا له لما غدوت براسـهـا

أغرك منها ان نحرت حوارهـا                      لجيران أم السكن يوم نفاسـهـا

فولى ولم يطمع وفي النفس حاجة                      يرددهـا مـردودة بـإياسـهـا جوابه لسائل ملحف: أخبرنا اليزيدي قال حدثنا عيسى عن ابن عائشة والأصمعي: أن رجلا سأل أبا الأسود الدؤلي فرده فألح عليه، فقال له أبي الأسود: ليس للسائل الملحف مثل الرد الجامس. قال: يعني بالجامس الجامد .

خطب امرأة من بني حنيفة فعارضه ابن عم لها فقال في ذلك شعرا: وقال المدائني: خطب أبو الأسود امرأة من بني حنيفة وكان قد رآها فأعجبته فأجابته إلى ذلك وأذنت له في الدخول إليها، فدخل دارها فخاطبها بما أراد، فلما خرج لقيه ابن عم لها قد كان خطبها على أخيه، فقال له: ما تصنع ها هنا? فأخبره بخطبته المرأة، فنهاه عن التعرض لها، ووضع عليها أرصادا، فكان أبو الأسود ربما مر بهم واجتاز بقبيلتهم، فدسوا عليه رجلا يوبخه في كل محفل يراه فيه، ففعل، وأتاه وهو في نادي قومه فقال له: يا أبا الأسود، أنت رجل شريف، ولك سن وخطر وعرض، ما أرضى لك أن تلم بفلانة، وليست لك بزوجة ولا قرابة، فإن أهلها قد أنكروا ذلك وتشكوه، فإما أن تتزوجها أو تضرب عنها، فقال له أبو الأسود:

لقد جد في سلمى الشكاة وللـذي                      يقولون لو يبدو لك الرشد أرشد

يقولون لا تمذل بعرضك واصطنع                      معادك إن اليوم يتـبـعـه غـد

وإياك والقوم الغضاب فـإنـهـم                      بكل طريق حولهم تـتـرصـد

تلام وتلحـى كـل يوم ولا تـرى                      على اللوم إلا حولها تـتـردد

أفادتكها العين الصموح وقد ترى                      لك العين ما لاتستطيع لـك الـيد وقال أبو الأسود:

دعوا آل سلمى ظنتي وتعنـتـي                      وما زل مني، إن ما فات فائت

ولا تهلكوني بالمـلامة إنـمـا                      نطقت قليلا ثم إني لسـاكـت

سأسكت حتى تحبسوني أنـنـي                      من الجهد في مرضاكم متماوت

ألم يكفكم أن قد منعتم بيوتـكـم                      كما منع الغيل الأسود النواهت

 

صفحة : 1405

 

 

تصيبون عرضي كل يوم كما علا                      نشيط بفأس معدن البرم ناحـت جفاه ابن عامر لهواه في علي بن أبي طالب فقال في ذلك شعرا: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني عمر بن شبة قال ذكر الهيثم بن عدي عن مجالد ابن سعيد عن عبد الملك بن عمير قال: كان ابن عباس يكرم أبا الأسود الدؤلي لما كان عاملا لعلي بن أبي طالب عليه السلام على البصرة ويقضي حوائجه، فلما ولي ابن عامر جفاه وأبعده ومنعه حوائجه لما كان يعلمه من هواه في علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال فيه أبو الأسود:

ذكرت ابن عباس بباب ابن عـامـر                      وما مر من عيشي ذكرت وما فضل

أميرين كان صاحبـي كـلاهـمـا                      فكل جزاه الله عني بـمـا أفـعـل

فإن كان شرا كـان شـرا جـزاؤه                      وإن كان خيرا كان خيرا إذا عـدل كان لابنه صديق من باهله فكره صداقته له: أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الخزامي قال حدثنا محمد بن فليح بن سليمان عن موسى بن عقبة قال قال أبو الأسود الدؤلي لابنه أبي حرب وكان له صديق من باهله يكثر من زيارته فكان أبو الأسود يكرهه ويستريب منه:

أحبب إذا أحببت حبا مـقـاربـا                      فإنك لا تدري متى أنـت نـازع

وأبغض إذا بغضت بغضا مقاربا                      فإنك لا تدري متى أنت راجـع

وكن معدنا للحلم واصفح عن الخنا                      فإنك راء ما عملـت وسـامـع آذاه جار له فباع داره واشترى دارا في هذيل وقال في ذلك شعرا: وقال المدائني حدثني أبو بكر الهذلي قال: كان لأبي الأسود جار من بني حليس بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل، من رهطه دنية ومنزل أبي الأسود يومئذ في بني الديل فأولع جاره برميه بالحجارة كلما أمسى، فيؤذيه. فشكا أبوالأسود ذلك إلى قومه وغيرهم، فكلموه ولاموه، فكان ما اعتذر به إليهم أن قال: لست أرميه، وإنما يرميه الله لقطعه الرحم وسرعته في الظلم في بخله بماله، فقال أبو الأسود: والله ما أجاور رجلا يقطع رحمي ويكذب على ربي. فباع داره واشترى دارا في هذيل، فقيل له: يا أبا الأسود، أبعت دارك قال: لم أبع داري، ولكن بعت جاري، فأرسلها مثلا وقال في ذلك:

رماني جاري ظالمـا بـرمـية                      فقلت له مهلا فأنكر مـا أتـى

وقال الذي يرميك ربك جـازيا                      بذنبك، والحوبات تعقب ما ترى

فقلت له لو أن ربـي بـرمـية                      رماني لما أخطأ إلهي ما رمى

جزى الله شرا كل من نال سوءة                      وينحل فيها ربه الشـر والأذى وقال فيه أيضا:

لحى الله مولى السوء لا أنت راغب                      إليه ولا رام به مـن تـحـاربـه

وما قرب مولى السوء إلا كبعـده                      بل البعد خير من عدو تصاقـبـه وقال فيه أيضا:

وإني لتثنيني عن الشتم والـخـنـا                      وعن سب ذي القربى خلائق أربع

حياء وإسلام ولـطـف وأنـنـي                      كريم، ومثلي قد يضـر وينـفـع

فإن أعف يوما عن ذنوب أتيتـهـا                      فإن العصا كانت لمثلي تـقـرع

وشتان ما بـين وبـينـك إنـنـي                      على كل حال أستقيم وتـظـلـع قصته مع جار له آذاه، وشعره في ذلك: أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني الرياشي عن العتبي قال: كان لأبي الأسود جار في ظهر داره له باب إلى قبيلة أخرى، وكان بين دار أبي الأسود وبين داره باب مفتوح يخرج منه كل واحد منهما إلى قبيلة صاحبه إذا أرادها، وكان الرجل ابن عم أبي الأسود دنية، وكان شرسا سيء الخلق، فأراد سد ذلك الباب، فقال له قومه: لا تفعل فتضر بأبي الأسود وهو شيخ، وليس عليك في هذا الباب ضرر ولا مؤنة، فأبى إلا سده، ثم ندم على ذلك لأنه أضر به، فكان إذا أراد سلوك الطريق التي كان يسلكها منه بعد عليه، فعزم على فتحه، وبلغ ذلك أبا الأسود فمنعه منه وقال فيه: صوت:

بليت بصاحب إن أدن شـبـرا                      يزدني في مبـاعـدة ذراعـا

وإن أمدد له في الوصل ذرعي                      يزدني فوق قيس الذرع باعـا

أبت نفسي لـه إلا اتـبـاعـا                      وتأبى نفسه إلا امـتـنـاعـا

 

صفحة : 1406

 

 

كلانـا جـاهـد أدنـو وينـأى                      فذلك ما استطعت وما استطاعا الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر، وفيه لعريب خفيف رمل. ولعلويه لحن غير منسوب. قال: وقال أبو الأسود أيضا في ذلك:

لنا جيرة سدوا المجازة بـينـنـا                      فإن أذكروك السد فالسد أكـيس

ومن خير ما ألصقت بالجار حائط                      تزل به سفع الخطاطيف أملـس وقال أيضا في ذلك:

أخطأت حين صرمتني                      والمرء يعجز لا محاله

والعبد يقرع بالعـصـا                      والحر تكفيه المقالـه نزل في بني قشير فآذوه فقال فيهم شعرا: أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة عن أبيه وأخبرني به محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن عائشة ولم يقل عن أبيه قال: كان أبو السود الدؤلي نازلا في بني قشير، وكانت بنو قشير عثمانية، وكانت امرأته أم عوف منهم، فكانوا يؤذونه ويسبونه وينالون من علي عليه السلام بحضرته ليغيظوه به، ويرمونه بالليل، فإذا أصبح قال لهم: يا بني قشير، أي جوار هذا فيقولون له: لم نرمك إنما رماك الله لسوء مذهبك وقبح دينك، فقال في ذلك:

يقول الأرذلون بنو قـشـير                      طوال الدهر لا تنسى عليا

فقلت لهم: وكيف يكون تركي                      من الأعمال مفروضا عليا ?

أحب محمـدا حـبـا شـديدا                      وعباسا وحمزة والـوصـيا

بني عم النـبـي وأقـربـيه                      أحب الناس كـلـهـم إلـيا

فإن يك حبهم رشدا أصـبـه                      ولست بمخطئ إن كان غـيا

هم أهل النصيحة غير شـك                      وأهل مودتي ما دمت حـيا

هوى أعطيت لما استـدارت                      رحى الإسلام لم يعدل سويا

أحبهم لحب الـلـه حـتـى                      أجيء إذا بعث على هـويا

رأيت الله خالق كـل شـيء                      هداهم واجتبى منهم نـبـيا

ولم يخصص بها أحدا سواهم                      هنيئا ما اصطفاه لهم مـريا قال: فقالت له بنو قشير: شككت يا أبا في صاحبك حيث تقول:

فإن يك حبهم رشدا أصبه فقال: أما سمعتم قول الله عز وجل:  وإنا أو إياكم هدى أو في ضلال مبين  أفترى الله عز وجل شك في نبيه وقد روي أن معاوية قال هذه المقالة، فأجابه بهذا الجواب .

تهكم معاوية به فأجابه بشعره: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن الأخفش عن أبي عمر الجرمي قال: دخل أبو الأسود الدؤلي على معاوية، فقال له: لقد أصبحت جميلا يا أبا الأسود، فلو علقت تميمة تنفى عنك العين فقال أبو الأسود:

أفنى الشباب الذي فارقت جدته                      كر الجديدين من آت ومنطلق

لم يتركا لي في طول اختلافهما                      شيئا تخاف عليه لذعة الحـدق خبره مع فتى دعاه أن يأكل معه فأتى على طعامه: أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحارث بن محمد قال قال حدثنا المدائني عن علي بن سليمان قال: كان أبو الأسود على باب داره دكان يجلس عليه، مرتفع عن الأرض على قدر صدر الرجل، فكان يوضع بين يديه خوان على قدر الدكان، فإذا مر به مار فدعاه إلى الأكل لم يجد موضعا يجلس فيه، فمر به ذات يوم فتى فدعاه إلى الغداء، فأقبل فتناول الخوان فوضعه أسفل، ثم قال له: يا أبا الأسود، إن عزمت على الغداء فانزل، وجعل يأكل وأبو الأسود ينطر إليه مغتاظا حتى أتى على الطعام، فقال له أبو الأسود: ما اسمك يا فتى? قال: لقمان الحكيم، قال: لقد أصاب أهلك حقيقة اسمك .

قال المدائني: وبلغني أن رجلا دعاه أبو الأسود الدؤلي إلى طعامه وهو على هذا الدكان، فمد يده ليأكل، فشب به فرسه فسقط عنه فوقص .

كان أبو الجارود صديقا له فلما ولى ولاية جفاه فقال فيه شعرا: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي صديقا لأبي الأسود، يهاديه الشعر، ويجيب كل واحد منهما صاحبه، ويتعاشران ويتزاوران، فولي أبو الجارود ولاية، فجفا أبو الأسود وقطعه، ولم يبدأه بالمكاتبة ولا أجابه عنها، فقال فيه أبو الأسود:

 

صفحة : 1407

 

 

أبلغ أبا الجارود عنـي رسـالة                      يروح بها الغادي لربعك أو يغدو

فيخبرنا ما بال صرمك بعد مـا                      رضيت وما غيرت من خلق بعد

أأن نلت خيرا سرني أن تنـالـه                      تنكرت حتى قلت ذو لبدة ورد ?

فعيناك عيناه وصوتك صـوتـه                      تمثله لي غير أنـك لا تـعـدو

لئن كنت قد أزمعت بالصرم بيننا                      لقد جعلت أشراط أوله تـبـدو

فإني إذا ما صاحب رث وصلـه                      وأعرض عني قل مني له الوجد خبره مع الحارث بن خليد وشعره فيه: قال المدائني: كان لأبي الأسود صديق يقال له الحارث بن خليد، وكان في شرف من العطاء، فقال لأبي الأسود: ما يمنعك من طلب الديوان? فإن فيه غنى وخيرا، فقال له أبو الأسود: قد أغناني الله عنه بالقناعة والتجمل، فقال: كلا، ولكنك تتركه إقامة على محبة ابن أبي طالب وبغض هؤلاء القوم. وزاد الكلام بينهما، حأتى أغلظ له الحارث بن خليد، فهجره أبو الأسود، وندم الحارث على ما فرط منه، فسأل عشيرته أن تصلح بينهما، فأتوا أبا الأسود في ذلك وقالوا له: قد اعتذر إليك الحارث مما فرط منه وهو رجل حديد ، فقال أبو الأسود في ذلك:

لنا صاحب لا كليل اللسان                      فيصمت عنا ولا صارم

وشر الرجال على أهلـه                      وأصحابه الحمق العارم وقال فيه:

إذا كان شيء بـينـنـا قـيل إنـه                      حديد فخالف جهـلـه وتـرفـق

شنئت من الأصحاب من لست بارحا                      أدامله دمل السقـاء الـمـخـرق كتب إلى الحصين كتابا فتهاون به فقال فيه شعر: وقال المدائني: ولى عبيد الله بن زياد الحصين بن أبي الحر العنبري ميسان، فدامت ولايته إياها خمس سنين، فكتب إليه أبو الأسود كتابا يتصدى فيه لرفده، فتهاون به ولم ينظر فيه، فرجع إليه رسوله فأخبره بفعله فقال فيه:

ألا أبلغا عني حـصـينـا رسـالة                      فإنك قد قطعت أخرى خلالـكـا

فلو كنت إذ1 أصبحت للخرج عاملا                      بميسان تعطي من غير مـالـكـا

سألتك أو عرضت بالـود بـينـنـا                      لقد كان حقا واجبا بعـض ذلـكـا

وخبرني من كنت أرسلـت أنـمـا                      أخذت كتابي معرضا بشمـالـكـا

نظرت إلى عنـوانـه ونـبـذتـه                      كنبذك نعلا أخلقت من نعـالـكـا

حسبت كتابي إذ أتاك تـعـرضـا                      لسيبك، لم يذهب رجائي هنالـكـا

يصيب وما يدري ويخطي وما درى                      وكيف يكون النوك إلا كـذلـكـا فبلغت أبيات أبي الأسود حصينا، فغضب وقال: ما ظننت منزلة أبي الأسود بلغت ما يتعاطاه من مساءتنا وتوعدنا وتوبيخنا، فبلغ ذلك أبا الأسود فقال فيه:

أبلغ حـصـينـا إذا جـئتـه                      نصيحة ذي الرأي للمجتنيهـا

فلا تك مثل التي استخرجـت                      بأظلافها مدية أو بـفـيهـا

فقـام إلـيهـا بـهـا ذابـح                      ومن تدع يوما شعوب يجيها

فظلت بأوصالهـا قـدرهـا                      تحش الوليدة أو تشـتـويهـا

وإن تأب نصحي ولا تنتهـي                      ولم تر قولي بنصح شبـيهـا

أجرعك صابا وكان الـمـرا                      ر والصاب قدما شرابا كريها خبره مع معاوية بن صعصعة وشعره في ذلك: وقال خالد بن كلثوم: كان معاوية بن صعصعة يلقى أبا الأسود كثيرا فيحادثه ويظهر له المودة، وكانت تبلغه عنه قوارص فيذكرها له فيجحدها أو يحلف أنه لم يفعل، ثم يعاود ذلك، فقال فيه أبو الأسود:

ولي صاحب قد رابني أو ظلمتـه                      كذلك ما الخصمان بر وفـاجـر

وإني امرؤ عندي وعمدا أقـولـه                      لآتي ما يأتي امرؤ وهو خـابـر

لسانان معسول عـلـيه حـلاوة                      وآخر مسموم عليه الشـراشـر

فقلت ولم أبخل عليه نصيحـتـي                      وللمـرء نـاه لا يلام وزاجـر

إذا أنت حاولت البراءة فاجتـنـب                      عواقب قول تعتريه المـعـاذر

فكم شاعر أرداه أن قـال قـائل                      له في اعتراض القول إنك شاعر

عطفت عليه عطفة فتـركـتـه                      لما كان يرضى قبلها وهو حافر

 

صفحة : 1408

 

 

بقافية حـذاء سـهـل رويهـا                      وللقول أبواب ترى ومحاضـر

تعزى بها من نومه وهو ناعس                      إذ انتصف الليل المكل المسافر

إذا ما قضاها عاد فيها كـأنـه                      للذته سكران أو مـتـسـاكـر شعره في عبد الله بن عامر وكان مكرما له ثم جفاه لتشيعه: أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري عن العتبي قال: كان عبد الله بن عامر مكرما لأبي الأسود ثم جفاه لما كان عليه من التشيع فقال فيه أبو الأسود:

ألم تر ما بيني وبين ابن عامـر                      من الود قد بالت عليه الثعالـب

وأصبح باقي الود بيني وبـينـه                      كأن لم يكن، والدهر فيه عجائب

إذا المرء لم يحببك إلا تكـرهـا                      بدا لك من أخلاقه ما يغـالـب

فللنأي خير من مقام علـى أذى                      ولا خير فيما يستقل المعـاتـب قصته مع زوجتيه القشيرية والقيسية وشعره في ذلك: أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبيد الله بن محمد قال حدثنا ابن النطاح قال ذكر الحرمازي عن رجل من بني الديل قال: كانت لأبي الأسود الدؤلي امرأة من بني قشير وامرأة من عبد القيس، فأسن وضعف عما يطيقه الشباب من أمر النساء، فأما القشيرية فكانت أقدمهما عنده وأسنهما، فكانت موافقة له صابرة عليه، وهي أم عوف القشيرية التي يقول فيها:

أبى القلب إلا أم عوف وحبهـا                      عجوزا ومن يحب عجوزا يفند

كسحق يمان قد تقـادم عـهـده                      ورقعته ما شئت في العين واليد وأما الأخرى التي من عبد القيس فهي فاطمة بنت دعمي وكانت أشبهما وأجملهما فالتوت عليه لما أسن، وتنكرت له وساءت عشرتها، فقال فيها أبو الأسود:

تعاتبني عرسي على أن أطيعـهـا                      قد كذبتها نفسها مـا تـمـنـيت

وظنت بأني كل ما رضـيت بـه                      رضيت به، يا جهلها كيف ظنت

وصاحبتها ما لو صحبت بمثـلـه                      على ذعرها أروية لاطمـأنـت

وقد غرها مني على الشيب والبلى                      جنوني بها، جنت حيالي وحنـت يقال: جن وحن، وهو من التباع كما يقال: حسن بسن

ولا ذنب لي قد قلت في بدء أمرنا                      ولو علمت ما علمت ما تعنـت

تشكى إلى جاراتها وبـنـاتـهـا                      إذا لم تجد ذنبا علينا تـجـنـت

ألم تعلمي أني إذا خفت جـفـوة                      بمنزلة أبعدت منها مـطـيتـي

وأني إذا شقت علي حلـيلـتـي                      ذهلت ولم أحنن إذا هي حنـت وفيها يقول:

أفاطم مهلا بعض هذا التـعـبـس                      وإن كان منك الجد فالصرم موئسي

تشتم لي لمـا رأتـنـي أحـبـهـا                      كذى نعمة لم يبدها غـير أبـؤس

فإن تنقضي العهد الذي كان بينـنـا                      وتلوى به في ودك المتـحـلـس

فإني فلا يغررك مني تجـمـلـي                      لأسلى البعاد بالبعاد الـمـكـنـس

وأعلم أن الأرض فيهـا مـنـادح                      لمن كان لم تسدد عليه بمحـبـس

وكنت امرأ لا صحبة السوء أرتجي                      ولا أنا نـوام بـغـير مـعـرس أرسل غلامه يشتري له جارية فأخذها لنفسه فقال شعرا في ذلك: وقال المدائني: كان لأبي الأسود الدؤلي مولى يقال له نافع ويكنى أبا الصباح، فذكرت لأبي الأسود جارية تباع، فركب فنظر إليها فأعجبته، فأرسل نافعا يشتريها له فاشتراها لنفسه وغدر بأبي الأسود، فقال في ذلك:

إذا كنت تبغي للأمانة حـامـلا                      فدع نافعا وانظر لها من يطيقها

فإن الفتى خـب كـذوب وإنـه                      له نفس سوء يحتويها صديقهـا

متى يخل يوما وحـده بـأمـانة                      تغل جميعا أو يغل فـريقـهـا

على أنه أبقى الرجال سـمـانة                      كما كل مسمان الكلاب سروقها خطبته في موت علي بن أبي طالب: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا علي بن محمد المدائني عن أبي بكر الهذلي قال:

 

صفحة : 1409

 

أتى أبا الأسود الدؤلي نعي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وبيعة الحسن عليه السلام، فقام على المنبر فخطب الناس ونعى عليا عليه السلام فقال في خطبته: وإن رجلا من أعداء الله المارقة عن دينه، اغتال أمير المؤمنين عليا كرم الله وجهه ومثواه في مسجد وهو خارج لتهجده في ليلة يرجى فيها مصادفة ليلة القدر فقتله، فيالله هو من قتيل وأكرم به وبمقتله وروحه من روح عرجت إلى الله تعالى بالبر والتقى والإيمان والإحسان لقد أطفأ منه نور الله في أرضه لا يبين بعده أبدا، وهدم ركنا من أركان الله تعالى لا يشاد مثله؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، وعند الله نحتسب مصيبتنا بأمير المؤمنين، وعليه السلام ورحمة الله يوم ولد ويوم قتل ويوم يبعث حيا.

ثم بكى حتى اختلفت أضلاعه، ثم قال: وقد أوصى بالإمامة بعده إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنه وسليله وشبيهه في خلقه وهديه، وإني لأرجو أن يجبر الله عز وجل به ما وهى، ويسد به ما انثلم، ويجمع به الشمل، ويطفئ به نيران الفتنة، فبايعوه ترشدوا .

كتب إليه معاوية يدعوه إلى أخذ البيعة له بالبصرة فقال شعرا يرثي فيه علي بن أبي طالب: فبايعت الشيعة كلها، وتوقف ناس ممن كان يرى رأي العثمانية ولم يظهروا أنفسهم بذلك، وهربوا إلى معاوية، فكتب إليه معاوية ودس إليه يعلمه أن الحسن عليه السلام قد راسله في الصلح، ويدعوه إلى أخذ البيعة له بالبصرة، ويعده ويمنيه؛ فقال أبو الأسود:

ألا أبلغ معاوية بن حـرب                      فلا قرت عيون الشامتينـا

أفي شهر الصيام فجعتمونا                      بخير الناس طرا أجمعينـا

قتلتم خير من ركب المطايا                      وخيسها ومن ركب السفينا

ومن لبس النعال ومن حذاها                      ومن قرأ المثاني والمئينـا

إذا استقبلت وجه أبي حسين                      رأيت الدر راق الناظرينـا

لقد علمت قريش حيث حلت                      بأنك خيرها حسبـا ودينـا لزم ابنه المنزل فحثه على العمل والسعي في طلب الرزق: أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي عن الهيثم بن عدي عن أبي عبيدة قال: كان أبو حرب بن أبي الأسود قد لزم منزل أبيه بالبصرة لا ينتجع أرضا، ولا يطلب الرزق في تجارة ولا غيرها، فعاتبه أبوه على ذلك، فقال أبو حرب: إن كان لي رزق فسيأتيني، فقال له:

وما طلب المعيشة بالتمني                      ولكن ألق دلوك في الدلاء

تجئك بملئها يومـا ويومـا                      تجئك بحمأة وقليل مـاء شعره في ابن مولاته لطيفة: قال المدائني: كانت لأبي الأسود مولاة يقال لها لطيفة، وكان لها عبد تاجر يقال له ملم فابتاعت له أمة وأنكحته إياها، فجاءت بغلام فسمته زيدا، فكانت تؤثره على كل أحد، وتجد به وجد الأم بولدها، وجعلته على ضيعتها، فقال فيه أبو الأسود، وقد مرضت لطيفة:

وزيد هالك هلك الحبـارى                      إذا هلكت لطيفة أو مـلـم

تبنته فقـال وأنـت أمـي                      فأنى بعدها لـك زيد أم

ترم متاعـه وتـزيد فـيه                      وصاحبها لما يحوي مضم

ستلقى بعدها شرا وضـرا                      وتقصى إن قربت فلا تضم

وتلقاك الملامة كـل وجـه                      سلكت وينتحي حالـيك ذم قال فماتت لطيفة من علتها تلك، وورثها أبو الأسود، فطرد زيدا عما كان يتولاه من ضيعتها، وطالبه بما خانه من مالها فارتجعه، فكان بعد ذلك ضائعا مهانا بالبصرة كما قال فيه وتوعده .

اشترى جارية للخدمة فتعرضت له فقال في ذلك شعرا: قال المدائني أيضا: اشترى أبو الأسود أمة للخدمة، فجعلت تتعرض منه للنكاح وتتطيب وتشتمل بثوبها، فدعاها أبو الأسود فقال لها: اشتريتك للعمل والخدمة، ولم أشترك للنكاح، فأقبلي على خدمتك، وقال فيها:

أصلاح إني لا أريدك للصبـا                      فدعي التشمل حولنا وتبذلـي

إني أريدك للعجين وللـرحـا                      ولحمل قربتنا وغلي المرجل

وإذا تروح ضيف أهلك أو غدا                      فخذي لآخر أهبة المسستقبل أهدى إليه المنذر بن الجارود ثيابا فقال شعرا يمدحه فيه:

 

صفحة : 1410

 

أخبرنا الحسن بن الطيب الشجاعي قال حدثنا أبو عشانة عن ابن عباس قال: كان المنذر بن الجارود العبدي صديقا لأبي الأسود الدؤلي تعجبه مجالسته وحديثه، وكان كل واحد منهما يغشي صاحبه؛ وكانت لأبي الأسود مقطعة من برود يكثر لبسها، فقال له المنذر: لقد أدمنت لبس هذه المقطعة، فقال له أبو الأسود: رب مملول لا يستطاع فراقه؛ فعلم المنذر أنه قد احتاج إلى كسوة فأهدى له ثيابا، فقال أبو الأسود يمدحه:

كساك ولم تستكسه فـحـمـدتـه                      أخ لك يعطيك الجزيل ونـاصـر

وإن أحق الناس إن كنت حـامـدا                      بحمدك من أعطاك والعرض وافر أبيات أوصى فيها ابنه: أنشدني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب لأبي الأسود يوصي ابنه، وفي هذه الأبيات غناء: صوت:

لا ترسلن رسالة مـشـهـورة                      لا تستطيع إذا مضت إدراكها

أكرم صديق أبيك حيث لقـيتـه                      واحب الكرامة من بدا فحباكها

لا تبدين نمـيمة حـدثـتـهـا                      وتحفظن من الذي انبـاكـهـا اعتذر لزياد في شيء جرى بينهما فلم يقبل عذره فقال في ذلك شعرا: أخبرني محمد بن خلف بن مرزبان قال حدثنا أبو محمد المروزي عن القحذمي عن بعض الرواة أن أبا الأسود الدؤلي اعتذر إلى زياد في شيء جرى بينهما، فكأنه لم يقبل عذره فأنشأ يقول:

إنني مجرم وأنـت أحـق الـن                      اس أن تقبل الغداة اعتـذاري

فاعف عني فقد سفهت وأنت ال                      مرء تعفو عن الهنات الكبـار فتبسم زياد وقال: أما إذا كان هذا قولك فقد قبلت عذرك وعفوت عن ذنبك .

استشير في رجل أن يولى ولاية فقال شعرا: أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن عيسى بن عمر قال: سئل أبو الأسود عن رجل، واستشير في أن يولى ولاية، فقال أبو الأسود: هو ما علمته: أهيس أليس، ألد ملحس ، إن اعطى انتهر ، وإن سئل أزر . قال الأصمعي: الأهيس: الحاد، ويقال في المثل:

إحدى لياليك فهيسي هيسي قال: ويقال ناقة ليساء: إذا كانت لا تبرح من المبرك. قال: وهو مما يوصف به الشجاع ، وأنشد في صفة ثور:

أليس عن حوبائه سخي ضمن له كاتب بن عامر أن يقضي حاجة ثم نكث فقال شعرا في ذلك: أخبرني أحمد بن محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن الأسود بن الهيثم الحنفي قال حدثنا أبو ملحم عن مؤرج السدوسي عن عبد الحميد بن عبد الله بن مسلم بن يسار قال وكان من أفصح أهل زمانه قال: أوصى أبو الأسود الدؤلي كاتبا لعبد الله بن عامر بحاجة له فضمن قضاءها ثم لم يصنع فيها شيئا، فقال أبو الأسود:

لعمري لقد أوصيت أمس بحاجـتـي                      فتى غير ذي قصد علـي ولا رؤف

ولا عارف ما كان بـينـي وبـينـه                      ومن خير ما أدلى به المرء ما عرف

وما كان ما أملت منـه فـفـاتـنـي                      بأول خير من أخـي ثـقة صـرف جفاه أبو الجارود فقال فيه شعرا: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني محمد بن القاسم مولى بني هاشم قال حدثني أبو زيد الأنصاري سعيد بن أوس قال حدثني بكر بن حبيب السهمي عن أبيه، وكان من جلساء أبي الأسود الدؤلي قال: كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذلي شاعرا، وكان صديقا لأبي الأسود الدؤلي، فكان يهاديه الشعر، ثم تغير ما بينهما، فقال فيه أبو الأسود:

أبلغ أبا الأسود الجارود عني رسالة                      يروح بها الماشي ليلقاك أو يغدو

فيخبرنا ما بال صرمك بعـد مـا                      رضيت وما غيرت من خلق بعد

أأن نلت خيرا سرني حين نلـتـه                      تنكرت حتى قلت ذو لبدة ورد ?

فعيناك عيناه وصوتـك صـوتـه                      تمثله لي غـير أنـك لا تـعـدو

فإن كنت قد أزمعت بالصرم بيننـا                      وقد جعلت أسباب أولـه تـبـدو

فإني إذا ما صاحب رث وصـلـه                      وأعرض عني قلت بالأبعد الفقـد وفاته:

 

صفحة : 1411

 

وكانت وفاة أبي الأسود فيما ذكره المدائني في الطاعون الجارف سنة تسع وستين وله خمس وثمانون سنة. قال المدائني: وقد قيل إنه مات قبل ذلك، وهو أشبه القولين بالصواب، لأنا لم نسمعه له في فتنة مسعود وأمر المختار بذكر، وذكر مثل هذا القول بعينه. والشك فيه هل أدرك الطاعون الجارف أو لا، عن يحيى بن معين. أخبرني به الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن المدائني ويحيى بن معين: صوت:

لعمرك أيها الرجـل                      لأي الشكل تنتـقـل

أتهجر آل زينـب أم                      تزورهم فتعتـدل ?

هم ركب لقوا ركبـا                      كما قد تجمع السبل

فذلك دأبـنـا وبـذا                      ك تجري بيننا الرسل الشعر لأبي نفيس بن يعلى بن منية، والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى، وفيه لابن سريج رمل بالوسطى، ولجميلة خفيف رمل بالبنصر .

 

أخبار أبي نفيس ونسبه

نسبه: اسمه حيي بن يحيى بن يعلى بن منية، وقيل بل اسم أبي النفيس يحيى بن ثعلبة بن منية، ومنية أمه، ذكر ذلك الزبير بن بكار عن عمرو بن يحيى بن عبد الحميد. قال الزبير: وكان عمي يقول: اسمه ميمون بن يعلى؛ وأمه منية بنت غزوان أخت عتبة بن غزوان، وأبوه أمية بن عبدة بن همام بن جشم بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم، وجدت ذلك بخط أبي محلم النسابة، قال: ويقال لبني زيد بن مالك بنو العدوية، وهي فكيهة بنت تميم بن الدئل بن حسل بن عدي بن عبد مناة بن تميم، ولدت لمالك بن حنظلة زيدا وصديا ويربوعا، فهل يدعون بني العدوية .

بعض أخبار جده يعلى بن منية: وكان يعلى بن منية حليفا لنبي أمية وعديدا لهم، وبينه وبينهم صهر ومناسبة، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وسمع منه حديثا كثيرا وروى عنه حديثا كثيرا، وعمر بعده؛ وكان مع عائشة يوم الجمل على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام .

أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن أبي مخنف عن عبد الرحمن ابن عبيد عن أبي الكنود قال: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: منيت أو بليت بأطوع الناس في الناس عائشة، وبأدهى الناس طلحة، وبأشجع الناس الزبير، وبأكثر الناس مالا يعلى بن منية، وبأجود قريش عبد الله بن عامر، فقام إليه رجل من الأنصار فقال: والله يا أمير المؤمنين لأنت أشجع من الزبير، وأدهى من طلحة، وأطوع فينا من عائشة، وأجود من ابن عامر، ولمال الله أكثر من مال يعلى بن منية، وليكونن كما قال الله عز وجل:  فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون  . فسر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بقوله، ثم قام إليه رجل آخر منهم فقال:

أما الزبـير فـأكـفـيكـه                      وطلحة يكفيكه وحـوحـه

ويعلى بن منية عند القـتـال                      شديد التثاؤب والنحـنـحـه

وعايش يكفيكـهـا واعـظ                      وعائش في الناس مستنصحه

فلا تجزعـن فـإن الأمـور                      إذا ما أتيناك مستنـجـحـه

وما يصلح الأمـر إلا بـنـا                      كما يصلح الجبن بالإنفخـه قال: فسر علي عليه السلام بقوله، ودعا له وقال: بارك الله فيك. قال: فأما الزبير فناشده علي عليه السلام فرجع فقتله بنو تميم، وأما طلحة فناشده وحوحة، وكان صديقه وكان من القراء، فذهب لينصرف، فرماه رجل من عسكرهم فقتله .

فأما ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم فكثير، ولكني أذكر منه طرفا كما ذكرت لغيره .

روى يعلى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: أخبرني أحمد بن الجعد قال حدثني محمد بن عباد المكي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو ابن دينار عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر:  ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك  . وقد روى يعلى عنه صلى الله عليه وسلم كثيرا اقتصرت منه على هذا لتعرف روايته عنه .

أقرض يعلى الزبير بن العوام يوم الجمل مالا، فقضاه عنه ابنه عبد الله بعد مقتله:

 

صفحة : 1412

 

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن أبي مخنف قال: أقرض يعلى بن منية الزبير بن العوام حين خرج إلى البصرة في وقعة الجمل أربعين ألف دينار، فقضاها ابن الزبير بعد ذلك لأن أباه قتل يومئذ ولم يقضه إياها .

قال: ولما صاروا إلى البصرة تنازع طلحة والزبير في الصلاة، فاتفقا على أن يصلي ابن هذا يوما وابن هذا يوما، فقال شاعرهم في ذلك:

تبارى الغلامان إذ صلـيا                      وشح على الملك شيخاهما

ومالي وطلحة وابن الزبير                      وهذا بذي الجزع مولاهما

فأمهما اليوم غرتـهـمـا                      ويعلى بن منية دلاهـمـا رثى يعلى زوجه حين توفيت بتهامة: أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن يحيى عن جده عبد الحميد قال: كان يعلى بن منية ويكنى أبا نفيس، وسمعت غير جدي يقول اسمه يحيى وهو من بني العدوية من بني تميم من بني حنظلة تزوج امرأة من بني مالك بن كنانة يقال لها زينب، ولهم حلف في بني غفار، وهي من بنات طارق اللاتي يقلن:

نحن بنـات طـارق                      نمشي على النمارق فتوفيت بتهامة فقال يرثيها:

يا رب رب الناس لما نحـبـوا                      وحين أفضوا من منى وحصبوا

لا يسقـين مـلـح وعـلـيب                      والمستراد لا سقاة الكـوكـب

من أجل حماهن ماتت زينب قال الزبير: وأنشدنيها عمي مصعب لأبي نفيس بن يعلى بن منية قال: واسمه ميمون، وكان عمي يقول: اسم أبي نفيس ميمون بن يعلى، وقال في الأبيات:

لا يسقين عنبب وعليب أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى عن جده غسان بن عبد الحميد قال: رأت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم بنات طارق اللواتي يقلن:

نحن بنـات طـارق                      نمشي على النمارق فقالت: أخطأ من يقول: الخيل أحسن من النساء .

قال: وقالت هند بنت عتبة لمشركي قريش يوم أحد:

نحن بنـات طـارق                      نمشي على النمارق

الدر في المخـانـق                      والمسك في المفارق

إن تقبلوا نـعـانـق                      أو تدبروا نـفـارق

فراق غير وامـق أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن يحيى بن عبد الملك الهديري قال: جلست ليلة وراء الضحاك بن عثمان الحزامي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا متقنع، فذكر الضحاك وأصحابه قول هند يوم أحد:

نحن بنات طارق فقال: وما طارق? فقلت: النجم، فالتف الضحاك فقال: أبا زكريا، وكيف بذاك? فقلت: قال الله عز وجل:  والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب  . فقالت: إنما نحن بنات النجم، فقال: أحسنت .

صوت:

خليلي قوما في عطالة فآنظـرا                      أنارا أرى من نحو يبرين أم برقا

فإن يك برقا فهو في مشمخـرة                      تغادر ماء لا قليلا ولا طـرقـا

وإن تك نارا فهي نار بملتـقـى                      من الريح تسفيها وتصفقها صفقا ويروي: تزهاها وتعفقها عفقا

لأم علي أوقدتهـا طـمـاعة                      لأوبة سفر أن تكون لهم وفقا العشر لسويد بن كراع، والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى عن يحيى المكي، وذكر غيره أنه لابن مسحج .

 

أخبار سويد بن كراع ونسبه

سويد بن كراع العكلي، أحد بني الحارث بن عوف بن وائل بن قيس بن عكل. شاعر فارس مقدم من شعراء الدولة الأموية. وكان في آخر أيام جرير والفرزدق .

كان شاعرا محكما، وكان رجل بني عكل وذا الرأي والتقدم فيهم: وذكر محمد بن سلام في كتاب الطبقات فيما أخبرنا عنه أبو خليفة قال: كان سويد بن كراع شاعرا محكما، وكان رجل بني عكل وذا الرأي والتقدم فيهم، وعكل وضبة وعدي وتيم هم الرباب .

قال: وكان بعض بني عدي ضرب رجلا من بني ضبة، ثم من بني السيد، وهم قوم نكد شرس ، وهم أخوال الفرزدق، فاجتمعوا حتى ألم أن يكون بينهم شر، فجاء رجل من بني عدي فأعطى يده رهينة لينظروا ما يصنع المضروب، فقال خالد بن علقمة بن الطيفان حليف بني عبد الله بن دارم:

أسالم إني لا إخالك سـالـمـا                      أتيت بني السيد الغواة الأشائما

 

صفحة : 1413

 

 

أسالم إن أفلت من شر هـذه                      فوائل فرارا إنما كنت حالما

أسالم ما أعطى ابن مامة مثلها                      ولا حاتم فيما بلا الناس حاتما قال شعرا يرد به على خالد بن علقمة: فقال سويد بن كراع يجيبه عن ذلك:

أشاعر عبد الله إن كنـت لائمـا                      فإني لما تأتي مـن الأمـر لائم

تحضض أفناء الرباب سـفـاهة                      وعرضك موفور وليلـك نـائم

وهل عجب أن تدرك السيد وترها                      وتصبر للحق السـراة الأكـارم

رأيتك لم تمنع طهية حكـمـهـا                      وأعطيت يربوعا وأنفك راغـم

وأنت امرؤ لا تقبل النصح طائعا                      ولكن متى تقهـر فـإنـك رائم ووجدت هذا الخبر في رواية أبي عمرو الشيباني أتم منه ها هنا وأوضح فذكرته؛ قال: كان بين السيد بن مالك، من ضبة، وبين بني عدي بن عبد مناة ترام على خبراء بالصمان يقال لها ذات الزجاج، فرمي عمرو بن حشفة أخو بني شييم فمات، ورمت بنو السيد رجلا منهم يقال له مدلج بن صخر العدوي فمكث أياما لم يمت، فمر رجل من بني عدي يقال له معلل على بني السيد وهو لا يعلم الخبر، فأخذوه فشدوه وثاقا فأفلت منهم، ومشى بينهم عصمة بن أبير التيمي سفيرا، فقال لسالم بن فلان العدوي: لو رهنتهم نسفك فإن مات مدلج كان رجل برجل، وإن لم يمت حملت دية صاحبهم، ففعل ذلك سالم على أن يكون عند أخثم بن حميري أخي بني شييم من بني السيد، فكان عنده. ثم إن بني السيد لما أبطأ عليهم موت مدلج أتوا أخثم لينتزعوا منه سالما ويقتلوه، ففوض عليه أخثم بيته ثم قال: يا آل أمي وكانت أمه من بني عبد مناة بن بكر فمنعه عبد مناة. ثم إن بني عبد السيد قالوا لأخثم: إلى كم تمنع هذا الرجل أما الدية فوالله لا نقبلها أبدا. فجعل لهم أجلا إن لم يمت مدلج فيه دفع إليهم سالما فقتلوه به. فلما كان قبل ذلك الأجل بيوم مات مدلج، فقتلوا سالما، فقال في ذلك خالد بن علقمة أخو بني عبد الله بن دارم، وهو ابن الطيفان:

أسالم ما منتك نفسك بـعـدمـا                      أتيت بني السيد الغواة الأشائما ?

أسالم قد منتك نفـسـك أنـمـا                      تكون ديات ثم ترجع سـالـمـا

كذبت ولكن ثـائر مـتـبـسـل                      يلقيك مصقول الحديدة صارمـا

أسالم ما أعطى ابن مامة مثلهـا                      ولا حاتم فيما بلا الناس حاتمـا

أسالم إن أفلت مـن شـر هـذه                      فوائل فرارا إنما كنت حالـمـا

وقد أسلمت تيم عديا فأربـعـت                      ودلت لأسباب المنية سـالـمـا فأجابه سويد بن كراع بالأبيات التي ذكرها ابن سلام، وزاد فيها أبو عمرو:

دعوتكم إلى أمر النواكة دارمـا                      فقد تركتكـم والـنـوكة دارم

وكنت كذات البو شرمت استهـا                      فطابقت لما خرمتك الغـمـائم

فلو كنت مولى مسلت ما تجللت                      به ضبع في ملتقى القوم واحم

ولم يدرك المقتول إلا مـجـره                      وما أسأرت منه النسور القشاعم

عليك ابن عوف لا تدعه فإنمـا                      كفاك موالينا الذي جر سـالـم

أتذكر أقواما كفوك شـئونـهـم                      وشأنك إلا تركه مـتـفـاقـم قال: وقال سويد بن كراع في ذلك:

أرى آل يربوع وأفـنـاه مـالـك                      أعضوك في الحرب الحديد المنقبا

هم رفعوا فأس اللجام فـأدركـت                      لهاتك حتى لم تدع لك مشـربـا

فإن عدت عادوا بالتي ليس فوقهـا                      من الشر إلا أن تبيت محـجـبـا

وتصبح تدرى الكعكبـية قـاعـدا                      وينتف من ليتيك ما كان أزغـبـا تدرى: تمشط بالمدرى كما يفعل بالنساء والكعكبية: مشطة معروفة

فهل سألوا فينا سواء الذي لهم                      وهل نحن أعطينا سواه فتعجبا ويروى:

فهل سألونا خصلة غير حقهم وهو أجود .

استعدت بنو عبد الله سعيد بن عثمان عليه: قال: فاستعدت بنو عبد الله سعيد بن عثمان بن عفان على سويد بن كراع في هجائه إياهم، فطلبه ليضربه ويحبسه، فهرب منه، ولم يزل متواريا حتى كلم فيه، فأمنه على ألا يعاود، فقال سويد بن كراع:

 

صفحة : 1414

 

 

تقول ابنة العوفي ليلـى ألا تـرى                      إلى ابن كراع لا يزال مفـزعـا

مخافة هذين الأمـيرين سـهـدت                      رقادي وغشتني بياضا تفـرعـا

على غير جرم غير أن جار ظالم                      علي فجهزت القصيد المفـرعـا

وقد هابني الأقوام لما رمـيتـهـم                      بفاقرة إن هـم أن يتـشـجـعـا

أبيت بأبواب القوافـي كـأنـمـا                      أصادي بها سربا من الوحش نزعا

أكالئها حتـى أعـرس بـعـدمـا                      يكون سحير أو بعيد فأهـجـعـا

فجشمني خوف ابن عثمان ردهـا                      ورعيتها صيفا جديدا أو مربـعـا

نهاني ابن عثمان الإمام وقد مضت                      نوافذ لو تردي الصفا لتصـدعـا

عوارق ما يتركن لحما بعظـمـه                      ولا عظم لحم دون أن يتمـزعـا

أحقا هداك الله أن جـار ظـالـم                      فأنكر مظلوم بأن يؤخـذا مـعـا

وأنت ابن حكام أقاموا وقـومـوا                      قرونا وأعطوا نائلا غير أقطعـا انتجع بقومه أرض بني تميم: أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال: انتجع سويد بن كراع بقومه أرض بني تميم، فجاور بني قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم، فأنزله بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن أنف الناقة بن قريع وأرعاه، ووصله وكساه. فلم يزل مقيما فيهم حتى أحيا ، ثم ودعهم وأتى بغيضا وهو في نادي قومه وقد مدحه فأنشده قوله .

قال حماد: ومن لا يعلم يروي هذه القصيدة للحطيئة لكثرة مدحه بغيضا، وهي لسويد بن كراع:

ارتعت للـزور إذ حـيا وأرقـنـي                      ولم يكن دانـيا مـنـا ولا صـددا

ودونه سبسب تنضى المـطـي بـه                      حتى ترى العنس تلقي رحلها الأجدا

إذا ذكرت فاضت عبـرتـي دررا                      وكاد مكتوم قلبي يصدع الـكـبـدا

وذاك مني هوى قد كان أضـمـره                      فلبي فما ازداد من نقص ولا نفـدا

وقد أرانا وحال النـاس صـالـحة                      نحتل مربـوعة أدمـان أو بـردى

ليت الشباب وذاك العصر راجعنـا                      فلم نزل كالـذي كـنـا بـه أبـدا

أيام أعلم كم أعمـلـت نـحـوكـم                      من عرمس عاقد لم ترأم الـولـدا

تصيخ عند السرى في البيد سامـية                      سطعاء تنهض في ميتائها صعـدا

كأن رحلي على حمـش قـوائمـه                      برمل عرنان أمسى طـاويا وحـدا

هاجت عليه من الجـوزاء سـارية                      وطفاء تحمل جونا مردفا نـضـدا

فألجـأتـه إلـى أرطـأة عـانـكة                      فيحاء ينهال منها ترب ما التـبـدا

تخال عطفيه من جول الـرذاذ بـه                      منـظـمـا بـيدي دارية فــردا

حتى إذا ما انجلت عنـه دجـنـتـه                      وكشف الصبح عنه الليل فاطـردا

غدا كذي التاج حـلـتـه أسـاورة                      كأنما اجتاب في حر الضحى سنـدا وهي طويلة اختصرتها، يقول فيها:

لا يبعد الله إذ ودعـت أرضـهـم                      أخي بغيضا ولكن غـيره بـعـدا

لا يبعد الله من يعطي الجزيل ومن                      يحبو الخليل وما أكدى وما صلـدا

ومن تلاقيه بالمعروف معـتـرفـا                      إذا اجرهد صفا المذموم أو صلـدا

لاقيته مفضلا تـنـدى أنـامـلـه                      إن يعطيك اليوم لا يمنعك ذاك غدا

تجيء عفوا إذا جاءت عـطـيتـه                      ولا تخالط تـرنـيقـا ولا زهـدا

أولاه بالمفخر الأعلى وأعظـمـه                      خلقا وأوسعه خيرا ومـنـتـفـدا

إذا تكـلـف أقـوام صـنـائعـه                      لاقوا ولم يظلموا من دونها صعدا

بحر إذا نكس الأقوام أو ضجـروا                      لاقـيت خـير يديه دائمـا رغـدا

لا يحسب المدح خدعا حين تمدحـه                      ولا يرى البخل منهـاة لـه أبـدا

إني لرافده ودي ومـنـصـرتـي                      وحافظ غيبه إن غاب أو شـهـدا صوت:

حنتني حانيات الدهر حتى                      كأني خاتل يدنو لصـيد

 

صفحة : 1415

 

 

قريب الخطو يحسب من رآني                      ولست مقـيدا أنـي بـقـيد عروضه من الوافر، الخاتل: الذي يتقتر للصيد وينحني حتى لا يرى. ويقال لكل من أراد خداع صيد أو إنسان: ختله، ورى أمره فلم يظهره. ومن رواه: كأني حابل فإنه يعني الذي ينصب حبالة للصيد. الشعر لأبي الطمحان القيني. والغناء لإبراهيم ماخوري وهو خفيف الثقيل الثاني بالوسطى. وذكر ابن حبيب أن هذا الشعر للمسجاح بن سباع الضبي، فإن كان ذلك على ما قال فلأبي الطمحان مما يغنى فيه من شعره ولا يشك فيه أنه له قوله: صوت:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههـم                      دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه الغناء لعريب ثاني ثقيل وخفيف رمل، وذكر ابن المعتز أن خفيف الرمل لها، وأن الثقيل الثاني لغيرها.

 

الجزء الثالث عشر

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أخبار أبي الطمحان القيني

اسمه ونسبه

أبو الطمحان اسمه حنظلة بن الشرقي ، أحد بني القين بن جسر بن شيع الله من قضاعة، وقد تقدم هذا النسب في عدة مواضع من الكتاب في أنساب شعرائهم.

إدراكه الجاهلية والإسلام

واتصاله بالزبير بن عبد المطلب

وكان أبو الطمحان شاعرا فارسا خاربا صعلوكا. وهو من المخضرمين، أدرك الجاهلية والإسلام، فكان خبيث الدين فيهما كما يذكر. وكان تربا للزبير بن عبد المطلب في الجاهلية ونديما له. أخبرنا بذلك أبو الحسن الأسدي عن الرياشي عن أبي عبيدة.

ومما يدل على أنه قد أدرك الجاهلية ما ذكره ابن الكلبي عن أبيه قال : خرج قيسبة بن كلثوم السكوني، وكان ملكا، يريد الحج - وكانت العرب تحج في الجاهلية فلا يعر ، بعضها لبعض - فمر ببني عامر بن عقيل، فوثبوا عليه فأسروه وأخذوا ماله وما كان معه، وألقوه في القد ، فمكث فيه ثلاث سنين، وشاع باليمن أن الجن استطارته. فبينا هو في يوم شديد البرد في بيت عجوز منهم إذ قال لها :أتأذنين لي أن آتي الأكمة فأتشرق عليها فقد أضر بي القر? فقالت له نعم. كانت عليه جبة له حبرة لم يترك عليه غيرها، فتمشى في أغلاله وقيوده حتى صعد الأكمة، ثم أقبل يضرب ببصره نحو اليمين، وتغشاه عبرة فبكى، ثم رفع طرفه إلى السماء وقال: اللهم ساكن السماء فرج لي مما أصبحت فيه. فبينا هو كذلك إذ عرض له راكب يسير، فأشار إليه أن أقبل، فأقبل الراكب، فلما وقف عليه قال له: ما حاجتك يا هذا? قال: أين تريد? قال: أريد اليمن. قال: ومن أنت? قال أنا أبو الطمحان القيني، فاستعبر باكيا. فقال له أبو الطمحان: من أنت ? فإني أرى عليك سيما الخير ولباس الملوك، وأنت بدار ليس فيها ملك. قال: أنا قيسبة بن كلثوم السكوني، خرجت عام كذا و كذا أريد الحج، فوثب علي هذا الحي فصنعوا بي ما ترى، وكشف عن أغلال و قيوده، فاستعبر أبو الطمحان، فقال له قيسبة: هل لك في مائة ناقة حمراء? قال: ما أحوجني إلى ذلك قال: فأنخ، فأناخ. ثم قال له: أمعك سكين? قال نعم. قال: ارفع لي عن رحلك، فرفع له عن رحله حتى بدت خشبة مؤخره ، فكتب عليها قيسبة بالمسند ، وليس يكتب به غير أهل اليمن:

بلغا كندة الملـوك جـمـيعـا                      حيث سارت بالأكرمين الجمال

أن ردوا العين بالخميس عجالا                      واصدروا عنه والروايا ثقـال

هزئت جارتي وقالت عجـيبـا                      إذ رأتني في جيدي الأغـلال

إن تريني عاري العظام أسيرا                      قد براني تضعضع واختـلال

فلقد أقدم الكتـيبة بـالـسـي                      ف علي السلاح والسـربـال

 

صفحة : 1416

 

وكتب تحت الشعر إلى أخيه أن يدفع إلى أبي طمحان مائة ناقة. ثم قال له :أقرىء هذا قومي، فإنهم سيعطونك مائة ناقة حمراء. فخرج تسير به ناقته، حتى أتى حضرموت، فتشاغل بما ورد له ونسي أمر قيسبة حتى فرغ من حوائجه. ثم سمع نسوة من عجائز اليمن يتذاكرن قيسبة ويبكين، فذكر أمره، فأتى أخاه الجون بن كلثوم، وهو أخوه لأبيه وأمه، فقال له: يا هذا، إني أدلك على قيسبة وقد جعل لي مائة من الإبل. قال له: فهي لك. فكشف عن الرحل، فلما قرأه الجون أمر له بمائة ناقة، ثم أتى قيس بن معد يكرب الكندي أبا الأشعث بن قيس، فقال له: يا هذا، إن أخي في بني عقيل أسير، فسر معي بقومك، فقال له: أتسير تحت لوائي حتى أطلب ثأرك وأنجدك، وإلا فامض راشدا. فقال له الجون: مس السماء أيسر من ذلك وأهون علي مما خيرته. وضجت السكون ثم فاءوا ورجعوا وقالوا له: وما عليك من هذا هو ابن عمك ويطلب ذلك بثأرك فأنعم له بذلك .

<H6 اجتماع السكون وكندة لإنقاذ قيسبة</H6 وسار قيس وسار الجون معه تحت لوائه، وكندة والسكون معه، فهو أول يوم اجتمعت فيه السكون وكندة لقيس، وبه أدرك الشرف. فسار حتى أوقع بعامر بن عقيل فقتل منهم مقتلة عظيمة واسنتقذ قيسبة. وقال في ذلك سلامة بن صبيح الكندي:

لا تشتمونا إذ جلبنـا لـكـم                      ألفي كميت كلها سلـهـبة

نحن أبلنا الخيل في أرضكم                      حتى ثأرنا منكم قـيسـبة

واعترضت من دونهم مذحج                      فصادفوا من خيلنا مشغـبة  اعتراف أبي الطمحان بأدنى ذنوبه

حدثنا إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال: بلغني أن أبا الطمحان القيني قيل له، وكان فاسقا خاربا، ما أدنى ذنوبك? قال: ليلة الدير. قيل له: وما ليلة الدير? قال: نزلت بديرانية فأكلت عندها طفيشلا بلحم خنزير، وشربت من خمرها، وزنيت بها، وسرقت كساءها ، ثم انصرفت عنها.

التجاؤه إلى بني فزارة

من جناية جناها وإقامته عندهم حتى هلك

أخبرني عمي قال حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: جنى أبو الطمحان القيني جناية وطلبه السلطان، فهرب من بلاده ولجأ إلى بني فزارة فنزل على رجل منهم يقال له: مالك بن سعد أحد بني شمخ؛ فآواه وأجاره وضرب عليه بيتا وخلطه بنفسه. فأقام مدة، ثم تشوق يوما إلى أهله وقد شرب ثمل منه، فقال لمالك: لولا أن يدي تقصر عن دية جنايتي لعدت إلى أهلي. فقال له: هذه إبلي فخذ دية جنايتك وأردد ما شئت. فلما أصبح ندم على ما قاله وكره مفارقة موضعه ولم يأمن على نفسه، فأتى مالكا فأنشده:

سأمدح مالكا في كل ركـب                      لقيتهـم وأتـرك كـل رذل

فما أنا والبكارة أو مخـاض                      عظام جلة سـدس وبـزل

وقد عرفت كلابكم ثـيابـي                      كأني منكم ونسيت أهـلـي

نمت بك من بني شمخ زنـاد                      لها ما شئت من فرع وأصل قال فقال مالك: مرحبا فإنك حبيب ازداد حبا، إنما اشتقت إلى أهلك وذكرت أنه يحبسك عنهم ما تطالب به من عقل أو دية، فبذلت لك ما بذلت، وهو لك على كل حال، فأقم في الرحب والسعة. فلم يزل مقيما عندهم حتى هلك في دارهم.

قال أبو عمرو في هذه الرواية: وأخبرني أيضا بمثله محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد، قال حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال :  شعره في الاعتذار لامرأته

من ركوبه الأهوال

عاتبت أبا الطمحان القيني امرأته في غاراته ومخاطرته بنفسه، وكان لصا خاربا خبيثا، وأكثرت لومه على ركوب الأهوال ومخاطرته بنفسه في مذاهبه، فقال لها:

لو كنت في ريمان تحرس بابه                      أراجيل أحبوش وأغضف آلف

إذا لأتتني حيث كنت منـيتـي                      يخب بها هاد بأمـري قـائف

فمن رهبة آتي المتالف سادرا                      وأية أرض ليس فيها متالـف  شعره في بجير بن أوس الطائي

وإطلاقه من الأسر

فأما البيت الذي ذكرت من شعره أن فيه لعريب صنعة وهو:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم فإنه من قصيدة له مدح بها بجير بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي، وكان أسيرا في يده. فلما مدحه بهذه القصيدة أطلقه وجز ناصيته، فمدحه بعد هذا بعدة قصائد. وأول هذه الأبيات:

 

صفحة : 1417

 

 

إذا أقبل أي الناس خـير قـبـيلة                      وأصبر يوما لا توارى كواكـبـه

فإن بني لأم بن عـمـرو أرومة                      علت فوق صعب لا تنال مراقبه

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههـم                      دجى الليل حتى نظم الجزع ثاقبه

لهم مجلس لا يحصرون عن الندى                      إذا مطلب المعروف أجدب راكبه وأما خبر أسره والرقعة التي أسر فيها فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني بها عن أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي قال:  حرب جديلة والغوث الطائيين

كان أبو الطمحان القيني مجاورا في جديلة من ظيىء، وكانت قد اقتتلت بينها وتحاربت الحرب التي يقال لها  حرب الفساد  وتحزبت حزبين: حزب جديلة وحزب الغوث، وكانت هذه الحرب بينهم أربعة أيام، ثلاثة منها للغوث ويوم لجديلة. فأما اليوم الذي كان لجدلة فهو  يوم ناصفة  . وأما الثلاثة الأيام التي كانت للغوث فإنها  يوم قارات حوق  ويوم البيضة  ويوم عرنان  وهو آخرها وأشدها وكان للغوث، فانهزمت جديلة هزيمة  قبيحة  ، وهربت فلحقت بكلب وحالفتهم وأقامت فيهم عشرين سنة.

شعره لما أسر في هذه الحرب وأسر أبو الطمحان في هذه الحرب: أسره رجلان من طيىء واشتركا فيه، فاشتراه منهما بجير بن أوس بن حارثة لما بلغه قوله:

أرقت وآبتني الهموم الطوارق                      ولن يلق ما لاقيا قبلي عاشق

إليكم بني لأم تخب هجـائهـا                      بكل طريق صادفته شبـارق

لكم نائل غمر وأحـلام سـادة                      وألسنة يوم الخطاب مسالـق

ولم يدع داع مثلكم لعـظـيمة                      إذا وزمت بالساعدين السوارق السوارق: الجوامع واحدتها سارقة.

قال فابتاعه بجير من الطائيين بحكمهما، فجز ناصيته وأعتقه.

جواره في بني جديلة وقتل تيس له غلاما منهم وشعره في ذلك أخبري الحسن بن علي قال: حدثنا أبو أيوب المدني قال حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال: كان أبو الطمحان القيني مجاورا لبطن من طيء يقال لهم بنو جديلة، فنطح تيس له غلاما منهم فقتله، فتعلقوا أبا الطمحان وأسروه حتى أدى ديته مائة من الإبل . وجاءهم نزيله، وكان يدعى هشاما، ليدفع عنه فلم يقبلوا قوله، فقال له أبو الطمحان:

أتاني هشام يدفع الضيم جاهدا                      يقول ألا ماذا ترى وتقـول

فقلت له قم يا لك الخير أدها                      مذللة إن الـعـزيز ذلـيل

فإن يك دون القين أغبر شامخ                      فليس إلى اليقين الغداة سبيل  انتعاش المأمون ببتين له

أخبري عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك، عن إسحاق قال: دخلت يوما على المأمون فوجدته حائرا متفكرا غير نشيط، فأخذت أحدثه بملح الأحاديث وطرفها، أستميله لأن يضحك أو ينشط، فلم يفعل. وخطر ببالي بيتان فأنشدته إياهما، وهما:

ألا عللاني قبل نوح الـنـوائح                      وقبل نشوز النفس بين الجوانح

وقبل غد، يا لهف نفسي على غد                      إذا راح أصحابي ولست برائح فتنبه كالمتفزع ثم قال: من يقول هذا ويحك? قلت: أبو الطمحان القيني يا أمير المؤمنين. قال: صدق والله، أعدهما علي. فأعدتهما عليه حتى حفظهما. ثم دعا بالطعام فأكل، ودعا بالشراب فشرب. وأمر لي بعشرين ألف درهم.

استشهاد خالد بن يزيد ببيتين له

في ريبة اعتذر عنها الحسن لعبد الملك

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثني أحمد بن الحارث الخراز قال: حدثني المدائني قال: عاتب عبد الملك بن مروان الحسن بن الحسن عليهما السلام على شيء بلغه عنه من دعاء أهل العراق إياه إلى الخروج معهم على عبد الملك، فجعل يعتذر إليه ويحلف له. فقال له خالد بن يزيد بن معاوية: يا أمير المؤمنين، ألا تقبل عذر ابن عمك وتزيل عن قلبك ما قد أشربته إياه? أما سمعت قول أبي الطمحان القيني:

إذا كان في صدر ابن عمك إحـنة                      فلا تستثرها سوف يبدو دفـينـهـا

وإن حمأة المعروف أعطاك صفوها                      فخذ عفوه لا يلتبس بك طـينـهـا  خبره مع الزبير بن عبد المطلب

 

 

صفحة : 1418

 

قال المدائني: ونزل أبو الطمحان على الزبير بن عبد المطلب بن هاشم، وكانت العرب تنزل عليه، فطال مقامه لديه، واستأذنه في الرجوع إلى أهله وشكا إليه شوقا إليهم، فلم يأذن له. وسأله المقام، فأقام عنده مدة، ثم أتاه فقال له:

ألا حنت المرقال وائتـب ربـهـا                      تذكر أوطانا وأذكر مـعـشـري

ولو عرفت صرف البيوع لسرهـا                      بمكة أن تبتاع حمضـا بـإدخـر

أسرك لو أنا بجـنـبـي عـنـيزة                      وحمض وضمران الجناب وصعتر

إذا شاء راعيها استقى من وقـيعة                      كعين الغراب صفوها لـم يكـدر فلم أنشده إياها أذن له فانصرف، وكان نديما له.

 

صوت

 

لا يعتري شربنا اللحاء وقد                      توهب فينا القيان والحلل

وفتية كالسيوف نادمتهـم                      لا حصر فيهم ولا بخـل الشعر للأسود بن يعفر، والغناء لسليم، خفيف ثقيل أول بالبنصر.

 

أخبار الأسود ونسبه

نسبه ومنزلته في الشعر

الأسود بن يعفر) ويقال يعفر بضم الياء( ابن عبد الأسود بن جندل بن سهم بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد بن تميم. وأم الأسود بن يعفر رهم بنت العباب، من بني سهم بن عجل. شاعر متقدم فصيح، من شعراء الجاهلية، ليس بالمكثر. وجعله محمد بن سلام في الطبقة الثامنة مع خداش بن زهير، والمخبل السعدي، والنمر بن تولب العكلي، وهو من العشي ويقال العشو بالواو المعدودين في الشعراء. وقصيدته الدالة المشهورة:

نام الخلي وما أحس رقادي                      والهم مختصر لدي وسادي معدودة من مختار أشعار العرب وحكمها، مفضلية مأثورة.

توقف سوار شهادة دارمي يجهل الأسود بن يعفر أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي وأبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قالا: حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: تقدم رجل من أهل البصرة من بني دارم إلى سوار بن عبد الله ليقيم عنده شهادة، فصادفه يتمثل قول الأسود بن يعفر :

ولقد علمت لو أن علمي نافعـي                      أن السبيل سبـيل ذي الأعـواد

إن المنية والحتوف كـلاهـمـا                      يوفي المخارم يرميان سـوادي

ماذا أؤمل بـعـد آل مـحـرق                      تركوا منازلـهـم وبـعـد إياد

أهل الخورنق والسدير وبـارق                      والقصر ذي الشرفات من سنداد

نزلوا بأنقرة يفيض عـلـيهـم                      ماء الفرات يفيض من أطـواد

جرت الرياح على محل ديارهم                      فكأنما كانوا عـلـى مـيعـاد ثم أقبل على الدارمي فقال له: أتروي هذا الشعر? قال: لا. قال: أفتعرف من يقوله? قال: لا. قال: رجل من قومك له هذه النباهة وقد قال مثل هذه الحكمة لا ترويها ولا تعرفه يا مزاحم، أثبت شهادته عندك، فإني متوقف عن قبوله حتى أسأل عنه، فإني أظنه ضعيفا.

أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن الرياشي عن أبي عبيدة بمثله.

عشرة آلاف لمن يروي قصيدة نام الخلي... أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن ابي سعد قال حدثني الحكم بن موسى السلولي قال حدثني أبي قال: بينا نحن بالرافقة على باب الرشيد وقوف، وما أفقد أحدا من وجوه العرب من أهل الشام والجزيرة والعراق، إذ خرج وصيف كأنه درة فقال، يا معشر الصحابة، إن أمير المؤمنين يقرأ عليكم السلام ويقول لكم: من كان منكم يروي قصيدة الأسود بن يعفر:

نام الخلي وما أحس رقادي                      والهم مختصر لدي وسادي فليدخل فلينشدها أمير المؤمنين وله عشرة آلاف درهم. فنظر بعضنا إلى بعض، ولم يكن فينا أحد يرويها. قال: فكأنما سقطت والله البدرة عن قربوسي . قال الحكم: فأمرني أبي فرويت شعر الأسود بن يعفر من أجل هذا الحديث.

تمثل علي بشعره لما انتهى إلى مدائن كسرى أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن المدائني قال: حدثنا أبو أمية بن عمرو بن هشام الحراني قال: حدثنا محمد بن يزيد بن سنان قال: حدثني جدي سنان بن يزيد قال: كنت مع مولاي جرير بن سهم التميمي وهو يسير أمام علي بن أبي طالب عليه السلام ويقول:

يا فرسي سيري وأمي الشاما                      وخلفي الأخوال والأعمامـا

 

صفحة : 1419

 

 

وقطعي الأجواز والأعلام                      وقاتلي من خالف الإماما

إني لأرجو إن لقينا العاما                      جمع بني أمية الطغامـا

أن نقتل العاصي والهماما                      وأن نزيل من رجال هاما فلما انتهى إلى مدائن كسرى وقف علي عليه السلام ووقفنا، فتمثل مولاي قول الأسود بن يعفر:

جرت الرياح على مكان ديارهم                      فكأنما كانوا عـلـى مـيعـاد فقال له علي عليه السلام: فلم لم تقل كما قال جل وعز:  كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناها قوما آخرين  . ثم قال: يا ابن أخي، إن هؤلاء كفروا النعمة، فحلت بهم النقمة ، فإياكم وكفر النعمة فتحل بكم النقمة.

تمثل عمر بن عبد العزيز بشعره حين مر بقصر لآل جفنة أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال: مر عمر بن عبد العزيز ومعه مزاحم مولاه يوما بقصر من قصور ال جفنة، فتمثل مزاحم بقول الأسود بن يعفر:

جرت الرياح على محل ديارهم                      فكأنما كانوا عـلـى مـيعـاد

ولقد غنوا فيها بأنـعـم عـيشة                      في ظل ملك ثابـت الأوتـاد

فإذا النعيم وكل ما يلهـى بـه                      يوما يصير إلى بلى ونـفـاد فقال له عمر: هلا قرأت:  كم تركوا من جنات وعيون  ، إلى قوله جل وعز:  كذلك وأورثناها قوما آخرين  .

ما قاله في استنقاذ إبل له أخذتها بكر بن وائل نسخت من كتاب محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل قال: كان الأسود بن يعفر مجاورا في بني قيس بن ثعلبة ثم في بني مرة بن عباد بالقاعة ، فقامرهم فقمروه، حتى حصل عليه تسعة عشر بكرا، فقالت لهم أمه وهي رهم بنت العباب: يا قوم، أتسلبون ابن أخيكم ماله? قالوا: فماذا نصنع? قالت: احبسوا قداحه . فلما راح القوم قالوا له: أمسك . فدخل ليقامرهم فردوا قداحه. فقال: لا أقم بين قوم لا أضرب فيهم بقدح؛ فاحتمل قبل دخول الأشهر الحرم، فأخذت إبله طائفة من بكر بن وائل؛ فاستسعى الأسود بني مرة بن عباد وذكرهم الجوار وقال لهم:

يال عباد دعوة بعد هـجـمة                      فهل فيكم من قوة وزمـاع

فتسعوا لجار حل وسط بيوتكم                      غريب وجارات تركن جياع وهي قصيدة طويلة، فلم يصنعوا شيئا. فادعى جوار بني محلم بن ذهل بن شيبان، فقال:

قل لبني مـحـلـم يسـيروا                      بذمة يسعى بـهـا خـفـير

لا قدح بعد اليوم حتى توروا ويروى إن لم توروا فسمعوا معه حتى استنقذوا إبله، فمدحهم بقصيدته التي أولها:

أجارتنا غضي من السير أوقـفـي                      إن كنت قد أزمعت بالبين فاصرفي

سائلك أو أخبرك عـن ذي لـبـانة                      سقيم الفؤاد بالحسـان مـكـلـف يقول فيها :

تداركني أسـبـاب آل مـحـلـم                      وقد كدت أهوي بين نيقين نفنـف

هم القوم يمسي جارهم في غضارة                      سويا سليم اللحـم لـم يتـحـوف فلما بلغتهم أبياته ساقوا إليه مثل إبله التي استنقذوها من أموالهم.

طلب طلحة أن يسعى له في إبله

قال المفضل: كان رجل من بني سعد بن عوف بن مالك بن حنظلة يقال له طلحة، جارا لبني ربيعة بن عجل بن لجيم ، فأكلو إبله، فسأل في قومه حتى أتى الأسود بن يعفر يسأله أن يعطيه يسعى له في إبله. فقال له الأسود: لست جامعهما لك، ولكن أيهما شئت. قال: أختار أن تسعى لي بإبلي. فقال الأسود لأخواله من بني عجل:

يا جار طلحة هل ترد لبونه                      فتكون أدنى للوفاء وأكرما

تالله لو جاورتموه بأرضـه                      حتى يفارقكم إذا ما أحرما وهي قصيدة طويلة.

فبعث أخواله من بني عجل بإبل طلحة إلى الأسد بن يعفر فقالوا: أما إذا كنت شفيعه فخذها، وتول ردها لتحرز المكرمة عنده دون غيرك.

 

 

صفحة : 1420

 

وقال ابن الأعرابي: قتل رجلان من بني سعد بن عجل يقال لهما وائل وسليط ابنا عبد الله، عما لخالد بن مالك بن ربعي النهشلي يقال له عامر بن ربعي، وكان خالد بن مالك عند النعمان حينئذ ومعه الأسود بن يعفر. فالتفت النعمان يوما إلى خالد بن مالك فقال له: أي فارسين في العرب تعرف هما أثقل على الأقران وأخف على متون الخيل? فقال له: أبيت اللعن أنت أعلم. فقال: خالا ابن عمك الأسود بن يعفر وقاتلا عمك عامر بن ربعي يعني العجليين وائلا وسليطا فتغير لون خالد بن مالك. وإنما أراد النعمان أن يحثه على الطلب بثأر عمه. فوثب الأسود فقال: أبيت اللعن عض بهن أمه من رأى حق أخواله فوق حق أعمامه. ثم التفت إلى خالد بن مالك فقال: يا بن عم، الخمر علي حرام حتى أثأر لك بعمك، قال وعلي مثل ذلك.

ونهضا يطلبان القوم، فجمعا جمعا من بني نهشل بن دارم فأغارا بهم على كاظمة ، وأرسلا رجلا من بني زيد بن نهشل بن دارم يقال له عبيد يتجسس لهم الخبر، فرجع إليهم فقال: جوف كاظمة ملآن من حجاج وتجار، وفيهم وائل وسليط متساندان في جيش. فركبت بنو نهشل حتى أتوهم، فنادوا: من كان حاجا فليمض لحجه، ومن كان تاجرا فليمض لتجارته. فلما خلص لهم وائل وسليط في جيشهما اقتتلوا، فقتل وائل وسليط، قتلهما هزان بن جندل بن نهشل، عادى بينهما . وادعى الأسود بن يعفر أنه قتل وائلا. ثم عاد إلى النعمان فلما رآه تبسم وقال: وفي نذرك يا أسود? قال: نعم أبيت اللعن ثم أقام عنده مدة ينادمه ويؤاكله.

ثم مرض مرضا شديدا، فبعث النعمان إليه رسولا يسأله عن خبره وهول ما به؛ فقال:

نفع قليل إذا نادى الصدى أصـلا                      وحان منه لبرد المـاء تـغـريد

وودعوني فقالوا ساعة انطلـقـوا                      أودى فأودى الندى والحزم والجود

فما أبالي إذا ما مت ما صنـعـوا                      كل امرئ بسبيل الموت مرصود ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني يأثره عن أبيه، قال:  ما قاله في فرس أخذها ابنه جراح

من بني الحارث بن تيم الله واستولدها أمهارا

كان أبو جعل أخو عمر بن حنظلة من البراجم قد جمع جمعا من شذاذ أسد وتميم وغيرهم، فغزوا بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة، فنذروا بهم وقاتلوهم قتالا شديدا حتى فضوا جمعهم، فلحق رجل من بني الحارث بن تيم الله بن ثعلبة جماعة من بني نهشل فيهم جراح بن الأسود بن يعفر، والحر بن شمر بن هزان بن زهير بن جندل، ورافع بن صهيب بن حارثة بن جندل، وعمرو والحارث أبنا حرير بن سلمى بن جندل، فقال لهم الحارثي : هلم إلي طلقاء ؛ فقد أعجبني قتالكم سائر اليوم، وأنا خير لكم من العطش. قالوا نعم. فنزل ليجز نواصيهم. فنظر الجراح بن الأسود إلى فرس من خيلهم فإذا هي أجود فرس في الأرض، فوثب فركبها وركضها ونجا عليها. فقال الحارثي للذين بقوا معه: أتعرفون هذا? قالوا: نعم نحن لك عليه خفراء. فلما أتى جراح أباه أمره فهرب بها في بني سعد فابتطنها ثلاثة أبطن، وكان يقال لها: العصماء. فلما رجع النفر النهشليون إلى قومهم قالوا إنا خفراء فارس العصماء، فوالله لنأخذنها، فأوعدوه . وقال حرير ورافع: نحن الخفيران بها. وكان بنو جرول حلفاء بني سلمى بن جندل على بني حارثة بن جندل، فأعانه على ذلك التيحان بن بلج بن جرول بن نهشل. فقال الأسود بن يعفر يهجوه:

أتاني ولم أخشى الذي ابتعثـا بـه                      خفيرا بني سلمى حرير ورافـع

هم خيبونـي يوم كـل غـنـيمة                      وأهلكتهم لـو أن ذلـك نـافـع

فلا أنا معطيهم عـلـي ظـلامة                      ولا الحق معروفا لهم أنا مـانـع

وإني لأقري الضيف وصى به أبي                      وجار أبي التيحاني ظمآن جـائع

فقولا لتيحان ابن عاقرة استـهـا                      أمجر فلاقي الغي أم أنت نـازع

ولو أن تيحان بن بلج أطاعـنـي                      لأرشدته وللأمـور مـطـالـع

وإن يك مدلولا علـي فـإنـنـي                      أخو الحرب لا قحم ولا متجـاذع

ولكن تيحان ابن عاقرة اسـتـهـا                      له ذنب مـن أمـره وتـوابـع

 

صفحة : 1421

 

قال: فلما رأى الأسود أنهم لا يقلعون عن الفرس أو يردوها، أحلفهم عليها فحلفوا أنهم خفراء لها، فرد الفرس عليهم وامسك أمهارها، فردوا الفرس إلى صاحبها. ثم أظهر الأمهار بعد ذلك، فأوعدوه فيها أن يأخذوها. فقال الأسود:

أحقا بني أبناء سلمى بـن جـنـدل                      وعيدكم إياي وسط الـمـجـالـس

فهلا جعلتم نحـوه مـن وعـيدكـم                      على رهط قعقاع ورهط ابن حابس

هم أوردوكم ضفة البحـر طـامـيا                      وهم تركوكم بين خـاز ونـاكـس  رثاؤه مسروق بن المنذر النهشلي

وكان كثير البر به

وقال أبو عمرو: كان مسروق بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل سيدا جوادا، وكان مؤثرا للأسود بن يعفر، كثير الرفد له والبر به. فمات مسروق واقتسم أهله ماله، وبان فقده على الأسود بن يعفر فقال يرثيه:

أقول لما أتـانـي هـلـك سـيدنـا                      لا يبعد الله رب الناس مـسـروقـا

من لا يشيعـه عـجـز ولا بـخـل                      ولا يبيت لديه اللـحـم مـوشـوقـا

مردي حروب إذا ما الخيل ضرجهـا                      نضخ الدماء وقد كـانـت أفـاريقـا

والطاعن الطعنة النجلاء تحسـبـهـا                      شنا هزيما يمج المـاء مـخـروقـا

وجفنة كنـضـيح الـبـئر مـتـأقة                      ترى جوانبها باللـحـم مـفـتـوقـا

يسـرتـهـا لـيتـامـى أو لأرمـلة                      وكنت بالبأس المتروك محـقـوقـا

يا لهف أمـي إذ أودى وفـارقـنـي                      أودى ابن سلمى نقي العرض مرموقا  ما أجاب بنته وقد لامته على جوده

وقال أبو عمرو: عاتبت سلمى بنت الأسود بن يعفر أباها على إضاعته ماله فيما ينوب قومه من حمالة وما يمنحه فقراءهم ويعين به مستمنحهم، فقال لها:

وقالت لا أراك تليق شـيئا                      أتهلك ما جمعت وتستفـيد

فقلت بحسبها يسر وعـار                      ومرتحل إذا رحل الوفـود

فلومي إذا بدا لك أو أفيقي                      فقبلك فاتني وهو الحمـيد

أبو العوراء لم أكمد علـيه                      وقيس فاتني وأخـي يزيد

مضوا لسبيلهم وبقيت وحدي                      وقد يغني رباعته الوحـيد

فلولا الشامتون أخذت حقي                      وإن كانت بمطلبه كـؤود ويروى:

وإن كانت له عندي كؤود  ما قاله ابنه جراح

وكان ضئيلا وضعيفا

قال أبو عمرو: وكان الجراح بن الأسود في صباه ضئيلا وضعيفا، فنظر إليه الأسود وهو يصارع صبيا من الحي) وقد صرعه الصبي( والصبيان يهزءون منه، فقال:

سيجرح جراح وأعقل ضـيمـه                      إذا كان مخشيا من الضلع المبدي

فآبــاء جـــراح ذؤابة دارم                      وأخوال جراح سراة بني نـهـد قال: وكانت أم الجراح أخيذة، أخذها الأسود من بني نهد في غارة أغارها عليهم.

ما قاله لما أسن وكف بصره

وقال أبو عمرو: لما أسن الأسود بن يعفر كف بصره، فكان يقاد إذا أراد مذهبا. وقال في ذلك:

قد كنت أهدي ولا أهدى فعلمني                      حسن المقادة أني أفقد البصرا

أمشي وأتبع جنابا لـيهـدينـي                      إن الجنيبة مما تجشم الـغـدرا الجناب: الرجل الذي يقوده كما تقاد الجنيبة. الجشم: المشي ببطء. والغدر: مكان ليس مستويا.

شعر لأخيه حطائط

وقد لامته أمه على جوده

وذكر محمد بن حبيب، عن ابن الإعرابي، عن المفضل: أن الأسود كان له أخ يقال له حطائط بن يعفر شاعر، وأن ابنه الجراح كان شاعرا أيضا. قال: وأخوه حطائط الذي قال لأمهما رهم بنت العباب، وعاتبته على جوده فقال:

تقول ابنة العباب رهم حربتني                      حطائط لم تترك لنفسك مقعدا

إذا ما جمعنا صرمة بعد هجمة                      تكون علينا كابن أمك أسـودا

فقلت ولم أعي الجواب: تأملي                      أكان هزالا حتف زيد وأربدا

أريني جوادا مات هزلأ لعلني                      أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

ذريني أكن للمال ربا ولا يكن                      لي المال ربا تحمدي غبه غدا

ذريني فلا أعيا بما حل ساحتي                      أسود فأكفي أو أطيع المسودا

 

صفحة : 1422

 

 

ذريني يكن مالي لعرضي وقاية                      يقي المال عرضي قبل أن يتبدد

أجارة أهلي بالقصيمة لا يكـن                      علي ولم أظلم لسانك مـبـردا

صوت

 

أعاذلتي ألا لا تعذلـينـا                      أقلي اللوم إن لم تنفعينـا

فقد أكثرت لو أغنيت شيئا                      ولست بقابل ما تأمرينـا الشعر لأرطاة بن سهية، والغناء لمحمد بن الأشعث، خفيف رمل بالبنصر، من نسخت عمرو بن بانة.

 

أخبار أرطاة ونسبه

نسبه من قبل أبويه

وبيان أن أمه كانت لضرار بن الأزور فصارت إلى زفر وهي حامل بأرطاة هو أرطاة بن زفر بن عبد الله بن مالك بن شداد بن عقفان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. وقد تقدم هذا النسب في عدة مواضع من هذا الكتاب. وسهية أمه؛ وهي بنت زامل بن مروان بن زهير بن ثعلبة بن حديج بن أبي جشم بن كعب بن عامر بن عوف، سبية من كلب، وكانت لضرار بن الأزور ثم صارت إلى زفر وهي حامل فجاءت بأرطاة من ضرار على فراش زفر؛ فلما ترعرع أرطاة جاء ضرار إلى الحارث بن عوف فقال له:

يا حارث افكك لي بني من زفر ويروى:  يا حار أطلق لي

في بعض من تطلق من أسرى مضر

إن أباه امرؤ سوء إن كفر فأعطاه الحارث إياه وقال: انطلق بابنك، فأدركه نهشل بن حري بن غطفان فانتزعه ورده إلى زفر. وفي تصداق ذلك يقول أرطاة لبعض أولاد زفر:

فإذا خمصتم قلتم يا عمنـا                      وإذا بطنتم قلتم ابن الأزور قال: ولهذا غلبت أمه سهية على نسبه فنسب إليها. وضرار بن الأزور هذا قاتل مالك بن نويرة الذي يقول فيه أخوه متمم:

نعم القتيل إذا الرياح تنـاوحـت                      تحت البيوت، قتلت يا بن الأزور  منزلته في الشعر

وأرطاة شاعر فصيح، معدود في طبقات الشعراء المعدودين من شعراء الإسلام في دولة بني أمية لم يسبقها ولم يتأخر عنها. وكان أمرأ صدق شريفا في قومه جوادا.

إنشاده عبد الملك بعض ما ناقض به شبيب بن البرصاء أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان رفيع بن سلمة الملقب بدماذ، قال: حدثنا أبو عبيدة قال: دخل أرطاة بن سهية على عبد الملك بن مروان، فاستنشده شيئا مما كان يناقض به شبيب بن البرصاء، فأنشده:

أبي كان خيرا من أبيك ولم يزل                      جنيبا لآبائي وأنـت جـنـيب فقال له عبد الملك بن مروان: كذبت، شبيب خير منك أبا. ثم أنشده:

وما زلت خيرا منك مذ عض كارها                      برأسك عادي الـنـجـاد رسـوب <H6 معرفة عبد الملك مقادير الناس</H6 فقال له عبد الملك: صدقت، أنت في نفسك خير من شبيب. فعجب من عبد الملك من حضر ومن معرفته مقادير الناس على بعدهم منه في بواديهم، وكان الأمر على ما قال: كان شبيب أشرف أبا من أرطاة، وكان أرطاة أشرف فعلا ونفسا من شبيب.

<H6 ما قاله لعبد الملك وقد أسن</H6 أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمرو بن بحر الجاحظ ودماذ أبو غسان، قالا جميعا، قال أبو عبيدة: دخل أرطاة بن سهية على عبد الملك بن مروان، فقال له: كيف حالك يا أرطاة? وقد كان أسن فقال: ضعفت أوصالي، وضاع مالي، وقل مني ما كنت أحب كثرته، وكثر مني ما كنت أحب قلته. قال: فكيف أنت في شعرك? فقال: والله يا أمير المؤمنين ما أطرب ولا أغضب ولا أرغب ولا أرهب، وما يكون الشعر إلا من نتائج الأربع، وعلى أني القائل:

رأيت المرء تأكله اللـيالـي                      كأكل الأرض ساقطة الحديد

وما تبغي المنية حين تأتـي                      على نفس ابن آدم من مزيد

واعلم أنها ستكـر حـتـى                      توفي نذرها بأبي الـولـيد فارتاع عبد الملك ثم قال: بل توفي نذرها بك ويلك مالي ولك? فقال: لا ترع يا أمير المؤمنين، فإنما عنيت نفسي وكان أرطاة يكنى أبا الوليد فسكن عبد الملك، ثم استعبر باكيا وقال: أما والله على ذلك لتلمن بي.

أخبرني به حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمرو بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى عن عبد العزيز بن أبي ثابت، فذكر قريبا منه يزيد وينقص ولا يحيل معنى.

مدحه مروان لما أجتمع له أمر الخلافة

 

صفحة : 1423

 

أخبرني عبد الملك بن مسلمة القرشي الهشامي بأنطاكية قال أخبرني أبي عن أهلنا أن أرطاة بن سهية دخل على مروان بن الحكم لما اجتمع له أمر الخلافة .

وفرغ من الحروب التي كان بها متشاغلا. وصمد لإنفاذ الجيوش إلى ابن الزبير لمحاربته، فهنأه وكان خاصا به وبأخيه يحيى بن الحكم، ثم أنشده :

تشكى قلوصي إلي الوجـى                      تجر السرج وتبلي الخدامـا

تزور كريما لـه عـنـدهـا                      يد لا تعد وتهدي السـلامـا

وقـل ثـوابـا لـه أنـهـا                      تجيد القوافي عاما فعـامـا

وسادت معدا على رغمـهـا                      قريش وسدت قريشا غلامـا

جعلت على الأمر فيه صغـا                      فما زال غمزك حتى استقاما

لقيت الزحوف فقاتلـتـهـا                      فجردت فيهن عضبا حساما

تشق القوانس حـتـى تـنـا                      ل ما تحتها ثم تبري العظاما

نزعت على مهل سـابـقـا                      فما زادك النزع إلا تمـامـا

فزاد لك اللـه سـلـطـانـه                      وزاد لك الخير منه فـدامـا فكساه مروان وأمر له بثلاثين ناقة وأوقرهن له برا وزبيبا وشعيرا.

هجاؤه شبيبا وقد وقع فيه عند يحيى  ابن الحكم

قال: وكان أرطاة يهاجي شبيب بن البرصاء، ولكل واحد منهما في صاحبه هجاء كثير، وكان كل واحد منهما ينفي صاحبه عن عشيرته في أشعاره، فأصلح بينهما يحيى بن الحكم، وكانت بنو مرة تألفه وتنتجعه لصهره فيهم. فلما افترقا سبعه شبيب عند يحيى بن الحكم؛ فقال أرطاة له:

رمتك فلم تشو الـفـؤاد جـنـوب                      وما كل من يرمي الفؤاد يصـيب

وما زودتنا غير أن خلطـت لـنـا                      أحاديث منهـا صـادق وكـذوب

ألا مبلغ فتـيان قـومـي أنـنـي                      هجاني ابن برصاء اليدين شـبـيب

وفي آل عوف من يهـود قـبـيلة                      تشابه منـهـا نـاشـئون وشـيب

أبي كان خيرا من أبـيك ولـم يزل                      جنـيبـا لآبـائي وأنـت جـنـيب

وما زلت خيرا منك مذ عض كارها                      برأسك عادي الـنـجـاد رسـوب

فما ذنبنا إن أم حـمـزة جـاورت                      بيثرب أتـياسـا لـهـن نـبـيب

إن رجـالا بـين سـلـع وواقــم                      لأير أبيهم فـي أبـيك نـصـيب

فلو كنت عوفيا عميت وأسهـلـت                      كداك ولكـن الـمـريب مـريب <H6 حرص العوفيين على العمى عند الكبر</H6 فأخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال: لما قال هذا الشعر أرطاة في شبيب بن البرصاء كان كل شيخ من بني عوف يتمنى أن يعمى )وكان العمى شائعا في بني عوف كما أسن منهم رجل عمي( فعمر أرطاة ولم يعم، فكان شبيب يعيره بذلك. ثم مات أرطاة وعمي شبيب، فكان يقول بعد ذلك: ليت أرطاة عاش حتى يراني أعمى فيعلم أنني عوفي.

<H6 ما كان له مع شبيب</H6 <H6 وقد تمنى لقاءه في يوم قتال </H6 ونسخت من كتاب ابن الأعرابي في شعر أرطاة قال: كان شبيب بن البرصاء يقول : وددت أني جمعني وابن الأمة أرطاة بن سهية يوم قتال فأشفي منه غيظي. فبلغ ذلك أرطأة فقال له:

إن تلقني لا ترى غيري بناظـرة                      تنس السلاح وتعرف جهة الأسد

ماذا تظنك تغني في أخي رصـد                      من أسد خفان جابي العين ذي لبد جابي العين وجائب العين: شديد النظر

أبي ضراغمة غبـر يعـودهـا                      أكل الرجال متى يبدأ لهـا يعـد

يا أيها المتمـنـي أن يلاقـينـي                      إن تنأآتك أو إن تبغنـي تـجـد

نقص اللبانة من مر شـرائعـه                      صعب المقادة تخشاه فلا تـعـد

متى تردني لا تصدر لمصـدرة                      فيها نجاة وغن أصدرك لا تـرد

لا تحسبني كفقع القاع ينـقـره                      جان بإصبعه أو بيضة الـبـلـد

أنا ابن عقفان معروف له نسبـي                      إلا بما شاركت أم علـى ولـد

لاقى الملوك فأثأى في دمـائهـم                      ثم استقر بلا عـقـل ولاقـود

من عصبة يطعنون الخيل ضاحية                      حتى تبدد كالمزءودة الـشـرد

ويمنعون نساء الحي إن علمـت                      ويكشفون قتام الغارة الـعـمـد

 

صفحة : 1424

 

 

أنا ابن صرمة إن تسال خيارهـم                      أضرب برجلي في ساداتهم ويدي

وفي بنـي مـالـك أم وزاقـرة                      لا يدفع المجد من قيس إلى أحـد

ضربت فيهم بأعرافي كما ضربت                      عروق ناعمة في أبطـح ثـتـد

جدي قضاعة معروف ويعرفنـي                      جبا رفيدة أهل السرو والـعـدد خبر حبة لوجزة وما قال فيها أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال: كان أرطأة بن سهية يتحدث إلى امرأة من غني يقال لها وجزة، وكان يهواها ثم افترقا وحال الزمان بينهما وكبر أرطأة، ثم اجتمعت غني وبنومره في دار، فمر أرطأة بوجزة وقد هرمت وتغيرت محاسنها وافتقرت، فجلس إليها وتحدث معها وهي تشكو إليه أمرها، فلما أراد الانصراف أمر راعيه فجاء بعشرة من إبله فعقلها بفنائها وانصرف وقال:

مررت على حدثي برمان بعدما                      تقطع أقران الصبا والوسـائل

فكنت كظبي مفلت ثم لـم يزل                      به الحين حتى أعلقته الحبـائل <H6 أرطأة ينسب بوجزة</H6 قال أبو الفرج الأصبهاني: وقد ذكر أرطأة بن سهية وجزة هذه، ونسب بها في مواضع شعره، فقال في قصيدة:

وداوية نازعـتـهـا الـلـيل زائرا                      لوجزة تهديني النجوم الطـوامـس

أعوج بأصحابي عن القصد تعتلـي                      بنا عرض كسريها المطي العرامس

فقد تركتني لا أعـيج بـمـشـرب                      فأروى ولا ألهو إلى من أجـالـس

ومن عجب الأيام أن كـل مـنـزل                      لوجزة من أكنـاف رمـان دارس

وقد جاورت قصر العذيب فما يرى                      برمان إلا ساخط الـعـيش بـائس

طلاب بعيد اختلاف مـن الـنـوى                      إذا ما أتى من دون وجـزة قـادس

لئن أنجح الواشون بينـي وبـينـهـا                      وطال التنائي والنفوس النـوافـس

لقد طالما عشنا جـمـيعـا وودنـا                      جميع إذا ما يبتغـي الأنـس آنـس

كذلك صرف الدهر ليس تـبـارك                      حبيبا ويبقى عمره المـتـقـاعـس وقال ابن الأعرابي: كانت بين أرطأة بن سهية وبين رجل من بني أسد يقال له حيان مهاجاة، اعترض بينهما حباشة الأسدي فهجا أرطاة فقال فيه أرطأة:

أبلغ حباشة أني غـير تـاركـه                      حتى أذلله إذا كان مـا كـانـا

الباعث القول يسديه ويلمـحـه                      كالمجتدي الثكل إذ حاورت حيانا

إن تدع خندف بغيا أو مكـاثـرة                      أدع القبائل من قيس بن عيلانـا

قد نحبس الحق حتى ما يجاوزنا                      والحق يحسبنا في حيث يلقانـا

نبني لآخرنـا مـجـدا نـشـيده                      إنا كذاك ورثنا المجـد أولادنـا وقال ابن الأعرابي: وفد أرطأة بن سهية إلى الشام زائرا لعبد الملك بن مروان عام الجماعة، وقد هنأه بالظفر، ومدحه فأطال المقام عنده، وأرجف أعدائه بموته، فلما قدم وقد ملأ يديه بلغه ما كان منهم، فقال فيهم:

إذا ما طلعنا من ثنية لفـلـف                      فخبر رجالا يكرهون إيابـي

وخبرهم أني رجعت بغبـطة                      أحدد أظافري ويصرف نابي

وإني ابن حرب لا تزال تهرني                      كلاب عدوي أو تهر كلابـي أرطاة وزميل يتلاحيان وقال أبو عمرو الشيباني: وقع بين زميل قاتل ابن دارة وبين أرطاة بن سهية لحاء؛ فتوعده زميل، وقال: إني لأحسبك ستجرع مثل كأس ابن دارة. فقال له أرطاة:

يا زمل إني إن أكن لك سائقـا                      تركض برجليك النجاة وألحق

لا تحسبني كامرئ صادفـتـه                      بمضيعة فخدشته بالمـرفـق

إني امرؤ أوفى إذا قارعتكـم                      قصب الرهان وما أشأ أتعرق فقال له زميل:

يا أرط إن تك فاعلا ما قلتـه                      والمرء يستحيي إذا لم يصدق

فافعل كما فعل ابن دارة سالم                      ثم امش هونك سادرا لا تتق

وإذا جعلتك بين لحيي شابك الأ                      نياب فارعد ما بدا لك وابرق أخبرني أبو الحسن الأسدي، قال: حدثنا الرياشي، قال: حدثنا الأصمعي قال: قال أرطاة بن سهية للربيع بن قعنب:

لقد رأيتك عريانا ومؤتزرا فما عرفت أأنثى أنت أم ذكر?

 

صفحة : 1425

 

فقال له الربيع: لكن سهية قد عرفتني. فغلبه وانقطع أرطاة.

ابن سهيل يتزوج أم هشام ويأخذ عليها المواثيق عند وفاته ألا تتزوج بعده ولكنها تزوجت عمر بن عبد العزيز أخبرني عمي، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حثنا قعنب بن المحرز عن الهيثم بن الربيع عن عمرو بن جبلة الباهلي قال: تزوج عبد الرحمن بن سهيل بن عمرو أم هشام بنت عبد الله بن عمر بن الخطاب، وكانت من أجمل نساء قريش وكان يجد بها وجدا شديدا، فمرض مرضته التي هلك فيها، فجعل يديم النظر إليها وهي عند رأسه، فقالت له إنك لتنظر إلي نظر رجل له حاجة، قال: إي والله إن لي إليك حاجة لو ظفرت بها لهان علي ما أنا فيه. قالت: وما هي? قال: أخاف أن تتزوجي بعدي. قالت: فما يرضيك من ذلك? قال: أن توثقي لي بالإيمان المغلظة. فحلفت له بكل يمين سكنت إليها نفسه ثم هلك. فلما قضت عدتها خطبها عمر بن عبد العزيز وهو )أمير المدينة( فأرسلت إليه: ما أراك إلا وقد بلغك يميني، فأرسل إليها: لك مكان كل عبد وأمة عبدان وأمتان، ومكان كل علق علقان، ومكان كل شيء ضعفه. فتزوجته، فدخل عليها بطال بالمدينة، وقيل: بل كان رجلا من مشيخة قريش مغفلا، فلما رآها مع عمر جالسة قال:

تبدلت بعد الخيزران جريدة                      وبعد ثياب الخز أحلام نائم فقال له عمر: جعلتني ويلك جريدة وأحلام نائم فقالت أم هشام ليس كما قلت، ولكن كما قال أرطاة بن سهية:

وكائن تـرى مـن ذات بـث وعـولة                      بكت شجوها بعد الحنين الـمـرجـع

فكانت كذات البو لمـا تـعـطـفـت                      على قطع من شلـوه الـمـتـمـزع

متى لا تجده تنصـرف لـطـياتـهـا                      من الأرض أو تعمد لإلف فـتـربـع

عن الدهر فاصفح إنه غير مـعـتـب                      وفي غير من قدورات الأرض فاطمع وهذه الأبيات من قصيدة يرثي بها ابنه عمرا.

أرطأة يقيم عند قبر ابنه حولا

ويرق قومه بعد ذلك فيقمون عامهم ذلك

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي، قال: حدثنا الحسن بن عليل، قال: حدثنا قعنب بن المحرز عن أبي عبيدة، قال: كان لأرطأة بن سهية ابن يقال له: عمرو، فمات، فجزع عليه أرطأة حتى كاد عقلة يذهب، فأقام على قبره، وضرب بيته عنده لا يفارقه حولا. ثم إن الحي أراد الرحيل بعد حول لنجعة بغوها، فغدا على قبره، فجلس عنده حتى إذا حان الرواح ناداه: رح يا ابن سلمى معنا فقال له قومه: ننشدك الله في نفسك وعقلك ودينك، كيف يروح معك من مات مذ حول? فقال: أنظروني الليلة إلى الغد. فأقاموا عليه، فلما أصبح ناداه: اغد يا ابن سلمى معنا، فلم يزل الناس يذكرونه الله ويناشدونه، فانتصى سيفه وعقر راحلته على قبره، وقال: والله لا أتبعكم فامضوا إن شئتم أو أقيموا. فرقوا له ورحموه، فأقاموا عامهم ذلك، وصبروا على منزلهم. وقال أرطأة يومئذ في ابنه عمرو يرثيه:

وقفت على قبر ابن سلمى فـلـم يكـن                      وقوفي عليه غير مبكـى ومـجـزع

هل أنت ابن سلمى إن نظـرتـك رائح                      مع الركب أو غاد غداة غـد مـعـى

أأنسى ابن سلمى وهـو لـم يأت دونـه                      من الدهر إلا بعض صيف ومـربـع

وقفت على جثمان عمرو فـلـم أجـد                      سوى جدث عاف بـبـيداء بـلـقـع

ضربت عمودى بانـه سـمـوا مـعـا                      فخرت ولم أتبع قلـوصـي بـدعـدع

ولو أنها حادت عن الرمس نـلـتـهـا                      ببادرة من سـيف أشـهـب مـوقـع

تركتك إن تحيي تكـوسـي وإن تـنـؤ                      على الجهد تخذلها تـوال فـتـصـرع

فدع ذكر من قد حالـت الأرض دونـه                      وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع أرطأة يناجي قبر ولده حولا كاملا وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن الحسين بن دريد عن أبى حاتم عن أبي عبيدة، فذكر أن أرطأة كان يجيء إلى قبر ابنه عشيا فيقول: هل أنت رائح معي يا ابن سلمى? ثم ينصرف فيغدو عليه ويقول له مثل ذلك حولا، م تمثل قول لبيد:

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما                      ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني قال: قال أرطأة بن سهية يوما للربيع بن قعنب كالعابث به:

 

صفحة : 1426

 

 

لقد رأيتك عريانا ومؤتـزرا                      فما دريت أأنثى أنت أم ذكر فقال له الربيع:

لكن سهية تدري إذ أتـيتـكـم                      على عريجاء لما احتلت الأزر فغلبه الربيع، ولج الهجاء بينهما، فقال الربيع بن قعنب يهجو أرطأة:

وما عاشت بنو عقـفـان إلا                      بأحلام كأحـلام الـجـواري

وما عقفان من غطـفـان إلا                      تلمس مظلم باللـيل سـاري

إذا نحرت بنو غيظ جـزورا                      دعوهم بالمراجل والشـفـار

طهاة اللحم حتى ينضـجـوه                      وطاهي اللحم في شغل وعار فقال أرطأة يجيبه ويعيره بأن أمه من عبد القيس:

وهذا الفسو قد شاركت فـيه                      فمن شاركت في أير الحمار

وأي الناس أخبث من من هبل                      فزاري وأخـبـث ريح دار  مسرف بن عقبة يطرد قومه ومعهم أرطاة

لما استرفدوه بعد التهنئة والمديح بفوزه على أهل الحرة

أخبرني عبد الله بن محمد اليزيدي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، قال: حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي، قال: قدم مسرف بن عقبة المري المدينة، وأوقع بأهل الحرة، فأتاه قومه من بني مرة وفيهم أرطاة فهنئوه بالظفر واسترفدوه فطردهم ونهرهم، وقال أرطأة بن سهية ليمدحه فتجهمه بأقبح قول وطرده. وكان في جيش مسرف رجل من أهل الشام من عذرة، يقال له عمارة، قد كان رأى أرطاة عند معاوية بن أبي سفيان، وسمع شعره، وعرف إقبال معاوية عليه، ورفده له، فأومأ إلى أرطاة فأتاه، فقال له: لا يغررك ما بدا لك من الأمير، فإنه عليل ضجر، ولو قد صح واستقامت الأمور لزال عما رأيت من قوله وفعله، وأنا بك عارف، وقد رأيتك عند أمير المؤمنين - يعني معاوية - ولن تعدم مني ما تحب. ووصله وكساه وحمله على ناقة، فقال أرطأة يمدحه ويهجو مسرفا:

لحا الله فودى مسرف وابن عمه                      وآثار نعلي مسرف حيث أثـرا

مررت على ربعيهما فكأنـنـي                      مررت بجبارين من سرو حميرا ويروي: تضيفت جبارين

على أن ذا العليا عمارة لم أجـد                      على البعد حسن العهد منه تغيرا

حباني ببرديه وعنس كـأنـمـا                      بنى فوق متنيها الوليدان قهقـرا  أرطأة يسب من تطاولت على أمه

ويضربها فيلومه قومه

وقال أبو عمرو الشيباني: خاصمت امرأة من مرة سهية أم أرطأة بن سهية، وكانت من غيرهم أخيذة أخذها أبوه، فاستطالت عليها وسبتها، فخرج أرطاة إليها فسبها وضربها، فجاء قومه، ولاموه، وقالوا له مالك تدخل نفسك في خصومات النساء فقال لهم:

يعيرني قومي المجاهل والخنـا                      عليهم وقالوا أنت غير حـلـيم

هل الجهل فيكم أن أعاقب بعدما                      تجوز سبي واستحل حريمـي

إذا أنا لم أمنع عجوزي منـكـم                      فكانت كأخرى من النساء عقيم

وقد علمت أفناء مـرة أنـنـا                      إذا ما اجتدانا الشر كل حمـيم

حماة لأحساب العشيرة كلـهـا                      إذا ذم يوم الروع كـل مـلـيم وتمام الأبيات التي فيها الغناء، المذكورة قبل أخبار أرطأة بن سهية، وذكرت في قوله في قتلى من قومه قتلوا يوم بنات قين هو:

فلا وأبيك لا تنفك نبكـي                      على قتلى هنالك ما بقينا

على قتلى هنالك أوجعتنا                      وأنستنا رجالا آخـرينـا

سنبكي بالرماح إذا التقينا                      على إخواننا وعلى بنينـا

بطعن ترعد الأحشاء منه                      يرد البيض والأبدان جونا

كأن الخيل إذ آنسن كلبـا                      يرين وراءهم ما يبتغينـا

صوت

 

عجبت لمسراها وأنى تخلصت                      إلي وباب السجن بالقفل مغلق

ألمت فحيت ثم قامت فودعت                      فلما تولت كادت النفس تزهق الشعر لجعفر بن علبة الحارثي، والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق. وذكر عمرو بن بانة أن فيه خفيفا ثقيلا أول بالوسطى لابن سريج. وذكر حماد بن إسحاق أن فيه خفيف الثقيل للهذلي.

 

أخبار جعفر بن علبة الحارثي ونسبه

 

 

صفحة : 1427

 

هو جعفر بن علبة بن ربيعة، بن عبد يغوث الشاعر أسير يوم الكلاب بن معاوية بن صلاءة بن المعقل بن كعب بن الحارث بن كعب، ويكنى أبا عارم، وعارم ابن له قد ذكره في شعره. وهو من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، شاعر مقل غزل فارس مذكور في قومه، وكان أبوه علبة بن ربيعة شاعرا أيضا، وكان جعفر قتل رجلا من بني عقيل: قيل: إنه قتله في شان أمة كانا يزورانها فتغايرا عليها. وقيل: بل في غارة عليهم. وقيل: بل كان يحدث نساءهم فنهوه فلم ينته، فرصدوه في طريقه إليهن فقاتلوه فقتل منهم رجلا فاستعدوا عليه السلطان فأقاد منه. وأخباره في هذه الجهات كلها تذكر وتنسب إلى من رواها.

أخبرني محمد بن القاسم الأنباري، قال: حدثني أبي، قال: حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي، قال حدثنا أبو مالك اليماني، قال: شرب جعفر بن علبة الحارثي حتى سكر فأخذه السلطان فحسبه، فأنشأ يقول في حبسه:

لقد زعموا أني سكرت وربـمـا                      يكون الفتى سكران وهو حلـيم

لعمرك ما بالسكر عار على الفتى                      ولـكـن عـارا أن يقـال لـئيم

وإن فتى دامت مواثيق عـهـده                      على دون ما لاقـيتـه لـكـريم قال: ثم حبس معه رجل من قومه من بني الحارث بن كعب في ذلك الحبس، وكان يقال له دوران ، فقال جعفر:

إذا باب دوران ترنم في الـدجـى                      وشد بأغلاق علـينـا وأقـفـال

وأظلم ليل قام علج بـجـلـجـل                      يدور به حتى الصباح بإعـمـال

وحراس سوء ما ينامون حـولـه                      فكيف لمظلوم بحيله مـحـتـال

ويصبر فيه ذو الشجاعة والنـدى                      على الذل للمأمور والعلج والوالي  جعفر بن علبة وعلي بن جعدب

يغيران على بني عقيل

فأما ما ذكر أن السبب في أخذ جعفر وقتله في غارة أغارها على بني عقيل، فإنني نسخت خبره في ذلك كتاب عمرو بن الشيباني يأثره عن أبيه، قال: خرج جعفر بن علبة وعلي بن حعدب الحارثي القناني والنضر بن مضارب المعاوي، فأغاروا على بن عقيل، وإن بني عقيل خرجوا في طلبهم وافترقوا عليهم في الطريق ووضعوا عليهم الأرصاد على المضايق، فكانوا كلما افلتوا من عصبة لقيتهم أخرى، حتى انتهوا إلى بلاد بني نهد فرجعت عنهم بنو عقيل، وقد كانوا قتلوا فيهم، ففي ذلك يقول جعفر:

ألا لا أبالي بعد يوم بسـحـبـل                      إذا لم أعذب أن يجيء حمامـيا

تركت بأعلى سحبل ومضـيقـه                      مراق دم لا يبرح الدهر ثـاويا

شفيت به غيظي وجرب موطني                      وكان سناء آخر الدهر بـاقـيا

أرادوا ليثنوني فقلت تجـنـبـوا                      طريقي فمالي حاجة من ورائيا

فدى لبني عم أجابوا لدعـوتـي                      شفوا من القرعاء عمي وخاليا

كأن بني القرعاء يوم لقيتـهـم                      فراخ القطا لاقين صقرا يمانيا

تركناهم صرعى كان ضجيجهم                      ضجيج دباري اليب لاقت مداويا

أقول وقد أجلت من اليوم عركة                      ليبك العقيليين من كان بـاكـيا

فإن بقرى سـحـبـل لأمـارة                      ونضح دماء منهم ومـحـابـيا المحابي: آثارهم، حبوا من الضعف للجراح التي بهم

ولم اترك لي ريبة غير أنني                      وددت معاذا كان فيمن أتانيا أراد: وددت أن معاذا كان أتاني معهم فأقتله .

 

شفيت غليلي من خشينة بعد ما                      كسوت الهذيل المشرفي اليمانيا

أحقا عباد الله أن لـسـت رئيا                      صحاري نجد والرياح الذواريا

ولا زائرا شم العرانين أنتمـى                      إلى عامر يحللن رملا معالـيا

إذا ما أتيت الحارثيات فانعنـي                      لهن وخبرهن أن لا تـلاقـيا

وقود قلوصي بينهن فـإنـهـا                      ستبرد أكبادا وتبكي بـواكـيا

أوصيكم إن مت يوما بـعـارم                      ليغني شيئا أو يكون مكـانـيا ويروى:

وعطل قلوحي في الركاب فإنها                      ستبرد أكبادا أو تبكي بـواكـيا وهذا البيت بعينه يروي لمالك بن الريب في قصيدته المشهورة التي يرثي بها نفسه. وقال في ذلك جعفر أيضا:

 

صفحة : 1428

 

 

وسائلة عـنـا بـغـيب وسـائل                      بمصدقنا في الحرب كيف نحاول

عشية قرى سحبل إذ تعطـفـت                      علينا السرايا والعدو المبـاسـل

ففرج عنا الله مرحـى عـدونـا                      وضرب ببيض المشرفية خابـل

إذا ما قرى هام الرءوس اعترامها                      تعاورها منهم أكـف وكـاهـل

إذا ما رصدنا مرصدا فرجت لنـا                      بأيماننا بيض جلتها الـصـياقـل

ولما أبو إلا المضـي وقـد رأوا                      بأن ليس منى خشية الموت ناكل

حلفت يمينا بـرة لـم أرد بـهـا                      مقالة تسميع ولا قـول بـاطـل

ليختضمن الهندوانـي مـنـهـم                      معاقد يخشاها الطبيب المـزاول

وقالوا لنا ثنتان لابد مـنـهـمـا                      صدور رماح أشرعت أو سلاسل

فقلنا لهم تلكـم إذا بـعـد كـرة                      تغادر صرعى نهضها متخـاذل

وقتلى نفوس في الحـياة زهـيدة                      إذا اشتجر الخطي والموت نازل

نراجعهم في قالة بـدءوا بـهـا                      كما راجع الخصم البذي المناقـل

لهم صدر سيفي يوم بطحاء سحبل                      ولي منه ما ضمت عليه الأنامل قال: فاستعدت عليهم بنو عقيل السري بن عبد الله الهاشمي عامل مكة لأبي جعفر، فأرسل إلى أبيه علبة بن ربيعة فأخذه بهم، وحبسه حتى دفعهم وسائر من كان معهم إليه، فأما النضر فاستقيد منه بجراحة ، وأما علي بن جعدب فأفلت من الحبس، وأما جعفر بن علبة فأقامت عليه بنو عقيل قسامة : أنه قتل صاحبهم فقتل به. هذه رواية أبي عمرو.

وذكر ابن الكلبي أن الذي هاج الحرب بين جعفر بن علبة وبني عقيل أن إياس بن يزيد الحارثي وإسماعيل بن أحمر العقيلي اجتمعا عند أمه لشعيب بن صامت الحارثي، وهي في إبل لمولاها في موضع يقال له صمعر من بلاد بلحارث ، فتحدثا عندها فمالت إلى العقيلي، فدخلتهما مؤاسفة حتى تخانقا بالعمائم، فانقطعت عمامة الحارثي وخنقه العقيلي حتى صرعه، ثم تفرقا. وجاء العقيليون إلى الحارثيين فحكموهم فوهبوا لهم، ثم بلغهم بيت قيل، وهو:

ألم تسال العبد الزيادي ما رأى                      بصمعر والعبد الزيادي قـائم فغضب إياس من ذلك فلقي هو ابن عمه النضر بن مضارب ذلك العقيلي، وهو إسماعيل بن أحمر، فشجه شجتين وخنقه، فصار الحارثيون إلى العقيليين فحكموهم فوهبوا لهم. ثم لقي العقيليون جعفر بن علبة الحارثي فأخذوه فضربوه وخنقوه وربطوه وقادوه طويلا ثم أطلقوه. وبلغ ذلك إياس بن يزيد فقال يتوجع لجعفر:

أبا عارم كيف اغتررت ولم تكـن                      تغر إذا ما كان أمـر تـحـاذره

فلا صلح حتى يخفق السيف خفقة                      بكف فتى جرت عليه جـرائره ثم إن جعفر بن علبة تبعهم ومعه ابن أخيه جعدب، والنضر بن مضارب، وإياس بن يزيد، فلقوا المهدي بن عاصم وكعب بن محمد بحبر- وهو موضع بالقاعة - فضربوهما ضربا مبرحا، ثم انصرفوا فضلوا عن الطريق، فوجدوا العقليين وهم تسعة، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى خلى لهم العقيليون الطريق ثم مضوا حتى وجدوا من عقيل جمعا آخر بسحبل فاقتتلوا منالا شديدا، فقتل جعفر بن علبة رجلا من عقيل يقال له خشينة، فاستعدى العقيليون إبراهيم بن هشام المخزومي عامل مكة، فرفع الحارثيين الأربعة من نجران حتى حبسهم بمكة، ثم أفلت منه رجل فخرج هاربا، فأحضرت عقيل قسامة: حلفوا أن جعفر قتل صاحبهم. فأقاده إبراهيم بن هشام. قال وقال جعفر بن علبة قبل أن يقتل وهو محبوس: ?عجبت لمسراها وأني تخلصت إلي وباب السجن بالقفل مغلق

ألمت فحيت ثم قـامـت فـودعـت                      فلما تولت كادت النفـس تـزهـق

فلا تحسبي أني تخشعت بـعـدكـم                      لشيء ولا أني من المـوت أفـرق

وكيف وفي كفي حـسـام مـذلـق                      يعض بهامات الرجـال ويعـلـق

ولا أن قلبـي يزدهـيه وعـيدهـم                      ولا أنني في بالمشي في القيد أخرق

ولكن عرتني من هـواك صـبـابة                      كما كنت ألقى منك إذ أنا مطـلـق

فأما الهوى والود مني فـطـامـح                      إليك وجثمانـي بـمـكة مـوثـق وقال جعفر بن علبة لأخيه يحرضه:

 

صفحة : 1429

 

 

وقل لأبي عون إذا ما لقـيتـه                      ومن دونه عرض الفلاة يحول - في نسخة ابن الأعرابي:

.......إذا مـا لـقــيتـــه                      ودونه من عرض الفلاة محول بالميم، وبشم الهاء في دونه بالرفع وتخفيفها، وهي لغتهم خاصة-

تعلم وعد الشـك أنـي يشـفـنـي                      ثلاثة أحـراس مـعـا وكـبـول

إذا رمت مشيا أو تبوأت مضجـعـا                      يبيت لها فوق الكعـاب صـلـيل

ولو بك كانت لا بتعثت مـطـيتـي                      يعود الحفا أخفـافـهـا وتـجـول

إلى العدل حتى يصدر الأمر مصدرا                      وتبـرأ مـنـكـم قـالة وعـدول ونسخت أيضا خبره من كتاب للنضر بن حديد، فخالف هاتين الروايتين، وقال فيه: كان جعفر بن علبة يزور نساء من عقيل بن كعب، وكانوا متجاورين هم وبنو الحارث بن كعب، فأخذته عقيل، فكشفوا دبر قميصه، وربطوه إلى جمته، وضربوه بالسياط، وكتفوه، ثم أقبلوا به وأدبروا على النسوة اللاتي كان يتحدث إليهن على تلك الحال ليغيظوهن، ويفضحوه عندهن، فقال لهم: يا قوم، لا تفعلوا فإن هذا الفعل مثلة، وأنا أحلف لكم بما يثلج صدوركم ألا أزور بيوتكم أبدا، ولا ألجها. فلم يقبلوا منه. فقال لهم: فإن لم تفعلوا ذلك فحسبكم ما قد مضى، ومنوا علي بالكف عني فإني أعده نعمة لكم ويدا لا أكفرها أبدا، أو فاقتلوني وأريحوني، فأكون رجلا آذى قوما في دارهم فقتلوه. فلم يفعلوا، وجعلوا يكشفون عورته بين أيدي النساء، ويضربونه، ويغرون به سفهاءهم حتى شفوا أنفسهم منه، ثم خلوا سبيله. فلم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد جعفر ومعه صاحبان له، فدفع، راحلته حتى أولجها البيوت، ثم مضى. فلما كان في نقرة من الرمل أناخ هو وصاحباه، وكانت عقيل أقفى خلق الله لأثر، فتبعوه حتى انتهوا إليه وإلى صاحبيه، والعقيليون مغترون ليس مع أحد منهم عصا ولا سلاح، فوثب عليهم جعفر بن علبة وصاحباه بالسيوف فقتلوا منهم رجلا وجرحوا آخر وافترقوا، فاستعدت عليهم عقيل السري ابن عبدالله الهاشمي عامل المنصور على مكة، فأحضرهم وحبسهم، فأقاد من الجارح، ودافع عن جعفر بن علبة- وكان يحب أن يدرأ عنه الحد لخؤولة أبي العباس السفاح في بني الحارث، ولأن أخت جعفر كانت تحت السري بن عبدالله، وكانت حظية عنده- إلى أن أقاموا علية قسامة: أنه قتل صاحبهم وتوعدوه بالخروج إلى أبي جعفر والتظلم إليه، فحينئذ دعا بجعفر فأقاد منه، وأفلت علي بن جعدب من السجن فهرب. قال وهو ابن أخي جعفر بن علبة. فلما أخرج جعفر للقود قال له غلام من قومه: أسقيك شربة من ماء بارد ? فقال له: اسكت لا أم لك، إني إذا لمهياف . وانقطع شسع نعله فوقف فأصلحه، فقال له رجل: أما يشغلك عن هذا ما أنت فيه? فقال:

أشد قبال نعلي أن يراني                      عدوي للحوادث مستكينا قال: وكان الذي ضرب عنق جعفر بن علبة نحبة بن كليب أخو المجنون، وهو أحد بني عامر بن عقيل، فقال في ذلك:

شفى النفس ما قال ابن علبة جعفر                      وقولي له اصبر ليس ينفعك الصبر

هوى رأسه من حيث كان كما هوى                      عقاب تدلى طالبا جانب الـوكـر

أبا عـارم، فـينـا عـرام وشـدة                      وبسطة أيمان سواعدهـا شـعـر

هم ضربوا بالسيف هامة جعـفـر                      ولم ينجه بر عريض ولا بـحـر

وقدناه قود البكر قسـرا وعـنـوة                      إلى القبر حتى ضم أثوابه القـبـر وقال علبة يرثي ابنه جعفرا:

لعمرك إني يوم أسلمت جعفـرا                      وأصحابه للموت لمـا أقـاتـل

لمتجنب حب المـنـايا وإنـمـا                      يهيج المنايا كل حق وبـاطـل

فراح بهم قوم ولا قوم عندهـم                      مغللة أيديهم في الـسـلاسـل

ورب أخ لي غاب لو كان شاهدا                      رآه التباليون لي غـير خـاذل وقال علبة أيضا لامرأته أم جعفر قبل أن يقتل جعفر:

لعمرك إن الليل يا أم جعفـر                      علي وإن عللتني لـطـويل

أحاذر أخبارا من القوم قد دنت                      ورجعة أنقاض لهـن دلـيل فأجابته فقالت:

أبا جعفر أسلمت للقوم جعفرا                      فمت كمدا أو عش وأنت ذليل

 

صفحة : 1430

 

قال أبو عمرو في روايته: وذكر شداد بن إبراهيم أن بنتا ليحيى بن زياد بن عبيد الله الحارثي حضرت الموسم في ذلك العام لما قتل فكفنته واستجادت له الكفن، وبكته وجميع من كان معها من جواريها، وجعلن يندنبه بأبياته التي قالها قبل قتله:

أحقا عباد الله أن لـسـت رائيا                      صحاري نجد والرياح الذواريا وقدمت في صدر أخباره. وفي هذه القصيدة يقول جعفر:

وددت معاذا كان فيمن أتانيا فقال معاذ يجيبه عنها بعد قتله، ويخاطب أباه، ويعرض له أنه قتل ظلما لأنهم أقاموا قسامة كاذبة عليه حين قتل، ولم يكونوا عرفوا القاتل من الثلاثة بعينه، إلا أن غيظهم على جعفر حملهم على أن ادعوا القتل عليه:

أبا جعفر سلب بنجران واحتسـب                      أبا عارم والمسمنات الـعـوالـيا

وقود قلوصا أتلف السيف ربـهـا                      بغير دم في القـوم إلا تـمـاريا

إذا ذكرته مـعـصـر حـارثـية                      جرى دمع عينيها على الخد صافيا

فلا تحسبن الدين يا علب منـسـأ                      ولا الثائر الحران ينسى التقاضـيا

سنقتل منكم بـالـقـتـيل ثـلاثة                      ونغلي وإن كانت دماء غـوالـيا

تمنيت أن تلقى معـاذا سـفـاهة                      ستلقى معاذا والقضيب اليمـانـيا ووجدت الأبيات القافية التي فيها الغناء في نسخة النضر بن حديد أتم مما ذكره أبو عمرو الشيباني. وأولها:

ألا هل إلى فتـيان لـهـو ولـذة                      سبيل وتهتاف الحمام المـطـوق

وشربة ماء مـن خـدوراء بـارد                      جرى تحت أظلال الأراك المسوق

وسيرى مع الفتيان كـل عـشـية                      أبارى مطاياهم ببصهباء سـيلـق

إذا كحلت عن نابها مج شـدقـهـا                      لغاما كمح البيضة المـتـرقـرق

وأصهب جوني كـأن بـغـامـه                      تبغم مطرود من الوحش مرهـق

برى لحم دفيه وأدمى أظـلـه أج                      تيابي الفيافي سملقا بعد سمـلـق وذكر بعده الأبيات الماضية. وهذا وهم من النضر، لأن تلك الأبيات مرفوعة القافية وهذه مخفوضة، فأتيت بكل واحدة منهما منفردة ولم أخلطهما لذلك.

علبة ينحر أولاد النوق لتصيح مع النسوة

بكاء على جعفر

أخبرني الحسين بن يحي المرداسي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال: لما قتل جعفر بن علبة قام نساء الحي يبكين عليه، وقام أبوه إلى كل ناقة وشاه فنحر أولادها، وألقاها بين أيديها وقال: ابكين معنا على جعفر فما زالت النوق ترغو والشاء تثغو والنساء يصحن ويبكين وهو يبكي معهن، فما رئى يوم كان أوجع وأحرق مأتما في العرب من يومئذ.

 

صوت

 

عللاني إنما الدنـيا عـلـل                      واسقياني عللا بعد نـهـل

أصحب الصاحب ما صاحبني                      وأكف اللوم عنه والـعـذل الشعر للعجير السلولي. والغناء لابن سريج ثقيل أول بالوسطى عن حبيش. وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى المكي.

 

أخبار العجير السلولي ونسبه

هو - فيما ذكر محمد بن سلام - العجير بن عبد الله بن عبيدة بن كعب بن عائشة بن الربيع بن ضبيط بن جابر بن عبد الله بن سلول. ونسخت نسبه من نسخة عبيد الله بن محمد اليزيدي عن ابن حبيب قال: هو العجير بن عبيد الله بن كعب عبيدة بن جابر بن عمر بن سلول بن مرة بن صعصعة، أخي عامر بن صعصعة، شاعر مقل إسلامي من شعراء الدولة الأموية. وجعله محمد بن سلام في طبقة أبي زبيد الطائي، وهي الخامسة من طبقات شعراء الإسلام.

أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي، قال: حدثنا أبو الغراف قال: كان العجير السلولي دل عبد الملك بن مروان على ماء يقال له مطلوب ، وكان لناس من خثعم، فأنشأ يقول:

لا نوم إلا غرار العين ساهـرة                      إن لم أروع بغيظ أهل مطلوب

أن تشتموني فقد بدلت أيكتـكـم                      ذرق الدجاج بحفان اليعاقـيب

وكنت أخبركم أن سوف يعمرها                      بنو أمية وعدا غير مـكـذوب

 

صفحة : 1431

 

قال: فركب رجل من خثعهم يقال أمية إلى عبد الملك حتى دخل عليه فقال: يا أمير المؤمنين، إنما أراد العجير أن يصل إليك وهو شويعر سآل . وحربه عليه. فكتب إلى عامله بأن يشد يدي العجير إلى عنقه ثم يبعثه في الحديد. فبلغ العجير الجبر فركب في الليل حتى أتى عبد الملك فقال له: يا أمير المؤمنين، أنا عندك فاحتبسني وابعث من يبصر الأرضين والضياع، فإن لم يكن الأمر على ما أخبرتك فلك دمي حل وبل، فبعث فاتخذ ذلك الماء، فهو اليوم من خيار ضياع بني أمية.

نافع الكناني يطلبه ليقيم الحد عليه

نسخت من كتاب عبيد الله بن محمد اليزيدي عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال: هجا العجير قوما من بني حنيفة وشتمهم، فأقاموا عليه البينة عند نافع بن علقمة الكناني، فأمرهم بطلبه وإحضاره ليقيم عليه الحد وقال لهم: إن وجدتموه أنتم فأقيموا عليه الحد وليكن ذلك في ملأ يشهدون به لئلا يدعي عليكم تجاوز الحق. فهرب العجير منهم ليلا حتى أتى نافع بن علقمة، فوقف له متنكرا حتى خرج من المسجد، ثم تعلق بثوبه وقال:

إليك سبقنا السوط والسجن، تحتنا                      حيال يسامين الظلال ولـقـح

إلى نافع لا نرتجي ما أصابنـا                      تحوم علينا السانحات وتبـرح

فإن أك مجلودا فكن أنت جالدي                      وإن أك مذبوحا فكن أنت تذبح فسأله عن المطر وكيف كان أثره، فقال له:

يا نافع يا أكرم البـريه                      والله لا أكذبك العشية

إنا لقينا سـنة قـسـيه                      ثم مطرنا مطرة روية

فنبت البقل ولا رعية - يعني أن المواشي هلكت قبل نبات البقل- فقال له: آنج بنفسك فإني سأرضي خصومك، ثم بعث إليهم فسألهم الصفح عن حقهم وضمن لهم أن لا يعاود هجاءهم.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمر بن إبراهيم السعدي عن عباس بن عبد الصمد السعدي قال: قال هشام بن عبد الملك للعجير السلولي: أصدقت فيما قلته لابن عمك? قال نعم يا أمير المؤمنين، إلا أني قلت:

فتى قد قد السيف لا متضائل                      ولا رهل لباتـه وبـآدلـه هذا البيت يروى لأخت يزيد بن الطثرية ترثيه به

جميل إذا استقبلته مـن أمـامـه                      وإن هو ولى أشعث الرأس جافله

طويل سطي الساعـدين عـذور                      على الحي حتى تستقل مراجلـه

ترى جـارزيه يرعـدان ونـاره                      عليها عداميل الهشيم وصامـلـه

يجران ثنيا خيرها عظـم جـاره                      على عينه لم تعد عنها مشاغلـه

تركنا أبا الأضياف في كل شتـوه                      بمر ومردى كل خصم يجـادلـه

مقيما سلبناه دريسـي مـفـاضة                      وأبيض هنديا طوالا إلا حمائلـه فقال هشام: هلك والله الرجل.

ونسخت من كتاب ابن حبيب قال ابن الأعرابي: اصطحب العجير وشاعر من خزاعة إلى المدينة فقصد الخزاعي الحسن بن الحسن بن علي عليهم السلام، وقصد العجير رجلا من بني عامر بن صعصعة كان قد نال سلطانا، فأعطى الحسن بن الحسن الخزاعي وكساه ولم يعط العامري العجير شيئا، فقال العجير:

يا ليتني يوم حزمت القلـوص لـه                      يممتها هاشمـيا غـير مـمـذوق

محض النجار من البيت الذي جعلت                      فيه النبوة يجري غير مـسـبـوق

لا يمسك الخـير إلا ريث يسـألـه                      ولا يلاطم عند اللحم في الـسـوق فبلغت أبياته الحسن، فبعث إليه بصلة إلى محلة قومه وقال له: قد أتاك حظك وإن لم تتصد له.

العجير يشرب حتى ينتشي

فيأمر بنحر حمله ويقول شعرا

أخبرني أحمد بن أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثنا محمد بن الحسن بن دينار الأحوال قال: حدثني بعض الرواة أن العجير بن عبد الله السلولي مر بقوم يشربون فسقوه فلما انتشى قال: انحروا جملي وأطعمونا منه. فنحروا وجعلوا يطعمونه ويسقونه ويغنونه بشعر قال يومئذ، وهو:

عللاني إنما الدنـيا عـلـل                      واسقياني عللا بعد نـهـل

وانشلا ما اغبر من قدريكما                      وأصبحاني أبعد الله الجمـل

أصحب الصاحب ما صاحبني                      وأكف اللوم عنه والـعـذل

وإذا أتلـف شـيئا لـم أقـل                      أبدا يا صاح ما كان فـعـل

 

صفحة : 1432

 

قال: فلما صحا سأل عن جمله فقيل له: نحرته البارحة. فجعل يبكي ويصيح: واغربتاه وهم يضحكون منه. ثم وهبوا له بعيرا فارتحله وانصرف إلى أهله.

ندمه على ذلك بعد صحوه وارتحاله على بعير وهب له أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: حج العجير السلولي فنظر إلى امرأته وكان قد حج بها معه وهي تلحظ فتى من بعد وتكلمه فقال فيها:

أيا رب لا تغفر لعثمة ذنبـهـا                      وإن لم يعاقبها العجير فعاقـب

أشارت وعقد الله بيني وبينـهـا                      إلى راكب من دونه ألف راكب

حرام عليك الحج لا تقـربـنـه                      إذا حان حج الملمسات التوائب  العجير يكل زواجه ابنته إلى خالها

ثم يطلقها من المولى بعد قدومه

وقال ابن الأعرابي: غاب العجير غيبة إلى الشآم، وجعل أمر ابنته إلى خالها، وأمره أن يزوجها بكف. فخطبها مولى لبني هلال كان ذا مال، فرغبت أمها فيه وأمرت خال الصبية الموصى إليه بأمرها أن يزوجها ففعل. فلاذت الجارية بأخيها الفرزدق بن العجير، وبرجال من قومها، وبابن عم لها يقال له قيل، فمنعوا جميعا منها سوى ابن عمها القيل فإنه ساعد أمها على ما أردت، ومنع منها الفرزدق. فلما قدم العجير أخبر بما جرى ففسخ النكاح وخلع ابنته من المولى وقال:

ألا هل لبعجان الهلالي زاجـر                      وبعجان مأدوم الطعام سـمـين

أليس أمير المؤمنين ابن عمهـا                      وبالحنو آسـاد لـهـا وعـرين

وعاذت بحقوى عامر وابن عامر                      ولله قد بـتـت عـلـي يمـين

تنالونها أو يخضب الأرض منكم                      دم خر عنه حاجـب وجـبـين وقال أيضا في ذلك:

إذا ما أتيت الخاضبات أكـفـهـا                      عليهن مقصور الحجال المـروق

فلا تدعون القيل إلا لـمـشـرب                      رواء ولكن الشجاع الـفـرزدق

هو ابن لبيضاء الجبين نـجـبـية                      تلقت بطهر لم يجيء وهو أحمق

تداعى إليه أكرم الحـي نـسـوة                      أطفن بكسري بيتها حين تطلـق

فجاءت بعـريان الـيدين كـأنـه                      من الطير باز ينفض الطل أزرق  قول العجير في رفيق

وقال ابن الأعرابي: كان للعجير رفيق يقال له أصبح، وكانا يصيبان الطريق، وفيه يقول العجير:

ومنخرق عن منكبـيه قـمـيصـه                      وعن ساعديه، للأخـلاء وواصـل

إذا طال بالقوم المطـافـى تـنـوفة                      وطول السرى ألفيته غـير نـاكـل

دعوت وقد دب الكرى في عظامـه                      وفي رأسه حتى جرى في المفاصل

كما دب صافي الخمر في مخ شارب                      يميل بعطفيه، عن الـلـب ذاهـل

فلبى ليثنينـي بـثـنـيي لـسـانـه                      ثقيلين من نوم غلوب الـغـياطـل

فقلت له قم فارتحل ليس ها هـنـا                      سوى وقفة الساري مناخ لـنـازل

فقام اهتزاز الرمح يسرو قمـيصـه                      ويحسر عن عاري الذراعيين ناحـل وقال ابن الأعرابي: كانت للعجير امرأة يقال لها أم خالد، فأسرع في ماله فأتلفه وكان جوادا، ثم جعل يدان حتى أثقل بالدين ومد يده إلى مالها، فمنعته منه وعاتبته على فعله، فقال في ذلك:

تقول وقد غالبـتـهـا أم خـالـد                      على مالها أغرقت دينا فأقـصـر

أبي القصر من يأوي إذا الليل جنني                      إلى ضوء ناري من فقير ومقتـر

أيا موقدي ناري ارفعاها لعلـهـا                      تشب لمقو آخر اللـيل مـقـفـر

أمن راكب أمسى بظهر تـنـوفة                      أواريك أم من جاري المتنـظـر

ولا قدر دون الـجـار إلا ذمـيمة                      وهذا المقاسي ليلة ذات منـكـر

تكاد الصبا تبـتـزه مـن ثـيابـه                      على الرجل إلا من قميص ومئزر

وماذا علينا أن يخالس ضـوءهـا                      كريم ثناه شاحب المـتـحـسـر - المتحسر: ما انكشف وتجرد من جسمه-

فيخبر عما قليل ولو خلـت                      له القدر لم نعجب ولم نتخبر صوت

سلي الطارق المعتريا أم مالـك                      إذا ما أتاني بين قدري ومجزري

أأبسط وجهي أنه أول الـقـرى                      وأبذل معروفي له دون منكرى

 

صفحة : 1433

 

 

فلا قصر حتى يفرح الغيث من أوى                      إلى جنب رحلي كل أشعث أغبـر

أقي العرض بالمال التلاد وما عسى                      أخوك إذا ما ضيع العرض يشترى

يؤدي إلي النـيل قـنـيان مـاجـد                      كريم ومالي سارحا مال مـقـتـر - القنيان : ما اقتنى من المال. إنه لبذله القرى كأنه موسر، وإذا سرح ماله علم أنه مقتر -

إذا مت يوما فاحضري أم خالد                      تراثك من طرف وسيف وأقدر قال ابن حبيب: من الناس من يروي هذه الأبيات الأخيرة التي أولها:

سلي الطارق المعتر يا أم مالك لعروة بن الورد، وهي للعجير.

العجير يفد على عبد الملك

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن هشام بن محمد قال: وفد العجير السلولي- وسلول بنو مرة بن صعصعة- على عبد الملك بن مروان، فأقام ببابه شهرا لا يصل إليه لشغل عرض لعبد الملك، ثم وصل فلما مثل بين يديه أنشد:

ألا تلك أم الهبرزي تـبـينـت                      عظامي ومنها ناحل وكـسـير

وقالت تضاءلت الغداة ومن يكن                      فتى قبل عام الماء فهو كبـير

فقلت لها إن العجير تقـلـبـت                      به أبطن أبلـينـه وظـهـور

فمنهن إدلاجي على كل كوكـب                      له من عماني النجوم نـظـير

وقرعي بكفي باب ملك كأنمـا                      به القوم يرجون الأذين نسـور

ويوم تبارى ألسن القوم فـيهـم                      وللموت أرحاء بـهـن تـدور

لو أن الجبال الصم يسمعن وقعها                      لعدن وقد بانت بهن فـطـور

فرحت جوادا والجواد مثـابـر                      على جريه، ذو عـلة ويسـير عطاء عبد الملك له لطول مقامه فقال له: يا عجير ما مدحت إلا نفسك، ولكنا نعطيك لطول مقامك. وأمر له بمائة من الإبل يعطاها من صدقات بني عامر، فكتب له بها.

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني قال: حدثنا العمري عن العتبي قال: نظر أبي إلى فتى من بني العباس يسحب مطرف خز عليه وهو سكران- وكان فتى متهتكا- فحرك رأسه مليا ثم قال: لله در العجير السلولي حيث يقول:

وما لبس النـاس مـن حـلة                      جديد ولا خـلـقـا يرتـدى

كمثل المـروءة لـلابـسـين                      فدعني من المطرف المستدى

فليس بغير فضـل الـكـريم                      خلوقة أثـوابـه والـبـلـى

وليس يغير طـبـع الـلـئيم                      مطارف خز رقاق السـدى

يجود الكريم على كـل حـال                      ويكبو اللـئيم إذا مـا جـرى  قوله في ابنه الفرزدق

أخبرني عمي قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهروية قال: حدثني أبو القاسم اللهبي عن أبي عبيدة قال: كان العجير السلولي له ابن يقال له الفرزدق، وفيه يقول العجير:

ولقد وضعتك غير متـرك                      من جابر في بيتها الضخم

واخترت أمك من نسائهـم                      وأبوك كل عذور شـهـم

فلئن كذبت المنح من مائة                      فلتقبلـن بـسـائغ وخـم

إن الندى والفضل غايتنـا                      ونجاتنا وطريق من يحمي أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: قال الحرمازي: وقف العجير السلولي لبعض الأمراء، وقد علق به غريم له من أهله فقال له:

أتيتك إن الباهلي يسوقـنـي                      بدين ومطلوب الديون رقيق

ثلاثتنا إن يسر اللـه: فـائر                      بأجر، ومعطى حقه، وعتيق فأمر بقضاء دينه.

بنت عمه تختار العامري عليه

وقال ابن الأعرابي: كانت للعجير عم وكان يهواها وتهواه، فخطبها إلى أبيها فوعده وقاربه . ثم خطبها رجل من بني عامر موسر، فخيرها أبوها بينه وبين العجير، فختارت العامري ليساره، فقال العجير في ذلك:

ألما على دار لـزينـب قـد أتـى                      لها بلوى ذي المرخ صيف ومربع

وقولا لها قد طالما لم تكـلـمـي                      وراعاك بالعين الفؤاد الـمـروع

وقولا لها قال العجير وخصـنـي                      إليك، وإرسال الخليلـين ينـفـع

أأنت التي استودعتك السر فانتحـى                      لي الخون مراح من القوم أفـرغ

 

صفحة : 1434

 

 

إذا مت كان الناس نصفين: شامت                      ومئن بما قد كنت أسدي وأصنع

ومستلحم قد صكه القـوم صـكة                      بعيد الموالي نيل ما كان يمنـع

رددت له ما أفرط القتل بالضحى                      وبالأمس حتى اقتاله فهو أصلع

ولست بمولاه ولا بابـن عـمـه                      ولكن متى ما أملك النفع أنفـع قال ابن الأعرابي: كان العجير يتحدث إلى امرأة من بني عامر يقال لها جمل فألفها وعلقها. ثم انتجع أهلها نواحي نصيبين، فتتبعتها نفسه، فسار إليهم فيهم مجاورا ، ثم رأوه منازلا ملازما محادثة تلك المرأة فنهوه عنها وقالوا: قد رأينا أمرك فإما أن انقطعت عنها أو ارتحلت عنا، أو فأذن بحرب . فقال: ما بيني وبينها ما ينكر، وإنما كنت أتحدث إليها كما يتحدث الرجل الكريم إلى المرأة الحرة الكريمة، فأما الريبة فحاش لله منها. ثم عاود محادثتها، فانتهبوا ماله وطردوه. فأتى محمد بن مروان بن الحكم وهو يومئذ يتولى الجزيرة لأخيه عبد الملك بن مروان، فأتاه مستعديا على بني عامر وعلى الذي أخذ ماله خصوصية ، وهو رجل من بني كلاب يقال له ابن الحسام، وأنشده قوله:

عفا يافع من أهله فـطـلـوب                      وأقفر لو كان الـفـؤاد يثـوب

وقفت بها من بعد ما حل أهلهـا                      نصيبين والراقي الدموع طبـيب

وقد لاح معروف القتير وقد بدت                      بك اليوم من ريب الزمان ندوب

وسالمت روحات المطي وأحمدت                      مناسم منها تشتكي وصـلـوب

وما القلب أم ما ذكره أم صبـية                      أريكة منها مسكـن فـهـروب

حصان الحميا حرة حال دونـهـا                      حليل لها شاكي السلاح غضوب

شموس، دنو الفرقدين اقترابهـا،                      لغي مقاريف الرجال سـبـوب

أحقا عباد الله أن لست نـاظـرا                      إلى وجهها إلا عـلـي رقـيب

عدتني العدا عنها بعيد تسـاعـف                      وما أرتجي منها إلـي قـريب

لقد أحسنت جمل لو أن تبيعـهـا                      إذا ما أرادت أن تـثـيب يثـيب

تصدين حتى يذهب اليأس بالمنى                      وحتى تكاد النفس عنك تطـيب - هذا البيت يروي لابن الدمينة، وهو بشعره أشبه، ولا يشاكل أيضا هذا المعنى ولا هو من طريقه، لأنه تشكى في سائر الشعر قومها دونها، وهذا بيت يصف فيه الصد منها، ولكن هكذا هو في رواية ابن الأعرابي-

وأنت المنى لو كنت تستأنفـينـنـا                      بخير ولكن مـعـتـفـاك جـديب

أيؤكل مالي وابن مـروان شـاهـد                      ولم يقض لي وابن الحسام قـريب

فتى محض أطراف العروق مساور                      جبال العلا طلق الـيدين وهـوب فأمر محمد بن مروان بإحضار ابن الحسام الكلابي فأحضر، فحبسه حتى رد مال العجير، وأمر العجير بالانصراف إلى حيه وترك النزول على المرأة أو في قومها. قال: وقال العجير فيها أيضا:

هاتيك جمل بأرض لا يقربـهـا                      إلا هبل من العيدي معـتـقـد

ودونها معشر خزر عـيونـهـم                      لو تخمد النار من حر لما خمدوا

عدوا علينا ذنوبا في زيارتـهـا                      ليحجبوها وفي أخلاقهم نـكـد

وحال من دونها شكس خلائقـه                      كأنه نمر في جـلـده الـربـد

فليس إلا عويل كلـمـا ذكـرت                      أو زفرة طالما أنت بها الكبـد

وتيمتني جمل فاستـمـر بـهـا                      شحط من الدار لاأم ولا صـدد

قالوا غداة استقلت: ما لمقلـتـه                      أمن قذى هملت أم عارها رمد

فقلت لا بل غدت سلمى لطيتهـا                      فليتهم مثل وجدي بكرة وجـدوا

إن كان وصلك أبلى الدهر جدته                      وكل شيء جديد هالـك نـفـد

فقد أراني ووجدي إذ تفارقنـي                      يوما كوجد عجوز درعها قـدد

تبكي على بطل حمت منـيتـه                      وكان واتر أعداء به ابـتـردوا

وقد خلا زمن لو تصرمين لـه                      وصلي لأيقنت أني ميت كمـد

أزمان تعجبني جمل واكتـمـه                      جملا حياء، وما وجد كما أجـد

 

صفحة : 1435

 

 

فقد برئت على أنـي إذا ذكـرت                      ينهل دمعي وتحيا غـصة تـلـد

من عهد سلمى التي هام الفؤاد بها                      أزمان أزمان سلمى طفـلة رؤد

قد قلت للكاشح المبدي عـدواتـه                      قد طالما كان منك الغش والحسد

ألا تبين لي لا زلت تبغـضـنـي                      حتام أنت إذا ما ساعفت ضمـد  وصية عبد الملك لمؤدب ولده

أن يرويهم مثل قول العجير

وقال ابن حبيب: قال عبد الملك لمؤدب ولده: إذا رويتهم شعرا فلا تروهم إلا مثل قول العجير السلولي:

يبين الجار حين يبين عـنـي                      ولم تأنس إلي كلاب جاري

وتظعن جارتي من جنب بيتي                      ولم تستر بستر من جـداري

وتأمن أن أطالع حـين آتـي                      عليها وهي واضعة الخمار

كذلك هدي أبـائي قـديمـا                      توارثه النجار عن النجـار

فهديي هديهم وهم افتلونـي                      كما افتلي العتيق من المهار وقال ابن حبيب أيضا: نزل العجير بقوم فأكرموه وأطعموه وسقوه، فلما سكر قام إلى جمله فعقرة، وأخرج كبده وجب سنامه، فجعل يشوى ويأكل ويطعم ويغني:

عللاني إنما الدنـيا عـلـل                      واسسقياني عللا بعد نهـل

وانشلا لي اللحم من قدريكما                      واصبحاني أبعد الله الجمل فلما أفاق سأل عن جمله فأخبر ما صنع به، فجعل يبكي ويصيح: واغربتاه وهم يضحكون منه. ثم أعطوه جملا وزودوه، فانصرف حتى لحق بقومه.

أخبرني عمي بهذا الخبر قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا الحكم بن موسى بن الحسين بن يزيد السلولي قال: حدثني أبي عن عمه فقال فيه: مر العجير بفتيان من قومه يشربون نبيذا لهم فشرب معهم، وذكر باقي القصة نحوا مما ذكر ابن حبيب، ولم يقل فيها: - فلما أصبح جعل يبكي ويصيح: واغربتاه- ولكنه قال: فلما أصبح ساق قومه إليه ألف بعير مكان بعيره.

سليمان ويأمر له بثلاثين ألفا أخبرني عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا: حدثنا الله بن أبي سعد قال: حدثني الحكم بن موسى بن الحسين السلولي قال: حدثني أبي عن عمه قال: عرض العجير لسليمان بن عبد الله في الطواف، وعلى العجير بردان يساويان مائة وخمسين دينارا، فانقطع شسع نعله فأخذها بيده، ثم هتف بسليمان فقال:

ودليت دلوي في دلاء كثيرة                      إليك فكان الماء ريان معلما فوقف سليمان ثم قال: الله دره ما أفصحه، والله ما رضي أن قال ريان حتى قال معلما، والله إنه ليخيل إلي أنه العجير، وما رأيته قط إلا عند عبد الملك. فقيل له: هو العجير. فأرسل إليه: أن صر إلينا إذا حللنا. فصار إليه، فأمر له بثلاثين ألفا وبصدقات قومه، فردها العجير عليهم ووهبها لهم.

رثاء العجير لابن عمه

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني هرون بن موسى الفروي قال: كان ابن عم للعجير السلولي إذا سمع بأضياف عند العجير لم يدعهم حتى يأتي بجزور كوماء ، فيطعن في لبتها عند بيته، فيبيتون في شواء وقدير ، ثم مات قال العجير يرثيه:

تركنا أبا الأضياف في ليلة الصبا                      بمر ومردي كل خصم يجادلـه

وأرعيه سمعي كلما ذكر الأسـى                      وفي الصدر مني لوعة ما تزايله

وكنت أعير الدمع قبلك من بكى                      فأنت على من مات بعدك شاغله هكذا ذكر هرون بن موسى في هذا الخبر، والبيت الثالث من هذه البيات للشمردل بن شريك لا يشك فيه، من قصيدة له طويلة. فيه غناء قد ذكرته في أخباره.

 

صوت

 

فتاة كأن رضاب العبير                      بفيها يعل به الزنجبيل

قتلت أباها على حبهـا                      فتبخل إن بخلت أو تنيل الشعر لخزيمة بن نهد، والغناء لطويس. خفيف رمل بالبنصر عن يحيى المكي.

 

أخبار خزيمة بن نهد ونسبه

هو خزيمة بن نهد بن زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة. شاعر مقل من قدماء الشعراء في الجاهلية. وفاطمة التي عناها في شعره هذا: فاطمة بنت يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، كان يهواها فخطبها من أبيها فلم يزوجه إياها، فقتله غيلة. وإياها عني بقوله:

إذا الجوزاء أردفت الثريا                      ظننت بآل فاطمة الظنونا

 

صفحة : 1436

 

خزيمة يشبب بفاطمة بنت يذكر بن عنزة أخبرني بخبره محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا عبيد الله بن سعد الزبيري قال: حدثني عمي قال حدثني أبي - أظنه عن الزهري - قال: كان بدء تفرق بني إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام عن تهامة ونزوعهم عنها إلى الآفاق، وخروج من خرج منهم عن نسبه، انه كان أول من ظعن عنها وأخرج منها قضاعة بن معد. وكان سبب خروجهم أن خزيمة بن نهد بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة بن معد كان مشؤوما فاسدا، متعرضا للنساء، فعلق فاطمة بنت يذكر بن عنزة- واسم يذكر عامر - فشبب بها وقال فيها:

إذا الجوزاء أردفت الـثـريا                      طننت بآل فاطمة الظنونـا

وحالت دون ذلك من همومي                      هموم تخرج الشجن الدفينـا

أرى ابنة يذكر ظعنت، فحلت                      جنوب الحزن يا شحطا مبينا  مقتل يذكر بن عنزة

وإشعاله الشربين قضاعة ونزار

قال: فمكث زمانا، ثم إن خزيمة بن نهد قال ليذكر بن عنزة: احب أن تخرج معي حتى ناتي بقرظ. فخرجا جميعا، فلما خلا خزيمة بن نهد بيذكر بن عنزة قتلة، فلما رجع - وليس هو معه- سأله عنه أهله، فقال: لست أدري، فارقني وما أدري أين سلك. فكان في ذلك شر بين قضاعة ونزار ابني معد، وتكلموا فيه فأكثروا، ولم يصح على خزيمة عندهم شيء يطالبون به، حتى قال خزيمة بن نهد:

فتاة كأن رضاب العبير                      بفيها يعل به الزنجبيل

قتلت أباها على حبهـا                      فتبخل إن بخلت أو تنيل فلما قال هذين البيتين تثاور الحيان فاقتتلوا وصاروا أحزابا، فكانت نزار بن معد وهي يومئذ تنتسب فتقول كنده بن جنادة بن معد. وحاء وهم يومئذ ينتمون فيقولون حاء بن عمرو بن أد بن أدد. وكانت قضاعة تنتسب إلى معد، وعك يومئذ تنتمي إلى عدنان فتقول: عك عدنان بن أد والأشعريون ينتمون إلى الأشعر بن أدد. وكانوا يتبدون من تهامة إلى الشأم، وكانت منازلهم بالصفاح، وكان مر وعسفان لربيعة بن نزار، وكانت قضاعة بين مكة والطائف، وكانت كندة تسكن من الغمر إلى ذات عرق، فهو إلى اليوم يسمى غمر كندة. وإياه يعني عمر بن أبي ربيعة بقوله:

إذا سلكت غمر ذي كنـدة                      مع الصبح قصد لها الفرقد

هنالك إما تعزى الـهـوى                      وإما على إثرهم تكـمـد وكانت منازل حاء بن عمرو بن أدد، والأشعر بن أدد، وعك بن عدنان بن أدد، فيما بين جدة إلى البحر.

القارظان

قال: فيذكر بن عنزة أحد القارظين اللذين قال فيهما الهذلي:

وحتى يؤوب القارظان كلاهما                      وينشر في القتلى كليب لوائل والآخر من عنزة، يقال أبو رهم، خرج يجمع القرط فلم يرجع ولم يعرف له خبر.

انهزام قضاعة وقتل خزيمة بن نهد قال: فلما ظهرت نزار على أن خزيمة بن نهد قتل يذكر بن عنزة قاتلوا قضاعة أشد قتال، فهزمت قضاعة وقتل خزيمة بن نهد وخرجت قضاعة متفرقين، فسارت تيم اللات بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة، وفرقة من بني رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة، وفرقة من الأشعريين، نحو البحرين حتى وردوا هجر، وبها يومئذ قوم من النبط، فنزلت عليهم هذه البطون فأجلتهم، فقال في ذلك مالك بن زهير:

نزعنا من تهامة أي حي                      فلم تحفل بذاك بنو نزار

ولم أك من أنيسكم ولكن                      شرينا دار آنسة بـدار فلما نزلوا هجر قالوا للزقاء بنت زهير وكانت كاهنة ما تقولين يا زرقاء? قالت:  سعف وإهان، وتمر وألبان، خير من الهوان  . ثم أنشأت تقول:

ودع تهامة لا وداع مخالق                      بذمامه لكن قلـى ومـلام

لا تنكري هجرا مقام غريبة                      لن تعدمي من ظاعنين تهام

 

صفحة : 1437

 

فقالوا لها: فما ترين يا زرقاء? فقالت: مقام وتنوخ، ما ولد مولود وأنقفت فروخ ، إلى أن يجيء غراب أبقع، أصمع أنزع ، عليه خلخالا ذهب، فطار فألهب . ونعق فنعب، يقع على النخلة السحوق ، بين الدور والطريق، فسيروا على وتيرة، ثم الحيرة. فسميت تلك القبائل تنوخ لقول الزرقاء:  مقام وتنوخ  . ولحق بهم قوم من الزرد فصاروا إلى الآن في تنوخ، ولحق سائر قضاعة موت ذريع، وخرجت فرقة من بني حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة يقال لهم: بنو تزيد، فنزلوا عبقر من أرض الجزيرة، فنسج نساؤهم الصوف وعملوا منه الزرابي ، فهي التي يقال لها العبقرية، وعملوا البرود التي يقال لها التزيدية . وأغارت عليهم الترك، فأصابتهم، وسبت منهم. فذلك قول عمرو بن مالك:

ألا لله لـيل لـم نـنـمـه                      على ذات الخضاب مجنبينا

وليلتنا بآمد لم نـنـمـهـا                      كليلتنا بمـيا فـارقـينـا  بهراء تلحق بالبرك وتهزمهم

وأقبل الحارث بن قراد البهراني ليعيث في بني حلوان، فعرض له أباغ بن سليح صاحب العين فاقتتلا، فقتل أباغ، ومضت بهراء حتى لحقوا بالترك، فهزموهم واستنفذوا ما في أيديهم من بني تزيد. فقال الحارث بن قراد في ذلك:

كأن الدهر جمع في ليال                      ثلاث بتهن بشـهـرزور

صففنا للأعاجم من معـد                      صفوفا بالجزيرة كالسعير  سليح بن عمرو ونزولها ناحية فلسطين

وسارت سليح بن عمرو بن الحاف بن قضاعة يقودها الحدرجان بن سلمة حتى نزلوا ناحية فلسطين على بني أذينة بن السميدع من عاملة. وسارت أسلم بن الحاف وهي عذرة ونهد وحوتكة وجهينة والحارث بن سعد، حتى نزلوا من الحجر إلى وادي القرى، ونزلت تنوخ بالبحرين سنتين. ثم أقبل غراب في رجليه حلقتا ذهب وهم في مجلسهم، فسقط على نخلة في الطريق، فينعق نعقات ثم طار، فذكروا قول الزرقاء، فارتحلوا حتى نزلوا الحيرة.

فهم أول من اختطها : منهم مالك بن زهير. واجتمع إليهم لما ابتنوا بها المنازل ناس كثير من سقاط ، فأقاموا بها زمانا، ثم أغار عليهم سابور الأكبر، فقاتلوه فكان شعارهم يومئذ: يا آل عباد الله فسموا العباد، وهزمهم سابور، فصار معظمهم ومن فيه نهوض إلى الحضر من الجزيرة يقودهم الضيزن بن معاوية بن معاوية التنوخي، فمضى حتى نزل الحضر وهو بناء بناه السطرون الجرمقاني، فأقاموا به، وأغارت حمير على بقية قضاعة، فخيروهم بين أن يقيموا على خراج يدفعونه إليهم أو يخرجوا عنهم، فخرجوا عنهم، فخرجوا - وهم كلب، وجرم والعلاف، وهم بنو زبان بن تغلب بن حلوان، وهو أول من عمل الرحال العلافية، - وعلاف لقب زبان- فلحقوا بالشام، فأغارت عليهم بنو كنانة بن خزيمة بعد ذلك بدهر، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة، وانهزموا فلحقوا بالسماوة، فهي منازلهم إلى اليوم.

 

صوت

 

إني امرؤ كفني ربي ونزهـنـي                      عن الأمور التي في غبها وخـم

وإنما أنا إنسـان أعـيش كـمـا                      عاش الرجال وعاشت قبلي الأمم الشعر للمغيرة بن حبناء، من قصيدة مدح بها المهلب بن أبي صفرة، والغناء لأبي العبيس بن حمدون، ثقيل أول بالبنصر، وهو من مشهور أغانيه وجيدها.

 

نسب المغيرة بن حبناء وأخباره

المغيرة بن حبناء بن عمرو بن ربيعة بن أسيد بن عوف بن ربيعة بن عامر بن ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وحبناء لقب غلب على أبيه واسمه جبير بن عمرو، ولقب بذلك لحبن كان أصابه. وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وأبوه حبناء بن عمرو شاعر، وأخوه صخر بن حبناء شاعر، وكان يهاجيه، ولهما قصائد يتناقضانها كثيرة، سأذكر منها طرفا. وكان قد هاجى زيادا الأعجم فاكثر كل واحد منهما على صاحبه وأفحش، ولم يغلب أحد منهما صاحبه، كانا متكافئين في مهاجاتهما ينتصف كل واحد منهما من صاحبه.

مديحه لطلحة الطلحات

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: أخبرني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثني الحسن بن جهور عن الحرمازي قال: قدم المغيرة بن حبناء عل طلحة الطلحات الخزاعي ثم المليحي، أحد بني مليح، فأنشده قوله فيه:

لقد كنت أسعى في هواك وأبتغي                      رضاك وأرجو منك ما لست لاقيا

وأبذل نفسي في مواطن غيرهـا                      أحب، وأعصي في هواك الأدانيا

 

صفحة : 1438

 

 

حفاظا وتمسيكا لما كان بينـنـا                      لتجزيني مالا إخالـك جـازيا

رأيتك ما تنفك مـنـك رغـيبة                      تقصر دوني أو تـحـل ورائيا

أراني إذا استمطرت منك رعيبة                      لتمطرني عادت عجاجا وسافيا

وأدليت دلوي في دلاء كـثـيرة                      فأبن ملاء غير دلوي كماهـيا

ولست بلاق ذا حفاظ ونـجـدة                      من القوم حرا بالخسيسة راضيا

فإن تدن مني تدن منك مودتـي                      وإن تنأ عني تلفني عنك نـائيا قال: فلما أنشده هذا الشعر، قال له: أما كنا أعطيناك شيئا? قال: لا. فأمر طلحة خازنه فاخرج درجا فيه حجارة ياقوت، فقال له: اختر حجرين من هذه الأحجار أو أربعين آلف درهم. فقال: ما كنت لأختار حجارة على أربعين ألف درهم فأمر له بالمال. فلما قبضه سأله حجرا منها، فوهب له فباعه بعشرين ألف درهم. ثم مدحه، فقال:

أرى الناس قد ملوا الفعال ولا أرى                      بني خلـف إلا رواء الـمـوارد

إذا نفعوا عادوا لمن ينفـعـونـه                      وكائن ترى من نافع غـير عـائد

إذا ما انجلت عنهم غمامة غمـرة                      من الموت أجلت عن كرام مذاود

تسود غطاريف الملوك ملوكـهـم                      وما جدهم يعلو على كل مـاجـد  مديحة للمهلب بن أبي صفرة

أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا محمد المهلبي عن رواة باهلة، أن المهلب بن أبي صفرة لما هزم قطري بن الفجاءة بابور جلس للناس، فدخل إليه وجوههم يهنئونه وقامت الخطباء فأثنت عليه ومدحته الشعراء، ثم قام بن حبناء في أخرياتهم فأنشده:

حال الشجا دون طعم العيش والسهر                      واعتاد عينك من إدمانهـا الـدرر

واستحقبتك أمور كنت تكـرهـهـا                      لو كان ينفع منها النأي والـحـذر

وفي الموارد للأقوام تـهـلـكـه                      إذا الموارد لم يعلم لـهـا صـدر

ليس العزيز بمن تغشى محـارمـه                      ولا الكريم بمن يجفى ويحـتـقـر حتى انتهى إلى قوله:

أمسى العباد بشر لا عياث لـهـم                      إلا المهلب بعد الله والـمـطـر

كلاهما طيب ترجى نـوافـلـه                      مبارك سيبه يرجى وينـتـظـر

لا يجمدان عليهم عند جـهـدهـم                      كلاهما نافع فيهم إذا افتـقـروا

هذا يذود ويحمي عن ذمـارهـم                      وذا يعيش به الأنعام والشـجـر

واستسلم الناس إذ حل العدو بهـم                      فلا ربيعتهم ترجى ولا مـضـر

وأنت رأس لأهل الدين منتـخـب                      والرأس فيه يكون السمع والبصر

إن المهلب في الأيام فـضـلـه                      على منـازل أقـوام إذا ذكـروا

حزم وجود و أيام له سـلـفـت                      فيها يعد جسيم المر والخـطـر

ماض على الهول ما ينفك مرتحلا                      أسباب معضلة يعيا بها البـشـر

سهل الخلائق يعفو عند قـدرتـه                      منه الحياء ومن أخلاقه الخفـر

شهاب حرب إذا حلت بساحـتـه                      يخزي به الله أقواما إذا غـدروا

تزيده الحرب والهوال إن حضرت                      حزما وعزما ويجلو وجهه السفر

ما إن يزال على أرجاء مظلـمة                      لولا يكفكفها عن مصرهم دمروا

سهل إليهم حليم عن مجاهلـهـم                      كأنما بينهم عثمـان أو عـمـر

كهف يلوذون من ذل الحـياة بـه                      إذا تكنفهم من هولـهـا ضـرر

أمن لخائفهم فيض لـسـائلـهـم                      ينتاب نائله البادون والـحـضـر فلما أتى على آخرها قال المهلب: هذا والله الشعر، لا ما نعلل به، وأمر له بعشرة آلاف درهم وفرس جواد، وزاده في عطائه خمسمائة درهم.

والقصيدة التي منها البيتان اللذان فيهما الغناء المذكور بذكره أخبار المغيرة، من قصيدة له مدح بها المهلب بن أبي صفرة أيضا. وأولها:

أمن رسوم ديار هاجك الـقـدم                      أقوت وأقفر منها الطف والعلم

وما يهيجك من أطلال منـزلة                      عفى معالمها الأرواح والـديم

بئس الخليفة من جار تضن بـه                      إذا اطربت أثافي القدر والحمم

 

صفحة : 1439

 

 

دار التي كاد قلبي أن يحن بـهـا                      إذا ألم به من ذكـرهـا لـمـم

إذا تذكرها قلـبـي تـضـيفـه                      هم تضيق به الأحشاء والكـظـم

والبين حين يروع القلـب طـائفة                      يبدي ويظهر منهم بعض ما كتموا

إني امرؤ كفني ربيي وأكرمنـي                      عن الأمور التي غبـهـا وخـم

وإنما أنا إنسـان أعـيش كـمـا                      عاش الرجال وعاشت قبلي الأمم سبب قوله قصيدة الصوت وهي قصيدة طويلة، وكان سبب قوله إياها أن المهلب كان أنفذ بعض بنيه في جيش لقتال الأزارقة، وقد شدت منهم طائفة تغير على نواحي الأهواز، وهو مقيم يومئذ بسابور، وكان فيهم المغيرة بن حبناء، فلما طال مقامه واستقر الجيش لحق بأهله، فألم بهم وأقام عندهم شهرا، ثم عاود وقد قفل الجبش إلى المهلب فقيل له: إن الكتاب خطوا على اسمه، وكتب إلى المهلب أنه عصى وفارق مكتبه بغير إذن، فمضى إلى المهلب، فلما لقيه أنشده هذه القصيدة واعتذر إليه فعذره، وأمر بإطلاق عطائه وإزالة العتب عنه، وفيها يقول يذكر قدومه إلى أهله بغير إذن:

ما عاقني عن قفول الجند إذ قفلوا                      عي بما صنعوا حولي ولا صمم

ولو أردت قفولا ما تجهمـنـي                      إذن الأمير ولا الكتاب إذ رقموا

إني ليعرفني راعي سـريرهـم                      والمحدجون إذا ما ابتلت الحـزم

والطالبون إلى السلطان حاجتهـم                      إذا جفا عنهم السلطان أو كزموا

فسوف تبلغك الأنباء إن سلمـت                      لك الشواحج والأنـفـاس والأدم

إن المهلب إن أشتـق لـرؤيتـه                      أو امتدحه فإن الناس قد علمـوا

إن الكريم من الأقوام قد علمـوا                      أبو سعيد وإن عـدت الـنـعـم

والقائل الفاعل الميمون طـائره                      أبو سعيد وإن أعداؤه رغـمـوا

كم قد شهدت كراما من مواطنه                      ليست بغيب ولا تقوالهم زعموا

أيام أيام إذ عض الزمان بـهـم                      وإذ تمنى رجال أنهم هـزمـوا

وإذ يقولون: ليت الله يهلـكـهـم                      والله يعلم لو زلت بـهـم قـدم

أيام سابور إذ ضاعت رباعتهـم                      لولاه ما أوطنوا دارا ولا انتقموا

إذ ليس من الدنيا نـصـول بـه                      إلا المغافر والأبدان والـلـجـم

وعاترات من الخطي محصـدة                      نفضي بهن إليهـم ثـم نـدعـم  سبب التهاجي بينه و بين زياد الأعجم

هكذا ذكر عمرو بن أبي عمرو الشيباني في خبر هذه القصيدة، ونسخت من كتابه. وذكر أيضا في هذا الكتاب أن سبب التهاجي بين زياد الأعجم والمغيرة بن حبناء، أن زيادا العجم والمغيرة بن حبناء وكعبا الأشقري، اجتمعوا عند المهلب وقد مدحوه، فأمر لهم بجوائز وفضل زيادا عليهم، ووهب له غلاما فصيحا ينشد شعره، لأن زيادا كان ألكن لا يفصح، فكان راويته ينشد عنه ما يقوله، فيتكلف له مؤونة ويجعل له سهما في صلاته، فسأل المهلب يومئذ أن يهب له غلاما كان له يعرفه زياد بالفصاحة والأدب، فوهبه له، فنفسوا عليه ما فضل به، فانتدب له المغيرة من بينهم، فقال للمهلب: أصلح الله الأمير، ما السبب في تفضيل الأمير زيادا علينا? فوالله ما يغني غناءنا في الحرب، ولا هو بأفضلنا شعبا، ولا أصدقنا ودا، ولا أشرفنا أبا، و أفصحنا لسانا فقال له المهلب: أما إني والله ما جهلت شيئا مما قلت، وإن الأمر فيكم عندي لمتساو، ولكن زيادا يكرم لسنه وشعره وموضعه من قومه، وكلكم كذلك عندي، وما فضلته بما ينفس به، وأنا أعوضكم بعد وهذا بما يزيد على ما فضلته به. فانصرف، وبلغ زيادا ما كان منه، فقال يهجوه:

أرى كل قوم ينسل اللؤم عنـدهـم                      ولؤم بني حبناء لـيس بـنـاسـل

يشب مع المولود مثـل شـبـابـه                      ويلقاه مولودا بأبـدي الـقـوابـل

ويرضعـه مـن ثـدي أم لـئيمة                      ويخلق من ماء امرىء غير طائل

تعالوا فعدوا في الزمان الذي مضى                      وكل أناس مـجـدهـم بـالأوائل

 

صفحة : 1440

 

 

لكم بفعال يعرف الناس فضلـه                      إذا ذكر الأملاء عند الفضـائل

فغازيكم في الجيش الأم من غزا                      وقافلكم في الناس ألأم قـافـل

وما أنتم من مالك غير أنـكـم                      كمغرورة بالبو في ظل باطـل

بنو مالك زهر الوجوه وأنـتـم                      تبين ضاحي لؤمكم في الجحافل يعني برصا كان بالمغيرة بن حبناء.

أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال: حدثني المدائني قال: عير زياد الأعجم المغيرة بن حبناء في مجلس المهلب بالبرص، فقال له المغيرة إن عتاق الخيل لا تشينها الأوضاح ، ولا تعير بالغرر والحجول، وقد قال صاحبنا بلعاء بن قيس لرجل عيره بالبرص:  إنما أنا سيف الله جلاه واستله على أعدائه  فهل تغني يا ابن العجماء غنائي، أو تقوم مقامي? ثم نشب الهجاء بينهما.

نسخت من نسخة ابن الأعرابي، قال: كان المغيرة بن حبناء يوما يأكل مع المفضل بن المهلب، فقال له المفضل:

فلم أر مثل الحنظلي ولونه                      أكيل كرام أو جليس أمير فرفع المغيرة وقام مغضبا، ثم قال له:

إني امرؤ حنظلي حين تنسبني                      لام العتيك ولا أخوالي العوق - العوق من يشكر، وكانوا أخوال المفضل -

لا تحسبن بياضا في منقصة                      إن اللهاميم في ألوانها بلق وبلغ المهلب ما جرى، فتناول المفضل بلسانه وشتمه، وقال: أردت أن يتمضغ هذا أعراضنا، ما حملك على أن أسمعته ما كره بعد مواكلتك إياه? أما إن كنت تعافه فاجتنبه أو لا ئؤذه. ثم بعث إليه بعشرة آلاف درهم، واستصفحه عن المفضل، واعتذر إليه عنه، فقبل رفده وعذره، وانقطع بعد ذلك عن مواكلة أحد منهم. رجع الخبر إلى سياقته مع زياد والمغيرة فقال المغيرة يجيب زيادا:  مناقضات زياد الأعجم والمغيرة بن حبناء

 

أزياد إنك والـذي أنـا عـبـده                      ما دون آدم من أب لك يعـلـم

فالحق بأرضك يا زياد ولا تـرم                      مالا تطيق وأنت علج أعـجـم

أظننت لـؤمـك يا زياد يسـده                      قوس سترت بها قفاك وأسهـم

علج تعصب ثم راق بقـوسـه                      والعلج تعرفـه إذا يتـعـمـم

ألق العصابة يا زياد فـإنـمـا                      أخزاك ربي إذ غدوت تـرنـم

واعلم بأنك لست منـي نـاجـيا                      إلا وأنت ربي ببظر أمك ملجم

تهجو الكرام وأنت ألام من مشى                      حسبا وأنت العلج حين تكـلـم

ولقد سألت بني نزار كـلـهـم                      والعالمين من الكهول فأقسموا

بالله مالك في معـد كـلـهـا                      حسـب وإنـك يا زياد مـوذم فقال زياد يجيبه:

ألم تر أنني وترت قـوسـي                      لأبقع من كلاب بني تمـيم

عوى فرميته بسهـام مـوت                      كذلك يرد ذو الحمق اللـئيم

وكنت إذا عمزت قناة قـوم                      كسرت كعوبها أو تستقـيم

هم الحشو القليل لكل حـي                      وهم تبع كزائدة الـظـلـيم

فلست بساقي هرما ولـمـا                      يمر على نواجذك الـقـدوم

فحاول كيف تنجو من وقاعي                      فإنك بعـد ثـالـثة رمـيم

سراتكم الكلاب البقع فيكـم                      للؤمكم وليس لكـم كـريم

فقد قدمت عبودتكم ودمـتـم                      على الفحشاء والطبع اللئيم أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا المدائني قال: قال زياد الأعجم يهجو المغيرة بن حبناء:

عجبت لأبيض الخصيين عبد                      كأن عجانه الشعري العبور فقيل له: يا أبا أمامة لقد شرفته إذ قلت فيه:

كأن عجانه الشعري العبور ورفعت منه. فقال: سأزيده رفعة وشرفا، ثم قال:

لا يبرح الدهر منهم خارىء أبدا                      إلا حسبت على باب استه القمرا قال، وتقاولا في مجلس المهلب يوما، فقال المغيرة لزياد:

أقول له وأنكر بعض شأني                      ألم تعرف رقاب بني تميم فقال له زياد:

بلى فعرفتهن مقصرات                      جباه مذلة وسبال لـوم المغيرة يهجو زيادا بتحريض من ربيعة

 

صفحة : 1441

 

نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني، قال: كانت ربيعة تقول لزياد الأعجم: يا زياد، أنت لساننا فاذبب عن أعراضنا بشعرك، فإن سيوفنا معك. فقال المغيرة بن حبناء فيه، وقد بلغه هذا القول من ربيعة له:

يقولـون ذبـب يا زياد ولـم يكـن                      ليوقظ في الحرب الملمة نـائمـا

ولو أنهم جـاءوا بـه ذا حـفـيظة                      فيمنعهم أو ماجدا أو مـراعـمـا

ولكنهم جاءوا بأقلف قـد مـضـت                      له حجج سبعون يصبـح رازمـا

لئيما ذميما أعـجـمـيا لـسـانـه                      إذا نال دنا لم يبال الـمـكـارمـا

وما خلت عبد القـيس إلا نـفـاية                      إذا ذكر الناس العلا والعظـائمـا

إذا كنت للعبدي جـارا فـلا تـزل                      على حذر منه إذا كان طاعـمـا

أناسا يعدون الفسـاء لـجـارهـم                      إذا شبعوا عند الجباة الـدراهـمـا

من الفسو يقضون الحقوق عليهـم                      ويعطون مولاهم إذا كان غارمـا

لهم زجل فيه إذا مـا تـجـاوبـوا                      سمعت زفيرا فيهم وهمـاهـيمـا

لعمرك ما نجى ابن زروان إذ عوى                      ربيعة مـن يوم ذلـك سـالـمـا

أظن الخبيث ابن الخبيثـين أنـنـي                      أسلم عرضي أو أهاب المقـاومـا

لعمرك لا تهدي ربيعة للـحـجـا                      إذا جعلوا يستنصرون الأعاجـمـا  عبد القيس تعتذر إلى المغيرة

قال: فجاءت عبد القيس إلى المغيرة، فقالوا: يا هذا، مالنا ولك، تعمنا بالهجاء لأن نبحك منا كلب، فقال وقلت، قد تبرأنا إليك منه، فإن هجاك فاهجه، وخل عنا ودعنا، وأنت وصاحبك أعلم، فليس منا له عليك ناصر. فقال:

لعمرك إني لابن زروان إذ عوى                      لمحتقر في دعـوة الـود زاهـد

ومـالـك أصـل يا زياد تـعـده                      ومالك في الأرض العريضة والد

ألم تر عبد القيس منـك تـبـرأت                      فلاقيت ما لم يلق في الناس واحد

وما طاش سهمي عنك يوم تبرأت                      لكيز بن أفصى منك والجند حاشد

ولا غاب قرن الشمس حتى تحدثت                      بنفيك سكان القرى والمسـاجـد - رفع  المساجد  ، لأنه جعل الفعل لها، كأنه قال: وأهل المساجد، كما قال الله عز وجل:  واسأل القرية  . وتحدثت المساجد، وإنما يريد من يصلي فيها

فأصبحت علجا من يزرك ومن يزر                      بنـاتـك يعـلـم أنـهــن ولائد

وأصبحن قلفا يغتـزلـن بـأجـرة                      حواليك لم تجرح بهـن الـحـدائد

نفرن من الموسى وأقررن بالتـي                      يقر عليها المقرفات الـكـواسـد

بإصطخر لم يلبسن من طول فـاقة                      جديدا ولا تلقى لـهـن الـوسـائد

وما أنت بالمنسوب في آل عـامـر                      ولا ولدتك المحصنات المـواجـد

ولا رببتك الحنـظـلـية إذ غـذت                      بينها ولا جيبت علـيك الـقـلائد

ولكن غذاك المشركون وزاحمـت                      قفاك وخديك البظـور الـعـوارد

ولم أر مثلـي يا زياد بـعـرضـه                      وعرضك يستبان والسيف شـاهـد

ولو أنني غشيتك السيف لـم يقـل                      إذ مت إلا مات علـج مـعـاهـد  ???????????????????? المغيرة وجوائز المهلب

ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو أيضا، قال: رجع المغيرة بن حبناء إلى أهله وقد ملأ كفيه بجوائز المهلب وصلاته والفوائد منه، وكان أخوه صخر بن حبناء أصغر منه، فكان يأخذ على يده وينهاه عن الأمر ينكر مثله، ولا يزال يتعتب عليه في الشيء بعد الشيء مما ينكره عليه، فقال فيه صخر بن حبناء:  صخر والمغيرة يتلاحيان

لما تعتب المغيرة عليه

 

رأيتك لما نلت مالا وعضـنـا                      زمان نرى في حد أنيابه شغبا

تجنى علي الدهر أني مذنـب                      فأمسك ولا تجعل غناك لنا ذنبا فقال المغيرة يجيبه:

لحا الله أنآنا عن الضيف بالقرى                      وأقصرنا عن عرض والده ذبا

وأجدرنا أن يدخل البيت باستـه                      إذا القف دلي من مخارمه ركبا

أأنبأك الأفـاك عـنـي أنـنـي                      أحرك عرضي إن لعبت به لعبا أخت صخر تشكوه إلى المغيرة

 

صفحة : 1442

 

ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو، قال: جاءت أخت المغيرة بن حبناء إليه تشكو أخاها صخرا، وتذكر أنه أسرع في مالها وأتلفه، وإنها منعته شيئا يسيرا بقي لها، فمد يده إليها وضربها، فقال له المغيرة معنفا:

ألا من مبلغ صخر بن لـيلـى                      فإني قد أتاني مـن نـثـاكـا

رسالة ناصح لك مستـجـيب                      إذا لم ترع حرمته رعـاكـا

وصول لو يراك وأنت رهـن                      تباع، بمالـه يومـا فـداكـا

يرى خيرا إذا ما نلـت خـيرا                      ويشجي في الأمور بما شجاكا

فإنك لا ترى أسمـاء أخـتـا                      ولا ترينـنـي أبـدا أخـاكـا

فإن تعنف بها أولا تصـلـهـا                      فإن لأمهـا ولـدا سـواكـا

يبر ويستـجـيب إذا دعـتـه                      وإن عاصيته فيها عصـاكـا

وكنت أرى بها شرفا وفضـلا                      على بعض الرجال وفوق ذاكا

جزاني الله منك وقد جـزانـي                      مني في معاتبـنـا جـزاكـا

وأعقب أصدق الخصمين قولا                      وولى اللـؤم أولانـا بـذاكـا

فلا والله لو لم تعـص أمـري                      لكنت بمعزل عما هـنـاكـا قال: فأجابه أخوه صخر بن حبناء فقال:

أتاني عن مغـيرة ذرو قـول                      تعمده فقـلـت لـه كـذاكـا

يعم به بني ليلـى جـمـيعـا                      فول هجاءهم رجلا سـواكـا

فإن تك قد قطعت الوصل مني                      فهذا حين أخلفنـي مـنـاكـا

تمنيني إذا ما غـبـت عـنـي                      وتخلفني مـنـاي إذا أراكـا

وتوليني ملامة أهـل بـيتـي                      ولا تعطي الأقارب غير ذاكا

فإن تك أختنا عتبت عـلـينـا                      فلا تصرم لظنتهـا أخـاكـا

فإن لها إذا عتبـت عـلـينـا                      رضاها صابرين لها بـذاكـا

وإن تك قد عتبت علي جهـلا                      فلا والله لا أبغـي رضـاكـا

فقد أعلنت قولـك إذا أتـانـي                      فاعلن من مقالي مـا أتـاكـا

سيغني عنك صخرا رب صخر                      كما أغناك عن صخر غناكـا

ويغنيني الذي أغنـاك عـنـي                      ويكفيني الإله كما كـفـاكـا

ألم ترني أجود لكم بـمـالـي                      وأرمي بالنواقر من رمـاكـا

وإني لا أقـود إلـيك حـربـا                      ولا أعصيك إن رجل عصاكا

ولكـنـي وراءك شـمـري                      أحامي قد علمت على حماكـا

وأدفع ألسن الأعداء عـنـكـم                      ويعنيني العدو إذا عـنـاكـا

وقد كانـت قـريبة ذات حـق                      عليك فلم تطالعـهـا بـذاكـا

رأيت الخير يقصر منك دوني                      وتبلغني القوارص من أذاكـا  حبناء بن عمرو ينتقل إلى نجران

وامرأته تلومه لما ضرب ابنه ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو أيضا قال: كان حبناء بن عمرو وقد غضب على قومه في بعض الأمر، فانتقل إلى نجران، وحمل معه أهله وولده، فنظرت امرأته سلمى إلى غلام من أهل نجران يضرب ابنه المغيرة - وهو يومئذ غلام - فقالت لحبناء: قد كنت غنيا عن هذا الذل، وكان مقامك بالعراق في قومك أو في حي قريب من قومك أعز لك فقال حبناء في ذلك:

تقول سليمى الحنظلية لابنهـا                      غلام بنجران الغداة غـريب

رأت غلمة ثاروا إليه بأرضهم                      كما هر كلب الدار بين كليب

فقالت لقد أجرى أبوك لما ترى                      وأنت عزيز بالعراق مهـيب وقال أيضا:

لعمرك ما تدري أشيء تريده                      يليك أم الشيء الذي لا تحاوله

متى ما يشأ مستقبس الشر يلقه                      سريعا وتجمعه إليه أنامـلـه  زياد الأعجم يهجو أسرة المغيرة

أخبرني عيسى بن الحسن الوراق، قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية، قال: حدثني أبو الشبل النضري، قال: كان المغيرة بن حبناء أبرص، وأخوه صخر أعور، وأخوه الآخر مجذوما، وكان بأبيهم حبن، فلقب حبناء - واسمه جبير بن عمرو - فقال زياد الأعجم يهجوهم:

إن حبناء كان يدعي جـبـيرا                      فدعوه من لؤمه حـبـنـاء

ولد العور منه والبرص والجذ                      مى، ذو الداء ينتـج الأدواء  زياد يمسك عن الهجاء

 

 

صفحة : 1443

 

فيقال: إن هذه الأبيات كانت آخر ما تهاجيا به، لأن المغيرة قال - وقد بلغه هذا الشعر-: ما ذنبنا فيما ذكره، هذه أدواء ابتلانا الله عز وجل بها، وإني لأرجو أن يجمع الله هذه الأدواء كلها فبلغ ذلك زيادا من قوله، وإنه لم يهجه بعقب هذه الأبيات، ولا أجابه بشيء، فأمسك عنه، وتكافأ.

إجادة المغيرة في تفضيل الأخ على أخيه

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه، وأخبرني به الحسن بن علي عن ابن مهروية عن أبيه عن الأصمعي، قال: لم يقل أحد في تفضيل أخ على أخيه وهما لأب وأم، مثل قول المغيرة بن حبناء لأخيه صخر:

أبوك أبي وأنت أخي ولكـن                      تفاضلت الطبائع والظروف

وأمك حين تنسب أم صـدق                      ولكن ابنها طبع سـخـيف قال: وكان عبد الملك بن مروان إذا نظر إلى أخيه معاوية - وكان ضعيفا - يتمثل بهذين البيتين.

قول الحجاج في يزيد بن المهلب

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني أحمد بن محمد بن جدان، قال: حدثني أحمد بن محمد بن مخلد المهلبي، قال: نظر الحجاج إلى يزيد بن المهلب يخطر في مشيته، فقال: لعن الله المغيرة بن حبناء حيث يقول:

جميل المحيا بختري إذا مـشـى                      وفي الدرع ضخم المنكبين شناق فالتفت إليه يزيد، فقال إنه يقول فيها:

شديد القوى من أهل بيت إذا وهى                      من الدين فتق حملوا فأطـاقـوا

مراجيح في اللأواء إن نزلت بهم                      ميامين قد قادوا الجيوش وساقوا  مصرع ابن حبناء وكتابته اسمه على صدره

أخبرني محمد بن مزيد، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، قال: حدثني من حضر ابن حبناء لما قتل - وهو يجود بنفسه - فأخذ بيده من دمه - وكتب بيده على صدره:  قال المغيرة بن حبناء  . ثم مات.

 

صوت

 

بسطت رابعة الحبـل لـنـا                      فوصلنا الحبل منها ما اتسـع

كيف ترجون سقاطي بعد مـا                      جلل الرأس بياض وصـلـع

رب من أنضجت غيظا صدره                      قد تمنى لي موتا لـم يطـع

ويراني كالشجا في حـلـقـه                      عسرا مخرجه ما ينـتـزع

ويحـيينـي إذا لاقـيتـــه                      وإذا أمكن من لحمـي رتـع

وأبيت الليل مـا أهـجـعـه                      وبعيني إذا النـجـم طـلـع الحبل ها هنا: الوصل، والحبل أيضا: السبب يتعلق به الرجل من صاحبه، يقال: علقت من فلان بحبل، والحبل: العهد، والميثاق، والعقد يكون بين القوم، وهذه المعاني كلها تتعاقب ويقوم بعضها مقام بعض. والشجا: كل ما اغتص به من لقمة أو عظم أو غيرهما.

الشعر لسويد بن أبى كاهل اليشكري، والغناء لعلويه، ثاني ثقيل بالبنصر، عن عمرو بن بانة في الأول والثاني من الأبيات، وليونس الكاتب في الثالث والرابع والثاني ما خوري بالوسطى، عن علي بن يحيى، والهشامي. ولمالك فيها ثقيل بالبنصر، عن الهشامي أيضا، ولابن سريج فيها خفيف ثقيل، عن علي بن يحيى.

 

أخبار سويد بن أبي كاهل ونسبه

سويد بن كاهل بن حارثة بن حسل بن مالك بن عبد سعد بن جشم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر. وذكر خالد بن كلثوم أن اسم أبي كاهل شبيب، ويكنى سويد أبا سعد.

أنشدني وكيع عن حماد، عن أبيه، لسويد بن كاهل شاهدا بذلك:

أنا أبو سعد إذا الليل دجـا                      دخلت في سرباله ثم النجا  طبقة سويد

وجعله محمد بن سلام في الطبقة السادسة، وقرنه بعنترة العبسي وطبقته.

وسويد شاعر متقدم من مخضرمي الجاهلية والإسلام، كذلك ذكر ابن حبيب. وكان أبوه أبو كاهل شاعرا، وهو الذي يقول:

كأن رحلي على صعقاء حادرة                      طيا قد ابتل من طل خوافيهـا  قول الأصمعي في عينية سويد

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا محمد بن إسحاق البغوي، قال: حدثنا أبو نصر صاحب الأصمعي أنه قرأ شعر سويد بن أبي كاهل على الأصمعي، فلما قرأ قصيدته:

بسطت رابعة الحبل لـنـا                      فوصلنا الحبل منها ما اتسع فضلها الأصمعي، وقال: العرب تفضلها وتقدمها وتعدها من حكمها. ثم قال الأصمعي: حدثني عيسى بن عمر أنها كانت في الجاهلية تسمى:  اليتيمة  .

بين سويد وزياد الأعجم

 

 

صفحة : 1444

 

أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني محمد بن الهيثم بن عدي، قال: حدثنا عبد الله بن عباس، قال: قال زياد الأعجم يهجو بني يشكر:

إذا يشكري من ثوبك ثـوبـه                      فلا تذكرون الله حتى تطهرا

فلو أن من لؤم تموت قبـيلة                      إذا لأمات اللؤم لا شك يشكرا قال: فأتت بنو يشكر سويدي بن أبي كاهل ليهجو زيادا، فأبى عليهم، فقال زياد:

وأنبئتهم يستصرخون ابن كاهل                      وللؤم فيهم كاهـل وسـنـام

فإن يأتنا يرجع سويد ووجهـه                      عليه الخزايا غبـرة وقـتـام

دعي إلى ذبيان طورا، وتـارة                      إلى يشكر ما في الجميع كرام فقال لهم سويد: هذا ما طلبتم لي وكان سويد مغلبا . وأما قوله:

دعي إلى ذبيان طورا وتارة                      إلى يشكـر...............  خبر أم سويد وسبب تسميته

فإن أم سويد بن أبي كاهل كانت امرأة من بني غبر، وكانت قبل أبي كاهل عند رجل من بني ذبيان بن قيس بن عيلان، فمات عنها، فتزوجها أبو كاهل، وكانت فيما يقال حاملا، فاستلاط أبو كاهل ابنها لما ولدته ، وسماه سويدا، واستلحقه ، فكان إذا غضب على بني يشكر ادعى إلى بني ذبيان، وإذا رضي عنهم أقام على نسبه فيهم.

وذكر علان الشعوبي، أنه ولد في بني ذبيان، وتزوجت أمه أبا كاهل - وهو غلام يفعة - فاستلحقه أبو كاهل وادعاه، فلحق به.

انتماء سويد إلى قيس

ولسويد بن أبي كاهل قصيدة ينتمي فيها إلى قيس، ويفتخر بذلك، وهي التي أولها:

أبى قلبـه إلا عـمـيرة إن دنـت                      وإن حضرت دار العدا فهو حاضر

شموس حصان السرريا كـأنـهـا                      مرببة مـمـا تـضـمـن حـائر ويقول فيها أيضا:

أنا الغطفاني زين ذبيان فابعـدوا                      فللزنج أدنى منكـم ويحـابـر

أبت لي عبـس أن أسـام دنـية                      وسعد وذبيان الهجان وعـامـر

وحي كرام سادة مـن هـوازن                      لهم في الملمات الأنوف الفواخر  سويد يهجو بني شيبان لأخذ ماله

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا أحمد بن معتب الأودي عن الحرمازي ، أن سويد بن أبي كاهل جاور في بني شيبان، فأساءوا جواره، وأخذوا شيئا من ماله غصبا، فانتقل عنهم وهجاهم فأكثر، وكان الذي ظلمه وأخذ ماله أحد بني محلم، فقال يهجوهم وإخوتهم بني أبي ربيعة:

حشر الإله مع القرود محلما                      وأبا ربـيعة ألأم الأقـوام

فلأهدين مع الرياح قصيدة                      مني مغلغلة إلى هـمـام

الظاعنين على العمى قدامهم                      والنازلين بشر دار مـقـام

والواردين إذا المياه تقسمت                      نزح الركي وعاتم الأسدام وقال يهجو بني شيبان:

لعمري لبئس الحي شيبان إن علا                      عنيزة يوم ذو أهابـي أغـبـر

فلما التقوا بالمشرفـية ذبـذبـت                      مولية أستاه شيبـان تـقـطـر يعني يوم عنيزة، وكان لبني تغلب على بني شيبان، وفيه يقول مهلهل:

كأنا غدوة وبني أبـينـا                      بجنب عنيزة رحيا مدير وقال أيضا:

فأدوا إلى بهراء فيكم بناته                      وأبناءه إن القضاعي أحمر يعير بني شيبان ببهراء كانت بهراء أغارت على بني شيبان، فأخذوا منهم نساء، واستاقوا نعما ، ثم إنهم اشتروا منهم النساء وردوهن ، فعيرهم سويد بأنهم رددن حبالى، فقال:

ظللن ينازعن العضاريط أزرها                      وشيبان وسط القطقطانة حضر

فمنا يزيد إذ تحدى جموعـكـم                      فلم تفرحوه ، المرزبان المسور - يزيد: رجل من يشكر، برز يوم ذي قار إلى أسوار، وحمل على بني شيبان، فانكشفوا من بين يديه - فاعترضه اليشكري دونهم، فقتله، وعادت شيبان إلى موقفها، ففخر بذلك عليهم، فقال:

وأحجمتم حتى عـلاه بـصـارم                      حسام إذا مس الضريبة يبـتـر

ومنا الذي أوصى بثلث تـراثـه                      على كل ذي باع يقل ويكـثـر

ليالي قلتم يا ابن حلزة ارتـحـل                      فزابن لنا الأعداء واسمع وأبصر

فأدى إليكم رهنكـم وسـط وائل                      حباه بها ذو الباع عمرو بن منذر

 

صفحة : 1445

 

يعني الحارث بن حلزة، لما خطبه دون بكر بن وائل حتى ارتجع رهائنهم. وقد ذكر خبره في ذلك في موضعه.

بنو شيبان تستعدي عامر بن مسعود على سويد وقيس تتعصب له قال: فاستعدت بنو شيبان عليه عامر بن مسعود الجمحي، وكان والي الكوفة، فدعا به، فتوعده، وأمره بالكف عنهم بعد أن كان قد أمر بحبسه، فتعصبت له قيس، وقامت بأمره حتى تخلصته، فقال في ذلك:

يكف لساني عامر وكأنـمـا                      يكف لسنا فيه صاب وعلقم

أتترك أولاد البغايا وغيبتـي                      وتحبسني عنهم ولا أتكـلـم

ألم تعلموا أني سويد وأننـي                      إذا لم أجد مستأخرا أتـقـدم

حسبتم هجائي إذ بطنتم غنيمة                      علي دماء البدن إن لم تندموا  سويد وابن الغبري يتهاجيان

ثم يهربان لما طلبهما عبد الله بن عامر وعامل الصدقة يحبسها وبنو حمال يفكون ابن الغبري قال الحرمازي في خبره هذا: وهاجى سويد بن أبى كاهل حاضر بن سلمة الغبري، فطلبهما عبد الله بن عامر بن كريز، فهربا من البصرة، ثم هاجى الأعرج أخا بني حمال بن يشكر، فأخذهما صاحب الصدقة، وذلك في أيام ولاية عامر بن مسعود الجمحي الكوفة، فحبسهما، وأمر أن لا يخرجا من السجن حتى يؤديا مائة من الإبل، فخاف بنو حمال على صاحبهم ففكوه، وبقي سويد، فخذله بنو عبد سعد، وهم قومه، فسأل بني غبر، وكان قد هجاهم لما ناقض شاعرهم، فقال: ويخذل سويدا قومه

من سره النيك بغير مال                      فالغبريات على طحال

شواغر يلمعن للقفال  عبس وذبيان تستوهبه لمديحه لهم

وإطلاقه بغير فداء

فلما سأل بني غبر، قالوا له: يا سويد  ضيعت البكار بطحال  فأرسلوها مثلا. أي إنك عممت جماعتنا بالهجاء في هذه الأرجوزة، فضاع منك ما قدرت أنا نفديك به من الإبل. فلم يزل محبوسا حتى استوهبته عبس وذبيان لمديحه لهم، وانتمائه إليهم، فأطلقوه بغير فداء.

 

صوت

 

أخضني المقام الغمر إن كان غرني                      سنا خلب أو زلـت الـقـدمـان

أتتركني جدب المعيشة مـقـفـرا                      وكفاك من ماء الندى تـكـفـان الشعر للعتابي، والغناء لمخارق، ثاني ثقيل بالوسطى، وقيل: إن فيه للواثق ثاني ثقيل آخر.

 

أخبار العتابي ونسبه

هو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش بن أوس بن مسعود بن عمرو بن كلثوم الشاعر، وهو ابن مالك عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب. شاعر مترسل بليغ مطبوع، متصرف في فنون الشعر ومقدم. من شعراء الدولة العباسية، ومنصور النمري تلميذه وراويته، وكان منقطعا إلى البرامكة، فوصفوه للرشيد، ووصلوه به، فبلغ عنده كل مبلغ، وعظمت فوائده منه، ثم فسدت الحال بينه وبين منصور وتباعدت. وأخبار ذلك تذكر في مواضعها.

وأخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني القاسم بن مهروية، قال: حدثني جعفر بن المفضل، عن رجل من ولد إبراهيم الحراني ، قال: كثر الشعراء بباب المأمون، فأوذن بهم، فقال لعلي بن صالح صاحب المصلى: أعرضهم، فمن كان منهم مجيدا فأوصله إلي، ومن كان غير مجيد فاصرفه. وصادف ذلك شغلا من علي بن صالح كان يريد أن يتشاغل به عن أمر نفسه، فقام مغضبا، وقال: والله لأعمنهم بالحرمان، ثم جلس لهم، ودعا بهم فجعلوا يتغالبون على القرب منه، فقال لهم: على رسلكم فإن المدى أقرب من ذلك، هل فيكم من يحسن أن يقول كما قال أخوكم العتابي:

ماذا عسى مادح يثني عليك وقد                      ناداك في الوحي تقديس وتطهير

فت الممادح إلا أن ألـسـنـنـا                      مستنطقات بما تحوي الضمائير قالوا: لا والله ما بنا أحد يحسن أن يقول مثل هذا، قال: فانصرفوا جميعا  قيل في شعر العتابي تكلف

ونفاه آخرون

أخبرني الحسن، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أبو بكر أحمد بن سهل، قال: تذاكرنا شعر العتابي، فقال بعضنا: فيه تكلف، ونصره بعضنا، فقال شيخ حاضر: ويحكم أيقال إن شعره تكلفا? وهو القائل:

رسل الضمير إلـيك تـتـرى                      بالشوق ظالـعة وحـسـرى

متـزجـيات مــا ينـــي                      ن على الوجى من بعد مسرى

ما جـف لـلـعـينـين بـع                      دك يا قرير العين مـجـرى

 

صفحة : 1446

 

 

فاسلم سلمـت مـبـرأ                      من صبوتي أبدا معرى

إن الصبـابة لـم تـدع                      مني سوى عظم مبرى

ومدامع عبرى عـلـى                      كبد عليك الدهر حرى في هذين البيتين غناء أو يقال: إنه متكلف? وهو الذي يقول:

فلو كان للشكر شخص يبين                      إذا ما تأملـه الـنـاظـر

لمثلته لـك حـتـى تـراه                      لتعلم أني امرؤ شـاكـر  رذاذ يضع لحنا

الغناء في هذين البيتين لأبي العبيس، ثقيل أول، ولرذاذ خفيف ثقيل. فحدثني أبو يعقوب إسحاق بن يعقوب النوبجي عن أبي الحسن علي بن العباس وغيره من أهله قالوا: لما صنع رذاذ لحنه في هذا الشعر:

فلو كان للشكر شخص يبين أبو العبيس يسقط لحن رذاذ فتن به الناس، وكان هجيراهم زمانا ، حتى صنع أبو العبيس فيه الثقيل الأول، فأسقط لحن رذاذ وغلب عليه.

أخبرني إبراهيم بن أيوب، عن عبد الله بن مسلم، وأخبرني علي بن سليمان الأخفش، عن محمد بن يزيد، قالوا جميعا:  المأمون يكتب في إشخاص العتابي

كتب المأمون في إشخاص كلثوم بن عمرو العتابي، فلما دخل قال له: يا كلثوم، بلغتني وفاتك فساءتني، ثم بلغتني وفدتك فسرتني. فقال له العتابي: يا أمير المؤمنين، لو قسمت هاتان الكلمتان على أهل الأرض لوسعتاها فضلا وإنعاما، وقد خصصتني منهما بما لا يتسع له أمنية، ولا يبسط لسواه أمل، لأنه لا دين إلا بك، ولا دنيا معك. فقال له: سلني. فقال: يدك بالعطاء أطلق من لساني بالسؤال. فوصله صلات سنية، وبلغ به من التقديم والإكرام أعلى محل.

وذكر أحمد بن أبي طاهر عن عبد الله بن أبي سعد الكراني، أن عبد الله بن سعيد بن زرارة، حدثه عن محمد بن إبراهيم اليساري، قال: المأمون يداعب العتابي لما قدم العتابي مدينة السلام على المأمون، أذن له، فدخل عليه وعنده إسحاق بن إبراهيم الموصللي، وكان العتابي شيخا جليلا نبيلا، فسلم فرد عليه وأدناه، وقربه حتى قرب منه، فقبل يده: ثم أمره بالجلوس فجلس، وأقبل عليه يسائله عن حاله، وهو يجيبه بلسان ذلق طلق، فاستظرف المأمون ذلك، وأقبل عليه بالمداعبة والمزاح، فظن الشيخ أنه استخف به، فقال: يا أمير المؤمنين: الإيناس قبل الإبساس .

إسحاق بن إبراهيم يعارض العتابي

فاشتبه على المأمون قوله، فنظر إلى إسحاق مستفهما، فأومأ إليه، وغمزه على معناه حتى فهم، فقال: يا غلام، ألف دينار فأتي بذاك، فوضعه بين يدي العتابي، وأخذوا في الحديث، وغمز المأمون إسحاق بن إبراهيم عليه، فجعل العتابي لا يأخذ في شيء إلا عارضه فيه إسحاق، فبقي العتابي متعجبا، ثم قال: يا أمير المؤمنين، أتأذن لي في سؤال هذا الشيخ عن اسمه? قال: نعم، سل. فقال لإسحاق: يا شيخ من أنت? وما اسمك? قال: أنا من الناس، واسمي كل بصل. فتبسم العتابي وقال: أما أنت فمعروف، وأما الاسم فمنكر. فقال إسحاق: ما أقل إنصافك، أتنكر أن يكون اسمي كل بصل? واسمك كل ثوم، وكل ثوم من الأسماء، أو ليس البصل أطيب من الثوم? فقال له العتابي: لله درك، ما أحجك ، أتأذن لي يا أمير المؤمنين في أن أصله بما وصلتني به? فقال له المأمون: بل ذلك موفر عليك ونأمر له بمثله.

مصادقة العتابي لإسحاق فقال له إسحاق: أما إذا أقررت بهذا، فتوهمني تجدني، فقال: ما أظنك إلا إسحاق الموصلي، الذي تناهى إلينا خبره، قال: أنا حيث ظننت. وأقبل عليه بالتحية والسلام، فقال المأمون، وقد طال الحديث بينهما: أما إذ قد اتفقتما على المودة، فانصرفا متنادمين. فانصرف العتابي إلى منزل إسحاق فأقام عنده.

إعجاب عبد الله بن طاهر بشعر العتابي

وذكر أحمد بن طاهر أيضا أن مسعود بن عيسى العبدي، حدثه عن موسى بن عبد الله التميمي، قال: وفد إلى عبد الله بن طاهر جمع من الشعراء، فعلم أنهم على بابه، فقال لخادم له أديب: أخرج إلى القوم، وقل لهم: من كان منكم يقول كما قال العتابي للرشيد:

مستنبط عزمات القلب من فكر                      ما بينهن وبين الله معـمـور فليدخل، وليعلم أني إن وجدته مقصرا عن ذلك حرمته، فمن وثق من نفسه أنه يقول مثل هذا فليقم. قال: فدخلوا جميعا إلا أربعة نفر.

جوائز الرشيد للعتابي

 

 

صفحة : 1447

 

أخبرني الحسن بن علي قال، حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية، قال: حدثنا عبد الله بن سعد إبراهيم بن الحدين، قال: وجد الرشيد على العتابي، فدخل سرا مع المتظلمين بغير إذن، فمثل بين يدي الرشيد، وقال له: يا أمير المؤمنين، قد آذتني الناس لك ولنفسي فيك، وردني ابتلاؤهم إلى شكرك، وما مع تذكرك قناعة بغيرك، ولنعم الصائن لنفسي كنت، لو أعانني عليك الصبر. وفي ذلك أقول:

أخضني المقام الغمر إن كان غرني                      سنا خلب أو زلـت الـقـدمـان

أتتركني جدب المعيشة مـقـتـرا                      وكفاك من ماء الندى تـكـفـان

وتجعلني سهم المطامع بـعـد مـا                      بللت يميني بالنـدى ولـسـانـي قال: فأعجب الرشيد قوله، وخرج عليه الخلع، وقد أمر له بجائزة، فما رأيت العتابي قط أبسط منه يومئذ.

بشار يحقد على إجادة العتابي

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثني ابن مهروية، قال: حدثنا أحمد بن خلاد، قال: حدثني أبي، قال: جاء العتابي وهو حدث إلى بشار، فأنشده:

أيصدف عن أمامة أم يقيم                      وعهدك بالصبا عهد قديم

أقول لمستعار القلب عفى                      على عزماته السير العديم

أما يكفيك أن دموع عيني                      شآبيب يفيض بها الهموم

أشيم فلا أرد الطـرف إلا                      على أرجائه ماء سجـوم قال: فمد بشار يده إليه: ثم قال له: أنت بصير? قال: نعم. قال: عجبا لبصير ابن زانية، أن يقول هذا الشعر. فخجل العتابي وقام عنه.

العتابي ويحيى بن خالد

أخبرني محمد بن يونس الأنباري الكاتب، قال: حدثني الحسن بن يحيى أبو الحمار عن إسحاق، قال: كلم العتابي يحيى بن خالد في حاجة بكلمات قليلة، فقال له يحيى: لقد ندر كلامك اليوم وقل. فقال له: وكيف لا يقل وقد تكنفني ذل المسألة، وحيرة الطلب، وخوف الرد? فقال: والله لئن قل كلامك لقد كثرت فوائده. وقضى حاجته.

سخرية العتابي من الناس

أخبرني الحسن بن علي، قال : حدثنا ابن مهروية، قال: حدثنا عثمان الوراق، قال: رأيت العتابي يأكل خبزا على الطريق بباب الشام، فقلت له: ويحك، أما تستحي? فقال لي: أرأيت لو كنا في دار فيها بقر، كنت تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك? فقال :لا. قال: فاصبر حتى أعلمك انهم بقر. فقام فوعظ وقص ودعا، حتى كثر الزحام عليه، ثم قال لهم: روى لنا غير واحد، أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار. فما بقي واحد إلا وأخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة انفه، ويقدره حتى يبلغها أم لا. فلما تفرقوا، قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر?  إعجاب يحيى البرمكي بالعتابي

أخبرني الحسن حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أبو عصام محمد بن العباس، قال: قال يحيى بن خالد البرمكي لولده: إن قدرتم أن تكتبوا أنفاس كلثوم بن عمرو العتابي، فضلا عن رسائله وشعلاه، فلن تروا أبدا مثله.

كتاب للعتابي

أخبرني أبي، قال: اخبرنا الحارث بن محمد عن المدائني، وأخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا الخراز عن ابن الأعرابي، قال: أنكر العتابي على صديق له شيئا، فكتب إليه:  إما إن تقر بذنبك فيكون إقرارك حجة علينا في العفو عنك، وإلا فطب نفسا بالانتصاف منك، فإن الشاعر يقول:

أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزنا                      عنه فإن جحود الذنب ذنبان  .  يحيى بن أكثم يستأذن المأمون للعتابي

أخبرنا الحسن بن علي، أخبرنا ابن مهروية، قال: حدثني عبد الواحد بن محمد، قال: وقف العتابي بباب المأمون يلتمس الوصول إليه، فصادف يحيى بن أكثم جالسا ينتظر الإذن، فقال له: إن رأيت - أعزك الله - أن تذكر أمري لأمير المؤمنين إذا دخلت فافعل. قال له: لست أعزك الله بحاجبه. قال: فإن لم تكن حاجبا فقد يفعل مثلك ما سألت، واعلم أن الله - عز وجل - جعل في كل شيء زكاة، جعل زكاة المال رفد المستعين، وزكاة الجاه إغاثة الملهوف. واعلم أن الله عز وجل مقبل عليك بالزيادة إن شكرت، أو التغيير إن كفرت، وإني لك اليوم أصلح منك لنفسك، لأني أدعوك إلى ازدياد نعمتك، وأنت تابى. فقال له يحيى: أفعل وكرامة. وخرج الإذن ليحيى، فلما دخل، لم يبدأ بشيء بعد السلام إلا إذا استأذن المأمون للعتابي، فأذن له.

كلمتان للعتابى

 

 

صفحة : 1448

 

أخبرني الحسن، قال: حدثنا ابن مهروية، قال: حدثني أبو الشبل، قال: قال العتابي لرجل اعتذر إليه: إني إن لم أقبل عذرك لكنت ألأم منك، وقد قبلت عذرك، فدم على لوم نفسك في جنايتك، نزد في قبول عذرك، والتجافي إن هفوتك.

قال: وقيل له لو تزوجت فقال: إني وجدت مكابدة العفة أيسر علي من الاحتيال لمصلحة العيال.

تقدير المأمون للعتابي وإكرامه لما أسن

أخبرني الحسن، قال: حدثنا ابن مهروية، قال: قال جعفر بن المفضل، قال لي أبي: رأيت العتابي جالسا بين يدي المأمون وقد أسن، فلما أراد القيام قام المأمون فأخذ بيده، واعتمد الشيخ على المأمون، فما زال ينهضهه رويدا رويدا حتى أقله فنهض، فعجبت من ذلك، وقلت لبعض الخدم: ما أسوأ أدب هذا الشيخ، فمن هو? قال: العتابي.

دعبل وابن مهروية يحسدانه ويحقدان عليه

أخبرني الحسن، قال: حدثنا ابن مهروية، قال: حدثني بن الأشعث، قال: قال دعبل: ما حسدت أحدا قط على شعر كما حسدت العتابي على قوله:

هيبة الإخوان قـاطـعة                      لأخي الحاجات عن طلبه

فإذا ما هـبـت ذا أمـل                      مات ما أملت من سببـه قال ابن مهروية: هذا سرقه العتابي من قول علي بن أبي طالب، رضي الله عنه:  الهيبة مقرونة بالخيبة، والحياء مقرون بالحرمان، والفرصة تمر مر السحاب  حدثني محمد بن داود، عن أبي الأزهر، عن عيسى بن الحسن داود الجعفري عن أخيه عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، بذلك.

عبد الله بن طاهر يجيزه ثلاث مرات

وينعم عليه بخلعة سنية بعد إنشاده

أخبرني الحسن، قال: حدثنا ابن مهرويه عن أبي الشبل. قال: دخل العتابي على عبد الله بن طاهر، فمثل بين يديه، وأنشده:

حسن ظني وحسن ما عود الل                      ه سواي منك الغداة أتى بـي

أي شيء يكون أحسن من حس                      ن يقين حدا إلـيك ركـابـي قال: فأمر له بجائزة، ثم دخل عليه من الغد، فأنشده:

ودك يكفينيك فـي حـاجـتـي                      ورؤيتي كافـية عـن سـؤال

وكيف أخشى الفقر ما عشت لي                      وإنما كفاك لـي بـيت مـال فأمر له بجائزة، ثم دخل في اليوم الثالث، فأنشده:

بهجات الثياب يخلقها الـده                      ر وثوب الثناء غض جديد

فاكسني ما يبيد أصلحك الل                      ه فالله يكسوك ما لا يبـيد فأمر له بجائزة، وأنعم عليه بخلعة سنية.

العتابي وطوق ابن مالك

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أبو دعامة، قال: قال طوق بن مالك للعتابي: أما ترى عشيرتك? - يعني بني تغلب - كيف تدل علي، وتتمرغ وتستطيل، وأنا أصبر عليهم? فقال العتابي: أيها الأمير، إن عشيرك من أحسن عشرتك ، وإن عمك من عمك خيره، وإن قريبك من قرب منك نفعه، وإن أخف الناس عندك أخفهم ثقلا عليك، وأنا الذي أقول:

إني بلوت الناس في حالاتـهـم                      وخبرت ما وصلوا من الأسباب

فإذا القرابة لا تقرب قاطـعـا                      وإذا المودة أقرب من الأنساب شكوى النمري للعتابي إلى طاهر بن الحسين وإصلاحه ما بينهما أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، قال حدثنا الرياشي، قال: شكا منصور النمري العتابي إلى طاهر بن الحسين، فوجه طاهر إلى العتابي، فأحضره، وأخفى منصورا في بيت قريب منهما، وسأل طاهر العتابي أن يصالحه، فشكا سوء فعله به، فسأله أن يصفح عنه، فقال: لا يستحق ذلك. فأمر منصورا بالخروج، فخرج وقال للعتابي، لم لا أستحق هذا منك? فأنشأ العتابي يقول:

أصحبتك الفضل إذ لا أنت تعرفه                      حقا ولا لك في استصحابه أرب

لم ترتبطك على وصلي محافظة                      ولا أعاذك مما اغتـالـك الأدب

ما من جميل ولا عرف نطقت به                      إلا إلي وإن أنكرت ينـتـسـب قال: فأصلح طاهر بينهما - وكان منصور من تعليم العتابي تخريجه - وأمر طاهر للعتابي بثلاثين ألف درهم. أخبرني عمر عن عبد الله بن أبي سعد عن الحسين بن يحيى الفهري عن العباس بن أبي ربيعة السلمي، قال: شكا منصور النمري كلثوم بن عمرو العتابي إلى طاهر. ثم ذكر مثله.

العتابي يفضل العلم والأدب على المال

 

 

صفحة : 1449

 

أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب، قال: حدثني أبو هفان، قال: كان العتابي جالسا ذات يوم ينظر في كتاب، فمر به بعض جيرانه، فقال: أيش ينفع العلم والأدب من لا مال له? فأنشد العتابي يقول:

يا قاتل الله أقواما إذا ثـقـفـوا                      ذا اللب ينظر في الآداب والحكم

قالوا وليس بهم إلا نـفـاسـتـه                      أنافع ذا من الإقتـار والـعـدم

وليس يدرون أن الحظ ما حرموا                      لحاهم الله، من علم ومن فهـم  قول العتابي في عزل طاهر بن علي

أخبرني علي بن صالح وعمي، قالا: حدثنا أحمد بن طاهر، قال: حدثنا أبو حيدرة الأسدي، قال: قال العتابي في عزل طاهر بن علي، وكان عدوه:

يا صاحبا مـتـلـونـا                      متباينا فعلي وفعـلـه

ما إن أحب له الـردى                      ويسرني والله عـزلـه

لم تعد فيما قلـت لـي                      وفعلت بي ما أنت أهله

كم شاغل بك عـدويتـه                      وفارغ من أنت شغلـه أخبرني أحمد بن الفرج، قال: حدثني أحمد بن عطاء الحراني عن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا عبد الله بن سعد، قال: حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد بن الفرج، قال:  مدحه جعفرا لما أمنه عند الرشيد

لما سعى منصور النمري بالعتابي إلى الرشيد اغتاظ علي، فطلبه، فستره جعفر بن يحيى عنه مدة، وجعل يستعطفه عليه، حتى استل ما في نفسه، وأمنه، فقال يمدح جعفر يحيى:

ما زلت في غمرات الموت مطرحـا                      قد ضاق عني فسيح الأرض من حيلي

ولم تزل دائبا تسعى بلـطـفـك لـي                      حتى اختلست حياتي من يدي أجـلـي  عودة عبد الله طاهر له في مرضه

أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أحمد بن خلاد عن أبيه، قال: عاد عبد الله بن طاهر وإسحق بن إبراهيم بن مصعب، كلثوم بن عمرو العتابي، في علة اعتلها، فقال الناس: هذه خطرة خطرت فبلغ ذلك العتابي، فكتب إلى عبد الله بن طاهر:

قالوا الزيارة خطرة خطرت                      ونجار برك ليس بالخطـر

أبطل مقالتـهـم بـثـانـية                      تستنفد المعروف من شكري فلما بلغت أبياته عبد الله بن طاهر ضحك من قوله، وركب هو إسحاق بن إبراهيم، فعاداه مرة ثانية.

عبد الله بن هشام التغلبي يصله

بعد العتب والكتابة إليه

أخبرني الحسين بن القاسم الكواكبي، قال: حدثني أبو العيناء، قال: حدثني أبو العلاء المعمري، قال: عتب عبد الله بن هشام بن بسطام التغلبي على كلثوم بن عمرو التغلبي في شيء بلغه عنه، فكتب إليه: صوت

لقد سمتني الهجران حتى أذقتـنـي                      عقوبات زلاتي وسوء منـاقـبـي

فها أنا ساع في هـواك وصـابـر                      على حد مصقول الغرارين قاضب

ومنصرف عما كرهت وجـاعـل                      رضاك مثالا بين عيني وحاجبـي قال: فرضي عنه، ووصله صلة سنية.

الغناء في هذه الأبيات لسعيد مولى فائد، ثاني ثقيل بالبنصر، عن يحيى المكي، وذكر الهشامي أنه منحول يحيى، وذكر أحمد بن المكي في كتابه، أنه لأبي سعيد، وجعله في باب الثقيل الأول بالبنصر، ولعله على مذهب إبراهيم بن المهدي ومن قال بقوله.

من أخبار ربيعة في آمد أخبرني الحسين بن القاسم، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن بن يونس السراج، قال: أخبرني الحسين بن داود الفزاري عن أبيه، قال: كان أخوان من فزارة يخفران قرية بين آمد وسميساط، يقال لها تل حوم، فطال مقامهما بها حتى أثريا، فحسدهما قوم من ربيعة، وقالوا: يخفران هذان الضياع في بلدنا فجمعوا لهما جمعا، وساروا إليهما، فقاتلوهما، فقتل أحدهما، وعلى الجزيرة يومئذ عبد الملك بن صالح الهاشمي، فشكا القيسي أمره إلى وجوه قيس، وعرفهم قتل ربيعة أخاه، وأخذهم ماله. فقالوا له: إذا جلس الأمير فادخل إليه. ففعل ذلك، ودخل على عبد الملك، وشكا ما لحقه، ثم قال له: وحسب الأمير أنهم لما قتلوا أخي وأخذوا مالي قال قائل منهم:

اشربا ما شربتما إن قيسا                      من قتيل وهالك وأسير

لا يحوزن أمرنا مضري                      بخفير ولا بغير خفـير

 

صفحة : 1450

 

فقال عبد الملك: أتندبني : إلى العصبية? وزبره ، فخرج الرجل مغموما، فشكا ذلك إلى وجوه قيس، فقالوا: لا ترع، فوالله لقد قذفتها في سويداء قلبه، فعاوده. فعاوده في المجلس الآخر، فزبره، وقال له قوله الأول، فقال له: إني لم آتك أندبك للعصبية، وإنما جئتك مستعديا ، فقال له: حدثني كيف فعل القوم? فحدثه وانشده، فغضب فقال: كذب لعمري، ليحوزنها. ثم دعا بابي عصمة أحد قواده، فقال: اخرج فجرد السيف في ربيعة، فخرج وقتل منها مقتلة عظيمة، فقال كلثوم بن عمرو العتابي قصيدته التي أولها:

ماذا شجاك بحوارين من طلل                      ودمنة كشفت عنها الأعاصير يقول فيها:

هذي يمينك في قربـاك صـائلة                      وصارم من سيوف الهند مشهور

إن كان منا ذوو إفـك ومـارقة                      وعصبة دينها العدوان والـزور

فإن منا الذي لا يسـتـحـث إذا                      حث الجياد وضمنها المضامـير

مستنبط عزمات القلب من فكـر                      ما بينهن وبين الله مـعـمـور يعني عبد الله بن هشام بن بسطام التغلبي، وكان قد أخذ قوادهم.

شعر العتابي يدفع القتل عن ربيعة فبلغت القصيدة عبد الملك، فأمر أبا عصمة بالكف عنهم، فلما قدم الرشيد الرافقة انشده عبد الملك القصيدة، فقال: لمن هذه? فقال: لرجل من بني عتاب يقال له كلثوم بن عمرو، فقال: وما يمنعه أن يكون ببابنا. فأمر بإشخاصه من رأس عين، فوافى الرشيد وعليه قميص غليظ، وفروة وخف، وعلى كتفه ملحفة جافية بغير سراويل، فلما رفع الخبر بقدومه أمر الرشيد بان تفرش له حجرة، وتقام له وظيفة، ففعلوا، فكانت المائدة إذا قدمت إليه أخذ منها رقاقة وملحا وخلط الملح بالتراب فأكله بها، فإذا كانت وقت النوم نام على الأرض والخدم يتفقدونه، ويتعجبون من فعله.

الرشيد يأمر بطرده

وسأل الرشيد عنه، فأخبروه بأمره، فأمر بطرده.

يحيى العقيلي يشتري له دابة

توصله إلى راس عين وقد فضح سعيدا بأفعاله فخرج حتى أتى يحيى بن سعيد العقيلي وهو في منزله، فسلم عليه، وانتسب له، فرحب به، وقال له: ارتفع. فقال: لم آتك للجلوس، قال: فما حاجتك? قال: دابة أبلغ عليها إلى رأس عين، فقال: غلام أعطه الفرس الفلاني. فقال: لا حاجة لي في ذلك، ولكن تأمر أن تشتري لي دابة أتبلغ عليها. فقال لغلامه: امض معه فابتع له ما يريد. فمضى معه، فعدل به العتابي إلى سوق الحمير، فقال له: إنما أمرني أن ابتاع لك دابة. فقال له: إنه أرسلك معي، ولم يرسلني معك، فإن عملت ما أريد و إلا انصرف. فمضى معه فاشترى حمارا بمائة وخمسين درهما، وقال: ادفع إليه ثمنه، فدفع إليه، فركب الحمار عريا بمرشحة عليه وبرذعة، وساقاه مكشوفتان، فقال له يحيى بن سعيد: فضحتني، امثلي يحمل مثلك على هذا? فضحك، وقال: ما رأيت قدرك يستوجب أكثر من ذلك. ومضى إلى رأس عين.

لوم زوجته له وما قال في ذلك

وكانت تحته امرأة من باهلة، وقالت: هذا منصور النمري قد أخذ الأموال فحلى نساءه، وبنى داره، واشترى ضياعا، وأنت هنا كما ترى فأنشأ يقول:

تلوم على ترك الغنـى بـاهـلـية                      زوي الفقر عنها كل طرف وتالد

رأت حولها النسوان يرفلن في الثرا                      مقلدة أعـنـاقـهـا بـالـقـلائد

أسرك إني نلت ما نال جـعـفـر                      من العيش أو نال يحيى بن خالـد

وإن أمير المؤمنـين أغـصـنـي                      مغصهما بالمشرقـات الـبـوارد

رأيت رفيعات الأمـور مـشـوبة                      بمستودعات في بطـون الأسـاود

دعيني تجئني ميتتـي مـطـمـئنة                      ولم أتجشم هول تلـك الـمـوارد وهذا الخبر فيه اضصراب، لأن القصيدة المذكورة التي أولها:

ماذا شجاك بحوارين من طلل للعتابي في الرشيد، لا في عبد الملك، ولم يكن كما ذكره في أيام الرشيد متنقصا منه. وله أخبار معه طويلة، وقد حدثني بخبره هذا لما استوهب رفع السيف عن ربيعة جماعة على غير هذه الرواية.

عتب الرشيد على العتابي

وقطعه الهبات فيتنصل بقصيدته هذه

أخبرني عمي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني مسعود بن إسماعيل العدوي عن موسى بن عبد الله التميمي قال:

 

صفحة : 1451

 

عتب الرشيد على العتابي أيام الوليد بن طريف، فقطع عنه أشياء كان عوده إياها، فاتاه متنصلا بهذه القصيدة:

ماذا شجاك بحوارين من طـلـل                      ودمنة كشفت عنها الأعاصـير

شجاك حتى ضمير القلب مشترك                      والعين إنسانها بالماء مغـمـور

في ناظري انقباض عن جفونهما                      وفي الجفون عن الآماق تقصير

لو كنت ترين ما شوقي إذا جعلت                      تنأى بنا وبك الأوطان والـدور

علمت أن سرى ليلى ومطلعـي                      من بيت نجران والغورين تغوير

إذا الركائب مخوف نواظـرهـا                      كما تضمنت الدهن الـقـوارير

نادتك أرحامنا اللاتي نمت بـهـا                      كما تنادي جلاد الجلة الـخـور

مستنبط عزمات القلب من فكـر                      ما بينهن وبين الله مـعـمـور

فت المدائح إلا أن أنـفـسـنـا                      مستنطقات بما تحوي الضمائير

ماذا عسى مادح يثني عليك وقـد                      ناداك في الوحي تقديس وتطهير

فإن منا الذي لا يسـتـحـث إذا                      حث الجياد وحازتها المضامـير

إن كـان ذوو إفـك ومــارقة                      وعصبة دينها العدوان والـزور

ومن عرائقه السفاح عـنـدكـم                      مجرب من بلاء الصدق مخبور

الآن قد بعدت في خطو طاعتكم                      خطاهم حيث يحتل الغشـامـير الرشيد يرضى عن العتابي ويرد أرزاقه ويصله - يعني يزيد بن مزيد، وهشام بن عمر والتغلبي، وهو ولد سفيح بن السفاح- قال: فرضي عنه ورد أرزاقه ووصله.

 

صوت

 

تطاول ليلى لم أنمـه تـقـلـبـا                      كأن فراشي حال من دونه الجمر

فإن تكن الأيام فرقـن بـينـنـا                      فقد بان مني تـذكـره الـعـذر الشعر للأبيرد الرياحي، والغناء لبابويه، ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، وفيه رمل نسبه يحيى المكي إلى ابن سريج. وقيل إنه منحول.

 

أخبار الأبيرد ونسبه

الأبيرد بن المعذر بن قيس بن عتاب بن هرمي بن رياح بن يربوع بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. شاعر فصيح بدوي، من شعراء الإسلام وأول دولة بني أمية.

الأبيرد ليس مكثرا ولم يتكسب بشعره

وليس بمكثر، ولا ممن وفد إلى الخلفاء فمدحهم.

وقصيدته هذه التي فيها الغناء يرثي بها بريدا أخاه، وهي معدودة من مختار المراثي.

الأبيرد هوي امرأة فزوجت غيره

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: كان الرياحي يهوى امرأة من قومه ويجن بها حتى شهر ما بينهما، فحجبت عنه، وخطبها فأبوا أن يزوجوها إياه، ثم خطبها رجل من ولد حاجب بن زرارة، فزوجته، فقال الأبيرد في ذلك:

إذا ما أردت الحسن فانظر إلى التي                      تبغى لقـيط قـومـه وتـخـيرا

لها بشر لـو يدرج الـذر فـوقـه                      لبـان مـكـان الـذر فـأثــرا

لعمري لقد أمكنت منـا عـدونـا                      وأقررت للعادي فأخنى وأهجـرا  الأبيرد و حارثة بن بدر

أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب في كتابه إلي قال: حدثنا محمد بن سلام الجمحي قال: قدم الأبيرد الرياحي على حارثة بن بدر فقال: اكسني بردين ادخل بهما على الأمير - يعني عبيد الله بن زياد - وكساه ثوبين فلم يرضهما، فقال فيه:

أحارث أمسك فضل برديك إنما                      أجاع وأعرى الله من كنت كاسيا

وكنت إذا استمطرت منك سحابة                      لتمطرني عادت عجاجا وسافـيا

أحارث عاود شربك الخمر إنني                      أرى ابن زياد عنك اصبح لاهيا فبلغت أبياته هذه حارثة فقال: قبحه الله: لقد شهد بما لم يعلم. وإنما ادع جوابه لما لا يعلم. هكذا ذكر محمد بن سلام.

حارثة يمنع عنه الكسوة أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا الأصمعي قال: هجا الأبيرد الرياحي حارثة بن بدر فقال:

أحارث راجع شربـك إنـنـي                      أرى ابن زياد عنك أصبح لاهيا

أرى فيك رأيا من أبيه وعمـه                      وكان زياد ماقتا لـك فـالـيا

 

صفحة : 1452

 

وذكر البيتين الآخرين اللذين ذكرهما محمد بن سلام، وقال في خبره هذا: فكان حارثة يكسوه في كل سنة بردين، فحبسهما عنه في تلك السنة، فقال حارثة بن بدر يجيبه:

فإن كنت عن بردي مستغنيا لقـد                      أراك بأسمال الملابس كـاسـيا

وعشت زمانا أن أعينك كسوتـي                      قنعت بأخلاق وأمسيت عـاريا

وبردين من حوك العراق كسوتها                      على حاجة منها لأمـك بـاديا فقال الأبيرد يهجو حارثة بن بدر:

زعمت غدانة أن فيهـا سـيدا                      ضخما يواريه جناح الجندب

يرويه ما يروي الذباب وينتشي                      لؤما ويسبعه ذراع الأرنـب وقال أيضا لحارثة بن بدر:

ألا ليت حظي من غدانة أنـهـا                      تكون كفافا لا عـلـي ولا لـيا

أبى الله أن يهدي عدانة للـهـدى                      وأن لا تكون الدهر إلا مـوالـيا

فلو أنني ألقى ابن بدر بمـوطـن                      نعد به من أولينا الـمـسـاعـيا

تقاصر حتـى يسـتـقـيد وبـذه                      قروم تسامى من رياح تسـامـيا

أيا فارط الحي الذي قد حشالكـم                      من المجد أنهاء ملاء الخـوابـيا

وعمي الذي فك السميدع عـنـوة                      فلست بنعمي يا ابن عقرب جازيا

كلانا عني عـن أخـيه حـياتـه                      ونحن إذا متنـا أشـد تـغـانـيا

ألم ترنا إذ سقت قومـك سـائلا                      ذوي عدد للسائلـين مـعـاطـيا

بني الردف حمالين كل عظـيمة                      إذا طلعت والمترعين الجـوابـيا

وإنا لنعطي النصف من لو نضيمه                      أقر ولكنا نـحـب الـعـوافـيا الردف الذي عناه ها هنا: جده عتاب بن هرمي بن رياح، كان ردف بن المنذر، إذا ركب ركب وراءه، وإذا جلس جلس عن يمينه، وإذا غزا كان له المرباع، وإذا شرب الملك سقي بكأسه بعده، وكان بعده ابنه قيس بن عتاب يردف النعمان. وهو جد الأبيرد أيضا.

الأبيرد وسعد العجلي

أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة قال: كانت بنو عجل قد جاورت بني رياح بن يربوع في سنة أصابت عجلا، فكان الأبيرد يعاشر رجلا منهم، يقال له سعد، ويجالسه، وكان قصده امرأة سعد هذا، فمالت إليه فومقته، وكان الأبيرد شابا جميلا ظريفا طريرا، وكان سعد شيخا هما ، فذهب بها كل مذهب حتى ظهر أمرهما وتحدث بهما، واتهم الأبيرد بها، فشكاه إلى قومه واستعذرهم منه ، فقالوا له: مالك تتحدث إلى امرأة الرجل? فقال: وما بأس بذلك  وهل خلا عربي منه? قالوا: قد قيل فيكما ما لا قرار عليه، فاجتنب محادثتها، وإياك أن تعاودها. فقال الأبيرد: إن سعدا لا خير فيه لزوجته. قالوا: وكيف ذلك? قال: لأني رأيته يأتي فرسه البلقاء، ولا فضل فيه لامرأته، فهي تبغضه لفعله، وهو يتهمها لعجزه عنها. فضحكوا من قوله، وقالوا له: وما عليك من ذلك? دع الرجل وامرأته ولا تعاودها ولا تجلس إليها. فقال الأبيرد في ذلك:

ألم تر أن ابن المعذر قد صـحـا                      وودع ما يلحى علـيه عـواذلـه

غدا ذو خلاخيل علي يلـومـنـي                      وما لوم عذال عليه خـلاخـلـه

فدع عنك هذا الحلي إن كنت لائمي                      فإني امرؤ لا تزدهيني صلاصله

إذا خطرت عنـس بـه شـدنـية                      بمطرد الأرواح ناء منـاهـلـه

تبـين أقـوام سـفـاهة رأيهــم                      ترحل عنهم وهو عف منـازلـه

لهم مجلس كالردن يجمع مجلسـا                      لئاما مساعيه كثيرا هـتـامـلـه

تبرأت من سعـد وخـلة بـينـنـا                      فلا هو معطيني ولا أنا سـائلـه

متى تنتج البلقاء يا سعد أم مـتـى                      تلقح من ذات الربـاط حـوائلـه

يحدث سعـد أن زوجـتـه زنـت                      ويا سعد إن المرء تزني حلائلـه

فإن تسم عيناها إلـي فـقـد رأت                      فتى كحسام أخلصته صـياقـلـه

فتى قد قد السيف لا مـتـضـائل                      ولا رهل لبـاتـه و أبـاجـلـه - وهذا البيت الأخير يروي للعجير السلوكي، ولأخت يزيد بن الطثرية- فاعترضه سلمان العجلي فهجاه وهجا بني رياح فقال:

 

صفحة : 1453

 

 

لعمرك إننـي وبـنـي رياح                      لكالعاوي فصادف سهـم رام

يسوقون ابن وجرة مزمـئرا                      ليحميهم وليس لهـم بـحـام

وكم من شاعر لبنـي تـمـيم                      قصير الباع من نفـر لـئام

كسونا إذ تخرق مـلـبـسـاه                      دواهي يبترين من العـظـام

وإن يذكر طعامهـم بـشـر                      فإن طعامهم شر الطـعـام

شريج من مني أبـي سـواج                      وآخر خالص من حـيض آم

وسوداء المغابـن مـن رياح                      على الكردوس كالفأس الكهام

إذا ما مر بالقعـقـاع ركـب                      دعتهم من ينيك على الطعـام

تداولها غواة النـاس حـتـى                      تؤوب وقد مضى ليل التمـام وقال الأبيرد أيضا مجيبا له:

عوى سلمان من جو فلاقـي                      أخو أهل اليمامة سهم رامي

عوى من جبنه وشقي عجـل                      عواء الذئب مختلط الظـلام

بنو عجل أذل من المـطـايا                      ومن لحم الجزور على الثمام

تحيا المسلمون إذا تـلاقـوا                      وعجل ما تحيا بـالـسـلام

إذا عجليه ولـدت غـلامـا                      إلى عجل فقبح مـن غـلام

يمص بثـديهـا فـرخ لـئيم                      سلالة أعـبـد ورضـيع آم

خبيث الريح ينشأ بالمخـازي                      لئيم بـين آبــاء لـــئام

أنا ابن الأكرمين بني تـمـيم                      ذوي الآكال والهمم العظـام

وكائن من رئيس قطـرتـه                      عواملنا ومن ملك هـمـام

وجيش قد ربعـنـاه وقـوم                      صبحناه بذي لجـب لـهـام وقال أيضا الأبيرد محيبا له:

أخذنا بآفاق الـسـمـاء فـلـم نـدع                      لسلمان سلمان اليمـامة مـنـظـرا

من القلـح فـسـاء ضـروط يهـره                      إذا الطير مرات على الدوح صرصرا

وأقلح عجـلـي كـان بـخـطـمـه                      نواجذ خـنـزير إذا مـا تـكـشـر

يزل النـوى عـن ضـرسـه فـيرده                      إلى عارض فيه القـوادح أبـخـرا

إذا شرب العجلـي نـجـس كـأسـه                      وظلت بكفي جـأنـب غـير أزهـر

شديد سواد الوجه تحـسـب وجـهـه                      من الدم بين الـشـاربـين مـقـيرا

إذا ما حساهـا لـم تـزده سـمـاحة                      ولكن أرتـه أن يصـر ويحـصـرا

فلا يشربن في الحي عـجـل فـإنـه                      إذا شرب العجلي أخنـى وأهـجـر

يقاسي نداماهم وتلـقـى أنـوفـهـم                      من الجدع عند الكأس أمرا مـذكـرا

ولم تك في الإشراك عجل تـذوقـهـا                      ليالي يسبـيهـا مـقـاول حـمـيرا

وينفق فيها الحنظـلـيون مـا لـهـم                      إذا ما سعى منهم سفـيه تـجـبـرا

ولكنها هـانـت وحـرم شـربـهـا                      فمالت بنو عجل لمـا كـان أكـفـرا

لعمري لئن أزننـتـم أو صـحـوتـم                      لبئس الندامى كـنـتـم آل أبـجـرا  مجائل وعرادة يتفاخران بنحر الإبل

أخبرني عبيد الله بن محمد الرازي قال: حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني قال: كان مجائل بن مرة بن محكان السعدي وابن عم له يقال له: عرادة، وقد كان عرادة اشترى غنما له فأنهبها، وكانت مائة شاه، فاشترى مرة بن محكان مائة من الإبل فأنحر بعضها وأنهب باقيها، وقال أبو عبيدة: أنهما تفاخرا، فغلبه مرة، فقال الأبيرد لعرادة:

شرى مائة فأنهبها جميعا                      وبت تقسم الحذف النقادا فبعث عبيد الله بن زياد فاخذ مرة بن محكان فحبسه وقيده، ووقع بعد ذلك من قومه لحاء، فكانت بينهم شجاج ثم تكافؤوا وتوافقوا على الديات فأنبىء مررة بن محكان وهو محبوس، فعرف ذلك فتحمل جميعها في ماله، فقال فيه الأبيرد:

لله عينا مـن رأى مـن مـكـبـل                      كمرة إذ شـدت عـلـيه الأداهـم

فأبلغ عبيد الـلـه عـنـي رسـالة                      فإنك قاض بالـحـكـومة عـالـم

فإن أنت عاقبت ابن محكان في الندى                      فعاقب هداك الله أعـظـم حـاتـم

تعاقب خرقـا أن يجـود بـمـالـه                      سعى في ثأى من قومه متـفـاقـم

 

صفحة : 1454

 

 

كأن دماء القوم إذ علقت بـه                      على مكفهر من ثنايا المخارم  الأبيرد وابن عمه الأحوص

يحرضان رجلا على سحيم بن وثيل الرياحي

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، قال: حدثنا عمي قال: أتى رجل الأبيرد الرياحي وابن عمه الأخوص، وهما من رهط ردف الملك من بني رياح، يطلب منهما قطرانا لإبله فقالا له: إن أنت بلغت سحيم بن وثيل الرياحي هذا الشعر أعطيناك قطرانا. فقال: قولا. فقالا اذهب فقل له:

فإن بداهتي وجراء حـولـي                      لذو شق على الحطم الحرون قال: فلم أتاه وأنشد الشعر أخذ عصاه، وانحدر في الوادي، وجعل يقبل فيه ويدبر، ويهمهم بالشعر. ثم قال: اذهب فقل لهما:

فإن علالتي وجراء حـولـي                      لذو شق على الضرع الظنون

أنا ابن الغر من سلفـي رياح                      كنصل السيف وضاح الجبين

أنا ابن جلا وطلاع الـثـنـايا                      متى أضع العمامة تعرفوني

وإن مكاننـا مـن حـمـيري                      مكان الليث من وسط العرين

وإن قناتنا مشط شـطـاهـا                      شديد مدها عنـق الـقـرين قال الأصمعي: إذا مسست شيئا خشنا فدخل في يدك قيل: مشظت يدي والشظا: ما تشظى منها

وإني لا يعود إلـي قـرنـي                      غداة الغب إلا فـي قـرين

بذي لبد يصد الركب عـنـه                      ولا تؤتى فريستـه لـحـين

غدرت البزل إذ هي صاولتني                      فما بالي وبال ابني لـبـون

وماذا تبتغي الشعراء مـنـي                      وقد جاوزت رأس الأربعين

أخو الخمسين مجتمع أشـدي                      ونجذني مداورة الـشـؤون

سأحيا ما حييت وإن ظهـري                      لذو سند إلى نـضـد أمـين قال: فأتياه فاعتذرا إليه، فقال: إن أحدكم لا يرى أن يصنع شيئا حتى يقيس شعره بشعرنا، وحسبه بحسبنا، ويستطيف بنا استطافة الأرن . فقالا له: فهل إلى النزع من سبيل . فقال : إننا لم تبلغ أنسابنا.

قال اليزيدي: أبيات سحيم هذه من اختيارات الأصمعي.

قصيدة الصوت

والقصيدة التي رثى بها الأبيرد أخاه بريدا وفي أولها الغناء المذكور، من جيد الشعر، ومختار المراثي، المختار منها قوله:

تطاول ليلـي لـم أنـمـه تـقـلـبـا                      كأن فراشي حال من دونه الـجـمـر

أراقب من ليل الـتـمـام نـجـومـه                      لدن غاب قرن الشمس حتى بدا الفجـر

تذكرت قرما بـان مـنـا بـنـصـره                      ونـائلـه يا حـبـذا ذلـك الـذكــر

فإن تـكـن الأيام فـرقـن بـينـنــا                      فقد عذرتنا في صحابـتـنـا الـعـذر

وكنت أرى هجـرا فـراقـك سـاعة                      ألا لا بل الموت التفـرق والـهـجـر

أحقا عـبـاد الـلـه أن لـسـت لاقـيا                      بريدا طوال الدهر مـا لألأ الـعـفـر

فتى إن هو استغنى تخرق في الغـنـى                      فإن قل مالا لم يؤد متـنـه الـفـقـر

وسامى جسيمات الأمـور فـنـالـهـا                      على العسر حتى أدرك العسر اليسـر

ترى القوم في العزاء ينـتـظـرونـه                      إذا ضل رأي القوم أو حـزب الأمـر

فليتك كنت الحي في الـنـاس بـاقـيا                      وكنت أنا الميت الذي غـيب الـقـبـر

فتى يشتري حسن الـثـنـاء بـمـالـه                      إذا السنة الشهباء قل بهـا الـقـطـر

كأن لم يصاحـبـنـا بـريد بـغـبـطة                      ولم يأتنا يوما بـأخـبـاره الـسـفـر

لعمري لنعم المـرء عـالـي نـعـيه                      لنا ابن عزيز بعد ما قصر الـعـصـر

تمضت به الأخبار حتى تغـلـغـلـت                      ولم تثنه الأطباع دونـي ولا الـجـدر

ولما نعى الناعـي بـريدا تـغـولـت                      بي الأرض فرط الحزن وانقطع الظهر

عساكر تغشى النفس حتـى كـأنـنـي                      أخو سكرة طارت بهامتـه الـخـمـر

إلى الله أشكو في بـريد مـصـيبـتـي                      وبثي وأحزانا تضمـنـهـا الـصـدر

وقد كنت أستعفـي إلـهـي إذا شـكـا                      من الأجر لي فيه وإن سرنـي الأجـر

وما زال في عينـي بـعـد غـشـاوة                      وسمعي عما كنـت أسـمـعـه وقـر

 

صفحة : 1455

 

 

على أنني أقنى الحـياء واتـقـي                      شماتة أعداء عـيونـهـم خـزر

فحياك عني الليل والصبـح إذ بـدا                      وهوج من الأرواح غدوتها شهر

سقى جدثا لو أستطـيع سـقـيتـه                      بأود فرواه الروافد والـقـطـر

ولا زال يرعى من بلاد ثوى بهـا                      نبات إذا صاب الربيع بها نضـر

حلفت برب الرافعـين أكـفـهـم                      ورب الهدايا حيث حل بها النحـر

ومجتمع الحجاج حيث توافـقـت                      رفاق من الآفاق تكبيرهـا جـأر

يمين امرىء آلى وليس بـكـاذب                      وما في يمين قالها صـادق وزر

لئن كان أمس ابن المعذر قد ثـوى                      بريد لنعم المرء غيبـه الـقـبـر

هو الخلف المعروف والدين والتقى                      ومسعر حرب لا كهام ولا غمـر

أقام فنادى أهلـه فـتـحـمـلـوا                      وصرمت الأسباب واختلط النجـر

فتى كان يغلي اللحم نيئا ولحـمـه                      رخيص لجاديه إذا تنزل الـقـدر

فتى الحي والأضياف إن روحتهـم                      بليل وزاد السفر إن أرمل السفـر

إذا جارة حلت لديه وفـى بـهـا                      فآبت ولم يهتك لجارتـه سـتـر

عفيف عن السوآت ما التبست بـه                      صليب فما يلفى لعود به كـسـر

سلكت سبيل العالمين فمـا لـهـم                      وراء الذي لاقيت معدى ولا قصر

وكل امرىء يوما سيلقى حمامـه                      وإن نأت الدعوى وطال به العمر

وأبليت خيرا في الحـياة وإنـمـا                      ثوابك عندي اليوم أن ينطق الشعر وقال يرثيه أيضا، وهي قصيدة طويلة:

إذا ذكرت نفسي بريدا تحـامـلـت                      إلي ولم أملك لعـينـي مـدمـعـا

وذكرنيك الناس حين تـحـامـلـوا                      علي وأضحوا جلد أجرب مولـعـا

فلا يبعدنك الله خير أخـي امـرىء                      فقد كنت طلاع النجاد سـمـيدعـا

وصولا لذي القربى بعيدا عن الخنـا                      إذا ارتادك الجادي من الناس أمرعا

أخو ثقة لا ينتحـي الـقـوم دونـه                      إذا القوم حالوا أو رجا الناس مطمعا

ولا يركب الوجنـاء دون رفـيقـه                      إذا القوم أزجوهن حسرى وظلعـا

صوت

 

يا زائرينا من الـخـيام                      حياكما الله بالـسـلام

يحزنني أن أطفتما بـي                      ولم تنالا سوى الكـلام

بورك هارون من إمـام                      بطاعة الله ذي اعتصام

له إلى ذي الجلال قربى                      ليس لعـدل ولا إمـام الشعر لمنصور النمري، والغناء لعبد الله بن طاهر، رمل، ذكر ذلك عبيد الله ابنه، ولم ينسبه إلى الأصابع التي بنى عليها، وفيه للرف خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانة. وفيه ثقيل أول بالبنصر مجهول الأصابع. ذكر حبش أنه للرف أيضا.

 

أخبار منصور النمري ونسبه

منصور بن الزبرقان سلمة - وقيل منصور بن سلمة بن الزبرقان - بن شريك بن مطعم الكبش الرخم، بن مالك بن سعد بن عامر بن سعد الضحيان بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وإنما سمي عامر الضحيان لأنه كان سيد قومه وحاكمهم، وكان يجلس لهم إذا أضحى النهار، فسمي الضحيان. وسمي جد منصور مطعم الكبش الرخم، لأنه أطعم ناسا نزلوا به ونحر لهم، ثم رفع رأسه فإذا رخم يحمن حول أضيافه، فأمر بأن يذبح لهم كبش ويرمى به بين أيديهم، ففعل ذلك فنزلن عليه، فمزقنه؛ فسمي مطعم الكبش الرخم. وفي ذلك يقول أبو نعيجة النمري يمدح رجلا منهم:

أبوك زعيم بـنـي قـاسـط                      وخالك ذو الكبش يقري الرخم

 

صفحة : 1456

 

وكان منصور شاعرا من شعراء الدولة العباسية من أهل الجزيرة، وهو تلميذ كلثوم بن عمرو العتابي وروايته، وعنه أخذ، ومن بحره استقى، وبمذهبه تشبه، والعتابي وصفه للفضل بن يحيى بن خالد وقرضه عنده حتى استقدمه من الجزيرة واستصحبه، ثم وصله بالرشيد. وجرت بعد ذلك بينه وبين العتابي وحشة حتى تهاجرا وتناقضا، وسعى كل واحد منهما على هلاك صاحبه، وأخبار ذلك تذكر في مواضعها من أخبارهما - إن شاء الله تعالى - وكان النمري قد مدح الفضل بقصيدة وهو مقيم بالجزيرة، فأوصلها العتابي إليه، وأسترفده له، وسأله استصحابه، فأذن له في القدوم، فحظي عنده، وعرف مذهب الرشيد في الشعر، وإرادته أن يصل مدحه إياه بنفي الإمامة عن ولد علي بن أبي طالب - عليهم السلام - والطعن عليهم، وعلم مغزاه في ذلك مما كان يبلغه من تقديم مروان بن أبي حفصة، وتفضيله أياه على الشعراء في الجوائز. فسلك مذهب مروان في ذلك، ونحا نحوه، ولم يصرح بالهجاء والسب كما كان يفعل مروان، ولكنه حام ولم يقع، وأومأ ولم يحقق، لأنه كان يتشيع، وكان مروان شديد العداوة لآل أبي طالب، وكان ينطق عن نية قوية يقصد بها طلب الدنيا فلا يبقي ولا يذر.

سؤاله أن يذكر عند الرشيد

أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال: حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد الكراني، وأخبرني به عمي قال: حدثنا عبد الله بن سعد حديث محمد بن جعفر النحوي أنه قال: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم العبدي قال: حدثنا ثابت بن الحارث الجشمي قال: كان منصور النمري مصافيا للبرامكة، وكان مسكنه بالشأم، فكتب يسألهم أن يذكروه للرشيد ، فذكروه ووصفوه، فأحب أن يسمع كلامه، فأمرهم بإقدامه، فقدم ونزل عليهم، فأخبروا الرشيد بموضعه وأمرهم بإحضاره، وصادف دخوله إليه يوم نوبة مروان، على ما سمعه من بيانه، وكان مروان يقول قبل قدومه: هذا شامي وأنا حجازي، افتراه يكون أشعر مني، ودخله من ذلك ما يدخل مثله من الغم والحسد، واستنشد الرشيد منصورا، فأنشده:

أمير المؤمنين إليك خـضـنـا                      غمار الهول من بلد شـطـير

بخوص كالأهـلة خـافـقـات                      تلين على السرى وعلى الهجير

حملن إليك أحـمـالا ثـقـالا                      ومثل الصخر والدر النـثـير

فقد وقف المديح بمـنـتـهـاه                      وغايته وصار إلى المـصـير

إلى من لا يشـير إلـى سـواه                      إذا ذكر الندى كف المـشـير فقال مروان: وددت والله أنه أخذ جائزتي وسكت.

وذكر في القصيدة يحيى بن عبد الله بن حسن فقال:

يذلل من رقاب بني عـلـي                      ومن ليس بالمن الصـغـير

مننت على ابن عبد الله يحيى                      وكان من الحتوف على شفير مروان ينشد الرشيد قال مروان: فما برحت حتى أمرني هارون أمير المؤمنين أن أنشده، وكان يتبسم في وقت ما كان ينشده النمري، ويأخذ على بطنه، وينظر إلى ما قال، فأنشدته:

موسى وهارون هما الذان                      في كتب الأخبار يوجدان

من ولد المهدي مـهـديان                      قدا عنانين على عـنـان

قد أطلق المهدي لي لساني                      وشد أزري ما به حبانـي

من اللجين ومن العقـيان                      عيدية شاحطة الأثـمـان

لو خايلت دجلة بالألـبـان                      إذا لقيل اشتبه النـهـران النمري لا يحتفل بقول مروان قال: فوالله ما عاج النمري بذلك ولا احتفل به، فأومأ إلى هارون أن زده؛ فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها:

خلوا الطريق لمعشر عاداتهم                      حطم المناكب كل يوم زحام

ارضوا بما قسم الإله لكم به                      ودعوا وراثة كل أصيد حام

أني يكون وليس ذاك بكـائن                      لبني البنات وراثة الأعمـام قال: فوالله ما عاج بشيء منها، وخرجت الجائزتان، فأعطى مروان مائة ألف، وأعطى النمري سبعين ألفا، وقال: أنت مزيد في ولد علي.

قال: ولقد تخلص النمري إلى شيء ليس عليه فيه شيء، وهو قوله:

فإن شكروا فقد أنعمت فيهم                      وإلا فالندامة للـكـفـور

وإن قالوا بنو بنت فـحـق                      وردوا ما يناسب للذكـور

 

صفحة : 1457

 

قال: فكان مروان يتأسف على هذا المعنى أن يكون قد سبقه إليه، وإلى قوله:

وما لبني بنات مـن تـراث                      مع الأعمام في ورق الزبور أخبرني بهذا الخبر محمد بن عمران الصيرفي، قال: حدثني الغنوي عن محمد بن محمد بن عبد الله بن آدم عن أبي معشر العبدي، فذكر القصة قريبا مما ذكره محمد بن جعفر النحوي يزيد وينقص، والمعنى متقارب.

غضب هارون أن يشبه بالرسول أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان السلمي قال: حدثني أحمد بن سيار الشيباني الشاعر قال: كان هارون أمير المؤمنين يحتمل أن يمدح بما تمدح به الأنبياء فلا ينكر ذلك ولا يرده، حتى دخل عليه نفر من الشعراء فيهم رجل من ولد زهير بن أبي سلمى، فأفرط في مدحه حتى قال فيه:

فكأنه بعد الرسول رسول فغضب هارون ولم ينتفع به أحد يومئذ، وحرم ذلك الشاعر فلم يعطه شيئا، وأنشد منصور النمري قصيدة مدحه بها وهجا آل علي وثلبهم، فضجر هارون وقال له: يا ابن اللخناء، أتظن أنك تتقرب إلي بهجاء قوم أبوهم أبي، ونسبهم نسبي، وأصلهم وفرعهم أصلي وفرعي? فقال: وما شهدنا إلا بما علمنا. فازداد غضبه، وأمر مسرورا فوجأ في عنقه وأخرج، ثم وصل إليه يوما آخر بعد ذلك فأنشده:

بني حسن ورهط بني حسين                      عليكم بالسداد مـن الأمـور

فقد ذقتم قراع بنـي أبـيكـم                      غداة الروع بالبيض الذكور

أحين شفوكمو من كل وتـر                      وضموكم إلى كنـف وثـير

وجادوكم على ظمـإ شـديد                      سقيتم من نوالهم الـغـزيز

فما كان العقوق لهم جـزاء                      بفعلهـم وآدى لـلـثـؤور

وإنك حين تبـلـغـهـم أذاة                      وإن ظلموا لمحزون الضمير فقال له: صدقت، وإلا فعلي وعلي، وأمر له بثلاثين ألف درهم.

مروان ينشد الرشيد أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل قال: دخل مروان بن أبي حفصة وسلم الخاسر، ومنصور النمري على الرشيد، فأنشده مروان قصيدته التي يقول فيها:

أنى يكون وليس ذاك بكائن                      لبني البنات وراثة الأعمام وأنشده سلم فقال:

حضر الرحيل وشدت الأحداج وأنشده النميري قصيدته التي يقول فيها:

إن المكارم والمعروف أودية                      أحلك منها حيث تجتـمـع الرشيد يميز شاعره الخاص عن سائر الشعراء فأمر لكل واحد منهم بمائة ألف درهم، فقال له يحيى بن خالد: يا أمير المؤمنين، مروان شاعرك خاصة قد ألحقتهم به. قال: فليزد مروان عشرة آلاف.

<H6 إعجاب الرشيد بشعر منصور</H6 أخبرني عمي قال: أخبرنا ابن أبي سعد قال: حدثني علي بن الحسن الشيباني قال: أخبرني أبو حاتم الطائي، عن يحيى بن ضبيئة الطائي، عن الفضل قال: حضرت الرشيد وقد دخل منصور النمري عليه فأنشده:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع                      إذا ذكرت شبابا ليس يرتجـع

بان الشباب وفاتتنـي بـلـذتـه                      صروف دهر وأيام لها خـدع

ما كنت أوفي شبابي كنه غرته                      حتى انقضى فإذا الدنيا له تبـع قال: فتحرك الرشيد لذلك ثم قال: أحسن والله، لا يتهنأ أحد بعيش حتى يخطر في رداء الشباب.

أخبرني عمي قال: حدثنا ابن سعد قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن آدم العبدي عن أبي ثابت العبدي عن مروان بن أبي حفصة، قال: خرجنا مع الرشيد إلى بلاد الروم، فظفر الرشيد، وقد كاد أن يعطب، لولا الله عز وجل ثم يزيد بن مزيد. فقال لي وللنمري: أنشدا. فأنشدته قولي:

طرقتك زائرة فحي خيالها                      غراء تخلط بالحياء دلالها ووصفت الرجال من الأسرى كيف أسلموا نساءهم، والظفر الذي رزقه، فقال: عدوا قصيدته، فكانت مائة بيت، فأمر لي بمائة ألف درهم، ثم قال للنمري: كيف رأيت فرسي فإني أنكرته? فقال النمري:

مضر على فأس اللجـام كـأنـه                      إذا ما اشتكت أيدي الجياد يطـير

فظل على الصفصاف يوم تباشرت                      ضباع وذؤبـان بـه ونـسـور

فأقسم لا ينسى لك اللـه أجـرهـا                      إذا قسمت بين العـبـاد أجـور

 

صفحة : 1458

 

قال النمري: ثم قلت في نفسي: ما يمنعني من إذكاره بالجائزة? فقلت:

إذا الغيث أكدى واقشعرت نجومه                      فغيث أمير المؤمنين مـطـير

وما حل هارون الخليفة بـلـدة                      فأخلفها غـيث وكـاد يضـير فقال: أذكرتني. ورأيته متهللا لذلك. قال: فألحقني بمروان وأمر لي بمائة ألف درهم.

البيدق ينشد قصيدة النمري

أخبرني عمي، قال: حدثني ابن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان، قال حدثني محمد الراوية المعروف بالبيدق - وكان قصيرا، فلقب بالبيدق لقصره، وكان ينشد هارون أشعار المحدثين - وكان أحسن خلق الله إنشادا - قال: دخلت على الرشيد وعنده الفضل بن الربيع، ويزيد بن مزيد، وبين يديه خوان لطيف عليه جديان ورغفان سميد ودجاجتان، فقال لي: أنشدني، فأنشدته قصيدة النمري العينية، فلما بلغت إلى قوله:

أي امرىء بات من هارون في سخط                      فليس بالصلوات الخمس ينـتـفـع

إن المكـارم والـمـعـروف أودية                      أحلك الله منهـا حـيث تـتـسـع

إذا رفعت امرأ فـالـلـه يرفـعـه                      ومن وضعت من الأقوام متـضـع

نفسي فداؤك والأبطـال مـعـلـمة                      يوم الوغى والمنايا بـينـهـا قـرع قال: فرمى بالخوان بين يديه وصاح، وقال: هذا والله أطيب من كل طعام وكل شيء، وبعث إليه بسبعة آلاف دينار، فلم يعطني منها ما يرضيني، وشخص إلى رأس العين، فأغضبني وأحفظني، فأنشدت هارون قوله:

شاء من الناس راتع هامل                      يعللون النفوس بالباطـل فلما بلغت إلى قوله:

إلا مساعير يغضبون لها                      بسلة البيض والقنا الذابل  الرشيد يبعث بمن يقتل النمري

في يوم وفاته

قال: أراه يحرض علي، ابعثوا إليه من يجيء برأسه. فكلمه فيه الفضل بن الربيع فلم يغن كلامه شيئا، وتوجه إليه الرسول فوافاه في اليوم الذي مات فيه ودفن. قال: وكان إنشاد محمد البيدق يطرب كما يطرب الغناء.

<H6 سبب غضب الرشيد على النمري</H6 أخبرني عمي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثنا علي بن الحسين الشيباني، قال: أخبرني منصور بن جهور، قال: سألت العتابي عن سبب غضب الرشيد عليه، فقال لي: استقبلت النمري يوما من الأيام فرأيته مغموما واجما كئيبا، فقلت له: ما خبرك? فقال: تركت امرأتي تطلق، وقد عسر عليها ولادها، وهي يدي ورجلي، والقيمة بأمري وأمر منزلي. فقلت له: لم لا تكتب على فرجها هارون الرشيد? قال: ليكون ماذا? قال لتلد على المكان، قال: وكيف ذلك? قلت: لقولك:

إن أخلف الغيث لم تخلف مخايله                      أو ضاق أمر ذكرناه فيتـسـع فقال لي: يا كشخان، والله لئن تخلصت امرأتي لأذكرن قولك هذا للرشيد. فلما ولدت امرأته خبر الرشيد بما كان بيني وبينه، فغضب الرشيد لذلك وأمر بطلبي، فاستترت عند الفضل بن الربيع، فلم يزل يسأل في حتى أذن لي في الظهور، فلما دخلت عليه، قال لي: قد بلغني ما قلته للنمري، فاعتذرت إليه حتى قبل، ثم قلت: والله يا أمير المؤمنين ما حمله على التكذل علي إلا وقوفي على ميله إلى العلوية، فإن أراد أمير المؤمنين أن أنشده شعره في مديحهم فعلت. فقال: أنشدني. فأنشدته قوله:

شاء من الناس راتع هامل                      يعللون النفوس بالباطـل حتى بلغت إلى قوله:

إلا مساعير يغضبون لها                      بسلة البيض والقنا الذابل غضب الرشيد وطلبه نبش قبره فغضب من ذلك غضبا شديدا، وقال للفضل بن الربيع: أحضره الساعة. فبعث الفضل في ذلك، فوجده قد توفي، فأمر بنبشه ليحرقه، فلم يزل الفضل يلطف له حتى كف عنه.

الفضل بن الربيع يحمي النمري أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا يحيى بن الحسن بن عبد الخالق، قال: حدثني بعض الزينبيين، قال: حبس الرشيد منصورا النمري بسبب الرفض، فتخلصه الفضل بن الربيع، ثم بلغه شعره في آل علي عليه السلام، فقال للفضل: اطلبه. فستره الفضل عنده، وجعل الرشيد يلح في طلبه، حتى قال يوما للفضل:

 

صفحة : 1459

 

ويحك يا فضل تفوتني النمري? قال: يا سيدي، هو عندي قد حصلته. قال: فجئني. وكان الفضل قد أمره أن يطول شعره، ويكثر مباشرة الشمس ليشحب وتسوء حالته، ففعل، فلما أراد إدخاله عليه ألبسه فروة مقلوبة، وأدخله عليه، وقد عفا شعره، وساءت حالته، فلما رآه، قال: السيف فقال الفضل: يا سيدي من هذا الكلب حتى تأمر بقتله بحضرتك? قال: أليس هو القائل:

إلا مساعير يغضبون لها                      بسلة البيض والقنا الذابل فقال منصور: لا يا سيدي ما أنا قائل هذا، ولقد كذب علي، ولكني القائل:

يا منزل الحي ذا المغاني                      انعم صباحا على بلاكـا

هارون يا خير من يرجى                      لم يطع الله من عصاكا

في خير دين وخير دنـيا                      من اتقى الله واتقـاكـا فأمر بإطلاقه وتخلية سبيله، فقال منصور يمدح الفضل بن الربيع:

رأيت الملك مـذ آزر                      ت قد قامت محانـيه

هو الأوحد في الفضل                      فما يعرف ثـانـيه  عفة النمري

أخبرني عمي، قال: حدثنا ابن أبي سعد، قال: حدثني علي بن مسلم بن الهيثم الكوفي عن محمد بن أرتبيل، قال: اجتمع عند المأمون قبل خلافته، وذلك في أيام الرشيد، منصور النمري والخزيمي والعباس بن زفر، وعنده جعفر بن يحيى، فحضر الغداء، فأتي المأمون بلون من الطعام، فأكل منه فاستطابه، فأمر به فوضع بين يدي جعفر بن يحيى، فأصاب منه، ثم أمر به فوضع بين يدي العباس فأكل منه، ثم نحاه، فأكل منه بعده الخزيمي وغيره - ولم يأكل منه النمري - وذلك بعين المأمون، فقال له: لم لم تأكل? فقال: لئن أكلت ما أبقى هؤلاء إني لنهم. قال: فهل قلت في هذا شيئا? قال: نعم، قلت:

لهفي أتطعمها قينسا وآكـلـهـا                      إني إذا لدنيء النفس والخطـر

ما كان جدي ولا كان الهمام أبي                      ليأكلا سؤر عبـاس ولا زفـر

شتان من سؤر عباسس وفضلتـه                      وسؤر كلب مغطى العين بالوبر

ما زال يلقم والطباخ يلحـظـه                      وقد رأى لقما في الحلق كالعجز نسبة هذه القصيدة إلى منصور بن بجرة أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي، قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: اخبرني علقمة بن نصر بن واصل النمري، قال: سمعت أشياخنا يقولون، إن منصور بن بجرة بن منصور بن صليل بن أشيم بن قطن بن سعد بن عامر بن الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط، قال هذه القصيدة:

ما تنقضي حسرة مني ولا جـزع                      إذا ذكرت شبابا ليس يرتـجـع

بان الشباب وفاتتنـي بـشـرتـه                      صروف دهر وأيام لهـا خـدع

ما كنت أول مسلوب شبـيبـتـه                      مكسو شيب فلا يذهب بك الجزع منصور بن سلمة يستوهبها منه ويطلبه الرشيد ولكنه يرده فيستنجد بيزيد الشيباني فيدخله فسمعها منصور بن سلمى بن الزبرقان بن شريك بن مطعم الكبش الرخم بن مالك بن سعد بن عامر الضحيان فاستحسنها، فاستوهبها منه فوهبها له، وكان منصور بن بجرة هذا موسرا لا يتصدى لمدح ولا يفد إلى أحد ولا يتنجعه بالشعر، وكان هارون الرشيد قد جرد السيف في ربيعة، فوجه منصور بن سلمة هذه القصيدة إلى الرشيد، وكان رجلا تقتحمه العين جدا، ويزدريه من رآه لدمامة خلقه فأمر الرشيد لما عرضت عليه بإحضار قائلها. قال منصور: فلما وصلت إليه عرفني الحاجب أنه لما عرضت عليه قرأها واختارها على جميع شعر الشعراء جميعا، وأمره بإدخالي، فلما قربت من حاجبه الفضل بن الربيع ازدراني لدمامة خلقي، وكان قصيرا أزرق أحمر أعمش نحيفا. قال: فردني، وأمر بإخراجي فأخرجت، فمر بي ذات يوم يزيد بن مزيد الشيباني، فصحت به: يا أبا خالد، أنا رجل من عشيرتك، وقد لحقني ضيم، وعذت بك. فوقف، فعرفته خبري، وسألته: أن يذكرني إذا مرت به رقعتي، ويتلطف في إيصالي، ففعل ذلك، فلما دخلت على أمير المؤمنين أنشدته هذه القصيدة:

أتسلو وقد بان الشباب المزايل الرشيد يرفع السيف عن ربيعة فقال لي: غدا إن شاء الله آمر برفع السيف عن ربيعة وخرج يزيد يركض، فما جاءت العصر من الغد حتى رفع السيف عن ربيعة بنصيبين وما يليها، وأنشدته القصيدة، فلما صرت إلى هذا الموضع:

 

صفحة : 1460

 

 

يجرد فينا السيف من بين مارق                      وعان بجود كلهم متحـامـل قالوا: فلما سمع الجلساء هذا البيت، قالوا: ذهب الأعرابي وافتضح، فلما قلت:

وقد علم العدوان والجور والخنـا                      بأنـك عـياف لـهـن مـزايل

ولو علموا فينا بأمرك لـم يكـن                      ينال بريا بـالأذى مـتـنـاول

لنا منك أرحام ونعـتـد طـاعة                      وبأسا إذا اصطك القنا والقنابـل

وما يحفظ الأنساب مثلك حافـظ                      ولا يصل الأرحام مثلك واصـل

جعلناك فامنعنا معاذا ومفـزعـا                      لنا حين عضتنا الخطوب الجلائل

وأنت إذا عاذت بوجهـك عـوذ                      تطامن خوف واستقرت بلابـل فقال الجلساء: أحسن والله الأعرابي يا أمير المؤمنين فقال الرشيد: يرفع السيف عن ربيعة ويحسن إليهم.

أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني علي بن الحسين بن عبيد البكري قال: أخبرني أبو خالد الطائي عن الفضل، قال: كنا عند الرشيد وعنده الكسائي، فدخل إليه منصور النمري، فقال له الرشيد: أنشدني. فأنشده قوله:

ما تنقضي حسرة مني ولا جزع                      إذا ذكرت شبابا ليس يرتجـع فتحرك الرشيد، ثم أنشده حتى انتهى إلى قوله:

ما كنت أوفي شبابي كنه عزته                      حتى انقضى فإذا الدنيا له تبع فطرب الرشيد، وقال: أحسنت والله، وصدقت، لا والله لا يتهنا أحد يعيش حتى يخطر في رداء الشباب وأمر به بجائزة سنية.

أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان السلمي، قال: حدثني أحمد بن سنان البيساني، وأخبرني عمي قال: أخبرنا ابن أبي سعد، قال: حدثنا مسعود بن عيسى، عن موسى بن عبد الله التميمي: أن جماعة من الشعراء اجتمعوا ببغداد وفيهم منصور النمري، وكانوا على نبيذ، فأبى منصور أن يشرب معهم، فقالوا له: إنما تعاف الشرب لأنك رافضي، وتسمع وتصغي إلى الغناء، وليس تركك النبيذ من ورع، فقال منصور:

خلا بين ندماني موضع مجلسي                      ولم يبق عندي للوصال نصـيب

وردت على الساقي تفيض وربما                      رددت عليه الكأس وهي سليب

وأي امرىء لا يستهش إذا جرت                      عليه بنان كفـهـن خـضـيب الغناء لإبراهيم، خفيف ثقيل، مطلق في مجرى البنصر. ومن الناس من ينسبه إلى مخارق، هكذا في الخبر.

وقد حدثني علي بن سليمان الأخفض، قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد، قال: كتب كلثوم بن عمرو العتابي إلى منصور النمري قوله:

تقضت لبـانـات ولاح مـشـيب                      وأشفى على شمس النهار غروب

وودعت إخوان الصبا وتصرمـت                      غواية قلب كان وهـو طـروب

وردت على الساقي تفيض وربما                      رددت عليه الكأس وهي سلـيب

ومما يهيج الشـوق لـي فـيرده                      خفيف على أيدي القيان صخوب

عطون به حتى جرى في أديمـه                      أصابيغ في لبـاتـهـن وطـيب فأجابه النمري وقال:

أوحشة ندمانيك تبكي فربـمـا                      تلاقيهما والحلم عنك عزوب

ترى خلفا من كل نيل وثـروة                      سماع قيان عودهـن قـريب

يغنيك يا بنتي فتستصحب النهى                      وتحتازك الآفات حين أغـيب

وإن امرأ أودى السماع بلبـه                      لعريان من ثوب الفلاح سليب أخبرني عمي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم العبدي أبو مسعر، قال: أتى النمري يزيد بن مزيد ويزيد يومئذ في إضاقة وعسرة، فقال: اسمع مني جعلت فداك. فأنشده قصيدة له. يقول فيها:

لو لم يكن لبني شيبان مـن حـسـب                      سوى يزيد لفاتوا الناس في الحسـب

تأوي المكارم من بكر إلـى مـلـك                      من آل شيبان يحويهن مـن كـثـب

أب وعم وأخوال مـنـاصـبـهـم                      في منبت النبع لا في منبت الغرب

إن أبا خالد لـمـا جـرى وجـرت                      خيل الندى أحرز الأولى من القصب

لما تلغـبـهـن الـجـري قـدمـه                      عتق مبين ومحض غير مؤتـشـب

 

صفحة : 1461

 

 

إن الذين اغتزوا بالحـر غـرتـه                      كمغتزي الليث في عريسه الأشب

ضربا دراكا وشدات على عـنـق                      كان إيقاعها النيران في الحطـب

لا تقربن يزيدا عنـد صـولـتـه                      لكن إذا ما احتبى للجود فاقتـرب فقال يزيد: والله ما أصبح في بيت مالي شيء، ولكن انظر يا غلام كم عندك فهاته. فجاءه بمائة دينار وحلف أنه لا يملك يومئذ غيرها.

وقد أخبرني عمي بهذا الخبر، قال: حدثني محمد بن علي بن حمزة العلوي، قال: حدثني عمي عن جدي، قال: قال لي منصور النمري، كنت واقفا على جسر بغداد أنا وعبيد الله بن هشام بن عمرو التغلبي، وقد وخطني الشيب يومئذ، وعبيد الله شاب حديث السن، فإذا أنا بقصرية ظريفة قد وقفت، فجعلت أنظر إليهما وهي تنظر إلى عبيد الله بن هشام ثم انصرفت، وقلت فيها:

لما رأيت سوام الشيب منـتـشـرا                      في لمتي وعبيد الـلـه لـم يشـب

سللت سهمين من عينيك فانتضـلا                      على سبيبة ذي الأذيال والطـرب

كذا الغواني نرى منهـن قـاصـدة                      إلى الفروع معراة عن الخـشـب

لا أنت أصبحت تعتـدينـنـا أربـا                      ولا وعيشك ما أصبحت من أربي

إحدى وخمسين قد أنضبت جدتـهـا                      تحول بيني وبين اللهو واللـعـب

لا تحسبني وإن أغضيت عن بصري                      غفلت عنك ولا عن شأنك العجـب ثم عدلت عن ذلك فمدحت فيها يزيد بن مزيد فقلت:

لو لم يكن لبني شيبان من حسـب                      سوى يزيد لفاقوا الناس بالحسـب

لا تحسب الناس قد حابوا بني مطر                      إذا أسلم الجود فيهم عاقد الطنـب

الجود أخشن لمسا يا بني مـطـر                      من أن تبزكموه كف مستـلـب

ما أعرف الناس أن الجود مدفـعة                      للذم لكنه يأتي علـى الـنـشـب قال: فأعطاني يزيد عشرة آلاف درهم.

حدثني عمي، قال: حدثني محمد بن عبد الله التميمي الحزنبل، قال: حدثني عمرو بن عثمان الموصلي، قال حدثني ابن أبي روق الهمداني، قال: قال لي منصور النمري: دخلت على الرشيد يوما ولم أكن أعددت له مدحا، فوجدته نشيطا طيب النفس، فرمت شيئا فما جاءني، ونظر إلي مستنطقا، فقلت:

إذا اعتاص المديح عليك فامدح                      أمير المؤمنين تجـد مـقـالا

وعذ بفنـائه واجـنـح إلـيه                      تنل عرفا ولم تذلـل سـؤالا

فنـاء لا تـزال بـه ركـاب                      وضعن مدائحاص وحملن مالا فقال: والله لئن قصرت القول لقد أطلت المعنى، وأمر لي بصلة سنية.

 

طربت إلى الحي الذين تحملوا                      ببرقة أحواذ وأنت طـروب

فبت أسقاها سلافـا مـدامة                      لها في عظام الشاربين دبيب الشعر لعبد الله بن الحجاج الثعلبي، والغناء لعلويه، رمل بالوسطى، عن الهشامي، وفيه لسليم خفيف رمل، مطلق في مجرى الوسطى.

 

نسب عبد الله بن الحجاج وأخباره

هو عبد الله بن الحجاج بن محصن بن جندب بن نصر بن عمرو بن عبد غنم بن جحاش بن بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر. ويكنى أبا الأقرع. شاعر فاتك شجاع من معدودي فرسان مضر ذوي البأس والنجدة فيهم، وكان ممن خرج مع عمرو بن سعيد على عبد الملك بن مروان، فلما قتل عبد الملك بن مروان عمرا خرج مع نجدة بن عامر الحنفي ثم هرب، فلحق بعبد الله بن الزبير، فكان معه إلى أن قتل، ثم جاء إلى عبد الملك متنكرا، واحتال عليه حتى أمنه.

وأخباره تذكر في ذلك وغيره ها هنا أخبرني بخبره في تنقله من عسكر إلى عسكر، ثم استئمانه، جماعة من شيوخنا، فذكروه متفرقا فابتدأت بأسانيدهم، وجمعت خبره من روايتهم.

 

 

صفحة : 1462

 

فأخبرنا الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني اليزيدي أبو عبد الله محمد بن العباس، ببعضه، قال: حدثني سليمان بن أبي شيخ، قال: حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، وأخبرنا محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثنا محمد بن معاوية الأسدي، قال: حدثنا محمد بن كناسة، وأخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني علي بن مسلم بن الهيثم الكوفي عن محمد بن أرتبيل، ونسخت بعض هذه الأخبار من نسخة أبي العباس ثعلب، والألفاظ تختلف في بعضها والمعاني قريبة، قالوا: كان عبد الله بن الحجاج الثعلبي شجاعا فاتكا صعلوكا من صعاليك العرب، وكان متسرعا إلى الفتن، فكان ممن خرج مع عمرو بن سعيد بن العاص، فلما ظفر به عبد الملك هرب إلى ابن الزبير، فكان معه حتى قتل، ثم اندس إلى عبد الملك فكلم فيه فأمنه.

هذه رواية ثعلب، وقال العنزي وابن سعد في روايتهما: لما قتل عبد الله بن الزبير، وكان عبد الله بن الحجاج من أصحابه وشيعته احتال حتى دخل على عبد الملك بن مروان وهو يطعم الناس، فدخل حجرة، فقال له: مالك يا هذا لا تأكل? قال: لا أستحل أن آكل حتى تأذن لي. قال: إني قد أذنت للناس جميعا. قال: لم أعلم فآكل بأمرك. قال: كل. فأكل، وعبد الملك ينظر إليه ويعجب من فعاله، فلما أكل الناس وجلس عبد الملك في مجلسه، وجلس خواصه بين يديه، وتفرق الناس، جاء عبد الله بن الحجاج فوقف بين يديه، ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له، فأنشده:

أبلغ أمير المؤمنين فـإنـنـي                      مما لقيت من الحوادث موجع

منع القرار فجئت نحوك هاربا                      جيش يجر ومقنب يتـلـمـع فقال عبد الملك: وما خوفك لا أم لك، لولا أنك مريب فقال عبد الله:

إن البلاد علي وهي عريضة                      وعرت مذاهبها وسد المطلع فقال له عبد الملك: ذلك بما كسبت يداك، وما الله بظلام للعبيد، فقال عبد الله:

كنا تنحلنا الـبـصـائر مـرة                      وإليك إذ عمي البصائر نرجع

إن الذي يعصيك منا بعـدهـا                      من دينه وحـياتـه مـتـودع

آتي رضاك ولا أعود لمثلـهـا                      وأطيع أمرك ما أمرت وأسمع

أعطي نصيحتي الخليفة ناخعـا                      وخزامة الأنف المقود فأتبـع فقال له عبد الملك: هذا لا نقبله منك إلا بعد المعرفة بك وبذنبك? فإذا عرفت الحوبة قبلنا التوبة. فقال عبد الله:

ولقد وطئت بني سعـيد وطـأة                      وابن الزبير فعرشه متضعضع فقال عبد الملك: لله الحمد والمنة على ذلك. فقال عبد الله:

ما زلت تضرب منكبا عن منكب                      تعلو ويسفل غيركم مـا يرفـع

ووطئتم في الحرب حتى أصبحوا                      حدثا يكوس وغابرا يتجعـجـع

فحوى خلافتهم ولم يظلم بـهـا                      القرم قرم بني قصـي الأنـزع

لا يستوي خاوي نـجـوم أفـل                      والبدر منبلجا إذا مـا يطـلـع

وضعت أمية واسطين لقومهـم                      ووضعت وسطهم فنعم الموضع

بيت أبو العاصي بنـاه بـربـوة                      عالي المشارف عزه ما يدفـع فقال له عبد الملك: إن توريتك عن نفسك لتريبني، فأي الفسقة أنت? وماذا تريد? فقال:

حربت أصيبيتى يد أرسلتهـا                      وإليك بعد معادها ما ترجـع

وأرى الذي يرجو تراث محمد                      أفلت نجومهم ونجمك يسطع فقال عبد الملك: ذلك جزاء أعداء الله. فقال عبد الله بن الحجاج:

فانعش أصيبيتى الألاء كأنهم                      جحل تدرج بالشربة جوع فقال عبد الملك: لا أنعشهم الله، وأجاع أكبادهم، ولا أبقى وليدا من نسلهم، فإنهم نسل كافر فاجر لا يبالي ما صنع. فقال عبد الله:

مال لهم مما يضن جمعتـه                      يوم القليب فحيز عنهم أجمع فقال له عبد الملك: لعلك أخذته من غير حله، وأنفقته في غير حقه، وأرصدت به لمشاقة أولياء الله، وأعددته لمعاونة أعدائه، فنزعه منك إذ استظهرت به على معصية الله. فقال عبد الله:

أدنو لترحمني وتجبر فاقتي                      فأراك تدفعني فأين المدفع

 

صفحة : 1463

 

فتبسم عبد الملك، وقال له: إلى النار، فمن أنت الآن? قال: أنا عبد الله بن الحجاج الثعلبي، وقد وطئت دارك وأكلت طعامك، وأنشدتك، فإن قتلتني بعد ذلك فأنت وما تراه، وأنت بما عليك في هذا عارف. ثم عاد إلى إنشاده فقال:

ضاقت ثياب الملبسين وفضلهم                      عني فألبسني فثوبك أوسـع فنبذ عبد الملك إليه رداء كان على كتفه، وقال: البسه، لا لبست فالتحف به، ثم قال له عبد الملك: أولى لك والله، لقد طاولتك طمعا في أن يقوم بعض هؤلاء فيقتلك، فأبى الله ذلك، فلا تجاورني في بلد، وانصرف آمنا، قم حيث شئت.

قال اليزيدي في خبره: قال عبد الله بن الحجاج: ما زلت أتعرف منه كل ما أكره حتى أنشدته قولي:

ضاقت ثياب الملبسين وفضلهم                      عني فألبسني فثوبك أوسـع فرمى عبد الملك مطرفه، وقال: البسه. فلبسته.

ثم قال: آكل يا أمير المؤمنين? قال: كل. فأكل حتى شبع، ثم قال: أمنت ورب الكعبة? فقال: كن من شئت إلا عبد الله بن الحجاج. قال: فأنا والله هو، وقد أكلت طعامك، ولبست ثيابك، فأي خوف علي بعد ذلك? فأمضى له الأمان.

ونسخت عن كتاب أحمد بن يحيى ثعلب بن ابن الأعرابي، قال: كان عبد الله بن الحجاج قد خرج مع نجدة بن عامر الحنفي الشاري، فلما انقضى أمره هرب، وضاقت عليه الأرض من شدة الطلب، فقال في ذلك:

رأيت بلاد الله وهـي عـريضة                      على الخائف المطرود كفة حابل

تؤدي إلـيه أن كـل ثـنـــية                      تيممها ترمي إلـيه بـقـاتـل قال: ثم لجأ إلى أحيح بن خالد بن عقبة بن أبي معيط، فسعى به إلى الوليد بن عبد الملك، فبعث إليه بالشرط، فأخذ من دار أحيح، فأتي به الوليد فحبسه، فقال وهو في الحبس:

أقول وذاك فرط الشوق مني                      لعيني إذ نأت ظمياء فيضي

فما للقلب صبر يوم بـانـت                      وما للدمع يسفح من مغيض

كأن معتقـا مـن أذرعـات                      بماء سحابة خصر فضيض

بفيها إذ تخافـتـنـي حـياء                      بسر لا تبوح به خـفـيض يقول فيها:

فإن يعرض أبو العبـاس عـنـي                      ويركب بي عروضا عن عروض

ويجعل عرفـه يومـا لـغـيري                      وبيغضني فإني مـن بـغـيض

فإنـي ذو غـنـى وكـريم قـوم                      وفي الأكفاء ذو وجـه عـريض

غلبت بني أبي العاصي سمـاحـا                      وفي الحرب المذكرة العضوض

خرجت علـيهـم فـي كـل يوم                      خروج القدح من كف المفـيض

فدى لك من إذا مـا جـئت يومـا                      تلقانـي بـجـامـعة ربـوض

على جنب الـخـوان وذاك لـؤم                      وبئست تحفة الشيخ الـمـريض

كأني إذ فـزعـت إلـى أحـيح                      فزعت إلى مقـوقـية بـيوض

إوزة غيضة لقحـت كـشـافـا                      لقحقحها إذا درجـت نـقـيض قال: فدخل أحيح على الوليد بن عبد الملك، فقال يا أمير المؤمنين: إن عبد الله بن الحجاج قد هجاك قال: بماذا? فأنشده قوله:

فإن يعرض أبو العبـاس عـنـي                      ويركب بي عروضا عن عروض

ويجعل عرفـه يومـا لـغـيري                      وبيغضني فإني مـن بـغـيض فقال الوليد: وأي هجاء هذا هو من بغيض إن أعرضت عنه، أو أقبلت عليه، أو أبغضته، ثم ماذا? فأنشده:

كأني إذ فزعت إلى أحـيح                      فزعت إلى مقوقية بيوض فضحك الوليد، ثم قال: ما أراه هجا غيرك. فلما خرج من عنده أحيح أمر بتخلية سبيل عبد الله بن الحجاج، فأطلق. وكان الوليد إذا رأى أحيحا ذكر قول عبد الله فيه فيضحك منه.

حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثنا خلاد بن يزيد الأرقط عن سالم بن قتيبة. وحدثني يعقوب بن القاسم الطلحي، قال: حدثني غير واحد، منهم عبد الرحمن بن محمد الطلحي، قال: حدثني أحمد بن معاوية، قال: سمعت أبا علقمة الثقفي يحدث. قال أبو زيد: وفي حديث بعضهم ما ليس في حديث الآخر، وقد ألفت ذلك، قال:

 

صفحة : 1464

 

كان كثير بن شهاب بن الحصين بن ذي الغصة بن يزيد بن شداد بن قنان بن سلمة بن وهب بن عبد الله بن ربيعة بن الحارث بن كعب، على ثغر الري، ولاه إياه المغيرة بن شعبة إذ كان خليفة معاوية على الكوفة، وكان عبد الله بن الحجاج معه، فأغار الناس على الديلم، فأصاب عبد الله بن الحجاج رجلا منهم، فأخذ سلبه، فانتزعه منه كثير، وأمر بضربه، فضرب مائة سوط، وحبس، فقال عبد الله في ذلك، وهو محبوس:

تسأل سلمى عن أبيها صحابه                      وقد علقته من كثير حبـائل

فلا تسألي عني الرفاق فإنه                      بأبهر لا غاز ولا هو قافـل

ألست ضربت الديلمي أمامهم                      فجدلته فيه سنان وعـامـل فمكث في الحبس مدة، ثم أخلي سبيله، فقال:

سأترك ثغر الري ما كنت واليا                      عليه لأمر غالني وشجـانـي

فإن أنا لم أدرك بثأري وأتـئر                      فلا تدعني للصيد من غطفان

تمنيتني يا بن الحصين سفـاهة                      ومالك بي يا بن الحصين يدان

فإني زعيم أن أجلل عـاجـلا                      بسيفي كفاحا هامة ابن قنـان قال: فلما عزل كثير وقدم الكوفة كمن له عبد الله بن الحجاج في سوق التمارين - وذلك في خلافة معاوية وإمارة المغيرة بن شعبة على الكوفة - وكان كثير يخرج من منزله إلى القصر يحدث المغيرة، فخرج يوما من داره إلى المغيرة يحدثه فأطال، وخرج من عنده ممسيا يريد داره، فضربه عبد الله بعمود حديد على وجهه فهتم مقاديم أسنانه كلها، وقال في ذلك:

من مبلغ قيسا وخـنـدف أنـنـي                      ضربت كثيرا مضرب الظربـان

فأقسم لا تنفك ضـربة وجـهـه                      تذل وتخزي الدهـر كـل يمـان

فإن تلقني تلق أمرأ قد لـقـيتـه                      سريعا إلى الهيجاء غير جـبـان

وتلق أمرأ لم تـلـق أمـك بـره                      على سابح غوج اللبان حـصـان

وحولي من قيس وخندف عصـبة                      كرام على البأساء والـحـدثـان

وإن تك للسنخ الذي غص بالحصى                      فإني لقرم يا كـثـير هـجـان

أنا ابن بني قيس علي تعطـفـت                      بغيض بن ريث بعـد آل دجـان

من مبلغ قيسا وخـنـدف أنـنـي                      أدركت مظلمتي من ابن شهـاب

أدركته أجرى على مـحـبـوكة                      سرح الجراء طـويلة الأقـراب

جرداء سرحوب كـأن هـويهـا                      تعلو بجؤجئهـا هـوي عـقـاب

خضت الظلام وقد بدت لي عورة                      منه فأضربـه عـلـى الأنـياب

فتركته يكـبـو لـفـيه وأنـفـه                      ذهل الجنان مضـرج الأثـواب

هلا خشيت وأنـت عـاد ظـالـم                      بقصور أبهر نصرتي وعقـابـي

إذ تستحل، وكان ذاك مجـرمـا،                      جلدي وتنزع ظالـمـا أثـوابـي

ما ضره والحر يطـلـب وتـره                      بأشم لا رعـش ولا قـبـقـاب قال: فكتب ناس من اليمانية من أهل الكوفة إلى معاوية: إن سيدنا ضربه خسيس من غطفان، فإن رأيت أن تقيدنا من أسماء بن خارجة. فلما قرأ معاوية الكتاب قال: ما رأيت كاليوم كتاب قوم أحمق من هؤلاء. وحبس عبد الله بن الحجاج، وكتب إليهم:  إن القود ممن لمن يجن محظور ، والجاني محبوس، حبسته فليقتص منه المجني عليه  . فقال كثير بن شهاب: لا أستقيدها إلا من سيد مضر. فبلغ قوله معاوية فغضب وقال: أنا سيد مضر فليستقدها مني، وأمن عبد الله بن الحجاج، وأطلقه، وأبطل ما فعله بابن شهاب، فلم يقتص ولا أخذ له عقلا. عفو كثير عن عبد الله بن الحجاج.

إن عبد الله بن الحجاج لما ضربه بالعمود، قال له: أنا عبد الله بن الحجاج صاحبك بالري، وقد قابلتك بما فعلت بي، ولم أكن لأكتمك نفسي، وأقسم بالله لئن طالبت فيها بقود لأقتلنك. فقال له: أنا أقتص من مثلك، والله لا أرضى بالقصاص إلا من أسماء بن خارجة وتكلمت اليمانية وتحارب الناس بالكوفة، فكتب معاوية إلى المغيرة: أن أحضر كثيرا وعبد الله بن الحجاج فلا يبرحان من مجلسك حتى يقتص كثير أو يعفو. فأحضرهما المغيرة، فقال قد عفوت? وذلك لخوفه من عبد الله بن الحجاج أن يغتاله. قال: وقال لي: يا أبا الأقيرع، والله لا نلتقي أنت ونحن جميعا أهتمان، وقد عفوت عنك.

 

 

صفحة : 1465

 

ونسخت من كتاب ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: كان لعبد الله بن الحجاج ابنان يقال لأحدهما: عوين، والثاني جندب، فمات جندب وعبد الله حي فدفنه بظهر الكوفة، فمر أخوه عوين بحراث إلى جانب قبر جندب، فنهاه أن يقربه بفدانه، وحذره ذلك، فلما كان الغد وجده قد حرث جانبه، وقد نبشه وأضر به، فشد عليه فضربه بالسيف وعقر فدانه. وقال:

أقول لحراثي حريمي جنـبـا                      فدانيكما لا تحرثا قبر جنـدب

فإنكما إن تحـرثـاه تـشـردا                      ويذهب فدان منكما كل مذهب قال: فأخذ عوين، فاعتقله السجان، فضربه حتى شغله بنفسه، ثم هرب، فوفد أبوه إلى عبد الملك فاستوهب جرمه فوهبه، وأمر بألا يتعقب، فقال عبد الله بن الحجاج، يذكر ما كان من ابنه عوين:

لمثلك يا عوين فدتك نـفـسـي                      نجا من كربة إن كان نـاجـي

عرفتك من مصاص السنخ لمـا                      تركت ابن العكامس في العجاج قال: ولما وفد عبد الله بن الحجاج إلى عبد الملك بسبب ما كان من ابنه عوين مثل بين يديه، فأنشده:

يا بن أبي العاصي ويا خير فـتـى                      أنت النجيب والخيار المصطفـى

أنت الذي لم تـدع الأمـر سـدى                      حين كشفت الظلمات بـالـهـدى

ما زلت إن ناز على الأمر انتـزى                      قضيته إن القضاء قـد مـضـى

كما أذقت ابن سعـيد إذ عـصـى                      وابن الزبير إذ تسمـى وطـغـى

وأنـت إن عـد قـديم وبـنــى                      من عبد شمس في الشماريخ العلى

جيبت قريش عنكم جوب الرحـى                      هل أنت عاف عن طريد قد غوى

أهوى على مهواة بثـر فـهـوى                      رمى به جول إلى جول الـرجـا

فتجبـر الـيوم بـه شـيخـا ذوى                      يعوي مع الذئب إذا الذئب عـوى

وإن أراد النوم لم يقض الـكـرى                      من هول ما لاقى وأهوال الردى

يشكر ذاك ما نفـت عـين قـذى                      نفسي وآبائي لـك الـيوم الـفـدا فأمر عبد الملك بتحمل ما يلزم ابنه من غرم وعقل، وأمنه.

ونسخت من كتاب ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: وفد عبد الله بن الحجاج إلى عبد العزيز بن مروان ومدحه، فأجزل صلته، وأمره بأن يقيم عنده ففعل، فلما طال مقامه اشتاق إلى الكوفة وإلى أهله، فاستأذن عبد العزيز فلم يأذن له، فخرج من عنده غاضبا، فكتب عبد العزيز إلى أخيه بشر، أن يمنعه عطاءه، فمنعه، ورجع عبد الله لما أضر به ذلك إلى عبد العزيز، وقال يمدحه:

تركت ابن ليلى ضلة وحـريمـه                      وعند ابن ليلى معقل ومـعـول

ألم يهدني أن المـراغـم واسـع                      وأن الديار بالمـقـيم تـنـقـل

سأحكم أمري إن بدا لـي رشـده                      وأختار أهل الخير إن كنت أعقل

وأترك أوطاري وألحق بامـرىء                      تحلب كفاه الندى حـين يسـأل

أبت لك يا عبد العـزيز مـآثـر                      وجري شأى جري الجـياد وأول

أبي لك إذ أكدوا وقل عطاؤهـم                      مواهب فياض ومجـد مـؤثـل

أبوك الذي ينميك مروان للعلـى                      وسعد الفتى بالخال لا من يخول فقال له عبد العزيز: أما إذ عرفت موضع خطئك، واعترفت به فقد صفحت عنك. وأمر بإطلاق عطائه، ووصله، وقال له: أقم ما شئت عندنا، أو انصرف مأذونا لك إذا شئت.

ونسخت من كتابه أيضا: كان عمر بن هبيرة بن معية بن سكين قد ظلم عبد الله بن الحجاج حقا له، واستعان عليه بقومه، فلقوه في بعلبك، فعاونوا عبد الله بن الحجاج عليه، وفرقوه بالسياط حتى انتزعوا حقه منه، فقال عبد الله في ذلك:

ألا أبلغ بني سـعـد رسـولا                      ودونهم بسيطة فالـمـعـاط

أميطوا عنكم ضرط ابن ضرط                      فإن الخبث مثـلـهـم يمـاط

ولي حـق فـراطة أولـينـا                      قديما والحقوق لها افـتـراط

فما زالت مباسطتي ومجـدي                      وما زال التهايط والـمـياط

وجدي بالسياط عليك حـتـى                      تركت وفي ذناباك انبـسـاط

متى ما تعترض يوما لحقـي                      تلاقك دونه سعـر سـبـاط

من الحيين ثعلبة بـن سـعـد                      ومرة أخذ جمعهم اعتـبـاط

 

صفحة : 1466

 

 

تراهم في البيوت وهم كسالى                      وفي الهيجا إذا هيجوا نشاط والقصيدة التي فيها الغناء بذكر أمر عبد الله بن الحجاج أولها:

نأتك ولم تخش الفراق جـنـوب                      وشطت نوى بالظاعنين شعـوب

طربت إلى الحي الذين تحمـلـوا                      ببرقة أحـواز وأنـت طـروب

فظلت كأني ساورتـنـي مـدامة                      تمنى بها شكس الطـبـاع أريب

تمر وتستحلي على ذاك شربهـا                      لوجه أخيها في الإناء قـطـوب

كميت إذا صبت وفي الكأس وردة                      لها في عظام الشاربـين دبـيب

تذكرت ذكرى من جنوب مصيبة                      وما لك من ذكرى جنوب نصيب

وأنى ترجي الوصل منها وقد نأت                      وتبخل بالموجود وهـي قـريب

فما فوق وجدي إذ نأت وجد واجد                      من الناس لو كانت بذاك تـثـيب

برهرهة خـود كـأن ثـيابـهـا                      على الشمس تبدو تارة وتغـيب وهي قصيدة طويلة.

ونسخت من كتاب ثعلب عن ابن الأعرابي، قال: كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يعرفه آثار عبد الله بن الحجاج، وبلاءه من محاربته، وأنه بلغه أنه أمنه، ويحرضه ويسأله أن يوفده إليه ليتولى قتله وبلغ ذلك عبد الله بن الحجاج، فجاء حتى وقف بين يدي عبد الملك، ثم أنشده:

أعوذ بثوبيك اللذين ارتداهـمـا                      كريم الثنا من جيبه المسك ينفح

فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي                      وإن كنت مذبوحا فكن أنت تذبح فقال عبد الملك: ما صنعت شيئا. فقال عبد الله:

لأنت وخير الظافرين كـرامـهـم                      عن المذنب الخاشي العقاب صفوح

ولو زلقت من قبل عفوك نـعـلـه                      ترامى به دحض المـقـام بـريح

نمى بك إن خانت رجالا عروقهـم                      أروم ودين لم يخـنـك صـحـيح

وعرف سرى لم يسر في الناس مثله                      وشأو على شأو الرجـال مـتـوح

تداركني عفو ابن مروان بـعـدمـا                      جرى لي من بعد الحـياة سـنـيح

رفعت مريحا ناظـري ولـم أكـد                      من الهم والكـرب الـشـديد أريح فكتب عبد الملك إلى الحجاج: إني قد عرفت من خبث عبدالله وفسقه ما لا يزيدني علما به، إلا أنه اغتفلني متنكرا، فدخل داري، وتحرم بطعامي، واستكساني فكسوته ثوبا من ثيابي، وأعاذني فأعذته، وفي دون هذا ما حظر علي دمه، وعبد الله أقل وأذل من أن يوقع أمرا، أو ينكث عهدا في قتله خوفا من شره، فإن شكر النعمة وأقام على الطاعة فلا سبيل عليه، وإن كفر ما أوتي وشاق الله ورسوله وأولياءه فالله بسيف البغي الذي قتل به نظراؤه ومن هو أشد بأسا وشكيمة منه، من الملحدين، فلا تعرض له ولا لأحد من أهل بيته إلا بخير، والسلام.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني، قال: كانت في القريتين بركة من ماء، وكان بها رجل من كلب يقال له دعكنة لا يدخل البركة معه أحد إلا غطه حتى يغلبه، فغط يومها فيها رجلا من قيس بحضرة الوليد بن عبد الملك حتى خرج هاربا، فقال ابن هبيرة وهو جالس عليها يومئذ: اللهم اصبب علينا أبا الأقيرع عبد الله بن الحجاج. فكان أول رجل انحدرت به راحلته، فأناخها، ونزل، فقال ابن هبيرة للوليد: هذا أبو الأقيرع والله يا أمير المؤمنين، أيهما أخزى الله صاحبه به. فأمره الوليد أن ينحط عليه في البركة والكلبي فيها واقف متعرض للناس وقد صدوا عنه. فقال له: يا أمير المؤمنين إني أخاف أن يقتلني فلا يرضى قومي إلا بقتله، أو أقتله فلا ترضى قومه إلا بمثل ذلك، وأنا رجل بدوي ولست بصاحب مال. فقال دعنكة: يا أمير المؤمنين هو في حل وأنا في حل. فقال له الوليد: دونك. فتكأكأ ساعة كالكاره حتى عزم عليه الوليد، فدخل البركة، فاعتنق الكلبي وهوى به إلى قعرها، ولزمه حتى وجد الموت، ثم خلى عنه، فلما علا غطه غطة ثانية، وقام عليه ثم أطلقه حتى تروح، ثم أعاده وأمسكه حتى مات، وخرج ابن الحجاج وبقي الكلبي، فغضب الوليد وهم به، فكلمه يزيد وقال: أنت أكرهته، أفكان يمكن الكلبي من نفسه حتى يقتله? فكف عنه. فقال عبد الله بن الحجاج في ذلك:

 

صفحة : 1467

 

 

نجاني الله فردا لا شـريك لـه                      بالقريتين ونفس صلبة الـعـود

وذمة من يزيد حال جانـبـهـا                      دوني فأنجيت عفوا غير مجهود

لولا الإله وصبري في مغاطستي                      كان السليم وكنت الهالك المودي

يا حبذا عمل الشيطان من عمـل                      إن كان من عمل الشيطان حبيها

لنظرة من سليمى اليوم واحـدة                      أشهى إلي من الدنيا وما فيهـا الشعر لناهض بن ثومه الكلابي، أنشدنيه هاشم بن محمد الخزاعي، قال: أنشدنا الرياشي قال: أنشدنا ناهض بن ثومة أبو العطاف الكلابي هذين البيتين لنفسه. وأخبرني بمثل ذلك عمي من الكراني عن الرياشي، والغناء لأبي العبيس ابن حمدون ثقيل أول ينشد بالوسطى.

 

أخبار ناهض بن ثومة ونسبه

هو ناهض بن ثومة بن نصيح بن نهيك بن إمام بن جهضم بن شهاب بن أنس بن ربيعة بن كعب بن بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. شاعر بدوي فارس فصيح، من الشعراء في الدولة العباسية، وكان يقدم البصرة فيكتب عنه شعره، وتؤخذ عنه اللغة. روى عنه الرياشي، وأبو سراقة، ودماذ وغيرهم من رواة البصرة. وكان يهجوه رجل من بني الحارث بن كعب، يقال له: نافع بن أشعر الحارثي، فأثرى عليه ناهض فمما قاله في جواب قصيدة هجا بها قبائل قيس، قصيدة ناهض التي أولها:

ألا يا أسلـمـا يأيهـا الـطـلـلان                      وهل سالم باق علـى الـحـدثـان

أبينا لنا حـبـيتـمـا الـيوم إنـنـا                      مبينان عن مـيل بـمـا تـسـلان

متى العهد من سلمى التي بتت القوى                      وأسماء إن العهـد مـنـذ زمـان

ولا زال ينهل الغمام عـلـيكـمـا                      سبيل الربـى مـن وابـل ودجـان

فإن أنتما بينتـمـا أو أجـبـتـمـا                      فلا زلتما بـالـنـبـت تـرتـديان

وجر الحرير والفرند عـلـيكـمـا                      بأذيال رخصات الأكـف هـجـان

نظرت ودوني قيد رمحين نـظـرة                      بعينين إنسـانـاهـمـا غـرقـان

إلى ظعن بالـعـاقـرين كـأنـهـا                      قرائن من دوح الكـثـيب ثـمـان

لسلمى وأسماء اللـتـين أكـنـتـا                      بقلبي كنـينـي لـوعة وضـمـان

عسى يعقب الهجر الطويل تـدانـيا                      ويا رب هجر معقـب بـتـدانـي

خليلي قد أكثرتما اللـوم فـاربـعـا                      كفاني ما بي لو تركت كـفـانـي

إذا لم تصل سلمى وأسماء في الصبا                      بحبليهما حبلي فـمـن تـصـلان

فدع ذا ولكن قد عجبـت لـنـافـع                      ومعواه من نجران حيث عـوانـي

عوى أسـدا لا يزدهـيه عــواؤه                      مقـيمـا بـلـوذي يذبـل وذقـان

لعمري لقد قال ابن أشعـر نـافـع                      مقالة موطوء الـحـريم مـهـان

أيزعم أن العـامـري لـعـفـلـه                      بعاقـبة يمـرى بـه الـرجـوان

ويذكـر إن لاقـاه زلة نـعـلــه                      فجيء للذي لم يسـتـبـن بـبـيان

كذبت ولكن بابن علـبة جـعـفـر                      فدع ما تمنـى زلـت الـقـدمـان

أصيب فلم يعقل وطـل فـلـم يقـد                      فذاك الـذي يخـزى بـه الأبـوان

وحق لمن كان ابن أشـعـر ثـائرا                      به الطل حتى يحشـر الـثـقـلان

ذليل ذليل الرهط أعمـى يسـومـه                      بنو عامر ضيمـا بـكـل مـكـان

فلم يبـق إلا قـولـه بـلـسـانـه                      وما ضر قول كـاذب بـلـسـان

هجا نافع كـعـبـا لـيدرك وتـره                      ولم يهج كـعـب نـافـعـا لأوان

ولم تعف من آثار كعب بـوجـهـه                      قوارع مـنـهـا وضـح وقـوان

وقد خضبوا وجه ابن علبة جعـفـر                      خضاب نجيع لا خـضـاب دهـان

فلم يهج كعبا نافـع بـعـد ضـربة                      بسيف ولم يطعـنـهـم بـسـنـان

فما لك مهجى يا بن أشعر فاكتـعـم                      على حجر واصبر لـكـل هـوان

إذا المرء لم ينهض فيثأر بـعـمـه                      فليس يجلى الـعـار بـالـهـذيان

 

صفحة : 1468

 

 

أبي قيس عيلان وعمي خنـدف                      ذوا البذخ عند الفجر والخطران

إذا ما تجمعنا وسارت حـذاءنـا                      ربيعة لم يعدل بـنـا أخـوان

أليس نبي الله منـا مـحـمـد                      وحمزة والعباس والعـمـران

ومنا ابن عباس ومنا ابن عمـه                      علي إمام الحق والحـسـنـان

وعثمان والصديق منـا وإنـنـا                      لنعلم أن الـحـق مـا يعـدان

ومنا بنو العباس فضلا فمن لكم                      هلموه أولا ينـطـقـن يمـان قال: فأنشد ناهض هذه القصيدة أيوب بن سليمان بن علي بالبصرة، وعنده خال له من الأنصار، فلما ختمها بهذا البيت قال الأنصاري: أخرسنا أخرسه الله وكان جده نصيح شاعرا، وهو الذي يقول:

ألا من لقلب في الحجاز قسيمه                      ومنه بأكناف الحجاز قـسـيم

معاود شكوى أن نأت أم سالـم                      كما يشتكي جنح الظلام سلـيم

سليم لصل أسلمته لـمـا بـه                      رقى قل عنه دفعها وتـمـيم

فلم ترم الدار البريصاء فالصفا                      صفاها فخلاها فـأين تـريم

وقفت عليها بازلا نـاهـجـية                      إذا لم أزعها بالزمام تـعـوم

كنازا من اللاتي كأن عظامها                      جبرن على كسرفهن عثـوم أخبرني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: حدثني الفضل بن العباس الهاشمي من ولد قثم بن جعفر بن سليمان عن أبيه، قال:

 

صفحة : 1469

 

كان ناهض بن ثومة الكلابي يفد على جدي قثم فيمدحه، ويصله جدي وغيره، وكان بدويا جافيا كأنه من الوحش، وكان طيب الحديث، فحدثه يوما: أنهم انتجعوا ناحية الشام، فقصد صديقا له من ولد خالد بن يزيد بن معاوية كان ينزل حلب، فإذا نزل نواحيها أتاه فمدحه، وكان برا به، قال: فمررت بقرية يقال لها قرية بكر بن عبد الله الهلالي، فرأيت دورا متباينة وخصاصا قد ضم بعضها إلى بعض، وإذا بها ناس كثير مقبلون ومدبرون، عليهم ثياب تحكي ألوان الزهر، فقلت في نفسي: هذا أحد العيدين: الأضحى أو الفطر. ثم ثاب إلي ما عزب عن عقلبي، فقلت: خرجت من أهلي في بادية البصرة في صفر، وقد مضى العيدان قبل ذلك، فما هذا الذي أرى? فبينا أنا واقف متعجب أتاني رجل فأخذ بيدي، فأدخلني دارا قوراء، وأدخلني منها بيتا قد نجد في وجهه فرش ومهدت، وعليها شاب ينال فروع شعره منكبيه، والناس حوله سماطان، فقلت في نفسي: هذا الأمير الذي حكي لنا جلوسه على الناس وجلوس الناس بين يديه، فقلت وأنا ماثل بين يديه: السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله وبركاته. فجذب رجل يدي، وقال: اجلس فإن هذا ليس بأمير. قلت: فما هو? قال: عروس. فقلت: واثكل أماه، لرب عروس رأيته بالبادية أهون على أهله من هن أمه. فلم أنشب أن دخل رجال يحملون هنات مدورات، أما ما خف منها فيحمل حملا، وأما ما كبر وثقل فيدحرج فوضع ذلك أمامنا، وتحلق القوم عليه حلقا، ثم أتينا بخرق بيض فألقيت بين أيدينا، فظننتها ثيابا، وهممت أن أسأل القوم منها خرقا أقطعها قميصا، وذلك أني رأيت نسجا متلاحما لا يبين له سدى ولا لحمة، فلما بسطه القوم بين أيديهم إذا هو يتمزق سريعا، وإذا هو - فيما زعموا - صنف من الخبز لا أعرفه، ثم أتينا بطعام كثير بين حلو وحامض، وحار وبارد، فأكثرت منه وأنا لا أعلم ما في عقبه من التخم والبشم، ثم أتينا بشراب أحمر في عساس، فقلت: لا حاجة لي فيه، فإني أخاف أن يقتلني. وكان إلى جانبي رجل ناصح لي أحسن الله جزاءه، فإنه كان ينصح لي من بين أهل المجلس، فقال: يا أعرابي إنك قد أكثرت من الطعام، وإن شربت الماء همى بطنك. فلما ذكر البطن تذكرت شيئا أوصاني به أبي والأشياخ من أهلي، قالوا: لا تزال حيا ما كان بطنك شديدا فإذا اختلف فأوص. فشربت من ذلك الشراب لأتداوى به، وجعلت أكثر منه فلا أمل شربه، فتداخلني من ذلك صلف لا أعرفه من نفسي، وبكاء لا أعرف سببه ولا عهد لي بمثله، واقتدار على أمري أظن معه أني لو أردت نيل السقف لبلغته، ولو ساورت الأسد لقتلته، وجعلت ألتفت إلى الرجل الناصح لي فتحدثني نفسي بهتم أسنانه وهشم أنفه، وأهم أحيانا أن أقول له: يا ابن الزانية فبنا نحن كذلك إذ هجم علينا شياطين أربعة، أحدهم قد علق في عنقه جعبة فارسية مشنجة الطرفين دقيقة الوسط، مشبوحة بالخيوط شبحا منكرا، ثم بدر الثاني فاستخرج من كمه هنة سوداء كفيشلة الحمار، فوضعها في فيه، وضرط ضراطا لم أسمع - وبيت الله - أعجب منه، فاستتم بها أمرهم، ثم حرك أصابعه على أجحرة فيها فأخرج منها أصواتا ليس كما بدأ تشبه بالضراط ولكنه أتى منها لما حرك أصابعه بصوت عجيب متلائم متشاكل بعضه لبعض، كأنه، علم الله، ينطق. ثم بدا ثالث كز، مقيت عليه قميص وسخ، معه مرآتان، فجعل يصفق بيديه إحداهما على الأخرى فخالطتا بصوتهما ما يفعله الرجلان، ثم بدا رابع عليه قميص مصون وسراويل مصونة وخفان أجذمان لا ساق لواحد منهما، فجعل يقفز كأنه يثب على ظهور العقارب، ثم التبط به على الأرض، فقلت: معتوه ورب الكعبة ثم ما برح مكانه حتى كان أغبط القوم عندي. ورأيت القوم يحذفونه بالدراهم حذفا منكرا، ثم أرسل النساء إلينا: أن أمتعونا من لهوكم هذا. فبعثوا بهم، وجعلنا نسمع أصواتهن من بعد، وكان معنا في البيت شاب لا آبه له، فعلت الأصوات بالثناء عليه والدعاء، فخرج فجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط أربعة، فاستخرج من خلالها عودا فوضعه خلف أذنه، ثم عرك آذانها وحركها بخشبة في يده فنطقت - ورب الكعبة - وإذا هي أحسن قينة رأيتها قط وغنى عليها، فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت فجلست بين يديه، وقلت: بأبي أنت وأمي، ما هذه الدابة فلست أعرفها للأعراب وما أراها خلقت إلا قريبا. فقال: هذا البربط? فقلت بأبي أنت وأمي، فما

 

صفحة : 1470

 

هذا الخيط الأسفل? قال: الزير. قلت: فالذي يليه? قال: المثنى. قلت: فالثالث? المثلث. قلت: فالأعلى? قال: البم. قلت: آمنت بالله أولا، وبك ثانيا، وبالبرط ثالثا، وبالبم رابعا.ذا الخيط الأسفل? قال: الزير. قلت: فالذي يليه? قال: المثنى. قلت: فالثالث? المثلث. قلت: فالأعلى? قال: البم. قلت: آمنت بالله أولا، وبك ثانيا، وبالبرط ثالثا، وبالبم رابعا.

قال: فضحك أبي، والله، حتى سقط، وجعل ناهض يعجب من ضحكه، ثم كان بعد ذلك يستعيده هذا الحديث، ويطرف به إخوانه فيعيده ويضحكون منه.

وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي، عن أبيه، قال: كان محمد بن خالد بن يزيد بن معاوية بحلب، فأتاه أعرابي، فقال له: حدث أبا عبد الله - يعني الهيثم بن النخعي - بما رأيت في حاضر المسلمين. فحدثه بنحو من هذا الحديث، ولم يسم الأعرابي باسمه، وما أجدره بأن يكون لم يعرفه باسمه ونسبه أو لم يعرفه الذي حدث به النوفلي عنه.

نسخت من كتاب لعلي بن محمد الكوفي فيه شعر ناهض بن ثومة قال: كان رجل من بني كعب قد تزوج امرأة من بني كلاب، فنزل فيهم ثم أنكر منها بعض ما ينكره الرجل من زوجته فطلقها، وأقام بموضعه في بني كلاب، وكان لا يزالون يتسخفون به ويظلمونه، وإن رجلا منهم أورد إبله الماء فوردت إبل الكعبي عليها، فزاحمته، لكنها ألقته على ظهره فتكشف، فقام مغضبا بسيفه إلى إبل الكعبي، فعقر منها عدة، وجلاها عن الحوض، ومضى الكعبي مستصرخا بني كلاب على الرجل، فلم يصرخوه، فساق باقي إبله واحتمل بأهله حتى رجع إلى عشيرته، فشكا ما لقى من القوم واستصرخهم، فغضبوا له، وركبوا معه حتى أتوا حلة بني كلاب، فاستاقوا إبل الرجل الذي عقر لصاحبهم، ومضى الرجل فجمع عشيرته، وتداعت هي وكعب للقتال، فتحاربوا في ذلك حربا شديدا، وتمادى الشر بينهم، حتى تساعى حلماؤهم في القضية، فأصلحوها على أن يعقل القتلى والجرحى، وترد الإبل، وترسل من العاقر عدة الإبل التي عقرها للكعبي، فتراضوا بذلك واصطلحوا، وعادوا إلى الألفة، فقال في ذلك ناهض بن ثومة:

أمن طلل بأخطـب أبـدتـه                      نجاء الوبل والديم النـضـاح

ومر الدهر يومـا بـعـد يوم                      فما أبقى المساء ولا الصباح

فكل محلة عنيت بسـلـمـى                      لريدات الرياح بهـا نـواح

تطل على الجفون الحزن حتى                      دموع العين ناكـزة نـزاح وهي طويلة يقول فيها:

هنيئا للعـدى سـخـط ورغـم                      وللفرعين بينهمـا اصـطـلاح

وللعين الرقاد فـقـد أطـالـت                      مساهرة وللقلـب انـتـجـاح

وقد قال العـداة نـرى كـلابـا                      وكعبا بين صحلهما افـتـتـاح

تداعوا للسـلام وأمـر نـجـح                      وخير الأمر ما فيه الـنـجـاح

ومدوا بينهم بـحـبـال مـجـد                      وثـدي لا أجـد ولا ضــياح

ألم تر أن جمع القوم يحـشـى                      وأن حريم واحـدهـم مـبـاح

وأن القدح حـين يكـون فـردا                      فيهصر لا يكون لـه اقـتـداح

وإنك إن قبضت بها جـمـيعـا                      أبت ما سمت واحدها الـقـداح

أنا الخطار دون بـنـي كـلاب                      وكعب إن أتيح لـهـم مـتـاح

أنا الحامي لهـم ولـكـل قـرم                      أخ حام إذا جـد الـنـضـاح

أنا الـلـيث الـذي لا يزدهـيه                      عواء العاويات ولا الـنـبـاح

سل الشعراء عني هـل أقـرت                      بقلبي أو عفت لهم الـجـراح

فما لكواهـل الـشـعـراء بـد                      من القتب الذي فـيه لـحـاح

ومن توريك راكبـه عـلـيهـم                      وإن كرهوا الركوب وإن ألاحوا

 

صفحة : 1471

 

ونسخت من هذا الكتاب الذي فيه شعره، أن وقعة كانت بين بني نمير وبني كلاب بنواحي ديار مضر، وكانت لكلاب على بني نمير، وأن نميرا استغاثت ببني تميم، ولجأت إلى مالك بن زيد سيد تميم يومئذ بديار مضر، فمنع تميما من إنجادهم، وقال: ما كنا لنلقى بين قيس وخندف دماء نحن عنها أغنياء، وأنتم وهم لنا أهل وإخوة، فإن سعيتم في صلح عاونا، وإن كانت حمالة أعنا، فأما الدماء فلا مدخل لنا بينكم فيها. فقال ناهض بن ثومة في ذلك:

سلام الـلـه يا مـال بـن زيد                      عليك وخير ما أهدى السلامـا

تعـلـم أينـا لـكـم صـديق                      فلا تستعجلوا فينا الـمـلامـا

ولكنـا وحـي بـنـي تـمـيم                      عداة لا نرى أبـدا سـلامـا

وإن كنا تكـافـفـنـا قـلـيلا                      كحرف السيف ينهار انهدامـا

وهيض العظم يصبح ذا انصداع                      وقد ظن الجهول به التـئامـا

فلن ننسى الشباب المرد مـنـا                      ولا الشيب الجحاجح والكراما

ونوح نوائح مـنـا ومـنـهـم                      مآتم ما تجف لهم سـجـامـا

فكيف يكون صلح بعـد هـذا                      يرجي الجاهلون لهم تمـامـا

ألا قل للقـبـائل مـن تـمـيم                      وخص لمالك فيها الكـلامـا

فزيدوا يا بـنـي زيد نـمـيرا                      هوانا إنه يداني الـفـطـامـا

ولا تبقوا على الأعـداء شـيئا                      أعز الله نـصـركـم ودامـا

وجدت المجد في حيي تـمـيم                      ورهط الهذلق الموفي الذماما

نجوم القوم مـا زالـوا هـداة                      وما زالوا لآبـيهـم زمـامـا

هم الرأس المقدم مـن تـمـيم                      وغاربها وأوفاهـا سـنـامـا

إذا ما غاب نـجـم آب نـجـم                      أغر نرى لطلعته ابتـسـامـا

فهذي لابن ثومة فانسـبـوهـا                      إليه لا اختفاء ولا اكتـتـامـا

وإن رغمت لذاك بنو نـمـير                      فلا زالت أنوفهـم رغـامـا قال: يعني بالهذلق الهذلق بن بشير، أخا بني عتيبة بن الحارث بن شهاب، وابنيه علقمة وصباحا.

قال: وكانت بنو كعب قد اعتزلت الفريقين فلم تصب كلابا ولا نميرا، فلما ظفرت كلاب قال لهم ناهض:

ألا هل أتى كعبا على نأي دراهـم                      وخذلانهم أنا سررنا بني كـعـب

بما لقيت منا نمير وجـمـعـهـا                      غداة أتينا في كتائبنـا الـغـلـب

فيا لك يوما بالحمى لا نـرى لـه                      شبيها وما في يوم شيبان من عتب

أقامت نمير بالحمى غـير رغـبة                      فكان الذي نالت نمير من النهـب

رؤوس وأوصال يزايل بـينـهـا                      سباع تدلت من أبانين والهضـب

لنا وقعات في نمير تـتـابـعـت                      بضيم على ضيم ونكب على نكب

وقد علمت قيس بن عيلان كلـهـا                      وللحرب أبناء بأنا بنو الـحـرب

ألم ترهم طرا علينـا تـحـزبـوا                      وليس لنا إلا الردينى من حـزب

وإنا لنقتاد الجياد علـى الـوجـى                      لأعدائنا من لا مدان ولا صقـب

ففي أي فج ما ركزنا رمـاحـنـا                      مخوف بنصب للعدا حين لا نصب أخبرنا جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب، قال: حدثني أبو هفان، قال: حدثني غرير بن ناهض بن ثومة الكلابي، قال: كان شاعر من نمير يقال له: رأس الكبش، قد هاجى عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير زمانا، وتناقضا الشعر بينهما مدة، فلما وقعت الحرب بيننا وبين بني نمير قال عمارة يحرض كعبا وكلابا ابني ربيعة على بني نمير في هذه الحرب التي كانت بينهم، فقال:

رأيتكما يا بني ربيعة خرتـمـا                      وعولتما والحرب ذات هرير

وصدقتما قول الفرزدق فيكمـا                      وكذبتما بالأمسر قول جـرير

فإن أنتما لم تقذعا الخيل بالقنـا                      فصيرا مع الأنباط حيث تصير

تسومكما بغيا نمير هـضـيمة                      ستنجد أخبار بهـم وتـغـور قال: فارتحلت كلاب حين أتاها هذا الشعر، حتى أتوا نميرا وهم في هضبات يقال لهن واردات، فقتلوا واجتاحوا، وفضحوا نميرا، ثم انصرفوا، فقال ناهض بن ثومة يجيب عمارة عن قوله:

 

صفحة : 1472

 

 

يحضضنا عمارة في نـمـير                      ليشغلهم بنـا وبـه أرابـوا

ويزعم أننـا حـزنـا وأنـا                      لهم جار المقربة المصـاب

سلوا عن نميرا هل وقعـنـا                      بنزوتها التي كانت تـهـاب

ألم تخضع لهم أسـد ودانـت                      لهم سعد وضبة والـربـاب

ونحن نكرها شعثا علـيهـم                      عليها الشيب منا والشـبـاب

رغبنا عن دماء بنـي قـريع                      إلى القلعين إنهما اللـبـاب

صبحناهم بأرعن مكفـهـر                      يدف كأن رأيته الـعـقـاب

أجش من الصواهل ذي دوي                      تلوج البيض فيه والحـراب

فأشعل حين حـل بـواردات                      وثار لنقعه ثم انـصـبـاب

صبحناهم بها شعث النواصي                      ولم يفتق من الصبح الحجاب

فلم تغمد سيوف الهند حتـى                      تعيلت الحليلة والـكـعـاب

أعرفت من سلمى رسوم ديار                      بالشط بين مخفق وصحـار

وكأنما أثر النعاج بجـوهـا                      بمدافع الركبين ودع جواري

وسألتها عن أهلها فوجدتهـا                      عمياء جاهلة عن الأخبـار

فكأن عيني غرب أدهم داجن                      متعود الإقـبـال والإدبـار الشعر للمخبل السعدي، والغناء لإبراهيم، هزج بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق. قال الهشامي: فيه لإبراهيم ثقيل أول، ولعنان بنت خوط خفيف رمل.

 

أخبار المخبل ونسبه

قال ابن الكلبي: اسمه الربيع بن ربيعة، وقال ابن دأب: اسمه كعب بن ربيعة. وقال ابن حبيب وأبو عمرو: اسمه ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف بن قتال بن أنف الناقة بن قريع بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. شاعر فحل، من مخضرمي الجاهلية والإسلام، ويكنى أبا يزيد. وإياه عنى الفرزدق بقوله:

وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا                      وأبو يزيد وذو القروح وجـرول ذو القروح: امرؤ القيس. وجرول: الحطيئة. وأبو يزيد: المخبل. وذكره ابن سلام فجعله في الطبقة الخامسة من فحول الشعراء، وقرنه بخداش بن زهير، والأسود بن يعفر، وتميم بن مقبل. وهو من المقلين، وعمر في الجاهلية والإسلام عمرا كثيرا، وأحسبه مات في خلافة عمر أو عثمان رضي الله عنهما وهو شيخ كبير. وكان له ابن، فهاجر إلى الكوفة في أيام عمر فجزع عليه جزعا شديدا، حتى بلغ خبره عمر، فرده عليه.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد. قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه، وأخبرني به هاشم بن محمد الخزاعي عن أبي غسان دماذ، عن ابن الأعرابي قال: هاجر شيبان بن المخبل السعدي، وخرج مع سعد بن أبي وقاص لحرب الفرس، فجزع عليه المخبل جزعا شديدا، وكان قد أسن وضعف، فافتقر إلى ابنه فافتقده، فلم يملك الصبر عنه، فكاد أن يغلب على عقله، فعمد إلى إبله وسائر ماله فعرضه ليبيعه ويلحق بابنه، وكان به ضنينا، فمنعه علقمة بن هوذة بن مالك، وأعطاه مالا وفرسا، وقال: أنا أكلم أمير المؤمنين عمر في رد ابنك، فإن فعل غنمت مالك. وأقمت في قومك، وإن أبي استنفقت ما أعطيتك ولحقت به، وخلفت إبلك لعيالك. ثم مضى إلى عمر - رضوان الله عنه - فأخبره خبر المخبل، وجزعه على ابنه، وأنشده قوله:

أيهلكنـي شـيبـان فـي كـل لـيلة                      لقلبي من خوف الـفـراق وجـيب

أشـيبـان مـا أدراك أن كـل لـيلة                      غبقتك فيها والـغـبـوق حـبـيب

غبقتك عظماها سنـامـا أو انـبـرى                      برزقـك بـراق الـمـتـون أريب

أشيبان إن تأبى الجـيوش بـحـدهـم                      يقاسـون أيامـا لـهـن حـطـوب

ولا هم إلا الـبـز أو كـل سـابـح                      عليه فتى شاكي السـلاح نـجـيب

يذودون جند الهـرمـزان كـأنـمـا                      يذودون أوراد الـكـلاب تـلــوب

فإن يك غصني أصـبـح الـيوم ذاويا                      وغصنك من ماء الشبـاب رطـيب

فإني حنت ظهري خطوب تتابـعـت                      فمشي ضعيف في الرجـال دبـيب

إذا قال صحبـي يا ربـيع ألا تـرى                      أرى الشخص كالشخصين وهو قريب

ويخبرني شيبان أن لمـن يعـقـنـي                      تعق إذا فـارقـتـنـي وتـحـوب

فلا تدخلن الـدهـر قـبـرك حـوية                      يقوم بها يومـا عـلـيك حـسـيب

 

صفحة : 1473

 

يعني بقوله حسيب الله عز ذكره.

قال: فلما أنشد عمر بن الخطاب هذه الأبيات بكى ورق له، فكتب إلى سعد يأمره أن يقفل شيبان بن المخبل ويرده على أبيه، فلما ورد الكتاب عليه أعلم شيبان ورده فسأله الإغضاء عنه، وقال: لا تحرمني الجهاد. فقال له: إنها عزمة من عمر، ولا خير لك في عصياته وعقوق شيخك. فانصرف إليه، ولم يزل عنده حتى مات.

وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبيد الله بن عمار والجوهري، قالا: حدثنا عمر بن شبة أن شيبان بن المخبل كان يرعى إبل أبيه، فلا يزال أبوه يقول: أحسن رعية إبلك يا بني، فيقول: أراحني الله من رعية إبلك، ثم فارق أباه وغزا مع أبي موسى، وانحدر إلى البصرة، وشهد فتح تستر، فقال: فذكر أبوه الأبيات، وزاد فيها قوله:

إذا قلت ترعى قال سوف تريحني                      من الرعي مذعان العشي خبوب قال: أبو زيد وحدثناه عتاب بن زياد: قال: حدثنا ابن المبارك، قال حدثنا مسعود عن معن بن عبد الرحمن فذكر نحوه، ولم يقل: شيبان بن المخبل، ولكنه قال: انطلق رجل إلى الشام، وذكر القصة والشعر.

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثني عمي عبيد الله، عن ابن حبيب، قال: خطب المخبل السعدي إلى الزبرقان بن بدر أخته خليدة، فمنعه إياها، ورده لشيء كان في عقله، وزوجها رجلا من بني جشم بن عوف، يقال له: مالك بن أمية ابن عبد القيس، من بني محارب.

فقتل رجلا من بني نهشل يقال له الجلاس بن مخربة بن جندل بن جابر بن نهشل اغتيالا، ولم يعلم به أحد، ففقد ولم يعلم له خبر، فبينما جار الزبرقان الذي من عبد القيس قاتل الجلاس ليلة يتحدث إذ غلط، فحدث هزالا بقتله الرجل، وذلك قبل أن يتزوج هزال إلى الزبرقان، فأتى هزال عبد عمرو بن ضمرة بن جابر بن نهشل فأخبره، فدعا هزال قاتل الجلاس فأخرجه عن البيوت، ثم اعتوره هو وعبد عمرو فضرباه حتى قتلاه، ورجع هزال إلى الحي وضرب عبد عمرو حتى لجأ إلى أخواله بني عطارد بن عوف.

فقالت امرأة مالك بن مية المقتول:

أجيران ابن أمية خبرونـي                      أعين لابن مية أم ضمـار

تجلل خزيها عوف بن كعب                      فليس لنسلهم منها اعتـذار قال: فلما زوج الزبرقان أخته خليدة هزالا بعد قتله جاره عيب عليه، وعير به، وهجاه المخبل، فقال:

لعمرك إن الزبـرقـان لـدائم                      على الناس تعدو نوكه ومجاهله

أأنكحت هزالا خليدة بـعـدمـا                      زعمت بظهر الغيب أنك قاتله

فأنكحته رهوا كأن عجـانـهـا                      مشق إهاب أوسع السلخ ناجله

يلاعبها فوق الفراش وجاركـم                      بذي شبرمان لم تزيل مفاصلـه قال: ولج الهجاء بين المخبل والزبرقان حتى تواقفا للمهاجاة واجتمع الناس عليهما فاجتمعا لذلك ذات يوم، وكان الزبرقان أسودهما، فابتدأ المخبل فأنشده قصيدته:

أنبئت أن الزبرقـان يسـبـنـي                      سفها ويكره ذو الحرين خصالي قال: وإنما سماه ذا الحرين لأنه كان مبدنا، فكان له ثديان عظيمان، فسبه بهما وشبههما بالحرين. ويقال: إنه إنما عيره بأخته وابنته، ولم يكن للمخبل ابن في الجاهلية، قال:

أفلا يفاخرني ليعلم أينـا                      أدنى لأكرم سودد وفعال فلما بلغ إلى قوله:

وأبوك بدر كان مشترط الخصى                      وأبي الجواد ربيعة بن قـتـال فلما أنشده هذا البيت، قال:

وأبوك بدر كان مشترط الخصى                      وأبي ........................ ثم انقطع عليه كلامه، إما بشرق أو انقطاع نفس، فما علم الناس ما يريد أن يقوله بعد قوله: وأبي. فسبقه الزبرقان قبل أن يتم ويبين، فقال: صدقت، وما في ذاك إن كان شيخانا قد اشتركا في صنعة. فغلبه الزبرقان، وضحكوا من قوله وتفرقوا، وقد انقطع بالمخبل قوله.

أخبرنا اليزيدي، قال: حدثني عمي عن عبيد الله عن ابن حبيب، قال: كان زرارة بن المخبل يليط حوضه، فأتاه رجل من بني علباء بن عوف، فقال له: صارعني، فقال له زرارة، إني عن صراعك لمشغول، فجذب بحجزته وهو غافل فسقط، فصاح به فتيان الحي: صرع زرارة وغلب. فأخذ زرارة حجرا، فأخذ به رأس العلباوي، فسأل المخبل بغيض بن عامر بن شماس أن يتحمل عن ابنه الدية، فتحملها وتخلصه، وكسا المخبل حلة حسنة، وأعطاه ناقة نجيبة، فقال المخبل يمدحه:

 

صفحة : 1474

 

 

لعمر أبيك لا ألقـى ابـن عـم                      على الحدثان خيرا من بغـيض

أقـل مـلامة وأعـز نـصـرا                      إذا ما جئت بالأمر الـمـريض

كساني حلة وحبـا? بـعـنـس                      أبس بها إذا اضطربت غروضي

غداة جنى بني علـى جـرمـا                      وكيف يداي بالحرب العضوض

فقد سد الـسـبـيل أو حـمـيد                      كما سد المخاطبة ابـن بـيض أبو حميد: بغيض بن عامر. وأما قوله: كما سد المخاطبة ابن بيض، فإن ابن بيض: رجل من بقايا قوم عاد، كان تاجرا، وكان لقمان بن عاد يجيز له تجارته في كل سنة بأجر معلوم، فأجازه سنة وسنتين، وعاد التاجر ولقمان غائب، فأتى قومه فنزل فيهم، ولقمان في سفره، ثم حضرت التاجر الوفاة فخاف لقمان على بنيه وماله فقال لهم: إن لقمان صائر إليكم، وإني أخشاه إذا علم بموتي على مالي، فاجعلوا ماله قبلي في ثوبه، وضعوه في طريقه إليكم، فإن أخذه واقتصر عليه فهو حقه، فادفعوه إليه واتقوه، وإن تعداه رجوت أن يكفيكم الله إياه. ومات الرجل، وأتاهم لقمان وقد وضعوا حقه على طريقه، فقال: سد ابن بيض الطريق، فأرسلها مثلا، وانصرف وأخذ حقه. وقد ذكرت ذلك الشعراء، فقال بشامة بن عمرو:

كثوب ابن بيض وقاهم به                      فسد على السالكين السبيلا قال ابن حبيب: ولما حشدت بنو علباء للمطالبة لدم صاحبهم، حشدت بنو قريع مع بغيض لنصر المخبل، ومشت المشيخة في الأمر، وقالوا: هذا قتل خطأ، فلا تواقعوا الفتنة، واقبلوا الدية. فقبلوها وانصرفوا، فقال زرارة بن المخبل يفخر بذلك:

فاز المخالس لما أن جرى طلقا                      أما حطيم بن علباء فقد غلـبـا

إني رميت بجلمود على حـنـق                      مني إليه فكانت رمية غـربـا

ليثا إلي يشق الناس منـفـرجـا                      لحياه عنانة لا يتقي الخـشـبـا

فأورثتني قتيلا إن لـقـيت وإن                      أفلت كانت سماع السوء والحربا ثم أخذ بنو حازم جارا لبني قشير، فأغار عليه المنتشر بن وهب الباهلي، فأخذ إبله، فسأل في بني تميم حتى انتهى إلى المخبل، فلما سأله قال له: إن شئت فاعترض إبلي فخذ خيرها ناقة، وإن شئت سعيت لك في إبلك. فقال: بل إبلي. فقال المخبل:

إن قشيرا من لقاح ابـن حـازم                      كراحضة حيضا وليست بطاهر

فلا يأكلها الباهلي وتـقـعـدوا                      لدى غرض أرميكم بالنواقـر

أغرك أن قالوا لعزة شـاعـر                      فناك أباه من خفير وشـاعـر فلما بلغهم قول المخبل سعوا بإبله، فردها عليهم حزن بن معاوية بن خفاجة بن عقيل، فقال المخبل في ذلك:

تدارك حزن بالقـنـا آل عـامـر                      قفا حضن والكر بالخيل أعـسـر

فإني بذا الجار الخفـاجـي واثـق                      وقلبي من الجار العبـادي أوجـر

إذا مـا عـقـيلـي أقـام بــذمة                      شريكين فيها فالـعـبـادي أوجـر

لعمرك لقد خارت خفاجة عـامـرا                      كما خير بيت بالعراق المـشـقـر

وإنك لو تعطي العبادي مشقـصـا                      لراشي كما راشى على الطبع أبخر راشى من الرشوة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا الرياشي، قال: حدثنا الأصمعي، قال: مر المخبل السعدي بخليدة بنت بدر، أخت الزبرقان بن بدر، بعد ما أسن وضعف بصره، فأنزلته وقربته وأكرمته، ووهبت له وليدة وقالت له إني آثرتك بها يأبا يزيد فاحتفظ بها. فقال: ومن أنت حتى أعرفك وأشكرك? قالت: لا عليك، قال: بلى والله أسألك. قالت: أنا بعض من هتكت بشعرك ظالما، أنا خليدة بنت بدر. فقال: واسوأتاه منك، فإني أستغفر الله عز وجل، وأستقيلك وأعتذر إليك. ثم قال:

لقد ضل حلمي في خليدة إنني                      سأعتب نفسي بعدها وأموت

فأقسم بالرحمن إني ظلمتهـا                      وجرت عليها والهجاء كذوب والقصيدة التي فيها الغناء المذكور بشعر المخبل وأخباره يمدح بها علقمة بن هوذة ويذكر فعله به وما وهبه له من ماله، ويقول:

فجزى الإله سراة قومي نضرة                      وسقاهم بمشـارب الأبـرار

قوم إذا خافوا عثـار أخـيهـم                      لا يسلمون أخاهم لـعـثـار

أمثال علقمة بن هوذة إذ سعى                      يخشى علي متالف الأبصـار

 

صفحة : 1475

 

 

أثنوا علي وأحسنوا وترافدوا                      لي بالمحاض البزل والأبكار

والشول يتبعها بنات لبونـهـا                      شرقا حناجرها من الجرجار أخبرنا أبو زيد، عن عبد الرحمن، عن عمه، وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثني عمي عبيد الله، عن ابن حبيب. وأخبرني عمي، قال: حدثنا الكراني، قال: حدثنا العمري، عن لقيط قالوا: اجتمع الزبرقان بن بدر والمخبل السعدي وعبدة بن الطبيب وعمرو بن الأهتم قبل أن يسلموا، وبعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، فنحروا جزورا، واشتروا خمرا ببعير، وجلسوا يشوون ويأكلون، فقال بعضهم: لو أن قوما طاروا من جودة أشعارهم لطرنا. فتحاكموا إلى أول من يطلع عليهم، فطلع عليهم ربيعة بن حذار الأسدي، وقال اليزيدي: فجاءهم رجل من بني يربوع يسأل عنهم، فدل عليهم وقد نزلوا بطن واد وهم جلوس يشربون، فلما رأوه سرهم، وقالوا له: أخبرنا أينا أشعر? قال: أخاف أن تغضبوا، فآمنوه من ذلك، فقال: أما عمرو فشعره برود يمنية تنشر وتطوى، وأما أنت يا زبرقان فكأنك رجل أتى جزورا قد نحرت، فأخذ من أطايبها وخلطه بغير ذلك.

وقال لقيط في خبره، قال له ربيعة بن حذار: وأما أنت يا زبرقان فشعرك كلحم لم ينضج فيؤكل، ولم يترك نيئا فينتفع به، وأما أنت يا مخبل فشعرك شهب من نار الله يلقيها على من يشاء، وأما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة أحكم فليس يقطر منها شيء.

أخبرنا اليزيدي، عن عمه، عن ابن حبيب، قال: كان رجل من بني امرىء القيس يقال له روق مجاورا في بكر بن وائل باليمامة، فأغاروا على إبله وغدروا به، فأتى المخبل يستمنحه، فقال له: إن شئت فاختر خير ناقة في إبلي فخذها، وإن شئت سعيت لك. فقال: أن تسعى بي أحب إلي. فخرج المخبل فوقف على نادي قومه، ثم قال:

أدوا إلى روح بـن حـس                      ان بن حارثة بن مـنـذر

كومـاء مـدفـاة كـــأ                      ن ضروعها حماء أجفـر

تأبى إلى بـصـص تـس                      ح المحض باللبن الفضنفر فقالوا: نعم ونعمة. فجمعوا له بينهم الناقة والناقتين من رجلين حتى أعطوه بعدة إبله.

وقال ابن حبيب في هذه الرواية: كان رجل من بني ضبة.

 

اسل عن ليلى علاك المشيب                      وتصابي الشيخ شيء عجيب

وإذا كان النسيب بسلـمـى                      لذ في سلمى وطاب النسيب

إنما شبهتـهـا إذ تـراءت                      وعليها من عـيون رقـيب

بطلوع الشمس في يوم دجن                      بكرة أو حان منها غـروب

إنني فاعلم وإن عز أهلـي                      بالسويداء الغـداة غـريب الشعر لغيلان بن سلمة الثقفي، وجدت ذلك في جامع شعره بخط أبي سعيد السكري، والغناء لابن زرزور الطائفي، خفيف ثقيل أول بالوسطى، عن يحيى المكي، وفيه ليونس الكاتب لحن ذكره في كتابه، ولم يجنسه.

 

أخبار غيلان ونسبه

غيلان بن سلمة بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قسي وهو ثقيف. وأمه سبيعة بيت عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، أخت أمية بن شمس بن عبد مناف.

أدرك الإسلام فأسلم بعد فتح الطائف، ولم يهاجر، وأسلم ابنه عامر قبله، وهاجر، ومات بالشام في طاعون عمواس وأبوه حي.

وغيلان شاعر مقل، ليس بمعروف في الفحول.

وبنته بادية بنت غيلان التي قال هيت المخنث لعمر بن أم سلمة أم المؤمنين، أو لأخيه سلمة:  إن فتح الله عليكم الطائف فسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب لك بادية بنت غيلان، فإنها كحلاء، شموع نجلاء، خمصانة هيفاء، إن مشت تثنت، وإن جلست تبنت، وإن تكلمت تغنت، تقبل بأربع وتدبر بثمان، وبين فخذيها كالإناء المكفأ  .

وغيلان فيما يقال أحد من قال من قريش للنبي صلى الله عليه وسلم وآله:  لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين  .

 

 

صفحة : 1476

 

قال ابن الكبي: حدثني أبي، قال: تزوج غيلان بن سلمة خالدة بنت أبي العاص، فولدت له عمارا وعامرا، فهاجر عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغه خبره عمد خازن كان لغيلان إلى مال له فسرقه وأخرجه من حصنه فدفنه، وأخبر غيلان أن ابنه عمارا سرق ماله وهرب به، فأشاع ذلك غيلان وشكاه إلى الناس، وبلغ خبره عمارا فلم يعتذر إلى أبيه، ولم يذكر له براءته مما قيل له، فلما شاع ذلك جاءت أمه لبعض ثقيف إلى غيلان، فقالت له: أي شيء لي عليك إن دللتك على مالك? قال: ما شئت. قالت: تبتاعني وتعتقني? قال: ذلك لك. قالت: فاخرج معي. فخرج معها، فقالت: إني رأيت عبدك فلانا قد احتفر ها هنا ليلة كذا وكذا ودفن شئيا. وإنه لا يزال يعتاده ويراعيه، ويتفقده في اليوم مرات، وما أراه إلا المال. فاحتفر الموضع فإذا هو بماله، فأخذه وابتاع الأمة فأعتقها، وشاع الخبر في الناس حتى بلغ ابنه عمارا، فقال: والله لا يراني غيلان أبدا، ولا ينظر في وجهي. وقال:

حلفت لهم بمـا يقـول مـحـمـد                      وبالله إن الـلـه لـيس بـغـافـل

برئت من المال الـذي يدفـنـونـه                      أبرىء نفسي أن ألـط بـبـاطـل

ولو غير شيخي من معـد يقـولـه                      تيممته بالسـيف غـير مـواكـل

وكيف انطلاقي بالسلاح إلى امرىء                      تبشره بي يبـتـدرن قـوابـلـي فلما أسلم غيلان، خرج عامر وعمار مغاضبين له مع خالد بن الوليد، فتوفي عامر بعمواس، وكان فارس ثقيف يومئذ، وهو صاحب شنوءة يوم تثليث، وهو قتل سيدهم جابر بن سنان أخا دهنة، فقال غيلان يرثي عامرا:

عيني تجود بدمعها الهـتـان                      سحا وتبكي فارس الفرسـان

يا عام من للخيل لما أجحمت                      عن شدة مرهوبة وطـعـان

لو أستطيع جعلت مني عامرا                      بين الضلوع وكل حي فـان

يا عين بكي ذا الحزامة عامرا                      للخيل يوم تواقف وطـعـان

وله بتثليثات شـدة مـعـلـم                      منه وطعنة جابر بن سنـان

فكأنه صافي الحديدة مـخـذم                      مما يحير الفرس للـبـاذان نسخت من كتاب أبي سعيد السكري، قال: كان لغيلان بن سلمة جار من باهلة، وكانت له إبل يرعاها راعيه في الإبل مع إبل غيلان، فتخطى بعضها إلى أرض لأبي عقيل بن مسعود بن عامر بن معتب، فضرب أبو عقيل الراعي واستخف به، فشكا الباهلي ذلك إلى غيلان، فقال لأبي عقيل:

ألا من يرى رأى امرىء ذي قرابة                      أبي صدره بالضغن إلا تطلـعـا

فسلمك أرجو لا العـداوة إنـمـا                      أبوك أبي وإنما صفقـنـا مـعـا

وإن ابن عم المرء مثل سـلاحـه                      يقيه إذا لاقى الكمي المقـنـعـا

فإن يكثر المولى فإنـك حـاسـد                      وإن يفتقر لا يلف عندك مطمعـا

فهذا وعيد وادخـار فـإن تـعـد                      وجدك أعلم ما تسلفت أجـمـعـا ونسخت من كتابه، قال: لما أسن غيلان وكثرت أسفاره ملته زوجته، وتجنت عليه، وأنكر أخلاقها، فقال فيها:

يا رب مثلك في النساء غريرة                      بيضاء قد صبحتها بـطـلاق

لم تدر ما تحت الضلوع وغرها                      مني تحمل عشرتي وخلاقـي ونسخت من كتابه: إن بني عامر بن ربيعة جمعوا جموعا كثيرة من أنفسهم وأحلافهم، ثم ساروا إلى ثقيف بالطائف، وكانت بنو نصر بن معاوية أحلافا لثقيف، فلما بلغ ثقيفا مسير بني عامر استنجدوا بني نصر، فخرجت ثقيف إلى بني عامر وعليهم يومئذ غيلان بن سلمة بن معتب، فلقوهم وقاتلتهم ثقيف قتالا شديدا، فانهزمت بنو عامر بن ربيعة ومن كان معهم، وظهرت عليهم ثقيف، فأكثروا فيهم القتل، فقال غيلان في ذلك، ويذكر تخلف بني نصر عنهم:

ودع بذم إذا ما حان رحـلـتـنـا                      أهل الحظائر من عوف ودهمانا

القائلين وقد حلت بسـاحـتـهـم                      جسر تحسحس عن أولاد هصانا

والقائلين وقد رابت وطـابـهـم                      أسيف عوف ترى أم سيف غيلانا

أغنو الموالي عنـا لا أبـالـكـم                      إنا سنعني صريح القوم من كانـا

لا يمنع الخطر المظلوم قحمتـه                      حتى يرى بالعـين مـن كـانـا

 

صفحة : 1477

 

ونسخت من كتابه، قال: جمعت خثعم جموعا من اليمن، وغزت ثقيفا بالطائف، فخرج إليهم غيلان بن سلمة في ثقيف، فقاتلهم قتالا شديدا، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأسر عدة منهم، ثم من عليهم وقال في ذلك:

ألا يا أخت خثعم خـبـرينـا                      بأي بلاء قوم تفـخـرينـا

جلبنا الخيل من أكنـاف وج                      وليث نحوكم بالـدارعـينـا

رأيناهن معـمـلة رواحـا                      يقيتان الصباح ومعـتـدينـا

فأمست مسي خامسة جميعـا                      تضابع في القياد وقد وجينـا

وقد نظرت طوالعكم إلـينـا                      بأعينهم وحققنا الظـنـونـا

إلى رجراجة في الدار تعشى                      إذا استنت عيون الناظرينـا

تركن نساءكم في الدار نوحا                      يبكون البعولة والـبـنـينـا

جمعتم جمعكم فطلبتمـونـا                      فهل أنبئت حال الطالبـينـا أخبرنا محمد بن خلف وكيع، قال: أخبرني محمد بن سعد الشامي، قال: حدثني أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمرو الثقفي، قال: خرجت مع كيسان بن أبي سليمان أسايره، فأنشدني شعر غيلان بن سلمة، ما أنشدني لغيره، حتى صدرنا عن الأبلة، ثم مر بالطف وهو يريد الطابق، فأنشدني له:

وليلة أرقت صحـابـك بـالـط                      ف وأخرى بجنب ذي حـسـم

فالجسر فالقصران فالنهر المرب                      د بـين الـنـخـيل والأجــم

معانق الواسـط الـمـقـدم أو                      أدنو من الأرض غير مقتـحـم

أستعمل العنس بالقـياد إلـى ال                      آفاق أرجو نوافـل الـطـعـم أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني أحمد بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال: حدثني عمر بن عبد العزيز بن أبي ثابت عن أبيه، قال: لما حضرت غيلان بن سلمة الوفاة، وكان قد أحصن عشرا من نساء العرب في الجاهلية، قال:  يا بني قد أحسنت خدمة أموالكم، وأمجدت أمهاتكم فلن تزالوا بخير ما غذوتم من كريم وغذا منكم، فعليكم ببيوتات العرب، فإنها معارج الكرم، وعليكم بكل رمكاء مكينة ركينة، أو بيضاء رزينة، في خدر بيت يتبع، أوجد يرتجى، وإياكم والقصيرة الرطلة، فإن أبغض الرجال إلي أن يقاتل عن إبلي أو يناضل عن حسبي، القصير الرطل  . ثم أنشأ يقول:

وحرة قوم قد تنوق فعلهـا                      وزينها أقوامها فتـزينـت

رحلت إليها لا ترد وسيلتي                      وحملتها من قومها فتحملت أخبرني عمي قال: حدثنا محمد بن سعد الكراني، قال: كان غيلان بن سلمة الثقفي قد وفد إلى كسرى فقال له ذات يوم: يا غيلان، أي ولدك أحب إليك? قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. قال له: ما غذاؤك? قال: خبز البر. قال: قد عجبت من أن يكون لك هذا العقل وغذاؤك غذاء العرب، إنما البر جعل لك هذا العقل.

قال: الكراني، قال العمري: روى الهيثم بن عدي هذا الخبر أتم من هذه الرواية، ولم أسمعه منه. قال الهيثم: حدثني أبي، قال: خرج أبو سفيان بن حرب في جماعة من قريش وثقيف يريدون العراق بتجارة، فلما ساروا ثلاثا جمعهم أبو سفيان، فقال لهم: إنا من مسيرنا هذا لعلى خطر، ما قدومنا على ملك جبار لم يأذن لنا في القدوم عليه، وليست بلاده لنا بمتجر? ولكن أيكم يذهب بالعير، فأن أصيب فنحن برآء من دمه، وإن غنم فله نصف الربح? فقال غيلان بن سلمة: دعوني إذا فأنا لها. فدخل الوادي، فجعل يطوفه ويضرب فروع الشجر ويقول:

ولو رآني أبو غيلان إذ حسـرت                      عني الأمور إلى أمر له طبـق

لقال رغب ورهب يجمعان معـا                      حب الحياة وهول النفس والشفق

إما بقيت على مجد ومـكـرمة                      أو أسوة لك فيمن يهلك الـورق

 

صفحة : 1478

 

ثم قال: أنا صاحبكم. ثم خرج في العير، وكان أبيض طويلا جعدا ضخما، فلما قدم بلاد كسرى، تخلق ولبس ثوبين أصفرين، وشهر أمره، وجلس بباب كسرى حتى أذن له، فدخل عليه وبينهما شباك من ذهب، فخرج إليه الترجمان، وقال له: يقول لك الملك: من أدخلك بلادي بغير إذني? فقال: قل له: لست من أهل عداوة لك، ولا أتيتك جاسوسا لضد من أضدادك، وإنما جئت بتجارة تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك، وإن لم تردها وأذنت في بيعها لرعيتك بعتها، وإن لم تأذن في ذلك رددتها. قال: فإنه ليتكلم، إذ سمع صوت كسرى فسجد، فقال له الترجمان: يقول لك الملك: لم سجدت? فقال: سمعت صوتا عاليا حيث لا ينبغي لأحد أن يعلو صوته إجلالا للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع الصوت هناك غير الملك فسجدت إعظاما له. قال: فاستحسن كسرى ما فعل، وأمر له بمرفقة توضع تحته، فلما أتي بها رأى عليها صورة الملك، فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى واستحمقه، وقال للترجمان: قل له: إنما بعثنا إليك بهذه لتجلس عليها. قال: قد علمت، ولكني لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك، فلم يكن حق صورته على مثلي أن يجلس عليها، ولكن كان حقها التعظيم، فوضعتها على رأسي، لأنه أشرف أعضائي وأكرمها علي. فاستحسن فعله جدا، ثم قال له: ألك ولد? قال: نعم. قال: فأيهم أحب إليك? قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرا، والغائب حتى يؤوب. فقال كسرى: زه، ما أدخلك علي ودلك على هذا القول والفعل إلا حظك، فهذا فعل الحكماء وكلامهم، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك? قال: خبز البر. قال: هذا العقل من البر، لا من اللبن والتمر. ثم اشترى منه التجارة بأضعاب ثمنها، وكساه وبعث معه من الفرس من بنى له أطما بالطائف، فكان أول أطم بني بها.

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني عمر بن أبي بكر الموصلي عن عبد الله بن مصعب عن أبيه قال: استشهد نافع بن سلمة الثففي مع خالد بن الوليد بدومة الجندل، فجزع عليه غيلان وكثر بكاؤه، وقال يرثيه:

ما بال عيني لا تغمص ساعة                      إلا اعترتني عبرة تغشـانـي

أرعى نجوم الليل عند طلوعها                      وهنا وهن من الغروب دوان

يا نافعا من للفوارس أحجمت                      عن فارس يعلو ذرى الأقران

فلو استطعت جعلت مني نافعا                      بين اللهاة وبين عكد لسانـي قال: وكثر بكاؤه عليه، فعوتب في ذلك، فقال: والله لا تسمح عيني بمائها فأصن به على نافع. فلما تطاول العهد انقطع ذلك من قوله، فقيل له فيه، فقال: بلي نافع، وبلي الجرع، وفني وفنيت الدموع، واللحاق به قريب

ألا عللاني قبل نـوح الـوادب                      وقبل بكاء المعولات القـرائب

وقبل ثوائي في تراب وجنـدل                      وقبل نشوز النفس فوق الترائب

فإن تأتني الدنيا بيومي فـجـاءة                      تجدني وقد قضيت منها مآربي الشعر لحاجز الأزدي، والغناء لنبيه هزج، بالبنصر، عن الهشامي.

 

أخبار حاجز ونسبه

هو حاجز بن عوف بن الحارث بن الأخثم بن عبد الله بن ذهل بن مالك بن سلامان بن مفرج بن مالك بن زهران بن عوف بن ميدعان بن مالك بن نصر بن الأزد. وهو حليف لبني مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي، وفي ذلك يقول:

قومي سلامان إما كـنـت سـائلة                      وفي قريش كريم الحلف والحسب

إني متى أدع مخزوما تري عنقـا                      لا يرعشون لضرب القوم من كثب

يدعى المغيرة في أولى عـديدهـم                      أولاد مرأسة ليسوا مـن الـذنـب وهو شاعر جاهلي مقل، ليس من مشهوري الشعراء، وهو أحد الصعاليك المغيرين على قبائل العرب، وممن كان يعدو على رجليه عدوا يستبق بن الخيل.

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثني العباس بن هشام، عن أبيه، عن عوف بن الحارث الأزدي، أنه قال لابنه حاجز بن عوف: أخبرني يا بني بأشد عدوك. قال: نعم، أفزعتني خثعم فنزوت نزوات، ثم استفزتني الخيل واصطف لي ظبيان، فجعلت أنهنههما بيدي عن الطريق، ومنعاني أن أتجاوزها في العدو لضيق الطريق حتى اتسع واتسعت بنا، فسبقتهما. فقال له: فهل جاراك أحد في العدو? قال: ما رأيت أحدا جاراني إلا أطيلس أغيبر من النقوم، فإنا عدونا معا فلم أقدر على سبقه.

 

 

صفحة : 1479

 

قال: النقوم بطن من الأزد من ولد ناقم، واسمه عامر بن حوالة بن الهنو بن الأزد.

نسخت أخبار حاجز من رواية أبي عمرو الشيباني من كتاب بخط المرهبي الكوكبي، قال: أغار عوف بن الحارث بن الأخثم على بني هلال بن عامر بن صعصعة في يوم داج مظلم، فقال لأصحابه: انزلوا حتى أعتبر لكم. فانطلق حتى أتى صرما من بني هلال، وقد عصب على يد فرسه عصابا ليظلع فيطمعوا فيه، فلما أشرف عليهم استرابوا به، فركبوا في طلبه، وانهزم من بين أيديهم، وطمعوا فيه، فهجم بهم على أصحابه بني سلامان، فأصيب يومئذ بنو هلال، وملأ القوم أيديهم من الغنائم، ففي ذلك يقول حاجز بن عوف:

صباحك واسلمى عنا أمامـا                      تحية وامق وعمي ظلامـا

برهرهة يحار الطرف فيها                      كحقة تاجر شدت ختـامـا

فإن تمس ابنة السهمي منـا                      بعيدا لا تكلمـنـا كـلامـا

فإنك لا محالة أن تـرينـي                      ولو أمست حبالكم رمامـا

بناجية القوائم عـيسـجـور                      تدارك نيها عاما فـعـامـا

سلي عني إذا اغبرت جمادي                      وكان طعام ضيفهم الثمامـا

ألسنا عصمة الأضياف حتى                      يضحى مالهم نفلا تـوامـا

أبى ربع الفـوارس يوم داج                      وعمي مالك وضع السهاما

فلو صاحبتنا لرضيت مـنـا                      إذا لم تغبق المائة الغلامـا يعني بقوله: وضع السهام، أن الحارث بن عبدالله بن بكر بن يشكر بن مبشر بن صقعب بن دهمان بن نصر بن زهران، كان يأخذ من جميع الأزد إذا غنموا الربع، لأن الرياسة في الأزد كانت لقومه، وكان يقال لهم: الغطاريف وهم أسكنوا الأسد بلد السراة، وكانوا يأخذون للمقتول منهم ديتين ويعطون غيرهم دية واحدة إذا وجبت عليهم، فغزتهم بنو فقيم بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، فظفرت بهم، فاستغاثوا ببني سلامان، فأغاثوهم، حتى هزموا بني فقيم وأخذوا منهم الغنائم وسلبوهم، فأراد الحارث أن يأخذ الربع كما كان يفعل، فمنعه مالك بن ذهل بن مالك بن سلامان، وهو عم أبي حاجز، وقال: هيهات، ترك الربع غدوة فأرسلها مثلا، فقال له الحارث: أتراك يا مالك تقدر أن تسود? فقال: هيهات، الأزد أمنع من ذاك. فقال: أعطني ولو جعبا، والجعب: البعر في لغتهم، لئلا تسمع العرب أنك منعتني. فقال مالك: فمن سماعها أفر، ومنعه الربيع، فقال حاجز في ذلك:

ألا زعمت أبناء يشكـر أنـنـا                      بربعهم باءوا هنالك نـاضـل

ستمنعنا منكم ومن سوء صنعكم                      صفائح بيض أخلصتها الصياقل

وأسمر خطي إذا هز عـاسـل                      بأيدي كماة جربتها الـقـبـائل وقال أبو عمرو: جمع حاجز ناسا من فهم وعدران، فدلهم على خثعم، فأصابوا منهم غرة وغنموا ما شاءوا، فبلغ حاجرا أنهم يتوعدونه ويرصدونه، فقال:

إني مـن إرعـادكـم وبـروقـكـم                      وإيعادكم بالقتل صم مـسـامـعـي

وإني دليل غـير مـخـف دلالـتـي                      على ألف بيت جدهم غير خـاشـع

ترى البيض يركضن المجاسد بالضحى                      كذا كل مشبوح الـذراعـين نـازع

علـى أي شـيء لا أبـا لأبـيكــم                      تشيرون نحوي نحوكم بـالأصـابـع وقال أبو عمرو: أغارت خثعم على بني سلامان وفيهم عمرو بن معد يكرب، وقد استنجدت به خثعم على بني سلامان، فالتقوا واقتتلوا، فطعن عمرو بن معد يكرب حاجزا فأنفذ فخذه، فصاح حاجز: يا آل الأزد فندم عمرو وقال: خرجت غازيا وفجعت أهلي. وانصرف، فقال عزيل الخثعمي يذكر طعنة عمرو حاجزا، فقال:

أعجز حاجـز مـنـا وفـيه                      مشلشلة كحـاشـية الإزار

فعز علي ما أعجزت منـي                      وقد أقسمت لا يضربك ضار فأجابه حاجز فقال:

إن تذكروا يوم القـري فـإنـه                      بواء بـأيام كـثـير عـديدهـا

فنحن أبحنا بالشخيصة واهـنـا                      جهارا فجئنا بالنساء نقـودهـا

ويوم كراء قد تدارك ركضـنـا                      بني مالك والخيل صعر خدودها

ويوم الأراكات اللواتي تأخـرت                      سراة بني لهبان يدعة شريدهـا

ونحن صبحنا الحي يوم تنـومة                      بملمومة يهوى الشجاع وئيدهـا

 

صفحة : 1480

 

 

ويوم شروم قد تركنـا عـصـابة                      لدى جانب الطرفاء حمرا جلودها

فما رغمت حلفا لأمر يصيبـهـا                      من الذل إلا نحن رغما نزيدهـا وقال أبو عمرو: بينما حاجز في بعض غزواته إذ أحاطت به خثعم، وكان معه بشير ابن أخيه، فقال له: يا بشير، ما تشير? قال: دعهم حتى يشربوا ويقفلوا ويمضوا ونمضي معهم فيظنونا بعضهم. ففعلا، وكانت في ساق حاجز شامة، فنظرت إليها امرأة من خثعم، فصاحت: يا آل خثعم، هذا حاجز. فطاروا يتبعونه، فقالت لهم عجوز كانت ساحرة: أكفيكم سلاحة أو عدوه. فقالوا: لا نريد أن تكفينا عدوه فإن معنا عوفا وهو يعدو مثله، ولكن اكفينا سلاحه. فسحت لهم سلاحه وتبعه عوف بن الأغر بن همام بن الأسر بن عبد الحارث بن واهب بن مالك بن صعب بن غنم بن الفزع الخثعمي، حتى قاربه، فصاحت به خثعم: يا عوف ارم حاجزا، فلم يقدم عليه، وجبن، فغضبوا وصاحوا: يا حاجز، لك الذمام، فاقتل عوفا فإنه قد فضحنا. فنزع في قوسه ليرميه، فانقطع وتره، لأن المرأة الخثعمية كانت قد سحرت سلاحه، فأخذ قوس بشير ابن أخيه فنزع فيها فانكسرت، وهربا من القوم ففاتاهم ووجد حاجز بعيرا في طريقه فركبه فلم يسر في الطريق الذي يريده ونحا به نحو خثعم، فنزل حاجز عنه، فمر فنجا وقال في ذلك:

فدى لكما رجلي أمي وخالـتـي                      بسعيكما بين الصفـا والأثـائب

أوان سمعت القوم خلفي كأنهـم                      حريق أباء في الرياح الثواقـب

سيوفهم تغشى الجبان ونبـلـهـم                      يضيء لدى الأقوام نار الحباحب

فغير قتالي في المضيق أغاثنـي                      ولكن صريح العدو غير الأكاذب

نجوت نجـاء لا أبـيك تـبـثـه                      وينجو بشير نجو أزعر خاضب

وجدت بعيرا هاملا فركـبـتـه                      فكادت تكون شر ركبة راكـب وقال أبو عمرو: اجتاز قوم حجاج من الأزد ببني هلال بن عامر بن صعصعة، فعرفهم ضمرة بن ماعز سيد بني هلال، فقتلهم هو وقومه، وبلغ ذلك حاجزا، فجمع جمعا من قومه وأغار على بني هلال فقتل فيهم وسبى منهم، وقال في ذلك يخاطب ضمرة بن ماعز:

يا ضمر هل نلناكم بـدمـائنـا                      أم هل حذونا نعلكم بـمـثـال

نبكي لقتلى من فقيم قـتـلـوا                      فاليوم تبكي صادقـا لـهـلال

ولقد شفاني أن رأيت نساءكـم                      يبكين مردفة على الأكـفـال

يا ضمر إن الحرب أضحت بيننا                      لقحت على الدكاء بعد حـيال قال أبو عمرو: خرج حاجز في بعض أسفاره فلم يعد، ولا عرف له خبر، فكانوا يرون أنه مات عطشا أو ضل، فقال أخته ترثيه:

أحي حاجز أم لـيس حـيا                      فيسلك بين جندف والبهـيم

ويشرب شربة من ماء ترج                      فيصدر مشية السبع الكليم أخبرني هاشم بن محمد، قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة، قال: كان حاجز الأزدي مع غاراته كثير الفرار، لقي عامرا فهرب منهم فنجا، وقال:

ألا هل أتى ذات الـقـلائد فـرتـي                      عشية بين الجرف والبحر من بعـر

عشية كادت عامر يقـتـلـونـنـي                      لدى طرف السلماء راغية البـكـر

فما الظبي أخطت خلفة الصقر رجله                      وقد كاد يلقى الموت في خلفة الصقر

بمثلي غداة الـقـوم بـين مـقـنـع                      وآخر كالسكران مرتـكـز يفـري وفر من خثعم وتبعه المرقع الخثعمي ثم الأكلبي، ففاته حاجز، وقال في ذلك:

وكأنما تبع الفـوارس أرنـبـا                      أو ظبي رابية خفافا أشعـبـا

وكأنما طردوا بذي نمـراتـه                      صدعا من الأروى أحس مكلبا

أعجزت منهم والأكف تنالنـي                      ومضت حياضهم وآبوا خيبـا

أدعو شنوءة غثها وسمينـهـا                      ودعا المرقع يوم ذلك أكلبـا وقال يخاطب عوض أمسى:

أبلغ أميمة عوض أمسى بزنا                      سلبا وما إن سرها ننـكـبـا

لولا تقارب رأفة وعيونـهـا                      حمشا مصعدا ومـصـوبـا

يا دار من ماوي بالسـهـب                      بنيت على خطب من الخطب

إذ لا تـرى إلا مـقـاتــلة                      وعجانسا يرقلن بالـركـب

ومدججا يسعى بـشـكـتـه                      محمرة عيناه كـالـكـلـب

 

صفحة : 1481

 

 

ومعاشرا صدأ الحديد بهـم                      عبق الهناء مخاطم الجرب الشعر للحارث بن الطفيل الدوسي، والغناء لمعبد، رمل بالبنصر، من رواية يحيى المكي، وفيه لابن سريج خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق، والله أعلم.

 

أخبار الحارث بن الطفيل ونسبه

هو الحارث بن الطفيل بن عمرو بن عبد الله بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عبد الله بن عدثان بن عبيد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، شاعر فارس، من مخضرمي شعراء الجاهلية والإسلام، وأبوه الطفيل بن عمرو شاعر أيضا، وهو أول من وفد من دوس على النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم وعاد إلى قومه، فدعاهم إلى الإسلام.

أخبرني عمي قال: حدثنا الحزنبل بن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه، واللفظ في الخبر له، والله أعلم.

وأخبرني به محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه: إن الطفيل بن عمرو بن عبد الله بن مالك الدوسي خرج حتى أتى مكة حاجا، وقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة، وكان رجلا يعصو - والعاصي البصير بالجراح، ولذلك يقال لولده: بنو العاصي - فأرسلته قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: انظر لنا ما هذا الرجل، وما عنده? فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فعرض عليه الإسلام، فقال له: إني رجل شاعر، فاسمع ما أقول: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هات. فقال:

لا وإله الناس نـألـم حـربـهـم                      ولو حاربتنا منهب وبنـو فـهـم

ولما يكن يوم تـزول نـجـومـه                      تطير به الركبان ذو نبأ ضـخـم

أسلما على خسف ولست بخـالـد                      وما لي من واق إذا جاءني حتمي

فلا سلم حتى تحفز الناس خـيفة                      ويصبح طير كانسات على لحـم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أقول فاستمع، ثم قال:  أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، قل هو الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد  . ثم قرأ:  قل أعوذ برب الفلق  . ودعاه إلى الإسلام فأسلم، وعاد إلى قومه، فأتاهم في ليلة مطيرة ظلماء، حتى نزل بروق، وهي قرية عظيمة لدوس فيها منبر، فلم يبصر أين يسلك، فأضاء له نور في طرف سوطه، فبهر الناس ذلك النور، وقالوا: نار أحدثت على القدوم ثم على بروق، لا تطفأ. فعلقوا يأخذون بسوطه فيخرج النور من بين أصابعهم، فدعا أبويه إلى الإسلام فأسلم أبوه ولم تسلم أمه، ودعا قومه فلم يجبه إلا أبو هريرة، وكان هو وأهله في جبل يقال له ذو رمع، فلقيه بطريق يزحزح، وبلغنا أنه كان يزخف في العقبة من الظلمة ويقول:

يا طولها من ليلة وعنـاءهـا                      على أنها من بلدة الكفر نجت ثم أتى الطفيل بن عمرو النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو هريرة، فقال له: ما وراءك? فقال: بلاد حصينة وكفر شديد. فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال:  اللهم اهد دوسا  ثلاث مرات. قال أبو هريرة: فلما صلى النبي صلى الله عليه وسلم خفت أن يدعو على قومي فيهلكوا، فصحت: واقوماه فلما دعا لهم سري عني، ولم يحب الطفيل أن يدعو لهم لخلافهم عليه، فقال له: لم أحب هذا منك يا رسول الله. فقال له: إن فيهم مثلك كثيرا. وكان جندب بن عمرو بن حممة بن عوف بن غوية بن سعد بن الحارث بن ذبيان بن عوف بن منهب بن دوس يقول في الجاهلية: إن للخلق خالقا لا أعلم ما هو. فخرج حينئذ في خمسة وسبعين رجلا حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأسلموا. قال أبو هريرة: ما زلت ألوي الآجرة بيدي، ثم لويت على وسطي حتى كأني بجاد أسود، وكان جندب يقربهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا رجلا، فيسلمون.

وهذه الأبيات التي فيها الغناء من قصيدة للحارث بن الطفيل، قالها في حرب كانت بين دوس وبين بني الحارث بن عبد الله بن عامر بن الحرث بن يشكر بن مبشر بن صعب بن دهمان بن نصر بن زهران.

 

 

صفحة : 1482

 

وكان سبب ذلك فيما ذكر عن أبي عمرو الشيباني أن ضماد بن مسرح بن النعمان بن الجبار بن سعد بن الحارث بن عبد الله بن عامر بن الحارث بن يشكر، سيد آل الحارث، كان يقول لقومه: أحذركم جرائر أحمقين من آل الحارث يبطلان رياستكم. وكان ضماد يتعيف، وكان آل الحارث يسودون العشيرة كلها، فكانت دوس أتباعا لهم، وكان القتيل من آل الحارث تؤخذ له ديتان، ويعطون إذا لزمهم عقل قتيل من دوس دية واحدة، فقال غلامان من بني الحارث يوما: ائتوا شيخ بني دوس وزعيمهم الذي ينتهون إلى أمره فلنقتله. فأتياه. فقالا: يا عم، إن لنا أمرا نريد أن تحكم بيننا فيه. فأخرجاه من منزله، فلما تنحيا به قال له أحدهما: يا عم، إن رجلي قد دخلت فيها شوكة، فأخرجها لي. فنكس الشيخ رأسه لينتزعها وضربه الآخر فقتله، فعمدت دوس إلى سيد بني الحارث، وكان نازلا بقنونى فأقاموا له في غيضة في الوادي، وسرحت إبله فأخذوا منها ناقة فأدخلوها الغيضة وعقلوها، فجعلت الناقة ترغو وتحن إلى الإبل، فنزل الشيخ إلى الغيضة ليعرف شأن الناقة، فوثبوا عليه فقتلوه، ثم أتوا أهله، وعرفت بنو الحارث الخبر، فجمعوا لدوس وغزوهم فنذروا بهم فقاتلوهم فتناصفوا، وظفرت بنو الحارث بغلمة من دوس فقتلوهم، ثم إن دوسا اجتمع منهم تسعة وسبعون رجلا، فقالوا: من يكلمنا، من يمانينا حتى نغزو أهل ضماد? فكان ضماد قد أتى عكاظ، فأرادوا أن يخالفوه إلى أهله، فمروا برجل من دوس وهو يتغنى:

فإن السـلـم زائدة نـواهـا                      وإن نوى المحارب لا تروب فقالوا: هذا لا يتبعكم، ولا ينفعكم أن تبعكم، أما تسمعون غناءه في السلم. فأتوا حممة بن عمرو، فقالوا: أرسل إلينا بعض ولدك. فقال: وأنا إن شئتم. وهو عاصب حاجبيه من الكبر، فأخرج معهم ولده جميعا، وخرج معهم وقال لهم: تفرقوا فرقتين، فإذا عرف بعضكم وجوه بعض فأغيروا، وإياكم والغارة حتى تتفارقوا لا يقتل بعضكم بعضا. ففعلوا، فلم يلتفتوا حتى قتلوا ذلك الحي من آل الحارث، وقتلوا إبنا لضماد، فلما قدم قطع أذني ناقته وذنبها، وصرخ في آل الحارث، فلم يزل يجمعهم سبع سنين ودوس تجتمع بازائه، وهم مع ذلك يتغاورون ويتطرف بعضهم بعضا، وكان ضماد قد قال لابن أخ له يكنى أبا سفيان لما أراد أن يأتي عكاظ: إن كنت تحرز أهلي، وإلا أقمت عليهم. فقال له: أنا حأحرزهم من مائة، فإن زادوا فلا. وكانت تحت ضماد امرأة من دوس، وهي أخت مربان بن سعد الدوسي الشاعر، فلما أغارت دوس على بني الحارث قصدها أخوها، فلاذت به، وضمت فخذها على ابنها من ضماد، وقالت: يا أخي اصرف عني القوم، فإني حائض لا يكشفوني. فنكزسية القوس في درعها، وقال: لست بحائض، ولكن في درعك سخلة بكذا من آل الحارث، ثم أخرج الصبي فقتله، وقال في ذلك:

ألا هل أتى أم الحصين ولو نأت                      خلافتنا في أهله ابن مسـرح

ونضرة تدعو بالفناء وطلقـهـا                      ترائبه ينفحن من كل منـفـح

وفر أبو سفيان لما بـدا لـنـا                      فرار جبان لأمه الذل مقـرح قال: فلم يزالوا يتغاورون حتى كان يوم حضرة الوادي، فتحاشد الحيان، ثم أتتهم بنو الحارث ونزلوا لقتالهم، ووقف ضماد بن مسرح في رأس الجبل، وأتتهم دوس. وأنزل خالد بن ذي السبلة بناته هندا وجندلة وفطيمة ونضرة، فبنين بيتا، وجعلن يستقين الماء، ويحضضن. وكان الرجل إذا رجع فارا أعطينه مكحلة ومجمرا، وقلن: معنا فانزل - إي أنك من النساء - وجعلت هند بنت خالد تحرضهم وترتجز وتقول:

من رجل ينازل الكتيبة                      فذلكم تزني به الحبيبه فلما التقوا رمى رجل من دوس رجلا من آل الحارث، فقال: خذها وأنا أبو الزبن، فقال ضماد وهو في رأس الجبل وبنو الحارث بحضرة الوادي: يا قوم زبنتم فارجعوا. ثم رجل آخر من دوس، فقال: خذها وأنا أبو ذكر. فقال ضماد: ذهب القوم بذكرها، فاقبلوا رأيي وانصرفوا. فقال: قد جبنت يا ضماد. ثم التقوا، فأبيدت بنو الحارث. هذه رواية أبي عمرو.

 

 

صفحة : 1483

 

وأما الكلبي فإنه قال: كان عامر بن بكر بن يشكر يقال له الغطريف ويقال لبنيه الغطاريف، وكان لهم ديتان، ولسائر قومه دية، وكانت لهم على دوس إتاوة يأخذونها كل سنة، حتى إن كان الرجل منهم ليأتي بيت الدوسي فيضع سهمه أو نعله على الباب، ثم يدخل، فيجيء الدوسي، فإذا أبصر ذلك انصرف ورجع عن بيته، حتى أدرك عمرو بن حممة بن عمرو فقال لأبيه: ما هذا التطول الذي يتطول به إخواننا علينا? فقال: يا بني، إن هذا شيء قد مضى عليه أوائلنا، فأعرض عن ذكره. فأعرض عن هذا الأمر، وإن رجلا من دوس عرس بابنة عم له، فدخل عليها رجل من بني عامر بن يشكر، فجاء زوجها فدخل على اليشكري، ثم أتى عمرو بن حممة فأخبره بذلك، فجمع دوسا وقام فيهم، فحرضهم وقال: إلى كم تصبرون لهذا الذل، هذه بنو الحارث، تأتيكم الآن تقاتلكم، فاصبروا تعيشوا كراما أو تموتوا كراما. فاستجابوا له، وأقبلت إليهم بنو الحارث فتنازلوا، واقتتلوا، فظفرت بهم دوس، وقتلتهم كيف شاءت، فقال رجل من دوس يومئذ:

قد علمت صفراء حرشاء الذيل                      شرابة المحض تروك للقـيل

ترخى فروعا مثل أذناب الخيل                      أن بروقا دونـهـا كـالـويل

ودونها خرط القتاد بالـلـيل وقال الحارث بن الطفيل بن عمرو الدوسي في هذا اليوم، عن أبي عمرو:

يا دار من ماوي بالـسـهـب                      بنيت على خطب من الخطب

إذ لا تـرى إلا مـقـاتــلة                      وعجانسا يرقلن بـالـركـب

ومدججا يسعـى بـشـكـتـه                      محمرة عيناه كـالـكـلـب

ومعاشرا صدأ الحـديد بـهـم                      عبق الهناء مخاطم الجـرب

لما سمعت نزال قـد دعـيت                      أيقنت أنهـم بـنـو كـعـب

كعب بن عمر لا لكعب بني ال                      عنقاء والتبيان في النـسـب

فرميت كبش القوم معتـمـدا                      فمضى وراشوه بذي كعـب

شكو بحقويه القـداح كـمـا                      ناط المعرض أقدح القضـب

فكأن مهري ظل منغـمـسـا                      بشبا الأسنة مغـرة الـجـأب

يا رب موضوع رفعت ومـر                      فوع وضعت بمنزل اللصـب

وحليل غانية هتكت قرارهـا                      تحت الوغى بشديدة العضـب

كانت على حب الحياة فـقـد                      أحللتها في مـنـزل غـرب

جانيك من يجني علـيك وقـد                      تعدى الصحاح مبارك الجرب هذا البيت في الغناء في لحن ابن سريج، وليس هو في هذه القصيدة، ولا وجد في الرواية، وإنما ألحقناه بالقصيدة لأنه في الغناء كما تضيف المغنون شعرا إلى شعر، وإن لم يكن قائلهما واحدا إذا اختلف الروي والقافية.

 

صرفت هواك فانصرفا                      ولم تدع الذي سلـفـا

وبنت فلم أمت كلـفـا                      عليك ولم تمت أسفـا

كلانا واجد في الـنـا                      س ممن مله خلـفـا الشعر لعبد الصمد بن المعذل، والغناء للقاسم بن زرزور، رمل بالوسطى، وفيه لعمر الميداني هزج.

 

أخبار عبد الصمد بن المعذل ونسبه

عبد الصمد بن المعذل بن غيلان بن الحكم بن البختري بن المختار بن ذريح بن أوس بن همام بن ربيعة بن بشير بن حمران بن حدرجان بن عساس بن ليث بن حداد بن ظالم بن ذهل بن عجل بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبدالقيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار. وقيل: ربيعة بن ليث بن حمران.

وجدت في كتاب بخط أحمد بن كامل: حدثني غيلان بن المعذل أخو عبد الصمد، قال: كان أبي يقول: أفصى أبو عبد القيس هو أفصى بن جديلة بن أسد، وأفصى جد بكر بن وائل هو أفصى بن دعمي. والنسابون يغلطون في قولهم عبد القيس بن أفصى بن دعمي. ويكنى عبد الصمد أبا القاسم، وأمه أم ولد يقال لها: الزرقاء. شاعر فصيح من شعراء الدولة العباسية، بصري المولد والمنشأ. وكان هجاء خبيث اللسان، شديد العارضة، وكان أخوه أحمد أيضا شاعرا، إلا أنه كان عفيفا، ذا مروءة ودين وتقدم في المعنزلة، وله جاه واسع في بلده وعند سلطانه، لا يقاربه عبد الصمد فيه، فكان يحسده ويهجوه فيحلم عنه، وعبد الصمد أشعرهما، وكان أبو عبد الصمد المعذل وجده غيلان شاعرين، وقد روى عنهما شيء من الأخبار واللغة والحديث ليس بكثير، والمعذل بن غيلان هو الذي يقول:

 

صفحة : 1484

 

 

إلى الله أشكو لا إلى الناس أننـي                      أرى صالح الأعمال لا أستطيعها

أرى خلة فـي إخـوة وأقـارب                      وذي رحم ما كان مثلي يضيعها

فلو ساعدتني في المكارم قـدرة                      لفاض عليهم بالنوال ربيعـهـا أنشدنا ذلك له علي بن سليمان الأخفش، عن المبرد وأنشدناه محمد بن خلف بن المرزبان عن الربعي أيضا. قالا: وهو القائل:

ولست بميال إلى جانب الغـنـى                      إذا كانت العلياء في جانب الفقر

وإني لصبار على ما ينوبـنـي                      وحسبك أن الله أثنى على الصبر أخبرني محمد بن خلف، قال: حدثنا النخعي وإسحاق، قال: هجا أبان اللاحقي المعذل بن غيلان فقال:

كنت أمشي مع المعـذل يومـا                      ففسا فسـوة فـكـدت أطـير

فتلفت هـل أرى ظـربـانـا                      من ورائي والأرض بي تستدير

فإذا لــيس غـــيره وإذا إع                      صار ذاك الفساء منـه يفـور

فتعجبت ثـم قـلـت لـقـد أع                      رف هذا فيما أرى خـنـزير فأجابه المعذل فقال:

صحفت أمك إذ سم                      تك بالمهد أبـانـا

قد علمنا مـا أرادت                      لم ترد إلا أتـانـا

صيرت باء مكان ال                      تاء واللـه عـيانـا

قطع الله وشـيكـا                      من مسميك اللسانا أخبرني عمي قال: حدثنا المبرد قال: مر المعذل بن غيلان بعبد الله بن سوار العنبري القاضي، فاستنزله عبد الله، وكان من عادة المعذل أن ينزل عنده، فأبى، وأنشده:

أمن حق المودة أن نقضي                      ذمامكم ولا تقضوا ذمامـا

وقد قال الأديب مقال صدق                      رآه الآخرون لهم إمامـا

إذا أكرمتكم وأهنتمـونـي                      ولم أغضب لذلكم فذامـا قال: وانصرف، فبكر إليه عبد الله بن سوار، فقال له: رأيتك أبا عمرو مغضبا. فقال: أجل ماتت بنت أختي ولم تأتني. قال: ما علمت ذلك. قال: ذنبك أشد من عذرك، وما لي أنا أعرف خبر حقوقك، وأنت لا تعرف خبر حقوقي? فما زال عبد الله يعتذر إليه حتى رضي عنه.

حدثني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا ابن مهرويه عن الحمدوني، قال: كان شروين حسن الغناء والضرب، وكان من أراد أن يغنيه حتى يخرج من جلده جاء بجويرية سوداء فأمرها أن تطالعه، وتلوح له بخرقة حمراء، ليظنها امرأة تطالعه، فكان حينئذ يغني أحسن ما يقدر عليه تصنعا لذلك، فغضب عليه عبد الصمد في بعض الأمور، فقال يهجوه:

من حل شروين له منزلا                      فلتنهه الأولى عن الثانيه

فليس يدعوه إلى بـيتـه                      إلا فتى في بيته زانـيه أخبرني الحسن، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني أبو عمرو البصري، قال: قال عبد الصمد بن المعذل في رجل زان من أهل البصرة كانت له امرأة تزني، فقال:

إن كنت قد صفرت أذن الفتى                      فطالـمـا صـفـر آذانـا

لا تعجبي إن كنت كشخنتـه                      فإنما كشخنت كـشـخـانـا أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب، قال: حدثنا سوار بن أبي شراعة، قال: كان بالبصرة رجل يعرف بابن الجوهري، وكانت له جارية مغنية حسنة الغناء، وكان ابن الجوهري شيخا هما قبيح الوجه، فتعشقت فتى كاتبا كان يعاشره ويدعوه، وكان الفتى نظيفا ظريفا، فاجتمعت معه مرارا في منزله، وكان عبد الصمد يعاشره، فكان الفتى يكاتمه أمره، ويحلف له أنه لا يهواها، فدخلت عليهما ذات يوم بغتة، فبقي الفتى باهتا لا يتكلم، وتغر لونه وتخلج في كلامه، فقال عبد الصمد:

لسان الهوى ينطق                      ومشهده يصـدق

لقد نم هذا الهوى                      عليك وما يشفق

إذا لم تكن عاشقا                      فقلبك لم يخفـق

وما لك إما بـدت                      تحار فلا تنطـق

أشمس تجلت لنـا                      أم القمر المشرق الغناء في هذه الأبيات لرذاذ، ويقال للقاسم بن زرزور، رمل مطلق.

قال: ثم طال الأمر بنيهما، فهربت إليه جملة، فقال عبد الصمد في ذلك:

إلى امرىء حازم ركبـت                      أي امرىء عاجز تركت

فتنة ابن الجوهري لـقـد                      أظهرت نصحا وقد أفكت

 

صفحة : 1485

 

 

أكذبتها عـزمة ظـهـرت                      لا تبالي نفس من سفكـت

ظفرت فيها بـمـا هـويت                      ونجت من قرب من فركت

ثم خدود بعدها لـطـمـت                      وجيوب بعدها هـتـكـت

وعيون لا يرقـأن عـلـى                      حسن وجه فاتهن بـكـت

خرجت والليل معـتـكـر                      لم يهلهـا أية سـلـكـت

وعيون الناس قد هجـعـت                      ودجى الظلماء قد حلكـت

لم تخف وجدا بعاشـقـهـا                      حرمة الشهر الذي انتهـت

ورأت لما سقـت كـمـدا                      أنها في دينها نـسـكـت

ملئت كف بهـا ظـفـرت                      دون هذا الخلق ما ملكـت

إي ملك إذا خلا وخـلـت                      فشكا أشجانـه وشـكـت

تجتلي من وجهـه ذهـبـا                      وهي يجلو فضة فتـكـت

هكذا فعـل الـفـتـاة إذا                      هي في عشاقها محـكـت أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني بعض أصحابنا قال: نظر عبد الصمد بن المعذل إلى جار له يخطر في مشيته خطرة منكرة، وكان فقيرا رث لحال، فقال فيه:

يتمشى في ثوب عصب من العز                      ى على عظم ساقه مـسـدول

دب في رأسه خمار من الجـو                      ع سرى خمرة الرحيق الشمول

فبكى شجوه وحـن إلـى الـخ                      بز ونـادى بـزفـرة وعـويل

من لقلب مـتـيم بـرغـيفـي                      ن ونفس تاقت إلى طفـشـيل

ليس تسمو إلى الولائم نفـسـي                      جل قدر الأعراس عن تأميلـي

هات لونا وقل لتلـك تـغـنـي                      لست أبكي لدارسات الطلـول أخبرنا سوار بن أبي شراعة، قال: كان بالبصرة طفيلي يكنى أبا سلمة، وكان إذا بلغه خبر وليمة لبس لبس القضاة، وأخذ ابنيه معه وعليهما القلانس الطوال، والطيالسة الرقاق، فيقدم ابنيه، فيدق الباب أحدهما ويقول: افتح يا غلام لأبي سلمة. ثم لا يلبث البواب حتى يتقدم لآخر، فيقول: افح ويلك فقد جاء أبو سلمة. ويتلوهم، فيدقون جميعا الباب، ويقولون: بادر ويلك، فإن أبا سلمى واقف. فإن لم يكن عرفهم فتح لهم، وهاب منظرهم، وإن كانت معرفته إياهم قد سبقت لم يلتف إليهم، ومع كل واحد منهم فهر مدور يسمونه كيسان، فينتظرون حتى يجيء بعض من دعي، فيفتح له الباب، فإذا فتح طرحوا الفهر في العتبة حيث يدور الباب، فلا يقدر البواب على غلقه، ويهجمون عليه فيدخلون. فأكل أبو سلمة يوما على بعض الموائد لقمة حارة من فالوذج، وبلعها لشدة حرارتها، فجمعت أحشاؤه فمات على المائدة، فقال عبد الصمد بن المعذل يرثيه:

أحزان نفسي عليها غير منصـرمة                      وأدمعي من جفوني الدهر منسجمه

على صديق ومولى لي فجعت بـه                      ما إن له في جميع الصالحين لمه

كم جفنة مثل جوف الحوض مترعة                      كوماء جاء بها طباخـهـا رذمـه

قد كللتها شحوم مـن قـلـيتـهـا                      ومن سنام جزور عبطة سنـمـه

غيبت عنها فلم تعرف له خـبـرا                      لهفي عليك وويلي يا أبا سلـمـه

ولو تكون لها حيا لـمـا بـعـدت                      يوما عليك ولو في جاحم حطمـه

قد كنت أعلم أن الأكـل يقـتـلـه                      لكنني كنت أخشى ذاك من تخمـه

إذا تعمم في شـبـلـيه ثـم غـدا                      فإن حوزة من يأتيه مصطلـمـه أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان ، قال: حدثني أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه، قال: كان عبد الصمد بن المعذل يتعشق فتى من المغنين، يقال له: أحمد، فغاضبه الفتى وهجره، فكتب إليه:

سل جزعي مذ صددت عن حالي                      هل خطر الصبر على بـالـي

لا غير الله سوء فعـلـك بـي                      إن كنت أعتبت فيك عـذالـي

ولا ذممت البكا لي عـلـيك ولا                      حمدت حسن السلو مـن سـال

لو كنت أبغي سواك ما جهلـت                      نفسي أن الصدود أعفـى لـي لجحظة في هذه الأبيات رمل مطلق.

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني علي بن محمد النوفلي، فقال: هجا عبد الصمد بن المعذل قينة بالبصرة قال فيها:

 

صفحة : 1486

 

 

تفتر عن مضحك السدري إن ضحكت                      كرف الأتـان رأت إدلاء أعــيار

يفوح ريح كنـيف مـن تـرائبـهـا                      سوداء حالكة دهـمـاء كـالـقـار قال: فكسدت والله تلك القينة بالبصرة، فلم تدع ولم تستتبع حتى أخرجت عنها.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا المبرد، قال: كتب عبد الصمد بن المعذل إلى بعض الأمراء رقعة فلم يجبه عنها، لشيء كان بلغه عنه، فكتب إليه:

قد كتبتت الكتاب ثم مضى اليو                      م ولم أدر ما جواب الكتـاب

ليت شعري عن الأمير لمـاذا                      لا يراني أهلا لرد الجـواب

لا تدعني وأنت رفعت حالـي                      ذا انخفاض بهجرتي واجتنابي

إن أكن مذنبا فعندي رجـوع                      وبلاء بالعـذر والإعـتـاب

وأنا الصادق الوفاء وذو العـه                      د الوثيق المؤكد الأسـبـاب أخبرني الحرمي بن علي، قال: حدثني أبو الشبل، قال: كان بالبصرة رجل من ولد المهلب بن أبي صفرة، يقال له: صبيانه، وكان له بستان سري في منزله، فكان يدعو الفتيات إليه، فلا يعطيهن شيئا من الدراهم، ويقصر بهن على ما يحملنه من البستان معهن، مثل الرطب والبقول والرياحين، فقال فيه عبد الصمد قوله:

قوم زناة مالـهـم دراهـم                      جذرهم النمام والحمـاحـم

أنذل من تجمعه المـواسـم                      خسوا وخست منهم المطاعم

فعدلهم إن قسته المظالـم أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني سوار بن أبي شراعة، وأخبرنا به سوار أجازة، قال: حدثني أبي، قال: لما هجا الجماز عبد الصمد بن المعذل جاءني فقال لي: أنقذني منه. فقلت له: أمثلك يفرق من الجماز? فقال: نعم، لأنه لا يبالي بالهجاء ولا يفرق منه، ولا عرض له، وشعره ينفق على من لا يدري. فلم أزل حتى أصلحت بينهما بعد أن سار قوله فيه:

ابن المعذل من هو                      ومن أبوه المعذل

سألت وهبان عنه                      فقال بيض محول قال: وكان وهبان هذا رجلا يبيع الحمام، فجمع جماعة من أصحابه وجيرانه، وجعل يغشى المجالس، ويحلف أنه ما قال: إن عبد الصمد بيض محول، ويسألهم أن يعتذروا إليه، فكان هذا منه قد صار بالبصرة طرفة ونادرة، فجاءني عبد الصمد يستغيث منه، ويقول لي: ألم أقل لك إن آفتي منه عظيمة، والله لدوران وهبان على الناس يحلف لهم: إنه ما قال: إني بيض محول، أشد علي من هجائه لي. فبعثت إلى وهبان فأحضرته، وقلت له: يا هذا، قد علمنا ان الجماز قد كذل عليك، وعذرناك فنحب أن لا نتكلف العذر إلى الناس في أمرنا، فإنا قد عذرناك. فانصرف وقد لقي عبد الصمد بلاء.

أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي صهر المبرد، قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: قال لي أبو شراعة القيسي: بلغ أبا جعفر مضرطان أن عبد الصمد بن المعذل هجاه، واجتمعتا عند أبي وائلة السدوسي، فقال له مضرطان: بلغني أني هجوتني. فقال له عبد الصمد: من أنت حتى أهجوك? قال: هذا شر من الهجاء. فوثب إلى عبد الصمد يضربه، فقال الحمدوي، وهو إسماعيل بن إبراهيم بن حمدويه جده، وهو الذي كان يقتل الزنادقة:

ألذ من صحبة الـقـنـانـي                      أو اقتـراح عـلـى قـيان

لكز فتى من بنـي لـكـيز                      يهدى له أهـون الـهـوان

أهـوى لـه بـازل خـدب                      يطحن قرنيه بـالـجـران

فنـال مـنـه ثـؤور قـوم                      باليد طورا وبـالـلـسـان

وكان يفسو فصـار حـقـا                      يضرط من خوف مضرطان قال: وبلغ عبد الصمد شعر الحمدوي، فقال: أنا له. ففزع الحمدوي منه، فقال:

ترح طعنـت بـه وهـم وارد                      إذ قيل إن ابن المعـذل واجـد

هيهات أن أجد السبيل إلى الكرى                      وابن المعذل من مزاحي حارد  فرضي عنه عبد الصمد

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال: حدثنا العنزي، قال: حدثني إبراهيم بن عقبة اليشكري، قال: قال عبد الصمد بن المعذل، هجاني الجماز ببيتين سخيفين فسارا في أفواه الناس، حتى لم يبق خاص ولا عام إلا رواهما، وهما:

ابن المعذل من هو                      ومن أبوه المعذل

سألت وهبان عنه                      فقال بيض محول

 

صفحة : 1487

 

فقلت أنا فيه شعرا تركته يتحاجى فيه كل أحد، فما رواه أحد ولا فكر فيه، وذلك لضعته، وهو قولي:

نسب الجماز مقصـو                      ر إليه مـنـتـهـاه

يتراءى نسب الـنـا                      س فما يخفى سـواه

يتحاجى في أبي الـج                      ماز من هو كاتبـاه

ليس يدري من أبو الج                      ماز إلا مــن يراه أخبرني الأخفش، قال: كان لعبد الصمد بستان نظيف عامر، فأنشدنا لنفسه فيه:

إذا لم يزرنـي نـدمـانـيه                      خلوت فنادمت بستـانـيه

فنادمته خضرا مـؤنـقـا                      يهيج لي ذكر أشجـانـيه

يقرب مفرحة المسـتـلـذ                      ويبعد همـي وأحـزانـيه

أرى فيه مثل مداري الظباء                      تظل لأطلائهـا حـانـيه

ونور أقاح شتيت النـبـات                      كما ابتسمت عجباص غانيه

ونرجسه مثل عين الفـتـاة                      إلى وجه عاشقهـا رانـيه أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب، قال: كان يزيد بن عبد الملك المسمعي يهوى جارية من جواري القيان، يقال لها: عليم، وكان يعاشر عبد الصمد، ويزيد يومئذ شاب حديث السن، وكان عبد الصمد يسميه ابني، ويسمي الجارية ابنتي، فباع الفتى بستانا له في معقل، وضيعة بالقندل، فاشترى الجارية بثمنها، فقال عبد الصمد:

بنيتي أصبحـت عـروسـا                      تهدى من ابني إلى عروس

زفت إليه لـخـير وقـت                      فاجتمعا ليلة الـخـمـيس

يا معشر العاشقـين أنـتـم                      بالمنزل الأرذل الخسـيس

يزيد أضحى لكـم رئيسـا                      فاتبعوا منـهـج الـرئيس

من رام بـلا لــرأس أير                      ذلل نفسا بـحـل كـيس أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي، قال: بلغ عبد الصمد بن المعذل أن أبا قلابة الجرمي تدسس إلى الجماز لما بلغه تعرضه له، وهجاؤه إياه، فحمله على الزيادة في ذلك، ويضمن له أن ينصره ويعاضده، وقد كان عبد الصمد هجا أبا قلابة حتى أفحمه، فقال عبد الصمد فيهما:

يا من تركت بصخرة                      صماء هامته أميمـه

إن الذي عاضـدتـه                      أشبهته خلقا وشيمـه

وكفعل جدتك الحـدي                      ثة فعل جدته القديمه

فتناصرا فابن اللـئي                      مة ناصر لابن الليئمة حدثني جعفر بن قدامة، قال: حدثني أبو العيناء، قال: كان لعبد الصمد بن المعذل صديق يعاشره ويأنس به، فتزوج إليه أمير البصرة، وكان من ولد سليمان بن علي، فنبل الرجل وعلا قدره، وولاه المتزوج إليه عملا، فكتب إليه عبد الصمد:

أحلت عما عهـدت مـن أدبـك                      أم نلت ملكا فتهت في كتـبـك

أم هل ترى أن في مناصفة الإخ                      وان نقصا عليك في حسـبـك

أم كان ما كان منك عن غضب                      فأي شيء أدناك من غضـبـك

إن جـفـاء كـتـاب ذي ثـقة                      يكون في صدره وأمتـع بـك

كيف بإنصافـنـا لـديك وقـد                      شاركت آل النبي في نسـبـك

قل للـوفـاء الـذي تـقـدره                      نفسك عندي مللت من طلبـك

أتعبت كفيك في مواصـلـتـي                      حسبك ماذا كفيت من تعـبـك فأجابه صديقه:

كيف يحول الإخاء يا أملـي                      وكل خير أنال من نسبـك

إن يك جهل أتاك من قبلـي                      فامنن بفضل علي من أدبك

أنكرت شيئا فلست فاعلـه                      ولا تراه يخط في كتـبـك حدثني الأخفش، قال: حدثنا المبرد، قال: كان لعبد الصمد بن المعذل صديق كثير الكذب، كان معروفا بذلك، فوعده وعدا فأخلفه، ومطله به مطلا طويلا، فقال عبد الصمد:

لي صاحب في حديثه البركة                      يزيد عند السكون والحركة

لو قال لا في قليل أحرفهـا                      لردها بالحروف مشتبـكة أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني سوار بن أبي شراعة، قال: كان يحيى بن عبد السميع الهاشمي يعاشر عبد الصمد بن المعذل، ويجتمعان في دار رجل من بني المنجاب له جارية مغنية، وكان ينزل رحبة المنجاب بالبصرة، ثم استبد بها الهاشمي دون عبد الصمد، فقال فيهم عبد الصمد:

 

صفحة : 1488

 

 

قل ليحيى مللت من أحبـابـي                      فلينكهم ما شاء من أصحابـي

قد تركنا تعشق المـرد لـمـا                      أن بلونا تـنـعـم الـعـزاب

وشنئنا المؤاجـرين فـمـلـنـا                      بعد خبر إلى وصال القحـاب

حبذا قينة لأهل بـنـي الـمـن                      جاب حلت في رحبة المنجاب

صدقت إذ يقول لي خلـق الأح                      راح ليس الفقـاح لـلأزبـاب

حبذا تلـك إذ تـغـنـيك يا يح                      يى وتسقيك من ثنـايا عـذاب

ذكر الـقـلـب ذكـرة أم زيد                      والمطايا بالسهب سهب الركاب

حبذا إذ ركبتهـا فـتـجـافـت                      تتشكى إليك عنـد الـضـراب

وتغنت وأنـت تـدفـع فـيهـا                      غير ذي خيفة لهم وارتـقـاب

إن جنبي عن الفـراش لـنـاب                      كتجافي الأسر فوق الظـراب

ليت شعري هل أسمعن إذا مـا                      زاح عني وساوس الكـتـاب

من فتاة كأنـهـا خـوط بـان                      مج فيها النعيم ماء الشـبـاب

إذ تغنيك خلف سجـف رقـيق                      نعمات تحـبـهـا بـصـواب

شف عنها محـقـق جـنـدي                      فهي كالشمس من خلال سحاب

رب شعر قد قلـتـه بـتـبـاه                      ويغـرى بـه ذوو الألـبـاب

قد تركت الملـحـنـين إذا مـا                      ذكروه قاموا علـى الأدنـاب قال: وشاعت الأبيات بالبصرة، فامتنع مولى الجارية من معاشرة الهاشمي، وقطعه بعد ذلك.

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وأحمد بن يحيى بن علي بن يحيى، قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني أحمد بن صالح الهاشمي، قال: كان الحسين بن عبد الله بن العباس بن جعفر بن سلمان مائلا إلى عبد الصمد بن المعذل، وكان عبد الصمد يهجو هشاما الكرنباني، فجرى عن ابني هشام الكرنباني - وهو أبو وائلة وإبراهيم - وبين الحر بن عبد الله، لحاء في أمر عبد الصمد، لأنهما ذكراه وسباه، فامتعض له الحسين وسبهما عنه، فرميا الحسين بابن المعذل، ونسباه إلى أن عبد الصمد يرتكب القبيح، وبلغ الحسين ذلك، فلقيهما في سكة المربد، فشد عليهما بسوطه وهو راكب، فضربهما ضربا مبرحا، وأفلت أبو وائلة، ووقع سبيب السوط في عين إبراهيم، فأثر فيها أثرا قبيحا، فاستعان بمشيخة من آل سليمان بن علي، وهرب أبو وائلة إلى الأمير علي بن عيسى وهو والي البصرة، فوجه معه بكاتبه ابن فراس إلى باب الحسين بن عبد الله، فطلبه وهرب حسين إلى المحدثة، فلما كان من الغد جاء حسين إلى صالح إسحاق بن سليمان، وإلى ابن يحيى بن جعفر بن سليمان، ومشيخة من آل سليمان، فصاروا معه إلى علي بن عيسى، وأقبل عبد الصمد بن المعذل لما رآهم، فدخل معهم لنصرة حسين، فكلموا علي بن عيسى في أمره وقام عبد الصمد، فقال: أصلح الله الأمير، هؤلاء أهلك، وأجلة أهل مصرك، تصدوا إليك في ابنهم وابن أخيهم، وهو وإن كان حدثا لا ينبسط للحجة بحداثته، فإن ها هنا من يعبر عنه، وقد قلت أبياتا، فإن رأى الأمير أن يأذن في إنشادها فعل. قال: قل. فأنشده عبد الصمد قوله:

يا ابن الخلائف وابن كل مبـارك                      رأس الدعائم سابق الأغـصـان

إن العلوج على ابن عمك أصفقوا                      فأتوك عنه بأعظم الـبـهـتـان

قرفوه عندك بالتعدي ظـالـمـا                      وهم ابتدوه بأعظـم الـعـدوان

شتموا له عرضا أغر مـهـذبـا                      أعراضهم أولى بـكـل هـوان

وسموا بأجسـام إلـيه مـهـينة                      وصلـت بـألأم أذرع وبـنـان

خلقت لمد القلـس لا لـتـنـاول                      عرض الشريف ولا لمد عنـان

لم يحفظوا قرباه منك فينتـهـوا                      إذ لم يهابوا حرمة السـلـطـان

أيذل مظلـومـا وجـدك جـده                      كيما يعـز بـذلـه عـلـجـان

وينال أقلـف كـربـلاء بـلاده                      ذل ابن عم خليفة الـرحـمـن

إني أعيذك أن تنال بـك الـتـي                      تطغى العلوج بها على عدنـان فدعا علي بن عيسى حسينا، فضمه إليه، فقال: انصرف مع مشايخك. ودعا بهشام الكرنباني وابنيه، فعذلهم في أمره، ثم أصلح بينهم بعد ذلك.

 

 

صفحة : 1489

 

أخبرني علي بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن يزيد، قال: كان عبد الصمد بن المعذل يعاشر عبد الله بن المسيب ويألفه، فبلغه أن اغتابه يوما وهو سكران، وعاب شيئا أنشده من شعره، فقال فيه وكتب بها إليه:

عتبي عليك مقارن الـعـذر                      قد زال عند حفيظتي صبري

لك شافع مني إلـي فـمـا                      يقضي عليك بهفوة فكـري

لما أتاني ما نـطـقـت بـه                      في السكر قلت جناية السكر

حاشا لعبد الـلـه يذكـرنـي                      مستعذبا بنقيصتـي ذكـري

إن عاب شعري أو تحـيفـه                      فليهنه ما عاب من شعـري

يا ابن المسيب قد سبقت بمـا                      أصبحت مرتهنا به شكـري

فمتى خمرت فأنت في سعة                      ومتى هفوت فأنت في عذر

ترك العتاب إذا استحـق أخ                      منك العتاب ذريعة الهجـر أخبرني الأخفش، قال: حدثنا المبرد، قال: دعا عبد الصمد بن المعدل شروين المغني، وكان محسنا متقدما في صناعته، فتعالل عليه ومضى إلى غيره، فقال عبد الصمد، والله لأسمنه ميسما لا يدعوه بعده أحد بالبصرة إلا بعد أن يبذل عرضه وحريمه. فقال فيه:

من حل شروين له منزلا                      فلتنهه الأولى عن الثانية

فليس يدعوه إلى بـيتـه                      إلا فتى في بيته زانـية فتحاماه أهل البصرة حتى اضطر إلى أن خرج إلى بغداد وسر من رأى.

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وأحمد بن العباس العسكري، قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثنا الفضل بن أبي جرزة، قال: كان أبو قلابة الجرمي وعبد الصمد بن المعذل وعبد الله بن محمد بن أبي عيينة المهلبي أرادوا المسير إلى بيت بحر البكراوي، وكانت له جارية مغنية، يقال لها: جبلة، وكان أبو رهم إليها مائلا يتعشقها، ثم اشتراها بعد ذلك فلما أرادوا الدخول إليها وافاهم أبو رهم، فأدخلوه وحده وحجبوهم، فانصرفوا إلى بستان ابن أبي عيينة، فقال أبو قلابة: لا بد أن نهجو أبا رهم. فقالوا: قل. فقال:

ألا قـل لأبـي رهـم                      سيهوى نعتك الوصف

كما حالفـك الـغـي                      كذا جانب الظـرف

أتـانـا أنـه أهـدى                      إلى بحر من الشغف

حزيمات من الصـير                      فهلا معـه رغـف

فنادوا اقسمي فـينـا                      فقد جاءكم اللـطـف فقال له عبد الصمد: سخنت عينك أيش هذا الشعر، بمثل هذا يهجى من يراد به الفضيحة. فقال أبو قلابة: هذا الذي حضرني، فقل أنت ما يحضرك. فقال: أفعله وأجود. فكان هذا سبب هجاء عبد الصمد أبا رهم، وأول قصيدة هجاه بها قوله:

دعوا الإسلام وانتحلوا المجوسا                      وألقوا الريط واشتملوا القلوسا

بني العبد المقيم بنهـر تـيري                      لقد أنهضت طيركم نحـوسـا

حرام أن يبـيت لـكـم نـزيل                      فلا يمسي بأمكـم عـروسـا

إذا ركد الظلام رأت عـسـيلا                      يحث على نداماه الـكـؤسـا

ويذكرهم أبو رهم بـهـجـو                      فيستدعي إلى الحرم النفوسـا

ويخليهم هشام بـالـغـوانـي                      ويحمي الفضل بينهم الوطيسا

فتسمع في البيوت لهم هبـيبـا                      كما أهملت في الزرب التيوسا

لقد كان الـزنـاة بـلا رئيس                      فقد وجد الزناة بهـم رئيسـا

هم قبلوا الزنـاء وأنـشـؤوه                      وهم وسموا بجبهته حبـيسـا

لئن لم تنف دعوتهـم سـدوس                      لقد أخزى الإله بهم سـدوسـا وقال فيه:

لو جاد بالمـال أبـو رهـم                      كجـوده بـالأخـت والأم

أضحى وما يعرف مثل له                      وقيل أسخى العرب والعجم

من بر بالحرمة إخـوانـه                      أحق أن يشكر بالـشـتـم وله فيه من قصيدة طويلة:

هو والله منـصـف                      زوجه زوج زوجته

يقسـم الأير عـادلا                      بين حرها وفقحتـه حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثنا العنزي، قال: حدثني أبو الفضل بن عبدان، قال: خرج عبد الصمد بن المعذل مع أهله إلى نزهة وقال:

 

صفحة : 1490

 

 

قد نزلـنـا بـروضة وغـدير                      وهجرنا القصر المنيف المشيدا

بعريش ترى من الـزاد فـيه                      زكرتي خمرة وصقرا صيودا

وغريرين يطربان الـنـدامـى                      كلمـا قـلـت أبـديا وأعـيدا

غنياني فغنـيانـي بـلـحـن                      سلس الرجع يصدع الجلمـودا

لا ذعرت السوام في فلـق ال                      صبح مغيرا ولا دعـيت يزيدا

حي ذا الزور وانهه أن يعـودا                      إن بالباب حارسـين قـعـودا

من يزرنا يجد شوء حـبـارى                      وقديرا رخصا وخمرا عتـيدا

وكراما مـعـذلـين وبـيضـا                      خلعوا العذر يسحبون البـرودا

لست عن ذا بمقصر ما جزائي                      قربت لي كريمة عـنـقـودا أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد، قال: نظر عبد الصمد بن المعذل إلى الأفشين بسر من رأى وهو غلام أمرد، وكان من أحسن الناس، وهو واقف على باب الخليفة مع أولاد القواد، فأنشدنا لنفسه فيه، قال:

أيها اللاحظي بـطـرف كـلـيل                      هل إلى الوصل بيننا من سـبـيل

علـم الـلـه أنـنـي أتـمـنـى                      زورة منك عند وقت الـمـقـيل

بعد ما قد غدوت في القرطق الجو                      ن تهادى وفي الحسام الصـقـيل

وتكفيت في المواكـب تـخـتـا                      ل عليها تـمـيل كـل مـمـيل

وأطلت الوقـوف مـنـك بـبـا                      ب القصر تلهو بكل قـال وقـيل

وتحدثت في مطـاردة الـصـي                      د بـخـبـر بـه ورأى أصـيل

ثم نازعت في السنان وفي الـرم                      ح وعلم بمرهفات الـنـصـول

وتكلمت في الطراد وفي الـطـع                      ن ووثب على صعاب الـخـيول

فإذا ما تفـرق الـقـوم أقـبـل                      ت كـريحـانة دنـت لـذبـول

قد كساك الغـبـار مـنـه رداء                      فوق صدغ وجفن طرف كحـيل

وبدت وردة الـقـسـامة مـن خ                      دك في مشـرق نـقـي أسـيل

ترشح المسك منه سالفة الـظـب                      ي وجيد الأدمانة الـعـطـبـول

فأسوف الغـبـار سـاعة ألـقـا                      ك برشف الخدين والـتـقـبـيل

وأحل القباء والسيف مـن خـص                      رك رفقا باللطف والتـعـلـيل

ثم تؤتى بما هويت مـن الـتـش                      ريف عندي والبر والتـبـجـيل

ثم أجلوك كالعروس على الـشـر                      ب تهادى في مجسد مصـقـول

ثم أسقيك بعد شـربـي مـن ري                      قك كأسا من الرحيق الشـمـول

وأغـنـيك إن هـويت غـنــاء                      غير مستكـره ولا مـمـلـول

لا يزال الخلخال فوق الحـشـايا                      مثل أثـنـاء حـية مـقـتـول

فإذا ارتاحت النفوس اشـتـياقـا                      وتمنى الخليل قرب الـخـلـيل

كان ما كان بينـنـا لا أسـمـي                      ه ولكـنـه شـفـاء الـغـلـيل أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني الحسن بن عليل العنزي والمبرد وغيرهما، قالوا: كانت متيم جارية لبعض وجوه أهل البصرة، فعلقها عبد الصمد بن المعذل، وكانت لا تخرج إلا منتقبة، فخرج عبد الصمد يوما إلى نزهة، وقدمت متيم إلى عبيد الله بن الحسن بن أبي الحر القاضي، فاحتاج إلى أن يشهد عليها، فأمرها بأن تسفر، فلما قدم عبد الصمد قيل له: لو رأيت متيم وقد أسفرها القاضي لرأيت شيئا حسنا لم ير مثله. فقال عبد الصمد قوله:

ولما سرت عنها القنـاع مـتـيم                      تروح منها العنبري مـتـيمـا

رأى ابن عبيد الـلـه مـحـكـم                      عليها لها طرفا عليه محكـمـا

وكان قديما كالح الوجه عابـسـا                      فلما رأى منها السفور تبسـمـا

فإن يصب قلب العنبري فقبـلـه                      صبا باليتامى قلب يحيى بن أكثما فبلغ قوله يحيى بن أكثم، فكتب إليه: عليك لعنة الله، أي شيء أردت مني حتى أتاني شعرك من البصرة? فقال لرسوله: قل له: متيم أقعدتك على طريق القافية أخبرني عمي، قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر، قال: حدثني عبد الله بن أحمد العبدي، قال: حدثني الأنيسي، قال:

 

صفحة : 1491

 

كنت عند إسحاق بن إبراهيم وزاره أحمد بن المعذل، وكان خرج من البصرة على أن يغزو، فلما دخل على إسحاق بن إبراهيم أنشده:

أفضلت نعمي على قوم رعيت لهم                      حقا قديما من الود الـذي درسـا

وحرمة القصد بـالأمـال إنـهـم                      أتوا سواك فما لاقوا بـه أنـسـا

لأنت أكرم منه عنـد رفـعـتـه                      قولا وفعلا وأخلاقا ومغتـرسـا فأمر له بخمسمائة دينار، فقبضها ورجع إلى البصرة، وكان خرج عنها ليجاور في الثغر، وبلغ عبد الصمد خبره، فقال فيه:

يرى الغزاة بأن الله هـمـتـه                      وإنما كان يغزو كيس إسحاق

فباع زهدا ثوابا لا نـفـاد لـه                      وابتاع عاجل رفد القوم بالباقي فبلغ إسحاق بن إبراهيم قوله، فقال: قد مسنا أبو السم عبد الصمد بشيء من هجائه. وبعث إليه بمائة دينار، فقال له موسى بن صالح: أبى الأمير إلا كرما وظرفا.

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي، قال: حدثنا الحسن بن عليل، قال: حدثني الحسن الأسدي، قال: قدم أبو نبقة من البحرين وقد أهدى إلى قوم من أهل البصرة هداياه، ولم يهد إلى عبد الصمد شيئا فكتب إليه:

أما كان في قسب اليمامة والتـمـر                      وفي أدم البحرين والنبق الصـفـر

ولا في مناديل قسمـت طـريفـهـا                      وأهديتها حظ لـنـا يا أبـا بـكـر

سرت نحو أقوام فـلا هـنـأتـهـم                      ولم ينتصف منها المقل ولا المثـري

أأنت إلى طالوت ذي الوفر والغنـى                      وآل أبي حرب ذوي النشب الـدثـر

ولم تأتنـي ولا الـرياشـي تـمـرة                      غصصت بباقي ما ادخرت من التمر

ولم يعط منها الـنـهـشـلـي إداوة                      تكون له في القيظ ذخرا مدى الدهر

أقول لفـتـيان طـويت لـطـيهـم                      عرى البيد منشور المخافة والذعـر

لئن حكم السدري بالـعـدل فـيكـم                      لما أنصف السدري في ثمر السـدر

لئن لم تكن عيناك عذرك لـم تـكـن                      لدينا بمحمود ولا ظاهـر الـعـذر أخبرنا الحسن بن عليل، قال: حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي، قال: وقع بين أبي وبين عبد الصمد بن المعذل تباعد، فهجاه ونسبه إلى الشؤم، وكان يقال ذلك في عبد الصمد، فقال فيه:

يقول ذوو التشؤم ما لقـينـا                      كما لقي ابن سهل من يزيد

أتته منية المأمـون لـمـا                      أتاه يزيد من بلـد بـعـيد

فصير منه عسكره خـلاء                      وفرق عنه أفواج الجنـود

فقلت لهم وكم مشؤوم قـوم                      أباد لهم عديدا مـن عـديد

رأيت ابن المعذل يال عمرو                      بشؤم كان أسرع في سعيد

فمنه موت جلة آل سـلـم                      ومنه قض آجام الـبـريد

ولم ينزل بدار ثم يمـسـي                      ولما يتسمع لطم الـخـدود

وكل مديح قوم قال فـيهـم                      فإن بعقبه يا عين جـودي

إذا رجل تسمع منه مدحـا                      تنسم منه رائحة الصعـيد

فلو حصف الذين يبيح فيهم                      أثاروا منه رائحة الطـريد

فليس العز يمنه منه شؤمـا                      ولا عتبا بأبواب الـحـديد حدثني الأخفش، قال: حدثنا المبرد، قال: مر أحمد بن المعذل بأخيه عبد الصمد وهو يخطر، فأنشأ يقول:

إن هذا يرى أرى                      أنه ابن المهلب

أنت والله معجب                      ولنا غير معجب أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا أبي وغيره، وحدثني به بعض آل المعذل، قال: مر عبد الصمد بن المعذل بغلام يقال له: المغيرة، حسن الصوت حسن الوجه، وهو يقرأ ويقول القصائد، فأعجب به، وقال فيه:

أيها الرافع في المس                      جد بالصوت العقيره

قتلتني عينك الـنـج                      لاء والقتل كبـيره

أيها الحكـام أنـتـم                      فاصلو حكم العشيره

أحلالا ما بقـلـبـي                      صنعت عينا مغيره أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثنا زكريا بن مهران بن يحيى، قال:

 

صفحة : 1492

 

جاءنا عبد الصمد بن المعذل إلى منزل محمد بن عمر الجرجرائي، فأنشدنا قصيدة له في صفة الحمى، فقال لي محمد بن عمر: امض إلى منزل عبد الصمد حتى تكتبها. فمضيت إليه حتى كتبتها، وهي:

هجرت الصبا ايما هجره                      وعفت الغواني والخمره

طوتني عن وصلها سكره                      بكأس الضنا ايما سكره أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني عبد الله بن يزيد الكاتب، قال: جمع بين أبي تمام الطائي وبين عبد الصمد بن المعذل مجلس، وكان عبد الصمد سريعا في قول الشعر، وكان في أبي تمام إبطاء، فأخذ عبد الصمد القرطاس وكتب فيه:

أنت بين اثنتين تبرز للـنـا                      س وكلتاهما بوجه مـذال

لست تنفك طالبا لـوصـل                      من حبيب أو طالبا لنـوال

أي ماء لحر وجهك يبقـى                      بين ذل الهوى وذل السؤال قال: فأخذ أبو تمام القرطاس وخلا طويلا، وجاء به وقد كتب فيه:

أفي تنظم قول الـزور والـفـنـد                      وأنت أبرز من لا شيء في العـدد

أشرجت قلبك من بغضي على حرق                      كأنها حركات أروح في الجـسـد فقال له عبد الصمد: يا ماص بظر أمه، يا غث، أخبرني عن قولك أنزر من لا شيء، واخبرني عن قولك اشرجت قلبك، قلبي مفرش أو عيبة أو حرج فأشرجه، عليك لعنة الله فما رأيت أغث منك. فانقطع أبو تمام انقطاعا ما يرى أقبح منه، وقام فانصرف، وما راجعه بحرف.

قال أبو الفرج الأصبهاني: كان في ابن مهرويه تحامل على أبي تمام لا يضر أبا تمام هذا منه، وما أقل ما يقدح مثل هذا في مثل أبي تمام.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني العنزي، قال: كان عبد الصمد بن المعذل يستثقل رجلا من ولد جعفر بن سليمان بن علي يعرف بالفراش، وكان له ابن أثقل منه، وكانا يفطران عند المنذر بن عمرو - وكان يخلف بعض أمراء البصرة - وكان الفراش هذا يصلي به، ثم يجلس فيفطر وهو وابنه عنده، فلما مضى شهر رمضان انقطع ذلك عنهما، فقال عبد الصمد بن المعذل:

غدر الزمان ولـيتـه لـم يغـدر                      وحدا بشهر الصوم فطر المفطر

وثوت بقلبك يا محـمـد لـوعة                      تمري بوادر دمعك المتـحـدر

وتقسمتك صبابـتـان لـبـينـه                      أسف المشوق وخلة المتفـكـر

فاستبق عينك واحش قلبك يأسـه                      واقر السلام على خوان المنـذر

سقيا لدهـرك إذ تـروح يومـه                      والشمس في علياء لم تتـهـور

حتى تنيخ بكـلـكـل مـتـزاور                      وتمد بلعوما قموص الحنـجـر

وترود منك على الخوان أنـامـل                      تدع الخوان سراب قاع مقـفـر

ويح الصحاف من ابن فـراش إذا                      أنحى عليها كالهزبر الهـيصـر

ذو دربة طب إذا لمـعـت لـه                      بشر الخوان بدا بحل الـمـئزر

ود ابن فـراش وفـراش مـعـا                      لو أن شهر الصوم مدة أشـهـر

يزرى على الإسلام قلة صبـره                      وتراه يحمد عدة المـتـنـصـر

لا تهلكن على الصـيام صـبـابة                      سيعود شهرك قابلا فاستبـشـر

لا در درك يا محمد من فـتـى                      شين المغيب وغير زين المحضر أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد البصري وكان جارا لعبد الصمد بن المعذل، قال: كان يزيد بن محمد المهلبي يعادي عبد الصمد ويهاجيه ويسابه، ويرمي كل واحد منهما صاحبه بالشؤم. وكان يزيد بالبصرة وأبوه يتولى نهر تيرى ونواحيها، فقال عبد الصمد يهجوه:

أبوك أمير قرية نهر تـيرى                      ولست على نسائك بالأمـير

وأرزاق العباد عـلـى آلـه                      لهم وعـلـيك أرزاق الأيور

فكم من رزق ربك من فقير                      وما في أهل رزقك من فقير أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني محمد بن عبد الرحمن، قال: حدثني أحمد بن منصور، قال: شرب علي بن عيسى بن جعفر وهو أمير البصرة الدهن، فدخل إليه عبد الصمد بن المعذل بعد خروجه عنه، فأنشده قوله:

بأيمـن طـائر وأسـر فـال                      وأعلى رتـبة وأجـل حـال

شربت الدهن ثم خرجت عنه                      خروج المشرفي من الصقال

 

صفحة : 1493

 

 

تكشف عنك ما عانيت عـنـه                      كما انكشف الغمام عن الهلال

وقد أهديت ريحانـا طـريفـا                      به حاجيت مستمعا سـؤالـي

وما هو غير ياء بـعـد حـاء                      وقد سبقا بـمـيم قـبـل دال

وريحان الشباب يعـيش يومـا                      وليس يموت ريحان المقـال

ولم يك مؤثـرا تـقـاح شـم                      على تفاح أسماع الـرجـال أخبرني جحظة، قال: حدثني ميمون بن مهران، قال: حدثني أحمد بن المغيرة العجلي، قال: كنت عند أبي سهل الإسكافي وعنده عبد الصمد بن المعذل، فرفع إليه رجل رقعة، فقرأها فإذا فيها:

هذا الرحيل فهل في حاجتي نظر                      أو لا فاعلم ما آتـي ومـا أذر فدفعها إلى عبد الصمد، وقال: الجواب عليك. فكتب فيها:

النفس تسخو ولكن يمنع العسر                      والحر يعذر من بالعسر يعتذر ثم قال عبد الصمد لعلي بن سهل: هذا الجواب قولا، وعليك أعزك الله الجواب فعلا، ونجح سعي الآمل حق واجب على مثلك. فاستحيا وأمر للرجل بمائة دينار.

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعلي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن يزيد الأزدي، قال: كان لابن المعذل ابن ثقيل تياه الذهاب بنفسه، وكان مبغضا عند أهل البصرة، فمر يوما بعمه عبد الصمد، فلما رآه قال لمن معه:

إن هذا يرى أرى                      أنه ابن المهلب

أنت والله معجب                      ولنا غير معجب قال: وقال فيه أيضا:

لو كان يعطى المنى الأعمام في ابن أخ                      أصبحت في جوف قرقور إلى الصين

قد كان هـمـا طـويلا لا يقـام لـه                      لو كان رؤيتـنـا إياك فـي الـحـين

فكيف بالصبر إذ أصبحت أكثـر فـي                      مجال أعينـنـا مـن رمـل يبـرين

يا أبغض الناس في عسـر ومـيسـرة                      وأقذر النـاس فـي دنـيا وفـي دين

لو شاء ربي لأضحى واهـبـا لأخـي                      بمد ثكلـك أجـرا غـير مـمـنـون

وكان خيرا لـه لـو كـان مـؤتـزرا                      في السالفات على غرمـول عـنـين

وقائل لي مـا أضـنـاك قـلـت لـه                      شخص ترى وجهه عيني فيضنـينـي

إن القلوب لتطوى منك يا ابـن أخـي                      إذا رأتك على مثـل الـسـكـاكـين

أتتك العيس تـنـفـخ فـي بـراهـا                      تكشف عن مناكـبـهـا الـقـطـوع

بأبـيض مـن أمـية مـضـرحــي                      كأن جـبـينـه سـيف صـنـــيع الشعر لعبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص، والغناء لابن المهربد، رمل بالبنصر عن الهشامي. والله أعلم.

 

أخبار عبد الرحمن ونسبه

هو عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. وأمه أم أخيه مروان، آمنة بنت صفوان بن أمية بن محرث بن شق بن رقبة بن مخدج من بني كنانة. ويكنى عبد الرحمن أبا مطرف، شاعر إسلامي متوسط الحال في شعراء زمانه، وكان يهاجى عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فيقاومه وينتصف كل واحد منهما من صاحبه.

أخبرني محمد بن العباس العسكري قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، عن العمري، عن العتبي والهيثم بن عدي، عن صالح بن حسان.

وأخبرني به عمي عن الكراني، عن العمري، عن الهيثم، عن صالح بن حسان قال: قدم عبد الرحمن بن الحكم على معاوية بن أبي سفيان، وقد عزل أخاه مروان عن الحجاز وولى سعيد بن العاص، وكان مروان وجه به وقال له: القه أمامي فعاتبه لي واستصلحه. وقال عمي في خبره: كان عبد الرحمن بدمشق، فلما بلغه خبر أخيه خرج إليه فتلقاه، وقال له: أقم حتى أدخل إلى الرجل، فإن كان عزلك عن موجدة دخلت إليه منفردا. وإن كان عن غير موجدة دخلت إليه مع الناس. قال: فأقام مروان ومضى عبد الرحمن أمامه، فلما قدم عليه دخل إليه وهو يعشي الناس، فأنشأ يقول:

أتتك العيس تنفخ في براها                      تكشف عن مناكبها القطوع

بأبيض من أمية مضرحـي                      كأن جبينه سيف صـنـيع

 

صفحة : 1494

 

فقال معاوية: أزائرا جئت أم مفاخرا أم مكاثرا? فقال: أي ذلك شئت. فقال له: ما أشاء من ذلك شيئا، وأراد معاوية أن يقطعه عن كلامه الذي عن له، فقال: على أي الظهر أتيتنا? قال: على فرسي. قال: وما وصفته? قال: أجش هزيم، يعرض بقول النجاشي له:

ونجى ابن حرب سابح ذو علالة                      أجش هزيم والرمـاح دوانـي

إذا خلت أطراف الرماح تنالـه                      مرته به الساقان والقـدمـان فغضب معاوية: وقال: أما إنه لا يركبه صاحبه في الظلم إلى الريب، ولا هو ممن يتسور على جاراته ولا يتوثب على كنائنه بعد هجعة الناس - وكان عبد الرحمن يتهم بذلك في امراة أخيه - فخجل عبد الرحمن وقال: يا أمير المؤمنين، وما حملك على عزل ابن عمك، ألجناية أوجبت سخطا، أم لرأي رأيته، وتدبير استصلحته? قال: لتدبير استصلحته. قال: فلا بأس بذلك، وخرج من عنده فلقي أخاه مروان، فأخبره بما جرى بينه وبين معاوية، فاستشاط غيظا، وقال لعبد الرحمن: قبحك الله، ما أضعفك، أعرضت للرجل بما أغضبه حتى إذا انتصف منك أحجمت عنه? ثم لبس حلته، وركب فرسه، وتقلد سيفه، ودخل على معاوية، فقال له حين رآه وتبين الغضب في وجهه: مرحبا بأبي عبد الملك، لقد زرتنا عند اشتياق منا إليك. قال: لاها الله ما زرتك لذلك، ولا قدمت عليك فألفيتك إلا عاقا قاطعا، والله ما أنصفتنا ولا جزيتنا جزاءنا. لقد كانت السابقة من بني شمس لآل أبي العاص، والصهر برسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، والخلافة فيهم، فوصلوكم يا بني حرب وشرفوكم، وولوكم فما عزلوكم ولا آثروا عليكم، حتى إذا وليتم وأفضى الأمر إليكم، أبيتم إلا أثرة وسوء صنيعة، وقبح قطيعة، فرويدا رويدا، قد بلغ بنو الحكم وبنو بنيه نيفا وعشرين، وإنما هي أيام قلائل حتى يكملوا أربعين ويعلم امرؤ أين يكون منهم حينئذ، ثم هم للجزاء بالحسنى وبالسوء بالمرصاد.

قال عمي في خبره: فقال له معاوية: عزلتك لثلاث لو لم يكن منهن إلا واحدة لأوجبت عزلك: إحداهن إني أمرتك على عبد الله بن عامر وبينكما ما بينكما، فلم تستطع أن تشتفي منه. والثانية كراهتك لأمر زياد. والثالثة أن ابنتي رملة استعدتك على زوجك عمرو بن عثمان فلم تعدها. فقال له مروان: أما ابن عامر فإني لا أنتصر في سلطاني، ولكن إذا تساوت الأقدام علم أين موقعه. وأما كراهتي أمر زياد فإن سائر بني أمية كرهوه، ثم جعل الله لنا في ذلك الكره خيرا كثيرا. وأما استعداء رملة على عمرو فوالله إنى لتأتي علي سنة أو أكثر وعندي بنت عثمان فما أكشف لها ثوبا - يعرض بأن رملة إنما تستعدي عليه طلبا للنكاح - فقال له معاوية: يا ابن الوزغ، لست هناك. فقال له مروان: هو ذاك الآن، والله إني لأبو عشرة وأخو عشرة وعم عشرة، وقد كاد ولدي أن يكملوا العدة - يعني أربعين - ولو قد بلغوها لعلمت أين تقع مني فانخزل معاوية ثم قال:

فإن آك في شراركم قليلا                      فإني في خياركم كثـير

بغاث الطير أكثرها فراخا                      وأم الصقر مقلات نزور قال: فما فرغ مروان من كلامه حتى استخذى معاوية في يده وخضع له، وقال: لك العتبى، وأنا رادك إلى عملك. فوثب مروان وقال له: كلا والله وعيشك لا رأيتني عائدا إليه أبدا. وخرج، فقال الأحنف لمعاوية: ما رأيت لك قط سقطة مثلها، ما هذا الخضوع لمروان? وأي شيء يكون منه ومن بني أبيه إذا بلغوا أربعين? وأي شيء تخشاه منهم? فقال له: ادن مني أخبرك بذلك. فدنا منه، فقال له: إن الحكم بن أبي العاص كان أحد من وفد مع أختي أم حبيبة لما زفت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي تولى نقلها إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يحد النظر إليه، فلما خرج من عنده قيل له: يا رسول الله، لقد أحددت النظر إلى الحكم فقال: ابن المخزومية ذلك رجل إذا بلغ ولده ثلاثين - أو قال: أربعين - ملكوا الأمر بعدي. فوالله لقد تلقاها مروان من عين صافية. فقال له الأحنف: لا يسمعن هذا أحد منك، فإنك تضع من قدرك وقدر ولدك بعدك، وإن يقض الله عز وجل أمرا يكن. فقال له معاوية: فاكتمها علي يا أبا بحر إذا، فقد لعمري صدقت ونصحت.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني يعقوب بن القاسم الطلحي، قال: حدثني ثمال عن أيوب بن درباس بن دجاجة قال:

 

صفحة : 1495

 

شخص مروان بن الحكم ومعه أخوه عبد الرحمن، إلى معاوية، ثم ذكر نحوا من الحديث الأول، ولم يذكر فيه مخاطبة معاوية في أمرهم للأحنف، وزاد فيه: فقال عبد الرحمن في ذلك:

أتقطر آفاق السمـاء لـه دمـا                      إذا قيل الطرف أجرد سابـح

فحتى متى لا نرفع الطرف ذلة                      وحتى متى تعيا عليك المنادح أخبرني عمي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعيد قال: حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن أبيه، قال: كان عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاصي عند يزيد بن معاوية، وقد بعث إليه عبيد الله بن زياد برأس الحسين بن علي عليهما السلام فلما وضع بين يدي يزيد في الطشت بكى عبد الرحمن ثم قال:

أبلغ أمير المؤمـنـين فـلا تـكـن                      كموتر أقواس وليس لـهـا نـبـل

لهام بجنب الـطـف أدنـى قـرابة                      من ابن زياد الوغد ذي لحسب الرذل

سمية أمسى نسلها عدد الـحـصـى                      وبنت رسول الله ليس لهـا نـسـل فصاح به يزيد: اسكت يا ابن الحمقاء، وما أنت وهذا? أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني هارون بن معروف قال: حدثنا بشر بن السري قال: حدثنا عمر بن سعيد عن أبي مليكة قال: رأيتهم - يعني بني أمية - يتتايعون نحو ابن عباس حين نفى ابن الزبير بني أمية عن الحجاز، فذهبت معهم وأنا غلام، فلقينا رجلا خارجا من عنده، فدخلنا عليه، فقال له عبيد بن عمير، ما لي أراك تذرف عيناك? فقال له: إن هذا - يعني عبد الرحمن بن الحكم - قال بيتا أبكاني، وهو:

وما كنت أخشى أن ترى الذل نسوتي                      وعبد مناف لم تغلـهـا الـغـوائل فذكر قرابة بيننا وبين بني عمنا بني أمية، وإنا إنما كنا أهل بيت واحد في الجاهلية، حتى جاء الإسلام فدخل الشيطان بيننا أيما دخل.

أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري عن الهيثم قال: حدثني أخي عباس: أن عبد الرحمن بن الحكم كان يولع بجارية لأخيه مروان يقال لها شنباء ويهيم بمحبتها، فبلغ ذلك مروان، فشتمه وتوعده وتحفظ منه في أمر الجارية وحجبها، فقال فيها عبد الرحمن:

لعمر أبي شنباء إنـي بـذكـرهـا                      وإن شحطت دار بهـا لـحـقـيق

وإني لها، لا ينزع اللـه مـا لـهـا                      علي وإن لم تـرعـه لـصـديق

ولما ذكرت الوصل قالت وأعرضت                      متى أنت عن هذا الحديث مـفـيق أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا الخليل بن أسد عن العمري، ولم أسمعه من العمري، عن الهيثم بن عدي قال: لما ادعى معاوية زيادا قال عبد الرحمن بن الحكم في ذلك - والناس ينسبونها إلى ابن مفرغ لكثرة هجائه إلى زياد، وذلك غلط - قال:

إلا أبلغ معاوية بـن حـرب                      مغلغلة من الرجل الهجـان

أتغضب أن يقال أبوك عف                      وترضى أن يقال أبوك زان

فأشهد إن رحمك مـن زياد                      كرحم الفيل من ولد الأتـان

وأشهد أنـهـا ولـدت زيادا                      وصخر من سمية غير داني فبلغ ذلك معاوية بن حرب، فحلف ألا يرضى عن عبد الرحمن حتى يرضى عنه زياد، فخرج عبد الرحمن إلى زياد، فلما دخل عليه قال له: إيه يا عبد الرحمن، أنت القائل:

ألا أبلغ معاوية بن حـرب                      مغلغلة من الرجل الهجان قال: لا أيها الأمير، ما هكذا قلت، ولكني قلت:

ألا من مبـلـغ عـنـي زيادا                      مغلغلة من الرجل الهـجـان

من ابن القرم قرم بني قصـي                      أبي العاصي بن آمنة الحصان

حلفت برب مكة والمصـلـى                      وبالتوراة أحلف والـقـرآن

لأنـت زيادة فـي آل حـرب                      أحب إلي من وسطى بنانـي

سررت بقربه وفرحت لـمـا                      أتاني الله مـنـه بـالـبـيان

وقلت لـه أخـو ثـقة وعـم                      بعون الله في هذا الـزمـان

كذاك أراك والأهواء شـتـى                      فما أدري بغيب ما تـرانـي فرضي عنه زياد، وكتب له بذلك إلى معاوية، فلما دخل عليه بالكتاب قال: أنشدني ما قلت لزياد. فانشده، فتبسم ثم قال: قبح الله زيادا، ما أجهله، والله لما قلت له أخيرا حيث تقول: لأنت زيادة في آل حرب

 

صفحة : 1496

 

شر من القول الأول، ولكنك خدعته فجازت خديعتك عليه.

هجاء عبد الرحمن لأخيه

الحارث حين استعفى من الغزو

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة قال: استعمل معاوية بن أبي سفيان الحارث بن الحكم بن أبي العاصي على غزاة البحر، فنكص واستعفى، فوجه مكانه ابن أخيه عبد الملك بن مروان، فمضى وأبلى وحسن بلاؤه، فقال عبد الرحمن بن الحكم لأخيه الحارث:

شنئتك إذ رأيتك حـوتـكـيا                      قريب الخصيتين من التراب

كأنك قملة لقحت كشـافـا                      لبرغوث ببعرة أو صـوأب

كفاك الغزو إذا أحجمت عنه                      حديث السن مقتبل الشبـاب

فليتك حيضة ذهبت ضـلالا                      وليتك عند منقطع السحاب  هجاؤه لمروان حين أعدي عليه الحناط

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال: لطم عبد الرحمن بن الحكم مولى لأهل المدينة حناطا، وأخوه مروان يومئذ وال لأهل المدينة، فاستعداه الحناط عليه، فأجلسه مروان بين يديه وقال له: الطمه - وهو أخو مروان لأبيه وأمه - فقال الحناط: والله ما أردت هذا، وإنما أردت أن أعلمه أن فوقه سلطانا ينصرني عليه، وقد وهبتها لك. قال: لست أقبلها منك فخذ حقك. فقال: والله لا ألطمه، ولكني أهبها لك. فقال له مروان: إن كنت ترى أن ذلك يسخطني فوالله لا أسخط، فخذ حقك. فقال: قد وهبتها لك، ولست والله لاطمه. قال: لست والله قابلها، فإن وهبتها فهبها لمن لطمك، أو لله عز وعلا. فقال: قد وهبتها لله تعالى. فقال عبد الرحمن يهجو أخاه مروان:

كل ابن أم زائد غير نـاقـص                      وأنت ابن أم ناقص غير زائد

وهبت نصيبي منك يا مرو كله                      لعمرو وعثمان الطويل وخالد  رئاؤه لقتلى قريش يوم الجمل

أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبى عبيدة قال: نظر عبد الرحمن بن الحكم إلى قتلى قريش يوم الجمل فبكى، وأنشأ يقول:

أيا عين جودي بدمـع سـرب                      على فتية من خيار الـعـرب

وما ضرهم، غير حين النقوس،                      أي أميري قـريش غـلـب  غضب معاوية عليه ثم عفوه عنه

أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثني عمر بن شبة قال: حدثني المدائني عن شيخ من أهل مكة قال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن الحم خيله، فمر به فرس فقال له: كيف تراه? فقال: هذا سابح. ثم عرض عليه آخر فقال: هذا ذو علالة. ثم مر به آخر فقال: وهذا أجش هزيم. فقال له معاوية: قد علمت ما أردت، إنما عرضت بقول النجاشي في:

ونجى ابن حرب سابح ذو عـلالة                      أجش هـزيم والـرمـاح دوان

سليم الشظى عبل الشوى شنح النسا                      كسيد الغضى باق على النسـلان أخرج عني فلا تساكني في بلد، فلقي عبد الرحمن أخاه مروان فشكا إليه معاوية، وقال له عبد الرحمن: وحتى متى نستذل ونضام? فقال له مروان: هذا عملك بنفسك. فأنشأ يقول:

أتقطر آفاق السماء لـنـا دمـا                      إذا قلت هذا الطرف أجرد سابح

فحتى متى لا نرفع الطرف ذلة                      وحتى متى تعيا عليك المنـادح فدخل مروان على معاوية، فقال له مروان: حتى متى هذا الاستخفاف بآل أو أبي العاصي? أما والله إنك لتعلم قول النبي صلى الله عليه وسلم وآله فينا، ولقل ما بقي من الأجل فضحك معاوية وقال: لقد عفوت لك عنه ياأبا عبد الملك. والله أعلم بالصواب صوت

قولا لنائل ما تقضين في رجـل                      يهوى هواك وما جنبته اجتنبـا

يمسي معي جسدي والقلب عندكم                      فما يعيش إذا ما قلبـه ذهـبـا الشعر لمسعدة بن البختري، والغناء لعبادل، ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفيه لعريب ثقيل أول آخر عن ابن المعتز، ولها فيه أيضا خفيف رمل عنه.

 

أخبار مسعدة ونسبه

هو مسعدة بن البختري بن المغيرة بن أبى صفرة، بن أخي المهلب بن أبي صفرة. وقد مضى نسبه متقدما في نسب يزيد بن محمد المهلبي وابن أبي عيينة وغيرهما.

وهذا الشعر يقوله في نائلة بنت عمر بن يزيد الأسيدي وكان يهواها.

تشبيب مسعدة بنائلة

 

صفحة : 1497

 

أخبرني بخبره في ذلك أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثني عيسى بن إسماعيل تينة، عن القحذمي قال: كان مسعدة بن البختري بن المغيرة بن أبى صفرة، يشبب بنائلة بنت عمر بن يزيد الأسيدي أحد بني أسيد بن عمرو بن تميم ، وكان أبوها سيدا شريفا، وكان على شرط العراق من قبل الحجاج، وفيها يقول:

أنائل إننـي سـلـم                      لأهلك فاقبلي سلمى قال القحذمي: وأم نائلة هذه عاتكة بنت الفرات بن معاوية البكائي، وأمها الملاءة بنت زرارة بن أوفى الجرشية، وكان أبوها فقيها محدثا من التابعين. وقد شبب الفرزدق بالملاءة وبعاتكة ابنتها.

عاتكة بنت الفرات وما قيل فيها قال عيسى: فحدثني محمد بن سلام قال: لا أعلم أن امرأة شبب بها وبأمها وجدتها غير نائلة. فأما نائلة فقد ذكر ما قال فيها مسعدة، وأما عاتكة فإن يزيد بن المهلب تزوجها؛ فقتل عنها يوم العقر، وفيها يقول الفرزدق:

إذا ما المزونيات أصبحن حسرا                      وبكين أشلاء على غير نـائل

فكم طالب بنت الملاءة إنـهـا                      تذكر ريعان الشباب المـزايل ما قيل في أمها الملاءة وفي الملاءة أمها يقول الفرزدق:

كم للملاءة من طيف يؤرقني                      إذا تجرثم هادي الليل واعتكرا قصة عاتكة بنت الملاءة أخبرني الحرمي بن العلاء قال: حدثني الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد الله قال: خرجت عاتكة بنت الملاءة إلى بعض بوادي البصرة فلقيت بدويا معه سمن فقالت له: أتبيع هذا السمن? فقال: نعم. قالت: أرناه. ففتح نحيا فنظرت إلى ما فيه، ثم ناولته إياه وقالت: افتح آخر. ففتح أخر فنظرت إلى ما فيه ثم ناولته إياه، فلما شغلت يديه أمرت جواريها فجعلن يركلن في استه وجعلت تنادي: يا لثارات ذات النحيين قصة ذات النحيين قال الزبير: تعني ما صنع بذات النحيين في الجاهلية؛ فإن رجلا يقال له: خوات بن جبير رأى امرأة معها نحيا سمن فقال: أريني هذا. ففتحت له أحد النحيين، فنظر إليه ثم قال: أريني الآخر. ففتحته، ثم دفعه إليها، فلما شغل يديها وقع عليها، فلا تقدر على الامتناع خوفا من أن يذهب السمن، فضربت العرب المثل بها، وقالت أشغل من ذات النحيين فأرادت عاتكة بنت الملاءة أن هذا لم يفعله أحد من النساء برجل كما يفعله الرجل بالمرأة غيرها، وأنها ثأرت للنساء ثأرهن من الرجال بما فعلته.

ما جرى بين الملاءة وعمر بن أبي ربيعة أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال: حدثنا أبو هفان عن إسحاق الموصلي عن الزبير والمسيبي ومحمد بن سلام وغيرهم من رجاله: أن الملاءة بنت زرارة لقيت عمر بن أبي ربيعة بمكة وحوله جماعة ينشدهم، فقالت لجارية: من هذا? قالت: عمر بن أبي بربيعة، المنتقل من منزله من ذات وداد إلى أخرى، الذي لم يدم على وصل، ولا لقوله فرع ولا أصل، أما والله لو كنت كبعض من يواصل لما رضيت منه بما ترضين، وما رأيت أدنا من نساء أهل الحجاز ولا أقر منهن بخسف، والله لأمة من إمائنا آنف منهن فبلغ ذلك عمر عنها، فراسلها فراسلته، فقال:

حي المنازل قد عمـرن خـرابـا                      بين الجرين وبين ركن كسـابـا

بالثني من ملكان غير رسـمـهـا                      مر السحاب المعقبات سـحـابـا

وذيول معصفة الرياح تجـرهـا                      دققا فأصبحت العـراص يبـابـا

ولقـد أراهـا مـرة مـأهـولة                      حسنا جناب محلها مـعـشـابـا

دار التي قالت غداة لـقـيتـهـا                      عند الجمار فما عـييت جـوابـا

هذا الذي باع الصـديق بـغـيره                      ويريد أن أرضى بـذاك ثـوابـا

قلت اسمعي مني المقال ومن يطع                      بصديقه المتمـلـق الـكـذابـا

وتكن لديه حـبـالـه أنـشـوطة                      في غير شيء يقطع الأسبـابـا

إن كنت حاولت العتاب لتعلـمـي                      ما عندنا فلقد أطلـت عـتـابـا

أو كان ذلك لـلـبـعـاد فـإنـه                      يكفيك ضربك دونك الجلـبـابـا

وأرى بوجهك شـرق نـور بـين                      وبوجه غيرك طخية وضـبـابـا صوت

أسعداني يا نخلـتـي حـلـوان                      وارثيا لي من ريب هذا الزمان

واعلما أن ريبـه لـم يزل يف                      رق بين الألاف والـجـيران

 

صفحة : 1498

 

 

أسعداني وأيقنا أن نـحـسـا                      سوف يلقاكما فتفتـرقـان

ولعمري لو ذقتما ألم الفـر                      قة أبكاكما كما أبـكـانـي

كم رمتني به صروف الليالي                      من فراق الأحباب والخلان الشعر لمطيع بن إياس، والغناء لحكم الوادي، هزج بالوسطى عن عمرو وإلهشامي.

 

أخبار مطيع بن إياس ونسبه

هومطيع بن إياس الكناني. ذكر الزبير بن بكار أنه من بني الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. وذكر إسحاق الموصلي عن سعيد بن سلم أنه من بني ليث بن بكر. والديل وليث أخوان لأب وأم، أمهما أم خارجة، واسمها عمرة بنت سعد بن عبد الله بن قراد بن ثعلبة بن معاوية بن زيد بن الغوث بن أنمار بن أراش بن عمرو بن الغوث بن نبت مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وهي التي يضرب بها المثل فيقال: أسرع من نكاح أم خارجة. وقد ولدت عدة بطون من العرب حتى لو قال قائل: إنه لا يكاد يتخلص من ولادتها كبير أحد منهم كان مقاربا. فمن ولدت الديل وليث والحارث وبنو بكر بن عبد مناة بن كنانة، وغاضرة بن مالك بن مالك ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة، والعنبر وأسيد والهجيم، بنو عمرو بن تميم، وخارجة بن يشكر وبه كانت تكنى ابن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن مزيقيا، وهو أبو المصطلق.

نكاح أم خارجة

قال النسابون: بلغ من سرعة نكاحها أن الخاطب كان يأتيها فيقول لها: خطب، فتقول له: نكح.

وزعموا أن بعض أزواجها طلقها فرحل بها ابن لها عن حيه إلى حيها، فلقيها راكب فلما تبينته قالت لابنها: هذا خاطب لي لا شك فيه، أفتراه يعجلني أن أنزل عن بعيري ? فجعل ابنها يسبها.

ولا أعلم أني وجدت نسب مطيع متصلا إلى كنانة في رواية أحد إلا في حديث أنا ذاكره؛ فإن راويه ذكر أن أبا قرعة الكناني جد مطيع، فلا أعلم أهو جده الأدنى فأصل نسبه به، أم هو بعيد منه، فذكرت الخبر على حاله.

تشاحن ابن الزبير وجد مطيع

أخبرني به عيسى بن الحسن الوراق قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثني العمري وأبو فراس عمي جميعا، عن شراحيل بن فراس، أن أبا قرعة الكناني، واسمه سلمى بن نوفل قال: وهو جد مطيع بن إياس الشاعر كانت بينه وبين ابن الزبير قبل أن يلي مقارضه ، فدخل سلمى وابن الزبير يخطب الناس، وكان منه وجلا، فرماه ابن الزبير ببصره حتى جلس، فلما انصرف من المجلس دعا حرسيا فقال: امض إلى موضع كذا وكذا من المسجد، فادع لي سلمى بن نوفل. فمضى فأتاه به، فقال له الزبير: إيها أيها الضب. إني لست بالضب ولكن الضب بالضمر من صخر. قال: إيها أيها الذيخ . قال: إن أحدا لم يبلغ سني وسنك إلا سمي ذيخا .

قال: إنك لها هنا يا عاض بظر أمه. قال: أعيذك بالله أن يتحدث العرب أن الشيطان نطق على فيك بما تنطق به الأمة الفسلة، وايم الله ما ها هنا داد أريده على المجلس أحد إلا قد كانت أمه كذلك.

والد مطيع بن إياس

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه قال: كان إياس بن مسلم، أبو مطيع بن إياس شاعرا، وكان قد وفد إلى نصر بن سيار بخراسان فقال فيه:

إذا ما نعالي من خراسان أقبلـت                      وجاوزت منها مخرما ثم مخرما

ذكرت الذي أوليتني ونشـرتـه                      فإن شئت فاجعلني لشكرك سلما  جد مطيع بن إياس

فأما نسب أبي قرعة هذا فإنه سلمى بن نوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر بن نفاثة بن عدي بن الديل بن بكر بن عبد مناة. ذكر ذلك المدائني. وكان سلمى بن نوفل جوادا. وفيه يقول الشاعر:

يسود أقوام ولـيسـوا بـسـادة                      بل السيد الميمون سلمى بن نوفل رجع الخبر إلى سياقه نسب مطيع بن إياس وأخباره  صفة مطيع وذكر نشأته

وهو شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وليس من فحول الشعراء في تلك ، ولكنه كان ظريفا خليعا حلو العشرة، مليح النادرة، ماجنا متهما في دينه بالزندقة، ويكنىأبا سلمى. ومولده ومنشؤه الكوفة، و أبوه من أهل فلسطين الذين أمد بهم عبد الملك بن مروان الحجاج بن يوسف في وقت قتاله ابن الزبير الأشعث، فأقام بالكوفة وتزوج بها، فولد له مطيع.

صلته بالولاة والخلفاء

 

 

صفحة : 1499

 

أخبرني بذلك الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، وكان منقطعا إلى الوليد بن يزيد بن عبد الملك ومتصرفا بعده في دولتهم، ومع أوليائهم وعمالهم وأقاربهم لا يكسد عند أحد منهم، ثم انقطع في الدولة العباسية إلى جعفر بن أبي جعفر المنصور، فكان معه حتى مات، ولم أسمع له مع أحد منهم خبرا إلا حكاية بوفوده على سليمان بن علي، وأنه ولاه عملا. وأحسبه مات في تلك الأيام.

رأي بعض الناس فيه

حدثني عمي الحسن بن محمد، قال: حدثني محمد بن سعد الكراني عن العمري عن العتبي عن أبيه قال: قدم البصرة علينا شيخ من أهل الكوفة لم أر قط أظرف لسانا ولا أحلى حديثا منه، وكان يحدثني عن مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، وحماد الراوية، وظرفاء الكوفة، بأشياء من أعاجيبهم وطرفهم، فلم يكن يحدث عن أحد بأحسن مما كان يحدثني عن مطيع بن إياس، فقلت له: كنت والله أشتهي أن أرى مطيعا، فقال: والله لو رأيته للقيت منه بلاء عظيما. قال: قلت: وأي بلاء ألقاه من رجل أراه? قلت: كنت ترى رجلا يصبر عن العاقل إذا رآه، ولا يصحبه أحد إلا افتضح به.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب قال: سالت رجلا من أهل الكوفة كان يصحب مطيع بن إياس عنه فقال: لا ترد أن تسألني عنه. قلت: ولم ذاك? قال: وما سؤالك إياي عن رجل كان إذا حضر ملكك ، وإذا غاب عنك شاقك، وإذا عرفت بصحبته فضحك.

إعجاب الوليد بن يزيد بمطيع

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني عبد الله بن عمرو قال: حدثني أبو توبة صالح بن محمد عن محمد جبير، عن عبد الله بن العباس الربيعي قال: حدثني إبراهيم بن المهدي قال: قال لي جعفر بن يحيى: ذكر حكم الوادي، أنه غنى الوليد بن يزيد ذات ليلة وهو غلام حديث السن، فقال:

إكليلهـا ألـوان                      ووجهها فتـان

وخالهـا فـريد                      ليس لها جيران

إذا مشت تثنـت                      كأنها ثعـبـان فطرب حتى زحف عن مجلسه إلى، وقال: أعد فديتك بحياتي. فأعدته حتى صحل صوتي ، فقال لي: ويحك، من يقول هذا? فقلت: عبد لك يا أمير المؤمنين أرضاه لخدمتك. فقال: ومن هو فديتك? فقلت: مطيع بن إياس الكناني. فقال: وأين محله? قلت: الكوفة. فأمر أن يحمل إليه على البريد، فحمل إليه، فما أشعر يوما إلا برسوله قد جاءني، فدخلت إليه ومطيع بن إياس واقف بين يديه، وفي يد الوليد طاس من ذهب يشرب به، فقال له: غن هذا الصوت يا وادي. فغنيته إياه، فشرب عليه، ثم قال لمطيع: من يقول هذا الشعر? قال: عبدك أنا يا أمير المؤمنين. فقال له: إدن مني. فدنا منه، فضمه الوليد وقبل فاه وبين عينيه، وقبل مطيع رجله والأرض بين يديه ، ثم أدناه منه حتى جلس أقرب المجالس إليه، ثم تم يومه فاصطبح أسبوعا متوالي الأيام على هذا الصوت.

لحن هذا الصوت هزج مطلق في مجرى البنصر، والصنعة لحكم. وقد حدثني بخبره هذا مع الوليد جماعة غير هذه الرواية، ولم يذكروا فيها حضور مطيع.

حدثني به أحمد عبيد الله بن عمار قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال: بلغني عن حكم الوادي، وأخبرني الحسين بن يحيى، ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أحمد بن يحيى المكي عن أمه عن حكم الوادي قال: وفدت على الوليد بن يزيد مع المغنين، فخرج يوما إلينا وهو راكب على حمار، وعليه دارعة وشيء ؛ وبيده عقد جوهر، وبين يديه كيس فيه ألف دينار، فقال: من غناني فأطربني فله ما علي وما معي. فغنوه فلم يطرب فاندفعت وأنا يومئذ أصغرهم سنا فغنيته:

إكليلها ألـوان                      ووجهها فتان

وخالها فـريد                      ليس له جيران

إذا مشت تثنت                      كأنها ثعبـان فرمى إليه بما معه من المال والجوهر ، ثم دخل فلم يلبث أن خرج إلي رسوله بما عليه من الثياب والحمار الذي كان تحته.

صحبته لجماعة من الزنادقة

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: كان مطيع بن إياس، ويحيى بن زياد الحارثي، وابن المقفع ووالبة بن الحباب يتنادمون ولا يفترقون، ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال ولا ملك، وكانوا جميعا يرمون بالزندقة.

صلته بعبد الله بن معاوية

 

 

صفحة : 1500

 

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال: حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه وعمومته، أن مطيع بن إياس وعمارة بن حمزة من بني هاشم، وكان مرميين بالزندقة، نزعا إلى عبد الله بن معاوية بن جعفر بن أبي طالب لما خرج في آخر دولة بني أمية، وأول ظهور الدولة العباسية بخراسان، وكان ظهر على نواح من الجبل: منها أصبهان وقم ونهاوند، فكان مطيع وعمارة ينادمانه ولا يفارقانه.

قال النوفلي: فحدثني إبراهيم بن يزيد بن الخشك قال: دخل مطيع بن إياس على عبد الله بن معاوية يوما وغلام واقف على رأسه يذب عنه بمنديل ولم يكن في ذلك الوقت مذاب، إنما المذاب عباسية قال: وكان الغلام الذي يذب أمرد حسن الصورة، يروق عين الناظر، فلما نظر مطيع إلى الغلام كاد عقله يذهب، وجعل يكلم ابن معاوية يلجلج، فقال:

إني وما أعمل الحـجـيج لـه                      أخشى مطيع الهوى على فرج

أخشى عليه مغامسـا مـرسـا                      ليس بـذي رقـبة ولا حـرج ما قاله هو وعمارة في صاحب شرطة ابن معاوية أخبرني أحمد بن عبيد الله قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: حدثني أبي عن عمه عيسى قال: كان لابن معاوية صاحب شرطة يقال له: قيس بن عيلان العنسي النوفلي وعيلان اسم أبيه، وكان شيخا كبيرا دهريا لا يؤمن بالله ، وكان إذا عس لم يبق أحد إلا قتله، فأقبل يوما فنظر إليه ابن معاوية ومعه عمارة بن حمزة ومطيع بن إياس، قال:

إن قيسا وإن تقنع شـيبـا                      لخبيث الهوى على شمطه أجزيا عمارة. فقال:

ابن سبعين منظرا ومشيبا                      وابن عشر يعد في سقطه فأقبل على مطيع فقال: أجز. فقال:

وله شرطة إذا جنه اللـي                      ل فعوذوا بالله من شرطه قال النوفلي: وكان مطيع فيما بلغني مأبونا، فدخل عليه قومه فلاموه على فعله، وقالوا له: أنت في أدبك وشرفك وسؤددك وشرفك ترمى بهذه الفاحشة القذرة? فلو أقصرت عنها فقال: جربوه أنتم ثم دعوا إن كنتم صادقين. فانصرفوا عنه. وقالوا: قبح الله فعلك وعذرك، وما استقبلتنا به.

أخبرني عيسى بن الحسين قال: حدثنا حماد عن أخيه عن النضر بن جديد قال: أخبرني أبو عبد الملك المرواني قال: حدثني مطيع بن إياس قال: قال لي حماد عجرد: هل لك في أن أريك خشة صديقي، وهي المعروفة بظبية الوادي? قلت: نعم. قال: إنك إن قعدت عنها وخبثت عينك في النظر أفسدتها علي. فقلت: لا والله لا أتكلم بكلمة تسوءك. ولأسرنك. فمضى وقال: والله لا أتكلم، لئن خالفت ما قلت لأخرجنك. قال: قلت: إن خالفت ما تكره فاصنع بي ما أحببت. قال: امض بنا. فأدخلني على أظرف خلق الله وأحسنهم وجها، فلما رأيتها أخذني الزمع وفطن لي: فقال: اسكن يا ابن الزانية. فسكنت قليلا، فلحظتني ولحظتها أخرى، فغضب ووضع قلنسيته عن رأسه، وكانت صلعته حمراء كأنها است قرد، فلما وضعها وجدت للكلام موضعا فقلت:

وار السوأة السـوآ                      ء يا حماد عن خشه

عن الأترجة الغض                      ة والتفاحة الهشـه فالتفت إلي، وقال: فعلتها يا ابن الزانية? فقالت له: أحسن والله، ما بلغ صفتك بعد، فما تريد منه? فقال لها: يا زانية فقالت له: الزانية أمك وثاورته وثاورها، فشقت قميصه، وبصقت في وجهه، وقالت له: ما تصادقك وتدع مثل هذا إلا زانية وخرجنا وقد لقي كل بلاء، وقال لي: ألم أقل لك يا ابن الزانية: إنك ستفسد علي مجلسي. فأمسكت عن جوابه، وجعل يهجوني ويسبني، ويشكوني إلى أصحابنا، فقالوا لي: اهجه ودعنا وإياه. فقلت فيه:

ألا يا ظبية الـوادي                      وذات الجسد الراد

وزين المصر والدار                      وزين الحي والنادي

وذات المبسم العذب                      وذات الميسم البادي

أما بالله تستـحـيي                      ن من خلة حمـاد

فحماد فتـى لـيس                      بذي عز فتنقـادي

ولا مـال ولا عـز                      ولا حظ لمـرتـاد

فتوبي واتقي الـلـه                      وبتي جبل جـراد

فقد ميزت بالحسـن                      عن الخلق بإفـراد

وهذا البين قد حـم                      فجودي منك بالزاد في الأول والثاني والسابع والثامن من هذه الأبيات لحكم الوادي رمل

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...