اسلام صبحي

لقد شاع بين المسلمين في العقود الأخيرة توزيع الميراث والوالدين أو أحدهما علي قيد الحياة وهذا عبث في الشرع وباطل إنما التوريث لا يكون  الا بعد الموت الطبيعي للأب أو للأم//موسوعة المواريث وعلم الفرائض/ اسلام صبحي 3دفائق تلاوة من سورة هود /اخبط الرابط وافتح التلاوة https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

 موسوعة المواريث وعلم الفرائض

عقائد فاسدة

اسلام صبحي سورة هود https://download.tvquran.com/download/selections/315/5cca02c11a61a.mp3

الأربعاء، 12 أكتوبر 2022

ج9.كتاب الأغاني - أبو الفرج الأصفهاني {صفحة : 2400 }

 

ج9.كتاب الأغاني - أبو الفرج الأصفهاني{صفحة : 2400 .

 ج9.

 

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال: حدثني عمي قال: هاجر خراش بن أبي خراش الهذلي في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وغزا مع المسلمين، فأوغل في أرض العدو، فقدم أبو خراش المدينة، فجلس بين يدي عمر، وشكا إليه شوقه إلى ابنه، وأنه رجل قد انقرض أهله، وقتل إخوته، ولم يبق له ناصر ولا معين غير ابنه خراش، وقد غزا وتركه، وأنشأ يقول:

ألا من مبلغ عني خراشا                      وقد يأتيك بالنبأ البعـيد

وقد يأتيك بالأخبار من لا                      تجهز بالحذاء ولا تزيد تزيد وتزود واحد، من الزاد

يناديه لـيغـبـقـه كـلـيب                      ولا يأتي، لقد سفه الـولـيد

فرد إنـاءه لا شـيء فــيه                      كأن دموع عينـيه الـفـريد

وأصبح دون عابقه وأمسـى                      جبال من حرار الشام سـود

ألا فاعلم خراش بأن خبر المه                      اجر بعد هجـرتـه زهـيد

رأيتك وابتغاء الـبـر دونـي                      كمحصور اللبان ولا يصـيد قال: فكتب عمر رضي الله عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه، وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يأذن له.

مصرعه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عمر بن شبة: قال: حدثنا الأصمعي. وأخبرني حبيب بن نصر، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا علي بن الصباح، عن ابن الكلبي، عن أبيه.

وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ: قال أبو عبيدة: وأخبرني أيضا هاشم، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه، وذكره أبو سعيد السكري في رواية الأخفش عنه عن أصحابه، قالوا جميعا: أسلم أبو خراش فحسن إسلامه، ثم أتاه نفر من أهل اليمن قدموا حجاجا، فنزلوا بأبي خراش والماء منهم غير بعيد، فقال: يا بني عمي، ما أمسى عندنا ماء، ولكن هذه شاة وبرمة وقربة، فردوا الماء، وكلوا شاتكم، ثم دعوا برمتنا وقربتنا على الماء، حتى نأخذها، قالوا: والله ما نحن بسائرين في ليلتنا هذه، وما نحن ببارحين حيث أمسينا، فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته، وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى، ثم أقبل صادرا، فنهشته حية قبل أن يصل إليهم، فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء، وقال: ابطخوا شاتكم وكلوا ولم يعلمهم بما أصابه، فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا، وأصبح أبو خراش في الموت، فلم يبرحوا حتى دفنوه، وقال وهو يعالج الموت:

لعمرك والمنايا غـالـبـات                      على الإنسان تطلع كل نجـد

لقد أهلكت حية بطـن أنـف                      على الأصحاب ساقا ذات فقد وقال أيضا:

لقد أهلكت حية بـطـن أنـف                      على الأصحاب ساقا ذات فضل

فما تركت عدوا بين بـصـرى                      إلى صنعاء يطلـبـه بـذحـل قال: فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبره، فغضب غضبا شديدا، وقال: لولا أن تكون سبة لأمرت ألا يضاف يمان أبدا، ولكتبت بذلك إلى الآفاق. إن الرجل ليضيف أحدهم، فيبذل مجهوده فيسخطه ولا يقبله منه، ويطالبه بما لا يقدر عليه، كأنه يطالبه بدين، أو يتعنته ليفضحه، فهو يكلفه التكاليف، حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما، وقتله، ثم كتب إلى عامله باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته، ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة تمسهم جزاء لأعمالهم.

 

صوت

 

تهيم بها لا الدهر فان ولا المنى                      سواها ولا ينسيك نأي ولا شغل

كبيضة أدحي بمـيث خـمـيلة                      يحففها جون بجؤجؤة صعـل الشعر لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة، والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى، عن ابن المكي.

 

أخبار ابن دارة ونسبه

نسبه

 

 

صفحة : 2401

 

هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة، وقيل: بل هو عبد الرحمن بن رعبي بن مسافع بن دارة، وأخوه مسافع بن دارة، وكلاهما شاعر، وفي شعريهما جميعا غناء يذكر ها هنا وأخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا وفي بعض شعره غناء يذكر بعد أخبار هذين. فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية والإسلام. وأما هذان فمن شعراء الإسلام، ودارة لقب غلب على جدهم، ومسافع أبوهم، وهو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة بن كعب بن عدي بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. وهذا الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السمهري العكلي اللص وقتله وكان نديما له وأخا.

يستعدي قومه عكلا على بني أسد: أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال: لما أخذ السمهري العكلي وحبس وقتل، - وكانت بنو أسد أخذته وبعثت به إلى السلطان وكان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة، فقتل بعد طول حبس - فقال عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد ويحرض عليهم عكلا.

صوت

إن يمس بالعينـين سـقـم فـقـد أتـى                      لعينيك من طول البكاء علـى جـمـل

تهيم بها لا الدهـر فـان ولا الـمـنـى                      سواها ولا تسلـى بـنـأي ولا شـغـل

كبـيضة أدحـي بـمـيث خـمـــيلة                      يحففها جون بـجـؤجـؤة الـصـعـل

وما الشمس تبدو يوم غـيم فـأشـرقـت                      على الشامة العنقاء فالنـير فـالـذبـل

بدا حاجب منها وضـنـت بـحـاجـب                      بأحسن منها يوم زالت على الـحـمـل

يقولون: إزل حب جـمـل وقـربـهـا                      وقد كذبوا ما فـي الـمـودة مـن إزل

إذا شحطـت عـنـي وجـدت حـرارة                      على كبدي كادت بها كمـدا تـغـلـي

ولم أر مـحـزونـين أجـمـل لـوعة                      على نائبات الدهر مني ومـن جـمـل

كلانـا يذود الـنـفـس وهـي حـزينة                      ويضمر وجدا كالنـوافـذ بـالـنـبـل

وإنل لمبلي اليأس مـن حـب غـيرهـا                      فأما على جـمـل فـإنـي لا أبـلـي

وإن شفاء النفس لو تسعـف الـمـنـى                      ذوات الثنايا الغر والـحـدق الـنـجـل

أولئك إن يمنعـن فـالـمـنـع شـيمة                      لهن وإن يعطين يحـمـدن بـالـبـذل

سأمسك بالوصل الـذي كـان بـينـنـا                      وهل ترك الواشون والنأي مـن وصـل

ألا سـقـيانـي قـهـوة فـارســـية                      من الأول المختوم ليست من الفـضـل

تنسي ذوي الأحلام واللـب حـلـمـهـم                      إذا أزبدت في دنهـا زبـد الـفـحـل

ويا راكبا إمـا عـرضـت فـبـلـغـن                      على نأيهم مني القبـائل مـن عـكـل

بأن الذي أمست تجـمـجـم فـقـعـس                      إسار بـلا أسـر وقـتـل بـلا قـتـل

وكيف تنام اللـيل عـكـل ولـم تـنـل                      رضى قود بالسمـهـري ولا عـقـل?

فلا صلح حتى تنحط الخيل في الـقـنـا                      وتوقد نار الحرب بالحطـب الـجـزل

وجرد تعـادى بـالـكـمـاة كـأنـهـا                      تلاحظ من غيظ بـأعـينـا الـقـبـل

عليها رجـال جـالـدوا يوم مـنـعـج                      ذوي التاج ضرابو الملوك على الوهـل

بضرب يزيل الهام عـن مـسـتـقـره                      وطعن كأفـواه الـمـفـرجة الـهـدل

علام تمـشـي فـقـعـس بـدمـائكـم                      وما هي بالفرع المنـيف ولا الأصـل?

وكنا حسبنـا فـقـعـسـا قـبـل هـذه                      أذل على وقع الهـوان مـن الـنـعـل

فقد نظرت نحو السـمـاء وسـلـمـت                      على الناس واعتاضت بخصب من المحل

رمى الله في أكبادكم أن نـجـت بـهـا                      شعاب القنان من ضعيف ومـع وغـل

وإن أنـتـم لـم تـثـأروا بـأخـيكــم                      فكونوا نساء للخـلـوق ولـلـكـحـل

وبيعوا الردينيات بالـحـلـي واقـعـدوا                      على الذل وابتاعوا المغازل بـالـنـبـل

ألا حبذا من عنده القـلـب فـي كـبـل                      ومن حبة داء وخبـل مـن الـخـبـل

ومن هو لا ينسـى ومـن كـل قـولـه                      لدينا كطعم الراح أو كجنـى الـنـحـل

ومن إن نأى لم يحدث النـأي بـغـضـه                      ومن إن دنا في الدار أرصد بـالـبـذل

 

صفحة : 2402

 

خبر السمهري مع نديمه ومصرعه: وأما خبر المسهري ومقتله فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني به قال: حدثنا أبو سعيد السكري قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عمرو الشيباني قال: لقي السمهري بن بشر بن أقيش بن مالك بن الحراث بن أقيش العكلي ويكنى أبا الديل هو وبهدل ومروان بن قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ومعه خاله: أحد بني حارثة بن لأم من طيء بالثعلبية، وهو يريد الحج من الكوفة، أو يريد المدينة، وزعم آخرون أنهم لقوه بين نخل والمدينة، فقالوا له: العراضة، أي مر لنا بشيء فقال: يا غلام، جفن لهم، فقالوا: لا والله ما الطعام نريد، فقال: عرضهم، فقالوا: ولا ذلك نريد، فارتاب بهم، فأخذ السيف فشد عليهم، وهو صائم، وكان بهدل لا يسقط له سهم، فرمى عونا فأقصده، فلما قتلوه ندموا، فهربوا، ولم يأخذوا إبله، فتفرقت إبله، ونجا خاله الطائي، إما عرفوه فكفوا عن قتله، وإما هرب ولم يعرف القتلة، فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر الأسدي.

وبلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى الحجاج بن يوسف، وهو عامله على العراق، وإلى هشام بن إسماعيل، وهو عامله على المدينة، وإلى عامل اليمامة أن يطلبوا قتلة عون، ويبالغوا في ذلك؛ وأن يأخذوا السعاة به أشد أخذ، ويجعلوا لمن دل عليهم جعله، وانشام السمهري في بلاد غطفان ما شاء الله.

ثم مر بنخل، فقالت عجوز من بني فزارة: أظن والله هذا العكلي الذي قتل عونا، فوثبوا عليه، فأخذوه، ومر أيوب بن سلمة المخزومي بهم، فقالت له بنو فزارة: هذا العكلي قاتل عون ابن عمك، فأخذه منهم، فأتى به هشام بن إسماعيل المخزومي عامل عبد الملك على المدينة، فجحد وأبى أن يقر، فرفعه إلى السجن فحبسه.

وزعم آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت إبل عون في يدي شافع بن واتر اتهموه بقتله، فأخذوه، وقالوا: أنت قرفتنا، قتلت عونا، وحبسوه بصل: ماء لبني أسد، وجحد، وقد كان عرف من قتله، إما أن يكون كان معهم، فوري عنهم، وبرأ نفسه، وإما أن يكون أودعوها إياه، أو باعوها منه، فقال شافع:

فإن سـركـم أن تـعـــلـــمـــوا أين ثـــأركـــم                      فسـلـمـى مـعــان وابـــن قـــرفة ظـــالـــم

وفي السجن عكلي شريك لبهدل فولوا ذباب السيف من هو حازم

فوالله ما كنا جناة ولا بنا                      تأوب عـونـــا حـــتـــفـــه وهـــو صـــائم

 

صفحة : 2403

 

فعرفوا من قتله، فألحوا على بهدل في الطلب، وضيقوا على المسهري في القيود والسجن، وجحد، فلما كان ذلك من إلحاحهم على المسهري أيقنت نفسه أنه غير ناج، فجعل يلتمس الخروج من السجن، فلما كان يوم الجمعة والإمام يخطب، وقد شغل الناس بالصلاة فك إحدى حلقتي قيده، ورمى بنفسه من فوق السجن، والناس في صلاتهم، فقصد نحو الحرة، فولج غارا من الحرة، وانصرف الإمام من الصلاة فخاف أهل المدينة عامتهم أتباعه، وغلقوا أبوابهم، وقال لهم الأمير: اتبعوه فقالوا: وكيف نتبعه وحدنا، فقال لهم: أنتم ألفا رجل، فكيف تكونون وحدكم? فقالوا: أرسل معنا الأبليين؛ وهم حرس وأعوان من أهل الأبلة، فأعجزهم الطلب، فلما أمسى كسر الحلقة الأخرى، ثم همس ليلته طلقا، فأصبح وقد قطع أرضا بعيدة، فبينا هو يمضي إذ نعب غراب عن شماله، فتطير، فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش ريشه، ويلقيه، فاعتاف شيئا في نفسه، فمضى، وفيها ما فيها، فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك، فسأله: من أنت? قال: رجل من لهب من أزد شنوءة أنتجع أهلي، فقال له هل عندك شيء من زجر قومك? فقال: إني لآننس من ذلك شيئا أي لأبصر، فقص عليه حاله غير أنه ورى الذنب على غيره والعيافة، وخبره عن الغراب والشجرة، فقال اللهبي: هذا الذي فعل ما فعل، ورأى الغراب على البانة يطرح ريشه سيصلب، فقال السمهري: بفيك الحجر، فقال اللهبي: بل بفيك الحجر، استخبرتني فأخبرتك ثم تغضب. ثم مضى حتى اغترز في بلاد قضاعة، وترك بلاد غطفان وذكر بعض الرواة أنه توقف يومه وليلته فيما يعمله؛ وهل يعود من حيث جاء ثم سار. حتى أتى أرض عذرة بن سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم متنكرا، ويستحلب الرعيان اللبن، فيحلبون له، ولقيه عبد الله الأحدب السعدي: أحد بني مخزوم من بني عبد شمس، وكان أشد منه وألص، فجنى جناية، فطلب، فترك بلاد تميم، ولحق ببلاد قضاعة، وهو على نجيبة لا تساير، فبينا السمهري يماشي راعيا لبني عذرة، ويحدثه عن خيار إبلهم، ويسأله السمهري عن ذلك - وإنما يسأله عن أنجاهن ليركبها. فيهرب بها، لئلا يفارق الأحدب - أشار له إلى ناقة، فقال السمهري: هذه خير من التي تفضلها، هذه لا تجاري، فتحين الغفلة، فلما غفل وثب عليها، ثم صاح بها فخرجت تطير به، وذلك في آخر اليل، فلما أصبحوا فقدوهاا، وفقدوه، فطلبوه في الأثر. وخرجا حتى إذا كان حجر عن يسارهما، وهو واد في جبل، أو شبه الثقب فيه استقبلتهما سعة هي أوسع من الطريق، فظنا أن الطريق فيها، فسارا مليا فيها، ولا نجم يأتمان به، فلما عرفا أنهما حائدان، والتفت عليهما الجبال أمامهما، وجد الطلب إثر بعيريهما، ورواه وقد سلك الثقب في غير طريق عرفوا أنه سيرجع، فقعدوا له بفم الثقب ثم كرا راجعين، وجاءت الناقة، وعلى رأسها مثل الكوكب من لغامها، فلما أبصر القوم هم أن يعقر ناقتهم، فقال له الأحدب: ما هذا جزاؤها. فنزل، نزل الأحدب، فقاتلهما القوم، حتى كادوا يغشون السمهري فهتف بالأحدب، فطرد عنه القوم، حتى توقلا في الجبل، وفي ذلك يقول السمهري يعتذر من ضلاله:

وما كنت محيارا ولا فزع السرىولكن حذا حجر بغير دليل وقال الأحدب في ذلك:

لما دعاني السـمـهـري أجـبـتـه                      بأبيض من مـاء الـحـديد صـقـيل

وما كنت ما اشتدت على السيف قبضتي                      لأسلم من حـب الـحـياة زمـيلـي وقال السمهري أيضا:

نجوت ونفسي عند ليلـى رهـينة                      وقد غمني داج من الليل دامـس

وغامست عن نفسي بأخلق مقصل                      ولا خير في نفس امرئ لا تغامس

ولو أن ليلى أبصرتـنـي غـدوة                      ومطواي والصف الذين أمـارس

إذا لبكت ليلى علـي وأعـولـت                      وما نالت الثوب الذي أنـا لابـس

 

صفحة : 2404

 

فرجع إلى صحراء منعج، وهي إلى جنب أضاخ، والحلة قريب منها، وفيها منازل عكل، فكان يتردد ولا يقرب الحلة، وقد كان أكثر الجعل فيه، فمر بابني فائد ابن حبيب من بني أسد، ثم من بني فقعس فقال: أجيرا متنكرا، فحلبا له، فشرب ومضى لا يعرفانه، وذهبا، ثم لبث السمهري ساعة، وكر راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد، فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها، فنظر أحدهما إلى ساقه مكدحة، وإذا كدوح طرية، فأخبر أخاه بذلك، فنظر، فرأى ما أخبره أخوه، فارتابا به، فقال أحدهما: هذا والله السمهري الذي جعل فيه ما جعل، فاتفقا على مضابرته، فوثبا عليه، فقعد أحدهما على ظهره، وأخذ الآخر برجليه فوثب السمهري، فألقى الذي على ظهره، وقال: أتلعبان? وقد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه، وعالجه الآخر، فجعل رأسه تحت إبطه أيضا، وجعلا يعالجانه، فناديا أختهما أن تعينهما، فقالت: ألي الشرك في جعلكما? قالا: نعم، فجاءت بجرير فجعلته في عنقه بأنشوطه ثم جذبته، وهو مشغول بالرجلين يمنعهما، فلما استحكمت العقدة، وراحت من علابيه خلى عنهما، وشد أحدهما، فجاء بصرار، فألقاه في رجله، وهو يداور الآخر، والأخرى تخنقه؛ فخر لوجهه، فربطاه، ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان المري، وهو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه، فكتب فيه إلى الخليفة، فكتب أن أدفعه إلى ابن أخي عون: عدي، فدفع إليه، فقال السمهري: أتقتلني وأنت لا تدري أقاتل عمك أنا أم لا? ادن أخبرك، فأراد الدنو منه، فنودي: إياك والكلب، وإنما أراد أن يقطع أنفه، فقتله بعمه. ولما حبسه ابن حيان في السجن تذكر زجر اللهبي وصدقه، فقال:

ألا أيها البيت الذي أنا هـاجـره                      فلا البيت منسي ولا أنـا زائره

ألا طرقت ليلى وساقي رهـينة                      بأشهب مشدود علي مسامـره

فإن أنج يا ليلى فرب فتى نجـا                      وإن تكن الأخرى فشيء أحاذره

وما أصدق الطير التي برحت لنا                      وما أعيف اللهبي لا عز ناصره

رأيت غرابا ساقطا فـوق بـانة                      ينشنش أعلى ريشـه ويطـايره

فقال غراب باغتراب من النوى                      وبان ببين من حبيب تـحـاذره

فكان اغتراب بالغـراب ونـية                      وبالبان بين بـين لـك طـائره وقال السمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد:

فمن مبلغ عني خليلي مـالـكـا                      رسالة مشدود الوثـاق غـريب

ومن مبلغ حزما وتيما ومالـكـا                      وأرباب حامي الحفر رهط شبيب

ليبكوا التي قالت بصحراء منعـج                      لي الشرك يا بني فائد بن حبـيب

أتضرب في لحمي بسهم ولم يكن                      لها في سهام المسلمين نـصـيب وقال السمهري يرقق بني أسد:

تمنت سليمى أن أقيل بأرضـهـا                      وأني لسلمى ويبها ما تـمـنـت

ألا ليت شعري هل أزورن ساجرا                      وقد رويت ماء الغوادي وعلـت

بني أسد هل فيكـم مـن هـوادة                      فتغفر إن كانت بي النعل زلـت وبنو تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعدي: وقال السمهري في الحبس يذم قومه:

لقد جمع الحداد بـين عـصـابة                      تسائل في الأقياد ماذا ذنوبـهـا

بمنزلة أما اللـئيم فـشـامـت                      بها وكرام القوم باد شحوبـهـا

إذا حرسي قعقع الباب أرعـدت                      فرائص أقوام وطارت قلوبهـا

ألا ليتني من غير عكل قبيلتـي                      ولم أدر ما شبان عكل وشيبها?

قبيلة  من  لا يقرع الباب وقدهـا                      لخير ولا يهدي الصواب خطيبها

نرى الباب لا نستطيع شيئا وراءه                      كأنا قني أسلمتها كـعـوبـهـا

وإن تك عكل سرها ما أصابنـي                      فقد كنت مصبوبا على ما يريبها وقال السمهري أيضا في الحبس:

ألا حي ليلى إذ ألم لـمـامـهـا                      وكان مع القوم الأعادي كلامها

تعلل بليلى إنـمـا أنـت هـامة                      من الغد يدنو كل يوم حمامهـا

وبادر بليلى أوجه الركب إنهـم                      متى يرجعوا يحرم عليك كلامها

وكيف ترجيها وقد حيل دونـهـا                      وأقسم أقوام مخوف قسامـهـا

 

صفحة : 2405

 

 

لأجتنبنهـا أو لـيبـتـدرنـنـي                      ببيض عليها الأثر فعم كلامهـا

لقد طرقت ليلى ورجلي رهـينة                      فما راعني في السجن إلا لمامها

فلما انتبهت للخيال الـذي سـرى                      إذا الأرض قفر قد علاها قتامها

فإلا تكن ليلى طـوتـك فـإنـه                      شبية بليلى حسنها وقـوامـهـا

ألا ليتنا نحيا جميعـا بـغـبـطة                      وتبلى عظامي حين تبلى عظامها وقال أيضا:

ألا طرقت ليلى وساقـي رهـينة                      بأسمر مشـدود عـلـي ثـقـيل

فما البين يا سلمى بأن تشحط النوى                      ولكن بـينـا مـا يريد عـقـيل

فإن أنج منها أنج من ذي عظـيمة                      وإن تكن الأخرى فتلك سـبـيل وقال أيضا وهو طريد:

فلا تيأسا من رحمة الله وانظرا                      بوادي جبونا أن تهب شمـال

ولا تيأسا أن ترزقـا أريحـية                      كعين المها أعناقهـن طـوال

من الحارثيين الذين دمـاؤهـم                      حرام وأما مالهـم فـحـلال وقال أيضا:

ألم تر أني وابن أبيض قد جفـت                      بنا الأرض إلا أن نؤم الفـيافـيا

طريدين من حيين شتى أشـدنـا                      مخافتنا حتى نخلنا التـصـافـيا

وما لمته في أمر حزم ونـجـدة                      ولا لامني في مرتي واحتيالـيا

وقلت له إذ حل يسقي ويستقـي                      وقد كان ضوء الصبح ليل حاديا:

لعمري لقد لاقت ركابك مشربـا                      لئن هي لم تضبح عليهن عالـيا بعض أخباره: وأخذت طيئ ببهدل ومروان أخيه أشد الأخذ، وحبسوا، فقالوا: إن حبسنا لم نقدر عليهما ونحن محبوسون، ولكن خلوا عنا، حتى نتجسس عنهما، فنأتيكم بهما، وكانا تأبدا مع الوحش يرميان الصيد فهو رزقهما. ولما طال ذلك على مروان هبط إلى راع، فتحدث إليه فسقاه، وبسطه، حتى اطمأن إليه، ولم يشعره أنه يعرفه، فجعل يأتيه بين الأيام، فلا ينكره، فانطلق الراعي، فأخبره باختلافه إليه، فجاء معه الطلب، وأكمنهم، حتى إذا جاء مروان إلى الراعي كما كان يفعل ساقاه، وحدثه فلم يشعر حتى أطافوا به، فأخذوه، وأتوا به عثمان بن حيان أيضا عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة، فأعطى الذي دل عليه جعله، وقتله.

نهاية بهدل: وأما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى، فبلغ ذلك سيدا من سلمى، من طيء، فقال: قد أخيفت طيء، وشردت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب، فجاء حتى حل بأهله أسفل تلك الهضبة ومعه أهلات من قومه، فقال لهم: إنكم بعيني الخبيث، فإذا كان النهار فليخرج الرجال من البيوت، وليخلوا النساء، فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب، وطلب الحاجة والعل فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما، فظن بهدل أنهم يفعلون ذلك لشغل يأتيهم، فانحدر إلى قبة السيد، وقد أمر النساء: إن انحدر إليكن رجل فإنه ابن عمكن، فأطعمنه وادهن رأسه.

وفي قبة السيد ابنتان له فسألهما: من أنتما? فأخبرتاه، وأطعمتاه، ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه، فقال: أحسنتما إلى ابن عمكما، فجعل ينحدر إليهما، حتى اطمأن، وغسلتا رأسه، وفلتاه ودهنتاه، فقال الشيخ لابنتيه: أفلياه، ولا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة، واعقدا خصل لمته إذا نعس رويدا بخمل القطيفة.

ثم إذا شددنا عليه فأقلبا القطيفة على وجهه، وخذا أنتما بشعره من ورائه فمدا به إليكما، ففعلتا، واجتمع له أصحابه، فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها، وشدوا عليه، فربطوه، فدفعوه إلى عثمان بن حيان، فقتله، فقالت بنت بهدل ترثيه:

فيا ضيعة الفتيان إذ يعتـلـونـه                      ببطن الشرى مثل الفنيق المسدم

دعا دعوة لما أتى أرض مالـك                      ومن لا يجب عند الحفيظة يسلم

أما كان في قيس من ابن حفيظة                      من القوم طلاب التراث غشمشم

فيقتل جبرا بامرئ لم يكـن بـه                      بواء ولكن لا تـكـايل بـالـدم وكان دعا: يا لمالك لينتزعوه، فلم يجبه أحد.

مساجلة بينه وبين الكميت:

 

صفحة : 2406

 

قال: ولما قال عبد الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة يحض عكلا على بني فقعس اعترض الكميت بن معروف الفقعسي، فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاري، فقال قوله:

فلا تكثروا فيه الضجـاج فـإنـه                      محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا فقال عبد الرحمن بن دارة:

فيا راكبا إما عـرضـت فـبـلـغـن                      مغلغللة عني القبـائل مـن عـكـل

جلت حمما عنها القصاف وما جـلـت                      قشير وفي الشدات والحرب ما يجلىي

فإن يك باع الفقـعـسـي دمـاءهـم                      بوكس فقد كانت دماؤكـم تـغـلـي

وكيف تنام اللـيل عـكـل ولـم يكـن                      لها قود بالسـمـهـري ولا عـقـل

رمى الله في أكبادهم إن نجـت بـهـا                      حروف القنان من ذليل ومـن وغـل

وكنا حسبنا فقـعـسـا قـبـل هـذه                      أذل على طول الهوان من الـنـعـل

فإن أنـتـم لـم تـثـأروا بـأخـيكـم                      فكونوا بغايا للخلـوق ولـلـكـحـل

وبيعوا الردينيات بالحـلـي واقـعـدوا                      على الوتر وابتاعوا المغازل بالنـبـل

فإن الذي كانت تجمـجـم فـقـعـس                      قتيل بلا قتلـى وتـبـل بـلا تـبـل

فلا سلم حتى تنحط الخيل بـالـقـنـا                      وتوقد نار الحرب بالحطب الـجـزل يقتلون ابن سعدة وأمه: فلما بلغ قوله مالكا أخا السمهري بخراسان، انحط من خراسان، حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا من قومه، فعلقوا في أرض بني أسد يطلبون الغرة فوجدوا بثادق رجلا معه امرأة من فقعس، فقتلوه، وحزوا رأسه، وذهبوا بالرأس، وتركوا جسده، كما قتلوها أيضا، وذكر لي: أن الرجل ابن سعدة والمرأة التي كانت معه هي سعدة أمه، فقال عبد الرحمن في ذلك:

ما لقتيل فقعس لا رأس له                      هلا سألت فقعسا من جدله

لا يتبعن فقعسي جـمـلـه                      فردا إذا ما الفقعسي أعمله

لا يلقين قاتلا فـيقـتـلـه                      بسيفه قد سمه وصقـلـه وقال عبد الرحمن أيضا:

لما تمالى القوم في رأد الضحـى                      نظرا وقد لمع السراب فـجـالا

نظر ابن سعدة نظرة ويلا لـهـا                      كانت لصحبك والمطي خـبـالا

لما رأى من فـوق طـود يافـع                      بعض العـداة وجـنة وظـلالا

عيرتني طلب الحمول وقـد أرى                      لم آتهـن مـكـفـفـا بـطـالا

فانظر لنفسك يا بن سعدة هل ترى                      ضبعا تجـر بـثـادق أوصـالا

أوصال سعدة والكمـيت وإنـمـا                      كان الكميت على الكميت عـيالا وقال عبد الرحمن في ذلك:

أصبحتم ثكلى لئاما وأصـبـحـت                      شياطين عكل قد عراهن فقعـس

قضى مالك ما قد قضى ثم قلصت                      به في سواد الليل وجناء عرمس

فأضحت بأعلى ثادق وكـأنـهـا                      محالة غرب تستمر وتـمـرس مصرعه: وحدثني علي بن سليمان الأخفش أن بني أسد ظفرت بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعدما أكثر من سبهم وهجائهم وتآمروا في قتله، فقثال بعضهم: لا تقتلوه، ولتأخذوا عليه أن يمدحنا ونحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه، فعزموا على ذلك، ثم إن رجلا منهم كان قد عضه بهجائه، اغتفله فضربه بسيفه، فقتله وقال في ذلك:

قتل ابن دارة بالجزيرة سبنا                      وزعمت أن سبابنا لا يقتل قال علي بن سليمان: وقد روي أن البيت المتقدم:

فلا تكثروا فيه الضجـاج فـإنـه                      محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا لهذا الشاعر الذي قتل ابن دارة، وهو من بني أسد، وهكذا ذكر السكري.

 

صوت

 

كلانـا يرى الـجـوزاء يا جـــمـــل إذا بـــدت                      ونـجـم الـثــريا والـــمـــزار بـــعـــيد

فكيف بكم يا جمل أهلا ودونكم بحور يقمصن السفين وبيد

إذ قلت: قد حان القفول يصدنا                      سلـيمـان عــن أهـــوائنـــا وســـعـــيد الشعر لمسعود بن خرشة المازني، والغناء لبحر، خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي.

 

أخبار مسعود بن خرشة

يهوى جارية من قومه:

 

صفحة : 2407

 

مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم، شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم، قال أبو عمرو: وكان مسعود بن خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها: جمل بنت شراحيل، أخت تمام بن شراحيل المازني الشاعر، فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم، فقال مسعود:

كلانا يرى الجوزاء يا جمل إذ بدت                      ونجم الثريا والـمـزار بـعـيد

فكيف بكم يا جمل أهلا ودونـكـم                      بحور يقمصن الـسـفـين وبـيد

إذا قلت: قد حان القفول يصـدنـا                      سليمان عن أهـوائنـا وسـعـيد قال أبو عمرو: ثم خطبها رجل من قومها، وبلغ ذلك مسعودا فقال:

أيا جمل لا تشقي بأقعس حنكل                      قليل الندى يسعى بكير ومحلب

له أعنز حو ثمـان كـأنـمـا                      يراهن غر الخيل أهون أنجب يسرق إبلا: وقال أبو عمرو: وسرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسي، هو ورفقاء له، وكان معه رجلان من قومه، فأتوا بها اليمامة ليبيعوها، فاعترض عليهم أمير كان بها من بني أسد، ثم عزل وولي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك:

يقول المرجفون: أجاء عـهـد                      كفى عهدا بتنفـيذ الـقـلاص

أتى عهد الإمارة من عـقـيل                      أغر الوجه ركب في النواصي

حصون بني عقيل كل عضـب                      إذا فزعوا وسـابـغة دلاص

وما الجارات عند المحل فيهـم                      ولو كثر الروازح بالخمـاص قال: وقال مسعود  وقد  طلبه والي اليمامة، فلجأ إلى موضع فيه ماء وقصب:

ألا ليت شعري هـل أبـيتـن لـيلة                      بوعثاء فيها للظـبـاء مـكـانـس

وهل أنجون من ذي لبيد بن جـابـر                      كأن بنات الماء فيه الـمـجـالـس

وهل أسمعن صوت القطا تندب القطا                      إلى الماء منه رابـع وخـوامـس

أخبار بحر ونسبه

هو بحر بن العلاء، مولى بني أمية، حجازي، أدرك دولة بني هاشم، وعمر إلى أيام الرشيد، وقد هرم، وكان له أخ يقال له عباس، وأخوه بحر أصغر منه، مات في أيام المعتصم، وكان يلقب حامض الرأس، وله صنعة، وأقدمه الرشيد عليه، ثم كرهه، فصرفه.

حدثني جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: حدثني أحمد بن أبيس خالد الأحول، عن علي بن صالح صاحب المصلى: أن الرشيد سمع من علوية ومخارق وهما يومئذ من صغار المغنين في الطبقة الثالثة أصواتا استحسنها، ولم يكن سمعها، فقال لهما: ممن أخذتما هذه الأصوات، فقالا: من بحر، فاستعادها، وشرب عليها، ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر، فأمر بإحضاره، وأمره أن يغني ذلك الصوت، فغناه، فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم يعجبه، واستثقله لولائه لبني أمية، فوصله، وصرفه، ولم يصل إليه بعد ذلك.

 

صوت

 

ألا يا لقومي للنـوائب والـدهـر                      وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري

وللأرض كم من صالح قد تودأت                      عليه فوارته بلـمـاعة قـفـر عروضه من الطويل، قال الأصمعي: يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم: يال كذا  بفتح اللام  وإذا دعوت للشيء. قلت بالكسرة، تقول: يا للرجال ويا للقوم. وتقول: يا للغنيمة ويا للحادثة، أي اعجلوا للغنيمة وللحادثة، فكأنه قال: يا قوم اعجلوا للغنيمة. وروى الأصمعي وغيره مكان قد تودأت: قد لمأت عليه، وتلاءمت، أي وارته، ويروى: تأكمت أي صارت أكمة.

الشعر لهدبة بن خشرم، والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.

 

أخبرا هدبة بن خشرم ونسبه

وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله نسبه وأدبه: هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن - وهو سلمة - بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم؛ وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة؛ ويقال: بل هو سعد بن أسلم، وهذيم عبد لأبيه رباه، فقيل: سعد بن هذيم، يعني سعدا هذا.

وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز، وكان شاعرا راوية، كان يروي للحطيئة، والحطيئة يرويي لكعب بن زهير، وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير، وكان جميل راوية هدبة، وكثير راوية جميل، فلذلك قيل: إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير.

 

 

صفحة : 2408

 

وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر: حوط وسيحان والواسع، أمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين، وكانت شاعرة أيضا.

وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة بن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم.

أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا، فجمعت بعض روايتهم إلى بعض، واقتصرت على ما لابد منه من الأشعار، وأتيت بخبرهما على شرح، وألحقت ما نقص من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان.

الحرب بين رهطه ورهط زيادة بن زيد: فممن حدثني به محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي: تينة قال: حدثنا خلف بن المثنى الحداني، عن أبي عمر والمديني.

وأخبرني الحسن بن يحيى، ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي، عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه.

وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ، عن ابن قتيبة.

وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي، عن أبيه عن عمه. وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما انفرد به من الرواية، وجمعت ما اتفقوا عليه، قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة: كان أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش، وهم بنو قرة بن حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان، وهم رهط زيادة بن زيد، وبنو عامر رهط هدبة، أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما، وكان مطلقهما من الغاية على يوم وليلة، وذلك في القيظ، فتزودوا الماء في الروايا والقرب، وكانت أخت حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد، فمالت مع أخيها على زوجها، فوهن أوعية زيادة، ففني ماؤه قبل ماء صاحبه، فقال زيادة:

قد جعلت نفسي فـي أديم                      محرم الدباغ ذي هـزوم

ثم رمت بي عرض الديموم                      في بارح من وهج السموم

عند اطلاع وعرة النجوم قال اليزيدي في خبره: المحرم: الذي لم يدبغ، والهزوم: الشقوق.

قال: وقال زيادة أيضا:

قد علمت سلمة بالعـمـيس                      ليلة مرمار ومـرمـريس

أن أبا المسور ذو شـريس                      يشفي صداع الأبلج الدلعيس العميس: موضع، والمرمار والمرمريس: الشدة والاختلاط، وأبا المسور يعني زيادة نفسه، وكانت كنيته أبا المسور.

هدبة وزيادة كل منهما يشبب بأخت الآخر: قال: فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما، ثم إن هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد اصطحبا، وهما مقبلان من الشام، في ركب من قومهما، فكانا يتعاقبان السوق بالإبل، وكان مع هدبة أخته فاطمة، فنزلزيادة فارتجز فقال:

عوجي علينا واربعي يا فاطما                      ما دون أن يرى البعير قائما أي ما بين مناخ البعير إلى قيامه .

 

ألا ترين الدمع مني ساجما                      حذار دار منك لن تلائما

فعرجت مطردا عراهمـا                      فعما يبذ القطف الرواسما مطرد: متتابع السير، وعراهم: شديد، وفعم: ضخم، والرسيم: سير فوق العنق، والرواسم: الإبل التي تسير هذا السير الذي ذكرناه .

 

كأن في المثناة منه عائما                      إنك والله لأن تباغـمـا المثناة: الزمام، وعائم: سائح، تباغم: تكلم .

 

خودا كأن البوص والمآكما                      منها نقا مخالط صرائمـا البوص: العجز، والمأكمتان: ما عن يمين العجز وشماله، والنقا: ما عظم من الرمل. والصرائم: دونه .

 

خير من استقبالك الشمائما                      ومن مناد يبتغي معاكما ويروى: ومن نداء، أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده.

فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز بأخته، فنزل فرجز بأخت زيادة، وكانت تدعى - فيما روى اليزيدي - أم حازم، وقال الآخرون: أم القاسم، فقال هدبة:

لقد أراني والغلام الحـازمـا                      نزجي المطي ضمرا سواهما

متى تظن القلص الرواسمـا                      والجلة الناجية العـياهـمـا العياهم: الشداد.

 

يبلغن أم حازم وحـازمـا                      إذا هبطن مستحيرا قاتمـا

ورجع الحادي لها الهماهما                      ألا ترين الحزن مني دائما

حذار دار منك لن تلائمـا                      والله لا يشفي الفؤاد الهائما

 

صفحة : 2409

 

 

تمساحك اللبات والمآكمـا                      ولا اللمام دون أن تلازما

ولا اللئام دون أن تفاقمـا                      ولا الفقام دون أن تفاغما

وتعلو القوائم القوائمـا قال: فشتمه زيادة، وشتمه هدبة، وتسابا طويلا، فصاح بهما القوم: اركبا، لا حملكما الله. فإنا قوم حجاج، وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما، حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه، وهدبة أشدهما حنقا، لأنه رأى أن زيادة قد ضامه، إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله، ورجز هو بأخته، وهي غائبة لا تسمع قوله، فمضيا ولم يتحاورا بكلمة، حتى قضيا حجهما، ورجعا إلى عشيرتيهما.

يرتجزون بعمه زفر: قال اليزيدي خاصة في خبره: ثم التقى نفر من بني عامر، من رهط هدبة، فيهم أبو جبر، وهو رئيسهم الذي لا يعصونه، وخشرم أبو هدبة، وزفر عم هدبة، وهو الذي بعث الشر، وحجاج بن سلامة، وهو أبو ناشب، ونفر من بني رفاش رهط زيادة، وفيهم زيادة بن زيد، وإخوته: عبد الرحمن ونفاع وأدرع بواد من أودية حرتهم، فكان بينهم كلام، فغضب ابن الغسانية، وهو أدرع، وكان زفر عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش، فقام له أدرع فرجز به فقال:

أدوا إلينـا زفـرا                      نعرف منه النظرا

وعينه والأثـرا قال: فغضب رهط هدبة، وادعوا حدا على بني رقاش، فتداعوا إلى السلطان، ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع، فيخلو به نفر منهم، فما رأوه عليه أمضوه، فلما خلوا به ضربوه الحد ضربا مبرحا، فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا، فقال عبد الرحمن بن زيد:

ألا أبـلــغ أبـــا جـــبـــر رســـولا                      فمـا بـينـي وبـينـــكـــم عـــتـــاب

ألم تعلم بأن القوم راحوا عشية فارقوك وهم غضاب فأجابه الحجاج بن سلامة فقال:

إن كان ما لاقى ابن كنعاء مرغما                      رقاش فزاد الله رغما سبالـهـا

منعنا أخانا إذا ضربنـا أخـاكـم                      وتلك من الأعداء لا مثل مالهـا هو وزيادة يتهاديان الأشعرا: قال اليزيدي في خبره: وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار، ويتفاخران، ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره، وذكر أشعارا كثيرة، فذكرت بعضها، وأتيت بمختار ما فيه، فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها:

أراك خليلا قد عزمت التجنبـا                      وقطعت حاجات الفؤاد فأصحبا اخترت منها قوله:

وأنـك لـلـنــاس الـــخـــلـــيل إذا دنـــت                      به الـدار، والـبـاكـي إذا مــا تـــغـــيبـــا

وقـد أعـذرت صـرف الـلـيالـي بـأهـلــهـــا                      وشـحـط الـنـوى بـينـي وبـينـك مـطـلـبـــا

فلا هـي تـألـوا مـا نــأت وتـــبـــاعـــدت                      ولا هـو يألـو مـــا دنـــا وتـــقـــربـــا

أطـعـت بـهـا قـول الـوشـــاة فـــلا أرى ال                      وشـاة انـتـهـوا عـنـه ولا الـدهـر أعـتـبـــا

فهـلا صـرمـت والـحـــبـــال مـــتـــينة                      أمـــيمة إن واش وشـــى وتـــكـــذبــــا

إذا خـفـت شـك الأمـر فـارم بـــعـــزمـــه                      غيابـتـه يركـب بـك الـدهـر مــركـــبـــا

وإن وجـهة سـدت عـلــيك فـــروجـــهـــا                      فإنــك لاق لا مـــحـــالة مـــذهـــبـــا

يلام رجـال قـبـل تـجــريب غـــيبـــهـــم                      وكـيف يلام الـمـرء حـــتـــى يجـــربـــا

وإنـي لـمـعـراض قـلـيل تـــعـــرضـــي                      لوجـه امـرئ يومـا إذا مـا تــجـــنـــبـــا

قلـيل عـثـارى حـــين أذعـــر، ســـاكـــن                      جنـانـي إذا مـا الـحـرب هـرت لـتـكـلـبـــا

بحـسـبـك مـا يأتـيك فـاجـمــع لـــنـــازل                      قراه ونـــوبـــه إذا مـــا تـــنـــوبـــا

ولا تـنـتــجـــع شـــرا إذا حـــيل دونـــه                      بسـتـر وهـب أسـبـابـه مـا تـــهـــيبـــا

أنا بان رقاش وابن ثعلبة الذي بني هاديا يعلو الهوادي أغلبا

بنى العز بنيانا لقومي فما صعوا                      بأسـيافـهـم عـنـه فـأصـبـح مـصـعــبـــا

فمـا إن تـرى فـي الـنـاس أمـا كــأمـــنـــا                      ولا كـأبـينـا حـين نــنـــســـبـــه أبـــا

أتـم وأنـمـى بـالـبـنــين إلـــى الـــعـــلا                      وأكـرم مـنـا فـي الـمـنـاصـب مـنـصـبـــا

ملـكـنـا ولـم نـمـلـك وقـدنـا ولـم نـــقـــد                      كأن لـنـا حـقـا عـلـى الـنـاس تـرتـــبـــا قال اليزيدي: ترتب: ثابت لازم .

 

بآية أنا لا نـرى مـتـتـوجـا                      من الناس يعلونا إذا ما تعصبا

ولا ملكا إلا اتقانا بـمـلـكـه                      ولا سوقة إلا على الخرج أتعبا

 

صفحة : 2410

 

 

ملكنا ملوكا واسبتحنا حماهم                      وكنا لهم في الجاهلية موكبا

ندامى وأردافا فلم تر سوقة                      توازننا فاسأل إيادا وتغلبـا فأجابه هدبة، وهذا مختار ما فيها فقال:

تذكر شجوا من أميمة منصبـا                      تليدا ومنتابا من الشوق مجلبـا

تذكر حبا كان في ميعة الصبـا                      ووجدا بها بعد المشيب معتبـا

إذا كاد ينساها الفؤاد ذكرتـهـا                      فيالك ما عنى الفؤاد وعـذبـا

غدا في هواها مستكينا كـأنـه                      خليع قداح لم يجد متنـشـبـا

وقد طال ما علقت ليلى مغمرا                      وليدا إلى أن صار رأسك أشيبا المغمر: للغمر أي غير حدث - .

 

رأيتـك فـي لـيلـى كــذى الـــداء لـــم يجـــد                      طبـيبـا يداوي مـا بـه فــتـــطـــبـــبـــا

فلما اشتفى مما به كرطبه على نفسه من طول ما كان جربا يقتل زيادة فيسجن: فلم يزل هدبة طيطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله، وتنحى مخافة السلطان، وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص، فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة، فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله، فلم يزل محبوسا حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية، فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد منه إذا قامت البينة، فأقامها، فمشت عذرة إلى عبد الرحمن، فسألوه قبول الدية فامتنع، وقال: صوت

أنختم علينا كلكل الحـرب مـرة                      فنحن منيخوها عليكم بكلـكـل

فلا يدعني قومي لزيد بن مالـك                      لئن لم أعجل ضربة أو أعجـل

أبعد الذي بالنعف نعف كويكـب                      رهينة رمس ذي تراب وجندل

كريم أصابـتـه ديات كـثـيرة                      فلم يدر حتى حين من كل مدخل

أذكر بالبقيا على من أصابـنـي                      وبقياي أني جاهد غير مؤتلـي غناه ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وقيل: إنه لملالك بن أبي المسح وله فيه لحن آخر.

رجع الخبر إلى سياقته وأما علي بن محمد النوفلي، فذكر عن أبيه: أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما، فحملهما إلى معاوية، فنظر في القصة، ثم ردها إلى سعيد. وأما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية.

قال علي بن محمد عن أبيه: فلما صاروا بين يدي معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له: يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت إليه، وجرى علي وعلى أهلي وقرباي وقتل أخي زيادة، وترويع نسوتي، فقال له معاوية: يا هدبة قل. فقال: إن هذا رجل سجاعة، فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت، قال: لا بل شعرا، فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالا:

ألا يا لقومي للنـوائب والـدهـر                      وللمرء يردي نفسه وهو لا يدري

وللأرض كم من صالح قد تأكمت                      عليه فوارته بلـمـاعة قـفـر

فلا تتقـي ذا هـيبة لـجـلالـه                      ولا ذا ضياع هن يتركن للفقـر حتى قال:

رمينا فرامينـا فـصـادف رمـينـا                      منايا رجال في كتـاب وفـي قـدر

وأنت أمير المؤمـنـين فـمـالـنـا                      وراءك من معدي ولا عنك من قصر

فإن تك في أموالنا لم نضـق بـهـا                      ذراعا، وإن صبر فنصبر للصـبـر فقال له معاوية: أراك قد أقررت بقتل صاحبهم، ثم قال لعبد الرحمن: هل لزيادة ولد? قال: نعم، المسور، وهو غلام صغير لم يبلغ، وأنا عمه وولي دم أبيه، فقال: إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق، والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور.

بينه وبين جميل بن معمر: أخبرني الحرمي بن العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: نسخت من كتاب عامر بن صالح قال: دخل جميل بن معمر العذري على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد، وأهدى له بردين من ثياب كساه إياها سعيد بن العاص، وجاءه بنفقة، فلما دخل إليه عرض ذلك عليه، وسأله أن يقبله منه، فقال له هدبة: أأنت يا بن معمر الذي تقول:

بني عامر أنى انتجعتم وكنـتـم                      إذا عدد الأقوام كالخصية الفرد?

 

صفحة : 2411

 

أما والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك، خذ برديك ونفقتك، فخرج جميل، فلما بلغ باب السجن خارجا قال: اللهم أغن عني أجدع بني عامر، قال: وكانت بنو عامر قد قلت، فحالفت لإياد.

من شعر أمه فيه: قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني: فقالت أم هدبة فيه لما شخص إلى المدينة فحبس بها:

أيا إخوتي أهل المدينة أكرموا                      أسيركـم إن الأسـير كـريم

فرب كريم قد قراه وضافـه                      ورب أمور كلهن عـظـيم

عصى جلها يوما عليه فراضه                      من القوم عياف أشم حـلـيم يتوسطون له فترفض وساطتهم: فأرسل هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه، فاستمع منهم ثم قال:

أبعد الذي يالنعف نعف كويكب                      رهينة رمس ذي تراب وجندل

أذكر بالبقيا على من أصابنـي                      وبقياي أني جاهد غير مؤتلي فرجعوا إلى هدبة بالأبيات فقال: لم يوئسني بعد، فلما كانت السنة الثالثة بلغ المسور، فأرسل هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا، ثم قام عنه مغضبا وأنشأ يقول:

سأكذب أقواما يقـولـون: إنـنـي                      سآخـذ مـالا مـن دم أنـا ثـائره

فباست امرئ واست التي زحرت به                      يسوق سواما من أخ هـو واتـره ونهض، فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال: الآن أيست منه، وذهب عبد الرحمن بالمسور، وقد بلغ إلى والي المدينة، وهو سعيد بن العاص، وقيل مروان بن الحكم، فأخرج هدبة.

لقاؤه الأخير بزوجته: قالوا: فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته، وكان يحبها: إيتيني الليل أستمتع بك وأودعك، فأتته في اللباس والطيب، فصارت إلى رجل، قد طال حبسه، وأنتنت في الحديد رائحته، فحادثها، وبكى، وبكت، ثم راودها عن نفسها، وطاوعته، فلما علاها سمعت قعقة الحديد فاضطربت تحته، فتنحى عنها وأنشأ يقول:

وأدنيتني حتى إذا ما جعـلـتـنـي                      لدى الخصر أو أدنى استقلك راجف

فإن شئت والله انتـهـيت وإنـنـي                      لئلا تريني آخر الـدهـر خـائف

رأت ساعدي غول وتحـت ثـيابـه                      جآجئ يدمى حدها والـحـراقـف ثم قال الشعر حتى أتى عليه وهو طيول جدا وفيه يقول: صوت

فلم تر عيني مثل سـرب رأيتـه                      خرجن علينا من زقاق ابن واقف

تضمخن في الجادي حتى كأنما الأ                      نوف إذا استعرضتهن رواعـف

خرجن بأعناق الظباء وأعـين ال                      جآذر وارتجت لهن السـوالـف

فلو أن شيئا صاد شيئا بطـرفـه                      لصدن ظباء فوقهن المطـارف غنى فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية حبش، وفيه لحن خفيف ثقيل، وذكر إسحاق أن فيه لحنا ليونس، ولم يذكر طريقته في مجرده.

أيهما أحسن: سربه أم السمكات الثلاث?: أخبرنا الحرمي قال: حدثنا الزبير عن عمه قال: مر أبو الحراث جمين يوما بسوق المدينة، فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد شق أجوافها: وقد خرج شحمها، فبكى أبو الحارث، ثم قال: تعس الذي يقول:

فلم تر عيني مثل سـرب رأيتـه                      خرجن علينا من زقاق بن واقف وانتكس ولا انجبر، والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف.

وأحسب أن هذا الخبر مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف، ولا بها سمك، ولكن رويت ما روي.

حبي ترثى لحاله: وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال: مر بهدبة على حبي؛ فقالت: في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك؛ فقال هدبة:

تعجب حبي من أسير مـكـبـل                      صليب العصا باق على الرسفان

فلا تعجبي مني حلـيلة مـالـك                      كذلك يأتي الدهر بالـحـدثـان يبين لزوجته أوصاف من يخلفه عليها: وقال النوفلي عن أبيه: فلما مضي به من السجن للقتل، التفت فرأى امرأته؛ وكانت من أجمل النساء فقال:

أقلي علي اللـوم يا أم بـوزعـا                      ولا تجزعي مما أصاب فأوجعـا

ولا تنكحي إن فرق الدهر بينـنـا                      أغم القفا والوجه ليس بأنـزعـا

كليلا سوى ما كان من حد ضرسه                      أكيبد مطبان العشـيات أروعـا

 

صفحة : 2412

 

 

ضروبا بلحييه على عظـم زوره                      إذا الناس هشوا للفعال تقـنـعـا

وحلي بـذي أكـرومة وحـمـية                      وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا زوجته تشوه جمالها بسكين: وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله قال: لما أخرج هدبة من السجن ليقتل، جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره، ويستنشدونه، فأدركه عبد الرحمن بن حسان، فقال له: يا هدبة، أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك، يعني زوجته، وهي تمشي خلفه فقال: نعم، إن كنت من شرطها، قال: وما شرطها? قال: قد قلت في ذلك:

فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا                      أغم القفا والوجه ليس بأنزعـا

وكوني حبيسا أو لأروع ماجـد                      إذا ضن أعشاش الرجال تبرعا فمالت زوجته إلى جزار وأخذت شفرته، فجدعت بها أنفها، وجاءته تدمى مجدوعة فقالت: أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح? قال: فرسف في قيوده وقال: الآن طاب الموت.

وقال النوفلي عن أبيه: إنها فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له: إن لهدبة عندي وديعة، فأمهله حتى آتية بها، قال: أسرعي، فإن الناس قد كثروا، وكان جلس لهم بارزا عن داره، فمضت إلى السوق، فانتهت إلى قصاب وقالت: أعطني شفرتك، وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك، ففعل، فقربت من حائط، وأرسلت ملحفتها على وجهها، ثم جدعت أنفها من أصله، وقطعت شفتيها، ثم ردت الشفرة، وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت: يا هدبة، أتراني متزوجة بعدما ترى? قال: لا، الآن طابت نفسي بعد بالموت، ثم خرج يرسف في قيوده، فإذا هو بأبويه يتوقعان النكل، فهما بسوء حال، فأقبل عليهما وقال:

أبلياني اليوم صبرا منكمـا                      إن حزنا إن بدا بادئ شـر

لا أراني الـيوم إلا مـيتـا                      إن بعد الموت دار المستقر

إصبرا اليوم فإني صـابـر                      كل حي لقضـاء وقـدر زوجته تنكث بعهدها: قال النوفلي: فحدثني أبي قال: حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال: إني لببلادنا يوما في بعض المياه، فإذا أنا بامرأة تمشي أمام وهي مدبرة، ولها خلق عجيب من عجز وهيئة، وتمام جسم، وكمال قامة، فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان، قد ترعرعا، فتقدمتها، والتفت إليها، فإذا هي أقبح منظر، وغذا هي مجدوعة الأنف، مقطوعة الشفتين، فسألت عنها فقيل لي: هذه امرأة هدبة، تزوجت بعده رجلا، فأولدها هذين الصبيين.

قال ابن قتيبة في حديثه: فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه، قال: أعطيك ما لم يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء، فقال له: والله لو نقبت لي قتبك هذه، ثم ملأتها لي ذهبا، ما رضيت بها من دم هذا الأجدع، فلم يزل سعيد يسأله، ويعرض عليه فيأبى، ثم قال له: والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله:

لنجدعن بأيدينـا أنـوفـكـم                      ويذهب القتل فيما بيننا هدرا فدفعه حينئذ ليقتله بأخيه.

يعرض بحبى وهو في طريقه إلى الموت: قال حماد: وقرأت على أبي عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: ومر هبدة بحبى، فقالت له: كنت أعدك في الفتيان، وقد زهدت فيك اليوم، لأني لا أنكر أن يصبر الرجال على الموت، لكن كيف تصبر عن هذه? فقال: أما والله إن حبي لها لشديد، وإن شئت لأصفن لك ذلك ، ووقف الناس معه، فقال:

وجدت بها ما لم تجد أم واحد                      ولا وجد حبى بابن أم كلاب

رأته طويل الساعدين شمردلا                      كما تشتهي من قوة وشباب فانقمعت داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه. قالوا: فدفع إلى أخي زيادة ليقتله، قال: فاستأذن في أن يصلي ركعتين، فأذن له، فصلاهما وخفف، ثم التفت إلى من حضر فقال: لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما، فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما، ثم قال لأهله: إنه بلغني أن القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه، فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثا، ففعل ذلك حين قتل، وقال قبل أن يقتل:

إن تقتلوني في الحديد فإني                      قتلت أخاكم مطلقا لم يقيد فقال عبد الرحمن أخو زيادة: والله لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه، فأطلق له، فقام إليه وهز السيف ثم قال:

قد علمت نفسي وأنت تعلمه                      لأقتلن اليوم من لا أرحمه ثم قتله.

فقال حماد في روايته:

 

صفحة : 2413

 

ويقال: إن الذي تولى قتله ابنه المسور، دفع إليه عمه السيف وقال له: قم فاقتل قاتل أبيك، فقام، فضربه ضرتين قتله فيهما.

كاهنة تتنبأ بقتله صبرا: أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي قال: بلغني أن هدبة أول من أقيد منه في الإسلام.

قال أحمد بن الحارث الخراز: قال المدائني: مرت كاهنة بأم هدبة وهو وأخوته نيام بين يديها، فقالت: يا هذه، إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء بأمر. قالت: وما هو? قالت: أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا، وأما الواسع وسيحان فيموتان كمدا، فكان كذلك.

أخبرني الحسين بن يحيى قال: قال حماد: قرأت على أبي: أخبرك مروان بن أبي حفصة قال: كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه، قال الخراز عن المدائني: قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل:

يا هدب يا خير فتيان العشـيرة مـن                      يفجع بمثلك في الدنيا فقد فـجـعـا

الله يعلـم أنـي لـو خـشـيتـهـم                      أو أوجس القلب من خوف لهم فزعا

لم يقتلوه ولم أسـلـم أخـي لـهـم                      حتى نعيش جميعا أو نموت مـعـا وهذه الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، لما بلغه قتل أخيه محمد.

أخباره هو وزياد حديث العلبية: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: حدثني مصعب الزبيري قال: كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه، وكنا نرفع من قدر أخبارها وأشعارهما ونعجب بها.

صاحب بثينة راوية له: أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: أخبرني محمد بن الحسن الأحول، عن رواية من الكوفيين قالوا: كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة، وكان هدبة راوية الحطيئة، وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه.

حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: عائشة أم المؤمنين تدعو له بعد موته: حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال: حدثني أبو مصعب الزبيري قال: حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر، عن أبيه قال: بعث هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يقول لها: استغفري لي، فقالت: إن قتلت استغفرت لك.

 

صوت

 

ألـم تـر أنـي يوم جـو سـويقة                      بكيت فنادتني هـنـيدة مـالـيا?

فقلت لها: إن الـبـكـاء لـراحة                      به يشتفي من ظن أن لا تـلاقـيا

قفي ودعينا يا هـنـيد فـإنـنـي                      أرى القوم قد شاموا العقيق اليمانيا ويروى: أرى الركب قد شاموا .

 

إذا اغرورقت عيناي أسبل منهما                      إلى أن تغيب الشعريان بكـائيا الشعر للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريرا، وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها، والغناء لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي، قال الهشامي: وفيه لمالك ثقيل أول، وابتداء اللحنين جميعا.

 

ألم تر أني يوم جو سويقة ولعلوية فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه:

قفي ودعينا يا هنيد فإنني:

نسب الفرزدق وأخباره وذكر مناقضاته

نسبه

الفرزدق لقب غلب عليه، وتفسيره الرغيف الضخم الذي يجففه النساء للفتوت، وقيل: بل هو القطعة من العجين التي تبسط، فيخبز منها الرغيف، شبه وجهه بذلك؛ لأنه كان غليظا جهما. واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم.

قال أبو عبيدة: اسم دارم بحر، واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف. وسمى دارم دارما لأن قوما أتوا أباه مالكا في حمالة فقال له: قم يا بحر فأتني بالخريطة - يعني خريطة كان له فيها مال - فحملها يدرم عنها ثقلا، والدرمان: تقارب الخطو، فقال لهم: جاءكم يدرم بها، فسمى دارما، وسمي أبوه مالك عرفا لجوده.

وأم غالب ليلى بنت حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع.

وكان للفرزدق أخ يقال له هميم، ويلقب الأخطل، ليست له نباهة، فأعقب ابنا يقال له محمد، فمات والفرزدق حي فرثاه، وخبره يأتي بعد. وكان للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة، وهؤلاء المعروفون، وكان له غيرهم فماتوا، ولم يعرفوا. وكان له بنات خمس أو ست.

 

 

صفحة : 2414

 

وأم الفرزدق - فيما ذكر أبو عبيدة - لينة بنت قرظة الضبية.

جده محيي الموءودات: وكان يقال لصعصعة محي الموءودات؛ وذلك أنه كان مر برجل من قومه، وهوي حفر بئرا، وامرأته تبكي، فقال لها صعصعة: ما يبكيك? قالت: يريد أن يئد ابنتي هذه، فقال له: ما حملتك على هذا? قال: الفقر. قال: إني اشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما، تعيشون بألبانهما، ولا تئد الصبية، قال: قد فعلت، فأعطاه الناقتين وجملا كان تحته فحلا، وقال في نفسه: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها، فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة موءودة، وقيل: أربعمائة.

أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي، عن دماذ، عن أبي عبيدة.

وأخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا: حدثنا أبو سعيد السكري، عن محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال: قال صعصعة: خرجت باغيا ناقتين لي فارقتين - والفارق: التي تفرق إذا ضربها المخاض فتند على وجهها، حتى تنتج - فرفعت لي نار فسرت نحوها، وهممت بالنزول، فجعلت النار تضئ مرة، وتخبو أخرى، فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت: اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة يقدر أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم، قال: فلم أسر إلا قليلا حتى أيتها، فإذا حي من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم، وإذا أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها في مقدم بيته، والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض، قد حبستهن ثلاث ليال. فسلمت فقال الشيخ: من أنت? فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال، قال: مرحبا بسيدنا، ففيم أنت يا بن أخي? فقلت: في بغاء ناقتين لي فارقتين عمي علي أثرهما، فقال: قد وجدتهما بعد أن أحيا الله بهما أهل بيت من قومك، وقد نتجناهما، وعطفت إحداهما على الأخرى، وهما تانك في أدنى الإبل. قال: قلت: ففيم توقد نارك منذ الليلة? قال: أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال، وتكلمت النساء فقلن: قد جاء الولد، فقال الشيخ: إن كان غلاما فوالله ما أدري ما أصنع به، وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها - أي اقتلها - فقلت: يا هذا ذرها فإنها ابنتك، ورزقها على الله، فقال: اقتلنها، فقلت: أنشدك الله، فقال: إني أراك بها حفيا، فاشترها مني، فقلت: إني أستريها منك، فقال: ما تعطيني? قلت: أعطيك إحدى ناقتي قال: لا، قلت: فأزيدك الأخرى، فنظر إلى جملي الذي تحتي، فقال: لا، إلا أن تزيدني جملك هذا، فإني أراه حسن اللون شاب السن، فقلت: هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه، قال: قد فعلت، فابتعتها منه بلقوحين وجمل، وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت، حتى تبين منه، أو يدركها الموت، فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت: إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فآليت ألا يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه بلقوحين وجمل، فبعث الله عز وجل محمدا عليه السلام، وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا، ولم يشاركني في ذلك أحد، حتى أنزل اله تحريمه في القرآن، وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة قصائد من شعره، ومنها قصيدته التي أولها:

أبي أحد الغيثين صعصعة الـذي                      متى تخلف الجوزاء والدلو يمطر

أجار بنات الوائدين ومـن يجـر                      على الفقر يعلم أنه غير مخفـر

على حين لا تحيا البنات وإذ هـم                      عكوف على الأصنام حو المدور المدور: يعني الدوار الذي حول الصنم، وهو طوافهم .

 

أنا ابن الذي رد المنية فـضـلـه                      فما حسب دافعت عنه بمـعـور

وفارق ليل من نسـاء أتـت أبـي                      تمارس ريحا ليلها غير مقـمـر

فقالت: أجر لي ما ولدت فإنـنـي                      أتيتك من هزلي الحمولة مقـتـر

هجف من العثو الرؤوس إذا بـدت                      له ابنة عام يحطم العظم منـكـر

رأس الأرض منها راحة فرمى بها                      إلى خدد منها إلى شر مـخـفـر

فقال لها: فيئي فإنـي بـذمـتـي                      لبنتك جار من أبيهـا الـقـنـور إسلام أبيه على يد الرسول:

 

صفحة : 2415

 

ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بفعله في الموءودات، فاستحسنه وسأله: هل له في ذلك من أجر? قال: نعم فأسلم وعمر غالب، حتى لحق أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه بالبصرة، وأدخل إليه الفرزدق، وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية.

أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم بن محمد الخزاعي، وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا: حدثنا الرياشي قال: حدثنا العلاء بن الفضل بن عبد الملك بن أبي سوية، قال: حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري، قال: حدثني الطفيل بن عمرو الربعي، عن ربيعة بن مالك بن حنظلة، عن صعصعة بن ناجية المجاشعي جد الفرزدق قال: قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم، فعرض علي الإسلام، فأسلمت، وعلمني آيات من القرآن، فقلت: يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر? فقال: وما عملت? فقلت: إني أضللت ناقتين لي عشراوين، فخرجت أبغيهما على جمل، فرفع لي بيتان في فضاء من الأرض، فقصدت قصدهما، فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا، فقلت له: هل أحسست من ناقتين عشراوين? قال: وما نارهما? - يعني السمة - فقلت: ميسم بني دارم، فقال: قد أصبت ناقتيك ونتجناهما، وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر، فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر: قد ولدت، فقال: وما ولدت? إن كان غلاما فقد شركنا في قوتنا، وإن كانت جارية فادفنوها، فقالت: هي جارية: أفأئدها? فقلت: وما هذا المولود? قالت: بنت لي، فقلت: إني أشتريها منك، فقال: يا أخا بني تميم، أتقول لي: أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر? فقلت: إني لا أشتري منك رقبتها، إنما أشتري دمها لئلا تقتلها، فقال: وبم تشتريها? فقلت: بناقتي هاتين وولديهما. قال: لا حتى تزيدني هذا البعير الذي تركبه: قلت: نعم، على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت إليك البعير ففعل، فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير، فلما كان في بعض الليل فكرت في نفسي فقلت: إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب، فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة وستين موءودة، أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل، فهل لي في ذلك من أجر يا رسول الله? فقال عليه السلام: هذا باب من البر، ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام، قال عباد: ومصداق ذلك قول الفرزدق:

وجدي الذي منع الوائدات                      وأحيا الوئيد فـلـم يوأد أخبرني محمد بن يحيى، عن الغلابي، عن العباس بن بكار، عن أبي بكر الهذلي قال: وفد صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد من تميم، وكان صعصعة قد منع الوئيد في الجاهلية، فلم يدع تميما تئد، وهو يقدر على ذلك، فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال: أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك، قال: زدني، قال: احفظ ما بين لحييك، وما بين رجليك.

ثم قال له عليه السلام: ما شيء بلغني عنك فعلته? قال: يا رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه، ولم أدر أين الوجه، غير أني علمت أنهم ليسوا عليه، ورأيتهم يئدون بناتهم، فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك، فلم أتركهم يئدون، وفديت من قدرت عليه.

وروى أبو عبيدة أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حملت حمالات في الجاهلية والإسلام، وعلي منها ألف بعير، فأديت من ذلك سبعمائة، فقال له: إن الإسلام أمر بالوفاء، ونهى عن الغدر، فقال: حسبي حسبي، ووفى بها.

وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب، وقد وفد إليه في خلافته.

وكان صعصعة شاعرا وهو الذي يقول: أنشدنيه محمد بن يحيى له:

إذا المرء عادى من يودك صدره                      وكان لمن عاداك خدنا مصافـيا

فلا تسألن عمـا لـديه فـإنـه                      هو الداء لا يخفي بذلك خافـيا أبوه يعطي دون أن يسأل: أخبرني محمد بن يحيى، عن محمد بن زكريا؛ عن عبد الله بن الضحاك، عن الهيثم بن عدي، عن عوانة قال:

 

صفحة : 2416

 

تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر نفرا ليسائلوهم، فأيهم أعطى، ولم يسألهم عن نسبهم من هم? فهو أفضلهم، فاختار كل رجل منهم رجلا؛ والذين اختيروا عمير بن السليك، بن قيس بن مسعود الشيباني، وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري، وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق، فأتوا ابن السليك فسألوه مائة ناقة، فقال: من أنتم? فانصرفوا عنه.

ثم أتوا طلبة بن قيس، فقال لهم مثل قول الشيباني، فأتوا غالبا، فسألوه، فأعطاهم مائة ناقة وراعيها، ولم يسألهم من هم فساروا بها ليلة، ثم ردوها، وأخذ صاحب غالب الرهن، وفي ذلك يقول الفرزدق:

وإذا ناحبت كلب على الناس أيهم                      أحق بتاج الماجد المـتـكـرم

على نفرهم من نزار ذوي العلا                      وأهل الجراثيم التي لم تـهـدم

فلم يجز عن أحسابهم غير غالب                      جرى بعنان كل أبيض خضرم سحيم يعجز عن مباراة أبيه في كرمه: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن جهم السليطي، عن إياس بن شبة، عن عقال بن صعصعة، قال: أجدبت بلاد تميم، وأصابت بن يحنظلة سنة في خلافة عثمان، فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة، فانتجعتها بنو حنظلة، فنزلوا أقصى الوادي، وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن حنظلة، ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب، فنحر ناقته فأطعمهم إياها، فلما وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة، فنحرها من غد، فقيل لغالب: إنما نحر سحيم مواءمة لك - أي مساواة لك - فضحك غالب، وقال: كلا، ولكنه امرؤ كريم، وسوف أنظر في ذلك، فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين، فنحرهما، فأطعمهما بني يربوع، فعقر سحيم ناقتين، فقال غالب: الآن علمت أنه يوائمني، فقعر غالب عشرا، فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشرا، فلما بلغ غالبا فعله ضحك، وكانت إبله ترد لخمس، فلما وردت عقرها كلها عن آخرها، فالمكثر يقول: كانت أربعمائة، والمقل يقول: كانت مائة، فأمسك سحيم حينئذ؛ ثم إنه عقر في خلافة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة وبعير، فخرج الناس بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم، ورآهم علي رضي الله عنه، فقال: أيها الناس لا يحل لكم ، إنما أهل بها لغير الله عز وجل. قال: فحدثني من حضر ذلك قال: كان الفرزدق يومئذ مع أبيه وهو غلام، فجعل غالب يقول: يا بني، اردد علي، والفرزدق يردها عليه، ويقول له: يا أبت اعقر، قال جهم: فلم يغن عن سحيم فعله، ولم يجعل كغالب إذا لم يطق فعله.

يقيد نفسه حتى يحفظ القرآن: حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم - يعني أبا العيناء - عن أبي زيد النحوي، عن أبي عمرو قال: جاء غالب أبو الفرزدق إلى علي بن إبي طالب صلوات الله عليه بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة، فقال: إن ابني هذا من شعراء مضر فاسمع منه، قال: علمه القرآن، فكان ذلك في نفس الفرزدق، فقيد نفسه في وقت، وآلى: لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن.

عريق في قرض الشعر: قال محمد بن يحيى: فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعرا موصوفا أربعا وسبعين سنة، وندع ما قبل ذلك، لأن مجيئه به بعد الجمل - على الاستظهار - كان في سنة ست وثلاثين، وتوفي الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في ستة أشهر، وحكي ذلك عن جماعة، منهم الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي عن الغلابي، عن ابن عائشة أيضا، عن أبيه قال: قال الفرزدق أيضا: كنت أجيد الهجاء في أيام عثمان، قال: ومات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة فقال الفرزدق يرثيه:

لقد ضمت الأكـفـان مـن آل دارم                      فتى فائض الكفين محض الضرائب أيهما أشعر، هو أو جرير?: أخبرني حبيب المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن عمران الضبي، قال: حدثني جعفر بن محمد العنبري، عن خالد بن أم كلثوم، قال: قيل للمفضل الضبي: الفرزدق أشعر أم جرير? قال الفرزدق: قال: قلت: ولم? قال: لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال:

عجبت لعجل إذ تهاجي عبيدها                      كما آل يربوع هجوا آل دارم فقيل له: قد قال جرير:

 

صفحة : 2417

 

 

إن الفرزدق والبعيث وأمه                      وأبا البعيث لشر ما إستار فقال: واي شيء أهون من أن يقول إنسان: فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة.

أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثني موسى بن طلحة، قال: قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: كان الشعراء في الجاهلية من قيس، وليس في الإسلام مثل حظ تميم في الشعر، وأشعر تميم جرير والفرزدق، ومن بني تغلب الأخطل.

قال يونس بن حبيب: ما ذكر جرير والفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما، قال: وكان يونس فردقيا.

يغتصب بيتين لابن ميادة: أخبرني عمي، عن محمد بن رستم الطبري، عن أبي عثمان المازني قال: مر الفرزدق بابن ميادة الرماح والناس حوله وهو ينشد:

لو أن جميع الناس كانوا بربوة                      وجئت بجدي ظالم وابن ظالم

لظلت رقاب الناس خاضعة لنا                      سجودا على أقدامنا بالجماجم فسمعه الفرزدق، فقال: أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو لنبشن أمك من قبرها، فقال له ابن ميادة: خذه لا بارك الله لك فيه، فقال الفرزدق:

لو أن جميع الناس كانوا بربوة                      وجئت بجدي دارم وابن دارم

لظلت رقاب الناس خاضعة لنا                      سجودا على أقدامنا بالجماجم عود إليه هو وجرير: أخبرني عمي، عن الكراني، عن أبي فراس الهيثم بن فراس، قال: حدثني ورقة بن معروف، عن حماد الرواية قال: دخل جرير والفرزدق على يزيد بن عبد الملك وعنده بنية له يشمها فقال جرير: ما هذه يا أمير المؤمنين عندك? قال: بنية لي، قال: بارك الله لأمير المؤمنين فيها. فقال الفرزدق: إن يكن دارم يضرب فيها فهي أكرم العرب، ثم أقبل يزيد على جرير فقال: مالك والفرزدق? قال: إنه يظلمني ويبغي علي، فقال الفرزدق: وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم، قال جرير: وأما والله لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم، فقال الفرزدق: أما بك يا حمار بني كليب فلا، ولكن إن شاء صاحب السرير، فلا والله ما لي كفء غيره، فجعل يزيد يضحك.

أخبرنا عبد الله بن مالك، عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي، عن حماد الراوية قال: أنشدني الفرزدق يوما شعرا له ثم قال لي: أتيت الكلب - يعني جريرا - قلت: نعم، قال: أفأنا أشعر أم هو? قلت: أنت في بعض وهو في بعض، قال: لم تناصحني، قال: قلت: هو أشعر منك إذا أرخي من خناقة، وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت، قال: قضيت لي والله عليه وهل الشعر إلا في الخبر والشر.

قال: رورى عن أبي الزناد عن أبيه قال: قال لي جرير: يا أبا عبد الرحمن: أنا شعر أم هذا الخبيث - يعني الفرزدق - وناشدني لأخبرنه، فقلت: لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في النسيب قال: أوه قضيت والله له علي، أنا والله أخبرك: ما دهاني، إلا أني هاجيت كذا وكذا شاعرا، فسمى عددا كثيرا، وأنه تفرد لي وحدي.

خبره مع النوار: أخبرني عبد الله قال: قال المازني: قال أبو علي الحرمازي: كان من خبر الفرزدق والنوار ابنة أعين بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي - وكانت ابنة عمه - أنه خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيته، وكان الفرزدق وليها، فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل، فقال لا أفعل أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زجتك، ففعلت، فلما توثق منها، قال: أرسلي إلى القوم فليأتوا، فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق، فحمد الله، وأثنى عليه ثم قال: قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها، وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة نقاة حمراء سوداء الحدقة. فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين أعياها أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود، وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق، وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعي له بالخلافة - فلم تجد من يحملها، وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة بن أد، يقال لهم بنو أم السير، فسألتهم برحم تجمعهم وإياها - وكانت بينها وبينهم قرابة - فأقسمت عليهم أمها: ليحملنها، فحملوها، فبلغ ذلك الفرزدق، فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه، وأوقروا له عدة من الإبل، وأعين بنفقة، فتبع النوار، وقال:

أطاعت بني أم السير فأصبحـت                      على شارف ورقاء صعب ذلولها

 

صفحة : 2418

 

 

وإن الذي أمسى يخبب زوجتي                      كماش إلى أسد الشرى يستبيلها فأدركها وقد قدمت مكة، فاستجارت بخولة بنت منظور بن زيان بن سيار الفزاري، وكانت عند عبد الله بن الزبير، فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه، ونزل على بني عبد الله بن الزبير، فاستنشدوه، واستحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم، فجعل يشفعهم في الظاهر، حتى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه، فمال إلى النوار، فقال الفرزدق في ذلك: صوت

أما بنوه فلم تقبل شفاعتـهـم                      وشفعت بنت منظور بن زبانا

ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرا                      مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا لعريب في هذا البيت خفيف رمل.

قال: وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة، فاصطلحا على أن يرجعا إلى البصرة، ولا يجمعهما ظل ولاكن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم، ويصيرا على حكمهم. ففعلا، فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها.

قال: وقال غير الحرمازي: إن ابن الزبير قال للفرزدق: جئني بصداقها وإلا فرقت بينكما، فقال الفرزدق: أنا في بلاد غربة فكيف أصنع? قالوا له: عليك بسلم بن زياد، فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن الزبير بمال، فأتاه فقص عليه قصته قال: كم صداقها? قال: أربعة آلاف درهم، فأمر له بها وبألفين للنفقة، فقال الفرزدق:

دعي مغلقي الأبواب دون فعالهمولكن تمشي بي هبلت إلى سلم

إلى من يرى المعروف سهلا سبيله                      ويفـعـل أفـعـال الـرجـال الـتـي تـــنـــمـــي قال: فدفعها غليه ابن الزبير، فقال الفرزدق:

هلمي لابن عمك لا تكونـي                      كمختار على الفرس الحمارا قال: فجاء بها إلى البصرة - وقد أحبلها - فقال جرير في ذلك:

ألا تلكم عرس الفرزدق جامحـا                      ولو رضيت رمح استه لاستقرت فأجابه الفرزدق، وقال:

وأمك لو لاقيتـهـا بـطـمـرة                      وجاءت بها جوف استها لاستقرت وقال الفرزدق وهو يخاسم النوار:

تخاصمني وقد أولجت فـيهـا                      كرأس الضب يلتمس الجراداا قال الحرمازي: ومكثت النوار عنده زمانا، ترضى عنه أحيانا، وتخاصمه أحيانا، وكانت النوار إمرأة صالحة، فلم تزل تشمشئز منه، وتقول له: ويحك أنت تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة وعلى خدعة، ثم لا تزال في كل ذلك، حتى حلفت بيمين مؤثة، ثم حنثت. وتجنبت فراشه، فتزوج عليها امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد، فنافرته الخميصة، واستعدت عليه فأنكرها الفرزدق، وقال: إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها، وقال:

إن الخميصة كانت لي ولابنتها                      مثل الهراسة بين النعل والقدم

إذا أتت أهلها مني مطـلـقة                      فلن أرد عليها زفرة الـنـدم جعل يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له النوار: هل تزوجتها إلا هدادية - تعني حيا من أزد عمان - فقال الفرزدق في ذلك:

تريك نجوم الليل والشمس حـية                      كرام بنات الحارث بن عـبـاد

أبوها الذي قاد النعامة بعـدمـا                      أبت وائل في الحرب غير تماد

نساء أبوهن الأعز ولـم تـكـن                      من الأزد في جاراتهـا وهـداد

ولم يك في الحي الغموض محلها                      ولا في العمانـيين رهـط زياد

عدلت بها ميل النوار فأصبحـت                      وقد رضيت بالنصف بعد بعـاد قال: فلم تزل النوار ترققه، وتستعطفه، حتى أجابها إلى طلاقها، وأخذ عليها ألا تفارقه ولا تبرح من منزله، ولا تتزوج رجلا بعده، ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له، وأخذت عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها، ففعل ذلك.

قال المازني: وحدثني محمد بن روح العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال:

 

صفحة : 2419

 

ما استصحب الفرزدق أحدا غيري وغير راوية آخر، وقد صحب النوار رجال كثيرة، إلا أنهم كانوا يلوذون بالسواري خوفا من أن يراهم الفرزدق، فأتيا الحسن فقال له الفرزدق: يا أبا سعيد، قال له الحسن: ما تشاء? قال: أشهد أن النوار طالق ثلاثا، فقال الحسن: قد شهدنا، فلما انصرفنا قال: يا أبا شفقل، قد ندمت، فقلت له: والله إني لأظن أن دمك يترقرق، أتدري من أشهدت? والله لئن رجعت لترجمن بأحجارك، فمضى وهو يقول:

ندمت ندامة الكسعي لـمـا                      غدت مني مطلـقة نـوار

ولو أني ملكت يدي وقلبـي                      لكان علي للقدر الـخـيار

وكانت جنتي فخرجت منها                      كآدم حين أخرجه الضرار

وكنت كفاقئ عينيه عمـدا                      فأصبح ما يضيء له النهار يخاصم كل من يمد يده لمساعدة النوار: وأخبرني بخبره مع النوار أحمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني محمد بن يحيى، عن أبيه يحيى بن علي بن حميد: أن النار لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري ليمنعوها فقال الفرزدق فيهم:

بني عاصم لا تجبوها فإنكـم                      ملاجئ للسوآت دسم العمائم

بني عاصم لو كان حيا أبوكـم                      للام بنيه اليوم قيس بن عاصم فبلغهم ذلك الشعر، فقالوا: والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة، وخلوه والنوار وأرادت منافرته إلى ابن الزبير، فلم يقدر أحد على أن يكريها خوفا منه. ثم إن قوما من بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها، فقال الفرزدق:

ولولا أن يقول بنو عدي                      ألم تك أم حنظلة النوار

أتتكم يا بني ملكان عني                      قواف لا تقسمها التجار وقال فيهم أيضا:

لعمري لقد أردى النوار وسـاقـهـا                      إلى البور أحلام خفاف عقـولـهـا

أطاعت بني أم السير فأصـبـحـت                      على قتب يعلو الـفـلاة دلـيلـهـا

وقد سخطت مني النوار الذي ارتضى                      به قبلها الأزواج خاب رحـيلـهـا

وإن امرأ أمسى يخبـت زوجـتـي                      كساع إلى أسد الشرى يستبـيلـهـا

ومن دون أبـواب الأسـود بـسـالة                      وبسطة أيد يمنع الضيم طـولـهـا

وإن أمير الـمـؤمـنـين لـعـالـم                      بتأويل ما وصى العباد رسـولـهـا

فدونكها يا بـن الـزبـير فـإنـهـا                      مولعة يوهي الحجـارة قـيلـهـا

وما جادل الأقوام من ذي خصـومة                      كورهاء مشنوء إليها حـلـيلـهـا فلما قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زيان زوجة عبد الله بن الزبير، ونزل الفرزدق بحمزة بن عبد الله بن الزبير، ومدحه بقوله:

أمسيت قد نزلت بحمزة حاجـتـي                      إن المنوه باسـمـه الـمـوثـوق

بأبي عمارة خير من وطئ الححصا                      وجرت له في الصالحين عـروق

بين الحـواري الأعـز وهـاشـم                      ثم الخلـيفة بـعـد والـصـديق غنى في هذه الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر.

قال: فجعل أمر النوار يقوى، وأمر الفرزدق يضعف، فقال:

أما بنوه فلم تقبل شفاعتـهـم                      وشفعت بنت منظور بن زبانا ملاحاة بينه وبين ابن الزبير: وقال ابن الزبير للنوار: إن شئت فرقت بينكما، وقتلته، فلا يهجونا أبدا، وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو، فقالت: ما أريد واحدة منهما، فقال لها: فإنه ابن عمك وهو فيك راغب، فأزوجك إياه، قالت نعم، فزوجها منه، فكان الفرزدق يقول: خرجنا ونحن متباغضان، فعدنا متحابين.

قال: وكان الفرزدق قال لعبد الله بن الزبير - وقد توجه الحكم عليه - إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها، وكان ابن الزبير حديدا، فقال له: هل أنت وقومك إلا جالية العرب?.

ثم أمر به فأقيم، وأقبل على من حضر، فقال: إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة، فاستلبوه، فاجتمعت العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط، فأجلتها من أرض تهامة، قال: فلقي الرزدق بعض الناس، فقال: إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء اسمع، ثم قال:

فإن تغضب قريش أو تغضب                      فإن الأرض توعبها تـمـيم

 

صفحة : 2420

 

 

هم عدد النجوم وكـل حـي                      سواهم لا تعد لـه نـجـوم

ولولا بيت مكة ما ثـويتـم                      بها صح المنابـت والأروم

بها كثر العديد وطاب منكـم                      وغيركم أخيذ الريش هـيم

فمهلا عن تعلل من غدرتـم                      بخونته وعذبه الـحـمـيم

أعبد الله مهلا عـن أذاتـي                      فإني لا الضعيف ولا السئوم

ولكني صفاة لـم تـدنـس                      تزل الطير عنها والعصوم

أنا ابن العاقر الخور الصفايا                      بضوي حين فتحت العكـوم قال: فبلغ هذا الشعر ابن الزبير، وخرج للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه، فغمز عنقه، فكاد يدقها، ثم قال:

لقد أصبحت عرس الفرزدق ناشزا                      ولو رضيت رمح استه لاستقرت وقال: هذا الشعر لجعفر بن الزبير.

وقيل: إن الذي كان تقرر عليه عشرة آلاف درهم، وإن سلم بن زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا ونفقة، فقبضها، فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عمرو بن أبي العاص الثقفية: أتعطي عشرين ألف درهم وأنت محبوس? فقال:

ألا بـكـرت عــرســـي تـــلـــوم ســـفـــاهة                      علـى مـا مـضـى مـنـي وتـأمـر بـالـبـــخـــل

فقلت لها والجود مني سجية :وعل يمنع المعروف سواله مثلي?

ذريني فإني غير تارك شيمتي                      ولا مـقـصـر طـول الـحــياة عـــن الـــبـــذل

ولا طــارد ضـــيفـــي إذا جـــاء طـــارقـــا                      وقـد طـرق الأضـياف شـيخـي مـن قـــبـــلـــي

أأبـخـل? إن الـبـخـل لـيس بـــمـــخـــلـــدي                      ولا الـجـود يدنـينـي إلـى الـمـوت والــقـــتـــل

أبــيع بـــنـــي حـــرب بـــآل خـــويلـــد                      ومـا ذاك عـنـد الـلـه فـي الـبـيع بــالـــعـــدل?

ولـيس ابـن مـروان الـخـلـيفة مـــشـــبـــهـــا                      لفـحـل بـنـي الـعـوام، قـبـح مـــن فـــحـــل

فإن تـظـهـروا لـي الـبـــخـــل آل خـــويلـــد                      فمـا دأبـكـم دأبـي ولا شـكـلـكـم شـــكـــلـــي

وإن تـقـهـرونـي حـين غـابـت عـــشـــيرتـــي                      فمـن عـجـب الأيام أن تـقـهــروا مـــثـــلـــي فلما اصطلحا، ورضيت به، ساق إليها مهرها، ودخل بها، وأحبلها قبل أن يخرج من مكة.

ثم خرجا وهما عديلان في محمل.

يستصرخ حمزة بن عبد الله بن الزبير: وأخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام، عن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد بنحو من هذه القصة.

قال عمر بن شبة: قال الفرزدق في خبره:

يا حمز هل لك في ذي حاجة عرضت                      أنضاؤه بمكـان غـير مـمـطـور

فأنت أحرى قريش أن تكـون لـهـا                      وأنت بين أبي بـكـر ومـنـظـور

بين الحواري والصديق في شـعـب                      ثبتن في طنـب الإسـلام والـخـير يتقون لسانه: أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلام قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: كان فتى من بني حرام شويعر هجا الفرزدق، قال: فأخذناه، فأتينا به الفرزدق وقلنا: هذا بين يديك فإن شئت فاضرب، وإن شئت فاحلق، فلا عدوى عليك ولا قصاص، قد برئنا إليك منه، فخلى سبيله وقال:

فمن يك خائفا لأذاة شعري                      فقد أمن الهجاء بنو حرام

هم قادوا سفيههم وخافـوا                      قلائد مثل أطواق الحمام ليس طريقه إلى جهنم: قال ابن سلام: وحدثني عبد القاهر قال: مر الفرزدق بمجلسنا مجلس بني حرام ومعنا عنبسة مولى عثمان بن عفان، فقال: يا أبا فراس، متى تذهب إلى الآخرة? قال: وما حاجتك إلى ذاك يا أخي? قال: أكتب معك إلى أبي، قال: أنا لا أذهب إلى حيث أبوك، أبوك في النار، أكتب إليه مع ريالويه واصطقانوس.

يغضب على ابن الكلبي لعدم روايته شعره: أخبرني الحسن بن يحيى، عن حماد، عن أبيه قال: أخبرني مخبر، عن خالد بن كلثوم الكلبي، قال:

 

صفحة : 2421

 

مررت بالفرزدق، وقد كنت دونت شيئا من شعره وشعر جرير، وبلغه ذلك، فاستجلسني، فجلست إليه وعذت بالله من شره، وجعلت أحدثه حديث أبيه وأذكر له ما يعجبه، ثم قلت له: إني لأذكر يوم لقبك بالفرزدق، قال: وأي يوم? قلت: مررت به وأنت صبي، فقال له بعض من كان يجالسه: كأن ابنك هذا الفرزدق دهقان الحيرة في تيهه وأبهته، فسماك بذلك، فأعجبه هذا القول، وجعل يستعيد، ثم قال: أنشدني بعض أشعار ابن المراغة في، فجعلت أنشده، حتى انتهيت، ثم قال: فأنشد نقائضها التي أجبته بها، فقلت: ما أحفظها، فقال: يا خالد، أتحفظ ما قاله في ولا تحفظ نقائضه? والله لأهجون كلبا هجاء يتصل عاره بأعقابها إلى يوم القيامة، إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها وتنشدنيها، فقلت: أفعل فلزمته شهرا، حتى حفظت نقائضها، وأنشدته إياها خوفا من شره.

يكابد النوار بحدراء فتستعدي عليه جريرا: أخبرني عبد الله بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثني الأصمعي قال: تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني، وخاصمته النوار وأخذت بلحيته، فجاذبها وخرج عنها مغضبا وهو يقول:

قامت نوار إلي تنتف لحيتـي                      تنتاف جعدة لحية الخشخاش

كلتاهما أسد إذا ما أغضبـت                      وإذا رضين فهن خير معاش قال: والخشخاش رجل من عنزة، وجعدة امرأته، فجاءت جعدة إلى النوار، فقالت: ما يريد مني الفرزدق? أما وجد لامرأته أسوة غيري.

وقال الفرزدق للنوار يفضل عليها حدراء.

 

لعـمــري لأعـــرابـــية فـــي مـــظـــلة                      تظـل بـروقـي بـيتـهـا الـريح تـــخـــفـــق

أحـب إلـينـا مـــن ضـــنـــاك ضـــفـــنة                      إذا وضـعـت عـنـهـا الـمـــراويح تـــعـــرق

كريم غزال أو كدرة غائصتكاد إذا مرت لها الأرض تشرق فلما سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير، وقالت للفرزدق: والله لأخزينك يا فاسق فجاء جرير، فقالت له: أما ترى ما قال الفاسق، وشكته إليه، وأنشدته شعره، فقال جرير: أنا أكفيك، وأنشأ يقول:

ولست بمعطي الحكم عن شف منصب                      ولا عن بنات الحنظـلـيين راغـب

وهن كماء المزن يشفى به الصـدى                      وكانت ملاحا غيرهن الـمـشـارب

لقد كنت أهـلا أن يسـوق دياتـكـم                      إلى آل زيق أن بـعـيبـك عـائب

وما عدلت ذات الصلـيب ظـعـينة                      عتيبة والردفان منـهـا وحـاجـب

أأهديت يا زيق بن بسطـام طـبـية                      إلى شر من تهدى إلـيه الـقـرائب

ألا ربما لم نعط زيقـا بـحـكـمـه                      وأدى إلينا الحـكـم والـغـل لازب

حوينـا أبـا زيق وزيقـا وعـمــه                      وجده زيق قد حوتها الـمـقـانـب فأجابه الفرزدق فقال:

تقـول كـلـيب حـين مـثـت ســبـــالـــهـــا                      وأعـشـب مـن مـروتـهــا كـــل جـــانـــب

لسـواق أغـــنـــام رعـــتـــهـــن أمـــه                      إلـى أن عـلاهـا الــشـــيب فـــوق الـــذوائب

ألـسـت إذا الـقـعـســاء مـــرت بـــراكـــب                      إلـى آل بـسـطـام بـن قـيس بـــخـــاطـــب

وقـالـوا: سـمـعــنـــا أن حـــدراء زوجـــت                      علـى مــائة شـــم الـــذرى والـــغـــوارب

فلـو كـنـت مـن أكـفـاء حـدراء لــم تـــلـــم                      علـى دارمـي بــين لـــيلـــى وغـــالـــب

فنـل مـثـلـهـا مـن مـثـلـهـم ثــم أمـــهـــم                      بمـلـكــك مـــن مـــال مـــراح وعـــازب

وإني لأخشى إن خطبت إليهم عليك الذي لاقى يسار الكواعب

ولو تنكح الشمس النجوم بناتها                      نكـحـنـا بـنـات الـشـمـس قـبـل الـكـواكـــب وفي المناقضات التي دارت بين الفرزدق وجرير حول زواج بنت زيق، قال جرير أبياته التي أولها:

يا زيق أنحكت قينا في استـه حـمـم                      يا زيق ويحك من أنـكـحـت يا زيق

أين الألى أنزلوا النعـمـان ضـاحـية                      أم أين أبناء شـيبـان الـغـرانـيق?

يا رب قائلة بـعـد الـبـنـاء بـهـا:                      لا الصهر راض ولا ابن القين معشوق

غاب المثنى فلم يشهـد نـجـيكـمـا                      والحوفزان ولم يشـهـدك مـفـروق والفرزدق يقول لجرير:

إن كان أنفك قد أعياك محمـلـه                      فاركب أتانك ثم اخطب إلى زيق خبران عن ولديه: أخبرني الحسن بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن زكريا بن ثباة الثقفي قال: أنشدني الفرزدق قصيدته التي فيها ابنه، فلما انتهى إلى قوله:

 

صفحة : 2422

 

 

بفي الشامتين الصخر إن كان مسني                      رزية شبل مخدر في الضراغـم فلما فرغ قال: يا أبا يحيى، أرأيت ابني? قلت: لا، قال: والله ما كان يساوي عباءته.

بنو تغلب أعطوا ابنه مائة ناقة: قال إسحاق: حدثني أبو محمد العبدي، عن اليربوعي، عن أبي نصر قال: قدم لبطة بن الفرزدق الحيرة، فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه، ثم قالوا له: من أنت? قال: ابن شاعركم ومادحكم، وأنا والله ابن الذي يقول فيكم:

أضحى لتغلب من تميم شاعـر                      يرمي الأعادي بالقريض الأثقل

إن غاب كعب بني جعيل عنهم                      وتنمر الشعراء بعد الأخطـل

يتباشرون بمـوتـه ووراءهـم                      مني لهم قطع العذاب المرسل فقالوا له: فأنت ابن الفرزدق إذا، قال: أنا هو، فتنادوا: يا آل تغلب، اقضوا حق شاعركم والذائد عنكم في ابنه، فجعلوا له مائة ناقة، وساقوها إليه، فانصرف بها.

عمرو بن عفراء يتحداه: أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام قال: أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير، وخشية في القليل، وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد كان هجاه جرير لروايته للفرزدق في قوله:

ونبئت جوابـا وسـلـمـا يسـبـنـي                      وعمرو بن عفري. لا سلام على عمرو فقال ابن عفراء للباهلي: لا يهولنك أمره، أنا أرضيه عنك فأرضاه بدون ما كان هم له به، فأعطاه ثلثمائة درهم، فقبلها الفرزدق ورضي عنه، فبلغه بعد ذلك صنيع عمرو فقال:

ستعلم يا عمرو بن عفري من الذي                      يلام إذا ما الأمر غبت عواقـبـه

نهيت ابن عفرى أن يعفـر أمـه                      كعفر السلا إذا جررته ثعالـبـه

فلو كنت ضبيا صفحت ولو سرت                      على قدمي حياته وعـقـاربـه

ولـكـن ديافـي أبـوه وأمــه                      بحوران يعصرن السليط أقاربـه

ولما رأى الدهنا رمته جبـالـهـا                      وقالت ديافي مع الشام جانـبـه

فإن تغضب الدهنا عليك فما بهـا                      طريق لمرتاد تـقـاد ركـائبـه

تضن بمال الباهـلـي كـأنـمـا                      تضن على المال الذي أنت كاسبه

وإن امرأ يغتابني لـمـا أطـألـه                      حريما ولا ينهاه عنـي أقـاربـه

كمحتطب يوما أسـاود هـضـبة                      أتاه بها في ظلمة الليل حاطـبـه

أحين التقى ناباي وابيض مسحلـي                      وأطرق إطراق الكرى من يجانبه فقال ابن عفراء، وأتاه في نادي قومه: أجهد جهدك، هل هو إلا أن تسبني، والله لا أدع لك مساءة إلا أتيتها، ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته، قال: فاشهدوا أني أنهاه أن ينيك أمه، فضحك القوم وخجل ابن عفري.

يتطفل فيجاز: أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثنا شعيب بن صخر قال: تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية، فدعا الناس في وليمته، فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي، فألقى الفرزدق عنده، فقال له: يا أبا فراس، انهض، قال: إنه لم يدعني، قال: إن ابن ذبيان يؤتى وإن لم يدع، ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة فأتياه، فقال الفرزدق حين دخل:

كم قال لي ابن أبي شيخ وقلت له:                      كيف السبيل إلى معروف ذبـيان

إن القلوص إذا ألقت جـآجـئهـا                      قدام بابك لم نرحل بـحـرمـان قال: أجل يا أبا فراس فدخل فتغدى عنده، وأعطاه ثلثمائة درهم.

يريد أن يتحدى الناس الموت: أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: حدثني أبو بكر المدني قال: دخل الفرزدق الميدنة فوافق فيها موت طلحة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري - وكان سيدا سخيا شريفا - فقال: يا أهل المدينة، أنتم أذل قوم لله، قالوا: وما ذاك يا أبا فراس? قال: غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه منكم.

يعطي عروضا بدل النقد:

 

صفحة : 2423

 

وأتى مكة، فأتى عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي - وهو سيد أهل مكة يومئذ - وليس عنده نقد حاضر، وهو يتوقع أعطيته وأعطية ولده وأهله، فقال: والله يا أبا فراس، ما وافقت عندنا نقدا، ولكن عروضا إن شئت، فعندنا رقيق فرهة، فإن شئت أخذتهم، قال: نعم، فأرسل له بوصفاء من بنيه وبني أخيه، فقال: هم لك عندنا حتى تشخص، وجاءه العطاء، فأخبره الخبر وفداهم، فقال الفرزدق ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان يطوف بالبيت الحرام يتبختر:

تمشي تبختر حول البيت منتخبـا                      لو كنت عمرو بن عبد الله لم تزد يحتج بشعره: أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثنا عامر بن أبي عامر - وهو صالح بن رستم الخراز - قال: أخبرني أبو بكر الهذلي قال: إنا لجلوس عند الحسن إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى جلس إلى جنبه، فجاء رجل، فقال: يا أبا سعيد: الرجل يقول: لا والله، بلى والله في كلامه، قال: لا يريد اليمين، فقال الفرزدق: أو ما سمعت ما قلت في ذلك? قال الحسن: ما كل ما قلت سمعوا فما قلت? قال: قلت:

ولست بمأخوذ بلغو تقولـه                      إذا لم تعمد عاقدات العزائم قال: فلم ينشب أن جاء رجل آخر، فقال: يا أبا سعيد. نكون في هذه المغازي فنصب المرأة لها زوج، أفيحل غشيانها وإن لم يطلقها زوجها? فقال الفرزدق: أو ما سمعت ما قلت في ذلك? قال الحسن: ما كل ما قلت سمعوا فما قلت? قال: قلت:

وذات حليل أنكحتنا رماحنـا                      حلالا لمن يبني بها لم تطلق يهجو إبليس: قال أبو خليفة: أخبرني محمد بن سلام، وأخبرني محمد بن جعفر قالا: أتى الفرزدق الحسن، فقال: إني هجوت إبليس فاسمع? قال لا حاجة لنا بما تقول، قال: لتسمعن أو لأخرجن، فأقول للناس: إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس، قال: اسكت فإنك بلسانه تنطق.

الحسن يتمثل بالشعر: قال محمد بن سلام: أخبرني سلام أبو المنذر، عن علي بن زيد قال: ما سمعت الحسن متمثلا شعرا قط إلا بيتا واحدا وهو قوله:

الموت باب وكل الناس داخـلـه                      فليت شعري بعد الباب ما الدار? قال: وقال لي يوما: ما تقول في قول الشاعر:

لولا جرير هلكت بجيلة                      نعم الفتى وبئست القبيلة أهجاه أم مدحه? قلت: مدحه وهجا قومه، قال: ما مدح من هجي قومه.

وقال جرير بن حازم: ولم أسمعه ذكر شعرا قط إلا:

ليس من مات فاستراح بميت                      إنما الميت مـيت الأحـياء هل ينقض الشعر الوضوء: وقال رجل لابن سيرين وهو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبر: أيتوضأ من الشعر? فانصرف بوجهه إليه فقال:

ألا أصبحت عرس الفرزدق ناشزا                      ولو رضيت رمح استه لاستقرت ثم كبر.

من أبياته السيارة: قال ابن سلام: وكان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا - والمقلد: المغني المشهور الذي يضرب به المثل - من ذلك قوله:

فيا عجبا حتـى كـلـيب تـسـبـنـي                      كأن أباها نـهـشـل أو مـجـاشـع

وقوله: ليس الكرام بناحلـيك أبـاهـم                      حتى يرد إلـى عـطـية نـهـشـل

وقوله: وكنا إذا الجبار صـعـر خـده                      ضربناه حتى تـسـتـقـيم الأخـادع

وقوله: وكنت كذئب السوء لما رأى دما                      بصاحبه يومـا أحـال عـلـى الـدم

وقوله: ترجي ربيع أن تجيء صغارها                      بخير وقد أعيا ربيعـاص كـبـارهـا

وقوله: أكلت دوابرها الإكام فمشـيهـا                      ممـا وجـئن كـمـشـية الإعــياء

وقوله: قوارص تأتيني وتحتقرونـهـا                      وقد يملأ القطـر الإنـاء فـيفـعـم

وقوله: أحلامنا تزن الـجـبـال رزانة                      وتخالـنـا جـنـا إذا مـا نـجـهـل

وقوله: وإنك إذ تسعى لتـدرك دارمـا                      لأنت المعنى يا جرير الـمـكـلـف

وقوله: فإن تنج مني تنج من ذي عظيمة                      وإلا فـإنـي لا إخـالـك نـاجــيا

وقوله: ترى كل مظلوم ألينـا فـراره                      ويهرب منـا جـهـده كـل ظـالـم وقوله:

ترى الناس ما سرنا يسيرون حولنا                      وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا

 

صفحة : 2424

 

 

وقوله: فسيف بني عبس وقد ضربوا به                      نبا بيدي ورقـاء عـن رأس خـالـد

كذاك سيوف الهند تنبـو ظـبـاتـهـا                      ويقطعن أحيانـا مـنـاط الـقـلائد وكان يداخل الكلام، وكان ذلك يعجب أصحاب النحو، من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك:

وأصـبـح مـا فـي الـنــاس إلا مـــمـــلـــكـــا                      أبـــو أمـــه حـــي أبـــوه يقـــاربـــــــه

وقـولـه: تـالـلـه قـد سـفــهـــت أمـــية رأيهـــا                      فاسـتـجـهـلـت سـفـهـاؤهـا حــلـــمـــاءهـــا

وقـولـه: ألـسـتـم عـائجـين بــنـــا لـــعـــنـــا                      نرى الـــعـــرصـــات أو أثـــر الـــخـــــيام

فقـالـوا: إن فـعـــلـــت فـــأغـــن عـــنـــا                      دمـــوعـــا غـــير راقـــئة الـــســـجــــام

وقـولـه: فـهـل أنـت إن مـاتـت أتــانـــك راحـــل                      إلـى آل بـسـطـام بــن قـــيس فـــخـــاطـــب

وقـولـه: فـنـل مـثـلـهـا مـن مـثـلـهـم ثـم دلـهــم                      علــى دارمـــي بـــين لـــيلـــى وغـــالـــب

وقوله: تعال فإن عاهدتني لا تخوننينكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وقوله: إنا وإياك إن بلغن أرحلنا                      كمـن بـواديه بـعـد الـمــحـــل مـــمـــطـــور

وقـولـه: بـنــى الـــفـــارق أمـــك وابـــن أروى                      به عـثــمـــان مـــروان الـــمـــصـــابـــا

وقـولـه: إلـى مـلـك مـا أمـه مـــن مـــحـــارب                      أبـوه ولا كـانــت كـــلـــيب تـــصـــاهـــره

وقـولـه: إلـيك أمـير الـمـؤمـنـين رمـــت بـــنـــا                      همـوم الـمـنـا والـهـوجـل الـمــتـــعـــســـف

وعـــض زمـــان يا بـــن مـــروان لــــــم يدع                      من الـمـال إلا مـسـحـــتـــا أو مـــجـــلـــف

وقـولـه: ولـقـد دنـت لـك بـالـتـخـلـــف إذ دنـــت                      منـــهـــا بـــلا بـــخـــل ولا مـــبــــذول

وكـــأن لـــون رضـــاب فـــيهـــا إذ بـــــدا                      برد بـــفـــرع بـــشـــامة مـــصـــقـــول وقوله فيها لمالك بن المنذر:

إن ابن ضبـاري ربـيعة مـالـكـا                      للـه سـيف صـنـيعة مـسـلـول

ما نال من آل المـعـلـى قـبـلـه                      سيف لـكـل خـلـيفة ورســول

ما من يدي رجل أحـق بـمـا أتـى                      من مكرمات عـطـاية الأخـطـار

من راحـتـين يزيد يقـدح زنـــده                      كفـاهـمـا ويشـد عـقـد جـوار

وقوله: إذا جئته أعطاك عفوا ولم يكن                      على ماله حال الندى منـك سـائلـه

لدى ملك لا تنصف النـعـل سـاقـه                      أجل لا، وإن كانت طوالا حمـائلـه

وقوله: والشيب ينهض في الشباب كأنه                      ليل يسـير بـجـانـبـيه نـهــار لا يكذب في مدحه: قال أبو خليفة: أخبرنا محمد بن سلام قال: حدثني شعيب بن صخر، عن محمد بن زياد، وأخبرني به الجوهري وجحظة عن ابن شبة، عن محمد بن سلام، وكان محمد في زمام الحجاج زمانا قال: انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالردم وهو قائم والناس حوله ينشد مديح سليمان بن عبد الملك:

وكم أطلقت كفاك من غل بـائس                      ومن عقدة ما كان يرجى انحلالها

كثيرا من الأيدي التي قد تكتفـت                      فككت وأعناقا عليها غـلالـهـا قال: قلت: أنا والله أحدهم، فأخذ بيدي وقال: أيها الناس سلوه عما أقول والله ما كذبت قط.

يأبى حين يريد: أخبرني جحظة قال: حدثني ابن شبة، عن محمد بن سلام فذكر مثله وقال فيه: والله ما كذبت قط ولا أكذب أبدا.

قال أبو خليفة: قال ابن سلام: وسمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول: كتب يزيد بن المهلب لما فتح جرجان إلى أخيه مدركة أو مروان: أحمل إلي الفرزدق، فإذا شخص فأعط أهله كذا وكذا؛ ذكر عشرة آلاف درهم، فقال له الفرزدق: ادفعها إلي، قال: اشخص وأدفعها إلى أهلك، فأبى، وخرج وهو يقول:

دعاني إلى جرجان والري دونه                      لآتـيه إنـي إذا لـــزءور

لآتي من آل المهـلـب ثـائرا                      بأعراضهم والداثرات تـدور

سآبى وتأبى لي تميم وربـمـا                      أبيت فلم يقدر عـلـي أمـير لم يستطع أهله منعه: قال أبو خليفة: قال ابن سلام:

 

صفحة : 2425

 

وسمعت سلمة بن عياش قال: حبست في السجن، فإذا فيه الفرزدق قد حبسه مالك بن المنذر بن الجارود، فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره وأسبقه إلى القافية، ويجيء إلى القافية فأسبقه إلى الصدر، فقال لي: ممن أنت? قلت: من قريش قال: كل أير حمار من قريش، من أيهم أنت? قلت: من بني عامر بن لؤي، قال: لئام والله أذلة، جاورتهم فكانوا شر جيران، قلت: ألا أخبرك بأذل منهم وألأم? قال: من? قلت: بنو مجاشع، قال: ولم ويلك قلت: أنت سيدهم وشاعرهم وابن سيدهم، جاءك شرطي مالك، حتى أدخلك السجن، لم يمنعوك. قال: قاتلك الله.

قال أبو خليفة: قال ابن سلام: يهجو عمر بن هبيرة: وكان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد قتل يزيد بن المهلب فلبث بها غير كثير، ثم عزله يزيد بن عبد الملك، واستعمل عمر بن هبيرة على العراق فأساء عزل مسلمة، فقال الفرزدق وأنشدنيه يونس:

ولت بمسلمة الركـاب مـودعـا                      فارعي فزارة لا هناك المـرتـع

فسد الزمان وبـدلـت أعـلامـه                      حتى أمية عـن فـزارة تـنـزع

ولقد علمـت إذا فـزارة أمـرت                      أن سوف تطمع في الإمارة أشجع

وبحق ربك ما لهم ولمـثـلـهـم                      في مثل ما نالت فزارة مطـمـع

عزل ابن بشر وابن عمرو قبـلـه                      وأخو هراة لمثـلـهـا يتـوقـع ابن بشر: عبد الملك بن بشر بن مروان، كان على البصرة، أمره عليها سملمة. وابن عمرو: سعيد بن حذيفة بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط، وأخو هراة: عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاص.

ويروى للفرزدق في ابن هبيرة:

أمير المؤمنين وأنت عـف                      كريم لست بالطبع الحريص

أوليت الـعـراق ورافـديه                      فزاريا أحذ يد القـمـيص

ولم يك قبلها راعي مخاص                      لتأمنه على وركي قلـوص

تفنن بالعراق أبو المثـنـى                      وعلم أهله أكل الخـبـيص وأنشدني له يونس:

جهـز فـإنـك مـمـتـار ومــبـــتـــعـــث                      إلـى فـزارة عـيرا تـحـمـل الــكـــمـــرا

إن الـفـزاري لـو يعـمـى فـأطـــعـــمـــه                      أير الـحـمـار طـبـيب أبـرا الــبـــصـــرا

إن الـفــزاري لا يشـــفـــيه مـــن قـــرم                      أطـايب الـعـير حـتـى ينـهــش الـــذكـــرا

يقول لما رأى ما في إنائهم: لله ضيف الفزاريين ما انتظرا فلما قدم خالد بن عبد الله القسري واليا على ابن هبيرة حبسه في السجن، فنقب له سرب، فخرج منه، فهرب إلى الشام، فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه:

ولما رأيت الأرض قد سد ظهـرهـا                      ولم تر إلا بطنهـا لـك مـخـرجـا

دعوت الذي ناداه يونـس بـعـد مـا                      ثوى في ثلاث مظلمات فـفـرجـا

فأصبحت تحت الأرض قد سرت ليلة                      وما سار سار مثلهـا حـين أدلـجـا

خرجت ولم تمنن عـلـيك شـفـاعة                      سوى ربذ التقريب من آل أعـوجـا

أغر من الحو اللـهـامـيم إذ جـرى                      جرى بك محبوك القرى غير أفحجـا

جرى بك عريان الحمـاتـين لـيلـه                      به عنك أرخى الله ما كان أشـرجـا

وما احتال محتال كحـيلـتـه الـتـي                      بها نفسه تحت الـصـريمة أولـجـا

وظلماء تحت الأرض قد خضت هولها                      وليل كلون الطيلـسـانـي أدعـجـا

هما ظلمتـا لـيل وأرض تـلاقـتـا                      على جامع من همه مـا تـعـوجـا يهجو خالد بن عبد الله القسري أيضا: فحدثني جابر بن جندل قال: فقيل لابن هبيرة: من سيد العراق? قال: الفرزدق هجاني أميرا ومدحني سوقة. وقال الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام:

ألا قطع الرحمن ظهر مطية                      أتتنا تمطى من دمشق بخالد

وكيف يؤم المسلمين وأمـه                      تدين بأن الله ليس بـواحـد

بنى بيعة فيها الصلـيب لأمة                      وهدم من كفر منار المساجد وقال أيضا:

نزلت بجيلة واسطا فتمكـنـت                      ونفت فزارة عن قرار المنزل وقال أيضا:

لعمري لئن كانت بجيلة زانها                      جرير لقد أخزى بجيلة خالد فلما قدم العراق خالد أميرا أمر على شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود، وكان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعي على مالك قرية، فأبلطها خالد، وحفر النهر الذي سماه المبارك، فاعترض عليه الفرزدق، فقال:

 

صفحة : 2426

 

 

أهلكت مال الله في غير حـقـه                      على النهر المشؤوم غير المبارك

وتضرب أقواما صحاحا ظهورهم                      وتترك حق الله في ظهر مالـك

أإنفاق مال الله في غير كنـهـه                      ومنعا لحق المرملات الضرائك? مهر حدراء ومصرعها: أخبرني عبد الله بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن الأصمعي قال: قال أعين بن لبطة: دخل الفرزدق على الحجاج لما تزوج حدراء يستميحه مهرها، فقال له: تزوجت أعرابية على مائة بعير، فقال له عنبسة بن سعيد: إنما هي فرائض قيمتها ألفا درهم، - الفريضة عشرون درهما - فقال له الحجاج: ليس غيرها، يا كعب، أعط الفرزدق ألفي درهم.

قال: وقدم الفضيل العنزي بصدقات بكر بن وائل، فاشترى الفرزدق مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان، قال الفرزدق: فصليت مع الحجاج الظهر حتى إذا سلم، خرجت فوقفت في الدار فرآني، فقال مهيم، فقلت: إن الفضيل العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل، وقد اشتريت منه مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن تحتسب له في الديوان، فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها له فعل، فأمر أبا كعب أن يثبت للفضيل ألفين وخمسمائة درهم، ونسي ما كان أمر له به، قال: فلما جاء الفرزدق بالإبل قالت له النوار: خسرت صفقتك، أتتزوج أعرابية نصرانية سوداء مهزولة خمشاء الساقين على مائة من الإبل? فقال يعرض بالنوار وكانت أمها وليدة:

لجارية بين السليل عروقـهـا                      وبين أبي الصهباء من آل خالد

أحق بإغلاء المهور من التـي                      ربت تتردى في حجور الولائد فأبت النوار عليه أن يسوقها كلها، فحبس بعضها، وامتار عليه ما يحتاج إليه أهل البادية، ومضى ومعه دليل يقال له أوفى بن خنزير، قال أعين: فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا مذبوحا، فقال الفرزدق: يا أوفى، هلكت والله حدراء، قال: وما علمك بذلك? قال: ويقال: إن أوفى قال للفرزدق: يا أبا فراس لن ترى حدراء، فمضوا حتى وقفوا على نادي زيق، وهو جالس، فرحب به، وقال له: انزل فإن حدراء قد ماتت، وكان زيق نصرانيا فقال: قد عرفنا أن نصيبك من ميراثها في دينكم النصف، وهو لك عندنا، فقال له الفرزدق: والله لا أرزؤك منه قطميرا، فقال زيق: يا بني دارم، ما صاهرنا أكرم منكم في الحياة ولا أكرم منكم شركة في الممات، فقال الفرزدق:

عجـبـت لـحـادينـا الــمـــقـــحـــم ســـيره                      بنـا مـوجـعـات مــن كـــلال وظـــلـــعـــا

ليدنـينـــا مـــمـــن إلـــينـــا لـــقـــاؤه                      حبـيب ومـن دار أردنـا لـــتـــجـــمـــعـــا

ولـو تـعـلـم الـغـيب الـذي مـن أمـــامـــنـــا                      لكـرربـنـا الـحـادي الـمـطـي فــأســـرعـــا

يقـولـون: زر حــدراء والـــتـــرب دونـــهـــا                      وكـيف بـشـيء وصـلـه قـد تــقـــطـــعـــا

يقـول ابـن خـنـزير: بـكـــيت ولـــم تـــكـــن                      علـى امـرأة عـينـي إخـال لـــتـــدمـــعـــا

وأهـــون رزء لامـــرئ غــــير جـــــــازع                      رزيئة مـــرتـــج الـــروادف أفـــرعــــــا

ولست وإن عزت علي بزائرترابا على مرموسة قد تضعضعا وقيل إن النوار كانت اتسعانت بأم هاشم لا بتماضر، وأم هاشم أخت تماضر؛ لأن تماضر ماتت عند عبد الله بعد أن ولدت له خبيبا وثابتا ابني عبد الله بن الزبير، وتزوج بعدها أختها أم هاشم، فولدت له هاشما وحمزة وعبادا، وفي أم هاشم يقول الفرزدق:

تروحت الركبان يا أم هاشم                      وهن مناخات لهن حـنـين

وحبسن حتى ليس فيهن نافق                      لبيع ولا مركوبهن سمـين زوجة أخرى تنشز منه: أخبرنا عبد الله قال: حدثنا محمد بن حبيب قال: حدثني الأصمعي قال: نشزت رهيمة بنت غني بن درهم النمرية بالفرزدق فطلقها، وقال يهجوها بقوله:

لا ينـكـحـن بـعـدي فـــتـــى نـــمـــرية                      مرمـلة مـن بـعـلــهـــا لـــبـــعـــاد

وبـيضـاء زعـراء الـمـفـــارق شـــخـــتة                      مولـــعة فـــي خـــضـــرة وســـــواد

لهـا بـشـر شـثـن كـــأن مـــضـــمـــه                      إذا عـانـقـت بـعـلا مـــضـــم قـــتـــاد

قرنـت بـنـفـس الـشـؤم فـي ورد حـوضـهـــا                      فجـرعـتـه مـلـحـــا بـــمـــاء رمـــاد

ومازلت حتى فرق الله بينناله الحمد منها في أذى وجهاد

تجدد لي ذكرى عذاب جهنم                      ثلاثـا تـمـسـينـي بـــهـــا وتـــغـــادي يبكي ولدا له من سفاح:

 

صفحة : 2427

 

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني الحسين بن موسى قال: قال المدائني: لقي الفرزدق جارية لبني نهشل، فجعل ينظر إليها نظرا شديدا، فقالت له: مالك تنظر? فوالله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها، قال: ولم يا لخناء? قالت: لأنك قبيح المنظر سيء المخبر فيما أرى، فقال: أما والله لو جربتني لعفى خبري على منظري، قال: ثم كشف لها عن مثل ذراع البكر، فتضبعت له عن مثل سنام البكر فعالجها، فقالت: أنكاح بنسيئة? هذا شر القضية، قال: ويحك، ما معي إلا جبتي، أفتسلبينني إياها ثم تسنمها، فقال:

أولجت فيها كذراع البكـر                      مدملك الرأس شديد الأسر

زاد على شبر ونصف شبر                      كأنني أولجته في جـمـر

يطير عنه نفيان الـشـعـر                      نفى شعور الناس يوم النحر قال: فحملت منه، ثم ماتت، فبكاها وبكى ولده منها.

 

وغمد سلاح قد رزئت فلم أنح                      عليه ولم أبعث عليه البواكـيا

وفي جوفه من دارم ذو حفيظة                      لو أن المنايا أنسأتـه لـيالـيا

ولكن ريب الدهر يعثر بالفتى                      فلم يستطع ردا لما كان جاثيا

وكم مثله في مثلها قد وضعته                      ومازلت وثابا أجر المخـازيا فقال جرير يعيره:

وكم لك يا بن القين إن جاء سائل                      من ابن قصير الباع مثلك حامله

وآخر لم تشعر به قد أضعـتـه                      وأوردته رحما كثيرا غـوائلـه يتزوج ظبية فيعجز عن إتيانها: أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثني محمد بن سليمان الكوفي عن أبيه قال: تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني مجاشع بعد أن أسن، فضعف، وتركها عند أمها بالبادية سنة، ولم يكن صداقها عنده، فكتب إلى أبان بن الوليد البجلي - وهو على فارس عامل لخالد بن عبد الله القسري - فأعطاه ما سأل وأرضاه، فقال يمدحه:

فلو جمعوا من الخلان ألفـا                      فقالوا: أعطنا بهـم أبـانـا

لقلت لهم: إذا لغبنتـمـونـي                      وكيف أبيع من شرط الزمانا

خليل لا يرى المائة الصفـايا                      ولا الخيل الجياد ولا القيانـا

عطاء دون أضعاف عليهـا                      ويطعم ضيفه العبط السمانا العبط: الإبل التي لا وجع بها.

 

فما أرجو لظبية غير ربي                      وغير أبي الوليد بما أعانا

أعان بهجمة أرضت أباها                      وكانت عنده غلقا رهانـا وقال أيضا في ذلك:

لقد طال ما استودعت ظبية أمها                      وهذا زمان رد فـيه الـودائع وقال حين أراد أن يبني بها:

أبـــادر ســـؤالا بـــظـــبـــية أنـــنــــي                      أتـتـنـي بـهـا الأهـوال مــن كـــل جـــانـــب

بمـالـئة الـحـــجـــلـــين لـــو أن مـــيتـــا                      ولـو كـان فـي الأمـوات تـحـت الـــنـــصـــائب

دعته لألقى الترب عند انتفاضهولو كان تحت الراسيات الرواسب فلما ابتنى منها عجز عنها فقال:

يا لهف نفسي على نعظ فجعت بـه                      حين التقى الركب المحلوق والركب وقال جرير:

وتقول ظبية إذ رأتك محوقلاحوق الحمار من الخبال الخابل

إن البلية وهي كل بلية                      شيخ يعـلـل عـرســـه بـــالـــبـــاطـــل

لو قـد عـلـقـت مـن الـمـهـاجـر سـلـــمـــا                      لنـجـوت مـنـه بـالـقـضـاء الــفـــاصـــل قال: فنشزت فيه، ونافرته إلى المهاجر، وبلغه قول جرير فقال المهاجر: لو أتتني بالملائكة معها لقضيت للفرزدق عليها.

يشيد بابنته مكية وأمها الزنجية: قال: وكان للفرزدق ابنة يقال لها مكية، وكانت زنجية، وكان إذا حمي الوطيس، وبلغ منه الهجاء يكتنى بها، ويقول:

ذاكم إذا ما كنت محمـيه                      بدارمي أمـه ضـبـيه

صمحمح يكنى أبا مكية وقال في أمها:

يا رب خود من بنات الزنج                      تحمل تنورا شديد الـوهـج

أقعب مثل القدح الخلـنـج                      يزداد طيبا عند طول الهرج

مخجتها بالأير أي مخـج فقالت له النوار: ريحها مثل ريحك.

وقال في أم مكية يخاطب النوار:

فإن يك خالها من آل كسرى                      فكسرى كان خيرا من عقال

وأكثر جزية تـهـدى إلـيه                      وأصبر عند مختلف العوالي قال: وكانت أم النوار خراسانية، فقال لها في أم مكية:

 

صفحة : 2428

 

 

أغزك منهـا أدمة عـربـية                      علت لونها إن البجادي أحمر يمدح سعيدا فيغضب مروان: حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي قال: دخل الفرزدق على سعيد بن العاص وهو والي المدينة لمعاوية فأنشده:

نرى الغر الجحاجح من قريش                      إذا ما الخطب في الحدثان غالا

وقوفا ينظرون إلـى سـعـيد                      كأنـهـم يرون بـه هــلالا وعنده كعب بن جعيل، فلما فرغ من إنشاده قال كعب: هذه والله رؤياي البارحة، رأيت كأن ابن مرة في نواحي المدينة وأنا أضم ذلاذلي خوفا منه، فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال: لم ترض أن نكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك:

قياما ينظرون إلى سعيد                      كأنهم يرون به هلالا فقال له: يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن، فحقد عليه مروان ذلك، ولم تطل الأيام حتى عزل سعيد، وولي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدما حتى قال قصيدته التي قال فيها:

هما دلتاني مـن ثـمـانـين قـامة                      كما انقض باز أقتم الريش كاسـره

فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا                      أحي يرجى أم قـتـيل نـحـاذره

فقلت: ارفعا الأمراس لا يشعروا بنا                      وأقبلت في أعقـاب لـيل أبـادره

أبادر بوابين لـم يشـعـروا بـنـا                      وأحمر من ساج تلوح مسـامـره فقال له مروان: أتقول هذا بين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرج عن المدينة فذلك قول جرير:

تدليت تزني من ثمـانـين قـامة                      وقصرت عن باع الندى والمكارم أخبرنا ابن دريد، قال: أخبرنا الرياشي، عن محمد بن سلام، قال: رواية أخرى للخبر السابق: دخل الفرزدق المدينة هاربا من زياد، وعليها سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس أميرا من قبل معاوية، فدخل على سعيد، ومثل بين يديه، وهو معتم، وفي مجلس سعيد الحطيئة وكعب بن جعيل التغلبي، وصاح الفرزدق: أصلح الله الأمير، أنا عائذ بالله وبك، أنا رجل من تميم، ثم أحد بني دارم، أنا الفرزدق بن غالب، قال: فأطرق سعيد مليا، فلم يجبه، فقال الفرزدق: رجل لم يصب دما حراما، ولا مالا حراما، فقال سعيد: إن كنت كذلك فقد أمنت، فأنشده:

إليك فررت منك ومـن زياد                      ولم أحسب دمي لكما حـلالا

ولكني هجوت وقد هجـانـي                      معاشر قد رضخت لهم سجالا

فإن يكن الهجاء أحل قتـلـي                      فقد قلنا لشاعـرهـم وقـالا

أرقت فلم أنـم لـيلا طـويلا                      أراقب هل أرى النسرين زالا

فإن بني أمـية فـي قـريش                      بنوا لبيوتهم عـمـدا طـوالا

ترى الغر الجحاجح من قريش                      إذا ما الأمر في الحدثان غالا

قياما ينظرون إلـى سـعـيد                      كأنـهـم يرون بـه هـلالا قال: فلما قال هذا البيت، قال الحطيئة لسعيد: هذا والله الشعر، لا ما كنت تعلل به منذ اليوم، فقال كعب بن جعيل: فضلته على نفسك، فلا تفضله على غيرك، قال: بلى والله إنه ليفضلني وغيري، يا غلام، أدركت من قبلك، وسبقت من بعدك، ولئن طال عمرك لتبرزن.

ثم عبث الحطيئة بالفرزدق، فقال: يا غلام، أنجدت أمك? قال: لا بل أبي، أراد الحطيئة: إن كانت أمك أنجدت فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر، فقال الفرزدق: لا بل أبي، فوجده لقنا.

بينه وبين مخنث: أخبرني ابن دريد عن الرياشي، عن النضر بن شميل قال: قال جرير: ما قال لي ابن القين بيتا إلا وقد اكتفأته، أي قلبته إلا قوله:

ليس الكرام بناحليك أباهم                      حتى يرد إلى عطية تعتل فإني لا أدري كيف أقول فيها.

جرير يلقبه بالعزيز: وأخبرني ابن دريد قال: حدثنا السكن بن سعيد، عن محمد بن عباد، عن ابن الكلبي، عن عوانة بن الحكم، قال: بينما جرير واقف في المربد وقد ركبه الناس وعمر بن لجأ مواقفه فأنشده عمر جواب قوله:

يا تيم تـيم عـدي لا أبـا لـكـم                      لا يقذفنكم فـي سـوأة عـمـر

أحين صرت سماما يا بني لـجـأ                      وخاطرت بي عن أحسابها مضر فقال عمر جواب هذا:

لقد كذبت وشر الـقـول أكـذبـه                      ما خاطرت بك عن أحسابها مضر

 

صفحة : 2429

 

 

ألست نزوة خوار علـى أمة?                      لا يسبق الحلبات اللؤم والخور وقد كان الفرزدق رفده بهذين البيتين في هذه القصيدة، فقال جرير لما سمعها: قبحا لك يا بن لجأ، أهذا شعرك، كذبت والله ولو مت، هذا شعر حنظلي، هذا شعر العزيز يعني الفرزدق فأبلس عمر فما رد جوابا.

يلقب جريرا بالقرم: وخرج غنيم بن أبي الرقراق حتى أتى الفرزدق، فضحك، وقال: إيه يا بن أبي الرقراق، وإن عندك لخبرا، قلت: خزي أخوك ابن قتيب، فحدثته، فضحك، حتى فحص برجليه، ثم قال في ساعته:

وما أنت إن قرما تميم تسـامـيا                      أخا التيم إلا كالوشيظة في العظم

فلو كنت مولى الظلم أو في ثيابه                      ظلمت ولكن لا يدي لك بالظلـم فلما بلغ هذان البيتان جريرا قال: ما أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله:

...إن قرما تميم تساميا يغتصب شعر الشعراء: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا الرياشي قال: كان الفرزدق مهيبا تخافه الشعراء، فمر يوما بالشمردل، وهو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله:

وما بين من لم يعط سمعا وطاعة                      وبين تميم غير حز الغـلاصـم قال: والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك، قال: خذه على كره مني، فهو في قصيدة الفرزدق التي أولها قوله:

نحن بزوراء المدينة ناقتي قال: وكان الفرزدق يقول: خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر.

أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن الضحاك بن بهلول الفقيمي قال: بينما أنا بكاظمة وذو الرمة ينشد قصيدته التي يقول فيها:

أحين أعاذت بي تميم نسـاءهـا                      وجردت تجريد اليماني من الغمد إذا راكبان قد تدليا من نعف كاظمة متقنعان، فوقفا، فلما وفرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن وجهه، وقال: يا عبيد، اضممها إليك - يعني راويته - وهو عبيد أخو بني ربيعة ابن حنظلة، فقال ذو الرمة: نشدتك الله يا أبا فراس إن فعلت، قال: دع ذا عنك، فانتحلها في قصيدته وهي أربعة أبيات:

أحين أعاذت بي تمـيم نـسـاءهـا                      وجردت تجريد اليماني من الغمـد

ومدت بضبعي الـربـاب ومـالـك                      وعمرو، وشالت من ورائي بنو سعد

ومـن آل يربـوع زهـاء كـأنـه                      دجى الليل محمود النكاية والـورد

وكنا إذا الجـبـار صـعـر خـده                      ضربناه فوق الأنثيين على الـكـرد يحوز السبق في الفخر: أخبرنا ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة قال: اجتمع الفرزدق، وجرير وكثير وابن الرقاع عن سليمان بن عبد الملك، فقال: أنشدونا من فخركم شيئا حسنا، فبدرهم الفرزدق، فقال:

وما قوم إذا العلمـاء عـدت                      عروق الأكرمين إلى التراب

بمختلفين إن فضلـتـمـونـا                      عليهم في القديم ولا غضاب

ولو رفع الحساب إليه قومـا                      علونا في السماء إلى السحاب فقال سليمان: لا تنطقوا، فوالله ما ترك لكم مقالا.

يتعصب لابنته مكية: أخبرنا عبد الله بن مالك قال: حدثنا محمد بن عمران الضبي، عن سليمان بن أبي سليمان الجوزجاني قال: غاب الفرزدق فكتبت النوار تشكو إليه مكية وكتب إليه أهله يشكون سوء خلقها وتبذيها عليهم فكتب إليهم:

كتبتم عليها أنها ظلمـتـكـم                      كذبتم وبيت الله بل تظلمونها

فإلا تعدوا أنها من نسـائكـم                      فإن ابن ليلى والد لا يشينها

وإن لها أعمام صدق وأخوة                      وشيخا إذا شاءت تنمر دونها يعقه ابنه: قال: وكان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منه لبطة، والآخر حبطة، والثالث، سبطة، وكان لبطة من العققة فقال له الفرزدق:

أإن أرعشت كفا أبيك وأصـبـحـت                      يداك يدي لـيث فـإنـك جـادبــه

إذا غالب ابن بالـشـبـاب أبـا لـه                      كبيرا فإن الـلـه لا بـد غـالـبـه

رأيت تباشير العقـوق هـي الـتـي                      من ابن امرئ ما إن يزال يعاتـبـه

ولما رآنـي قـد كـبـرت وأنـنـي                      أخو الحي واستغنى عن المسح شاربه

أصاخ لغـربـان الـنـجـي وإنـه                      لأزور عن بعض المقالة جـانـبـه

 

صفحة : 2430

 

قال أبو عبيدة في  كتاب النقائض  : قال رؤبة بن العجاج: حج سليمان بن عبد الملك، وحجت معه الشعراء، فمر بالمدينة منصرفا، فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة، فقعد سليمان، وعنده عبد الله بن حسن بن حسن - عليهم السلام - وعليه ثوبان ممصران، وهو أقربهم منه مجلسا، فأدنوا إليه بطريقهم، وهو في جامعة، فقال لعبد الله بن حسن: قم، فاضرب عنقه فقام، فما أعطاه أحد سيفا، حتى دفع إليه حرسي سيفا كليلا، فضربه، فأبان عنقه وذراعه، وأطن ساعده وبعض الغل، فقال له سليمان: والله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك، وجعل يدفع الأسرى إلى الوجوه، فيقتلونهم، حتى دفع إلى جرير رجلا منهم، فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض، فضربه، فأبان رأسه، ودفع إلى الفرزدق أسير، فدست إليه القيسية سيفا كليلا، فضرب به الأسير ضربات، فلم يصنع شيئا، فضحك سليمان وضحك الناس معه. وقيل: إن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا، وقال اقتله به، فقال: لا، بل أقتله بسيف مجاشع، واخترط سيفه، فضربه، فلم يغن شيئا، فقال سليمان: أما والله لقد بقى عليك عارها وشنارها، فقال جرير قصنيدته التي يهجوه فيها، وأولها:

ألا حي ربع المنزل المتقادم                      وما حل مذ حلت به أم سالم منها:

ألم تشهد الجونين والشعب ذا الغضى                      وكرات قيس يوم دير الجمـاجـم?

تحرض يا بن القين قيسا ليجعـلـوا                      لقومك يومـا مـثـل يوم الأراقـم

بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع                      ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم

ضربت به عند الإمام فأرعـشـت                      يداك وقالوا: محدث غـير صـارم فقال الفرزدق يجيب جريرا عن قوله:

وهل ضربة الرومي جاعلة لكم                      أبا عن كليب أو أبا مثـل دارم

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا                      وتقطع أحيانا مناط التـمـائم

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهـم                      إذا أثقل الأعناق حمل المغارم وقال يعرض بسليمان، ويعيره نبو سيف ورفاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر، وبنو عبس هم أخوال سليمان:

فإن يك سيف خان أو قدر أبى                      بتعجيل نفس حتفها غير شاهد

فسيف بني عبس وقد ضربوا به                      نبا بيدي ورقاء عن رأس خالد

كذاك سيوف الهند تنبو ظباتهـا                      وتقطع أحيانا مناط الـقـلائد وأولها:

تباشر يربوع بنـبـوة ضـربة                      ضربت بها بين الطلا والمحارد

ولو شئت قد السيف ما بين عنقه                      إلى علق بين الحجابين جامـد وقيل: إن الفرزدق قال لسليمان: يا أمير المؤمنين، هب لي هذا الأسير، فوهبه له، فأعتقه، وقال الأبيات التي منها:

ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم                      إذا أثقل الأعناق حمل المغارم ثم أقبل على راويته، فقال: كأني بابن المراغة، وقد بلغه خبري، فقال:

بسيف أبي رغوان سيف مجـاشـع                      ضربت ولم تضرب بسيف ابن ظالم

ضربت به عند الإمام فأرعـشـت                      يداك وقالوا محدث غـير صـارم فما لبثنا إلا أياما يسيرة، حتى جاءتنا القصيدة، وفيها البيتان، فعجبنا من فطنة الفرزدق: وقال أيضا في ذلك:

أيعجب الناس أن أضحكت خيرهم                      خليفة الله يستسقى به المـطـر

فما نبا السيف عن جبن وعن دهش                      عند الإمام ولكن أخـر الـقـدر

ولو ضربت به عمـدا مـقـلـده                      لخر جثمانه ما فـوقـه شـعـر

وما يقدم نفسا قبـل مـيتـتـهـا                      جمع اليدين ولا الصمصامة الذكر من شعره في سجنه: وأخبرني عبد الله بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن أبي عبيدة، قال: هجا الفرزدق خالدا القسري وذكر المبارك: النهر الذي حفره بواسط، فبلغه ذلك، وكتب خالد إلى مالك بن المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله:

وأهلكت مال الله في غير حـقـه                      على نهرك المشؤوم غير المبارك

 

صفحة : 2431

 

الأبيات، فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي، فقال: ائتني بالفرزدق، فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه، فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة، فقال الفرزدق: مازلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت بني حنيفة، فلما قيل لمالك: هذا الفرزدق انتفخ وريد مالك غضبا، فلما أدخل عليه قال:

أقول لنفسي حين غصت بريقـهـا                      ألا ليت شعري مالها عند مالـك?

لها عنده أن يرجع اللـه روحـهـا                      إليها وتنجو من جميع المـهـالـك

وأنت ابن حباري ربـيعة أدركـت                      بك الشمس والخضراء ذات الحبائك فسكن مالك، وأمر به إلى السجن، فقال يهجو أيوب بن عيسى الضبي:

فلو كنت قيسيا إذا ما حبسـتـنـي                      ولكن زنجيا غليظا مـشـافـره

متت له بالرحم بـينـي وبـينـه                      فألفيته منـي بـعـيدا أواصـره

وقلت: امرؤ من آل ضبة فاعتزى                      لغيرهم لون استه ومـحـاجـره

فسوف يرى النوبي ما اجترحت له                      يداه إذا ما الشعر عينت نوافـره

ستلقي عليك الخنفساء إذا فـسـت                      عليك من الشعر الذي أنت حاذره

وتأتي ابن زب الخنفساء قـصـيدة                      تكون له مني عـذابـا يبـاشـره

تعذرت يا بن الخنفساء ولم تـكـن                      لتقبل لابن الخنفسـاء مـعـاذره

فإنكما يا بني يسـار نـزوتـمـا                      على ثفرها ما حن للزيت عاصره

لزنجية بظراء شقق بـظـرهـا                      زحـير بـأيوب شـديد زوافـره ثم مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر وهو محبوس مديحا كثيرا، فأنشدني يونسي في كلمة له طويلة.

 

يا مـال هـل هـو مـهـلـكـي مـا لـم أقـل                      ولـيعـلـمـن مـن الـقـصـائد قــيلـــي

يا مـال هـل لـك فـي كـبـير قــد أتـــت                      تسـعـون فــوق يديه غـــير قـــلـــيل

فتـجـير نـاصـيتـي وتـفـرج كـربـتـــي                      عنـي وتـطـلـق لـي يداك كـبـــولـــي

ولـقـد بـنـى لـكـم الـمـعــلـــى ذروة                      رفـعـت بـنـاءك فــي أشـــم طـــويل

والخيل تعلم في جذيمة أنها تردى بكل سميدع بهلول

فاسقوا فقد ملأ المعلى حوضكم                      بذنـوب مـلـتـهـم الـربـاب ســـجـــيل وقال يمدح مالكا وكانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع:

وقرم بين أولاد الـمـعـلـى                      وأولاد المسامـعة الـكـرام

تخمط في ربيعة بين بـكـر                      وعبد القيس في الحسب اللهام فلما لم تنفعه مديحة مالك، قال يمدح هشام بن عبد الملك، ويعتذر إليه:

ألكني إلى راعي البرية والذي له العدل في الأرض العريضة نورا

فإن تنكروا شعري إذا خرجت له                      بوادر لـو يرمــى بـــهـــا لـــتـــفـــقـــرا

ثبـير ولـو مـــســـت حـــراء لـــحـــركـــت                      به الـراسـيات الــصـــم حـــتـــى تـــكـــورا

إذا قـــال غـــاو مـــن مـــعـــد قـــصـــيدة                      بهــا حـــرب كـــانـــت وبـــالا مـــدمـــرا

أينـطـقـهـا غـيري وأرمــى بـــجـــرمـــهـــا                      فكـــيف ألـــوم الـــدهـــر أن يتـــغـــــيرا

لئن صـبـرت نـفـســـي لـــقـــد أمـــرت بـــه                      وخـير عـبـاد الـلـــه مـــن كـــان أصـــبـــرا

وكـنـت ابـن أحـذار ولــو كـــنـــت خـــائفـــا                      لكـنـت مـن الـعـصـمـاء فـي الــطـــود أحـــذرا

ولـكـن أتـونـــي آمـــنـــا لا أخـــافـــهـــم                      نهــارا وكـــان الـــلـــه مـــا شـــاء قـــدرا أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام قال: حدثني أبو يحيى قال: قال الفرزدق لابنه لبطة وهو محبوس اشخص إلى هشام، وأمدحه بقصيدة، وقال: استعن بالقيسية، ولا يمنعك قولي فيهم فإنهم سيغضبون لك وقال:

بكـت عـين مـحـزون فـفـاض سـجـامـهـا                      وطـالـت لـيالـي سـاهـر لا ينـامـــهـــا

فإن تـبـك لا تـبـك الـمـصـيبـات إذ أتـــى                      بهـا الـدهـر والأيام جـم خـصـامـــهـــا

ولـكـنـمـا تـبـكـي تـهـتـك خـــالـــد                      محـارم مـنـا لا يحــل حـــرامـــهـــا

فقـل لـبـنـي مـــروان: مـــا بـــال ذمة                      وحـرمة حـق لـيس يرعـى ذمـامـــهـــا

أنـقـتـل فـيكـم أن قـتـلـنـا عـــدوكـــم                      علـى دينـكـم والـحـرب بـاق قـتـامـهـــا

أتـاك بـقـتـل ابـن الـمـهــل خـــالـــد                      وفـينـا بـقـيات الـهـدى وإمــامـــهـــا

فغير أمير المؤمنين فإنهايمانية حمقاء وأنت هشامها

 

صفحة : 2432

 

 

أرى مضر المضرين قد ذلك نصرها                      ولكن عسـى أن لا يذل شـآمـهـا

فمن مبلغ بالشام قيسـا وخـنـدفـا                      أحاديث ما يشفى ببرء سقـامـهـا

أحاديث منا نشـتـكـيهـا إلـيهـم                      ومظلمة يغشى الوجوه قتـامـهـا

فإن من بها لم ينكر الضيم مـنـهـم                      فيغضب منها كهلهـا وغـلافـهـا

نمت مثلها من مثلهم وتـنـكـلـوا                      فيعلم أهل الجور كيف انتقـامـهـا

بغلباء من جمهـورنـا مـضـرية                      يزايل فيها أذرع القـوم هـامـهـا

وبيض على هام الرجال كـأنـهـا                      كواكب يحولها لسـار ظـلامـهـا

غضبنا لكم يا آل مروان فاغضـبـوا                      عسى أن أرواحا يسوغ طعامـهـا

ولا تقطعوا الأرحام منـا فـإنـهـا                      ذنوب من الأعمال يخشى آثامـهـا

ألم تك في الأرحام منـا ومـنـكـم                      حواجـز أيام عـزيز مـرامـهـا

فترعى قريش مـن تـمـيم قـرابة                      ونجزي بأيام كـريم مـقـامـهـا

لقد علمت أبـنـاء خـنـدف أنـنـا                      ذراها وأنا عزهـا وسـنـامـهـا

وقد علم الأحياء من كـل مـوطـن                      إذا عدت الأحياء أنـا كـرامـهـا

وأنا إذا الحرب العوان تضـرمـت                      نليها إذا ما الحرب شب ضرامهـا

قوام قوى الإسـلام والأمـر كـلـه                      وهل طاعة إلا تمـيم قـوامـهـا

تميم التي تخشى مـعـد وغـيرهـا                      إذا ما أبى أن يستقيم هـمـامـهـا

إلى الله تشكو عزنا الأرض فوقهـا                      وتعلم أنا ثقـلـهـا وغـرامـهـا

شكتنا إلى الله العزيز فأسـمـعـت                      قريبا، وأعيا من سواه كـلامـهـا

نصول بحول الله في الأمـر كـلـه                      إذا خيف من مصدوعة ما التآمهـا فأعانته القيسية وقالوا: كلما كان ناب من مضر أو شاعر أو سيد وثب عليه خالد.

وقال الفرزدق أبياتا كتب بها إلى سيد بن الوليد الأبرش وكلم له هشاما:

إلى الأبرش الكلبي أسندت حاجة                      تواكلهـا حـيا تـمـيم ووائل

على حين أن زلت بي النعل زلة                      فأخلف ظني كل حاف وناعـل

فدونكها يا بن الولـيد فـإنـهـا                      مفضلة أصحابها في المحافـل

وذونكها يا بن الوليد فقم بـهـا                      فقام امرئ في قومه غير خامل فكلم هشاما وأمر بتخليته فقال يمدح الأبرش:

لقد وثب الكلبـي وثـبة حـازم                      إلى خير خلق الله نفسا وعنصرا

إلى خير أبناء الخليفة لـم يجـد                      لحاجته من دونها مـتـأخـرا

أبى حلف كلب في تميم وعقدها                      كما سنت الآبـاء أن يتـغـيرا وكان هذا الحلف حلفا قديما بين تميم وكلب في الجاهلية، وذلك قول جرير بن الخطفى في الحلف:

تميم إلى كلب وكلب إلـيهـم                      أحق وأدنى من صداء وحميرا وقال الفرزدق:

أشـد حـبـال بـين حـيين مــرة                      حبال أمرت من تميم ومـن كـلـب

وليس قضـاعـي لـدينـا بـخـائف                      ولو أصبحت تغلي القدور من الحرب وقال أيضا:

ألم تر قيسا قيس عيلان شمـرت                      لنصري وحاطتني هناك قرومها

فقد حالفت قيس على النأي كلهم                      تميما فهم منها ومنها تميمـهـا

وعادت عدوي إن قيسا لأسرتـي                      وقومي إذا ما الناس عد صميمها شرطيان يعبثان به: أخبرني ابن دريد: قال حدثني أبو حاتم، عن أبي عبيدة، قال: بينما الفرزدق جالس بالبصرة أيام زياد في سكة ليس لها منفذ إذ مر به رجلان من قومه كانا في الشرطة وهما راكبان، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن أفزعه - وكان جبانا - فحركا دابتيهما نحوه فأدبر موليا فعثر من طرف برده فشقه، وانقطع شسع نعله، وانصرفا عنه، وعرف أنهما هزئا منه فقال:

لقـد خـار إذ يجـري عـلـــي حـــمـــاره                      ضرار الـخـنـا والـعـنـبـري بـن أخـوقـــا

ومـا كـنـت لـو خـوفـتـمـانـي كـلاكـمــا                      بأمـيكـمـا عـريانـــتـــين لأفـــرقـــا

ولكنما خوفتماني بخادر شتيم إذا ما صادف القرن مزقا حديثه مع توبة وليلى الأخيلية:

 

صفحة : 2433

 

أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثنا القحذمي عن بعض ولد قتيبة بن مسلم عن ابن زالان المازني، قال: حدثني الفرزدق، قال: لما طردني زياد أتيت المدينة وعليها مروان بن الحكم، فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد، وهو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدجال، فليس يكلمه أحد، ولا يجالسه أحد، ولم أكن عرفت خبره، فأرسل إلي مروان فقال: أتدري ما مثلك? حديث تحدث به العرب: أن ضبعا مرت بحي قوم، وقد رحلوا، فوجدت مرآة، فنظرت وجهها فيها، فلما نظرت قبح وجهها ألقتها، وقالت: من شر ما أطرحك أهلك، ولكن من شر ما اطرحك أميرك، فلا تقيمن بالمدينة بعد ثلاثة أيام، قال: فخرجت أريد اليمن، حتى إذا صرت بأعلى ذي قسي - وهو طريق اليمن من البصرة - فإذا رجل مقبل، فقلت: من أين أوضع الراكب? قال: من البصرة، قلت: فما الخبر وراءك? قال: أتانا أن زيادا مات بالكوفة، قال: فنزلت عن راحلتي، فسجدت، وقلت: لو رجعت، فمدحت عبيد الله بن زياد، وهجوت مروان بن الحكم، فقلت:

وقفت بأعلى ذي قسي مطيتي                      أمثل في مروان وابـن زياد

فقلت: عبيد الله خيرهما لنـا                      وأدناهما مـن رأفة وسـداد ومضيت لوجهي، حتى وطئت بلاد بني عقيل فوردت ما بين مياههم فإذا بيت عظيم وإذا فيه امرأة سافرة لم أر كحسنها وهيئتها قط، فدنوت، فقلت: أتأذنين في الظل? قالت: أنزل فلك الظل والقرى، فأنخت، وجلست إليها، قال: فدعت جارية لها سوداء كالراعية، فقالت: ألطفيه شيئا واسعى إلى الراعي، فردي علي شاة، فاذبيحها له، وأخرجت إلي تمرا وزبدا، قال: وحادثتها فوالله ما رأيت مثلها قط، ما أنشدتها شعرا إلا أنشدتني أحسن منه، قال: فأعجبني المجلس والحديث إذ أقبل رجل بين بردين، فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها، وجلس وأقبلت عليه بوجهها وحديثها، فدخلني من ذلك غيظ، فقلت للحين: هل لك في الصراع? فقال: سوأةلك، إن الرجل لا يصارع ضيفه، قال: فألححت عليه، فقالت له: ما عليك لو لاعبت ابن عمك? فقام، وقمت، فلما رمى ببرده، إذا خلق عجيب، فقلت: هلكت ورب الكعبة، فقبض على يدي، ثم اختلجني إليه، فصرت في صدره، ثم حملني، قال: فوالله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كبدي وجلس على صدري، فما ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة منكرة، قال: وثرت إلى جملي فقال: أنشدك الله، فقالت المرأة: عافاك الله الظل والقرى، فقلت: أخزى الله ظلكم وقراكم، ومضيت، فبينا أسير إذ لحقني الفتى على نجيب يجنب بختيا برحله وزمامه، وكان رحله من أحسن الرحال، فقال: يا هذا، والله ما سرني ما كان، وقد أراك أبدعت أي كلت ركابك، فخذ هذا النجيب، وإياك أن تخدع عنه، فقد والله أعطيت به مائتي دينار قلت: نعم آخذه، ولكن أخبرني من أنت? ومن هذه المرأة? قال: أنا توبة بن الحمير، وتلك ليلى الأخيلية، وقد أخبرني بهذا الخبر عمي.

رواية أخرى في الخبر السابق: قال: حدثني القاسم بن محمد الأنباري، قال: حدثني أحمد بن عبيد، عن الأصمعي، قال: كانت امرأة من عقيل يقال لها ليلى، يتحدث إليها الشباب، فدخل الفرزدق إليها، فجعل يحادثها، وأقبل فتى من قومها، كانت تألفه، ودخل إليها فأقبلت عليه بحديثها، وتركت الفرزدق، فغاظه ذلك، فقال للرجل: أتصارعني? قال: ذلك إليك، فقام إليه الرجل فلم يلبث أن أخذ الفرزدق مثل الكرة فصرعه، وجلس على صدره، فضرط الفرزدق، فوثب عنه الرجل خجلا، وقال له الرجل: يا أبا فراس، هذا مقام العائذ بك، والله ما أردت بك ما جرى، فقال: ويحك، ما بي أن صرعتني، ولكن كأني بابن الأتان جرير، وقد بلغه خبري هذا، فقال يهجوني:

جلست إلى ليلى لتحظى بقربها                      فخانـك دبـر لايزال يخـون

فلو كنت ذا حزم شددت وكاءها                      كما شد خرتا للدلاص قـيون قالوا: فوالله ما مضت أيام حتى بلغ جريرا الخبر، فقال فيه هذين البيتين.

يقضي يوما كيوم دارة جلجل:

 

صفحة : 2434

 

أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: حدثني القحذمي، قال: حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الله بن زالان التميمي راوية الفرزدق، أن الفرزدق قال: أصابنا بالبصرة مطر جود ليلا، فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية، فظننت قوما قد خرجوا لنزهة، فقلت: خليق أن تكون معهم سفرة وشراب. فقصصت أثرهم، حتى وقفت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير، فأغذذت السير نحو الغدير، فإذا نسوة مستنقعات في الماء، فقلت: لم أر كاليوم قط، ولا يوم دارة جلجل، وانصرفت مستحييا منهن، فنادينني: بالله يا صاحب البغلة، ارجع نسألك عن شيء، فانصرفت إليهن، وهن في الماء إلى حلوقهن، فقلن: بالله إلا ما خبرتنا بحديث دارة جلجل، فقلت: إن امرأ القيس كان عاشقا لابنة عم له يقال لها عنيزة، فطلبها زمانا، فلم يصل إليها، وكان في طلب غرة من أهلها؛ ليزورها، فلم يقض له، حتى كان يوم الغدير، وهو يوم دارة جلجل، وذلك أن الحي احتملوا، فتقدم الرجال، وتخلف النساء والخدم والثقل، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع قومه غلوة، فكمن في غيابة من الأرض، حتى مر به النساء فإذا فتيات، وفيهن عنيزة، فلما وردن الغدير قلن: لو نزلنا فذهب عنا بعض الكلال، فنزلن إليه، ونحين العبيد عنهن، ثم تجردن فاغتمسن في الغدير، كهيئتكن الساعة، فأتاهن امرؤ القيس محتالا كنحو ما أتيتكن، وهن غوافل، فأخذ ثيابهن، فجمعها - ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن، فجمعها، ووضعها على صدره - وقال لهن كما أقول لكن: والله لا أعطي جارية منكن ثوبها، ولو أقامت في الغدير يومها، حتى تخرج مجردة، قال الفرزدق: فقالت إحداهن، وكانت أمجنهن: ذلك كان عاشقا لابنة عمه، أفعاشق أنت لبعضنا? قال: لا والله، ما أعشق منكن واحدة، ولكن أشتهيكن، قال: فنعرن، وصفقن بأيديهن، وقلن: خذ في حديثك، فلست منصرفا إلا بما تحب، قال الفرزدق في حديث امرئ القيس: فتأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار، ثم خشين أن يقصرن دون المنزل الذي أردنه، فخرجت إحداهن، فوضع لها ثوبها ناحيه فأخذته فلبسته، ثم تتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة، فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها، فقال: دعينا منك؛ فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك، فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة، فوضع لها ثوبها فأخذته، وأقبلن عليه يلمنه، ويعذلنه، ويقلن: عريتنا، وحبستنا، وجوعتنا، قال: فإن نحرت لكن مطيتي أتأكلن منها? قلن: نعم، فاخترط سيفه، فعقرها، ونحرها، وكشطها، وصاح بالخدم، فجمعوا له حطبا، فأجج نارا عظيمة، ثم جعل يقطع لهن من سنامها وأطايبها وكبدها، فيلقيها على الجمر، فيأكلن، ويأكل معهن، ويشرب من ركوة كانت معه ويغنيهن، وينبذ إلى العبيد والخدم من الكباب، حتى شبعن، وطربن، فلما أراد الرحيل قالت إحداهن: أنا أحمل طنفسته، وقالت الأخرى: أنا أحمل رحله، وقالت الأخرى: أنا أحمل حشيته وأنساعه، فتقسمن متاع راحلته بينهن، وبقيت عنيزة لم يحملها شيئا، فقال لها امرؤ القيس: يا بنة الكرام، لا بد لك أن تحمليني معك؛ فإني لا أطيق المشي، وليس من عادتي، فحملته على غارب بعيرها، فكان يدخل رأسه في خدرها، فيقبلها، فإذا امتنعت مال حدجها، فتقول: يا مرأ القيس، عقرت بعيري، فانزل، فذلك قوله:

تقول وقد مال الغبيط بنـا مـعـا:                      عقرت بعيري يا مرأ القيس فانزل

 

صفحة : 2435

 

فلما فرغ الفرزدق من الحديث قالت تلك الماجنة: قاتلك الله، ما أحسن حديثك يا فتى وأظرفك، فمن أنت? قال: قلت: من مضر، قالت: ومن أيها? فقلت: من تميم، قالت: ومن أيها? قلت: إلى ههنا انتهى الكلام، قالت: إخالك والله الفرزدق قلت: الفرزدق شاعر وأنا راوية، قالت: دعنا من توريتك على نسبك، أسألك بالله، أنت هو? قال: أنا هو والله، قالت: فإن كنت أنت هو فلا أحسبك مفارقا ثيابنا إلا عن رضا، قلت: أجل، قالت: فاصرف وجهك عنا ساعة وهمست إلى صويحباتها بشيء لم أفهمه، فغططن في الماء، فتوارين، وأبدين رؤوسهن، وخرجن، ومع كل واحدة منهن ملء كفيها طينا، وجعلن يتعادين نحوي، فضربن بذلك الطين والحمأة وجهي، وملأن عيني وثيابي، فوقعت على وجهي، فصرت مشغولا بعيني وما فيها، وشددن على ثيابهن، فأخذنها، وركبت الماجنة بغلتي، وتركتني منبطحا بأسوأ حال وأخواها وهي تقول: زعم الفتى أنه لا بد أن ينيكنا، فمازلت من ذلك المكان حتى غلست وجهي وثيابي، وجففتها، وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي، وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول لهن، وقلن: قل له تقول لك أخواتك: طلبت منا ما لم يمكننا، وقد وجهنا إليك بزوجتك، فنكها سائر ليلتك وهذا كسر درهم لحمام إذا أصبحت، فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول: ما منيت بمثلهن.

يهجو من يرثي زيادا: أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا أبو مسلم الحراني، قال: حدثني الأصمعي، قال: حدثنا العلاء بن أسلم، قال: لما مات زياد رثاه مسكين الدرامي، فقال الفرزدق:

أمسكين أبكى الله عينـيك إنـمـا                      جرى في ضلال دمعها إذ تحدرا

بكيت امرأ من آل ميسان كافـرا                      ككسرى على عدانه أو كقيصرا

أقول له لمـا أتـانـي نـعـيه                      به لا بطبي بالصريمة أعـفـرا يهجو ويمدح آل المهلب: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن أبي مسلم الحراني، قال: حدثنا الأصمعي، قال: حدثنا العلاء بن أسلم، قال: لما أراد المهلب الخروج إلى الأزارقة لقي الفرزدق جريرا، فقال له: يا أبا فراس، هل لك أن تكلم المهلب، حتى يضع عني البحث، وأعطيك ألف درهم، فكلم المهلب، فأجابه فلامه جذيع، رجل من عشيرته، وشكا ذلك إلى يخرة امرأة المهلب وقال لها: لايزال الآن الرجل يجيء فيسأل في عشيرته وصديقه، فلامته خيرة بنت ضمرة القشيرية، فقال المهلب: إنما اشتريت عرضي منه، فبلغ ذلك الفرزدق، فقال يهجو جذيعا.

 

إن تبن دارك يا جذيع فما بنى                      لك يا جذيع أبوك من بنـيان

وأبوك ملتزم السفينة عـاقـد                      خصييه فوق بنائق التـبـان

ويظل يدفع باسته متقاعـسـا                      في البحر معتمدا على السكان

لا تحسبن دراهما جمعتـهـا                      تمحو مخازيك التي بعـمـان وقال يهجو خيرة:

ألا قشر الإله بنـي قـشـير                      كقشر عصا المنقح من معال

أرى رهطا لخيرة لم يؤوبـوا                      بسهم في اليمين ولا الشمال

إذا رهزت رأيت بني قشـير                      من الخيلاء منتفشي السبـال فغضب بنو المهلب لما هجا جذيعا وخيرة، فنالوا منه، فهجاهم، فقال:

وكائن للمهلب من نسـيب                      يرى بلبانة أثـر الـزيار

بخارك لم يقد فرسا ولكـن                      يقود الساج بالمسد المغار

عمي بالتنائف حين يصحي                      دليل الليل في الجج الغمار

وما لله يسجد إذ يصـلـي                      ولكن يسجدون لكل نـار فلما ولي يزيد بن المهلب خراسان والعراقبعد أبيه - ولاه سليمان بن عبد الملك - خاف الفرزدق من بني المهلب، فقال يمدحهم:

فلأمدحن بني المهلب مدحة غراء قاهرة على الأشعار

مثل النجوم أمامها قمراؤها                      تجـلـو الـعـمـى وتـضـيء لـيل الـســاري

ورثـوا الـطـعـان عـن الـمـهـلـب والـقـرى                      وخـلائقـا كــتـــدفـــق الأنـــهـــار

كان الـمـهـلـب لــلـــعـــراق وقـــاية                      وحـيا الـربـيع ومـعـقـــل الـــفـــرار

وإذا الـــرجـــال رأوا يزيد رأيتـــهــــم                      خضـع الـرقـاب نـواكــس الأبـــصـــار

مازال مـــذ شـــد الإزار بـــكـــفـــه                      ودنـا فـأدرك خـــمـــسة الأشـــبـــار

أيزيد إنـك لـلـمـــهـــلـــب أدركـــت                      كفـــاك خـــير خـــلائق الأخــــــيار

 

صفحة : 2436

 

يخشى بأس يزيد بن المهلب: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثني الأصمعي، قال: لما قدم يزيد بن المهلب واسطا قال لأمية بن الجعد - وكان صديق الفرزدق : إني لأحب أن تأتيني بالفرزدق، فقال للفرزدق: ماذا فاتك من يزيد أعظم الناس عفوا، وأسخى الناس كفا، قال: صدقت، ولكن أخشى أن آتيه فأجد العمانية ببابه فيقوم إلي رجل منهم فيقول: هذا الفرزدق الذي هجانا، فيضرب عنقي، فيبعث إليه يزيد، فيضرب عنقه، ويبعث إلى أهلي ديتي، فإذا يزيد قد صار أوفى العرب، وإذا الفرزدق فيما بين ذلك قد ذهب، قال: لا والله لا أفعل، فأخبر يزيد بما قال، فقال: أما إذ قد وقع هذا بنفسه فدعه لعنه الله.

ماجن يريد أن ينزو عليه: قال ابن حبيب: وحدثنا يعقوب بن محمد الزهري عن أبيه عن جده قال: دخل الفرزدق مع فتيان من آل المهلب في بركة يتبردون فيها، ومعهم ابن أبي علقمة الماجن، فجعل يتفلت إلى الفرزدق، فيقول: دعوني أنكحه، حتى لا يهجونا أبدا، وكان الفرزدق من أجبن الناس، فجعل يستغيث، ويقول: ويلكم لا يمس جلده جلدي، فيبلغ ذلك جريرا، فيوجب علي أنه قد كان منه الذي يقول، فلم يزل يناشدهم حتى كفوه عنه.

يفخر بالمضربة أمام حاكم يماني: أخبرني عبيد الله قال: حدثني محمد بن حبيب قال: حدثني موسى بن طلحة قال: لما ولي خالد بن عبد الله العراق، فقدمها وكان من أشد خلق الله عصبية على نزال فقال لبطة بن الفرزدق: فلبس أبي من صالح ثيابه؛ وخرج يريد السلام عليه، فقلت له: يا أبت، إن هذا الرجل يماني، وفيه من العصبية ما قد علمت، فلو دخلت إليه فأنشدته مدائحك أهل اليمن لعل اللله أن يأتيك منه بخير، فإنك قد كبرت على الرخلة، فجعل لا يرد علي شيئا؛ حتى دفعنا إلى البواب؛ فأذن له؛ فدخل؛ وسلم؛ فاستجلسه؛ ثم قال: إيه يا أبا فراس، أنشدنا مما أحدثت، فأنشدته:

يختلف الناس ما لم نجتمـع لـهـم                      ولا خلاف إذا ما أجمعت مضـر

فينا الكوااهل والأعناق تقـدمـهـا                      فيها الرؤوس وفيها السمع والبصر

ولا نحالف غير الـلـه مـن أحـد                      إلا السيوف إذا ما اغرورق النظر

ومن يمل يمل المأثـور قـلـتـه                      بحيث يلقى حافي رأسه الشـعـر

أما الملوك فإنـا لا نـلـين لـهـم                      حتى يلين لضرس الماضغ الحجر ثم قام، فخرجنا، قلت: أهكذا أوصيتك? قال: اسكت، لا أم لك فما كنت قط أملأ لقلبه مني الساعة.

يفحم المنذر بن الجارود: أخبرني عبد الله: قال حدثني محمد بن حبيب، عن موسى بن طلحة قال: كان الفرزدق في حلقة في المسجد الجامع، وفيها المنذر بن الجارود العبدي، فقال المنذر: من الذي يقول:

وجدنا في كتاب بني تـمـيم                      أحق الخيل بالركض المعار فقال الفرزدق: يا أبا الحكم هو الذي يقول:

أشارب قهوة وخـدين زير                      وعبدي لفسوتـه بـخـار

وجدنا الخيل في أبناء بكر                      وأفضل خيلهم خشب وقار قال: فخجل المنذر، حتى ما قدر على الكلام.

خليفة أموي يفضله ويصله: أخبرني عبد الله بن مالك: قال: حدثني محمد بن موسى قال: حدثنا الأصمعي قال: دخل الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من الشعراء فأنشأ يقول:

ما حملت ناقة من معشر رجـلا                      مثلى إذا الربح لفتنني على الكور

أعز قوما وأوفى عند مـكـرمة                      لمعظم من دماء القوم مهجـور فقال له: إيه، فقال:

إلا قريشا فإن الله فضـلـهـا                      على البرية بالإسلام والخـير

تلقى وجوه بني مروان تحسبها                      عند اللقاء مشوفات الدنانـير ففضله عليهم، ووصله.

عيسى بن حصيلة يعينه على الفرار من زياد:

 

صفحة : 2437

 

قال ابن حبيب: وكان الفرزدق يهاجي الأشهب بن رميلة النهشلي وبني فقيم، فأرفث بهم، فاستعدوا عليه زيادا، فحدثني جابر بن جندل: قال: فأتى عيسى بن حصيلة بن مغيث بن نصر بن خالد السلمي ثم من بني بهز، فقال: يا أبا حصيلة، إن هذا الرجل قد أخافني؛ وقد لفظني جميع من كنت أرجو، قال: فمرحبا بك يا أبا فراس، فكان عنده ليالي، ثم قال: إني أريد أن ألحق بالشام، قال: إن أقمت ففي الرحب والسعة، وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها، وألف درهم، فركب الناقة، وخرج من عنده ليلا، فأرسل عيسى معه من أجازه من البيوت؛ فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث، فقال يمدحه:

كفاني بها البهزي حملان من أبـى                      من الناس، والجاني تخاف جرائمـه

فتى الجود عيسى والمكارم والعـلا                      إذا المال لم ينفع بخـيلا كـرائمـه

ومن كان يا عيسى يؤنـب ضـيفـه                      فضيفك يا عيسى هنيء مطاعمـه

وقال: تـعـلـم أنـهـا أرحـبـية                      وأن لك الليل الذي أنت جاشـمـه

فأصبحت والملقى ورائي وحنـبـل                      وما صدرت حتى علا النجم عاتمه

تزاور في آل الحـقـيق كـأنـهـا                      ظليم تبارى جنح لـيل نـعـائمـه

رأت دون عينيها ثوية فـانـجـلـى                      لها الصبح عن صعل أسيل مخاطمه وقال:

تداركني أسباب عيسى من الـردى                      ومن يك مولاه فلـيس بـواحـد

نمته النواصي من سليم إلى العـلا                      وأعراق صدق بين نصر وخالـد

سأثني بمـا أولـيتـنـي وأربـه                      إذا القوم عدوا فضلهم في المشاهد فلما بلغ زيادا شخوصه أتبعه علي بن زهدم الفقيمي: أحد بني مؤلة فلم يلحقه فقال الفرزدق:

فإنك لو لاقيتني يا بن زهـدم                      لأبت شعاعيا على غير تمثال يلجأ إلى بكر بن وائل: فأتى بكر بن وائل، فجاورهم، فأمن، فقال:

وقد مثلت أين المسير فلـم تـجـد                      لعوذتها كالحـي بـكـر بـن وائل

وسارت إلى الأجفان خمسا فأصبحت                      مكان الثريا من يد الـمـتـنـاول

وماضرها إذ جاورت في بـلادهـا                      بني الحصن ما كان اختلاف القبائل الحصن بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

يأمن زيادا في حمى سعيد بن العاص: وهرب الفرزدق من زياد، فأتى سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص بن أمية، وهو على المدينة لمعاوية بن أبي سفيان، فأمنه سعيد، فبلغ الفرزدق أن زيادا قال: لو أتاني أمنته، وأعطيته، فقال في كلمة له:

دعاني زياد للـعـطـاء ولـم أكـن                      لآتيه ما سـاق ذو حـسـب وقـرا

وعنـد زياد لـو أراد عـطـاءهـم                      رجال كثير قد يرى بهـم فـقـرا

قعود لدى الأبـواب طـلاب حـاجة                      عوان من الحاجات أو حاجة بكـرا

فلما خشـيت أن يكـون عـطـاؤه                      أداهم سودا أو محـدرجة سـمـرا

نميت إلى حـرف أضـربـنـيهـا                      سرى الليل واستعراضها البلد الفقيرا فلما اطمأن عند سعيد بن العاص بالمدينة قال:

ألا من مبلغ عني زيادا مغلغلة يخب بها البريد

بأني قد فررت إلى سعيد                      ولا يسـطـاع مـا يحـمـي ســعـــيد

فررت إلـيه مـن لــيث هـــزبـــر                      تفـادى عـن فـريســتـــه الأســـود

فإن شـئت انـتـمـيت إلـى الـنـصـارى                      ونـاسـبـنـي ونـاسـبـت الــيهـــود

وإن شـئت انـتـسـبـت إلـى فــقـــيم                      ونـاسـبـنـي ونـاسـبـت الـقـــرود

وأبـغـضـهـم إلـي بـنـو فـــقـــيم                      ولـكـن سـوف آتــي مـــا تـــريد فأقام الفرزدق بالمدينة؛ فكان يدخل بها على القيان. فقال:

إذا شئت غناني من العاج قاصـف                      على معصـم ريان لـم يتـخـدد

لبيضاء من أهل المدينة لم تـعـش                      ببؤس ولم تتبع حمولة مـجـحـد

وقامت تخشيني زيادا وأجـفـلـت                      حوالي في بردي يمان ومجـسـد

فقلت: دعيني مـن زياد فـإنـنـي                      أرى الموت وقاعا على كل مرصد بينه وبين مسكين الدارمي: فلما هلك زياد رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدي بن عدس بن عبد الله بن دارم، فقال:

 

صفحة : 2438

 

 

رأيت زيادة الإسلام ولت جهارا حين فارقها زياد فبلغ ذلك الفرزدق، فقال:

أمسكين أبكى الله عينيك إنـمـا                      جرى في ضلال دمعها فتحدرا

أتبكي أمرا من آل ميسان كافرا                      ككسرى على عداته أو كقيصرا

أقول له لما أتـانـي نـعـيه:                      به لا بظبي بالصريمة أعفـرا فقال مسكين:

ألا أيها المرء الذي لست قـائمـا                      ولا قاعدا في القوم إلا انبرى لـيا

فجئني بعم مثـل عـمـي أو أب                      كمثل أبي أو خال صدق كخالـيا

بعمرو بن عمرو أوزارة ذي الندى                      سموت به حتى فرعت الروابـيا فأمسك الفرزدق عنه، وكان يقول: نجوت من أن يهجوني مسكين، فإن أجبته ذهبت بشطر فخري، وإن أمسكت عنه كانت وصمة على مدى الدهر.

عائذة بقبر أبيه: أخبرني أبو خليفة، فقال: أخبرنا ابن سلام، قال: حدثني الحكم بن محمد المازني، قال: كان تميم بن زيد القضاعي، ثم أحد بني القين بن جسر غزا الهند في جيش، فجمرهم؛ وفي جيشه رجل يقال له حبيش، فلما طالت غيبته على أمه اشتاقته، فسألت عمن يكلم لها تميم بن زيد أن يقفل ابنها، فقيل لها: عليك بالفرزدق، فاستجيري بقبر أبيه، فأتت قبر غالب بكاظمة، حتى علم الفرزدق مكانها.

ثم أتته، وطلبت إليه حاجتها، فكتب إلى تميم بن زيد هذه الأبيات:

هب لي حبيشا واتخذ فيه منة                      لغصة أم ما يسوغ شاربهـا

أتتني فعادت يا تيم بغـالـب                      وبالحفرة السافي عليها ترابها

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي                      بظهر فلا يخفى علي جوابها فلما أتاه كتابه لم يدر ما اسمه حبيش أو حنيش، فأخرج  ديوانه  ، وأقفل كل حبيش وحنيش في جيشه، وهم عدة، وأنفذهم إلى الفرزدق.

عائذ بقبر أبيه: قال أبو خليفة: قال ابن سلام، وحدثني أبو يحيى الضبي، قال: ضرب مكاتب لبني منقر بساطا على قبر غالب أبي الفرزدق؛ فقدم الناس على الفرزدق، فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه.

ثم قدم عليه فقال:

بقبر ابن ليلى غالب عذت بعـدمـا                      خشيت الردى أو أن أرد على قسر

فأخبرني قبر ابن ليلى فقـال لـي:                      فكاكك أن تأتي الفرزدق بالمصر فقال الفرزدق: صدق أبي؛ أنخ؛ ثم طاف له في الناس؛ حتى جمع له مكاتبته وفضلا.

عائذة أخرى بقبر أبيه: وكان نفيع ذو الأهدام: أحد بني جعفر بن كلاب يتعصب لجرير بمدحه قيسا؛ فهجاه الفرزدق، فاستجارت أمه بقبر غالب؛ وعاذت من هجاء الفرزدق؛ فقال:

ونبئت ذا الأهـدام يعـوي ودونـه                      من الشام زراعاتها وقصـورهـا

على حين لم أترك على الأرض حية                      ولا نابحا إلا استقـر عـقـورهـا

كلاب نبحن الحي من كل جـانـب                      فعاد عواء بعد نـبـح هـريرهـا

عجوز تصلي الخمس عاذت بغالـب                      فلا والذي عاذت به لا أضـيرهـا

لئن نـافـع لـم يرع أرحـام أمـه                      وكانت كـدلـو لايزال يعـيرهـا

لبئس دم المـولـود بـل ثـيابـهـا                      عشية نادى بالغـلام بـشـيرهـا

وإني على إشفاقها من مخـافـتـي                      وإن عقها بي نافع لـمـجـيرهـا

ولو أن أم النـاس حـواء جـاورت                      تميم بن مر لم تجد من يجـيرهـا وهذا البيت يروى لغيره في غير هذه القصيدة.

جرير يبز: أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: حدثنا أحمد بن حاتم المعروف بابن نصر، عن الأصمعي، قال: كان عبد الله بن عطية راوية الفرزدق وجرير، قال: فدعاني الفرزدق يوما، فقال: إني قلت بيت شعر والنوار طالق إن نقضه ابن المراغة، قلت: ما هو? قال: قلت:

فإني أنا الموت الذي هو نـازل                      بنفسك فانظر كيف أنت تحاوله ارحل إليه بالبيت، قال: فرحلت إلى اليمامة، قال: ولقيت جريرا بفناء بيته يعبث بالرمل، فقلت: إن الفرزدق قال بيتا، وحلف بطلاق النوار أنك لا تنقضه، قال: هيه، أظن والله ذلك? ما هو? ويلك، فأنشدته إياه، فجعل يتمرغ في الرمل، ويحثوه على رأسه وصدره، حتى كادت الشمس تغرب، ثم قال: أنا أبو حزرة، طلقت امرأة الفاسق، وقال:

أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد                      فجئني بمثل الدهر شيئا يطاولـه

 

صفحة : 2439

 

ارحل إلى الفاسق، قال: فقدمت على الفرزدق، فأنشدته إياه، وأعلمته بما قال، فقال: أقسمت عليك لما سترت هذا الحديث.

هناك من هو أجفى منه: أخبرني عبد الله، قال: أخبرني محمد بن حبيب، قال: حدثنا الأصمعي وأبو عبيدة، قال: دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة، فضحكوا فقال: يا أبا فراس أتدري مم ضحكوا? قال: لا، قال: من جفائك، قال: أصلح الله الأمير، حججت، فإذا أنا برجل منهم على عاتقه الأيمن صبي، وعلى عاتقه الأيسر صبي؛ وإذا امرأة آخذة بمئزره؛ وهو يقول:

أنت وهبت زائدا ومزيدا                      وكهلة أولج فيها الأجردا والمرأة تقول من خلفه: إذا شئت، فسألت: ممن هو? فقيل: من الأشعريين، أفأنا أجفى أم ذلك? فقال بلال: لا حياك الله، قد علمت أنهم لن يفلتوا منك.

تهزمه امرأة: أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثني محمد بن حبيب، قال: حدثنا موسى بن طلحة، عن أبي زيد الأنصاري، قال: ركب الفرزدق بغلته، فمر بنسوة؛ فلما حاذاهن لم تتمالك البغلة أن ضرطت، فضحكن منه، فالتفت إليهن، فقال: لا تضحكن، فما حملتني أنثى إلا ضرطت، فقالت له إحداهن: ما حملتك أنثى أكثر من أمك، فأراها قاست منك ضراطا كثيرا، فحرك بغلته، وهرب منهن، وبهذا الإسناد قال: يهجو إبليس: أتى الفرزدق الحسن البصري؛ فقال: إني قد هجوت إبليس، فقال: كيف تهجوه وعن لسانه تنطق?.

يسأل الفرزدق فيفحمه: وبهذا الإسناد قال حمزة بن بيض للفرزدق: يا أبا فراس، أسألك عن مسألة، قال: سل عما أحببت، قال: أيما أحب إليك? أتسبق الخير أم يسبقك? قال: إن سبقني فاتني، وإن سبقته فته، ولكن نكون معا، لا يسبقني، ولا أسبقه، ولكن أسألك عن مسألة. قال ابن بيض: سل، قال: أيما أحب إليك? أن تنصرف إلى منزلك، فتجد امرأتك قابضة على أير رجل، أم تراه قابضا على هنها، قال: فتحير، وكان قد نهي عنه، فلم يقبل.

لا صلح بينه وبين جرير: أخبرني عبد الله قال: حدثني محمد بن عمران الضبي، قال: حدثني الأصمعي، قال: اجتمع الفرزدق وجرير عند بشر بن مروان فرجا أن يصلح بينهما حتى يتكافا، فقال لهما: ويحكما قد بلغتما من السن ما قد بلغتما، وقربت آجالكما؛ فلو اصطلحتما ووهب كل واحد منكما لصاحبه ذنبه، فقال جرير: أصلح الله الأمير، إنه يظلمني، ويتعدى علي، فقال الفزدق: أصلح الله الأمير إني وجدت آبائي يظلمون آباءه. فسلكت طريقهم في ظلمه، فقال بشر: عليكما لعنة الله، لا تصطلحان والله أبدا.

يهزأ به وبهجائه: وأخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن عمران الضبي، قال: حدثنا الأصمعي: قال الفرزدق: ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب دهقان مرة قال لي: أنت الفرزدق الشاعر? قلت: نعم؛ قال: أفأموت إن هجوتني? قلت: لا، قال: أفتموت عيشونة ابنتي? قلت: لا، قال: فرجلي إلى عنقي في حر أمك، قال: قلت: ويلك لم تركت رأسك? قال: حتى أنظر أي شيء تصنع?.

يأمره مجنون فيطيع: أخبرني عبد الله، قال: حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي، قال: مر الفرزدق بمأجل فيه ماء، فأشرع بغلته فيه، فقال له مجنون بالبصرة: يقال له حربيش: نح بغلتك، جذ الله رجليك، قال: ولم? ويلك، قال: لأنك كذوب الحنجرة، زاني الكمرة، فقال الفرزدق لبغلته: عدس ومضى، وكره أن يسمع قوله الناس.

هو وغيره يؤثرون القصار: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن ابن حبيبن عن سعدان بن المبارك، قال: قيل للفرزدق: ما اختيارك في شعرك للقصار? قال: لأني رأيتها أثبت في الصدور، وفي المحافل أجول؛ قال: وقيل للحطيئة: ما بال قصارك أكثر من طوالك? قال: لأنها في الآذان أولج، وفي أفواه الناس أعلق.

أخبرني عبد الله بن حبيب، عن سعدان بن المبارك، قال: قيل لعقيل بن علفة: مالك تقصر في هجائك? قال: حسبك من القلادة ما أحاط بالرقبة.

يتندر باسمه فيلقمه حجرا: أخبرني عبد الله، عن محمد بن علي بن سعيد الترمذي، عن أحمد بن حاتم: أبي نصر، قال:

 

صفحة : 2440

 

قال الجهم بن سويد بن المنذر الجرمي للفرزدق: أما وجدت أمك اسما لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها? قال: والعرب تسمي خبز الفتوت الفرزدق فأقبل الفرزدق على قوم معه في المجلس. فقال: ما اسمه? فلم يخبروه باسمه، فقال: والله لئن لم تخبروني لأهجونكم كلكم، قال: الجهم بن سويد بن المنذر، فقال الفرزدق: أحق الناس ألا يتكلم في هذا أنت؛ لأن اسمك اسم متاع المرأة، واسم أبيك اسم الحمار واسم جدك اسم الكلب.

بيتان يثيرانه: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن الزبير عن عمه عن بعض القرويين، قال: قدم علينا الفرزدق، فقلنا له: قدم علينا جرير، فأنشدنا قصيدة يمدح بها هؤلاء القوم، ومضى يريدهم، فقال: أنشدونيها، فأنشدناه قصيدة كثير التي يقول فيها:

ومازالت رقاك تسل ضغني                      وتخرج من مكامنها ضبابي

ويرقيني لك الحاوون حتـى                      أجابك حية تحت الحجـاب قال: فجعل وجهه يتغير، وعندنا كانون، ونحن في الشتاء، فلما رأينا ما به قلنا: هون عليك يا أبا فراس، فإنما هي لابن أبي جمعة، فانثنى سريعا ليسجد، فأصاب ناحية الكانون وجهه فأدماه.

هو والحسين بن علي: أخبرني عبد الله بن مالك، عن محمد بن موسى، قال: أخبرني القحذمي، قال: لقي الفرزدق الحسين بن علي رضي الله عنهما متوجها إلى الكوفة خارجا من مكة في اليوم السادس من ذي الحجة فقال له الحسين - صلوات الله عليه وآله : ما وراءك? قال: يا بن رسول الله، أنفس الناس معك، وأيديهم عليك؛ قال: ويحك، معي وقر بعير من كتبهم يدعونني، ويناشدونني الله، قال: فلما قتل الحسين - صلوات الله عليه - قال الفرزدق: انظروا فإن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها فاعلموا أنه سيدوم عزها، وتبقى هيبتها، وإن صبرت عليه، ولم تتغير لم يزدها الله إلا ذلا إلى آخر الدهر، وأنشد في ذلك:

فإن انتم لم تثأروا لابن خـيركـم                      فألقوا السلاح واغزلوا بالمغازل حافظة الفرزدق: أخبرنا عبد الله بن مالك: قال: أخبرني أبو مسلم؛ قال: حدثني الأصمعي، قال: أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد، فقال له الفرزدق: أعيدها عليك، لقد أتى علي زمان، ولو سمعت ببيت شعر وأنا أهوي في بئر ما ذهب عني.

يشرب الخمر ممزوجة باللبن: أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني أبو مسلم الحراني عن الأصمعي، قال: تغدى الفرزدق عند صديق له. ثم انصرف فمر ببني أسد، فحدثهم ساعة ثم استسقى ماء، فقال فتى منهم: أو لبنا، فقال: لبنا، فقام إلى عس، فصب فيه رطلا من خمر، ثم حلب، وناوله إياه، فلما كرع فيه انتفخت أوداجه، واحمر وجهه ثم رد العس، وقال: جزاك الله خيرا، فإني ما علمتك تحب أن تحفي صديقك، وتخفي معروفك ثم مضى.

يزني بامرأته: وأخبرنا عبد الله بن مالك، عن محمد بن موسى، عن القحذمي، قال: كان الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها، فامتنعت عليه، وتهددها بالهجاء والفضيحة، فاستغاثت بالنوار امرأته، وقصت عليها القصة، فقالت لها: واعديه ليلة، ثم أعلميني، ففعلت، وجاءت النوار، فدخلت الحجلة مع المرأة، فلما دخل الفرزدق البيت أمرت الجارية، فأطفأت السراج، وغادرت المرأة الحجلة، واتبعها الفرزدق، فصار إلى الحجلة، وقد انسلت المرأة خلف الحجلة، وبقيت النوار فيها، فوقع بالنوار وهو لا يشك أنها صاحبته، فلما فرغ قالت له: يا عدو الله، يا فاسق، فعرف نغمتها، وأنه خدع، فقال لها: وأنت هي يا سبحان الله ما أطيبك حراما، وأردأك حلالا.

يضن عليه ابن سبرة بجارية فيهجوه: أخبرني عبد الله بن مالك. قال: حدثني محمد بن موسى، قال: حدثني القحذمي قال: استعمل الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان، فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية فكتب إليه الخيار:

كتبت إلي تستهدي الجواري                      لقد أنعظت من بلد بعـيد فأجابه الفرزدق:

ألا قال الخيار وكان جـهـلا                      قد استهدى الفرزدق من بعيد

فلولا أن أمك كـان عـمـي                      أباها كنت أخرس بالنـشـيد

وأن أبي لعـم أبـيك لـحـا                      وأنك حين أغضب من أسودي

إذا لشددت شـدة أعـوجـي                      يدق شكيم مجدول الـحـديد لا يستسيغ خطأ في القرآن: أخبرنا عبد الله بن مالك عن الأصمعي قال:

 

صفحة : 2441

 

سمع الفرزدق رجلا يقرأ: )والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم( فقال: لا ينبغي أن يكون هذا هكذا، قال: فقيل له: إنما هو )عزيز حكيم( قال: هكذا ينبغي أن يكون.

يمدح أسماء بن خارجة: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثنا أبو مسلم، قال: حدثنا الأصمعي: قال: مر أسماء بن خارجة الفزاري على الفرزدق، وهو يهنأ بعيرا له بنفسه، فقال له اسماء: يا فرزدق كسد شعرك، واطرحتك الملوك، فصرت إلى مهنة إبلك، فقد أمرت لك بمائة بعير، فقال الفرزدق فيه يمدحه:

إن السماح الذي في الناس كلهم                      قد حازه الله للمفضال أسمـاء

يعطي الجزيل بلا مـن يكـدره                      عفوا ويتبع آلاء بـنـعـمـاء

ما ضر قوما إذا أمسى يجاورهم                      ألا يكونوا ذوي إبـل ولا شـاء هل شاخ شعره بشيخوخته: أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى بن طلحة، قال: قال أبو عبيدة: دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة، فأنشده قصيدته المشهورة فيهم التي يقول فيها:

فإن أبا موسى خليل محمد                      وكفاه يمنى للهدى وشمالها فقال ابن أبي بردة: هلكت والله يا أبا فراس، فارتاع الشيخ، وقال: كيف ذاك? قال ذهب شعرك، أين مثل شعرك في سعيد، وفي العباس بن الوليد، وسمى قوما فقال: جئني بحسب مثل أحسابهم، حتى أقول فيك كقولي فيهم، فغضب بلال حتى درت أوداجه ودعي له بطست فيه ماء بارد، فوضع يده فيها، حتى سكن، فكلمه فيه جلساؤه وقالوا: قد كفاك الشيخ نفسه وقل ما يبقى حتى يموت، فلم يحل عليه الحول حتى مات.

قواد له من أصحابه: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن محمد بن موسى، عن سعيد بن همام اليمامي، قال: شرب الفرزدق شرابا باليمامة وهو يريد العراق، فقال لصاحب له: إن الغلمة قد آذتني فأكسبني بغيا، قال: من أين أصيب لك هاهنا بغيا? قال: فلا بد لك من أن تحتال، قال: فمضى الرجل إلى القرية، وترك الفرزدق ناحية؛ فقال: هل من امرأة تقبل، فإن معي امرأتي وقد أخذها الطلق فبعوا معه امرأة، فأدخلها الفرزدق، وقد غطاه، فلما دنت منه واثبها. ثم ارتحل مبادرا، وقال: كأني بابن الخبيثة يعني جريرا لو قد بلغه الخبر قد قال:

وكنت إذا حللت بدار قـوم                      رحلت بخزية وتركت عارا قال: فبلغ جريرا الخبر، فهجاه بهبذا الشعر.

يغتصب بيتا: وأخبرنا عبد الله بن مالك، عن محمد بن موسى، قال: قال أبو نهشل: حدثنا بعض أصحابنا: قال: وقف الفرزدق على الشمردل، وهو ينشد قصيدة له، فمر هذا البيت في بعض قوله:

وما بين من لم يعط سمعا وطاعة                      وبين جرير غير حز الحلاقـم فقال الفرزدق: يا شمردل، لتتركن هذا البيت لي أو لتتركن عرضك؛ قال: خذه، لا بارك الله لك فيه فهو في قصيدته التي ذكر فيها قتيبة بن مسلم، وهي التي أولها قوله:

تحن إلى زورا اليمامة ناقتي                      حنين عجول تبتغي البورائم تستعيذ بقبر أبيه: أخبرنا عبد الله بن مالك قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن الأصمعي، قال: جاءت امرأة إلى قبر غالب أبي الفرزدق؛ فضربت عليه فسطاطا. فأتاها فسألها عن أمرها. فقالت: إني عائذة بقبر غالب من أمر نزل بي، قال لها: وما هو، قد ضمنت خلاصك منه، قالت: إن ابنا لي أغزى إلى السند مع تميم بن زيد؛ وهو واحدي قال: انصرفي، فعلي انصرافه إليك إن شاء الله، قال: وكتب من وقته إلى تميم بقوله:

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي                      بظهر فلا يخفى علي جوابها

وهب لي حبيشا واتخذ فيه منة                      لحرمة أم ما يسوغ شرابهـا

أتتني فعاذت يا تميم بغـالـب                      وبالحفرة السافي عليها ترابها قال: فعرض تميم جميع من معه من الجند، فلم يدع أحدا اسمه حبيش، ولا حنيش إلا وصله، وأذن له في الانصراف إلى أهله.

ماذا يشتهي: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: أخبرنا محمد بن حبيب، عن الأصمعي، قال: مر الفرزدق بصديق له، فقال له: ما تشتهي يا أبا فراس? قال: أشتهي شواء رشراشا، ونبيذا سعيرا، وغناء يفتق السمع.

الرشراش: الرطب، والسعير: الكثير.

يتبرم بعشاق شعره: أخبرنا عبد الله بن مالك. قال: حدثنا محمد بن حبيب: قال: حدثني السعدي، عن أبي مالك الزيدي. قال:

 

صفحة : 2442

 

أتينا الفرزدق لنسمع منه شيئا، فجلسنا ببابه ننتظر، إذ خرج علينا في ملحفة. فقال لنا: يا أعداء الله، ما اجتماعكم ببابي? والله لو أردت أن أزني ما قدرت.

يعاني في قرص الشعر: أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا أبو مسلم، قال حدثنا الأصمعي عن هشام بن القاسم، قال: قال الفرزدق: قد علم الناس أني فحل الشعراء، وربما أتت علي الساعة لقلع ضرس من أضراسي أهون لعي من قول بيت شعر.

يهجو راويته فلا ينقض كلامه: حدثنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم، عن الأصمعي، قال: كان الفرزدق وأبو شقفل راويته في المسجد؛ فدخلت امرأة، فسألت عن مسألة، وتوسمت؛ فرأت هيئة أبي شقفل، فسألته عن مسألتها، فقال الفرزدق:

أبو شقفل شيخ عن الحق جائر                      بباب الهدى والرشد غير بصير فقالت المرأة: سبحان الله? أتقول هذا لمثل هذا الشيخ? فقال أبو شقفل: دعيه فهو أعلم بي.

سكينة بنت الحسين تجرحه وتأسوه: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثنا المدائني، قال: خرج الفرزدق حاجا، فمر بالمدينة، فأتى سكينة بنت الحسين صلوات الله عليه وآله، فقالت: يا فرزدق. من أشعر الناس? قال: أنا، قالت: كذبت؛ أشعر منك الذي يقول:

بنفسي من تجنبـه عـزيز                      علي ومن زيارته لمـام

ومن أمسي وأصبح لا أراه                      ويطرقني إذا هجع النيام فقال: والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه. فقالت: أقيموه: فأخرج. ثم عاد إليها في اليوم الثاني. فقالت له: يا فرزدق. من أشعر الناس? قال: أنا. قالت: كذبت: أشعر منك الذي يقول:

لولا الحياء لهاجني استعـبـار                      ولزرت قبرك والحبيب يزار

لا يلبث القرفاء أن يتفـرقـوا                      ليل يكر علـيهـم ونـهـار

كانت إذا هجر الضجيع فراشها                      كتم الحديث وعفت الأسـرار قال: أفأسمعك أحسن منه? قالت: اخرج.

ثم عاد إليها في اليوم الثالث وعلى رأسها جارية كأنها ظبية، فاشتد عجبه بها. فقالت: يا فرزدق، من أشعر الناس? قال: أنا. قالت: كذبت. أشعر منك الذي يقول:

إن العيون التي في طرفها مرض                      قتلننا ثم لـم يحـيين قـتـلانـا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك له                      وهن أضعف خلق الله أركـانـا ثم قالت: قم فاخرج. فقال لها: يا بنت رسول الله، إن لي عليك لحقا. إذ كنت إنما جئت مسلما عليك، فكان من تكذيبك إياي وصنيعك بي حين أردت أن أسمعك شيئا من شعري ما ضاق به صدري. والمنايا تغدو وتروح، ولا أدري، لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت. فإن مت فمري من يدفنني في حر هذه الجارية التي على رأسك، فضحكت سكينة، حتى كادت تخرج من ثيابها، وأمرت له بالجارية، وقالت: أحسن صحبتها؛ فقد آثرتك بها على نفسي، قال: فخرج وهو آخذ بريطتها.

يطالب معاوية بتراث عمه: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: حدثنا المدائني قال: وفد الحتات عم الفرزدق على معاوية، فخرجت جوائزهم، فانصرفوا، ومرض الحتات، فأقام عند معاوية حتى مات، فأمر معاوية بماله، فأدخل بيت المال، فخرج الفرزدق إلى معاوية، وهو غلام، فلما أذن للناس دخل بين السماطين، ومثل بين يدي معاوية، فقال:

أبوك وعمي يا مـعـاوي ورثـا                      تراثا فيحتاز التـراث أقـاربـه

فما بال ميراث الحتات أكـلـتـه                      وميراث حرب جامد لي ذائبـه?

فلو كان هذا الأمر في جاهـلـية                      علمت من المولى القليل حلائبـه

ولو كان هذا الأمر في ملك غيركم                      لأداه لي أو غص بالماء شاربـه فقال له معاوية: من أنت? قال: أنا الفرزدق قال: ادفعوا إليه ميراث عمه الحتات، وكان ألف دينار، فدفع إليه.

امرأة تهجوه فتوجعه: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن أبي حمزة الأنصاري، قال: أخبرنا أبو زيد، قال: قال أبو عبيدة.

انصرف الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة باردة، وأمر بجزور، فنحرت ثم قسمت، فأغفل امرأة من بني فقيم، نسيها، فرجزت به، فقالت:

فيشلة هدلاء ذات شقشـق                      مشرفة اليافوخ والمحوق

مدمجة ذات حفاف أخلـق                      نيطت بحقوي قطم عشنق

أولجتها في سبة الفرزدق

 

صفحة : 2443

 

قال أبو عبيدة: فبلغني أنه هرب منها، فدخل في بيت حماد بن الهيثم، ثم إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك:

قتلت قتيلا لم ير الناس مـثـلـه                      أقلبه ذا تـومـتـين مـسـورا

حملت عليه حملتين بـطـعـنة                      فغادرته فوق الحشايا مـكـورا

ترى جرحه من بعد ما قد طعنته                      يفوح كمثل المسك خالط عنبرا

وما هو يوم الزحف بارز قرنـه                      ولا هو ولى يوم لاقى فـأدبـرا

بني دارم ما تأمرون بـشـاعـر                      برود الثنايا مايزال مزعـفـرا

إذا ما هو استلقى رأيت جهـازه                      كمقطع عنق الناب أسود أحمرا

وكيف أهاجي شاعرا رمحه استه                      أعد ليوم الروع درعا ومجمـرا فقالت المرأة: ألا لا أرى الرجال يذكرون مني هذا، وعاهدت الله ألا تقول شعرا.

كأنه يريد أن يؤتى: أخبرنا عبد الله بن مالك بن مسلم، عن الأصمعي قال: مر الفرزدق يوما في الأزد، فوثب عليه ابن أبي علقمة لينكحه، وأعانه على ذلك سفهاؤهم، فجاءت مشايخ الأزد وأولو النهي منهم، فصاحوا بابن أبي علقمة وبأولئك السفهاء، فقال لهم ابن أبي علقمة: ويلكم أطيعوني اليوم، واعصوني الدهر؛ هذا شاعر مضر ولسانها، قد شتم أعراضكم، وهجا ساداتكم، والله لا تنالون من مضر مثلها أبدا، فحالوا بينه وبينه، فكان الفرزدق يقول بعد ذلك: قاتله الله. إي والله، لقد كان أشار عليهم بالرأي.

أنصاري يتحداه بشعر حسان بن ثابت: أخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: قال الكلبي: قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص. وأخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي والأخفش جميعا، عن السكري، عن ابن حبيب، عن أبي عبيدة والكلبي: قال: وأخبرنا به إبراهيم بن سعدان، عن أبيه، عن أبي عبيدة، قالوا جميعا: قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان، فأتى الفرزدق وكثير عزة، فبينا هما يتناشدان الأشعار إذ طلع عليهما غلام شخت رقيق الأدمة، في ثوبين ممصرين، فقصد نحونا، فلم يسلم، وقال: أيكم الفرزدق? فقلت مخافة أن يكون من قريش: أهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها? فقال: لو كان كذلك لم أقل هذا، فقال له الفرزدق: من أنت لا أم لك، قال: رجل من الأنصار، ثم من بني النجار، ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم، بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب، وتزعمه مضر، وقد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعرا، فأردت أن أعرضه عليك، وأؤجلك سنة، فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب، كما قيل، وإلا فأنت منتحل كذاب، ثم أنشده:

ألم تسأل الربع الجديد التكلما حتى بلغ إلى قوله:

وأبقى لنا مر الحـروب ورزؤهـا                      سيوفا وأدراعا وجما عرمـرمـا

متى ما تردنا من معـد عـصـابة                      وغسان نمنع حوضنا أن يهـدمـا

لنا حاضر فـعـم وبـاد كـأنـه                      شماريخ رضوى عزة وتكـرمـا

أبى فعلنا المعروف أن ننطق الخنا                      وقائلنا بالعـرف إلا تـلـكـمـا

بكل فتى عاري الأشاجـع لاحـه                      قراع الكماة يرشح المسك والدمـا

ولدنا بني العنقاء وابني مـحـرق                      فأكرم بذا خالا وأكرم بذا ابنـمـا

يسود ذا المال القـلـيل إذا بـدت                      مروءته فينا وإن كان مـعـدمـا

وإنا لنقري الضيف إن جاء طارقا                      من الشحم ما أمسى صحيحا مسلما

لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحـى                      وأسيافنا يقطرن من نجـدة دمـا

 

صفحة : 2444

 

فأنشده القصيدة، وهي نيف وثلاثون بيتا، وقال له: قد أجلتك في جوابها حولا، فانصرف الفرزدق مغضبا، يسحب رادءه، وما يدري أية طرقه حتى خرج من المسجد، فأقبل على كثير، فقال له: قاتل الله الأنصار ما أفصح لهجتهم، وأوضح حجتهم، وأجود شعرهم، فلم نزل في حديث الأنصار والفرزدق بقية يومنا، حتى إذا كان من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه بالأمس، فأتى كثير، فجلس معي، وإنا لنتذاكر الفرزدق، ونقول: ليت شعري ما صنع? إذ طلع علينا في حلة أفواف، قد أرخى غديرته، حتى جلس في مجلسه بالأمس، ثم قال: ما فعل الأنصاري? فنلنا منه، وشتمناه، فقال: قاتله الله: ما منيت بمثله، ولا سمعت بمثل شعره، فارقته، وأتيت منزلي، فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر، فكأني مفحم لم أقل شعرا قط، حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي، وأخذت بزمامها حتى أتيت ريانا، وهو جبل بالمدينة، ثم ناديت بأعلى صوتي: أخاكم أخاكم، يعني شيطانه، فجاش صدري كما يجيش المرجل، فعقلت ناقتي وتوسدت ذراعها، فما عتمت حتى قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتا، فبينا هو ينشد إذ طلع الأنصاري، حتى إذا انتهى إلينا سلم علينا، ثم قال: إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك، ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك: إيش صنعت? فقال اجلس، وأنشده قوله:

عزفت بأعشاش وما كنـت تـعـزف                      وأنكرت من حدراء ما كنت تعـرف

ولج بك الهجران حـتـى كـأنـمـا                      ترى الموت في البيت الذي كنت تألف في رواية ابن حبيب: تيلف حتى بلغ إلى قوله:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا                      وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا وأنشدها الفرزدق، حتى بلغ إلى آخرها، فقام الأنصاري كئيبا، فلما توارى طلع أبوه أبو بكر بن خزم في مشيخة من الأنصار، فسلموا عليه، وقالوا: يا أبا فراس، قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا ربما تعرض لك، فنسألك بحق الله وحق رسوله لما حفظت فينا وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووهبتنا له، ولم تفضحنا.

قال محمد بن إبراهيم: فأقبلت عليه أكلمه، فلما أكثرنا عليه، قال: اذهبوا، فقد وهبتكم لهذا القرشي.

قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق: أنشدني أجود شعر عملته، فأنشده:

عزفت بأعشاش وما كدت تعزف فقال: زدني: فأنشده:

ثلاث واثنتان فتلك خمس                      وواحدة تميل إلى الشمام

فبتن بجانبي مصرعـات                      وبت أفض أغلاق الختام فقال له سليمان: ما أراك إلا قد أحللت نفسك للعقوبة، أقررت بالزنى عندي، وأنا إمام، ولا تريد مني إقامة الحد عليك، فقال: إن أخذت في بقول الله عز وجل لم تفعل. قال: وما قال?. قال: قال الله تبارك وتعالى: )والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون(، فضحك سليمان وقال: لتلافيتها ودرأت عنك الحد وخلع عليه وأجازه.

يجتمع هو وجرير بالشام: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن الأصمعي، قال: قدم الفرزدق الشام وبها جرير بن الخطفي، فقال له جرير: ما ظننتك تقدم بلدا أنا فيه، فقال له الفرزدق: إني طالما أخلفت ظن العاجز.

أخبرنا عبد الله بن مالك قال: حدثنا محمد بن موسى بن طلحة: قال: قال أبو مخنف: الفرزدق لعنة وجرير شهاب: كان الفرزدق لعنة، أي يتلعن به كأنه لعنة على قوم، وكان جرير شهابا من شهب النار.

يتندر بمحمد بن وكيع: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثنا الأزدي: قال: حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن أبيه، قال: قال ابو عمرو ابن العلاء: مر الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود، وهو على ناقة فقال له: غدني، قال: ما يحضرني غداء، قال: فاسقني سويقا، قال: ما هو عندي، قال: فاسقني نبيذا، قال: أوصاحب نبيذ عهدتني، قال: فما يقعدك في الظل? قال: فما أصنع? قال أطل وجهك بدبس، ثم تحول إلى الشمس، واقعد فيها، حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه، قال أبو عمرو: فمازال ولد محمد يسبون ذبذلك من قول الفرزدق انتهى.

هاشم بن القاسم يتجاهله: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن ابن حبيب، عن موسى بن طلحة، عن أبي عبيدة، عن أبي العلاء: قال: أخبرني هاشم بن القاسم العنزي أنه قال:

 

صفحة : 2445

 

جمعني والفرزدق مجلس، فتجاهلت عليه، فقلت له: من أنت? قال: أما تعرفني? قلت: لا، قال: فأنا أبو فراس، قلت: ومن أبو فراس، قال: أنا الفرزدق، قلت: ومن الفرزدق? قال: أو ما تعرف الفرزدق? قلت: أعرف الفرزدق أنه شيء يتخذه النساء عندنا، يتسمن به وهو الفتوت، فضحك وقال: الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم.

الكلبيون يعبثون به: أخبرني عبد الله بن مالك، عن محمد بن حبيب، عن النضر بن حديد، قال: مر الفرزدق بماء لبني كليب مجتازا، فأخذوه، وكان جبانا، فقالوا: والله لتلقين منا ما تكره، أو لتنكحن هذه الأتان، وأتوه بأتان، فقال: ويلكم اتقوا الله، فإنه شيء ما فعلته قط، فقالوا: إنه لا ينجيك والله إلا الفعل قال: أما إذا أبيتم فأتونب بالصخرة التي يقوم عليها عطية، فضحكوا، وقالوا: اذهب لأصحبك الله.

أسود يستخف به: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن محمد بن موسى، عن العتبي قال: دخل الفرزدق على قوم يشربون عند رجل بالبصرة، وفي صدر مجلسهم فتى أسود، وعلى رأسه إكليل؛ فلم يحفل بالفرزدق، ولم يحف به تهاونا، فغضب الفرزدق من ذلك وقال:

جلوسك في صدر الفراش مـذلة                      ورأسك في الإكليل إحدى الكبائر

وما نطفت كأس ولا لذ طعمهـا                      ضربت على حافاتها بالمشافـر يرثي وكيعا، فينسى مشيعيه الاستغفار له: أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى، عن العتبي قال: لما مات وكيع بن أبي سود أقبل الفرزدق حين أخرج، وعليه قميص أسود، وقد شقه إلى سرته وهو يقول:

فمات ولم يوتر وما من قـبـيلة                      من الناس إلا قد أباءت على وتر

وإن الذي لاقى وكيعـا ونـالـه                      تناول صديق النبي أبـا بـكـر قال: فعلق الناس الشعر، فجعلوا ينشدونه، حتى دفن، وتركوا الاستغفار له.

ميميته المأثورة في علي بن الحسين: أخبرنا عبد الله بن علي بن الحسن الهاشمي، عن حيان بن علي العنزي، عن مجالد، عن الشعبي قال: حج الفرزدق بعد ما كبر، وقد أتت له سبعون سنة، وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى علي بن الحسين في غمار الناس في الطواف، فقال: من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها? فقالوا: هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم، فقال الفرزدق:

هذا الذي تعرف البطحـاء وطـأتـه                      والبيت يعرفه والـحـل والـحـرم

هذا ابن خير عبـاد الـلـه كـلـهـم                      هذا التقي النقي الطاهـر الـعـلـم

هذا ابن فاطمة إن كنـت جـاهـلـه                      بجده أنبـياء الـلـه قـد خـتـمـوا

وليس قولـك: مـن هـذا بـضـائره                      العرب تعرف من أنكرت والعـجـم

إذا رأتـه قـريش قـال قـائلـهـا:                      إلى مكارم هذا ينـتـهـي الـكـرم

يغضي حياء ويغضي من مهـابـتـه                      فمـا يكـلـم إلا حـين يبـتـســم

بكفـه خـيزران ريحـهـا عـبـق                      من كف أروع في عرنينـه شـمـم

يكاد يمسـكـه عـرفـان راحـتـه                      ركن الحطيم إذا ما جـاء يسـتـلـم

اللـه شـرفـه قـدمـا وعـظـمـه                      جرى بذاك له في لوحـه الـقـلـم

أي الخلائق ليسـت فـي رقـابـهـم                      لأولـية هـذا أولـه نــعـــم?

من يشكر الـلـه يشـكـر أولـية ذا                      فالدين من بيت هـذا نـالـه الأمـم

ينمي إلى ذروة الدين التي قـصـرت                      عنها الأكف وعن إدراكهـا الـقـدم

من جده دان فـضـل الأنـبـياء لـه                      وفضـل أمـتـه دانـت لـه الأمـم

مشتقة من رسول الـلـه نـبـعـتـه                      طابت مغارسه والـخـيم والـشـيم

ينشق ثوب الدجى عن نـور غـرتـه                      كالشمس تنجاب عن إشراقها الظلـم

من معشر جبهم دين، وبـغـضـهـم                      كفر وقربهم منجـى ومـعـتـصـم

مقدم بـعـد ذكـر الـلـه ذكـرهـم                      في كل بدء ومختـوم بـه الـكـلـم

إن عد أهل التقى كـانـو أئمـتـهـم                      أو قيل من خير أهل الأرض قيل: هم

لا يستطيع جـواد كـنـه جـودهـم                      ولا يدانـيهـم قـوم وإن كـرمـوا

 

صفحة : 2446

 

 

يستدفع الشر والبلوى بحبهم                      ويسترب به الإحسان والنعم وقد حدني بهذا الخبر أحمد بن الجعد، قال: حدثنا أحمد بن القاسم البرتي، قال: حدثنا إسحاق بن محمد النخعي، فذكر أن هشاما حج في حياة أبيه، فرأى علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم يطوف بالبيت والناس يفرجون له. فقال: من هذا? فقال الأبرش الكلبي: ما أعرفه، فقال الفرزدق: ولكني أعرفه، فقال: من هو? فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته وذك الأبيات.. إلخ.

قال: فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فقال:

أتحبسني بين المدينة والـتـي                      إليها قلوب الناس يهوى منيبها

يقلب رأسا لم يكن رأس سـيد                      وعينا له حولاء باد عيوبهـا فبلغ شعره هشاما، فوجه، فأطلقه.

بينه وبين مالك بن المنذر: أخبرنا عبد الله بن مالك، عن محمد بن موسى، عن الهيثم بن عدي، قال: أخبرنا أبو روح الراسبي، قال: لما ولي خالد بن عبد الله العراق ولى مالك بن المنذر شرطة البصرة، فقال الفرزدق:

يبغض فينا شرطة المصر أنني                      رأيت عليها مالكا عقب الكلب قال، فقال مالك: علي به، فمضوا به إليه، فقال:

أقول لنفسي إذ تغص بـريقـهـا                      ألا ليت شعري ما لها عند مالك? قال: فسمع قوله حائك يطلع من طرازه، فقال:

لها عنده أني رجع الله ريقهـا                      إليها وتنجو من عظيم المهالك فقال الفرزدق هذا أشعر الناس، وليعودن مجنونا، يصيح الصبيان في أثره فقال: فرأوه بعد ذلك مجنونا يصيح الصبيان في أثره.

أخبرنا عبد الله بن مالك قال: حدثنا محمد بن علي بن سعيد، قال حدثنا القحذمي: قال: فلما أتوا مالك بن المنذر بالفرزدق قال: هيه عقب الكلب، قال: ليس هذا هكذا قلت، وإنما قلت:

ألم ترني ناديت بالصوت مالكا                      ليسمع لما غص من ريقه الفم

أعوذ بقبر فيه أكفان مـنـذر                      فهن لأيدي المستجيرين محرم قال: قد عذت بمعاذ، وخلى سبيله.

أخبرنا عبد الله قال: حدثني محمد بن موسى، قال: كتب خالد القسري إلى مالك بن المنذر يأمره بطلب الفرزدق، ويذكر أنه بلغه أنه هجاه، وهجا نهره المبارك، وهو النهر الذي بواسط الذي كان خالد حفره، فاشتد مالك في طلبه حتى ظفر به في البراجم فأخذه وحبسه ومروا به على بني مجاشع، فقال: يا قوم، اشهدوا أنه لا خاتم بيدي، وذلك أنه أخذ عمر بن يزيد بن أسيد، ثم أمر به فلويت عنقه، ثم أخرجوه ليلا إلى السجن، فجعل رأسه يتقلب، والأعوان يقولون له: قوم رأسك، فلما أتوا به السجان قال: لا أتسلمه منكم ميتا، فأخذوا المفاتيح منه، وأدخلوه الحبس، وأصبح ميتا، فسمعوا أنه مص خاتمه وكان فيه سم، فمات، وتكلم الناس في أمره، فدخل لبطة بن الفرزدق على أبيه، فقال: يا بني، هل كان من خبر? قال: نعم، عمر بن يزيد مص خاتمه في الحبس، وكان فيه سم، فمات، فقال الفرزدق: والله يا بني لئن لم تلحق بواسط ليمص أبوك خاتمه، وقال في ذلك:

ألم يك قتل عبد الله ظلـمـا                      أبا حفص من الحرم العظام

قتيل عداوة لم يجـن ذنـبـا                      يقطع وهو يهتف للإمـام قال: وكان عمر عارض خالدا وهو يصف لهشام طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم، فصفق عمرو بن يزيد إحدى يديه على الأخرى، حتى سمع له في الإيوان دوي، قم قال: كذب والله يا أمير المؤمنين، ما أطاعت اليمانية، ولا نصحت، أليس هم أعداؤك وأصحاب يزيد بن المهلب وابن الأشعث? والله ما ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه، فاحذرهم يا أمير المؤمنين قال: فتبين ذلك في وجه هشام ووثب رجل من بني أمية، فقال لعمرو بن يزيد: وصل الله رحمك وأحسن جزاءك، فلقد شددت من أنفس قومك، وانتهزت الفرصة في وقتها، ولكن أحسب هذا الرجل سيلي العراق، وهو منكر حسود، وليس يخار لك إن ولى، فلم يرتدع عمر بقوله، وظن أنه لا يقدم عليه، فلما ولى لم تكن له همة غيره، حتى قتله، قال: جرير يشفع له:

 

صفحة : 2447

 

ثم إن مالكا وجه الفرزدق إلى خالد، فلما قدم به عليه وجده قد حج، واستخلف أخاه أسد بن عبد الله على العراق، فحبسه أسد، ووافق عنده جريرا، فوثب يشفع له، وقال: إن رأى الأمير أن يهبه لي، فقال أسد: أتشفع له يا جرير? فقال: إن ذلك أذل له - أصلحك الله - وكلم أسدا ابنه المنذر، فخلى سبيله، فقال الفرزدق في ذلك:

لا فضل إلا فضل أم على ابنهـا                      كفضل أبي الأشبال عند الفرزدق

تداركني من هوة دون قعـرهـا                      ثمانون باعا للطول العـشـنـق وقال جرير يذكر شفاعته له:

وهل لك في عان وليس بشاكر                      فتطلق عنه عض مس الحدائد

يعود وكان الخبث منه سجـية                      وإن قال: إني منته غير عائد يهجو بني فقيم: أخبرني عبيد الله، عن محمد بن موسى، عن القحذمي، قال: كان سبب هرب الفرزدق من زياد، وهو على العراق، أنه كان هجا بني فقيم، فقال فيهم أبياتا منها:

وآب الوفد وفد بني فقـيم                      بأخبث ما تئوب به الوفود

أتونا بالقرود معادلـيهـا                      فصار الجد للجد السعـيد وقال يهجو زيد بن مسعود الفقيمي والأشهب بن رميلة بأبيات، منها قوله:

تمنى ابن مسعود لقائي سفاهة                      لقد قال مينا يوم ذاك ومنكرا

غناء قليل عن فقيم ونهشـل                      مقام هجين ساعة ثم أدبـرا يعني الأشهب بن رميلة، وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم، فردوه، قوالوا له: اهج الفرزدق حتى نزوجك، فرجز به الأشهب، فقال:

يا عجبا هل يركب القين الفرس                      وعرق القين على الخيل نجس?

وإنمـا سـلاحـه إذا جـلـس                      الكلبتان والعـلاة والـقـبـس يهرب من زياد: فلما بلغ الفرزدق قوله هجاه، فأرفث له، وألح الفرزدق على النهشليين بالهجاء، فشكوه إلى زياد، وكان يزيد بن مسعود ذا منزلة عند زياد، فطلبه زياد، فهرب، فأتى بكر بن وائل، فأجاروه، فقال الفرزدق بمدحهم بأبيات:

إني وإن كانت تميم عـمـارتـي                      وكنت إلى القرموس منها القماقم

لمثن على أبناء بكـر بـن وائل                      ثناء يوافي ركبهم في المواسـم

همو يوم ذي قار أناخوا فجالـدوا                      برأس به تدمى رؤوس الصلادم وهرب، حتى أتى سعيد بن العاص، فأقام بالمدينة يشرب، ويدخل إلى القيان، وقال:

إذا شئت غناني من العاج قاصـف                      على معصـم ريان لـم يتـخـدد

لبيضاء من أهل المدينة لم تـعـش                      ببؤس ولم تتبع حمولة مـجـحـد

وقامت تخشيني زيادا وأجـفـلـت                      حوالي في برد يمان ومـجـسـد

فقلت: دعيني من زياد فـإنـنـي                      أرى الموت وقافا على كل مرصد مروان ينفيه ثم يجيزه: فبلغ شعره مروان، فدعاه، وتوعده، وأجله ثلاثا، وقال: اخرج عني، فأنشأ يقول الفرزدق:

دعانا ثم أجلنـا ثـلاثـا                      كما وعدت لمهلكها ثمود قال مروان: قولوا له عني: إني أجبته، فقلت:

قل للفرزدق والسفاهة كاسمهـا                      إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس

ودع المدينة إنها مـحـظـورة                      والحق بمكة أو ببيت المقـدس قال: وعزم على الشخوص إلى مكة، فكتب له مروان إلى بعض عماله، ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار، فارتاب بكتاب مروان، فجاء به إليه وقال:

مروان إن مطيتي معـقـولة                      ترجو الحباء وربها لـم ييأس

آتيتني بصحـيفة مـخـتـومة                      يخشى علي بها حباء النقرس

ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن                      نكراء مثل صحيفة المتلمـس قال: ورمى بها إلى مروان، فضحك، وقال: ويحك إنك أمي، لا تقرأ، فاذهب بها إلى من يقرؤها، ثم ردها، حتى أختمها، فذهب بها، فلما قرئت إذا فيها جائزة، قال: فردها إلى مروان، فختمها، وأمر له الحسين بن علي رضي الله عنهما بمائتي دينار، قال: ولما بلغ جريرا أنه أخرج عن المدينة قال:

إذا حل المدينة فارجـمـوه                      ولا تدنوه من جدث الرسول

فما يحمى عليه شراب حـد                      ولا ورهاء غائبة الحلـيل فأجابه الفرزدق، فقال:

نعت لنا من الورهاء نعتا                      قعدت به لأمك بالسبيل

 

صفحة : 2448

 

 

فلا تبغي إذا ما غاب عنها                      عطية غير نعتك من حليل يموت بذات الجنب: أخبرنا عبد الله بن مالك، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: حدثنا أبو عكرمة الضبي عن ابي حاتم السجستاني، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، قال أبو عكرمة: وحكي لنا عن لبطة بن الفرزدق أن أباه أصابته ذات الجنب، فكانت سبب وفاته.

قال: ووصف له أن يشرب النفط الأبيض، فجعلناه له في قدح، وسقيناه إياه، فقال: يا بني عجلت لأبيك شراب أهل النار، فقلت له: يا أبت، قل: لا إله إلا الله، فجعلت أكررها عليه مرارا، فنظر إلي وجعل يقول:

فظلت تعالى باليفاع كـأنـهـا                      رماح نحاها وجهه الريح راكز فكان ذا هجيراه حتى مات.

أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثني شعيب بن صخر، قال: دخل بلال بن أبي بردة على الفرزدق في مرضه الذي مات فيه، وهو يقول:

أروني من يقوم لكم مقامـي                      إذا ما الأمر جل عن الخطاب البيتين، فقال بلال: إلى الله، إلى الله: يتمرد في مرض موته: أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، عن الأصمعي، قال: كان الفرزدق قد دبر عبيدا له، وأوصى بعتقهم بعد موته، ويدفع شيء من ماله إليهم، فلما احتضر جمع سائر أهل بيته، وأنشأ يقول:

أروني من يقوم لكم مقامـي                      إذا ما الأمر جل عن الخطاب

إلى من تفزعون إذا حشوتـم                      بأيديكم علي مـن الـتـراب فقال له بعض عبيده - الذين أمر بعتقهم : إلى الله، فأمر بيعه قبل وفاته، وأبطل وصيته فيه، والله أعلم.

أخبرني الحسن بن علي، عن بشر بن مروان، عن الحميدي، عن سفيان، عن لبطة بن الفرزدق قال: لما احتضر أبو فراس قال - أي لبطة: أبغني كتابا أكتب فيه وصيتي، فأتيته بكتاب فكتب وصيته:

أروني من يقوم لكم مقامي البيتين، فقالت مولاة له - قد كان أوصى لها بوصية : إلى الله عز وجل، فقال: يا لبطة، امحها من الوصية.

قال سفيان: نعم ما قالت وبئس ما قال أبو فراس.

ينظم وصيته شعرا: وقال عوانة: قيل للفرزدق في مرضه الذي مات فيه أوص، فقال:

أوصي تميما إن قضاعة سـاقـهـا                      ندى الغيث عن دار بدومة أو جدب

فإنكـم الأكـفـاء والـغـيث دولة                      يكون بشرق من بلاد ومن غـرب

إذا انتجعت كلب عليكم فوسـعـوا                      لها الدار في سهل المقامة والرحب

فأعظم من أحلام عاد حلـومـهـم                      وأكثرهم عند العديد من الـتـرب

أشد حـبـال بـعـد حـيين مـرة                      حبال أمرت من تميم ومن كـلـب يسبقه إلى الآخرة غلام له: قال: وتوفي للفرزدق ابن صغير قبل وفاته بأيام، وصلى عليه، ثم التفت إلى الناس، فقال:

وما نحن إلا مثلهم غير أننا                      أقمنا قليلا بعدهم وتقدموا قال: فلم يلبث إلا أياما حتى مات.

أنشد عند موته: وقال المدائني: قال لبطة: أغمي على أبي، فبكينا، ففتح عينيه، وقال: أعلي تبكون? قلنا: نعم، أفعلى ابن المراغة نبكي? فقال: ويحكم أهذا موضع ذكره? وقال:

إذا ما دبت الأنقـاء فـوقـي                      وصاح صدى علي مع الظلام

فقد شمتت أعاديكم وقـالـت:                      أدانيكم من أين لنا المحامـي? وقع نعيه على جرير: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة، قال: حدثنا محمد بن سلام، قال: حدثنا أبو العراف، قال: نعي الفرزدق لجرير، وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة، فقال:

مات الفرزدق بعد ما جرعته                      ليت الفرزدق كان عاش قليلا فقال له المهاجر: بئس ما قلت، أتهجوا ابن عمك بعد ما مات ولو رثيته كان أحسن بك. فقال: والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل، وأن نجمي لموافق لنجمه، أفلا أرثيه? قال: أبعد ما قيل لك: ألو كنت بكيته ما نسيتك العرب.

قال أبو خليفة: قال ابن سلام: فأنشدني معاوية بن عمرو، قال: أنشدني عمارة بن عقيل لجرير يرثي الفرزدق بأبيات منها:

فلا ولدت بعد الفرزدق حامـل                      ولا ذات بعل من نفاس تعلـت

هو الوافد المأمون والراتق التأى                      إذا النعل يوما بالعشيرة زلـت

 

صفحة : 2449

 

أخبرني أحمد بن عبد العزيز، عن ابن شبة بخبر جرير لما بلغه وفاة الفرزدق، وهو عن المهاجر، فذكر نحوا مما ذكره ابن سلام، وزاد فيه، قال: ثم قال: وبكى، وندم، وقال: ما تقارب رجلان في أمر قط، فمات أحدهما إلا أوشك صاحبه أن يتبعه.

في أي سنة مات: قال أبو زيد: مات الحسن وابن سيرين والفرزدق وجرير في سنة عشر ومائة، فقبر الفرزدق بالبصرة، وقبر جرير وأيوب السختياني ومالك بن دينار باليمامة في موضع واحد.

وهذا غلط من أبي زيد عمر بن شبة، لأن الفرزدق مات بعد يوم كاظمة، وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة ومائة، وقد قال فيه الفرزدق شعرا، وذكره في مواضع من قصائده، ويقوي ذلك ما أخبرنا به وكيع، قال: حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني ابن النطاح، عن المدائني، عن أبي اليقظان وأبي همام المجاشعي: أن الفرزدق مات سنة أربع عشرة ومائة.

جرير ينعي نفسه ويرثيه: قال أبو عبيدة: حدثني أبو أيوب بن كسيب من آل الخطفي، وأمه ابنة جرير بن عطية، قال: بينا جرير في مجلس بفناء داره بحجر إذ راكب قد أقبل، فقال له جرير: من أين وضح الراكب? قال: من البصرة، فسأل عن الخبر، فأخبره بموت الفرزدق، فقال:

مات الفرزدق بعد ما جرعته                      ليت الفرزدق كان عاش قليلا ثم سكت ساعة، فظنناه يقول شعرا، فدمعت عيناه، فقال القوم: سبحان الله، أتبكي الفرزدق فقال: والله ما أبكي إلا على نفسي، أما والله إن بقائي؛ خلافه لقليل، إنه قل ما كان مثلنا رجلان يجتمعان على خير أو شر إلا كان أمد ما بينهما قريبا، ثم أنشأ يقول:

فجعنا بحمال الديات ابن غالب                      وحامي تميم كلها والبراجـم

بكيناك حدثان الفراق وإنـمـا                      بكيناك شجوا للأمور العظائم

فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرة                      ولا شد أنساع المطي الرواسم يموت بالدبيلة: وقال البلاذري: حدثنا أبو عدنان، عن أبي اليقظان، قال: أسن الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته الدبيلة، وهو بالبادية فقدم إلى البصرة؛ فأتي برجل من بني قيس متطبب؛ فأشار بأن يكوى، ويشرب النفط الأبيض، فقال: أتعجلون لي طعام أهل النار في الدنيا? وجعل يقول:

أروني من يقوم لكم مقامـي                      إذا ما الأمر جل عن الخطاب أبو ليلى المجاشعي يرثيه: وقال أبو ليلى المجاشعي يرثي الفرزدق:

لعمري لقد أشجى تميما وهـدهـا                      على نكبات الدهر موت الفرزدق

عشية قدنا للفـرزدق نـعـشـه                      إلى جدث في هوة الأرض معمق

لقد غيبوا في اللحد من كان ينتمي                      إلى كل بدر في السماء محـلـق

ثوى حامل الأثقال عن كل مثقـل                      ودفاع سلطان الغشوم السمـلـق

لسان تميم كلـهـا وعـمـادهـا                      وناطقها المعروف عند المخنـق

فمن لتميم بعد موت ابن غـالـب                      إذا حل يوم مظلم غير مـشـرق

لتبك النساء المعولات ابن غالـب                      لجان وعان في السلاسل موثـق أعلام ماتوا سنة موته: وقال ابن زكريا الغلابي، عن ابن عائشة، قال: مات الفرزدق وجرير في سنة عشرة ومائة، ومات جرير بعده بستة أشهر، ومات في هذه السنة الحسن البصري وابن سيرين، قال: فقالت امرأة من أهل البصرة: كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة? ونسبت جريرا إلى البصرة لكثرة قدومه إليها من اليمامة، وقبر جرير باليمامة، وبها مات، وقبر الأعشى أيضا باليمامة: أعشى بني قيس بن ثعلبة، وقبر الفرزدق بالبصرة في مقابر بني تميم: وقال جرير لما بلغه موت الفرزدق: قلما تصاول قحلان، فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به.

ورثاهما جماعة، فمنهم أبو ليلى الأبيض، من بني الأبيض بن مجاشع فقال فيهما:

لعمري لئن قرما تميم تتابـعـا                      مجيبين للداعي الذي قد دعاهما

لرب عدو فرق الدهر بـينـه                      وبينهما لم تشوه ضغمتاهـمـا يتراءى في المنام: أخبرني ابن عمار، عن يعقوب بن إسرائيل، عن قعنب بن المحرز الباهلي، عن الأصمعي، عن جرير يعني أبا حازم قال: رئي الفرزدق وجرير في النوم، فرئي الفرزدق بخير وجرير معلق.

قال قعنب: وأخبرني الأصمعي، عن روح الطائي، قال:

 

صفحة : 2450

 

رئي الفرزدق في النوم، فذكر أنه غفر له بتكبيرة كبرها في المقبرة عند قبر غالب.

قال قعنب: وأخبرني أبو عبيدة النحوي وكيسان بن المعروف النحوي، عن لبطة بن الفرزدق، قال: رأيت أبي فيما يرى النائم، فقلت له: ما فعل الله بك? قال. نفعتني الكلمة التي نازعنيها الحسن على القبر.

هو والحسن في جنازة النوار: أخبرني وكيع، عن بن إسماعيل الحساني، عن علي بن عاصم، عن سفيان بن الحسن، وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام - والرواية قريب بعضها من بعض : أن النوار لما حضرها الموت أوصت الفرزدق - وهو ابن عمهغا - أن يصلي عليها الحسن البصري، فأخبره الفرزدق، فقال: إذا فرغتم منها فأعلمني، وأخرجت، وجاءها الحسن، وسبقهما الناس، فانتظروهما، فأقبلا، والناس ينتظرون، فقال الحسن: ما للناس? فقال: ينتظرون خير الناس وشر الناس، فقال: إني لست بخيرهم، ولست بشرهم، وقال له الحسن على قبرها: ما أعددت لهذا المضجع، فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة.

هذا لفظ محمد بن سلام. وقال وكيع في خبره: فتشاغل الفرزدق بدفنها، وجلس الحسن يعظ الناس، فلما فرغ الفرزدق وقف على حلقة الحسن، وقال:

لقد خاب من أولاد آدم من مشى                      إلى الناس مغلول القلادة أزرقا

أخاف وراء القبر إن لم يعافني                      أشد من القبر التهابا وأضيقـا

إذا جاءني يوم الـقـيامة قـائد                      عنيف وسواق يقود الفرزدقـا رواية أخرى له مع الحسن: أخبرنا أحمد: قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا حيان بن هلال: قال: حدثنا خالد بن الحر: قال: رأيت الحسن في جنازة أبي رجاء العطاردي، فقال للفرزدق: ما أعددت لهذا اليوم? فقال: شهادة أن لا إله إلا الله منذ بضع وتسعين سنة، قال إذا تنجو إن صدقت. قال: وقال الفرزدق: في هذه الجنازة خير الناس وشر الناس، فقال الحسن: لست بخير الناس ولست بشرهم.

يذكر ذنوبه فينشج: أخبرنا ابن عمار، عن أحمد بن إسرائيل، عن عبيد الله بن محمد القرشي بطوس، قال: حدثني يزيد بن هاشم العبدي: قال: حدثنا أبي: قال: حدثنا فضيل الرقاشي قال: خرجت في ليلة باردة، فدخلت المسجد، فسمعت نشيجا وبكاء كثيرا، فلم أعلم من صاحب ذلك، إلى أن أسفر الصبح، فإذا الفرزدق، فقلت: يا أبا فراس، تركت النوار، وهي لينة الدثار دفئة الشعار، قال: إني والله ذكرت ذنوبي، فأقلقتني، ففزعت إلى الله عز وجل.

تنجيه شيبته من النار: أخبرني وكيع، عن أبي العباس مسعود بن عمرو بن مسعود الجحدري قال: حدثني هلال بن يحيى الرازي: قال: حدثني شيخ كان ينزل سكة قريش: قال: رأيت الفرزدق في النوم فقلت: يا أبا فراس، ما فعل الله بك? قال: غفر لي بإخلاصي يوم الحسن، وقال: لولا شيبتك لعذبنك بالنار.

رواية أخرى في لقائه مع الحسين: أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ، عن أبي عبيدة، عن لبطة بن الفرزدق، عن أبيه: قال: لقيت الحسين بن علي - صلوات الله عليهما - وأصحابه بالصفاح، وقد ركبوا الإبل، وجنبوا الخيل، متقلدين السيوف، متنكبين القسي، عليهم يلامق من الديباج، فسلمت عليه، وقلت: أين تريد? قال: العراق، فكيف تركت الناس? قال: تركت الناس قلوبهم معك، وسيوفهم عليك، والدنيا مطلوبة، وهي في أيدي بني أمية، والأمر إلى الله عز وجل، والقضاء ينزل من السماء بما شاء.

أبو هريرة يعظه: أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، وأحمد بن عبد العزيز، عن ابن شبة قال: حدثني هارون بن عمر، عن ضمرة بن شوذب قال: قيل لأبي هريرة: هذا الفرزدق، قال: هذا الذي يقذف المحصنات، ثم قال له: إني أرى عظمك رقيقا وعرقك دقيقا، ولا طاقة لك بالنار، فتب، فإن التوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير غرابه.

أخبرني هاشم بن محمد، عن الرياشي، عن المنهال بن بحر بن أبي سلمة، عن صالح المري، عن حبيب بن أبي محمد، قال: رأيت الفرزدق بالشام، فقال: قال لي أبو هريرة: إنه سيأتيك قوم يوئسونك من رحمة الله، فلا تيأس.

موازنة بينه وبين جرير والأخطل:

 

صفحة : 2451

 

قال أبو الفرج: والفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل، ومحله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول، أو يدل على مكانه بوصف؛ لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم، ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن الإطالة في الوصف، وقد تكلم الناس في هذا قديما وحديثا، وتعصبوا، واحتجوا بما لا مزيد فيه، واختلفوا بعد اجتماعهم على تقديم هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها، فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل؛ لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر، ولا له مثل ما لهما من فنونه، ولا تصرف كتصرفهما في سائره، وزعموا أن ربيعة أفرطت فيه، حتى ألحقته بهما، وهم في ذلك طبقتان، أما من كان يميل إلى جزالة الشعر، وفخامته، وشدة أسره، فيقدم الفرزدق، وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين، وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريرا.

أخبرنا أبو خليفة: قال حدثنا محمد بن سلام، قال: سمعت يونس بن حبيب يقول: ما شهدت مشهدا قط ذكر فيه الفرزدق وجرير، فاجتمع أهل ذلك المجلس على أحدهما. قال ابن سلام: وكان يونس يقدم الفرزدق تقدمة بغير إفراط، وكان المفضل يقدمه تقدمة شديدة.

قال ابن سلام: وقال ابن دأب، وسئل عنهما، فقال: الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة.

أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة، عن العلاء بن الفضل: قال: قال لي أبو البيداء: يا أبا الهذيل، أيهما أشعر? أجرير أم الفرزدق? قال: قلت: ذاك إليك، ثم قال: ألم تسمعه يقول:

ما حملت ناقة من معشر رجـلا                      مثلي إذا الريح لفتني على الكور

إلا قريشا فإن الله فـضـلـهـا                      مع النبوة بالإسـلام والـخـير ويقول جرير:

لا تحسبن مراس الحرب إذ لقحـت                      شرب الكسيس وأكل الخبز بالصير? سلح والله أبو حزرة.

ثلث اللغة من شعره: أخبرني هاشم الخزاعي، عن أبي حاتم السجستاني، عن أبي عبيدة، قال: سمعت يونس يقول: لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب.

يقرض الشعر في خلافة عثمان وعلي: أخبرني هاشم الخزاعي، عن أبي غسان، عن أبي عبيدة قال: قال يونس أبو البيداء: قال الفرزدق: كنت أهاجي شعراء قومي، وأنا غلام في خلافة عثمان بن عفان، فكان قومي يخشون معرة لساني منذ يومئذ، ووفد بي أبي إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عام الجمل، فقال له: إن ابني هذا يقول الشعر، فقال: علمه القرآن، فهو خير له.

يسلخ خمسا وسبعين سنة من عمره في الهجاء: قال أبو عبيدة: ومات الفرزدق في سنة عشر ومائة، وقد نيف على التسعين سنة، كان منها خمسة وسبعين سنة يباري الشعراء، ويهجو الأشراف فيغضهم، ما ثبت له أحد منهم قط، إلا جريرا.

يرث الشعر عن خاله: أخبرني محمد بن عمران الصيرفي: قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: حدثني محمد بن معاوية الأسدي، قال: حدثنا ابن الرازي، عن خالد بن كلثوم قال: قيل للفرزدق: مالك وللشعر? فوالله ما كان أبوك غالب شاعرا، ولا كان صعصعة شاعرا، فمن أين لك هذا? قال: من قبل خالي، قيل: أي أخوالك? قال: خالي العلاء بن قرظة الذي يقول:

إذا ما الدهر جر على أناس                      بكلكلة أناخ بـآخـرينـا

فقل للشامتين بنا أفـيقـوا                      سيلقى الشامتون كما لقينا يؤنبه أخواله فيمن عليهم: أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني. عن العمري، عن الهيثم بن عدي، عن حماد الراوية، وأخبرني هاشم الخزاعي: قال: حدثنا دماذ، عن أبي عبيدة قال: دخل قوم من بين ضبة على الفرزدق فقالوا له: قبحك الله من ابن أخت قد عرضتنا لهذا الكلب السفيه - يعنون جريرا - حتى يشتم أعراضنا، ويذكر نساءنا، فغضب الفرزدق، وقال: بل قبحكم الله من أخوال فوالله لقد شرفكم من فخري أكثر مما غضكم من هجاء جرير، أفأنا ويلكم عرضتكم لسويد بن أبي كاهل حيث يقول:

لقد زرقت عيناك يا بن مكعبـر                      كما كل ضبي من اللـؤم أزرق

ترى اللؤم فيهم لائحا في وجوههم                      كما لاح في خيل الحلائب أبلق أو أنا عرضتكم للأغلب العجلي حيث يقول:

لن تجد الضبي إلا فـلا                      عبدا إذانا ولـقـوم ذلا

مثل قفا المدية أو أكلا                      حتى يكون الألأم الأقلا أو أنا عرضتكم له يحث يقول:

 

صفحة : 2452

 

 

إذا رأيت رجلا من ضبة فنكه عمدا في سواء السبة

إن اليماني عقاص الزبه أو أنا عرضتكم لمالك بن نويرة حيث يقول:

ولو يذبح الضبي بالسيف لم تجد                      من اللؤم للضبي لحما ولا دما والله لما ذكرت من شرفكم، وأظهرت من أيامكم أكثر، ألست القاتل:

وأنا ابن حنظلة الأغر وإنني                      في آل ضبة للمعم المخـول

فرعان قد بلغ السماء ذراهما                      وإليهما من كل خومف يعقل بنو حرام يخشون لسانه: أخبرنا أبو خليفة، عن ابن سلام، عن أبي بكر محمد بن واسع وعبد القاهر قالا: كان فتى في بني حرام بن سماك شويعر، قد هجا الفرزدق، فأخذناه، فأتينا به الفرزدق، وقلنا: هو بين يديك، فإن شئت فاضرب، وإن شئت فاحلق، لا عدوى عليك ولا قصاص، فخلى عنه وقال:

فمن يك خائفا لأذاة قولي                      فقد أمن الهجاء بنو حرام

هم قادوا سفيههم وخافوا                      قلائد مثل أطواق الحمام لائذة بقبر أبيه: أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: حدثني الحكم بن محمد، قال: كان رجل من قضاعة ثم من بني القين على السند، وفي حبسه رجل يقال له حبيش - أو خنيش - وطالت غيبته عن أهله، فأتت أمه قبر غالب بكاظمة، فأقامت عليه، حتى علم الفرزدق بمكانها، ثم إنها أتت فطلبت إليه في أمر ابنها، فكتب إلى تميم القضاعي.

 

هب لي خنيسا واتخذ فيه منة                      لغصة أم ما يسوغ شرابهـا

أتتني فعاذت يا تميم بغـالـب                      وبالحفرة السافي عليه ترابها

تميم بن زيد لا تكونن حاجتي                      بظهر فلا يخفى علي جوابها فلما أتاه الكتاب لم يدر: أخنيس أم حبيش فأطلقهما جميعا.

لائذ آخر بقبر أبيه: أخبرني أبو خليفة: قال: حدثنا محمد بن سلام: قال: حدثني أبو يحيى الضبي قال: ضرب مكاتب لبني منقر خيمة على قبر غالب، فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه، ثم قدم عليه، وهو بالمربد فقال:

بقبر ابن ليلى غالب عذت بعـدمـا                      خشيت الردى أو أن أرد على قسر

فخاطبني قبر ابن ليلى وقال لـي:                      فكاكك أن تلقى الفرزدق بالمصر فقال له الفرزدق: صدق أبي، أنخ أنخ، ثم طاف في الناس، حتى جمع له كتابته وفضلا.

يعتذر عن مناقضته نفسه: أخبرني ابن خلف وكيع، عن هارون بن الزيات، عن أحمد بن حماد بن الجميل، قال: حدثنا القحذمي، عن ابن عياش: قال: لقيت الفرزدق فقلت له: يا أبا فراس، أنت الذي تقول:

فليت الأكف الدافنات ابن يوسف                      يقطعن إذ غيبن تحت السقائف فقال: نعم، أنا، فقلت له: ثم قلت بعد ذلك له:

لئن نفر الحجاج آل مـعـتـب                      لقوا دولة كان العـدو يدالـهـا

لقد أصبح الأحياء منـهـم أذلة                      وفي الناس موتاهم كلوحا سبالها قال: فقال الفرزدق: نعم، نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه، فإذا تخلى منه انقلبنا عليه.

هل أجاز إياس شهادته? أخبرنا هاشم بن محمد، عن عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه، عن بعض أشياخه قال: شهد الفرزدق عند إياس بن معاوية، فقال: أجزنا شهادة الفرزدق أبي فراس، وزيدونا شهودا، فقام الفرزدق فرحا، فقيل له: أما والله ما أجاز شهادتك قال: بلى، قد سمعته يقول: قد قبلنا شهادة أبي فراس، قالوا: أفما سمعته يستزيد شاهدا آخر? فقال: وما يمنعه ألا يقبل شهادتي، وقد قذفت ألف محصنة.

يسترد هبته: أخبرنا ابن دريد، عن أبي حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس: قال: كان عطية بن جعال الغداني صديقا ونديما للفرزدق، فبلغ الفرزدق أن رجلا من بني غدانة هجاه وعاون جريرا عليه، وأنه أراد أن يهجو بني غدانة، فأتاه عطية بن جعال فسأله أن يصفع له عن قومه، ويهب له أعراضهم، ففعل، ثم قال:

أبني غدانة إنني حررتكـم                      فوهبتكم لعطية بن جعـال

لولا عطية لاجتدعت أنوفكم                      من بين ألأم أعين وسبـال فبلغ ذلك عطية، فقال: ما أسرع ما ارتجع أخي هبته، قبحها الله من هبة ممنونة مرتجعة.

مجنون يريد أن ينزو عليه: أخبرني وكيع، عن هارون بن محمد: قال: حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي، عن المدائني، عن محمد بن النضر:

 

صفحة : 2453

 

أن الفرزدق مر بباب المفضل بن المهلب، فأرسل إليه غلمة، فاحتملوه، حتى أدخل إليه بواسط، وقد خرج من تيار ماء كان فيه، فأمر به، فألقى فيه، بثيابه، وعنده ابن أبي علقمة اليحمدي المجنون، فسعى إلى الفرزدق، فقال له المفضل: ما تريد? قال: أريد أن أنيكه وأفضحه، فوالله لا يهجو بعدها أحدا من الأزد، فصاح الفرزدق: الله الله أيها الأمير في، أنا في جوارك وذمتك؛ فمنع عنه ابن أبي علقمة، فلما خرج قال: قاتل الله مجنونهم؛ والله لو مس ثوبه ثوبي لقام بها جرير وقعد؛ وفضحني في العرب فلم يبق لي فيهم باقية.

وأخبرني بنحو هذا الخبر حبيب المهلبي، عن ابن شبة، عن محمد بن يحيى، عن عبد الحميد، عن أبيه، عن جده: قال أبو زيد: وأخبرني أبو عاصم عن الحسن بن دينار، قال: قال لي الفرزدق: ما مر بي يوم قط أشد علي من يوم دخلت فيه على أبي عيينة بن المهلب - وكان يوما شديد الحر - فما منا أحد إلا جلس في أبزن. فقلنا له: إن أردت أن تنفعنا فابعث إلى ابن أبي علقمة، فقال: لا تريدوه؛ فإنه يكدر علينا مجلسنا، فقلنا: لابد منه: فأرسل إليه، فلما دخل فرآني؛ قال الفرزدق والله. ووثب إلي، وقد أنعظ أيره، وجعل يصيح: والله لأنيكنه؛ فقلت لأبي عيينة: الله الله في، أنا في جوارك، فوالله لئن دنا إلي لا تبقى له باقية مع جرير؛ فلم يتكلم أبو عيينة؛ ولم تكن لي همة إلا أن عدوت حتى صعدت إلى السطح، فاقتحمت الحائط، فقيل له: ولا يوم زياد كان مثل يومئذ، فقال: ولا مثل يوم زياد.

عمر بن عبد العزيز يجيره، ثم ينفيه: أخبرني عمي، عن ابن أبي سعد، عن أحمد بن عمر، عن إسحاق بن مروان مولى جهينة وكان يقال له: كوزا الراوية؛ قال أحمد بن عمر: وأخبرني عثمان بن خالد العثماني: أن الفرزدق قدم المدينة في سنة مجدبة حصاء فمشى أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز، فقالوا له: أيها الأمير، إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامة الأموال التي لأهل المدينة، وليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعرا، فلو أن الأمير بعث إليه، فأرضاه، وتقدم إليه ألا يعرض لأحد بمدح ولا هجاء؛ فبعث إليه عمر: إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة، وليس عند أحد ما يعطيه شاعرا، وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم؛ فخذها، ولا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء، فأخذها الفرزدق، ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان، وهو جالس في سقيفة داره، وعليه مطرف خز أحمر وجبة خز أحمر، فوقف عليه، وقال:

أعبد الله أنت أحـق مـاش                      وساع بالجماهير الكـبـار

نما الفاروق أمك وابن أروى                      أبوك فأنت منصدع النهـار

هما قمرا السماء وأنت نجم                      به في الليل يدلج كل سـار فخلع عليه الجبة والعمامة والمطرف، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج رجل كان حضر عبد الله والفرزدق عنده، ورأى ما أعطاه آياه، وسمع ما أمره عمر به من ألا يعرض لأحد، فدخل إلى عمر بن عبد العزيز؛ فأخبره، فبعث إليه عمر: ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء? أخرج، فقد أجلتك ثلاثا، فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك؛ فخرج وهو يقول:

فأجلني وواعدني ثلاثا                      كاوعدت لمهلكها ثمود قال: وقال جرير فيه:

نفاك الأغر ابن عبد العزيز                      ومثلك ينفى من المسجـد

وشبهت نفسك أشقى ثمود                      فقالوا: ضللت ولم تهتـد يهجو من يستكثر عليه الجائزة: أخبرني حبيب المهلبي، عن ابن أبي سعد، عن صباح، عن النوفلي بن خاقان، عن يونس النحوي قال: مدح الفرزدق عمر بن مسلم الباهلي، فأمر له بثلثمائة درهم، وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقا لعمر، فلامه، وقال: أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم، وإنما كان يكفيه عشرون درهما، فبلغه ذلك فقال:

نهيت ابن عفري أن يعـفـر أمـه                      كعفر السلا إذا جررته ثعـالـبـه

وإن ارمأ يغتابـنـي لـم أطـالـه                      حريما فلا ينهاه عـنـي أقـاربـه

كمحتطب يومـا أسـاود هـضـبة                      أتاه بها في ظلمة الليل حـاطـبـه

ألما استوى ناباي وابيض مسحـلـي                      وأطرق إطراق الكرى من أحاربه?

فلو كان ضبيا صفحت ولـو سـرت                      على قدمي حـياتـه وعـقـاربـه

 

صفحة : 2454

 

 

ولـكـن ديافـي أبـوه وأمـه                      بحوران يعصرن السليط قرائبه صوت

ومقالها بالنعف نعف محـسـر                      لفتاتها: هل تعرفين المعرضا?

ذاك الذي أعطى مواثق عهـده                      ألا يخون وخلت أن لن ينقضا

فلئن ظفرت بمثلها من مثـلـه                      يوما ليعترفن ما قد أقـرضـا الشعر لخالد القسري، والناس ينسبونه إلى عمر بن أبي ربيعة، والغناء للغريض، ثقيل أول بالوسطى، عن الهشامي وابن المكي وحبش. وقيل أن أذكر أخباره ونسبه فإني أذكر الرواية في أن هذا الشعر له.

قصة تتعلق بأبيات هذا الصوت: أخبرنا محمد بن خلف وكيع: قال: أخبرني عبد الواحد بن سعيد، قال: حدثني أبو بشر، محمد بن خالد البجلي: قال: حدثني أبو الخطاب بن يزيد بن عبد الرحمن: قال: سمعت أبي يحدث: قال: حدثني مسمع بن مالك بن جحوش البجلي، قال: ركب خالد بن عبد الله، وهو أمير العراق، وهو يومئذ بالكوفة إلى ضيعته التي يقال لها المكرخة، وهي من الكوفة على أربعة فراسخ، وركبت معه في زورق، فقال لي: نشدتك الله يا بن جحوش، هل سمعت غريض مكة يتغنى:

ومقالها بالنعف نعف محسـر                      لفتاتها: هل تعرفين المعرضا قل: قلت: نعم، قال: الشعر والله لي، والغناء لغريض مكة، وما وجدت هذا الشعر في شيء من دواوين عمر بن أبي ربيعة التي رواها المدنيون والمكيون؛ وإنما يوجد في الكتب المحدثة والإسنادات المنقطعة، ثم نرجع الآن إلى ذكره.

 

الجزء الثاني والعشرون

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

أخبار خالد بن عبد الله

نسبه

هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر بن عبد الله بن عبد شمس بن غمغمة بن جرير بن شق بن صعب - وشق بن صعب هذا هو الكاهن المشهور - بن يشكر بن رهم بن أقزل - وهو سعد الصبح - بن زيد بن قسر بن عبقر بن أنمار بن إراش بن عمرو بن لحيان بن الغوث بن القرز، ويقال: الفرز بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

فأما غلبة بجيلة على هذا النسب في شهرته بها فإن بجيلة ليست برجل، إنما هي امرأة قد اختلف في نسبها، فقال ابن الكلبي: يقال لها بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة، تزوجها أنمار بن إراش فولدت له الغوث ووداعة وصهيبة وجذيمة وأشهل وشهلاء وطريفا والحارث ومالكا وفهما وشيبة. قال ابن الكلبي: ويقال: إن بجيلة امرأة حبشية كانت قد حضنت بني أنمار جميعا غير خثعم، فإنه انفرد، فصار قبيلة على حدته، ولم تحضنه بجيلة، واحتج من قال هذا القول بقول شاعرهم:

وما قربت بجيلة منك دونـي                      بشيء غير ما دعيت بجيلـه

وما للغوث عندك أن نسبـنـا                      علينا في القرابة من فضيلـه

ولكـنـا وإياكـم كـثـرنـا                      فصرنا في المحل على جديله جديلة ها هنا موضع لا قبيلة، وهم أهل بيت شرف في بجيلة، لولا ما يقال في عبد الله بن أسد؛ فإن أصحاب المثالب ينفونه عن أبيه، ويقولون فيه أقوالا أنا ذاكرها في موضعها من أخبار خالد المذمومة في هذا الموضع من كتابنا - إن شاء الله - وعلى ما قيل فيه أيضا؛ فقد كان له ولابنه خالد سؤدد وشرف وجود.

جده كرز: وكان يقال لكرز كرز الأعنة، وإياه عنى قيس بن الخطيم بقوله - لما خرج يطلب النصر على الخزرج:

فإن تنزل بذي النجدات كرز                      تلاق لديه شربا غير نـزر

له سجلان سجل من صريح                      وسجل رثيئة بعتيق خمـر

ويمنع مـن أراد ولا يعـايا                      مقاما في المحلة وسط قسر جده أسد بن كرز وكان أسد بن كرز يدعى في الجاهلية رب بجيلة، وكان ممن حرم الخمر في جاهليته تنزها عنها، وله يقول القتال السحمي:

فأبلغ ربنا أسد بن كـرز                      بأن النأي لم يك عن تقالي وله يقول القتال يعتذر:

فأبلغ ربنا أسد بن كرز بأني قد ضللت وما اهتديت وله يقول تأبط شرا:

وجدت ابن كرز تستهل يمينه                      ويطلق أغلال الأسير المكبل جده أسد وبنو سحمة:

 

صفحة : 2455

 

وكان قوم من سحمة عرضوا لجار لأسد بن كرز، فأطردوا إبلا له، فأوقع بهم أسد وقعة عظيمة في الجاهلية، وتتبعهم حتى عاذوا به، فقال القتال فيه عدة قصائد يعتذر إليه لقومه، ويستقيله فعلهم بجاره، ولم أذكرها ههنا لطولها، وأن ذلك ليس من الغرض المطلوب في هذا الكتاب، وإنما نذكر هاهنا لمعا وسائره مذكور في جمهرة أنساب العرب الذي جمعت فيه أنسابها وأخبارها، وسميته كتاب التعديل والانتصاف. ولبني سحمة يقول أسد بن كرز في هذه القصة، وكان شاعرا فاتكا مغوارا:

ألا أبلغا أبناء سحـمة كـلـهـا                      بني خثعم عني وذل لخـثـعـم

فما أنتم مني ولا أنـا مـنـكـم                      فراش حريق العرفج المتضـرم

فلست كمن تزري المقالة عرضه                      دنيئا كعود الدوحة الـمـتـرنـم

وما جار بيتي بالذليل فترتـجـي                      ظلامته يوما ولا المتـهـضـم

وأقزل آبائي وقسر عـمـارتـي                      هما ردياني عزتي وتكـرمـي

وأحمس يوما إن دعوت أجابنـي                      عرانين منهم أهـل أيد وأنـعـم

فمن جار مولى يدفع الضيم جاره                      إذا ضاع جاري يا أميمة أو دمي

وكيف يخاف الضيم من كان جاره                      مع الشمس ما إن يستطاع بسلـم وهي قصيدة طويلة.

ولأسد أشعار كثيرة ذكرت هذه منها هاهنا لأن تعلم إعراقهم في العلم والشعر، وسائرها يذكر في كتاب النسب مع أخبار شعراء القبائل، إن شاء الله تعالى.

إسلام جده أسد وابنه يزيد: وأدرك أسد بن كرز الإسلام هو وابنه يزيد بن أسد، فأسلما، فأما أسد فلا أعلمه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله رواية كثيرة، بل ما روى شيئا.

وأما يزيد ابنه فروى عنه رواية يسيرة، وذكر جرير بن عبد الله خبر إسلامه، حدث بذلك عنه خالد بن يزيد عن إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله، قال: أسلم أسد بن كرز، ومعه رجل من ثقيف، فأهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قوسا، فقال له: يا أسد، من أين لك هذه النبعة? فقال: يا رسول الله تنبت بجبلنا بالسراة، فقال الثقفي: يا رسول الله، الجبل لنا أم لهم? فقال: بل الجبل جبل قسر، به سمى أبوهم قسر عبقر. فقال أسد: يا رسول الله، ادع لي. فقال: اللهم اجعل نصرك ونصر دينك في عقب أسد بن كرز. وما أدري ما أقول في هذا الحديث، وأكره أن أكذب بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ظاهر الأمر يوجب أنه لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا له بهذا الدعاء لم يكن ابنه مع معاوية بصفين على علي أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه. ولا كان ابن ابنه خالد يلعنه، على المنبر. ويتجاوز ذلك إلى ما ساء ذكره من شنيع أخباره - قبحه الله ولعنه - إلا أني أذكر الشيء كما روي، ومن قال على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله ما لم يقل فقد تبوأ مقعده من النار. كما وعده عليه السلام.

منافرة بين جده جريد وقضاعة: وكان جرير بن عبد الله نافر قضاعة، فبلغ ذلك أسد بن عبد الله، وكان بينه وبينه - أعني جريرا - تباعد، فأقبل في فوارس من قومه ناصرا لجرير ومعاونا له ومنجدا، فزعموا أن أسدا لما أقبل في أصحابه، فرآه جرير، ورأى أصحابه في السلاح ارتاع، وخافه، فقيل له: هذا أسد جاءك ناصرا لك، فقال جرير: ليت لي بكل بلد ابن عم عاقا مثل أسد، فقال جعدة بن عبد الله الخزاعي يذكر ذلك من فعل أسد:

تدارك ركض المرء من آل عبقـر                      جريرا وقد رانت علـيه حـلائبـه

فنفس واسترخى به العقد بعـد مـا                      تغشاه يوم لا تـوارى كـواكـبـه

وقاك ابن كرز ذو الفعال بنفـسـه                      وما كنت وصالا له إذ تـحـاربـه

إلى أسـد يأوي الـذلـيل بـبـيتـه                      ويلجأ إذ أعيت علـيه مـذاهـبـه

فتى لايزال الدهر يحمل معظـمـا                      إذا المتجدى المسؤول ضنت رواجيه جده يزيد يروي حديثا: وأما يزيد بن أسد فقد ذكرت إسلامه وقدومه مع أبيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي عنه أيضا حديثا ذكره هشيم بن بشر الواسطي عن سنان بن أبي الحكم قال: سمعت خالد بن عبد الله القسري، وهو على المنبر يقول:

 

صفحة : 2456

 

حدثني أبي عن جدي يزيد بن أسد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا يزيد، أحبب للناس ما تحبه لنفسك. وخرج يزيد بن أسد في أيام عمر بن الخطاب في بعوث المسلمين إلى الشام، فكان بها، وكان مطاعا في اليمن عظيم الشأن.

جده يزيد يخف لنصرة عثمان وخطبة جده يزيد في صفين ولما كتب عثمان إلى معاوية حين حصر يستنجده بعث معاوية إليه بيزيد بن أسد في أربعة آلاف من أهل الشام، فوجد عثمان قد قتيل. فانصرف إلى معاوية، ولم يحدث شيئا، ولما كان يوم صفين قام في الناس فخطب خطبة مذكورة، حرضهم فيها. فذكر من روى عنه خبره في ذلك الموضع أنه قام وعليه عمامة خز سوداء، وهو متكىء على قائم سيفه، فقال بعد حمد الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم: وقد كان من قضاء الله جل وعز أن جمعنا وأهل ديننا في هذه الرقعة من الأرض، والله يعلم أني كنت لذلك كارها، ولكنهم لم يبلعونا ريقنا، ولم يدعونا نرتاد لديننا وننظر لمعادنا، حتى نزلوا في حريمنا وبيضتنا. وقد علمنا أن بالقوم حلماء وطغاما. فلسنا نأمن طغامهم على ذرارينا ونسائنا، وقد كنا لا نحب أن نقاتل أهل ديننا، فأحرجونا حتى صارت الأمور إلى أن يصير غدا قتالنا حمية، فإنا لله وإنا إليه راجعون، والحمد لله رب العالمين، والذي بعث محمدا بالحق لوددت أني مت قبل هذا، ولكن الله تبارك وتعالى إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده، فنستعين بالله العظيم، ثم انكفأ.

خمول أبيه عبد الله وخنوثته منذ نشأته ولم تكن لعبد الله بن يزيد نباهة من ذكرت من آبائه، وأهل المثالب يقولون: إنه دعي، وكان مع عمرو بن سعيد الأشدق على شرطته أيام خلافة عبد الملك بن مروان، فلما قتل عمرو هرب حتى سألت اليمانية عبد الملك فيه لما أمن الناس عام الجماعة، فأمنه، ونشأ خالد بن عبد الله بالمدينة، وكان في حداثته يتخنث، ويتتبع المغنين والمخنثين ويمشي بين عمر بن أبي ربيعة وبين النساء في رسائلهن إليه وفي رسائله إليهن، وكان يقال له خالد الخريت فقال مصعب الزبيري: كل ما ذكره عمر بن أبي ربيعة في شعره، فقال: أرسلت الخريت أو قال: أرسلت الجري فإنما يعني خالدا القسري، وكان يترسل بينه وبين النساء.

يظلل بن أبي ربيعة وعشيقته أخبرني بذلك الحرمي ومحمد بن مزيد وغيرهما، عن الزبير، عن عمه، وأخبرني عمي: قال: حدثني الكراني، عن العمري، عن الهيثم بن عدي، قال: بينما عمر بن أبي ربيعة ذات يوم يمشي ومعه خالد بن عبد الله القسري، وهو خالد الخزاعي الذي يذكره في شعره إذا هما بأسماء وهند اللتين كان عمر يشبب بهما، وهما يتماشيان فقصداهما، وجلسا معهما مليا، فأخذتهم السماء، ومطروا، فقام خالد وجاريتان المرأتين، فظللوا عليهم بمطرفة وبردين له، حتى كف المطر، وتفرقوا، وفي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة:

أفـي رسـم دار دمـعــك الـــمـــتـــرقـــرق                      سفـاهـا ومـا اسـتـطـاق مـا لــيس ينـــطـــق?

بحـيث الـتـقـى جـمـع ومـفـضـى مـحـــســـر                      معـالـم قـد كـادت عـلـى الـدهـر تــخـــلـــق

ذكرت بها ما قد مضى من زماننا وذكرك رسم الدار مما يشوق

مقاما لنا عند العشاء ومجلسا                      لنـا لـم يكـــدره عـــلـــينـــا مـــعـــوق

ومـمـشـى فـتـاة بـالـكـســـاء يكـــنـــهـــا                      به تـحـت عـــين بـــرقـــهـــا يتـــألـــق

يبـل أعـالـي الـثـوب قـطـــر وتـــحـــتـــه                      شعـاع بـدا يعـــشـــي الـــعـــيون ويشـــرق

فأحـــســـن شـــيء بــــدء أول لـــــــيلة                      وآخـــرهـــا حـــزن إذا نـــتـــفـــــرق الغناء في هذه الأبيات لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن يحيى المكي؛ وذكر الهشامي له منحول.

هو وابن أبي عتيق يستنجزان ابن أبي ربيعة وعده أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو العباس المروزي، قال: حدثنا ابن عائشة قال: حضر ابن أبي عتيق عمر بن أبي ربيعة يوما وهو ينشد قوله:

ومن كان محروبا لإهراق دمـعة                      وهي غربها فليأتنا نبـكـه غـدا

نعنه على الإثكال إن كان ثالاكـلا                      وإن كان محزونا وإن كان مقصدا قال: فلما أصبح ابن أبي عتيق أخذ معه خالدا الخريت، وقال: قم بنا إلى عمر، فزضيى إليه، فقال له ابن أبي عتيق: قد جئنا لموعدك، وأي موعد بيننا? قال: قولك.

فليأتنا نبكه غدا.

 

 

صفحة : 2457

 

قد جئناك لموعدك، والله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا في قولك، أو ننصرف على أنك غير صادق، ثم مضى وتركه.

قال ابن عائشة: خالد الخريت هو خالد القسري.

يجمع بين ابن أبي ربيعة ومعشوقاته أخبرنا علي بن صالح بن الهيثم: قال: حدثنا أبو هفان عن إسحاق، وأخبرنا محمد بن مزيد، عن حماد، عن أبيه، عن الحزامي والمثنى ومحمد بن سلام، قالوا: خرجت هند والرباب إلى متنزه لهما بالعقيق في نسوة فجلستا هناك تتحدثنا مليا، ثم أقبل إليهما خالد القسري، وهو يومئذ غلام مؤنث، يصحب المغنين والمخنثين، ويترسل بين عمر بن أبي ربيعة وبين النساء. فجلس إليهما. فذكرتا عمر بن أبي ربيعة، وتشوقتاه، فقالتا لخالد: يا خريت - وكان يعرف بذلك - لك عندنا حكمك إن جئتنا بعمر بن أبي ربيعة من غير أن يعلم أنا بعثنا بك إليه، فقال: أفعل فكيف تريان أن أقول له? قالتا: تؤذنه بنا، وتعلمه أنا خرجنا في سر منه، ومره أن يتنكر، ويلبس لبسة الأعراب، ليرانا في أحسن صورة، ونراه في أسوإ حال؛ فنمزح بذلك معه، فجاء خالد إلى عمر، فقال له: هل لك في هند والرباب وصواحبات لهما قد خرجن إلى العقيق على حال حذر منك وكتمان لك أمرها? قال: والله إني إلى لقائهن لمشتاق، قال: فتنكر، والبس لبسة الأعراب، وهلم نمض إليهن، ففعل ذلك عمر، ولبس ثيابا جافية، وتعمم عمة الأعراب، وركب قعودا له على رحل غير جيد، وصار إليهن، فوقف منهن قريبا، وسلم، فعرفنه، فقلن: هلم إلينا يا أعرابي، فجاءهن، وأناخ قعوده، وجعل يحدثهن، وينشدهن، فقلن له: يا أعرابي ما أظرفك، وأحسن إنشادك فما جاء بك إلى هذه الناحية? قال: جئت أنشد ضالة لي، فقالت له هند: انزل إلينا، واحسر عمامتك عن وجهك، فقد عرفنا ضالتك، وأنت الآن تقدر أنك قد احتلت علينا، ونحن والله احتلنا عليك وبعثنا إليك بخادل الخريت، حتى قال لك ما قال، فجئتنا على أسوإ حالاتك، وأقبح ملابسك، فضحك عمر، ونزل إليهن، فتحدث معهن، حتى أمسوا، ثم إنهم تفرقوا، ففي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة: صوت

ألم تعرف الأطلال والمتـربـعـا                      ببطن حليات دوارس بـلـقـعـا

إلى السرح من وادي المغمس بدلت                      معالمه وبلا ونكبـاء زعـزعـا

فيبخلن أو يخبرن بالعلم بـعـدمـا                      نكأن فؤادا كان قدما مـفـجـعـا

لهند وأتراب لهـنـد إذ الـهـوى                      جميع وإذ لم نخش أن يتصـدعـا في هذه الأبيات ثقيل أول لمعبد:

تبالهن بالعرفان لما رأينـنـي                      وقلن امرؤ باغ أكل وأوضعا

وقربن أسباب الهوى لمـتـيم                      يقيس ذراعا كلما قسن إصبعا كان جده عبدا آبقا أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، عن المدائني، وذكر مثل ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى: أن كرز بن عامر جد خالد بن عبد الله عبد كان آبقا عن مواليه عبد القيس من هجر، ويقال: إن أصله من يهود تيماء، وكان أبق، فظفرت به عبد شمس فكان فيهم عند غمغمة بن شق الكاهن، ثم وهبوه لقوم من بني طهية، فكان عندهم حتى أدرك، وهرب، فأخذته بنو أسد بن خزيمة، فكان فيهم، وتزوج مولاة لهم يقال لها زرنب، ويقال: إنها كانت بغيا، فأصابها، فولدت له أسد بن كرز، سماه باسم أسد بن خزيمة لرقة كانت فيهم، ثم أعتقوه، ثم إن نفرا من أهل هجر مروا به، فعرفوه، فلما رجعوا إلى هجر أخذوا فداءه، وصاروا إلى مواليه فاشتروه وابنه فلم يزل فيهم، حتى خرج معهم في تجارة إلى الطائف، فلما رأى دار بجيلة أعجبته، فاشترى نفسه وابنه، فجاء، فنزل فيهم، فأقام مدة، ثم ادعى إليهم وعاونه على ذلك حي من أحمس يقال لهم: بنو منيبة، فنفاهم أبو عامر ذو الرقعة - سمي بذلك لأن عينه أصيبت. فكان يغطيها بخرقة - وهو ابن عبد شمس بن جوين بن شق، فنزل كرز في بني سحمة هاربا من ذي الرقعة، ثم وثب على ابن عم للقتال بن مالك السحمي فقتله، وهرب إلى البحرين مع التجار، فأقام مدة، ثم مات، ونشأ ابنه يزيد بن أسد يدعي في بجيلة، ولا تلحقه إلى أن مات، ونشأ ابنه عبد الله بن يزيد، ثم مضى إلى حبيب بن مسلمة الفهري، وكتب له، وكان كاتبا مفوها، وذلك في إمارة عثمان بن عفان.

أبوه خطيب الشيطان

 

صفحة : 2458

 

فنال حظا وشرفا، وكان يقال له: خطيب الشيطان، ووسم خيله: القسري، ثم تدسس ليملك خيلا في بلاد قسر، فمنعته بجيلة ذلك أشد المنع، فلم يقدر عليه، حتى عظم أمره، ونأ ابنه خالد، ومات هو، فكان خالد في مرتبته، ثم ولي العراق، وقال قيس بن القتال له في هذا المعنى:

ومن سماك باسمك يا بن كرز?                      وأين المولد المعروف تدري? وقال بجير بن ربيعة السحمي:

نفته من الشعبين قسر بعزهـا                      إلى دار عبد القيس نفي المزنم بين أبيه وأبي موسى بن نصير قال أبو عبيدة: وكان بين عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز وبين أبي موسى بن نصير كلام عند عبد الملك بن مروان. فقال له عبد الله: إنما أنت عبد لعبد القيس، فقال: اسكت، فقد عرفناك إن لم تعرف نفسك، فقال له عبد الله: أنا ابن أسد بن كرز، نحن الذين نضمن الشهر، ونطعم الدهر، فقال له: تلك قسر، ولست منهم، وإنما أنت عبد آبق، قد كنت أراك تروم مثل ذلك، فلا تقدر عليه، ثم نفاه جرير بن عبد الله إلى الشام، فأقام بها مدة، ثم مضى إلى حبيب، فقال له: دع ذكر البحرين لفرارك، أتراك منهم وأنت عبد، وأهلك من يهود تيماء فأسكتهما عبد الملك، ولم يسره ما قال عبد الله لأبي موسى بن نصير، لأنه كان على شرطة عمرو بن سعيد يوم قتله، فقال في ذلك أبو موسى بن نصير:

جاريت غير سئوم في مطـاولة                      يا بن الوشائط من أبناء ذي هجر

لا من نزار ولا قحطان تعرفكـم                      سوى عبيد لعبد القيس أو مضر تتوارث أسرته الكذب كابرا عن كابر وقال أبو عبيدة: فأخبرني عبد الله بن عمر بن زيد الحكمي قال: كان يزيد بن أسد يلقب خطيب الشيطان، وكان أكذب الناس في كل شيء معروفا بذلك، ثم نشأ ابنه عبد الله فسلك منهاجه في الكذب، ثم نشأ خالد ففاق الجماعة إلا أن رياسة وخاء كانا فيه سترا ذلك من أمره.

قال عمر بن زيد: فإني لجالس على باب هشام بن عبد الملك إذ قدم إسماعيل بن عبد الله أخو خالد بخبر المغيرة بن سعد وخروجه بالكوفة، فجعل يأتي بأحاديث أنكرها، فقلت له: من أنت يا بن أخي? قال إسماعيل بن عبد الله بن يزيد القسري. فقلت: يا بن أخي. لقد أنكرت ما جرى حتى عرفت نسبك. فجعل يضحك.

يطلب على المنبر أن يطعموه ماء أخبرني اليزيدي، عن سليمان بن أبي شيخ، عن محمد بن الحكم، وذكره أبو عبيدة - واللفظ له - قالا: كان خالد بن عبد الله من أجبن الناس، فلما خرج عليه المغيرة عرف ذلك وهو على المنبر، فدهش وتحير، فقال: أطعموني ماء، فقال الكميت في ذلك، ومدح يوسف بن عمر:

خرجت لهم تمشي البراح ولم تكن                      كمن حصنه فيه الرتاج المضبب

وما خالد يستطعم الماء فـاغـرا                      بعدلك والداعي إلى الموت ينعب أولى كذبات ابن الكلبي وقال ابن الكلبي: أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد بن عبد الله سألني عن جدته أم كرز، وكانت أمة بغيا لبني أسد يقال لها: زرنب. فقلت له: هي زينب بنت عرعرة بن جذيمة بن نصر بن قعين، فسر بذلك، ووصلني.

بنو أسد ينكرونه: قال: قال خالد ذات يوم لمحمد بن منظور الأسدي: يا أبا الصباح، قد ولدتمونا، فقال: ما أعرف فينا ولادة لكم، وإن هذا لكذب. فقيل له: لو أقررت للأمير بولادة ما ضرك، قال: أأفسد وأستنبط ما ليس مني، وأقر بالكذب على قومي? فأمر خالد خداشا الكندي - وكان عامله - بضرب مولى لعباد بن إياس الأسدي، فقتله، فرفع إلى خالد، فلم يقده، فوثب عباد على خداش فقتله، وقال:

لعمري لئن جارت قـضـية خـالـد                      عن القصد ما جارت سيوف بني نصر يتطاول على السماء فأخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا المدائني، عن سحيم بن حصين قال: قتل خداش الكندي رجلا من بني أسد، وكان الكندي عاملا لخالد القسري، فطولب بالقود، وهو على دهلك، فقال: والله لئن أقدت من عاملي لأقيدن من نفسي، ولئن أقدت من نفسي ليقيدن أمير المؤمنين من نفسه، ولئن أقاد أمير المؤمنين من نفسه، ليقيدن رسول الله صلى الله عليه وسلم من نفسه ولئن أقاد رسول الله من نفسه هاه هاه يعرض بالله عز وجل، لعنة الله على خالد.

أمه نصرانية بظراء أخبرني الحسن: قال: حدثنا الخراز، عن المدائني، عن عيسى بن يزيد وابن جعدبة وأبي اليقظان، قالوا:

 

صفحة : 2459

 

كانت أم خالد رومية نصرانية، فبنى لها كنيسة في ظهر قبلة المسجد الجامع بالكوفة، فكان إذا أراد المؤذن في المسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس، وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم.

أعشى همدان يفحش في هجائه فقال أعشى همدان يهجوه، ويعيره بأمه - وكان الناس بالكوفة إذا ذكروه في ذلك الوقت قالوا: ابن البظراء، فأنف من ذلك، فيقال: إنه ختن أمه وهي كارهة، فعيره الأعشى بذلك حين يقول :

لعمرك مـا أدري وإنـي لـسـائل                      أبظراء أم مـخـتـونة أم خـالـد

فإن كانت الموسى جرت فوق بظهرا                      فما ختنت إلا ومـصـان قـاعـد

يرى سوأة من حيث أطلـع رأسـه                      تمر عليها مرهـفـات الـحـدائد وقال أيضا فيه، يرميه باللواط:

ألم تر خالدا يختـار مـيمـا                      ويترك في النكاح مشق صاد

ويبغض كل آنـسة لـعـوب                      وينكح كل عبد مسـتـقـاد

ألا لعن الإله بـنـي كـريز                      فكرز من خنازير الـسـواد يكره مضر، ويسب علي بن أبي طالب قال المدائني في خبره: وأخبرني ابن شهاب بن عبد الله قال: قال لي خالد بن عبد الله القسري: اكتب لي النسب فبدأت بنسب مضر فمكثت فيه أياما، ثم أتيته. فقال: ما صنعت? فقلت: بدأت بنسب مضر وما أتممته. فقال: اقطعه - قطعه الله مع أصولهم - واكتب لي السيرة، فقلت له: فإنه يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - فأذكره، فقال: لا، إلا أن تراه في قعر الجحيم. لعن الله خالدا ومن ولاه، وقبحهم، وصلوات الله على أمير المؤمنين: من مظاهر زندقته وانحرافه وقال أبو عبيدة: حدثني أبو الهذيل العلاف، قال: صعد خالد القسري المنبر، فقال: إلى كم يغلب باطلنا حقكم، أما آن لربكم أن يغضب لكم? وكان زنديقا، أمه نصرانية، فكان يولي النصارى والمجوس على المسلمين، ويأمرهم بامتهانهم وضربهم، وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطئونهن، فيطلق لهم ذلك، ولا يغير عليهم.

وقال المدائني: كان خالد يقول: لو أمرني أمير المؤمنين نقضت الكعبة حجرا حجرا، ونقلتها إلى الشام.

قال: ودخل عليه فراس بن جعدة بن هبيرة وبين يديه نبق، فقال له، العن علي بن أبي طالب ولك بكل نبقة دينار ففعل فأعطاه بكل نبقة دينارا.

قال المدائني: وكان له عامل يقال له: خالد بن أمي. وكان يقول: والله لخالد بن أمي أفضل أمانة من علي ابن أبي طالب صلوات الله عليه.

وقال له يوما: أيما أعظم ركيتنا أم زمزم? فقال له: أيها الأمير: من يجعل الماء العذب النقاخ مثل الملح الأجاج? وكان يسمي زمزم أم الجعلان.

بينه وبين الفرزدق أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة، قال: أتى الفرزدق خالد بن عبد الله القسري، يستحمله في ديات حملها، فقال له: إيه يا فرزدق، كأني بك قد قلت: آتي الحائك بن الحائك، فأخدعه عن ماله إن أعطاني، أو أذمه إن منعني. فأنا حائك ابن حائك. ولست أعطيك شيئا. فأذممني كيف شيئت، فهجاه الفرزدق بأشعار كثيرة منها:

ليتني من بجيلة اللؤم حـتـى                      يعزل العامل الذي بالعـراق

فإذا عامل العـراقـين ولـي                      عدت في أسرة الكرام العتاق قال: وإنما أراد خالد بقوله: الحائك بن الحائك تصحيح نسبه في اليمن، والانتفاء من العبودية لأهل هجر.

يتطاول على الخليفة وابنه فيعزله وكان خالد شديد العصبية على مضر. وبلغ هشاما أنه قال: ما ابني يزيد بن خالد بدون مسلمة بن هشام، فكان ذلك سبب عزله إياه عن العراق.

يتطاول على مقام النبوة قال: وخطب بمكة وقد أخذ بعض التابعين، فحبسه في دور آل الحضرمي، فأعظم الناس ذلك وأنكروه، فقال: قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدو أمير المؤمنين ومن حاربه، والله لو أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجرا حجرا لنقضتها، والله لأمير المؤمنين أكرم على الله من أنبيائه عليهم السلام، ولعن الله تعالى خالدا وأخزاه.

أخبرني أبو عبيدة الصيرفي، قال: حدثنا الفضل بن الحسن المصري، قال: حدثني عمر بن شبة، قال: حدثني عبيد الله بن حباب، قال: حدثني عطاء بن مسلم قال: قال خالد بن علد الله، وذكر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:

 

صفحة : 2460

 

أيما أكرم عندكم على الرجل: رسوله في حاجته أو خليفته في أهله? يعرض بأن هشاما خير من النبي صلى الله عليه وسلم.

يوازن بين إبراهيم الخليل والخليفة قال أبو عبيدة: خطب خالد يوما، فقال: إن إبراهيم خليل الله استسقى ماء، فسقاه الله ملحا أجاجا، وأن أمير المؤمنين استسقى الله ماء، فسقاه الله عذبا نقاخا، وكان الوليد حفر بئرا بين ثنية ذي طوى وثنية الحجون، فكان خالد ينقل ماءها، فيوضع في حوض إلى جنب زمزم. ليى الناس فضلها. قال: فغارت تلك البئر، فلا يدرى أين هي إلى اليوم? ينال من علي بن أبي طالب أخبرني أبو الحسن الأسدي: قال: حدثنا العباس بن ميمون طايع، عن ابن عائشة، قال: كان خالد بن عبد الله زنديقا، وكانت أمه رومية نصرانية وهبها عبد الملك لأبيه. فرأى يوما عكرمة، مولى ابن عباس، وعلى رأسه عمامة سوداء، فقال: إنه بلغني أن هذا العبد يشبه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه، وإني لأرجو أن يسود الله وجهه كما سود وجه ذاك.

قال: حدثني من سمعه، وقد لعن عليا - صلوات الله عليه وسلامه - فقال في ذكره: علي بن أبي طالب بن عم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، وزوج ابنته فاطمة، وأبو الحسن والحسين، هل كنيت. اللهم العن خالدا واخزه، وجدد على روحه العذاب.

اسماعيل بن خالد يسب بني أمية في مجلس السفاح وقال أبو عبيدة: ذكر إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري بني أمية عند أبي الغباس السفاح في دولة بني هاشم، فذمهم وسبهم، وقال له حماس الشاعر مولى عثمان بن عفان: يا أمير المؤمنين: أيسب بني عمك وعمالهم وعماتك رجل اجتمع هو والخريت في نسب? إن بني أمية لحمك ودمك، فكلهم ولا تؤكلهم. فقال له صدقت. وأمسك إسماعيل فلم يحر جوابا.

سليمان يضربه مائة سوط وقال ابن الكلبي: كان خالد بن عبد الله أميرا على مكة فأمر رأس الحجبة أن يفتح له الباب وهو ينظر، فأبى فضربه مائة سوط. فخرج الشيبي إلى سليمان بن عبد الملك يشكوه فصادف الفرزدق بالباب، فاسترفده. فلما أذن للناس، ودخلا شكا الشيبي ما لحقه من خالد، ووثب الفرزدق، فأنشأ يقول:

سلوا خالدا لا أكرم الله خالدا                      متى وليت قسر قريشا تدينها

أقبل رسول الله أم ذاك بعده                      فتلك قريش قد أغث سمينها

رجونا هداه لا هدى الله خالدا                      فما أمه بالأم يهدى جنينهـا فحمي سليمان وأمر بقطع يد خالد، وكان يزيد بن المهلب عنده، فمازال يفديه، ويقبل يده، حتى أمر بضربه مائة سوط، ويعفى عن يمينه، فقال الفرزدق في ذلك:

لعمري لقد صبت على ظهر خالـد                      شآبيب ما استهللن من سبل القطـر

أيضرب في العصيان من كان طائعا                      ويعصي أمير المؤمنين أخو قسر?

فنفسك لم فـيمـا أتـيت فـإنـمـا                      جزيت جزاء بالمحدرجة السـمـر

وأنت ابن نصرانية طال بظـرهـا                      غذتك بأولاد الخنازير والـخـمـر

فلولا يزيد بن المهلـب حـلـقـت                      بكفك فتخاء إلى الفرخ في الوكـر

لعمري لقد صال ابن شيبة صـولة                      أرتك نجوم الليل ظاهرة تـسـري يحبس الفرزدق فحقدها خالد على الفرزدق فلما ولي، وحفر نهر العراق بواسط قال فيه الفرزدق أبياتا يهجوه منها:

وأهلكت مال الله في غير حقـه                      على النهر المشؤوم غير المبارك

وتضرب أقواما صحاحا ظهورهم                      وتترك حق الله في ظهر مالـك وقال، ويقال: إنها للمفرج بن المرقع.

 

كأنك بالمبارك بـعـد شـهـر                      يخوض غماره نقع الـكـلاب

كذبت خليفة الرحـمـن عـنـه                      وكيف يرى الكذوب جزا الكذاب فأخذ خالد الفرزدق، فحبسه، واعتل عليه بهجائه إياه في حفر المبارك، فقال الفرزدق في السجن:

أبلغ أمير المؤمـنـين رسـالة                      فعجل هداك الله نزعك خالـدا

بنى بيعة فيها الصلـيب لأمـه                      وهدم من بغض الإله المساجدا فبعث هشام إلى خالد بن سويد يأمره بإطلاق الفرزدق، فأطلقه، فقال الفرزدق يهجو خالدا القسري:

ألا لعن الرحمن ظهر مطية                      أتتنا تخطى من بعيد بخالـد

وكيف يؤم المسلمين وأمـه                      تدين بأن الله ليس بواحـد?

 

صفحة : 2461

 

ابن عياش يشتمه أخبرنا الحسن، قال: حدثنا أحمد بن الحارث، قال: حدثنا المدائني، قال: شتم عبد الله بن عياش الهمذاني خالد بن عبد الله في أيام منصور بن جمهور، فسمعه رجل من لخم، فقدمه إلى منصور واستعداه عليه، فقال له منصور: ما تريد? فقال ابن عياش: أمرنا أيها الأمير يبرقية العقرب. وفيه عجب، لخمي يستنصر كلبيا على همذاني لبجلي دعي.

يدل على هشام وقال المدائني في خبره: كان خالد بن عبد الله قريبا من هشام بن عبد الملك مكينا عنده فأدل، وتمرغ عليه، حتى إنه التفت يوما إلى ابنه يزيد بن خالد عند هشام، فقال له: كيف بك يا بني إذا احتاج إليك بنو أمير المؤمنين? قال: أواسيهم ولو في قميصي. فتبين الغضب في وجه هشام، واحتملها.

يلقب هشاما بابن الحمقاء قال المدائني: حدثني بذلك عبد الكريم مولى هشام: إنه كان واقفا على رأس هشام، فسمع هذا من خالد، قال: وكان إذا ذكر هشام قال له: ابن الحمقاء فسمعها رجل من أهل الشام، فقال لهشام: إن هذا البطر الأشر الكافر لنعمتك ونعمة أبيك وإخوتك يذكرك بأسوأ الذكر، فقال: ماذا يقول? لعله يقول: الأحول قال: لا والله، ولكن ما لا تنشق به الشفتان قال: فلعله قال: ابن الحمقاء، فأمسك الشامي، فقال: قد بلغني كل ذلك عنه.

يستغل نفوذه فيتضاعف دخله واتخذ خالد ضياعا كثيرة حتى بلغت غلته عشرة آلاف ألف درهم، فدخل عليه دهقان كان يأنس به فقال له: إن الناس يحبون جسمك، وأنا أحب جسمك وروحك، قد بلغت غلة ابنك أكثر من عشرة آلاف ألف سوى غلتك، وإن الخلفاء لا يصبرون على هذا، فاحذر، فقال له خالد: إن أخي أسد بن عبد الله قد كلمني بمثل هذا، أفأنت أمرته? قال: نعم، قال: ويحك دعه، فرب يوم كان يطلب فيه الدرهم، فلا يجده.

كان بخيلا بطعامه وقال المدائني في خبره: كان خالد بن عبد الله بخيلا على الطعام، فوفد إليه رجل له به حرمة، فأمر أن يكتب له بعشرة آلاف درهم، وحضر الطعام، فأتي به، فأكل أكلا منكرا، فأغضبه، وقال للخازن: لا تعرض علي صكه، فعرفه الخازن ذلك، فقال له: ويحك فما الحيلة? قال: تشتري غدا كل ما يحتاج إليه في مطبخه، وتهب الطباخ دراهم، حتى لا يشتري شيئا، وتسأله إذا أكل خالد أن يقول له: إنك اليوم في ضيافة فلان، فاشترى كل ما أراد، حتى الحطب، فبلغ خمسمائة درهم، فأكل خال؛ فأستطاب ما صنع له. فقال له الطباخ: إنك كنت اليوم في ضيافة فلان، قال له: وكيف ذاك? فأخبره، فاستحيا خالد ودعا بصكه، فصيره ثلاثين ألفا، ووقع فيه، وأمر الخازن بتسليمها إليه.

حيلة يحتالها تاجر عليه قال: وكان لبعض التجار على رجل دين، فأراد استعداء خالد عليه، فلاذ الرجل ببواب خالد، وبره، فقال له: سأحتال لك في أمر هذا بحيلة، لا يدخله عليه أبدا، قال: فافعل، فلما جلس خالد للأكل أذن البواب للتاجر فدخل، وخالد يأكل سمكا، فجعل يأكل أكلا شنيعا كثيرا، فغاظ ذلك خالدا، فلما خرج قال لبوابه: فيم أتاني هذا? قال: يستعدي على فلان في دين يدعيه عليه. قال: والله إني لأعلم أنه كاذب، فلا يدخلن علي. وتقدم إلى صاحب الشرطة بقبض يده عن صاحبه.

وقال المدائين في خبره: خبير بلغة الحمير كان خالد يوما يخطب على المنبر. وكان لحنة، وكان له مؤدب يقال له: الحسين بن رهمة الكلبي، وكان يجلس بإزائه، فإذا شك في شيء أوأ إليه، وكان لخالد صديق من تغلب زنديق يقال له زمزم، فلما قام يخطب على المنبر قام إليه التغلبي في وسط خطبته، وقال: قد حضرتني مسألة، قال: ويحك أما ترى الشيطان عينه في عين، يعني حسينا، قال: لا بد والله منها، قال: هاتها، قال: أخبرني، قلمسان إذا ساف، ثم رفع رأسه وكرف أي شيء يقول? قال: أراه يقول: ما أطيبه يا رباه، قال: صدقت ما كان ليستشهد على هذا سوى ربه.

رأيه في حفظة القرآن قال المدائني: وقال خالد يوما على المنبر: هذا كما قال الله عز وجل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم أرتج عليه، فقال للتغلبي: قم فافتح علي يا أبا زمزم سورة كذا وكذا، فقال: خفض عليك أيها الأمير، لا يهولنك ذلك، فما رأيت قط عاقلا حفظ القرآن، وإنما يحفظه الحمقى من الرجال، قال: صدقت، يرحمك الله.

يهب المغنية للقصاص وقال المدائني: حدثني أبو يعقوب الثقفي، قال:

 

صفحة : 2462

 

قال خالد بن عبد الله للعريان: يا عريان، أعجزت عن الشرط، حتى أولي غيرك فإن الغناء قد فشا وظهر قال: لم أعجز، وإن شئت فاعزلني، فقال له: خذلى المغنيات، فأحضره خمسا منهن أو ستا، فأدخلهن إليه، فنظر إلى واحدة منهن بيضاء دعجاء؛ كأنها أشربت ماء الذهب، فدعا لها بكرسي، فجلست. ثم قال لها: أين البربط الذي كانت تضرب به? فأحضر، صم سوته، فغنت:

إلى خالد حتى أنخن بـخـالـد                      فنعم الفتى يرجى ونعم المؤمل فقال: اعدلي عن هذا إلى غيره، فغعنت:

أروح إلى القصاص كل عشية                      أرجى ثواب الله في عدد الخطا قال: وأقبل قاص المصر. فقال له خالد: أكانت هذه تروح إليك? قال: لا، وما مثلها يروح إلي، قال: خذ بيدها فهي لك، ومولاها بالباب، فسأل عنها فقيل: وهبها للقاص، فتحمل عليه بأشراف الكوفة، فلم يرددها، حتى اشتراها منه بمائتي دينار.

هشام يضيق به ذرعا فيقرعه: وقال المدائني؛ قال خالد في خطبته: والله ما إمارة العراق مما يشرفني، فبلغ ذلك هشاما، فغاظه جدا، وكتب إليه: بلغني يا بن النصرانية أنك تقول: إن إمارة العراق ليست مما يشرفك، صدقت والله، ما شيء يشرفك، وكيف تشرف وأنت دعي إلى بجيلة القبيلة القليلة الذليلة، أما والله إني لأظن أن أول ما يأتيك ضغن من قيس، فيشد يديك إلى عنقك.

هشام ينكل به تنكيلا وقال المدائني: حدثني شبيب بن شيبة عن خالد بن صفوان بن الأهتم قال: لم تزل أفعال خالد به، حتى عزله هشام، وعذبه، وقتل ابنه يزيد بن خالد، فرأيت في رجله شريطا قد شد به، والصبيان يجرونه، فدخلت إلى هشام يوما، فحدثته، وأطلت، فتنفس. ثم قال: يا خالد، رب خالد كان أحب إلي قربا، وألذ عندي حديثا منك، قال: يعني خالدا القسري، فانتهزتها، ورجوت أن أشفع له فتكون لي عند خالد يد، فقلت: يا أمير المؤمنين، فما يمنعك من استئناف الصنيعة عنده? فقد أدبته بما فرط منه، فقال: هيهات، إن خالدا أوجف فأعجف، وأدل فأمل، وأفرط في الإساءة فأفرطنا في المكافأة، فحلم الأديم، ونغل الجرح، وبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين، فلم يبق فيه مستصلح، ولا للصنيعة عنده موضع، عد إلى حديثك.

عود إلى تخنثه ودورانه في فلك عمر بن أبي ربيعة فأما أخباره في تخنثه وإرسال عمر بن أبي ربيعة إياه إلى النساء، فأخبرني به علي بن صالح بن الهيثم عن أبي هفان، عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي، عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي، وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثني الزبير بن بكر، قال: حدثني محمد بن الحارث بن سعد السعيدي، عن إبراهيم بن قدامة الحاطبي، عن أبيه، واللفظ لعلي بن صالح في خبره، قالا: قال الحاطبي: أتيت عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين، فانتظرته في مجلس قومه، حتى إذا تفرق القوم دنوت منه، ومعي صاحب لي، فقال لي صاحبي: هل لك في أن تريغه عن الغزل، فننظر هل بقي منه شيء عنده? فقلت له: دونك. فقال: يا أبا الخطاب أحسن والله ريسان العذري - قاتله الله - قال: وفيم أحسن? قلت: حيث يقول:

لو جز بالسيف رأسي في مودتها                      لمال لا شك يهوي نحوها رأسي فقال: نعم أحسن، فقلت: يا أبا الخطاب، وأحسن والله تحية بن جنادة العذري، قال: في ماذا? قلت: حيث يقول:

سرت لعينيك سلمى بعد مغفاها                      فبت مستوهنا من بعد مسراها

فقلت: أهلا وسهلا من هداك لنا                      إن كنت تمثالها أو كنت إياهـا وفي رواية الزبير خاصة:

تأتي الرياح من نحو أرضـكـم                      حتى أقول: دنت منا بـرياهـا

وقد تراخت بها عنا نوى قـذف                      هيهات مضبحها من بعد ممساها

من حبها أتمنـى أن يلاقـينـي                      من نحو بلدتها ناع فينـعـاهـا

كيما أقول: فراق لا لـقـاء لـه                      وتضمر اليأس نفسي ثم تسلاها

ولو تموت لراعتني وقلت لهـا:                      يا بؤس للدهر ليت الدهر أبقاها ويروى.

 

... لراعتـنـي مـنـيتـهـا                      وقلت يا بؤس ليت الدهر أبقاها

 

صفحة : 2463

 

فضحك عمر ثم قال: يا ويحه أحسن والله، لقد هيجتما علي ما كان ساكنا مني فلأحدثنكما حديثا حلوا: بينا أنا أول أعوامي جالس إذا بخالد الخريت قال: مررت بأربع نسوة قبيل، يردن ناحية كذا وكذا من مكة، لم أر مثلهن قط، فيهن هند، فهل لك أن تأتيهن متنكرا فتسمع من حديثهن، ولا يعلمن? فقلت: وكيف لي بأن يخفى ذلك? قال: تلبس لبسة الأعراب، ثم تقعد على قعود، كأنك تنشد ضالة، فلا يشعرن حتى تهجم عليهن، قال: فجلست على قعود. ثم أتيتهن فسلمت عليهن، فآنسنني، وسألنني أن أنشدهن، فأنشدتهن لكثير وجميل وغيرهما، وقلن: يا أعرابي، ما أملحك، لو نزلت، فتحدثت معنا يومنا هذا، فإذا أمسيت انصرفت، فأنخت قعودي، وجلست معهن، فحدثتهن، وانشدتهن، فدنت هند، فمدت يدها، فجذبت عمامتي، فألقتها عن رأسي، ثم قالت: تالله لظننت أنك خدعتنا، نحن والله خدعناك، أرسلنا إليك خالدا الخريت في إتياننا بك على أقبح هيئتك، ونحن على أحسن هيئتنا. ثم أخذن بنا في الحديث، فقالت إحداهن: يا سيدي لو رأيتني منذ أيام، وأصبحت عند أهلي، فأدخلت رأسي في جيبي، فنظرت إلى حرى، فرأيته ملء العس والقس فصحت: يا عمراه فصحت: لبيك لبيك، ولم أزل معهن في أحسن وقت إلى أن أمسينا، فتفرقنا، عن أنعم عيش، فذلك حين أقول:

ألم تعرف الأطلال والمتربعا                      ببطن حليات دوارس بلقعـا وذكر الأبيات.

انقضت أخبار خالد لعنة الله عليه أبدا.

 

صوت

 

أنائل ما رؤيا زعمت رأيتـهـا                      لنا عجب لو أن رؤياك تصـدق

أنائل ما للعـيش بـعـدك لـذة                      ولا مشرب نلقاه إلا مـرنـق

أنائل إني والـذي أنـا عـبـده                      لقد جعلت نفسي من البين تشفق

لعمرك إن البين منك يشوقنـي                      وبعض بعاد البين والنأي أشوق الشعر لصخر بن الجعد الخضري.

أخبرنا بذلك محمد بن مزيد، عن الزبير بن بكار أن عمه أنشده هذه القصيدة لصخر بن الجعد الخضري، وأنا أذكرها بعقب أخبار صخر. ومن الناس من يروي هذه الأبيات لجميل، ولم يأت ذلك من وجه يصح، والزبير أعلم بأشعار الحجازيين.

والغناء لعريب خفيف ثقيل عن الهشامي، وفيه لابن المكي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.

 

أخبار صخر بن الجعد ونسبه

نسبه

صخر بن الجعد الخضري، والخضر ولد مالك بن طريف بن محارب بن خصفة بن قيس بن عيللان بن مضر، وصخر أحد بني جحاش بن سلمة بن ثعلبة بن مالك بن طريف، قال: وسمي ولد مالك بن طريف الخضر لسوادهم، وكان مالك شديد الأدمة. وخرج ولده إليه فقيل لهم الخضر، والعرب تسمي الأسود الأخضر.

ابن ميادة يترفع عن مهاجاته وهو شاعر فصيح من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، وقد كان يعرض لابن ميادة لما انقضى ما بينه وبين حكم الخضري من المهاجاة، ورام أن يهاجيه، فترفع ابن ميادة عنه.

أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش، عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، عن الزبير بن بكار مجموعا، وأخبرني بأخبار له متفرقة الحرمي بن أبي العلاء، عن الزبير بن بكار.

وحدثني بها غيرهما من غير رواية الزبير، فذكرت كل شيء من ذلك مفردا، ونسبته إلى راويه.

قصته مع محبوبته كأس قال الزبير فيما رواه هارون عنه: حدثني من أثق به عن عبد الرحمن بن الأحول بن الجون قال: كان صخر بن الجعد مغرما بكأس بنت بجير بن جندب، وكان يشبب بها، فلقيه أخوها وقاص، وكان شجاعا، فقال له: يا صخر، إنك تشبب بابنة عمك، وشهرتها، ولعمري ما بها عنك مذهب؛ ولا لنا عنك مرغب، فإن كانت لك فيها حاجة فهلم أزوجكها، وإن لم تكن لك فيها حاجة فلا أعلمن ما عرضت لها بذكر، ولا أسمعنه منك. فأقسم بالله لئن فعلت ذلك ليخالطنك سيفي، فقال له: بل والله إن لي لأشد الحاجة إليها، فوعده موعدا وخرج صخر لموعده، حتى نزل بأبيات القوم، فنزل منزل الضيف، فقام وقاص فذبح، وجمع أصحابه. وأبطأ صخر عنهم، فلما رأى ذلك وقاص بعث إليه: أن هلم لحاجتك، فأبطأ، ورجع الرسول فقال مثل قوله، فغضب. وعمد إلى رجل من الحي ليس يعدل بصخر، يقال له حصن، وهو مغضب لما صنع، فحمد الله وأثنى عليه، وزوجه كأس، وافترق القوم، ومروا بصخر، فأعلموه تزويج كأس بحصن، فرحل عنهم من تحت الليل، واندفع يهجوها بالأبيات التي قذفها فيها فيما قذفها، وذلك قوله حين يقول:

 

صفحة : 2464

 

 

وأنكحها حصنا ليطمس حملـهـا                      وقد حملت من قبل حصن وجرت أي زادت على تسعة أشهر، قال: وترافع القوم إلى المدينة، وأميرها يومئذ طارق مولى عثمان، قال: فتنازعوا إليه ومعهم يومئذ رجل يقال له حزم، وكان من أشد الناس على صخر شرا. قال: وفيه يقول صخر:

كفى حزنا لو يعلم الناس أنـنـي                      أدافع كأسا عند أبـواب طـارق

أتنسين أياما لـنـا بـسـسـويقة                      وأيامنا بالجزع جزع الـخـلائق

ليالي لا نخشى انصداعا من الهوى                      وأيام حزم عنـدنـا غـير لائق

إذا قلت لا تفشي حديثي تعجرفت                      زيادا لودها هنـا غـير صـادق قال: فأقاموا عليه البينة بقذف كأس، فضرب الحد، وعاد إلى قومه، وأسف على ما فاته من تزويج كأس، فطفق يقول فيها الشعر.

مطولته في كأس قال الزبير: فأنشدني عمي وغيره لصخر قوله:

لقد عاود النفس الشقـية عـيدهـا                      نعم إنه قد عاد نحسا سـعـودهـا

وعاوده من حب كـأس ضـمـانة                      على النأي كانت هيضة تستقيدهـا

وأنى ترجيها وأصبح وصـلـهـا                      ضعيفا وأمست همه لا يكـيدهـا

وقد مر عصر وهي لا تستزيدنـي                      لما استودعت عندي ولا أستزيدها

فمازلت حتى زلت الـنـعـل زلة                      برجلك في زوراء وعث صعودها

ألا قل لكأس إن عرضت لبيتـهـا                      فأين بكا عيني وأين قصـيدهـا?

لعل البكا يا كأس إن نفع الـبـكـا                      يقرب دنيانـا لـنـا فـيعـيدهـا

وكانت تناهت لوعة الود بـينـنـا                      فقد أصبحت يبسا وأذبل عـودهـا ويروى: وقد ذاء عودها يقال: ذبل وذأى وذوى بمعنى واحد.

 

ليالي ذات الرمس لازال هيجهـا                      جنوبا ولا زالت سحاب تجودهـا

وعيش لنا في الدهر إذ كان قلبه                      يطيب لديه بخل كأس وجودهـا

تذكرت كأسا إذ سمعت حمـامة                      بكت في ذرا نخل طوال جريدها

دعت ساق حر فاستجبت لصوتها                      مولهة لـم يبـق إلا شـريدهـا

فيا نفس صبرا كل أسباب واصل                      ستنمي لها أسباب هجر تبيدهـا قال أبو الحسن الأخفش: ستنمي لها أسباب صرم تبيدها أجود.

 

وليل بدت للعين نار كـأنـهـا                      سنا كوكب للمستبين خمودهـا

فقلت: عساها نار كأس وعلهـا                      تشكى فأمضي نحوها وأعودها

فتسمع قولي قبل حتف يصيدني                      تسر به أو قبل حتف يصيدهـا

كأن لم نكن يا كأس إلفى مودة                      إذ الناس والأيام ترعى عهودها من شعره في تجواله أخبرني عبد الله بن مالك النحوي، قال: حدثنا محمد بن حبيب، قال: لما ضرب صخر بن الجعد الحد لكأس، وصارت إلى زوجها ندم على ما فرط منه، واستحيا من الناس للحد الذي ضربه، فلحق بالشام، فطالت غيبته بها، ثم عاد فمر بنخل كان لأهله ولأهل كأس، فباعوه، وانتقلوا إلى الشام، فمر بها صخر ورأى المبتاعين لها يصرمونها، فبكى عند ذلك بكاء شديدا، وأنشأ يقول:

مررت على خيمات كأس فأسبلت                      مدامع عيني والرياح تميلـهـا

وفي دارهم قوم سواهم فأسبلـت                      دموع من الأجفان فاض مسيلها

كذاك الليالي ليس فيها بـسـالـم                      صديق ولا يبقى عليها خليلـهـا وقال وهو بالشام:

ألا ليت شعري هل تغير بـعـدنـا                      عن العهد أم أمسى على حاله نجد?

وعهدي بنجد منذ عـشـرين حـجة                      ونحن بدنيا ثم لم نلـقـهـا بـعـد

به الخوصة الدهماء تحت ظلالهـا                      رياض بها الحوذان والنفل الجعـد قال: ومر على غدير كانت كأس تشرب منه ويحضره أهلها ويجتمعون عليه، فوقف طويلا عليه يبكي وكان يقال لذلك الغدير جنان فقال صخر:

بليت كما يبلى الرداء ولا أرى                      جنانا ولا أكناف ذروة تخلق

ألوى حيازيمي بهن صـبـابة                      كما تتلوى الحية المتشـرق تموت كأس فيرثيها أخبرني عبد الله بن مالك، عن محمد بن حبيب، قال: قال السعيدي: حدثني سبرة مولى يزيد بن العوام، قال:

 

صفحة : 2465

 

كان صخر بن الجعد المحاربي خدنا لعوام بن عقبة، وكان عوام يهوى امرأة من قومه، يقال لها: سوداء، فماتت، فرثاها، فلما سمع صخر بن الجعد المرثية، قال: وددت أن أعيش حتى تموت كأس، فأرثيها، فماتت كأس، فقال:

على أم داود السـلام ورحـمة                      من الله يجري كل يوم بشيرهـا

غداة غدا الغادون عنها وغودرت                      بلماعة القيعان يستن موردهـا

وغيبت عنها يوم ذاك وليتـنـي                      شهدت فيحوى منكبي سريرها ويروى: فيعلو منكبي.

 

نزت كبدي لما أتاني نـعـيهـا                      فقلت: أدان صدعها فمطيرها? أمير المؤمنين يسأل عن قائل شعره أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثني الزبير، قال: حدثني خالد بن الوضاح قال: قال عبد الأعلى بن عبيد بن محمد بن صفوان الجمحي لعبد الله بن مصعب: سألني أمير المؤمنين اليوم في موكبه: من الذي يقول:

ألا يا كأس قد أفنيت شعري                      فلست بقائل إلا رجيعـا? ولم أدر لمن الشعر? فقال عبد الله بن مصعب: هو لصخر الخضري، وأنشد باقي الأبيات، وهي:

ترجىة أن تلاقي آل كـأس                      كما يرجو أخو السنة الربيعا

فلست بـنـائم إلا بـحـزن                      ولا مستيقظا إلا مـروعـا

فإنك لو نظرت إذا التقـينـا                      إلى كبدي رأيت بها صدوعا من شعره حينما ندم على عدم زواجها قال ابن حبيب في رواية عبد الله بن مالك: لما زوجت كأس جزع صخر بن الجعد لما فرط منه وندم وأسف، وقال في ذلك:

هنيئا لكأس قطعها الحبل بعدما                      عقدنا لكأس موثقا لا نخونهـا

وإسماتها الأعداء لما تـألـبـوا                      حوالي واشتدت علي ضغونها

فإن حراما أن أخونك ما دعـا                      بيليل قمري الحمام وجونـهـا

وقد أيقنت نفسي لقد حيل دونها                      ودونك لو يأتي بيأس يقينـهـا

ولكن أبت لا تستفيق ولا تـرى                      عزاء ولا مجلود صبر يعينهـا

لو أنا إذ الدنيا لنا مـطـمـئنة                      دحا ظلها ثم ارجحنت غصونها

لهونا ولكنا بغـرة عـيشـنـا                      عجبنا لدنيانا فكدنا نعـينـهـا

وكنا إذا نحن التقينا وما نـرى                      لعينين إلا من حجاب يصونهـا

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننـا                      وأوساطها حتى تمل فنونـهـا تراه كأس في النوم قال ابن حبيب: أرسلت كأس بعد أن زوجت إلى صخر بن الجعد تخبره أنها رأته فيما يرى النائم: كأنه يلبسها خمارا، وأن ذلك جدد لها شوقا إليه وصبابة، فقال صخر:

أنائل ما رؤيا زعـمـت رأيتـهـا                      لنا عجب لو أن رؤياك تـصـدق

أنائل لولا الود مـا كـان بـينـنـا                      نضا مثل ما ينضو الخضاب فيخلق يشتري نسيئة ثم يهرب من البائع أخبرنا حبيب بن نصر، قال: حدثنا عبد الله بن شبيب، قال: حدثني محمد بن عبد الله البكري، قال: قدم صخر بن الجعد الخضري المدينة، فأتى تاجرا من تجارها، يقال له سيار فابتاع منه برا وعطرا، وقال: تأتينا غدوة فأقضيك، وركب من تحت ليلته، فخرج إلى البادية، فلما أصبح سيار سأل عنه؛ فعرف خبره، فركب في جماعة من أصحابه في طلبه، حتى أتوا بئر مطلب، وهي على سبعة أميال من المدينة، وقد جهدوا من الحر، فنزلوا عليها، فأكلوا تمرا كان معهم، وأراحوا دوابهم وسقوها، حتى إذا برد النهار انصرفوا راجعين، وبلغ الخبر صخر بن الجعد، فقال:

أهون علـي بـسـيار وصـفـوتـه                      إذا جـعـلـت صـرارا دون سـيار

إن القضـاء سـيأتـي دونـه زمـن                      فاطو الصحيفة واحفظها من الـعـار

يسائل الناس هل أحسنـتـم جـلـبـا                      محاربيا أتى مـن نـحـو أظـفـار

وما جلـبـت إلـيهـم غـير راحـلة                      وغير رحل وسـيف جـفـنة عـار

ومـا أريت لـهـم إلا لأدفـعـهــم                      عني ويخرجني نقضـي وإمـراري

حتى استغاثوا بأروى بئر مـطـلـب                      وقد تحرق مـنـهـم كـل تـمـار

وقال أولهـم نـصـحـا لآخـرهـم:                      ألا ارجعوا واتركوا الأعراب في النار جاريته تخدعه

 

صفحة : 2466

 

أخبرني عبد الله بن مالك، عن محمد بن حبيب، قال: حدثنا ابن الأعرابي، قال: كان الجعد المحاربي أبو صخر بن الجعد قد عمر حتى خرف، وكان يكنى أبا الصموت؛ وكانت له وليدة يقال لها سمحاء، فقالت له يوما: يا أبا الصموت، زعم بنوك أنك إن مت قتلوني، قال: ولم? قالت: مالي إليهم ذنب غير حبي لك، فأعتقها على أن تكون معه، فمكثت يسيرا، ثم قالت له: يا أبا الصموت، هذا عرابة من أهل المعدن يخطبني، قال: أين هذا مما قلت لي? قالت: إنه ذو مال، وإنما أردت ماله لك، قال: فأتني به، فأتته فزوجه إياها، فولدت له أولادا، وقوته بما كانت تصيبه من الجعد، وكانت تأتي الجعد في أيام، فتخضب رأسه، ثم قطعته، فأنشأ الجعد يقول:

أمسى عـرابة ذا مـال وذا ولـد                      من مال جعد وجعد غير محمود

تظل تنشقه الكافـور مـتـكـئا                      على السرير وتعطيني على العود من قوله لامرأته قال والجعد هو القائل لامرأته:

تعالجني أم الـصـمـوت كـأنـمـا                      تداوي حصانا أوهن العظم كـاسـره

فلا تعجبي أم الـصـمـوت فـإنـه                      لكل جواد معـثـر هـو عـاثـره

وقد كنت أصطاد الظبـاء مـوطـئا                      وأضرب رأس القرن والرمح شاجره

فأصبحت مثل العش طارت فراخـه                      وغودر في رأس الهشـيمة سـائره أولاده يرثونه حيا فلما كبر حمله بنوه، فأتوا به مكة، وقالوا له: تعبد هاهنا، ثم اقتسموا المال، وتركوا له منه ما يصلحه، فقال:

ألا أبلغ بني جـعـد رسـولا                      وإن حالت جبال الغور دوني

فلم أر معشرا تركوا أبـاهـم                      من الآفاق حيث تركتمونـي

فإني والروافض حول جمـع                      ومحطمهن من حصبا الحجون

لو أني ذو مدافعة وحـولـي                      كما قد كنت أحيانا كمـونـي

إذا لمنعتكم مالي ونـفـسـي                      بنصل السيف أو لقتلتمـونـي يعيا وعبده حاضر البديهة وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن عثمان البكري، عن عروة بن زيد الخضري، عن أبيه، قال: كنت في ركب فيهم صخر بن الجعد، ودرن مولى الخضريين معنا، ونحن نريد خيبر، فنزلنا منزلا تعشينا فيه، فهيجنا إبل صخر، فلما ركبنا ساق بنا واندفع يرجز، ويقول:

لقد بعثت حاديا قراصفا فردده قطعا من الليل لا ينفده، ولا يقول غيره، ثم قال لنا: إني نسيت عقالا، فرجع يطلبه في المتعشى، ونزل درن يسوق بالقوم، فارتجز درن ببيت صخر، وقال:

لقد بعثت حاديا قراصـفـا                      من منزل رحلت عنه آنفـا

يسوق خوصا رجفا حواجفا                      مثل القسي تقذف المقاذفـا

حتى ترى الرباعي العتارفا                      من شدة السير يزجى واجفا قال: فأدركه صخر، وهو في ذلك، فقال له: يا بن الخبيثة أتجترىء على أن تنفذ بيتا أعياني? فقاتله، فضربه، حتى نزلنا، ففرقنا بينهما.

 

صوت

 

إذا سرها أمر وفيه مسـاءتـي                      قضيت لها فيما تحب على نفسي

وما مر يوم أرتجي منـه راحة                      فأذكره إلا بكيت على أمـسـي الشعر لأبي حفص الشطرنجي، والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو.

 

أخبار أبي حفص الشطرنجي ونسبه

نشأته أبو حفص: عمر بن عبد العزيز، مولى بني العباس، وكان أبوه من موالي المنصور فيما يقال، وكان اسمه اسما أعجميا، فلما نشأ أبو حفص وتأدب، غيره وسماه عبد العزيز.

أخبرني بذلك عمي، عن أحمد بن الطيب، عن جاعة من موالي المهدي.

ونشأ أبو حفص في دار المهدي ومع أولاد مواليه، وكان كأحدهم، وتأدب، وكان لاعبا بالشطرنج مشغوفا به، فلقب به لغلبته عليه.

إنقطاعه إلى علية بنت المهدي فلما مات المهدي انقطع إلى علية، وخرج معها لما زوجت، وعاد معها لما عادت إلى القصر، وكان يقول لها الأشعار فيما تريده من الأمور بينها وبين إخوتها وبني أخيها من الخفاء، فتنتحل بعض ذلك، وتترك بعضه، ومما ينسب إليها من شعره ولها فيه غناء، وقد ذكرنا ذلك في أغانيها وأخبارها:

تحبب فإن الحب داعية الحب وهو صوت مشهور لها.

يخلعون عليه أحب الأوصاف

 

صفحة : 2467

 

حدثني الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال: حدثني الكندي، عن محمد ابن الجهم البرمكي، قال: رأيت أبا حفص الشطرنجي الشاعر، فرأيت منه إنسانا يلهيك حضوره عن كل غائب وتسليك مجالسته عن هموم المصائب، قربه عرس، وحديثه أنس، جده لعب، ولعبه جد، دين ماجد، إن لبسته على ظاهره لبست مرموقا لا تمله، وإن تتبعته لتستبطن خبرته وقفت على مؤوة لا تطير الفواحش بجنباتها، وكان فيما علمته أقل ما فيه الشعر، وهو الذي يقول: صوت

تحبب فإن الحب داعـية الـحـب                      وكم من بعيد الدار مستوجب القرب

إذا لم يكن في الحب عتب ولا رضا                      فأين حلاوات الرسائل والكـتـب?

تفكر فإن حدثـت أن أخـا هـوى                      نجا سالما فارج النجاة من الكـرب

وأطيب أيام الهـوى يومـك الـذي                      تورع بالتحريش فيه وبالـعـتـب قال: وفي هذه الأبيات غناء لعلية بنت المهدي، وكانت تأمره أن يقول الشعر في المعاني التي تريدها، فيقولها، وتغني فيها.

قال: وأنشدني لأبي حفص أيضا.

صوت

عرضن للذي تحـب بـحـب                      ثم دعـه يروضـه إبـلـيس

فلعل الزمـان يدنـيك مـنـه                      إن هذا الهوى جليل نـفـيس

صابر الحب لا يصرفك فـيه                      من حبيب تجهـم وعـبـوس

وأقل اللجاج واصبر على الجه                      د فإن الهوى نعـيم وبـوس في هذه الأبيات للمسدود هزج ذكره لي جحظة وغيره عنه.

وأما قوله:

تحبب فإن الحب داعية الحب فقد مضت نسبته في أخبار علية.

مساجلة بينه وبين الرشيد على لسان ماردة أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك، وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني أبو العباس الكاتب قال: كان الرشيد يحب ماردة جاريته، وكان خلفها بالرقة، فلما قدم إلى مدينة السلام اشتاقها، فكتب إليها: صوت

سلام على النازح المغتـرب                      تحية صب بـه مـكـتـئب

غزال مراتعه بـالـبـلـيخ                      إلى دير زكي فقصر الخشب

أيا من أعان على نـفـسـه                      بتخليفه طائعـا مـن أحـب

سأستر والستر من شيمـتـي                      هوى من أحب بمن لا أحب فلما ورد كتابه عليها أمرت أبا حفص الشطرنجي صاحب علية، فأجاب الرشيد عنها بهذه الأبيات، فقال:

أتانـي كـتـابـك يا سـيدي                      وفيه العجائب كل العجـب

أتزعم أنـك لـي عـاشـق                      وأنك بي مستهـام وصـب

فلو كان هذا كذا لـم تـكـن                      لتتركني نهزة لـلـكـرب

وأنت ببغداد ترعـى بـهـا                      نبات اللذاذة مع من تـحـب

فيا من جفاني ولـم أجـفـه                      ويا من شجاني بما في الكتب

كتابك قد زادنـي صـبـوة                      وأسعر قلبي بحر اللـهـب

فهبني نعم قد كتمت الهـوى                      فكيف بكتمان دمـع سـرب

ولـولا اتـقـاؤك يا سـيدي                      لوافتك بي الناجيات النجـب فلما قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادما على البريد، حتى حدرها إلى بغداد في الفرات، وأمر المغنين جميعا، فغنوا في شعره.

قال الأصبهاني: فممن غنى فيه إبراهيم الموصلي؛ غنى فيه لحنين، أحدهما ماخوري، والآخر ثاني ثقيل عن الهشامي. وغنى يحيى بن سعد بن بكر بن صغير العين فيه رملا. ولابن جامع فيه رمل بالنبصر، ولفليح بن العوراء ثاني ثقيل بالوسطى، وللمعلي خفيف رمل بالوسطى، ولحسين بن محرز هزج بالوسطى، ولأبي زكار الأعمى هزج بالبنصر، هذه الحكايات كلها عن الهشامي، وقال: كان المختار من هذه الألحان كلها عند الرشيد الذي اشتهاه منها وارتضاه لحن سليم.

يصلح بين الرشيد وعلية بأبياته أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب، قال: حدثني محمد بن يزيد النحوي، قال: حدثني جماعة من كتاب السلطان: أن الرشيد غضب على علية بنت المهدي، فأمرت أبا حفص الشطرنجي شاعرها أن يقول شعرا يعتذر فيه عنها إلى الرشيد، ويسأله الرضا عنها، فيستعطفه لها فقال: صوت

لو كان يمنع حسن العقل صاحبه                      من أن يكون له ذنب إلى أحـد

 

صفحة : 2468

 

 

كانت علية أبرا الناس كـلـهـم                      من أن تكافا بسوء آخـر الأبـد

مالي إذا غبت لم أذكر بـواحـدة                      وإن سقمت فطال السقم لم أعـد

ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه                      قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي فأتاها بالأبيات، فساتحسنتها، وغنت فيها، وألقت الغناء على جماعة من جواري الرشيد، فغنينه إياه في أول مجلس جلس فيه معهن، فطرب طربا شديدا، وسألهن عن القصة، فأخبرنه بها، فبعث إليها، فحضرت، فقبل رأسها، واعتذرت، فقبل عذرها، وسألها إعادة الصوت، فأعادته عليه، فبكى، وقال: لا جرم أني لا أغضب أبدا عليك ما عشت.

بيتان في دنانير بمائتي دينار حدثني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثنا الحسين بن يحيى، عن عمرو بن بانة، قال: دخل أبو حفص الشطرنجي على يحيى بن خالد، وعنده ابن جامع، وهو يلقي على دنانير صوتا أمره يحيى بإلقائه عليها، وقال لأبي حفص: قل في دنانير بيتين يغني فيهما ابن جامع، ولك بكل بيت مائة دينار إن جاءت كما أريد، فقال أبو حفص: صوت

أشبهك المسك وأشبهته                      قائمة في لونه قاعده

لا شك إذ لونكما واحد                      أنكما من طينة واحدة قال: فأمر له يحيى بمائة دينار، وغنى فيهما ابن جامع.

قال الأصبهاني: لحن ابن جامع في هذين البيتين هزج.

صديق حميم لأسرة الخليفة أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان أبو حفص الشطرنجي ينادم أبا عيسى بن الرشيد، ويقول له الشعر، فينتحله، ويفعل مثل ذلك بأخيه صالح وأخته، وكذلك بعلية عمتهم، وكان بنو الرشيد جميعا يزورونه ويأنسون به، فمرض، فعادوه جميعا سوى أبي عيسى فكتب إليه: يعاتب ابن الرشيد لأنه لم يعده في مرضه

إخاء أبي عيسى إخاء ابن ضرة                      وودي ود لابـن أم ووالــد

ألم يأته أن الـتـأدب نـسـبة                      تلاصق أهواء الرجال الأباعد

فما باله مستعذبا من جفـائنـا                      موارد لم تعذب لنا من موارد

أقمت ثلاثا حلف حمى مضرة                      فلم أره في أهل ودي وعائدي

سلام هي الدنيا قروض وإنمـا                      أخوك مديم الوصل عند الشدائد بيتان ليسا له حدثني جعفر بن الحسين، قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: حدثنا أبي عن أبي حفص الشطرنجي: قال: قال لي الرشيد يوما: يا حبيبي، لقد أحسنت ما شئت في بيتين قلتهما، قلت: ما هما يا سيدي? فمن شرفهما استحسانك لهما، فقال: قولك: صوت

لم ألق ذا شجن يبوح بحبه                      إلا حسبتك ذلك المحبوبـا

حذرا عليك وإنني بك واثق                      ألا ينال سواي منك نصيبا فقلت: يا أمير المؤمنين، ليسا لي، هما للعباس بن الأحنف، فقال: صدقك والله أعجب إلي، وأحسن منهما بيتاك حيث تقول:

إذا سرها أمر وفيه مسـاءتـي                      قضيت لها فيما تريد على نفسي

وما مر يوم أرتجي فـيه راحة                      فأذكره إلا بكيت على أمسـي في البيتين الأولين اللذين للعباس بن الأحنف ثقيل لإبراهيم الموصلي، وفيهما لابن جامع رمل عن الهشامي، الروايتان جميعا لعبد الرحمن، وفي أبيات أبي حفص الأخيرة لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس.

ينعي نفسه قبل أن يموت أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني الحسين بن يحيى، قال: حدثني عبد الله بن الفضل، قال: دخلت على أبي حفص الشطرنجي شاعر علية بنت المهدي أعوده في علته التي مات فيها، قال: فجلست عنده فأنشدني لنفسه: صوت

نعى لك ظل الشباب المشـيب                      ونادتك باسم سواك الخطـوب

فكن مستعدا لداعي الـفـنـاء                      فإن الـذي هـو آت قـريب

ألسنا نرى شهـوات الـنـفـو                      س تفنى وتبقى عليها الذنـوب

وقبلك داوى المريض الطبـيب                      فعاش المريض ومات الطبيب

يخاف على نفسه مـن يتـوب                      فكيف ترى حال من لا يتوب? غنى في الأول والثاني إبراهيم هزجا.

انقضت أخباره.

 

صوت

 

أبى ليلـي أن يذهـب                      ونيط الطرف بالكوكب

ونجم دونه الـنـسـرا                      ن بين الدلو والعقرب

وهذا الصبـح لا يأتـي                      ولا يدنـو ولا يقـرب

 

صفحة : 2469

 

الشعر لأميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف، والغناء لإسحاق هزج بالوسطى.

تسرق لحن إسحاق وهو سكران أخبرنا محمد بن يحيى ومحمد بن جعفر النحوي، قالا: حدثنا محمد بن حماد، قال: التقيت مع دمن جارية إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما، فقلت لها: أسمعيني شيئا أخذته من إسحاق، فقالت: والله ما أحد من جواريه أخذ منه صوتا قط ولا ألقى علينا شيئا قط وإنما كان يأمر من أخذ منه من الرجال مثل مخارق وعلويه ووجه القرعة الخزاعي وجواري الحارث بن بسخنر أن يلقوا علينا ما يختارون من أغانيهم، وأما عنه فما أخذت شيئا قط إلا ليلة، فإنه انصرف من عند المعتصم، وهو سكران، فقال للخادم القيم على حرمه: جئني بدمن، فجاءني الخادم، فدعاني، فخرجت معه، فإذا هو في البيت الذي ينام فيه، وهو يصنع في هذا الشعر:

أبى ليلـي أن يذهـب                      ونيط الطرف بالكوكب وهو يتزايد فيه، ويقومه، حتى استوى له، ثم قام إلى عود مصلح معلق كان يكون في بيت منامه، فأخذه، فغنى الصوت، حتى صح له، واستقام عليه، وأخذته عنه، فلما فرغ منه قال: أين دمن? فقلت: هو ذا أنا هاهنا، فارتاع، وقال: مذكم أنت هاهنا? قلت: مذ بدأت بالصوت وقد أخذته بغير حمدك، فقال: خذي العود، فغنيه، فأخذته، فغنيته، حتى فرغت منه، وهو يكاد أن يتميز غيظا، ثم قال: قد بقي عليك فيه شيء كثير، وأنا أصلحه لك، فقلت: أنا مستغنية عن إصلاحك، فألحه لنفسك، فاضطجع في فراشه ونام، وانصرفت، فمكث أياما إذا رآني قطب وجهه.

وهذا الشعر تقوله أميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف ترثي به من قتل في حروب الفجار من قريش.

 

ذكر الخبر في حروب الفجار وحروب عكاظ

 

ونسب أميمة بنت عبد شمس

نسب أميمة

أميمة بنت عبد شمي بن عبد مناف، وأمها تفخر بنت عبيد بن رواس بن كلاب، وكانت عند حارثة بن الأوقص بن مرة بن هلال بن فالح بن ذكوان السلمي، فولدت له أمية بن حارثة.

وكانت هذه الحرب بين قريش وقيس عيلان في أربعة أعوام متواليات، ولم يكن لقريش في أولها مدخل، ثم التحقت بها.

فأما الفجار الأول فكانت الحرب فيه ثلاثة أيام، ولم تسم باسم لشهرتها.

وأما الفجار الثاني فإنه كان أعظمهما؛ لأنهم استحلوا فيه الحرم، وكانت أيامه يوم نخلة، وهو الذي لم يشهده رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وشهد سائرها، وكان الرساء فيه حرب بن أمية في القلب، وعبد الله بن جدعان، وهشام بن المغيرة في المجنبتين ثم يوم شمطة، ثم يوم العبلاء، ثم يوم عكاظ، ثم يوم الحرة.

الشرارة الأولى في حرب الفجار قال أبو عبيدة: كان أول أمر الفجار أن بدر بن معشر الغفاري أحد بني غفار بن مالك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة كان رجلا منيعا مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ، فاتخذ مجلسا بسوق عكاظ، وقعد فيه وجلع يبذخ على الناس ويقول:

نحن بنو مدركة بـن خـنـدف                      من يطعنوا في عينه لا يطرف

ومن يكونوا قومه يغـطـرف                      كأنهم لجة بـحـر مـسـدف وبدر بن معشر باسط رجليه يقول: أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه بالسيف، فهو أعز مني، فوثب رجل من بني نصر بن معاوية، يقال له الأحمر، بمازن بن أوس بن النابغة، فضربه بالسيف على ركبته، فأندرها، ثم قال: خذها إليك أيها المخندف، وهو ماسك سيفه، وقام أيضا رجل من هوازن، فقال:

أنا ابن همدان ذوي التغطرف                      بحر بحور زاخر لم ينـزف

نحن ضربنا ركبة المخنـدف                      إذ مدها في أشهر المعرف وفي هذه الضربة أشعار لقيس كثيرة لا معنى لذكرها.

اليوم الثاني من أيام الفجار الأول

 

صفحة : 2470

 

ثم كان اليوم الثاني من أيام الفجار الأول، وكان السبب في ذلك أن شبابا من قريش وبني كنانة كانوا ذوي غرام، فرأوا امرأة من بني عامر جميلة وسيمة، وهي جالسة بسوق عكاظ في درع وهي فضل عليها برقع لها، وقد اكتنفها شباب من العرب، وهي تحدثهم، فجاء الشباب من بني كنانة وقريش، فأطافوا بها، وسألوها أن تسفر، فأبت، فقام أحدهم، فجلس خلفها، وحل طرف ردائها، وشده إلى فوق حجزتها بشوكة، وهي لا تعلم، فلما قامت أنكشف درعها عن دبرها، فضحكوا، وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك، وجدت لنا بالنظر إلى دبرك، فنادت: يا آل عامر فثاروا، وحملوا السلاح، وحملته كنانة، واقتتلوا قتالا شديدا، ووقعت بينهم دماء، فتوسط حرب بن أمية، واحتمل دماء القوم، وأرضى بني عامر من مثلة صاحبتهم.

اليوم الثالث من أيام الفجار الأول ثم كان اليوم الثالث من الفجار الأول، وكان سببه أنه كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن دين على رجل من بني كنانة فلواه به، وطال اقتضاؤه إياه، فلم يعطه شيئا، فلما أعياه، وافاه الجشمي في سوق عكاظ بقرد، ثم جعل ينادي: من يبيعني مثل هذا لارباح بما لي على فلان بن فلان الكناني? من يعطيني مثل هذا بما لي على فلان بن فلان الكناني? رافعا صوته بذلك، فلما طال نداؤه بذلك وتعييره به كنانة مر به رجل منهم، فضرب القرد بسيفه، فقتله، فهتف به الجشمي: يا آل هوازن، وهتف الكناني: يا آل كنانة، فتجمع الحيان فاقتتلوا، حتى تحاجزوا، ولم يكن بينهم قتلى، ثم كفوا، وقالوا: أفي رباح تريقون دماءكم، وتقتلون أنفسكم? وحمل ابن جدعان ذلك في ماله بين الفريقين.

اليوم الأول من أيام الفجار الثاني قال: ثم كان يوم الفجار الثاني، وأول يوم حروبه يوم نخلة، وبينه وبين مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ست وعشرون سنة، وشهد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك اليوم مع قومه، لوه أربع عشرة سنة، وكان يناول عمومته النبل، هذا قول أبي عبيدة. وقال غيره: بل شهدها، وهو ابن ثمان وعشرين سنة.

قال أبو عبيدة: كان الذي هاج هذه الحرب يوم الفجار الآخر، أن البراض بن قيس بن رافع، أحد بني ضمرة ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة كان سكيرا فاسقا، خلعه قومه، وتبرءوا منه فشرب في بني الديل، فخلعوه، فأتى مكة، وأتى قريشا، فنزل على حرب بن أمية، فحالفه فأحسن حرب جواره، وشرب بمكة، حتى هم حرب أن يخلعه، فقال لحرب: إنه لم يبق أحد، ممن يعرفني إلا خلعني سواك، وإنك إن خلعتني لم ينظر إلي أحد بعدك، فدعني على حلفك، وأنا خارج عنك، فتركه. وخرج، فلحق بالنعمان بن المنذر بالحيرة.

من يجيز لطيمة النعمان وكان النعمان يبعث إلى سوق عكاظ في وقتها بلطيمة يجيزها له سيد مضر، فتباع، ويشترى له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني، وكانت سوق عكاظ في أول ذي القعدة، فلا تزال قائمة يباع فيها ويشترى إلى حضور الحج، وكان قيامها فيما بين النخلة والطائف عشرة أميال، وبها نخل وأموال لثقيف، فجهز النعمان لطيمة له، وقال: من يجيزها فقال البراض: أنا أجيزها على بني كنانة، فقال النعمان: إنما أريد رجلا يجيزها على أهل نجد، فقال عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب، وهو يومئذ رجل من هوازن: أنا أجيزها - أبيت اللعن - فقال له البراض: من بني كنانة تجيزها يا عروة? قال: نعم، وعلى الناس جميعا أفكلب خليع يجيزها.

قال: ثم شخص بها، وشخص البراض، وعروة يرى مكانه، لا يخشاه على ما صنع، حتى إذا كان بين ظهري غطفان إلى جانب فدك، بأرض يقال لها أوارة قريب من الوادي الذي يقال له تيمن نام عروة في ظل شجرة، ووجد البراض غفلته، فقتله وهرب في عضاريط الركاب، فاستاق الركاب، وقال البراض في ذلك:

وداهية يهال الناس مـنـهـا                      شددت لها بني بكر ضلوعي

هتكت بها بيوت بني كـلاب                      وأرضعت الموالي بالضروع

جمعت لها يدي بنصل سـيف                      أفل فخر كالجذع الصـريع وقال أيضا في ذلك:

نقمت على المرء الكلابي فخره                      وكنت قديما لا أقـر فـخـارا

علوت بحد السيف مفرق رأسه                      فأسمع أهل الـواديين خـوارا قال: وأم عروة الرحال نفيرة بنت أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة، فقال لبيد بن ربيعة يحض على الطلب بدمه:

 

صفحة : 2471

 

 

فأبلغ إن عرضت بني نمير                      وأخوال القتيل بني هـلال

بأن الوافد الرحال أضحـى                      مقيما عند تيمن ذي الظلال قال أبو عبيدة: فحدثني أبو عمرو بن العلاء، قال: لقي البراض بشر بن أبي خازم، فقال له: هذه القلانص لك على أن تأتي حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وهشاما والوليد ابني المغيرة، فتخبرهم أن البراض قتل عروة، فإني أخاف أن يسبق الخبر إلى قيس أن يكتموه. حتى يقتلوا به رجلا من قومك عظيما. فقال له: وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل? قال: إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها رجلا خليعا طريدا من بني ضمرة، قال: ومر بهما الحليس بن يزيد أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وهو يومئذ سيد الأحابيش من بني كنانة والأحابيش من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو نفاثة بن الديل، وبنو لحيان من خزاعة، والقارة، وهو أثيع ابن الهون بن خزيمة، وعضل بن دمس بن محلم بن عائذ بن أثيع بن الهون كانوا تحالفوا على سائر بني بكر بن عبد مناة، فقال لهم الحليس: مالي أراكم نجيا? فأخبروه الخبر، ثم ارتحلوا، وكتموا الخبر على اتفاق منهم.

وفاء ابن جدعان قال: وكانت العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان، حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا، وكان سيدا حكيما مثريا من المال. فجاءه القوم، فأخبروه خبر البراض وقتله عروة، وأخبروا حرب بن أمية وهشاما والوليد ابني المغيرة، فجاء حرب إلى عبد الله بن جدعان، فقال له: احتبس قبلك سلاح هوازن، فقال له ابن جدعان: أبالغدر تأمرني يا حرب? والله لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به، ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئا، ولكن لكم مائة درع، ومائة رمح، ومائة سيف في مالي تستعينون بها، ثم صاح ابن جدعان في الناس: من كان له قبلي سلاح فليأت، وليأخذه، فأخذ الناس أسلحتهم.

يخدعون هوازن فلا تجدي الخديعة وبعث ابن جدعان وحرب بن أمية وهشام والوليد إلى أبي براء: إنه قد كان بعد خروجنا حرب، وقد خفنا تفاقم الأمر، فلا تنكروا خروجنا، وساروا راجعين إلى مكة، فلما كان آخر النهار بلغ أبا براء قتل البراض عروة، فقال: خدعني حرب وابن جدعان، وركب فيمن حضر عكاظ من هوازن في أثر القوم، فأدركوهم بنخلة، فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل، فكفوا، ونادى الأدرم بن شعيب، أحد بني عامر بن ربيعة بن صعصعة: يا معشر قريش، ميعاد ما بيننا هذه الليلة من العام المقبل بعكاظ، وكان يومئذ رؤساء قريش حرب بن أمية في القلب، وابن جدعان في إحدى المجنبتين، وهشام بن المغيرة في الأخرى، وكان رؤساء قيس عامر بن مالك، ملاعب الأسنة على بني عامر، وكدام بن عمير على فهم وعدوان، ومسعود بن سهم على ثقيف، وسبيع بن ربيعة النصري على بني نصر بن معاوية، والصمة بن الحارث، وهو أبو دريد بن الصمة على بني جشم، وكانت الراية مع حرب بن أمية، وهي راية قصي التي يقال لها العقاب.

شعر خداش بن زهير في هذه الحرب فقال في ذلك خداش بن زهير:

نيا شدة ما شـددنـا غـير كـاذبة                      على سخينة لولا الليل والـحـرم

إذ يتقينا هشـام بـالـولـيد ولـو                      أنا ثقفنا هشاما شـالـت الـخـدم

بين الأراك وبين المرج تبطحهـم                      زرق الأسنة في أطرافها السهـم

فإن سمعتم بجيش سالـك سـرفـا                      وبطن مر فأخفوا الجرس واكتتموا عبد الملك يستنشد شعر خداش وزعموا أن عبد الملك بن مروان استنشد رجلا من قيس هذه الكلمة، فجعل يحيد عن قوله:  سخينة  ، فقال عبد الملك: إنا قوم لم يزل يعجبنا السخن، فهات، فلما فرغ قال: يا أخا قيس، ما أرى صاحبك زاد على التمني والاستنشاء.

البراض يقدم باللطيمة قال: وقدم البراض باللطيمة مكة، وكان يأكلها، وكان عامر بن يزيد بن الملوح بن يعمر الكناني نازلا في أخواله من بني نمير بن عامر، وكان ناكحا فيهم، فهمت بنو كلاب بقتله، فمنعته بنو نمير، ثم شخصوا به حتى نزل في قومه، واستغوت كنانة بني أسد وبني نمير واستغاثوا بهم، فلم تغثهم، ولم يشهد الفجار أحد من هذين الحيين.

اليوم الثاني في الفجار الثاني:

 

صفحة : 2472

 

ثم كان اليوم الثاني من الفجار الثاني؛ وهو يوم شمطة، فتجمعت كنانة وقريش بأسرها وبنو عبد مناة، والأحابيش، وأعطت قريش رؤوس القبائل أسلحة تامة وأعطى عبد الله بن جدعان خاصة من ماله مائة رجل من كنانة أسلحة تامة وأداة، وجمعت هوازن، وخرجت، فلم تخرج معهم كلاب ولا كعب، ولا شهد هذان البطنان من أيام الفجار إلا يوم نخلة مع أبي براء عامر بن مالك، وكان القوم جميعا متساندين، على كل قبيلة سيدهم.

قواد قريش ومن معهم فكان على بني هاشم وبني المطلب ولفهم الزبير بن عبد المطلب، ومعهم النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن بني المطلب - وإن كانوا مع بني هاشم - كان يرأسهم الزبير بن عبد المطلب بن هاشم ورجل منهم، وهو عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، وأم الزبير الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف، وكان على بني عبد شمس ولفها حرب بن أمية ومعه أخواه أبو سفين وسفيان، ومعهم بنو نوفل بن عبد مناف، يرأسهم بعد حرب مطعم بن عدي بن نوفل، وكان على بني عبد الدار ولفها خويلد بن أسد وعثمان بن الحويرث، وكان على بني زهرة ولفها مخرمة بن نوفل بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة وأخوه صفوان، وكان على بني تيم بن مرة ولفها عبد الله بن جدعان، وعلى بني مخزوم هشام بن المغيرة، وعلى بني سهم العاصي بن وائل، وعلى بني جمح ولفها أمية بن خلف، وعلى بني عدي زيد بن عمرو بن نفيل، والخطاب بن نفيل عمه، وعلى بني عامر بن لؤي عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أبو سهل ابن عمرو، وعلى بني الحارث بن فهر عبد الله بن الجراح أبو أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وعلى بني بكر بلعاء بن قيس، ومات في تلك الأيام، وكان جثامة بن قيس أخوه مكانه، وعلى الأحابيش الحليس بن يزيد.

قواد هوازن ومن معهم وكانت هوازن متساندين كذلك، وكان عطية بن عفيف النصري على بني نصر بن معاوية، وقيل: بل كان عليهم أبو أسماء بن الضريبة، وكان الخنيسق الجشمي على بني جشم وسعد ابني بكر، وكان وهب بن معتب على ثقيف، ومعه أخوه مسعود، وكان على بني عامر بن ربيعة وحلفائهم من بني جسر بن محارب سلمة ابن إسماعيل: أحد بني البكاء، ومعه خالد بن هوذة: أحد بني الحارث بن ربيعة، وعلى بني هلال بن عامر بن صعصعة ربيعة بن أبي ظبيان بن ربيعة بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر.

هوازن تسبق قريشا وترجح كفتها قال: فسبقت هوازن قريشا، فنزلت شمطة من عكاظ، وظنوا أن كنانة لم توافهم، وأقبلت قريش، فنزلت من دون المسيل، وجعل جرب بني كنانة في بطن الوادي، وقال لهم: لا تبرحوا مكانكم، ولو أبيحت قريش، فكانت هوازن من وراء المسيل.

قال أبو عبيدة: فحدثني أبو عمرو بن العلاء: قال: كان ابن جدعان في إحدى المجنبتين، وفي الأخرى هشام بن المغيرة، وحرب في القلب، وكانت الدائرة في أول النهار لكنانة، فلما كان آخر النهار تداعت هوازن، وصبروا واستحر القتل في قريش، فلما رأى ذلك بنو الحارث بن كنانة - وهم في بطن الوادي - مالوا إلى قريش، وتركوا مكانهم، فلما استحر القتل بهم قال أبو مساحق بلعاء بن قيس لقومه: ألحقوا برخم - وهو جبل - ففعلوا، وانهزم الناس.

الرسول صلى الله عليه وسلم يحضر هذه الحرب وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصير في فئة إلا انهزم من يحاذيها، فقال حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان: ألا ترون إلى هذا الغلام ما يحمل على فئة إلا انهزمت? خداش يسجل المعركة بشعره وفي ذلك يقول خداش بن زهير في كلمة له:

فأبلغ أن عرضت بنا هشـامـا                      وعبد اللـه أبـلـغ والـولـيدا

أولئك إن يكن في الناس خـير                      فإن لديهم حـسـبـا وجـودا

هم خير المعاشر مـن قـريش                      وأوراها إذا قـدحـت زنـودا

بأنا يوم شمـطة قـد أقـمـنـا                      عمود المجد إن لـه عـمـودا

جلبنا الخيل سـاهـمة إلـيهـم                      عوابس يدرعن النـقـع قـودا

فبتنا نعقد الـسـيمـا وبـاتـوا                      وقلنا: صبحوا الأنس الـحـديدا

فجاءوا عارضا بـردا وجـئنـا                      كما أضرمت في الغاب الوقودا

ونادوا: يا لعمـرو لا تـفـروا                      فقلنـا: لا فـرار ولا صـدودا قوله: نعقد السيما أي العلامات:

فعاركنا الكماة وعاركـونـا                      عراك النمر عاركت الأسودا

 

صفحة : 2473

 

 

فولوا نضرب الهامات منهـم                      بما انتهكوا المحارم والحدودا

تركنا بطن شمطة من علاء                      كأن خلالها معـزا شـريدا

ولم أر مثلهم هزموا وفلـوا                      ولا كذيادنا عنـقـا مـذودا قوله: يا لعمرو، يعني عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

اليوم الثالث يوم العبلاء ثم كان اليوم الثالث من أيام الفجار، وهو يوم العبلاء، فجمع القوم بعضهم لبعض، والتقوا على قرن الحول بالعبلاء - وهو موضع قريب من عكاظ - ورؤساؤهم يومئذ على ما كانوا عليه يوم شمطة، وكذلك من كان على المجنبتين، فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزت كنانة، فقال خداش بن زهير في ذلك: خداش يستمر في التسجيل بشعره

ألم يبلغك بالعـبـلاء أنـا                      ضربنا خندقا حتى استقادوا

نبني بالمنازل عـز قـيس                      وودوا لو تسيخ بنا البـلاد وقال أيضا:

ألم يبلغك ما لاقت قريش                      وحي بني كنانة إذ أثيروا

دهمناهم بأرعن مكفهـر                      فظل لنا بعقوتهـم زئير

تقوم مارن الخطي فيهـم                      يجيء على أسنتنا الجزير اليوم الرابع يوم عكاظ ثم كان اليوم الرابع من أيامهم، يوم عكاظ، فالتقوا في هذه المواضع على رأس الحول، وقد جمع بعضهم لبعض، واحتشدوا، والرؤساء بحالهم، وحمل عبد الله بن جدعان يومئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير. وخشيت قريش أن يجري عليها مثل ما جرى يوم العبلاء، فقيد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية بن عبد شمس أنفسهم، وقالوا: لا نبرح حتى نموت مكاننا، وعلى أبي سفيان يومئذ درعان قد ظاهر بينهما، وزعم أبو عمرو بن العلاء أن أبا سفيان بن أمية خاصة قيد نفسه، فسمي هؤلاء الثلاثة يومئذ: العنابس - وهي الأسود واحدها عنبسة - فاقتتل الناس قتالا شديدا، وثبت الفريقان، حتى همت بنو بكر بن عبد مناة وسائر بطون كنانة بالهرب، وكانت بنو مخزوم تلي كنانة، فحافظت حفاظا شديدا، وكان أشدهم يومئذ بنوا لامغيرة، فإنهم صبروا، وأبلوا بلاء حسنا، فلما رأت ذلك بنو عبد مناة من كنانة تذامروا فرجعوا وحمل بلعاء بن قيس وهو يقول:

إن عكاظ مأوانا فخلـوه                      وذا المجاز بعد أن تحلوه مبارزة بهزم فيها رئيس الأحابيش وخرج الحليس بن يزيد: أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة - وهو رئيس الأحابيش يومئذ - فدعا إلى المبارزة فبرز إليه الحدثان بن سعد النصري، فطعنه الحدثان، فدق عضده وتحاجزا.

الدائرة تدور على قيس واقتتل القوم قتالا شديدا، وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه، فانهزمت قيس كلها إلا بني نصر فإنهم صبروا، ثم هربت بنو نصر وثبت بنو دهمان، فلم يغنوا شيئا، فانهزموا، وكان عليهم سبيع بن أبي ربيعة - أحد بني دهمان، فعقل نفسه ونادى: يا آل هوازن، يا آل هوازن، يا آل نصر فلم يعرج عليه أحد، وأجفلوا منهزمين، فكر بنو أمية خاصة في بني دهمان ومعهم الخنيسق وقشعة الجشميان، فقاتلوا فلم يغنوا شيئا، فانهزموا.

من المستجير بخباء سبيعة وكان مسعود بن معتب الثقفي قد ضرب على امرأته سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف خباء، وقال لها: من دخله من قريش فهو آمن، فجعلت توصل في خبائها؛ ليتسع، فقال لها: لا يتجاوزني خباؤك فإني لا أمضي لك إلا من أحاط به الخباء، فأحفظها فقالت: أما والله إني لأظن أنك ستود أن لو زدت في توسعته، فلما انهزمت قيس دخلوا خباءها مستجيرين بها فأجار لها حرب بن أمية جيرانها، وقال لها: يا عمة، من تمسك بأطناب خبائك، أو دار حوله فهو آمن، فنادت بذلك، فاستدارت قيس بخبائها، حتى كثروا جدا، فلم يبق مأحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها فقيل لذلك الموضع: مدار قيس، وكان يضرب به المثل، فتغضب قيس منه، وكان زوجها مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس - وهو من ثقيف - قد أخرج معه يومئذ بنيه من سبيعة، وهم عروة ولوحة، ونويرة، والأسود، فكانوا يدورون - وهم غلمان - في قيس يأخذون بأيديهم إلى خباء أمهم، ليجيروهم، فيسودوا، بذلك أمرتهم أمهم أن يفعلوا.

رواية أخرى لخبر خباء سبيعة فأخبرني الحرمي والطوسي: قالا: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثني محمد بن الحسن، عن المحرز بن جعفر وغيرره:

 

صفحة : 2474

 

أن كنانة وقيسا لما توافوا من العام المقبل من مقتل عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب ضرب مسعود الثقفي على امرأته سبيعة بنت عبد شمس أم بنيه خباء، فرآها تبكي حين تدانى الناس، فقال لها: ما يبكيك? فقالت: لما يصاب غدا من قومي، فقال لها: من دخل خباءك فهو آمن، فجعلت توصل فيه القطعة بعد القطعة والخرقة والشيء ليتسع، فخرج وهب بن معتب حتى وقف عليها، وقال لها: لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربطت به رجلا من بني كنانة، فلما صف القوم بعضهم لبعض خرجت سبيعة فنادت بأعلى صوتها: إن وهبا يأتلي ويحلف ألا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربط به رجلا من كنانة، فالجد الجد، فلما هزمت قيس لجأ نفر منهم إلى خباء سبيعة بنت عبد شمس، فأجارهم حرب بن أمية قيس تلجأ إلى خباء سبيعة فيجيرهم حرب بن أمية أخبرني هاشم بن محمد قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة، قال: لما هزمت قيس لجأت إلى خباء سبيعة، حتى أخرجوها منه، فخرجت، فنادت من تعلق بطنب من أطناب بيتي فهو آمن في ذمتي، فداروا بخبائها، حتى صاروا حلقة، فأمضى ذلك كله حرب بن أمية لعمته، فكان يضرب في الجاهلية بمدار قيس المثل، ويعيرون بمدارهم يومئذ بخباء سبيعة بنت عبد شمس، قال: شاعران يسجان الموقعة وقال ضرار بن الخطاب الفهري قوله:

ألم تسأل الناس عن شأنـنـا                      ولم يثبت الأمر كالخـابـر

غداة عكاظ إذا استكمـلـت                      هوازن في كفها الحاضر

وجاءت سليم تهز الـقـنـا                      على كل سلهبة ضـامـر

وجئنا إليهم على المضمرات                      بأرعن ذي لجـب زاخـر

فلما التقـينـا أذقـنـاهـم                      طعانا بسمر القنا الـعـائر

ففرت سليم ولم يصـبـروا                      وطارت شعاعا بنو عامـر

وفرت ثقيف إلـى لآتـهـا                      بمنقلب الخائب الخـاسـر

وقاتلت العنس شطر النهـا                      ر ثم تولت مع الـصـادر

على أن دهمانها حافظـت                      أخيرا لـدى دارة الـدائر وقال خداش بن زهير:

أتتنا قريش حافلين بجمـعـهـم                      عليهم من الرحمن واق وناصر

فلما دنونا للقبـاب وأهـلـهـا                      أتيح لنا ريب مع الليل نـاجـر

أتيحت لنا بكر وحـول لـوائهـا                      كتائب يخشاها العزيز المكاثـر

جئت دونهم بكر فلم تستطعـهـم                      كأنهم بالمـشـرفـية سـامـر

وما برحت خيل تثور وتـدعـى                      ويلحق منهـم أولـون وآخـر

لدن غدوة حتى أتى وانجلى لنـا                      عماية يوم شره مـتـظـاهـر

ومازال ذاك الدأب حتى تخاذلت                      هوازن وارفضت سليم وعامر

وكانت قريش يفلق الصخر حدها                      إذا أوهن الناس الجدود العواثر اليوم الخامس يوم حريرة ثم كان اليوم الخامس، وهو يوم الحريرة، وهي حرة إلى جانب عكاظ، والرؤساء بحالهم إلا بلعاء بن قيس؛ فإنه قد مات فصار أخوه مكانه على عشيرته، فاقتتلوا، فانهزمت كنانة وقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية وثمانية رهط من بني كنانة، قتلهم عثمان بن أسد من بني عمرو بن عامر بن ربيعة، وقتل ورقاء بن الحارث: أحد بني عمرو بن عامر من بني كنانة وخمسة نفر.

خداش يسجل هذه الموقعة وقال خداش بن زهير، في ذلك:

لقد بلوكم فأبلوكـم بـلاءهـم                      يوم الحريرة ضربا غير تكذيب

إن توعدوني فإني لابن عمكـم                      وقد أصابوكم منه بشـؤبـوب

وإن ورقاء قد أردى أبا كنـف                      وابني إياس وعمرا وابن أيوب

وإن عثمان قد أردى ثمـانـية                      منكم وأنتم على خبر وتجريب خداش يفقد أباه فيسجل ذلك الشويعر الليثي ثم كان الرجل منهم بعد ذلك يلقى الرجل، والرجلان يلقيان الرجلين، فيقتل بعضهم بعضا. فلقي ابن محمية ابن عبد الله الدبلي زهير بن ربيعة أبا خداش، فقال زهير: إني حرام جئت معتمرا، فقال له: ما تلقى طوال الدهر إلا قلت: أنا معتمر، ثم قتله، فقال الشويعر الليثي، واسمه ربيعة بن علس:

تركنا ثاويا يزقـو صـداه                      زهيرا بالعوالي والصفاح

أتيح له ابن محمية بن عبد                      فأعجله التسوم بالبطـاح صلح لا يتم

 

صفحة : 2475

 

ثم تداعوا إلى الصلح على أن يدي من عليه فضل في القتلى، الفضل إلى أهله، فأبى ذلك وهب بن معتب، وخالف قومه، واندس إلى هوازن، حتى أغارت على بني كنانة، فكان منهم بنو عمرو بن عامر بن ربيعة، عليهم سلمة بن سعدى البكائي، وبنو هلال عليهم ربيعة بن أبي ظبيان الهلالي، وبنو نصر بن معاوية، عليهم مالك بن عوف، وهو يومئذ أمرد، فأغاروا على بني ليث بن بكر بصحراء الغميم، فكانت لبنى ليث أول النهار، فقتلوا عبيد بن عوف البكائي، قتله بنو مدلج وسبيع بن المؤمل الجسري حليف بني عامر، ثم كانت على بني ليث آخر النهار، فانهزموا، واستحر القتل في بني الملوح بن يعمر بن ليث، وأصابوا نعما ونساء حينئذ، فكان ممن قتل في حروب الفجار من قريش العوام بن خويلد، قتله مرة بن معتب، وقتل حزام بن خويلد، وأحيحة بن أبي أحيحة، ومعمر ابن حبيب الجمحي، وجرح حرب بن أمية، وقتل من قيس الصمة أبو دريد بن الصمة، قتله جعفر بن الأحنف.

صلح يتم برهائن ثم تراضوا بأن يعدوا القتلى، فيدوا من فضل، فكان الفضل لقيس على قريش وكنانة، فاجتمعت القبائل على الصحل، وتعاقدوا ألا يعرض بعضهم لبعض، فرهن حرب بن أمية ابنه أبا سفيان بن حرب، ورهن الحارث بن كلدة العبدي ابنه النضر، ورهن سفيان بن عوف أحد بني الحارث بن عبد مناة ابنه الحارث، حتى وديت الفضول، ويقال: إن عتبة بن ربيعة تقدم يومئذ، فقال: يا معشر قريش، هلموا إلى صلة الأرحام والصلح، قالوا: وما صلحكم هنا، فإنا موتورون? فقال: على أن ندي قتلاكم، ونتصدق عليكم بقتلانا فرضوا بذلك، وساد عتبة مذ يومئذ، قال: فلما رأت هوازن رهائن قريش بأيديهم رغبوا في العفو، فأطلقوهم.

النبي يشهد الفجار قال أبو عبيدة: ولم يشهد الفجار من بني هاشم غير الزبير بن عبد المطلب، وشهد النبي صلى الله عليه وسلم وآله سائر الأيام إلا يوم نخلة، وكان يناول عمه وأهله النبل، قال: وشهدها صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين سنة، وطعن النبي صلى الله عليه وسلم وآله أبا براء ملاعب الأسنة، وسئل صلى الله عليه وآله عن مشهده يومئذ، فقال: ما سرني أني لم أشهده، إنهم تعدوا على قومي، عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم، فأبوا.

كشف حساب القتلى قال: وكان الفضل عشرين قتيلا من هوازن، فوداهم حرب بن أمية فيما تروي قريش، وبنو كنانة تزعم أن القتلى الفاضلين قتلاهم، وأنهم هم ودوهم.

هل شهد أعمام النبي هذه الموقعة وزعم قوم من قريش أن أبا طالب وحمزة والعباس بني عبد المطلب - رضي الله عنهما - شهدوا هذه الحروب، ولم يرد ذلك أهل العلم بأخبار العرب.

سبيعة تجير بعلها قال أبو عبيدة: ولما انهزمت قيس خرج مسعود بن معتب لا يعرج على شيء حتى أتى سبيعة بنت عبد شمس زوجته، فجعل أنفه بين ثدييها، وقال: أنا بالله وبك، فقالت: كلا، زعمت أنك ستملأ بيتي من أسرى قومي، اجلس فأنت آمن.

عود إلى الصوت وبقيته وقالت أميمة بنت عبد شمس ترثي ابن أخيها أبا سفيان بن أمية ومن قتل من قومها، والأبيات التي فيها الغناء منها:

أبـي لـــيلـــك لا يذهـــب                      ونـيط الـطـرف بـالـكـوكـب

ونـجـــم دونـــه الأهـــوا                      ل بـين الـدلـو والـعـقــرب

وهـذا الـصـبـــح لا يأتـــي                      ولا يدنـــو ولا يقــــــرب

بعـقـر عـشـيرة مـــنـــا                      كرام الـخـيم والـمـنـصــب

أحـال عـلــيهـــم دهـــر                      حديد الـنـاب والـمـخـلـــب

فحـل بـبـهـم وقـد أمـنـــوا                      ولـم يقـصـر ولـم يشـطــب

ومـا عـنـه إذا مـــا حـــل                      من مـنـجـى ولا مـهـــرب

ألا يا عـين فـابــكـــيهـــم                      بدمـع مـنـك مـسـتـغــرب

فإن أبـك فــهـــم عـــزي                      وهـم ركـنـي وهـم مـنـكـب

وهـم أصـلـي وهـم فـرعــي                      وهـم نـسـبـي إذا أنـســـب

وهـم مـجـدي وهـم شـرفــي                      وهـم حـصـنـي إذا أرهـــب

وهـم رمـحـي وهـم تـرســي                      وهـم سـيفـي إذا أغـضـــب

فكـم مـن قـائل مـنـــهـــم                      إذا مـا قــال لـــم يكـــذب

وكـم مـن نـاطـق فــيهـــم                      خطـيب مـصـقـع مـعــرب

وكـم مـن فـارس فـــيهـــم                      كمـي مـعـلـم مــحـــرب

وكم من مدرة فيهم أريب حول قلب

وكم من جحفل فيهم                      عظـيم الـنـار والـمـوكـــب

وكـم مـن خـضـرم فـيهـــم                      نجـيب مـاجـد مـنــجـــب

صوت

 

 

صفحة : 2476

 

 

أحب هبوط الواديين وإنـنـي                      لمشتهر بـالـواديين غـريب

أحقا عباد الله أن لست خارجدا                      ولا والجا إلا علـي رقـيب

ولا زائرا فردا ولا في جماعة                      من الناس إلا قيل: أنت مريب

وهل ريبة في أن تحن نجـيبة                      إلى إلفها أو أن يحن نجـيب الشعر فيما ذكره أبو عمرو الشيباني في أشعار بني جعدة، وذكره أبو الحسن المدائني في أخبار رواها لمالك ابن الصمصامة الجعدي، ومن الناس من يرويه لابن الدمينة ويدخله في قصيدته التي على هذه القافية، والروي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر عن عمرو.

 

أخبار مالك ونسبه

نسبه هو مالك بن الصمصامة بن سعد بن مالك: أحد بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، شاعر بدوي مقل.

يهوى جنوب ويحول بينهما أخوها أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن خلف بن المرزبان، قالا: أخبرنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، ونسخت خبره أيضا من كتاب أبي عمرو الشيباني، قالوا: كان مالك بن الصمصامة الجعدي فارسا شجاعا جوادا جميل الوجه، وكان يهوى جنوب بنت محصن الجعدية، وكان أخوها الأصبغ بن محصن من فرسان العرب وشجعانهم وأهل النجدة والبأس منهم، فنمى إليه نبذ من خبر مالك، فآلى يمينا جزما: لئن بلغه أنه عرض لها أو زارها ليقتلنه، ولئن بلغه أنه ذكرها في شعر أو عرض بها ليأسرنه، ولا يطلقه إلا أن يجز ناصيته في نادي قومه، فبلغ ذلك مالك بن الصمصامة، فقال:

إذا شئت فارقني إلى جنب عيهب                      أجب ونضوي للقلوص جنـيب

فما الحلق بعد الأسر شر بـقـية                      من الصد والهجران وهي قريب

ألا أيها الساقي الذي بـل دلـوه                      بقريان يسقي هل عليك رقـيب

إذا أنت لم تشرب بقريان شـربة                      وحانية الجدران ظلت تـلـوب

أحب هبوط الـواديين وإنـنـي                      لمشتهـر بـالـواديين غـريب

أحقا عباد الله أن لست خـارجـا                      ولا والجا إلا عـلـي رقـيب

ولا زائرا وحدي ولا في جماعة                      من الناس إلا قيل: أنت مـريب

وهل ريبة في أن تحن نـجـيبة                      إلى إلفها أو أن يحـن نـجـيب يراها فلا يستطيع مخاطبتها وقال أبو عمرو خاصة: حدثنا فتيان من بني جعدة أنها أقبلت ذات يوم، وهو جالس في مجلس فيه أخوها، فلما رآها عرفها، ولم يقدر على الكلام بسبب أخيها، فأغمي عليه، وفطن أخوها لما به، فتغافل عنه، وأسنده بعض فتيان العشيرة إلى صدره، فما تحرك، ولا أحار جوابا ساعة من نهاره، وانصرف أخوها كالخجل، فلما أفاق قال:

ألمت فما حيت وعاجت فأسرعت                      إلى جرعة بين المخارم فالنجـر

خليلي قد حانت وفاتي فاحـفـرا                      برابية بين المخافـر والـبـتـر

لكيما تقول العبـدلـية كـلـمـا                      رأت جدثي: سقيت يا قبر من قبر جنوب ترعى عهده وقال المدائني في خبره: انتجع أهل بيت جنوب ناحية حسي والحمى، وقد أصابها الغيث، فأمرعت، فلما أرادوا الرحيل وقف لهم مالك بن الصمصامة، حتى إذا بلغته جنوب أخذ بخطام بعيرها، ثم أنشأ يقول:

أريتك إن أزمعـتـم الـيوم نـية                      وغالك مصطاف الحمى ومرابعه

أترعين ما استودعت أم أ،ت كالذي                      إذا ما نأى هانت علـيه ودائعـه فبكت، وقالت: بل أرعى والله ما استودعت، ولا أكون كمن هانت عليه ودائعه، فأرسل بعيرها، وبكى، حتى سقط مغشيا عليه، وهي واقفة، ثم أفاق، وقام، فانصرف وهو يقول:

ألا إن حسيا دونه قلة الـحـمـى                      منى النفس لو كانت تنال شرائعه

وكيف ومن دون الورود عـوائق                      وأصبغ حامي ما أحب ومانـعـه

فلا أنا فيما صدني عنه طـامـع                      ولا أرتجي وصل الذي هو قاطعه

صوت

 

يا دار هند عفاها كل هـطـال                      بالخبت مثل سحيق اليمنة البالي

أرب فيها ولـي مـا يغـيرهـا                      والريح مما تعـفـيهـا بـأذيال

دار وقفت بها صحبي أسائلـهـا                      والدمع قد بل مني جيب سربالي

شوقا إلى الحي أيام الجميع بهـا                      وكيف يطرب أو يشتاق أمثالي?

 

صفحة : 2477

 

قوله. أرب فيها أي أقام فيها وثبت، والولي: الثاني من أمطار السنة، أولها الوسمي، والثاني الولي، ويروى.

 

جرت عليها رياح الصيف فاطرقت واطرقت: تلبدت.

الشعر لعبيد بن الأبرص، والغناء لإبراهيم هزج بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفيه لابن جامع رمل بالوسطى، وقد نسب لحنه هذا إلى إبراهيم ولحن إبراهيم إليه.

 

أخبار عبيد بن الأبرص ونسبه

اسمه ونسبه قال أبو عمرو الشيباني: هو عبيد بن الأبرص بن حنتم بن عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر. شاعر فحل فصيح من شعراء الجاهلية، وجعله ابن سلام في الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية، وقرن به طرفة وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد.

شاعر ضائع الشعر أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: عبيد بن الأبرص قديم الذكر، عظيم الشهرة، وشعره مضطرب ذاهب لا أعرف له إلا قوله في كلمته:

أقفر من أهله ملحوب ولا أدري ما بعد ذلك.

يتهم بأخته أخبرنا عبد الله بن مالك النحوي الضرير، قال: حدثنا محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني، قالا: كان من حديث عبيد بن الأبرص أنه كان رجلا محتاجا، ولم يكن له مال، فأقبل ذات يوم ومعه غنيمة له، ومعه أخته ماوية، ليوردا غنمهما الماء، فمنعه رجل من بني مالك بن ثعلبة وجبهة، فانطلق حزينا مهموما للذي صنع به المالكي، حتى أتى شجرات فاستظل تحتهن، فنام هو وأخته، فزعموا أن المالكي نظرا إليه وأخته إلى جنبه، فقال:

ذاك عبيد قد أصاب مـيا                      يا ليته ألقحهـا صـبـيا

فحملت فوضعت ضاويا فسمعه عبيد، فرفع يديه، ثم ابتهل، فقال: اللهم إن كلان فلان ظلمني، ورماني بالبهتان فأدلني منه - أي اجعل لي منه دولة، وانصرني عليه - ووضع رأسه فنام، ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر.

يهبط عليه الشعر من السماء في النوم فذكر أنه أتاه آت في المنام بكبة من شعر، حتى ألقاها في فيه، ثم قال: قم، فقام وهو يرتجز: يعني بني مالك؛ وكان يقال لهم بنو الزنية يقول:

أيا بني الزنية ما غركـم                      فلكم الويل بسربال حجر ثم استمر بعد ذلك في الشعر، وكان شاعر بني أسد غير مدافع.

بينه وبين امرىء القيس أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة، قال: اجتمعت بنو أسد بعد قتلهم حجر بن عمرو والد امرىء القيس إلى امرىء القيس ابنه على أن يعطوه ألف بعير دية أبيه؛ أو يقيدوه من أي رجل شاء من بني أسد، أو يمهلهم حولا؛ فقال: أما الدية فميا ظننت أنكم تعرضونها على مثلي، وأما القود فلو قيد إلي ألف من بني أسد ما رضيتهم؛ ولا رأيتهم كفؤا لحجر، وأما النظرة فلكم، ثم ستعرفونني في فرسان قحطان، أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة، حتى أشفي نفسي، وأنال ثأري، فقال عبيد ابن الأبرص في ذلك: صوت

يا ذا المخوفنا بقـتـل                      أبـيه إذلالا وحـينـا

أزعمت أنك قد قتلـت                      سراتنا كذبا ومـينـا?

هلا على حجر ابن أم                      م قطام تبكي لا علينـا

إنا إذا عض الـثـقـا                      ف برأس صعدتنا لوينا

نحمي حقيقتنا وبعـض                      الناس يسقط بين بينـا

هلا سألت جموع كندة                      يوم ولـوا أين أينـا? الغناء لحنين رمل في مجرى الوسطى مطلق عن الهشامي، وفيه ليحيى المكي خفيف ثقيل: قال: وتمام هذا الأبيات:

أيام نضرب هامهـم                      ببواتر حتى انحنينـا

وجموع غسان الملو                      ك أتينهم وقد انطوينا

لحقا أيا طلهـن قـد                      عالجن أسفارا وأينا والأياطل: الخواصر أي هن ضوامرها?:

نحن الألى فاجمع جمـو                      عك ثم وجههـم إلـينـا

واعـلـم بـأن جـيادنـا                      آلين لا يقـضـين دينـا

ولقد أبحنا مـا حـمـي                      ت ولا مبيح لما حمينـا

هذا ولو قدرت عـلـي                      ك رماح قومي ما انتهينا

حتى تـنـوشـك نـوشة                      عاداتهن إذا انـتـوينـا

نغلي السباء بـكـل عـا                      تقة شمول ما صحونـا

 

صفحة : 2478

 

 

ونهين فـي لـذاتـنـا                      عظم التلاد إذا انتشينـا

لا يبلغ البـانـي ولـو                      رفع الدعائم ما بنـينـا

كم من رئيس قد قـتـل                      ناه وضيم قـد أبـينـا

ولرب سيد مـعـشـر                      ضخم الدسيعة قد رمينا

عقبانه بـظـلال عـق                      بان تتمم مـا نـوينـا

حتى تركـنـا شـلـوه                      جزر السباع وقد مضينا

إنا لعمـرك مـا يضـا                      م حليفنا أبـدا لـدينـا

وأوانس مثل الـدمـى                      حور العيون قد استبينا الشعر على ألسنة الأفاعي وقرأت في بعض الكتب، عن ابن الكلبي، عن أبيه، وهو خبر مصنوع، يتبين التوليد فيه: أن عبيد بن الأبرص سافر في ركب من بني أسد، فبيناهم يسيرون إذا هم بشجاع يتمعك على الرمضاء فاتحا فاه من العطش، وكانت مع عبيد فضلة من ماء ليس معه ماء غيرها، فنزل فسقاه الشجاع عن آخره حتى روي وانتعش، فانساب في الرمل، فلما كان من الليل، ونام القوم ندت رواحلهم، فلم ير لشيء منها أثر، فقام كل واحد يطلب راحلته، فتفرقوا، فبينا عبيد كذلك؛ وقد أيقن بالهلكة والموت إذا هو بهاتف يهتف به:

يا أيها الساري المضل مذهبه                      دونك هذا البكر منا فاركبه

وبكرك الشارد أيضا فاجنبـه                      حتى إذا الليل تجلى غيهبـه

فحط عنه رحله وسـيبـه فقال له عبيد: يا هذا المخاطب، نشدتك الله إلا أخبرتني: من أنت? فأنشأ يقول:

أنا الشجاع الذي ألفيته رمضـا                      في قفرة بين أحجار وأعـقـاد

فجدت بالماء لما ضن حامـلـه                      وزدت فيه ولم تبخل بإنـكـاد

الخير يبقى وإن طال الزمان به                      والشر أخبث ما أوعيت من زاد فركب البكر وجنب بكره، وسار فبلغ أهله مع الصبح، فنزل عنه، وحل رحله، وخلاه، فغاب عن عينه، وجاء من سلم من القوم بعد ثلاث.

يومان للمنذر بن ماء السماء أخبرني محمد بن عمران المؤدب وعمي، قالا: حدثنا محمد بن عبيد: قال: حدثني محمد بن يزيد بن زياد الكلبي، عن الشرقي بن القطامي: قال: كان المنذر بن ماء السماء قد نادمه رجلان من بني أسد، أحدهما خالد بن المضلل، والآخر عمرو بن مسعود ابن كلدة، فأغضباه في بعض المنطق، فأمر بأن يحفر لكل واحد حفيرة بظهر الحيرة، ثم يجعلا في تابوتين، ويدفنا في الحفرتين، ففعل ذلك بهما، حتى إذا أصبح سأل عنهما، فأخبر بهلاكهما، فندم على ذلك، وغمه، وفي عمرو ابن مسعود وخالد بن المضلل الأسديين يقول شاعر بني أسد:

يا قبر بين بيوت آل محرق                      جادت عليك رواعد وبروق

أما البكاء فقل عنك كثـيره                      ولئن بكيت فللبكاء خلـيق ثم ركب المنذر، حتى نظر إليهما، فأمر ببناء الغريين عليهما، فبنيا عليهما، وجعل لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين، يسمي أحدهما يوم نعيم، والآخر يوم بؤس، فأول من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الأبل شوما أي: سودا، وأول من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان أسود، ثم يأمر به، فيذبح ويغرى بدمه الغريان، فلبث بذلك برهة من دهره.

يقتل في يوم بؤس المنذر ثم إن عبيد بن الأبرص كان أول من أشرف عليه في يوم بؤسه، فقال: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد? فقال: أتتك بحائن رجلاه، فأرسلها مثلا، فقال له المنذر: أو أجل بلغ إناه، فقال له المنذر: أنشدني، فقد كان شعرك يعجبني، فقال عبيد: حال الجريض دون القريض، وبلغ الحزام الطبيين. فأرسلها مثلا، فقال له النعمان: أسمعني، فقال: المنايا على الحوايا، فأرسلها مثلا، فقال له آخر: ما أشد جزعك من الموت، فقال: لا يرحل رحلك من ليس معك فأرسلها مثلا، فقال له المنذر: قد أمللتني، فأرحني قبل أن آمر بك، فقال عبيد: من عز بز فأرسلها مثلا، فقال المنذر: أنشدني قولك:

أقفر من أهله ملحوب فقال عبيد: صوت

أقفر من أهله عبـيد                      فليس يبدي ولا يعيد

عنت له عنة نكـود                      وحان منها له ورود فقال له المنذر: يا عبيد، ويحك، أنشدني قبل أن أذبحك، فقال عبيد:

والله إن مت لمـا ضـرنـي                      وإن أعش ما عشت في واحده

 

صفحة : 2479

 

فقال المنذر: إنه لابد من الموت، ولو أن النعمان عرض لي في يوم بؤس لذبحته، فاختر إن شئت الأكحل، وإن شئت الأبجل، وإن شئت الوريد، فقال عبيد: ثلاث خصال كسحابات عاد واردها شر وراد، وحاديها شر حاد، ومعادها شر معاد، ولا خير فيه لمرتاد، وإن كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر، حتى إذا ماتت مفاصلي، وذهلت لها ذواهلي فشأنك وما تريد، فأمر المنذر بحاجته من الخمر، حتى إذا أخذت منه، وطابت نفسه، دعا به المنذر، ليقتله، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:

وخيرني ذو البؤس في يوم بـؤسـه                      خصالا أرى في كلها الموت قد برق

كما خيرت عاد من الـدهـر مـرة                      سحائب ما فيها لـذي خـيرة أنـق

سحائب ريح لـم تـوكـل بـبـلـدة                      فتتركها إلا كمـا لـيلة الـطـلـق فأمر به المنذر، فقصد، فلما مات غري بدمه الغريان.

طائي يفد على المنذر في يوم بؤسه فلم يزل كذلك حتى مر به رجل من طيء ، يقال له: حنظلة بن أبي عفراء، أو ابن أبي عفر، فقال له: أبيت اللعن، والله ما أتيتك زائرا، ولأهلي من خيرك مائرا فلا تكن ميرتهم قتلي، فقال: لابد من ذلك فاسأل حاجة أقضينها لك، فقال: تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي، وأحكم من أمرهم ما أريد، ثم أصير إليك، فأنفذ في حكمك، فقال: ومن ييكفل بك حتى تعود? فنظر في وجوه جلسائه، فعرف منهم شريك بن عمرو: أبا الحوفزان بن شريك، فأنشد يقول:

يا شريك يابن عمرو                      ما من الموت محاله

يا شريك يا بن عمرو                      يا أخا من لا أخا له

يا أخا شيبان فك الي                      وم رهنا قد أنـالـه

يا أخا كل مضـاف                      وحيا من لا حيا لـه

إن شيبـان قـبـيل                      أكرم الله رجـالـه

وأبوك الخير عمرو                      وشراحيل الحمالـه

رقياك اليوم في المج                      د وفي حسن المقالة شريك بن عمرو يضمن الطائي فوثب شريك، وقال: أبيت اللعن، يدي بيده، ودمي بدمه إن لم يعد إلى أجله، فأطلقه المنذر، فلما كان من القابل جلس في مجسله، ينتظر حنظلة أن يأتيه، فأبطأ عليه، فأمر بشريك، فقرب، ليقتله.

الطائي يفي بعهده فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم، فتأملوه، فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفنا متحنطا معه نادبته تندبه، وقد قامت نادبة شريك تندبه، فلما رآه المنذر عجب من وفائهما وكرمهما، فأطلقهما، وأبطل تلك السنة.

رواية أخرى لقصة مصرع عبيد أخبرني الحسن بن علي قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا علي بن الصباح، عن هشام بن الكلبي، قال: كان من حديث عبيد بن الأبرص وقتله أن المنذر بن ماء السماء بنى الغريين، فقيل له: ما تريد إليهما? وكان بناهما على قبري رجلين من بني أسد كانا نديميه، أحدهما خالد بن المضلل الفقعسي، والآخر عمرو بن مسعود، فقال: ما أنا بملك إن خالف الناس أمري، لا يمرن أحد من وفود العرب إلا بينهما، وكان له يومان في السنة يوم يسميه يوم النعيم، ويوم يسميه يوم البؤس، فإذا كان في يوم نعيمه أتي بأول من يطلع عليه، فحياه، وكساه، ونادمه يومه، وحمله، فإذا كان يوم بؤسه أتي بأول من يطلع عليه، فأعطاه رأس ظربان أسود، ثم أمر به فذبح وغري بدمه الغريان، فبينا هو جالس في يوم بؤسه إذ أشرف عليه عبيد، فقال لرجل كان معه: من هذا الشقي? فقال له: هذا عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر، فأتي به فقال له الرجل الذي كان معه: اتركه - أبيت اللعن - فإني أظن أن عنده من حسن القريض أفضل مما تدرك في قتله فاسمع منه، فإن سمعت حسنا استزدته، وإن لم يعجبك فما أقدرك على قتله. فإذا نزلت فادع به، قال: فنزل، وطعم وشرب، وبينه وبين الناس حجاب ستر يراهم منه ولا يرونه، فدعا بعبيد من وراء الستر، فقال له رديفه: هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد فقال: أتتك بحائن رجلاه، فأرسلها مثلا، فقال: ما ترى يا عبيد? قال: أرى الحوايا عليها المنايا. فقال: فهل قلت شيئا? فقال: حال الجريض دون القريض، فقال: أنشدني.

 

أقفر من أهله ملحوب فقال:

أقفر من أهله عبـيد                      فليس يبدي ولا يعيد

عنت له خطة نكود                      وحان منها له ورود فقال أنشدنا:

هي الخمر تكنى بأم الطلى                      كما الذئب يكنى أبا جعده

 

صفحة : 2480

 

وأبى أن ينشدهم شيئا مما أرادوا، فأمر به، فقتل.

خبر نديمي المنذر فأما خبر عمرو بن مسعود وخالد بن المضلل ومقتلهما فإنهما كانا نديمين للمنذر بن ماء السماء، فيما ذكره خالد بن كلثوم - فراجعاه بعض القول على سكره، فغضب، فأمر بقتلهما، وقيل: بل دفنهما حيين، فلما أصبح سأل عنهما، فأخبر خبرهما فندم على فعله، فأمر بإبل، فنحرت على قبريهما، وغري بدمائها قبراهما إعظاما لهما وحزن عليهما، وبنى الغريين فوق قبريهما، وأمر فيهما بما قدمت ذكره من أخبارهما، فقالت نادبة الأسديين:

ألا بكر الناعي بخير بنـي أسـد                      بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد وقال بعض شعراء بني أسد يرثي خالد بن المضلل وعمرو بن مسعود، وفيه غناء: صوت

يا قبر بين بيوت آل محرق                      جادت عليك رواعد وبروق

أما البكاء فقل عنك كثـيره                      ولئن بكيت فبالبكاء خلـيق الغناء لابن سريج ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى من جامع أغانيه.

ومما يغني به أيضا من شعر عبيد: صوت

طاف الخيال علينا ليلة الـوادي                      من أم عمرو ولم يلمم لميعـاد

أني اهتديت لركب طال سيرهم                      في سبسب بين دكداك وأعقـاد

اذهب إليك فإني من بنـي أسـد                      أهل القباب وأهل الجود والنادي الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفيه ثقيل أول بالوسطى، ذكر الهشامي أنه لأبي زكار الأعمى، وذكر حبش أنه لابن سريج.

وفي هذه القصيدة يقول: يخاطب حجر بن الحارث أبا امرىء القيس، وكان حجر يتوعده في شيء بلغه عنه، ثم استصلحه فقال يخاطبه:

أبلغ أبا كرب عنـي وإخـوتـه                      قولا سيذهب غورا بعد إنجـاد

لا أعرفنك بعد الموت تندبـنـي                      وفي حياتي ما زودتنـي زادي

إن أمامك يوما أنت مـدركـه                      لا حاضر مفلت منه ولا بـادي

فانظر إلى ظل ملك أنت تاركه                      هل ترسين أواخـيه بـأوتـاد

الخير يبقى وإن طال الزمان به                      والشر أخبث ما أوعيت من زاد عمر يبكي خالد بن الوليد بعد موته: أخبرنا عيسى بن الحسين، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخزاعي، عن المدائني، عن أبي بكر الهذلي قال: سمع عمر بن الخطاب نساء بني مخزوم يبكين على خالد بن الوليد، فبكى، وقال: ليقل نساء بني مخزوم في أبي سليمان ما شئن، فإنهن لا يكذبن، وعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي، فقال له طلحة بن عبيد الله: إنك وإياه لكما قال عبيد بن الأبرص:

لا ألفينك بعد الموت تندبنـي                      وفي حياتي ما زودتني زادي كلب في ضيافة كلب: أخبرني عمي، قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد: قال: حدثني محمد بن عبد الله العبدي، قال: حدثني سيف الكاتب، قال:

وليت ولاية، فمررت بصديق لي في بعض المنازل، فنزلت به، قال: فنلنا من الطعام والشراب، ثم غلب علينا النبيذ، فنمنا، فانتبهت من نومي، فإذا أنا بكلب قد دخل على كلب الرجل فجعل يبش به ويسلم عليه لا أنكر من كلامهما شيئا، ثم جعل الكلب الداخل عليه يخبره عن طريقه بطول سفره، وقال له: هل عندك شيء تطعمنيه? قال: نعم، قد بقي لهم في موضع كذا وكذا طعام، وليس عليه شيء، فذهبا إليه، فكأني أسمع ولوغهما في الإناء حتى أكلا ما كان هناك فيه، ثم سأله نبيذا، فقال: نعم، لهم نبيذ في إناء آخر ليس له غطاء، فذهبا إليه فشربا. الكلاب تتغنى بشعره: ثم قال له: هل تطربني بشيء? قال: إي وعيشك، صوت كان أبو يزيد يغنيه، فيجيده، ثم غناه في شعر عبيد بن الأبرص.

صوت

طاف الخيال علينا ليلة الـوادي                      لآل أسماء لم يلمم لـمـيعـاد

أنى اهتديت لركب طال سيرهم                      في سبسب بين دكداك وأعقاد قال: فلم يزل يغنيه هذا الصوت، ويشربان مليا، حتى فني ذلك النبيذ، ثم خرج الكلب الداخل، فخفت والله على نفسي أن أذكر ذلك لصاحب المنزل، فأمسكت، وما أذكر أني سمعت أحسن من ذلك الغناء.

ومما يغنى فيه من شعره قوله: صوت

لمن جمال قبيل الصبح مزمومه                      ميممات بلادا غير معلـومـه

فيهن هند وقد هام الفؤاد بـهـا                      بيضاء آنسة بالحسن موسومـه

 

صفحة : 2481

 

الغناء لابن سريج رمل عن يونس والهشامي وحبش.

ومنها قوله: صوت

در در الشباب والشعر الأس                      ود والضامرات تحت الرحال

فالخناذيذ كالقداح من الـشـو                      خط يحملن شكة الأبـطـال

ليس رسم على الدفين بـبـال                      فلوي ذروة فجنبنـي أثـال

تلك عرسي قد عيرتني خلالي                      ألـبـين تـريد أم لـدلال? الغناء لطويس خفيف رمل لا شك فيه، وفيه ثقيل أول، ذكر علي بن يحيى أنه لطويس أيضا، ووجدته في صنعة عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر، وفي الثالث والرابع من الأبيات لدلال خفيف رمل بالبنصر، عن عبد الله بن موسى والهشامي.

 

صوت

 

لمن الـديار كـأنـهـا لـم تـحـلـل                      بجنوب أسنمة فقـف الـعـنـصـل

درست معالمها فبـاقـي رسـمـهـا                      خلق كعنوان الكـتـاب الـمـحـول

دار لسـعـدى إذ سـعـاد كـأنـهـا                      رشأ غضيض الطرف رخص المفصل عروضه من الكامل، جنوب أسنمة: أودية معروفة. والقف: الكثيب من الرمل ليس بالمشرف ولا الممتد. والعنصل: بصل معروف.

الشعر لربيعة بن مقروم الضبي، والغناء فيه لسياط هزج بالبنصر عن الهشامي.

 

أخبار ربيعة بن مقروم ونسبه

اسمه ونسبه: هو ربيعة بن مقروم الضبي بن قيس بن جابر بن خالد بن عمرو بن عبد الله بن السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.

شاعر إسلامي مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، وكان ممن أصفق عليه كسرى، ثم عاش في الإسلام زمانا.

يهجو ضابئ بن الحارث: قال أبو عمرو الشيباني: كان ربيعة بن مقروم باع عجرد بن عبد عمرو بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم - لقحة إلى أجل، فلما بايعه وجد ابن مقروم ضابئ بن الحارث عند عجرد، وقد نهاه عن إنظاره بالثمن، فقال ابن مقروم يعرض بضابئ إنه أعان عليه وكان ضلعه معه:

أعجر ابن المليحة إن همي                      إذا ما لج عذالي لـعـان قوله: لعان أي عان من العناء، عناني الشيء يعنيني، وهو لي عان.

 

يرى ما لا أرى ويقول قـولا                      وليس على الأمور بمستعـان

ويحلف عند صاحبـه لـشـاة                      أحب إلي من تلك الثـمـان

وحامل ضب ضغن لم يضرني                      بعيد قلبه حلـو الـلـسـان

ولو أني أشاء نقمـت مـنـه                      بشغب من لسـان تـيحـان

ولكني وصلت الحبـل مـنـه                      مواصلة بحبـل أبـي بـيان

ترفع في بني قطن وحـلـت                      بيوت المجد يبنيهـن بـانـي يعني حلت بنو قطن بيوت المجد.

 

وضمرة إن ضمرة خير جار                      إلى قطن بأسبـاب مـتـان

هجان الحي كالذهب المصفى                      صبيحة ديمة يجنـيه جـان قال أبو عمرو: الذهب في معدنه إذا جاءه المطر ليلا لاح من غد عند طلوع الشمس فيتتبع ويؤخذ.

يمدح مخلصه من الأسر قال أبو عمرو: وأسر ربيعة بن مقروم واستيق ماله، فتخلصه مسعود بن سالم بن أبي سلمى بن ذبيان بن عامر بن ثعلبة بن ذؤيب بن السيد، فقال ربيعة بن مقروم فيه قوله:

كفاني أبو الأشوس المنكرات                      كفاه الإلـه الـذي يحـذر

أعز من السيد في منصـب                      إليه العزازة والمـفـخـر وقال يمدحه أيضا:

بان الخليط فأمسى القلب معمودا                      وأخلفتك ابنة الحر المـواعـيدا

كأنها ظبية بكـر أطـاع لـهـا                      من حومل تلعات الحي أو أودا

قامت تريك غداة البين منسـدلا                      تجللت فوق متنيها العـنـاقـيدا

وباردا طيبا عـذبـا مـذاقـتـه                      شربته مزجا بالظلم مشـهـودا

وجسرة أجد تدمي مناسـمـهـا                      أعملتها بي حتى تقطع الـبـيدا

كلفتها، فأت حتما تكـلـفـهـا                      ظهيرة كأجيج النار صـيخـودا

في مهمة قذف يخشى الهلاك به                      أصداؤه لا تني بالليل تـغـريدا

لما تشكت إلي الأين قلت لهـا:                      لا تستريحن ما لم ألق مسعـودا

ما لم ألاق أمرأ جزلا مواهبـه                      رحب الفناء كريم الفعل محمودا

وقد سمعت بقوم يحمدون فـلـم                      اسمع بمثلك لا حلما ولا جـودا

 

صفحة : 2482

 

 

ولا عفافا ولا صبرا لنـائبة                      ولا أخبر عنك الباطل السيدا السيد: قبيل الممدوح من آل ضبة.

 

لا حـلـمـك الـحـلـم مـوجـود عــلـــيه، ولا                      يلـفـى عـطـاؤك فـي الأقـوام مـنـــكـــودا

وقد سبقت لغايات الجواد وقد أشبهت آباءك الشم الصناديدا

هذا ثنائي بما أوليت من حسن                      لازلـت بـرا قـرير الـعـين مــحـــســـودا يتقاضى دينه بشعر فيقضى قال أبو عمرو: كان لضابئ بن الحارث البرجمي، على عجرد بن عبد عمرو دين بايعه به نعما، واستخار الله في ذلك، وبايعه ربيعة بن مقروم، ولم يستخر الله تعالى، ثم خافه ضابئ فاستجار بربيعة بن مقروم في مطالبته إياه، فضمن له جواره، فوفى ع8جرد لضابئ، ولم في لربيعة، فقال ربيعة:

أعجرد إني من أماني بـاطـل                      وقول غدا شيخ لـذاك سـؤوم

وإن اختلافي نصف حول محرم                      إليكم بني هند علـي عـظـيم

فلا أعرفني بعد حول مـحـرم                      وقول خلا يشكوننـي فـألـوم

ويلتمسوا ودي وعطفي بعدمـا                      تناشد قـولـي وائل وتـمـيم

وإن لم يكن إلا اختلافي إليكـم                      فإني امرؤ عرضى علي كريم

فلا تفسدوا ما كان بيني وبينكـم                      بني قطن إن المـلـيم مـلـيم فاجتمعت عشيرة عجرد عليه، وأخذوه بإعطاء ربيعة ماله، فأعطاه إياه.

حماد الراوية يثرى على حسابه: أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن الهيثم بن عدي، عن حماد الراوية، قال: دخلت على الوليد بن يزيد، وهو مصطبح، وبين يديه معبد، ومالك، وابن عائشة وأبو كامل، وحكم الوادي، وعمر الوادي يغنونه، وعلى رأسه وصيفة تسقيه، لم أر مثلها تماما وكمالا وجمالا. فقال لي: يا حماد، أمرت هؤلاء أن يغنوا صوتا يوافق صفة هذه الوصيفة، وجعلتها لمن وافق صفتها نحلة. فما أتى أحد منهم بشيء، فأنشدني أنت ما يوافق صفتها، وهي لك؛ فأنشدته قول ربيعة بن مقروم الضبي:

دار لسعـدى إذ سـعـاد كـأنـهـا                      رشأ غرير الطرف رخص المفصل

شماء واضحة العـوارض طـفـلة                      كالبدر من خلل السحاب المنجـلـي

وكأنما ريح القرنـفـل نـشـرهـا                      أو حنوة خلطت خزامى حـومـل

وكأن فاها بعدما طـرق الـكـرى                      كأس تصفق بالرحيق السـلـسـل

لو أنها عرضت لأشـمـط راهـب                      في رأس مشرفة الذرا متـبـتـل

جار سـاعـات الـنـيام لـربــه                      حتى تخدد لحمه مـسـتـعـمـل

لصبا لبهجتها وحـسـن حـديثـهـا                      ولهم من نـامـوسـه بـتـنـزل فقال الوليد: أصبت وصفها، فاخترها أو ألف دينار، اخترت الألف الدينار، فأمرها، فدخلت إلى حرمه وأخذت المال.

وهذه القصيدة من فاخر الشعر وجيده وحسنه، فمن مختارها ونادرها قوله: صوت

بل إن ترى شمطا تفرع لمتـي                      وحنا قناتي وارتقى في مسحلي

ودلفت من كبر كأني خـاتـل                      قنصا ومن يدبب لصيد يختـل

فلقد أرى حسن القناة قويمـهـا                      كالنصل أخلصه جلاء الصيقل

أزمان إذ أنا والجديد إلى بلـى                      تصبي الغواني ميعتي وتنقلـي غنى بذلك معبد ثقيلا أول:

ولقد شهدت الخيل يوم طـرادهـا                      بسليم أووظفة القـوائم هـيكـل

مقاذف شنج النساعبـل الـشـوى                      سباق أندية الـجـياد عـمـيثـل

لولا أكفكفـه لـكـان إذا جـرى                      منه العزيم يدق فأس المسـحـل

وإذا جرى منه الـحـمـيم رأيتـه                      يهوي بفارسـه هـوي الأجـدل

وإذا تعلل بـالـسـياط جـيادهـا                      أعطـاك نـائيه ولـم يتـعـلـل

ودعوا: نزال فكـنـت أول نـازل                      وعلام أركـبـه إذا لـم أنـزل?

ولقد جمعت المال من جمع امرىء                      ورفعت نفسي عن لئيم المـأكـل

ودخلت أبنية الملـوك عـلـيهـم                      ولشر قول المرء ما لـم يفـعـل

ولرب ذي حنق علـي كـأنـمـا                      تغلي عداوة صدره كالمـرجـل

أزجيته عني فأبـصـر قـصـده                      وكويته فوق النواظر مـن عـل

 

صفحة : 2483

 

 

وأخي محافظة عصى عذالتـه                      وأطاع لذته مـعـم مـخـول

هش يراح إلى الندى نبهـتـه                      والصبح ساطع لونه لم ينجـل

فأتيت حانوتا به فصبـحـتـه                      من عاتق بمزاجها لم تقـتـل

صهباء إلياسية أغـلـى بـهـا                      يسر كريم الخيم غير مبـخـل

ومعرس عرض الرداء عرسته                      من بعد آخر مثله في المنـزل

ولقد أصبت من المعيشة لينهـا                      وأصابني منه الزمان بكلكـل

فإذا وذاك كأنه مـا لـم يكـن                      إلا تذكره لمـن لـم يجـهـل

ولقد أتت مائة علـي أعـدهـا                      حولا فحولا لا بلاها مبـتـل

فإذا الشباب كمبذل أنـضـيتـه                      والدهر يبلي كل جدة مـبـذل

هلا سألت وخبر قوم عنـدهـم                      وشفاء غيك خابرا أن تسألـي

هل نكرم الأضياف إن نزلوا بنا                      ونسود بالمعروف غير تنحل?

ونحل بالثغر المخـوف عـدوه                      ونرد حال العارض المتهلـل

ونعين غارمنا ونمنع جـارنـا                      ونزين مولى ذكرنا في المحفل

وإذا امرؤ منا حبـا فـكـأنـه                      مما يخاف على مناكب يذبـل

ومتى تقم عند اجتماع عشـيرة                      خطباؤنا بين العشيرة يفصـل

ويرى العدو لنا دروءا صعـبة                      عند النجوم منيعة الـمـتـأول

وإذا الحمالة أثقلت حمـالـهـا                      فعلى سوائمنا ثقيل المحـمـل

ونحق في أموالنا لحـلـيفـنـا                      حقا يبوء بـه وإن لـم يسـأل وهذه جملة جمعت فيها أغاني من أشعار اليهود، إذ كانت نسبتهم وأخبارهم مختلطة، فمن ذلك:

صوت

 

أنى تذكر زينـب الـقـلـب                      وطلاب وصل عزيزة صعب

ما روضة جاد الربيع لـهـا                      موشية ما حولـهـا جـدب

بألذ منهـا إذ تـقـول لـنـا                      سيرا قليلا يلحق الـركـب الشعر لأوس بن ذبي القرظي، والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وزعم عمرو أن فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى لمالك، وأن فيه صنعة لابن محرز، ولم يجنسها.

 

أخبار أوس ونسب اليهود

النازلين بيثرب وأخبارهم

أوس بن ذبي اليهودي رجل من بني قريظة، وبنو قريظة وبنو النضير يقال لهم: الكاهنان، وهم من ولد الكاهن ابن هارون بن عمران أخي موسى بن عمران صلى الله على محمد وآله وعليهما، وكانوا نزولا بنواحي يثرب بعد وفاة موسى ابن عمران عليه السلام، وقبل تفرق الأزد عند انفجار سيل العرم ونزول الأوس والخزرج بيثرب.

العمالقة في المدينة

أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش، عن جعفر بن محمد العاصي عن أبي المنهال عيينة بن المنهال المهلبي، عن أبي سليمان: جعفر بن سعد، عن العماري، قال: كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل قوما من الأمم الماضية، يقال لهم: العماليق، وكانوا قد تفرقوا في البلاد، وكانوا أهل عز وبغي شديد، فكان ساكني المدينة منهم بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق، وكان ملك الحجاز منهم رجل يقال له: الأرقم، ينزل ما بين تيماء إلى فدك، وكانوا قد ملئوا المدينة، ولهم بها نخل كثير وزروع، وكان موسى بن عمران عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة من أهل القرى يغزونهم، فبعث موسى عليه السلام إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل، وأمرهم أن يقتلوهم جميعا إذا ظهروا عليهم، ولا يستبقوا منهم أحدا، فقدم الجيش الحجاز، فأظهرهم الله عز وجل على العماليق، فقتلوهم أجمعين إلا ابنا للأرقم؛ فإنه كان وضيئا جميلا، فضنوا به على القتل، وقالوا: نذهب به إلى موسى بن عمران، فيرى فيه رأيه، فرجعوا إلى الشام، فوجدوا موسى - عليه السلام - قد توفي، فقالت لهم بنو إسرائيل: ما صنعتم? فقالوا: أظهرنا الله جل وعز عليهم، فقتلناهم، ولم يبق منهم أحد غير غلام كان شابا جميلا، فنفسنا به عن القتل، وقلنا: نأتي به موسى عليه السلام، فيرى فيه رأيه، فقالوا لهم: هذه معصية: قد أمرتم ألا تستبقوا منهم أحدا، والله لا تدخلون علينا الشام أبدا.

أول استيطان اليهود المدينة

 

 

صفحة : 2484

 

فلما منعوا ذلك قالوا: ما كان خيرا لنا من منازل القوم الذين يقتلناهم بالحجاز؛ نرجع إليهم، فنقيم بها، فرجعوا على حاميتهم، حتى قدموا المدينة، فنزلوها، وكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود المدينة، فانتشروا في نواحي المدينة كلها إلى العالية، فاتخذوا بها الآطام والأموال والمزارع، ولبثوا بالمدينة زمانا طويلا.

بنو قريظة النضير يلحقون بإخوانهم

ثم ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعا بالشام، فوطئوهم، وقتلوهم، ونكحوا نساءهم فخرج بنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل هاربين منهم إلى من بالحجاز من بني إسرائيل لما غلبتهم الروم على الشام، فلما فصلوا عنها بأهليهم بعث ملك الروم في طلبهم؛ ليردهم، فأعجزوه، وكان ما بين الشام والحجاز مفاوز، فلم بلغ طلب الروم التمر انقطعت أعناقهم عطشا، فماتوا، وسمي الموضع تمر الروم، فهو اسمه إلى اليوم، فلما قدم بنو النضير وبنو قريظة وبهدل المدينة نزلوا الغابة، فوجدوها وبية فكرهوها، وبعثوا رائدا أمروه أن يلتمس منزلا سواها، فخرج حتى أتى العالية، وهي بطحان ومهزور: واديان من حرة على تلاع أرض عذبة، بها مياه عذبة تنبت حر الشجر، فرجع إليهم، فقال: قد وجدت لكم بلدا طيبا نزها على حرة يصب فيها واديان على تلاع عذبة ومدرة طيبة في متأخر الحرة ومدافع الشرج، قال: فتحول القوم إليها من منزلهم ذلك، فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان، وكانت لهم إبل نواعم، فاتخذوها أموالا، ونزلت بنو النضير ومن معهم على بطحان، وكانت لهم إبل نواعم، فاتخذوها أموالا، ونزلت بنو قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور، فكانت لهم تلاعه وما سقي من بعاث وسموات، فكان ممن يسكن المدينة - حين نزلها الأوس والخزرج - من قبائل بني إسرائيل بنو عكرمة، وبنو ثعلبة، وبنو محمر، وبنو زغورا، وبنو فينقاع، وبنو زيد، وبنو النضير، وبنو قريظة، وبنو بهدل، وبنو عوف، وبنو الفصيص، فكان يسكن يثرب جماعة من أبناء اليهود، فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود، وكان بنو مرانة في موضع بني حارثة، ولهم كان الأطم الذي يقال له: الخال.

بطون من العرب بالمدينة

وكان معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب منهم: بنو الحرمان: حي من اليمن، وبنو مرثد حي من بلي، وبنو أنيف من بلي أيضا، وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني الحارث بن بهثة، وبنو الشظية: حي من غسان، وكان يقال لبني قريظة وبني النضير خاصة من اليهود: الكاهنان، نسبوا بذلك إلى جدهم الذي يقال له الكاهن، كما يقال: العمران والحسنان والقمران، قال كعب بن سعد القرظي:

بالكاهنين قررتم في دياركم                      جما ثواكم ومن أجلاكم جدبا وقال العباس بن مرداس السلمي يرد على خوات بن جبير لما هجاهم:

هجوت صريح الكاهنين وفيكم                      لهم نعم كانت مدى الدهر ترتبا  عرب آخرون يلحقون بإخوانهم

فلما أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب، وهم الأزد، قام رائدهم فقال: من كان ذا جمل مفن ووطب مدن وقربة وشن، فلينقلب عن بقرات النعم، فهذا اليوم يوم هم وليلحق بالثنى من شن - قال وهو بالسراة - فكان الذين نزلوه أزد شنوءة، ثم قال لهم: ومن كان ذا فاقة وفقر، وصبر على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر، فكان الذين سكنوه خزاعة، ثم قال لهم: من كان منكم يريد الخمر والخمير، والأمر والتأمير، والديباج والحرير، فليلحق ببصري والحفير، وهي من أرض الشام، فكان الذين سكنوه غسان ثم قال لهم: ومن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد، ومزاد جديد، فليلحق بقصر عمان الجديد، فكان الذين نزلوه أزد عمان، ثم قال: ومن كان يريد الراسخات في الوحل، المطمعات في المحل، فليلحق بيثرب ذات النخل. فكان الذين نزلوها الأوس والخزرج في منازلهم التي نزلوها بالمدينة في جهد وضيق في المعاش، ليسوا بأصحاب إبل ولا شاة؛ لأن المدينة ليست بلاد نعم، وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع، وليس للرجل منهم إلا الأعذاق اليسيرة، والمزرعة يستخرجها من أرض موات، والأموال لليهود، فلبثت الأوس والخزرج بذلك حينا.

ابو جبيلة يفتك باليهود

 

 

صفحة : 2485

 

ثم إن مالك بن العجلان وفد إلى أبي جبيلة الغساني وهو يومئذ ملك غسان، فسأله عن قومه وعن منزلهم فأخبره بحالهم؛ وضيق معاشهم، فقال له أبو جبيلة: والله ما نزل قوم منا بلدا قط إلا غلبوا أهله عليه، فما بالكم? ثم أمره بالمضي إلى قومه، وقال له: أعلمهم أني سائر إليهم، فرجع مالك بن العجلان، فأخبرهم بأمر أبي جبيلة؛ ثم قال لليهود: إن الملك يريد زيارتكم فأعدوا نزلا فأعدوه، وأقبل أبو جبيلة سائرا من الشام في جمع كثيف، حتى قدم المدينة، فنزل بذي حرض، ثم أرسل إلى الأوس والخزرج، فبذرك لهم الذي قدم له، وأجمع أن يمكر باليهود حتى يقتل رؤوسهم وأشرافهم، وخشي إن لم يمكر بهم أن يتحصنوا في آطامهم، فيمنعوا منه حتى يطول حصاره إياهم، فأمر ببنيان حائر واسع، فبني، ثم أرسل إلى اليهود: أن أبا جبيلة الملك قد أحب أن تأتوه، فلم يبق وجه من وجوه القوم إلا أتاه، وجعل الرجل يأتي معه بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم، فلما اجتمعوا ببابه أمر رجالا من جنده أن يدخلوا الحائر، ويدخلوهم رجلا رجلا، فلم يزل الحجاب يأذنون لهم كذلك، ويقتلهم الجند الذين في الحائر، حتى أتوا على آخرهم.

سارة القريظية ترثي قومها

فقالت سارة القريظية ترثي من قتل، منهم أبو جبيلة، تقول:

بنفسي أمة لم تغـن شـيئا                      بذي حرض تعفيها الرياح

كهول من قريظة أتلفتهـا                      سيوف الخزرجية والرماح

زرئنا والرزية ذات ثـقـل                      يمر لأهلها الماء القـراح

ولو أربو بأمرهم لجـالـت                      هنالك دونهم جـأوا رداح  الرمق يمدح أبا جبيلة

وقال الرمق، وهو عبيد بن سالم بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن الخزرج يمدح أبا جبيلة الغساني:

لم يقض دينك في الحسـا                      ن وقد غنيت وقد غنـينـا

الراشقات الـمـرشـقـا                      ت الجازيات بما جـزينـا

أمثال غـزلان الـصـرا                      ئم يأتـزرن ويرتـدينــا

الـريط والــديبـــاج                      والزرد المضاعف والبرينا

وأبو جـبـيلة خـير مـن                      يمشي وأوفاهـم يمـينـا

وأبـره بـرا وأعـــل                      مه بعلم الصـالـحـينـا

أبـقـت لــنـــا الأيام                      والحرب المهمة تعترينـا

كبشـا لـنـا ذكـرا يفـل                      حسامه الذكر السـنـينـا

ومعاقـلا شـمـا وأسـي                      افا يقمـن وينـحـنـينـا

ومـحـلة زوراء تـــر                      جف بالرجال المصلتينـا  بقية خبر أبي جبيلة

فلما أنشدوا أبا جبيلة ما قال الرمق، أرسل إليه، فجيء به، وكان رجلا ضئيلا غير وضئ، فلما رآه قال:  عسل طيب ووعاء سوء  ، فذهبت مثلا، وقال للأوس والخزرج: إن لم تغلبوا على هذه البلاد بعد من قتلت من أشراف أهلها فلا خير فيكم، ثم رحل إلى الشام.

وقال الصامت بن أصرم النوفلي يذكر قتل أبي جبيلة اليهود:

سائل قريظة من يقسم سبـيهـا                      يوم العريض ومن أفاء المغنما?

جاءتهم الملحاء يخفق ظـلـهـا                      وكتيبة خشناء تدعو أسـلـمـا

عمي الذي جلب الهمام لقومـه                      حتى أحل على اليهود الصيلمـا يعني بقوله:  من يقسم سبيها  نسوة سباهن أبو جبيلة من بني قريظة، وكان رآهن فأعجبنه، وأعطى مالك بن العجلان منهن امرأة.

مالك بن العجلان يقتفي أثر أبي جبيلة قال أبو المنهال أحد بني المعلى: إنهم أقاموا زمنا بعدما صنع، ويهود تعترض عليهم، وتناوئهم، فقال مالك ابن العجلان لقومه: والله ما أثخنا يهود غلبة كما نريد، فهل لكم أن أصنع لكم طعاما، ثم أرسل في مائة من أشراف من بقي من اليهود، فإذا جاءوني فاقتلوهم جميعا، فقالوا: نفعل، فلما جاءهم رسول مالك قالوا: والله لا نأتيهم أبدا، وقد قتل أبو جبيلة منا من قتل، فقال لهم مالك: إن ذلك كان علىلا غير هوى منا، وإنما أردنا أن نمحوه، وتعلموا حالكم عندنا، فأجابوه، فجعل كلما دخل عليه رجل منهم أمر به مالك فقتل، حتى قتل منهم بضعة وثمانين رجلا منهم أقبل حتى قام على باب مالك، فتسمع فلم يسمع صوتا فقال: أرى أسرع ورد وأبعد صدر، فرجع وحذر أصحابه الذين بقوا، فلم يأت منهم أحد، فقال رجل من اليهود لمالك بن العجلان:

 

صفحة : 2486

 

 

فسفهت قيلة أحـلامـهـا                      ففيمن بقيت وفيمن تسود? فقال مالك:

فإني امرؤ من بنـي سـالـم                      بن عوف وأنت امرو من يهود قال: وصورت اليهود مالكا في بيعهم وكنائسهمن فكانوا يلعنونه كلما دخلوها، فقال مالك بن العجلان في ذلك قوله:

تحامى اليهود بتلعانهـا                      تحامي الحمير بأبوالها

فماذا علي بأن يلعنـوا                      وتأتي المنايا بأذلالهـا  اليهود يذلون للعرب

قال: فلما قتل مالك من يهود من قتل ذلوا؛ وقل امتناعهم؛ وخافوا خوفا شديدا؛ وجعلوا كلما هاجهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم إلى بعض، كما كانوا يفعلون قبل ذلك، ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم فيقول: إنما نحن جيرانكم ومواليكم، فكان كل قوم من يهود قد لجئوا إلى بطن من الأوس والخزرج، يتعززون بهم.

يهودية تعتنق الإسلام

وذكر أبو عمر والشيباني أن أوس بن ذبي القرظي كانت له امرأة من بني قريظة أسلمت وفارقته، ثم نازعتها نفسها إليه، فأتته، وجعلت ترغبه في الإسلام، فقال فيها:

دعتني إلى الإسلام يوم لقيتهـا                      فقلت لها: لا بل تعالي تهودي

فنحن على توراة موسى ودينه                      ونعم لعمري الدين دين محمد

كلانا يرى أن الرسـالة دينـه                      ومن يهد أبواب المراشد يرشد  ومن الأغاني في أشعار اليهود

صوت

 

أعاذلتي ألا لا تـعـذلـينـي                      فكم من أمر عاذلة عصـيت

دعيني وارشدي إن كنت أغوى                      ولا تغوى زعمت كما غويت

أعاذل قد أطلت اللوم حـتـى                      لو أني منته لقد انـتـهـيت

وحتى لو يكون فتـى أنـاس                      بكى من عذل عاذلة بـكـيت

وصفراء المعاصم قد دعتنـي                      إلى وصل فقلت لها: أبـيت

وزق قد جررت إلى الندامـى                      وزق قد شربت وقد سقـيت الشعر للسموءل بن عاديا - فيما رواه السكري عن الطوسي - ورواه أبو خليفة عن محمد بن سلام، والغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق في الأول والثاني والرابع والخامس من الأبيات؛ وزعم ابن المكي أنه لمعبد، وزعم عمرو ابن بانة أنه لمالك، ولد حمان أيضا في الأول والثاني والخامس والسادس رمل بالوسطى وزعم ابن المكي أن هذا الرمل لابن سريج، وفي الأول والثاني والسادس رمل بالوسطى، لأبي عبيد مولى فائد ثاني ثقيل عن يحيى المكي، وزعم الهشامي أن الرمل لعبد العزيز الدفاف.

أخبار السموءل ونسبه

نسبه هو المسوءل بن عريض بن عاديا، بن حباء، ذكر ذلك أبو خليفة عن محمد بن سلام والسكري عن الطوسي وابن حبيب، وذكر أن الناس يدرجون عريضا في النسب، وينسبونه إلى عاديا جده، وقال عمر بن شبة: هو المسوءل بن عاديا، ولم يذكر عريضا.

وحكى عبد الله بن أبي سعد عن دارم بن عقال - وهو من ولد السموءل - أن عاديا بن رفاعة بن ثعلبة بن كعب ابن عمرو مزبقيا بن عامر ماء السماء، وهذا عندي محال؛ لأن الأعشى أدرك شريح بن السموءل وأدرك الإسلام، وعمرو مزيقيا قديم، لا يجوز أن يكون بينه وبين السموءل ثلاثة آباء ولا عشرة بل أكثر، والله أعلم.

من مفاخر السموءل وقد قيل: إن أمه كانت من غسان، وكلهم قالوا: إنه كان صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء المشهور بالوفاء، وقيل: بل هو من ولد الكاهن بن هارون بن عمران، وكان هذا الحصن لجده عاديا، واحتفر فيه بئرا روية عذبة، وقد ذكرته الشعراء في أشعارها، قال السموءل:

فبالأبلق الفرد بيتـي بـه                      وبيت النضير سوى الأبلق وقال السموءل يذكر بناء جده الحصن:

بنى لي عاديا حصنا حصينا                      وماء كلما شئت استقـيت وكانت العرب تنزل به، فيضيفها، وتمتار من حصنه، وتقيم هناك سوقا.

وبه يضرب المثل في الوفاء لإسلامه ابنه حتى قتل، ولم يخن أمانته في أدراع أودعها.

امرؤ القيس يفد عليه

 

صفحة : 2487

 

وكان السبب في ذلك - فيما ذكر لنا محمد بن السائب الكلبي - أن امرأ القيس بن حجر لما سار إلى الشام يريد قيصر نزل على السموءل بن عاديا يحصنه الأبلق بعد إيقاعه ببني كنانة على أنهم بنو أسد وكراهة أصحابه لفعله، وتفرقهم عنه، حتى بقي وحده، واحتاج إلى الهرب، فطلبه المنذر بن ماء السماء، ووجه في طلبه جيوشا من إياد وبهراء وتنوخ وجيشا من الأساورة أمده بهم أنوشروان، وخذلته حمير، وتفرقوا عنه: فلجأ إلى السموءل ومعه أدراع كانت لأبيه خمسة: الفضفاضة، والضافية، والمحصنة والخريق، وأم الذيول، وكانت الملوك من بني آكل المرار يتوارثونها ملك عن ملك، ومعه بنته هند، وابن عمه يزيد بن الحارث بن معاوية بن الحارث، وسلاح ومال كان بقي معه، ورجل من بني فزارة يقال له: الربيع بن ضبع شاعر، فقال له الفزاري: قل في السموءل شعرا تمدحه به، فإن الشعر يعجبه وأنشده الربيع شعرا مدحه به وهو قوله:

ولقد أتيت بني المصاص مفاخرا                      وإلى السموءل زرته بالأبلـق

فأتيت أفضل من تحمل حـاجة                      إن جئته في غارم أو مرهـق

عرفت له الأقوام كل فـضـيلة                      وحوى المكارم سابقا لم يسبـق قال: فقال امرؤ القيس فيه قصيدته:

طرقتك هند بعد طول تجنب                      وهنا ولم تك قبل ذلك تطرق قال: وقال الفزاري: إن السموءل يمنع منك حتى يرى ذات عينك، وهو في حصن حصين ومال كثير، فقدم به على السموءل، وعرفه إياه، وأنشداه الشعر، فعرف لهما حقهما، وضرب على هند قبة من أدم، وأنزل القوم في مجلس له براح، فكانت عنده ما شاء الله.

امرؤ القيس يستودعه ودائعه ويرحل ثم إن امرأ القيس سأله أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أن يوصله إلى قيصر، ففعل، واستصحب معه رجلا يدله على الطريق، وأودع بنيه وماله وأدراعه السموءل، ورحل إلى الشام، وخلف ابن عمه يزيد بن الحارث مع ابنته هند، قال: ونزل الحارث بن ظالم في بعض غاراته بالأبلق؛ ويقال: بل الحارث بن أبي شمر الغساني؛ ويقال: بل كان المنذر وجه بالحارث بن ظالم في خيل، وأمره بأخذ مال امرىء القيس من السموءل.

يضحي بابنه في سبيل الوفاء فلما نزل به تحصن منه، وكان له ابن قد يفع وخرج إلى قنص له، فلما رجع أخذه الحارث بن ظالم، ثم قال للسموءل: أتعرف هذا? قال: نعم، هذا ابني، قال: أفتسلم ما قبلك أم أقتله? قال: شأنك به، فلست أخفر ذمتي، ولا أسلم مال جاري، فضرب الحارث وسط الغلام، فقطعه قطعتين، وانصرف عنه؛ فقال السموءل في ذلك

وفيت بأدرع الكندي إنـي                      إذا ما ذم أقـوام وفـيت

وأوصى عاديا يومـا بـألا                      تهدم يا سموءل ما بنـيت

بنى لي عاديا حصنا حصينا                      وماء كلما شئت استقـيت الأعشى يستجير بابنه فيجيره وقال الأعشى يمدح السموءل ويستجير بابنه شريح بن السموءل من رجل كلبي كان الأعشى هجاه، ثم ظفر به، فأسره، وهو لا يعرفه، فنزل بشريح بن السموءل، وأحسن ضيافته، ومر بالأسرى، فناداه الأعشى:

شريح لا تسلمني اليوم إذا علـقـت                      حبالك اليوم بعد القيد أظـفـاري

قد سرت ما بين بلقاء إلـى عـدن                      وطال في العجم تكراري وتسياري

فكان أكرمهم عهـدا وأوثـقـهـم                      عقدا أبوك بعرف غـير إنـكـار

كالغيث ما استمطروه جاد وابـلـه                      وفي الشدائد كالمستأسد الضـاري

كن كالسموءل إذ طاف الهمام بـه                      في جحفل كسواد اللـيل جـرار

إذ سامه خطتي خسف فقـال لـه:                      قل ما تشاشء فإني سامـع حـار

فقال: غدر وثكل أنت بـينـهـمـا                      فاختر، وما فيهما حظ لمخـتـار

فشك غير طـويل ثـم قـال لـه:                      اقتل أسيرك إني مـانـع جـاري

وسوف يعقبنيه إن ظـفـرت بـه                      رب كريم وبيض ذات أطـهـار

لا سرهن لـدينـا ذاهـب هـدرا                      وحافظات إذا استودعن أسـراري

فاختار أدراعه كيلا يسـب بـهـا                      ولم يكن وعده فـيهـا بـخـتـار

 

صفحة : 2488

 

فجاء شريح إلى الكلبي فقال له: هب لي هذا الأسير المضرور فقال: هو لك، فأطلقه، وقال له: أقم عندي، حتى أكرمك، وأحبوك، فقال له الأعشى: إن تمام إحسانك إلي أن تعطيني ناقة ناجية، وتخليني الساعة، فأعطاه ناقة ناجية، فركبها ومضى من ساعته. وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى، فأرسل إلى شريح، ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه، وأعطيه، فقال: قد مضى، فأرسل الكلبي في أثره، فلم يلحقه.

سعية بن عريض سعية بن عريض بن عاديا أخو السموءل شاعر، فمن شعره الذي يغنى فيه قوله: صوت

يا دار سعدى مقصى تلعة النـعـم                      حييت دارا على الإقواء والـقـدم

عجنا فما كلمتنا الدار إذا سـئلـت                      وما بها عن جواب خلت من صمم

وما يجزعك إلا الوحش سـاكـنة                      وهامد من رماد القد والـحـمـم الشعر لسعية بن عريض، والغناء لابن محرز ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق، وفيه خفيف ثقيل عن الهشامي، وله فيه خفيف ثقيل عن الهشامي، ويقال: إنه لمالك، وفيه لابن جؤذرة بمل عن الهشامي.

وسعية بن عريض القائل، وفيه غناء: صوت

لباب هل عندك من نائل                      لعاشق ذي حاجة سائل

عللته منك بما لم ينـل                      يا ربما عللت بالباطل الغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى، عن إسحاق، وفيه لابن الهربذ خفيف رمل بالوسطى عن عمرو، وفيه لمتيم رمل آخر من جامعها، وفيه لحن ليونس غير مجنس، وأول هذه القصيدة:

لباب يا أخت بنـي مـالـك                      لا تشتري العاجل بالآجـل

لباب داويني ولا تقـتـلـي                      قد فضل الشافي على القاتل

إن تسألي بي فاسألي خابـرا                      والعلم قد يكفي لدى السائل

ينبيك من كان بنا عـالـمـا                      عنا وما العالم كالجـاهـل

أنا إذا حارت دواعي الهوى                      وأنصت السامع لـلـقـائل

واعتلج القوم بألـبـابـهـم                      في المنطق الفاصل والنائل

لا نجعل الباطل حـقـا ولا                      نلظ دون الحق بالبـاطـل

نخاف أن تسفه أحـلامـنـا                      فنخمل الدهر مع الخامـل معاوية يتمثل بشعره أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال: حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي: قال: حدثني العمري، عن العتبي، قال: كان معاوية يتمثل كثيرا إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر:

إنا إذا مالت دواعي الهوى                      وأنصت السامع للقـائل

لا نجعل الباطل حقـا ولا                      نلظ دون الحق بالباطـل

نخاف أن تسفه أحلامنـا                      فنحمل الدهر مع الخامل عبد الملك بن مروان يسمع شعره قبل القضاء أخبرني الحرمي بن أبي العلاء: قال: حدثنا الزبير بن بكار: قال: أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز قال: أخبرني خالي يوسف بن الماجشون، قال: كان عبد الملك بن مروان إذا جلس للقضاء بين الناس أقام وصيفا على رأسه ينشده:

إنا إذا مالت دواعي الهوى                      وأنصت السامع للقـائل

واصطرع القوم بألبابهـم                      نقضي بحكم عادل فاصل

لا نجعل الباطل حقـا ولا                      نلظ دون الحق بالباطـل

نخاف أن تسفه أحلامنـا                      فنخمل الدهر مع الخامل ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخصمين.

أصحابه يميليون مع الريح أخبرني وكيع والحسن بن علي قالا: حدثنا أبو قلابة: قال: حدثنا الأصمعي، عن أبي الزناد، عن أبيه، عن رجال من الأنصار: أن سعية بن عريض أخا السموءل بن عاديا كان ينادم قوما من الأوس والخزرج، ويأتونه، فيقيمون عنده، ويزورونه في أوقات قد ألف زيارتهم فيها، فأغار عليه بعض ملوك اليمن، فانتسف من ماله حتى افتقر، ولم يبق له مال، فانقطع عنه إخوانه، وجفوه، فلما أخصب، وعادت حاله، وتراجعت راجعوه، فقال في ذلك:

أرى الخلان لما قل مالي                      وأجحفت النوائب ودعوني

فلما أن غنيت وعاد مالـي                      أراهم لا أبالك راجعوني

وكان القوم خلانا لمالـي                      وإخوانا لما خولت دونـي

فلما مر مالي باعـدونـي                      ولما عاد مالي عاودونـي

 

صفحة : 2489

 

ومن أشعار اليهود ويغنى به

صوت

هل تعرف الدار خف ساكنهـا                      بالحجر فالمستوى إلـى ثـمـد

دار لـبـهـنـانة خـدلــجة                      تضحك عن مثل جامد الـبـرد

نعم ضجيع الـفـتـى إذا بـرد                      الليل وغارت كواكـب الأسـد

يا من لـقـلـب مـتـيم سـدم                      عان رهين أحيط بـالـعـقـد

أزجره وهو غـير مـزدجـر                      عنها وطرفي مقارن السـهـد

تمشي الهوينا إذا مشت فضـلا                      مشى النزيف المبهور في صعد

تظل من زور بيت جـارتـهـا                      واضعة كفها علـى الـكـبـد الشعر لأبي الزناد اليهودي العديمي، والغناء لابن مسجح ثقيل أول بالوسطى في الثلاثة الأبيات الأول، عن الهشامي ويحيى المكي، وفيها لمعبد خفيف ثقيل أول عن الهشامي، وقال: أظنه من منحول يحيى بن المكي، وقد نسب قوم هذا اللحن المنسوب إلى معبد إلى ابن مسجح، ولابن محرز في  يا من لقلب  .

وما بعده خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق، وذكر عمرو أن فيها لحنا لمعبد لم يذكر طريقته، وذكر ذلك في كتاب عمله الواثق قديما غير مجنس، وهذا الشعر يقوله أبو الزناد في أهل تيماء يرثيهم، وذكر ذلك عمر بن شبة: ومن الغناء في أشعار اليهود من قريظة والنضير: صوت

دور عفت بقرى الخابور غيرهـا                      بعد الأنيس سوافي الريح والمطر

إن تمس دارك ممن كان ساكنهـا                      وحشا فذلك صرف الدهر والغير

وقد تحل بها بـيض تـرائبـهـا                      كأنها بين كثبان النقـا الـبـقـر الشعر للربيع بن أبي الحقيق، روى ذلك السكري، عن الطوسي، وعن محمد بن حبيب، والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو، وهو صوت مشهور ابتداؤه نشيد.

أخبار الربيع بن أبي الحقيق

الربيع رئيس لبني قريظة كان الربيع من شعراء اليهود من بني قريظة، وهم وبنو النضير جميعا من ولد هارون بن عمران، يقال لهما: الكاهنان، وكان الربيع أحد الرؤساء في يوم حرب بعاث، وكان حليفا للخزرج هو وقومه، فكانت رياسة بني قريظة للربيع، ورياسة الخزرج لعمرو بن النعمان البياضي، وكان رئيس بني النضير يومئذ سلام بن مشكم.

يلتقي بالنابغة الذبياني أخبرني عمي ومحمد بن حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثني محمد بن الحسن الأنصاري، قال: حدثني الحسن بن موسى؛ مولى بني مازن بن النجار عن أبي عبيدة قال: أقبل النابغة الذبياني يريد سوق بني قينقاع، فلحقه الربيع بن أبي الحقيق نازلا من أطمه، فلما أشرفا على السوق سمعا الضجة، وكانت سوقا عظيمة، فحاصت بالنابغة ناقته، فأنشأ يقول:

كادت تهال من الأصوات راحلتي ثم قال للربيع بن أبي الحقيق: أجز يا ربيع، فقال:

والنفر منها إذا ما أوجست خلق فقال النابغة: ما رأيت كاليوم شعرا، ثم قال:

لولا أنهنهها بالسوط لاجتذبت أجز يا ربيع، فقال:

مني الزمام وإني راكب لبق فقال النابغة:

قد ملت الحبس في الآطام واستعفت أجز يا ربيع، فقال:

إلى مناهلها لو أنها طلق فقال النابغة: أنت يا ربيع أشعر الناس.

أبان بني عثمان يتمثل بأبياته حدثنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري، ومحمد بن العباس اليزيدي، قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني الحزامي قال: حدثني سعيد بن محمد الزبيري، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه قال: قل ما جلست إلى أبان بن عثمان إلا سمعته يتمثل بأبيات ابن أبي الحقيق.

 

سئمت وأمسيت رهن الـفـرا                      ش من جرم قومي ومن مغرم

ومن سفه الرأي بعد النـهـى                      وغيب الرشاد، ولـم يفـهـم

فلو أن قومي أطاعوا الـحـل                      يم لم يتعـدوا ولـم نـظـلـم

ولكن قومي أطاعـوا الـغـوا                      ة حتى تعكـص أهـل الـدم

فأودى السفيه بـرأي الـحـل                      يم وانتشر الأمـر لـم يبـرم يعاتب قوما من الأنصار أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا معاذ، عن أبي عبيدة قال: قال الربيع بن أبي الحقيق يعاتب قوما من الأنصار في شيء بينهم وبينه:

رأيت بني العنقاء زالوا وملكهم                      وآبوا بأنف في العشيرة مرغم

 

صفحة : 2490

 

 

فإن يقتلوا نندم لذاك وإن بـقـوا                      فلا بد يوما من عقوق ومـأتـم

وإنا فويق الرأس شؤبوب مـزنة                      لها برد ما يغش م الأرض يحطم صوت

ولـنـا بـئر رواء جـــمة                      من يردها بإنـاء يغـتـرف

تدلج الجون على أكنـافـهـا                      بدلاء ذات أمـراس صـدف

كل حاجاتي قد قـضـيتـهـا                      غير حاجاتي من بطن الجرف الشعر لكعب بن الأشرف اليهودي، والغناء لمالك ثقيل أول عن يحيى المكي، قال: وفيه لابن عائشة خفيف ثقيل، ولمعبد ثاني ثقيل قال يحيى في كتابه: وقد خلط الرواة في ألحانهم، ونسبوا لحن كل واحد منهم إلى صاحبه، وذكر الهشامي أن فيه لابن جامع خفيف رمل بالبنصر، وفيه لجعدب لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس.

أخبار كعب ونسبه ومقتله

اسمه ونسبه كعب بن الأشرف مختلف في نسبه، فزعم ابن حبيب أنه من طيء، وأمه من بني النضير، وأن أباه توفي وهو صغير، فحملته أمه إلى أخواله، فنشأ فيهم، وساد، وكبر أمره، وقيل: بل هو من بني النضير.

وكان شاعرا فارسا، وله مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج، تذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى - وهو شاعر من شعراء اليهود فحل فصيح، وكان عدوا للنبي صلى الله عليه وسلم يهجوه، ويهجو أصحابه، ويخذل منه العرب، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرا من أصحابه، فقتلوه في داره.

ذكر خبره في ذلك كان كعب بن الأشرف يهجو النبي صلى الله عليه وسلم، ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، وهي أخلاط، منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهم المشركون الذين يعبدون الأوثان، ومنهم اليهود، وهم أهل الحلقة والحصون، وهم حلفاء الحيين الأوس والخزرج، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم - إذ قدم - استصلاحهم كلهم، وكان الرجل يكون مسلما وأبوه مشرك، ويكون مسلما وأخوه مشرك، وكان المشركون واليهود حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم يؤذونه وأصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم، وأنزل في شأنهم: )ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم( الآية. وأنزل فيهم: )ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم( إلى قوله: )واصفحوا( فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أمر النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث إليه رهطا، فيقتلوه، فبعث إليه محمد بن مسلمة وأبا عبس بن جبير، والحارث ابن أخي سعد، في خمسة رهط، فأتوه عشية، وهو في مجلس قومه بالعوالي، فلما رآهم كعب أنكر شأنهم، وكان يذعر منهم، فقال لهم: ما جاء بكم? فقالوا: جئنا لنبيعك أدراعا نستنفق أثمانها، فقال: والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم مذ نزل بكم هذا الرجل، ثم واعدهم أن يأتوه عشاء حين تهدأ أعين الناس، فجاءوا، فناداه رجل منهم، فقام ليخرج، فقالت امرأته: ما طرقوك ساعتهم هذه بشيء مما تحب، فقال: بلى إنهم قد حدثوني حديثهم، وخرج إليهم، فاعتنقه أبو عبس، وضربه محمد بن مسلمة بالسيف في خاصرته، وانحنوا عليه، حتى قتلوه، فرعبت اليهود ومن كان معهم من المشركين، وغدوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: قد طرق صاحبنا الليلة، وهو سيد من سادتنا، فقتل، فذكر لهم صلى الله عليه وسلم ما كان يؤذى به في أشعاره، ودعاهم إلى أن يكتب بينهم وبين المسلمين كتابا، فكتبت الصحيفة بذلك في دار الحارث، وكانت بعد النبي صلى الله عليه وسلم عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

 

صوت

 

هل بالديار التي بالقاع مـن أحـد                      باق فيسمع صوت المدلج الساري

تلك المنازل من صفراء ليس بها                      نار تضيء ولا أصوات سمـار ويروى:  ليس بها حي يجيب  .

الشعر لبيهس الجرمي، والغناء لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي، وقال عمرو بن بانة: فيه ثاني ثقيل بالبنصر، يقال: إنه لابن محرز، وقال الهشامي: فيه لحباب بن إبراهيم خفيف ثقيل، وهو مأخوذ من لحن ابن صاحب الوضوء.

 

ارفع ضعيفك لا يحر بك ضعفه

أخبار بيهس ونسبه

اسمه ونسبه

 

صفحة : 2491

 

بيهس بن صهيب بن عامر بن عبد الله بن نائل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن سعيد بن كثير بن غالب بن عدي بن بيهس بن طرود بن قدامة بن جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

ويكنى أبا المقدام: شاعر فارس شجاع، من شعراء الدولة الأموية، وكان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب وعذرة، ويحضر إذا حضروا، فيكون بأجناد الشام، وكان مع المهلب بن أبي صفرة في حروبه للأزارقة، وكانت له مواقف مشهورة وبلاء حسن، وبعض أخباره في ذلك يذكر بعقب أخباره في هذا الشعبر.

من هي صفراء وقد اختلف الرواة في أمر صفارء التي ذكرها في شعره هذا، فذكر القحذمي أنها كانت زوجته وولدت له ابنا، ثم طلقها، فتزوجت رجلا من بني أسد، وماتت عنده، فرثاها. وذكر أبو عمرو الشيباني أنها كانت بنت عمه دنية، وأنه كان يهواها، فلم يزوجها، وخطبها الأسدي، وكان موسرا، فزوجها.

قال أبو عمرو: وكان بيهس بن صهيب الجرمي يهوى امرأة من قومه، يقال لها، صفراء بنت عبد الله بن عامر بن عبد الله بن نائل، وهي بنت عمه دنية، وكان يتحدث إليها، ويجلس في بيتها، ويكتم وجده بها، ولا يظهره لأحد، ولا يخطبها لأبيها؛ لأنه كان صعلوكا لا مال له، فكان ينتظر أن يثرى، وكان من أحسن الشباب وجها وشارة وحديثا وشعرا، فكان نساء الحي يتعرضن له، ويجلسن إليه ويتحدثن معه، فمرت به صفراء، فرأته جالسا مع فتاة منهن، فهجرته زمانا لا تجيبه إذا دعاها، ولا تخرج إليه إذا زارها، وعرض له سفر، فخرج إليه، ثم عاد، وقد زوجها أبوها رجلا من بني أسد، فأخرجها، وانتقل عن دارهم بها، فقال بيهس بن صهيب:

سقى دمنة صفراء كانت تحلـهـا                      بنوء الثريا طلهـا وذهـابـهـا

وصاب عليها كل أسحم هـاطـل                      ولا زال مخضرا مريعا جنابهـا

أحب ثرى أرض إلي وإن نـأت                      محلك منها نبتهـا وتـرابـهـا

على أنها غضبى علـي وحـبـذا                      رضاها إذا ما أرضيت وعتابهـا

وقد هاج لي حينا فراقـك غـدوة                      وسعيك في فيفاء تعوي ذئابـهـا

نظرت وقد زال الحمول ووازنوا                      بركوة والوادي وخفت ركابـهـا

فقلت لأصحابي: أبالقرب منـهـم                      جرى الطير أم نادى بين غرابها? يرثي صفراء قال أبو عمرو: ثم ماتت صفراء قبل أن يدخل بها زوجها، فقال بيهس يرثيها:

هل بـالـديار الـتـي بــالـــقـــاع مـــن أحـــد                      باق فـيسـمـع صـوت الـمــدلـــج الـــســـاري

تلـك الـمـنـازل مـن صـفــراء لـــيس بـــهـــا                      نار تـــضـــيء ولا أصـــوات ســـمــــــار

عفـت مـعـارفــهـــا هـــوج مـــغـــبـــرة                      تسـفـي عـلـيهـا تـراب الأبـطـــح الـــهـــاري

حتـى تـنـكـرت مـنــهـــا كـــل مـــعـــرفة                      إلا الــرمـــاد نـــخـــيلا بـــين أحـــجـــار

طال الـوقـوف بـهـا والـعـين تـســبـــقـــنـــي                      فوق الـرداء بـوادي دمــعـــهـــا الـــجـــاري

إن أصــبـــح الـــيوم لا أهـــل ذوو لـــطـــف                      ألـهـوا لـديهــم ولا صـــفـــراء فـــي الـــدار

أرعـى بـعـينـي نـجـوم الـلـيل مـرتـــقـــبـــا                      يا طـــول ذلـــك مـــن هـــم وإســـهــــار

فقد يكون لي الأهل الكرام وقد ألهو بصفراء ذات المنظر الواري

من المواجد أعراقا إذا نسبت                      لا تـحـرم الـمـال عــن ضـــيف وعـــن جـــار

لم تـلـق بـؤسـا ولـم يضـــرر بـــهـــا عـــوز                      ولـم تـزخـف مـع الـصـالــي إلـــى الـــنـــار

كذلـــك الـــدهـــر إن الـــدهـــر ذو غـــير                      علـــى الأنـــام وذو نـــقـــض وإمــــــرار

قد كـاد يعـتـادنـــي مـــن ذكـــرهـــا جـــزع                      لولا الـــحـــياء ولـــولا رهـــبة الـــعــــار

سقـي الإلـه قــبـــورا فـــي بـــنـــي أســـد                      حول الــربـــيعة غـــيثـــا صـــوب مـــدرار

من الـذي بــعـــدكـــم أرضـــى بـــه بـــدلا                      أو مـن أحـــدث حـــاجـــاتـــي وأســـراري? يقف وصحبه على قبرها وينشد قال أبو عمرو: واجتاز بيهس في بلاد بني أسد، فمر بقبر صفراء، وهو في موضع يقال له الأحض، ومعه ركب من قومه، وكانوا قد انتجعوا بلاد بني أسد، فأوسعوا لهم، وكان بينهم صهر وحلف، فنزل بيهس على القبر، فقال له أصحابه: ألا ترحل، فقال: أما والله، حتى أظل نهاري كله عنده، وأقضي وطرا فنزلوا معه عند قبرها، فأنشأ يقول، وهو يبكي:

ألما على قبر لصفراء فاقرا                      السلام وقولا حينا أيها القبر

 

صفحة : 2492

 

 

ومـا كـان شـيئا غـير أن لـسـت صـابــرا                      دعـاءك قـبـرا دونـه حـجـج عــشـــر

برابية فيها كرام أحبة على أنها إلا مضاجعهم قفر

عشية قال الركب من غرض بنا                      تروح أبا الـمـقـدام قـد جـنـح الـعـصـر

فقـلـت لـهـم: يوم قـــلـــيل ولـــيلة                      لصفراء قـد طـال الـتـجـنـب والـهـجـر

وبـت وبـات الـنـاس حـولـي هــجـــدا                      كأن عـلـي الـلـيل مـن طـولـه شـهــر

إذا قـلـت هـذا حـين أهـجـــع ســـاعة                      تطـاول بـي لـيل كـواكـبـــه زهـــر

أقـول إذا مـا الـجـنـب مـل مـكـانـــه                      أشوك يجافي الـجـنـب أم تـحـتـه جـمـر?

فلـو أن صـخـرا مـن عـمــاية راســـيا                      يقاسي الذي ألـقـى لـقـد مـلـه الـصـخـر قال: وأما القحذمي فإنه ذكر فيما أخبرني به هاشم بن محمد الخزاعي، عن عيسى بن إسماعيل رتينة عنه، أنه كان تزوجها، ثم طلقها بعد أن ولدت منه ابنا؛ فتزوجها رجل من بني أسد، فماتت عنده، وذكر من شعره فيها ومراثيه لها قريبا مما تقدم ذكره. وذكر أن بيهس بن صهيب كان من فرسان العرب، وكان مع المهلب بن أبي صفرة في حروبه للأزارقة. وكان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب ويحضر إذا حضروا فيكون من أجناد الشام.

يتهم في قتيل قال: أبو عمرو: ولما هدأت الفتنة بعد مرج راهط، وسكن الناس مر غلام من قيس بطوائف من جرم وعذرة وكلب، وكانوا متجاورين على ماء لهم؛ فيقال: إن بعض أحداثهم نخس  بيهس  به ناقته فألقته، فاندقت عنقه، فمات؛ فاستعدى قومه عليهم عبد الملك، فبعث إلى تلك البطون من جاءه بوجوههم وذوي الأخطار منهم، فحبسهم، وهرب بيهس بن صهيب الجرمي، وكان قد اتهم أنه هو الذي نخس به، فنزل على محمد بن مروان فعاذبه، واستجاره، فأجاره إلا من حد توجبه عليه شهادة، فرضي بذلك، وقال وهو متوار عند محمد:

لقد كانت حوادث معضـلات                      وأيام أغصت بـالـشـراب

وما ذنب المعاشر في غـلام                      تقطر بين أحواض الجبـاب

على قوداء أفرطهـا جـلال                      وغض فهي باقية الهـبـاب

ترامت باليدين فأرهـقـتـه                      كما زل النطيح من القبـاب

فإني والعقاب ومـا أرجـى                      لكالساعي إلى وضح السراب

فلما أن دنـا فـرج بـربـي                      يكشف عن مخفقة بـبـاب

من البلدان ليس بهـا غـريب                      تخب بأرضهـا زل الـذئاب

فظني بالـخـلـيفة أن فـيه                      أمانا للبريء وللـمـصـاب

وأن محمدا سـيعـود يومـا                      ويرجع عن مراجعة العتاب

فيجبر صبيتي ويحوط جاري                      ويؤمن بعدها أبدا صحابـي

هو الفرع الذي بنيت عـلـيه                      بيوت الأطيبين ذوي الحجاب قال: فلم يزل محمد بن مروان قائما وقاعدا في أمرهم مع أخيه، حتى أمن بيهس بن صهيب وعشيرته، واحتمل دية المقتول لقيس وأرضاهم.

 

صوت

 

نزل المشيب فما له تحـويل                      ومضى الشباب فما إليه سبيل

ولقد أراني والشباب يقودنـي                      ورداؤه حسن علي جـمـيل الشعر للكميت بن معروف الأسدي، والغناء لمعبد خفيف، ولحنه من القدر الأوسط، من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق.

 

أخبار الكميت بن معروف ونسبه

اسمه ونسبه هو الكميت بن معروف بن الكميت بن ثعلبة بن رباب بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر.

شاعر من شعراء الإسلام بدوي، أمه سعدة بنت فريد بن خيثمة بن نوفل بن نضلة.

أسرته ما بين شعراء وشواعر والكميت أحد المعرقين في الشعر، أبوه معروف شاعر، وأمه سعدة شاعرة، وأخوه خيثمة أعشى بني أسد شاعر، وابنه معروف الكميت شاعر.

فأما أبوه فهو القائل لعبد الله بن المساور بن هند:

إن مناخي أمس يا بن مـسـاور                      إليك لمن شرب النقاخ المصـرد

تباعدت فوق الحق من آل فقعس                      ولم ترج فيهم ردة اليوم أو غـد

وقلت غنى لا فقر في العيش بعده                      وكل فتى للنائبات بـمـرصـد

كأنك لم تعلم محـل بـيوتـكـم                      مع الحي بين الغور والمتنـجـد

 

صفحة : 2493

 

 

فلولا رجال من جذيمة قصرة                      عددت بلائي ثم قلت له اعدد أمه تؤنبه وترثيه وأمه سعدة القائلة له، وقد تزوج بنت أبي مهوش على مراغمة لها، وكراهة لذلك، فغضبت سعدة وقالت فيه:

عليك بأنقاض العراق فقد علت                      عليك بتخدين النساء الـكـرائم

لعمري لقد راش ابن سعدة نفسه                      بريش الدنا بي لا بريش القوادم

بنى لك معروف بناء هدمـتـه                      وللشرف العادي بـان وهـادم وهي القائلة ترثي ابنها الكميت:

لأم البلاد الويل ماذا تضمـنـت                      بأكناف طوري من عفاف ونائل

ومن وقعات بالرجال كـأنـهـا                      إذا عنت الأحداث وقع المناصل

يعزي المعزي عن كميت فتنتهي                      مقالته والصدر جم الـبـلابـل أخوه يرثيه وأعشى بني أسد أخو الكميت، واسمه خيثمة، الذي يقول يرثي الكميت وغيره من أهل بيته:

هون عليك فإن الدهر مـنـجـدب                      كل امرئ عن أخيه سوف ينشعب

فلا يغرنك من دهـر تـقـلـبـه                      إن الليالي بالفتـيان تـنـقـلـب

نام الخلي وبت الليل مـرتـفـقـا                      كما تزاور يخشى دفه الـنـكـب

إذا رجعت إلى نفسي أحـدثـهـا                      عمن تضمن من أصحابي القلـب

من إخوة وبنـي عـم رزئتـهـم                      والدهر فيه على مستعتب عتـب

عاودت وجدا على وجـد أكـابـده                      حتى تكاد بنات الصدر تلـتـهـب

هل بعد صخر وهل بعد الكميت أخ                      أم هل يعود لنا دهر فنصطحـب?

لقد علمت ولو ملـيت بـعـدهـم                      أني سأنهل بالشرب الذي شربـوا ابنه معروف يتغزل ومعروف بن الكميت القائل:

لقد كنت أحسبني جلدا فهيجنـي                      بالشيب منزلة من أم عـمـار

كانت منازل لا ورهاء جافـية                      على الحدوج ولا عطلا بمقفار

وما تجاورنا إذ نحن نسكنـهـا                      ولا تفرقـنـا إلا بـمـقـدار

صوت

 

أرقت لـبـرق دونـه شـذوان                      يمان وأهوى البرق كل يمانـي

فليت القلاص الأدم قد وخدت بنا                      بواد يمان ذي ربا ومجـانـي الشعر ليعلى الأحول الأزدي، وجدت ذلك بخط أبي العباس محمد بن يزيد المبرد في شعر الأزد، وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه: هي ليلعى الأحول، كما روى غيره، قال: ويقال: إنها لعمرو بن أبي عمارة الأزدي من بني خنيس، ويقال: إنها لجواس بن حيان من إزد عمان.

وأول هذه القصيدة، في رواية أبي عمرو، أبيات فيها غناء أيضا وهي: صوت

أويحكما يا واشي أم معمـر                      بمن وإلى من جئتما تشيان?

بمن لو أراه عانيا لفـديتـه                      ومن لو رآني عانيا لفداني لعريب في هذين البيتين ثقيل أول، ولعمرو بن بانة فيهما هزج بالوسطى من كتابه وجامع صنعته، وقال ابن المكي: لمحمد بن الحسن بن مصعب فيه هزج بالأصابع كلها.

 

أخبار يعلى ونسبه

اسمه ونسبه يعلى الأحول بن مسلم بن أبي قيس، أحد بني يشكر بن عمرو بن رالان - ورالان هو يشكر - وهيشكر لقب لقب به - بن عمران بن عمرو بن عدي بن حارثة بن لوذان بن كهف الظلام - هكذا وجدته بخط المبرد - بن ثعلبة بن عمرو بن عامر.

شاعر فاتك خليع شاعر إسلامي لص من شعراء الدولة الأموية، وقال هذه القصيدة وهو محبوس بمكة عند نافع بن علقمة الكناني في خلافة عبد الملك بن مروان.

قال أبو عمرو: وكان يعلى الأحول الأزدي لصا فاتكا خاربا، وكان خليعا، يجمع صعاليك الأزد وخلعاءهم، فيعير بهم على أحياء العرب، ويقطع الطريق على السابلة، فشكي إلى نافع بن علقمة بن الحارث بن محرث الكناني ثم الفقيمي، وهو خال مروان بن الحكم، وكان والي مكة، فأخذ به عشيرته الأزديين، فلم ينفعه ذلك، واجتمع إليه شيوخ الحي فعرفوه أنه خليع قد تبرؤوا منه ومن جرائره إلى العرب، وأنه لو أخذ به سائر الأزد ما وضع يده في أيديهم، فلم يقبل ذلك منهم، وألزمهم إحضاره، وضم إليهم شرطا يطلبونه إذا طرق الحي حتى يجيثوه به.

يسلمه قومه إلى الحاكم فلما اشتد عليهم في أمره طلبوه، حتى وجدوه، فأتوا به، فقيده وأودعه الحبس، فقال في محبسه: قصيدته في سجنه

 

صفحة : 2494

 

 

أرقت لبرق دونـه شـذوان                      يمان وأهوى البرق كل يمان

فبت لدى البيت الحرام أشيمه                      ومطواي من شوق له أرقان المطو: الصاحب.

 

إذا قلت: شيماه يقولان والـهـوى                      يصادف منا بعـض مـا تـريان

جرى منه أطراف الشري فمشـيع                      فأبيان فالـحـيان مـن دمـران

فمران فالأقباص أقباص أمـلـج                      فماوان من واديهمـا شـطـنـان

هنالك لو طوفتمـا لـوجـدتـمـا                      صديقا من أخوان بـهـا وغـوان

وعزف الحمام الورق في ظل أيكة                      وبالحي ذي الرودين عزف قـيان

ألا ليت حاجاتي اللواتي حبسنـنـي                      لدي نافع قضـين مـنـذ زمـان

وما بي بغض للبـلاد ولا قـلـى                      ولكن شوقا في سـواه دعـانـي

فليت القلاص الأدم قد وخدت بنـا                      بواد يمان ذي ربـا ومـجـانـي

بواد يمان ينبت الـسـدر صـدره                      وأسفله بالمـرخ والـشـبـهـان

يدافعنا من جانبـيه كـلـيهـمـا                      عزيفان من طـرفـائه هـدبـان

وليت لنا بالجوز والـلـوز غـيلة                      جناها لنا من بطن حلية جـانـي الغيلة: شجر الأراك إذا كانت رطبة، ويروى في موضع: من بطن حلية: من حب جيحة.

 

وليت لنا بالديك مكاء روضة                      على فنن من بطن حلية داني

وليت لنا من ماء حزنة شربة                      مبردة باتت على طهـمـان ويروى: من ماء حمياء.

 

صوت

 

إن السلام وحسن كل تـحـية                      تغدو على ابن مجزز وتروح

هلا فدى ابن مجزز متفحـش                      شنج اليدين على العطاء شحيح الشعر لجواس العذري، والغناء لسائب بن خاثر خفيف ثقيل بالوسطى بن يحيى المكي والهشامي من رواية حماد عن أبيه، في أخبار سائب خاثر وأغانيه.

 

نسب جواس وخبره في هذا الشعر

اسمه ونسبه هو جواس بن قطبة العذري، أحد بن الأحب رهط بثينة، وجواس وأخوه عبد الله الذي كان يهاجي جميلا ابنا عمها دنية، وهما ابنا قطبة بن ثعلبة بن الهون ابن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة بن حرام بن عتبة بن عبيد ابن كثير بن عجرة.

ينافر جميل بن معمر فترجح كفته وكان جواس شريفا في قومه شاعرا، فذكر أبو عمرو الشيباني: أن جميل بن عبد الله بن معمر لما هاجى جواسا تنافرا إلى يهود تيماء، فقالوا لجميل: يا جميل، قل في نفسك ما شئت، فأنت والله الشاعر الجميل الوجه الشريف، وقل أنت يا جواس في نفسك وفي أبيك ما شئت، ولا تذكرن أنت يا جميل أباك في فخر؛ فإنه كان يسوق معنا الغنم بتيماء، عليه شملة لا تواري استه، ونفروا عليه جواسا، قال: ونشب الشر بين جميل وجواس، وكانت تحته أم الجسير أخت بثينة التي يذكرها جميل في شعره، إذ يقول:

يا خليلـي إن أم جـسـير                      حين يدنو الضجيع من علله

روضة ذات حنوة وخزامى                      جاد فيها الربيع من سبلـه قوم جميل يثأرون منه فغضب لجميل نفر من قومه يقال لهم بنو سفيان، فجاءوا إلى جواس ليلا وهو في بيته، فضربوه وعروا امرأته أم الجسير في تلك الليلة، فقال جميل:

ما عر جواس استها إذ يسبـهـم                      بصقري بني سفيان قيس وعاصم

هما جردا أم الجسـير وأوقـعـا                      أمر وأدهى من وقيعة سـالـم يعني سالم بن دارة.

فقال جواس:

ما ضرب الجواس إلى فجـاءة                      على غفلة من عينه وهو نـائم

فإلا تعجلني المنية يصـطـبـح                      بكاسك حصناكم حصين وعاصم

ويعطى بنو سفيان ما شئت عنوة                      كما كنت تعطيني وأنفك راغم جميل يحدو ركاب مروان بن الحكم وقال أبو عمرو الشيباني: حج مروان بن الحكم، فسار بين يديه جميل بن عبد الله بن معمر، وجواس بن قطبة، وجواس بن القعطل الكلبي، فقال لجميل: انزل فسق بنا، فنزل جميل فقال:

يا بثن حيي ودعينـا أوصـلـي                      وهوني الأمر فزوري واعجلي

ثمت أيا ما أردت فافـعـلـي                      إني لآتي ما أتيت مـؤتـلـي فقال له مروان: عد عن هذا، فقال:

أنا جميل والحجاز وطـنـي                      فيه هوى نفسي وفيه شجني هذا إذا كان السياق ددني جواس بن قطبة يحدو ركاب مروان

 

صفحة : 2495

 

فقال لجواس بن قطبة: انزل أنت يا جواس فسق بنا، فنزل فقال - وقد كان بلغه عن مروان أنه توعده إن هاجى جميلا:

لست بعبد للمـطـايا أسـوقـهـا                      ولكنني أرمي بهـن الـفـيافـيا

أتاني عن مروان بالـغـيب أنـه                      مبيح دمي أو قاطع من لسـانـيا

وفي الأرض منجاة وفسحة مذهب                      إذا نحن رققنا لهن الـمـثـانـيا فقال له مروان: أما إن ذلك لا ينفعك إذا وجب عليك حق، فاركب لا ركبت.

جواس بن القعطل يحدو ركاب مروان ثم قال لجواس بن القعطل - ويقال بل القصة كلها مع جواس بن قطبة : انزل فارجز بنا، فنزل فقال هذه الأبيات:

يقول أميري: هل تسوق ركابنـا                      فقلت: اتخذ حاد لـهـن سـوائيا

تكرمت عن سوق المطي ولم يكن                      سياق المطايا همتـي ورجـائيا

جعلت أبي رهنا وعرضي سادرا                      إلى أهل بيت لم يكونوا كـفـائيا

إلى شر بيت من قضاعة منصبـا                      وفي شر قوم منهم قـد بـدالـيا فقال له: اركب لا ركبت.

عود إلى الصوت وخبر ابن مجزز والأبيات التي فيها الغناء يرثي بها جواس بن قطبة العذري علقمة بن مجزز قال أبو عمرو الشيباني: وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه بعث علقمة بن مجزز الكناني ثم المدلجي في جيش إلى الحبشة، وكانوا لا يشربون قطرة من ماء إلا بإذن الملك، وإلا قوتلوا عليه، فنزل الجيش على ماء قد ألقت لهم فيه الحبشة سما، فوردوه مغترين، فشربوا منه، فماتوا عن آخرهم، وكانوا قد أكلوا هناك تمرا، فنبت ذلك النوى الذي ألقوه نخلا في بلاد الحبشة، وكان يقال له نخل ابن مجزز، فأراد عمر أن يجهز إليهم جيشا عظيما فشهد عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اتركوا الحبشة ما تركوكم، وقال: وددت لو أن بيني وبينهم بحرا من نار، فقال جواس العذري يرثي علقمة ابن مجزز:

إن السلام وحسن كل تـحـية                      تغدو على ابن مجزز وتروح

فإذا تجرد حافراك وأصبحـت                      في الفجر نائحة عليك تنـوح

وتخيروا لك من جياد ثيابـهـم                      كفنا عليك من البياض يلـوح

فهناك لا تغني مودة نـاصـح                      حذرا عليك إذا يسد ضـريح

هلا فدى ابن مجزز متفحـش                      شنج اليدين على العطاء شحيح

متمرع ورع وليس بـمـاجـد                      متملح وحديثـه مـقـبـوح وفيمن هلك مع ابن مجزز يقول جواس:

ألهفي لفتيان كأن وجوهـهـم                      دنانير وافت مهلك ابن مجزز

صوت

 

أحبتنـا بـأبـي أنـتـم                      وسقيا لكم حيثما كنتـم

أطلتم عذابي بميعادكـم                      وقلتم نزور فما زرتـم

فأمسك قلبي على لوعتي                      ونمت دموعي بما أكتم

ففيم أسأتم وأخلـفـتـم                      وقدما وفيتم وأحسنـتـم الشعر لإبراهيم بن المدبر، والغناء لعريب خفيف ثقيل.

 

أخبار إبراهيم بن المدبر

نشأته أبو إسحاق بن المدبر شاعر كاتب متقدم من وجوه كتاب أهل العراق ومتقدميهم وذوي الجاه والمتصرفين في كبار الأعمال ومذكور الولايات، وكان المتوكل يقدمه ويؤثره، ويفضله، وكانت بينه وبين عريب حال مشهورة، كان يهواها، وتهواه، ولهما في ذلك أخبار كثيرة، قد ذكرت بعضها في أخبار عريب، وأذكر باقيها هاهنا.

بين يدي المتوكل أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني إبراهيم بن المدبر قال: مرض المتوكل مرضة خيف عليه منها ثم عوفي، وأذن للناس في الوصول إليه، فدخلوا على طبقاتهم كافة ودخلت معهم، فلما رآني استدناني، حتى قمت وراء الفتح، ونظر إلي مستنطقا فأنشدته:

يوم أتـانـا بـالـسـرور                      فالحمد لـلـه الـكـبـير

أخصلـت فـيه شـكـره                      ووفيت فيه بـالـنـذور

لما اعتللت تـصـدعـت                      شعب القلوب من الصدور

من بين ملتهـب الـفـؤا                      د وبين مكتئب الضمـير

يا عدتي للـدين والـدنـي                      ا وللخطب الـخـطـير

كانت جفـونـي ثـرة ال                      آماق بالدمـع الـغـزير

لو لم أمت جزعـا لـعـم                      رك إنني عين الصبـور

يومي هنالك كالـسـنـي                      ن وساعتي مثل الشهـور

 

صفحة : 2496

 

 

يا جعفر المتـوكـل ال                      عالي على البدر المنـير

اليوم عاد الـدين غـض                      العود ذا ورق نـضـير

واليوم أصبحت الـخـلا                      فة وهي أرسى من ثبير

قد حالفتـك وعـاقـدت                      ك على مطاولة الدهور

يا رحمة للـعـالـمـي                      ن ويا ضياء المستـنـير

يا حـجة الـلـه الـتـي                      ظهرت له بهدى ونـور

لله أنـت فـمـا نـشـا                      هد منك من كرم وخير

حتى نقول ومـن بـقـر                      بك من ولي أو نصـير

البدر ينـطـق بـينـنـا                      أم جعفر فوق السـرير

فإذا تواترت الـعـظـا                      ئم كنت منقطع النظـير

وإذا تعذرت الـعـطـا                      يا كنت فياض البحـور

تمضي الصواب بلا وزي                      ر أو ظهير أو مـشـير فقال المتوكل للفتح: إن إبراهيم لينطق عن نية خالصة، وود محض، وما قضينا حقه، فتقدم بأن يحمل إليه الساعة خمسون ألف درهم، وتقدم إلى عبيد الله بن يحيى بأن يولييه عملا سريا ينتفع به.

المتوكل ينتقض عليه ويودعه السجن حدثني عمي قال: حدثني محمد بن داود بن الجراح قال: كان أحمد بن المدبر ولي لعبيد الله بن يحيى بن خاقان عملا، فلم يحمد أثره فيه، وعمل على أن ينكبه. وبلغ أحمد ذلك فهرب، وكان عبيد الله منحرفا عن إبراهيم، شديد النفاسة عليه برأي المتوكل فيه، فأغراه به، وعرفه خبر أخيه، وأدعى عليه مالا جليلا، وذكر أنه عند إبراهيم أخيه، وأوغر صدره عليه حتى أذن له في حبسه، فقال وهو محبوس:

تسلي ليس طول الحبس عارا                      وفيه لنا من اللـه اخـتـيار

فلولا الحبس ما بلي اصطبار                      ولولا الليل ما عرف النهار

وما الأيام إلا مـعـقـبـات                      ولا السلطان إلا مستـعـار

وعن قد حربست فلا نقيض                      وفيما قدر اللـه الـخـيار

سيفرج ما ترين إلى قـلـيل                      مقدره وإن طـال الإسـار وإبراهيم في حبسه أشعار كثيرة حسان مختارة، منها قوله في قصيدة أولها:

أدموعها أم لؤلؤ متناثـر                      يندى به ورد جني ناضر يقول فيها:

لا تؤيسنـك مـن كـريم نـوبة                      فالسيف ينبو وهو عضب باتـر

هذا الزمان تسومـنـي أيامـه                      خسفا وهأنذا علـيه صـابـر

إن طال لايلي في الأسار فطالما                      أفنيت دهرا ليله متـقـاصـر

والحبس يحجبني وفي أكنـافـه                      مني على الضراء ليث خـادر

عجبا له كيف التقـت أبـوابـه                      والجود فيه والغمام البـاكـر?

هلا تقطع أو تصدع أو وهـى                      فعذرته؛ لكنـه بـي فـاخـر ومنها قوله في قصيدة أولها:

ألا طرقت سلمى لدى وقعة السـاري                      فريدا وحيدا موثـقـا نـازح الـدار

هو الحبس ما فيه علي غـضـاضة                      وهل كان في حبس الخليفة من عار يقول فيها:

ألست ترين الخمر يظهر حسنـهـا                      وبهجتها بالحبس في الطين والقار

وما أنا إلا كـالـجـواد يصـونـه                      مقومه للسبق في طي مضـمـار

أو الدرة الزهراء في قعـر لـجة                      فلا تجتلى إلا بهـول وأخـطـار

وهل هو إلا منزل مثل منـزلـي                      وبيت ودار مثل بيتـي أو داري?

فلا تنكري طول المدى وأذى العدى                      فإن نهايات الأمـور لإقـصـار

لعل وراء الغيب أمـرا يسـرنـا                      يقدره في علمه الخالق الـبـاري

وإني لأرجو أن أصول بجعـفـر                      فأهضم أعدائي وأدرك بـالـثـار يثني على من خلصه من سجنه فأخبرني عمي عن محمد بن داود: أن حبسه طال، فلم يكن لأحد في خلاصه منه حيلة مع عضل عبيد الله وقصده إياه، حتى تخلصه محمد بن عبد الله بن طاهر، وجود المسألة في أمره، ولم يلتفت إلى عبيد الله، وبذل أن يحتمل في ماله كل ما يطالب به، فأعفاه المتوكل من ذلك، ووهبه له، وكان إبراهيم استغاث به ومدحه، فقال:

دعوتك من كرب فلبيت دعوتـي                      ولم تعترضني إذ دعوت المعاذر

 

صفحة : 2497

 

 

إليك وقد حلئت أوردت هـمـتـي                      وقد أعجزتني عن همومي المصادر

نمي بك عبد الله في العز والـعـلا                      وحاز لك المجد المؤثـل طـاهـر

فأنتم بنو الدنـيا وأمـلاك جـوهـا                      وساستها والأعظمـون الأكـابـر

مآثر كانت للحسـين ومـصـعـب                      وطلحة لا تحوي مداها المفـاخـر

إذا بذلوا قيل الغـيوث الـبـواكـر                      وإن غضبوا قيل الليوث الهواصـر

تطيعكم يوم الـلـقـاء الـبـواتـر                      وتزهو بكم يوم المقام المـنـابـر

وما لكم غير الأسـرة مـجـلـس                      ولا لكم غير السيوف مـخـاصـر

ولي حاجة إن شئت أحرزت مجدها                      وسـرك مـنـهـا أول ثـم آخـر

كلام أمير المؤمنـين وعـطـفـه                      فمالي بعد اللـه غـيرك نـاصـر

وإن ساعد المقدور فالنجـح واقـع                      وإلا فإني مخلص الـود شـاكـر عريب تكاتبه وتشفع له حدثني جعفر بن قدامة قال: كتبت عريب من سر من رأى إلى إبراهيم بن المدبر كتابا تتشوقه فيه، وتخبره باستيحاشها له، واهتمامها بأمره، وأنها قد سألت الخليفة في أمره، فوعدها بما تحب، فأجابها عن كتابها، وكتب في آخر الكتاب:

لعمرك ما صوت بديع لمعـبـد                      بأحسن عندي من كتاب عـريب

تأملت في أثنائه خـط كـاتـب                      ورقة مشتاق ولفـظ خـطـيب

وراجعني من وصلها ما استرقني                      وزهدني في وصل كل حبـيب

فصرت لها عبدا مقرا بملكـهـا                      ومستمسكا من ودها بنـصـيب يحب نبتا وتحب هي مظفرا أخبرني جعفر بن قدامة قال: كان علي بن يحيى المنجم وإبراهيم بن المدبر مجتمعين في منزل بعض الوجوه بسر من رأى على حال أنس، وكانت تغنيهم جارية يقال لها نبت جارية البكرية المغنية من جواري القيان، فأقبل عليها إبراهيم بن المدبر بنظره ومزحه وتجميشه، وهي مقبلة على فتى كان أمرد من أولاد الموالي يقال له مظفر، كانت تهواه، وكان أحسن الناس وجها، ولم يزل ذلك دأبهم إلى أن افترقوا، فكتب إليه علي بن يحيى يقول:

لقد فتنت نبت فتى الظرف والندى                      بمقلة ريم فاتر الطـرف أحـور

وشدو يروق السامعين ويمـلأ ال                      قلوب سرورا مونق مـتـخـير

فأصبح في فخ الهوى متقنـصـا                      عزيز على إخوانه ابن المـدبـر

ولم تدر ما يلقى بها ولـو أنـهـا                      درت روحت من حره المتسعـر

وذاك بها صب ونـبـت خـلـية                      ومشغولة عنه بوجه مـظـفـر

ولو أنصفت نبت لما عدلـت بـه                      سواه وحازت حسن مرأى ومخبر فكتب إليه إبراهيم بن المدبر:

طربت إلى قطربـل وبـلـشـكـر                      وراجعت غيا ليس عني يمـقـصـر

وذكرني شـعـر أتـانـي مـونـق                      حبائب قلبي فـي أوائل أعـصـري

فنهنهت نفسير عن تذكر ما مـضـى                      وقلت: أفيقـي لات حـين تـذكـر

أبا حسن ما كنت تعرف بـالـخـنـا                      ولا بعلو في المـكـان الـمـؤخـر

ومازلت محمود الشمائل مرتضى الخ                      لائق معروفا بـعـرف ومـنـكـر

أترمي بنبت من جـفـاهـا تـخـيرا                      وباعدها عـنـه بـرأي مـوقـر?

ودافعها عن سرها وهي تشـتـكـي                      إليه تباريح الهـوى الـمـسـتـقـر

ولو كان تبـاعـا دواعـي نـفـسـه                      إذا لقضى أوطاره ابـن الـمـدبـر

على أنه لو حصحص الحق باعـهـا                      ولو كان مشغوفا بهـا بـمـظـفـر

بلؤلؤة زهـراء يشـرق ضـوءهـا                      وغرة وجه كالصباح الـمـشـهـر

إلى الـلـه أشـكـو أن هـذا وهـذه                      غزالا كـثـيب ذي أقـاح مـنـور

وأنت فقد طالبتـهـا فـوجـدتـهـا                      لها خلـق لا يرغـوي ذو تـوعـر

وحاولت منها سلوة عـن مـظـفـر                      فما لان منها العطف عند الـتـخـير

نصحتك عـن ود ولـم أك جـاهـدا                      فإن شئت فاقبل قول ذي النصح أو ذر فكتب إليه علي بن يحيى المنجم:

 

صفحة : 2498

 

 

لعمري لقد أحسنت يا بن المـدبـر                      ومازلت في الإحسان عين المشهر

ظرفت ومن يجمع من العلم مثل ما                      جمعت أبا إسحاق يظرف ويشهر ولإبراهيم في نبت هذه أشعار كثيرة منها قوله:

نبت إذا سكتت كان السكوت لها                      زينا وإن نطقت فالدر ينتشـر

وإنما أقصدت قلبي يمقلتـهـا                      ما كان سهم ولا قوس ولا وتر وقوله:

يا نبت يا نبت قد هام الفؤاد بكم                      وأنت والله أحلى الخلق أنسانـا

ألا صليني فإني قد شغفت بكـم                      إن شئت سرا وإن أحببت إعلانا خاتما عريب أخبرني جعفر بن قدامة قال: كان في إصبع إبراهيم بن المدبر خاتمان وهبتهما له عريب، وكانا مشهورين لها، فاجتمع مع أبي العبيس بن حمدون في اليوم التاسع والعشرين من شعبان على شرب، فلما سكرا اتفقا على أن يصير إبراهيم إلى أبي العبيس، ويقيم عنده من غد إن لم ير الهلال، وأخذ الخاتمين منه رهنا. ورئي الهلال في تلك الليلة، وأصبح الناس صياما، فكتب إبراهيم إلى أبي العبيس يطالبه بالخاتمين، فدافعه، وعبث به، فكتب إليه من غد:

كيف أصبحت يا جعلت فداكا                      إنني أشتكي إليك جـفـاكـا

قد تمادى بك الجفاء وما كـن                      ت حقيقا ولا حـريا بـذاكـا

كن شبيها بمن مضى جعل الل                      ه لك العمر دائما ورعـاكـا

إن شهر الصيام شهر فكـاك                      أنت فيه ونحن نرجو الفكاكا

فاردد الخاتمين ردا جـمـيلا                      قد تنعمت فيهما ما كفـاكـا

يا أبا عبد الـلـه دعـوة داع                      يرتجي نجح أمره إذ دعاكـا يعني أبا عبد الله بن حمدون والد أبي العبيس المخاطب بهذا الشعر

خاتماي اللذان عند أبي العـب                      اس قد شارفا لديه الهلاكـا

وهو حر وقد حكـاك كـمـا                      أنك قد المكرمات تحكي أباكا فبعث بالخاتمين إليه.

عريب تزوره؛ وتستزير أبا العبيس وأخبرني جعفر قال: زارت عريب إبراهيم بن المدبر وهو في داره على الشاطئ في المطيرة واقترحت عليه حضور أبي العبيس فكتب إليه إبراهيم:

قل لابـــن حـــمـــــدون ذاك الأريب                      وذاك الـظـريف وذاك الــحـــســـيب

كتـابـي إلـيك بـشــكـــوى عـــريب                      لوجـد شــديد وشـــوق عـــجـــب

وشـوقـي إلـيك كـشـوق الـــغـــريب                      إلـى أرضـه بـعـد طـول الـمـغـــيب

ويومـي إن أنـت تـــمـــمـــتـــه                      بقـربـك ذو كـل حــســـن وطـــيب

حبـانـي الـزمـان كـمـا أشـتــهـــي                      بقـرب الـحـبـيب وبـعـد الــرقـــيب

فمـازلـت أشــرب مـــن كـــفـــه                      وأسـقـيه سـقـي الـلــطـــيف الأديب

ويشكو إلي وأشكو إليه بقول عفيف وقول مريب

إلى أن بدا لي وجه الصباح                      كوجـهـك ذاك الـعـجـيب الــغـــريب

فلا تـخـلـنـا يا نـظــام الـــســـرو                      ر مـنـك فـأنـت شـفـاء الـكــثـــئي

وغـن لـنـا هـزجـا مـمــســـكـــا                      تخـف لـه حـركـات الـــلـــبـــيب

فإنـك قـد حـزت حـسـن الـغـــنـــاء                      وقـد فـزت مـنـه بـأوفـى نـصـــيب

وكـن بـأبـي أنـت رجـع الـــجـــواب                      فداؤك أنـفـسـنـا مـــن مـــجـــيب يعجبه اللحن فيكمله أخبرني جعفر قال: غنى أبو العبيس بن حمدون يوما عند إبراهيم: صوت

إني سألتك بـالـذي                      أدنى إليك من الوريد

إلا وصلت حبالـنـا                      وكفيتنا شر الوعـيد فزاد فيه إبراهيم قوله:

الهجر لا مسـتـحـسـن                      بعد المواثق والـعـهـود

وأراك مـغـراة بـــه                      أفما غرضت من الصدود?

إنـي أجـدد لــذتـــي                      ما لاح لـي يوم جــديد

شربى معـتـقة الـكـرو                      م ونزهتي ورد الـخـدود فغنى هذه الأبيات أبو العبيس متصلة باللحن الأول في البيتين وصار الجميع صوتا واحدا إلى الآن، والأبيات الأخيرة لإبراهيم بن المدبر والأولان ليسا له.

نسبة هذا الصوت الغناء في البيتين الأولين خفيف ثقيل مزموم لأبي العبيس، وفيهما لبنان خفيف ثقيل آخر مطلق وفيهما لعريب ثاني ثقيل بالوسطى.

يكمل لحنا آخر قال جعفر: وغنته يوما كراعة بسر من رأى ونحن حضور عنده.

 

يا معشر الناس أما مسلـم                      يشفع عند المذنب العاتب?

 

صفحة : 2499

 

 

ذاك الذي يهرب من وصلنا                      تعلقوا بالله بـالـهـارب فزاد فيهما قوله:

ملكته حبلـى ولـكـنـه                      ألقاه من زهد على غاربي

وقال إني في الهوى كاذب                      فانتقم الله مـن الـكـاذب عود إلى حبس المتوكل له حدثني عمي، قال: حدثني محمد بن داود قال: كتب إبراهيم بن المدبر إلى أبي عبد الله بن حمدون في أيام نكبته يسأله إذكار المتوكل والفتح بأمره:

كم ترى يبقى على ذا بدنـي                      قد بلي من طول هم وضني

أنا في أسر وأسـبـاب ردى                      وحديد فادح يكـلـمـنـي

يا بن حمدون فتى الجود الذي                      أنا منه في جنى ورد جنـى

ما الذي ترقبه أم مـا تـرى                      في أخ مضطهد مرتـهـن

وأبو عمران موسى حـنـق                      حاقد يطلبـنـي بـالإحـن

وعبيد اللـه أيضـا مـثـلـه                      ونجاح بي مجـد مـاينـي

ليس يشفيه سوى سفك دمـي                      أو يراني مدرجا في كفنـي

والأمير الفتح إن أذكـرتـه                      حرمتي قام بأمري وعنـي

فأل صدق حين أدعو باسمـه                      وسرور حين يعرو حزنـي

قل له: يا حسن ما أوليتـنـي                      مالما أوليتني مـن ثـمـن

زاد إحسانك عندي عظـمـا                      أنه باد لمـن يعـرفـنـي

لست أدري كيف أجزيك بـه                      غير أني مثقل بـالـمـنـن

ما رأى القوم كذنبي عندهـم                      عظم ذنبي أننـي لـم أخـن

ذاك فعلي وتراثي عن أبـي                      واقتدائي بأخي في السـنـن

سنة صـالـحة مـعـروفة                      هي منا في قديم الـزمـن

ظفر الأعداء بي عن حـيلة                      ولعل الله أن يظـفـرنـي

ليت أني وهم في مجـلـس                      يظهر الحق به للـفـطـن

فترى لي ولهـم مـلـحـمة                      يهلك الخائن فيها والـدنـي

والذي أسأل أن ينصـفـنـي                      حاكم يقضي يما يلزمـنـي

قل لحمدون خليلـي وابـنـه                      ولعيسى حركـوه يا بـنـي يعني يا بني الزانية، فلم يزالوا في أمره حتى خلصوه هل جرب الخمر من فمها? حدثني محمد بن يحيى الصولي: قال: كان إبراهيم بن المدبر يحب جارية للمغنية المعروفة بالبكرية بسر من رأى فقال فيها:

غادرت قلبي في إسار لـديك                      فويلتا منك وويلـي عـلـيك

قد يعلم الله علـى عـرشـه                      أني أعاني الموت شوقا إليك

مني بفك الأسر أو فاقتـلـي                      أيهما أحببت من حسـنـييك

قد كنت لا أعدى على ظالـم                      فصرت لا أعدي على مقلتيك

الخمر من فيك لـمـن ذاقـه                      والورد للناظر من وجنتـيك

يا حسرتا إن مت طوع الهوى                      ولم أنل ما أرتـجـيه لـديك وأنشدها أبو عبد الله بن حمدون هذه الأبيات، وغنت بها، وجعل يكرر قوله:

الخمر من فيك لمن ذاقه ويقول: هذا والله قول خبير مجرب، فاستحيت من ذلك، وسبت إبراهيم، فبلغه ذلك، فكتب إلى أبي عبد الله يقول:

ألم يشقك التماع البرق في السـرح?                      بلى وهيج من وجـد ومـن ذكـر

مازال دمعي غزير القطر منشجمـا                      سحا بأربعة تجـري مـن الـدرر

وقلت للغـيث لـمـا جـاد وابـلـه                      وما شجاني من الأحزان والسـهـر

يا عارضا ماطرا أمطر على كبـدي                      فإنها كبد حـري مـن الـفـكـر

لشد ما نال مني الدهر واعتـلـقـت                      يد الزمان وأوهت من قوى مـرري

يا واحدي من عباد الـلـه كـلـهـم                      ويا غناي ويا كـهـفـي ويا وزري

أحين أنشدت شعري في معـذبـتـي                      أما رثيت لها من شدة الحـصـر?

وما شفعت بها شعري وقـلـت بـه                      في ريقها البارد السلسال ذي الخصر

لبئس مستنصحا في مـثـل ذلـك يا                      نفسير فداؤك من مستنصـح غـدر

والـيوم يوم كـريم لـيس يكـرمـه                      إلا كريم من الفـتـيان ذو خـطـر

نشدتك الله فاصبحه بـصـحـبـتـه                      مباكرا فألذ الشرب فـي الـبـكـر

 

صفحة : 2500

 

 

واجمع نداماك فيه واقتـرح رمـلا                      صوتا تغنيه ذات ادل والـخـفـر

يرتاح للدجن قلبي وهو مقـتـسـم                      بين الهموم ارتياح الأرض للمطـر

يا غادرا يا أحب النـاس كـلـهـم                      إلي والله من أنـثـى ومـن ذكـر

ويا رجائي ويا سؤلـي ويا أمـلـي                      ويا حياتي ويا سمعي ويا بصـري

ويا مناي ويا نـوري ويا فـرحـي                      ويا سروري ويا شمسي ويا قمري

لا تقبلي قول حسـادي عـلـي ولا                      والله ما صدقوا في القول والخبـر

أدالني الله من دهر يضعضعـنـي                      فقد حجبت عن التسليم والـنـظـر

إن يحجبوا عنك في تقديرهم بصري                      فكيف لم يحجبوا ذكري ولا فكري?

يا قوم قلبي ضعيف من تذكـرهـا                      وقلبها فارغ أقسى من الـحـجـر

الـلـه يعـلـم أنـي هـائم دنـف                      بغادة ليتها حظي مـن الـبـشـر مجلس من مجالسه أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني عبد الله بن محمد المروزي، قال: حدثني الفضل بن العباس ابن المأمون، قال: زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها، فوافتنا ونحن على شرابنا، فتحدثت معنا ساعة، وسألتها أن نقيم عندنا، فأبت، وقالت: قد وعدت جماعة من أهل الأدب والظرف أن أصير إليهم، وهم في جزيرة المربد، منهم إبراهيم بن المدبر، وسعيد بن حميد، ويحيى بن عيسى بن منارة، فخلفت عليها، فأقامت. ودعت بدواة وقرطاس وكتبت إليهم سطرا واحدا؛ )بسم الله الرحمن الرحيم( أردت، ولولا، ولعلي.

ووجهت الرقعة إليهم، فلما وصلت قرءوها، وعيوا بجوابها، فأخذها إبراهيم بن المدبر، فكتب تحت أردت  ليت  وتحت لولا  ماذا  ? وتحت لعلي  أرجو  ووجه بالرقعة إليها، فلما قرأتها طربت ونعرت، وقالت: أنا أترك هؤلاء وأقعد عندكم? تركني الله إذا من يديه، وقامت فمضت وقالت لكم فيمن أتخلفه عندكم من جواري كفاية.

عريب تتدله في حبه عند مكاتبتها له أخبرني محمد بن خلف : قال: حدثني عبد الله بن المعتز، قال: قرأت في مكاتبات لعريب فصلا من جواب أجابت به إبراهيم بن المدبر مكاتبة بديعة بعيادة: قد استبطأت عيادتك - قدمت قبلك - وعذرتك، فما ذكرت عذرا ضعيبفا لا ينبغي أن يفرح به. فأستديم الله نعمه عندك.

قال وكتبت إليه أيضا: أستوهب الله حياتك، قرأت رقعتك المسكينة التي كلفتها مسألتك عن أحوالنا، ونحن نرجو من الله أحسن عوائده عندنا وندعوه ببقائك، ونسأله الإجابة فلا تعود نفسك - جعلني الله فداءها - هذا الجفاء، والثقة مني بالاحتمال وسرعة الرجوع.

وكتب ت إليه وقد بلغتها صومه يوم عاشوراء: قبل الله صومك وتلقاه بتبليغك ما التمست، كيف ترى نفسك? - نفسي فداؤك - ولم كدرت جسمك في آب، أخرجه الله عنك في عافية، فإنه فظ غليظ وأنت محرور، وإطعام عشرة مساكين أعظم لأجرك، ولو علمت لصمت لصومك مساعدة لك وكان الثواب في حسناتك دوني، لأن نيتي في الصوم كاذبة.

أخبرني جعفر بن قدامة قال: اتصلت لعريب أشغال دائمة في أيام تركوا رسي، وخدمتها فيما هنالك. فلم يرها إبراهيم بن المدبر مدة، فكتب إليها: صوت

إلى الله أشكو وحشتي وتفجعـي                      وبعد المدى بيني وبـين عـريب

مضى دونها شهران لم أحل فيهما                      بعيش ولا من قربها بنـصـيب

فكنت غريبا بين أهلي وجيرتـي                      ولست إذا أبصرتهـا بـغـريب

وإن حبيبا لم ير الناس مـثـلـه                      حقيق بأن يفدى بكـل حـبـيب لعريب في هذه الأبيات خفيف ثقيل من رواية ابن المعتز، وهو من مشهور غنائها.

عود إلى مكاتبتات عريب وقال ابن المعتز في ذكره مكاتبات عريب إلى إبراهيم بن المدبر، وقد كتب إليها يشكو علته: كيف أصبحت أنعم الله صباحك ومبيتك? وأرجو أن يكون صالحا، وإنما أردت إزعاج قلبي فقط.

وكتبت إليه تدعو له في شهر رمضان: أفديك بسمعي وبصري وأهل الله هذا الشهر عليك باليمن والمغفرة، وأعانك على المفترض فيه والمتنفل، وبلغك مثله أعواما، وفرج عنك وعني فيه.

قال وكتبت إليه:

 

صفحة : 2501

 

فداؤك السمع والبصر والأم والأب ومن عرفني وعرفته. كيف ترى نفسك وقيتها الأذى? وأعمى الله شائنك، ومقه? الله عند هذه الدعوة، وأرجو أن تكون قد أجيبت إن شاء الله، وكيف ترى الصوم? عرفك الله بركته، وأعانك على طاعته، وأرجو أن تكون سالما من كل مكروه بحول الله وقوته، وواشوقي إليك وواحشتي لك، ردك الله إلى أحسن ما عودك، ولا أشمت بي فيك عدوا ولا حاسدا. وقد وافاني كتابك لا عدمته إلا بالغنى عنه بك، وذكرت حامله، فوجهت رسولي إليه ليدخله، فأسأله عن خبرك، فوجدته منصرفا، ولو رأيته لفرشت خدي له، وكان ذلكل أهلا.

وكتبت إليه وقد عتبت عليه في شيء بلغها عنه: وهب الله لنا بقاءك ممتعا بالنعم، مازلت أمس في ذكرك، فمرة بمدحك، ومرة بشكرك، ومرة بأكلك وذكرك بما فيك لونا لونا. اجحد ذنبك الآن وهات حجج الكتاب ونفاقهم، فأما خبرنا أمس فإما شربنا من فضله نبيذك على تذكارك رطلا رطلا، وقد رفعنا حسباننا إليك، فارفع حسبانك إلينا، وخبرنا من زارك أمس وألهاك، وأي شيء كانت القصة على جهتها? ولا تخطرف، فتحوجنا إلى كشفك والبحث عنك، وعن حالك، وقل الحق، فمن صدق نجا، وما أحوجك إلى تأديب، فإنك لا تحسن أن تؤدبه، والحق أقول إنه يعتريك كزاز شديد يجوز حد البرد. وكفاك بهذا من قولي عقوبة، وإن عدت سمعت أكثر من هذا، والسلام.

يشمت في الشامت به حدثني عمي قال: حدقني محمد بن داود قال: كان عيسى بن إبراهيم النصراني المكنى أبا الخير كاتب سعيد بن صالح يسعى على إبراهيم بن المدبر في أيام نكبته، فلما زالت، ومات سعيد نكب عيسى بن إبراهيم وحبس ونهبت داره فقال فيه إبراهيم بن المدبر:

قل لأبي الشر إن مررت به                      مقالة عريت من اللـبـس

ألبسك الله مـن قـوارعـه                      آخذة بالخناق والـنـفـس

لازلت يا بن البظراء مرتهنا                      في شر حال وضيق محتبس

أقول لما رأيت مـنـزلـه                      منتهبا خالـيا مـن الأنـس

يا منزلا قد عفا من الطفـس                      وساحة أخليت من الدنـس من لاقتراف الفحشاء بعد أبي الشر ومن للقبيح والنجس? تحية إلى أحبابه من الدير أخبرني جعفر بن قدامة قال: ولي إبراهيم بن المدبر بعقب نكبته وزوالها عنه الثغور الجزرية، فكان أكثر مقامه بمنبج، فخرج في بعض أيام ولايته إلى نواحي دلوك ورعبان، وخلف بمنبج جارية كان يتحظاها مغنية يقال لها غادر، فحدثني بعض كتابه أنه كان معه بدلوك، وهخو على جبل من جبالها، فيه دير يعرف بدير سليمان من أحسن بلاد الله وأنزهها، فنزل عليه ودعا بطعام خفيف فأكل وشرب، ثم دعا بدواة وقرطاس فكتب:

أيا ساقيينا وسـط دير سـلـيمـان                      أديرا الكئوس فانهلاني وعـلانـي

وخصا بصافيها أبا جعـفـر أخـي                      وذا ثقتي بين الأنام وخلـصـانـي

وميلا بها نحو ابـن سـلام الـذي                      أود وعودا بعد ذاك لـنـعـمـان

وعما بها الندمان والصحب إنـنـي                      تنكرت عيشي بعد صحبي وإخواني

ترحلت عنه عن صدود وهـجـرة                      وأقبل نحوي وهو باك فأبكـانـي

وفارقته والله يجمـع شـمـلـنـا                      بلوعة مـحـزون وغـلة حـران

وليلة عين الـمـرج زار خـيالـه                      فهيج لي شوقا وجدد أشـجـانـي

فأشرفت أعلى الدير أنظر طامحـا                      بألمح آمـاق وأنـظـر إنـسـان

لعلي أرى أبـيات مـنـبـج رؤية                      تسكن من وجدي وتكشف أحزاني

فقصر طرفي واستهل بـعـبـرة                      وفديت من لو كان يدري لفدانـي

ومثله شوقـي إلـيه مـقـابـلـي                      وناجاه قلبي بالضمير وناجـانـي يهدي شعره إلى أخيه قرأت على ظهر دفتر فيه شعر إبراهيم بن المدبر أهداه مجموعا إلى أخيه أحمد، فلما وصل إليه قرأه وكتب عليه بخطه:

أبا إسحاق إن تكن الـلـيالـي                      عطفن عليك بالخطب الجسـيم

فلم أر صرف هذا الدهر يجري                      بمكروه على غـير الـكـريم وفاء عريب له أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني ميمون بن هارون قال:

 

صفحة : 2502

 

اجتمعت مع عريب في مجلس أنس بسر من رأى عند أبي عيسى بن المتوكل، وإبراهيم بن المدبر يومئذ ببغداد، فمر لنا أحسن يوم، وذكرته عريب فتشوقته وأحسنت الثناء عليه والذكر له، فكتبت إليه بذلك من غد، وشرحته له، فأجابني عن كتابي وكتب في آخره:

أتعلم يا ميمون مـاذا تـهـيجـه                      بذكرك أحبابي وحفظهم العـهـدا

ووصف عريب في كريم وفائهـا                      وإجمالها ذكرى وإخلاصها الودا?

عليها سلامي إن تكن دارها نـأت                      فقد قرب الله الذي بينـنـا جـدا

سقى الله دارا بعدنا جمـعـتـكـم                      وسكن رب العرش ساكنها الخلدا

وخص أبا عيسى الأمير بنـعـمة                      وأسعد فيما أرتجيه لـه الـجـدا

فما ثم من مجد وطـول وسـودد                      ورأى أصيل يصدع الحجر الصلدا يصلحون بينه وبين عريب حدثني جحظة قال: حدثني عبد الله بن حمدون قال: اجتمعت أنا وإبراهيم بن المدبر وابن منارة والقاسم وابن زرزور في بستان بالمطيرة وفي يوم غيم يهريق رذاذه ويقطر أحسن قطر، ونحن في أطيب عيش وأحسن يوم، فلم نشعر إلا بعريب قد أقبلت من بعيد، فوثب إبراهيم بن المدبر من بيننا، فخرج حافيا، حتى تلقاها وأخذ بركابها، حتى نزلت وقبل الأرض بين يديها، وكانت قد هجرته مدة لشيء أنكرته عليه، فجاءت وجلست وأقبلت عليه مبتسمة، وقالت: إنما جئت إلى من هاهنا لا إليك. فاعتذر وشيعنا قوله، وشفعنا له. فرضيت وأقامت عندنا يومئذ وباتت، واصطبحنا من غد، وأقامت عندنا فقال إبراهيم: صوت

بأبي من حقق الظن بـه                      فأتانا زائرا مـبـتـديا

كان كالغيث تراخى مدة                      وأتى بعد قنوط مـرويا

طاب يومان لنا في قربه                      بعد شهرين لهجر مضيا

فأقر الله عيني وشفـى                      سقما كان لجسمي مبليا لعريب في هذا الشعر لحنان: رمل وهزج بالوسطى.

من شعره في عريب أنشدني الصولي رحمه الله لإبراهيم بن المدبر في عريب:

زعـمـوا أنـــي أحـــب عـــريبـــا                      صدقـوا والـلـه حـبـا عـــجـــبـــا

حل من قلبي هواها محلا لم تدع فيه لخلق نصيبا

ليقل من قد رأى الناس قدما:                      هل رأى مـثـل عــريب عـــريبـــا?

هي شـمـس والـنـســـاء نـــجـــوم                      فإذا لاحــت أفـــلـــن غـــيوبـــا وأنشدني الصولي أيضا له فيها:

ألا يا عـــريب وقـــيت الـــــــردى                      وجـنـبـك الـلـه صــرف الـــزمـــن

فإنك أصبحت زين النساء وواحدة الناس في كل فن

فقربك يدنى لذيذ الحياة                      وبـعـدك ينـفــي لـــذيذ الـــوســـن

فنـعـم الـجـلـيس ونـــعـــم الأنـــيس                      ونـعـم الـسـمـير ونـعـم الـســكـــن وأنشدني أيضا له:

إن عريبا حلقـت وحـدهـا                      في كل ما يحسن من امرها

ونعمة للـه فـي خـلـقـه                      يقصر العالم عن شكرهـا

أشهد في جاريتيها عـلـى                      أنهما محسنتـا دهـرهـا

فبدعة تبدع فـي شـدوهـا                      وتحفة تتحف في زمرهـا

يا رب أمتعها بما خـولـت                      وامدد لنا يا رب في عمرها أبو شراعة يودعه أخبرنا أبو الفياض سوار بن أبي شراعة القيسي البصري قال: كان إبراهيم بن المدبر يتولى البصرة، وكان محسنا إلى أهل البلد إحسانا يعمهم، ويشتمل على جماعتهم نفعه، ويخصنا من ذلك بأوفر حظ وأجزل نصيب، فلما صرف عن البصرة شيعه أهلها، وتفجعوا لفراقه، وساءهم صرفه، فجعل يرد الناس من تشييعهم على قدر مراتبهم في الأنس به، حتى لم يبق معه إلا أبي، فقال له: يا أبا شراعة، إن المشيع مودع لا محالة، وقد بلغت أقصى الغايات، فبحقي عليك إلا انصرفت، ثم قال: يا غلام احمل إلى أبي شراعة ما أمرتك له به، فأحضر ثيابا وطيبا ومالا، فودعه أبي، ثم قال:

يا أبا إسحـاق سـر فـي دعة                      وامض مصحوبا فما منك خلف

ليت شعري أي أرض أجدبـت                      فأغيثت بك من جهد العجف ?

نزل الرحم مـن الـلـه بـهـم                      وحرمناك لذنب قـد سـلـف

إنـمـا أنـت ربـيع بـاكـر                      حيثما صرفه الله انـصـرف قلبه عند عريب أخبرني علي بن العباس بن طلحة الكاتب قال:

 

صفحة : 2503

 

قرأت جوابا بخط إبراهيم بن المدبر في أضعاف رقعة كتبتها إليه عريب، فوجدته قد كتبت تحت فصل من الكتاب تسأله فيه عن خبره.

 

وساءلتموه بعدكم كـيف حـالـه                      وذلك أمر بين لـيس يشـكـل

فلا تسألوا عن قلبه فهو عندكـم                      ولكن عن الجسم المخلف فاسألوا لا يسر وعريب نازحة أخبرني علي بن العباس قال: حدثني أبي قال: كنت عند إبراهيم بن المدبر، فزارته بدعة وتحفة وأخرجتا إليه رقعة من عريب فقرأناها فإذا فيها:

بنفسي أنت وسمعي وبصري، وقل ذاك لك، أصبح يومنا هذا طيبا، طيب الله عيشك، قد احتجبت سماؤه ورق هواؤه، وتكامل صفاؤه، فكأنه أنت في رقة شمائلك وطيب محضرك ومخبرك، لا فقدت ذلك أبدا منك، ولم يصادف حسنه وطيبه مني نشاطا ولا طربا لأمور صدتني عن ذلك، أكره تنغيص ما أشتهيه لك من السرور بنشرها وقد بعثت إليك ببدعة وتحفة ليؤنساك وتسر بهما. سرك الله وسرني بك فكتب إليها يقول:

كيف السرور وأنـت نـازحة                      عني وكيف يسوغ لي الطرب

إن غبت غاب العيش وانقطعت                      أسبابه وألـحـت الـكـرب وأنفذ الجواب إليها، فلم يلبث أن جاءت، فبادر إليها، وتلقاها حافيا حتى جاء بها على حمار مصري كان تحتها إلى صدر مجلسه، يطأ الحمار على بساطه وما عليه، حتى أخذ بركابها، وأنزلها في صدر مجلسه وجلس بين يديها، ثم قال:

ألا رب يوم قصر الله طـولـه                      بقرب عريب حبذا هو من قرب

بها تحسن الدنيا وينعم عيشـهـا                      وتجتمع السراء للعين والقلـب من شعره في جاريتي عريب حدثني علي بن سليمان قال: أنشدني أبي قال: أنشدني إبراهيم بن المدبر، وقد كتب إلى بدعة وتحفة يستدعيهما، فتأخرتا عنه فكتب إليهما:

قل يا رسول لهـذه                      ولهذه بأبي هـمـا

قد كان وصلكما لنا                      حسنا ففيم قطعتما?

أعريب سيدة النسـا                      ء بهجرنا أمرتكما?

كلا وبيت اللـه بـل                      هذا جفاء منكـمـا صوت له غنته عريب وأنشدني علي بن العباس لإبراهيم بن المدبر، وفيه لعريب هزج، وقال:

ألا يا بأبـي أنـتـم                      نأت دار بنا عنكـم

فإن كنتم تبـدلـتـم                      فما من بدل منكـم

وإن كنتم على العهد                      فأحسنتم وأجملتـم

ويا ليت المنى حقت                      فنبديها ولا تكـتـم

فكنتم حيثما كـنـا                      وكنا حيثما كنـتـم من شعره في سجنه وحدثني علي قال: حدثني أبي قال: دخلت ليلة على إبراهيم بن المدبر في أيام نكبته ببغداد في ليلة غيم، فلاح برق من قطب الشمال ونحن نتحدث، فقطع الحديث، وأمسك ساعة مفكرا، ثم أقبل علي فقال:

بارق شـــراد الـــكــــرى                      لاح مـن نـحـو مــا تـــرى

هاج لـلـقـلـب شـــجـــوه                      فاعـتـرى مـنـه مـا اعـتـرى

أيها الشادن الذي صاد قلبي وما درى

كن عليما بشقوتي                      فيك مــن بـــين ذا الـــورى عود إلى جاريتي عريب وحدثني عن أبيه قال: كنت عند إبراهيم بن المدبر فزارته بدعة وتحفة وأقامتا عنده، فأنشدنا يومئذ:

أيها الزائروان حياكمـا الـل                      ه ومن أنما لـه بـالـسـلام

ما رأينا في الدهر بدرا وشمسا                      طرقا ثم رجعـا بـالـكـلام

كيف خلفتما عريبا سقاها اللـه                      رب العباد صوب الغـمـام

هي كالشمس والحسان نجـوم                      ليس ضوء النهار مثل الظلام

جمعت كل ما تفرق في النـا                      س وصارت فريدة في الأنام شعره في سجنه وأنشدني عن أبيه لإبراهيم بن المدبر وهو محبوس:

واني لأستنشي الـشـمـال إذا جـرت                      حنينا إلى ألاف قلـبـي وأحـبـابـي

وأهدي مع الريح الجـنـوب إلـيهـم                      سلامي وشكوى طول حزني وأوصابي

فيا ليت شعري هل عـريب عـلـيمة                      بذلك أو نـام الأحـبة عـمـا بـي? يعاتب صديقه أبا الصقر حدثني عمي، عن محمد بن داود قال: كان إبراهيم بن المدبر صديق أبي الصقر اسمعيل بن بلبل فلم يرض فعله لما نكب ولا نيابته عنه فقال فيه:

لا تطل عذلي عناء                      إن في العذل بلاء

 

صفحة : 2504

 

 

لست أبكي بطن مـر                      فكـديا فـكـــداء

إنما أبكـي خـلـيلا                      خان في الود الصفاء

يا أبا الصقر سقاك الل                      ه تـهـتـانـا رواء

وأدام اللـه نـعـمـا                      ك وملاك البـقـاء

لم تجاهـلـت ودادي                      وتناسـيت الإخـاء?

كنت برا فعـلـى رأ                      سي تعلمت الجفـاء

لا تميلن مـع الـري                      ح إذا هبـت رخـاء

ربما هبت عـقـيمـا                      تترك الدنيا هـبـاء حلم يتحقق أخبرني علي بن العباس قال: حدثني أبي قال: كنت عند إبراهيم بن المدبر وزارته عريب. فقال لها: رأيت البارحةف ي النوم أبا العبيس وقد غنى في هذا الشعر وأ،ت تراسلينه فيه:

يا خليلي أرقنا حزنـا                      لسنا برق تبدى موهنا وكأني أجزته بهذا البيت وسألتكما أن تضيفاه إلى الأول:

وجلا عن وجه دعد موهنا                      عجبا منه سنا أبدى سنـا فقالت: ما أملح والله الابتداء والإجازة فاجعل ذلك في اليقظة، واكتب إلى أبي العبيس وسله عني وعنك الحضور، فكتب إليه إبراهيم:

يا أبا العباس يا أفـتـى الـورى                      زارنا طيفك في سكر الكـرى

وتغنى لي صـوتـا حـسـنـا                      في سنا برق على الأفق سرى

وعريب عـنـدنـا حـاصـلة                      زين من يمشي على وجه الثرى

نحن أضيافك في مـنـزلـنـا                      نتمناك فـكـن أ،ت الـقـرى قال: فسار إليهما أبو العبيس، وحدثه إبراهيم برؤياه، فحفظا الشعر، وغنيا فيه بقية يومهما: صوت

ألا حي قبل البين من أنت عاشقه                      ومن أنت مشتاق إليه وشائقـه

ومن لا تواتى داره غـير فـينة                      ومن أنت تبكي كل يوم تفارقه الشعر لقيس بن جروة الطائي الأجئي، قاله في غارة أغارها عمرو بن هند على إبل لطيئ فحرض زرارة بن عدس عمرو بن هند على طيئ وقال له: إنهم يتوعدونك، فغزاهم واتصلت الأحوال إلى أن أوقع عمرو ببني تميم في يوم أوارة وخبر ذلك يذكر هاهنا؛ لتعلق بعض أخباره ببعض.

والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي ومن مجموع غناء إبراهيم.

ذكر الخبر في هذه الغارات والحروب

يوم أوارة نسخت ذلك من كتاب عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات بخطه، وذكر أن أحمد بن الهيثم بن فراس أخبره به عن العمري عن هشام بن الكلبي عن أبيه وغيره من أشياخ طيئ. قال: وحدثني محمد بن أبي السري عن هشام بن الكلبي قالوا: كان من حديث يوم أوارة أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء - وهو عمرو بن هند يعرف باسم أمه هند بنت الحارث الملك المنصور بن حجر آكل المرار الكندي وهو الذي يقال له مضرط الحجارة - أنه كان عاقد هذا الحي من طيئ على ألا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغزوا، وأن عمرو بن هند غزا اليمامة، فرجع منفضا فمر بطيئ، فقال له زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم الحنظلي: أبيت اللعن أصب من هذا الحي شيئا، قال له: ويلك إن لهم عقدا، قال: وإن كان، فلم يزل به حتى اصاب نسوة وأذوادا.

قيس بن جروة يتهدد عمرو بن هند فقال في ذلك الطائي، وهو قيس بن جروة أحد الأجئين قال:

ألا حي قبل البين من أنت عاشقه                      ومن أنت مشتاق إليه وشاشئقـه

ومن لا تواتى داره غـير فـينة                      ومن أنت تبكي كل يوم تفارقـه

وتعدو بصحراء الثوية ناقـتـي                      كعدو النحوص قد أمخت نواهقه

إلى الملك الخير ابن هند تزوره                      وليس من الفوت الذي هو سابقه

وإن نساء هن مـا قـال قـائل                      غنيمة سوء بينهن مـهـارقـه

ولو نيل في عهد لنا لحم أرنـب                      رددنا وهذا العهد أنت معالقـه

فهبك ابن هند لم تعقـك أمـانة                      وما المرء إلا عقده ومواثـقـه

وكنا إناسا خافضـين بـنـعـمة                      يسيل بنا تلع المـلا وأبـارقـه

فأقسمت لا أحتل إلا بصـهـوة                      حرام علي رمله وشـقـائقـه

وأقسم جهدا بالمنازل من مـنـى                      وما خب في بطائهـن درادقـه

 

صفحة : 2505

 

 

لئن لم تغير ما قد فعلـتـم                      لأنتحين العظم ذو أنا عارقه فسمى عارقا بهذا البيت. فبلغ هذا الشعر عمرو بن هند، فقال له زرارة بن عدس: أبيت اللعن، إنه يتوعدك. فقال عمرو بن هند لترملة بن شعاث الطائي - وهو ابن عم عارق: أيهجوني ابن عمك ويتوعدني قال: والله ما هجاك، ولكنه قد قال:

والله لو كان ابن جفنة جاركم                      لكسا الوجوه غضاضة وهوانا

وسلاسلا يبرقن في أعناقكـم                      وإذا لقطع تلكـم الأقـرانـا

ولكان عادته على جـيرانـه                      ذهبا وريطا رادعا وجفـانـا قالوا: الرداع: المصبوغ بالزعفران، وإنما أراد ترملة أن يذهب سخيمته، فقال: والله لأقتلنه. فبلغ ذلك عارقا، فأنشأ يقول:

من مبلغ عمرو بـن هـنـد رسـالة                      إذا استحقبتها العيس تنضى على البعد

أيوعدني والرمل بـينـي وبـينـه?                      تبين رويدا ما أمـامة مـن هـنـد

ومن أجأ دونـي رعـان كـأنـهـا                      قنابل خيل من كـمـيت ومـن ورد

غدرت بأمر أنت كنت اجتـذبـتـنـا                      عليه وشر الشيمة الغدر بالـعـهـد

فقد يترك الغدر الفتى وطـعـامـه                      إذا هو أمسى حلبة من دم الفـصـد عمرو يغزو طيئا ويشفع غانما فيهم فبلغ عمرو بن هند شعره هذا، فغزا طيئا، فأسر أسى من طيء من بني عدي بن أخزم - وهم رهط حاتم بن عبد الله - فيهم رجل من الأجئيين يقال له قيس بن جحدر - وهو جد الطرماح بن حكيم، وهو ابن خالة حاتم - فوفد حاتم فيهم إلى عمرو بن هند، وكذلك كان يصنع، فسأله إياهم، فوهبهم له إلا قيس بن جحدر، لأنه كان من الأجئيين من رهط عارق، فقال حاتم:

فككت عديا كلها من إسـارهـا                      فأنعم وشفعني بقيس بن جحـدر

أبوه أبي والأمهات أمـهـاتـنـا                      فأنعم فدتك اليوم نفسي ومعشري فأطلقه.

مالك بن المنذر قال: وبلغنا أن المنذر بن ماء السماء وضع ابنا له صغيرا - ويقال: بل كان أخا له صغيرا - يقال له؛ مالك عند زرارة، وإنه خرج ذات يوم يتصيد، فأخفق، ولم يصب شيئا، فرجع، فمر بإبل لرجل من بني عبد الله بن دارم، يقال له سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم، وكان عند سويد ابنة زرارة بن عدس، فولدت له سبعة غلمة، فأمر مالك بن المنذر بناقة سمينة منها فنحرها، ثم اشتوى وسويد نائم، فلما انتبه شد على مالك بعصا فضربه بها،فأمه. ومات الغلام، وخرج سويد هاربا حتى لحق بمكة وعلم أنه لا يأمن، فحالف بني نوفل بن عبد مناة واختط بمكة، فمن ولده أبو أهاب بن عزيز بن قيس بن سويد، وكانت طيئ تطلب عرثرات زرارة وبني أبيه حتى بلغهم ما صنعوا بأخي الملك، فانشأ عمرو بن ثعلبة بن ملقط الطائي يقول:

من مبلغ عمرا بأن المر                      ء لم يخلق صـبـاره

وحـــوادث الأيام لا                      تبقى لها إلا الحجـاره

أن ابن عـجـزة أمـه                      بالسفح أسفل من أواره قال هشام: أول ولد المرأة يقال له: زكمة، والآخر: عجزة تسفي الرياح خلاله سحيا وقد سلبوا إزاره

فاقـتــل زرارة لا أرى                      في القوم أفضل من زرارة هرب زرارة وعودته فلما بلغ هذا الشعر عمرو بن هند بكى، حتى فاضت عيناه، وبلغ الخبر زرارة، فهرب، وركب عمرو بن هند في طلبه فلم يقدر عليه، فأخذ امرأته وهي حبلى فقال: أذكر في بطنك أم أنثى? قالت: لا علم لي بذلك، قال: ما فعل زرارة الغادر الفاجر? فقالت: إن كان ما علمت لطيب العرق سمين المرق ويأكل ما وجد، ولا يسأل عما فقد، لا ينام ليلة يخاف، ولا يشبع ليلة يضاف. فبقر بطنها.

فقال قوم زرارة لزرارة: ولله ما قتلت أخاه، فأت الملك، فاصدقه الخبر، فأتاه زرارة، فأخبره الخبر فقال: جئني بسويد، فقال: قد لحق بمكة، قال: فعلي ببنيه السبعة، فأتى ببنيه وبأمهم بنت زرارة وهم غلمة بعضهم فوق بعض، فأمر بقتلهم، فتناولا أحدهم فضربوا عنقه، وتعلق بزرارة الآخرون فتناولهوهم، فقال زرارة: يا بعضي دع بعضا، فذهبت مثلا. وقتلوا.

عمرو ينكل ببني تميم

 

صفحة : 2506

 

وآلى عمرو بن هند بألية ليحرقن من بني حنظلة مائة رجل، فخرج يربدهم وبعث على مقدمته الطائي عمرو بن ثعلبة بن عتاب بن ملقط، فوجدوا القوم قد نذروا، فأخذوا منهم ثمانية وتسعين رجلا بأسفل أوارة من ناحية البحرين، فحبسهم، ولحقه عمرو بن هند، حتى انتهى إلى أوارة، فضربت فيه قبته، فأمر لهم بأخدود فحفر لهم، ثم أضرمه نارا، فلما احتدمت وتلظت، قذف بهم فيها، فاحترقوا.

إن الشقي وافد البراجم وأقبل راكب من البراجم - وهم بطن من بني حنظلة - عند المساء، ولا يدري بشيء مما كان يوضع له بعيره فأناخ، فقال له عمرو بن هند: ما جاء بك? قال: حب الطعام، قد أقويت ثلاثا لم أذق طعاما، فلما سطع الدخان ظننته دخان طعام، فقال له عمرو بن هند: ممن أنت? قال: من البراجم، قال عمرو: إن الشقي وافد البراجم فذهب مثلا، ورمى به في النار، فهجت العرب تميما بذلك، فقال ابن الصعق العامري:

ألا أبلغ لديك بني تميم                      بآية ما يحبون الطعاما مثل من شجاعة المرأة وأقام عمرو بن هند لا يرى أحدا، فقيل له أبيت اللعن لو تحللت بامرأة منهم، فقد أحرقت تسعة وتسعين رجلا. فدعا بامرأة من بني حنظلة، فقال لها: من أنت? قالت: أنا الحمراء بنت ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم، فقال: إني لأظنك أعجمية، فقالت: ما أنا بأعجمية ولا ولدتني العجم.

 

إني لبنت ضمرة بن جابـر                      ساد معدا كابرا عن كابـر

إني لأخت ضمرة بن ضمرة                      إذا البلاد لفعت بجـمـرة قال عمرو: أما والله لولا مخافة أن تلدي مثلك لصرفتك عن النار، قالت: أما والذي أسأله أن يضع وسادك، ويخفض عمادك، ويسلبك ملكك، ما قتلت إلا نساء أعاليها ثدي وأسفلها دمي قال: اقذفوها في النار، فالتفتت، فقالت: ألا فتى يكون مكان عجوز فلما أبطؤوا عليها قالت: صار الفتيان حمما، فذهبت مثلا فأحرقت، وكان زوجها يقال له هوذة بن جرول بن نهشل بن دارم.

لقيط يعير بني مالك فقال لقيط بن زرارة يعير بني مالك بن حنظلة بأخذ من أخذ منهم الملك وقتله إياهم ونزولهم معه:

لمن دمنة أقفرت بالـجـنـاب                      إلى السفح بين الملا فالهضاب

بكـيت لـعـرفـان آياتـهـا                      وهاج لك الشوق نعب الغراب

فأبلغ لـديك بـنـي مـالـك                      مغلغـلة وسـراة الـربـاب

فإن امـرأ أنـتـم حـولــه                      تحفون قبتـه بـالـقـبـاب

يهـين سـراتـكـم عـامـدا                      ويقتلكم مثل قتـل الـكـلاب

فلو كنتـم إبـلا أمـلـحـت                      لقد نزعت للمـياه الـعـذاب

ولكنكم عنـم تـصـطـفـى                      ويترك سـائرهـا لـلـذئاب

لعمر أبيك أبـي لـخـير مـا                      أردت بقتلهـم مـن صـواب

ولا نغمة إن خـير الـمـلـو                      ك أفضلهم نعمة في الرقـاب شعر الطرماح في أوارة وفيها يقول الطرماح بن حكيم ويذكر هذا.

 

واسأل زرارة والمأمور ما فعلت                      قتلى أوارة من رعلان واللـدد

ودارما قد قذفنا منـهـم مـائة                      في جاحم النار إذ يلقون بالخـدد

ينزون بالمشتوي منها ويوقدهـا                      عمرو ولولا شحوم القوم لم تقد زرارة يريد الثأر من ابن ملقط قال: فحدثني الكلبي عن المفضل الضبي قال: لما حضر زرارة الموت جمع بنيه وأهل بيته ثم قال: إنه لم يبق لي عند أحد من العرب وتر، إلا قد أدركته؛ غير تحضيض الطائي ابن ملقط الملك علينا، حتى صنع ما صنع، فأيكم يضمن لي طلب ذلك من طيئ? قال عمرو بن عمرو بن عدس بن زيد أنا لك بذلك يا عم. ومات زرارة، فغزا عمرو بن عمرو جديلة، ففاتوهم، وأصاب ناسا من بني طريف بن مالك وطريف بن عمرو بن تمامة وقال في ذلك شعرا.

لقيظ بن زرارة يخطب بنت ذي الجدين

 

صفحة : 2507

 

وكان زرارة بن عدس ين زيد رجلا شريفا، فنظر ذات يوم إلى ابنه لقيط، ورأى منه خيلاء ونشاطا، وجعل يضرب غلمانه وهو يومئذ شاب. فقال له زرارة: لقد أصبحت تصنع صنيعا كأنما جئتني بمائة من هجان المنذر بن ماء السماء، أو نكحت بنت ذي الجدين بن قيس بن خالد. قال لقيط: لله علي ألا يمس رأسي غسل، ولا آكل لحما، ولا أشرب خمرا، حتى أجمعهما جميعا أو أموت. فخرج لقيط ومعه ابن خال له، يقال له: القراد بن إهاب، وكلاهما كان شاعرا شريفا، فسارا حتى أتيا بني شيبان، فسلما على ناديهم ثم قال لقيط: أفيكم قيس بن خالد ذو الجدين? وكان سيد ربيعة يومئذ، قالوا: نعم، قال: فأيكم هو? قال قيس: أنا قيس، فما حاجتك? قال: جئتك خاطبا ابنتك - وكانت على قيس يمين ألا يخطب إليه أحد ابنته علانية إلا أصابه بشر وسمع به فقال له قيس: ومن أنت? قال: أنا لقيط بن زرارة بن عدس بن زيد، قال قيس: عجبا منك يا ذا القصة هلا كان هذا بيني وبينك? قال: ولم يا عم? فوالله إنك لرغبة وما بي من نضاة - أي ما بي عار - ولئن ناجيتك لا أخدعك - ولئن عالنتك لا أفضحك، فأعجب قيسا كلامه، وقال: كفء كريم؛ إني زوجتك ومهرتك مائة ناقة ليس فيها مظائر ولا ناب ولا كزوم، ولا تبيت عندنا عزبا ولا محروما. ثم أرسل إلى أم الجارية: أني قد زوجت لقيط بن زرارة ابنتي القدور، فاصنعيها واضربي لها ذلك البلق، فإن لقيط ابن زرارة لا يبيت فينا عزبا. وجلس لقيط يتحدث معهم، فذكروا الغزو، فقال لقيط: أما الغزو فأردها للقاح وأهزلها للجمال، وأما المقام فأسمنها للجمال، وأحبها للنساء. فأعجب ذلك قيسا، وأمر لقيطا، فذهب إلى البلق فجلس فيه، وبعثت إليه أم الجارية بمجمرة وبخور، وقالت للجارية: اذهبي بها إليه، فوالله لئن ردها ما فيه خير، ولئن وضعها تحته ما فيه خير، فلما جاءته الجارية بالمجمرة بخر شعره ولحيته ثم ردها عليها، فلما رجعت الجارية إليها، خبرتها بما صنع، فقالت: إنه لخليق للخير، فلما أمسى لقيط أهديت الجارية إليه. فمازحها بكلام اشمأزت منه، فنام وطرح عليه طرف خميصة، وباتت إلى جنبه، فلما استثقل انسلت فرجعت إلى أمها، فانتبه لقيط، فلم يرها، فخرج حتى أتى ابن خاله قرادا وهو في أسفل الوادي، فقال: ارحل بعيرك وإياك أن يسمع رغاؤها.

لقيط يحظى بجوائز المنذر وكسرى فتوجها إلى المنذر بن ماء السماء، وأصبح قيس ففقد لقيطا فسكت، ولم يدر ما الذي ذهب به. ومضى لقيط، حتى أتى المنذر فأخبره ما كان من قول أبيه وقوله، فأعطاه مائة من هجائنه، فبعث بها مع قراد إلى أبيه زرارة، ثم مضى إلى كسرى فكساه وأعطاه جواهر، ثم انصرف لقيط من عند كسرى، فأتى أباه، فأخبره خبره.

لقيط يعود إلى زوجته ثم تئيم منه وأقام يسيرا، ثم خرج هو وقراد حتى جاءا محلة بني شيبان فوجداهم قد انتجعوا فخرجا في طلبهم حتى وقعا في الرمل، فقال لقيط:

انظر قراد وهاتا نظرة جزعـا                      عرض الشقائق هل بينت أظعانا

فيهن أترجة نضخ العبير بـهـا                      تكسى ترائبها شذرا ومرجـانـا فخرجا حتى أتيا قيس بن خالد. فجهزها أبوها، فلما أرادت الرحيل قال لها: يا ينية كوني لزوجك أمة يكن لك عبدا، وليكن أكثر طيبك الماء، فإنك إنما يذهب بك إلى الأعداء، وأراك إن ولدت فستلدين لنا غيظا طويلا، واعلمي أن زوجك فارس مضر، وأنه يوشك أن يقتل أو يموت، فلا تخمشي عليه وجها ولا تحلقي شعرا، قالت له: أما والله لقد ربيتني صغيرة، وأقصيتني كبيرة، وزودتني عند الفراق شر زاد. وارتحل بها لقيط، فجعلت لا تمر بحي من العرب إلا قالت: يا لقيط، أهؤلاء قومك? فيقول: لا، حتى طلعت على محلة بني عبد الله بن دارم، فرأت القباب، والخيل العراب، قالت: يا لقيط أهؤلاء قومك? قال: نعم، فأقام أياما يطعم وينحر، ثم بنى بها، فأقامت عنده حتى قتل يوم جبلة، فبعث إليها أبوها أخا لها فحملت، فلما ركبت بعيرها أقبلت حتى وقفت على نادي بني عبد الله بن دارم، فقالت: يا بني دارم، أوصيكم بالغرائب خيرا، فوالله ما رأيت مثل لقيط، لم تخمش عليه امرأة وجها ولم تحلق عليه شعرا، فلولا أني غريبة لخمشت وحلقت، فحبب الله بين نسائكم، وعادى بين رعائكم، فأثنوا عليها خيرا.

زوجة لقيط في عصمة غيره

 

صفحة : 2508

 

ثم مضت حتى قدمت على أبيها، فزوجها من قومه، فجعل زوجها يسمعها تذكر لقيطا وتحزن عليه، فقال لها: أي شيء رأيت من لقيط أحسن في عينك? قالت: خرج يوم دجن وقد تطيب وشرب، فطرد البقر فصرع منها، ثم أتاني وبه نضح دماء، فضمني ضمة، وشمني شمة، فليتني مت ثمة، فلم أر منظرا كان أحسن من لقيط. فمكث عنها حتى إذا كان يوم دجن شرب، وتطيب، ثم ركب، فطرد البقر، ثم أتاها وبه نضح دم والطيب وريح الشراب، فضمها إليه وقبلها، ثم قال لها: كيف ترين? أأنا أم لقيط فقالت: ماء ولا كصداء، ومرعى ولا كالسعدان فذهبت مثلا، وصداء: ركية ليس في الأرض ركية أطيب منها، وقد ذكرها التميمي في شعره:

إنني وتهيامي بزينـب كـالـذي                      يخالس من أحواض صداء مشربا

يرى دون برد الماء هـولا وذادة                      إذا اشتد صاحو أقبل أن يتحبـبـا يقول: قبل أن يروى يقال: تحببت من الشراب أي رويت، وبضعت منه أيضا أي رويت منه، والتحبب: الري.

 

صوت

 

وكاتبة في الخد بالمسك جعـفـرا                      بنفسي مخط المسك من حيث أثرا

لئن كتبت في الخد سطرا بكفـهـا                      لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

فيا من لمملوك لمـلـك يمـينـه                      مطيع لها فيما أسـر وأظـهـرا

ويا من هواها في السريرة جعفر                      سقى الله من سقيا ثناياك جعفـرا الشعر لمحبوبة شاعرة المتوكل، والغناء لعريب خفيف رمل مطلق.

 

أخبار محبوبة

كانت محبوبة أجمل من فضل كانت محبوبة مولدة من مولدات البصرة، شاعرة شريفة مطبوعة لا تكاد فضل الشاعرة اليمامية أن تتقدمها، وكانت محبوبة أجمل من فضل وأعف، وملكها المتوكل وهي بكر، أهداها له عبد الله بن طاهر، وبقيت بعده مدة، فما طمع فيها أحد، وكانت أيضا تغني غناء ليس بالفاخر البارع.

أخبرني بذلك جحظة عن أحمد بن حمدون. أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني علي بن يحيى المنجم: كان علي بن الجهم يقرب من أنس المتوكل جدا، ولا يكتمه شيئا من سره مع حرمه وأحاديث خلواته، فقال له يوما: إني دخلت على قبيحة، فوجدتهخا قد كتبت اسمي على خدها بغالية؛ فلا والله ما رأيت شيئا أحسن من سواد تلك الغالية على بياض ذلك الخد، فقل في هذا شيئا. قال: وكانت محبوبة حاضرة للكلام من وراء الستر، وكان عبد الله بن طاهر أهداها في جملة أربعمائة وصيفة إلى المتوكل، قال: فدعا علي بن الجهم بدواة، فإلى أن أتوه بها وابتدأ يفكر، قالت محبوبة على البديهة من غير فكر ولا روية:

وكاتبة بالمسك في الخد جعـفـرا                      بنفسي مخط المسك من حيث أثرا

لئن كتبت في الخد سطرا بكفـهـا                      لقد أودعت قلبي من الحب أسطرا

فيا من لمملوك لمـلـك يمـينـه                      مطيع له فيما أسـر وأظـهـرا

ويا من مناها في السريرة جعفـر                      سقى الله من سقيا ثناياك جعفـرا قال: وبقي علي بن الجهم واجما لا ينطق بحرف. وأمر المتوكل بالأبيات، فعبث بها إلى عريب وأمر أن تغني فيها، قال علي بن يحيى: قال علي بن الجهم بعد ذلك: تحيرت والله، وتقلبت خواطري، فوالله ما قدرت على حرف واحد أقوله.

شعرها في تفاحة أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني ابن خرداذبة قال حدثني علي بن الجهم: قال: كنت يوما عند المتوكل وهو يشرب ونحن بين يديه، فدفع إلى محبوبة تفاحة مغلفة فقبلتها، وانصرفت عن حضرته إلى الموضع الذي كانت تجلس فيه إذا شرب، ثم خرجت جارية لها ومعها رقعة، فدفعتها إلى المتوكل فقرأها، وضحك ضحكا شديدا، ثم رمى بها إلينا، فقرأناها وإذا فيها:

يا طيب تفاحة خـلـوت بـهـا                      تشعل نار الهوى على كـبـدي

أبكي أليها وأشتـكـي دنـفـي                      وما ألاقي من شـدة الـكـمـد

لو أن تفاحة بـكـت لـبـكـت                      من رحمتي هذه الـتـي بـيدي

إن كنت لا ترحمين ما لـقـيت                      نفسي من الجهد فارحمي جسدي قال: فوالله ما بقي أحد إلا استظرفها، واستملحها، وأمر المتوكل فغنى في هذا الشعر صوت شرب عليه بقية يومه.

وفاؤها للمتوكل بعد موته حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم.

 

 

صفحة : 2509

 

أن جواري المتوكل تفرقن بعد قتله، فصار إلى وصيف عدة منهن، وأخذ محبوبة فيمن أخذ، فاصطبح يوما وأمر بإحضار جواري المتوكل، فأحضرن، عليهن الثياب الملونة، والمذهبة والحلي، وقد تزين وتعطرن إلا محبوةب فإنها جاءت مرهاء متسلبة، عليها ثياب بياض غير فاخرة، حزنا على المتوكل. فغنى الجواري جميعا، وشربن وطرب وصيف وشرب، ثم قال لها: يا محبوبة غني فأخذت العود، وغنت وهي تبكي، وتقول:

أي عيش يطـيب لـي                      لا أرى فيه جعـفـرا

ملكا قـد رأتـه عـي                      ني قتيلا مـعـفـرا

كل من كـان ذا هـيا                      م وحزن فـقـد بـرا

غير محبـوبة الـتـي                      لو ترى الموت يشترى

لاشترته بمـلـكـهـا                      كل هذا لـتـقـبـرا

إن موت الكـئيب أص                      لح مـن أن يعـمـرا فاشتد ذلك على وصيف، وهم بقتلها. وكان بغا حاضرا، فاستوهبها منه، فوهبها له، فأعتقها، وأمر بإخراجها، وأن تهكون بحيث تختار من البلاد، فخرجت من سرمن رأى إلى بغداد، وأخملت ذكرها طول عمرها.

خصام وصلح في المنام؛ ثم في اليقظة أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني ملاوي الهيثمي قال: قال لي علي بن الجهم: كانت محبوبة أهديت إلى المتوكل أهداها إليه عبد الله بن طاهر في جملة أربعمائة جارية، وكانت بارعة الحسن والظرف والأدب مغنية محسنة، فحظيت عند المتوكل، حتى إنه كان يجلسها خلف ستارة وراء ظهره إذا جلس للشرب، فيدخل رأسه إليهان ويحدثها، ويراها في كل ساعة. فغاضبها يوما، وهجرها ومنع جواريه جميعا من كلامها ثم نازعته نفسه إليها، وأراد ذلك، ثم منعته العزة، وامتنعت من ابتدائه إدلالا عليه بمحلها منه. قال علي بن الجهم: فبكرت إليه يوما فقال لي: إني رأيت البارحة محبوبة في نومي كأني قد صالحتها، فقلت: أقر الله عينك يا أمير المؤمنين، وأنامك على خير، وأيقظك على سرور، وأرجو أن يكون هذا الصلح في اليقظة، فبينا هو يحدثني وأجيبه إذا بوصيفة قد جاءته، فأسرت إليه شيئا، فقال لي: أتدري ما أسرت هذه إلي? قلت: لا، قال: حدثتني أنها اجتازت بمحبوبة الساعة وهي في حجرتها تغني، أفلا تعجب من هذا? إني مغاضبها، وهي متهاونة بذلك، لا تبدؤني بصلح، ثم لا ترضى حتى تغني في حجرتها، قم بنا يا علي حتى نسمع ما تغني. ثم قام، وتبعته، حتى انتهى إلى حجرتها فإذا هي تغني وتقول:

أدور في القصر لا أرى أحـدا                      أشكو إلـيه ولا يكـلـمـنـي

حتى كأني ركبت مـعـصـية                      ليست لها توبة تخـلـصـنـي

فهل لنا شـافـع إلـى مـلـك                      قد زارني في الكرى فصالحني

حتى إذا ما الصباح لاح لـنـا                      عاد إلى هجره فصارمـنـي فطرب المتوكل، وأحسنت بمكانه. فأمرت خدمها، فخرجوه إليه، وتنحينا وخرجت إليه، فحدثته أنها رأته في منامها، وقد صالحها، فانتبهت، وقالت هذه الأبيات، وغنت فيها. فحدثها هو أيضا برؤياه، واصطلحا، وبعث إلى كل واحد منا بجائزة وخلعة.

ولما قتل تسلى عنه جميع جواريه غيرها، فإنها لم تزل حزينة مستلبة هاجرة لكل لذة حتى ماتت. ولها فيه مراث كثيرة.

 

?صوت

 

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتـخـرا                      هل أنت إلا مليك جار إذ قـدرا

لولا الهوى لتجازينا علـى قـدر                      وإن أفق منه يوما ما فسوف ترى الشعر يقال إنه للواثق، قاله في خادم له غضب عليه، ويقال: إن أبا حفص الشطرنجي قاله له.

والغناء لعبيدة الطنبورية رمل مطلق، وفيه لحن للواثق آخر، قد ذكر في غنائه.

 

???أخبار عبيدة الطنبورية

نشأتها كانت عبيدة من المحسنات المتقدمات في الصنعة والآداب يشهد لها بذلك إسحاق وحسبها بشهادته. وكان أبو حشيشة، يعظمها، ويعترف لها بالرياسة والأستاذية، وكانت من أحسن الناس وجها، وأطيبهم صوتا. ذكرها جحظة في كتاب الطنبوريين والطنبوريات، وقرأت عليه خبرها فيه فقال: كانت من المحسنات، وكانت لا تخلو من عشق، ولم يعرف في الدنيا امرأة أعظم منها في الطنبور، وكانت لها صنعة عجيبة، فمنها في الرمل:

كن لي شفيعا إليكا                      إن خف ذاك عليكا

وأعفني من سؤالي                      سواك ما في يديكا

يا من أعز وأهوى                      مالي أهون عليكا? تغنى بحضرة إسحاق وهي لا تعرفه

 

صفحة : 2510

 

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: قال، لي علي بن الهيثم اليزيدي: كان أبو محمد - يعني أبي رحمه الله إسحاق بن إبراهيم الموصلي - يألفني ويدعوني، ويعاشرني، فجاء يوما إلى أبي الحسن إسحاق بن إبراهيم فلم يصادفه، فرجع ومر بي، وأنا مشرف من جناح لي، فوقف وسلم علي. وأخبرني بقصته، وقال؛ هل تنشط اليوم للمسير إلي? فقلت له: ما على الأرض شيء أحب إلي من ذلك، ولكني أخبرك بقصتي، ولا أكتمك. فقال: هاتها، فقلت: عندي اليوم محمد بن عمرو بن مسعدة وهارون بن أحمد بن هشام، وقد دعونا عبيدة الطنبورية، وهي حاضرة، والساعة يجيء الرجلان، فامض في حفظ الله، فإني أجلس معهم حتى تنتظم أمورهم، وأروح إليك، فقال لي: فهلا عرضت علي المقام عندك? فقلت له: لو علمت أن ذلك مما تنشط له والله لرغبت إليك فيه، فإن تفضلت بذلك كان أعظم لمنتك، فقال: أفعل، فإني قد كنت أشتهي أن أسمع عبيدة، ولكن لي عليك شريطة، قلت: هاتها، قال: إنها إن عرفتني وسألتموني أن أغني بحضرتها لم يخف عليها أمري وانقطعت فلم تصنع شيئا، فدعوها على جبلتها، فقلت: أفعل ما أمرت به، فنزل ورد دابته وعرفت صاحبي ما جرى، فكتماها أمره وأكلنا ما حضر، وقدم النبيذ، فغنت لحنا لها تقول:

قريب غير مقتـرب                      ومؤتلف كمجتنـب

له ودي ولي مـنـه                      دواعي الهم والكرب

أواصله على سبـب                      ويهجرني بلا سبب

ويظلمني على ثـقة                      بأن إليه منقلـبـي فطرب إسحاق، وشرب نصفا، ثم غنت وشرب نصفا، ولم يزل كذلك حتى والى بين عشرة أنصاف، وشربناها معه؛ وقام ليصلي، فقال لها هارون بن أحمد بن هشام: ويحك يا عبيدة ما تبالين والله متى مت، قالت: ولم? قال: أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب? قالت: لا والله، قال: إسحاق بن إبراهيم الموصلي، فلا تعرفيه أنك قد عرفته. فلما جاء إسحاق ابتدأت تغني، فلحقتها هيبة له، واختلاط، فنقصت نقصانا بينا، فقال لنا: أعرفتموها من أنا? فقلنا له: نعم. عرفها إياك هارون بن أحمد، فقال إسحاق: نقوم إذا، فننصرف، فإنه لا خير في عشرتكم الليلة ولا فائدة لي ولا لكم، فقام فانصرف.

حدثني بهذا الخبر جحظة عن جماعة منهم العباس بن أبي العبيس، فذكر مثله وقال فيه: إن الصوت الذي غنته.

 

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا المسدود يأبى أن يغني قبلها حدثني جحظة قال: حدثني محمد بن سعيد الحاجب قال: حدثني ملاحظ غلام أبي العباس بن الرشيد. وكان في خدمة سعيد الحاجب، قال: اجتمع الطنبوريون عند أبي العباس بن الرشيد يوما، وفيهم المسدود وعبيدة، فقالوا للمسدود: غن، فقال: لا والله، لا تقدمت، عبيدة، وهي الأستاذة، فما غنى حتى غنت.

لم تدخل عليه بعد أن تزوج وحدثني جحظة، قال: حدثني شرائح الخزاعي صاحب ساباط شرائح بسويقة نصر وساباط شرائح مشهور قال: كانت عبيدة تعشقني فتزوجت فمرت بي يوما فسألتها الدخول إلي فقالت يا كشخان، كيف أدخل إليك وقد أقعدت في بيتك صاحب مصلحة ولم تدخل.

ما كتب على طنبورها وحدثني جحظة قال: وهب لي جعفر بن المأمون طنبورها فإذا عليه مكتوب بأبنوس:

كل شيء سوى الخيا                      نة في الحب يحتمل تاريخ غير مشرف وحدثني جحظة وجعفر بن قدامة، وخبر جعفر أتم، إلا أني قرأته على جحظة، فعرفه، وذكر لي أنه سمعه، قالا جميعا: حدثنا أحمد بن الطيب السرخسي قال:

 

صفحة : 2511

 

كان علي بن أحمد بن بسطام المروزي - وهو ابن بنت شبيب بن واج، وشبيب أحد النفر الذي سترهم المنصور خلف قبته يوم قتل أبا مسلم؛ وقال لهم: إذا صفقت فاخرجوا فاضربوه بسيوفكم. ففعل وفعلوا - فكان علي بن أحمد هذا يتعشق عبيدة الطنبورية وهو شاب وأنفق عليها مالا جليلا، فكتبت إليه أسأله عن خبرها ومن هي? ومن أين خرجت? فكتب إلي: كانت عبيدة بنت رجل يقال له صباح مولى أبي السمراء الغساني، نديم عبد الله بن طاهر - وأبو السمراء أحد العدة الذين وصلهم عبد الله بن طاهر في يوم واحد لكل رجل منهم مائة ألف دينار - وكان الزبيدي الطنبوري أخو نظم العمياء، يختلف إلى أبي السمراء، وكان صباح صاحب أبي السمراء، فكان الزبيدي إذا سار إلى أبي السمراء فلم يصادفه أقام عند صباح والد عبيدة وبات، وشرب، وغنى وأنس، وكان لعبيدة صوت حسن وطبع جيد، فسمعت غناء الزبيدي، فوقع في قلبها واشتهته، وسمع الزبيدي صوتها، وعرف طبعها فعلمها، وواظب عليها، ومات أبوها، ورقت حالها، وقد حذفت الغناء على الطنبور، فخرجت تغني، وتقنع باليسير، وكانت مليحة مقبولة خفيفة الروح، فلم يزل أمرها يزيد، حتى تقدمت وكبر حظها، واشتهاها الناس. وحلت تكتها، وسمحت، روغب فيها الفتيان، فكان أول من تعشقها علي بن الفرج الرخجي أخو عمر، وكان حسن الوجه كثير المال، فكنت أراها عنده، وكنا نتعاشر على الفروسية، ثم ولدت من علي بن الفرج بنتا، فحجبها لأجل ذلك، فكانت تحتال في الأوقات بعلة الحمام وغيره، فتلم بمن كانت توده ويودها، فكنت ممن تلم به، وأنا حينئذ شاب قد ورثت عن أبي مالا عظيما وضياعا جليلة، ثم ماتت بنتها من علي بن الفرج، وصادف ذلك نكبتهم واختلال حال علي بن الفرج، فطلقها فخرجت، فكانت تخرج بدينارين للنهار ودينارين لليل، واعترت بأبي السمراء، ونزلت في بعض دوره.

وتزوجت أمها بوكيل له، فتعشقت غلاما من آل حمزة بن مالك يقال له شرائح وهو صاحب ساباط شرائح ببغداد، وكان يغني بالمعزفة غناء مليحا، وكان حسن الوجه، لا عيب في جماله إلا أنه كان متغير النكهة، وكان ت شديدة الغلمة لا تحرم أحدا ولا تكرهه، من حد الكهول إلى الطفل، حتى تعلقت شابا يعرف بأبي كرب بن أبي الخطاب، مشرط الوجه أفطس قبيحا شديد الأدمة، فقيل لها: أي شيء رأيت في أبي كرب? فقالت: قد تمتعت بكل جنس من الرجال إلا السودان، فإن نفسي تبشعهم، وهذا بين الأسود والأبيض، وبينه فارغ لما أريد، وهو صفعاني إذا أردت ووكيلي إذا أردت. قال: وكان لها غلام يضرب عليها يقال له علي ويلقب ظئر عبيدة، فكانت إذا خلت في البيت وشبقت اعتمدت عليه، وقالت: هو بمنزلة بغل الطحان يصلح للحمل والطحن والركوب.

وكان عمرو بن بانة إذا حصل عنده إخوان له يدعوها لهم تغنيهم مع جواريه، وإنما عرفها من داري، لأنه بعث يدعوني، فدخل غلامه، فرآها عندي، فوصفها له فكتب إلي يسألني أن أجيئه بها معي. ففعلت، وكان عنده محمد بن عمرو بن مسعدة والحارث بن جمعة والحسن بن سليمان البرقي وهارون بن أحمد بن هشام، فعدلوا كلهم إلى استماع غنائها والاقتراح له والإقبال عليه، ومال إليها جواريه، وما خرجت إلا وقد عقدت بين الجماعة مودة، وكان جواري عمرو بن بابنة يشتقن إليها، فيسألنه أن يدعوها، فيقول لهن: ابعثن إلى علي حتى يبعث بها إليكن، فإنه يميل إليها، وهو صديقي وأخشى أن يظن أني قد أفسدتها عليه - ولم يكن به هذا إنما كان به الديناران اللذان يريد أن يحدرها بهما - وكان عمرو من أبخل الناس، وكان صوت إسحاق بن إبراهيم عليها:

يا ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا وكانت صوت علوية ومخارق عليها:

قريب غير مقترب وهذان الصوتان جميعا من صنعتها.

إسحاق يحبها حية ويرثيها ميتة وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يشتهي أن يسمعها، ويمنع نفسه ذلك لتيهه ولبرمكته وتوقيه أن يبلغ المعتصم عنه شيء يعيبه، وماتت عبيدة من نزف أصابها، فأفرط حتى أتلفها.

وفي عبيدة يقول بعض الشعراء، ومن الناس من ينسبه إلى إسحاق:

أمست عبيدة في الإحسـان واحـدة                      فالله جار لها من كـل مـحـذور

من أحسن الناس وجها حين تبصرها                      وأحذق الناس إن غنت بطنـبـور

 

صفحة : 2512

 

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال: سمعت إسحاق يقول: الطنبور إذا تجاوز عبيدة هذيان.

 

صوت

 

سقمت حتى ملنـي الـعـائد                      وذبت حتى شمت الحـاسـد

وكنت خلوا من رسيس الهوى                      حتى رماني طرفك الصـائد الشعر فيما أخبرني به جحظة لخالد الكاتب ووجدته في شعر محمد بن أمية له، والغناء لأحمد بن صدقة الطنبوري، رمل مطلق.

وقد مضت أخبار خالد الكاتب ومحمد بن أمية ونذكر هاهنا أخبار أحمد بن صدقة.

 

أخبار أحمد بن صدقة

اسمه ونسبه ونشأته هو أحمد بن صدقة بن أبي صدقة، وكان أبوه حجازيا مغنيا، قدم على الرشيد، وغنى له، وقد ذكرت أخباره في صدر هذا الكتاب.

وكان أحمد بن صدقة طنبوريا محسنا مقدما حاذقا حسن الغناء محكم الصنعة، وله غناء كثير من الأرمال والأهزاج وما جرى مجراها من غناء الطنبوريين، وكان ينزل الشام، فوصف للمتوكل، فأمر بإحضاره، فقدم عليه وغناه، فاستحسن غناءه، وأجزل صلته، واشتهاه الناس وكثر من يدعوه، فكسب بذلك أكثر مما كسبه مع المتوكل أضعافا.

جحظة يشيد به أخبرني بذلك جحظة وقال: كانت له صنعة ظريفة كثيرة ذكل منها الصوت المتقدم ذكره ووصفه وقرظه، وذكر بعده هذا الصوت:

وشادن ينطق بـالـظـرف                      حسن حبيبي منتهى الوصف

هام فؤادي وجرت عبرتـي                      لا بعد الإلف مـن الإلـف قال: وهو رمل مطلق، ولو حلفت أنهما ليسا عند أحد من مغني زماننا إلا عند واحد ما حنثت - يعني نفسه.

خبره مع خالد بن يزيد حدثني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أحمد بن صدقة قال: اجتزت بخالد بن يزيد الكاتب، فقلت له: أنشدني بيتين من شعرك حتى أغني فيهما. قال: وأي حظ لي في ذلك? تأخذ أنت الجائزة وأحصل أنا الإثم فحلفت له أني إن أفدت بشعرك فائدة جعلت لك فيها حظا، أو أذكرت به الخليفة، وسألته فيك، فقال: أما الحظ من جهتك فأنت أنزل من ذلك، ولكن عسى أن تفلح في مسألة الخليفة، ثم أنشدني:

تقول سلا فمن المدنـف                      ومن عينه أبدا تذرف?

ومن قلبه قلق خـافـق                      عليك وأحشاؤه ترجف? فلما جلس المأمون للشرب دعاني، وقد كان غضب على حظية له، فحضرت مع المغنين، فلما طابت نفسه وجهت إليه بتفاحة من عنبر، عليها مكتوب بالذهب: يا سيدي، سلوت. وعلم الله أني ما عرفت شيئا من الخبر.

يتغنى ينكره المأمون وانتهى الدور إلي، فغنيت البيتين، فاحمر وجه المأمون، وانقلبت عيناه وقال لي: يا بن الفاعلة، ألك علي وعلى حرمي صاحب خبر فوثبت، وقلت: يا سيدي ما السبب?. فقال لي: من أين عرفت قصتي مع جاريتي? فغنيت في معنى ما بيننا، فحلفت له أني لا أعرف شيئا من ذلك، وحدثته حديثي مع خالد، فلما انتهيت إلى قوله،  أنت أنزل من ذلك  ضحك، وقال: صدق، وإن هذا الاتفاق ظريف، ثم أمر لي بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها.

دخوله على المأمون في يوم السعانين أخبرني محمد قال: حدثنا حماد قال: حدثني أحمد بن صدقة قال: دخلت على المأمون في يوم السعانين، وبين يديه عشرون وصيفة، جلبا روميات مزنرات، قد تزين بالديباج الرومي، وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب، وفي أيديهن الخوص والزيتون، فقال لي المأمون: ويلك يا أحمد قد قلت في هؤلاء أبياتا فغنني فيها.

ثم أنشدني قوله:

ظباء كالـدنـانـير                      ملاح في المقاصير

جلاهن السعـانـين                      علينا في الزنانـير

وقد زرفن أصداغـا                      كأذناب الـزرارير

وأقبلـن بـأوسـاط                      كأوساط الزنابـير فحفظتها، وغنيته فيها، فلم يزل يشرب، وترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص من الدستبند، إلى الإبلا حتى سكر، فأمر لي بألف دينار، وأمر بأن ينثر على الجواري ثلاثة آلاف دينار، فقبضت الألف، ونثرت الثلاثة الآلاف عليهن، فانتهبتها معهن.

يغضب فيسترضيه الفضل حدثني جحظة قال حدثني جعفر بن المأمون قال:

 

صفحة : 2513

 

اجتمعنا عند الفضل بن العباس بن المأمون، ومعنا المسدود، وأحمد بن صدقة، وكان أحمد قد حلق في ذلك اليوم رأسه، فاستعجلوا بلافة كانت لهم، فأخذ المسدود سكرجة خردل، فصبتها على رأس أحمد بن صدقة وقال: كلوا هذه حتى تجيء تلك. فحلف أحمد بالطلاق ألا يقيم، فانصرف. ولما كان من غد جمعهما الفضل بن العباس، فتقدم المسدود، ودخل أحمد وطنبور المسدود موضوع، فجسه، ثم قال: من كان يسبح في هذا الماء? فما انتفعنا بالمسدود سائر يومه، على أن الفضل قد خلع عليهما، وحماهما.

يقتله الأعراب وينهبون ماله ولم يزل أحمد مقيما، حتى بلغه موت بنية له بالشأم، فشخص نحو منزله، وخرج عليه الأعراب فأخذوا ما معه وقتلوه.

هل كان أبخر? قال جحظة: وقال بعض الشعراء يهجو أحمد بن صدقة وكانت له صديقة فقطعته فعيره بذلك ونسبها إلى أنها هربت منه لأنه أبخر:

هربت صديقة أحـمـد                      هربت من الريق الردي

هربت فإن عادت إلـى                      طنبوره فاقـطـع يدي

صوت

 

ألم تعلموا أنى تخاف عرامـتـي                      وأن قناتي لا تلين على القـسـر

وإني وإياكم كمن نبه الـقـطـا                      ولو لم تنبه باتت الطير لا تسري

أناة وحلما وانتظارا بـكـم غـدا                      فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر

أظن صروف الدهر والجهل منكم                      ستحملكم مني على مركب وعر الشعر للحارث بن وعلة الجرمي، والغناء لابن جامع ثقيل بالبنصر عن عمرو، وفيه لسياط لحن ذكره إبراهمي ولم يجنسه، وقيل إن الشعر لوعلة نفسه.

 

أخبار الحارث بن وعلة

اسمه ونسبه الحارث بن وعلة بن عبد الله بن الحارث بن بلع بن سبيلة بن الهون بن أعجب بن قدامة بن حرم بن زبان - وهو علاف، وإليه تنسب الرحال العلافية، وهو أول من اتخذها - بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وقد ذكرت مقتدما الاختلاف في قضاعة، ومن نسبه معديا، ومن نسبه حميريا.

والرحال العلافية مشهورة عند الناس، قد ذكرتها الشعراء في أشعارها، قال ذو الرمة:

وليل كجلباب العروس ادرعتـه                      بأربعة والشخص في العين واحد

أحم علافـي وأبـيض صـارم                      وأعيس مهري وأروع مـاجـد وكان وعلة الجرمي وابنه الحارث من فرسان قضاعة وأنجادها وأعلامها وشعرائها، وشهد وعلة الكلاب الثاني، فأفلت بعد أن أدركه قيس بن عاصم المنقري، وطلبه، ففاته ركضا وعدوا، وخبره يذكر بعد هذا في موضعه إن شاء الله تعالى.

ابن الأشعث وعبد الملك يتمثلان بشعره وشعر أبيه فأخبرني عمي قال: حدثني الكراني، قال: حدثنا العمري عن العتبي قال: كتب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى الحجاج مبتدئا: أما بعد فإن مثلي ومثلك كما قال القائل:

سائل مجاور جرم هل جنيت لـهـا                      حربا تفرق بين الجيرة الخـلـط?

أم هل دلفت بجـرار لـه لـجـب                      يغشى الأماعيز بين السهل والفرط? والشعر لوعلة الجرمي - هذا مثلي ومثلك، فسأحملك على أصعبه، وأريحك من مركبه.

فكتب الحجاج بذلك إلى عبد الملك، فكتب إليه جوابه: أما بعد؛ فإني قد أجبت عدو الرحمن بلا حول ولا قوة إلا بالله، ولعمر الله لقد صدق، وخلع سلطان الله بيمينه، وطاعته بشماله، وخرج من الدين عريانا، كما ولدته أمه.

ثم لم يصبر عبد الملك على أن يدع جوابه بشعر فقال: وعلى أن مثلي ومثله ما قال الآخر:

أناة وحلما وانتظارا بـكـم غـدا                      فما أنا بالواني ولا الضرع الغمر

أظن صروف الدهر والجهل منهم                      ستحملهم مني على مركب وعر فليت شعري أسما عدو الرحمن لدعائم دين الله يهدمها? أم رام الخلافة أن ينالها? وأوشك أن يوهن الله شوكته، فاستعن بالله، واعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون.

قال مؤلف هذا الكتاب: الشعر الذي تمثل به عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث لوعلة الجرمي، والشعر الذي نمثل به عبد الملك لابنه الحارث بن وعلة.

يخذله قومه وينصره آخرون أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال: حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي، عن أحمد بن إبراهيم، عن أبي عبيدة قال:

 

صفحة : 2514

 

قتلت نهد أخا وعلة الجرمي، فاستعان بقومه، فلم يعينوه، فاستعان بحلفاء من بني نمير، وكانوا له حلفاء وإخوانا، فأعانوه حتى أدرك بثأره فقال في ذلك:

سائل مجاور جرم هل جنيت لهـا                      حربا تزيل بين الجيرة الخـلـط

أم هل علوت بجرار له لـجـب                      يغشى المخارم بين السهل والفرط

حتى تركت نساء الحي ضـاحـية                      في ساحة الدار يستوقدن بالغبـط يفر من قيس ابن عاصم عند غزوه لليمن أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، قال: حدثنا الرياشي قال: خرج رجل من بني تميم - يقال إنه قيس بن عاصم قال الرياشي: وحقق أبو عبيدة أنه قيس - يوم الكلاب يلتمس أن يصيب رجلا من ملوك اليمن له فداء، فبينا هو في ذلك إذ أدرك وعلة الجرمي، وعليه مقطعات له فقال له: على يمينك، قال: على يساري أقصد لي، قال: هيهات منك اليمن، قال: العراق مني أبعد، قال: إنك لن ترى أهلك العام، قال: ولا أهلك تراهم، وجعل وعلة يركض فرسه، فإذا ظن أنها قد أعيت وثب عنها، فعدا معها، وصاح بها، فتجري وهو يجاريها، فإذا أعيا وثب فركبها، حتى نجا. فسأل عنه قيس، فعرف أنه وعلة الجرمي، فانصرف وتركه، فقال وعلة في ذلك:

فدى لكما رحلي أمي وخالتـي                      غداة الكلاب إذ تحز الدوابـر

نجوت نجاء لم ير الناس مثلـه                      كأني عقاب عند تيمن كاسـر

ولما رأيت الخيل تدعو مقاعسا                      تنازعني من ثغرة النحر جائر

فإن استطع لا تلتبس بي مقاعس                      ولا يرني ميدنهم والمحاضـر

ولا تك لي جرارة مـضـرية                      إذا ما غدت قوت العيال تبادر أما قوله:  تحز الدوابر  فإن أهل اليمن لما انهزموا قال قيس بن عاصم لقومه: لا تشتغلوا بأسرهم فيفوتكم أكثرهم، ولكن اتبعوا المنهزمين، فجزوا أعصابهم من أعقابهم ودعوهم في مواضعهم، فإذا لم يبق أحد رجعتم إليهم، فأخذتموهم. ففعلوا ذلك، وأهل اليمن يومئذ ثمانية آلاف عليهم أربعة أملاك يقال لهم: اليزيدون، وهم يزيد بن عبد المدان، ويزيد بن هوير، ويزيد بن المامور ويزيد بن مخزم. هؤلاء الأربعة اليزيدون، والخامس عبد يغوث بن وقاص، فقتل اليزيدون أربعتهم في الوقعة، وأسر عبد يغوث بن وقاص، فقتلته الرباب برجل منها، وقد ذكر خبر مقتله متقدما في صوت يغني فيه وهو:

ألا لا تلوماني كفى اللوم ما بيا وأما قوله:

ولما رأيت الخيل تدعو مقاعسا فإن بني تميم لما التقت مع بني الحارث بن كعب في هذا اليوم تداعت تميم في المعمعة يا آل كعب فتنادى أهل اليمن: يا آل كعب فتنادوا: يا آل الحارث فتنادى أهل اليمن يا آل الحارث فتنادوا: يا آل مقاعس وتميزوا بها من أهل اليمن.

صوت

والله لا نظرت عيني إليك ولـو                      سالت مساربها شوقا إليك دمـا

إن كنت خنت ولم أضمر خيانتكم                      فالله يأخذ ممن خان أو ظلـمـا

سماجة لمحب خان صـاحـبـه                      ما خان قط محب يعرف الكرما الشعر لعلي بن عبد الله الجعفري، والغناء للقاسم بن زرزور، ولحنه ثقيل أول مطلق ابتداؤه نشيد، وكان إبراهيم بن أبي العبيس يذكر أنه لأبيه.

فلما ولي مصعب بن الزبير دعاه، فأنشده الأبيات، فقال: أما والله لأقطعن السيف في رأسك قبل أن تقطعه في رأسي، وأمر به فحبس، ثم دس إليه من قتله.

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، عن ابن جامع، عن يونس قال: جاء رجل من قريش إلى الغريض فقال له: بأبي أنت وأمي إني جئتك قاصدا من الطائف أسألك عن صوت تغنيني إياه، قال: وما هو? قال: لحنك في هذا الشعر:

تشرب لون الرازقي بـبـاضـه                      أو الزعفران خالط المسك رادعه فقال: لا سبيل إلى ذلك، هذا الصوت قد نهتني الجن عنه، ولكني أغنيك في شعر لمرة بن محكان، وقد طرقه ضيف في ليلة شاتية، فأنزلهم، ونحر لهم ناقته، ثم غناه قوله:

يا ربة البيت قومي غير صاغرة                      ضمي إليك رحال القوم والقربا فأطربه، ثم قال له الغريض: هذا لحن أخذته من عبيد بن سريج، وسأغنيك لحنا عملته في شعر على وزن هذا الشعر ورويه للحطيئة، ثم غناه:

ما نقموا من بغيض لا أبالهـم                      في بائس جاء يحدو أينقا شزبا

 

صفحة : 2515

 

 

جاءت به من بلاد الطور تحملـه                      حصاء لم تترك دون العصعا شذبا لا يخفض جبينه إلا لله حدثني اليزيدي قال: حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال: أخبرني العباس بن عيسى العقيلي أن علي بن عبد الله الجعفري أنشده:

والله واللـه ربـي                      وتلك أقصى يميني

لو شئت ألا أصلي                      لما وضعت جبيني أيهما يدع? حدثنا اليزيدي قال: حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال: أخبرني العباس بن عيسى قال: حدثني علي بن عبد الله الجعفري قال: مرت بي امرأة في الطواف، وأنا جالس أنشد صديقا لي هذا البيت:

أهوى هوى الدين واللذات تعجبني                      فكيف لي بهوى اللذات والدين? فالتفتت المرأة إلي وقالت: دع أيهما شئت وخذ الآخر.

عود إلى الصوت حدثنا اليزيدي قال: حثدنا محمد بن الحسن الزرقي قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: أنشدني علي بن عبد الله بن جعفر الجعفري لنفسه:

والله لا نظرت عيني إليك ولـو                      سالت مساربها شوقا إليك دمـا

إلا مفاجأة عنـد الـلـقـاء ولا                      نازعتك الدهر إلا ناسيا كلـمـا

إن كنت خنت ولم أضمر خيانتكم                      فالله يأخذ ممن خان أو ظلـمـا

سماجة لمحب خان صـاحـبـه                      ما خان قط محب يعرف الكرما قال عبد الله بن شبيب وأنشدني علي بن عبد الله لنفسه:

صوت

 

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي                      متـأخـر عـنـه ولا مـتـقـدم

أجد المـلامة فـي هـواك لـذيذة                      حبا لذكرك فليلـمـنـي الـلـوم

وأهنتني فأهنت نفسـي جـاهـدا                      ما من يهون عليك ممـن يكـرم

أشبهت أعدائي فصرت أحـبـهـم                      إذا صار حظي منك حظي منهـم صوت

أتعرف رسم الدار من أم معبد                      نعم فرماك الشوق قبل التجلد

فيا لك من شوق ويا لك عبرة                      سوابقها مثل الجمان المبـدد الشعر لعتيبة بن مرداس المعروف بابن فسوة، والغناء لجميلة، خفيف ثقيل بالبنصر عن ابن المكي. وذكر الهشامي أن فيه لمعبد لحنا من الثقيل الأول، وأنه يظنه من منحول يحيى إليه.

 

أخبار عتيبة ونسبه

اسمه ونسبه عتيبة بن مرداس أحد بني كعب بن عمرو بن تميم، لم يقع إلي من نسبه غير هذا، وهو شاعر مقل غير معدود في الفحول، مخضرم ممن أدرك الجاهلية والإسلام هجاء خبيث اللسان بذي.

لماذا لقب بابن فسوة? وابن فسوة لقب لزمه في نفسه، ولم يكن أبوه يلقب بفسوة، إنما لقب هو بهذا، وقد اختلف في سبب تلقيبه بذلك، فذكر إسحاق الموصلي عن أبي عمرو الشيباني: نسخت ذلك من كتاب إسحاق بخطه.

أن عتيبة بن مرداس كان فاحشا كثير الشر قد أدرك الجاهلية، فأقبل ابن عم له من الحج، وكان من أهل بيت منهم يقال لهم: بن فسوة، فقال لهم عتيبة: كيف كنت يا بن فسوة? فوثب مغضبا، فركب راحلته وقال: بئس لعمر الله ما حييت به ابن عمك، قدم عليك من سفر، ونزل دارك فقام إليه عتيبة مستحييا، وقال له؛ لا تغضب يا بن عم، فإنما مازحتك فأبى أن ينزل، فقال له: انزل وأنا أشتري منك هذا الاسم فأتسمى به، وظن أن ذلك لا يضره، قال: لا أفعل أو تشتريه مني بمحضر من العشيرة. قال: نعم فجمعهم وأعطاه بردا وجملا وكبشين، وقال لهم عتيبة: اشهدوا أني قد قبلت هذا النبز وأخذت الثمن، وأني ابن فسوة، فزالت عن ابن عمه يومئذ، وغلبت عليه وهجي بذلك، فقال فيه بعض الشعراء:

أودى ابن فسوة إلا نعته الإبلا وعمر عمرا طويلا، وإنما قال:

أودى ابن فسوى إلا نعته الإبلا لأنه كان أوصف الناس لها، وأغراهم بوصفها، ليس له كبير شعر إلا وهو مضمن وصفها.

تخريج آخر لهذا اللقب وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال:

 

صفحة : 2516

 

إنما سمي عتيبة بن مرداس بن فسوة، لأنه كان له جار من عبد القيس، فكان يتحدث إلى ابنته، وكان لها حظ من جمال، وكانت تعجبه ويهيم بها، فكان أحداث بني تميم، إذا ذكروا العبدي، قالوا: قال ابن فسوة، وفعل ابن فسوة، فأكثروا عليه من ذلك حتى مل فعمل على التحول عنهم، وبلغ ذلك عتيبة، فأتاه فطلب إليه أن يقيم، وأن يحتمل اسمه، ويشريه منه ببعير، فلم يفعل، قال: العبدي: فتحولت عنهم وشاع في الناس أنه قد ابتاع مني وغلب عليه، فأنشأ عتيبة يقول من كلمة له:

وحول مولانا علينا اسـم أمـه                      ألا رب مولى ناقص غير زائد ابن عباس ينهره أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثنا أحمد بن الحارث قال: حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي وابن دأب وابن جعدبة، قالوا: أتى عتيبة بن مرداس - وهو ابن فسوة - عبد الله بن العباس رضي الله عنهما وهو عامل لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه على البصرة، وتحته يومئذ شميلة بنت جنادة بن بنت أبي أزهر الزهرانية، وكانت قبله تحت مجاشع ابن مسعود السلمي، فأستأذن عليه، فأذن له، وكان لا يزال يأتي أمراء البصرة فيمدحهم، فيعطونه، ويخافون لسانه، فلما دخل على ابن عباس قال له: ما جاء بك إلي يا بن فسوة? فقال له: وهل عنك مقصر أو رواءك معدي? جئتك لتعينني على مروءتي، وتصل قرابتي، فقال له ابن عباس: وما مروءة من يعصي الرحمن ويقول البهتان ويقطع ما أمر الله به أن يوصل? والله لئن أعطيتك لأعيننك على الكفر والعصيان، انطلق فأنا أقسم بالله لئن بلغني أنك هجوت أحدا من العرب لأقطعن لسانك. فأراد الكلام، فمنعه من حضر، وحبسه يومه ذلك، ثم أخرجه عن البصرة.

الحسن وابن جعفر يصلانه خشية لسانه فوفد إلى المدينة بعد مقتل علي رضي الله عنه، فلقي الحسن بن علي رضي الله عنهما، وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهما، فسألاه عن خبره مع ابن عباس عليه السلام فأخبرهما، فاشتريا عرضه بما أرضاه، فقال عتيبة يمدح الحسن وابن جعفر رضي الله عنهما ويلوم ابن عباس رضي الله عنهما

أتيت ابن عباس فلم يقض حاجـتـي                      ولم يرج معروفي ولم يخشى منكري

حبست فلم أنطق بـعـذر لـحـاجة                      وسد خصاص البيت من كل منظـر

وجئت وأصوات الـخـصـوم وراءه                      كصوت الحمام في القليب المغـور

وما أنا إذ زاحمت مصـراع بـابـه                      بذي صولة ضـار، ولا بـحـزور

فلو كنت من زهران لم ينس حاجتـي                      ولكنني مولى جميل بن مـعـمـر وكان حليفا لجميل بن معمر القرشي :

وباتت لعبد الله من دون حاجتـي                      شميلة تلهو بالحديث المقـتـر

ولم يقترب من ضوء نار تحثهـا                      شميلة إلا أن تصلي بمجـمـر

تطالع أهل السوق والباب دونها                      بمستفلك الذفري أسيل المدثـر

إذا هي همت بالخروج يردهـا                      عن الباب مصراعا منيف مجير وجدت بخط إسحق الموصلي مجير: محير. والمحير: المصهرج. والحيار: الصهروج

فليت قلوصي عريت أو رحلتها                      إلى حسن في داره وابن جعفر

إلى ابن رسول الله يأمر بالتقـى                      وللدين يدعو والكتاب المطهـر

إلى معشر لا يخصفون نعالهـم                      ولا يلبسون السبت، ما لم يخصر

فلما عرفت البأس منه وقد بدت                      أيادي سبا الحاجات للمتـذكـر

تسنمت حرجوجا كأن بغامـهـا                      أحيح ابن ماء في يراع مفجـر

فمازلت في التسيار حتى أنحتها                      إلى ابن رسول الأمة المتخـير

فلا تدعني إذ رحلـت إلـيكـم                      بني هاشم أن تصدروني بمصدر وهي قصيدة طويلة، هذا ذكر في الخير منها.

وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار، عن عمر بن شبة، عن المدائني مثل ما مضى أو قريبا منه، ولم يتجاوز عمر بن شبة المدائني في إسناده.

عامر بن الكريز ينهره أيضا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال: قال ابن الأعرابي:

 

صفحة : 2517

 

كان عتيبة بن مرداس السلمي شاعرا خبيث اللسان مخوف المعرة في جاهليته وإسلامه، وكان يقدم على أمراء العراق وأشراف الناس، فيصيب منهم بشعره، فقدم على أبن عامر بن كريز - وكان جوادا - فلما استؤذن له عليه أرسل إليه: إنك والله ما تسأل بحسب ولا دين ولا منزلة، وما أرى لرجل من قريش أن يعطيك شيئا، وأمر به فلكز وأهين فقال ابن فسوة:

وكائن تخطت ناقتي وزميلـهـا                      إلى ابن كريز من نحوس وأسعد

وأغبر مسحول التراب ترى لـه                      حيا طردته الريح من كل مطرد

لعمرك إني عند باب ابن عامـر                      لكالظبي عند الرمية المـتـردد

فلم أر يوما مثله إذ تكـشـفـت                      ضبابته عـنـي ولـمـا أقـيد ثم يطيب خاطر فبلغ قوله ابن عامر، فخاف لسانه وما يأتي به بعد هذا ورجع له، وأحسن القوم رفده، وقالوا: هذا شاعر فارس وشيخ من شيوخ قومه واليسير يرضيه، فقال: ردوه فرد، فقال له: إيه يا عتيبة، أردد علي ما قلت، فقال: ما قلت إلا خيرا قال: هاته فقال: قلت:

أتعرف رسم الدار من أم معبـد                      نعم فرماك الشوق قبل التجلـد

فيا لك من شوق ويا لك عبـرة                      سوابقها مثل الجمان الـمـبـدد

وكائن تخطت ناقتي وزميلـهـا                      إلى ابن كريز من نحوس وأسعد

فتى يشتري حسن الثناء بمـالـه                      ويعلم أن المرء غير مـخـلـد

إذا ما ملمات الأمور اعتـرينـه                      تجلى الدجى عن كوكب متوقـد فتبسم ابن عامر وقال: لعمري ما هكذا قلت، ولكنه قول مستأنف، وأعطاه حتى رضي وانصرف.

ابن الأعرابي يستحسن أبياتا له قال: وأنشدنا ابن الأعرابي له بعقب هذا الخبر، وكان يستحسن هذه الأبيات ويستجيدها:

منعمة لم يغذهـا أهـل بـلـدة                      ولا أهل مصر فهي هيفاء ناهد

فريعت فلم تخبا ولكـن تـأودت                      كما انتص مكحول المدامع فارد

وأهوت لتنتاش الرواق فلم تـقـم                      إليه ولكن طـأطـأتـه الـولائد

قليلة لحم النـاظـرين يزينـهـا                      شباب ومخفوض من العيش بارد

تناهى إلى لهو الحديث كأنـهـا                      أخو سقم قد أسلمتـه الـعـوائد

ترى القرط منها في قناة كأنهـا                      بمهلكة لولا البرا والمـعـاقـد يرثي صريعا في بئر وقال أبو عمرو والشيباني: أغار رجل من بني تغلب يقال له الهذيل بعقب مقتل عثمان على بني تميم، فأصاب نعما كثيرا، فورد بها ماء لبني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم يقال له سفار، فإذا عليه الأسود وخالد ابنا نعيم بن قعنب بن الحارث بن عمرو بن همام بن رباح في إبل لهما قد أورداها، فأراد الهذيل أخذها، فتفرقت، فتفرق أصحابه في طلبها، وهو قائم على رأس ركية من سفار، فرماه أحدهما فقتله فوقع في الركية فكانت قبره. ويقال: بل رماه عبد أسود لمالك ابن عروة المازني، فقال عتيبة بن مرداس الذي يقال له ابن فسوة في ذلك:

من مبلغ فتيان تغـلـب أنـه                      خلال للهذيل من سفار قليب?

إذا صوت الأصداء وسطـهـا                      فتى تغلبي في القليب غريب

فأعددت يربوعا لتغلب إنـهـم                      أناس غذتهم فتـنة وحـروب

حويت لقاح ابني نعيم بن قعنب                      وإنك إن أحرزتها لكـسـوب بشر بن كهف ينهره وقال أبو عمرو أيضا: كان عبد الله بن عامر بن كريز قد تزوج أخت بشر بن كهف أحد بني خزاعة بن مازن، فكان أثيرا عنده، واستعمله على الحمى، فسأله ابن فسوة أن يرعيه فأبى، ومنعه، وطرد إبله، فقال في ذلك:

من يك أرعاه الحـمـى أخـواتـه                      فما لي من أخت عوان ولا بـكـر

وما ضرها أن لم تكن رعت الحمى                      ولم تطلب الخير الممنع من بـشـر

متى يجيء يوما إلى المـال وارثـي                      يجد قبض كف غير ملأى ولا صفر

يجد مهرة مثل الـقـنـاة طـمـرة                      وعضب إذا ما هز لم يرض بالهبر

فإن تمنعوا منها حـمـاكـم فـإنـه                      مباح لها ما بين إنبـط فـالـكـدر

إذا ما امرؤ أثنى بفضل ابن عـمـه                      فلعنة رب العالمين علـى بـشـر يسرقون ثيابه؛ فيستعدي قومه عليهم

 

صفحة : 2518

 

وقال أبو عمرو الشيباني، ونسخته أيضا من خط إسحاق الموصلي، وجمعت الروايتين: إن ابن فسوة نزل ببني سعد بن مالك من بني قيس بن ثعلبة، وبات بهم، ومعه جارية له يقال لها جوزاء، فسقروا عيبة له فيها ثيابه وثياب جاريته، فرحل عنهم، فلما عاد إلى قومه أعلمهم ما فعله به بنو سعد بن مالك. فركب معه فرسان منهم حتى أغاروا على إبل لبني سعد فأخذوا منها صرمة، واستاقوها فدفعوها إليه، فقال يمدح قومه ويهجو بني سعد بقوله:

جزى الله قومي من شفيع وشاهد                      جزاء سليمان النبي المـكـرم

هم القوم لا قوم ابن دارة سالـم                      ولا ضابئ إذ أسلما شر مسلـم

وما عيبة الجوزاء إذ غدرت بها                      سراة بني قيس بسر مـكـتـم

إذا ما لقيت الحي سعد بن مالـك                      على زم فانزل خائفا أو تـقـدم

أناس أجارونا فكان جـوارهـم                      شعاعا كلحم الجازر المتقـسـم

لقد دنست أعراض سعد بن مالك                      كما دنست رجل البغي من الدم

لهم نسوة طلس الثياب مواجـن                      ينادين من يبتاع عودا بـدرهـم

إذا أيم قيسية مـات بـعـلـهـا                      وكان لها جار فلـيسـت بـأيم

يمشي ابن بشر بينهن مقـابـلا                      بأير كإير الأرجحي المـخـرم

إذا راح من أبياتهـن كـأنـمـا                      طليت بتنوم قفـاه وخـمـخـم وفيه رواية إسحاق:

تسوق الجواري منخراه كأنما                      دلكن بتنوم قفاه وخمـخـم

صوت

 

قال طال شوقي وعادني طري                      من ذكر خود كريمة النسـب

غراء مثل الهلال صورتـهـا                      أو مثل تمثال صورة الذهـب ويروى:  بيعة الرهب  الشعر لعبد الله بن العجلان النهدي، والغناء لمالك ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجري الوسطى عن إسحاق، وله فيه أيضا خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو، وذكر الهشامي أنه لابن مسحج.

 

أخبار عبد الله بن العجلان

اسمه ونسبه هو عبد الله بن العجلان بن عبد الأحب بن عامر بن كعب بن صباح بن نهد بن زيد بن ليث بن أسود بن أسلم ابن الحاف بن قضاة. شاعر جاهلي أحد المتيمين من الشعراء ومن قتله الحب منهم.

وكانت له زوجة يقال لها هند، فطلقها، ثم ندم على ذلك، فتزوجت زوجا غيره، فمات أسفا عليها.

قصته تشبه قصة قيس ولبنى أخبرني محمد بن مزبد قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال: كان عبد الله بن العجلان النهدي سيدا في قومه وابن سيد من ساداتهم، وكان أبوه أكثر بني نهد مالا، وكانت هند امرأة عبد الله بن العجلان التي يذكرها في شعره امرأة من قومه من بني نهد، وكانت أحب الناس إليه، وأحظاهم عنده، فمكثت معه سنين سبعا أو ثمانيا لم تلد، فقال له أبوه: إنه لا ولد لي غيرك، ولا ولد لك، وهذه المرأة عاقر، فطلقها، وتزوج غيرها، فأبى ذلك عليه، فآلى ألا يكلمه أبدا حتى يطلقها. فأقام على أمره، ثم عمد إليه يوما، وقد شرب الخمر حتى سكر، وهو جالس مع هند، فأرسل إليه أن صر إلي، فقالت له هند: لا تمض إليه، فوالله ما يريدك لخير، وإنما يريدك لأنه بلغه أنك سكران، فطمع فيك أن يقسم عليك، فتطلقني، فنم مكانك، ولا تمض إليه. فأبى، وعصاها، فتعلقت بثوبه، فضربها بمسواك، فأرسلتها، وكان في يدها زعفران، فأثر في ثوبه مكان يدها، ومضى إلى أبيه، فعاوده في أمرها، وأنبه، وضعفه، وجمع عليه مشيخة الحي وفتيانهم، فتناولوه بألسنتهم، وعيروه بشغفه بها وضعف حزمه، ولم يزالوا به حتى طلقها. فلما أصبح خبر بذلك، وقد علمت به هند، فاحتجبت عنه، وعادت إلى أبيها، فأسف عليها أسفا شديدا، فلما رجعت إلى أبيها خطبها رجل من بني نمير، فزوجها أبوها منه، فبنى بها عندهم، وأخرجها إلى بلده. فلم يزل عبد الله بن العجلان دنفا سقيما، يقول فيها الشعر، ويبكيها حتى مات أسفا عليها، وعرضوا عليه فتيات الحي جميعا فلم يقبل واحدة منهن، وقال في طلاقه إياها:

فارقت هندا طـائعـا                      فندمت عند فراقـهـا

فالعين تـذري دمـعة                      كالدر من آمـاقـهـا

متحلـيا فـوق الـردا                      ء يجول من رقراقها

خود رداح طـفــلة                      ما الفحش من أخلاقها

 

صفحة : 2519

 

 

ولقد ألذ حديثهـا                      وأسر عند عناقها وفي هذه القصيدة يقول:

إن كنت ساقية بـبـز                      ل الادم أو بحقاقهـا

فاسقي بني نـهـد إذا                      شربوا خيار زقاقهـا

فالخيل تعلم كيف نـل                      حقها غداة لحاقـهـا

بأسنة زرق صـبـح                      نال القوم حدج رقاقها

حتى ترى قصد القنـا                      والبيض في أعناقهـا شعره في غارة شنها قومه قال أبو عمرو الشيباني: لما طلق عبد الله بن العجلان هندا أنكحت في بني عامر، وكانت بينهم وبين نهد مغاورات، فجمعت نهد لبني عامر جمعا، فأغاروا على طوائف منهم، فيهم بنو العجلان وبنو الوحيد وبنو الحريش وبنو قشير، ونذروا بهم، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثم انهزمت بنو عامر، وغنمت نهد أموالهم، وقتل في المعركة ابن لمعاوية بن قشير بن كعب وسبعة بنين له، وقرط وجدعان ابنا سلمة بن قشير ومرداس بن جزعة بن كعب وحسين بن عمرو بن معاوية ومسحقة بن المجمع الجعفي، فقال عبد الله بن العجلان في ذلك:

ألا أبلغ بني العجلان عني                      فلا ينبيك بالحدثان غـيري

بأنا قد قتلنا الخير قـرطـا                      وجرنا في سراة بني قشير

وأفلتنا بنو شكـل رجـالا                      حفاة يربئون على سمـير قيسية ترثي قتل قيس وقالت امرأة من بني قيس ترثي قتلاهم:

أصبتم يا بني نـهـد بـن زيد                      قروما عند قعقعة الـسـلاح

إذا اشتد الزمان وكان محـلا                      وحاذر فيه أخوان السـمـاح

أهانوا المال في اللزبات صبرا                      وجادوا بالمتالي والـلـقـاح

وابكي مالكا وابكي بـجـيرا                      وشدادا لمشتجـر الـرمـاح

وكعبا فاندبيه معـا وقـرطـا                      أولئك معشري هدوا جناحـي

وبكي إن بكيت على حـسـيل                      ومرداس قتيل بني صـبـاح حسيل يغدر به أسيره قال: وأسر عبد الله بن العجلان رجلا من بني الوحيد، فمن عليه، وأطلقه، ووعده الوحيدي الثواب فلم في فقال عبد الله:

وقالوا لن تنال الدهر فقرا                      إذا شكرتك نعمتك الوحيد

فيا ندما ندمت على رزام                      ومخلفه كما خلع العتود نعم النذير هند قال أبو عمرو: ثم إن بني عامر جمعوا لبني نهد، فقالت هند امرأة عبد الله بن العجلان التي كانت ناكحا فيهم لغلام منهم يتيم فقير من بني عامر: لك خمس عشرة ناقة على أن تأتي قومي فتنذرهم قبل أن يأتيهم بنو عامر، فقال: أفعل، فحملته على ناقة لزوجها ناجية، وزودته تمرا ووطيا من لبن، فركب فجد في السير؛ وفني اللبن، فأتاهم والحي خلوف في غزو وميرة، فنزل بهم، وقد يبس لسانه، فلما كلموه لم يقدر على أن يجيبهم، وأومأ لهم إلى لسانه، فأمر خراش بن عبد الله بلبن وسمن، فأسخن، وسقاه إياه، فابتل لسانه، وتكلم، وقال لهم: أتيتم، أنا رسول هند إليكم تنذركم، فاجتمعت بنو نهد واستعدت ووافتهم بنو عامر فلحقوهم على الخيل، فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزت بنو عامر، فقال عبد الله بن العجلان في ذلك:

عاود عيني نصبهـا وغـرورهـا                      أهم عناها أم فذاها يعـورهـا?

أم الدار أمست قد تعفت كأنـهـا                      زبور يمان رقشته سطـورهـا?

ذكرت بها هندا وأترابهـا الألـى                      بها يكذب الواشي ويعصي أميرها

فما معول تبكي لفقـد ألـيفـهـا                      إذا ذكرتـه لا يكـف زفـيرهـا

بأغزر مني عـبـرة إذ رأيتـهـا                      بحث بها قبل الصباح بعـيرهـا

ألم يأت هندا كيفما صنع قومـهـا                      بني عامر إذ جاء يسعى نذيرهـا

فقالوا لنا إنا نـحـب لـقـاءكـم                      وإنا نحيي أرضكـم ونـزورهـا

فقلنا: إذا لا ننكل الدهر عـنـكـم                      بصم القنا اللائي الدماء تميرهـا

فلا غرو أن الخيل تنحط في القنـا                      تمطر من تحت العوالي ذكورها

تأوه مما مسـهـا مـن كـريهة                      وتصفى الخدود والرماح تصورها

وأربابها صرعى ببـرقة أخـرب                      تجررهم صبعانها ونـسـورهـا

 

صفحة : 2520

 

 

فأبلغ أبا الحجاج عـنـي رسـالة                      مغلغلة لا يغلبنـك بـسـورهـا

فأنت منعت السلم يوم لـقـيتـنـا                      بكفيك تسدي غـية وتـنـيرهـا

فذوقوا على ما كان من فرط إحنة                      حلائبنا إذ غاب عنا نصـيرهـا نهاية حبه قال أبو عمرو: فلما اشتد ما بعبد الله بن العجلان من السقم خرج سرا من أبيه مخاطرا بنفسه حتى أتى أرض بني عامر لا يرهب ما بينهم من الشر والتراث، حتى نزل ببني نمير، وقصد خباء هند، فلما قارب دارها رآها وهي جالسة على الحوض، وزوجها يسقي، ويذود الإبل عن مائة، فلما نظر إليها ونظرت إليه رمى بنفسه عن بعيره، وأقبل يشتد إليها، وأقبلت تشتد إليه، فاعتنق كل واحد منهما صاحبه، وجعلا يبكيان وينشجان ويشهقان، حتى سقطا على وجوههما، وأقبل زوج هند ينظر ما حالهما، فوجدهما ميتين.

قال أبو عمرو: وأخبرني بعض بني نهد أن عبد الله بن العجلان أراد المضي إلى بلادهم، فمنعه أبوه وخوفه الثارات وقال: نجتمع معهم في الشهر الحرام بعكاظ أو بمكة، ولم يزل يدافعه بذلك حتى جاء الوقت، فحج، وحج أبوه معه، فنظر إلى زوج هند وهو يطوف بالبيت وأثر كفها في ثوبه بخلوق، فرجع إلى أبيه في منزله، وأخبره بما رأى ثم سقط على وجهه فمات. هذه رواية أبي عمرو.

وقد أخبرني محمد بن خلف وكيع، قال حدثني عبد الله بن علي بن الحسن قال: حدثنا نصر بن علي عن الأصمعي عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن أيوب عن ابن سيرين قال: خرج عبد الله بن العجلان في الجاهلية فقال:

ألا إن هندا أصبحت منك محرما                      وأصبحت من أدنى حموتها حما

وأصبحت كالمقمور جفن سلاحه                      يقلب بالكفين قوسا وأسهـمـا ثم مد بها صوته فمات.

الشعر له أم لمسافر قال ابن سيرين: فما سمعت أن أ؛دا مات عشقا غير هذا. وهذا الخبر عندي خطأ لأن أكثر الرواة يروى هذين البيتين لمسافر بن أبي عمرو بن أمية، قالهما لما خرج إلى النعمان بن المنذر يستعينه في مهر هند بنت عتبة بن ربيعة، فقدم أبو سفيان بن حرب، فسأله عن أخبار مكة، وهل حدث بعده شيء، فقال: لا، إلا أني تزوجت هندا بنت عتبة، فمات مسافر أسفا عليها، وبدل على صحة ذلك قوله:

وأصبحت من أدنى حموتها حما لأنه ابن عم أبي سفيان بن حرب لحا وليس النميري المتزوج هندا النهدية ابن عم عبد الله بن العجلان فيكون من أحمائها، والقول الأول على هذا أصح.

من شعره في هند ومن مختار ما قاله ابن العجلان في هند:

ألا أبلغا هندا سلامي فإن نأت فقلبي مذ شطت بها الدار مدنف

ولم أر هندا بعد موقف ساعة                      بأنـعـم فـــي أهـــل الـــديار تـــطـــوف

أتـت بـين أتــراب تـــمـــايس إذ مـــشـــت                      دبـيب الـقـطـا أوهـن مـنـهـــن أقـــطـــف

يبـــاكـــرن مـــرآة جـــلـــيا وتـــــارة                      ذكـــيا وبـــالأيدي مـــداك ومـــســـــوف

أشـارت إلـينـا فــي خـــفـــاة وراعـــهـــا                      ومـراة الـضـحـى مـنـي عـلـى الـحـي مـوقـف

وقـالـت: تـبـاعـد يا بـن عـمـي فــإنـــنـــي                      منـيت بـــذي صـــول يغـــار ويعـــنـــف أخبرني الحسن بن علي قال: أنشدنا فضل اليزيدي عن إسحاق لعبد الله بن العجلان النهدي قال إسحاق وفيه غناء:

خليلي زورا قبل شحط النوى هندا                      ولا تأمنا من دار ذي لطف بعدا

ولا تعجلا، لم يدر صاحب حاجة                      أغيا يلاقي في التعجل أم رشـدا

ومرا عليها بارك الله فـيكـمـا                      وإن لم تكن هند لوجهيكما قصدا

وقولا لها ليس الضلال أجـازنـا                      ولكننا جزنا لنلقـاكـم عـمـدا

صوت

 

ألا يا ظبـية الـبـلـد                      براني طول ذا الكمد

فردي يا معـذبـتـي                      فؤادي أو خذي جسدي

بليت لشقوتـي بـكـم                      غلاما ظاهر الجلـد

فشيب حبكـم رأسـي                      وبيض هجركم كبدي الشعر للمؤمل بن أميل، والغناء لإبراهيم ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق.

 

أخبار المؤمل ونسبه

اسمه ونسبه

 

صفحة : 2521

 

المؤمل بن أميل بن أسيد المحاربي. من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، شاعر كوفي من مخضرمي شعراء الدولتين الأموية والعباسية، وكانت شهرته في العباسية أكثر، لأنه كان من الجند المرتزقة معهم ومن يخصهم، ويخدمهم من أوليائهم، وانقطع إلى المهدي في حياة أبيه وبعده. وهو صالح المذهب في شعره ليس من المبرزين الفحول ولا المرذولين، وفي شعره لين، وله طبع صالح.

يتمنى العمى فيستجاب له وكان يهوى امرأة من أهل الحيرة يقال لها هند، وفيها يقول قصيدته المشهورة:

شف المؤمل يوم الحيرة النظر                      ليت المؤمل لم يخلق له بصر يقال: إنه رأى في منامه رجلا أدخل أصبعيه في عينيه، وقال: هذا ما تمنيت، فأصبح أعمى.

المهدي يغدق والمنصور ينتقص أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني، قال: حدثني أبو قدامة، قال: حدثني المؤمل قال: قدمت على المهدي وهو بالري، وهو إذ ذاك ولي عهد، فامتدحته بأبيات، فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى أبي جعفر المنصور، وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إليه يعذله ويلومه، ويقول له: إنما ينبغي أن تعطي لشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم، وكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر، فطلب، ولم يقدر عليه، وكتب إلى أبي جعفر أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فأجلس قائدا من قواده على جسر النهروان، وأمره أن يتصفح الناس رجلا رجلا، فجعل لا يمر به قافلة، إلا تصفح من فيها، حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل، فتصفحهم، فلما سأله من أنت? قال: أ،ا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر، أحد زوار الأمير المهدي، فقال: إياك طلبت، قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر.

فقبض علي، وأسلمني إلى الربيع، فأدخلني إلى أبي جعفر، وقال: هذا الشاعر الذي أخذ من المهدي عشرين ألفا، قد ظفرنا به، فقال: أدخلوه إلي، فأدخلت إليه، فسلمت تسليم فزع، مروع، فرد السلام، وقال: ليس لك ها هنا إلا خير، أنت المؤمل بن أميل? قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين أنا المؤمل بن أميل، قال: أتيت غلاما غرا، فخدعته فانخدع? قلت: نعم، أصلح الله الأمير، أتيت غلاما غرا كريما، فخدعته فانخدع قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه فأنشدته:

هو الـمـهـدي إلا أن فـيه                      مشابهة من القمر المـنـير

تشابه ذا وذا فهـمـا إذا مـا                      أنارا مشكلان على البصـير

فهذا في الظلام سراج لـيل                      وهذا في النهار ضياء نـور

ولكن فضل الرحمـن هـذا                      على ذا بالمنابر والـسـري

وبالملك العـزيز فـذا أمـير                      وماذا بالأمـير ولا الـوزير

وبعض الشهر ينقص ذا وهذا                      منير عند نقصان الشـهـور

فيا بن خليفة الله المصـفـى                      به تعلو مفاخرة الفـخـور

لئن فت الملوك وقد تـوافـوا                      إليك من السهولة والوعـور

لقد سبق الملوك أبوك حتـى                      بقوا من بين كاب أو حسـير

وجئت مصليا تجري حثـيثـا                      وما بك حين تجري من فتور

فقال النـاس مـا هـذان إلا                      كما بين الخليق إلى الجـدير

لئن سبق الكبير لأهل سبـق                      له فضل الكبير على الصغير

وإن بلغ الصغير مدى كبـير                      فقد خلق الصغير من الكبير فقال: والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال? قلت: هو هذا، قال: يا ربيع، امض معه، فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ الباقي. قال المؤمل: فخرج معي الربيع، وحط ثقلي، ووزن لي من المال أربعة آلاف درهم، وأخذ الباقي.

 

 

صفحة : 2522

 

فلما ولي المهدي الخلافة ولى ابن ثوبان المظالم، فكان يجلس للناس بالرصافة، فإذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى المهدي، فرفعت إليه رقعة، فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع، حتى إذا وصل إلى رقعتي ضحك، فقال له ابن ثوبان: أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيء من هذه الرقاع إلا من هذه الرقعة، فقال: هذه الرقعة، فقال: هذه رقعة أعرف سببها، ردوا إليه عشرين ألف درهم، فردوها إلي وانصرفت.

يبايع موسى وهارون فيأخذ بدرة ونصفا أخبرني حبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن سعد بن أبي سعد قال: حدثني الحكم بن موسى السلولي، قال: حدثني سعد بن أخي العوفي قال: قدم على المهدي في بيعة ابن ابنيه موسى وهارون المؤمل بن أميل المحاربي والحسين بن يزيد بن أبي الحكم السلولي وقد أوفدهما هاشم بن سعد الحميري من الكوفة، فقدما على المهدي في عسكره، فأنشده المؤمل:

هاك بـــياعـــنـــا يا خــــــير وال                      فقـد جـدنـا بـه لـك طـــائعـــينـــا

فإن تـفـعـل فــأنـــت لـــذاك أهـــل                      ففـصـلـك يا بـن خـير الـنـاس فـينـــا

وعـد لـك يا بـن وارث خــير خـــلـــق                      نبـي الـلـه خـير الـمـرســـلـــينـــا

فإن أبـــا أبـــيك وأنـــت مـــنـــه                      هو الـعــبـــاس وارثـــه يقـــينـــا

أبـان بـه الـــكـــتـــاب وذاك حـــق                      ولـسـنـا لـلـكـتـاب مـكــذبـــينـــا

بكـم فـتـحـت وأنـتـــم غـــير شـــك                      لهـا بـالـعـدل أكـرم خـاتــمـــينـــا

فدونـكـهـا فـأنـت لـهـــا مـــحـــل                      حبـاك بـهـا إلـه الـعـالـــمـــينـــا

ولو قيدت لغيركم اشمأزت وأعيت أن تطيع القائدينا فأمر لهما بثلاثين ألف درهم، فجيء بالمال، فألقي بينهما، فأخذ كل واحد منهما بدرة، وصدع الأخرى بينهما، فأخذ هذا نصفا وهذا نصفا.

يتلف في ضحكه كل مال أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن عبد الله بن أمين عن أبي محمد اليزيدي، عن المؤمل بن أميل قال: صرت إلى المهدي بجرجان فمدحته بقولي:

تعز ودع عنك سلمـى وسـر                      حثيثا على سائرات البـغـال

وكـل جـواد لـه مـــيعة                      يخب بسرحك بعد الـكـلال

إلى الشمس شمس بني هاشـم                      وما الشمس كالبدر أو كالهلال

ويضحكـه أن يدوم الـسـؤال                      ويتلف في ضحكه كل مـال فاستحسنها المهدي، وأمر لي بعشرة آلاف درهم، وشاع الشعر وكان في عسكره رجل يعرف بأبي الهوسات، يغني، فغنى في الشعر لرفقائه، وبلغ ذلك المهدي فبعث إليه سرا، فدخل عليه، فغناه، فأمر له بخمسة آلاف درهم، وأمر لي بعشرة آلاف درهم أخرى، وكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور.

ثم ذكر باقي الخبر على ما تقدم قبله، وزاد فيه: أن المنصور قال له: جئت إلى غلام حدث، فخدعته، حتى أعطاك من مال الله عشرين ألف درهم لشعر قلته فيه، غير جيد وأعطاك من رقيق المسلمين ما لا يملكه، وأعطاك من الكراع والأثاث ما أسرف فيه، يا ربيع خذ منه ثمانية عشر ألف درهم، وأعطه ألفين، ولا تعرض لشيء من الأثاث والدواب والرقيق، ففي ذلك غناؤه. فأخذت والله مني بخواتمها، ووضعت في الخزائن، فلما ولي المهدي دخلت إليه في المتظلمين. فلما رآني ضحك وقال: مظلمة أعرفها، ولا أحتاج إلى بينة عليها، وجعل يضحك، وأمر بالمال فرد إلي بعينه، وزاد فيه عشرة آلاف.

لا لحم فيه ولا دم أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني حذيفة بن محمد الطائي قال: حدثني أبي قال: رأيت المؤمل شيخا مصفرا نحيفا أعمى، فقلت له: لقد صدقت في قولك:

وقد زعموا لي أنها نذرت دمي                      ومالي بحمد الله لحـم ولا دم فقال: نعم - فديتك - وما كنت أقول إلا حقا.

قال محمد بن القاسم: وحدثني عبد الله بن طاهر أن أول هذا الشعر:

حلمت بكم في نومتي فغضـبـتـم                      ولا ذنب لي إن كنت في النوم أحلم

سأطرد عني النـوم كـيلا أراكـم                      إذا ما أتاني النوم والـنـاس نـوم

تصارمني واللـه يعـلـم أنـنـي                      أبر بها مـن والـديهـا وأرحـم صوت

وقد زعموا لي أنها نذرت دمي                      ومالي بحمد الله لحـم ولا دم

 

صفحة : 2523

 

 

برى حبها لحمي ولم يبق لي دمـا                      وإن زعموا أني صحيح مسـلـم

فلم أر مثل الحب صح سقـيمـه                      ولا مثل من لا يعرف الحب يسقم

ستقتل جلدا باليا فـوق أعـظـم                      وليس يبالي القتل جلد وأعـظـم في هذه الأبيات التي أولها:

وقد زعموا لي أنها نذرت دمي لنبيه لحن من خفيف الثقيل المطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا ابن مهرويه، قال: حدثني محمد بن أحمد بن علي، قال: لما قال المؤمل:

شف المؤمل يوم الحيرة النظر                      ليت المؤمل لم يخلق له بصر عمي، وأري في منامه: هذا ما تمنيت.

أخبرني حبيب بن نصر قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال حدثني علي بن الحسن الشيباني: قال: رأى المؤمل في منامه قائلا يقول: أنت المتألي على الله ألا يعذب المحبين حيث تقول:

يكفي المحبين في الدنيا عذابهم                      والله لا عذبتهم بعدها سقـر فقال له: نعم، فقال: كذبت يا عدو الله، ثم أدخل إصبعيه في عينيه وقال له: أنت القائل:

شف المؤمل يوم الحيرة النظر                      ليت المؤمل لم يخلق له بصر هذا ما تمنيت، فانتبه فزعا، فإذا هو قد عمي.

لا ترضى مضر بقتله أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا مصعب الزبيري قال: أنشد المهدي قول المؤمل:

قتلت شاعر هذا الحي من مضر                      والله يعلم ما ترضى بذا مضر فضحك، وقال: لو علمنا أنها فعلت ما رضينا، ولغضبنا له وأنكرنا.

 

صوت

 

بكيت حذار البين علما بمـا الـذي                      إليه فؤادي عـنـد ذلـك صـائر

وقال أناس لو صبـرت وإنـنـي                      على كل مكروه سوى البين صابر الشعر لأبي مالك الأعرج؛ والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف ثقيل بالوسطى من جامع صنعته ورواية الهشامي.

قال الهشامي: وفيه ليزيد حوراء ثاني ثقيل، ولسليم ثقيل أول.

 

أخبار أبي مالك ونسبه

اسمه ونشأته أبو مالك النضر بن أبي النضر التميمي، هذا أكثر ما وجدته من نسبه، وكان مولده ومنشؤه بالبادية.

ثم وفد إلى الرشيد، ومدحه، وخدمه فأحمد مذهبه، ولحظته عناية من الفضل بن يحيى، فبلغ ما أحب، وهو صالح الشعر، متوسط المذهب، ليس من طبقة شعراء عصره المجيدين، ولا من المرذولين.

يرثي أباه أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: كان أبو مالك النضر بين أبي النضر التميمي مع الرشيد، وكان أبوه مقيما بالبادية، فأصاب قوم من عشيرته الطريق، وقطعوه عن بعض القوافل، فخرج عامل ديار مضر - وكان يقال له جيال - إلى ناحية كانت فيها طوائف من بني تميم، فقصدهم وهم غارون، فأخذ منهم جماعة فيهم أبو النضر أبو أبي مالك الأعرج، وكان ذا مال، فطلبه فيمن طلب من الجناة، وطمع في ماله، فضربه ضربا أتى فيه على نفسه، وبلغ ذلك أبا مالك فقال يرثيه:

فيم يلـحـى عـلـى بـكـائي الـعـذول                      والـذي نـابـنـي فـظـيع جـلـــيل

عد هـذا الـمـلام عـنـي إلـى غــي                      ري فـقـلـبـي بـبـثـه مـشـغـول

راعـنـي والـدي جـنـت كـف جــيا                      ل عـلـيه فـراح وهـو قـــتـــيل

أيهـا الـفـاجـعـي بـركـنـي وعـزي                      هبلـتـنـي إن لـم أرعـك الـهـبـول

سمتـنـي خـطة الـصـغـار وأظـلـم                      ت نـهـاري عـلـي غـالـتـك غـول

ما عـدانـي الـجـفـاء عـنـك ولـكـن                      لم يدلـنـي مـن الـزمــان مـــديل

زال عـنـا الـسـرور إذ زلـت عـنــا                      وازد هـانـا بـكـاؤنـا والــعـــويل

ورأينـا الـقـريب مـنـا بـــعـــيدا                      وجـفـانـا صـديقـنـا والـخـلـــيل

ورمـانـا الـعـدو مـن كـل وجـــه                      وتـجـنـى عـلـى الـعـزيز الـذلـيل

يا أبا النضـر سـوف أبـكـيك مـا عـش                      ت سـويا وذاك مـنــي قـــلـــيل

حمـلـت نـعـشـك الـمـــلائكة الأب                      رار إذ مـالـنـا إلــيك ســـبـــيل

غير أنـي كـذبـتـك الـود لـم تـــق                      طر جـفـونـي دمـا وأنـت قـتـــيل

رضيت مـقـلـتـي بـإرسـال دمـعـي                      وعلـى مـثـلـك الـنـفـوس تـسـيل

أسواك الذي أجود عليه بدمي إنني إذا لبخيل

 

صفحة : 2524

 

 

عثـر الـدهـر فـــيك عـــثـــرة ســـوء                      لم يقـل مـثـلـهـا الـمـعـين الـمـــقـــيل

قل إن ضــن بـــالـــحـــياة فـــإنـــي                      بعـده لــلـــحـــياة قـــال مـــلـــول

إن بالسفح من ضباعة قوميليس منهم وهم أدان وصول

لا يزورون جارهم من قريب                      وهـم فـي الـتـراب صـرعــى حـــلـــول

حفـرة حـشـــوهـــا وفـــاء وحـــلـــم                      ونـدى فـــاضـــل ولـــلـــب أصـــيل

وعـفـاف عـــمـــا يشـــين وحـــلـــم                      راجـح الـوزن بـــالـــرواســـي يمـــيل

ويمـين بـنـانـــهـــا غـــير جـــعـــد                      وجــبـــين صـــلـــت وخـــد أســـيل

وامـرؤ أشـرقـــت صـــفـــيحة خـــديه                      علـــيه بـــشـــاشة وقـــبـــــــول

صوت

 

لئن مصر فاتتني بما كنت أرتجي                      وأخلفني فيها الذي كنـت آمـل

فما كل ما يخشى الفتى بمصيبه                      ولا كل ما يرجو الفتى هو نائل الشعر لأبي دهمان، والغناء لابن جامع ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي. انتهت أخبار مالك ونسبه.

 

أخبار أبي دهمان

لا يبيح باسم محبوبته أبو دهمان الغلابي شاعر من شعراء البصرة ممن أدرك دولتي بني أمية وبني العباس. ومدح المهدي، وكان طيبا ظريفا مليح النادرة.

وهو القائل لما ضرب المهدي أبا العتاهية بسبب عشقه عتبة:

لولا الذي أحدث الخليفة في ال                      عشاق من ضربهم إذا عشقوا

لبحت باسم الـذي أحـب ول                      كني امرؤ قد ثناني الـفـرق يجيد التقليد حدثني بذلك الصولي عن محمد بن موسى عن محمد بن أبي العتاهية. وأخبرني جحظة عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: قال رجل لأبي دهمان: ألا أحدثك بظريفة? قال: بلى، قال: كنا عند فلان، فمد رجله هكذا، فضرط، ومد المحدث رجله يحكيه فضرط، فقال له أبو دهمان. يا هذا أنت أحذق خلق الله بحكاية.

حق له أن يتيه عليه نسخت من كتاب بخط ميمون بن هارون: بلغني أن أبا دهمان مر وهو أمير بنيسابور على رجل جالس ومعه صديق له يسايره، فقام الناس إليه ودعوا له إلا ذلك الرجل، فقال أبو دهمان لصديقه وهو يسايره: أما ترى ذلك الرجل في النظارة وترى تيهه علي? فقال له: وكيف يتيه عليك وأنت الأمير قال: لأنه قد ناكني وأنا غلام.

غلامه يتعجل موته وأخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني، قال: مرض أبو دهمان مرضا أشفى منه على الموت، فأوصى وأملى وصيته على كاتبه، وأوصى فيها بعتق غلام كان له واقفا، فلما فرغ غدا الغلام بالرقعة، فأتربها، ونظر إليه أبو دهمان، فقال له: نعم أتربها يا بن الزانية، عسى أن يكون أنجح للحاجة، لا شفاني الله إن أنجحت، وأمر به، فأخرج لوقته، فبيع.

 

صوت

 

يكر كما كر الكلـيبـي مـهـره                      وما كـر إلا خـيفة أن يعـيرا

فلا صلح حتى تزحف الخيل والقنا                      بنا وبكم أو يصدر الأمر مصدرا الشعر لأبي حزابة التميمي، والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر.

وهذا الشعر يرثي به أبو حزابة رجلا من بني كليب بن يربوع يقال له ناشرة اليربوعي، قتل بسجستان في فتنة ابن الزبير، وكان سيدا شجاعا.

يرثي ناشرة اليربوعي أنشدنيه جعفر بن قدامة قال: أنشدني أبو هفان وأحمد بن أبي طاهر قالا: أنشدنا عبد الله بن أحمد العدوي لأبي حزابة يرثي ناشرة اليربوعي وقتل بسجستان في فتنة ابن الزبير قال:

لعمري لقد هدت قريش عـروشـنـا                      بأبيض نفـاح الـعـشـيات أزهـرا

وكان حصادا لـلـمـنـايا زرعـنـه                      فهلا تركن النبت ما كان أخـضـرا

لحا الله قومـا أسـلـمـوك وجـردوا                      عناجيج أعطتها يمـينـك ضـمـرا

أما كان فيهـم مـاجـد ذو حـفـيظة                      يرى الموت في بعض المواطن افخرا

يكر كما كر الـكـلـيبـي مـهـره                      ومـا كـر إلا خـشـية أن يعــيرا يريد ما كان في هؤلاء القوم من يكر كما كر ناشرة الكليبي مهره?

أخبار أبي حزابة ونسبه

اسمه ونشأته

 

صفحة : 2525

 

أبو حزابة اسمه الوليد بن حنيفة، أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. شاعر من شعراء الدولة الأموية بدوي حضر وسكن البصرة، ثم اكتتب في الديوان، وضرب عليه البعث إلى سجستان، فكان بها مدة، وعاد إلى البصرة، وخرج مع ابن الأشعث لما خرج على عبد الملك، وأظنه قتل معه، وكان شاعرا راجزا فصيحا خبيث اللسان هجاء.

أبطأ الدلاء أملؤها فأخبرنا الحسن بن علي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال: حدثنا محمد بن الهيثم الشامي قال: حدثني عمي أبو فراس عن العذري قال: دخل أبو حزابة على طلحة الطلحات الخزاعي، وقد استعمله يزيد بن معاوية على سجستان، وكان أبو حزابة قد مدحه، فأبطأت عليه الجائزة من جهته، ورأى ما يعطي غيره من الجوائز، فأنشده:

وأدليت دلوي في دلاء كـثـيرة                      فجئن ملاء غير دلوي كما هيا

وأهلكـنـي ألا تـزال رغـيبة                      تقصر دوني أو تـحـل ورائيا

أراني إذا استمطرت منك سحابة                      لتمطرني عادت عجاجا وسافيا قال: فرماه طلحة بحق فيه درة فأصاب صدره، ووقعت في حجره، ويقال: بل أعطاء أربعة أحجار، وقال له: لا تخدع عنها، فباعها بأربعين ألفا. ومات طلحة بسجستان.

خلف شحيح لسلف كريم ثم ولى من بعده رجل من بني عبد شمس يقال له عبد الله بن علي بن عدي وكان شحيحا فقال له أبو حزابة:

يا بن علي برح الخفـاء                      قد علم الجيران والأكفاء

أنك أنت النذل واللـفـاء                      أنت لعين طلحة الفـداء

بنو عدي كلهـم سـواء                      كأنهـم زينـية جـراء رثاء وهجاء قال ثم وليها بعد عبد الله بن علي عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن كريز أيام الفتنة، فاستأذنه أبو حزابة أن يأتي البصرة، فأذن له، فقدمها، وكان الناس يحضرون المربد، ويتناشدون الأشعار، ويتحادثون ساعة من النهار، فشهدهم أبو حزابة، وأنشدهم مرثية له في طلحة الطلحت يضمنها ذما لعبد الله بن علي وهي قوله:

هيهات هيهات الجناب الأخضر                      والنائل الغمر الذي لا ينـزر

واراه عنا الجدث الـمـغـور                      قد علم القوم غداة استعبـروا

والقبر بين الطلحات يحـفـر                      أن لن يروا مثلك حتى ينشروا

أنا أتـانـا جـرز مـحـمـر                      أنكره سريرنا والـمـنـبـر

والمسجد المحتضر المطـهـر                      وخلف يا طلح منـك أعـور

بلية يا ربـنـا لا نـسـخـر                      أقل من شبرين حين يشـبـر

مثل أبي القعواء لا بل أقصر قال: وأبو القعواء حاجب لطلحة كان قصيرا.

بئس العقاب فقال عون بن عبد الرحمن بن سلامة - وسلامة أمه - وهو رجل من بني تميم بن مرة قيس: بئسما قلت أتشاهر الناس بشتم قريش? فقال له، إني لم أعم، إنما سميت رجلا واحدا، فأغلظ له عون حتى انصرف عن ذلك الموضع، ثم أمر عون ابن أخل له، فدعا أبا حزابة فأطعمه، وسقاه، وخلط في شرابه شبر ما فسلحه، فخرج أبو حزابة وقد أخذه بطنه، فسلح على بابهم وفي طريقه، حتى بلغ أهله، ومرض أشهرا، ثم عوفي، فركب فرسا له، ثم أتى المربد فإذا عون بن سلامة واقف، فصاح به، فوقف، ولو لم يقف كان أخف لهجائه، فقال له أبو حزابة:

يا عون قف واستمع الملامة                      لا سلم الله علـى سـلامة

زنجية تحسبها نـعـلـمـه                      شكاء شان جسمها دمامـه

ذات حر كريشتي حمامـه                      بينهما بظر كرأس الهامـه

أعلمتها وعالـم الـعـلامة                      لو أن تحت بظرها صمامه

لدفعت قدما بها أمـامـه فكان الناس يصيحون به:

أعلمتها وعالم العلامة أبو حزابة ينشد طلحة أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني عمي أبو فراس، عن الهيثم بن عدي قال: كان عبد الله بن خلف أبو طلحة الطلحات مع عائشة يوم الجمل وقتل معها يومئذ، وعلى بني خلف نزلت عائشة بالبصرة في القصر المعروف بقصر بني خلف، وكان هوى طلحة الطلحات أمويا، وكانت بنو أمية مكرمين له.

فأنشد أبو حزابة يوما طلحة:

يا طلح يأبى مجدك الإخلافا                      والبخل لا يعترف اعترافا

إن لنا أحمـرة عـجـافـا                      يأكلن كل لـيلة إكـافـا

 

صفحة : 2526

 

فأمر له طلحة بإبل ودراهم، وقال له: هذه مكان أحمرتك.

يأبى الوقوف بباب يزيد أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال: حدثني العمري، عن لقيط قال: قيل لأبي حزابة: لو أتيت يزيد بن معاوية لفرض لك، وشرفك، وألحقك بعلية أصحابه، فلست دونهم، وكان أبو حزابة يومئذ غلاما حدثا، وكان معاوية حيا، ويزيد أميرا يومئذ، فلما أكثر قومه عليه في ذلك وفي قولهم: إنك ستشرف بمصيرك إليه قال:

يشرفني سيفي وقلـب مـجـانـب                      لكل لئيم بـاخـل ومـعـلـهـج

وكري على الأبطال طرفا كـأنـه                      ظليم وضربي فوق رأس المدجـج

وقولي إذا ما النفس جاشت وأجهشت                      مخـافة يوم شـره مـتـأجــج

عليك غمار الموت يا نفس إنـنـي                      جريء على درء الشجاع المهجهج ثم يقف؛ فلا يصل إليه فلما أكثر عليه قومه، وعنفوه في تأخره أتى يزيد بن معاوية، فأقام ببابه شهرا لا يصل إليه فرجع، وقال: والله لا يراني ما حملت عيناي الماء إلا أسيرا أو قتيلا، وأنشأ يقول:

فوالـلـه لا آتـي يزيد ولـو حـوت                      أنامله ما بين شـرق إلـى غـرب

لأن يزيدا غـير الـلـه مـا بـــه                      جنوح إلى السوءى مصر على الذنب

فقل لبني حرب تقـوا الـلـه وحـده                      ولا تسعدوه في البطالة والـلـعـب

ولا تأمنوا التغـيير إن دام فـعـلـه                      ولم ينهه عن ذاك شيخ بنـي حـرب

أيشربها صرفـا إذا الـلـيل جـنـه                      معتقة كالمسك تختال في العـلـب

ويلحى عليها شاربـيهـا وقـلـبـه                      يهيم بها إن غاب يوما عن الشـرب يرهن سرجه ليبيت أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة، عن المدائني قال: لما خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج، وكان معه أبو حزابة فمروا بدستبى وبها مستراد الصناجة، وكانت لا يبيت بها أحد إلا بمائة درهم، فبات بها أبو حزابة ورهن عندها سرجه، فلما أصبح وقف لعبد الرحمن، فلما أقبل صاح به وقال:

أمر عضال نابني في العج                      كأنني مطالـب بـخـرج

ومستراد ذهبت بالـسـرج                      في فتنة الناس وهذا الهرج فعرف ابن الأشعث القصة، وضحك، وأمر بأن يفتك له سرجه، ويعطى معه ألف درهم، وبلغت القصة الحجاج فقال: أيجاهر في عسكره بالفجور فيضحك، ولا ينكر ظفرت به إن شاء الله.

لا يثيبه على المدح فيهجوه أخبرني عمي، قال حدثنا الكراني عن العمري، عن العتبي قال: مدح أبو حزابة عبد الله بن علي العشمي وهو على سجستان فلم يثبه فقال يهجوه:

هبـت تـعـاتــبـــنـــي أمـــا                      مة فـي الـسـمـاحة والـفـضــال

وأبـيت عـنـد عـتـــابـــهـــا                      إلا خـــلائق ذي الـــنـــــوال

أعـطـي أخـــي وأحـــوطـــه                      جهـدي وأبـذل جــل مـــالـــي

وأقـيه عـنـد تـشـاجـر الأبـطـــا                      ل بـالأســـل الـــنـــهـــال

حفـــظـــا لـــه ورعــــاية                      للـخـالـيات مـن الــلـــيالـــي

إذ نـحـن نـشـــرب قـــهـــوة                      درياقة كـــدم الـــغــــــزال

حمــراء يذهـــب ريحـــهـــا                      ما فـي الـرؤوس مـن الـخـبـــال

وإذا تشعشع في الإناء رمت أخاها باغتيال

وعلا الحباب فخلته                      عقـدا ينــظـــم مـــن لآلـــي

تشـفـي الـسـقـيم بـريحـــهـــا                      وتـمـيتـه قـــبـــل الإجـــال

تلـك الـتـي تـــركـــت فـــؤا                      د أبـي حــزابة فـــي ضـــلال

لا يســـتـــفـــيق ولا يفــــي                      ق نـزيفـهـا فـي كـــل حـــال

وإذا الـكـمــاة تـــنـــازلـــوا                      ومـشـى الـرجـال إلـى الـرجــال

وبـدت كـتـائب تـــمـــتـــري                      مهـج الـكـتـائب بـالـعـوالـــي

فأبـــو حـــزابة عـــنــــد ذا                      ك أخـو الـكـريهة والـــنـــزال

يمـشـي الـهـوينـي مـعـلـمـــا                      بالـسـيف مـــشـــيا غـــير آل

كالـلـــيث يتـــرك قـــرنـــه                      متـجــدلا بـــين الـــرمـــال

إنـي نـذير بــنـــي تـــمـــي                      م مــن أخـــي قـــيل وقـــال

من لا يجـــــود ولا يســـــــو                      د ولا يجـير مـــن الـــهـــزال

وتـراه حـين يجــيئه الـــســـؤا                      ل يولـع بـــالـــســـعـــال

متـشـاغـلا مـتـنـحـنـــحـــا                      كالـكـلـب جـمـجـم لـلـعـظـال

 

صفحة : 2527

 

 

فارفض قريشا كـلـهـا                      من أجل ذي الداء العضال يعني عبد الله بن علي العبشمي.

يشيد بشجاعة التميميين: أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال: حدثني محمد بن الهيثم الشامي قال: حدثني عمي أبو فراس، عن العذري قال: دخل أبو حزابة على عمارة بن تميم ومحمد بن الحجاج، وقد قدما سجستان لحرب عبد الرحمن بن محمد بن الهيثم الشامي قال: حدثني عمي أبو فراس، عن العذري قال: دخل أبو حزابة على عمارة بن تميم ومحمد بن الحجاج، وقد قدما سجستان لحرب عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان عبد الرحمن لما قدماها هرب، ولم يبق بسجستان من أصحابه إلا سبعمائة رجل من بني تميم كانوا مقيمين بها، فقال لهما أبو حزابة: إن الرجل قد هرب منكما، ولم يبق من أصحابه أحد، وإنما بسجستان من كان بها من بني تميم قبل قدومه فقالا له: ما لهم عندنا أمان، لأنهم قد كانوا مع ابن الأشعث، وخلعوا الطاعة، فقال: ما خلعوها، ولكنه ورد عليهم في جمع عظيم لم يكن لهم بدفعة طاقة. فلم يجيباه إلى ما أراد، وعاد إلى قومه، وحاصرهم أهل الشام، فاستقتلت بنو تميم، فكانوا يخرجوا في كل يوم إليهم، فيواقعونهم، ويكبسهونهم بالليل، وينهبون أطرافهم، حتى ضجروا بذلك، فلما رأى عمارة فعلهم صالحهم، وخرجوا إليه، فلما رأى قلتهم قال: أما كنتم إلا ما أرى قالوا: نعم، فإن شئت أن نقيلك الصلح أقلناك، وعدنا للحرب، فقال: أنا غني عن ذلك، وآمنهم، فقال أبو حزابة في ذلك:

لله عينـا مـن رأى مـن فـوارس                      أكر على المكروه منهم وأصـبـرا

وأكرم لو لاقوا سـوادا مـقـاربـا                      ولكن لقوا طما من البحر أخضـرا

فما برحوا حتى أعضوا سيوفـهـم                      ذرى الهام منهم والحديد المسمـرا

وحتى حسبناهم فوارس كـهـمـس                      حيوا بعد ما ماتوا من الدهر أعصرا

صوت

 

إذا الله لم يسق إلا الـكـرام                      فسقى وجوه بني حـنـبـل

وسـقـى ديارهـم بـاكـرا                      من الغيث في الزمن الممحل

تكفكفه بالعشي الـجـنـوب                      وتفرغه هـزة الـشـمـأل

كأن الرباب دوين السـحـاب                      نعام تـعـلـق بـالأرجـل الشعر لزهير السكب التميمي المازني، والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي وحبش.

 

نسب زهير السكب وأخباره

اسمه ونسبه هو زهير بن عروة بن جلهمة بن حجر بن خزاعي. شاعر جاهلي. وإنما لقب السكب ببيت قاله وقال فيه:

يرق يضيء خلال البيت أسكوب يتشوق إلى أبناء عمومته أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال: حدثنا أبو هفان عن سعيد بن هريم عن أبيه قال: كان زهير بن عروة المازني الملقب بالسكب جاهليا، وكان من أشراف بني مازن وأشدائهم وفرسانهم وشعرائهم، فغاضب قومه في شيء ذمه منهم، وفارقهم إلى غيرهم من بني تميم، فلحقه فيهم ضيم، وأراد الرجوع إلى عشيرته، فأبت نفسه ذلك عليه، فقال يتشوق ناسا منهم كانوا بني عمه دنية يقال لهم بنو حنبل:

إذا لله لم يسـق إلا الـكـرام                      فسقى وجوه بني حـنـبـل

ملثا أحم دوابي الـسـحـاب                      هزيم الصلاصل والأزمـل

تكركره خضخات الجنـوب                      وتفرغه هـزة الـشـمـأل

كأن الرباب دوين السـحـاب                      نعام تـعـلـق بـالأرجـل

فنعم بنو العـم والأقـربـون                      لدى حطمة الزمن الممحـل

ونعم المواسون في النـائبـا                      ت للجار والمعتفى المرمل

ونعم الحماة الكفاة العـظـيم                      إذا غائظ الأمر لم يحـلـل

ميامين صبر لدى المعضلات                      على موجع الحدث المعضل

مباذيل عفوا جزيل العطـاء                      إذا فضلة الزاد لـم تـبـذل

هم سبقوا يوم جرى الكـرام                      ذوي السبق في الزمن الأول

وساموا إلى المجد أهل الفعال                      فطالوا بفـعـلـم الأطـول أبو عمرو بن العلاء يستشهد بشعره أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي: قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه قال:

 

صفحة : 2528

 

سأل رجل أبا عمرو بن العلاء عن الرباب فقال: أما تراه معلقا بالسحاب كالذيل له، أما سمعت قول صاحبنا السكب:

كأن الرباب دوين السحاب                      نعام تعلـق بـالأرجـل

صوت

 

سلا عن تذكره تكتمـا                      وكان رهينا بها مغرما

وأقصر عنها وآثارهـا                      تذكره داءها الأقدمـا الشعر للنمر بن تولب، والغناء لخزرج خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي.

 

أخبار النمر بن تولب ونسبه

اسمه ونسبه هو النمر بن تولب بن أقيش بن عبد كعب بن عوف بن الحارث بن عوف بن وائل بن قيس بن عكل - واسم عكل عوف بن عبد مناف - بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار.

شاعر مقل مخضرم أدرك الجاهلية، وأسلم، فحسن إسلامه، ووفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكتب له كتابا، فكان في أيدي أهله، وروى عنه صلى الله عليه وسلم حديثا سأذكره في موضعه، وكان النمر أحد أجواد العرب المذكورين وفرسانهم.

أبو عمرو بن العلاء يسميه الكيس حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: أخبرنا محمد بن حبيب قال: قال الأصمعي: كان أبو عمرو بن العلاء يسمي النمر بن تولب الكيس لجوده شعره وحسنه.

أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: أخبرنا محمد بن سلام الجمحي، وأخبرنا أبو خليفة في كتابه إلي، عن محمد بن سلام قال: كان النمر بن تولب جوادا لا يليق شيئا، وكان شاعرا فصيحا جريئا على المنطق، وكان أبو عمرو بن العلاء يسميه الكيس لحسن شعره.

أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال: أخبرنا الرياشي قال: حدثنا الأصمعي: قال حدثنا قرة بن خالد، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أخي مطرف، وأخبرني أبو خليفة في كتابه إلي قال: حدثنا محمد بن سلام قال: وفد النمر بن تولب على النبي صلى الله عليه وسلم وكتب له كتابا، أخبرناه قرة بن خالد السدوسي وسعيد بن إياس الجريري، عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير أخي مطرف.

يحظى بكتاب نبوي وأخبرني عمي عن القاسم عن محمد الأنباري عن أحمد بن عبيد، عن الأصمعي، عن قرة بن خالد، عن يزيد ابن عبد الله أخي مطرف - واللفظ قريب بعضه من بعض - قال: بينما نحن بهذا المربد جلوس - يعني مربد البصرة - إذ أتى علينا أعرابي أشعث الرأس، فوقف علينا، فقلنا: والله لكأن هذا الرجل ليس من أهل هذا البلد، قال: أجل، وإذا معه قطعة من جراب أو أديم، فقال: هذا كتاب كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأناه فإذا فيه مكتوب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من محمد رسول الله لبني زهير - هكذا قال أحمد بن عبيد، وقال الباقون: لبني زهير بن أقيش - حي من عكل - إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وأقمتم الصلاة، وآتيتم الزكاة، وفارقتم المشركين، وأعطيتم الخمس من الغنائم وسهم النبي والصفي فأنتم آمنون بأمان الله وأمان رسوله.

يشكون في روايته، فيغضب وقال أحمد بن عبيد الله في خبره خاصة:  لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم  . وقالوا جميعا في الخبر: فقال له القوم: حدثنا رحمك الله، ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  صوم شهر الصبر، وصوم ثلاثة أيام من كل شهر يذهبن كثيرا من وحر الصدر  . فقال له القوم: أأنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم? فقال: أراكم تخافون أن أكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا حدثتكم حديثا، ثم أهوى إلى الصحيفة، وانصاع مدبرا. قال يزيد بن عبد الله: فقيل لي بعد ما مضى: هذا النمر بن تولب العكلي الشاعر.

مثل من كرمه أخبرني محمد بن خلف قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن خلف قال: أخبرنا محمد بن سلام، قال: خرج النمر بن تولب بعدما كبر في إبله، فسأله سائل، فأعطاه فحل إبله، فلما رجعت الإبل إذا فحلها ليس فيها، فهتفت به امرأته، وعذلته، وقالت: فهلا غير فحل إبلك? فقال لها:

دعيني وأمري سأكـفـيكـه                      وكوني قعيدة بيت ضباعـا

فإنك لن تـرشـدي غـاويا                      ولن تدركي لك حظا مضاعا وقال أيضا في عزلها إياه:

بكرت باللوم تلحـانـا                      في بعير ضل أو حانا

علقت لوا تكـررهـا                      إن لوا ذاك أعـيانـا قال: وأدرك الإسلام فأسلم.

 

 

صفحة : 2529

 

تخدعه زوجه أخبرني الحسن بن علي؛ قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا محمد بن سلام قال: كان للنمر بن تولب أخ يقال له الحارث بن تولب، وكان سيدا معظما، فأغار الحارث على بني أسد فسبى امرأة منهم، يقال لها جمرة بنت نوفل، فوهبها لأخيه النمر بن تولب ففركته، فحبسها، حتى استقرت، وولدت له أولادا، ثم قالت له في بعض أيامها: أزرني أهلي فإني قد اشتقت إليهم، فقال لها: إني أخاف إن صرت إلى أهلك أن تغلبيني على نفسك، فواثقته لترجعن إليه. فخرج بها في الشهر الحرام، حتى أقدمها بلاد بني أسد، فلما أطل على الحي تركته واقفا، وانصرفت إلى منزل بعلها الأول، فمكثت طويلا، فلم ترجع إليه، فعرف ما صنعت وأنها اختدعته فانصرف وقال:

جزى الله عنا جمرة ابنة نـوفـل                      جزاء مغل بـالأمـانة كـاذب

لهان عليها أمس موقف راكـب                      إلى جانب السرحات أخيب خائب

وقد سألت عني الوشاة ليكـذبـوا                      علي وقد أبليتها في الـنـوائب

وصدت كأن الشمس تحت قناعها                      بدا حاجب منها وضنت بحاجـب وقال فيها أيضا:

كل خليل عليها الـرعـا                      ث والحبلات كذوب ملق الحبلات: واحدتها حبلة، وهي جنس من الحلى قدر ثمر الطلح .

 

وقامت إلي فأحلفتـهـا                      بهدي قلائده تختـفـق

بأن لا أخونك فيما علمت                      فإن الخيانة شر الخلـق وقال فيها أشعارا كثيرة يطول ذكرها.

يشبه حاتما في شعره أخبرني اليزيدي، عن محمد بن حبيب قال: كان أبو عمرو يشبه شعر النمر بشعر حاتم الطائي.

أفتى الشعر أخبرني الحسين بن علي قال: حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: بلغني أن صالح بن حسان قال يوما لجلسائه: أي الشعراء أفتى? قالوا: عمر بن أبي ربيعة، وقالوا: جميل، وأكثروا القول، فقال: أفتاهم النمر بن تولب حين يقول:

أهيم بدعد ما حييت وإن أمـت                      فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي  جمرة توصيه بولد منها أخبرني الحسن قال: حدقنا أحمد بن زهير، عن محمد بن سلام قال: حج النمر بن تولب بعد هرب جمرة منه فنزل بمنى، ونزلت جمرة مع زوجها قريبا منه، فعرفته، فبعثت إليه بالسلام، وسألته عن خبره، ووصته خيرا بولده منها فقال:

فحييت عن شحط بخير حديثـنـا                      ولا يأمن الأيام إلا المـضـلـل

يود الفتى طول السلامة والغنـى                      فكيف يرى طول السلامة يفعل شعره بين يدي الرسول أخبرني ابن المرزبان قال: حدثنا أبو محمد اليزيدي، عن الأصمعي. وأخبرنا اليزيدي عن ابن حبيب عن الأصمعي قال: لما وفد النمر بن تولب على النبي صلى الله عليه وسلم أنشده:

يا قوم إني رجل عندي خبـر                      لله من آياته هذا الـقـمـر

والشمس والشعرى وآيات أخر                      من يتسام بالهدى فالخبث شر

إنا أتيناك وقد طال السـفـر                      نقود خيلا رجعا فيها ضـرر

نطعمها اللحم إذا عز الشجر قال اليزيدي، عن ابن حبيب خاصة، قال الأصمعي: أطعمها اللحم: أسقيها اللبن، والعرب تقول: اللبن أحد اللحمين. وقال ابن حبيب: قال ابن الأعرابي: كانت العرب إذا لم تجد العلف دقت اللحم اليابس، فأطعمته الخيل: يسلو بدعد عن جمرة أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش. وأخبرنا ابن المرزبان قال: أخبرني عيسى بن يونس قال: حدثني محمد بن الفضل قال: حدثنا الهيثم بن عدي، عن ابن عباس قال: لما فارق النمر بن تولب امرأته الأسدية جزع عليها، حتى خيف على عقله ومكث أياما لا يطعم، ولا ينام، فلما رأت عشيرته منه ذلك، أقبلوا عليه يلومونه، ويعيرونه، وقالوا: إن في نساء العرب مندوحة ومتسعا، وذكروا له امرأة من فخذه الأدنين يقال لها دعد، ووصفوها له بالجمال والصلاح، فتزوجها ووقعت من قلبه، وشغلته عن ذكر جمرة وفيها يقول:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت                      أوكل بدعد من يهيم بها بعدي والناس يروون هذا البيت لنصيب وهو خطأ.

أخبرني اليزيدي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي، عن عمه. وأخبرني إبراهيم بن محمد الصائغ، عن ابن قتيبة، عن عبد الرحمن، عن عمه، عن حماد بن ربيعة أنه قال:

 

صفحة : 2530

 

أظرف الناس النمر بن تولب حيث يقول:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمت                      أوكل بدعد من يهيم بها بعدي يرثي جمرة أخبرني ابن المرزبان قال: أخبرني عبد الله بن محمد قال: أخبرني محمد بن سلام قال: لما بلغ النمر بن تولب أن امرأته جمرة توفيت، نعاها له رجل من قومه يقال له حزام أو حرام، فقال:

ألم تر أن جمرة جاء منهـا                      بيان الحق أن صدق الكلام

نعاها بالندي لـنـا حـزام                      حديث ما تحدث يا حـرام

فلا تبعد وقد بعدت وأجرى                      على جدث تضمنها الغمام قال الأصمعي: يقال بعد وأبعد يهذي في كبره أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثنا الرياشي، عن الأصمعي. عن أبي عمرو وأخبرني به هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة، عن أبي عمرو قال: أدرك النمر بن تولب النبي صلى الله عليه وسلم، فأسلم وحسن إسلامه، وعمر، فطال عمره، وكان جوادا واسع القرى كثير الأضياف وهابا لماله، فلما كبر خرف وأهتر، فكان هجبراه: اصبحوا الراكب، اغبقوا الراكب اقروا، انحروا للضيف، أعطو السائل، تحملوا لهذا في حمالته كذا وكذا - لعادته بذلك - فلم يزل يهذي بهذا وشبههه مدة خرفه حتى مات.

موازنة بين خرف وخرف قال: وخرفت إمرأة من حي كرام عظيم خطرهم وخطرها فيهم، فكان هجيراها: زوجوني، قولوا لزوجي يدخل، مهدوا لي إلى جانب زوجي، فقال عمر بن الخطاب، وقد بلغه خبرها: ما لهج به أخو عكل النمر بن تولف في خرفه أفخر وأسرى، وأجمل مما لهجت به صاحبتكم. ثم ترحم عليه.

يرثي أخاه أخبرني ابن المرزبان قال: حدثني أبو بكر العامري، قال: حدثني علي بن المغيرة الأثرم، عن أبي عبيدة قال: مات الحارث بن تولب، فرثان النمر فقال:

لازال صوب من ربيع وصـيف                      يجود على حسن الغميم فيثـرب

فوالله ما أسقى البلاد لحـبـهـا                      ولكنما أسقيك حار بن تـولـب

تضمنت أدواء العشيرة بينـهـا                      وأنت على أعواد نعش مقلـب

كأن أمرأ في الناس كنت ابن أمه                      على فلج من بطن دجلة مطنب يتمثل بأبياته قال حماد الراوية: كان النمر بن تولب كثير البيت السائر والبيت المتمثل به، فمن ذلك قوله:

لا تغضبن على امرئ في مـالـه                      وعلى كرائم صلب مالك فاغضب

وإذا تصبك خصاصة فارج الغنـى                      وإلى الذي يعطي الرغائب فارغب وقوله:

تلبس لـدهـرك أثـوابـه                      فلن يبتني الناس ما هدمـا

وأحبب حبيبك حـبـا رويدا                      فليس يعولك أن تصـرمـا

وأبغض بغيضك بغضا رويدا                      إذا أنت حاولت أن تحكمـا وقوله:

أعاذل أن يصبح صداي بقفرة                      بعيد فأنى ناصري وقريبـي

تري أن ما أبقيت لم أك ربه                      وأن الذي أفنيت كان نصيبي يعفي صديقه من الدية ويتحملها نسخت من كتاب بخط السكري أبي سعيد قال: محمد بن حبيب: كان للنمر بن تولب صديق فأتاه النمر في ناس من قومه يسألونه في دية احتملوها، فلما رآهم، وسألوه تبسم، فقال النمر:

تبسم ضاحكا لمـا رآنـي                      وأصحابي لدي عن التمام فقال له الرجل: إن لي نفسا تأمرني أن أعطيكم، ونفسا تأمرني ألا أفعل، فقال النمر:

أما خليلي فإني غير مـعـجـلـه                      حتى يؤامر نفسيه كمـا زعـمـا

نفس له من نفوس الناس صالـحة                      تعطى الجزيل ونفس ترضع الغنما ثم قال النمر لأصحابه: لا تسألوا أحدا، فالدية كلها علي.

قصة سيف كالذي وصف النمر أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري، قال: حدثنا علي بن محمد النوفلي قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الحسن بن محمد بن عبد الله بن حسن بن علي قال:

 

صفحة : 2531

 

جاء أعرابي إلى أبي، وهو مستتر بسويقة قبل مخرجه، ومعه سيف قد علاه الصدأ، فقال: يا بن رسول الله، إني كنت ببطن قديد، أرعى إبلي وفيها فحل قطم، قد كنت ضربته، فحقد علي وأنا لا أدري، فخلا بي فشد علي يريدني، وأنا أحضر، ودنا مني حتى أن لعابه ليسقط على رأسي لقربه مني. فأنا أشتد، وأنا أنظر إلى الأرض لعلي أرى شيئا أذبه عني به، إذ وقعت عيني على هذا السيف قد فحص عنه السيل، فظننته عودا باليا، فضربت بيدي إليه، فأخذته فإذا سيف، فذببت به البعير عني ذبا، والله ما أردت به الذي بلغت منه، فأصبت خيشومه فرميت بفقمه، فعلمت أنه سيف جيد، وظننته من سيوف القوم الذين كانوا قتلوا في وقعة قديد، وها هو ذا قد أهديته لك يا بن رسول الله قال: فأخذه منه أبي، وسر به. وجلس الأعرابي يحادثه، فبينا هو كذلك إذ أقبلت غنم لأبي ثلاثمائة شاة فيها رعاؤها، فقال له: أبي: يا أعرابي هذه الغنم والرعاة لك مكافأة لك عن هذا السيف، قال: ثم أرسل به إلى المدينة، أو أرسل إلى قين فأتي به من المدينة، فأمر به فحلي، فخرج أكرم سيوف الناس، فأمر فاتخذ له جفن، ودفعه إلى أختي فاطمة بنت محمد. فلما كان اليوم الذي قتل فيه، قاتل بغير ذلك السيف، قال: وبقي ذلك السيف عند أختي محمد بنت محمد. فزرتها يوما وهي بينبع في جماعة من أهل بيتي، وكانت عند ابن عمها الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن عليهم أجمعين السلام، فخرجت إلينا، وكانت برزة تجلس لأهلها كما يجلس الرجال، وتحدثهم، فجلست تحدثنا، وأمرت مولى لها، فنحر لنا جزورا ليهيئ لنا طعاما.

فنظرت إليها، والجزور في النخل باركة، وقد بردت وهي تسلخ، فقالت: إني لا أرى في هذه الجزور، مضربا حسنا. ثم دعت بالسيف، وقالت: يا حسن - فدتك أختك - هذا سيف أبيك، فخذه واجمع يديك في قائمه، ثم اضرب به أثناءها من خلفها - تريد عراقيبها - وقد أثبتها للبروك، وهي أربعة أعظم، قال: فأخذت السيف ثم مضيت نحوها، فضربت عراقيبها فقطعتها - والله - أربعتها، وسبقني السيف، فدخل في الأرض، فأشفقت عليه أن ينكسر إن اجتذبته فحفرت عنه، حتى استخرجته، قال: فذكرت حينئذ قول النمر بن تولب:

أبقى الحوادث والأيام من نمر                      أسباد سيف كريم أثره بـادي

تظل تحفر عنه الأرض مندفعا                      بعد الذراعين والقيدين والهادي ويروى:

تظل تحفر عنه إن ظفرت به يشكو المشيب أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثنا عمر بن شبة قال: أخبرني أحمد بن معاوية الباهلي، عن أبي عبيدة قال: قيل للنمر بن تولب كيف أصبحت يا أبا ربيعة? فأنشأ يقول:

أصبحت لا يحمل بعضي بعضا                      أشكو العروق الآبضات أبضا

كما تشكى الأرحبي الغرضـا                      كأنما كان شبابـي قـرضـا من توسلاته أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال: حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: أنشدني حماد بن الأخطل ابن النمر بن تولب لجده:

أعذني رب من حصر وعي                      ومن نفس أعالجها علاجـا

ومن حاجات نفس فاعصمني                      فإن لمضمرات النفس حاجا

فأنت وليها وبرئت منـهـا                      غليك فما قضيت فلا خلاجا عود إلى فتوته ثم قال: كان النمر أفتى خلق الله، فقلت: وما كانت فتوته? قال: أوليس فتى من يقول:

أهيم بدعد ما حييت فإن أمـت                      فواحزنا من ذا يهيم بها بعدي?

صوت

 

أيا صاحبي رحلي دنا الموت فـانـزلا                      برابـية إنـي مـقـيم لــيالـــيا

وخـطـا الأسـنة مـضـجـعــي                      وردا علـى عـينـي فـضـل ردائيا

ولا تحسداني بارك الـلـه فـيكـمـا                      من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا

لعمري لئن غالت خراسان هـامـتـي                      لقد كنت عن بابـي خـراسـان نـائيا

فيا ليت شعـري هـل أبـيتـن لـيلة                      بجنب الغضا أزجي القلاص النواجـيا

 

صفحة : 2532

 

الشعر لمالك بن الريب، والغناء لمعبد مما لا يشك فيه من غنائه، خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق ويونس وعمرو ودنانير، وفيه خفيف ثقيل آخر لابن عائشة من رواية علي بن يحيى، وفيه لابن سريج هزج بالخنصر في مجرى البنصر عن ابن المكي، وفيه لإبراهيم رمل بالوسطى عن عبد الله بن موسى في الأول والثالث من الأبيات، ولإبراهيم ثقيل أول في الخامس ثم الرابع عن الهشامي، وقيل: إن الرمل المنسوب إليه لنبيه.

 

أخبار مالك بن الريب ونسبه

اسمه ونسبه هو مالك بن الريب بن حوط بن قرط بن حسل بن ربيعة بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم.

لص قاطع طريق وكان شاعرا فاتكا لصا، ومنشؤه في بادية بني تميم بالبصرة من شعراء الإسلام في أول أيام بني أمية.

الوالي يريد استصلاحه أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش قال: أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وعن هشام بن الكلبي وعن الفضل بن محمد وإسحاق بن الجصاص وحماد الراوية وكلهم قد حكى من خبره نحوا مما حكاه الآخرون قالوا: استعمل معاوية بن أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان، فمضى سعيد بجنده في طريق فارس، فلقيه بها مالك بن الريب المازني، وكان من أجمل الناس وجها، وأحسنهم ثيابا فلما رآه سعيد أعجبه، وقال له: مالك، ويحك تفسد نفسك بقطع الطريق وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من العبث والفساد، وفيك هذا الفضل قال: يدعوني إليه العجز عن المعالي، ومساواة ذوي المروءات ومكافأة الإخوان، قال: فإن أنا أغنيتك، واستصحبتك، أتكف عما كنت تفعل? قال: إي والله أيها الأمير، أكف كفا لم يكف أحد أحسن منه، قال: فاستصحبه، وأجرى له خمسمائة درهم في كل شهر.

داود بن الحكم يتعقبه هو وأصحابه قالوا: وكان السبب الذي من أجله وقع مالك بن الريب إلى ناحية فارس أنه كان يقطع الطريق هو وأصحاب له، منهم شظاظ - وهو مولى لبني تميم، وكان أخبثهم - وأبو حردبة، أحد بني أثالة بن مازن، وغويث، أحد بني كعب بن مالك بن حنظلة، وفيهم يقول الراجز:

الله نجاك من القـصـيم                      وبطن فلج ونبي تـمـيم

ومن بنى حـردبة الأثـيم                      ومالك وسيفه المسمـوم

ومن شظاظ الأحمر الزنيم                      ومن غويث فاتح العكوم فساموا الناس شرا، وطلبهم مروان بن الحكم، وهو عامل على المدينة، فهربوا فكتب إلى الحارث بن حاطب الجمحي، وهو عامله على بني عمرو بن حنظلة يطلبهم، فهربوا منه.

يتوعد من يتوعده ويبلغ مالك بن الريب أن الحارث بن حاطب يتوعده فقال:

تألـى حـلـــفة فـــي غـــير جـــرم                      أمـيري حـارث شـبــه الـــصـــرار

علـي لأجـلـدن فـــي غـــير جـــرم                      ولا أدنـي فـينـفـعـنـي اعـــتـــذاري

وقـلـت وقـد ضـمـمـت إلـي جـأشـــي                      تجـلـل لا تــأل عـــلـــي جـــاري

فإنـي سـوف يكـفـينــيك عـــزمـــي                      ونـص الـعـيس بـالـبـلـد الـقــفـــار

وعـنـس ذات مــعـــجـــمة أمـــون                      علـنـداة مــوثـــقة الـــفـــقـــار

تزيف إذا تـواهـقـــت الـــمـــطـــا                      يا كـمـا زاف الـمـشـرف لـلـخـطــار

وإن ضـربـت بـلـحـييهـا وعـــامـــت                      تفـصـم عـنـهـمـا حـلـق الـسـفـــار

مراحـا غـير مـا ضـغــن ولـــكـــن                      لجـاجـا حـين تـشـتـبـه الـصـحــاري

إذا مـا اسـتـقـبـلـت جـونـا بـهـيمـــا                      تفـرج عـن مــخـــيسة حـــضـــار

إذا مـا حـــال روض ربـــاب دونـــي                      وتـثـلـيث فـشـأنـك بـالـبـــكـــاري

وأنـياب سـيخـلـفـهـــن ســـيفـــي                      وشـدات الـكـمـي عـلـى الـتــجـــار

فإن أسـطـع أرح مـنـــه أنـــاســـي                      بضـربة فـانــك غـــير اعـــتـــذار

وإن يفلت فإني سوف أبغي بنيه بالمدينة أو صرار

إلا م مبلغ مروان عني                      فإنـي لـيس دهــري بـــالـــفـــرار

ولا جـزع مـن الــحـــدثـــان يومـــا                      ولـكــنـــي أرود لـــكـــم وبـــار وبار: أرض لم يطأ أحد ثراها

بهزمار تراد العيس فيهـا                      إذا أشفقن من فلق الصفار

وهن يحشن بالأعناق حوشا                      كأن عظامهن قداح بـار

كأن الرحل أسأر من قراها                      هلال عشية بعد السـرار

رأيت وقد أتى بحران دوني                      لليلى بالغميم ضـوء نـار

 

صفحة : 2533

 

 

إذا ما قلت: قد خمدت زهـاهـا                      عصي الرند والعصف السواري

يشب وقـودهـا ويلـوح وهـيا                      كما لاح الشبوب من الصـوار

كأن النار إذ شـبـت لـلـيلـى                      أضاءت جيد مـغـزلة نـوار

وتصطاد القلوب على مطـاهـا                      بلا جعد القرون ولا قـصـار

وتبسم عن نقي الـلـون عـذب                      كما شيف الأقاحي بالقـطـار

أتجزع أن عرفت ببـطـن قـو                      وصحراء الأديهـم رسـم دار

وإن حل الخليط ولست فـيهـم                      مرابع بين دحل إلـى سـرار

إذا حـلـوا بـعـائجة خــلاء                      يقطف نور حنوتها الـعـذاري يقتل حارسه ويخلص صديقه فبعث إليه الحارث رجلا من الأنصار فأخذه، وأخذ أبا حردبة، فبعث بأبي حردبة وتخلف الأنصاري مع القوم الذين كان مالك فيهم، وأمر غلاما له، فجعل يسوق مالكا. فتغفل مالك غلام الأنصاري، وعليه السيف، فانتزعه منه، وقتله به، وشد على الأنصاري، فضربه بالسيف حتى قتله، وجعل يقتل من كان معه يمينا وشمالا.

ثم لحق بأبي حردبة، فتخلصه، وركبا إبل الأنصاري، وخرجا فرارا من ذلك هاربين، حتى أتيا البحرين، واجتمع إليهما أصحابهما، ثم قطعوا إلى فارس فرارا من ذلك الحدث الذي أحدثه مالك، فلم يزل بفارس، حتى قدم عليه سعيد بن عثمان، فاستصحبه.

شعره في مهربه فقال مالك في مهربه ذلك:

أحقا على السلطان أما الـذي لـه                      فيعطى وأما ما يراد فـيمـنـع

إذا ما جعلت الرمل بيني وبـينـه                      وأعرض سهب بين يبرين بلقـع

من الأدمى لا يستجم بها القـطـا                      تكل الرياح دونـه فـتـقـطـع

فشأنكم يا آل مروان فاطـلـبـوا                      سقاطي فما فيه لباغيه مطـمـع

وما أنا كالغير المـقـيم لأهـلـه                      على القيد في بحبوحة الضيم يرتع

ولولا رسول الله أن كان منـكـم                      تبين من بالنصف يرضى ويقنـع وقال أيضا:

لو كنتم تنكرون العذر قلت لكم                      يا آل مروان جاري منكم الحكم

وأتقكم يمين الـلـه ضـاحـية                      عند الشهود وقد توفي به الذمم

لا كنت أحدث سوءا في إمارتكم                      ولا الذي فات مني قبل ينتقـم

نحن الذين إذا خفتم مـجـلـلة                      قلتم لنا: إننا منكم لتعتصـمـوا

حتى إذا انفرجت عنكم دجنتهـا                      صرتم كجرم فلا إل ولا رحم وقال مالك حين قتل غلام الأنصاري الذي كان يقوده:

غلام يقول السيف يثقل عاتقـي                      إذا قادني وشط الرجال المجحدل

فلولا ذباب السيف ظل يقودنـي                      بنسعته شئن البنان حـزنـبـل أراد اغتيال مالك فاغتاله مالك وقال في ذلك شعرا قالوا: وبينا مالك بن الريب ذات ليلة في بعض هناته وهو نائم - وكان لا ينام إلا متوشحا بالسيف - إذ هو بشيء قد جثم عليه لا يدري ما هو، فانتفض به مالك، فسقط عنه، ثم انتحى له بالسيف فقده نصفين، ثم نظر إليه فإذا هو رجل أسود كان يقطع الطريق في تلك الناحية، فقال مالك في ذلك:

أدلجت في مهمة ما إن أرى أحـدا                      حتى إذا حان تعريس لمـن نـزلا

وضعت جنبي وقلت: الله يكلؤنـي                      مهما تنم عنك من عين فما غفـلا

والسيف بينب وبين الثوب مشعـره                      أخشى الحوادث إني لم أكن وكيلا

ما نمت إلا قليلا نـمـتـه شـئزا                      حتى وجدت على جثماني الثقـلا

داهية من دواهي الليل بـيتـنـي                      مجاهدا يبتغي نفسي وما خـتـلا

أهويت نفحا له واللـيل سـاتـره                      إلا توخيته والجرس فـانـخـزلا

لما ثنى الله عنـي شـر عـدوتـه                      رقدت لا مثبتا ذعرا ولا بـعـلا

أما ترى الدار قفرا لا أنيس بـهـا                      إلا الوحوش وأمسى أهلها احتملا

بين المنيفة حيث استن مدفـعـهـا                      وبين فردة من وحشيهـا قـبـلا

وقد تقول وما تخفي لجـارتـهـا                      إني أرى مالك بن الريب قد نحلا

من يشهد الحرب يصلاها ويسعرها                      تراه مما كسته شاحـبـا وجـلا

 

صفحة : 2534

 

 

خذها فإني لضراب إذا اختلفـت                      أيدي الرجال بضرب يختل البطلا وقال مالك في ذلك أيضا:

يا عـامـلا تـحـت الــظـــلام مـــطـــية                      متـخـايلا لإبـل وغـــير مـــخـــاتـــل

أنـي أنـخـت لــشـــابـــك أنـــيابـــه                      مسـتـأنـس بـدجـى الـظــلام مـــنـــازل

لا يسـتـريع عـظــيمة يرمـــى بـــهـــا                      حصـبـا يحـفـز عـن عـظـام الـكــاهـــل

حربـا تـنـصـبـه بـنـبـــت هـــواجـــر                      عاري الأشـاجـع كـالـحـسـام الـنــاصـــل

لم يدر مـا غـرف الـقـصــور وفـــيؤهـــا                      طاو بـنـخـل سـوادهـا الـمـــتـــمـــايل

يقظ الفؤاد إذا القلوب تآنست جزعا ونبه كل أروع باسل

حيث الدجى متطلعا لغفوله                      كالـذئب فـي غـلـس الـظـلام الـخــاتـــل

فوجـدتـه ثـبـت الـجـنـان مـــشـــيعـــا                      ركـاب مـنـســـج كـــل أمـــر هـــائل

فقـراك أبـيض كـالـعـقــيقة صـــارمـــا                      ذا رونـق يعـنـي الـضـــريبة فـــاصـــل

فركـتـب ردعـك بـــين ثـــنـــي فـــائز                      يعـلـو بــه أثـــر الـــدمـــاء وشـــائل رجل حرب لا سائس إبل قال: وانطلق مالك بن الريب مع سعيد بن عثمان إلى خراسان، حتى إذا كانوا في بعض مسيرهم اجتاجو إلى لبن، فطلبوا صاحب إبلهم، فلم يجدوه، فقال مالك لغلام من غلمان سعيد: أدن مني فلانة - لناقة كانت لسعيد عزيزة - فأدناها منه، فمسحها وأبس بها حتى درت، ثم حلبها، فإذا أحسن حلب حلبه الناس زأغزره درة، فانطلق الغلام إلى سعيد، فأخبره، فقال سعيد لمالك: هل لك أن تقوم بأمر إبلي، فتكون فيها، وأجزل لك الرزق إلى ما أرزقك، وأضع عنك الغزو? فقال مالك في ذلك:

أنـي لأسـسـتـحــيي الـــفـــوارس أن أرى                      بأرض الـعـدا بـو الـمــخـــاض الـــروائم

وإنـي لأسـتـحـيي إذا الـحـرب شـــمـــرت                      أن ارخـي دون الـحـرب ثـوب الـمـسـالـــم

ومـا أنـا بـالـنـائي الـحـفـيظة فـي الـوغــى                      ولا الـمـتـقـى فـي الـسـلـم جـر الـجــرائم

ولا المتأني في العواقب للذي أهم به من فاتكات العزائم

ولكنني مستوحد العزم مقدم                      علـى غـمـرات الـحـادث الـمـتـفــاقـــم

قلـيل اخـتـلاف الـرأي فـي الـحـرب بـاســل                      جمـيع الـفـراد عـنـد حـل الــعـــظـــائم فلما سمع ذلك منه سعيد بن عثمان، علم أنه ليس بصاحب إبل، وأنه صاحب حرب، فانطلق به معه.

مالك والذئب قالوا: وبينما مالك بن الريب ليلة نائم في بعض مفازاته إذ بيته ذئب، فزجره فلم يزدجر، فأعاد، فلم يبرح، فوثب إليه بالسيف، فضربه، فقتله، وقال مالك في ذلك:

أذئب الغضا قد صرت للنـاس ضـحـكة                      تغادى بك الركبان شرقـا إلـى غـرب

فأنت وإن كنـت الـجـرىء جـنـانـه                      منيت بضرغام مـن الأسـد الـغـلـب

بمـن لا ينـام الـلـيل إلا وسـيفـــه                      رهينة أقوام سـراع إلـى الـشـغـب

ألم تـرنـي يا ذئب إذا جـئت طـارقـا                      تخاتلنـي أنـي أمـرؤ وافـر الـلـب

ززجرتك مرات فلـمـا غـلـبـتـنـي                      ولم تنزجر نهنهت غربك بـالـضـرب

فصرت لقى لـمـا عـلاك ابـن حـرة                      بأبيض قطاع ينـجـي مـن الـكـرب

ألا رب يوم ريب لـو كـنـت شـاهـدا                      لهالك ذكرى عند معمـعـمة الـحـرب

ولـسـت تـرى إلا كـمـيا مـجــذلا                      يداه جميعا تـثـبـتـان مـن الـتـرب

وآخر يهوى طـائر الـقـلـب هـاربـا                      وكنت امرأ في الهيج مجتمع الـقـلـب

أصول بذي الزرين أمـشـي عـرضـنة                      إلى الموت والأقران كالإبـل الـجـرب

أرى الموت لا أنحاش عنـه تـكـرمـا                      ولو شئت لم أركب على المركب الصعب

ولكن أبـت نـفـسـي وكـانـت أبـية                      تقاعس أو ينصاع قـوم مـن الـرعـب تتعلق به ابنته عند الفراق فقال في ذلك شعرا قال أبو عبيدة: لما خرج مالك بن الريب مع سعيد بن عثمان تعلقت ابنته بثوبه، وبكت، وقالت له: أخشى أن يطول سفرك أو يحول الموت بيننا فلا نلتقي، فبكى وأنشأ يقول:

ولقد قلت لابنتي وهـي تـبـكـي                      بدخيل الهمـوم قـلـبـا كـئيبـا

وهي تذري من الدموع على الخدي                      ن من لوعة الـفـراق غـروبـا

عبرات يكدن يجرحن مـا جـزن                      ن بـه أو يدعـن فـيه نـدوبـا

 

صفحة : 2535

 

 

حذر الحتف أن يصيب أباهـا                      ويلاقي في غير أهل شعوبا

اسكتي قد حززت بالدمع قلبي                      طالما حز دمعكن القلـوبـا

فعسى الله أن يدفـع عـنـي                      ريب ما تحذرين حتى أءوبـا

ليس شيء يشاؤه ذو المعالـي                      بعزيز عليه فادعي المجيبـا

ودعي أن تقطعي الآن قلبـي                      أو تريني في رحلتي تعذيبـا

أنا في قبضة الإلـه إذا كـن                      ت بعيدا أو كنت منك قريبـا

كم رأينا امرأ أتى من بـعـيد                      ومقيما على الفراش أصيبـا

فدعيني من انتحـابـك إنـي                      لا أبالي إذا اعتزمت النحيبـا

حسبي الله ثم قربـت لـلـس                      ير علاة أنجب بها مركوبـا يتشرد من أجل ضرطة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال: كان سبب خروج مالك بن الريب إلى خراسأن واكتتابه مع سعيد بن عثمان، هربا من ضرطة، فسألته كيف كان ذلك? قال: مر مالك بليلى الأخيلية، فجلس إليها يحادثها طويلا، وأنشدها. فأقبلت عليه، وأعجبت به حتى طمع في وصلها، ثم إذا هو بفتى قد جاء إليها، كأنه نصل سيف، فجلس إليها، فأعرضت عن مالك وتهاونت به، حتى كأنه عصفور، وأقبلت على صاحبها مليا من نهارها، فغاظه ذلك من فعلها، وأقبل على الرجل، فقال: من أنت? فقال: توبة بن الحمير، فقال: هل لك في المصارعة? قال: وما دعاك إلى ذلك وأنت ضيفنا وجارنا? قال: لا بد منه، فظن أن ذلك لخوفه منه، فازداد لجاجا، فقام توبة فصارعه، فلما سقط مالك إلى الأرض ضرط ضرطة هائلة، فضحكت ليلى منه. واستحيا مالك، فاكتتب بخراسان وقال: لا أقيم في بلد العرب أبدا، وقد تحدثت عني بهذا الحديث، فلم يزل بخراسان حتى مات، فقبره هناك معروف.

يتحدث مع أصحابه ويتذاكرون ماضيهم في السرقة وقال المدائني، وحدثني أبو الهيثم: قال: اجتمع مالك بن الريب وأبو حردبة وشظاظ يوما، فقالوا: تعالوا نتحدث بأعجب ما عملناه في سرقتنا، فقال أبو حردبة: أعجب ما صنعت، وأعجب ما سرقت أني صحبت رفقة فيها رجل على رحل، فأعجبني، فقلت لصاحبي، والله لأسرقن رحله، ثم لا رضيت أو آخذ عليه جعالة، فرمقته، حتى رأيته قد خفق برأسه، فأخذت بخطام جمله، فقدته، وعدلت به عن الطريق، حتى إذا صيرته في مكان لا يغاث فيه إن استغاث، أنخت البعير وصرعته، فأوثقت يده ورجله، وقدت الجمل، فغيبته ثم رجعت إلى الرفقة، وقد فقدوا صاحبهم، فهم يسترجعون، فقلت: مالكم? فقالوا: صاحب لنا فقدناه، فقلت: أنا أعلم الناس بأثره، فجعلوا لي جعالة، فخرجت بهم أتبع الأثر حتى وقفوا عليه، فقالوا: مالك? قال: لا أدري، نعست، فانتبهت لخمسين فارسا قد أخذوني، فقاتلتهم، فغلبوني.

قال أبو حردبة؛ فجعلت أضحك من كذبه، وأعطوني جعالتي، وذهبوا بصاحبهم.

وأعجب ما سرقت أنه مر بي رجل معه ناقة وجمل، وهو على الناقة، فقلت: لآخذنهما جميعا، فجعلت أعارضه وقد رأيته قد خفق برأسه، فدرت، فأخذت الجمل، فحللته، وسقته، فغيبته في القصيم - وهو الموضع الذي كانوا يسرقون فيه - ثم انتبه، فالفتفت، فلم ير جمله، فنزل وعقل راحلته، ومضى في طلب الجمل، ودرت فحللت عقال ناقته، وسقتها.

فقالوا لأبي حردبة: ويحك فحتام تكون هكذا قال: اسكتوا، فكأنكم بي وقد تبت، واشتريت فرسا، وخرجت مجاهدا، فبينا أنا واقف إذ جاءني سهم كأنه قطعة رشاء، فوقع في نحري، فمت شهيدا. قال: فكان كذلك: تاب، وقدم البصرة، فاشترى فرسا، وغزا الروم، فأصابه سهم في نحره فاستشهد.

ثم قالوا لشظاظ: أخبرنا أنت بأعجب ما أخذت في لصوصيتك، ورأيت فيها، فقال: نعم كان فلان )رجل من أهل البصرة( له بنت عم ذات مال كثير، وهو وليها، وكانت له نسوة، فأبت أن تتزوجه، فحلف ألا يزوجها من أحد ضرارا لها، وكان يخطبها رجل غني من أهل البصرة، فحرصت عليه، وأبى الآخر أن يزوجها منه، ثم إن ولي الأمر حج، حتى إذا كان بالدو - على مرحلة من البصرة حذاءها، قريب من جبل يقال له سنام، وهو منزل الرفاق إذا صدرت أو وردت - مات الولي، فدفن برابية، وشيد على قبره، فتزوجت الرجل الذي كان يخطبها. قال شظاظ:

 

صفحة : 2536

 

وخرجت رفقة من البصرة معهم بز ومتاع، فتبصرتهم وما معهم وأتبعتهم حتى نزلوا، فلما ناموا بيتهم، وأخذت من متاعهم. ثم إن القوم أخذوني، وضربوني ضربا شديدا، وجردوني - قال: وذلك في ليلة قرة - وسلبوني كل قليل وكثير، فتركوني عريانا، وتماوت لهم، وارتحل القوم، فقلت: كيف أصنع? ثم ذكرت قبر الرجل، فأتيته، فنزعت لوحه، ثم احتفرت فيه سربا، فدخلت فيه، ثم سددت علي باللوح، وقلت: لعلي الآن أدفأ فأتبعهم. قال: ومر الرجل الذي تزوج بالمرأة في الرفقة، فمر بالقبر الذي أنا فيه، فوقف عليه، وقال لرفيقه: والله لأنزلن إلى قبر فلان، حتى أنظر هل يحمى الآن بضع فلانة? قال شظاظ: فعرفت صوته فقلعت اللوح، ثم خرجت عليه بالسيف من القبر، وقلت: بلى ورب الكعبة لأحمينها، فوقع والله على وجهه مغشيا عليه، لا يتحرك ولا يعقل. فسقط من يده خطام الراحلة، فأخذت وعهد الله بخطامها فجلست عليها، وعليها كل أداة وثياب ونقد كان معه، ثم وجهتها قصد مطلع الشمس هاربا من الناس، فنجوت بها، فكنت بعد ذلك أسمعه يحدث الناس بالبصرة، ويحلف لهم أن الميت الذي كان منعه من تزويج المرأة خرج عليه من قبره بسلبه وكفنه. فبقي يومه، ثم هرب منه، والناس يعجبون منه فعاقلهم يكذبه، والأحمق منهم يصدقه، وأنا أعرف القصة، فأضحك منهم كالمتعجب.

مغامرة أخرى لشظاظ قالوا: فزدنا، قال: فأنا أزيدكم أعجب من هذا وأحمق من هذا؛ إني لأمشي في الطريق أبتغي شيئا أسرقه، قال: فلا والله ما وجدت شيئا، قال: وكان هناك شجرة ينام من تحتها الركبان بمكان ليس فيه ظل غيرها، وإذا أنا برجل يسير على حمار له، فقلت له: أتسمع? قال: نعم، قلت: إن المقيل الذي تريد أن تقيله يخسف بالدواب فيه، فاحذره، فلم يلتفت إلى قولي. قال: ورمقته، حتى إذا نام أقبلت على حماره، فاستقته، حتى إذا برزت به، قطعت طرف ذنبه وأذنيه، وأخذت الحمار، فخبأته وأبصرته حين استيقظ من نومه، فقام يطلب الحمار، ويقفوا أثره، فبينا هو كذلك إذ نظر إلى طرف ذنبه وأذنيه، فقال: لعمري لقد حذرت لو نفعني الحذر، واستمر هاربا خوف أن يخسف به، فأخذت جميع ما بقي من رحله فحملته على الحمار، واستمر فألحق بأهلي.

الحجاج يصلب شظاظ قال أبو الهيثم: ثم صلب الحجاج رجلا من الشراة بالبصرة، وراح عشيا، لينظر إليه، فإذا برجل بإزائه مقبل بوجهه عليه، فدنا منه، فسمعه يقول للمصلوب: طال ما ركبت فأعقب، فقال الحجاج: من هذا? قالوا: هذا شظاظ اللص قال: لا جرم والله ليعقبنك، ثم وقف، وأمر بالمصلوب، فأنزل وصلب شظاظا مكانه.

مات مالك حتف أنفه قال ابن الأعرابي: مرض مالك بن الريب عند قفول سعيد بن عثمان من خراسان في طريقه؛ فلما أشرف على الموت تخلف معه مرة الكاتب ورجل آخر من قومه من بني تميم وهما اللذان يقول فيهما:

أيا صاححبي رحلي دنا الموت فانزلا                      برابـية إنـي مـقـيم لـيالــيا ومات في منزله ذلك، فدفناه، وقبره هناك معروف إلى الآن، وقال قبل موته قصيدته هذه يرثي بها نفسه.

قال أبو عبيدة: الذي قاله ثلاثة عشر بينا، والباقي منحول، ولده الناس عليه.

 

صوت

 

فما بيضة بات الظليم يحـفـهـا                      ويرفع عنها جؤجؤا متجـافـيا

بأحسن منها يوم قالت: أظاعـن                      مع الركب أم ثاو لدينا ليالـيا?

وهبت شمال آخر اللـيل قـرة                      ولا ثـوب إلا بـردهـا وردائيا

ومازال بردى طيبا من ثيابـهـا                      إلى الحول حتى أنهج الثوب باليا الشعر لعبد بني الحسحاس، والغناء لابن سريج في الأول والثاني من الأبيات ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفي الثالث والرابع لمخارق خفيف ثقيل عمله على صنعة إسحاق في:

أماوي إن المال غاد ورائح وكاده بذلك ليقال إن لحنه أخذه منه، وألقاه على عجوز عمير، فألقته على الناس، حتى بلغ الرشيد خبره، ثم كشفه فعلم حقيقته، ومن لا يعلم بنسبه إلى غيره، وقد ذكر حبش إنه لإبراهيم، وذكر غيره أنه لابن المكي.

وقد شرحت هذا الخبر في أخبار إسحاق.

 

أخبار عبد بني الحسحاس

 

 

صفحة : 2537

 

اسمه سحيم، وكان عبدا أسود نوبيا أعجميا مطبوعا في الشعر، فاشتراه بنو الحسحاس، وهم بطن من بني أسد، قال أبو عبيدة: الحسحاس بن نفاثة بن سعيد بن عمرو بن مالك بن ثعلبة بد دودان بن أسد بن خزيمة.

قال أبو عبيدة - فيما أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي عن أبي حاتم عنه: كان عبد بني الحسحاس عبدا أسود أعجميا، فكان إذا أنشد الشعر - استحسنه أم استحسنه غيره منه - يقول: أهشنت والله - يريد أحسنت والله - وأدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنه تمثل بكلمات من شعره غير موزونة.

يستشهد الرسول ببيت له أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن منصور قال حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل:

كفى بالإسلام والشيب ناهيا فقال أبو بكر: يا رسول الله:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فجعل لا يطيقه، فقال أبو بكر: أشهد أنك رسول الله )وما علمنا الشعر وما ينبغي له(.

قال محمد بن خلف وحدثني أحمد بن شداد عن أبي سلمة التبوذ كي عن حماد بن سلمة، عن رجل، عن الحسن مثله، وروي عن أبي بكر الهذلي أن اسم عبد بني الحسحاس حية.

كان أسود الوجه وأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: كان عبد بني الحسحاس حلو الشعر رقيق الحواشي، وفي سواده يقول:

وما ضر أثوابي سوادي وإنـنـي                      لكالمسك لا يسلو عن المسك ذائقة

كيست قميصا ذا سواد وتـحـتـه                      قميص من القوهي بيض بنائقـه ويروى: وتحته قميص من الإحسان أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال: أنشدني مصعب بن عبد الله الزبيري لعبد بني الحسحاس - وكان يستحسن هذا الشعر ويعجب به - قال:

أشعار عبد بني الحسحاس قمن له                      عند الفخار مقام الأصل والورق

إن كنت عبدا فنفسي حرة كرمـا                      أو أسود اللون إني أبيض الخلق وقال الأثرم: حدثني السري بن صالح بن أبي مسهر قال: أخبرني بعض الأعراب، أن أول ما تكلم به عبد بني الحسحاس من الشعر أنهم أرسلوه رائدا فجاء وهو يقول:

أنعت غيثا حسنا نباته                      كالحبشي حلوه بناته فقالوا: شاعر والله، ثم انطلق بالشعر بعد ذلك.

بيت له يستحسنه عمر أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: أنشد سحيم عمر بن الخطاب قوله:

عميرة ودع إن تهجـزت غـاديا                      كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا فقال عمر: لو قلت شعرك كله مل هذا لأعطيتك عليه.

لا حاجة لعثمان به أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال: حدثني خالي يوسف بن الماجشون قال: كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملا لعثمان بن عفان على الجند، فكتب إلى عثمان: إني قد اشتريت غلاما حبشيا يقول الشعر، فكتب إليه عثمان:  لا حاجة لي إليه، فاردده، فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه، إن شبع أن يتشبب بنسائهم، وإن جاع أن يهجوهم  ، فرده فاشتراه أحد بني الحسحاس.

وروى إبراهيم بن المنذر الحزامي هذا الخبر عن ابن الماجشون قال: كان عبد الله بن أبي ربيعة - مثل ما رواه الزبير - إلا أنه قال فيه: إن جاع هر، وإن شبع فر.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو بكر العامري عن الأثرم عن أبي عبيدة. وأخبرنا به أبو خليفة عن محمد بن سلام قال: أنشد عبد بني الحسحاس عمر قوله:

توسدني كفا وتثني بمعـصـم                      علي وتحوي رجلها من ورائيا فقال عمر: ويلك إنك مقتول.

أخبرني محمد بن جعفر الصيلاني قال: حدثني أحمد بن القاسم قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي، عن ابن أبي عائشة قال: أنشد عبد بني الحسحاس عمر قوله:

كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا الإسلام أولا فقال له عمر: لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثنا معاذ بن معاذ وأبو عاصم عن ابن عون عن محمد بن سيف، أن عبد بني الحسحاس أنشد عمر هذا وذكر الحديث مثل الذي قبله.

كان قبيح الوجه أخبرني محمد بن خلف قال: حدثنا إسحاق بن محمد قال: حدثنا عبد الرحمن، ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: كان عبد بني الحسحاس قبيح الوجه، وفي قبحه يقول:

 

صفحة : 2538

 

 

أتيت نساء الحارثيين غدوة                      بوجه براه الله غير جميل

فشبهنني كلبا ولست بفوقه                      ولا دونه إن كان غير قليل كان يشبب بنساء مواليه أخبرني أبو خليفة، عن محمد بن سلام، قال: أتي عثمان بن عفان بعبد بني الحسحاس ليشتريه فأعجب به فقالوا: إنه شاعر: وأرادوا أن يرغبوه فيه: فقال: لا حاجة لي به؛ إذ الشاعر لا حريم له، إن شبع تشبب بنساء أهله، وإن جاع هجاهم، فاشتراه غيره، فلما رحل قال في طريقه:

أشوقا ولما تمض لي غـير لـيلة                      فكيف إذا سار المطي بنا شهرا?

وما كنت أخشى مالكا أن يبيعنـي                      بشيء ولو أمست أنامله صفـرا

أخوكم ومولى مالكم وحلـيفـكـم                      ومن قد ثوى فيكم وعاشركم دهرا فلما بلغهم شعره هذا رثوا له، فاستردوه.

فكان يشبب بنسائهم، حتى قال:

ولقد تحدر من كريمة بعضكـم                      عرق على متن الفراش وطيب قال: فقتلوه.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن خاله يوسف بن الماجشون بمثل هذه الرواية وزاد فيها: فلما استردوه نشب يقول الشعر في نسائهم، فأخبرني من رآه واضعا إحدى رجليه على الأخرى يقرض الشعر ويشبب بأخت مولاه وكانت عليلة، ويقول:

ماذا يريد السقام من قـمـر                      كل جمال لوجهه تـبـع

ما يرتجى خاب من محاسنها                      آماله في القباح متـسـع

غير من لونها وصفـرهـا                      فزيد فيه الجمال والـبـدع

لو كان يبغي الفداء قلت له:                      ها أنا دون الحبيب يا وجع أخبرني محمد بن خلف قال: حدثنا أبو بكر العامري، عن علي بن المغيرة الأثرم قال: قال أبو عبيدة: الذي تناهى إلينا من حديث سحيم عبد بني الحسحاس أنه جالس نسوة من بني صبير بن يربوع، وكان من شأنهم إذا جلسوا للتغزل أن يتعابثوا بشق الثياب وشدة المغالبة على إبداء المحاسن، فقال سحيم:

كأن الصبيريات يوم لـقـينـنـا                      ظباء حنت أعناقها في المكانس

فكم قد شققنا مـن رداء مـنـير                      ومن برقع عن طلفة غير ناعس

إذا شق برد شق بالبرد بـرقـع                      على ذاك حتى كلنا غير لابـس فيقال: إنه لما قال هذا الشعر أتهمه مولاه، فجلس له في مكان كان إذا رعى نام فيه، فلما اضطجع تنفس الصعداء، ثم قال:

يا ذكرة مالك في الحاضر                      تذكرها وأنت في الصادر

من كل بيضاء لها كفـل                      مثل سنام البكرة المـائر قال: فظهر سيده من الموضع الذي كان فيه كامنا، وقال له: مالك? فلجلج في منطقه، فاستراب به، فأجمع على قتله، فلما ورد الماء خرجت إليه صاحبته، فحادثته، وأخبرته بما يراد به، فقام ينفض ثوبه ويعفى أثره، ويلقط رضا من مسكها كان كسرها في لعبه معها، وأنشأ يقول: صوت

أتكتم حييتم على النأي تكـتـمـا                      تحية من أمسى بحبك مغرمـا

زما تكتـمـين إن أتـيت دنـية                      ولا إن ركبنا يا بنة القوم محرما

ومثلك قد أبرزت من خدر أمها                      إلى مجلس تجر بردا مسهمـا الغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل، قال:

وماشية مشى القطاة اتبعتـهـا                      من الستر تخشى أهلها أن تكلما

فقالت: صه يا ويح غيرك إنني                      سمعت حديثا بينهم يقطر الدمـا

فنفضت ثوبيها ونظرت حولهـا                      ولم أخس هذا الليل أن يتصرما

أعفى بآثار الثياب مـبـيتـهـا                      وألقط رضا من وقوف تحطما قال: وغدوا به ليقتلوه، فلما رأته ارمأة كانت بينها وبينه مودة ثم فسدت، ضحكت به شماتة فنظر إليها وقال:

فإن تضحكي مني فيا رب ليلة                      تركتك فيها كالقباء المفـرج فلما قدم ليقتل قال:

شدوا وثاق العبد لا يفلـتـكـم                      إن الحياة من الممات قـريب

فلقد تحدر من جبين فتـاتـكـم                      عرق على متن الفراش وطيب يحرق في أخدود قال: وقدم فقتل. وذكر ابن دأب أنه حفر له أخدود، وألقي فيه، وألقي عليه الحطب فأحرق.

أصابهن كلهن إلا واحدة

 

صفحة : 2539

 

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه، عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال: كان عبد بني الحسحاس يسمى حية، وكان لسيده بنت بكر، فأعجبها، فأمرته أن يتمارض، ففعل وعصب رأسه. فقالت للشيخ: أسرح أيها الرجل إبلك، ولا تكلها إلى العبد، فكان فيها أياما، ثم قال له: كيف تجدك? قال: صالحا، قال: فرح في إبلك العشية، فراح فيها، فقالت الجارية لأبيها: ما أحسبك إلا قد ضيعت إبلك العشية، أن وكلتها إلى حية، فخرج في آثار إبله فوجده مستلقيا في ظل شجرة، وهو يقول:

يا رب شجو لك في الحاضر                      تذكرها وأنت في الصـادر

من كل حمراء جـمـالـية                      طيبة الـقـادم والآخــر فقال الشيخ: إن لهذا لشأنا، وانصرف، ولم يره وجهه. وأتى أهل الماء، وقال لهم: تعلموا والله أن هذا العبد قد فضحنا، وأخبرهم الخبر، وأنشدهم ما قال، فقالوا: اقتله، فنحن طوعك، فلما جاءهم وثبوا عليه، فقالوا له قلت وفعلت، فقال: دعوني إلى غد حتى أعذرها عند أهل الماء، فقالوا: إن هذا صواب فتركوه، فلما كان الغد اجتمعوا فنادى: يا أهل الماء، ما فيكم امرأة إلا قد أصبتها إلا فلانة فإني على موعد منها فأخذوه فقتلوه.

ومما يغنى فيه من قصيدة سحيم عبد بني الحسحاس، وقال: إن من الناس من يرويها لغيره:

تجمعن من شتى ثلاثا وأربعـا                      وواحدة حتى كملن ثـمـانـيا

وأقبلن من أقصى الخيام يعدنني                      بقية ما أبقين نصلا يمـانـيا

يعدن مريضا هن قد هجن داءه                      ألا إنما بعض الـعـوائد دائيا فيه لحنان كلاهما من الثقيل الأول، والذي ابتداؤه  تجمعن من شتى ثلاث  لبنان.

والذي أوله  وأقبلن من أقصى الخيام  . ذكر الهشامي أنه لإسحاق وليس يشبه صنعته ولا أدري لمن هو?.

مخارق يكبد لإسحاق أخبرني جحظة عن ابن حمدون أن مخارقا عمل لحنا في هذا الشعر:

وهبت شمالا آخر الليل قرة                      ولا ثوب إلا بردها وردائيا على عمل صنعة إسحاق في:

أماوي إن المال غاد ورائح ليكيد به إسحاق، وألقاه على عجوز عمير الباذ عيسى، وقال لها: إذا سئلت عنه فقولي: أخذته من عجوز مدنية، ودار الصوت حتى غني به الخليفة، فقال لإسحاق: ويلك أخذت لحن هذا الصوت تغنيه كله، فحلف له بكل يمين يرضاه أنه لم يفعل وتضمن له كشف القصة، ثم أقبل على من غناهم الصوت فقال: عمن أخذته? فقال: عن فلان، فلقيه، فسأله عمن أخذه فعرفه، ولم يزل يكشف عن القصة، حتى أنتهت من كل وجه إلى عجوز عمير، فسئلت عن ذلك، فقالت: أخذته عن عجوز مدنية، فدخل إسحاق على عمير، فحلف له بالطلاق والعتاق وكل محرج من الأيمان ألا يكلمه أبدا ولا يدخل داره ولا يترك كيده وعداوته أو يصدقه عن حال هذا الصوت وقصته، فصدقه عمير عن القصة، فحدث بها الواثق بحضرة عمير ومخارق، فلم يكن مخارقا دفع ذلك، وخجل خجلا بان فيه، ويطل ما أراده بإسحاق.

 

صوت

 

ثلاثة أبـيات فـبـيت أحـبـه                      وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي

ألا أيها البيت الذي حـيل دونـه                      بنا أنت من بيت وأهلك من أهل الشعر لجميل، والغناء لإسحاق ماخوري بالبنصر من جامع أغانيه، وفيه رمل مجهول ذكره حبش لعلوية ولم أجد طريقته.

 

متمم العبدي والجويرية

أخبرني الحسين بن يحيى المرادي عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: حدثني متم العبدي قال: خرجت من مكة زائرا لقبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإني لبسوق الجحفة إذا جويرية تسوق بعيرا، وتترنم بصوت مليح طيب حلو في هذا الشعر:

ألا أيها البيت الذي حـيل دونـه                      بنا أنت من بيت وأهلك من أهل

بنا أنت من بيت وحولـك لـذة                      وظلك لو يسطاع بالبارد السهل

ثلاثة أبـيات فـبـيت أحـبـه                      وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي

 

صفحة : 2540

 

فقلت: لمن هذا الشعر يا جويرية? قالت: أما ترى تلك الكوة الموقاة بالكلة الحمراء? قلت: أراها، قالت: من هناك نهض هذا الشعر، قلت: أو قائله في الأحياء? قالت: هيهات، لو أن لميت أن يرجع لطول غيبته لكان ذلك، فأعجبني فصاحة لسانها ورقة ألفاظها، فقلت لها: ألك أبوان? فقالت: فقدت خيرهما وأجلهما، ولي أم، قلت: وأين أمك? قالت: منك بمرأى ومسمع، قال: فإذا امرأة تبيع الخرز على ظهر الطريق بالجحفة، فأتيتها، فقلت: يا أمتاه، استمعي مني، فقالت لها: يا أمه، فاستمعي من عمي ما يلقيه إليك، فقالت: حياك الله، هيه، هل من جاثية خبر? قلت: أهذه ابنتك? قالت: كذا كان يقول أبوها، قلت: أفتزوجينها? قالت: ألعلة رغبت فيها? فما هي والله من عندها جمال، ولا لها مال، قلت: لحلاوة لسانها وحسن عقلها، فقالت: أينا أملك بها? أنا أم هي بنفسها? قلت: بل هي بنفسها، قالت: فإياها فخاطب، فقلت: علها أن تستحي من الجواب في مثل هذا، فقالت: ما ذاك عندها، أنا أخبر بها، فقلت: يا جارية، أما تستمعين ما تقول أمك? قالت: قد سمعت، قلت: فما عندك? قالت: أوليس حسبك أن قلت: إني أستحي من الجواب في مثل هذا، فإن كنت أستحي في شيء فلم أفعله? أتريد أن تكون الأعلى وأكون بساطك، لا والله لا يشد علي رجل حواءه وأنا أجد مذقة لبن أو بقلة ألين بها معاي، قال: فورد والله علي أعجب كلام على وجه الأرض، فقلت: أو أتزوجك والإذن فيه إليك، وأعطي الله عهدا أني لا أقربك أبدا إلا عن إرادتك? قالت: إذا والله لا تكون لي في هذا إرادة أبدا، ولا بعد الأبد إن كان بعده بعد، فقلت: فقد رضيت بذلك، فتزوجتها، وحملتها وأمها معي إلى العراق، وأقامت معي نحوا من ثلاثين سنة ما ضممت عليها حواي قط، وكانت قد علقت من أغاني المدينة أصواتا كثيرة، فكانت ربما ترنمت بها، فأشتهيها، فقلت: دعيني من أغانيك هذه فإنها تبعثني على الدنو منك. قال: فما سمعتها رافعة صوتها بغناء بعد ذلك، حتى فارقت الدنيا، وإن أمها عندي حتى الساعة، فقلت: ما أدري متى دار في سمعي حديث امرأة أعجب من حديث هذه.

 

صوت

 

أيها الناس إن رأيي يرينيوهو الرأي طوففة في البلاد

بالعوالي وبالقنابل تردى                      بالـبـطــاريق مـــشـــية الـــعـــواد

وبـجـــيش عـــرمـــرم عـــربـــي                      جحـفـل يسـتـجـيب صـوت الـمــنـــادي

من تـــمـــيم وخــــنـــــــدف وإياد                      والـبـهــالـــيل حـــمـــير ومـــراد

فإذا سـرت سـارت الـنـاس خـــلـــفـــي                      ومـعـي كـالـجـبـــال فـــي كـــل واد

سقـنـي ثـم سـق حــمـــير قـــومـــي                      كأس خـمـر أولـى الـنـهـي والـعــمـــاد الشعر لحسان بن تبع، والغناء لأحمد النصيبي خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه ليونس لحن من كتابه.

 

أخبار حسان بن تبع

هو طوافة في البلاد أخبرني بخبر حسان الذي من أجله قال هذا الشعر علي بن سليمان الأخفش عن السكري، عن ابن حبيب، عن ابن الأعرابي. وعن أبي عبيدة وأبي عمرو، وابن الكلبي وغيرهم، قال: كان حسان بن تبع أحول أعسر، بعيد الهمة شديد البطش، فدخل إليه يوما وجوه قومه - وهم الأقيال من حمير - فلما أخذوا مواضعهم ابتدأهم فأنشدهم:

أيها الناس إن رأيي يرينـي                      وهو الرأي طوفة في البلاد

بالعوالي وبالقنابـل تـردى                      بالبطاريق مشية الـعـواد وذكر الأبيات التي مضت آنفا، ثم قال لهم: استعدوا لذلك، فلم يراجعه أحد لهيبته، فلما كان بعد ثلاثة خرج، وتبعه الناس، حتى وطئ أرض العجم، قوال: لأبلغن من البلاد حيث لم يبلغ أحد من التبابعة، فجال بهم في أرض خراسان، ثم مضى إلى المغرب، حتى بلغ رومية، وخلف عليها ابن عم له، وأقبل إلى أرض العراق، في أرض خراسان، ثم مضى إلى المغرب، حتى بلغ رومية، وخلف عليها ابن عم له، وأقبل إلى أرض العراق، حتى إذا صار على شاطئ الفرات، قالت وجوه حمير: ما لنا نفني أعمارنا مع هذا نطوف في الأرض كلها، ونفرق بيننا وبين بلدنا وأولادنا وعيالنا وأموالنا فلا ندري من نخلف عليهم بعدنا

 

صفحة : 2541

 

فكلموا أخاه عمرا، وقالوا له: كلم أخاك في الرجوع إلى بلده، وملكه. قال: هو أعسر من ذلك وأنكر، فقالوا: فاقتله، ونملكك علينا، فأنت أحق بالملك من أخيك، وأنت أعقل وأحسن نظرا لقومك، فقال: أخاف ألا تفعلوا، وأكون قد قتلت أخي، وخرج الملك عن يدي، فواثقوه، حتى ثلج إلى قولهم، وأجمع الرؤساء على قتل أخيه كلهم إلا ذا رعين، فإنه خالفهم، وقال: ليس هذا برأي، يذهب الملك من حمير. فشجعه الباقون على قتل أخيه، فقال ذو رعين: إن قتلته باد ملكك.

فلما رأى ذو رعين ما أجمع عليه القوم أتاه بصحيفة مختومة، فقال: يا عمرو: إني مستودعك هذا الكتاب، فضعه عندك في مكان حريز، وكتب فيه:

ألا من يشتري سهرا بنـوم                      سعيد من يبيت قرير عـين

فإن تك حمير غدرت وخانت                      فمعذرة الإله لذي رعـين قتله أخوه فامتنع منه النوم ثم إن عمرا أتى حسان أخاه وهو نائم على فراشه، فقتله، واستولى على ملكه. فلم يبارك فيه، وسلط الله عليه السهر، وامتنع منه النوم، فسأل الأطباء والكهان والعياف، فقال له كاهن منهم: إنه ما قتل أخاه رجل قط إلا منع نومه، فقال عمرو: هؤلاء رؤساء حمير حملوني على قتله ليرجعوا إلى بلادهم، ولم ينظروا إلي ولا لأخي.

فجعل يقتل من أشار عليه منهم بقتله، فقتلهم رجلا رجلا، حتى خلص إلى ذي رعين وأيقن بالشر، فقال له ذو رعين: ألم تعلم أني أعلمتك ما في قتله، ونهيتك وبينت هذا? قال: وفيم هو? قال: في الكتاب الذي استودعتك.

فدعا بالكتاب، فلم يجده، فقال ذو رعين: ذهب دمي على أخذي بالحزم، فصرت كمن أسار بالخطأ، ثم سأل الملك أن ينعم في طلبه، ففعل، فأتى به فقرأه، فإذا فيه البيتان، فلما قرأهما قال: لقد أخذت بالحزم، قال: إني خشيت ما رأيتك صنعت بأصحابي.

ذو شناتر وذو نواس قال: وتشتت أمر حمير حين قتل أشرافها، واختلفت عليه، حتى وثب على عمرو لخيعة ينوف، ولم يكن من أهل بيت المملكة، فقتله، واستولى على ملكه، وكان يقال له ذو شناتر الحميري، وكان فاسقا يعمل عمل قوم لوط، وكان يبعث إلى أولاد الملوك فيلوط بهم، وكانت حمير إذا ليط بالغلام لم تملكه، ولم ترتفع به، وكانت له مشربة، يكون فيها يشرف على حرسه، فإذا أتي بالغلام أخرج رأسه إليهم وفي فيه السواك، فيقطعون مشافر ناقة المنكوح وذنبها، فإذا خرج صيح به: أرطب أم يباس? فمكث بذلك زمانا.

حتى نشأ زرعة ذو نواس، وكانت له ذؤابة، وبها سمى ذا نواس - وهو الذي تهود، وتسمى يوسف، وهو صاحب الأخدود بنجران، وكانوا نصارى، فخوفهم، وحرق الإنجيل، وهدم الكنائس، ومن أجله غزت الحبشة اليمن، لأنهم نصارى، فلما غلبوا على اليمن اعترض البحر، واقتحمه على فرس فغرق فلما نشأ ذو نواس قيل له: كأنك وقد فعل بك كذا وكذا، فأخذ سكينا لطيفا خفيفا وسمه، وجعل له غلافا، فلما دعا به لخيعة جعله بين أخمصه ونعله، وأتاه على ناقة له يقال لها: سراب، فأناخها، وصعد إليه، فلما قام يجامعه كما كان يفعل انحنى زرعة، فأخذ السكين فوجأ بها بطنه، فقتله، وأحتز رأسه، فجعل السواك في فيه، فقال: ستعلم الأحراس، است ذي نواس، رطب أم يباس? وجاء إلى ناقته، فركبها، فلما رأى الحرس اطلاع الرأس صعدوا إليه، فإذا هو قد قتل. فأتوا زرعة، فقالوا: ما ينبغي أن يملكنا غيرك بعد أن أرحتنا من هذا الفاسق، واجتمعت حمير إليه، ثم كان من قصته ما ذكرناه آنفا.

 

صوت

 

يا ربة البيت قومي غير صاغـرة                      ضمي إليك رحال القوم والقربـا

في ليلة من جمـادي ذات أنـدية                      لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا

لا ينبح الكلب فيها غـير واحـدة                      حتى يلف على خيشومه الذنـبـا الشعر لمرة بن محكان السعدي، والغناء لابن سريج، رمل بالوسطى، وله فيه أيضا خفيف ثقيل بالوسطى كلاهما عن عمرو، وذكر حبش أن فيه لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى، والله أعلم.

 

أخبار مرة بن محكان

اسمه ونسبه هو مرة بن محكان ولم يقع إلينا باقي سنبه، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم. شاعر مقل إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وكان في عصر جرير والفرزدق، فأخملا ذكره، لنباهتهما في الشعر.

وكان مرة شريفا جودا وهو أحد من حبس في المناح والإطعام.

ينحر مائة بعير

 

صفحة : 2542

 

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز، عن المدائني، قال: كان مرة بن محكان سخيا، وكان أبو البكراء يوائمه في الشرف، وهما جميعا من بني الربيع، فأنهب مرة بن محكان ماله الناس، فحبسه عبيد الله بن زياد، فقال في ذلك الأبيرد الرياحي:

حبست كريما أن يجـود بـمـالـه                      سعى في ثأى من قومه متـفـاقـم

كأن دماء القـوم إذ عـلـقـوا بـه                      على مكفهر من ثنايا الـمـخـارم

فإن أنت عاقبت ابن محكان في الندى                      فعاقب هداك الله أعـظـم حـاتـم قال: فأطلقه عبيد الله بن زياد، فذبح أبو البكراء مائة شاة، فنحر مرة بن محكان مائة بعير، فقال بعض شعراء بني تميم يمدح مرة:

شرى مائة فأنهبها جـوادا                      وأنت تناهب الحدف القهادا الحدف: صغار الغنم. القهاد: البيض أخبرني أحمد بن محمد الأسدي أبو الحسن، قال: حدثنا الرياشي قال: سئل أبو عبيدة عن معنى قول مرة بن محكان:

ضمي إليك رحال القوم والقربا ما الفائدة في هذا? فقال: كان الضيف إذا نزل بالعرب في الجاهلية ضموا إليهم رحله، وبقي سلاحه معه لا يؤخذ خوفا من البيات، فقال مرة بن محكان يخاطب امرأته: ضمي إليك رحال هؤلاء الضيفان وسلاحهم، فإنهم عندي في عز وأمن من الغارات والبيات، فليسوا ممن يحتاج أن يبيت لابسا سلاحه.

مصعب بن الزبير يقتله أخبرني محمد بن الحسن بن دريد، قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس، قال: كان الحارث بن أبي ربيعة على البصرة أيام ابن الزبير، فخاصم إليه رجل من بني تميم - يقال له مرة بن محكان - رجلا، فلما أراد إمضاء الحكم عليه أنشأ مرة بن محكان يقول:

أحار تثبت في القضـاء فـإنـه                      إذا ما إمام جار في الحكم أقصدا

وإنك موقوف على الحكم فاحتفظ                      ومهما تصبه اليوم تدرك به غدا

فإني مما أدرك الأمر بـالأنـى                      وأقطع في رأس الأمير المهندا

أخبار علي بن عبد الله بن جعفر

 

ونسبه

اسمه ونسبه هو علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليهم السلام، وأمه ولادة بنت الحجل بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن أمية: شاعر ظريف حجازي، كان عمر بن الفرج الرخجي حمله من الحجاز إلى سر من رأى مع من حمل من الطالبيين فحسه المتوكل معهم.

يحبسه المتوكل حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال: حدثنا عمر بن عثمان الزهري المعروف بابن أبي قباجة قال: رفع عمر بن الفرج علي بن عبد الله بن جعفر الجعفري إلى المتوكل أيام حج المنتصر، فحبسه المتوكل لأنه كان شيخ القوم وكبيرهم، وكان أغلظ لعمر بن الفرج.

يتديث في شعره قال علي بن عبد الله: مكثت في الحبس مدة، فدخل علي رجل من الكتاب يوما فقال: أريد هذا الجعفري الذي تديث في شعره فقلت له: إلي فأنا هو، فعدل إلي وقال: جعلت فداك أحب أن تنشدني بيتيك اللذين تديثت فيهما، فأنشدته:

ولما بدا لي أنـهـا لا تـودنـي                      وأن هواها ليس عني بمنجـل

تمنيت أن تهوى سواي لعـهـا                      تذوق حرارات الهوى فترق لي قال: فكتبهما، ثم قال لي: اسمع - جعلت فداك - بيتين قلتهما في الغيرة، فقلت: هاتهما فأنشدني:

ربما سرني صدودك عنـي                      في طلابيك وامتناعك مني

حذرا أن أكون مفتاح غيري                      فإذا ما خلوت كنت التمني فقام القرشي، فقبل رأسه، فقال له: فدتك نفسي وأهلي، لو لم أقدم مكة لعمرة ولا لبر وتقوى، ثم قدمت إليها لأراك وأسمع منك لكان ذلك قليلا. ثم انصرف.

وحدثني بعض مشايخ الكتاب أنه دخل على أبي العبيس بن حمدون يوما، فسأله أن يقيم عنده فأقام، وأتاهم أبو العبيس بالطعام، فأكلوا، ثم قدم الشراب فشربوا، وغناهم أبو العبيس يومئذ هذا الصوت:

ألا مت لا أعطيت صبرا وعزمة                      غداة رأيت الحي للبـين غـاديا

ولم تعتصر عينيك فكهة مـازح                      كأنك قد أبدعت إذ ظلت باكـيا فأحسن ما شاء، ثم ضرب ستارته وقال:

يا ربة البيت غني غير صاغرة فاندفعت عرفان، فغنت:

 

صفحة : 2543

 

 

يا ربة البيت قومي غير صاغرة                      ضمي إليك رحال القوم والقربا قال: فما سمعت غناء قط أحسن مما سمعته من غنائهما يومئذ.

نسبة هذا الصوت صوت

ألا مت لا أعطيت صبرا وعزمة                      غداة رأيت الحي للبـين غـاديا

ولم تعتصر عينيك فكـهة مـازح                      كأنك قد أبدعت إذ ظلت بـاكـيا

فصيرت دمعا أن بكـيت تـلـددا                      به لفراق الألف كفـؤا مـوازيا

لقد جل قدر الدمع عندك أن ترىة                      بكاءك للبين المشـت مـسـاويا الشعر لأعرابي أنشدناه الحرمي بن أبي العلاء، عن الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري عن إسحاق الموصلي الأعرابي.

قال الديناري: وكان إسحاق كثيرا ما ينشد الشعر للأعراب، وهو قائله وأظن هذا الشعر له، والغناء لعمرو بن بانة ثقيل أول بالبنصر من كتابه.

 

صوت

 

فإن تك من شيبان أمي فـإنـنـي                      لأبيض من عجل عريض المفارق

وكيف بذكرى أم هراون بعـدمـا                      خبطن بأيديهن رمل الـشـقـائق

كأن نقا مـن عـالـج أزرت بـه                      إذا الزل ألهاهن شد المـنـاطـق

وإنا لتغلي في الشتـاء قـدورنـا                      ونصبر تحت اللامعات الخوافـق عروضه من الطويل الشعر للعديل بن الفرخ العجلي، والغناء لمعبد خفيف ثقيل من أصوات قليلة الأشباه، عن يونس وإسحاق، وفيه لهشام بن المرية لحن من كتاب إبراهيم، وفيه لسنان الكاتب ثقيل أول عن الهشامي وحبش، وقال حبش خاصة: فيه للهذلي أيضا ثاني ثقيل بالوسطى.

 

أخبار العديل ونسبه

اسمه ونسبه العديل بن الفرخ بن معن بن الأسود بن عمرو بن عوف بن ربيعة بن جابر بن ثعلبة بن سمى بن الحارث - وهو العكابة - بن ربيعة بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار.

وقال أبو عبيدة: كان العكابة اسم كلب للحارث بن ربيعة بن عجل، فلقب باسم كلبه، وغلب عليه. قال: وكان عجل من محمقي العرب، قيل له: إن لكل فرس جواد اسما وإن فرسك هذا سابق جواد، فسمه، ففقأ إحدى عينيه وقال: قد سميته الأعور، وفيه يقول الشاعر:

رمتني بنـو عـجـل بـداء أبـيهـم                      وهل أحد في الناس أحمق من عجل?

أليس أبـوهـم عـار عـين جـواده                      فصارت به الأمثال تضرب بالجهـل هو ودابع والعديل شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية، وكان له ثمانية إخوة، وأمهم جميعا امرأة من بني شيبان، ومنهم من كان شاعرا فارسا: أسود وسوادة وشملة - وقيل سلمة - والحارث، وكان يقال لأمهم درماء.

وكان للعديل وإخوته ابن عم يسمى عمرا، فتزوج بنت عم لهم بغير أمرهم، فغضبوا ورصدوه ليضربوه، وخرج عمرو ومعه عبد له يسمى دابغا، فوثب العديل وإخوته، فأخذوا سيوفهم، فقالت أمهم: إني أعوذ بالله من شركم، فقال لها ابنها الأسود: وأي شيء تخافين علينا? فوالله لو حملنا بأسيافنا على هذا الحنو حنو قراقر لما قاموا لنا فانطلقوا حتى لقوا عمرا، فلما رآهم ذعر منهم وناشدهم، فأبوا، فحمل عليه سوادة فضرب عمرا ضربة بالسيف، وضربه عمرو فقطع رجله فقال سوادة:

ألا من يشتري رجلا برجل                      تأبى للقيام فـلا تـقـوم وقال عمرو لدابغ: اضرب وأنت حر، فحمل دابغ، فقتل منهم رجلا، وحمل عمرو، فقتل آخر، وتداولاهم، فقتلا منهم أربعة، وضرب العديل على رأسه، ثم تفرقوا، وهرب دابغ، حتى أتى الشأم، فداوى ربضة بن النعمان الشيباني للعديل ضربته، ومكث مدة.

ثم خرج العديل بعد ذلك حاجا، فقيل له إن دابغا قد جاء حاجا، وهو يرتحل، فيأخذ طريق الشأم، وقد اكترى. فجعل العديل عليه الرصد، حتى إذا خرج دابغ ركب العديل راحلته وهو متلثم، وانطلق يتبعه، حتى لقيه خلف الركاب يحدو بشعر العديل ويقول:

يا دار سلمى أقفرت من ذي قار                      وهل بإقفار الديار مـن عـار

وقد كسين عرقا مثـل الـقـار                      يخرجن من تحت خلال الأوبار

 

صفحة : 2544

 

فلحقه العديل، فحبس عليه بعيره، وهو لا يعرفه، ويسير رويدا، ودابغ يمشي رويدا، وتقدمت إبله فذهبت، وإنما يريد أن يباعده عنها بوادي حنين، ثم قال له العديل: والله لقد استرخى حقب رحلي، أنزل فأغير الرحل، وتعينني. فنزل فغير الرحل، وجعل دابغ يعينه، حتى إذا شد الرحل أخرج العديل السيف، فضربه حتى برد، ثم ركب راحلته فنجا، وأنشأ يقول:

ألم ترني جللت بالسيف دابغـا                      وإن كان ثأرا لم يصبه غليلي

بوادي حنين ليلة البدر رعتـه                      بأبيض من ماء الحديد صقيل

وقلت لهم: هذا الطريق أمامكم                      ولم أك إذ صاروا لهم بدلـيل جرثومة العنزي يعير العديل وقال أبو اليقطان: كان العديل هجا جرثومة العنزي الجلاني فقال فيه:

أهاجي بني جلان إذ لم يكن لها                      حديث ولا في الأولـين قـديم فأجابه جرثومة فقال:

وإن امرأ يهجو الكرام ولم ينل                      من الثأر إلا دابغـا لـلـئيم

أتطلب في جلان وترا ترومه                      وفاتك بالأوتار شـر غـريم العديل يهرب من الحجاج قالوا: وساتعدى مولى دابغ على العديل الحجاج بن يوسف، وطالبه بالقود فيه، فهرب العديل من الحجاج إلى بلد الروم، فلما صار إلى بلد الروم لجأ إلى قيصر، فأمنه، فقال في الحجاج:

أخوف بالحجاج حتى كـأنـمـا                      يحرك عظم في الفؤاد مهيض

ودون يد الحجاج من أن تنالنـي                      بساط لأيدي الناعجات عريض

مهامه أشباه كـأن سـرابـهـا                      ملاء بأيدي الراحضات رحيض فبلغ شعره الحجاج، فكتب إلى قيصر: لتبعثن به أو لأغزينك جيشا يكون أوله عندك وآخره عندي، فبعث به قيصر إلى الحجاج، فقال له الحجاج لما أدخل عليه: أأنت القائل: ودون يد الحجاج من أن تنالني... فكيف رأيت الله أمكن منك? قال: بل أنا القائل أيها الأمير:

فلو كنت في سلمى أجا وشعابـهـا                      لكان لحـجـاج عـلـي سـبـيل

خليل أمير المؤمـنـين وسـيفـه                      لكل إمام مصطـفـى وخـلـيل

بنى قبة الإسلام حتـى كـأنـمـا                      هدى الناس من بعد الضلال رسول فخلى سبيله، وتحمل دية دابغ في ماله.

الحجاج يعفو عن العديل أخبرني عمي وحبيب بن نصر المهلبي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني محمد بن منصور بن عطية الغنوي قال: أخبرني جعفر بن عبيد الله بن جعفر عن أبي عثمان البقطري قال: خرج العديل بن الفرخ يريد الحجاج، فلما صار ببابه حجبه الحاجب، فوثب عليه العديل، وقال: إنه لن يدخل على الأمير بعد رجالات قريش أكبر مني ولا أولى بهذا الباب، فنازعه الحاجب الكلام، فأحفظه، وانصرف العديل عن باب الحجاج إلى يزيد بن المهلب، فلما دخل إليه أنشأ يقول:

لئن أرتج الحجاج بالبـخـل بـابـه                      فباب الفتى الأزدي بالعرف يفتـح

فتى لا يبالي الدهر ما قـل مـالـه                      إذا جعلت أيدي المكارم تـسـنـح

يداه يد بالعرف تنهـب مـا حـوت                      وأخرى على الأعداء تسطو وتجرح

إذا ما أتاه المرمـلـون تـيقـنـوا                      بأن الغنى فيهم وشيكـا سـيسـرح

أقام على العافـين حـراس بـابـه                      ينادونهم والحر بالـحـري يفـرح

هلموا إلى سيب الأمـير وعـرفـه                      فإن عطاياه على النـاس تـنـفـح

وليس كعلج من ثـمـود بـكـفـه                      من الجود والمعروف حزم مطوح فقال له يزيد: عرضت بنا وخاطرت بدمك، وبالله لا يصل إليك وأنت في حيزي، فأمر له بخمسين ألف درهم، وحمله على أفراس، وقال له: الحق بعلياء نجد، واحذر أن تعلقك حبائل الحجاج أو تحتجنك محاجنه، وابعث إلي في كل عام، فلك علي مثل هذا، فارتحل. وبلغ الحجاج خبره، فأحفظه ذلك على يزيد، وطلب العديل، ففاته، وقال لما نجا:

ودون يد الحجاج من أن تنالني                      بساط لأيدي الناعجات عريض قال: ثم ظفر به الحجاج بعد ذلك، فقال: إيه، أنشدني قولك:

ودون يد الحجاج من أن تنالني فقال: لم أقل هذا أيها الأمير، ولكني قلت:

إذا ذكر الحجاج أضمرت خيفة                      لها بين أحناء الضلوع نفيض فتبسم الحجاج، وقال: أولى لك وعفا عنه، وفرض له.

سادات بكر يشفعون له عند الحجاج

 

صفحة : 2545

 

وقال أبو عمرو الشيباني: لما لج الحجاج في طلب العديل لفظته الأرض، ونبا به كل مكان هرب إليه، فأتى بكر بن وائل، وهم يومئذ بادون جميع، منهم بنو شيبان وبنو عجل وبنو يشكر، فشكا إليهم أمره، وقال لهم: أنا مقتول، أفتسلمونني، هكذا وأنتم أعز العرب? قالوا: لا والله، ولكن الحجاج لا يراغ، ونحن نستوهبك منه، فإن أجابنا فقد كفيت، وأن حادنا في أمرك منعناك، وسألنا أمير المؤمنين أن يهبك لنا. فأقام فيهم، واجتمعت وجوه بكر ابن وائل إلى الحجاج، فقالوا له: أيها الأمير، إنا قد جنينا جميعا عليك جناية لا يغفر مثلها، وها نحن قد استسلمنا، وألقينا بأيدينا إليك، فإما وهبت فأهل ذلك أنت، وإما عاقبت، فكنت المسلط الملك العادل. فتبسم، وقال: قد عفوت عن كل جرم إلا جرم الفاسق العديل، فقاموا على أرجلهم، فقالوا: مثلك أيها الأمير لا يستثني على أهل طاعته وأوليائه في شيء فإن رأيت ألا تكد رمننك باستثناء، وأن تهب لنا العديل في أول من تهب قال: قد فعلت فهاتوه قبحه الله، فأتوه به، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:

فلو كنت في سلمى أجا وشعابـهـا                      لكان لـحـجـاج عـلـي دلـيل

بني قبة الإسلام حتـى كـأنـمـا                      هدى الناس من بعد الضلال رسول

إذا جار حكم الناس ألجأ حـكـمـه                      إلى الله قاض بالكتـاب عـقـول

خليل أمير المؤمـنـين وسـيفـه                      لكل إمـام صـاحـب وخـلـيل

به نصر الله الخـلـيفة مـنـهـم                      وثبت ملـكـا كـاد عـنـه يزول ويروى: به نصر الله الإمام عليهم

فأنت كسيف الله في الأرض خالد                      تصول بعون الله حين تـصـول

وجازيت أصحاب البلاد بلاءهـم                      فما منهم عما تحـب نـكـول

وصلت بمران العراق فأصحبت                      مناكبها للـوطء وهـي ذلـول أقام الواحد مقام الجمع في قوله: ذلول

أذقت الحمام ابني عباد فأصبحـوا                      بمنزل موهون الجناح ثـكـول

ومن قطري نلت ذاك وحـولـه                      كتـائب مـن رجـالة وخـيول

إذا ما أتت باب ابن يوسف ناقتي                      أتت خير منـزول بـه ونـزيل

وما خفت شيئا غير ربي وحـده                      إذا ما انتحيت النفس كيف أقول?

ترى الثقلين الجن والأنس أصبحا                      على طاعة الحجاج حين يقـول فقال له الحجاج: أولى لك فقد نجوت وفرض له، وأعطاه عطاءه، فقال يمدح سائر قبائل وائل، ويذكر دفعها عنه، ويفتخر بها:

صرم الغواني واستراح عواذلي                      وصحوت بعد صبابة وتمـايل

وذكرت يوم لوى عتيق نسـوة                      يخطرن بين أكلة ومـراحـل

لعب النعيم بهن في أظـلالـه                      حتى لبسن زمان عيش غافـل صوت

يأخذن زينتهن أحسن ما ترى                      وإذا عطلن فهن غير عواطل

وإذا خبأن خدودهن أرينـنـا                      حدق المها وأجدن سهم القاتل

ورمينني لا يستترن بـجـنة                      إلا الصبا وعلمن أين مقاتلي

يلبسن أردية الشباب لأهلهـا                      ويرج باطلهن حبل الباطـل الغناء في هذه الأبيات الأربعة لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطي من رواية يحيى المكي، وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى المكي إلى ابن سريج.

 

بيض الأنوق كأنهن، ومـن يرد                      بيض الأنوق فوكرها بمعاقـل

زعم الغواني أن جهلك قد صحا                      وسواد رأسك فضل شيب شامل

ورآك أهلك منهـم ورأيتـهـم                      ولقد تكون مع الشباب الخـاذل

وإذا تطاولت الجبـال رأيتـنـا                      بفروع أرعن... فوقها متطاول

وإذا سألت ابنـى نـزار بـينـا                      مجدي ومنزلتي من ابني وائل

حدبت بنو بكر علـي وفـيهـم                      كل المكارم والعديد الكـامـل

خطروا ورائي بالقنا وتجمعـت                      منهم قبائل أردفوا بـقـبـائل

إن الفوارس من لجيم لم تـزل                      فيهم مهابة كل أبيض نـاعـل

متعمم بالتاج يسـجـد حـولـه                      من آل هوذة للمكارم حـامـل

أو رهط حنظلة الذين رماحهـم                      سم الفوارس حتف موت عاجل

 

صفحة : 2546

 

 

قوم إذا شهروا السيوف رأوا لها                      حقا ولم يك سلها للـبـاطـل

ولئن فخرت بهم لمثل قديمهـم                      بسط المفاخر للسان الـقـائل

أولاد ثعلبة الذين لمـثـلـهـم                      حلم الحليم ورد جهل الجاهـل

ولمجد يشكـر سـورة عـادية                      وأب إذا ذكروه ليس بخـامـل

وبنو القدار إذا عددت صنيعهـم                      وضح القديم لهم بكل محافـل

وإذا فخرت بتغلـب ابـنة وائل                      فاذكر مكارم من ندى وشمائل

ولتغلب الغلبـاء عـز بـينـن                      عادية ويزيد فوق الـكـاهـل

تسطو على النعمان وابن محرق                      وابني قطام بعـزة وتـنـاول

بالمقربات يبتن حول رحالـهـم                      كالقد بعد آجـلة وصـواهـل

أولاد أعوج والصريح كأنـهـا                      عقبان يوم دجـنة ومـخـايل

يلقطن بعد أزومهن على الشبـا                      علق الشكيم بألسن وجحـافـل

قوم هم قتلوا ابن هنـد عـنـوة                      وقنا الرماح تذود ورد الناهـل

منهم أبو حنش وكان بـكـفـه                      ري السنان وري صدر العامل

ومهلهل الشعراء إن فخروا بـه                      وندى كليب عند فضل النـائل

حجب المنية دون واحـد أمـه                      من أن تبيت وصدرها ببلابـل

كفى مجالسة الشباب فلم يكـن                      يستب مجلسه وحق الـنـازل

حتى أجار على الملوك فلم يدع                      حربا ولا صعرا لرأس مـائل

في كل حي للهذيل ورهـطـه                      نعم وأخذ كـريمة بـتـنـاول

بيض كرائم ردهـن لـعـنـوة                      أسل القنا وأخذن غير أرامـل

أبناؤهن من الهذيل ورهـطـه                      مثل الملوك وعشن غير عوامل وقال أبو عمرو أيضا: قال: العديل لرجل من موالي الحجاج كان وجهه في جيش إلى بني عجل يطلب العديل حين هرب منه، فلم يقدر عليه، فاستاق إبله، وأحرق بته، وسلب امرأته وبناته وأخذ حليهن، فدخل العديل يوما على الحجاج ومولاه هذا بين يديه واقف فتعلق بثوبه وأقبل عليه وأنشأ يقول: صوت

سلبت بناني حليهـن فـلـم تـدع                      سوارا ولا طوقا على النحر مذهبا هكذا في الشعر: سلبت بناتي، والغناء فيه: سلبت الجواري حليهن

وما عز في الآذان حتى كأنمـا                      تعطل بالبيض الأوانس ربربـا

عواطل إلا أن ترى بخـدودهـا                      قسامة عتق أو بنانا مخضـبـا

فككت الـبـرين عـن خـدال                      كأنها برادي غيل ماؤه قد تنضبا

من الدر والياقوت عن كل حرة                      ترى سمطها بين الجمان مثقبـا

دعون أمير المؤمنين فلم يجـب                      دعاء ولم يسمعن أمـا ولا أبـا غنى في الأول والرابع من هذه الأبيات أحمد النصيبي الهمذاني ثان ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق، وفيهما ثيل أول بالسبابة والوسطى، نسبه ابن المكي إلى عبد الرحيم الدفاف، ونسبه الهشامي إلى عبد الله ابن العباس.

أصاب رجل من رهط العديل أنف رجل من عجل فقال العديل في ذلك شعرا وقال أبو عمرو الشيباني: أصاب رجل من رهط العديل من بين العكابة أنف رجل من بني عجل يقال له جبار، فقال العديل في ذلك - وكان عدوا له:

ألم تر جبـارا ومـارن أنـفـه                      له ثلم يهـوين أن يتـنـخـعـا

ونحن جدعنا أنفـه فـكـأنـمـا                      يرى الناس أعداء إذا هو أطلعا

كلوا أنف جبار بكارا فـإنـمـا                      تركناه عن فرط من الشر أجدعا

معاقد من أيديهـم وأنـوفـهـم                      بكارا ونيبا تركب الحزن ظلعـا قال: وكان رجل من رهط العديل أيضا ضرب يد وكيع أحد بني الطاغية، وهما يشربان، فقطعها وافترقا، ثم هرب العديل وأبوه إلى بني قيس بن سعد لما قال الشعر الأول يفخر بقطع أنف جبار ويد وكيع؛ لأنهم حلفوا أن يقطعوا أنفه ويده دون من فعل ذلك بهم، فلجأ إلى عفير بن جبير بن هلال بن مرة بن عبد الله بن معاوية بن عبد بن سعد بن جشم بن قيس بن عجل، فقال العديل في ذلك:

 

صفحة : 2547

 

 

تركت وكيعا بعدما شاب رأسهأشل اليمين مستقيم الأخادع

فشرب بها ورق الإفال وكل بها                      طعـام الـذلـيل وانـجـحـر فـي الـمـخـــادع فقالت بنو قيس بن سعد للفرخ أبي العديل: يا فرخ؛ أنصف قومك، وأعطهم حقهم، فركب إليهم اعلفرخ، ومعه حسان بن وقاف ودينار )رجلان من بني الحارث( فأسرته بنو الطاغية، وانتزعوه من الرجلين، وتوجهوا به نحو البصرة، فرجع حسان ودينار إلى قومهما مستنفرين لهم، فركب النفير في طلب بني الطاغية، فأدركوا منهم رجلا فأسروه بدل الفرخ. ثم إن عفيرا لحق بهم، فاشترى منهم الجراحة بسبعين بعيرا، وأخذ الفرخ منهم فأطلقه، فقال العديل في ذلك:

مازال في قيس بن سعد لجارهـم                      على عهد ذي القرنين معط ومانع

هم استنقذوا حسان قسرا وأنـتـم                      لئام المقام والـرمـاح شـوارع

غدرتم بدينـار وحـسـان غـردة                      وبالفرخ لما جاءكم وهو طـائع

فلولا بنو قيس بن سعد لأصبحـت                      علي شدادا قبضهـن الأصـابـع

ألا تسألون ابن المشتـم عـنـهـم                      جعامة والجيران واف وظـالـع أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: قال أبو النجم للعديل بن الفرخ: أرأيت قولك:

فإن تك من شيبان أمي فإنـنـي                      لأبيض عجلي عريض المفارق? أكنت شاكا في نسبك حين قلت هذا? فقال له العديل: أفشككت في نفسك أو شعرك حين قلت:

أنا أبو النجم وشعري شعري                      لله دري ما يجن صـدري فأمسك أبو النجم واستحيا العديل ومالك بن مسمع أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا الرياشي عن العتبي قال: حمل زياد إلى معاوية مالا من البصرة، ففزعت تميم والأزد وربية إلى مالك بن مسمع، وكانت ربيعة مجتمعة عليه كاجتماعها على كليب في حياته، واستغاثوا به، وقالوا: يحمل المال، ونبقى بلا عطاء فركب مالك بن ربيعة، واجتمع الناس إليه، فلحق بالمال فرده، وضرب فسطاطا بالمربد، وأنفق المال في الناس حتى وفاهم عطاءهم، ثم قال: إن شئتم الآن أن تحملوا فاحملوا، فما راجعه زياد في ذلك بحرف، فلما ولي حمزة بن عبد الله بن الزبير البصرة جمع مالا؛ ليحمله إلى أبيه، فاجتمع الناس إلى مالك، واستغاثوا به، ففعل مثل فعله بزياد، فقال العديل بن الفرخ في ذلك:

إذا مـا خــشـــينـــا مـــن أمـــير ظـــلامة                      دعـونـا أبـا غـسـان يومـا فـــعـــســـكـــرا

ترى الناس أفواجا إلى باب داره إذا شاء جاءوا دار عين وحسرا

أمن منزل من أم سكن عشية                      ظلـلـت بـه أبـكـى حـزينـــا مـــفـــكـــرا

معـي كـل مـســتـــرخـــي الإزار كـــأنـــه                      إذا مـا مـشـى مـن جـن غــيل وعـــبـــقـــرا

يزجـي الـمـطـايا لا يبـالـي كـلــينـــهـــمـــا                      مقـلـصة خــوصـــا مـــن الأين ضـــمـــرا العديل شاعر بكر بن وائل أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني علي بن الحسن الشيباني قال: حدثني عبدة بن عصمة بن معبد القيسي قال: حدثني جدي أبو أمي فراس بن خندف، عن أبيه، عن جده علي بن شفيع قال: لقيت الفرزدق منصرفه عن بكر بن وائل؛ فقلت له: يا أبا فراس: من شاعر بكر بن وائل ممن خلفته خلفك? قال: أميم بني عجل - يعني العديل بن الفرخ - على أنه ضائع الشعر، سروق للبيوت.

مدح أو تحريض أخبرني جعفر بن قدامة قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي عن إسحاق عن الهيثم بن عدي، عن حماد الراوية قال: لما قدم الحجاج العراق قال العديل بن الفرخ:

دعوا الجبن يا أهل العراق فإنما                      يهان ويسبى كل من لا يقاتـل

لقد جرد الحجاج للحق سـيفـه                      ألا فاستقيموا لا يميلـن مـائل

وخافوه حتى القوم بين ضلوعهم                      كنزو القطا ضمت عليه الحبائل

وأصبح كالبازي يقلب طـرفـه                      على مرقب والطير منه دواحل قال: فقال الحجاج - وقد بلغته - لأصحابه: ما تقولون? قالوا: نقول: إنه مدحك، فقال: كلا ولكنه حرض علي أهل العراق، وأمر بطلبه فهرب وقال:

أخوف بالحجاج حتى كأنما يحرك عظم في الفؤاد مهيض

ودون يدي الحجاج من أن تنالني                      بسـاط لأيدي الـنـــاعـــجـــات عـــريض

 

صفحة : 2548

 

 

مهامه أشباه كأن سـرابـهـا                      ملاء بأيدي الغاسلات رحيض فجد الحجاج في طلبه حتى ضاقت عليه الأرض، فأتى واسطا، وتنكر، وأخذ رقعة بيده، ودخل إلى الحجاج في أصحاب المظالم، فلما وقف بين يديه أنشأ يقول:

هأنذا ضاقت بي الأرض كلهـا                      إليك وقد جولت كـل مـكـان

فلو كنت في ثهلان أو شعبتي أجا                      لخلتك إلا أن تـصـد تـرانـي فقال له الحجاج: العديل أنت? قال: نعم، أيها الأمير، فلوى قضيب خيزران كان في يده في عنقه، وجعل يقول: إيه

بساط لأيدي الناعجات عريض فقال: لا بساط إلا عفوك، قال: اذهب حيث شئت: حوشب بن يزيد وعكرمة بن ربعي يتنازعان الشرف أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن ابن عياش قال: كان حوشب بن يزيد بن الحويرث بن رويم الشيباني وعكرمة بن ربعي البكري، يتنازعان الشرف، ويتباريان في إطعام الطعام ونحر الجزر في عسكر مصعب، وكاد حوشب يغلب عكرمة لسعة يده. قال: وقدم عبد العزيز بن يسار مولى بجير - قال؛ وهو زوج أم شعبة الفقيه - بسفائن دقيق، فأتاه عكرمة فقال له؛ الله الله في، قد كاد حوشب أن يستعليني، ويغلبني بماله، فبعني هذا الدقيق بتأخير، ولك فيه مثل ثمنه ربحا، فقال: خذه، وأعطاه إياه فدفعه إلى قومه، وفرقه بينهم، وأمرهم بعجنه كله، فعجنوه كله، ثم جاء بالعجين كله، فجمعه في هوة عظيمة، وأمر به، فغطي بالحشيش، وجار برمكة، فقربوها إلى فرس حوشب، حتى طلبها، وأفلت، ثم ركضوها بين يديه وهو يتبعها، حتى ألقوها في ذلك العجين وتبعها الفرس، حتى تورطا في العجين وبقيا فيه جميعا، وخرج قوم عكرمة؛ يصيحون في العسكر: يا معشر المسلمين ادركوا فرس حوشب، فقد غرق في خميرة عكرمة فخرج الناس تعجبا من ذلك أن تكون خميرة يغرق فيها فرس، فلم يبق في العسكر أحد إلا ركب ينظر، وجاءوا إلى الفرس - وهو غريق في العجين ما يبين منه إلا رأسه وعنقه - فما أخرج إلا بالعمد والحبال، وغلب عليه عكرمة، وافتضح حوشب، فقال العديل بن الفرخ يمدحهما، ويفخر بهما:

وعكرمة الفياض فينا وحوشـب                      هما فتيا الناس اللذا لم يغمـرا

هما فتيا الناس اللذا لم ينلهـمـا                      رئيس ولا الأقيال من آل حميرا قال: وفي حوشب يقول الشاعر:

وأجود بالمال من حـاتـم                      وأ،حر للجزر من حوشب شعر العديل بين السهل والفحل أخبرني محمد بن يونس الكاتب قال: حدثنا أحمد بن عبيد، عن الأصمعي قال: دخلت على الرشيد يوما وهو محموم فقال: أنشدني يا أصمعي شعرا مليحا، فقلت: أرصينا فحلا تريده يا أمير المؤمنين أم شجيا سهلا? فقال: بل غزلا بين الفحل والسهل، فأنشدته للعديل بن الفرخ العجلي:

صحا عن طلاب البيض قبل مشيبه                      وراجع غض الطرف فهو خفيض

كأني لم أرع الصبـا ويروقـنـي                      من الحي أحوى المقلتين غضيض

دعاني له يوما هـوى فـأجـابـه                      فؤاد إذا يلقى المـراض مـريض

لمستأنسات بـالـحـديث كـأنـه                      تهلل غـر بـرقـهـن ومـيض فقال لي: أعدها، فمازلت أكررها عليه، حتى حفظها.

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثني الرياشي، عن محمد بن سلام، قال: موته ورثاء الفرزدق له قدم العديل بن الفرخ البصرة، ومدح مالك بن مسمع الجحدري، فوصله، فأقام بالبصرة، واستطابها، وكان مقيما عند مالك، فلم يزل بها إلى أن مات، وكان ينادم الفرزدق، ويصطحبان فقال الفرزدق يرثيه:

وما ولدت مثل العديل حلـيلة                      قديما ولا مستحدثات الحلائل

ومازال مذ شـدت يداه إزاره                      به تفتح الأبواب بكر بن وائل

صوت

 

إني بدهماء عز ما أجـد                      عاودني من حبابها زود

عاودني حبها وقد شحطت                      صرف نواها فإنني كمد قوله:  عز ما أجد  أي. شد ما أجد. وحبابها: حبها، وهو واحد ليس بجمع؛ والؤد: الفزع والذعر. وصرف نواها: الوجه الذي تصرف إليه قصدها إذا نأت. والكمد: شدة الحزن.

 

 

صفحة : 2549

 

الشعر لصخر الغي الهذلي، هكذا ذكر الأصمعي وأبو عمرو الشيباني، وذكر إسحاق عن أبي عبيدة أنه رأى جماعة من شعراء هذيل يختلفون في هذه القصيدة فيرويها بعضهم لصخر الغي، ويرويها بعضهم لعمرو ذي الكلب، وأن الهيثم بن عدي حدثه عن حماد الراوية أنها لعمرو ذي الكلب.

 

أخبار صخر الغي ونسبه

اسمه ونسبه هو صخر بن عبد الله الخيشمي، أحد بني خيثم بن عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل. هذا أكثر ما وجدته من نسبه، ولقب بصخر الغي لخلاعته، وشدة بأسه، وكثرة شره.

فمن روى هذه القصيدة له، ذكر أن السبب فيها أن جارا لبني خناعة بن سعد بن هذيل من بني الرمداء كان جاورهم رجل من بني مزينة، وقيل: إنه كان جارا لأبي المثلم الشاعر، وهو أخوهم، فقتله صخر الغي فمشى أبو المثلم إلى قومه، وبعثهم على مطالبته بدم جارهم المزني والإدراك بثأره، فبلغ ذلك صخرا فقال هذه القصيدة يذكر أبا المثلم وما فعله، فأولها البيتان اللذان فيهما الغناء وفيها يقول:

ولست عبدا للموعـدين ولا                      أقبل ضيما أتى بـه أحـد

جاءت كبير كيما أخفرهـا                      والقوم سيد كأنهم رمـدوا

في المزني الذي حششت به                      مال ضريك تلاده نـكـد

إن أمتسكه فبالـفـداء وإن                      أقتل بسيفي فـإنـه قـود ولصخر وأبي المثلم في هذا مناقضات وقصائد قالاها، وأجاب كل واحد منهما صاحبه، يطول ذكرها وليس من جنس هذا الكتاب.

الأعلم العداء وحكى الأثرم عن أبي عبيدة أنه حدث عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال: كان الأعلم أخو صخر الغي أحد صعاليك هذيل، وكان يعدو على رجليه عدوا لا يلحق، واسمه حبيب بن عبد الله، فخرج هو وأخواه صخر وصخير، حتى أصبحوا تحت جبل يقال له السطاع، في يوم من أيام الصيف شديد الحر، وهو متتأبط قربة لهم فيها ماء، فأيبستها السموم، وعطشوا حتى لم يكادوا أن يبصروا من العطش، فقال الأعلم لصاحبيه: أشرب من القربة لعلي أن أرد الماء فأروى منه وانتظراني مكانكما، وكانت بنو عدي بن الديل على ذلك الماء وهو ماء الأطواء، يتفيئون بنخل متأخر عن الماء قدر رمية سهم. فأقبل يمشي متلثما، وقد وضع سيفه وقوسه ونبله فيما بينه وبين صاحبه، فلما برز للقوم مشى رويدا مشتملا، فقال بعض القوم: من ترون الرجل? فقالوا: نراه بعض بني مدلج بن مرة.

ثم قالوا لبعضهم: الق الفتى، فاعرفه، فقال لهم: ما تريدون بذلك الرجل? هو آتيكم إذا شرب، فدعوه فليس بمفيتنا، فأقبل يمشي حتى رمى برأسه في الحوض مدبرا عنهم بوجهه، فلما روي أفرغ على رأسه من الماء، ثم أعاد نقابه، ورجع في طريقه رويدا، فصاح القوم بعبد لهم كان على الماء: هل عرفت الرجل الذي صدر? قال: لا، فقالوا: فهل رأيت وجهه? قال: نعم، هو مشقوق الشفة، فقالوا: هذا الأعلم، وقد صار بينه وبين الماء مقدار رمية سهم آخر، فعدوا في أثره، وفيهم رجل يقال له: جذيمة ليس في القوم مثله عدوا، فأغروه به، وطردوه فأعجزهم، ومر على سيفه وقوسه ونبله، فأخذه، ثم مر بصاحبيه فصاح بهما فضبرا معه، فأعجزوهم، فقال الأعلم في ذلك:

لما رأيت الـقـوم بـال                      علياء دون قدي المناصب

وفريت مـن فـزع فـلا                      أرمي ولا ودعت صاحب

يغرون صاحبهـم بـنـا                      جهدا وأغري غير كاذب

أغري أخي صخرا لـيع                      جزهم ومدوا بالحـلائب

وخشيت وقـع ضـريبة                      قد جربت كل التجـارب

فأكون صـيدهـم بـهـا                      وأصير للضبع السواغب

جزرا وللطير الـمـرب                      ة والذئاب وللثـعـالـب وهي قصيدة طويلة.

صوت صخر يرثي أخاه أبا عمرو وقالوا جميعا: خرج صخر الغي وأخوه أبو عمرو في غزاة لهما، فباتا في أرض رملة، فنهشت أخاه أبا عمرو حية، فمات، فقال يرثيه:

لعمر أبي عمرو لقد ساقه المنا                      إلى جدث يوزي له بالأهاضب

لحية جحر في وجار مـقـيمة                      تنمى بها سوق المنا والجوالب

أخي لا أخا لي بعده سبقت بـه                      منيته جمع الرقي والطبـائب

وذلك مما يحدث الدهـر إنـه                      له كل مطلوب جثيث وطالب يوزي له: يمني له. والإزاء: مهراق الدلو. والأهضب: الجبال

 

صفحة : 2550

 

وقالا الأثرم عن أبي عبيدة: خرج صخر الغي في طائفة من قومه يقدمها خوفا من أبي المثلم، فأغار على بني المصطلق من خزاعة، فانتظر بقية أصحابه، ونذرت به بنو المصطلق، فأحاطوا به فقال:

لو أن أصحابي بنو معـاوية                      أهل جنوب النخلة الشامية

ورهط دهمان ورهط عادية                      ما تركوني للذئب العـاوية وجعل يرميهم ويرتجز ويقول:

لو أن أصحابي بنو خنـاعة                      أهل الندى والمجد والبراعه

تحت جلود البقر القـراعة                      لمنعوا من هذه الـيراعـه وقال أيضا وهو يقاتلهم:

لو أن حولي من قريم رجلا                      بيض الوجوه يحملون النبلا

لمنعوني نـجـدة ورسـلا                      سفع الوجوه لم يكونوا عزلا مقتل صخر ورثاؤه يقول: منعوني بنجدة وشدة وعلى رسلهم بأهون سعي. قال: فلم يزل يقاتلهم حتى قتلوه وبلغ ذلك أبا المثلم، فقال يرثيه: رثاء أبي المثلم له

لو كان للدهر مال عند متـلـده                      لكان للدهر صخر مال قنـيان

آبي الهضيمة آت بالعظيمة مت                      لاف الكريمة لا سقط ولا واني

حامي الحقيقة نسال الوديقة مع                      تاق الوسيقة جلد غير ثـنـيان

رقاء مرقبة، مناع مـغـلـبة                      ركاب سلهبة، قطـاع أقـران

هبـاط أودية شـهـاد أنــدية                      حمال ألوية سرحـان فـتـيان السرحان: الأسد في لغة هذيل وفي كلام غيرهم الذئب

يحمي الصحاب إذا جد الضراب ويك                      في القائلين إذا ما كبل الـعـانـي

فيترك القرن مصفـرا أنـامـلـه                      كأن في ريطتيه نـضـخ إرقـان الإرقان: اليرقان، يعني صفرته

يعطيك ما لا تكاد النفس تسلمه                      من التلاد وهوب غير منـان

نسب عمرو ذي الكلب وأخباره

اسمه ونسبه هو عمرو بن العجلان بن عامر بن برد بن منبه، أحد بني كاهل بن لحيان بن هذيل.

قال السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي: إنما سمي ذا الكلب لأنه كان له كلب لا يفارقه.

وعن الأثرم عن أبي عبيدة أنه قال: لم يكن له كلب لا يفارقه، إنما خرج غازيا ومعه كلب يصطاد به، فقال له أصحابه: يا ذا الكلب، فثبتت عليه.

قال: ومن الناس من يقول له عمرو الكلب، ولا يقول فيه:  ذو  .

قال: وكان يغزو بني فهم غزوا متصلا، فنام ليلة في بعض غزواته، فوثب عليه نمران فأكلاه فادعت فهم قتله، هكذا في هذه الرواية.

عمرو ذو الكلب وأم جليحة وقد أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا أبو سعيد السكري، عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة عن ابن الأعرابي عن المفضل وغيرهم من الرواة قالوا: كان من حديث عمرو ذي الكلب الهذلي - وكان من رجالهم - أنه كان قد عليق امرأة من فهم يقال لها: أم جليحة، فأحبها وأحبته، وكان أهلها قد وجدوا عليها وعليه، وطلبوا دمه، إلى أن جاءها عاما من ذلك، فنذروا به، فخرجوا في أثره، وخرج هاربا منهم فتبعوه يومهم ذلك، وهم على أثره، حتى أمسى، وهاجت عليه ريح شديدة في ليلة ظلماء، فبينا هو يسير على ظهر الطريق إذ رأى نارا عن يمينه، فقال: أخطأت والله الطريق وإن النار لعلى الطريق، فحار وشك، وقصد للنار، حتى أتاها، وقد كان يصيح، فإذا رجل قد أوقد نارا ليس معه أحد، فقال له عمرو ذو الكلب: من أنت? قال: أنا رجل من عدوان، قال، فما اسم هذا المكان? قال السد، فعلم أنه قد هلك وأخطأ - والسد شيء لا يجاوز - قال: ويلك فلم أوقدت، فوالله ما تشتوي، ولا تصطلي، وما أوقدت إلا لمنية عمرو الشقي، هل عندك شيء تطعمني? قال: نعم، فأخرج له ثمرات قد نقاها في يده، فلما رآها قال: ثمرات، تتبعها عبرات من نساء خفرات، ثم قال: اسقني، قال: ماذا? ألبنا? قال: لا، ولكن اسقني ماء قراحا، فإني مقتول صباحا، ثم انطلق، فأسند في السد، ورأى القوم الذين جاءوا في طلبه أثره، حيث أخطأ، فاتبعوه، حتى وجدو فدخل غارا في السد، فلما ظهروا للسد علموا أنه في الغار فنادوه، فقالوا: يا عمرو، قال: ما تشاءون? قالوا: اخرج، قال: فلم دخلت إذن? قالوا: بلى، فاخرج، قال: لا أخرج، قالوا: فأنشدنا قولك:

ومقعد كربة قد كنت منها                      مكان الإصبعين من القبال

 

صفحة : 2551

 

قال: ها هي ذه أنا فيها. قال: وعن له رجل من القوم، فرماه عمرو فقتله، فقالوا: أقتلته يا عدو الله? أجل، ولقد بقيت معي أربعة أسهم كأنها أنياب أم جليحة لا تصلون إلي أو أقتل بكل سهم منها رجلا منكم، فقالوا لعبدهم: يا أبا نجاد، أدخل عليه، وأنت حر، فتهيأ للدخول أبو نجاد عليه، فقال له عمرو: ويلك يا أبا نجاد، ما ينفعك أن تكون حرا إذا قتلتك? فنكص عنه، فلما رأوا ذلك صعدوا، فنقبوا عليه، ثم رموه حتى قتلوه، وأخذوا سلبه، فرجعوا به إلى أم جليحة وهي تتشوف، فلما رأوها قال لها: يا أم جليحة، ما رأيك في عمرو، قالت: رأيي والله أنكم طلبتموه سريعا، ووجدتموه منيعا، ووضعتموه صريعا? فقالوا: والله لقد قتلناه، فقالت: والله ما أراكم فعلتم، ولئن كنتم فعلتم، لرب ثدي منكم قد افترشه، وضب قد احترشه، فطرحوا إليها ثيابه، فأخذتها، فشمتها، فقالت: ريح عطر وثوب عمرو، أما والله ما وجدتموه ذا حجزة جافية، ولا عانة وافية، ولا ضالة كافية.

أخته ترثيه وقالت ريطة أخت عمرو ذي الكلب ترثيه:

كل امرىء لمحال الدهر مكروب                      وكل من غالب الأيام مغـلـوب

وكل حي وإن غزوا وإن سلمـوا                      يوما طريقهم في الشرد عبـوب

أبلغ هذيلا وأبلغ من يبـلـغـهـا                      عني رسولا وبعض القول تكذيب

بأن ذا الكلب عمرا خيرهم نسبـا                      ببطن شريان يعوي حوله الـذيب

الطاعن الطعنة النجلاء يتبعـهـا                      مثعنجر من نجيع الجوف أسكوب

والتارك القرن مصفرا أنامـلـه                      كأنه من نقيع الورس مخضـوب

تمشي النسور إليه وهـي لاهـية                      مشي العذارى عليهن الجلابـيب

والمخرج العاتق العذراء مذعـنة                      في السبي ينفح من أردانها الطيب

صوت

 

يا دار عمرة من محتهلها الجرعـا                      هاجت لي الهم والأحزان والوجعا

أرى بعيني إذا مالت حمولـتـهـم                      بطن السلوطح لا ينظرون من تبعا

طورا اراهم وطورا لا أبـينـهـم                      إذا ترفع حذج سـاعة لـمـعـا الشعر للقيط الأيادي ينذر قومه قصد كسرى لهم، والغناء لكردم بن معبد هزج بالبنصر من روايتي حبش والهشامي.

 

خبر لقيط ونسبه والسبب في قوله الشعر

اسمه ونسبه هو لقيط بن يعمر. شاعر جاهلي قديم مقل، ليس يعرف له شعر غير هذه القصيدة وقطع من الشعر لطاف متفرقة.

غزو كسرى لإياد أخبرني بخبر هذا الشعر عمي قال: حدثني القاسم بن محمد الأنباري قال: حدثني أحمد بن عبيد قال: حدثني الكليبي عن الشرق بن القطامي قال: كان سبب غزو كسرى إيادا أن بلادهم أجدبت، فارتحلوا حتى نزلوا بسنداد ونواحيها، فأقاموا بها دهرا حتى أخصبوا وكثروا، وكانوا يعبدون صنما يقال له: ذو الكعبين، وعبدته بكر بن وائل من بعدهم، فانتشروا ما بين سنداد إلى كاظمة وإلى بارق والخورنق، واستطالوا على الفرات، حتى خالطوا أرض الجزيرة، ولم يزالوا يغيرون على ما يليهم. من أرض السواد، ويغزون ملوك آل نصر، حتى أصابوا امرأة من أشراف العجم كانت عروسا قد هديت إلى زوجها، فولي ذلك منها سفهاؤهم وأحداثهم، فسار إليهم من كان يليهم من الأعاجم، فانحازت إياد إلى العراق وجعلوا يعبرون إبلهم في القراقير ويقطعون بها الفرات وجعل راجزهم يقول:

بئس مناخ الحلقات الـدهـم                      في ساحة القرقور وسط اليم وعبروا الفرات، وتبعهم الأعاجم، فقالت كاهنة من إياد تسجع لهم:

إن يقتلوا منكم غلاما سلما                      أو يأخذوا ذاك شيخا هما

تخضبوا نحورهـم دمـا                      وترووا منهم سيوفا ظما فخرج غلام منهم يقال له ثواب بن محجن بإبل لأبيه فلقيته الأعاجم، فقتلوه، وأخذوا الإبل ولقيتهم إياد في آخر النهار، فهزمت الأعاجم.

قال: وحدثني بعض أهل العلم أن إيادا بينت ذلك الجمع حين عبروا شط الفرات الغربي، فلم يفلت منهم إلا القليل، وجمعوا به جماجمهم وأجسادهم، فكانت كالتل العظيم، وكان إلى جانبهم دير، فسمي دير الجماجم، وبلغ كسرى الخبر، فبعث مالك بن حارثة: أحد بني كعب بن زهير بن جشم في آثارهم، ووجه معه أربعة آلاف من الأساورة. فكتب إليهم لقيط.

 

 

صفحة : 2552

 

 

يا دار عمرة من محتلها الجرعـا                      هاجت لي الهم والأحزان والوجعا وفيها يقول - قال الشرقي بن القطامي أنشدنيها أبو حمزة الثمالي :

يا قوم لا تأمنـوا إن كـنـتـم غـيرا                      على نسائكم كسرى ومـا جـمـعـا

هو الجلاء الذي تبـقـى مـذلـتـه                      إن طار طائركم يومـا وإن وقـعـا

هو الفناء الذي يجـتـث أصـلـكـم                      فمن رأى مثل ذا رأيا ومن سمـعـا

فقـلـدوا أمـركـم لـلـه دركــم                      رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا مترفا إن رخاء العـيش سـاعـده                      ولا إذا حل مكـروه بـه خـشـعـا

لا يطعم الـنـوم إلا ريث يبـعـثـه                      هم يكاد حشاه يقطـع الـضـلـعـا

مسهد النـوم تـعـنـيه ثـغـوركـم                      يروم منها إلى الأعداء مـطـلـعـا

ما انفك يحلب هذا الدهـر أشـطـره                      يكون متبعـا طـورا ومـتـبـعـا

فلـيس يشـغـلـه مـال يثـمــره                      عنكم ولا ولد يبغى لـه الـرفـعـا

حتى استمرت على شزر مـريرتـه                      مستحكم السن لا قحما ولا ضـرعـا

كمالك بن قـنـان أو كـصـاحـبـه                      زيد القنا حين لاقى الحارثين مـعـا

إذ عابه عـائب يومـا فـقـال لـه:                      دمث لجنبك قبل الليل مضطـجـعـا

فسـاوره فـألـفـوه أخـا عـلـل                      في الحرب يختتل الرئبال والسبـعـا

عبـل الـذراع أبـيا ذا مـزابــنة                      في الحرب لا عاجزا نكسا ولا ورعا

مستنجدا يتحـدى الـنـاس كـلـهـم                      لو صارعوه جميعا في الورى صرعا

هذا كتابي إلـيكـم والـنـذير لـكـم                      لمن رأى الرأي بالإبرام قد نصـعـا

وقد بذلت لكم نصـحـي بـلا دخـل                      فاستيقظوا إن خير العلم ما نـفـعـا وجعل عنوان الكتاب:

سلام في الصحيفة من لقيط                      إلى من بالجزيرة من إياد

بأن الليث كسرى قد أتاكـم                      فلا يحبسكم سوق النـقـاد موقعه مرج الأكم قال: وسار مالك بن حارثة التغلبي بالأعاجم حتى لقي إيادا، وهم غارون لم يلتفتوا إلى قول لقيط وتحذيره إياهم ثقة بأن كسرى لا يقدم عليهم. فلقيهم بالجزيرة في موضع يقال له مرج الأكم، فاقتتلوا قتالا شديدا، فظفر بهم، وهزمهم، وأنقذ ما كانوا أصابوا من الأعاجم يوم الفرات، ولحقت إياد بأطراف الشأم ولم تتوسطها خوفا من غسان يوم الحارثين، ولاجتماع قضاعة وغشان في بلد خوفا من أن يصيروا يدا واحدة عليهم فأقاموا، حتى أمنوا. ثم إنهم تطرفوهم إلى أن لحقوا بقومهم ببلد الروم بناحية أنقرة، ففي ذلك يقول الشاعر:

حلوا بأنقرة يسيل عـلـيهـم                      ماء الفرات يجيء من أطواد صوت

اللبين يا ليلى جمالـك تـرحـل                      ليقطع منا البين ما كان يوصل?

تعللنا بالوعد ثمـت تـلـتـوي                      بموعودها حتى يموت المعلـل

ألم تر أن الحبل أصبح واهـنـا                      وأخلف من ليلى الذي كنـت آل

فلا الحبل من ليلى يؤاتيك وصله                      ولا أنت تنهى القلب عنها فيذهل عروضه من الطويل، الشعر لنصيب الأصغر مولى المهدي، والغناء ليحيى المكي خفيف رمل بالبنصر، وكذا نسبته تدل عليه.

وذكر عمرو بن بانة في نسخته أن خفيف الرمل لمالك وأنه بالوسطى، والصحيح أنه لابن المكي.

 

الجزء الثالث والعشرين

 

أخبار نصيب الأصغر

نصيب مولى المهدي، عبد نشأ باليمامة، واشتري للمهدي في حياة المنصور، فلما سمع شعره قال: والله ما هو بدون نصيب مولى بني مروان، فأعتقه، وزوجه أمة يقال لها: جعفرة. وكناه أبا الحجناء، وأقطعه ضيعة بالسواد، وعمر بعده.

وهذه القصيدة يمدح بها هارون الرشيد، وهي من جيد شعره، وفيها يقول:

خليلي إني ما يزال يشوقـنـي                      قطين الحمى والظاعن المتحمل

فأقسمت لا أنسى ليالي منـعـح                      ولا مأسل إذ منزل الحي مأسل

أمن اجل آيات ورسـم كـأنـه                      بقية وحي أو رداء مسلـسـل

جرى الدمع من عينيك حتى كأنه                      تحدر در أو جمان مـفـصـل

 

صفحة : 2553

 

 

فيأيها الزنجي مـالـك والـصـبـا                      أفق عن طلاب البيض إن كنت تعقل

فمثلك من أحبوشة الزنج قـطـعـت                      وسائل أسـبـاب بـهـا يتـوسـل

قصدنا أمير الـمـؤمـنـين ودونـه                      مهامه موماة من الأرض مجـهـل

على أرحبيات طوى السير فانطـوت                      شمائلها مـمـا تـحـل وتـرحـل

إلى ملك صلت الـجـبـين كـأنـه                      صفيحة مسنون جلا عنه صـيقـل

إذا انبلج البابـان والـسـتـر دونـه                      بدا مثل ما يبدو الأغر المـحـجـل

شريكان فينا منـه عـين بـصـيرة                      كلوء وقلب حافـظ لـيس يغـفـل

فما فات عينـيه وعـاه بـقـلـبـه                      فآخـر مـا يرعـى ســواء وأول

وما نازعت فينـا أمـورك هـفـوة                      ولا خطلة في الرأي والرأي يخطل

إذا اشتبهت أعـنـاقـه بـينـت لـه                      معارف في أعجازه وهو مـقـبـل

لئن نال عبد الـلـه قـبـل خـلافة                      لأنت من العهد الذي نلت أفـضـل

وما زادك العهد الذي نلت بـسـطة                      ولكن بتقوى الله أنـت مـسـربـل

ورثت رسول الله عضوا ومفـصـلا                      وذا من رسول الله عضو ومفصـل

إذا ما دهتنـا مـن زمـان مـلـمة                      فليس لنا إلا عـلـيك الـمـعـول

على ثقة منـا تـحـن قـلـوبـنـا                      إليك كـمـا كـنـا أبـاك نـؤمـل وهي قصيدة طويلة، هذا مختار من جميعها.

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد. قال: حدثني محمد بن عبد الله بن مالك، قال: حدثني أبي، قال: وجه المهدي نصيبا الشاعر مولاه إلى اليمن في شراء إبل مهرية، ووجه معه رجلا من الشيعة، وكتب معه إلى عامله على اليمن بعشرين ألف دينار، قال: فمد أبو الحجناء يده في الدنانير ينفقها في الأكل والشرب، وشراء الجواري والتزويج، فكتب الشيعي بخبره إلى المهدي، فكتب المهدي في حمله موثقا في الحديد.

فلما دخل على المهدي أنشده شعره، وقال:

تأوبني ثقل من الهـم مـوجـع                      فأرق عيني والخليون هـجـع

هموم توالت لو أطاف يسيرهـا                      بسلمى لظلت شمها تتـصـدع

ولكنها نيطت فناء بحمـلـهـا                      جهير المنايا حائن النفس مجزع

وعادت بلاد الله ظلماء جندسـا                      فخلت دجى ظلمائها لا تقشـع وهي قصيدة طويلة يقول فيها:

إليك أمير المـؤمـنـين ولـم أجـد                      سواك مجيرا منـك يدنـى ويمـنـع

تلمست هل من شافع لي فـلـم أجـد                      سوى رحمة أعطاكها الله تـشـفـع

لئن جلت الأجرام مني وأفـظـعـت                      لعفوك عن جرمـي أجـل وأوسـع

لئن لم تسعني يا بـن عـم مـحـمـد                      لما عجزت عـنـي وسـائل أربـع

طبعت عليها صبـغة ثـم لـم تـزل                      على صالح الأخلاق والدين تطـبـع

تغابيك عن ذي الذنب ترجو صلاحـه                      وأنت ترى ما كان يأتـي ويصـنـع

وعفوك عمن لـو تـكـون جـريمة                      لطارت به في الجو نكبـاء زعـزع

وأنك لا تنفـك تـنـعـش عـاثـرا                      ولم تعترضه حين يكبـو ويخـمـع

وحلمك عن ذي الجهل من بعدما جرى                      به عنق من طائش الجهـل أشـنـع

ففيهن لي إما شـفـعـن مـنـافـع                      وفي الأربع الأولى إلـيهـن أفـزع

مناصحتي بالفعـل إن كـنـت نـائيا                      إذا كان دان منك بـالـقـول يخـدع

وثانية ظنـي بـك الـخـير غـائبـا                      وإن قلت عبد ظاهر الغش مسـبـع

وثالـثة أنـي عـلـى مـا هـويتـه                      وإن كثر الأعداء فـي وشـنـعـوا

ورابـعة أنـي إلـيك يسـوقـنــي                      ولائي فـمـولاك الـذي لا يضـيع

وإني لمـولاك الـذي إن جـفـوتـه                      أتى مسكـينـا راهـبـا يتـضـرع

وإني لمولاك الضعيف فـأعـفـنـي                      فإني لعفة منـك أهـل ومـوضـع

 

صفحة : 2554

 

فقطع المهدي عليه الإنشاد، ثم قال له: ومن أعتقك يا بن السوداء فأومأ بيده إلى الهادي، وقال: الأمير موسى يا أمير المؤمنين، فقال المهدي لموسى: أعتقته يا بني? قال: نعم يا أمير المؤمنين. فأمضى المهدي ذلك وأمر بحديده، ففك عنه، وخلع عليه عدة من الخلع الوشي والخز والسواد والبياض، ووصله بألفي دينار، وأمر له بجارية يقال لها: جعفرة جميلة فائقة من روقة الرقيق.

فقال له سالم قيم الرقيق: لا أدفعها إليك أو تعطيني ألف درهم، فقال قصيدته:

أآذن الحي فانصاعوا بترحال                      فهاج بينهم شوقي وبلبالـي وقام بها بين يدي المهدي فلما قال:

ما زلت تبذل لي الأموال مجتهـدا                      حتى لأصبحت ذا أهـل وذا مـال

زوجتني يا بن خير الناس جـارية                      ما كان أمثالها يهدى لأمـثـالـي

زوجتني بضة بـيضـاء نـاعـمة                      كأنـهـا درة فـي كـــف لآل

حتى توهمت أن الله عـجـلـهـا                      يا بن الخلائف لي من خير أعمالي

فسألني سالم ألفـا فـقـلـت لـه                      أنى لي الألف يا قبحت من سـال - أراد: من سائل، كما قالوا: شاكي السلاح وشائك -:

هيهات ألفـك إلا أن أجـيء بـهـا                      من فضل مولى لطيف المن مفضال فأمر له المهدي بألف دينار ولسالم بألف درهم.

قال ابن أبي سعد وحدثني غير محمد بن عبد الله: أنه حبس باليمن مدة طويلة، ثم أشخص إلى المهدي، فقال وهو في الحبس، ودخلت إليه ابنته حجناء، فلما رأت قيوده بكت، فقال:

لقد أصبحت حجناء تبكي لوالـد                      بدرة عين قل عنه غـنـاؤهـا

أحجناء صبرا، كل نفس رهـينة                      بموت ومكتوب عليها بلاؤهـا

أحجناء أسباب المنايا بمـرصـد                      فإلا يعاجل غدوها فمسـاؤهـا

أحجناء إن أفلت من السجن تلقني                      حتوف منايا لا يرد قضـاؤهـا

أحجناء إن أضحى أبوك ودلـوه                      تعرت عرا منها ورث رشاؤها

لقد كان يدلى في رجال كثـيرة                      فيمتح ملأى وهي صفر دلاؤها

أحجناء إن يصبح أبوك ونفسـه                      قليل تمنيها قصـير عـزاؤهـا

لقد كان في دنيا تفـيأ ظـلـهـا                      عليه ومجلوب إليه بـهـاؤهـا قال ابن أبي سعد: ولما دخل نصيب على المهدي مقيدا رفده ثمامة بن الوليد العبسي عمده واستعطفه له، وسوغ عذره عنده، ولم يزل يرقق به، حتى أمر بإطلاقه، وكان نصيب في متقدم الأيام منقطعا إلى أخيه شيبة فقال فيه:

أثمام إنك قد فكـكـت ثـمـامـا                      حلقا برين من النصيب عظامـا

حلقا توسطها العمود فـلـزهـا                      لولا ثـمـامة والإلـه لـدامـا

الله أنـقـذنـي بـه مـن هـوة                      تيهاء مهلكة تـكـون رجـامـا

فلأشكرنك يا ثمامة مـا جـرت                      فرق السحاب كنهورا وركـامـا

ولأشكرنك يا ثمـامة مـا دعـت                      ورق الحمام على الغصون حماما

وخلفت شيبة في المقـام ولا أرى                      كمقام شيبة في الرجال مقـامـا

أغنى إذا التمس الرجال غـنـاءه                      في كل نازلة تكـون غـرامـا

وأعم منفـعة وأكـرم حـائطـا                      تهدي إلـيه تـحـية وسـلامـا

لا يبعدن ابـن الـولـيد فـإنـه                      قد نال من كل الأمور جسـامـا

لو من سوى رهط النبي خـلـيفة                      يدعى لكان خـلـيفة وإمـامـا قال ابن أبي سعد: ودخل نصيب على ثمامة بعد وفاة أخيه شيبة، وهو يفرق خيله على الناس، فأمر له بفرس منها؛ فأبى أن يقبله؛ وبكى، ثم قال:

يا شيبة الخير إما كنت لي شجنا                      آليت بعدك لا أبكي على شجن

أضحت جياد أبي القعقاع مقسمة                      في الأقربين بلا من ولا ثمـن

ورثتهم فتعزوا عنك إذ ورثـوا                      وما ورثتك غير الهم والحـزن فجعل ثمامة ومن عنده حاضر من أهله وإخوانه يبكون.

وشيبة بن الوليد هذا وأخوه من وجوه قواد المهدي.

وفي شيبة يقول أبو محمد اليزيدي يهجوه، وكان عارضه في شيء من النحو بحضرة المهدي:

عش بجد فلن يضرك نوك                      إنما عيش من ترى بالجدود

 

صفحة : 2555

 

 

عش بجد وكن هبنقة القـي                      سي جهلا أو شيبة بن الوليد أخبرنا بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عن أبيه.

أخبرني عمي قال: حدثنا القاسم بن محمد الأنباري، قال: حدثنا عبد الله بن بشر البجلي عن النضر بن طاهر قال: أتى نصيب مولى المهدي عبد الله بن محمد بن الأشعث، وهو يتقلد صنعاء للمهدي، فمدحه، فلم يثبه، واستكساه بردا فلم يكسه، فقال يهجوه:

سأكسوك من صنعاء ما قد كسوتـنـي                      مقطعة تبقى عـلـى قـدم الـهـر

إذا طويت كانت فضـوحـك طـيهـا                      وإن نشرت زادتك خزيا على النشـر

أغرك أن بـيضـت بـيت حـمـامة                      وقلت: أنا شبعان منتفخ الـخـصـر

لقد كنت في سلح سلحت مـخـافة ال                      حرورية الشارين داع إلى الـضـر

ولكنه يأبى بـك الـبـهـر كـلـمـا                      جريت مع الجاري وضيق من الصدر قال النضر: وكان النصيب ملعونا، هجاء، فأهدى للربيع بن عبد الله بن الربيع الحارثي فرسا فقبله، ثم ندم خوفا من ثقل الثواب، فجعل يعيب الفرس، ويذكر بطأه وعجزه، فبلغ ذلك النصيب، فقال:

أعبت جوادنا ورغبت عنـه                      وما فيه لعمرك من معـاب

وما بجوادنا عجـز ولـكـن                      أظنك قد عجزت عن الثواب فأجابه الربيع فقال:

رويدك لا تكن عجلا إلينـا                      أتاك بما يسوءك من جواب

وجدت جوادكم فدما بطـيئا                      فما لكم لدينا مـن ثـواب فلما كان بعد أيام رأى النصيب الفرس تحت الربيع فقال له:

أخذت مشهرا في كل أرض                      فعجل يا ربيع مشهـرات

يمانية تـخـيرهـا يمـان                      منمنمة البيوت مقطعـات

وجارية أضلـت والـديهـا                      مولدة وبـيضـا وافـيات

فعجلها وأنفـذهـا إلـينـا                      ودعنا من بنات الترهـات فأجابه الربيع فقال:

بعثت بمقرف حطـم إلـينـا                      بطيء الحضر ثم تقول: هات فقال النصيب:

في سبيل الله أودى فرسي                      ثم عللت بأبـيات هـزج

كنت أرجو من ربيع فرجا                      فإذا ما عنده لي من فرج بيض الدراهم بد بيض الغواني: قال: ثم خرج الربيع إلى مكة، وقد كان وعد النصيب جارية، فلم يعطه، وأمر ابنه أن يدفع إليه ألفي درهم ففعل، فقال النصيب:

ألا أبلغا عني الربـيع رسـالة                      ربيع بني عبد المدان الأكـارم

أعزت عليك البيض لما أرغتها                      فرغت إلى إعداد بيض الدراهم

ألم تر أني غير مستطرف الغنى                      حديث وأني من ذؤابة هاشـم?

وأنك لم تهبط من الأرض تلعة                      ولا نجوة إلا بعهدي وخاتمـي قال: ثم قدم الربيع فأهدى إلى دفافة بن عبد العزيز العبسي طبق تمر، فقال فيه دفافة:

بعثت بتمر في طبـيق كـأنـمـا                      بعثت بياقوت توقد كالـجـمـر

فلو أن ما تهدي سنيا قـبـلـتـه                      ولكنما أهديت مثلك في الـقـدر

كأن الذي أهديت من بعـد شـقة                      إلينا من الملقى على ضفة الجسر فأجابه الربيع فقال:

سل الناس إما كنت لا بـد طـالـبـا                      إليهم بألا يحملـوك عـلـى الـقـدر

فإنك إن تحمل على القـدر لا تـنـل                      يد الدهر من بر فـتـيلا ولا بـحـر

لقد كنت منـي فـي غـدير وروضة                      وفي عسل جم وما شئت من خـمـر

وما كنت منانا لـكـن كـفـرتـنـي                      وأظهرت لي ذما فأظهرت من عذري

لعمري لقد أعطيت ما لسـت أهـلـه                      ولا أهل ما يلقى على ضفة الجسـر فبلغت أبياتهما نصيبا، فشمت بالربيع، وقال فيه هذه القصيدة:

رضيتكما حرصا ومنعـا ولـم يكـن                      يهيجكما إلا الحـقـير مـن الأمـر

متى يجتمع يوما حـريص ومـانـع                      فليس إلى حمـد سـبـيل ولا أجـر

أحار بن كعب إن عبسا تغلـغـلـت                      إلى السير من نجران في طلب التمر

فكيف ترى عبسا وعبـس حـريصة                      إذا طمعت في التمر من ذلك العبـر

لقد كنتما في التمر لـلـه أنـتـمـا                      شبيهين بالملقى على ضفة الجسـر أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن يزيد النحوي، قال: حدثت من غير وجه:

 

صفحة : 2556

 

أن النصيب دخل على الفضل بن يحيى بن خالد مسلما، فوجد عنده جماعة من الشعراء قد امتدحوه، فهم ينشدونه، ويأمر لهم بالجوائز، ولم يكن امتدحه، ولا اعد له شيئا. فلما فرغوا - وكان يروى قولا في نفسه - استأذن في الإنشاد، ثم أنشد قصيدته التي أولها قوله:

طرقتك مية والمزار شطـيب                      وتثيبك الهجران وهي قـريب

للـه مـية خـلة لـو أنـهـا                      تجزي الوداد بؤدها وتـثـيب

وكأن مية حين أتلـع جـيدهـا                      رشا أغن من الظبـاء ربـيب

نصفان ما تحت المؤزر عاتـك                      دعص أغر وفوق ذاك قضيب

ما للمنازل لا تكـاد تـجـيب                      أني يجيبك جنـدل وجـبـوب

جادتك من سبل الـثـريا ديمة                      ريا ومن نوء السماك ذنـوب

فلقد عهدت بك الحلال بغبـطة                      والدهر غض والجناب خصيب

إذ للشباب علي من ورق الصبا                      ظل وإذ غصن الشباب رطيب

طرب الفؤاد ولات حين تطرب                      إن الموكل بالصبا لـطـروب

وتقول مية ما لمثلك والصـبـا                      واللون أسود حالك غربـيب?

شاب الغراب وما أراك تشـيب                      وطلابك البيض الحسان عجيب

أعلاقة أسبـابـهـن وإنـمـا                      أفنان رأسك فلـفـل وزبـيب

لا تهزئي مني فربـت عـائب                      ما لا يعيب الناس وهو معيب

ولقد يصاحبني الكرام وطالمـا                      يسمو إلي السيد المحـجـوب

وأجر من حلل الملوك طرائفـا                      منها علي عصائب وسـبـيب

وأسالب الحسناء فضل إزارها                      فأصورها وإزارها مسلـوب

وأقول منقوح البـدي كـأنـه                      برد تنافسه التجـار قـشـيب يقول فيها في مدح الفضل:

والبرمكي إذا تـقـارب سـنـه                      أو باعدته السن فهـو نـجـيب

خرق العطاء إذا استهل عطـاؤه                      لا متبع منـا ولا مـحـسـوب

يا آل برمك ما رأينا مـثـلـكـم                      ما منـكـم إلا أغـر وهـوب

وإذا بدا الفضل بن يحيى هبـتـه                      لجلاله إن الجـلـيل مـهـيب

قاد الجياد إلى العـدا وكـأنـهـا                      رجل الجراد تسوقهن جـنـوب

قبا تباري فـي الأعـنة شـزبـا                      تدع الحزون كأنهـن سـهـوب

من كل مضطرب العنان كـأنـه                      ذئب يبـادره الـفــريسة ذيب

تهوي بكل مـغـاور عـاداتـه                      صدق اللقاء فما لـه تـكـذيب

حتى صبحن الطالبي بـعـارض                      فيه المنايا تغـتـدي وتـثـوب

خاف ابن عبد الله ما خـوفـتـه                      فجفاك ثم أتاك وهـو مـنـيب

ولـقـد رآك الـمـوت إلا أنـه                      بالظن يخطـئ مـرة ويصـيب

فرمى إليك بنفسه فنـجـا بـهـا                      أجل إليه ينتـهـي مـكـتـوب

فكسوتـه ثـوب الأمـان وإنـه                      لا حبلـه واه ولا مـقـضـوب

شمنا إليك مـخـيلة لا خـلـبـا                      في الشيم إذ بعض البروق خلوب

إنا علـى ثـقة وظـن صـادق                      مما نؤملـه فـلـيس نـخـيب يجيزه الفضل فيشكره شعرا: قال: فاستحسنها الفضل، وأمر له بثلاثين ألف درهم، فقبضها، ووثب قائما، وهو يقول:

إني سأمتدح الفضل الذي حنـيت                      منا عليه قلوب البر والضـلـع

جاد الربيع الذي كنـا نـؤمـلـه                      فكلنا بربيع الفضل مـرتـبـع

كانت تطول بنا في الأرض نجعتنا                      فاليوم عند أبي العباس ننتـجـع

إن ضاق مذهبنا أو حل ساحتـنـا                      ضنك وأزم فعند الفضل متسـع

ما سلم الله نفس الفضل من تلـف                      فما أبالي أقام الناس أم رجعـوا

إن يمنعوا ما حوت منا أكفـهـم                      فلن يضر أبا الحجناء ما منعـوا

أو حلئونا وذادوا عن حياضـهـم                      يوم الشروع ففي غدرانك الشرع

يا ممسكا بعرا الدنيا إذا خـشـيت                      منها الزلازل والأمر الذي يقـع

قد ضرستك الليالي وهي خالـية                      وأحكمتك النهى والأزلم الجـذع

 

صفحة : 2557

 

 

فغادرا منك حزنا عن معاسرة                      سهل الجناب يسيرا حين يتبع

لم يفتلتك نقيرا عن مخـادعة                      دهي الرجال وللسؤال تنخدع

فأنت مصطلح بالملك تحملـه                      كما أبوك بثقل الملك مضطلع قال ابن أبي سعد: لما حجت أم جعفر زبيدة لقيها النصيب، فترجل عن فرسه وأنشأ يقول:

سيستبشر البيت الحرام وزمـزم                      بأم ولي العهد زين المـواسـم

ويعلم من وافى المحصب أنهـا                      ستحمل ثقل الغرم عن كل غارم

بنو هاشم زين البرية كـلـهـا                      وأم ولي العهد زين لـهـاشـم

سليلة أملاك تفرعـت الـذرى                      كرام لأبناء الملـوك الأكـارم

فوالله ما ندري: أفضل حديثهـا                      عليهم به تسمو أم المـتـقـادم

يظن الذي أعطته منهـا رغـيبة                      يقص عليه الناس أحـلام نـائم فأمرت له بعشرة آلاف درهم وفرس، فأعطيه بلا سرج؛ فتلقاها لما رحلت وقال:

لقد سادت زبيدة كـل حـي                      وميت ما خلا الملك الهماما

تقى وسماحة وخلوص مجد                      إذا الأنساب أخلصت الكراما

إذا نزلت منازلهـا قـريش                      نزلت الأنف منها والسنامـا

وأعطيت اللهى لكن طرفي                      يريد السرج منكم واللجامـا فأمرت له بسرج ولجام.

قال ابن أبي سعد: خرج المهدي يتنزه بعيسى باذ ، وقدم النصيب، ومعه ابنته حجناء، فدخل على المهدي، وهي معه، فأنشدته قولها فيه:

رب عـــيش ولـــذة ونــــعـــــــيم                      وبـهـاء بـــمـــشـــرق الـــمـــيدان

بسـط الـلـه فـيه أبـــهـــى بـــســـاط                      من بـــهـــار وزاهـــر الـــحـــوذان

ثم من ناضر من العشب الأخضر يزهو شقائق النعمان

مده الله بالتحاسين حتى                      قصـرت دون طـولـــه الـــعـــينـــان

حقـقـت حـافـتـاه حـيث تـــنـــاهـــى                      بخـيام فـي الـعـين كـالـظـــلـــمـــان

زينـوا وسـطـهـــا بـــطـــارمة مـــث                      ل الـثـريا يحـفـهـــا الـــنـــســـران

ثم حـشـو الـخـيام بــيض كـــأمـــثـــا                      ل الـمـهـا فـي صـرائم الـكــثـــبـــان

يتـجـاوبـن فـي غـــنـــاء شـــجـــي                      أسـعـدانـي يا نـخـلـتـــي حـــلـــوان

فبـقـصـر الـسـلام مـن ســـلـــم ألـــل                      ه وأبـقـى خــلـــيفة الـــرحـــمـــن

ولـديه الـغـزلان بــل هـــن أبـــهـــى                      عنـــده مـــن شـــوادن الـــغـــزلان

يا لـــه مـــنـــظـــرا ويوم ســــرور                      شهـدت لـــذتـــيه كـــل حـــصـــان فأمر لها المهدي بعشرة آلاف درهم، وله بمثلها؛ قال: ثم دخلت الحجناء على العباسة بنت المهدي، فأنشدتها تقول:

أتيناك يا عباسة الخير والـحـيا                      وقد عجفت أدم المهاري وكلت

وما تركت منا السنون بـقـية                      سوى رمة منا من الجهد رمت

فقال لنا من ينصح الرأي نفسه                      وقد ولت الأموال عنا فقلـت

عليك ابنة المهدي عودي ببابها                      فإن محل الخير في حيث حلت فأمرت لها بثلاثة آلاف درهم وكسوة وطيب، فقالت:

أغنيتني يا بنة المهدي أي غنى                      بأعجرين كثير فيهما الورق - أي: اغنيتني على عقب ما أغناني أخوك. بأعجرين: بكيسين -:

من ضرب تسع وتسعين محكـكة                      مثل المصابيح في الظلماء وتأتلق

أما الحسود فقد امسى تغـيظـه                      غما وكاد يرجع الريق يختـنـق

وذو الصداقة مسرور بنـا فـرح                      بادي البشارة ضاح وجهه شرق وقال ابن أبي سعد: كان إسحاق بن الصباح الأشعثي صديقا للنصيب، وقدم قدمة من الحجاز، فدخل على إسحاق؛ وهو يهب لجماعة وردوا عليه برا وتمرا، فيحملونه على إبلهم، فوهب لنصيب جارية حسناء يقال لها: مسرورة، فأردفها خلفه، ومضى وهو يقول:

إذا احتقبوا برا فأنت حـقـيبـتـي                      من البشريات الثقال الـحـقـائب

ظفرت بها من أشعثـي مـهـذب                      أغر طويل الباع جم الـمـواهـب

فدى لك يا إسحاق كـل مـبـخـل                      ضجور إذا عضت شداد النـوائب

إذا ما بخيل القـوم غـيب مـالـه                      فمالك عد حاضـر غـير غـائب

إذا اكتسب القوم الثـراء فـإنـمـا                      ترى الحمد غنما من كريم المكاسب وقال فيه أيضا:

 

صفحة : 2558

 

 

فتى من بني الصباح يهتز للنـدى                      كما اهتز مسنون الغرار عتـيق

فتى لا يذم الضيف والجار رفـده                      ولا يجتويه صـاحـب ورفـيق

أغر لأبناء الـسـبـيل مـوارد                      إلى بيته تـهـديهـم وطـريق

وإن عد أنساب الملوك وجـدتـه                      إلى نسب يعـلـوهـم ويفـوق

فما في بني الصباح إن بعد المدى                      على الناس إلا سابـق وعـريق

وإني لمن شاحنتم لـمـشـاحـن                      وإني لمن صادقتـم لـصـديق قال: وكان النصيب إذا قدم على المهدي استهداه القواد منه، وسألوه أن يأمره بزيارتهم، فكان فيمن استزاره خزيمة بن خازم، فوصله وحمله، وقال فيه:

وجـدتـك يا خـزيمة أريحـيا                      إذا تفاضل يوما معجم الـعـود

إني لواحد شعر قد عرفـت بـه                      وذا خزيمة أضحى واحد الجود

إن يعطك اليوم معروفا بعدك غدا                      فأنت في نائل منه ومـوعـود

وقد رأينا تميما غير مـكـرهة                      ألقت إليك جميعا بالمـقـالـيد

فأنت أكرمها نفسا وأفضـلـهـا                      إن الصناديد أبناء الـصـنـاديد قال: وكان في غزاة سمالو مع المهدي. فوقف به فرسه، ومر به جعد مولى عبد الله بن هشام بن عمرو، وبين يديه فرس يجنب فقال له: قد ترى قيام فرسي تحتي، فاردد إلي جنيبك حتى يتروح فرسي ساعة، فسكت، ولم يجبه فقال فيه:

أنادي بأعلى الصوت جعدا وقد يرى                      مكاني ولكن لا يجـيب ويسـمـع

ولم يرني أهلا لـحـسـن إجـابة                      ولا سوئها إني إلى الـلـه أرجـع

فلو أنني جازيت جعدا بـفـعـلـه                      لقد لاح لي فيه من الشعر موضع

ولكنني جافـيت عـنـه لـغـيره                      بحسن الذي يأتي إلـي ويصـنـع

رأيتك لم تحفـظ قـرابة بـينـنـا                      وما زالت القربى لدى الناس تنفع قال: وسأل عبد الله بن يحيى بن سليمان مركبا، فأعطاه إياه، وجعل معه شريكا له فيه، فقال:

لقد مدحت عبيدا إذ طمعـت بـه                      وقد تملقته لو ينفـع الـمـلـق

فعاد يسأل ما أصبحـت سـائلـه                      فكلنا سائل في الحرص متـفـق

أحين سار مديحي فيكم طـرقـا                      وحيث غنت به الركبان والرفـق

قطعت حبل رجاء كنـت آمـلـه                      فيما لديك فأضحى وهو منحـذق

قد كان أورق عودي من أبيك فقد                      لحيت عودي فجف العود والورق

من نازع الكلب عرقا يرتجى شعبا                      كمصطل بحريق وهو يحتـرق أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: كتب إلي أبو محمد إسحاق بن أبي إبراهيم يقول: أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب:

عند الملوك مضرة ومنـافـع                      وأرى البرامك لا تضر وتنفع

إن العروق إذا استسر بها الثرى                      أشر النبات بها وطاب المزرع

فإذا أنكرت من امرئ أعراقـه                      وقديمه فانظر إلى ما يصنـع قال: فأعجبه الشعر، فقال: يا أبا محمد، كأني والله لم أسمع هذا القول إلا الساعة، وما له عندي عيب إلا أني لم أكافئه عليه. قال: قلت: وكيف ذلك أصلحك الله، وقد وهبت له ثلاثين ألف درهم  فقال: لا والله ما ثلاثون ألف دينار بمكافئة له، فكيف ثلاثون ألف درهم  أخبرني أحمد بن عبد الله بن عمار قال: أخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال: كان أبي يستملح قول نصيب وقد رأى كثرة الشعراء على باب الفضل بن يحيى. فلما دخل الناس إليه قال له:

ما لقينا من جود فضل بن يحيى                      ترك الناس كلهـم شـعـراء ويقول: ما في الدنيا أحسن من هذا المعنى، وعلى أنه قد أخذ منهم مالا جليلا ولكن قلما سمعت بطبقته مثله.

 

طاف الخيال ولات حين تطرب                      أن زار طيف موهنا من زينب

طرقت فنفرت الكرى عن نائم                      كانت وسادته ذراع الأرحبـي

فبكى الشباب وعهده وزمانـه                      بعد المشيب وما بكآء الأشيب عروضه من الكامل، الشعر لأبي شراعة القيسي، والغناء لدعامة البصري خفيف رمل بالبنصر من كتاب الهشامي.

 

 

صفحة : 2559

 

 

أخبار أبي شراعة ونسبه

هو - فيما كتب به إلينا ابنه أبو الفياض سوار بن أبي شراعة من أخباره ونسبه - أحمد بن محمد بن شراعة بن ثعلبة بن محمد بن عمير بن أبي نعيم بن خالد بن عبدة بن مالك بن مرة بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل: شاعر بصري من شعراء الدولة العباسية جيد الشعر جزله، ليس برقيق الطبع، ولا سهل اللفظ، وهو كالبدوي الشعر في مذهبه، وكان فصيحا يتعاطى الرسائل والخطب مع شعره، وكانت به لوثة وهوج.

وأمه من بني تميم من بني العنبر، وابنه أبو الفياض سوار بن أبي شراعة أحد الشعراء الرواة، وقدم علينا بمدينة السلام بعد سنة ثلاثمائة، فكتب عنه أصحابنا قطعا من الأخبار واللغة، وفاتني فلم ألقه، وكتب إلي وإلى أبي - رحمه الله - بإجازة أخباره على يدي بعض إخواننا، فكانت أخبار أبيه من ذلك.

فمنها ما حكاه عنه أنه كان جوادا لا يليق شيئا، ولا يسأل ما يقدر عليه إلا سمع به، وأنه وقف عليه سائل يوما فرمى إليه بنعله وانصرف حافيا، فعثر فدميت إصبعه فقال في ذلك:

ألا لا أبالي في العلا ما أصابـنـي                      وإن نقبت نعلاي أو حفيت رجلـي

فلم تر عيني قط أحسن مـنـظـرا                      من النكب يدمى في المواساة والبذل

ولست أبالي من تأوب مـنـزلـي                      إذا بقيت عندي السراويل أو نعلـي قال: وبلغه أخاه يقول: إن أخي مجنون، قد أفقرنا ونفسه، فقال:

أأنبز مجنونا إذا وجـدت بـالـذي                      ملكت وإن دفعت عنه فعـاقـل

فداموا على الزور الذي قرفوا به                      ودمت على الإعطاء ما جاء سائل

أبيت وتأبى لـي رجـال أشـحة                      على المجد تنميهم تـمـيم ووائل قال: وقال أيضا في ذلك:

أئن كنت في الفتيان آلـوت سـيدا                      كثير شحوب اللون مختلف العصب

فما لك من مولاك إلا حـفـاظـه                      وما المرء إلا باللسان وبالقـلـب

هما الأصغران الذائذان عن الفتـى                      مكارهه والصاحبان على الخطب

فإلا أطق سعي الكـرام فـأنـنـي                      أفك عن العاني وأصبر في الحرب أخبرني عمي قال: أخبرني ميمون بن هارون قال: حدثني إبراهيم بن المدبر قال: كان عندي أبو شراعة بالبصرة، وأنا أتولاها، وكان عندي عمير المغني المدني، وكان عمير بن مرة غطفانيا، وكان يغني صوتا يجيده، واختار عليه هو:

أتحسب ذات الخال راجية ربا                      وقد صدعت قلبا يجن بها حبا فاقترحه أبو شراعة بن عمير، فقال: أعطني دراهم، حتى أقبل اقتراحك، فقال له أبو شراعة: أخذ المغني من الشاعر يدل على ضعف الشاعر، ولكني أعرضك لأبي إسحاق، فغناه إياه ثلاث مرات وقد شرب عليه ثلاثة أرطال، وقال:

عدوت إلى المري عـدوة فـاتـك                      معن خليع للـعـواذل والـعـذر

فقال لشيء ما أرى قلـت: حـاجة                      مغلغلة بين المخنـق والـنـحـر

فلما لواني يسـتـثـيب زجـرتـه                      وقلت: اغترف إنا كلانا على بحر

أليس أبو إسحاق فيه غنـى لـنـا                      فيجدي على قيس وأجدي على بكر

فغنى بذات الخال حتى استخفـنـي                      وكاد أديم الأرض من تحتنا يجري حدثني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني محمد بن يزيد المبرد قال: كان أبو شراعة صديقا لابن المدبر أيام تقلده البصرة، وكان لا يفارقه في سائر أحواله، ولا يمنعه حاجة يسأله إياها، ولا يشفع لأحد إلا شفعه، فلما عزل إبراهيم بن المدبر شيعه الناس، وشيعه أبو شراعة، فجعل يرد الناس، حتى لم يبق غيره، فقال له: يا أبا شراعة غاية كل مودع الفراق، فانصرف راشدا مكلوءا من غير قلى والله ولا ملل، وأمر له بعشرة آلاف درهم، فعانقه أبو شراعة، وبكى؛ فأطال، ثم أنشأ يقول:

يا أبا إسحـاق سـر فـي دعة                      وامض مصحوبا فما منك خلف

ليت شعري أي أرض أجدبـت                      فأغيثت بك من جهد العجـف

نزل الرحم مـن الـلـه بـهـم                      وحرمناك لذنب قـد سـلـف

إنـمـا أنـت ربـيع بـاكـر                      حيثما صرفه الله انـصـرف قال أبو الفياض سوار بن أبي شراعة:

 

صفحة : 2560

 

دخل أبي على إبراهيم بن المدبر وعنده منجم، فماراه إبراهيم بن المدبر في رؤية الهلال لشهر رمضان؛ فحكم المنجم بأنه يرى، وحلف إبراهيم بعتق غلمانه أنه لا يرى، فرئي في تلك الليلة. فأعتق غلمانه، فلما أصبح دخل الناس يهنئونه بالشهر، فأنشده أبو شراعة يقول:

أيها المكثر التجني على المـا                      ل ما خـلا مـن الـسـؤال

أفتنا في الذين أعتقـت بـالأم                      س مواليك أم موالي الهلال?

لم يكن وكدك الهلال ولـكـن                      تنألى لصـالـح الأعـمـال

إنما لذاتك في المال شـتـى                      صونك العرض وابتذال المال

ما نبالي إذا بقيت سـلـيمـا                      من تولت به صروف الليالي قال أبو الفياض: وكان أبو شراعة صديق السدري، فدعا يوما إخوانه، وأغفل أبا شراعة. فمر به الرياشي. فقال: يا أبا شراعة، ألست عند السدري معنا? فقال: لم يدعنا. ومر به جماعة من إخوانه، فسألوه عن مثل ذلك، ومر به عيسى بن أبي حرب الصفار - وكان ممن دعي- فجلس وحلف ألا يبرح حتى يأتيه السدري، فيعتذر إليه، ويدعوه، فقال أبو شراعة:

أير حمار في حرام شـعـري                      وخصيناه في حـرام قـدري

إن أنا أشفعـهـمـا بـوفـر                      لو كنت ذا وفر دعاني السدري

أو كان من هم هشـام أمـري                      أو راح إبراهيم يطري ذكري

وابن الرياشي الضعيف الأسـر                      يخـاف إن أردف ألا يجـري

وأنت يا عيسى سقاك المسـرى                      نعم صديق عـسـرة ويسـر قال أبو الفياض: سقطت دارنا بالبصرة، فعوتب أبي على بنائها، وقيل له، استعن بإخوانك إن عجزت عنه فقال:

تلوم ابنة البكري حين أءوبهـا                      هزيلا وبعض الآئبين سمـين

وقالت: لحاك الله تستحسن العرا                      عن الدار إن النائبات فـنـون

وحولك إخوان كرام لهم غنـى                      فقلت لإخواني: الكرام عـيون

ذريني أمت قبل احتلال محـلة                      لها في وجوه السائلين غضون

سأفدي بمالي ماء وجهي إننـي                      بما فيه من ماء الحياء ضنـين قال سوار بن أبي شراعة: كان إخوان أبي يجتمعون عند الحسين بن أيوب بن جعفر بن سليمان في ليالي شهر رمضان، فيهم الرياشي والجماز، فقال أبي في ذلك:

لو كنت من شيعة الجماز أقعدني                      مقاعدا قربهن الريف والشـرف

لكنني كنت للعبـاس مـتـبـعـا                      وليس في مركب العباس مرتدف

قد بقيت من ليالي الشهر واحـدة                      فعاودوا مالح البقال وانصرفـوا قال: تزوج نديم لأبي شراعة يقال له بيان امرأة، فاتفق عرسه في ليلة طلق فيها أبو شراعة امرأته، فعوتب في ذلك، وقيل: بات بيان عروسا، وبت عزبا، فقال في ذلك:

رأت عرس بيان فهبت تلومـنـي                      رويدك لوما فالمطـلـق أحـوط

رويدك حتى يرجع البـر أهـلـه                      ويرحم رب العرس من حيث يغبط

إذا قال للطحان عنـد حـسـابـه                      أعد نظرا إني أظنـك تـغـلـط

فمـا راعـه إلا دعـاء ولــيدة                      هلم إلى السواق إن كنت تنـشـط

هنالك يدعـو أمـه فـيسـبـهـا                      ويلتبس الأجر العقوق فـيحـبـط

فيا ذا العلا إني لفضلـك شـاكـر                      أبيت وحيدا كلما شـئت أضـرط قال: ثم بلغه عن بيان هذا أنه عجز عن امرأته، ولم يصل إليها، ولقي منها شرا، فقال في ذلك:

رمى الدهر في صحبي وفرق جلاسي                      وباعدهم عني بـظـعـن وإعـراس

فكـلـهـم يبـغـي غـلافـا لأيره                      وأقعدني عن ذاك فقري وإفـلاسـي

فشـكـرا لـربـي خـان بـيان أيره                      وأسعى بأيري في الظلام على الناس

يمسحه بـالـكـف حـتـى يقـيمـه                      وهل ينفع الكفان من ثقـل الـرأس وقال أبو فياض سوار: نظر إلي أبي يوما وقد سألت عمي حاجة فردني، فبكى، ثم قال:

حبي لإغناء سـوار يجـشـمـنـي                      خوض الدجى واعتساف المهمة البيد

كي لا تهون على الأعمام حاجـتـه                      ولا يعلل عنـهـا بـالـمـواعـيد

ولا يولـيهـم إن جـاء يسـألـهـا                      أكتاف معرضة في العيس مردودة

 

صفحة : 2561

 

 

إذا بكى قال منهم ذو الحفاظ له                      لقد بليت بخلق غير محمـود قال: وتمارى أبو شراعة ورجل من أهل بغداد في النبيذ، فجعل البغدادي يذم نبيذ التمر والدبس ، فقال أبو شراعة:

إذا انتخبت حبـه ودبـه                      ثم أجدت ضربه ومرسه

ثم أطلت في الإناء حبسه                      شربت منه البابلي نفسه قال: وأعوز أبا شراعة يومئذ النبيذ، فطلب من نديمين كانا له، فاعتل أحدهما بحلاوة نبيذه، والآخر بحموضته، فاشترى من نباذ يقال له: أبو مظلومة دستيجة بدرهمين، وكتب إليهما:

سيغني عن حلاوة دبس يحيى                      ويغني عن حموض أبي أمية

أبو مظلومة الشيخ المـولـي                      إذا اتزنـت يداه درهـمـيه أخبرني علي بن سليمان قال: حدثنا محمد بن يزيد قال: كان أبو شراعة قبيح الوجه جدا، فنظر يوما في المرآة، فأطال، ثم قال: الحمد لله لا يحمد على الشر غيره.

قال سوار بن أبي شراعة: حلف أبي ألا يشرب نبيذا بطلاق امرأة كانت عنده، فهجر حولين، ثم حنث فشرب، وطلق امرأته وأنشأ يقول:

فمن كان لم يسمع عجيبا فـإنـنـي                      عجيب الحديث يا أميم وصـادقـه

وقد كان لي أنسـان يا أم مـالـك                      وكل إذا فتشتني أنـا عـاشـقـه

عزيزة والكأس التي من يحـلـهـا                      تخادعه عن عقله فـتـصـادقـه

تحاربتا عندي فعـطـلـت دنـهـا                      وأكوابها والدهـر جـم بـوائقـه

ومرمتها حـولـين ثـم أزلـنـي                      حديث الندامى والنشـيد أوافـقـه

فلما شربت الكأس بانت بأخـتـهـا                      فبان الغزال المستحب خـلائقـه

فما أطيب الكأس التي اعتضت منكم                      ولكنها ليسـت بـريم أعـانـقـه قال أبو فياض: قال أبي: قصدت الحسن بن رجاء بالأهواز، فصادفت ببابه دعبل الخزاعي وجماعة من الشعراء، وقد اعتل عليهم بدين لزمه ومصادرة فكتب إليه:

المال والعقل شيء يستعان بـه                      على المقام بأبواب السلاطـين

وأنت تعلم أني منهمـا عـطـل                      إذا تأملتني يا بن الـدهـاقـين

هل تعلم اليوم بالأهواز من رجل                      سواك يصلح للدنـيا ولـلـدين قال: فوعدنا وعدا قربه، ثم تدافع، فكتب إليه:

آذنـت جـبـتــي بـــأمـــر قـــبـــيح                      من فـراق لـلـطـيلـسـان الــفـــســـيح

فكأنني بمن يزيد على الجبة في ظل دار سهل بن نوح

أنت روح الأهواز يا بن رجاء                      أي شـــيء يعـــــيش إلا بـــــــروح فأذن لي وللجماعة، وقضى حوائجنا.

قال أبو فياض وحدثني أبي قال: حججت، فأتيت دار سعيد بن سلم، فنحرت فيها ناقة، وقلت:

وردت دار سعيد وهـي خـالـية                      وكان أبيض مطعاما ذرى الإبـل

فارتحت فيها أصيلا عند ذكرتـه                      وصحبتي بمنى لاهون في شغل

فابتعت من إبل الجمال دهـشـرة                      موسومة لم تكن بالحقة العطـل

نحرتها عن سعيد ثم قلت لـهـم:                      زوروا الحطيم فإنني غير مرتحل قال: وبلغت الأبيات وفعلي ولده، فأحسنوا المكافأة، وأجزلوا الصلة؛ قال: فقال له صديق له: وأنت أيضا قد استجدت لهم النحيرة فضحك، ثم قال: أغرك وصفي لها? أشهد الله أني ما بلغت دار سعيد إلا بين عمودين.

وقال أبو فياض: كان أبو أمامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم - وأمه سعدى بنت عمرو بن سعيد بن سلم - صديقا لأبي شراعة، وكانت أمه سعدى تعوله، فكان أبو شراعة لا يزال يعبث به، وبلغه أن أبا أمامة يقول: إنما معاش أبي شراعة من السلطان ورفده، ولولا ذلك لكان فقيرا؛ فقال فيه:

عيرتني نائل السلطـان أطـلـبـه                      يا ضل رأيك بين الخرق والنـزق

لولا امتنان من السلطان تجهـلـه                      أصبحت بالسود في مقعوعس خلق - السود: موضع تنزله باهلة بالبادية -:

رث الردا بين أهدام مـرقـعة                      يبيت فيها بليل الجائع الـفـرق

لا شيء أثبت بالإنسان معـرفة                      من التي حزمت جنبيه بالخرق

فأين دارك منها وهي مـؤمـنة                      بالله معروفة الإسلام والشفـق

وأين رزقك إلا مـن يدي مـرة                      ما بت من مالها إلا على سرق

 

صفحة : 2562

 

 

تبيت والهر ممدودا عيونكـمـا                      إلى تطعمها مخضرة الحـدق

ما بين رزقكما إن قاس ذو فطن                      فرق سوى أنه يأتيك في طبق

شاركه في صيده للفأر تأكـلـه                      كما تشاركه في الوجه والخلق قال أبو الفياض: وزارة أبو أمامة يوما فوجد عنده طفشيلا فأكله كله، فقال أبو شراعة يمازحه:

عين جودي لبرمة الطفشـيل                      واستهلي فالصبر غير جميل

فجعتني بها يد لم تـدع لـلـذ                      ر في صحن قدرها من مقيل

كان والله لحمها من فـصـيل                      راتع يرتعي كريم البـقـول

فخلطنا بلحمه عـدس الـشـا                      م إلى حمص لنا مـبـلـول

فأتتنا كأنها روضة بـالـحـز                      ن تدعو الجيران للتطـفـيل

ثم أكفأت فوقها جفنة الحـي                      وعلقت صحفتي في زبـيل

فمنى الله لي بفـظ غـلـيظ                      ما أراه يقر بـالـتـنـزيل

فانتحى دائبا يدبـل مـنـهـا                      قلت: إن الثريد للـتـدبـيل

فتغنى صوتا ليوضح عـنـدي                      حي أم العلاء قبل الرحـيل أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني سوار بن أبي شراعة قال: كتب أبي إلى سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذا، فكتب إليه سعيد: إذا سألتني - جعلني الله فداءك - حاجة فاشطط، واحتكم فيها حكم الصبي عن أهله، فإن ذلك يسرني، وأسارع إلى إجابتك فيه. وأمر له بما التمس من النبيذ، فمزجه صاحب شرابه، وبعث به إليه. فكتب إليه أبو شراعة: أستنسئ الله أجلك، وأستعيذه من الآفات لك، وأستعينه على شكر ما وهب من النعمة فيك، إنه لذلك ولي، وبه ملي. أتلقى غلامك المليح قده، السعيد بملكك جده بكتاب قرأته غير مستكره اللفظ، ولا مزور عن القصد، ينطق بحكمتك، ويبين عن فضلك، فوالله ما أوضح لي خفيا، ولا رادني بك علما، وإذا أنت تسأل فيه أن تهب، وتحب أن تحمد، ولا غرو أن تفعل ذلك، ومن كتب أخذته، لا عن كلالة ورثته، موسى أبوك، وسعيد جدك، وعمرو عمك، ولك دار الصلة، ودار الضيافة، وصاحب البغلة الشهباء وحصين بن الحمام وعروة بن الورد، ففي أي غلوات المجد يطمع قرينك أن يستولى على المدى، والأمد دونك. وكتابك إلي أن أتحكم عليك تحكم الصبي على أهله، فلشد ما جررت إلي معروفك، ودللت على الأنس بك، وحاشى للمحكوم له والمحكوم عليه في ذات الحسب العتيق، والمنظر الأنيق الذي يسر القلب، ويلائم الروح، ويطرد الهم:

تدب خلال شؤون الفـتـى                      دبيب دبى النملة المنتعـش

إذا فتحت فقمـت ريحـهـا                      وإن سيل خمارها قال: خش - خش: كلمة فارسية تفسيرها: طيب -.

فإن كنت رعيت لها عهدا، وحفظت لها عندك يدا، فانظر رب الحانوت فامطله دينه، واقطع السبب بينك وبينه، فقد أساء صحبتها، وأفسد بالماء حسها، وسلط عليها عدوها، واعلم بأن أباك المتمثل بقوله:

يرى درجات المجد لا يستطيعها                      فيقعد وسط القوم لا يتـكـلـم وقد بسطت قدرتك لسانك، وأكثرت لك الحمد، فدونك نهزة البديهة منه:

وبادر بمعروف إذا كنت قـادرا                      زوال افتقار أو غنى عنك يعقب وقد بعثت إليه بقرابة مع الرسول، وأنشأت في أثرها أقول:

إليك ابن موسى الجود أعملت ناقتي                      مجللة يضفو عليهـا جـلالـهـا

كتوم الوحي لا تشتكي ألم السـرى                      سواء عليها موتها واعتـلالـهـا

إذا شربت أبصرت ما جوف بطنها                      وإن ظمئت لم يبد منها هزالـهـا

وإن حملت حملا تكلفت حملـهـا                      وإن حط عنها لم أقل كيف حالها?

بعثنا بها تسمو الـعـيون وراءهـا                      إليك وما يخشى عليها كـلالـهـا

وغنى مغنيا بصوت فـشـافـنـي                      متى راجع من أم عمرو خيالهـا

أحب لكم قيس بن عيلان كـلـهـا                      ويعجبني فرسانهـا ورجـالـهـا

ومالي لا أهـوى بـقـاء قـبـيلة                      أبوك لها بدر وأنـت هـلالـهـا قال: فبعث إليه برسوله الذي حمل إليه النبيذ، واستملحه في شعره، وبصاحب شرابه، وكل ما كان في خزانته من الشراب وبثلاثمائة دينار.

أخبرني الأخفش عن المبرد وسوار بن أبي شراعة جميعا:

 

صفحة : 2563

 

أن أبا الفياض سوار بن أبي شراعة كان يهوى قينة بالبصرة يقال لها: مليحة، فدعيت ذات يوم إلى مجلس لم يكن حاضره، وحضر أبو علي البصير ذلك المجلس، فجشمها بعض من حضر، فلم تلتفت إليه، وعرف أبو علي ذلك فكتب إلى أبي الفياض:

لك عـنـدي بـشـارة فـاسـتـمــعـــهـــا                      وأجـبـنـي عـنـهــا أبـــا الـــفـــياض

كنـت فـي مـجـلــس مـــلـــيحة فـــيه                      وهـي سـقـم الـصـحـاح بـرء الـمـــراض

وقديما عهدتني لست في حقك والذب عنك ذا إغماض

فتغفلتها تغفل خصم                      وتـأمـلـتـــهـــا تـــأمـــل قـــاض

ورمـتـهـا الـعـيون مـــن كـــل أفـــق                      وتـشـاكـوا بــالـــوحـــي والإيمـــاض

من كـهـــول وســـادة ســـمـــحـــاء                      بالـلـهـا بـاخـــلـــين بـــالأعـــواض

وصـفـات الـقـيان أولـــهـــا الـــغـــد                      رعـلـيه فـي وصـلـهـن الـتـــراضـــي

فتـشـوفــت ذاك مـــنـــهـــا وأعـــدد                      ت نـكـيري وسـورتـي وامـتـعـــاضـــي

فحمت جانب المزاح وعمتهم جميعا بالصد والإعراض

وكفاني وفاؤها لك حتى                      آذن الـلـيل جـمـعـهـم بـار فـــضـــاض فأجابه أبو الفياض:

ليت شـــعـــري مـــاذا دعـــاك إلــــى أن                      هجـت شـوقــي وزدت فـــي إمـــراضـــي?

ذكـرتـــنـــي بـــشـــراك داء قـــديمـــا                      من سـقـام عــلـــي لا شـــك قـــاضـــي

إن تكن أحسنت مليحة في وصلي وعاصت رياضة الرواض

وأقامت على الوفاء ولم تر                      ع لـــوحـــي مـــنـــهـــم ولا إيمـــاض

فعـلـى صــحة الـــوفـــاء تـــعـــاقـــد                      نا وصـــون الـــنـــفـــوس والأعــــراض

وعـلـينــا مـــن الـــعـــفـــاف ثـــياب                      هن أبـهـــى مـــن حـــالـــيات الـــرياض

ليس حـظـي مـنـهـا سـوى الـنـظـر الــخـــت                      ل وإنـــي بـــه لـــــجـــــــذلان راض

لحـظـات يقـعــن فـــي ســـاحة الـــقـــل                      ب وقـوع الــســـهـــام فـــي الأغـــراض

وابـتـسـام كـالـبـــرق أو هـــو أخـــفـــى                      بين سـتـري تـــحـــرز وانـــقـــبـــاض

لا أخـاف انـتـقــاضـــهـــا آخـــر الـــده                      ر بـغـدر ولا تـخــاف انـــتـــقـــاضـــي

فأبـن لــي ألـــســـت تـــحـــمـــد ذا ال                      ود وقـــاك الـــردى أبـــو الـــفــــياض? قال أبو الفياض: اتصل بأبي شراعة أن أبا ناظرة السدوسي يغتابه، وكان مع آل أبي سفيان بن ثور فقال يهجوهم:

لعن الإله بني سدوس كلهـم                      ورمى بمنجوف ورية قاف

قد سبني غضروطهم فسببتهم                      ذنب الدنيء يناط بالأشراف قال أبو الفياض: وكان بين بعض بني عمنا وبين أبي شراعة وحشة، ثم صالحوه، ودعوه إلى طعامهم، فأبى، وقال: أمثلي يخرج من صوم إلى طعم، ومن شتيمة إلى وليمة: ومالي ولكم مثل إلا قول المتلمس:

فإن تقبلوا بالود نقبل بمثله                      وإلا فإنا نحن آبى وأشمس وقال فيهم:

بني سوار إن رثـت ثـيابـي                      وكل عن العشيرة فضل مالي

فمطرح ومتـروك كـلامـي                      وتجفوني الأقارب والموالـي

ألم أك من سراة بنـي نـعـيم                      أحل البيت ذا العمد الطـوال

وحولي كل أصيد تغـلـبـي                      أبي الضيم مشترك الـنـوال

إذا حضر الغداء فغير مـغـن                      ويغني حين تشتجر العوالـي

وأبقوني فلست بمسـتـكـين                      لصاحب ثروة أخرى الليالـي

ولا بممسح المثـرين كـيمـا                      أمسح من طعامهم سبـالـي

أنا ابن العنـبـرية أزرتـنـي                      إزار المكرمات إزار خالـي

فإن يكن الغنى مجدا فـإنـي                      سأدعو الله بالرزق الـحـلال

إذا أبصرتك العين من بعد غاية                      وأوقعت شكا فيك أثبتك القلب

ولو أن ركبا يمموك لقـادهـم                      نسيمك حتى يستدل بك الركب الشعر لعبد الله بن محمد بن البواب، والغناء لأحمد بن صدقة الطنبوري، رمل مطلق في مجرى البنصر رواية الهشامي.

 

أخبار ابن البواب

هو عبد الله بن محمد بن عتاب بن إسحاق، من أهالي بخارى وجه بجده وجماعته معه رهينة إلى الحجاج بن يوسف، فنزلوا عنده بواسط، فأقطعهم سكة بها، فاختطوا ونزلوها طول أيام بني أمية، ثم انقطعوا من الدولة العباسية إلى الربيع، فخدموه.

 

 

صفحة : 2564

 

وكان عبد الله بن محمد هذا يخلف الفضل بن الربيع على حجبة الخلفاء، وكان أبوه محمد بن عتاب يخلف الربيع في أيام أبي جعفر، وكان معه فرآه أبو جعفر مع أبيه، فسأل عنه فأخبره، فكساه قباء خز، وكساه تحته قباء كتان مرقوع القب، وقال له: هذا يخفى تحت ذاك.

ذكر لي ذلك أحمد بن القاسم بن يوسف عن محمد بن عبد الله بن محمد البواب عن أبيه.

وكان عبد الله صالح الشعر قليله، وراوية لأخبار الخلفاء عالما بأمورهم، روى عنه أبو زيد عمر بن شبة ونظراؤه، وقد مضت في هذا الكتاب وتأتي أخبار من روايته.

قال أحمد بن القاسم اليوسفي: حدثني محمد بن عبد الله البواب قال: حدثني أبي قال: حجبت موسى وهارون خليفة للفضل بن الربيع.

وخدم محمدا الأمين فأغناه وأعطاه ومدحه، ونال من المأمون وعرض به، فأخبرني إسماعيل بن يوسف قال: حدثني عبد الله بن أحمد الباهلي قال: حدثني الحسين بن الضحاك قال: لما أتي المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه:

أيبخل فرد الحسن فرد صفاته                      علي وقد أفردته بهوى فرد

رأى الله عبد الله خير عبـاده                      فملكه والله أعلم بالـعـبـد

ألا إنما المأمون للناس عصمة                      مميزة بين الضلالة والرشد - لعلويه في هذه الأبيات رمل بالوسطى -.

قال: فقال المأمون: أليس هو القائل:

أعيني جودا وابكيا لي محـمـدا                      ولا تدخرا دمعا عليه وأسـعـدا

فلا فرح المأمون بالملك بـعـده                      ولا زال في الدنيا طريدا مشردا هيهات، وواحدة بواحدة ولم يصله بشيء.

هكذا روى عن الحسين بن الضحاك. وقد روى أن هذين الشعرين جميعا للحسين، وأن قول المأمون هذا بعينه فيه.

وقال أحمد بن القاسم حدثني جزء بن قطن. وأخبرني بهذا الخبر الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق، قالا جميعا: وقع بين إسحاق وبين ابن البواب شر فقال ابن البواب شعرا ذميما رديئا، ونسبه إلى إسحاق وأشاعه ليعيره به وهو:

إنما أنت يا عنـان سـراج                      زيته الظرف والفتيلة عقل

قاده للشقاء مـنـي فـؤادي                      رجل حب لكم وللحب رجل

هضم اليوم حبكم كل حـب                      في فؤادي فصار حبك فجل

أنت ريحانة وراح ولـكـن                      كل أنثى سواك خل وبقـل وقال حماد في خبره وبلغ ذلك أبي فقال له:

الشعر قد أعيا عليك فـخـلـه                      وحذ العصا واقعد على الأبواب فجاء ابن البواب إلى إبراهيم جدي فشكا أبي إليه فقال له: مالك وله يا بني? فقال له أبي: تعرض لي فأجبته، وإن كف لم أرجع إلى مساءته. فتتاركا.

قال أحمد بن القاسم: أخبرني محمد بن الحسن بن الفضل قال: أخبرني: إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحيم قال: كان بالكرخ نخاس يكنى له أبا عمير، وكان له جوار قيان لهن ظرف وأدب، وكان عبد الله بن محمد البواب يألف جارية منهن يقال لها: عبادة، ويكثر غشيان منزل أبي عمير من أجلها، فضاق ضيقة شديدة، فانقطع عن ذلك، وكره أن يقصر عما كان يستعمله من برهم فتعلم بضيقته، ثم نازعته نفسه إلى لقائها وزيارتها، وصعب عليه الصبر عنها، فأتاه فأصاب في منزله جماعة ممن كان يألف جواريه، فرحب به أبو عمير والجارية والقوم جميعا، واستبطئوا زيارته، وعاتبوه على تأخره عنهم، فجعل يجمجم في عذره، ولا يصرح، فأقام عندهم، فلما أخذ فيه النبيذ أنشأ يقول:

لو تشكى أبو عمير قليلا                      لأتيناه من طريق العياده

فقضينا من العيادة حقـا                      ونظرنا في مقلتي عباده فقال له أبو عمير: مالي ولك يا أخي? انظر في مقلتي عبادة متى شئت غير ممنوع، ودعني أنا في عافية، ولا تتمن لي المرض لتعودني.

وقال أحمد بن القاسم: كان عبد الله بن إسماعيل بن علي بن ريطة يألف ابن البواب ويعاشره، فشرب عنده يوما حتى سكر ونام، فلما أفاق في السحر أراد الانصراف، فحلف عليه واحتبسه، وكان عبد الله يهوى جارية له من جواري عمرو بن بانة، فبعث إلى عمرو بن بانة فدعاه وسأله إحضار الجارية، فأحضرها، وانتبه عبد الله بن إسماعيل من نومه، وهو يتململ خمارا. فلما رآها نشط، وجلس فشرب، وتمموا يومهم، فقال عبد الله بن محمد بن البواب في ذلك:

 

صفحة : 2565

 

 

وكريم المجد مـحـض أبـوه                      فهو الصفو اللباب النـضـار

هاشـمـي لـقـروم إذا مـا                      أظلمت أوجـه قـوم أنـاروا

رمت القهوة بالنـوم وهـنـا                      عينه فالجفن فيه انـكـسـار

فهو من طرف يفديك طـورا                      ويعاطيك الـلـواتـي أداروا

ساعة ثم انثنـى حـين دبـت                      ومشت فيه السلاف العقـار

وأبت عيني اغتماضا فـلـمـا                      حان من أخرى النجوم انحدار

قلت: عبد الله حـاذرت أمـرا                      ليس يغني خائفـيه الـحـذار

فاستوى كالهـنـدوائي لـمـا                      أن رأى أن ليس يغني الفرار

قلت: خذها مثل مصباح لـيل                      طيرت في حافتيه الـشـرار

أقبلت قطرا نطـافـا ولـمـا                      يتعب العاصر منها اعتصـار

هي كالياقوت حمراء شيبـت                      وعلا الحمرة منها اصفـرار

كالدنانير جـرى فـي ذراهـا                      فضة فالحسن منها قـصـار

تنطق الخرس وبالصمت ترمي                      معشرا نطقا إذا مـا أحـاروا قال أحمد: وحدثني يعقوب بن العباس الهاشمي أبو إسماعيل النقيب قال: لما طال سخط المأمون على ابن البواب قال قصيدة يمدحه بها، ودس من غناه في بعضها، لما وجد منه نشاطا. فسأل من قائلها? فأخبر به فرضي عنه، ورده إلى رسمه من الخدمة، وأنشدني أبو إسماعيل القصيدة، وهي قوله:

هل للمحب مـعـين                      إذ شط عنه القرين

فليس يبكي لشجو ال                      حزين إلا الحـزين

يا ظاعنا غاب عنـا                      غداة بان القـطـين

أبكى العيون وكانـت                      به تقـر الـعـيون

يا أيها المأمـون ال                      مبارك المـيمـون

لقد صفت بـك دنـيا                      للمسـلـمـين ودين

عليك نـور جـلال                      ونور ملك مـبـين

القول منك فـعـال                      والظن منـك يقـين

ما من يديك شمـال                      كلـتـا يديك يمـين

كأنما أنت في الجـو                      د والتقـى هـارون

من نال من كل فضل                      ما ناله المـأمـون

تالف النـاس مـنـه                      فضل وجود ولـين

كالبدر يبدو عـلـيه                      سكـينة وسـكـون

فالرزق من راحتـيه                      مقسم مـضـمـون

وكل خصلة فضـل                      كانت، فمنه تكـون والأبيات التي فيها الغناء المذكور آنفا أربعة أبيات، أنشدنيها الأخفش وهي قوله:

أفق أيها القلب المعذب كم تـصـبـو                      فلا النأي عن سلماك يسلي ولا القرب

أقول غداة استخبرت مـم عـلـتـي                      من الحب كرب ليس يشبهـه كـرب

إذا أبصرتك العين من بـعـد غـاية                      فأدخلت شكا فيك أثبتـك الـقـلـب

ولو أن ركبا يممـلـوك لـقـادهـم                      نسيمك حتى يستـدل بـك الـركـب فقال الأخفش مثل هذا البيت الأخير قول الشاعر:

واستودعت نشرها الديار فما                      تزداد طيبا إلا على القـدم أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق: قال: رأيت محمد بن عبد الله البواب وقد جاء إلى أبي مسلما فاحتبسه، ورأيته وهو شيخ كبير، وكان ضخما طويلا عظيم الساقين كأنهما دنان، وكان يشد في ساقيه خرزا أسود لئلا تصيبهما العين.

وقال محمد بن القاسم: أملق عبد الله بن محمد البواب حين جفاه الخليفة، وعلت سنه عن الخدمة، فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى، ومدحه بقصيدة، فوهب له ثلاثين ألف درهم، وعاد بها إلى بغداد، فما نفدت حتى مات وهي قوله:

طرقتك صائدة القلوب ربـاب                      ونأت فليس لها إلـيك مـآب

وتصرمت منها العهود وغلقت                      من دون نيل طلابها الأبواب

فلأصدفن عن الهوى وطلابه                      فالحب فيه بـلـية وعـذاب

وأخص بالمدح المهذب سـيدا                      نفحاته للمجـتـدين رغـاب

وإلى أبي دلف رحلت مطيتي                      قد شفها الإرقال والإتعـاب

تعلو بنا قلل الجبال ودونـهـا                      مما هوت أهوية وشـعـاب

فإذا حللت لدى الأمير بأرضه                      نلت المنى وتقضـت الآراب

 

صفحة : 2566

 

 

ملك تأثـل عـن أبـيه وجـده                      مجدا يقصر دونه الـطـلاب

وإذا وزنت قديم ذي حسب بـه                      خضعت لفضل قديمه الأحساب

قوم علوا أملاك كـل قـبـيلة                      فالناس كلهـم لـهـم أذنـاب

ضربت عليه المكرمات قبابهـا                      فعلا العمود وطالت الأطنـاب

عقم النساء بمثله وتعـطـلـت                      من أن تضمن مثله الأصـلاب

صغـير هـواك عـذبـنــي                      فكـيف بـه إذا احـتـنـكـا

وأنت جمعـت مـن قـلـبـي                      هوى قد كـان مـشـتـركـا

وحبـس هـواك يقـتـلـنـي                      وقـتـلـي لا يحـل لـكــا

أمـا تـرثـي لـمـكـتـئب                      إذا ضحك الخـلـي بـكـى الشعر لمحمد بن عبد الملك الزيات والغناء لأبي حشيشة رمل بالوسطى عن الهشامي.

 

أخبار محمد بن عبد الملك الزيات ونسبه

هو محمد بن عبد الملك الزيات بن أبان بن أبي حمزة الزيات، وأصله من جبل ويكنى أبا جعفر، وكان أبوه تاجرا من تجار الكرخ المياسير، فكان يحثه على التجارة وملازمتها، فيأبى إلا الكتابة وطلبها، وقصد المعالي، حتى بلغ منها أن وزر ثلاث دفعات، وهو أول من تولى ذلك وتم له.

أخبرني الأخفش علي بن سليمان قال: حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال: كان جدي موسرأ من تجار الكرخ، وكان يريد من أبي أن يتعلق بالتجارة، ويتشاغل بها، فيمتنع من ذلك ويلزم الأدب وطلبه، ويخالط الكتاب، ويلازم الدواوين، فقال له ذات يوم: والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك؛ وليضرنك؛ لأنك تدع عاجل المنفعة، وما أنت فيه مكفي، ولك ولأبيك فيه مال وجاه، وتطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه، فقال: والله لتعلمن أينا ينتفع بما هو فيه؛ أ أنا أم أنت? ثم شخص إلى الحسن بن سهل بفم الصلح ، فامتدحه بقصيدته التي أولها:

كأنها حين تنـاءى خـطـوهـا                      أخنس موشي الشوى يرعى القلل فأعطاه عشرة آلاف درهم، فعاد بها إلى أبيه، فقال له أبوه: لا ألومك بعدها. على ما أنت فيه.

أخبرني جحظة والصولي، قالا: حدثنا ميمون بن هارون: قال: لما مدح محمد بن عبد الملك الحسن بن سهل، ووصله بعشرة آلاف درهم مثل بين يديه وقال له:

لم امتدحك رجاء المـال أطـلـبـه                      لكن لتلبسني التحجـيل والـغـررا

ولـيس ذلـك إلا أنـنـي رجــل                      لا أطلب الورد حتى أعرف الصدرا وكان محمد بن عبد الملك شاعرا مجيدا، لا يقاس به أحد من الكتاب، وإن كان إبراهيم بن العباس مثله في ذلك، فإن إبراهيم مقل وصاحب قصار ومقطعات، وكان محمد شاعرا يطيل فيجيد، ويأتي بالقصار فيجيد، وكان بليغا حسن اللفظ إذا تكلم وإذا كتب.

فحدثني عمي رحمه الله قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال: جلس أبي يوما للمظالم، فلما انقضى المجلس رأى رجلا جالسا، فقال له: ألك حاجة? قال: نعم تدنيني إليك؛ فإني مظلوم. فأدناه، فقال: إني مظلوم، وقد أعوزني الإنصاف، قال: ومن ظلمك? قال: أنت، ولست أصل إليك؛ فأذكر حاجتي? قال: ومن يحجبك عني وقد ترى مجلسي مبذولا? قال: يحجبني عنك هيبتي لك وطول لسانك؛ وفصاحتك، واطراد حجتك، قال: ففيم ظلمتك? قال: ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن، فإذا وجب عليها خراج أديته باسمي لئلا يثبت لم اسم بملكها، فيبطل ملكي، فوكيلك يأخذ غلتها، وأنا أؤدي خراجها، وهذا مما لم يسمع في الظلم مثله، فقال محمد: هذا قول تحتاج عليه إلى بينة وشهود وأشياء، فقال له الرجل: أيؤمنني الوزير من غضبه، حتى أجيب? قال: قد أمنتك، قال: البينة هم الشهود، وإذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شيء، فما معنى قولك: بينة وشهود وأشياء، أيش هذه الأشياء إلا العي والحصر والتغطرس ? فضحك، وقال: صدقت، والبلاء موكل بالمنطق، وإني لأرى فيك مصطنعا، ثم وقع له برد ضيعته وبأن يطلق له كر حنطة وكر شعير ومائة دينار يستعين بها على عمارة ضيعته، وصيره من أصحابه، واصطنعه.

أخبرني الصولي: قال: حدثني أحمد بن محمد الطالقاني قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك قال:

 

صفحة : 2567

 

لما وثب إبراهيم بن المهدي على الخلافة، اقترض من مياسير التجار مالا، فأخذ من جدي عبد الملك عشرة آلاف درهم ، وقال له: أنا أردها إذا جاءني مال، ولم يتم أمره فاستخفى، ثم ظهر ورضي عنه المأمون، فطالبه الناس بأموالهم، فقال: إنما أخذتها للمسلمين، وأردت قضاءها من فيئهم، والأمر الآن إلى غيري، فعمل أبي محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون، ومضى بها إلى إبراهيم بن المهدي، فأقرأه إياها وقال: والله لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلن هذه القصيدة إلى المأمون، فخاف أن يقرأها المأمون، فيتدبر ما قاله، فيوقع به، فقال له: خذ مني بعض المال، ونجم علي بضعه، ففعل أبي ذلك بعد أن حلفه إبراهيم بأوكد الإيمان ألا يظهر القصيدة في حياة المأمون، فوفى أبي له بذلك، ووفى إبراهيم بأداء المال كله.

والقصيدة قوله:

ألم تر أن الشيء لـلـشـيء عـلة                      تكون له كالنار تقـدح بـالـزنـد

كذلك جـربـت الأمـور وإنـمـا                      يدلك ما قد كان قبل على الـبـعـد

وظني بـإبـراهـيم أن مـكـانـه                      سيبعث يوما مثل أيامـه الـنـكـد

رأيت حسينا حين صـار مـحـمـد                      بغير أمـان فـي يديه ولا عـقـد

فلو كان أمضى السيف فيه بضـربة                      فصيره بالقاع منـعـفـر الـخـد

إذا لم تكن للـجـنـد فـيه بـقـية                      فقد كان ما خبرت من خبر الجنـد

هم قتلوه بـعـد أن قـتـلـوا لـه                      ثلاثين ألفا من كهول ومـن مـرد

وما نصروه عن يد سـلـفـت لـه                      ولا قتلوه يوم ذلـك عـن حـقـد

ولكنه الغدر الـصـراح وخـفة ال                      حلوم وبعد الرأي عن سنن القصـد

فذلك يوم كان لـلـنـاس عـبـرة                      سيبقى بقاء الوحي في الحجر الصلد

وما يوم إبراهيم إن طـال عـمـره                      بأبعد في المكروه من يومه عنـدي

تذكر أمير المؤمـنـين مـقـامـه                      وأيمانه في الهزل منه وفي الجـد

أما والذي أمسيت عـبـدا خـلـيفة                      له شر أيمان الخلـيفة والـعـبـد

إذا هز أعواد المنـابـر بـاسـتـه                      تغنى بليلـى أو بـمـية أو هـنـد

فوالله ما من تـوبة نـزعـت بـه                      إلـيك ولا مـيل إلـــيك ولا ود

ولكن إخلاص الضمـير مـقـرب                      إلى الله زلفى ى تخيب ولا تكـدي

أتاك بها طـوعـا إلـيك بـأنـفـه                      على رغمه واستأثر الله بالحـمـد

فلا تتركن للناس موضـع شـبـهة                      فإنك مجزي بحسب الذي تـسـدي

فقد غلطوا للناس في نصب مثـلـه                      ومن ليس للمنصور بابن ولا المهدي

فكيف بمن قد بايع الناس والتـقـت                      ببيعته الركبان غورا إلـى نـجـد

ومن سك تسليم الخلافة سـمـعـه                      ينادى به بين السماطين من بـعـد

وأي امرئ سمى بها قط نـفـسـه                      ففارقها حتى يغيب في الـلـحـد

وتزعـم هـذي الـنـابـتـية أنـه                      إمام لها فيما تسـر ومـا تـبـدي

يقـولـون سـنـي وأية ســـنة                      تقوم بجون اللون صعل القفا جعـد

وقد جعل رخص الطعام بـعـهـده                      زعيما له باليمن والكوكب السـعـد

إذا ما رأوا يومـا غـلاء رأيتـهـم                      يحنون تحنانا إلى ذلـك الـعـهـد

وإقباله في العـيد يوجـف حـولـه                      وجيف الجياد واصطفاق القنا الجرد

ورجالة يمشون بالبـيض قـبـلـه                      وقد تبعوه بالقضـيب وبـالـبـرد

فإن قلت قد رام الـخـلافة غـيره                      فلم يؤت فيما كان حاول مـن جـد

فلم أجزه إذ خـيب الـلـه سـعـيه                      على خطإ إذ كان منه ولا عـمـد

ولم أرض بعد العفو حتى رفعـتـه                      وللعم أولى بالتـعـهـد والـرفـد

فليس سواء خـارجـي رمـى بـه                      إليك سفاه الرأي والرأي قـد يردى

تعاوت له من كـل أوب عـصـابة                      متى يوردوا لا يصدروه عن الورد

 

صفحة : 2568

 

 

ومن هو في بيت الخلافة تلـتـقـي                      به وبك الآباء فـي ذروة الـمـجـد

فمولاك مـولاه وجـنـدك جـنـده                      وهل يجمع القين الحسامين في غمد?

وقد رابني من أهل بـيتـك أنـنـي                      رأيت لهـم وجـدا بـه أيمـا وجـد

يقولون لا تبعـد مـن ابـن مـلـمة                      صبور عليها النفس ذي مرة جـلـد

فدانا وهانت نفسـه دون مـلـكـنـا                      عليه لذي الحال التي قل من يفـدي

على حين أعطى الناس صفق أكفهـم                      علي بن موسى بالولاية والـعـهـد

فما كان فينا من أبى الضـيم غـيره                      كريم كفى ما في القبول وفي الـرد

وجرد إبراهيم للـمـوت نـفـسـه                      وأبدى سلاحا فوق ذي ميعة نـهـد

وأبلى ومن يبلغ من الأمـر جـهـده                      فليس بمذمـوم وإن كـان لـم يجـد

فهذي أمور قد يخاف ذوو الـنـهـى                      مغبتها والـلـه يهـديك لـلـرشـد أخبرني الصولي، قال: حدثني عبد الله بن الحسين القطربلي، عن جعفر بن محمد بن خلف قال: قال لي المعلى بن أيوب: كيف كان محل يحيى بن خاقان عند محمد بن عبد الملك ومقداره? فقلت له: سمعت محمدا يذكره، فقال: هو مهزول الألفاظ، عليل المعاني سخيف العقل، ضعيف العقدة ، واهي العزم مأفون الرأي.

قال عبد الله: ولما تولى محمد بن عبد الملك الوزارة، اشترط ألا يلبس القباء، وأن يلبس الدراعة ويتقلد عليها سيفا بحمائل، فأجيب ذلك.

أخبرني الصولي: قال: حدثني أبو ذكوان، قال: حدثني طماس، قال ميمون بن هارون: كان محمد بن عبد الملك يقول: الرحمة خور في الطبيعة، وضعف في المنة، ما رحمت شيئا قط. فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول، فلما وضع في الثقل والحديد قال: ارحموني، فقالوا له: وهل رحمت شيئا قط فترحم هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها.

أخبرني الصولي: قال: حدثني أبو ذكوان، قال: حدثني طماس، قال: جاء أبو دنقش الحاجب إلى محمد بن عبد الملك برسالة من المعتصم ليحضر، فدخل ليلبس ثيابه، ورأى ابن دنقش الحاجب غلمانا لهم روقة فقال: وهو يظن أنه لا يسمع:

وعلى اللواط فلا تلومن كاتبا                      إن اللواط سجية الكـتـاب فقال محمد له:

وكما اللواط سجية الكتـاب                      فكذا الحلاق سجية الحجاب فاستحيا ابن دنقش، واعتذر إليه، فقال له: إنما يقع العذر لو لم يقع الاقتصاص فأما وقد كافأتك فلا.

أخبرني الصولي، قال: حدثني محمد بن موسى، قال: أنشدني الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك أبياتا، يرثي بها سكرانة أم ابنه عمر، وجعل الحسن يتعجب من جودتها، ويقول:

يقول لي الخلان لو زرت قبرها                      فقلت: وهل غير الفؤاد لها قبر

على حين لم أحدث فأجهل قدرها                      ولم أبلغ السن التي معها الصبر أخبرني محمد بن خلف وكيع قال: حدثني عبد الرحمن بن سعيد الأزرقي، قال: استبطأ عبد الله بن طاهر محمد بن عبد الملك في بعض أموره، واتهمه بعدوله عن شيء أراده إلى سواه، فكتب إليه محمد بن عبد الملك يعتذر من ذلك، وكتب في آخر كتابه يقول:

أتزعم أنني أهوى خلـيلا                      سواك على التداني والبعاد

جحدت إذا موالاتي علـيا                      وقلت بأنني مولـى زياد قرأت في بعض الكتب: كان عبد الله بن الحسن الأصبهاني يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل، فكتب إلى خالد بن يزيد بن مزيد: إن المعتصم أمير المؤمنين ينفخ منك في غير فحم، ويخاطب أمرا غير ذي فهم، فقال محمد بن عبد الملك: هذا كلام ساقط سخيف؛ جعل أمير المؤمنين ينفخ بالزق كأنه حداد، وأبطل الكتاب ثم كتب محمد بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر: وأنت تجري أمرك على الأربح فالأربح، والأرجح فالأرجح، تسعى بنقصان، ولا تميل برجحان، فقال عبد الله الأصبهاني: الحمد لله، قد أظهر من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السلع، ورجحان الميزان، ونقصان الكيل، والخسران من رأس المال. فضحك المعتصم، وقال: أسرع ما انتصف الأصبهاني من محمد، وحقدها عليه ابن الزيات، حتى نكبه.

أخبرني الأخفش عن المبرد قال:

 

صفحة : 2569

 

نظر رجل كان يعادى يونس النحوي إليه وهو يهادى بين اثنين من الكبر، فقال له: يا أبا عبد الرحمن، أبلغت ما أرى? فعلم يونس أنه قال له ذلك شامتا، فقال: هذا الذي كنت أرجو فلا بلغته، فأخذه محمد بن عبد الملك الزيات: فجعله في شعر فقال:

وعائب عابني بـشـيب                      لم يعد لما ألم وقـتـه

فقلت إذ عابني بشيبـي:                      يا عائب الشيب لا بلغته وذكر أبو مروان الخزاعي أن أبا دهمان المغني سرق من محمد بن عبد الملك منديلا دبقيا فجعله تحت عمامته، وبلغ محمدا، فقال له:

ونديم سـارق خـاتـلـنـي                      وهو عندي غير مذموم الخلق

ضاعف الكور على هامـتـه                      وطوى منديلنا طي الخـرق

يا أبا دهمان لو جامـلـتـنـا                      لكفيناك مئونـات الـسـرق أخبرنا أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني، قال: كنت عند أبي الحسين بن أبي البغل لما انصرف عن بغداد بعد إشخاصه إليها للوزارة وبطلان ما نذره من ذلك ورجوعه، فجعل يحدثنا بخبره، ثم قال: لله در محمد بن عبد الملك الزيات حيث يقول:

ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه                      قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي

مالي إذا غبت لم أذكر بصالـحة                      وإن مرضت فطال السقم لم أعد أخبرني الصولي، قال: حدثني عون بن محمد الكندي، قال: حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع، قال: وصفني محمد بن عبد الملك للمعتصم، وقال: ما له نظير في ملاحة الشعر والغناء والعلم بأمور الملوك، فلقيته فشكرته، وقلت: جعلت فداءك أتصف شعري وأنت أشعر الناس? ألست القائل:

ألـم تـعـجـب لـمـكـــتـــئب حـــزين                      خدين صـبـابة وحـــلـــيف صـــبـــر

يقول إذا سألت به : بخيروكيف يكون مهجور بخير? قال: وأين هذا، من قولك?

يقول لي كيف أصـب                      حت كيف يصبح مثلي ماء ولا كصداء ، ومرعى ولا كالسعدان .

أخبرني الصولي، قال: حدثني عون بن محمد: قال: لقي الكنجي محمد بن عبد الملك فسلم عليه فلم يجبه، فقال الكنجي:

هذا وأنت ابن زيات تصـغـرنـا                      فكيف لو كنت يا هذا ابن عطار? فبلغ ذلك محمدا، فقال: كيف ينتصف من ساقط أحمق، وضعه رفعه، وعقابه ثوابه.

أخبرني الصولي، قال: أخبرني عبد الله بن محمد الأزدي، قال: حدثني يعقوب بن التمار، قال: قال محمد بن عبد الملك لبعض أصحابه: ما أخرك عنا? قال: موت أخي، قال: بأي علة? قال: عضت أصبعه فأرة، فضربته الحمرة ، فقال محمد: ما يرد القيامة شهيد أخس سببا، ولا أنذل قاتلا، ولا أضيع ميتة، ولا أظرف قتلة من أخيك.

أخبرني عمي عن أبي العيناء، قال: كان محمد بن عبد الملك يعادي أحمد بن أبي داود، ويهجوه، فكان أحمد يجمع الشعراء، ويحرضهم على هجائه ويصلهم، ثم قال فيه أحمد بيتين، كانا أجود ما هجي به، وهما:

أحسن من خمسين بيتا سدى                      جمعك إياهن فـي بـيت

ما أحوج الناس إلى مطرة                      تذهب عنهم وضر الزيت وكان ابن أبي داود يقول: ليس أحد من العرب وهو يقدر على قول الشعر، طبعا ركب فيهم، قل قوله أو كثر.

أخبرنا الصولي، قال: حدثنا محمد بن موسى عن الحسن بن وهب، قال: أنشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدته التي يقول فيها:

لهان علينا أن نقول وتفعلا فأثابه عليها ووقع عليه:

رأيتك سهل البيع سمحا وإنمـا                      يغالى إذا ما ضن بالشيء بائعه

فأما الذي هانت بضائع بـيعـه                      فيوشك أن تبقى عليه بضائعـه

هو الماء إن أجممته طاب ورده                      ويفسد منه أن تباح شـرائعـه فأجابه أبو تمام وقال:

أبا جعفر إن كنت أصبحت شاعرا                      أسامح في بيعي له من أبايعـه

فقد كنت قبلي شاعرا تاجرا بـه                      تساهل من عادت عليك منافعـه

فصرت وزيرا والوزارة مكـرع                      يغص به بعد اللذاذة كـارعـه

وكم من وزير قد رأينا مسلـطـا                      فعاد وقد سدت عليه مطالـعـه

ولله قوس لا تطيش سهـامـهـا                      ولله سيف لا تفل مقـاطـعـه حدثني الصولي، قال: حدثني أبي، قال: حج محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون، فلما قدم إليه كتب راشد الكاتب قوله:

 

صفحة : 2570

 

 

لا تنس عـهـدي ولا مـودتـيه                      واشتق إلى طلعتـي ورؤيتـيه

إن غبت عنا فلم تغب كثـرة ال                      ذكر فلا تغـفـلـن هـديتـيه

التمر والنقل والمساويك والقـس                      ب وخير النعال حـسـن شـيه

فإن تجاوزت ما أقول إلى العص                      ب فذاك المأمول مـنـك لـيه فأجابه محمد بن عبد الملك:

إنك مني بحيث يطرد الناظر من تحت ماء دمعـتـيه

ولا ومن زادني تودده                      علـى صـحـابـي بـفـضـل غـيبـــتـــيه

ما أحـسـن الـتـرك والـخــلاف لـــمـــا                      تريد مـنـــي ومـــا تـــقـــول لـــيه

يا بـأبـي أنـت مـا نــســـيتـــك فـــي                      يوم دعـــائي ولا هـــــــديتـــــــيه

ناجيت بالذكر والدعاء لك الله لدى البيت رافعـا يديه

حتى إذا ما ظننت بالملك الق                      ادر أن قـــد أجـــاب دعـــوتــــــيه

قمـت إلـى مـوضـع الـنـــعـــال وقـــد                      أقـمـت عـشـرين صـاحـبــا مـــعـــيه

وقـلــت لـــي صـــاحـــب أريد لـــه                      نعـلا ولـو مـن جــلـــود راحـــتـــيه

فانـقـطـع الـقــول عـــنـــد واحـــدة                      قال الـذي اخـتـــار يا بـــشـــارتـــيه

فقلت عندي لك البشارة والشكر وقلا في جنب حاجتيه

ثم تخيرت بعد ذاك من العص                      ب الـيمـانـي بـفـضـل خـــبـــرتـــيه

موشــية لـــم أزل بـــبـــائعـــهـــا                      أرغـب حـتـى زهــا عـــلـــي بـــيه

يرفـع فـــي ســـومـــه وأرغـــبـــه                      حتـى الـتـقـى زهـده ورغـــبـــتـــيه

وقـــد أتـــاك الـــذي أمـــرت بــــه                      فاعـذر بـكـثـر الإنـعـام قـــلـــتـــيه. أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد، قال: كان لمحمد بن عبد الملك برذون أشهب لم ير مثله فراهة وحسنا، فسعى به محمد بن خالد حيلويه إلى المعتصم، ووصف له فراهته ، فبعث المعتصم إليه فأخذه منه، فقال محمد بن عبد الملك يرثيه:

كيف العزاء وقد مضى لسبـيلـه                      عنا فودعنا الأحـم الأشـهـب

دب الوشاة فأبـعـدوك وربـمـا                      بعد الفتى وهو الأحب الأقـرب

لله يوم نأيت عـنـي ظـاعـنـا                      وسلبت قربك أي علق أسـلـب

نفس مفـرقة أقـام فـريقـهـا                      ومضى لطيته فـريق يجـنـب

فالآن إذ كملت أداتـك كـلـهـا                      ودعا العيون إليك لون معجـب

وأختير من سر الحدائد خـيرهـا                      لك خالصا ومن الحلي الأغـرب

وغدوت طنان اللجـام كـأنـمـا                      في كل عضو منك صنج يضرب

وكأن سرجك إذ علاك غـمـامة                      وكأنما تحت الغمامة كـوكـب

ورأى علي بك الصـديق جـلالة                      وغدا العدو وصدره يتـلـهـب

أنساك لا زالـت إذا مـنـسـية                      نفسي ولا زالت يميني تنـكـب

أضمرت منك اليأس حين رأيتني                      وقوى حبالي من قواك تقضـب

ورجعت حين رجعت منك بحسرة                      لله ما فـعـل الأصـم الأشـيب أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان - رضوان الله عليه - قال: حدثني محمد بن ناصح رحمة الله عليه، قال: لحقت غلات أهل البت آفة أيام محمد بن عبد الملك من جراد وعطش، فتظلم إليه جماعة منهم، فوجه ببعض أصحابه ناظرا في أمرهم، وكان في بصره ضعف، فكتب إليه محمد بن علي البتي:

أتيت أمرا يا أبا جعـفـر                      لم يأته بر ولا فـاجـر

أغثت أهل البت إذ أهلكوا                      بناظر ليس له نـاظـر فبلغه، فضحك ورد الناظر ووقع لهم بما سألوا بغير نظر.

أخبرني الصولي رضي الله عنه قال: حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد عن أبيه رضي الله عنهما قال: قال علي بن جبلة يهجو محمد بن عبد الملك الزيات، وكان قد قصد أبا دلف القاسم بن عيسى في بعض أمره:

يا بائع الزيت عرج غير مرموق                      لتشغلن عن الأرطال والسـوق

من رام شتمك لم ينزع إلى كذب                      في منتماك وأبداه بتـحـقـيق

أبوك عبد وللأم التي فـلـقـت                      عن أم رأسك هن غير محلوق

إن أنت عددت أصلا لا تسب به                      يوما فأمك مني ذات تطـلـيق

ولن تطيق بحول أن تزيل شجـا                      أثبته منك في مستنزل الـريق

الله أنشاك من نوك ومن كـذب                      لا تعطفن إلى لؤم لمخـلـوق

 

صفحة : 2571

 

 

ماذا يقول امرؤ غشاك مدحته                      إلا ابن زانية أو فرخ زنديق? فأجابه محمد:

اشمخ بأنـفـك يا ذا الـسـيئ الأدب                      ما شئت واضرب قذال الأرض بالذنب

وارفع بصوتك تدعو من بـذي عـدن                      ومن بقالي قلا بـالـويل والـحـرب

ما أنت إلا امرؤ أعطـى بـلاغـتـه                      فضل العذار ولم يربـع عـلـى أدب

فاجمح لعلك يوما أن تعـض عـلـى                      لجم دلاصية تثـنـيك مـن كـثـب

إني اعتذرت فما أحسنت تسمـع مـن                      عذري ومن قبل ما أحسنت في الطلب

صبرا أبا دلـف فـي كـل قـافـية                      كالقدر وقفا على الجارات بالعـقـب

يا رب إن كان ما أنشأت مـن عـرب                      شروى أبي دلف فاسخط على العرب

إن التعصـب أبـدى مـنـك داهـية                      كانت تحجب دون الوهم بالـحـجـب فأجابه علي بن جبلة:

نبهت عن سنة عينيك فاصطـبـر                      واسحب بذيلك هل تقفو على أثر?

إن ير حض الله عني عار مطلبي                      إليك رفدا ألا فانجـد بـه وغـر

إني ودعواك أن تأتي بمـكـرمة                      كمنبض القوس عن سهم بلا وتر

فاردد جفونك حسرى عن أبي دلف                      ولا ملامة أن تعشى عن القمـر

لا يسخطن امرؤ إن ذل من حسب                      فالله أنزله في محكـم الـسـور

لم آت سوءا ولم أسخط على أحـد                      إلا على طلبي في مجتدى عسـر

أقصر أبا جعفر عن سطوة جمحت                      إن لم تقصر بها مالت إلى القصر فأجابه محمد بن عبد الملك:

يا أيها العائبي ولم ير لـي                      عيبا أما تنتهي فتزدجـر

هل لك وتر لدي تطلـبـه                      فأنت صلد ما فيك معتصر

فالحمد والمجد والثناء لنـا                      وللحسود التراب والحجر وهي طويلة يقول فيها:

تعيش فينـا ولا تـلائمـنـا                      كما تعيش الحمير والبقـر

تغلي علينا الأشعار منك وما                      عندك نفع يرجى ولا ضرر أخبرني عمي - رحمه الله - قال: حدثني عمر بن نصر الكاتب، قال: حدثني عمي علي بن الحسن بن عبد الأعلى، قال محمد: اجتاز بديع غلام عمير المأموني بمحمد بن عبد الملك الزيات، وكان أحسن خلق الله وجها، وكان محمد يحبه ويجن به جنونا فقال:

راح علينا راكبا طـرفـه                      أغيد مثل الرشـأ الآنـس

قد لبس القرطق واستمسكت                      كفاه من ذي بـرق يابـس

وقلد السيف على غنـجـه                      كأنه في وقعة الـداحـس

أقول لما أن بدا مـقـبـلا                      يا ليتني فارس ذا الفـارس أخبرني الأخفش، قال: حدثني محمد بن يزيد قال: دامت الأمطار بسرى من رأى، فتأخر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات، وهو يومئذ وزير، والحسن يكتب له، فاستبطأه محمد بن عبد الملك، فكتب إليه الحسن يقول:

أوجب العذر في تراخي اللقاء                      ما توالى من هـذه الأنـوار

لست أدري ماذا أقول وأشكو                      من سماء تعوقني عن سماء

غير أني أدعو على تلك بالثك                      ل وأدعو لهذه بـالـبـقـاء

فلام الإلـه أهـديه غـضـا                      لك مني يا سـيد الـوزراء أخبرني الصولي، قال: حدثنا محمد بن موسى، قال: اعتل الحسن بن وهب، فتأخر عن محمد بن عبد الملك أياما كثيرة، فلم يأته رسول، ولا تعرف خبره، فكتب إليه الحسن قوله:

أيهـذا الـوزير أيدك الـــل                      ه وأبقاك لي بـقـاء طـويلا

أجميلا تـراه يا أكـرم الـنـا                      س لكيما أراه أيضا جـمـيلا

إنني قد أقمت عشرا عـلـيلا                      ما ترى مرسلا إلي رسـولا

إن يكن موجب التعمد في الص                      حة منا علي مـنـك طـويلا

فهو أولى يا سيد النـاس بـرا                      وافتقادا لمن يكـون عـلـيلا

فلماذا تركتني عرضة الظـن                      من الحاسدين جيلا فـجـيلا?

ألذنب فما علمت سوى الشـك                      ر قرينا لـنـيتـي ودخـيلا?

أم ملال، فما علمتك للـصـا                      حب مثلي على الزمان ملولا?

 

صفحة : 2572

 

 

قد أتى الله بالشفاء فـمـا أع                      رف مما أنكرت إلا قـلـيلا

وأكلت الدراج وهـو غـذاء                      أفلت علتـي عـلـيه أفـولا

بعد ما كنت قد حملت من العل                      ة عبثا على الطبـاع ثـقـيلا

ولعلي قدمت قبلـتـك آتـي                      ك غدا إن وجدت فيه سبـيلا فأجابه محمد بن عبد الملك:

دفع اللـه عـنـك نـائبة الـده                      ر وحاشاك أن تكون عـلـيلا

أشهد الله ما علـمـت ومـا ذا                      ك من العذر جائزا مقـبـولا

ولعمري أن لو علمت فلا زمت                      ك حولا لكان عنـدي قـلـيلا

إنني أرتجي وإن لم يكـن مـا                      كان مما نقمـت إلا جـلـيلا

أن أكون الذي إذا أضمـر الإخ                      لاص لم يلتمس عليه كـفـيلا

ثم لا يبـذل الـمـودة حـتـى                      يجعل الجهد دونهـا مـبـذولا

فإذا قال كان مـا قـال إذ كـا                      ن بعيدا من طبعـه أن يقـولا

فاجعلن لي إلى التعلق بالـعـذ                      ر سبيلا إن لم أجد لي سبـيلا

فقديما ما جاد بالصفح والعـف                      و وما سامح الخليل الخـلـيلا قال: وكتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب وقد تأخر عنه:

قالوا جفاك فلا عهد ولا خـبـر                      ماذا تراه دهاه قـلـت: أيلـول

شهر تجذ حبال الوصل فيه فمـا                      عقد من الوصل إلا وهو محلول قال: وكان محمد قد ندبه لأن يخرج في أمر مهم فأجابه الحسن فقال:

إني بحول امرئ أعليت رتـبـتـه                      فحظه منك تعـظـيم وتـبـجـيل

وأنت عدتـه فـي نـيل هـمـتـه                      وأنت في كل ما يهـواه مـأمـول

ما غالني عنـك أيلـول بـلـذتـه                      وطيبه ولنعـم الـشـهـر أيلـول

الليل لا قـصـر فـيه ولا طـول                      والجو صاف وظهر الكأس مرحول

والعدو مستنطق عن كل معـجـبة                      يضحي بها كل قلب وهو متـبـول

لكن توقع وشك البـين عـن بـلـد                      تحله فوكاء الـعـين مـحـلـول

مالي إذا شمرت بي عنك مبتـكـرا                      دهم البغال أو الهوج المـراسـيل

إلا رعاياتك اللاتـي يعـود بـهـا                      حد الحوادث عني وهو مـفـلـول قال: وكان الحسن بن وهب يساير محمدا على مسناة ، فعدل عن المسناة لئلا يضيق لمحمد الطريق، فظن محمد أنه أشفق على نفسه من المسناة، فعدل عنها، ولم يساعده على طريقه، وظن بنفسه أن يصيبها ما يصيبه، فقال له محمد:

قد رأيناك إذ تركت المسنـا                      ة وحاذيتني يسار الطـريق

ولعمري ما ذاك منك وقد جد                      بك الجد من فعال الشفـيق فقال له الحسن:

إن يكن خوفي الحتـوف أرانـي                      أن تراني مشبها بـالـعـقـوق

فلقد جارت الظنون على المـش                      فق والظن مولع بـالـشـفـيق

غرر السـيد الأجـل وقـد سـا                      ر على الحرف من يمين الطريق

فأخذت الشمال بقيا على الـسـي                      د إذ هالني سلوك الـمـضـيق

إن عنـدي مـودة لـك حـازت                      ما حوى عاشق من المعـشـوق

طود عز خصصت منـه بـبـر                      صار قدري به مـع الـعـيوق

وبنفسي وإخـوتـي وأبـي الـب                      ر وعمي وأسرتي وصـديقـي

من إذا ما روعت أمـن روعـي                      وإذا ما شرقـت سـوغ ريقـي أخبرني علي بن سليمان الأخفش الصولي، قال: حدثنا المبرد، قال: استسقى الحسن بن وهب من محمد بن عبد الملك نبيذا ببلد الروم، وهو مع المعتصم فسقاه وكتب إليه:

لم تلق مثلي صـاحـبـا                      أبدى يدا وأعلـم جـودا

يسقي النديم بـقـفـرة                      لم يسقي فيها الماء عودا

صفراء صافـية كـأن                      بكأسهـا درا نـضـيدا

وأجود حـين أجـود لا                      حصرا بذاك ولا بلـيدا

وإذا استقل بشـكـرهـا                      أوجبت بالشكر المـزيدا

خذها إلـيك كـأنـمـا                      كسيت زجاجتها عقـودا

واجعل عليك بأن تـقـو                      م بشكرها أبدا عهـودا

 

صفحة : 2573

 

أخبرني الصولي، قال: حدثني أحمد بن محمد الأنصاري، قال: حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك، قال: دعا محمد بن عبد الملك قبل وزارته الحسن ن وهب في آخر أيام المأمون، فجاءه ودخلا حماما له، وأقاما على لهوهما، ثم طلب الحسن بن وهب لعمل احتيج فيه إليه، فمضى، وبطل يومهم ، فكتب الحسن إليه:

سقيا لنضر الوجه بسـامـه                      مهذب الأخلاق قمقـامـه

تكسبه شكرا علـى أنـهـا                      مطبقة السـن لـلـوامـه

زرناه في يوم عـلا قـدره                      من سائر الأيام في عامـه

أسعده الله وأحـظـى بـه                      وجاده الغيث بإرهـامـه

فكان مسرورا بـنـا بـاذلا                      لرحله الرحب وهمـامـه

نخدمه وهـو لـنـا خـادم                      بفضله من دون خـدامـه

ثم سقانـا قـهـوة لـم يدع                      أطيب منها بقرى شـامـه

صهباء دلت علـى دنـهـا                      وحدثت عن ضعف إسلامه فأجابه محمد بن عبد الملك رحمه الله تعالى:

وزائر لـــذ لـــنـــا يومـــــــه                      لو سـاعـد الـدهـر بـإتــمـــامـــه

ماذا لـــقـــينـــا مـــن دواوينـــه                      وخـطـه فـيهــا بـــأقـــلامـــه?

أسـر مـا كـنــا فـــمـــن مـــازح                      أو شـارب قـد عـب فــي جـــامـــه

فارقـنـا فـالـنـفــس مـــطـــروفة                      بواكـف الـدمــع وســـجـــامـــه

وعـاد بـالـمـدح لـنـا مـنـعـــمـــا                      به إلـى سـالـــف إنـــعـــامـــه

ليت وأني لي بها منية لو كنت فيه بعض قوامه

يشكر ما نال على أنه                      لا يشـكـر الـحـر لـحــمـــامـــه

أمـســحـــه فـــيه وأدنـــو لـــه                      من خـلـفــه طـــورا وقـــدامـــه

جعـلـت نـفـسـي جـنة لـلـصــبـــا                      وبـعـت إسـلامـي بـــإســـلامـــه

فصـار مـــا يشـــرب حـــلالـــه                      وصـرت مـأخــوذا بـــآثـــامـــه أخبرني الحسن بن القاسم الكاتب، قال: سمعت القاسم بن ثابت يحدث عن أبيه، قال: قال أحمد الأحول: لما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات تلطفت في الوصول إليه، فرأيته في حديد ثقيل، فقلت له: أعزز علي ما أرى، فقال:

سل ديار الحي ما غيرها                      ومحاها ومحا منظرها?

وهي اللاتي إذا ما انقلبت                      صيرت معروفها منكرها

إنما الدنـيا كـظـل زائل                      نحمد الله كـذا قـدرهـا في هذه الأبيات رمل طنبوري لا أدري لمن هو? ومما يغنى فيه شعر محمد بن عبد الملك الزيات:

ظالمني ما علمتـه                      معتد لا عدمـتـه

مطمعي بالوصال مم                      تنع حين رمـتـه

مرصد بالخلاف وال                      منع من حيث سمته

هاجر إن وصلـتـه                      صابر إن صرمتـه

كم وكم قد طويت ما                      بي وكم قد كتمتـه

رب هم طويت في                      ك وغيظ كظمتـه

وحياة سـئمـتـهـا                      والهوى ما سئمتـه

رمت شيئا هـويتـه                      ليس لي ما حرمته

قال إذ صرح البكـا                      ء بما قد ستـرتـه

لو بكى طول دهره                      بدم ما رحـمـتـه الغناء لأبي العبيس بن حمدون ثقيل بالبنصر.

 

إذا أحببـت لـم أسـل                      وإن واصلت لم أقطع

وإن عاتبني الـنـاس                      تصاممت فلم أسمـع

وقد جربت مـا ضـر                      وقد جربت ما ينفـع

فما مثل الهـوى أنـه                      ك للجسم ولا أضرع

ولا كالهجر في القرب                      إلى الموت ولا أسرع

وإن أوجعني الـعـذل                      فنيران الهوى أوجـع

وهذا عدم الـعـقـل                      فما أستطيع أن أصنع

ولا والله ما عـنـدي                      لما قد حل بي مدفـع

ولا في لـهـجـران                      ك لولا ظلمكم موضع الغناء لعريب لحنان: خفيف ثقيل بالبنصر، وهزج بالوسطى.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد، قال: حدثني الحسن بن رجاء، قال: قدم محمد بن عبد الملك على الحسن بن سهل إلى فم الصلح، وامتدحه بقصيدته التي أولها:

كأنها حـين تـنـاءى خـطـؤه                      أخنس موشي الشوي يرعى القلل وقال فيها:

إلى الأمير الحسن استنجدتها                      أي مراد ومناخ ومـحـل

 

صفحة : 2574

 

 

سيف أمير المؤمنين المنتضـى                      وحصن ذي الرياستين المقتبـل

آباؤك الغـر الألـى جـدهـم                      كسرى أنو شروان والناس همل

من كل ذي تاج إذا قال مضـى                      كل الذي قال وإن هم فـعـل

فأين لا أين وأنـى مـثـلـكـم                      أنتم الأملاك والـنـاس خـول فأمر له بعشرة آلاف درهم.

قال: ومرض الواثق، فدخل إليه الحسن بن سهل عائدا، ومحمد بن عبد الملك يومئذ وزيره، والحسن بن سهل متعطل، فجعل الحسن بن سهل يتكلم في العلة وعلاجها وما يصلح للواثق من الدواء والعلاج والغذاء أحسن كلام، قال: فحسده محمد بن عبد الملك، وقال له: من أين لك هذا العلم يا أبا محمد? قال: إني كنت أستصحب من أهل كل صنعة رؤساء أهلها، وأتعلم منهم، ثم لا أرضى إلا ببلوغ الغاية، فقال له محمد -وكان حسودا: ومتى كان ذلك? قال: في زمان قلت في:

فأين لا أين وأنى مثلكـم                      أنتم الأملاك والناس خول فخجل محمد بن عبد الملك، وأطرق، وعدل عن الجواب.

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني حماد بن إسحاق قال: حدثني ميمون بن هارون بن خلف قال: كنت أسير بالقرب من محمد بن عبد الملك الزيات، وهو يريد يومئذ منزله، حتى مر بدار إبراهيم بن رباح، فرأى فيها قبة مشيدة، فقال:

أما القباب فقد أراها شـيدت                      وعسى أمور بعد ذاك تكـون

عبد عرت منه خلائق جهلـه                      إذ راح وهو من الثراء سمين فما كان إلا أيام حتى أوقع به.

أخبرني عمي قال: حدثني الحسن بن علي بن عبد الأعلى عن أبيه قال: كان الواثق قد أصلح بين محمد بن عبد الملك الزيات وبين أحمد بن أبي داود، فكف محمد عن ذكره، وجعل بن أبي داود يخلو بالواثق، ويغريه به، حتى قبض عليه، وكان فيما بلغه عنه أنه قد عزم على الفتك به والتدبير عليه. فقبض الواثق عليه، ثم أطلقه بعد مدة، ثم وزر للمتوكل، وكان محمد بن عبد الملك أشار بابن الواثق، وأشار ابن أبي داود بالمتوكل، وقام وقعد في أمره حتى ولى، وعممه بيده، وألبسه البردة، وقبل بين عينيه، وكان المتوكل قبل ذلك يدخل على محمد بن عبد الملك في حياة الواثق يشكو إليه جفاءه له فيتجهمه محمد، ويغلظ له الرد، إلى أن قال يوما بحضرته: ألا تعجبون إلى هذا العاصي، يعادي أمير المؤمنين، ثم يسألني أن أصلح له قلبه اذهب، ويلك فأصلح نفسك له، حتى يصلح لك قلبه. فكان موقع ذلك يحسن عند الواثق، فدخل إليه يوما، وقد كان قال للواثق: إن جعفرا يدخل إلي وله شعر قفا وطرة مثل النساء، فقد فضحك فأمره بأن يحلقهما، وبضرب بشعرهما وجهه، فلما دخل إليه المتوكل فعل ذلك به، وتجهمه بالقبيح، فلما ولي الخلافة خشي إن نكبه عاجلا أن يستتر أسبابه فتفوته بغيته فيه، فاستوزره وخلع عليه، وجعل ابن أبي داود يغريه به ويجد عنده لذلك موقعا واستماعا، حتى قبض عليه وقتله، فلم يجد له من أملاكه كلها من عين وورق وأثاث وضيعة إلا ما كانت قيمته مائة ألف دينار، ولم يجد منه عوضا، وكان أمره مما يعتد على أحمد بن أبي داود، ويقول: أطمعتني في باطل، وحملتني على أمر لم أجد منه عوضا.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: زعم محمد بن عيسى الفساطيطي، أن محمد بن عبد الملك اجتاز بدندن الكاتب، وعليه خلع الوزارة للمتوكل لما وزر له، فقال دندن:

راح الشقي بخلعة النكر                      مثل الهدي لليلة النحـر

لا تم شهر بعد خلعـتـه                      حتى تراه طافي الجمر

ويرى يطاين من إساءته                      يهوي له بقواصم الظهر فكان الأمر كما قال.

قال علي بن الحسين بن عبد الأعلى: فلما قبض عليه المتوكل استعمل له تنور جديد، وجعل فيه مسامير لا يقدر معها أن يتحرك إلا دخلت في جسده، ثم أحماه له وجعله فيه، فكان يصيح: ارحموني فيقال له: اسكت، أنت كنت تقول: ما رحمت أحدا قط، والرحمة ضعف في الطبيعة، وخور في المنة، فاصبر على حكمك وخرج عليه عبادة، فقال: أردت أن تشويني، فشووك.

أخبرني طاهر بن عبد الله بن طاهر الهاشمي: قال: قال العباس بن طومار:

 

صفحة : 2575

 

أمر المتوكل عبادة أن يدخل إلى محمد بن عبد الملك الزيات - وقد أحمى تنور حديد، وجعله فيه - فيكايده، فدخل إليه فوقف بإزائه، ثم قال: اسمع يا محمد، كان في جيراننا حفار يحفر القبور، فمرضت مخنثة من جيراني، وكانت صاحبة لي، فبادر فحفر لها قبرا من الطمع في الدراهم، فبرأت هي ومرض هو بعد أيام، فدخلت إليه صاحبتي وهو بالنزع، فقالت: وي يا فلان? حفرت لي قبرا وأنا في عافية، أو ما علمت أنه من حفر بئر سوء وقع فيها، وحياتك يا محمد، لقد دفناه في ذلك القبر، والعقبى لك. قال: فوالله ما برح من إزاء محمد، عبد الملك يؤذيه، ويكايده إلى أن مات.

قال الصولي: وقال الحسن بن وهب يرثي محمد بن عبد الملك، وكان في حياته ينتفي منها، ويجحدها، ثم شاعت بعد ذلك، ووجدت بخطه:

يكاد القلب من جـزع يطـير                      إذا ما قيل قد قـتـل الـوزير

أمير المؤمنين هدمت ركـنـا                      عليه رحاكم كـانـت تـدور

سيبلى الملك من جزع عـلـيه                      ويخرب حين تضطرب الأمور

فمهلا يا بني العبـاس مـهـلا                      فقد كويت بفعلكم الـصـدور

إلى كم تنكبون الناس ظلـمـا                      لكم في كل ملحـمة عـقـير

جزيتم ناصرا لكـم الـمـنـايا                      وليس كذلكم يجزى النـصـير

فكنتم سـائقـا أرسـا إلـيكـم                      وذلك من فعالـكـم شـهـير

وكأن صلاحه لو شـئتـمـوه                      قريبا لا يحاولـه الـبـصـير

كأن الله صيركـم مـلـوكـا                      لئلا تعدلـوا ولأن تـجـوروا

أخبار أبي حشيشة

أبو حشيشة لقب غلب عليه، وهو محمد بن أمية بن أبي أمية، يكنى أبا جعفر، وكان أهله جميعا متصلين بإبراهيم المهدي، وكان هو من بينهم معنيا بالطنبور، يغني أحسن غناء وخدم جماعة من الخلفاء أولهم المأمون، ومن بعده إلى المعتمد.

وله يقول أبو صالح بن يزداد وكتب بها في استتاره :

جعلت فداك يا بن أبي أميه                      أرى الأيام قد حكمت عليه

وملني الصديق وخان عهدي                      فما أقرا لكم كتـبـا إلـيه

فإن كان الضمير كما بدا لي                      فهذا والإله هو الـبـلـيه كان أكثر انقطاعه إلى أبي أحمد بن الرشيد أيام حياته، وكان أبوه وجده وأخواله كتابا.

وقرأت على أحمد بن جعفر جحظة ما ذكره عن أبي حشيشة في كتابه الذي ألفه في أخبار مراتب الطنبوريين والطنبوريات وكان من ذلك أنه قال: شاهدت أبا حشيشة مدة، وكان يتغنى في أشعار خالد الكاتب وبني أمية، وكانت معه فقر من الأحاديث يضعها مواضعها، وكانت له صنعة تقدم فيها كل طنبوري، لا أحاشي من قولي ذلك، فمنها:

كأن هموم الناس في الأرض كلها                      علي وقلبي بينهم قـلـب واحـد

ولي شاهدا عدل سهاد وعـبـرة                      وكم مدع للحب من غير شاهـد وهو خفيف رمل مطلق. قال جحظة: ورأيته في القدمة التي قدمها مع ابن المدبر بين يدي المعتمد، وقد غناه

حرمت بذل نوالـك                      واسوأتا من فعالك

لما مللت وصالـي                      آيستني من وصالك فوهب له مائتي دينار.

واللحن رمل مطلق.

أخبرني جحظة فيما قرأته عليه، قال: حدثني ابن نوبخت: يعني علي بن العباس قال: رأيته وقد حضرت عريب عند ابن المدبر، وهو يغني، فقالت له عريب: أحسنت يا أبا جعفر، ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا - تعني علويه ومخارقا.

حدثني أبو حشيشة، قال: هجم علي خادم أسود، فقال لي: البس ثيابك، فعلمت أن هذا لا يكون إلا عن أمر خليفة أو أمير، فلم أراجعه، حتى لبست ثيابي، فمضيت معه فعبر بي الجسر، وأدخلني إلى دار لا أعرفها، ثم اجتاز بي في رواق فيه حجر تفوح منهن رائحة الطعام والشراب، فأدخلت منهن إلى حجرة مفروشة، وجاءني بمائدة كأنها جزعة يمانية قد نشرت في عراصها الحبرة ، فأكلت وسقاني رطلين وجاءني بصندوق ففتحته فإذا فيه طنابير، فقال لي: اختر، فاخترت واحدا، وأخذ بيدي، فأدخلني إلى دار فيها سماعة وفيها رجلان على أحدهما قباء غليظ، وعلى الآخر ثياب ملحم وخز، فقال لي صاحب الخز: اجلس، فجلست، فقال: أكلت وشربت? فقلت: نعم. قال: عندنا? قلت: نعم، قال: تغني ما نقول لك? فقلت: قل، فقال: تغني بصنعتك:

 

صفحة : 2576

 

 

يا كثير الإقبال والانصراف                      وملولا ولو أشأ قلت خاف وهو رمل مطلق، فغنيته إياه، وجعل يطلب مني صوتا بعد صوت من صنعتي، فأغنيه، ويستعيده، ويشرب هو والرجل، وأسقى بالأنصاف المختوته إلى أن صلوا العشاء الآخرة، وهم لا يشربون إلا على الصوت الأول لا يريده غيره، ثم أومأ إلي الخادم: قم، فقمت، فقال لي صاحب القباء منهما، أتعرفني? قلت: لا والله، قال: أنا إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وهذا محمد بن راشد الخناق، والله لئن بلغني أنك تقول: إنك رأيتني لأضربنك مائتي سوط، انصرف. فخرجت ودفع إلى الخادم ثلاثمائة دينار، فجهدت أن يقبل منها شيئا على سبيل ابر، فما فعل.

حدثني جحظة قال: حدثني أبو حشيشة، قال: وجه إلي إسحاق بن إبراهيم الطاهري، فصرت إليه وهو في داره التي على طرف الخندق، فدعا بجونة ، فأكل وأكلت من ناحية، ودعا بستارة وقال: تغن بصنعتك:

عاد الهوى بالكأس بردا                      فأطع إمارة من تبدى وهو خفيف رمل مطلق.

فغنيته مرارا، ثم ضرب الستارة، وقال: فولوه، فقالته جارية فأحسنت غاية الإحسان، فضحك ثم قال: كيف تراه? فقلت: قد والله بغضوه إلي، فازداد في الضحك، وأنا أرمق جبة خز خضراء كانت عليه، فقال: كم ترمق هذه الجبة? يا غلام، كانت عشرة أثواب خز فقطعت منها هذه الجبة، فهات التسعة فجيء بها، فدفعها إلي فكتب أبيع رذالها بستين دينارا.

حدثني جحظة قال: حدثني أبو حشيشة أن بني الجنيد الإسكافيين كانوا أول من اصطنعه، وأنهم كانوا يسمونه الظريف، وأن أول منزل ابتاعه من أموالهم إلى أن شاع خبره، وتفاقم أمره، قال: وكانوا آكل الناس، رأيت رجلا منهم، وقد أكل هو وابن عم له اثنين وعشرين رأسا كبارا، وشربا، فسكرا وناما، ثم انتبها في وقت الظهر، فدعوا بالطعام، فعادا إلى الأكل، ما أنكر منهما شيئا.

ونسخت من كتاب ألفه أبو حشيشة، وجمع فيه أخباره مع من عاشره، وخدم من الخلفاء، وهو كتاب مشهور، قال: أول من سمعني من الخلفاء المأمون، وهو بدمشق، وصفني له مخارق، فأمر بأشخاصي إليه، وأمر لي بخمسين ألف درهم أتجهز بها، فلما وصلت إلي أدناني، وأعجب بي، وقال للمعتصم: هذا ابن من خدمك وخدم آبائك وأجدادك يا أبا إسحاق، جد هذا أمية كاتب جدك المهدي على كتابة السر وبيت المال والخاتم، وحج المهدي أربع حجج كان جد هذا زميله فيها. واشتهى المأمون من غنائي:

كان ينهى فنهى حين انتهـى                      وانجلت عنه غيابات الصبـا

خلع اللهو وأضحى مسبـلا                      للنهى فضل قمـيص وردا

كيف يرجو البيض من أولـه                      في عيون البيض شيب وجلا

كان كحلا لمآقـيهـا فـقـد                      صار بالشيب لعينيها قـذى الشعر لدعبل، والغناء لمحمد بن حسين بن محرز رمل بالوسطى.

قال أبو حشيشة: وكان مخارق قد نهاني أن أغني ما فيه ذكر الشيب من هذا الشعر، وأن أقتصر على البيتين الأولين؛ لأن المأمون كان يشتد عليه ذكر الشيب، ويكرهه جدا من المغنين، وأمر ألا يغنيه أحد بشعر قيل في الشيب أو فيه ذكر له، فمررت في الشعر كله، فقال: يا مخارق، ألا تحسن أدب هذا الفتى فنقفني مخارق نقفة صلبة، فما عدت بعدها لذكر شيء فيه الشيب.

وذكر أبو حشيشة في كتابه هذا مما كان يشتهيه عليه المأمون وغيره من الخلفاء أصواتا كثيرة، ولا فائدة في ذكرها هاهنا، لأنها طويلة، فذكرت مما كان يختاره عليه كل خليفة صوتا. قال أبو حشيشة: كان المعتصم يشتهي علي:

أسرفت في سوء الصنيع                      وفتكت بي فتك الخلـيع

وولعت بـي مـتـمـردا                      والعذر في طرف الولوع

صيرت حبك شـافـعـا                      فأتيت من قبل الشـفـيع الشعر لأصرم بن حميد، والغناء لأبي حشيشة.

قال: وكان الواثق يختار من غنائي:

يا تاركي متلـدد الـع                      واد جـذلان الـعـداة

انظر إلـي بـعـين را                      ض نظرة قبل الممات

خليتني بـين الـوعـي                      د وبين ألسنة الوشـاة

ماذا يرجي بـالـحـيا                      ة منغص روح الحياة? الشعر لمحمد بن سعيد الأسدي، والغناء لأبي حشيشة خفيف الرمل.

قال: وكان المتوكل يحبني، وكانت أغانيه التي يشتهيها علي كثيرة منها:

 

صفحة : 2577

 

 

أطعت الهوى وخلعت العذارا                      وباكرت بعد القراح العقـارا

ونازعك الكأس من هـاشـم                      كريم يحب عليها الـوقـارا

فتى فرق الحمـد أمـوالـه                      يجر القميص ويرخي الإزارا

رأى الله جعفر خـير الأنـام                      فملكـه ووقـاه الـحـذارا الشعر والغناء لأبي حشيشة.

قال: كان الفتح بن خاقان يشتهي علي:

قالوا عشقت فقلت أحسن من مشى                      والعشق ليس على الكريم بعـار

يا من شكوت إليه طول صبابتـي                      فأجابني بـتـجـهـم الإنـكـار قال: وكان المستعين يشتهي علي:

وما أنس لا أنس منها الخشوع                      وفيض الدموع وغمز الـيد

وخدي مضافا إلـى خـدهـا                      قياما إلى الصبح لم تـرقـد الشعر لمحمد بن أبي أمية والغناء لأبي حشيشة.

قال: وأخبرني محمد بن علي بن عصمة - وكان إليه الزهد في دنيا كلها - قال: حضرت المعتز وقد ورد عليه جواب كتابه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر، وكان كتب إليه يطلبني منه، فكتب إليه محمد: إني عليل، لا فضل في للخدمة، قال أبو عصمة: فقال لي المعتز: يا أبا محمد، صديقك أبو حشيشة يؤثر علينا آل طاهر، فقلت له: يا سيدي، أنا أعلم الناس بخبره، هو والله عليل: ما فيه موضع لخدمة أمير المؤمنين، قال: ثم ذكرني المعتمد. وحرضه علي ابن حمدون، فكتب إليه أيوب سليمان بن عبد الله بن طاهر -وهو يومئذ أمير بغداد - في إشخاصي، فشخصني إليه من ساعتي، فأكرمني، وأدنى في مجلسي، وأمر لي بجائزة، واشتهى علي:

قلبـي يحـبـك يا مـنـى                      قلبي ويبغض من يحـبـك

لأكـون فـردا فـي هـوا                      ك فليت شعري كيف قلبك? الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب، والصنعة لأبي حشيشة رمل.

قال أبو حشيشة: سمع إبراهيم بن المهدي أصواتا من غناء محمد بن الحارث بن بسخنر وعمرو بن بانة، فاستحسنها وأخذها جواريه، وقال: الطنبور كله باطل، فإن كان فيه شيء حق فهذا. وأشتهي أن يسمعني. فهبته هيبة شديدة، وقلت: إن رضيني لم يزد ذلك في قدري، وإن لم يرضني بقيت وصمة آخر الدهر، وكان يطلبني من محمد بن الحارث بن بسخنر خاصة، ومن إسحاق بن عمرو بن بزيع، فكنت أفر منهما، حتى صرت بسر من رأى، وأنا في تلك الأيام منقطع إلى أبي أحمد بن الرشيد، ونحن في مضارب لم نكن سكنا المنازل بعد، فوافى إلى أبي أحمد بن الرشيد رسول إبراهيم بن المهدي فأبلغه السلام، وقال: يقول لك عمك: قد أعيتني الحيل في هذا الخبيث، وأنا أحب أن أسمعه، وهو يهرب مني، فأحب أن تبعث به إلي، ويكون زيرب معه تؤنسه. فقال لي: أبو أحمد: لا بد أن تمضي إلى عمي، فجهدت كل الجهد أن يعفيني، فأبى، فلما رأيت أنه لا بد لي منه لبست ثيابي، ومضيت إليه، وهو نازل في دسكرة، فرحب بي وقرب، وبسطني كل البسط ومعي زيرب، ودعا بالنبيذ، وأمر خدما له كبارا، فجلسوا معي وشربوا وسقوني، وعرض لي بكل حيلة أن أغني، فهبته هيبة شديدة، وحصرت. وشرب، ودعا بثلاث جوار، فخرجت وجلسن، وقال لهن: قلن:

كيف احتيالي وأنت لا تصل                      عيل اصطباري وقلت الحيل

إن كان جسمي هواك ينحله                      فإن قلبي عـلـيك يتـكـل الشعر لخالد الكاتب، والغناء لأبي حشيشة الرمل. وكان يسميه الرهباني، عمله على لحن من ألحان النصارى سمعه من رهبان في الليل يرددونه، فغناه عليه.

فقالته إحداهن، فذهب عقلي، وسمعت شيئا لم أسمع مثله قط، فقال: يا خليلي، أهذا لك? فقلت: نعم - أصلح الله الأمير - وأخذتني رعدة، ثم قال لهن: إيه، قلن:

رب مالـي ولـلـهـوى                      ما لهـذا الـهـوى دوا

حاز طرفي الذي هوى ال                      حسن قلبي ومـا حـوى الشعر لخالد، والغناء لأبي حشيشة رمل.

فغنته فسمعت ما هو أعجب من الأول، فقال: يا خليلي، هذا لك? قلت: نعم يا سيدي، قال: هكذا أخذناهما من محمد بن الحارث، ثم شرب رطلا آخر، فقلت: يا نفس ، دعاك الرجل يسمعك، أو يسمعك، وقويت عزمي، وتغنيته بشعر خالد الكاتب، وهو هذا:

لئن لج قلبك فـي ذكـره                      ولج حبيبك في هـجـره

لقد أورث العين طول البكا                      وعز الفؤاد على صبـره

 

صفحة : 2578

 

 

فإن أذهب القلب وجد به                      فجسمك لا شك في إثره

وأي محب تجافى الهوى                      بطول التفكر لم يبـره فجعل يردد البيت الأول والبيت الأخير، وقال لي: لا تخرجن يا خليلي من هذا إلى غيره، فلم أزل أردده عليه، حتى شرب ثلاثا، واسترحت ساعة، وشربتا وطابت نفسي، ثم استعادني فغنيته، فأعجب بي خلاف الأول، فنظر إلي وضحك، ولم يقل شيئا، وشرب رطلا رابعا وجاءت المغرب، فقال لي: يا خليلي، ما أشك في أنك قد أوحشت ابني منك، فامض في حفظ الله تعالى. فخرجت أطير فرحا بانصرافي سالما، فلما وافيت أبا أحمد، وبصر بي من بعيد قال: حنطة، أو شعير? فقلت، بل سمسم وشهد، انج على رغم أنف من رغم، فقال: ويحك، أتراني لا أعرف فصلك ولكن أحببت أن أستعين برأيه على رأيي فيك، وقصصت عليه القصة، فسره ذلك، ولم يرض حتى دس إليه محمد بن راشد الخناق، فسأله عني، فقال: ما ظننت أن يكون في صناعته مثله.

قال أبو حشيشة: وسمع إسحاق بن إبراهيم الموصلي غنائي فاستحسنه، فسئل عني، فقال: غناء الطنبور كله ضعيف، وما سمعت فيه قط أقوى ولا أصح من هذا.

حدثني جحظة، قال: كان سبب موت أبي حشيشة بسر من رأى، أن قلما غلام الفضل بن كاووس صار إليه في يوم بارد، فدعاه إلى الصبوح، فقال له: أنا لا آكل إلا طعاما حارا، وليس عندك إلا فضيلة من مجلية، قال: تساعدني، وتأكل معي، فأكل منها، فجمدت دم قلبه، فمات، فحمله إبراهيم بن المدبر إلى بناته، وما كسبه بسر من رأى معه، فاقتسمنه بينهن.

 

سقيا لقاطول لا أرى بلـدا                      أوطنه الموطنون يشبههـا

أمنا وخفضا ولا كبهجتهـا                      أرغد أرض عيشا وأرفهها البيت الأول من البيتين لعنان جارية الناطفي، والثاني يقال: إنه لعمرو الوراق ، ويقال إنه لأبي نواس، ويقال بل هو لها.

والغناء لعريب خفيف رمل. وكان الشعر:  سقيا لبغداد  فعيرته عريب وجعلت مكانه  سقيا لقاطول  .

 

أخبار عنان

كانت عنان مولدة من مولدات اليمامة، وبها نشأت وتأدبت، واشتراها الناطفي، ورباها، وكانت صفراء جميلة الوجه، شكلة مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة. وكان فحول الشعراء يساجلونها، ويقارضونها، فتنتصف منهم.

أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني صهر المبرد النحوي وعلي بن صالح بن الهيثم قال: حدثنا أبو هفان عن الجماز قال: دخل أبو نواس يوما على عنان جارية الناطفي، فتحدثا ساعة، ثم قال لها: قد قلت شعرا، فقلت: هات، فقال:

إن لي أيرا خـبـيثـا                      لونه يحكي الكمـيتـا

لو رأى في الجو صدعا                      لنزا حـتـى يمـوتـا

أو رآه فوق سـقـف                      لتحول عنـكـبـوتـا

أو رآه جوف بـحـر                      خلته في البحر حوتـا قال: فما لبثت أن قالت:

زجوا هذا بـألـف                      وأظن الألف قوتـا

إنني أخشى عـلـيه                      إن تمادى أن يموتا

بادروا ما حل بالمس                      كين خوفا أن يفوتا

قبل أن ينتكس الـد                      اء فلا يأتي ويوتي قال: ودخل إليها مرة، فقال:

ماذا ترين لصب                      يريد منك قطيره فأجابته:

إياي تعني بـهـذا                      عليك فاجلد عميره فقال لها:

أريد هذا وأخـشـى                      على يدي منك غيره قال: فخجلت وقالت: تعست، وتعس من يغار عليك.

أخبرنا أحمد بن العزيز الجوهري: قال: حدثنا عمر بن شبة: قال: حدثني أبو أحمد بن معاوية: قال: سمعت أبا حنش يقول: قال لي الناطفي: لو جئت إلى عنان فطارحتها ، فعزمت على الغدو، فبت ليلتين أحوك بيتين، ثم غدوت عليها فقلت:

أحب الملاح البيض قلبي وربـمـا                      أحب الملاح الصفر من ولد الحبش

بكيت على صفراء منـهـن مـرة                      بكاء أصاب العين مني بالعـمـش فقالت:

بكيت عليها أن قلبي يحـبـهـا                      وأن فؤادي كالجناحين ذو رعش

تغنيتنا بالشعر لـمـا أتـيتـنـا                      فدونك خذه محكما يا أبا حنـش أخبرني أحمد، قال: حدثني عمر بن شبة: قال: حدثني أحمد بن معاوية: قال:

 

صفحة : 2579

 

سمعت مروان بن أبي حفصة يقول: لقيني الناطفي؛ فدعاني إلى عنان، فانطلقت معه، فدخل إليها قبلي، فقال لها: قد جئتك بأشعر الناس، مروان بن أبي حفصة، فوجدها عليلة ،فقالت له :إني عن مروان لفي شغل، فأهوى إليها بسوط فضربها به، وقال لي: ادخل، وهي تبكي، فرأيت الدموع تنحدر من عينيها فقلت:

بكت عنان فجرى دمعها                      كالدر إذ يسبق من خيطه فقالت وهي تبكي:

فليت من يضربها ظالما                      تيبس يمناه على سوطه فقلت: أعتق مروان ما يملك إن كان في الجن والأنس أشعر منها.

أخبرني الجوهري، قال: حدثنا أبو زيد عن أحمد بن معاوية: قال: قال لي رجل: تصفحت كتبا، فوجدت فيها بيتا جهدت جهدي أن أجد من يجيزه، فلم أجد، فقال لي صديق: عليك بعنان جارية الناطفي، فجئتها فأنشدتها:

وما زال يشكو الحب حتى رأيته                      تنفس في أحشائه وتكـلـمـا فما لبثت أن قالت:

ويبكي فأبكي رحمة لبكـائه                      إذا ما بكى دمعا بكيت له دما -في هذين البيتين لحن من الرمل، أظنه لجحظة أو لبعض طبقته- قرأت في بعض الكتب: دخل بعض الشعراء على عنان جارية الناطفي، فقال لها مولاها عاييه ، فقالت:

سقيا لبغداد لا أرى بلدا                      يسكنه الساكنون يشبهها فقال:

كأنها فـضة مـمـوهة                      أخلص تمويهها مموهها فقالت:

أمن وخفض ولا كبهجتهـا                      أرغد أرض عيشا وأرفهها فانقطع .

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني بن أبي سعيد قال: حدثني مسعود بن عيسى، قال: أخبرني موسى بن عبد الله التميمي، قال: دخل أبو نواس على الناطفي، وعنان جالسة تبكي، وخدها على رزة من مصراع الباب، وقد كان الناطفي ضربها، فأومأ إلى أبي نواس أن يحركها بشيء، فقال أبو نواس:

عنان لو جدت لي فإني مـن                      عمري في آمن الرسول بما فردت عليه عنان:

فإن تمادى ولا تماديت فـي                      قطعك حبلي أكن كمن ختما فرد عليها أبو نواس فقال:

علقت من لو أتى على أنـف                      س الماضين والغابرين ما ندما فردت عليه:

لو نظرت عينها إلى حجر                      ولد فيه فتورها سقـمـا أخبرني ابن عمار ، قال: حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه: قال: حدثني محمد بن أبي مروان الكاتب: قال: أخذ أبو نواس من عنان جارية الناطفي خاتما فصه أحمر، فأخذه أحمد بن خالد حيلويه من أبي نواس، فطلبته منه عنان، فبعث إليها مكانه خاتما فصه أخضر، فاتهمته في ذلك، فكتب أبو نواس إلى أحمد بن خالد، فقال:

فدتك نفسي يا أبا جعـفـر                      جارية كالقمـر الأزهـر

تعلقتني وتـعـلـقـتـهـا                      طفلين في المهد إلى المكبر

كنت وكانت نتهادى الهـوى                      بخاتمينا غير مستـنـكـر

حنت إلى الخاتم منـي وقـد                      سلبتني إياه منـذ أشـهـر

فأرسلت فيه فغالطـتـهـا                      بخاتم في قـده أخـضـر

قالت: لقد كان لنـا خـاتـم                      أحمر أهداه إلينـا سـري

لكنه علـق غـيري فـقـد                      أهدى إليه الخاتم لا أمتري

كفـرت بـالـلـه وآياتـه                      إن أنا لم أهجره فليصبـر

أو فأت بالمخرج من تهمتي                      إياه في خاتمنـا الأحـمـر

فاردده تردد وصلها إنـهـا                      قرة عيني يا أبا جـعـفـر

فإنني متـهـم عـنـدهـا                      وأنت قد تعلم أنـي بـري قال: فرد إليه الخاتم، وبعث إليه معه بألفي درهم.

أخبرني ابن عمار وعلي بن سليمان الأخفش، قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد، عن المازني عن الأصمعي - وقال ابن عمار في خبره عن بعض أصحابه - أظنه المازني- عن الأصمعي، قال: ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قط إلا مرة واحدة، فإني دخلت إليه أنا وأبو حفص الشطرنجي، فرأيت التخثر في وجهه، فقال لنا: استبقا إلى بيت بل إلى أبيات، فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم، قال: فأشفقت ،ومنعتني هيبته، قال: فقال أبو حفص:

كلما دارت الزجاجة زادت                      ه اشتياقا وحرقة فبكـاك فقال: أحسنت فلك عشرة آلاف درهم.

قال: فزالت الهيبة عني، فقلت:

لم ينلك الرجاء أن تحضريني                      وتجافت أمنيتي عن سـواك

 

صفحة : 2580

 

فقال: لله درك لك عشرون ألف درهم، قال: فأطرق مليا، ثم رفع رأسه إلي، فقال: أنا والله أشعر منكما، ثم قال:

فتمنيت أن يغشيني الـل                      ه نعاسا لعل عيني تراك أخبرني ابن عمار الأخفش قالا: حدثنا محمد بن يزيد عن المازني :قال: قال الأصمعي: بعثت إلي أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان، قد صرفته عنها فلك حكمك. قال: فكنت أريغ لأن أجد للقول فيها موضعا ،فلا أجده، ولا أقدم عليه هيبة له، إذ دخلت يوما فرأيت في وجهه أثر الغضب، فانخزلت، فقال: مالك يا أصمعي? قلت: رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر غضب، فلعن الله من أغضبه فقال: هذا الناطفي والله، لو لا أني لم أجر في حكم قط متعمدا لجعلت على كل جبل منه قطعة، وما لي في جاريته أرب غير الشعر، فذكرت رسالة أم جعفر، فقلت له: أجل والله ما فيها غير الشعر، أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق? فضحك حتى استلقى، واتصل قولي بأم جعفر فأجزلت لي الجائزة.

أخبرني عمي والحسن بن علي، قالا: حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني محمد بن هارون، عن يعقوب بن إبراهيم: أن الرشيد طلب من الناطفي جاريته، فأبى أن يبيعها بأقل من مائة ألف دينار، فقال: أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ بالدينار سبعة دراهم ،فامتنع عليه، وأمر أن تحمل إليه، فذكروا أنها دخلت مجلسه، فجلست في هيئتها تنتظره فدخل عليها، فقال لها: ويلك إن هذا قد اعتاص علي في أمرك، قالت: وما يمنعك أن توفيه وترضيه? فقال: ليس يقنع ما أعطيه، وأمرها بالانصراف. فبلغني أن الناطفي تصدق بثلاثين ألف درهم حين رجعت إليه، فلم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها، فلما مات بعث مسرورا الخادم، فأخرجها إلى باب الكرخ، فأقامها على سرير وعليها رداء رشيدي قد جللها، فنودي عليها: من يزيد? بعد أن شاور الفقهاء فيها، وقال: هذه كبد رطبة، وعلى الرجل دين، فأشاروا ببيعها، قال: فبلغني أنها كانت تقول - وهي في المصطبة-: أهان الله من أهانني، وأذل من أذلني، فلكزها مسرور بيده، وبلغ بها مسرور مائتي ألف درهم، فجاء رجل، فقال: علي زيادة خمسة وعشرين ألف درهم، فلكزه مسرور، وقال: أتزيد يا أمير المؤمنين ثم بلغ بها مائتين وخمسين ألفا، وأخذها له قال: ولم يكن فيها شيء يعاب، وطلبوا لها عيبا لئلا تصيبها العين، فأوقعوا بخنصر رجلها شيئا، وأولدها ابنين - قال: أظنهما ماتا صغيرين - ثم خرج بها إلى خراسان، فمات هناك وماتت عنان بعده.

أبو نواس لشبب بها: قال: وأنشدنا لأبي نواس في قصيدة يمدح بها يزيد بم مزيد ويذكر عنان في تشبيبها:

عنان يا من تشبه العينـا                      أنت على الحب تلومينا

حسنك حسن لا أرى مثله                      قد ترك الناس مجانينـا اخبرني عمي: قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي: قال: حدثني أحمد بن القاسم العجلي: قال: حدثني أبو القاسم النخعي قال: كان العباس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفي، فجاءني يوما، فقال: امض بنا إلى عنان جارية الناطفي، فصرنا إليها، فرأيتها كالمهاجرة له ،فجلسنا قليلا، ثم ابتدأ العباس فقال:

قال عـبـاس وقـد أج                      هد مـن وجـد شـديد

ليس لي صبر على الهج                      ر ولا لذع الـصـدود

لا ولا يصبر لـلـهـج                      ر فـؤاد مـن حـديد فقالت عنان:

من تراه كان أعـنـى                      منك عن هذا الصدور

بعد وصل لك مـنـي                      فيه إرغام الحـسـود

فاتخذ للهجر إن شـئ                      ت فؤادا مـن حـديد

ما رأيناك علـى مـا                      كنت تجني بجـلـيد

لو تجـودين لـصـب                      راح ذا وجـد شـديد

وأخي جهل بمـا قـد                      كان يجني بالصـدود

ليس من أحدث هجرا                      لصـديق بـســديد

ليس منه الموت إن لم                      تصـلـيه بـبـعـيد قال: فقلت للعباس: ويحك ما هذا الأمر? قال: أنا جنيت على نفسي بتنايهي عليها، فلم أبرح حتى ترضيتها له.

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا الحارث بن يحيى بن حمد بن أبي مية: قال: حدثني يحيى بن محمد: أن الرشيد كان يساوم بعنان جارية النطاف، فبلغ ذلك أم جعفر، فشق عليها، فدست إلى أبي نواس أن يحتال في أمرها فقال يهجوها:

 

صفحة : 2581

 

 

إن عنان للنطاف جارية                      أصبح حرها للنيك ميدانا

فما يشتريها إلا ابن زانية                      أو قلطبان يكون من كانا فبلغ ذلك الرشيد، فكان يقول: لعن الله أبا نواس، وقبحه، فلقد أفسد علي لذتي في عنان بما قال فيها، ومنعني من شرائها.

 

ما لي وللخمر وقد أرعشت                      مني يميني هات باليسرى

حتى تراني مائلا مسـنـدا                      لا أستطيع الكأس بالأخرى الشعر للحسن بن وهب، والغناء لعبد الله بن العباس الربعي، خفيف ثقيل بالوسطى ، وفيه أيضا له خفيف رمل بالبنصر.

 

أخبار الحسن بن وهب

هو الحسن بن وهب بن سعيد، كاتب شاعر مترسل فصيح أديب، وأخوه سليمان بن وهب فحل من الكتاب ويكنى أبا علي، وهو عريق في الكتابة، ولأولاده نجابة مشهورة تستغني عن وصف ذلك، وكانوا يقولون إنهم من بني الحارث بن كعب، وأصلهم نصارى، وفي بني الحارث نصارى كثير.

وفي الحسن بن وهب يقول البحتري:

يا أخا الحارث بن كعب بن عمرو                      أشهـورا تـصـوم أم أيامـا? وكان البحتري مداحا لهم، وله في الحسن ،وقد اجتاز بمنزله بعد وفاته:

أناة أيها الفلـك الـمـدار                      أنهب ما تطرق أم جبـار

نزلنا منزل الحسن بن وهب                      وقد درست مغانيه القفـار يقول فيها يصف صبوحا كانوا قد اصطحبوه:

أقمنا، أكلنا أكل اسـتـلاب                      هناك وشربنا شـرب يدار

تنازعنا المدامة وهي صرف                      وأعجلنا الطبائخ وهي نـار

ولم يك ذاك سخفا غير أنـي                      رأيت الشرب سخفهم الوقار أخبرني الصولي، وذكر ذلك عن جماعة من الكتاب: أن الحسن بن وهب كان أشد تمسكا بالنسب إلى بني الحارث بن كعب من أخيه سليمان، وكان سليمان ينكر ذلك، ويعاتب عليه أخاه الحسن وابنه أحمد بن سليمان. وأصلهم من قرية من سواد واسط في جسر سابور يقال لها  سارقيقا  أخبرني عمي: قال: حدثني عمر بن نصر الكاتب، وكان من مشايخ الكتاب بسر من رأى، قال: كنا نتهادى ونحن في الديوان أشعار الحسن بن وهب، ونتباهى بحفظها، قال: وأنشدني له، وكتب بها إلى أخيه سليمان بن وهب من مدينة السلام وهو محبوس في أيام الواثق:

خطب أبـا أيوب جـل مـحـلـه                      فإذا جزعت من الخطوب فمن لها?

إن الذي عقد الذي انـعـقـدت بـه                      عقد المكاره فيك يحسن حـلـهـا

فاصبر لعلها الصبر يفتق ما تـرى                      وعسى بها أن ينجلي ولـعـلـهـا قال: وكتب إليه أيضا وهو في الحبس بسر من رأى:

خليلي من عبد الـمـدان تـروحـا                      ونصا صدور العيس حسرى وطلحا

فإن سليمان بـن وهـب بـبـلـدة                      أصاب صميم القلب مني فأقرحـا

أسائل عنه الحارسين لـحـبـسـه                      إذا ما أتوني: كيف أمسى وأصبحا

فلا يهنئ الأعداء أسر ابـن حـرة                      يراه العدا أندى يمينا وأسـمـحـا

وأنهض للأمر الجلـيل بـعـزمة                      وأقرع للباب الأصـم وأفـتـحـا أخبرني محمد بن يحيى الصولي: قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد: قال: وجه الحسن بن وهب إلى أبي تمام وهو بالموصل خلعا فيها خز ووشي، فامتدحه بقصيدة أولها:

أبو علي وسمي منتـجـعـه                      فاحلل بأعلى واديه أو جزعه ثم وصف الخلعة فقال:

وقد أتاني الرسول بالملبس الفخ                      م لصيف امرئ ومرتبـعـه

لو أنها جللـت أويسـا لـقـد                      أسرعت الكبرياء في روعـه

رائق خـز أجـيد سـابــره                      سكب تدين الصبا لمـدرعـه

وسر وشي كأن شعري أحـيا                      نا نسيت العيون من بـدعـه

تركتني ساهر الجفون عـلـى                      أزلم دهر بحسنهـا جـذعـه - يعني الدهر، والدهر يقال له: الأزلم الجذع، والأزلم: الطويل، والجذع: الجديد: يقول: هو قديم سالف، ويومه جديد، قال لقيط الإيادي:

يا قوم بيضتكم لا تفضحن بهاإني أخاف عليها الأزلم الجذعا أخبرني الصولي: قال: حدثنا محمد بن يزيد المبرد: قال: لما حبس محمد بن عبد الملك الزيات سليمان بن وهب، وطالبه بالأموال وقت نكبته قال الحسن بن وهب:

 

صفحة : 2582

 

 

خليلي من عبد الـمـدان تـروحـا                      ونصا صدور العيس حسري وطلحا

فإن سليمان بن وهـب بـمـنـزل                      أصاب صميم القلب مني فأقرحـا

أسائل عنه الحارسين لـحـبـسـه                      إذا ما أتوني كيف أمسى وأصبحـا

فلا يهنئ الأعداء حبس ابـن حـرة                      يراه العدا أندى يمينا وأسـمـحـا

وقولا لهم صبرا قليلا وأصبـحـوا                      فما أقرب الليل البهيم من الضحـا قال: وقيل له وسليمان محبوس: كيف أصبحت? قال: أصبحت والله قليل النشاط، كال القريحة، صدئ الذهن، ميت الخاطر من سوء فعل الزمان، وتوارد الأحزان، وتغير الإخوان، قال: وآلى ألا يذوق طعاما طيبا، ولا يشرب ماء باردا، ما دام أخوه محبوسا?، فوفى بذلك.

أخبرني الصولي: قال: أخبرني أبو الأسود: قال: كان للحسن بن وهب جار هاشمي، يلقب بالطير، فحج سنة من السنين، ورجع آخر الناس، فقال فيه الحسن:

أينقص أم يزيد من الرقاعـه                      أخو حمق له الدنيا مشاعـه

يحج على الجمال ولو تجلـى                      لمكة جاءها في بعض ساعه أخبرني الصولي: قال: حدثنا الطالقاني: قال: حدثنا أحمد بن سليمان بن وهب. قال :رآني عمي الحسن، وأنا أبكي لفراق بعض ألافي فقال:

ابك فما أنفع ما في البكـا                      لأنه للوجـد تـسـهـيل

وهو إذا أنت تأمـلـتـه                      حزن على الخدين محلول أخبرني الصولي: قال: حدثنا علي بن الصباح : قال: بلغ الحسن بن رجاء أن الحسن بن وهب عابه بحب الغلمان، وكان الحسن بن وهب أشد حبا لهم منه، فقال: مثلي ومثله كما قال حسان بن ثابت:

وإني لأغني الناس عن فضل صاحب                      يرى الناس ضلالا وليس بمهـتـد أخبرنا محمد: قال: حدثنا الحزنبل: قال: كتب رجل إلى الحسن بن وهب يستميحه، فوقع في رقعته:

الجود طبعي ولكن ليس لي مال                      فكيف يحتال من بالرهن يحتال أخبرني الحسن بن علي: قال: حدثني محمد بن موسى بن حماد: قال: كنت اكتب في حداثتي بين يدي الحسن بن وهب - وكان شديد الشغف ببنات جارية محمد بن حماد كاتب راشد، فكنا يوما عنده، وهي تغني، وبين أيدينا كانوا فحم، فتأذت به، فأمرت أن يباعد، فقال الحسن :

بأبي كرهت النار حتى أبـعـدت                      فعلمت ما معناك في إبعـادهـا

هي ضرة لك بالمتاع ضـيائهـا                      وبحسن صورتها لدى إيقـادهـا

وأرى صنيعك في القلوب صنيعها                      في شوكها وسيالها وقـتـادهـا

شركتك في كل الجهات بحسنهـا                      وضيائها وصلاحها وفسـادهـا أخبرني الصولي: قال: حدثني الحسين بن يحيى: قال: كنا عند الحسن بن وهب، فقال: لو ساعدنا الدهر لجاءتنا بنات، فما تكلم بشيء حتى دخلت، فقال: إني وإياك لكما قال علي بن أمية:

وفاجأتني والقلب نحوك شاخص                      وذكرك ما بين اللسان إلى القلب

فيا فرحة جاءت على إثر ترحة                      ويا غفلتا عنها وقد نزلت قربي قرأت في بعض الكتب: دخلت يوما بنات على الحسن بن وهب، وهو مخمور، فسلمت عليه، وقبلت يده، فأراد تقبيل يدها، فمنعته فرعش، فقال:

أقول وقد حاولت تقبيل كفـهـا                      وبي رعدة أهتز منها وأسكـن

فديتك إني أشجع الناس كلـهـم                      لدى الحرب إلا أنني عنك أجبن أخبرني الصولي: قال: حدثني محمد بن موسى، قال: جاءت بنات تسأل الحسن بن وهب من علة نالته، فحين رآها دعا برطل، فشربه على وجهها، وقال: قد عوفيت، فأقيمي اليوم عندي، فأبت وقالت: عند مولاي دعوة، فأمر بإحضار مائتي دينار، فأحضرت فقال: هذه مائة لمولاك، فابعثي بها إليه ومائة لك؛ فقالت: أما هو فأبعث بمائة إليه ؛ وأما أنا فوالله لا أخذت المائة الأخرى، ولأتصدقن بمثلها لعافيتك ولكن أكتب إليه رقعة تقوم بعذري؛ فأخذ الدواة؛ وكتب إلى مولاها :

ضرة الشمس والقمر                      متعيني من النـظـر

متعينـي بـجـلـسة                      منك يا أحسن البشـر

أشتريهـا إن بـعـت                      نيها بسمعي وبالبصر

أذهب السقم سقم طر                      فك ذي الغنج والحور

فأديمي الـسـرور لا                      تمزجي الصفو بالكدر

 

صفحة : 2583

 

 

ليس يبقي علي حبك هذا ولا يذر

وأنا منه فأنعمي                      بمـقـام عـلـى خـطـــر

وتـغـنـي فـــداك كـــل                      مغـن لــكـــي أســـر

ربـع سـلـمـى بـذي بـقـر                      عرضة الـريح والـمـطــر حدثني أبو إسحاق بن الضحاك عن أحمد بن سليمان - والحكايتان متفقتان متقاربتان - أخبرني الصولي: قال: حدثني الحسين بن يحيى: قال: حدثني أحمد بن سليمان بن وهب قال: قال لي أبي: قد عزمت على معاتبة عمك في حبه لبنات، فقد شهر بها وافتضح، فكن معي، وأعني عليه، وكان هواي مع عمي، فمضيت معه فقال له أبي، وقد أطال عتابه: يا أخي، جعلت فداك الهوى ألذ وأمتع، والرأي أصوب وأنفع، فقال عمي متمثلا:

إذا أمرتك العاذلات بهجرها                      أبت كبد عما يقلن صـديع

وكيف أطيع العاذلات وحبها                      يؤرقني والعاذلات هجوع فالتفت إلي أبي ينظر ما عندي، فتمثلت:

وإني ليلحاني على فرط حبها                      رجال أطاعتهم قلوب صحائح فنهض أبي مغضبا ضمني عمي إليه، وقبلني، وانصرفت إلى بنات، فحدثتها بما جرى وعمي يسمع، فأخذت العود، فغنت:

يلومك في مودتها أناس                      لو أنهم برأيك لم يلوموا فيه ثقيل أول.

قال أحمد بن سليمان، وعذلته عجوز لنا، يقال لها: منى، فقال لها: قومي، فانظري إليها، واسمعي غنائها، ثم لوميني، فقامت معه، فرأتها، وسمعت غنائها فقالت له: لست أعاود لومك فيما بعد هذا، فأنشأ يقول:

ويوم سها عنه الزمان فأصبـحـت                      نواظره قد حار عنها بصـيرهـا

خلوت بمن أهوى به فتكـامـلـت                      سعود أدار النحس عنا مـديرهـا

أما تعذريني يا منى في صبابـتـي                      بمن وجهها كالشمس يلمع نورها? قال أحمد بن سليمان: كان لعمي كاتب يعرف بإبراهيم: نصراني يأنس به، فسأل بنات مسألتها عمي أن يجعل رزقه ألف درهم في الشهر، فلما شرب أقداحا، وطرب وثبت قائمة وقالت: يا سيدي لي حاجة، فوثب عمي، فقام لقيامها، فقالت: تجعل رزق إبراهيم ألف درهم في الشهر، فقال: سمعا وطاعة، فجلست فأنشأ يقول:

قامت فقمت ولم أكن لو لم تقم                      لأجل خلقا غيرها فأقـومـا

شفعت لإبراهيم في أرزاقـه                      فوددت أني كنت إبراهيمـا

فأجبتها إني مطيع أمـرهـا                      وأراه فرضا واجبا محتومـا

ما كان أطيب يومنا وأسـره                      لو لم يكن بفراقها مختومـا قال: ثم إن عمي صار إلى أبي، فأخبره الخبر، فأمر أن يجعل لإبراهيم من ماله ألف درهم أخرى لشفاعتها.

أخبرني الصولي: قال: حدثني إسماعيل بن الخصيب: قال: اعتل الحسن بن وهب، فلم تعلم بنات بذلك، وتأخرت عن عيادته، فكتب إليها:

عليل أنت أعللـتـه                      فلو أنك عـلـتـه

بوعـد أن تـزوريه                      إذا ما ممكن نلتـه

قريبا لنـفـيت الـدا                      ء عنه حين واعدته

وما ضرك لو جـاء                      رسول منك أرسلته

فيحكي لك ما قـال                      كما يحكي الذي قلته

أما والله لـو أن ال                      ذي يحمل حملـتـه

لما احتاج إلى التعل                      يم فيما قد تجاهلتـه أخبرني الصولي: قال أحمد بن إسماعيل: قال: حدثني أحمد بن عبيد الله بن جميل: قال: أهدى الحسن بن وهب إلى بنات في علة اعتلتها هدايا حسنة وأهدى معها قفص شفانين ، وكتب إليها:

شفاء أنين بالشـفـانـين أمـلـت                      لكم نفس من أهدى الشفانين عامدا

كلوها يكل الداء عنكم فـإنـنـي                      أزوركم للشوق لا زرت عـائدا أخبرني عمي: قال: حدثني ميمون بن هارون: قال: كتب الحسن بن وهب إلى بنات يوم جمعة يستدعيها، فكتبت إليه أن عند مولاها أصدقاء له، وقد منعها من المسير إليه، فكتب إليها ثانية يقول:

يومنا يوم جمعة بـأبـي أن                      ت وعند الوضيع لا كان قوم

سفل مثله يسومونه الـخـس                      ف ويرضاه وهو للوعد سوم

فامنعيهم منك البشاشة حتـى                      يتغشاهم من الـبـرد نـوم

وليكن منك طول يومك لـل                      ه صلاة إلى المساء وصوم

وارفعي عنهم الغناء وإن نـا                      لك عذل من الوضيع ولـوم

 

صفحة : 2584

 

 

واذكري مغرما بحبك أمسى                      همه أن يديله مـنـك يوم أخبرني عمي قال: حدثني ميمون بن هارون، قال: كان الحسن بن وهب يشرب عند محمد بن عبد الله بن طاهر، فعرضت سحابة، فبرقت ورعدت، وقطرت، فقال الحسن:

هطلتنا السماء هطـلا دراكـا                      عارض المرزمان فيها السماكا

قلت للبرق إذ تـألـف فـيهـا                      يا زناد السماء مـن أوراكـا?

أحبيبـا نـأيتـه فـبـكـاكـا                      فهو العارض الذي استبكاكـا

أم تشبهت بالأمير أبي الـعـب                      اس في جوده فلست كذاكـا? أخبرني عمي، قال: حدثنا أبو العيناء، قال: طلب محمد بن عبد الملك الزيات الحسن بن وهب، وكان قد اصطبح مع بنات فكتب إليه: يا سيدي، أنا في مجلس بهي، وطعام هني، وشراب شهي، وغناء رضي، أفأتحول عنه إلى كد الشقي، ووثبت بنات لتقوم، فردها وكتب:

ما بان عنك الذي بـن                      ت عنه لا عاش بعدك

إن لم يكن عنده الص                      بر والسلو فعـنـدك

ومـا وجـدتــه إلا                      عبد الرجاء وعبـدك فاستلبها الرسول، ومضى بها إلى محمد، فوقع فيها:

أبا علـي أراك الإل                      ه في الأمر رشـدك

إن لم تكن عندي اليو                      م بالشوق كنت عندك

فاهدم محلك عنـدي                      واجهد لذلك جهـدك

فلـســت أزداد إلا                      رعـاية لـك ودك

وانعم بمن قلت فيهـا                      عبد الرجاء وعبـدك

أزيل نحسك فـيهـا                      وأطلع الله سعـدك ورد الرقعة إلى الحسن، فلما قرأها خجل، وحلف ألا يشرب النبيذ شهرا، ولا يفارق مجلس الوزير.

أخبرني عمي عن إبراهيم بن المدبر، قال: ولدت بنات من مولاها ولدا وسمته بإبراهيم، فأبغضها الحسن بن وهب، وكتب إليها:

نتج المهرة الهجان هجينـا                      ثم سمى الهجين إبراهيمـا

بخليل الرحمن سميت عبـدا                      أم قريع الفتيان ذاك الكريما وبعث البيتين إليها، وكان آخر عهده بها.

أخبرني الصولي قال: حدثنا محمد بن موسى قال: كان الحسن بن وهب يعشق غلاما روميا لأبي تمام، وكان أبو تمام يعشق غلاما خزريا للحسن، فرأى أبو تمام يوما الحسن يعبث بغلامه، فقال له: والله لإن أعتقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر، فقال له الحسن: لو شئت لحكمتنا واحتكمت، فقال له أبو تمام: ما أشبهك إلا بداود، ولا أشبه نفسي إلا بخصيمه، فقال له: لو كان هذا منظوما حفظه، فأما المنثور فهو عارض لا حقيقة له، فقال أبو تمام:

أبا علي لصرف الدهر والـغـير                      وللـحـوادث والأيام والـعـبـر

أعندك الشمس لم يحظ المغيب بهـا                      وأنت مضطرب الأحشاء للقمـر

أذكرتني أمر داود وكنـت فـتـى                      مصرف القلب في الأهواء والذكر

إن لم تترك السير الحـثـيث إلـى                      جآذر الروم أعنقنا إلى الـخـزر

إن الغزال له مني مـحـل هـوى                      يحل مني محل السمع والبـصـر

ورب أمنع منه جانـبـا وحـمـى                      أمسى ولكنه مني علـى خـطـر

جردت منه جنود العزم فانكشفـت                      منه غيابتـهـا عـن تـكة هـدر

سبحان من سبحتـه كـل جـارحة                      ما فيك من طمحان الأير والنظـر

أنت المقيم فما تـعـدو رواحـلـه                      وأيره أبا منـه عـلـى سـفـر قال الصولي: فحدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: قلت لأبي تمام: غلامك أطوع للحسن بن وهب من غلام وهب لك، قال: أجل والله؛ لأن غلامي يجد عنده ما لا يجده غلامه عندي، وأنا أعطي غلامه قيلا وقالا، وهو يعطي غلامي ثيابا ومالا.

أخبرني الصولي: قال: حدثني أبو الحسن الأنصاري، قال: حدثني أبي: وحدثني الفضل الكاتب المعروف بفنجاخ:

 

صفحة : 2585

 

أن الحسن بن وهب كان يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات، وهو وزير الواثق، وكان ابن الزيات قد وقف على ما بين الحسن بن وهب وبين أبي تمام في غلاميهما: فتقدم إلى بعض ولده - وكانوا يجلسون عند الحسن بن وهب- بأن يعلموه بخبرهما ،وما يكون بينهما. قال: وعزم غلام أبي تمام على الحجامة، فكتب إلى الحسن يعلمه بذلك، ويسأله التوجيه إليه بنبيذ مطبوخ، فوجه إليه بمائة دن ومائة دينار، وبخلعة حسنة وبخور كثير، وكتب إليه:

ليت شعري يا أملح الناس عندي                      هل تداويت بالحجامة بـعـدي

دفع الله عنك لـي كـل سـوء                      باكر رائح وإن خنت عهـدي

قد كتمت الهوى بمبلغ جهـدي                      فبدا منه غير ما كنـت أبـدي

وخلعت العذار فليعلـم الـنـا                      س بأني إياك أصفـي بـودي

وليقولوا بما أحـبـوا إذا كـن                      ت وصولا ولم ترعني بصـد

من عذيري من مقلتيك ومن إش                      راق وجه من دون حمرة خـد قال: ووضع الرقعة تحت مصلاه، وبلغ محمد بن عبد الملك خبر الرقعة، فوجه إلى الحسن، فشغله بشيء من أمره، وأمر من أخذ الرقعة من تحت مصلاه، وجاء بها، فقرأها، وكتب على ظهرها:

ليت شعري عن ليت شعرك هذا                      أبهـزل تـقـولـه أم بـجـد

فلئن كنت في المقال مـحـقـا                      يا بن وهب لقد تغيرت بعـدي

وتشبهت بي وكنـت أرى أنـي                      أنا العاشق الـمـتـيم وحـدي

أترك القصد في الأمور ولـولا                      غمرات الهوى لأبصرت رشدي

وأحب الأخ المشارك في الحب                      وإن لم يكن به مـثـل وجـدي

كنديمي أبي عـلـي وحـاشـا                      لنديمي مثـل شـقـوة وجـدي

إن مولاي عبـد غـيري ولـولا                      شؤم جدي لكان مولاي عبـدي

سيدي سيدي ومـولاي مـن أو                      رثـنـي ذلة وأضـرع خـدي في هذين البيتين الأخيرين لحن من الرمل، أظنه لجحظة أو غيره من طبقته.

قال: ثم وضع الرقعة في مكانها، فلما قرأها الحسن قال: إنا لله افتضحنا عند الوزير، وحدث أبا تمام بما كان، ووجهه إليه بالرقعة، فلقيا محمد بن عبد الملك، وقالا له: إنما جعلنا هذين سببا للمكاتبة بالأشعار لا للريبة، فتضاحك وقال: ومن يظن بكما غير هذا فكان قوله أشد عليهما من الخبرة.

قرأت في بعض الكتب: كان الحسن بن وهب يعاشر أبا تمام عشرة متصلة، فندب الحسن بن وهب للنظر في أمر بعض النواحي، فتشاغل عن عشرة أبي تمام، فكتب إليه أبو تمام:

قالوا جفاك فلا عهد ولا حـبـر                      ماذا تراه دهاه? قلـت: أيلـول

شهر كأن حبال الهجر منه فـلا                      عقد من الوصل إلا وهو محلول فأجابه الحسن:

ما عاقني عنك أيلول بلذتـه                      وطيبه ولنعم الشهر أيلـول

لكن توقع وشك البين عن بلد                      تحتله ووكاء العين محلول وقرأت فيه: كان بين الحسن بن وهب وبين الهيثم الغنوي وأحمد بن أبي داود تباعد ،فقال يهجوهما:

سألت أبي وكان أبي خبيرا                      بسكان الجزيرة والسـواد

فقلت لهم: أهيثم من غني?                      فقال كأحمد بن أبي داود

فإن يك هيثم من جذم قيس                      فأحمد غير شك مـن إياد أخبرني عمي: قال: حدثني عمر بن نصر الكاتب، قال: كتب الحسن بن وهب إلى محمد بن معروف الواسطي يسأله أن يصير إليه فكتب إليه محمد:

وقيتك كل مكروه بنفـسـي                      وبالأدنين من أهلي وجنسـي

أتأذن في التأخر عنك يومـي                      على أن ليس غيرك لي بأنس فأجابه الحسن بن وهب، فقال:

أقم لا زلت تصبح في سرور                      وفي نعم مواصلة وتمسـي

فما لي راحة في حبس من لا                      أراه يكون محبوسا بحبسـي وكان الحسن يومئذ معتقلا في مطالبة يطالب بها.

وجدت في بعض الكتب بغير إسناد.

 

 

صفحة : 2586

 

كان الحسن بن وهب يحب بنات، جارية محمد بن حماد الكاتب، وكان له معها أخبار كثيرة، وكان لا يصبر عنها، فقدم الحسن بن إبراهيم بن رباح من البصرة، واتصل به خبرها، ووصفها له الحسن بن وهب، وصار به إليها، فأتم ليلته معها، ومرت بينهما أعاجيب، ثم خالفه الحسن بن إبراهيم بن رباح، وخاتله في أمرها، فكتب إليه الحسن بن وهب:

لا جـمــيل ولا حـــســـن                      خنـت عـهـدي ولـم أخـــن

كملت إذ فعلت هذا أعاجيب الزمن

فإلى الله أشتكي                      ما بـقـلـبـي مـن الـحــزن

رب شـكـوى مـن الـصــدي                      ق إلـى غـير ذي شــجـــن

بأبـي أنــت يا حـــســـن                      يا أخـا الـطـول والـمـنــن

أي رأي أراك خـــتـــــل                      ى فـي الـشـاهـين الأغـــن

يتــخـــطـــى إلـــيه دو                      ني فـي حـالـك الــدجـــن

فتــرى مـــنـــه ســـنة                      تتـعـالـى عـن الـسـنـــن

مع كـشـفـي لـك الـحـــدي                      ث الـذي عـنـك لـم يصـــن

واعـتـمـادي زعـمـت مــن                      ك عـلـى أحـصـن الـجـنـن

وعـلـى خـير صــاحـــب                      وعـلـى خـير مـا سـكـــن

خجـلـــي مـــن إســـاءة                      فضحـت حـسـن كـل ظـنـي

ثم مـمــن جـــرت إلـــى                      من وفـيمـن وعـنـد مـــن?

إن تـكـن تـلـك هــفـــوة                      فهـي كـالـشـيء لـم يكــن

أو تـكـن بـعـت خـلـتـــي                      بمـواف مـن الـثـــمـــن

درة الـبـحـر مــن عـــدن                      ذخـر ســيف بـــن ذي يزن

لم يكـن قـط مـثـلـــهـــا                      في مـــعـــد ولا عـــدن فتغافل عن جوابه، وأقام على مواصلتها وسمعها وحظر عليها، فلم يكن الحسن بن وهب يلقاها، فغلظ ذلك عليه، وكتب إليها هذه الأبيات:

أنكرت معرفتي جعلت لك الفـدا                      إنكـار سـيدة تـلاعـب سـيدا

أنا ذو منعت جفونـه أن تـرقـدا                      وتركته ليل التمـام مـسـهـدا

وبريت لحم عظامه فـتـجـردا                      وأزرت مضجعه النساء العـودا

أنا ذا فإن لم تعرفينـي بـعـد ذا                      فأنا ابن وهب ذو السماحة والدي

أشكو إلى الله الفؤاد المـقـصـدا                      وجوى ثوى تحت الحشا متلـددا

وغريرة ما كنت من إشفـاقـهـا                      يوما وإن بعد التلاقي مسـعـدا

يا ظبـية فـي روضة مـولـية                      جاد الربيع ترابهـا فـتـلـبـدا

هل تجزين الود منـي مـثـلـه                      أو تصدقين من الموعد موعـدا?

وإني وإن جعل القريض يجول بي                      حتى يغور بما أقـول وينـجـدا

لعلى يقين أن قلـبـك مـوجـع                      عندي المثال أنا الحمى ولك الفدا

وكما علمت إذا لبست المجـسـدا                      وثنيت خلف الأذن حاشية الـردا

وحبوت جيدك من حليك عسجـدا                      ونظمت ياقوتا بـه وزبـرجـدا

وشكوت وجدك في الغناء شكـاية                      ينسي حنينا والغريض ومعـبـدا

سيما إذا غنيتـنـي بـتـعـمـد                      بأبي وأمي ذاك منك تـعـمـدا

أثوي فـأقـصـر لـيلة لـيزودا                      ومضى وأخلف من قتيلة موعدا فوقعت الأبيات في يد ابن رباح فقرأها، وعلم أنه قد بلغ منه. فكتب إليه:

فدى لك آبـائي وحـق بـأن تـفـدى                      فدى لك قصدا من ملامك لي قصـدا

ولا تلحني في عثرة إن عـثـرتـهـا                      فلا والذي أمسيت أدعى لـه عـبـدا

وعهدك يا نفسي يقـيك مـن الـردى                      فأعظم به عندي وأكرم بـه عـهـدا

يمـين امـرئ بـر صـدوق مـبـرإ                      من الإثم ما حاولـت هـزلا ولا جـدا

سوى مـا بـه أزداد عـنـدك زلـفة                      ويكسبني منك الـمـودة والـحـمـدا

أرى الغي إن أومأت للـغـي طـاعة                      لأمرك فضلا عن سوى الغي لي رشدا

وأسعى لما تسعى وأتـبـع مـا تـرى                      وفي كل ما يرضيك أستغرق الجهـدا

إذا أنا لم أمنحـك صـفـو مـودتـي                      فمن ذا الذي أصفي له غيرك الـودا?

ومن ذا الذي أرعى وأشـكـر والـذي                      يؤمل خيرا بـعـد مـنـي أو رفـدا

وأنت ثمـالـي والـمـعـول والـذي                      أشد به أزري فيعـصـمـنـي شـدا

 

صفحة : 2587

 

 

وآثر خلق الله عـنـدي ومـن لـه                      أياد وود لست أحصيهـمـا عـدا

فلا تحسبن مائلا عن خـلـيقـتـي                      لك الدهر حتى أسكن القبر واللحدا

معاذ إلهـي أن أرى لـك خـاذلا                      ولكن عذري واضح أن بي وجـدا

بأحسن من أبصرت شخصا وصورة                      وأملح خلق اللـه كـلـهـم قـدا

بمالكة أمري وإن كنت مـالـكـا                      لها ففؤادي ليس من حبهـا يهـدا

إذا سألـتـهـن أن أقـيم عـشـية                      لأونسها لا أستـطـيع لـهـا ردا

تراشفني صفـو الـمـودة تـارة                      وأجني إذا ما شئت من خدها وردا

قنعت بها لما وثقـت بـحـبـهـا                      فلا زينبا أبغي سواها ولا هـنـدا

ولو بذلت لي جنة الخلـد مـنـزلا                      وقلت: اجتبها لاجتنبت لها الخلـدا فلما قرأها الحسن بن وهب علم أنه قد ندم فكتب إليه:

حسن يشكو إلى حسـن                      فقد طعم النوم والوسـن

وهوى أمست مطالـبـه                      قرنت باليأس في قـرن

وحبيب في محـلـتـه                      معه في الدار لم يبـن

فإذا مـا رام زورتــه                      فهو كالغادين في الظعن

عجبا للشمس لم تـرهـا                      مقلتي حولا ولم ترنـي

أتراها بعدنا صـرمـت                      حبنا هذا من الـيمـين

فقديما كان مطلـعـهـا                      بيدي سيف بن ذي يزن فكتب إليه ابن رباح:

حسن يفـدي بـمـهـجـتـه                      حسنا من حـادث الـزمـن

ويقـيه مـا تـضـمـنــه                      من دخيل الهـم والـحـزن

هاك عينـي فـابـك واقـية                      عينك العبري على الشـجـن

وفـؤادي فـامـلـه حـزنـا                      من صروف الهم والـفـتـن

إن لم تكن شمس الضحا حجبت                      عن سليل المجـد مـن يمـن

فهي حيرى عن مطالـعـهـا                      في سوى قوم ابـن ذي يزن ثم اعتذر إليه، ورجع إلى معاشرته، وكان لا يحضر دار محمد بن حماد، ولا يسمع غناء بنات جاريته إلا مع الحسن بن وهب لا يستأثر بها عليه.

وقال محمد بن داود الجراح: حدثني بعض أصحابنا: أن الحسن بن وهب، أتى أبا إسحاق إبراهيم بن العباس مستعديا على أبي محمد الحسن بن مخلد في أمر بنات جارية محمد بن حماد، وكان الحسن بن وهب يتعشقها، فأفسدها عليه الحسن بن مخلد ،ولم يذكر محمد بن داود من خبرهما غير هذا، وإنما ذكرت هذه القصة على قلة الفائدة فيها ليتضح خبره مع بنات إذ كان ما مضى ذكره من خبرهما لم يقع إلي بروايته.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني عبد الرحمن بن أحمد، قال: وجدت بخط محمد بن يزيد: كتب أبو تمام إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذا:

جعلت فداك عبد الله عندي                      بعقب الهجر منه والبعـاد

له لمة من الكتاب بـيض                      قضوا حق الزيارة والوداد

وأحسب يومهم إن لم تجدهم                      مصادف دعوة منهم جماد

فكم يوم من الصهباء سـار                      وآخر منك بالمعروف غاد

فهذا يستهل على غلـيلـي                      وهذا يستهل على تـلادي

فيسقي ذا مذانب كل عرق                      وينزع ذا قرارة كـل واد

دعوتهم عليك وكنت ممـن                      نعينه على العقد الـجـياد قال: فوجه إليه بمائة دينار ومائة دن نبيذا.

قال محمد بن داود بن الجراح: زار الحسن بن وهب وأبو تمام أبا نهشل بن حميد، فبدأ أبو تمام، فقال:

أغصك الله أبا نهشل ثم قال للحسن أجز: فقال:

بخد ريم شادن أكحل ثم قال: أجزيا أبا نهشل، فقال:

نطمع في الوصل فإن رمته                      صار مع العيوق في منزل أخبرني جعفر بن محمد بن قدام بن زياد الكاتب: قال: كتب الحسن بن وهب إلى أبي تمام، وقد قدم من سفر: جعلت فداءك ووقاءك وأسعدني الله بما أوفى علي من مقدمك، وبلغ الوطر مل الوطر بانضمام اليد عليك، وإحاطة الملك بك، وأهلا وسهلا، فقرب الله دارا قربتك، وأحيا ركابا أدتك، وسقى بلادا يلتقي ليلها ونهارها عليك، وجعلك الله في أحصن معاقله، وأيقظ محارسه وأبعدهما على الحوادث مراما برحمته.

 

 

صفحة : 2588

 

أخبرني الحسن بن علي: قال: حدثنا محمد بن موسى: قال: قال رجل للحسن بن وهب: إن أبا تمام سرق من رجل يقال له مكنف من ولد زهير بن أبي سلمى، وهو رجل من أهل الجزيرة قصيدته التي يقول فيها:

كأن بني القعـقـاع يوم وفـاتـه                      نجوم سماء خر من بينها الـبـدر

توفيت الآمـال بـعـد مـحـمـد                      وأصبح في شغل عن السفر السفر فقال الحسن: هذا دعبل حكاه، وأشاعه في الناس، وقد كذب، وشعر مكنف عندي، ثم أخرجه، وأخرج هذه القصيدة بعينها، فقرأها الرجل فلم يجد فيها شيئا مما قاله أبو تمام في قصيدته: ثم دخل دعبل على الحسن بن وهب، فقال له: يا أبا علي، بلغني أنك قلت في أبا تمام كيت وكيت، فهبه سرق هذه القصيدة كلها، وقبلنا قولك فيه، أسرق شعره كله? أتحسن أنت أن تقول كما قال:

شهدت لقد أقوت مغانيكم بـعـدي                      ومحت كما محت وشائع من برد

وأنجدتم من بعد اتـهـام داركـم                      فيا دمع أنجدني على ساكني نجد? فانخزل دعبل واستحيا، فقال له الحسن: الندم توبة، وهذا الرجل قد توفي، ولعلك كنت تعاديه في الدنيا حسدا على حظه منها، وقد مات الآن فحسبك من ذكره ،فقال له: أصدقك يا أبا علي، ما كان بيني وبينه شيء قط إلا أني سألته أن ينزل لي عن شيء استحسنته من شعره، فبخل علي به، وأما الآن فأمسك عن ذكره، فجعل الحسن يضحك من قوله واعترافه بما اعترف به.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء: قال: حدثنا إسحاق بن محمد النخعي: قال : كتب إبراهيم بن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى محمد بن حماد الكاتب يهجوه، ويعيره بعشق الحسن بن إبراهيم بن رباح والحسن بن وهب جاريته وتغايرهما عليها:

لي خليطان محكـمـان يجـيدا                      ن لما يعـمـلانـه حـاذقـان

واحد يعمل الـقـسـي فـيأت                      يك بها في استقامة الـمـيزان

وفتى يعمل السكاكين في القـر                      ن مقر بحـذقـه الـثـقـلان

وهما يطلبان قرنا علـى رأس                      ك فانظر في بعض ما يسألان

قلت: هل يؤلم الفتى قطع ما ف                      يه تريدان أيهـا الـفـتـيان?

فأجابا بلطـف قـول وفـهـم                      قم فإنا إذا لـنـوكـي مـدان

فاقطع الآن ما برأسك منـهـا                      إن فيما ترى لـمـض بـيان

ذاك خير من أن يسمى اسم سوء                      فيقال انظروا إلى الـقـرنـان

قد كان عتبك مرة مكـتـومـا                      فاليوم أصبح ظاهرا معلـومـا

نال الأعادي سؤلهم لا هـنـئوا                      لما رأونا ظاعنـا ومـقـيمـا

والله لو أبصرتنـي لأديت لـي                      والدمع يجري كالجمان سجوما

هبني أسأت فعادة لك أن تـرى                      متجاوزا متطاولا مظـلـومـا الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب، لعبيد بن الحسن الناطفي اللطفي، ثاني ثقيل بالوسط، وفيه خفيف رمل يقال: إنه لرذاذ، وفيه أول مجهول.

 

أخبار أحمد بن يوسف

هو أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب، وأصله من الكوفة، وكان مذهبه الرسائل والإنشاء، وله رسائل معروفة، وكان يتولى ديوان الرسائل للمأمون، ويكنى أبا جعفر، وكان موسى بن عبد الملك غلامه وخريجه، فذكر محمد بن داود بن الجراح أن أحمد بن سعيد حدثه عن موسى بن عبد الملك: قال: وهب لي أحمد بن يوسف ألفي ألف درهم تفاريق عن ظهر يد.

وأخوه القاسم بن يوسف أبو محمد شاعر مليح الشعر، وكان ينتمي إلى بني عجل، ولم يكن أخوه أحمد يدعي ذلك.

وكان القاسم قد جعل وكده في مدح البهائم ومراثيها فاستغرق أكثر شعره في ذلك، منها قوله يرثي شاة:

عين بكي لعنزنا الـسـوداء                      كالعروس الأدماء يوم الجلاء وقوله في الشاهمرك :

أقفرت منك أبا سعد عراص وديار وقوله في السنور:

ألا قل لمـجة أو مـاردة                      تبكي على الهرة الصائدة وقوله في القمري :

هل لامرئ من أمان                      من طارق الحدثان? أخبرني محمد بن خلف وكيع: قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد: قال: حدثني رجل من ولد عبد الملك بن صالح أن الهشامي قال:

 

صفحة : 2589

 

كان أحمد بن يوسف قد تبنى جارية للمأمون اسمها مؤنسة، فأراد المأمون أن يسافر ويحملها ،فكتب إليه أحمد بن يوسف بهذا الشعر على لسانها، وأمر بعض المغنين، فغناه به، فلما سمعه وقرأ الكتاب أمر بإخراجها إليه، وهو:

قد كان عتبك مرة مكتوما وقال محمد بن داود: حدثني أحمد بن أبي خيثمة الأطروش قال: عتب أحمد بن يوسف على جارية له، فقال:

وعامل بالفجور يأمر بالبر كهاد يخوض في الظلم

أو كطبيب قد شفه سقم                      وهـو يداوي مـن ذلـك الـــســـقـــم

يا واعـظ الـنـاس غـير مـــتـــعـــظ                      نفـسـك طـهـر أولا فـــلا تـــلـــم ووجدت في بعض الكتب بلا إسناد: عتب المأمون على مؤنسة، فخرج إلى الشماسية متنزها، وخلفها عند أحمد بن يوسف الكاتب فرجت أن يذكرها إذا صار في متنزهه ، فيرسل في حملها، فلم يفعل، وتمادى في عتبه، فسألت أحمد بن يوسف لأن يقول على لسانها شعرا ترفعه فقال:

يا سيدا فقده أغرى بي الحزنـا                      لا ذقت بعدك لا نوما ولا وسنا

لا زلت بعدك مطويا على حرق                      أشنا المقام وأشنا الأهل والوطنا

ولا التذذت بكأس في مـنـادمة                      مذ قيل لي: إن عبد الله قد ظعنا

ولا أرى حسنا تبدو محاسـنـه                      إلا تذكرت شوقا وجهك الحسنا وبعثت به إلى إسحاق الموصلي، فغناه به، وقيل: بل بعثت به إلى سندس، فغنته به؛ فاستحسن ذلك، وقال: لمن هذا الشعر? فقال أحمد بن يوسف: لمؤنسة يا سيدي تترضاك، وتشكو البعد منك ،فركب من ساعته، حتى ترضاها، ورضي عنها.

ووجدت في هذا الكتاب قال: كنا مع أحمد بن يوسف الكاتب في مجلس؛ وعندنا قينة، فتحلاها أحمد بن يوسف، فكتب إلى صاحب المنزل:

أنا رهن لـلـمـنـايا                      بين إبرام ونـقـض

من هوى ظبي غرير                      مونق المنظر غـض

ليتها جـادت بـتـق                      بيل لخديهـا وعـض

إن عجزتم عن شراها                      لي بفرض أو بقرض

فتمنوا لي جـمـيعـا                      أنها قبر لبعـضـي أخبرني عمي: قال: حدثنا الحسن بن عليل: قال: ذكر مسعود بن أبي بشر أن أحمد بن يوسف دخل يوما على الفضل بن سهل أو أخيه في يوم دجن، فأطال مخاطبته، وكان أحمد بن يوسف آنسا به، ففتح دواته وكتب إليه:

أرى غيما تؤلفه جـنـوب                      وأحسبه سيأتينا بـهـطـل

فوجه الرأي أن تدعو برطل                      فتشربه وتدعو لي برطـل ودفعها إليه فقرأهما، وضحك، وقال: إن كان هذا عين الرأي قبلناه، ولم نرده، ثم دعا بالطعام والشراب، فأتموا يومهم.

الغناء في هذين البيتين للقاسم بن زرزور ثاني ثقيل بالوسطى.

ومما يغني فيه من شعره.

 

صد عني محمد بن سعيد                      أحسن العالمين ثاني جيد

ليس من جفوة يصد ولكن                      يتجنى لحسنه في الصدود الغناء فيه لزرزور خفيف رمل، ذكر ذلك إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه، ومحمد بن سعيد هذا كان من أولاد الكتاب بسر من رأى، وكان أحمد يتعشقه.

ومن شعره الذي يغني فيه:

كم ليلة فيك لا صباح لـهـا                      أحببتها قابضا على كبـدي

قد غصت العين بالدموع وقد                      وضعت خدي على بنان يدي

كأن قلبـي إذا ذكـرتـكـم                      فريسة بين ساعـدي أسـد الغناء لشارية من رواية طباع، وفيه خفيفي رمل، ذكر حبش أنه لأحمد النصيبي، وهو خطأ يشبه أن يكون لأحمد بن صدقة أو بعض طبقته.

 

الراح والندمان أحسن منظرا                      في كل ملتف الحدائق رائق

فإذا جمعت صفاءه وصفاءها                      فارجم بكل ملمة من حالق الشعر للعطوي، والغناء لبنان ثقيل أول بالوسطى، وفيه لذكاء وجه الرزة خفيف ثقيل.

 

أخبار العطوي

هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي عطية مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة، ويكنى أبا عبد الرحمن بصري المولد والمنشأ.

وكان شاعرا كاتبا من شعراء الدولة العباسية، واتصل بأحمد بن أبي داود، وتقرب إليه بمذهبه وتقدمه فيه بقوة جداله عليه، فلما توفي أحمد نقصت حاله، وله فيه مدائح يسيرة، ومرات كثيرة.

منها ما أنشدنيه الأخفش عن كوثرة أخي العطوي:

 

صفحة : 2590

 

 

حنطته يا نصـر بـالـكـافـور                      وزففته للمنزل الـمـهـجـور

هلا ببعض خصاله حـنـطـتـه                      فيضوع أفق منازل وقـبـور?

تالله لو من نـشـر أخـلاق لـه                      يعزى إلى التقديس والتطـهـير

حنطت من سكن الثرى وعلا الربا                      لتـزودوه عـدة لـنـشـــور

فاذهب كما ذهب الوفـاء فـإنـه                      ذهبت به ريحا صـبـا ودبـور

واذهب كما ذهب الشباب فـإنـه                      قد كان خير مصاحب وعـشـير

والـلـه مـا أبـنـتــه لأزيده                      شرفا ولكن نفثة الـمـصـدور وأنشدني الأخفش للعطوي أيضا يرثي أحمد بن أبي داود قال:

وليس صرير النعش ما تسمعونه                      ولكنه أصلاب قوم تقـصـف

وليس نسيم المسك ريا حنوطـه                      ولكنه ذاك الثناء المـخـلـف وذكر محمد بن داود في كتاب الشعراء ،فقال: كان له فن من الشعر لم يسبق إليه، ذهب فيه إلى مذهب أصحاب الكلام، ففاق جميع نظرائه، وخف شعره على كل لسان، وروي، واستعمله الكتاب، واحتذوا معانيه، وجعلوه إماما.

قال ابن داود :وحدثني المبرد: قال: كان العطوي - وهو عندنا بالبصرة - لا ينطق بالشعر، ثم ورد علينا شعره لما صار إلى سر من رأى، وكنا نتهاداه، وكان مقترا عليه رزقه، دفرا وسخا، منهوما بالنبيذ، وله فيه في وصف الصبوح وذكر الندامى والمجالس أحسن قول، وليس له قول يسقط، فمن ذلك قوله:

فيئي إلى أهدى السبل                      قولا وعلما وعـمـل

قاتلهـا الـلـه لـقـد                      سامتكما إحدى العضل

تقول هـلا رحـلـه                      تنقلنـا خـير نـقـل

أخشى علـى حـائلة                      الآمال جوال الأجـل أخبرني علي بن سليمان الأخفش: قال: حدثني محمد بن يزيد: قال: سمع العطوي رجلا يحدث أن رجلا قال لعمر بن الخطاب: إن فلانا قد جمع مالا، فقال عمر بن الخطاب: فهل جمع له أياما? فأخذ العطوي هذا المعنى فقال:

أرفه بعيش فتى يغدو على ثـقة                      إن الذي قسم الأرزاق يرزقـه

فالعرض منه مصون لا يدنسـه                      والوجه منه جديد ليس يخلقـه

جمعت مالا ففكر هل جمعت له                      يا جامع المال أياما تفـرقـه?

المال عندك مخزون لـوارثـه                      ما المال مالك إلا حين تنفقـه ومن قوله في الندمان والنبيذ مما يغني فيه ما أنشدنيه الأخفش وغيره من شيوخنا:

فكم قالوا تمن فقلـت كـأس                      يطوف بها قضيب في كثيب

وندمان تساقطـنـي حـديثـا                      كلحظ الحب أو غض الرقيب الغناء في هذين البيتين لذكاء وجه الززة خفيف رمل.

أخبرني عمي: قال: حدثني كوثرة أخو العطوي قال: كان أخي أبو عبد الرحمن يشرب مع أصدقاء له من الكتاب، ومعهم قينة يقال لها: مصباح، من أحسن الناس وجها، وأطيبهم غناء، فما زالوا في قصف وعزف إلى أن انقطع نبيذهم، فبقوا حيارى، وكانوا قريبا من منزل أبي العباس أحمد بن الحسين بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي، وكان صديقا لأبي عبد الرحمن فكتب إليه:

يا بن من طاب في المواليد مذ آ                      دم جرا إلى الحـسـين أبـيه

أنا بالقرب منك عـنـد كـريم                      قد ألحت عليه شهب سـنـيه

عنده قـينة إذا مـا تـغـنـت                      عاد منا الفقيه غـير فـقـيه

تزدهيني وأين مثلي في الـف                      هم تغنيه ثـم لا تـزدهـيه?

مجلس كالرياض حسنا ولكـن                      ليس قطب السرور واللهو فيه

فأقمه بما بـه يمـتـري دن ع                      جوز خـمـارة مـمـتـريه

وبأشياخك الكرام إلى الـسـؤ                      دد موسى بن جعفـر وأبـيه

إن تحشمتـنـي وإن كـان إلا                      مثل ما يأنس الفتـى بـأخـيه قال: فلما وصلت الرقعة إلى أبي العباس أرسل إليهم براوية شراب، فلم يزالوا يشربون مجتمعين، حتى نفدت في أخفض عيش.

حدثني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك بن الخصيب الكاتب: قال:

 

صفحة : 2591

 

جاءني يوما أبو عبد الرحمن العطوي بعد وفاة عمي أحمد بن الخصيب بسنتين، وكان صديقه وصنيعته ،فجلس عندي يحادثني حديثه، ويبكي ساعة طويلة، ثم تغيمت السماء وهطلت، فسألته أن يقيم عندي، فحلف ألا يفعل إلا بعد أن أحضره من وقتي ما راج من الطعام، وأتكلف له شيئا، ففعلت وجئته بما حضر، فقال لي: ما فعلت عقد? قلت: باقية، وهي في يومنا هذا مقيمة عندي، والساعة تسمع غناءها، فقال لي: عجل إذن فإن النهار قصير، ثم أنشأ يقول:

أدر الكأس قد تعالى النهار                      ما يميت الهموم إلا العقار

صاح هذا الشتاء فاغد عليها                      إن أيامه لـذاذ قـصـار

أي شيء ألذ من يوم دجـن                      فيه كأس على الندامى تدار

وقيان كـأنـهـن ظـبـاء                      فإذا قلن قـالـت الأوتـار حدثني عمي: قال: حدثني كوثرة: قال: كان لأبي عبد الحمن صديق من الأدباء، وكان يتعشق جارية من جواري القيان يقال لها: عثعث، وكان لا يقدر عليها إلا على لقاء عسير، واجتماع يسير، فأرسل إليها يوما، فأحضرها وأصلح جميع ما يحتاج إليه، واتفق أن كان ذلك في يوم رذاذ به من الطيب والحسن ما الله به عليم، فكتب إليه صديقه يعرفه الخبر، ويسأله المصير إليه ووصف له القصة بشعر، فقال:

يوم مـطــير وعـــيش نـــضـــير                      وكـأس تــدور وقـــدر تـــفـــور

وعـثـعـث تـأتـي إذا جــئتـــنـــا                      فتـسـمـع مـنـهـا غـنـاء يصـــور

وعندي وعندك ما تشتهيه شعر يمر وعلم يدور

وإذا كان هذا كما قد وصفت                      فإن الـتـفـرق خـطــب كـــبـــير

فقم نـصـطـبـح قـبـل فـوت الـزمـان                      فإن زمـان الـتـلـهـي قـــصـــير قال: فسار إليه صاحبه فمر لهما أحسن يوم وأطيبه.

وهذا الشعر أخذه العطوي من كلام إسحاق، أخبرني به وسواسة بن الموصلي عن حماد عن أبيه: قال: كان يألفني بعض الأعراب وكان طيبا، فجاءني يوما، فقلت له: لم أرك أمس، فقال: دعاني صديق لي، فقلت: صف لي ما كنتم فيه، فقال لي: كنا في مجلس نظامه سرور بين قدور تفور، وكأس تدور، وغناء يصور، وحديث لا يحور وندامى كأنهن البدور.

قال إسحاق: وقلت لأعرابي: كان يألفني: أين كنت بالأمس? قال: كنت عند بعض ملوك سر من رأى، فأدخلني إلى قبة كإيوان كسرى، وأطعمني في قصار تترى، وغنتني جارية سكرى، تلعب بالمضراب كأنه مدري، فيا ليتني لقيتها مرة أخرى.

قال إسحاق: وقلت لبعض الأعراب: طلبتك أمس فلم أجدك فأين كنت? قال: كنت عند صديق لي، فأطعمني بنات التنانير، وأطعمني أمهات الأبازيز وحلواء الطناجير ، وسقاني زعاف القوارير، وأسمعني غناء الشادن الغرير، على العيدان والطنابير، قد ملكت بأوقار الدراهم والدنانير.

قرأت في بعض الكتب بغير إسناد: أن العطوي كان يوما جالسا في منزله، وطرقه صديق له ممن كان يغني بسر من رأى، فقال له: قد أهديت إليك جواري اليوم ونبيذا يكفيك، وحسبك بالكفاية. وأقام عنده، فدخل عليه غلام أمرد أحسن من القمر، فاحتبسوه وكتب العطوي إلى صديق له من أهل الأدب:

يومنا طيب بـه حـسـن الـق                      صف وحث الأرطال والكاسات

ما ترى البرق كيف يلمع فـيه                      ورشاشا يبل في الـسـاعـات

ولدينا ظبـي غـرير ظـريف                      قد غنينا به عـن الـقـينـات

إن تخلفت بعد ما تصل الـرق                      عة عنا فأنت فـي الأمـوات فأجابه الرجل فقال:

أنا في إثر رقعتي فاعـلـمـن ذا                      ك على أنـنـي مـن الـبـيات

فأفهم الشرط بيننا لا تـقـل لـي                      قد تثاقلت فانصرف بـحـياتـي

لا لسوء لكن لأمتـع نـفـسـي                      بحديث الظبي الغرير المـواتـي

أيا بيت ليلى إن ليلـى مـريضة                      برادان لا خال لديها ولا ابن عـم

ويا بيت ليلى لو سهدتك أعولـت                      عليك رجال من فصيح ومن عجم

ويا بيت ليلى لا يبسـت ولا تـزل                      بلادك سقياها من الواكف الـديم الشعر لمرة بن عبد الله النهدي، والغناء لأحمد النصيبي ثقيل أول بالوسطى، يقال إنه لحنين.

 

أخبار مرة ونسبه

 

 

صفحة : 2592

 

هو مرة بن عبد الله بن هليل بن يسار: أحد بني هلال بن عاصم بن نصر بن مازن بن خزيمة بن نهد، وليلى هذه من رهطه، يقال لها بنت زهير بن يزيد بن خالد بن عمرو بن سلمة.

نسخت خبرها من كتاب ابن أبي السري قال: حدثني ابن الكلبي عن أبيه قال: كانت امرأة من بني نهد، يقال لها: ليلى بنت زهير بن يزيد، وكان لها ابن عم يقال له مرة بن عبد الله بن هليل يهواها، واشتد شغفه بها فخطبها، وأبوا أن يزوجوه، وكان لا يخطبها غيره إلا هجاه، فخطبها رجل من بني نهشل، يقال له: إران، فقال مرة يهجوه:

وما كنت أخشى أن تصير بمرة                      من الدهر ليلـى زوجة لإران

لمن ليس ذا لب ولا ذا حفيظة                      لعرس ولا ذا منطـق وبـيان

لقد بليت ليلى بـشـر بـلـية                      وقد أنزلت ليلى بدار هـوان قال: فتزوجها المنجاب بن عبد الله بن مسروق بن سلمة ين سعد، من بني زوي بن مالك بن نهد، فخرج إلى البعث براذان، وهي إذ ذاك مسلحة لأهل الكوفة، فخرج بها معه، فماتت براذان ودفنت هناك، فقدم رجلان من بجيلة من مكتبهما براذان من بني نهد، وكانت بجيلة جيران بني نهد بالكوفة، فمرا على مجلسهم، فسألوهما عمن براذان من بني نهد، فأخبراهما بسلامتهم، ونعيا إليهم ليلى ومرة في القوم فأنشأ يقول:

أيا ناعيي ليلى أما كان واحـد                      من الناس ينعاها إلي سواكما

ويا ناعيي ليلى ألم نك جـيرة                      عليكم لها حق فألا نهاكـمـا

ويا ناعيي ليلى لقد هجتما لنـا                      تجاوب نوح في الديار كلاكما

ويا ناعيي ليلى لجلت مصـيبة                      بنا فقد ليلى لا أمرت قواكما

ولا عشتما إلا حليفـي بـلـية                      ولا مت حتى يشترى كفناكما

فأشمت والأيام فيهـا بـوائق                      بموتكما إني أحب رداكـمـا وقال فيها أيضا:

كأنك لم تفجـع بـشـيء تـعـده                      ولم تصطبر للنائبات من الـدهـر

ولم تر بؤسا بعد طـول غـضـارة                      ولم ترمك الأيام من حيث لا تدري

سقي جانبي راذان والساحة الـتـي                      بها دفنوا ليلى ملث من القـطـر

ولا زال خصب حيث حلت عظامها                      براذان يسقى الغيث من هطل غمر

وإن لم تكلمـنـا عـظـام وهـامة                      هناك وأصداء بقين مع الصـخـر وقال فيها:

أيا قبر ليلى لا يبـسـت ولا تـزل                      بلادك تسقيها من الواكـف الـديم

ويا قبر ليلى غيبت عنـك أمـهـا                      وخالتها والناصحون ذوو الـذمـم

ويا قبر ليلى كم جمـال تـكـنـه                      وكم ضم فيك من عفاف ومن كرم وساق باقي الأبيات التي فيها الغناء .

وحكى الهيثم بن عدي عن شيخ من بني نهد : أن مرة كان تزوجها، وكان مكتبه براذان، وأخرجها معه، ثم ضرب عليه البعث إلى خراسان، فخلفها عند شيخ من أهل منزله هناك، وأفرد لها الشيخ دارا كانت فيها، ومضى لبعثه، ثم قدم بعد حول، فلقي فتى من أهل راذان قبل وصوله إلى دارها، فسأله عنها، فقال: أترى القبر الذي بفناء الدار? قال: نعم، قال: هو والله قبرها، فجاء، فأكب عليه يبكي، ويندبها، وترك مكتبه، ولزم قبرها يغدو ويرح إليه، حتى لحق بها .

 

بأبي أنت يا بن مـن                      لا أسمي لبعض ما

يا شبيبة الهلال مث                      لك في الأفق أنجما

راقب الله فـي أس                      يرك إن كنت مسلما الشعر لعلي بن أمية والغناء لعمر الميداني رمل طلق.

 

أخبار علي بن أمية

علي بن أمية بن أبي أمية، وكان أبوه يكتب للمهدي على ديوان بيت المال وديواني الرسائل والخاتم، وكان منقطعا إلى إبراهيم بن المهدي، وإلى الفضل بن الربيع، وقد تقدم خبر أخيه محمد في مواضع من هذا الكتاب.

فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار: قال: حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات: قال: حدثني محمد بن علي بن أمية: قال: لما قدم علي بن أمية، وقال:

يا ريح ما تصنعين بالدمـن?                      كم لك من محو منظر حسن

محوت آثارنـا وأحـدثـت آ                      ثارا بربع الحبيب لم تكـن

إن تك يا ربع قد بليت مـن                      الريح فإني بال من الحـزن

 

صفحة : 2593

 

 

قد كان يا ربع فيك لي سكـن                      فصرت إذ بان بعده سكـنـي

شبهت ما أبلت الرياح مـن آ                      ثار حبيبي الثـأى بـلا بـدن

يا ريح لا تطمسي الرموس ولا                      تمحي رسوم الديار والدمـن

حاشاك يا ريح أن تكون علـى                      العاشق عونا لحادث الزمـن كثر الناس فيه، وغناه عمرو الغزال، فقال أبو موسى الأعمى:

يا رب خذني وخذ عليا وخذ                      يا ريح ما تصنعين بالدمـن

عجل إلى النار بالثلاثة والرا                      بع عمرو الغزال في قرن ثم ندم، وقال: هؤلاء أهل بيت، وهم إخوتي، ولا أحب أن أنشب بيني وبينهم عداوة وشرا، فأتى أمية فقال: إني قد أذنبت فيما بيني وبينكم ذنبا، وقد جئتك مستجيرا بك من فتيانك، فدعا بعلي بن أمية، فقال: يا هذا، عمك أبو موسى قد أتاك معتذرا من الشعر الذي قاله، قال: وما هو? فأنشده، فقال: قد ضجرنا نحن والله منه كما ضجرت أنت وأكثر، وأنت آمن من أن يكون منا جواب، وأتى محمد بن أمية، فقال له مثل ذلك، ومضى أبو موسى، فأخذ علي بن أمية رقعة فكتب فيها:

كم شاعر عند نفسه فطن                      ليس لدينا بالشاعر الفطن

قد أخرجت نفسه بغصتها                      يا ريح ما تصنعين بالدمن ودفع الرقعة إلى غلام له، وقال: ادفعها إلى غلام أبي موسى، وقل له: يقول لك مولاك: اذكرني بهذا إذا انصرفت إلى المنزل، فلما انصرف إلى المنزل أتاه غلامه بالرقعة، فقال: ما هذه? فقال: التي بعثت بها إلي، فقال: والله ما بعثت إليك رقعة، وأظن الفاسق قد فعلها، ثم دعا ابنه، فقرأها عليه، فلما سمع ما فيها قال: يا غلام، لا تنزع عن البغلة. فرجع إلى علي بن أمية، فقال: نشدتك الله أن تزيد على ما كان، فقال له: أنت آمن.

لحن عمرو الغزال في أبيات علي بن أمية رمل بالوسطى.

وقال يوسف بن إبراهيم: حدثني إبراهيم بن المهدي: قال: حدثني محمد بن أيوب المكي: أنه كان في خدمة عبيد الله بن جعفر بن المنصور، وكان مستخفا لعمرو الغزال، محبا له، وكان عمرو يستحق ذلك بكل شيء، إلا ما يدعيه ويتحقق به من صناعة الغناء؛ وكان ظريفا أديبا نظيف الوجه واللباس، معه كل ما يحتاج إليه من آلة الفتوة، وكان صالح الغناء ما وقف بحيث يستحق، ولم يدع ما يستحقه، وأنه كان عند نفسه نظير ابن جامع وإبراهيم وطبقتهما، لا يرى لهم عليه فضلا ولا يشك في أن صنعتهم مثل صنعته، وكان عبد الله قليل الفهم بالصناعة، فكان يظن أنه قد ظفر منه بكنز من الكنوز، فكان أحظى الناس عنده من استحسن غناء عمرو الغزال وصنعته، ولم يكن في ندمائه من يفهم هذا، ثم استزار عبيد الله بن جعفر أخاه عيسى، وكان أفهم منه، فقلت له: استعن برأي أخيك في عمرو الغزال؛ إنه أفهم منك، وكانت أم جعفر كثيرا ما تسأل الرشيد تحويل أخيها عبيد الله وتديمه والتنويه به، فكان عيسى أخوه يعرف الرشيد أن ضعيف عاجز لا يستحق ذلك، فلما زاره عيسى أسمعه غناء عمرو، فسمع منه سخنة عين ، فأظهر من السرور والطرب أمرا عظيما، ليزيد بذلك عبيد الله بصيرة فيه، ويجعله عيسى سببا قويا يشهد عند الرشيد بضعف عقله، وعلمت ما أراد، وعرفت أن عمرا الغزال أول داخل على الرشيد، فلما كان وقت العصر من اليوم الثاني، لم نشعر إلا برسول الرشيد قد جاء يطلب عمرا الغزال، فوجه إليه وأقبل يلومني ويقول: ما أظنك إلا قد فرقت بيني وبين عمرو، وكنت غنيا عن الجمع بينه وبين عيسى، واتفق أن غنى عمرو الرشيد في هذا الشعر صنعته:

يا ريح ما تصنعين بالدمـن?                      كم لك من محو منظر حسن

 

صفحة : 2594

 

وكان صوتا خفيفا مليحا فأطربه، ووصله بألف دينار، وصار في عداد مغني الرشيد، إلا أنه كان يلازم عبيد الله إذا لم يكن له نوبة، فأقبلت أتعجب من ذلك، واتصلت خدمته إياه ثلاث سنين، ثم انصرفا يوما من الشماسية مع عبيد الله بن جعفر، فلقيه الخضر بن جبريل، وكان في الناس في العسكر، فعاتبه عبيد الله على تركه وانقطاعه عنه، فقال: والله ما أفعل ذلك جهلا بحقك، ولا إخلالا بواجبك، ولكنا في طريقين متباينين لا يمكن معهما الاجتماع، قال: وما هما ويحك? قال: أنت على نهاية السرف في محبة عمرو الغزال، وأنا على نهاية السرف في بغضه ، وأنت تتوهم أنه لا يطيب لك عيش إلا به، وأنا أتوهم أني إن عاشرته ساعة مت، وتقطعت نفسي غيظا وكمدا، وما يستقيم مع هذا بيننا عشرة أبدا، فقال له عبيد الله: إذا كان هذا هكذا فأنا أعفيك منه إذا زرتني، فصر إلي آمنا، ففعل، ولم يجلس عبيد الله حتى قال لحاجبه لا تدخل اليوم أحدا، ولا تستأذن علي لجلوسه ودخلنا، فلما وضعت المائدة لم يأكل ثلاث لقم، حتى دخل الحاجب فوقف بين يديه، وأقبل عمرو الغزال خلفه، فرآن من أقصى الصحن، فقال له عبيد الله: ثكلتك أمك ألم أقل لك لا تدخل علي أحدا من خلق الله? فقال له الحاجب: امرأته طالق ثلاثا إن كان عنده أن عمرا عندك في هذا المجرى، ولو جاء جبريل وميكائيل وكل من خلق الله لم يدخلوا عليك إلا بإذن سوى عمرو؛ فإنك أمرتني أن آذن له خاصة وأن يدخل متى شاء، وعلى كل حال. قال: ولم يفرغ الحاجب من كلامه حتى دخل عمرو، فجلس على المائدة وتغير وجه الخضر، وبانت الكراهة فيه، فما أكل أكلا فيه خير، وتبين عبيد الله ذلك، ورفعت المائدة وقدم النبيذ، فجعل الخضر يشرب شربا كثيرا لم أكن أعهده يشرب مثله، فظننت أنه يريد بذلك أن يستتر من عمرو الغزال، وعمرو يتغنى، فلا يقتصر وكلما تغنى قال له عبيد الله: لمن هذا الصوت يا حبيبي? فيقول: لي وعندنا يومئذ جوار مطربات محسنات، وهو يقطع عناءهن بغنائه، وتبينت في وجه الخضر العربدة إلى أن قال عمرو بعقب صوت: هذا لي، فوثب الخضر وكشف استه وخزي في وسط المجلس على بساط خز لم أر لأحد مثله، ثم قال: إن كان هذا الغناء لك، فهذا الخراء لي، فغضب عبيد الله، وقال له: يا خضر أكنت تستطيع أن تفعل أكثر من هذا? قال أي والله أيها الأمير، ثم وضع رجليه على سلحه، ثم أخرجهما فمشى على البساط مقبلا مدبرا، حتى خرج وقد لوثه، وهو يقول: هذا كله لي، وتفرقنا عن المجلس على أقبح حال وأسوئها، وشاع الخبر، حتى بلغ الرشيد، فضحك حتى غلب عليه، ودعا الخضر، وجعله في ندمائه منذ يومئذ، وقال: هذا أطيب خلق الله، وانكشف عنده عوار عمرو الغزال واسترحنا منه، وأمر أن يحجب عنه، سقط يومئذ، وقد كان الجواري والغلمان أخذوه ولهجوا به، وكان الرشيد يكيد به إبراهيم الموصلي وابن جامع قبل ذلك فسقط غناؤه أيضا منذ يومئذ، فما ذكر منه حرف بعد ذلك اليوم إلا صنعته في:

يا ريح ما تصنعين بالدمن ولولا إعجاب الرشيد به لسقط أيضا.

حدثني الحسن بن علي عن محمد بن القاسم عن أبي هفان: قال: كنا في مجلس، وعندنا قينة تغنينا، وصاحب البيت يهواها، فجعل تكايده، وتومئ إلى غيره بالمزح والتجميش ، وتغيطه بجهدها، وهو يكاد يموت قلفا وهما وتنغص عليه يومه، ولجت فيأمرها، ثم سقط المضراب عن يدها، فأكبت على الأرض لتأخذه، فضرطت ضرطة سمعها جميع من حضر، وخجلت، فلم تدر ما تقول فأقبلت على عشيقها فقالت: أيش تشتهي أن أغني لك? فقال: غني :

يا ريح ما تصنعين بالدمن فخجلت وضحك القوم وصاحب الدار، حتى أفرطوا، فبكت وقامت من المجلس، وقالت: أنتم والله قوم سفل، ولعنة الله على من يعاشركم، وغضبت وخرجت، وكان - علم الله- سبب القطيعة بينهما وسلو ذلك الرجل عنها: أخبرني ابن عمار وعمي والحسن بن علي، قالوا: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، قال: حدثنا الحسين بن الضحاك: قال:

خبريني من الرسول إليك?                      واجعليه من لا ينم علـيك

وأشيري إلي من هو بالـل                      حظ ليخفى على الذين لديك فقالت: نعم، وغنته لوقتها وزادت فيه هذا البيت، فقالت:

وأفلي المزاح في المجلس اليو                      م فإن الـمـزاح بـين يديك

 

صفحة : 2595

 

ففطن لما أرادت وسر بذلك، ثم أقبلت على خادم واقف فقالت له: يا مسرور، اسقني، فسقاها، وفطن بن أمية أنها أرادت أن تعلمه أن مسرورا هو الرسول، فخاطبه، فوجده كما يريد، وما زال ذلك الخادم يتردد في الرسائل بينهما.

 

أخبار عمر الميداني

هو رجل من أهل بغداد كان ينزل الميدان فعرف به، وكان لا يفارق محمدا وعليا ابني أمية وأبا حشيشة، ينادمهم ويغني في أشعارهم، وكان منزله قريبا منهم، وهو أحد المحسنين المتقدمين في الصنعة والأداء.

حدثني جحظة: قال: وسمعت ابن دقاق في منزل أبي العبيس بن حمدون يقول: سمعت أبا حشيشة والمسدود، ومن قبلهما من الطنبوريين، فما سمعت منهم أصح غناء ولا أكثر تصرفا من عمر الميداني.

حدثني جحظة: قال: حدثني علي بن أمية: قال: دخلت يوما على عمر الميداني، وكان له بقال على باب داره ينادمه ولا يفارقه، ويقارضه إذا أعسر، ويتصرف في حوائجه، فإذا حصلت له دراهم دفعها إليه يقبض منها ما رأى، لا يسأله عن شيء، فوجدت عنده يومئذ هذا البقال، فقال لنا عمر: معي أربعة دراهم تعطوني منها لعلف حماري درهما، والثلاثة لكم، فكلوا بها ما أحببتم. وعندي نبيذ، وأنا أغنيكم، والبقال يحذرنا من الأبقال اليابسة ما في حانوته. فوجهنا بالبقال. فاشترى لنا بدرهم لحما. وبدرهم خبزا. وبدرهم فاكهة وريحانا. وجاءنا من حانوته السكباج ونقل. فبينا نحن نتوقع الفراغ من القدر إذا بفرانق يدق الباب. فأدخله عمر: فقال له: أجب الأمير إسحاق بن إبراهيم. فحلف علينا عمر بالطلاق ألا نبرح، ومضى هو؛ وأكلنا السكباج وشربنا وانصرف عشاء. وبكر إلي رسوله في السحر أن صر إلي، فصرت إليه، فقلت: أعطني خبرك من النعل إلى النعل . قال: دخلت فوضعت بين يدي مائدة كأنها جزعة يمانية قد فرشت في عراصها الحبر فأكلت وسقبت رطلين، ودفع إلي طنبور. فدخلت إلى إسحاق، فوجدته في الصدر جالسا، وخلفه ستارة. وعن يمينه مخارق وعن يساره علويه. فقال لي: أنت عمر الميداني? فقلت: نعم. فقال: أ أكلت? فقلت: نعم قال: ها هنا أو في منزلك? فقلت: بل ها هنا، قال: أحسنت، فغن بصوتك الذي صنعته في:

يا شبيه الهلال كلل في الأفق أنجما وهو رمل مطلق، فغنيته فضرب الستارة. وقال: قولوه أنتم، فقالوه، فقال: لمخارق وعلوية: كيف تسمعان? فقالا: هذا الله ذا. وذا ذاك، فرددته مرارا. وشرب عليه. وقال لي: أنا اليوم على خلوة ولك علي دعوات، فانصرف اليوم بسلام. فخرجت ودفع إلي الغلام خمسة آلاف درهم. فهي هذه، والله لا استأثرت عليكم كمها بدرهم. فلم نزل عنده نقصف حتى نفدت.

 

أمين الخالق البـاري                      وراعى كل مخلـوق

أدر راحك في المعشو                      ق من راحة معشوق الشعر لأبي أيوب سليمان بن وهب. والغناء للقاسم بن زرزور ثقيل أول بالبنصر من جامع غنائه المأخوذ عن أبيه أبي القاسم عبيد الله بن القاسم.

 

أخبار سليمان بن وهب وجمل من أحاديث

 

تصلح لهذا الكتاب

 

ينكر الانتساب إلى الحارث: قد تقدم نسبه في أخبار الحسن بن وهب أخيه وانتماؤه في بني الحارث بن كعب. وأن أصلهم من قرية يقال لها: سار قرمقا من طسوج خسروسابور من سواد واسط، وكان سليمان بن وهب ينكر الانتساب إلى الحارث بن كعب على أخيه الحسن وعلى ابنه أبي الفضل أحمد بن سليمان بن وهب لشدة تعلقهما به، أخبرني بذلك محمد بن يحيى وغيره من شيوخنا ومن مشيخة الكتاب.

أخبرني الصولي: قال: حدثني الحسن بن يحيى وعون بن محمد الكندي، أن جعفر بن محمد كان وزير المهتدي في لأول أمره، فبلغه عنه تشيع فكرهه، وقال: هذا رافضي لا حاجة لي به، واستوزر جعفر بن محمد بن عمار، فلم يزل على وزارته حتى مضت سنة من خلافة المهتدي، ثم قدم موسى من بغا من الجبل، وكاتبه سليمان بن وهب وابنه عبيد الله، فاستوزر المهتدي سليمان بن وهب ولقب بالوزير حقا؛ لأن من كان قبله كان غير مستحق للوزارة، ولا مستقل بها.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني الحسن بن يحيى بن الجماز: قال: لما استوزر سليمان بن وهب جلس للناس، فدخل عليه شاعر يقال له: هارون بن محمد البالسي، فذكر مظلمة له ببلده، ثم أنشده:

زيد في قدرك العلي عـلـو                      يا بن وهب من كاتب ووزير

 

صفحة : 2596

 

 

أسفر الشرق منك والغرب عن ضو                      ء من العدل فاق ضوء الـبـدور

أنشر الناس غيثكم بـعـدمـا كـا                      نوا رفاتا من قبل يوم الـنـشـور

شرد الجور عدلكم فـسـرحـنـا                      بينـكـم بـين روضة وســرور

أنت عـين الإمـام والـقـرم مـو                      سى بك تفتر عابـسـات الأمـور فوقع في ظلماته بما أراد ووصله بمائتي دينار.

أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدثنا أحمد بن الخصيب: قال: لعهدي بيزيد بن محمد المهلبي عند سليمان بن وهب بعد ما استوزره المهتدي، وقد أجلسه إلى جانبه، وهو ينشده قوله:

وهبتـم لـنـا يا آل وهـب مـودة                      فأبقت لنا جاهـا ومـجـدا يؤثـل

فمن كان لـلآثـام والـذل أرضـه                      فأرضكم للأجر والعـز مـنـزل

رأى الناس فوق المجد مقدار مجدكم                      فقد سألوكم فوق مـا كـان يسـأل

يقصر عن مسعـاكـم كـل آخـر                      وما فاتكـم مـمـن تـقـدم أول

بلغت الذي قد كنت أملـتـه لـكـم                      وإن كنت لم أبلغ بكـم مـا أؤمـل فقطع عليه سليمان الإنشاد، وقال له: يا أبا خالد، فأنت والله عندي كما قال عمارة بن عقيل لابنه:

أقهفه مسرورا إذا أبت سالمـا                      وأبكي من الإشفاق حين تغيب فقال له يزيد: فيسمع مني الوزير آخر الشعر لا أوله، وتمم فقال:

وما لي حق واجب غير أننـي                      بجودكم في حاجتي أتـوسـل

وأنكم أفضـلـتـم وبـررتـم                      وقد يستتم النعمة المتفـضـل

وأوليتم فعلا جميلا مـقـدمـا                      فعودوا فإن العود بالحر أجمل

وكم محلف قد نال ما رام منكم                      ويمنعنا من مثل ذاك التجمـل

وعودتمونا قبل أن نسأل الغنـى                      ولا بذل للمعروف والوجه يبذل فقال له سليمان: لا تبرح والله إلا بقضاء حوائجك كائنة ما كانت، ولو لم أستفد من كتبة أمير المؤمنين إلا شكرك لرأيت جنابي بذلك ممرعا، وعرسي مثمرا، ثم وقع له في رقاع كثيرة كانت بين يديه.

أخبرني محمد: قال: حدثنا الحزنبل: قال: لما ولى المهتدي سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حرفته، فقال: أنا - أعز الله الوزير- خادمك، المؤمل دولتك، السعيد بأيامك، المطوي القلب على ودك، المنشور اللسان بمدحك، المرتهن بشكر نعمتك، وقد قال الشاعر:

وفيت كل أديب ودني ثمنـا                      إلا المؤمل دولاتي وأيامي

فإنني ضامـن ألا أكـافـئه                      إلا بتسويغه فضلي وإنعامي إني لكما قال القيسي: ما زلت أمتطي النهار إليك، وأستدل بفضلك عليك، حتى إذا جنني الليل، فقبض البصر، ومحا الأثر، أقام بدني؛ وسافر أملي، والاجتهاد عذر ، وإذا بلغتك فهو مرادي فقط، فقال له سليمان: لا عليك: فإني عارف بوسيلتك، محتاج إلى كفايتك، ولست أؤخر عن أمري النظر في أمرك وتوليتك ما يحسن أثره عليك.

وذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه قال: ما رأيت أظرف من سليمان بن وهب، ولا أحسن أدبا: خرجنا نتلقاه عند قدومه من الجبل مع موسى بن بغا، فقال لي: هات الآن يا أبا حسن، حدثني بعجائبكم بعدي، وما أظنك تحدثني بأعجب من خبر ضرطة أبي وهب بحضرة القاضي، وما سير من خبرها، وما قيل فيها، حتى قيل:

ومن العجائب أنها بشهادة ال                      قاضي فليس يزيلها الإنكار وجعل يضحك.

قال علي بن الحسين الأصبهاني:

 

صفحة : 2597

 

حضرت أبا عبد الله الباقطاني، وهو يتقلد ديوان المشرق، وقد تقلد ابن أبي السلاسل ماسبذان ومهرجان قذف ، وجاءه يأخذ كتبه، فجعل يوصيه كما يوصي أصحاب الدواوين العمال، فقال ابن أبي السلاسل: كأنك استكثرت لي هذا العمل أنت أيضا قد كنت تكتب لأبي العباس بن ثوابة، ثم صرت صاحب ديوان، فقال له الباقطاني: يا جاهل يا مجنون، لولا أنه قبيح علي مكافأة مثلك لراجعت الوزير - أيده الله - في أمرك، حتى أزيل يدك، ومن لي أن أجد مثل ابن ثوابة في هذا الوقت، فأكتب له، ولا أريد الرياسة ثم أقبل علينا يحدثنا، فقال: دخلت مع أبي العباس بن ثوابة إلى المهتدي، وكان سليمان بن وهب وزيره، وكان يدخل إليه الوزير وأصحاب الدواوين العمال والكتاب، فيعملون بحضرته، فيوقع إليهم في الأعمال، فأمر سليمان أن يكتب عنه عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال، فأخ سليمان بيد أبي العباس بن ثوابة، ثم قال له: أنت اليوم أحد ذهنا مني فهلم نتعاون، فدخلا بيتا، ودخلت معهما، وأخذ سليمان خمسة أنصاف وأبو العباس خمسة أنصاف أخر، فكتبا الكتب التي أمر بها سليمان ما احتاج أحدهما إلى نسخه، وقد أكمل كل واحد منهما ما كتب به صاحبه، فاستحسنه وقرظه، ثم وضع سليمان الكتب بين يدي المهدي، فقال له وقد قرأها: أحسنت يا سليمان، ونعم الرجل أنت لولا المعجل والمؤجل، وكان سليمان إذا ولي عاملا أخذ منه مالا معجلا، وأجل له إلى أن يتسلم عمله، فقال له: يا أمير المؤمنين، هذا قول لا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا، فإن كان باطلا فليس مثلك من يقوله، وإن كان حقا - وقد علمت أن الأصول محفوظة- فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من بر؛ من غير تحيف للرعية ولا نقص للأموال? فقال: إذا كان هكذا فلا بأس، ثم قال له: اكتب إلى فلان العامل يقبض ضيعة فلان المصروف المعتقل في يده، بباقي ما عليه من المصادرة، فقال له أبو العباس بن ثوابة: كلنا يا أمير المؤمنين خدمك وأولياؤك، وكلنا حاطب في حبلك، وساع فيما أرضاك وأيد ملكك، أفنمضي ما تأمر به على ما خيلت أم نقول بالحق? قال: بل قل الحق يا أحمد فقال: يا أمير المؤمنين، الملك يقين، والمصادرة. شك، أفترى أن أزيل اليقين بالشك? قال: لا، قال: فقد شهدت للرجل بالملك، وصادرته عن شك فيما بينك وبينه، وهل خانك أم لا، فتجعل المصادرة صلحا فإذا قبضت ضيعته بهذا فقد أزلت اليقين بالشك، فقال له: صدقت، ولكن كيف الوصول إلى المال? فقال له: أنت لا بد لك من عمال على أعمالك، وكلهم يرتزق، ويرتفق، فيحوز رفقه ورزقه إلى منزله، فاجعله أحد عمالك؛ ليصرف هذين الوجهين إلى ما عليه ويسعفه معاملوه، فيتخلص بنفسه وضيعته ويعود إليك مالك، فأمر سليمان بن وهب بأن يفعل ذلك، فلما خرجا من حضرة المهتدي قال له سليمان: عهدي بهذا الرجل عدوك، وكل واحد منكما يسعى على صاحبه، فكيف زال ذلك، حتى نبت عنه في هذا الوقت نيابة أحييته بها، وتخلصت نفسه ونعمته? فقال: إنما كنت أعاديه، وأسعى عليه وهو يقدر على الانتصاف مني، فأما وهو فقير إلي فلا. فهذا مما يحظره الدين والصناعة والمروءة. فقال له سليمان: جزاك الله خيرا، أما والله، لأشكرن هذه النية لك. ولأعتقدنك من أجلها أخا وصديقا. ولأجعلن هذا الرجل لك عبدا ما بقي. ثم قال الباقطاني: أفمن كان هذا وزنه وفعله يعاب من كان يكتب له? أخبرني محمد بن يحيى الباقطاني: قال: حدثنا الحسين بن يحيى الباقطاني قال: كنت آلف سليمان بن وهب كثيرا، وأخدمه وأحادثه، وكان يخصني ويأنس بي. فأنشدني لنفسه يذكر نكبته في أيام الواثق:

نوائب الدهـر أدبـتـنـي                      وإنـمـا يوعـظ الأريب

قد ذقت حلوا وذقت مـرا                      كذاك عيش الفتى ضروب

ما مر بـؤس ولا نـعـيم                      إلا ولي فيهما نـصـيب فيه رمل محدث لا أعرف صانعه.

وذكر يحيى بن علي بن يحيى أن جفوة نالت أباه من سليمان بن وهب فكتب إليه:

جفاني أبو أيوب نفسي فداؤه                      فعاتبته كيما يريع ويعتبـا

فوالله لولا الضين مني بوده                      لكن سهيل من عتابيه أقربا فكتب إليه سليمان:

ذكرت جفائي وهو من غير شيمتي                      وإني لدان من بـعـيد تـقـربـا

فكيف بخـل لـي أضـن بـوده                      وأصفيه ودا ظاهرا ومـغـيبـا

 

صفحة : 2598

 

 

علي بن يحيى لا عدمت إخـاءه                      فما زال في كل الخصال مهذبا

ولكن أشغالا غدت وتـواتـرت                      فلما رأيت الشغل عاق وأتعبـا

وكنت إلى عذر الأخلاء إنهـم                      كرام وإن كان التواصل أوجبا

فإن يطلب مني عتـابـك أوبة                      ببر تجدني بالأمانة معـتـبـا أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه: قال: كان سليمان بن وهب - وهو حدث- يتعشق إبراهيم بن سوار بن شداد بن ميمون، وكان من أحسن الناس وجها وأملحهم أدبا وطرفا، وكان إبراهيم هذا يتعشق جارية مغنية يقال لها رخاص، فاجتمعوا يوما فسكر إبراهيم ونام، فرأت رخاص سليمان يقبله، فلما انتبه لامته، وقالت: كيف أصفو لك وقد رأيت سليمان يقبلك? فهجره إبراهيم، فكتب إليه سليمان:

قل للذي ليس لي من                      جوى هواه خـلاص

أئن لثمـتـك سـرا                      وأبصرتني رخـاص

وقال لـي ذاك قـوم                      على اغتيابي حراص

هجرتني وأتـتـنـي                      شتيمة وانتـقـاص

وسـر ذاك أنـاسـا                      لهم علينا اختـراص

فهاك فاقتص مـنـي                      إن الجروح قصاص وأهدي سليمان إلى رخاص هدايا كثيرة، فكانوا بعد ذلك يتناوبون يوما عند سليمان، ويوما عند إبراهيم ويوما عند رخاص.

أخبرني الصولي عن احمد بن الخصيب: قال: حضرت سليمان بن وهب، وقد جاءته رقعة من بعض من وعده أن يصرفه من أصحابه، وفيها:

هبني رضيت منك بالقـلـيل                      أكان في التأويل والتـزيل

أو خبر جاء عن الـرسـول                      أو حجة في فطر العقـول

مستحسن من رجل جـلـيل                      عال له حظ من الجـمـيل

ينقص ما أشاع بالتـطـويل                      والقول دون الفعل بالتحصيل

ليس كذا وصف الفتى النبيل قال: فكتب له بولاية ناحية، وأنفذ إليه مائتي دينار وكتب في رقعة:

ليس إلى الباطل من سبـيل                      إلا لمن يعدل عن تعـديل

وقد وفينا لك بالتحـصـيل                      فاطو الذي كان عن الخليل

فضلا عن الخليط والتنزيل                      وعد من القول إلى الجميل

وعف في الكثير والقلـيل                      تحظ من الرتبة بالجـزيل أخبرني محمد بن يحيى عن عبد الله بن الحسين بن سعد عن بعض أهله أنه كتب إلى سليمان بن وهب، وهو يتولى شيئا من أعمال الضياع:

أطال اللـه إسـعـاد                      ك في الآجل والعاجل

أما ترعى لـمـن أم                      ل فضلا حرمة الآمل

وعندي عاجل من رش                      وة يتبـعـهـا آجـل

وأنت العلـم الـشـاه                      د أني كاتب عـامـل

فول الكافـل الـبـاذ                      ل دون العاجز الباخل

فما أفشي لك الـسـر                      فعال الأخرق الجاهل قال: فضحك وأجلسه وكتب في رقعته:

أبن لي ما الذي تخـط                      ب شرحا أيها الباذل?

وما تعطـي إذا ولـي                      ت تعجيلا وما الآجل?

أفي الإسلاف تنقـيص                      أم الوزن له كامـل?

وفي موقوف تضمـين                      أم الوعد به حاصـل?

أبن لي ذاك واردد رق                      عتي يا كاتبا عامـل? فلما قرأها الرجل قطع ما بينه وبينه، ورد الرقعة عليه، وولاه سليمان ما التمس.

أخبرني محمد بن يحيى عن موسى البربري قال: أهدى سليمان بن وهب إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر سلال رطب من ضيعته، وكتب إليه يقول:

أذن الأمير بفضله                      وبجوده وبنـيلـه

لولـيه فـي بـره                      بجناه سكر نخلـه

فبعثت منه بسـلة                      تحكي حلاوة عدله أخبرني محمد الباقطاني: قال: كتب سليمان بن وهب بقلم صلب، فاعتمد عليه اعتمادا شديدا، فصر القلم في يده، فقال:

إذا ما حددنا وانتضينا قواطـعـا                      أصم الذكي السمع منها صريرها

تظل المنايا والعطايا شـوارعـا                      تدور بما شئنا وتمضي أمورهـا

تساقط في القرطاس منها بـدائع                      كمثل اللآلي نظمها ونثـيرهـا

تقود أبيات الـبـيان بـفـطـنة                      تكشف عن وجه البلاغة نورهـا

 

صفحة : 2599

 

 

إذا ما خطوب الدهر أرخت ستورها                      تجلت بنا عما تسـر سـتـورهـا يرثي أخاه الحسن: قال: وأنشدني له يرثي أخاه الحسن:

مضى مذ مضي عز المعالي وأصبحت                      لآلي الحجا والقول ليس لهـا نـظـم

وأضحى نجي الفكر بـعـد فـراقـه                      إذا هم بالإفصاح منطـقـه كـظـم وذكر ابن المسيب أن جماعة تذاكروا لما قبض الموفق على سليمان بن وهب وابنه عبد الله: أنه إنما استكتبهما ليقف منهما على ذخائر موسى بن بغا وودائعه، فلما استقصى ذلك نكبهما لكثرة مالهما، فقال ابن الرومي وكان حاضرا:

ألم تر أن المال يتلـف ربـه                      إذا جم آتيه وسـد طـريقـه

ومن جاور الماء الغزير مجمه                      وسد مفيض الماء فهو غريقه ومات سليمان بن وهب في محبسه وهو مطالب، فرثاه جماعة من الشعراء، فممن جود في مرثيته البحتري حيث يقول:

هذا سليمان بن وهب بـعـد مـا                      طالت مساعيه النجوم سمـوكـا

وتنصف الدنـيا يدبـر أمـرهـا                      سبعين حولا قد تممـن دكـيكـا

أغرت به الأقدار بغت مـلـمة                      ما كان رس حديثها مـأفـوكـا

أبلغ عبيد اللـه بـارع مـذحـج                      شرفا ومعطى فضلها تملـيكـا

ومتى وجدت الناس إلا تـاركـا                      لحميمه في الترب أو متروكـا

بلغ الإرادة إذ فداك بـنـفـسـه                      وتود لـو تـفـديه لا يفـديكـا

إن الرزية في الفقيد فإن هـفـا                      جزع بلبك فـالـرزية فـيكـا

لو ينجلي لك ذخرها من نـكـبة                      جلل لأضحكك الذي يبـكـيكـا

لقد برز الفضل بن يحيى ولم يزل                      يسامي من الغايات ما كان أرفعا

يراه أمير المؤمنين لـمـلـكـه                      كفيلا لما أعطى من العهد مقنعا

قضى بالتي شدت لهارون ملكـه                      وأحيت ليحيى نفسه فتمـتـعـا

فأمست بنو العباس بعد اختلافهـا                      وآل علي مثل زندي يد مـعـا

لئن كان من أسدى القريض أجاده                      لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقـعـا الشعر لأبان بن عبد الحميد اللاحقي بقوله في الفضل بن يحيى لما قدم يحيى بن عبد الله بن الحسين على أمان الرشيد وعهده. والغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالبنصر عن أحمد بن المكي، وكان الرشيد أمره أن يغني في هذا الشعر، وإياه عني أبان بقوله:

لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقعا

أخبار أبان بن عبد الحميد ونسبه

أبان بن عبد الحميد بن لاحق عن عفير مولى بني رقاش، قال أبو عبيدة: بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمهم، واسمها رقاش، وهم: مالك، وزيد مناة، وعامر، بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

أخبرني عمي: قال: حدثنا الحسين بن عليل العنزي؛ قال: حدثني أحمد بن مهران مولى البرامكة: قال: شكا مروان بن أبي حفصة إلى بعض إخوانه تغير الرشيد عليه وإمساك يده عنه، فقال له: ويحك أتشكو الرشيد بعد ما أعطاك? قال: أو تعجب من ذلك? هذا أبان الللاحقي، قد أخذ من البرامكة بقصيدة قالها واحدة مثل ما أخذته من الرشيد في دهري كله، سوى ما أخذه منهم ومن أشباههم بعدها، وكان أبان نقل للبرامكة كتاب كليلة ودمنة، فجعله شعرا، ليسهل حفظه عليهم، وهو معروف، أوله:

هذا كتاب أدب ومـحـنـه                      وهو الذي يدعى كليلة ودمنة

فيه احتـيالات وفـيه رشـد                      وهو كتاب وضعته الهـنـد فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار، وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار، ولم يعطه جعفر شيئا، وقال: ألا يكفيك أن أحفظه فأكون روايتك? وعمل أيضا القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق، وسماها ذات الحلل، ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، والصحيح أنها لأبان.

أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد: قال: حدثنا أبو هفان: قال: حدثني الحماز، قال: كان يحيى بن خالد البرمكي قد جعل امتحان الشعراء وترتيبهم في الجوائز إلى أبان بن عبد الحميد، فلم يرض أبو نواس المرتبة التي جعله فيها أبان، فقال يهجوه بذلك:

جالست يوما أبانا                      لا در در أبان

 

صفحة : 2600

 

 

حتى إذا ما صلاة الأ                      ولـى دنـت لأوان

فقام ثـم بـهـا ذو                      فصـاحة وبــيان

فكلما قال قـلـنـا                      إلى انقضاء الأذان

فقال: كيف شهدتـم                      بذا بـغـير عـيان

لا أشهد الدهر حتى                      تعاين الـعـينـان

فقلت: سبحان ربـي                      فقال: سبحان ماني فقال أبان يجيبه:

إن يكن هذا النواسي                      بلا ذنب هجـانـا

فلقد نكنـاه حـينـا                      وصفعناه زمـانـا

هانئ الجربي أبـوه                      زاده الله هـوانـا

سائل العباس واسمع                      فيه من أمك شانـا

عجنوا من جلنـار                      ليكيدوك عجـانـا جلنار أم أبي نواس، وتزوجها العباس بعد أبيه.

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي: قال: حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد: قال: كان أبان اللاحقي صديقا للعذل بن غيلان، وكانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء، فيهجوه المعذل بالكفر وينسبه إلى الشؤم، ويهجوه أبان، وينسبه إلى الفساء الذي تهجى به عبد القيس، وبالقصر - وكان المعذل قصيرا- فسعى في الصلاح بينهما أبو عيينة المهلبي، فقال له أخوه عبد الله - وهو أسن منه-: يا أخي إن في هذين شرا كثيرا ولا بد من أن يخرجاه، فدعهما؛ ليكون شرهما بينهما، وإلا فرقاه على الناس، فقال أبان يهجو المعذل:

أحاجيكم ما قوس لحم سـهـامـهـا                      من الريح لم توصل بقد ولا عـقـب

وليست بشريان وليست بـشـوحـط                      وليست بنبع لا وليست من الغـرب

ألا تلك قوس الدحـدحـي مـعـذل                      بها صار عبديا وتم لـه الـنـسـب

تصك خياشـيم الأنـوف تـعـمـدا                      وإن كان راميها يريد بها العـقـب

فإن تفتخر يوما تـمـيم بـحـاجـب                      وبالقوس مضمونا لكسرى بها العرب

فحي ابن عمرو فاخرون بـقـوسـه                      وأسهمه حتى يغلـب مـن غـلـب قال أبو قلابة: فقال المعذل في جواب ذلك:

رأيت أبانا يوم فطـر مـصـلـيا                      فقسم فكري واستفزني الطـرب

وكيف يصلي مظلم القلـب، دينـه                      على دين ماني إن ذاك من العجب أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدثنا عون بن محمد الكندي: قال: كان لأبي النضير حوار يغنين، ويخرجن إلى جلة أهل البصرة، وكان أبان بن عبد الحميد يهجوه بذلك، فمن ذلك قوله:

غضب الأحمق إذ مازحتـه                      كيف لو كنا ذكرنا الممرغة

أو ذكرنـا أنـه لاعـبـهـا                      لعبة الجد بمزح الـدغـدغة

سود الله بخـمـس وجـهـه                      دغن أمثال طين الـردغـه

خنفساوان وبنـتـا جـعـل                      والتي تفتر عنـهـا وزغـه

يكسر الشعر وإن عاتـبـتـه                      في مجال قال: هذا في اللغة وأنشدني عمي: قال: أنشدني الكراني: قال: أنشدني أبو إسماعيل اللاحقي لجده أبان في هجاء أبي النضير، وأخبرني الصولي أنه وجدها بخط الكراني :

إذا قامت بـواكـيك                      وقد هتكن أستـارك

أيثنين علـى قـبـر                      ك أم يلعن أحجارك?

وما تترك في الدنـيا                      إذا زرت غدا نارك?

ترى في سقر المثوى                      وإبليس غدا حـارك

لمن تـتـرك زقـيك                      ودنـيك وأوتــارك

وخمسا من بنات اللي                      ل قد ألبسن أطمارك

تعالى الله ما أقـبـح                      إذ ولـيت أدبـارك وقال فيه أيضا:

قيان أبي النضير مثلـجـات                      غناء مثل شعر أبي النضير

فلا همدان حين نصيف نبغي                      ولا الماهين أيام الحـرور

ولا نبغي بقرميسين روحـا                      ولا نبلي البغال من المسير

فإن رمت الغناء لديه فاصبر                      إذا ما جئته للـرمـهـرير أخبرني محمد بن يحيى: قال: حدثنا أبو خليفة وأبو ذكوان والحسن بن علي النهدي: قالوا: كان المعذل بن غيلان المهري يجالس عيسى بن جعفر بن المنصور، وهو يلي حينئذ إمارة البصرة من قبل الرشيد، فوهب للمعذل بن غيلان له بيضة عنبر وزنها أربعة أرطال، فقال: أبان بن عبد الحميد:

 

صفحة : 2601

 

 

أصلحك الله وقد أصلـحـا                      إني لا آلوك أن أنصحـا

علام تعطي منوي عنبـر                      وأحسب الخازن قد أرجحا

من ليس من قرد ولا كلبة                      أبهى ولا أحلى ولا أملحا

رسول يأجوج أتى عنهـم                      يخبر أن الروم قد أقبحـا

ما بين رجليه إلى رأسـه                      شبر فلا شب ولا أفلحـا أخبرني الصولي: قال: حدثنا أبو العيناء: قال: حدثني الحرمازي: قال: خرج أبان بن عبد الحميد من البصرة طالبا للاتصال بالبرامكة، وكان الفضل بن يحيى غائبا، فقصده، فأقام ببابه مدة مديدة لا يصل إليه فتوسل إلى من وصل له شعرا إليه، وقيل: إنه توسل إلى بعض بني هاشم ممن شخص مع الفضل، وقال له:

يا غزير الندى ويا جوهر الجـو                      هر من آل هاشم بالـبـطـاح

إن ظني وليس يخلـف ظـنـي                      بك في حاجتي سبيل النـجـاح

إن من دونها لمصـمـت بـاب                      أنت من دون قفله مفـتـاحـي

تاقت النفس يا خليل الـسـمـاح                      نحو بحر الندى مجاري الـرياح

ثم فكرت كيف لي واستخرت الل                      ه عند الإمـسـاء والإصـبـاح

وامتدحت الأمير أصلحه الـلـه                      بشعـر مـشـهـر الأوضـاح فقال: هات مديحك، فأعطاه شعرا في الفضل في هذا الوزن وقافيته:

أنا من بغية الأمير وكـنـز                      من كنوز الأمير ذو أربـاح

كاتب حاسب خطـيب أديب                      ناصح زائد على النصـاح

شاعر مفلق أخف من الريش                      ة مما يكون تحت الجنـاح وهي طويلة جدا يقول فيها:

إن دعاني الأمير عاين مني                      شمريا كالبلبل الـصـياح قال: فدعا به، ووصله، ثم خص بالفضل، وقدم معه، فقرب من قلب يحيى بن خالد وصار صاحب الجماعة وزمام أمرهم.

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي: قال: حدثني علي بن محمد النوفلي: أن أبان بن عبد الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مديحه إليه، فقالوا له: وما تريد من ذلك? فقال: أريد أن أحظى منه بمثل ما يحظى به مروان بن أبي حفصة، فقالوا له: إن لمروان مذهبا في هجاء آل أبي طالب وذمهم، به يحظى وعليه يعطى، فاسلكه حتى نفعل، قال: لا أستحل ذلك، قالوا: فما تصنع? لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحل، فقال أبان:

نشدت بحق الله من كان مـسـلـمـا                      أعم بما قد قلته العـجـم والـعـرب

أعـم رسـول الـلـه أقـرب زلـفة                      لديه أم ابن العم في رتبة الـنـسـب

وأيهـمـا أولـى بـه وبـعـهــده                      ومن ذا له حق التراث يمـا وجـب

فإن كان عـبـاس أحـق بـتـلـكـم                      وكان علي بعد ذاك عـلـى سـبـب

فأبـنـاء عـبـاس هـم يرثـونــه                      كما العم لابن العم في الإرث قد حجب وهي طويلة، قد تركت ذكرها لما فيه، فقال الفضل: ما يرد على أمير المؤمنين اليوم أعجب من أبياتك، فركب فأنشدها الرشيد، فأمر لأبان بعشرين ألف درهم، ثم اتصلت بعد ذلك خدمته الرشيد، وخص به.

أخبرنا أبو العباس بن عمار عن أبي العيناء عن أبي العباس بن رستم: قال: دخلت مع أبان بن عبد الحميد على عنان جارية الناطفي، وهي في خيش، فقال لها أبان:

العيش في الصيف خيش فقالت مسرعة:

إذ لا قتال وجيش فأنشدتها أنا لجرير قوله:

طللت أواري صاحبي صبابتي                      وهل علقتني من أهواك علوق فقالت مسرعة:

إذا عقل الخوف اللسان تكلمت                      بأسراره عين عليه نطـوق أخبرني الصولي: قال: حدثنا محمد بن سعيد، قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل عن عبد الله ابن محمد بن عثمان بن لاحق: قال: أولم محمد بن خالد، فدعا أبان بن عبد الحميد والعتبي، وعبيد الله بن عمرو، وسهل بن عبد الحميد، والحكم بن قنبر، فاحتبس عنهم الغداء، فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال: ألكم أعزكم الله حاجة? يمازحهم بذلك، فقال أبان:

حاجتنا فاعجل علينا بهـا                      من الحشاوي كل طردين فقال ابن قنبر بعد ذلك:

ومن خبيص قد حكت عاشقا                      صفرتـه زين بـتـلـوين فقال عبيد بن عمرو:

وأتبعوا ذاك بأبية                      فإنكم آبين آبين

 

صفحة : 2602

 

 

فقـال سـهـــل:

دعنا من الشعر وأوصافه                      واعجل علينا بالأخاوين فأحضر الغداء، وخلع عليهم ووصلهم.

أخبرني الصولي: قال: حدثنا محمد بن زياد: قال: حدثني أبان بن سعيد الحميدي بن أبان بن عبد الحميد: قال: اشترى جار لجدي أبان غلاما تركيا بألف دينار، وكان أبان يهواه ويخفي ذلك عن مولاه، فقال فيه:

ليتني والجاهل المغرور من غر بليت

نلت ممن لا أسمي                      وهـو جــاري بـــيت بـــيت

قبـلة تـنــعـــش مـــيتـــا                      إنـنــي حـــي كـــمـــيت

نتـسـاقـى الـريق بـعـد الـــش                      رب مـــن راح كـــمـــيت

لا أســـمـــيه ولـــكــــن                      هو فـــي كـــيت كــــيت وكان اسمه يتك.

وقال أبو الفياض سوار بن أبي شراعة: كان في جوار أبان بن عبد الحميد رجل من ثقيف يقال له محمد بن خالد، وكان عدوا لأبان، فتزوج بعمارة بنت عبد الوهاب الثقفي ، وهي أخت عبد المجيد الذي كان ابن مناذر يهواه، ورثاه، وهي مولاة جنان التي يشيب بها أبو نواس، ويقول فيها:

خرجت تشهد الزفاف جنان                      فاستمالت بحسنها النظـاره

قال أهل العروس لما رأوها                      ما دهانا بها سوى عمـارة قال: وكانت موسرة، فقال أبان بن عبد الحميد يهجوه ويحذرها منه:

لما رأيت الـبـز والـشـارة                      والفرش قد ضاقت به الحارة

واللوز والسكـر يرمـى بـه                      من فوق ذي الدار وذي الداره

وأحضروا الملهين لم يتركـوا                      طبلا ولا صاحـب زمـاره

قلت: لماذا? قـيل أعـجـوبة                      محـمـد زوج عـمــاره

لا عمر الـلـه بـهـا بـيتـه                      ولا رأتـه مـدركـا ثـاره

ماذا رأت فيه ومـاذا رجـت                      وهي من النسوان مخـتـاره

أسود كالسفود ينسى لدى التـن                      ور بـل مـحـراك قـياره

يجري علـى أولاده خـمـسة                      أرغـفة كـالـريش طـياره

وأهله في الأرض من خوفـه                      إن أفرطوا في الأكل سـياره

ويحك فري واعصي ذاك بـي                      فهـذه أخـتـك فـــراره

إذا غفا بالليل فاستـيقـظـي                      ثم اطفـري إنـك طـفـاره

فصـعـدت نـائلة سـلـمـا                      تخاف أن تصعـده الـفـاره

سرور غرتها فلا أفـلـحـت                      فإنها الـلـغـنـاء غـرارة

لو نلت ما أبعدت من ريقـهـا                      إن لهـا نـفـثة سـحـارة قال: فلما بلغت قصيدته عمارة هربت فحرم الثقفي من جهتها مالا عظيما، قال: والثلاثة التي أولها:

فصعدت نائلة سلما زادها في القصيدة بعد أن هربت.

أخبرني الأخفش عن المبرد عن أبي وائلة، قال: كان أبان اللاحقي يولع بابن مناذر، ويقول له: إنما أنت شاعر في المراثي، فإذا مت فلا ترثني، فكثر ذلك من أبان عليه، حتى أغضبه، فقال فيه ابن مناذر:

غنج أبان ولين منـطـقـه                      يخبر الناس أنه حلـقـي

داء به تعرفون كـلـكـم                      يا آل عبد الحميد في الأفق

حتى إذا ما المساء جلـلـه                      كان أطباؤه على الطـرق

ففرجوا عنه بعض كربتـه                      بمسبطر مطوق العـنـق قال: وهجاه بمثل هذه القصيدة، ولم يجبه أبان خوفا منه، وسعي بينهما، فأمسك عنه.

أخبرني الصولي، عن محمد بن سعيد، عن عيسى بن إسماعيل قال: جلس أبان بن عبد الحميد ليلة في قوم، فثلب أبا عبيدة فقال: يقدح في الأنساب ولا نسب له. فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كل شيء حتى أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، وهو وأهله يهود، وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة، وليس فيها مصحف، وأوضح الدلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدعي حفظ التوراة، ولا يحفظ من القرآن ما يصلي به، فبلغ ذلك أبانا فقال:

لا تنمن عن صـديق حـديثـا                      واستعذ من تسرر الـنـمـام

واخفض الصوت إن نطقت بليل                      والتفت بالنهار قبـل الـكـلام أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة: قال:

 

صفحة : 2603

 

كنا في مجلس أبي زيد الأنصاري، فذكروا أبان بن عبد الحميد، فقالوا: كان كافرا، فغضب أبو زيد، وقال: كان جاري، فما فقدت قرآنه في ليلة قط.

أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ: قال: كان لأبان جار، وكان يعاديه، فاعتل علة طويلة وأرجف أبان بموته، ثم صح من علته، وخرج،، فجلس على بابه، فكانت علته من السل، وكان يكنى أبا الأطول، فقال له أبان:

أبا الأطول طـولـت                      وما ينجيك تـطـويل

بك الـســل ولا وال                      ه ما يبرأ مسـلـول

فلا يغررك من طـب                      ك أقـوال أبـاطـيل

أرى فيك عـلامـات                      وللأسـبـاب تـأويل

هزالا قد برى جـس                      مك والمسلول مهزول

وذبـانـا حـوالــيك                      فموقوذ ومـقـتـول

وحمى منك في الظهر                      فأنت الدهر مملـول

وأعلامـا سـوى ذاك                      تواريها الـسـراويل

ولو بالـفـيل مـمـا                      بك عشر ما نجا الفيل

فما هذا علـى فـيك                      قلاع أم دمـامــيل

ومازال مـنـاجـيك                      يولي وهو مبـلـول

لئن كان من الجـوف                      لقد سال بك الـنـيل

وذا داء يزجــــيك                      فلا قـال ولا قــيل فلما أنشده هذا الشعر أرعد، واضطرب، ودخل منزله، فما خرج منه بعد ذلك، حتى مات.

 

ما تزال الديار في برقة الـن                      جد لسعدى بقرقري تبكينـي

قد تحيلت كي أرى وجه سعدى                      فإذا كـل حـيلة تـعـيينـي

قلت لما وقفت في سدة الـبـا                      ب لسعدى مقالة المسـكـين

افعلي بي يا ربة الخدر خـيرا                      ومن الماء شربة فاسقـينـي

قالت: الماء في الركي كثـير                      قلت: ماء الركي لا يروينـي

طرحت دوني الستور وقالت:                      كل يوم بـعـلة تـأتـينـي الشعر لتويت اليمامي، والغناء لأبي زكار الأعمى، رمل بالوسطى، ابتداؤه نشيد من رواية الهشامي.

 

أخبار تويت ونسبه

تويت لقب، واسمه عبد الملك بن عبد العزيز السلولي من أهل اليمامة، لم يقع لي غير هذا وجدته بخط أبي العباس بن ثوابة، عن عبد الله بن شبيب من أخبار رواها عنه.

وتويت أحد الشعراء اليماميين من طبقة يحيى بن طالب وبني أبي حفصة وذويهم، ولم يقد إلى خليفة، ولا وجدت له مديحا في الأكابر والرؤساء فأخمل ذلك ذكره، وكان شاعرا فصيحا نشأ باليمامة وتوفي بها.

قال عبد الله بن شبيب: كان تويت يهوى امرأة من أهل اليمامة يقال لها: سعدى بنت أزهر، وكان يقول فيها الشعر، فبلغها شعره من وراء وراء، ولم تره، فمر بها يوما، وهي مع أتراب لها، فقلن: هذا صاحبك، وكان دميما، فقامت إليه وقمن معها، فضربته، وخرقن ثيابه، فاستعدى عليهن فلم يعده الوالي، فأنشأ يقول:

إن الغواني جرحن في جسدي                      من بعد ما قد فرغن من كبدي

وقد شققن الرداء ثـمـت لـم                      يعد عليهن صاحب الـبـلـد

لم يعدني الأحول المشوم وقـد                      أبصر ما قد صنعن في جسدي قال: فلما جرى هذا بينه وبينها عقد له في قلبها رقة، وكانت تتعرض له إذا مر بها، واجتاز يوما بفنائها فلم تتوار عنه، وأرته أنها لم تره، فلما وقف مليا سترت وجهها بخمارها، فقال تويت:

ألا أيها الثار الذي لـيس نـائمـا                      على ترة إن مت من حبها غـدا

خذوا بدمي سعدى فسعدى منيتهـا                      غداة النقا صادت فؤادا مقصـدا

بآية ما ردت غـداة لـقـيتـهـا                      على طرف عينيها الرداء الموردا قال ابن شبيب: ولقيها راحلة نحو مكة حاجة، فأخذ بخطام بعيرها وقال:

قل للتي بكرت تريد رحـيلا                      للحج إذ وجدت إليه سبـيلا

ما تصنعين بحجة أو عمـرة                      لا تقبلان وقد قتلت قتـيلا

أحيي قتيلك ثم حجي وانسكي                      فيكون حجك طاهرا مقبولا فقالت له: أرسل الخطام، خيبك الله وقبحك، فأرسله، وسارت.

قال عبد الله بن شبيب: ثم تزوجها أبو الجنوب يحيى بن أبي حفصة، فحجبها، وانقطع ما كان بينها وبين تويت، فطفق يهجو يحيى فقال:

 

صفحة : 2604

 

 

عناء سيق للقلب الـطـروب                      فقد حجبت معذبة القـلـوب

أقول وقد عرفت لها مـحـلا                      ففاضت عبرة العين السكوب

ألا يا دار سعدى كـلـمـينـا                      وما في دار سعدى من مجيب

ولما ضمها وحوى عـلـيهـا                      تركت له بعاقبة نـصـيبـي

وقلت: زحام مثلك مثل يحـيى                      لعمرك ليس بالرأي المصيب

فما لك مثل لـمـتـه تـدرى                      ومالك مثل بخل أبي الجنوب

إذا فقد الرغيف بكى عـلـيه                      وأتبع ذاك تشقيق الـجـيوب

يعذب أهله في القرص حتـى                      يظلوا منه في يوم عصـيب وقال أيضا:

ألا في سبيل الله نفس تقـسـمـت                      شعاعا وقلب للـحـسـان صـديق

أفاقت قلوب كن عذبن بـالـهـوى                      زمانا وقـلـبـي مـا أراه يفـيق

سرقت فؤادي ثم لا تـرجـعـينـه                      وبعض الغواني للقلـوب سـروق

عروف الهوى بالوعد حتى إذا جرت                      ببينك غـربـان لـهـن نـعـيق

وردت جمال الحي وانشقت العصـا                      وآذن بالبين الـمـشـت صـدوق

ندمت على ألا تكوني جـزيتـنـي                      زعمت وكل الـغـانـيات مـذوق

لعلك أن ننـأى جـمـيعـا بـغـلة                      تذوقين من حـر الـهـوى وأذوق

عصيت بك الناهين حتى لو أنـنـي                      أموت لما أرعى علـي شـفـيق ومن مختار قول تويت في سعدى هذه مما أخذته من رواية عبد الله بن شبيب من قصيدة أولها:

سنرضي في سعيدى عاذلينا                      بعاقبة وإن كرمت علينـا يقول فيها:

لقيت سعيد تمشي في جـوار                      بجرعاء النقا فلقيت حـينـا

سلبن القلب ثم مضين عنـي                      وقد ناديتهن فـمـا لـوينـا

فقلت وقد بقيت بغير قـلـب                      بقلبي يا سعـيدى أين أينـا

فما تجزين يا سعدى محـبـا                      بهيم بكم ولا تقضـين دينـا

فقالوا إذ شكوت المطل منها                      لعمرك من سمعت له قضينا

ومن هذا الذي إن جاء يشكو                      إلينا الحب من سقم شفـينـا

فهن فواعل بي غـير شـك                      كما قبلي فعلن بصاحبـينـا

بعروة والذي بسهـام هـنـد                      أصيب، فما أقدن ولا ودينـا ومن مختار قوله فيها:

سل الأطـلال إن نـــفـــع الـــســـؤال                      وإن لـم يربـع الـركـب الــعـــجـــال

عن الـخـود الـتـي قـتـلـتـك ظـلـمـــا                      ولـيس بـهـا إذا بـطـشــت قـــتـــال

أصـابـك مـقـلـتـان لـــهـــا وجـــيد                      وأشـــنـــب بـــارد عـــــذب زلال

أعـارك مـا تـبــلـــت بـــه فـــؤادي                      من الـعـينـين والـجـــيد الـــغـــزال

أيا ثارات من قتلته سعدىدمي لا تطلبوه لها حلال

أرق لها وأشفق بعد قتلي                      علـى سـعــدى وإن قـــل الـــنـــوال

ومـا جـادت لـنـــا يومـــا بـــبـــذل                      يمـين مـن ســـعـــاد ولا شـــمـــال ومن قوله فيها أيضا:

يا بنت أزهر إن ثأري طالـب                      بدمي غدا الثأر أجهد طـالـب

فإذا سمعت براكب متعـصـب                      ينعى قتيلك فافزعي للراكـب

فلأنت من بين الأنام رميتـنـي                      عن قوس متلفة بسهم صـائب

لا تأمني شم الأنوف وترتـهـم                      وتركت صاحبهم كأمس الذاهب

من كان أصبح غالبا لهوى التي                      يهوى فإن هواك أصبح غالبي

قلت وأسبلت الدموع لتربـهـا                      لما اغتررت وأومأت بالحاجب

قولي له: بالله يطلـق رحـلـه                      حتى يزود أو يروح بصاحـب وقال فيها أيضا:

أرق الـعـين مـن الـشــوق الـــســـهـــر                      وصـبـا الـقـلـــب إلـــى أم عـــمـــر

واعـتـرتـنـي فـكـرة مــن حـــبـــهـــا                      ويح هـذا الـقـلـب مـن طـول الـفـــكـــر

قدر ســـيق فـــمـــن يمـــلـــكــــه                      أين مـن يمـلـك أســـبـــاب الـــقـــدر

كل شيء نالني من حبها إن نجت نفسي من الموت هدر وقال أيضا:

يا للرجال لقلبك المتـطـرف                      والعين إن تر برق نجد تذرف

ولحاجة يوم العبير تعرضـت                      كبرت فرد رسولها لم يسعف

يا بنت أزهر ما أراك مثيبتـي                      خيرا على ودي لكم وتلطفي

 

صفحة : 2605

 

 

إني وإن خـبـرت أن حـياتـنـا                      في طرف عينك هكذا لم تطـرف

ليظل قلبي من مخـافة بـينـكـم                      مثل الجناح معلقا فـي نـفـنـف

وليظل في هجر الأحبة طـالـبـا                      لرضاك مما جار إن لم تسـعـف

كأخي الفلاة يغـره مـن مـائهـا                      قطع السراب جرى بقاع صفصف

أهراق نطفته فـلـمـا جـاءهـا                      وجد المنية عندها لـم تـخـلـف

أمنت بإذن اللـه مـن كـل حـادث                      بقربك من خير الورى يا بن حارث

أمام حوى إرث النبـي مـحـمـد                      فأكرم به مـن ابـن عـم ووارث الشعر والغناء لمحمد بن الحارث بن بسخنر، خفيف رمل بالبنصر مطلق من جامع أغانيه وعن الهشامي.

 

أخبار محمد بن الحرث

مولى المنصور، وأصله من الري من أولاد المرازبة، وكان الحارث بن بسخنر أبوه رفيع القدر عند السلطان، ومن وجوه قواده، وولاه الهادي - ويقال الرشيد - الحرب والخراج بكور الأهواز كلها.

فأخبرني حبيب المهلبي: قال: حدثني النوفلي عن محمد بن الحارث بن بسخنر: قال: كنت بالدير، وكان رجل من أهلها يعرض علي الحوائج ويخدمني فيكرمني، ويذكر قديمنا، ويترحم على أبي، فقال لي رجل من أهل تلك الناحية: أتعرف سبب شكر هذا لأبيك? قلت: لا، قال: فإن أباه حدثني - وكان يعرف بابن بانة - بأن أباك الحارث بن بسخنر اجتز بهم يريد الأهواز فتلقاه بدجلة العوراء، وأهدى له صقورا وبواشق صائدة، فقال له: الحق بي بالأهواز، فقال له يوما: إني نظرت في أمور الأعمال بالأهواز، فلم أجد شيئا منها يرتفق منه بما قدرت أن أبرك به، وقد ساومني التجار بالأهواز بالأرز، وقد جعلته لك بالسعر الذي بذلوه ، وسيأتونني، فأعلمهم بذلك، فقلت: نعم، فجاءوا، وخلصوه منه بأربعين ألف دينار، فصرت إلى الحارث فأعلمته، فقال لي: أرضيت بذلك? فقلت: نعم، قال: فانصرف.

ولما قفل الحارث من الأهواز مر بالمدائن، فلقيه الحسين بن محرز المدائني المغني فغناه:

قد علم الله علا عرشـه                      أني إلى الحارث مشتاق فقال له: دعني من شوقك إلي، وسلني حاجة فإني مبادر، فقال له: علي دين مائة ألف درهم، فقال: هي علي، وأمر له بها، وأصعد.

وكان محمد بن الحارث من أصحاب إبراهيم بن المهدي والمتعصبين له على إسحاق، وعن إبراهيم بن المهدي أخذ الغناء، ومن بحره استقى، وعلى منهاجه جرى.

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق، عن محمد بن هارون الهاشمي، عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدي: قال: كان المأمون قد ألزم أبي رجلا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظ جدا هزلا شعرا وغناء، ثم لم يثق به، فألزمه مكانه محمد بن الحارث بن بسخنر، فقال له: أيها الأمير، قل ما شئت واصنع ما أحببت، فوالله لا بلغت عنك أبدا إلا ما تحب، وطالت صحبته له، حتى أمنه وأنس به، وكان محمد يغني بالمعزفة فنقله أبي إلى العود، وواظب عليه حتى حذقه، ثم قال له محمد بن الحارث يوما: أنا عبدك وخريجك وصنيعتك، فاخصصني بأن أروي عنك صنعتك، ففعل، وألقى عليه غناءه أجمع، فأخذه عنه، فما ذهب عليه شيء منه ولا شد.

وقال العتابي: حدثني محمد بن أحمد بن المكي: قال: حدثني أبي: قال: كان محمد بن الحارث قليل الصنعة، وسمعته يغني الواثق في صنعته في شعر له مدحه به وهو:

أمنت بإذن اللـه مـن كـل حـادث                      بقربك من خير الورى يا بن حارث فأمر له بألفي دينار.

وذكر علي بن محمد الهشامي، عن حمدون بن إسماعيل، قال: كان محمد بن الحارث قد صنع هزجا في هذا الشعر:

أصبحت عبدا مستـرقـا                      أبكي الألى سكنوا دمشقا

أعطيتهم قلبـي فـمـن                      يبقى بلا قلب فأبـقـى وطرحه على المسدود ، فغناه، فاستحسنه محمد بن الحارث منه لطيب مسموع المسدود، ثم قال: يا مسدود، أتحب أن أهبه لك? قال: نعم، قال: قد فعلت، فكان يغنيه، ويدعيه، وهو لمحمد بن الحارث.

وقال العتابي: حدثني شروين المغني المدادي . أن صنعة محمد بن الحارث بلغت عشرة أصوات، وأنه أخذها كلها عنه، وأن منها في طريقه الرمل، قال: وهو أحسن ما صنعه.

 

أيا من دعاني فلـبـيتـه                      ببذل الهوى وهو لا يبذل

يدل علي بحـبـي لـه                      فمن ذاك يفعل ما يفعل

 

صفحة : 2606

 

لحن محمد بن الحارث في هذا الصوت رمل مطلق، وفيه ليزيد حوراء ثقيل أول وفيه لسليم لحن وجدته في جميع أغانيه غير مجنس.

أخبرني الحسن بن علي: قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد: قال: حدثني أبو توبة صالح بن محمد، عن عمرو بن بانة: قال: كنت عند محمد بن الحارث بن بسخنر في منزله، ونحن مصطبحون في يوم غيم، فبينا نحن كذلك إذ جاءتنا رقعة عبد الله بن العباس الربيعي، وقد اجتاز بنا مصعدا إلى سر من رأى، وهو في سفينة، ففضها محمد، وقرأها، وإذا فيها:

محمد قد جادت علينـا بـودقـهـا                      سحائب مزن برقهـا يتـهـلـل

ونحن من القاطول في سبه مربـع                      له مسرح سهل المحلة مـبـقـل

فمر فائزا تفديك نفسي يغـنـنـي                      أعن ظعن الحي الألى كنت تسأل?

ولا تسقنـي إلا حـلالا فـإنـنـي                      أعاف من الأشياء مـا لا يحـلـل فقام محمد بن الحارث مستعجلا حافيا، حتى نزل إليه فتلقاه، وحلف عليه حتى خرج معه، وسار به إلى منزله، فاصطحبا يومئذ، وغناه فائز غلامه هذا الصوت، وكان صوته عليه، وغناه محمد بن الحارث وجواريه وكل من حضر يومئذ، وغنانا عبد الله بن العباس الربيعي أيضا أصواتا وصنع يومئذ هذا الهزج، فقال:

يا طيب يومي بالمطيرة معملا                      للكأس عند محمد بن الحارث

في فتية لا يسمعون لـعـاذل                      قولا ولا لمـسـف أو رائث حدثني وسواسه : قال: حدثني حماد بن إسحاق: قال: كان أبي يستحسن غناء جواري الحارث بن بسخنر، ويعتمد على تعليمهن لجواريه، وكان إذا اضطرب على واحدة منهن أو على غيرهن صوت، أو وقع فيه اختلاف، اعتمد على الرجوع فيه إليهن. ولقد غنى مخارق يوما بين يديه صوتا، فتزايد فيه الزوائد التي كان يستعملها، حتى اضطرب. فضحك أبي، وقال: يا أبا المهنأ، قد ساء بعدي أدبك في غنائك فالزم عجائز الحارث بن بسخنر يقومن أودك.

 

بنان يد تشير إلـى بـنـان                      تجاوبتا وما يتـكـلـمـان

جرى الإيماء بينهما رسـولا                      فأحكم وحيه المتنـاجـيان

فلو أبصرته لغضضت طرفا                      عن المتناجيين بلا لـسـان الشعر لماني الموسوس، والغناء لعمر الميداني هرج، وفيه لعريب لحن من الهزج أيضا.

 

أخبار ماني الموسوس

هو رجل من أهل مصر، يكنى أبا الحسن واسمه محمد بن القاسم ، شاعر لين الشعر رقيقه، لم يقل شيئا إلا في الغزل، وماني لقب غلب عليه، وكان قدم مدينة السلام، ولقيه جماعة من شيوخنا، منهم أبو العباس محمد بن عمار وأبو الحسن الأسدي وغيرهما، فحدثني أبو العباس بن عمار، قال: كان ماني يألفني، وكان مليح الإنشاد حلوه، رقيق الشعر غزله، فكان ينشدني الشيء، ثم يخالط، فيقطعه، واكن يوما جالسا إلى جنبي، فأنشدني للعريان البصري:

ما أنصفتك العيون لـم تـكـف                      وقد رأيت الحبـيب لـم يقـف

فابك ديارا حل الحبـيب بـهـا                      فباع منها الجفاء بـالـلـطـف

ثم استعارت مسامعا كسـد الـل                      وم عليها من عاشـق كـلـف

كأنها إذ تـقـنـعـت بـبـلـى                      شمطاء ما تستقل مـن خـرف

يا عين إما أريتـنـي سـكـنـا                      غضبان يزوي بوجه منصـرف

فمثليه للقـلـب مـبـتـسـمـا                      في شخص راض علي منعطف

إن تصفيه للقلب منـقـبـضـا                      فأنت أشقى منه به فـصـفـي

يقال بالصبر قتـل ذي كـلـف                      كيف وصبري يموت من كلفي

إذا دعا الشوق عبـرة لـهـوى                      فأي جفن يقـول لا تـكـفـي

ومستراد للهو تـنـفـسـح الـم                      قلة في حافـتـيه مـؤتـلـف

قصرت أيامـه عـلـى نـفـر                      لا منن بـالـنـدى ولا أسـف

بحيث إن شئت أن ترى قـمـرا                      يسعى عليهم بالكأس ذا نطـف قال: فسألته أن يمليها علي، ثم قال: اكتب، فعارضه أبو الحسن المصري: يعني  ماني  نفسه فقال:

أقفر مغني الديار بالـنـجـف                      وحلت عما عهدت من لطـف

طويت عنها الرضا مـذمـمة                      لما انطوى غض عيشها الأنف

حللت عن سكرة الصبابة مـن                      خوف إلهي بمعـزل قـذف

 

صفحة : 2607

 

 

سئمت ورد الصبا فقـد يئسـت                      مني بنات الخدور والـخـزف

سلوت عن نهد نـسـبـن إلـى                      حسن قوام واللحظ في وطـف

يمددن حبل الصبا لمن ألـفـت                      رجلاه قد المحـول والـدنـف

ومدنف عاد في النحول مـن ال                      وجد إلى مـثـل رقة الألـف

يشارك الطير في النـحـيب ولا                      يشركنه في النحول والقضـف

ومسمعات نهكـن أعـظـمـه                      فهو من الضيم غير منتصـف

مفتخرات بالجور عجبـا كـمـا                      يفخر أهل السفاه بالـجـنـف

وقهوة من نـتـاج قـطـربـل                      تخطف عقل الفتى بلا عـنـف

ترجع شرخ الشباب للخرف الف                      اني وتدني الفتى من الشـغـف قال: فبينا هو ينشد إذ نظر إلى إمام المسجد الذي كنا إزائه قد صعد المئذنة ليؤذن فأمسك عن الإنشاد، ونظر إليه - وكان شيخا ضعيف الجسم والصوت - فأذن أذانا ضعيفا بصوت مرتعش، فصعد إليه ماني مسرعا، حتى صار معه في رأس الصومعة، ثم أخذ بلحيته، فصفعه في صلعته ظننت أنه قد قلع رأسه، وجاء لها صوت منكر شديد، ثم قال له: إذا صعدت المنارة لتؤذن، فعطعط ، ولا تمطمط ، ثم نزل ومضى يعدو على وجهه. ولقيت عنتا عن عتب الشيخ وشكواه إياي إلى أبي ومشايخ الجيران، يقول لهم: هذا ابن عمار يجيء بالمجانين، فيكتب هذيانهم، ويسلطهم على المشايخ فيصفعونهم في الصوامع إذا أذنوا، حتى صرت إلى منزله، فاعتذرت وحلفت أني إنما أكتب شيئا من شعره، وما عرفت ما عمله ولا أحيط به علما.

ونسخت من كتاب لابن البراء: حدثني أبي قال: عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الصبوح، وعنده الحسن بن محمد بن طالوت، فقال: له محمد: كنا نحتاج أن يكون معنا ثالث نأنس به ونلذ في مجاورته فمن ترى أن يكون فقال ابن طالوت : لقد خطر ببالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل، قد خلا من إبرام المجالسين، وبرئ من ثقل المؤانسين، خفيف الوطأة إذا أدنيته، سريع الوثبة إذا أمرته، قال: من هو? قال: ماني الموسوس، قال: ما أسأت الاختيار، ثم تقدم إلى صاحب الشرطة يطلبه وإحضاره، فما كان بأسرع من أن قبض عليه صاحب الشرطة بربع الكوخ فوافى به باب محمد بن عبد الله، فأدخل، ونظف وأخذ من شعره، وألبس ثيابا نظافا، وأدخل على محمد بن عبد الله، فلما مثل بين يديه سلم، فرد عليه، وقال له: أما حان لك أن تزورنا مع شوقنا إليك? فقال له ماني: أعز الله الأمير: الشوق شديد، والود عتيد، والحجاب صعب، والبواب فظ، ولو تسهل لنا الإذن لسهلت علينا الزيارة، فقال له محمد: لقد لطفت في الاستئذان، وأمره بالجلوس. فجلس، وقد كان أطعم قبل أن يدخل، فأتى محمد بن عبد الله بجارية لإحدى بنات المهدي، يقال لها: منوسة، وكان يحب السماع منها، وكانت تكثر أن تكون عنده، فكان أول ما غنته:

ولست بناس إذا غدوا فتحـمـلـوا                      دموعي على الخدين من شدة الوجد

وقولي وقد زالت بعيني حمولـهـم                      بواكر تحدى لا يكن آخر العـهـد فقال ماني: أيأذن لي الأمير? قال: في ماذا? قال: في استحسان ما أسمع، قال: نعم، قال: أحسنت والله، فإن رأيت أن تزيدي مع هذا الشعر هذين البيتين:

وقمت أداري الدمع والقلب حـائر                      بمقلة موقوف على الضر والجهد

ولم يعدني هذا الأمـير بـعـدلـه                      على ظالم قد لج في الهجر والصد فقال له محمد: ومن أي شيء استعديت يا ماني? فاستحيا، وقال: لا من ظلم أيها الأمير، ولكن الطرب حرك شوقا كان كامنا، فظهر. ثم غنت:

حجبوها عن الـرياح لأنـي                      قلت: يا ريح بلغيها السلامـا

لو رضوا بالحجاب هان ولكن                      منعوها يوم الرياح الكلامـا قال: فطرب محمد، ودعا برطل فشربه فقال ماني: ما كان علة قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما هذين:

فتنفست ثم قلت لطـيفـي:                      ويك إن زرت طيفها إلماما

حيها بالـسـلام سـرا وإلا                      منعوها لشقوتي أن تنامـا فقال محمد: أحسنت يا ماني، ثم غنت:

يا خليلي ساعة لا تـريمـا                      وعلى ذي صبابة فأقـيمـا

ما مررنا بصر زينـب إلا                      فضح الدمع سرك المكتوما

 

صفحة : 2608

 

قال ماني: لولا رهبة الأمير لأضفت هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع سامع ذي لب فيصدران إلا عن استحسان لهما، فقال محمد: الرغبة في حسن ما تأتى به حائلة عن كل رهبة، فهات ما عندك، فقال:

ظبية كالهلال لو تلحظ الص                      خر بطرف لغادرته هشيما

وإذا ما تبسمت خلت مـا ي                      بدو من الثغر لؤلؤا منظوما فقال محمد: إن أحسن الشعر ما دام الإنسان يشرب ما كان مكسوا لحنا حسنا تغني به منوسة وأشباهها، فإن كسيت شعرك من الألحان مثل ما غنت قبله طاب، فقال: ذلك إليها.

فقال له ابن طالوت: يا أبا الحسين ، كيف هي عندك في حسنها وجمالها وغنائها وأدبها? قال: هي غاية ينتهي إليها الوصف، ثم يقف، قال: قل في ذلك شعرا، فقال:

وكيف صبر النفس عن غادة                      تظلمها إن قلت طاووسـه

وجرت إن شبهتـهـا بـانة                      في جنة الفردوس مغروسه

وغير عدل إن عدلنا بـهـا                      لؤلؤة في البحر منفوسـه

جلت عن الوصف فما فكرة                      تلحقها بالنعت محـسـوس فقال له ابن طالوت: وجب شكرك يا ماني، فساعدك دهرك، وعطف عليك إلفك، ونلت سرورك، وفارقت محذورك، والله يديم لنا ولك بقاء من ببقائه اجتمع شملنا، وطاب يومنا.

فقال ماني:

مدمن التخفيف موصول                      ومطيل اللبث مملـول فأنا أستودعكم الله، ثم قام فانصرف، فأمر له محمد بن عبد الله بصلة، ثم كان كثيرا ما يبعث بطلبه إذا شرب، فيبره، ويصله، ويقيم عنده.

أخبرني جعفر بن قدامة، قال: حدثني المبرد، قال: حدثني بعض الكتاب ممن كان ماني يلزمه ، ويكثر عنده، قال: لقيني يوما ماني بعد انقطاع طويل عني، فقال: ما قطعني عنك إلا أني هائم، قلت: بمن? قال بمن إن شئت أن تراه الساعة رأيته فعذرتني، قلت: فأنا معك، فمضى، حتى وافى باب الطاق، فأراني غلاما جميل الوجه بين يدي بزاز في حانوته، فلما رآه الغلام عدا، فدخل الحانوت، ووقف ماني طويلا ينتظره، فلم يخرج، فأنشأ يقول:

ذنبي إليه خضوعي حين أبصره                      وطول شوقي إليه حين أذكـره

وما جرحت بطرف العين مهجته                      إلا ومن كبدي يقتص محجـره

نفسي على بخله تفديه من قمـر                      وإن رماني بذنب ليس يغفـره

وعاذل باصطبار القلب يأمرنـي                      فقلت: من أين لي قلب أصبره ومضى يعدو ويصيح: الموت مخبوء في للكتب .

 

وشادن قلبي به معـمـود                      شيمته الهجران والصدود

لا أسأم الحرص ولا يجود                      والصبر عن رؤيته مفقود

زناره في خصره معقود                      كأنه من كبدي مـقـدود عروضه من الرجز، والشعر لبكر بن خارجة، والغناء لقاسم بن زرزور، خفيف رمل بالوسطى.

 

أخبار بكر بن خارجة

كان بكر بن خارجة، رجلا من أهل الكوفة، مولى لبني أسد، وكان وراقا ضيق العيش، مقتصرا على التكسب من الوراقة، وصرف أكثر ما يكسبه إلى النبيذ، وكان معاقرا للشرب في منازل الخمارين وحاناتهم، وكان طيب الشعر مليحا مطبوعا طبعا ماجنا .

فذكر أبو العنبس الصيمري أن محمد بن الحجاج حدثه قال: رأيت بكر بن خارجة يبكر في كل يوم بقنينتين من شراب إلى خراب من خرابات الحيرة، فلا يزال يشربه فيه على صوت هدهد كان يأوي إلى ذلك الخراب، إلى أن يسكر، ثم ينصرف، قال: وكان يتعشق ذلك الهدهد.

وحدثني عمي عن ابن مهرويه عن علي بن عبد الله بن سعد، قال: كان بكر بن خارجة يتعشق غلاما نصرانيا، يقال له: عيسى بن البراء العبادي الصيرفي، وله فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى وشرائعهم وأعيادهم، ويسمي دياراتهم، ويفضلهم.

قال: وحدثني من شهد دعبلا وقد أنشدني قوله في عيسى بن البراء النصراني العبادي:

زناره في خصره معقود                      كأنه من كبدي مقـدود فقال دعبل: ما يعلم الله أني حسدت أحدا قط كما حسدت بكرا على هذين البيتين.

وحدثني عمي عن الكراني، قال: حرم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة، وركب فكسر نبيذهم، فجاء بكر يشرب عندهم على عادته، فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق، فبكى طويلا، وقال:

يا لقومي لما جنى السلطان                      لا يكونن لما أهان الهوان

 

صفحة : 2609

 

 

قهوة في التراب من حـلـب الـكـر                      م عـقـارا كـأنـهـا الـزعـفـران

قهوة في مـكـان سـوء بـقـد صـا                      دف سعد السـعـود ذاك الـمـكـان

من كميت يبدي الـمـزاج لـهـا لـؤ                      لؤ نظم والفصـل مـنـهـا جـمـان

فإذا ما اصطبحتها صـغـرت فـي ال                      قدر تخـتـالـهـا هـي الـجـرذان

كيف صبري عن بعض نفسي وهل يص                      بر عن بعـض نـفـسـه الإنـسـان قال: فأنشدتها الجاحظ، فقال: إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائما وما أقدر على ذك إلا أن تعمدني، وقد كان تقوس، فعمدته، فقام، فكتبها قائما.

وقال محمد بن داود بن الجراح في كتاب الشعراء: قال لي محمد بن الحجاج: كانت الخمر قد أفسدت عقل بكر بن خارجة في آخر عمره، وكان يمدح ويهجو بدرهم وبدرهمين ونحو هذا فاطرح، وما رأيت قط احفظ منه لكل شيء حسن، ولا أروى منه للشعر.

قال: وأنشدني بعض أصحابنا له في حال فساد عقله:

هب لي فديتك درهمـا                      أو درهمين إلى الثلاثه

إني أحب بني الطفـي                      ل ولا أحب بني علاثه قال ابن الجراح حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني بعض أصحابنا الكوفيين قال: حضرنا دعوة ليحيى بن أبي وسف القاضي وبتنا عنده، فنمت فما أنبهني إلا صياح بكر يستغيث من العطش، فقلت له: مالك? فاشرب فالدار مليئة ماء، قال: أخاف، قلت: من أي شيء? قال: في الدار كلب كبير، فأخاف أن يظنني غزالا فيثب علي ويقطعني ويأكلني، فقلت: له ويحك يا بكر فالحمير أشبه منك بالغزال، قم فاشرب إن كنت عطشان وأنت آمن، وكان عقله قد فسد من كثرة الشراب.

قال: وأنشدني له، وقد رأى صديقا له قرأ رقعة من صديق له آخر ثم حرقها:

لم يقو عندي على تحريق قرطاسي                      إلا امرؤ قلبه من صخرة قاسـي

إن القراطيس من قلبي بمـنـزلة                      تحويه كالسمع والعينين في الرأس ومما يغنى فيه من شعر بكر بن خارجة:

قلبي إلى ما ضرني داعـي                      يكثر أحزاني وأوجـاعـي

لقل ما أبقى على مـا أرى                      يوشك أن ينعاني النـاعـي

كيف احتراسي من عدوي إذا                      كان عدي بين أضلاعـي?

أسلمني الحـب وأشـياعـي                      لما سعى بي عندها الساعي

لما دعاني حـبـهـا دعـوة                      قلت له: لـبـيك مـن داع الغناء لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول، وفيه لعبد الله بن العباس هزج، جميعا عن الهشامي، وقيل: إن فيه لحنا لابن جامع.

وقد ذكر الصولي في أخبار العباس بن الأحنف وشعره أن هذه الأبيات للعباس بن الأحنف، وذكر محمد بن داود بن الجراح عن أبي هفان أنها لبكر بن خارجة:

ويلي على ساكن شط الصراه                      من وجنتيه شمت برق الحياه

ما ينقضي من عجب فكرتي                      في خصلة فرط فيها الولاه

ترك المحبين بـلا حـاكـم                      لم يقعدوا للعاشقين القضـاه الشعر لإسماعيل القراطيسي والغناء لعباس بن مقام خفيف رمل بالوسطى.

 

أخبار إسماعيل القراطيسي

هو إسماعيل بن معمر الكوفي، مولى الأشاعثة، وكان مألفا للشعراء، فكان أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وطبقتهم يقصدون منزله. ويجتمعون عنده، ويقصفون، ويدعو لهم القيان وغيرهن من الغلمان، ويساعدهم.

وإياه يعني أبو الهتاهية بقوله:

لقد أمسى القراطيسي                      رئيسا في الكشاخين وفي هذه الأبيات التي فيها الغناء يقول القراطيسي:

وقد أتاني خـبـر سـاءنـي                      مقالها في السر واسـوأتـاه

أمثل هذا يبتغـي وصـلـنـا                      أما يرى ذا وجهه في المراه أخبرني ابن عمار عن ابن مهرويه، عن علي بن عمران، قال: قال القراطيسي: قلت للعباس بن الأحنف : هل قلت في معنى قولي:

وقد أتاني خبـر سـاءنـي                      مقالها في السر: واسوأتاه? قال: نعم، وأنشدني:

جارية أعجبها حسـنـهـا                      فمثلها في الناس لم يخلـق

خبرتها أني محـب لـهـا                      فأقبلت تضحك من منطقي

والتفتت نحو فتـاة لـهـا                      كالرشأ الوسنان في قرطق

قالت لها: قولي لهذا الفتى:                      انظر إلى وجهك ثم اعشق

 

صفحة : 2610

 

أخبرني الحسن بن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن بشر المرثدي، قال: مدح إسماعيل القراطيسي الفضل بن الربيع ، فحرمه فقال:

ألا قل للـذي لـم يهـد                      ه الـلـه إلـى نـفـع

لئن أخطأت في مدحـي                      ك ما أخطأت في منعي

لقد أحللت حـاجـاتـي                      بواد غــير ذي زرع أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد عن أبي هفان عن الجماز، قال: اجتمع يوما أبو نواس وحسين الخليع وأبو العتاهية في الحمام وهم مخمورون، فقالوا: أين نجتمع? فقال القراطيسي:

ألا قـومـوا بـأجـمـعـكـــم                      إلـى بـيت الـقـراطـيســـي

لقـد هـيا لـنـا الـــنـــزل                      غلام فـــاره طـــوســـي

وقـد هـيا الـزجـــاجـــات                      لنـا مـن أرض بـلــقـــيس

وألـوانـا مــن الـــطـــير                      وألـوانـا مـن الـــعـــيس

وقـينـات مـن الـــحـــور                      كأمـثــال الـــطـــواويس

فنـيكـوهــن فـــي ذاكـــم                      وفـي طــاعة إبـــلـــيس

أبكي إذا غضبت حتـى إذا رضـيت                      بكيت عند الرضا خوفا من الغضب

فالويل إن رضيت والعول إن غضبت                      إن لم يتم الرضا فالقلب في تـعـب الشعر لأبي العبر الهاشمي، أنشدنيه الأخفش وغيره من أصحابنا، وذكره له محمد بن داود بن الجراح، والغناء لعلية بنت المهدي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي.

 

أخبار أبي العبر ونسبه

هو أبو العباس محمد بن أحمد، ويلقب حمدونا الحامض بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان صالح الشعر مطبوعا يقول الشعر المستوي في أول عمره منذ أيام الأمين وهو غلام، إلى أن ولي المتوكل الخلافة، فترك الجد، وعاد إلى الحمق والشهرة به، وقد نيف على الخمسين، ورأى أن شعره مع توسطه لا ينفق مع مشاهدته أبا تمام الطائي والبحتري وأبا السمط بن أبي حفصة ونظراءهم.

حدثني عم أبي عبد العزيز أحمد، قال: سمعت حمدون الحامض يذكر أنه ابنه أبا العبر ولد بعد خمس سنوات خلت من خلافة الرشيد، قال: وعمر إلى خلافة المتوكل، وكسب بالحمق أضعاف ما كسبه كل شاعر كان في عصره بالجد، ونفق نفاقا عظيما، وكسب في أيام المتوكل مالا جليلا، وله فيه أشعار حميدة، يمدحه بها، ويصف قصره وبرج الحمام والبركة كثيرة المحال، مفرطة السقوط، لا معنى لذكرها، سيما وقد شهرت في الناس.

فحدثني محمد بن أبي الأزهر، قال: حدثني الزبير بن بكار، قال: قال لي عمي: ويحك ألا يأنف الخليفة لابن عمه هذا الجاهل مما قد شهر به نفسه وفضح عشيرته والله إنه لعر بني آدم جميعا، فضلا عن أهله والأدنين  أفلا يردعه ويمنعه من سوء اختياره فقلت: إنه ليس بجاهل كما تعتقد ، وإنما يتجاهل، وإن له لأدبا صالحا وشعرا طيبا، ثم أنشدته:

لا أقول الله يظلـمـنـي                      كيف أشكو غير متهـم

وإذا ما الدهر ضعضعني                      لم تجدني كافر النـعـم

قنعت نفسي بما رزقـت                      وتناهت في العلا هممي

ليس لي مال سوى كرمي                      وبه أمني مـن الـعـدم فقال لي: ويحك فلم لا يلزم هذا وشبهه? فقلت له: والله يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات لعذرته، فإن ما استملحت له لم ينفق به، فقال عمي - وقد غضب - أنا لا أعذره في هذا لو حاز به الدنيا بأسرها، لا عذرني الله إن عذرته إذن وحدثني مدرك بن محمد الشيباني، قال: حدثني أبو العنبس الصيمري، قال: قلت لأبي العبر ونحن في دار المتوكل: ويحك أيش يحملك على هذا السخف الذي قد ملأت به الأرض خطبا وشعرا وأنت أديب ظريف مليح الشعر? فقال لي: يا كشخان، أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت? أنت أيضا شاعر فهم متكلم فلم تركت العلم، وصنعت في الرقاعة نيفا وثلاثين كتابا، أحب أن تخبرني لو نفق العقل أكنت تقدم علي البحتري، وقد قال في الخليفة بالأمس:

عن أي ثغر تبتسـم                      وبأي طرف تحتكم فلما خرجت أنت عليه وقلت:

في أي سلح ترتـطـم                      وبأي كف تلـتـطـم

أدخلت رأسك في الرحم                      وعلمت أنك تنـهـزم

 

صفحة : 2611

 

فأعطيت الجائزة وحرم، وقربت وأبعد، في حر أمك وحر أم كل عاقل معك فتركته، وانصرفت.

قال مدرك: ثم قال لي أبو العنبس: قد بلغني أنك تقول الشعر، فإن قدرت أن تقوله جيدا، جيدا? وإلا فليكن باردا، باردا، مثل شعر أبي العبر وإياك والفاتر فإنه صفع كله.

حدثني جعفر بن قدام، قال: حدثني أبو العيناء، قال: أنشدت أبا العبر:

ما الحب إلا قـبـلة                      أو غمز كف وعضد

أو كتب فيها رقـى                      أنفذ من نفث العقـد

من لم يكن ذا حبـه                      فإنما يبغي الـولـد

ما الحب إلا هـكـذا                      إن نكح الحب فسـد فقال لي: كذب المأبون: وأكل من خراي رطلين وربعا بالميزان، فقد أخطأ وأساء، ألا قال كما قلت:

باض الحب في قلبـي                      فواويلـي إذا فــرخ

وما ينفعـنـي حـبـي                      إذا لم أكنس البـربـخ

وإن لم يطرح الأصـل                      ع خرجيه على المطبخ ثم قال: كيف ترى? قلت: عجبا من العجب، قال: ظننت أنك تقول: لا، فأبل يدي وأرفعها. ثم سكت، فبادرت، وانصرفت خوفا من شره.

حدثني عبد العزيز بن أحمد عم أبي، قال: كان أبو العبر يجلس بسر من رأى في مجلس يجتمع عليه فيه المجان يكتبون عنه، فكان يجلس على سلم وبين يديه بلاعة فيها ماء وحمأة، وقد سد مجراها، وبين يديه قصبة طويلة، وعلى رأسه خف، وفي رجليه قلنسيتان، ومستمليه في جوف بئر، وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين، حتى تكثر الجلبة، ويقل السماع، ويصبح مستمليه من جوف البئر من يكتب ، عذبك الله، ثم يملي عليهم، فإن ضحك أحد ممن حضر قاموا فصبوا على رأسه من ماء البلاعة إن كان وضيعا، وإن كان ذا مروءة رشش عليه بالقصبة من مائها، ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفض المجلس، ولا يخرج منه حتى يغرم درهمين. قال: وكانت كنيته أبا العباس، فصيرها أبا العبر، ثم كان يزيد فيها في كل سنة حرفا، حتى مات، وهي أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك.

حدثني جحظة، قال: رأيت أبا العبر بسر من رأى، وكان أبوه شيخا صالحا، وكان لا يكلمه، فقال له بعض إخوانه: لم هجرت ابنك? قال: فضحني - كما تعلمون - بما يفعله بنفسه، ثم لا يرضى بذلك، حتى يهجنني ويؤذيني، ويضحك الناس مني، فقالوا له: وأي شيء من ذاك? وبماذا هجنك? قال: اجتاز علي منذ أيام ومعه سلم، فقلت له: ولأي شيء هذا معك? فقال: لا أقول لك، فأخجلني، وأضحك بي كل من كان عندي، فلما أن كان بعد أيام اجتز بي ومعه سمكة، فقلت له: إيش تعمل بهذه? فقال: أنيكها، فحلفت لا أكلمه أبدا.

أخبرني عم أبي عبد العزيز، قال: سمعت رجلا سأل أبا العبر عن هذه المحالات التي لا يتكلم بها: أي شيء أصلها? قال: أبكر، فأجلس على الجسر، ومعي دواة ودرج ، فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب الجائي والملاحين والمكارين، حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضا وطولا وألصقه مخالفا، فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه.

أخبرني عمي ، قال: رأيت أبا العبر واقفا على بعض آجام سر من رأى، وبيده اليسرى قوس جلاهق ، وعلى يده اليمنى باشق، وعلى رأسه قطعة رثة في حبل مشدود بأنشوطة، وهو عريان، في أبره شعر مفتول مشدود فيه شص قد ألقاه في الماء للسمك، وعلى شفته دوشاب ملطخ، فقلت له: خرب بيتك، أيش هذا العمل? فقال: أصطاد يا كشخان يا أحمق بجميع جوارحي، إذا مر بي طائر رميته عن القوس، وإن سقط قريبا مني أرسلت إليه الباشق، والرثة التي على رأسي يجيء الحدأ ليأخذها فيقع في الوهق والدوشاب أصطاد به الذباب، وأجعله في الشص، فيطلبه السمك، ويقع فيه، والشص في أيري، فإذا مرت به السمكة أحسست بها، فأخرجتها.

قال: وكان المتوكل يرمي في المنجنيق إلى الماء، وعليه قميص حرير، فإذا علا في الهواء صاح: الطريق الطريق، ثم يقع في الماء، فتخرجه السباح، قال: وكان المتوكل يجلسه على الزلاجة، فينحدر فيها، حتى يقع في البركة، ثم يطرح الشبكة، فيخرجه كما يخرج السمك، ففي ذلك يقول في بعض حماقاته:

ويأمر بي الـمـلـك                      فيطرحني في البرك

ويصطادني بالشـبـك                      كأني من الـسـمـك

ويضحك كك كك ككك                      كك كك كك كك ككك وحدثني جعفر بن قدامة، قال:

 

صفحة : 2612

 

قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين، وجلس للناس، فبعث إسحاق بن إبراهيم، فأخذه، وحبسه، فصاح في الحبس، لي نصيحة، فأخرج، ودعا به إسحاق، فقال: هات نصيحتك، قال: على أن تؤمنني? قال: نعم، قال: الكشكية - أصلحك الله - لا تطيب إلا بالكشك، فضحك إسحاق وقال: هو - فيما أرى - مجنون، فقال: لا، هو امتخط حوت ، قال: أيش أهو امتخط حوت? ففهم ما قاله، وتبسم ثم قال: أظن أن فيك مأثوم، قال: لا، ولكنك في ماء بصل ، فقال: أخرجوه عني إلى لعنة الله، ولا يقيم ببغداد، فأرده إلى الحبس، فعاد إلى سر من رأى.

وله أشعار ملاح في الجد، منها ما أنشدنيه الأحفش له يخاطب غلاما أمرد:

أيها الأمرد المولع بالهجر أفق ما كذا سبيل الرشاد

فكأني بحسن وجهك قد ألبس في عارضيك ثوب حداد

وكأني بعاشقيك وقد بدلت فيهم من خلطة ببعاد

حين تنبو العيون عنك كما ينقبض السمع عن حديث معاد

فاغتنم قبل أن تصير إلى كا                      ن وتـضـحـي فـي جـمــلة الأضـــداد وأنشدني محمد بن داود بن الجراح له، وفيه رمل طنبوري محدث أظنه لجحظة.

 

داء دفـين وهـوى بـادي                      أظلم فجازيك بمـرصـاد

يا واحد الأمة في حسـنـه                      أشمت بي صدك حسـادي

قد كدت مما نال مني الهوى                      أخفى على أعين عـوادي

عبدك يحيي موتـه قـبـلة                      تجعلهـا خـاتـمة الـزاد أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه، قال: حدثني أحمد بن علي الأنباري: قال: كنا يوما في مجلس يزيد بن محمد المهلبي بسر من رأى، فجرى ذكر أبي العبر، فجعلوا يذكرون حماقاته وسقوطه، فقلت ليزيد: كيف كان عندك، فقد رأيته? فقال: ما كان إلا أديبا فاضلا، ولكنه رأى الحماقة أنفق وأنفع له، فتحامق.

فقلت له: أنشدك أبياتا له أنشدنيها، فانظر لو أراد دعبل - فإنه لأهجى أهل زماننا - أن يقول في معناها ما قدر على أن يزيد على ما قال، قال: أنشدنيها، فأنشدته قوله:

رأيت من العجائب قاضـيين                      هما أحدوثة في الخافقـين

هما اقتسما العمي نصفين فذا                      كما اقتسما قضاء الجانبـين

هما فأل الزمان بهلك يحيى                      إذا افتتح القضاء بأعـورين

وتحسب منهما من هز رأسا                      لينظر في مـواريث ودين

كأنك قد جعلت علـيه دنـا                      فتحت بزاله من فرد عـين فجعل يضحك من قوله، ويعجب منه، ثم كتب الأبيات.

أخبرني الحسن بن علي قال: حدثنا محمد بن مهرويه: قال: حدثني ابن أبي أحمد، قال: قال لي أبو العبر: إذا حدثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك، حتى يكون هو في عمل وأنت في عمل.

وقال محمد بن داود: حدثني أبو عبد الله الدوادي، قال: كان أبو العبر شديد البغض لعلي بن أبي طالب - صلوات الله عليه - وله في العلويين هجاء قبيح، وكان سبب ميتته أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها في آجامهم، فسمعه بعض الكوفيين يقول في علي - صلوات الله عليه - قولا قبيحا استحل به دمه، فقتله في بعض الآجام، وعرقه فيها.

 

لقد طال عهدي بالإمـام مـحـمـد                      وما كنت أخشى أن يطول به عهدي

فأصبحت ذا بـعـد وداري قـريبة                      فواعجبا من قرب داري ومن بعدي

فيا ليت أن العـيد لـي عـاد مـرة                      فإني رأيت العيد وجهك لـي يبـدي

أيتك في برد الـنـبـي مـحـمـد                      كبدر الدحى بين العمامة والـبـرد الشعر لمروان بن أبي حفصة الأصغر، والغناء لبنان خفيف رمل بالبنصر.

 

أخبار مروان بن أبي حفصة الأصغر

هو مروان بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة. قد تقدم خبره ونسبه، ويكنى مروان الأصغر أبا السمط، وكان يتشبه بجده في شعره، ويمدح المتوكل، ويتقرب إليه بهجاء آل أبي طالب، فتمكن منه وقرب إليه ، وكسب معه مالا كثيرا، فلما أفضت الخلافة إلى المنتصر تجنب مذهب أبيه في كل أمر، فطرده وحلف ألا يدخل إليه أبدا لما كان يسمعه منه في أمير المؤمنين علي رضي الله منه.

فأخبرني محمد بن عمران الصيرفي عمي قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال:

 

صفحة : 2613

 

دخل مروان بن أبي الجنوب على المتوكل فأنشده قوله:

أبوكم علي كان أفضـل مـنـكـم                      أباه ذوو الشورى وكانوا ذوي عدل

وساء رسول الله إذ سـاء بـنـتـه                      بخطبته بنت اللعين أبـي جـهـل

أراد على بنت النـبـي تـزوجـا                      ببنت عدو الله، يا لك من فـعـل

فذم رسول الله صـهـر أبـيكـم                      على منبر الإسلام بالمنطق الفصل

وحكم فيها حـاكـمـين أبـوكـم                      هما خلعاه خلع ذي النعل للنعـل

وقد باعها من بعده الحسن ابـنـه                      فقد أبطلا دعواكما الرثة الحـبـل

وخليتموها وهي في غير أهلـهـا                      طالبتموها حيث صارت إلى الأهل فوهب له المتوكل مائة ألف درهم.

وقال محمد بن داود بن الجراح : حدثني محمد بن القاسم قال: حدثني أبو هاشم الجبائي، قال: دخل أبو السمط على المتوكل فأنشده قوله:

الصهر لـيس بـوارث                      والبنت لا ترث الإمامة

لو كان حقـكـم لـهـم                      قامت على الناس القيامة

أصبحت بين محـبـكـم                      والمبغضين لكم عـلامة فحشا المتوكل فمه بجوهر لا يدرى ما قيمته.

وحدثني أحمد بن جعفر جحظة قال: أنشد أبو السمط المتوكل قوله:

إني نزلت بساحة الـمـتـوكـل                      ونزلت في أقصى ديار الموصل فقال الفتح بن خاقان: فإذا كانا متباعدين هكذا فمن كان الرسول? فقال أبو العنبس الصيمري: كانت له طيور هدى تحمل إليها كتبه، فضحك المتوكل حتى ضرب برجله الأرض وأجزل صلة الصيمري ولم يعط أبا السمط شيئا، فماتا متهاجرين .

أخبرني عمي والحسن بن علي قالا: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثنا حماد بن أحمد البني قال: أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب قال: لما صرت إلى المتوكل على الله ومدحته ومدحت ولاة العهود الثلاثة، وأنشدته ذلك في قولي:

سقى الله نجدا والسلام على نـجـد                      ويا حبذا نجد على النأي والبـعـد

نظرت إلى نجد وبغـداد دونـهـا                      لعلي أرى نجدا وهيهات من نجد

بلاد بها قـوم هـواهـم زيارتـي                      ولا شيء أشهى من زيارتهم عندي فلما استتممتها أمر لي بمائة ألف درهم وخمسين ثوبا من خاص ثيابه.

أخبرني علي بن أبي العباس بن أبي طلحة قال: حدثني إبراهيم بن محمد أبو إسحاق قال: حدثني خالد بن يزيد الكاتب قال: دعاني المتوكل ليلة وقد غنى بين يديه عمر الطنبوري في قولي:

يا مقلتي قتلتـمـانـي                      فبقيت رحمة من يراني

من ذا ألوم وأنـتـمـا                      بيد الهوى أسلمتمانـي قال: ولم يغنه البيت الثالث، وهو:

لعبت بنا أيدي الخطـو                      ب وغالنا ريب الزمان كراهة أن يتطير منه، فجعل ينظر إلي وأنا واقف، ثم قال: ويلك يا خالد، تهرب منا ونحن نطلبك، وأنت في غيابات صبواتك وغزلك، يا غلام اسقه ثلاثة أقداح في القدم المبرم - وهو الذي لا قرار له، فإذا أخذه الإنسان لم يقدر أن يضعه من يده - فقلت:

سيدي لا تسقـنـي                      أكثر من رطل نبيذ

إن شربي لـلـذي                      يؤلمني غير لـذيذ فقال: يا غلام، إن لم يشرب فاصفعه، فقلت:

سيدي حوصلتي ضي                      يقة عن شرب رطل

فمتـى زدت عـلـيه                      خفت أن يذهب عقلي فقال الفتح: هو كما قال يا سيدي لا يطيق الشرب.

وحضر ابن أبي حفصة، فقال لنا المتوكل: قولا على البديهة، فقلت له: هو يا سيدي شيخ الشعراء ومادحك، وآباؤه مداح آبائك، فأنشأ يقول:

يا ليت لي ألف عين                      عيناي لا تكفـيان فقلت له: سخنت عينك، أنا لي عين واحدة أدعو الله عليها بالعمى من ستين سنة، أقول:

يا عين أنت بليتـنـي                      فأراحني الرحمن منك وأنت تتمنى ألف عين. ثم قال لي المتوكل: اهجه، فقلت: إن الرجل لم يعرض لي، فأقبل هو علي وقال: قل ما شئت، وما عسى أن تقول? فقلت:

زاد الـبـرد يومـــين                      فقال الناس: ما القصه

فقلنا: أنـشـدونـا شـع                      ر مروان بن أبي حفصه

فتى من شهـوة الـنـيك                      بحلقوم استـه غـصـه

 

صفحة : 2614

 

 

ولو يرمي ببطـيخ                      لوافى دبره رصه قال: فضحك المتوكل حتى صفق برجليه الأرض، وأفحم مروان، ثم أمر لي بجائزة فأخذتها وانصرفت.

قال ابن أبي طاهر: حدثني مروان بن أبي الجنوب قال: لما استخلف المتوكل بعثت إلى ابن أبي داود بقصيدة مدحته فيها وذكرت فيها ابن الزيات ببيتين وهما:

وقيل لي: الزيات لاقي حمامه                      فقلت: أتاني الله بالفتح والنصر

لقد حفر الزيات بالبغي حفـرة                      فألقاه فيها الله بالكفر والغـدر قال: فذكرني ابن أبي داود المتوكل، فأمر بإحضاري، فقيل له: نفاه الواثق إلى اليمامة، وذلك لميله إليك. فقال: يحمل، فقال له ابن أبي داود: عليه ستة آلاف دينار دين، فقال: يكتب بها إلى عامل اليمامة، فكتب لي بها وبالحملان والمعونة، فقدمت عليه وأنشدته قولي:

رحل الشباب وليته لم يرحل                      والشيب حل وليته لم يحلل فلما بلغت إلى هذا البيت:

كانت خلافة جعفر كنـبـوة                      جاءت بلا طلب ولا بتمحـل

وهب الإله لك الخلافة مثل ما                      وهب النبوة للنبي المرسـل فأمر لي بخمسين ألف درهم: وفي أول هذه القصيدة لعريب ثاني ثقيل بالوسطى.

والصوت المذكور في أول هذه الأخبار من قصيدة قاله أبو السمط في المنتصر لما ولي الخلافة.

أخبرني بخبره فيها جماعة من أصحابنا، منهم محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد، والحسن بن علي قالا: حدثنا محمد بن موسى قال: حدثني القاسم بن محمد الكاتب قال: حدثني المرزبان بن الفروران حاجب المنتصر قال: إن مروان بن أبي حفصة الأصغر المكنى أبا السمط استأذن على المنتصر لما ولي الخلافة، فقال: والله لا أذنت للكافر ابن الزانية، أليس هو القائل:

وحكم فيها حاكمـين أبـوكـم                      هما خلعاه خلع ذي النعل للنعل قولوا له: والله لا وصلت إلي أبدا، فلما بلغه هذا القول عمل هذا الشعر:

لقد طال عهدي بالإمـام مـحـمـد                      وما كنت أخشى أن يطول به عهدي وذكر الأبيات كلها.

قال: وسأل بنان بن عمرو، فصنع فيه لحنا وغنى به المنتصر، فلما سمعه سأل عن قائلها، فأخبرته، فقال: أما الوصول إلي فلا سبيل إليه، ولكن أعطوه عشرة آلاف درهم يتحمل بها إلى اليمامة.

أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال: حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال: حدثني أحمد بن الفضل الكاتب قال: لما قال علي بن الجهم هذه القصيدة في المتوكل:

اغتنم جدة الزمان الـجـديد                      واجعل المهرجان أيمن عيد أنشدها وأبو السمط بن أبي حفصة حاضر، فغمزه المتوكل على علي بن الجهم وأمره أن يعنته. فقال له: يا علي، أخبرني عن قولك:

واجعل المهرجان أيمن عيد المهرجان عيد أم يوم لهو، إنما العيد ما تعبد الله به الناس مثل الفطر والأضحى والجمعة وأيام التشريق. فأما المهرجان والنيروز فإنما هما أعياد المجوس ، ولا يجوز أن يقال لخليفة الله في عباده وخليفة رسول الله في أمته: اجعل المهرجان عيدا.

فلم يلتفت إليه وأنشد حتى بلغ قوله :

نحن أشياعكم من آل خراسا                      ن أولو قوة وبأس شـديد

نحن أبناء هذه الخرق السو                      د وأهل التشيع المحمـود فقال له مروان: لو كنتم من أهل التشيع المحمود ما قتل قحطبة جدك وصلبه في عداوة بني العباس. فقال له المتوكل: ويلك، أقتل قحطبة جدك? قال: لا والله يا أمير المؤمنين. فأقبل على محمد بن عبد الله بن طاهر، فقال له: بحياتي الأمر كما قال مروان? فقال له محمد: وإن كان كما قال، فأي ذنب لعلي بن الجهم? قد قتل الله أعداءكم وأبقى أولياءكم. فضحك المتوكل وقال: شهدت والله بها عليه، فقال مروان في ذلك:

غضب ابن الجهم من قولي له                      إن في الحق لقوم مغضـبة

يا بن جهم كيف تهوى معشرا                      صلبوا جدك فوق الخشـبة?

يا إمام العدل نصحي لـكـم                      نصح حق غير نصح الكذبة

إن جدي من رفعتـم ذكـره                      بكرامات لشكري مـوجـبة

وابن جهم من قتلـتـم جـده                      وتولى ذاك منه قحـطـبـه

فخراسان رأت شيعـتـكـم                      أنه أهل لضـرب الـرقـبة

 

صفحة : 2615

 

 

أتراه بعدها ينصحـكـم                      لا ورب الكعبة المحتجبة أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال: حدثني جعفر بن هارون قال: حدثني أحمد بن حمدون إسماعيل قال: بلغ المتوكل أن علي بن الجهم خطب امرأة من قريش فلم يزوجوه، فسأل عن السبب في ذلك وعن قصته، وعن نسب سامة بن لؤي، فحدث بها، ثم انتهى حديثهم بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يدخلاهم في قريش، وأن عثمان رضي الله عنه أدخلهم فيه، وأن عليا رضي الله عنه أخرجهم منه، فارتدوا مع الحارث، وأن قتل من ارتد منهم، سبي بقيتهم، وباعهم من مصقلة بن هبيرة. فضحك المتوكل، وبعث إلى علي بن الجهم فأخبره بما قال القوم فأنكر ذلك وقال: هذه الدعوى من الرافضة، وشتم القوم. وكان منهم أبو السمط فقال له:

إن جهما حين تـنـسـبـه                      ليس من عجم ولا عـرب

لج في شتمي بلا سـبـب                      سارق للشعر والنـسـب

من أنـاس يدعـون أبــا                      ماله في الأرض من عقب فغضب علي بن الجهم ولم يجبه؛ لأنه كان يحتقره ويستركه ، وأومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال:

أأنتم من قريش يا بن جهم                      وقد باعوكم في من يزيد

أترجو أن تكاثرنا جهارا                      بنسبتكم مقد بيع الجدود? قال: وما زال مروان يهجو علي بن الجهم فما أجابه عن شيء من شعره أنفة منه.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني الجماز أبو عبد الله قال: دخل مروان الأصغر على أحمد بن أبي داود وقد أصابه الفالج وتماثل قليلا، فأنشده:

لسان أحمد سيف مسـه طـبـع                      من علة فجلاه عن جـالـيهـا

ما ضر أحمد باقي علة درسـت                      والله يذهب عنه رسم بـاقـيهـا

قد كان موسى على علات منطقه                      رسائل اللـه إذ جـاءت يؤديهـا

موسى بن عمران لم ينقص نبوته                      ضعف اللسان وقدما كان يمضيها فوصله أحمد رحمه الله تعالى واعتذر إليه.

أخبرني عمي قال: حدثني متوج قال: قال أبو السمط: دخلت على عبد الله بن طاهر فقال: إني تذكرت في ليلتي هذه ذا اليمينين، فبت أرقا حزينا باكيا، فارثه في مقامك هذا بأبيات تجعل لي طريقا إلى شفاء علتي ولك حكمك، ففكرت هنيهة ثم قلت:

إن المكارم إذ تولى طـاهـر                      قطع الزمان يمينها وشمالهـا

لو كافحته يد المنون مجاهـرا                      لاقت لوقع سيوفه آجالـهـا

أرسى عماد خليفة في هاشـم                      ورمى عماد خلافة فأزالهـا

بكت الأعنة والأسنة طاهـرا                      ولطالما روى النجيع نهالهـا

ليت المنون تجانبت عن طاهر                      ولوت بذروة من تشاء حبالها

ما كنت لو سلمت يمينا طاهر                      أدري ولا أسل الحوادث مالها فقال: أحسنت والله فاحتكم، فقلت له: خمسون ألف درهم أقضي منها دينا ، وأصلح حالي، وأبتاع ضيعة تلاصق ضيعتي. فأمر لي بها وقال: ربحنا وخسرت، ولو لم تحتكم لزدتك، ولك عندنا عد وعد بعد عد.

 

لا تلمني أن أجزعا                      سيدي قد تمنـعـا

وابلائي إن كان ما                      بيننا قد تقـطـعـا

إن موسى بفضلـه                      جمع الفضل أجمعا الشعر ليوسف بن الصيقل والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر.

 

أخبار يوسف بن الحجاج ونسبه

هو يوسف بن الحجاج الصيقل، يقال: إنه من ثقيف، ويقال: إنه مولى لهم، وذكر محمد بن داود بن الجراح أنه كان يلقب لقوة وأنه كان يصحب أبا نواس، يأخذ عنه، ويروي له، وأبوه الحجاج بن يوسف محدث ثقة، وروى عنه جماعة من شيوخنا، منهم ابن منيع، والحسن بن الطيب الشجاع، وابن عفير الأنصاري، وكان يوسف بن الصيقل كاتبا، ومولده ومنشؤه بالكوفة.

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي، عن ابن شبة، قال: قال أحمد بن صالح الهشامي: قال لنا يوسف بن الصيقل يوما، ورأى الشعراء بأيديهم الرقاع يطوفون بها، فقال: صنع الله لكم، ثم أقبل على إبراهيم الموصلي، فقال له: كنا نهزل، فنأخذ الرغائب، وهؤلاء المساكين الآن يجدون، فلا يعطون شيئا، ثم قال لإبراهيم: أتذكر ونحن بجرجان مع موسى الهادي، وقد شرب على مستشرف عال جدا وأنت تغنيه هذا الصوت:

واستدارت رحالهم                      بالرديني شرعـا

 

صفحة : 2616

 

فقال: هذا لحن مليح، ولكني أريد له شعرا غير هذا، فإن هذا الشعر بارد، والتفت إلي فقال: اصنع في هذا الوزن شعرا، فقلت:

لا تلمني أن أجزعا                      سيدي قد تمنعـا فغنيته فيه بذلك اللحن، ومرت به إبل ينقل عليها، فقال أوقروها لهما مالا، فأوقرت مالا وحمل إلينا، فاقتسمناه، فقال إبراهيم: نعم، وأصاب كل واحد منا ستين ألف درهم.

 

فارس يضرب الكتـي                      بة حتى تـصـدعـا

في الوغى حين لا يرى                      صاحب القوس منزعا

واستدارت رحالـهـم                      بالردينـي شـرعـا

ثم ثـارت عـجـاجة                      تحتها الموت منقـعـا في هذه الأبيات رمل ينسب إلى ابن سريج وإلى سياط، وفيه لابن جامع خفيف رمل بالبنصر.

أخبرني الحسن بن علي، قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد، عن محمد بن عبد الله العبدي، فذكر مثل هذه القصة إلا أنه حكى أنها كانت بالرقة، لا بجرجان، وأن الرشيد كان صاحبها لا موسى.

أخبرني الحسن بن علي العنزي، عن محمد بن يونس الربيعي، قال: حدثني أبو سعيد الجنديسابوري، قال: لما ورد الرشيد الرقة خرج يوسف بن الصيقل، وكمن له في نهر جاف على طريقه، وكان لهارون خدم صغار يسميهم النمل يتقدمونه، بأيديهم قسي البندق، يرمون بها من يعارضه في طريقه، فلم يتحرك يوسف، حتى وافته قبة هارون على ناقة، فوثب إليه يوسف، وأقبل الخدم الصغار يرمونه، فصاح بهم الرشيد: كفوا عنه، فكفوا، وصاح به يوسف يقول:

أغيثا تحمـل الـنـا                      قة أم تحمل هرونا

أم الشمس أم البـدر                      أم الدنيا أم الـدينـا

ألا كل الـذي عـدد                      ت قد أصبح مقرونا

على مفرق هارون                      فداه الآدمـيونــا فمد الرشيد يده إليه، وقال له: مرحبا بك يوسف، كيف كنت بعدي? ادن مني، فدنا، وأمر له بفرس، فركبه، وسار إلى جانب قبته ينشده، ويحدثه، والرشيد يضحك، وكان طيب الحديث، ثم أمر له بمال، وأمر بأن يغنى في الأبيات: الغناء في هذه الأبيات لابن جامع خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي: وقال محمد بن داود: كان يوسف فاسقا مجاهرا باللواط، وله فيه أشعار، فمنها قوله:

لا تبخلن علـى الـنـدي                      م بردف ذي كشح هضيم

تعلو وينظـر حـسـرة                      نظر الحمار إلى القضيم

وإذا فرغت فـلا تـقـم                      حتى تصوت بـالـنـديم

فإذا أجاب فـقـل هـل                      م إلى شهادة ذي الغريم

واتبع للذتـك الـهـوى                      ودع الملامة للـمـلـيم قال: وهذا الشعر يقوله لصديق له رآه قد علا غلاما له، فخاطبه به.

ومن مشهور قوله في هذا المعنى:

لا تنيكن ما حـييت                      غلاما مكـابـره

لا تمرن باسـتـه                      دون دفع المؤامره

إن هذا اللواط دين                      تراه الأســاوره

وهم فيه منصفـو                      ن بحسن المعاشره ومن قوله في هذا المعنى أيضا هذه الأبيات:

ضع كذا صدرك لي يا سيدي                      واتخذ عندي إلى الحشـريدا

إنما ردفك سرج مـذهـب                      كشف البزيون عنه فـبـدا

فأعرنيه ولا تـبـخـل بـه                      ليس يبليه ركـوبـي أبـدا

بل يصفـيه ويجـلـوه ولا                      أثـر تـراه فـيه أبـــدا

فادن يا حب وطب نفسا بـه                      إن ذاك الدين تقضـاه غـدا أخبرني إسماعيل بن يونس، قال: حدثني عمر بن شبة عن أحمد بن صالح الهاشمي، قال: هجا يوسف بن الصيقل القيان، فقال:

احذر فديتـك مـا حـيي                      ت حبائل المتشـاكـلات

فلهن يفلسـن الـفـتـى                      وكفى بهن مفـلـسـات

ويل امرىء غر تـجـي                      ه رقاعهن مخـتـمـات

ورقـاعـهـن إلـيهـم                      برقي القحاب مسطرات

وعلى القـيادة رسـلـه                      ن إذا بعثـن مـدربـات

يهدمن أكياس الـغـنـي                      من المؤنة والـهـبـات

حفر العلـوج سـواقـيا                      للماء في الأرض الموات

فيصـير مـن إفـلاسـه                      ومن الندامة في سبـات قال: وشاعت هذه الأبيات وتهاداها الناس، وصارت عبثا بالقيان لكل أحد، فكانت المغنية إذا عثرت قالت: تعس يوسف

 

صفحة : 2617

 

أخبرني الحسن بن علي، قال: أخبرني عيسى بن الحسن الآدمي: قال: حدثني أحمد بن أبي فنن، قال: أحضر الرشيد عشرة آلاف دينار من ضرب السنة ففرقها، حتى بقيت منها ثلاثة آلاف دينار، فقال: ائتوني شاعرا أهبها له، فوجدوا منصورا النمري ببابه، فأنشده، وكان قبيح الإنشاد، فقال له الرشيد: أعانك الله على نفسك، انصرف، فقال: يا أمير المؤمنين، قد دخلت إليك دخلتين، لم تعطني فيهما شيئا، وهذه الثالثة، و والله لئن حرمتني لا رفعت رأسي بين الشعراء أبدا. فضحك الرشيد، وقال: خذها، فأخذها، ونظر الرشيد إلى الموالي ينظر بعضهم بعضا، فقال: كأني قد عرفت ما أردتم: أن تكون هذه الدنانير ليوسف بن الصيقل، وكان يوسف منقطعا إلى الموالي ينادمهم، ويمدحهم، فكانوا يتعصبون له، فقالوا: إي والله يا أمير المؤمنين، فقال: هاتوا ثلاثة آلاف دينار، فأحضرت، فأقبل على يوسف. فقال: هات، أنشدنا، فأنشده يوسف:

تصدت له يوم الرصافة زينب فقال له: كأنك امتدحتنا فيها، فقال: أجل، والله يا أمير المؤمنين فقال: أنت ممن يوثق بنيته، ولا تتهم موالاته، هات من ملحك، ودع المديح، فأنشده أقوله:

العفو يا غضـبـان                      ما هكذا الـخـلان

هبني ابتليت بذنـب                      أما له غـفـران?

وإن تعاظـم ذنـب                      ففوقه الهـجـران

كم قد تقربت جهدي                      لو ينفع القـربـان

يا رب أنت على ما                      قد حل بي المستعان

ويلي ألست ترانـي                      أهذي بها يا فلان? فقال الرشيد: ومن فلان هذا ويلك? فقال له الفضل بن الربيع. هو أبان مولاك يا أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: ولم لم تنشدني كما قلت يا نبطي? فقال: لأني غضبان عليه، قال: وما أغضبك? قال: مدت دجلة، فهدمت داري وداره، فبنى داره، وعلاها، حتى سترت الهواء عني، قال: لا جرم، ليعطينك الماص بظر أمه عشرة آلاف درهم، حتى تبنى بناء يعلو على بنائه، فتستر الهواء عنه، ثم قال له: خذ في شعرك، فأنشده نحوا من هذا الشعر، فقال للفضل بن الربيع: يا عباسي، ليس هذا بشعر ما هو إلا لعب، أعطوه ثلاثة آلاف درهم مكان الثلاثة الآلاف دينار، فانصرف الموالي إلى صالح الخازن، فقالوا له: أعطه ثلاثة آلاف دينار كما أمر له أولا، فقال: أستأمره، ثم أفعل، فقالوا له: أعطه إياها بضماننا، فإن أمضيت له وإلا كانت في أموالنا، فدفعها إليه بضمانهم، فأمضيت له، فكان يوسف يقول بعد ذلك: كنا نلعب، فنأخذ مثل هذه الأموال، وأنتم تقتلون أنفسكم، فلا تأخذون شيئا

هبت قبيل تبـلـج الـفـجـر                      هند تقول ودمعـهـا يجـري

أني اعتراك وكنت في عهدي لا                      سرب الدموع وكنت ذا صبـر الشعر لرجل من الشراة يقال له: عمرو بن الحسن مولى بني تميم، يقوله في عبد الله بن يحيى الذي تسميه الخوارج طالب الحق، ومن قتل من أصحابه معه يرثيهم. والغناء لعبد الله بن أبي العلاء ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن الهشامي.

 

خبر عبد الله بن يحيى وخروجه ومقتله

أخبرني بذلك الحسن بن علي الخفاف، قال: حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن محمد بن أبي محمد الخزامي، وخلاد بن يزيد، وعبد الله بن مصعب، وعمرو بن هشام، وعبد الله بن محمد الثقفي، ويعقوب بن داود الثقفي، وحريم بن أبي يحيى: أن عبد الله بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضرموت، وكان مجتهدا عابدا، وكان يقول قبل أن يخرج: لقيني رجل، فأطال النظر إلي، وقال: ممن أنت? فقلت: من كندة، فقال: من أيهم? فقلت: من بني شيطان، قال: والله لتملكن، ولتبلغن خيلك وادي القرى ، وذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك.

 

 

صفحة : 2618

 

فذهبت أتخوف ما قال، وأتسخير الله، فرأيت اليمن جورا ظاهرا، وعسفا شديدا، وسيرة في الناس قبيحة، فقال لأصحابه: ما يحل لنا المقام على ما نرى، ولا يسعنا الصبر عليه، وكتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة الذي يقال له: كودين مولى بني تميم، وكان ينزل في الأزد، وإلى غيره من الإباضية بالبصرة يشاورهم في الخروج، فكتبوا إليه: إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل، فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل، ولست تدري متى يأتي عليك أجلك? ولله خيرة من عباده يبعثهم إذا شاء لنصرة دينه، ويخص بالشهادة منهم من يشاء. وشخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي أحد بني سلمة، وبلج بن عقبة السقوري في رجال من الإباضية، فقدموا عليه حضرموت، فحثوه على الخروج، وأتوه بكتب أصحابه: إذا خرجتم فلا تغلوا، ولا تغدروا، واقتدوا بسلفكم الصالحين، وسيروا سيرتهم، فقد علمتم أن الذي أخرجهم على السلطان العيث لأعمالهم. فدعا أصحابه، فبايعوه، فقصدوا دار الإمارة، وعلى حضرموت إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي، فأخذوه، فحبسوه يوما، ثم أطلقوه، فأتى صنعاء، وأقام عبد الله بن يحيى بحضرموت، وكثر جمعه، وسموه  طالب الحق  .

فكتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء: إني قادم عليكم، ثم استخلف على حضرموت عبد الله بن سعيد الحضرمي، وتوجه إلى صنعاء سنة تسع وعشرين ومائة في ألفين، وبلغ القاسم بن عمر أخا يوسف بن عمر - وهو عامل مروان بن محمد على صنعاء - مسير عبد الله بن يحيى، فاستخلف على صنعاء الضحاك بن زمل، وخرج يريد الإباضية في سلاح ظاهر وعدة وجمع كثير، فعسكر على مسيرة يوم من أبين وخلف فيها الأثقال، وتقدمت لتقاتله، فلقيه عبد الله بن يحيى بلحج - قرية من أبين - قريبا من الليل، فقال الناس للقاسم: أيها الأمير، لا تقاتل الخوارج ليلا، فأبى، وقاتلهم، فقتلوا من أصحابه بشرا كثيرا، وانهزموا ليلا، فمر بعسكره، فأمرهم بالرحيل، ومضى إلى صنعاء، فأقام يوما، ثم خرج فعسكر قريبا من صنعاء، وخندق وخلف بصنعاء الضحاك بن زمل، فأقبل عبد الله بن يحيى، فنزل جوفين على ميلين من عسكر القاسم، فوجه القاسم يزيد بن الفيض في ثلاثة آلاف من أهل الشام وأهل اليمن، فكانت بينهم مناوشة ثم تحاجزوا، فرجع يزيد إلى القاسم، فاستأذنه في بياتهم، فأبى أن يأذن له، فقال يزيد: والله لئن لم تبيتهم ليغمنك، فأبى أن يأذن له، وأقاموا يومين لا يلتقون، فلما كان في الليلة الثالثة أقبل عبد الله بن يحيى، فوافاه مع طلوع الفجر، فقاتلهم الناس على الخندق، فغلبتهم الخوارج عليه، ودخلوا عسكرهم، والقاسم يصلي، فركب، وقاتلهم الصلت بن يوسف، فقتل في المعركة، وقام يأمر الناس يزيد بن الفيض، فقاتلهم، حتى ارتفع النهار، ثم انهزم أهل صنعاء فأراد أبرهة بن الصباح اتباعهم، فمنعه عبد الله بن يحيى، واتبع يزيد بن الفيض القاسم بن عمر، فأخبره الخبر فقال القاسم:

ألا ليت شعري هل أذودن بالقنا                      وبالهندوانيات قبل مـمـاتـي

وهل أصبحن الحارثين كليهما                      بطعن وضرب يقطع اللهوات قال: ودخل عبد الله بن يحيى صنعاء، فأخذ الضحاك بن زمل وإبراهيم بن جبلة بن مخرمة فحبسهما، وجمع الخزائن والأموال، فأحرزها، ثم أرسل الضحاك وإبراهيم، فأرسلهما، وقال لهما: حبستكما خوفا عليكما من العامة، وليس عليكما مكروه، فأقيما إن شئتما أو اشخصا، فخرجا.

 

 

صفحة : 2619

 

فلما استولى عبد الله بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس، فحمد الله جل وعز وأثنى عليه وصلى على نبيه )، ووعظ، وذكر، وحذر، ثم قال: إنا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه وإجابة من دعا إليهما: الإسلام ديننا، ومحمد نبينا والكعبة قبلتنا، والقرآن إمامنا، ورضينا بالحلال حلالا لا نبغي به بديلا، ولا نشتري به ثمنا قليلا، وحرمنا الحرام، ونبذناه وراء ظهورنا، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وإلى الله المشتكى، وعليه المعول. من زنى فهو كافر، ومن سرق فهو كافر، ومنش رب الخمر فهو كافر، ومن شك في أنه كافر فهو كافر، ندعوكم إلى فرائض بينات، وآيات محكمات، وآثار مقتدى بها، ونشهد أن الله صادق فيما وعد؛ عدل فيما حكم وندعو إلى توحيد الرب، واليقين بالوعيد والوعد، وأداء الفرائض، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والولاية لأهل ولاية الله، والعداوة لأعداء الله، أيها الناس إن من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى، ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى، يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء، فما نسيهم ربهم،  وما كان ربك نسيا  . أوصيكم بتقوى الله، وحسن القيام على ما وكلكم الله بالقيام به، فأبلوا لله بلاء حسنا في أمره وزجره ، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

قالوا: وأقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا، يحسن السيرة فيهم ويلين جانبه لهم ويكف عن الناس، فكثر جمعه، وأتته الشراة من كل جانب، فلما كان وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف، وبلج بن عقبة، وأبرهة بن الصباح إلى مكة في تسعمائة، وقيل: بل في ألف ومائة، وأمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس، ويوجه بلجا إلى الشأم، وأقبل المختار إلى مكة، فقدمها يوم التروية، وعليها عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك، وأمه بنت عبد الله بن خالد بن أسيد، فكره قتالهم.

وحدثنا من هذا الموضع بخبر أبي حمزة محمد بن جرير الطبري، قال: حدثنا العباس بن عيسى العقيلي ، قال: حدثنا هارون بن موسى العواري، قال: حدثنا موسى بن كثير مولى الساعديين، قال: كان أول أمر أبي حمزة، وهو المختار بن عوف الأزدي ثم السلمي من أهل البصرة أنه كان يوافي في كل سنة يدعو إلى خلاف مروان بن محمد وآل مروان، فلم يزل يختلف كل سنة حتى واف عبد الله بن يحيى في آخر سنة، وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة، فقال له: يا رجل، إني أسمع كلاما حسنا، وأراك تدعو إلى حق، فانطلق معي، فإني رجل مطاع في قومي، فخرج به، حتى ورد حضر موت، فبايعه أبو حمزة على الخلافة، قال: وقد كان مر أبو حمزة بمعدن بني سليم، وكثير بن عبد الله عامل على المعدن، فسمع بعض كلامه، فأمر به فجلد أربعين سوطا، فلما ظهر أبو حمزة بمكة تغيب كثير حتى كان من أمره ما كان، ثم رجع إلى موضعه، قال: فلما كان في العام المقبل تمام سنة تسع وعشرين لم يعلم الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام عمائم سود خرمية في رؤوس الرماح، وهم سبعمائة، هكذا قال: هذا.

وذكر المدائني أنهم كانوا تسعمائة أو ألفا ومائة، ففزع الناس منهم حين رأوهم، وقالوا لهم: ما لكم? وما حالكم? فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبري منهم.

فراسلهم عبد الواحد بن سليمان، وهو يومئذ على المدينة ومكة والموسم، ودعاهم إلى الهدنة، فقالوا: نحن بحجنا أضن وعليه أشح، فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض، حتى ينفر الناس النفر الأخير، وأصبحوا من غد، فوقفوا على حدة بعرفة، ودفع عبد الواحد بالناس، فلما كانوا بمنى قالوا لعبد الواحد: إنك قد أخطأت فيهم، ولو حملت عليهم الحج ما كانوا إلا أكلة رأس ، فنزل أبو حمزة بقرن الثعالب من منى، ونزل عبد الواحد منزل السلطان، فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن حسن بن حسن بن علي، عليهم السلام، ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر وعبيد الله بن عمرو بن حفص العمري، وربيعة بن عبد الرحمن ، في رجال من أمثالهم، فلما دنوا من قرن الثعالب لقيتهم مسالح أبي حمزة، فأخذوهم، فدخل بهم على أبي حمزة، فوجدوه جالسا، وعليه إزار قطواني ، قد ربطه الحورة في قفاه، فلما دنوا تقدم إليه عبد الله بن حسن ومحمد بن عبد الله بن عمرو، فنسبهما، فلما انتسبا له عبس في وجهيهما وبسر، وأظهر الكراهة لهما.

 

 

صفحة : 2620

 

ثم تقدم إليه بعدهما البكري والعمري فنسبهما، فلما انتسبا له هش إليهما، وتبسم في وجوههما، وقال: والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما، فقال له عبد الله بن حسن بن حسن: والله ما جئناك لتفاضل بين آبائنا، ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة، وهذا ربيعة يخبركما، فلما ذكر ربيعة نقض العهد، قال بلج وإبراهيم - وكانا قائدين له -: الساعة الساعة، فأقبل عليهما أبو حمزة، وقال: معاذ الله أن نقض العهد أو نخيس به، والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه، ولكن تنقضي هذه الهدنة بيننا وبينكم. فلما أبى عليهم خرجوا، فأبلغوا عبد الواحد.

فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد، وخلى مكة لأبي حمزة، فدخلها بغير قتال.

قال هارون: وأنشدني يعقوب بن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد لشاعر لم تحفل به:

زار الحجيج عصابة قد خالفوا                      دين الإله ففر عبد الـواحـد

ترك الإمارة والحلائل هاربا                      ومضى يخبط كالبعير الشارد

لو كان والده تـخـير أمـه                      لصفت خلائقه بعرق الولـد

ترك القتال وما به من عـلة                      ألا الوهون وعرفة من خالد ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة، فدعا بالديوان، وضرب على الناس، وزادهم في العطاء عشرة عشرة.

قال هارون: أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بن عياض أنه كان فيمن اكتتب، قال: ثم محوت اسمي.

قال هارون: وحدثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس، فخرجوا، فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة، فمضوا فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة، فانكسر الرمح، وتشاءم الناس بالخروج، ثم ساروا، حتى نزلوا قديدا ، فنزلوها ليلا؛ وكانت قرية قديد من ناحية القصر والمنبر اليوم، وكانت الحياض هناك، فنزل قوم مغترون ليسوا بأصحاب حرب، فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من الفصل، فزعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم؛ وأدخلوهم عليهم، فقتلوهم، وكانت المقتلة على قريش، وهم كانوا أكثر الناس، وفيهم كانت الشوكة، فأصيب منهم هدد كثير.

قال العباس: قال هارون: فأخبرني بعض أصحابنا: أن رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن يقول: الحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش، فقال له ابنه: الحمد لله الذي أذلهم بأيدينا، فما كانت قريش تظن أن من نزل على عمان من الأزد عربي، قال: وكان هذان الرجلان مع أهل المدينة، فقال القرشي لابنه: يا بني، هلم نبدأ بهذين الرجلين، قال: نعم يا أبت، فحملا عليهما، فقتلاهما، ثم قال لابنه: أي بني تقدم، فقاتلا. حتى قتلا.

وقال المدائني: القرشي عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، والمتكلم بالكلام مع ابنه رجل من الأنصار. قال: ثم ورد فلال الجيش المدينة، وبكى الناس قتلاهم، فكانت المرأة تقيم على حميمها النواح، فلا تزال المرأة يأتيها الخبر بمقتل حميمها، فتنصرف، حتى ما يبقى عندها امرأة، فأنشدني أبو حمزة هذه الأبيات في قتلى قديد الذين أصيبوا من قومه لبعض أصحابه :

يا لهف نفسي ولهف غير نافـعة                      على فوارس بالبطحاء أنـجـاد

عمرو وعمرو وعبد الله بينهمـا                      وابناهما خامس والحارث السادي قال المدائني في خبره: كتب عبد الواحد بن سليمان إلى مروان يعتذر من إخراجه عن مكة، فكتب مروان إلى عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز - وهو عامله على المدينة - يأمره بتوجيه الجيش إلى مكة، فوجه ثمانية آلاف رجل من قريش والأنصار والتجار، أغمار لا علم لهم بالحرب، فخرجوا في الصبغات والثياب الناعمة واللهو، لا يظنون أن للخوارج شوكة ولا يشكون أنهم في أيديهم.

وقال رجل من قريش: لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء، ولكنهم داهنوا في أمر الله تعالى، والله إن ظفرنا لنسيرن إلى أهل الطائف، فلنسبينهم، ثم قال: من يشتري مني سبي أله الطائف? فلما انهزم الناس رجع ذلك الرجل القائل: من يشتري مني سبي أهل الطائف في أول المنهزمين، فدخل منزله، وأراد أن يقول لجاريته: أغلقي الباب، فقال لها: غاق باق دهشا، ولم تفهم الجارية قوله، حتى أومأ إليها بيده، فأغلقت الباب، فلقبه أهل المدينة بعد ذلك  غاق باق  .

 

 

صفحة : 2621

 

قال: وكان عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة، فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص، فرحب به، وضحك إليه، ومر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير، فلم يكلمه، ولم يلتفت إليه، فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع - وكان ابن خالته، أماهما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد -: سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش، فلم تنظر إليه، ولم تكلمه، ومر بك غلام من بني أمية، فضحكت إليه ولاطفته أما والله لو قد التقى الجمعان لعلمت أيهما أصبر? قال: فكان أمية بن عنبسة أول من انهزم، ونكب فرسه ومضى، وقال لغلامه: يا مجيب، أما والله لئن أحرزت نفسي هذه الأكلب من الشراة إني لعاجز. وقاتل يومئذ عمارة بن حمزة بن مصعب، حتى قتل، وتمثل:

وإنـي إذا ضـن الأمـير بـإذنـه                      على الأذن من نفسي إذا شئت قادر والشعر للأغر بن حماد اليشكري.

قال: ولما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة إبراهيم بن الصباح، وشخص إليهم، وعلى مقدمته بلج بن عقبة، فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها - وأهل المدينة نزول بقديد - قال لأصحابه: إنكم لاقو قومكم غدا، وأميرهم - فيما بلغني- ابن عثمان أول من خالف سيرة الخلفاء، وبدل سنة رسول الله - ) - وقد وضح الصبح لذي عينين، فأكثروا ذكر الله تعالى، وتلاوة القرآن، ووطنوا أنفسكم على الصبر. وصبحهم غداة الخميس لتسع أو لسبع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة، فقال عبد العزيز لغلامه: أبغنا علفا قال: هو غال، قال: ويحك البواكي علينا غدا أغلى.

وأرسل إليهم أبو حمزة بلج بن عقبة، ليدعوهم، فأتاهم في ثلاثين راكبا، فذكرهم الله؛ وسألهم أن يكفوا عنهم؛ وقال لهم: خلوا لنا سبيلنا؛ لنسير إلى من ظلمكم؛ وجار في الحكم عليكم؛ ولا تجعلوا حدنا بكم؛ فإنا لا نريد قتالكم؛ فشتمهم أهل المدينة، وقالوا: يا أعداد الله، أنحن نخلكم وندعكم تفسدون في الأرض فقالت الخوارج: يا أعداد الله، نحن نفسد في الأرض إنما خرجنا لنكف أهل الفساد، ونقاتل من قاتلنا واستأثر بالفيء فانظروا لأنفسكم، واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة، فإنه لا طاعة لمن عصى الله، وادخلوا في السلم، وعاونوا أهل الحق، فقال له عبد العزيز: ما تقول في عثمان? قال: قد برئ المسلمون منه قبلي، وأنا متبع آثارهم، ومقتد بهم، قال: فارجع إلى أصحابك، فليس بيننا وبينهم إلا السيف.

فرجع إلى أبي حمزة، فأخبره، فقال: كفوا عنهم، ولا تقاتلوهم. حتى يبدءوكم القتال، فواقفوهم، ولم يقاتلوهم. فرمى رجل من أهل المدينة في عسكر أبي حمزة بسهم، فجرح رجلا، فقال أبو حمزة: شأنكم الآن بهم، فقد حل قتالهم: فحملوا عليهم، وثبت بعضهم لبعض، وراوية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع.

 

 

صفحة : 2622

 

ثم انكشف أهل المدينة، فلم يتبعوهم، وكان على مجنبتهم ضمير بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة، فكر وكر الناس معه، فقاتلوا قليلا، ثم انهزموا، فلم يبعدوا. حتى كروا ثالثة، وقاتلهم أبو حمزة، فهزمهم هزيمة لم تبق منهم باقية، فقال له علي بن الحصين: أتبع القوم، أو دعني أتبعهم، فأقبل المدبر، وأذفف على الجريح، فإن هؤلاء أشر علينا من أهل الشام، فلو قد جاءوك غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره، فقال: لا أفعل، ولا أخالف سيرة أسلافنا. وأخذ جماعة منهم أسراء، فأراد إطلاقهم، فمنعه علي بن الحصين، وقال له: إن لأهل كل زمان سيرة، وهؤلاء لم يؤسروا وهم هراب، وإنما أسروا وهم يقاتلون، ولو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم، وكذلك الآن قتلهم حلال، فدعا بهم، فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله، وإذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه، فأتي بمحمد بن عبد الله بن عمر بن عثمان، فنسبه. فقال: أنا رجل من الأنصار، فسأل الأنصار عنه، فشهدوا له، فأطلقه، فلما ولي قال: والله إني لأعلم أنه قرشي وما حذاوه هذا حذاوة أنصاري، ولكن قد أطلقته. قال: وبلغت قتلى قديد ألفين ومائتين وثلاثين رجلا، منهم من قريش أربعمائة وخمسون رجلا، ومن الأنصار ثمانون، ومن القبائل والموالي ألف وسبعمائة، قال: وكان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزى أربعون رجلا، وقتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وخرج يومئذ مقنعا، فما كلم أحدا، وقاتل حتى قتل، وقتل يومئذ سمي مولى أبي بكر الذي يروي عنه مالك بن أنس، ودخل بلج المدينة بغير حرب، فدخلوا في طاعته، وكف عنهم، ورجع أبو حمزة إلى مكة، وكان على شرطته أبو بكر بن عبد الله بن عمرو من آل سراقة من بني عدي، فكان أهل المدينة يقولون: لعن الله السراقي ولعن بلجا العراقي.

وقالت نائحة أهل المدينة تبكيهم:

ما للزمـان ومـالـيه                      أفنت قديد رجـالـيه

فلأبـكـين ســريرة                      ولأبكـين عـلانـيه

ولأبكـين إذا خـلـو                      ت مع الكلاب العاويه

ولأثنين عـلـى قـدي                      د بسوء ما أبـلانـيه في هذه الأبيات هزج قديم يشبه أن يكون لطويس أو بعض طبقته.

وقال عمرو بن الحسن الكوفي مولى بني تميم يذكر وقعة قديد وأمر مكة دخولهم إياها، وأنشدنيها الأخفش عن السكري والأحول وثعلب لعمر وهذا، وكان يستجيدها ويفضلها:

ما بال همك ليس عنـك بـعـازب                      يمري سوابق دمعك المتـسـاكـب

وتبيت تكتلئ الـنـجـوم بـمـقـلة                      عبري تسـر بـكـل نـجـم دائب

حذر المـنـية أن تـجـيء بـداهة                      لم أقض من تبع الشراة مـآربـي

فأقود فيهم للعدا شـنـج الـنـسـا                      عبل الشوى أسوان ضمر الحالـب

متحدرا كالسـيد أخـلـص لـونـه                      ماء الحسيك مع الحلال الـلاتـب

أرمي به من جمع قومي معـشـرا                      بورا إلـى جـبـرية ومـعـايب

في فتـية صـبـر ألأفـهـم بـه                      لف القداح يد المفيض الـضـارب

فندور نحن وهم وفـيمـا بـينـنـا                      كأس المنون تقول: هل من شارب?

فنظل نسقيهم ونشـرب مـن قـنـا                      سمر ومرهفة النصول قـواضـب

بيننا كذلك نحـن جـالـت طـعـنة                      نجلاء بـين رهـا وبـين تـرائب

جوفاء منهرة تـرى تـامـورهـا                      ظبتا سنان كالشهـاب الـثـاقـب

أهوي لها شق الشمـال كـأنـنـي                      خفض لقى تحت العجاج العاصـب

يا رب أوحيهـا ولا تـتـعـلـقـن                      نفسي المنون لدى أكـف قـرائب

كم من أولى مقة صحبتهـم شـروا                      فخذلتهم ولبئس فعل الـصـاحـب

متأوهين كـأن فـي أجـوافـهـم                      نارا تسعرهـا أكـف حـواطـب

تلقاهـم فـتـراهـم مـن راكـع                      أو ساجد متـضـرع أو نـاحـب

يتلو قوارع تمـتـري عـبـراتـه                      فيجودها مري المري الـحـالـب

سير الـجـائفة الامـور أطـــبة                      للصدع ذي النبأ الجـلـيل مـدائب

ومبرئين من المـعـايب أحـرزوا                      خصل المكـارم أتـقـياء أطـايب

عروا صوارم للجـلاد وبـاشـروا                      حد الظبـاة بـآنـف وحـواجـب

 

صفحة : 2623

 

 

ناطوا أمورهم بـأمـر أخ لـهـم                      فرمى بهم قحم الطريق الـلاحـب

متربلي حلق الـحـديد كـأنـهـم                      أشد على لحق البطون سـلاهـب

قيدت من أعلى حضر موت فلم تزل                      تنفي عداها جانبـا عـن جـانـب

تحمي أعنته وتحـوي نـهـبـهـا                      للـه أكـرم فـتـية وأســـائب

حتى وردن حياض مكة قـطـنـا                      يحكين واردة الـيمـام الـقـارب

ما إن أتين علـى أحـي حـبـرية                      إلا تركنهـم كـأمـر الـذاهـب

في كل معترك لها من هـامـهـم                      فلق وأيد علـقـت بـمـنـاكـب

سائل بيوم قديد عـن وقـعـاتـهـا                      تخبرك عن وقعاتهـا بـعـجـائب وقال هارون بن موسى في رواية محمد بن جرير الطبري عن العباس بن عيسى عنه: ثم دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين ومائة، ومضى عبد الواحد بن سليمان إلى الشأم، فرقي المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه. وقال: يا أهل المدينة، سألناكم عن ولاتكم هؤلاء، فأسأتم - لعمر الله - فيهم القول، وسألناكم: هل يقتلون بالظن? فقلتم: نعم، وسألناكم: هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام? فقلتم: نعم، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم، فنناشدهم الله أن يتنحوا عنا وعنكم، ليختار المسلمون لأنفسهم؛ فقلتم: لا تفعلون، فقلنا لكم: تعالوا نحن وأنتم نلقاهم، فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه، وإن نظفر نعمل في أحكامكم، وتحملكم على سنة نبيكم، ونقسم فيئكم بينكم، فإن أبيتم ، وقاتلتمونا دونهم، فقاتلناكم، فأبعدكم الله، وأسحقكم يا أهل المدينة، مررت بكم في زمن الأحول هشام بن عبد الملك، وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم، فكتب بوضعها عنكم، فزاد الغني غنى، وزاد الفقير فقرا، فقلتم: جراكم لله خيرا، فلا جراه الله خيرا، ولا جزاكم.

 

 

صفحة : 2624

 

قال هارون: وأخبرني يحيى بن زكريا: أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة: رقي المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: أتعلمون يا أهل المدينة، أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا شرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لهوا، ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه، ولا ثأر قديم نيل منا، ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت، وعنف القائل بالحق، وقتل القائم بالقسط، ضاقت علينا الأرض بما رحبت، وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن حكم القرآن، فأجبنا داعي الله  ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض  فأقبلنا من قبائل شتى، النفر منا على بعير واحد، عليه زادهم وأنفسهم، يتعاورون لحافا واحدا، قليلون مستضعفون في الأرض، فآوانا الله، وأيدنا بنصره، وأصبحنا - والله - بنعمته إخوانا، ثم لقينا رجالكم بقديد، فدعوناهم إلى طاعة الرحمن، وحكم القرآن ودعونا إلى طاعة الشيطان، وحكم مروان، وآل مروان، شتان - لعمر الله - ما بين الغي والرشد، ثم أقبلوا يهرعون، ويزفون، قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه، وغلت بدمائهم مراجله، وصدق عليهم ظنه، وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق، فدارت رحانا واستدارت رحاهم، بضرب يرتاب منه المبطلون. وأنتم يا أهل المدينة، إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين، يا أهل المدينة: إن أولكم خير أول، وآخركم شر آخر، يا أهل المدينة، الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عابد وثن، أو كافرا من أهل الكتاب، أو إماما جائرا، يا أهل المدينة، من زعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها، أو سألها عما لم يؤتها فهو لله عدو، ولنا حرب. يا أهل المدينة، أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله تعالى في كتابه على القوي للضعيف فجاء التاسع، وليس له منها ولا سهم واحد، فأخذ جميعها نفسه مكابرا محاربا لربه، ما تقولون فيه وفيمن عاونه على فعله? يا أهل المدينة، بلغني أنكم تنتقصون أصحابي، قلتم: هم شباب أحداث، وأعراب جفاة، ويحكم يا أهل المدينة وهل كان أصحاب رسول الله )، إلا شبابا أحداثا شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أقدامهم، قد باعوا نفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا، قد خلطوا كلالهم بكلالهم، وقيام ليلهم بصيام نهارهم، منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار؛ وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة، فلما نظروا إلى السيوف قد أنضيت؛ وإلى الرماح قد أشرعت وإلى السهام قد فوقت؛ وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيد الكتيبة عند وعيد الله، ولم يستخفوا وعيد الله عند وعيد الكتيبة؛ فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا ساجدا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله من تقصيرنا، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

قال هارون: وحدثني جدي أبو علقمة، قال: سمعت أبا حمزة على منبر النبي ) يقول:  من زنى فهو كافر  ، ومن سرق فهو كافر، ومن شك أنه كافر فهو كافر:

برح الخفاء فأبن ما بك يذهب قال هارون: قال جدي: كان أبو حمزة قد أحسن السيرة في أهل المدينة، حتى استمال الناس، وسمع بعضهم كلامه في قوله: من زنى فهو كافر، قال هارون: قال جدي:

 

صفحة : 2625

 

وسمعت أبا حمزة يخطب بالمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أهل المدينة؛ ما لي رأيت رسم الدين فيكم عافيا ، وآثاره دارسة لا تقبلون عليه عظة، ولا تفقهون من أهله حجة، قد بليت فيكم جدته، وانطمست عنكم سنته، ترون معروفه منكرا، والمنكر من غير معروفا، إذا انكشفت لكم العبر، وأوضحت لكم النذر، عميت عنها أبصاركم، وصمت عنها أسماعكم، ساهين في غمرة، لاهين في غفلة، تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر، وتنقبض إن الحق إذا ذكر، مستوحشة من العلم، مستأنسة بالجهل، كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا، تحملون منها في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة، أو لم تلن لكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله يا أهل المدينة، ما تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم إن الله قد جعل لكل شيء غالبا يقاد له، ويطيع أمره، وجعل القلوب غالبة على الأبدان، فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا، وإن القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحتها، ولا يصححها إلا المعرفة بالله، وقوة النية، ونفاذ البصيرة، ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم لاستعملت بطاعة الله أبدانكم. يا أهل المدينة، داركم دار الهجرة، ومثوى رسول الله )، لما نبت به داره، وضاق به قراره، وآذاه الأعداء، وتجهمت له، فنقله إلى قوم - لعمري لم يكونوا أمثالكم - متوازرين مع الحق على الباطل، ومختارين للآجل على العاجل، يصبرون للضراء رجاء ثوابها، فنصروا الله، وجاهدوا في سبيله، وآووا رسول الله )، ونصروه، واتبعوا النور الذي أنزل معه، وآثروا الله على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة، قال الله تعالى لهم ولأمثالهم ولمن اهتدى بهداهم:  من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون  وأنتم أبناؤهم، ومن بقي من خلفهم، تتركون أن تقتدوا بهم، أو تأخذوا بسنتهم، عمي القلوب، صم الآذان، اتبعتم الهوى، فأرداكم عن الهدى وأسهاكم، فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجروا، ولا تعظكم فتعتبروا، ولا توقظكم فتستيقظوا، لبئس الخلف أنتم? من قوم مضوا قبلكم، ما سرتم بسيرتهم، ولا حفظتم وصيتهم، ولا احتذيتم مثالهم، لو شقت عنم قبورهم، فعرضت عليهم أعمالكم لعجبوا كيف صرف العذاب عنكم. قال: ثم لعن أقواما.

قال هارون: وحدثني داود بن عبد الله بن أبي الكرام، وأخرج إلي خط بن فضالة النحوي بهذا الخبر:

 

صفحة : 2626

 

أنا أبا حمزة بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه لحداثة أسنانهم، وخفة أحلامهم، فبلغه ذلك عنهم؛ فصعد المنبر؛ وعليه كساء غليظ؛ وهو متنكب قوسا عربية فحمد الله، وأثنى عليه وصلى على نبيه ) وآله، ثم قال: يا أهل المدينة، قد بلغتني مقالتكم في أصحابي، ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم لأحسنت أدبكم، ويحكم? إن رسول الله ) أنزل عليه الكتاب، وبين له فيه السنن، وشرع له فيه الشرائع، وبين له فيه ما يأتي وما يذر، فلم يكن يتقدم إلا بأمر الله، ولا يحجم إلا عن أمر الله، حتى قبضه الله إليه - ) - وقد أدى الذي عليه، لم يدعكم من أمركم في شبهة، ثم قام من بعده أبو بكر؛ فأخذ بسنته، وقاتل أهل الردة؛ وشمر في أمر الله؛ حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون، رحمة الله عليه ومغفرته؛ ثم ولي بعده عمر؛ فأخذ بسنة صاحبيه، وجند الأجناد؛ ومصر الأمصار؛ وجبي الفيء؛ فقسمه بين أهله؛ فقسمه بين أهله؛ وشمر عن ساقه، وحسر عن ذراعه، وضرب في الخمر ثمانين، وقام في شهر رمضان، وغزا العدو في بلادهم؛ وفتح المدائن والحصون؛ حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون، رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته، ثم ولي من بعده عثمان بن عفان فعمل في ست سنين بسنة صاحبيه؛ ثم أحدث أحداثا أبطل آخر منها أولا، واضطرب حبل الدين بعدها، فطلبها كل امرىء لنفسه، وأسر كل رجل منهم سريرة أبداها الله عنه؛ حتى مضوا على ذلك، ثم ولي علي بن أبي طالب، فلم يبلغ من الحق قصدا؛ ولم يرفع له منارا ومضى؛ ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله ) وابن لعينه، وحلف من الأعراب، وبقية من الأحزاب، مؤلف طليق، فسفك الدم الحرام، واتخذ عباد الله حولا، ومال الله دولا، وبغى دينه عوجا ودغلا ، وأحل الفرج الحرام، وعمل بما يشتهيه؛ حتى مضى لسبيله، فعل الله به وفعل، ثم ولى بعده ابنه يزيد: يزيد الخمور، ويزيد الصقور، ويزيد الفهود، ويزيد الصيود، ويزيد القرود، فخالف القرآن، واتبع الكهان، ونادم القرد، وعمل بما يشتهيه حتى مضى على ذلك لعنه الله، وفعل به وفعل، ثم ولي مروان بن الحكم طريد لعين رسول الله - ) وآله - وابن لعينه؛ فاسق في بطنه وفرجه، فالعنوه والعنوا آباءه. ثم تداولها بنو مروان بعده؛ أهل بيت اللعنة، طرداء رسول الله - ) وآله - وقوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين والأنصار ولا التابعين لهم بإحسان، فأكلوا مال الله أكلا، ولعبوا بدين الله لعبا، واتخذوا عباد الله عبيدا، يورث ذلك الأكبر منهم الأصغر. فيا لها أمة، ما أضيعها وأضعفها? والحمد لله رب العالمين، ثم مضوا على ذلك من أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله تعالى؛ قد نبذوه وراء ظهورهم، لعنهم الله؛ فالعنوهم كما يستحقون؛ وقد ولي منهم عمر بن عبد العزيز؛ بلغ؛ ولم يكد؛ وعجز عن الذي أظهره، حتى مضى لسبيله - ولم يذكر بخير ولا شر - ثم ولي يزيد بن عبد الملك، غلام ضعيف سفيه غير مأمون على شيء من أمور المسلمين، لم يبلغ أشده، ولم يؤانس رشده، وقد قال الله عز وجل:  فإن آنستم منهم رشا فادفعوا إليهم أموالهم  فأمر أمة محمد في أحكامها وفروجها ودمائهم أعظم من ذلك كله، وإن كان ذلك عند الله عظيما، مأبون في بطنه وفرجه، يشرب الحرام، ويأكل الحرام، ويلبس الحرام، ويلبس بردتين قد حيكتا له، وقومتا على أهلهما بألف دينار وأكثر وأقل، قد أخذت من غير حلها وصرفت في غير وجهها، بعد أن ضربت فيها الأبشار ، وحلقت فيها الأشعار، واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح، ولا لنبي مرسل، ثم يجلس حبابة عن يمينه، وسلامة عن شماله تعنيانه بمزامير الشيطان، ويشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها، حتى إذا أخذت مأخذها فيه، وخالطت روحه ولحمه ودمه، وغلبت سورتها على عقله مزق حلتيه ، ثم التفت إليهما فقال: أتأذنان لي أن أطير? نعم، فطر إلى النار، إلى لعنة الله وناره حيث لا يردك الله.

 

 

صفحة : 2627

 

ثم ذكر بني أمية وأعمالهم وسيرهم فقال: أصابوا امرأة ضائعة وقوما طغاما جهالا، لا يقومون لله بحق، ولا يفرقون بين الضلالة والهدى، ويرون أن بني أمية أرباب لهم، فملكوا الأمر، وتسلطوا فيه تسلط ربوبية، بطشهم بطش الجبابرة، يحكمون بالهوى، ويقتلون على الغضب، ويأخذون بالظن، ويعطلون الحدود بالشفاعات، ويؤمنون الخونة ويقصون ذوي الأمانة، ويأخذون الصدقة في غير وقتها على غير فرضها، ويضعونها في غير موضعها، فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله، فالعنوهم، لعنهم الله وأما إخواننا من هذه الشيعة فليسوا بإخواننا في الدين، لكن سمعت الله عز وجل قال في كتابه:  يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا  شيعة ظاهرت بكتاب الله، وأعلنت الفرية على الله لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن، ولا عقل بالغ في الفقه، ولا تفتيش عن حقيقة الصواب، قد قلدوا أمرهم أهواءهم، وجعلوا دينهم عصبية لحزب لزموه، وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم، غيا كان أو رشدا، أو ضلالة أو هدى، ينتظرون الدول في رجعة الموتى، ويؤمنون بالبعث قبل الساعة، ويدعون علم الغيب لمخلوق ، لا يعلم أحدهم ما في داخل بيته، بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه، ينقمون المعاصي على أهلها، ويعلمون إذا ظهروا بها، ولا يعرفون المخرج منها، جفاة في الدين، قليلة عقولهم، قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم، وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة، وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة  قاتلهم الله أنى يؤفكون  فأي هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون? أو بأي مذاهبهم تقتدون? وقد بلغني مقالتكم في أصحابي، وما عبتموه من حداثة أسنانهم، ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله - ) وآله - المذكورون في الخير إلا أحداثا شباب? شباب والله مكتهلون في شبابهم، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أنضاء عبادة قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن، كلما مر أحدهم بآية من ذكر الله بكى شوقا، وكلما مر بآية من ذكر الله شهق خوفا، كأن زفير جهنم بين أذنيه، قد أكلت الأرض جباههم وركبهم، ووصولا كلال الليل بكلال النهار مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام، أنضاء عبادة، موفون لعهد الله، منتجزون لوعد الله، قد شروا أنفسهم، حتى إذا التقت الكتيبتان وأبرقت سيوفها وفوقت سهامها، وأشرعت رماحها لقوا شبا الأسنة، وشائك السهام، وظباة السيوف بنحورهم ووجوههم وصدورهم، فمضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه، واختضبت محاسن وجهه بالدماء، وعفر جبينه بالثرى، وانحطت عليه الطير من السماء، وتمزقته سباع الأرض، فكم من عين في منقار طائر، طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد. ثم بكى وقال: آه آه على فراق الإخوان رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل الله أرواحهم الجنان.

قال هارون: بلغني أنه بايعه بالمدينة ناس منهم إنسان هذلي، وإنسان سراقي وسكسب الذي كان معلم النحو، ثم خرج، وخلف بالمدينة بعض أصحابه، فسار حتى نزل الوادي، وكان مروان قد بعث ابن عطية.

قال هارون: حدثني أبو يحيى الزهري أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف استعمل عليهم ابن عطية، فأمره بالجد في السير، وأعطى كل رجل من أصحابه مائة دينار، وفرسا عربيا، وبغلا لثقله، وأمره أن يمضي، فيقاتلهم.

وقال المدائني: بعث عبد الملك بن عطية السعدي، أحد بني سعد بن بكر في أربعة آلاف، معه فرسان من أهل الشأم ووجوههم، منهم شعيب البارقي، ورومي بن عامر المري، وقيل: بل هو كلابي، وفيهم ألف من أهل الجزيرة، وشرطوا على مروان أنهم إذا قتلوا عبد الله بن يحيى وأصحابه، ولم يقيموا بالحجاز، فأجابهم إلى ذلك؛ قالوا: فخرج؛ حتى إذا نزل بالمعلى. فكان رجل من أهل المدينة يقال له: العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث يقول:

 

صفحة : 2628

 

لقيني وأنا غلام في ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية؛ فسألني: ما اسمك يا غلام? فقلت: العلاء، فقال: ابن من? فقلت: ابن أفلح، قال: أعرابي أم مولى? قلت: بل مولى، قال: مولى من? قلت: مولى أبي الغيث، قال: فأين نحن? قلت: بالمعلى، قال: فأين نحن غدا? قلت: بغالب، قال: فما كلمني، حتى أردفني خلفه، ثم مضى بي، حتى أدخلني على ابن عطية، فقال: سل هذا الغلام: ما اسمه? فسألني، فرددت عليه القول الذي قلت، فسر بذلك؛ ووهب لي دراهم.

وقال أبو صخر الهذلي حين بلغه قدوم ابن عطية:

قل للذين استضعفوا لا تعجلوا                      أتاكم النصر وجيش جحفـل

عشرون ألفا كلهم مسـربـل                      يقدمهم جلد القوى مستبسـل

دونكم ذا يمن فـأقـبـلـوا                      وواجهوا القوم ولا تستخجلوا

عبد المليك القلبي الـحـول                      أقسم لا يفلـى ولا يرجـل

حتى يبيد الأعور المضـلـل                      ويقتل الصباح والمفـضـل الأعور عبد الله بن يحيى رئيسهم.

قال المدائني عن رجاله: وبعث أبو حمزة بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية، فلقيه بوادي القرى لأيام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا، ودعاهم بلج إلى الكتاب والسنة، وذكر بني أمية وظلمهم، فشتمهم أهل الشام، وقالوا: أنتم يا أعداء الله أحق بهذا ممن ذكرتم وقلتم، فحمل عليهم بلج وأصحابه، فانكشف طائفة من أهل الشام، وثبت ابن عطية في عصبة صبروا معه، ونادى يا أهل الشام يا أهل الحفاظ ناضلوا عن دينكم وأميركم، فكروا، وثبروا صبرا حسنا، وقاتلوا قتالا شديدا، فقتل بلج وأكثر أصحابه، وانحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به، فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام فقتل منهم سبعين رجلا ونجا ثلاثون، فرجعوا إلى أبي حمزة، ونصب ابن عطية رأس بلج على رمح، قال: واغتم الذين رجعوا إلى أبي حمزة من وادي القرى إلى المدينة، وهم الثلاثون، ورجعوا وجزعوا من انهزامهم، وقالوا: ما فررنا من الزحف، فقال لهم أبو حمزة: لا تجزعوا، فأنا لكم فئة وإلي انصرفتم.

قال المدائني: وخرج أبو حمزة من المدينة إلى مكة، واستخلف رجلا يقال له: المفضل عليها، فدعا عمر بن عبد الرحمن بن أسيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب الناس إلى قتالهم، فلم يجد كبير أمر؛ لأن القتل قد كان شاع في الناس، وخرج وجوه أهل البلد عنه؛ فاجتمع إلى عمر البربر والزنج وأهل السوق والعبيد، فقاتل بهم الشراة، فقتل المفضل وعامة أصحابه؛ وهرب الباقون؛ فلم يبق في المدينة منهم أحد؛ فقال في ذلك سهيل أبو البيضاء مولى زينب بنت الحكم بن العاصي:

ليت مروان رآنـا                      يوم الاثنين عشية

إذ غسلنا العار عنا                      وانتضينا المشرفية قال: فلما قدم ابن عطية المدينة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن أسيد؛ فقال له: أصلحك الله إني جمعت قضي وقضيضي ؛ فقاتلت هؤلاء؛ فقتلنا من امتنع من الخروج عن المدينة وأخرجنا الباقين، فلقيه أهل المدينة بقضهم وقضيضهم.

 

 

صفحة : 2629

 

قال: وأقام ابن عطية بالمدينة شهرا؛ وأبو حمزة مقيم بمكة؛ ثم توجه إليه فقال له علي بن حصين العنبري: إني قد كنت أشرت عليك يوم قديد وقبله أن تقتل هؤلاء الأسرى كلهم، فلم تفعل، وعرفتك أنهم سيغدرون فلم تقبل؛ حتى قتلوا المفضل وأصحابنا المقيمين بالمدينة؛ وأنا أشير عليك اليوم أن تضع السيف في هؤلاء؛ فإنهم كفرة فجرة؛ ولو قدم عليك ابن عطية لكانوا أشد عليك منه؛ فقال: لا أرى ذلك؛ لأنهم قد دخلوا في الطاعة؛ وأقروا بالحكم؛ ووجب لهم حق الولاية؛ قال: إنهم سيغدرون؛ فقال: أبعدهم الله،  فمن نكث فإنما ينكث على نفسه  . قال: وقدم عبد الملك بن عطية مكة، فصير أصحابه فرقتين، ولقي الخوارج من وجهين؛ فصير طائفة بالأبطح؛ وصار هو في الطائفة الأخرى بإزاء أبي حمزة؛ فصار أبو حمزة أسفل مكة؛ وصير أبرهة بن الصباح بالأبطح في ثمانين فارسا، فقاتلهم أبرهة؛ فانهزم أهل الشأم إلى عقبة مني؛ فوقفوا عليها؛ ثم كروا؛ وقاتلهم؛ فقتل أبرهة: كمن له هبار القرشي؛ وهو على جبل دمشق عند بئر ميمون؛ فقتله؛ وتفرق الخوارج؛ وتبعهم أهل الشأم يقتلونهم؛ حتى دخلوا المسجد، والتقى أبو حمزة وابن عطية بأسفل مكة؛ فخرج أهل مكة مع ابن عطية؛ فقتل أبو حمزة على فم الشعب وقتلت معه امرأته؛ وهي ترتجز وتقول:

أنا الجعيداء وبـنـت الأعـلـم                      من سأل عن اسمي فاسمي مريم

بعث سوري بسـيف مـخـدم قال: وتفرقت الخوارج فأسر أهل الشام منهم أربعمائة؛ فدعا بهم ابن عطية؛ فقال: ويلكم ما دعاكم إلى الخروج مع هذا? قالوا: ضمن لنا الكنة: يريدون الجنة، وهي لغتهم، فقتلهم، وصلب أبا حمزة وأبرهة بن الصباح ورجلين من أصحابهم على فم الشعب؛ شعب الخيف، ودخل علي بن الحصين دارا من دور قريش، فأحدق أهل الشام بالدار فأحرقوها، فلما رأى ذلك رمى بنفسه من الدار، فقاتلهم وأسر فقتل، وصلب مع أبي حمزة، ولم يزالوا مصلبين حتى أفضى الأمر إلى بني العباس، وحج مهلهل الهجيمي في خلافة أبي العباس، فأنزل أبا حمزة ليلا، فدفنه، ودفن خشبته.

قال المدائني: وكان بمكة مخنثان، يقال لأحدهما: سبكت، وللآخر: صقرة ، فكان صقرة يرجف بأهل الشام، وكان سبكت يرجف بالإباضية، فعرف الخوارج أمرهما، فوجهوا إلى سبكت، فأخذوه فقتلوه، فقال صقرة: يا ويله هو والله أيضا مقتول، وإنما كنت أنا وسبكت نتكايد ونتكاذب، فقتلوه، وغدا يجيء أهل الشام، فيقتلونني، فلما دخل ابن عطية مكة عرف خبرهما، فأخذ صقرة، فقتله.

وقال هارون في خبره: أخبرني عبد الملك بن الماجشون، قال: لما التقى أبو حمزة وابن عطية قال أبو حمزة: لا تقاتلوهم حتى تختبروهم فصاح بهم: ما تقولون في القرآن والعمل به? فصاح ابن عطية: نضمه في جوف الجوالق ، قال: فما تقولون في مال اليتيم? قال: نأكل ماله؛ ونفجر بأمه، ثم أجاب في أشياء بلغني أنه سأل عنها؛ فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم؛ حتى أمسوا؛ فصاحت الشراة: ويحك؛ يا بن عطية إن الله - جل وعز - قد جعل الليل سكنا؛ فاسكن ونسكن؛ فأبى وقاتلهم؛ حتى قتلهم جميعا.

قال هارون: أخبرني موسى بن كثير أن أبا حمزة خطب أهل المدينة؛ وودعهم؛ ليخرج إلى الحرب؛ فقال: يا أهل المدينة؛ إنا خارجون لحرب مروان؛ فإن نظهر نعدل في أحكامكم؛ ونحملكم على سنة نبيكم، ونقسم بينكم، وإن يكن ما تمنون لنا فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، قال: ووثب الناس على أصحابه حين جاءهم قتله، فقتلوهم، فكان بشكست ممن قتلوا، طلبوه فرقي في درجة كانت في دار أذينة، فلحقوه فأنزلوه منها، وهو يصيح: يا عباد الله، فيم تقتلونني? قال: وأنشدني بعض أصحابنا:

لقد كان بشكست عبد العزيز                      من أهل القراءة والمسجد

فبعدا لبشكست عبد العـزيز                      وأما القران فـلا يبـعـد قال هارون: وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة فقيل: ويلك أتدري من ترمي مع اختلاط الناس? قال: والله ما أبالي من رميت? إنما هو شام وشار، والله ما أبالي أيهما قتلت

 

صفحة : 2630

 

وقال المدائني: لما قتل ابن عطية أبا حمزة بعث برأسه مع عروة بن زيد بن عطية إلى مروان، وخرج إلى الطائف، فأقام بها شهرين، وتزوج بنت محمد بن عبد الله بن أبي سويد الثقفي؛ واستعمل على مكة رومي بن عامر المري، وأتي فل أبي حمزة إلى عبد الله بن يحيى بصنعاء. فأقبل معه أصحابه. - وقد لقبوه طالب الحق - يريد قتال ابن عطية، وبلغ ابن عطية خبره، فشخص إليه، فالتقوا بكسة ، فأكثر أهل الشام القتل فيهم، وأخذوا أثقالهم وأموالهم، وتشاغلوا بالنهب، فركب عبد الله بن يحيى فكشفهم، فقتل منهم نحو مائة رجل، وقتل قائد من قوادهم يقال له: يزيد بن حمل القشيري من أهل قنسرين، فدمرهم ابن عطية، فكروا، وانضم بعضهم إلى بعض. وقاتلوا حتى أمسوا، فكف بعضهم عن بعض، ثم التقوا من غد في موضع كثير الشجر الكرم والحيطان، فطال القتال بينهم، واستحر القتل في الشراة، فترجل عبد الله بن يحيى في ألف فارس؛ فقتلوا، حتى قتلوا جميعا عن آخرهم؛ وانهزم الباقون؛ فترقوا في كل وجه. ولحق من نجا منهم بصنعاء؛ وولوا عليهم حمامة فقال أبو صخر الهذلي:

قتلنا دعيسا والذي يكتني الكـنـى                      أبا حمزة الغاوي المضل اليمانـيا

وأبرهة الكندي خاضت رماحنـا                      وبلجا صبحناه الحتوف القواضـيا

وما تركت أسيافنا منـذ جـردت                      لمروان جبارا على الأرض عاديا قال المدائني: وبعث عبد الملك بن عطية رأس عبد الله بن يحيى مع ابنه يزيد بن عبد الملك إلى مروان.

وقال عمرو بن الحصين - ويقال: الحسن العنبري - مولى لهم يرثي عبد الله بن يحيى وأبا حمزة. وهذه القصيدة التي في أولها الغناء المذكور أول هذه الأخبار:

هبت قبيل تبـلـج الـفـجـر                      هند تقول ودمعـهـا يجـري

أن أبصرت عيني مدامعـهـا                      ينهل واكفها على الـنـحـر

أني اعتراك وكنت عهـدي لا                      سرب الدموع وكنت ذا صبر

أقذى بعينك مـا يفـارقـهـا                      أم عائر أم مالـهـا تـذري?

أم ذكر أخوان فجعـت بـهـم                      سلكوا سبيلهم علـى خـبـر

فأجبتها بل ذكر مصرعـهـم                      لا غيره عبراتهـا تـمـري

يا رب أسلكني سـبـيلـهـم                      ذا العرش واشدد بالتقى أزري

في فتية صبروا نفـوسـهـم                      للمشرفية والقنـا الـسـمـر

تالله ألقى الدهر مـثـلـهـم                      حتى أكون رهينة الـقـبـر

أوفي بذمتـهـم إذا عـقـدوا                      وأعف عند العسر والـيسـر

متأهلـين لـكـل صـالـحة                      ناهين من لاقوا عن النـكـر

صمت إذا احتضروا مجالسهم                      وزن لقول خطيبـهـم وقـر

إلا تجـيبـهـم فـإنـهـمـم                      رجف القلوب بحضرة الذكر

متأوهون كأن جمـر غـضـا                      للخوف بين ضلوعهم يسـري

تلـقـاهـم إلا كـأنـهـــم                      لخشوعهم صدروا عن الحشر

فهم كأن بهم جـوى مـرض                      أو مسهم طرف من السحـر

لا ليلهم لـيل فـيلـبـسـهـم                      فيه غواشي النوم بالسـكـر

إلا كـذا خـلـســـا وآونة                      حذر العقاب وهم على ذعـر

كم من أخ لك قد فجعـت بـه                      قوام ليلتـه إلـى الـفـجـر

متـأوه يتـلـو قـوارع مـن                      آي القران مفزع الـصـدر

نصب تجيش بنات مهـجـتـه                      بالموت جيش مشاشة القـدر

ظمآن وقـدة كـل هـاجـرة                      تراك لـذتـه عـلـى قـدر

تراك ما تهوى النـفـوس إذا                      رغب النفوس دعت إلى النذر

ومـبـرأ مـن كـل ســيئة                      عف الهوى ذو مـرة شـزر

والمصطلي بالحرب يسعرهـا                      بغبارها وبـفـتـية سـعـر

يجتاحها بأقـل ذي شـطـب                      عضب المضارب قاطع البتر

لا شـيء يلـقـاه أسـر لـه                      من طعنة في ثغرة النـحـر

نجلاء منهرة تـجـيش بـمـا                      كانت عواصي جوفه تجـري

 

صفحة : 2631

 

 

كخليلك المـخـتـار أذك بـه                      من مقتد في الله أو مـشـر

خواض غمرة كل مـتـلـفة                      في الله تحت العثير الـكـدر

تراك ذي النخوات متخضـبـا                      بنجيعه بالطـعـنة الـشـزر

وابن الحصين وهل له شـبـه                      في العرف أنى كان والنكـر

بسامة لم تـحـن أضـلـعـه                      لذوي أخوته علـى غـمـر

طلق اللسان بكل مـحـكـمة                      رآب صدع العظم ذي الوقـر

لم ينفكك في جـوفـه حـزن                      تغلي حرارته وتسـتـشـري

ترقـى وآونة يخـفـصـهـا                      بتنفس الصعـداء والـزفـر

ومخالطي بلج وخالـصـتـي                      سم العدو وجابر الـكـسـر

نكل الخصوم إذا هم شغـبـوا                      وسداد ثلمة عورة الـثـغـر

والخائض الغمرات يخطر في                      وسط الأعادي أيما خـطـر

بمشطب أو غير ذي شـطـب                      هام العدا بـذبـابـه يفـري

وأخيك أبرهة الـهـجـان أخ                      ي الحرب العوان مقلح الجمر

بمـرشة فـرع تـثـج دمـا                      ثج الغوى سلافة الـخـمـر

والضارب الأخدود ليس لـهـا                      حد ينهنها عـن الـسـحـر

وولي حكمهم فجـعـت بـه                      عمرو فوا كبدي على عمرو

قوال محـكـمة وذي فـهـم                      عف الهوى متثبـت الأمـر

ومسيب فـاذكـر وصـيتـه                      لا تنس إما كـنـت ذا ذكـر

فكلاهما قد كان محتـبـسـا                      للـه ذا تـقـوى وذا بـــر

في مخبتين ولـم أسـمـهـم                      كانوا يدي وهم أولو نصـيري

وهم مساعر في الوغى رجح                      وخيار من يمشي على العفر

حتى وفوا للـه حـيث لـقـوا                      بعهـود لا كـذب ولا غـدر

فتخالسوا مهجات أنفـسـهـم                      وعداتهم بقـواضـب بـتـر

وأسنة أثـبـتـن فـي لـدن                      خطية بـأكـفـهـم زهـر

تحت العجاج وفوقهـم خـرق                      يخفقن من سود ومن حـمـر

فتفرجت عنهم كـمـاتـهـم                      لم يغمضوا عينا علـى وتـر

فشعارهم نـيران حـربـهـم                      ما بين أعلى الشجر فالحجـر

صرعى فحاجلة تنـوشـهـم                      وخوامع لحماتهـم تـفـري

 

صفحة : 2632

 

قال المدائني: وكتب مروان إلى ابن عطية يأمره بالمسير إلى صنعاء، ليقاتل من بها من الخوارج، فاستخلف ابنه محمد بن عبد الملك على مكة، وعلى المدينة الوليد بن عروة بن عطية، وتوجه إلى صنعاء، ورجع أهل الجزيرة جميعا إلى بلدهم، وكذلك كان مروان شرط لهم، فلما قرب من صنعاء هرب عامل عبد الله بن يحيى عنها، فأخذ أهل صنعاء أثقاله وحملين من مال كان معه، فسلموا ذلك إلى ابن عطية، وتتبع أصحاب عبد الله بن يحيى في كل موضع يقتلهم، وأقام بصنعاء أشهرا، ثم خرج عليه رجل من أصحاب عبد الله بن يحيى في آل ذي الكلاع، يقال له يحيى بن عبد الله بن عمر بن السباق في جمع كثير بالجند، فبعث إليه ابن عطية ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية، فلقيه بالحرب، فهزمه، وقتل عامة أصحابه، وهرب منه فنجا، وخرج عليه يحيى بن كرب الحميري بساحل البحر، وانضمت إليه شذاذ الإباضية، فبعث إليه أبا أمية الكندي في الوضاحية، فالتقوا بالساحل، فقتل من الإباضية نحو مائة رجل، وتحاجزوا عند المساء فهربت الإباضية إلى حضر موت، وبها عامل لعبد الله بن يحيى يقال له: عبد الله بن معبد الجرمي ، فصار في جيش كثير، واستفحل أمره. وبلغ ابن عطية الخبر، فاستخلف ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية على صنعاء، وشخص إلى حضر موت وبلغ عبد الله بن معبد مسير عبد الملك إليهم، فجمعوا الطعام وكل ما يحتاجون إليه في مدينة شبام . وهي حصن حضر موت مخافة الحصار. ثم عزموا على لقاء ابن عطية في الفلاة، فخرجوا حتى نزلوا على أربع مراحل من حضر موت، في عدد كثير في فلاة. وأتاهم ابن عطية، فقاتلهم يومه كله، فلما أمسى وقد بلغه ما جمعوا في شبام حدر عسكره في بطن حضر موت إلى شبام ليلا. ثم أصبح، فقاتلهم حتى انتصف النهار. ثم تحاجزوا، فلما أمسوا، تبع عسكره. وأصبح الخوارج، فلم يروا للقوم أثرا. فاتبعوهم وقد سبقوهم إلى الحصن، فأخذوا جميع ما فيه وملكوه، ونصب ابن عطية عليهم المسالح، وقطع عنهم المادة والميرة، وجعل يقتل من يقدر عليه ويسبي ويأخذ الأموال.

?مصرع ابن عطية: ثم ورد عليه كتاب مروان بن محمد يأمره بالتعجل إلى مكة، ليحج بالناس، فصالح أهل حضر موت على أن يرد عليهم ما عرفوا من أموالهم. ويولي عليهم من يختارون، وسالموه ، فرضي بذلك، وسالمهم، وشخص إلى مكة متعجلا مخفا. ولما نفذ كتاب مروان ندم بعد ذلك بأيام، وقال: إنا لله قتلت والله ابن عطية؛ هو الآن يخرج مخفا متعجلا، ليلحق الحج، فيقتله الخوارج. فكان كما قال: تعجل في بضعة عشر رجلا، فلما كان بأرض مراد تلففت عليه جماعة، فمن من كان من تلك الجماعة إباضيا عرفه، فقال: ما ننتظر بهذا أن ندرك ثأر إخواننا فيه، ومن لم يكن إباضيا ظنه من الإباضية، وأنه منهزم، فلما علم أنهم يريدونه قال لهم: ويحكم أنا عامل أمير المؤمنين على الحج، فلم يلتفتوا إلى ذلك، وقتلوه، ونصبت الإباضية رأسه، فلما فتشوا متاعه، وجدوا فيه الكتاب بولايته على الحج، فأخذوا من الإباضية رأسه، ودفنوه مع جسده.

قال المدائني: خرج إليه جمانة وسعيد ابنا الأخنس، في جماعة من قومهما من كندة، وعرفه جمانة لما لقيه، فحما عليه هو وأخوه ورجل آخر من همدان، يقال له: رمانة، ولثلاثة من مراد، وخمسة من كندة، وقد توجه في طريق مع أربعة نفر من أصحابه. وتوجه باقيهم في طريق آخر، فقصدوا حيث توجه ابن عطية، ووجهوا في آثار أصحابه نحو أربعين رجلا منهم، فأدركوهم فقتلوهم، وأدرك سعيد وجمانة وأصحابهما ابن عطية، فعطف عبد الملك على سعيد، فضربه وطعنه جمانة، فصرعه عن فرسه، ونزل إليه سعيد، فقعد على صدره، فقال له ابن عطية: هل لك يا سعيد في أن تكون أكرم العرب أسيرا? فقال: يا عدو الله، أترى الله كان يمهلك? أو تطمع في الحياة وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة وبلجا وأبرهة فقتله وقتل أصحابه جميعا. وبعثوا برأسه إلى حضر موت، وبلغ ابن أخيه - وهو بصنعاء - خبره. فأرسل شعيبا البارقي في الخيل. فقتل الرجال والصبيان. وبقر بطون النساء، وأخذ الأموال، وأحرب القرى، وجعل يتتبع البري والنطف . حتى لم يبق أحد من قتلة ابن عطية ولا من الإباضية إلا قتله، ولم يزل مقيما باليمن إلى أن أفضى الأمر إلى بني هاشم، وقام بالأمر أبو العباس السفاح.

 

الجزء الرابع والعشرون

 

خبر عبد الله بن أبي العلاء

 

 

صفحة : 2633

 

عبد الله بن أبي علاء، رجل من أهل سر من رأى. وكان يأخذ عن إسحاق وطبقته فبرع، و له صنعة يسيرة جيدو.

وابنه أحمد بن عبد الله بن أبي العلاء، أحد المحسنين المتقدمين، أخذ عن مخارق وعلوية وطبقتهما. وعمر إلى آخر أيام المعتضد وكانت فيه عربدة.

وكان عبد الله بن أبي العلاء حسن الوجه والزي، ظريفا شكلا .

حدثني ذكاء وجه الرزة قال: قال لي ابن المكي المرتجل : كان يقوم دابة عبد الله بن أبي العلاء وثيابه إذا ركب ألف دينار.

قال: وقال لي ابن المكي: حدثني أبي، قال: نظر أحمد بن يوسف الكاتب إلى عبد الله بن أبي العلاء عند إسحاق، وهو يطارحه، فأقام عند إسحاق، وسأله احتباس عبد الله عنده، فأمر بذلك، فاعتل عليه . وقال: أريد أن أشيع غازيا يخرج من جيراننا، فقال: له أحمد بن يوسف:

لا تخرجن مع الغزوة مشـيعـا                      إن الغزي يراك أفضل مغـنـم

ودع الحجيج ولا تشيع وفـدهـم                      أخشى عليك من الحجيج المحرم

ما أنت إلا غـادة مـمـكـورة                      لولا شواربك المحيطة بالـفـم وقد روي هذا الشعر لسعيد بن حميد في عبد الله بن أبي العلاء. وهو الصحيح.

فأقسم عليه إسحاق أن يقيم، فأقام.

وقال لي جعفر بن قدامة، وقد تجاذبنا هذا الخبر: حدثني حماد بن إسحاق، عن أبيه : أن العشرة اتصلت بين عبد الله وبين أحمد بن يوسف، وتعشقه وأنفق عليه جملة من المال، حتى اشتهر به، فعاتبه محمد بن عبد الزيات، في ذلك ، فقال له:

لا تعذلني يا أبا جعفـر                      عذل الأخلاء من اللوم

إن استه مشربة حمرة                      كأنها وجنة مكظـوم وقد قيل: إن هذين البيتين لأحمد بن يوسف في موسى بن عبد الملك.

وكان بعض الشعراء قد أولع بعبد الله بن أبي العلاء، يهجوه ويذكر أن أباه أبا العلاء هو سالم السقاء، وفيه يقول هذا الشعر

كنت في مجلس أنيق جميل                      فأتانا ابن سالم مخـتـالا

فتغنى صوتا فأخطـأ فـيه                      وابتدا ثانيا فكان مـحـالا

وابتغى حلعة على ذاك منا                      فخلعنا على قفاه النعـالا وفيه يقول هذا الشاعر، أنشدنا ابن عمار وغيره:

إذا ابن أبي العلاء أقيم عنـا                      فأهلا بالمجالس والرحـيق

قفاه على أكف الشرب وقف                      وجلدة وجهـه مـيدان ريق

أفاطـم حـييت بـالأسـعـد                      متى عهدنـا لا تـبـعـدي

تبارك ذو العرش، ماذا نرى                      من الحسن في جانب المسجد

فإن شئت آليت بين الـمـقـا                      م والركن والحجر الأسـود

أ أنساك ما دام عقلي معـي                      أمد بـه أمـد الـسـرمـد الشعر لأمية بن أبي عائد، والغناء لحكم الوادي، هزج خفيف، بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى، عن إسحاق. وفيه للأبحر ثقيل أول بالوسطى، عن عمرو. وقال ابن المكي ؛ فيه هزج ثقيل بالبنصر لعمر الوادي. وفيه لفليح لحن من رواية بذل، ولميذكر طريقته .

 

نسب أمية بن أبي عائذ وأخباره

أمية بن أبي عائذ العمري، أحد بني عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل. شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية. وهذا أكثر ما وجدته من نسبه في سائر النسخ.

وكان أمية أحد مداحي بني مروان، وله في عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان قصائد مشهورة.

فذكر ابن الأعرابي وأبو عبيدة جميعا: أنه وفد إلى عبد العزيز إلى مصر، وقد امتدحه بقصيدته التي أولها:

ألا إن قلبي مع الظاعنـينـا                      حزين فمن ذا يعزي الحزينا

فيا لك من روعة يوم بانـوا                      بمن كنت أحسب ألا يبينـا في هذين البيتين للحسين بن محرز خفيف ثقيل، عن الهشامي.

وفي هذه القصيدة يقول:

إلى سيد الناس عبـد الـعـزرز                      أعملت للسير حـرفـا أمـونـا

صهـابـية كـعـلاة الـقــيو                      ن من ضرب جوهر ما يخلصونا

إذا أزبدت من تباري الـمـطـي                      حلت بها خـبـلا أو جـنـونـا

تؤم النـواعـش والـفـرقـدين                      تنصب للقصد منها الـجـبـينـا

إلى معدن الخير عبـد الـعـزيز                      تبلغنا ظـلـعـا قـد حـفـينـا

ترى الأدم والعيسى تحت المسـو                      ح قد عدن من عرق الأين جونا

 

صفحة : 2634

 

 

تسير بمدحي عبد الـعـزيز                      ركبان مكة والمنجـدونـا

محبرة من صريح الـكـلا                      م ليس كما لفق المحدثونـا

وكان أمرا سـيدا مـاجـدا                      يصفي العتيق وينفي الهجينا قال: وطال مقامه عند عبد العزيز، وكان يأنس به، ووصله صلات سنية، فتشوق إلى البادية وإلى أهله، فقال لعبد العزيز:

متى راكب من أهل مصر وأهلـه                      بمكة من مصر العشـية راجـع

بلى إنها قد تقطع الخرق ضـمـر                      تباري السرى والمعسفون الزعاع

متى ما تجزها يا بن مروان تعترف                      بلاد سليمى وهي خوصاء ظالـع

وباتت تؤم الدار من كـل جـانـب                      اتخرج واشتدت عليها المصـارع

فلمـا رأت ألا خـروج وأنـمـا                      لها من هواها ما تجن الأضـالـع

تمطت بمجدول سبطر فطالـعـت                      وماذا من اللوح اليماني تطـالـع فقال له عبد العزيز: اشتقت - والله - إلى أهلك يا أمية، فقال: نعم - والله - أيها الأمير، فوصله وأذن له. ومما يغنى فيه من شعر أمية:

تمر كجندلة الـمـنـجـنـي                      ق يرمى بها السور يوم القتال

فماذا تخـطـرف مـن قـلة                      ومن حدب وإكـام تـوالـي

ومن سيرها العنق المسبطـر                      والعجرفية بـعـد الـكـلال الغناء لابن عائشة . وقد ذكر في أخباره مع غريبه، وأحاديث لابن عائشة في معناه .

 

أ أم نهيك ارفعي الطرف صاعـدا                      ولا تيأسي أن يثري الدهر بـائس

سيغنيك سيري في البلاد ومطلبـي                      وبعل الذي لم تخط في الحي جالس

سأكسب مـالا أو تـبـيتـن لـيلة                      بصدرك من وجد علـي وسـاوس

ومن يطلب المال الممنع بالـقـنـا                      يعش مثريا أو يود فيمـا يمـارس الشعر: لعبد الله بن أبي معقل الأنصاري. والغناء: لسليم، خفيف ثقيل بالوسطى، عن عمرو. وقد ذكر بن المكي أن لإبراهيم لحنا من الهزج بالوسطى، وذكر الهاشمي وحبش أن فيه لإبراهيم ثاني ثقيل، وذكر حبش أنه لإسحاق.

 

أخبار عبد الله بن أبي معقل ونسبه

هو عبد الله بن أبي معقل بن نهيك بن إسلاف بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو - وهو النبيت - بن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبه بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان.

شاعر مقل حجازي من شعراء الدولة الأموية.

وكان يقال لأبيه: منهب الورق. وقيل: بل جد المسمى بذلك، لأنه كسب مالا، فعجب أهل المدينة من كثرته ، فأباحهم إياه فنهبوه .

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني أبو بكر عبد الله بن جعفر بن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: حدثني جدي مصعب بن عبد الله، عن ابن القداح أنه قال: هذان البيتان، يعني قوله:

أمم نهيك ارفعي الطرف صاعدا... والذي بعده لعبد الله بن أبي معقل بن نهيك بن إسلاف، والناس يروونها لجده..وليس ذلك بصحيح؛ هما لعبد الله .

وكان عباد بن نهيك بن إسلاف، عمه ، أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه ، وصلى معه إلى القبلتين، وصلى معه الظهر، وصلى معه ركعتين منها إلى بيت المقدس، وركعتين إلى الكعبة.

وأدرك النبي - صلى الله عليه وسلم وآله - وهو شيخ كبير لا فضل فيه ، فوضع عنه الغزو.

وكان نهيك بن إسلاف يهاجي أبا الخضر الأشهلي في الجاهلية. وأشعارهما موجودة في أشعار الأنصار.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثني عبد الله بن جعفر عن جده مصعب، عن ابن القداح قال: كان ابن معقل محسودا في قومه، يجاهرونه بالعداوة، ليساره وسعة ماله، ويحسدونه ، وكان بنى قصرا في بني حارثة، وسماه:  مرغما  وقال له قائل : مالك ولقومك? فقال: ما لي إليهم ذنب إلا أني أثريت وكنت معدما، وبنيت مرغما ، وأنكحت مريم ومريم - يعني ابنته مريم وبنت ابنه مريم.

فأما ابنته مريم فتزوجها حبيب بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية، وبنت ابنه مسكين بن عبد الله بن أبي معقل - وهي مريم - تزوجها محمد بن خالد بن الزبير بن العوام.

 

 

صفحة : 2635

 

أخبرني الحرمي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عمي مصعب قال: خطب محمد بن خالد بن الزبير وحبيب بن الحكم بن أبي العاصي إلى عبد الله بن أبي معقل ابنته مريم، فأرغبه حبيب في الصداق فزوجه إياها، ثم شبت مريم بنت مسكين بن عبد الله بن أبي معقل، فبرعت في الجمال . ولقي محمد بن خالد يوما فقال له: يا بن خالد، إن تكن مريم قد فاتتك فقد يفعت مريم بنت أخيها ، وما هي بدونها في الجمال، وقد آثرتك بها. قال: فتزوجها على عشرين ألفا.

وقال ابن القداح: كان ابن أبي معقل كثير الأسفار في طلب الرزق، فلامته امرأته أم نهيك - وهي ابنة عمه- على ذلك، وقد قدم من مصر، فلم يلبث أن قال لها : جهزيني إلى الكوفة، إلى المغيرة بن شعبة، فإنه صديقي وقد وليها ، فجهزته ثم قالت: لن تزال في أسفارك هذه تتردد حتى تموت، فقال لها: أو أثري. ثم أنشأ يقول:

أ أم نهيك ارفعي الطرف صاعدا                      ولا تيأسي أن يثري الدهر يائس وهي قصيدة فيها مما يغنى فيه قوله:

فلـولا ثـلاث هـن مـن عـيشة الـــفـــتـــى                      وجـدك لـم أحـفـل مـتـــى قـــام رامـــس

فمـنـهـن تـحـريك الـكـمـيت عــنـــانـــه                      إذا ابـتـدر الـنـهـب الـبـعـيد الـــفـــوارس

ومنهن سبق العاذلات بشربةكأن أخاها وهو يقظان ناعس

ومنهن تجريد الأوانس كالدمى                      إذا ابـتـزعـن أكـفـالـهـن الـــمـــربـــس الغناء في هذه الأبيات: لمقاسة بن ناصح، ثقيل أول بالبنصر. وفيها للحسين بن محرز خفيف ثقيل من جامع أغانيه. وهو لحن معروف مشهور .

قال ابن القداح: ثم قدم المدينة فلم يزل مقيما بها حتى ولي مصعب بن الزبير العراق ، فوفد إليه ابن أبي معقل ، فدخل إليه يوما وهو يندب الناس إلى غزوة زرنج ويقول: من لها? فوثب عبد الله أبي معقل وقال: أنا لها، فقال له: اجلس، ثم ندب الناس، فانتدب لها مرة ثانية، فقال له مصعب: اجلس، ثم ندبهم ثالثة، فقال له عبد الله: أنا لها، فقال له اجلس. فقال له: أدنني إليك حتى أكلمك، فأدناه، فقال: قد علمت أنه ما يمنعك مني إلا أنك تعرفني، ولو انتدب إليها رجل ممن لا تعرفه لبعثته، فلعلك تحسدني أن أصيب خيرا أو أستشهد فأستريح من الدنيا وطلبها فأعجبه قوله وجزالته فولاه، فأصاب في وجهه ذلك مالا كثيرا، وانصرف إلى المدينة، فقال لزوجته: ألم أخبرك في شعري أنه:

سيغنيك سيري في البلاد ومطلبـي                      وبعل التي لم تحظ في الحي جالس فقالت: بلى والله، لقد أخبرتني وصدق خبرك.

قال: وفي هذه الغزاة يقوبل ابن قيس الرقيات :

إن يعش مصعب فنحـن بـخـير                      قد أتانا من عيشنا مـا نـرجـي

ملك يطعم الـطـعـام ويسـقـي                      لبن البخت في عساس الخلـنـج

جلب الخيل من تـهـامة حـتـى                      بلغت خيلـه قـصـور زرنـج

يقتلننا بحـديث لـيس يعـلـمـه                      من يتقين ولا مكـنـونـه بـادي

فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه                      مواقع الماء من ذي الغلة الصادي الشعر: للقطامي. والغناء: لإسحاق. خفيف ثقيل أول بالوسطى وفيه رمل مجهول.

 

ذكر نسب القطامي وأخباره

القطامي لقب غلب عليه، واسمه عمير بن شييم ، وكان نصرانيا، وهو شاعر إسلامي مقل مجيد .

أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني قال: حدثنا العمري، عن الهيثم بن عدي، عن عبد الله بن عياش، عن مجالد، عن الشعبي قال: قال عبد الملك بن مروان، وأنا حاضر، للأخطل: يا أخطل، أتحب أن لك بشعرك شعر شاعر من العرب? قال: اللهم لا، إلا شاعرا منا مغدف القناع ، خامل الذكر، حديث السن، إن يكن في أحد خير فسيكون فيه، ولوددت أني سبقته إلى قوله:

يقتلننا بحـديث لـيس يعـلـمـه                      من يتقين ولا مكـنـونـه بـادي

فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه                      مواقع الماء من ذي الغلة الصادي أخبرني أبو الحسن الأسدي، قال: حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال: القطامي أول من لقب  صريع الغواني  بقوله:

صريع غوان راقهـن ورقـنـه                      لدن شب حتى شاب سود الذوائب قال أبو عمرو الشيباني:

 

صفحة : 2636

 

نزل القطامي في بعض أسفاره بامرأة من محارب قيس، فنسبها، فقالت: أنا من قوم يشتوون القد من الجوع، قال: ومن هؤلاء ويحك? قالت: محارب، ولم تقره، فبات عندها أسوأ ليلة، فقال فيها قصيدة أولها :

نأتك بليلى نـية لـم تـقـارب                      وما حب ليلى من فؤادي بذاهب يقول فيها:

ولا بد أن الضيف يخبر مـا رأى                      مخبر أهله أو مخبر صـاحـب

سأخبرك الأنباء عـن أم مـنـزل                      تضيفتها بين العذيب فـراسـب

تلفعت في طل وريح تلـفـنـي                      وفي طرمساء غير ذي كواكـب

إلى حيزبون توقد النار بـعـدمـا                      تلفعت الظلماء من كل جـانـب

تصلى بها برد العشاء ولم تـكـن                      تخال وميض النار يبدو لراكـب

فما راعهـا إلا بـغـام مـطـية                      تريح بمحسور من الصوت لاغب

تقول وقد قربت كوري وناقـتـي                      إليك فلا تذعر علـي ركـائبـي

فلما تنازعنا الحديث سألـتـهـا:                      من الحي? قالت: معشر محارب

من المشتوين القد ممـا تـراهـم                      جياعا وريف الناس ليس بعازب

فلما بدا حرمانها الضيف لم يكـن                      علي مناخ السوء ضـربة لازب قال أبو عمر بن العلاء: أول ما حرك من القطامي ورفع من ذكره أنه قدم في خلافة الوليد بن عبد الملك دمشق ليمدحه، فقيل له: إنه بخيل لا يعطي الشعراء. وقيل: بل قدمها في خلافة عمر بن عبد العزيز ، فقيل له: إن الشعر لا ينفق عند هذا ولا يعطي عليه شيئا، وهذا عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فامتدحه، فمدحه، بقصيدته التي أولها :

إنا محيوك فاسلم أيها الطـلـل                      وإن بليت وإن طالت بك الطيل فقال له: كم أملت من أمير المؤمنين? قال: أملت أن يعطيني ثلاثين ناقة. فقال: قد أمرت لك بخمسين ناقة موقرة برا وتمرا وثيابا، ثم أمر بدفع ذلك إليه.

وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته:

إنا محيوك فاسلم أيها الطـلـل                      وإن بليت وإن طالت بك الطيل

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة                      ولا الصدور على الأعجاز تتكل الغناء لسليم، هزج بالبنصر، وقيل: إنه لغيره أخبرني ابن عمار قال: حدثنا محمد بن عباد قال: قال أبو عمر الشيباني: لو قال القطامي بيته :

يمشين رهوا فلا الأعجاز خاذلة                      ولا الصدور على الأعجاز تتكل في صفة النساء لكان أشعر الناس.

ولو قال كثير:

فقلت لها: يا عز كل مصـيبة                      إذا وطنت يوما لها النفس ذلت في مرثية أو صفة حرب لكان أشعر الناس.

واخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال: حدثني ميمون بن هارون قال: حدثني رجل كان يديم الأسفار، قال: سافرت مرة إلى الشام على طريق البر ، فجعلت أتمثل بقول القطامي :

قد يدرك المتأني بعض حاجته                      وقد يكون مع المستعجل الزلل ومعي أعرابي قد استأجرت منه مركبي، فقال: ما زاد قائل هذا الشعر على أن ثبط الناس عن الحزم، فهلا قال بعد بيته هذا:

وربما ضر بعض الناس بطؤهم                      وكان خيرا لهم لو أنهم عجلوا

 

صفحة : 2637

 

وكان السبب في أسر القطامي، على ما حكاه من ذكرنا، وذكر ابن الكلبي عن عرام بن حازم بن عطية الكلبي قال: أغار زفر بن الحارث على أهل المصيخ ، وبه جماعة من الحاج وغيرهم، وقد أصاب أول النهار أهل ماء يقال له: حفص ، وفيه سيد بني الجلاح مصاد بن المغيرة بن أبي جبلة، فأسره، فأتى به قرقيسيا ، ثم من عليه، وقتل عفيفي بن حسان بن حصين من بني الجلاح، ثم مضى زفر إلى المصيخ فاجتمع من بها إلى عمير بن حسان بن عمر بن جبلة فامتنعوا، فقال لهم زفر: إني لا أريد دماءكم، فأبوا وقاتلوا فقتل منهم جماعة كبيرة، وقتل معهم رجلان من تغلب، يقال لأحدهما: جساس، والآخر غني، وهو أبو جساس. وقد قالت له امرأته: يا أبا جساس، هؤلاء قومك فأتهم حين اجتمعوا وامتنعوا، فقال: اليوم نزاري وأمس كلبي ما أنا بمفارقهم، فقاتل حتى قتل، فكانت القتلى يوم المصيخ من كلب ثمانية عشر رجلا والتغلبيين، وبقي الماء ليس فيه إلا النساء. فلما انصرف عنهم زفر أراد النساء أن يجررن القتلى إلى بئر يقال لها: كوكب. فلما أردن أن يجررن رجلا قالت وليته من النساء: لا يكون فلان تحت رجالكن كلهم، فأتت أم عمير بن حسان، وهي كيسة بنت أبي، فأعلقت في رجله رداءها، ثم قالت: اجسر عمير فإن أباك كان جسورا، ثم ألقت عليه التراب والحطب ليكون بينه وبين أصحابه شيء. ثم جعلن كلما ألقين رجلا ألقين عليه التراب والحطب حتى وارتهم القليب. ولما بلغ حميد بن حريث بن بحدل ما لقي قومه أقبل حتى أتى تدمر ليجمع أصحابه، وليغير على قيس. فلما وقعت الدماء نهض بنو نمير، وهم يومئذ ببطن الجبل، وهم على مياه لهم ، إلى حميد بن حريث بن بحدل، حتى قدم وراءه يتهيأ للغارة، واجتمعت إليه كلب، وقالوا له: إن كنت تبرئنا ببراءتنا، وتعرف جوارنا أقمنا، وإن كنت تتخوف علينا من قومك شيئا لحقنا بقومنا، فقال: أتريدون أن تكونوا أدلاءهم حتى تنجلي هذه الفتنة? فاحتبسهم فيها، وخليفته في تدمر رجل من كلب يقال له: مطر بن عوص، وكان فاتكا، فأراد حميدا على قتلهم، فأبى وكره الدماء، فلما سار حميد، وقد عاد زفر أيضا مغيرا، ليرده عما يريده، فنزل قرية له، وبلغه مسير زفر فاغتاظ وأخذ في التعبئة، فأتاه مطر وكان خرج معه مشيعا له انتهازا لدماء الذين في يده من النمريين، فقال: ما أصنع بهؤلاء الأسارى الذين في يدي وقد قتل أهل مصبح? فقال وهو لا يعقل من الوجد: اذهب فاقتلهم. فخرج مطر يركض إلى تدمر، تخوف ألا يبدو له ، فلما أتى تدمر قتلهم ، وانتبه حميد بعد ذلك بساعة فقال: أين مطر حتى أوصيه? قالوا: انصرف، قال : أدركوا عدو الله، فإني أخاف على من بيده من النمريين.

وبعث فارسا يركض يمنع مطرا عن قتلهم، فأتاه وقد قتل كل من في يده من الأسرى إلا رجلين - وكانوا ستين رجلا - فلما بلغه الرسول رسالة حميد قال النمريان الباقيان: خل عنا فقد أمرت بتخلية سبيلنا، فقال: أبعد هذا المصيخ لا والله لا تخبران عنهم، ثم قتلهما. فلما بلغ زفر قتل النمريين بسط يده على كل من أدرك من كلب، واستحل الدماء، وأخذ في واد يقال له وادي الجيوش، وقد انتشرت به كلب للصيد، فلم يدرك به أحدا إلا قتله، فقتل أكثر من خمسمائة، ولم يلقه حميد. ثم انصرف إلى قرقيسياء.

وذكر بعض بني نمير أن زفر أغار على كلب يوم حفير ويوم المصيخ ويوم الفرس، فقتل منهم أكثر من ألف رجل، قال: وأغار عليهم زفر في يوم الإكليل فقتل منهم مقتلة عظيمة، واستاق نعما كثيرة.

وذكر عرام قال: قتل زفر يوم الإكليل جبير بن ثعلبة من بني الجلاح، وحسان بن حصين من بني الجلاح، ومحمد بن طفيل بن مطير بن أبي جبلة، وعمرو بن حسان بن عوف من بني الجلاح، ومحمد بن جبلة بن عوف، أخوان لأم. وقالت امرأة من بني كلب ترثيهم:

أبعد من دليت في كـوكـب                      يا نفس ترجين ثواء الرجال? قال لقيط: أخبرني بعض بني نمير قال: أغار عمير بن الحباب على كلب فأصابهم يوم الغوير ويوم الهبل ويوم كآبة.

 

 

صفحة : 2638

 

فأما يوم الغوير فإنه أرسل رجلا من بني نمير يقال له كليب بن سلمة عينا له، ليعلم له علم ابن بحدل، وكانت أم النميري كلبية، فكانت تتكلم بكلامهم، فكان الحسام بن سالم طريدا فيهم فنذروا به فقتلوه وأخذوا فرسه، فلقي كليب بن سلمة رجلا من بني كلب فعرفه، فقال: من أين جئت? فقال: من عند الأمير حميد بن حريث، قال: وأين تركته? قال: بمكان كذا وكذا، قال كليب: كذبت أنا أحدث به عهدا منك، قال: فأين تركته أنت? قال بغوير الضبع، قال: لكني فارقته أمس، فخرج النميري يسوق الكلبي إلى أصحابه - قال: فوالله إني لو أشاء أن أقتله لقتلته، أو آخذه لأخذته - فخرج يسوقه، حتى إذا نظر إلى القوم أنكرهم، فقال: والله ما أرى هؤلاء أصحابنا. قال: ويستدبره النميري فيطعنه عند ناغض كتفه اليمنى، حتى أخرج السنان من حلمة الثدي، وأخطأ المقتل، وحرك الكلبي فرسه موليا، فاتبعته الخيل حتى يدفع إلى ابن بحدل فانهزم، فقتلوا من كلب مقتلة عظيمة، واتبع عمير بن بحدل فجعل يقول لفرسه:

أقدم صدام إنه ابن بحدل

لا تدرك الخيل وأنت تدأل

ألا تمر مثل مر الأجدل قال: فمضى حميد حتى يدفع إلى الغوير ، وقد كان الرمح يناله، فانطلق يريد الباب، فطعن عمير الباب وكسر رمحه فيه، فلم يفلت من تلك الخيل غير حميد وشبل بن الخيتار. فلما بلغ ذلك بشر بن مروان قال لخالد بن يزيد بن معاوية: كيف ترى خالي طرد خالك? وقال عمير:

وأفلتنا ركضا حميد بن بـحـدل                      على سابح غوج اللبان مثـابـر

ونحن جلبنا الخيل قبا شـوازبـا                      دقاق الهوادي داميات الدوابـر

إذا انتقصت من شأوه الخيل خلفه                      ترامى به فوق الرماح الشواجر

تسائل عن حيي رفيدة بعـدمـا                      قضت وطرا من عبد ود وعامر وقال شبل بن الختيار:

نجى الحسامية الكبداء مـبـتـرك                      من جريها وحثيث الشد مـذعـور

من بعد ما التثق السربال طعنـتـه                      كأنه بنجيع الـورس مـمـكـور

ولي حميد ولم ينـظـر فـوارسـه                      قبل التقرة والمغـرور مـغـرور

فقد جزعت غداة الروع إذا لقحـت                      أبطال قيس عليها البيض مشجـور

يهدي أوائلهـا سـمـح خـلائقـه                      ماضي العنان على الأعداء منصور

يخرجن من برض الإكليل طالـعة                      كأنهـن جـراد الـحـرة الـزور وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب، عن أشياخ قومه، قال: أغار عمير بن الحباب على كلب، فلقي جمعا لهم بالإكليل في ستمائة أو سبعمائة، فقتل منهم فأكثر، فقالت هند الجلاحية تحرض كلبا:

ألا هل ثـأر بـدمـاء قـوم                      أصابهم عمير لا بن الحباب

وهل في عامر يوما نكـير                      وحيي عبد ود أو جـنـاب

فإن لم يثأروا من قد أصابوا                      فكانوا أعبدا لبنـي كـلاب

أبعد بني الجلاح ومن تركتم                      بجانب كوكب تحت التراب

تطيب لغائر منـكـم حـياة                      ألا لا عيش للحي المصاب فاجتمعوا فقاتلهم عمير، وأصاب فيهم، ثم أغار فلقي جمعا منهم بالجوف فقتلهم، ثم أغار عليهم بالسماوة فقتل منهم مقتلة عظيمة، فقال عمير:

ألا يا هند هند بني الـجـلاح                      سقيت الغيث من قلل السحاب

ألما تخبـري عـنـا بـأنـا                      نرد الكبش أغضب في تباب

ألا يا هند لو عـانـيت يومـا                      لقومك لامتنعت من الشراب

غداة ندوسهم بالخيل حـتـى                      أباد القتل حي بني جـنـاب

ولو عطفت مواساة حـمـيدا                      لغودر شلوه جـزر الـذئاب

 

صفحة : 2639

 

وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب، عن أشيخ قومه، قال: خرج عمير فأغار على قومه أيضا يوم الغوير، فلما دنا من الغوير وصار بين حميد ودمشق دعا رجلا من بني نمير، وقال له: سر الآن حتى تأتي حميد بن بحدل، فقل له: أجب، فإن قال: من? فقل: صاحب عقد خرج قبل ذلك بيومين من دمشق، فإن جاء معك فلا تهجه حتى تأتيني به، فنكون نحن الذين نلي منه ما نريد أن نلي، فإنه إن ركب الحسامية لم يدرك. فأتاه النميري فقال: أجب، فقال: ومن? قال: فلان بن فلان صاحب العقد. قال: فركب ابن بحدل الحسامية. ثم خرج يسير في أثر النميري، حتى طلع النميري على عمير، فقال النميري في نفسه: أقتله أنا أحب إلي من أن يقتله عمير لقتله الحسام بن سالم، فعطف عليه، وولى حميد، وأتبعه عمير وأصحابه، وترك العسكر، وأمرهم عمير أن يميلوا إلى القوم ، فذلك حيث يقول لفرسه:

أقدم صدام إنه ابن بحدل فاستباح عسكر ابن بحدل وانصرف.

ثم أغار عليهم يوم دهمان كما ذكر عون بن حارثة بن عدي بن جبلة أحد بني زهير عن أبيه: قال: أغار عمير على كلب، فأخذ الأموال، وقتل الرجال، وبلغ ابن بحدل نخرجه من الجزيرة، فجمع له، ثم خرج يعارضه، حتى إذا دنا منهم بعث العين يأخذ لهم أثر القوم، فأتاه العين فأخبره أن عميرا قد أتى دهمان فاستباح فيهم ، ثم خلف عسكره وخرج هو في طلب قوم قد سمع بهم، فقال حميد لأصحابه: تهيئوا للبيات، وليكن شعاركم:  نحن عباد الله حقا حقا  . فبيتهم فقتل فيهم فأوجع. وانقلب عمير حين أصبح، إلى عسكره، حتى إذا أشرف على عسكره رأى ما أنكره من كثرة السواد، فقال لأصحابه: إني أرى شيئا ما أعرفه، وما هو بالذي خلفنا، فلما رآهم ابن بحدل قال لأصحابه: احملوا عليهم، فقتل من الفريقين جميعا ، فقال ابن مخلاة:

لقد طار في الآفاق أن ابن بحدل                      حميدا شفى كلبا فقرت عيونها وقال منذر بن حسان:

وبادية الجواعر من نـمـير                      تنادي وهي سافر النقـاب

تنادي بالجزيرة: يا لـقـيس                      وقيس بئس فتيان الضراب

قتلنا منهم مائتـين صـبـرا                      وألفا بالتلاع وبالـروابـي

وأفلتنا هجين بنـي سـلـيم                      يفدي المهر من حب الإياب

فلولا الله والمهر المـفـدى                      لغودر وهو غربال الإهاب ثم سار عمير، وجمع لهم أكثر مما كان تجمع، فأغار عليهم، فقتل منهم مقتلة، واستاق الغنائم وسبى. فلما سمعت كلب بإيقاعه تحملت من منزلها هاربة منه، فلم يبق منهم أحد في موضع يقدر عمير على الغارة عليه إلا أن يخوض إليهم غيرهم من ألأحياء، ويخلف مدائن الشام خلف ظهره، وصاروا جميعا إلى الغوير ، فقال عمير في ذلك:

بشر بني القين بطعن شرج                      يشبع أولاد الضباع العـرج

ما زال إمراري لهم ونسجي                      وعقبتي للكور بعد السـرج

حتى اتقوني بالظهور الفلـج                      هل أجزين يوما بيوم المرج

ويوم دهمان ويوم هـرج وقال رجل من نمير:

أخذت نساء عبد الله قـهـرا                      وما أعفيت نسوة آل كـلـب

صبحناهم بخيل مـقـربـات                      وطعن لأكفاء لـه وضـرب

يبكين ابن عمرو وهو تسفـي                      عليه الريح تربا بعـد تـرب

وسعد قد دنا مـنـه حـمـام                      بأسمر من رماح الخط صلب

وقد قالت أمامة إذ رأتـنـي:                      بليت وما لقيت لقاء صحـب

وقد فقدت معانقتـي زمـانـا                      وشد المعصمين فويق حقـب

لقد بدلت بعدي وجـه سـوء                      وآثارا بجلدك يا بن كـعـب

فقلت لها كذلك مـن يلاقـي                      عتاق الخيل تحمل كل صعب وقال المجير بن أسلم القشيري:

أصبحت أم معمر عذلـتـنـي                      في ركوبي إلى منادي الصباح

فدعيني أفيد قومـك مـجـدا                      تندبينـي بـه لـدى الأنـواح

كل حي أذقت نعمي وبؤسـى                      ببني عامر الطوال الـرمـاح

وصدمنا كلبا فـبـين قـتـيل                      أو سليب مشرد مـن جـراح

وأتونا بـكـل أجـرد صـاف                      ورجـال مـعـدة وسـلاح وقال أيضا:

أبلغ عامرا عـنـي رسـولا                      وأبلغ إن عرضت بني جناب

 

صفحة : 2640

 

 

هلم إلى جـياد مـضـمـرات                      وبيض لا تفل من الـضـراب

وسمر في المـهـزة ذات لـين                      نقيم بهن من صعر الـرقـاب

إذا حشدت سليم حـول بـيتـي                      وعامرها المركب في النصاب

فمن هذا يقارب فخر قـومـي                      ومن هذا الذي يرجو اغتصابي? وقال زفر بن الحارث:

يا كلب قد كلب الزمان عليكـم                      وأصابكم مني عذاب مرسـل

أيهولنا يا كلب أصـدق شـدة                      يوم اللقاء أم الـهـويل الأول

إن السماوة لا سماوة فالحقـي                      بالغور فالأفحاص بئس الموئل

فجنوب عكا فالسواحل إنـهـا                      أرض تذوب بها اللقاح وتهزل

أرض المذلة حيث عقت أمكم                      وأبوكم أو حيث مزع بحـدل وقال عمير بن الحباب:

وردن على الغوير غوير كلـب                      كأن عيونها قـلـب انـتـزاح

أقر العين مـصـرع عـبـدود                      وما لاقت سراة بني الـجـلاح

وقـائمة تـنـادي يا لـكـلـب                      وكلب بئس فتيان الـصـبـاج

وكلب تركنا جمعهم بين هـارب                      حذار المنايا أو قتـيل مـجـدل

وأفلتنا لما التـقـينـا بـعـاقـد                      على سابح عند الجراء ابن بحدل

وأقسم لو لاقيتـه لـعـلـوتـه                      بأبيض قطاع الضريبة مقصـل وقال عمير أيضا:

وكلبا تركناهـم فـلـولا أذلة                      أدرنا عليهم مثل راغية البكر وقال جهم القشيري:

يا كلب مهلا عن بني عامر                      فليس فيها الجد بالعـاثـر

ولى حميد وهو في كـربة                      على طويل متنه ضامـر

بالأم يفديها وقد شـمـرت                      كاللبوة الممطولة الكاسـر

هلا صبرتم للقنـا سـاعة                      ولم تكن بالماجد الصابر? وقال عمير:

وأفلتنا ركضا حميد بن بـحـدل                      على سابح غوج اللبان مثـابـر

إذا انتقصت من شأوه الخيل خلفه                      ترامى به فوق الرماح الشواجر

لدن غدوة حتى نزلنـا عـشـية                      يمر كمريخ الغلام المخـاطـر وقال عمير:

يا كلب لم تترك لكم أرماحـنـا                      بلوى السماوة فالغوير مـرادا

يا كلب أحرمنا السماوة فانظري                      غير السماوة في البلاد بـلادا

ولقد صككنا بالفوارس جمعكـم                      وعديدكم يا كلب حتـى بـادا

ولقد سبقت بوقعة تركـتـكـم                      يا كلب بالحرب العوان بعـادا وقال زفر بن الحارث:

جرى الله خيرا كلـمـا ذر شـارق                      سعيدا ولاقته التـحـية والـرحـب

وحلحـلة الـمـغـوار لـلـه جـده                      فلو لم ينله القتل بادت إذن كـلـب

بني عبد ود لا نـطـالـب ثـأرنـا                      من الناس بالسلطان إن شبت الحرب

ولكن بيض الهند تسـعـر نـارنـا                      إذا ما خبت نار الأعادي فما تخبـو

أبادتكم فرسان قـيس فـمـا لـكـم                      عديد إذا عد الحصى لا ولا عـقـب

بأيديهـم بـيض رقـاق كـأنـهـا                      إذا ما انتضوها في أكفهم الشـهـب

فسبوهم إن أنتـم لـم تـطـالـبـوا                      بثأركم قد ينفع الطـالـب الـسـب

وما امتنع الأقوام عـنـا بـنـأيهـم                      سواء علينا النأي في الحرب والقرب وقال عمير:

شفيت الغليل من قضاعة عنوة                      فظل لها يوم أغر محـجـل

جزيناهم بالمرج يوما مشهرا                      فلاقوا صباحا ذا وبال وفتلوا

فلم يبق إلا هارب من سيوفنا                      وإلا قتيل في مكر مـجـدل وقال ابن الصفار المحاربي :

عظمت مصيبة تغلب ابنة وائل                      حتى رأت كلب مصيبتها سوى

شتموا وكان الله قد أخـزاهـم                      وتريد كلب أن يكون لها أسـا

وبكم بدأنا يال كلب قتـلـهـم                      ولعلنا يوما نعود لكم عـسـى

أخنت على كلب صدور رماحنا                      ما بين أقبلة الغوير إلى سـوا

وعركن بهراء بن عمرو عركة                      شفت الغليل ومسهم منـا أذى وقال الراعي:

 

صفحة : 2641

 

 

متى نفترش يوما عليما بـغـارة                      يكونوا كعوص أو أذل وأضرعا

وحي الجلاح قد تركنا بـدارهـم                      سواعد ملقاة وهاما مصـرعـا

ونحن جدعنا أنف كلب ولم نـدع                      لبهراء في ذكر من الناس مسمعا

قتلنا لو أن القتل يشفي صدورنـا                      بتدمر ألفا من قضاعة أقـرعـا وقال زفر بن الحارث - وذكر أبو عبيدة أنها لعقيل بن علفة :

أقر العيون أن رهط ابن بحدل                      أذيقوا هوانا بالذي كان قدمـا

صبحناهم البيض الرقاق ظباتها                      بجانب خبث والوشيج المقومـا

وجرداء ملتها الغزاة فكلـهـا                      ترى قلقا تحت الرحالة أهضما

بكل فتى لم تأبر النخـل أمـه                      ولم يدع يوما للغرائر معكمـا وهذه الحروب التي جرت: ببنات قين . فلما ألح عمير بالغارات على كلب رحلت حتى نزلت غوري الشام، فلما صارت كلب بالموضع الذي صارت قيس، انصرفت قيس في بعض ما كانت تنصرف من غزو كلب، وهم مع عمير، فنزلوا بثني من أثناء الفرات بين منازل بني تغلب، وفي بني تغلب امرأة من تميم يقال لها: أم دويل ناكحة في بني مالك بن جشم بن بكر، وكان دويل من فرسان بني تغلب، وكانت لها أعنز بمجنبة ، فأخذوا من أعنزها ، أخذها غلام من بني الحريش، فشكوا ذلك إلى عمير فلم يشكهم، وقال: معرة الجند. فلما رأى أصحابه أنه لم يقدعهم وثبوا على بقية أعنزها فأخذوها وأكلوها، فلما أتاها دويل أخبرته بما لقيت، فجمع جمعا ثم سار فأغار على بني الحريش، فلقي جماعة منهم فقاتلوه، فخرج رجل من بني الحريش - زعمت تغلب أنه مات بعد ذلك - وأخذ ذودا لامرأة من بني الحريش يقال لها: أم الهيثم، فبلغ الأخطل الوقعة، فلم يدر ما هي، وقال وهو براذان :

أتاني ودوني الزابيان كلاهما                      ودجلة أنباء أمر من الصبر

أتاني بأن ابني نزار تهـاديا                      وتغلب أولى بالوفاء وبالغدر فلما تبين الخبر قال:

وجاءوا بجمع ناصري أم هيثم                      فما رجعوا من ذودها ببعير فلما بلغ ذلك قيسا أغارت على بني تغلب بإزراء الخابور ، فقتلوا منهم ثلاثة نفر، واستاقوا خمسة وثلاثين بعيرا، فخرجت جماعة من تغلب، فأتوا زفر بن الحارث وذكروا له القرابة والجهوار، وهم بقرقيسيا، وقالوا: ائتنا برحالنا ورد علينا نعمنا، فقال: أما النعم فنردها عليكم، أو ما قدرنا لكم عليه، ونكمل لكم نعكم من نعمنا إن لم نصبها كلها، وندي لكم القتلى، قالوا له: فدع لنا قريات الخابور، ورحل قيسا عنها، فإن هذه الحروب لن تطفأ ما داموا مجاورينا، فأبى ذلك زفر، وأبواهم أن يرضوا إلا بذلك، فناشدهم الله وألح عليهم، فقال له رجل من النمر كان معهم: والله ما يسرني أنه وقاني حرب قيس كلب أبقع تركته في غنمي اليوم، وألح عليهم زفر يطلب إليهم ويناشدهم، فأبوا فقال عمير: لا عليك، لا تكثر، فوالله إني لأرى عيون قوم ما يريدون إلا محاربتك، فانصرفوا من عنده، ثم جمعوا جمعا، وأغاروا على ما قرب من قرقيسيا من قرى القيسية، فلقيهم عمير بن الحباب، فكان النميري الذي تكلم عند زفر أول قتيل، وهزم التغلبيين، فأعظم ذلك الحيان جميعا قيس وتغلب، وكرهوا الحرب وشماتة العدو.

فذكر سليمان بن عبد الله بن الأصم:

 

صفحة : 2642

 

أن إياس بن الخراز، أحد بني عتيبة بن سعد بن زهير، وكان شريفا من عيون تغلب، دخل قرقيسيا لينظر ويناظر زفر فيما كان بينهم، فشد عليه يزيد بن بحزن القرشي فقتله، فتذمم زفر من ذلك، وكان كريما مجمعا لا يحب الفرقة، فأرسل إلى الأمير ابن قرشة بن عمرو بن ربعي بن زفر بن عتيبة بن بعج بن عتيبة بن سعد بن زهير بن جشم بن الأرقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب، فقال له: هل لك أن تسود بني نزار فتقبل مني الدية عن ابن عمك? فأجابه إلى ذلك. وكان قرشة من أشراف بني تغلب، فتلافى زفر ما بين الحيين، وأصلح بينهم، وفي الصدور ما فيها، فوفد عمير على المصعب بن الزبير، فأعلمه أنه قد أولج قضاعة بمدائن الشام، وأنه لم يبق إلا حي من ربيعة أكثرهم نصارى، فسأله أن يوليه عليهم، فقال: اكتب إلى زفر، فإن هو أراد ذلك وإلا ولاك، فلما قدم على زفر ذكر له ذلك فشق عليه ذلك، وكره أن يليهم عمير فيحيف بهم ويكون ذلك داعية إلى منافرته، فوجه إليهم قوما، وأمرهم أن يرفقوا بهم، فأتوا أخلاطا من بني تغلب من مشارق الخابور فأعلموهم الذي وجهوا به، فأبوا عليهم، فانصرفوا إلى زفر، فردهم وأعلمهم أن المصعب كتب إليهم بذلك، ولا يجد بدا من أخذ ذلك منهم أو محاربتهم، فقتلوا بعض الرسل.

وذكر ابن الأصم: أن زفر لما أتاه ذلك اشتد عليه، وكره استفساد بني تغلب، فصار إليهم عمير بن الحباب فلقيهم قريبا من ماكسين على شاطئ الخابور، بينه وبين قرقيسيا مسيرة يوم، فأعظم فيه القتل.

وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب: أن القتل استحر ببني عتاب بن سعد، والنمر، وفيهم أخلاط تغلب، ولكن هؤلاء معظم الناس، فقتلوهم بها قتلا شديدا، وكان زفر بن يزيد أخو الحارث بن جشم له عشرون ذكرا لصلبه، وأصيب يومئذ أكثرهم، وأسر القطامي الشاعر وأخذت إبله، فأصاب عمير وأصحابه شيئا كثيرا من النعم، ورئيس تغلب يومئذ عبد الله بن شريح بن مرة بن عبد الله بن عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم، فقتل، وقتل أخوه، وقتل مجاشع بن الأجلح، وعمرو بن معاوية من بني خالد بن كعب بن زهير، وعبد الحارث بن عبد المسيح الأوسي، وسعدان بن عبد يسوع بن حرب ، وسعد ود بن أوس من بني جشم بن زهير، وجعل عمير يصيح بهم:  ويلكم لا تستبقوا أحدا  ونادى رجل من بني قشير يقال له الندار:  أنا جار لكل حامل أتتني، فهي آمنة  ، فأتته الحبالى، فبلغني أن المرأة تشد على بطنها الجفنة من تحت ثوبها تشبيها بالحبلى بما جعل لهن. فلما اجتمعن له بقر بطونهن فأفزع ذلك زفر وأصحابه، ولام وفر عميرا فيمن بقر من النساء، فقال: فعلته ولا أمرت به، فقال في ذلك الصفار المحاربي:

بقرنا منكم ألفي بقـير                      فلم نترك لحاملة جنينا وقال الأخطل يذكر ذلك:

فليت الخيل قد وطئت قشيرا                      سنابكها وقد سطع الغبـار

فنجزيهم ببغيهـم عـلـينـا                      بني لبنى بما فعل الغـدار وقال الصفار:

تمنيت بالخابور قيسا فصادفت                      منايا لأسباب وفاق على قدر وقال جرير:

نبئت أنك بالخابور ممـتـنـع                      ثم انفرجت انفراجا بعد إقرار فقال زفر بن الحارث يعاتب عميرا بما كان منه في الخابور:

ألا من مبلغ عني عمـيرا                      رسالة عاتب وعليك زاري

أتترك حي ذي كلع وكلـب                      وتجعل حد نابك في نزار

كمعتمد علـى إحـدى يديه                      فخانته بوهي وانكـسـار ولما أسر القطامي أتى زفر بقرقيسيا فخلى سبيله، ورد عليه مائة ناقة، كما ذكر أدهم بن عمران العبدي، فقال القطامي يمدحه:

قفي قبل التفرق يا ضبـاعـا                      ولا يك موقف منك الوداعـا

قفي فادي أسيرك إن قومـي                      وقومك لا أرى لهم اجتماعـا

ألم يحزنك أن حـبـال قـيس                      وتغلب قد تباينت انقطـاعـا

فصارا ما تغبهـمـا أمـور                      تزيد سنا حريقتها ارتفـاعـا

كما العظم الكسير يهاض حتى                      يبت وإنما بدأ انـصـداعـا

فأصبح سبل ذلك قد تـرقـى                      إلى من كان منزله يفـاعـا

فلا تبعد دماء ابـنـي نـزار                      ولا تقرر عيونك يا قضاعـا

 

صفحة : 2643

 

 

ومن يكن اسـتـلام إلـى ثـوي                      فقد أحسنت يا زفر المـتـاعـا

أكفرا بعد رد الـمـوت عـنـي                      وبعد عطائك المائة الـرتـاعـا

فلو بيدي سـواك غـداة زلـت                      بي القدمان لـم أرج اطـلاعـا

إذن لهلكت لو كانـت صـغـار                      من الأخلاق تبتـدع ابـتـداعـا

فلم أر منعـمـين أقـل مـنـا                      وأكرم عندما اصطنعوا اصطناعا

من البيض الوجوه بنـي نـفـيل                      أبت أخلاقـهـم إلا اتـسـاعـا

بني القرم الذي علمـت مـعـد                      تفضل قومهـا سـعة وبـاعـا وقال أيضا:

يا زفر بن الحارث بن الأكـرم                      قد كنت في الحرب قديم المقدم

إذا أحجم القوم ولما تـحـجـم                      إنك وابنيك حفظتم محـرمـي

وحقن اللـه بـكـفـيك دمـي                      من بعد ما جف لساني وفمـي

أنقذتني من بطـل مـعـمـم                      والخيل تحت العارض المسوم

وتغلب يدعون: يا لـلأرقـم وقال أيضا :

يا ناق خبـي خـبـبـا زورا                      وقلبي منسمك المـغـبـرا

وعارضي الليل إذا ما اخضرا                      سوف تلاقين جـوادا حـرا

سيد قـيس زفـر الأغــرا                      ذاك الـذي بـايع ثـم بـرا

ونقض الأقوام واسـتـمـرا                      قد نفع الـلـه بـه وضـرا

وكان في الحرب شهابا مرا وقال أيضا:

كأن في المركب حين راحا                      بدرا يزيد البصر انفضاحا

ذا بلج ساواك أني امتاحـا                      وقر عينا ورجا الرباحـا

ألا ترى ما غشي الأركاحا                      وغشي الخابور والأملاحا

يصفقون بالأكف الراحـا وقال فيه أيضا هذه القصيدة التي فيها الغناء المذكور بذكر أخبار القطامي :

ما اعتاد حب سليمى حين معـتـاد                      ولا تقضى بواقي دينها الطـادي

بيضاء محطوطة المتنين بهـكـنة                      ريا الروادف لم تمـغـل بـأولاد

ما للكواعب ودعن الحـياة كـمـا                      ودعنني واتخذن الشيب ميعـادي

أبصارهن إلى الـشـبـان مـائلة                      وقد أراهن عنـي غـير صـداد

إذ باطلي لم تقشع جـاهـلـيتـه                      عني ولم يترك الخلان تـقـوادي

كنية الحي من ذي القيضة احتملوا                      مستحقبين فؤادا مـا لـه فـادي

بانوا وكانوا حياتي في اجتماعهـم                      وفي تفرقهم قتلـي وإقـصـادي

يقتلنا بـحـديث لـيس يعـلـمـه                      من يتقين ولا مكـنـونـه بـادي

فهن ينبذن من قول يصـبـن بـه                      مواقع الماء من ذي الغلة الصادي يقول فيها في مدح زفر بن الحارث:

من مبلغ زفر القيسي مدحـتـه                      من القطامي قولا غير إفـنـاد

إني وإن كان قومي ليس بينهـم                      وبين قومك إلا ضربة الهـادي

مثن عليك بما استبقيت معرفتـي                      وقد تعرض مني مقتـل بـادي

فلن أثيبك بالنعمـاء مـشـتـمة                      ولن أبدل إحسانـا بـإفـسـاد

فإن هجوتك ما تمت مكارمتـي                      وإن مدحت فقد أحسنت إصفادي

وما نسيت مقام الورد تحبـسـه                      بيني وبين حفيف الغابة الغـادي

لولا كتائب من عمرو تصول بها                      أرديت يا خير من يندو له النادي

إذ لا ترى العين إلا كل سلهـبة                      وسابح مثل سيد الردهة العادي

إذ الفوارس من قيس بشكتـهـم                      حولي شهود وما قومي بشهادي

إذ يعتريك رجال يسألون دمـي                      ولو أطعتكم أبـكـيت عـوادي

فقد عصيتهم والحرب مقـبـلة                      لا بل قدحت زنادا غير صـلاد

والصيد آل نفيل خير قومـهـم                      عند الشتاء إذا ماضن بـالـزاد

المانعون غداة الروع جـارهـم                      بالمشرفية من ماض ومـنـآد

أيام قومي مكاني منصب لـهـم                      ولا يظنـون إلا أنـنـي رادي

فانتاشني لك من غماء مظلـمة                      حبل تضمن إصـداري وإيرادي

 

صفحة : 2644

 

 

ولا كردك مالي بعدما كربـت                      تبدي الشماتة أعدائي وحسادي

فإن قدرت على خير جزيت به                      والله يجعل أقواما بمـرصـاد قال ابن سلام: فلما سمع زفر هذا قال: لا أقدرك الله على ذلك.

وقال أيضا:

ألا من مبلغ زفر بن عمرو                      وخير القول ما نطق الحكيم

أبي ما يقاد الدهر قـسـرا                      ولا لهوى المصرف يستقيم

أنوف حين يغضب مستعـز                      جنوح يستبد بـه الـعـزيم

فما آل الحباب إلى نـفـيل                      إذا عد الممهـل والـقـديم

كأن أبا الحباب إلى نـفـيل                      حمار عضه فرس عـذوم

بنى لك عامر وبنو كـلاب                      أرومـا مـا يوازيه أروم أخبرني أحمد بن جعفر جحظة، قال: حدثني علي بن يحيى المنجم، قال: سمعت من لا أحصي من الرواة يقولون: أحسن الناس ابتداء قصيد في الجاهلية امرؤ القيس، حيث يقول:

ألا عم صباحا أيها الطلل البالي .. وحيث يقول:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل.. وفي الإسلاميين القطامي، حيث يقول:

إنا محيوك فاسلم أيها الطلل وفي المحدثين بشار، حيث يقول:

أبى طلل بالجزع أن يتكلمـا                      وماذا عليه لو أجاب متيما?

وبالفرع آثار لهند وباللـوى                      ملاعب ما يعرفن إلا توهما نسخت من كتاب أحمد بن الحارث الخراز - ولم أسمعه من أحد، وهو خبر فيه طول اقتصرت منه على ما فيه من خبر القطامي - قال أحمد بن الحارث الخراز: حدثني المدائني، عن عبد الملك بن مسلم، قال: قال عبد الملك بن مروان للأخطل، وعنده عامر الشعبي: أتحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحمد من العرب أم تحب أنك قلته? قال: لا والله يا أمير المؤمنين، إلا أني وددت أني كنت قلت أبياتا قالها رجل منا مغدف القناع، قليل السماع، قصير الذراع، قال: وما قال? فأنشد قول القطامي :

إنا محيوك فاسلم أيها الـطـلـل                      وإن بليت وإن طالت بك الطـيل

ليس الجديد به تبقى بشـاشـتـه                      إلا قلـيلا ولا ذو خـلة يصـل

والعيش لا عيش إلا ما تقـر بـه                      عين ولا حال إلا سوف تنتـقـل

إن ترجعي من أبي عثمان منجحة                      فقد يهون على المستنجح العمل

والناس من يلق خيرا قائلون لـه                      ما يشتهي ولأم المخطئ الهبـل

قد يدرك المتأني بعض حاجـتـه                      وقد يكون مع المستعجل الزلـل حتى أتى على آخرها .

قال الشعبي: فقلت له: قد قال القطامي أفضل من هذا، قال: وما قال? قلت: قال :

طرقـت جـنـوب رجـالـنـا مـن مـــطـــرق                      ما كـنـت أحـسـبـهـا قـريب الـمـعـــنـــق

قطـعـت إلـيك بـمـــثـــل حـــيد جـــداية                      حسـن مـعـلـق تـومــتـــيه مـــطـــوق

ومـصـرعـين مـن الـكــلال كـــأنـــمـــا                      بكـروا الـغـبـوق مـن الـرحـيق الـمـعـتـــق

متـــوســـدين ذراع كـــل شـــمــــــلة                      ومـفـرج عـرق الـمـــقـــذ مـــنـــوق

وجـثـت عـلـى ركـب تـهـد بـهـا الـصـفـــا                      وعـلـى كـلاكـل كـالـنـقـيل الـمــطـــرق

وإذا سـمـعـن إلـى هـــمـــاهـــم رفـــقة                      ومـن الـنـجـوم غـوابـر لـم تـــخـــفـــق

جعـلـت تـمــيل خـــدودهـــا آذانـــهـــا                      طربـا بـهــن إلـــى حـــداء الـــســـوق

كالـمـنـصـتـات إلـى الـزمـير سـمـعــنـــه                      من رائع لـقـلـــوبـــهـــن مـــشـــوق

فإذا نـظــرن إلـــى الـــطـــريق رأينـــه                      لهـقـا كـشـاكـلة الـحـصـــان الأبـــلـــق

وإذا تـخـلـف بــعـــدهـــن لـــحـــاجة                      حاد يشـسـع نـعــلـــه لـــم يلـــحـــق

وإذا يصيبك والحوادث جمة حدث حداك إلى أخيك الأوثق

ليت الهموم عن الفؤاد تفرجت                      وخـلا الـتـكـلـم لـلـسـان الـمـطـــلـــق قال: فقال عبد الملك بن مروان: ثكلت القطامي أمه، هذا والله الشعر، قال: فالتفت إلي الأخطل فقال لي : يا شعبي، إن لك فنونا في الأحاديث، وإنما لنا فن واحد، فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حربي فقلت: وكرامة ، لا أعرض لك في شعر أبدا، فأقلني هذه المرة.

 

 

صفحة : 2645

 

ثم التفت إلى عبد الملك بن مروان، فقلت: يا أمير المؤمنين: أسألك أن تستغفر لي الأخطل، فإني لا أعاود ما يكره، فضحك عبد الملك بن مروان وقال: يا أخطل إن الشعبي في جواري، فقال: يا أمير المؤمنين: قد بدأته بالتحذير، وإذا ترك ما نكره لم نعرض له إلا بما يحب. فقال عبد الملك بن مروان للأخطل: فعلي ألا يعرض لك إلا بما تحب أبدا، فقال له الأخطل: أنت تتكفل بذلك يا أمير المؤمنين? قال عبد الملك بن مروان: أنا أكفل به، إن شاء الله تعالى.

 

يا بن الذين سما كسرى لجمعهـم                      فجللوا وجـه قـارا بـذي قـار

دوخ خراسان بالجرد الـعـتـاق                      وبالبيض الرقاق بأيدي كل مسعار الشعر لأبي نجدة - واسمه لجيم بن سعد - شاعر من بني عجل.

أخبرني بذلك جماعة من أهله وكان أبو نجدة هذا مع أحمد بن عبد العزيز بن دلف بن أبي دلف، منقطعا إليه. والغناء لكنيز دبة ، ولحنه فيه خفيف بالبنصر، ابتداؤه نشيد.

وكان سبب قوله هذا الشعر أن قائدا من قواد أحمد بن عبد العزيز التجأ إلى عمرو بن الليث، وهو يومئذ بخراسان، فغم ذلك أحمد وأقلقه ، فدخل عليه أبو نجدة، فأنشده هذين البيتين، وبعدهما:

يا من تيمم عمرا يستجـير بـه                      أما سمعت ببيت فـيه سـيار

المستجير بعمرو عند كربـتـه                      كالمستجير من الرمضاء بالنار فسر أحمد بذلك، وسري عنه ، وأمر لأبي نجدة بجائزة، وخلع عليه وحمله، وغنى فيه كنيز لحنه هذا ، وهو لحن حسن مشهور في عصرنا هذا، فأمر لكنيز أيضا بجائزة، وخلع عليه وحمله.

سمعت أبا علي محمد بن المرزباني يحدث أبي - رحمه الله - بهذا على سبيل المذاكرة، وكانت بيننا وبين آل المرزبان مودة قديمة وصهر.

التي فخر بها هذا الشعر  خبر وقعة ذي قار التي فخر بها

في هذا الشعر

أخبرنا بخبرها علي بن سليمان الأخفش، عن السكري، عن محمد بن حبيب، عن أبي الكلبي، عن خراش بن إسماعيل، وأضفت إلى ذلك رواية الأثرم عن أبي عبيدة، وعن هشام أيضا، عن أبيه، قالوا: كان من حديث ذي قار أن كسرى أبرويز بن هرمز لما غضب على النعمان بن المنذر أتى النعمان هانئ بن مسعود بن عامر بن عمرو بين ربيعة بن ذهل بن شيبان ، فاستودعه ماله وأهله وولده ، وألف شكة، ويقال: أربعة آلاف شكة - قال ابن الأعرابي: والشكة: السلاح كله - ووضع وضائع عند أحياء من العرب ، ثم هرب وأتى طيئا لصهره فيهم.

وكانت عنده فرعة بنت سعيد بن حارثة بن لأم ، وزينب بنت أوس بن حارثة، فأبوا أن يدخلوه جبلهم ، وأتته بنو رواحة بن ربيعة بن عبس ، فقالوا:  أبيت اللعن، أقم عندنا، فإنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا  ، فقال: ما أحب أن تهلكوا بسببي، فجزيتم خيرا.

ثم خرج حتى وضع يده في يد كسرى، فحبسه بساباط ، ويقال بخانقين - وقد مضى خبره مشروحا في أخبار عدي بن يزيد - قالوا: فلما هلك النعمان جعلت بكر بن وائل تغير على السواد ، فوفد قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدين ، بن عبد الله بن عمرو إلى كسرى، فسأله أن يجعل له أكلا وطعمة، على أن يضمن له على بكر بن وائل ألا يدخلوا السواد ولا يفسدوا فيه، فأقطعه الأبلة وما والاها.

وقال: هل ، تكفيك وتكفي أعراب قومك? .. وكانت له حجرة فيها مائة من الإبل للأضياف، نحرت ناقة ردت مكانها ناقة أخرى وإياه عني الشماخ بقوله:

فادفع بألبانها عنكم كما دفعـت                      عنهم لقاح بني قيس بن مسعود قال: فكان يأتيه من أتاه منهم فيعطيه جلة تمر وكرباسة ، حتى قدم الحارث بن وعلة بن مجالد بن يثربي بن الديان بن الحارث بن مالك بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة، والمكسر بن حنظلة بن حيي بن ثعلبة بن سيار بن حيي بن حاطبة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل بن لجيم ، فأعطاهما جلتي تمر وكرباستين، فغضبا وأبيا أن يقبلا ذلك منه، فخرجا واستغويا ناسا من بكر بن وائل، ثم أغارا على السواد، فأغار الحارث على أسافل رودميسان وهي من جرد ، وأغار المكسر على الأنبار، فلقيه رجل من العباديين من أهل الحيرة، قد نتجت بعض نوقهم، فحملوا الحوار على ناقة، وصروا ، الإبل.

فقال العبادي: لقد صبح الأنبار شر، جمل يحمل جملا ، وجمل برته عود، فجعلوا يضحكون من جهله بالإبل.

 

 

صفحة : 2646

 

قال: وأغار بجير بن عائذ بن سويد العجلي ، ومعه مفروق بن عمرو الشيباني على القادسية وطير ناباذ وما والاهما، وكلهم ملأ يديه غنيمة. فأما مفروق وأصحابه فوقع فيهم الطاعون فموت منهم خمسة نفر مع من موت من أصحابهم، فدفنوا بالدجيل، وهو رحلة من العذيب يسيرة، فقال مفروق:

أتاني بأنباط السواد يسوقـهـم                      إلي وأودت رجلتي وفوارسي فلما بلغ ذلك كسرى اشتد حنقه على بكر بن وائل، وبلغه أن حلقة النعمان وولده وأهله عندهم، فأرسل كسرى إلى قيس بن مسعود، وهو بالأبلة فقال: غررتني من قومك، وزعمت أنك تكفينيهم، وأمر به فحبس بساباط، وأخذ كسرى في تعبئة الجيوش إليهم، فقال قيس بن مسعود، وهو محبوس ، من أبيات :

ألا أبلغ بني ذهل رسـولا                      فمن هذا يكون لكم مكاني

أيأكلها ابن وعلة في ظليف                      ويأمن هيثم وابنا سنـان?

ويأمن فيكم الذهلي بعـدي                      وقد وسموكم سمة البـيان

ألا من مبلغ قومي ومن ذا                      يبلغ عن أسير في الإوان - يعني الإيوان -

تطاول ليله وأصاب حزنـا                      ولا يرجو الفكاك مع المنان يعني بالهيثم ، وابني سنان: الهيثم بن جرير بن يساف بن ثعلبة بن سدوس بن ذهل بن ثعلبة، وأبو علباء بن الهيثم.

وقال قيس بن مسعود ينذر قومه:

ألا ليتني أرشو سلاحي وبغلتي                      لمن يخبر الأنباء بكر بن وائل ويروي: لمن يعلم الأنباء

فأوصيهم بالله والصلح بـينـهـم                      لينصأ معروف ويزجر جاهـل

وصاة امرئ لو كان فيكم أعانكم                      على الدهر، والأيام فيها الغوائل

فاياكم والطف لا تـقـربـنـه                      ولا البحر إن الماء للبحر واصل

ولا أحبسنكم عن بغا الخير إننـي                      سقطت على ضرغامة فهو آكل رواه ابن الأعرابي فقال:

... إن الماء للقود واصل أي أنه معين لهم، يقود الخير إليكم .

قال: وقال قيس أيضا ينذرهم:

تعناك من ليلى مع الليل خـائل                      وذكر لها في القلب ليس يزايل

أحبك حب الخمر ما كان حبها                      إلي وكل في فـؤادي داخـل

ألا ليتني أرشو سلاحي وبغلتي                      فيخبر قومي اليوم ما أنا قـائل

فإنا ثوينا في شعـوب وإنـهـم                      غزتهم جنود جـمة وقـبـائل

وإن جنود العجم بيني وبينـكـم                      فيا فلجي يا قوم إن لم تقاتـوا قال: فلما وضح لكسرى واستبان أن مال النعمان وحلقته وولده عند ابن مسعود بعث إليه كسرى رجلا يخبره أنه قال له: إن النعمان إنما كان عاملي، وقد استودعك ماله وأهل والحلقة ، فابعث بها إلي ولا تكلفني أن أبعث إليك ولا إلى قومك بالجنود، تقتل المقاتلة وتسبي الذرية. فبعث إليه هانئ : إن الذي بلغك باطل، وما عندي قليل ولا كثير ، وإن يكن الأمر كما قيل فإنما أنا أحد رجلين، إما رجل استودع أمانة، فهو حقيق أن يردها على من استودعه أياها ، ولن يسلم الحر أمانته. أو رجل مكذوب عليه، فليس ينبغي للملك أن يأخذه بقول عدو أو حاسد.

قال: وكانت الأعاجم قوما لهم حلم ، قد سمعوا ببعض علم العرب ، وعرفوا أن هذا الأمر كائن فيهم .

فلما ورد عليه كتاب هانئ بهذا حملته الشفقة أن يكون ذلك قد اقترب، فأقبل حتى قطع الفرات، فنزل غمر بني مقاتل . وقد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السواد ومنع هانئ إياه ما منعه.

 

 

صفحة : 2647

 

قال: ودعا كسرى إياس بن قبيصة الطائي، وكان عامله على عين النمر وما والاها إلى الحيرة ، وكان كسرى قد أطعمه ثلاثين قرية على شاطئ الفرات، فأتاه في صنائعه من العرب الذين كانوا بالحيرة، فاستشاره في الغارة على بكر بن وائل، وقال: ماذا ترى? وكم ترى أن نغزيهم من الناس? فقال له إياس: إن الملك لا يصلح أن يعصيه أحد من رعيته، وإن تطعني لم تعلم أحدا لأي شيء عبرت وقطعت الفرات، فيروا أن شيئا من أمر العرب قد كربك ، ولكن ترجع وتضرب عنهم، وتبعث عليهم العيون حتى ترى غرة منهم ثم ترسل حلبة من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم، فيوقعون بهم وقعة الدهر، ويأتونك بطلبتك. فقال له كسرى: أنت رجل من العرب، وبكر بن وائل أخوالك - وكانت أم إياس : أمامة بنت مسعود، أخت هانئ بن مسعود - فأنت تتعصب لهم، ولا تألوهم نصحا . فقال إياس: رأي الملك أفضل فقام إليه عمرو بن عدي بن زيد العبادي - وكان كاتبه وترجمانه بالعربية، في أمور العرب - فقال له: أقم أيها الملك - وابعث إليهم بالجنود يكفوك. فقام إليه النعمان بن زرعة بن هرمي، من ولد السفاح التغلبي، فقال : أيها الملك، إن هذا الحي من بكر بن وائل إذا قاظوا بذي قار تهافتوا تهافت الجراد في النار. فعقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر ، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلاف. وعقد للهامرز على ألف من الأساورة ، وعقد لخنابرين على ألف، وبعث معهم باللطيمة، وهي عير كانت تخرج من العراق، فيها البر والعطر والألطاف ، توصل إلى باذام عامله باليمن، وقال: إذا فرغتم من عدوكم فسيروا بها إلى اليمن، وأمر عمرو بن عدي أن يسير بها، وكانت العرب تخفرهم وتجيرهم حتى تبلغ اللطيمة اليمن . وعهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل ودنوا منها أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة، فإن أتوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهنا بما أحدث سفهاؤهم، فاقبلوا منهم، وإلا فقاتلوهم . وكان كسرى قد أوقع قبل ذلك ببني تميم، يوم الصفقة فالعرب وجلة خائفة منه . وكانت حرقة بنت حسان بن النعمان بن المنذر يومئذ في بني سنان، هكذا في هذه الرواية.

وقال ابن الكلبي: حرقة بنت النعمان ، وهي هند، والحرقة لقب، وهذا هو الصحيح. فقالت تنذرهم:

ألا أبلغ بني بكـر رسـولا                      فقد جد النفير بعنـقـفـير

فليت الجيش كلهم فـداكـم                      ونفسي والسرير وذا السرير

كأني حين جد بهـم إلـيكـم                      معلقة الذوائب بالـعـبـور

فلو أني أطقت لذاك دفـعـا                      إذن لدفعته بدمـي وزيري فلما بلغ بكر بن وائل الخبر سار هانئ بن مسعود حتى انتهى إلى ذي قار، فنزل به، وأقبل النعمان بن زرعة، وكانت أمه قلطف بنت النعمان بن معد يكرب التغلبي، وأمها الشقيقة بنت الحارث الوصاف العجلي ، حتى نزل على ابن أخته مرة بن عمرو بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن قيس بن سعد بن عجل، فحمد الله النعمان وأثنى عليه ثم قال: إنكم أخوالي وأحد طرفي، وإن الرائد لا يكذب أهله، وقد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس، وفرسان العرب، والكتيبتان: الشهباء والدوسر، وإن في هذا الشر خيارا. ولأن يفتدى بعضكم بعضا خير من أن تصطلموا ، فانظروا هذه الحلقة فادفعوها وادفعوا رهنا من أبنائكم إليه بما أحدث سفهاؤكم. فقال له القوم: ننظر في أمرنا. وبعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل، وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجهلتين.

قال الأثرم: جلهة الوادي: ما استقبلك منه واتسع لك . وقال ابن الأعرابي: جلهة الوادي: مقدمه، مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره، يقال: رأس أجله.

قال: وكان مرداس بن أبي عامر السلمي مجاورا فيهم يومئذ، فلما رأى الجيوش قد أقبلت إليهم حمل عياله فخرج عنهم، وأنشأ يقول يحرضهم بقوله:

أبلغ سراة بني بكر مغـلـغـلة                      إني أخاف عليهم سـربة الـدار

إني أرى الملك الهامرز منصلتـا                      يزجي جيادا وركبا غير أبـرار

لا تلقط البعر الحولي نسوتـهـم                      للجائزين على أعطان ذي قـار

فإن أبيتم فإني رافع ظـعـنـي                      ومنشب في جبال اللوب أظفاري

 

صفحة : 2648

 

 

وجاعل بيننا وردا غـواربـه                      ترمى إذا ما ربا الوادي بتيار ربا: ارتفع وطال ، وقوله: وردا غواربه: أراد البحر.

قال علي بن الحسين الأصفهاني : هذه الحكاية عندي في أمر مرداس بن أبي عامر خطأ ، لأن وقعة ذي قار كانت بعد هجرة النبي - صلى الله عليه وسلم وآله - وكانت بين بدر وأحد ومرداس بن أبي عامر، وحرب بن أمية أبو أبي سفيان ماتا في وقت واحد ، كانا مرا بالقرية ، وهي غيضة ملتفة الشجر، فأحرقا شجرها ليتخذاها مزرعة، فكانت تخرج من الغيضة حيات بيض فتطير حتى تغيب، ومات حرب ومرداس بعقب ذلك، فتحدث قومهما أن الجن قتلتهما إحراقهما منازلهم من الغيضة، وذلك قبل مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بحين. ثم كانت بي أبي سفيان وبين العباس بن مرداس منازعة في هذه القرية، ولهما في ذلك خبر ليس هذا موضعه. وأظن أن هذه الأبيات للعباس بن مرداس بن أبي عامر .

رجع الحديث إلى سياقته في حديث ذي قار.

قال: وجعلت بكر بن وائل حين بعثوا إلى من حولهم من قبائل بكر لا ترفع لهم جماعة إلا قالوا: سيدنا في هذه. فرفعت لهم جماعة، فقالوا : سيدنا في هذه، فلما دنو إذا هم بعبد عمرو بن بشر بن مرثد ، فقالوا: لا، ثم رفعت لهم أخرى، فقالوا: في هذه سيدنا، فإذا هو جبلة بن باعث بن صريم اليشكري، فقالوا: لا، فرفعت أخرى، فقالوا: في هذه سيدنا، فإذا هو الحارث بن وعلة بن مجالد الذهلي فقالوا: لا، ثم رفعت لهم أخرى، فقالوا: في هذه سيدنا، فإذا فيها الحارث بن ربيعة بن عثمان التيمي، من تيم الله، فقالوا: لا، ثم رفعت لهم أخرى أكبر مما كان يجيء ، فقالوا: لقد جاء سيدنا، فإذا رجل أصلع الشعر، عظيم البطن، مشرب حمرة، فإذا هو حنظلة بن ثعلبة بن سيار بن حيي بن حاطبة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل، فقالوا: يا أبا معدان، قد طال انتظارنا، وقد كرهنا أن نقطع أمرا دونك، وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاءنا، والرائد لا يكذب أهله، قال: فما الذي أجمع عليه رأيكم، واتفق عليه ملؤكم? قالوا: قال: إن اللخي أهون من الوهي وإن في الشر خيارا، ولأن يفتدي بعضكم بعضا خير من أن تصطلموا جميعا.

قال حنظلة: فقبح الله هذا رأيا، لا تجر أحرار فارس غرلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع الصوت . ثم أمر بقبته فضربت بوادي ذي قار، ثم نزل ونزل الناس فأطافو به، ثم قال لهانئ بن مسعود: يا أبا أمامة، إن ذمتكم ذمتنا عامة، وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا، فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك، فإن تظفر فسترد عليك، وإن تهلك فأهون مفقود.

فأمر بها فأخرجت، ففرقها بينهم، ثم قال حنظلة للنعمان: لولا أنك رسول ما أبت إلى قومك سالما. فرجع النعمان إلى أصحابه فأخبرهم بما رد عليه القوم، فباتوا ليلتهم مستعدين للقتال، وباتت بكر بن وائل يتأهبون للحرب.

فلما أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم، وأمر حنظلة بالظعن جميعا فوقفها خلف الناس، ثم قال: يا معشر بكر بن وائل، قاتلوا عن ظعنكم أو دعوا ، فأقبلت الأعاجم يسيرون على تعبئة، فلما رأتهم بنو قيس بن ثعلبة انصرفوا فلحقوا بالحي فاستخفوا فيه، فسمي:  حي بني قيس بن ثعلبة  قال: وهو على موضع خفي فلم يشهدوا ذلك اليوم.

وكان ربيعة بن غزالة السكوني، ثم التجيبي، يومئذ هو ، وقومه نزولا في بني شيبان، فقال: يا بني شيبان، أما لو أني ، كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العكم ، فقالوا: فأنت والله من أوسطنا ، فأشر علينا، فقال: لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها ، ولكن تكردسوا لهم كراديس ، فيشد عليهم كردوس، فإذا أقبلوا عليه شد الآخر، فقالوا: فإنك قد رأيت رأيا، ففعلوا.

فلما التقى الزحفان، وتقارب القوم قام حنظلة بن ثعلبة فقال: يا معشر بكر بن وائل، إن النشاب الذي مع الأعاجم يعرفكم، فإذا أرسلوه لم يخطئكم ، فعاجلوهم باللقاء ، وابدءوهم بالشدة.

ثم قام هانئ بن مسعود فقال: يا قوم، مهلك معذور خير من نجاء معرور وإن الحذر لا يدفع القدر، وإن الصبر من أسباب الظفر، المنية ولا الدنية، واستقبال الموت خير من استدباره، والطعن في الثغر خير وأكرم من الطعن في الدبر، يا قوم، جدوا فما من الموت بد، فتح لو كان له رجال، أسمع صوتا ولا أرى قوما، يا آل بكر، شدوا واستعدوا، وإلا تشدوا وتردوا.

 

 

صفحة : 2649

 

ثم قام شريك بن عمرو بن شراحيل بن مرة بن همام فقال: يا قوم، إنما تهابونهم أنكم ترونهم عند الحفاظ أكثر منكم، وكذلك أنتم في أعينهم ، فعليكم بالصبر، فإن الأسنة تردي الأعنة، يا آل بكر قدما قدما.

ثم قام عمرو بن جبلة بن باعث بن صريم اليشكري فقال:

يا قوم لا تغرركم هـذي الـخـرق                      ولا وميض البيض في الشمس برق

من لم يقاتل منكم هـذي الـعـنـق                      فجنبوه الراح واسقـوه الـمـرق ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته فقطعه، ثم تتبع الظعن يقطع وضنهن لئلا يفر عنهن الرجال ، فسمي يومئذ:  مقطع الوضين  .

والوضين: بطان الناقة.

قالوا: وكانت بنو عجل في الميمنة بإزاء خنابرين ، وكانت بنو شيبان في الميسرة بإزاء كتيبة الهامرز، وكانت أفناء بكر بن وائل في القلب ، فخرج أسوار من الأعاجم مسور ، في أذنيه درتان، من كتيبة الهامرز يتحدى الناس للبراز، فنادى في بني شيبان فلم يبرز له أحد حتى إذا دنا من بني يشكر برز له يزيد بن حارثة أخو بني ثعلبة بن عمرو فشد عليه الرمح، فطعنه فدق صلبه، وأخذ حليته وسلاحه ، فذلك قول سويد بن أبي كاهل يفتخر :

ومنا يزيد إذ تحدى جموعكـم                      فلم تقربوه، المرزبان المشهر

وبارزه منا غـلام بـصـارم                      حسام إذا لاقى الضريبة يبتر ثم إن القوم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس ، إلى أن زالت الشمس، فشد الحوفزان واسمه الحارث بن شريك - على الهامرز فقتله، وقتلت بنو عجل خنابرين ، وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا، وتبعتهم بكر بن وائل، فلحق مرثد بن الحارث بن ثور بن حرملة بن علقمة بن عمرو بن سدوس، النعمان بن زرعة، فأهوى له طعنا ، فسبقه النعمان بصدر فرسه فأفلته، فقال مرثد في ذلك:

وخيل تبارى للطعان شـهـدتـهـا                      فأغرقت فيها الرمح والجمع محجم

وأفلتني النعمان قـاب رمـاحـنـا                      وفوق قطاة المهر أزرق لـهـذم قال: ولحق أسود بن بجير بن عائذ بن شريك العجلي النعمان بن زرعة، فقال له: يا نعمان، هلم إلي، فأنا خير آسر لك ، وخير لك من العطش .

قال: ومن أنت? قال: الأسود بن بجير، فوضع يده في يده، فجز ناصيته، وخلى سبيله، وحمله الأسود على فرس له، وقال له: انج على هذه ، فإنها أجود من فرسك، وجاء الأسود بن بجير على فرس النعمان بن زرعة وقتل خالد بن يزيد البهراني ، قتله الأسود بن شريك بن عمرو، وقتل يومئذ عمرو بن عدي بن زيد العبادي الشاعر، فقال أمه ترثيه:

ويح عمرو بن عدي من رجل                      حان يوما بعد ما قيل كـمـل

كان لا يعقل حـتـى مـا إذا                      جاء يوم يأكل الناس عـقـل

أيهم دلاك عمـرو لـلـردى                      وقديما حين المـرء الأجـل

ليت نعمان عـلـينـا مـلـك                      وبنـي لـي حـي لـم يزل

قد تـنـظـرنـا لـغـاد أوبة                      كان لو أغنى عن المرء الأمل

بان منه عضد عـن سـاعـد                      بؤس للدهر ويؤسى للرجـل قال: وأفلت إياس بن قبيصة على فرس له، كانت عند رجل من بني تيم الله، يقال له:  أبو ثور  ، فلما أراد إياس أن يغزوهم أرسل إليه أبو ثور بها، فنهاه أصحابه أن يفعل، فقال: ولله ما في فرس إياس ما يعز رجلا ولا يذله، وما كنت لأقطع رحمه فيها ، فقال إياس:

غذاها أبو ثور فلما رأيتـهـا                      دخيس دواء لا أضيع غذاؤها

فأعددتها كفأ لـيوم كـريهة                      إذا أقبلت بكر تجر رشاؤها قال: وأتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقية يومهم وليلتهم ، حتى أصبحوا من الغد، وقد شارفوا السواد ودخلوه ، فذكروا أن مائة من بكر بن وائل، وسبعين من عجل، وثلاثين من أفناء بكر بن وائل، أصبحوا وقد دخلوا السواد في طلب القوم، فلم يلفت منهم كبير أحد وأقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسموها بينهم، وقسموا تلك اللطائم بين نسائهم، فذلك قول الديان ، بن جندل:

إن كنت ساقية يوما علـى كـرم                      فاسقي فوارس من ذهل بن شيبانا

واسقي فوارس حاموا عن ديارهم                      واعلي مفارقهم مسكا وريحانـا

 

صفحة : 2650

 

قال: فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه، فلما أتاه إياس سأله عن الخبر، فقال: هزمنا بكر بن وائل، فأتيناك بنسائهم، فأعجب بذلك كسرى وأمر له بكسوة، وإن إياسا استأذنه عند ذلك، فقال: إن أخي مريض بعين التمر، فأردت أن آتيه ، وإنما أراد أن يتنحى عنه، فأذن له كسرى، فترك فرسه  الحمامة  وهي التي كانت عند أبي ثور بالحيرة ، وركب نجيبة فلحق بأخيه، ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق، فسأل: هل دخل على الملك أحد? فقالوا: نعم، إياس، فقال: ثكلت إياسا أمه وظن أنه قد حدثه بالخير، فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم وقتلهم، فأمر به فنزعت كتفاه .

قال: وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، فلما بلغه ذلك قال: هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا.

قال ابن الكلبي : وأخبرني أبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، قال: ذكرت وقعة ذي قار عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:  ذلك يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا  وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلت له الوقعة وهو بالمدينة، فرفع يديه فدعا لبني شيبان، أو لجماعة ربيعة بالنصر، ولم يزل يدعو لهم حتى أري هزيمة الفرس.

وروي أنه قال:  إيها بني ربيعة، اللهم انصر بني ربيعة  فهم إلى الآن إذا حاربوا دعوا بشعار النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعوته لهم، وقال قائلهم:  يا رسول الله وعدك  ، فإذا دعوا بذلك نصروا.

وقال أبو كلبة التيمي يفخر بيوم ذي قار:

لولا فـوارس لا مـيل ولا عـزل                      من اللهازم ما قظتـم بـذي قـار

ما زلت مفترسا أجـسـاد أفـتـية                      تثير أعطافها مـنـهـا بـآثـار

إن الفوارس من عجل هم أنـفـوا                      من أن يخلوا لكسرى عرصة الدار

لاقوا فوارس من عجل بشكتـهـا                      ليسوا إذا قلصت حرب بأغـمـار

قد أحسنت ذهل شيبان وما عدلـت                      في يوم ذي قار فرسان ابن سـيار

هم الذين أتوهم عن شـمـائلـهـم                      كمـا تـلـبـس وراد بـصـدار فأجابه الأعشى فقال:

أبلغ أبا كلبة التيمي مألكةفأنت من معشر والله أشرار

شيبان تدفع عنك الحرب آونة                      وأنـت تـنـبـح نـبـح الـكـلـب فـي الـغـار وقال بكير الأصم :

إن كنت ساقية المدامة أهلهـا                      فاسقي على كرم بني همـام

وأبا ربيعة كلها ومـحـلـمـا                      سبقوا بـأنـجـد غـاية الأيام

زحفوا بجمع لا ترى أقطـاره                      لقحت به حرب لغير تـمـام

عرب ثلاثة ألـف وكـتـيبة                      ألفان عجم من بني الـفـدام

ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم                      بالمشرفي على شئون الهـام

وغدا ابن مسعود فأوقع وقـعة                      ذهبت لهم في معرق وشـآم وقال الأعشى:

فدى لبني ذهل بن شيبان ناقتي                      وراكبها يوم اللقاء وقـلـت

هم ضربوا بالحنو جنو قراقر                      مقدمة الهامرز حتى تولـت وقال بعض شعراء ربيعة في يوم ذي قار:

ألا من لليل لا تغور كواكبـه                      وهم سري بين الجوانح جانبه

ألا هل أتاها أن جيشا عرمرما                      بأسفل ذي قار أبيدت كتائبـه

فما حلقة النعمان يوم طلبتهـا                      بأقرب من نجم السماء تراقبه وقال الأعشى:

حلفت بالملح والرماد وبالعز                      ى وباللات تسلم الحلـقـه

حتى يظل الهمام منـجـدلا                      ويقرع النبل طرة الدرقـه وقال ابن قرد الخنزير التيمي :

ألا أبلغ بنـي ذهـل رسـولا                      فلا شتما أردت ولا فـسـادا

هزرت الحاملين لكي يعودوا                      إذا يوم من الحـدثـان عـادا

وجدت الرفد رفد بني لـجـيم                      إذا ما قـلـت الأرفـاد زادا

هم ضربوا الكتائب يوم كسرى                      أمام الناس إذ كرهوا الجلادا

وهم ضربوا القباب ببطن فلج                      وذادوا عن محارمـنـا ذيادا وقال الأعشى في ذلك:

لو أن كل معـد كـان شـاركـنـا                      في يوم ذي قار ما أخطاهم الشرف

 

صفحة : 2651

 

 

لما أتونا كان الـلـيل يقـدمـهـم                      مطبق الأرض تغشاها لهم سدف

بطارق وبـنـو مـلـك مـرازبة                      من الأعاجم في آذانها النـطـف

من كل مرجانة في البحر أحرزها                      تيارها ووقاها طينها الـصـدف

وظعننا خلفنا تجري مدامـعـهـا                      أكبادها وجلا مما تـرى تـجـف

يحسرن عن أوجه قد عاينت عبـرا                      ولاحها غبرة ألوانـهـا كـسـف

ما في الخدود صدود عن وجوههم                      ولا عن الطعن في اللبات منحرف

عودا على بدئهم ما إن يلبـثـهـم                      كر الصقور بنات الماء تختطـف

لما أمالوا إلى الـنـشـاب أيديهـم                      ملنا ببيض فظل الهام يقتـطـف

وخيل بكر فما تنفك تطحـنـهـم                      حتى تولوا وكاد اليوم ينتـصـف وقال حريم بن الحارث التيمي:

وإن لجيما أهـل عـز وثـروة                      وأهل أياد لا ينال قـديمـهـا

هم منعوا في يوم قار نسـاءنـا                      كما منع الشول الهجان قرومها

إذا قيل يوما أقدموا يتقـدمـوا                      وهل يمنع المخزاة إلا صميمها قال: ولم يزل قيس بن مسعود في سجن كسرى بساباط، حتى مات فيه.

 

خليلي ما صبري على الزفرات                      وما طاقتي بالهم والعـبـرات

تساقط نفسي كـل يوم ولـيلة                      على إثر ما قد فاتها حسـرات الشعر: للقحيف العقيلي. والغناء: لإبراهيم الموصلي ، رمل بالوسطى ، عن عمرو بن بانة ، وذكر الهشامي أن الرمل لعلوية، وأن لحن إبراهيم من الثقيل الأول بالوسطى .

 

أخبار القحيف ونسبه

القحيف بن حمير ، أحد بني قشير بن مالك بن خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة.

شاعر مقل من شعراء الإسلام.

وكان يشبب بخرقاء التي كان ذو الرمة يشبب بها .

فأخبرني محمد بن خلف بن وكيع ، وعمي، قالا: حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك، عن العدوي، عن أبي الحسن المدائني، عن الصباح بن الحجاج عن أبيه ، قال: مررت بخرقاء وهي بفلج فقالت: أقضيت حجك وأتممته? فقلت: نعم، فقالت: لم تفعل شيئا، فقلت: ولم? فقالت: لأنك لم تلمم بي ولا سلمت علي، أو ما سمعت قول ذي الرمة :

تمام الحج أن تقف المطايا                      على خرقاء واضعة اللثام فقال: هيهات يا خرقاء، ذهب ذاك منك، فقالت: لا تقل ذاك، أما سمعت قول القحيف عمك :

وخرقاء لا تـزداد إلا مـلاحة                      ولو عمرت تعمير نوح وجلت أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال: حدثني أبو الشبل المعدي قال: نسب ذو الرمة بخرقاء البكائية، وكانت أصبح من القبس ، وبقيت بقاء طويلا، فنسب بها القحيف العقيلي فقال:

وخرقاء لا تـزداد إلا مـلاحة                      ولو عمرت تعمير نوح وجلت أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: حدثني أبو غسان دماذ قال: كبرت خرقاء حتى جاوزت تسعين سنة، وأحبت أن تنفق ابنتها وتخطب، فأرسلت إلى القحيف العقيلي، وسألته أن يشبب بها، فقال:

لقد أرسلت خرقاء نحوي جريها                      لتجعلني خرقاء ممن أضلـت

وخرقاء لا تـزداد إلا مـلاحة                      ولو عمرت تعمير نوح وجلت وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني: كان القحيف العقيلي يتحدث إلى امرأة من عبس، وقد جاورهم وأقام عندهم شهرا وهام بها عشقا، وكان يخبرها أن له نعما ومالا، وهويته العبسية، وكان من أجمل الرجال وأشطهم ، فلما طال عليها واستحيا من كذبه إياها في ماله ارتحل عنهم، وقال:

تقول لي أخت عبس: ما أرى إبلا                      وأنت تزعم من والاك صـنـديد

فقلت: يكفي مكان اللوم مطـرد                      فيه القتير بسمر القين مـشـدود

وشكة صاغها وفـراء كـامـلة                      وصارم من سيوف الهند مقـدود

إني ليرعى رجال لي سوامـهـم                      لي العقائل منها والمـقـاحـيد وقال أبو عمرو:

 

صفحة : 2652

 

كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولى علي بن المهاجر بن عبد الله الكلابي اليمامة. فلما قتل الوليد بن يزيد جاءه المهير بن سلمى الحنفي فقال له: إن الوليد قد قتل، وإن لك علي حقا، وكان أبوك لي مكرما، وقد قتل صاحبك ، فاختر خصلة من ثلاث: إن شئت أن تقيم فينا وتكون كأحدنا فافعل، وإن شئت أن تتحول عنا إلى دار عمك، فتنزلها أنت ومن معك إلى أن يرد أمر الخليفة المولى فتعمل بما يأمر به، فافعل. وإن شئت فخذ من المال المجتمع ما شئت والحق بدار قومك.. فأنف علي بن المهاجر من ذلك ولم يقبله، وقال للمهير: أنت تعزلني يا بن اللخناء ? فخرج المهير مغضبا، والتف معه أهل اليمامة، وكان مع علي ستمائة رجل من أهل الشام ومثلهم من قومه وزواره، فدعاهم المهير وذكر لهم رأيه، فأبوا عليه وقاتلوه، وجاء سهم عائر فوقع في كبد صانع من أهل اليمامة، فقال المهير: احملوا عليهم، فحملوا عليهم فانهزموا، وقتل منهم نفر، ودخلوا القصر وأغلقوا الباب وكان من جذوع، فدعا المهير بالسعف فأحرقه، ودخل أصحابه فأخذوا ما في القصر، وقام عبد الله بن النعمان القيسي في نقر من قومه فحملوا بيت المال ومنعوا منه، فلم يقدر عليه المهير، وجمع المهير جيشا يريد أن يغزو بهم بني عقيل وبني كلاب، وسائر بطون بني عامر ، فقال القحيف بن حمير لما بلغه ذلك :

أمن أهل الأراك عفت ربوع                      نعم سقيا لهم لو تستـطـيع

زيارتهم، ولكن أحضرتـنـا                      هموم ما يزال لها مشـيع غنى في هذين البيتين إبراهيم، فيما ذكره هو في كتابه، ولم يذكر طريقته:

كأن البين جرعني زعافـا                      من الحيات مطعمه فظيع

وماء قد وردت على جباه                      حمام حائم وقطا وقـوع ومما يغنى فيه من هذه القصيدة:

جعلت عمامتي صلة لدلوي                      إليه حين لم ترد النسـوع

لأسقي فتية ومنـقـبـات                      أضر بنقيها سفر وجـيع قال أبو الفرج : غنى في هذين البيتين سليم، خفيف رمل بالوسطى، ذكر ذلك حبش :

لقد جمع المهير لنا فقلـنـا:                      أتحسبنا تروعنا الجـمـوع?

سترهبنا حنـيفة إن رأتـنـا                      وفي أيماننا البيض اللمـوع

عقيل تغتزي وبنـو قـشـير                      توارى عن سواعدها الدروع

وجعدة والحريش ليوث غاب                      لهم في كل معركة صريع

فنعم القوم في اللزبات قومي                      بنو كعب إذا جحد الـربـيع

كهول معقل الطراد فـيهـم                      وفتيان غـطـارفة فـروع

فمهلا يا مهير فأنت عـبـد                      لكعب سامع لهم مـطـيع قالت: وبعث المهير رجلا من بني حنيفة يقال له: المندلف بن إدريس الحنفي، إلى الفلج، وهو منزل لبني جعدة، وأمره أن يأخذ صدقات بني كعب جميعا، فلما بلغهم خبره أرسلوا إلى أطرافهم يستصرخون عليه ، فأتاهم أبو لطيفة بن مسلمة العقيلي في عالم من عقيل، فقتلوا المندلف وصلبوه، فقال القحيف في ذلك:

أتانا بالعقيق صريخ كعـب                      فحن النبع والأسل النهـال

وحالفنا السيوف ومضمرات                      سواء هن فينا والـعـيال

تعادى شزبا مثل السعالـي                      ومن زير الحديد لها نعال وقال أيضا، ويروى لنجدة الخفاجي:

لقد منع الفرائض عن عقيل                      بطعن تحت ألوية وضرب

ترى منه المصدق يوم وافى                      أطل على معاشره بصلب يقول لي المفتي: قال أبو عمرو في أخباره: ونظر بعض فقهاء أهل مكة إلى القحيف، وهو يحد النظر إلى امرأة، فنهاه عن ذلك، وقال له: أما تتقي الله ? تنظر هذا النظر إلى غير حرمة لك وأنت محرم ? فقال القحيف:

أقسمت لا أنسى وإن شطت النوى                      عرانينهن الشم والأعين النـجـلا

ولا المسك من أعطافهن ولا البرى                      ضممن وقد لوينها قضبـا خـدلا

يقول لي المفتي وهـن عـشـية                      بمكة يلمحن المهدبة السـحـلا :

تق الله لا تنظر إليهـن يا فـتـى                      وما خلتني في الحج ملتمسا وصلا

وإن صبا ابن الأربعـين لـسـبة                      فكيف من اللائي مثلن بنا مـثـلا

عواكف بالبيت الحـرام وربـمـا                      رأيت عيون القوم من نحوها نجلا

 

صفحة : 2653

 

 

كففنا عن بني ذهـل                      وقلنا: القوم إخـوان

عسى الأيام أن يرجع                      ن قوما كالذي كانوا

فلما صرح الـشـر                      وأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوا                      ن دناهم كما دانـوا الشعر: للفند الزماني، والغناء: لعبد الله بن دحمان، خفيف رمل بالبنصر، عن بذل والهشامي وابن المكي.

وتمام هذا الشعر :

شددنا شـدة الـلـيث                      غدا والليث غضبـان

بضرب فيه تفـجـيع                      وتـأييم وإرنـــان

وطعن كفـم الـزق                      غذا والـزق مـلآن

وفي العدوان للعـدوا                      ن توهـين وإقـران

وبعض الحلم عند الجه                      ل لـلـذلة إذعـان

وفي الشر نجاة حـي                      ن لا ينجيك إحسـان قوله: دناهم كما دانوا، أي جزيناهم .

ومثله قول الآخر:

إنا كذاك ندين الناس بالدين والتأييم : ترك الناس أيامى. والإرنان والرنة: البكاء والعويل.

والإقران: الطاقة للشيء، قال الله عز وجل:  وما كنا له مقرنين  أي مطيقين.

 

أخبار الفند الزماني ونسبه

الفند: لقب غلب عليه، شبه بالفند من الجبل، وهو القطعة العظيمة ، لعظم خلقه.

واسمه: شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

وكان أحد فرسان ربيعة المشهورين المعدودين، وشهد حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة السنة ، فأبلى بلاء حسنا، وكان مشهده في يوم التحالق الذي يقول فيه طرفة:

سائلوا عنا الذي يعرفـنـا                      بقوانا يوم تحلاق اللـمـم

يوم تبدي البيض عن أسؤقها                      وتلف الخيل أعراج النعـم وقد مضى خبره في مقتل كليب .

فأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال: أرسلت بنو شيبان في محاربتهم بني تغلب إلى بني حنيفة يستنجدونهم ، فوجهوا إليهم بالفند الزماني في سبعين رجلا ، وأرسلوا إليهم إنا قد بعثنا إليكم ألف رجل .

وقال ابن الكلبي: لما كان يوم التحالق أقبل الفند الزماني إلى بني شيبان، وهو شيخ كبير قد جاوز مائة سنة، ومعه بنتان له شيطانتان من شياطين الإنس ، فكشفت إحداهما عنها وتجردت، وجعلت تصيح ببني شيبان ومن معهم من بني بكر :

وعا وعا وعا وعا .

حر الجواد والتظى .

وملئت منه الربا .

يا حبذا يا حبذا.

الملحقون بالضحى . ثم تجردت الأخرى وأقبلت تقول:

إن تقبلوا نعانـق                      ونفرش النمارق

أو تدبروا نفارق                      فراق غير وامق قال: والتقى الناس يومئذ، فأصعد عوفد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة ، ابنته على جمل له في ثنية قضة ، حتى إذا توسطها ضرب عرقوبي الجمل، ثم نادى:

أنا البرك أنا البرك

أنزل حيث أدرك ثم نادى: ومحلوفة لا يمر بي رجل من بكر بن وائل إلا ضربته بسيفي هذا، أفي كل يوم تفرون فيعطف القوم? فقاتلوا حتى ظفروا فانهزمت تغلب.

قال ابن الكلبي: ولحق الفند الزماني رجلا من بني تغلب يقال له: مالك بن عوف، قد طعن صبيا من صبيان بكر بن وائل، فهو في رأس قناته، وهو يقول: يا ويس أم الفرخ، فطعنه الفند وهو وراءه ردف له فأنفذها جميعا وجعل يقول:

أيا طعنة مـا شـيخ                      كبير يفـن بـالـي

تفتـيت بـهـا إذ ك                      ره الشكة أمثـالـي

تقيم المأتم الأعـلـى                      على جهد وإعـوال

كجيب الدفنس الورها                      ء ريعت بعد إجفال ويروى: قد ريعت بإجفال .

 

أخبار عبد الله بن دحمان

عبد الله بن دحمان الأشقر المغني.

وقد تقدم خبر أبيه وأخيه الزبير .

وكان عبد الله في جنبة إبراهيم بن المهدي ومتعصبا له، وكان أخوه الزبير في جنبة إسحاق الموصلي ومتعصبا له، فكان كل واحد منهما يرفع من صاحبه ويشيد بذكره فعلا الزبير بتقديم إسحاق له، لتمكن إسحاق وقبول الناس منه، ولم يرتفع عبد الله بذكر إبراهيم له ، مع غض إسحاق منه، وكان الزبير على كل حال يتقدم أخاه عبد الله.

 

 

صفحة : 2654

 

فأخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد، عن أبيه، قال: كان أبي كثيرا ما يقول: ما رأيت أقل عقلا ومعرفة ممن يقول: إن دحمان كان فاضلا، والله ما يساوي غناؤه كله فلسين ، وأشبه الناس به صوتا وصنعة وبلادة وبردا : ابنه عبد الله، ولكن المحسن - والله - المجمل المؤدي الضارب المطرب: ابنه الزبير.

وقال يوسف بن إبراهيم: كان أبو إسحاق يؤثر عبد الله بن دحمان ويقدمه، وإذا صنع صوتا عرضه على أبي إسحاق فيقومه له ويصلحه، مضادة لأخيه الزبير في أمره، لميل الزبير إلى إسحاق وتعصبه له، وأوصله إلى الرشيد مع المغنين، عدة مرات، أخرج له في جميعها جائزة.

 

أقول لما أتاني ثـم مـصـرعـه                      لا يبعد الرمح ذو النصلين والرجل

التارك القرن مصفرا أنـامـلـه                      كأنه من عقار قـهـوة ثـمـل

ليس بعل كبـير لا شـبـاب لـه                      لكن أثيلة صافي الوجه مقتـبـل

يجيب بعد الكرى لـبـيك داعـيه                      مجذامة لهواه قلـقـل عـجـل قوله: لا يبعد الرمح، يعني ابنه الذي رثاه، شبهه بالرمح في نفاذه وحدته.

والنصلان : السنان والزج.

والرجل : يعني به ابنه أيضا من الرجلة ، يصفه بها، أو أنه عنى: لا يبعد الرجل ورمحه.

والعل: الكبير السن الصغير الجسم، ويقال أيضا للقراد: عل.

والمقتبل: المقبل .

وقوله: مجذامة لهواه، يعني أنه يقطع هواه ولا يتبعه فيما يغض من قدره.

وقلقل: خفيف سريع، والمتقلقل: الخفيف .

الشعر للمتنخل الهذلي. والغناء: لمعبد، وله فيه لحنان: أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل الأول، بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق، والآخر خفيف ثقيل بالبنصر، عن عمرو.

وذكر الهشامي أن فيه للغريض لحنا من الثقيل ، ابتداؤه:

ليس بعل كبير لا شباب له الذي بعده: إن لجميلة فيه خفيف ثقيل. وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج، وأظنه ليحيى المكي .

وقال حبش: فيه لعبد الله بن العباس ثقيل أول بالبنصر.

 

أخبار المتنخل ونسبه

المتنخل لقب، واسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن سويد بن حبيش ، بن خناعة بن الديل بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار.

هذه رواية ابن الكلبي وأبي عمرو.

وروى السكري عن الرياشي عن الأصمعي، وعن ابن حبيب، عن أبي عبيدة وابن الأعرابي: أن اسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن حبيش بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل، ويكنى أبا أثيلة.

من شعراء هذيل فحولهم وفصحائهم.

وهذه القصيدة يرثي بها ابنه أثيلة، قتلته بنو سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر.

وكان من خبر مقتله فيما ذكر أبو عمرو الشيباني: أنه خرج في نفر من قومه يريد الغارة على فهم، فسلكوا النجدية ، حتى إذا بلغوا السراة أتاه رجل فقال: أين تريدون? قالوا : نريد فهما فقال: ألا أدلكم على خير من ذلكم ، وعلى قوم دارهم خير من دار فهم ? هذه دار بني حوف عندكم، فانصبوا عليهم على الكداء حتى تبيتوا بني حوف. فقبلوا منه وانحرفوا عن طريقهم، وسلكوا في شعب في ظهر الطريق حتى نفذوه، ثم سلكوا على السمرة، فمروا بدار  بني قريم  بالسرو وقد لصقت سيوفهم بأغمادهم من الدم، فوجدوا إياس بن المقعد في الدار، وكان سيدا، فقال: من أين أقبلتم? فقالوا: أتينا بني حوف، فدعا لهم بطعام وشراب، حتى إذا أكلوا وشربوا دلهم على الطريق وركب معهم، حتى أخذوا سنن قصدهم، فأتوا بني حوف، وإذا هم قد اجتمعوا مع بطن من فهم للرحيل عن دارهم فلقيهم أول من الرجال على الخيل فعرفوهم، فحملوا عليهم وأطردوهم ورموهم، فأثبتوا أثيلة جريحا ومضوا لطيتهم. وعاد إليه أصحابه فأدركوه ولا تحامل به، فأقاموا عليه حتى مات، ودفنوه في موضعه.

فلما رجعوا سألهم عنه المتنخل ، فدامجوه وستروه.

ثم أخبره بعضهم بخبره، فقال يرثيه:

ما بال عينك تبكي دمعها خضـل                      كما وهي سرب الأخراب منبزل

لا تفتأ الدهر من سـح بـأربـعة                      كأن إنسانها بالصاب مكـتـحـل

تبكي على رجل لم تبـل جـدتـه                      خلى عليها فجاجا بينهـا خـلـل

وقد عجبت وهل بالدهر من عجب                      أني قتلت وأنت الحازم البطـل?

 

صفحة : 2655

 

 

ويل أمه رجلا تأبى به غبنا                      إذا تجرد لا خال ولا بخل - خال: من الخيلاء. ويروى: خذل -.

 

السالك الثغرة اليقظان كـالـئهـا                      مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل

والتارك القرن مصفرا أنـامـلـه                      كأنه من عقار قـهـوة ثـمـل

مجدلا يتـسـقـى جـلـده دمـه                      كما يقطر جذع الدومة القـطـل

ليس بعل كبـير لا شـبـاب بـه                      لكن أثيلة صافي الوجه مقتـبـل

يجيب بعد الكرى لـبـيك داعـيه                      مجذامة لهواه قلـقـل عـجـل

حلو ومر كعطف القدح مـرتـه                      في كل آن أتاه اللـيل ينـتـعـل

فاذهب فأي فتى في الناس أحرزه                      من حتفه ظلم دعـج ولا جـبـل

فلو قتلت ورجلي غير كـارهة ال                      إدلاج فيها قبيض الشد والنـسـل

إذن لأعملت نفسي في غزاتـهـم                      أو لابتعثت به نوحـا لـه زجـل

أقول لما أتاني الـنـاعـيان بـه:                      لا يبعد الرمح ذو النصلين والرجل

رمح لنا كان لم يفلل نـنـوء بـه                      توفى به الحرب والعزاء والجلل

رياء شماء لا يدنو لـقـلـتـهـا                      إلا السحاب وإلا النوب والسـبـل وقال أبو عمرو الشيباني: كان عمرو بن عثمان، أبو المتنخل يكنى أبا مالك، فهلك، فرثاه المتنخل فقال:

ألا من ينادى أبا مالـك                      أفي أمرنا أمره أم سواه

فوالله ما إن أبو مـالـك                      بوان ولا بضعيف قواه

ولا بـألـد لـه نـازع                      يعادي أخاه إذا ما نهـاه

ولـكـنـه هـين لـين                      كعالية الرمح عرد نساه

إذا سدته سدت مطواعة                      ومهما وكلت إليه كفاه

أبو مالك قاصر فقـره                      على نفسه ومشيع غناه حدثني أبو عبيد الصيرفي قال: حدثنا الفضل بن الحسن البصري قال: حدثنا أحمد بن راشد قال: حدثني عمي سعيد بن هيثم قال: كان أبو جعفر محمد بن علي - عليهما السلام - إذا نظر إلى أخيه زيد تمثل:

لعمرك ما إن أبو مالك                      بواه ولا بضعيف قواه

ولا بـألـد لـه نـازع                      يعادي أخاه إذا ما نهاه

ولـكـنـه هـين لـين                      كعالية الرمح عرد نساه

إذا سدته سدت مطواعة                      ومهما وكلت إليه كفاه

أبو مالك قاصر فقـره                      على نفسه ومشيع غناه ثم يقول:  لقد أنجبت أم ولدتك يا زيد، اللهم اشدد أزري بزيد  .

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال: حدثنا الرياشي، عن الأصمعي قال: أجود طائية قالتها العرب قصيدة المتنخل:

عرفت بأجدث فنطف عرق                      علامات كتحبير النـمـاط

كأن مزاحف الحيات فيهـا                      قبيل الصبح أثار السـياط في هذين البيتين غناء .

 

عجبت بسعي الدهر بيني وبينهـا                      فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

فيا هجر ليلى قد بلغت بي المدى                      وزدت على ما لم يكن بلغ الهجر

ويا حبها زدني جوى كـل لـيلة                      ويا سلوة الأيام موعدك الحشـر

أما والذي أبكى وأضحك والـذي                      أمات وأحيا والذي أمره الأمـر

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى                      أليفين منها لا يروعهما الزجـر الشعر: لأبي صخر الهذلي. والغناء: لمعبد في الأول والثاني من الأبيات، ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو، ولابن سريج في الرابع والخامس ثقيل أول ولعريب فيهما أيضا ثقيل أول أخر، وهو الذي فيه استهلال، وللواثق فيهما رمل، ولابن سريج أيضا ثاني ثقيل في الثالث وما بعده، عن أحمد بن المكي، وذكر ابن المكي أن الثقيل الثاني بالوسطى لجده يحيى المكي.

 

أخبار أبي صخر الهذلي ونسبه

هو عبد الله بن سلم السهمي، أحد بني مرمض .. وهذا أكثر ما وجدته من نسبه في نسخة السكري، وهي أتم النسخ مما يأثره عن الرياشي عن الأصمعي، وعن الأثرم عن أبي عبيدة، وعن ابن حبيب، وعن ابن الأعرابي.

 

 

صفحة : 2656

 

وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية، وكان مواليا لبني مروان ، متعصبا لهم، وله في عبد الملك بن مروان مدائح ، وفي أخيه عبد العزيز، وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد.

وحبسه ابن الزبير إلى أن قتل.

فأخبرني يحيى بن أحمد بن الجون، مولى بني أمية - لقيته بالرقة - قال: حدثني الفيض بن عبد الملك قال: حدثني مولاي عن أبيه، عن مسلمة بن الوليد القرشي، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: لما ظهر عبد الله الزبير بالحجاز وغلب عليها، بعد موت يزيد بن معاوية، وتشاغل بنو أمية بالحرب بينهم في مرج راهط وغيره، دخل عليه أبو صخر الهذلي، في هذيل .

وقد جاءوا ليقبضوا عطاءهم ، وكان عارفا بهواه في بني أمية، فمنعه عطاءه، فقال: علام تمنعني حقا لي؛ وأنا امرؤ مسلم، ما أحدثت في الإسلام حدثا ولا أخرجت من طاعة يدا? قال: عليك بني أمية فاطلب عندهم ، عطاءك.

قال: إذن أحدهم سباطا أكفهم، سمحة أنفسهم، بذلاء لأموالهم وهابين لمجتديهم، كريمة أعراقهم، شريفة أصولهم، زاكية فروعهم، قريبا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسبهم وسبهم، ليسوا إذا نسبوا بأذناب ولا وشائظ ولا أتباع، ولا هم في قريش كفقعة القاع، لهم السؤدد في الجاهلية، والملك في الإسلام، لا كمن لا يعد في عيرها ولا نفيرها ، ولا حكم آباؤه في نقيرها ولا قطميرها ، ليس من أحلافها المطيبين ، ولا من ساداتها المطعمين، ولا من جودائها الوهابين، ولا من هاشمها المنتخبين، ولا عبد شمسها المسودين، وكيف تقابل الرؤوس بالأذناب? وأين النصل من الجفن? والسنان من الزج? والذنابى من القدامى? وكيف يفضل الشحيح على الجواد، والسوقة على الملك، والمجيع بخلا على المطعم فضلا? فغضب ابن الزبير حتى ارتعدت فرائصه، وعرق جبينه، واهتز من قرنه إلى قدمه وامتقع لونه، ثم قال له : يا بن البوالة على عقبيها، يا جلف، يا جاهل، أما والله لولا الحرمات الثلاث: حرمة الإسلام، وحرمة الحرم، وحرمة الشهر الحرام، لأخذت الذي في عيناك.

ثم أمر به إلى سجن عارم ، فحبس به مدة، ثم استوهبته هذيل ومله بين قريش خؤولة في هذيل، فأطلقه بعد سنة وأقسم ألا يعطيه عطاء مع المسلمين أبدا.

فلما كان عام الجماعة وولي عبد الملك وحج، لقيه أبو صخر فلما رآه عبد الملك قربه وأدناه، وقال له: إنه لم يخف علي خبرك  مع الملحد  ولا ضاع لك عندي هواك وموالاتك ؛ فقال: أما إذ شفى الله منه نفسي ، ورأيته قتيل سيفك؛ وصريع أوليائك، مصلوبا مهتوك الستر، مفرق الجمع ، فما أبالي ما فاتني من الدنيا.

ثم استأذنه أبو صخر في الإنشاد، فأذن له، فمثل بين يديه قائما ، ولأنشأ يقول :

عفت ذا عرق عصلها فرئامـهـا                      فدهناؤها وحش أجلى سوامـهـا

على أن مرسى خيمة خف أهلهـا                      بأبطح محلال وهيهات عامـهـا

إذا اعتلجت فيها الرياح فأدرجـت                      عشيا جرى في جانبيها قمامـهـا

وإن معاجي في الديار وموقـفـي                      بدارسة الربعين بال ثمـامـهـا

لجهل ولكني أسـلـي ضـمـانة                      يضعف أسرار الفؤاد سقامـهـا

فأقصر فلا ما قد مضى لك راجع                      ولا لذة الـدنـيا يدوم دوامـهـا

وفد أمير المؤمنين الـذي رمـى                      بجأواء جمهور تسيل إكـامـهـا

من أرض قرى الزيتون مكة بعدما                      غلبنا عليها واستحل حـرامـهـا يقول: رمى مكة بالرجال من أهل الشام، وهي أرض الزيتون .

 

وإذا عاث فيها الناكثون وأفـسـدوا                      فخيفت أقاصيها وطار حمامـهـا

فشج بهم عرض الفلاة تعـسـفـا                      إذ الأرض أخفى مستواها سوامها

فصبحتهم بالخيل تزحف بالـقـنـا                      وبيضاء مثل الشمس يبرق لامهـا

لهم عسكر ضافي الصفوف عرمرم                      وجمهورة يثني العدو انتقـامـهـا

فطهر منهم بطـن مـكة مـاجـد                      أبي الضيم والميلاء حين يسامهـا

فدع ذا وبشر شاعـري أم مـالـك                      بأبيات ما خزي طويل عرامـهـا شاعري أم مالك: رجلان من كنانة كانا مع ابن الزبير، يمدحانه ويحرضانه على أبي صخر، لعداوة كانت بينهما وبينه .

 

 

صفحة : 2657

 

 

فإن تبد تجدع منـخـراك بـمـدية                      مشرشرة حرى حديد حسامـهـا

وإن تخف عنا أو تخف من أذاتنـا                      تنوشك نابا حـية وسـمـامـهـا

فلولا قريش لاسترقت عجـوزكـم                      وطال على قطبي رحاها احتزامها قال: فأمر له عبد الملك بما فاته من العطاء ، ومثله صلة من ماله، وكساه وحمله.

ونسخت من كتاب أبي سعيد السكري، عن محمد بن حبيب، عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة قالا: كان أبو صخر الهذلي منقطعا إلى أبي خالد عبد العزيز بن عبد الله بن أسيد ، مداحا له، فقال له يوما: ارثني يا أبا صخر، وأنا حي ، حتى أسمع كيف تقول، وأين مراثيك لي بعدي من مديحك إياي في حياتي? فقال: أعيذك بالله يا أيها الأمير من ذلك ، بل يبقيك الله ويقدمني قبلك، فقال: ما من ذلك بد. قال: فرثاه بقصيدته التي يقول فيها:

أبا خالد نفسي وقت نفسك الـردى                      وكان بها من قبل عثرتك العثـر

لتبكك يا عبد الـعـزيز قـلائص                      أضر بها نص الهواجر الـزجـر

سمون بنا يجتـبـن كـل تـنـوفة                      تضل بها عن بيضهن القطا الكدر

فما قدمت حتى تواتـر سـيرهـا                      وحتى أنيخت وهي ظالـعة دبـر

ففرج عن ركبانها الهم والطـوى                      كريم المحيا ماجد واجد صـقـر

أخو شتوات تقتـل الـجـوع داره                      لمن جاء لا ضيق الفناء ولا وعر

ولا تهنئ الفـتـيان بـعـدك لـذة                      ولا بل هام الشامتين بك القـطـر

وإن تمس رمسا بالرصـافة ثـاويا                      فما مات يا بن العيص نائلك الغمر

وذي ورق من فضل مالك مـالـه                      وذي حاجة قدر شت ليس له وفر

فأمسى مريحا بعد ما قـد يؤوبـه                      وكل به المولى وضاق به الأمـر قال: فأضعف له عبد العزيز جائزته ووصله، وأمر أولاده فرووا القصيدة.

وقال أبو عمرو الشيباني: كان لأبي صخر ابن يقال له داود لم يكن له ولد غيره، فمات، فجزع عليه جزعا شديدا حتى خولط، فقال يرثيه:

لقد جاهني طيف لداود بـعـدمـا                      دنت فاستقلت تاليات الكـواكـب

وما في ذهول النفس عن غير سلوة                      رواح من السقم الذي هو غالبـي

وعندك لو يحيا صداك فنلـتـقـي                      شفاء لمن غادرت يوم التناضـب

فهل لك طب نافعي مـن عـلاقة                      تهيمني بين الحـشـا والـتـرائب

تشكيتها إذ صدع الدهر شعـبـنـا                      فأمست وأعيت بالرقي والطبـائب

ولولا يقيني أن الـمـوت عـزمة                      من الله حتى يبعثوا للمـحـاسـب

لقلت له فيمـا ألـم بـرمـسـه:                      هل أنت غدا غاد معي فمصاحبي

وماذا ترى في غائب لا يغـبـنـي                      فلست بـنـاسـيه ولـيس بـآئب

سألت مليكي إذ بلانـي بـفـقـده                      وفاة بأيدي الروم بين المـقـانـب

ثنوني وقد قدمت ثأري بـطـعـنة                      تجيش بموار من الجوف ثـاعـب

فقد خفت أن ألقي المنايا وإنـنـي                      لتابع من وافي حمام الجـوالـب

ولما أطاعن في العـدو تـنـفـلا                      إلى الله أبغي فضلـه وأضـارب

وأعطف وراء المسلمين بطـعـنة                      على دبر مجل من العيش ذاهـب وقال أبو عمرو: بلغ أبا صخر أن رجلا من قومه عابه وقدح عليه، فقال أبو صخر في ذلك :

ولقد أتاني ناصح عن كـاشـح                      بعداوة ظهرت وقبـح أقـاول

أفحين أحكمني المشيب فلا فتى                      غمر ولا قحم وأعصل بازلـي

ولبست أطوار المعيشة كلـهـا                      بمؤبدات للـرجـال دواغـل

أصبحت تنقصني وتقرع مروتي                      بطرا ولم يرعب شعابك وابلي

وتنلك إظفاري ويبرك مسحلـي                      بري الشسيب من السراء الذابل

فتكون للباقين بعـدك عـبـرة                      وأطأ جبينك وطأة المتثـاقـل وقال أبو عمرو: وكن أبو صخر الهذلي يهوى امرأة من قضاعة، مجاورة فيهم، يقال لها ليلى بنت سعد، وتكنى أم حكيم، وكانا يتواصلان برهة من دهرهما، ثم تزوجت ورحل بها زوجها إلى قومه ، فقال في ذلك أبو صخر:

 

صفحة : 2658

 

 

ألـم خـيال طـارق مـــتـــأوب                      لأم حكيم بعدمـا نـمـت مـوصـب

وقد دنت الـجـوزاء وهـي كـأنـهـا                      ومرزمها بـالـغـور ثـور وربـرب

فبات شرابي في المنام مـع الـمـنـى                      غريض اللمى يشفي جوى الحزن أشنب

قضـاعـية أدنـى ديار تـحـلـهــا                      قناة وأني من قـنـاة الـمـحـصـب

سراج الدجى تغتل بالمـسـك طـفـلة                      فلا هي متفال ولا الـلـون أكـهـب

دميثة ما تـحـت الـثـياب عـمـيمة                      هضيم الحشا بكـر الـمـجـسة ثـيب

تعلقتـهـا نـفـودا لـذيذا حـديثـهـا                      ليالي لا عمـى ولا هـي تـحـجـب

فكان لها ودي ومـحـض عـلاقـتـي                      وليدا إلـى أن رأسـي الـيوم أشـيب

فلم أر مثلي أيأست بعـد عـلـمـهـا                      بودي ولا مثلي على الـيأس يطـلـب

ولو تلتقي أصداؤنـا بـعـد مـوتـنـا                      ومن دون رمسينا من الأرض سبسـب

لظل صدى رمسي ولـو كـنـت رمة                      لصوت صدى ليلـى يهـش ويطـرب وقصيدة أبي صخر التي فيها الغناء المذكور من مختار شعر هذيل ، وأولها:

لليلى بذات الجيش دار عـرفـتـهـا                      وأخرى بذات البين آياتـهـا سـطـر

وقفت برسميهـا فـلـمـا تـنـكـرا                      صدفت وعين دمعها سـرب هـمـر

وفي الدمع إن كذبت بالحـب شـاهـد                      يبين ما أخفي كـمـا بـين الـبـدر

صبرت فلما غال نفسـي وشـفـهـا                      عجاريف نأي دونها غلب الـصـبـر

إذا لم يكـن بـين الـخـلـيلـين ردة                      سوى ذكر شيء قد مضى درس الذكر وهذا البيت خاصة رواه الزبير بن بكار لنصيب :

إذا قلت هذا حبن أسلو يهيجـنـي                      نسيم الصبا من حيث يطلع الفجر

وإني لتعروني لذكـراك فـتـرة                      كما انتفض العصفور بلله القطر

هجرتك حتى قيل لا يعرف الهوى                      وزرتك حتى قيل ليس له صبـر

صدقت أنا الصب المصاب الذي به                      تباريح حب خامر القلب أو سحر

أما والذي أبكى وأضحـك والـذي                      أمات وأحيا والذي أمـره الأمـر

لقد تركتني أحسد الوحـش أن أرى                      أليفين منها لم يروعهما الـزجـر

فيا هجر ليلى قد بلغت بي المـدى                      وردت علي ما لم يكن بلغ الهجر

ويا حبها زدني جـوى كـل لـيلة                      ويا سلوة الأيام موعدك الحـشـر

عجبت لسعي الدهر بيني وبينـهـا                      فلما انقضى ما بيننا سكن الدهـر

فليست عشيات الحمى بـرواجـع                      لنا أبدا ما أورق السلم النـضـر

وإني لآتيها لكـيمـا تـثـيبـنـي                      وأوذنها بالصرم ما وضح الفجـر

فما هـو إلا أن أراهـا فـجـاءة                      فأبهت لا عرف لدي ولا نـكـر

تكاد يدي تندى إذا ما لمـسـتـهـا                      وينبت في أطرافها الورق الخضر في هذه الأبيات ثقيل أول قديم مجهول، وفي البيت الأخير لعريب خفيف ثقيل، وقد أضافت إليه بيتا ليس من الشعر، وهو:

أبى القلـب إلا حـبـهـا عـامـرية                      لها كنية  عمرو  وليس لها  عمرو  أخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق قال: حدثني أبي عن جدي قال: دخلت يوما على موسى الهادي وهو مصطبح، فقال لي: يا إبراهيم غنني، فإن أطربتني فلك حكمك، فغنيته:

وإني لتعروني لذكـراك فـتـرة                      كما انتفض العصفور بلله القطر فضرب بيده إلى جنب دراعته فشقها حتى انتهى به إلى صدره.

ثم غنيته:

أما والذي أبكى وأضحك والـذي                      أمات وأحيا والذي أمره الأمـر

لقد تركتني أحسد الوحش أن أرى                      أليفين منها لم يروعهما الزجـر فشق ذراعه حتى انتهى إلى آخرها.

ثم غنيته:

فيا حبها زدني جوى كل لـيلة                      ويا سلوة الأيام موعدك الحشر فشق جبة كانت تحت الدراعة حتى هتكها.

ثم غنيته:

عجبت لسعي الدهر بيني وبينها                      فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر

 

صفحة : 2659

 

فشق قميصا كان تحت ثيابه حتى بدا جسمه . ثم قال: أحسنت والله فاحتكم. فقلت: تهب لي، يا أمير المؤمنين، عين مروان بالمدينة، فغضب حتى دارت عيناه في رأسه، ثم قال: لا، ولا كرامة، أردت أن تجعلني أحدوثة للناس، وتقول: أطربته فحكمني، فحكمت، فأمضى حكمي.

ثم قال لإبراهيم الحراني: خذ بيد هذا لجاهل وأدخله ، بيت مال الخاصة فإن أخذ كل شيء فيه فلا تمنعه منه، فدخلت معه فأخذت مالا جليلا وانصرفت .

و مما يغنى فيه من شعر أبي صخر الهذلي قوله من قصيدة له:

بيد الذي شغف الفؤاد بكـم                      فرج الذي ألقى من الهـم

هم من أجلك ليس يكشفـه                      إلا مليك جائز الـحـكـم

فاستيقني أن قد كلفت بكـم                      ثم افعلي ما شئت عن علم

قد كان صرم في الممات لنا                      فعجلت قبل الموت بالصرم الشعر لأبي صخر الهذلي. والغناء للغريض، ثقيل أول بالوسطى، عن عمرو وفيه لسياط ثقيل أول آخر بالبنصر، ابتداؤه نشيد :

فاستيقني أن قد كلفت بكم وهكذا ذكر الهشامي أيضا، وذكر أن لحن الغريض ثاني ثقيل، وأن فيه لابن جامع خفيف رمل .

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا محمد بن الحسن الحرون قال: حدثني الكسروي قال: لقي إبراهيم النظام غلاما أمرد فاستحسنه، فقال لي: يا بني، لولا أنه قد سبق من قول الحكماء ما جعلوا به السبيل لمثلي إلى مثلك في قولهم :  لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل كما لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول  لما أنست إلى مخاطبتك، ولا هششت لمحادثتك ، ولكنه سبب الإخاء، وعقد المودة، ومحلك من قلبي محل الروح من جسد الجبان. فقال له الغلام وهو لا يعرفه: لئن قلت ذاك أيها الرجل لقد قال الأستاذ إبراهيم النظام :  الطبائع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة، وتميل إلى ما يوافقها بالمؤانسة  وكياني مائل إلى كيانك بكليتي، ولو كان ما أنطوى لك عليه عرضا ما اعتددت به ودا، ولكنه جوهر جسمي، فبقاؤه ببقاء النفس، وعدمه بعدمها، وأقول كما قال الهذلي:

فاستيقني أن قد كلفت بكم                      ثم افعلي ما شئت عن علم فقال له النظام: إنما خاطبتك بما سمعت ، وأنت عندي غلام مستحسن، ولو علمت أنك بهذه المنزلة لرفعتك إلى رتبتها .

قال أبو الحسن الأخفش: فأخذ أبو دلف هذا المعنى فقال:

أحبك يا جنان وأنت مـنـي                      محل الروح من جسد الجبان

ولولا أني أقول مكان نفسـي                      لخفت عليك بادرة الزمـان

لإقدامي إذا ما الخيل خامـت                      وهاب كماتها حر الطعـان وتمام أبيات أبي صخر الميمية التي ذكرت فيها الغناء الأخير وخبره أنشدنيها الأخفش عن السكري عن أصحابه:

ولما بقيت لـيبـقـين جـوى                      بين الجوانح مضرع جسمـي

ويقر عينـي وهـي نـازحة                      ما لا يقر بعين ذي الحـلـم

أطلال نعم إذ كلفـت بـهـا                      يأدين هذا القلب مـن نـعـم

ولو أنني أشقى على سقمـي                      بلمى عوارضها شفى سقمي

ولقد عجبت لنبـل مـقـتـدر                      يسط الفؤاد بهـا ولا يدمـي

يرمي فيجرحني بـرمـيتـه                      فلو أنني أرمي كمـا يرمـي

أو كان قلب إذ عزمـت لـه                      صرمي وهجري كان ذا عزم

أو كان لي غنـم بـذكـركـم                      أمسيت قد أثريت من غنمـي

 

صفحة : 2660

 

أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، عن أبي عبد الله الأنصاري، عن غرير بن طلحة الأرقمي قال: قال لي أبو السائب المخزومي، وكان من أهل الفضل والنسك:  هل لك في أحسن الناس غناء  ? قلت: نعم. وكان علي يومئذ طيلسان لي أسميه من غلظه وثقله  مقطع الأزرار  فخرجنا حتى جئنا إلى الجبانة ، إلى دار مسلم بن يحيى الأرت صاحب الخمر، مولى بني زهرة فأذن لنا، فدخلنا بيتا طوله اثنتا عشرة ذراعا في مثلها ، وسمكه في السماء ست عشرة ذراعا، ما فيه إلا نمرقتان قد ذهبت منهما اللحمة وبقي السدى، وفراش محشو ليفا ، وكرسيان من خشب قد تقلع عنهما الصبغ من قدمهما وبينهما مرفقتان محشوتان بالليف. ثم طلعت علينا عجوز كلفاء عجفاء، كأن شعرها شعر ميت، عليها قرقل هروي أصفر غسيل ، كأن وركيها في خيط من رسحها حتى جلست، فقلت لأبي السائب: بأبي أنت وأمي ? ما هذه? قال: اسكت: فتناولت عودا فضربت وغنت:

بيد الذي شغف الفؤاد بكم                      فرج الذي ألقى من الهم قال غرير: فحسنت - والله -، في عيني وجاء نقاء وصفاء ، فأذهب الكلف من وجهها، وزحف ، أبو السائب وزحفت معه. ثم غنت :

برح الخفاء فأي ما بك تكتم                      ولسوف يظهر ما يسر فيعلم

مما تضمن من غريرة قلبـه                      يا قلب إنك بالحسان لمغرم

يا ليت أنك يا حسام بأرضنـا                      تلقي المراسي دائما وتخـيم

فتذوق لذة عيشنا ونعـيمـه                      ونكون أجوارا فماذا تـقـم الغناء لحكم، خفيف رمل بالوسطى، عن الهشامي.

فقال أبو السائب: إن نقم هذا فيعض بظر أمه، وزحف وزحفت معه، حتى قاربت النمرقة وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق شيب بماء قربة.

ثم غنت:

يا طول ليلي أعالج السقمـا                      إذ حل دون الأحبة الحرما

ما كنت أخشى فراق بينكـم                      فاليوم أضحى فراقكم عزما الغناء للغريض، ثقيل أول بالوسطى في مجراها، وله أيضا فيه ، خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر جميعا، عن إسحاق.

قال غرير: فألقيت طيلساني وتناولت شاذكونة ، فوضعتها على رأسي وصحت كما يصاح بالمدينة: الدخن بالنوى، وقام أبو السائب، وتناول ربعة فيها قوارير دهن كانت في البيت، فوضعها على رأسه، وصاح بن الأرت صاحب الجارية، وكان ألثغ:  قواليلي قواليلي  - يريد: قواريري قواريري - أسألك بالله، فلم يلتفت أبو السائب إلى قوله، وحرك رأسه مرحا فاضطربت القوارير وتكسرت، وسال الدهن على وجه أبي السائب وظهره وصدره ، ثم وضع الربعة وقال لها: لقد هجت لي داء قديما.

قال: ومكثنا نختلف إليها سنين، في كل جمعة يومين، وقال: ثم بعث عبد الرحمن بن معاوية بن هشام من الأندلس، فاشتريت له العجفاء وحملت إليه.

 

ألا هل إلى ريح الخزامى ونظرة                      إلى قرقرى قبل الممات سبـيل

فيا أثلاث القاع من بطن توضـح                      حنيني إلى أطلالـكـن طـويل

ويا أثلاث القاع قلبـي مـوكـل                      بكن، وجدوى خيركـن قـلـيل

ويا أثلاث القاع قد مل صحبتـي                      وقوفي، فهل في ظلكن مقيل? الشعر: ليحيى بن طالب الحنفي، والغناء لعلوية، خفيف رمل بالوسطى ، عن عمرو. وفيه لإبراهيم لحن ماخوري بالوسطى، وفيه لعريب رمل، ولمتيم خفيف رمل آخر عن الهشامي. وفيه لابن المكي خفيف ثقيل من كتابه وذكر ابن المعتز أن لحن عريب ومتيم جميعا من الرمل.

 

?أخبار يحيى بن طالب

يحيى بن طالب: شاعر من أهل اليمامة، ثم من بني حنيفة. لم يقع إلي نسبه. وهو من شعراء الدولة العباسية مقل، وكان فصيحا شاعرا غزلا فارسا .

وركبه دين في بلده فهرب إلى الري، وخرج مع بعث إليها ، فمات بها، وقد ذكر ذلك في هذه القصيدة فقال:

أريد رجوعا نحوكم فيصدني                      إذا رمته دين علي ثـقـيل حدثني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال: غنى أبي الرشيد في شعر يحيى بن طالب:

ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة                      إلى قرقرى قبل الممات سبيل فأطربه، فسأله عن قائل الشعر، فذكره له وأعلمه أنه حي، وأنه هرب من دين عليه، وأنشده قوله:

أريد رجوعا نحوكم فيصدني                      إذا رمته دين علي ثـقـيل

 

صفحة : 2661

 

فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامل الري بقضاء دينه ، وإعطاءه نفقة، وإنفاذه إليه على البريد ، فوصل الكتاب يوم مات يحيى بن طالب.

أخبرنا محمد بن خلف وكيع وعمي قالا: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثني الجهم بن المغيرة قال: كنا عند حترش بن ثمال القريظي بضرية فمرت بنا جارية صفراء مولدة، فقال لي حترش: استفتح كلامها فانظر فإنها ظريفة، فقلت لها: يا جارية ، أين نشأت? قالت: بقرقرى، فقلت لها: أين من شعبعب ? فضحكت ثم قالت: بين الحوض والعطن، قلت: فمن الذي يقول:

يا صاحبي فدت نفسي نفوسـكـمـا                      عوجا علي صدور الأبغل السـنـن

ثم ارفعا الطرف ننظر صبح خامسة                      لقرقرى يا عناء النفس بالـوطـن

يا ليت شعري والإنـسـان ذو أمـل                      والعين تذرف أحيانا من الـحـزن

هل أجعلن يدي للـخـد مـرفـقة                      على شعبعب بين الحوض والعطن? فالتفتت إلى حترش بن ثمال فقالت : أخبره بقائلها، فقال: ما أعرفه، فقالت: بلى، هذا يقوله شاعرنا وظريف بلادنا وغزلها. فقال لها حترش: ويحك، ومن ذلك? فقالت: أشهد إن كنت لا تعرفه وأنت من هذا البلد إنها لسوأة ، ذلك يحيى بن طالب الحنفي، أقسم بالله ما منعك من معرفته إلا غلظ الطبع، وجفاء الخلق. فجعل يضحك من قولها وتعجبنا منها .

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا أبو غسان دماذ، عن أبي عبيدة قال: قال رجل ليحيى بن طالب الحنفي: لو ركبت معي في البحر ، وشغلت مالك في تجاراته لأثريت وحسنت حالك، فقال يحيى بن طالب:

لشربك بالأنـقـاء رنـقـا وصـافـيا                      أعف وأعفى من ركوبك في البحـر

إذا أنت لم تنظر لنـفـسـك خـالـيا                      أحاطت بك الأحزان من حيث لا تدري حدثني محمد بن خلف المرزبان قال: حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال: حدثني أبو علي الحنفي؛ قال: حدثني عمي عن علي بن عمر قال:

ألا هل إلى شم الخزامى ونظرة                      إلى قرقرى قبل الممات سبيل وذكر الخبر كما ذكره حماد بن إسحاق ، إلا أنه قال: فوجده قد مات قبل وصول البريد بشهر.

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال: حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي، عن عمه قال: كان يحيى بن طالب يجالس امرأة من قومه ويألفها، ثم خرج مع والي اليمامة إلى مكة، وابتاع منه الوالي إبلا بتأخير فلما صار إلى مكة عزل الوالي، فلوى يحيى بماله مدة، فضاق صدره، وتشوق إلى اليمامة وصاحبته التي كان يتحدث إليها، فقال:

تصبرت عنها كارها وهجرتهـا                      وهجرانها عندي أمر من الصبر

إذا ارتحلت نحو اليمـامة رفـقة                      دعاني الهوى واهتاج قلبي للذكر

كأن فؤادي كلما عـن ذكـرهـا                      جناحا غراب رام نهضا إلى وكر الغناء للزف، ثقيل أول عن الهشامي في هذين البيتين.

وقال فيها:

مداينة الـسـلـطـان بـاب مــذلة                      وأشبه شيء بالقـنـاعة والـفـقـر

إذا أنت لم تنظر لنـفـسـك خـالـيا                      أحاطت بك الأحزان من حيث لا تدري أخبرني الحسين بن يحيى، عن حماد عن أبيه، قال: قال أبو الذيال الحنفي: خرج يحيى بن طالب الحنفي من اليمامة يريد خراسان على البريد، فقال وهو بقومس:

أقول لأصحابي ونحن بـقـومـس                      نراوح أكتاف المحذفة الـجـرد

بعدنا وعهد الله من أهله قرقـرى                      وفيها الألى نهوى وزدنا على البعد أخبرنا الحسن بن علي قال: حدثنا محمد موسى بن حماد قال حدثني عبد الله بن بشر، عن أبي فراس الهيثم بن فراس الكلابي قال: كنت مع أبي ونحن قاصدون اليمامة ، فلما رأيناها لقينا رجل، فقال له أبي: أين قرقرى? قال: وراءك. قال: فأين شعبعب? قال: بإزاءه، قال: أرني ذلك، فأراه إياه حتى عرفه، فقال لي: ارجع بنا إلى الموضع فقلت له: يا أبني قد تعبنا وتعبت ركائبنا، فما لك هناك  قال: إنك لأحمق، ارجع ويلك ، فرجعت معه حتى أتى شعبعب، وصار إلى الحوض والعطن، وأناخ راحلته، وقال لي: أنخ ، فأنخت، ونزل فنظر إلى شعبعب وقرقرى ساعة، ثم اضطجع بين الحوض والعطن اضطجاع ، ويده تحت خده، ثم قام فركب ، فقلت: يا أبتي ما أردت بهذا? فقال: يا جاهل، أما سمعت قول يحيى بن طالب:

 

صفحة : 2662

 

 

هل أجعلن يدي للـخـد مـرفـقة                      على شعبعب بين الحوض والعطن أفليس عجزا أن نكون قد أتينا عليهما وهما أمنية المتمني فلا ننال ما تمناه منهما، وقد قدرت عليه? فجعلت أعجب من قوله وفعله.

أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال: حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي قال: حدثنا أبو العالية عن رجل من بني حنيفة قال: كان يحيى بن طالب جوادا، شاعرا جميلا، حمالا لأثقال قومه ومغارمهم، سمحا يقري الأضياف، تشاء أن ترى في فتى خصلة جميلة إلا رأيتها فيه. فدخلت عليه وهو في آخر رمق ، فسألته عن خبره وسليته وقلت له ما طابت به نفسه، ثم أنشدني قوله :

ما أنا كالقول الذي قـلـت إن زوى                      محلي عن مالي حـذار الـنـوائب

بمنزلة بين الطـريقـين قـابـلـت                      بوادي كحيل كـل مـاش وراكـب

حللت على رأس اليفاع ولـم أكـن                      كمن لاذ من خوف القرى بالحواجب

فلا تسأل الضيفان من هم وأذنـهـم                      هم الناس من معروف وجه وجانب

وقولوا إذا ما الضيف حل بنـجـوة                      ألا في سبيل الله يحيى بن طـالـب قال أبو العالية: كحيل: نخل بناخية فران دون قرقرى، وهناك كان منزل يحيى بن طالب .

وقد جمع معه كل ما يغني فيه من القصيدة:

لعمرك إني يوم بصري وناقتـي                      لمختلفا الأهواء مصطـحـبـان

متى تحملي شوقي وشوقك تظلعي                      وما لك بالحمل الـثـقـيل يدان

ألا يا غرابي دمنة الدار خـبـرا                      أبا لبين من عفراء تنتـحـبـان?

فإن كان حقا ما تقولان فانهضـا                      بلحمي إلى وكريكما فكـلانـي

ولا يعلمن الناس ما كان ميتـتـي                      ولا يأكلن الـطـير مـا تـذران

جعلت لعراف اليمامة حـكـمـه                      وعراف حجر إن هما شفيانـي

فما تركا من حيلة يعلـمـانـهـا                      ولا رقـية إلا وقـد رقـيانـي

وقالا: شفاك الله والله مـا لـنـا                      بما حملت منك الضـلـوع يدان

كأن قطاة علقت بـجـنـاحـهـا                      على كبدي من شدة الخـفـقـان الشعر لعروة بن حزام، والغناء لإبراهيم الموصلي في الأربعة الأبيات الأول، ثقيل أول بالوسطى، ولعريب في الرابع والخامس والسادس والتاسع هزج مطلق في مجرى البنصر، عن إسحاق، وفي السابع وما بعده إلى آخرها ثقيل أول ينسب إلى أبي العبيس بن حمدون، وإلى غيره.

 

أخبار عروة بن حزام

هو عروة بن حزام بن مهاصر، أحد بني حزام بن ضبة بن عبد بن كبير بن عذرة .

شاعر إسلامي، أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى، لا يعرف له شعر إلا في عفراء بنت عمه: عقال بن مهاصر، وتشبيبه بها .

أخبرني بخبرها جماعة من الرواة؛ فمنه ما أخبرني به الحسن بن علي بن محمد الآدمي قال: حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال: حدثني موسى بن عيسى الجعفري، عن الأشباط بن عيسى العذري.

وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي، ومحمد بن مزيد بن أبي الإزهر، عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجاله.

وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة. وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار عمن أسند إليه. وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة.

وقد سقت رواياتهم وجمعتها: قال الأسباط بت عيسى - وروايته كأنها أتم الروايات وأشدها اتساقا - أدركت شيوخ الحي يذكرون:

 

صفحة : 2663

 

أنه كان من حديث عروة بن حزام وعفراء بنت عقال: أن حزاما هلك وترك ابنه عروة صغيرا في حجر عمه عقال بن مهاصر. وكانت عفراء تربا لعروة، يلعبان جميعا، ويكونان معا، حتى ألف كل واحد منهما صاحبه إلفا شديدا. وكان عقال يقول لعروة، لما يرى من إلفهما: أبشر، فإن عفراء امرأتك ، إن شاء الله. فكانا كذلك حتى لحقت عفراء بالنساء، ولحق عروة بالرجال، فأتى عروة عمة يقال لها: هند بنت مهاصر، فشكا إليها ما به من حب عفراء ، وقال لها بعض ما يقول لها: يا عمة، إني لأكلمك وأنا منك مستح ، ولكن لم أفعل هذا حتى ضقت ذرعا بما أنا فيه، فذهبت عمته إلى أخيها فقالت له : يا أخي، قد أتيتك في حاجة أحب أن تحسن فيها الرد ، فإن الله يأجرك بصلة رحمك فيما أسألك. فقال لها: قولي، فلن تسألي حاجة إلا رددتك بها. قالت: تزوج عروة بن أخيك بابنتك عفراء، فقال: ما عنه مذهب، ولا هو دون رجل يرغب فيه ، ولا بنا عنه رغبة، ولكنه ليس بذي مال، وليست عليه عجلة. فطابت نفس عروة، وسكن بعض السكون.

وكانت أمها سيئة الرأي فيه، تريد لابنتها ذا مال ووفر، وكانت عرضة ذلك كمالا وجمالا، فلما تكاملت سنه وبلغ أشده عرف أن رجلا من قومه ذا يسار ومال كثير يخطبها، فأتى عمه، فقال: يا عم، قد عرفت حقي وقرابتي، وإني ولدك وربيت في حجرك، وقد بلغني أن رجلا يخطب عفراء، فإن أسعفته بطلبته قتلتني وسفكت دمي، فأنشدك الله ورحمي وحقي، فرق له وقال له : يا بني، أنت معدم، وحالنا قريبة من حالك، ولست مخرجها إلى سواك، وأمها قد أبت أن تزوجها إلا بمهر غال، فاضطرب واسترزق الله تعالى .

فجاء إلى أمها فألطفها ودارها، فأبت أن تجيبه إلا بما تحتكمه من المهر، وبعد أن يسوق شطره إليها، فوعدها بذلك.

وعلم أنه لا ينفعه قرابة ولا غيرها إلا بالمال الذي يطلبونه ، فعمل على قصد ابن عم له موسر كان مقيما باليمن ، فجاء إلى عمه وامرأته فأخبرهما بعزمه، فصوباه ووعداه ألا يحدثا حدثا حتى يعود.

وصار في ليلة رحيله إلى عفراء، فجلس عندها ليلة هو وجواري الحي ، يتحدثون حتى أصبحوا ، ثم ودعها وودع الحي وشد على راحلته، وصحبه في طريقه فتيان من بني هلال بن عامر كانا يألفانه ، وكان حياهم متجاورين، وكان في طول سفره ساهيا يكلمانه فلا يفهم، فكرة في عفراء ، حتى يرد القول عليه مرارا، حتى قدم على ابن عمه، فلقيه وعرفه حاله وما قدم له، فوصله وكساه، وأعطاه مائة من الإبل، فانصرف بها إلى أهله.

وقد كان رجل من أهل الشام من أسباب بني أمية نزل في حي عفراء، فنحر ووهب وأطعم ، وكان ذا مال عظيم ، فرأى عفراء، وكان منزله قريبا من منزلهم، فأعجبته وخطبها إلى أبيها، فاعتذر إليه وقال: قد سميتها إلى ابن أخ لي يعدلها عندي، وما إليها لغيره سبيل ، فقال له: إني أرغبك في المهر، قال: لا حاجة لي بذلك ، فعدل إلى أمها، فوافق عندها قبولا، لبذله ورغبة في ماله، فأجابته ووعدته ، وجاءت إلى عقال فآدته وصخبت معه ، وقالت: أي خير في عروة حتى تحبس ابنتي عليه وقد جاءها الغني يطرق عليها بابها? والله ما ندري أعروة حي أم ميت? وهل ينقلب إليك بخير أم لا? فتكون قد حرمت ابنتك خيرا حاضرا ورزقا سنيا ، فلم تزل به حتى قال لها: فإن عاد لي خاطبا أجبته. فوجهت إليه أن عد إليه خاطبا. فلما كان من غد نحر جزرا عدة، وأطعم ووهب وجمع الحي معه على طعامه، وفيهم أبو عفراء، فلما طعموا أعاد القول في الخطبة، فأجابه وزوجه ، وساق إليه المهر، وحولت إليه عفراء وقالت قبل أن يدخل بها :

يا عرو إن الحي قد نقضوا                      عهد الإله وحاولوا الغدرا في أبيات طويلة.

فلما كان الليل دخل بها زوجها، وأقام فيهم ثلاثا، ثم ارتحل بها إلى الشام، وعمد أبوها إلى قبر عتيق، فجدد وسواه، وسأل الحي كتمان أمرها .

 

 

صفحة : 2664

 

وقدم عروة بعد أيام، فنعاها أبوها إليه، وذهب به إلى ذلك القبر، فمكث يختلف إليه أياما وهو مضنى هالك، حتى جاءته جارية من الحي فأخبرته الخبر ، فتركهم وركب بعض إبله، وأخذ معه زادا ونفقة، ورحل إلى الشام فقدمها وسأل عن الرجل فأخبر به، ودل عليه، فقصده وانتسب له إلى عدنان ، فأكرمه وأحسن ضيافته، فمكث أياما حتى أنسوا به، ثم قال لجارية لهم:  هل لك في يد تولينيها ? قالت: نعم، قال: تدفعين خاتمي هذا إلى مولاتك. فقالت : سوءة لك، أما تستحي لهذا القول? فأمسك عنها، ثم أعاد عليها وقال لها: ويحك هي والله بنت عمي، وما أحد منا إلا وهو أعز على صاحبه من الناس جميعا ، فاطرحي هذا الخاتم في صبوحها ، فإذا أنكرت عليك فقولي لها: اصطبح ضيفك قبلك، ولعله سقط منه. فرقت الأمة وفعلت ما أمرها به.

فلما شربت عفراء اللبن رأت الخاتم فعرفته، فشهقت ، ثم قالت: اصدقيني عن الخبر، فصدقتها . فلما جاء زوجها قالت له: أتدري من ضيفك هذا ? قال: نعم، فلان بن فلان ، للنسب الذي انتسب له عروة، فقالت: كلا والله يا هذا ، بل هو عروة بن حزام ابن عمي، وقد كتم نفسه حياء منك.

وقال عمر بن شبة في خبره: بل جاء ابن عم له فقال: أتركتم هذا الكلب الذي قد نزل بكم هكذا في داركم يفضحكم? فقال له : ومن تعني? قال: عروة بن حزام العذري ضيفك هذا، قال: أوإنه لعروة? بل أنت والله الكلب، وهو الكريم القريب.

قالوا جميعا: ثم بعث إليه فدعاه، وعاتبه على كتمانه نفسه إياه ، وقال له: بالرحب والسعة، نشدتك الله إن رمت هذا المكان أبدا، وخرج وتركه مع عفراء يتحدثان . وأوصى خادما له بالاستماع عليهما، وإعادة ما تسمعه منهما عليه، فلما خلوا تشاكيا ما وجدا بعد الفراق، فطالت الشكوى، وهو يبكي أحر بكاء، ثم أتته بشراب وسألته أن يشربه، فقال: والله ما دخل جوفي حرام قط، ولا ارتكبته منذ كنت، ولو استحللت حراما لكن قد استحللته منك، فأنت حظي من الدنيا، وقد ذهبت مني، وذهبت بعدك فما أعيش وقد أجمل هذا الرجل الكريم وأحسن، وأنا مستحيى منه، ووالله لا أقيم بعد علمه مكاني ، وإني عالم أني أرحل إلى منيتي. فبكت وبكى، وانصرف.

فلما جاء زوجه أخبرته الخادم بما دار بينهما ، فقال: يا عفراء، امنعي ابن عمك من الخروج، فقالت: لا يمتنع، هو والله أكرم وأشد حياء من أن يقيم بعد ما جرى بينكما، فدعاه وقال له: يا أخي ، أتق الله في نفسك، فقد عرفت خبرك، وإنك إن رحلت تلفت، ووالله لا أمنعك من الاجتماع معها أبدا ، ولئن شئت لأفارقنها ولأنزلن عنها لك. فجزاه خيرا، وأثنى عليه، وقال: إنما كان الطمع فيها آفتي، والآن قد يئست، وقد حملت نفسي على اليأس والصبر، فإن اليأس يسلي ، ولي أمور، ولا بد لي من رجوعي إليها، فإن وجدت من نفسي قوة على ذلك، وإلا رجعت إليكم وزرتكم، حتى يقضي الله من أمري ما يشاء. فزودوه وأكرموه وشيعوه، فانصرف . فلما رحل عنهم نكس بعد صلاحه وتماثله، وأصابه غشي وخفقان؛ فكان كلما أغمي عليه ألقي على وجهه خمار لعفراء زودته إياه؛ فيفيق.

قال: ولقيه في الطريق ابن مكحول عراف اليمامة، فرآه وجلس عنده؛ وسأله عما به؛ وهل هو خبل أو جنون? فقال له عروة: ألك عنده علم بالأوجاع?. قال: نعم؛ فأنشأ يقول:

وما بي من خبل ولا بي جـنة                      ولكن عمي يا أخـي كـذوب

أقول لعراف اليمـامة داونـي                      فإنك إن داويتني لـطـبـيب

فوا كبدا أمست رفاتا كأنـمـا                      يلذعها بالموقـدات طـبـيب

عشية لا عفراء منك بـعـيدة                      فتسلو ولا عفراء منك قـريب

عشية لا خلفي مكر ولا الهوى                      أمامي ولا يهوى هواي غريب

فوالله لا أنساك ما هبت الصبـا                      وما عقبتها في الرياح جنوب

وإني لتغشاني لذكـراك هـزة                      لها بين جلدي والعظام دبـيب وقال أيضا يخاطب صاحبيه الهلاليين بقصته :

خليلي من عليا هلال بن عـامـر                      بصنعاء عوجاء اليوم واتنظرانـي

ولا تزهدا في الذخر عندي وأجملا                      فإنكما بي الـيوم مـبـتـلـيان

ألما على عفراء إنـكـمـا غـدا                      بوشك النوى والبين معتـرفـان

فيا واشيا عفراء ويحكمـا بـمـن                      وما وإلى من جئتـمـا تـشـيان

 

صفحة : 2665

 

 

بمن لو أراه عـانـيا لـفـديتـه                      ومن لو رآني عانيا لـفـدانـي

متى تكشفان عني القميص تبينـا                      بي الضر من عفراء يا فـتـيان

إذن تريا لحما قليلا وأعـظـمـا                      بلين وقلبـا دائم الـخـفـقـان

وقد تركتني لا أعي لـمـحـدث                      حديثا وإن ناجيتـه ونـجـانـي

جعلت لعراف اليمامة حكـمـه                      وعراف حجر إن هما شفيانـي

فما تركا من حيلة يعرفـانـهـا                      ولا شربة إلا وقـد سـقـيانـي

ورشا على وجهي من الماء ساعة                      وقامـا مـع الـواد يبـتـدران

وقالا: شفاك الله واللـه مـالـنـا                      بما ضمنت منك الضلـوع يدان

فويلي على عفراء ويلا كـأنـه                      على الصدر والأحشاء حد سنان

أحب ابنة العذري حبا وإن نـأت                      ودانيت فيها غير ما مـتـدانـي

إذا رام قلبي هجرها حال دونـه                      شفيعان من قلبي لـهـا جـدلان غنته شاريه؛ ولحنه من الثقيل الأول .

 

إذا قلت: لا، قالا: بلى، ثم أصبحا                      جميعا على الرأي الـذي يريان

تحملت من عفراء ما ليس لي به                      ولا للجبـال الـراسـيات يدان

فيا رب أنت المستعان على الذي                      تحملت من عفراء منذ زمـان

كأن قطاة علقت بجـنـاحـهـا                      على كبدي من شدة الخفـقـان في: تحملت من عفراء والذي بعده، ثقيل أول، يقال إنه لأبي العبيس بن حمدون.

قال: فلم يزل في طريقه حتى مات قبل أن يصل إلى حيه بثلاث ليال، وبلغ عفراء خبر وفاته، فجزعت جزعا شديدا، وقالت ترثيه:

ألا أيها الركب المخبون ويحكم                      بحق نعيتم عروة بن حـزام

فلا تهنأ الفتيان بـعـدك لـذة                      ولا رجعوا من غيبة بسـلام

وقل للحبالى: لا ترجين غائبـا                      ولا فرحات بعـده بـغـلام قال: ولم تزل تردد هذه الأبيات وتندبه بها، حتى ماتت بعده بأيام قلائل .

وذكر عمر بن شبة في خبره: أنه لم يعلم بتزويجها حتى لقي الرفقة التي هي فيها، وأنه كان توجه إلى ابن عم له بالشام، لا باليمن ، فلما رآها وقف دهشا ، ثم قال:

فما هـي إلا أن أراهـا فـجـاءة                      فأبهت حتـى مـا أكـاد أجـيب

وأصدف عن رأيي الذي كنت أرتئي                      وأنسى الذي أزمعت حين تـغـيب

ويظهر قلبي عذرهـا ويعـينـهـا                      علي فما لي في الفؤاد نـصـيب

وقد علمت نفسي مكان شـفـائهـا                      قريبا، وهل ما لا ينـال فـريب?

حلفت برب الساجـدين لـربـهـم                      خشوعا، وفوق الساجـدين رقـيب

لئن كان برد الماء حـران صـاديا                      إلي حبـيبـا إنـهـا لـحـبـيب وقال أبو زيد في خبره: ثم عاد من عند عفراء إلى أهله، وقد ضني ونحل، وكانت له أخوات وخالة وجدة، فجعلن يعظنه ولا ينفع ، وجئن بأبي كحيلة رباح بن شداد مولى بني ثعيلة ، وهو عراف حجر ، ليداويه فلم ينفعه دواؤه.

وذكر أبو زيد قصيدته النونية التي تقدم ذكرها، وزاد فيها:

وعينان أوفيت نشرا فتنـظـرا                      مآقيهما إلا هـمـا تـكـفـان

سوى أنني قد قلت يوما لصاحبي                      ضحى وقلوصانا بنا تـخـدان

ألا حبذا من حب عفـراء واديا                      نعام وبزل حـيث يلـتـقـيان وقال أبو يزيد: وكان عروة يأتي حياض الماء التي كانت إبل عفراء تردها فيلصق صدره بها، فيقال له: مهلا، فإنك قاتل نفسك، فاتق الله . فلا يقبل، حتى أشرف على التلف، وأحس بالموت.

فجعل يقول:

بي اليأس والداء والهيام سقيته                      فإياك عني لا يكن بك ما بيا أخبرني الحرمي بن أب العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون، عن أبي السائب قال:

 

صفحة : 2666

 

أخبرني ابن أبي عتيق قال: والله إني لأسير في أرض عذرة إذا بامرأة تحمل غلاما جزلا ، ليس يحمل مثله ، فعجبت لذلك، حتى أقبلت به، فإذا له لحية، فدعوتها فجاءت، فقلت له: ويحك ما هذا? فقالت: هل سمعت بعروة بن حزام? فقلت: نعم، قالت: هذا والله عروة. فقلت له: أنت عروة ? فكلمني وعيناه تذرفان وتدوران في رأسه، وقال: نعم أنا والله القائل:

جعلت لعراف اليمامة حكـمـه                      وعراف حجر إن هما شفـيان

فقالا: نعم نشفي من الداء كـلـه                      وقاما مع الـعـواد يبـتـدران

فعفراء أحظى الناس عندي مودة                      وعفراء عني المعرض المتواني قال: وذهبت المرأة، فما برحت من الماء حتى سمعت الصيحة، فسألت عنها، فقيل: مات عروة بن حزام.

قال عبد الملك: فقلت لأبي السائب: ومن أي شيء مات? أظنه شرق، فقال: سخنت عيناك ، بأي شيء شرق? قلت بريقه - وأنا أريد العبث بأبي السائب - أفترى أحدا يموت من الحب? قال: والله لا تفلح أبدا، نعم يموت خوفا أن يتوب الله عليه  أخبرني عمي قال: حدثنا الكراني، عن العمري، عن الهيثم بن عدي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن النعمان بن بشير قال: ولاني عثمان - رضي الله عنه - صدقات سعد هذيم ، وهم: بلي، وسلامان عذرة، وضبة بن الحارث، ووائل: بنو زيد، فلما قبضت الصدقة قسمتها في أهلها، فلما فرغت وانصرفت بالسهمين إلى عثمان - رضي الله عنه - إذا أنا ببيت مفرد عن الحي، فملت إليه، فإذا أنا بفتى راقد في فناء البيت، وإذا بعجوز من وراءه في كسر البيت، فسلمت عليه، فرد علي بصوت ضعيف ، فسألته: ما لك? فقال:

كأن قطاة علقت بجناحـهـا                      على كبدي من شدة الخفقان وذكر الأبيات النونية المعروفة، ثم شهق شهقة خفيفة كانت نفسه فيها، فنظرت إلى وجهه فإذا هو قد قضى فقلت: أيتها العجوز، من هذا الفتى منك? قالت: ابني، فقلت: إني أراه قد قضى، فقالت: وأنا والله أرى ذلك، فقامت فنظرت في وجهه ثم قالت: فاظ ورب محمد، قال: فقلت لها: يا أماه ، من هو? فقالت: عروة بن حزام، أحد بني ضبة، وأنا أمه، فقلت لها: ما بلغ به ما أرى? قالت: الحب، والله ما سمعت له منذ سنة كلمة ولا أنة إلا اليوم، فإنه أقبل علي ثم قال:

من كان من أمهاتي باكـيا أبـدا                      فاليوم إني أراني اليوم مقبوضا

يسمعننيه فإني غير سـامـعـه                      إذا علوت رقاب القوم معروضا قال: فما برحت من الحي حتى عسلته، وكفنته، وصليت عليه، ودفنته.

وذكر أبو زيد عمر بن شبة في خبره، هذه القصة عن عروة بن الزبير، فقال هذين البيتين بحضرته:

من كان من أخواتي باكيا أبدا...... قال: فحضرته فبرزن - والله - كأنهن الدمى ، فشققن جيوبهن، وضربن خدودهن ، فأبكين كل من حضر. وقضى من يومه.

وبلغ عفراء خبره، فقامت لزوجها فقالت: يا هناء، قد كان من خبر ابن عمي ما كان بلغك، و والله ما عرفت منه قط إلا الحسن الجميل، وقد مات في وبسببي، ولابد لي من أن أندبه وأقيم مأتما عليه . قال: افعلي. فما زالت تندبه ثلاثا، حتى توفيت في اليوم الرابع.

وبلغ معاوية بن أبي سفيان خبرهما ، فقال: لو علمت بحال هذين الحرين الكريمين لجمعت بينهما.

وروي هذا الخبر عن هارون بن موسى القروي، عن محمد بن الحارث المخزومي، عن هشام بن عبد الله، عن عكرمة، عن هشام بن عروة عن أبيه، أنه كان شاهدا ذلك اليوم. ولم يذكر النعمان بن بشير في خبره.

وذكر هارون بن مسلمة عن غصين بن براق، عن أم جميل الطائبة: أن عفراء كانت يتيمة في حجر عمها عمه ، فعرضها عليه فأباها، ثم طال المدى، وانصرف عروة في يوم عيد، بعد أن صلى صلاة العيد، فرآها وقد زينت، فرأى منها جمالا بارعا، وقدمت له تحفة فنال منها وهو ينظر إليها، ثم خطبها إلى عمه فمنعه ذلك ، مكافأة لما كان من كراهته لها لما عرضها عليه، وزوجها رجلا غيره فخرج بها إلى الشام، وتمادى في حبها حتى قتله.

حدثنا محمد بن خلف وكيع قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وغيره، عن سليمان بن عبد العزيز بن عمران الزهري قال: حدثني خارجة المكي: أنه رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت، قال: فدنوت منه، فقلت: من أنت? فقال: الذي أقول :

 

صفحة : 2667

 

 

أفي كل يوم أنت رام بلادهـا                      بعينين إنسانا هما غـرقـان

ألا فاحملاني بارك الله فيكمـا                      إلى حاضر الروحاء ثم ذراني فقلت له: زدني، فقال: لا والله ولا حرفا .

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثني أبو سعيد السكري قال: حدثني محمد بن حبيب قال: ذكر الكلبي عن أبي صالح، قال: كنت مع ابن عباس بعرفة ، فأتاه فتيان يحملون بينهم فتى لم يبق منه إلا خياله، فقالوا له: يا بن عم رسول الله، ادع له، فقال: وما به? فقال الفتى:

بنا من جوى الأحزان في الصدر لوعة                      تكاد لها نفـس الـشـفـيق تـذوب

ولكنما أبـقـى حـشـاشة مـعـول                      على ما به عود هـنـاك صـلـيب قال: ثم خفت في أيديهم فإذا هو قد مات.

فقال ابن عباس:

هذا قتيل الحب لا عقل ولا قود ثم ما رأيت ابن عباس سأل الله - جل وعز - في عشيته إلا العافية، مما ابتلي به ذلك الفتى، قال: وسألنا عنه فقيل: هذا عروة بن حزام.

 

أعالي أعلى الله جدك عـالـيا                      وأسقى برياك العضاة البوالـيا

أعالي ما شمس النهار إذا بدت                      بأحسن مما تحت برديك عاليا

أعالي لو أن النساء بـبـلـدة                      وأنت بأخرى لاتبعتك ماضـيا

أعالي لو أشكو الذي قد أصابني                      إلى غصن رطب لأصبح ذاويا الشعر للقتال الكلابي.

وقد أدخل بعض الرواة الأول من هذه الأبيات مع أبيات سحيم عبد بني الحسحاس التي أولها:

فما بيضة بات الظليم يحفها .... في لحن واحد. وذكرت ذلك في موضعه ، وأفردته على حدته ، وأتيت به على حقيقته.

والغناء لابن سريج، ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى. وذكر الهشامي أن فيه لأبي كامل ثاني ثقيل، لا أدري أهذا يعني أم غيره. و وافقه إبراهيم في لحن أبي كامل ولم يجنسه، وزعم أن فيه لحنا آخر لابن عباد، وفيه ثقيل أول، ذكر ابن المكي أنه لمعبد. وذكر الهشامي أنه ليحيى منحول إلى معبد. وذكر حبش أنه لطويس .

وفي هذه القصيدة يقول القتال :

أعالي أخت المالكـيين نـولـي                      بما ليس مفقودا وفيه شـفـائيا

أصارمتي أم العلاء وقد رمـى                      بي الناس في أم العلاء المراميا

أيا إخوتي لا أصبحن بمـضـلة                      كما كنت لو كنت الطريد مراديا

فراد لديك القوم واشعب بحقهـم                      كما كنت لو كنت الطريد مراديا

وشمر ولا تجعل عليك غضاضة                      ولا تنس يا بن المضرحي بلائيا ولهذه القصيدة أخبار تذكر في مواضعها ها هنا إن شاء الله تعالى.

 

أخبار القتال ونسبه

القتال لقب غلب عليه، لتمرده وفتكه. واسمه: عبد الله بن المضرحي بن عامر الهصان ابن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. ويكنى أبا المسيب، وأمه عمرة بنت حرقة بن عوف بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر ابن كلاب.

وقد ذكرها في شعرها وفخر بها، فقال:

لقـد ولـدتـنـي حـرة ربـعـية                      من اللاء لم يحضرن في القيظ ذبذبا نسخت من كتاب لمحمد بن داود ن الجراح خبره، وذكر أن عبد الله بن سليمان السجستاني دفعه إليه وأخبره أنه سمعه من عمر بن شبة وأجاز له روايته، وأخبرني بأكثر رواية عمر بن شبة هذه الأخفش عن السكري عنه في أخبار اللصوص وجمعت ذلك أجمع.

قال عمر بن شبة: حدثني حميد بن مالك بن يسار المسمعي قال: حدثني شداد بن عقبة ابن رافع بن زمل بن شعيب بن الحارث بن عامر بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب. وكانت أم رافع جنوب بنت القتال. وحدثني شيخ من بني أبي بكر بن كلاب، يكنى أبا خالد، أيضا بحديث القتال ، قال أبو خالد:

 

صفحة : 2668

 

كان القتال قتال ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب، يتحدث إلى ابنة عم يقال لها العالية بنت عبيد الله ، وكان لها أخ غائب يقال له: زياد بن عبيد الله . فلما قدم رأى القتال يتحدث إلى أخته، فنهاه وحلف: لئن رآه ثانية ليقتلنه. فلما كان بعد ذلك بأيام رآه عندها ، فأخذ السيف وبصر به القتال، فخرج هاربا، وخرج في إثره، فلما دنا منه ناشده القتال بالله والرحم، فلم يلتفت إليه فبينا هو يسعى، وقد كاد يلحقه، وجد زمحا مركوزا - وقال للسكري : وجد سيفا - فأخذه وعطف على زياد فقتله، وقال:

نهيت زيادا والمقامة بيننـا                      وذكرته أرحام سعر وهيثم

فلما رأيت أنه غير منتـه                      أملت له كفي بلدن مقـوم

ولما رأيت أنني قد قتلتـه                      ندمت عليه أي ساعة مندم وقال أيضا :

نهيت زيادا والمقـامة بـينـنـا                      وذكرته بالله حـولا مـجـرمـا

فلما رأيت أنـه غـير مـنـتـه                      ومولاي لا يزداد إلا تـقـدمـا

أملت له كفي بـأبـيض صـارم                      حسام إذا ما صادف العظم صمما

بكف امرئ لم تخدم الحـي أمـه                      أخي نجدات لم يكن متهضـمـا ثم خرج هاربا، وأصحاب القتيل يطلبونه، فمر بابنة عم له تدعى: زينب، متنحية عن الماء، فدخل عليها، فقالت له: ويحك ما دهاك? قال: ألقي علي ثيابك، فألقت عليه ثيابها، وألبسته برقعها ، وكانت تمس حناء، فأخذ الحناء فلطخ بها يديه وتنحت عنه، ومر الطلب له ، فلما أتوا البيت قالوا وهم يظنون أنه زينب... أين الخبيث? فقال لهم : أخذ ها هنا ، لغير الوجه الذي أراد أن يأخذه. فلما عرف أن قد بعدوا أخذ في وجه آخر، فلحق بعماية، وعماية جبل، فاستتر فيه، وقال في ذلك:

فمن مبلغ فتيان قومي أنـنـي                      تسميت لما شبت الحرب زينبـا

وأرخيت جلبابي على نبت لحيتي                      وأبديت للناس البنان المخضبـا وقال أيضا :

جزى الله عنا والجزاء بكفـه                      عماية خيرا أم كـل طـريد

فما يزدهيها القوم ن نزلوا بها                      وإن أرسل السلطان كل بريد

حمتني منها كل عنقاء عيطل                      وكل صفا جم القلات كؤود فمكث بعماية زمانا يأتيه أخ له بما يحتاج إليه، وألفه نمر في الجبل كان يأوي معه في شعب .

وأخبرني عبد الله بن مالك، قال: حدثني محمد بن حبيب، عن ابن الكلبي، قال: كان القتال الكلابي أصاب دما، فطلب به، فهرب إلى جبل يقال له عماية، فأقام في شعب من شعابه، وكان يأوي إلى ذلك الشعب نمر، فراح إليه كعادته، فلما رأى القتال كشر عن أنيابه، ودلع لسانه فجرد القتال سيفه من جفنه، فرد النمر لسانه، فشام القتال سيفه ، فربض بإزائه، وأخرج براثنه، فسل القتال سهامه من كنانته ، فضرب بيده وزأر، فأوتر القتال قوسه، وأنبض وترها ، فسكن النمر وألفه.

فقال ابن الكلبي في هذا الخبر، ووافقه عمر بن شبة في روايته: كان النمر يصطاد الأروى ، فيجيء بما يصطاده، فيلقيه بين يدي القتال، فيأخذ منه ما يقوته ، ويلقي الباقي للنمر فيأكله، وكان القتال يخرج إلى الوحش فيرمي بنبله ، فيصيب منه الشيء بعد الشيء، فيأتي به الكهف، فيأخذ لقوته بعضه، ويلقي الباقي للنمر. وكان القتال إذا ورد الماء قام عليه النمر حتى يشرب، ثم يتنحى القتال عنه ويرد النمر، فيقوم عليه القتال حتى يشرب، فقال القتال في ذلك من قصيدة له:

ولي صاحب في الغار يعدل صاحبا                      أبا الـجـون إلا أنـه لا يعـلـل أبو الجون: صديق كان يأنس به، فشبهه به . وفي رواية عمر بن شبة : أخي الجون، فإن القتال كان له أخ اسمه الجون، فشبهه به:

كلانا عدو لا يرى فـي عـدوه                      مهزا وكل في العداوة مجمـل

إذا ما التقينا كان أنس حديثـنـا                      صماتا وطرف كالمعابل أطحل

لنا مورد قلت بأرض مـضـلة                      شريعتـنـا: لأينـا جـاء أول

تضمنت الأروى لنا بشـوائنـا                      كلانا له منها شديف مخـردل

فأغلبه في صنعة الزاد إنـنـي                      أميط الأذى عنه وما إن يهلـل أي ما يسمي الله تعالى عند صيده .

 

 

صفحة : 2669

 

أخبرني اليزيدي قال: حدثني عمي الفضل عن إسحاق الموصلي، وأخبرني به محمد بن جعفر الصيدلاني، عن الفضل، عن إسحاق. وأخبرني به وسواسة بن الموصلي عن حماد، عن أبيه، قال: قال أبو المجيب أبو شداد بن عقبة: دعا رجل من الحي يقال له أبو سفيان، القتال الكلابي إلى وليمة، فجلس القتال ينتظر رسوله ولا يأكل حتى انتصف النهار، وكانت عنده فقرة من حوار، فقال لامرأته:

فإن أبا سفيان لـيس بـمـولـم                      فقومي فهاتي فقرة من حوارك قال إسحاق: فقلت له: ثم مه? قال: لم يأت بعده بشيء، إنما أرسله يتيما. فقلت له: لمه ? أفلا أزيدك إليه بيتا آخر ليس بدونه? قال?: بلى، قلت:

فبيتك خير من بيوت كـثـيرة                      وقدرك خير من وليمة جارك فقال: بأبي أنت وأمي، والله لقد أرسلته مثلا ، وما انتظرت به العرب، وإنك لبز طراز ما رأيت بالعراق مثله، وما يلام الخليفة أن يدنيك ويؤثرك ويتملح بك، ولو كان الشباب يشترى لابتعته لك بإحدى يدي، ويمنى عيني، وعلى أن فيك بحمد الله بقية تسر الودود، وترغم الحسود.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثني عمر بن شبة قال: كان للقتال ابنان، يقال لأحدهما المسيب، وللآخر عبد السلام، ولعبد السلام يقول:

عبد السلام تأمل هل ترى ظعنا                      أني كبرت وأنت اليوم ذو بصر

لا يبعد الله فتيانا أقـول لـهـم                      بالأبرق الفرد لما فاتني نظري

ألا ترون بأعلى عاسم ظعـنـا                      نكبنا فحلين واستقبلنا ذا بـقـر وقال أبو زيد عمر بن شبة من رواية ابن داود عنه: حدثني سعيد بن مالك قال: حدثني شداد بن عقبة قال: اقتتل بنو جعفر بنو كلاب وبنو العجلان بن كعب بن ربيعة بن صعصعة، فقتلت بنو جعفر بن كلاب رجلا من بني العجلان، قال شداد، وكان جدة القتال أم أبيه عجلانية، وهي خولة بنت قيس بن زياد بن مالك بن العجلان، فاستبطأ القتال أخواله بني العجلان في الطلب بثأرهم من بني جعفر، وجعل يحضهم ويحرضهم، فقال في ذلك ، وقد بلغه أنهم أخذوا من بني جعفر دية المقتول، فعيرهم بما فعلوا وقال:

لعمري لحي من عقيل لقيتهـم                      بخطمة أو لاقيتهم بالمنـاسـك

عليهم من الحوك اليماني بـزة                      على أرحبيات طوال الحوارك

أحب إلى نفسي وأملح عندهـا                      من السروات آل قيس بن مالك

إذا ما لقيت عصبة جعـفـرية                      كرهتم بني اللكعاء وقع النيازك

فلستم بأخوالي فلا تصلـبـنـى                      ولكنما أمي لإحدى العـواتـك

قصار العماد لا ترى سرواتهـم                      مع الوفد جثامون عند المبارك

قتلتم فلما أن طلبتم عـقـلـتـم                      كذلك يؤتى بالذلـيل كـذلـك وقال ابن حبيب: خرج ابن هبار القرشي إلى الشام في تجارة أو إلى بعض بني أمية، فاعترضته جماعة فيهم القتال الكلابي وغيره، فقتلوه وأخذوا ماله. وشاع خبره، فاتهم به جماعة من بني كلاب وغيرهم من فتاك العرب، فأخذوا وحبسوا، أخذهم عامل مروان بن الحكم، فوجههم إليه وهو بالمدينة، فحبسهم ليبحث عن الأمر، ثم يقتل، قتله ابن هبار، فلما خشي القتال أن يعلم أمره، ورأى أصحابه ليس فيهم من غناء - اغتال السجان فقتله، وخرج هو ومن كان معه من السجن فهربوا ، فقال يذكر ذلك:

أميم أثيبي قبـل جـد الـتـزيل                      أثيبي بوصل أو بصرم معجـل

أميم وقد حملت ما حمل امـرؤ                      وفي الصرم إحسان إذا لم تنولي وهي قصيدة طويلة يقول فيها:

وإني وذكر أم حسـان كـالـفـتـى                      متى ما يذق طعم المـدامة يجـهـل

ألا حبذا تلـك الـبـلاد وأهـلـهـا                      لو أن عذابي بالـمـدينة ينـجـلـي

برزت لها من سجن مـروان غـدوة                      فآنستـهـا بـالأيم لـم تـتـحـول

وآنست حيا بالمـطـالـي وجـامـلا                      أبابيل هطلى بـين راع ومـهـمـل

نظرت وقد جل الدجى طامس الصوى                      بسلع وقرن الشمـس لـم يتـرجـل

وشبت لنا نار للـيلـى صـبـاحـه                      يذكى بعود جمـرهـا وقـرنـفـل

يضيء سناها وجه ليلـى كـأنـمـا                      يضيء سناها وجه أدمـاء مـغـزل

 

صفحة : 2670

 

 

علا عظمها واستعجلت عن لداتها                      وشبت شبابا وهي لما تسـربـل

ولما رأيت الباب قد حيل دونـه                      وخفت لحاقا من كتاب مؤجـل

حملت علي المكروه نفسا شريفة                      إذا وطئت لم تستقد للـتـذلـل

وكالئ باب السجن ليس بمنـتـه                      وكان فراري منه ليس بمؤتلـي

إذا قلت رفهني من السجن ساعة                      وتمم بها النعمى علي وأفضـل

يشد وثاقا عابـسـا ويغـلـنـي                      إلى حلقات من عمود موصـل

فقلت له والسيف يعضب رأسـه                      أنا ابن أبي تيماء غير المنحـل

عرفت ناديا من نداه وشيمـتـي                      وريحا تغشاني إذا اشتد مسحلي

تركت عتاق الطير تحجل حولـه                      على عدواء كالحوار المـجـدل وقال أبو زيد في خبره: وأنشدني شداد للقتال الكلابي يذكر قتل ابن هبار:

تركت ابن هبار لدى الباب مسندا                      وأصبح دوني شابة وأرومـهـا

بسيف امرئ ما إن أخبر باسمه                      وإن حقرت نفسي إلي همومها وهكذا روى ابن حبيب وعمر بن شبة.

ونسخت من كتاب للشاهيني بخطه في شعر للقتال وأخبار من أخباره قال: حبس القتال في دم ابن عمه الذي قتله، فحبس زمانا في السجن ، ثم كان بين ابن هبار القرشي وبين ابن عم له من قريش إحنة ، فبلغ ابن عمه أن القتال محبوس في سجن المدينة ، فأتاه فقال له: أرأيت أن أنا أخرجتك أتقتل ابن عمي المعروف بابن هبار? قال: نعم ، قال: سأرسل إليك بحديدة في طعامك، فعالج بها قيدك حتى تفكه ثم البسه حتى لا تنكر، فإذا خرجت من الوضوء فاهرب من الحرس، فإني جالس لك ومخلصك ومعطيك فرسا تنجو عليه، وسيفا تمتنع به، فإن خلصك ذلك وإلا فأبعدك الله، فقال: قد رضيت.

قال: وكان أهل المدينة يخرجون المحتبسين ، إذا أمسوا للوضوء، ومعهم الحرس، ففعل ما أمره به ، وأتاه القرشي فخلصه وآواه ، وحتى أمسك عنه الطلب، ثم جاء به وأعطاه سيفا، فقتل ابن عمه المعروف بابن هبار، ووهب له نجيبا، فنجا عليه وقال:

تركت ابن هبار لدى الباب مسندا                      وأصبح دوني شابة وأرومـهـا

بسيف امرئ لا أخبر الناس باسمه                      ولو أجهشت نفسي إلي همومها وقال أبو زيد: عمر بن شبة فيما رواه عن أصحابه: مر القتال بعلية بنت شيبة بن عامر بن ربيعة بن كعب بن عمرو بن عبد بن أبي بكر وأخويها: جهم وأويس، فسألها زماما فأبت أن تعطيه، وكانت جدتهم أم أبيهم أمة يقال لها، أم حدير وكانت لقريظة بن حذيفة بن عمار بن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر، فولدت له أم هؤلاء ، واسمها نجيبة، فولدت له علية هذه، فقال القتال يهجوهم:

يا قبح الله صبيانا تـجـيء بـهـم                      أم الهنيبر من زنـد لـهـا واري

من كل أعلم منشـق مـشـافـره                      ومؤذن ما وفى شبرا بمـشـبـار

يا ويح شيماء لم تنـبـذ بـأحـرار                      مثلي إذا ما اعتراني بعض زواري

إن القريظين لم يدعوك كنـتـهـم                      فأقصري آل مـسـعـود ودينـار

أما الإماء فما يدعـونـنـي ولـدا                      إذا تحدث عن نقضـي وأمـراري

يا بنت أم حذير لو وهـبـت لـنـا                      ثنتين من محكم بالـقـد أوتـاري

أما جديدا وإمـا بـالـيا خـلـقـا                      عاد العذارى لقطـيعة بـأسـيار

لكان ردءا قليلا واعتجـنـت لـه                      صهباء مقعها حاجي وأسـفـاري

أنا ابن أسماء أعمامي لهـا وأبـي                      إذا ترامى بنو الإموان بـالـعـار

قد جرب الناس عودي يقرعون بـه                      وأقصروا عن صليب غير خـوار

ما أرضع الدهر إلا ثدي واضـحة                      لواضح الوجه يحمي حوزة الجار

يستلب القرن مهريه وصـعـدتـه                      حقا وينـزع عـنـه ذات أزرار

من آل سفيان أو ورقاء يمنـعـهـا                      تحت العجاجة طعن غـير عـوار

يمنعها كل مذرور، بـصـعـدتـه                      نضح الدباء، على عريان مغـوار

تسمع فيهم إذا استسمعـت واعـية                      عزف القيان وقولا يال عـرعـار

 

صفحة : 2671

 

 

طوال أنضية الأعنـاق لـم يجـدوا                      ريح الإماء إذا راحـت بـأزفـار

والقوم أعلـم أنـا مـن خـيارهـم                      إذا تقلدت عضبـا غـير مـيشـار

فرا بسيري وبرد الليل يضـربـنـي                      عرض الفـلاة يبـنـيان وأكـوار

أما الرواسم أطلاحا فتـعـرفـنـي                      إذا اعتصبت على رأسي بأطـمـار

ولم أنازع بني الـسـوداء فـيئهـم                      والعظلميات مـن يعـر وأمـهـار

فكل سوداء لم تحلق عقـيقـتـهـا                      كأن أصداغها يطـلـين بـالـقـار

لقد شرتني بنو بكر فمـا ربـحـت                      ولا رأيت عليها جـزأة الـشـاري

إن العروق إذا استنزعتها نـزعـت                      والعرق يسري إذا ما عرس الساري أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال: حدثنا عمر بن شبة قال: أنشدني الأصمعي للقتال رائية يقول فيها:

إن العروق إذا استنزعتها نزعـت                      العرق يسري إذا ما عرس الساري

قد جرب الناس عودي يقرعون بـه                      فأقصروا عن صليب غير خـوار فقال: لقد أحسن وأجاد، لولا أنه أفسدها بقوله إنه طلب جعلا فلم يعطه، وكان في دناءة نفسه يشبه الحطيئة، وكان فارسا شاعرا شجاعا .

وقال السكري في روايته: زوج القتال ابنته أم قيس - واسمها قطاة - رذاذ بن الأخرم بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد بن أبي بكر، فمكثت عنده زمانا، و ولدت له أولادا ثم أغارها فشكت إلى أبيها، فاستعدى عليه ورماه بخادمها، وجاء رذاذ بالبينة على قذفه إياه بالأمة فأقيم ليضرب، فلم تنتصر له عشيرته، وقامت عشيرة رذاذ فاستوهبوا حده من صاحبهم، فوهبه لهم، وكانت عشيرة القتال تبغضه لكثرة جناياته، وما يلحقها من أذاه، ولا تمنعه من مكروه، فقال يهجو قومه:

إذا ما لقيتم راكبا مـتـعـمـمـا                      فقولوا له: ما الراكب المتعمـم?

فإن يك من كعب بن عبـد فـإنـه                      لئيم المحيا حالك الـلـون أدهـم

دعوت أبا كعـب ربـيعة دعـوة                      وفوقي غواشي الموت تنحى وتنجم

ولـم أك أدري أنـه ثـكـل أمـه                      إذا قيل للأحرار في الكربة اقدموا

فلو كنت من قـوم كـرام أعـزة                      لحاميت عني حين أحمى وأضـرم

دعوت فكم أسمعت من كل مـؤذن                      قبيح المحيا شانه الوجـه الـفـم

سوى أن آن الحارث الخير ذببـوا                      بأعيط لا وغل ولا مـتـهـضـم

إلا إنهم قومي وقوم بـن مـالـك                      بنو أم ذئب وابن كـبـشة خـيثـم

ولكنما قومي قـمـاشة حـاطـب                      يجمعها بالكف، والليل مـظـلـم قال أبو زيد: وحدثني ابن شداد بن عتبة قال: كانت عند القتال بنت ورقاء بن الهيثم به الهصان، وكان جارا لبني الحصين بن الحويرث بن كعب بن عبد بن أبي بكر، وكانت لها ضرة عنده يقال لها أم رياح بنت ميسرة بن نفير بن الهصان، وهي أم جنوب بنت القتال فخرج القتال في سفر له فلما آب منه أقبل حين أناخ إلى أهله، فوجد عند بنت ورقاء جرير بن الحصين، فلما رأى جرير القتال نهض، فسأل القتال عنه، فقالت له امرأته أم رياح - وهو صفية ويقال ضفيفة بنت الحارث بن الهصان -: إن هذا البيت لبيت لا نزال نسمع فيه ما لا يعجبنا فطلق القتال بنت ورقاء، وهي حامل، فولدت له بعد طلاقها المسيب ابنه.

وقال السكري في خبره: فقال القتال في ذلك:

ولما أن رأيت بني حصـين                      بهم جلف إلى الجارات بـاد

خلعت عذارها ولهيت عنهـا                      كما خلع العذار من الجـواد

وقلت لها: عليك بني حصين                      فما بيني وبينك مـن عـواد

أناديهـا بـأسـفـل واردات                      نكدت أبا المسيب من تنادي? وفي رواية السكري:

أنـاديهـا ومـا يوم كـيوم                      قضى فيه امرؤ وطر الفؤاد

فرحت كأنني سيف صقـيل                      وعزت الجارة بن أبي قراد

 

صفحة : 2672

 

قال: ثم إن كلاب بن ورقاء بن حذيفة بن عمار بن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر، نحر جزورا وصنع طعاما وجمع القوم عليه وقال: كلوا أيها الفتيان ، فإن الطعام فيكم خير منه في الشيوخ . فقال القتال: أنا والله خير للفتيان منك، أرى المرأة قد أعجبت أحدهم فأطلقها له . وفي القوم جرير بن الحصين الذي كان وجده عند امرأته فرفع جرير السوط فضرب به أنف القتال.

ثم إنهم أعطوا القتال حقه فلم يقبله حتى أدرك ابناه: المسيب وعبد السلام.

وقال السكري: حتى احتلم ولده الأربعة، وهم حبيب، وعبد الرحمن، وعبد الحي وعمير، وأمهم: ريا بنت نفر بن عامر بن كعب بن أبي بكر، فحملهم على الخيل حين أظلم الليل، ثم أتى بهم بني حصين فلقي لقاحا لهم ثمانين ، فأشمرها وبات يسوقها، لا تتخلف ناقة إلا عقرها حتى حبسها على الحصى، حين طلعت الشمس، والحصى : ماء لعبد الله بن أبي بكر، فحبسها وزجرهم عنها، حتى جاء بنو حصين فعقلوا له من ضربته أربعين بكرة وأهدرت الضربة، وإنما أخذ الأربعين بكرة مكرها، لأن قومه أجبروه على ذلك.

قال شداد: وفي ابنه عبد السلام، يقول:

عبد السلام تأمل هل ترى ظعنـا                      إني كبرت وأنت اليوم ذو بصر

لا يبعد الله فتيانـا أقـول لـهـم                      بالأبرق الفرد لما فاتني نظري

يا هل ترون بأعلى عاصم ظعنا                      نكبن فحلين واستقبلن ذا بـقـر

صلى على عمرة الرحمن وابنتها                      ليلى وصلى على جاراتها الأخر

هن الحرائر لا ربات أحـمـرة                      سود المحاجر لا يقرأن بالسور قال أبو زيد: وحدثني شداد بن عقبة قال: أتى الأخرم بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد بن أبي بكر ومحصن بن الحارث بن الهصان في نفر من بني أبي بكر القتال وهو محبوس، فشرطوا عليه ألا يذكر عالية في شعره، وهي التي ينسب بها في أشعاره، فضمن ذلك لهم، فأخرجوه من السجن عشاء، ثم راح القوم من السجن، وراح القتال معهم، حتى إذا كان في بعض الليل انحدر يسوق بهم، ويقول:

قلت له يا أخرم بن مال

إن كنت لم تزر على أوصالي

ولم تجدني فاحش الخلال

فارفع لنا من قلص عجال

مستوسقات كالقطا عبال

لعلنا نطرق أم عال

تخيري خيرت في الرجال

بين قصير باعه تنبال

وأمه راعية الجمال

تبيت بين القدر والجعال

أذاك أم منخرق السربال

كريم عم وكريم خال

متلف مال ومفيد مال

ولا تزال آخر الليالي

فلوصه تعثر في النقال النقال: المناقلة .

قال شداد: فنزل القوم فربطوه، ثم آلوا ألا يحلوه حتى يوثق لهم بيمين ألا يذكرها أبدا، ففعل وحلوه . قال: وهي امرأة من بني نصر بن معاوية، وكانت زوجة رجل من أشراف الحي.

قال: وحدثني أبو خالد، قال: كانت لعم القتال سرية، فقال له القتال: لا تطأها ، فإنا قوم نبغض أن تلد فينا الإماء، فعصاه عمه، فضربها القتال بسيفه فقتلها، فادعى عمه أنه قتلها وفي بطنها جنين منه، فمشى القتال إليها فأخرجها من قبرها، وذهب معه بقوم عدول، وشق بطنها وأخرج رحمها حتى رأوه ر حمل فيه، فكذبوا عمه، فقال ، في ذلك:

أنا الذي انتشلتها انتشـالا                      ثم دعوت غلـمة أزوالا

فصدعوا وكذبوا ما قالا وقال وأنشدني أيضا:

أنا الذي ضربتها بالمنصل                      عند القرين السائل المضل

ضربا بكفي بطل لم ينكل وقال السكري في روايته: أراد القتال أن يتزوج بنت المحلق بن حنتم، فتزوجها عبد الرحمن بن صاغر البكائي، فلقي مولاة لها يقال لها: جون، فقال لها: ما فعلت? قالت: تزوجها عبد الرحمن بن صاغر؛ فقال: ما لها ولعبد الرحمن? فقالت له: ذاك ابن فارس عراد. قال: فأنا بن فارس ذي الرحل، وأنا ابن فارس العوجاء ، ثم انصرف وأنشأ يقول:

يا بنت جون أبانت بنـت شـداد?                      نعم لعمري لغور بعـد إنـجـاد

لمطلع الشمس ما هذا بمنـحـدر                      نحو الربيع ولا هذا بـإصـعـاد

قالت فوارس عراد، فقلت لـهـا:                      وفيم أمي من فـرسـان عـراد

فرسان ذي الرحل والعوجاء وابنتها                      فدى لهـم رهـط رداد وشـداد

 

صفحة : 2673

 

والقصيدة التي في أولها الغناء المذكور، يقولها القتال يحض أخاه وعشيرته على تخلصه من المطالبة التي يطالب بها في قتل زياد بن عبيد الله، واحتمال العقل عنه، ويلومهم في قعودهم عن المطالبة بثأر لهم قبل بني جعفر بن كلاب.

وكان السبب في ذلك فيما ذكره عمر بن شبة، عن حميد بن مالك عن أبي خالد الكلابي، قال: كان عمرو بن سلمة بن سكن بن قريظ بن عبد بن أبي بكر، أسلم فحسن إسلامه و وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فاستقطعه حمى بين الشقراء ، والسعدية، والسعدية: ماء لعمرو بن سلمة، والشقراء: ماء لبني قتادة بن سكن بن قريظ، وهي رحبة طولها تسعة أميال في ستة أميال، فأقطعه إياها، فأحمها ابنه جحوش، فاسترعاه نفر من بني جعفر بن كلاب خيلهم وفيهم أحدر بن بشر بن عامر بن مالك بن جعفر، فأرعاهم فحملوا نعمهم مع خيلهم بغير إذنه، فأخبر بذلك فغضب وأراد إخراجهم منه، فقاتلوه، فكانت بينهم شجاج بالعصي والحجارة، من غير رمي ولا طعان ولا تسايف، فظهر عليهم جحوش، ثم تداعوا إلى الصلح ومشت السفراء بينهم على أن يدعوا جميعا الجراحات، فتواعدوا للصلح بالغداة، وأخ لجحوش يقال له سعيد في حلقه سلعة، وهو شنج متنح عن الحي عند امرأة من بني أبي بكر ترقبه، فرجع إلى أخيه ومعه رجلان من قومه، يقال لأحدهما: محرز بن يزيد، وللآخر: الأخدر بن الحارث، فلقيهم قراد بن الأخدر بن بشر بن عامر بن مالك، وابن عمه أبو ذر بن أشهل، ورجل آخر من الجعفريين، فحمل قراد على سعيد فطعنه فقتله، فحذف محرز بن يزيد فرس قراد فعقرها، فأردفه أبو ذر خلفه، ولحفوا بأصحابهم الجعفريين، وأوقد جحوش بن عمرو نار الحرب في رأس جرعاء طويلة، فاجتمعت إليه بنو أبي بكر، وخرج قراد هاربا إلى بشر بن مروان، وهو ابن عمته، حتى إذا كان بالقنان ، حميت عليه الشمس، فأناخ إلى بيت امرأة من بني أسد، فقال في بيتها، فبينا هو نائم إذ نبهته الأسدية فقالت له : ما دهاك ويحك? انظر إلى الطير تحوم حول ناقتك، فخرج يمشي إلى ناقته، فإذا هي قد خدجت، والطير تمزق ولدها، فجاء فأخبرها، فقالت: إن لك لخبرا فأصدقني عنه، فلعله أن يكون لك فيه فائدة، فأخبرها أنه مطلوب بدم، فهو هارب طريد، قالت: فهل وراءك أحد تشفق عليه? فقال: أخ لي يقال له جبأة وهو أحب الناس إلي. قالت: إنه في أيدي أعداءك، فارجع أو امض، فخرج لوجهه إلى بشر.

قال: ولما حرض القتال قومه على الطلب بثأرهم في الجعفريين وعيرهم بالقعود عنهم مضى جميعهم لقتال بني جعفر، فقال لهم الجعفريون: يا قومنا، ما لنا في قتالكم حاجة ، وقاتل صاحبكم قد هرب وهذا أخوه جبأة، فاقتلوه ، فرضوا بذلك فأخذوا جبأة ، فلما صاروا بأسود العين قدمه جحوش فضرب عنقه بأخيه سعيد .

ومما قاله القتال في تحريضهم في قصيدة طويلة:

فيا لأبي بكـر ويا لـجـحـوش                      ولله مولى دعوة لا يجـابـهـا

أفي كل عام لا تـزال كـتـيبة                      ذؤيبية تهفو عليكم عقـابـهـا?

لهم جزر منكم عـبـيط كـأنـه                      وقاع الملوك فتكها واغتصابهـا

وأنتم عديد فـي حـديد وشـكة                      وغاب رماح يجوف القلب غابها

يسقى بن بشر ثم يمسح بطـنـه                      وحولي رجال ما يسوغ شرابها

فما الشر كل الشر لا خير بعـده                      على الناس إلا أن تذل رقابهـا

نساء بن بشر بـدن ونـسـاؤنـا                      بلايا عليها كل يوم سـلابـهـا

تنام فتقضي نومة الليل عرسـه                      وأم سعيد ما تنـام كـلابـهـا

فإن نحن لم نغضب لهم فنثيبهـم                      وكل يد موف إلينـا ثـوابـهـا

فنحن بنو اللائي زعمتم وأنـتـم                      بنو محصنات لم تدنس ثيابـهـا

ألا لـــلـــه درك مـــن                      فتـى قـوم إذا رهــبـــوا

وقالوا: مـن فـتـى لـلـحـر                      ب يرقـبـنـا ويرتـقـــب

فكـنـت فـتـاهـم فـيهــا                      إذا يدعـى لـهــا يثـــب

ذكـرت أخـي فـعـاودنــي                      صداع الـرأس الـوصـــب

كمـا يعـتـاد ذات الـبـــو                      بعـد سـلـوهـا الـطــرب

فدمـع الـعـين مـن بـرحـا                      ء ما في الصـدر ينـسـكـب

 

صفحة : 2674

 

 

كما أودى بماء الشـنة                      المخروزة الـسـرب

على عبد بن زهرة طو                      ل هذا الليل أكـتـئب الشعر لأبي العيال الهذلي والغناء لمعبد ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق وابن المكي وغيرهما مما لا يشك فيه من صنعته، وفي الثالث والرابع من الأبيات لمالك خفيف ثقيل عن الهشامي، ومن الناس من ينسبه إلى معبد أيضا، وفي الأول والثاني والثالث لمعبد أيضا خفيف رمل بالوسطى، عن عمرو بن بانة، وذكر الهشامي وحماد بن إسحاق أنه لابن عائشة، وفيه لمالك هزج بالبنصر فيما ذكر حبش.

 

أخبار أبي العيال ونسبه

أبو العيال بن أبي عنترة ، وقال أبو عمرو الشيباني: ابن أبي عنبر بالباء ولم أجد له نسبا يتجاوز هذا في شيء من الروايات، وهو أحد بني خناعة بن سعد بن هذيل، وهذا أكثر ما وجدته من نسبه، شاعر فصيح مقدم، من شعراء هذيل، مخضرم، أدرك الجاهلية والإسلام، ثم أسلم فيمن أسلم من هذيل، وعمر إلى خلافة معاوية.

وهذه القصيدة يرثى بها ابن عمه عبد بن زهرة، ويقال: إنه كان أخاه لأمه أيضا.

أخبرني محمد بن العباس اليريدي فيما قرأته عليه من شعر هذيل، عن الرياشي، عن الأصمعي، ونسخت أيضا خبره الذي أذكره من نسخة أبي عمرو الشيباني قالا: كان عبد بن زهرة غز الروم في أيام معاوية.

وقال أبو عمرو خاصه: مع يزيد بن معاوية في غزاته التي أغراه أبوه إياها، فأصيب في تلك الغزاة جماعة من المسلمين من رؤسائهم وحماتهم، وكانت شوكة الروم شديدة، قتل فيها عبد العزيز بن زرارة الكلابي، وعبد بن زهرة الهذلي وخلق من المسلمين، ثم فتح الله عليهم، وكان أبو العيال حاضرا تلك الغزاة فكتب إلى معاوية قصيدة قرأها وقرئت على الناس، فبكى الناس وبكى معاوية بكاء شديدا جزعا لما كتب به.

والقصيدة:

من أبي العيال أخي هذيل فاعلموا                      قولي ولا تتجمجموا ما أرسـل

أبلغ معـاوية بـن صـخـر آية                      يهوي إليه بها البريد الأعـجـل

والمرء عمرا فأته بـصـحـيفة                      مني يلوح بها كتاب مـنـمـل لا تتجمجموا: لا تكتموا. والمنمل: كأن سطوره آثار نمل.

 

وإلى ابن سعد أن أؤخره فقـد                      أزرى بنا في قسمه إذ يعدل

وإلى أولي الأحلام حيث لقيتهم                      أهل البقية والكتاب المنـزل في ديوان الرجل: حيث البقية والكتاب المنزل.

 

أنا لقينا بـعـدكـم بـديارنـا                      من جانب الأمراج يوما يسأل

أمرا تضيق به الصدور ودونه                      مهج النفوس وليس عنه معدل

في كل معترك ترى منا فتـى                      يهوى كعزلاء المزادة تزعل تزعل: تدفع دفعا.

 

أو سيدا كهلا يمور دمـاغـه                      أو جانحا في رأس رمح يسعل يسعل: يشرق بالدم.

 

وترى النبال تعير في أقطارنا                      شمسا كأن نصالهن السنبـل

وترى الرماح كأنما هي بيننا                      أشطان بئر يوغلون ونوغـل

حتى إذا رجب تولى فانقضى                      وجماديان وجاء شهر مقبـل

شعبان قدرنا لوقت رحيلهـم                      تسعا يعد لها الوفاء وتكمـل

وتجردت حرب يكون حلابها                      علقا ويمريها الغوي المبطل

فاستقبلوا طرف الصعيد إقامة                      طورا وطورا رحلة فتحملوا قال الأصمعي وأبو عمرو: وكان أبو العيال وبدر بن عامر، وهما جميعا من بني خناعة بن سعد بن هذيل يسكنان مصر، وكانا خرجا إليها في خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، وأبو العيال معه ابن أخ له، فبينا ابن أخي أبي العيال قائم عند قوم ينتضلون إذ أصابه سهم فقتله، فكان فيه بعض الهيج، فخاصم في ذلك أبو العيال، واتهم بدر بن عامر، وخشي أن يكون ضلعه مع خصمائه، فاجتمعا في ذلك في مجلس فتناثا فقال بدر بن عامر:

بخلت فطيمة بـالـي تـولـين                      إلا الكلام وقل مـا يجـدينـي

ولقد تناهى القلب حين نهـيتـه                      عنها وقد يغوي إذا يعصـينـي

أفطيم هل تدرين كم من متلـف                      جاوزت لا مرعى ولا مسكون? يقول فيها:

وأبو العيال أخي ومن يعرض له                      منكم بسوء يؤذنـي ويسـونـي

 

صفحة : 2675

 

 

إني وجدت أبا العيال ورهطه                      كالحصن شد بجندل موضون

أعيا الغرانيق الدواهي دونـه                      فتركنه أبر بالـتـحـصـين

أسد تفر الأسد من وثـبـاتـه                      بعوارض الرجاز أو بعـيون

ولصوته زجل إذا آنـسـتـه                      جر الرحى بشعيره المطحون

وإذا عددت ذوي الثقات وجدته                      ممن يصول به إلي يمـينـي فأجابه أبو العيال فقال:

إن البلاء لدى المقاوس معرض                      ما كان من غيب ورجم ظنون في  الديوان  : لدى المقاوس مخرج: والمقوس الحبل الذي يمد به على صدور الخيل أي فما كان عنده من خير أو شر فسيخرج عند الرهان والعدو .

 

وإذا الجواد وني وأخلف منسرا                      ضمرا فلا توقن لـه بـيقـين

ولو كان عندك ما تقول جعلتني                      كنزا لريب الدهر غير ضنين

ولقد رمقتك في المجالس كلها                      فإذا وأنت تعين من يبغـينـي

هلا درأت الخصم حين رأيتهم                      جنفا علي بألـسـن وعـيون

وزجرت عني كل أشوس كاشح                      ترع المقالة شامخ العـرنـين فأجابه بدر بن عامر فقال:

أقسمت لا أنسى منيحة واحد                      حتى تخيط بالبياض قروني

حتى أصير بمسكن أنوي به                      لقرار ملحدة العداء شطون

ومنحتني جداء حين منحتني                      شحصا بمالئة الحلاب لبون الشحص: ما ليس فيه لبن من المال

وحبوتك النصح الذي لا يشترى                      بالمال فانظر بعد ما تحبونـي

وتأمل السبت الذي أحـذوكـه                      فانظر بمثل إمامه فاحذونـي فأجابه أبو العيال:

أقسمت لا أنسى شباب قصيدة                      أبدا فما هذا الذي ينـسـينـي

ولسوف تنساها وتعلـم أنـهـا                      تبع لآبية العـصـاب زبـون

ومنحتني فرضيت رأي منيحتي                      فإذا بها والله طيف جـنـون

جهراء لا تألو إذا هي أظهرت                      بصرا ولا من حاجة تغنينـي

قرب حذاءك قاحلا أو لـينـا                      فتمن في التخصير والتلسـين

وارجع منيحتك التي أتبعتـهـا                      هوعا وحد مذلق مـسـنـون ولهما في هذا المعنى نقائض طوال بطول ذكرها، وليست لها طلاوة إلا ما يستفاد في شعر أمثالهما من الفصاحة، وإنما ذكرت ما ذكرت ها هنا منها لأني لم أجد لهذا الشاعر خبرا غير ما ذكرته.

 

ألم تسأل بـعـارمة الـديارا                      عن الحي المفارق أين سارا?

بلى ساءلتها فأبـت جـوابـا                      وكيف سؤالك الدمن القفارا? الشعر للراعي، والغناء لإسحاق خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن جامع وإسحاق .

 

نسب الراعي وأخباره

هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر .

ويكنى أبا جندل، والراعي لقب غلب عليه، لكثرة وصفه الإبل، وجودة نعته إياها.

وهو شاعر فحل من شعراء الإسلام، وكان مقدما مفضلا حتى، اعترض بين جرير والفرزدق، استكفه جرير فأبى أن يكف، فهجاه ففضحه.

وقد ذكرت بعض أخباره في ذلك مع أخبار جرير، وأتممتها هنا.

وقصيدة الراعي هذه يمدح بها سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية، وفيها يقول:

ترجي من سعيد بنـي لـؤي                      أخي الأعياص أنواء غـزارا

تلقى نوأهن سـرار شـهـر                      وخير النوء ما لقي السـرارا

خليل تعزب العـلات عـنـه                      إذا ما حـان يومـا أن يزارا

متى ما تأتـه تـرجـو نـداه                      فلا بخلا تخاف ولا اعتـذارا

هو الرجل الذي نسبت قريش                      فصار المجد فيها حيث صارا

وأنضاء تحـن إلـى سـعـيد                      طروقا ثم عجلن ابـتـكـارا

على أكوارهن بنـو سـبـيل                      قليل نـومـهـم إلا غـرارا

حمدن مزاره ولقـين مـنـه                      عطاء لم يكن عدة ضمـارا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: حدثنا الحسن بن الحسين السكري عن الرياشي عن الأصمعي، قال:

 

صفحة : 2676

 

وذكره المغيرة بن حجناء قال: حدثني أبي عن أبيه قال: كان راعي الإبل يقضي للفرزدق على جرير ويفضله، وكان راعي الإبل قد ضخم أمره، وكان من أشعر الناس، فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال قومه فقال: ألا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي ويفضله وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم? قال جرير: ثم ضربت رأيي فيه، فخرجت ذات يوم أمشي إليه. قال: ولم يركب جرير دابته، وقال: والله ما يسرني أن يعلم أحد بسيري إليه. قال: وكان لراعي الإبل وللفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها. قال: فخرجت أتعرض لها لألقاه من حيال حيث كنت أراه.

ثم إذا انصرف من مجلسه لقيته، وما يسرني أن يعلم أحد، حتى إذا هو قد مر على بغلة له، وابنه جندل يسير وراءه راكبا مهرا له أحوى محذوف الذنب وإنسان يمشي معه ويسأله عن بعض السبب، فلما استقبلته قلت له: مرحبا بك يا أبا جندل. وضربت بشمالي إلى معرفة بغلته، ثم قلت: يا أبا جندل، إن قولك يستمع، وإنك تفضل علي الفرزدق تفضيلا قبيحا، وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم، وهو ابن عمي، وليس منك، ولا عليك كلفة في أمري معه، وقد يكفيك من ذلك هين، وأن تقول إذا ذكرنا: كلاهما شاعر كريم، فلا تحمل منه لائمة ولا مني، قال: فبينا أنا وهو كذلك، وهو واقف علي لا يرد جوابا لقولي، إذ لحق بالراعي ابنه جندل، فرفع كرمانية معه، فضرب بها عجز بغلته، ثم قال: أراك واقفا على كلب بني كليب، كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا، فضرب البغلة ضربة شديدة، فزحمتني زحمة وقعت منها قلنسوتي. فوالله لو يعوج علي الراعي لقلت: سفيه غوى - يعني جندلا ابنه - ولكنه لا والله ما عاج علي، فأخذت قلنسوتي فمسحتها وأعدتها على رأسي وقلت:

أجندل ما تقول بـنـو نـمـير                      إذا ما الأير في إست أبيك غابا? قال: فسمعت الراعي يقول لابنه: أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشئومة، قال جرير: ولا والله ما كانت القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي.

فانصرف جرير مغضبا حتى إذا صلى العشاء ومنزله في علية قال: ارفعوا إلي باطية من نبيد، وأسرجوا لي، فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ فجعل يهيم فسمعته عجوز في الدار، فطلعت في الدرجة حتى إذا نظرت إليه فإذا هو على الفراش عريان لما هو فيه، فانحدرت فقالت: ضيفكم مجنون، رأيت منه كذا وكذا، فقالوا لها: اذهبي لطيتك، نحن أعلم به وبما يمارس، فما زال كذلك حتى كان السحر فإذا هو يكبر، قد قالها ثمانين بيتا، فلما بلغ إلى قوله:

فغض الطرف إنك من نمير                      فلا كعبا بلغت ولا كلابـا فذاك حين كبر، ثم قال: أحزيته والله زيته ورب الكعبة أصبح، حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد، وكان جرير يعرف مجلس الراعي ومجلس الفرزدق، فدعا بدهن فادهن ، وكف رأسه، وكان حسن الشعر، ثم قال: يا غلام أسرج لي، فأسرج له حصانا، ثم قصد مجلسهم، حتى إذا كان بموضع السلام لم يسلم، ثم قال: يا غلام، قل لعبيد الراعي: أبعثتك نسوتك تكسبهن المال بالعراق? والذي نفس جرير بيده، لترجعن إليهن بما يسوءهن ولا يسرهن ثم ندفع في القصيدة فأنشدها، فنكس الفرزدق رأسه، وأطرق راعي الإبل، فلو انشقت له الأرض لساخ فيها، وأرم القوم ، حتى إذا فرغ منها، سار، فوثب راعي الإبل من ساعته فركب بغلته بشر وعر ، وتفرق أهل المجلس، وصعد الراعي إلى منزله الذي كان ينزله، ثم قال لأصحابه: ركابكم ركابكم، فليس لكم ها هنا مقام، فضحكم والله جرير فقال له بعضهم: ذلك شؤمك وشؤم جندل ابنك؛ قال: فما اشتغلوا بشيء غير ترحلهم، قالوا: فسرنا والله إلى أهلنا سيرا ما ساره أحد، وهم بالشريف ، وهو أعلى دار بني نمير، فحلف راعي الإبل أنهم وجدوا في أهلهم قول جرير

فغض الطرف إنك من نمير يتناشده الناس، وأقسم بالله ما بلغه إنسان قط، وإن لجرير لأشياعا من الجن فتشاءمت به بنو نمير، وسبوه وسبوا ابنه، فهم إلى الآن يتشاءمون بهم وبولدهم.

وأخبرني بهذا الخبر عمي قال: حدثنا الكراني، قال: حدثني النضر بن عمرو؛ عن أبي عبيدة بمثله أو نحو منه، وقال في خبره: أجئت توقر إبلك لنسائك برا وتمرا? والله لأحملن إلى أعجازها كلاما يبقى ميسمه عليهن ما بقي الليل والنهار يسوءك وإياهن استماعه.

وقال في خبره أيضا: فلما قال:

 

صفحة : 2677

 

 

فغض الطرف إنك نمير وثب وثبة دق رأسه السقف، فجاء له صوت هائل، وسمعت عجوز كانت ساكنة في علو ذلك الموضع صوته فصاحت: يا قوم، ضيفكم والله مجنون، فجئنا إليه وهو يحبو ويقول: غضضته والله، أخزيته والله، فضحته ورب الكعبة، فقلت له: مالك يا أبا حزرة? فأنشدنا القصيدة، ثم غدا بها عليه.

وذكر ابن الكلبي، عن النهشلي، عن مسحل بن كسيب؛ عن جرير في خبره مع الحجاج لما سأله عمن هجاه من الشعراء قال: قال لي الحجاج: مالك وللراعي? فقلت: أيها الأمير، قدم البصرة، وليس بيني وبينه عمل، فبلغني أنه قال في قصيدة له:

يا صاحبي دنا الـرواح فـسـيرا                      غلب الفرزدق في الهجاء جريرا وقال أيضا في كلمة له:

رأيت الجحش جحش بني كليب                      تيمم حوض دجلة ثم هـابـا فأتيته وقلت: يا أبا جندل، إنك شيخ مضر وقد بلغني تفضيلك الفرزدق علي، فإن أنصفتني وفضلتني كنت أحق بذلك، لأني مدحت قومك وهجاهم.

وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكره من تقدم، وقال في خبره: قلت له: إن أهلك بعثوك مائرا، وبئس والله المائر أنت، وإنما بعثني أهلي لأقعد لهم على قارعة هذا المربد، فلا يسبهم أحد إلا سببته فإن علي نذرا إن كحلت عيني بغمض، حتى أخزيك، فما أصبحت حتى وفيت بيميني قال: ثم غدوت عليه فأخذت بعنانه، فما فارقني حتى أنشدته إياها - فلما بلغت قولي:

أجندل ما تقول بـنـو نـمـير                      إذا ما الأير في إست أبيك غابا? قال: فأرسل يدي ثم قال: يقولون شرا والله.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش؛ قال: حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال: قال أبو عبيدة: أنشد جرير الراعي هذه القصيدة والفرزدق حاضر - فلما بلغ فيها قوله:

بها برص بأسفل إسكتيها غطى الفرزدق عنفقته بيده، فقال جرير:

كعنفقة الفرزدق حين شابا فقال الفرزدق: أخزاك الله، والله لقد علمت أنك لا تقول غيرها، قال: فسمع رجلا كان حاضرا أبا عبيدة يحدث بها، فحلف يمينا جزما أن الفرزدق لقن جريرا هذا المصراع بتغطية عنفقته، ولو لم يفعل لما انتبه لذلك، وما كان هذا بيتا . قاله متقدما، وإنما انتبه لذلك.

أخبرنا أبو خليفة قال: حدثنا محمد بن سلام قال: أخبرني أبو الغراف قال: الذي هاج التهاجي بين جرير والراعي أن الراعي كان يسأل عن جرير والفرزدق: الفرزدق أكرمهما وأشعرهما؛ فلقيه جرير فاستعذره من نفسه.

ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدم، وزاد فيه: أن الراعي قال لابنه جندل لما ضرب بغلته:

ألم تر أن كلب بني كليب                      أراد حياض دجلة ثم هابا ونفرت البغلة فزجمته حتى سقطت قلنسوة جرير، فقال الراعي لابنه: أما والله لتكونن فعلة مشئومة عليك وليهجوني وإياك، فليته لا يجاوزنا ولا يذكر نسوتنا. وعلم الراعي أنه قد أساء وندم، فتزعم بنو نمير أنه حلف ألا يجيب جريرا سنة غضبا على ابنه، وأنه مات قبل أن تمضي سنة، ويقول غير بني نمير: إنه كمد لما سمعها فمات كمدا.

أخبرني محمد بن العباد اليزيدي وأبو الحسن علي بن سليمان الأخفض، قالا: حدثنا أبو سعيد السكري، عن محمد بن حبيب وإبراهيم بن سعدان، عن أبي عبيدة وسعدان والمفضل وعمارة بن عقيل، وأخبرنا به أبو خليفة، عن محمد بن سلام، عن أبي البيداء قالوا جميعا: مر راكب بالراعي وهو يتغنى:

وعاو عوى من غير شيء رميته                      بقافية أنفاذها تقطـر الـدمـا

خروج بأفواه الرواة كـأنـهـا                      قرا هندواني إذا هز صمـمـا فسمعها الراعي فأتبعها رسولا، وقال له: من يقول هذين البيتين? قال جرير، فقال الراعي: أؤلام أن يغلبني هذا? والله لو اجتمع الجن والإنس على صاحب هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا.

قال ابن سلام خاصة في خبره: وهذان البيتان لجرير في البعيث، وكذلك كان خبره معه، اعترضه في غير شيء.

أخبرنا أبو خليفة قال: أخبرنا محمد بن سلام، قال: كان الراعي من رجال العرب ووجوه قومه، وكان يقال له في شعره: كأنه يعتسف الفلاة بغير دليل، أي أنه لا يحتذي شعر شاعر، ولا يعارضه، وكان مع ذلك بذيا هجاء لعشيرته، فقال له جرير:

وقرضك في هوزان شر قرض                      تهجنهم وتمتـدح الـوطـابـا أخبرنا أبو خليفة، قال: أخبرنا محمد بن سلام قال: قال أبو الغراف:

 

صفحة : 2678

 

جاور راعي الإبل بني سعد بن زيد مناة بن تميم، فنسب بامرأة منهم من بني عبد شمس، ثم أحد بني وابشي ، فقال:

بني وابشي قد هوينا جـواركـم                      وما جمعتنا نية قبلهـا مـعـا

خليطين من حيين شتى تجـاورا                      جميعا وكانا بالتفرق أمـتـعـا

أرى أهل ليلى لا يبالي أميرهم                      على حالة المحزون أن يتصدعا وقال فيها أيضا:

تذكر هذا القلب هنـد بـنـي سـعـد                      سفاها وجهلا ما تذكـر مـن هـنـد

تذكر عهدا كـان بـينـي وبـينـهـا                      قديما وهل أبقت لك الحرب من عهد? في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالوسطى، وذكر الهشامي أنه لنبيه، وذكر قمري وذكاء وجه الرزة أنه لبنان.

قال ابن سلام: فلما بلغهم شعره أزعجوه وأصابوه، بأذى، فخرج عنهم وقال فيهم:

أرى إبلي تكالأ راعـياهـا                      مخافة جارها الدنس الذميم

وقد جاورتهم فرأيت سعـدا                      شعاع الأمر عازبة الحلوم

مغانيم القرى سرقا إذا مـا                      أجنت ظلمة الليل البهـيم

فأمي أرض قومك إن سعدا                      تحملت المخازي عن تميم أخبرنا أبو خليفة، عن محمد بن سلام، عن عبد القاهر بن السري، قال: وفد الراعي إلى عبد الملك بن مروان، فقال لأهل بيته: تروحوا إلى هذا الشيخ فإني أراه منجبا أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم، عن أبي عبيدة، عن يونس: قال: قدم جندل بن الراعي على بلال بن أبي بردة، وقد مدحه، وكان يكثر ذكر أبيه ووصفه، فقال له بلال: أليس أبوك الذي يقول في بنت عمه، وأمها امرأة من قومه :

فلما قضت من ذي الأراك لبانة                      أرادت إلينا حاجة لا نريدهـا وقد كان بعد هجاء جرير إياه مغلبا? فقال له جندل: لئن كان جرير غلبه لما أمسك عنه عجزا، ولكنه أقسم غضبا علي ألا يجيبه سنة، فأين عن قوله في عدي بن الرقاع العاملي:

لو كنت من أحد يهجى هجوتكـم                      يا بن الرقاع ولكن لست من أحد

تأبى قضاعة لم تعرف لكم نسبـا                      وابنا نزار وأنتم بيضة الـبـلـد قال: فضحك بلال وقال له: أما في هذا فقد صدقت.

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي قالا: حدثنا الحسن بن عليل العنزي، قال: لما أنشد عبيد بن حصين الراعي عبد الملك بن مروان قوله:

فإن رفعت بهم رأسا نعشتهـم                      وإن لقوا مثلها من قابل فسدوا قال له عبد الملك: فتريد ماذا? قال: ترد عليهم صدقاتهم فتنعشهم، فقال عبد الملك: هذا كثير، قال: أنت أكثر منه، قال: قد فعلت، فسلني حاجة تخصك ، قال: قد قضيت حاجتي. قال: سل حاجتك لنفسك? قال: ما كنت لأفسد هذه المكرمة.

حدثني أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني قال: حدثنا يحيى بن الحسن العلوي، قال: حدثنا إسماعيل بن يعقوب، عن عثمان بن نمير، عن أبيه قال: كنت عند العباس بن محمد في يوم شات ، فدخل عليه موسى بن عبد الله بن حسن، فقال له العباس بن محمد: يا أبا الحسن، ما لي أراك متغيرا? فقال له موسى: والله إني لأعرق مما كان اليوم، قال: وما كان يا أبا الحسن? فقال: ذاك أن أمير المؤمنين أخرج لي وللعباس بن الحسن خمسين ألفا: للعباس منها ثلاثون ألفا، والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا ما قال أخو بني العنبر، وجاور هو وراعي الإبل في بني سعد بن زيد مناة، فكانوا إذا مدحهم الراعي أخذوا مال العنبري فأعطوه الراعي، فقال العنبري في ذلك:

أيقطع موصول ويوصل جانـب                      أسعد بن زيد عمرك الله أجملـى

فإنا بأرض ها هنا غـير طـائل                      متى تعلفوا بالرغم والخسف نأكل قال: فقال له العباس: إنكم نازعتم القوم ثوبهم ، وكان عباس وأهله أعوانا له على حذية منكم مع ذلك فعباس الذي يقول لبنت حيدة المحاربية يرثيها:

أتـت دون الـفـراش فـأبـــشـــرتـــنـــا                      مصـيبـتـنـا بـأخــت بـــنـــي حـــداد

كأن الـمـــوت لا يعـــنـــي ســـوانـــا                      عشـية نــحـــوهـــا يحـــدوه حـــادي

فإن خـلـيفة الـــلـــه الـــمـــرجـــى                      وغـيث الـنــاس فـــي الإزم الـــشـــداد

تطـاول لـيلـــه فـــعـــداك حـــتـــى                      كأنـك لا تـــثـــوب إلـــى مـــعـــاد

يظل وحق ذاك كأن شوكاعليه العين تطرف من سهاد

 

صفحة : 2679

 

 

فليت نفوسنا حقا فدتـهـا                      وكل طريف مال أو تلاد وجندل بن الراعي شاعر؛ وهو القائل، وفي شعره هذا صنعة:

طلبت الهوى الغوري حتى بلغتـه                      وسيرت في نجدية ما كـفـانـيا

وقلت لحلمي لا تنزعني عن الصبا                      وللشيب لا تذعر علي الغـوانـيا الشعر لجندل بن الراعي، والغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر؛ عن عمرو من جامع إسحاق وقال الهشامي: وله فيه أيضا ثاني ثقيل، وهو لحن مشهور، وما وجدناه في جامعه، ولعله شذ عنه أو غلط الهشامي في نسبته إليه، وقال حبش: فيه أيضا لإسحاق خفيف رمل.

أخبرني جعفر بن قدام قال: حدثني أبو عبد الله الهشامي قال: قال إسحاق: قال أبو عبيدة: كانت لجندل بن الراعي امرأة من بني عقيل، وكان بخيلا، فنظر إليها يوما وقد هزلت وتخدد لحمها، فأنشأ يقول:

عقيلية أما أعالي عظامها                      فعوج وأما لحمها فقليل فقالت مجيبة له عن ذلك:

عقيلية حسناء أزرى بلحمها                      طعام لديك ابن الرعاء قليل فجعل جندل يسبها ويضربها وهي تقول: قلت فأجبت، وكذبت فصدقت، فما غضبك?

أصبح الحبل من سـلا                      مة رثـا مـجــذذا

حبـذا أنـت يا سـلا                      مة ألـفـين حـبـذا

ثم ألفين مضـعـفـي                      ن وإلـفـين هـكـذا

في صميم الأحشاء مني                      وفي القلب قـد حـذا

حذوة مـن صـبـابة                      تركـتـه مـفـلـذا الشعر لعمار ذي كبار الغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى عن الهشامي. قال الهشامي وذكر يحيى المكي أنه لسليم الوادي لا لحكم.

 

أخبار عمار ذي كبار ونسبه

هو عمار بن عمرو بن عبد الأكبر يلقب ذا كبار، همداني صليبة، كوفي، وجدت ذلك في كتاب محمد بن عبد الله الحزنبل.

وكان لين الشعر ماجنا خميرا معاقرا للشراب، وقد حد فيه مرات، وكان يقول شعرا ظريفا يضحك من أكثره، شديد التهافت جم السخف، وله أشياء صالحة نذكر أجودها في هذا الموضع من أخباره ومنتخب أشعاره؛ وكان هو حماد الراوية ومطيع بن إياس يتنادمون ويجتمعون على شأنهم لا يفترقون، وكلهم كان متهما بالزندقة.

وعمار ممن نشأ في دولة بني أمية، ولم أسمع له بخبر في الدولة العباسية، ولا كان مع شهوة الناس لشعره واستطابتهم إياه ينتجع أحدا ولا يبرح الكوفة لعشاء بصره وضعف نظره .

فأخبرني محمد بن مزيد قال: حدثنا حماد بن إسحاق، عن أبيه، عن هيثم بن عدي عن حماد الراوية، وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا أحمد بن الهيثم الفراسي قال: حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية، ولفظ الرجلين كالمتقارب قال: استقدمني هشام بن عبد الملك في خلافته، وأمر لي بصلة سنية وحملان لما دخلت عليه استنشدني قصيدة الأفوه الأودي:

لنا معاشر لم يبنوا لقـومـهـم                      وإن بني قومهم ما أفسدوا عادوا قال: فأنشدته إياها، ثم استنشدني قول أبي ذؤيب الهذلي:

أمن البنون وريبها تتوجع فأنشدته إياها، ثم استنشدني قول عدي بن يزيد:

أرواح مودع أم بكور فأنشدته إياها، فأمر لي بمنزل وجراية، وأقمت عنده شهرا، فسألني عن أشعار العرب وأيامها ومآثرها ومحاسن أخلاقها، وأنا أخبره وأنشده، ثم أمر لي بجائزة وخلعة وحملان، وردني إلى الكوفة، فعلمت أن أمره مقبل .

ثم استقدمني الوليد بن يزيد بعده، فما سألني عني شيء من الجد إلا مرة واحدة، ثم جعلت أنشده بعدها في ذلك النحو فلا يلتفت إليه، ولا يهش إلى شيء منه، حتى جرى ذكر عمار بن كبار فتشوقه وسأل عنه، وما ظننت أن شعر عمار شيء يراد أو يعبأ به . ثم قال لي: هل عندك شيء من شعره? فقلت: نعم أنا أحفظ قصيدة له، وكنت لكثرة عبثي به قد حفظتها، فأنشدته قصيدته التي يقول فيها:

حبذا أنـت يا سـلا                      مة ألفـين حـبـذا

أشتهي منك منك من                      ك مكانا مجنـبـذا

مفعما في قـبـالة                      بين ركنـين ربـذا

مدغما ذا منـاكـب                      حسن القد محتـذى

رابـيا ذا مـحـسة                      أخنسا قد تقنـفـذا

لم تر العين مثـلـه                      في منام ولا كـذا

تامكا كالسـنـام إذ                      بذ عنـه مـقـذذا

 

صفحة : 2680

 

 

ملء كفي ضجيعهـا                      نال منها تـفـخـذا

لو تأملـتـه دهـش                      ت وعاينت جهـبـذا

طيب العرف والمجس                      ة واللمس هـربـذا

فأجا فـيه فـيه فـي                      ه بأير كـمـثـل ذا

ليت أيري ولـيت ح                      رك جميعا تـآخـذا

فأخذ ذا بـشـعـر ذا                      وأخذ ذا بقـعـر ذا قال: فضحك الوليد حتى سقط على قفاه، وصفق بيديه ورجليه، وأمر بالشراب فأحضر، وأمرني بالإنشاد، فجعلت أنشده هذه الأبيات وأكررها عليه، وهو يشرب ويصفق حتى سكر، وأمر لي بحلتين وثلاثين ألف درهم، فقبضتها، ثم قال لي: ما فعل عمار? فقلت: حي كميت، قد عشي بصره، وضعف جسمه ولا حراك به. فأمر له بعشرة آلاف درهم، فقلت له: ألا أخبر أمير المؤمنين بشيء يفعله لا ضرر عليه فيه، وهو أحب لعمار من الدنيا بحذافيرها لو سيقت إليه? فقال: وما ذاك? قلت: إنه لا يزال ينصرف من الحانات وهو سكران، فترفعه الشرط، فيضرب الحد، فقد قطع بالسياط، وهو لا يدع الشراب ولا يكف عنه. فتكتب بألا يعرض له. فكتب إلى عامله بالعراق ألا يرفع إليه أحد من الحرس عمارا في سكر ولا غيره إلا ضرب الرافع له حدين وأطلق عمارا.

فأخذت المال وجئته به، وقلت له: ما ظننت أن الله يكسب أحدا بشعرك نقيرا ولا يسأل عنه عاقل، حتى كسبت بأوضع شيء قلته ثلاثين ألفا، قال: عز علي فذلك لقلة شكرك يا بن الزانية ، فهات نصيبي منها، فقلت: لقد استغنيت عن ذلك بما خصصت به، ودفعت إليه العشرة درهم. فقال: والله لأنا أشد فرحا بهذا من فرحي بالمال ، فجزيت خيرا من أخ وصديق؛ وقبض المال فلم يزل يشرب حتى مات، وبقيته عنده.

نسخت من كتاب الحزنبل المشتمل على شعر عمار وأخباره: أن عمارا ذا كبار كانت له امرأة يقال لها دومة بنت رباح، وكان يكنيها أم عمار وكانت قد تخلقت بخلقه في شرب الشراب والمجون السفه، حتى صارت تدخل الرجال عليها وتجمعهم على الفواحش، ثم حجت في إمارة يوسف بن عمر فقال لها عمار:

اتقي الله قد حججـت وتـوبـي                      لا يكونن ما صنـعـت خـبـالا

ويك يا دوم لا تدومي على الخـم                      ر ولا تدخلي علـيك الـرجـالا

إن بالمصر يوسفـا فـاحـذريه                      لا تصيري للعالـمـين نـكـالا

وثقيف إن تثـقـفـنـك بـحـد                      لم يساو الإهاب مـنـك قـبـالا

قد مضى ما مضى وقد كان ما كا                      ن وأودى الشباب منـك فـزالا قال: فضربته دومة وخرقت ثيابه ، ونتفت لحيته، وقالت: أتجعلني غرضا لشعرك? فطلقها واشترى جارية حسناء، فزادت في أذاه وضربه غيرة عليه، فشكاها إلى يوسف بن عمر، فوجه إليها بخدم من خدمه، وأمرهم بضربها وكسر نبيذها، وإغرامها ثياب عمار، ففعلوا ذلك، وبلغوا منها الرضا لعمار، فقال في ذلك عمار:

إن عرسـي لا هـدا                      ها الله بنت لـربـاح

كل يوم تـفــزع ال                      جلاس منها بالصياح

وربوخ حين تـؤتـى                      وتهـيا لـلـنـكـاح

كلب دبـاغ عـقـور                      هر من بعد نـبـاح

ولها لون كداجي اللي                      ل من غير صـبـاح

ولسان صارم كالسـي                      ف مشحوذ النواحـي

يقطع الصخر ويفري                      ه كما تفري المساحي

عجل الله خـلاصـي                      من يديها وسراحـي

تتعب الصاحب والجـا                      ر وتبغي من تلاحي

زعمت أني بـخـيل                      وقد أخنى بي سماحي

ورأت كفي صـفـرا                      من تلادي ولقاحـي

كذبت بـنـت ربـاح                      حين همت باطراحي

حاتم لـو كـان حـيا                      عاش في ظل جناحي

ولقد أهلكت مـالـي                      في ارتياحي وسماحي

ثم ما أبـقـيت شـيئا                      غير زادي وسلاحي

وكميت بين أشـطـا                      ن جواد ذي مـراح

يسبق الخيل بتقـريب                      وشـد كـالــرياح

ثم غارت وتـجـنـت                      وأجدت في الصـياح

لابتياعي أملح النـس                      وان في فيء الرماح

 

صفحة : 2681

 

 

دمية المحراب حسنـا                      وحكت بيض الأداحي

هي أشهى لصدى الظ                      مآن من برد القـراح

قلت: يا دومة بـينـي                      إن في البين صلاحي

فأنـا الـيوم طـلـيق                      من إساري ذو ارتياح

لست عمن ظفرت كف                      ي بها اليوم بـصـاح

أنا مجـنـون بـريم م                      طف الخصـر رداح

مشبع الدملج والخلخال                      جوال الـوشـــاح

أن عمار بن عـمـرو                      ذا كبار ذو امـتـداح

وهجاء سار في الـن                      اس لا يمحوه ماحـي

أبدا مـا عـاش ذو رو                      ح ونودي بالـفـلاح قال: وكان لعمار جار يبيع الرؤوس يقال له غلام أبي داود، فطرق عمارا قوم كانوا يعاشرونه ويدعونه فقالوا: أطعمنا واسقنا، ولم يكن عنده شيء يومئذ، فبعث إلى صاحب الرءوس يسأله أن يوجه إليه بثلاثة أرؤس ليعطيه ثمنها إذا جاءه شيء، فلم يفعل، فباع قميصا له واشترى للقوم ما يصلحهم وشربوا عنده، فلما أصبح القوم خرج إلى المحلة، وأهلها مجتمعون، فأنشأ يقول:

غلام لأبــــــي داو                      د يدعى سالـق الـروس

وفي حجـرتـه قـمـل                      كأمثـال الـجـوامـيس

فمن ذا يشـتـري الـرو                      س وقد عشش في الروس

رءوس قـد أراحـــت                      كرءوس في الـنـواويس

تحاكي أوجه الـمـوتـى                      وريحا كـالـكـرابـيس

ينقي القـمـل مـنـهـن                      إذا بـاع بـتـدلـــيس قال: فشاعت الأبيات في الناس، فلم يقرب أحد ذلك الرجل، ولا اشترى منه شيئا، فقام من موضعه ذلك، وعطل حاونوته.

قال: وحضر عمار ذو كبار مع همذان لقبض عطائه، فقال له خالد بن عبد الله: ما كنت لأعطيك شيئا. فقال: ولم أيها الأمير? قال: لأنك تنفق مالك في الخمور والفجور، فقال: هيهات ذلك، وهل بقي لي أرب في هذا وأنا الذي أقول:

أير عمار أصبـح ال                      يوم رخوا قد انكسـر

ألــداء يرى بـــه                      أم من الهم والضجر?

أم بـه أخـذة فـقـد                      تطلق الأخذة النشـر

فلئن كان قوس الـي                      وم أو عضه الكبـر

فلقدما قـضـى ونـا                      ل من اللذة الوطـر

ولقد كنت منـعـظـا                      وأبدا قـائم الـذكـر

وأنا اليوم لـو أرى ال                      حور عندي لما انتشر

ساقط رأسه عـلـى                      خصيتـيه بـه زور

كلما سمته الـنـهـو                      ض إلى كوة عـثـر قال: فضحك خالد، وأمر له بعطائه، فلما قبضه قضى منه دينه، وأصلح حاله، وعاد لشأنه، وقال:

أصبح اليوم أير عـمـا                      ر قد قام واسـبـطـر

أخذ الرزق فاسـتـشـا                      ط قياما من البـطـر

فهو اليوم كالـشـظـا                      ظ من النعظ والأشـر

يترك القرن فـي الـم                      كر صريعا وما فتـر

يشرع العود لـلـطـع                      ان إذا انصاع ذو الخور

سلم نعم الضـجـيع أن                      ت لنا مع الغيم والمطر

ليتني قـد لـقـيتـكـم                      في خلاء من البـشـر

فنشـرنـا حـديثـنـا                      عندكم كل منـتـشـر

خالـيا لـيلة الـتـمـا                      م بسلمى إلى السحـر

فهي كالدرة الـنـقـي                      ة والوجه كالـقـمـر قال: وخرج عمار في بعض أسفاره، ومعه رجل يعرف بدندان، فلما بلغا إلى الفرات نزلا على قرية يقال لها ناباذ، وأراد العبور فلم يجد معبرا فقال له دندان: أنا أعبرك، فنزل معه ما توسطا الفرات خلى عنه، فبعد جهد ما نجا، فقال عمار في ذلك:

كاد دندن بأن يجـعـلـنـي                      يوم ناباذ طعاما للسـمـك

قلت: دندان أغثني فمضـى                      وأنا أعلو وأهوي في الدرك

ولقد أوقعنـي فـي ورطة                      شيبت رأسي وعاينت الملك

لين دندان بـكـفـي أسـد                      أو قتيلا ثاويا فيمن هـلـك أخبرني أبو الحسن الأسدي قال: حدثنا محمد بن صالح بن النطاح، عن أبي اليقظان قال:

 

صفحة : 2682

 

دخل عمار ذو كبار على خالد القسري بالكوفة، فلما مثل بين يديه صاح به: أيها الأمير :

أخلقت ريطتي وأودى القميص                      وإزاري والبطن طاو خميص قال: خالد: فنصنع ماذا? ما كل من أخلقت ثيابه كسوناه فقال:

وخلا منزلي فـلا شـيء فـيه                      لست ممن يخشى عليه اللصوص فقال له خالد: ذلك من سوء فعلك وشربك الخمر بما تعطاه، فقال:

واستحل الأمير حبس عطائي                      خالد إن خالدا لـحـريص فقال خالد وقد غضب: على ماذا ثكلتك أمك? قال:

ذو اجتهاد على العبادة والخي                      ر ولكن في رزقنا تعويص فقال: على ماذا تقبض العطاء ولا غناء فيك عن المسلمين? فقال:

رخص الله في الكتاب لذي العذ                      ر وما عند خالد تـرخـيص فقال: أولم نرخص لذي العذر أن يقيم ويبعث مكانه رسولا? فقال:

كلف البائس الـفـقـير بـديلا                      هل له عنه معدل أو محـيص

العليل الكبير ذا العرج الـظـا                      لع أعشى بعينـه تـلـحـيص

يا أبا الهيثم المبـارك جـد لـي                      بعطاء ما شانـه تـنـغـيص

وبرزقي فإننـا قـد رزحـنـا                      من ضياع وللعيال بـصـيص

كبصيص الفرخين ضمهما العش                      وغاذيهـمـا أسـير فـنـيص قال: فدمعت عينا خالد، فأمر له بعطائه.

و هذه الأبيات من قصيدة يقول فيها:

وترى البيت مـقـشـعـرا قـواء                      من نـواحـيه دورق وأصـيص

وبـجـاد مـمـزق وخـــوان                      ندرت رجله وأخـرى رهـيص

ولـقـد كـان ذا قـوائم مـلـس                      تؤكل اللحم فوقـه والـخـبـيص

شطنت هكذا شـوارد بـالـمـص                      ر وعني لم يلهـه الـتـربـيص

وتولـى فـي كـل بـحـر وبـر                      همه العرس فيه والتحـصـيص

متعال عـلـي اخـر مـحـبـو                      ر يغـاديه بـطة ومـصــوص

وشـواء مـلـهـــوج ورؤوس                      وصيود قد حازها الـتـقـنـيص

ثم لابد يلتقـي الـوزن بـالـقـس                      ط لدى الحشر فاحذروا أن يبوصوا

أكثروا الملك جانـيا واجـمـعـوه                      سوف يودي بذلك الـتـنـقـيص ونسخت من كتاب الحزنبل: أن عمارا وقف على عاصم بن عقيل بن جعدة بن هبيرة المخزومي فقال له:

عاصم يا بن عقـيل                      أفسح العالم باعـا

وارث المجد قديما                      ساميا ينمي ارتفاعا

عن هبير وابنه جع                      دة فاحتل التلاعـا فقال له عاصم: أسمعت يا عمار فقل فقد أبلغت في الثناء ، فقال:

اكسني أصلحك الـل                      ه قميصا وصقاعـا

وأرحني مـن ثـياب                      باليات تـتـداعـى

طال ترقيعي لها حت                      ى لقد صارت رقاعا

كلها لا شيء فـيهـا                      غير قمل تتساعـى

لم تزل تولي الذي ير                      جوك برا واصطناعا فنزع عاصم جبة كانت عليه، وأمر غلامه فجعل تحتها قميصا ودفعها إليه، وأمر له بمائتي درهم.

فأما القصيدة الذالية، التي استحسنها الوليد، وسأل حمادا الراوية عنها فإنها كثيرة المرذول، ولكنها مضحكة طيبة من الشعر المرذول وفيها يقول:

أنت وجدا بها كمغض                      ي جفون على القذى

لم يقل قائل من النـا                      س قولا كنـحـو ذا

تحت حر وصلـتـه                      صار شعرا مهـذذا

قول عمار ذي كـبـا                      ر فيا حسن ما احتذى

عللاني بـذكـرهـا                      واسقياني مـحـذذا

تترك الأذن سـخـنة                      أرجوانا بهـا خـذا ومن صالح شعره قوله:

شجا قلبي غـزال ذو                      دلال واضح السنـه

أسيل الخد مربـوب                      وفي منطقه غـنـه

ألا إن الغوانـي قـد                      برى جسمي هواهنه

وقالوا: شفك الحـور                      هوى قلت لهم: إنه

ولكني عـلـى ذاك                      معنى بـأذاهـنـه

أراح الله عـمـارا                      من الدنيا ومنهـنـه

بعـيدات قـريبـات                      فلا كان ولا كـنـه

 

صفحة : 2683

 

 

فقد أذهل مني العقل                      والقلب شجاهـنـه

يمنـين الأبـاطـيل                      ويجحدن الذي قلنه وقوله أيضا:

يا دوم دام صـلاحـكــم                      وسقاك ربي صفوة الـديم

من كل دان مسبل هـطـل                      متتابع سح مـن الـرهـم

ترد الوحوش إليه سـارعة                      والطير أفواجا من القحـم

قلقلت من وجد بكم كبـدي                      وصدعت صدعا غير ملتئم

وتركتني لعواذلي غرضـا                      كاللحم متركا على الوضـم

برح الخفاء وقد علمت بـه                      إني لحبك غير مكـتـتـم

أخفيته حتى وهى جـلـدي                      وبرى فؤادي واستباح دمي

يا أحسن الثقلـين كـلـهـم                      وأتم من يخطو على قـدم

يصبوا الحليم لحسن بهجتهـا                      ويزيده ألـمـا إلـى ألـم

تفتر عن سمطين من بـرد                      متفلج عن حسن مبتـسـم

كالأقحوان لـغـب سـارية                      جنح العشاء ينير في الظلم

حم اللثات يروق نـاظـره                      ما عيب من روق ولا قصم

تؤمي بكف رطبة خضبـت                      وأنامل ينطفن كالـغـنـم

وبمقلة حـوراء سـاجـية                      وبحاجب كالنون بالـقـلـم

والجيد منها جيد مـغـزلة                      تحنو إلى خشف بذي سلـم

وكدمية المحراب مـاثـلة                      والفرع جثل النبت كالحمم

وكأن ريقتـهـا إذا رقـدت                      راح يفوح بأطيب النـسـم أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الحسن بن أحمد بن طالب الديناري قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي، قال: قال حماد الراوية: أرسل الوليد بن يزيد إلي بمائتي دينار: وأمر يوسف بن عمر بحملي ، على البريد، فقلت: يسألني عن مآثر طرفيه قريش أو ثقيف، فنظرت في كتابي ثقيف وقريش حتى حفظتهما، فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي، فأنشدته منها ما حفظته، ثم قال لي: أنشدني في الشراب، وعنده قوم من وجوه أهل الشام. فأنشدته لعمار ذي كبار:

أصبح القوم قهوة                      في أباريق تحتذى

من كميت مـدامة                      حبذا تلك حـبـذا

تترك الأذن شربها                      أرجوانا بها خـذا فقال: أعدها، فأعدتها، خذوا آذان القوم، قال: فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى نقلنا، ثم حملنا فطرحنا في دار الضيفان، فما أيقظنا إلا حر الشمس وجعل شيخ من أهل الشام يشتمني ويقول: فعل الله بك وفعل، أنت صنعت بنا هذا.

 

شطت ولم تثب الرباب                      ولعل للكلف النـواب

نعب الغراب فراعني                      بالبين إذا نعب الغراب عروضه من الضرب الثالث العروض الثالثة من الكامل.

والشعر: لعبد الله بم مصعب الزبيري، والغناء، لحكم الوادي، ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر، عن إسحاق.

 

أخبار عبد الله بن مصعب ونسبه

عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب.

شاعر فصيح خطيب ذو عارضة وبيان واعتبار بين الرجال وكلام في المحافل، وقد نادم أوائل الخلفاء من بني العباس، وتولى لهم أعمالا، وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير، فلما قتل محمد استتر عنه وقيل: بل كان استتاره مدة يسيرة إلى أن حج أبو جعفر المنصور وآمن الناس جميعا فظهر.

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء، قال: حدثنا الزبير بن بكار، قال: حدثنا عمي وفليح بن إسماعيل، عن الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة قال: دخلت على المهدي، وإذا هو يكتب على الأرض بفحمة قول عبد الله بن مصعب:

فإن يحجبوها أو يحل دون وصلها                      مقـالة واش أو عـبـد أمـير

فلن يمنعوا عيني من دائم البـكـا                      ولن يخرجوا ما قد أجن ضميري

وما برح الواشون حتى بدت لنـا                      بطون الهوى مقلوبة لظـهـور

إلى الله أشكو ما ألاقي من الجوى                      ومن نفس يعتـادنـي وزفـير ويقول أحسن والله عبد الله بن مصعب ما شاء.

 

 

صفحة : 2684

 

وهذه الأبيات تنسب إلى المجنون أيضا؛ وفيها بيتان فيهما غناء ليزيد حوراء خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة، ويقال: إنه للزبير بين دحمان، وذكر حبش أن فيهما لإسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى.

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال: حدثنا عمر بن شبة؛ قال: حدثني محمد بن الحسن بن زياد.

ونسخت هذا الخبر من كتاب أبي سعد العدوي ، عن أبي الطرماح مولى آل مصعب بن الزبير من أهل ضرية، وروايته أتم.

أن عبد الله بن مصعب لما ولي اليمامة مر بالحوأب يوما - وهو ماء لبني أبي بكر بن كلاب، وهو الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - فرأى على الماء جارية منهم، فهويها وهويته، وقال:

يا جمل للواله المستعبر الـوصـب                      ماذا تضمن من حزن ومن نصب?

أنى أتيحت لـه لـلـحـين جـارية                      في غير ما أمم منها ولا صـقـب

جارية من أبي بكر كلفـت بـهـا                      ممن يحل من الحصاء والـحـوب

من غير معرفة إلا تـعـرضـهـا                      حينا لذلك إن الحين مجـتـلـبـي

قامت تعرض لي عمدا فقلت لهـا:                      يا عمرك الله، هل تدرين ما حسبي

بين الحواري والصديق في نـسـب                      ينهى عن الفحش مثلي غير مؤتشب

ولا أدل الـجـارات مـنـسـربـا                      تالله إني لعـزهـاة عـن الـريب فخطبها، وكانت العرب لا تنكح الرجل امرأة شبب بها قبل خطبته، فلم يزوجوها إياه، فلما يئست منه قالت:

إذا خدرت رجلي ذكرت ابن مصعب                      فإن قيل عبد الله، خف فـتـورهـا

ألا ليتني صاحبت ركب ابن مصعب                      إذا ما مطاياه اتلأبـت صـدورهـا

لقد كنت أبكـي والـيمـامة دونـه                      فكيف إذا التفت عليه قصورهـا? قال أبو الطرماح في خبره: وكان لها إخوة شرش غير فقتلوها.

أخبرنا ببعض هذه القصة ابن عمار، عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، عن أبيه، عن أبي عمر الزهري، وذكر الشعرين جميعا والألفاظ قريبة.

وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار، قال: حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبي عمر الزهري، قال: حدثني أبي: أن عبد الله بن مصعب خاصم رجلا من ولد عمر بن الخطاب بحضرة المهدي، فقال له عبد الله بن مصعب: أنا ابن صفية، قال: هل أدنتك من الظل ولولاها لكنت ضاحيا وكنت بين الفرث والحوية . قال: أنا ابن الحواري قال له العمري: بل أنت ابن وردان المكاري قال: وكان يقال: إن أمه كانت تهوى رجلا يكرى الحمير يقال له وردان، فكان من يسبه ينسبه إليه، وقال فيه الشاعر:

أتدعى حواري الرسول سفاهة                      وأنت لوردان الحمير سلـيل فقال: والله لأنا بأبي أشبه من التمرة بالتمرة والغراب بالغراب، قال له العمري: كذبت، وإلا فأخبرني ما بال آل الزبير ثط اللحى وأنت ألحى ومالهم سمرا جعادا وأنت أحمر سبط? قال: ألي تقول هذا يا بن قتيل أبي لؤلؤة قال العمري: يا بن قتيل ابن جرموز على ضلالة، أتعيرني أن قتل أبي رجل نصراني وهو أمير المؤمنين قائما يصلي في محرابه وقد قتل أباك رجل مسلم بين الصفين يدفعه عن باطل، ويدعوه إلى حق، فأنا أقول: رحم الله ابن جرموز، فقل أنت: رحم الله أبا لؤلؤة، ثم أقبل على المهدي فقال: ألا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول عائد الكلب في عمر بن الخطاب، وقد عرفت ما كانت بينه وبين أبيك العباس بن عبد المطلب ابنه عبد الله من المودة، وتعلم ما بين جده عبد الله بن الزبير، وبين جدك عبد الله بن العباس من العداوة فأعن يا أمير المؤمنين أوليائك على أعدائك، فوثب رجل من آل طلحة، فقال له: يا أمير المؤمنين، ألا تكف هذين السفيهين عن تناول أعراض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله? وتكلم الناس بينهما وتوسطوا كلامهما وأكثروا، فأمر المهدي بكفهما والتفريق بينهما.

قال النوفلي: وكان عبد الله بن مصعب يلقب عائد الكلب لقوله:

ما لي مرضت ولم يعدني عائد                      منكم ويمرض كلبكم فأعـود?

وأشد من مرضي على صدودكم                      وصدود عبدكم عـلـي شـديد فلقب عائد الكلب: قال ابن عمار: هكذا حفظي عن النوفلي، وقد يزيد القول وينقص.

لحكم الوادي في هذين البيتين اللذين أولهما:

ما لي مرضت فلم يعدني عائد                      منكم ويمرض كلبكم فأعـود

 

صفحة : 2685

 

لحنان خفيف ثقيل بالوسطى، عن إبراهيم وحبش، ورمل بالوسطى عن الهشامي .

أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار ، قال: حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ، قال: أنشد الأحيحي المهدي قصيدة مدحه بها، وكان عبد الله بن مصعب حاضرا، فحسده على إقبال المهدي عليه، وكان المهدي يحبه، فجعل يخاطب المهدي ويحدثه، فقال له: أمسك فما يشغلني كلامك عنه، فقطع الأحيحي الإنشاد، ثم أقبل على المهدي فقال له:

عبد مناف أبو أبوتـنـا                      وعبد شمس وهاشم توم

بحران خر العوام بينهما                      فالتطما والبحار تلتطم فقال له المهدي: كذاك هو، فدع هذا المعنى وعد إلى ما كنت فيه، وخجل عبد الله فما انتفع بنفسه يومئذ.

قال ابن عمار: فحدثني بعض شيوخنا قال: كنت عند مصعب بن عبد الله الزبيري يوما وقد جرى ذكر الأحيحي، فأنشدته هذين البيتين، فتغير لونه، ثم قال لي: نعم، قد كان خاطب أبي بهما فأمضه، فلما قمنا عنه قال لي: ويحك، أتنشد رجلا كنت تتعلم منه وتأخذ عنه هجاء في أبيه? فقلت له: دعني فإني أحببت أن أغض من كبره قال: وكان في مصعب بعض ذلك.

 

زارت سليمى وكان الحي قد رقدا                      ولم تخف من عدو كاشح رصدا

لقد وفت لك سلمى بالذي وعـدت                      لكن عقبة لم يوف الـذي وعـدا عروضه من البسيط، الشعر لابن مفرغ الحميري، والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن أحمد بن المكي، وفيه لعواد لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس.

وقد تقدمت أخبار ابن مفرغ مستقصاة فيما قبل هذا الكتاب، فاستغنى عن إعادتها ها هنا وإعادة شيء منها، إذ كان قد مضى منها ما فيه كفاية و لله الحمد .

 

ما شأن عينك طلة الأجفـان                      مما تفيض مريضة الإنسان

مطروفة تهمي الدموع كأنها                      وشل تشلشل دائم التهتـان الشعر لعمارة بن عقيل، والغناء لمتيم ثاني ثقيل بالوسطى.

 

أخبار عمارة ونسبه

عمارة هو ابن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية بن الخطفي ، وقد تقدم نسبه ونسب جده في أول الكتاب، ويكنى عمارة أبا عقيل، شاعر مقدم فصيح، وكان يسكن بادية البصرة، ويزور الخلفاء في الدولة العباسية فيجزلون صلته، ويمدح قوادهم وكتابهم فيحظى منهم بكل فائدة، وكان النحويون في البصرة يأخذون عنه اللغة.

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال: سمعت محمد بن يزيد يقول: ختمت الفصاحة في شعر المحدثين بعمارة بن عقيل.

أخبرني محمد بن عميران الصيرفي، والحسن ببن علي، والصولي قالوا: حدثنا الحسن بن عليل الغنزي قال: سمعت يلم بن خالد بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء يقول: كان جدي أبو عمرو يقول: ختم الشعر بذي الرمة، ولو رأى جدي عمارة بن عقيل لعلم أنه أشعر في مذاهب الشعراء من ذي الرمة.

قال العنزي؛ ولعمري لقد صدق.

وسمعت سلما يقول: هو أشد استواء في شعره من جرير، لأن جريرا سقط في شعره وضعف، وما وجدوا لعمارة سقطة واحدة في شعره.

قال العنزي: وحدثني أحمد بن الحكم بن بشر بن أبي عمرو بن العلاء قال: أتيت عمارة أسأله عن شيء أكتبه عنه، فقال لي: من أنت? فقلت أنا ابن الحكم بن بشر بن أبي عمرو بن العلاء فقال لي: كان أبوك صديقي، ثم أنشدني:

بنى لكم العلاء بناء صـدق                      وتعمر ذاك يا حكم بن بشر

فما مدحي لكم لأصيب مالا                      ولكن مدحكم زين لشعري حدثني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا أبو ذكوان قال: حدثنا أبو ملحم قال: هجا عمارة بن عقيل امرأة، ثم أتته في حاجة بعد ذلك، فجعل يعتذر إليها، فقالت له: خفض عليك يا أخي، فلو صر الهجاء أحدا لقتلك وقتل أباك وجدك.

قال مؤلف هذا الكتاب : وكان عمارة هجاء خبيث اللسان، فهجا فروة بن حميصة الأسدي وطال التهاجي بينهما، فلم يغلب أحدهما صاحبه حتى قتل فروة.

وأخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا أبو ذكوان قال: قال لي عمارة: ما هاجيت شاعرا قط إلا كفيت مؤونته في سنة أو أقل من سنة، إما أن يموت، أو يقتل، أو أفحمه، حتى هاجاني أبو الرديني العكلي، فخنقني بالهجاء، ثم هجا بني نمير فقال:

أتوعدني لتقتلـنـي نـمـير                      متى قتلت نمير من هجاها?

 

صفحة : 2686

 

فكفانيه بنو نمير فقتلوه، فقتلت بنو عكل - وهو يومئذ ثلاثمائة رجل - أربعة آلاف رجل من بني نمير. وقتلت لهم شاعرين: رأس الكلب وشاعرأ آخر.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني العنزي قال: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال: حدثني عمارة بن عقيل قال: كنت جالسا مع المأمون، فإذا أنا بهاتف يهتف من خلفي ويقول:

نجى عمارة مـنـا أن مـدتـه                      فيها تراخ وركض السابح النقل

ولو ثقفناه أوهينـا جـوانـحـه                      بذابل من رماح الخط معتـدل

فإن أعناقكم للسيف مـحـلـبة                      وإن ما لكم المرعي كالهمـل

إذ لا يوطن عبد الله مهـجـتـه                      على النزال ولا لصا بنى حمل قال: وهذا الشعر لفروة بن حميصة في. قال: فدخلني من ذلك ما الله يعلمه ، وما ظننت أن شعر فروة وقع إلى من هنالك ، ثم خرج علي بن هشام من المجلس وهو يضحك، فقلت: يا أبا الحسن، أتفعل بي مثل هذا وأنا صديقك? فقال: ليس عليك في هذا شيء، فقلت: من أين وقع إليك شعر فروة? قال: وهل بقي كتاب إلا وهو عندي? فقلت: يا أمير المؤمنين، أهجى في دارك وحضرتك? فضحك، فقلت: يا أمير المؤمنين أنصفني، فقال: دع هذا وأخبرني بخبر هذا الرجل، وما كان بينك وبينه فأنشدته قصيدتي فيه، فلما انتهيت إلى قولي:

ما في السوية أن تجر عليهـم                      وتكون يوم الروع أول صادر أعجب المأمون هذا البيت فقال لي، المأمون: ألهذا القصيدة نقيضة? قلت: نعم، قال: فهاتها، فقلت له: أؤذي سمعي بلساني? فقال: علي ذلك، فأنشدته إياها، فلما بلغت إلى قوله:

وابن المراغة جاحر من خوفنا                      باد بمنزلة الذليل الصـاغـر

يخشى الرياح بأن تكون طليعة                      أو أن تحل به عقوبة قـادر فقال لي: أوجعك يا عمارة، فقلت: ما أوجعته به أكثر.

أخبرني محمد قال: حدثني الحسن قال: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال: حدثني عمارة قال: إنما قتل فروة قولي له:

ما في السوية أن تجر عليهـم                      وتكون يوم الروع أول صادر فلما أحاطت به طيئ وقد كان في معاذ وموئل، وكان كثير الظفر بهم كثير العفو عمن قدر عليه منهم، فقالوا له: والله لا عرضنا لك ولا أوصلنا إليك سوءا فامض لطيتك ولكن الوتر معك فإن لنا فيهم ثأرا، فقال فروة: فأنا إذا كما قال ابن المراغة:

ما في السوية أن تجر عليهـم                      وتكون يوم الروع أول صادر فلم يزل يحمي أصحابه وينكي في القوم حتى اضطرهم إلى قتله، وكان جمعهم أضعاف جمعه .

أخبرني محمد قال: حدثني الحسن قال: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال: قيل لعمارة: أقتلت فروة? فقال: والله ما قتلته ولكني أقتله أي سببت له سببا قتل به .

أخبرني محمد قال: حدثنا الحسن قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: حدثني عمارة قال: رحت إلى المأمون، فكان ربما قرب إلي الشيء من الشراب أشربه بين يديه، وكان يأمر بكتب كثير مما أقوله، فقال لي يوما: كيف قلت: قالت مفداة? ونظر إلي نظرا منكرا، فقلت : يا أمير المؤمنين، مفداة امرأتي، وكانت نظرت إلي وقد افتقرت وساءت حالي، قال: فكيف قلته? فأنشدته:

قالت مفداة لمـا أن رأت أرقـي                      والهم يعتادني من طيفـه لـمـم

أنهبت ما لك في الأدنـين آصـرة                      وفي الأباعد حتى حفك الـعـدم

فاطلب إليهم تجد ما كنت من حسن                      تسدي إليهم فقد ثابت لهم صـرم

فقلت: عاذلتي، أكثرت لائمـتـي                      ولم يمت حاتما هـزلا ولا هـرم قال: فنظر إلي المأمون مغضبا وقال: لقد علت همتك أن ترقى بنفسك إلى هرم وقد خرج من ماله في إصلاح قومه.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني العنزي قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: حدثنا عمارة قال: استشفعت بعلي بن هشام في أن يؤذن لي في الانصراف، فقال: ما أفعل ذلك لأنك تنشد أمير المؤمنين إذا خلوت به وتخبره عن وقائعك وفعالك ثم تخبره أنك مظلوم، وقد أخذ هذا أمير المؤمنين عليك. ثم تذاكرنا فقال: أما تذكر أبا الرازي حين أوقع بقومك وأوقعوا به، ثم تدخل على أمير المؤمنين مغضبا فتقول:

علام نزار الخيل تفأى رءوسنا                      وقد أسلمت مع النبي نزار?

 

صفحة : 2687

 

وهي أبيات قالها حين قتلهم أبو الرازي - وكان عمارة قد خرج من عند المأمون فنظر إلى رؤوس أصحابه، فدخل فأنشد هذا البيت - قال: وأكره أن تتبعك نفسي أمير المؤمنين فيجد على من كلمه فيك، فعليك بعمرو بن مسعدة وأبي عباد فإنهما يكتبان بين يدي أمير المؤمنين، ويخلوان معه ويمازحانه، فأتيت أبا عباد فذكرت له التشوق إلى العيال، وسألته الاستئذان، فصاح في وجهي وقال: مقامك أحب إلى أمير المؤمنين من ظعنك، وما أفعل ما يكرهه فذهبت من فوري إلى عمرو بن مسعدة، فدخلت عليه وهو يختضب، فشكوت إليه الأمر فقال: يا أبا عقيل، لقد أذنت لك في ساعة ما أظهر فيها لأحد، ولي حاجة، قلت: وما هي? قال: ألف درهم تجعل لك في كيس تشتري بها عبدا يؤنسك في طريقك، ولست أقصر فيما تحت. فتلعثمت ساعة وتلكأت، فقال: حقا، لئن لم تأخذها لا كلمتك، فأخذتها وانصرفت وأنا أقول:

عمرو بن مسعدة الكريم فعـالـه                      خير وأمجد مـن أبـي عـبـاد

من لم يزمزم والـداه ولـم يكـن                      بالري علج بـطـانة وحـصـاد

بصرته سبل الرشاد فما اهـتـدى                      لسبيل مـكـرمة ولا لـرشـاد

وعرفت إذ علقت يدي بعـنـانـه                      أني علقت عنـان غـير جـواد

لو كان يعلم إذ يشيح تـحـرقـي                      في كل مكـرمة ولـين قـيادي

عرف المصدق رأيه أني امـرؤ                      يفني العطاء طرائفـي وتـلادي

وأصون عرضي بالسخاء إن غدت                      غبر المحاجر شـعـثـا أولادي أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثنا العنزي قال: حدثني سلم بن خالد قال: أنشد عمارة قصيدة له، فقال فيها: الأرياح والأمطار، فقال له أبو حاتم السجستاني: هذا لا يجوز، إنما هو الأرواح، فقال: لقد جذبني إليها طبعي، فقال له أبو حاتم: قد اعترضه علمي، فقال: أما تسمع قولهم : رياح? فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك، قال: صدقت، ورجع .

حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا الحسن، قال: حدثنا العنزي، قال: قدم عمارة البصرة أيام الواثق، فأتاه علماء البصرة وأنا معهم وكنت غلاما فأنشدهم قصيدة يمدح فيها الواثق فلما بلغ إلى قوله:

وبقيت في السبعين أنهض صاعدا                      فمضى لداتي كلهم فتشبـعـوا بكى على ما مضى من عمره، فقالوا له: أملها علينا، قال: لا أفعل حتى أنشدها أمير المؤمنين، فإني مدحت رجلا مرة بقصيدة فكتبها مني رجل ثم سبقني بها إليه، ثم خرج إلي الواثق فلما قدم أتوه وأنا معهم فأملاها عليهم.

ثم حدثهم فقال: أدخلني إسحاق بن إبراهيم على الواثق، فأمر لي بخلعة وجائزة فجاءني بهما خادم، فقلت: قد بقي من خلعتي شيء قال: وما بقي? قلت: خلع علي المأمون خلعة وسيفا. فرجع إلى الواثق فأخبره، فأمره بإدخالي، فقال: يا عمارة، ما تصنع بسيف? أتريد أن تقتل به بقية الأعراب الذين قتلتهم بمقالك ? قلت: لا والله يا أمير المؤمنين ولكن لي شريك في نخيل لي باليمامة، ربما خانني فيه فلعلي أخربه عليه، فضحك وقال: نأمر لك به قاطعا، فدفع إلى سيفا من سيرفه.

أخبرنا الصولي قال: حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال: حدثني النخعي قال: لما قدم عمارة إلى بغداد قال لي: كلم لي المأمون - وكان النخعي من ندماء المأمون - قال: فما زلت أكلمه حتى أوصلته إليه، فأنشده هذه القصيدة:

حتام قلبك بالحسان موكـل                      كلف بهن وهن عنه ذهل? فلما فرغ قال لي: يا نخعي، ما أدري أكثر ما قال إلا أن أقيسه ، وقد أمرت له لكلامك فيه بعشرين ألف درهم.

حدثني الصولي، قال: حدثني الحسن، قال: حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال: كانت بنو تميم اجتمعت ببغداد على عمارة حين قال شعره الذي يقدم فيه خالد بن يزيد على تميم بن خزيمة، فقالوا له: قطع الله رحمك وأهانك وأذلك، أتقدم غلاما من ربيعة على شيخ من بني تميم، تميم بن خزيمة، وهو مع ذلك من بيت تميم? ولاموه، فقال:

صهوا يا تـمـيم إن شـيبـان وائل                      بطرفهم عنكـم أضـن وأرغـب

أ أن سمت برذونا بطرف غضبتـم                      علي وما في السوق السوم مغضب

فإن أكرمت أو أنجبـت أم خـالـد                      فزند الرياحـين أورى وأثـقـب

 

صفحة : 2688

 

قال: ثم حدثنا عمارة قال: قال لي علي بن هشام - وفيه عصبية على العرب -: قد علمت مكانك مني، وقيامي بأمرك، حتى قربك أمير المؤمنين المأمون، والمائة الألف التي وصلتك أنا سببها، وها هنا من بني عمك من هو أقرب إليك، وأجدر أن يعينني على ما قبل أمير المؤمنين لك، فقلت: ومن هو? قال: تميم بن خزيمة، قال: قلت: إيه، قال: وخالد بن يزيد بن مزيد، قلت: سآتيهما، فبعث معي شاكريا ، من شاكريته، حتى وقف بي على باب تميم، فلما نظر إلي غلمانه أنكروا أمري فدنا الشاكري فقال: أعلموا الأمير أن على الباب بن جرير الشاعر جاء مسلما فتوانوا، وخرج غلام أعرف أنه غلام الأمير، فحجبني ، فدخلني من ذاك ما الله به عالم، فقلت للشاكري: أين منزل خالد? فقال: اتبعني فما كان إلا قليلا حتى وقف بي على بابه، ودخل بعض غلمانه يطلب الإذن، فما كان إلا قليلا حتى خرج في قميصه وردائه، يتبعه حشمه. فقال لي بعض القوم: هذا خالد قد أقبل إليك، قال: فأردت أن أنزل إليه، فوثب وثبة فإذا هو معي آخذ بعضدي يريد أن أتكئ عليه، فجعلت أقول: جعلني الله فداك، أنزل، فيأبى حتى أخذ بعضدي، فأنزلني وأدخلني، وقرب إلي الطعام والشراب، فأكلت وشربت، وأخرج إلي خمسة آلاف درهم وقال: يا أبا عقيل، ما آكل إلا بالدين، وأنا على جناح من ولاية أمير المؤمنين، فإن صحت لي، لم أدع أن أغنيك، وهذه خمسة أثواب خز قد آثرتك بها، كنت قد ادخرتها، قال عمارة، فخرجت وأنا أقول:

أ أترك إن قلت دراهم خـالـد                      زيارتـه إنـي إذا لـلــئيم

فليت بثوبيه لنا كـان خـالـد                      وكان لبكر بالـثـراء تـمـيم

فيصبح فينا سابق متـهـمـل                      ويصبح في بكر أغـم يهـيم

فقد يسلع المرء اللئيم اصطناعه                      ويعتل نقد المرء وهو كـريم قال اليزيدي: يسلع: أي تكثر سلعته. والسلعة: المتاع أخبرني الصولي، قال: حدثني الحسن قال: حدثني محمد بن عبد الله قال: حدثني عمارة قال: لما بلغ خالد بن يزيد هذا الشعر قال لي: يا أبا عقيل، أبلغك أن أهلي يرتضون مني ببديل كما رضيت بنو تميم بتميم بن خزيمة? فقلت: إنما طلبت حظ نفسي وسقت مكرمة إلى أهلي لو جاز ذلك، فما زال يضاحكني.

أخبرني الصولي قال: حدثنا الحسن قال: سمعت عبد الله بن محمد النباجي يقول: سمعت عمارة يقول: ما هجيت بشيء أشد علي من بيت فروة:

وابن المراغة جاحر من خوفنا                      بالوشم منزلة الذليل الصاغر أخبرني محمد بن يحيى قال: حدثني الحسن بن علي العنزي، قال: حدثني النباجي قال: لما قال عمارة يمدح خالدا:

تأبى خلائق خالد وفعـالـه                      إلا تجنب كل أمـر عـائب

فإذا حضرت الباب عند غدائه                      أذن الغداء لنا برغم الحاجب لقيه خالد فقال له: أوجبت والله علي حقا ما حييت.

قال العنزي: وسمعت سلم بن خالد يقول: قلت لعمارة: ما أجود شعرك? قال: ما هجوت به الأشراف. فقلت: ومن هم? قال: بنو أسد، وهل هاجاني أشرف ، من بني أسد? قال: العنزي: وحدثني أبو الأشهب الأسدي من ولد بشر بن أبي خازم قال: لما أنشد فروة بن حميصة قول عمارة فيه:

ما في السوية أن تجر عليهـم                      وتكون يوم الروع أول صادر قال: والله ما قتلني إلا هذا البيت.

فلما تكاثرت عليه الخيل يوم قتل قيل له: انج بنفسك، قال: كلا والله، لا حققت قول عمارة، فصبر حتى قتل.

وكان فروة من أحسن الناس وجها وشعرا وقدا، لو كان امرأة لانتحرت عليه بنو أسد.

أخبرني محمد بن يحيى الصولي، قال: حدثني العنزي، قال: حدثني علي بن مسلم قال: أنشدت يعقوب بن السكيت قصيدة عمارة التي رد فيها على رجاء ابن هارون أخي بني تيم اللات بن ثعلبة التي أولها:

حي الديار كأنـهـا أسـطـار                      بالوحي يدرس صحفها الأخبار

لعب البلى بجديدها وتنفـسـت                      عرصاتها الأرواح والأمطار قال أبو علي: وهذا البيت الذي أخطأ فيه عمارة فقال: الأرياح، فرده عليه أبو حاتم السجستاني وهو يتغيظ - فلما بلغ إلى قوله:

وجموع أسعد إذ تعض رؤوسهم                      بيض يطير لوقعهـن شـرار

حتى إذا عزموا الفرار وأسلموا                      بيضا حواصن ما بهن قـرار

 

صفحة : 2689

 

 

لحقت حفيظتنا بهن ولم نزل                      دون النساء إذا فزعن نغار قال ابن السكيت: لله دره، ما سمعت هجاء قط أكرم من هذا.

أخبرني محمد بن يحيى قال: وفد عمارة على المتوكل، فعمل فيه شعرا، فلم يأت بشيء، ولم يقارب، وكان عمارة قد اختل وانقطع في آخر عمره، فصار إلى إبراهيم بن سعدان المؤدب، وكان قد روى عنه شعره القديم كله، فقال له: أحب أن تخرج إلي أشعاري كلها لأنقل ألفاظها إلى مدح الخليفة، فقال: لا والله أو تقاسمني جائزتك، فحلف له على ذلك، فأخرج إليه شعره، وقلب قصيدة إلى المتوكل، وأخذ بها منه عشرة آلاف درهم، وأعطى إبراهيم بن سعدان نصفها، والله أعلم.

 

تفرق أهلي من مقيم وظاعن                      فلله دري أي أهلي أتـبـع

أقام الذين لا أبالي فراقهـم                      وشط الذين بينهم أتـوقـع الشعر للمتلمس، والغناء لمتيم خفيف ثقيل بالوسطى.

 

أخبار المتلمس ونسبه

المتلمس لقب غلب عليه ببيت قاله وهو:

فهذا أوان العرض جن ذبابه                      زنابيره والأزرق المتلمس واسمه جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس ابن ضبيعة بن ربيعة بن نزار.

قال ابن حبيب فيما أخبرنا به عبد الله بن مالك النحوي عنه: ضبيعات العرب ثلاث كلها من ربيعة: ضبيعة بن ربيعة وهم هؤلاء، ويقال: ضبيعة أضجم، وضبيعة بن قيس بن ثعلبة، وضبيعة بن عجل بن لجيم.

قال: وكان العز والشرف والرآسة على ربيعة في ضبيعة أضجم، وكان سيدها الحارث بن الأضجم، وبه سميت ضبيعة أضجم، وكان يقال للحارث حارث الخير بن عبد الله بن دوفل بن حرب، وإنما لقب بذلك لأنه أصابته لقوة ، فصار أضجم، ولقب بذلك، ولقبت به قبيلته.

ثم انتقلت الرآسة عن بني ضبيعة فصارت في عنزة، وهو عامر بن أسد بن ربيعة بن نزار، وكان يلي ذلك فيهم القدار أحد بني الحارث بن الدول بن صباح بن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة.

ثم انتقلت الرآسة عنهم، فصارت في عبد القيس فكان يليها فيهم الأفكل وهو عمرو.

هنا انقطع ما ذكره الأصفهاني رحمه الله

 

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

آيات التوبة بمشتفاتها اللغوية في المصحف كله

  كلمات ذات صلة بمرادفات التوبة كلمات ذات صلة فَتَابَ التَّوَّابُ فَتُوبُوا وَتُبْ تَابُوا أَتُوبُ التَّوَّابِينَ تُبْتُمْ...