ج19.
بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع
علاء الدين الكاساني
سنة الولادة / سنة الوفاة 587
وَالْمَحِلُّ
مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ فَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ
وَلَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا النِّصْفَ إلَى صَاحِبِهِ فَضَاعَتْ ضمن ( ( ( فمن ) )
) الْمُسَلَّمِ نِصْفُ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ لَا يَضْمَنُ الْقَابِضُ شيئا بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ كانت الْوَدِيعَةُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الْكُلَّ إلَى صَاحِبِهِ وإذا فَعَلَ فَضَاعَتْ لَا
ضَمَانَ عليه بالأجماع
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا استحفظهما ( ( ( استحفظها ) ) )
فَقَدْ رضي بِيَدِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على كل الْوَدِيعَةِ كما إذَا لم تَكُنْ
الْوَدِيعَةُ مُحْتَمِلَةً لِلْقِسْمَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَالِكَ اسْتَحْفَظَ كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا في بَعْضِ الْوَدِيعَةِ لَا في كُلِّهَا فَكَانَ رَاضِيًا بِثُبُوتِ
يَدِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْبَعْضِ دُونَ الْكُلِّ وَهَذَا لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّهُ لَمَّا استحفظهما ( ( ( استحفظها ) ) ) جميعا فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ
الْمَالُ في حِفْظِهِمَا جميعا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ في يَدِ كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلِاسْتِحَالَةِ فَيُقْسَمُ لِيَكُونَ النِّصْفُ في يَدِ
أَحَدِهِمَا وَالنِّصْفُ في يَدِ الْآخَرِ فإذا كان الْمَحَلُّ مُحْتَمِلًا
لِلْقِسْمَةِ لم ( ( ( ولم ) ) ) يَكُنْ رَاضِيًا بكون ( ( ( يكون ) ) ) الكل في
يَدِ أَحَدِهِمَا فإذا فَعَلَ فَقَدْ خَالَفَهُ فَدَخَلَ في ضَمَانِهِ فإذا ضَاعَ
ضَمِنَ بِخِلَافِ ما إذَا لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ إذَا لم
يَحْتَمِلْ تَعَذَّرَ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ في حِفْظِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على
التَّوْزِيعِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَانَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ في يَدِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا في زَمَانَيْنِ على التَّهَايُؤِ فلم يَصِرْ مُخَالِفًا بِالدَّفْعِ
فَهُوَ الْفَرْقُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الذي ذَكَرْنَا الْمُرْتَهِنَانِ وَالْوَكِيلَانِ بِالشِّرَاءِ
إذَا كان الْمَرْهُونُ وَالْمُشْتَرَى مِمَّا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَسَلَّمَهُ
أَحَدُهُمَا إلَى صَاحِبِهِ
وَأَمَّا الثَّانِي وهو الْكَلَامُ فِيمَا فيه تُحْفَظُ الْوَدِيعَةُ فَإِنْ كان
الْعَقْدُ مُطْلَقًا فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا فِيمَا يَحْفَظُ فيه مَالَ نَفْسِهِ
من دَارِهِ وَحَانُوتِهِ وَكِيسِهِ وَصُنْدُوقِهِ لِأَنَّهُ ما الْتَزَمَ
حِفْظَهَا إلَّا فِيمَا يَحْفَظُ فيه مَالَ نَفْسِهِ وَلَيْسَ له أَنْ يَحْفَظَ في
حِرْزِ غَيْرِهِ لِأَنَّ حِرْزَ غَيْرِهِ في يَدِ ذلك الْغَيْرِ وَلَا يَمْلِكُ
الْحِفْظَ بيده فَلَا يَمْلِكُهُ بِمَا في يَدِهِ أَيْضًا إلَّا إذَا اسْتَأْجَرَ
حِرْزًا لِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ فيه لِأَنَّ الْحِرْزَ في يَدِهِ فما في
الْحِرْزِ يَكُونُ في يَدِهِ أَيْضًا فَكَانَ حَافِظًا بِيَدِ نَفْسِهِ فَمَلَكَ
ذلك وَلَهُ أَنْ يَحْفَظَ الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ بِأَنْ يُسَافِرَ بها عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ سَوَاءٌ كان لِلْوَدِيعَةِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ أو لم يَكُنْ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ كان لها حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ
بها وَإِنْ لم يَكُنْ يَمْلِكُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا
يَمْلِكُ كَيْفَ ما كان
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ
الْمُسَافَرَةَ بالوديعة تَضْيِيعُ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ مَضْيَعَةٌ قال
النبي عليه أَفْضَلُ التَّحِيَّةِ الْمُسَافِرُ وَمَالُهُ على قَلْبٍ إلَّا ما
وَقَى اللَّهُ فَكَانَ التَّحْوِيلُ إليهما ( ( ( إليها ) ) ) تَضْيِيعًا فَلَا
يَمْلِكُهُ الْمُودَعِ
وَلَنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ صَدَرَ مُطْلَقًا عن تَعْيِينِ الْمَكَانِ
فَلَا يَجُوزُ التَّعْيِينُ إلَّا بِدَلِيلٍ قَوْلُهُ الْمَفَازَةُ مَضْيَعَةٌ
قُلْنَا مَمْنُوعٌ أو نَقُولُ إذَا كان الطَّرِيقُ مَخُوفًا
أَمَّا إذَا كان أمنا فَلَا وَالْكَلَامُ فِيمَا إذَا كان الطَّرِيقُ أمنا
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ حين كانت الْغَلَبَةُ
لِلْكَفَرَةِ وَكَانَتْ الطَّرِيقُ مَخُوفَةً
وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فَوَجْهُ قَوْلِهِمَا
أَنَّ في الْمُسَافَرَةِ بِمَالِهِ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ضَرَرًا بِالْمَالِكِ
لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْمُودَعُ في السَّفَرِ فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ
من مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ ذلك إلَّا بِحِمْلٍ وَمُؤْنَةٍ عَظِيمَةٍ
فَيَتَضَرَّرُ بِهِ وَلَا كَذَلِكَ إذَا لم يَكُنْ لها حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ لَا يَتَعَرَّضُ لِمَكَانٍ دُونَ مَكَان وَلَا
يَجُوزُ تَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ من غَيْرِ دَلِيلٍ
قَوْلُهُمَا فيه ضَرَرٌ
قُلْنَا هذا النَّوْعُ من الضَّرَرِ ليس بِغَالِبٍ فَلَا يَجِبُ دَفْعُهُ على
أَنَّهُ إنْ كان فَهُوَ الذي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْأَمْرَ وَمَنْ
لم يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ لَا يُنْظَرُ له
هذا إذَا كان الْعَقْدُ مُطْلَقًا عن شَرْطٍ في الْفَصْلَيْنِ جميعا فَأَمَّا إذَا
شَرَطَ فيه شَرْطًا نَظَرَ فيه إنْ كان شَرْطًا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَيُفِيدُ
اُعْتُبِرَ وَإِلَّا فَلَا
بَيَانُ ذلك إذَا أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَشَرَطَ عليه أَنْ يُمْسِكَهَا بيده
لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يَضَعُهَا فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ حتى لو وَضَعَهَا في
بَيْتِهِ أو فِيمَا يُحْرِزُ فيه ما له عَادَةً فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عليه
لِأَنَّ إمْسَاكَ الْوَدِيعَةِ بيده بِحَيْثُ لَا يَضَعُهَا أَصْلًا غير مَقْدُورٍ
له عَادَةً فَكَانَ شَرْطًا لَا يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ فيلغو ( ( ( فيلغى ) ) )
وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْحِفْظِ وَنَهَاهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى امْرَأَتِهِ أو
عَبْدِهِ أو وَلَدِهِ الذي هو في عِيَالِهِ أو من يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بيده
عَادَةً نَظَرَ فيه إنْ كان لَا يَجِدُ بُدًّا من الدَّفْعِ إلَيْهِ له أَنْ
يَدْفَعَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَجِدْ بُدًّا من الدَّفْعِ إلَيْهِ كان النَّهْيِ عن
الدَّفْعِ إلَيْهِ نَهْيًا عن الْحِفْظِ فَكَانَ سَفَهًا فَلَا يَصِحُّ نَهْيُهُ
وَإِنْ كان يَجِدُ بُدًّا من الدَّفْعِ إلَيْهِ ليس له أَنْ يَدْفَعَ
وَلَوْ دَفَعَ يَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّهُ إذَا كان ( ( ( فكان ) ) ) له منه
يد ( ( ( بد ) ) ) في الدَّفْعِ إلَيْهِ أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ وهو
مُفِيدٌ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ في الْحِفْظِ مُتَفَاوِتَةٌ وَالْأَصْلُ في
الشُّرُوطِ اعْتِبَارُهَا ما أَمْكَنَ
وَلَوْ قال لَا تُخْرِجْهَا من الْكُوفَةِ فَخَرَجَ بها تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ
لِأَنَّهُ شَرْطٌ يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وهو مُفِيدٌ
____________________
(6/209)
لِأَنَّ
الْحِفْظَ في الْمِصْرِ أَكْمَلُ من الْحِفْظِ في السَّفَرِ إذْ السَّفَرُ
مَوْضِعُ الْخَطَرِ إلَّا إذَا خَافَ التَّلَفَ عليها فَاضْطُرَّ إلَى الْخُرُوجِ
بها فَخَرَجَ لَا تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بها في هذه الْحَالَةِ
طَرِيقٌ مُتَعَيَّنٌ لِلْحِفْظِ كما إذَا وَقَعَ في دَارِهِ حَرِيقٌ أو كان في
سَفِينَةٍ فَخَافَ الْغَرَقَ فَدَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ
وَلَوْ قال له احْفَظْ الْوَدِيعَةَ في دَارِكَ هذه فَحَفِظَهَا في دَارٍ له
أُخْرَى فَإِنْ كانت الدَّارَانِ في الْحِرْزِ سَوَاءً أو كانت الثَّانِيَةُ
أَحْرَزَ لَا تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَإِنْ
كانت الْأُولَى أَحْرَزَ من الثَّانِيَةِ دَخَلَتْ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ
التَّقْيِيدَ بِهِ عِنْدَ تَفَاوُتِ الْحِرْزِ مُفِيدٌ
وَكَذَلِكَ لو أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهَا في دَارِهِ في هذه الْقِرْيَةِ وَنَهَاهُ
عن أَنْ يَضَعَهَا في دَارِهِ في قَرْيَةٍ أُخْرَى فَهُوَ على هذا التَّفْصِيلِ
وَلَوْ قال له أخبئها ( ( ( أخبأها ) ) ) في هذا الْبَيْتِ وَأَشَارَ إلَى بَيْتٍ
مُعَيَّنٍ في دَارِهِ فَخَبَّأَهَا في بَيْتٍ آخَرَ في تِلْكَ الدَّارِ لَا
تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْبَيْتَيْنِ من دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا
يَخْتَلِفَانِ في الْحِرْزِ عَادَةً بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ فَلَا يَكُونُ
التَّعْيِينُ مُفِيدًا حتى لو تَفَاوَتَا بِأَنْ كان الْأَوَّلُ أَحْرَزَ من
الثَّانِي تَدْخُلُ في ضَمَانِهِ
وَالْأَصْلُ الْمَحْفُوظُ في هذا الْبَابِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ
يُمْكِنُ مُرَاعَاتُهُ وَيُفِيدُ فَهُوَ مُعْتَبَرٌ وَكُلُّ شَرْطٍ لَا يُمْكِنُ
مُرَاعَاتُهُ وَلَا يُفِيدُ فَهُوَ هَدَرٌ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ مُرَاعَاةُ الشُّرُوطِ في الْمَوَاضِعِ
كُلِّهَا حتى إن الْمَأْمُورَ بِالْحِفْظِ في بَيْتٍ مُعَيَّنٍ لَا يَمْلِكُ
الْحِفْظَ في بَيْتٍ آخَرَ من دَارٍ وَاحِدَةٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ اعْتِبَارُ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ على الْوَجْهِ
الذي أَوْقَعَهُ فَلَا يَتْرُكُ هذا الْأَصْلَ إلَّا لِضَرُورَةٍ ولم تُوجَدْ
وَصَارَ كَالدَّارَيْنِ وَالْجَوَابُ نعم إذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ عَاقِبَةٌ
حَمِيدَةٌ فَأَمَّا إذَا خَرَجَ مَخْرَجَ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ فَلَا لِأَنَّ
التَّعْيِينَ عِنْدَ انْعِدَامِ التَّفَاوُتِ في الْحِرْزِ يَجْرِي مَجْرَى
الْعَبَثِ كما إذَا قال احْفَظْ بِيَمِينِكَ وَلَا تَحْفَظْ بِشِمَالِكَ أو
احْفَظْ في هذه الزَّاوِيَةِ من الْبَيْتِ وَلَا تَحْفَظْ في الزَّاوِيَةِ
الْأُخْرَى فَلَا يَصِحُّ التَّعْيِينُ لِانْعِدَامِ الْفَائِدَةِ حتى لو
تَفَاوَتَا في الْحِرْزِ يَصِحُّ بِخِلَافِ الدَّارَيْنِ وَالْأَصْلُ في الدَّارَيْنِ
اخْتِلَافُ الْحِرْزِ فَكَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا حتى لو لم يَخْتَلِفْ
فَالْجَوَابُ فيها كَالْجَوَابِ في الْبَيْتَيْنِ على ما مَرَّ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الْوَدِيعَةِ فَحَالُهَا أنها في يَدِ الْمُودَعِ
أَمَانَةٌ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُؤْتَمَنٌ فَكَانَتْ الْوَدِيعَةُ أَمَانَةً في
يَدِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِكَوْنِهَا أَمَانَةً أَحْكَامٌ منها وُجُوبُ الرَّدِّ
عِنْدَ طَلَبِ الْمَالِكِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } حتى لو حَبَسَهَا
بَعْدَ الطَّلَبِ فَضَاعَتْ ضَمِنَ
هذا إذَا كانت الْوَدِيعَةُ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا كانت مُشَاعًا
لِرَجُلَيْنِ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حِصَّتَهُ لَا يَجِبُ عليه الرَّدُّ
بِأَنْ أَوَدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَدِيعَةً دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ أو ( ( (
وثيابا ) ) ) ثيابا وَغَابَ ثُمَّ جَاءَهُ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ بَعْضَهَا وَأَبَى
الْمُسْتَوْدَعُ ذلك لم يأمره ( ( ( يأمر ) ) ) الْقَاضِي بِدَفْعِ شَيْءٍ إلَيْهِ
ما لم يَحْضُرْ الْغَائِبُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يُقَسِّمُ ذلك وَيَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ وَلَا
يَكُونُ ذلك قِسْمَةً جَائِزَةً على الْغَائِبِ بِلَا خِلَافٍ حتى لو هَلَكَ
الْبَاقِي في يَدِ الْمُودَعِ ثُمَّ جاء الْغَائِبُ له أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ
في الْمَقْبُوضِ عِنْدَهُمْ جميعا
وَلَوْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ في يَدِ الْقَابِضِ ثُمَّ جاء الْغَائِبِ فَلَيْسَ
لِلْقَابِضِ أَنْ يُشَارِكَ صَاحِبَهُ في الْبَاقِي
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْآخِذَ بِأَخْذِ حِصَّتِهِ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ
نَفْسِهِ فَكَانَ له ذلك من غَيْرِ حَضْرَةِ الْغَائِبِ كما إذَا كان لِرَجُلَيْنِ
دَيْنٌ مُشْتَرَكٌ على رَجُلٍ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حِصَّتَهُ من
الدَّيْنِ فإنه يَدْفَعُ إلَيْهِ حِصَّتَهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُودَعَ لو دَفَعَ شيئا إلَى الشَّرِيكِ
الْحَاضِرِ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ من النَّصِيبَيْنِ جميعا
وَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ من نَصِيبِهِ خَاصَّةً لَا وَجْهَ إلَى الْأَوَّلِ
لِأَنَّ دَفْعَ نَصِيبِ الْغَائِبِ إلَيْهِ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا وَلَا سَبِيلَ إلَى
الثَّانِي ولأن نَصِيبَهُ شَائِعٌ في كل الْأَلْفِ لِكَوْنِ الْأَلْفِ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَلَا يتميز ( ( ( تتميز ) ) ) إلَّا بِالْقِسْمَةِ
وَالْقِسْمَةُ على الْغَائِبِ غَيْرُ جَائِزَةٍ وَلَوْ سَلَّمْنَا ذلك حتى قَالَا
إذَا جاء الْغَائِبُ وقد هَلَكَ الْبَاقِي له أَنْ يُشَارِكَ الْقَابِضَ في
الْمَقْبُوضِ وَلَوْ نَفَذَتْ الْقِسْمَةُ لَمَا شَارَكَهُ فيه لِتَمَيُّزِ
حَقِّهِ عن حَقِّ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ وَالْقِيَاسُ على الدَّيْنِ
الْمُشْتَرَكِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْغَرِيمَ يَدْفَعُ نَصِيبَ أَحَدِ الشركين
( ( ( الشريكين ) ) ) بِدَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ لَا مَالِ شَرِيكِهِ الْغَائِبِ
وَهُنَا يَدْفَعُ مَالَ الْغَائِبِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْقِيَاسُ
وَلَوْ كان في يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَاءَهُ رَجُلَانِ وَادَّعَى كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَوْدَعَهُ إيَّاهَا فقال الْمُودَعُ أَوْدَعَهَا أَحَدُكُمَا
وَلَسْتُ أَدْرِي أَيُّكُمَا هو فَهَذَا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا إن اصْطَلَحَ الْمُتَدَاعِيَانِ على أَنْ يَأْخُذَا الْأَلْفَ
وَتَكُونَ بَيْنَهُمَا وإما إنْ لم يَصْطَلِحَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنَّ الْأَلْفَ له خَاصَّةً لَا لِصَاحِبِهِ فَإِنْ اصْطَلَحَا على ذلك فَلَهُمَا
ذلك وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَمْتَنِعَ عن تَسْلِيمِ الْأَلْفِ إلَيْهِمَا
لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْأَلْفَ لِأَحَدِهِمَا وإذا اصْطَلَحَا على أنها
تَكُونُ بَيْنَهُمَا لَا يُمْنَعَانِ عن ذلك وَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَا
____________________
(6/210)
الْمُودَعَ
بَعْدَ الصُّلْحِ وَإِنْ لم يَصْطَلِحَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ
الْأَلْفَ له لَا يَدْفَعُ إلَى أَحَدِهِمَا شيئا لِجَهَالَةِ الْمُقِرِّ له
بالوديعة وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُودَعَ فَإِنْ
اسْتَحْلَفَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَحْلِفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَحْلِفَ لِأَحَدِهِمَا وَيَنْكُلَ لِلْآخَرِ فَإِنْ
حَلَفَ لَهُمَا فَقَدْ انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُمَا لِلْحَالِ إلَى وَقْتِ إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ كما في سَائِرِ الْأَحْكَامِ وَهَلْ يَمْلِكَانِ الِاصْطِلَاحَ على
أَخْذِ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
المعروف ( ( ( والمعروف ) ) ) بين أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَبَيْنَ
مُحَمَّدٍ على قَوْلِهِمَا لَا يَمْلِكَانِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَمْلِكَانِ
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الصُّلْحِ بَعْدَ الْحَلِفِ وقد مَرَّتْ في كِتَابِ الصُّلْحِ
وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا يُقْضَى بِالْأَلْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَضْمَنُ
أَلْفًا أُخْرَى بَيْنَهُمَا فَيَحْصُلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ
كَامِلَةٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ كُلَّ الْأَلْفِ له
فإذا نَكَلَ له وَالنُّكُولُ بَذْلٌ أو إقْرَارٌ فَكَأَنَّهُ بَذَلَ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفًا أو أَقَرَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفٍ
فَيُقْضَى عليه بَيْنَهُمَا بِأَلْفٍ وَيَضْمَنُ أَيْضًا أَلْفًا أُخْرَى تَكُونُ
بَيْنَهُمَا لِيَحْصُلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ كَامِلَةٌ
ولو حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ قَضَى بِالْأَلْفِ لِلَّذِي نَكَلَ
له وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي حَلَفَ له لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةُ من نَكَلَ له لَا
حُجَّةَ من حَلَفَ له
وَمِنْهَا وُجُوبُ الْأَدَاءِ إلَى الْمَالِكِ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِأَدَاءِ
الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا وَأَهْلُهَا مَالِكُهَا حتى لو رَدَّهَا إلَى
مَنْزِلِ الْمَالِكِ فَجَعَلَهَا فيه أو دَفَعَهَا إلَى من هو في عِيَالِ
الْمَالِكِ دَخَلَتْ في ضَمَانِهِ حتى لو ضَاعَتْ يَضْمَنُ بِخِلَافِ
الْعَارِيَّةِ فإن الْمُسْتَعِيرَ لو جاء بِمَتَاعِ الْعَارِيَّةِ وَأَلْقَاهَا في
دَارِ الْمُعِيرِ أو جاء بِالدَّابَّةِ فَأَدْخَلَهَا في إصْطَبْلِهِ كان رَدًّا
صَحِيحًا لِأَنَّ ظَاهِرَ النَّصِّ الذي تَلَوْنَا أَنْ لَا يَصِحَّ إلَّا أنها
صَارَتْ مَخْصُوصَةً عن عُمُومِ الْآيَاتِ فَبَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ على ظَاهِرِهِ
وَلِأَنَّ الْقِيَاسَ في الْمَوْضِعَيْنِ ما ذَكَرنَا من لُزُومِ الرَّدِّ إلَى
الْمَالِكِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا في الْعَارِيَّةِ لِلْعَادَةِ الْجَارِيَةِ
فيها بِرَدِّهَا إلَى بَيْتِ الْمَالِكِ أو بِدَفْعِهَا إلَى من في عِيَالِهِ حتى
لو كانت الْعَارِيَّةُ شيئا نَفِيسًا كَعِقْدِ جَوْهَرٍ وَنَحْوِ ذلك لَا يَصِحُّ
الرَّدُّ لِانْعِدَامِ جَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذَلِكَ في الْأَشْيَاءِ
النَّفِيسَةِ ولم تَجْرِ بِهِ الْعَادَةُ في مَالِ الْوَدِيعَةِ فَتَبْقَى على
أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ مَبْنَى الْإِيدَاعِ على السِّتْرِ وَالْإِغْفَاءِ
عَادَةً فإن الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُودَعُ مَالَ غَيْرِهِ سِرًّا عن الناس لِمَا
يَتَعَلَّقُ بِهِ من الْمَصْلَحَةِ فَلَوْ رَدَّهُ على غَيْرِ الْمَالِكِ
لَانْكَشَفَ إذْ السِّرُّ إذَا جَاوَزَ اثْنَيْنِ يَفْشُو فَيَفُوتُ الْمَعْنَى
الْمَجْعُولُ له الْإِيدَاعُ بِخِلَافِ الْعَارِيَّةِ لِأَنَّ مَبْنَاهَا على
الْإِعْلَانِ وَالْإِظْهَارِ لِأَنَّهَا شُرِعَتْ لِحَاجَةِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى
اسْتِعْمَالِهَا في حَوَائِجِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِعْمَالُ سِرًّا عن الناس
عَادَةً وَالرَّدُّ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يُفَوِّتُ ما شرع ( ( ( شرعت ) ) )
له الْعَارِيَّةُ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا ضَاعَتْ في يَدِ الْمُودَعِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا
يَضْمَنُ لِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال ليس على
الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغَلِّ الضَّمَانُ وَلَا على الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرِ
الْمُغَلِّ الضَّمَانُ وَلِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ فَالْهَلَاكُ في يَدِهِ
كَالْهَلَاكِ في يَدِ الْمَالِكِ
وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا نَقْصٌ لِأَنَّ النُّقْصَانَ هَلَاكُ بَعْضِ
الْوَدِيعَةِ وَهَلَاكُ الْكُلِّ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ
أَوْلَى
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُودَعَ مع الْمُودِعِ إذَا اخْتَلَفَا فقال الْمُودَعُ
هَلَكَتْ أو قال رَدَدْتُهَا إلَيْكَ وقال الْمَالِكُ بَلْ اسْتَهْلَكْتُهَا
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي على الْأَمِينِ
أَمْرًا عَارِضًا وهو التَّعَدِّي وَالْمُودَعُ مُسْتَصْحِبٌ لِحَالِ الْأَمَانَةِ
فَكَانَ مُتَمَسِّكًا بِالْأَصْلِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لَكِنَّ مع
الْيَمِينِ لِأَنَّ التُّهْمَةَ قَائِمَةٌ فَيُسْتَحْلَفُ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال الْمُودِعُ اُسْتُهْلِكَتْ من غَيْرِ أذني وقال الْمُودَعُ
بَلْ اسْتَهْلَكْتَهَا أنت أو غَيْرُكَ بِأَمْرِكَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ
الْمُودَعِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال إنَّهَا قد ضَاعَتْ ثُمَّ قال بَعْدَ ذلك بَلْ كنت رَدَدْتُهَا إلَيْكَ
لكني أُوهِمْتُ لم يُصَدَّقْ وهو ضَامِنٌ لِأَنَّهُ نَفَى الرَّدَّ بِدَعْوَى
الْهَلَاكِ وَنَفَى الْهَلَاكَ بِدَعْوَى الرَّدِّ فَصَارَ نَافِيًا ما أَثْبَتَهُ
مُثْبِتًا ما نَفَاهُ وَهَذَا تَنَاقُضٌ فَلَا تُسْمَعُ منه دَعْوَى الضَّيَاعِ
وَالرَّدِّ لِأَنَّ الْمُنَاقِضَ لَا قَوْلَ له وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى
دَعْوَتَيْنِ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ في كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَقَدْ ذَهَبَتْ
أَمَانَتُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُغَيِّرُ حَالَ الْمَعْقُودِ عليه من الْأَمَانَةِ
إلَى الضَّمَانِ فَأَنْوَاعٌ منها تَرْكُ الْحِفْظِ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ
الْتَزَمَ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ على وَجْهٍ لو تَرَكَ حِفْظَهَا حتى هَلَكَتْ
يَضْمَنُ بَدَلَهَا وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَلِهَذَا لو رَأَى إنْسَانًا
يَسْرِقُ الْوَدِيعَةَ وهو قَادِرٌ على مَنْعِهِ ضَمِنَ لِتَرْكِ الْحِفْظِ
الْمُلْتَزَمِ بِالْعَقْدِ وهو مَعْنَى قَوْلِ مَشَايِخِنَا إنَّ الْمُودَعَ
يُؤْخَذُ بِضَمَانِ الْعَقْدِ
وَمِنْهَا تَرْكُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ بِأَنْ خَالَفَهُ في الْوَدِيعَةِ بِأَنْ
كانت الْوَدِيعَةُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ أو دَابَّةً فَرَكِبَهَا أو عَبْدًا
فَاسْتَعْمَلَهُ أو أَوْدَعَهَا من ليس في
____________________
(6/211)
عِيَالِهِ
وَلَا هو مِمَّنْ يَحْفَظُ مَالَهُ بيده عَادَةً لِأَنَّ الْمُلْتَزَمَ
بِالْعَقْدِ هو الْحِفْظُ لِلْمَالِكِ فإذا حَفِظَ لِنَفْسِهِ فَقَدْ تَرَكَ
الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ فَدَخَلَتْ في ضَمَانِهِ
وحكي عن الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الهنداوي ( ( ( الهندواني ) ) ) أَنَّهُ مَنَعَ
دُخُولَ الْعَيْنِ في ضَمَانِهِ في الْمُنَاظَرَةِ حين قَدِمَ بُخَارَى وسأل ( ( (
وسئل ) ) ) عن هذه الْمَسْأَلَةِ وَهَذَا خِلَافُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ فإنه قال
يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ وَالْبَرَاءَةُ عن الضَّمَانِ بَعْدَ الدُّخُولِ في
الضَّمَانِ تَكُونُ وَكَذَلِكَ الْمُودِعُ مع الْمُودَعِ إذَا اخْتَلَفَا فقال
الْمُودَعُ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ أو رَدَدْتُهَا إلَيْكَ
وقال الْمَالِكُ اسْتَهْلَكْتَهَا
إنْ كانت قبل الْخِلَافِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ وَإِنْ كان بَعْدَهُ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ وَنَحْوِ ذلك مِمَّا يَدُلُّ على دُخُولِ
الْوَدِيعَةِ في ضَمَانِهِ بِالْخِلَافِ وَإِنْ خَالَفَ في الْوَدِيعَةِ ثُمَّ
عَادَ الْوِفَاقُ يَبْرَأْ عن الضَّمَانِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ لَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَمَّا دَخَلَتْ في ضَمَانِ الْمُودَعِ
بِالْخِلَافِ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ ولم
يُوجَدْ
فَصَارَ كما لو جَحَدَ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ أَقَرَّ بها
وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَأْجَرُ إذَا خَالَفَا ثُمَّ عادا ( ( ( عاد
) ) ) إلَى الْوِفَاقِ لَا يَبْرَآنِ عن الضَّمَانِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَنَا أنه بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ وَالْمُودَعُ إذَا هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ
من غَيْرِ صُنْعِهِ لَا ضَمَانَ عليه كما قبل الْخِلَافِ
وَدَلَالَةُ أَنَّهُ بَعْدَ الْخِلَافِ مُودَعٌ أَنَّ الْمُودَعَ من يَحْفَظُ
مَالَ غَيْرِهِ له بِأَمْرِهِ وهو بَعْدَ الْخِلَافِ وَالِاشْتِغَالِ بِالْحِفْظِ
حَافِظٌ مَالَ الْمَالِكِ له بِأَمْرِهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ تَنَاوَلَ ما بَعَدَ
الْخِلَافِ
قَوْلُهُ الْوَدِيعَةُ دَخَلَتْ في ضَمَانِ الْمُودَعِ فَيَرْتَفِعُ الْعَقْدُ
قُلْنَا مَعْنَى الدُّخُولِ في ضَمَانِ الْمُودَعِ أنه انْعَقَدَ سَبَبُ وُجُوبِ
الضَّمَانِ مَوْقُوفًا وُجُوبُهُ على وُجُودِ شَرْطِهِ وهو الْهَلَاكُ في حَالَةِ
الْخِلَافِ لَكِنَّ هذا لم يُوجِبْ ارْتِفَاعَ الْعَقْدِ أَلَيْسَ أَنَّ من
وَكَّلَ إنْسَانًا ببيع ( ( ( يبيع ) ) ) عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ
بِأَلْفٍ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي دخل الْعَبْدُ في ضَمَانِهِ لِانْعِقَادِ
سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وهو تَسْلِيمُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى غَيْرِهِ من غَيْرِ
إذْنِهِ وَمَعَ ذلك بَقِيَ الْعَقْدُ حتى لو أَخَذَهُ كان له بَيْعُهُ
بِأَلْفَيْنِ كَذَا هذا
على أَنَّا إنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ لَكِنْ في قَدْرِ ما فَاتَ
وحكمه من حَقِّهِ وهو الْحِفْظُ الْمُلْتَزَمُ لِلْمَالِكِ في زَمَانِ الْخِلَافِ
لَا فِيمَا بَقِيَ في الْمُسْتَقْبَلِ كما إذَا اسْتَحْفَظَهُ بِأَجْرِ كل شَهْرٍ
بِكَذَا وَتَرَكَ الْحِفْظَ في بَعْضِ الشَّهْرِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِهِ في
الْبَاقِي بَقِيَ الْعَقْدُ في الْبَاقِي يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ بِقَدْرِهِ
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الِارْتِفَاعَ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ حُكْمِ
الْعَقْدِ فَلَا يَظْهَرُ إلَّا في قَدْرِ الْفَائِتِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ
وَالْإِعَارَةِ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ تَمْلِيكُ
مَنَافِعَ مُقَدَّرَةٍ بِالْمَكَانِ أو الزَّمَانِ فإذا بَلَغَ الْمَكَانَ
الْمَذْكُورَ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ لِانْتِهَاءِ حُكْمِهِ فَلَا يَعُودُ
إلَّا بِالتَّجْدِيدِ وَكَذَا الْإِعَارَةُ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَنَا
إلَّا أنها تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ
وَأَمَّا حُكْمُ عَقَدِ الْوَدِيعَةِ فَلُزُومُ الْحِفْظِ لِلْمَالِكِ مُطْلَقًا
أو شَهْرًا أو ( ( ( وزمان ) ) ) زمان ما بَعْدَ الْخِلَافِ دَاخِلٌ في الْمُطْلَقِ
وَالْوَقْتِ فَلَا يَنْقَضِي بِالْخِلَافِ بَلْ يَتَقَرَّرُ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَمِنْهَا جُحُودُ الْوَدِيعَةِ في وَجْهِ الْمَالِكِ عِنْدَ طَلَبِهِ حتى لو
قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على الْإِيدَاعِ أو نَكَلَ الْمُودَعُ عن الْيَمِينِ أو
أَقَرَّ بِهِ دَخَلَتْ في ضَمَانِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا ظَهَرَ بِالْحُجَّةِ
فَقَدْ ظَهَرَ ارْتِفَاعُهُ بِالْجُحُودِ أو عِنْدَهُ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا
طَلَبَ منه الْوَدِيعَةَ فَقَدْ عَزَلَهُ عن الْحِفْظِ وَالْمُودَعُ لَمَّا جَحَدَ
الْوَدِيعَةَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ فَقَدْ عَزَلَ نَفْسَهُ عن الْحِفْظِ
فَانْفَسَخَ الْعَقْدُ فَبَقِيَ مَالُ الْغَيْرِ في يَدِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
فَيَكُونُ مَضْمُونًا عليه فإذا هَلَكَ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ
وَلَوْ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على هَلَاكِهَا فَهَذَا
لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها
هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ أو قبل الْجُحُودِ أو مُطْلَقًا فَإِنْ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ على أنها هَلَكَتْ بَعْدَ الْجُحُودِ أو مُطْلَقًا لَا يَنْتَفِعُ
بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّ الْعَقْدَ ارْتَفَعَ بِالْجُحُودِ أو عِنْدَهُ فَدَخَلَتْ
الْعَيْنُ في ضَمَانِهِ
وَالْهَلَاكُ بَعْدَ ذلك يُقَرِّرُ الضَّمَانَ لَا أَنْ يُسْقِطَهُ
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها هَلَكَتْ قبل الْجُحُودِ تُسْمَعُ
بَيِّنَتُهُ وَلَا ضَمَانَ عليه لِأَنَّ الْهَلَاكَ قبل الْجُحُودِ لَمَّا ثَبَتَ
بِالْبَيِّنَةِ فَقَدْ ظَهَرَ انْتِهَاءُ الْعَقْدِ قبل الْجُحُودِ فَلَا
يَرْتَفِعُ بِالْجُحُودِ فَظَهَرَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هَلَكَتْ من غَيْرِ صُنْعِهِ
فَلَا يَضْمَنُ
وَلَوْ ادَّعَى الْهَلَاكَ قبل الْجُحُودِ وَلَا بَيِّنَةَ له وَطَلَب الْيَمِينَ
من الْمُودِعِ حَلَّفَهُ الْقَاضِي بِاَللَّهِ تَعَالَى ما لم يَعْلَمُ أنها
هَلَكَتْ قبل جُحُودِهِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ في بَابِ الِاسْتِحْلَافِ أَنَّ الذي
يُسْتَحْلَفُ عليه لو كان أَمْرًا لو أَقَرَّ بِهِ الْحَالِفُ لَلَزِمَهُ
فإذا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ وَهُنَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَالِكَ لو أَقَرَّ
بِالْهَلَاكِ قبل الْجُحُودِ لَقُبِلَ منه وَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عن الْمُودَعِ
فإذا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لَكِنْ على الْعِلْمِ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ على
فِعْلِ غَيْرِهِ
هذا إذَا جَحَدَ حَالَ حَضْرَةِ الْمَالِكِ فَإِنْ جَحَدَ عِنْدَ غَيْرِ
الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ قال أبو يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ وقال زُفَرُ رَحِمَهُ
اللَّهُ يَضْمَنُ في الْحَالَيْنِ جميعا
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّ ما هو سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ لَا يَخْتَلِفُ
بِالْحَضْرَةِ وَالْغِيبَةِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ
وَجْهُ قَوْلِ
____________________
(6/212)
أبي
يُوسُفَ أَنَّ الْجُحُودَ سَبَبٌ لِلضَّمَانِ من حَيْثُ إنَّهُ يَرْفَعُ الْعَقْدَ
بِالْعَزْلِ على ما بَيَّنَّا وَلَا يَصِحُّ الْعَزْلُ حَالَةَ الْغَيْبَةِ فَلَا
يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ وَلِأَنَّ الْجُحُودَ عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ
غَيْبَتِهِ مَعْدُودٌ من بَابِ الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عُرْفًا وَعَادَةً
لِأَنَّ مَبْنَى الْإِيدَاعِ على السِّتْرِ وَالْإِخْفَاءِ فَكَانَ الْجُحُودُ
عِنْدَ غَيْرِ الْمَالِكِ حَالَ غَيْبَتِهِ حِفْظًا مَعْنًى فَكَيْفَ يَكُونُ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَمِنْهَا الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أو مَعْنًى وهو إعْجَازُ الْمَالِكِ عن
الِانْتِفَاعِ بالوديعة لِأَنَّ إتْلَافَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ حتى لو طَلَبَ الْوَدِيعَةَ فَمَنَعَهَا الْمُودَعُ مع
الْقُدْرَةِ على الدَّفْعِ وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ حتى هَلَكَتْ يَضْمَنُ
لِأَنَّهُ لَمَّا حَبَسَهَا عنه عَجَزَ عن الِانْتِفَاعِ بها لِلْحَالِ فَدَخَلَتْ
في ضَمَانِهِ فإذا هَلَكَتْ تَقَرَّرَ الْعَجْزُ فَيَجِبُ الضَّمَانُ
وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِتْلَافِ وَادَّعَى أَنَّهُ كان بِإِذْنِ الْمَالِكِ
لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ في الْأَصْلِ وَقَوْلُهُ كان بِإِذْنِ الْمَالِكِ دَعْوَى أَمْرٍ
عَارِضٍ فَلَا تُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَكَذَلِكَ الْمُودَعُ إذَا خَلَطَ الْوَدِيعَةَ بِمَالِهِ خَلْطًا لَا
يَتَمَيَّزُ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ إذَا كان لَا يَتَمَيَّزُ فَقَدْ عَجَزَ
الْمَالِكُ من الِانْتِفَاعِ بالوديعة فَكَانَ الْخَلْطُ منه إتلاف ( ( ( إتلافا )
) ) فَيَضْمَنُ وَيَصِيرُ مِلْكًا بِالضَّمَانِ وَإِنْ مَاتَ كان ذلك لِجَمِيعِ
الْغُرَمَاءِ وَالْمُودَعُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فيه وَلَوْ اخْتَلَطَتْ
بِمَالِهِ بِنَفْسِهَا من غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَضْمَنُ وهو شَرِيكٌ لِصَاحِبِهَا
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ منه بَلْ تَلِفَتْ
بِنَفْسِهَا لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ من جِهَتِهِ وَأَمَّا كَوْنُهُ شَرِيكًا
لِصَاحِبِهَا فلوجود ( ( ( فلوجوده ) ) ) مَعْنَى الشَّرِكَةِ وهو اخْتِلَاطُ
الْمِلْكَيْنِ
وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَخَلَطَ
الْمُودَعُ الْمَالَيْنِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ فَلَا سَبِيلَ لَهُمَا على
أَخْذِ الدَّرَاهِمِ ويضمن ( ( ( يضمن ) ) ) الْمُودَعُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَلْفًا وَيَكُونُ الْمَخْلُوطُ له
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ هُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَا اقْتَسَمَا
الْمَخْلُوطَ نِصْفَيْنِ وَإِنْ شَاءَا ضَمَّنَا الْمُودَعَ أَلْفَيْنِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ سَائِرُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ إذاخلطا
الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ خَلْطًا لَا يَتَمَيَّزُ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ وَالدُّهْنِ بِالدُّهْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا إن الْوَدِيعَةَ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا لَكِنْ عَجَزَ
الْمَالِكُ عن الْوُصُولِ إلَيْهَا بِعَارِضِ الْخَلْطِ فَإِنْ شَاءَا اقْتَسَمَا
لِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْقِيَامِ وَإِنْ شَاءَا ضَمَّنَا لِاعْتِبَارِ جِهَةِ الْعَجْزِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَمَّا خَلَطَهُمَا خَلْطًا
لَا يَتَمَيَّزُ فَقَدْ عَجَزَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عن الِانْتِفَاعِ
بِالْمَخْلُوطِ فَكَانَ الْخَلْطُ منه إتْلَافَ الْوَدِيعَةِ عن كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا فَيَضْمَنُ وَلِهَذَا يَثْبُتُ اخْتِيَارُ التَّضْمِينِ عِنْدَهُمَا
وَاخْتِيَارُ التَّضْمِينِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوُجُودِ الْإِتْلَافِ
دَلَّ أَنَّ الْخَلْطَ منه وَقَعَ إتْلَافًا
وَلَوْ أَوَدَعَهُ رَجُلٌ حِنْطَةً وَآخَرُ شَعِيرًا فَخَلَطَهُمَا فَهُوَ ضَامِنٌ
لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِثْلَ حَقِّهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْخَلْطَ
إتْلَافٌ وَعِنْدَهُمَا لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا الْعَيْنَ وَيَبِيعَاهَا
وَيَقْتَسِمَا الثَّمَنَ على قِيمَةِ الْحِنْطَةِ مَخْلُوطًا بِالشَّعِيرِ وَعَلَى
قِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرِ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ
تَنْقُصُ بِخَلْطِ الشَّعِيرِ وهو يَسْتَحِقُّ الثَّمَنَ لِقِيَامِ الْحَقِّ في
الْعَيْنِ وهو مُسْتَحِقُّ الْعَيْنِ بِخِلَافِ قِيمَةِ الشَّعِيرِ لِأَنَّ
قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ بِالْخَلْطِ بِالْحِنْطَةِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ
مِلْكُ الْغَيْرِ فَلَا يَسْتَحِقُّهَا صَاحِبُ الشَّعِيرِ وَلَوْ أَنْفَقَ
الْمُودَعُ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ ضَمِنَ قَدْرَ ما أَنْفَقَ وَلَا يَضْمَنُ
الْبَاقِيَ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه إلَّا إتْلَافُ قَدْرِ ما أَنْفَقَ وَلَوْ
رَدَّ مثله فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي يَضْمَنُ الْكُلَّ لِوُجُودِ إتْلَافِ الْكُلِّ
منه النِّصْفُ بِالْإِتْلَافِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي بِالْخَلْطِ لِكَوْنِ
الْخَلْطِ إتْلَافًا على ما بَيَّنَّا
وَلَوْ أَخَذَ بَعْضَ دَرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهَا فلم يُنْفِقْهَا ثُمَّ
رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَضَاعَتْ لَا ضَمَانَ عليه عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَهَا على وَجْهِ التَّعَدِّي فَيَضْمَنُ كما لو
انْتَفَعَ بها
وَلَنَا أَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ ليس بِإِتْلَافٍ وَنِيَّةُ الْإِتْلَافِ ليس ( ( (
ليست ) ) ) بِإِتْلَافٍ فَلَا تُوجِبُ الضَّمَانَ
وَالْأَصْلُ فيه ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
إنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عز شَأْنُهُ عَفَا عن أُمَّتِي ما حَدَّثَتْ
بِهِ أَنْفُسَهَا ما لم يَتَكَلَّمُوا أو يَفْعَلُوا ظَاهِرُ الحديث يَقْتَضِي
أَنْ يَكُونَ ما حَدَّثَتْ بِهِ النَّفْسُ عَفْوًا على الْعُمُومِ إلَّا ما خُصَّ
بِدَلِيلٍ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا أَوْدَعَهُ كِيسًا مَسْدُودًا فَحَلَّهُ
الْمُسْتَوْدَعُ أو صُنْدُوقًا مُقْفَلًا فَفَتْحَ الْقُفْلَ ولم يَأْخُذْ منه
شيئا حتى ضَاعَ أو مَاتَ الْمُودَعُ فَإِنْ كانت الْوَدِيعَةُ قَائِمَةً
بِعَيْنِهَا تُرَدُّ على صَاحِبِهَا لِأَنَّ هذا عَيْنُ مَالِهِ
وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ صلى
اللَّهُ عليه وسلم
وَإِنْ كانت لَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا فَهِيَ دَيْنٌ في تَرِكَتِهِ يُحَاصُّ
الْغُرَمَاءُ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ فَقَدْ أَتْلَفَهَا
مَعْنَى لِخُرُوجِهَا من أَنْ تكون ( ( ( يكون ) ) ) مُنْتَفِعًا به ( ( ( بها ) )
) في حَقِّ المال ( ( ( المالك ) ) ) بِالتَّجْهِيلِ وهو تَفْسِيرُ الْإِتْلَافِ
وَلَوْ قالت الْوَرَثَةُ إنَّهَا هَلَكَتْ أو رُدَّتْ على الْمَالِكِ لَا
يُصَدَّقُونَ على ذلك لِأَنَّ الْمَوْتَ مُجْهَلًا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
لِكَوْنِهِ إتْلَافًا فَكَانَ
____________________
(6/213)
دَعْوَى
الْهَلَاكِ وَالرَّدِّ دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا بِحُجَّةٍ
وَيُحَاصُّ الْمُودَعُ الْغُرَمَاءَ لِأَنَّهُ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ على ما
ذَكَرْنَا فَيُسَاوِي دَيْنَ الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
كِتَابُ الْعَارِيَّةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ رُكْنِ الْعَارِيَّةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حُكْمِ
الْعَقْدِ وفي بَيَانِ ما يَمْلِكهُ الْمُسْتَعِيرُ من التَّصَرُّفِ في
الْمُسْتَعَارِ وما لَا يَمْلِكُهُ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْحُكْمِ وفي بَيَانِ
حَالِ الْمُسْتَعَارِ وفي بَيَانِ ما يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهِ أَمَّا رُكْنُهَا
فَهُوَ الْإِيجَابُ من الْمُعِيرِ وَأَمَّا الْقَبُولُ من الْمُسْتَعِيرِ فَلَيْسَ
بِرُكْنٍ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ رُكْنًا وهو قَوْلُ زُفَرَ كما في الْهِبَةِ حتى إن من
حَلَفَ لَا يُعِيرُ فُلَانًا فَأَعَارَهُ ولم يَقْبَلْ يَحْنَثُ كما إذَا حَلَفَ
لَا يَهَبُ فُلَانًا شيئا فَوَهَبَهُ ولم يَقْبَلْ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ
الْهِبَةِ
وَالْإِيجَابُ هو أَنْ يَقُولَ أَعَرْتُك هذا الشَّيْءَ أو مَنَحْتُك هذا
الثَّوْبَ أو هذه الدَّارَ أو أَطْعَمْتُك هذه الْأَرْضَ أو هذه الْأَرْضُ لَك
طُعْمَةً أو أَخْدَمْتُك هذا الْعَبْدَ أو هذا الْعَبْدُ لَك خِدْمَةً أو
حَمَلْتُك على هذه الدَّابَّةِ إذَا لم يَنْوِ بِهِ الْهِبَةَ أو دَارِي لك
سُكْنَى أو دَارِي لك عُمْرَى سُكْنَى أَمَّا لَفْظُ الْإِعَارَةِ فَصَرِيحٌ في
بَابِهَا وَأَمَّا الْمِنْحَةُ فَهِيَ اسْمٌ لِلْعَطِيَّةِ التي يَنْتَفِعُ
الْإِنْسَانُ بها زَمَانًا ثُمَّ يَرُدُّهَا على صَاحِبِهَا وهو مَعْنَى الْعَارِيَّةِ
قال النبي عليه السلام الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَمِنْحَةُ الْأَرْضِ زِرَاعَتُهَا
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ازْرَعْهَا أو امْنَحْهَا أَخَاك وَكَذَا
الْإِطْعَامُ الْمُضَافُ إلَى الْأَرْضِ هو إطْعَامُ مَنَافِعِهَا التي تَحْصُلُ
منها بِالزِّرَاعَةِ من غَيْرِ عِوَضٍ عُرْفًا وَعَادَةً وهو مَعْنَى
الْعَارِيَّةِ
وَأَمَّا إخْدَامُ الْعَبْدِ إيَّاهُ فَجَعَلَ خِدْمَتَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وهو
تَفْسِيرُ الْعَارِيَّةِ وَكَذَا قَوْلُهُ دَارِي لَك سُكْنَى أو عمرى سُكْنَى هو
جَعْلُ سُكْنَى الدَّارِ له من غَيْرِ عِوَضٍ وَسُكْنَى الدَّارِ مَنْفَعَتُهَا
الْمَطْلُوبَةُ منها عَادَةً فَقَدْ أتى بِمَعْنَى الْإِعَارَةِ
وَأَمَّا قَوْلُهُ حَمَلْتُك على هذه الدَّابَّةِ فإنه يَحْتَمِلُ الْإِعَارَةَ
وَالْهِبَةَ فَأَيُّ ذلك نَوَى فَهُوَ على ما نَوَى لِأَنَّهُ نَوَى ما يُحْتَمَلُ
لَفْظُهُ وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَارِيَّةِ لِأَنَّهَا أَدْنَى
فَكَانَ الْحَمْلُ عليها أَوْلَى وَلَوْ قال دَارِي لَك رُقْبَى أو حَبْسٌ فَهُوَ
عَارِيَّةٌ عِنْد أبي حَنِيفَة وَمُحَمَّدٍ
وَعِنْد أبي يُوسُفَ هِبَةٌ وَقَوْلُهُ رُقْبَى أو حَبْسٌ بَاطِلٌ وَهِيَ
مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْهِبَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي يَصِيرُ الرُّكْنُ بها إعَارَةً شَرْعًا
فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا تَصِحُّ الْإِعَارَةُ من الْمَجْنُونِ
وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ وَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا
حتى تَصِحَّ الْإِعَارَةُ من الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لِأَنَّهَا من تَوَابِعِ
التِّجَارَةِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فَيَمْلِكُ ما هو من تَوَابِعِهَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَمْلِكُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْمَأْذُونِ وَكَذَا
الْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فَيَمْلِكُهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لِأَنَّهَا
من تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فَيَمْلِكُ بِمِلْكِ ذلك
وَمِنْهَا الْقَبْضُ من الْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ
فَلَا يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْقَبْضِ كَالْهِبَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِدُونِ
اسْتِهْلَاكِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ لَا تَصِحُّ إعَارَتُهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ
ثَبَتَ في الْمَنْفَعَةِ لَا في الْعَيْنِ إلَّا إذَا كانت مُلْحَقَةً
بِالْمَنْفَعَةِ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْعَقْدِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ الْحُكْمِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَتِهِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ
لِلْمُسْتَعِيرِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أو ما هو مُلْحَقٌ بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا
وَعَادَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ إبَاحَةُ الْمَنْفَعَةِ حتى يَمْلِكَ
الْمُسْتَعِيرُ الْإِعَارَةَ عِنْدَنَا في الْجُمْلَةِ كَالْمُسْتَأْجِرِ يَمْلِكُ
الْإِجَارَةَ وَعِنْدَهُ لَا يَمْلِكُهَا أَصْلًا كَالْمُبَاحِ له الطَّعَامُ لَا
يَمْلِكُ الْإِبَاحَةَ من غَيْرِهِ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا
الْإِجْمَاعُ فَلِجَوَازِ الْعَقْدِ من غَيْرِ أَجَلٍ وَلَوْ كان تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ لَمَا جَازَ من غَيْرِ أَجَلٍ كَالْإِجَارَةِ وَكَذَا
الْمُسْتَعِيرُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَ الْعَارِيَّةَ وَلَوْ ثَبَتَ
الْمِلْكُ له في الْمَنْفَعَةِ لِمِلْكٍ كَالْمُسْتَأْجِرِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ
لِأَنَّ بَيْعَ الْمَعْدُومِ لِانْعِدَامِ الْمَنْفَعَةِ حَالَةَ الْعَقْدِ
وَالْمَعْدُومُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ بَيْعُ ما ليس عِنْدَ
الْإِنْسَانِ وقد نهى رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم عنه إلَّا أنها جُعِلَتْ
مَوْجُودَةً عِنْدَ الْعَقْدِ في بَابِ الْإِجَارَةِ حُكْمًا لِلضَّرُورَةِ وَلَا
ضَرُورَةَ إلَى الْإِعَارَةِ فَبَقِيَتْ الْمَنَافِعُ فيها على أَصْلِ الْعَدَمِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُعِيرَ سَلَّطَهُ على تَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ وَصَرْفِهَا إلَى
نَفْسِهِ على وَجْهٍ زَالَتْ يَدُهُ عنها وَالتَّسْلِيطُ على هذا الْوَجْهِ يَكُونُ
تَمْلِيكًا لَا إبَاحَةً كما في الْأَعْيَانِ وَإِنَّمَا
____________________
(6/214)
صَحَّ
من غَيْرِ أَجَلٍ لِأَنَّ بَيَانَ الْأَجَلِ لِلتَّحَرُّزِ عن الْجَهَالَةِ
الْمُفْضِيَةِ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْجَهَالَةُ في بَابِ الْعَارِيَّةِ لَا
تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّهَا عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ وَلِهَذَا
الْمَعْنَى لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِأَنَّهَا عَقْدٌ لَازِمٌ الإعارة ( ( (
والإعارة ) ) ) عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَلَوْ مَلَكَ الْإِجَارَةَ لَكَانَ فيه
إثْبَاتُ صِفَةِ اللُّزُومِ بِمَا ليس بِلَازِمٍ أو سَلْبُ صِفَةِ اللُّزُومِ عن
اللَّازِمِ وَكُلُّ ذلك بَاطِلٌ
وَقَوْلُهُ الْمَنَافِعُ مُنْعَدِمَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ
قُلْنَا نعم لَكِنَّ هذا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ كما في الْإِجَارَةِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ الْوَارِدَ على الْمَنْفَعَةِ عِنْدَنَا عَقْدٌ مُضَافٌ
إلَى حِينِ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ إلَّا
عِنْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ شيئا فَشَيْئًا على حَسَبِ حُدُوثِهَا فلم يَكُنْ
بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَلَا بَيْعُ ما ليس عِنْدَ الْإِنْسَانِ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ إعَارَةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أنها تَكُونُ قَرْضًا
لَا إعَارَةً لِأَنَّ الْإِعَارَةَ لَمَّا كانت تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ أو
إبَاحَةَ الْمَنْفَعَةِ على اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ وَلَا يُمْكِنُ
الِانْتِفَاعُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهَا وَلَا سَبِيلَ إلَى ذلك إلَّا
بِالتَّصَرُّفِ في الْعَيْنِ لَا في الْمَنْفَعَةِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحًا
إعَارَةٌ حَقِيقِيَّةٌ فَتُصَحَّحُ قَرْضًا مَجَازًا لِوُجُودِ مَعْنَى
الْإِعَارَةِ فيه حتى لو اسْتَعَارَ حُلِيًّا لِيَتَجَمَّلَ بِهِ صَحَّ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ من غَيْرِ اسْتِهْلَاكٍ بِالتَّجَمُّلِ فَأَمْكَنَ
الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ فَلَا ضَرُورَةَ إلَى الْحَمْلِ على الْمَجَازِ وَكَذَا
إعَارَةُ كل ما لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِهِ
كَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ يَكُونُ قَرْضًا لَا إعَارَةً لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الْإِعَارَةِ الْمَنْفَعَةُ لَا بِالْعَيْنِ إلَّا إذَا كان
مُلْحَقًا بِالْمَنْفَعَةِ عُرْفًا وَعَادَةً كما إذَا مَنَحَ إنْسَانًا شاتا ( (
( شاة ) ) ) أو نَاقَةً لِيَنْتَفِعَ بِلَبَنِهَا وَوَبَرِهَا مُدَّةً ثُمَّ
يَرُدَّهَا على صَاحِبِهَا لِأَنَّ ذلك محدود ( ( ( معدود ) ) ) من الْمَنَافِعِ
عُرْفًا وَعَادَةً فَكَانَ له حُكْمُ الْمَنْفَعَةِ وقد رُوِيَ عن النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هل من أَحَدٍ يَمْنَحُ من إبِلِهِ نَاقَةَ أَهْلِ بَيْتٍ
لَا دُرَّ لهم وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى التَّرْغِيبِ كَمَنْ مَنَحَ مِنْحَةَ
وَرِقٍ أو مِنْحَةَ لُبْسٍ كان له بِعِدْلِ رَقَبَةٍ
وَكَذَا لو مَنَحَ جَدْيًا أو عَنَاقًا كان عَارِيَّةً لِأَنَّهُ يَعْرِضُ أَنْ
يَنْتَفِعَ بِلَبَنِهِ وَصُوفِهِ وَيَتَّصِلُ بهذا الْفَصْلِ بَيَانُ ما يَمْلِكُهُ
الْمُسْتَعِيرُ من التَّصَرُّفِ في الْمُسْتَعَارِ وما لَا يَمْلِكُهُ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ عَقْدَ الْإِعَارَةِ لَا
يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أما إنْ كان مُطْلَقًا وأما إنْ كان مُقَيَّدًا
فَإِنْ كان مُطْلَقًا بِأَنْ أَعَارَ دَابَّتَهُ إنْسَانًا ولم يُسَمِّ مَكَانًا
وَلَا زَمَانًا وَلَا الرُّكُوبَ وَلَا الْحَمْلَ فَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا في
أَيِّ مَكَان وَزَمَانٍ شَاءَ وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ أو يَحْمِلَ لِأَنَّ الْأَصْلَ
في الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ على إطْلَاقِهِ وقد مَلَّكَهُ مَنَافِعَ
الْعَارِيَّةِ مُطْلَقًا فَكَانَ له أَنْ يَسْتَوْفِيَهَا على الْوَجْهِ الذي
مَلَكَهَا
إلَّا أَنَّهُ لَا يَحْمِلُ عليها ما يَعْلَمُ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يُطِيقُ
بِمِثْلِ هذا الْحَمْلِ وَلَا يَسْتَعْمِلُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا ما لَا
يَسْتَعْمِلُ مِثْلَهَا من الدَّوَابِّ لِذَلِكَ عَادَةً حتى لو فَعَلَ فَعَطِبَتْ
يَضْمَنُ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْإِطْلَاقِ لَكِنَّ
الْمُطْلَقَ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دَلَالَةً كما يَتَقَيَّدُ
نَصًّا وَلَهُ أَنْ يُعِيرَ الْعَارِيَّةَ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كانت الْعَارِيَّةُ
مِمَّا يَتَفَاوَتُ في اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أو لَا لِأَنَّ إطْلَاقَ
الْعَقْدِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُسْتَعِيرِ فَكَانَ هو في
التَّمْلِيكِ من غَيْرِهِ على الْوَجْهِ الذي مَلَكَهُ مُتَصَرِّفًا في مِلْكِ
نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ آجَرَ وسلم إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ضَمِنَ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ
إلَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَصَارَ غَاصِبًا فَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ وَإِنْ شَاءَ
ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ
كَالْمُشْتَرِي من الْغَاصِبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا
يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِأَدَاءِ
الضَّمَانِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَ نَفْسِهِ
وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنْ كان عَالِمًا بِكَوْنِهَا عَارِيَّةً في
يَدِهِ لَا يَرْجِعُ على الْمُسْتَعِيرِ وَإِنْ لم يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ
يَرْجِعُ عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ بِهِ فَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا من جِهَةِ
الْمُسْتَعِيرِ فَيَرْجِعُ عليه بِضَمَانِ الْغُرُورِ وهو ضَمَانُ الْكَفَالَةِ في
الْحَقِيقَةِ
وإذا كان عَالِمًا لم يَصِرْ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ فَلَا يَرْجِعُ عليه وَهَلْ
يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ
يَمْلِكُ وهو قَوْلُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِعَارَةَ
فَالْإِيدَاعُ أَوْلَى لِأَنَّهَا دُونَ الْإِعَارَةِ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَمْلِكُ اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةٍ مَذْكُورَةٍ في
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ إذَا رَدَّ الْعَارِيَّةَ على
يَدِ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّدَّ على يَدِهِ إيدَاعُ إيَّاهُ
وَلَوْ مَلَكَ الْإِيدَاعَ لَمَا ضَمِنَ وَإِنْ كان مُقَيَّدًا فَيُرَاعَى فيه
الْقَيْدُ ما أَمْكَنَ
لِأَنَّ أَصْلَ اعْتِبَارِ تَصَرُّفِ الْعَاقِلِ على الْوَجْهِ الذي تَصَرَّفَ
إلَّا إذَا لم يمكن ( ( ( يكن ) ) ) اعْتِبَارُهُ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَنَحْوِ
ذلك فَلَغَا الْوَصْفَ لِأَنَّ ذلك يَجْرِي مَجْرَى الْعَبَثِ ثُمَّ إنَّمَا
يُرَاعَى الْقَيْدُ فِيمَا دخل لَا فِيمَا لم يَدْخُلْ لِأَنَّ الْمُطْلَقَ إذَا
قُيِّدَ بِبَعْضِ الْأَوْصَافِ يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ فَيُرَاعَى
عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فِيمَا وَرَاءَهُ
بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا أَعَارَ إنْسَانًا دَابَّةً على أَنْ
يَرْكَبَهَا الْمُسْتَعِيرُ بِنَفْسِهِ ليس له أَنْ يُعِيرَهَا من غَيْرِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا أَعَارَهُ ثَوْبًا
____________________
(6/215)
على
أَنْ يَلْبَسَهُ بِنَفْسِهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصْلَ في الْمُقَيَّدِ
اعْتِبَارُ الْقَيْدِ فيه إلَّا إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ
وَاعْتِبَارُ هذا الْقَيْدِ مُمْكِنٌ لِأَنَّهُ مُقَيَّدٌ لِتَفَاوُتِ الناس في
اسْتِعْمَالِ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ رُكُوبًا وَلُبْسًا فَلَزِمَ اعتبارالقيد
فيه فَإِنْ فَعَلَ حتى هَلَكَ ضَمِنَ لِأَنَّهُ خَالَفَ وَإِنْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ
وَأَرْدَفَ غَيْرَهُ فَعَطِبَتْ فَإِنْ كانت الدَّابَّةُ مِمَّا تُطِيقُ
حَمْلَهُمَا جميعا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لِأَنَّهُ لم يُخَالِفْ
إلَّا في قَدْرِ النِّصْفِ وَإِنْ كانت الدَّابَّةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ
حَمْلَهُمَا ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا
وَلَوْ أَعَارَهُ دَارًا لِيَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا
غَيْرَهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالْعَقْدِ السُّكْنَى وَالنَّاسُ لَا
يَتَفَاوَتُونَ فيه عَادَةً فلم يَكُنْ التَّقْيِيدُ بِسُكْنَاهُ مُفِيدًا
فَيَلْغُو إلَّا إذَا كان الذي يُسْكِنُهَا إيَّاهُ حَدَّادًا أو قَصَّارًا
وَنَحْوَهُمَا مِمَّنْ يُوهِنُ عليه الْبِنَاءُ فَلَيْسَ له أَنْ يُسْكِنَهَا
إيَّاهُ وَلَا أَنْ يَعْمَلَ بِنَفْسِهِ ذلك لِأَنَّ الْمُعِيرَ لَا يَرْضَى بِهِ
عَادَةً وَالْمُطْلَقُ يَتَقَيَّدُ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ كمافي الْإِجَارَةِ
وَلَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ فَلَيْسَ
له أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ
أَثْقَلُ من الشَّعِيرِ فَكَانَ اعْتِبَارُ الْقَيْدِ مُفِيدًا فَيُعْتَبَرُ
وَلَوْ أَعَارَهَا على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَلَهُ
أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شعير ( ( ( شعيرا ) ) ) أو دُخْنًا أو
أُرْزًا أو غير ذلك مِمَّا يَكُونُ مِثْلَ الْحِنْطَةِ أو أَخَفَّ منها
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ له ذلك حتى إنها لو عَطِبَتْ لَا
يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ وأن يَضْمَنَ وهو قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّهُ
خَالَفَ
وَجَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا وَإِنْ كان خِلَافًا صُورَةً فَلَيْسَ
بِخِلَافٍ مَعْنًى لِأَنَّ الْمَالِكَ يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ دَلَالَةً فلم يَكُنْ
التَّقْيِيدُ بِالْحِنْطَةِ مُفِيدًا وَصَارَ كما لو شَرَطَ عليه أَنْ يَحْمِلَ
عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ من حِنْطَةِ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عليها عَشَرَةَ
مَخَاتِيمَ من حِنْطَةِ غَيْرِهِ فإنه لَا يَكُونُ مُخَالِفًا حتى لَا يَضْمَنَ
كَذَا هذا
وَلَوْ قال على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً ليس له أَنْ
يَحْمِلَ عليها حَطَبًا أو تِبْنًا أو آجُرًّا فَحَمَلَ عليها من الْحِنْطَةِ
زِيَادَةً على الْمُسَمَّى في الْقَدْرِ فَعَطِبَتْ نُظِرَ في ذلك
فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مِمَّا لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ حَمْلَهَا يَضْمَنُ
جَمِيعَ قِيمَتِهَا لِأَنَّ حَمْلَ ما لَا تُطِيقُ الدَّابَّةُ إتْلَافٌ
لِلدَّابَّةِ وَإِنْ كانت الدَّابَّةُ مِمَّا تُطِيقُ حَمْلَهَا يَضْمَنُ من
قِيمَتِهَا قَدْرَ الزِّيَادَةِ حتى لو قال على أَنْ يَحْمِلَ عليها عَشَرَةَ
مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَحَمَلَ عليها أَحَدَ عَشَرَ مَخْتُومًا فَعَطِبَتْ يَضْمَنُ
جزأ من أَحَدَ عَشَرَ جزأ من قِيمَتِهَا لِأَنَّهُ لم يُتْلِفْ منها إلَّا هذا
الْقَدْرَ وَلَوْ قَيَّدَهَا بِالْمَكَانِ بِأَنْ قال على أَنْ تَسْتَعْمِلَهَا في
مَكَانِ كَذَا في الْمِصْرِ يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا في
أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ بِأَيِّ شَيْءٍ شَاءَ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ لم يُوجَدْ إلَّا
بِالْمَكَانِ فَبَقِيَ مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ لَكِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ
يُجَاوِزَ ذلك الْمَكَانَ حتى لو جَاوَزَهُ دخل في ضَمَانِهِ وَلَوْ أَعَادَهَا
إلَى الْمَكَانِ الْمَأْذُونِ لَا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ حتى لو هَلَكَتْ من
قَبْلِ التَّسْلِيمِ إلَى الْمَالِكِ يَضْمَنُ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ الْآخَرُ وكان يقول أَوَّلًا يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ كَالْمُودِعِ
إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاق ثُمَّ رَجَعَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْعَارِيَّةِ والوديعة قد ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ
الْوَدِيعَةِ وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَهَا بِالزَّمَانِ بِأَنْ قال على أَنْ
يَسْتَعْمِلَهَا يَوْمًا يَبْقَى مُطْلَقًا فِيمَا وَرَاءَهُ لَكِنَّهُ
يَتَقَيَّدُ بِالزَّمَانِ حتى لو مَضَى الْيَوْمُ ولم يَرُدَّهَا على الْمَالِكِ حتى
هَلَكَتْ يَضْمَنُ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَهَا بِالْحَمْلِ
وَكَذَلِكَ لو قَيَّدَهَا بِالِاسْتِعْمَالِ بِأَنْ قال على أَنْ يَسْتَعْمِلَهَا
حتى لو أَمْسَكَهَا ولم يَسْتَعْمِلْهَا حتى هَلَكَتْ يَضْمَنُ لِأَنَّ
الْإِمْسَاكَ منه خِلَافٌ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعِيرُ أو
الْمُسْتَعِيرُ في الْأَيَّامِ أو الْمَكَانِ أو فِيمَا يُحْمَلُ عليها
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُعِيرِ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَسْتَفِيدُ مِلْكَ
الِانْتِفَاعِ من الْمُعِيرِ فَكَانَ الْقَوْلُ في الْمِقْدَارِ وَالتَّعْيِينِ
قَوْلَهُ لَكِنْ مع الْيَمِينِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْحُكْمِ فَهِيَ أَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ
لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكٌ غَيْرُ لَازِمٍ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ
فَلَا يَكُونُ لَازِمًا كَالْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالْهِبَةِ فَكَانَ لِلْمُعِيرِ
أَنْ يَرْجِعَ في الْعَارِيَّةِ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الْعَارِيَّةَ أو وَقَّتَ لها
وَقْتًا
وَعَلَى هذا إذَا اسْتَعَارَ من آخَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عليها أو لِيَغْرِسَ
فيها ثُمَّ بَدَا لِلْمَالِكِ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَهُ ذلك سَوَاءٌ كانت الْعَارِيَّةُ
مُطْلَقَةً أو مؤقتة لِمَا قُلْنَا غير أنها إنْ
____________________
(6/216)
كانت
مُطْلَقَةً له أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْتَعِيرَ على قَلْعِ الْغَرْسِ وَنَقْضِ
الْبِنَاءِ لِأَنَّ في التَّرْكِ ضَرَرًا بِالْمُعِيرِ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ له
وإذا قَلَعَ وَنَقَضَ لَا يَضْمَنُ الْمُعِيرُ شيئا من قِيمَةِ الْغَرْسِ
وَالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ لو وَجَبَ عليه الضَّمَانُ لَوَجَبَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ
وَلَا غُرُورَ من جِهَتِهِ حَيْثُ أَطْلَقَ الْعَقْدَ ولم يُوَقِّتْ فيه وَقْتًا
فَأَخْرَجَهُ قبل الْوَقْتِ بَلْ هو الذي غَرَّرَ نَفْسَهُ حَيْثُ حَمَلَ
الْمُطْلَقَ على الْأَبَدِ وَإِنْ كانت مُوَقَّتَةً فَأَخْرَجَهُ قبل الْوَقْتِ لم
يَكُنْ له أَنْ يُخْرِجَهُ وَلَا يُجْبَرُ على النَّقْضِ وَالْقَلْعِ
وَالْمُسْتَعِيرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ صَاحِبَ الْأَرْضِ قِيمَةَ غَرْسِهِ
وَبِنَائِهِ قَائِمًا سَلِيمًا وَتَرَكَ ذلك عليه
لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَّتَ لِلْعَارِيَّةِ وَقْتًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ قبل الْوَقْتِ
فَقَدْ غَرَّهُ فَصَارَ كَفِيلًا عنه فِيمَا يَلْزَمُهُ من الْعُهْدَةِ إذْ
ضَمَانُ الْغُرُورِ كَفَالَةٌ فَكَانَ له أَنْ يَرْجِعَ عليه بِالضَّمَانِ
وَيَمْلِكُ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ لان
هذا حُكْمُ الْمَضْمُونَاتِ أنها تُمْلَكُ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ
وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ غَرْسَهُ وَبِنَاءَهُ وَلَا شَيْءَ على صَاحِبِ الْأَرْضِ
ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْقَلْعِ وَالنَّقْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ إذَا لم
يَكُنْ الْقَلْعُ أو النَّقْضُ مُضِرًّا بِالْأَرْضِ فَإِنْ كان مُضِرًّا بها
فَالْخِيَارُ لِلْمَالِكِ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلٌ وَالْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ
تَابِعٌ لها فَكَانَ الملك ( ( ( المالك ) ) ) صَاحِبَ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ
صَاحِبَ تَبَعٍ فَكَانَ إثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى إنْ
شَاءَ أَمْسَكَ الْغَرْسَ وَالْبِنَاءَ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ شَاءَ رضي بِالْقَلْعِ
وَالنَّقْضِ
هذا إذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِلْغَرْسِ أو الْبِنَاءِ فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَ
أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ فَزَرَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنْ
يَأْخُذَهَا لم يَكُنْ له ذلك حتى يَحْصُدَ الزَّرْعَ بَلْ يُتْرَكُ في يَدِهِ
إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ اسْتِحْسَانًا في الْقِيَاسِ أَنْ
يَكُونَ له ذلك كما في الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِلِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّظَرَ من الْجَانِبَيْنِ
وَرِعَايَةَ الْحَقَّيْنِ وَاجِبٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ مُمْكِنٌ في
الزَّرْعِ لِأَنَّ إدْرَاكَ الزَّرْعِ له وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَيُمْكِنُ النَّظَرُ من
الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الْمُسْتَعِيرِ لَا شَكَّ فيه وَجَانِبِ الْمَالِكِ
بِالتَّرْكِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ بِالْأَجْرِ وَلَا يُمْكِنُ في الْغَرْسِ
وَالْبِنَاءِ لِأَنَّهُ ليس لِذَلِكَ وَقْتٌ مَعْلُومٌ فَكَانَ مُرَاعَاةُ صَاحِبِ
الْأَصْلِ أَوْلَى
وَقَالُوا في بَابِ الْإِجَارَةِ إذَا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لم
يَسْتَحْصِدْ أَنَّهُ يُتْرَكُ في يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَى وَقْتِ الْحَصَادِ
بِأَجْرِ الْمِثْلِ كما في الْعَارِيَّةِ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ بَابِ الْغَصْبِ
لِأَنَّ التَّرْكَ لِلنَّظَرِ وَالْغَاصِبُ جَانٍ فَلَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ
بَلْ يُجْبَرُ على الْقَلْعِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حَالِ الْمُسْتَعَارِ فَحَالُهُ أَنَّهُ أَمَانَةٌ في
يَدِ الْمُسْتَعِيرِ في حَالِ الِاسْتِعْمَالِ بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا في غَيْرِ
حَالِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَلِكَ عِنْدنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ مَضْمُونٌ وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم اسْتَعَارَ من صَفْوَانَ دِرْعًا يوم حُنَيْنٌ فقال صَفْوَانُ أَغَصْبًا
يا محمد فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ وَلِأَنَّ
الْعَيْنَ مَضْمُونَةُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهَا فَكَانَتْ مَضْمُونَةَ
الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهَا كَالْمَغْصُوبِ
وَهَذَا لِأَنَّ الْعَيْنَ اسْمٌ لِلصُّورَةِ وَالْمَعْنَى وَبِالْهَلَاكِ أن
عَجَزَ عن رَدِّ الصُّورَةِ لم يَعْجِزْ عن رَدِّ الْمَعْنَى لِأَنَّ قِيمَةَ
الشَّيْءِ مَعْنَاهُ فَيَجِبُ عليه رَدُّهُ بِمَعْنَاهُ كما في الْغَصْبِ
وَلِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عليه
كَالْمَقْبُوضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ
وَلَنَا أَنَّهُ لم يُوجَدْ من الْمُسْتَعِيرِ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا
يَجِبُ عليه الضَّمَانُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك
لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ على الْمَرْءِ بِدُونِ فِعْلِهِ وَفِعْلُهُ
الْمَوْجُودُ منه ظَاهِرًا هو الْعَقْدُ وَالْقَبْضُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
أَمَّا الْعَقْدُ فَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِالْمَنْفَعَةِ تَمْلِيكًا أو
إبَاحَةً على اخْتِلَاف الْأَصْلَيْنِ
وَأَمَّا الْقَبْضُ فَلِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا إن قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ
بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَبِالْإِذْنِ
أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ هو إثْبَاتُ
الْيَدِ على مَالِ الْغَيْرِ وَحِفْظُهُ وَصِيَانَتُهُ عن الْهَلَاكِ وَهَذَا
إحْسَانٌ في حَقِّ الْمَالِكِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { هل جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا
الْإِحْسَانُ } وقال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ما على الْمُحْسِنِينَ من سَبِيلٍ }
دَلَّ أَنَّ قَبْضَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَمَعَ الْإِذْنِ أَوْلَى
الثاني ( ( ( والثاني ) ) ) إن الْقَبْضَ الْمَأْذُونَ فيه لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا
لِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ يَدَ الْمَالِكِ وَلَا ضَمَانَ إلَّا على الْمُتَعَدِّي
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَلَا عُدْوَانَ إلَّا على الظَّالِمِينَ }
بِخِلَافِ قَبْضِ الْغَصْبِ
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِضَمَانِ الرَّدِّ قُلْنَا إنْ وَجَبَ عليه رَدُّ
الْعَيْنِ حَالَ قِيَامِهَا لم يَجِبْ عليه رَدُّ الْقِيمَةِ حَالَ هلالكها ( ( (
هلاكها ) ) ) وَقَوْلُهُ قِيمَتُهَا مَعْنَاهَا قُلْنَا مَمْنُوعٌ وَهَذَا لِأَنَّ
الْقِيمَةَ هِيَ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ
عَيْنٌ أُخْرَى لها صُورَةٌ وَمَعْنًى غَيْرُ الْعَيْنِ الْأُولَى فَالْعَجْزُ عن
رَدِّ أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ لم يُوجِبْ رَدَّ الْعَيْنِ الْأُخْرَى
وفي بَابِ الْغَصْبِ لَا يَجِبُ عليه ضَمَانُ الْقِيمَةِ بهذا الطَّرِيقِ بَلْ
بِطَرِيقٍ آخَرَ وهو إتْلَافُ الْمَغْصُوبِ مَعْنًى لِمَا عُلِمَ وَهُنَا لم
يُوجَدْ
حتى ولو وُجِدَ يَجِبُ الضَّمَانُ
____________________
(6/217)
ثُمَّ
نَقُولُ إنَّمَا وَجَبَ عليه ضَمَانُ الرَّدِّ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَتَى انْتَهَى
بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ أو بِالطَّلَبِ بَقِيَ الْعَيْنُ في يَدِهِ
كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِهِ وَمَضْمُونُ
الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهِ وَعِنْدَنَا إذَا هَلَكَتْ في تِلْكَ الْحَالَةِ
ضَمِنَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ قَبْضُ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ فَنَعَمْ لَكِنْ قَبْضُ
مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ
الضَّمَانِ لِمَا ذَكَرْنَا فَمَعَ الْإِذْنِ أَوْلَى
وَالْمَقْبُوضُ على سَوْمِ الشِّرَاءِ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقَبْضِ بَلْ
بِالْعَقْدِ بِطَرِيقِ التَّعَاطِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ دَلَالَةً
لِمَا عُلِمَ وَلَا حُجَّةَ له في حديث صَفْوَانَ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ قد
اخْتَلَفَتْ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ هَرَبَ من رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
فَأَرْسَلَ إلَيْهِ فَأَمَّنَهُ وكان رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يُرِيدُ
حُنَيْنًا فقال هل عِنْدَك شَيْءٌ من السِّلَاحِ فقال عَارِيَّةً أو غَصْبًا فقال
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَارِيَّةً فَأَعَارَهُ ولم يذكر فيه الضَّمَانَ
وَالْحَادِثَةُ حَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ الثَّابِتُ
إلَّا إحْدَاهُمَا فَتَعَارَضَتْ الرِّوَايَتَانِ فَسَقَطَ الِاحْتِجَاجُ مع ما
أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ فَيَحْتَمِلُ ضَمَانَ الرَّدِّ وَبِهِ نَقُولُ فَلَا يُحْمَلُ
على ضَمَانِ الْغَيْرِ مع الِاحْتِمَالِ يُؤَيِّدُ ما قُلْنَا ما رُوِيَ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُوجِبُ تَغَيُّرَ حَالِهَا فَاَلَّذِي يُغَيِّرُ
حَالَ الْمُسْتَعَارِ من الْأَمَانَةِ إلَى الضَّمَانِ ما هو الْمُغَيِّرُ حَالَ
الْوَدِيعَةِ وهو الْإِتْلَافُ حَقِيقَةً أو مَعْنًى بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ
أو بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَبِتَرْكِ الْحِفْظِ وَبِالْخِلَافِ حتى لو
حَبَسَ الْعَارِيَّةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أو بَعْدَ الطَّلَبِ قبل
انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ يَضْمَنُ لِأَنَّهُ وَاجِبُ الرَّدِّ في هَاتَيْنِ
الْحَالَتَيْنِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ
وَلِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ انْتَهَى بِانْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أو الطَّلَبِ
فَصَارَتْ الْعَيْنُ في يَدِهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَغْصُوبُ مَضْمُونُ الرَّدِّ
حَالَ قِيَامِهِ وَمَضْمُونُ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِهِ
وَلَوْ رَدَّ الْعَارِيَّةَ مع عَبْدِهِ أو ابْنِهِ أو بَعْضِ من في عِيَالِهِ أو
مع عبد الْمُعِيرِ أو رَدَّهَا بِنَفْسِهِ إلَى مَنْزِلِ الْمَالِكِ وَجَعَلَهَا
فيه لَا يَضْمَنُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَضْمَنَ كما في الْوَدِيعَةِ
وقد ذَكَرْنَا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا في كِتَابِ الْوَدِيعَةِ وَكَذَا إذَا تَرَكَ
الْحِفْظَ حتى ضَاعَتْ وَكَذَا إذَا خَالَفَ إلَّا أَنَّ في بَابِ الْوَدِيعَةِ
إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ يَبْرَأُ عن الضَّمَانِ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَهُنَا لَا يَبْرَأُ وقد
تَقَدَّمَ الْفَرْقُ في كِتَابِ الْوَدِيعَةِ
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْمُسْتَعِيرُ وَادَّعَى أَنَّ الْمَالِكَ قد أَذِنَ له بِذَلِكَ
وَجَحَدَ الْمَالِكُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَالِكِ حتى يَقُومَ لِلْمُسْتَعِيرِ
على ذلك بَيِّنَةٌ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ منه سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ في
الْأَصْلِ فَدَعْوَى الْإِذْنِ منه دَعْوَى أَمْرٍ عَارِضٍ فَلَا تُسْمَعُ إلَّا
بِدَلِيلٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْوَقْفِ وَالصَّدَقَةِ أَمَّا الْوَقْفُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ
في بَيَانِ جَوَازِ الْوَقْفِ وَكَيْفِيَّتِهِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ
وفي بَيَانِ حُكْمِ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وما يَتَّصِلُ بِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا خِلَافَ بين
الْعُلَمَاءِ في جَوَازِ الْوَقْفِ في حَقِّ وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِالْفَرْعِ ما
دَامَ الواقف ( ( ( الوقف ) ) ) حَيًّا حتى إن من وَقَفَ دَارِهِ أو أَرْضَهُ
يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِغَلَّةِ الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَيَكُونُ ذلك
بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ بِالتَّصَدُّقِ بِالْغَلَّةِ وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في
جَوَازِهِ في حَقِّ زَوَالِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ
الْقَاضِي أو أَضَافَهُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ بِأَنْ قال إذَا مِتَّ فَقَدْ
جَعَلْتُ دَارِي أو أَرْضِي وَقْفًا على كَذَا
أو قال هو وَقْفٌ في حَيَاتِي صدقه بَعْدَ وَفَاتِي
وَاخْتَلَفُوا في جَوَازِهِ مُزِيلًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ إذَا لم تُوجَدْ
الْإِضَافَةُ إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ وَلَا اتَّصَلَ بِهِ حُكْمُ حَاكِمٍ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَجُوزُ حتى كان لِلْوَاقِفِ بَيْعُ
الْمَوْقُوفِ وَهِبَتُهُ وإذا مَاتَ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ تَعَالَى
عَنْهُمْ يَجُوزُ حتى لَا يُبَاعَ وَلَا يُوهَبَ وَلَا يُورَثَ
ثُمَّ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ لَا فَرْقَ بين ما إذَا وَقَفَ في
حَالَةِ الصِّحَّةِ وَبَيْنَ ما إذَا وَقَفَ في حَالَةِ الْمَرَضِ حتى لَا يَجُوزَ
عِنْدَهُ في الْحَالَيْنِ جميعا إذَا لم تُوجَدْ الْإِضَافَةُ وَلَا حُكْمُ
الْحَاكِمِ
وَرَوَى الطَّحَاوِيَّ عنه أَنَّهُ إذَا وَقَفَ في حَالَةِ الْمَرَضِ جَازَ
عِنْدَهُ وَيُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ
وَفَاتِهِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ في الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا بَنَى رِبَاطًا أو خَانًا لَلْمُجْتَازِينَ أو
سِقَايَةً لِلْمُسْلِمِينَ أو جَعَلَ أَرْضَهُ مَقْبَرَةً لَا تَزُولُ رَقَبَةُ
هذه الْأَشْيَاءِ عن مِلْكِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ إلا إذا أَضَافَهُ إلَى ما
بَعْدَ الْمَوْتِ أو حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ وَعِنْدَهُمَا
____________________
(6/218)
يَزُولُ
بِدُونِ ذلك لَكِنْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِنَفْسِ الْقَوْلِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
بِوَاسِطَةِ التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ بِسُكْنَى الْمُجْتَازِينَ في الرِّبَاطِ
وَالْخَانِ وَسِقَايَةُ الناس من السِّقَايَةِ وَالدَّفْنِ في الْمَقْبَرَةِ
وَأَجْمَعُوا على أَنَّ من جَعَلَ دَارِهِ أو أَرْضَهُ مَسْجِدًا يَجُوزُ
وَتَزُولُ الرَّقَبَةُ عن مِلْكِهِ لَكِنَّ عَزْلَ الطَّرِيقِ وَإِفْرَازَهُ
وَالْإِذْنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فيه وَالصَّلَاةُ شَرْطٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ حتى كان له أَنْ يَرْجِعَ قبل ذلك وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تَزُولُ
الرَّقَبَةُ عن مِلْكِهِ بِنَفْسِ قَوْلِهِ جَعَلْتُهُ مَسْجِدًا وَلَيْسَ له أَنْ
يَرْجِعَ عنه على ما نَذْكُرُهُ
وَجْهُ قَوْلِ الْعَامَّةِ الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَعَامَّةِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى
عليهم أَجْمَعِينَ فإنه رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
وَقَفَ وَوَقَفَ سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا
عُثْمَانُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ وَغَيْرُهُمْ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَكْثَرُ
الصَّحَابَةِ وَقَفُوا وَلِأَنَّ الْوَقْفَ ليس إلَّا إزَالَةَ الْمِلْكِ عن
الْمَوْقُوفِ وَجَعْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَأَشْبَهَ الْإِعْتَاقَ
وَجَعَلَ الْأَرْضَ أو الدَّارَ مَسْجِدًا
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يَصِحُّ مُضَافًا إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَصِحُّ
مُنَجَّزًا وَكَذَا لم اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي يَجُوزُ وَغَيْرُ
الْجَائِزِ لَا يَحْتَمِلُ الْجَوَازَ لِقَضَاءِ الْقَاضِي
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ ما روى عن عبدالله بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ
عنهما أَنَّهُ قال لَمَّا نَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ وَفُرِضَتْ فيها
الْفَرَائِضُ قال رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَا حَبْسَ عن فَرَائِضِ
اللَّهِ تَعَالَى أَيْ لَا مَالَ يُحْبَسُ بعدم مَوْتِ صَاحِبِهِ عن الْقِسْمَةِ
بين وَرَثَتِهِ وَالْوَقْفُ حَبْسٌ عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
فَكَانَ مَنْفِيًّا شَرْعًا
وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قال جاء مُحَمَّدٌ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ وَهَذَا منه
رِوَايَةً عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ
الْمَوْقُوفِ لِأَنَّ الْحَبِيسَ هو الْمَوْقُوف فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ
إذْ الْوَقْفُ حَبْسٌ لُغَةً فَكَانَ الْمَوْقُوفُ مَحْبُوسًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يُوجِبُ زَوَالَ الرَّقَبَةِ عن مِلْكِ
الْوَاقِفِ
وَأَمَّا وَقْفُ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ
الْمَانِعَ من وُقُوعِهِ حَبْسًا عن فَرَائِضِ اللَّهِ عز وجل وَدَفْعُهُ صلى
اللَّهُ عليه وسلم لم يَقَعْ حَبْسًا عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِ
صلى اللَّهُ عليه وسلم زإنا ( ( ( إنا ) ) ) مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ
ما تَرَكْنَا صَدَقَةٌ
وَأَمَّا أَوْقَافُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فما كان منها في زَمَنِ
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم اُحْتُمِلَ أنها كانت قبل نُزُولِ سُورَةِ
النِّسَاءِ فلم تَقَعْ حَبْسًا عن فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى وما كان بَعْدَ
وَفَاتِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَاحْتُمِلَ أَنَّ وَرَثَتَهُمْ
أَمْضَوْهَا بِالْإِجَازَةِ وَهَذَا هو الظَّاهِرُ وَلَا كَلَامَ فيه وَإِنَّمَا
جَازَ مُضَافًا إلَى ما بَعْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَضَافَهُ إلَى ما
بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ كَسَائِرِ
الْوَصَايَا لَكِنْ جَوَازُهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ لَا يَدُلُّ على جَوَازِهِ
لَا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ
أَلَا تَرَى لو أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ جَازَ وَلَوْ تَصَدَّقَ
بِثُلُثِ مَالِهِ على الْفُقَرَاءِ لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا إذَا حَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ حُكْمَهُ صَادَفَ
مَحَلَّ الِاجْتِهَادِ وَأَفْضَى اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي في
مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ بِمَا أَفْضَى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ جَائِزٌ كما في
سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْوَاقِفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
الْمَوْقُوفِ أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْوَاقِفِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا يَصِحُّ الْوَقْفُ من الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
لِأَنَّ الْوَقْفَ من التَّصَرُّفَاتِ الضَّارَّةِ لِكَوْنِهِ إزَالَةَ الْمِلْكِ
بِغَيْرِ عِوَضٍ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَيْسَا من أَهْلِ التَّصَرُّفَاتِ
الضَّارَّةِ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ مِنْهُمَا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
وَالْإِعْتَاقُ وَنَحْوُ ذلك
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ
وَالْعَبْدُ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ وَسَوَاءٌ كان مَأْذُونًا أو مَحْجُورًا
لِأَنَّ هذا ليس من بَابِ التِّجَارَةِ وَلَا من ضَرُورَاتِ التِّجَارَةِ فَلَا
يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ كما لَا يَمْلِكُ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ وَالْإِعْتَاقَ
وَمِنْهَا أَنْ يُخْرِجَهُ الْوَاقِفُ من يَدِهِ وَيَجْعَلَ له قَيِّمًا
وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا
ليس بِشَرْطٍ
وَاحْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه وَقَفَ وكان
يَتَوَلَّى أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ وكان في يَدِهِ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كان يَفْعَلُ كَذَلِكَ
وَلِأَنَّ هذا إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى أحد ( ( ( حد ) ) ) فَلَا يُشْتَرَطُ
فيه التَّسْلِيمُ كَالْإِعْتَاقِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْوَقْفَ إخْرَاجُ الْمَالِ عن الْمِلْكِ على وَجْهِ الصَّدَقَةِ
فَلَا يَصِحُّ بِدُونِ التَّسْلِيمِ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ
وَأَمَّا وَقْفُ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما
فَاحْتَمَلَ أَنَّهُمَا أَخْرَجَاهُ عن أَيْدِيهِمَا وَسَلَّمَاهُ إلَى
الْمُتَوَلِّي بَعْدَ ذلك فَصَحَّ كَمَنْ وَهَبَ من آخَرَ شيئا أو تَصَدَّقَ أو لم
يُسَلَّمْ إلَيْهِ وَقْتَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ثُمَّ سُلِّمَ صَحَّ
التَّسْلِيمُ
كَذَا هذا
____________________
(6/219)
ثُمَّ
التَّسْلِيمُ في الْوَقْفِ عِنْدَهُمَا أَنْ يَجْعَلَ له قَيِّمًا وَيُسَلِّمَهُ
إلَيْهِ وفي الْمَسْجِدِ أَنْ يصلي فيه جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ
بِإِذْنِهِ كَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ في شَرْحِهِ أَنَّهُ إذَا أَذِنَ
لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فيه فَصَلَّى وَاحِدٌ كان تَسْلِيمًا وَيَزُولُ مِلْكُهُ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا
يَشْرُطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ من مَنَافِعِ الْوَقْفِ شيئا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
ليس بِشَرْطٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ هذا إخْرَاجُ الْمَالِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى
وَجَعْلُهُ خَالِصًا له وَشَرْطُ الِانْتِفَاعِ لِنَفْسِهِ يَمْنَعُ الْإِخْلَاصَ
فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْوَقْفِ كما إذَا جَعَلَ أَرْضَهُ أو دَارِهِ مَسْجِدًا
وَشَرَطَ من مَنَافِعِ ذلك لِنَفْسِهِ شيئا وَكَمَا لو أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَرَطَ
خِدْمَتَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي يُوسُفَ ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي
اللَّهُ عنه أَنَّهُ وَقَفَ وَشَرَطَ في وَقْفِهِ لَا جُنَاحَ على من وَلِيَهُ
أَنْ يَأْكُلَ منه بِالْمَعْرُوفِ وكان يَلِي أَمْرَ وَقْفِهِ بِنَفْسِهِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَاقِفَ إذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ
بَيْعَ الْوَقْفِ وَصَرْفَ ثَمَنِهِ إلَى ما هو أَفْضَلُ منه يَجُوزُ لِأَنَّ
شَرْطَ الْبَيْعِ شَرْطٌ لَا يُنَافِيهِ الْوَقْفُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَاعُ
بَابُ الْمَسْجِدِ إذَا خَلِقَ وَشَجَرُ الْوَقْفِ إذَا يَبِسَ وَمِنْهَا أَنْ
يَجْعَلَ آخِرَهُ بِجِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ أَبَدًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ فَإِنْ لم يذكر ذلك لم يَصِحَّ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُف
ذِكْرُ هذا ليس بِشَرْطٍ بَلْ يَصِحُّ وَإِنْ سَمَّى جِهَةً تَنْقَطِعُ وَيَكُونُ
بَعْدَهَا لِلْفُقَرَاءِ وَإِنْ لم يُسَمِّهِمْ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ ثَبَتَ الْوَقْفُ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم وَعَنْ الصَّحَابَةِ ولم يَثْبُتْ عَنْهُمْ هذا الشَّرْطُ ذِكْرًا
وَتَسْمِيَةً وَلِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ لِلْفُقَرَاءِ
وَإِنْ لم يُسَمِّهِمْ هو في الظَّاهِرُ من حَالِهِ فَكَانَ تَسْمِيَةُ هذا
الشَّرْطِ ثَابِتًا دَلَالَةً وَالثَّابِتُ دَلَالَةً كَالثَّابِتِ نَصًّا
وَلَهُمَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ جَوَازِ الْوَقْفِ لِمَا نَذْكُرُ
وَتَسْمِيَةُ جِهَةٍ تَنْقَطِعُ تَوْقِيتٌ له مَعْنًى فَيَمْنَعُ الْجَوَازَ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْوَقْفِ فَهُوَ التَّأْبِيدُ وهو أَنْ يَكُونَ
مُؤَبَّدًا حتى لو وَقَّتَ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ لَا إلَى أحد (
( ( حد ) ) ) فَلَا تَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ كَالْإِعْتَاقِ وَجَعْلِ الدَّارِ
مَسْجِدًا
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَوْقُوفِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ كَالْعَقَارِ وَنَحْوِهِ فَلَا يَجُوزُ
وَقْفُ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ التَّأْبِيدَ شَرْطُ
جَوَازِهِ وَوَقْفُ الْمَنْقُولِ لَا يَتَأَبَّدَ لِكَوْنِهِ على شَرَفِ
الْهَلَاكِ فَلَا يَجُوزُ وَقْفُهُ مَقْصُودًا إلَّا إذَا كان تَبَعًا لِلْعَقَارِ
بِأَنْ وَقَفَ ضَيْعَةً بِبَقَرِهَا وَأَكَرَتِهَا وَهُمْ عَبِيدُهُ فَيَجُوزُ
كَذَا قَالَهُ أبو يُوسُفَ
وَجَوَازُهُ تَبَعًا لِغَيْرِهِ لَا يَدُلُّ على جَوَازِهِ مَقْصُودًا كَبَيْعِ
الشُّرْبِ وَمَسِيلِ الْمَاءِ وَالطَّرِيقُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مَقْصُودًا
وَيَجُوزُ تَبَعًا لِلْأَرْضِ وَالدَّارِ وَإِنْ كان شيئا جَرَتْ الْعَادَةُ
بِوَقْفِهِ كَوَقْفِ الْمَرِّ وَالْقَدُومِ لِحَفْرِ الْقُبُورِ وَوَقْفِ
الْمِرْجَلِ لِتَسْخِينِ الْمَاءِ وَوَقْفِ الْجِنَازَةِ وَثِيَابِهَا
وَلَوْ وَقَفَ أَشْجَارًا قَائِمَةً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ
وَقَفَ الْمَنْقُولَ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِتَعَامُلِ الناس ذلك وما رَآهُ
الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ وَلَا يَجُوزُ وَقْفُ
الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِأَنَّهُ مَنْقُولٌ وما جَرَتْ الْعَادَةُ بِهِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
يَجُوزُ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا بَيْعُ ما هَرِمَ منها أو صَارَ بِحَالٍ لَا
يُنْتَفَعُ بِهِ فَيُبَاعُ وَيُرَدُّ ثَمَنُهُ في مِثْلِهِ كَأَنَّهُمَا تَرَكَا
الْقِيَاسَ في الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ بِالنَّصِّ وهو ما رُوِيَ عن النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال أَمَّا خَالِدٌ فَقَدْ احْتَبَسَ أَكْرَاعًا
وَأَفْرَاسًا في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا حُجَّةَ لَهُمَا في الحديث
لِأَنَّهُ ليس فيه أَنَّهُ وَقَفَ ذلك فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ حَبَسَهُ أَيْ
أَمْسَكَهُ لِلْجِهَادِ لَا لِلتِّجَارَةِ
وَأَمَّا وَقْفُ الْكُتُبِ فَلَا يَجُوزُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَمَّا على
قَوْلِهِمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه وَحُكِيَ عن نَصْرِ بن يحيى
أَنَّهُ وَقَفَ على الْفُقَهَاءِ من أَصْحَابِ أبي حَنِيفَةَ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَوْقُوفُ مَقْسُومًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا يَجُوزُ
وَقْفُ الْمُشَاعِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هذا ليس بِشَرْطٍ وَيَجُوزُ مَقْسُومًا
كان أو مُشَاعًا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ شَرْطُ الْجَوَازِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ
وَالشُّيُوعُ يُخِلُّ بِالْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
التَّسْلِيمُ ليس بِشَرْطٍ أَصْلًا فَلَا يَكُونُ الخلل ( ( ( الخل ) ) ) فيه
مَانِعًا وقد رُوِيَ عن سَيِّدنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ مَلَكَ مِائَةَ
سَهْمٍ بِخَيْبَرَ فقال له رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم احْبِسْ أَصْلَهَا
فَدَلَّ على أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَقْفِ
وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ وَقَفَ مِائَةَ سَهْمٍ
قبل الْقِسْمَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَعْدَهَا فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع
الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ على أَنَّهُ إنْ ثَبَتَ أَنَّ الْوَقْفَ كان قبل
الْقِسْمَةِ فَيُحْمَلُ أَنَّهُ وَقَفَهَا شَائِعًا ثُمَّ قَسَّمَ وسلم وقد رُوِيَ
أَنَّهُ فَعَلَ كَذَلِكَ
وَذَلِكَ جَائِزٌ كما لو وَهَبَ مُشَاعًا ثُمَّ قَسَّمَ وسلم
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْوَقْفِ الْجَائِزِ وما يَتَّصِلُ بِهِ فَالْوَقْفُ إذَا
جَازَ على اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ في ذلك فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَزُولُ
____________________
(6/220)
الْمَوْقُوفُ
عن مِلْكِ الْوَاقِفِ وَلَا يَدْخُلُ في مِلْكِ الْمَوْقُوفِ عليه لَكِنَّهُ
يَنْتَفِعُ بِغَلَّتِهِ بِالتَّصَدُّقِ عليه لِأَنَّ الْوَقْفَ حَبْسُ الْأَصْلِ
وَتَصَدُّقٌ بِالْفَرْعِ وَالْحَبْسُ لَا يُوجِبُ مِلْكَ الْمَحْبُوسِ كَالرَّهْنِ
وَالْوَاجِبُ أَنْ يَبْدَأَ بِصَرْفِ الْفَرْعِ إلَى مَصَالِحِ الْوَقْفِ من
عِمَارَتِهِ وَإِصْلَاحِ ما وهى من بِنَائِهِ وَسَائِرِ مُؤْنَاتِهِ التي لَا
بُدَّ منها سَوَاءٌ شَرَطَ ذلك الْوَاقِفُ أو لم يَشْرُطْ لِأَنَّ الْوَقْفَ
صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا تَجْرِي إلَّا بهذا
الطَّرِيقِ وَلَوْ وَقَفَ دَارِهِ على سُكْنَى وَلَدِهِ فَالْعِمَارَةُ على من له
السُّكْنَى لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ له فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عليه لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى
بِخِدْمَتِهِ إن نَفَقَتَهُ على الْمُوصَى له بِالْخِدْمَةِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
فَإِنْ امْتَنَعَ من الْعِمَارَةِ ولم يَقْدِرْ عليها بِأَنْ كان فَقِيرًا
آجَرَهَا الْقَاضِي وَعَمَرَهَا بِالْأُجْرَةِ لِأَنَّ استبقاء ( ( ( استيفاء ) )
) الْوَقْفِ وَاجِبٌ وَلَا يبقي إلَّا بِالْعِمَارَةِ فإذا امْتَنَعَ عن ذلك أو
عَجَزَ عنه نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ في اسْتِبْقَائِهِ بِالْإِجَارَةِ
كَالْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ إذَا امْتَنَعَ صَاحِبُهَا عن الْإِنْفَاقِ عليها
أَنْفَقَ الْقَاضِي عليها بِالْإِجَارَةِ
كَذَا هذا
وما انْهَدَمَ من بِنَاءِ الْوَقْفِ وَآلَتِهِ صَرَفَهُ الْحَاكِمُ في عِمَارَةِ
الْوَقْفِ إنْ احْتَاجَ إلَيْهِ وَإِنْ اسْتَغْنَى عنه أَمْسَكَهُ إلَى وَقْتِ
الْحَاجَةِ إلَى عِمَارَتِهِ فَيَصْرِفُهُ فيها وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَهُ
إلَى مُسْتَحِقِّي الْوَقْفِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ في الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ لَا
في الْعَيْنِ بَلْ هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى على الْخُلُوصِ
وَلَوْ جَعَلَ دَارِهِ مَسْجِدًا فَخَرِبَ جِوَارُ الْمَسْجِدِ أو اسْتَغْنَى عنه
لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ وَيَكُونُ مَسْجِدًا أَبَدًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ وهو
التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَانٍ يُصَلِّي فيه الناس فإذا اسْتَغْنَى
عنه فَقَدْ فَاتَ غَرَضُهُ منه فَيَعُودُ إلَى مِلْكِهِ كما لو كَفَّنَ مَيِّتًا
ثُمَّ أَكَلَهُ سَبْعٌ وَبَقِيَ الْكَفَنُ يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَمَّا جَعَلَهُ مَسْجِدًا فَقَدْ حَرَّرَهُ وَجَعَلَهُ
خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى على الْإِطْلَاقِ وَصَحَّ ذلك فَلَا يَحْتَمِلُ
الْعَوْدَ إلَى مِلْكِهِ كَالْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ
ما حَرَّرَ الْكَفَنَ وَإِنَّمَا دَفَعَ حَاجَةَ الْمَيِّتِ بِهِ وهو سَتْرُ
عَوْرَتِهِ وقد اسْتَغْنَى عنه فَيَعُودُ مِلْكًا له
وَقَوْلُهُ أَزَالَ مِلْكَهُ بِوَجْهٍ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عنه قُلْنَا
مَمْنُوعٌ فإن الْمُجْتَازِينَ يُصَلُّونَ فيه وَكَذَا احْتِمَالُ عَوْدِ
الْعِمَارَةِ قَائِمٌ وَجِهَةُ الْقُرْبَةِ قد صَحَّتْ بِيَقِينٍ فَلَا تَبْطُلُ
بِاحْتِمَالِ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ
وَلَوْ وَقَفَ دَارًا أو أَرْضًا على مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ قال بَعْضُهُمْ هو على
الِاخْتِلَافِ على قَوْلِ أبي يُوسُفَ يَجُوزُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَا
يَجُوزُ بِنَاءً على أَنَّ الْمَسْجِدَ عِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا
بِالْخَرَابِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَصِيرُ مِيرَاثًا
وقال أبو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ وقال أبو
بَكْرٍ الْإِسْكَافُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِالِاتِّفَاقِ
فَصْلٌ وَأَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا قال دَارِي هذه في الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً
تَصَدَّقَ بِثَمَنِهَا وَإِنْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِهَا جَازَ لِأَنَّ النَّاذِرَ
بِالنَّذْرِ يَتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالْمَنْذُورِ بِهِ وَمَعْنَى
الْقُرْبَةِ يَحْصُلُ بِالتَّصَدُّقِ بِثَمَنِ الدَّارِ
وَلَوْ تَصَدَّقَ بِعَيْنِ الدَّارِ جَازَ لِأَنَّهُ أَدَّى الْمَنْصُوصَ عليه
وَلَوْ قال دَارِي هذه صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ على الْمَسَاكِينِ تَصَدَّقَ
بِالسُّكْنَى وَالْغَلَّةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ بِهِ
صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ وَالْوَقْفُ حَبْسُ الْأَصْلِ وَتَصَدُّقٌ الفرع ( ( (
بالفرع ) ) ) وَلَوْ قال مَالِي في الْمَسَاكِينِ صَدَقَةً تَصَدَّقَ بِكُلِّ
مَالٍ تَجِبُ فيه الزَّكَاةُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْكُلِّ
لِأَنَّ اسْمَ الْمَالِ يَنْطَلِقُ على الْكُلِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ
تَعَالَى ثُمَّ إيجَابِ الصَّدَقَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاسْمِ اللَّهِ من اللَّهِ
تَعَالَى في قَوْله تَعَالَى { خُذْ من أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } وَنَحْوُ ذلك
نصرف ( ( ( تصرف ) ) ) إلَى بَعْضِ الْأَمْوَالِ دُونَ الْكُلِّ فَكَذَا إيجَابُ
الْعَبْدِ
وَلَوْ قال ما أَمْلِكُهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَيُقَال
له أَمْسِكْ قَدْرَ ما تُنْفِقُهُ على نَفْسِك وَعِيَالِك إلَى أَنْ تَكْتَسِبَ
مَالًا فإذا اكتسب ( ( ( اكتسبت ) ) ) مَالًا تَصَدَّقْت بِمِثْلِ ما أَمْسَكْت
لِنَفْسِك لِأَنَّهُ أَضَافَ الصَّدَقَةَ إلَى الْمَمْلُوكِ وَجَمِيعُ مَالِهِ
مَمْلُوكٌ له فَيَتَصَدَّقُ بِالْجَمِيعِ إلَّا أَنَّهُ يُقَالُ له أَمْسِكْ
قَدْرَ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ لو تَصَدَّقَ بِالْكُلِّ على غَيْرِهِ لَاحْتَاجَ
إلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ غَيْرُهُ عليه وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
كِتَابُ الدَّعْوَى الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
رُكْنِ الدَّعْوَى وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ حَدِّ الْمُدَّعِي
____________________
(6/221)
وَالْمُدَّعَى
عليه وفي بَيَانِ حُكْمِ الدَّعْوَى وما يَتَّصِلُ بِهِ وفي بَيَانِ حُجَّةِ
الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه وفي بَيَانِ عَلَائِقِ الْيَمِينِ وفي بَيَانِ ما
تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عن الْمُدَّعَى عليه وَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ خَصْمًا
وفي بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مع تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ
وَحُكْمِ تَعَارُضِ الدَّعْوَى لَا غير وفي بَيَانِ حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ
الثَّابِتِ في الْمَحَلِّ
أَمَّا رُكْنُ الدَّعْوَى فَهُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لي على فُلَانٍ أو قِبَل
فُلَانٍ كَذَا أو قَضَيْتُ حَقَّ فُلَانٍ أو أَبْرَأَنِي عن حَقِّهِ وَنَحْوُ ذلك
فإذا قال ذلك فَقَدْ تَمَّ الرُّكْنُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ الْمُصَحِّحَةُ لِلدَّعْوَى فَأَنْوَاعٌ منها عَقْلُ
الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَلَا تَصِحُّ دَعْوَى الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ
الذي لَا يَعْقِلُ وَكَذَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا حتى لَا يَلْزَمَ
الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ على الدَّعْوَى
الصَّحِيحَةِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مَعْلُومًا لِتَعَذُّرِ
الشَّهَادَةِ وَالْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ وَالْعِلْمُ بِالْمُدَّعَى إنَّمَا
يَحْصُلُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ إمَّا الْإِشَارَةُ وَإِمَّا التَّسْمِيَةُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ المدعي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فَإِنْ كان عَيْنًا فَلَا يَخْلُو أما إنْ كان
مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ أو لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَإِنْ كان
مُحْتَمِلًا لِلنَّقْلِ فَلَا بُدَّ من إحْضَارِهِ لِتُمْكِنَ الْإِشَارَةُ
إلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بها إلَّا إذَا
تَعَذَّرَ نَقْلُهُ كَحَجَرِ الرَّحَى وَنَحْوِهِ فَإِنْ شَاءَ الْقَاضِي
اسْتَحْضَرَهُ وَإِنْ شَاءَ بَعَثَ إلَيْهِ أَمِينًا وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْتَمِلًا
لِلنَّقْلِ وهو الْعَقَارُ فَلَا بُدَّ من بَيَانِ حَدِّهِ لِيَكُونَ مَعْلُومًا
لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالتَّحْدِيدِ ثُمَّ لَا
خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى فيه بِذِكْرِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَكَذَا بِذِكْرِ حَدَّيْنِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَهَلْ تَقَعُ
الْكِفَايَةُ بِذَكَرِ ثَلَاثَةِ حُدُودٍ قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ نعم وقال زُفَرُ رضي اللَّهُ عنه لَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ
الشُّرُوطِ وَكَذَا لَا بُدَّ من بَيَانِ مَوْضِعِ الْمَحْدُودِ وَبَلَدِهِ
لِيَصِيرَ مَعْلُومًا
هذا إذَا كان الْمُدَّعَى عَيْنًا فَإِنْ كان دَيْنًا فَلَا بُدَّ من بَيَانِ
جِنْسِهِ وَنَوْعِهِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَصِيرُ
مَعْلُومًا إلَّا بِبَيَانِ هذه الْأَشْيَاءِ
وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ الْمُدَّعِي في دَعْوَى الْعَقَارِ أَنَّهُ في يَدِ
الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ الدَّعْوَى لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ على خَصْمٍ
وَالْمُدَّعَى عليه إنَّمَا يَصِيرُ خَصْمًا إذَا كان بيده فَلَا بُدَّ وَأَنْ
يَذْكُرَ أَنَّهُ في يَدِهِ لِيَصِيرَ خَصْمًا فإذا ذَكَرَ وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى
عليه وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فإنه يَحْلِفُ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى
إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ من الْمُدَّعِي على أَنَّهُ في يَدِ الْمُدَّعَى عليه
وَلَوْ كان له بَيِّنَةٌ لَا تُسْمَعُ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ في
يَدِ هذا الْمُدَّعَى عليه وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ
صَاحِبُ الْيَدِ غَيْرَهُ وَاصْطَلَحَا على ذلك فَلَوْ سمع الْقَاضِي بَيِّنَتَهُ
لَكَانَ قَضَاءً على الْغَائِبِ وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا مُتَعَذِّرٌ لِأَنَّهُ
لَا قَضَاءَ هُنَا أَصْلًا لِأَنَّ الْمُدَّعَى عليه لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ
يَحْلِفَ وَإِمَّا أَنْ يَنْكُلَ فَإِنْ حَلَفَ فَالْأَمْرُ فيه ظَاهِرٌ وَإِنْ
نَكَلَ فَكَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا يَأْمُرُهُ
بِأَنْ يَخْرُجَ من الدَّارِ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُدَّعِي
وَمِنْهَا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِهِ لِأَنَّ حَقَّ الْإِنْسَانِ
إنَّمَا يَجِبُ إيفَاؤُهُ بِطَلَبِهِ وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بِلِسَانِهِ عَيْنًا
إذَا لم يَكُنْ بِهِ عُذْرٌ إلَّا إذَا رضي الْمُدَّعَى عليه بِلِسَانِ غَيْرِهِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَة وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى لو وَكَّلَ الْمُدَّعِي
بِالْخُصُومَةِ من غَيْرِ عُذْرٍ ولم يَرْضَ بِهِ الْمُدَّعَى عليه لَا تَصِحُّ
دَعْوَاهُ عِنْدَهُ حتى لَا يَلْزَمَ الْجَوَابُ وَلَا تُسْمَعَ منه الْبَيِّنَةُ
وَعِنْدَهُمَا تَصِحُّ حتى يَلْزَمَ وَتُسْمَعَ لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْحُكْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى إلَّا بين
يَدَيْ الْقَاضِي كما لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ إلَّا بين يَدَيْهِ
وَمِنْهَا حَضْرَةُ الْخَصْمِ فَلَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةُ إلَّا على
خَصْمٍ حَاضِرٍ إلَّا إذَا الْتَمَسَ الْمُدَّعِي بِذَلِكَ كِتَابًا حُكْمِيًّا
لِلْقَضَاءِ بِهِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَيْهِ فَيَكْتُبُ إلَى الْقَاضِي الذي
للغائب ( ( ( الغائب ) ) ) في بَلَدِهِ بِمَا سَمِعَهُ من الدَّعْوَى
وَالشَّهَادَةِ لِيَقْضِيَ عليه وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ حَضْرَةُ الْمُدَّعَى عليه لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِسَمَاعِ
الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ على الْغَائِبِ
عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي
في دَعْوَاهُ على الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَتِهِ
قِيَاسًا على الْحَاضِرِ وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْ
كان خيرا ( ( ( خبرا ) ) ) يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ لَكِنْ يُرَجَّحُ
جَانِبُ صِدْقِهِ على جَانِبِ الْكَذِبِ في خَبَرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَظْهَرُ
صِدْقُهُ في دَعْوَاهُ كما إذَا كان الْمُدَّعَى عليه حَاضِرًا يُحَقِّقُهُ أَنَّ
الْمُدَّعَى عليه لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ
مُنْكَرًا فَإِنْ كان مُقِرًّا فَكَانَ الْمُدَّعِي صَادِقًا في دَعْوَاهُ فَلَا
حَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ كان مُنْكِرًا فَظَهَرَ صِدْقُهُ بِالْبَيِّنَةِ
فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ قَضَاءً بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ
فَجَازَ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ ما لم
تَسْمَعْ كَلَامَ الْآخَرِ نَهَاهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن الْقَضَاءِ
____________________
(6/222)
لِأَحَدِ
الْخَصْمَيْنِ قبل سَمَاعِ كَلَامِ الْآخَرِ وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمُدَّعِي
حَالَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عليه قَضَاءٌ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ قبل سَمَاعِ
كَلَامِ الْآخَرِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عنه وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ
بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { يا
دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بين الناس بِالْحَقِّ
}
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَمْرِو بن الْعَاصِ اقْضِ بين هَذَيْنِ قال
أَقْضِي وَأَنْتَ حَاضِرٌ بَيْننَا فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اقْضِ
بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ وَالْحَقُّ اسْمٌ لِلْكَائِنِ الثَّابِتِ وَلَا ثُبُوتَ مع
احْتِمَالِ الْعَدَمِ وَاحْتِمَالُ الْعَدَمِ ثَابِتٌ في الْبَيِّنَةِ
لِاحْتِمَالِ الْكَذِبِ فلم يَكُنْ الْحُكْمُ بِالْبَيِّنَةِ حُكْمًا بِالْحَقِّ
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ الْحُكْمُ بها أَصْلًا إلَّا أنها جُعِلَتْ
حُجَّةً لِضَرُورَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ وَالْمُنَازَعَاتِ ولم يَظْهَرْ حَالَةَ
الْغَيْبَةِ وقد خَرَجَ الْجَوَابُ عن كَلَامِهِ
ثُمَّ إنَّمَا لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ عِنْدَنَا على الْغَائِبِ إذَا لم يَكُنْ
عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كان يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَكُونُ قَضَاءً على الْحَاضِرِ
حَقِيقَةً وَمَعْنًى وَالْخَصْمُ الْحَاضِرُ والوكيل ( ( ( الوكيل ) ) )
وَالْوَصِيُّ وَالْوَارِثُ وَمَنْ كان بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ اتِّصَالٌ
فِيمَا وَقَعَ فيه الدَّعْوَى لِأَنَّ الْوَكِيلَ وَالْوَصِيَّ نَائِبَانِ عنه
بِصَرِيحِ النِّيَابَةِ وَالْوَارِثُ نَائِبٌ عنه شَرْعًا وَحَضْرَةُ النَّائِبِ
كَحَضْرَةِ الْمَنُوبِ عنه فَلَا يَكُونُ قَضَاءً على الْغَائِبِ مَعْنًى
وَكَذَا إذَا كان بين الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ اتِّصَالٌ فِيمَا وَقَعَ فيه
الدَّعْوَى بِأَنْ كان ذلك سَبَبًا لِثُبُوتِ حَقِّ الْغَائِبِ لِأَنَّ الْحَاضِرَ
يَصِيرُ مُدَّعًى عليه فِيمَا هو حَقُّهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ
ثُبُوتُ حَقِّ الْغَائِبِ فَكَانَ الْكُلُّ حَقَّ الْحَاضِرِ لِأَنَّ كُلَّ ما كان
من ضَرُورَاتِ الشَّيْءِ كان مُلْحَقًا بِهِ فَيَكُونُ قَضَاءً على الْحَاضِرِ حتى
إن من ادَّعَى على آخَرَ أَنَّهُ أَخُوهُ ولم يَدَّعِ مِيرَاثًا وَلَا نَفَقَةً
لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى على الْغَائِبِ لِأَنَّهُ يُرِيدُ
إثْبَاتَ نَسَبِهِ من أَبُ الْمُدَّعَى عليه وَأُمِّهِ وَهُمَا غَائِبَانِ
وَلَيْسَ عنهما خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّهُ لم تُوجَدْ الْإِنَابَةُ وَلَا حَقٌّ
يَقْضِي بِهِ على الْوَارِثِ لِيَكُونَ ثُبُوتُ النَّسَبِ من الْغَائِبِ من
ضَرُورَاتِهِ تَبَعًا له فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَصْلًا
وَلَوْ ادَّعَى عليه مِيرَاثًا أو نَفَقَةً عِنْدَ الْحَاجَةِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ
وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ دَعْوَى حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ على الْحَاضِرِ وهو
الْمَالُ وَلَا يُمْكِنُهُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ نَسَبِهِ من الْغَائِبِ
فَيُنَصَّبُ خَصْمًا عن الْغَائِبِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ
تَبَعًا له وَلِهَذَا لو أَقَرَّ بِالنَّسَبِ من غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ لَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ ما لو ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أو
ابْنُهُ أَنَّهُ يَصِحُّ من غَيْرِ دَعْوَى الْمَالِ الْحَاضِرِ لِأَنَّهُ ليس فيه
حَمْلُ نَسَبِ الْغَيْرِ على الْغَيْرِ فَكَانَ دَعْوَى على الْحَاضِرِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لو أَقَرَّ بِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ
بِالْأُخُوَّةِ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ الْمَسَائِلُ الْمُخَمَّسَةُ وَتَوَابِعُهَا على ما
نَذْكُرُهَا في مَوْضِعِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا عَدَمُ التَّنَاقُضِ في الدَّعْوَى وهو أَنْ لَا يَسْبِقَ منه ما
يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ وُجُودِ الشَّيْءِ مع ما يُنَاقِضُهُ
وَيُنَافِيهِ حتى لو أَقَرَّ بِعَيْنٍ في يَدِهِ لِرَجُلٍ فَأَمَرَ الْقَاضِي
بِدَفْعِهَا إلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ كان اشْتَرَاهَا منه قبل ذلك لَا
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِغَيْرِهِ لِلْحَالِ يَمْنَعُ
الشِّرَاءَ منه قبل ذلك لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي
فَكَانَ مُنَاقِضًا لِلْإِقْرَارِ وَالْإِقْرَارُ يُنَاقِضُهُ فَلَا يَصِحُّ
وَكَذَا لو لم يُقِرَّ وَنَكَلَ عن الْيَمِينِ فقضى عليه بِنُكُولِهِ ثُمَّ
ادَّعَى أَنَّهُ كان اشْتَرَاهُ منه قبل ذلك لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا
تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ
الْإِقْرَارِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ هذا
إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ منه قبل الْإِقْرَارِ وَالنُّكُولِ فَأَمَّا إذَا
ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ منه بَعْدَ ذلك تُسْمَعُ دَعْوَاهُ بِلَا خِلَافٍ
لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمِلْكِ لِفُلَانٍ لَا يَمْنَعُ الشِّرَاءَ منه بَعْدَ
ذلك لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ
وَلَوْ قال هذا لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته منه تُسْمَعُ منه مَوْصُولًا قال ذلك أو
مَفْصُولًا لِأَنَّهُ لم يَسْبِقْ منه ما يُنَاقِضُ الدَّعْوَى بَلْ سَبَقَ منه ما
يُقَرِّرُهَا لِأَنَّ سَابِقَةَ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ شَرْطُ تَحَقُّقِ الشِّرَاءِ
منه
وَلَوْ قال هذا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ منه مَوْصُولًا فَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَاهُ وفي الِاسْتِحْسَانِ تَصِحُّ وَلَوْ قال ذلك
مَفْصُولًا لَا تَصِحُّ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ قَوْلَهُ هو لِفُلَانٍ إقْرَارٌ منه بِكَوْنِهِ مِلْكًا
لِفُلَانٍ في الْحَالِ فَهَذَا يُنَاقِضُ دَعْوَى الشِّرَاءِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ
يُوجِبُ كَوْنَهُ مِلْكًا لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَصِحُّ كما إذَا قال مَفْصُولًا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُ هو لِفُلَانٍ اشْتَرَيْته منه مَوْصُولًا
مَعْنَاهُ في مُتَعَارَفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ أَنَّهُ كان لِفُلَانٍ
فَاشْتَرَيْتُهُ منه قال اللَّهُ عز وجل { وَاذْكُرُوا إذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ
مُسْتَضْعَفُونَ في الْأَرْضِ } أَيْ إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا إذْ لم يَكُونُوا
قَلِيلًا وَقْتَ نُزُولِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ فَيُحْمَلُ عليه تَصْحِيحًا له
وَلَا عَادَةَ جَرَتْ بِذَلِكَ في الْمَفْصُولِ فَحُمِلَ على حَقِيقَتِهِ وهو
بِحَقِيقَتِهِ مُنَاقَضَةٌ فَلَا تُسْمَعُ
هذا إذَا بَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قبل الْإِقْرَارِ فَإِنْ بَيَّنَ أَنَّهُ
اشْتَرَاهُ بَعْدَهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِانْعِدَامِ التَّنَاقُضِ
____________________
(6/223)
على
ما بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لو لم يُبَيِّنْ وَادَّعَى الشِّرَاءَ مُبْهَمًا بِثَمَنٍ
مَعْلُومٍ تُسْمَعُ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يذكر الْوَقْتَ يُحْمَلُ على الْحَالِ
تَصْحِيحًا له
هذا إذَا قال هذا الشَّيْءُ لِفُلَانٍ ولم يَقُلْ لَا حَقَّ لي فيه فَإِنْ قال لَا
حَقَّ لي فيه ثُمَّ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ ذلك لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ لِأَنَّ
قَوْلَهُ لَا حَقَّ لي فيه لِتَأْكِيدِ الْبَرَاءَةِ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ
اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَتُسْمَعُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ ادَّعَى على رَجُلٍ دَيْنًا فقال الْمُدَّعَى عليه لم يَكُنْ لَك عَلَيَّ
شَيْءٌ قَطُّ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ
ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عليه الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كان قد قَضَاهُ إيَّاهُ
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَته لِجَوَازِ أَنَّهُ لم يَكُنْ عليه شَيْءٌ
وَإِنَّمَا قَضَاهُ إيَّاهُ لَدَفْعِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ
وَلَوْ قال لم يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ وَلَا أَعْرِفُكَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِبَيِّنَتِهِ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعَى عليه
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كان قَضَاهُ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا أَعْرِفُكَ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْقَضَاءِ
لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَقْضِي إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ إيَّاهُ
فَكَانَ في دَعْوَى الْقَضَاءِ مُنَاقِضًا فَلَا تُسْمَعُ
وَلَوْ ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ اشْتَرَى منه عَبْدًا بِعَيْنِهِ وَالْعَبْدُ
في يَدِ الْبَائِعِ فَأَنْكَرَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ فَأَقَامَ الْمُشْتَرِي
الْبَيِّنَةَ وَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَأَرَادَ أَنْ
يَرُدَّهُ على الْبَائِعِ فَأَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ
الْمُشْتَرِيَ كان أَبْرَأهُ عن كل عَيْبٍ لم تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ إنْكَارَ الْبَيْعِ يُنَاقِضُ دَعْوَى الْإِبْرَاءِ عن
الْعَيْبِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ يَقْتَضِي وُجُودَ الْبَيْعِ فَكَانَ مُنَاقِضًا
في دَعْوَى الْإِبْرَاءِ فَلَا تُسْمَعُ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ وَالْأَصْلُ في هذا الْبَابِ أَنَّهُ إذَا سَبَقَ من
الْمُدَّعِي ما يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الدَّعْوَى إلَّا في
النَّسَبِ وَالْعِتْقِ فإن التَّنَاقُضَ فِيهِمَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِأَنْ قال
لِمَجْهُولِ النَّسَبِ هو ابْنِي من الزِّنَا ثُمَّ قال هو ابْنِي من النِّكَاحِ
تُسْمَعُ دَعْوَاهُ
وَكَذَا مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ثُمَّ ادَّعَى
أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ حتى تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ
بَيَانَ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ على أَمْرٍ خَفِيٍّ وهو الْعُلُوقُ منه إذْ هو مِمَّا
يَغْلِبُ خَفَاؤُهُ على الناس فَالتَّنَاقُضُ في مِثْلِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ كما
إذَا اخْتَلَعَتْ امْرَأَةٌ زَوْجَهَا على مَالٍ ثُمَّ ادَّعَتْ أَنَّهُ كان
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قبل الْخُلْعِ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ على ذلك تُسْمَعُ
دَعْوَاهَا وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا لَمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَكَذَا الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى مِمَّا يُحْتَمَلُ لِلثُّبُوتِ لِأَنَّ
دَعْوَى ما يَسْتَحِيلُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً أو عَادَةً تَكُونُ دَعْوَى كَاذِبَةً
حتى لو قال لِمَنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِهِ هذا ابْنِي لَا تُسْمَع
دَعْوَاهُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الْأَكْبَرُ سِنًّا ابْنًا لِمَنْ هو
أَصْغَرُ سِنًّا منه
وَكَذَا إذَا قال لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ من الْغَيْرِ هذا ابْنِي وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حَدِّ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَقَدْ اختلف ( ( (
اختلفت ) ) ) عِبَارَاتُ الْمَشَايِخِ في تَحْدِيدِهِمَا قال بَعْضُهُمْ
الْمُدَّعِي من إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يُجْبَرُ عليها وَالْمُدَّعَى عليه
من إذَا تَرَكَ الْجَوَابَ يُجْبَرُ عليه
وقال بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي من يَلْتَمِسُ قِبَلَ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ عَيْنًا أو
دَيْنًا أو حَقًّا وَالْمُدَّعَى عليه من يَدْفَعُ ذلك عن نَفْسِهِ
وقال بَعْضُهُمْ يُنْظَرُ إلَى الْمُتَخَاصِمَيْنِ أَيُّهُمَا كان مُنْكِرًا
فَالْآخَرُ يَكُونُ مُدَّعِيًا
وقال بَعْضُهُمْ الْمُدَّعِي من يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ
وَالْمُدَّعَى عليه من يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ
فَيَنْفَصِلَانِ بِذَلِكَ عن الشَّاهِدِ وَالْمُقِرِّ وَالشَّاهِدُ من يُخْبِرُ
عَمَّا في يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ وَالْمُقِرُّ من يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ
نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الدَّعْوَى وما يَتَّصِلُ بِهِ فَحُكْمُهَا
وُجُوبٌ الْجَوَابِ على الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّ قَطْعَ الْخُصُومَةِ
وَالْمُنَازَعَةِ وَاجِبٌ وَلَا يُمْكِن الْقَطْعُ ألا بِالْجَوَابِ فَكَانَ
وَاجِبًا وَهَلْ يَسْأَلُهُ الْقَاضِي الْجَوَابَ قبل طَلَبِ المدعى
ذَكَرَ في أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ
لَا يَسْأَلُهُ ما لم يَقُلْ الْمُدَّعِي اسْأَلْهُ عن دَعْوَايَ وَعَلَى هذا إذَا
تَقَدَّمَ الْخَصْمَانِ إلَى الْقَاضِي هل يَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ عن دَعْوَاهُ في
أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُهُ
وفي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُهُ وَيُعْرَفُ ذلك في كِتَابِ أَدَبِ
الْقَاضِي وَسَيَأْتِي
وإذا وَجَبَ الْجَوَابُ على الْمُدَّعَى عليه فَإِمَّا إنْ أَقَرَّ أو سَكَتَ أو
أَنْكَرَ فَإِنْ أَقَرَّ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُدَّعِي لِظُهُورِ صِدْقِ
دَعْوَاهُ وَإِنْ أَنْكَرَ فَإِنْ كان لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَقَامَهَا
وَلَوْ قال لَا بَيِّنَةَ لي ثُمَّ جاء بِالْبَيِّنَةِ هل تُقْبَل رَوَى الْحَسَنُ
عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أنها تُقْبَلُ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أنها لَا تُقْبَل
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ قَوْلَهُ لَا بَيِّنَةَ لي إقْرَارٌ على نَفْسِهِ
وَالْإِنْسَانُ لَا يُتَّهَمُ في إقْرَارِهِ على نَفْسِهِ فَالْإِتْيَانُ
بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذلك رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَجْهُ
رِوَايَةِ الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ تَكُونَ له
بَيِّنَةٌ لم يَعْلَمْهَا الْمُدَّعِي بِأَنْ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عليه بين يَدَيْ
هَؤُلَاءِ وهو لَا يَعْلَمُ بِهِ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذلك بها فَأَمْكَنَ
التَّوْفِيقُ فَلَا يَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذلك رُجُوعًا
فَتُقْبَلُ وَإِنْ لم يَكُنْ له بَيِّنَةٌ وَطَلَب يَمِينَ الْمُدَّعَى عليه
يَحْلِفُ فِيمَا
____________________
(6/224)
يَحْتَمِلُ
التَّحْلِيفَ فَإِنْ سَكَتَ عن الْجَوَابِ يَأْتِي حُكْمُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى في الْفَصْلِ الذي يَلِيهِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه فَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ
الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عليه لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه
جَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينَ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عليه وَالْمَعْقُولُ كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ
يَدَّعِي أَمْرًا خَفِيًّا فَيَحْتَاجُ إلَى إظْهَارِهِ وَلِلْبَيِّنَةِ قُوَّةُ
الْإِظْهَارِ لِأَنَّهَا كَلَامُ من ليس بِخَصْمٍ فَجُعِلَتْ حُجَّةُ الْمُدَّعِي
وَالْيَمِينُ وَإِنْ كانت مُؤَكَّدَةً بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ عز وجل لَكِنَّهَا
كَلَامُ الْخَصْمِ فَلَا تَصْلُحُ حُجَّة مظهره لِلْحَقِّ وَتَصْلُحُ حُجَّةٌ
المدعي عليه لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالظَّاهِرِ وهو ظَاهِرُ الْيَدِ فَحَاجَتُهُ
إلَى اسْتِمْرَارِ حُكْمِ الظَّاهِرِ وَالْيَمِينُ وَإِنْ كانت كَلَامَ الْخَصْمِ
فَهِيَ كَافٍ لِلِاسْتِمْرَارِ فَكَانَ جَعْلُ الْبَيِّنَةِ حُجَّةَ الْمُدَّعِي
وَجَعْلُ الْيَمِينِ حُجَّةَ الْمُدَّعَى عليه وَضْعَ الشَّيْءِ في مَوْضِعِهِ وهو
حَدُّ الْحِكْمَةِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّج الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ وَيَمِينٍ من الْمُدَّعِي
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَضَى
بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ إنَّمَا كانت حُجَّةَ الْمُدَّعِي
لِكَوْنِهَا مُرَجِّحَةً جِنْسِيَّةَ الصِّدْقِ على جِنْسِيَّةِ الْكَذِبِ في
دَعْوَاهَا الرُّجْحَانَ فَكَمَا يَقَعُ بِالشَّهَادَةِ يَقَعُ بِالْيَمِينِ
فَكَانَتْ الْيَمِينُ في كَوْنِهَا حُجَّةً مِثْلَ الْبَيِّنَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي
أَنْ يكتفى بها إلَّا أَنَّهُ ضَمَّ إلَيْهَا الشَّهَادَةَ نَفْيًا لِلتُّهْمَةِ
وَلَنَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وَالْمَعْقُولُ وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ
الْيَمِينَ على الْمُدَّعَى عليه
وَلَوْ جُعِلْت حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا تبقي وَاجِبَةً على الْمُدَّعَى عليه وهو
خِلَافُ النَّصِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْيَمِين
حُجَّةَ الْمُدَّعَى عليه لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ذَكَرَ
الْيَمِينَ بلام التَّعْرِيفِ فَيَقْتَضِي اسْتِغْرَاقَ كل الْجِنْسِ فَلَوْ
جُعِلَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي لَا يَكُونُ كُلُّ جِنْسِ الْيَمِينِ حُجَّةَ المدعي
عليه بَلْ يَكُونُ من الْأَيْمَانِ ما ليس بِحُجَّةٍ له وهو يَمِينُ الْمُدَّعِي
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ طَعَنَ فيه يحيى بْن مَعِينٍ وقال لم يَصِحَّ عن رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ
وَكَذَا رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ لَمَّا سُئِلَ عن الْيَمِينِ مع الشَّاهِدِ فقال
بِدْعَةٌ وَأَوَّلُ من قَضَى بِهِمَا مُعَاوِيَةُ رضي اللَّهُ عنه وَكَذَا ذَكَرَ
ابن جُرَيْجٍ عن عَطَاءِ بن أبي رَبَاحٍ أَنَّهُ قال كان الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ
أَنْ لَا يُقْبَلَ إلَّا شَاهِدَانِ وَأَوَّلُ من قَضَى بِالْيَمِينِ مع الشَّاهِد
عبد الْمَلِكِ بن مَرْوَانَ مع ما أَنَّهُ وَرَدَ مَوْرِدَ الْآحَادِ وَمُخَالِفًا
لِلْمَشْهُورِ فَلَا يُقْبَلُ
وَإِنْ ثَبَتَ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ أَمَّا ليس فيه أَنَّهُ فيه
قَضَى
وقد رُوِيَ عن بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ قَضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ في
الْأَمَانِ وَعِنْدَنَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ في بَعْضِ أَحْكَامِ الْأَمَانِ
بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ إذَا كان عَدْلًا بِأَنْ شَهِدَ أَنَّهُ أَمَّنَ هذا الْكَافِرَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ حتى لَا يُقْتَلَ لَكِنْ يُسْتَرَقُّ وَالْيَمِينُ من بَابِ
ما يُحْتَاطُ فيه فَحُمِلَ على هذا تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ صِيَانَةً لها عن
التَّنَاقُضِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ في رَدِّهِ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عليه
لِأَنَّ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما جَعَلَ الْيَمِينَ حُجَّةً إلَّا
في جَانِبِ الْمُدَّعَى عليه فَالرَّدُّ إلَى الْمُدَّعِي يَكُونُ وَضْع الشَّيْءِ
في غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهَذَا حَدُّ الظُّلْمِ وَعَلَى هذا يُخَرِّج مَسْأَلَةَ
الْخَارِجِ مع ذِي الْيَدِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا تُقْبَل
بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً لِلْمُدَّعِي وَذُو الْيَدِ
ليس بِمُدَّعٍ بَلْ هو مُدَّعَى عليه فَلَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةً له
فَالْتَحَقَتْ بَيِّنَتُهُ بِالْعَدَمِ فَخَلَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي عن
الْمُعَارِضِ فَيُعْمَلُ بها وقد تُخَرَّجُ الْمَسْأَلَةُ على أَصْل آخِرٍ
نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
وإذا عَرَفْت أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ
الْمُدَّعَى عليه فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ عَلَائِقِهِمَا وَعَلَائِقِ
الْبَيِّنَةِ قد مَرَّ ذِكْرُهَا في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَنَذْكُرُ هُنَا
عَلَائِقَ الْيَمِينِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْكَلَامُ في
الْيَمِينِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَنَّ الْيَمِينَ وَاجِبَةٌ وفي بَيَانِ
شَرَائِطِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ
وفي بَيَانِ حُكْمِ أَدَائِهِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الِامْتِنَاعِ عن تَحْصِيلِ
الْوَاجِبِ
أَمَّا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو قَوْلُهُ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على
الْمُدَّعَى عليه وَعَلَى كَلِمَةٍ إيجَابٌ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها الْإِنْكَارُ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ
لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ التُّهْمَةِ وَهِيَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ في الْإِنْكَارِ
فإذا كان مُقِرًّا لَا حَاجَةَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُتَّهَم في الْإِقْرَارِ
على نَفْسِهِ
ثُمَّ الْإِنْكَارُ نَوْعَانِ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ صَرِيحُ الْإِنْكَارِ وَأَمَّا الدَّلَالَةُ فَهُوَ السُّكُوتُ
عن جَوَابِ الْمُدَّعِي من غَيْرِ آفَةٍ لِأَنَّ الدَّعْوَى أَوْجَبَتْ الْجَوَابَ
عليه وَالْجَوَابُ نَوْعَانِ إقْرَارٌ وَإِنْكَارٌ فَلَا بُدَّ من حَمْلِ
السُّكُوتِ على
____________________
(6/225)
أَحَدِهِمَا
وَالْحَمْلُ على الْإِنْكَارِ أَوْلَى لِأَنَّ الْعَاقِلَ الْمُتَدَيِّنَ لَا
يَسْكُتُ عن إظْهَارِ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ لِغَيْرِهِ مع قُدْرَتِهِ عليه وقد
يَسْكُتُ عن إظْهَارِ الْحَقِّ لِنَفْسِهِ مع قُدْرَتِهِ عليه فَكَانَ حَمْلُ
السُّكُوتِ على الْإِنْكَارِ أَوْلَى فَكَانَ السُّكُوتُ إنْكَارًا دَلَالَةً
وَلَوْ لم يُسْكَتْ الْمُدَّعَى عليه ولم يُقِرَّ وَلَكِنَّهُ قال لَا أُقِرُّ
وَلَا أُنْكِرُ وَأَصَرَّ على ذلك اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه قال بَعْضُهُمْ هذا
إنْكَارٌ وقال بَعْضُهُمْ هذا إقْرَارٌ وَالْأَوَّلُ أَشْبَهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ
لَا أُنْكِرُ إخْبَارٌ عن السُّكُوتِ عن الْجَوَابِ وَالسُّكُوتُ إنْكَارٌ على ما
مَرَّ
وَمِنْهَا الطَّلَبُ من الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا وَجَبَتْ على الْمُدَّعَى عليه
حَقًّا لِلْمُدَّعِي وَحَقُّ الْإِنْسَانِ قِبَلَ غَيْرِهِ وَاجِبَ الْإِيفَاءِ
عِنْدَ طَلَبِهِ وَمِنْهَا عَدَمُ الْبَيِّنَةِ الْحَاضِرَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى لو قال الْمُدَّعِي لي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ ثُمَّ
أَرَادَ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عليه ليس له ذلك عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا له
ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي كَالْبَيِّنَةِ
وَلِهَذَا لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِهِ فَكَانَ له وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ
أَيِّهِمَا شَاءَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ في كَوْنِهَا حُجَّةَ
الْمُدَّعِي كَالْأَصْلِ لِكَوْنِهَا كَلَامَ غَيْرِ الْخَصْمِ وَالْيَمِينُ كَالْخَلْفِ
عليها لِكَوْنِهَا كَلَامَ الْخَصْمِ فَلِهَذَا لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ثُمَّ
أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعَى عليه ليس له ذلك وَالْقُدْرَةُ على الْأَصْلِ
تَمْنَعُ الْمَصِيرَ إلَى الْخَلْفِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ المدعي حَقًّا لِلَّهِ عز وجل خَالِصًا فَلَا يَجُوزُ
الِاسْتِحْلَافُ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ عز وجل كَحَدِّ
الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِأَجْلِ النُّكُولِ
وَلَا يُقْضَى بِالنُّكُولِ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِأَنَّهُ بَذْلٌ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَالْحُدُودُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَلَا تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ
لِهَذَا لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ
إلَّا أَنَّ في السَّرِقَةِ يَحْلِفُ على أَخْذِ الْمَالِ وَكَذَا لَا يَمِينَ في
اللَّعَّانِ لِأَنَّهُ جَارٍ مَجْرَى الْحَدِّ
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَيَجْرِي فيه الِاسْتِحْلَافُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِأَنَّهُ ليس من الْحُدُودِ الْمُتَمَحِّضَةِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بَلْ
يَشُوبُهُ حَقُّ الْعَبْدِ فَأَشْبَهَ التَّعْزِيرَ وفي التَّعْزِيرِ يَحْلِفُ
كَذَا هذا وَيَجْرِي الِاسْتِحْلَافُ في الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَالطَّرَفِ
لِأَنَّ الْقِصَاصَ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ المدعي مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ بِهِ شَرْعًا بِأَنْ كان
لو أَقَرَّ بِهِ لَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ لم يَجْرِ فيه
الِاسْتِحْلَافُ حتى إن من ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ أَخُوهُ ولم يَدَّعِ في
يَدِهِ مِيرَاثًا فَأَنْكَرَ لَا يَحْلِفُ لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ له بِالْأُخُوَّةِ
لم يَجُزْ إقْرَارُهُ لِكَوْنِهِ إقْرَارًا على غَيْرِهِ وهو أَبُوهُ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخُوهُ وإن في يَدِهِ مَالًا من تَرِكَةِ أبيه وهو
مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِهِ بِإِرْثِهِ من أبيه فَأَنْكَرَ يَحْلِفُ لِأَجْلِ
الْمِيرَاثِ لَا لِلْأُخْوَةِ لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ انه أَخُوهُ صَحَّ إقْرَارُهُ
في حَقِّ الْإِرْثِ حتى يُؤْمَرَ بِتَسْلِيمِ نِصْفِ الْمِيرَاثِ إلَيْهِ ولم
يَصِحَّ في حَقِّ النَّسَبِ حتى لَا يُقْضَى بِأَنَّهُ أَخُوهُ
وَعَلَى هذا عَبْدٌ في يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ فَأَقَرَّ بِهِ
لِأَحَدِهِمَا وسلم الْقَاضِي الْعَبْدَ إلَيْهِ فقال الْآخِرُ لَا بَيِّنَةَ لي
وَطَلَب من الْقَاضِي تَحْلِيفَ الْمُقِرِّ لَا يُحَلِّفُهُ في عَيْنِ الْعَبْدِ
لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ بِهِ لَكَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا فإذا أَنْكَرَ لَا
يُحَلَّفُ إلَّا أَنْ يَقُولَ الذي لم يُقِرَّ له إنك أَتْلَفَتْ على الْعَبْدَ
بِإِقْرَارِك بِهِ لِغَيْرِي فَاضْمَنْ قِيمَتَهُ لي يَحْلِفُ الْمُقِرُّ
بِاَللَّهِ تَعَالَى ما عليه رَدُّ قِيمَةِ ذلك الْعَبْدِ على هذا الْمُدَّعِي
وَلَا رَدُّ شَيْءٍ منها لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ بِإِتْلَافِهِ لَصَحَّ وَضَمِنَ
الْقِيمَةَ فإذا أَنْكَرَ يَسْتَحْلِفُهُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ زَوَّجَهُ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ وَأَنْكَرَ
الْأَبُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِطَرِيقَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ عِنْدَهُ فأذا
أَنْكَرَ لَا يُسْتَحْلَفُ
وَالثَّانِي أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لَا يَجْرِي في النِّكَاحِ وَعِنْدَهُمَا
يَجْرِي لَكِنْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ على
الْحَاصِلِ وَالْحُكْمُ على ما نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
هذا إذَا كانت صَغِيرَةً عِنْدَ الدَّعْوَى فَإِنْ كانت كَبِيرَةً وَادَّعَى أَنَّ
أَبَاهَا زَوَّجَهَا إيَّاهُ في صِغَرِهَا لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
لِمَا قُلْنَا من الطَّرِيقَيْنِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْلِفُ أَيْضًا لِأَحَدِ
طَرِيقَيْنِ وهو أَنَّهُ لو أَقَرَّ عليها في الْحَالِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَلَكِنْ تَحْلِفُ الْمَرْأَةُ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهَا لو أَقَرَّتْ لَصَحَّ
إقْرَارُهَا وَعِنْدَهُمَا الِاسْتِحْلَافُ يَجْرِي فيه لَكِنْ عِنْدَ أبي يُوسُفَ
تَحْلِفُ على السَّبَبِ بِاَللَّهِ عز وجل ما تَعْلَمُ أَنَّ أَبَاهَا زَوَّجَهَا وَهِيَ
صَغِيرَةٌ إلَّا عِنْدَ التَّعَرُّضِ فَتَحْلِفُ على الْحُكْمِ كما قال مُحَمَّدٌ
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهَا عَبْدَهُ فَأَنْكَرَ
الْمَوْلَى لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِطَرِيقَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لو أَقَرَّ عليه لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا اسْتِحْلَافَ في النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا
يَحْلِفُ أَيْضًا لَكِنْ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّهُ لو أَقَرَّ عليه لَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ زَوَّجَهُ أَمَتَهُ لَا يَحْلِفُ
الْمَوْلَى عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَحْلِفُ لِطَرِيقٍ وَاحِدٍ وهو
أَنَّ
____________________
(6/226)
الِاسْتِحْلَافَ
لَا يَجْرِي في النِّكَاحِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ المدعي مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَذْلَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
مع كَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْإِقْرَارِ وَعِنْدَهُمَا أَنْ يَكُونَ مِمَّا
يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ سَوَاءٌ احْتَمَلَ الْبَذْلَ أو لَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُمْ في الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ أنها لَا
يَجْرِي فيها الِاسْتِحْلَافُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَهِيَ النِّكَاحُ
وَالرَّجْعَةُ وَالْفَيْءُ في الْإِيلَاءِ وَالنَّسَبُ وَالرِّقُّ وَالْوَلَاءُ
وَالِاسْتِيلَادُ أَمَّا النِّكَاحُ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلٌ على امْرَأَةٍ
أنها امْرَأَتُهُ أو تَدَّعِي امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ زَوْجُهَا وَلَا
بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي وَطَلَب يَمِينَ الْمُنْكِرِ
وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا قد كُنْت رَاجَعَتْك وَأَنْكَرَتْ الْمَرْأَةُ وَعَجَزَ
الزَّوْجُ عن إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَطَلَب يَمِينَهَا وَأَمَّا الْفَيْءُ في
الْإِيلَاءِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ آلَى من امْرَأَتِهِ وَمَضَتْ
أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فقال قد كُنْت فِئْت إلَيْك بِالْجِمَاعِ فلم تُبَيِّنِي
فقالت لم تفىء ( ( ( تفئ ) ) ) إلَيَّ وَلَا بَيِّنَةَ لِلزَّوْجِ فَطَلَب
يَمِينَهَا
وَأَمَّا النَّسَبُ فَنَحْوُ أَنْ يَدَّعِيَ على رَجُلٍ أَنَّهُ أَبُوهُ أو
ابْنُهُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَلَا بَيِّنَةَ له وَطَلَب يَمِينَهُ وَأَمَّا
الرِّقُّ فَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ على رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَأَنْكَرَ وقال
أَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ لم يَجْرِ عليه رِقٌّ أَبَدًا وَلَا بَيِّنَةَ
لِلْمُدَّعِي فَطَلَب يَمِينَهُ
وَأَمَّا الْوَلَاءُ فإنه يَدَّعِي على امْرَأَةٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أَبَاهَا وإن
أَبَاهَا مَاتَ وَوَلَاؤُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَأَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ
أَعْتَقَهُ وَأَنْ يَكُونَ وَلَاؤُهُ ثَابِتًا منه وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي
فَطَلَب يَمِينَهَا على ما أَنْكَرَتْ من الْوَلَاءِ
وَأَمَّا الِاسْتِيلَادُ فَهُوَ أَنْ تَدَّعِيَ أَمَةٌ على مَوْلَاهَا فَتَقُولُ
أنا أُمُّ وَلَدٍ لِمَوْلَايَ وَهَذَا وَلَدِي فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى لَا يَجْرِي
الِاسْتِحْلَافُ في هذه الْمَوَاضِعِ السَّبْعَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجْرِي وَالدَّعْوَى من الْجَانِبَيْنِ تُتَصَوَّرُ في الْفُصُولِ
السِّتَّةِ وفي الِاسْتِيلَادِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا من جَانِبٍ وَاحِدٍ وهو
جَانِبُ الْأَمَةِ فَأَمَّا جَانِبُ الْمَوْلَى فَلَا تُتَصَوَّرُ الدَّعْوَى
لِأَنَّهُ لو ادَّعَى لَثَبَتَ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَهَذَا بِنَاء على ما
ذَكَرنَا أَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ عنه وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ
الْبَذْلَ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُت
بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ نُكُولَ الْمُدَّعَى عليه دَلِيلُ كَوْنِهِ كَاذِبًا في
إنْكَارِهِ لِأَنَّهُ لو كان صَادِقًا لَمَا امْتَنَعَ من الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ
فَكَانَ النُّكُولُ إقْرَارًا دَلَالَةً إلَّا أَنَّهُ دَلَالَةٌ قَاصِرَةٌ فيها
شُبْهَةُ الْعَدَمِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ قَاصِرٍ فيه
شُبْهَةُ الْعَدَمِ أَلَا تَرَى أنها تَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ
وَشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النُّكُولَ يَحْتَمِلُ الْإِقْرَارَ لَمَا قُلْتُمْ
وَيَحْتَمِلُ الْبَذْلَ لِأَنَّ الْعَاقِلَ الدَّيِّنَ كما يَتَحَرَّجُ عن
الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يَتَحَرَّجُ عن التَّغْيِيرِ وَالطَّعْنِ بِالْيَمِينِ
بِبَذْلِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنَّ حَمْلَهُ على الْبَذْلِ أَوْلَى لِأَنَّا لو
جَعَلْنَاهُ إقْرَارًا لَكَذَّبْنَاهُ لِمَا فيه من الْإِنْكَارِ وَلَوْ
جَعَلْنَاهُ بَذْلًا لم نَكْذِبْهُ لِأَنَّهُ يَصِيرُ في التَّقْدِيرِ كَأَنَّهُ
قال ليس هذا لَك وَلَكِنِّي لَا أَمْنَعُك عنه وَلَا أُنَازِعُك فيه فَيَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ من غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى التَّكْذِيبِ وإذا ثَبَتَ أَنَّ النُّكُولَ
بَذْلٌ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ فَلَا تَحْتَمِلُ
النُّكُولَ فَلَا تَحْتَمِلُ التَّحْلِيفَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ
الْمُدَّعِيَ لِيَنْكُلَ الْمُدَّعَى عليه فيقضى عليه فإذا لم يَحْتَمِلْ
النُّكُولَ لَا يَحْتَمِل التَّحْلِيفَ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ الْيَمِينِ فَالْكَلَامُ فيه يَتَعَلَّقُ
بِمَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ صِفَةِ التَّحْلِيفِ نَفْسِهِ أَنَّهُ
كَيْفَ يَحْلِفُ
وَالثَّانِي في بَيَانِ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عليه أَنَّهُ على مَاذَا يَحْلِفُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَمْرُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان الْحَالِفُ مُسْلِمًا
وَإِمَّا إن كان كَافِرًا فَإِنْ كان مُسْلِمًا فَيُحَلِّفُهُ الْقَاضِي
بِاَللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ من غَيْرِ تَغْلِيظٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَّفَ يَزِيدَ بن رُكَانَةَ أو رُكَانَةَ بن عبد
يَزِيدَ بِاَللَّهِ عز وجل ما أَرَدْت بِالْبَتَّةِ ثَلَاثًا وَإِنْ شَاءَ غَلَّظَ
لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِتَغْلِيظِ الْيَمِينِ في الْجُمْلَةِ فإنه رُوِيَ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم حَلَّفَ ابْنَ صُورِيَّا الْأَعْوَرَ
وَغَلَّظَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الذي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ على
سَيِّدِنَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إن حَدَّ الزِّنَا في كِتَابِكُمْ
هذا
وقال مَشَايِخُنَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْحَالِفِ إنْ كان مِمَّنْ لَا يُخَافُ
منه الِاجْتِرَاءُ على اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ يكتفى فيه
بِاَللَّهِ عز وجل من غَيْرِ تَغْلِيظٍ وَإِنْ كان مِمَّنْ يُخَافُ منه ذلك
تُغَلَّظُ لِأَنَّ من الْعَوَامّ من لَا يُبَالِي عن الْحَلِفِ بِاَللَّهِ عز وجل
كَاذِبًا فإذا غُلِّظَ عليه الْيَمِينُ يَمْتَنِعُ وقال بَعْضُهُمْ إنْ كان
الْمَالُ الْمُدَّعَى يَسِيرًا يكتفى فيه بِاَللَّهِ عز وجل وَإِنْ كان كَثِيرًا
يُغَلَّظُ
وَصِفَةُ التَّغْلِيظِ أَنْ يَقُولَ وَاَللَّهِ الذي لَا إلَهَ إلَّا هو عَالَمُ
الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرحمن الرَّحِيمِ الذي يَعْلَمُ من السِّرِّ ما
يَعْلَمُ من الْعَلَانِيَةِ وَنَحْوَ ذلك مِمَّا يُعَدُّ تَغْلِيظًا في الْيَمِينِ
وَإِنْ كان الْحَالِفُ كَافِرًا فإنه يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عز وجل أَيْضًا
ذِمِّيًّا كان أو مُشْرِكًا لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يُنْكِرُونَ الصَّانِعَ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ من
خَلْقَ السماوات ( ( ( السموات ) ) ) وَالْأَرْضَ لِيَقُولُنَّ اللَّهُ }
فَيُعَظِّمُونَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ
____________________
(6/227)
وَيَعْتَقِدُونَ
حُرْمَةَ الاله إلَّا الدَّهْرِيَّةَ وَالزَّنَادِقَةَ وَأَهْلَ الْإِبَاحَةِ
وَهَؤُلَاءِ أَقْوَامٌ لم يَتَجَاسَرُوا على إظْهَارِ نِحْلَتِهِمْ في عَصْرٍ من
الْأَعْصَارِ إلَى يَوْمِنَا هذا وَنَرْجُو من فَضْلِ اللَّهِ عز وجل على أُمَّةِ
حَبِيبِهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنْ لَا يُقَدِّرَهُمْ على إظْهَارِ ما
انْتَحَلُوهُ إلَى انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي ما يَكُونُ
تَغْلِيظًا في دِينِهِ فَعَلَ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم غَلَّظَ على ابْنِ صُورِيَّا دَلَّ أَنَّ كُلَّ ذلك سَائِغٌ فَيُغَلِّظُ
على الْيَهُودِيِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى عز وجل الذي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ على
سَيِّدِنَا مُوسَى عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَعَلَى النَّصْرَانِيِّ
بِاَللَّهِ الذي أَنْزَلَ الْإِنْجِيلَ على سَيِّدِنَا عِيسَى عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَعَلَى الْمَجُوسِيِّ بِاَللَّهِ الذي خَلَقَ النَّارَ وَلَا
يَحْلِفُ على الْإِشَارَةِ إلَى مُصْحَفٍ مُعَيَّنٍ بِأَنْ يَقُولَ بِاَللَّهِ
الذي أَنْزَلَ هذا الْإِنْجِيلَ أو هذه التَّوْرَاةَ لِأَنَّهُ قد ثَبَتَ تَحْرِيفُ
بَعْضِهَا فَلَا يُؤْمَنُ أَنْ تَقَعَ الْإِشَارَةُ إلَى الْمُحَرَّفِ فَيَكُونُ
التَّحْلِيفُ بِهِ تَعْظِيمًا لِمَا ليس بِكَلَامِ اللَّهِ عز وجل وَلَا يَبْعَثُ
هَؤُلَاءِ إلَى بُيُوتِ عِبَادَتِهِمْ من الْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ وَبَيْتِ
النَّارِ لِأَنَّ فيه تَعْظِيمَ هذه الْمَوَاضِعِ وَكَذَا لَا يَجِبُ تَغْلِيظُ
الْيَمِينِ على الْمُسْلِمِ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان بِالْمَدِينَةِ يَحْلِفُ عِنْدَ
الْمِنْبَرِ وَإِنْ كان بِمَكَّةَ يَحْلِفُ عِنْدَ الْمِيزَابِ وَيَحْلِفُ بَعْدَ
الْعَصْرِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رَوَيْنَا من الحديث الْمَشْهُورِ وهو قَوْلُهُ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على
الْمُدَّعَى عليه مُطْلَقًا عن الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَرُوِيَ أَنَّهُ
اخْتَصَمَ زَيْدُ بن ثَابِتٍ وابن مُطِيعٍ في دَارٍ إلَى مَرْوَانَ بن الْحَكَمِ
فَقَضَى على زَيْدِ بن ثَابِتٍ بِالْيَمِينِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ فقال له زَيْدٌ
أَحْلِفُ له مَكَانِي فقال له مَرْوَانُ لَا وَاَللَّهِ إلَّا عِنْدَ مَقَاطِعِ
الْحُقُوقِ فَجَعَلَ زَيْدٌ يَحْلِفُ أَنَّ حَقَّهُ لَحَقٌّ وَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ
عِنْدَ الْمِنْبَرِ فَجَعَلَ مَرْوَانُ يَعْجَبُ من ذلك وَلَوْ كان ذلك لَازِمًا
لَمَا احْتَمَلَ أَنْ يَأْبَاهُ زَيْدُ بن ثَابِتٍ وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ
التَّحْلِيفِ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ تَعْظِيمُ غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وَفِيهِ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ في التَّعْظِيمِ وَاَللَّهُ عز وجل
أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْمَحْلُوفِ عليه أَنَّهُ على مَاذَا يَحْلِفُ فَنَقُولُ
الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا إنْ كانت مُطْلَقَةً عن سَبَبٍ وَإِمَّا إنْ كانت
مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ فَإِنْ كانت مُطْلَقَةً عن سَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى عَبْدًا أو
جَارِيَةً أو أَرْضًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُ
يَحْلِفُ على الْحُكْمِ وهو ما وَقَعَ فيه الدَّعْوَى فَيُقَالُ بِاَللَّهِ ما هذا
الْعَبْدُ أو الْجَارِيَةُ أو الْأَرْضُ لِفُلَانٍ هذا وَلَا شَيْءَ منه وَإِنْ
كانت مُقَيَّدَةً بِسَبَبٍ بِأَنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَقْرَضَهُ أَلْفًا أو غَصْبه
أَلْفًا أو أَوْدَعَهُ أَلْفًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه فَقَدْ اخْتَلَفَ أبو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ في أَنَّهُ يَحْلِفُ على السَّبَبِ أو على الْحُكْمِ
قال أبو يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ بِاَللَّهِ ما اسْتَقْرَضْت منه أَلْفًا
أو ما غَصَبْته أَلْفًا أو ما أَوْدَعَنِي أَلْفًا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ
الْمُدَّعَى عليه وَلَا يُصَرِّحُ فيقول قد يُسْتَقْرَضُ الْإِنْسَانُ وقد
يَغْصِبُ وقد يُودَعُ وَلَا يَكُونُ عليه لِمَا أَنَّهُ أَبْرَأهُ عن ذلك أو رَدَّ
الْوَدِيعَةَ وأنا لَا أُبَيِّنُ ذلك لِئَلَّا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ
يَحْلِفُ على الْحُكْمِ
وقال مُحَمَّدٌ يَحْلِفُ على الْحُكْمِ من الِابْتِدَاءِ بِاَللَّهِ ماله عَلَيْكَ
هذه الْأَلْفُ التي ادَّعَى
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّحْلِيفَ على السَّبَبِ تَحْلِيفٌ على ما لَا
يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ عليه عَسَى لِجَوَازِ أَنَّهُ وُجِدَ منه السَّبَبُ ثُمَّ
ارْتَفَعَ بِالْإِبْرَاءِ أو بِالرَّدِّ فَلَا يُمْكِنُهُ الْحَلِفُ على نَفْيِ
السَّبَبِ وَيُمْكِنُهُ الْحَلِفُ على نَفْيِ الْحُكْمِ على كل حَالٍ فَكَانَ
التَّحْلِيفُ على الْحُكْمِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ ما رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
حَلَّفَ الْيَهُودَ بِاَللَّهِ وفي بَابِ الْقَسَامَةِ على السَّبَبِ فقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِاَللَّهِ ما قَتَلْتُمُوهُ وَلَا عَلِمْتُمْ له
قَاتِلًا فَيَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ وَلِأَنَّ الدَّاخِلَ تَحْتَ الْحَلِفِ ما
هو الدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى وَالدَّاخِلُ تَحْتَ الدَّعْوَى في هذه
الصُّورَةِ مَقْصُودًا هو السَّبَبُ فَيَحْلِفُ عليه فَبَعْدَ ذلك إنْ أَمْكَنَهُ
الْحَلِفُ على السَّبَبِ حَلَفَ عليه وَإِنْ لم يُمْكِنْهُ وَعَرَّضَ فَحِينَئِذٍ
يَحْلِفُ على الْحُكْمِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ دَعْوَى الشِّرَاءِ إذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه
فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ بِاَللَّهِ عز وجل ما بِعْته هذا
الشَّيْءَ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الْخَصْمُ وَالتَّعْرِيضُ في هذا أَنْ يَقُولَ قد
يَبِيعُ الرَّجُلُ الشَّيْءَ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِ بِهِبَةٍ أو فَسْخٍ أو
إقَالَةٍ أو رَدٍّ بِعَيْبٍ أو خِيَارِ شَرْطٍ أو خِيَارِ رُؤْيَةٍ وأنا لَا
أُبَيِّنُ ذلك كَيْ لَا يَلْزَمَنِي شَيْءٌ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ على الْحُكْمِ
بِاَللَّهِ تَعَالَى ما بَيْنَكُمَا بَيْعٌ قَائِمٌ أو شِرَاءٌ قَائِمٌ بهذا
السَّبَبِ الذي يَدَّعِي وَهَكَذَا يَحْلِفُ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى هذا دَعْوَى الطَّلَاقِ بِأَنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على زَوْجِهَا أَنَّهُ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أو خَالَعَهَا على كَذَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ذلك يَحْلِفُ
على السَّبَبِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِاَللَّهِ عز وجل ما طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أو ما
خَالَعَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ الزَّوْجُ فيقول الْإِنْسَانُ قد يُخَالِعُ
____________________
(6/228)
امْرَأَتَهُ
ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ وقد يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَعُودُ إلَيْهِ بَعْدَ
زَوْجٍ آخَرَ فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ عز وجل ما هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك
بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أو بِاَللَّهِ عز وجل ما هِيَ مُطَلَّقَةٌ مِنْك ثَلَاثًا
أو ما هِيَ حَرَامٌ عَلَيْك بِالْخَلْعِ أو ما هِيَ بَائِنٌ مِنْك وَنَحْوُ ذلك من
الْعِبَارَاتِ وَهَكَذَا يَحْلِفُ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَعَلَى هذا دَعْوَى الْعَتَاقِ في الْأَمَةِ بِأَنْ ادَّعَتْ أَمَةٌ على مَوْلَاهَا
أَنَّهُ أَعْتَقَهَا وهو مُنْكِرٌ
عِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ الْمَوْلَى على السَّبَبِ بِاَللَّهِ عز وجل ما
أَعْتَقَهَا إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ النَّقْضَ في هذا
وَالْعَوْدَ إلَيْهِ بِأَنْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ
ثُمَّ سَبَاهَا أو سَبَاهَا غَيْرُهُ فَاشْتَرَاهَا فَحِينَئِذٍ يَحْلِفُ كما
قَالَهُ مُحَمَّدٌ وَلَوْ كان الذي يَدَّعِي الْعِتْقَ هو الْعَبْدَ فَيَحْلِفُ
على السَّبَبِ بِلَا خِلَافٍ بِاَللَّهِ عز وجل ما أَعْتَقَهُ في الرِّقِّ
الْقَائِمِ لِلْحَالِ في مِلْكِهِ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ التَّعْرِيضِ لِأَنَّ
الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ لَا يَحْتَمِلُ السَّبْيَ بَعْدَ الْعِتْقِ حتى لو كان
الْعَبْدُ لم يُعْرَفْ مُسْلِمًا أو كان كَافِرًا يَحْلِفُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ على
الْحُكْمِ لِاحْتِمَالِ الْعَوْدِ إلَى الرِّقِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا نَقَضَ
الْعَهْدَ وَلِحَقِّ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَ يُسْتَرَقُّ بِخِلَافِ
الْمُسْلِمِ فإنه يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وَيُقْتَلُ إنْ أَبَى وَلَا
يُسْتَرَقّ
وَعَلَى هذا دَعْوَى النِّكَاحِ وهو تَفْرِيعٌ على قَوْلِهِمَا لِأَنَّ أَبَا
حَنِيفَةَ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فيه فيقول الدَّعْوَى لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ
تَكُونَ من الرَّجُلِ أو من الْمَرْأَةِ فَإِنْ كانت من الرَّجُلِ وَأَنْكَرَتْ
الْمَرْأَةُ النِّكَاحَ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ إلَّا أَنْ
يُعَرِّضَ لِاحْتِمَالِ الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ ما فَحِينَئِذٍ
يَحْلِفُ على الْحُكْمِ بِاَللَّهِ عز وجل ما بَيْنَكُمَا نِكَاحٌ قَائِمٌ كما هو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ
وَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لو قال الزَّوْجُ أنا أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ
أُخْتَهَا أو أَرْبَعًا سِوَاهَا فإن الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهُ من ذلك لِأَنَّهُ
إقْرَارٌ لِهَذِهِ الْمَرْأَةِ أنها امْرَأَتُهُ فيقول له إنْ كُنْت تُرِيدُ ذلك
فَطَلِّقْ هذه ثُمَّ تَزَوَّجْ أُخْتَهَا أو أَرْبَعًا سِوَاهَا وَإِنْ كان
دَعْوَى النِّكَاحِ من الْمَرْأَةِ على رَجُلٍ فَأَنْكَرَ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
يَحْلِفُ على السَّبَبِ إلَّا أَنْ يُعَرِّضَ فَيَحْلِفَ على الْحُكْمِ كما
قَالَهُ مُحَمَّدٌ
فَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لو قالت الْمَرْأَةُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ
أَتَزَوَّجَ فإن الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهَا من ذلك لِأَنَّهَا قد أَقَرَّتْ
أَنَّ لها زَوْجًا فَلَا يُمَكِّنُهَا من التَّزَوُّجِ بِزَوْجٍ آخَرَ فَإِنْ قالت
ما الْخَلَاصُ عن هذا وقد بَقِيَتْ في عُهْدَتِهِ أَبَدَ الدَّهْرِ وَلَيْسَتْ لي
بَيِّنَةٌ وَهَذِهِ تُسَمَّى عُهْدَةَ أبي حَنِيفَةَ فإنه يقول الْقَاضِي
لِلزَّوْجِ طَلِّقْهَا فَإِنْ أَبَى أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عليه فَإِنْ قال
الزَّوْجُ لو طَلَّقْتهَا لَلَزِمَنِي الْمَهْرُ فَلَا أَفْعَلُ ذلك يقول له
الْقَاضِي قُلْ لها إنْ كُنْت امْرَأَتِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَتَطْلُقُ لو كانت
امْرَأَتَك وَإِنْ لم تَكُنْ فَلَا وَلَا يَلْزَمُك شَيْءٌ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَا
يَلْزَمُ بِالشَّكِّ فَإِنْ أَبَى يَجْبُرُهُ على ذلك فإذا فَعَلَ تَخَلَّصَ عن
تِلْكَ الْعُهْدَةِ وَلَوْ كانت الدَّعْوَى على إجَارَةِ الدَّارِ أو عَبْدٍ أو
دَابَّةٍ أو مُعَامَلَةٍ مُزَارِعَةٍ فَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَحْلِفُ على السَّبَبِ
إلَّا إذَا عَرَّضَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْلِفُ على الْحُكْمِ على كل حَالٍ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
ما كان صَحِيحًا وهو الْإِجَارَةُ يَحْلِفُ وما كان فَاسِدًا وهو الْمُعَامَلَةُ
وَالْمُزَارَعَةُ لَا يَحْلِفُ أَصَلًا لِأَنَّ الْحَلِفَ بِنَاءً على الدَّعْوَى
الصَّحِيحَةِ ولم تَصِحَّ عِنْدَهُ
وَلَوْ كانت الدَّعْوَى في الْقَتْلِ الخطأ بِأَنْ ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ
قَتَلَ أَبَاهُ خَطَأً وَأَنَّهُ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عليه
يَحْلِفُ على السَّبَبِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ بِاَللَّهِ ما قَتَلْت إلَّا إذَا
عَرَّضَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ على الْحُكْمِ بِاَللَّهِ ليس عَلَيْك الدِّيَةُ وَلَا
على عَاقِلَتِك وَإِنَّمَا يَحْلِفُ على هذا الْوَجْهِ لِاخْتِلَافِ الْمَشَايِخِ
في الدِّيَةِ في فَصْلِهِ الخطأ أنها تَجِبُ على الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً أو
تَجِبُ على الْقَاتِلِ ثُمَّ تَتَحَمَّلُ عنه الْعَاقِلَةُ فَإِنْ حَلَفَ برىء
وَإِنْ نَكَلَ يقضى عليه بِالدِّيَةِ في مَالِهِ على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ أَدَائِهِ فَهُوَ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ لِلْحَالِ لَا
مُطْلَقًا بَلْ مُوَقَّتًا إلَى غَايَةِ إحْضَارِ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ عَامَّةِ
الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُهُمْ حُكْمُهُ انْقِطَاعُ الْخُصُومَةِ على الْإِطْلَاقِ حتى ( ( (
وحتى ) ) ) لو أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عليه
قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَ الْعَامَّةِ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ لَا تُقْبَلُ
لِأَنَّهُ لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تَبْقَى له وِلَايَةُ الِاسْتِحْلَافِ
فَكَذَا إذَا اسْتَحْلَفَ لَا يَبْقَى له وِلَايَةُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
وَالْجَامِعُ أَنَّ حَقَّهُ في أَحَدِهِمَا فَلَا يَمْلِكُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ هِيَ الْأَصْلُ في
الْحُجَّةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْأَجْنَبِيِّ
فَأَمَّا الْيَمِينُ فَكَالْخَلَفِ عن الْبَيِّنَةِ لِأَنَّهَا كَلَامُ الْخَصْمِ
صِيرَ إلَيْهَا لِلضَّرُورَةِ فإذا جاء الْأَصْلُ انْتَهَى حُكْمُ الْخَلَفِ
فَكَأَنَّهُ لم يُوجَدْ أَصْلًا
وَلَوْ قال الْمُدَّعِي لِلْمُدَّعَى عليه احْلِفْ وَأَنْتَ بَرِيءٌ من هذا
الْحَقِّ الذي ادَّعَيْته أو أنت بَرِيءٌ من هذا الْحَقِّ ثُمَّ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أنت بَرِيءٌ يَحْتَمِلُ
الْبَرَاءَةَ لِلْحَالِ أَيْ برىء ( ( ( بريء ) ) ) عن دَعْوَاهُ وَخُصُومَتِهِ
لِلْحَالِ وَيَحْتَمِلُ الْبَرَاءَةَ عن الْحَقِّ فَلَا يُجْعَلُ إبْرَاءً عن
الْحَقِّ بِالشَّكِّ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(6/229)
فَصْلٌ
وَأَمَّا حُكْمُ الِامْتِنَاعِ عن تَحْصِيلِهِ فَالْمُدَّعَى عليه إذَا نَكَل عن
الْيَمِينِ فَإِنْ كان ذلك في دَعْوَى الْمَالِ يُقْضَى عليه بِالْمَالِ عِنْدَنَا
لَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ له إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك الْيَمِينَ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنْ حَلَفْت وَإِلَّا قَضَيْت عَلَيْك لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ
الْمُدَّعَى عليه مِمَّنْ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أو يَكُونَ عِنْدَهُ
أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَرَى الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ أو لَحِقَهُ حِشْمَةُ
الْقُضَاةِ وَمَهَابَةُ الْمَجْلِسِ في الْمَرَّةِ الْأُولَى فَكَانَ
الِاحْتِيَاطُ أَنْ يَقُولَ له ذلك فَإِنْ نَكَل عن الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَرْضِ
عليه ثَلَاثًا فإن الْقَاضِيَ يَقْضِي عليه عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ وَلَكِنْ برد (
( ( يرد ) ) ) الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي فَيَحْلِفُ فَيَأْخُذُ حَقَّهُ
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه
جَعَلَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةَ الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ حُجَّةُ الْمُدَّعَى عليه
ولم يذكر عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ النُّكُولَ فَلَوْ كان حُجَّةَ الْمُدَّعِي
لَذَكَرَهُ وَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَلَ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا
في الْإِنْكَارِ فَاحْتُرِزَ عن الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ
نَكَل مع كَوْنِهِ صَادِقًا في الْإِنْكَارِ تَوَرُّعًا عن الْيَمِينِ
الصَّادِقَةِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةَ الْقَضَاءِ مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
لَكِنْ يَرُدُّ الْيَمِينَ إلَى الْمُدَّعِي لِيَحْلِفَ فيقضى له لِأَنَّهُ
تَرَجَّحَ جنبة الصِّدْقُ في دَعْوَاهُ بِيَمِينِهِ وقد وَرَدَ الشَّرْعُ بِرَدِّ
الْيَمِينِ إلَى الْمُدَّعِي فإنه رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُثْمَانَ رضي اللَّهُ
عنه ادَّعَى على الْمِقْدَادِ مَالًا بين يَدَيْ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه فَأَنْكَرَ الْمِقْدَادُ وَتَوَجَّهَتْ عليه الْيَمِينُ فَرَدَّ الْيَمِينَ
على سَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدُنَا عُمَر جَوَّزَ ذلك
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا قَضَى على رَجُلٍ بِالنُّكُولِ فقال
الْمُدَّعَى عليه أنا أَحْلِفُ فقال شُرَيْحٌ مَضَى قَضَائِي وكان لَا تَخْفَى
قَضَايَاهُ على أَصْحَابِ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم يُنْقَل أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم على جَوَازِ الْقَضَاءِ
بِالنُّكُولِ وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ صِدْقُ الْمُدَّعِي في دَعْوَاهُ عِنْدَ نُكُولِ
الْمُدَّعَى عليه فيقضى له كما لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَانِعَ من ظُهُورِ الصِّدْقِ في خَبَرِهِ
إنْكَارُهُ الْمُدَّعَى عليه وقد عَارَضَهُ النُّكُولُ لِأَنَّهُ كان صَادِقًا في
إنْكَارِهِ لَمَّا نَكَل فَزَالَ الْمَانِعُ لِلتَّعَارُضِ فَظَهَرَ صِدْقُهُ في
دَعْوَاهُ
وَقَوْلُهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَكَل تَوَرُّعًا عن الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ
قُلْنَا هذا احْتِمَالٌ نَادِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ مَشْرُوعَةٌ
فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى بِفَوَاتِ حَقِّهِ تَحَرُّزًا عن
مُبَاشَرَةِ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ وَمِثْلُ هذا الِاحْتِمَالِ سَاقِطِ الِاعْتِبَارِ
شَرْعًا
أَلَا يُرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت
مُحْتَمَلَةً في الْجُمْلَةِ لِأَنَّهَا خَبَرُ من ليس بِمَعْصُومٍ عن الْكَذِبِ
لَكِنْ لَمَّا كان الظَّاهِرُ هو الصِّدْقَ سَقَطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ
الْكَذِبِ
كَذَا هذا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَنَقُولُ الْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي وَهَذَا لَا
يَنْفِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُهَا حُجَّةً
وَقَوْلُهُ لو كان حُجَّةً لَذَكَرَهُ
قُلْنَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ لم يَذْكُرْهُ لِمَا قُلْتُمْ وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ لم
يَذْكُرْهُ نَصًّا مع كَوْنِهِ حُجَّةً تَسْلِيطًا لِلْمُجْتَهِدِينَ على
الِاجْتِهَادِ لِيُعْرَفَ كَوْنُهُ حُجَّةً بِالرَّأْيِ وَالِاسْتِنْبَاطِ فَلَا
يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وَأَمَّا رَدُّ الْيَمِينِ على الْمُدَّعِي
فَلَيْسَ بِمَشْرُوعٍ لِمَا قُلْنَا من قَبْلُ
وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِقْدَادِ فَلَا حُجَّةَ فيه لِأَنَّ فيه ذِكْرَ الرَّدِّ من
غَيْرِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عليه وهو خَارِجٌ عن أَقَاوِيلِ الْكُلِّ فَكَانَ
مُؤَوَّلًا عِنْدَ الْكُلِّ ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ الْمِقْدَادَ رضي اللَّهُ عنه
ادَّعَى الْإِيفَاءَ فَأَنْكَرَ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه
فَتَوَجَّهَتْ الْيَمِينُ عليه وَنَحْنُ بِهِ نَقُولُ
هذا إذَا نَكَل عن الْيَمِينِ في دَعْوَى الْمَالِ فَإِنْ كان النُّكُولُ في
دَعْوَى الْقِصَاصِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَى في
الْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَإِنْ كان
في النَّفْسِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا يُقْضَى فيه لَا بِالْقِصَاصِ وَلَا
بِالْمَالِ لَكِنَّهُ يُحْبَسُ حتى يُقِرَّ أو يَحْلِفَ أَبَدًا وَإِنْ كان الدَّعْوَى
في الْقِصَاصِ في الطَّرَفِ فإنه يقضى بِالْقِصَاصِ في الْعَمْدِ وَبِالدِّيَةِ في
الخطأ وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْضَى بِالْقِصَاصِ في النَّفْسِ وَالطَّرَفِ جميعا
وَلَكِنْ يقضى بِالْأَرْشِ وَالدِّيَةِ فِيهِمَا جميعا بِنَاءً على أَنَّ
النُّكُولَ بَذْلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالطَّرَفُ يَحْتَمِلُ
الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ في الْجُمْلَةِ فإن من وَقَعَتْ في يَدِهِ آكلة
وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمْرُ غَيْرِهِ بِقَطْعِهَا يُبَاحُ له
قَطْعُهَا صِيَانَةً لِلنَّفْسِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الطَّرَفَ يَسْلُكُ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ لِأَنَّهُ
خُلِقَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ كَالْمَالِ
فَأَمَّا النَّفْسُ فَلَا تَحْتَمِلُ الْبَذْلَ وَالْإِبَاحَةَ بِحَالٍ وَكَذَا
الْمُبَاحُ له الْقَطْعُ إذَا قَطَعَ لَا ضَمَانَ عليه وَالْمُبَاحُ له الْقَتْلُ
إذَا قَتَلَ يَضْمَنُ فَكَانَ الطَّرَفُ جَارِيًا مَجْرَى الْمَالِ بِخِلَافِ
النَّفْسِ فَأَمْكَنَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ في الطَّرَفِ دُونَ النَّفْسِ
فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْتَحْلِف في النَّفْس عِنْده كما لَا يَسْتَحْلِف
في الْأَشْيَاء السَّبْعَة لِأَنَّ الِاسْتِحْلَاف لِلتَّوَسُّلِ إلَى الْمَقْصُود
المدعى وهو إحْيَاء حَقّه بِالْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ وَلَا يقضى فيها بِالنُّكُولِ
أَصْلًا عِنْده فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحْلِف إلَّا أَنَّهُ
اُسْتُحْسِنَ في الِاسْتِحْلَاف فيها لِأَنَّ
____________________
(6/230)
الشَّرْع
وَرَدَ بِهِ في الْقَسَامَةِ وَجَعَلَهُ حَقًّا مَقْصُودًا في نَفْسِهِ تَعْظِيمًا
لِأَمْرِ الدَّمِ وَتَفْخِيمًا لِشَأْنِهِ لِكَوْنِ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ
مُهْلِكَةً فَصَارَ بِالنُّكُولِ مَانِعًا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عليه مَقْصُودًا
فَيُحْبَسُ حتى يُقِرَّ أو يَحْلِفَ بِخِلَافِ الْأَشْيَاءِ السَّبْعَةِ فإن
الِاسْتِحْلَافَ فيها لِلتَّوَسُّلِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ بِالنُّكُولِ
وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ وَسِيلَةً إلَى هذا الْمَقْصُودِ وَعِنْدَهُمَا النُّكُولُ
إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ
وَأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ وَالْقِصَاصُ يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وإذا سَقَطَ
الْقِصَاصُ لِلشُّبْهَةِ يَجِبُ الْمَالُ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مع
الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ أنها لَا تُقْبَلُ في بَابِ الْقِصَاصِ
أَصْلًا لِأَنَّ التَّعَذُّرَ هُنَاكَ من جِهَةِ من له الْقِصَاصُ وهو عَدَمُ
الْإِتْيَانِ بِحُجَّةٍ مُظْهِرَةٍ لِلْحَقِّ وَهِيَ شَهَادَةُ شُهُودٍ أُصُولٍ
مَذْكُورٍ وَالتَّعَذُّرُ هُنَا من جِهَةِ من عليه الْقِصَاصُ وهو عَدَمُ
التَّنْصِيصِ على الْإِقْرَارِ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْقِصَاصَ إذَا بَطَل من جِهَةِ
من له الْقِصَاصُ لَا تَجِبُ الدِّيَةُ وإذا بَطَل من جِهَةِ من عليه تَجِبُ
الدِّيَةُ
وَأَمَّا في دَعْوَى السَّرِقَةِ إذَا حَلَفَ على الْمَالِ وَنَكَل يُقْضَى
بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ في الْأَمْوَالِ دُونَ
الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ
وَأَمَّا في حَدِّ الْقَذْفِ إذَا اسْتَحْلَفَ على ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فنكل ( (
( فكل ) ) ) يَقْضِي بِالْحَدِّ في ظَاهِرِ الْأَقَاوِيلِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ
الْقِصَاصِ في الطَّرَفِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ
التَّعْزِيرِ
وقال بَعْضُهُمْ هو بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُدُودِ لَا يُقْضَى فيه بِشَيْءٍ
وَلَا يُحَلَّفُ لِأَنَّهُ حَدٌّ
وَقِيلَ يُحَلَّفُ وَيُقْضَى فيه بِالتَّعْزِيرِ دُونَ الْحَدِّ كما في
السَّرِقَةِ يُحَلَّفُ وَيُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَنْدَفِعُ بِهِ الْخُصُومَةُ عن الْمُدَّعَى عليه
وَيَخْرُجُ عن كَوْنِهِ خَصْمًا لِلْمُدَّعِي فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
إنه يَخْرُجُ عن كَوْنه خَصْمًا لِلْمُدَّعِي بِكَوْنِ يَدِهِ غير يَدِ الْمَالِكِ
وَذَلِكَ يُعْرَفُ بِالْبَيِّنَةِ أو بِالْإِقْرَارِ أو بِعِلْمِ الْقَاضِي نَحْوُ
ما إذَا ادَّعَى على رَجُلٍ دَارًا أو ثَوْبًا أو دَابَّةً فقال الذي في يَدِهِ هو
مِلْكُ فُلَانٍ الْغَائِبِ أو دعنيه
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَدَّعِيَ
عليه مِلْكًا مُطْلَقًا ولم يَدَّعِ عليه فِعْلًا أو يَدَّعِيَ عليه فِعْلًا
فَإِنْ ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا ولم يَدَّعِ عليه فِعْلًا فقال الذي في يَدِهِ
أَوْدَعَنِيهَا فُلَانُ الْغَائِبُ أو رَهَنَهَا أو آجَرَهَا أو أَعَارَهَا أو
غَصَبْتهَا أو سَرَقْتهَا أو أَخَذْتهَا أو انْتَزَعْتهَا أو ضَلَّتْ منه
فَوَجَدْتهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ عِنْدَ
عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال ابن أبي لَيْلَى تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أو لم
يُقِمْ
وقال ابن شُبْرُمَةَ لَا تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أو لم
يُقِمْ
هذا إذَا لم يَكُنْ الرَّجُلُ مَعْرُوفًا بِالِافْتِعَالِ وَالِاحْتِيَالِ فَإِنْ
كان تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَيْضًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا تَنْدَفِعُ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمَعْرُوفَةُ
بِالْمُخَمَّسَةِ وَالْحُجَجُ تُعْرَفُ في الْجَامِعِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى لِنَفْسِهِ وَالْفِعْلَ على غَيْرِ ذِي الْيَدِ بِأَنْ قال
هذا مِلْكِي غَصْبه مِنِّي فُلَانٌ لِأَنَّهُ لم يَدَّعِ على ذِي الْيَدِ فِعْلًا
فَصَارَ في حَقِّ ذِي الْيَدِ دَعْوَى مُطْلَقَة فَكَانَ على الْخِلَافِ الذي
ذَكَرنَا
فَأَمَّا إذَا ادَّعَى فِعْلًا على ذِي الْيَدِ بِأَنْ قال هذه دَارِي أو
دَابَّتِي أو ثَوْبِي أَوْدَعْتُكهَا أو غَصَبْتنِيهَا أو سَرَقْتهَا أو
اسْتَأْجَرْتهَا أو ارْتَهَنْتهَا مِنِّي وقال الذي في يَدَيْهِ أنها لِفُلَانٍ
الْغَائِبِ أَوْدَعَنِيهَا أو غَصَبْتهَا منه وَنَحْوَ ذلك وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
على ذلك لَا تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ ذَا الْيَدِ في دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا
يَكُونُ خَصْمًا بيده
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو لم يَكُنْ الْمُدَّعِي في يَدِهِ لم يَكُنْ خَصْمًا فإذا
أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ الْيَدَ لِغَيْرِهِ كان الْخَصْمُ ذلك الْغَيْرَ
وهو غَائِبٌ
فَأَمَّا في دَعْوَى الْفِعْلِ فَإِنَّمَا يَكُونُ خَصْمًا بِفِعْلِهِ لَا بيده
أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُصُومَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عليه بِدُونِ يَدِهِ وإذا كان
خَصْمًا بِفِعْلِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْفِعْلَ منه لم يَكُنْ
فَبَقِيَ خَصْمًا
وَلَوْ ادَّعَى فِعْلًا لم يُسَمِّ فَاعِلَهُ بِأَنْ قال غُصِبَتْ مِنِّي أو
أُخِذَتْ مِنِّي فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على الْإِيدَاعِ تَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ على مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْفِعْلَ على مَجْهُولٍ وَأَنَّهُ بَاطِلٌ
فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَتَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ وَلَوْ قال سُرِقَ مِنِّي فَالْقِيَاسُ أَنْ تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ
كما في الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَنْدَفِعُ فَرْقًا بين الْغَصْبِ وَالْأَخْذِ وهو قَوْلُ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَوَجْهُ الْفَرْقِ يُعْرَفُ
في الْجَامِعِ
وَلَوْ قال الْمُدَّعِي هذه الدَّارُ كانت لِفُلَانٍ فَاشْتَرَيْتهَا منه وقال
الذي في يَدِهِ أَوْدَعَنِي فُلَانٌ الذي ادَّعَيْت الشِّرَاءَ من جِهَتِهِ أو
سَرَقْتهَا منه أو غَصَبْتهَا تَنْدَفِعُ عنه الْخُصُومَةُ من غَيْرِ إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ على ذلك لِأَنَّهُ ثَبَتَ كَوْنُ يَدِهِ يَدَ غَيْرِهِ بِتَصَادُقِهِمَا
أَمَّا الْمُدَّعَى عليه فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْمُدَّعِي فَبِدَعْوَاهُ الشِّرَاءَ
منه لِأَنَّ الشِّرَاءَ منه لَا يَصِحُّ بِدُونِ
____________________
(6/231)
الْيَدِ
وَكَذَا لو أَقَامَ الذي في يَدَيْهِ الْبَيِّنَةُ على إقْرَارِ الْمُدَّعِي
بِذَلِكَ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ
عَايَنَا إقْرَارَهُ لَانْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ كَذَا هذا وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ
الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمُسْتَفَادَ له في زَمَانِ الْقَضَاءِ
فَوْقَ الْإِقْرَارِ لِكَوْنِهِ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً إلَى الناس كَافَّةً
بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ وَكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً مُقْتَصِرَةً على
الْمُقِرِّ خَاصَّةً ثُمَّ لَمَّا انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ بِإِقْرَارِ
الْمُدَّعِي فَبِعِلْمِ الْقَاضِي أَوْلَى
وَلَوْ قال الذي في يَدَيْهِ ابْتَعْته من فُلَانٍ الْغَائِبِ لَا تَنْدَفِعُ
الْخُصُومَةُ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ وَالْيَدَ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُقِرٌّ
بِكَوْنِهِ خَصْمًا فَكَيْفَ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ
وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْتَاعَهُ من عبد اللَّهِ وقال
الذي في يَدَيْهِ أَوْدَعَنِيهِ عبد اللَّهِ ذلك تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ من
غَيْرِ بَيِّنَةٍ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا على الْوُصُولِ إلَيْهِ من يَدِ عبد
اللَّهِ فَأَثْبَتَا الْيَدَ له وهو غَائِبٌ وَعَلَى هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ
كَثِيرَةٌ في الْجَامِعِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ مع تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ
فَالْكَلَامُ فيه يَقَعُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ
الدَّعْوَتَيْنِ مع تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ على أَصْلِ
الْمِلْكِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ على
قَدْرِ الْمِلْكِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْأَصْلُ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا في
أَصْلِ الْمِلْكِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا على
الْأُخْرَى يُعْمَلُ بِالرَّاجِحِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ من حُجَجِ
الشَّرْعِ وَالرَّاجِحُ مُلْحَقٌ بِالْمُتَيَقَّنِ في أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنْ
تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ فَإِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا من
كل وَجْهٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا من كل وَجْهٍ
وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهِمَا من وَجْهٍ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهِمَا لِأَنَّ
الْعَمَلَ بِالدَّلِيلِينَ وَاجِبٌ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَإِنْ تَعَذَّرَ
الْعَمَلُ بِهِمَا أَصْلًا سَقَطَ اعْتِبَارُهُمَا وَالْتَحَقَا بِالْعَدَمِ إذْ
لَا حُجَّةَ مع الْمُعَارَضَةِ كما لَا حُجَّةَ مع المنا ( ( ( المناقضة ) ) )
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ في هذا الْفَصْلِ أَنَّ الدَّعْوَى ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ
دَعْوَى الْمِلْكِ وَدَعْوَى الْيَدِ وَدَعْوَى الْحَقِّ وزاد مُحَمَّدٌ مَسَائِلَ
الدَّعْوَى على دَعْوَى الْمِلْكِ وَالْيَدِ وَالنَّسَبِ
أَمَّا دَعْوَى الْمِلْكِ فَلَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ من الْخَارِجِ على ذِي
الْيَدِ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ من الْخَارِجِينَ على ذِي الْيَدِ
وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ من صَاحِبَيْ الْيَدِ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ فَإِنْ كانت
الدَّعْوَى من الْخَارِجِ على ذِي الْيَدِ دَعْوَى الْمِلْكِ وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ فَلَا تخلو ( ( ( يخلو ) ) ) إمَّا إن قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على
مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ وَإِمَّا إن قَامَتَا على مِلْكٍ مُؤَقَّتٍ
وأما إن قَامَتْ إحْدَاهُمَا على مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ
مُؤَقَّتٍ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن كانت بِسَبَبٍ وَإِمَّا إن كانت
بِغَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ قَامَتَا على مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ فَبَيِّنَةُ
الْخَارِجِ أَوْلَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيِّنَةُ
ذِي الْيَدِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا من حَيْثُ الظَّاهِرُ
وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بِالْيَدِ فَكَانَ الْعَمَلُ بها أَوْلَى
وَلِهَذَا عُمِلَ بِبَيِّنَتِهِ في دَعْوَى النِّكَاحِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةُ الْمُدَّعِي لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَذُو الْيَدِ ليس بِمُدَّعٍ فَلَا
تَكُونُ الْبَيِّنَةُ حَجَّتَهُ وَالدَّلِيلُ على أَنَّهُ ليس بِمُدَّعٍ ما
ذَكَرنَا من تَحْدِيدِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ
غَيْرِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمَوْصُوفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ هو الْخَارِجُ لَا ذُو
الْيَدِ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَمَّا في يَدِ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ فلم يَكُنْ
مُدَّعِيًا فَالْتَحَقَتْ بينته ( ( ( ببينته ) ) ) بِالْعَدَمِ فَبَقِيَتْ
بَيِّنَةُ الْخَارِج بِلَا مُعَارِضٍ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بها وَلِأَنَّ بَيِّنَةَ
الْخَارِجِ أَظْهَرَتْ له سَبْقَ الْمِلْكِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بها أَوْلَى كما
إذَا وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ نَصًّا وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ دَلَالَةً
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أنها أَظْهَرَتْ له سَبْقَ الْيَدِ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا له
بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَا تَحِلُّ لهم الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
إلَّا بِعِلْمِهِمْ بِهِ وَلَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ بِالْمِلْكِ إلَّا بَعْدَ
الْعِلْمِ بِدَلِيلِ الْمِلْكِ وَلَا دَلِيلَ على الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ سِوَى
الْيَدِ فإذا شَهِدُوا لِلْخَارِجِ فَقَدْ أَثْبَتُوا كَوْنَ الْمَالِ في يَدِهِ
وَكَوْنُ الْمَالِ في يَدِ ذِي الْيَدِ ظَاهِرًا ثَابِتٌ لِلْحَالِ فَكَانَتْ يَدُ
الْخَارِجِ سَابِقَةً على يَدِهِ فَكَانَ مِلْكُهُ سَابِقًا ضَرُورَةً وإذا ثَبَتَ
سَبْقُ الْمِلْكِ لِلْخَارِجِ يقضى بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ له
الْمِلْكُ وَالْيَدُ في هذه الْعَيْنِ في زَمَانٍ سَابِقٍ ولم يُعْرَفْ لِثَالِثٍ
فيها يَدٌ وَمِلْكٌ عُلِمَ أنها انْتَقَلَتْ من يَدِهِ إلَيْهِ فَوَجَبَ إعَادَةُ
يَدِهِ وَرَدُّ الْمَالِ إلَيْهِ حتى يُقِيمَ صَاحِبُ الْيَدِ الْآخِرِ الْحُجَّةَ
أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ كما إذَا عَايَنَ الْقَاضِي كَوْنَ
الْمَالِ في يَدِ إنْسَانٍ وَيَدَّعِيه لِنَفْسِهِ ثُمَّ رَآهُ في يَدِ غَيْرِهِ
فإنه يَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ إذَا ادعاه ذلك الرَّجُلُ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ
سَبَبًا صَالِحًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ
وَكَذَا إذَا أَقَرَّ الْمُدَّعَى عليه أَنَّ هذا الْمَالَ كان في يَدِ
الْمُدَّعِي فإنه يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ إلَى أَنْ يُبَيِّنَ بِالْحُجَّةِ
طَرِيقًا صَالِحًا لِلِانْتِقَالِ إلَيْهِ كَذَلِكَ هذا وَصَارَ كما إذَا أَرَّخَا
نَصًّا وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ لِأَنَّ هذا تَارِيخٌ من حَيْثُ
الْمَعْنَى بِخِلَافِ النِّتَاج لِأَنَّ هُنَاكَ لم يَثْبُتْ
____________________
(6/232)
سَبْقُ
الْخَارِجِ لِانْعِدَامِ تَصَوُّرِ السَّبْقِ وَالتَّأْخِيرِ فيه لِأَنَّ
النِّتَاجَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُطْلَبُ التَّرْجِيحُ من وَجْهٍ
آخَرَ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ بِالْيَدِ وَهُنَا بِخِلَافِهِ
هذا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن الْوَقْتِ من غَيْرِ
سَبَبِ فَأَمَّا إذَا قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ من غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ
اسْتَوَى الْوَقْتَانِ يقضى لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ بَطَل اعْتِبَارُ الْوَقْتَيْنِ
لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ
من الْآخَرِ يُقْضَى لِلْأَسْبَقِ وَقْتًا أَيُّهُمَا كان في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رحمهما ( ( ( رحمهم ) ) ) اللَّهُ تَعَالَى
وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ عن مُحَمَّدٍ أَنَّهُ رَجَعَ عن هذا الْقَوْلِ عِنْدَ
رُجُوعِهِ من الرِّقَّةِ وقال لَا تُقْبَلُ من صَاحِبِ الْيَدِ بَيِّنَةٌ على
وَقْتٍ وَغَيْرِهِ إلَّا في النِّتَاجِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِأَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَسْبَقِ أَظْهَرَتْ الْمِلْكَ له في
وَقْتٍ لَا يُنَازِعهُ فيه أَحَدٌ فَيَدْفَعُ الْمُدَّعِي إلَى أَنْ يُثْبِتَ
بِالدَّلِيلِ سَبَبًا لِلِانْتِقَالِ عنه إلَى غَيْرِهِ وَإِنْ أَقَامَتْ
إحْدَاهُمَا على مِلْكٍ مُطْلَق وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ من غَيْرِ
سَبَبٍ لَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ عِنْدَهُمَا ويقضى لِلْخَارِجِ وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ أَيُّهُمَا كان وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُهُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ صَاحِبِ الْوَقْتِ أَظْهَرَتْ
الْمِلْكَ له في وَقْتٍ خَاصٍّ لَا يُعَارِضُهَا فيه بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ بِيَقِينٍ بَلْ تَحْتَمِلُ الْمُعَارَضَةَ وَعَدَمَهَا لِأَنَّ
الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ لَا يَتَعَارَضُ لِلْوَقْتِ فَلَا تَثْبُتُ الْمُعَارَضَةُ
بِالشَّكِّ وَلِهَذَا لو ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ من الْخَارِجَيْنِ على ثَالِثٍ
وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ من رَجُلٍ
وَاحِدٍ وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى أَنَّهُ يقضى
لِصَاحِبِ الْوَقْتِ
كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ احْتَمَلَ السَّبْقَ وَالتَّأْخِيرَ لِأَنَّ الْمِلْكَ
الْمُطْلَقَ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ وَالسَّبْقَ لِجَوَازِ أَنَّ صَاحِبَ
الْبَيِّنَةِ الْمُطْلَقَةِ لو وُقِّتَتْ بَيِّنَتُهُ كان وَقْتُهَا أَسْبَقَ
فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في سَبْقِ الْمِلْكِ الْمُوَقَّتِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ
الْوَقْتِ فَبَقِيَ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ بِخِلَافِ
الْخَارِجَيْنِ إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من رَجُلٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْبَائِعَ
إذَا كان وَاحِدًا فَقَدْ اتَّفَقَا على تَلَقِّي الْمِلْكِ منه بِبَيْعِهِ
وَأَنَّهُ أَمْرٌ حَادِثٌ وقد ظَهَرَ بِالتَّارِيخِ أَنَّ شِرَاءَ صَاحِبِ الْوَقْتِ
أَسْبَقُ وَلَا تَارِيخَ مع الْآخَرِ وَشِرَاؤُهُ أَمْرٌ حَادِثٌ وَلَا يُعْلَمُ
تَارِيخُهُ فَكَانَ صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى
هذا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ من الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ على مِلْكٍ
مُطْلَقٍ أو مُوَقَّتٍ من غَيْرِ سَبَبِ فَأَمَّا إذَا كان في دَعْوَى ذلك
بِسَبَبٍ فَإِنْ كان السَّبَبُ هو الْإِرْثَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ حتى لو قَامَتْ
الْبَيِّنَتَانِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ بِسَبَبِ الْإِرْث بِأَنْ أَقَامَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ مِلْكُهُ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا
له يُقْضَى لِلْخَارِجِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
وَكَذَلِكَ إنْ قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وَاسْتَوَى الْوَقْتَانِ لِأَنَّهُ
سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَقْتَيْنِ لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى مُطْلَقِ
الْمِلْكِ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ من الْآخَرِ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا
أَيُّهُمَا كان في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَوَّلِ
وفي قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْآخَرِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ دَعْوَى الْإِرْث
دَعْوَى مِلْكِ الْمَيِّتِ فَكُلُّ وَاحِدَةٍ من الْبَيِّنَتَيْنِ أَظْهَرَتْ
مِلْكَ الْمَيِّتِ لَكِنْ قام الْوَارِثُ مَقَامَ الْمَيِّتِ في مِلْكِ الْمَيِّتِ
فَكَأَنَّ الْوَارِثَيْنِ ادَّعَيَا مِلْكًا مُطْلَقًا أو موقعا ( ( ( موقتا ) ) )
من غَيْرِ سَبَبٍ وَهُنَاكَ الْجَوَابُ هَكَذَا في الْفُصُولِ كُلِّهَا من
الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ إلَّا في فَصْلٍ وَاحِدٍ وهو ما إذَا قَامَتْ إحْدَى
الْبَيِّنَتَيْنِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ فإن
هُنَا يُقْضَى لِلْخَارِجِ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ كما لَا
عِبْرَةَ له في دَعْوَى الْمُوَرِّثِينَ
وَهَذَا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ يَطَّرِدُ على أَصْلِ أبي يُوسُفَ
فَيُشْكَلُ وَإِنْ كان السَّبَبُ هو الشِّرَاءَ بِأَنْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّهُ
اشْتَرَى هذه الدَّارَ من صَاحِبِ الْيَدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ
وَادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا من الْخَارِجِ وَنَقَدَهُ
الثَّمَنَ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ على ذلك فَإِنْ
أَقَامَا الْبَيِّنَةَ على الشِّرَاءِ من غَيْرِ وَقْتٍ وَلَا قَبْضٍ لَا تُقْبَلُ
الْبَيِّنَتَانِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا يَجِبُ لِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ شَيْءٌ وَيَتْرُكُ الْمُدَّعِي في يَدِ ذِي الْيَدِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ
الْمُدَّعِي إلَى الْخَارِجِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّوْفِيقَ بين الدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ بِقَدْرِ
الْإِمْكَانِ وَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ هُنَا بين الْبَيِّنَتَيْنِ بِتَصْحِيحِ
الْعَقْدَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ اشْتَرَاهُ أَوَّلًا من
الْخَارِجِ وَقَبَضَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ الْخَارِجُ من صَاحِبِ الْيَدِ ولم
يَقْبِضْهُ حتى بَاعَهُ من صَاحِبِ الْيَدِ فَيُوجَدُ الْعَقْدَانِ على الصِّحَّةِ
لَكِنْ بِتَقْدِيرِ تَارِيخٍ وَقَبْضٍ وفي هذا التَّقْدِيرِ تَصْحِيحُ
الْعَقْدَيْنِ فَوَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِالْعَكْسِ من
ذلك بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الْخَارِجَ اشْتَرَى أَوَّلًا من صَاحِبِ الْيَدِ ولم
يَقْبِضْهُ حتى بَاعَهُ من صَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ
____________________
(6/233)
في
هذا التَّقْدِيرِ إفْسَادَ الْعَقْدِ الْأَخِيرِ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْعَقَارِ
الْمَبِيعِ قبل الْقَبْضِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَهُ فَتَعَيَّنَ
تَصْحِيحُ الْعَقْدَيْنِ بِالتَّقْدِيرِ الذي قُلْنَا وإذا صَحَّ الْعَقْدَانِ
يَبْقَى المشتري في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى
الْخَارِجِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ إن كُلَّ مشتري ( ( ( مشتر ) ) )
يَكُونُ مُقِرًّا بِكَوْنِ الْبَيْعِ مِلْكًا لِلْبَائِعِ فَكَانَ دَعْوَى
الشِّرَاءِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إقْرَارًا بِمِلْكِ الْمَبِيعِ لِصَاحِبِهِ
فكأن الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ على إقْرَارِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ وَبَيْنَ مُوجِبِي الْإِقْرَارَيْنِ تَنَافٍ فَتَعَذَّرَ
الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَإِنْ وقت ( ( ( وقتت ) ) )
الْبَيِّنَتَانِ وَوَقْتُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فإذا لم يَذْكُرُوا قَبْضًا يقضى
بِالدَّارِ لِصَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِلْخَارِجِ
لِأَنَّ وَقْتَ الْخَارِجِ إذَا كان أَسْبَقَ جُعِلَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ
أَوَّلًا ولم يَقْبِضْهَا حتى بَاعَهَا من صَاحِبِ الْيَدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ وَقْتَ الْخَارِجِ
إذَا كان أَسْبَقَ جُعِلَ كَأَنَّهُ اشْتَرَى الدَّارَ أَوَّلًا ولم يَقْبِضْهَا
حتى بَاعَهَا من صَاحِبِ الْيَدِ وَبَيْعُ الْعَقَارِ قبل الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ
عِنْدَ مُحَمَّدٍ وإذا لم يَجُزْ بَقِيَ على مِلْكِ الْخَارِجِ وَعِنْدَهُمَا ذلك
جَائِزٌ فَصَحَّ الْبَيْعَانِ
وَلَوْ ذَكَرُوا الْقَبْضَ جَازَ الْبَيْعَانِ وَيُقْضَى بِالدَّارِ لِصَاحِبِ
الْيَدِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَقَارِ بَعْدَ الْقَبْضِ جَائِزٌ بِلَا
خِلَافٍ فَيَجُوزُ الْبَيْعَانِ
وَأَمَّا إذَا كان وَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقَ ولم يَذْكُرُوا قَبْضًا
يُقْضَى بها لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ إذَا كان وَقْتُهُ أَسْبَقَ يُجْعَلُ سَابِقًا
في الشِّرَاءِ كَأَنَّهُ اشْتَرَى من الْخَارِجِ وَقَبَضَ ثُمَّ اشْتَرَى منه
الْخَارِجُ ولم يَقْبِضْ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ
وَكَذَلِكَ إنْ ذَكَرُوا قَبْضًا لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَى من
صَاحِبِ الْيَدِ أَوَّلًا وَقَبَضَ ثُمَّ اشْتَرَى الْخَارِجُ منه وَقَبَضَ ثُمَّ
عَادَتْ إلَى يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ بِوَجْهٍ آخَرَ وَإِنْ كان السَّبَبُ هو
النِّتَاجَ وهو الْوِلَادَةُ في الْمِلْكِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إن قَامَتْ
الْبَيِّنَتَانِ على النِّتَاجِ وإما إن قامت إحداهما على النتاج والأخرى على
الملك المطلق فإن قامت البينتان على النتاج فلا يخلو إما إن كانت البينتان
مُطْلَقَتَيْنِ عن الْوَقْتِ وَإِمَّا إن وَقَّتَا وَقْتًا فَإِنْ لم يُوَقِّتَا
وَقْتًا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على
النِّتَاجِ قَائِمَةٌ على أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ وقد اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ
في إظْهَارِ الْأَوَّلِيَّةِ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ بِالْيَدِ
فَيُقْضَى بِبَيِّنَتِهِ
وقد رُوِيَ عن جَابِرٍ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى بين يَدَيْ رسول
اللَّهِ نِتَاجَ نَاقَةٍ في يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عليه وَأَقَامَ
ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على مِثْلِ ذلك فَقَضَى رسول اللَّهِ بِالنَّاقَةِ
لِصَاحِبِ الْيَدِ وَهَذَا ظَاهِرُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
وقال عِيسَى بن أَبَانَ من أَصْحَابِنَا أنه لَا يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ بَلْ
تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَك الْمُدَّعَى في يَدِ صَاحِبِ الْيَد
قَضَاءَ تَرْكٍ وَهَذَا خِلَافِ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا فإنه نَصَّ على لَفْظَة
الْقَضَاءِ وَالتَّرْكِ في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ لَا يَكُونُ قَضَاءً حَقِيقَةً
وَكَذَا في الحديث الذي رَوَيْنَاهُ عن النبي أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ لِصَاحِبِ
الْيَدِ
وَكَذَلِكَ في دَعْوَى النِّتَاجِ من الْخَارِجَيْنِ على ثَالِثٍ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُتْرَكُ في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ دَلَّ أَنَّ ما
ذَكَره خِلَافُ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا
وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ على النِّتَاجِ وَالْآخَرُ على الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ عن النِّتَاجِ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا أنها
قَامَتْ على أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ فَلَا تَثْبُتُ لِغَيْرِهِ إلَّا
بِالتَّلَقِّي منه
وَأَمَّا إنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ
السُّقُوطُ اعْتِبَارُهُمَا لِلتَّعَارُضِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا بِحُكْمِ سِنِّ الدَّابَّةِ فَتُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الذي
وَافَقَهُ السِّنُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُخْرَى كَاذِبَةٌ
بِيَقِينٍ هذا إذَا عُلِمَ سِنُّهَا فَأَمَّا إذَا أُشْكِل سَقَطَ اعْتِبَارُ
التَّارِيخِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ سِنُّهَا مُوَافِقًا لِهَذَا
الْوَقْتِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِذَلِكَ الْوَقْتِ وَيُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لَهُمَا جميعا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُمَا كَأَنَّهُمَا
سَكَتَا عن التَّارِيخِ أَصْلًا وَإِنْ خَالَفَ سِنُّهَا الْوَقْتَيْنِ جميعا
سَقَطَ الْوَقْتُ
كَذَا ذَكَره في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بُطْلَانُ التَّوْقِيتِ
فَكَأَنَّهُمَا لم يُوَقِّتَا فَبَقِيَتْ الْبَيِّنَتَانِ قَائِمَتَيْنِ على
مُطْلَقِ الْمِلْكِ من غَيْرِ تَوْقِيتٍ وَذَكَر الْحَاكِمُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّ
في رِوَايَةِ أبي اللَّيْثِ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ
قال وهو الصَّحِيحُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ سِنَّ الدَّابَّةِ إذَا خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ فَقَدْ
تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ الْبَيِّنَتَيْنِ فَالْتَحَقَتَا بِالْعَدَمِ فَيُتْرَكُ
المدعى في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ كما كان
وَالْجَوَابُ أَنَّ مُخَالَفَةَ السِّنِّ الْوَقْتَيْنِ يُوجِبُ كَذِبَ
الْوَقْتَيْنِ لَا كَذِبَ الْبَيِّنَتَيْنِ أَصْلًا وَرَأْسًا وَكَذَلِكَ لو
اخْتَلَفَا في جَارِيَةٍ فقال الْخَارِجُ إنَّهَا وُلِدَتْ في مِلْكِي من أَمَتِي
هذه وقال صَاحِبُ الْيَدِ كَذَلِكَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الصُّوفِ والمرعزي وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
بينة ( ( ( البينة ) ) ) أَنَّهُ له جَزُّهُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ
الْيَدِ
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الْغَزْلِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له غَزْلُهُ
____________________
(6/234)
من
قُطْنٍ هو له يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُنَازَعَةَ إذَا وَقَعَتْ في سَبَبِ مِلْكٍ لَا يَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ كان بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ فَيُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ فإذا
وَقَعَتْ في سَبَبِ مِلْكٍ يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ لَا يَكُونُ في مَعْنَى
النِّتَاجِ وَيُقْضَى لِلْخَارِجِ وَإِنْ أُشْكِلَ الْأَمْرُ في الْمِلْكِ أَنَّهُ
يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ أو لَا يُقْضَى لِلْخَارِجِ أَيْضًا
فَعَلَى هذا إذَا اخْتَلَفَا في اللَّبَنِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له حُلِبَ في يَدِهِ وفي مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ
لِأَنَّ اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ الْحَلْبَ مَرَّتَيْنِ فَكَانَ في
مَعْنَى النِّتَاجِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاةَ التي حَلَبَ منها
اللَّبَنَ نَتَجَتْ عِنْدَهُ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ بِالشَّاةِ وَاللَّبَنِ
جميعا وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في جُبْنٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له صَنْعُهُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ
اللَّبَنَ الْوَاحِدَ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَصْنَعَ جُبْنًا مَرَّتَيْنِ فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنَّهُ أَرْضُهُ غَرَسَ النَّخْلَ فيها يُقْضَى بها لِلْخَارِجِ لِأَنَّ هذا ليس
في مَعْنَى النِّتَاجِ لِأَنَّ النِّتَاجَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْوَلَدِ وَالْغَرْسُ
ليس بِسَبَبٍ الملك ( ( ( لملك ) ) ) الْأَرْضِ
وَكَذَا الْغَرْسُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فلم يَكُنْ في مَعْنَى
النِّتَاجِ
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الْحُبُوبِ النَّابِتَةِ وَالْقُطْنِ النابت ( ( (
الثابت ) ) ) ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ له زَرْعُهُ في أَرْضِهِ
فإنه يُقْضَى بِالْأَرْضِ وَالْحَبِّ وَالْقُطْنِ لِلْخَارِجِ وَكَذَلِكَ لو
اخْتَلَفَا في الْبِنَاءِ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ بنى على
أَرْضِهِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا في حُلِيٍّ مَصُوغٍ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ
صَاغَهُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الصِّيَاغَةَ تَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ فلم تَكُنْ في مَعْنَى النِّتَاجِ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في ثَوْبِ خَزٍّ أو شَعْرٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له نَسَجَهُ في مِلْكِهِ فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ ذلك لَا
يُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ يُنْسَجُ مَرَّتَيْنِ يُقْضَى
لِلْخَارِجِ وَكَذَا إنْ كان مُشْكِلًا
وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في سَيْفٍ مَطْبُوعٍ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَنَّهُ طُبِعَ في مِلْكِهِ يَرْجِعُ في هذا إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِذَلِكَ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في جَارِيَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ
أَنَّ أُمَّهَا أَمَتُهُ وَأَنَّهَا وَلَدَتْ هذه في مِلْكِهِ يُقْضَى
بِالْجَارِيَةِ وَبِأُمِّهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّ هذا ليس دَعْوَى النِّتَاجِ
بَلْ هو دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وهو مِلْكُ الْأُمِّ وَالْبَيِّنَةُ
بَيِّنَةُ الْخَارِجِ في الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيُقْضَى بِالْأُمِّ لِلْخَارِجِ
ثُمَّ يُمْلَكُ الْوَلَدُ بِمِلْكِ الْأُمِّ وَكَذَلِكَ لو اخْتَلَفَا في الشَّاةِ
مع الصُّوفِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ هذه الشَّاةَ مَمْلُوكَةٌ
له وَأَنَّ هذا صُوفُ هذه الشَّاةِ يُقْضَى بِالشَّاةِ وَالصُّوفِ لِلْخَارِجِ
لَمَا قُلْنَا
شَاتَانِ إحْدَاهُمَا بَيْضَاءُ وَالْأُخْرَى سَوْدَاءُ وَهُمَا في يَدِ رَجُلٍ
فَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ الشَّاةَ الْبَيْضَاءَ شَاتُه وَلَدَتْهَا
السَّوْدَاءُ في مِلْكِهِ وَأَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على أَنَّ
السَّوْدَاءَ شَاتُه وَلَدَتْهَا الْبَيْضَاءُ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّاةِ التي شَهِدَتْ شُهُودُهُ إنها وُلِدَتْ في مِلْكِهِ
فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ بِالْبَيْضَاءِ وَلِصَاحِبِ الْيَدِ بِالسَّوْدَاءِ لِأَنَّ
بَيِّنَةَ الْخَارِجِ قَامَتْ على النِّتَاجِ في الْبَيْضَاءِ وَبَيِّنَةُ ذِي
الْيَدِ قَامَتْ فيها على مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى
كَذَا بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَامَتْ على النِّتَاجِ في السَّوْدَاءِ وَبَيِّنَةُ
الْخَارِجِ فيها قَامَتْ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى
وَلَوْ اخْتَلَفَا في اللَّبَنِ الذي صُنِعَ منه الْجُبْنُ فَأَقَامَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ اللَّبَنَ الذي صُنِعَ منه الْجُبْنُ في مِلْكِهِ
فَيُقْضَى لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على مِلْكِ اللَّبَنِ
قَائِمَةٌ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَا على أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ
الْخَارِجِ أَوْلَى من دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
وَلَوْ ادَّعَى عَبْدًا في يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ من فُلَانٍ وإنه
وُلِدَ في مِلْكِ الذي اشْتَرَاهُ منه وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
اشْتَرَاهُ من رَجُلٍ آخَرَ وَأَنَّهُ وُلِدَ في مِلْكِهِ يُقْضَى لِصَاحِبِ
الْيَدِ لِأَنَّ دَعْوَى الْوِلَادَةِ في مِلْكِ بَائِعِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى
الْوِلَادَةِ في مِلْكِهِ لِأَنَّهُ تَلَقَّى الْمِلْكَ من جِهَتِهِ وَهُنَاكَ
يُقْضَى له
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى مِيرَاثًا أو هِبَةً أو صَدَقَةً أو وَصِيَّةً وإنه وُلِدَ
في مِلْكِ الْمُوَرِّثِ وَالْوَاهِبِ وَالْمُوصِي فإنه يُقْضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ
لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ ادَّعَى الْخَارِجُ مع ذِي الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّتَاجَ
فَقَضَى لِصَاحِبِ الْيَدِ ثُمَّ جاء رَجُلٌ وَادَّعَى النِّتَاجَ وَأَقَامَ
الْبَيِّنَةَ عليه يُقْضَى له إلَّا أَنْ يُعِيدَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ
على النِّتَاجِ فَيَكُونُ هو أَوْلَى لِأَنَّ الْقَضَاءَ على الْمُدَّعِي
الْأَوَّلِ لَا يَكُونُ قَضَاءً على الْمُدَّعِي الثَّانِي فلم يَكُنْ الثَّانِي
مَقْضِيًّا عليه فَتُسْمَعُ الْبَيِّنَةَ منه
فَرَّقَ بين الْمِلْكِ وَبَيْنَ الْعِتْقِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعِتْقِ على
شَخْصٍ وَاحِدٍ يَكُونُ قَضَاءً على الناس كَافَّةً وَالْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ على
شَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ قَضَاءً على غَيْرِهِ وَإِنْ كانت بَيِّنَةُ
النِّتَاجِ تُوجِبُ الْمِلْكَ بِصِفَةِ الْأَوَّلِيَّةِ وإنه لَا يَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ كَالْعِتْقِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعِتْقَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّ
الْعَبْدَ لَا يَقْدِرُ على إبْطَالِهِ حتى لَا يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ الْحُرِّ
بِرِضَاهُ
وَلَوْ كان
____________________
(6/235)
حَقُّ
الْعَبْدِ لَقَدَرَ على إبْطَالِهِ كَالرِّقِّ وإذا كان حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى
فَالنَّاسُ في إثْبَاتِ حُقُوقِهِ خُصُومٌ عنه بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ
لِكَوْنِهِمْ عَبِيدَهُ فَكَانَ حَضْرَةُ الْوَاحِدِ كَحَضْرَةِ الْكُلِّ
وَالْقَضَاءُ على الْوَاحِد قَضَاءٌ على الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ في
الْعُبُودِيَّةِ كَالْوَرَثَةِ لَمَّا قَامُوا مَقَامَ الْمَيِّتِ في إثْبَاتِ
حُقُوقِهِ وَالدَّفْعِ عنه لِكَوْنِهِمْ خُلَفَاءَهُ فَقَامَ الْوَاحِدُ منهم
مَقَامَ الْكُلِّ لِاسْتِوَائِهِمْ في الْخِلَافَةِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ فإنه
خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَالْحَاضِرُ فيه لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عن الْغَائِبِ
إلَّا بِالْإِنَابَةِ حَقِيقَةً أو بِثُبُوتِ النِّيَابَةِ عنه شَرْعًا
وَاتِّصَالٍ بين الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ فِيمَا وَقَعَ فيه الدَّعْوَى على ما
عُرِفَ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك فَالْقَضَاءُ على غَيْرِهِ يَكُونُ قَضَاءً على
الْغَائِبِ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَلَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ هذه الْحِنْطَةَ من زَرْعٍ حُصِدَ من أَرْضِ هذا
الرَّجُلِ لم يَكُنْ لِصَاحِبِ الْأَرْض أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ
أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ لِغَيْرِهِ وَمِلْكُ الزَّرْعِ يَتْبَعُ ملك البذر لا
مِلْكَ الْبَذْرِ لَا مِلْكَ الْأَرْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَرْضَ
الْمَغْصُوبَةَ إذَا زَرَعَهَا الْغَاصِبُ من بَذْر نَفْسِهِ كانت الْحِنْطَةُ له
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هذه الْحِنْطَةَ من زَرْعِ هذا أو هذا التَّمْرُ من نَخْلِ
هذا يُقْضَى له لِأَنَّ مِلْكَ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ يَتْبَعُ مِلْكَ الزَّرْعِ
وَالنَّخْلِ
وَلَوْ قالوا هذه الْحِنْطَةُ من زَرْعٍ كان من أَرْضِهِ لم يَقْضِ له لِأَنَّهُمْ
لو شَهِدُوا أَنَّهُ حُصِدَ من أَرْضِهِ لم يَقْضِ له فَهَذَا أَوْلَى
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ هذا اللَّبَنَ وَهَذَا الصُّوفَ حِلَابُ شَاتِه وَصُوفُ
شَاتِه لم يَقْضِ له لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ الشَّاةُ له وَحِلَابُهَا وَصُوفُهَا
لِغَيْرِهِ بِأَنْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ هذا الذي ذَكَرنَا كُلّه في
دَعْوَى الْخَارِجِ الْمِلْكَ فَأَمَّا دَعْوَى الْخَارِجَيْنِ على ذِي الْيَدِ
الْمِلْكَ فَنَقُولُ لَا تَخْلُو في الْأَصْلِ من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أما أَنْ
يَدَّعِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ ما يَدَّعِي الْآخَرُ وأما أَنْ
يَدَّعِيَ أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِي الْآخَرُ فَإِنْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا قَدْرَ ما يَدَّعِي الْآخَرُ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرنَا
أَيْضًا وهو أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ أما إن قَامَتَا على مِلْكٍ مُطْلَقٍ عن
الْوَقْتِ وأما إن قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وأما إن قَامَتْ إحْدَاهُمَا على
مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَالْأُخْرَى على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ وَكُلُّ ذلك بِسَبَبٍ أو
بِغَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ من غَيْرِ
سَبَبٍ فإنه يُقْضَى بِالْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نصفان ( ( ( نصفين ) ) ) عِنْدَ
أَصْحَابِنَا
وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَانِ في قَوْلٍ تَتَهَاتَرُ
الْبَيِّنَتَانِ وَيُتْرَكُ الْمُدَّعَى في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ وفي قَوْلٍ
يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقْضَى لِمَنْ خَرَجَتْ له الْقُرْعَةُ مِنْهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ
مُتَعَذِّرٌ لِتَنَافٍ بين مُوجِبِهِمَا لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الْعَيْنِ
الْوَاحِدَةِ مَمْلُوكَةً لِاثْنَيْنِ على الْكَمَالِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ
فَيَبْطُلَانِ جميعا إذْ ليس الْعَمَلُ بِإِحْدَاهُمَا أَوْلَى من الْعَمَلِ
بِالْأُخْرَى لِاسْتِوَائِهِمَا في الْقُوَّةِ أو تُرَجَّحُ إحْدَاهُمَا
بِالْقُرْعَةِ لِوُرُودِ الشَّرْعِ بِالْقُرْعَةِ في الْجُمْلَةِ
وَلَنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ دَلِيلٌ من أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَالْعَمَلُ
بِالدَّلِيلَيْنِ وَاجِبٌ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ فَإِنْ أَمْكَنَ الْعَمَلُ
بِهِمَا من كل وَجْهٍ يُعْمَلُ بِهِمَا من كل وَجْهٍ وَإِنْ لم يُمْكِنْ الْعَمَلُ
بِهِمَا من كل وَجْهٍ يُعْمَلُ بِهِمَا من وَجْهٍ كما في سَائِرِ دَلَائِلِ
الشَّرْعِ من ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَنِ الْمَشْهُورَةِ وَأَخْبَارُ
الْآحَادِ وَالْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ إذَا تَعَارَضَتْ وَهُنَا إنْ تَعَذَّرَ
الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ في كل الْمَحِلِّ أَمْكَنَ
الْعَمَلُ بِهِمَا بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ في النِّصْفِ فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ
وَلَوْ قَامَتَا على مِلْكٍ مُوَقَّتٍ من غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ اسْتَوَى
الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّهُ إذَا لم يَثْبُتْ سَبْقُ
أَحَدِهِمَا بِحُكْمٍ التَّعَارُضِ سَقَطَ التَّارِيخُ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَإِنْ كان وَقْتُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقَ
من الْآخَرِ فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَجِيءُ هُنَا خِلَافُ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ من الْخَارِجِ مَسْمُوعَةٌ بِلَا
خِلَافٍ وَالْبَيِّنَتَانِ قَامَتَا من الْخَارِجَيْنِ فَكَانَتَا مَسْمُوعَتَيْنِ
ثُمَّ تَرَجَّحَ إحْدَاهُمَا بِالتَّارِيخِ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ الْمِلْكَ في
وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهَا فيه الْأُخْرَى فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إلَى أَنْ
يَقُومَ الدَّلِيلُ على أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْمِلْكُ
وَإِنْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى من غَيْرِ سَبَبٍ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْضَى لِصَاحِبِ الْوَقْتِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُقْضَى
لِصَاحِبِ الْإِطْلَاقِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على الْمِلْكِ
الْمُطْلَقِ أَقْوَى لِأَنَّ الْمِلْك الْمُطْلَقَ مِلْكِهِ من الْأَصْلِ حُكْمًا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَظْهَرُ في الزَّوَائِدِ وَتُسْتَحَقّ بِهِ الْأَوْلَادُ
وَالْأَكْسَابُ
وَهَذَا حُكْمُ ظُهُورِ الْمِلْكِ من الْأَصْلِ وَلَا يُسْتَحَقّ ذلك بِالْمِلْكِ
الْمُوَقَّتِ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ عليه أَقْوَى فَكَانَ
الْقَضَاءُ بها أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما ذَكَرنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ
الْمُؤَرَّخَةَ تُظْهِرُ الْمِلْكَ في زَمَانٍ لَا تُعَارِضُهَا فيه الْبَيِّنَةُ
الْمُطْلَقَةُ عن التَّارِيخِ
____________________
(6/236)
بِيَقِينٍ
بَلْ تَحْتَمِلُ الْمُعَارِضَةَ وَعَدَمَهَا فَلَا تَثْبُتُ الْمُعَارِضَةُ
بِالشَّكِّ فَتَثْبُتُ بَيِّنَةُ صَاحِبِ التَّارِيخِ بِلَا مُعَارِضٍ فَكَانَ
صَاحِبُ التَّارِيخِ أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما مَرَّ أَيْضًا أَنَّ الْمِلْكَ
الْمُوَقَّتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ سَابِقًا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
مُتَأَخِّرًا لِاحْتِمَالِ أَنَّ صَاحِبَ الْإِطْلَاقِ لو أَرَّخَ لَكَانَ
تَارِيخُهُ أَقْدَمَ يَثْبُتُ السَّبْقُ مع الِاحْتِمَالِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ
التَّارِيخِ فَبَقِيَ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
هذا إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ من الْخَارِجَيْنِ على ذِي الْيَدِ على
الْمِلْكِ من غَيْرِ سَبَبٍ فَإِنْ كان ذلك بِسَبَبٍ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا
إن ادَّعَيَا الْمِلْكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ من الْإِرْثِ أو الشِّرَاءِ أو
النِّتَاجِ وَنَحْوِهَا وَإِمَّا إن ادَّعَيَاهُ بِسَبَبَيْنِ فَإِنْ ادَّعَيَا
الْمِلْكَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كان السَّبَبُ هو الْإِرْثَ فَإِنْ لم
تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ
الْمِلْكَ الْمَوْرُوثَ هو مِلْكُ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا
الْوَارِثُ يَخْلُفُهُ وَيَقُومُ مَقَامَهُ في مِلْكِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجَهَّزُ من التَّرِكَةِ وَيُقْضَى منها دُيُونُهُ وَيُرَدُّ
الْوَارِثُ بِالْعَيْبِ وَيُرَدُّ عليه فكأن الْمُوَرِّثَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا
مِلْكًا مُطْلَقًا عن الْوَقْتِ
وَإِنْ وَقَّتَا وَقْتًا فَإِنْ كان وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ لِمَا مَرَّ
وَإِنْ كان أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ أَسْبَقَ يُقْضَى لِمَنْ هو أَسْبَقُ وَقْتًا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ
عِنْدَهُ في الْمِيرَاثِ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمَوْرُوثَ مِلْكُ الْمَيِّتِ
وَالْوَارِثُ قام مَقَامَهُ فلم يَكُنْ الْمَوْتُ تَارِيخًا لَمِلْكِ الْوَارِثِ
فَسَقَطَ التَّارِيخُ لِمِلْكِهِ وَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ دَعْوَى
الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عن التَّارِيخِ فَيَسْتَوِيَانِ فيه
وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُمَا إنْ لم يُؤَرِّخَا مِلْكَ الْمَيِّتَيْنِ فَكَذَلِكَ
فَأَمَّا إذَا أَرَّخَا مِلْكَ الْمَيِّتَيْنِ فَيُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا
تَارِيخًا ذَكَره في نَوَادِرِ هِشَامٍ وأبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ يَقُولَانِ بَلْ الْوَارِثُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُظْهِرُ الْمِلْكَ
لِلْمُوَرِّثِ لَا لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَضَرَ الْمُوَرِّثَانِ
وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً مُؤَرَّخَةً وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا
أَسْبَقُ وَلَوْ كان كَذَلِكَ لَقُضِيَ لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا لِإِثْبَاتِهِ
الْمِلْك في وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهُ فيه بَيِّنَةُ الْآخَرِ كَذَا هذا
وَلَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا ولم تُوَقَّتْ الْأُخْرَى يُقْضَى بَيْنَهُمَا نصفان
( ( ( نصفين ) ) ) بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فإن التَّارِيخَ في
بَابِ الْمِيرَاث سَاقِطٌ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَصِيرُ
كَأَنَّ الْمُوَرِّثَيْنِ الْخَارِجَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا مِلْكًا فَأَرَّخَهُ
أَحَدُهُمَا ولم يُؤَرِّخْهُ الْآخَرُ وَهُنَاكَ كان الْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ فَكَذَا هُنَا لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من
رَجُلَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ فيه بِالتَّارِيخِ
وَإِنْ كان السَّبَبُ هو الشِّرَاءَ فَنَقُولُ لَا تَخْلُو إمَّا أَنْ تَكُونَ
الدَّارُ في يَدِ ثَالِثٍ وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ في يَدِ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ ذلك
لَا يَخْلُو إمَّا إن ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ وأما إنْ ادَّعَيَاهُ من
اثْنَيْنِ فَإِنْ كانت في يَدِ ثَالِثٍ وَادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ فَإِنْ
كان صَاحِبُ الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ على الشِّرَاءِ منه بِثَمَنٍ
مَعْلُومٍ وَنَقَدَ الثَّمَنَ مُطْلَقًا عن التَّارِيخِ وَذَكَر الْقَبْضَ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ
تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وفي قَوْلٍ يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا فَيُقْضَى لِمَنْ
خَرَجَتْ له الْقُرْعَةُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ التَّهَاتُرِ وقد تَقَدَّمَتْ وإذا
قُضِيَ بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَكُونُ لَهُمَا الْخِيَارُ ان شَاءَ
أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَإِنْ شَاءَ
نَقَضَ لِأَنَّ غَرَضَ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا من الشِّرَاءِ الْوُصُولُ إلَى
جَمِيعِ الْمَبِيعِ ولم يَحْصُلْ فَأَوْجَبَ ذلك خَلَلًا في الرِّضَا فَلِذَلِكَ
أُثْبِت لَهُمَا الْخِيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخْذَ
نِصْفِ الدَّارِ رَجَعَ على الْبَائِعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ لم يُحَصَّلْ
له إلَّا نِصْفُ الْمَبِيعِ وَإِنْ اخْتَارَ الرَّدَّ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ انْفَسَخَ الْبَيْعُ فَإِنْ اخْتَارَ
أَحَدُهُمَا الرَّدَّ وَالْآخَرُ الْأَخْذَ فَإِنْ كان ذلك بَعْدَ قَضَاءِ
الْقَاضِي وَتَخْيِيرِهِ إيَّاهُمَا فَلَيْسَ له أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ
بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَوْجَبَ انْفِسَاخَ
الْعَقْدِ في حَقِّ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا في النِّصْفِ فَلَا يَعُودُ إلَّا
بِالتَّحْدِيدِ كما إذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ
لِلشَّفِيعَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا الشُّفْعَةَ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ
إلَّا نِصْفُ الدَّارِ فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ أَحَدُهُمَا تَرْكَ الْخُصُومَةِ
قبل تَخْيِيرِ الْقَاضِي فَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ بِجَمِيعِ
الثَّمَنِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ كُلُّ الْبَيْعِ وَالِامْتِنَاعُ
بِحُكْمِ الْمُزَاحَمَةِ فإذا انْقَطَعَتْ فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ
إذَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قبل قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدَّارِ الْمَشْفُوعَةِ
يُقْضَى لِصَاحِبِهِ بِالْكُلِّ
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ من رَجُلٍ آخَرَ
سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك يُقْضَى بِالدَّارِ
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا وَثَبَتَ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
وَالْكَلَامُ في تَوَابِعِ الْخِيَارِ على نَحْوِ ما بَيَّنَّا غيرأن هُنَاكَ
الشَّهَادَةَ الْقَائِمَةَ على الشِّرَاءِ من صَاحِبِ الْيَدِ وهو الْبَائِعُ
تُقْبَلُ من غَيْرِ ذَكَر الْمِلْكِ له وَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على
الشِّرَاءِ من غَيْرِ صَاحِبِ الْيَدِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِذِكْرِ الْمِلْكِ
لِلْبَائِعِ لِأَنَّ الْمَبِيعَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ في يَدِ الْبَائِعِ
____________________
(6/237)
وَالْيَدُ
دَلِيلُ الْمِلْكِ فوقع ( ( ( فوقعت ) ) ) الْغُنْيَةُ عن ذِكْرِهِ وفي الفضل ( (
( الفصل ) ) ) الثَّانِي الْمَبِيعُ ليس في يَدِ الْبَائِعِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ
إلَى ذِكْرِهِ لِصِحَّةِ الْبَيْعِ
هذا إذَا لم تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ فَأَمَّا إذَا أُرِّخَتَا فَإِنْ اسْتَوَى
التَّارِيخَانِ فَكَذَلِكَ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِهِمَا بِالتَّعَارُضِ فَبَقِيَ
دَعْوَى مُطْلَقِ الشِّرَاءِ وَإِنْ كانت إحْدَاهُمَا أَسْبَقَ تَارِيخًا كانت
أَوْلَى بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْمِلْكَ في وَقْتٍ لَا تُعَارِضُهَا
فيه الْأُخْرَى فَتَنْدَفِعُ بها الْأُخْرَى
وَلَوْ أُرِّخَتْ إحْدَاهُمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى فَالْمُؤَرَّخَةُ أَوْلَى
لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الْمِلْكَ في زَمَانٍ مُعَيَّنٍ وَالْأُخْرَى لَا تَتَعَرَّضُ
لِلْوَقْتِ فَتَحْتَمِلُ السَّبْقَ وَالتَّأْخِيرَ فَلَا تُعَارِضُهَا مع الشَّكِّ
وَالِاحْتِمَالِ وَلَوْ لم تُؤَرَّخْ الْبَيِّنَتَانِ وَلَكِنْ ذَكَرَتْ
إحْدَاهُمَا الْقَبْضَ فَهِيَ أَوْلَى لِأَنَّهَا لَمَّا أَثْبَتَتْ قَبْضَ
الْمَبِيعِ جُعِلَ كَأَنَّ بَيْعَ صَاحِبِ الْقَبْضِ أَسَبْقُ فَيَكُونُ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ لو ذَكَرَتْ احداهما تَارِيخًا وَالْأُخْرَى قَبْضًا فَبَيِّنَةُ
الْقَبْضِ أَوْلَى إلَّا أَنْ تَشْهَدَ بَيِّنَةُ التَّارِيخِ أَنَّ شِرَاءَهُ قبل
شِرَاءِ الْآخَرِ فَيُقْضَى له وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ على الْبَائِعِ
وَكَذَا لو أَرَّخَا تَارِيخًا وَاحِدًا وَذَكَرَتْ إحْدَاهُمَا الْقَبْضَ
فَبَيِّنَةُ الْقَبْضِ أَوْلَى إلَّا إذَا كان وَقْتُ الأخر أَسْبَقَ
هذا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ وهو صَاحِبُ الْيَدِ أو غَيْرُهُ
فَأَمَّا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من اثْنَيْنِ سِوَى صَاحِبِ الْيَدِ مُطْلَقًا
عن الْوَقْتِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ على ذلك يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعَيْنِ فَقَامَا
مَقَامَهُمَا فَصَارَ كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ الْخَارِجَيْنِ حَضَرَا وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ وَلَوْ كان كذلك ( ( ( كذاك ) ) ) يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ كَذَا هذا وَيَثْبُتُ لَهُمَا الْخِيَارُ وَالْكَلَامُ في
الْخِيَارِ على نَحْوِ ما ذَكَرنَا
وَلَوْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ كان وَقْتُهُمَا وَاحِدًا فَكَذَلِكَ
وَإِنْ كان أَحَدُهُمَا أَسْبَقَ من الأخر فَالْأَسْبَقُ تَارِيخًا أَوْلَى عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَكَذَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ في رِوَايَةِ الْأُصُولِ
بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَهُ وَوَجْهُ
الْفَرْقِ له ذَكَرَهُ الدَّارِيِّ وهو أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ
لِنَفْسِهِ وَالْوَارِثُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْمَيِّتِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ في
الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ سَوَّى بين الْمِيرَاثِ وَالشِّرَاءِ وقال لَا عِبْرَةَ
بِالتَّارِيخِ في الشِّرَاءِ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُؤَرِّخَا مِلْكَ الْبَائِعَيْنِ
وَإِنْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا ولم تُوَقَّتْ الْأُخْرَى يُقْضَى بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ وَلَا عِبْرَةَ لِلتَّارِيخِ أَيْضًا
فَرَّقَ بين هذا وَبَيْنَ ما إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من رَجُلٍ وَاحِدٍ
فَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا وَأُطْلِقَتْ الْأُخْرَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْوَقْتِ
أَوْلَى
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُمَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من اثْنَيْنِ فَقَدْ
ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعَيْنِ فَتَارِيخُ إحْدَى
الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يَدُلُّ على سَبْقِ أَحَدِ الشراءين بَلْ يَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ شِرَاءُ صَاحِبِهِ أَسْبَقَ من شِرَائِهِ فَلَا يُحْكَمُ بِسَبْقِ
أَحَدِهِمَا مع الِاحْتِمَالِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِخِلَافِ ما
إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ لِأَنَّ هُنَاكَ اتَّفَقَا على تَلَقِّي
الْمِلْكِ من وَاحِدٍ فَتَارِيخُ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْجَبَ تَلَقِّيَ
الْمِلْكِ منه في زَمَانٍ لَا يُنَازِعُهُ فيه أَحَدٌ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ
إلَيْهِ حتى يَقُومَ على التَّلَقِّي منه دَلِيلٌ آخَرُ
هذا إذَا كانت الدَّارُ في يَدِ ثَالِثٍ فَإِنْ كانت في يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ
ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من وَاحِدٍ فَصَاحِبُ الْيَدِ أَوْلَى سَوَاءٌ أَرَّخَ
الْآخَرُ أو لم يُؤَرِّخ وَسَوَاءٌ ذَكَر شُهُودَ الْقَبْضِ أو لم يذكر لِأَنَّ
الْقَبْضَ من صَاحِبِ الْيَدِ أَقْوَى لِثُبُوتِهِ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً وَقَبْضُ
الْآخَرِ لم يَثْبُتْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَكَانَ
الْقَبْضُ الْمَحْسُوسُ أَوْلَى فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبْضَ الثَّابِتَ
بِالْحِسِّ أَوْلَى من الثَّابِتِ بِالْخَبَرِ وَمِنْ التَّارِيخِ أَيْضًا
وَالْقَبْضُ الثَّابِتُ بِالْخَبَرِ أَوْلَى من التَّارِيخِ
وَإِنْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ من اثْنَيْنِ يُقْضَى لِلْخَارِجِ سَوَاءٌ وُقِّتَتْ
البينات ( ( ( البينتان ) ) ) أو لَا أو وُقِّتَتْ احداهما دُونَ الْأُخْرَى إلَّا
إذَا وُقِّتَتَا وَوَقْتُ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا
تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعَيْنِ فَقَامَا مَقَامَ الْبَائِعَيْنِ فَصَارَ
كَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ
وَلَوْ كان كَذَلِكَ يُقْضَى لِلْخَارِجِ
كَذَا هذا
بِخِلَافِ ما إذَا كان الْبَائِعُ وَاحِدًا لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَنَّ
الْمِلْكَ لَهُمَا بِالشِّرَاءِ من جِهَتِهِ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ فَيُجْعَلُ
كَأَنَّ شِرَاءَ صَاحِبِ الْيَدِ أَسْبَقُ
وَإِنْ كان السَّبَبُ هو النِّتَاجَ بِأَنْ ادعي كُلُّ وَاحِدٍ من الْخَارِجَيْنِ
أنها دَابَّتُهُ نَتَجَتْ عِنْدَهُ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ
الْحُجَّتَيْنِ وَتَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا بِإِظْهَارِ الْمِلْكِ في كل
الْمَحَلِّ فَلْيُعْمَلْ بِهِمَا بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مؤقت فَإِنْ اتَّفَقَ الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ
وَإِنْ اخْتَلَفَا يُحَكَّمُ سِنُّ الدَّابَّةِ إنْ عُلِمَ وَإِنْ أُشْكِلَ
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُقْضَى لِأَسْبَقِهِمَا وَقْتًا
وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى بَيْنَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السِّنَّ إذَا أُشْكِلَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
مُوَافِقًا لِوَقْتِ هذا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُوَافِقًا لِوَقْتِ ذَاكَ
فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْوَقْتِ وَصَارَ كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عن الْوَقْتِ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي
____________________
(6/238)
حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ وُقُوعَ الْإِشْكَالِ في السِّنِّ يُوجِبُ سُقُوطَ
اعْتِبَارِ حُكْمِ السَّبْقِ فَبَطَل تَحْكِيمُهُ فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلْوَقْتِ
فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى
وَهَذَا يُشْكِلُ بِالْخَارِجِ مع ذِي الْيَدِ
وَإِنْ خَالَفَ الْوَقْتَيْنِ جميعا فَهُوَ على ما ذَكَرنَا في الْخَارِجِ مع ذِي
الْيَدِ
وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ على النِّتَاجِ وَالْآخَرُ على مِلْكٍ
مُطْلَقٍ فَبَيِّنَةُ النِّتَاجِ أَوْلَى لِمَا مَرَّ
هذا إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ الْمِلْكَ من وَاحِدٍ أو اثْنَيْنِ بِسَبَبَيْنِ
مُتَّفِقَيْنِ من الْمِيرَاثِ وَالشِّرَاءِ وَالنِّتَاجِ
فَإِنْ كان بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان من
اثْنَيْنِ وَإِمَّا إن كان من وَاحِدٍ
فَإِنْ كان من اثْنَيْنِ يَعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ من السَّبَبَيْنِ بِأَنْ
ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اشْتَرَى هذه الدَّابَّةَ من فُلَانٍ وَادَّعَى
الْآخَرُ أَنَّ فُلَانًا آخَرَ وَهَبَهَا له وَقَبَضَهَا منه قُضِيَ بَيْنَهُمَا
نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُمَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من الْبَائِعِ
وَالْوَاهِبِ فَقَامَا مَقَامَهُمَا كَأَنَّهُمَا حَضَرَا وَادَّعَيَا وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مُرْسَلٍ
وَكَذَا لو ادَّعَى ثَالِثٌ مِيرَاثًا عن أبيه فإنه يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ
أَثْلَاثًا وَلَوْ ادَّعَى رَابِعٌ وَصَدَّقَهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا
لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان ذلك من وَاحِدٍ يُنْظَرُ إلَى السَّبَبَيْنِ فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا
أَقْوَى يُعْمَلُ بِهِ
لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالرَّاجِحِ وَاجِبٌ
وَإِنْ اسْتَوَيَا في الْقُوَّةِ يُعْمَلُ بِهِمَا بِقَدْرِ الْإِمْكَان على ما هو
سَبِيلُ دَلَائِلِ الشَّرْعِ
بَيَانُ ذلك إذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى هذه الدَّارَ
من فُلَانٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَقَبَضَ الدَّارَ وَأَقَامَ الْآخَرُ
الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا ذَاكَ وَهَبَهَا له وَقَبَضَهَا يُقْضَى لِصَاحِبِ
الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُفِيدُ
الْحُكْمَ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ الشِّرَاءُ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ مع الصَّدَقَةِ وَالْقَبْضِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ مع الرَّهْنِ وَالْقَبْضِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُفِيدُ
مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَالرَّهْنُ يُفِيدُ مِلْكَ الْيَدِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ
أَقْوَى
وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْبَيِّنَتَانِ مع الْقَبْضِ يقضي بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ وَقِيلَ هذا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
كَالدَّابَّةِ وَالْعَبْدِ وَنَحْوِهِمَا
فَأَمَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّارِ وَنَحْوِهَا فَلَا يُقْضَى
لَهُمَا بِشَيْءٍ على أَصْل أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْهِبَةِ من
رَجُلَيْنِ لِحُصُولِ مَعْنَى الشُّيُوعِ
وَقِيلَ لَا فَرْقَ بين ما يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَبَيْنَ ما لَا يَحْتَمِلُهَا
هُنَا لِأَنَّ هذا في مَعْنَى الشُّيُوعِ الطارىء لِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ على
الْكُلِّ وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ
وَكَذَلِكَ لو اجْتَمَعَتْ الصَّدَقَةُ مع الْقَبْضِ أو الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ
مع الْقَبْضِ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ لَكِنَّ
هذا إذَا لم يَكُنْ الْمُدَّعَى في يَدِ أَحَدِهِمَا فَإِنْ كان يُقْضَى لِصَاحِبِ
الْيَدِ بازجماع ( ( ( بالإجماع ) ) ) لِمَا مَرَّ وَلَوْ اجْتَمَعَ الرَّهْنُ
وَالْهِبَةُ أو الرَّهْنُ وَالصَّدَقَةُ فَالْقِيَاسُ أَنْ تَكُونَ الْهِبَةُ
أَوْلَى وَكَذَا الصَّدَقَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفِيدُ مِلْكَ
الرَّقَبَةِ وَالرَّهْنُ يُفِيدُ مِلْكَ الْيَدِ وَالْحَبْسَ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ
أَقْوَى وفي الِاسْتِحْسَانِ الرَّهْنُ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَرْهُونَ عِنْدَنَا
مَضْمُونٌ بِقَدْرِ الدَّيْنِ فَأَمَّا الْمَوْهُوبُ فَلَيْسَ بِمَضْمُونٍ أَصْلًا
فَكَانَ الرَّهْنُ أَقْوَى وَلَوْ اجْتَمَعَ النِّكَاحَانِ بِأَنْ ادَّعَتْ
امْرَأَتَانِ وَأَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ
تَزَوَّجَهَا عليه يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ
وَلَوْ اجْتَمَعَ النِّكَاحُ مع الْهِبَةِ أو الصَّدَقَةِ أو الرَّهْنِ
فَالنِّكَاحُ أَوْلَى لِأَنَّهُ عَقْدٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ فَكَانَ
أَقْوَى
وَلَوْ اجْتَمَعَ الشِّرَاءُ وَالنِّكَاحُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَ
أبي يُوسُفَ وَلِلْمَرْأَةِ نِصْفُ نِصْفِ الْقِيمَةِ على الزَّوْجِ وَعِنْدَ
مُحَمَّدٍ الشِّرَاءُ أَوْلَى وَلِلْمَرْأَةِ الْقِيمَةُ على الزَّوْجِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى من النِّكَاحِ بِدَلِيلِ
أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَيَصِحُّ النِّكَاحُ
بِدُونِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ وَكَذَا لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ بِدُونِ
الْمِلْكِ في الْبَيْعِ وَتَصِحُّ في بَابِ النِّكَاحِ كما لو تَزَوَّجَ على
جَارِيَةِ غَيْرِهِ دَلَّ إن الشِّرَاءَ أَقْوَى من النِّكَاحِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ إن النِّكَاحَ مِثْلُ الشِّرَاءِ فإن كان ( ( ( كل ) )
) وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعَاوَضَةٌ يُفِيدُ الْحُكْمَ بِنَفْسِهِ هذا إذَا ادَّعَى
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ ما يَدَّعِي الْآخَرُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى
أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَدَّعِي الْآخَرُ بِأَنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا كُلَّ
الدَّارِ وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ على ذلك فإنه يُقْضَى
لِمُدَّعِي الْكُلِّ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ
بِرُبْعِهَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى لِمُدَّعِي الْكُلِّ
بِثُلُثَيْ الدَّارِ وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ بِثُلُثِهَا وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ
جَوَابُهُمْ لِاخْتِلَافِهِمْ في طَرِيقِ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ عِنْدَهُ
بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَهُمَا قَسَّمَا بِطَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْمُضَارَبَةِ
وَتَفْسِيرُ الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْقَدْرِ
الذي وَقَعَ التَّنَازُعُ فيه فَيُجْعَلُ الْجُزْءُ الذي خَلَا عن الْمُنَازَعَةِ
سَالِمًا لِمُدَّعِيهِ
وَتَفْسِيرُ الْقِسْمَةِ على طَرِيقِ الْعَدْلِ وَالْمُضَارَبَةِ أَنْ تُجْمَعَ
السِّهَامُ كُلُّهَا في الْعَيْنِ فَتُقَسَّمُ بين الْكُلِّ بِالْحِصَصِ
فَيَضْرِبُ كُلٌّ بِسَهْمِهِ كما في الْمِيرَاثِ وَالدُّيُونِ الْمُشْتَرَكَةِ
الْمُتَزَاحِمَةِ وَالْوَصَايَا فلما كانت الْقِسْمَةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ على
طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ تَجِبُ مُرَاعَاةُ مَحَلِّ النِّزَاع فَهُنَا يَدَّعِي
أَحَدُهُمَا
____________________
(6/239)
كُلَّ
الدَّارِ وَالْآخَرُ لَا يُنَازِعُهُ إلَّا في النِّصْفِ فَبَقِيَ النِّصْفُ
الْآخَرُ خَالِيًا عن الْمُنَازَعَةِ فَيُسَلَّمُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ لِأَنَّهُ
يَدَّعِي شيئا لَا يُنَازِعُهُ فيه غَيْرُهُ وَمَنْ ادَّعَى شيئا لَا يُنَازِعُهُ
فيه غَيْرُهُ يُسَلَّمُ له وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اسْتَوَتْ فيه مُنَازَعَتُهُمَا
فيقضى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ
أَرْبَاعِ الدَّارِ لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَرُبْعُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ
وَلَمَّا كانت الْقِسْمَةُ عِنْدَهُمَا على طَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ يُقْسَمُ
الثَّمَنُ على مَبْلَغِ السِّهَامِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ بِسَهْمِهِ فَهُنَا
أَحَدُهُمَا يَدَّعِي كُلَّ الدَّارِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي نِصْفَهَا فَيُجْعَلُ
أَخَسُّهُمَا سَهْمًا فَجُعِلَ نِصْفُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا
وإذا جُعِلَ نِصْفُ الدَّارِ بَيْنَهُمَا صَارَ الْكُلُّ سَهْمَيْنِ فَمُدَّعِي
الْكُلِّ يَدَّعِي سَهْمَيْنِ وَمُدَّعِي النِّصْفِ يَدَّعِي سَهْمًا وَاحِدًا
فَيُعْطَى هذا سَهْمًا وَذَاكَ سَهْمَيْنِ فَكَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا
أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَثُلُثُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ
وَالصَّحِيحُ قِسْمَةُ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى
الْقِسْمَةِ لِضَرُورَةِ الدَّعْوَى وَالْمُنَازَعَةِ وَوُقُوعِ التَّعَارُضِ في
الْحُجَّةِ وَلَا مُنَازَعَةَ لِمُدَّعِي الْكُلِّ إلَّا في النِّصْفِ فَلَا يَتَحَقَّقُ
التَّعَارُضُ إلَّا فيه فَيُسَلَّمُ له ما وَرَاءَهُ لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عليه
وَخُلُوّهَا عن الْمُعَارِضِ فَكَانَ ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ عَمَلًا
بِالدَّلِيلِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَأَنَّهُ وَاجِبٌ هذا إذَا كانت الدَّارُ
في يَدِ ثَالِثٍ فَإِنْ كانت في أَيْدِيهمَا فَبَيِّنَةُ مُدَّعِي الْكُلِّ
أَوْلَى لِأَنَّهُ خَارِجٌ لِأَنَّهُ يَدَّعِي على صَاحِبِهِ النِّصْفَ الذي في
يَدِهِ وَمُدَّعِي النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شيئا هو في يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ
لَا يَدَّعِي إلَّا النِّصْفَ وَالنِّصْفُ في يَدِهِ فَكَانَ مُدَّعِي الْكُلِّ
خَارِجًا وَمُدَّعِي النِّصْفِ صَاحِبَ يَدٍ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ
أَوْلَى فَيُقْضَى له بِالنِّصْفِ الذي في يَدِ صَاحِبِهِ وَيُتْرَكُ النِّصْفُ
الذي في يَدِهِ على حَالِهِ هذا إذَا ادَّعَى الْخَارِجَانِ شيئا في يَدِ ثَالِثٍ
فَأَنْكَرَ الذي في يَده فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
فَإِنْ لم يُقِمْ لَهُمَا بَيِّنَةً وَطَلَبَا يمين ( ( ( بيمين ) ) ) الْمُنْكِرِ
يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ نَكَل لَهُمَا جميعا يُقْضَى لَهُمَا
بِالنُّكُولِ لِأَنَّ النُّكُولَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا
فَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَل لِلْآخَرِ يُقْضَى لِلَّذِي نَكَل لِوُجُودِ
الْحُجَّة في حَقِّهِ
وَإِنْ حَلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُتْرَك الْمُدَّعَى في يَدِهِ قَضَاءَ
تَرْكٍ لَا قَضَاءَ اسْتِحْقَاقٍ حتى لو قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ بَعْدَ ذلك تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُمَا وَيُقْضَى لَهُمَا بِخِلَافِ ما إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ
وَقُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَقَامَ صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على
أَنَّهُ مِلْكُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
وَكَذَا إذَا أَقَامَ أَحَدُ المدعين ( ( ( المدعيين ) ) ) الْبَيِّنَةَ على
النِّصْفِ الذي اسْتَحَقَّهُ صَاحِبُهُ بعدما قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَا
تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ بِالتَّرْكِ في يَدِ المدعي عليه لم يَكُنْ كُلُّ
وَاحِدٍ من الْمُدَّعِيَيْنِ مَقْضِيًّا عليه حَقِيقَةً فَتُسْمَعُ مِنْهُمَا
الْبَيِّنَةُ
فَأَمَّا صَاحِبُ الْيَدِ فَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عليه حَقِيقَةً وَكَذَا كُلُّ
وَاحِدٍ من الْمُدَّعِيَيْنِ بعدما قضى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ صَارَ مَقْضِيًّا
عليه في النِّصْفِ وَالْبَيِّنَةُ من الْمَقْضِيِّ عليه غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ إلَّا
إذَا ادَّعَى التَّلَقِّيَ من جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ أو ادَّعَى النِّتَاجَ
وَكَذَا لو ادَّعَى بَائِعُ الْمَقْضِيِّ عليه أو بَائِعُ بَائِعِهِ هَكَذَا
وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
لِأَنَّ الْقَضَاءَ عليه قَضَاءٌ على الْبَاعَةِ كُلِّهِمْ في حَقِّ بُطْلَانِ
الدَّعْوَى إنْ لم يَكُنْ قَضَاءً عليهم في حَقِّ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ
بِالثَّمَنِ إلَّا إذَا قَضَى الْقَاضِي لِهَذَا الْمُشْتَرِي بِالرُّجُوعِ على
بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ فَيَرْجِعُ هذا الْبَائِعُ على بَائِعِهِ أَيْضًا هَكَذَا
فَرَّقَ بين هذا وَبَيْنَ الْحُرِّيَّةِ والأصلية ( ( ( الأصلية ) ) ) أَنَّ
الْقَضَاءَ بِالْحُرِّيَّةِ قَضَاءٌ على الناس كُلِّهِمْ في حَقِّ بُطْلَانِ
الدَّعْوَى وَثُبُوتِ وِلَايَةِ الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ على الْبَاعَةِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بين الْمِلْكِ وَالْعِتْقِ على نَحْوِ ما ذَكَرنَا من قَبْلِ
هذا إذَا أَنْكَرَ الذي في يَدِهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ لِأَحَدِهِمَا فَنَقُولُ
هذا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان قبل إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
وَإِمَّا ان كان بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَرَّ قبل إقَامَةِ
الْبَيِّنَةِ جَازَ إقْرَارُهُ وَدَفَعَ إلَى الْمُقِرِّ له لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ
في يَدِهِ وَمِلْكِهِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه
بِالْإِقْرَارِ وَغَيْرِهِ
وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قبل التَّزْكِيَةِ لم يَجُزْ
إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ تَضَمُّن إبْطَالَ حَقِّ الْغَيْرِ وهو الْبَيِّنَةُ فَكَانَ
إقْرَارًا على غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ في حَقِّ ذلك الْغَيْرِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ
بِالدَّفْعِ إلَى الْمَقَرِّ له لِأَنَّ إقْرَارَهُ في حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ
وَكَذَا الْبَيِّنَةُ قد لَا تَتَّصِلُ بها التَّزْكِيَةُ فَيُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ
إلَى الْمَقَرِّ له في الْحَالِ فإذا زُكِّيَتْ الْبَيِّنَتَانِ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعَى كان بنيهما ( ( (
بينهما ) ) ) نِصْفَيْنِ فَظَهَرَ إن إقرار ( ( ( إقراره ) ) ) كان إبْطَالًا
لِحَقِّ الْغَيْرِ فلم يَصِحَّ فَالْتَحَقَ بِالْعَدَمِ
وَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَبَعْدَ التَّزْكِيَةِ يُقْضَى
بَيْنَهُمَا لِمَا قُلْنَا إنَّ إقْرَارَهُ لم يَصِحَّ فَكَانَ مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ
هذا كُلُّهُ إذَا كانت الدَّعْوَى من الْخَارِجِ على ذِي الْيَدِ أو من
الْخَارِجَيْنِ على ذِي الْيَدِ فَأَمَّا إذَا كانت من صاحب ( ( ( صاحبي ) ) ) ليد
( ( ( اليد ) ) ) أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ بِأَنْ كان الْمُدَّعَى في أَيْدِيهمَا
فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يُقْضَى له بِالنِّصْفِ الذي في
يَدِ صَاحِبِهِ وَالنِّصْفُ الذي كان في يَدِهِ تُرِكَ في يَدِهِ وهو مَعْنَى
قَضَاءِ التَّرْكِ
____________________
(6/240)
وَلَوْ
أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الذي في يَدِ صَاحِبِهِ ولأن كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
ذلك النِّصْفِ خَارِجٌ وَلَوْ لم تَقُمْ لاحدهما بَيِّنَةٌ يُتْرَكُ في
أَيْدِيهمَا قَضَاءَ تَرْكٍ حتى لو قَامَتْ لاحدهما بَعْدَ ذلك بَيِّنَةٌ تُقْبَلُ
لِأَنَّهُ لم يَصِرْ مَقْضِيًّا عليه حَقِيقَةً
هذا إذَا لم تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنْ وُقِّتَا فَإِنْ اتَّفَقَ
الْوَقْتَانِ فَكَذَلِكَ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْأَسْبَقُ أَوْلَى عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلَا عِبْرَةَ لِلْوَقْتِ في بَيِّنَةِ صَاحِبِ
الْيَدِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ وَقَّتَ إحْدَاهُمَا دُون
الْأُخْرَى يَكُونُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَالْوَقْتُ
سَاقِطٌ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هو لِصَاحِبِ الْوَقْتِ وقد مَرَّتْ الْحُجَجُ قبل
هذا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ الْقَائِمَتَيْنِ على قَدْرِ
الْمِلْكِ فَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُظْهِرَةَ لِلزِّيَادَةِ
أَوْلَى كما إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ في قَدْرِ الثَّمَنِ فقال
الْبَائِعُ بِعْتُك هذا الْعَبْدَ بِأَلِفَيْ دِرْهَمٍ
وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْته مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ
فإنه يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْبَائِعِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةَ أَلْفٍ
وَكَذَا لو اخْتَلَفَا في قَدْرِ الْمَبِيعِ فقال الْبَائِعُ بِعْتُك هذا
الْعَبْدَ بِأَلْفٍ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هذا الْعَبْدَ وَهَذِهِ
الْجَارِيَةَ بِأَلْفٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهَا تُظْهِرُ زِيَادَةً
وَكَذَا لو اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ في قَدْرِ الْمَهْرِ فقال الزَّوْجُ
تَزَوَّجْتُكِ على أَلْفٍ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ على أَلْفَيْنِ وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا تُظْهِرُ فَضْلًا ثُمَّ
انما كانت بَيِّنَةُ الزِّيَادَةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ لَا مُعَارِضَ لها في قَدْرِ الزِّيَادَةِ
فَيَجِبُ الْعَمَلُ بها في ذلك الْقَدْرِ لِخُلُوِّهَا عن الْمُعَارِضِ وَلَا
يُمْكِنُ إلَّا بِالْعَمَلِ في الْبَاقِي فَيَجِبُ الْعَمَلُ بها في الْبَاقِي
ضَرُورَةَ وُجُوبِ الْعَمَلِ بها في الزِّيَادَةِ وَلَا يَلْزَمُ على هذا
الْأَصْلِ ما إذَا اخْتَلَفَ الشَّفِيعُ وَالْمُشْتَرِي في قَدْرِ ثَمَنِ الدَّارِ
الْمَشْفُوعَةِ فقال الشَّفِيعُ اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفٍ
وقال الْمُشْتَرِي بِأَلْفَيْنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يُقْضَى
بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَإِنْ كانت بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي تُظْهِرُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ
إنَّمَا تُقْبَلُ من الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةَ الْمُدَّعِي في
الْأَصْلِ وَالْمُدَّعِي هُنَاكَ هو الشَّفِيعُ لِوُجُودِ حَدِّ الْمُدَّعِي فيه
وهو أَنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا في الْخُصُومَةِ بِحَيْثُ لو تَرَكَهَا يُتْرَكُ
وَلَا يُجْبَرُ عليها فَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَمَجْبُورٌ على الْخُصُومَةِ
أَلَا تَرَى لو تَرَكَهَا لَا يُتْرَكُ بَلْ يُجْبَرُ عليها فَكَانَ هو مُدَّعَى
عليه وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةُ الْمُدَّعِي لَا حُجَّةُ الْمُدَّعَى عليه في
الْأَصْلِ لِذَلِكَ قُضِيَ بِبَيِّنَةِ الشَّفِيعِ لَا بِبَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي
بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي في قَدْرِ الثَّمَنِ
لِأَنَّ هُنَاكَ الْبَائِعَ هو الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ في الْخُصُومَةِ
إنْ شَاءَ خَاصَمَ وَإِنْ شَاءَ لَا وَفِيمَا إذَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ
الْمَبِيعِ الْمُدَّعِي هو الْمُشْتَرِي
أَلَا تَرَى لو تَرَكَ الْخُصُومَةَ يُتْرَكُ وَكَذَا في بَابِ النِّكَاحِ
الْمُدَّعِي في الْحَقِيقَةِ هو الْمَرْأَةُ لِمَا قُلْنَا فَهُوَ الْفَرْقُ وَوَجْهٌ
آخَرُ من الْفَرْقِ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الشُّفْعَةِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ
اخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعِينَ في أَجَلِ الثَّمَنِ في أَصْلِ الْأَجَلِ أو في
قَدْرِهِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي
لِأَنَّهَا تُظْهِرُ الزِّيَادَةَ وَكَذَا لو اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لم يَمْضِ لِأَنَّهَا
تُظْهِرُ زِيَادَةً
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ اخْتِلَافُهُمَا في الْمُسَلَّمِ فيه في قَدْرِهِ أو
جِنْسِهِ أو صِفَتِهِ مع اتِّفَاقِهِمَا على رَأْسِ الْمَالِ وَأَقَامَا
الْبَيِّنَةَ بَعْدَ تَفَرُّقِهِمَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ
وَيُقْضَى بِسَلَمٍ وَاحِدٍ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا على أَنَّ
الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ لم يَقْبِضْ إلَّا رَأْسَ مَالٍ وَاحِدِ وَإِنْ اخْتَلَفَا
قبل التَّفَرُّقِ فَكَذَلِكَ وَيُقْضَى بِسَلَمٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَأَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جميعا وَيُقْضَى
بِسَلَمَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتْ على
عَقْدٍ على حِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْبَدَلَيْنِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا جميعا وَيُقْضَى
بِسَلَمَيْنِ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا وَلَهُمَا أَنَّهُمَا اتَّفَقَا على
عَقْدٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ الْمَعْقُودِ عليه قَدْرًا أو
جِنْسًا أو صِفَةً وَبَيِّنَةُ رَبِّ السَّلَمِ تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ
أَقْوَى
وَلَوْ اخْتَلَفَا في رَأْسِ الْمَالِ في قَدْرِهِ أو جِنْسِهِ أو صِفَتِهِ مع
اتِّفَاقِهِمَا على الْمُسَلَّمِ فيه فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسَلَّمِ
إلَيْهِ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جميعا وَيُقْضَى
بِسَلَمَيْنِ وَالْحُجَجُ على نَحْوِ ما ذَكَرنَا هذا إذَا تَصَادَقَا أَنَّ
رَأْسَ الْمَالِ كان دَيْنًا فَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُ عَيْنٌ وَاخْتَلَفَا في
الْمُسَلَّمِ فيه فَإِنْ كان رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا وَاحِدَةً يُقْضَى بِسَلَمٍ
وَاحِدٍ كما إذَا قال رَبُّ السَّلَمِ أَسْلَمْت إلَيْك هذا الثَّوْبَ في كَرِّ
حِنْطَةٍ وقال الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ في كَرِّ شَعِيرٍ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ
رَبِّ السَّلَمِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ إذَا كان عَيْنًا وَاحِدَةً لَا يُمْكِنُ
أَنْ يُجْعَلَ عَقْدَيْنِ فَيُجْعَلُ عَقْدًا وَاحِدًا وَبَيِّنَةُ رَبِّ
السَّلَمِ تُظْهِرُ زِيَادَةً فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وإذا كان عَيْنَيْنِ
بِأَنْ قال رَبُّ السَّلَم أَسْلَمْت إلَيْك هذا الْفَرَسَ في كَرِّ حِنْطَةٍ وقال
الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ هذا الثَّوْبُ في كَرِّ شَعِيرٍ يقضي بِسَلَمَيْنِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عَقْدَيْنِ فَيُجْعَلُ
سَلَمَيْنِ
هذا كُلُّهُ
____________________
(6/241)
إذَا
كانت الدَّعْوَى دَعْوَى الْمِلْكِ فَأَمَّا دَعْوَى الْيَدِ بِأَنْ تَنَازَعَ
رَجُلَانِ في شَيْءٍ يَدَّعِيه كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ في يَدِهِ فَعَلَى
كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ على الْيَدِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على الْمُدَّعَى عليه
وَلِأَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ في نَفْسِهِ
فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ
أَقَامَا جميعا الْبَيِّنَةَ يُقْضَى بِكَوْنِهِ في أَيْدِيهمَا لِاسْتِوَائِهِمَا
في الْحُجَّة
وَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ صَارَ صَاحِبَ يَدٍ وَصَارَ مُدَّعَى
عليه وَإِنْ لم تَقُمْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ فَعَلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
الْيَمِينُ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُنْكِرُ دَعْوَى صَاحِبِ الْيَدِ فَيَحْلِفُ
هذا كُلُّهُ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَتَانِ على الْمِلْكِ أو على الْيَدِ فَأَمَّا
إذَا قَامَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ على الْمِلْكِ وَالْأُخْرَى على الْيَدِ
فَبَيِّنَةُ الْمِلْكِ أَوْلَى نَحْوُ ما إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ
على أَنَّ الدَّارَ له مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على
أنها في يَدِهِ مُنْذُ ثَلَاثِ سِنِينَ يُقْضَى بها لِلْخَارِجِ لِأَنَّ
الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ على الْمِلْكِ أَقْوَى لِأَنَّ الْيَدَ قد تَكُونُ
مُحِقَّةً وقد تَكُونُ مُبْطِلَةً كَيَدِ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْيَدُ
الْمُحِقَّةُ قد تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ وقد تَكُونُ يَدَ إعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ
فَكَانَتْ مُحْتَمِلَةً فَلَا تَصْلُحُ بَيِّنَتُهَا مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ
الْمِلْكِ
وَأَمَّا دَعْوَى النَّسَبِ فَالْكَلَامُ في النَّسَبِ في الْأَصْلِ في ثَلَاثَةِ
مَوَاضِعَ في بَيَانِ ما يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
النَّسَبُ وفي بَيَانِ صِفَةِ النَّسَبِ الثَّابِتِ أَمَّا ما يَثْبُتُ بِهِ
النَّسَبُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما يَثْبُتُ
بِهِ نَسَبُ الْوَلَدِ من الرَّجُلِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ ما يَثْبُتُ بِهِ نَسَبُهُ من الْمَرْأَةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَسَبُ الْوَلَدِ من الرَّجُلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا
بِالْفِرَاشِ وهو أَنْ تَصِيرَ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا له لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجْرُ
وَقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ أَيْ لِصَاحِبِ
الْفِرَاشِ إلَّا أَنَّهُ أَضْمَرَ الْمُضَافَ فيه اخْتِصَارًا كما في قَوْلِهِ عز
وجل { وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ } وَنَحْوِهِ وَالْمُرَادُ من الْفِرَاشِ هو الْمَرْأَةُ
فَإِنَّهَا تُسَمَّى فِرَاشَ الرَّجُلِ وَإِزَارَهُ وَلِحَافَهُ وفي التَّفْسِيرِ
في قَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ } أنها نِسَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ
فَسُمِّيَتْ الْمَرْأَةُ فِرَاشًا لِمَا أنها تُفْرَشُ وَتُبْسَطُ بِالْوَطْءِ
عَادَةً وَدَلَالَةُ الحديث من وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ أَحَدُهَا أَنَّ النبي عليه
السلام أَخْرُج الْكَلَامَ مُخْرَجَ الْقِسْمَةِ فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ
الْفِرَاشِ وَالْحَجْرَ لِلزَّانِي فَاقْتَضَى أَنْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ لِمَنْ
لَا فِرَاشَ له كما لَا يَكُونُ الْحَجْرُ لِمَنْ لَا زِنَا منه إذْ الْقِسْمَةُ
تَنْفِي الشَّرِكَةَ
وَالثَّانِي أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَعَلَ الْوَلَدَ لِصَاحِبِ
الْفِرَاشِ وَنَفَاهُ عن الزَّانِي بِقَوْلِهِ عليه السلام وَلِلْعَاهِرِ
الْحَجْرُ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ يُسْتَعْمَلُ في النَّفْيِ
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ جِنْسِ الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ فَلَوْ
ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدٍ لِمَنْ ليس بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ لم يَكُنْ كُلُّ جِنْسِ
الْوَلَدِ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ
فَعَلَى هذا إذَا زَنَى رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ
الزَّانِي لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ منه لِانْعِدَامِ الْفِرَاشِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ
فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ منها لِأَنَّ الْحُكْمَ في جَانِبِهَا يَتْبَعُ الْوِلَادَةَ
على ما نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وقد وُجِدَتْ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى رَجُلٌ عَبْدًا صَبِيًّا في يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُهُ من
الزِّنَا لم يَثْبُتْ منه كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فيه أو صَدَّقَهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ عَتَقَ عليه لِأَنَّهُ أَقَرَّ
أَنَّهُ مَخْلُوقٌ من مَائِهِ وَإِنْ مَلَكَ أُمَّهُ لم تَصِرْ أُمَّ وَلَدٍ له
لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَتْبَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ ولم يَثْبُتْ
وَكَذَلِكَ لو كان هذا الْعَبْدُ لِأَبِ الْمُدَّعِي أو عَمِّهِ لِمَا ذَكَرنَا
وَلَوْ كان لِابْنِ الْمُدَّعِي فقال هو ابْنِي من الزِّنَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه
وهو مخطىء ( ( ( مخطئ ) ) ) في قَوْلِهِ من الزِّنَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ
مُتَمَلِّكًا الْجَارِيَةَ عِنْدَنَا قُبَيْلَ الِاسْتِيلَادِ أو مُقَارِنًا له
وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوَطْءُ زِنًا مع ثُبُوتِ الْمِلْكِ وَلَوْ كان الْمُدَّعِي غير
الْأَبِ فقال هو ابْنِي منها ولم يَقُلْ من الزِّنَا فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى
ثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَيَكُونُ عَبْدًا لِمَوْلَى الْأُمِّ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا
يَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْحَالِ وإذا مَلَكَهُ الْمُدَّعِي يَثْبُتُ النَّسَبُ
وَيُعْتَقُ عليه لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْبُنُوَّةِ مُطْلَقًا عن الْجِهَةِ
مَحْمُولٌ على جِهَةٍ مُصَحِّحَةٍ لِلنَّسَبِ وَهِيَ الْفِرَاشُ إلَّا أَنَّهُ لم
يَظْهَرْ نَفَاذُهُ لِلْحَالِ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فإذا مَلَكَهُ زَالَ
الْمَانِعُ
وَكَذَلِكَ لو قال هو ابْنِي من نِكَاحٍ فَاسِدٍ أو شِرَاءٍ فَاسِدٍ وَادَّعَى
شُبْهَةً بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ أو قال أَحَلَّهَا لي اللَّهُ إنْ صَدَّقَهُ
الْمَوْلَى يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِنْ كَذَّبَهُ لم يَثْبُتْ النَّسَبُ ما دَامَ
عَبْدًا فإذا مَلَكَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيُعْتَقُ عليه لِأَنَّ الْعَقْدَ
الْفَاسِدَ مُلْحَقٌ بِالصَّحِيحِ في ثَبَاتِ النَّسَبِ وَكَذَلِكَ الشُّبْهَةُ
فيه مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ فَكَانَ هذا إقْرَارًا بِالنَّسَبِ بِجِهَةٍ
مُصَحِّحَةٍ لِلنَّسَبِ شَرْعًا إلَّا أَنَّهُ امْتَنَعَ ظُهُورُهُ لِلْحَالِ
لِحَقِّ الْمَوْلَى فإذا زَالَ ظَهَرَ وَعَتَقَ لِأَنَّهُ مِلْكُ ابْنِهِ وَإِنْ
مَلَكَ أُمَّهَا كانت أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّهُ وُجِدَ سَبَبُ أُمُومِيَّةِ
الْوَلَدِ وهو ثُبُوتُ النَّسَبِ بِنَاءً على وُجُودِ سَبَبِ الثُّبُوتِ وهو
الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ بِجِهَةٍ
____________________
(6/242)
مُصَحِّحَةٍ
له شَرْعًا إلَّا أنها تَوَقَّفَتْ على شَرْطِهَا وهو الْمِلْكُ وقد وُجِدَ
بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ لم يُوجَدْ سَبَبُ أُمُومِيَّةِ
الْوَلَدِ أَصْلًا لِانْعِدَامِ سَبَبِ ثُبُوتِ النَّسَبِ وهو الْإِقْرَارُ بِجِهَةٍ
مُصَحِّحَةٍ شَرْعًا
وَعَلَى هذا إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ على أَنَّ الْوَلَدَ من الزِّنَا من
فُلَانٍ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ منه وَيَثْبُتُ من الزَّوْجِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ
له
وَعَلَى هذا إذَا ادَّعَى رَجُلٌ صَبِيًّا في يَدِ امْرَأَةٍ فقال هو ابْنِي من
الزِّنَا وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هو من النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ من
الرَّجُلِ وَلَا من الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ من
الزِّنَا وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ النَّسَبَ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي النِّكَاحَ
وَالنِّكَاحُ لَا بُدَّ له من حُجَّةٍ
وَكَذَلِكَ لو كان الْأَمْرُ على الْعَكْس بِأَنْ ادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ
ابْنُهُ من النِّكَاحِ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ من الزِّنَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ قال الرَّجُلُ بَعْدَ ذلك في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ هو من النِّكَاحِ أو
قالت الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذلك في الْفَصْلِ الثَّانِي هو من النِّكَاحِ يَثْبُتُ
النَّسَبُ وَإِنْ كان ذلك مِنْهُمَا تَنَاقَضَا لِأَنَّ التَّنَاقُضَ سَاقِطُ
الِاعْتِبَارِ شَرْعًا في بَابِ النَّسَبِ كما هو سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا
في بَابِ الْعِتْقِ لِمَا ذَكَرنَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الثَّانِي فَنَسَبُ الْوَلَدِ من الْمَرْأَةِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ
سَوَاءٌ كان بِالنِّكَاحِ أو بِالسِّفَاحِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْفِرَاشِ إنَّمَا
عَرَفْنَاهُ بِالْحَدِيثِ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ أَيْ لِمَالِكِ الْفِرَاشِ وَلَا فِرَاشَ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا
مَمْلُوكَةٌ وَلَيْسَتْ بمالكه فَبَقِيَ الْحُكْمُ في جَانِبِهَا مُتَعَلِّقًا
بِالْوِلَادَةِ
وإذا عَرَفْت أَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ من الرَّجُلِ لَا يَثْبُتُ إلَّا إذَا صَارَتْ
الْمَرْأَةُ فِرَاشًا له فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ ما تَصِيرُ بِهِ الْمَرْأَةُ
فِرَاشًا وَكَيْفِيَّةِ عَمَلِهِ في ذلك فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْمَرْأَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا عَقْدُ النِّكَاحِ
وَالثَّانِي مِلْكُ الْيَمِينِ إلَّا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ
بِنَفْسِهِ لِكَوْنِهِ عَقْدًا مَوْضُوعًا لِحُصُولِ الْوَلَدِ شَرْعًا
قال النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَنَاكَحُوا تَوَالَدُوا تَكْثُرُوا
فَإِنِّي أُبَاهِي بِكُمْ الْأُمَمَ يوم الْقِيَامَةِ وَلَوْ بِالسَّقْطِ وَكَذَا
الناس يُقْدِمُونَ على النِّكَاحِ لِغَرَضِ التَّوَالُدِ عَادَةً فَكَانَ
النِّكَاحُ سَبَبًا مُفْضِيًا إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ فَكَانَ سَبَبًا لِثَبَاتِ
النَّسَبِ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَوِي فيه النِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَالْفَاسِدُ إذَا اتَّصَلَ
بِهِ الْوَطْءُ لِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ يَنْعَقِدُ في حَقِّ الْحُكْمِ
عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا لِوُجُودِ رُكْنِ الْعَقْدِ من أَهْلِهِ في مَحَلِّهِ
وَالْفَاسِدُ ما فَاتَهُ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الصِّحَّةِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ
انْعِقَادَهُ في حَقِّ الْحُكْمِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إلَّا أَنَّهُ يَمْنَعُ
من الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ
وَهَذَا لَا يَمْنَعُ ثَبَاتَ النَّسَبِ كَالْوَطْءِ في حَالَةِ الْحَيْضِ
وَالنِّفَاسِ وَسَوَاءٌ كانت الْمَنْكُوحَةُ حُرَّةً أو أُمَّةً لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ من فِرَاشِ الزَّوْجِيَّةِ لَا يَخْتَلِفُ
وَأَمَّا مِلْكُ الْيَمِينِ فَفِي أُمِّ الْوَلَدِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ مِلْكٌ يَقْصِدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً كَمِلْكِ
النِّكَاحِ فَكَانَ مُفْضِيًا إلَى حُصُولِ الْوَلَدِ كَمِلْكِ النِّكَاحِ إلَّا
أَنَّهُ أَضْعَفُ منه لِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِهِ ذلك مِثْلَ ما يُقْصَدُ
بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَكَذَا يَحْتَمِلُ النَّقْلُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ
وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ
وَأَمَّا في الْأَمَةِ فَلَا يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ بِالْإِجْمَاعِ حتى
لَا تَصِيرَ الْأَمَةُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْمِلْكِ بِلَا خِلَافٍ وَهَلْ تَصِيرُ
فِرَاشًا بِالْوَطْءِ اُخْتُلِفَ فيه
قال أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَا تَصِيرُ فِرَاشًا إلَّا
بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ من
غَيْرِ دَعْوَةٍ
وَعِبَارَةُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ في هذا الْبَابِ أَنَّ الْفِرَاشَ
ثَلَاثَةٌ فِرَاشٌ قَوِيٌّ وَفِرَاشٌ ضَعِيفٌ وَفِرَاشٌ وَسَطٌ فَالْقَوِيُّ فِرَاشُ
الْمَنْكُوحَةِ حتى يَثْبُتَ النَّسَبُ من غَيْرِ دَعْوَةٍ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا
بِاللِّعَانِ وَالْوَسَطُ فِرَاشُ أُمِّ الْوَلَدِ حتى يَثْبُتَ النَّسَبُ من
غَيْرِ دَعْوَةٍ وَيَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ
وَالضَّعِيفُ فِرَاشُ الْأَمَةِ حتى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ فيه إلَّا
بِالدَّعْوَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ منه لِحُصُولِ الْوَلَدِ من مَائِهِ
وَهَذَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ من غَيْرِ دَعْوَةٍ
لِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ قُصِدَ منه ذلك أو لَا
وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ لَا يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً
لِأَنَّهَا لَا تُشْتَرَى لِلْوَطْءِ عَادَةً بَلْ لِلِاسْتِخْدَامِ
وَالِاسْتِرْبَاحِ
وَلَوْ وَطِئَتْ فَلَا يُقْصَدُ بِهِ حُصُولُ الْوَلَدِ عَادَةً لِأَنَّ الْوَلَدَ
لَا يَحْصُلُ إلَّا بِتَرْكِ الْعَزْلِ وَالظَّاهِرُ في الْإِمَاءِ هو الْعَزْلُ
وَالْعَزْلُ بِدُونِ رِضَاهُنَّ مَشْرُوعٌ فَلَا يَكُونُ وَطْؤُهَا سَبَبًا
لِحُصُولِ الْوَلَدِ إلَّا بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى
علم ( ( ( علما ) ) ) بِقَرِينَةِ الدَّعْوَةِ أَنَّهُ وَطِئَهَا ولم يَعْزِلْ
عنها
وَالْوَطْءُ من غَيْرِ عَزْلٍ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ
حتى لو كان الْمَوْلَى وَطِئَهَا وَحَصَّنَهَا ولم يَعْزِلْ عنها لَا يَحِلُّ له
النَّفْيُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بَلْ تَلْزَمُهُ
الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارُ بِهِ
لِأَنَّهُ إذَا كان كَذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُهُ فَلَا يَحِلُّ له
نَفْيُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا وَطِئَهَا
____________________
(6/243)
وَحَصَّنَهَا
وَلَكِنْ عَزْل عنها أو لم يَعْزِلْ عنها وَلَكِنَّهُ لم يُحَصِّنْهَا قال أبو
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه يَحِلُّ له النَّفْيُ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَبُّ إلى أَنْ يَدْعُوَ إذَا كان وَطِئَهَا
ولم يَعْزِلْ عنها وَإِنْ لم يُحَصِّنْهَا
وقال مُحَمَّدٌ عليه الرَّحْمَةُ أَحَبُّ إلى أَنْ يُعْتَقَ وَلَدُهَا
وَيَسْتَمْتِعُ بِأُمِّهِ إلَى أَنْ يَقْرُبَ مَوْتُهُ فَيُعْتِقُهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا وَطِئَهَا ولم يَعْزِلْ عنها اُحْتُمِلَ
كَوْنُ الْوَلَدِ منه فَلَا يَحِلُّ له النَّفْيُ بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا لم يُحَصِّنْهَا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ من
غَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ بِالشَّكِّ لِأَنَّ غير الثَّابِتِ
بِيَقِينٍ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ كما أَنَّ الثَّابِتَ بِيَقِينٍ لَا يَزُولُ
بِالشَّكِّ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ من غَيْرِهِ لَا
يَلْزَمُهُ الْإِقْرَارُ بِهِ كما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِمَا
اُحْتُمِلَ كَوْنُهُ منه لَا يَجُوزُ له النَّفْيُ أَيْضًا كما قَالَهُ أبو
يُوسُفَ لَكِنْ يَسْلُكُ فيه مَسْلَكَ الِاحْتِيَاطِ فَيُعْتَقُ الْوَلَدُ
صِيَانَةً عن اسْتِرْقَاقِ الْحُرِّ عَسَى وَيَسْتَمْتِعُ بِأُمِّهِ لِأَنَّ
الِاسْتِمْتَاعَ بِالْأَمَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ مُبَاحٌ وَيُعْتِقُهَا عِنْدَ
مَوْتِهِ صِيَانَةً عن اسْتِرْقَاقِ الْحُرَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَسَى
وَيَسْتَوِي في فِرَاشِ الْمِلْكِ مِلْكُ كل الْمَحَلِّ وَبَعْضِهِ وَمِلْكُ
الذَّاتِ وَمِلْكُ الْيَدِ في ثُبُوتِ النَّسَبِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ في مِلْكِ رَجُلَيْنِ
فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ منه
لِأَنَّ ما له من الْمِلْكِ أَوْجَبَ النَّسَبَ بِقَدْرِهِ إلَّا أَنَّ النَّسَبَ
لَا يَتَجَزَّأُ فَمَتَى ثَبَتَ في الْبَعْضِ يَتَعَدَّى إلَى الْكُلِّ وَتَصِيرُ
الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ وَنِصْفُ
الْعُقْرِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ
وَهِيَ من مَسَائِلِ كِتَابِ الْعِتْقِ
وَلَوْ ادَّعَيَاهُ جميعا مَعًا فَهُوَ ابْنُهُمَا وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ
لَهُمَا
وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ هو ابن أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ
بِقَوْلِ الْقَائِفِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ خَلْقَ وَلَدٍ وَاحِدٍ من مَاءِ فَحْلَيْنِ مُسْتَحِيلٌ
عَادَةً
ما أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْعَادَةَ بِذَلِكَ إلَّا في
الْكِلَابِ على ما قِيلَ فَلَا يَكُونُ الْوَلَدُ إلَّا من أَحَدِهِمَا وَيُعْرَفُ
ذلك بِقَوْلِ الْقَائِفِ
فإن الشَّرْعَ وَرَدَ بِقَبُولِ قَوْلِ الْقَائِفِ في النَّسَبِ
فإنه روى أَنَّ قَائِفًا مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا تَحْتَ قَطِيفَةٍ
وَاحِدَةٍ قد غَطَّى وُجُوهَهُمَا
وَأَرْجُلُهُمَا بَادِيَةٌ فقال إنَّ هذه الْأَقْدَامَ يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا
فَسَمِعَ رسول اللَّهِ فَفَرِحَ بِذَلِكَ حتى كَادَتْ تَبْرُقُ أَسَارِيرُ
وَجْهِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
فَقَدْ اعْتَبَرَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلَ الْقَائِفِ حَيْثُ لم
يَرُدَّ عليه
بَلْ قَرَّرَهُ بِإِظْهَارِ الْفَرَحِ
وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإنه رُوِيَ أَنَّهُ وَقَعَتْ
هذه الْحَادِثَةُ في زَمَنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه فَكَتَبَ إلَى
شُرَيْحٍ لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا وَلَوْ بَيَّنَا لَبُيِّنَ لَهُمَا هو
ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم
يُنْقَل أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا لِأَنَّ سَبَبَ
اسْتِحْقَاقِ النَّسَبِ بِأَصْلِ الْمِلْكِ وقد وُجِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
فَيَثْبُتُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ حِصَّةٌ لِلنَّسَبِ ثُمَّ يَتَعَدَّى لِضَرُورَةِ
عَدَمِ التَّجَزِّي فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا على الْكَمَالِ
وَأَمَّا فَرَحُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَرْكُ الرَّدِّ
وَالنُّكُرِ فَاحْتُمِلَ أَنَّهُ لم يَكُنْ لِاعْتِبَارِهِ قَوْلَ الْقَائِفِ
حُجَّةً بَلْ لِوَجْهٍ آخَرَ وهو أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَطْعَنُونَ في نَسَبِ
أُسَامَةَ رضي اللَّهُ عنه وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْقِيَافَةَ فلما قال
الْقَائِفُ ذلك فَرِحَ رسول اللَّهِ لِظُهُورِ بُطْلَانِ قَوْلِهِمْ بِمَا هو
حُجَّةٌ عِنْدَهُمْ فَكَانَ فَرَحُهُ في الْحَقِيقَةِ بِزَوَالِ الطَّعْنِ بِمَا
هو دَلِيلُ الزَّوَالِ عِنْدَهُمْ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً
وَكَذَلِكَ لو كانت الْجَارِيَةُ بين ثَلَاثَةٍ أو أَرْبَعَةٍ أو خَمْسَةٍ
فَادَّعَوْهُ جميعا مَعًا فَهُوَ ابْنُهُمْ جميعا ثَابِتُ نَسَبِهِ منهم
وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لهم عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وقال أبو يُوسُفَ لَا
يَثْبُتُ من أَكْثَرَ من اثْنَيْنِ وقال مُحَمَّدٌ لَا يَثْبُتُ من أَكْثَرَ من
ثَلَاثَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ النَّسَبِ من
أَكْثَرَ من رَجُلٍ وَاحِدٍ لِمَا ذَكَرنَا لِلشَّافِعِيِّ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا
الْقِيَاسَ في رَجُلَيْنِ بِأَثَرِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه
فَبَقِيَ حُكْمُ الزِّيَادَةِ مَرْدُودًا إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْحَمْلَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ أَنْ يَكُون
ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ منهم يَجُوزُ أَنْ يُخْلَقَ من مَاءٍ على
حِدَةٍ وقد جاء عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ
النَّسَبَ من ثَلَاثَةٍ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ على الثَّلَاثَةِ في بَطْنٍ وَاحِدٍ
فَنَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ فَالشَّرْعُ الْوَارِدُ في الِاثْنَيْنِ يَكُونُ
وَارِدًا في الثَّلَاثَةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِثَبَاتِ النَّسَبِ لَا يَفْصِلُ بين
عَدَدِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمْسَةِ فَالْفَصْلُ بين عَدَدٍ وَعَدَدٍ يَكُونُ
تَحَكُّمًا من غَيْرِ دَلِيلٍ وَسَوَاءٌ كانت الْأَنْصِبَاءُ مُتَّفِقَةً أو
مُخْتَلِفَةً بِأَنْ كان لِأَحَدِهِمْ السُّدُسُ وَلِلْآخَرِ الرُّبْعُ
وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِلْآخَرِ ما بَقِيَ فَالْوَلَدُ ابْنُهُمْ جميعا
فَحُكْمُ النَّسَبِ لَا يَخْتَلِفُ لِأَنَّ سَبَبَ ثَبَاتِ النَّسَبِ هو أَصْلُ
الْمِلْكِ لَا صِفَةُ الْمَالِكِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَم
وَأَمَّا حُكْمُ الِاسْتِيلَادِ فَيَثْبُتُ في نَصِيبِ كل
____________________
(6/244)
وَاحِدٍ
بِقَدْرِ حِصَّتِهِ من الْمِلْكِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى نَصِيبِ غَيْرِهِ
وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ بين الْأَبِ وَالِابْنِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ
فَادَّعَيَاهُ جميعا مَعًا فَالْأَبُ أَوْلَى عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا جميعا وَجْهُ
قَوْلِهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وهو أَصْلُ الْمِلْكِ
فَيَسْتَوِيَانِ في الِاسْتِحْقَاقِ
وَلَنَا إن التَّرْجِيحَ لِجَانِبِ الْأَبِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ
حَقِيقَةً وَلَهُ حَقُّ تَمْلِيكِ النِّصْفِ الْآخِرِ وَلَيْسَ لِلِابْنِ إلَّا
مِلْكُ النِّصْفِ فَكَانَ الْأَبُ أَوْلَى وَيَتَمَلَّكُ نَصِيبَ الِابْنِ من
الْجَارِيَةِ بِالْقِيمَةِ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ في نَصِيبِهِ
لِأَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ في الْبَعْضِ دُونَ
الْبَعْضِ كما في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بين الْأَجْنَبِيَّيْنِ وَيَضْمَنُ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ نِصْفَ الْعُقْرِ لِأَنَّ الْوَطْءَ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا في قَدْرِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ حَصَلَ في غَيْرِ الْمِلْكِ كما في
الْأَجْنَبِيَّيْنِ يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْعُقْرِ لِلْآخَرِ
ثُمَّ يَكُون النِّصْفُ بِالنِّصْفِ قِصَاصًا كما في الْأَجَانِبِ وَهَذَا
بِخِلَافِ حَالَةِ الِانْفِرَادِ فإن أَمَةً الرجل ( ( ( لرجل ) ) ) إذَا جَاءَتْ
بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَبُوهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَلَا عُقْرَ عليه عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مُتَمَلِّكًا الْجَارِيَةَ
ضَرُورَةَ صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ سَابِقًا عليه أو مُقَارِنًا له لِانْعِدَامِ
حَقِيقَةِ الْمِلْكِ فَجُعِلَ الْوَطْءُ في الْمِلْكِ وَهَهُنَا الِاسْتِيلَادُ
صَحِيحٌ بِدُونِ التَّمَلُّكِ لِقِيَامِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ في النِّصْفِ فَلَا
حَاجَةَ إلَى التَّمَلُّكِ لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَأَنَّهُ صَحِيحٌ بِدُونِهِ
وَإِنَّمَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ ثُبُوتِ الِاسْتِيلَادِ في نَصِيبِهِ لِأَنَّهُ
يَحْتَمِلُ التجزي ( ( ( التجزؤ ) ) ) على ما ذَكَرنَا هو الْفَرْقُ وَكَذَلِكَ
الْجَدُّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ
وَلَوْ كان بين الْجَدِّ وَالْحَافِدِ جَارِيَةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ
مَعًا وَالْأَبُ حَيٌّ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا جميعا لِأَنَّ الْجَدَّ حَالَ
قِيَامِ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ أَحَدُ
الْمَالِكِينَ وَأَبُ الْمَالِكِ الْآخَرِ فَالْمَالِكُ أَوْلَى لِأَنَّ له
حَقِيقَةَ الْمِلْكِ وَلِأَبٍ الْمَالِكِ الْآخَرِ حَقُّ التَّمَلُّكِ فَكَانَ
الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ أَوْلَى
هذا كُلُّهُ إذَا كان الشَّرِيكَانِ الْمُدَّعِيَانِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ
فَإِنْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّ
إثْبَاتَ النَّسَبِ منه أَنْفَعُ حَيْثُ يَصِلُ هو إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ
وَأُمُّهُ إلَى حَقِّ الْحُرِّيَّةِ
وَكَذَلِكَ لو كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا مُكَاتَبًا فَالْحُرُّ
أَوْلَى لِأَنَّ الْوَلَدَ يَصِلُ إلَى حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ وَلَوْ كان
أَحَدُهُمَا مُكَاتَبًا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى لِأَنَّهُ
حُرٌّ يَدًا فَكَانَ أَنْفَعَ لِلْوَلَدِ وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ يَثْبُتُ
النَّسَبُ مِنْهُمَا جميعا لَكِنْ هل يُشْتَرَطُ فيه تَصْدِيقُ الْمَوْلَى فيه
رِوَايَتَانِ وَمِنْهُمْ من وَفَّقَ بين الرِّوَايَتَيْنِ فَحَمَلَ شَرْطَ
التَّصْدِيقِ على ما إذَا كان الْعَبْدُ مَحْجُورًا وَحَمَلَ الْأُخْرَى على ما
إذَا كان مَأْذُونًا عَمَلًا بِهِمَا جميعا
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَالْآخَرُ ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا وهو رِوَايَةُ
الْحَسَنِ عن أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ النَّسَبَ حُكْمُ الْمِلْكِ وقد اسْتَوَيَا في الْمِلْكِ
فَيَسْتَوِيَانِ في حُكْمِهِ كما في سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ
بِالْمِلْكِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ من الْمُسْلِمِ أَنْفَعُ
لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا له وَكَذَلِكَ لو كان
أَحَدُهُمَا كِتَابِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا فَالْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ
النَّسَبُ مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الْمِلْكِ وفي الِاسْتِحْسَانِ
الْكِتَابِيُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْإِسْلَامِ من الْمَجُوسِيِّ
فَكَانَ أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا عَبْدًا مُسْلِمًا أو مُكَاتَبًا مُسْلِمًا وَالْآخَر
حُرًّا كَافِرًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّ هذا أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَسِبَ الْإِسْلَامَ بِنَفْسِهِ إذَا عَقَلَ وَلَا يُمْكِنُهُ
اكْتِسَابُ الْحُرِّيَّةِ بِحَالٍ وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا ذِمِّيًّا وَالْآخَرُ
مُرْتَدًّا فَهُوَ ابن الْمُرْتَدِّ لِأَنَّ وَلَدَ الْمُرْتَدِّ على حُكْمِ
الْإِسْلَامِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا بَلَغَ كَافِرًا يُجْبَرُ على الْإِسْلَامِ وإذا
أُجْبِرَ عليه فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُسْلِمُ فَكَانَ هذا أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ
هذا كُلُّهُ إذَا خَرَجَتْ دَعْوَةُ الشَّرِيكَيْنِ مَعًا فَأَمَّا إذَا سَبَقَتْ
دَعْوَةُ أَحَدِهِمَا في هذه الْفُصُولِ كُلِّهَا كَائِنًا من كان فَهُوَ أَوْلَى
لِأَنَّ النَّسَبَ إذَا ثَبَتَ من إنْسَانٍ في زَمَانٍ لَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ
من غَيْرِهِ بَعْدَ ذلك الزَّمَانِ
هذا إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ في مِلْكِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ
أَحَدُهُمَا أو ادَّعَيَاهُ جميعا
فَأَمَّا إذَا كان الْعُلُوقُ قبل الشِّرَاءِ بِأَنْ اشْتَرَيَاهَا وَهِيَ حَامِلٌ
فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا
فَأَمَّا حُكْمُ نَسَبِ الْوَلَدِ وَصَيْرُورَةُ الْجَارِيَةِ أُمَّ وَلَدٍ له
وَضَمَانُ نِصْفِ قِيمَةِ الْأُمِّ مُوسِرًا كان أو مُعْسِرًا فَلَا يَخْتَلِفُ
وَيَخْتَلِفُ حُكْمُ الْعُقْرِ وَالْوَلَدِ فَلَا يَجِبُ الْعُقْرُ هُنَا وَيَجِبُ
هُنَاكَ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالنَّسَبِ هُنَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا
بِالْوَطْءِ لِتَيَقُّنِنَا بِعَدَمِ الْعُلُوقِ في الْمِلْكِ بِخِلَافِ
الْأَوَّلِ وَالْوَلَدُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ أَعْتَقَهُ
أَحَدُهُمَا لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعُلُوقِ لم يَكُنْ في مِلْكِهِ فلم يَجُزْ
إسْنَادُ الدَّعْوَى إلَى حَالَةِ الْعُلُوقِ إلَّا أَنَّهُ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدٍ
بَعْضُهُ على مِلْكِهِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْإِعْتَاقِ
وَلَوْ أَعْتَقَ هذا
____________________
(6/245)
الْوَلَدَ
يَضْمَنُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ منه إنْ كان مُوسِرًا ولم يَضْمَنْ إنْ كان مُعْسِرًا
كَذَا هذا بِخِلَافِ ما إذَا عَلِقَتْ الْجَارِيَةُ في ملكهما ( ( ( ملكها ) ) )
لِأَنَّ هُنَاكَ اسْتَنَدَتْ الدَّعْوَةُ إلَى حَالِ الْعُلُوقِ فَسَقَطَ
الضَّمَانُ وَهُنَا لَا تَسْتَنِدُ فَلَا بُدَّ من إفْرَادِ الْوَلَدِ
بِالضَّمَانِ وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا
وَإِنْ ادَّعَيَاهُ فَهُوَ ابْنُهُمَا وَلَا عُقْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا على
صَاحِبِهِ كما في الْأَوَّلِ وَلَا يَفْتَرِقَانِ إلَّا في الْوَلَاءِ فَإِنْ
ثَبَتَ هُنَا لَا يَثْبُتُ هُنَاكَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ ثَمَّةَ دَعْوَةُ
الِاسْتِيلَادِ فَيُعَلَّقُ الْوَلَدُ حُرًّا وَالدَّعْوَةُ هُنَا دَعْوَةُ
تَحْرِيرٍ وَأَنَّهُ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ قال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ كانت الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَاةُ
زَوْجَةَ أَحَدِهِمَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ يَثْبُتُ
نَسَبُهُ من الزَّوْجِ من غَيْرِ دَعْوَةٍ لِأَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ
من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَقَدْ تَيَقَّنَّا أَنَّ عُلُوقَ الْوَلَدِ كان من
النِّكَاحِ وَعَقْدُ النِّكَاحِ يُوجِبُ الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ وَيَضْمَنُ نِصْفَ
قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له فَصَارَ مُتَمَلِّكًا
نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِالْقِيمَةِ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ
عَتَقَ عليه من غَيْرِ صُنْعِهِ
وَلَوْ اشْتَرَى إخوان جَارِيَةً حَامِلًا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ
أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَنَّ
دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فإذا ادَّعَاهُ فَقَدْ حَرَّرَهُ وَالتَّحْرِيرُ
إتْلَافُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ وَلَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ
على عَمِّهِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ من أَخِيهِ إعْتَاقٌ حَقِيقَةً
فَيُضَافُ الْعِتْقُ إلَيْهِ لَا إلَى الْقَرَابَةِ هذا إذَا وَلَدَتْ
الْجَارِيَةُ الْمُشْتَرَكَةُ وَلَدًا فَادَّعَاهُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ أو
ادَّعَيَاهُ جميعا فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَلَدًا على حِدَةٍ
فَنَقُولُ هذا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو إمَّا إن وَلَدَتْهُمَا في بَطْنٍ وَاحِدٍ
وَإِمَّا إن وَلَدَتْهُمَا في بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفِينَ وَالدَّعْوَتَانِ إمَّا إن
خَرَجَتَا جميعا مَعًا وَإِمَّا أَنْ سَبَقَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَإِنْ
وَلَدَتْ الْجَارِيَةُ الْوَلَدَيْنِ في بَطْنٍ وَاحِدٍ فَإِنْ خَرَجَتْ
الدَّعْوَتَانِ جميعا مَعًا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ مِنْهُمَا جميعا لِأَنَّ
دَعْوَةَ أَحَدِ التَّوْأَمَيْنِ دَعْوَةُ الْآخَرِ لِاسْتِحَالَةِ الْفَصْلِ
بَيْنَهُمَا في النَّسَبِ لِعُلُوقِهِمَا من مَاءٍ وَاحِدٍ فَكَانَتْ دَعْوَةُ
أَحَدِهِمَا دَعْوَةَ الْآخَرِ ضَرُورَةً وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ
ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ منه لِأَنَّهُ ثَبَتَ نَسَبُ المدعي وَمِنْ
ضَرُورَتِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ وَعَتَقَا جميعا لِعُلُوقِهِمَا حُرَّيْ الْأَصْلِ
وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ وَنِصْفَ
قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا وَلَدَتْهُمَا في بَطْنٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْهُمَا في
بَطْنَيْنِ مُخْتَلِفِينَ فَإِنْ خَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ جميعا مَعًا ثَبَتَ
نَسَبُ الْأَكْبَرِ من مُدَّعِي الْأَكْبَرِ بِلَا شَكٍّ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ
أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ
لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ الْأَصْغَرِ من مُدَّعِي
الْأَصْغَرِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إلَّا بِتَصْدِيقِ مُدَّعِي
الْأَكْبَرِ وفي الِاسْتِحْسَانِ يَثْبُتُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْجَارِيَةَ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُدَّعِي
الْأَكْبَرِ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْأَكْبَرِ منه فَمُدَّعِي الْأَصْغَرِ يَدَّعِي
وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ
وَمَنْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه إلَّا
بِتَصْدِيقِهِ ولم يُوجَدْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ غَيْرُ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ
حَيْثُ أَخَّرَ الدَّعْوَةَ إلَى دَعْوَتِهِ فَصَارَ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ
بِتَأْخِيرِ دَعْوَةِ الْأَكْبَرِ مَغْرُورًا من جِهَتِهِ وَوَلَدُ الْمَغْرُور
ثَابِتُ النَّسَبِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ وَعَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ الْعُقْرُ
لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ لَكِنَّ نَصِفَ الْعُقْرِ أو كُلَّهُ فَفِيهِ اخْتِلَافُ
الرِّوَايَتَيْنِ وَالتَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ لِأَنَّ رِوَايَةَ نِصْفِ
الْعُقْرِ على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ جَوَابُ حَاصِلِ ما عليه من الْعُقْر بَعْدَ
الْقِصَاصِ وهو النِّصْفُ
وَرِوَايَةُ الْكُلِّ بَيَانُ ما عليه قِبَلَهُ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ قد
غَرِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ فَالنِّصْفُ بِالنِّصْفِ
يَلْتَقِيَانِ قِصَاصًا فَلَا يَبْقَى على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ بَعْدَ
الْمُقَاصَّةِ إلَّا النِّصْفَ فَأَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بين الرِّوَايَتَيْنِ من
هذا الْوَجْهِ وَعَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ قِيمَةُ الْوَلَدِ الْأَصْغَرِ
لِأَنَّهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
فَإِذًا على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ نِصْفُ الْعُقْرِ وَكُلُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ
وَعَلَى مُدَّعِي الْأَكْبَرِ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ لِصَيْرُورَتِهَا أُمَّ
وَلَدٍ له فَيَصِيرُ نِصْفُ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الذي على مُدَّعِي الْأَكْبَرِ
قِصَاصًا بِنِصْفِ الْعُقْرِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ الذي على مُدَّعِي الْأَصْغَرِ
وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ
هذا إذَا خَرَجَتْ الدَّعْوَتَانِ جميعا مَعًا فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرَ
وَالْآخَرُ الْأَصْغَرَ فَأَمَّا إذَا سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالدَّعْوَةِ فَإِنْ
ادَّعَى السَّابِقُ الْأَكْبَرَ أَوَّلًا فَقَدْ ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ منه
وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَغَرِمَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ
قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ
بَعْدَ ذلك إذَا ادَّعَى الْآخَرُ الْأَصْغَرَ فَقَدْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ
الْغَيْرِ فَلَا بُدَّ من التَّصْدِيقِ لِثَبَاتِ النَّسَبِ فَإِنْ صَدَّقَهُ
ثَبَتَ النَّسَبُ وَيَكُونُ على حُكْمِ أُمِّهِ
وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ
هذا إذَا ادَّعَى السَّابِقُ بِالدَّعْوَةِ الْأَكْبَرَ
____________________
(6/246)
أَوَّلًا
فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَصْغَرَ أَوَّلًا ثَبَتَ نَسَبُ الْأَصْغَرِ منه
وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا
وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ الْآخَرِ وَالْأَكْبَرُ يعد رَقِيقٌ بَيْنَهُمَا
لِأَنَّهُ وَلَدُ جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ بَيْنَهُمَا لم يَدَّعِهِ أَحَدٌ فإذا
ادَّعَاهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ بَعْدَ ذلك صَارَ كَعَبْدٍ بين اثْنَيْنِ
أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ منه وَالشَّرِيكُ
الْآخَرُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ
الْمُعْتِقَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كان مُوسِرًا وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ
خِيَارُ الْإِعْتَاقِ وَالِاسْتِسْعَاءِ لَا غَيْرُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إنْ كان مُوسِرًا
فَلَهُ تَضْمِينُ الْمُوسِرِ لَا غَيْرُ وَإِنْ كان مُعْسِرًا فَلَهُ
الِاسْتِسْعَاءُ على ما عُلِمَ في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرُ ابْنِي وَالْأَصْغَرُ ابن شَرِيكِي ثَبَتَ
نَسَبُ الْأَكْبَرِ منه وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَضَمِنَ نِصْفَ
قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْف الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ وَالْأَصْغَرُ وَلَدُ أُمِّ
وَلَدِهِ أَقَرَّ بِنَسَبِهِ لِشَرِيكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ شَرِيكُهُ ثَبَتَ
نَسَبُهُ منه وَلَا يُعْتَقُ وَإِنْ كَذَّبَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ
وَكَذَلِكَ لو قَدَّمَ وَأَخَّرَ بِأَنْ قال الْأَصْغَرُ ابْنِي وَالْأَكْبَرُ ابن
شَرِيكِي ثَبَتَ نَسَبُ الْأَصْغَرِ منه وَنَسَب الْأَكْبَرِ مَوْقُوفٌ على
تَصْدِيقِ شَرِيكِهِ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا الْأَصْغَرُ ابْنِي وَالْأَكْبَرُ ابن شَرِيكِي أو قَدَّمَ
وَأَخَّرَ فقال الْأَكْبَرُ ابن شَرِيكِي وَالْأَصْغَرُ ابْنِي ثَبَتَ نَسَبُ
الْأَصْغَرِ منه وَعَتَقَ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَعَتَقَ
وَضَمِنَ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَنِصْفَ الْعُقْرِ وَنَسَبُ
الْأَكْبَرِ مَوْقُوفٌ على تَصْدِيقِ شَرِيكِهِ فَإِنْ صَدَّقَهُ ثَبَتَ النَّسَبِ
منه وَيَغْرَمُ لِمُدَّعِي الْأَصْغَرِ نِصْفَ قِيمَةِ الْأَكْبَرِ وَإِنْ كَذَّبَهُ
صَارَ كَعَبْدٍ بين شَرِيكَيْنِ شَهِدَ أَحَدُهُمَا على صَاحِبِهِ بِالْإِعْتَاقِ
وَكَذَّبَهُ صَاحِبُهُ لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَلَوْ وَلَدَتْ جَارِيَةٌ في يَدِ إنْسَانٍ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فَادَّعَى
أَحَدُهُمْ فَنَقُولُ لَا يَخْلُو إمَّا إنْ وُلِدُوا في بَطْنٍ وَاحِدٍ وَإِمَّا
إنْ وُلِدُوا في بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ وَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمْ
بِعَيْنِهِ وَإِمَّا إنْ ادَّعَى أَحَدُهُمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَإِنْ وُلِدُوا في
بَطْنٍ وَاحِدٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فقال أَحَدُ هَؤُلَاءِ
ابْنِي أو عَيَّنَ وَاحِدًا منهم فقال هذا ابْنِي عَتَقُوا وَثَبَتَ نَسَبُ
الْكُلِّ منه لِأَنَّ من ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمْ ثُبُوتُ نَسَبِ
الْبَاقِينَ لِأَنَّهُمْ تَوْأَمٌ عَلِقُوا من مَاءٍ وَاحِدٍ فَلَا يُفْصَلُ بين
الْبَعْضِ وَالْبَعْضِ في النَّسَبِ
وإذا ثَبَتَ نَسَبُهُمْ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له
هذا إذَا وُلِدُوا في بَطْنٍ وَاحِدٍ
وَأَمَّا إذَا وُلِدُوا في بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فقال الْأَكْبَرُ وَلَدِي ثَبَتَ
نَسَبُهُ منه وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَهَلْ يَثْبُتُ نَسَبُ
الْأَوْسَطِ وَالْأَصْغَرِ الْقِيَاسُ أَنْ يَثْبُتَ وهو قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَيَكُونُ حُكْمُهُمَا حُكْمَ الْأُمِّ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَثْبُتُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ الْأَكْبَرِ فَقَدْ
صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له فَكَانَ الْأَوْسَطُ وَالْأَصْغَرُ وَلَدَ
أُمِّ الْوَلَدِ وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ من مَوْلَاهَا من
غَيْرِ دَعْوَةٍ ما لم يُوجَدْ النَّفْيُ منه ولم يُوجَدْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النَّفْيَ فيه وَإِنْ لم يُوجَدْ نَصًّا فَقَدْ
وُجِدَ دَلَالَةً وهو الْإِقْدَامُ على تَخْصِيصِ أَحَدِهِمْ بِالدَّعْوَةِ فإن
ذلك دَلِيلُ نَفْيِ الْبَوَاقِي إذْ لو لم يَكُنْ كَذَلِكَ لم يَكُنْ لِتَخْصِيصِ
الْبَعْضِ مع اسْتِوَاءِ الْكُلِّ في اسْتِحْقَاقِ الدَّعْوَةِ مَعْنًى
هذا إذَا ادَّعَى الْأَكْبَرُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَوْسَطُ فَهُوَ حُرٌّ
ثَابِتُ النَّسَبِ منه وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَالْأَكْبَرُ
رَقِيقٌ لِأَنَّهُ وَلَدٌ على مِلْكِهِ ولم يَدَّعِهِ أَحَدٌ وَهَلْ يَثْبُتُ
نَسَبُ الْأَصْغَرِ فَهُوَ على ما ذَكَرنَا من الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانُ
هذا إذَا ادَّعَى الْأَوْسَطُ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْأَصْغَرُ فَهُوَ حُرٌّ
ثَابِتُ النَّسَبِ وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ له وَالْأَكْبَرُ وَالْأَوْسَطُ
رَقِيقَانِ لِمَا ذَكَرنَا
هذا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمْ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى بِغَيْرِ عَيْنِهِ
فقال أَحَدُ هَؤُلَاءِ ابن ( ( ( ابني ) ) ) فَإِنْ بَيَّنَ فَالْحُكْمُ فيه ما
ذَكَرنَا وَإِنْ مَاتَ قبل الْبَيَانِ عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ بِلَا شَكٍّ
لِأَنَّهُ لَمَّا ادَّعَى نَسَبَ أَحَدِهِمْ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّ الْجَارِيَةَ
أُمُّ وَلَدٍ له وَأُمُّ الْوَلَدِ تُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ
وَأَمَّا حُكْمُ الْأَوْلَادِ في الْعِتْقِ فَقَدْ ذَكَرنَا الِاخْتِلَافَ فيه بين
أبي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عليهم في كِتَابِ
الْعَتَاقِ
عَبْدٌ صَغِيرٌ بين اثْنَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَاهُ الْآخَرُ
ثَبَتَ نَسَبُهُ منه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَنِصْفُ ولأنه ( ( (
ولائه ) ) ) لَلْآخَرِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِنَاءً على أَنَّ
الْإِعْتَاقَ يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ فَيَبْقَى نَصِيبُ الْمُدَّعِي على مِلْكِهِ
فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ فيه وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَيُعْتَقُ الْكُلُّ فلم
يَبْقَ لِلْمُدَّعِي فيه مِلْكٌ فلم تَصِحَّ دَعْوَتُهُ
وَإِنْ كان الْعَبْدُ كَبِيرًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُ
يَبْقَى الْمِلْكُ له في نَصِيبِهِ وَعِنْدَهُمَا إنْ صَدَّقَهُ الْعَبْدُ ثَبَتَ
النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ عَتَقَ كُلُّهُ بِإِعْتَاقِ الْبَعْضِ فَلَا
بُدَّ من تَصْدِيقِهِ
وَيُخَرَّجُ على الْأَصْلِ الذي ذَكَرْنَا دَعْوَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَدَ
جَارِيَةٍ من أَكْسَابِهِ أنها تَصِحُّ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوُلْدِ منه لِأَنَّ
مِلْكَ الْيَدِ ثَابِتٌ له وَأَنَّهُ كَافٍ لِثَبَاتِ
____________________
(6/247)
النَّسَبِ
وَلَوْ ادَّعَى الْمُضَارِبُ وَلَدَ جَارِيَةِ الْمُضَارَبَةِ لم تَصِحَّ
دَعْوَتُهُ إذَا لم يَكُنْ في الْمُضَارِبِ رِبْحٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِثَبَاتِ
النَّسَبِ من مِلْكٍ وَلَا مِلْكَ لِلْمُضَارِبِ أَصْلًا لَا مِلْكُ الذَّاتِ
وَلَا مِلْكُ الْيَدِ إذَا لم يَكُنْ في الْمُضَارَبَةِ رِبْحٌ
وَلَوْ ادَّعَى وَلَدًا من جَارِيَةٍ لِمَوْلَاهُ ليس من تِجَارَتِهِ وَادَّعَى
أَنَّ مَوْلَاهَا أَحَلَّهَا له أو زَوَّجَهَا منه لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه
إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عن مِلْكِ الْمَوْلَى
لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ له فيه أَصْلًا فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الْأَجَانِبِ إلَّا
في الْحَدِّ فَإِنْ كَذَّبَهُ الْمَوْلَى ثُمَّ عَتَقَ فَمَلَكَ الْجَارِيَةَ
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ نَفَذَتْ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِجِهَةٍ
مُصَحِّحَة لِلنَّسَبِ لَكِنْ تَوَقَّفَ نَفَاذُهُ لِحَقِّ الْمَوْلَى وقد زَالَ
وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَأْذُونُ حُرَّةً أو أَمَةً فَوَطِئَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ
منه سَوَاءٌ كان النِّكَاحُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أو لَا لِأَنَّ النَّسَبَ ثَبَتَ
بِالنِّكَاحِ صَحِيحًا كان أو فَاسِدًا وَعَلَى هذا دَعْوَةُ الْمُكَاتَبِ وَلَدَ
جَارِيَةٍ من أَكْسَابِهِ صَحِيحَةً لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ
ثَابِتٌ له كَالْمَأْذُونِ
وإذا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ منه لم يَجُزْ بَيْعُ الْوَلَدِ وَلَا بَيْعُ
الْجَارِيَةِ أَمَّا الْوَلَدُ فَلِأَنَّهُ مُكَاتَبٌ عليه وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ
الْمُكَاتَبِ وَأَمَّا الْأُمُّ فَلِأَنَّهُ له فيها حَقُّ مِلْكٍ يَنْقَلِبُ ذلك
الْحَقُّ حَقِيقَةً عِنْدَ الْأَدَاءِ فَمُنِعَ من بَيْعِهَا وَالْعَبْدُ
الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ سَوَاءٌ في دَعْوَى النَّسَبِ وَكَذَا الْمُكَاتَبُ
الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُنَافِي النَّسَبَ
وَيَسْتَوِي في دَعْوَتِهِ الِاسْتِيلَادَ وُجُودُ الْمِلْكِ وَعَدَمُهُ عِنْدَ
الدَّعْوَةِ بَعْدَ أَنْ كان الْعُلُوقُ في الْمِلْكِ فَإِنْ كان الْعُلُوقُ في
غَيْرِ الْمِلْكِ كانت دَعْوَتُهُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ فَيُشْتَرَطُ قِيَامُ
الْمِلْكِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ فَإِنْ كان في مِلْكِهِ يَصِحُّ وَإِنْ كان في
مَلَكِ غَيْرِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشَرْطِ التَّصْدِيقِ أو الْبَيِّنَةِ
فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الدَّعْوَةَ نَوْعَانِ دَعْوَةُ
الِاسْتِيلَادِ وَدَعْوَةُ تَحْرِيرٍ فَدَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ هِيَ أَنْ يَكُونَ
عُلُوقُ المدعي في مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَسْتَنِدُ إلَى
وَقْتِ الْعُلُوقِ وَتَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ
عَلِقَ حُرًّا وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ هو أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ المدعي في غَيْرِ
مِلْكِ الْمُدَّعِي وَهَذِهِ الدَّعْوَةُ تَقْتَصِرُ على الْحَالِ وَلَا
تَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْوَطْءِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا وَلَدَتْ جَارِيَةٌ في مِلْكِ رَجُلٍ
لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا فلم يَدَّعِ الْوَلَدَ حتى بَاعَ الْأُمَّ
وَالْوَلَدَ ثُمَّ ادَّعَى الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ منه
وَعَتَقَ وَظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدٍ له وَيَبْطُلُ الْبَيْعُ في
الْجَارِيَةِ وفي وَلَدِهَا وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وفي الْقِيَاسِ أَنْ لَا تَصِحَّ
دَعْوَتُهُ وَلَا يَثْبُتَ النَّسَبُ لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ ليس بِشَرْطٍ
لِصِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ عُلُوقُ الْوَلَدِ في
الْمِلْكِ لِأَنَّ هذه الدَّعْوَةَ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ فإذا كان
عُلُوقُ الْوَلَدِ في مِلْكِ الْمُدَّعِي فَقَدْ ثَبَتَ له حَقُّ اسْتِحْقَاقِ
النَّسَبِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ كما لَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ
النَّسَبِ فلم يَبْطُلْ الْبَيْعُ وَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ
كانت أُمَّ وَلَدٍ فلم يَصِحَّ بَيْعُهَا وَبَيْعُ وَلَدِهَا فَيَرُدُّهَا
وَوَلَدَهَا وَيَرُدُّ الثَّمَنَ وَلَوْ لم يَدَّعِهِ الْبَائِعُ حتى خَرَجَ عن
مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ يُنْظَرُ إنْ كان ذلك يَحْتَمِلُ
الْفَسْخَ يَفْسَخُ وَإِنْ لم يَحْتَمِلْهُ لَا يَفْسَخُ إلَّا لِضَرُورَةٍ
فَنَقُولُ بَيَانُهُ إذَا كان الْمُشْتَرِي بَاعَ الْوَلَدَ أو وَهَبَهُ أو رَهْنه
أو آجَرَهُ أو كَاتَبَهُ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ نَقَضَ ذلك وَثَبَتَ النَّسَبُ
لِأَنَّ هذه التَّصَرُّفَاتِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَالنَّقْضَ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمُشْتَرِي بَاعَ الْأُمَّ أو كَاتَبَهَا أو رَهَنَهَا أو
آجَرَهَا أو زَوَّجَهَا لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان أَعْتَقَهَا أو أَعْتَقَ الْوَلَدَ لم تَصِحَّ دَعْوَةِ الْبَائِعِ
لِأَنَّ الْعِتْقَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْبُطْلَانَ إلَّا
لِضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ يَعْقُبُهُ أثرا ( ( ( أثر ) ) ) لَا يَحْتَمِلُ
الْبُطْلَانَ وهو الْوَلَاءُ
وَكَذَلِكَ لو مَاتَ الْوَلَدُ أو قُتِلَ لِأَنَّ الْمَيِّتَ مُسْتَغْنٍ عن
النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ لو كان الْمُشْتَرِي بَاعَ الْوَلَدَ فَأَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي أو
دَبَّرَهُ أو مَاتَ عَبْدُهُ لم تَصِحَّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْأُمَّ أو دَبَّرَهَا دُونَ الْوَلَدِ صَحَّتْ
دَعْوَتُهُ في الْوَلَدِ ولم تَصِحَّ في الْأُمِّ وَفُسِخَ الْبَيْعُ في الْوَلَدِ
وَلَا يُفْسَخُ في الْأُمِّ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الْفَسْخِ خَصَّ الْأُمَّ وَلَا
تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له لِأَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ لَيْسَتْ من
لَوَازِمِ ثَبَاتِ النَّسَبِ بَلْ تَنْفَصِلُ عنه في الْجُمْلَةِ كَمَنْ
اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ الْغَيْرِ بِالنِّكَاحِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ منه
وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له لِلْحَالِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَهَا
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ وإذا فُسِخَ الْبَيْعُ في الْوَلَدِ يَرُدُّ الْبَائِعُ من
الثَّمَنِ حِصَّةَ الْوَلَدِ فَيُقَسَّم الثَّمَنُ على قَدْرِ قِيمَتِهِمَا
فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْأُمِّ يوم الْعَقْدِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يوم
الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا صَارَ وَلَدًا بِالْوِلَادَةِ فَتُعْتَبَرُ
قِيمَتُهُ يَوْمئِذٍ فَيَسْقُطُ قَدْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ وَيَرُدُّ قَدْرَ قِيمَةِ
الْوَلَدِ
وَلَوْ كانت قُطِعَتْ يَدُ الْوَلَد عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَأَخَذَ أَرْشَهَا ثُمَّ
ادَّعَاهُ الْبَائِعُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وسلم الْأَرْشَ لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ هذه
دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ وَأَنَّهَا تَسْتَنِدُ إلَى
____________________
(6/248)
وَقْتِ
الْعُلُوقِ وَمِنْ شَأْنِ الْمُسْتَنِدِ أَنْ يَثْبُتَ لِلْحَالِ أَوَّلًا ثُمَّ
يَسْتَنِدُ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَحَلِّ لِلْحَالِ لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِ
الْحُكْمِ في الْهَالِكِ وَالْيَدُ الْمَقْطُوعَةُ هَالِكَةٌ فَلَا يُمْكِنُ
تَصْحِيحُ الدَّعْوَةِ فيها بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ وَيَسْقُطُ عن الْبَائِعِ من
الثَّمَنِ حِصَّةُ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ سَلَّمَ الْبَدَلَ لِلْمُشْتَرِي وهو
الْأَرْشُ
وَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ
وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ مَحَلَّ النَّسَبِ قَائِمٌ وهو الْوَلَدُ
وَأُمُومِيَّةُ الْوَلَدِ لَيْسَتْ من لَوَازِمِ ثُبُوتِ النَّسَبِ لِمَا
تَقَدَّمَ فَثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ
وَإِنْ لم تَصِرْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ له وَهَلْ يَرُدُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ نعم وَعِنْدَهُمَا لَا يَرُدُّ إلَّا قَدْرَ قِيمَةِ
الْوَلَدِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَتَانِ وَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ على قَدْرِ
قِيمَتِهِمَا فما أَصَابَ قِيمَةَ الْأُمِّ يَسْقُطُ وما أَصَابَ قِيمَةَ
الْوَلَدِ يُرَدُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْجَارِيَةَ أُمُّ وَلَدِهِ وَمَنْ
بَاعَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ هَلَكَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً
عليه عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عليه
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ غَيْرُ مُتَقَوَّمَةٍ من حَيْثُ
إنَّهَا مَالٌ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا مُتَقَوَّمَةٌ وَهِيَ من مَسَائِلِ الْعَتَاقِ
وَعَلَى هذا إذَا بَاعَهَا وَالْحَمْلُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَوَلَدَتْ في يَدِ
الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ
وَعَلَى هذا إذَا حَمَلَتْ الْجَارِيَةُ في مِلْكِهِ فَبَاعَهَا وَهِيَ حَامِلٌ
فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ
الْبَائِعُ
هذا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا فَأَمَّا إذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ في بَطْنٍ وَاحِدٍ
فَادَّعَى الْبَائِعُ فَإِنْ ادَّعَاهُمَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدَيْنِ منه
وَهَذَا ظَاهِرٌ
وَكَذَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَلَزِمَهُ الْوَلَدَانِ
جميعا لِمَا مَرَّ أَنَّ التَّوْأَمَيْنِ لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَصْلَ في
النَّسَبِ لِانْخِلَاقِهِمَا من مَاءٍ وَاحِدٍ
فَإِنْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا لِأَقَلَّ من سنة ( ( ( ستة ) ) ) وَالْآخَرَ
لِأَكْثَرَ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَى أَحَدَهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا
وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَلَدَتْهُمَا جميعا عِنْدَ الْبَائِعِ لِأَقَلَّ من
سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّهُمَا كَانَا جميعا في الْبَطْنِ وَقْتَ الْبَيْعِ
وَلَوْ وَلَدَتْهُمَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَبَاعَ أَحَدَ الْوَلَدَيْنِ مع الْأُمِّ
ثُمَّ ادَّعَى الْوَلَدَ الذي عِنْدَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَنَسَبُ الْوَلَدِ
الْمَبِيعِ أَيْضًا سَوَاءٌ كان الْمُشْتَرِي ادَّعَاهُ أو أَعْتَقَهُ لِمَا
ذَكَرنَا أَنَّهُمَا لَا يَحْتَمِلَانِ الْفَصْلَ في ثَبَاتِ النَّسَبِ فَمِنْ
ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ
وَكَذَلِكَ لو وَلَدَتْهُمَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَأَعْتَقَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ
ادَّعَى الْبَائِعُ الْآخَرَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جميعا وَيُنْتَقَضُ الْعِتْقُ
ضَرُورَةً فَرْقًا بين الْوَلَدِ وَبَيْنَ الْأُمِّ أَنَّهُ لو كان أَعْتَقَ
الْأُمَّ فَادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ لَا يُنْتَقَضُ الْعِتْقُ في الْأُمِّ
وَيُنْتَقَضُ في الْوَلَدِ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ مَقْصُودًا
وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُهُ لِلضَّرُورَةِ
وفي الْوَلَدِ ضَرُورَةُ عَدَمِ الِاحْتِمَالِ لِلِانْفِصَالِ في النَّسَبِ وَلَا
ضَرُورَةَ في الْأُمِّ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ أُمُومِيَّةَ الْوَلَدِ تَنْفَصِلُ عن
إثْبَاتِ النَّسَبِ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ ثَبَتَ
نَسَبُهُمَا وكان الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي لَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ
الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ على الدَّعْوَةِ قبل الْبَيْعِ فَتَكُونُ له لِمَا
ذَكَرنَا أَنَّ ما ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنَادِ ثَبَتَ في الْحَالِ ثُمَّ
يَسْتَنِدُ فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمَحَلِّ لِلْحَالِ وَالْيَدُ الْمَقْطُوعَةُ
هَالِكَةٌ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُ الدَّعْوَةِ فيها
وَلَوْ قُتِلَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَاهُمَا الْبَائِعُ ثَبَتَ نَسَبَهُمَا
وَكَانَتْ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ لَا لِلْمُشْتَرِي
فَرْقًا بين الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَحَلَّ حُكْمِ الدَّعْوَةِ مَقْصُودًا هو النَّفْسُ
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ في الْأَطْرَافِ تَبَعًا لِلنَّفْسِ وَبِالْقَطْعِ
انْقَطَعَتْ التَّبَعِيَّةُ فَلَا يَظْهَرُ حُكْمُ الدَّعْوَةِ فيها فَسَلِمَ
الْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي وَنَفْسُ كل وَاحِدٍ من التَّوْأَمَيْنِ أَصْلٌ في حُكْمِ
الدَّعْوَةِ فَمَتَى صَحَّتْ في أَحَدِهِمَا تَصِحُّ في الْآخَرِ
وَإِنْ كان مَقْتُولًا ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا
في النَّسَبِ وَمَتَى صَحَّتْ الدَّعْوَةُ اسْتَنَدَتْ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ
لِأَنَّهَا دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمَا عَلِقَا حُرَّيْنِ
فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تَجِبَ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ لَا الْقِيمَةُ
إلَّا أَنَّهُ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ لِأَنَّ صِحَّةَ هذه الدَّعْوَةِ بِطَرِيقِ
الِاسْتِنَادِ وَالْمُسْتَنَدِ يَكُونُ ظَاهِرًا من وَجْهٍ مُقْتَصَرًا على
الْحَال من وَجْهٍ فَعَمِلْنَا بِالشَّبَهَيْنِ فَأَوْجَبْنَا الْقِيمَةَ عَمَلًا
بِشَبَهِ الِاقْتِصَادِ وَجَعَلْنَا الْوَاجِبَ لِوَرَثَةِ الْمَقْتُولِ عَمَلًا
بِشَبَهِ الظُّهُورِ عَمَلًا بِالدَّلِيلَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَكَذَلِكَ
لو أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي أَحَدَهُمَا ثُمَّ قُتِلَ وَتَرَكَ مِيرَاثًا فَأَخَذَ
دِيَتَهُ وَمِيرَاثَهُ بِالْوَلَاءِ ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَيْنِ فإنه
يُقْضَى بِالْحَيِّ وَأُمِّهِ لِلْبَائِعِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ
الْمَقْتُولِ منه وَيَأْخُذُ الدِّيَةَ وَالْمِيرَاثَ من الْمُشْتَرِي لِمَا
قُلْنَا
هذا إذَا وَلَدَتْ في يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ من وَقْتِ
الْبَيْعِ فَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لم تَصِحَّ دَعْوَةُ
الْبَائِعُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّا لم نَتَيَقَّنْ
بِالْعُلُوقِ في الْمِلْكِ فلم يُمْكِنْ تَصْحِيحُ هذه الدَّعْوَةِ دَعْوَةَ
اسْتِيلَادٍ فَتُصَحَّحُ دَعْوَةَ تَحْرِيرٍ وَيُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ هذه
الدَّعْوَةِ قِيَامُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي وَقْتَ الدَّعْوَةِ ولم يُوجَدْ فَلَا
تَصِحُّ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي فَتَصِحُّ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ
عبد غَيْرِهِ وقد صَدَّقَهُ الْغَيْرُ في ذلك فَثَبَتَ نَسَبُهُ وَيَكُونُ عَبْدًا
لِمَوْلَاهُ
وَلَوْ
____________________
(6/249)
ادَّعَى
الْمُشْتَرِي نَسَبَهُ بَعْدَ تَصْدِيقِهِ الْبَائِعَ لم يَصِحَّ لِمَا مَرَّ
أَنَّ النَّسَبَ مَتَى ثَبَتَ لِإِنْسَانٍ في زَمَانٍ لَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ
من غَيْرِهِ بَعْدَ ذلك هذا كُلِّهِ إذَا كانت الدَّعْوَى من الْبَائِعِ فَإِنْ
كانت من الْمُشْتَرِي وقد وَلَدَتْ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ صَحَّتْ
دَعْوَتُهُ وَثَبَتَ النَّسَبُ لِأَنَّ هذه دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ لَا دَعْوَةُ
اسْتِيلَادٍ لِتَيَقُّنِنَا أَنَّ الْعُلُوقَ لم يَكُنْ في الْمِلْكِ
فَيَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ وقد وُجِدَ فَلَوْ ادَّعَاهُ
الْبَائِعُ بَعْدَ ذلك لَا تُسْمَعُ دَعْوَتُهُ لِمَا مَرَّ أَنَّ إثْبَاتَ نَسَبِ
وَلَدٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ على التَّعَاقُبِ يَمْتَنِعُ وَلَوْ ادَّعَاهُ
الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَعًا فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى لِأَنَّ
دَعْوَتَهُ دَعْوَةُ اسْتِيلَادٍ لِوُقُوعِ الْعُلُوقِ في الْمِلْكِ وَأَنَّهَا
تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي دَعْوَةُ تَحْرِيرٍ
لِوُقُوعِ الْعُلُوقِ في غَيْرِ الْمِلْكِ بِيَقِينٍ وَأَنَّهَا تَقْتَصِرُ على
الْحَال وَالْمُسْتَنِدُ أَوْلَى لِأَنَّهُ سَابِقٌ في الْمَعْنَى وَالْأَسْبَقُ
أَوْلَى كَرَجُلَيْنِ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ من وَاحِدٍ وَتَارِيخُ
أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ كان الْأَسْبَقُ أَوْلَى كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا وَلَدَتْ أَمَةُ رَجُلٍ وَلَدًا في مِلْكِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ
فَصَاعِدًا فَادَّعَاهُ أَبُوهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه سَوَاءٌ ادَّعَى شُبْهَةً أو
لَا صدقة الِابْنُ في ذلك أو كَذَّبَهُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِنَسَبِ الْوَلَدِ
إقْرَارٌ بِوَطْءِ الْجَارِيَةِ ولأب ( ( ( والأب ) ) ) إذَا وطىء جَارِيَةَ
ابْنِهِ من غَيْرِ نِكَاحٍ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا إيَّاهَا لِحَاجَتِهِ إلَى نَسَبِ
وَلَدٍ يَحْيَا بِهِ ذِكْرُهُ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِالْمِلْكِ
وَلِلْأَبِ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ مَالِ ابْنِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَلَّكُ مَالَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى الْإِنْفَاقِ على
نَفْسِهِ كَذَا هذا
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَتَمَلَّكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُنَا بِعِوَضٍ وهو قِيمَةُ
الْجَارِيَةِ لِتَفَاوُتٍ بين الْحَاجَتَيْنِ إذْ الْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى
إبْقَاءِ النَّفْسِ وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إبْقَاءِ الذِّكْرِ وَالِاسْمِ
وَالتَّمَلُّكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَقْوَى من التَّمَلُّكِ بِعِوَضٍ لِأَنَّ ما
قَابَلَهُ عِوَضٌ كان تَمَلُّكًا صُورَةً لَا مَعْنًى وقد دَفَعَ الشَّارِعُ كُلَّ
حَاجَةٍ بِمَا يُنَاسِبُهَا فَدَفَعَ حَاجَةَ اسْتِيفَاءِ الْمُهْجَةِ
بِالتَّمَلُّكِ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَحَاجَةَ اسْتِيفَاءِ الذِّكْرِ بِالتَّمَلُّكِ
بِبَدَلٍ رِعَايَةً لِلْجَانِبَيْنِ جَانِبِ الِابْنِ وَجَانِبِ الْأَبِ
وَتَصْدِيقُ الِابْنِ ليس بِشَرْطٍ فَسَوَاءٌ صَدَّقَهُ الِابْنُ في الدَّعْوَى
وَالْإِقْرَارِ أو كَذَّبَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ فَرْقًا بين هذا وَبَيْنَ
الْمَوْلَى إذَا ادَّعَى وَلَدَ أَمَةِ مُكَاتَبِهِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ
منه إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ
وجه ( ( ( ووجه ) ) ) الْفَرْقِ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمَوْلَى على
مَالِ الْمُكَاتَبِ فَكَانَ أَجْنَبِيًّا عنه فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى تَصْدِيقِهِ
وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ على مَالِ ابْنِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِ
لِصِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ لَكِنْ من شَرْطِ صِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ كَوْنُ
الْجَارِيَةِ في مِلْكِ الِابْنِ من وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ
حتى لو اشْتَرَاهَا الِابْنُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ وَقْتَ
الْعُلُوقِ وَكَذَا لو بَاعَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ في يَدِ الْمُشْتَرِي
لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْأَبُ لم تَصِحَّ لِانْعِدَامِ
الْمِلْكِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ
وَكَذَا لو كان الْعُلُوقُ في مِلْكِهِ وَوَلَدَتْ في مِلْكِهِ وَخَرَجَتْ عن
مِلْكِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِانْقِطَاعِ الْمِلْكِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ثُمَّ
إنَّمَا كان قِيَامُ الْمِلْكِ لِلِابْنِ في الْجَارِيَةِ من وَقْتِ الْعُلُوقِ
إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ هذه الدَّعْوَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ
يَثْبُتُ مُسْتَنِدًا إلَى زَمَانِ الْعُلُوقِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ إلَّا
بِالتَّمَلُّكِ وَلَا تَمَلُّكَ إلَّا بِوِلَايَةِ التَّمَلُّكِ لِأَنَّ تَمَلُّكَ
مَالِ الْإِنْسَانِ عليه كُرْهًا وَتَنْفِيذَ التَّصَرُّفِ عليه جَبْرًا لَا
يَكُونُ إلَّا بِالْوِلَايَةِ فَلَا بُدَّ من قِيَامِ الْوِلَايَةِ فإذا لم تَكُنْ
الْجَارِيَةُ في مِلْكِهِ من وَقْتِ الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ لم
تَتِمَّ الْوِلَايَةُ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ وَكَذَلِكَ الْأَبُ لو كان
كَافِرًا أو عَبْدًا فَادَّعَى لَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ
وَالرِّقَّ يَنْفِيَانِ الْوِلَايَةَ
وَلَوْ كان كَافِرًا فَأَسْلَمَ أو عَبْدًا فَأُعْتِقَ فَادَّعَى نُظِرَ في ذلك
إنْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ أو الْإِعْتَاقِ لِأَقَلَّ من سِتَّةِ أَشْهُرٍ
لم تَصِحَّ دَعْوَته لِانْعِدَامِ وِلَايَةِ التَّمَلُّكِ وَقْتَ الْعُلُوقِ
وَإِنْ وَلَدَتْ لِسِتَّةٍ فَصَاعِدًا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ
لِقِيَامِ الْوِلَايَةِ
وَلَوْ كان مَعْتُوهًا فَأَفَاقَ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ
أَنْ لَا تَصِحَّ لِأَنَّ الْجُنُونَ مُنَافٍ لِلْوِلَايَةِ بِمَنْزِلَةِ
الْكُفْرِ وَالرِّقِّ
ووجه ( ( ( وجه ) ) ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْجُنُونَ أَمْرٌ عَارِضٌ
كَالْإِغْمَاءِ وَكُلُّ عَارِضٍ على أَصْلٍ إذَا زَالَ يُلْتَحَقُ بِالْعَدَمِ من
الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ كما لو أُغْمِيَ عليه ثُمَّ أَفَاقَ وَلَوْ كان
مُرْتَدًّا فَادَّعَى وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ فَدَعْوَتُهُ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ لِتَوَقُّفِ وِلَايَتِهِ وَعِنْدَهُمَا صَحِيحَةٌ لِنَفَاذِ وِلَايَتِهِ
بِنَاءً على أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا
نَافِذَةٌ وإذا ثَبَتَ الْوَلَدُ من الْأَبِ فَنَقُولُ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ
وَلَدٍ وَلَا عُقْرَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ
تَعَالَى وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ عليه
الْعُقْرُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمِلْكَ ثَبَتَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ
وَالِاسْتِيلَادُ إيلَاجُ مَنْزِلٍ مُعَلَّقٍ فَكَانَ الْفِعْلُ قبل الْإِنْزَالِ
خَالِيًا عن الْمِلْكِ فَيُوجِبُ الْعُقْرَ
وَلِهَذَا يُوجِبُ نِصْفَ الْعُقْرِ في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ بين
الْأَجْنَبِيَّيْنِ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا لِأَنَّ
____________________
(6/250)
الْوَطْءَ
في نَصِيبِ شَرِيكِهِ حَصَلَ في غَيْرِ الْمِلْكِ فَيُوجِبُ نِصْفَ الْعُقْرِ
وَلَنَا أَنَّ الْإِيلَاجَ الْمُنْزِلَ الْمُعَلَّقَ من أَوَّلِهِ إلَى آخر ( ( (
آخره ) ) ) إيلَاجٌ وَاحِدٌ فَكَانَ من أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ اسْتِيلَادًا فَلَا
بُدَّ وَأَنْ يَتَقَدَّمَهُ الْمِلْكُ أو يُقَارِنَهُ على جَارِيَةٍ مَمْلُوكَةٍ
لِنَفْسِهِ فَلَا عُقْرَ بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ لِأَنَّ ثَمَّةَ
لم يَكُنْ نَصِيبُ الشَّرِيكِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ وَثَبَاتُ
النَّسَبِ لِأَنَّ نِصْفَ الْجَارِيَةِ مِلْكُهُ وَقِيَامُ أَصْلِ الْمِلْكِ
يَكْفِي لِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِلثَّابِتِ في نَصِيبِهِ قَضِيَّةً
لِلنَّسَبِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ وَحُكْمُ الشَّيْءِ لَا يَسْبِقُهُ
بَلْ يَتَعَقَّبُهُ فَوَطْءُ الْمُدَّعِي صَادَفَ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ شَرِيكِهِ
وَلَا مِلْكَ له في نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَالْوَطْءُ في غَيْرِ الْمِلْكِ يُوجِبُ
الْحَدَّ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ لِلشُّبْهَةِ فَوَجَبَ الْعُقْرُ وَهُنَا
التَّمَلُّكُ ثَبَتَ شَرْطًا لِثُبُوتِ النَّسَبِ وَصِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ
وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَكُونُ سَابِقًا عليه أو مُقَارِنًا له فَالْوَطْءُ صَادَفَ
مِلْكَ نَفْسِهِ فَلَا يُوجِبُ الْعُقْرَ وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا
وَإِنْ كانت الْجَارِيَةُ مَمْلُوكَةً لَا وَلَاءَ عليه لِأَنَّ ذلك حُكْمُ
الْإِعْتَاقِ فَيَسْتَدْعِي تَقَدُّمَ الرِّقِّ ولم يُوجَدْ وَدَعْوَةُ الْجَدِّ
أبي الْأَبِ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَةِ الْأَبِ
عِنْدَ انْعِدَامِهِ أو عِنْدَ انْعِدَامِ وِلَايَتِهِ
فَأَمَّا عِنْدَ قِيَامِ وِلَايَتِهِ فَلَا حتى لو كان الْجَدُّ نَصْرَانِيًّا
وَحَافِدُهُ مِثْلُهُ وَالْأَبُ مُسْلِمٌ لم تَصِحَّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِقِيَامِ
وِلَايَةِ الْأَبِ
وَإِنْ كان مَيِّتًا أو كان كَافِرًا أو عَبْدًا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ
لِانْقِطَاعِ وِلَايَةِ الْأَبِ وَكَذَا إذَا كان الْأَبُ مَعْتُوهًا من وَقْتِ
الْعُلُوقِ إلَى وَقْتِ الدَّعْوَةِ صَحَّتْ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ أَفَاقَ ثُمَّ ادَّعَى الْجَدُّ لم تَصِحَّ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا
أَفَاقَ فَقَدْ الْتَحَقَ الْعَارِضُ بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ فَعَادَتْ
وِلَايَةُ الْأَبِ فَسَقَطَتْ وِلَايَةُ الْجَدِّ
وَلَوْ كان الْأَبُ مُرْتَدًّا فَدَعْوَةُ الْجَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ قُتِلَ على الرِّدَّةِ أو مَاتَ صَحَّتْ
دَعْوَةُ الْجَدِّ وَإِنْ أَسْلَمَ لم تَصِحَّ لِتَوَقُّفٍ وِلَايَتِهِ عِنْدَهُ
كَتَوَقُّفِ تَصَرُّفَاتِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْجَدِّ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِهِ
عِنْدَهُمَا نَافِذَةٌ فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ قَائِمَةً
هذا إذَا وطىء الْأَبُ جَارِيَةَ الِابْنِ من غَيْرِ نِكَاحٍ
فَأَمَّا إذَا وَطِئَهَا بِالنِّكَاحِ ثَبَتَ النَّسَبُ من غَيْرِ دَعْوَةٍ
سَوَاءٌ وَطِئَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ أو فَاسِدٍ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُوجِبُ
الْفِرَاشَ بِنَفْسِهِ صَحِيحًا كان أو فَاسِدًا وَلَا يَتَمَلَّكُ الْجَارِيَةَ
لِأَنَّهُ وَطِئَهَا على مِلْكِ الِابْنِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ هذا النِّكَاحُ لِمَا عُلِمَ في
كِتَابِ النِّكَاحِ وَيُعْتَقُ الْوَلَدُ على أَخِيهِ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ
النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِعَقْدِ النِّكَاح لَا يملك ( ( ( بملك ) ) )
الْيَمِينِ فَبَقِيَتْ الْجَارِيَةُ على مِلْكِ الِابْنِ وقد مَلَكَ الِابْنُ
أَخَاهُ فَيُعْتَقُ عليه فَإِنْ مَلَكَ الْأَبُ الْجَارِيَةَ بِوَجْهٍ من
الْوُجُوهِ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له لِوُجُودِ سَبَبِ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ وهو
ثَبَاتُ النَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ تَوَقَّفَ حُكْمُهُ على وُجُودِ الْمِلْكِ فإذا
مَلَكَهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ له
هذا كُلُّهُ إذَا ادَّعَى الْأَبُ وَلَدَ جَارِيَةِ ابْنِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى
وَلَدَ أُمِّ وَلَدِهِ أو مُدَبَّرَتِهِ بِأَنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ
الِابْنُ حتى انْتَفَى نَسَبُهُ منه ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ
منه في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بين وَلَدِ أُمِّ
الْوَلَدِ وَبَيْنَ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ فقال لَا يَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ
الْوَلَدِ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمُدَبَّرَةِ من الْأَبِ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ
الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ وَالْوَلَاءِ لِلِابْنِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ اثبات النَّسَبِ لَا يَقِفُ على مِلْكِ
الْجَارِيَةِ لَا مَحَالَةَ فَإِنْ نَسَبَ ولد ( ( ( ولدا ) ) ) الأم ( ( ( لأمة )
) ) الْمَنْكُوحَةِ يَثْبُتُ من الزَّوْجِ وَالْأَمَةُ مِلْكُ الْمَوْلَى
وَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلِأَنَّهُ وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ عَلِقَ حُرًّا
فَأَشْبَهَ وَلَدَ الْمَغْرُورِ فَيَكُونُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَالْوَلَاءُ
لِلِابْنِ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّهُ بِالتَّدْبِيرِ وَأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ
الْفَسْخَ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ أُمَّ
الْوَلَدِ فِرَاشٌ لِمَوْلَاهَا فَكَانَ الْوَلَدُ مَوْلُودًا على فِرَاشِ
الِابْنِ وَالْمَوْلُودُ على فِرَاشِ إنْسَانٍ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ من غَيْرِهِ
وَإِنْ انْتَفَى عنه بِالنَّفْيِ كما في اللِّعَانِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالْمِلْكِ وَأُمُّ الْوَلَدِ
وَالْمُدَبَّرَةُ لَا يَحْتَمِلَانِ التَّمَلُّكَ وَيَضْمَنُ الْعُقْرَ لِأَنَّهُ
إذَا لم يَتَمَلَّكْهَا فَقَدْ حَصَلَ الْوَطْءُ في غَيْرِ الْمِلْكِ وقد سَقَطَ
الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْعُقْرُ
هذا إذَا لم يُصَدِّقْهُ الِابْنُ في الدَّعْوَى بعد ما نَفَاهُ فَإِنْ صَدَّقَهُ
ثَبَتَ النَّسَبُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَةِ الْأَجْنَبِيِّ
يَثْبُتُ من الْمُدَّعِي بِتَصْدِيقِهِ في النَّسَبِ فَنَسَبُ وَلَدِ جَارِيَةِ
الِابْنِ أَوْلَى وَيُعْتَقُ على الِابْنِ لِأَنَّ أَخَاهُ مَلَكَهُ وَوَلَاؤُهُ
له لِأَنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَعْتَقَ وَلَوْ ادَّعَى وَلَدَ مُكَاتَبَةِ ابْنِهِ
لم يَثْبُتْ نَسَبُهُ منه لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ
وَالْمُكَاتَبَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ إلَّا
إذَا عَجَزَتْ فَتَنْفُذُ دَعْوَتُهُ لِأَنَّهَا إذَا عَجَزَتْ فَقَدْ عَادَتْ قتا
( ( ( قنا ) ) ) وَجُعِلَ الْمُعَارِضُ كَالْعَدَمِ من الْأَصْلِ فَصَارَ كما لو
ادَّعَى قبل الْكِتَابَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(6/251)
فَصْلٌ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ النَّسَبُ فَالنَّسَبُ يَظْهَرُ بِالدَّعْوَةِ
مَرَّةً وَبِالْبَيِّنَةِ أُخْرَى أَمَّا ظُهُورُ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ
فَيَسْتَدْعِي شَرَائِطَ صِحَّةِ الدَّعْوَةِ وَالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ
وَسَنَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّهُ قد يَظْهَرُ بِنَفْسِ
الدَّعْوَةِ وقد لَا يَظْهَرُ إلَّا بِشَرِيطَةِ التَّصْدِيقِ فَنَقُولُ جُمْلَةُ
الْكَلَامِ فيه أَنَّ المدعي نَسَبُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ في يَدِ نَفْسِهِ وَإِمَّا
أَنْ لَا يَكُونَ فَإِنْ كان في يَدِ نَفْسِهِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ من
الْمُدَّعِي إلَّا إذَا صَدَّقَهُ لِأَنَّهُ إذا كان في يَدِ نَفْسِهِ
فَإِقْرَارُهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ يَدِهِ فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِرِضَاهُ وَإِنْ
لم يَكُنْ في يَدِ نَفْسِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا وَإِمَّا إن لم
يَكُنْ فَإِنْ كان مَمْلُوكًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ إذَا كان في
مِلْكِ الْمُدَّعِي وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كان في مِلْكِ غَيْرِهِ عِنْدَ
الدَّعْوَةِ فَإِنْ كان عُلُوقُهُ في مِلْكِ الْمُدَّعِي ثَبَتَ نَسَبُهُ بِنَفْسِ
الدَّعْوَةِ أَيْضًا وَإِنْ لم يَكُنْ عُلُوقُهُ في مِلْكِهِ لَا يَثْبُتُ
نَسَبُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَالِكِ على ما ذَكَرنَا وَإِنْ لم يَكُنْ
مَمْلُوكًا فأما إنْ لم يَكُنْ في يَدِ أَحَدٍ لَا في يَدِ غَيْرِهِ وَلَا في يَدِ
نَفْسِهِ كَالصَّبِيِّ الْمَنْبُوذِ وأما إنْ كان في يَدِ أَحَدٍ كَاللَّقِيطِ
فَإِنْ لم يَكُنْ في يَدِ أَحَدٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ ادَّعَى أَمْرًا جَائِزَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ فَلَا بُدَّ
لِتَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ من مُرَجِّحٍ ولم يُوجَدْ فلم تَصِحَّ
الدَّعْوَةُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ عَاقِلٌ أَخْبَرَ بِمَا هو مُحْتَمَلُ الثُّبُوتِ
وَكُلُّ عَاقِلٍ أَخْبَرَ بِمَا يَحْتَمِلُ الثُّبُوتَ يَجِبُ تَصْدِيقُهُ
تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِهِ وهو الْأَصْلُ إلَّا إذَا كان في تَصْدِيقِهِ ضَرَرٌ
بِالْغَيْرِ وَهُنَا في التَّصْدِيقِ نَظَرٌ من الْجَانِبَيْنِ جَانِبِ اللَّقِيطِ
بِالْوُصُولِ إلَى شَرَفِ النَّسَبِ وَالْحَضَانَةِ وَالتَّرْبِيَةِ وَجَانِبِ
الْمُدَّعِي بِوَلَدٍ يَسْتَعِينُ بِهِ على مَصَالِحِهِ الدِّينِيَّةِ
وَالدُّنْيَوِيَّةِ وَتَصْدِيقُ الْعَاقِلِ في دَعْوَى ما يَنْتَفِعُ بِهِ وَلَا
يَتَضَرَّرُ غَيْرُهُ بِهِ وَاجِبٌ وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ ثَبَتَ نَسَبُهُ
مِنْهُمَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا
من أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَبُولِ الْقَافَةِ على ما ذَكَرنَا
وَلَوْ ادَّعَاهُ أَكْثَرُ من رَجُلَيْنِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
يَثْبُتُ نَسَبُهُ من خَمْسَةٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ من
اثْنَيْنِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ من ثَلَاثَةٍ وقد مَرَّتْ
الْمَسْأَلَةُ وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُمَا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تَصِحُّ وَسَنَذْكُرُ الْحُجَجَ من بَعْدُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
هذا إذَا لم يَكُنْ في يَدِ أَحَدٍ فَإِنْ كان وهو اللَّقِيطُ ثَبَتَ نَسَبُهُ من
الْمُلْتَقِطِ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ
إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وقد ذَكَرنَا وَجْهَهُمَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَكَذَا من الْخَارِجِ صَدَّقَهُ الْمُلْتَقَطُ في ذلك أو لَا اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ إذَا كَذَّبَهُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هذا إقْرَارٌ تَضَمَّنَ إبْطَالَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ
لِأَنَّ يَدَهُ عليه ثَابِتَةٌ حَقِيقَةً وَشَرْعًا حتى لو أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ
يَنْزِعَهُ من يَدِهِ جَبْرًا لِيَحْفَظَهُ ليس له ذلك وَالْإِقْرَارُ إذَا
تَضَمَّنَ إبْطَالَ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ يَدَ الْمُدَّعِي أَنْفَعُ لِلصَّبِيِّ من يَدِ
الْمُلْتَقِطِ لِأَنَّهُ يَقُومُ بِحَضَانَتِهِ وَتَرْبِيَتِهِ وَيَتَشَرَّفُ
بِالنَّسَبِ فَكَانَ الْمُدَّعِي بِهِ أَوْلَى وَسَوَاءٌ كان الْمُدَّعِي
مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَصِحَّ دَعْوَةُ
الذِّمِّيِّ
وَوَجْهُهُ أَنَّا لو صَحَّحْنَا دَعْوَتَهُ وَأَثْبَتنَا نَسَبَ الْوَلَدِ منه
لَلَزِمَنَا اسْتِتْبَاعُهُ في دِينِهِ وَهَذَا يَضُرُّ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَتُهُ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ ادَّعَى أَمْرَيْنِ يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عن
الْآخَرِ في الْجُمْلَةِ وهو النَّسَبُ وَالتَّبَعِيَّةُ في الدِّينِ إذْ ليس من
ضَرُورَةِ كَوْنِ الْوَلَدِ منه أَنْ يَكُونَ على دِينِهِ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ لو أَسْلَمَتْ أَمُّهُ يَحْكُمُ بِإِسْلَامِهِ وَإِنْ كان
أَبُوهُ كَافِرًا فَيُصَدَّقُ فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ
وَيَكُونُ مُسْلِمًا
وَذَكَرَ في النَّوَادِرِ أَنَّ من الْتَقَطَ لَقِيطًا فَادَّعَاهُ نَصْرَانِيٌّ
فَهُوَ ابْنُهُ ثُمَّ إنْ كان عليه زِيُّ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مُسْلِمٌ
وَإِنْ كان عليه زِيُّ الشِّرْكِ بِأَنْ يَكُونَ في رَقَبَتِهِ صَلِيبٌ وَنَحْوُ
ذلك فَهُوَ على دِينِ النَّصَارَى
هذا إذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على
ذلك فَإِنْ كان الشُّهُودُ من أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ في
اسْتِتْبَاعِ الْوَلَدِ في دِينِهِ لِأَنَّ هذه شَهَادَةٌ تَضَمَّنَتْ إبْطَالَ
يَدِ الْمُسْلِمِ وهو الْمُلْتَقِطُ فَكَانَتْ شَهَادَةً على الْمُسْلِمِ فَلَا
تُقْبَلُ وَإِنْ كَانُوا من الْمُسْلِمِينَ تُقْبَلُ وَيَكُونُ الْوَلَدُ على
دِينِهِ فَرْقًا بين الْإِقْرَارِ وَبَيْنَ الْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ أَنَّهُ
مُتَّهَمٌ في إقْرَارِهِ وَلَا تُهْمَةَ في الشَّهَادَةِ وَسَوَاءٌ كان
الْمُدَّعِي حُرًّا أو عَبْدًا لِأَنَّهُ ادَّعَى شَيْئَيْنِ أَحَدُهُمَا
يَحْتَمِلُ الْفَصْلَ على الْآخَرِ وهو النَّسَبُ وَالرَّقّ فَيُصَدَّقُ فِيمَا
يَنْفَعُهُ وَلَا يُصَدَّقُ فِيمَا يَضُرُّهُ
وَلَوْ ادَّعَاهُ الْخَارِجُ وَالْمُلْتَقِطُ مَعًا فَالْمُلْتَقِطُ أَوْلَى
لِاسْتِوَائِهِمَا في الدَّعْوَةِ وَنَفْعِ الصَّبِيِّ فَتُرَجَّحُ بِالْيَدِ فَإِنْ
سَبَقَتْ دَعْوَةُ الْمُلْتَقِطِ لَا تَسْمَعُ دَعْوَةُ الْخَارِجِ لِأَنَّهُ
ثَبَتَ نَسَبُهُ منه فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُهُ من غَيْرِهِ بَعْدَ ذلك إلَّا
أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ
وَلَوْ ادَّعَاهُ خَارِجَانِ فَإِنْ كان
____________________
(6/252)
أَحَدُهُمَا
مُسْلِمًا وَالْآخَر ذِمِّيًّا فَالْمُسْلِمُ أَوْلَى لِأَنَّهُ يَتْبَعُهُ في
الْإِسْلَامِ فَكَانَ أَنْفَعَ لِلصَّبِيِّ وَكَذَا إذَا ادَّعَتْهُ مُسْلِمَةٌ
وَذِمِّيَّةٌ فَالْمُسْلِمَةُ أَوْلَى وَلَوْ شَهِدَ لِلذِّمِّيِّ مُسْلِمَانِ
وَلِلْمُسْلِمِ ذِمِّيَّانِ فَهُوَ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّ الْحَجَّتَيْنِ وَإِنْ
تَعَارَضَتَا فَإِسْلَامُ الْمُدَّعِي كَافٍ لِلتَّرْجِيحِ
وَلَوْ كان أَحَدُهُمَا حُرًّا وَالْآخَرُ عَبْدًا فَالْحُرُّ أَوْلَى لِأَنَّهُ
أَنْفَعُ لِلَّقِيطِ وَإِنْ كَانَا حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنْ ذَكَرَ
أَحَدُهُمَا عَلَامَةً في بَدَنِ اللَّقِيطِ ولم يذكر الْآخَرُ فَوَافَقَتْ
دَعْوَتُهُ الْعَلَامَةَ فَصَاحِبُهَا أَوْلَى لِرُجْحَانِ دَعْوَاهُ
بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالتَّرْجِيحِ بِالْعَلَامَةِ في
الْجُمْلَةِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في قِصَّةِ سَيِّدِنَا يُوسُفَ عليه أَفْضَلُ
التَّحِيَّةِ { وَشَهِدَ شَاهِدٌ من أَهْلِهَا إنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ من قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وهو من الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كان قَمِيصُهُ قُدَّ من دُبُرٍ فَكَذَبَتْ
وهو من الصَّادِقِينَ فلما رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ من دُبُرٍ قال إنَّهُ من
كَيَدِكُنَّ إنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } جَعَلَ قَدَّ الْقَمِيصِ من خَلْفٍ
دَلِيلَ مُرَاوَدَتِهَا إيَّاهُ لِمَا أَنَّ ذلك عَلَامَةُ جَذْبِهَا إيَّاهُ إلَى
نَفْسِهَا وَالْقَدُّ من قُدَّامِ عَلَامَةَ دَفْعِهَا إيَّاهُ عن نَفْسِهَا
وَكَذَلِكَ قال أَصْحَابُنَا في لُؤْلُئِيٍّ وَدَبَّاغٍ في حَانُوتٍ وَاحِدٍ هو في
أَيْدِيهِمَا فيه لُؤْلُؤٌ وَإِهَابٍ فَتَنَازَعَا إنه فِيهِمَا يقضي
بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
يَشْهَدُ بِاللُّؤْلُؤِ لِلُّؤْلُئِيِّ وَبِالْإِهَابِ لِلدَّبَّاغِ
وَكَذَلِكَ قالوا في الزَّوْجَيْنِ اخْتَلَفَا في مَتَاعِ الْبَيْتِ أَنَّ ما
يَكُونُ لِلرِّجَالِ يَجْعَلُ في يَدِ الزَّوْجِ وما يَكُونُ لِلنِّسَاءِ يُجْعَلُ
في يَدِهَا وَنَحْوُ ذلك من الْمَسَائِلِ بِنَاءً على ظَاهِرِ الْحَالِ وَغَالِبِ
الْأَمْرِ كَذَا هذا فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَامَاتٍ في هذا اللَّقِيطِ
فَوَافَقَ الْبَعْضَ وَخَالَفَ الْبَعْضَ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا لِأَنَّهُ وَقَعَ التَّعَارُضُ في
الْعَلَامَاتِ فَسَقَطَ التَّرْجِيحُ بها كَأَنْ سَكَتَ عن ذِكْرِ الْعَلَامَةِ
رَأْسًا وَإِنْ لم يذكر أَحَدُهُمَا عَلَامَةً أَصْلًا وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا
بَيِّنَةٌ فإن ( ( ( فإنه ) ) ) يُقْضَى له لِأَنَّ الدَّعْوَةَ لَا تُعَارِضُ
الْبَيِّنَةَ وَإِنْ لم يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا
جميعا وَهَذَا عِنْدَنَا لِاسْتِوَائِهِمَا في الدَّعْوَةِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ إلَّا من
أَحَدِهِمَا وَيَتَعَيَّنُ بِقَوْلِ الْقَافَةِ على ما ذَكَرنَا
وَالْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقَدَّمَ
وَلَوْ كان الْمُدَّعِي أَكْثَرَ من رَجُلَيْنِ فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي
ذَكَرْنَاهُ في الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ
وَلَوْ قال أَحَدُ الْمُدَّعِيَيْنِ هو ابْنِي وهو غُلَامٌ فإذا هو جَارِيَةٌ لم
يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُ بِيَقِينٍ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا هو ابْنِي
وقال الْآخَرُ هو ابْنَتِي فإذا هو خُنْثَى يُحَكَّمُ مَبَالُهُ فَإِنْ كان
يَبُولُ من مَبَالِ الرِّجَالِ فَهُوَ ابن مُدَّعِي الْبُنُوَّةِ وَإِنْ كان
يَبُولُ من مَبَالِ النِّسَاءِ فَهِيَ ابْنَةُ مُدَّعِي الْبِنْتِيَّةِ
وَإِنْ كان يَبُولُ مِنْهُمَا جميعا يُعْتَبَرُ السَّبْقُ فَإِنْ اسْتَوَيَا في
السَّبْقِ فَهُوَ مُشْكَلٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُعْتَبَرُ
كَثْرَةُ الْبَوْلِ فَإِنْ اسْتَوَيَا في ذلك فَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ هذا حُكْمُ
الْخُنْثَى وَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا جميعا
وَلَوْ قال الْمُلْتَقِطُ هو ابْنِي من زَوْجَتِي هذه فَصَدَّقَتْهُ فَهُوَ
ابْنُهُمَا حُرَّةً كانت أو أَمَةً غير أنها إنْ كانت حُرَّةً كان الِابْنُ حُرًّا
بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ كانت أَمَةً كان مِلْكًا لِمَوْلَى الْأَمَةِ عِنْدَ أبي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ حُرًّا
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ نَسَبَهُ وَإِنْ ثَبَتَ من الْأَمَةِ لَكِنْ في
جَعْلِهِ تَبَعَا لها في الرِّقِّ مَضَرَّةٌ بِالصَّبِيِّ وفي جَعْلِهِ حُرًّا
مَنْفَعَةٌ له فَيَتْبَعُهَا فِيمَا يَنْفَعُهُ وَلَا يَتْبَعُهَا فِيمَا
يَضُرُّهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا ادَّعَى نَسَبَ لَقِيطٍ ثَبَتَ نَسَبُهُ منه لَكِنْ
لَا يَتْبَعُهُ فِيمَا يَضُرُّهُ وهو دِينُهُ لِمَا قُلْنَا كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ في
الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَكَانَ من ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ منها أَنْ
يَكُونَ رَقِيقًا وَالرِّقُّ وَإِنْ كان يَضُرُّهُ فَهُوَ ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ
ضَرُورَةَ غَيْرِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ ادَّعَتْهُ امْرَأَةٌ أَنَّهُ
ابْنُهَا وَهِيَ حُرَّةٌ أو أَمَةٌ ذَكَرَ في الْأَصْلِ أنها لَا تُصَدَّقُ على
ذلك حتى تُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أنها وَلَدَتْهُ
وَإِنْ أَقَامَتْ امْرَأَةً وَاحِدَةً على الْوِلَادَةِ قُبِلَتْ إذَا كانت
حُرَّةً عَدْلَةٌ أَطْلَقَ الْجَوَابَ في الْأَصْلِ ولم يَفْصِلْ بين ما إذَا كان
لها زَوْجٌ أَمْ لَا منهم من حَمَلَ هذا الْجَوَابَ على ما إذَا كان لها زَوْجٌ
لِأَنَّهُ إذَا كان لها زَوْجٌ كان في تَصْحِيحِ دَعْوَتِهَا حَمْلُ النَّسَبِ على
الْغَيْرِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ أو بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فَأَمَّا
إذَا لم يَكُنْ لها زَوْجٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى التَّحْمِيلِ فَيَصِحُّ من
غيره بَيِّنَةٍ
وَمِنْهُمْ من حَقَّقَ جَوَابَ الْكِتَابِ وَأَجْرَى رِوَايَةَ الْأَصْلِ على
إطْلَاقِهَا وَفَرَّقَ بين الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فقال يَثْبُتُ نَسَبُهُ من الرَّجُلِ
بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منها إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ النَّسَبَ في جَانِبِ الرِّجَالِ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ
وفي جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ
إلَّا بِدَلِيلٍ وَأَدْنَى الدَّلَائِلِ عليها شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ وَلَوْ
ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ فَهُوَ ابْنُهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَكَذَا إذَا
كُنَّ خَمْسًا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ من
الْمَرْأَتَيْنِ أَصْلًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النَّسَبَ في جَانِبِ النِّسَاءِ يَثْبُتُ
بِالْوِلَادَةِ وَوِلَادَةُ وَلَدٍ
____________________
(6/253)
وَاحِدٍ
من امْرَأَتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فَلَا يُتَصَوَّرَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا
بِخِلَافِ الرِّجَالِ لِأَنَّ النَّسَبَ في جَانِبِهِمْ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ سَبَبَ ظُهُورِ النَّسَبِ هو الدَّعْوَةُ وقد وُجِدَتْ
من كل وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وما قَالَا إنَّ الْحُكْمَ في جَانِبِهِنَّ مُتَعَلِّقٌ
بِالْوِلَادَةِ فَنَعَمْ لَكِنْ في مَوْضِعٍ أَمْكَنَ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ
فَتَعَلَّقَ بِالدَّعْوَةِ وقد ادَّعَيَاهُ جميعا فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُمَا
وَعَلَى هذا لو ادَّعَاهُ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ من الْكُلِّ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَثْبُتُ من الرَّجُلِ لَا غَيْرُ وَلَوْ ادَّعَاهُ
رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ كُلُّ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ من هذه
الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةُ صَدَّقَتْهُ فَهُوَ ابْن الرَّجُلَيْنِ
وَالْمَرْأَتَيْنِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا ابن الرَّجُلَيْنِ لَا غير
وَأَمَّا ظُهُورُ النَّسَبِ بِالْبَيِّنَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
الْبَيِّنَةُ يَظْهَرُ بها النَّسَبُ مَرَّةً وَيَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ أُخْرَى
فَكُلُّ نَسَبٍ يَجُوزُ ثُبُوتُهُ من الْمُدَّعِي إذَا لم يَحْتَمِلْ الظُّهُورَ
بِالدَّعْوَةِ أَصْلًا لَا بِنَفْسِهَا وَلَا بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ بِأَنْ كان
فيه حَمْلُ النَّسَبِ على الْغَيْرِ وَنَحْوُ ذلك يَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَا
ما احْتَمَلَ الظُّهُورَ بِالدَّعْوَةِ لَكِنْ بِقَرِينَةِ التَّصْدِيقِ إذَا
انْعَدَمَ التَّصْدِيقُ وَظَهَرَ أَيْضًا بِالْبَيِّنَةِ وَكُلُّ نَسَبٍ
يَحْتَمِلُ الظُّهُورَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ يَتَأَكَّدُ ظُهُورُهُ بِالْبَيِّنَةِ
كما إذَا ادَّعَى اللَّقِيطَ رَجُلٌ الْمُلْتَقِطُ أو غَيْرُهُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ
من الْمُدَّعِي ثُمَّ ادَّعَاهُ رَجُلٌ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ يُقْضَى له
لِأَنَّ النَّسَبَ وَإِنْ ظَهَرَ بِنَفْسِ الدَّعْوَةِ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُؤَكَّدٍ
فَاحْتَمَلَ الْبُطْلَانَ بِالْبَيِّنَةِ
وَكَذَا لو ادَّعَاهُ رَجُلَانِ مَعًا ثُمَّ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ
فَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا وإذا تَعَارَضَتْ الْبَيِّنَتَانِ
في النَّسَبِ فَالْأَصْلُ فيه ما ذَكَرنَا في تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ على
الْمِلْكِ أَنَّهُ إنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ إحْدَاهُمَا على الْأُخْرَى يُعْمَلُ
بِالرَّاجِحِ وَإِنْ تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِهِمَا إلَّا أَنَّ هُنَاكَ
إذَا تَعَذَّرَ التَّرْجِيحُ يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا من وَجْهٍ
بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَهُنَا يُعْمَلُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا من كل وجه
ويثبت النسب من وجه بقدر الإمكان وهنا يعمل بكل واحدة منهما من كل وَجْهٍ
وَيَثْبُتُ النَّسَبُ من كل وَاحِدٍ من الْمُدَّعِيَيْنِ لِإِمْكَانِ إثْبَاتِ
النَّسَبِ لِوَلَدٍ وَاحِدٍ من اثْنَيْنِ على الْكَمَالِ وَاسْتِحَالَةُ كَوْنِ
الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مَمْلُوكًا لِاثْنَيْنِ على الْكَمَالِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ
إذَا عَرَفْنَا هذا فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ تَعَارُضَ
الْبَيِّنَتَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ بين الْخَارِجِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بين الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ كان بين
الْخَارِجِ وَذِي الْيَدِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى لِأَنَّهُمَا
اسْتَوَيَا في الْبَيِّنَةِ فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدِ بِالْيَدِ وَإِنْ كان بين
الْخَارِجَيْنِ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ فَإِنْ أَمْكَنَ تَرْجِيحُ أَحَدِهِمَا بِوَجْهٍ
من الْوُجُوهِ من الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْعَلَامَةِ وَالْيَدِ
وَقُوَّةِ الْفِرَاشِ وَغَيْرِ ذلك من أَسْبَابِ التَّرْجِيحِ يُعْمَلُ
بِالرَّاجِحِ وَإِنْ اسْتَوَيَا يُعْمَلُ بِهِمَا وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا
وَعَلَى هذا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَادَّعَى
الْآخَرُ أَنَّهُ عَبْدُهُ يُقْضَى لِلَّذِي ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ لِأَنَّهُ
يَدَّعِي الْحُرِّيَّةَ وَالْآخَرُ يَدَّعِي الرِّقَّ فَبَيِّنَةُ الْحُرِّيَّةِ
أَقْوَى
وَكَذَلِكَ لو أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ من هذه
الْحُرَّةِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ من هذه الْأَمَةِ
فَهُوَ ابن الْحُرِّ وَالْحُرَّةِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ من
امْرَأَةٍ حُرَّةٍ فَهُوَ ابن الرَّجُلَيْنِ وابن الْمَرْأَتَيْنِ على قِيَاسِ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا ابن الرَّجُلَيْنِ لَا غير
لِمَا مَرَّ
وَلَوْ ادَّعَاهُ رَجُلَانِ وَوُقِّتَتْ بَيِّنَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنْ
اسْتَوَى الْوَقْتَانِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُمَا لِاسْتِوَاءِ الْبَيِّنَتَيْنِ
وَلَوْ كان وَقْتُ إحْدَاهُمَا أَسْبَقَ بحكم ( ( ( يحكم ) ) ) سِنّ الصَّبِيِّ
فَيُعْمَلُ عليه لِأَنَّهُ حُكْمُ عَدْلٍ فَإِنْ أَشْكَلَ سِنُّهُ فَعَلَى قِيَاسِ
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ يُقْضَى لِأَسْبِقْهُمَا وَقْتًا وَعِنْدَهُمَا يُقْضَى
لَهُمَا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّارِيخِ
أَصْلًا كَأَنَّهُمَا سَكَتَا عنه وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
إذَا أَشْكَلَ السِّنُّ لم يَصْلُحْ حُكْمًا فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلتَّارِيخِ
فَيُرَجَّحُ الْأَسْبَقُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ اللَّقِيطَ ابْنُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ
وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ ابْنُهَا وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ فَهُوَ
بَيْنَهُمَا لِعَدَمِ التَّنَافِي بين ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْهُمَا كما إذَا
ادَّعَاهُ رَجُلَانِ بَلْ أَوْلَى
وَعَلَى هذا غُلَامٌ قد احْتَلَمَ ادَّعَى على رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ أَنَّهُ
ابْنُهُمَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى رَجُلٌ آخَرُ وَامْرَأَتُهُ أَنَّ
الْغُلَامَ ابْنُهُمَا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ثَبَتَ نَسَبُ الْغُلَامِ من
الْأَبِ وَالْأُمِّ الذي ادَّعَاهُ الْغُلَامُ أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَيَبْطُلُ
النَّسَبُ الذي أَنْكَرَهُ الْغُلَامُ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا
وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الْغُلَامِ بيده إذْ هو في يَدِ نَفْسِهِ
كَالْخَارِجَيْنِ إذَا أَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَلِأَحَدِهِمَا يَدٌ كان صَاحِبُ
الْيَدِ أَوْلَى كَذَا هُنَا
وَكَذَلِكَ لو كان الْغُلَامُ نَصْرَانِيًّا فَأَقَامَ بَيِّنَةً من
الْمُسْلِمِينَ على رَجُلٍ نَصْرَانِيٍّ وَامْرَأَةٍ نَصْرَانِيَّةٍ وَادَّعَاهُ
مُسْلِمٌ وَمُسْلِمَةٌ فَبَيِّنَةُ الْغُلَامِ أَوْلَى وَلَا تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ
الْمُدَّعِي الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ له وَإِنْ كان مُسْلِمًا وَإِنْ كان
بَيِّنَةُ الْغُلَامِ من النَّصَارَى يُقْضَى بِالْغُلَامِ لِلْمُسْلِمِ
وَالْمُسْلِمَةِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
فَالْتَحَقَتْ بِالْعَدَمِ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ الدَّعْوَةِ فَلَا تُعَارِضُ
الْبَيِّنَةَ وَيُجْبَرُ الْغُلَامُ على الْإِسْلَامِ
غُلَامٌ في
____________________
(6/254)
يَدِ
إنْسَانٍ ادَّعَى صَاحِبُ الْيَدِ أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَلَدَتْهُ أَمَتُهُ هذه في
مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك وَادَّعَى خَارِجٌ أَنَّ الْغُلَامَ
ابْنُهُ وَلَدَتْهُ الْأَمَةُ في مِلْكِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ كان
الْغُلَامُ صَغِيرًا لَا يَتَكَلَّمُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْيَد
لِاسْتِوَائِهِمَا في الْبَيِّنَة فَيُرَجَّحُ صَاحِبُ الْيَدَ بِالْيَدِ كما في
النِّكَاحِ وَإِنْ كان كَبِيرًا يَتَكَلَّمُ فقال أنا ابن الْآخَرِ يُقْضَى
بِالْأَمَةِ وَالْغُلَامِ لِلْخَارِجِ لِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا كان كَبِيرًا
يَتَكَلَّمُ في يَدِ نَفْسِهِ فَالْبَيِّنَةُ التي يَدَّعِيهَا الْغُلَامُ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ لو كان الْغُلَامُ وَلَدَ حُرَّةٍ وَهُمَا في يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ
صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ وُلِدَ على فِرَاشِهِ وَالْغُلَامُ
يَتَكَلَّمُ وَيَدَّعِي ذلك وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ على مِلْكِهِ
يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَبِالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا في يَدِهِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كان الذي في يَدِهِ من أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمَرْأَةُ ذِمِّيَّةٌ
وَأَقَامَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ يُقْضَى بِالْمَرْأَةِ وَالْوَلَدِ لِلَّذِي هُمَا
في يَدِهِ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمُسْلِمِينَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ
وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا في وَقْتِ كَذَا
وَأَقَامَ الذي في يَدِهِ الْبَيِّنَةَ على وَقْتٍ دُونَهُ يُقْضَى لِلْخَارِجِ
لِأَنَّهُ إذَا ثَبَتَ سَبْقُ أَحَدِ النِّكَاحَيْنِ كان الْمُتَأَخِّرُ مِنْهُمَا
فَاسِدًا فَالْبَيِّنَةُ الْقَائِمَةُ على النِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَقْوَى
فَكَانَتْ أَوْلَى وَعَلَى هذا غُلَامٌ قد احْتَلَمَ ادَّعَى أَنَّهُ ابن فُلَانٍ
وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ فُلَانَةُ على فِرَاشِهِ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يقول هو عَبْدِي
وَلَدُ أَمَتِي التي زَوَّجْتهَا عَبْدِي فُلَانًا فَوَلَدَتْ هذا الْغُلَامَ منه
وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذلك فَهُوَ ابن الْعَبْدِ لِأَنَّهُ تَعَارَضَ
الْفِرَاشَانِ فِرَاشُ النِّكَاحِ وَفِرَاشُ الْمِلْكِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ
أَقْوَى لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ وَفِرَاشُ الْمِلْكِ
يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَكَانَ فِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فَكَانَ
أَوْلَى
وَلَوْ ادَّعَى الْغُلَامُ أَنَّهُ ابن الْعَبْدِ من هذه الْأَمَةِ فَأَقَرَّ
الْعَبْدُ بِذَلِكَ وَقَامَتْ عليه الْبَيِّنَةُ وَادَّعَى الْمَوْلَى أَنَّهُ
ابْنُهُ فَهُوَ ابن الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَيُعْتَقُ لِأَنَّهُ ادَّعَى
نَسَبَهُ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْحُرِّيَّةِ
فَإِنْ لم يُعْمَلْ في النَّسَبِ يُعْمَلُ في الْحُرِّيَّةِ
وَكَذَلِكَ لو مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَك مَالًا فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ
أَنَّهُ ابن الْمَيِّتِ من أَمَتِهِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
عَبْدُهُ وَلَدَتْهُ أَمَتُهُ من زَوْجِهَا فُلَانٍ وَالزَّوْجُ عَبْدُهُ أَيْضًا
وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي ذلك يُقْضَى له بِالنَّسَبِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي
فِرَاشَ النِّكَاحِ وَأَنَّهُ أَقْوَى فَإِنْ كان الْعَبْدُ مَيِّتًا ثَبَتَ
نَسَبُ الْغُلَامِ من الْحُرِّ وَوَرِثَ منه لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْغُلَامِ خَلَتْ
عن الْمُعَارِضِ لِانْعِدَامِ الدَّعْوَةِ من الْعَبْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بها
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ النَّسَب الثَّابِتِ فَالنَّسَبُ في جَانِبِ النِّسَاءِ
إذَا ثَبَتَ يَلْزَمُ حتى لَا يَحْتَمِلَ النَّفْيَ أَصْلًا لِأَنَّهُ في
جَانِبهنَّ يَثْبُتُ بِالْوِلَادَةِ وَلَا مَرَدَّ لها
وَأَمَّا في جَانِبِ الرِّجَالِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَحْتَمِلُ النَّفْيَ وَنَوْعٌ
لَا يَحْتَمِلُهُ أَمَّا ما يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ يَنْتَفِي
بِنَفْسِ النَّفْيِ من غَيْرِ لِعَانٍ وَنَوْعٌ لَا يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ
بَلْ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ
أَمَّا الذي يَنْتَفِي بِنَفْسِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ
لِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ حتى احْتَمَلَ
النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَاحْتَمَلَ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ
النَّفْيِ من غَيْرِ الْحَاجَةِ إلَى اللِّعَانِ
وَأَمَّا الذي لَا يَنْتَفِي بِمُجَرَّدِ النَّفْيِ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ
يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ وهو أَنْ يَكُونَ الزَّوْجَانِ حُرَّيْنِ
مُسْلِمَيْنِ عَاقِلَيْنِ بَالِغَيْنِ غير مَحْدُودَيْنِ في الْقَذْف على ما
ذَكَرنَا في كِتَابِ اللِّعَانِ لِأَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ
النَّقْلَ فَكَانَ قَوِيًّا فَلَا يَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ بِنَفْسِ النَّفْيِ ما
لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ اللِّعَانُ وَلِهَذَا إذَا كان الْعُلُوقُ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ
أو شُبْهَةِ نِكَاحٍ لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ لِأَنَّ
الِانْتِفَاءَ بِوَاسِطَةِ اللِّعَانِ وَلَا لِعَانَ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ
لِانْعِدَامِ الزَّوْجِيَّةِ حَقِيقَةً لِمَا عُلِمَ في كِتَابِ اللِّعَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ فَهُوَ نَسَبُ وَلَدِ زَوْجَةٍ لَا
يَجْرِي بَيْنَهُمَا اللِّعَانُ فإذا كان الزَّوْجَانِ مِمَّنْ لَا لِعَانَ
بَيْنَهُمَا لَا يَنْتَفِي نَسَبُ الْوَلَدِ بِالنَّفْيِ وَكَذَا النَّسَبُ بَعْدَ
الْإِقْرَارِ بِهِ لَا يَحْتَمِلُ النَّفْيَ لِأَنَّ النَّفْيَ يَكُونُ إنْكَارًا
بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُسْمَعُ إلَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ نَوْعَانِ نَصٌّ
وَدَلَالَةٌ لِمَا ذَكَرنَا في كِتَابِ اللِّعَانِ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ لَا غَيْرُ أَمَّا حُكْمُهُ في
النَّسَبِ فَقَدْ مَرَّ ذِكْرُهُ في أَثْنَاءِ مَسَائِلِ النَّسَبِ وَأَمَّا
حُكْمُهُ في الْمِلْكِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في حُكْمِ
تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ في أَصْلِ الْمِلْكِ وَالثَّانِي في قَدْرِ الْمِلْكِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبِيلُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ في أَصْلِ الْمِلْكِ ما هو
سَبِيلُ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ فيه من طَلَبِ التَّرْجِيحِ وَالْعَمَلِ
بِالرَّاجِحِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ وَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا يقدر ( (
( بقدر ) ) ) الْإِمْكَانِ تَصْحِيحًا لِلدَّعْوَتَيْنِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ رَجُلَانِ ادَّعَيَا دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا
وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَهِيَ لِلرَّاكِبِ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ
لِلدَّابَّةِ فَكَانَتْ في يَدِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا
____________________
(6/255)
كان
لِأَحَدِهِمَا عليه حَمْلٌ وَلِلْآخَرِ عليه كَوْرٌ مُعَلَّقٌ أو مِخْلَاةٌ ملعقة (
( ( معلقة ) ) ) فَصَاحِبُ الْحَمْلِ أَوْلَى لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كَانَا جميعا رَاكِبَيْنِ لَكِنَّ أَحَدَهُمَا في السَّرْجِ وَالْآخَرَ
رَدِيفُهُ فَهِيَ لَهُمَا في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أنها لِرَاكِبِ السَّرْجِ لِقُوَّةِ
يَدِهِ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُمَا جميعا اسْتَوَيَا في أَصِلْ
الِاسْتِعْمَالِ فَكَانَتْ الدَّابَّةُ في أَيْدِيهمَا فَكَانَتْ لَهُمَا وَلَوْ
كَانَا جميعا رَاكِبَيْنِ في السَّرْجِ فَهِيَ لَهُمَا إجْمَاعًا
لِاسْتِوَائِهِمَا في الِاسْتِعْمَالِ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا صَغِيرًا لَا
يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ وهو في أَيْدِيهمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إذَا كان
لَا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ كان بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ وَالْبَهَائِمِ فَتَبْقَى
الْيَدُ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو ادَّعَى صَبِيًّا صَغِيرًا مَجْهُولَ النَّسَبِ في يَدِهِ
أَنَّهُ عَبْدُهُ ثُمَّ كَبَرَ الصَّبِيُّ فَادَّعَى الْحُرِّيَّةَ فَالْقَوْلُ
قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
لِأَنَّهُ كان في يَدِهِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ فَلَا تَزُولُ يَدُهُ عنه إلَّا
بِدَلِيلٍ
وَبِمِثْلِهِ لو ادَّعَى غُلَامًا كَبِيرًا أَنَّهُ عَبْدُهُ وقال الْغُلَامُ أنا
حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُلَامِ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ في حَالٍ هو في يَدِ
نَفْسِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ ادَّعَيَا عَبْدًا كَبِيرًا فقال
الْعَبْدُ أنا عَبْدٌ لِأَحَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ
في ذلك
وَكَذَا إذَا كان الْعَبْدُ في يَدِ رَجُلٍ فَأَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ آخَرَ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ وَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ في إقْرَارِهِ
أَنَّهُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ إقْرَارٌ بِسُقُوطِ يَدِهِ عن
نَفْسِهِ فَكَانَ في يَدِ صَاحِبِ الْيَدِ فَلَا يُسْمَعُ قَوْلُهُ أَنَّهُ
لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا قَوْلَ له وَلَوْ قال كُنْت عَبْدَ فُلَانٍ
فَأَعْتَقَنِي وأنا حُرٌّ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْعَبْدِ وَيُحْكَمُ
بِحُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ إذْ الْحُرِّيَّةُ
أَصْلٌ في بَنِي آدَمَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له فَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ أَنَّهُ كان عَبْدًا فَقَدْ أَقَرَّ
بِزَوَالِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَثُبُوتِ الْعَارِضِ وهو الرِّقُّ منه فَصَارَ
الرِّقُّ فيه هو الْأَصْلَ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا له
وَلَوْ ادَّعَيَا ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ
بِذَيْلِهِ فَاللَّابِسُ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلثَّوْبِ
وَلَوْ ادَّعَيَا بِسَاطًا وَأَحَدُهُمَا جَالِسٌ عليه وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ
بِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا يَكُونُ الْجَالِسُ بِجُلُوسِهِ وَالنَّوْمُ عليه
أَوْلَى لِاسْتِوَائِهِمَا في الْيَدِ عليه وَلَوْ ادَّعَيَا دَارًا وَأَحَدُهُمَا
سَاكِنٌ فيها فَهِيَ لِلسَّاكِنِ
وَكَذَلِكَ لو كان أَحَدُهُمَا أَحْدَثَ فيها شيئا من بِنَاءٍ أو حَفْرٍ فَهِيَ
لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ
وَالْحَفْرِ تَصَرُّفٌ في الدَّارِ فَكَانَتْ في يَدِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ شَيْءٌ
من ذلك وَلَكِنَّ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فيها وَالْآخَرُ خَارِجٌ منها فَهِيَ
بَيْنَهُمَا
وَكَذَا إذَا كَانَا جميعا فيها لِأَنَّ الْيَدَ على الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ
بِالْكَوْنِ فيه وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ فيه وَلَوْ وُجِدَ خَيَّاطٌ
يَخِيطُ ثَوْبًا في دَارِ إنْسَانٍ فَاخْتَلَفَا في الثَّوْبِ فَالْقَوْلُ
لِصَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَإِنْ كان في يَدِ الْخَيَّاطِ صُورَةً
فَهُوَ في يَدِ صَاحِبِ الدَّارِ مَعْنًى لِأَنَّ الْخَيَّاطَ وما في يَدِهِ في
دَارِهِ وَالدَّارُ في يَدِهِ فما فيها يَكُونُ في يَدِهِ
حَمَّالٌ خَرَجَ من دَارِ رَجُلٍ وَعَلَى عَاتِقِهِ مَتَاعٌ فَإِنْ كان ذلك
الْحَامِلُ يُعْرَفُ بِبَيْعِ ذلك وَحَمْلِهِ فَهُوَ له لِأَنَّ الظَّاهِر شَاهِدٌ
له وَإِنْ كان لا يُعْرَفُ بِذَلِكَ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
شَاهِدٌ له
وَكَذَلِكَ حَمَّالٌ عليه كَارَّةٌ وهو في دَارِ بَزَّازٍ اخْتَلَفَا في
الْكَارَّةِ فَإِنْ كانت الْكَارَّةُ مِمَّا يُحْمَلُ فيها فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْحَمَّالِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له وَإِنْ كانت مِمَّا لَا يُحْمَلُ فيها
فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له
رَجُلٌ اصْطَادَ طَائِرًا في دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا فيه فَإِنْ اتَّفَقَا على
أَنَّهُ على أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لم يَسْتَوْلِ عليه قَطُّ فَهُوَ لِلصَّائِدِ
سَوَاءٌ اصْطَادَهُ من الْهَوَاءِ أو من الشَّجَرِ أو الْحَائِطِ لِأَنَّهُ
الْآخِذُ دُونَ صَاحِبِ الدَّارِ إذْ الصَّيْدُ لَا يَصِيرُ مَأْخُوذًا بِكَوْنِهِ
على حَائِطٍ أو شَجَرَةٍ وقد قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّيْدُ لِمَنْ
أَخَذَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا فقال صَاحِبُ الدَّارِ اصْطَدْتُهُ قَبْلَك أو
وَرِثْته وَأَنْكَرَ الصَّائِدُ فإنه يُنْظَرُ إنْ أَخَذَهُ من الْهَوَاءِ فَهُوَ
له لِأَنَّهُ الْآخِذُ إذْ لَا يَدَ لِأَحَدٍ على الْهَوَاءِ وَإِنْ أَخَذَهُ من
جِدَارِهِ أو شَجَرِهِ فَهُوَ لِصَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الْجِدَارَ وَالشَّجَرَ
في يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَا في أَخْذِهِ من الْهَوَاءِ أو من الْجِدَارِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ ما في دَارِ
إنْسَانٍ يَكُونُ في يَدِهِ
هَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ مَسْأَلَةٌ لِلصَّيْدِ على هذا الْفَصْلِ
وَلَوْ ادَّعَيَا وَأَحَدُهُمَا سَاكِنٌ فيها فَهِيَ لِلسَّاكِنِ فيها وَكَذَا لو
كان أَحْدَثَ فيها شيئا من بِنَاءٍ أو حَفْرٍ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ
وَالْحَفْرِ لِأَنَّ سُكْنَى الدَّارِ وَإِحْدَاثَ الْبِنَاءِ وَالْحَفْرِ
تَصَرُّفٌ في الدَّارِ فَكَانَتْ في يَدِهِ وَلَوْ لم يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك
وَلَكِنْ أَحَدَهُمَا دَاخِلٌ فيها وَالْآخَرُ خَارِجٌ منها فَهِيَ بَيْنَهُمَا
وَكَذَا لو كَانَا جميعا فيها لِأَنَّ الْيَدَ على الْعَقَارِ لَا تَثْبُتُ
بِالْكَوْنِ فيها وَإِنَّمَا
____________________
(6/256)
تَثْبُتُ
بِالتَّصَرُّفِ فيها ولم يُوجَدْ
وَلَوْ ادَّعَيَا حَائِطًا من دَارَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عليه جُذُوعٌ فَهُوَ له
لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لِلْحَائِطِ
وَلَوْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُذُوعٌ فَإِنْ كانت ثَلَاثَةً أو أَكْثَرَ
فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سَوَاءٌ اسْتَوَتْ جُذُوعُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أو
كانت لِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ بَعْدَ أَنْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةُ
جُذُوعٍ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا في اسْتِعْمَالِ الْحَائِطِ فَاسْتَوَيَا في
ثُبُوتِ الْيَدِ عليه
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْبَيْتِ أَنْ يَتَبَرَّعَ على الْآخَرِ بِمَا زَادَ على
الثَّلَاثَةِ ليس له ذلك لَكِنْ يُقَالُ له زِدْ أنت أَيْضًا إلَى تَمَامِ عَدَدِ
خَشَبِ صَاحِبِك إنْ أطلق ( ( ( أطاق ) ) ) الْحَائِطُ حَمْلَهَا وَإِلَّا
فَلَيْسَ لَك الزِّيَادَةُ وَلَا النَّزْعُ وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةُ
جُذُوعٍ وَلِلْآخَرِ جِذْعٌ أو جِذْعَانِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ
بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ زِيَادَةَ الِاسْتِعْمَالِ بِكَثْرَةِ الْجُذُوعِ
زِيَادَةٌ من جِنْسِ الْحُجَّةِ وَالزِّيَادَةُ من جِنْسِ الْحَجَّةِ لَا يَقَعُ
بها التَّرْجِيحُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان لِأَحَدِهِمَا ثَلَاثَةٌ وَلِلْآخَرِ
أَرْبَعَةٌ كان الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَإِنْ كان اسْتِعْمَالُ
أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ دَلَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَصْلُ الِاسْتِعْمَالِ لاقدره
وقد اسْتَوَيَا فيه
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنْ يُقَالَ نعم لَكِنَّ أَصْلَ الِاسْتِعْمَالِ لَا
يَحْصُلُ بِمَا دُونَ الثَّلَاثَةِ لِأَنَّ الْجِدَارَ لَا يُبْنَى له عَادَةً
وَإِنَّمَا يُبْنَى لِأَكْثَرَ من ذلك إلَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ مِمَّا لانهاية له
وَالثَّلَاثَةُ أَقَلُّ الْجَمْعِ الصَّحِيحِ فَقُيِّدَ بِهِ فَكَانَ ما وَرَاءَ
مَوْضِعِ الْجُذُوعِ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ
وَأَمَّا مَوْضِعُ الْجِذْعِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ على رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ
وَإِنَّمَا لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ حَقُّ ووضع ( ( ( وضع ) ) ) الْجِذْعِ لَا أَصْلُ
الْمِلْكِ وَعَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى له مَوْضِعُ الْجِذْعِ من
الْحَائِطِ وما رواءه ( ( ( وراءه ) ) ) لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ مُسْتَعْمِلٌ لِذَلِكَ
الْقَدْرِ حَقِيقَةً فَكَانَ ذلك الْقَدْرُ في يَدِهِ فَيَمْلِكُهُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْإِقْرَارِ ما مَرَّ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ لَا يَحْصُلُ
بِالْجِذْعِ وَالْجِذْعَيْنِ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى له عَادَةً فلم
يَكُنْ شَيْءٌ من الْحَائِطِ في يَدِهِ فَكَانَ كُلُّهُ في يَدِ صَاحِبِ
الْكَثِيرِ إلَّا أَنَّهُ ليس له دَفْعُ الْجُذُوعِ وَإِنْ كان مَوْضِعُ الْجِذْعِ
مَمْلُوكًا له لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْحَائِطِ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ
وَلِآخَرَ عليه حَقُّ الْوَضْعِ بِخِلَافِ ما لو أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ
الْحَائِطَ له لِأَنَّ له أَنْ يَدْفَعَ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ
فإذا أَقَامَهَا تُبَيِّنُ أَنَّ الْوَضْعَ من الْأَصْلِ كان بِغَيْرِ حَقِّ
وِلَايَةِ الدَّفْعِ وَلَيْسَ له ذلك حَالَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّا إنَّمَا
جَعَلْنَا الْحَائِطَ له لِظَاهِرِ الْيَدِ وَالظَّاهِرُ يَصْلُحُ لِلتَّقْرِيرِ
لَا لِلتَّغْيِيرِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَلَوْ كان الْحَائِطُ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ إحْدَى الدَّارَيْنِ اتِّصَالَ
الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ لِأَنَّهُ
كَالْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ الْتِزَاقٍ وَلِلْآخَرِ
جُذُوعٍ فَصَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ وَلَا
اسْتِعْمَالَ من صَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ
الْتِزَاقٍ وَارْتِبَاطٍ وَلِلْآخَرِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ فَصَاحِبُ التَّرْبِيعِ
أَوْلَى لِأَنَّ اتِّصَالَ التَّرْبِيعِ أَقْوَى من اتِّصَالِ الِالْتِزَاقِ
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ وَلِلْآخَرِ جُذُوعٍ فَالْحَائِطُ
لِصَاحِبِ التَّرْبِيعِ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ لَكِنَّ
الْكَلَامَ في صُورَةِ التَّرْبِيعِ فَنَقُولُ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّ التَّرْبِيعَ هو أَنْ يَكُونَ أَنْصَافُ أَلْبَانِ الْحَائِطِ
مُدَاخَلَةً حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ يُبْنَى كَذَلِكَ كَالْأَزَجِ وَالطَّاقَاتِ
فَكَانَ بِمَعْنَى النِّتَاجِ فَكَانَ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَفْسِيرَ التَّرْبِيعِ أَنْ
يَكُونَ طَرَفَا هذا الْحَائِط المدعي مُدَاخَلِينَ حَائِطَ إحْدَى الدَّارَيْنِ
وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَنْقُولٌ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَصِيرُ
الْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ إذَا كانت من جَانِبَيْ الْحَائِطِ كان صَاحِبُ
الِاتِّصَالِ أَوْلَى بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كانت من جَانِبٍ وَاحِدٍ فَعَلَى
قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى وَعَلَى
قَوْلِ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى
وَجْه قَوْلِ الطَّحَاوِيِّ ما ذَكَرْنَا أَنَّ ذلك بِمَعْنَى النِّتَاجِ حَيْثُ
حَدَثَ من بِنَائِهِ كَذَلِكَ فَكَانَ هو أَوْلَى
وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّ الْمُدَاخَلَةَ من الْجَانِبَيْنِ تُوجِبُ
الِاتِّحَادَ وَجَعْلَ الْكُلِّ بِنَاءً وَاحِدًا فَسَقَطَ حُكْمُ الِاسْتِعْمَالِ
لِضَرُورَةِ الِاتِّحَادِ فَمِلْكُ الْبَعْضِ يُوجِبُ مِلْكَ الْكُلِّ ضَرُورَةً
إلَّا أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ على الرَّفْعِ بَلْ يُتْرَكُ على حَالِهِ لِأَنَّ ذلك
ليس من ضَرُورَاتِ مِلْكِ الْأَصْلِ بَلْ يَحْتَمِلُ الِانْفِصَالَ عنه في
الْجُمْلَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقْفَ الذي هو بين بَيْتِ الْعُلُوِّ وَبَيْنَ
بَيْتِ السُّفْلِ هو مِلْكُ صَاحِبِ السُّفْلِ وَلِصَاحِبِ الْعُلُوِّ عليه حَقُّ
الْقَرَارِ حتى لو أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ رَفْعَ السَّقْفِ مُنِعَ منه شَرْعًا
كَذَا هذا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمِلْكُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلِصَاحِبِ
الْجُذُوعِ حَقُّ وَضْعِ الْجِذْعِ عليه بِخِلَافِ ما إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
____________________
(6/257)
أَنَّهُ
يُجْبَرُ على الرَّفْعِ وقد تَقَدَّمَ وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا
ثُمَّ فَرَّعَ أبو يُوسُفَ على ما رُوِيَ عنه من تَفْسِيرِ التَّرْبِيعِ أَنَّهُ
إذَا اشْتَرَى دَارًا وَلِرَجُلٍ آخِرَ دَارٌ يجنب ( ( ( بجنب ) ) ) تِلْكَ
الدَّارِ وَبَيْنَهُمَا حَائِطٌ وَأَقَامَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ له
فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ على الْبَائِعِ بِحِصَّتِهِ من الثَّمَنِ
إنْ كان مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ حَائِطِ الْمُدَّعِي ليس له أَنْ يَرْجِعَ على
الْبَائِعِ لِأَنَّهُ إذَا كان مُتَّصِلًا بِبِنَائِهِ لم يَتَنَاوَلْ الْبَيْعَ
فلم يَكُنْ مَبِيعًا فَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرُّجُوعِ وَإِنْ لم
يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ الْمُدَّعِي وهو مُتَّصِلٌ بِبِنَاءِ الدَّارِ
الْمَبِيعَةِ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ على الْبَائِعِ بِحِصَّةِ الْحَائِطِ
من الثَّمَنِ لِأَنَّهُ إذَا كان مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ
تَنَاوَلَهُ الْبَيْعُ فَكَانَ مَبِيعًا فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ عِنْدَ
الِاسْتِحْقَاقِ وَإِنْ كان مُتَّصِلًا بِحَائِطِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ
وَلِلْآخَرِ عليه جُذُوعٌ لَا يَرْجِعُ وَهَذَا يُؤَيِّدُ رِوَايَةَ الْكَرْخِيِّ
أَنَّ صَاحِبَ الْجُذُوعِ أَوْلَى من صَاحِبِ الِاتِّصَالِ إذَا كان من جَانِبٍ
وَاحِدٍ
وَلَوْ كان اتِّصَالَ تَرْبِيعٍ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ على
الْبَائِعِ لَا تُنْزَعُ الْجُذُوعُ بَلْ تُتْرَكُ على حَالِهَا لِمَا ذَكَرنَا
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا عليه سُتْرَةٌ أو بِنَاءٌ وَصَاحِبُهُ مُقِرٌّ بِأَنَّ
السُّتْرَةَ وَالْبِنَاءَ له فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ السُّتْرَةِ لِأَنَّهُ
مُسْتَعْمِلٌ الْحَائِطَ بِالسُّتْرَةِ فَكَانَ في يَدِهِ
وَلَوْ لم يَكُنْ عليه سُتْرَةٌ وَلَكِنْ لِأَحَدِهِمَا عليه مَرَادَيْ هو
الْقَصَبُ الْمَوْضُوعُ على رَأْسِ الْجِدَارِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا وَلَا
يَسْتَحِقُّ بِالْمُرَادِي وَالْبَوَادِي شيئا لِأَنَّ وَضْعَ الْمُرَادِي على
الْحَائِطِ ليس بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ لِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى له فَكَانَ
مُلْحَقًا بِالْعَدَمِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ
وَلَوْ كان وَجْهُ الْحَائِطِ إلَى أَحَدِهِمَا وَظَهْرُهُ إلَى الْآخَرِ وكان
أَنْصَافُ اللَّبِنِ أو الطَّاقَاتِ إلَى أَحَدِهِمَا فَلَا حُكْمَ لِشَيْءٍ من
ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَائِطُ بَيْنَهُمَا
وَعِنْدَهُمَا الْحَائِطُ لِمَنْ إلَيْهِ وَجْهُ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافُ اللَّبِنِ
وَالطَّاقَاتِ وَهَذَا إذَا جُعِلَ الْوَجْهُ وَقْتَ الْبِنَاءِ حين ما بَنَى
فَأَمَّا إذَا جُعِلَ بَعْدِ الْبِنَاءِ بِالنَّقْشِ وَالتَّطَيُّنِ فَلَا
عِبْرَةَ بِذَلِكَ إجْمَاعًا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا ادَّعَيَا بَابًا مُغْلَقًا على حَائِطٍ بين
دَارَيْنِ وَالْغَلْقُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْبَابُ لَهُمَا عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لِمَنْ إلَيْهِ الْغَلْقُ
وَلَوْ كان لِلْبَابِ غَلِقَانِ من الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ لَهُمَا إجْمَاعًا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ خُصٌّ بين دَارَيْنِ أو بين كَرْمَيْنِ وَالْقِمْطُ إلَى
أَحَدِهِمَا فَالْخُصُّ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا
يُنْظَرُ إلَى الْقِمْطِ وَعِنْدَهُمَا الْخُصُّ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا في هذه الْمَسَائِلِ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فإن
الناس في الْعَادَاتِ يَجْعَلُونَ وَجْهَ الْبِنَاءِ وَأَنْصَافَ اللَّبَنِ
وَالطَّاقَاتِ وَالْغَلْقِ وَالْقِمْطِ إلَى صَاحِبِ الدَّارِ فَيَدُلُّ على
أَنَّهُ بِنَاؤُهُ فَكَانَ في يَدِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذا دَلِيلُ الْيَدِ في الْمَاضِي لَا
وَقْتَ الدَّعْوَةِ وَالْيَدُ في الْمَاضِي لَا تَدُلُّ على الْيَدِ وَقْتَ
الدَّعْوَةِ وَالْحَاجَةُ في إثْبَاتِ الْيَدِ وَقْتَ الدَّعْوَةِ ثُمَّ في كل
مَوْضِعٍ قضى بِالْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا لِكَوْنِ المدعي في يَدِهِ تَجِبُ عليه
الْيَمِينُ لِصَاحِبِهِ إذَا طُلِبَ فَإِنْ حَلَفَ برىء وَإِنْ نَكِل يُقْضَى عليه
بِالنُّكُولِ وَعَلَى هذا إذَا اخْتَلَفَا في الْمُرُورِ في دَارٍ وَلِأَحَدِهِمَا
بَابٌ من دَارِهِ إلَى تِلْكَ الدَّارِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ مَنْعُ صَاحِبِ
الْبَابِ عن الْمُرُورِ فيها حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ إن له في دَارِهِ طَرِيقًا
وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبَابِ بِالْبَابِ شيئا لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ إلَى
دَارِ غَيْرِهِ قد يَكُونُ بِحَقٍّ لَازِمٍ وقد يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ أَصْلًا
وقد يَكُونُ بِحَقٍّ غَيْرِ لَازِمٍ وهو الْإِبَاحَةُ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا على
حَقِّ الْمُرُورِ في الدَّارِ مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَا لو شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّارِ كان يَمُرُّ فيها لم
يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شيئا لِاحْتِمَالِ أَنَّ مُرُورَهُ فيها كان
غَصْبًا أو إبَاحَةً وَلَئِنْ دَلَّتْ على أَنَّهُ كان لِحَقِّ الْمُرُورِ لَكِنْ
في الزَّمَانِ الْمَاضِي لِأَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ عليه فَلَا يَثْبُتُ بها
الْحَقُّ لِلْحَالِ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ له فيها طَرِيقًا فَإِنْ حَدُّوا
الطَّرِيقَ فَسَمَّوْا طُولَهُ وَعَرْضَهُ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ وَكَذَلِكَ إذَا
لم يَحُدُّوهُ كَذَا ذُكِرَ في الْكِتَابِ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ من حَمَلَ الْمَسْأَلَةَ على ما إذَا
شَهِدُوا على إقْرَارِ صَاحِبِ الدَّارِ بِالطَّرِيقِ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ
مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ المشهو ( ( ( المشهود ) ) ) بِهِ تَمْنَعُ صِحَّةَ
الشَّهَادَةِ
أَمَّا جَهَالَةُ الْمَقَرِّ بِهِ فَلَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ
وَمِنْهُمْ من أَجْرَى جَوَابَ الْكِتَابِ على إطْلَاقِهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ
طُولُهُ مَعْلُومٌ وَعَرْضُهُ مِقْدَارُ عَرْضِ الْبَابِ في مُتَعَارَفِ الناس
وَعَادَاتِهِمْ فَكَانَتْ هذه شَهَادَةُ بِمَعْلُومٍ فَتُقْبَلُ وَكَذَلِكَ لو
شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ طَرِيقًا في هذه الدَّارِ فَهُوَ على ما
ذَكَرنَا
وَعَلَى هذا إذَا كان لِرَجُلٍ مِيزَابٌ في دَارِ رَجُلٍ فَاخْتَلَفَا في مَسِيلِ
الْمَاءِ فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ عن التَّسْيِيلِ حتى يُقِيمَ
الْبَيِّنَةَ أَنَّ له في هذه الدَّارِ مَسِيلَ مَاءٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ
الْمِيزَابِ بِنَفْسِ الْمِيزَابِ شيئا لِمَا ذَكَرنَا وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو
اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمِيزَابَ إذَا كان قَدِيمًا فَلَهُ حَقُّ
التَّسْيِيلِ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في كِتَابِ الشُّرْبِ في نَهْرٍ في أَرْضِ رَجُلٍ يَسِيلُ فيه
الْمَاءُ فَاخْتَلَفَا في ذلك فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ إذَا
كان يَسِيلُ
____________________
(6/258)
فيه
الْمَاءُ كان النَّهْرُ مَشْغُولًا بِالْمَاءِ فَكَانَ النَّهْرُ مُسْتَعْمَلًا
بِهِ فَكَانَ في يَدِهِ بِخِلَافِ الْمِيزَابِ فإن مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا
إذَا لم يَكُنْ في الْمِيزَابِ مَاءٌ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ حتى لو كان فيه مَاءٌ
كان حُكْمُهُ حُكْمَ النَّهْرِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْمَاءَ يَسِيلُ في الْمِيزَابِ فَلَيْسَتْ
هذه الشَّهَادَةُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ التَّسْيِيلَ قد يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَكَذَا الشَّهَادَةُ ما قَامَتْ بِحَقٍّ كَائِنٍ على ما مَرَّ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ له حَقًّا في الدَّارِ من حَيْثُ التَّسْيِيلُ فَإِنْ
بَيَّنُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ وَإِنْ بَيَّنُوا
أَنَّهُ مَسِيلُ مَاءٍ دَائِمٍ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنْ لم
يُبَيِّنُوا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَيْضًا وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِ
الدَّارِ مع يَمِينِهِ أَنَّهُ لِلْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ أو لِمَاءِ الْمَطَرِ
لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَبَقِيَتْ الصِّفَةُ
مَجْهُولَةً فَيَتَبَيَّنُ بِبَيَانِ صَاحِبِ الدَّارِ لَكِنْ مع الْيَمِينِ
وَإِنْ لم يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ أَصْلًا يُسْتَحْلَفُ صَاحِبُ الدَّارِ
على ذلك فَإِنْ حَلَفَ برىء وَإِنْ نَكِل يُقْضَى بِالنُّكُولِ كما في بَابِ
الْأَمْوَالِ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ اخْتِلَافُ الزَّوْجَيْنِ في مَتَاعِ الْبَيْتِ وَلَا
بَيِّنَةَ لِأَحَدِهِمَا على ما ذَكَرنَا في كِتَابِ النِّكَاحِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ في قَدْرِ الْمِلْكِ فَهُوَ
كَاخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ في قَدْرِ الثَّمَنِ أو الْمَبِيعِ فَنَقُولُ
جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا اخْتَلَفَا فَلَا يخو ( (
( يخلو ) ) ) إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
الْمَبِيعِ فَإِنْ اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
قَدْرِ الثَّمَنِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في جِنْسِهِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
وَقْتِهِ وهو الْأَجَلُ
فَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ بِأَنْ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هذا الْعَبْدَ
بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت بِأَلْفٍ
فَهَذَا لَا يَخْلُو إمَّا إنْ كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَإِمَّا إنْ كانت
هَالِكَةً
فَإِنْ كانت قَائِمَةً فأما إنْ كانت قَائِمَةً على حَالِهَا لم تَتَغَيَّرْ
وأما إنْ تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ أو إلَى النُّقْصَانِ
فَإِنْ كانت قَائِمَةً على حَالِهَا لم تَتَغَيَّرْ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
سَوَاءٌ كان قبل الْقَبْضِ أو بَعْدَهُ
أَمَّا قبل الْقَبْضِ فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مدعي ( ( ( مدع ) ) )
وَمُدَّعًى عليه من وَجْهٍ
لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي على الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وهو يُنْكِرُ
وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي على الْبَائِعِ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَيْهِ عِنْدَ
أَدَاءِ الْأَلْفِ وهو يُنْكِرُ فَيَتَحَالَفَانِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ الْبَائِعُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي
مع يَمِينِهِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي على الْبَائِعِ شيئا لِسَلَامَةِ
الْمَبِيعِ له
وَالْبَائِعُ يَدَّعِي على الْمُشْتَرِي زِيَادَةَ ثَمَنٍ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَهُ مع يَمِينِهِ
إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا التَّحَالُفَ وهو الْحَلِفُ من الْجَانِبَيْنِ بِنَصٍّ
خَاصٍّ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَيُبْدَأُ بِيَمِينِ الْمُشْتَرِي في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ
وفي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يُبْدَأُ بِيَمِينِ الْبَائِعِ وَيُقَالُ إنَّهُ قَوْلُ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْيَمِينَ وَظِيفَةُ
الْمُنْكِرِ
وَالْمُشْتَرِي أَشَدُّ إنْكَارًا من الْبَائِعِ
لِأَنَّهُ مُنْكَرٌ في الْحَالَيْنِ جميعا قبل الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ
وَالْبَائِعُ بَعْدَ الْقَبْضِ ليس بِمُنْكِرٍ
لِأَنَّ الْمُشْتَرِي لَا يَدَّعِي عليه شيئا فَكَانَ أَشَدَّ إنْكَارًا منه
وَقَبْلَ الْقَبْضِ إنْ كان مُنْكِرًا لَكِنَّ الْمُشْتَرِي أَسْبَقُ إنْكَارًا
منه لِأَنَّهُ يُطَالَبُ أَوَّلًا بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ حتى يَصِيرَ عَيْنًا وهو
يُنْكِرُ فَكَانَ أَسْبَقَ إنْكَارًا من الْبَائِعِ فَيُبْدَأُ بِيَمِينِهِ
فَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى الْبَائِعِ لِأَنَّ النُّكُولَ بَذْلٌ أو إقْرَارٌ
وَإِنْ حَلَفَ يَحْلِفُ الْبَائِعُ
ثُمَّ إذَا تَحَالَفَا هل يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ بِنَفْسِ التَّحَالُفِ أو
يُحْتَاجُ فيه إلَى فَسْخِ الْقَاضِي
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَنْفَسِخُ
ينفس ( ( ( بنفس ) ) ) التَّحَالُفِ لِأَنَّهُمَا إذَا تُحَالَفَا لم يَكُنْ في
بَقَاءِ الْعَقْدِ فَائِدَةٌ فَيَنْفَسِخُ
وقال بَعْضُهُمْ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِهِمَا أو
طَلَبِ أَحَدِهِمَا وهو الصَّحِيحُ
حتى لو أَرَادَ أَحَدُهُمَا إمْضَاءَ الْبَيْعِ بِمَا يَقُولُهُ صَاحِبُهُ فَلَهُ
ذلك من غَيْرِ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ لِأَنَّ احْتِمَالَ الْفَائِدَةِ ثَابِتٌ
لِاحْتِمَالِ التَّصْدِيقِ من أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ وَالْعَقْدُ الْمُنْعَقِدُ
قد يَبْقَى لِفَائِدَةٍ مُحْتَمَلَةِ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ
بِيَقِينٍ فَلَا يَزُولُ لِاحْتِمَالِ عَدَمِ الْفَائِدَةِ على الْأَصْلِ
الْمَعْهُودِ في الثَّابِتِ بِيَقِينٍ لِأَنَّهُ لَا يَزُولُ بِالِاحْتِمَالِ
فَلَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِفَسْخِ الْقَاضِي وَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِانْعِدَامِ
الْفَائِدَةِ لِلْحَالِ وَلِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِفَسْخِ
الْقَاضِي لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَحَالَفَا صَارَ الثَّمَنُ مَجْهُولًا
فَيَتَنَازَعَانِ فَلَا بُدَّ من قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا تَنْقَطِعُ إلَّا
بِالْقَضَاءِ بِالْفَسْخِ
هذا إذَا كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا من غَيْرِ تَغَيُّرٍ فَأَمَّا
إذَا كانت تَغَيَّرَتْ ثُمَّ اخْتَلَفَا في قَدْرِ الثَّمَنِ فَلَا يَخْلُو أما إن
تَغَيَّرَتْ إلَى الزِّيَادَةِ وَإِمَّا إن تَغَيَّرَتْ إلَى النُّقْصَانِ فَإِنْ
كان التَّغْيِيرُ إلَى الزِّيَادَةِ فَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً
مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالسَّمْنِ وَالْجَمَالِ مَنَعَتْ التَّحَالُفَ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ
____________________
(6/259)
اللَّهُ
لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ بِنَاءً على أَنَّ هذه
الزِّيَادَةَ تُمْنَع الْفَسْخَ عِنْدَهُمَا في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ
فَتَمْنَعُ التَّحَالُفَ وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ الْفَسْخَ فَلَا تَمْنَعُ
التَّحَالُفَ
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَة غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ كَالصَّبْغِ
في الثَّوْبِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ في الْأَرْضِ فَكَذَلِكَ تَمْنَعُ
التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ لَا تَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي
الْقِيمَةَ لِمَنْ هُمَا عِنْدَهُ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الزِّيَادَةِ
بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ وَهَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الزِّيَادَةَ
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً من الْأَصْلِ كَالْوَلَدِ
وَالْأَرْشِ وَالْعُقْرِ فَهُوَ على هذا الِاخْتِلَافِ
وَإِنْ كانت الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً غير مُتَوَلِّدَةٍ من الْأَصْلِ
كَالْمَوْهُوبِ في الْمَكْسُوبِ لَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ إجْمَاعًا
فَيَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْعَيْنَ لِأَنَّ هذه الزِّيَادَةَ لَا
تَمْنَعُ الْفَسْخَ في عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ
وَكَذَا هِيَ لَيْسَتْ في مَعْنَى هَلَاكِ الْعَيْنِ فَلَا تَمْنَعُ التَّحَالُفَ
وإذا تَحَالَفَا يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ دُونَ الزِّيَادَةِ وَكَانَتْ
الزِّيَادَةُ له لِأَنَّهَا حَدَّثَتْ على مِلْكِهِ وَتَطِيبُ له لِعَدَمِ تَمَكُّنِ
الْحِنْثِ فيها
هذا إذَا تَغَيَّرَتْ السِّلْعَةُ إلَى الزِّيَادَةِ فَأَمَّا إذَا تَغَيَّرَتْ
إلَى النُّقْصَانِ في يَدِ الْمُشْتَرِي فَنَذْكُرُ حُكْمَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
هذا إذَا كانت السِّلْعَةُ قَائِمَةً
فَأَمَّا إذَا كانت هَالِكَةً فَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَالْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ في مِقْدَارِ الثَّمَنِ
فَإِنْ حَلَفَ لَزِمَهُ ما أَقَرَّ بِهِ
وَإِنْ نَكِل لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي
الْقِيمَةَ
فَإِنْ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الْقِيمَةِ على قَوْلِهِ كان الْقَوْلُ قَوْلَ
الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ في مِقْدَارِ الْقِيمَةِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ هل يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا
يَمْنَعُ وَعِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
أَثْبَتَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ التَّحَالُفَ مُطْلَقًا عن شَرْطِ قِيَامِ
السِّلْعَةِ وَلَا يُقَالُ وَرَدَ هُنَا نَصٌّ خَاصٌّ مُقَيَّدٌ بِحَالِ قِيَامِ
السِّلْعَةِ
وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ
وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِأَنَّ الْمَذْهَبَ
عِنْدَنَا أَنَّ الْمُطْلَقَ لَا يُحْمَلُ على الْمُقَيَّدِ لِمَا في الْحَمْلِ من
ضَرْبِ النُّصُوصِ بَعْضِهَا في بَعْضٍ بَلْ يَجْرِي الْمُطْلَقُ على إطْلَاقِهِ
وَالْمُقَيَّدُ على تَقْيِيدِهِ
فَكَانَ جَرَيَانُ التَّحَالُفِ حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ ثَابِتًا بِنَصَّيْنِ
وَحَالُ هَلَاكِهَا ثَابِتًا بِنَصٍّ وَاحِدٍ وهو النَّصُّ الْمُطْلَقُ وَلَا
تَنَافِي بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا جميعا
وَلَهُمَا الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ وهو الْحَلِفُ من الْجَانِبَيْنِ
بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوْجَبَ
جِنْسَ الْيَمِينِ على جِنْسِ الْمُنْكِرِينَ
فَلَوْ وَجَبَتْ يَمِينٌ لَا على مُنْكِرٍ لم يَكُنْ جِنْسُ الْيَمِينِ على جِنْسِ
الْمُنْكِرِينَ
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَالْمُنْكِرُ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه هو
الْمُشْتَرِي
لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه زِيَادَةَ ثَمَنٍ وهو يُنْكِرُ
فَأَمَّا الْإِنْكَارُ من قِبَلِ الْبَائِعِ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَدَّعِي
عليه شيئا فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ التَّحَالُفُ حَالَ قِيَامِ
السِّلْعَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِنَصٍّ خَاصٍّ مُقَيَّدٍ وهو
قَوْلُهُ عليه السلام إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ
بِعَيْنِهَا تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
وَهَذَا الْقَيْدُ ثَابِتٌ في النَّصِّ الْآخَرِ أَيْضًا دَلَالَةً لِأَنَّهُ قال
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَتَرَادَّا
وَالتَّرَادُّ لَا يَكُونُ إلَّا حَالَ قِيَامِ السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ
حَالَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ منبتا ( ( ( مثبتا ) ) ) بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
وَيَسْتَوِي هَلَاكُ كل السِّلْعَةِ وَبَعْضِهَا في الْمَنْعِ من التَّحَالُفِ
أَصْلًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ هَلَاكُ السِّلْعَةِ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ في قَدْر
الْهَالِكِ لَا غير وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَمْنَعُ أَصْلًا حتى لو اشْتَرَى
عَبْدَيْنِ فَقَبَضَهُمَا ثُمَّ هَلَكَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ
الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَلَا
يَتَحَالَفَانِ إلَّا أَنْ يرضي الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْقَائِمَ وَلَا
يَأْخُذُ من ثَمَنِ الْهَالِكِ شيئا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يَتَحَالَفَانِ على الْهَالِكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمُشْتَرِي في حِصَّةِ الْهَالِكِ وَيَتَحَالَفَانِ على الْقَائِمِ
وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ عَلَيْهِمَا وَيَرُدُّ قِيمَةَ
الْهَالِكِ أَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَدْ مَرَّ على أَصْلِهِ لِأَنَّ
هَلَاكَ كل السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ
أَوْلَى
وَكَذَلِكَ لِأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من التَّحَالُفِ هو الْهَلَاكُ
فَيَتَقَدَّرُ الْمَنْعُ بِقَدْرِهِ تَقْدِيرًا لِلْحُكْمِ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الحديث يَنْفِي التَّحَالُفَ بَعْدَ قَبْضِ السِّلْعَةِ
لِمَا ذَكَرنَا إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا ذلك بِنَصٍّ خَاصٍّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في
حَالِ قِيَامِ كل السِّلْعَةِ فَبَقِيَ التَّحَالُفُ حَالَ هَلَاكِ بَعْضِهَا
مَنْفِيًّا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ وَلِأَنَّ قَدْرَ الثَّمَنِ الذي يُقَابِلُ
الْقَائِمَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْحَزْرِ وَالظَّنِّ فَلَا يَجُوزُ
التَّحَالُفُ عليه إلَّا إذَا شَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الحي ( ( ( الحد ) )
) وَلَا يَأْخُذَ من ثَمَنِ الْهَالِكِ شيئا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ لِأَنَّهُ
رضي أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ كُلُّهُ بِمُقَابِلَةِ الْقَائِمِ فَيَخْرُجُ
الْهَالِكُ
____________________
(6/260)
عن
الْعَقْدِ كَأَنَّهُ ما وَقَعَ الْعَقْدُ عليه وَإِنَّمَا وَقَعَ على الْقِيَامِ
فَيَتَحَالَفَانِ عليه وَسَوَاءٌ كان هَلَاكُ الْمَبِيعِ حَقِيقَةً أو حُكْمًا
بِأَنْ خَرَجَ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِسَبَبٍ من الْأَسْبَابِ لِأَنَّ
الْهَالِكَ حُكْمًا يُلْحَقُ بِالْهَالِكِ حَقِيقَةً وقد مَرَّ الِاخْتِلَافُ فيه
وَسَوَاءٌ خَرَجَ كُلُّهُ أو بَعْضُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ
فَخُرُوجُ الْبَعْضِ في الْمَنْعِ من التَّحَالُفِ بِمَنْزِلَةِ خُرُوجِ الْكُلِّ
عِنْدَهُمَا لِأَنَّ التَّحَالُفَ هُنَا يُؤَدِّي إلَى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ على
الْبَائِعِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ
الْقَائِمَ وَحِصَّةَ الْخَارِجِ من الثَّمَنِ بِقَوْلِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ
يَتَحَالَفَانِ على الْقَائِمِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي ما بَقِيَ في مِلْكِهِ
وَعَلَيْهِ حِصَّةُ الْخَارِجِ بِقَوْلِهِ وَهَذَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ فَأَمَّا
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ فَلَا يَتَحَالَفَانِ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا وَأَمَّا
عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَيَتَحَالَفَانِ لِأَنَّ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ
التَّحَالُفَ عِنْدَهُ فَالْحُكْمِيُّ أَوْلَى ثُمَّ هَلَاكُ الْكُلِّ بِأَنْ
خَرَجَ كُلُّهُ عن مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ
أَوْلَى وإذا تَحَالَفَا عِنْدَهُ فَإِنْ هَلَكَ كُلُّ الْمَبِيعِ بِأَنْ خَرَجَ
كُلُّهُ عن مِلْكِهِ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ إنْ لم يَكُنْ مِثْلِيًّا
وَالْمِثْلُ إنْ كان مِثْلِيًّا
وَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهُ بِأَنْ خَرَجَ الْبَعْضُ عن مِلْكِهِ دُونَ الْبَعْضِ
يُنْظَرُ إنْ كان الْمَبِيعُ مِمَّا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ أو في تَشْقِيصِهِ
عَيْبٌ فَالْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ
الْبَاقِيَ وَقِيمَةَ الْهَالِكِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الْبَاقِيَ وَأَخَذَ قِيمَةَ
الْكُلِّ وَإِنْ كان الْمَبِيعُ مِمَّا لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ وَلَا عَيْبَ في
تَشْقِيصِهِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِيَ وَمِثْلَ الْفَائِتِ إنْ كان
مِثْلِيًّا وَقِيمَتَهُ إنْ لم يَكُنْ مِثْلِيًّا
وَلَوْ خَرَجَتْ السِّلْعَةُ عن مِلْكِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ عَادَتْ إله ( ( ( إليه
) ) ) ثُمَّ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الثَّمَنِ نُظِرَ في ذلك إنْ كان الْعَوْدُ
فَسْخًا بِأَنْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَتَحَالَفَانِ
وَيَرُدُّ الْعَيْنَ لِأَنَّ الْفَسْخَ رَفْعٌ من الْأَصْلِ فَجُعِلَ كَأَنَّهُ لم
يَكُنْ وإذا لم يَكُنْ الْعَوْدُ فَسْخًا بِأَنْ كان مِلْكًا جَدِيدًا لَا
يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ
الْعَوْدَ إذَا لم يَكُنْ فَسْخًا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْهَلَاكَ لم يَكُنْ وَالْهَلَاكُ
يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ
الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ لَا الْعَيْنَ
وَكَذَلِكَ لو لم يَخْرُجْ الْمَبِيعُ عن مِلْكِهِ لَكِنَّهُ صَارَ بِحَالٍ
يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ وَإِمَّا بِالنُّقْصَانِ
أَمَّا حُكْمُ الزِّيَادَةِ فَقَدْ مَرَّ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه وَأَمَّا
حُكْمُ النُّقْصَانِ فَيُخَرَّجُ على هذا الْأَصْلِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ من بَابِ
الْهَلَاكِ فَنَقُولُ إذَا انتقص ( ( ( انتقض ) ) ) الْمَبِيعُ في يَدِ الْمُشْتَرِي
ثُمَّ اخْتَلَفَا في مِقْدَارِ الثَّمَنِ لم يَتَحَالَفَا عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كان
النُّقْصَانُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ
الْمُشْتَرِي أو بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ لِأَنَّ
نُقْصَانَ الْمَبِيع هَلَاكُ جُزْءٍ منه وَهَلَاكُ الْجُزْءِ في الْمَنْعِ من
التَّحَالُفِ كَهَلَاكِ الْكُلِّ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَا
يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا إذَا كان النُّقْصَانُ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أو بِفِعْلِ الْمَبِيعِ أو بِفِعْلِ الْمُشْتَرِي وَرَضِيَ
الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ
النُّقْصَانِ شيئا فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ وَيُتَرَادَّانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدِ
يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ الْبَائِعُ بَعْدَ التَّحَالُفِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ
أَخَذَ الْمَبِيعَ نَاقِصًا وَلَا يَأْخُذُ لِأَجَلِ النُّقْصَانِ شيئا وَإِنْ
شَاءَ تَرَكَ وَأَخَذَ الْقِيمَةَ
وقال بَعْضُهُمْ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ إنْ اخْتَارَ أَخْذَ الْعَيْنِ يَأْخُذُ
مَعَهَا النُّقْصَانَ كَالْمَقْبُوضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَإِنْ كان
النُّقْصَانُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ أو بِفِعْلِ الْبَائِعِ يَتَحَالَفَانِ
وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَتَحَالَفَانِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مع يَمِينِهِ هذا إذَا اخْتَلَفَا في قَدْرِ
الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في جِنْسِهِ بِأَنْ قال أَحَدُهُمَا الثَّمَنُ
عَيْنٌ وقال الْآخَرُ هو دِينٌ فَإِنْ كان مُدَّعِي الْعَيْنِ هو الْبَائِعَ
بِأَنْ قال لِلْمُشْتَرِي بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هذا
وقال الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ اشْتَرَيْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كانت
الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وتردا ( ( ( وترادا ) ) ) لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ
قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا من غَيْرِ فِصَلٍ بين ما إذَا كان الِاخْتِلَافُ
في قَدْرِ الثَّمَنِ أو في جِنْسِهِ
وَإِنْ كانت هَالِكَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي لَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي في الثَّمَنِ مع
يَمِينِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ هَلَاكِ
السِّلْعَةِ وقد مَرَّتْ وَإِنْ كان مُدَّعِي الْعَيْنِ هو الْمُشْتَرِي بِأَنْ
قال اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِعَبْدِي هذا
وقال الْبَائِعُ بِعْتهَا مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو بِمِائَةِ دِينَارٍ فَإِنْ
كانت الْجَارِيَةُ قَائِمَةً يَتَحَالَفَانِ بِالنَّصِّ وَإِنْ كانت هَالِكَةً
يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ أما على
أَصْلِ مُحَمَّدٍ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُ لَا يَمْنَعُ
التَّحَالُفَ وأما على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّ وُجُوبَ الْيَمِينِ على الْمُشْتَرِي
ظَاهِرٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي عليه ثَمَنَ الْجَارِيَةِ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وهو يُنْكِرُ
وَأَمَّا وُجُوبُ الْيَمِينِ على الْبَائِعِ فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي
عليه إلزم ( ( ( إلزام ) ) ) الْعَيْنِ وهو يُنْكِرُ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مُدَّعِيًا من وَجْهٍ مُنْكِرًا من وَجْهٍ فَيَتَحَالَفَانِ وَلَوْ كان
الْبَائِعُ يَدَّعِي عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي
____________________
(6/261)
الْكُلَّ
دَيْنًا بِأَنْ قال الْبَائِعُ بِعْت مِنْك جَارِيَتِي بِعَبْدِك هذا وَبِأَلْفِ
دِرْهَمٍ
وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت جَارِيَتَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كان الْمَبِيعُ
وهو الْجَارِيَةُ قَائِمًا تَحَالَفَا بِالنَّصِّ وَإِنْ كان هَالِكًا فَهُوَ على
الِاخْتِلَافِ وَلَوْ كان الْأَمْرُ على الْعَكْسِ من ذلك كَأَنْ يَدَّعِيَ
الْبَعْضَ عَيْنًا وَالْبَعْضَ دَيْنًا وَالْبَائِعُ يَدَّعِي الْكُلَّ دَيْنًا
بِأَنْ قال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك جَارِيَتَك بِعَبْدِي هذا وَبِأَلْفِ
دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ خَمْسُمِائَةٍ
وقال الْبَائِعُ بِعْتُك جَارِيَتِي هذه بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ كانت
الْجَارِيَةُ قَائِمَةً تَحَالَفَا وَتَرَادَّا بِالنَّصِّ وَإِنْ كانت هَالِكَةً
يَتَحَالَفَانِ أَيْضًا إجْمَاعًا إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا تُقَسَّمُ الْجَارِيَةُ
على قِيمَة الْعَبْدِ وَعَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فما كان بِإِزَاءِ الْعَيْنِ وهو
الْعَبْدُ وَذَلِكَ ثُلُثُ الْجَارِيَةِ يَرُدُّ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ وما كان
بِإِزَاءِ الدَّيْنِ وهو الْأَلْفُ وَذَلِكَ ثُلُثَا الْجَارِيَةِ يَرُدُّ أَلْفَ
دِرْهَمٍ وَلَا يَرُدُّ الْقِيمَةَ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ
لو كان يَدَّعِي كُلَّ الثَّمَنِ عَيْنًا كَانَا يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ
الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ على ما ذَكَرنَا
وَلَوْ كان كُلُّ الثَّمَنِ دَيْنًا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَا
يَتَحَالَفَانِ على ما مَرَّ فإذا كان يَدَّعِي بَعْضَ الثَّمَنِ عَيْنًا
وَبَعْضَهُ دَيْنًا يَرُدُّ الْقِيمَةَ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
بِإِزَاءِ الدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ
يَتَحَالَفَانِ وَيَرُدُّ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ
هذا إذَا اخْتَلَفَا في جِنْسِ الثَّمَنِ فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في وَقْتِهِ
وهو الْأَجَلُ مع اتِّفَاقِهِمَا على قَدْرِهِ وَجِنْسِهِ فَنَقُولُ هذا لَا
يَخْلُو من أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْأَجَلِ
وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ
وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جميعا فَإِنْ اخْتَلَفَا في
أَصْلِهِ لَا يَتَحَالَفَانِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مع يَمِينِهِ لِأَنَّ
الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ وهو مُنْكِرٌ لِوُجُودِهِ وَلِأَنَّ
الْأَصْلَ في الثَّمَنِ هو الْحُلُولُ وَالتَّأْجِيلُ عَارِضٌ فَكَانَ الْقَوْلُ
قَوْلَ من يَدَّعِي الْأَصْلَ وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ
أَيْضًا لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ مع اتِّفَاقِهِمَا على أَصْلِهِ وَقَدْرِهِ
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لم يَمْضِ لِأَنَّ الْأَجَلَ صَارَ
حَقًّا له بِتَصَادُقِهِمَا فَكَانَ الْقَوْلُ فيه قَوْلَهُ وَإِنْ اخْتَلَفَا في
الْقَدْرِ وَالْمُضِيِّ جميعا فقال الْبَائِعُ الْأَجَلُ شَهْرٌ وقد مَضَى وقال
الْمُشْتَرِي شَهْرَانِ ولم يَمْضِيَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ في الْقَدْرِ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي في الْمُضِيِّ فَيُجْعَلُ الْأَجَلُ شَهْرًا لم
يَمْضِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْبَائِعِ في الْقَدْرِ وَلِلْمُشْتَرِي في
الْمُضِيِّ على ما مَرَّ
هذا إذَا هَلَكَ الْمَبِيعُ كُلُّهُ أو بَعْضُهُ حَقِيقَةً أو حُكْمًا فَأَمَّا
إذَا هَلَكَ الْعَاقِدَانِ أو أَحَدُهُمَا وَالْمَبِيعُ قَائِمٌ فَاخْتَلَفَ
وَرَثَتُهُمَا أو الْحَيُّ مِنْهُمَا وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ فَإِنْ كانت
السِّلْعَةُ غير مَقْبُوضَةٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِأَنَّ لِلْقَبْضِ شَبَهًا
بِالْعَقْدِ فَكَانَ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عليه من الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ
ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ منه فَيَجْرِي بَيْنَهُمَا التَّحَالُفُ إلَّا أَنَّ
الْوَارِثَ يَحْلِفُ على الْعِلْمِ لَا على الْبَتَاتِ لِأَنَّهُ يَحْلِفُ على
فِعْلِ الْغَيْرِ وَلَا عِلْمَ له بِهِ وَإِنْ كانت السِّلْعَةُ مَقْبُوضَةً فَلَا
تَحَالُفَ عِنْدَهُمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي أو وَرَثَتِهِ بَعْدَ
مَوْتِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَتَحَالَفَانِ
وَالْأَصْلُ أَنَّ هَلَاكَ الْعَاقِدِ بَعْدَ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عليه كَهَلَاكِ
الْمَعْقُودِ عليه وَهَلَاكُ الْمَعْقُودِ عليه يَمْنَعُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُمَا
فَكَذَا هَلَاكُ الْعَاقِدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ذلك لَا يَمْنَعُ من التَّحَالُفِ
كَذَا هذا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ الْخَبَرَ الْمَشْهُورَ يَمْنَعُ من
التَّحَالُفِ لَكُنَّا عَرَفْنَاهُ بِنَصٍّ خَاصٍّ حَالَ قِيَامِ الْعَاقِدَيْنِ
لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَحَالُفَ الْمُتَبَايِعَيْنِ وَالْمُتَبَايِعُ من وُجِدَ منه
فِعْلُ الْبَيْعِ ولم يُوجَدْ من الْوَارِثِ حَقِيقَةً فَبَقِيَ التَّحَالُفُ
بَعْدَ هَلَاكِهِمَا أو هَلَاكِ أَحَدِهِمَا مَنْفِيًّا بِالْخَبَرِ الْمَشْهُورِ
هذا إذَا اخْتَلَفَا في الثَّمَنِ أَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في الْمَبِيعِ فَنَقُولُ
لَا يَخْلُو الْمَبِيعُ من أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أو دَيْنًا وهو الْمُسَلَّمُ فيه
فَإِنْ كان عَيْنًا فَاخْتَلَفَا في جِنْسِهِ أو في قَدْرِهِ بِأَنْ قال
الْبَائِعُ بِعْت مِنْك هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي
اشْتَرَيْت مِنْك هذه الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أو قال الْبَائِعُ بِعْت
مِنْك هذا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وقال الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْت مِنْك هذا
الْعَبْدَ مع هذه الْجَارِيَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ
تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
وَإِنْ كان دَيْنًا وهو الْمُسَلَّمُ فيه فَاخْتَلَفَا فَنَقُولُ اخْتِلَافُهُمَا
في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا إنْ اخْتَلَفَا في
الْمُسَلَّمِ فيه مع اتِّفَاقِهِمَا على رَأْسِ الْمَالِ وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا
في رَأْسِ الْمَالِ مع اتِّفَاقِهِمَا في الْمُسَلَّمِ فيه
وَإِمَّا إنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جميعا فَإِنْ اخْتَلَفَا في الْمُسَلَّمِ فيه مع
اتِّفَاقِهِمَا على رَأْس الْمَالِ فأما إنْ اخْتَلَفَا في جِنْسِ الْمُسَلَّمِ
فيه وأما إنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وأما إنْ اخْتَلَفَا في صِفَتِهِ وأما إنْ
اخْتَلَفَا في مَكَانِ إيفَائِهِ وأما إنْ اخْتَلَفَا في وَقْتِهِ وهو الْأَجَلُ
فَإِنْ اخْتَلَفَا في جِنْسِهِ أو قَدْرِهِ أو صِفَتِهِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
لِأَنَّ هذا اخْتِلَافٌ في الْمَعْقُودِ عليه وَأَنَّهُ يُوجِبُ التَّحَالُفَ
بِالنَّصِّ وَاَلَّذِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ هو الْمُسْلِمُ إلَيْهِ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وفي قَوْلِهِ الْآخَرِ وهو
قَوْلُ مُحَمَّدٍ هو رَبُّ السَّلَمِ
وَجْهُ
____________________
(6/262)
قَوْلِهِمَا
أَنَّ الِابْتِدَاءَ بِالْيَمِينِ من الْمُشْتَرِي كما في بَيْعِ الْعَيْنِ
وَرَبِّ السَّلَمِ هو الْمُشْتَرِي فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِهِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْيَمِينَ على الْمُنْكِرِ
وَالْمُنْكِرُ هو الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ وَلَا إنْكَارَ مع رَبِّ السَّلَمِ فَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْلِفَ أَصْلًا إلَّا أَنَّ التَّحْلِيفَ في جَانِبِهِ
ثَبَتَ بِالنَّصِّ
وقد رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَيْضًا أَنَّهُ قال أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالدَّعْوَى
يَسْتَحْلِفُ الْآخَرُ لِأَنَّهُ صَارَ مدعيا ( ( ( مدعى ) ) ) عليه وهو مُنْكِرٌ
وقال بَعْضُهُمْ التَّعْيِينُ إلَى الْقَاضِي يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَإِنْ
شَاءَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمَا فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ
وَلَوْ اخْتَلَفَا في مَكَانِ إيفَاءِ الْمُسَلَّمِ فيه
فقال رَبُّ السَّلَمِ شَرَطْت عَلَيْك الْإِيفَاءَ في مَكَانِ كَذَا
وقال الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ بَلْ شَرَطْت لَك الْإِيفَاءَ في مَكَانِ كَذَا
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَتَحَالَفَانِ بِنَاءً على أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَا
يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ عِنْدَهُ حتى كان تَرْكُ بَيَانِ مَكَانِ
الْإِيفَاءِ مُفْسِدًا لِلسَّلَمِ عِنْدَهُ فلم يَدْخُلْ مَكَانُ الْإِيفَاءِ في
الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ بَلْ بِالشَّرْطِ وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا لَا يَدْخُلُ في
الْعَقْدِ إلَّا بِالشَّرْطِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَالْأَجَلِ وَعِنْدَهُمَا
مَكَانُ الْعَقْدِ يَتَعَيَّنُ مَكَانًا لِلْإِيفَاءِ حتى لَا يَفْسُدَ السَّلَمُ
بِتَرْكِ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عندهم ( ( ( عندهما ) ) ) فَكَانَ
الْمَكَانُ دَاخِلًا في الْعَقْدِ من غَيْرِ شَرْطٍ فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في وَقْتِ الْمُسَلَّمِ فيه وهو الْأَجَلُ فَنَقُولُ لَا
يَخْلُو إمَّا إن اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْأَجَلِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في
قَدْرِهِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ وَإِمَّا إن اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ
وَمُضِيِّهِ جميعا فَإِنْ اخْتَلَفَا في أَصْلِ الْأَجَلِ لم يَتَحَالَفَا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَاحْتَجَّ
بِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا اخْتَلَفَ
الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَلِأَنَّ الِاخْتِلَافَ في أَصْلِ
الْمُسَلَّمِ فيه كَالِاخْتِلَافِ في صِفَتِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا صِحَّةَ
لِلسَّلَمِ بِدُونِ الْأَجَلِ كما لَا صِحَّةَ له بِدُونِ الْوَصْفِ فَصَارَ
الْأَجَلُ وَصْفًا لِلْمَعْقُودِ عليه شَرْعًا فَيُوجِبُ التَّحَالُفَ
وَلَنَا أَنَّ الْأَجَلَ ليس بِمَعْقُودٍ عليه وَالِاخْتِلَافُ فِيمَا ليس
بِمَعْقُودٍ عليه لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِخِلَافِ الِاخْتِلَافِ في الصِّفَةِ
لِأَنَّ الصِّفَةَ في الدَّيْنِ مَعْقُودٌ عليه كَالْأَجَلِ وَالِاخْتِلَافُ في
الْأَجَلِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَكَذَا في الصِّفَةِ وإذا لم يَتَحَالَفَا فَإِنْ
كان مُدَّعِي الْأَجَلِ هو رَبُّ السَّلَمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَجُوزُ
السَّلَمُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي صِحَّةَ الْعَقْدِ وَالْمُسَلَّمُ إلَيْهِ يَدَّعِي
الْفَسَادَ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ وَلِأَنَّ الْمُسَلَّمَ
إلَيْهِ مُتَعَنِّتٌ في إنْكَارِ الْأَجَلِ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُ وَالْمُتَعَنِّتُ
لَا قَوْلَ له وَإِنْ كان هو الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَيَجُوزُ السَّلَمُ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ
الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ السَّلَمِ وَيَفْسُدُ السَّلَمُ وهو قَوْلُهُمَا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ يُسْتَفَادُ من قِبَلِ رَبِّ السَّلَمِ
حَقًّا عليه شَرْعًا وأنه مُنْكِرٌ ثُبُوتَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ في
الشَّرْعِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ بِدَعْوَى الْأَجَلِ يَدَّعِي
صِحَّةَ الْعَقْدِ وَرَبُّ السَّلَمِ بِالْإِنْكَارِ يَدَّعِي فَسَادَهُ فَكَانَ
الْقَوْلُ قَوْلَ من يَدَّعِي الصِّحَّةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ له إذْ
الظَّاهِرُ من حَالِ الْمُسَلِّمِ اجْتِنَابُ الْمَعْصِيَةِ وَمُبَاشَرَةُ
الْعَقْدِ الْفَاسِدِ مَعْصِيَةٌ
وإذا كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ في أَصْلِ الْأَجَلِ كان الْقَوْلُ قَوْلَهُ في
مِقْدَارِ الْأَجَلِ أَيْضًا
وقال بَعْضُهُمْ الْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَى شَهْرٍ لِأَنَّهُ أَدْنَى الْآجَالِ
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ على شَهْرٍ فَلَا تَثْبُتُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ لم يَتَحَالَفَا عِنْدَنَا خِلَافًا لَزُفَرَ
وَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبّ السَّلَمِ لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ الْأَجَلَ أَمْرٌ
يُسْتَفَادُ من قِبَلِهِ فَيَرْجِعُ في بَيَانِ الْقَدْرِ إلَيْهِ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في مُضِيِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ
وَصُورَتُهُ إذَا قال رَبُّ السَّلَمِ كان الْأَجَلُ شَهْرًا وقد مَضَى
وقال الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ كان شَهْرًا ولم يَمْضِ وَإِنْ أَخَذْت السَّلَمَ
السَّاعَةَ كان الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ
لِأَنَّهُمَا لَمَّا تَصَادَقَا على أَصْلِ الْأَجَلِ وَقَدْرِهِ فَقَدْ صَارَ
الْأَجَلُ حَقًّا لِلْمُسَلَّمِ إلَيْهِ فَكَانَ الْقَوْلُ في الْمُضِيِّ قَوْلَهُ
وَإِنْ اخْتَلَفَا في قَدْرِهِ وَمُضِيِّهِ جميعا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ
السَّلَمِ في الْقَدْرِ وَقَوْلُ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ في المضي ( ( ( المعنى ) )
) لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِرَبِّ السَّلَمِ في الْقَدْرِ وَلِلْمُسَلَّمِ
إلَيْهِ في الْمُضِيِّ
هذا إذَا اخْتَلَفَا في الْمُسَلَّمِ فيه مع اتِّفَاقِهِمَا على رَأْسُ الْمَالِ
فَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَا في رَأْسِ الْمَالِ مع اتِّفَاقِهِمَا في الْمُسَلَّمِ
فيه تَحَالَفَا وَتَرَادَّا أَيْضًا
سَوَاءٌ اخْتَلَفَا في جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ أو قَدْرِهِ أو صِفَتِهِ لِمَا
قُلْنَا في الِاخْتِلَافِ في الْمُسَلَّمِ فيه إلَّا أَنَّ الذي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ
هَهُنَا هو رَبُّ السَّلَمِ في قَوْلِهِمْ جميعا لِأَنَّهُ الْمُشْتَرِي وهو
الْمُنْكِرُ أَيْضًا
وَإِنْ اخْتَلَفَا فِيهِمَا جميعا فَكَذَلِكَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا لِأَنَّهُمَا
اخْتَلَفَا في الْمَبِيعِ وَالثَّمَنِ
وَالِاخْتِلَافُ في أَحَدِهِمَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ فَفِيهِمَا أَوْلَى
وَالْقَاضِي يَبْدَأُ بِالْيَمِينِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بين ( ( ( بيان ) ) ) حُكْمِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ الثَّابِتِ في
الْمَحِلِّ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ حُكْمُ الْمِلْكِ وِلَايَةُ
التَّصَرُّفِ لِلْمَالِكِ في
____________________
(6/263)
الْمَمْلُوكِ
بِاخْتِيَارِهِ ليس لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْجَبْرِ عليه إلَّا لِضَرُورَةٍ وَلَا
لِأَحَدٍ وِلَايَةُ الْمَنْعِ عنه وَإِنْ كان يَتَضَرَّرُ بِهِ
إلَّا إذَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَيُمْنَعُ عن التَّصَرُّفِ من غَيْرِ
رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ وَغَيْرُ الْمَالِكِ لَا يَكُونُ له التَّصَرُّفُ في
مِلْكِهِ من غَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ وَكَذَلِكَ حُكْمُ
الْحَقِّ الثَّابِتِ في الْمَحِلِّ
إذا عَرَفَ هذا فَنَقُولُ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ في مِلْكِهِ أَيَّ
تَصَرُّفٍ شَاءَ سَوَاءٌ كان تَصَرُّفًا يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى غَيْرِهِ أو لَا
يَتَعَدَّى فَلَهُ أَنْ يَبْنِيَ في مِلْكِهِ مِرْحَاضًا أو حَمَّامًا أو رَحًى أو
تَنُّورًا وَلَهُ أَنْ يُقْعِدَ في بِنَائِهِ حَدَّادًا أو قَصَّارًا وَلَهُ أَنْ
يَحْفِرَ في مِلْكِهِ بِئْرًا أو بَالُوعَةً أو دِيمَاسًا وَإِنْ كان يُهِنَّ من
ذلك الْبِنَاءِ وَيَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ وَلَيْسَ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ حتى
لو طَلَب جَارُهُ تَحْوِيلَ ذلك لم يُجْبَرْ عليه لِأَنَّ الْمِلْكَ مُطْلَقٌ
لِلتَّصَرُّفِ في الْأَصْلِ وَالْمَنْعُ منه لِعَارِضِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ
فإذا لم يُوجَدْ التَّعَلُّقُ لَا يَمْنَعُ إلَّا أَنَّ الِامْتِنَاعَ عَمَّا
يُؤْذِي الْجَارَ دَيَّانَةً وَاجِبٌ لِلْحَدِيثِ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْمُؤْمِنُ من أَمِنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ وَلَوْ فَعَلَ شيئا من ذلك حتى وَهَنَ
الْبِنَاءُ وَسَقَطَ حَائِطُ الْجَارِ لَا يَضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ منه في
مِلْكِ الْغَيْرِ
وَعَلَى هذا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ انْهَدَمَا لم
يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ على بِنَاءِ السُّفْلِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ
وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ على عِمَارَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَكِنْ يُقَالُ
لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ إنْ شِئْت فَابْن السُّفْلَ من مَالِ نَفْسِك وَضَعَ عليه
عُلُوَّك ثُمَّ امْنَعْ صَاحِبَ السُّفْلِ عن الِانْتِفَاعِ بِالسُّفْلِ حتى
يَرُدَّ عَلَيْك قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَإِنْ كان
تَصَرُّفًا في مِلْكِ الْغَيْرِ لَكِنَّ فيه ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ
الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ في مِلْكِ غَيْرِهِ فَصَارَ
مُطْلَقًا له شَرْعًا وَلَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا
لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ لِحُصُولِهِ بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَإِطْلَاقِهِ فَلَهُ
أَنْ لَا يُمَكِّنَهُ من الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ إلَّا بِبَدَلٍ يَعْدِلُهُ وهو
الْقِيمَةُ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ أَنَّ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ وَكَذَا ذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّهُ
يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ لِأَنَّهُ لَمَّا لم يَقْدِرْ على الِانْتِفَاعِ
بِالْعُلُوِّ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ وَلَا ضَرَرَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ في
بِنَائِهِ بَلْ فيه نَفْعٌ صَارَ مَأْذُونًا بِالْإِنْفَاقِ من قِبَلِهِ دَلَالَةً
فَكَانَ له حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَنْفَقَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبِئْرِ
الْمُشْتَرَكِ وَالدُّولَابِ الْمُشْتَرَكِ وَالْحَمَّامِ الْمُشْتَرَكِ وَنَحْوِ
ذلك إذَا خَرِبَتْ فَامْتَنَعَ أَحَدُهُمَا عن الْعِمَارَةِ أَنَّهُ يُجْبَرُ
الْآخَرُ على الْعِمَارَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ ضَرُورَةً لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
الِانْتِفَاعُ بِهِ بِوَاسِطَةِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ
وَالتَّرْكَ لِذَلِكَ تَعْطِيلُ الْمِلْكِ وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهِمَا فَكَانَ الذي
أَبَى الْعِمَارَةَ مُتَعَنِّتًا مَحْضًا في الِامْتِنَاعِ فَيَدْفَعُ تَعَنُّتَهُ
بِالْجَبْرِ على الْعِمَارَةِ
هذا إذَا انْهَدَمَا بِأَنْفُسِهِمَا فَأَمَّا إذَا هَدَمَ صَاحِبُ السُّفْلِ
سُفْلَهُ حتى انْهَدَمَ الْعُلُوُّ يُجْبَرُ على إعَادَتِهِ لِأَنَّهُ أَتْلَفَ
حَقَّ صَاحِبِ الْعُلُوِّ بِإِتْلَافِ مَحِلِّهِ وَيُمْكِنُ جَبْرُهُ
بِالْإِعَادَةِ فَتَجِبُ عليه إعَادَتُهُ
وَعَلَى هذا حَائِطٌ بين دَارَيْنِ انْهَدَمَ وَلَهُمَا عليه جُذُوعٌ لم يُجْبَرْ
وَاحِدٌ مِنْهُمَا على بِنَائِهِ لِمَا قُلْنَا وَلَكِنْ إذَا أَبَى أَحَدُهُمَا
الْبِنَاءَ يُقَالُ لِلْآخَرِ إنْ شِئْت فَابْنِ من مَالِ نَفْسِك وَضَعْ خَشَبَك
عليه وَامْنَعْ صَاحِبَك من الْوَضْعِ حتى يَرُدَّ عَلَيْك نِصْفَ قِيمَةِ
الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا أو نِصْفَ ما أَنْفَقْته على حَسْبِ ما ذَكَرنَا في
السُّفْلِ وَالْعُلُوِّ
وَقِيلَ إنَّمَا يَرْجِعُ إذَا لم يَكُنْ مَوْضِعُ الْحَائِطِ عَرِيضًا وَلَا
يُمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ حَائِطًا على حِدَةٍ في نصيبه (
( ( نصبه ) ) ) بَعْدَ الْقِسْمَةِ
فَأَمَّا إذَا كان عَرِيضًا يُمْكِنُ قِسْمَتُهُ وَأَنْ يَبْنِيَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا في نَصِيبِهِ حَائِطًا يَصْلُحُ لِوَضْعِ الْجُذُوعِ عليه فَبَنَاهُ كما
كان بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ له حَقُّ الرُّجُوعِ على صَاحِبِهِ بَلْ
يَكُونُ مُتَبَرِّعًا لِأَنَّهُ يَبْنِي مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ من
غَيْرِ ضَرُورَةِ فَكَانَ مُتَبَرِّعًا فَلَا يَرْجِعُ عليه بِشَيْءٍ
وَلَوْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ عُرْضَةِ الْحَائِطِ لم تُقْسَمْ إلَّا عن
تَرَاضٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عليه حَقَّ
وَضْعِ الْخَشَبِ وفي الْقِسْمَةِ جَبْرًا إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ من غَيْرِ
رِضَاهُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ هذا إذَا لم يَكُنْ
عَرِيضًا فَإِنْ كان يُقْسَمُ قِسْمَةَ جَبْرٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ
حَقِّ الْغَيْرِ
وَلَوْ كانت الْجُذُوعُ عليه لِأَحَدِهِمَا فَطَلَب أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ
وَأَبَى الْآخَرُ فَإِنْ كان الطَّالِبُ صَاحِبَ الْجُذُوعِ يُجْبَرُ الْآخَرُ على
الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ في الِانْتِفَاعِ مُتَعَنِّتٌ وَإِنَّمَا الْحَقُّ
لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وقد رضي بِسُقُوطِ حَقِّهِ
وَإِنْ كان الطَّالِبُ من لَا جِذْعَ له لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْجُذُوعِ على
الْقِسْمَةِ لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّهِ في وَضْعِ الْجُذُوعِ فَلَا يَجُوزُ من
غَيْرِ رِضَاهُ وَلَوْ هَدَمَ الْحَائِطَ أَحَدُهُمَا يُجْبَرُ على إعَادَتِهِ
لِمَا ذَكَرنَا أَنَّهُ أَتْلَفَ مَحَلَّ حَقِّ أَحَدِهِمَا فَيَجِبُ جَبْرُهُ على
الْإِعَادَةِ
وَعَلَى هذا سُفْلٌ لِرَجُلٍ وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِغَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ
السُّفْلِ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أو يُثْبِتَ كَوَّةً أو يَحْفِرَ طَاقًا أو
يَقُدَّ وَتِدًا على الْحَائِطِ أو يَتَصَرَّفَ فيه تَصَرُّفًا لم يَكُنْ قبل ذلك
ليس له ذلك من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ سَوَاءٌ أَضَرَّ ذلك بِالْعُلُوِّ
____________________
(6/264)
بِأَنْ
أَوْجَبَ وَهَنَ الْحَائِطِ أو لم يَضُرَّ بِهِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا له ذلك إنْ لم يَضُرَّ بِالْعُلُوِّ
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَحْفِرَ في سُفْلِهِ بِئْرًا أو
بَالُوعَةً أو سِرْدَابًا فَلَهُ ذلك من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ
إجْمَاعًا وَكَذَا إيقَادُ النَّارِ لِلطَّبْخِ أو للخبر ( ( ( للخبز ) ) )
وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْغُسْلِ أو لِلْوُضُوءِ بِالِاتِّفَاقِ
وَعَلَى هذا الِاخْتِلَافُ لو أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَنْ يُحْدِثَ على
عُلُوِّهِ بِنَاءً أو يَضَعَ جُذُوعًا لم يَكُنْ قبل ذلك أو يَشْرَعَ فيه بَابًا
أو كَنِيفًا لم يَكُنْ قَبْلَهُ ليس له ذلك عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ أَضَرَّ
بِالسُّفْلِ أو لَا
وَعِنْدَهُمَا له أَنْ يَفْعَلَ ذلك ما لم يَضُرَّ بِالسُّفْلِ وَلَهُ إيقَادُ
النَّارِ وَصَبُّ الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ إجْمَاعًا منهم من قال لَا
خِلَافَ بَيْنَهُمْ في الْحَقِيقَةِ
وَقَوْلُهُمَا تَفْسِيرُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِنْهُمْ من
حَقَّقَ الْخِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا
يُمْنَعُ إلَّا لِحَقِّ الْغَيْرِ وَحَقُّ الْغَيْرِ لَا يَمْنَعُ من التَّصَرُّفِ
لَعَيْنِهِ بَلْ لِمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُمْنَعُ من الِاسْتِظْلَالِ بِجِدَارِ
غَيْرِهِ وَمِنْ الِاصْطِلَاءِ بِنَارِ غَيْرِهِ لِانْعِدَامِ تَضَرُّرِ
الْمَالِكِ وَالْخِلَافُ هُنَا في تَصَرُّفٌ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ
فَلَا يُمْنَعُ عنه
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ التزصرف ( ( ( التصرف ) ) )
في مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ لَا يَقِفُ على الضَّرَرِ بَلْ هو حَرَامٌ سَوَاءٌ
تَضَرَّرَ بِهِ أَمْ لَا
أَلَا تَرَى أَنَّ نَقْلَ الْمِرْآةِ والمبحار من دَارِ الْمَالِكِ إلَى مَوْضِعٍ
آخَرَ حَرَامٌ وَإِنْ كان لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَالِكُ
وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يُبَاحُ التَّصَرُّفُ في مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ
بِرِضَاهُ
وَلَوْ كانت الْحُرْمَةُ لِمَا يَلْحَقُهُ من الضَّرَرِ لَمَا أُبِيحَ
لِأَنَّ الضَّرَرَ لَا يَنْعَدِمُ بِرِضَا الْمَالِكِ وَصَاحِبُ الْحَقِّ دَلَّ
أَنَّ التَّصَرُّفَ في مِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ حَرَامٌ أَضَرَّ بِالْمَالِكِ
أو لَا
وَهُنَا حَقٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مُتَعَلِّقٌ بِالسُّفْلِ فَيَحْرُمُ
التَّصَرُّفُ فيه إلَّا بِإِذْنِهِ وَرِضَاهُ بِخِلَافِ ما ضَرَبْنَا من
الْمِثَالِ وهو الِاسْتِظْلَالُ بِجِدَارِ غَيْرِهِ وَالِاصْطِلَاءُ بِنَارِ
غَيْرِهِ لِأَنَّ ذلك ليس تَصَرُّفًا في مِلْكٍ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ
إذْ لَا أَثَرَ لِذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَحَقِّهِ وَهُنَا
بِخِلَافِهِ
وَعَلَى هذا إذَا كان مَسِيلُ مَاءٍ في قَنَاةٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْقَنَاةِ أَنْ
يَجْعَلَهُ مِيزَابًا أو كان مِيزَابًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ قَنَاةً ليس له
ذلك
وَكَذَلِكَ لو أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مِيزَابًا أَطْوَلَ من مِيزَابِهِ أو
أَعْرَضَ
أو أَرَادَ أَنْ يَسِيلَ مَاءُ سَطْحٍ آخَرَ في ذلك الْمِيزَابِ لم يَكُنْ له ذلك
لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ زِيَادَةً على حَقِّهِ
وَكَذَلِكَ لو أَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا حَائِطًا لِيَسُدُّوا
مَسِيلَهُ أو أَرَادُوا أَنْ يَنْقُلُوا الْمِيزَابَ عن مَوْضِعِهِ أو يَرْفَعُوهُ
أو يُسْفِلُوهُ لم يَكُنْ لهم ذلك لِأَنَّ ذلك تَصَرُّفٌ في حَقِّ الْغَيْرِ
بِالْإِبْطَالِ وَالتَّغْيِيرِ فَلَا يَجُوزُ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْحَقِّ
وَلَوْ بَنَى أَصْلَ الدَّارِ لِتَسْيِيلِ مِيزَابِهِ على ظُهْرِهِ فَلَهُمْ ذلك
لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْمِيزَابِ حَاصِلٌ في الْحَالَيْنِ
دَارٌ لِرَجُلٍ فيها طَرِيقٌ فَأَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا في سَاحَةِ
الدَّارِ ما يَقْطَعُ طَرِيقَهُ ليس لهم ذلك لِأَنَّ فيه إبْطَالَ حَقِّ الْمُرُورِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكُوا في سَاحَةِ الدَّارِ عَرْضَ بَابِ الدَّارِ
لِأَنَّ عَرْضَ الطَّرِيقِ مُقَدَّرٌ بِعَرْضِ بَابِ الدَّارِ
وَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَشْرَعَ إلَى الطَّرِيقِ جَنَاحًا أو مِيزَابًا
فَنَقُولُ هذا في الْأَصْلِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إنْ كانت
السِّكَّةُ نَافِذَةً وَإِمَّا إنْ كانت غير نَافِذَةٍ
فَإِنْ كانت نَافِذَةً فإنه يَنْظُرُ إنْ كان ذلك مِمَّا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ
فَلَا يَحِلُّ له أَنْ يَفْعَلَ ذلك في دِينِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا ضَرَرَ وَلَا إضْرَارَ في الْإِسْلَامِ وَلَوْ فَعَلَ ذلك
فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُقْلِعَ عليه ذلك
وَإِنْ كان ذلك مِمَّا لَا يَضُرُّ بِالْمَارِّينَ حَلَّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ ما
لم يَتَقَدَّمْ إلَيْهِ أَحَدٌ بِالرَّفْعِ وَالنَّقْضِ فإذا تَقَدَّمَ إلَيْهِ وَاحِدٌ
من عُرْضِ الناس لَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ بَعْدَ ذلك عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ قبل
التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ
وَكَذَلِكَ هذا الْحُكْمُ في غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَبِنَاءُ الدَّكَاكِينَ
وَالْجُلُوسِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ على قَارِعَةِ الطَّرِيقِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ في حَقِّ الْغَيْرِ
ليس لَعَيْنِهِ بَلْ لِلتَّحَرُّزِ عن الضَّرَرِ والإضرار بِالْمَارَّةِ
فَاسْتَوَى فيه حَالُ ما قبل التَّقَدُّمِ وَبَعْدَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إشْرَاعَ الْجَنَاحِ وَالْمِيزَابِ إلَى طَرِيقِ
الْعَامَّة تَصَرُّفٌ في حَقِّهِمْ لِأَنَّ هَوَاءَ الْبُقْعَةِ في حُكْمِ
الْبُقْعَةِ وَالْبُقْعَةُ حَقُّهُمْ فَكَذَا هَوَاؤُهَا فَكَانَ الِانْتِفَاعُ
بِذَلِكَ تَصَرُّفًا في حَقِّ الْغَيْرِ وقد مَرَّ أَنَّ التَّصَرُّفَ في حَقِّ
الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَرَامٌ سَوَاءٌ أَضَرَّ بِهِ أو لَا إلَّا أَنَّهُ
حَلَّ له الِانْتِفَاعُ بِذَلِكَ قبل التَّقَدُّمِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ منهم
دَلَالَةً وَهِيَ تَرْكُ التَّقَدُّمِ بِالنَّقْضِ وَالتَّصَرُّفُ في حَقِّ
الْإِنْسَانِ بِإِذْنِهِ مُبَاحٌ فإذا وَقَعَتْ الْمُطَالَبَةُ بِصَرِيحِ
النَّقْضِ بَطَلَتْ الدَّلَالَةُ فَبَقِيَ الِانْتِفَاعُ بالمبني تَصَرُّفًا في
حَقٍّ مُشْتَرَكٍ بين الْكُلِّ من غَيْرِ إذْنِهِمْ وَرِضَاهُمْ فَلَا يَحِلُّ
هذا إذَا كانت السِّكَّةُ نَافِذَةً فَأَمَّا إذَا كانت غير نَافِذَةٍ فَإِنْ كان
له حَقٌّ في التَّقْدِيمِ فَلَيْسَ لِأَهْلِ السِّكَّةِ حَقُّ الْمَنْعِ
لِتَصَرُّفِهِ في حَقِّ نَفْسِهِ وَإِنْ لم
____________________
(6/265)
يَكُنْ
له حَقٌّ في التَّقْدِيمِ فَلَهُمْ مَنْعُهُ سَوَاءٌ كان لهم في ذلك مَضَرَّةٌ أو
لَا لِمَا ذَكَرنَا أَنَّ حُرْمَةَ التَّصَرُّفِ في حَقِّ الْغَيْرِ لَا تَقِفُ
على الْمَضَرَّةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمَ
كِتَابُ الشَّهَادَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
رُكْنِ الشَّهَادَةِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يَلْزَمُ
الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الشَّهَادَةِ أَمَّا
رُكْنُ الشَّهَادَةِ فَقَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ بِكَذَا وَكَذَا وفي
مُتَعَارَفِ الناس في حُقُوقِ الْعِبَادِ هو الْإِخْبَارُ عن كَوْنِ ما في يَدِ
غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ فَكُلُّ من أَخْبَرَ بِأَنَّ ما في يَدِ غَيْرِهِ لِغَيْرِهِ
فَهُوَ شَاهِدٌ وَبِهِ يَنْفَصِلُ عن الْمُقِرِّ وَالْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه
على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الدَّعْوَى
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ في الْأَصْلِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو شَرْطُ
تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَنَوْعٌ هو شَرْطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ أَمَّا
الْأَوَّلُ فَثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ
فَلَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ من الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ
لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ عِبَارَةٌ عن فَهْمِ الْحَادِثَةِ وَضَبْطِهَا
وَلَا يَحْصُلُ ذلك إلَّا بِآلَةِ الْفَهْمِ وَالضَّبْطِ وَهِيَ الْعَقْلُ
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ عِنْدَنَا فَلَا يَصِحُّ
التَّحَمُّلُ من الْأَعْمَى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَصَرُ
ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ التَّحَمُّلِ وَلَا لِصِحَّةِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى الْبَصَرِ عِنْدَ التَّحَمُّلِ لِحُصُولِ الْعِلْمِ
بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ وَلِلْأَعْمَى سَمَاعٌ
صَحِيحٌ فَيَصِحُّ تَحَمُّلُهُ لِلشَّهَادَةِ وَيَقْدِرُ على الْأَدَاءِ بَعْدَ
التَّحَمُّلِ
وَلَنَا أَنَّ الشَّرْطَ هو السَّمَاعُ من الْخَصْمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَقَعُ
له وَلَا يُعْرَفُ كَوْنُهُ خَصْمًا إلَّا بِالرُّؤْيَةِ لِأَنَّ النَّغَمَاتِ
يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا
وَأَمَّا الْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعَدَالَةُ فَلَيْسَتْ من
شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ بَلْ من شَرَائِطِ الْأَدَاءِ حتى لو كان وَقْتَ
التَّحَمُّلِ صَبِيًّا عَاقِلًا أو عَبْدًا أو كَافِرًا أو فَاسِقًا ثُمَّ بَلَغَ
الصَّبِيُّ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَتَابَ الْفَاسِقُ
فَشَهِدُوا عِنْدَ الْقَاضِي تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
وَكَذَا الْعَبْدُ إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ لِمَوْلَاهُ ثُمَّ عَتَقَ فَشَهِدَ
له تُقْبَلُ وَكَذَا الْمَرْأَةُ إذَا تَحَمَّلَتْ الشَّهَادَةَ لِزَوْجِهَا ثُمَّ
بَانَتْ منه فَشَهِدَتْ له تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا لِأَنَّ تَحَمُّلَهَا
الشَّهَادَةَ لِلْمَوْلَى وَالزَّوْجِ صَحِيحٌ وقد صَارَا من أَهْلِ الْأَدَاءِ
بِالْعِتْقِ وَالْبَيْنُونَةِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا
وَلَوْ شَهِدَ الْفَاسِقُ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الْفِسْقِ أو شَهِدَ
أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ
الزَّوْجِيَّةِ ثُمَّ شَهِدُوا في تِلْكَ الْحَادِثَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ
وَالْبَيْنُونَةِ لَا تُقْبَلُ وَلَوْ شَهِدَ الْعَبْدُ أو الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ
أو الْكَافِرُ على مُسْلِمٍ في حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ثُمَّ أَسْلَمَ
الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فَشَهِدُوا في تِلْكَ
الْحَادِثَةِ بِعَيْنِهَا تُقْبَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفَاسِقَ وَالزَّوْجَ لَهُمَا شَهَادَةٌ في
الْجُمْلَةِ وقد ردت ( ( ( وردت ) ) ) فإذا شَهِدُوا بَعْدَ التَّوْبَةِ وَزَوَالِ
الزَّوْجِيَّةِ في تكلك ( ( ( تلك ) ) ) الْحَادِثَةِ فَقَدْ أَعَادَ تِلْكَ
الشَّهَادَةَ وَهِيَ مَرْدُودَةٌ وَالشَّهَادَةُ الْمَرْدُودَةُ لَا تَحْتَمِلُ الْقَبُولَ
بِخِلَافِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ
لِلْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ أَصْلًا
وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا فإذا أَسْلَمَ
الْكَافِرُ وَعَتَقَ الْعَبْدُ وَبَلَغَ الصَّبِيُّ فَقَدْ حَدَثَتْ لهم
بِالْإِسْلَامِ وَالْعِتْقِ وَالْبُلُوغِ شَهَادَةٌ وَهِيَ غَيْرُ الْمَرْدُودَةِ
فَقُبِلَتْ فَهُوَ الْفَرْقُ
الثالث ( ( ( والثالث ) ) ) أَنْ يَكُونَ التَّحَمُّلُ بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ
بِهِ بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ إلَّا في أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ يَصِحُّ
التَّحَمُّلُ فيها بِالتَّسَامُعِ من الناس لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لِلشَّاهِدِ إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا
فَدَعْ وَلَا يَعْلَمُ مِثْلَ الشَّمْسِ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا
تُطْلَقُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ إلَّا في أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ
النِّكَاحُ وَالنَّسَبُ وَالْمَوْتُ فَلَهُ تَحَمُّلُ الشَّهَادَةِ فيها
بِالتَّسَامُعِ من الناس وَإِنْ لم يُعَايِنْ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ مَبْنَى هذه
الْأَشْيَاءِ على الِاشْتِهَارِ فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فيها مَقَامَ
الْمُعَايَنَةِ
وَكَذَا إذَا شَهِدَ الْعُرْسَ وَالزِّفَافَ يَجُوزُ له أَنْ يَشْهَدَ
بِالنِّكَاحِ لِأَنَّهُ دَلِيلُ النِّكَاحِ وَكَذَا في الْمَوْتِ إذَا شَهِدَ
جِنَازَةَ رَجُلٍ أو دَفْنَهُ حَلَّ له أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ وَاخْتَلَفُوا في
تَفْسِيرِ التَّسَامُعِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هو أَنْ يَشْتَهِرَ
ذلك وَيَسْتَفِيضَ وَتَتَوَاتَرَ بِهِ الْأَخْبَارُ عِنْدَهُ من غَيْرِ تَوَاطُؤٍ
لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالتَّوَاتُرِ وَالْمَحْسُوسَ بِحِسِّ الْبَصَرِ وَالسَّمْعِ
سَوَاءٌ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ شَهَادَةً عن مُعَايَنَةٍ فَعَلَى
هذا إذَا أخبره بِذَلِكَ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ لَا يَحِلُّ له
الشَّهَادَةُ ما لم يَدْخُلْ في حَدِّ التَّوَاتُرِ
وَذَكَرَ أَحْمَدُ بن عَمْرِو بن مهير ( ( ( مهران ) ) ) الْخَصَّافُ أَنَّهُ إذَا
أخبره رَجُلَانِ عَدْلَانِ أو رَجُلٌ
____________________
(6/266)
وَامْرَأَتَانِ
أَنَّ هذا ابن فُلَانٍ أو امْرَأَةُ فُلَانٍ يَحِلُّ له الشَّهَادَةُ بِذَلِكَ
اسْتِدْلَالًا بِحُكْمِ الحكام ( ( ( الحاكم ) ) ) وَشَهَادَتِهِ فإنه يَحْكُمُ
بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ من غَيْرِ مُعَايَنَةٍ منه بَلْ يخبرهما ( ( ( بخبرهما )
) ) وَيَجُوزُ له أَنْ يَشْهَدَ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعَزْلِ كَذَا هذا
وَلَوْ أخبره رَجُلٌ أو امْرَأَةٌ بِمَوْتِ إنْسَانٍ حَلَّ لِلسَّامِعِ أَنْ
يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ فَعَلَى هذا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين الْمَوْتِ وَبَيْنَ
النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ مَبْنَى هذه الْأَشْيَاءِ وَإِنْ كان على الِاشْتِهَارِ
إلَّا أَنَّ الشُّهْرَةَ في الْمَوْتِ أَسْرَعُ منه في النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ
لِذَلِكَ شُرِطَ الْعَدَدُ في النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ لَا في الْمَوْتِ لَكِنْ
يَنْبَغِي أَنْ يَشْهَدَ في كل ذلك على الْبَتَاتِ وَالْقَطْعِ دُونَ التَّفْصِيلِ
وَالتَّقْيِيدِ بِأَنْ يَقُولَ إنِّي لم أُعَايِنْ ذلك وَلَكِنْ سمعت من فُلَانٍ
كَذَا وَكَذَا حتى لو شَهِدَ كَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ
وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَالشَّهَادَةُ فيه بِالتَّسَامُعِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وقال تُقْبَلُ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع أبي يُوسُفَ
الْآخَرَ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَاءَ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ ثُمَّ الشَّهَادَةُ
بِالتَّسَامُعِ في النَّسَبِ مَقْبُولَةٌ كَذَا في الْوَلَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّا
كما نَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ كان ابْنَ الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه
نَشْهَدُ أَنَّ نَافِعًا كان مولى ابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّهَادَةِ
بِالتَّسَامُعِ في النَّسَبِ لِمَا أَنَّ مَبْنَى النَّسَبِ على الِاشْتِهَارِ
فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ فيه مَقَامَ السَّمَاعِ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ مَبْنَى
الْوَلَاءِ على الِاشْتِهَارِ فَلَا بُدَّ من مُعَايَنَةِ الْإِعْتَاقِ حتى لو
اشْتَهَرَ اشْتِهَارَ نَافِعٍ لِابْنِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما
حَلَّتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ في الْوَقْفِ فلم يَذْكُرْهُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا أَلْحَقُوهُ بِالْمَوْتِ لِأَنَّ مَبْنَى
الْوَقْفِ على الِاشْتِهَارِ أَيْضًا كَالْمَوْتِ فَكَانَ مُلْحَقًا بِهِ
وَكَذَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ في الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ أَنَّ
هذا قَاضِي بَلَدِ كَذَا وَوَالِي بَلَدِ كَذَا وَإِنْ لم يُعَايِنْ الْمَنْشُورَ
لِأَنَّ مَبْنَى الْقَضَاءِ وَالْوِلَايَةِ على الشُّهْرَةِ فَقَامَتْ الشُّهْرَةُ
فيها مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ ثُمَّ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ كما يَحْصُلُ
بِمُعَايَنَةِ الْمَشْهُودِ بِهِ بِنَفْسِهِ يَحْصُلُ بِمُعَايَنَةِ دَلِيلِهِ
بِأَنْ يَرَى ثَوْبًا أو دَابَّةً أو دَارًا في يَدِ إنْسَانٍ يَسْتَعْمِلُهُ
اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ من غَيْرِ مُنَازِعٍ حتى لو خَاصَمَهُ غَيْرُهُ فيه
يَحِلُّ له أَنْ يَشْهَدَ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ لِأَنَّ الْيَدَ
الْمُتَصَرِّفَةَ في الْمَالِ من غَيْرِ مُنَازِعٍ دَلِيلُ الْمِلْكِ فيه بَلْ لَا
دَلِيلَ بِشَاهِدٍ في الْأَمْوَالِ أَقْوَى منها
وزاد أبو يُوسُفَ فقال لَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ حتى يَقَعَ في قَلْبِهِ
أَيْضًا أَنَّهُ له وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هذا قَوْلَهُمْ جميعا أَنَّهُ لَا
تَجُوزُ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ الْيَدِ حتى يَرَاهُ في
يَدِهِ يَسْتَعْمِلُهُ اسْتِعْمَالَ الْمُلَّاكِ من غَيْرِ مُنَازِعٍ وَحَتَّى
يَقَعَ في قَلْبِهِ أَنَّهُ له
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وقال كُلُّ شَيْءٍ في يَدِ إنْسَانٍ سِوَى
الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَسَعُك أَنْ تَشْهَدَ أَنَّهُ له اسْتَثْنَى الْعَبْدَ
وَالْأَمَةَ فَيَقْتَضِي أَنْ لَا تَحِلَّ له الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِ
الْيَدِ فِيهِمَا إلَّا إذَا أَقَرَّا بِأَنْفُسِهِمَا وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ
الْعَبْدَ الذي يَكُونُ له في نَفْسِهِ يَدٌ بِأَنْ كان كَبِيرًا يُعَبِّرُ عن
نَفْسِهِ وَكَذَا الْأَمَةُ لِأَنَّ الْكَبِيرَ في يَدِ نَفْسِهِ ظاهرا إذْ
الْأَصْلُ هو الْحُرِّيَّةُ في بَنِي آدَمَ وَالرِّقُّ عَارِضٌ فَكَانَتْ يَدُهُ
إلَى نَفْسِهِ أَقْرَبَ من يَدِ غَيْرِهِ فلم تَصْلُحْ يَدُ غَيْرِهِ دَلِيلَ
الْمِلْكِ فيه بِخِلَافِ الْجَمَادَاتِ وَالْبَهَائِمِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لها
فَبَقِيَتْ يَدُ صَاحِبِ الْيَدِ دَلِيلًا على الْمِلْكِ وَلِأَنَّ الْحُرَّ قد
يَخْدُمُ كَأَنَّهُ عَبْدٌ عَادَةً وَهَذَا أَمْرٌ ظَاهِرٌ في مُتَعَارَفِ الناس
وَعَادَاتِهِمْ فَتَعَارَضَ الظَّاهِرَانِ فلم تَصْلُحْ الْيَدُ دَلِيلًا فيه
أَمَّا إذَا كان صَغِيرًا لَا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ كان حُكْمُهُ حُكْمَ
الثَّوْبِ وَالْبَهِيمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ له في نَفْسِهِ يَدٌ فَيَلْحَقُ بِالْعُرُوضِ
وَالْبَهَائِمِ فَتَحِلُّ لِلرَّائِي الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ فيه لِصَاحِبِ
الْيَدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الشَّاهِدِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى مَكَانِ الشَّهَادَةِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الشَّاهِدِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَعُمُّ
الشَّهَادَاتِ كُلَّهَا وَبَعْضُهَا يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الشَّرَائِطُ الْعَامَّةُ فَمِنْهَا الْعَقْلُ لِأَنَّ من لَا يَعْقِلُ لَا
يَعْرِفُ الشَّهَادَةَ فَكَيْفَ يَقْدِرُ على أَدَائِهَا
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ
لَا يَقْدِرُ على الْأَدَاءِ إلَّا بِالتَّحَفُّظِ وَالتَّحَفُّظُ بِالتَّذَكُّرِ
وَالتَّذَكُّرُ بِالتَّفَكُّرِ وَلَا يُوجَدُ من الصَّبِيِّ عَادَةً وَلِأَنَّ
الشَّهَادَةَ فيها مَعْنَى الْوِلَايَةِ وَالصَّبِيُّ مُوَلًّى عليه وَلِأَنَّهُ
لو كان له شَهَادَةٌ لَلَزِمَتْهُ الْإِجَابَةُ عِنْدَ الدَّعْوَةِ لِلْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
وهو قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا } أَيْ دُعُوا
لِلْأَدَاءِ فَلَا يَلْزَمُهُ إجْمَاعًا
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ لقوله ( ( ( وقوله )
) ) تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ على
شَيْءٍ } وَالشَّهَادَةُ شَيْءٌ فَلَا يَقْدِرُ على أَدَائِهَا بِظَاهِرِ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْوِلَايَاتِ
وَالتَّمْلِيكَاتِ
أَمَّا مَعْنَى
____________________
(6/267)
الْوِلَايَةِ
فإن فيه تَنْفِيذَ الْقَوْلِ على الْغَيْرِ وَإِنَّهُ من بَابِ الْوَلَاءِ
وَأَمَّا مَعْنَى التَّمْلِيكِ فإن الْحَاكِمَ يَمْلِكُ الْحُكْمَ بِالشَّهَادَةِ
فَكَأَنَّ الشَّاهِدَ مَلَّكَهُ الْحُكْمَ وَالْعَبْدُ لَا وِلَايَةَ له على
غَيْرِهِ وَلَا يَمْلِكُ فَلَا شَهَادَةَ له وَلِأَنَّهُ لو كان له شَهَادَةٌ
لَكَانَ يَجِبُ عليه الْإِجَابَةُ إذَا دُعِيَ لِأَدَائِهَا لِلْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ وَلَا يَجِبُ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وَكَذَا لَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمْ عُبَيْدٌ
وَكَذَا مُعْتَقُ الْبَعْضِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا
بِمَنْزِلَةِ حُرٍّ عليه دَيْنٌ
وَمِنْهَا بَصَرُ الشَّاهِدِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى عِنْدَهُمَا سَوَاءٌ كان بَصِيرًا
وَقْتَ التَّحَمُّلِ أو لَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ليس بِشَرْطٍ حتى تُقْبَلَ
شَهَادَتُهُ إذَا كان بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ
وَهَذَا إذَا كان الْمُدَّعَى شيئا لَا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ
وَقْتَ الْأَدَاءِ فَأَمَّا إذَا كان شيئا يَحْتَاجُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهِ
وَقْتَ الْأَدَاءِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إجْمَاعًا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْبَصَرِ ليس لَعَيْنِهِ بَلْ
لِحُصُولِ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَذَا يَحْصُلُ إذَا كان بَصِيرًا وَقْتَ
التَّحَمُّلِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الْمَشْهُودِ له
وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فإذا كان أَعْمَى عِنْدَ الْأَدَاءِ
لَا يَعْرِفُ بالمشهود ( ( ( المشهود ) ) ) له من غَيْرِهِ فَلَا يَقْدِرُ على
أَدَاءِ الشَّهَادَةِ
وَمِنْهَا النُّطْقُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ
لَفْظَةِ الشَّهَادَةِ شَرْطُ صِحَّةِ أَدَائِهَا وَلَا عِبَارَةَ لِلْأَخْرَسِ
أَصْلًا فَلَا شَهَادَةَ له
وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ على الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهَا لَا
تُقْبَلُ على الْإِطْلَاقِ دُونَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من
الشُّهَدَاءِ } وَالشَّاهِدُ الْمَرْضِيُّ هو الشَّاهِدُ الْعَدْلُ
وَالْكَلَامُ في الْعَدَالَةِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ
أنها ما هِيَ في عُرْفِ الشَّرْعِ وفي بَيَانِ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ
وفي بَيَانِ أنها شَرْطُ أَصْلِ الْقَبُولِ وُجُودًا أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ على
الْإِطْلَاقِ وَوُجُوبًا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
في مَاهِيَّةِ الْعَدَالَةِ الْمُتَعَارَفَةِ قال بَعْضُهُمْ من لم يُطْعَنْ عليه
في بَطْنٍ وَلَا فَرْجٍ فَهُوَ عَدْلٌ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَنْوَاعِ الْفَسَادِ
وَالشَّرِّ يَرْجِعُ إلَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ
وقال بَعْضُهُمْ من لم يُعْرَفْ عليه جَرِيمَةٌ في دِينِهِ فَهُوَ عَدْلٌ
وقال بَعْضُهُمْ من غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ وقد رُوِيَ
عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ
يَعْتَادُ الصَّلَاةَ في الْمَسَاجِدِ فَاشْهَدُوا له بِالْإِيمَانِ وَرُوِيَ من
صلى إلَى قِبْلَتِنَا وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا فَاشْهَدُوا له بِالْإِيمَانِ
وقال بَعْضُهُمْ من يَجْتَنِبُ الْكَبَائِرَ وَأَدَّى الْفَرَائِضَ وَغَلَبَتْ
حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ فَهُوَ عَدْلٌ
وهو اخْتِيَارُ أُسْتَاذِ أُسْتَاذِي الْإِمَامِ فَخْرِ الدِّينِ عَلِيٍّ
الْبَزْدَوِيِّ رحمه ( ( ( رضي ) ) ) اللَّهُ تَعَالَى
واختلفت في مَاهِيَّةِ الْكَبَائِرِ وَالصَّغَائِرِ
قال بَعْضُهُمْ ما فيه حَدٌّ في كِتَابِ اللَّهِ عز وجل فَهُوَ كَبِيرَةٌ وما لَا
حَدَّ فيه فَهُوَ صَغِيرَةٌ
وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ فإن شُرْبَ الْخَمْرِ وَأَكْلَ الرِّبَا كَبِيرَتَانِ وَلَا
حَدَّ فِيهِمَا في كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وقال بَعْضُهُمْ ما يُوجِبُ الْحَدَّ
فَهُوَ كَبِيرَةٌ وما لَا يُوجِبُهُ فَهُوَ صَغِيرَةٌ وَهَذَا يَبْطُلُ أَيْضًا
بِأَكْلِ الرِّبَا فإنه كَبِيرَةٌ وَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَكَذَا يَبْطُلُ
أَيْضًا بِأَشْيَاءَ أُخَرَ هِيَ كَبَائِرُ وَلَا تُوجِبُ الْحَدَّ نَحْوُ عُقُوقِ
الْوَالِدَيْنِ والفرارمن الزَّحْفِ وَنَحْوِهَا
وقال بَعْضُهُمْ كل ما جاء مَقْرُونًا بِوَعِيدٍ فَهُوَ كَبِيرَةٌ نَحْوُ قَتْلِ
النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ وَالزِّنَا وَالرَّبَّا
وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ وَالْفِرَارِ من الزخف ( ( ( الزحف ) ) ) وهو مَرْوِيٌّ
عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَقِيلَ له إنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنهما قال الْكَبَائِرُ سَبْعٌ فقال هِيَ إلَى
سَبْعِينَ أَقْرَبُ وَلَكِنْ لَا كَبِيرَةَ مع تَوْبَةٍ وَلَا صَغِيرَةَ مع
إصْرَارٍ
وَرُوِيَ عن الْحَسَنِ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال ما
تَقُولُونَ في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ قالوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَعْلَمُ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هُنَّ فَوَاحِشُ وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ
ثُمَّ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ
الْكَبَائِرِ فَقَالُوا بَلَى يا رَسُولَ اللَّهِ فقال الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ
وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وكان عليه السلام مُتَّكِئًا فَجَلَسَ ثُمَّ قال أَلَا
وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ
فإذا عَرَفْت تَفْسِيرَ الْعَدَالَةِ في عُرْفِ الشَّرْعِ فَلَا عَدَالَةَ
لِشَارِبِ الْخَمْرِ لِأَنَّ شُرْبَهُ كَبِيرَةٌ فَتَسْقُطُ بِهِ الْعَدَالَةُ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من قال إذَا كان الرَّجُلُ صَالِحًا في أُمُورِهِ تَغْلِبُ
حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ وَلَا يُعْرَفُ بِالْكَذِبِ وَلَا بِشَيْءٍ من
الْكَبَائِرِ غير أَنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَحْيَانًا لِصِحَّةِ الْبَدَنِ
وَالتَّقَوِّي لَا لِلتَّلَهِّي يَكُونُ عَدْلًا
وَعَامَّةُ مَشَايِخِنَا على أَنَّهُ لَا يَكُونُ عَدْلًا لِأَنَّ شُرْبَ
الْخَمْرِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ وَإِنْ كان لِلتَّقَوِّي
وَمَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ بِنَفْسِ الشُّرْبِ لِأَنَّ
شُرْبَهُ لِلتَّقَوِّي دُونَ التهلي ( ( ( التلهي ) ) ) حَلَالٌ وَأَمَّا
السُّكْرُ منه فَإِنْ كان وَقَعَ منه مَرَّةً وهو لَا يَدْرِي أو وَقَعَ سَهْوًا
لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ
وَإِنْ كان يُعْتَادُ السُّكْرَ منه تَسْقُطُ
____________________
(6/268)
عَدَالَتُهُ
لِأَنَّ السُّكْرَ منه حَرَامٌ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَحْضُرُ مَجْلِسَ
الشُّرْبِ وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمْ وَإِنْ كان لَا يَشْرَبُ لِأَنَّ حُضُورَهُ
مَجْلِسَ الْفِسْقِ فِسْقٌ وَلَا عَدَالَةَ لِلنَّائِحِ وَالنَّائِحَةِ لِأَنَّ
فِعْلَهُمَا مَحْظُورٌ وَأَمَّا الْمُغَنِّي فَإِنْ كان يَجْتَمِعُ الناس عليه
لِلْفِسْقِ بِصَوْتِهِ فَلَا عَدَالَةَ له وَإِنْ كان هو لَا يَشْرَبُ لِأَنَّهُ
رَأْسُ الْفَسَقَةِ وَإِنْ كان يَفْعَلُ ذلك مع نَفْسِهِ لِدَفْعِ الْوَحْشَةِ لَا
تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ لِأَنَّ ذلك مِمَّا لَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ السَّمَاعَ
مِمَّا يُرَقِّقُ الْقُلُوبَ لَكِنْ لَا يَحِلُّ الْفِسْقُ بِهِ
وَأَمَّا الذي يَضْرِبُ شيئا من الْمَلَاهِي فإنه يُنْظَرُ إنْ لم يَكُنْ
مُسْتَشْنَعًا كَالْقَصَبِ وَالدُّفِّ وَنَحْوِهِ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَا تَسْقُطُ
عَدَالَتُهُ وَإِنْ كان مُسْتَشْنَعًا كَالْعُودِ وَنَحْوِهِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ
لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ
وَاَلَّذِي يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ فَإِنْ كان لَا يُطَيِّرُهَا لَا تَسْقُطُ
عَدَالَتُهُ وَإِنْ كان يُطَيِّرُهَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ
على عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَيَشْغَلُهُ ذلك عن الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ
وَمَنْ يَلْعَبُ بالرند ( ( ( بالنرد ) ) ) فَلَا عَدَالَةَ له
وَكَذَلِكَ من يَلْعَبُ بِالشِّطْرَنْجِ وَيَعْتَادُهُ فَلَا عَدَالَةَ له وَإِنْ
أَبَاحَهُ بَعْضُ الناس لِتَشْحِيذِ الْخَاطِرِ وَتَعَلُّمِ أَمْرِ الْحَرْبِ
لِأَنَّهُ حَرَامٌ عِنْدَنَا لِكَوْنِهِ لَعِبًا
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كُلُّ لَعِبٍ حَرَامٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ
الرَّجُلِ أَهْلَهُ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَرَمْيَهُ عن قَوْسِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَادَ ذلك يَشْغَلُهُ عن الصَّلَاةِ وَالطَّاعَاتِ
فَإِنْ كان يَفْعَلُهُ أَحْيَانًا وَلَا يُقَامِرُ بِهِ لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ
وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَدْخُلُ الْحَمَّامَ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ لِأَنَّ سَتْرَ
الْعَوْرَةِ فَرِيضَةٌ وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ بِالْجَمَاعَاتِ اسْتِخْفَافًا
بها وَهَوَانًا بِتَرْكِهَا فَلَا عَدَالَةَ له لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ وَاجِبَةٌ
وَإِنْ كان تَرَكَهَا عن تَأْوِيلٍ بِأَنْ كان الْإِمَامُ غير مَرْضِيٍّ عِنْدَهُ
لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ يَفْجُرُ بِالنِّسَاءِ أو
يَعْمَلُ بِعَمَلِ قَوْمِ لُوطٍ وَلَا لِلسَّارِقِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ
وَالْمُتَلَصِّصِ وَقَاذِفِ الْمُحْصَنَاتِ وَقَاتِلِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ
وَآكِلِ الرِّبَا وَنَحْوِهِ
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ من رؤس الْكَبَائِرِ وَلَا عَدَالَةَ لِلْمُخَنَّثِ لِأَنَّ
فِعْلَهُ وَعَمَلَهُ كَبِيرَةٌ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ لم يُبَالِ من أَيْنَ
يَكْتَسِبُ الدَّرَاهِمَ من أَيِّ وَجْهٍ كان لِأَنَّ من هذا حَالُهُ لَا يأمن ( (
( يؤمن ) ) ) منه أَنْ يَشْهَدَ زُورًا طَمَعًا في الْمَالِ
وَالْمَعْرُوفُ بِالْكَذِبِ لَا عَدَالَةَ له وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا
وَإِنْ تَابَ
لِأَنَّ من صَارَ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ وَاشْتُهِرَ بِهِ لَا يُعْرَفُ صِدْقُهُ
في تَوْبَتِهِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ إذَا تَابَ عن سَائِرِ أَنْوَاعِ الْفِسْقِ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وَكَذَا من وَقَعَ في الْكَذِبِ سَهْوًا وَابْتُلِيَ بِهِ مَرَّةً ثُمَّ تَابَ
لِأَنَّهُ قَلَّ ما يَخْلُو مُسْلِمٌ عن ذلك فَلَوْ مُنِعَ الْقَبُولُ لَانْسَدَّ
بَابُ الشَّهَادَةِ
وَأَمَّا الْأَقْلَفُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كان عَدْلًا ولم يَكُنْ
تَرْكُهُ الْخِتَانَ رَغْبَةً عن السُّنَّةِ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ إسْلَامَهُ
إذَا كان في حَالِ الْكِبَرِ فَيَجُوزُ أَنَّهُ خَافَ على نَفْسِهِ التَّلَفَ
فَإِنْ لم يَخَفْ ولم يَخْتَتِنْ تَارِكًا لِلسُّنَّةِ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ
كَالْفَاسِقِ وَاَلَّذِي يَرْتَكِبُ الْمَعَاصِيَ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَجُوزُ
وَإِنْ كنا لَا نَسْتَيْقِنُ كَوْنَهُ فَاسِقًا في تِلْكَ الْحَالِ
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ وَلَدِ الزِّنَا إذا كان عَدْلًا لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ
لِأَنَّ زِنَا الْوَالِدَيْنِ لَا يَقْدَحُ في عَدَالَتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وما رُوِيَ عنه وَلَدُ
الزِّنَا أَسْوَأُ الثَّلَاثَةِ فَذَا في وَلَدٍ مُعَيَّنٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْخَصِيِّ لِعُمُومَاتِ الشَّهَادَةِ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةَ
عَلْقَمَةَ الْخَصِيِّ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ من
الصَّحَابَةِ وَلِأَنَّ الْخِصَاءَ لَا يَقْدَحُ في الْعَدَالَةِ فَلَا يَمْنَعُ
قَبُولَ الشَّهَادَةِ
وَأَمَّا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْهَوَى إذَا كان عَدْلًا في هَوَاهُ وَدِينِهِ
نُظِرَ في ذلك إنْ كان هَوًى يُكَفِّرُهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ
شَهَادَةَ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
وَإِنْ كان لَا يُكَفِّرُهُ فَإِنْ كان صَاحِبُ الْعَصَبِيَّةِ وَصَاحِبُ
الدَّعْوَةِ إلَى هَوَاهُ أو كان فيه مَجَانَةٌ لَا تُقْبَلُ أَيْضًا لِأَنَّ صَاحِبَ
الْعَصَبِيَّةِ وَالدَّعْوَةِ لَا يُبَالِي من الْكَذِبِ وَالتَّزْوِيرِ
لِتَرْوِيجِ هَوَاهُ فَكَانَ فَاسِقًا فيه
وَكَذَا إذَا كان فيه مَجَانَةٌ لِأَنَّ الْمَاجِنَ لَا يُبَالِي من الْكَذِبِ
فَإِنْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ وهو عَدْلٌ في هَوَاهُ تُقْبَلُ لِأَنَّ هَوَاهُ
يَزْجُرُهُ عن الْكَذِبِ إلَّا صِنْفٌ من الرَّافِضَةِ يُسَمَّوْنَ
بِالْخَطَّابِيَّةِ فَإِنَّهُمْ لَا شَهَادَةَ لهم لِأَنَّ من نِحْلَتِهِمْ
أَنَّهُ تَحِلُّ الشَّهَادَةُ لِمَنْ يُوَافِقُهُمْ على من يُخَالِفُهُمْ
وَقِيلَ من نِحْلَتِهِمْ أَنَّ من ادَّعَى أَمْرًا من الْأُمُورِ وَحَلَفَ عليه
كان صَادِقًا في دَعْوَاهُ فَيَشْهَدُونَ له فَإِنْ كان هذا مَذْهَبَهُمْ فَلَا
تَخْلُو شَهَادَتُهُمْ عن الْكَذِبِ
وَكَذَا لَا عَدَالَةَ لِأَهْلِ الْإِلْهَامِ لِأَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ
بِالْإِلْهَامِ فَيَشْهَدُونَ لِمَنْ يَقَعُ في قُلُوبِهِمْ أَنَّهُ صَادِقٌ في
دَعْوَاهُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن الْكَذِبِ وَلَا عَدَالَةَ لِمَنْ
يُظْهِرُ شَتِيمَةَ الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لِأَنَّ شَتِيمَةَ
وَاحِدٍ من آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مُسْقِطَةٌ لِلْعَدَالَةِ فَشَتِيمَتُهُمْ
أَوْلَى
وَلَا عَدَالَةَ لِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
ليس مِنَّا من مَاتَ على الْمَعْصِيَةِ
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من مَاتَ على الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ كَحِمَارٍ
نَزَعَ
____________________
(6/269)
بِدِينِهِ
فَكَانَتْ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَةً مُسْقِطَةً لِلْعَدَالَةِ
وَالْأَصْلُ في هذا الْفَصْلِ أَنَّ من ارْتَكَبَ جَرِيمَةً فَإِنْ كانت من
الْكَبَائِرِ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ إلَّا أَنْ يَتُوبَ فَإِنْ لم تَكُنْ من
الْكَبَائِرِ فَإِنْ أَصَرَّ عليها وَاعْتَادَ ذلك فَكَذَلِكَ لِأَنَّ
الصَّغِيرَةَ بِالْإِصْرَارِ عليها تَصِيرُ كَبِيرَةً
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا صَغِيرَةَ مع الْإِصْرَارِ وَلَا كَبِيرَةَ
مع الِاسْتِغْفَارِ وَإِنْ لم يُصِرَّ عليها لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا
غَلَبَتْ حَسَنَاتُهُ سَيِّئَاتِهِ
وَأَمَّا بَيَانُ صِفَةِ الْعَدَالَةِ الْمَشْرُوطَةِ فَقَدْ اخْتَلَفَ
أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قال أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الشَّرْطُ هو
الْعَدَالَةُ الظَّاهِرَةُ فَأَمَّا الْعَدَالَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَهِيَ
الثَّابِتَةُ بِالسُّؤَالِ عن حَالِ الشُّهُودِ بِالتَّعْدِيلِ وَالتَّزْكِيَةِ
فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّهَا شَرْطٌ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ جَائِزٌ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ لَا خِلَافَ في أَنَّهُ إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ
في الشَّاهِدِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ بَلْ يَسْأَلُ
الْقَاضِي عن حَالِ الشُّهُودِ وَكَذَا لَا خِلَافَ في أَنَّهُ يَسْأَلُ عن
حَالِهِمْ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلَا يَكْتَفِي بِالْعَدَالَةِ
الظَّاهِرَةِ سَوَاءٌ طَعَنَ الْخَصْمُ فِيهِمْ أو لم يَطْعَنْ
وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إذَا لم يَطْعَنْ الْخَصْمُ
قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْأَلُ
وَقَالَا يَسْأَلُ عن مَشَايِخِنَا من قال هذا الِاخْتِلَافُ اخْتِلَافُ زَمَانٍ
لَا اخْتِلَافَ حَقِيقَةٍ لِأَنَّ زَمَنَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كان من
أَهْلِ خَيْرٍ وَصَلَاحٍ لِأَنَّهُ زَمَنُ التَّابِعِينَ وقد شَهِدَ لهم النبي
بِالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي الذي أنا فيه ثُمَّ
الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ يفشوا ( ( ( يفشو ) ) )
الْكَذِبُ الحديث فَكَانَ الْغَالِبُ في أَهْلِ زَمَانِهِ الصَّلَاحَ وَالسَّدَادَ
فَوَقَعَتْ الْغُنْيَةُ عن السُّؤَالِ عن حَالِهِمْ في السِّرِّ
ثُمَّ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ وَظَهَرَ الْفَسَادُ في قَرْنِهِمَا فَوَقَعَتْ
الْحَاجَةُ إلَى السُّؤَالِ عن الْعَدَالَةِ فَكَانَ اخْتِلَافُ جَوَابِهِمْ
لِاخْتِلَافِ الزَّمَانِ فَلَا يَكُونُ اخْتِلَافًا حقيقا ( ( ( حقيقة ) ) )
وَمِنْهُمْ من حَقَّقَ الْخِلَافَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَدَالَةَ الظَّاهِرَةَ تَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا
لِلْإِثْبَاتِ لِثُبُوتِهَا بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ دُونَ الدَّلِيلِ
وَالْحَاجَةُ هَهُنَا إلَى الْإِثْبَاتِ وهو إيجَابُ الْقَضَاءِ وَالظَّاهِرُ لَا
يَصْلُحُ حُجَّةً له فَلَا بُدَّ من إثْبَاتِ الْعَدَالَةِ بِدَلِيلِهَا وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عز وجل { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أَمَةً وَسَطًا }
أَيْ عَدْلًا
وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُؤْمِنِي هذه الْأُمَّةِ بِالْوَسَاطَةِ
وَهِيَ الْعَدَالَةُ
وقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنه عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ
فَصَارَتْ الْعَدَالَةُ أَصْلًا في الْمُؤْمِنِينَ وَزَوَالُهَا بِعَارِضٍ
وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ الْحَقِيقِيَّةَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهَا
فَتَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالظَّاهِرِ وقد ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُمْ قبل السُّؤَالِ عن
حَالِهِمْ فَيَجِبُ الِاكْتِفَاءُ بِهِ إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ لِأَنَّهُ
إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ وهو صَادِقٌ في الطَّعْنِ فَيَقَعُ التَّعَارُضُ بين
الظَّاهِرَيْنِ فَلَا بُدَّ من التَّرْجِيحِ بِالسُّؤَالِ وَالسُّؤَالُ في
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَرِيقٌ لِدَرْئِهَا وَالْحُدُودُ يُحْتَالُ فيها
لِلدَّرْءِ
وَلَوْ طَعَنَ الْمَشْهُودُ عليه في حُرِّيَّةِ الشَّاهِدَيْنِ وقال إنَّهُمَا
رَقِيقَانِ وَقَالَا نَحْنُ حُرَّانِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حتى تَقُومَ لَهُمَا
الْبَيِّنَةُ على حُرِّيَّتِهِمَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في بَنِي آدَمَ وَإِنْ كان هو
الْحُرِّيَّةَ لِكَوْنِهِمْ أَوْلَادَ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السلام
وَهُمَا حُرَّانِ لَكِنَّ الثَّابِتَ بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا يَصْلُحُ
لِلْإِلْزَامِ على الْخَصْمِ وَلَا بُدَّ من إثْبَاتِهَا بِالدَّلَائِلِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ الناس كُلَّهُمْ أَحْرَارٌ إلَّا في أَرْبَعَةٍ
الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ هذا إذَا كَانَا مَجْهُولَيْ
النَّسَبِ لم تُعْرَفْ حُرِّيَّتُهُمَا ولم تَكُنْ ظَاهِرَةً مَشْهُورَةً بِأَنْ
كَانَا من الْهِنْدِ أو التُّرْكِ أو غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَا تُعْرَفُ
حُرِّيَّتُهُ
أو كَانَا عَرَبِيَّيْنِ
فَأَمَّا إذَا لم يَكُونَا مِمَّنْ يَجْرِي عليه الرِّقُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا
وَلَا يَثْبُتُ رِقُّهُمَا إلَّا بِالْبَيِّنَةِ
وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ وُجُودًا
أَمْ شَرْطُ الْقَبُولِ مُطْلَقًا وُجُوبًا وَوُجُودًا فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال
أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّهَا شَرْطُ الْقَبُولِ لِلشَّهَادَةِ
وُجُودًا على الْإِطْلَاقِ وَوُجُوبًا لَا شَرْطَ أَصْلِ الْقَبُولِ حتى يَثْبُتَ
الْقَبُولُ بِدُونِهِ وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ إنَّهَا شَرْطُ أَصْلِ
الْقَبُولِ لَا يَثْبُتُ الْقَبُولُ أَصْلًا دُونَهَا حتى إنَّ الْقَاضِيَ لو
تَحَرَّى الصِّدْقَ في شَهَادَةِ الْفَاسِقِ يَجُوزُ له قَبُولُ شَهَادَتِهِ وَلَا
يَجُوزُ الْقَبُولُ من غَيْرِ تَحَرٍّ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَا لَا يَجِبُ عليه الْقَبُولُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ
شَهَادَةَ الْعَدْلِ من غَيْرِ تَحَرٍّ وإذا شَهِدَ يَجِبُ عليه الْقَبُولُ
وَهَذَا هو الْفَصْلُ بين شَهَادَةِ الْعَدْلِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عليه الرَّحْمَةُ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ
يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ أَصْلًا
وَكَذَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ
لَا يَنْعَقِدُ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَبْنَى قَبُولِ
الشَّهَادَاتِ على الصِّدْقِ وَلَا يَظْهَرُ الصِّدْقُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ
لِأَنَّ خَبَرَ من ليس بِمَعْصُومٍ عن الْكَذِبِ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ
وَلَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ إلَّا بِالْعَدَالَةِ
وَاحْتَجَّ في انْعِقَادِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ
وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ
وَلَنَا عُمُومَاتُ قَوْله تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ
} وَقَوْلِهِ لَا
____________________
(6/270)
نِكَاحَ
إلَّا بِشُهُودٍ وَالْفَاسِقُ شَاهِدٌ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ } قَسَّمَ الشُّهُودَ إلَى مَرْضِيِّينَ
وَغَيْرِ مَرْضِيِّينَ فَيَدُلُّ على كَوْنِ غَيْرِ الْمَرْضِيِّ وهو الْفَاسِقُ
شَاهِدًا وَلِأَنَّ حَضْرَةَ الشُّهُودِ في بَابِ النِّكَاحِ لِدَفْعِ تُهْمَةِ الزِّنَا
لَا لِلْحَاجَةِ إلَى شَهَادَتِهِمْ عِنْدَ الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ لِأَنَّ
النِّكَاحَ يَشْتَهِرُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَيُمْكِنُ دَفْعُ الْجُحُودِ
وَالْإِنْكَارِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ وَالتُّهْمَةُ تَنْدَفِعُ
بِحَضْرَةِ الْفَاسِقِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ
وَأَمَّا قَوْلُهُ الرُّكْنُ في الشَّهَادَةِ هو صِدْقُ الشَّاهِدِ فَنَعَمْ
لَكِنَّ الصِّدْقَ لَا يَقِفُ على الْعَدَالَةِ لَا مَحَالَةَ فإن من الْفَسَقَةِ
من لَا يُبَالِي بِارْتِكَابِهِ أَنْوَاعًا من الْفِسْقِ وَيَسْتَنْكِفُ عن الْكَذِبِ
وَالْكَلَامُ في فَاسِقٍ تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ في شَهَادَتِهِ فَغَلَبَ
على ظَنِّهِ صِدْقُهُ وَلَوْ لم يَكُنْ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ
بِشَهَادَتِهِ عِنْدَنَا
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ رُوِيَ عن بَعْضِ نَقَلَةِ الحديث أَنَّهُ قال لم يَثْبُتْ
عن رسول اللَّهِ وَلَنْ يَثْبُتَ فَلَا حُجَّةَ له فيه بَلْ هو حُجَّةٌ عليه
لِأَنَّهُ ليس فيه جَعْلُ الْعَدَالَةِ صِفَةً لِلشَّاهِدِ لِأَنَّهُ لو كان
كَذَلِكَ لَقَالَ لَا نكالح ( ( ( نكاح ) ) ) إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْنِ
عَدْلَيْنِ بَلْ هذا إضَافَةُ الشَّاهِدَيْنِ إلَى الْعَدْلِ وهو كَلِمَةُ
التَّوْحِيدِ فَكَأَنَّهُ قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا نِكَاحَ إلَّا
بِوَلِيٍّ مقابل ( ( ( مقابلي ) ) ) كَلِمَةِ الْعَدْلِ وَهِيَ كَلِمَةُ
الْإِسْلَامِ وَالْفَاسِقُ مُسْلِمٌ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَحْدُودًا في قَذْفٍ عِنْدَنَا وهو شَرْطُ الْأَدَاءِ
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ
الشَّهَادَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الْفِسْقُ بِالْقَذْفِ وقد
زَالَ بِالتَّوْبَةِ
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى جَلَّ وَعَلَا { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ }
الْآيَةَ
نهى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن قَبُولِ شَهَادَةِ الرَّامِي على التَّأْبِيدِ
فَيَتَنَاوَلُ زَمَانَ ما بَعْدَ التَّوْبَةِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَحْدُودَ في الْقَذْفِ مَخْصُوصٌ من عُمُومَاتِ
الشَّهَادَةِ عَمَلًا بِالنُّصُوصِ كُلِّهَا صِيَانَةً لها عن التَّنَاقُضِ
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ إذَا قَذَفَ مُسْلِمًا فَحُدَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ على أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ أَسْلَمَ جَازَتْ شَهَادَتُهُ
عليهم وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَبِمِثْلِهِ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ إذَا قَذَفَ حُرًّا ثُمَّ حُدَّ حَدَّ
الْقَذْفِ ثُمَّ عَتَقَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ أَبَدًا وَإِنْ أُعْتِقَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ تُوجِبُ بُطْلَانَ شَهَادَةٍ كان
لِلْقَاذِفِ قبل الْإِقَامَةِ وَالثَّابِتُ لِلذِّمِّيِّ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ
شَهَادَتُهُ على أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا على أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَتَبْطُلُ تِلْكَ
الشَّهَادَةُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ فإذا أَسْلَمَ فَقَدْ حَدَثَتْ له
بِالْإِسْلَامِ شَهَادَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ وَهِيَ شهادته ( ( ( شهادة ) ) ) على
أَهْلِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهَا لم تَكُنْ له لِتَبْطُلَ بِالْحَدِّ فَتُقْبَلُ
هذه الشَّهَادَةُ ثُمَّ من ضَرُورَةِ قَبُولِ شَهَادَتِهِ على أَهْلِ الْإِسْلَامِ
قَبُولُ شَهَادَتِهِ على أَهْلِ الذِّمَّةِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْعَبْدَ
من أَهْلِ الشَّهَادَةِ وَإِنْ لم تَكُنْ له شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّ له
عَدَالَةَ الْإِسْلَامِ وَالْحَدُّ أَبْطَلَ ذلك على التَّأْبِيدِ
وَلَوْ ضُرِبَ الذِّمِّيُّ بَعْضَ الْحَدِّ فَأَسْلَمَ ثُمَّ ضُرِبَ الْبَاقِيَ
تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لِلشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ في
حَالَةِ الْإِسْلَامِ ولم تُوجَدْ لِأَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ لِلْكُلِّ فَلَا يَكُونُ
الْبَعْضُ حَدًّا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّأُ وَهَذَا جَوَابُ ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ عليه الرَّحْمَةُ رِوَايَتَيْنِ أُخْرَيَيْنِ
فقال في رِوَايَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وفي رِوَايَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وَلَوْ ضُرِبَ سَوْطًا وَاحِدًا في الْإِسْلَامِ لِأَنَّ السِّيَاطَ
الْمُتَقَدِّمَةَ تَوَقَّفَ كَوْنُهَا حَدًّا على وُجُودِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ
وقد وُجِدَ كَمَالُ الْحَدِّ في حَالَةِ الْإِسْلَامِ وفي رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ
الْأَكْثَرُ إنْ وُجِدَ أَكْثَرُ الْحَدِّ في حَالِ الْإِسْلَامِ تَبْطُلُ
شَهَادَتُهُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكُلِّ في الشَّرْعِ
وَالصَّحِيحُ جَوَابُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ اسْمٌ
لِلْكُلِّ وَعِنْدَ ضَرْبِ السَّوْطِ الْأَخِيرِ تَبَيَّنَ أَنَّ السِّيَاطَ
كُلَّهَا كانت حَدًّا ولم يُوجَدْ الْكُلُّ في حَالِ الْإِسْلَامِ بَلْ الْبَعْضُ
فَلَا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ الْحَادِثَةُ بِالْإِسْلَامِ
هذا إذَا شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَبَعْدَ التَّوْبَةِ فَأَمَّا إذَا
شَهِدَ بَعْدَ التَّوْبَةِ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ شَهِدَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ قبل التَّوْبَةِ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ شَهِدَ قبل التَّوْبَةِ وَقَبْلَ إقَامَةِ
الْحَدِّ فَهِيَ مَسْأَلَةُ شَهَادَةِ الْفَاسِقِ وقد مَرَّتْ
وَأَمَّا النِّكَاحُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ في الْقَذْفِ فَيَنْعَقِدُ
بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ له
شَهَادَةً أَدَاءً فَكَانَتْ له شَهَادَةٌ سَمَاعًا وَأَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ
حَضْرَةَ الشُّهُودِ لَدَى النِّكَاحِ لَيْسَتْ لِدَفْعِ الْجُحُودِ
وَالْإِنْكَارِ لِانْدِفَاعِ الْحَاجَةِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّسَامُعِ بَلْ لِرَفْعِ
رِيبَةِ الزِّنَا وَالتُّهْمَةِ بِهِ وَذَا يُجْعَلُ بِحَضْرَةِ الْمَحْدُودِينَ
في الْقَذْفِ فَيَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِحَضْرَتِهِمْ وَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ لِلنَّهْيِ عن الْقَبُولِ وَالِانْعِقَادُ يَنْفَصِلُ
____________________
(6/271)
عن
الْقَبُولِ في الْجُمْلَةِ
وَأَمَّا الْمَحْدُودُ في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ فَتُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ بِالْإِجْمَاعِ إذَا تَابَ لِأَنَّهُ صَارَ عَدْلًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ في الْقَذْفِ إذَا تَابَ
لَوْلَا النَّصُّ الْخَاصُّ بِعَدَمِ الْقَبُولِ على التَّأْبِيدِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَجُرَّ الشَّاهِدُ إلَى نَفْسِهِ مَغْنَمًا وَلَا يَدْفَعَ عن
نَفْسِهِ مَغْرَمًا بِشَهَادَتِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا لِدَافِعِ الْمَغْرَمِ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ
إذَا تَضَمَّنَتْ مَعْنَى النَّفْعِ وَالدَّفْعِ فَقَدْ صَارَ مُتَّهَمًا وَلَا
شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وَلِأَنَّهُ إذَا جَرَّ
النَّفْعَ إلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ لم تَقَعْ شَهَادَتُهُ لِلَّهِ تَعَالَى عز
وجل بَلْ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا لِوَلَدِهِ وَإِنْ سَفَلَ
وَعَكْسُهُ أنها غَيْرُ مَقْبُولَةٍ لِأَنَّ الْوَالِدِينَ وَالْمَوْلُودِينَ
يَنْتَفِعُ الْبَعْضُ بِمَالِ الْبَعْضِ عَادَةً فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى جَرِّ النَّفْعِ
وَالتُّهْمَةِ وَالشَّهَادَةِ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ في أَدَبِ الْقَاضِي عن النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ
لِوَلَدِهِ وَلَا الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا السَّيِّدِ لِعَبْدِهِ وَلَا
الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَلَا الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ
لِزَوْجَتِهِ
وَأَمَّا سَائِرُ الْقَرَابَاتِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ وَالْخَالِ وَنَحْوِهِمْ
فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ ليس لِبَعْضِهِمْ
تَسَلُّطٌ في مَالِ الْبَعْضِ عُرْفًا وَعَادَةً فَالْتَحَقُوا بِالْأَجَانِبِ
وَكَذَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ من الرَّضَاعِ لِوَلَدِهِ من الرَّضَاعِ
وَشَهَادَةُ الْوَلَدِ من الرَّضَاعِ لِوَالِدِهِ من الرَّضَاعِ لِأَنَّ
الْعَادَةَ ما جَرَتْ بِانْتِفَاعِ هَؤُلَاءِ بَعْضِهِمْ بِمَالِ الْبَعْضِ
فَكَانُوا كَالْأَجَانِبِ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ وَلَا
شَهَادَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا شَهَادَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ فَلَا تُقْبَلُ عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ وَاحْتَجَّ بِعُمُومَاتِ
الشَّهَادَةِ من غَيْرِ تَخْصِيصٍ نَحْوُ قَوْله تَعَالَى جلا ( ( ( جل ) ) )
وَعَلَا { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ {
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ عَظُمَتْ كِبْرِيَاؤُهُ {
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ } من غَيْرِ فَصْلٍ بين عَدْلٍ وَعَدْلٍ ومرضى
ومرضى
وَلَنَا ما رَوَيْنَا من النُّصُوصِ من قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
شَهَادَةَ لِجَارِ الْمَغْنَمِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ وَأَحَدُ
الزَّوْجَيْنِ بِشَهَادَتِهِ لِلزَّوْجِ الْآخَرِ يَجُرُّ الْمَغْنَمَ إلَى
نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِمَالِ صَاحِبِهِ عَادَةً فَكَانَ شَاهِدًا
لِنَفْسِهِ لِمَا رَوَيْنَا من حديث الْخَصَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا الْعُمُومَاتُ فَنَقُولُ بِمُوجِبِهَا لَكِنْ لم قُلْتُمْ إنَّ أَحَدَ
الزَّوْجَيْنِ في الشَّهَادَةِ لِصَاحِبِهِ عَدْلٌ وَمَرْضِيٌّ بَلْ هو مَائِلٌ
وَمُتَّهَمٌ لِمَا قُلْنَا لَا يَكُونُ شَاهِدًا فَلَا تَتَنَاوَلُهُ
الْعُمُومَاتُ
وَكَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ له في الْحَادِثَةِ التي اسْتَأْجَرَهُ
فيها لِمَا فيه من تُهْمَةِ جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ
وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِصَاحِبِهِ في مَالِ الشَّرِكَةِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ لِرَجُلَيْنِ على الْمَيِّتِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ
ثُمَّ شَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ على الْمَيِّتِ بِدَيْنِ
أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهَادَةُ الْفَرِيقَيْنِ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ جَائِزَةٌ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ لو شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لَهُمَا بِالثُّلُثِ
وَشَهِدَ الْمَشْهُودُ لَهُمَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى لِلشَّاهِدَيْنِ
بِالثُّلُثِ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ غَصَبَهُمَا دَارًا أو عَبْدًا وَشَهِدَ
الْمَشْهُودُ لَهُمَا لِلشَّاهِدَيْنِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهَادَةُ
الْفَرِيقَيْنِ جَائِزَةٌ بِالْإِجْمَاعِ
لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ يَشْهَدُ لِغَيْرِهِ لَا
لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا في شَهَادَتِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ ما يَأْخُذُهُ كُلُّ فَرِيقٍ فَالْفَرِيقُ الْآخَرُ يُشَارِكُهُ
فيه فَكَانَ كُلُّ فَرِيقٍ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ ما إذَا اخْتَلَفَ
جِنْسُ الْمَشْهُودِ بِهِ لِأَنَّ ثَمَّةَ مَعْنَى الشَّرِكَةِ لَا يَتَحَقَّقُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ خَصْمًا لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ وَلِأَنَّهُ إذَا كان خَصْمًا
فَشَهَادَتُهُ تَقَعُ لِنَفْسِهِ فَلَا تُقْبَلُ
وَعَلَى هذا تَخْرُجُ شَهَادَةُ الْوَصِيِّ لِلْمَيِّتِ وَالْيَتِيمِ الذي في
حِجْرِهِ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فيه وَكَذَا شَهَادَةُ الْوَكِيلِ لِمُوَكِّلِهِ لِمَا
قُلْنَا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَقْتَ الْأَدَاءِ ذَاكِرًا
له عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا ليس بِشَرْطٍ حتى إنَّهُ
لو رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ في الْكِتَابِ لَكِنَّهُ لَا يَذْكُرُ
الشَّهَادَةَ لَا يَحِلُّ له أَنْ يَشْهَدَ
وَلَوْ شَهِدَ وَعَلِمَ الْقَاضِي بِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا له أَنْ يَشْهَدَ وَلَوْ شَهِدَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا رَأَى اسْمَهُ وَخَطَّهُ وَخَاتَمَهُ على الصَّكِّ
دَلَّ أَنَّهُ تُحْمَلُ الشَّهَادَةُ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ في الصَّكِّ فَيَحِلُّ له
أَدَاؤُهَا وإذا أَدَّاهَا تُقْبَلُ وَلِأَنَّ النِّسْيَانَ أَمْرٌ جُبِلَ عليه
الْإِنْسَانُ خُصُوصًا عِنْدَ طُولِ الْمُدَّةِ بِالشَّيْءِ لِأَنَّ طُولَ
الْمُدَّةِ يُنْسِي فَلَوْ شَرَطَ تَذَكُّرَ الْحَادِثَةِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ
لَانْسَدَّ بَابُ الشَّهَادَةِ فَيُؤَدِّي إلَى تَضْيِيعِ الْحُقُوقِ وَهَذَا لَا
يَجُوزُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْله تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ {
وَلَا تَقْفُ ما ليس لك بِهِ عِلْمٌ } وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِشَاهِدٍ إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا
____________________
(6/272)
فَدَعْ
وَلَا اعْتِمَادَ على الْخَطِّ وَالْخَتْمِ لِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ
وَالْخَتْمُ يُشْبِهُ الْخَتْمَ وَيَجْرِي فيه الِاحْتِيَالُ وَالتَّزْوِيرُ مع ما
أَنَّ الْخَطَّ لِلتَّذَكُّرِ فَخَطٌّ لَا يُذْكَرُ وُجُودُهُ وَعَدَمُهُ
بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا وَجَدَ الْقَاضِي في دِيوَانِهِ شيئا لَا يَذْكُرُهُ
وَدِيوَانُهُ تَحْتَ خَتْمِهِ أَنَّهُ لَا يَعْمَلُ بِهِ عِنْدَهُ وَعِنْدُهُمَا
يَعْمَلُ إذَا كان تَحْتَ خَتْمِهِ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا عُزِلَ الْقَاضِي ثُمَّ استقضي بَعْدَمَا عُزِلَ
فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَرَى في دِيوَانِهِ الْأَوَّلِ ولم يذكر
ذلك ليس له ذلك عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا له ذلك وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الشَّهَادَةِ فَأَنْوَاعٌ منها
لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَلَا تُقْبَلُ بِغَيْرِهَا من الْأَلْفَاظِ كَلَفْظِ
الْإِخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ وَنَحْوِهِمَا وَإِنْ كان يُؤَدِّي مَعْنَى
الشَّهَادَةِ تَعَبُّدًا غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى
وَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى
فَإِنْ خَالَفَتْهَا لَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ الْمُدَّعِي بين الدَّعْوَى
وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّوْفِيقِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ إذَا
خَالَفَتْ الدَّعْوَى فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى وَتَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ
انْفَرَدَتْ عن الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةُ الْمُنْفَرِدَةُ عن الدَّعْوَى فِيمَا
يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى غَيْرُ مَقْبُولَةٍ
وَبَيَانُ ذلك في مَسَائِلَ إذَا ادَّعَى مِلْكًا بِسَبَبٍ ثُمَّ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ على مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَا تُقْبَلُ وَبِمِثْلِهِ لو ادَّعَى مِلْكًا
مُطْلَقًا ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ بِسَبَبٍ تُقْبَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ أَعَمُّ من الْمِلْكِ بِسَبَبٍ
لِأَنَّهُ يَظْهَرُ من الْأَصْلِ حتى تُسْتَحَقَّ بِهِ الزَّوَائِدُ وَالْمِلْكُ
بِسَبَبٍ يَقْتَصِرُ على وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُطْلَقُ
أَعَمَّ فَصَارَ الْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ على الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ
مُكَذِّبًا شُهُودَهُ في بَعْضِ ما شَهِدُوا بِهِ وَالتَّوْفِيقُ مُتَعَذَّرٌ
لِأَنَّ الْمِلْكَ من الْأَصْلِ يُنَافِي الْمِلْكَ الْحَادِثَ بِسَبَبٍ
لِاسْتِحَالَةِ ثُبُوتِهِمَا مَعًا في مَحِلٍّ وَاحِدٍ بِخِلَافِ ما إذَا ادَّعَى
الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ بِسَبَبٍ لِأَنَّ
الْمِلْكَ بِسَبَبٍ أَخَصُّ من الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ على ما بَيَّنَّا فَقَدْ
شَهِدُوا بِأَقَلَّ مِمَّا ادَّعَى فلم يَصِرْ الْمُدَّعِي مُكَذِّبًا شُهُودَهُ
بَلْ صَدَّقَهُمْ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ وَادَّعَى زِيَادَةَ شَيْءٍ لَا شَهَادَةَ
لهم عليه وَصَارَ كما لو ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ الشُّهُودُ على
أَلْفٍ أَنَّهُ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ على الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِسَبَبٍ مُعَيَّنٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على
الْمِلْكِ بِسَبَبٍ آخَرَ بِأَنْ ادَّعَى دَارًا في يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا
من أبيه ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِلْكِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا من صَاحِبِ
الْيَدِ أو وَهَبَهَا له أو تَصَدَّقَ بها عليه وَقَبَضَ أو ادَّعَى الشِّرَاءَ أو
الْهِبَةَ أو الصَّدَقَةَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْإِرْثِ لَا تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى لِاخْتِلَافِ
الْبَيِّنَتَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى
أَمَّا الصُّورَةُ فَلَا شَكَّ فيها وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ حُكْمَ
الْبَيِّنَتَيْنِ يَخْتَلِفُ فَلَا يُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ بين الدَّعْوَى
وَالشَّهَادَةِ فقال كنت اشْتَرَيْتُ منه لَكِنَّهُ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ
وَعَجَزْتُ عن إثْبَاتِهِ فَاسْتَوْهَبْتُ منه فَوَهَبَ مِنِّي وَقَبَضْتُ
وَأَعَادَ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ لِأَنَّهُ إذا وَفَّقَ فَقَدْ زَالَتْ
الْمُخَالَفَةُ وَظَهَرَ أَنَّهُ لم يُكَذِّبْ شُهُودَهُ
وَيَصِيرُ هذا في الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءً وَلِهَذَا يَجِبُ عليه إعَادَةُ
الْبَيِّنَةِ لِتَقَعَ الشَّهَادَةُ عِنْدِ الدَّعْوَى
وَكَذَا إذَا وَفَّقَ فقال وَرِثْتُهُ من أبي إلَّا أَنَّهُ جَحَدَ إرْثِي
فَاشْتَرَيْتُ منه أو وَهَبَ لي فَإِنَّهَا تُقْبَلُ لِزَوَالِ التَّنَاقُضِ
وَالِاخْتِلَافِ بَيْن الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ
وَلَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ بَعْدَ هذا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الشِّرَاءِ
بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا تُقْبَلُ
لِأَنَّ الْبَدَلَ قد اخْتَلَفَ
وَاخْتِلَافُ الْبَدَلِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ
فَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ على عَقْدٍ آخَرَ غير ما ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي فَلَا
تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ المدعى فقال اشْتَرَيْتُ بِالْعَبْدِ إلَّا أَنَّهُ
جَحَدَنِي الشِّرَاءَ بِهِ فَاشْتَرَيْتُهُ بَعْدَ ذلك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ
فَتُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُخَالَفَةِ
وَهَذَا إذَا كان دَعْوَى التَّوْفِيقِ في مَجْلِسٍ آخَرَ بِأَنْ قام عن مَجْلِسِ
الْحُكْمِ ثُمَّ جاء وَادَّعَى التَّوْفِيقَ
فَأَمَّا إذَا لم يَقُمْ عن مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَدَعْوَى التَّوْفِيقِ غَيْرُ
مَسْمُوعَةٍ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ له ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ لِفُلَانٍ
وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فيه تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
وَبِمِثْلِهِ لو ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه ثُمَّ
أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ له لَا تُقْبَلُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ قَوْلَهُ أَوَّلًا إنَّهُ لي لَا يَنْفِي قَوْلَهُ
إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له
بِحَقِّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ وَلِغَيْرِهِ بِحَقِّ الْمِلْكِ فَكَانَ
التَّوْفِيقُ مُمْكِنًا فَقُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الثَّانِي
لِأَنَّ قَوْلَهُ هو لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه يَنْفِي قَوْلَهُ
بَعْدَ ذلك هو لي لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِأَنَّ الْمِلْكَ فيه لِفُلَانٍ وَأَنَّهُ
وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ فيه بِقَوْلِهِ إنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي
بِالْخُصُومَةِ فيه فَكَانَ قَوْلُهُ بَعْدَ ذلك هو لي إقْرَارًا منه بِالْمِلْكِ
لِنَفْسِهِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فَلَا تُقْبَلُ
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
على أَنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ
قَوْلَهُ أَوَّلًا إنَّهُ لِفُلَانٍ
____________________
(6/273)
وَكَّلَنِي
بِالْخُصُومَةِ فيه كما يَنْفِي قَوْلَهُ إنَّهُ لي يَنْفِي قَوْلَهُ إنَّهُ
لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَنِي بِالْخُصُومَةِ فيه فَلَا تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ
فقال إنَّ الْمُوَكِّلَ الْأَوَّلَ بَاعَ من الْمُوَكِّلِ الثَّانِي ثُمَّ
وَكَّلَنِي الثَّانِي بِالْخُصُومَةِ فَيُقْبَلُ لِزَوَالِ الْمُنَاقَضَةِ
وَلَوْ ادَّعَى في ذِي الْقَعْدَةِ أَنَّهُ اشْتَرَى منه هذه الدَّارَ في شَهْرِ
رَمَضَانَ بِأَلْفٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أَنَّهُ
تَصَدَّقَ بِالدَّارِ على الْمُدَّعِي في شَعْبَانَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ
لِأَنَّ دَعْوَى التَّصَدُّقِ في شَعْبَانَ تُنَافِي الشِّرَاءَ في شَهْرِ
رَمَضَانَ لِاسْتِحَالَةِ شِرَاءِ الْإِنْسَانِ مِلْكَ نَفْسِهِ وَالتَّوْفِيقُ
غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا تُقْبَلُ
وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على التَّصَدُّقِ في شَوَّالٍ وَوَفَّقَ فقال
جَحَدَنِي الشِّرَاءَ ثُمَّ تَصَدَّقَ بها عَلَيَّ تُقْبَلُ
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا في يَدَيْ رَجُلٍ أنها له وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها
كانت في يَدِ الْمُدَّعِي بِالْأَمْسِ لَا تُقْبَلُ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ أنها تُقْبَلُ وَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَلَوْ أَقَامَ
صَاحِبُ الْيَدِ الْبَيِّنَةَ على أنها كانت مِلْكًا لِلْمُدَّعِي تُقْبَلُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَمَّا قَامَتْ
على أنها ما كانت في يَدِهِ فَالْأَصْلُ في الثَّابِتِ بَقَاؤُهُ وَلِهَذَا
قَبِلْت الْبَيِّنَةُ على مِلْكٍ كان وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ
بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ ثَبَتَ بِالْمُعَايَنَةِ أو بِالْإِقْرَارِ أَنَّهُ كان
في يَدِهِ بِالْأَمْسِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
كَذَا هذا
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّهَادَةَ قَامَتْ على يَدٍ كانت فَلَا
يَثْبُتُ الْكَوْنُ لِلْحَالِ إلَّا بِحُكْمِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وإنه لَا
يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ وَلِأَنَّ الْيَدَ قد تَكُونُ مُحِقَّةً وقد تَكُونُ
مُبْطِلَةً وقد تَكُونُ يَدَ مِلْكٍ وقد تَكُونُ يَدَ أَمَانَةٍ فَكَانَتْ
مُحْتَمَلَةً وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمِلْكِ
وَالْمُعَايَنَةِ وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ بِنَفْسِهِ
وَالْبَيِّنَةُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ بِنَفْسِهَا بَلْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا
وَجْهَ لِلْقَضَاءِ بِالْمُحْتَمَلِ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أنها كانت في
يَدِهِ بِالْأَمْسِ فَأَخَذَهَا هذا منه أو غَصَبَهَا أو أَوْدَعَهُ أو أَعَارَهُ
تُقْبَلُ ويقضى لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ عَلِمَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ تلقي الْيَدَ
من جِهَةِ الْخَارِجِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى دَارًا في يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَرِثَهَا من
أبيه وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على أنها كانت لِأَبِيهِ فَنَقُولُ هذا لَا يَخْلُو
من أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ شَهِدُوا أَنَّ الدَّارَ كانت لِأَبِيهِ ولم
يَقُولُوا مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له وَإِمَّا أَنْ قالوا أنها كانت
لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له وَإِمَّا أَنْ قالوا أنها كانت في يَدِ
أبيه يوم الْمَوْتِ وَإِمَّا أَنْ أَثْبَتُوا من أبيه فِعْلًا فيها عِنْدَ
مَوْتِهِ
أَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ فَعَلَى قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَعَلَى قَوْلِ أبي يُوسُفَ
تُقْبَلُ
وَكَذَا لو شَهِدُوا أنها كانت لِأَبِيهِ مَاتَ قَبْلَهَا لَا تُقْبَلُ
قالوا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ هذا على قَوْلِهِمَا أَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفِ على
ما رُوِيَ عنه في الْأَمَالِي يَنْبَغِي أَنْ تُقْبَلَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمِلْكَ مَتَى ثَبَتَ لِأَبِيهِ بِشَهَادَتِهِمْ
فَالْأَصْلُ فِيمَا ثَبَتَ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ فَصَارَ كما لو
شَهِدُوا أنها كانت لِأَبِيهِ يوم الْمَوْتِ أَيْضًا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ خَالَفَتْ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْمُدَّعِي
ادَّعَى مِلْكًا كَائِنًا وَالشَّهَادَةُ وَقَعَتْ بِمِلْكٍ كان لَا بِمِلْكٍ
كَائِنٍ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ مُخَالِفَةً لِلدَّعْوَى فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهُ ما ثَبَتَ يَبْقَى
قُلْنَا نعم لَكِنْ لَا حكم ( ( ( حكما ) ) ) لِدَلِيلِ الثُّبُوتِ لِأَنَّ دَلِيلَ
الثُّبُوتِ لَا يَتَعَرَّضُ لِلْبَقَاءِ وَإِنَّمَا الْبَقَاءُ بِحُكْمِ
اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وأنه لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ
وَلَوْ شَهِدُوا أنها كانت لِجَدِّهِ فَعِنْدَهُمَا لَا يَقْضِي بها ما لم
يَشْهَدُوا بِالْمِيرَاثِ بِأَنْ يَقُولُوا مَاتَ جَدُّهُ وَتَرَكَهَا لِأَبِيهِ
ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَنْظُرُ إنْ عَلِمَ أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ قبل الْأَبِ يقضى
بها له وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْأَبَ مَاتَ قبل الْجَدِّ أو لم يَعْلَمْ لم يَقْضِ
بها
وَلَوْ شَهِدُوا أنها لِأَبِيهِ لَا يقضى بها له منهم من قال هذا على الِاتِّفَاقِ
وَمِنْهُمْ من قال هو على الْخِلَافِ الذي ذكرنا ( ( ( ذكرناه ) ) ) وهو
الصَّحِيحُ فإنه رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أنها تُقْبَلُ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وهو ما إذَا شَهِدُوا أنها كانت لِأَبِيهِ مَاتَ
وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا له فَلَا شَكَّ أَنَّ هذه الشَّهَادَةَ مَقْبُولَةٌ
لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالتَّرْكِ
مِيرَاثًا له وهو تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ وهو ما إذَا شَهِدُوا أنها كانت في يَدِهِ يوم
الْمَوْتِ فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْيَدِ من الْأَصْلِ
يُحْمَلُ على يَدِ الْمَالِكِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ بِيَدٍ قَائِمَةٍ عِنْدَ
الْمَوْتِ شَهَادَةً بِمِلْكٍ قَائِمٍ عِنْدَ الْمَوْتِ فإذا مَاتَ فَقَدْ تَرَكَ فَثَبَتَ
الْمِلْكُ له في الْمَتْرُوكِ إذْ هو تَفْسِيرُ الْمِلْكِ الْمَوْرُوثِ وَلِأَنَّ
يَدَهُ إنْ كانت يَدَ مِلْكٍ كان الْمِلْكُ ثَابِتًا لِلْمُوَرِّثِ عِنْدَ
الْمَوْتِ وَإِنْ كانت يَدَ أَمَانَةٍ انْتَقَلَتْ يَدَ مِلْكٍ إذَا مَاتَ
مُجَهِّلًا لِأَنَّ التَّجْهِيلَ عِنْدَ الْمَوْتِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ
وَوُجُوبُ الضَّمَانِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْمَضْمُونِ عِنْدَنَا
وَأَمَّا الْوَجْهُ الرَّابِعُ وهو ما إذَا ثَبَتَ لِيَدِ الْمَشْهُودِ من الْأَبِ
فِعْلًا في الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
ذلك فِعْلًا هو دَلِيلُ الْيَدِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فِعْلًا ليس هو دَلِيلُ
الْيَدِ وَالْفِعْلُ
____________________
(6/274)
الذي
هو دَلِيلُ الْيَدِ هو فِعْلٌ لَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُهُ بِدُونِ النَّقْلِ في
النَّقْلِيَّاتِ كَاللُّبْسِ وَالْحَمْلِ أو فِعْلٌ يُوجَدُ لِلنَّقْلِ عَادَةً
كَالرُّكُوبِ في الدَّوَابِّ أو فِعْلًا يُوجَدُ في الْغَالِبِ من الْمُلَّاكِ
فِيمَا لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ لَا من غَيْرِهِمْ كَالسُّكْنَى في الدُّورِ
وَالْفِعْلُ الذي ليس بِدَلِيلِ الْيَدِ هو فِعْلٌ ثَبَتَ في النَّقْلِيَّاتِ من
غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا يَكُونُ حُصُولُهُ لِلنَّقْلِ عَادَةً كَالْجُلُوسِ على
الْبِسَاطِ أو فِعْلٌ ليس بِفِعْلٍ لِلْمُلَّاكِ غَالِبًا فِيمَا لَا يَقْبَلُ
كَالنَّوْمِ وَالْجُلُوسِ في الدَّارِ وَأَشْبَاهِ ذلك فَإِنْ كان فِعْلًا هو
دَلِيلُ الْيَدِ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على ثُبُوتِهِ عِنْدَ مَوْتِ
الْأَبِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ الْقَائِمَةَ على ما هو دَلِيلُ الْيَدِ عِنْدَ
الْمَوْتِ قَائِمَةٌ على الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ كان فِعْلًا ليس
بِدَلِيلِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ دَلِيلُ الْيَدِ التي
هِيَ دَلَالَةُ الْمِلْكِ وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي
الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ في هذه الدَّارِ إنها لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ لم
تُوجَدْ الشَّهَادَةُ على الْيَدِ الدَّالَّةِ على الْمِلْكِ وَلَا على فِعْلٍ
دَالٍّ على الْيَدِ وَلَا على فِعْلٍ هو فِعْلُ الْمُلَّاكِ غَالِبًا لِأَنَّ
الدَّارَ قد يَمُوتُ فيها الْمَالِكُ وقد يَمُوتُ فيها غَيْرُ الْمَالِكِ من
الزُّوَّارِ وَالضَّيْفِ وَنَحْوِهِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو لَابِسٌ هذا الْقَمِيصَ أو لَابِسٌ هذا
الْخَاتَمَ تُقْبَلُ لِأَنَّ لُبْسَ الْقَمِيصِ وَالْخَاتَمِ فِعْلٌ لَا
يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ فَكَانَ دَلِيلًا على الْيَدِ عِنْدَ الْمَوْتِ
أَطْلَقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْجَامِعِ الْجَوَابَ في الْخَاتَمِ
وَمِنْهُمْ من حَمَلَ جَوَابَ الْكِتَابِ على ما إذَا كان الْخَاتَمُ في
خِنْصَرِهِ أو بِنْصِرِهِ يوم الْمَوْتِ وَزَعَمَ أَنَّهُ إذَا كان فِيمَا
سِوَاهُمَا من الْأَصَابِعِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ
الْمُلَّاكِ في الْخَاتَمِ هذا عَادَةٌ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عليه
قَائِمَةً على الْيَدِ
فَأَمَّا جَعْلُهُ فِيمَا سِوَاهُمَا من الْأَصَابِعِ من الْمُلَّاكِ فَهُوَ ليس
بِمُعْتَادٍ فَلَا يَكُونُ ذلك اسْتِعْمَالَ الْخَاتَمِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ
الْيَدِ
وَلِهَذَا قالوا لو جَعَلَ الْمُودِعُ الْخَاتَمَ في خِنْصَرِهِ أو بِنْصِرِهِ
فَضَاعَ من يَدِهِ يُضْمَنُ لِمَا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ
وَلَوْ جَعَلَهُ فِيمَا سِوَاهُمَا من الْأَصَابِعَ فَضَاعَ لَا يَضْمَنُ لِمَا
أَنَّ ذلك حِفْظٌ وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ وَالصَّحِيحُ إطْلَاقُ جَوَابِ
الْكِتَابِ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَيْفَ ما كان لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ النَّقْلِ
فَكَانَ دَلِيلًا على الْيَدِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو جَالِسٌ على هذا الْبِسَاطِ أو على هذا
الْفِرَاشِ أو نَائِمٌ عليه لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ هذه الْأَفْعَالَ تُتَصَوَّرُ من
غَيْرِ نَقْلٍ وَلَا تُفْعَلُ لِلنَّقْلِ عَادَةً فلم يَكُنْ دَلِيلَ الْيَدِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لو تَنَازَعَ اثْنَانِ في بِسَاطٍ أَحَدُهُمَا
جَالِسٌ عليه وَالْآخِرُ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
وَهَذَا دَلِيلُ ثُبُوتِ يَدَيْهِمَا عليه
قِيلَ له إنَّمَا قضي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِدَعْوَاهُمَا أَنَّهُ في
يَدَيْهِمَا لَا لِثُبُوتِ الْيَدِ لِأَنَّ الْجُلُوسَ عليه وَالتَّعَلُّقَ بِهِ
كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَحَقَّقُ بِدُونِ النَّقْلِ وَلَا يوجدان النَّقْلَ
غَالِبًا على ما بَيَّنَّا فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْيَدِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو رَاكِبٌ على هذه الدَّابَّةِ تُقْبَلُ ويقضى
بِالدَّابَّةِ لِلْوَارِثِ لِأَنَّ الرُّكُوبَ وَإِنْ كان يَتَهَيَّأُ بِدُونِ
نَقْلِ الدَّابَّةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا لِلنَّقْلِ فَكَانَ
دَلِيلَ الْيَدِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وهو سَاكِنٌ هذه الدَّارَ تُقْبَلُ ويقضى
لِلْوَارِثِ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ وَلَا يَقْضِي
وَوَجْهُهُ أَنَّ فِعْلَ السُّكْنَى في الدَّارِ كما يُوجَدُ من الْمُلَّاكِ
يُوجَدُ من غَيْرِهِمْ فَلَا يَصْلُحُ دَلِيلًا على الْيَدِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ يُوجَدُ في الْغَالِبِ من
الْمُلَّاكِ لَا من غَيْرِهِمْ
هذا هو الْمُعْتَادُ فِيمَا بين الناس فَيُحْمَلُ الْمُطْلَقُ عليه
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَهَذَا الثَّوْبُ مَوْضُوعٌ على رَأْسِهِ ولم
يَشْهَدُوا أَنَّهُ كان حَامِلًا له لَا تُقْبَلُ وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي
بهذا شيئا لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَضَعَهُ بِنَفْسِهِ أو وَضَعَهُ غَيْرُهُ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ وَقَعَ عليه من غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ رِيحٌ
بِهِ فَأَلْقَتْهُ على رَأْسِهِ فَوَقَعَ الشَّكُّ في النَّقْلُ منه فَلَا
يَثْبُتُ النَّقْلُ منه بِالشَّكِّ فَلَا تَثْبُتُ الْيَدُ بِالشَّكِّ
ثُمَّ نَقُولُ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ أنها كانت لِأَبِيهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا
مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ قالوا هذا وَارِثُهُ لَا وَارِثَ
له غَيْرُهُ وأما أَنْ قالوا هو وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ أَنَّ له وَارِثًا
غَيْرُهُ
وَإِمَّا أَنْ قالوا هو وَارِثُهُ ولم يَقُولُوا
لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ وَلَا قالوا لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ
فَأَمَّا الْوَجْهُ الْأَوَّلُ وهو ما إذَا قالوا هو وَارِثُهُ لَا وَارِثَ له
غَيْرُهُ فإنه تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا
تُقْبَلَ لِأَنَّهَا كَشَهَادَةٍ على ما لَا عِلْمَ لِلشَّاهِدِ بِهِ لِاحْتِمَالِ
أَنْ يَكُونَ له وَارِثٌ لَا يَعْلَمُهُ وقد قال عليه الصلاة ( ( ( السلام ) ) )
والسلام لِلشَّاهِدِ إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ مَعْنَاهُ في
مُتَعَارَفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ أو لَا
وَارِثَ له غَيْرُهُ في عِلْمِنَا
وَلَوْ نَصَّ على ذلك لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ فَكَذَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وهو ما إذَا قالوا هو وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ له
وَارِثًا غَيْرَهُ
____________________
(6/275)
تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال ابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ حتى يَقُولُوا لَا وَارِثَ له
غَيْرُهُ لِأَنَّهُمْ لو لم يَقُولُوا لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ اُحْتُمِلَ أَنْ
يَكُونَ له وَارِثٌ غَيْرُهُ لَا يَعْلَمُونَهُ وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ
لِأَنَّ الشَّاهِدَ إنَّمَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ بِمَا في عِلْمِهِ وَنَفْيُ
وَارِثٍ آخَرَ ليس في عِلْمِهِ فَلَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ بِهِ إلَّا على
اعْتِبَارِ ما في عِلْمِهِ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ قالوا لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ في هذا الْمِصْرِ أو في أَرْضِ
كَذَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ في هذا
الْمِصْرِ لَا يَنْفِي وَارِثًا غَيْرَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له وَارِثٌ آخَرُ
في مِصْرٍ آخَرَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لو كان له وَارِثٌ
آخَرُ في مَوْضِعٍ آخَرَ لَعَلِمُوهُ لِأَنَّ وَارِثَ الْإِنْسَانِ لَا يَخْفَى
على أَهْلِ بَلَدِهِ عَادَةً فَكَانَ التَّخْصِيصُ وَالتَّعْمِيمُ فيه سَوَاءٌ
ثُمَّ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ أو شَهِدُوا
أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ أو لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا
غَيْرَهُ في هذا الْمِصْرِ على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فإنه
يَدْفَعُ كُلَّ التَّرِكَةِ إلَيْهِ سَوَاءٌ كان الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا
يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ كَالِابْنِ وَالْأَبِ وَالْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ
أو يَحْتَمِلُهُ كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَالْجَدِّ وَنَحْوِهِمْ لِأَنَّهُ
تَعَيَّنَ وَارِثًا له فَيُدْفَعُ إلَيْهِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ
إلَّا إذَا كان زَوْجًا أو زَوْجَةً فَلَا يُعْطَى إلَّا أَكْثَرُ نَصِيبِهِ فَلَا
يُعْطَى الزَّوْجُ إلَّا النِّصْفُ وَلَا تُعْطَى الْمَرْأَةُ إلَّا الرُّبُعُ
لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَحِقَّانِ من الْمِيرَاثِ أَكْثَرَ من ذلك لِأَنَّهُ لَا
يُرَدُّ عَلَيْهِمَا
وفي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَا يُؤْخَذُ من الْوَارِثِ كَفِيلٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّالِثُ وهو ما إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ وَارِثُهُ ولم
يَقُولُوا لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ وَلَا قالوا لَا نَعْلَمُ له وَارِثًا غَيْرَهُ
فإنه يُنْظَرُ إنْ كان مِمَّنْ يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ
لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ حَاجِبٍ فَإِنْ كان لَا يُعْطَى وَإِنْ لم يَكُنْ
يُعْطَى بِالشَّكِّ وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ الْحَجْبَ يُدْفَعُ إلَيْهِ
جَمِيعُ الْمَالِ إلَّا الزَّوْجَ وَالزَّوْجَةَ فإنه لَا يُدْفَعُ إلَيْهِمَا
إلَّا نَصِيبُهُمَا وهو أَكْثَرُ النَّصِيبَيْنِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ لِلزَّوْجِ
الرُّبُعُ والمرأة ( ( ( وللمرأة ) ) ) الثُّمْنُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عنه
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النُّقْصَانَ عن أَكْثَرِ
النَّصِيبَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْمُزَاحَمَةِ وفي وُجُودِ الْمُزَاحِمِ شَكٌّ فَلَا
يَثْبُتُ النُّقْصَانُ بِالشَّكِّ
وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَقَلَّ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وفي
الزِّيَادَةِ شَكٌّ فَلَا تَثْبُتُ الزِّيَادَةُ بِالشَّكِّ
وَرُوِيَ عنه رِوَايَةٌ أُخْرَى أَنَّ لِلزَّوْجِ الرُّبُعَ وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ
الثُّمْنِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ له أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَيَكُونُ لها رُبُعُ
الثُّمْنِ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ وفي الزِّيَادَةِ شَكٌّ
وَرَوَى عنه أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ وَلِلزَّوْجِ الْخُمُسُ وَلِلْمَرْأَةِ رُبُعُ
التُّسْعِ
أَمَّا الزَّوْجُ فَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ أَبَوَانِ
وَبِنْتَانِ وَزَوْجٌ
أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من اثْنَيْ عَشَرَ لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ أَرْبَعَةٌ
وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ ثَلَاثَةٌ
فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ من خَمْسَةَ عَشَرَ
وَثَلَاثَةٌ من خَمْسَةَ عَشَرَ خُمُسُهَا فَذَلِكَ لِلزَّوْجِ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ أَبَوَانِ
وَبِنْتَانِ وَزَوْجَةٌ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ من أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ
لِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ
عَشَرَ وَلِلزَّوْجَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ فَعَالَتْ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ
فَصَارَتْ الْفَرِيضَةُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ وَثَلَاثَةٌ من سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ
تُسْعُهَا ثُمَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ثَلَاثَةٌ أُخْرَى فَيَكُنَّ
أَرْبَعَ زَوْجَاتٍ فَيَكُونُ لها رُبُعُ التُّسْعِ وَثَلَاثَةٌ على أَرْبَعَةٍ
لَا تَسْتَقِيمُ فَتُضْرَبُ أَرْبَعَةٌ في تِسْعَةٍ وَيَكُونُ سِتَّةً
وَثَلَاثِينَ سَهْمًا تُسْعُهَا أَرْبَعَةٌ فَلَهَا من ذلك سَهْمٌ وهو رُبُعُ
التُّسْعِ وهو سَهْمٌ من سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ سَهْمًا
ثُمَّ في هذا الْوَجْهِ الثَّالِثِ إذَا كان الْوَارِثُ مِمَّنْ لَا يَحْتَمِلُ
الْحَجْبَ وَدُفِعَ الْمَالُ إلَيْهِ هل يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يُؤْخَذُ وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُؤْخَذُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ لِصِيَانَةِ الْحَقِّ وَالْحَاجَةُ
مَسَّتْ إلَى الصِّيَانَةِ لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ وَارِثٍ آخَرَ فَيُؤْخَذُ
الْكَفِيلُ نَظَرًا لِلْوَارِثِ كما في رَدِّ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ إلَى
صَاحِبِهَا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أن حَقَّ الْحَاضِرِ لِلْحَالِ ثَابِتٌ
بِيَقِينٍ وفي ثُبُوتِ الْحَقِّ لِوَارِثٍ آخَرَ شَكٌّ لِأَنَّهُ قد يَظْهَرُ
وَارِثٌ آخَرُ وقد لَا يَظْهَرُ فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْحَقِّ الثَّابِتِ
بِيَقِينٍ لِحَقٍّ مَشْكُوكٍ فيه مع ما أَنَّ الْمَكْفُولَ له مَجْهُولٌ
وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ
وَإِنَّمَا أُخِذَ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ فَقَدْ قِيلَ
إنَّهُ قَوْلُهُمَا لِمَا أَنَّ في الْمَسْأَلَةِ روايتان ( ( ( روايتين ) ) )
فَأَمَّا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ على
أَنَّا سَلَّمْنَا فَتِلْكَ كَفَالَةٌ لِمَعْلُومٍ لَا لِمَجْهُولٍ لِأَنَّ
الرَّادَّ إنَّمَا يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ كيلا يَلْزَمَهُ الضَّمَانُ فلم
تَكُنْ كَفَالَةً لِمَجْهُولٍ
وَذَكَرَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذه الْمَسْأَلَةَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ
____________________
(6/276)
وقال
هذا شَيْءٌ احْتَاطَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ وهو ظُلْمٌ أَرَأَيْتَ لو لم يَجِدْ
كَفِيلًا كنت أَمْنَعُهُ حَقَّهُ
دَلَّتْ تَسْمِيَتُهُ أَخُذَ الْكَفِيلِ ظُلْمًا على أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّ ليس
كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا إذْ الصَّوَابُ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ظُلْمًا
فَدَلَّتْ الْمَسْأَلَةُ على بَرَاءَةِ سَاحَتِهِ عن لَوْثِ الِاعْتِزَالِ
بِحَمْدِ اللَّهِ وَمَنِّهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ
الشَّهَادَةُ بِمَعْلُومٍ فَإِنْ كانت بِمَجْهُولٍ لم تُقْبَلْ لِأَنَّ عِلْمَ
الْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ قَضَائِهِ فما لم يَعْلَمْ لَا
يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عن الْقَاضِي أَنَّ فُلَانًا
وَارِثُ هذا الْمَيِّتِ لَا وَارِثَ له غَيْرُهُ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِمَجْهُولٍ لِجَهَالَةِ الْوَارِثِ
أَسْبَابَ الْوِرَاثَةِ وَاخْتِلَافَ أَحْكَامِهَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَقُولُوا ابْنُهُ
وَوَارِثُهُ لَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا غَيْرَهُ أو أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ
لَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا غَيْرَهُ وَقَوْلُهُ لَا يَعْلَمُونَ له وَارِثًا
غَيْرَهُ لِئَلَّا يَتَلَوَّمَ الْقَاضِي لَا لِأَنَّهُ من الشَّهَادَةِ عِنْدَ
مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِجِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ بابا ( ( ( باب ) ) ) في
الزِّيَادَاتِ يُعْرَفُ ثَمَّةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ عِنْدَ أَدَاءِ
الشَّهَادَةِ حتى لو ظَنَّ لَا تَحِلُّ له الشَّهَادَةُ وَإِنْ رَأَى خَطَّهُ
وَخَتْمَهُ وَأَخْبَرَهُ الناس بِمَا يَتَذَكَّرُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا إنْ رَأَى خَطَّهُ وَخَتْمَهُ له أَنْ
يَشْهَدَ نحو ما تَقَدَّمَ من الْخِلَافِ وَالْحُجَجِ من الْجَانِبَيْنِ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْمَكَانَ فَوَاحِدٌ وهو مَجْلِسُ الْقَاضِي لِأَنَّ
الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً مُلْزِمَةً إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي
فَتَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الشَّرَائِطُ التي تَخُصُّ بَعْضَ الشَّهَادَاتِ دُونَ الْبَعْضِ
فَأَنْوَاعٌ أَيْضًا منها الدَّعْوَى في الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ على حُقُوقِ
الْعِبَادِ من الْمُدَّعِي بِنَفْسِهِ أو نَائِبِهِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ في هذا
الْبَابِ شُرِعَتْ لِتَحْقِيقِ قَوْلِ الْمُدَّعِي وَلَا يَتَحَقَّقُ قَوْلُهُ إلَّا
بِدَعْوَاهُ إمَّا بِنَفْسِهِ وَإِمَّا بِنَائِبِهِ
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَلَا يُشْتَرَطُ فيها الدَّعْوَى
كَأَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ من الطَّلَاقِ وَغَيْرِهِ وَأَسْبَابُ الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ حقا ( ( ( حق ) ) ) لِلَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ شُرِطَتْ
الدَّعْوَى في بَابِ السَّرِقَةِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا لِغَيْرِ
السَّارِقِ شَرْطُ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً شَرْعًا وَلَا يَظْهَرُ
ذلك إلَّا بِالدَّعْوَى فَشُرِطَتْ الدَّعْوَى لِهَذَا
وَاخْتُلِفَ في عِتْقِ الْعَبْدِ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْعَبْدِ فَتُشْتَرَطُ فيه
الدَّعْوَى أو حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا تُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى مع
الِاتِّفَاقِ على أَنَّ عِتْقَ الْأَمَةِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لِمَا عُلِمَ من
الْخِلَافِ في كِتَابِ الْعَتَاقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْعَدَدُ في الشَّهَادَةِ بِمَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ فَإِنْ لم يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ }
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }
وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ على الشَّاهِدِ إقَامَةُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ عز وجل
الْآيَةُ
وهو قَوْله تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } تعالى وقَوْله تَعَالَى
{ كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ } وَلَا تَقَعُ الشَّهَادَةُ
لِلَّهِ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ خَالِصَةً صَافِيَةً عن جَرِّ النَّفْعِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ في الشَّهَادَةِ مَنْفَعَةً لِلشَّاهِدِ من حَيْثُ التَّصْدِيقُ
لِأَنَّ من صَدَقَ قَوْلُهُ يَتَلَذَّذُ بِهِ فَلَوْ قُبِلَ قَوْلُ الْفَرْدِ لم
تَخْلُ شَهَادَتُهُ عن جَرِّ النَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ فَلَا يَخْلُصُ لِلَّهِ عز
وجل
فَشُرِطَ الْعَدَدُ في الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مُضَافًا إلَى قَوْلِ
صَاحِبِهِ فَتَصْفُو الشَّهَادَةُ لِلَّهِ عز شَأْنُهُ وَلِأَنَّهُ إذَا كان
فَرْدًا يُخَافُ عليه السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَطْبُوعٌ
على السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ فَشَرْطُ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ لِيُذَكِّرَ
الْبَعْضُ الْبَعْضَ عِنْدَ اعْتِرَاضِ السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ كما قال اللَّهُ
تَعَالَى في إقَامَةِ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ في الشَّهَادَةِ { أَنْ
تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } ثُمَّ الشَّرْطُ عَدَدُ
الْمُثَنَّى في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ الْقَائِمَةِ على ما يَطَّلِعُ عليه
الرِّجَالُ إلَّا في الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا فإنه يُشْتَرَطُ فيها عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لم يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وقَوْله تَعَالَى { فإذ لم يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ } وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ في هذا
الْبَابِ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ فَتُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وهو
الْإِقْرَارُ ثُمَّ عَدَدُ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ شَرْطُ ظُهُورِ الزِّنَا
عِنْدَنَا فَكَذَا عَدَدُ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ
فإنه لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ في الْإِقْرَارِ لِظُهُورِهَا فَكَذَا في
الشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ عَدَدَ الْأَرْبَعَةِ في الزِّنَا ثَبَتَ نَصًّا بِخِلَافِ
الْقِيَاسِ لِأَنَّ خَبَرَ من ليس بِمَعْصُومٍ من الْكَذِبِ لَا يَخْلُو عن
احْتِمَالِ الْكَذِبِ
وَعَدَدُ الْأَرْبَعَةِ في احْتِمَالِ الْكَذِبِ مِثْلُ عَدَدِ الْمُثَنَّى ما لم
يَدْخُلْ في حَدِّ التَّوَاتُرِ لَكِنَّا عَرَفْنَاهُ شَرْطًا بِنَصٍّ خَاصٍّ
مَعْدُولًا بِهِ عن الْقِيَاسِ فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَبْوَابِ على أَصْلِ
الْقِيَاسِ
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ كَالْوِلَادَةِ وَالْعُيُوبِ الْبَاطِنَةِ
في النِّسَاءِ فَالْعَدَدُ فيه ليس
____________________
(6/277)
بِشَرْطٍ
عِنْدَنَا فَتُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثِّنْتَانِ أَحْوَطُ
وَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إن الْعَدَدَ فيه شَرْطٌ
إلَّا أَنَّ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يكتفي فيه بِامْرَأَتَيْنِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بُدَّ من الْأَرْبَعِ
وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ شَهَادَةَ الرِّجَالِ لَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُهَا في
هذا الْبَابِ لِمَكَانِ الضَّرُورَةِ وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِعَدَدِهِمْ من
النِّسَاءِ
وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ كُلَّ
امْرَأَتَيْنِ في بَابِ الشَّهَادَةِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ثُمَّ لَا يكتفي
بِأَقَلَّ من رَجُلَيْنِ فَلَا يكتفي بِأَقَلَّ من أَرْبَعِ نِسْوَةٍ
وَلَنَا أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ في الشَّهَادَةِ في الْأَصْلِ ثَبَتَ تَعَبُّدًا
غَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى
لِأَنَّ خَبَرَ من ليس بِمَعْصُومٍ عن الْكَذِبِ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ قَطْعًا
وَيَقِينًا
وَإِنَّمَا يُفِيدُهُ غَالِبُ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ
وَهَذَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ
وَلِهَذَا لم يُشْتَرَطْ الْعَدَدُ في رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ
إلَّا أَنَّا عَرَفْنَا الْعَدَدَ فيها شَرْطًا بِالنَّصِّ
وَالنَّصُّ وَرَدَ بِالْعَدَدِ في شَهَادَةِ النِّسَاءِ في حَالَةٍ مَخْصُوصَةٍ
وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ } فَبَقِيَتْ حَالَةُ الِانْفِرَادِ عن الرِّجَالِ على أَصْلِ
الْقِيَاسِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ قَبِلَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ على الْوِلَادَةِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَاحِدٌ بِالْوِلَادَةِ يُقْبَلُ لِأَنَّهُ لَمَّا قَبِلَ
شَهَادَةَ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا اتِّفَاقُ الشَّهَادَتَيْنِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه الْعَدَدُ فَإِنْ
اخْتَلَفَا لم تُقْبَلْ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الدَّعْوَى
وَالشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الشَّهَادَتَيْنِ لم يُوجَدْ إلَّا
أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُكْتَفَى بِهِ فِيمَا يُشْتَرَطُ فيه
الْعَدَدُ
ثُمَّ نَقُولُ الِاخْتِلَافُ قد يَكُونُ في جِنْسِ الْمَشْهُودِ بِهِ وقد يَكُونُ
في قَدْرِهِ وقد يَكُونُ في الزَّمَانِ وقد يَكُونُ في الْمَكَانِ وَغَيْرِ ذلك
أَمَّا اخْتِلَافُهُمَا في الْجِنْسِ فَقَدْ يَكُونُ في الْعَقْدِ وقد يَكُونُ في
الْمَالِ أَمَّا في الْعَقْدِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ
وَالْآخَرُ بِالْمِيرَاثِ أو بِالْهِبَةِ أو غَيْرِ ذلك فَلَا تُقْبَلُ
لِاخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِعَقْدٍ غَيْرِ ما شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا
شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ
وَأَمَّا في الْمَالِ فَهُوَ أَنْ يَشْهَدَ أَحَدُهُمَا بِمَكِيلٍ وَالْآخَرُ
بِمَوْزُونٍ فَلَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ وَلَيْسَ على
أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ في قَدْرِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَنَحْوُ ما إذَا
ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ شَهِدَ
أَحَدُهُمَا بِأَلْفَيْنِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلًا وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ على الْأَلْفِ
وَلَوْ كان الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا
بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ على الْأَلْفِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لم تُخَالِفْ الدَّعْوَى في قَدْرِ
الْأَلْفِ بَلْ وَافَقَتْهَا بِقَدْرِهَا إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي
زِيَادَةَ مَالٍ لَا شَهَادَةَ لهم عليه فَيَثْبُتُ قَدْرُ ما وَقَعَ الِاتِّفَاقُ
عليه كما إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ
وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ على الْأَلْفِ لِمَا قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ خَالَفَ
الدَّعْوَى لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَلْفَيْنِ وإنه اسْمٌ وُضِعَ دَلَالَةً
على عَدَدٍ مَعْلُومٍ وَالِاسْمُ الْمَوْضُوعُ دَلَالَةً على عَدَدٍ لَا يَقَعُ
على ما دُونَ ذلك الْعَدَدِ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَعْدَادِ كالمتروك ( ( (
كالبرك ) ) ) لِأَلْفٍ من الْإِبِلِ وَالْهُنَيْدَةِ لِمِائَةٍ منها وَنَحْوِ ذلك
فلم تَكُنْ الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ مُدَّعًى فلم تَكُنْ الشَّهَادَةُ شَاهِدَةً
على ما دخل تَحْتَ الدَّعْوَى فَانْفَرَدَتْ الشَّهَادَةُ عن الدَّعْوَى فِيمَا
يُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى فَلَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ ما إذَا ادَّعَى أَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ أَنَّهُ
يُقْبَلُ على الْأَلْفِ لِأَنَّ الْأَلْفَ وَالْخَمْسَمِائَةِ اسْمٌ لِعَدَدَيْنِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْطَفُ أَحَدُهُمَا على الْآخَرِ فَيُقَالُ أَلْفٌ
وَخَمْسُمِائَةٍ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بانفرداه ( ( ( بانفراده ) ) )
دَاخِلًا تَحْتَ الدَّعْوَى فَالشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ عَلَيْهِمَا تَكُونُ
قَائِمَةً على كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودًا فإذا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ
فَقَدْ شَهِدَ بِأَحَدِ الْعَدَدَيْنِ الدَّاخِلَيْنِ تَحْتَ الدَّعْوَى فَكَانَتْ
الشَّهَادَةُ مُوَافِقَةً لِلدَّعْوَى في عَدَدِ الْأَلْفِ فَيُقْضَى بِهِ
لِلْمُدَّعِي لِقِيَامِ الْحُجَّةِ عليه بِخِلَافِ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ
لِأَنَّهُ اسْمٌ لِعَدَدٍ وَاحِدٍ لَا تَصِحُّ على ما دُونَهُ بِحَالٍ فلم تَكُنْ
الْأَلْفُ الْمُفْرَدَةُ دَاخِلَةً تَحْتَ الدَّعْوَى فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ
الْقَائِمَةُ عليها شَهَادَةً على ما لم يَدْخُلْ تَحْتَ الدَّعْوَى فَلَا
تُقْبَلُ فَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ
لَا تُقْبَلُ على الْأَلْفِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ كَذَّبَ أَحَدَ
شَاهِدَيْهِ في بَعْضِ ما شَهِدَ بِهِ فَأَوْجَبَ ذلك تُهْمَةً في الْبَاقِي فَلَا
تُقْبَلُ إلَّا إذَا وَفَّقَ فقال كان لي عليه أَلْفَانِ إلَّا أَنَّهُ كان قد
قَضَانِي أَلْفًا ولم يَعْلَمْ بِهِ الشَّاهِدُ فَيُقْبَلُ
وَكَذَا لو ادَّعَى أَلْفًا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بها وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ لَا تُقْبَلُ لِمَا قُلْنَا إلَّا إذَا وَفَّقَ فقال كان لي عليه
أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ إلَّا أَنَّهُ قَضَانِي خَمْسَمِائَةٍ ولم يَعْلَمْ بها
الشَّاهِدُ فَتُقْبَلُ لِأَنَّهُ إذَا وَفَّقَ فَقَدْ زَالَ الِاخْتِلَافُ
الْمَانِعُ من الْقَبُولِ
____________________
(6/278)
وَلَوْ
ادَّعَى على رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وهو يُنْكِرُ
فَشَهِدَ شَاهِدٌ بِأَلْفَيْنِ وَآخَرُ بِأَلْفٍ أو ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ
بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ
لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اخْتَلَفَا في الْبَدَلِ
وَاخْتِلَافُ الْبَدَلَيْنِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدَيْنِ فَصَارَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدًا بِعَقْدٍ غَيْرِ عَقْدِ صَاحِبِهِ وَلَيْسَ على
أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا يَثْبُتُ الْعَقْدُ
وَكَذَا لو كان الْمُشْتَرِي مُدَّعِيًا وَالْبَائِعُ مُدَّعًى عليه لِمَا قُلْنَا
فَإِنْ كان هذا في الْإِجَارَةِ يُنْظَرُ إنْ كانت الدَّعْوَى من المؤاجرة ( ( (
المؤاجر ) ) ) في مُدَّةِ الْإِجَارَةِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا يَكُونُ دَعْوَى
الْعَقْدِ وَلَيْسَ على أَحَدِ الْعَاقِدَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا
تُقْبَلُ كما في بَابِ الْبَيْعِ وَإِنْ كانت الدَّعْوَى بَعْدَ انْقِضَاءِ
مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا دَعْوَى الْمَالِ لَا دَعْوَى الْعَقْدِ فَكَانَ
حُكْمُهُ حُكْمَ سَائِرِ الدُّيُونِ وقد ذَكَرْنَاهُ على الِاتِّفَاقِ
وَالِاخْتِلَافِ هذا إذَا كانت الدَّعْوَى من الْمُؤَاجِرِ فَإِنْ كانت من
الْمُسْتَأْجِرِ لَا تُقْبَلُ سَوَاءٌ كانت الدَّعْوَى في الْمُدَّةِ أو بَعْدَ
انْقِضَائِهَا لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ
وَلَوْ كان هذا في النِّكَاحِ فَإِنْ كانت الدَّعْوَى من الْمَرْأَةِ فَهَذَا
دَعْوَى الْمَالِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ حتى إنها لو ادَّعَتْ على
رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا على أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهِدَ لها شَاهِدَانِ
أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ تُقْبَلُ وَالنِّكَاحُ
جَائِزٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ
لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ
وَلَوْ كانت الدَّعْوَى من الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةُ تُنْكَرُ لَا تُقْبَلُ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ وَلَوْ كانت الدَّعْوَى في
الْخُلْعِ أو في الطَّلَاقِ على مَالٍ أو في الْعَتَاقِ أو في الصُّلْحِ عن دَمِ
الْعَمْدِ على مَالٍ فَإِنْ كانت الدَّعْوَى من الزَّوْجِ أو من الْمَوْلَى أو
وَلِيِّ الْقِصَاصِ تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْمَالِ وَإِنْ كانت الدَّعْوَى
من الْمَرْأَةِ أو الْعَبْدِ أو الْقَاتِلِ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا دَعْوَى
الْعَقْدِ
وَلَوْ كان هذا في الْكِتَابَةِ فَإِنْ كانت الدَّعْوَى من الْمُكَاتَبِ لَا
تُقْبَلُ لِأَنَّ هذا دَعْوَى الْعَقْدِ فَلَا تُقْبَلُ وَلَا تَصِحُّ
الْكِتَابَةُ وَإِنْ كانت من الْمَوْلَى فَلَا تَصِحُّ لِأَنَّ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ
يُعْجِزَ نَفْسَهُ مَتَى شَاءَ
وَأَمَّا اخْتِلَافُ الشَّهَادَةِ في الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ فإنه يُنْظَرُ إنْ
كان ذلك في الْأَقَارِيرِ لَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ وَإِنْ كان في الْأَفَاعِيلِ من
الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالْغَصْبِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهَا يَمْنَعُ الْقَبُولَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَيُمْكِنُ
التَّوْفِيقُ بين الشَّهَادَتَيْنِ لِسَمَاعِهِ عن الْإِقْرَارِ في زَمَانَيْنِ أو
مَكَانَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الِاخْتِلَافُ بين الشَّهَادَتَيْنِ بِخِلَافِ
الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ وَغَيْرِهِ من الْعُقُودِ
وَالْفُسُوخِ لِأَنَّ هذا لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ فَاخْتِلَافُ الزَّمَانِ
وَالْمَكَانِ فيها يُوجِبُ اخْتِلَافَ الشَّهَادَتَيْنِ فَيَمْنَعُ الْقَبُولَ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ قَرْضَ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
أَحَدُهُمَا على الْقَرْضِ وَالْآخَرُ على الْقَرْضِ وَالْقَضَاءِ يقضى
بِشَهَادَتِهِمَا على الْقَرْضِ وَلَا يقضى بِالْقَضَاءِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا
بِالْقَرْضِ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا وَإِنْ اجْتَمَعَا على الشَّهَادَةِ بِالْقَرْضِ
لَكِنَّ الذي شَهِدَ بِالْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ فَبَقِيَ على
الْقَرْضِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلَا يَقْضِي بِالشَّهَادَةِ وَالصَّحِيحُ جَوَابُ
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الشهادتان ( ( ( الشهادتين ) ) ) اخْتَلَفَتَا في
الْقَضَاءِ لَا في الْقَرْضِ بَلْ اتَّفَقَا على الْقَرْضِ فيقضي بِهِ
وَقَوْلُهُ شَاهِدُ الْقَضَاءِ فَسَخَ شَهَادَتَهُ بِالْقَرْضِ
قُلْنَا مَمْنُوعٌ بَلْ قَرَّرَ شَهَادَتَهُ على الْقَرْضِ لِأَنَّ قَضَاءَ
الْقَرْضِ بَعْدَ الفرض ( ( ( القرض ) ) ) يَكُونُ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ فَوَاحِدٌ وهو مَجْلِسُ الْقَضَاءِ
وَمِنْهَا الذُّكُورَةُ في الشَّهَادَةِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَلَا تُقْبَلُ
فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ عن الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
قال مَضَتْ السُّنَّةُ من لَدُنْ رسول اللَّهِ وَالْخَلِيفَتَيْنِ من بعدهما ( ( (
بعده ) ) ) رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمَا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ النِّسَاءِ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَلِأَنَّ الْحُدُودَ
وَالْقِصَاصَ مَبْنَاهُمَا على الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ بِالشُّبُهَاتِ
وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ لَا تَخْلُو عن شُبْهَةٍ لِأَنَّهُنَّ جُبِلْنَ على
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ فَيُورِثُ ذلك شُبْهَةً
بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّهَا تَجِبُ مع الشُّبْهَةِ وَلِأَنَّ
جَوَازَ شَهَادَةِ النِّسَاءِ على الْبَدَلِ من شَهَادَةِ الرِّجَالِ والأبدال في
بَابِ الْحُدُودِ غَيْرُ مقبولة ( ( ( مقبول ) ) ) كَالْكَفَالَاتِ
وَالْوَكَالَاتِ
وَأَمَّا الشَّهَادَةُ على الْأَمْوَالِ فَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ فيها بِشَرْطٍ
وَالْأُنُوثَةُ لَيْسَتْ بِمَانِعَةٍ بِالْإِجْمَاعِ فَتُقْبَلُ فيها شَهَادَةُ
النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى في بَابِ
الْمُدَايَنَةِ { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِجَالِكُمْ فَإِنْ لم يَكُونَا
رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من الشُّهَدَاءِ }
وَاخْتُلِفَ في اشْتِرَاطِهَا في الشَّهَادَةِ بِالْحُقُوقِ التي ليس ( ( ( ليست )
) ) بِمَالٍ كَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالنَّسَبِ
قال أَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وقال الشَّافِعِيُّ رضي
اللَّهُ عنه شَرْطٌ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ حُجَّةٌ
ضَرُورَةً لِأَنَّهَا جُعِلَتْ حُجَّةً في بَابِ الدِّيَانَاتِ عِنْدَ عَدَمِ
الرِّجَالِ وَلَا ضَرُورَةَ في الْحُقُوقِ التي لَيْسَتْ بِمَالٍ لِانْدِفَاعِ
الْحَاجَةِ فيها بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ وَلِهَذَا لم تُجْعَلْ حُجَّةً في بَابِ
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَكَذَا لم تُجْعَلْ حُجَّةً بِانْفِرَادِهِنَّ فِيمَا
لَا يَطَّلِعُ عليه الرِّجَالُ
وَلَنَا قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا } الْآيَةَ جَعَلَ
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
____________________
(6/279)
لِرَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ شَهَادَةً على الْإِطْلَاقِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
جَعَلَهُمْ من الشُّهَدَاءِ وَالشَّاهِدُ الْمُطْلَقُ من له شَهَادَةٌ على
الْإِطْلَاقِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ لهم شَهَادَةٌ في سَائِرِ الْأَحْكَامِ
إلَّا ما قُيِّدَ بِدَلِيلٍ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ
النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ في النِّكَاحِ وَالْفُرْقَةِ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ من الصَّحَابَةِ فَكَانَ إجْمَاعًا منهم على الْجَوَازِ
وَلِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ في إظْهَارِ الشهود ( ( ( المشهود ) )
) بِهِ مِثْلُ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فيها على
جَانِبِ الْكَذِبِ بِالْعَدَالَةِ لَا أنها لم تُجْعَلْ حُجَّةً فِيمَا يُدْرَأُ
بِالشُّبُهَاتِ لِنَوْعِ قُصُورٍ وَشُبْهَةٍ فيها لِمَا ذَكَرْنَا وَهَذِهِ
الْحُقُوقُ تَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةٌ
وَأَمَّا قَوْلُهُ بِأَنَّهَا ضَرُورَةٌ فَلَا تَسْلَمُ فَإِنَّهَا مع الْقُدْرَةِ
على شَهَادَةِ الرِّجَالِ في بَابِ الْأَمْوَالِ مَقْبُولَةٌ فَدَلَّ أنها
شَهَادَةٌ مُطْلَقَةٌ لَا ضَرُورَةً
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ نُقْصَانَ الْأُنُوثَةِ يَصِيرُ مَجْبُورًا بِالْعَدَدِ
فَكَانَتْ شَهَادَةً مُطْلَقَةً
وَاخْتُلِفَ في اشْتِرَاطِهَا في الشَّهَادَةِ على الْإِحْصَانِ
قال عُلَمَاؤُنَا الثَّلَاثَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
وقال زُفَرُ حتى يَظْهَرَ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ لَا يَظْهَرُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الذُّكُورَةَ شَرْطٌ في عِلَّةِ
الْعُقُوبَاتِ بِالْإِجْمَاعِ حتى لَا يَظْهَرَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ وَالْإِحْصَانُ من جُمْلَةِ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ لِأَنَّ عِلَّةَ
وُجُوبِ الرَّجْمِ ليس هو الزِّنَا الْمُطْلَقَ بَلْ الزِّنَا الموصوف ( ( (
لموصوف ) ) ) بِالتَّغْلِيظِ وَلَا يَتَغَلَّظُ إلَّا بِالْإِحْصَانِ فَكَانَ
الْإِحْصَانُ من جُمْلَةِ الْعِلَّةِ لا ( ( ( فلا ) ) ) يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ
النِّسَاءِ وَلِهَذَا لو أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ جَازَ رُجُوعُهُ كما أَنَّهُ لو
أَقَرَّ بِالزِّنَا رَجَعَ
وَكَذَا الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على الْإِحْصَانِ من غَيْرِ دَعْوَى
كَالشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ على الزِّنَا وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل {
فَاسْتَشْهِدُوا } الْآيَةَ وَدَلَالَتُهَا على نَحْوِ ما تَقَدَّمَ مع
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
وَأَمَّا قَوْلُهُ من جُمْلَةِ الْعِلَّةِ الْإِحْصَانُ
قُلْنَا لَا مَمْنُوعٌ بَلْ هو شَرْطُ الْعِلَّةِ فَيَصِيرُ الزِّنَا عِنْدَهُ
عِلَّةً وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِلَّةِ لَا إلَى الشَّرْطِ لِمَا عُرِفَ في
أُصُولِ الْفِقْهِ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عنه بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ
الرُّجُوعُ في قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَصِحُّ في قَوْلِ
زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا حُجَّةٌ على زُفَرَ وَلَا رِوَايَةَ فيه عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قلنا ( ( ( فلنا ) ) ) أَنْ
نَمْنَعَ وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ الدَّعْوَى يَدُلُّ على أَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا على أَنَّهُ تُضَافُ إلَيْهِ الْعُقُوبَةُ
أَلَا تَرَى أَنَّ الدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في عِتْقِ الْأَمَةِ إجْمَاعًا
وَلَا في عِتْقِ الْعَبْدِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِنْ كان لَا
يَتَقَرَّرُ تَعَلُّقُ عُقُوبَةٍ بِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْإِحْصَانَ
حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى في هذا الْوَقْتِ على ما عُرِفَ في الْخِلَافِيَّاتِ
وَمِنْهَا إسْلَامُ الشَّاهِدِ إذَا كان الْمَشْهُودُ عليه مُسْلِمًا حتى لَا
تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ على الْمُسْلِمِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ فيها مَعْنَى
الْوِلَايَةِ وهو تَنْفِيذُ الْقَوْلِ على الْغَيْرِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ
فَلَا شَهَادَةَ له عليه
وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ على الْكَافِرِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ أَنْ
يَثْبُتَ له الْوِلَايَةُ على الْمُسْلِمِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى
وَأَمَّا إذَا كان الْمَشْهُودُ عليه كَافِرًا فَإِسْلَامُ الشَّاهِدِ هل هو
شَرْطٌ لِقَبُولِ شَهَادَتِهِ عليه فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ ليس بِشَرْطٍ حتى تُقْبَلَ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ
بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أو اخْتَلَفَتْ بَعْدَ أَنْ
كَانُوا عُدُولًا في دِينِهِمْ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ حتى لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ
أَصْلًا
وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَنْ يَكُونَ لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ سبيلا ( ( ( سبيل ) )
) وفي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ
لِلْكَافِرِينَ على الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُ يَجِبُ على الْقَاضِي الْقَضَاءُ
بِشَهَادَتِهِمْ وأنه مَنْفِيٌّ وَلِأَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ قَبُولِ
الشَّهَادَةِ وَالْفِسْقُ مَانِعٌ وَالْكُفْرُ رَأْسُ الْفِسْقِ فَكَانَ أَوْلَى
بِالْمَنْعِ من الْقَبُولِ وَلَنَا قَوْلُ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في
ذلك الحديث فإذا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما
لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَلِلْمُسْلِمِ على
الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ فَكَذَا لِلذِّمِّيِّ على الذِّمِّيِّ فَظَاهِرُهُ
يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلذِّمِّيِّ على الْمُسْلِمِ شَهَادَةٌ كَالْمُسْلِمِ
إلَّا أَنَّ ذلك صَارَ مَخْصُوصًا من عُمُومِ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ
مَسَّتْ إلَى صِيَانَةِ حُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلَا تَحْصُلُ الصِّيَانَةُ
إلَّا وَأَنْ يَكُونَ لِبَعْضِهِمْ على بَعْضٍ شَهَادَةٌ وَلَا شَكَّ أَنَّ
الْحَاجَةَ
____________________
(6/280)
إلَى
صِيَانَةِ حُقُوقِهِمْ مَاسَّةٌ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ
لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا
وَالدَّلِيلُ على أَنَّ الصِّيَانَةَ لَا تَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ
لِبَعْضِهِمْ على بَعْضٍ شَهَادَةٌ لِأَنَّ هذه الْمُعَامَلَاتِ تَكْثُرُ فِيمَا
بَيْنَهُمْ
وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَحْضُرُونَ مُعَاقَدَتِهِمْ لِيَتَحَمَّلُوا حَوَادِثَهُمْ
فَلَوْ لم يَكُنْ لِبَعْضِهِمْ على بَعْضٍ شَهَادَةٌ لَضَاعَتْ حُقُوقُهُمْ عِنْدَ
الْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ فَدَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الصِّيَانَةِ بِالشَّهَادَةِ
وَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ فَوُجُوبُ الْقَضَاءِ لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِالتَّقْلِيدِ السَّابِقِ وَالشَّهَادَةُ شَرْطُ الْوُجُوبِ
وَالْحُكْمُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ فَلَا يَكُونُ في قَبُولِ شَهَادَةِ
بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ إثْبَاتُ السَّبِيلِ لِلْكَافِرِ على الْمُؤْمِنِ
سَوَاءٌ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أو اخْتَلَفَتْ
فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ النَّصْرَانِيِّ على الْيَهُودِيِّ وَالْيَهُودِيِّ على
الْمَجُوسِيِّ
وقال ابن أبي لَيْلَى إنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ
وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ صُورَةً
فَهُوَ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ حَقِيقَةً فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ
كَيْفَ ما كان بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حتى
لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ على الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ
دَارِ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً وَإِنْ كان فيها صُورَةً لِأَنَّهُ ما دخل دَارَنَا
لِلسُّكْنَى فيها بَلْ لِيَقْضِيَ حَوَائِجَهُ ثُمَّ يَعُودَ عن قَرِيبٍ فلم
يَكُنْ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَالذِّمِّيُّ من أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ
فَاخْتَلَفَتْ الدَّارَانِ فلم تُقْبَلْ شَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عليه بِالنَّصِّ
الذي رَوَيْنَا وَصَارَ حُكْمُ الْمُسْتَأْمَنِ مع الذِّمِّيِّ في الشَّهَادَةِ
كَحُكْمِ الذِّمِّيِّ مع الْمُسْلِمِ
وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ تُقْبَلُ على الْمُسْتَأْمَنِ إنْ اتَّفَقَتْ
دَارُهُمْ وَمِلَلُهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ
وَمِنْهَا عَدَمُ التَّقَادُمِ في الشَّهَادَةِ على الْحُدُودِ كُلِّهَا إلَّا
حَدَّ الْقَذْفِ حتى لَا تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ عليها إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ
إلَّا على حَدِّ الْقَذْفِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِمَا عُرِفَ في كِتَابِ
الْحُدُودِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ومنها قِيَامُ الرَّائِحَةِ في الشَّهَادَةِ على شُرْبِ الْخَمْرِ إذَا لم يَكُنْ
سَكْرَانَ ولم يُحَقَّقْ أَنَّهُ من مَسِيرِهِ لَا يَبْقَى الرِّيحُ من الْمَجِيءِ
بِهِ من مِثْلِهَا عَادَةً عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ وَهِيَ من
مَسَائِلِ الْحُدُودِ وَتُذْكَرُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَمِنْهَا الْأَصَالَةُ في الشَّهَادَةِ على الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حتى لَا
تُقْبَلَ فيها الشَّهَادَةُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ
عِنْدَنَا كَذَا لَا يُقْبَلُ فيها كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِأَنَّهُ في
مَعْنَى الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
ليس بِشَرْطٍ حتى تُقْبَلَ فيها الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ
وَأَجْمَعُوا على أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في الْأَمْوَالِ وَالْحُقُوقِ
الْمُجَرَّدَةِ عنها فَتُقْبَلُ فيها الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ
الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إلَّا في الْعَبْدِ الْآبِقِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ تُقْبَلُ فيه أَيْضًا على ما نَذْكُرُ في
كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْفُرُوعَ يُؤَدُّونَ
الشَّهَادَةَ نِيَابَةً عن الْأُصُولِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمْ شَهَادَةَ
الْأُصُولِ مَعْنًى وَشَهَادَةُ الْأُصُولِ على الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ مَقْبُولَةٌ
وَلَنَا أَنَّ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ مِمَّا تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ
وَالشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ لَا تَخْلُو عن شُبْهَةٍ وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ
فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ في شَهَادَتِهِنَّ بِسَبَبِ
السَّهْوِ وَالْغَفْلَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَا تَمَكَّنَتْ في
مَجْلِسٍ فَكَانَ فيها زِيَادَةٌ لَيْسَتْ في شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَلِأَنَّ
الْحُدُودَ لَمَّا كانت مَبْنِيَّةً على الدَّرْءِ أَوْجَبَ ذلك اخْتِصَاصَهَا
بِحُجَجٍ مَخْصُوصَةٍ بَلْ إيقَافَ إقَامَتِهَا وَلِهَذَا شُرِطَ عَدَدُ
الْأَرْبَعَةِ في الشَّهَادَةِ على الزِّنَا لِأَنَّ إطلاع أَرْبَعَةٍ من
الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ على غَيْبُوبَةِ ذَكَرِهِ في فَرْجِهَا كما يَغِيبُ
الْمِيلُ في الْمُكْحُلَةِ نَادِرٌ غَايَةَ النُّدْرَةِ
ثُمَّ نَقُولُ الْكَلَامُ في الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ
في صُورَةِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وفي شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ
وفي صُورَةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وفي شَرَائِطِ الْأَدَاءِ
أَمَّا صُورَةُ التَّحَمُّلِ فَلَهَا عِبَارَتَانِ مُخْتَصَرَةٌ وَمُطَوَّلَةٌ
أَمَّا اللَّفْظُ الْمُخْتَصَرُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ اشهد على
شَهَادَتِي أَنِّي أَشْهَدُ لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا أو يَقُولَ أَشْهَدُ
أَنَّ لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا فاشهد على شَهَادَتِي بِذَلِكَ
وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَاهِدُ الْأَصْلِ أَشْهَدُ أَنَّ
لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا أُشْهِدُكَ على شَهَادَتِي هذه وَآمُرُكَ أَنْ
تَشْهَدَ على شَهَادَتِي هذه فَاشْهَدْ وَأَمَّا شَرَائِطُ تَحَمُّلِ هذه
الشَّهَادَاتِ فما ذَكَرْنَا في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ
وَأَمَّا الذي يَخْتَصُّ بها فَأَنْوَاعٌ منها الْإِشْهَادُ حتى لَا يَصِحَّ
التَّحَمُّلُ بِنَفْسِ السَّمَاعِ دُونَ الْإِشْهَادِ حتى لو قال أَشْهَدُ أَنَّ
لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا فَسَمِعَ إنْسَانٌ لَكِنْ لم يَقُلْ اشْهَدْ أنت لم
يَصِحَّ التَّحَمُّلُ بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ يَصِحُّ
التَّحَمُّلُ فيها بِنَفْسِ مُعَايَنَةِ الْفِعْلِ وَسَمَاعِ الْإِقْرَارِ
وَالْإِنْشَاءِ من غَيْرِ إشْهَادٍ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْفُرُوعَ يَشْهَدُونَ نِيَابَةً عن الْأُصُولِ فَلَا
بُدَّ من الْإِنَابَةِ منهم وَذَلِكَ
____________________
(6/281)
بِالْإِشْهَادِ
بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّهَادَاتِ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الشَّاهِدِ في سَائِرِهَا
بِطَرِيقِ الإحارة ( ( ( الإحالة ) ) ) بِنَفْسِهِ لَا بِغَيْرِهِ فَيَصِحُّ
التَّحَمُّلُ فيها بِطَرِيقِ الْمُعَايَنَةِ
وَمِنْهَا الْإِشْهَادُ على شَهَادَتِهِ حتى لو قال اشهد بِمِثْلِ ما شَهِدْتُ أو
كما شَهِدْت أو على ما شَهِدْتُ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ ما لم يَقُلْ على
شَهَادَتِي لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ وَالْإِنَابَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالْإِشْهَادِ على شَهَادَتِهِ
وَمِنْهَا عَدَدُ التَّحَمُّلِ وهو أَنْ يَتَحَمَّلَ من كل وَاحِدٍ من شَاهِدَيْ
الْأَصْلِ اثْنَانِ حتى لو تَحَمَّلَ من أَحَدِهِمَا وَاحِدٌ وَتَحَمَّلَ من
الْآخَرِ وَاحِدٌ لَا يَصِحُّ التَّحَمُّلُ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ حَقٌّ ثَابِتٌ في
ذِمَّةِ الشَّاهِدِ وَالْحُقُوقُ الثَّابِتَةُ في الذِّمَمِ لَا يَنْقُلُهَا إلَى
الْقَاضِي إلَّا شَاهِدَانِ وَلَوْ تَحَمَّلَ اثْنَانِ من أَحَدِهِمَا شَهَادَتَهُ
ثُمَّ تَحَمَّلَا من الْآخَرِ شَهَادَتَهُ جَازَ التَّحَمُّلُ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ
على التَّحَمُّلِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَانِ
فَأَمَّا الذُّكُورَةُ في تَحَمُّلِ هذه الشَّهَادَةِ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى
يَصِحَّ التَّحَمُّلُ فيها من النِّسَاءِ
وَأَمَّا صُورَةُ أَدَاءِ هذه الشَّهَادَةِ فَلَهَا لَفْظَانِ أَيْضًا مُخْتَصَرٌ
وَمُطَوَّلٌ فَالْمُخْتَصَرُ أَنْ يَقُولَ شَهِدَ فُلَانٌ عِنْدِي أَنَّ لِفُلَانٍ
على فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ فَأَنَا أَشْهَدُ على
شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ
وَأَمَّا الْمُطَوَّلُ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ شَهِدَ عِنْدِي فُلَانٌ أَنَّ
لِفُلَانٍ على فُلَانٍ كَذَا وَأَشْهَدَنِي على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ وَأَمَرَنِي
أَنْ أَشْهَدَ على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ وأنا أَشْهَدُ الْآنَ على شَهَادَتِهِ
بِذَلِكَ وَلَوْ لم يَقُلْ وَأَمَرَنِي أَنْ أَشْهَدَ على شَهَادَتِهِ بِذَلِكَ
جَازَ لِأَنَّ مَعْنَى التَّحَمُّلِ والأنابة يَتَأَدَّى بِقَوْلِهِ أَشْهَدَنِي
على شَهَادَتِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ أَمَرَنِي بِذَلِكَ من بَابِ التَّأْكِيدِ
وَأَمَّا شَرَائِطُهَا فما ذَكَرْنَاهُ كَسَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَاَلَّذِي
يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عليه مَيِّتًا أو
غَائِبًا مَسِيرَةَ سَفَرٍ أو مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ
الْقَضَاءِ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّهَادَةِ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَلَا
تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ إلَّا في هذه الْمَوَاضِعِ
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِأَدَاءِ هذه الشَّهَادَةِ فَتُقْبَلُ
فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
فَإِنْ لم يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ من
الشُّهَدَاءِ } فَظَاهِرُ النَّصِّ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ لِلنِّسَاءِ مع
الرِّجَالِ شَهَادَةٌ على الْإِطْلَاقِ من غَيْرِ فَصْلٍ إلَّا ما قُيِّدَ
بِدَلِيلٍ وَلِأَنَّ قَضِيَّةَ الْقِيَاسِ أَنْ لَا تُشْتَرَطَ الذُّكُورَةُ
وَالْأَصْلُ في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ إلَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الذُّكُورَةِ في
شَهَادَةِ الْأُصُولِ على الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ثَبَتَ بِنَصٍّ خَاصٍّ وهو
حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةٍ في شهادتين ( ( (
شهادتهن ) ) ) لَيْسَتْ في شَهَادَةِ الرِّجَالِ وَاشْتِرَاطُ الْأَصَالَةِ في
الشَّهَادَةِ لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ في شَهَادَةِ الْفُرُوعِ لَيْسَتْ في
شَهَادَةِ الْأُصُولِ وهو الشُّبْهَةُ في الشَّهَادَتَيْنِ على ما ذَكَرْنَا
فَشُرِطَ ذلك احْتِيَالًا لِدَرْءِ ما يندرىء ( ( ( يندرئ ) ) ) بِالشُّبُهَاتِ
وَالْأَمْوَالُ وَالْحُقُوقُ مِمَّا ثَبَتَ بِالشُّبْهَةِ فثبتت ( ( ( فثبت ) ) )
على أَصْلِ الْقِيَاسِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَلْزَمُ الشَّاهِدَ بِتَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ
فَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فِيمَا سِوَى أَسْبَابِ الْحُدُودِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُقِيمُوا
الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ } إلَّا أَنَّ في الشَّهَادَةِ الْقَائِمَةِ على حُقُوقِ
الْعِبَادِ وَأَسْبَابِهَا لَا بُدَّ من طَلَبِ الْمَشْهُودِ له لِوُجُوبِ
الْأَدَاءِ فإذا طَلَبَ وَجَبَ عليه الْأَدَاءُ حتى لو امْتَنَعَ بَعْدَ الطَّلَبِ
يَأْثَمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا ما دُعُوا } أَيْ
دُعُوا لاداء الشَّهَادَةِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَمَانَةُ الْمَشْهُودِ له في
ذِمَّةِ الشَّاهِدِ وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَلْيُؤَدِّ الذي اُؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ } وقال تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا }
وَأَمَّا في حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَفِيمَا سِوَى أَسْبَابِ
الْحُدُودِ نَحْوُ طَلَاقِ امْرَأَةٍ وَإِعْتَاقِ عَبْدٍ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ
وَنَحْوُهَا من أَسْبَابِ الْحُرُمَاتِ تَلْزَمُهُ الْإِقَامَةُ حِسْبَةً لِلَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِقَامَةِ من غَيْرِ طَلَبٍ من
أَحَدٍ من الْعِبَادِ
وَأَمَّا في أَسْبَابِ الْحُدُودِ من الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ
وَالْقَذْفِ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَشْهَدَ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى
وَبَيْنَ أَنْ يَسْتُرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من سَتَرَ على مُسْلِمٍ سَتَرَ اللَّهُ عليه في
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وقد نَدَبَهُ الشَّرْعُ إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ
شَاءَ اخْتَارَ جِهَةَ الْحِسْبَةِ فَأَقَامَهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنْ شَاءَ
اخْتَارَ جِهَةَ السَّتْرِ فَيَسْتُرُ على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الشَّهَادَةِ فَحُكْمُهَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ على
الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا مظهر ( ( (
مظهرة ) ) ) لِلْحَقِّ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ قال اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بين الناس بِالْحَقِّ } وَثُبُوتُ ما يَتَرَتَّبُ عليها من الْأَحْكَامِ
____________________
(6/282)
كِتَابُ
الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في الْأَصْلِ في مَوْضِعٍ
وَاحِدٍ وهو بَيَانُ حُكْمِ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ
التَّوْفِيقُ الرُّجُوعُ عن الشَّهَادَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا
يَرْجِعُ إلَى مَالِ الشَّاهِدِ وَالثَّانِي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى مَالِهِ فَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ وَالْكَلَامُ فيه في
ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ
الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَسَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ في هذا الْبَابِ إتْلَافُ الْمَالِ
أو النَّفْسِ بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الضَّمَانَ في الشَّرْعِ إنَّمَا يَجِبُ
إمَّا بِالِالْتِزَامِ أو بِالْإِتْلَافِ ولم يُوجَدْ الِالْتِزَامُ فَيَتَعَيَّنَ
الْإِتْلَافُ فيها سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَإِنْ وَقَعَتْ إتْلَافًا
انْعَقَدَتْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَإِلَّا فَلَا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما
إذَا شَهِدَا على رَجُلٍ بِأَلْفٍ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ
رَجَعَا أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْأَلْفَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا رَجَعَا عن
شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ
سَبَبًا إلَى الْإِتْلَافِ في حَقِّ الْمَشْهُودِ عليه وَالتَّسَبُّبُ إلَى
الْإِتْلَافِ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ في حَقِّ سَبَبِيَّةِ وُجُوبِ
الضَّمَانِ كَالْإِكْرَاهِ على إتْلَافِ الْمَالِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ على
قَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَنَحْوِهِ
فَإِنْ قِيلَ لَمَّا رَجَعَا عن شَهَادَتِهِمَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي
لم يَصِحَّ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلِمَ
لَا يَرُدُّهُ إلَى الْمَشْهُودِ عليه
قِيلَ له إنَّهُ بِالرُّجُوعِ لم يَتَبَيَّنْ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ لِأَنَّ
الشَّاهِدَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ في الرُّجُوعِ في حَقِّ الْقَاضِي وَالْمَشْهُودِ له
لِوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِ أَنَّ الرُّجُوعَ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ
وَالْقَضَاءُ بِالْحَقِّ لِلْمَشْهُودِ بِهِ نَفَذَ بِدَلِيلٍ من حَيْثُ الظَّاهِرُ
وهو الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا يُنْتَقَضُ الثَّابِتُ
ظَاهِرًا بِالشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ فَبَقِيَ الْقَضَاءُ مَاضِيًا على الصِّحَّةِ
وَالْمُدَّعَى في يَدِ الْمُدَّعِي كما كان
وَالثَّانِي أَنَّ الشَّاهِدَ في الرُّجُوعِ عن شَهَادَتِهِ مُتَّهَمٌ في حَقِّ
الْمَشْهُودِ له لِجَوَازِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عليه غَرَّهُ بِمَالٍ أو غَيْرِهِ
لِيَرْجِعَ عن شَهَادَتِهِ فَيَظْهَرَ كَذِبُ الْمُدَّعِي في دَعْوَاهُ فلم
يُصَدَّقْ في الرُّجُوعِ في حَقِّ الْمَشْهُودِ له لِلتُّهْمَةِ إذْ التُّهْمَةُ
كما تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ
فلم يَصِحَّ الرُّجُوعُ في حَقِّهِ فلم يُنْقَضْ الْقَضَاءُ وَلَا يُسْتَرَدُّ
الْمُدَّعَى من يَدِهِ وَمَعْنَى التُّهْمَةِ لَا يُتَوَهَّمُ في الْمَشْهُودِ
عليه فَصَحَّ الرُّجُوعُ في حَقّه إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إظْهَارُ الصِّحَّةِ
في نَقْضِ الْقَضَاءِ وَالتَّوَصُّلِ إلَى عَيْنِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَيَظْهَرُ في
التَّوَصُّلِ إلَى بَدَلِهِ رِعَايَةً لِلْجَوَانِبِ كُلِّهَا وإذا رَجَعَا قبل
الْقَضَاءِ لَا يَضْمَنَانِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا
بِالْقَضَاءِ فَلَا تَقَعُ تَسْبِيبًا إلَى الْإِتْلَافِ بِدُونِهِ
وَعَلَى هذا إذَا شَهِدَا على رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَقَضَى
الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا إنْ كان الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ
بِأَنْ كان الزَّوْجُ مُقِرًّا بِالدُّخُولِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِانْعِدَامِ
الْإِتْلَافِ لِأَنَّ الْمَهْرَ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَتَأَكَّدُ
بِالدُّخُولِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا فلم تَقَعْ شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا فلم
يَجِبْ الضَّمَانُ
وَإِنْ كان الطَّلَاقُ قبل الدُّخُولِ فَقَضَى الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ
بِأَنْ كان الْمَهْرُ مُسَمًّى أوبالمتعة بِأَنْ لم يَكُنْ الْمَهْرُ مُسَمًّى
ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذلك لِلزَّوْجِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَإِنْ لم تُوجِبْ
على الزَّوْجِ شيئا من الْمَهْرِ لَكِنَّهَا أَكَّدَتْ الْوَاجِبَ لِأَنَّ
الْوَاجِبَ قبل الدُّخُولِ كان مُحْتَمِلًا لِلسُّقُوطِ بِأَنْ جَاءَتْ
الْفُرْقَةُ من قِبَلِهَا وَبِشَهَادَتِهِمَا بِالطَّلَاقِ تَأَكَّدَ الْوَاجِبُ
عليه على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بَعْدَهُ أَصْلًا فَصَارَتْ
شَهَادَتُهُمَا مُؤَكِّدَةً لِلْوَاجِبِ وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ بِمَنْزِلَةِ
الْوَاجِبِ في الشَّرْعِ كَالْمُحْرِمِ إذَا أَخَذَ صَيْدًا فَذَبَحَهُ رَجُلٌ في
يَدِهِ يَجِبُ الْجَزَاءُ على الْآخِذِ وَيَرْجِعُ الْآخِذُ بِذَلِكَ على
الْقَاتِلِ لِوُقُوعِ الْقَتْلِ منه تَأْكِيدًا لِلْجَزَاءِ الْوَاجِبِ على
الْمُحْرِمِ إذْ لَوْلَا ذَبْحُهُ لَاحْتَمَلَ السُّقُوطَ بِالْإِرْسَالِ فَهُوَ
بِالذَّبْحِ أَكَّدَ الْوَاجِبَ عليه فَنَزَلَ الْمُؤَكَّدُ منه مَنْزِلَةَ
الْوَاجِبِ كَذَا هذا
وَعَلَى هذا إذَا شَهِدَا على رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا أو أَمَةً له وهو
يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ أو
الْأَمَةِ لِمَوْلَاهُ لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَا عليه مَالِيَّةَ
الْعَبْدِ أو الْأَمَةِ فَيَضْمَنَانِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ
الْإِعْتَاقَ نَفَذَ عليه وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ
فَإِنْ قِيلَ هذا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ وهو الْوَلَاءُ فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
قِيلَ له الْوَلَاءُ لَا يَصْلُحُ عِوَضًا لِأَنَّهُ ليس بِمَالٍ وَإِنَّمَا هو من
أَسْبَابِ الْإِرْثِ فَكَانَ هذا إتْلَافًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُوجِبُ الضَّمَانَ
وَلَوْ شَهِدَا على إقْرَارِ الْمَوْلَى أَنَّ هذه الْأَمَةَ وَلَدَتْ منه وهو
مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا فَنَقُولُ هذا في الْأَصْلِ
لَا يَخْلُو من
____________________
(6/283)
أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا إن لم يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ
وَإِمَّا إن كان مَعَهَا وَلَدٌ وَكُلُّ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا إن رَجَعَا في
حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَإِمَّا إن رَجَعَا بَعْدَ وَفَاتِهِ
أَمَّا إذَا لم يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى
يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ قِيمَتِهَا فَتُقَوَّمُ أَمَةً قِنًّا
وَتُقَوَّمُ أُمَّ وَلَدٍ لو جَازَ بَيْعُهَا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ
لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه بِشَهَادَتِهِمَا هذا الْقَدْرَ حَالَ حَيَاتِهِ
فَيَضْمَنَانِهِ فإذا مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ لِأَنَّهَا أُمُّ
وَلَدِهِ وَأُمُّ الْوَلَدِ تَعْتِقُ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا وَيَضْمَنَانِ بَقِيَّةَ
قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا كُلَّ
الْجَارِيَةِ لَكِنَّ بَعْضَهَا في حَالِ الْحَيَاةِ وَالْبَاقِي بَعْدَ
الْوَفَاةِ فَيَضْمَنَانِ كَذَلِكَ
وَإِنْ كان مَعَهَا وَلَدٌ وَرَجَعَا في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُمَا
يَضْمَنَانِ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عليه
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا له فَهُمَا
بِشَهَادَتِهِمَا أَتْلَفَاهُ عليه فَعَلَيْهِمَا الضَّمَانُ وَعَلَيْهِمَا
ضَمَانُ نُقْصَانِ قِيمَةِ الْأُمِّ أَيْضًا لِمَا قُلْنَا فإذا مَاتَ الْمَوْلَى
بَعْدَ ذلك لم يَكُنْ مع الْوَلَدِ شَرِيكٌ في الْمِيرَاثِ فَلَا يَضْمَنَانِ له
شيئا وَيَرْجِعَانِ على الْوَلَدِ بِمَا قَبَضَ الْأَبُ مِنْهُمَا لِأَنَّ في
زَعْمِ الولد أن رُجُوعَهُمَا بَاطِلٌ وَأَنَّ ما أَخَذَ الْأَبُ مِنْهُمَا
أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَ مَضْمُونًا عليه فَيُؤَدِّي من تَرِكَتِهِ إنْ
كانت له تَرِكَةٌ وَإِنْ لم يَكُنْ له تَرِكَةٌ فَلَا ضَمَانَ على الْوَلَدِ لِأَنَّ
من أَقَرَّ على مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ تَرِكَةٌ لَا يُؤْخَذُ
من مَالِ الْوَارِثِ
وَإِنْ كان معه أَخٌ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ من
قِيمَتِهَا لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه ذلك الْقَدْرَ وَيَرْجِعَانِ على الْوَلَدِ
بِمَا أَخَذَهُ الْأَبُ مِنْهُمَا لِمَا قُلْنَا وَلَا يَرْجِعَانِ بِمَا قَبَضَ
الْأَخُ لِأَنَّ الْأَخَ ظَلَمَ عَلَيْهِمَا في زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ
يَظْلِمَا عليه وَلَا ضَمَانَ لِلْأَخِ ما أَخَذَ هذا من الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُمَا
ما أَتْلَفَا عليه الْمِيرَاثَ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا إذَا كان الرُّجُوعُ في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى فَأَمَّا إذَا كان بَعْدَ
وَفَاتِهِ فَإِنْ لم يَكُنْ مع الْوَلَدِ شَرِيكٌ في الْمِيرَاثِ فَلَا ضَمَانَ
عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْوَلَدَ يُكَذِّبُهُمَا في الرُّجُوعِ وَإِنْ كان معه
شَرِيكٌ في الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ الْبَقِيَّةِ من
قِيمَتِهِمَا لِمَا قُلْنَا وَيَضْمَنَانِ لِلْأَخِ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ
لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه نِصْفَ الْوَلَدِ وَلَا يَضْمَنَانِ له ما أَخَذَ هذا
الْوَلَدُ من الْمِيرَاثِ لِمَا قُلْنَا وَلَا يَرْجِعَانِ على الْوَلَدِ هَهُنَا
لِأَنَّ هذا ظُلْمٌ لِلْأَخِ في زَعْمِهِمَا فَلَيْسَ لَهُمَا أَنْ يَظْلِمَا
الْوَلَدَ
هذا إذَا كانت الشَّهَادَةُ في حَالِ حَيَاةِ الْمَوْلَى وَالرُّجُوعُ عليه في
حَالِ حَيَاتِهِ أو بَعْدَ وَفَاتِهِ فَأَمَّا إذَا كانت الشَّهَادَةُ بَعْدَ
وَفَاتِهِ بِأَنْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ ابْنًا وَعَبْدًا وَأَمَةً وَتَرِكَةً
فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هذا الْعَبْدَ وَلَدَتْهُ هذه الْأَمَةُ من الْمَيِّتِ
وَصَدَّقَهُمَا الْوَلَدُ وَالْأَمَةُ وَأَنْكَرَ الِابْنُ فَقَضَى الْقَاضِي
بِذَلِكَ وَجَعَلَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ رَجَعَا يَضْمَنَانِ قِيمَةَ
الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ وَنِصْفَ الْمِيرَاثِ لِلِابْنِ فُرِّقَ بين حَالِ
الْحَيَاةِ وَبَيْنَ حَالِ الْمَمَاتِ فإن هُنَاكَ لَا يَضْمَنَانِ الْمِيرَاثَ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنَّسَبِ حَالَ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ
شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ لَا مَحَالَةَ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فيه
التَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الْأَبُ أَوَّلًا
فَيَرِثَهُ الِابْنُ كما يَجُوزُ أَنْ يَمُوتَ الِابْنُ أَوَّلًا وَيَرِثَهُ
الْأَبُ فلم تَكُنْ الشَّهَادَةُ بِالنَّسَبِ شَهَادَةً بِالْمَالِ وَالْمِيرَاثِ
لَا مَحَالَةَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الشَّهَادَةُ إتْلَافًا لِلْمَالِ فَلَا
يَضْمَنَانِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهَا شَهَادَةٌ
بِالْمَالِ لَا مَحَالَةَ فَقَدْ أَتْلَفَا عليه نِصْفَ الْمِيرَاثِ فَيَضْمَنَانِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ دَبَّرَ عَبْدَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ
رَجَعَا يَضْمَنَانِ لِلْمَوْلَى نُقْصَانَ التَّدْبِيرِ فَيُقَوَّمُ قِنًّا
وَيُقَوَّمُ مُدَبَّرًا فَيَضْمَنَانِ النُّقْصَانَ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه
حَالَ حَيَاتِهِ بِشَهَادَتِهِمَا هذا الْقَدْرَ فَيَضْمَنَانِهِ فإذا مَاتَ
الْمَوْلَى بَعْدَ ذلك عَتَقَ الْعَبْدُ كُلُّهُ إنْ كان يَخْرُجُ من الثُّلُثِ
وَلَا سِعَايَةَ عليه لِأَنَّهُ مُدَبَّرُهُ وَيَضْمَنَانِ لِلْوَرَثَةِ بَقِيَّةَ
قِيمَتِهِ عَبْدًا لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا بَقِيَّةَ
مَالِيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ إعْتَاقٌ بَعْدَ الْمَوْتِ
وَلَوْ لم يَكُنْ له مَالٌ سِوَى الْمُدَبَّرِ عَتَقَ عليه مَجَّانًا لِأَنَّ
التَّدْبِيرَ وَصِيَّةٌ فَيُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْوَصَايَا وَيَسْعَى في ثُلُثَيْ
قِيمَتِهِ عَبْدًا قِنًّا لِلْوَرَثَةِ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيمَا زَادَ على
الثُّلُثِ لَا تَنْفُذُ من غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَيَضْمَنُ الشاهدان
لِلْوَرَثَةِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه بِشَهَادَتِهِمَا
ثُلُثَ الْعَبْدِ
هذا إذَا كانت السِّعَايَةُ تَخْرُجُ من ثُلُثِ الْعَبْدِ فَإِنْ كانت لَا
تَخْرُجُ بِأَنْ كان مُعْسِرًا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ جَمِيعَ قِيمَتِهِ
مُدَبَّرًا ثُمَّ يَرْجِعَانِ على الْعَبْدِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إذَا أَيْسَرَ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قال لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ
وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ على شُهُودِ
الْيَمِينِ لِأَنَّ الْعِتْقَ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ أنت حُرٌّ وَإِنَّمَا الدُّخُولُ
شَرْطٌ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الْعِتْقِ لَا إلَى الشَّرْطِ فَكَانَ التَّلَفُ
حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمَا فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا
وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قال لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ
فَأَنْتِ طَالِقٌ وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعُوا لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو شَهِدَا على رَجُلٍ
____________________
(6/284)
بِالزِّنَا
وَشَهِدَ آخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ على شُهُودِ
الزِّنَا لَا على شُهُودِ الْإِحْصَانِ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا خَطَأً وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا
ضَمِنَا الدِّيَةَ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا عليه وَتَكُونُ في مَالِهِمَا
لِأَنَّ الشَّهَادَةَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا
بِالْإِتْلَافِ وَالْعَاقِلَةُ لَا تَعْقِلُ الْإِقْرَارَ كما لو أقر ( ( ( أقرا )
) ) صَرِيحًا وَلِهَذَا لو رَجَعَا في حَالِ الْمَرَضِ اُعْتُبِرَ إقرار ( ( (
إقرارا ) ) ) بِالدَّيْنِ حتى يَقْدَمَ عليه دَيْنُ الصِّحَّةِ كما في سَائِرِ
الْأَقَارِيرِ
وَكَذَا لو شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ خَطَأً وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ
رَجَعَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا لو شَهِدَا عليه بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عليه بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ
يَدُهُ ثُمَّ رَجَعَا فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ شَاهِدَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ سَيِّدِنَا
عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ على رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَضَى عليه
بِالْقَطْعِ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ جاء الشَّاهِدَانِ بِآخَرَ فَقَالَا
أَوْهَمْنَا أَنَّ السَّارِقَ هذا يا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فقال سَيِّدُنَا
عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لَا أُصَدِّقُكُمَا على هذا وَأُغَرِّمُكُمَا دِيَةَ يَدِ
الْأَوَّلِ وَلَوْ عَلِمْتَ أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا
وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ ولم يُنْكِرْ عليه أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي وَقُتِلَ ثُمَّ
رَجَعَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ
قَتْلًا تَسْبِيبًا لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وأنه يُفْضِي إلَى
الْقَتْلِ فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ وَالتَّسْبِيبُ في
بَابِ الْقِصَاصِ في مَعْنَى الْمُبَاشَرَةِ كَالْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ
وَلَنَا أَنْ نُسَلِّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ وَقَعَتْ تَسْبِيبًا إلَى الْقَتْلِ
لَكِنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَتَعَلَّقُ بِالْقَتْلِ مُبَاشَرَةً لَا تَسْبِيبًا
لِأَنَّ ضَمَانَ الْعُدْوَانِ الْوَارِدِ على حَقِّ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ
بِالْمِثْلِ شَرْعًا وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْقَتْلِ مُبَاشَرَةً وَبَيْنَ
الْقَتْلِ تَسْبِيبًا بِخِلَافِ الْإِكْرَاهِ على الْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ هو
الْمُكْرِهُ مُبَاشَرَةً لَكِنْ بِيَدِ الْمُكْرَهِ وهو كَالْآلَةِ وَالْفِعْلُ
لِمُسْتَعْمِلِ الْآلَةِ لَا لِلْآلَةِ على ما عُرِفَ على أَنَّ ذلك وَإِنْ كان
قَتْلًا تَسْبِيبًا فَهُوَ مَخْصُوصٌ عن نُصُوصِ الْمُمَاثَلَةِ فَمَنْ ادَّعَى
تَخْصِيصَ الْفَرْعِ يَحْتَاجُ إلَى الدَّلِيلِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَا على وَلِيِّ الْقَتِيلِ أَنَّهُ عَفَا عن
الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ مِنْهُمَا إتْلَافُ الْمَالِ وَلَا
النَّفْسِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا قَامَتْ على الْعَفْوِ عن الْقِصَاصِ
وَالْقِصَاصُ ليس بِمَالٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَكْرَهَ رَجُلًا على الْعَفْوِ
عن الْقِصَاصِ فَعَفَا لَا يَضْمَنُ الْمُكْرَهُ وَلَوْ كان الْقِصَاصُ مَالًا
يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ يَضْمَنُ بِالْإِكْرَاهِ على إتْلَافِ الْمَالِ
وَكَذَا من وَجَبَ له الْقِصَاصُ وهو مَرِيضٌ فَعَفَا ثُمَّ مَاتَ في مَرَضِهِ ذلك
لَا يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ وَلَوْ كان مَالًا اُعْتُبِرَ من الثُّلُثِ كما إذَا
تَبَرَّعَ في مَرَضِهِ
وَعَنْ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الدِّيَةَ لِوَلِيِّ
الْقَتِيلِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا إتْلَافٌ لِلنَّفْسِ لِأَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ
تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ في حَقِّ الْقِصَاصِ فَقَدْ أَتْلَفَا
بِشَهَادَتِهِمَا على الْمَوْلَى نَفْسًا تُسَاوِي أَلْفَ دِينَارٍ أو عَشَرَةَ
آلَافِ دِرْهَمٍ فَيَضْمَنَانِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٍ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ
أَنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِوَلِيِّ الْقَتِيلِ بَلْ
الثَّابِتُ له مِلْكُ الْفِعْلِ لَا مِلْكُ الْمَحَلِّ لِأَنَّ في الْمَحَلِّ ما
يُنَافِي الْمِلْكَ لِمَا عُلِمَ في مَسَائِلِ الْقِصَاصِ فلم تَقَعْ
شَهَادَتُهُمَا إتْلَافَ النَّفْسِ وَلَا إتْلَافَ الْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ هذا الْغُلَامَ ابن هذا الرَّجُلِ وَالْأَبُ يَجْحَدُهُ
فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا لَا يَبْطُلُ النَّسَبُ وَلَا
ضَمَانَ على الشَّاهِدَيْنِ لِانْعِدَامِ إتْلَافِ الْمَالِ مِنْهُمَا
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْوُجُوبِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ بَعْدَ
الْقَضَاءِ فَإِنْ كان قَبْلَهُ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ
الرُّكْنَ في وُجُوبِ الضَّمَانِ بِالشَّهَادَةِ وُقُوعُ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا
وَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا إذَا صَارَتْ حُجَّةً وَلَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا
بِالْقَضَاءِ فَلَا تَصِيرُ إتْلَافًا إلَّا بِهِ
وَمِنْهَا مَجْلِسُ الْقَضَاءِ فَلَا عِبْرَةَ بِالرُّجُوعِ عِنْدَ غَيْرِ
الْقَاضِي كما لَا عِبْرَةَ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِ حتى لو أَقَامَ
الْمُدَّعَى عليه الْبَيِّنَةَ على رُجُوعِهِمَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَكَذَا
لَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا إذَا أَنْكَرَ الرُّجُوعَ إلَّا إذَا حَكَيَا عِنْد
الْقَاضِي رُجُوعَهُمَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ رُجُوعُهُمَا لِأَنَّ ذلك
بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ رُجُوعِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي فَكَانَ مُعْتَبَرًا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمُتْلَفُ بِالشَّهَادَةِ عَيْنَ مَالٍ حتى لو كان
مَنْفَعَةً لَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الْمَنَافِعَ غَيْرُ
مَضْمُونَةٍ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَنَا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَا أَنَّهُ تَزَوَّجَ هذه الْمَرْأَةَ بِأَلْفِ
دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفَانِ وَهِيَ تُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي
بِالنِّكَاحِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ شيئا
لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليها مَنْفَعَةَ الْبُضْعِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ
بِعَيْنِ مَالٍ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يُعْطَى لها حُكْمُ الْأَمْوَالِ بِعَارِضِ
عَقْدِ الْإِجَارَةِ
وَكَذَا لو ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَهَا على أَلْفِ دِرْهَمٍ
وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا لم
يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شيئا لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا
____________________
(6/285)
أَتْلَفَا
على الزَّوْجِ الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ الْمَالِ
وَعَلَى هذا لو ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَ هذه الدَّابَّةَ من فُلَانٍ
بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَجْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ وَالْمُؤَجِّرُ
يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا لَا يَضْمَنَانِ
لِلْمُؤَجِّرِ شيئا لِأَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا الْمَنْفَعَةَ لَا عَيْنَ
الْمَالِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إتْلَافُ الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كان بِعِوَضٍ
لَا يَجِبُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ كان الْعِوَضُ عَيْنَ مَالٍ أو مَنْفَعَةً لها
حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ يَكُونُ إتْلَافًا صُورَةً
لَا مَعْنًى وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى رَجُلٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ
عَبْدَهُ منه بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كانت قِيمَةُ
الْعَبْدِ أَلْفًا أو أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِلْمُشْتَرِي لِأَنَّ
شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِعِوَضٍ فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى
فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَقَلَّ من أَلْفٍ يَضْمَنَانِ
الزِّيَادَةَ له لِوُقُوعِ الشَّهَادَةِ إتْلَافًا بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ وَلَوْ
كانت الدَّعْوَى من الْمُشْتَرِي وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا إنْ كانت قِيمَتُهُ
مِثْلَ الثَّمَنِ الْمَذْكُورِ أو أَقَلَّ لَا ضَمَانَ على الشَّاهِدَيْنِ
لِلْبَائِعِ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كانت قِيمَتُهُ أَكْثَرَ من أَلْفٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ لِلْبَائِعِ
لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا وَقَعَتْ إتْلَافًا بِغَيْرِ الزِّيَادَةِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ على رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا
على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَالرَّجُلُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ لها شَاهِدَانِ بِذَلِكَ
وَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كان
مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أو أَكْثَرَ من ذلك لم يَضْمَنَا لِلزَّوْجِ شيئا وَإِنْ
أَتْلَفَا عليه عَيْنَ الْمَالِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهَا بِعِوَضٍ له حُكْمُ
عَيْنِ الْمَالِ وهو الْبُضْعُ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ في
مِلْكِ الزَّوْجِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ من ابْنِهِ
امْرَأَةً وَلَوْ لم يُعْتَبَرْ الْبُضْعُ مَالًا حَالَ دُخُولِهِ في مِلْكِ
الزَّوْجِ لِمَا مَلَكَ لِأَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ على ابْنِهِ مُعَاوَضَةَ
مَالٍ بِمَا ليس بِمَالٍ
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً على أَلْفِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ
مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ بَلْ من جَمِيعِ الْمَالِ وَلَوْ لم
يَكُنْ الْبُضْعُ في حُكْمِ الْمَالِ في حَالِ الدُّخُولِ في مِلْكِ الزَّوْجِ
لَاعْتُبِرَ من الثُّلُثِ كَالتَّبَرُّعِ دَلَّ أَنَّ الْبُضْعَ يُعْتَبَرُ مَالًا
في حَقِّ الزَّوْجِ حَالَ دُخُولِهِ في مِلْكِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ هو
في حُكْمِ عَيْنِ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى وَإِنْ كان مَهْرُ
مِثْلِهَا أَقَلَّ من أَلْفِ دِرْهَمٍ يَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ على مَهْرِ
الْمِثْلِ لِلزَّوْجِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الزِّيَادَةَ عليه من غَيْرِ عِوَضٍ
أَصْلًا وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا ادَّعَى رَجُلٌ على امْرَأَةٍ أَنَّهُ
طَلَّقَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمَرْأَةُ تُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي عليها بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا
يَضْمَنَانِ لِلْمَرْأَةِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليها عَيْنَ
الْمَالِ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا لِأَنَّ الْبُضْعَ حَالَ خُرُوجِهِ عن مِلْكِ
الزَّوْجِ لَا يُعْتَبَرُ مَالًا بِدَلِيلِ أَنَّ الْأَبَ لَا يَمْلِكُ أَنْ
يَخْلَعَ من ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ على مَالٍ وَلَوْ فَعَلَ وَأَدَّى من مَالِهَا
يَضْمَنُ وَلَوْ كان مَالًا لِمِلْكٍ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عليها مُعَاوَضَةَ مَالٍ
بِمَالٍ
وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ من نَفْسِهَا حَالَ مَرَضِهَا على مَالٍ
يُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ كَالْوَصِيَّةِ وَلَوْ كان له حُكْمُ الْمَالِ
لَاعْتُبِرَ من جَمِيعِ الْمَالِ كما في سَائِرِ مُعَاوَضَاتِ الْمَالِ بِالْمَالِ
وإذا لم يَكُنْ له حُكْمُ الْمَالِ حَالَ الْخُرُوجِ عن مِلْكِ الزَّوْجِ حَصَلَتْ
شَهَادَتُهُمَا إتْلَافًا عَلَيْهِمَا من عِوَضٍ أَصْلًا فَيَجِبُ الضَّمَانُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ آجَرَ دَارِهِ من فُلَانٍ
شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَالْمُسْتَأْجِرُ يُنْكِرُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ
بِذَلِكَ وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَأَمَّا إنْ كان في أَوَّلِ الْمُدَّةِ
يَنْظُرُ إنْ كان أُجْرَةُ الدَّارِ مِثْلَ الْمُسَمَّى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا
لِلْمُسْتَأْجِرِ
وَلَوْ أَتْلَفَا عليه عَيْنَ مَالٍ لَكِنْ بِعِوَضٍ له حُكْمُ عَيْنِ الْمَالِ
وهو الْمَنْفَعَةُ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ في بَابِ الْإِجَارَةِ لها حُكْمُ عَيْنِ
الْمَالِ
وَإِنْ كانت أُجْرَةُ مِثْلِهَا أَقَلَّ من الْمُسَمَّى فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ
الزِّيَادَةَ لِأَنَّ التَّلَفَ بِقَدْرِ الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ
أَصْلًا
وَإِنْ كانت الدَّعْوَى بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَعَلَيْهِمَا
ضَمَانُ الْأُجْرَةِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه من غَيْرِ عِوَضٍ أَصْلًا
فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِمَا وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ
على الْقَاتِلِ أَنَّهُ صَالَحَ وَلِيَّ الْقَتِيلِ على مَالٍ وَالْقَاتِلُ
يُنْكِرُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ
شيئا لِلْقَاتِلِ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عليه عَيْنَ مَالٍ بِعِوَضٍ وهو
النَّفْسُ لِأَنَّ النَّفْسَ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِوَضًا بِدَلِيلِ أَنَّ
الْمَرِيضِ وَجَبَ عليه الْقِصَاصُ فَصَالَحَ الْوَلِيَّ على الدِّيَةِ جَازَ
وَلَا تُعْتَبَرُ من الثُّلُثِ بَلْ من جَمِيعِ الْمَالِ وَلَوْ لم تَصْلُحْ
النَّفْسُ عِوَضًا لَاعْتُبِرَ من الثُّلُثِ دَلَّ أَنَّ هذا إتْلَافٌ بِعِوَضٍ
فَلَا يُوجَبُ الضَّمَانُ إلَّا إذَا شَهِدَا على الصُّلْحِ بِأَكْثَرَ من
الدِّيَةِ فَيَضْمَنَانِ الزِّيَادَةَ على الدِّيَةِ لِلْقَاتِلِ لِأَنَّ تَلَفَ
الزِّيَادَةِ حَصَلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَيُمْكِنُ تَخَرُّجُ هذه الْمَسَائِلِ على
فَصْلِ التَّسَبُّبِ لِأَنَّ ما قَابَلَهُ عِوَضٌ لَا يَكُونُ إتْلَافًا مَعْنًى
فلم يُوجَدْ سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا يَجِبُ فَافْهَمْ ذلك وَيَسْتَوِي في
وُجُوبِ الضَّمَانِ الرُّجُوعُ
____________________
(6/286)
عن
الشَّهَادَةِ وَالرُّجُوعُ على الشَّهَادَةِ حتى لو رَجَعَتْ الْفُرُوعُ وَثَبَتَ
الْأُصُولُ يَجِبُ الضَّمَانُ على الْفُرُوعِ لِوُجُودِ الْإِتْلَافِ منهم
لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ منهم حَقِيقَةً
وَلَوْ رَجَعَ الْأُصُولُ وَثَبَتَ الْفُرُوعُ فَلَا ضَمَانَ على الْفُرُوعِ
لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ منهم وَهَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ على الْأُصُولِ قال أبو
حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجِبُ وقال مُحَمَّدٌ يَجِبُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْفُرُوعَ لَا يَشْهَدُونَ بِشَهَادَةِ أَنْفُسِهِمْ
وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ فإذا شَهِدُوا فَقَدْ أَظْهَرُوا
شَهَادَتَهُمْ فَكَأَنَّهُمْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا ثُمَّ رَجَعُوا
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ وُجِدَتْ من الْفُرُوعِ لَا من الْأُصُولِ
لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ حَقِيقَةً فَإِنَّهُمْ لم يَشْهَدُوا حَقِيقَةً وَإِنَّمَا
شَهِدَ الْفُرُوعُ وَهُمْ ثَابِتُونَ على شَهَادَتِهِمْ فلم يُوجَدْ الْإِتْلَافُ
من الْأُصُولِ لِعَدَمِ الشَّهَادَةِ منهم حَقِيقَةً فَلَا يَضْمَنُونَ
وَعَلَى هذا إذَا رَجَعُوا جميعا فَالضَّمَانُ على الْفُرُوعِ عِنْدَهُمَا وَلَا
شَيْءَ على الْأُصُولِ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ من الْفُرُوعِ حَقِيقَةً لَا من
الْأُصُولِ وَعِنْدَهُ الْمَشْهُودُ عليه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ
الْفُرُوعُ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْأُصُولُ لِوُجُودِ الشَّهَادَةِ من
الْفَرِيقَيْنِ وَلَوْ لم يَرْجِعْ أَحَدٌ من الْفَرِيقَيْنِ وَلَكِنَّ الْأُصُولَ
أَنْكَرُوا الْإِشْهَادَ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ لِانْعِدَامِ الرُّجُوعِ عن
الشَّهَادَةِ وَيَسْتَوِي في وُجُوبِ ضَمَانِ الرُّجُوعِ رُجُوعُ الشُّهُودِ
وَالْمُزَكِّينَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ حتى إنَّ الْمُزَكِّينَ لو زَكَّوْا
الشُّهُودَ فَشَهِدُوا وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعَ
الْمُزَكُّونَ ضَمِنُوا عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا رُجُوعُ الْمُزَكِّينَ لَا يُوجِبُ
الضَّمَانَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ رُجُوعَ الْمُزَكِّينَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ شُهُودِ
الْإِحْصَانِ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ إلَّا بِنَاءً عن الشُّهُودِ
كَالشَّهَادَةِ على الصِّفَاتِ التي هِيَ خِصَالٌ حَمِيدَةٌ ثُمَّ الرُّجُوعُ عن
الشَّهَادَةِ على الْإِحْصَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ التَّزْكِيَةَ في مَعْنَى الشَّهَادَةِ في وُجُوبِ
الضَّمَانِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عن الشَّهَادَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ
لِوُقُوعِهِ إتْلَافًا وَإِنَّمَا يَصِيرُ إتْلَافًا بِالتَّزْكِيَةِ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَوْلَا التَّزْكِيَةُ لَمَا وَجَبَ الْقَضَاءُ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ
عَامِلَةً بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ في مَعْنَى عِلَّةِ فَكَانَتْ
إتْلَافًا بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ على الْإِحْصَانِ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ
كَوْنِ الزِّنَا عِلَّةً وَالْحُكْمُ لِلْعِلَّةِ لَا لِلشَّرْطِ
وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ من الضَّمَانِ فَالْأَصْلُ أَنَّ مِقْدَارَ
الْوَاجِبِ منه على قَدْرِ الْإِتْلَافِ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هو
الْإِتْلَافُ وَالْحُكْمُ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْعِلَّةِ وَالْعِبْرَةُ فيه
لِبَقَاءِ من بَقِيَ من الشُّهُودِ بَعْدَ رُجُوعِ من رَجَعَ منهم فَإِنْ بَقِيَ
منهم بَعْدَ الرُّجُوعِ من يَحْفَظُ الْحَقَّ كُلَّهُ فَلَا ضَمَانَ على أَحَدٍ
لِانْعِدَامِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا من أَحَدٍ وَإِنْ بَقِيَ منهم من يَحْفَظُ
بَعْضَ الْحَقِّ وَجَبَ على الرَّاجِعِينَ ضَمَانُ قَدْرِ التَّالِفِ بِالْحِصَصِ
فَنَقُولُ بَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ
أَحَدُهُمَا عليه نِصْفُ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ
الْبَاقِي
وَلَوْ كانت الشُّهُودُ أَرْبَعَةً فَرَجَعَ وَاحِدٌ منهم لَا ضَمَانَ عليه
وَكَذَا إذَا رَجَعَ اثْنَانِ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ يَحْفَظَانِ الْمَالَ وَلَوْ
رَجَعَ منهم ثَلَاثَةٌ فَعَلَيْهِمْ نِصْفُ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ عِنْدَنَا
بِشَهَادَةِ شَاهِدٍ وَاحِدٍ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ غَرِمَ
نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ بَقِيَ بِثَبَاتِ الْمَرْأَتَيْنِ
وَلَوْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ غَرِمَتَا نِصْفَ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ
لِبَقَاءِ النِّصْفِ بِثَبَاتِ الرَّجُلِ وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ
فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالُ نِصْفُهُ على الرَّجُلِ وَرُبُعُهُ
على الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بِبَقَاءِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ الرُّبُعُ
فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ثَلَاثَةَ الْأَرْبَاعِ
وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ عليها الرُّبُعُ وَعَلَى الرَّجُلِ
النِّصْفُ وَلَوْ رَجَعُوا جميعا فَنِصْفُ الْمَالِ على الرَّجُلِ وَالنِّصْفُ على
الْمَرْأَتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ على
الرَّجُلَيْنِ وَلَا شَيْءَ على الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ في
الشَّهَادَةِ وُجُودُهَا وَعَدَمُهَا بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الْقَاضِيَ
لَا يَقْضِي بشهادتهما ( ( ( بشهادتها ) ) )
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ ثُمَّ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَلَا
ضَمَانَ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْحَقَّ يَبْقَى مَحْفُوظًا بِالرَّجُلَيْنِ
وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلَانِ يَضْمَنَانِ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ
يحفظان ( ( ( تحفظان ) ) ) النِّصْفَ
وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَاحِدٌ لَا شَيْءَ عليه لِأَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ
يَحْفَظُونَ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا
رُبُعُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ على الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ على
الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ بَقِيَ ثَلَاثَةُ الْأَرْبَاعِ بِبَقَاءِ رَجُلٍ
وَامْرَأَتَيْنِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ الرُّبُعَ
وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَلَوْ رَجَعُوا
جميعا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثٌ أَيْضًا ثُلُثَاهُ على الرَّجُلَيْنِ
وَثُلُثُهُ على الْمَرْأَتَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ
الْمَرْأَةِ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ ضِعْفَ ما تَلِفَ بِشَهَادَتِهَا
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وعشرة ( ( ( وعشر ) ) )
____________________
(6/287)
نِسْوَةٍ
ثُمَّ رَجَعُوا جميعا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسٌ سُدُسُهُ على الرَّجُلِ
وَخَمْسَةُ أَسْدَاسِهِ على النِّسْوَةِ وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ فَأَمَّا
عِنْدَهُمَا فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ نِصْفَانِ نِصْفُهُ على الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ
على النِّسْوَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ النِّسَاءَ وَإِنْ كَثُرْنَ فَلَهُنَّ شَطْرُ
الشَّهَادَةِ لَا غَيْرُ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ
وَالنِّصْفَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ فَكَانَ الضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَنْصَافًا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ في
الشَّهَادَةِ فَكَانَ قِسْمَةُ الضَّمَانِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا
وَلَوْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ ضَمِنَ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ
مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ
وَكَذَا لو رَجَعَتْ النِّسْوَةُ غَرِمْنَ نِصْفَ الْمَالِ لِأَنَّ النِّصْفَ
مَحْفُوظٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ
هَذَانِ الْفَصْلَانِ يُؤَيِّدَانِ قَوْلَهُمَا في الظَّاهِرِ
وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ الْحَقَّ
بَقِيَ مَحْفُوظًا بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَلَوْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذلك
فَعَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ لِأَنَّهُ بَقِيَ بِثَبَاتِ
رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ فَكَانَ التَّالِفُ
بِشَهَادَتِهِنَّ الرُّبُعَ
وَلَوْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا نِصْفُ الْمَالِ أَثْلَاثًا
ثُلُثَاهُ على الرَّجُلِ وَالثُّلُثُ على الْمَرْأَةِ لِأَنَّ تِسْعَ نِسْوَةٍ
يَحْفَظْنَ الْمَالَ فَكَانَ التَّالِفُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ النِّصْفَ
وَالرَّجُلُ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ وَامْرَأَةٌ
فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ وَلَا شَيْءَ على الْمَرْأَةِ في قِيَاسِ
قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وفي قِيَاسِ قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه نِصْفُ الْمَالِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا
ثُلُثَاهُ على الرَّجُلِ وَثُلُثُهُ على الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جميعا
فَالضَّمَانُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ خُمُسَاهُ على الرَّجُلِ
وَثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ على النِّسْوَةِ لِأَنَّ الرَّجُلَ ضِعْفُ الْمَرْأَةِ
وَعِنْدَهُمَا نِصْفُ الضَّمَانِ على الرَّجُلِ وَنِصْفُهُ على الْمَرْأَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ لَهُنَّ شَطْرَ الشَّهَادَةِ وَإِنْ كَثُرْنَ فَكَانَ التَّالِفُ
بِشَهَادَةِ كل نَوْعٍ نِصْفَ الْمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ
ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدُّخُولِ فَقَضَى
الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عليهم أَرْبَاعٌ على
شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ الرُّبُعُ لِأَنَّ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ شَهِدَا بِكُلِّ
الْمَهْرِ لِأَنَّ كُلَّ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالدُّخُولِ وَلِلْمُؤَكَّدِ
حُكْمُ الْمُوجَبِ على ما مَرَّ وشاهدا ( ( ( وشاهدي ) ) ) الطَّلَاقِ شَهِدَا
بِالنِّصْفِ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَاقِ على ما ذَكَرْنَا
وَالْمُؤَكِّدُ لِلْوَاجِبِ في مَعْنَى الْوَاجِبِ فَشَاهِدُ الدُّخُولِ انْفَرَدَ
بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ اشْتَرَكَ فيه الشُّهُودُ كلهم فَكَانَ
نِصْفُ النِّصْفِ وهو الرُّبُعُ على شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ وَثَلَاثَةُ
الْأَرْبَاعِ على شَاهِدَيْ الدُّخُولِ
فَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْحَدِّ
لَكِنْ في شَهَادَةٍ مَخْصُوصَةٍ وَهِيَ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ على الزِّنَا
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الرُّجُوعَ عن الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا إمَّا
أَنْ يَكُونَ من جَمِيعِ الشُّهُودِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من بَعْضِهِمْ دُونَ
بَعْضٍ فَإِنْ رَجَعُوا جميعا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ سَوَاءٌ رَجَعُوا بَعْدَ
الْقَضَاءِ أو قبل الْقَضَاءِ
أَمَّا قبل الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ قبل الْقَضَاءِ انْعَقَدَ قَذْفًا
لَا شَهَادَةً إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عليهم لِلْحَالِ لِاحْتِمَالِ
أَنْ يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ فإذا رَجَعُوا فَقَدْ زَالَ
الِاحْتِمَالُ فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجَبُ الْحَدُّ بِالنَّصِّ
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلِأَنَّ كَلَامَهُمْ وَإِنْ صَارَ شَهَادَةً
بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَقَدْ انْقَلَبَ قَذْفًا بِالرُّجُوعِ فَصَارُوا
بِالرُّجُوعِ قَذَفَةً فَيُحَدُّونَ وَلَوْ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ
وَالْإِمْضَاءِ فَلَا خِلَافَ في أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ إذَا كان الْحَدُّ جَلْدًا
وَإِنْ كان رَجْمًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا حَدَّ عليهم
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لَمَّا رَجَعُوا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ
كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا من حِينِ وُجُودِهِ فَصَارَ كما لو قَذَفُوا صَرِيحًا
ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ وَحَدُّ الْقَذْفِ لَا يُوَرَّثُ بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا فَيَسْقُطُ
وَلَنَا أَنَّ بِالرُّجُوعِ لَا يَظْهَرُ أَنَّ كَلَامَهُمْ كان قَذْفًا من حِينِ
وُجُودِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ قَذْفًا وَقْتَ الرُّجُوعِ وَالْمَقْذُوفُ وَقْتَ
الرُّجُوعِ مَيِّتٌ فَصَارَ قَذْفًا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَجِبُ الْحَدُّ
هذا حُكْمُ الْحَدِّ وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَأَمَّا قبل الْإِمْضَاءِ لَا
ضَمَانَ أَصْلًا لِعَدَمِ الْإِتْلَافِ أَصْلًا وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ
فَإِنْ كان الْحَدُّ رَجْمًا ضَمِنُوا الدِّيَةَ بِلَا خِلَافٍ لِوُقُوعِ
شَهَادَتِهِمْ إتْلَافًا أو إقْرَارًا بِالْإِتْلَافِ وَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا
فَلَيْسَ عليهم أَرْشُ الْجَلَدَاتِ إذَا لم يَمُتْ منها وَلَا الدِّيَةُ إنْ
مَاتَ منها عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمْ وَقَعَتْ إتْلَافًا بِطَرِيقِ
التَّسْبِيبِ لِأَنَّهَا تُفْضِي إلَى الْقَضَاءِ وَالْقَضَاءُ يُفْضِي إلَى
إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ وإنها تُفْضِي إلَى التَّلَفِ فَكَانَ التَّلَفُ بِهَذِهِ
الْوَسَائِطِ مُضَافًا إلَى الشَّهَادَةِ فَكَانَتْ إتْلَافًا تَسْبِيبًا
وَلِهَذَا لو شَهِدُوا بِالْقِصَاصِ أو بِالْمَالِ ثُمَّ رَجَعُوا وَجَبَتْ عليهم
الدِّيَةُ وَالضَّمَانُ كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه
____________________
(6/288)
الرَّحْمَةُ
أَنَّ الْأَثَرَ حَصَلَ مُضَافًا إلَى الضَّرْبِ دُونَ الشَّهَادَتَيْنِ
لِوَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الشُّهُودَ لم يَشْهَدُوا على ضَرْبٍ جَارِحٍ
لِأَنَّ الضَّرْبَ الْجَارِحَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ في الْجَلْدِ فَلَا يَكُونُ
الْجُرْحُ مُضَافًا إلَى شَهَادَتِهِمْ
وَالثَّانِي أَنَّ الضَّرْبَ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ وَالشَّهَادَةَ تَسْبِيبٌ
إلَيْهِ وَإِضَافَةُ الْأَثَرِ إلَى الْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى من إضَافَتِهِ إلَى
التَّسْبِيبِ إلَّا أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ هذا ليس
خَطَأً من الْقَاضِي لِيَكُونَ عَطَاؤُهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِنَوْعِ تَقْصِيرٍ
منه وَلَا تَقْصِيرَ من جِهَتِهِ هَهُنَا فَلَا شَيْءَ على بَيْتِ الْمَالِ
هذا إذَا رَجَعُوا جميعا فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ منهم فَإِنْ كان قبل
الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جميعا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً قَذْفًا لِكَمَالِ نِصَابِ
الشَّهَادَةِ وهو عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ وَإِنَّمَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا
بِالرُّجُوعِ ولم يُوجَدْ إلَّا من أَحَدِهِمْ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا
خَاصَّةً بِخِلَافِ ما إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالزِّنَا أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ
لِأَنَّ هُنَاكَ نِصَابَ الشَّهَادَةِ لم يَكْمُلْ فَوَقَعَ كَلَامُهُمْ من
الإبتداء قَذْفًا
وَلَنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ لَا يَصِيرُ شَهَادَةً إلَّا بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ
أَلَا تَرَى أنها لَا تَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِهِ فَقَبْلَهُ يَكُونُ قَذْفًا لَا
شَهَادَةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَامَ الْحَدُّ عليهم بِالنَّصِّ لِوُجُودِ
الرَّمْيِ منهم إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ الاحتمال ( ( ( لاحتمال ) ) ) أَنْ
يَصِيرَ شَهَادَةً بِقَرِينَةِ الْقَضَاءِ وَلِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى سَدِّ بَابِ
الشَّهَادَةِ فإذا رَجَعَ أَحَدُهُمْ زَالَ هذا الْمَعْنَى فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ
قَذْفًا فَيُحَدُّونَ وَصَارَ كما لو كان الشُّهُودُ من الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةً
فَإِنَّهُمْ يَحُدُّونَ لِوُقُوعِ كَلَامِهِمْ قَذْفًا
كَذَا هذا
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ فَإِنَّهُمْ يُحَدُّونَ جميعا
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الرَّاجِعُ خَاصَّةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كَلَامَهُمْ وَقَعَ شَهَادَةً لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ
فَلَا يَنْقَلِبُ قَذْفًا إلَّا بِالرُّجُوعِ ولم يَرْجِعْ إلَّا وَاحِدٌ منهم
فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فلم يَصِحَّ رُجُوعُهُ في حَقِّ
الْبَاقِينَ فَبَقِيَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً فَلَا يُحَدُّونَ وَلَهُمَا أَنَّ
الْإِمْضَاءَ في بَابِ الْحُدُودِ من الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ عَمَى الشُّهُودِ
أو رِدَّتَهُمْ قبل الْقَضَاءِ كما يَمْنَعُ من الْقَضَاءِ فَبَعْدَهُ يَمْنَعُ من
الْإِمْضَاءِ فَكَانَ رُجُوعُهُ قبل الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قبل
الْقَضَاءِ وَلَوْ رَجَعَ قبل الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ جميعا بِلَا خِلَافٍ بين
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
كَذَا إذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ وَإِنْ كان بَعْدَ الْإِمْضَاءِ
فَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّ الرَّاجِعُ خَاصَّةً بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
رُجُوعَهُ صَحِيحٌ في حَقِّهِ خَاصَّةً لَا في حَقِّ الْبَاقِينَ فَانْقَلَبَتْ
شَهَادَتُهُ خَاصَّةً قَذْفًا فَيُحَدُّ خَاصَّةً وَإِنْ كان الْحَدُّ رَجْمًا
وَمَاتَ الْمَقْذُوفُ يُحَدُّ الرَّاجِعُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا خِلَافًا لِزُفَرَ
وقد مَرَّتْ الْمَسْأَلَةُ
هذا حُكْمُ الْحَدِّ فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا ضَمَانَ إذَا كان رُجُوعُهُ
قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل الْإِمْضَاءِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا فَلَا شَيْءَ على
الرَّاجِعِ من أَرْشِ السِّيَاطِ وَلَا من الدِّيَةِ إنْ مَاتَ عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ وَإِنْ كان رَجْمًا غَرِمَ
الرَّاجِعُ رُبُعَ الدِّيَةِ
لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ يَحْفَظُونَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ فَكَانَ
التَّالِفُ بِشَهَادَتِهِ الرُّبُعَ
هذا إذَا كان شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً فَأَمَّا إذَا كَانُوا خَمْسَةً
فَرَجَعَ وَاحِدٌ منهم فإن الْقَاضِيَ يُقِيمُ الْحَدَّ على الْمَشْهُودِ عليه
بِمَا بَقِيَ من الشُّهُودِ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ نِصَابٌ تَامٌّ يَحْفَظُونَ
الْحَدَّ على الْمَشْهُودِ عليه
وَإِنْ أَمْضَى الْحَدَّ ثُمَّ رَجَعَ إثنان ضَمِنَا رُبُعَ الدِّيَةِ إنْ مَاتَ
الْمَرْجُومُ
لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ قَامُوا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَكَانَ التَّالِفُ
بِشَهَادَتِهِمَا الرُّبُعَ فَيَضْمَنَانِهِ
وَإِنْ لم يَمُتْ فَلَيْسَ عَلَيْهِمَا أَرْشٌ لِلضَّرْبِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ
وقد تَقَدَّمَتْ الْمَسْأَلَةُ
وَالثَّانِي وُجُوبُ التَّعْزِيرِ في عُمُومِ الشَّهَادَاتِ سِوَى الشَّهَادَةِ
على الزِّنَا بِأَنْ تَعَمَّدَ شَهَادَةَ الزُّورِ وَظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي
بِإِقْرَارِهِ
لِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ جِنَايَةٌ ليس فيها سِوَى الْقَذْفِ حَدٌّ مُقَدَّرٌ
فَتُوجِبُ التَّعْزِيرَ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا
وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا في كَيْفِيَّةِ التَّعْزِيرِ
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ تَعْزِيرُهُ تَشْهِيرٌ فَيُنَادَى عليه في
سُوقِهِ أو مَسْجِدِ حَيِّهِ وَيُحَذَّرُ الناس منه
فَيُقَالُ هذا شَاهِدُ الزُّورِ فَاحْذَرُوهُ
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُضَمُّ إلَيْهِ ضَرْبُ
أَسْوَاطٍ
هذا إذَا تَابَ
فَأَمَّا إذَا لم يَتُبْ وَأَصَرَّ على ذلك بِأَنْ قال إنِّي شَهِدْتُ بِالزُّورِ
وأنا على ذلك قَائِمٌ فإنه يُعَزَّرُ بِالضَّرْبِ بِالْإِجْمَاعِ
احْتَجَّا بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ بن الْخَطَّابِ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ ضَرَبَ شَاهِدَ الزُّورِ وَسَخَّمَ وَجْهَهُ وَلِأَنَّ قَوْلَ الزُّورِ من
أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَ إلَيْهِ فِيمَا سِوَى الْقَذْفِ بِالزِّنَا حَدٌّ
مُقَدَّرٌ فَيَحْتَاجُ إلَى أَبْلَغِ الزَّوَاجِرِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ما رُوِيَ أَنَّ شُرَيْحًا كان يَشْهَرُ
شَاهِدَ الزُّورِ وَلَا يُعَزِّرُهُ وكان لَا تَخْفَى قَضَايَاهُ على أَصْحَابِ
رسول اللَّهِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عليهم
ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ
وَلِأَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ أَقَرَّ أَنَّهُ
____________________
(6/289)
شَهِدَ
بِزُورٍ نَادِمًا على ما فَعَلَ لَا مُصِرًّا عليه
وَالنَّدَمُ تَوْبَةٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ وَالتَّائِبُ لَا يَسْتَوْجِبُ
الضَّرْبَ حتى لو كان مُصِرًّا على ذلك يُضْرَبُ
وَفِعْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مَحْمُولٌ عليه تَوْفِيقًا بين
الدَّلَائِلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(6/290)
كِتَابُ
آدَابِ الْقَاضِي الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
فَرْضِيَّةِ نَصْبِ الْقَاضِي وفي بَيَانِ من يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وفي بَيَانِ ما
يُفْتَرَضُ عليه قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ
الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ آدَابِ الْقَضَاءِ وفي بَيَانِ ما يَنْفُذُ من الْقَضَايَا
وما يُنْقَضُ منها إذَا رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ وفي بَيَانِ ما يُحِلُّهُ
الْقَاضِي وما لَا يُحِلُّهُ وفي بَيَانِ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي في الْقَضَاءِ
وفي بَيَانِ ما يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عن الْقَضَاءِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَصْبُ الْقَاضِي فَرْضٌ لِأَنَّهُ يُنْصَبُ لِإِقَامَةِ
أَمْرٍ مَفْرُوضٍ وهو الْقَضَاءُ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { يا دَاوُد
إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً في الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بين الناس بِالْحَقِّ } وقال
تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِنَبِيِّنَا الْمُكَرِّمِ عليه أَفْضَلُ الصَّلَاةِ
وَالسَّلَامِ { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ }
وَالْقَضَاءُ هو الْحُكْمُ بين الناس بِالْحَقِّ وَالْحُكْمُ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عز وجل فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَكَانَ فَرْضًا
ضَرُورَةً وَلِأَنَّ نَصْبَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ فَرْضٌ بِلَا خِلَافٍ بين
أَهْلِ الْحَقِّ وَلَا عِبْرَةَ بِخِلَافِ بَعْضِ الْقَدَرِيَّةِ لِإِجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ على ذلك وَلِمِسَاسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ
لِتَقَيُّدِ الْأَحْكَامِ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ من الظَّالِمِ وَقَطْعِ
الْمُنَازَعَاتِ التي هِيَ مَادَّةُ الْفَسَادِ وَغَيْرِ ذلك من الْمَصَالِحِ التي
لَا تَقُومُ إلَّا بِإِمَامٍ لِمَا عُلِمَ في أُصُولِ الْكَلَامِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقِيَامُ بِمَا نُصِبَ له بِنَفْسِهِ
فَيَحْتَاجُ إلَى نَائِبٍ يَقُومُ مَقَامَهُ في ذلك وهو الْقَاضِي وَلِهَذَا كان
رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم يَبْعَثُ إلَى الْآفَاقِ قُضَاةً فَبَعَثَ
سَيِّدَنَا مُعَاذًا رضي اللَّهُ عنه إلَى الْيَمَنِ وَبَعَثَ عَتَّابَ بن
أُسَيْدٍ إلَى مَكَّةَ فَكَانَ نَصْبُ الْقَاضِي من ضَرُورَاتِ نَصْبِ الْإِمَامِ
فَكَانَ فَرْضًا وقد سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ فَرِيضَةً مُحْكَمَةً لِأَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ النَّسْخَ لِكَوْنِهِ من الْأَحْكَامِ التي عُرِفَ وُجُوبُهَا
بِالْعَقْلِ وَالْحُكْمُ الْعَقْلِيُّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِسَاخَ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
____________________
(7/2)
فَصْلٌ
وَأَمَّا بَيَانُ من يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ فَنَقُولُ الصَّلَاحِيَّةُ لِلْقَضَاءِ
لها شَرَائِطُ
منها الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ
وَمِنْهَا الْحُرِّيَّةُ
وَمِنْهَا الْبَصَرُ
وَمِنْهَا النُّطْقُ
وَمِنْهَا السَّلَامَةُ عن حَدِّ الْقَذْفِ لِمَا قُلْنَا في الشَّهَادَةِ فَلَا
يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ وَالْعَبْدِ
وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسِ وَالْمَحْدُودِ في الْقَذْفِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ من
بَابِ الْوِلَايَةِ بَلْ هو أَعْظَمُ الْوِلَايَاتِ وَهَؤُلَاءِ لَيْسَتْ لهم
أَهْلِيَّةُ أَدْنَى الْوِلَايَاتِ وَهِيَ الشَّهَادَةُ فَلَأَنْ لَا يَكُونَ لهم
أَهْلِيَّةٌ أَعْلَاهَا أَوْلَى
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ من شَرْطِ جَوَازِ التَّقْلِيدِ في الْجُمْلَةِ
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ من أَهْلِ الشَّهَادَاتِ في الْجُمْلَةِ إلَّا أنها لَا
تَقْضِي بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لأنها لَا شَهَادَةَ لها في ذلك وَأَهْلِيَّةُ
الْقَضَاءِ تَدُورُ مع أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ
وَأَمَّا الْعِلْمُ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ فَهَلْ هو
شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ عِنْدَنَا ليس بِشَرْطِ الْجَوَازِ بَلْ شَرْطُ
النَّدْبِ وَالِاسْتِحْبَابِ
وَعِنْدَ أَصْحَابِ الحديث كَوْنُهُ عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ
الْأَحْكَامِ مع بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ في ذلك شَرْطُ جَوَازِ
التَّقْلِيدِ
كما قالوا في الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ
وَعِنْدَنَا هذا ليس بِشَرْطِ الْجَوَازِ في الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ غَيْرِهِ بِالرُّجُوعِ إلَى فَتْوَى غَيْرِهِ
من الْعُلَمَاءِ
فَكَذَا في الْقَاضِي
لَكِنْ مع هذا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْجَاهِلُ بِالْأَحْكَامِ لِأَنَّ
الْجَاهِلَ بِنَفْسِهِ ما يُفْسِدُ أَكْثَرُ مِمَّا يُصْلِحُ بَلْ يَقْضِي
بِالْبَاطِلِ من حَيْثُ لَا يَشْعُرُ بِهِ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال الْقُضَاةُ
ثَلَاثَةٌ قَاضٍ في الْجَنَّةِ وَقَاضِيَانِ في النَّارِ
رَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِمَا عَلِمَ فَهُوَ في الْجَنَّةِ
وَرَجُلٌ عَلِمَ علما فَقَضَى بِغَيْرِ ما عَلِمَ فَهُوَ في النَّارِ
وَرَجُلٌ جَهِلَ فَقَضَى بِالْجَهْلِ فَهُوَ في النَّارِ إلَّا أَنَّهُ لو قُلِّدَ
جَازَ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ يَقْدِرُ على الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ بِعِلْمِ غَيْرِهِ
بِالِاسْتِفْتَاءِ من الْفُقَهَاءِ فَكَانَ تَقْلِيدُهُ جَائِزًا في نَفْسِهِ
فَاسِدًا لِمَعْنًى في غَيْرِهِ
وَالْفَاسِدُ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ يَصْلُحُ لِلْحُكْمِ عِنْدَنَا مِثْلُ
الْجَائِزِ
حتى يَنْفُذَ قَضَايَاهُ التي لم يُجَاوِزْ فيها حَدَّ الشَّرْعِ
وهو كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ إنه مِثْلُ الْجَائِزِ عِنْدَنَا في حَقِّ الْحُكْمِ
كَذَا هذا
وَكَذَا الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ
لَكِنَّهَا شَرْطُ الْكَمَالِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَتَنْفُذُ
قَضَايَاهُ إذَا لم يُجَاوِزْ فيها حَدَّ الشَّرْعِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطُ الْجَوَازِ فَلَا يَصْلُحُ الْفَاسِقُ قَاضِيًا عِنْدَهُ
بِنَاءً على أَنَّ الْفَاسِقَ ليس من أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَهُ فَلَا يَكُونُ
من أَهْلِ الْقَضَاءِ وَعِنْدَنَا هو من أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ من أَهْلِ
الْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ الْفَاسِقُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
أَمَانَةٌ عَظِيمَةٌ وَهِيَ أَمَانَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالنُّفُوسِ
فَلَا يَقُومُ بِوَفَائِهَا إلَّا من كَمُلَ وَرَعُهُ وَتَمَّ تَقْوَاهُ إلَّا
أَنَّهُ مع هذا لو قُلِّدَ جَازَ التَّقْلِيدُ في نَفْسِهِ وَصَارَ قَاضِيًا
لِأَنَّ الْفَسَادَ لِمَعْنًى في غَيْرِهِ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازُ تَقْلِيدِهِ
الْقَضَاءَ في نَفْسِهِ لِمَا مَرَّ
وَأَمَّا تَرْكُ الطَّلَبِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّقْلِيدِ
بِالْإِجْمَاعِ فَيَجُوزُ تَقْلِيدُ الطَّالِبِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ
على الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَلَّدَ لِأَنَّ
الطَّالِبَ يَكُونُ مُتَّهَمًا
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إنَّا لَا نُوَلِّي
أَمْرَنَا هذا من كان له طَالِبًا وَعَنْهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ
قال من سَأَلَ الْقَضَاءَ وُكِّلَ إلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أُجْبَرَ عليه نَزَلَ عليه
مَلَكٌ يُسَدِّدُهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الطَّالِبَ لَا يُوَفَّقُ
لِإِصَابَةِ الْحَقِّ وَالْمُجْبَرُ عليه يُوَفَّقُ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي
عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ
قد بَلَغَ في عِلْمِهِ ذلك حَدَّ الِاجْتِهَادِ عَالِمًا بِمُعَاشَرَةِ الناس
وَمُعَامَلَتِهِمْ
عَدْلًا وَرِعًا عَفِيفًا عن التُّهْمَةِ صَائِنَ النَّفْسِ عن الطَّمَعِ
لِأَنَّ الْقَضَاءَ هو الْحُكْمُ بين الناس بِالْحَقِّ
فإذا كان الْمُقَلَّدُ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَقْضِي
إلَّا بِالْحَقِّ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا أَنَّهُ شَرْطُ جَوَازِ التَّقْلِيدِ فَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ
التَّحْكِيمِ لِأَنَّ التَّحْكِيمَ مَشْرُوعٌ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { فَابْعَثُوا حَكَمًا من أَهْلِهِ وَحَكَمًا من
أَهْلِهَا } فَكَانَ الْحُكْمُ من الْحَكَمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ حُكْمِ الْقَاضِي
الْمُقَلَّدِ
إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ في أَشْيَاءَ مَخْصُوصَةٍ منها أَنَّ الْحُكْمَ في
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِحُّ
وَمِنْهَا أَنَّهُ ليس بِلَازِمٍ ما لم يَتَّصِلْ بِهِ الْحُكْمُ حتى لو رَجَعَ
أَحَدُ الْمُتَحَاكِمَيْنِ قبل الْحُكْمِ يَصِحُّ رُجُوعُهُ
وإذا حَكَمَ صَارَ لَازِمًا
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا حَكَمَ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه ثُمَّ رُفِعَ حُكْمُهُ
إلَى الْقَاضِي وَرَأْيُهُ يُخَالِفُ رَأْيَ الْحَاكِمِ الْمُحَكَّمِ له أَنْ
يَفْسَخَ حُكْمَهُ وَالْفَرْقُ بين هذه الْجُمْلَةِ يُعْرَفُ في مَوْضِعِهِ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يُفْتَرَضُ عليه قَبُولُ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ
فَنَقُولُ إذَا عُرِضَ الْقَضَاءُ على من يَصْلُحُ له من أَهْلِ الْبَلَدِ
يُنْظَرُ إنْ كان في الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ يصلحون لَا يُفْتَرَضُ عليه
الْقَبُولُ بَلْ هو في سَعَةٍ من الْقَبُولِ وَالتَّرْكِ
أَمَّا جَوَازُ الْقَبُولِ فَلِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عليهم أَجْمَعِينَ قَضَوْا بين الْأُمَمِ بِأَنْفُسِهِمْ وَقَلَّدُوا
غَيْرَهُمْ وَأَمَرُوا بِذَلِكَ فَقَدْ بَعَثَ
____________________
(7/3)
رسول
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم مُعَاذًا رضي اللَّهُ عنه إلَى الْيَمَنِ قَاضِيًا
وَبَعَثَ عَتَّابَ بن أُسَيْدٍ رضي اللَّهُ عنه إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا وَقَلَّدَ
النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَثِيرًا من أَصْحَابِهِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
الْأَعْمَالَ وَبَعَثَهُمْ إلَيْهَا
وَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ قَضَوْا بِأَنْفُسِهِمْ وَقَلَّدُوا
غَيْرَهُمْ فَقَلَّدَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه شُرَيْحًا الْقَضَاءَ
وَقَرَّرَهُ سَيِّدُنَا عُثْمَانُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنهما
وَأَمَّا جَوَازُ التَّرْكِ فَلِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قال لِأَبِي ذَرٍّ رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالْإِمَارَةَ وَرُوِيَ عنه
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تَتَأَمَّرْنَ على اثْنَيْنِ
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه عُرِضَ عليه الْقَضَاءُ فَأَبَى
حتى ضُرِبَ على ذلك ولم يَقْبَلْ
وَكَذَا لم يَقْبَلْهُ كَثِيرٌ من صَالِحِي الْأُمَّةِ وَهَذَا مَعْنَى ما ذَكَرَ
في الْكِتَابِ دخل فيه قَوْمٌ صَالِحُونَ وَتَرَكَ الدُّخُولَ فيه قَوْمٌ
صَالِحُونَ
ثُمَّ إذَا جَازَ التَّرْكُ وَالْقَبُولُ في هذا الْوَجْهِ اخْتَلَفُوا في أَنَّ
الْقَبُولَ أَفْضَلُ أَمْ التَّرْكَ قال بَعْضُهُمْ التَّرْكُ أَفْضَلُ وقال
بَعْضُهُمْ الْقَبُولُ أَفْضَلُ احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِمَا رُوِيَ عن
النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من جُعِلَ على الْقَضَاءِ فَقَدْ ذُبِحَ
بِغَيْرِ سِكِّينٍ وَهَذَا يَجْرِي مَجْرَى الزَّجْرِ عن تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ
احْتَجَّ الْفَرِيقُ الْآخَرُ بِصُنْعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ
اللَّهِ عليهم أَجْمَعِينَ وَصُنْعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لِأَنَّ لنا
فِيهِمْ قُدْوَةً وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ إذَا أَرَادَ بِهِ وَجْهَ
اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَكُونُ عِبَادَةً خَالِصَةً بَلْ هو من أَفْضَلِ
الْعِبَادَاتِ قال النبي الْمُكَرَّمُ عليه الصلاة ( ( ( أفضل ) ) ) والسلام ( ( (
التحية ) ) ) عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ من عِبَادَةِ سِتِّينَ سَنَةً وَالْحَدِيثُ
مَحْمُولٌ على الْقَاضِي الْجَاهِلِ أو الْعَالِمِ الْفَاسِقِ أو الطَّالِبِ الذي
لَا يَأْمَنُ على نَفْسِهِ الرِّشْوَةَ فَيَخَافُ أَنْ يَمِيلَ إلَيْهَا
تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
هذا إذَا كان في الْبَلَدِ عَدَدٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ فَأَمَّا إذَا كان لم
يَصْلُحْ له إلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ فإنه يُفْتَرَضُ عليه الْقَبُولُ إذَا عُرِضَ
عليه لِأَنَّهُ إذَا لم يَصْلُحْ له غَيْرُهُ تَعَيَّنَ هو لِإِقَامَةِ هذه
الْعِبَادَةِ فَصَارَ فَرْضَ عَيْنٍ عليه إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ من التَّقْلِيدِ
فإذا قُلِّدَ اُفْتُرِضَ عليه الْقَبُولُ على وَجْهٍ لو امْتَنَعَ من الْقَبُولِ
يَأْثَمُ كما في سَائِرِ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ الْقَضَاءِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى
الْمَقْضِيِّ له وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عليه
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاضِي فما ذَكَرْنَا من شَرَائِطِ جَوَازِ
تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ من لَا يَصْلُحُ قَاضِيًا لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ
ضَرُورَةً
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَضَاءِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
بِحَقٍّ وهو الثَّابِتُ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل من حُكْمِ الْحَادِثَةِ إمَّا
قَطْعًا بِأَنْ قام عليه دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وهو النَّصُّ الْمُفَسَّرُ من
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ أو الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ وَالْمُتَوَاتِرُ وَالْإِجْمَاعُ
وَإِمَّا ظَاهِرًا بِأَنْ قام عليه دَلِيلٌ ظَاهِرٌ يُوجِبُ عِلْمَ غَالِبِ
الرَّأْيِ وَأَكْثَرَ الظَّنِّ من ظَوَاهِرِ الْكِتَابِ الْكَرِيمِ
وَالْمُتَوَاتِرِ وَالْمَشْهُورِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ
وَذَلِكَ في الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ التي اخْتَلَفَ فيها الْفُقَهَاءُ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَاَلَّتِي لَا رِوَايَةَ في جَوَابِهَا عن السَّلَفِ بِأَنْ
لم تَكُنْ وَاقِعَةً حتى لو قَضَى بِمَا قام الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ على
خِلَافِهِ لم يَجُزْ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالْبَاطِلِ قَطْعًا
وَكَذَا لو قَضَى في مَوْضِعِ الْخِلَافِ بِمَا كان خَارِجًا عن أَقَاوِيلِ
الْفُقَهَاءِ كُلِّهِمْ لم يَجُزْ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو أَقَاوِيلَهُمْ
فَالْقَضَاءُ بِمَا هو خَارِجٌ عنها كُلِّهَا يَكُونُ قَضَاءً بَاطِلًا قَطْعًا
وَكَذَا لو قَضَى بِالِاجْتِهَادِ فِيمَا فيه نَصٌّ ظَاهِرٌ يُخَالِفُهُ من
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ وَالسُّنَّةِ لم يَجُزْ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ الْقِيَاسَ في
مُقَابَلَةِ النَّصِّ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كان النَّصُّ قَطْعِيًّا أو ظَاهِرًا
وَأَمَّا فِيمَا لَا نَصَّ فيه يُخَالِفُهُ وَلَا إجْمَاعَ النُّقُولِ لَا يَخْلُو
إمَّا إن كان الْقَاضِي من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَإِمَّا إن لم يَكُنْ من أَهْلِ
الِاجْتِهَادِ فَإِنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ
يَجِبُ عليه الْعَمَلُ بِهِ وَإِنْ خَالَفَ رَأْيَ غَيْرِهِ مِمَّنْ هو من أَهْلِ
الِاجْتِهَادِ وَالرَّأْيِ وَلَا يَجُوزُ له أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ غَيْرِهِ
لِأَنَّ ما أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ هو الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ عز وجل
ظَاهِرًا فَكَانَ غَيْرُهُ بَاطِلًا ظَاهِرًا لِأَنَّ الْحَقَّ في
الْمُجْتَهِدَاتِ وَاحِدٌ وَالْمُجْتَهِدُ يخطىء ( ( ( يخطئ ) ) ) وَيُصِيبُ
عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ في الْعَقْلِيَّاتِ وَالشَّرْعِيَّاتِ
جميعا
وَلَوْ أَفْضَى رَأْيُهُ إلَى شَيْءٍ وَهُنَاكَ مُجْتَهِدٌ آخَرُ أَفْقَهُ منه له
رَأْيٌ آخَرُ فَأَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ من غَيْرِ النَّظَرِ فيه
وَتَرَجَّحَ رَأْيُهُ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ منه هل يَسَعُهُ ذلك ذَكَرَ في كِتَابِ
الْحُدُودِ أَنَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يَسَعُهُ ذلك وَعِنْدَهُمَا لَا يَسَعُهُ
إلَّا أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ
وَذَكَرَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ هذا الِاخْتِلَافَ على الْعَكْسِ فقال على
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ لَا يَسَعُهُ وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَسَعُهُ وَهَذَا يَرْجِعُ
إلَى أَنَّ كَوْنَ أَحَدِ الْمُجْتَهِدَيْنِ أَفْقَهَ من غَيْرِ النَّظَرِ في
رَأْيِهِ هل يَصْلُحُ مُرَجِّحًا من قال يَصْلُحُ مُرَجِّحًا قال يَسَعُهُ وَمَنْ
قال
____________________
(7/4)
لَا
يَصْلُحُ قال لا يَسَعُهُ
وَجْهُ قَوْلِ من لَا يَرَى التَّرْجِيحَ بِكَوْنِهِ أَفْقَهَ أَنَّ التَّرْجِيحَ
يَكُونُ بِالدَّلِيلِ وَكَوْنُهُ أَفْقَهَ ليس من جِنْسِ الدَّلِيلِ فَلَا يَقَعُ
بِهِ التَّرْجِيحُ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ
وَجْهُ قَوْلِ من يَرَى بِهِ التَّرْجِيحَ أَنَّ هذا من جِنْسِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ
كَوْنَهُ أَفْقَهَ يَدُلُّ على اجْتِهَادَهُ أقرب ( ( ( إقرار ) ) ) إلَى الصَّوَابِ
فَكَانَ من جِنْسِ الدَّلِيلِ فَيَصْلُحُ لِلتَّرْجِيحِ إنْ لم يَصْلُحْ دَلِيلَ
الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ أبدا ( ( ( وأبدا ) ) ) يَكُونُ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا
يَصْلُحُ دَلِيلَ الْحُكْمِ بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا قِيلَ في حَدِّهِ زِيَادَةٌ لَا
يَسْقُطُ بها التَّعَارُضُ حَقِيقَةً لِمَا عُلِمَ في أُصُولِ الْفِقْهِ
وَلِهَذَا أَوْجَبَ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَقْلِيدَ الصَّحَابَةِ
الْكِرَامِ رضي اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ وَرَجَّحَهُ على الْقِيَاسِ لِمَا أَنَّ
قَوْلَهُ أَقْرَبُ إلَى إصَابَةِ الْحَقِّ من قَوْلِ الْقَائِسِ كَذَا هذا وَإِنْ
أُشْكِلَ عليه حُكْمُ الْحَادِثَةِ اسْتَعْمَلَ رَأْيَهُ في ذلك وَعَمِلَ بِهِ
وَالْأَفْضَلُ أَنْ يُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ في ذلك فَإِنْ اخْتَلَفُوا في
حُكْمِ الْحَادِثَةِ نَظَرَ في ذلك فَأَخَذَ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْحَقِّ
ظَاهِرًا وَإِنْ اتَّفَقُوا على رَأْيٍ يُخَالِفُ رَأْيَهُ عَمِلَ بِرَأْيِ
نَفْسِهِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ مَأْمُورٌ بِالْعَمَلِ بِمَا يُؤَدِّي
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَحَرُمَ عليه تَقْلِيدُ غَيْرِهِ لَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ
يُعَجِّلَ بِالْقَضَاءِ ما لم يَقْضِ حَقَّ التَّأَمُّلِ وَالِاجْتِهَادِ
وَيَنْكَشِفْ له وَجْهُ الْحَقِّ فإذا ظَهَرَ له الْحَقُّ بِاجْتِهَادِهِ قَضَى
بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَا يَكُونَنَّ خَائِفًا في اجْتِهَادِهِ
بعدما بَذَلَ مَجْهُودَهُ لِإِصَابَةِ الْحَقِّ فَلَا يَقُولَنَّ إنِّي أَرَى
وَإِنِّي أَخَافُ لِأَنَّ الْخَوْفَ وَالشَّكَّ وَالظَّنَّ يَمْنَعُ من إصَابَةِ
الْحَقِّ وَيَمْنَعُ من الِاجْتِهَادِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَرِيئًا جُسُورًا
على الِاجْتِهَادِ بَعْدَ أَنْ لم يُقَصِّرْ في طَلَبِ الْحَقِّ حتى لو قَضَى مُجَازِفًا
لم يَصِحَّ قَضَاؤُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَإِنْ كان من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كان لَا يَدْرِي حاله
يُحْمَلُ على أَنَّهُ قَضَى بِرَأْيِهِ وَيُحْكَمُ بِالصِّحَّةِ حَمْلًا لِأَمْرِ
الْمُسْلِمِ على الصِّحَّةِ وَالسَّدَادِ ما أَمْكَنَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
هذا إذَا كان الْقَاضِي من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا لم يَكُنْ من
أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَإِنْ عَرَفَ أَقَاوِيلَ أَصْحَابِنَا وَحَفِظَهَا على
الِاخْتِلَافِ وَالِاتِّفَاقِ عَمِلَ بِقَوْلِ من يَعْتَقِدُ قَوْلَهُ حَقًّا على
التَّقْلِيدِ وَإِنْ لم يَحْفَظْ أَقَاوِيلَهُمْ عَمِلَ بِفَتْوَى أَهْلِ
الْفِقْهِ في بَلَدِهِ من أَصْحَابِنَا وَإِنْ لم يَكُنْ في الْبَلَدِ إلَّا
فَقِيهٌ وَاحِدٌ من قال يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ وَنَرْجُو أَنْ لَا
يَكُونَ عليه شَيْءٌ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ بِنَفْسِهِ
وَلَيْسَ هُنَاكَ سِوَاهُ من أَهْلِ الْفِقْهِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى
الْأَخْذِ بِقَوْلِهِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ
لَا تَعْلَمُونَ }
وَلَوْ قَضَى بِمَذْهَبِ خَصْمِهِ وهو يَعْلَمُ ذلك لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ
لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هو بَاطِلٌ عِنْدَهُ في اعْتِقَادِهِ فَلَا يَنْفُذُ كما لو
كان مُجْتَهِدًا فَتَرَكَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَقَضَى بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ يَرَى رَأْيَهُ
بَاطِلًا فإنه لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَا هو بَاطِلٌ في
اجْتِهَادِهِ
كَذَا هذا
وَلَوْ نَسِيَ الْقَاضِي مَذْهَبَهُ فَقَضَى بِشَيْءٍ على ظَنِّ أَنَّهُ مَذْهَبُ
نَفْسِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَذْهَبُ خَصْمِهِ ذَكَرَ في شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ
أَنَّ له أَنْ يُبْطِلَهُ ولم يذكر الْخِلَافَ لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ
مُجْتَهِدًا تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا يَعْتَقِدُهُ حَقًّا فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا كما لو قَضَى وهو يَعْلَمُ أَنَّ ذلك مَذْهَبُ خَصْمِهِ
وَذَكَرَ في أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَصِحُّ قَضَاؤُهُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ لَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ مُقَصِّرٌ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ حِفْظُ مَذْهَبِ نَفْسِهِ وإذا لم يَحْفَظْ فَقَدْ قَصَّرَ
وَالْمُقَصِّرُ غَيْرُ مَعْذُورٍ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النِّسْيَانَ غَالِبٌ خُصُوصًا عِنْدَ تَزَاحُمِ
الْحَوَادِثِ فَكَانَ مَعْذُورًا
هذا إذَا لم يَكُنْ الْقَاضِي من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا كان من
أَهْلِ الِاجْتِهَادِ يَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ قَضَاؤُهُ في الْحُكْمِ
بِالْإِجْمَاعِ وَلَا يَكُونُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَهُ لِأَنَّهُ لَا
يُصَدَّقُ على النِّسْيَانِ بَلْ يُحْمَلُ على أَنَّهُ اجْتَهَدَ فَأَدَّى
اجْتِهَادُهُ إلَى مَذْهَبِ خَصْمِهِ فَقَضَى بِهِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ
بِاجْتِهَادِهِ فَيَصِحُّ
وَإِنْ قَضَى في حَادِثَةٍ وَهِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ بِرَأْيِهِ ثُمَّ
رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَانِيًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ يَعْمَلُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي
وَلَا يُوجِبُ هذا نَقْضَ الْحُكْمِ بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
بِالرَّأْيِ الْأَوَّلِ قَضَاءٌ مُجْمَعٌ على جَوَازِهِ لِاتِّفَاقِ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ
على أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ في مَحِلِّ الِاجْتِهَادِ وَبِمَا يُؤَدِّي
إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَكَانَ هذا قَضَاءً مُتَّفَقًا على صِحَّتِهِ وَلَا
اتِّفَاقَ على صِحَّةِ هذا الرَّأْيِ الثَّانِي فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ الْمُجْمَعِ
عليه بِالْمُخْتَلَفِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لِقَاضٍ آخَرَ أَنْ يُبْطِلَ هذا
القضاء ( ( ( الاجتهاد ) ) ) كَذَا هذا
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قَضَى في حَادِثَةٍ
ثُمَّ قَضَى فيها بِخِلَافِ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَسُئِلَ فقال تِلْكَ كما
قَضَيْنَا وَهَذِهِ كما نقضى
وَلَوْ رُفِعَتْ إلَيْهِ ثَالِثًا فَتَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْأَوَّلِ يُعْمَلُ
بِهِ وَلَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ بِالرَّأْيِ الثَّانِي بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ
الْأَوَّلِ كما لَا يُبْطَلُ قَضَاؤُهُ الْأَوَّلُ بِالْعَمَلِ بِالرَّأْيِ
الثَّانِي لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ أَنَّ فَقِيهًا قال لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ وَمِنْ
رَأْيِهِ أَنَّهُ بَائِنٌ فَأَمْضَى رَأْيَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
امْرَأَتِهِ وَعَزَمَ على
____________________
(7/5)
أنها
قد حَرُمَتْ عليه ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أنها تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ
يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فإن ( ( ( فإنه ) ) ) يَعْمَلُ بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ في
حَقِّ هذه الْمَرْأَةِ تحرم ( ( ( وتحرم ) ) ) عليه وَإِنَّمَا يُعْمَلُ
بِرَأْيِهِ الثَّانِي في الْمُسْتَقْبَلِ في حَقِّهَا وفي حَقِّ غَيْرِهَا لِأَنَّ
الْأَوَّلَ رَأْيٌ أَمْضَاهُ بِالِاجْتِهَادِ وما أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ لَا
يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ
وَكَذَلِكَ لو كان رَأْيُهُ أنها وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَعَزَمَ على
أنها مَنْكُوحَةٌ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى أَنَّهُ بَائِنٌ فإنه يُعْمَلُ
بِرَأْيِهِ الْأَوَّلِ وَلَا تَحْرُمُ عليه لِمَا قُلْنَا وَلَوْ لم يَكُنْ عَزَمَ
على الْحُرْمَةِ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ حتى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحِلِّ
لَا تَحْرُمُ عليه وَكَذَا في الْفَصْلِ الثَّانِي لو لم يَكُنْ عَزَمَ على
الْحِلِّ حتى تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْحُرْمَةِ تَحْرُمُ عليه لِأَنَّ نَفْسَ
الِاجْتِهَادِ مَحِلُّ النَّقْضِ ما لم يَتَّصِلْ بِهِ الْإِمْضَاءُ وَاتِّصَالُ
الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ وَاتِّصَالُ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ
من النَّقْضِ فَكَذَا اتِّصَالُ الْإِمْضَاءِ
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ إذَا لم يَكُنْ فَقِيهًا فَاسْتَفْتَى فَقِيهًا فَأَفْتَاهُ
بِحَلَالٍ أو حَرَامٍ وَلَوْ لم يَكُنْ عَزَمَ على ذلك حتى أَفْتَاهُ فَقِيهٌ
آخَرُ بِخِلَافِهِ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ وَأَمْضَاهُ في مَنْكُوحَتِهِ لم يَجُزْ له
أَنْ يَتْرُكَ ما أَمْضَاهُ فيه وَيَرْجِعُ إلَى ما أَفْتَاهُ بِهِ الْأَوَّلُ
لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا أَمْضَى وَاجِبٌ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ مُجْتَهِدًا كان أو
مُقَلِّدًا لِأَنَّ الْمُقَلِّدَ مُتَعَبِّدٌ بِالتَّقْلِيدِ كما أَنَّ
الْمُجْتَهِدَ مُتَعَبِّدٌ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ لم يَجُزْ لِلْمُجْتَهِدِ نَقْضُ
ما أَمْضَاهُ
فَكَذَا لَا يَجُوزُ ذلك لِلْمُقَلِّدِ
ثُمَّ ما ذَكَرْنَا من نَفَاذِ قَضَاءِ الْقَاضِي في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ بِمَا
يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ إذَا لم يَكُنْ الْمَقْضِيُّ عليه وَالْمَقْضِيُّ
له من أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ
أو كَانَا من أَهْلِ الرَّأْيِ وَالِاجْتِهَادِ وَلَكِنْ لم يُخَالِفْ رَأْيُهُمَا
رَأْيَ الْقَاضِي
فَأَمَّا إذَا كَانَا من أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَخَالَفَ رَأْيُهُمَا رَأْيَ
الْقَاضِي فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ على
الْمَقْضِيِّ عليه في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ
سَوَاءٌ كان الْمَقْضِيُّ عليه عَامِّيًّا مُقَلِّدًا أو فَقِيهًا مُجْتَهِدًا
يُخَالِفُ رَأْيُهُ رَأْيَ الْقَاضِي بِلَا خِلَافٍ
أَمَّا إذَا كان مُقَلِّدًا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ الْعَامِّيَّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ
الْمُفْتِي فَتَقْلِيدُ الْقَاضِي أَوْلَى وَكَذَا إذَا كان مُجْتَهِدًا لِأَنَّ
الْقَضَاءَ في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْقَاضِي
قَضَاءٌ مُجْمَعٌ على صِحَّتِهِ على ما مَرَّ وَلَا مَعْنَى لِلصِّحَّةِ إلَّا
النَّفَاذُ على الْمَقْضِيِّ عليه
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قال الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ
أَلْبَتَّةَ وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَرَأَى
الْقَاضِي أَنَّهُ بَائِنٌ فَرَافَعَتْهُ الْمَرْأَةُ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى
بِالْبَيْنُونَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بِالِاتِّفَاقِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا قَضَاؤُهُ لِلْمَقْضِيِّ له بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَهُ هل يَنْفُذُ قال
أبو يُوسُفَ لَا يَنْفُذُ وقال مُحَمَّدٌ يَنْفُذُ
وَصُورَةُ الْمَسْأَلَةِ إذَا قال الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ
وَرَأَى الزَّوْجُ أَنَّهُ بَائِنٌ وَرَأَى الْقَاضِي أَنَّهُ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ
الرَّجْعَةَ فَرَافَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ
يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ لَا يَحِلُّ له الْمَقَامُ مَعَهَا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحِلُّ له
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ ما ذَكَرْنَا أَنَّ هذا قَضَاءٌ وَقَعَ الِاتِّفَاقُ على
جَوَازِهِ لِوُقُوعِهِ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه فَيَنْفُذُ على الْمَقْضِيِّ عليه
وَالْمَقْضِيِّ له لِأَنَّ الْقَضَاءَ له تَعَلُّقٌ بِهِمَا جميعا
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِمُطَالَبَةِ الْمَقْضِيِّ له
وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ صِحَّةَ الْقَضَاءِ إنْفَاذُهُ في مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ
يَظْهَرُ أَثَرُهُ في حَقِّ الْمَقْضِيِّ عليه لَا في حَقِّ الْمَقْضِيِّ له
لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عليه مَجْبُورٌ في الْقَضَاءِ عليه فَأَمَّا المقضى له
فَمُخْتَارٌ في الْقَضَاءِ له فَلَوْ اتَّبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي إنَّمَا
يَتْبَعُهُ تَقْلِيدًا وَكَوْنُهُ مُجْتَهِدًا يَمْنَعُ من التَّقْلِيدِ فَيَجِبْ
الْعَمَلُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ
وَعَلَى هذا كُلُّ تَحْلِيلٍ أو تَحْرِيمٍ أو إعْتَاقٍ أو أَخْذِ مَالٍ إذَا قَضَى
الْقَاضِي بِمَا يُخَالِفُ رَأْيَ الْمَقْضِيِّ عليه أو له فَهُوَ على ما
ذَكَرْنَا من الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وَكَذَلِكَ الْمُقَلِّدُ إذَا أَفْتَاهُ إنْسَانٌ في حَادِثَةٍ ثُمَّ رُفِعَتْ
إلَى الْقَاضِي فَقَضَى بِخِلَافِ رَأْيِ الْمُفْتِي فإنه يَأْخُذُ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي وَيَتْرُكُ رَأْيَ الْمُفْتِي لِأَنَّ رَأْيَ الْمُفْتِي يَصِيرُ
مَتْرُوكًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فما ظَنُّكَ بِالْمُقَلِّدِ ولم يذكر
الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِلَافَ في هذا الْفَصْلِ وَذَكَرَهُ شَيْخُنَا
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَسَنَنْظُرُ فيه فِيمَا يَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ
الْعَادِلَةَ مُظْهِرَةٌ للمدعى فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُقِرُّ
على نَفْسِهِ كَاذِبًا
هذا هو الظَّاهِرُ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِالْحَقِّ وَكَذَا الْقَضَاءُ
بِالنُّكُولِ عِنْدَنَا فِيمَا يُقْضَى فيه بِالنُّكُولِ لِأَنَّ النُّكُولَ على
أَصْلِ أَصْحَابِنَا بَذْلٌ أو إقْرَارٌ وَكُلُّ ذلك دَلِيلُ صِدْقِ الْمُدَّعِي
في دَعْوَاهُ لِمَا عُلِمَ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ قَضَاءً بِالْحَقِّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِعِلْمِ نَفْسِهِ في الْجُمْلَةِ
فَنَقُولُ تَفْصِيلُ الْكَلَامِ فيه أَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا إن قَضَى بِعِلْمٍ
اسْتَفَادَهُ في زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ وهو الْمَوْضِعُ الذي قُلِّدَ
قَضَاءَهُ وَإِمَّا إن قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ وفي
غَيْرِ مَكَانِهِ وَإِمَّا إن قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ بَعْدَ زَمَانِ
الْقَضَاءِ في غَيْرِ مَكَانِهِ فَإِنْ قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ في زَمَنِ
الْقَضَاءِ وفي مَكَانِهِ بِأَنْ سمع رَجُلًا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِمَالٍ أو
سَمِعَهُ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ أو يُعْتِقُ عَبْدَهُ أو يَقْذِفُ
____________________
(7/6)
رَجُلًا
أو رَآهُ يَقْتُلُ إنْسَانًا وهو قَاضٍ في الْبَلَدِ الذي قُلِّدَ قَضَاءَهَا
جَازَ قَضَاؤُهُ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِهِ في الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا إلَّا أَنَّ في السَّرِقَةِ يَقْضِي
بِالْمَالِ لَا بِالْقَطْعِ
وَلِلشَّافِعِيِّ فيه قَوْلَانِ في قَوْلٍ لَا يَجُوزُ له أَنْ يَقْضِيَ بِهِ في
الْكُلِّ
وفي قَوْلٍ يَجُوزُ في الْكُلِّ
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ
بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ جَازَ له الْقَضَاءُ بِعِلْمِهِ لم يَبْقَ مَأْمُورًا
بِالْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَفْصِلُ بين الْحُدُودِ
وَغَيْرِهَا
وَجْهُ قَوْلِهِ الثَّانِي أَنَّ الْمَقْصُودَ من الْبَيِّنَةِ الْعِلْمُ بِحُكْمِ
الْحَادِثَةِ وقد عُلِمَ وَهَذَا لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بين الْحُدُودِ
وَغَيْرِهَا لِأَنَّ عِلْمَهُ لَا يَخْتَلِفُ
وَلَنَا أَنَّهُ جَازَ له الْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَةِ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ
بِعِلْمِهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْبَيِّنَةِ
ليس عَيْنُهَا بَلْ حُصُولُ الْعِلْمِ بِحُكْمِ الْحَادِثَةِ وَعِلْمُهُ
الْحَاصِلُ بِالْمُعَايَنَةِ أَقْوَى من عِلْمِهِ الْحَاصِلِ بِالشَّهَادَةِ
لِأَنَّ الْحَاصِلَ بِالشَّهَادَةِ عِلْمُ غَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْثَرُ الظَّنِّ
وَالْحَاصِلُ بِالْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ عِلْمُ الْقَطْعِ وَالْيَقِينِ فَكَانَ
هذا أَقْوَى فَكَانَ الْقَضَاءُ بِهِ أَوْلَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِهِ في
الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ
لِأَنَّ الْحُدُودَ يُحْتَاطُ في دَرْئِهَا وَلَيْسَ من الِاحْتِيَاطِ فيها
الِاكْتِفَاءُ بِعِلْمِ نَفْسِهِ
وَلِأَنَّ الْحُجَّةَ في وَضْعِ الشَّيْءِ هِيَ الْبَيِّنَةُ التي تَتَكَلَّمُ بها
وَمَعْنَى الْبَيِّنَةِ وَإِنْ وُجِدَ فَقَدْ فَاتَتْ صُورَتُهَا وَفَوَاتُ
الصُّورَةِ يُورِثُ شُبْهَةً وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ بِخِلَافِ
الْقِصَاصِ فإنه حَقُّ الْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا يُحْتَاطُ في
إسْقَاطِهَا وَكَذَا حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ فيه حَقَّ الْعَبْدِ وَكِلَاهُمَا لَا
يَسْقُطَانِ بِشُبْهَةِ فَوَاتِ الصُّورَةِ
هذا إذَا قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ في زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ فَأَمَّا
إذَا قَضَى بِعِلْمٍ اسْتَفَادَهُ في غَيْرِ زَمَنِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ أو في
زَمَانِ الْقَضَاءِ في غَيْرِ مَكَانِهِ وَذَلِكَ قبل أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَلَدِ
الذي وَلِي قَضَاءَهُ فإنه لَا يَجُوزُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَصْلًا
وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ فَأَمَّا في
الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ فَلَا يَجُوزُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ
الْمُسْتَفَادِ في زَمَنِ الْقَضَاءِ جَازَ له أَنْ يَقْضِيَ بِالْعِلْمِ
الْمُسْتَفَادِ قبل زَمَنِ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْعِلْمَ في الْحَالَيْنِ على
حَدٍّ وَاحِدٍ إلَّا أَنَّ هَهُنَا اسْتَدَامَ الْعِلْمُ الذي كان له قبل
الْقَضَاءِ بتجد ( ( ( بتجدد ) ) ) أَمْثَالِهِ وَهُنَاكَ حَدَثَ له عِلْمٌ لم
يَكُنْ وَهُمَا سَوَاءٌ في الْمَعْنَى إلَّا أَنَّهُ لم يَقْضِ بِهِ في الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فيه بِاعْتِبَارِ التُّهْمَةِ وَالشُّبْهَةُ
تُؤَثِّرُ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ وَلَا تُؤَثِّرُ في حُقُوقِ الْعِبَادِ على
ما مَرَّ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْعِلْمَيْنِ وهو أَنَّ الْعِلْمَ الْحَادِثَ
له في زَمَنِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ في وَقْتٍ هو مُكَلَّفٌ فيه بِالْقَضَاءِ
فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فيه وَالْعِلْمُ الْحَاصِلُ في غَيْرِ
زَمَانِ الْقَضَاءِ عِلْمٌ في وَقْتٍ هو غَيْرُ مُكَلَّفٍ فيه بِالْقَضَاءِ
فَأَشْبَهَ الْبَيِّنَةَ الْقَائِمَةَ فيه وَهَذَا لِأَنَّ الْأَصْلَ في صِحَّةِ
الْقَضَاءِ هو الْبَيِّنَةُ إلَّا أَنَّ غَيْرَهَا قد يَلْحَقُ بها إذَا كان في
مَعْنَاهَا وَالْعِلْمُ الْحَادِثُ في زَمَانِ الْقَضَاءِ في مَعْنَى الْبَيِّنَةِ
يَكُونُ حَادِثًا في وَقْتٍ هو مُكَلَّفٌ بِالْقَضَاءِ فَكَانَ في مَعْنَى
الْبَيِّنَةِ وَالْحَاصِلُ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ أو قبل الْوُصُولِ إلَى
مَكَانِهِ حَاصِلٌ في وَقْتٍ هو غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِالْقَضَاءِ فلم يَكُنْ في
مَعْنَى الْبَيِّنَةِ فلم يَجُزْ الْقَضَاءُ بِهِ فَهُوَ الْفَرْقُ بين
الْعِلْمَيْنِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ الْقَضَاءُ بِكِتَابِ القضاء ( ( ( القاضي ) ) ) فَنَقُولُ
لِقَبُولِ الْكِتَابِ من الْقَاضِي شَرَائِطُ منها الْبَيِّنَةُ على أَنَّهُ
كِتَابُهُ فَتَشْهَدُ الشُّهُودُ على أَنَّ هذا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي ويذكرون
( ( ( ويذكروا ) ) ) اسْمَهُ وَنَسَبَهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُهُ
بِدُونِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ مَخْتُومًا وَيَشْهَدُوا على أَنَّ هذا خَتْمُهُ
لِصِيَانَتِهِ عن الْخَلَلِ فيه
وَمِنْهَا أَنْ يَشْهَدُوا بِمَا في الْكِتَابِ بِأَنْ يَقُولُوا إنَّهُ قَرَأَهُ
عليهم مع الشَّهَادَةِ بِالْخَتْمِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ
تُقْبَلُ وَإِنْ لم يَشْهَدُوا بِمَا في الْكِتَابِ
وَكَذَا إذَا شَهِدُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا في جَوْفِهِ تُقْبَلُ وَإِنْ لم
يَشْهَدُوا بِالْخَاتَمِ بِأَنْ قالوا لم يُشْهِدْنَا على الْخَاتَمِ أو لم يَكُنْ
الْكِتَابُ مَخْتُومًا أَصْلًا
لِأَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ من هذه الشَّهَادَةِ حُصُولُ الْعِلْمِ
لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِأَنَّ هذا كِتَابُ فُلَانٍ الْقَاضِي وَهَذَا
يَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَا
وَلَهُمَا أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ كِتَابُ فُلَانٍ لَا يَحْصُلُ إلَّا
بِالْعِلْمِ بِمَا فيه وَلَا بُدَّ من الشَّهَادَةِ بِمَا فيه لِتَكُونَ
شَهَادَتُهُمْ على عِلْمٍ بِالْمَشْهُودِ بِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بين الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَبَيْنَ الْقَاضِي
الْكَاتِبِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ
فَإِنْ كان دُونَهُ لم تُقْبَلْ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَمْرٌ
جُوِّزَ لِحَاجَةِ الناس بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِالشَّهَادَةِ
الْقَائِمَةِ على غَائِبٍ من غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ خَصْمٍ حَاضِرٍ لَكِنْ
جُوِّزَ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ في الدَّيْنِ وَالْعَيْنِ التي لَا حَاجَةَ إلَى
الْإِشَارَةِ إلَيْهَا عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ كَالدُّورِ وَالْعَقَارِ
وَأَمَّا في الْأَعْيَانِ التي تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ إلَيْهَا
كَالْمَنْقُولِ من الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
____________________
(7/7)
وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ رَجَعَ وقال تُقْبَلُ في
الْعَبْدِ خَاصَّةً إذَا أَبَقَ وَأُخِذَ في بَلَدٍ فَأَقَامَ صَاحِبُهُ
الْبَيِّنَةَ عِنْدَ قَاضِي بَلَدِهِ أَنَّ عَبْدَهُ أَخَذَهُ فُلَانٌ في بَلَدِ
كَذَا فَشَهِدَ الشُّهُودُ على الْمِلْكِ أو على صِفَةِ الْعَبْدِ وَحِلْيَتِهِ
فإنه يَكْتُبُ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الذي الْعَبْدُ فيه أَنَّهُ قد شَهِدَ الشُّهُودُ
عِنْدِي أَنَّ عَبْدًا صِفَتُهُ وَحِلْيَتُهُ كَذَا وَكَذَا مِلْكُ فُلَانٍ
أَخَذَهُ فُلَانُ بن فُلَانٍ يَنْسِبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إبيه وَإِلَى
جَدِّهِ على رَسْمِ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي
وإذا وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ
بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ يُسَلِّمُ الْعَبْدَ إلَيْهِ وَيَخْتِمُ في عُنُقِهِ
وَيَأْخُذُ منه كَفِيلًا ثُمَّ يَبْعَثُ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ حتى
يَشْهَدَ الشُّهُودُ عليه عِنْدَهُ بِعَيْنِهِ على الْإِشَارَةِ إلَيْهِ ثُمَّ يَكْتُبُ
الْقَاضِي الْكَاتِبُ له كِتَابًا آخَرَ إلَى ذلك الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ فإذا عَلِمَ أَنَّهُ كِتَابُهُ قَبِلَهُ وَقَضَى وسلم الْعَبْدَ
إلَى الذي جاء بِالْكِتَابِ وَأَبْرَأَ كَفِيلَهُ وَلَا يُقْبَلُ في الْجَارِيَةِ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى قَبُولِ
كِتَابِ الْقَاضِي في الْعَبْدِ مُتَحَقِّقَةٌ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهِ فَلَوْ
لم يُقْبَلْ لَضَاقَ الْأَمْرُ على الناس وَلَضَاعَتْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا حَاجَةَ
إلَيْهِ في الْأَمَةِ لِأَنَّهَا لَا تَهْرَبُ عَادَةً لِعَجْزِهَا وَضَعْفِ
بِنْيَتِهَا وَقَلْبِهَا
وَلَهُمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا على مَعْلُومٍ لِلْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ { إلَّا من شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَالْمَنْقُولُ
لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ وَالْإِشَارَةُ إلَى
الْغَائِبِ مُحَالٌ فلم تَصِحَّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ وَلَا دَعْوَى الْمُدَّعِي
لِجَهَالَةِ المدعى فَلَا يُقْبَلُ الْكِتَابُ فيه وَلِهَذَا لم يُقْبَلُ في
الْجَارِيَةِ وفي سَائِرِ الْمَنْقُولَاتِ بِخِلَافِ الْعَقَارِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ
مَعْلُومًا بِالتَّحْدِيدِ وَبِخِلَافِ الدَّيْنِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَصِيرُ
مَعْلُومًا بِالْوَصْفِ
وَهَذَا الذي ذَكَرْنَا مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال ابن أبي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي
في الْكُلِّ وَقُضَاةُ زَمَانِنَا يَعْمَلُونَ بِمَذْهَبِهِ لِحَاجَةِ الناس
وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِ أَنْ لَا يَفُكَّ الْكِتَابَ إلَّا
بِمَحْضَرٍ من الْخَصْمِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ من التُّهْمَةِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي
إلَى الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ على الشَّهَادَةِ وَأَنَّهُ لَا
تُقْبَلُ فِيهِمَا
كَذَا هذا
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْمَكْتُوبِ له وَعَلَيْهِ وَاسْمُ أبيه وَجَدِّهِ
وَفَخِذِهِ مَكْتُوبًا في الْكِتَابِ حتى لو نَسَبَهُ إلَى أبيه ولم يذكر اسْمَ
جَدِّهِ أو نَسَبَهُ إلَى قَبِيلَةٍ كَبَنِي تَمِيمٍ وَنَحْوِهِ لَا يَقْبَلُ
لِأَنَّ التَّعْرِيفَ لَا يَحْصُلُ بِهِ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ شيئا ظَاهِرًا
مَشْهُورًا أَشْهُرَ من الْقَبِيلَةِ فَيُقْبَلُ لِحُصُولِ التَّعْرِيفِ
وَمِنْهَا ذِكْرُ الْحُدُودِ في الدُّورِ وَالْعَقَارِ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ في
الْمَحْدُودِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِذِكْرِ الْحَدِّ
وَلَوْ ذَكَرَ في الْكِتَابِ ثَلَاثَةَ حُدُودٍ يُقْبَلُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْبَلُ ما لم يَشْهَدُوا على
الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ
وَلَوْ شَهِدُوا على حَدَّيْنِ لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ وإذا كانت الدَّارُ
مَشْهُورَةً كَدَارِ الْأَمِيرِ وَغَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ
وَهَذِهِ من مَسَائِلِ الشُّرُوطِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ على قَضَائِهِ عِنْدَ وُصُولِ
كِتَابِهِ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ حتى لو مَاتَ أو عُزِلَ قبل
الْوُصُولِ إلَيْهِ لم يُعْمَلْ بِهِ وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ وُصُولِ الْكِتَابِ
إلَيْهِ جَازَ له أَنْ يَقْضِيَ بِهِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ على قَضَائِهِ حتى لو
مَاتَ أو عُزِلَ قبل وُصُولِ الْكِتَابِ إلَيْهِ ثُمَّ وَصَلَ إلَى الْقَاضِي الذي
وَلِيَ مَكَانَهُ لم يُعْمَلْ بِهِ لِأَنَّهُ لم يَكْتُبْ إلَيْهِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي الْكَاتِبُ من أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ كان من
أَهْلِ الْبَغْيِ لم يَعْمَلْ بِهِ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بَلْ يَرُدُّهُ
كَبْتًا وَغَيْظًا لهم
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا لِأَنَّ
الْقَضَاءَ عِبَادَةٌ وَالْعِبَادَةُ إخْلَاصُ الْعَمَلِ بِكُلِّيَّتِهِ لِلَّهِ
عز وجل فَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِمَنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
له لِأَنَّ الْقَضَاءَ له قَضَاءٌ لِنَفْسِهِ من وَجْهٍ فلم يَخْلُصْ لِلَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَكَذَا إذَا قَضَى في حَادِثَةٍ بِرِشْوَةٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ في تِلْكَ
الْحَادِثَةِ وَإِنْ قَضَى بِالْحَقِّ الثَّابِتِ عِنْدَ اللَّهِ جل ( ( ( جلا ) )
) وَعَلَا من حُكْمِ الْحَادِثَةِ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ على الْقَضَاءِ رِشْوَةً
فَقَدْ قَضَى لِنَفْسِهِ لَا لِلَّهِ عز اسْمُهُ فلم يَصِحَّ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ له فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
مِمَّنْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِلْقَاضِي فَإِنْ كان مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُ له لَا يَجُوزُ قَضَاءُ الْقَاضِي له لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ
تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا وَقْتَ الْقَضَاءِ فَإِنْ كان غَائِبًا لم يَجُزْ
الْقَضَاءُ له إلَّا إذَا كان عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ لِأَنَّ الْقَضَاءَ على
الْغَائِبِ كما لَا يَجُوزُ فَالْقَضَاءُ لِلْغَائِبِ أَيْضًا لَا يَجُوزُ
وَمِنْهَا طَلَبُ الْقَضَاءِ من الْقَاضِي في حُقُوقِ الْعِبَادِ لِأَنَّ
الْقَضَاءَ وَسِيلَةٌ إلَى حَقِّهِ فَكَانَ حَقُّهُ وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا
يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ
وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْضِيِّ عليه فَحَضْرَتُهُ حتى لَا يَجُوزَ
الْقَضَاءُ على الْغَائِبِ إذَا لم يَكُنْ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس
____________________
(7/8)
بِشَرْطٍ
وَالْمَسْأَلَةُ ذُكِرَتْ في كِتَابِ الدَّعْوَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا آدَابُ الْقَضَاءِ فَكَثِيرَةٌ وَالْأَصْلُ فيها كِتَابُ
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه إلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَ السِّيَاسَةِ وَفِيهِ أَمَّا
بَعْدُ فإن الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ فَافْهَمْ إذَا
أُدْلِيَ إلَيْكَ فإنه لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ له آسِ بين
الناس في وَجْهَكَ وَمَجْلِسِكَ وَعَدْلِكَ حتى لَا يَطْمَعَ شَرِيفٌ في حَيْفِكَ
وَلَا يَيْأَسَ ضَعِيفٌ من عَدْلِكَ وفي رِوَايَةٍ لا يَخَافُ ضَعِيفٌ جَوْرَكَ
الْبَيِّنَةُ على الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ على من أَنْكَرَ
الصُّلْحُ جَائِزٌ بين الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا أو حَرَّمَ
حَلَالًا وَلَا يَمْنَعُكَ قَضَاءٌ قَضَيْتَهُ بِالْأَمْسِ رَاجَعْتَ فيه نَفْسَكَ
وَهُدِيتَ فيه لِرُشْدِكَ أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فإن الْحَقَّ قَدِيمٌ لَا
يَبْطُلُ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ من التَّمَادِي في الْبَاطِلِ الْفَهْمَ
الْفَهْمَ فِيمَا يَخْتَلِجُ في صَدْرِكَ مِمَّا لم يَبْلُغْكَ في الْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ وَالسُّنَّةِ ثُمَّ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ
الْأُمُورَ عِنْدَ ذلك فَاعْمَدْ إلَى أَحَبِّهَا وَأَقْرَبِهَا إلَى اللَّهِ
تَبَارَكَ وتعالى وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا
يَنْتَهِي إلَيْهِ فإذا أَحْضَرَ بَيِّنَةً أُخِذَ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَبَ الْقَضَاءُ
عليه
وفي رِوَايَةٍ وَإِنْ عَجَزَ عنها اسْتَحْلَلْتَ عليه الْقَضَاءَ فإن ذلك أَبْلَغُ
في الْعُذْرِ وَأَجْلَى لِلْعَمَى الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ
إلَّا مَحْدُودًا في قَذْفٍ أو ظَنِينًا في وَلَاءٍ أو قَرَابَةٍ أو مُجَرَّبًا
عليه شَهَادَةُ زُورٍ فإن اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السِّرَّ وفي
رِوَايَةٍ السَّرَائِرَ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ إيَّاكَ وَالْغَضَبَ
وَالْقَلَقَ وَالضَّجَرَ وَالتَّأَذِّي بِالنَّاسِ لِلْخُصُومِ في مَوَاطِنِ
الْحَقِّ الذي يُوجِبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهِ الْأَجْرَ وَيُحْسِنُ
بِهِ الذُّخْرَ وَأَنَّ من يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
تَعَالَى وَلَوْ على نَفْسِهِ في الْحَقِّ يَكْفِهِ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ الناس وَمَنْ يَتَزَيَّنْ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ منه
خِلَافَهُ شَانَهُ اللَّهُ عز وجل فإنه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يَقْبَلُ من
الْعِبَادَةِ إلَّا ما كان خَالِصًا فما ظَنُّكَ بِثَوَابٍ عن اللَّهِ سُبْحَانَهُ
من عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ وَالسَّلَامُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَهِمًا عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَيَجْعَلُ
فَهْمَهُ وَسَمْعَهُ وَقَلْبَهُ إلَى كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في كِتَابِ السياسية ( ( ( السياسة ) ) ) فَافْهَمْ إذَا
أُولِيَ إلَيْك
وَلِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ مع أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ فإذا لم
يَفْهَمْ الْقَاضِي كَلَامَهُمَا يَضِيعُ الْحَقُّ وَذَلِكَ قَوْلُهُ رضي اللَّهُ
تعالى عنه فإنه لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمُ بِحَقٍّ لَا نَفَاذَ له
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ قَلِقًا وَقْتَ الْقَضَاءِ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالْقَلَقَ وَهَذَا نَدْبٌ إلَى السُّكُونِ
وَالتَّثْبِيتِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ ضَجِرًا عِنْدَ الْقَضَاءِ إذَا اجْتَمَعَ عليه
الْأُمُورُ فَضَاقَ صَدْرُهُ لِقَوْلِهِ رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالضَّجَرَ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ غَضْبَانَ وَقْتَ الْقَضَاءِ لِقَوْلِ سَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه إيَّاكَ وَالْغَضَبَ وقال عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) )
والسلام لَا يَقْضِي الْقَاضِي وهو غَضْبَانُ
وَلِأَنَّهُ يُدْهِشُهُ عن التَّأَمُّلِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ جَائِعًا وَلَا عَطْشَانَ وَلَا مُمْتَلِئًا لِأَنَّ
هذه الْعَوَارِضَ من الْقَلَقِ وَالضَّجَرِ وَالْغَضَبِ وَالْجُوعِ وَالْعَطَشِ
وَالِامْتِلَاءِ مِمَّا يَشْغَلُهُ عن الْحَقِّ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقْضِيَ وهو يَمْشِي على الْأَرْضِ أو يَسِيرُ على
الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْمَشْيَ وَالسَّيْرَ يَشْغَلَانِهِ عن النَّظَرِ
وَالتَّأَمُّلِ في كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ
وَلَا بَأْسَ بان يَقْضِيَ وهو متكىء ( ( ( متكئ ) ) ) لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ لَا
يَقْدَحُ في التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ
وَمِنْهَا أَنْ يُسَوِّيَ بين الْخَصْمَيْنِ في الْجُلُوسِ فَيُجْلِسُهُمَا بين
يَدَيْهِ لَا عن يَمِينِهِ وَلَا عن يَسَارِهِ لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك فَقَدْ
قَرَّبَ أَحَدَهُمَا في مَجْلِسِهِ
وَكَذَا ألا يُجْلِسُ أَحَدَهُمَا عن يَمِينِهِ وَالْآخَرَ عن يَسَارِهِ
لِأَنَّ لِلْيَمِينِ فَضْلًا على الْيَسَارِ
وقد رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ وَأُبَيُّ بن كَعْبٍ رضي اللَّهُ عنهما اخْتَصَمَا في
حَادِثَةٍ إلَى زَيْدِ بن ثَابِتٍ فَأَلْقَى لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه
وِسَادَةً
فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه هذا أَوَّلُ جَوْرِكَ
وَجَلَسَ بين يَدَيْهِ
وَمِنْهَا أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا في النَّظَرِ وَالنُّطْقِ وَالْخَلْوَةِ
فَلَا يَنْطَلِقُ بِوَجْهِهِ إلَى أَحَدِهِمَا
وَلَا يُسَارَّ أَحَدَهُمَا وَلَا يومىء إلَى أَحَدِهِمَا بِشَيْءٍ دُونَ خَصْمِهِ
وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ على أَحَدِهِمَا وَلَا يُكَلِّمُ أَحَدَهُمَا بِلِسَانٍ
لَا يَعْرِفُهُ الْآخَرُ وَلَا يَخْلُو بِأَحَدٍ في مَنْزِلِهِ وَلَا يُضَيِّفُ
أَحَدَهُمَا فَيَعْدِلُ بين الْخَصْمَيْنِ في هذا كُلِّهِ لِمَا في تَرْكِ
الْعَدْلِ فيه من كَسْرِ قَلْبِ الْآخَرِ وَيُتَّهَمُ الْقَاضِي بِهِ أَيْضًا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَقْبَلَ الْهَدِيَّةَ من أَحَدِهِمَا إلَّا إذَا كان لَا
يَلْحَقُهُ بِهِ تُهْمَةٌ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمُهْدِي لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ
رَجُلًا كان يهدى إلَيْهِ قبل تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ وَإِمَّا إن كان لَا يهدى
إلَيْهِ فأما إنْ كان قَرِيبًا له أو أَجْنَبِيًّا فَإِنْ كان قَرِيبًا له
يُنْظَرُ إنْ كان له خُصُومَةٌ في الْحَالِ فإنه لَا يَقْبَلُ لِأَنَّهُ
يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ وَإِنْ كان لَا خُصُومَةَ له في الْحَالِ يَقْبَلُ
لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فيه وَإِنْ كان أَجْنَبِيًّا
____________________
(7/9)
لَا
يَقْبَلُ سَوَاءٌ كان له خُصُومَةٌ في الْحَالِ أو لَا لِأَنَّهُ إنْ كان له
خُصُومَةٌ في الْحَالِ كان بِمَعْنَى الرِّشْوَةِ وَإِنْ لم يَكُنْ فَرُبَّمَا
يَكُونُ له خُصُومَةٌ في الْحَالِ يَأْتِي بَعْدَ ذلك فَلَا يَقْبَلُ وَلَوْ
قَبِلَ يَكُونُ لِبَيْتِ الْمَالِ
هذا إذَا كان الرَّجُلُ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قبل تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَأَمَّا
إذَا كان يُهْدِي إلَيْهِ فَإِنْ كان له في الْحَالِ خُصُومَةٌ لَا تُقْبَلُ
لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ فيه وَإِنْ كان لَا خُصُومَةَ له في الْحَالِ يُنْظَرُ إنْ
كان أَهْدَى مِثْلَ ما كان يُهْدِي أو أَقَلَّ يَقْبَلُ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ
فيه وَإِنْ كان أَكْثَرَ من ذلك يَرُدُّ الزِّيَادَةَ عليه وَإِنْ قَبِلَ كان
لِبَيْتِ الْمَالِ وَإِنْ لم يَقْبَلْ لِلْحَالِ حتى انْقَضَتْ الْخُصُومَةُ ثُمَّ
قَبِلَهَا لَا بَأْسَ بِهِ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْخَاصَّةَ بِأَنْ كَانُوا خَمْسَةً أو
عَشَرَةً لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من التُّهْمَةِ إلَّا إذَا كان صَاحِبُ
الدَّعْوَةِ مِمَّنْ كان يَتَّخِذُ له الدَّعْوَةَ قبل الْقَضَاءِ أو كان بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْقَاضِي قَرَابَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْضُرَ إذَا لم يَكُنْ له
خُصُومَةٌ لِانْعِدَامِ التُّهْمَةِ فَإِنْ عَرَفَ الْقَاضِي له خُصُومَةً لم
يَحْضُرْهَا
وَأَمَّا الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ فَإِنْ كانت بِدْعَةً كَدَعْوَةِ الْمُبَارَاةِ
وَنَحْوِهَا لَا يَحِلُّ له أَنْ يَحْضُرَهَا لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِغَيْرِ
الْقَاضِي إجَابَتُهَا فَالْقَاضِي أَوْلَى
وَإِنْ كانت سُنَّةً كَوَلِيمَةِ الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ فإنه يُجِيبُهَا
لِأَنَّهُ إجَابَةُ السُّنَّةِ وَلَا تُهْمَةَ فيه
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ لِأَنَّ فيه
مَكْسَرَةَ قَلْبِ الْآخَرِ وَلِأَنَّ فيه إعَانَةَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ
فَيُوجِبُ التُّهْمَةَ غير أَنَّهُ إنْ تَكَلَّمَ أَحَدُهُمَا أَسْكَتَ الْآخَرَ
لِيَفْهَمَ كَلَامَهُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ بَلْ يَتْرُكُهُ يَشْهَدُ بِمَا عِنْدَهُ
فَإِنْ أَوْجَبَ الشَّرْعُ قَبُولَهُ قَبِلَهُ وَإِلَّا رَدَّهُ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ الْأَوَّلُ
ثُمَّ رَجَعَ وقال لَا بَأْسَ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ بِأَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدُ
بِكَذَا وَكَذَا وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ الشَّاهِدَ يَلْحَقُهُ
الْحَصْرُ لِمَهَابَةِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيُعْجِزُهُ عن إقَامَةِ الْحُجَّةِ
فَكَانَ التَّلْقِينُ تَقْوِيمًا لِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يُتَّهَمُ بِتَلْقِينِ الشَّاهِدِ فَيَتَحَرَّجُ عنه
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَعْبَثَ بِالشُّهُودِ لِأَنَّ ذلك يُشَوِّشُ عليهم
عُقُولَهُمْ فَلَا يُمَكِّنُهُمْ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ على وَجْهِهَا وإذا
اتَّهَمَ الشُّهُودَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُفَرِّقَهُمْ عِنْدَ أَدَاءِ
الشَّهَادَةِ فَيَسْأَلَهُمْ أَيْنَ كان وَمَتَى كان فَإِنْ اخْتَلَفُوا
اخْتِلَافًا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ رَدَّهَا وَإِلَّا فَلَا
وَيَشْهَدُ الْقَاضِي الْجِنَازَةَ لِأَنَّ ذلك حَقُّ الْمَيِّتِ على
الْمُسْلِمِينَ فلم يَكُنْ مُتَّهَمًا في أَدَاءِ سُنَّةٍ فَيَحْضُرُهَا إلَّا
إذَا اجْتَمَعَتْ الْجَنَائِزُ على وَجْهٍ لو حَضَرَهَا كُلَّهَا لَشَغَلَهُ ذلك
عن أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ أَنْ لَا يَشْهَدَ لِأَنَّ الْقَضَاءَ
فَرْضُ عَيْنٍ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ فَكَانَ إقَامَةُ فَرْضِ
الْعَيْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَوْلَى
وَيَعُودُ الْمَرِيضَ أَيْضًا لِأَنَّ ذلك حَقُّ الْمُسْلِمِينَ على
الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ بِإِقَامَتِهِ وَيُسَلِّمُ على
الْخُصُومِ إذَا دَخَلُوا الْمَحْكَمَةَ لِأَنَّ السَّلَامَ من سُنَّةِ
الْإِسْلَامِ وكان شُرَيْحٌ يُسَلِّمُ على الْخُصُومِ لَكِنْ لَا يَخُصُّ أَحَدَ
الْخَصْمَيْنِ بِالتَّسْلِيمِ عليه دُونَ الْآخَرِ وَهَذَا قبل جُلُوسِهِ في
مَجْلِسِ الْحُكْمِ
فَأَمَّا إذَا جَلَسَ لَا يُسَلِّمُ عليهم وَلَا هُمْ يُسَلِّمُونَ عليه أَمَّا هو
فَلَا يُسَلِّمُ عليهم لِأَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُسَلِّمَ الْقَائِمُ على
الْقَاعِدِ لَا الْقَاعِدُ على الْقَائِمِ وهو قَاعِدٌ وَهُمْ قِيَامٌ
وَأَمَّا هُمْ فَلَا يُسَلِّمُونَ عليه لِأَنَّهُمْ لو سَلَّمُوا عليه لَا
يَلْزَمُهُ الرَّدُّ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِأَمْرٍ هو أَهَمُّ وَأَعْظَمُ من رَدِّ
السَّلَامِ فَلَا يَلْزَمُهُ الِاشْتِغَالُ
كَذَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو جَعْفَرِ الْهِنْدُوَانِيُّ في رَجُلٍ يَقْرَأُ
الْقُرْآنَ فَدَخَلَ عليه آخَرُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي له أَنْ يُسَلِّمَ عليه
وَلَوْ سَلَّمَ عليه لَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ
وَكَذَا الْمُدَرِّسُ إذَا جَلَسَ لِلتَّدْرِيسِ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ
يُسَلِّمَ عليه
وَلَوْ سَلَّمَ لَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ لِمَا قُلْنَا بِخِلَافِ الْأَمِيرِ إذَا
جَلَسَ فَدَخَلَ عليه الناس أنهم يُسَلِّمُونَ عليه وهو السُّنَّةُ وَإِنْ كان
سَلَاطِينُ زَمَانِنَا يَكْرَهُونَ التَّسْلِيمَ عليهم وهو خَطَأٌ منهم
لِأَنَّهُمْ جَلَسُوا لِلزِّيَارَةِ وَمِنْ سُنَّةِ الزَّائِرِ التَّسْلِيمُ على
من دخل عليه
وَأَمَّا الْقَاضِي فَإِنَّمَا جَلَسَ لِلْعِبَادَةِ لَا لِلزِّيَارَةِ فَلَا
يُسَنُّ التَّسْلِيمُ عليه وَلَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ إنْ سَلَّمُوا لَكِنْ لو
أَجَابَ جَازَ
وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الْقَاضِي عن حَالِ الشُّهُودِ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ
وَالْقِصَاصِ وَإِنْ لم يَطْعَنْ الْخَصْمُ وهو من آدَابِ الْقَاضِي عِنْدَ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَإِنْ كان
جَائِزًا عِنْدَهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَدَالَةِ الْحَقِيقِيَّةِ
أَفْضَلُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَهُوَ من وَاجِبَاتِ الْقَضَاءِ
وَكَذَا إذَا طَعَنَ الْخَصْمُ عِنْدَهُ في غَيْرِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وفي
الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ طَعَنَ أو لم يَطْعَنْ ثُمَّ الْقُضَاةُ من السَّلَفِ
كَانُوا يَسْأَلُونَ بِأَنْفُسِهِمْ عن حَالِ الشُّهُودِ من أَهْلِ مَحَلَّتِهِمْ
وَأَهْلِ سُوقِهِمْ وَإِنْ كان الشَّاهِدُ سُوقِيًّا مِمَّنْ هو أَتْقَى الناس
وَأَوْرَعُهُمْ وَأَعْظَمُهُمْ أَمَانَةً وَأَعْرَفُهُمْ بِأَحْوَالِ الناس
ظَاهِرًا وباطنا وَالْقُضَاةُ في زَمَانِنَا نُصِبُوا لِلْعَدْلِ تَيْسِيرًا
لِلْأَمْرِ عليهم لِمَا يَتَعَذَّرُ على الْقَاضِي طَلَبُ الْمُعَدِّلِ في كل
شَاهِدٍ فَاسْتَحْسَنُوا نَصْبَ الْعَدْلِ
ثُمَّ نَقُولُ لِلتَّعْدِيلِ شَرَائِطُ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْعَدْلِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ
____________________
(7/10)
التَّعْدِيلِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ
وَمِنْهَا الْبُلُوغُ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ
فَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ وَالْكَافِرِ
لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ إن كانت تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ فَهَؤُلَاءِ لَيْسُوا
من أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَكُونُونَ من أَهْلِ التَّزْكِيَةِ
وَإِنْ كانت من بَابِ الْإِخْبَارِ عن الدِّيَانَاتِ فَخَبَرُهُمْ في الدِّيَانَاتِ
غَيْرُ مَقْبُولٍ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فيه من الْعَدَالَةِ وَلَا عَدَالَةَ
لِهَؤُلَاءِ
وَمِنْهَا الْعَدَالَةُ لِأَنَّ من لَا يَكُونُ عَدْلًا في نَفْسِهِ كَيْف
يَعْدِلُ غَيْرَهُ
وَأَمَّا الْعَدَدُ فَلَيْسَ بِشَرْطِ الْجَوَازِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ لَكِنَّهُ شَرَطُ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطُ
الْجَوَازِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ التَّزْكِيَةَ في مَعْنَى الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ خَبَرٌ عن
أَمْرٍ غَابَ عن عِلْمِ الْقَاضِي وَهَذَا مَعْنَى الشَّهَادَةِ فَيُشْتَرَطُ لها
نِصَابُ الشَّهَادَةِ
وَلَهُمَا أَنَّ التَّزْكِيَةَ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا
يُشْتَرَطُ فيه لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَلْزَمُ فيها الْعَدَدُ على أَنَّ
شَرْطَ الْعَدَدِ في الشَّهَادَاتِ ثَبَتَ نَصًّا غير مَعْقُولِ الْمَعْنَى فِيمَا
يُشْتَرَطُ فيه لَفْظُ الشَّهَادَةِ فَلَا يَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الْعَدَدِ فِيمَا
وَرَاءَهُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ الْعَدَدُ في التُّرْجُمَانِ وَحَامِلِ الْمَنْشُورِ
أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ شَرْطٌ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ
حُرِّيَّةُ الْمُعَدِّلِ وَبَصَرُهُ وَسَلَامَتُهُ عن حَدِّ الْقَذْفِ أَنَّهُ ليس
بِشَرْطٍ عِنْدَهُمَا فَتَصِحُّ تَزْكِيَةُ الْأَعْمَى وَالْعَبْدِ وَالْمَحْدُودِ
في الْقَذْفِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ شَرْطٌ فَلَا تَصِحُّ تَزْكِيَتُهُمْ لِأَنَّ التَّزْكِيَةَ
شَهَادَةٌ عِنْدَهُ فَيُشْتَرَطُ لها ما يُشْتَرَطُ لِسَائِرِ الشَّهَادَاتِ
وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ فَلَا يُرَاعَى فيها شَرَائِطُ الشَّهَادَةِ
لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ التَّزْكِيَةِ فَتَجُوزُ
تَزْكِيَةُ الْمَرْأَةِ إذَا كانت امْرَأَةً تَخْرُجُ لِحَوَائِجِهَا وَتُخَالِطُ
الناس فَتَعْرِفُ أَحْوَالَهُمْ وَهَذَا ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ على أَصْلِهَا
لِأَنَّ هذا من بَابِ الْإِخْبَارِ عن الدِّيَانَاتِ وَهِيَ من أَهْلِهِ
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَتُقْبَلُ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهَا
فَتَصِحُّ تَزْكِيَتُهَا فِيمَا يُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
وَتَجُوزُ تَزْكِيَةُ الْوَلَدِ لِلْوَالِدِ وَالْوَالِدِ لِلْوَلَدِ وَكُلِّ ذِي
رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَدْلِ في التَّعْدِيلِ إنَّمَا هو
حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَا يُوجِبُ تُهْمَةً فيه
وَهَذَا يُشْكِلُ على أَصْلِ مُحَمَّدٍ لِأَنَّهُ يُجْرِي التَّعْدِيلَ مَجْرَى
الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَعَكْسُهُ لَا تُقْبَلُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ المزكي مَشْهُودًا عليه فَإِنْ كان لم تُعْتَبَرْ
تَزْكِيَتُهُ وَيَجِبُ السُّؤَالُ وَهَذَا تَفْرِيعٌ على مَذْهَبِ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ بِنَاءً على أَنَّ
الْمَسْأَلَةَ ما وَجَبَتْ حَقًّا لِلْمَشْهُودِ عليه عِنْدَهُمَا وَإِنَّمَا
وَجَبَتْ حَقًّا لِلشَّرْعِ وَحَقُّ الشَّرْعِ لَا يَتَأَدَّى بِتَعْدِيلِهِ
لِأَنَّ في زَعْمِ الْمُدَّعِي وَالشُّهُودِ أَنَّهُ كَاذِبٌ في إنْكَارِهِ فَلَا
يَصِحُّ تَعْدِيلُهُ
وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ السُّؤَالُ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ حَقُّ
الْمَشْهُودِ عليه وَحَقُّ الْإِنْسَانِ لَا يُطْلَبُ إلَّا بِطَلَبِهِ فما لم
يَطْعَنْ لَا يَتَحَقَّقُ الطَّلَبُ فَلَا تَجِبُ الْمَسْأَلَةُ
وَذَكَرَ في كِتَابِ التَّزْكِيَةِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عليه إذَا قال لِلشَّاهِدِ
هو عَدْلٌ لَا يكتفي بِهِ ما لم يَنْضَمَّ إلَيْهِ آخَرُ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
فَصَارَ عن مُحَمَّدٍ رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ لَا تُعْتَبَرُ أَصْلًا وفي
رِوَايَةٍ يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ غَيْرُهُ
وَأَمَّا الثَّانِي الذي يَرْجِعُ إلَى فِعْلِ التَّعْدِيلِ فَهُوَ أَنْ يَقُولَ
الْمُعَدِّلُ في التَّعْدِيلِ هو عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ حتى لو قال هو
عَدْلٌ ولم يَقُلْ جَائِزُ الشَّهَادَةِ لَا يُقْبَلُ تَعْدِيلُهُ لِجَوَازِ أَنْ
يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَدْلًا في نَفْسِهِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ
كَالْمَحْدُودِ في الْقَذْفِ إذَا تَابَ وَصَلُحَ وَالْعَبْدُ الصَّالِحُ
وَكَذَلِكَ إذَا قال في الرَّدِّ هو ليس بِعَدْلٍ لَا يَرُدُّ ما لم يَقُلْ هو
غَيْرُ جَائِزِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ غير الْعَدْلِ وهو الْفَاسِقُ تَجُوزُ
شَهَادَتُهُ إذَا تَحَرَّى الْقَاضِي الصِّدْقَ في شَهَادَتِهِ وَلَوْ قَضَى بِهِ
الْقَاضِي يَنْفُذُ
وَمِنْهَا أَنْ يَسْأَلَ الْمُعَدِّلَ في السِّرِّ أَوَّلًا فَإِنْ وَجَدَهُ
عَدْلًا يَعْدِلُهُ في الْعَلَانِيَةِ أَيْضًا وَيَجْمَعُ بين المزكي وَالشُّهُودِ
وَبَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه في تَعْدِيلِ الْعَلَانِيَةِ وَإِنْ لم
يَجِدْهُ عَدْلًا يقول لِلْمُدَّعِي زِدْ في شُهُودِكَ وَلَا يَكْشِفُ عن حَالِ
الْمَجْرُوحِ سَتْرًا على الْمُسْلِمِ وَلَا يَكْتَفِي بِتَعْدِيلِ السِّرِّ
خَوْفًا من الِاحْتِيَالِ وَالتَّزْوِيرِ بِأَنْ يُسَمِّيَ غير الْعَدْلِ بِاسْمِ
الْعَدْلِ فَكَانَ الْأَدَبُ هو التَّزْكِيَةُ في الْعَلَانِيَةِ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ
في السِّرِّ
وَلَوْ اخْتَلَفَ الْمُعَدِّلَانِ فَعَدَّلَهُ أَحَدُهُمَا وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ
سَأَلَ الْقَاضِي غَيْرَهُمَا فَإِنْ عَدَّلَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالتَّزْكِيَةِ
وَإِنْ جَرَّحَهُ آخَرُ أَخَذَ بِالْجَرْحِ لِأَنَّ خَبَرَ الِاثْنَيْنِ أَوْلَى
من خَبَرِ الْوَاحِدِ بِالْقَبُولِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ مُطْلَقَةٌ وَإِنْ انْضَمَّ
إلَى كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ آخَرُ فَعَدَّلَهُ اثْنَانِ وَجَرَّحَهُ
اثْنَانِ عَمِلَ بِالْجَرْحِ لِأَنَّ الْجَارِحَ يَعْتَمِدُ حَقِيقَةَ الْحَالِ
وَالْمُعَدِّلُ يَبْنِي الْأَمْرَ على الظَّاهِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ من حَالِ
الْإِنْسَانِ أَنْ يُظْهِرَ الصَّلَاحَ وَيَكْتُمَ الْفِسْقَ
فَكَانَ قَبُولُ قَوْلِ الْجَارِحِ أَوْلَى
كَذَلِكَ لو جَرَّحَهُ اثْنَانِ وَعَدَّلَهُ ثَلَاثَةٌ أو أَرْبَعَةٌ أو أَكْثَرُ
يَعْمَلُ بِقَوْلِ الْجَارِحِ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ لَا يَقَعُ بِكَثْرَةِ
الْعَدَدِ في بَابِ الشَّهَادَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ معه جَمَاعَةٌ من أَهْلِ الْفِقْهِ يُشَاوِرُهُمْ
وَيَسْتَعِينُ بِرَأْيِهِمْ فِيمَا يَجْهَلُهُ==
ج20.
من
الْأَحْكَامِ وقد نَدَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ إلَى الْمُشَاوِرَةِ بِقَوْلِهِ { وَشَاوِرْهُمْ في الْأَمْرِ } مع
انْفِتَاحِ بَابِ الْوَحْيِ فَغَيْرُهُ أَوْلَى وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّهُ
عنه أَنَّهُ قال ما رأيت أَحَدًا بَعْدَ رسول اللَّهِ أَكْثَرَ مُشَاوَرَةً
لِأَصْحَابِهِ منه
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه السلام كان يقول لِسَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ وَسَيِّدِنَا
عُمَرَ رضي اللَّهُ تَعَالَى عنهما قُولَا فَإِنِّي فِيمَا لم يُوحَ إلى
مِثْلُكُمَا وَلِأَنَّ الْمُشَاوَرَةَ في طَلَبِ الْحَقِّ من بَابِ الْمُجَاهَدَةِ
في اللَّهِ عز وجل فَيَكُونُ سَبَبًا لِلْوُصُولِ إلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ قال
اللَّهُ عز وجل { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا }
وَيَنْبَغِي أَنْ يُجْلِسَ معه من يُوثَقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ لِئَلَّا
يَضِنَّ بِمَا عِنْدَهُ من الْحَقِّ والثواب ( ( ( والصواب ) ) ) بَلْ يَهْدِيهِ
إلَى ذلك إذَا رُفِعَ إلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَاوِرَهُمْ بِحَضْرَةِ
الناس لِأَنَّ ذلك يُذْهِبُ بِمَهَابَةِ الْمَجْلِسِ وَالنَّاسُ يَتَّهِمُونَهُ
بِالْجَهْلِ وَلَكِنْ يُقِيمُ الناس عن الْمَجْلِسِ ثُمَّ يُشَاوِرُهُمْ أو
يَكْتُبُ في رُقْعَةٍ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمْ أو يُكَلِّمُهُمْ بِلُغَةٍ لَا
يَفْهَمُهَا الْخَصْمَانِ
هذا إذَا كان الْقَاضِي لَا يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِإِجْلَاسِهِمْ عِنْدَهُ وَلَا
يَعْجِزُ عن الْكَلَامِ بين أَيْدِيهِمْ فَإِنْ كان لَا يُجْلِسُهُمْ فَإِنْ
أُشْكِلَ عليه شَيْءٌ من أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ بَعَثَ إلَيْهِمْ وَسَأَلَهُمْ
ومنها ( ( ( ومنه ) ) ) أَنْ يَكُونَ له جِلْوَازٌ وهو الْمُسَمَّى بِصَاحِبِ
الْمَجْلِسِ في عُرْفِ دِيَارِنَا يَقُومُ على رَأْسِ الْقَاضِي لِتَهْذِيبِ
الْمَجْلِسِ وَبِيَدِهِ سَوْطٌ يُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ وَيُنْذِرُ بِهِ
الْمُؤْمِنَ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ كان يَمْسِكُ بيده سَوْطًا يُنْذِرُ بِهِ
الْمُؤْمِنَ وَيُؤَدِّبُ بِهِ الْمُنَافِقَ
وكان سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ يَمْسِكُ سَوْطًا وَسَيِّدُنَا عُمَرُ اتَّخَذَ
دِرَّةً وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ له أَعْوَانٌ يَسْتَحْضِرُونَ الْخُصُومَ
وَيَقُومُونَ بين يَدَيْهِ إجْلَالًا له لِيَكُونَ مَجْلِسًا مَهِيبًا وَيُذْعِنُ
الْمُتَمَرِّدُ لِلْحَقِّ
وَهَذَا في زَمَانِنَا فَأَمَّا في زَمَانِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ فما كان تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَمْثَالِ ذلك لِأَنَّهُمْ
كَانُوا يَنْظُرُونَ إلَى الْأُمَرَاءِ وَالْقُضَاةِ بِعَيْنِ التَّبْجِيلِ
وَالتَّعْظِيمِ وَيَخَافُونَهُمْ وَيَنْقَادُونَ لِلْحَقِّ بِدُونِ ذلك
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه كان يَقْضِي في
الْمَسْجِدِ فإذا فَرَغَ اسْتَلْقَى على قَفَاهُ وَتَوَسَّدَ بِالْحَصَى وما كان
يَنْقُصُ ذلك من حُرْمَتِهِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَبِسَ قَمِيصًا فَازْدَادَتْ أَكْمَامُهُ عن أَصَابِعِهِ
فَدَعَا بِالشَّفْرَةِ فَقَطَعَهُمَا وكان لَا يَكْفِهِمَا أَيَّامًا وَكَانَتْ
الْأَطْرَافُ مُتَعَلِّقَةً منها وَالنَّاسُ يَهَابُونَهُ غَايَةَ الْمَهَابَةِ
فَأَمَّا الْيَوْمُ فَقَدْ فَسَدَ الزَّمَانُ وَتَغَيَّرَ الناس فَهَانَ الْعِلْمُ
وَأَهْلُهُ فَوَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى هذه التَّكْلِيفَاتِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى
إحْيَاءِ الْحَقِّ وَإِنْصَافِ الْمَظْلُومِ من الظَّالِمِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ له تُرْجُمَانٌ لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَ
الْقَضَاءِ من لَا يَعْرِفُ الْقَاضِي لُغَتَهُ من الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عليه
وَالشُّهُودِ وَالْكَلَامُ في عَدَدِ التُّرْجُمَانِ وَصِفَاتِهِ على الِاتِّفَاقِ
وَالِاخْتِلَافِ كَالْكَلَامِ في عَدَدِ المزكي وَصِفَاتِهِ كما تَقَدَّمَ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مُحَافَظَةِ الدعاوي
وَالْبَيِّنَاتِ وَالْإِقْرَارَاتِ التي لَا يُمْكِنُهُ حِفْظُهَا فَلَا بُدَّ من
الْكِتَابَةِ وقد يَشُقُّ عليه أَنْ يَكْتُبَ بِنَفْسِهِ فَيَحْتَاجَ إلَى كَاتِبٍ
يَسْتَعِينُ بِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَفِيفًا صَالِحًا من أَهْلِ
الشَّهَادَةِ وَلَهُ مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ
أَمَّا الْعِفَّةُ وَالصَّلَاحُ فَلِأَنَّ هذا من بَابِ الْأَمَانَةِ
وَالْأَمَانَةُ لَا يُؤَدِّيهَا إلَّا الْعَفِيفُ الصَّالِحُ
وَأَمَّا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ فَلِأَنَّ الْقَاضِيَ قد يَحْتَاجُ إلَى
شَهَادَتِهِ
وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُ بِالْفِقْهِ فَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاخْتِصَارِ
وَالْحَذْفِ من كَلَامِ الْخَصْمَيْنِ وَالنَّقْلِ من لُغَةٍ وَلَا يَقْدِرُ على
ذلك إلَّا من له مَعْرِفَةٌ بِالْفِقْهِ فَإِنْ لم يَكُنْ فَقِيهًا كَتَبَ كَلَامَ
الْخَصْمَيْنِ كما سَمِعَهُ وَلَا يَتَصَرَّفُ فيه بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ
لِئَلَّا يُوجِبَ حَقًّا لم يَجِبْ وَلَا يُسْقِطَ حَقًّا وَاجِبًا
لِأَنَّ تَصَرُّفَ غَيْرِ الْفَقِيهِ بِتَفْسِيرِ الْكَلَامِ لَا يَخْلُو عن ذلك
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقْعِدَ الْكَاتِبَ حَيْثُ يَرَى ما يَكْتُبُ وما يَصْنَعُ فإن
ذلك أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ ثُمَّ في عُرْفِ بِلَادِنَا يُقَدِّمُ كِتَابَةَ
الدَّعْوَى على الدَّعْوَى فَيَكْتُبُ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ
التَّارِيخِ بَيَاضًا لِجَوَازِ أَنْ تَتَخَلَّفَ الدَّعْوَى عن وَقْتِ
الْكِتَابَةِ وَيَتْرُكُ مَوْضِعَ الْجَوَابِ أَيْضًا بَيَاضًا لِأَنَّهُ لَا
يَدْرِي أَنَّ الْمُدَّعَى عليه يُقِرُّ أو يُنْكِرُ وَيَكْتُبُ أَسْمَاءَ
الشُّهُودِ إنْ كان لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ وَيَتْرُكُ بين كل شَاهِدَيْنِ بَيَاضًا
لِيَكْتُبَ الْقَاضِي التَّارِيخَ وَجَوَابَ الْخَصْمِ وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ
بِنَفْسِهِ ثُمَّ يَطْوِي الْكَاتِبُ الْكِتَابَ وَيَخْتِمُهُ ثُمَّ يَكْتُبُ على
ظَهْرِهِ خُصُومَةُ فُلَانِ ابن ( ( ( بن ) ) ) فُلَانٍ مع فُلَانِ ابن ( ( ( بن )
) ) فُلَانٍ في شَهْرِ كَذَا في سَنَةِ كَذَا وَيَجْعَلُهُ في قِمْطَرَةٍ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ لِخُصُومَاتِ كل شَهْرٍ قِمْطَرًا على حِدَةٍ لِيَكُونَ
أَبْصَرَ بِذَلِكَ ثُمَّ يَكْتُبُ الْقَاضِي في ذلك الشَّهْرِ أَسْمَاءَ
الشُّهُودِ بِنَفْسِهِ على بِطَاقَةٍ أو يَسْتَكْتِبُ الْكِتَابَ بين يَدَيْهِ
فَيَبْعَثُهَا إلَى الْمُعَدِّلِ سِرًّا وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمَسْتُورَةِ في
عُرْفِ دِيَارِنَا وَالْأَفْضَلُ أَنْ
____________________
(7/12)
يَبْعَثَ
على يَدَيْ عَدْلَيْنِ وَإِنْ بَعَثَ على يَدَيْ عَدْلٍ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
الذي ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يُقَدِّمَ الْخُصُومَ على مَرَاتِبِهِمْ في الْحُضُورِ الْأَوَّلَ
فَالْأَوَّلَ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُبَاحُ لِمَنْ سَبَقَ
إلَيْهِ وَإِنْ اشْتَبَهَ عليه حَالُهُمْ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ فَقَدَّمَ من
خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ إلَّا الْغُرَبَاءَ إذَا خَاصَمُوا بَعْضَ أَهْلِ الْمِصْرِ
إلَيْهِ أو خَاصَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أو خَاصَمَهُمْ بَعْضُ أَهْلِ الْمِصْرِ
فإنه يُقَدِّمُهُمْ في الْخُصُومَةِ على أَهْلِ الْمِصْرِ لِمَا رُوِيَ عن
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال قَدِّمْ الْغَرِيبَ فَإِنَّك إذَا
لم تَرْفَعْ بِهِ رَأْسًا ذَهَبَ وَضَاعَ حَقُّهُ فَتَكُونُ أنت الذي ضَيَّعْتَهُ
نَدَبَ رضي اللَّهُ عنه إلَى تَقْدِيمِ الْغَرِيبِ وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى
لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الِانْتِظَارُ فَكَانَ تَأْخِيرُهُ في الْخُصُومَةِ
تَضْيِيعًا لِحَقِّهِ إلَّا إذَا كَانُوا كَثِيرًا بِحَيْثُ يَشْتَغِلُ الْقَاضِي
عن أَهْلِ الْمِصْرِ فَيَخْلِطُهُمْ بِأَهْلِ الْمِصْرِ لِأَنَّ تَقْدِيمَهُمْ
يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ
وَكَذَا تَقْدِيمُ صَاحِبِ الشُّهُودِ على غَيْرِهِ لِأَنَّ إكْرَامَ الشُّهُودِ
وَاجِبٌ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فإن اللَّهَ يحيي ( ( (
يحي ) ) ) بِهِمْ الْحُقُوقَ وَلَيْسَ من الْإِكْرَامِ حَبْسُهُمْ على بَابِ
الْقَاضِي
وَهَذَا إذَا كان وَاحِدًا فَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ
وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ الرِّجَالَ على حِدَةٍ وَالنِّسَاءَ على حِدَةٍ لِمَا
في الْخَلْطِ من خَوْفِ الْفِتْنَةِ
وَلَوْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ يَوْمًا على حِدَةٍ لِكَثْرَةِ الْخُصُومِ
فَعَلَ لِأَنَّ إفْرَادَهُنَّ بِيَوْمٍ أَسْتَرُ لَهُنَّ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يُتْعِبَ نَفْسَهُ في طُولِ الْجُلُوسِ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ
إلَى النَّظَرِ في الْحُجَجِ وَبِطُولِ الْجُلُوسِ يَخْتَلُّ النَّظَرُ فيها فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذلك وَيَكْفِي الْجُلُوسُ طَرَفَيْ النَّهَارِ وَقَدْرَ
ما لَا يَفْتُرُ عن النَّظَرِ في الْحُجَجِ وإذا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ
هل يَسْأَلُ الْمُدَّعِي عن دَعْوَاهُ ذَكَرَ في أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّهُ
يَسْأَلُ وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ
وَكَذَا إذَا ادَّعَى دَعْوَى صَحِيحَةً هل يَسْأَلُ الْمُدَّعَى عليه عن دَعْوَى
خَصْمِهِ ذَكَرَ في آدَابِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَسْأَلُ وَذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ
أَنَّهُ لَا يَسْأَلُ حتى يَقُولَ له الْمُدَّعِي سَلْهُ عن جَوَابِ دَعْوَايَ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الزِّيَادَاتِ أَنَّ السُّؤَالَ عن الدَّعْوَى إنْشَاءُ
الْخُصُومَةِ وَالْقَاضِي لَا ينشىء ( ( ( ينشئ ) ) ) الْخُصُومَةَ
وَجْهُ ما ذَكَرَ في الْكِتَابِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ
يَلْحَقُهُ مَهَابَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَيَعْجِزُ عن الْبَيَانِ دُونَ سُؤَالِ
الْقَاضِي فَيَسْأَلُ عن دَعْوَاهُ
وَمِنْهَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَادَّعَى الْمُدَّعَى
عليه الدَّفْعَ وقال لين ( ( ( لي ) ) ) بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ زَمَانًا
لِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه في كِتَابِ السِّيَاسَةِ اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي
أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ وَأَرَادَ بِهِ مُدَّعِي الدَّفْعَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قال وَإِنْ عَجَزَ اسْتَحْلَلْتَ عليه الْقَضَاءَ وَلِأَنَّهُ
لو لم يُمْهِلْهُ وَقَضَى بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ
قَضَائِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَأْتِيَ بِالدَّفْعِ مُؤَخَّرًا فَهُوَ من صِيَانَةِ
الْقَضَاءِ عن النَّقْضِ
ثُمَّ ذلك مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْقَاضِي إنْ شَاءَ أَخَّرَ إلَى آخِرِ
الْمَجْلِسِ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْغَدِ وَإِنْ شَاءَ إلَى بَعْدِ الْغَدِ وَلَا
يَزِيدُ عليه لِأَنَّ الْحَقَّ قد تَوَجَّهَ عليه فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ
أَكْثَرَ من ذلك وَإِنْ أَدَّى بِبَيِّنَةٍ غَائِبَةٍ لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ بَلْ
يَقْضِي لِلْمُدَّعِي
وَمِنْهَا أَنْ يَجْلِسَ لِلْقَضَاءِ في أَشْهَرِ الْمَجَالِسِ لِيَكُونَ أَرْفَقَ
بِالنَّاسِ وَهَلْ يَقْضِي في الْمَسْجِدِ قال أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
يَقْضِي وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بَلْ يَقْضِي في
بَيْتِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَأْتِيهِ الْمُشْرِكُ وَالْحَائِضُ
وَالنُّفَسَاءُ وَالْجُنُبُ وَيَجْرِي بين الْخَصْمَيْنِ كَلَامُ اللَّغْوِ
وَالرَّفَثُ وَالْكَذِبُ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ وَتَنْزِيهُ الْمَسْجِدِ عن
هذا كُلِّهِ وَاجِبٌ
وَلَنَا الِاقْتِدَاءُ بِرَسُولِ اللَّهِ وَالصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ
تعالى عَنْهُمْ فإن رَسُولَ اللَّهِ كان يَقْضِي في الْمَسْجِدِ وَكَذَا
الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَالصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
كَانُوا يَجْلِسُونَ في الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِمْ وَاجِبٌ
وَلَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ إلَى الصُّلْحِ إنْ طَمَعَ منهم
ذلك قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَكَانَ الرَّدُّ
إلَى الصُّلْحِ رَدًّا إلَى الْخَيْرِ
وقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه رُدُّوا الْخُصُومَ حتى يَصْطَلِحُوا فإن
فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ
فَنَدَبَ رضي اللَّهُ عنه الْقُضَاةَ إلَى رَدِّ الْخُصُومِ إلَى الصُّلْحِ
وَنَبَّهَ على الْمَعْنَى وهو حُصُولُ الْمَقْصُودِ من غَيْرِ ضَغِينَةٍ وَلَا
يَزِيدُ على مَرَّةٍ أو مَرَّتَيْنِ فَإِنْ اصْطَلَحَا وَإِلَّا قَضَى بَيْنَهُمَا
بِمَا يُوجِبُ الشَّرْعُ وَإِنْ لم يَطْمَعْ منهم الصُّلْحَ لَا يَرُدُّهُمْ
إلَيْهِ بَلْ يَنْفُذُ الْقَضِيَّةَ فِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في الرَّدِّ
وَهَلْ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ الرِّزْقَ فَإِنْ كان فَقِيرًا له أَنْ يَأْخُذَ
لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بُدَّ له من الْكِفَايَةِ وَلَا كِفَايَةَ
له فَكَانَتْ كِفَايَتُهُ في بَيْتِ الْمَالِ إلَّا أَنْ يَكُونَ له ذلك أُجْرَةَ
عَمَلِهِ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُوَسِّعَ عليه وَعَلَى عِيَالِهِ كيلا
يَطْمَعَ في أَمْوَالِ الناس
وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمَّا بَعَثَ
____________________
(7/13)
عَتَّابَ
بن أُسَيْدٍ رضي اللَّهُ عنه إلَى مَكَّةَ وَوَلَّاهُ أَمْرَهَا رَزَقَهُ
أَرْبَعَمِائَةَ دِرْهَمٍ في كل عَامٍ
وَرُوِيَ أَنَّ الصَّحَابَةَ الْكِرَامَ رضي اللَّهُ تعالى عَنْهُمْ أَجَرُوا
لِسَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي اللَّهُ عنه كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا
وَثُلُثًا أو ثُلُثَيْنِ من بَيْتِ الْمَالِ
وَكَذَا رُوِيَ أَنَّهُ كان لِسَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه مِثْلُ ذلك من
بَيْتِ الْمَالِ وكان لِسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةٌ
من ثَرِيدٍ وَرَزَقَ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه شُرَيْحًا
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا فَرَضَ له خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ في كل
شَهْرٍ وَإِنْ كان غَنِيًّا اخْتَلَفُوا فيه قال بَعْضُهُمْ لَا يَحِلُّ له أَنْ
يَأْخُذَ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِحُكْمِ الْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ له إلَى ذلك
وقال بَعْضُهُمْ يَحِلُّ له الْأَخْذُ وَالْأَفْضَلُ له أَنْ يَأْخُذَ
أَمَّا الْحِلُّ فَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَتْ
كِفَايَتُهُ عليهم لَا من طَرِيقِ الْأَجْرِ وَأَمَّا الْأَفْضَلِيَّةُ
فَلِأَنَّهُ وَإِنْ لم يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذلك فَرُبَّمَا يَجِيءُ بَعْدَهُ
قَاضٍ مُحْتَاجٌ وقد صَارَ ذلك سُنَّةً وَرَسْمًا فَتَمْتَنِعُ السَّلَاطِينُ عن
إبْطَالِ رِزْقِ الْقُضَاةِ إلَيْهِمْ خُصُوصًا سَلَاطِينُ زَمَانِنَا فَكَانَ
الِامْتِنَاعُ من الْأَخْذِ شُحًّا بِحَقِّ الْغَيْرِ فَكَانَ الْأَفْضَلُ هو
الْأَخْذُ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا إذَا أَذِنَ له الْإِمَامُ
بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِالتَّفْوِيضِ فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ ما فُوِّضَ
إلَيْهِ كَالْوَكِيلِ
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ تَتَوَقَّفُ قَضَايَا خَلِيفَتِهِ على إجَازَتِهِ بِمَنْزِلَةِ
الْوَكِيلِ الْخَاصِّ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ فَتَصَرَّفَ
وَلَوْ كان الْإِمَامُ أَذِنَ له بِذَلِكَ كان له ذلك كَالْوَكِيلِ الْعَامِّ وفي
آدَابِ الْقَضَاءِ وما نَدَبَ الْقَاضِي إلَى فِعْلِهِ كَثْرَةً لها كِتَابٌ
مُفْرَدٌ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَنْفُذُ من الْقَضَايَا وما يُنْقَضُ منها إذَا
رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ قَضَاءُ الْقَاضِي
الْأَوَّلِ لَا يَخْلُو أما إن وَقَعَ في فَصْلٍ فيه نَصٌّ مُفَسَّرٌ من
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَالسُّنَّةِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْإِجْمَاعِ وأما إن
وَقَعَ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه من ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ وَالْقِيَاسِ فَإِنْ
وَقَعَ في فَصْلٍ فيه نَصٌّ مُفَسَّرٌ من الْكِتَابِ أو الْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ
أو الْإِجْمَاعِ فَإِنْ وَافَقَ قَضَاؤُهُ ذلك نَفَذَ وَلَا يَحِلُّ له النَّقْضُ
لِأَنَّهُ وَقَعَ صَحِيحًا قَطْعًا وَإِنْ خَالَفَ شيئا من ذلك يَرُدُّهُ
لِأَنَّهُ وَقَعَ بَاطِلًا قَطْعًا وَإِنْ وَقَعَ في فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فيه فَلَا
يَخْلُو إمَّا إن كان مُجْمَعًا على كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فيه وَإِمَّا إن كان
مُخْتَلَفًا في كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فيه فَإِنْ كان ذلك مُجْمَعًا على كَوْنِهِ
مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَإِمَّا إن كان الْمُجْتَهَدُ فيه هو الْمَقْضِيُّ بِهِ
وَإِمَّا إن كان نَفْسَ الْقَضَاءِ فَإِنْ كان الْمُجْتَهِدُ فيه هو الْمَقْضِيُّ
بِهِ فَرُفِعَ قَضَاؤُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ لم يَرُدَّهُ الثَّانِي بَلْ
يُنَفِّذُهُ لِكَوْنِهِ قَضَاءً مُجْمَعًا على صِحَّته لِمَا عُلِمَ أَنَّ الناس
على اخْتِلَافِهِمْ في الْمَسْأَلَةِ اتَّفَقُوا على أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ
يَقْضِيَ بِأَيِّ الْأَقْوَالِ الذي مَالَ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ فَكَانَ قضاء ( (
( قضاؤه ) ) ) مُجْمَعًا على صِحَّته فَلَوْ نَقَضَهُ إنَّمَا يَنْقُضُهُ
بِقَوْلِهِ وفي صِحَّتِهِ اخْتِلَافٌ بين الناس فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ ما صَحَّ
بِالِاتِّفَاقِ بِقَوْلٍ مُخْتَلَفٍ في صِحَّتِهِ وَلِأَنَّهُ ليس مع الثَّانِي
دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ بَلْ اجْتِهَادِيٌّ وَصِحَّةُ قَضَاءِ الْقَاضِي الْأَوَّلِ
ثَبَتَ بِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ وهو إجْمَاعُهُمْ على جَوَازِ الْقَضَاءِ بِأَيِّ
وَجْهٍ اتَّضَحَ له فَلَا يَجُوزُ نَقْضُ ما مَضَى بِدَلِيلٍ قَاطِعٍ بِمَا فيه
شُبْهَةٌ وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تُوجِبُ الْقَوْلَ بِلُزُومِ الْقَضَاءِ
الْمَبْنِيِّ على الِاجْتِهَادِ وَأَنْ لَا يَجُوزَ نَقْضُهُ لِأَنَّهُ لو جَازَ
نَقْضُهُ يَرْفَعُهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ الْأَوَّلِ
فَيَنْقُضُهُ ثُمَّ يَرْفَعُهُ الْمُدَّعِي إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى خِلَافَ رَأْيِ
الْقَاضِي الثَّانِي فَيَنْقُضُ نَقْضَهُ وَيَقْضِي كما قَضَى الْأَوَّلُ
فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا تَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ وَالْمُنَازَعَةُ أَبَدًا
وَالْمُنَازَعَةُ سَبَبُ الْفَسَادِ وما أَدَّى إلَى الْفَسَادِ فَسَادٌ فَإِنْ
كان رَدَّهُ الْقَاضِي الثَّانِي فَرَفَعَهُ إلَى قَاضٍ ثَالِثٍ نَفَذَ قَضَاءُ
الْقَاضِي الْأَوَّلِ وَأُبْطِلَ قَضَاءُ الْقَاضِي الثَّانِي لِأَنَّ قَضَاءَ
الْأَوَّلِ صَحِيحٌ وَقَضَاءَ الثَّانِي بِالرَّدِّ بَاطِلٌ
هذا إذَا كان الْقَاضِي الْأَوَّلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ فَإِنْ كان قَاضِي
أَهْلِ الْبَغْيِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِأَنْ
ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ على الْمِصْرِ الذي كان في يَدِ الْخَوَارِجِ فَرُفِعَتْ
إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ قَضَايَا قَاضِيهِمْ لم يَنْفُذْ شيئا منها بَلْ
يَنْقُضُهَا كُلَّهَا وَإِنْ كَانُوا من أَهْلِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ في
الْجُمْلَةِ كَبْتًا وَغَيْظًا لهم لِيَنْزَجِرُوا عن الْبَغْيِ وَإِنْ كان نَفْسُ
الْقَضَاءِ مُجْتَهَدًا فيه إنه يَجُوزُ أَمْ لَا كما لو قَضَى بِالْحَجْرِ على
الْحُرِّ أو قَضَى على الْغَائِبِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ
يُنْقَضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ إذَا مَالَ اجْتِهَادُهُ إلَى خِلَافِ اجتهاد ( ( (
اجتهاده ) ) ) الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَضَاءَهُ هُنَا لم يَجُزْ بِقَوْلِ الْكُلِّ
بَلْ بِقَوْلِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فلم يَكُنْ جَوَازُهُ مُتَّفَقًا عليه
فَكَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّقْضِ بمثله بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
جَوَازَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ ثَبَتَ بِقَوْلِ الْكُلِّ فَكَانَ مُتَّفَقًا عليه
فَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بِقَوْلِ الْبَعْضِ وَلِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ إذَا كانت
مُخْتَلَفًا فيها فَالْقَاضِي بِالْقَضَاءِ يَقْطَعُ أخد ( ( ( أحد ) ) )
الِاخْتِلَافَيْنِ وَيَجْعَلُهُ مُتَّفَقًا عليه في الْحُكْمِ بِالْقَضَاءِ
الْمُتَّفَقِ على جَوَازِهِ وإذا كان نَفْسُ الْقَضَاءِ مُخْتَلَفًا فيه يَرْفَعُ
الْخِلَافَ بِالْخِلَافِ
هذا إذَا كان الْقَضَاءُ في مَحِلٍّ أَجْمَعُوا على كَوْنِهِ
____________________
(7/14)
مَحِلَّ
الِاجْتِهَادِ فَأَمَّا إذَا كان في مَحِلٍّ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ مَحِلُّ
الِاجْتِهَادِ أَمْ لَا كَبَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ هل يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي
أَمْ لَا فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْفُذُ
لِأَنَّهُ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ عِنْدَهُمَا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ في
جَوَازِ بيعها ( ( ( بيعهما ) ) )
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَنْفُذُ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ بَعْدَ ذلك من
الصَّحَابَةِ وَغَيْرِهِمْ على أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَخَرَجَ عن مَحِلِّ
الِاجْتِهَادِ وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى أَنَّ الْإِجْمَاعَ الْمُتَأَخِّرَ هل
يَرْفَعُ الْخِلَافَ الْمُتَقَدِّمَ عِنْدَهُمَا لَا يُرْفَعُ وَعِنْدَهُ يُرْفَعُ
فَكَانَ هذا الْفَصْلُ مُخْتَلَفًا في كَوْنِهِ مُجْتَهَدًا فيه فَيُنْظَرُ إنْ
كان من رَأْيِ الْقَاضِي الثَّانِي أَنَّهُ يَجْتَهِدُ فيه يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ
وَلَا يَرُدُّهُ لِمَا ذَكَرْنَا في سَائِرِ الْمُجْتَهَدَاتِ الْمُتَّفَقِ عليها
وَإِنْ كان من رَأْيِهِ أَنَّهُ خَرَجَ عن حَدِّ الِاجْتِهَادِ وَصَارَ مُتَّفَقًا
عليه لَا يُنَفِّذُ بَلْ يَرُدُّهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ
وَقَعَ مُخَالِفًا لِلْإِجْمَاعِ فَكَانَ بَاطِلًا
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَّلَ في الْمُجْتَهَدَاتِ تَفْصِيلًا آخَرَ فقال إنْ
كان الِاجْتِهَادُ شَنِيعًا مُسْتَنْكَرًا جَازَ لِلْقَاضِي الثَّانِي أَنْ
يَنْقُضَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَهَذَا فيه نَظَرٌ لِأَنَّهُ إذَا صَحَّ كَوْنُهُ
مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَصْلِ بين مُجْتَهِدٍ وَمُجْتَهِدٍ
لِأَنَّ ما ذَكَرْنَا من الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا
فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِلثَّانِي نَقْضُ قَضَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
قَضَاءَهُ صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُحِلُّهُ الْقَضَاءُ وما لَا يُحِلُّهُ فَالْأَصْلُ
أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِشَاهِدَيْ الزُّورِ فِيمَا له وِلَايَةُ إنْشَائِهِ في
الْجُمْلَةِ يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَضَاؤُهُ
بِهِمَا فِيمَا ليس له وِلَايَةُ إنْشَائِهِ أَصْلًا لَا يُفِيدُ الْحِلَّ
بِالْإِجْمَاعِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ
اللَّهُ لَا يُفِيدُ الْحِلَّ فِيهِمَا جميعا فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه
أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِشَاهِدَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُمَا شَاهِدَا
زُورٍ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن قَضَى بِعَقْدٍ أو بِفَسْخِ عَقْدٍ وَإِمَّا إن
قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ فَإِنْ قَضَى بِعَقْدٍ أو بِفَسْخِ عَقْدٍ فَقَضَاؤُهُ
يُفِيدُ الْحِلَّ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يُفِيدُ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ إن قَضَاءَ الْقَاضِي في الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ
بِشُهُودِ زُورٍ هل يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهُوَ على الْخِلَافِ الذي
ذَكَرْنَا وَإِنْ قَضَى بِمِلْكٍ مُرْسَلٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا
بِالْإِجْمَاعِ
وَبَيَانُ هذه الجمل ( ( ( الجملة ) ) ) في مَسَائِلَ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ على
امرأة ( ( ( امرأته ) ) ) أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَأَنْكَرَتْ فَأَقَامَ على ذلك
شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ
أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا حَلَّ لِلرَّجُلِ وَطْؤُهَا وَحَلَّ لها
التَّمْكِينُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ
وَكَذَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ على رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا
وهو مُنْكِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بالرفقة ( ( ( بالفرقة ) ) ) بَيْنَهُمَا ثُمَّ
تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ حَلَّ له وَطْؤُهَا وَإِنْ كان يَعْلَمُ أنه (
( ( أنهما ) ) ) شَهِدَا بِزُورٍ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمْ لَا يَحِلُّ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ دَعْوَى الْبَيْعِ وَالْإِعْتَاقِ
وفي الْهِبَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَانِ وَأَجْمَعُوا على
أَنَّهُ لو ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَهِيَ تُنْكِرُ وَتَقُولُ أنا أُخْتُهُ من
الرَّضَاعِ أو أنا في عِدَّةٍ من زَوْجٍ آخَرَ فَشَهِدَ بِالنِّكَاحِ شَاهِدَانِ وَقَضَى
الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا وَالْمَرْأَةُ تَعْلَمُ أنها كما أَخْبَرَتْ لَا
يَحِلُّ لها التَّمْكِينُ
وَأَجْمَعُوا أَيْضًا على أَنَّهُ لو ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ هذه جَارِيَتُهُ وَهِيَ
تُنْكِرُ فَأَقَامَ على ذلك شَاهِدَيْنِ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْجَارِيَةِ أَنَّهُ
لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا إذَا كان يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ في دَعْوَاهُ وَلَا
يَحِلُّ لِأَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِيَهَا
احْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ قال
إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ من
بَعْضٍ وَإِنَّمَا أنا بَشَرٌ فَمَنْ قَضَيْتُ له من مَالِ أَخِيهِ شيئا بِغَيْرِ
حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ له قِطْعَةً من النَّارِ
أَخْبَرَ الشَّارِعُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْقَضَاءَ بِمَا ليس
لِلْمُدَّعِي قَضَاءٌ له بِقِطْعَةٍ من النَّارِ
وَلَوْ نَفَذَ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا لَمَا كان الْقَضَاءُ بِهِ قَضَاءً بِقِطْعَةٍ
من النَّارِ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَنْفُذُ بِالْحُجَّةِ وَهِيَ
الشَّهَادَةُ الصَّادِقَةُ وَهَذِهِ كَاذِبَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَنْفُذُ حَقِيقَةً
وَلِهَذَا لم يَنْفُذْ بِالْمِلْكِ الْمُرْسَلِ
وَكَذَا إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِالْعِدَّةِ وَالرِّدَّةِ أو
الرَّضَاعِ أو الْقَرَابَةِ أو الْمُصَاهَرَةِ
كَذَا هذا
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِمَا يَحْتَمِلُ
الْإِنْشَاءَ إنْشَاءٌ له فَيَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا كما لو أَنْشَأَ
صَرِيحًا
وَدَلَالَةُ الْوَصْفِ أَنَّ الْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَلَا
يَقَعُ قَضَاؤُهُ بِالْحَقِّ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِنْشَاءَ إلَّا بِالْحَمْلِ
على الْإِنْشَاءِ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ قد تَكُونُ صَادِقَةً وقد تَكُونُ
كَاذِبَةً فَيُجْعَلُ إنْشَاءً وَالْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ مِمَّا تَحْتَمِلُ
الْإِنْشَاءَ من الْقَاضِي فإن لِلْقَاضِي وِلَايَةَ إنْشَائِهَا في الْجُمْلَةِ
بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُرْسَلِ لِأَنَّ نَفْسَ الْمِلْكِ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ
الْإِنْشَاءَ
وَلِهَذَا لو أَنْشَأَ الْقَاضِي أو غَيْرُهُ صَرِيحًا لَا يَصِحُّ وَبِخِلَافِ ما
إذَا كانت الْمَرْأَةُ مُحَرَّمَةً بِأَسْبَابٍ لِأَنَّ هُنَاكَ ليس لِلْقَاضِي
وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَنْشَأَ صَرِيحًا لَا يَنْفُذُ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ
____________________
(7/15)
قِيلَ
إنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال ذلك في أَخَوَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ في
مَوَارِيثَ دُرِسَتْ بَيْنَهُمَا فقال إلَى آخِرِهِ ولم يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ
إلَّا دَعْوَاهُمَا
كَذَا ذَكَرَهُ أبو دَاوُد عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي اللَّهُ عنهما ( ( ( عنها ) ) )
وَالْمِيرَاثُ وَمُطْلَقُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ في الدَّعْوَى وَبِهِ نَقُولُ مع
أَنَّهُ ليس فيه ذِكْرُ السَّبَبِ وَالْكَلَامُ في الْقَضَاءِ بِسَبَبٍ على أَنَّا
نَقُولُ بِمُوجِبِهِ لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ قَضَاءٍ له من
مَالٍ آخَرَ بِغَيْرِ حَقٍّ بَلْ هو قضاء ( ( ( قضا ) ) ) له من مَالِ نَفْسِهِ
وَبِحَقٍّ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا فَقَدْ
قُلْنَا بِمُوجِبِ الحديث وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ خَطَأِ الْقَاضِي في الْقَضَاءِ فَنَقُولُ
الْأَصْلُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَخْطَأَ في قَضَائِهِ بِأَنْ ظَهَرَ أَنَّ
الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا أو مَحْدُودِينَ في قَذْفٍ أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ
بِالضَّمَانِ لِأَنَّهُ بِالْقَضَاءِ لم يَعْمَلْ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ
فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ فَلَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ
ثُمَّ يُنْظَرُ إمَّا إن كان الْمَقْضِيُّ بِهِ من حُقُوقِ الْعِبَادِ وَإِمَّا إن
كان من حُقُوقِ اللَّهِ عز وجل خَالِصًا كَالْقَطْعِ في السَّرِقَةِ وَالرَّجْمِ
في زِنَا الْمُحْصَنِ فَإِنْ كان في حُقُوقِ الْعِبَادِ فَإِنْ كان مَالًا وهو
قَائِمٌ رَدَّهُ على الْمَقْضِيِّ عليه لِأَنَّ قَضَاءَهُ وَقَعَ بَاطِلًا وَرَدُّ
عَيْنِ الْمَقْضِيِّ بِهِ مُمْكِنٌ فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ لِقَوْلِ النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ وَلِأَنَّهُ
عَيْنُ مَالِ الْمُدَّعَى عليه وَمَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ
وَإِنْ كان هَالِكًا فَالضَّمَانُ على الْمَقْضِيِّ له لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَمِلَ
له فَكَانَ خَطَؤُهُ عليه لِيَكُونَ الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ وَلِأَنَّهُ إذَا
عَمِلَ له فَكَانَ هو الذي فَعَلَ بِنَفْسِهِ
وَإِنْ كان حَقًّا ليس بِمَالٍ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بَطَلَ لِأَنَّهُ
تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ كان بَاطِلًا وإنه أَمْرٌ شَرْعِيٌّ يَحْتَمِلُ
الرَّدَّ فَيُرَدُّ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَالْمَالِ الْهَالِكِ لِأَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ الرَّدَّ بِنَفْسِهِ فَيُرَدُّ بِالضَّمَانِ
هذا إذَا كان الْمَقْضِيُّ بِهِ من حُقُوقِ الْعِبَادِ وَأَمَّا إذَا كان من حَقِّ
اللَّهِ عز وجل خَالِصًا فَضَمَانُهُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَمِلَ فيها
لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ لِعَوْدِ مَنْفَعَتِهَا إلَيْهِمْ وهو الزَّجْرُ
فَكَانَ خَطَؤُهُ عليهم لِمَا قُلْنَا فيؤدي من بَيْتِ مَالِهِمْ وَلَا يُضَمَّنُ
الْقَاضِي لِمَا قُلْنَا وَلَا الْجَلَّادُ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَمِلَ بِأَمْرِ
الْقَاضِي
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عن الْقَضَاءِ فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ كُلُّ ما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ
يَخْرُجُ بِهِ الْقَاضِي عن الْقَضَاءِ
وما يَخْرُجُ بِهِ الْوَكِيلُ عن الْوَكَالَةِ أَشْيَاءَ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ لَا يَخْتَلِفَانِ إلَّا في شَيْءٍ وَاحِدٍ وهو أَنَّ الْمُوَكِّلَ
إذَا مَاتَ أو خُلِعَ يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ
وَالْخَلِيفَةُ إذَا مَاتَ أو خُلِعَ لَا تَنْعَزِلُ قُضَاتُهُ وَوُلَاتُهُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْمُوَكِّلِ وفي
خَالِصِ حَقِّهِ أَيْضًا
وقد بَطَلَتْ أَهْلِيَّةُ الْوِلَايَةِ فَيَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ
وَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ بِوِلَايَةِ الْخَلِيفَةِ وفي حَقِّهِ بَلْ بِوِلَايَةِ
الْمُسْلِمِينَ وفي حُقُوقِهِمْ
وَإِنَّمَا الْخَلِيفَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ عَنْهُمْ
لِهَذَا لم تَلْحَقْهُ الْعُهْدَةُ كَالرَّسُولِ في سَائِرِ الْعُقُودِ
وَالْوَكِيلِ في النِّكَاحِ
وإذا كان رَسُولًا كان فِعْلُهُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ
وَوِلَايَتِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ الْخَلِيفَةِ بَاقِيَةٌ فَيَبْقَى الْقَاضِي على
وِلَايَتِهِ
وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ فإن الْخَلِيفَةَ إذَا عَزَلَ الْقَاضِي أو الْوَالِي
يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ
لِأَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ بِعَزْلِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا حَقِيقَةً بَلْ بِعَزْلِ
الْعَامَّةِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ تَوْلِيَتَهُ بِتَوْلِيَةِ الْعَامَّةِ
وَالْعَامَّةُ وَلَّوْهُ الإستبدال دَلَالَةً لِتَعَلُّقِ مَصْلَحَتِهِمْ بِذَلِكَ
فَكَانَتْ وِلَايَتُهُ منهم مَعْنًى في الْعَزْلِ أَيْضًا
فَهُوَ الْفَرْقُ بين الْعَزْلِ وَالْمَوْتِ
وَلَوْ اسْتَخْلَفَ الْقَاضِي بِإِذْنِ الْإِمَامِ ثُمَّ مَاتَ الْقَاضِي لَا
يَنْعَزِلُ خَلِيفَتُهُ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ في الْحَقِيقَةِ لَا نَائِبُ
الْقَاضِي
وَلَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ أَيْضًا كما لَا يَنْعَزِلُ الْقَاضِي
لِمَا قُلْنَا
وَلَا يَمْلِكُ الْقَاضِي عَزْلَ خَلِيفَتِهِ لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ فَلَا
يَنْعَزِلُ بِعَزْلِهِ كَالْوَكِيلِ إنه لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي
لِأَنَّ الثَّانِيَ وَكِيلُ الْمُوَكِّلِ في الْحَقِيقَةِ لَا وَكِيلَهُ كَذَا
هَهُنَا
إلَّا إذَا أَذِنَ له الْخَلِيفَةُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ من شَاءَ فَيَمْلِكُ
عَزْلَهُ وَيَكُونُ ذلك أَيْضًا عَزْلًا من الْخَلِيفَةِ لَا من الْقَاضِي لِأَنَّ
الْقَاضِيَ كَالْوَكِيلِ إذَا قال له الْمُوَكِّلُ اعْمَلْ بِرَأْيِكَ أَنَّهُ
يَمْلِكُ التَّوْكِيلَ وَالْعَزْلَ
وإذا عَزَلَ كان الْعَزْلُ في الْحَقِيقَةِ من الْمُوَكِّلِ كَذَا هذا وَعِلْمُ
الْمَعْزُولِ بِالْعَزْلِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَزْلِ كما ذَكَرَ في الْوَكَالَةِ
وَهَلْ يَنْعَزِلُ بِأَخْذِ الرِّشْوَةِ في الْحُكْمِ عِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ
لَكِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْعَزْلَ فَيَعْزِلُهُ الْإِمَامُ وَيُعَزِّرُهُ
كَذَا ذَكَرَ في كِتَابِ الْحُدُودِ
وقال مَشَايِخُ الْعِرَاقِ من أَصْحَابِنَا إنَّهُ يَنْعَزِلُ وَقَالُوا صَحَّتْ
الرِّوَايَةُ عن أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَنْعَزِلُ
وَاسْتَدَلُّوا بِمَا ذَكَرَ في السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يَخْرُجُ من
الْقَضَاءِ لَكِنْ رِوَايَةُ مَشَايِخِنَا أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ من الْقَضَاءِ
وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِأَنَّ هذه الرِّوَايَةَ مُشْتَبِهَةٌ وَرِوَايَةُ
كِتَابِ الْحُدُودِ مُحْكَمَةٌ لِأَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّ الْإِمَامَ يَعْزِلُهُ
وَيُعَزِّرُهُ فَكَانَ فِيمَا قُلْنَا حَمْلُ الْمُحْتَمَلِ على
____________________
(7/16)
الْمُحْكَمِ
فَكَانَ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ جميعا فَكَانَ أَوْلَى
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ يَنْعَزِلُ وهو قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ
وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا فَسَقَ هل يَنْعَزِلُ أو لَا
فَعِنْدَنَا لَا يَنْعَزِلُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَنْعَزِلُ
وَبِهِ قالت الْمُعْتَزِلَةُ لَكِنْ بِنَاءً على أَصْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
فَأَصْلُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْفِسْقَ يُخْرِجُ صَاحِبَهُ عن الْإِيمَانِ
فَيَبْطُلُ أَهْلِيَّةُ الْقَضَاءِ
وَأَصْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ
الْقَضَاءِ كما هِيَ شَرْطُ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ
لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ الْقَضَاءِ تَدُورُ مع أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ وقد زَالَتْ
بِالْفِسْقِ فَتَبْطُلُ الْأَهْلِيَّةُ
وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ الْكَبِيرَةَ لَا تُخْرِجُ صَاحِبَهَا من الْإِيمَانِ
وَالْعَدَالَةُ ليست ( ( ( ليس ) ) ) بِشَرْطِ أَهْلِيَّةِ الْقَضَاءِ كما
لَيْسَتْ بِشَرْطِ لأهلية ( ( ( الأهلية ) ) ) الشَّهَادَةُ على ما ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْقِسْمَةِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ
أَنْوَاعِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ شَرْعِيَّةِ كل نَوْعٍ وفي بَيَانِ مَعْنَى
الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ
صِفَاتِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ حُكْمِ الْقِسْمَةِ وفي بَيَانِ ما يُوجِبُ
نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْقِسْمَةُ في الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ نَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ
وَالثَّانِي قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ وَقِسْمَةُ كل وَاحِدٍ من النَّوْعَيْنِ
مَشْرُوعَةٌ أَمَّا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ فَقَدْ عُرِفَتْ شَرْعِيَّتُهَا
بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ أَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ أَنَّ النبي صلى الله
عليه وسلم قَسَّمَ غَنَائِمَ خَيْبَرَ بين الْغَانِمِينَ وَأَدْنَى دَرَجَاتِ
فِعْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الشَّرْعِيَّةُ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن
الناس اسْتَعْمَلُوا الْقِسْمَةَ من لَدُنْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم
إلَى يَوْمِنَا هذا من غَيْرِ نَكِيرٍ فَكَانَتْ شَرْعِيَّتُهُ مُتَوَارَثَةً
وَالْمَعْقُولُ يَقْتَضِيهِ تَوْفِيرًا على كل وَاحِدٍ مَصْلَحَتُهُ بِكَمَالِهَا
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لُغَةً وَشَرْعًا أَمَّا في
اللُّغَةِ فَهِيَ عِبَارَةٌ عن إفْرَازِ النَّصِيبِ
وفي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عن إفْرَازِ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ عن بَعْضٍ
وَمُبَادَلَةِ بَعْضٍ بِبَعْضٍ لِأَنَّ ما من جُزْأَيْنِ من الْعَيْنِ
الْمُشْتَرَكَةِ لَا يَتَجَزَّآنِ قبل الْقِسْمَةِ إلَّا وَأَحَدُهُمَا مِلْكُ
أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَالْآخَرُ مِلْكُ صَاحِبِهِ غير عَيْنٍ فَكَانَ نِصْفُ
الْعَيْنِ مَمْلُوكًا لِهَذَا وَالنِّصْفُ مَمْلُوكًا لِذَاكَ على الشُّيُوعِ فإذا
قُسِّمَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْأَجْزَاءُ الْمَمْلُوكَةُ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا شَائِعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَتَجْتَمِعُ بِالْقِسْمَةِ في نَصِيبِهِ
دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَجْتَمِعَ في نَصِيبِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَجْزَاءٌ بَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ له وَبَعْضُهَا مَمْلُوكَةٌ
لِصَاحِبِهِ على الشُّيُوعِ فَلَوْ لم تَقَعْ الْقِسْمَةُ مُبَادَلَةً في بَعْضِ
أَجْزَاءِ الْمَقْسُومِ لم يَكُنْ الْمَقْسُومُ كُلُّهُ مِلْكًا لِلْمَقْسُومِ
عليه بَلْ يَكُونُ بَعْضُهُ مِلْكَ صَاحِبِهِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا
بِالتَّرَاضِي أو بطلبهما ( ( ( بطلبها ) ) ) من الْقَاضِي رِضًا من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِزَوَالِ مِلْكِهِ عن نِصْفِ نَصِيبِهِ بِعِوَضٍ وهو نِصْفُ نَصِيبِ
صَاحِبِهِ وهو تَفْسِيرُ الْمُبَادَلَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ في حَقِّ
الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ له إفْرَازًا وَتَمْيِيزًا أو تَعْيِينًا لها في
الْمِلْكِ وفي حَقِّ الْأَجْزَاءِ الْمَمْلُوكَةِ لِصَاحِبِهِ مُعَاوَضَةً وَهِيَ
مُبَادَلَةُ بَعْضِ الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ في نَصِيبِهِ بِبَعْضِ
الْأَجْزَاءِ الْمُجْتَمِعَةِ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَكَانَتْ إفْرَازَ بَعْضِ
الْأَنْصِبَاءِ وَمُعَاوَضَةَ الْبَعْضِ ضَرُورَةً وَهَذَا هو حَقِيقَةُ
الْقِسْمَةِ الْمَعْقُولَةِ في الْأَمْلَاكِ الْمُشْتَرَكَةِ فَكَانَ مَعْنَى
الْمُعَاوَضَةِ لَازِمًا في كل قِسْمَةٍ شَرْعِيَّةٍ إلَّا أَنَّهُ أعطي لها
حُكْمَ الْإِفْرَازِ في ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ في بَعْضِ الْأَحْكَامِ لِأَنَّ
الْمَأْخُوذَ من الْعِوَضِ مِثْلُ الْمَتْرُوكِ من الْمُعَوَّضِ فَجُعِلَ
كَأَنَّهُ يَأْخُذُ عَيْنَ حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ حتى كان لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَهُ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَجُعِلَ
إفْرَازًا حكا ( ( ( حكما ) ) )
وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ في غَيْرِ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ إنه يُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ وَالْمُعَاوَضَاتُ مِمَّا لَا
يجري فيها الْجَبْرُ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
فَالْجَوَابُ إن الْمُعَاوَضَةَ قد يجري فيها الْجَبْرُ
أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَرِيمَ يُجْبَرُ على قَضَاءِ الدَّيْنِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ
لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ على ما بَيَّنَّا في كِتَابِ
الْوَكَالَةِ دَلَّ أَنَّ الْجَبْرَ لَا يَنْفِي الْمُعَاوَضَةَ فَجَازَ أَنْ
يُجْبَرَ على الْقِسْمَةِ وَإِنْ كانت مُعَاوَضَةً مع ما أَنَّ الْجَبْرَ لَا
يَجْرِي في الْمُعَاوَضَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ
وَالْقِسْمَةُ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مُطْلَقَةٍ بَلْ هِيَ إفْرَازٌ من وَجْهٍ
وَمُعَاوَضَةٌ من وَجْهٍ فَجَازَ أَنْ يَجْرِيَ فيها الْجَبْرُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ
وَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ إنها لَا تَجُوزُ مُجَازَفَةً
كما لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُجَازَفَةً لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ
وَذَكَرَ في الْكِتَابِ في كُرِّ حِنْطَةٍ مُشْتَرَكٍ بين
____________________
(7/17)
رَجُلَيْنِ
ثَلَاثُونَ منه رَدِيئَةً وَعَشَرَةٌ منه جَيِّدَةً قِيمَتُهَا سَوَاءٌ فَأَرَادَا
أَنْ يَقْتَسِمَاهُ فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا ثَلَاثِينَ وَالْآخَرُ عَشَرَةً
أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِتَمَكُّنِ الرِّبَا فيه لَتَحَقُّقِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ
وَلَوْ زَادَ صَاحِبُ الزِّيَادَةِ ثَوْبًا أو شيئا آخَرَ جَازَ لِأَنَّ الزياة (
( ( الزيادة ) ) ) صَارَتْ مُقَابِلَةً بِالثَّوْبِ فَزَالَ مَعْنَى الرَّبَّا
وقال في زَرْعٍ مُشْتَرَكٍ بين رَجُلَيْنِ في أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُمَا
فَأَرَادَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ وقد سَنْبَلَ الزَّرْعُ إنَّهُ لَا
تَجُوزُ قِسْمَتُهُ لِأَنَّ قِسْمَتَهُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ وَلَا تَجُوزُ
الْمُعَاوَضَةُ بِطَرِيقِ الْمُجَازَفَةِ في الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ
وَكَذَا لو أَوْصَى بِصُوفٍ على ظَهْرِ غَنَمٍ لِرَجُلَيْنِ أو أَوْصَى
بِاللَّبَنِ في الضَّرْعِ لَهُمَا لم تَجُزْ قِسْمَتُهُ قبل الْجَزِّ وَالْحَلْبِ
لِأَنَّ الصُّوفَ وَاللَّبَنَ من الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَلَا يَحْتَمِلَانِ
الْقِسْمَةَ مُجَازَفَةً كما لَا يَحْتَمِلَانِ الْبَيْعَ مُجَازَفَةً وَكَذَا
خِيَارُ الْعَيْبِ يَدْخُلُ في نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ كما يَدْخُلُ في الْبَيْعِ
وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ يَدْخُلُ في أَحَدِ النَّوْعَيْنِ دُونَ
الْآخَرِ لَا لِانْعِدَامِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ
نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ من رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ
فَاقْتَسَمَاهُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً
على خَمْسِينَ دِرْهَمًا وَلَوْ اشْتَرَيَا دَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ
فَاقْتَسَمَاهَا ليس لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ مُرَابَحَةً على
خَمْسِينَ وَإِنَّمَا افْتَرَقَ النَّوْعَانِ في هذا الْحُكْمِ لَا لِاعْتِبَارِ
مَعْنَى الْإِفْرَازِ في أَحَدِهِمَا وَالْمُبَادَلَةُ في الْآخَرِ بَلْ لِمَعْنًى
آخَرَ وهو أَنَّ الْمُرَابَحَةَ بَيْعٌ بِمِثْلِ الْمَذْكُورِ ثَمَنًا في
الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ شَيْءٍ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الْبَيْعُ بِمِثْلِ
الْمَذْكُورِ ثَمَنًا في الْأَوَّلِ مع زِيَادَةِ شَيْءٍ فِيمَا يَحْتَمِلُ
الزِّيَادَةَ
وَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ فَلَا كما إذَا اشْتَرَى كُرَّ
حِنْطَةٍ بِكُرِّ حِنْطَةٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً على الْكُرِّ
كَذَا هُنَا بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ ذلك مُعَاوَضَةٌ مَقْصُودَةٌ وَالْمُعَاوَضَةُ
في الْقِسْمَةِ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ وإذا كان كَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هذا
الثَّمَنِ شَرْعًا في هذا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ
فَكَانَ له أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً على أَوَّلِ ثَمَنٍ يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ
وهو الْخَمْسُونَ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الدَّارِ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ الْبَيْعُ
بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وهو ثَمَنُ الْقِسْمَةِ وَزِيَادَةُ شَيْءٍ بِأَنْ يَبِيعَ
نِصْفَهُ من شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ الذي في يَدِهِ وَرِبْحُ دِرْهَمٍ مَثَلًا كما
إذَا اشْتَرَى دَارًا بِدَارٍ أو اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ بِثَوْبٍ فَأَمْكَنَ
بَيْعُهُ مُرَابَحَةً على الثَّمَنِ الْأَوَّلِ في الْجُمْلَةِ فلم يَجُزْ
بَيْعُهُ مُرَابَحَةً على خَمْسِينَ إلَّا أَنَّهُ إذَا بَاعَهُ مُرَابَحَةً أو
بَاعَهُ من بَائِعِهِ بِالنِّصْفِ الذي في يَدِهِ بِرِبْحِ ( دَهٍ يازده ) لَا
يَجُوزُ لِمَعْنًى عُرِفَ في كِتَابِ الْبُيُوعِ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْقَاسِمِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْمَقْسُومِ له
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاسِمِ فَنَوْعَانِ نَوْعٌ هو شَرْطُ الْجَوَازِ
وَنَوْعٌ هو شَرْطُ الِاسْتِحْبَابِ
أَمَّا شَرَائِطُ الْجَوَازِ فَأَنْوَاعٌ منها الْعَقْلُ فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ
الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ لِأَنَّ الْعَقْلَ من شَرَائِطِ
أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ فَأَمَّا الْبُلُوغُ فَلَيْسَ
بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ حتى تَجُوزَ قِسْمَةُ الصَّبِيِّ الذي يَعْقِلُ
الْقِسْمَةَ بِإِذْنِ وَلِيِّهِ
وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
لِجَوَازِ الْقِسْمَةِ فَتَجُوزُ قِسْمَةُ الذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ
وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَأْذُونِ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ من أَهْلِ الْبَيْعِ فَكَانُوا
من أَهْلِ الْقِسْمَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْمِلْكُ وَالْوِلَايَةُ فَلَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ بِدُونِهِمَا
أَمَّا الْمِلْكُ فَالْمَعْنِيُّ بِهِ أَنْ يَكُونَ الْقَاسِمُ مَالِكًا
فَيَقْسِمُ الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي
وَأَمَّا الْوِلَايَةُ فَنَوْعَانِ وِلَايَةُ قَضَاءٍ وَوِلَايَةُ قَرَابَةٍ إلَّا
أَنَّ شَرْطَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ الطَّلَبُ فَيَقْسِمُ الْقَاضِي وَأَمِينُهُ
على الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالْمُسْلِمِ
وَالذِّمِّيِّ وَالْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ
طَلَبِ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ أو بَعْضِهِمْ على ما نَذْكُرُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ
ذلك في وِلَايَةِ الْقَرَابَةِ فَيَقْسِمُ الْأَبُ وَوَصِيُّهُ وَالْجَدُّ
وَوَصِيُّهُ على الصَّغِيرِ وَالْمَعْتُوهِ من غَيْرِ طَلَبِ أَحَدٍ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ من له وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَلَهُ وِلَايَةُ
الْقِسْمَةِ وَمَنْ لَا فَلَا وَلِهَؤُلَاءِ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فَكَانَتْ لهم
وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ
وَكَذَا الْقَاضِي له وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ في
الْجُمْلَةِ فَكَانَ له وِلَايَةُ الْقِسْمَةِ في الْجُمْلَةِ
وَأَمَّا وَصِيُّ الْأُمِّ وَوَصِيُّ الْأَخِ وَالْعَمِّ فَيَقْسِمُ الْمَنْقُولَ
دُونَ الْعَقَارِ لِأَنَّ له وِلَايَةَ بَيْعِ الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ
وفي وَصِيِّ الْمُكَاتَبِ إذَا مَاتَ عن وَفَاءٍ أَنَّهُ هل يَقْسِمُ فيه
رِوَايَتَانِ
وَهَذَا كُلُّهُ يُقَرِّرُ ما قُلْنَا إنَّ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لَازِمٌ في
الْقِسْمَةِ حَيْثُ جَعَلَ سَبِيلَهُ سَبِيلَ الْبَيْعِ في الْوِلَايَةِ وَلَا
يَقْسِمُ وَصِيُّ الْمَيِّتِ على الْمُوصَى له لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عليه
وَكَذَا لَا يَقْسِمُ الْوَرَثَةُ عليه لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِمْ عليه لِأَنَّ
الْمُوصَى له كَوَاحِدٍ من الْوَرَثَةِ وَلَا يَقْسِمُ بَعْضُ الْوَرَثَةِ على
بَعْضٍ لِانْعِدَامِ الْوِلَايَةِ فَلَا يَقْسِمُونَ على الموصي له وَلَوْ
اقْتَسَمُوا وهو غَائِبٌ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ لَكِنْ هذا إذَا كانت الْقِسْمَةُ
بِالتَّرَاضِي فَإِنْ
____________________
(7/18)
كانت
بقضاءالقاضي تَنْفُذُ وَلَا تُنْقَضُ لِمَا نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا شَرَائِطُ الِاسْتِحْبَابِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ عَدْلًا
أَمِينًا عَالِمًا بِالْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ لو كان غير عَدْلٍ خَائِنًا أو
جَاهِلًا بِأُمُورِ الْقِسْمَةِ يُخَافُ منه الْجَوْرُ في الْقِسْمَةِ لَا يَجُوزُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبَ الْقَاضِي لِأَنَّ قِسْمَةَ غَيْرِهِ لَا
تَنْفُذُ على الصَّغِيرِ وَالْغَائِبِ وَلِأَنَّهُ أَجْمَعُ لِشَرَائِطِ
الْأَمَانَةِ وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْزُقَهُ من بَيْتِ الْمَالِ لِيَقْسِمَ لناس (
( ( للناس ) ) ) من غَيْرِ أَجْرٍ عليهم لِأَنَّ ذلك أَرْفَقُ بِالْمُسْلِمِينَ
فَإِنْ لم يُمْكِنْهُ أَنْ يَرْزُقَهُ من بَيْتِ الْمَالِ يَقْسِمُ لهم بِأَجْرٍ
عليهم وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّرَ له أُجْرَةً مَعْلُومَةً كيلا
يَتَحَكَّمَ على الناس
وَلَوْ أَرَادَ الناس أَنْ يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا آخَرَ غير الذي نَصَبَهُ
الْقَاضِي لَا يَمْنَعُهُمْ الْقَاضِي عن ذلك وَلَا يَجْبُرُهُمْ أَنْ
يَسْتَأْجِرُوا قَسَّامًا لِأَنَّهُ لو فَعَلَ ذلك لَعَلَّهُ لَا يَرْضَى إلَّا
بِأُجْرَةٍ كَثِيرَةٍ فَيَتَضَرَّرُ الناس
وَكَذَا لَا يَتْرُكُ الْقَسَّامِينَ يَشْتَرِكُونَ في الْقِسْمِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا الْمُبَالَغَةُ في تَعْدِيلِ الْأَنْصِبَاءِ وَالتَّسْوِيَةُ بين
السِّهَامِ بِأَقْصَى الْإِمْكَانِ لِئَلَّا يَدْخُلَ قُصُورٌ في سَهْمٍ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ حَقًّا بين شَرِيكَيْنِ غير مَقْسُومٍ من الطَّرِيقِ
وَالْمَسِيلِ وَالشُّرْبِ إلَّا إذَا لم يُمْكِنْ
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضُمَّ نَصِيبَ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ إلَى بَعْضٍ إلَّا إذَا
رَضَوْا بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْقِسْمَةِ ثَانِيًا
وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُدْخِلَ في قِسْمَةِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا الدَّرَاهِمَ
إلَّا إذَا كان لَا يُمْكِنُ الْقِسْمَةُ إلَّا كَذَلِكَ لِأَنَّ مَحِلَّ
الْقِسْمَةِ الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا شِرْكَةَ في الدَّرَاهِمِ فَلَا
يُدْخِلُهَا في الْقِسْمَةِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
وَمِنْهَا أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِسْمَةِ
وَيَشْتَرِطُ عليهم قَبُولَ من خَرَجَ سَهْمُهُ أَوَّلًا فَلَهُ هذا السَّهْمُ من
هذا الْجَانِبِ من الدَّارِ
وَمَنْ خَرَجَ سَهْمُهُ بَعْدَهُ فَلَهُ السَّهْمُ الذي يَلِيهِ هَكَذَا
ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ لَا لِأَنَّ الْقُرْعَةَ يَتَعَلَّقُ بها حُكْمٌ بَلْ
لِتَطْيِيبِ النُّفُوسِ وَلِوُرُودِ السُّنَّةِ بها
وَلِأَنَّ ذلك أَنْفَى لِلتُّهْمَةِ فَكَانَ سُنَّةً
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وإذا قَسَمَ بأجر ( ( ( بأجرة ) ) ) فَأُجْرَةُ الْقِسْمَةِ على عَدَدِ الرؤوس
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا رَحِمَهُمَا اللَّهُ على
قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ أُجْرَةَ الْقِسْمَةِ من مُؤْنَاتِ الْمِلْكِ
فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ كَالنَّفَقَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْأُجْرَةَ بِمُقَابِلَةِ
الْعَمَلِ وَعَمَلُهُ في حَقِّ الْكُلِّ على السَّوَاءِ فَكَانَتْ الْأُجْرَةُ
عليهم على السَّوَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَهُ تَمْيِيزُ الْأَنْصِبَاءِ
وَالتَّمْيِيزُ عَمَلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ تَمْيِيزَ الْقَلِيلِ من الْكَثِيرِ هو
بِعَيْنِهِ تَمْيِيزُ الْكَثِيرِ من الْقَلِيلِ
وَالتَّفَاوُتُ في شَيْءٍ وَاحِدٍ مُحَالٌ وإذا لم يَتَفَاوَتْ الْعَمَلُ لَا
تَتَفَاوَتُ الْأُجْرَةُ
بِخِلَافِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهَا بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ
يَتَفَاوَتُ فَهُوَ الْفَرْقُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ له فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ لَا
يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْقِسْمَةَ نَوْعَانِ قِسْمَةُ جَبْرٍ
وَهِيَ التي يَتَوَلَّاهَا الْقَاضِي وَقِسْمَةُ رِضًا وَهِيَ التي يَفْعَلُهَا
الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَوْعَيْنِ قِسْمَةُ
تَفْرِيقٍ وَقِسْمَةُ جَمْعٍ
أَمَّا قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ تَعَالَى التَّوْفِيقُ إنَّ
الذي تُصَادِفُهُ الْقِسْمَةُ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ
يَكُونَ مِمَّا لَا ضَرَرَ في تَبْعِيضِهِ بِالشَّرِيكَيْنِ أَصْلًا بَلْ لَهُمَا
فيه مَنْفَعَةٌ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا في تَبْعِيضِهِ مَضَرَّةٌ فَإِنْ كان مِمَّا لَا
مَضَرَّةُ في تَبْعِيضِهِ أَصْلًا بَلْ فيه مَنْفَعَةٌ لِلشَّرِيكَيْنِ
كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَالْعَدَدِيِّ الْمُتَقَارِبِ فَتَجُوزُ قِسْمَةُ
التَّفْرِيقِ فيها قِسْمَةُ جَبْرٍ كما تَجُوزُ فيها قِسْمَةُ الرِّضَا
لِتُحَقِّقَ ما شُرِعَ له الْقِسْمَةُ وهو تَكْمِيلُ مَنَافِعِ الْمِلْكِ وَإِنْ
كان مِمَّا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ فَلَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
فيه ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فيه ضَرَرٌ
بِأَحَدِهِمَا نَفْعٌ في حَقِّ الْآخَرِ فَإِنْ كان في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَبْرِ فيه وَذَلِكَ نَحْوُ
اللُّؤْلُؤَةِ الْوَاحِدَةِ وَالْيَاقُوتَةِ وَالزُّمُرُّدَةِ وَالثَّوْبِ
الْوَاحِدِ وَالسَّرْجِ وَالْقَوْسِ وَالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ وَالْقَبَاءِ
وَالْجُبَّةِ وَالْخَيْمَةِ وَالْحَائِطِ وَالْحَمَّامِ والبيع ( ( ( والبيت ) ) )
الصَّغِيرِ وَالْحَانُوتِ الصَّغِيرِ وَالرَّحَى وَالْفَرَسِ وَالْجَمَلِ
وَالْبَقَرَةِ وَالشَّاةِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في هذه الْأَشْيَاءِ قِسْمَةُ
إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ جميعا وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ على
الْإِضْرَارِ
وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالْعَيْنُ وَالْبِئْرُ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ
كان مع ذلك أَرْضٌ قُسِمَتْ الْأَرْضُ وَتُرِكَتْ الْبِئْرُ وَالْقَنَاةُ على
الشِّرْكَةِ فَأَمَّا إذَا كانت أَنْهَارُ الْأَرَضِينَ مُتَفَرِّقَةً أو عُيُونًا
أو آبَارًا قُسِمَتْ الْآبَارُ وَالْعُيُونُ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ في الْقِسْمَةِ
وَكَذَا الْبَابُ وَالسَّاحَةُ وَالْخَشَبَةُ إذَا كان في قَطْعِهِمَا ضَرَرٌ
فَإِنْ كانت الْخَشَبَةُ كَبِيرَةً يُمْكِنُ تَعْدِيلُ الْقِسْمَةِ فيها من غَيْرِ
ضَرَرٍ جَازَتْ وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الرِّضَا في هذه الْأَشْيَاءِ بِأَنْ
يَقْتَسِمَاهَا بِأَنْفُسِهِمَا بِتَرَاضِيهِمَا لِأَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ
الْإِضْرَارَ بِأَنْفُسِهِمَا مع ما أَنَّ ذلك لَا يَخْلُو عن نَوْعِ نَفْعٍ وما
لَا تَجْرِي
____________________
(7/19)
فيه
القسم ( ( ( القسمة ) ) ) لَا يُجْبَرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا على بَيْعِ حِصَّتِهِ من
صَاحِبِهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اخْتَصَمَا فيه بَاعَ الْقَاضِي وَقَسَمَ
الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ الْجَبْرَ على
إزَالَةِ الْمِلْكِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
وَعَلَى هذا طَرِيقٌ بين رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى
الْآخَرُ فَإِنْ كان يَسْتَقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَرِيقٌ نَافِذٌ
بَعْدَ الْقِسْمَةِ يُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَقَعُ تَحْصِيلًا لِمَا شُرِعَتْ له وهو تَكْمِيلُ مَنَافِعِ
الْمِلْكِ فَيُجْبَرُ عليها
وَإِنْ كان لَا يَسْتَقِيمُ لَا يُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ
إضْرَارٍ بِالشَّرِيكَيْنِ فَلَا يَلِيهَا الْقَاضِي إلَّا إذَا كان لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا في نَصِيبِهِ من الدَّارِ مَفْتَحٌ من وَجْهٍ آخَرَ فَيَقْسِمُ
أَيْضًا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في هذه الصُّورَةِ لَا تَقَعُ إضْرَارًا
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ لِتَرَاضِيهِمَا بِالضَّرَرِ
وَكَذَلِكَ الْمَسِيلُ الْمُشْتَرَكُ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا الْقِسْمَةَ وَأَبَى
الْآخَرُ
وَإِنْ كان بِحَالٍ لو قُسِمَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ
قَدْرُ ما يَسِيلُ مَاؤُهُ
أو كان له مَوْضِعٌ آخَرُ يُمْكِنُهُ التَّسْيِيلُ فيه يَقْسِمُ
وَإِنْ لم يُمْكِنْ لم يَقْسِمْ لِمَا ذَكَرْنَا في الطَّرِيقِ
وَعَلَى هذا إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا مَفْتَحَ الدَّارِ من غَيْرِ رَفْعِ
الطَّرِيقِ وَأَبَى الْآخَرُ إلابرفع الطَّرِيقِ أَنَّهُ إنْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مَفْتَحٌ آخَرُ يَفْتَحُهُ في نَصِيبِهِ قَسَمَ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ
رَفْعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ ما هو الْمَطْلُوبُ من الْقِسْمَةِ وهو تَكْمِيلُ
مَنَافِعِ الْمِلْكِ في هذه الْقِسْمَةِ أَوْفَرُ وَإِنْ لم يَكُنْ رَفَعَ
بَيْنَهُمَا طَرِيقًا وَقَسَمَ الْبَاقِي لِأَنَّهُ إذَا لم يَكُنْ بَيْنَهُمَا
مَفْتَحٌ كانت الْقِسْمَةُ بِغَيْرِ طَرِيقٍ تَفْوِيتًا لِلْمَنْفَعَةِ لَا
تَكْمِيلًا لها فَكَانَتْ إضْرَارًا بِهِمَا وَهَذَا لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا
اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا بِغَيْرِ طَرِيقٍ فَيَجُوزُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ اخْتَلَفَا في سَعَةِ الطَّرِيقِ وَضِيقِهِ جُعِلَ الطَّرِيقُ على قَدْرِ
عَرْضِ بَابِ الدَّارِ وَطُولِهِ على أَدْنَى ما يَكْفِيهَا لِأَنَّ الطَّرِيقَ
وُضِعَ لِلِاسْتِطْرَاقِ وَالْبَابُ هو الْمَوْضُوعُ مَدْخَلًا إلَى أَدْنَى ما
يَكْفِي لِلِاسْتِطْرَاقِ فَيَحْكُمُ فيه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا إذَا بَنَى رَجُلَانِ في أَرْضِ رَجُلٍ بِإِذْنِهِ وَطَلَبَ
أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْبِنَاءِ وَأَبَى الْآخَرُ وَصَاحِبُ الْأَرْضِ غَائِبٌ لم
تُقْسَمْ
لِأَنَّ الْأَرْضَ الْمَبْنِيَّ عليها بَيْنَهُمَا شَائِعٌ بِالْإِعَارَةِ أو
بِالْإِجَارَةِ فَلَوْ قَسَمَ الْبِنَاءَ بَيْنَهُمَا لَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا سَبِيلٌ في بَعْضِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَلَا يُجْبَرُ على
القسم ( ( ( القسمة ) ) ) وَلَوْ اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي جَازَتْ وَكَذَا لو
هَدَمَهَا وَكَانَتْ الْآلَةُ بَيْنَهُمَا
وَعَلَى هذا زَرْعٌ بين رَجُلَيْنِ في أَرْضٍ مملكة ( ( ( مملوكة ) ) ) لَهُمَا
طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الزَّرْعِ دُونَ الْأَرْضِ فَإِنْ كان الزَّرْعُ قد
بَلَغَ وَسَنْبَلَ لَا يَقْسِمُ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَلَوْ طَلَبَا جميعا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَانِعَ هو الرِّبَا
وَحُرْمَةُ الرَّبَّا لَا تَحْتَمِلُ الِارْتِفَاعَ بِالرِّضَا
وَإِنْ كان الزَّرْعُ بَقْلًا فَطَلَبَ أَحَدُهُمَا لَا يَقْسِمُ أَيْضًا لِأَنَّ
الْأَرْضَ مَمْلُوكَةٌ لَهُمَا على الشِّرْكَةِ فَلَوْ قَسَمَ لَكَانَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبِيلٍ من الْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ وَلَا جَبْرَ على
الضَّرَرِ
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَرَطَا الْقَطْعَ جَازَتْ لِأَنَّهُمَا
رَضِيَا بِالضَّرَرِ وَلَوْ شَرَطَا التَّرْكَ لم يَجُزْ لِأَنَّ رَقَبَةَ
الْأَرْضِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا فَكَانَ شَرْطُ التَّرْكِ مِنْهُمَا في
الْقِسْمَةِ شَرْطًا لِانْتِفَاعِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِلْكِ شَرِيكِهِ
وَمِثْلُ هذا الشَّرْطِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ فَكَانَ فسدا ( ( ( مفسدا ) ) )
لِلْقِسْمَةِ لِأَنَّ فيها مَعْنَى الْبَيْعِ
وَكَذَلِكَ لو لم تَكُنْ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُمَا وَكَانَتْ في أَيْدِيهِمَا
بِالْإِعَارَةِ أو بِالْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ لَا تُقْسَمُ لِمَا
ذَكَرْنَا وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ بِشَرْطِ الْقَطْعِ وَلَا
تَجُوزُ بِشَرْطِ التَّرْكِ كَالْبَيْعِ على ما ذِكْرِنَا
وَكَذَلِكَ طَلْعٌ بين رَجُلَيْنِ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الطَّلْعِ دُونَ
النَّخْلِ وَالْأَرْضِ لم يَقْسِمْ لِمَا ذَكَرْنَا في الزَّرْعِ وَلَوْ
اقْتَسَمَا بِالتَّرَاضِي فَإِنْ شَرَطَا الْقَطْعَ جَازَ وَإِنْ شَرَطَا
التَّرْكَ لم يَجُزْ لِمَا ذَكَرْنَا في الزَّرْعِ
وَلَوْ تَرَكَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَأَدْرَكَ وَقَلَعَ
فَالْفَضْلُ له طَيِّبٌ لِأَنَّهُ وَإِنْ حَصَلَ في مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ لَكِنَّهُ
حَصَلَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَلَا يَكُونُ خَبِيثًا وَإِنْ لم يَأْذَنْ له
يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِتَمَكُّنِ الْخُبْثِ فيه فَكَانَ سَبِيلُهُ
التَّصَدُّقَ
هذا إذَا كان شيئا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِكُلِّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ فَأَمَّا
إذَا كان شيئا في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ كَالدَّارِ
الْمُشْتَرَكَةِ بين رَجُلَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا فيها شِقْصٌ قَلِيلٌ فَإِنْ
طَلَبَ الْكَثِيرِ الْقِسْمَةَ قُسِمَتَا إجْمَاعًا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في
حَقِّهِ مُفِيدَةٌ لِوُقُوعِهَا مُحَصَّلَةٌ لِمَا شُرِعَتْ له من تَكْمِيلِ
مَنَافِعِ الْمِلْكِ وفي حَقِّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ تَقَعُ مَنْعًا له من
الِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِهِ إذْ لَا يَقْدِرُ صَاحِبُ الْقَلِيلِ على الِانْتِفَاعِ
بِنَصِيبِهِ إلَّا بِالِانْتِفَاعِ بِنَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ لِقِلَّةِ
نَصِيبِهِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ في حَقِّهِ مَنْعًا له من الِانْتِفَاعِ
بِنَصِيبِ شَرِيكِهِ فَجَازَتْ
وَإِنْ طَلَبَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ الْقِسْمَةَ فَقَدْ ذَكَرَ الْحَاكِمُ
الْجَلِيلُ في مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يُقْسَمُ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ
اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ في هذه الْقِسْمَةِ في حَقِّ
صَاحِبِ الْكَثِيرِ بَلْ له فيه مُنَفِّعَةٌ فَكَانَ في الْإِبَاءِ مُتَعَنِّتًا
فَلَا يُعْتَبَرُ إبَاؤُهُ وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ قد
____________________
(7/20)
رضي
بِالضَّرَرِ حَيْثُ طَلَبَ الْقِسْمَةَ فَيُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ كما إذَا لم
يَكُنْ في تَبْعِيضِهِ ضَرَرٌ بِأَحَدِهِمَا أَصْلًا بِخِلَافِ الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ لِأَنَّ هُنَاكَ تَقَعُ الْقِسْمَةُ إضْرَارًا بِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا ولم يُوجَدْ الرِّضَا بِالضَّرَرِ وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ
على الْإِضْرَارِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ
مُتَعَنِّتٌ في طَلَبِ الْقِسْمَةِ لتكون ( ( ( لكون ) ) ) الْقِسْمَةِ ضَرَرًا
مَحْضًا في حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ طَلَبُهُ وَقِسْمَةُ الْجَبْرِ لم تُشْرَعْ
بِدُونِ الطَّلَبِ وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَتْ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ قد رضي بِالضَّرَرِ بِنَفْسِهِ وَلَا ضَرَرَ فيه
لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَصْلًا فَجَازَتْ قِسْمَتُهَا
وَعَلَى هذا دَارٌ بين شَرِيكَيْنِ قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا فَأَصَابَ أَحَدَهُمَا
مَوْضِعٌ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شُرِطَ له في الْقِسْمَةِ فَإِنْ كان له فِيمَا
أَصَابَهُ مَفْتَحٌ إلَى الطَّرِيقِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ لَا مَضَرَّةَ
له فيها إذْ يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِنَصِيبِهِ بِفَتْحِ طَرِيقٍ آخَرَ وَإِنْ
لم يَكُنْ له فِيمَا أَصَابَهُ مَفْتَحٌ أَصْلًا فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ في
الْقِسْمَةِ فَلَهُ حَقُّ الِاخْتِيَارِ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ الطَّرِيقَ
من الْحُقُوقِ فَصَارَ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَإِنْ لم يُذْكَرْ لم
تَجُزْ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ إضْرَارٍ في حَقِّ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
وَكَذَلِكَ إذَا قُسِمَتْ بِغَيْرِ مَسِيلٍ شُرِطَ لأحدها ( ( ( لأحدهما ) ) )
وَوَقَعَ الْمَسِيلُ في نَصِيب الْآخَرِ فَهُوَ على التَّفْصِيلِ الذي ذَكَرْنَا
في الطَّرِيقِ
وَلَوْ اقْتَسَمَا على أَنْ لَا طَرِيقَ له وَلَا مَسِيلَ جَازَتْ لِأَنَّهُ رضي
بِالضَّرَرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عليها في
جِنْسَيْنِ لِأَنَّهَا في الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ تَقَعُ إضْرَارًا في حَقِّ
أَحَدِهِمَا فَلَا يُجْبَرُ عليها على ما سَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
هذا الذي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ التَّفْرِيقِ وَأَمَّا قِسْمَةُ الْجَمْعِ فَهِيَ
أَنْ يَجْمَعَ نَصِيبَ كل وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ في عَيْنٍ على حِدَةٍ
وَأَنَّهَا جَائِزَةٌ في جِنْسٍ وَاحِدٍ وَلَا تَجُوزُ في جِنْسَيْنِ لِأَنَّهَا
عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ تَقَعُ وَسِيلَةً إلَى ما شُرِعَتْ له وهو تَكْمِيلُ
مَنَافِعِ الْمِلْكِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ تَقَعُ تَفْوِيتًا
لِلْمَنْفَعَةِ لَا تَكْمِيلًا لها
إذَا عَرَفْتَ هذا فَنَقُولُ لَا خِلَافَ في الْأَمْثَالِ الْمُتَسَاوِيَةِ وَهِيَ
الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْعَدَدِيَّاتُ الْمُتَقَارِبَةُ من جِنْسٍ
وَاحِدٍ تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ما شُرِعَتْ له
الْقِسْمَةُ فيها من غَيْرِ ضَرَرٍ لإنعدام التَّفَاوُتِ وَكَذَلِكَ تِبْرُ
الذَّهَبِ وَتِبْرُ النُّحَاسِ وَتِبْرُ الْحَدِيدِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ إذَا كانت من جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْهَرَوِيَّةِ
وَكَذَلِكَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ عِنْدَ
اتِّحَادِ الْجِنْسِ وَالْمَطْلُوبِ لَا يَتَفَاحَشُ بَلْ يَقِلُّ وَالتَّفَاوُتُ
الْقَلِيلُ مُلْحَقٌ بِالْعَدَمِ أو يُجْبَرُ بِالْقِيمَةِ فَيُمْكِنُ تَعْدِيلُ
الْقِسْمَةِ فيه
وَكَذَلِكَ اللآلىء ( ( ( اللآلئ ) ) ) الْمُنْفَرِدَةُ
وَكَذَا الْيَوَاقِيتُ المنفرد ( ( ( المنفردة ) ) ) لِمَا قُلْنَا وَكَذَا لَا
خِلَافَ في أَنَّهُ لَا يُقْسَمُ في جِنْسَيْنِ من الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ
والمذروع ( ( ( والمزروع ) ) ) وَالْعَدَدِيِّ قِسْمَةُ جَمْعٍ كَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالْقُطْنِ وَالْحَدِيدِ وَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالثِّيَابِ
الْبَرْدِيَّةِ وَالْمَرْوِيَّةِ
وَكَذَلِكَ اللآلىء ( ( ( اللآلئ ) ) ) وَالْيَوَاقِيتُ وَكَذَا الْخَيْلُ
وَالْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ
وَكَذَا إذَا كان من كل جِنْسٍ فَرْدٌ كَبِرْذَوْنٍ وَجَمَلٍ وَبَقَرَةٍ وَشَاةٍ
وَثَوْبٍ وَقَبَاءٍ وَجُبَّةٍ وَقَمِيصٍ وَوِسَادَةٍ وَبِسَاطٍ لِأَنَّ هذه
الْأَشْيَاءَ لو قُسِمَتْ على الْجَمْعِ كان لَا يَخْلُو من أَحَدِ وجهين ( ( (
الوجهين ) ) ) إمَّا أَنْ تُقْسَمُ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا وأما أَنْ تُقْسَمُ
بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهَا بأن يَضُمَّ إلَى بَعْضِهَا دَرَاهِمَ أو دَنَانِيرَ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فيه ضَرَرًا بِأَحَدِهِمَا لِكَثْرَةِ
التَّفَاوُتِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالْقَاضِي لَا يَمْلِكُ الْجَبْرَ على
الضَّرَرِ وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ ذلك قِسْمَةٌ في غَيْرِ
مَحِلِّهَا لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ ولم يُوجَدْ في
الدَّرَاهِمِ
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أو تَرَاضَيَا على ذلك جَازَتْ الْقِسْمَةُ حتى
لو اقْتَسَمَا ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْ الْقِيمَةِ وزاد مع الْأَوْكَسِ دَرَاهِمَ
مُسَمَّاةً جَازَ
وَكَذَا في سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَيَكُونُ ذلك قِسْمَةَ الرِّضَا لَا قِسْمَةَ
الْقَضَاءِ
وَكَذَا الْأَوَانِي سَوَاءٌ اخْتَلَفَتْ أُصُولُهَا أو اتَّحَدَتْ لِأَنَّهَا
بِالصِّنَاعَةِ أَخَذَتْ حُكْمَ جِنْسَيْنِ حتى جَازَ بَيْعُ الْأَوَانِي
الصِّغَارِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَلَا يُقْسَمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
قِسْمَةُ جَمْعٍ وَعِنْدَهُمَا يُقْسَمُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّقِيقَ على اخْتِلَافِ أَوْصَافِهَا وَقِيمَتِهَا
جِنْسٌ وَاحِدٌ فَاحْتَمَلَ الْقِسْمَةَ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ من الْإِبِلِ
وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وما فيها من التَّفَاوُتِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ
بِالْقِيمَةِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لم يُوجَدْ شَرْطُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ
وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِدُونِ شَرْطِ جَوَازِهِ مُحَالٌ
وَبَيَانُ ذلك على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا أَنَّا لو قَسَمْنَاهَا رِقًّا
بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا فَقَدْ أَضْرَرْنَا بِأَحَدِهِمَا لِتَفَاحُشِ
التَّفَاوُتِ بين عَبْدٍ وَعَبْدٍ في الْمَعَانِي الْمَطْلُوبَةِ من هذا الْجِنْسِ
فَكَانَا في حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
وَمِنْ شَرْطِ جَوَازِ هذه الْقِسْمَةِ أَنْ لَا تَتَضَمَّنَ ضَرَرًا
بِالْمَقْسُومِ عليه
وَلَوْ قَسَمْنَاهَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ في غَيْرِ
مَحِلِّهَا
لِأَنَّ مَحِلَّهَا الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ وَلَا شِرْكَةَ في الْقِيمَةِ
وَالْمَحَلِّيَّةُ من شَرَائِطِ صِحَّةِ التَّصَرُّفِ فَصَحَّ ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا جَازَ
____________________
(7/21)
لِتَرَاضِيهِمَا
بِالضَّرَرِ وَكَذَا لو كان مع الرَّقِيقِ غَيْرُهُ قُسِمَ
كَذَا ذَكَرَهُ في كِتَابِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُ إنْ كان لَا يَحْتَمِلُ
الْقِسْمَةَ مَقْصُودًا فَيُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا يَحْتَمِلُهَا فَيُقْسَمُ
بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
بَيْعُهُمَا مَقْصُودًا ثُمَّ يَدْخُلَانِ في الْبَيْعِ تَبَعًا لِلنَّهْرِ
وَالْأَرْضِ
كَذَا هذا
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ أَنَّ الْمَذْكُورَ في الْأَصْلِ مَحْمُولٌ على قِسْمَةِ
الرِّضَا
وَأَمَّا قِسْمَةُ الْقَضَاءِ فَلَا تَجُوزُ وَإِنْ كان مع غَيْرِهِ لِأَنَّ غير
الْمَقْسُومِ ليس تَبَعًا لِلْمَقْسُومِ بَلْ هو أَصْلٌ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ
الشُّرْبِ وَالطَّرِيقِ
وَكَذَلِكَ الدُّورُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةَ جَمْعٍ حتى لو
كان بين رَجُلَيْنِ دَارَانِ تُقْسَمُ كُلُّ وَاحِدَةٍ على حِدَتِهَا سَوَاءٌ
كَانَتَا مُنْفَصِلَتَيْنِ أو مُتَلَاصِقَتَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يَنْظُرُ الْقَاضِي
في ذلك إنْ كان الْأَعْدَلُ في الْجَمْعِ جَمَعَ وَإِنْ كان الْأَعْدَلُ في
التَّفْرِيقِ فَرَّقَ
وَكَذَا لو كان بَيْنَهُمَا أَرْضَانِ أو كَرْمَانِ فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ
وَأَمَّا الْبَيْتَانِ فَيُقْسَمَانِ قِسْمَةَ جَمْعٍ إجْمَاعًا مُتَّصِلَيْنِ
كَانَا أو مُنْفَصِلَيْنِ
وَكَذَا الْمَنْزِلَانِ الْمُتَّصِلَانِ وَأَمَّا الْمُنْفَصِلَانِ في دَارٍ
وَاحِدَةٍ فَعَلَى الْخِلَافِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدُّورَ كلهاجنس وَاحِدٌ وَالتَّفَاوُتُ الذي بين
الدَّارَيْنِ يُمْكِنُ تَعْدِيلُهُ بِالْقِيمَةِ فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ
الْقَاضِي إنْ رَأَى الْأَعْدَلَ في التَّفْرِيقِ فَرَّقَ وَإِنْ رَأَى
الْأَعْدَلَ في الْجَمْعِ جَمَعَ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الرَّقِيقِ إن
الْقِسْمَةَ فيها بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا وَيَقَعُ ضَرَرُ التَّفَاوُتِ
مُتَفَاحِشًا بين دَارٍ وَدَارٍ لِاخْتِلَافِ الدُّورِ في أَنْفُسِهَا
وَاخْتِلَافُهَا بِاخْتِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْبِقَاعِ فَكَانَا في حُكْمِ
جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَالْقِسْمَةُ فيها بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ تَقَعُ
تَصَرُّفًا في غَيْرِ مَحِلِّهِ فَلَا يَصِحُّ
وَلَوْ اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا أو بِالْقَاضِي بِتَرَاضِيهِمَا جَازَ لِمَا
مَرَّ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا دَارٌ وَضِيعَةٌ أو دَارٌ وَحَانُوتٌ فَلَا تُجْمَعُ بِالْإِجْمَاعِ بَلْ
يَقْسِمُ كُلَّ واحد ( ( ( واحدة ) ) ) على حِدَةٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَمِنْهَا الطَّلَبُ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ وهو قِسْمَةُ الْجَبْرِ حتى
إنه لو لم يُوجَدْ الطَّلَبُ من أَحَدِ من الشُّرَكَاءِ أَصْلًا لم تَجُزْ
الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ من الْقَاضِي تَصَرُّفٌ في مِلْكِ الْغَيْرِ
وَالتَّصَرُّفُ في مِلْكِ الْغَيْرِ من غَيْرِ إذْنِهِ مَحْظُورٌ في الْأَصْلِ
إلَّا أَنَّهُ عِنْدَ طَلَبِ الْبَعْضِ يَرْتَفِعُ الْحَظْرُ لِأَنَّهُ إذَا
طَلَبَ عُلِمَ أَنَّهُ له في اسْتِيفَاءِ هذه الشَّرِكَةِ ضَرَرًا إذْ لو كان الطَّلَبُ
لِتَكْمِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِطَلَبِ صَاحِبِهِ وكان عليه أَنْ يَمْتَنِعَ من
الْإِضْرَارِ دِيَانَةً فإذا أَبَى الْقِسْمَةَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ
فَيَدْفَعُ الْقَاضِي ضَرَرَهُ بِالْقِسْمَةِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ في هذه
الصُّورَةِ من بَابِ دَفْعِ الضَّرَرِ وَالْقَاضِي نُصِبَ له
وَنَظِيرُهُ الشُّفْعَةُ فإن الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ على الْمُشْتَرِي
بِالشُّفْعَةِ من غَيْرِ رضى ( ( ( رضا ) ) ) دَفْعًا لِضَرَرِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا
طَلَبَ الشُّفْعَةَ عُلِمَ أَنَّهُ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِهِ فَالشَّرْعُ دَفَعَ
ضَرَرَهُ عنه بِإِثْبَاتِ حَقِّ التَّمْلِيكِ بِالشُّفْعَةِ جَبْرًا عليه
كَذَا هذا
وَمِنْهَا الرِّضَا في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ وهو رِضَا الشُّرَكَاءِ فِيمَا
يَقْسِمُونَهُ بِأَنْفُسِهِمْ إذَا كَانُوا من أَهْلِ الرِّضَا أو رِضَا من
يَقُومُ مَقَامَهُمْ إذَا لم يَكُونُوا من أَهْلِ الرِّضَا فَإِنْ لم يُوجَدْ لَا
يَصِحُّ حتى لو كان في الْوَرَثَةِ صَغِيرٌ لَا وَصِيَّ له أو كَبِيرٌ غَائِبٌ
فَاقْتَسَمُوا فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فيها
مَعْنَى الْبَيْعِ وَقِسْمَةُ الرِّضَا أَشْبَهُ بِالْبَيْعِ ثُمَّ لَا
يَمْلِكُونَ الْبَيْعَ إلَّا بِالتَّرَاضِي فَكَذَا الْقِسْمَةُ إلَّا إذَا لم
يَكُونُوا من أَهْلِ الرِّضَا كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينَ فَيَقْسِمُ
الْوَلِيُّ أو الْوَصِيُّ إذَا كان في الْقِسْمَةِ مَنْفَعَةٌ لهم لِأَنَّهُمَا
يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ فَيَمْلِكَانِ الْقِسْمَةَ
وَكَذَا إذَا كان فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَهُ وَلِيٌّ أو وَصِيٌّ يَقْتَسِمُونَ
بِرِضَا الْوَلِيِّ أو الْوَصِيِّ
فَإِنْ لم يَكُنْ نَصَبَ الْقَاضِي عن الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَاقْتَسَمُوا
بِرِضَاهُ فَإِنْ أَبَى تَرَافَعُوا إلَى الْقَاضِي حتى يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ
وَمِنْهَا حَضْرَةُ الشُّرَكَاءِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُمْ في نَوْعَيْ
الْقِسْمَةِ حتى لو كان فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ أَصْلًا
وَلَا يَقْسِمُ الْقَاضِي أَيْضًا إذَا لم يَكُنْ عنه خَصْمٌ حَاضِرٌ وَلَكِنَّهُ
لو قَسَمَ لَا تنقض ( ( ( تنقص ) ) ) قِسْمَتُهُ لِأَنَّهُ صَادَفَ مَحِلَّ
الِاجْتِهَادِ فَلَا يُنْقَضُ
وَمِنْهَا الْبَيِّنَةُ في قِسْمَةِ الْقَضَاءِ في الْإِقْرَارِ بِمِيرَاثِ
الْإِقْرَارِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ
وَيَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ فَنَقُولُ جُمْلَةُ الْكَلَامِ في بَيَانِ هَذَيْنِ
الشَّرْطَيْنِ أن جَمَاعَةً إذَا جاؤوا إلَى الْقَاضِي وَهُمْ عُقَلَاءُ
بَالِغُونَ أَصِحَّاءُ في أَيْدِيهِمْ مَالٌ فَأَقَرُّوا أَنَّهُ مِلْكُهُمْ
وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ من الْقَاضِي فَهَذَا لَا يَخْلُو في الْأَصْلِ من أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عن ذَكَرِ سَبَبٍ وَإِمَّا
أَنْ يُقِرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبٍ ادَّعَوْا انْتِقَالَ الْمِلْكِ بِهِ من
أَحَدٍ وَكُلُّ وَجْهٍ على وَجْهَيْنِ
إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الذي في أَيْدِيهِمْ مَنْقُولًا وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ عَقَارًا فَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا عن سَبَبِ الِانْتِقَالِ
قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ وَيَذْكُرُ في الْإِشْهَادِ في كِتَابِ الصَّكِّ أَنِّي
قَسَمْتُ بِإِقْرَارِهِمْ ولم أَقْضِ فيه على أَحَدٍ وَلَا يَطْلُبُ منهم
الْبَيِّنَةَ على أَصْلِ الْمِلْكِ مَنْقُولًا
____________________
(7/22)
كان
الْمَالُ أو عَقَارًا إذَا لم يَكُنْ فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لِأَنَّهُ وُجِدَ
دَلِيلُ الْمِلْكِ وهو الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ من غَيْرِ مُنَازِعٍ وَلَا دَعْوَى
انْتِقَالِ الْمِلْكِ من أَحَدٍ إلَيْهِ فَإِنْ كان فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ لم
يَقْسِمْ لِمَا ذَكَرْنَا إن حَضْرَةَ الشُّرَكَاءِ أو من يَقُومُ مَقَامَهُمْ
شَرْطٌ ولم يُوجَدْ لِأَنَّ الْخُصُومَ في هذا الْمَوْضِعِ لَا يَصْلُحُونَ خَصْمًا
عن الْغَائِبِ
وَإِنْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْمِيرَاثِ بِأَنْ قالوا هو بَيْنَنَا
مِيرَاثٌ عن فُلَانٍ فَإِنْ كان الْمَالُ مَنْقُولًا قُسِمَ بَيْنَهُمْ
بِإِقْرَارِهِمْ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا تُطْلَبُ منهم الْبَيِّنَةُ وَإِنْ كان
فِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ بَعْدَ أَنْ كان الْحَاضِرَانِ اثْنَيْنِ كَبِيرَيْنِ أو
أَحَدُهُمَا صَغِيرٌ قد نُصِبَ عنه وَصِيٌّ وَإِنْ كان الْمَالُ عَقَارًا فَلَا
يُقْسَمُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حتى يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ على
مَوْتِ فُلَانٍ وَعَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ وَيُشْهِدُ على ذلك في
الصَّكِّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مَحِلَّ قِسْمَةِ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وقد وُجِدَ
لِوُجُودِ دَلِيلِ الْمِلْكِ وهو الْيَدُ وَالْإِقْرَارُ بِالْإِرْثِ من غَيْرِ
مُنَازِعٍ فَصَادَفَتْ الْقِسْمَةُ مَحِلَّهَا فَيَقْسِمُ وَيَكْتُبُ أَنَّهُ
قَسَمَ بِإِقْرَارِهِمْ كما في الْمَنْقُولِ وَلِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا
تُقَامُ على مُنْكِرٍ وَالْكُلُّ مُقِرُّونَ فَعَلَى من تُقَامُ الْبَيِّنَةُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ هذه قِسْمَةٌ صَادَفَتْ حَقَّ الْمَيِّتِ
بِالْإِبْطَالِ فَلَا تَصِحُّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ كَدَعْوَى الِاسْتِحْقَاقِ على
الْمَيِّتِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الدَّارَ قبل الْقِسْمَةِ مُبْقَاةٌ على حُكْمِ مِلْكِ
الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّ الزَّوَائِدَ الْحَادِثَةَ قبل الْقِسْمَةِ تَحْدُثُ
على مِلْكِهِ حتى لو كانت التَّرِكَةُ شَجَرَةً فَأَثْمَرَتْ كان الثَّمَرُ له حتى
تُقْضَى منه دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ منه وَصَايَاهُ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ
تَصَرُّفًا على مِلْكِهِ بِالْإِبْطَالِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
بِخِلَافِ الْمَنْقُولِ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ ليس قَطْعًا لِحَقِّ الْمَيِّتِ بَلْ
هِيَ حِفْظُ حَقِّ الْمَيِّتِ لِأَنَّ الْمَنْقُولَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحِفْظِ
وَالْقِسْمَةُ نَوْعُ حِفْظٍ له
وَأَمَّا الْعَقَارُ فَمُسْتَغْنٍ عن الْحِفْظِ فَبَقِيَتْ قِسْمَتُهُ قَطْعًا
لِحَقِّهِ فَلَا يَمْلِكُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا لَا مُنْكَرٌ هَهُنَا فَعَلَى من تُقَامُ الْبَيِّنَةُ
قُلْنَا تُقَامُ على بَعْضِ الْوَرَثَةِ من الْبَعْض وَإِنْ كَانُوا مُقِرِّينَ
وَذَلِكَ جَائِزٌ كَالْأَبِ أو الْوَصِيِّ إذَا أَقَرَّا على الصَّغِيرِ لَا
يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَلَا مُنْكِرَ هَهُنَا
كَذَا هذا
هذا إذَا أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ فَإِنْ أَقَرُّوا بِهِ
بِسَبَبِ الشِّرَاءِ من فُلَانٍ الْغَائِبِ فَإِنْ كان الْمَالُ مَنْقُولًا قُسِمَ
بَيْنَهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان عَقَارًا ذَكَرَ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ ولاتطلب منهم الْبَيِّنَةُ على
الشِّرَاءِ من فُلَانٍ وَفَرَّقَ بين الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ
وَرُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ إلَّا
بِالْبَيِّنَةِ كَالْمِيرَاثِ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا أَنَّهُمْ مَلَكُوهُ
بِالشِّرَاءِ من فُلَانٍ فَقَدْ أَقَرُّوا بِالْمِلْكِ له وَادَّعَوْا
الِانْتِقَالَ إلَيْهِمْ من جِهَتِهِ فَإِقْرَارُهُمْ مُسَلَّمٌ وَدَعْوَاهُمْ
مَمْنُوعَةٌ وَمُحْتَاجَةٌ إلَى الدَّلِيلِ وهو الْبَيِّنَةُ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وهو الْفَرْقُ بين الشِّرَاءِ وَبَيْنَ الْمِيرَاثِ
أَنَّ امْتِنَاعَ الْقِسْمَةِ في الْمَوَارِيثِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ لِمَا
يَتَضَمَّنُ من إبْطَالِ حَقِّ الْمَيِّتِ وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ في بَابِ الْبَيْعِ
إذْ لَا حَقَّ بَاقٍ لِلْبَائِعِ في الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ
فَصَادَفَتْ مَحِلَّهَا فَصَحَّتْ
هذا إذَا لم يَكُنْ في الْوَرَثَةِ كَبِيرٌ غَائِبٌ أو صَغِيرٌ حَاضِرٌ فَإِنْ كان
فَأَقَرُّوا بِالْمِيرَاثِ فَلَا يُشْكِلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بِإِقْرَارِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَقْسِمُ بين الْكِبَارِ
الْحُضُورِ فَكَيْفَ يَقْسِمُ هَهُنَا وَأَمَّا عندهما ( ( ( عندهم ) ) )
فَيَنْظُرُ إنْ كانت الدَّارُ في يَدِ الْكِبَارِ الْحُضُورِ يَقْسِمُ بَيْنَهُمْ
لِمَا بَيَّنَّا وَيَضَعُ حِصَّةَ الْغَائِبِ على يَدِ عَدْلٍ يَحْفَظُهُ لِأَنَّ
بَعْضَ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ من الْبَعْضِ وَيَنْصِبُ عن الصَّغِيرِ وَصِيًّا وَإِنْ
كانت الدَّارُ في يَدِ الْغَائِبِ الْكَبِيرِ أو في يَدِ الْحَاضِرِ الصَّغِيرِ أو
في أَيْدِيهِمَا منها شَيْءٌ لَا يَقْسِمُ حتى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ على
الْمِيرَاثِ وَعَدَدِ الْوَرَثَةِ بِالْإِجْمَاعِ لا إذَا كان في يَدِهِ من
الدَّارِ شَيْءٌ فَالْحَاجَةُ إلَى اسْتِحْقَاقِ ذلك من يَدِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا
بِبَيِّنَةٍ
هذا إذَا لم تَقُمْ الْبَيِّنَةُ على مِيرَاثِ الْعَقَارِ فَأَمَّا إذَا قَامَتْ
الْبَيِّنَةُ عليه وَطَلَبُوا الْقِسْمَةَ فإنه يَنْظُرُ إنْ كان الْحَاضِرُ
اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا وَالْغَائِبُ وَاحِدًا أو أَكْثَرَ وَفِيهِمْ صَغِيرٌ
حَاضِرٌ فإنه يَقْسِمُ وَيَعْزِلُ نَصِيبَ كل كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ فَيُوَكِّلُ
وَكِيلًا بحفظه ( ( ( يحفظه ) ) ) بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إذَا حَضَرَ
شَرِيكَانِ وَشَرِيكٌ غَائِبٌ أَنَّهُ لَا يَقْسِمُ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ ما ذَكَرْنَا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَقَارِ تَصَرُّفٌ على
الْمَيِّتِ وَقَضَاءٌ عليه بِقَطْعِ حَقِّهِ عن التَّرِكَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من
الْوَرَثَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فِيمَا له وَعَلَيْهِ وَلِهَذَا يَرُدُّ
كُلَّ وَاحِدٍ منهم بِالْعَيْبِ وَيَرُدُّ عليه فإذا كان الْحَاضِرُ اثْنَيْنِ
فَصَاعِدًا أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ أَحَدَهُمَا خَصْمًا عن الْمَيِّتِ في
الْقَضَاءِ عليه وَالْآخَرَ مَقْضِيًّا له فَتَصِحُّ الْقِسْمَةُ
وَإِنْ كان الْحَاضِرُ وَاحِدًا وَالْبَاقُونَ غَيْبًا لم يَقْسِمْ لِأَنَّهُ لَا
يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هو خَصْمًا عن الْمَيِّتِ حتى تُسْمَعَ الْبَيِّنَةُ عليه
لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ في زَمَانٍ وَاحِدٍ بِجِهَةٍ
وَاحِدَةٍ مَقْضِيًّا له وَعَلَيْهِ
وَإِنْ كان مع الْحَاضِرِ وَارِثٌ
____________________
(7/23)
صَغِيرٌ
نَصَبَ الْقَاضِي عنه وَصِيًّا وَقَسَمَ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ هَهُنَا مُمْكِنَةٌ
لِوُجُودِ مُتَقَاسِمَيْنِ حَاضِرَيْنِ
وإذا قَسَمَ الْمَنْقُولَ بين الْوَرَثَةِ بِإِقْرَارِهِمْ أو الْعَقَارَ
بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِمْ كَبِيرٌ غَائِبٌ
فَعَزَلَ نَصِيبَهُ وَوَضَعَهُ على يَدَيْ عَدْلٍ ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ
فَإِنْ أَقَرَّ كما أَقَرُّوا أُولَئِكَ فَقَدْ مَضَى الْأَمْرُ وَإِنْ أَنْكَرَ
تُرَدُّ الْقِسْمَةُ في الْمَنْقُولِ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَذَلِكَ في الْعَقَارِ عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
عليه الرَّحْمَةُ في الْعَقَارِ لَا تُرَدُّ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ
الْمَبْنِيَّةَ على الْبَيِّنَةِ قد تَقَدَّمَتْ على الْغَائِبِ فَلَا يُعْتَبَرُ
إنْكَارُهُ
وَلَوْ كانت الدَّارُ مِيرَاثًا وفيها ( ( ( وفيه ) ) ) وَصِيَّةٌ بِالثُّلُثِ
وَبَعْضُ الْوَرَثَةِ غَائِبٌ فَطَلَبَ الْمُوصَى له بِالثُّلُثِ الْقِسْمَةَ
بعدما أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على الْمِيرَاثِ وَالثُّلُثِ قَسَمَ لِأَنَّ الْمُوصَى
له بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ من الْوَرَثَةِ فإذا كان معه وَارِثٌ حَاضِرٌ
فَكَأَنَّهُ حَضَرَ اثْنَانِ من الْوَرَثَةِ وَلَوْ كان كَذَلِكَ قَسَمَ وَإِنْ
كان الْبَاقُونَ غَيْبًا
كَذَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَقْسُومُ عليه مَالِكًا لِلْمَقْسُومِ وَقْتَ
الْقِسْمَةِ وهو أَنْ يَكُونَ له فيه مِلْكٌ
فَإِنْ لم يَكُنْ لم تَجُزْ الْقِسْمَةُ لِمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْسُومِ فَوَاحِدٌ وهو أَنْ يَكُونَ
الْمَقْسُومُ مَمْلُوكًا لِلْمَقْسُومِ له وَقْتَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ
لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ
وَمُبَادَلَةُ الْبَعْضِ وَكُلُّ ذلك لَا يَصِحُّ إلَّا في الْمَمْلُوكِ
وَعَلَى هذا إذَا اُسْتُحِقَّتْ الْعَيْنُ الْمَقْسُومَةُ تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ في
الظَّاهِرِ وفي الْحَقِيقَةِ تَبَيَّنَ أنها لم تَصِحَّ وَلَوْ اُسْتُحِقَّ شَيْءٌ
منها تُبْطَلُ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ثُمَّ قد تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ وقد
لَا تُسْتَأْنَفُ وَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وقد لَا يَثْبُتُ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ أَنَّهُ إذَا وَرَدَ الِاسْتِحْقَاقُ على الْمَقْسُومِ
لَا يَخْلُو الْأَمْرُ فيه من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن وَرَدَ على كُلِّهِ
وَإِمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ فَإِنْ وَرَدَ على كل الْمَقْسُومِ تَبْطُلُ
الْقِسْمَةُ وفي الْحَقِيقَةِ لم تَصِحَّ من الْأَصْلِ لإنعدام شَرْطِ الصِّحَّةِ
وهو الْمِلْكُ الْمُشْتَرَكُ فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ
وَإِنْ وَرَدَ على جُزْءٍ من الْمَقْسُومِ لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
أَيْضًا إمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ منه وَإِمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ
مُعَيَّنٍ من أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ فَإِنْ وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ لَا يَخْلُو
من أَحَدِ وَجْهَيْنِ أَيْضًا إمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ من
النَّصِيبَيْنِ جميعا وَإِمَّا إن وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ من أَحَدِ
النَّصِيبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ وَرَدَ على جُزْءٍ شَائِعٍ من
النَّصِيبَيْنِ جميعا كَالدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ بين رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ
اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا ثُلُثًا من مُقَدَّمِهَا وَأَخَذَ الْآخَرُ
ثُلُثَيْنِ من مُؤَخَّرِهَا وقيمتهما ( ( ( وقيمتها ) ) ) سَوَاءٌ بِأَنْ كانت
قِيمَةُ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ مَثَلًا فَاسْتَحَقَّ نِصْفَ
الدَّارِ فَاسْتَأْنَفَ الْقِسْمَةَ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ
تَبَيَّنَ أَنَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا مِلْكُ الْمُسْتَحَقِّ فَتَبَيَّنَ
أَنَّ الْقِسْمَةَ لم تَصِحَّ في النِّصْفِ الشَّائِعِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ
فَبَطَلَتْ الْقِسْمَةُ أَصْلًا وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِ صَاحِبِ
الْمُقَدَّمِ شَائِعًا تُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ أَيْضًا عِنْدَ أبي يُوسُفَ
لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرِيكُهُمَا في الدَّارِ فَظَهَرَ أَنَّ
قِسْمَتَهُمَا لم تَصِحَّ دُونَهُ فَتُسْتَأْنَفُ الْقِسْمَةُ كما إذَا وَرَدَ
الِاسْتِحْقَاقُ على نِصْفِ الدَّارِ شَائِعًا وَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
عليهم ( ( ( عليهما ) ) ) الرَّحْمَة له الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَمْسَكَ ما في بيده
( ( ( يده ) ) ) وَرَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ وهو مِثْلُ ما اسْتَحَقَّ في نَصِيبِ
الْآخَرِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقِسْمَةَ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ
الْقِسْمَةَ لم تَصِحَّ في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ لَا فِيمَا وَرَاءَهُ لِأَنَّ
الْمَانِعَ من الصِّحَّةِ انْعِدَامُ الْمِلْكِ وَذَلِكَ في الْقَدْرِ
الْمُسْتَحَقِّ لَا فيما وَرَاءَهُ وَلَيْسَ من ضَرُورَةِ انْعِدَامِ الصِّحَّةِ
في الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ انْعِدَامُهَا في الْبَاقِي لِأَنَّ مَعْنَى
الْقِسْمَةِ وهو الْإِفْرَازُ وَالْمُبَادَلَةُ لم يَنْعَدِمْ بِاسْتِحْقَاقِ هذا
الْقَدْرِ في الْبَاقِي فَلَا تُبْطَلُ الْقِسْمَةُ في الْبَاقِي بِخِلَافِ ما
إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ شَائِعًا لِأَنَّ هُنَاكَ وَإِنْ وَرَدَ
الِاسْتِحْقَاقُ على النِّصْفِ فَأَوْجَبَ بُطْلَانَ الْقِسْمَةِ فيه مَقْصُودًا
لَكِنْ من ضَرُورَتِهِ بُطْلَانُ الْقِسْمَةِ في الْبَاقِي لإنعدام مَعْنَى
الْقِسْمَةِ في الْبَاقِي أَصْلًا وَهَهُنَا لم يَنْعَدِمْ فَلَا تُبْطَلُ لَكِنْ
يَثْبُتُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَجَعَ بِبَاقِي حِصَّتِهِ في نَصِيبِ شَرِيكِهِ
وَذَلِكَ مِثْلُ نِصْفِ الْمُسْتَحَقِّ لِأَنَّ الْقَدْرَ الْمُسْتَحَقَّ من
النَّصِيبَيْنِ جميعا فَيَرْجِعُ عليه بِذَلِكَ وهو رُبْعُ نَصِيبِهِ إنْ شَاءَ
وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْقِسْمَةَ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهَا وَلِدُخُولِ عَيْبِ
الشَّرِكَةِ إذْ الشَّرِكَةُ في الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ وَالْعَيْبُ
يُثْبِتُ الْخِيَارَ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْخِلَافَ في الْمَسْأَلَةِ بين أبي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ
وَلَوْ كان صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَاعَ نِصْفَ ما في يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ
النِّصْفَ الْبَاقِي فإنه يَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِرُبْعِ ما في يَدِهِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَةِ ما بَاعَ
لِشَرِيكِهِ وَيَضُمُّهُ إلَى ما في يَدِ شَرِيكِهِ وَيَقْتَسِمَانِ نِصْفَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ ما بَيَّنَّا أَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ ظَهَرَ أَنَّ
الْقِسْمَةَ لم تَصِحَّ أَصْلًا
____________________
(7/24)
وَأَنَّ
الْبَيْعَ كان فَاسِدًا فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ ما بَاعَ شَرِيكُهُ ثُمَّ
يَقْتَسِمَانِ الْبَاقِي نِصْفَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُقَدَّمَةِ إلَّا أَنَّ
ههنا ( ( ( هنا ) ) ) لَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ لِمَانِعٍ وهو الْبَيْعُ
فَيَرْجِعُ على صَاحِبِهِ بِرُبْعِ ما في يَدِهِ
وَلَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مُعَيَّنٍ من أَحَدِ النَّصِيبَيْنِ لَا تَبْطُلُ
الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ
بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هَهُنَا وَرَدَ على جُزْءٍ مُعَيَّنٍ فَلَا
يَظْهَرُ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ كان شَرِيكًا لَهُمَا فَلَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ
لَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَالْمُسْتَحَقُّ عليه إنْ شَاءَ نَقَضَ الْقِسْمَةَ
لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ أَوْجَبَ انْتِقَاضَ الْمَعْقُودِ عليه وَالِانْتِقَاضُ
في الْأَعْيَانِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ وَإِنْ شَاءَ
رَجَعَ على صَاحِبِهِ بِرُبْعِ ما في يَدِهِ لمابينا أَنَّ الْقَدْرَ
الْمُسْتَحَقَّ من النَّصِيبَيْنِ جميعا
وَلَوْ اسْتَحَقَّ كُلَّ ما في يَدِهِ لَرَجَعَ عليه بِالنِّصْفِ فإذا اسْتَحَقَّ
النِّصْفَ يَرْجِعُ بِالرُّبْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا مِائَةُ شَاةٍ بين رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا
أَرْبَعِينَ تُسَاوِي خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَخَذَ الْآخَرُ سِتِّينَ تُسَاوِي
خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَاسْتُحِقَّتْ شَاةٌ من الْأَرْبَعِينَ تَسَاوِي عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ لم تَبْطُلْ الْقِسْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْقِسْمَةَ صَادَفَتْ الْمَمْلُوكَ فِيمَا وَرَاءَ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ
وَالْمُسْتَحَقُّ مُعَيَّنٌ فَلَا تَظْهَرُ الشَّرِكَةُ هُنَا أَصْلًا فَلَا
تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ وَلَكِنْ يَرْجِعُ على شَرِيكِهِ بِحَقِّهِ وهو خَمْسَةُ
دَرَاهِمَ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ من النَّصِيبَيْنِ جميعا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كُرُّ حِنْطَةٍ بين رَجُلَيْنِ نِصْفَانِ عَشَرَةٌ منه طَعَامٌ جَيِّدٌ
وَثَلَاثُونَ رَدِيءٌ فَاقْتَسَمَاهُ فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ
جَيِّدَةً وَثَوْبًا وَأَخَذَ الْآخَرُ ثَلَاثِينَ رَدِيئًا حتى جَازَتْ
الْقِسْمَةُ فَاسْتَحَقَّ من الثَّلَاثِينَ عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ يَرْجِعُ على
صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ ما ذَكَرَهُ في
الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِثُلُثِ الثَّوْبِ وَثُلُثِ الطَّعَامِ
الْجَيِّدِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ وَرَدَ على عَشَرَةٍ شَائِعَةٍ في الثَّلَاثِينَ
فَكَانَ الْمُسْتَحَقُّ في الْحَقِيقَةِ من كل عَشَرَةٍ ثُلُثَهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ
الرُّجُوعَ بِثُلُثِ الطَّعَامِ الْجَيِّدِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ طَرِيقَ جَوَازِ هذه الْقِسْمَةِ أَنْ تَكُونَ
الْعَشَرَةُ بِمُقَابَلَةِ الْعَشَرَةِ وَالْعِشْرُونَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ
فإذا اسْتَحَقَّ منه عَشَرَةً وإنه بِمُقَابِلَةِ نِصْفِ الثَّوْبِ فَيَرْجِعُ
عليه بِنِصْفِ الثَّوْبِ
وَقَوْلُهُ لِلْمُسْتَحِقِّ عَشَرَةٌ شَائِعَةٌ في الثَّلَاثِينَ لَا الْعَشَرَةِ
الْمُعَيَّنَةِ وَهِيَ التي من حِصَّةِ الثَّوْبِ
فَنَعَمْ هذا هو الْحَقِيقَةُ إلَّا أَنَّا لو عَمِلْنَا بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ
لَاحْتَجْنَا إلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ وَإِعَادَتِهَا
وَلَوْ صَرَفْنَا الِاسْتِحْقَاقَ إلَى عَشَرَةٍ هِيَ من حِصَّةِ الثَّوْبِ لم
نَحْتَجْ إلَى ذلك
وَتَصَرُّفُ الْعَاقِلِ تَجِبُ صِيَانَتُهُ عن النَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ ما
أَمْكَنَ وَذَلِكَ فِيمَا قُلْنَاهُ
وَعَلَى هذا أَرْضٌ بين رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ قُسِمَتْ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ
النَّصِيبَيْنِ وقد بَنَى صَاحِبُهُ فيه بِنَاءً أو غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ
الْبِنَاءَ وَقَلَعَ الْغَرْسَ لم يَرْجِعْ الْمُسْتَحَقُّ عليه على صَاحِبِهِ
بِشَيْءٍ من قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ قِسْمَةٍ وَقَعَتْ بِإِجْبَارِ الْقَاضِي أو
بِاخْتِيَارِ الشَّرِيكَيْنِ على الْوَجْهِ الذي يَجْبُرُهُمَا الْقَاضِي لو
تَرَافَعَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَحَدُ النَّصِيبَيْنِ وقد بَنَى صَاحِبُهُ
فيه بِنَاءً أو غَرَسَ غَرْسًا فَنَقَضَ وَقَلَعَ لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ من ذلك
على صَاحِبِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ مَجْبُورٌ على الْقِسْمَةِ من جِهَةِ الْقَاضِي
فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الْقَاضِي أَمَّا إذَا وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ بِإِجْبَارِ
الْقَاضِي فَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا إذَا اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا لِأَنَّ ذلك قِسْمَةُ جَبْرٍ من حَيْثُ
الْمَعْنَى لدخولها ( ( ( لدخولهما ) ) ) تَحْتَ جَبْرِ الْقَاضِي عِنْدَ
الْمُرَافَعَةِ إلَيْهِ وإذا كان مَجْبُورًا عليه فلم يُوجَدْ منه ضَمَانُ السلام
( ( ( السلامة ) ) ) فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ إذْ هو ضَمَانُ
السَّلَامَةِ
وَنَظِيرُ هذا الشَّفِيعُ إذَا أَخَذَ الْعَقَارَ من الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ
وَبَنَى فيه أو غَرَسَ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ وَقُلِعَ الْبِنَاءُ لَا يَرْجِعُ
بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ على الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ ما مَلَكَهُ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ
أُخِذَ منه جَبْرًا
وَكَذَلِكَ قال مُحَمَّدٌ في الْجَارِيَةِ الْمَأْسُورَةِ إذَا اشْتَرَاهَا رَجُلٌ
من أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ
اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ على الذي أَخَذَهَا من
يَدِهِ لِأَنَّهُ لم يَأْخُذْهَا منه بِاخْتِيَارِهِ بَلْ كُرْهًا وَجَبْرًا
وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا وطىء جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا ثُمَّ
اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ على الِابْنِ لِأَنَّهُ
تَمَلَّكَهَا من غَيْرِ اخْتِيَارِ الِابْنِ
وقال أبو يُوسُفَ إذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَأَبَقَتْ من يَدِهِ فَأَدَّى ضَمَانَهَا
ثُمَّ عَادَتْ الْجَارِيَةُ فَاسْتَوْلَدَهَا الْغَاصِبُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ له
أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ على الْمَوْلَى لِأَنَّهُ كان مُخْتَارًا في
أَخْذِ الْقِيمَةِ من الْغَاصِبِ فَكَانَ ضَامِنًا السَّلَامَةَ فَيَرْجِعُ عليه
بِحُكْمِ الضَّمَانِ
وَعَلَى هذا دَارَانِ أو أَرْضَانِ بين رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا فَأَخَذَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا إحْدَاهُمَا وَبَنَى فيها ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ بِنِصْفِ
قِيمَةِ الْبِنَاءِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ على
قِسْمَةِ الْجَمْعِ في الدُّورِ العقارات ( ( ( والعقارات ) ) ) عِنْدَهُ فإذا
اقْتَسَمَا بِأَنْفُسِهِمَا كانت الْقِسْمَةُ مِنْهُمَا مُبَادَلَةً
____________________
(7/25)
فَأَشْبَهَتْ
الْبَيْعَ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا سَلَامَةَ النِّصْفِ
لِصَاحِبِهِ فإذا لم يَسْلَمْ يَرْجِعُ عليه بِحُكْمِ الضَّمَانِ كما في الْبَيْعِ
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبَرُ على هذه الْقِسْمَةِ
عِنْدَهُمَا فَأَشْبَهَ اسْتِحْقَاقَ النِّصْفِ من دَارٍ وَاحِدَةٍ
وقال بَعْضُهُمْ يَرْجِعُ وَعَلَيْهِ اعْتَمَدَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ
وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُجْبَرُ على قِسْمَةِ الْجَمْعِ هَهُنَا
عِنْدَهُمَا إذَا رَأَى الْجَمْعَ أَعْدَلَ وَلَا يُعْرَفُ ذلك من رَأْيِ
الْقَاضِي إذَا فَعَلَا بِأَنْفُسِهِمَا
وَلَوْ كَانَتَا جَارِيَتَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَارِيَةً
فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ على شَرِيكِهِ بِالنِّصْفِ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبَرُ على قِسْمَةِ الرَّقِيقِ عِنْدَهُ
فإذا اقْتَسَمَا بِتَرَاضِيهِمَا أَشْبَهَ الْبَيْعَ على ما ذَكَرْنَا
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ
كَذَا ذَكَرَهُ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ وَفَرَّقَ بين الرَّقِيقِ وَبَيْنَ
الدُّورِ
وَبَيْنَهُمَا فَرْقٌ لِأَنَّ الْقَاضِيَ هُنَاكَ لَا يُجْبَرُ على الْجَمْعِ
عَيْنًا وَلَكِنَّهُ يُرَاعِي الْأَعْدَلَ في ذلك من التَّفْرِيقِ وَالْجَمْعِ
وَهَهُنَا يُجْبَرُ على الْجَمْعِ لَتَعَذُّرِ التَّفْرِيقِ فلم يُوجَدْ ضَمَانُ
السلام ( ( ( السلامة ) ) ) من صَاحِبِهِ فَلَا يَرْجِعُ عليه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ إذَا اقْتَسَمَ قَوْمٌ دَارًا وَفِيهَا كَنِيفٌ شَارِعٌ على
الطَّرِيقِ أو ظلة فَإِنْ كان على طَرِيقِ الْعَامَّةِ لَا يُحْسَبُ ذَرْعُ
الْكَنِيفِ وَالظِّلِّ من ذَرْعِ الدَّارِ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْأَرْضِ لَيْسَتْ
بِمَمْلُوكَةٍ لِأَحَدٍ بَلْ هِيَ حَقُّ الْعَامَّةِ وَإِنْ كان على طَرِيقٍ
غَيْرِ نَافِذٍ يُحْسَبُ ذلك من ذَرْعِ الدَّارِ لِأَنَّ له في السِّكَّةِ
مَسْلَكًا فَأَشْبَهَ عُلُوَّ الْبَيْتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَاتُ الْقِسْمَةِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ تَكُونَ عَادِلَةً غير
جَائِرَةٍ
وَهِيَ أَنْ تَقَعَ تَعْدِيلًا لِلْأَنْصِبَاءِ من غَيْرِ زِيَادَةٍ على الْقَدْرِ
الْمُسْتَحَقِّ من النَّصِيبِ وَلَا نُقْصَانَ عنه لِأَنَّ الْقِسْمَةَ إفْرَازُ
بَعْضِ الْأَنْصِبَاءِ وَمُبَادَلَةُ الْبَعْضِ وَمَبْنَى الْمُبَادَلَاتِ على
الْمُرَاضَاةِ فإذا وَقَعَتْ جَائِرَةً لم يُوجَدْ التَّرَاضِي وَلَا إفْرَازُ
نَصِيبِهِ بِكَمَالِهِ لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ في الْبَعْضِ فلم تَجُزْ وَتُعَادُ
وَعَلَى هذا إذَا ظَهَرَ الْغَلَطُ في الْقِسْمَةِ الْمُبَادَلَةِ بِالْبَيِّنَةِ
أو بِالْإِقْرَارِ تُسْتَأْنَفُ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لم يَسْتَوْفِ حَقَّهُ
فَظَهَرَ أَنَّ مَعْنَى الْقِسْمَةِ لم يَتَحَقَّقْ بِكَمَالِهِ وَلَوْ ادَّعَى
أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْغَلَطَ في الْقِسْمَةِ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إمَّا إن كان الْمُدَّعِي أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَإِمَّا إن
كان لم يُقِرَّ بِذَلِكَ فَإِنْ كان قد أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لَا
يُسْمَعُ منه دَعْوَى الْغَلَطِ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا في دَعْوَاهُ لِأَنَّ
الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الْحَقِّ إقْرَارٌ بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ
بِكَمَالِهِ وَدَعْوَى الْغَلَطِ إخْبَارٌ أَنَّهُ لم يَصِلْ إلَيْهِ حَقُّهُ
بِكَمَالِهِ فَيَتَنَاقَضُ وَإِنْ كان لم يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ لَا
تُعَادُ الْقِسْمَةُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قد صَحَّتْ من
حَيْثُ الظَّاهِرُ فَلَا يَجُوزُ نَقْضُهَا إلَّا بِحُجَّةٍ
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أُعِيدَتْ الْقِسْمَةُ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ لم
تُقَمْ له بَيِّنَةٌ وَأَنْكَرَ شَرِيكُهُ فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ حَلَّفَهُ على
ما ادَّعَى من الْغَلَطِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عليه حَقًّا هو جَائِزُ الْوُجُودِ
وَالْعَدَمِ وهو يُنْكِرُ فَيَحْلِفُ
وَبَيَانُ ذلك دَارٌ بين رَجُلَيْنِ اقْتَسَمَا وَاسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا حَقَّهُ ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا غَلَطًا في الْقِسْمَةِ لَا تُعَادُ
الْقِسْمَةُ وَلَكِنْ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ على الْغَلَطِ فَإِنْ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ وَإِلَّا فَيَحْلِفُ شَرِيكُهُ إنْ شَاءَ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ
حَلَفَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَنَكَلَ الْآخَرُ فَإِنْ كان الشُّرَكَاءُ
ثَلَاثَةً يَجْمَعُ بين نَصِيبِ الْمُدَّعِي وَبَيْنَ نَصِيبِ النَّاكِلِ
فَيَقْسِمُ بَيْنَهُمَا على قَدْرِ نَصِيبِهِمَا لِأَنَّ نُكُولَهُ دَلِيلُ كَوْنِ
الْمُدَّعِي صَادِقًا في دَعْوَاهُ في حَقِّهِ فَكَانَ حُجَّةً في حَقِّهِ لَا في
حَقِّ الشَّرِيكِ الْحَالِفِ فلم تَصِحَّ الْقِسْمَةُ في حَقِّهِمَا فَتُعَادُ في
قَدْرِ نَصِيبِهِمَا
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى الْغَلَطَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَالْقَبْضِ في الْمَكِيلَاتِ
وَالْمَوْزُونَاتِ وَالْمَذْرُوعَاتِ وَلَوْ كان بين رَجُلَيْنِ دَارَانِ اقتسماها
( ( ( اقتسماهما ) ) ) فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا ثُمَّ ادَّعَى
أَحَدُهُمَا الْغَلَطَ في الْقِسْمَةِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ على ذلك
فَالْقِسْمَةُ بَاطِلَةٌ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا لَا
تَبْطُلُ وَلَكِنْ يقضي لِلْمُدَّعِي بِذَلِكَ الذَّرْعِ من الدَّارِ الْأُخْرَى
وَبَنَوْا هذه الْمَسْأَلَةَ على بَيْعِ ذِرَاعٍ من دَارٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ
عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ
وَوَجْهُ الْبِنَاءِ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في الدُّورِ بِالتَّرَاضِي
جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَإِنْ كان لَازِمًا في
نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ لَكِنْ هذا النَّوْعُ بِالْمُبَادَلَاتِ أَشْبَهُ
وإذا تَحَقَّقَتْ الْمُبَادَلَةُ صَحَّ الْبِنَاءُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ اقْتَسَمَا دَارًا بَيْنَهُمَا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً
ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا بَيْتًا في يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ وَقَعَ في
قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ بَيِّنَةً سُمِعَتْ بَيِّنَتُهُ وَإِنْ أَقَامَا جميعا
الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي لِأَنَّهُ خَارِجٌ وَإِنْ كان قبل
الْإِشْهَادِ وَالْقَبْضِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا
وَكَذَا لو اخْتَلَفَا في الْحُدُودِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدًّا في
يَدِ صَاحِبِهِ أَنَّهُ أَصَابَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قضى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِالْحَدِّ الذي في يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ
____________________
(7/26)
وَاحِدٍ
مِنْهُمَا عَمَّا في يَدِ صَاحِبِهِ خَارِجٌ
وَإِنْ قَامَتْ لِأَحَدِهِمَا بَيِّنَةٌ يقضي بِبَيِّنَتِهِ وَإِنْ لم تُقَمْ
لَهُمَا بَيِّنَةٌ تَحَالَفَا
وَهَلْ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِنَفْسِ التحالف ( ( ( التالف ) ) ) أَمْ يَحْتَاجُ
فيه إلَى فَسْخِ الْقَاضِي اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه على ما عُرِفَ في
الْبُيُوعِ
ولن اقْتَسَمَ رَجُلَانِ أَقْرِحَةً فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا قَرَاحَيْنِ وَالْآخَرُ
أَرْبَعَةً ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْقَرَاحَيْنِ أَنَّ أَحَدَ الْأَقْرِحَةِ الْأَرْبَعَةِ
أَصَابَهُ في قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ له بِهِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ هذا في أَثْوَابٍ اقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ بعضها ( ( (
بعضهما ) ) ) ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ أَحَدَ الْأَثْوَابِ الذي في يَدِ
صَاحِبِهِ أَصَابَهُ في قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ له بِهِ
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على صَاحِبِهِ ثَوْبًا مِمَّا في يَدِهِ
أَنَّهُ أَصَابَهُ في قِسْمَتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قضى لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا بِمَا في يَدِ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمَّا في يَدِ
صَاحِبِهِ خَارِجٌ
وَلَوْ اقْتَسَمَا مِائَةَ شَاةٍ فَأَصَابَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةً وَخَمْسِينَ
وَأَصَابَ الْآخَرُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ ادَّعَى صَاحِبُ الْأَوْكَسِ
الْغَلَطَ في الْقِسْمَةِ أو الْخَطَأَ في التَّقْوِيمِ لم تُقْبَلْ منه إلَّا
بِبَيِّنَةٍ
وَلَوْ قال أَخْطَأْنَا في الْعَدَدِ وَأَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا خَمْسِينَ
وَهَذِهِ الْخَمْسَةُ في قِسْمَتِهِ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ تَحَالَفَا وَإِنْ
أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ رُدَّتْ الْقِسْمَةُ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ أَخَذْتَ أنت إحْدَى وَخَمْسِينَ غَلَطًا
وَأَخَذْتُ أنا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ وقال الْآخَرُ ما أَخَذْتُ إلَّا خَمْسِينَ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مع يَمِينِهِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِاسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ
على حَقِّهِ وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ قِسْمَةُ عَرْصَةِ الدَّارِ بِالذِّرَاعِ أَنَّهُ
يُحْسَبُ في الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعَيْنِ من الْعُلْوِ بِذِرَاعٍ من السُّفْلِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُحْسَبُ ذِرَاعٌ من السُّفْلِ بِذِرَاعٍ من الْعُلْوِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُحْسَبُ على الْقِيمَةِ دُونَ الذَّرْعِ
زَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ منهم أَنَّ التَّعْدِيلَ فِيمَا يَقُولُهُ وَالْخِلَافُ في
هذه الْمَسْأَلَةِ بين أبي حَنِيفَةَ وَبَيْنَ أبي يُوسُفَ مَبْنِيٌّ على
الْخِلَافِ في مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ ليس له أَنْ
يَبْنِيَ على الْعُلْوِ من غَيْرِ رِضَا صَاحِبِ السُّفْلِ وَإِنْ لم يَضُرَّ
بِصَاحِبِ السُّفْلِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ له أَنْ يَبْنِيَ إنْ لم يَضُرَّ الْبِنَاءُ بِهِ وَوَجْهُ
الْبِنَاءِ أَنَّ صَاحِبَ الْعُلْوِ إذَا لم يَمْلِكْ الْبِنَاءَ على عُلُوِّهِ
عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كان لِلْعُلُوِّ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ
وَهِيَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى فَحَسْبُ وَلِلسُّفْلِ مَنْفَعَتَانِ مَنْفَعَةُ
السُّكْنَى وَمَنْفَعَةُ الْبِنَاءِ عليه
وَكَذَا السُّفْلُ كما يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى يَصْلُحُ لِجَعْلِ الدَّوَابِّ فيه
فَأَمَّا الْعُلْوُ فَلَا يَصْلُحُ إلَّا لِلسُّكْنَى خَاصَّةً فَكَانَ لِلسُّفْلِ
مَنْفَعَتَانِ وَلِلْعُلْوِ مَنْفَعَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عِنْدَهُ
على الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَمَّا مَلَكَ صَاحِبُ
الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ على عُلُوِّهِ كانت له مَنْفَعَتَانِ أَيْضًا فَاسْتَوَى
الْعُلْوُ وَالسُّفْلُ في الْمَنْفَعَةِ فَوَجَبَ التَّعْدِيلُ بِالسَّوِيَّةِ
بَيْنَهُمَا في الذَّرْعِ
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ فَإِنَّمَا اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْبِلَادِ
وَأَهْلَهَا في ذلك مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْهُمْ من يَخْتَارُ السُّفْلَ على الْعُلْوِ
وَمِنْهُمْ من يَخْتَارُ الْعُلْوَ على السُّفْلِ فَكَانَ التَّعْدِيلُ في
اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَالْعَمَلُ في الْمَسْأَلَةِ على قَوْلِ مُحَمَّدٍ
رَحِمَهُ اللَّهُ وهو اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا فَضَّلَ السُّفْلَ على الْعُلْوِ
بِنَاءً على عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ من اخْتِيَارِهِمْ السُّفْلَ على الْعُلْوِ
وأبو يُوسُفَ إنَّمَا سَوَّى بَيْنَهُمَا على عَادَةِ أَهْلِ بَغْدَادَ
لِاسْتِوَاءِ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ عِنْدَهُمْ فَأَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا الْفَتْوَى على عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ
وَمُحَمَّدٌ بَنَى الْفَتْوَى على الْمَعْلُومِ من اخْتِلَافِ الْعَادَاتِ
بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ من حَيْثُ الصُّورَةُ
لَا من حَيْثُ الْمَعْنَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَبَيَانُ ذلك في سُفْلٍ بين رَجُلَيْنِ وَعُلُوٍّ من بَيْتٍ آخَرَ بَيْنَهُمَا
أراد ( ( ( أرادا ) ) ) قِسْمَتَهُمَا يُقْسَمُ الْبِنَاءُ على الْقِيمَةِ بِلَا
خِلَافٍ
وَأَمَّا الْعَرْصَةُ فَتُقْسَمُ بِالذَّرْعِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِالْقِيمَةِ
ثُمَّ اخْتَلَفَ أبو حَنِيفَةَ وأبو يُوسُفَ فِيمَا بَيْنَهُمَا في كَيْفِيَّةِ
الْقِسْمَةِ بِالذَّرْعِ فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعَيْنِ على
الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ذِرَاعٌ بِذِرَاعٍ
وَلَوْ كان بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ عُلُوٌّ وَسُفْلٌ وَعُلُوٌّ من بَيْتٍ آخَرَ
فَعِنْدَ أبي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ في الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ من الْعُلْوِ
وَالسُّفْلِ بِثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ من الْعُلْوِ أَرْبَاعًا عِنْدَهُ لِمَا
ذَكَرْنَا من الْأَصْلِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ أَرْبَاعًا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ذِرَاعٌ من السُّفْلِ وَالْعُلْوِ بِذِرَاعَيْنِ من
الْعُلْوِ لِاسْتِوَاءِ السُّفْلِ وَالْعُلْوِ عِنْدَهُ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ
أَثْلَاثًا
وَلَوْ كان بَيْنَهُمَا بَيْتٌ تَامٌّ سُفْلٌ وَعُلُوٌّ وَسُفْلٌ آخَرُ فَعِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ يُحْسَبُ في الْقِسْمَةِ كُلُّ ذِرَاعٍ من السُّفْلِ وَالْعُلْوِ
بِذِرَاعٍ وَنِصْفٍ من السُّفْلِ وَذِرَاعٍ من سُفْلِ الْبَيْتِ بِذِرَاعٍ من
السُّفْلِ الْآخَرِ وَذِرَاعٍ من عُلُوِّهِ بِنِصْفِ ذِرَاعٍ من السُّفْلِ
الْآخَرِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ ذِرَاعٌ من التَّامِّ بِذِرَاعَيْنِ من السُّفْلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ ما إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَفَضَّلَا بَعْضَهَا
على بَعْضٍ بِالدَّرَاهِمِ أو الدَّنَانِيرِ
____________________
(7/27)
لِفَضْلِ
قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ أَنَّ الْقِسْمَةَ جَائِزَةٌ لِأَنَّهَا
وَقَعَتْ عَادِلَةً من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ الدَّارَ قد يُفَضَّلُ بَعْضُهَا
على بَعْضٍ بِالْبِنَاءِ وَالْمَوْضِعِ فَكَانَ ذلك تفضيلا ( ( ( تفصيلا ) ) ) من
حَيْثُ الصُّورَةُ تَعْدِيلًا من حَيْثُ الْمَعْنَى وَلَوْ لم يُسَمِّيَا قِيمَةَ
فَضْلِ الْبِنَاءِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ جَازَتْ الْقِسْمَةُ اسْتِحْسَانًا وَتَجِبُ
قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ وَإِنْ لم يُسَمِّيَاهَا في الْقِسْمَةِ
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا تَجُوزَ الْقِسْمَةُ لِأَنَّ هذه قِسْمَةُ بَعْضِ الدَّارِ
دُونَ بَعْضٍ لِأَنَّ الْعَرْصَةَ مع الْبِنَاءِ بِمَنْزِلَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ
وَقِسْمَةُ الْبِنَاءِ بِالْقِيمَةِ فإذا وُجِدَتْ الْقِسْمَةُ مَجْهُولَةً
فَوَقَعَتْ الْقِسْمَةُ لِلْعَرْصَةِ دُونَ الْبِنَاءِ بَقِيَتْ وَإِنَّهَا غَيْرُ
جَائِزَةٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَرْصَةِ قد صَحَّتْ بِوُقُوعِهَا في
مَحِلِّهَا وهو الْمِلْكُ وَلَا صِحَّةَ لها إلَّا بِقِسْمَةِ الْبِنَاءِ وَذَلِكَ
بِالْقِيمَةِ فَتَجِبُ على صَاحِبِ الْفَضْلِ قِيمَةُ فَضْلِ الْبِنَاءِ وَإِنْ لم
يُسَمَّ ضَرُورَةً صِحَّةَ الْقِسْمَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ تَخْرُجُ أَيْضًا قِسْمَةُ الْجَمْعِ في الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ
إنها غَيْرُ جَائِزَةٍ جَبْرًا بِالْإِجْمَاعِ لِتَعَذُّرِ تَعْدِيلِ
الْأَنْصِبَاءِ إلَّا بِالْقِيمَةِ وَإِنَّهَا لَيْسَتْ مَحِلَّ الْقِسْمَةِ على
ما مَرَّ وَلَا يَجُوزُ في الرَّقِيقِ وَالدُّورِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ لِأَنَّهَا في حُكْمِ الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ وَلَا تَقَعُ
الْقِسْمَةُ فيها عَادِلَةً أو جائزة ( ( ( جائرة ) ) ) وَلَا تُقْسَمُ
الْأَوْلَادُ في بُطُونِ الْغَنَمِ لِتَعَذُّرِ التَّعْدِيلِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ رَدُّ الْمَقْسُومِ بِالْعَيْبِ في نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ
لِأَنَّهُ إذَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ فَقَدْ ظَهَرَ أنها وَقَعَتْ جَائِرَةً لَا
عَادِلَةً فَكَانَ له حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كما في الْبَيْعِ وَلَوْ
امْتَنَعَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لِوُجُودِ الْمَانِعِ منه يَرْجِعُ بِالنُّقْصَانِ
كما في الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ في الْبَيْعِ يَرْجِعُ بِتَمَامِ النُّقْصَانِ وفي
الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ بِالنِّصْفِ لِأَنَّ النُّقْصَانَ في الْقِسْمَةِ يَرْجِعُ
بِالنَّصِيبَيْنِ جميعا فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ النُّقْصَانِ من نَصِيبِ شَرِيكِهِ
وَأَمَّا الرَّدُّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ فَيَثْبُتُ في قِسْمَةِ
الرِّضَا لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فيها مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَهَذَا النَّوْعُ
أَشْبَهُ بِالْمُبَادَلَاتِ لِوُجُودِ الْمُرَاضَاةِ من الْجَانِبَيْنِ فَيَثْبُتُ
فيه خِيَارُ الرُّؤْيَةِ كما في الْبَيْعِ وَلَا يَثْبُتُ في قِسْمَةِ الْقَضَاءِ
لَا لِخُلُوِّهَا عن الْمُبَادَلَةِ بَلْ لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ
لِأَنَّهُ لو رَدَّهَا بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالشَّرْطِ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي
ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ في الْقِسْمَةِ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَتْبَعُ
الْمُبَادَلَةَ الْمَحْضَةَ لِثُبُوتِهَا على مُخَالِفَةِ الْقِيَاسِ
وَالْقِسْمَةُ مُبَادَلَةٌ من وَجْهٍ فَلَا تَحْتَمِلُ الشُّفْعَةَ
وَلِأَنَّهَا لو وَجَبَتْ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ تَجِبَ لِلشَّرِيكِ أو لِلْجَارِ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ تَجِبُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ
وَالْمُشْتَرِي وَلَا سَبِيلَ إلَى الثَّانِي لِأَنَّ الشَّرِيكَ أَوْلَى من
الْجَارِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الْوُجُوبُ عِنْدَ الطَّلَبِ حتى يُجْبَرَ على الْقِسْمَةِ فِيمَا
يَنْتَفِعُ كُلُّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ بِقِسْمَتِهِ وَكَذَا فِيمَا
يَنْتَفِعُ بها أَحَدُهُمَا وَيَسْتَضِرُّ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُنْتَفِعِ
بِالْإِجْمَاعِ وَعِنْدَ طَلَبِ الْمُسْتَضِرِّ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ
وَالْقُدُورِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقد ذَكَرْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا اللُّزُومُ بَعْدَ تَمَامِهَا في النَّوْعَيْنِ جميعا حتى لَا
يَحْتَمِلَ الرُّجُوعُ عنها إذَا تَمَّتْ
وَأَمَّا قبل التَّمَامِ فَكَذَلِكَ في أَحَدِ نَوْعَيْ الْقِسْمَةِ وهو قِسْمَةُ
الْقَضَاءِ دُونَ النَّوْعِ الْآخَرِ وهو قِسْمَةُ الشُّرَكَاءِ
بَيَانُ ذلك أَنَّ الدَّارَ إذَا كانت مُشْتَرَكَةً بين قَوْمٍ فَقَسَمَهَا
الْقَاضِي أو الشُّرَكَاءُ بِالتَّرَاضِي فَخَرَجَتْ السِّهَامُ كُلُّهَا
بِالْقُرْعَةِ لَا يَجُوزُ لهم الرُّجُوعُ
وَكَذَا إذَا خَرَجَ الْكُلُّ إلَّا سَهْمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ ذلك خُرُوجُ
السِّهَامِ كُلِّهَا لِكَوْنِ ذلك السَّهْمُ مُتَعَيَّنًا بِمَنْ بَقِيَ من
الشُّرَكَاءِ وَإِنْ خَرَجَ بَعْضُ السِّهَامِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَذَلِكَ في
قِسْمَةِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ لو رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَأَجْبَرَهُ الْقَاضِي على
الْقِسْمَةِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُهُ
وَأَمَّا في قِسْمَةِ التَّرَاضِي فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ لِأَنَّ قِسْمَةَ
التَّرَاضِي لَا تَتِمُّ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِ السِّهَامِ كُلِّهَا وَكُلُّ
عَاقِدٍ بِسَبِيلٍ من الرُّجُوعِ عن الْعَقْدِ قبل تَمَامِهِ كما في الْبَيْعِ
وَنَحْوِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْقِسْمَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
حُكْمُ الْقِسْمَةِ ثُبُوتُ اخْتِصَاصٍ بِالْمَقْسُومِ عَيْنًا تَصَرُّفًا فيه
فَيَمْلِكُ الْمَقْسُومُ له في الْمَقْسُومِ جَمِيعَ التَّصَرُّفَاتِ
الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ حتى لو وَقَعَ في نَصِيبِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ
سَاحَةٌ لَا بِنَاءَ فيها وَوَقَعَ الْبِنَاءُ في نَصِيبِ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ
السَّاحَةِ أَنْ يَبْنِيَ في سَاحَتِهِ وَلَهُ أَنْ يَرْفَعَ بِنَاءَهُ وَلَيْسَ
لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ أَنْ يَمْنَعَهُ وَإِنْ كان يُفْسِدُ عليه الرِّيحَ
وَالشَّمْسَ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ في مِلْكِ نَفْسِهِ فَلَا يَمْنَعُ عنه
وَكَذَا له أَنْ يَبْنِيَ في سَاحَتِهِ مَخْرَجًا أو تَنُّورًا أو حَمَّامًا أو
رَحًى لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا له أَنْ يُقْعِدَ في بِنَائِهِ حَدَّادًا أو قَصَّارًا وَإِنْ كان
يَتَأَذَّى بِهِ جَارُهُ لِمَا قُلْنَا
وَلَهُ أَنْ يَفْتَحَ بَابًا أو كُوَّةً لِمَا ذَكَرْنَا
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَرْفَعَ الْجِدَارَ أَصْلًا فَفَتْحُ الْبَابِ
وَالْكُوَّةِ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يَحْفِرَ في مِلْكِهِ بِئْرًا أو بَالُوعَةً أو
كِرْبَاسًا وَإِنْ كان بهى ( ( ( يهي ) ) ) بِذَلِكَ حَائِطَ جَارِهِ وَلَوْ
طَلَبَ جَارُهُ تَحْوِيلَ ذلك لم يُجْبَرْ على التَّحْوِيلِ وَلَوْ سَقَطَ الْحَائِطُ
من ذلك
____________________
(7/28)
لَا
يُضْمَنُ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ منه في مِلْكِ الْغَيْرِ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا
يُمْنَعَ الْإِنْسَانُ من التَّصَرُّفِ في مِلْكِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ الْكَفَّ
عَمَّا يُؤْذِي الْجَارَ أَحْسَنُ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ
شيئا وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَالْجَارِ الْجُنُبِ
} خَصَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَلَئِنْ
لَا يُحْسِنُ إلَيْهِ فَلَا أَقَلَّ من أَنْ يَكُفَّ عنه أَذَاهُ
وَعَلَى هذا دَارٌ بين رَجُلَيْنِ وَلِرَجُلٍ فيها طَرِيقٌ فَأَرَادَا أَنْ
يَقْتَسِمَاهَا ليس لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ مَنْعُهُمَا عن الْقِسْمَةِ لِأَنَّهُمَا
بِالْقِسْمَةِ مُتَصَرِّفَانِ في مِلْكِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا يُمْنَعَانِ عنه
فَيَقْتَسِمَانِ ما وَرَاءَ الطَّرِيقِ وَيَتْرُكَانِ الطَّرِيقَ على حَالِهِ على
سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ لِمَا ذَكَرْنَا من قَبْلُ
وَلَوْ بَاعُوا الدَّارَ وَالطَّرِيقَ فَإِنْ كانت رَقَبَةُ الطَّرِيقِ
مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمْ قَسَمُوا مَمَرَّ الطَّرِيقِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا
وَإِنْ كانت الرَّقَبَةُ لِشَرِيكَيْ الدَّارِ وَلِصَاحِبِ الطَّرِيقِ حَقُّ
الْمُرُورِ حَكَى الْقُدُورِيُّ عن الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنْ لَا
شَيْءَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ من الثَّمَنِ وَيَكُونُ الثَّمَنُ كُلُّهُ
لِلشَّرِيكَيْنِ
وَرَوَى مُحَمَّدٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ يَضْرِبُ بِحَقِّهِ من
الْمَنْفَعَةِ وَيَضْرِبُ صَاحِبُ الطَّرِيقِ بِحَقِّ الْمُرُورِ وَطَرِيقُ
مَعْرِفَةِ ذلك أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الْعَرْصَةِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ
وَيَنْظُرَ إلَى قِيمَتِهَا وَفِيهَا طَرِيقٌ فَيَكُونَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ
فَضْلُ ما بَيْنَهُمَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ نِصْفُ قِيمَةِ
الْمَنْفَعَةِ إذَا كان فيها طَرِيقٌ
وَجْهُ ما حُكِيَ عن الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا
يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ أَلَا
تَرَى أَنَّهُ لو بَاعَهُ وَحْدَهُ لم يَجُزْ فإذا بِيعَ الطَّرِيقُ بِإِذْنِهِ
فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّهُ أَصْلًا فَلَا يُقَابِلُهُ ثَمَنٌ وج ( ( ( وجه ) ) ) ما
رُوِيَ عن محم ( ( ( محمد ) ) ) أَنَّ حَقَّ الْمُرُورِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ
مَقْصُودًا بَلْ يَحْتَمِلُهُ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ وَهَهُنَا ما بِيعَ مَقْصُودًا
بَلْ تَبَعًا لِلرَّقَبَةِ فَيُقَابِلُهُ الثَّمَنُ لَكِنْ ثَمَنُ الْحَقِّ لَا
ثَمَنُ الْمِلْكِ على ما ذَكَرْنَا
وَكَذَلِكَ دَارٌ بين رَجُلَيْنِ فيها مَسِيلُ الْمَاءِ فَأَرَادَا أَنْ
يَقْتَسِمَاهَا ليس لِصَاحِبِ الْمَسِيلِ مَنْعُهُمَا من الْقِسْمَةِ لِمَا
قُلْنَا بَلْ يَقْسِمُ الدَّارَ وَيَتْرُكُ الْمَسِيلَ على حَالِهِ كما في
الطَّرِيقِ
وَكَذَلِكَ لو كان في الدَّارِ مَنْزِلٌ لِرَجُلٍ وَطَرِيقُهُ في الدَّارِ فَأَرَادَا
أَنْ يَقْتَسِمَا الدَّارَ لَا يُمْنَعَانِ من الْقِسْمَةِ وَلَكِنْ يَتْرُكَانِ
طَرِيقَ الْمَنْزِلِ على حَالِهِ على سَعَةِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ لَا على سَعَةِ
بَابِ الْمَنْزِلِ على ما ذَكَرْنَا
وَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَفْتَحَ إلَى هذا الطَّرِيقِ بَابًا
آخَرَ له ذلك لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ نَفْسِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّ له أَنْ يَرْفَعَ الْحَائِطَ كُلَّهُ فَهَذَا أَوْلَى
وَلَوْ اشْتَرَى صَاحِبُ الْمَنْزِلِ دَارًا من وَرَاءِ الْمَنْزِلِ وَفَتَحَ
بَابَهُ إلَى الْمَنْزِلِ فَإِنْ كان سَاكِنُ الدَّارِ وَالْمَنْزِلِ وَاحِدًا
فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ من الدَّارِ إلَى الْمَنْزِلِ وَمِنْ الْمَنْزِلِ إلَى
الطَّرِيقِ الذي في الدَّارِ الْأُولَى لِأَنَّ له حَقَّ الْمُرُورِ في هذا
الطَّرِيقِ
وَإِنْ كان سَاكِنُ الدَّارِ غير سَاكِنِ الْمَنْزِلِ فَلَيْسَ لِسَاكِنِ الدَّارِ
أَنْ يَمُرَّ في الطَّرِيقِ الذي في الدَّارِ الْأُولَى لِأَنَّهُ لَا حَقَّ له في
هذا الطَّرِيقِ فَيُمْنَعُ من الْمُرُورِ فيه
دَارٌ بين رَجُلَيْنِ في سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ اقْتَسَمَاهَا وَأَخَذَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً منها فَأَرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ
يَفْتَحَ بَابًا أو كُوَّةً إلَى السِّكَّةِ له ذلك وَلَا يَسَعُ لِأَهْلِ
السِّكَّةِ مَنْعُهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ في مِلْكِ
نَفْسِهِ فَيَمْلِكُهُ
أَلَا تَرَى أَنَّ له رَفْعَ الْحَائِطِ أَصْلًا فَالْبَابُ وَالْكُوَّةُ أَوْلَى
وَعَلَى هذا حَائِطٌ بين قَسِيمَيْنِ وَلِأَحَدِ الْقَسِيمَيْنِ عليه جُذُوعُ
الْحَائِطِ الْآخَرِ فَإِنْ شَرَطُوا قَطْعَ الْجُذُوعِ في الْقِسْمَةِ قطعت ( ( (
قطعه ) ) ) لِقَوْلِ النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ
شُرُوطِهِمْ وَإِنْ لم يَشْتَرِطُوا تُرِكَ على حَالِهَا لِأَنَّ التَّرْكَ وَإِنْ
كان ضَرَرًا لَكِنَّهُمْ لَمَّا لم يَشْتَرِطُوا الْقَطْعَ في الْقِسْمَةِ فَقَدْ
اُلْتُزِمَ الضَّرَرُ
وَكَذَلِكَ لو كان وَقَعَ على هذا الْحَائِطِ دَرَجَةٌ أو أُسْطُوَانَةٌ جُمِعَ
عليها جُذُوعٌ لِمَا قُلْنَا وَكَذَلِكَ رَوْشَنًا وَقَعَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ
شَرَفًا على نَصِيبِ الْآخَرِ لم يَكُنْ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُقْلِعَ
الرَّوْشَنَ من غَيْرِ شَرْطِ الْقَلْعِ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا أَطْرَافُ خَشَبٍ على حَائِطِ صَاحِبِهِ فَإِنْ كان
مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ عليها سَقْفٌ لم يُكَلَّفْ قَلْعُهَا وَإِنْ كان
لَا يُمْكِنُ كُلِّفَ الْقَلْعَ لِأَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ عليها
سَقْفٌ أَمْكَنَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فَيَلْتَحِقُ بِالْحُقُوقِ فَأَشْبَهَ
الرَّوْشَنَ وإذا لم يُمْكِنْ تَعَذُّرُ إلْحَاقِهَا بِالْحُقُوقِ فَبَقِيَ
شَاغِلًا هو لِصَاحِبِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُكَلَّفُ قَطْعَهَا
وَلَوْ كان لِأَحَدِهِمَا شَجَرَةٌ أَغْصَانُهَا مُظِلَّةٌ على نَصِيبِ الْآخَرِ
فَهَلْ تُقْطَعُ ذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ
لِأَنَّ في الْقَطْعِ ضَرَرًا لِصَاحِبِهَا
وَذَكَرَ ابن رُسْتُمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُقْطَعُ كما يُقْطَعُ أَطْرَافُ
الْخَشَبِ الذي لَا يُمْكِنُ تَسْقِيفُهَا
وَلَوْ اخْتَلَفَ أَهْلُ طَرِيقٍ في الطَّرِيقِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ منهم
أَنَّهُ له فَهُوَ بَيْنَهُمْ بِالتَّسْوِيَةِ على عَدَدِ الرؤوس لَا على
ذُرْعَانِ الدُّورِ وَالْمَنَازِلِ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا في الْيَدِ
لِاسْتِوَائِهِمْ في الْمُرُورِ فيه إلَّا أَنْ يَقُومَ لِأَحَدِهِمْ بَيِّنَةٌ
فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ
دَارٌ لِرَجُلٍ وَفِيهَا طَرِيقٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
____________________
(7/29)
رَجُلٍ
فَمَاتَ صَاحِبُ الدَّارِ فَاقْتَسَمَتْ الْوَرَثَةُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ
وَتَرَكُوا الطَّرِيقَ كان الطَّرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّجُلِ نِصْفَيْنِ لَا
على عَدَدِ الرؤوس حتى لو بَاعُوا الدَّارَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ بين الْوَرَثَةِ
وَبَيْنَهُ نِصْفَيْنِ لَا على عَدَدِ الرؤوس لِأَنَّ الْوَرَثَةَ قَامُوا مَقَامَ
الْمُوَرِّثِ وقد كان الطَّرِيقُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَكَذَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَهُمْ
وَلَوْ لم يَعْرِفْ أَنَّ الدَّارَ مِيرَاثٌ بَيْنَهُمْ وَجَحَدُوا ذلك
فَالطَّرِيقُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ على عَدَدِ الرؤوس لِاسْتِوَائِهِمْ في
الْيَدِ على ما مَرَّ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ وُجُودِهَا
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الذي يُوجِبُ نَقْضَ الْقِسْمَةِ بَعْدَ
وُجُودِهَا أَنْوَاعٌ منها ظُهُورُ دَيْنٍ على الْمَيِّتِ إذَا طَلَبَ
الْغُرَمَاءُ دُيُونَهُمْ وَلَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ وَلَا قَضَاهُ
الْوَرَثَةُ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا اقْتَسَمُوا التَّرِكَةَ ثُمَّ ظَهَرَ على
الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهَذَا لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ
لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ وَإِمَّا إن لم يَكُنْ فَإِنْ لم يَكُنْ له مَالٌ
سِوَاهُ وَلَا قَضَاهُ الْوَرَثَةُ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ
سَوَاءً كان الدَّيْنُ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ أو لم يَكُنْ لِأَنَّ الدَّيْنَ
مُقَدَّمٌ على الْإِرْثِ قَلِيلًا كان أو كَثِيرًا قال اللَّهُ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { من بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصي بها أو دَيْنٍ } قَدَّمَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الدَّيْنَ على الْوَصِيَّةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْقَلِيلِ
وَالْكَثِيرِ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا كان مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْوَرَثَةِ فيها إلَّا من حَيْثُ الصُّورَةُ بَلْ هِيَ
مِلْكٌ لِلْمَيِّتِ يَتَعَلَّقُ بها بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَقِيَامُ مِلْكِ
الْغَيْرِ في الْمَحِلِّ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ فَقِيَامُ الْمِلْكِ
وَالْحَقِّ أَوْلَى وإذا لم يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ فَمِلْكُ الْمَيِّتِ
وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ وهو حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ ثَابِتٌ في قَدْرِ الدَّيْنِ من
التَّرِكَةِ على الشُّيُوعِ فَيَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ
لِلْمَيِّتِ مَالٌ آخَرُ سِوَاهُ يُجْعَلُ الدَّيْنُ فيه وَتَمْضِي الْقِسْمَةُ
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُصَانُ عن النَّقْضِ ما أَمْكَنَ وقد أَمْكَنَ صِيَانَتُهَا
بِجَعْلِ الدَّيْنِ فيه
وَكَذَا الْوَرَثَةُ إذَا قَضَوْا الدَّيْنَ من مَالِ أَنْفُسِهِمْ لَا تُنْقَضُ
لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ كان مُتَعَلِّقًا بِصُورَةِ التَّرِكَةِ وَحَقُّ
الْغُرَمَاءِ بِمَعْنَاهَا وهو الْمَالِيَّةُ فإذا قَضَوْا الدَّيْنَ من مَالِ
أَنْفُسِهِمْ فَقَدْ اسْتَخْلَصُوا التَّرِكَةَ لِأَنْفُسِهِمْ صُورَةً وَمَعْنًى
فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ في الْحَقِيقَةِ اقْتَسَمُوا مَالَ أَنْفُسِهِمْ صُورَةً
وَمَعْنًى فَتَبَيَّنَ أنها وَقَعَتْ صَحِيحَةً فَلَا تُنْقَضُ
وَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ الْغُرَمَاءُ من دُيُونِهِمْ لَا تُنْقَضُ الْقِسْمَةُ
لِأَنَّ النَّقْضَ لِحَقِّهِمْ وقد أَسْقَطُوهُ بِالْإِبْرَاءِ
وَكَذَلِكَ إذَا ظَهَرَ لِبَعْضِ الْمُقْتَسِمِينَ دَيْنٌ على الْمَيِّتِ بِأَنْ
ادَّعَى دَيْنًا على الْمَيِّتِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عليه فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ
الْقِسْمَةَ لِمَا قُلْنَا وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ إبْرَاءً من الدَّيْنِ
لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِمَعْنَى التَّرِكَةِ وهو مَالِيَّتُهَا
لَا بِالصُّورَةِ وَلِهَذَا كان لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الِاسْتِخْلَاصِ
وإذا كان كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ على الْقِسْمَةِ إقْرَارًا منه
لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ له على الْمَيِّتِ فلم يَكُنْ مُنَاقِضًا في دَعْوَاهُ
فَسُمِعَتْ
وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَصِيَّةِ حتى لو اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ ثَمَّ مُوصًى له
بِالثُّلُثِ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ لِأَنَّ الْمُوصَى له شَرِيكُ الْوَرَثَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو هَلَكَ من التَّرِكَةِ شَيْءٌ قبل الْقِسْمَةِ يُهْلَكُ من
الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى له جميعا وَالْبَاقِي على الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ
وَلَوْ اقْتَسَمُوا وَثَمَّةَ وَارِثٌ آخَرُ غَائِبٌ تُنْقَضُ فَكَذَا هذا
وَهَذَا إذَا كانت الْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي فَإِنْ كانت بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا
تُنْقَضُ لِأَنَّ الْمُوصَى له وَإِنْ كان كَوَاحِدٍ من الْوَرَثَةِ لَكِنَّ
الْقَاضِيَ إذَا قَسَمَ عِنْدَ غَيْبَةِ أَحَدِ الْوَرَثَةِ لَا تُنْقَضُ
قِسْمَتُهُ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ في هذا الموضع ( ( ( الموضوع ) ) ) مَحِلُّ
الِاجْتِهَادِ
وَقَضَاءُ الْقَاضِي إذَا صَادَفَ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ يَنْفُذُ وَلَا يُنْقَضُ
وَمِنْهَا ظُهُورُ الْوَارِثِ حتى لو اقْتَسَمُوا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ ثَمَّةَ
وَارِثٌ آخَرُ نُقِضَتْ قِسْمَتُهُمْ
وَلَوْ كانت الْقِسْمَةُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُنْقَضُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ ادَّعَى وَارِثٌ وَصِيَّةً لِابْنٍ له صَغِيرٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا
تَصِحُّ دَعْوَاهُ حتى لَا تُسْمَعَ منه الْبَيِّنَةُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا في
الدَّعْوَى إذْ لَا تَصِحُّ قِسْمَتُهُمْ الْمِيرَاثَ وَثَمَّ مُوصًى له فَكَانَ
إقْدَامُهُ على الْقِسْمَةِ إقْرَارًا منه بِانْعِدَامِ الْوَصِيَّةِ فَكَانَ
دَعْوَى وُجُودِ الْوَصِيَّةِ مُنَاقِضَةً فَلَا تُسْمَعُ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ
حَقُّ الصَّغِيرِ بِقِسْمَةِ الْأَبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ
وَكَذَلِكَ لو ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ أَنَّ أَخًا له من أبيه وَأُمِّهِ
وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُمْ وَأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ وَوَرِثَهُ هذا
الْمُدَّعِي وَجَحَدَ الْبَاقُونَ ذلك فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ لَا
تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّهُ هُنَا قضى في دَعْوَاهُ لِدَلَالَةِ إقْرَارِهِ
بِانْعِدَامِ وَارِثٍ آخَرَ بإقدامهم ( ( ( بإقدامه ) ) ) على الْقِسْمَةِ
وَكَذَلِكَ كُلُّ مِيرَاثٍ يَدَّعِيهِ أو شِرَاءٍ أو هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو
وَصِيَّةٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ لِلتَّنَاقُضِ بِدَلَالَةِ الْإِقْدَامِ على
الْقِسْمَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
دَارٌ بين رَجُلَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ منها لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ
الْآخَرُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ حُجَّةٌ على نَفْسِهِ
لِأَنَّ هذا الْإِقْرَارَ لم يُوجِبْ تَعَلُّقَ الْحَقِّ بِالْعَيْنِ لِحَقِّ
الشَّرِيكِ الْآخَرِ بَلْ هو مَوْقُوفٌ وإذا لم يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ
____________________
(7/30)
لَا
يَمْنَعُ جَوَازَ الْقِسْمَةِ فَتُقْسَمُ الدَّارُ وَيُجْبَرُ على الْقِسْمَةِ
وَمَتَى قُسِمَتْ فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْتُ الْمُقَرُّ بِهِ في نَصِيبِ الْمُقِرِّ
دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ له لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قد صَحَّ وَتَسْلِيمُ عَيْنِ
الْمُقَرِّ بِهِ مُمْكِنٌ فَيُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ وَإِنْ وَقَعَ في نَصِيبِ
شَرِيكِهِ يَدْفَعُ إلَيْهِ قَدْرَ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ من نَصِيبِ نَفْسِهِ
فَيَقْسِمُ ما أَصَابَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ له فَيَضْرِبُ الْمُقَرُّ
له بِذَرْعِ الْبَيْتِ وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ
الْبَيْتِ
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِنِصْفِ ذراع ( ( ( ذرع ) )
) الدَّارِ كما قَالَا وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ له يَضْرِبُ بِنِصْفِ ذَرْعِ
الْبَيْتِ لَا بِكُلِّهِ حتى لو كان ذَرْعُ الدَّارِ مِائَةً وَذَرْعُ الْبَيْتِ
عَشَرَةً فَتُقْسَمُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَكُونُ لِلْمُقَرِّ له
عَشَرَةُ أَذْرُعٍ عِنْدَهُمَا لِأَنَّهُ جَمِيعُ ذَرْعِ الْبَيْتِ وَالْبَاقِي
وهو خَمْسَةٌ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُقِرِّ لِأَنَّهُ نِصْفُ ذَرْعِ الدَّارِ بَعْدَ
ذَرْعِ الْبَيْتِ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ لِلْمُقَرِّ له خَمْسَةُ أَذْرُعٍ
إذْ هو نِصْفُ ذَرْعِ الْبَيْتِ الْمُقَرِّ بِهِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَحِلًّا
مُعَيَّنًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ جُزْأَيْنِ من
الدَّارِ أَحَدُهُمَا له وَالْآخَرُ لِصَاحِبِهِ على الشُّيُوعِ فَيَبْطُلُ في
نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَصِحُّ في نَصِيبِهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ لِلْمُقَرِّ له نِصْفُ
ذَرْعِ الْبَيْتِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْمُشْتَرَكِ لَا يَتَعَلَّقُ
بِالْعَيْنِ قبل الْقِسْمَةِ بَلْ هو مَوْقُوفٌ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بها ( ( (
بهما ) ) ) بَعْدَ الْقِسْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لم يَمْنَعْ صِحَّةَ الْقِسْمَةِ وَلَوْ تَعَلَّقَ
بِالْعَيْنِ لَمَنَعَ فإذا قُسِمَتْ الدَّارُ الْآنَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ
فَإِنْ وَقَعَ الْمُقَرُّ بِهِ في نَصِيبِ الْمُقِرِّ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ
لِأَنَّهُ قَادِرٌ على تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنْ وَقَعَ في نَصِيبِ صَاحِبِهِ
فَقَدْ عَجَزَ عن تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِ بَدَلِهِ من
نَصِيبِهِ وهو تَمَامُ ذَرْعِ الْمُقَرِّ بِهِ
هذا إذَا كان الْمُقَرُّ بِهِ شيئا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَإِنْ كان مِمَّا لَا
يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَبَيْتٍ من حَمَّامٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
غَيْرِهِ أَقَرَّ أَنَّهُ لِرَجُلٍ وَأَنْكَرَ صَاحِبُهُ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ
وَلَكِنْ يُجْبَرُ على قِسْمَتِهِ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْإِضْرَارِ فِيمَا لَا
يَحْتَمِلُ الْجَبْرَ على ما ذَكَرْنَاهُ في مَوْضِعِهِ وَيَلْزَمُهُ نِصْفُ
قِيمَةِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ عَجَزَ عن تَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَالْإِقْرَارُ
بِعَيْنٍ مَعْجُوزِ التَّسْلِيمِ يَكُونُ إقْرَارًا بِبَدَلِهِ تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ
وَصِيَانَةً لِحَقِّ الْغَيْرِ بِالْقَدْرِ الْمُمْكِنِ كَالْإِقْرَارِ بِجِذْعٍ
في الدَّارِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ هذا الذي ذَكَرْنَا قِسْمَةُ الْأَعْيَانِ وَأَمَّا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
فَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُهَايَئَاتِ وَالْكَلَامُ فيها في مَوَاضِعَ في
بَيَانِ أَنْوَاعِ الْمُهَايَئَاتِ وما يَجُوزُ منها وما لَا يَجُوزُ وفي بَيَانِ
مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ وفي بيات ( ( ( بيان ) ) ) صِفَةِ الْمُهَايَئَاتِ وفي
بَيَانِ ما يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ من الشَّرِيكَيْنِ من التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ
وما لَا يَمْلِكُ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالْمُهَايَئَاتُ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الْمَكَانِ
وَنَوْعٌ يَرْجِعُ إلَى الزَّمَانِ أَمَّا النَّوْعُ الْأَوَّلُ فَهُوَ أَنْ
يتهايئا ( ( ( يتهايآ ) ) ) في دَارٍ وَاحِدَةٍ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا طَائِفَةً منها يَسْكُنُهَا وإنه جَائِزٌ لِأَنَّ الْمُهَايَئَاتِ
قِسْمَةٌ فَتُعْتَبَرُ بِقِسْمَةِ الْعَيْنِ وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ على الْوَجْهِ
جَائِزَةٌ فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
وَكَذَا لو تَهَايَئَا على أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا السُّفْلَ وَالْآخَرُ
الْعُلْوَ جَازَ ذلك لِمَا قُلْنَا وَلَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ الْمُدَّةِ في هذا
النَّوْعِ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمَنَافِعِ لَيْسَتْ بِمُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ
لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَنَا
كَإِجَازَةِ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ
وَكَذَلِكَ لو تَهَايَئَا في دَارَيْنِ وَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَارًا
يَسْكُنُهَا أو يَسْتَغِلُّهَا فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ قِسْمَةَ
الْجَمْعِ في عَيْنِ الدُّورِ جَائِزَةٌ فَكَذَا في الْمَنَافِعِ
وَأَمَّا أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بين
الْعَيْنِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ
وَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ الدُّورَ في حُكْمِ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ لِتَفَاحُشِ
التَّفَاوُتِ بين دَارٍ وَدَارٍ وفي نَفْسِهَا وَبِنَائِهَا وَمَوْضِعِهَا وَلَا
تَجُوزُ قِسْمَةُ الْجَمْعِ في جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ على ما مَرَّ وَأَمَّا
التَّفَاوُتُ في الْمَنَافِعِ فَقَلَّ ما يَتَفَاحَشُ بَلْ يَتَقَارَبُ فلم
تَلْتَحِقُ مَنَافِعُ الدَّارَيْنِ بِالْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجَازَتْ
الْقِسْمَةُ
وَكَذَلِكَ لو تَهَايَئَا في عَبْدَيْنِ على الْخِدْمَةِ جَازَ بِالْإِجْمَاعِ
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في أَعْيَانِ الرَّقِيقِ
جَائِزَةٌ وَكَذَا في مَنَافِعِهَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا
في الدَّارَيْنِ
وَلَوْ تَهَايَئَا في عَبْدَيْنِ فَأَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبْدًا
يَخْدُمُهُ وَشَرَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَفْسِهِ طَعَامَ الْعَبْدِ الذي
يَخْدُمُهُ جَازَ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ
ووجه ( ( ( ووجهه ) ) ) أَنَّ طَعَامَ كل وَاحِدٍ من الْعَبْدَيْنِ على
الشَّرِيكَيْنِ جميعا على الْمُنَاصَفَةِ فَاشْتِرَاطُ كل الطَّعَامِ من كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَفْسِهِ يَخْرُجُ مَخْرَجَ مُعَاوَضَةِ بَعْضِ الطَّعَامِ
بِالْبَعْضِ وأنها غَيْرُ جَائِزَةٍ لِلْجَهَالَةِ
ووجهه ( ( ( ووجه ) ) ) الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا النَّوْعَ من الْجَهَالَةِ لَا
يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لِأَنَّ مَبْنَى الطَّعَامِ على الْمُسَامَحَةِ في
الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ دُونَ الْمُضَايِقَةِ بِخِلَافِ ما إذَا شَرَطَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا على نَفْسِهِ كِسْوَةَ
____________________
(7/31)
الْعَبْدِ
الذي يَخْدُمُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ يَجْرِي في الْكِسْوَةِ من
الْمُضَايِقَةِ ما لَا يَجْرِي في الطَّعَامِ في الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَكَانَتْ
الْجَهَالَةُ في الْكِسْوَةِ مُفْضِيَةً إلَى الْمُنَازَعَةِ مع ما أن
الْجَهَالَةَ في الْكِسْوَةِ تَتَفَاحَشُ بِخِلَافِ الطَّعَامِ لِذَلِكَ
افْتَرَقَا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّهَايُؤُ في الدَّوَابِّ بِأَنْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً
لِيَرْكَبَهَا وَالْآخَرُ دَابَّةً أُخْرَى من جِنْسِهَا يَسْتَغِلُّهَا وَشَرَطَ
الِاسْتِغْلَالَ فَغَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا جَائِزٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في أَعْيَانِ الدَّوَابِّ
من جِنْسٍ وَاحِدٍ جَائِزَةٌ فَكَذَا قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْمَنْفَعَةِ وَبَيْنَ الْمَنْفَعَةِ أَنَّهُ
جَوَّزَ قِسْمَةَ الْجَمْعِ في أَعْيَانِهَا ولم يُجَوِّزْ في مَنَافِعِهَا
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أنها بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَكِنَّهَا في
مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ في حُكْمِ جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّ من
اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا لم يَمْلِكْ أَنْ يُؤَاجِرَهَا لِلرُّكُوبِ
وَلَوْ فَعَلَ لَضَمِنَ فَأَشْبَهَ اخْتِلَافُ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ اخْتِلَافَ
جِنْسِ الْعَيْنِ وَاخْتِلَافُ جِنْسِ الْعَيْنِ عِنْدَهُ مَانِعٌ جَوَازَ
قِسْمَةِ الْجَمْعِ كَذَا في الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الْمُهَايَئَاتِ في
الدَّارَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ إنها جَائِزَةٌ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَنَافِعَ
مُتَقَارِبَةٌ غَيْرُ مُتَفَاحِشَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فيها
يَمْلِكُ الْإِجَارَةَ من غَيْرِهِ فلم يَخْتَلِفْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ فَجَازَتْ
الْمُهَايَئَاتُ
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي وهو الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَهُوَ أَنْ
يتهايئا ( ( ( يتهايآ ) ) ) في بَيْتٍ صَغِيرٍ على أَنْ يَسْكُنَهُ هذا يَوْمًا
وَهَذَا يَوْمًا أو في عَبْدٍ وَاحِدٍ على أَنْ يَخْدُمَ هذا يَوْمًا وَهَذَا
يَوْمًا وَهَذَا جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { قال هذه نَاقَةٌ لها
شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عن
نبينه ( ( ( نبيه ) ) ) سَيِّدِنَا صَالِحٍ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
الْمُهَايَئَاتُ في الشِّرْبِ ولم يُنْكِرْهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَالْحَكِيمُ
إذَا حَكَى عن مُنْكَرٍ غَيَّرَهُ فَدَلَّ على جَوَازِ الْمُهَايَئَاتِ
بِالزَّمَانِ بِظَاهِرِ النَّصِّ وَثَبَتَ جَوَازُ النَّوْعِ الْآخَرِ من طَرِيقِ
الدَّلَالَةِ لِأَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْمُقَاسَمَةِ من النَّوْعِ الْأَوَّلِ
وَلِأَنَّ جَوَازَ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ لِمَكَانِ حَاجَاتِ الناس
وَحَاجَتُهُمْ إلَى الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ أَشَدُّ لِأَنَّ الْأَعْيَانَ
كُلَّهَا في احْتِمَالِ الْمُهَايَئَاتِ بِالزَّمَانِ شَرْعٌ سَوَاءٌ من
الْأَعْيَانِ ما لَا يَحْتَمِلُ الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ كَالْعَبْدِ
وَالْبَيْتِ الصَّغِيرِ وَنَحْوِهِمَا فلما جَازَتْ تِلْكَ فَلَأَنْ تَجُوزَ هذه
أَوْلَى
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مَحِلِّ الْمُهَايَئَاتِ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا
بِاَللَّهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ إنَّ مَحِلَّهَا الْمَنَافِعُ دُونَ
الْأَعْيَانِ لِأَنَّهَا قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ فَكَانَ
مَحِلُّهَا الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَيْنِ حتى إنهما لو تَهَايَئَا في نَخْلٍ أو
شَجَرٍ بين شَرِيكَيْنِ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً
يَسْتَثْمِرُهَا لَا يَجُوزُ
وَكَذَلِكَ إذَا تَهَايَئَا في الْغَنَمِ الْمُشْتَرَكَةِ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ
وَاحِدٍ منهم قَطِيعًا وَيَنْتَفِعُ بِأَلْبَانِهَا لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا
أَنَّ هذا عَقْدُ قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ والثمن ( ( ( والثمر ) ) ) وَاللَّبَنُ
عَيْنُ مَالٍ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ عَقْدِ الْمُهَايَئَاتِ
وَلَوْ تَهَايَئَا في الْأَرَاضِي الْمُشْتَرَكَةِ على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا وَيَذْرَعُ جَازَ لِأَنَّ ذلك قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ
وهو مَعْنَى الْمُهَايَئَاتِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَةُ الْمُهَايَئَاتِ فَهِيَ أنها عَقْدٌ غَيْرُ لَازِمٍ حتى لو
طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَيْنِ بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ قَسَمَ الْحَاكِمُ
بَيْنَهُمَا وَفَسَخَ الْمُهَايَئَاتِ لِأَنَّهَا كَالْخُلْفِ عن قِسْمَةِ
الْعَيْنِ وَقِسْمَةُ الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فِيمَا شُرِعَتْ له الْقِسْمَةُ
لِأَنَّ الْقِسْمَةَ شُرِعَتْ لِتَكْمِيلِ مَنَافِعِ الْمِلْكِ وَهَذَا الْمَعْنَى
في قِسْمَةِ الْعَيْنِ أَكْمَلُ ولهاذ ( ( ( ولهذا ) ) ) لو طَلَبَ أَحَدُهُمَا
الْقِسْمَةَ قبل الْمُهَايَئَاتِ أَجْبَرَهُ الْحَاكِمُ على الْقِسْمَةِ فَكَانَ
عَقْدًا جَائِزًا فَاحْتَمَلَ الْفَسْخَ كَسَائِرِ الْعُقُودِ الْجَائِزَةِ وَلَا
يَبْطُلُ بموتأحد الشَّرِيكَيْنِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا لو بَطَلَتْ
لَأَعَادَهَا الْقَاضِي لِلْحَالِ ثَانِيًا فَلَا يُفِيدُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا من التَّصَرُّفِ
بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ أَمَّا في الْمُهَايَئَاتِ بِالْمَكَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا أَنْ يَسْتَغِلَّ ما أَصَابَهُ بِالْمُهَايَئَاتِ سَوَاءٌ شَرَطَ
الِاسْتِغْلَالَ في الْعَقْدِ أو لَا وَسَوَاءٌ تَهَايَئَا في دَارٍ وَاحِدَةٍ أو
دَارَيْنِ لِأَنَّ المنفاع ( ( ( المنافع ) ) ) بَعْدَ الْمُهَايَئَاتِ تَحْدُثُ
على مِلْكِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا أَخَذَهُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فيه
بِالتَّمْلِيكِ من غَيْرِهِ
وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُهَايَئَاتِ في هذا النَّوْعِ لَيْسَتْ بِإِعَارَةٍ
لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا تُؤَاجَرُ
وَأَمَّا الْمُهَايَئَاتُ بِالزَّمَانِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْكِنَ أو
يَسْتَخْدِمَ لِمَا ذَكَرْنَا لَكِنْ لَا بُدَّ من ذِكْرِ الْوَقْتِ من الْيَوْمِ
وَالشَّهْرِ وَنَحْوِ ذلك بِخِلَافِ الْمُهَايَأَةِ بِالْمَكَانِ أَنَّ لِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةَ السُّكْنَى وَالِاسْتِغْلَالِ مُطْلَقًا لِأَنَّ
الْحَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْوَقْتِ لِتَصِيرَ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً
وَالْمُهَايَئَاتُ بِالْمَكَانِ قِسْمَةُ مَنَافِعَ مَقْدِرَةٍ مَجْمُوعَةٍ
بِالْمَكَانِ
وَمَكَانُ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ فَصَارَتْ الْمَنَافِعُ مَعْلُومَةً بِالْعِلْمِ
بِمَكَانِهَا فَجَازَتْ الْمُهَايَأَةُ
وَأَمَّا الْمُهَايَأَةُ بِالزَّمَانِ فَقِسْمَةٌ مُقَدَّرَةٌ
____________________
(7/32)
بِالزَّمَانِ
فَلَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِذِكْرِ زَمَانٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَهَلْ يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الِاسْتِغْلَالَ في نَوْبَتِهِ لَا
خِلَافَ في أَنَّهُمَا إذَا لم يَشْتَرِطَا لم يَمْلِكْ
فَأَمَّا إذَا شَرَطَا ذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا
يَمْلِكُ لِأَنَّ هذا النَّوْعَ من الْمُهَايَأَةِ في مَعْنَى الْإِعَارَةِ
وَالْعَارِيَّةُ لَا تُؤْجَرُ
وَذَكَرَ الْأَصْلُ أَنَّ التَّهَايُؤَ في الدَّارِ الْوَاحِدَةِ على السُّكْنَى
وَالْغَلَّةِ جَائِزَةٌ
منهم من قال الْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ ليس بِمُهَايَئَاتٍ حَقِيقَةً لِوَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَضَافَ التَّهَايُؤَ إلَى الْغَلَّةِ دُونَ الِاسْتِغْلَالِ
وَالْغَلَّةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّهَايُؤَ حَقِيقَةً إذْ هِيَ عَيْنٌ
وَالتَّهَايُؤُ قِسْمَةُ الْمَنَافِعِ دُونَ الْأَعْيَانِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ ذَكَرَ فيه أَنَّ غَلَّةَ الدَّارِ إذَا أوصلت ( ( ( وصلت ) )
) في يَدِ أَحَدِهِمَا شَارَكَهُ فيه صَاحِبُهُ وَلَيْسَ ذلك حُكْمُ جَوَازِ
الْمُهَايَئَاتِ وَكَمَا أَنَّ الْمُهَايَأَةَ بِالْمَكَانِ في الدَّارَيْنِ إذَا
تَهَايَئَا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَأَخْذُهُ يَسْتَغِلُّهَا
فَاسْتَغَلَّهَا فَفَضَلَ من الْغَلَّةِ في يَدِ أَحَدِهِمَا أَنَّ الْفَاضِلَ
يَكُونُ له خَاصَّةً وَيَكُونُ الْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ مَحْمُولًا على ما إذَا
اصْطَلَحَا على أَنْ يَأْخُذَ هذا غَلَّةَ شَهْرٍ وَذَلِكَ غَلَّةَ شَهْرٍ
وَسُمِّيَ ذلك مهايأة مُهَايَأَةً مَجَازًا وَإِنْ لم يَكُنْ ذلك مُهَايَأَةً
حَقِيقَةً في هذه الصُّورَةِ يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا
وَعَلَى هذا يَرْتَفِعُ اخْتِلَافُ الرِّوَايَتَيْنِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ
الْمَذْكُورُ في الْأَصْلِ دَلِيلًا على شَرْطِ جَوَازِ الِاسْتِغْلَالِ إذْ
الْغَلَّةُ يَجُوزُ أَنْ تُذْكَرَ بِمَعْنَى الِاسْتِغْلَالِ في الْجُمْلَةِ وقد
قام دَلِيلُ إرَادَةِ الِاسْتِغْلَالِ هَهُنَا وهو قَرِينَةُ التَّهَايُؤِ إذْ
هِيَ عِبَارَةٌ عن قِسْمَةِ الْمَنَافِعِ دُونَ الْغَلَّةِ التي هِيَ عَيْنُ
مَالِهِ
وَكَذَا التَّهَايُؤُ يَكُونُ على شَيْءٍ هو مَقْدُورُ التَّهَايُؤِ وهو فِعْلُ
الِاسْتِغْلَالِ دُونَ عَيْنِ الْغَلَّةِ وَلِهَذَا قَرَنَ بها السُّكْنَى الذي هو
فِعْلُ السَّاكِنِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ ما فَضَلَ من الْغَلَّةِ في يَدِهِ
يُشَارِكُهُ فيه صَاحِبُهُ مَحْمُولًا على ما إذَا تَهَايَئَا بِشَرْطِ
الِاسْتِغْلَالِ ابْتِدَاءً ثُمَّ اصْطَلَحَا على أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا غَلَّةَ شَهْرٍ وفي هذه الصُّورَةِ يَكُونُ فَضْلُ الْغَلَّةِ
بَيْنَهُمَا كما في الدَّارَيْنِ فَعَلَى هذا ثَبَتَ اخْتِلَافُ رِوَايَتَيْ الْحَاكِمِ
وَأَحْمَدَ بن الْحُسَيْنِ الْقُدُورِيِّ عليهم الرَّحْمَةُ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ الْحُدُودِ جَمَعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بين مَسَائِلِ الْحُدُودِ
وَبَيْنَ مَسَائِلِ التَّعْزِيرِ وَبَدَأَ بِمَسَائِلِ الْحُدُودِ فَبَدَأَ بِمَا
بَدَأَ بِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى التَّوْفِيقُ
الْكَلَامُ في الْحُدُودِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَعْنَى الْحَدِّ لُغَةً
وَشَرْعًا
وفي بَيَانِ أَسْبَابِ وُجُوبِ الْحُدُودِ وَشَرَائِطِ وُجُوبِهَا
وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ وُجُوبُهَا عِنْدَ الْقَاضِي وفي بَيَانِ صِفَاتِهَا
وفي بَيَانِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها وفي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِ إقَامَتِهَا
وفي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ إقَامَتِهَا وَمَوْضِعِ الْإِقَامَةِ وفي بَيَانِ ما
يُسْقِطُهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ حُكْمِهَا إذَا اجْتَمَعَتْ وفي
بَيَانِ حُكْمِ الْمَحْدُودِ
أَمَّا الْأَوَّلُ الْحَدُّ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الْمَنْعِ وَمِنْهُ سُمِّيَ
الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِمَنْعِهِ الناس عن الدُّخُولِ وفي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عن
عُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ وَاجِبَةٍ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ بِخِلَافِ
التَّعْزِيرِ فإنه ليس بِمُقَدَّرٍ قد يَكُونُ بِالضَّرْبِ وقد يَكُونُ
بِالْحَبْسِ وقد يَكُونُ بِغَيْرِهِمَا وَبِخِلَافِ الْقِصَاصِ فإنه وَإِنْ كان
عُقُوبَةً مُقَدَّرَةً لَكِنَّهُ يَجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ حتى يَجْرِيَ فيه
الْعَفْوُ وَالصُّلْحُ
سُمِّيَ هذا النَّوْعُ من الْعُقُوبَةِ حَدًّا لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ إذَا
لم يَكُنْ مُتْلِفًا وَغَيْرَهُ بِالْمُشَاهَدَةِ وَيَمْنَعُ من يُشَاهِدُ ذلك
وَيُعَايِنُهُ إذَا لم يَكُنْ مُتْلِفًا لِأَنَّهُ يَتَصَوَّرُ حُلُولَ تِلْكَ
الْعُقُوبَةِ بِنَفْسِهِ لو بَاشَرَ تِلْكَ الْجِنَايَةَ فَيَمْنَعُهُ ذلك من
الْمُبَاشَرَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ أَسْبَابِ وُجُوبِهَا فَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ
إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِهَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ كل نَوْعٍ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّوْعِ فَنَقُولُ الْحُدُودُ خَمْسَةُ أَنْوَاعٍ حَدُّ
السَّرِقَةِ وَحَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ الشُّرْبِ وَحَدُّ السُّكْرِ وَحَدُّ
الْقَذْفِ
أَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ السَّرِقَةُ وَسَنَذْكُرُ رُكْنَ
السَّرِقَةِ وَشَرَائِطَ الرُّكْنِ في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَأَمَّا حَدُّ الزِّنَا فَنَوْعَانِ جَلْدٌ وَرَجْمٌ وَسَبَبُ وُجُوبِ كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وهو الزِّنَا وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ في الشَّرْطِ وهو الْإِحْصَانُ
فَالْإِحْصَانُ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْجَلْدِ
فَلَا بُدَّ من مَعْرِفَةِ الزِّنَا وَالْإِحْصَانِ في عُرْفِ الشَّرْعِ
أَمَّا الزِّنَا فَهُوَ اسْمٌ لِلْوَطْءِ الْحَرَامِ في قُبُلِ الْمَرْأَةِ
الْحَيَّةِ في حَالَةِ الِاخْتِيَارِ في دَارِ الْعَدْلِ مِمَّنْ الْتَزَمَ
أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ الْعَارِي عن حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَعَنْ شُبْهَتِهِ
وَعَنْ حَقِّ الْمِلْكِ وَعَنْ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ وَشُبْهَتِهِ وَعَنْ شُبْهَةِ
الِاشْتِبَاهِ في مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ في الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ
____________________
(7/33)
جميعا
وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ في هذا الْبَابِ الْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ
وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ
وَلِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مُتَكَامِلَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مُتَكَامِلَةً
وَالْوَطْءُ في الْقُبُلِ في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ لَا يَتَكَامَلُ
جِنَايَةً إلَّا عِنْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ كُلِّهَا
إذَا عُرِفَ الزِّنَا في عُرْفِ الشَّرْعِ فَنُخَرِّجُ عليه بَعْضَ الْمَسَائِلِ
فَنَقُولُ الصَّبِيُّ أو الْمَجْنُونُ إذَا وطىء امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْحُرْمَةِ فَلَا يَكُونُ
الْوَطْءُ مِنْهُمَا زِنًا فَلَا حَدَّ على الْمَرْأَةِ إذَا طَاوَعَتْهُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ عليها الْحَدُّ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّ الْعَاقِلَ الْبَالِغَ إذَا زنا بِصَبِيَّةٍ أو مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ
يَجِبُ عليه الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عليها
لَهُمَا أَنَّ الْمَانِعَ من وُقُوعِ الْفِعْلِ زِنًا خَصَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ
فَيَخْتَصُّ بِهِ الْمَنْعُ كَالْعَاقِلِ الْبَالِغِ إذَا زنا بِصَبِيَّةٍ أو
مَجْنُونَةٍ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْحَدُّ وَإِنْ كان لَا يَجِبُ عليها لِمَا
قُلْنَا
كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ على الْمَرْأَةِ في بَابِ الزِّنَا ليس
لِكَوْنِهَا زَانِيَةً لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ منها وهو
الْوَطْءُ لِأَنَّهَا مَوْطُوءَةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاطِئَةٍ وَتَسْمِيَتُهَا في
الْكِتَابِ الْعَزِيزِ زَانِيَةً مَجَازٌ لَا حَقِيقَةٌ وَإِنَّمَا وَجَبَ عليها
لِكَوْنِهَا مَزْنِيًّا بها وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ليس بِزِنًا فَلَا
تَكُونُ هِيَ مَزْنِيًّا بها فَلَا يَجِبُ عليها الْحَدُّ وَفِعْلُ الزِّنَا
يَتَحَقَّقُ من الْعَاقِلِ الْبَالِغِ فَكَانَتْ الصَّبِيَّةُ أو الْمَجْنُونَةُ
مَزْنِيًّا بها إلَّا أَنَّ الْحَدَّ لم يَجِبْ عليها لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ
وَالْأَهْلِيَّةُ ثَابِتَةٌ في جَانِبِ الرَّجُلِ فَيَجِبُ
وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ في الدُّبُرِ في الْأُنْثَى أو الذَّكَرِ لَا يُوجِبُ
الْحَدَّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ كان حَرَامًا لِعَدَمِ الْوَطْءِ في
الْقُبُلِ فلم يَكُنْ زِنًا
وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ الْحَدَّ وهو الرَّجْمُ إنْ كان مُحْصَنًا
وَالْجَلْدُ إنْ كان غير مُحْصَنٍ
لَا لِأَنَّهُ زِنًا بَلْ لِأَنَّهُ في مَعْنَى الزِّنَا لِمُشَارَكَةِ الزِّنَا
في الْمَعْنَى الْمُسْتَدْعِي لِوُجُوبِ الْحَدِّ وهو الْوَطْءُ الْحَرَامُ على
وَجْهِ التَّمَحُّضِ فَكَانَ في مَعْنَى الزِّنَا فَوُرُودُ النَّصِّ بِإِيجَابِ
الْحَدِّ هُنَاكَ يَكُونُ وُرُودًا هَهُنَا دَلَالَةً
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ ما ذَكَرْنَا أَنَّ اللِّوَاطَةُ لَيْسَتْ بِزِنًا لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ الزِّنَا اسْمٌ لِلْوَطْءِ في قُبُلِ الْمَرْأَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ لَاطَ وما زنا وزنا ( ( ( وزنى ) )
) وما لَاطَ وَيُقَالُ فُلَانٌ لُوطِيٌّ وَفُلَانٌ زَانِي
فَكَذَا يَخْتَلِفَانِ اسْمًا
وَاخْتِلَافُ الْأَسَامِي دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْمَعَانِي في الْأَصْلِ
وَلِهَذَا اخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في حَدِّ هذا الْفِعْلِ
وَلَوْ كان هذا زِنًا لم يَكُنْ لِاخْتِلَافِهِمْ مَعْنًى
لِأَنَّ مُوجِبَ الزِّنَا كان مَعْلُومًا لهم بِالنَّصِّ فَثَبَتَ أَنَّهُ ليس
بِزِنًا وَلَا في مَعْنَى الزِّنَا أَيْضًا لِمَا في الزِّنَا من اشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ
وَتَضْيِيعِ الْوَلَدِ
ولم يُوجَدْ ذلك في هذا الْفِعْلِ
إنَّمَا فيه تَضْيِيعُ الْمَاءِ الْمَهِينِ الذي يُبَاحُ مِثْلُهُ بِالْعَزْلِ
وَكَذَا ليس في مَعْنَاهُ فِيمَا شُرِعَ له الْحَدُّ وهو الزَّجْرُ
لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى شَرْعِ الزَّاجِرِ فِيمَا يَغْلِبُ وُجُودُهُ
وَلَا يَغْلِبُ وُجُودُ هذا الْفِعْلِ
لِأَنَّ وُجُودَهُ يَتَعَلَّقُ بِاخْتِيَارِ شَخْصَيْنِ
وَلَا اخْتِيَارَ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهِ وَلَا دَاعِي في جَانِبِ
الْمَحِلِّ أَصْلًا
وفي الزِّنَا وُجِدَ الدَّاعِي من الْجَانِبَيْنِ جميعا وهو الشَّهْوَةُ
الْمُرَكَّبَةُ فِيهِمَا جميعا فلم يَكُنْ في مَعْنَى الزِّنَا فَوُرُودُ النَّصِّ
هُنَاكَ ليس وُرُودًا هَهُنَا وَكَذَا اخْتِلَافُ اجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ دَلِيلٌ على أَنَّ الْوَاجِبَ بهذا الْفِعْلِ هو التَّعْزِيرُ لِوَجْهَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّعْزِيرَ هو الذي يَحْتَمِلُ الِاخْتِلَافَ في الْقَدْرِ
وَالصِّفَةِ لَا الْحَدِّ
وَالثَّانِي أَنَّهُ لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ في الْحَدِّ بَلْ لَا يُعْرَفُ
إلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَلِلِاجْتِهَادِ مَجَالٌ في التَّعْزِيرِ
وَكَذَا وَطْءُ الْمَرْأَةِ الْمَيِّتَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ
التَّعْزِيرَ لِعَدَمِ وَطْءِ الْمَرْأَةِ الْحَيَّةِ
وَكَذَا وَطْءُ الْبَهِيمَةِ وَإِنْ كان حَرَامًا لِانْعِدَامِ الْوَطْءِ في
قُبُلِ الْمَرْأَةِ فلم يَكُنْ زِنًا ثُمَّ إنْ كانت الْبَهِيمَةُ مِلْكَ الواطىء
قِيلَ إنَّهَا تُذْبَحُ وَلَا تُؤْكَلُ وَلَا رِوَايَةَ فيه عن أَصْحَابِنَا
رَحِمَهُمُ اللَّهُ
لَكِنْ رَوَى مُحَمَّدٌ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ لم يَحُدَّ
واطىء ( ( ( واطئ ) ) ) الْبَهِيمَةِ وَأَمَرَ بِالْبَهِيمَةِ حتى أُحْرِقَتْ
بِالنَّارِ
وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ عن إكْرَاهٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَكَذَلِكَ الْوَطْءُ في
دَارِ الْحَرْبِ وفي دَارِ الْبَغْيِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ حتى إنَّ من زنا في
دَارِ الْحَرْبِ أو دَارِ الْبَغْيِ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا لَا يُقَامُ عليه الْحَدُّ
لِأَنَّ الزِّنَا لم يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْحَدِّ حين وُجُودِهِ
لِعَدَمِ الْوِلَايَةِ فَلَا يُسْتَوْفَى بَعْدَ ذلك
وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ إذَا زنا بِمُسْلِمَةٍ أو ذِمِّيَّةٍ أو
ذِمِّيٌّ زنا بِحَرْبِيَّةٍ مُسْتَأْمَنَةٍ لَا حَدَّ على الْحَرْبِيِّ
وَالْحَرْبِيَّةِ عِنْدَهُمَا
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُحَدَّانِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَمَّا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ فَقَدْ الْتَزَمَ
أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ مُدَّةَ إقَامَتِهِ فيها فَصَارَ كَالذِّمِّيِّ وَلِهَذَا
يُقَامُ عليه حَدُّ الْقَذْفِ كما يُقَامُ على الذِّمِّيِّ
وَلَهُمَا أَنَّهُ لم يَدْخُلْ دَارَ الْإِسْلَامِ على سَبِيلِ الْإِقَامَةِ
وَالتَّوَطُّنِ بَلْ على سَبِيلِ الْعَارِيَّةِ لِيُعَامِلَنَا وَنُعَامِلَهُ
ثُمَّ يَعُودَ فلم يَكُنْ دُخُولُهُ دَارَ الْإِسْلَامِ دَلَالَةَ الْتِزَامِهِ
حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِصًا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ
لِأَنَّهُ لَمَّا طَلَبَ الْأَمَانَ من الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ
____________________
(7/34)
الْتَزَمَ
أَمَانَهُمْ عن الْإِيذَاءِ بِنَفْسِهِ وَظَهَرَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ في حَقِّهِ
ثُمَّ يُحَدُّ الْمُسْلِمَةُ وَالذِّمِّيَّةُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُحَدُّ وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ
بِلَا خِلَافٍ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَصْلَ فِعْلُ الرَّجُلِ
وَفِعْلُهَا يَقَعُ تَبَعًا فلما لم يَجِبْ على الْأَصْلِ لَا يَجِبْ على
التَّبَعِ كَالْمُطَاوَعَةِ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِعْلَ الْحَرْبِيِّ حَرَامٌ
مَحْضٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُؤَاخَذُ فَكَانَ زِنًا فَكَانَتْ هِيَ مَزْنِيًّا بها إلَّا
أَنَّ الْحَدَّ لم يَجِبْ على الرَّجُلِ لِعَدَمِ الْتِزَامِهِ أَحْكَامَنَا
وَهَذَا أَمْرٌ يَخُصُّهُ
وَيُحَدُّ الذِّمِّيُّ لِأَنَّهُ بِالذِّمَّةِ وَالْعَهْدِ الْتَزَمَ أَحْكَامَ
الْإِسْلَامِ مُطْلَقًا إلَّا في قَدْرِ ما وَقَعَ الِاسْتِثْنَاءُ فيه ولم
يُوجَدْ هَهُنَا
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّائِمَةِ وَالْمُحْرِمَةِ
وَالْمَجْنُونَةِ وَالْمَوْطُوءَةِ بِشُبْهَةٍ وَاَلَّتِي ظَاهَرَ منها أو آلَى
منها لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ كان حَرَامًا لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَالنِّكَاحِ
فلم يَكُنْ زِنًا
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ
وَالْمُرْتَدَّةِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَالْمُحْرِمَةِ بِرَضَاعٍ أو صِهْرِيَّةٍ أو
جَمْعٍ لِقِيَامِ الْمِلْكِ وَإِنْ كان حَرَامًا وَعُلِمَ بِالْحُرْمَةِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْأَبِ جَارِيَةَ الِابْنِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَإِنْ عُلِمَ
بِالْحُرْمَةِ لِأَنَّ له في مَالِ ابْنِهِ شُبْهَةَ الْمِلْكِ وهو الْمِلْكُ من
وَجْهٍ أو حَقُّ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنت وَمَالُكَ
لابيك فَظَاهِرُ إضَافَةِ مَالِ الِابْنِ إلَى الْأَبِ بِحَرْفِ اللَّامِ
يَقْتَضِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَلَئِنْ تَقَاعَدَ عن إفَادَةِ الْحَقِيقَةِ فَلَا
يَتَقَاعَدُ على إيرَاثِ الشُّبْهَةِ أو حَقِّ الْمِلْكِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عِنْدَنَا عَبْدٌ
ما بَقِيَ عليه دِرْهَمٌ فَكَانَ مَمْلُوكُ الْمَوْلَى رَقَبَةً
وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ فَإِنْ لم يَثْبُتْ مُقْتَضَاهُ
حَقِيقَةً فَلَا أَقَلَّ من الشُّبْهَةِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ جَارِيَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ كان عليه دَيْنٌ أو
لم يَكُنْ
أَمَّا إذَا لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا مِلْكُ الْمَوْلَى
وَكَذَلِكَ إنْ كان عليه دَيْنٌ لِأَنَّ رَقَبَةَ الْمَأْذُونِ مِلْكُ الْمَوْلَى
وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي مِلْكَ الْكَسْبِ كما في جَارِيَةِ الْمُكَاتَبِ
بل ( ( ( وبل ) ) ) أَوْلَى
لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ أَقْرَبُ إلَى الْمَوْلَى من كَسْبِ الْمُكَاتَبِ
فلما لم يَجِبْ الْحَدُّ هُنَاكَ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَلِأَنَّ هذا الْمِلْكَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ
لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فيه وَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً
فَأَشْبَهَ وطأ حَصَلَ في نِكَاحٍ وهو مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ وَذَا لَا يُوجِبُ
الْحَدَّ
كَذَا هذا
وَكَذَلِكَ وَطْءُ الْجَدِّ أَبَ الْأَبِ وَإِنْ عَلَا عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ
بِمَنْزِلَةِ وَطْءِ الْأَبِ لِأَنَّ له وِلَادًا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْأَبِ
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ من الْغَانِمِينَ إذَا وطىء جَارِيَةً من الْمَغْنَمِ قبل
الْقِسْمَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ أو قَبْلَهُ لَا حَدَّ عليه
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ وَطْأَهَا عليه حَرَامٌ لِثُبُوتِ الْحَقِّ له
بِالِاسْتِيلَاءِ لِانْعِقَادِ سَبَبِ الثُّبُوتِ فَإِنْ لم يَثْبُتْ فَلَا
أَقَلَّ من ثُبُوتِ الْحَقِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ جَاءَتْ هذه الْجَارِيَةُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ منه
لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ في الْمَحِلِّ إما من كل وَجْهٍ
أو من وَجْهٍ ولم يُوجَدْ قبل الْقِسْمَةِ بَلْ الْمَوْجُودُ حَقٌّ عَامٌّ
وَأَنَّهُ يَكْفِي لِسُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا يَكْفِي لِثُبُوتِ النَّسَبِ
وَكَذَلِكَ وَطْءُ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ أو بِغَيْرِ وَلِيٍّ
عِنْدَ من لَا يُجِيزُهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا
منهم من قال يَجُوزُ النِّكَاحُ بِدُونِ الشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ
فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ الْغَيْرِ أو مَجُوسِيَّةً أو مُدَبَّرَةً أو أَمَةً
على حُرَّةٍ أو أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أو الْعَبْدُ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً بِغَيْرِ إذْنِ مولاها ( ( ( مولاه ) ) ) فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عليه
لِوُجُودِ لَفْظِ النِّكَاحِ من الْأَهْلِ في الْمَحِلِّ وَأَنَّهُ يُوجِبُ
شُبْهَةً
وَكَذَلِكَ إذَا نَكَحَ مَحَارِمَهُ أو الْخَامِسَةَ أو أُخْتَ امْرَأَتِهِ
فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عليه عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَإِنْ عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ
وَعَلَيْهِ التَّعْزِيرُ
وَعِنْدَهُمَا وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عليه الْحَدُّ
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ النِّكَاحَ إذَا وُجِدَ
من الْأَهْلِ مُضَافًا إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ يَمْنَعُ
وُجُوبَ الْحَدِّ سَوَاءٌ كان حَلَالًا أو حَرَامًا وَسَوَاءٌ كان التَّحْرِيمُ
مُخْتَلَفًا فيه أو مُجْمَعًا عليه وَسَوَاءٌ ظَنَّ الْحِلَّ فَادَّعَى
الِاشْتِبَاهَ أو عَلِمَ بِالْحُرْمَةِ
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ إذَا كان مُحَرَّمًا على التَّأْبِيدِ
أو كان تَحْرِيمُهُ مُجْمَعًا عليه يَجِبُ الْحَدُّ وَإِنْ لم يَكُنْ مُحَرَّمًا
على التَّأْبِيدِ أو كان تَحْرِيمُهُ مُخْتَلَفًا فيه لَا يَجِبُ عليه
وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ هذا نِكَاحٌ أُضِيفَ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ فَيَلْغُو
وَدَلِيلُ عَدَمِ الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ مَحِلَّ النِّكَاحِ هِيَ الْمَرْأَةُ
الْمُحَلَّلَةُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَرَاءَ
ذَلِكُمْ } وَالْمَحَارِمُ مُحَرَّمَاتٌ على التَّأْبِيدِ لِقَوْلِ اللَّهِ
تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ } الْآيَةَ إلَّا
أَنَّهُ إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وقال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي سَقَطَ
الْحَدُّ لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ صِيغَةَ لَفْظِ النِّكَاحِ من الْأَهْلِ في
الْمَحِلِّ دَلِيلُ الْحِلِّ فَاعْتُبِرَ هذا الظَّنُّ في حَقِّهِ وَإِنْ لم
يَكُنْ مُعْتَبَرًا حَقِيقَةً إسْقَاطًا لِمَا يُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ وإذا لم
يَدَّعِ خَلَا الْوَطْءَ عن الشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْحَدُّ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لَفْظَ النِّكَاحِ صَدَرَ من
أَهْلِهِ مُضَافًا إلَى مَحِلِّهِ فَيَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ كَالنِّكَاحِ
بِغَيْرِ شُهُودٍ وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ وَنَحْوِ ذلك وَلَا شَكَّ في وُجُودِ
لَفْظِ النِّكَاحِ وَالْأَهْلِيَّةِ وَالدَّلِيلُ على الْمَحَلِّيَّةِ أَنَّ
مَحِلَّ النِّكَاحِ هو الْأُنْثَى من بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ النُّصُوصُ وَالْمَعْقُولُ
أَمَّا النُّصُوصُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ { فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ من
النِّسَاءِ } وَقَوْلُهُ
____________________
(7/35)
سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ من أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا
لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا } وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَأَنَّهُ خَلَقَ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى } جَعَلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النِّسَاءَ
على الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ مَحِلَّ النِّكَاحِ وَالزَّوْجِيَّةِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ الْأُنْثَى من بَنَاتِ سَيِّدِنَا آدَمَ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَحِلٌّ صَالِحٌ لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ من السُّكْنَى
وَالْوَلَدِ وَالتَّحْصِينِ وَغَيْرِهَا فَكَانَتْ مَحِلًّا لِحُكْمِ النِّكَاحِ
لِأَنَّ حُكْمَ التَّصَرُّفِ وَسِيلَةٌ إلَى ما هو الْمَقْصُودُ من التَّصَرُّفِ
فَلَوْ لم يَجْعَلْ مَحِلَّ الْمَقْصُودِ مَحِلَّ الْوَسِيلَةِ لم يَثْبُتْ
مَعْنَى التَّوَسُّلِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَخْرَجَهَا من أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا
لِلنِّكَاحِ شَرْعًا مع قِيَامِ الْمَحَلِّيَّةِ حَقِيقَةً فَقِيَامُ صُورَةِ
الْعَقْدِ وَالْمَحَلِّيَّةِ يُورِثُ شُبْهَةً إذْ الشُّبْهَةُ اسْمٌ لِمَا
يُشْبِهُ الثَّابِتَ وَلَيْسَ بِثَابِتٍ أو نَقُولُ وُجِدَ رُكْنُ النِّكَاحِ
وَالْأَهْلِيَّةِ وَالْمَحَلِّيَّةِ على ما بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ
الصِّحَّةِ فَكَانَ نِكَاحًا فَاسِدًا وَالْوَطْءُ في النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا
يَكُونُ زِنًا بِالْإِجْمَاعِ وَعَلَى هذا يَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّلَ فَيُقَالُ هذا
الْوَطْءُ ليس بِزِنًا فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الزِّنَا قِيَاسًا على النِّكَاحِ
بِغَيْرِ شُهُودٍ وَسَائِرِ الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ
وَلَوْ وطىء جَارِيَةَ الْأَبِ أو الْأُمِّ فَإِنْ ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ بِأَنْ
قال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لم يَجِبْ الْحَدُّ وَإِنْ لم يَدَّعِ يَجِبُ وهو
تَفْسِيرُ شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ وَأَنَّهَا تُعْتَبَرُ في سَبْعَةِ مَوَاضِعَ في
جَارِيَةِ الْأَبِ وَجَارِيَةِ الْأُمِّ وَجَارِيَةِ الْمَنْكُوحَةِ وَجَارِيَةِ
الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا ما دَامَتْ في الْعِدَّةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ما دَامَتْ
تَعْتَدُّ منه وَالْعَبْدُ إذَا وطىء جَارِيَةَ مَوْلَاهُ وَالْجَارِيَةِ
الْمَرْهُونَةِ إذَا وَطِئَهَا الْمُرْتَهِنُ في رِوَايَةِ كِتَابِ الرَّهْنِ وفي
رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ يَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ
أَمَّا إذَا وطىء جَارِيَةَ أبيه أو أُمِّهِ أو زَوْجَتِهِ فَلِأَنَّ الرَّجُلَ
يَنْبَسِطُ في مَالِ أَبَوَيْهِ وَزَوْجَتِهِ وَيَنْتَفِعُ بِهِ من غَيْرِ
اسْتِئْذَانٍ وَحِشْمَةٍ عَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ وَمَنْكُوحَتِهِ من غَيْرِ
اسْتِئْذَانٍ فَظَنَّ أَنَّ هذا النَّوْعَ من الِانْتِفَاعِ مُطْلَقٌ له شَرْعًا
أَيْضًا
وَهَذَا وَإِنْ لم يَصْلُحْ دَلِيلًا على الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ
دَلِيلًا اُعْتُبِرَ في حَقِّهِ لِإِسْقَاطِ ما يندرىء ( ( ( يندرئ ) ) )
بِالشُّبُهَاتِ وإذا لم يَدَّعِ ذلك فَقَدْ عري الْوَطْءَ عن الشُّبْهَةِ
فَتَمَحَّضَ حَرَامًا فَيَجِبُ الْحَدُّ وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ سَوَاءٌ
ادَّعَى الاشتباه ( ( ( بالاشتباه ) ) ) أو لَا لِأَنَّ ثَبَاتَ النَّسَبِ
يَعْتَمِدُ قِيَامَ مَعْنًى في الْمَحِلِّ وهو الْمِلْكُ من كل وَجْهٍ أو من
وَجْهٍ ولم يُوجَدْ
وَلَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الظَّنَّ ولم يَدَّعِ الْآخَرُ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا
ما لم يقر ( ( ( يقرا ) ) ) جميعا أَنَّهُمَا قد عَلِمَا بِالْحُرْمَةِ لِأَنَّ
الْوَطْءَ يَقُومُ بِهِمَا جميعا فإذا تَمَكَّنَتْ فيه الشُّبْهَةُ من أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ من الْجَانِبِ الْآخَرِ ضَرُورَةً
وَأَمَّا من سِوَى الْأَبِ وَالْأُمِّ من سَائِرِ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
كَالْأَخِ وَالْأُخْتِ وَنَحْوِهِمَا إذَا وطىء جَارِيَتَهُ يَجِبُ الْحَدُّ
وَإِنْ قال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لِأَنَّ هذا دَعْوَى الِاشْتِبَاهِ في غَيْرِ
مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَسِطُ بِالِانْتِفَاعِ
بِمَالِ أَخِيهِ وَأُخْتِهِ عَادَةً فلم يَكُنْ هذا ظَنًّا مُسْتَنِدًا إلَى
دَلِيلٍ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَكَذَلِكَ إذَا وطىء جَارِيَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ من امْرَأَتِهِ لِمَا
قُلْنَا
أَمَّا إذَا وطىء الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا في الْعِدَّةِ فَلِأَنَّ النِّكَاحَ قد
زَالَ في حَقِّ الْحِلِّ أَصْلًا لِوُجُودِ الْمُبْطِلِ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ
وهو الطَّلَقَاتُ الثَّلَاثُ وَإِنَّمَا بَقِيَ في حَقِّ الْفِرَاشِ وَالْحُرْمَةِ
على الْأَزْوَاجِ فَقَطْ فَتَمَحَّضَ الْوَطْءُ حَرَامًا فَكَانَ زِنًا فَيُوجِبُ
الْحَدَّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ وَظَنَّ الْحِلَّ لِأَنَّهُ بَنَى
ظَنَّهُ على نَوْعِ دَلِيلٍ وهو بَقَاءُ النِّكَاحِ في حَقِّ الْفِرَاشِ
وَحُرْمَةِ الْأَزْوَاجِ فَظَنَّ أَنَّهُ بَقِيَ في حَقِّ الْحِلِّ أَيْضًا
وَهَذَا وَإِنْ لم يَصْلُحْ دَلِيلًا على الْحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ لَمَّا ظَنَّهُ
دَلِيلًا اُعْتُبِرَ في حَقِّهِ درءا ( ( ( درأ ) ) ) لِمَا يندرىء ( ( ( يندرئ )
) ) بِالشُّبُهَاتِ وَإِنْ كان طَلَاقُهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً لم يَجِبْ الْحَدُّ
وَإِنْ قال عَلِمْتَ أنها عَلَيَّ حَرَامٌ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ
بِالْإِبَانَةِ وَسَائِرِ الْكِنَايَاتِ مُجْتَهَدٌ فيه لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ فإن مِثْلَ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه يقول في
الْكِنَايَاتِ إنَّهَا رَوَاجِعُ وَطَلَاقُ الرجعى لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ
فَاخْتِلَافُهُمْ يُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ خَالَعَهَا أو طَلَّقَهَا على مَالٍ فَوَطِئَهَا في الْعِدَّةِ ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فيه كَالْحُكْمِ في
الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْخُلْعِ
وَالطَّلَاقِ على مَالٍ مُجْمَعٌ عليه فلم تَتَحَقَّقْ الشُّبْهَةُ فَيَجِبُ
الْحَدُّ إلَّا إذَا ادَّعَى الِاشْتِبَاهَ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمُطَلَّقَةِ
الثَّلَاثِ
وَكَذَلِكَ إذَا وطىء أُمَّ وَلَدِهِ وَهِيَ تَعْتَدُّ منه بِأَنْ أَعْتَقَهَا
لِأَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بِالْإِعْتَاقِ مُجْمَعٌ عليه فلم تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ
وَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا وطىء جَارِيَةَ مَوْلَاهُ فإن الْعَبْدَ يَنْبَسِطُ في
مَالِ مَوْلَاهُ عَادَةً بِالِانْتِفَاعِ فَكَانَ وَطْؤُهُ مُسْتَنِدًا إلَى ما هو
دَلِيلٌ في حَقِّهِ فَاعْتُبِرَ في حَقِّهِ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ وإذا لم يَدَّعِ
يُحَدُّ لِعَرَاءِ الْوَطْءِ عن
____________________
(7/36)
الشُّبْهَةِ
وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ إذَا وطىء الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ فَوَجْهُ رِوَايَةِ
كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ فَصَارَ
الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا الدَّيْنَ من الْجَارِيَةِ يَدًا فَقَدْ وطىء
جَارِيَةً هِيَ مَمْلُوكَةٌ له يَدًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ كَالْجَارِيَةِ
الْمَبِيعَةِ إذَا وَطِئَهَا الْبَائِعُ قبل التَّسْلِيمِ إلَّا إذَا ادَّعَى
الِاشْتِبَاهَ وقال ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لِأَنَّهُ اسْتَنَدَ ظَنُّهُ إلَى
نَوْعِ دَلِيلٍ وهو مِلْكُ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ في حَقِّهِ درءا ( ( ( درأ ) ) )
لِلْحَدِّ
وإذا لم يَدَّعِ فَلَا شُبْهَةَ فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ في بَابِ الرَّهْنِ
إنَّمَا يَتَحَقَّقُ من مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا من عَيْنِهِ لِأَنَّ
الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا في الْجِنْسِ وَلَا مُجَانَسَةَ بين
التَّوْثِيقِ وَبَيْنَ عَيْنِ الْجَارِيَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ الِاسْتِيفَاءُ من
عَيْنِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ظَنُّهُ
وَلَوْ وطىء الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ قبل التَّسْلِيمِ لَا حَدَّ
عليه
وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا وطىء الْجَارِيَةَ التي تَزَوَّجَ عليها قبل
التَّسْلِيمِ
لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ وَإِنْ زَالَ بِالْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ فَمِلْكُ
الْيَدِ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ وطىء الْمُسْتَأْجِرُ جَارِيَةَ الْإِجَارَةِ وَالْمُسْتَعِيرُ جَارِيَةَ
الْإِعَارَةِ وَالْمُسْتَوْدِعُ جَارِيَةَ الْوَدِيعَةِ يُحَدُّ وَإِنْ قال
ظَنَنْتُ أنها تَحِلُّ لي لِأَنَّ هذا ظَنٌّ عُرِّيَ عن دَلِيلٍ فَكَانَ في غَيْرِ
مَوْضِعِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَوْ زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ وَقُلْنَ النِّسَاءُ إنَّ هذه
امْرَأَتُكَ فَوَطِئَهَا لَا حَدَّ عليه منهم من قال إنَّمَا لم يَجِبْ الْحَدُّ
لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ وَهَذَا غَيْرُ سَدِيدٌ فَإِنَّهَا إذَا جَاءَتْ
بِوَلَدٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ
وَلَوْ كان امْتِنَاعُ الْوُجُوبِ لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ يَنْبَغِي أَنْ لَا
يَثْبُتَ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ في شُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ كما فِيمَا
ذَكَرْنَا من الْمَسَائِلِ وَهَهُنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ دَلَّ أَنَّ
الِامْتِنَاعَ ليس لِشُبْهَةِ الِاشْتِبَاهِ بَلْ لِمَعْنًى آخَرَ وهو أن وطأها (
( ( وطئها ) ) ) بِنَاءً على دَلِيلٍ ظَاهِرٍ يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ عليه وهو
الْإِخْبَارُ بِأَنَّهَا امْرَأَتُهُ بَلْ لَا دَلِيلَ هَهُنَا سِوَاهُ فَلَئِنْ
تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَقِيَامُ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ من حَيْثُ
الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ وطىء أَجْنَبِيَّةً وقال ظَنَنْتُ أنها امْرَأَتِي أو جَارِيَتِي أو
شَبَّهْتُهَا بِامْرَأَتِي أو جَارِيَتِي يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ هذا الظَّنَّ
غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِعَدَمِ اسْتِنَادِهِ إلَى دَلِيلٍ فَكَانَ مُلْحَقًا
بِالْعَدَمِ فَلَا يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً على هذا الظَّنِّ ما لم يَعْرِفْ
أنها امْرَأَتُهُ بِدَلِيلٍ إمَّا بِكَلَامِهَا أو بِإِخْبَارِ مُخْبِرٍ ولم
يُوجَدْ مع ما أَنَّا لو اعْتَبَرْنَا هذا الظَّنَّ في إسْقَاطِ الْحَدِّ لم
يَقُمْ حَدُّ الزِّنَا في مَوْضِعٍ ما إذْ الزَّانِي لَا يَعْجِزُ عن هذا
الْقَدْرِ فَيُؤَدِّي إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال لو
قِيلَ هذا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ على أَحَدٍ وَكَذَلِكَ لو كان الرَّجُلُ أَعْمَى
فَوَجَدَ امْرَأَةً في بَيْتِهِ فَوَقَعَ عليها وقال ظَنَنْتهَا امْرَأَتِي عليه
الْحَدُّ لِأَنَّ هذا ظَنٌّ لم يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ إذْ قد يَكُونُ في
الْبَيْتِ من لَا يَجُوزُ وَطْؤُهَا من الْمَحَارِمِ وَالْأَجْنَبِيَّاتِ فَلَا
يَحِلُّ الْوَطْءُ بِنَاءً على هذا الظَّنِّ فلم تَثْبُتْ الشُّبْهَةُ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ أَعْمَى دعى ( ( ( دعا ) ) ) امْرَأَتَهُ فقال يا
فُلَانَةُ فَأَجَابَتْ غَيْرُهَا فَوَقَعَ عليها أَنَّهُ يُحَدُّ وَلَوْ
أَجَابَتْهُ غَيْرُهَا وَقَالَتْ أنا فُلَانَةُ فَوَقَعَ عليها لم يُحَدَّ
وَيَثْبُتُ النَّسَبُ وَهِيَ كَالْمَرْأَةِ الْمَزْفُوفَةِ إلَى غَيْرِ زَوْجِهَا
لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ له وَطْؤُهَا بِنَفْسِ الْإِجَابَةِ ما لم تَقُلْ أنا
فُلَانَةُ لِأَنَّ الْإِجَابَةَ قد تَكُونُ من التي نَادَاهَا وقد تَكُونُ من
غَيْرِهَا فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْوَطْءِ على نَفْسِ الْإِجَابَةِ فإذا فَعَلَ
لم يُعَذَّرْ بِخِلَافِ ما إذَا قالت أنا فُلَانَةُ فَوَطِئَهَا لِأَنَّهُ لَا
سَبِيلَ لِلْأَعْمَى إلَى أَنْ يَعْرِفَ أنها امْرَأَتُهُ إلَّا بِذَلِكَ الطَّرِيقِ
فَكَانَ مَعْذُورًا فَأَشْبَهَ الْمَرْأَةَ الْمَزْفُوفَةَ حتى لو كان الرَّجُلُ
بَصِيرًا لَا يُصَدَّقُ على ذلك لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَى أنها امْرَأَتُهُ
بِالرُّؤْيَةِ
وَرُوِيَ عن زُفَرَ في رَجُلٍ أَعْمَى وَجَدَ على فِرَاشِهِ أو مَجْلِسِهِ
امْرَأَةً نَائِمَةً فَوَقَعَ عليها وقال ظَنَنْتُ أنها امْرَأَتِي يُدْرَأُ عنه
الْحَدُّ وَعَلَيْهِ الْعُقْرُ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُدْرَأُ
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ ظَنَّ في مَوْضِعِ الظَّنِّ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ
لَا يَنَامُ على فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَكَانَ ظَنُّهُ مُسْتَنِدًا إلَى
دَلِيلٍ ظَاهِرٍ فَيُوجِبُ دَرْأَ الْحَدِّ كما لو زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ
امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ النَّوْمَ على الْفِرَاشِ لَا يَدُلُّ على أنها
امْرَأَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَنَامَ على فِرَاشِهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَلَا
يَجُوزُ اسْتِحْلَالُ الْوَطْءِ بهذا الْقَدْرِ فإذا اسْتَحَلَّ وَظَهَرَ
الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ لم يَكُنْ مَعْذُورًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْإِحْصَانُ فَالْإِحْصَانُ نَوْعَانِ إحْصَانُ الرَّجْمِ
وَإِحْصَانُ الْقَذْفِ
أَمَّا إحْصَانُ الرَّجْمِ فَهُوَ عِبَارَةٌ في الشَّرْعِ عن اجْتِمَاعِ صِفَاتٍ
اعْتَبَرَهَا الشَّرْعُ لِوُجُوبِ الرَّجْمِ وَهِيَ سَبْعَةٌ الْعَقْلُ
وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَكَوْنُ
الزَّوْجَيْنِ جميعا على هذه الصِّفَاتِ وهو أَنْ يَكُونَا جميعا عَاقِلَيْنِ
بَالِغَيْنِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَوُجُودُ هذه الصِّفَاتِ جميعا فِيهِمَا
شَرْطٌ لِكَوْنِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْصَنًا وَالدُّخُولُ في النِّكَاحِ
الصَّحِيحِ بَعْدَ سَائِرِ الشَّرَائِطِ مُتَأَخِّرًا عنها فَإِنْ تَقَدَّمَهَا لم
يُعْتَبَرْ ما لم يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَهَا فَلَا إحْصَانَ الصبي ( ( (
للصبي ) ) ) وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ وَالْكَافِرِ وَلَا بِالنِّكَاحِ
الْفَاسِدِ
____________________
(7/37)
وَلَا
بِنَفْسِ النِّكَاحِ ما لم يُوجَدْ الدُّخُولُ وما لم يَكُنْ الزَّوْجَانِ جميعا
وَقْتَ الدُّخُولِ على صِفَةِ الْإِحْصَانِ حتى إن الزَّوْجَ الْعَاقِلَ
الْبَالِغَ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ إذَا دخل بِزَوْجَتِهِ وَهِيَ صَبِيَّةٌ أو
مَجْنُونَةٌ أو أَمَةٌ أو كِتَابِيَّةٌ ثُمَّ أَدْرَكَتْ الصَّبِيَّةُ وَأَفَاقَتْ
الْمَجْنُونَةُ وَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ وَأَسْلَمَتْ الْكَافِرَةُ لَا يَصِيرُ
مُحْصَنًا ما لم يُوجَدْ دُخُولٌ آخَرُ بَعْدَ زَوَالِ هذه الْعَوَارِضِ حتى لو
زَنَى قبل دُخُولٍ آخَرَ لَا يُرْجَمُ فإذا وُجِدَتْ هذه الصِّفَاتُ صَارَ الشَّخْصُ
مُحْصَنًا لِأَنَّ الْإِحْصَانَ في اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عن الدُّخُولِ في
الْحِصْنِ
يُقَالُ أَحْصَنَ أَيْ دخل الْحِصْنَ كما يُقَالُ أَعْرَقَ أَيْ دخل الْعِرَاقَ
وَأَشْأَمَ أَيْ دخل الشَّامَ وَأَحْصَنَ أَيْ دخل في الْحِصْنِ وَمَعْنَاهُ دخل
حِصْنًا عن الزِّنَا إذَا دخل فيه وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ دَاخِلًا في
الْحِصْنِ عن الزِّنَا عِنْدَ تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ وَكُلُّ وَاحِدٍ من هذه
الْجُمْلَةِ مَانِعٌ عن الزِّنَا فَعِنْدَ اجْتِمَاعِهَا تَتَوَفَّرُ الْمَوَانِعُ
أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّ لِلزِّنَا عَاقِبَةً ذَمِيمَةً وَالْعَقْلُ يَمْنَعُ
عن ارْتِكَابِ ماله عَاقِبَةٌ ذَمِيمَةٌ
وَأَمَّا الْبُلُوغُ فإن الصَّبِيَّ لِنُقْصَانِ عَقْلِهِ وَلِقِلَّةِ تَأَمُّلِهِ
لِاشْتِغَالِهِ بِاللَّهْوِ وَاللَّعِبِ لَا يَقِفُ على عَوَاقِبِ الْأُمُورِ
فَلَا يَعْرِفُ الْحَمِيدَةَ منها وَالذَّمِيمَةَ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ الْحُرَّ يَسْتَنْكِفُ عن الزِّنَا وَكَذَا
الْحُرَّةُ وَلِهَذَا لَمَّا قَرَأَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم آيَةَ
الْمُبَايَعَةِ على النِّسَاءِ وَبَلَغَ إلَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَلَا يَزْنِينَ
} قالت هِنْدُ امْرَأَةُ أبي سُفْيَانَ أو تزني الْحُرَّةُ يا رَسُولَ اللَّهِ
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلِأَنَّهُ نِعْمَةٌ كَامِلَةٌ مُوجِبَةٌ لِلشُّكْرِ
فَيَمْنَعُ من الزِّنَا الذي هو وَضْعُ الْكُفْرِ في مَوْضِعِ الشُّكْرِ
وَأَمَّا اعْتِبَارُ اجْتِمَاعِ هذه الصِّفَاتِ في الزَّوْجَيْنِ جميعا فَلِأَنَّ
اجْتِمَاعَهَا فِيهِمَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ حَالِهِمَا وَذَا يُشْعِرُ بِكَمَالِ
اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ من الْجَانِبَيْنِ لِأَنَّ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ
بِالصَّبِيَّةِ وَالْمَجْنُونَةِ قَاصِرٌ وَكَذَا بِالرَّقِيقِ لِكَوْنِ الرِّقِّ
من نَتَائِجِ الْكُفْرِ فَيَنْفِرُ عنه الطَّبْعُ وَكَذَا بِالْكَافِرَةِ لِأَنَّ
طَبْعَ الْمُسْلِمِ يَنْفِرُ عن الِاسْتِمْتَاعِ بِالْكَافِرَةِ وَلِهَذَا قال
النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِحُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه حين أَرَادَ
أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ
وَأَمَّا الدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَلِأَنَّهُ اقْتِضَاءُ الشَّهْوَةِ
بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَيَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عن الْحَرَامِ وَالنِّكَاحُ
الْفَاسِدُ لَا يُفِيدُ فَلَا يَقَعُ بِهِ الِاسْتِغْنَاءُ
وَأَمَّا كَوْنُ الدُّخُولِ آخِرَ الشَّرَائِطِ فَلِأَنَّ الدُّخُولَ قبل
اسْتِيفَاءِ سَائِرِ الشَّرَائِطِ لَا يَقَعُ اقْتِضَاءَ الشَّهْوَةِ على سَبِيلِ
الْكَمَالِ فَلَا تَقَعُ الْغُنْيَةُ بِهِ عن الْحَرَامِ على التَّمَامِ وَبَعْدَ
اسْتِيفَائِهَا تَقَعُ بِهِ الْغُنْيَةُ على الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ فَثَبَتَ
أَنَّ هذه الْجُمْلَةَ مَوَانِعُ عن الزِّنَا فَيَحْصُلُ بها مَعْنَى الْإِحْصَانِ
وهو الدُّخُولُ في الْحِصْنِ عن الزِّنَا
وَلَا خِلَافَ في هذه الْجُمْلَةِ إلَّا في الْإِسْلَامِ فإنه رُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ أَنَّهُ ليس من شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ حتى لَا يَصِيرَ الْمُسْلِمُ
مُحْصَنًا بِنِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ وَالدُّخُولِ بها في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ الثَّيِّبُ إذَا زنا لَا
يُرْجَمُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَلْ يُجْلَدُ
وَعَلَى ما رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ يَصِيرُ الْمُسْلِمُ مُحْصَنًا بِنِكَاحِ
الْكِتَابِيَّةِ
وَيُرْجَمُ الذِّمِّيُّ بِهِ
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاحْتَجَّا بِمَا رُوِيَ
أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ
وَلَوْ كان الْإِسْلَامُ شَرْطًا لَمَا رَجَمَ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِسْلَامِ
لِلزَّجْرِ عن الزِّنَا وَالدِّينُ الْمُطْلَقُ يَصْلُحُ لِلزَّجْرِ عن الزِّنَا
لِأَنَّ الزِّنَا حَرَامٌ في الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
وَلَنَا في زِنَا الذِّمِّيِّ قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } أَوْجَبَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى الْجَلْدَ على كل زَانٍ وَزَانِيَةٍ أو على مُطْلَقِ الزَّانِي
وَالزَّانِيَةِ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَمَتَى وَجَبَ
الْجَلْدُ انْتَفَى وُجُوبُ الرَّجْمِ ضَرُورَةً وَلِأَنَّ زِنَا الْكَافِرِ لَا
يُسَاوِي زِنَا الْمُسْلِمِ في كَوْنِهِ جِنَايَةً فَلَا يُسَاوِيهِ في
اسْتِدْعَاءِ الْعُقُوبَةِ كَزِنَا الْبِكْرِ مع زِنَا الثَّيِّبِ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ زِنَا الْمُسْلِمِ اُخْتُصَّ بِمَزِيدِ قُبْحٍ انْتَفَى ذلك
في زِنَا الْكَافِرِ وهو كَوْنُ زِنَاهُ وَضْعَ الْكُفْرَانِ في مَوْضِعِ
الشُّكْرِ لِأَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ نِعْمَةٌ وَدِينَ الْكُفْرِ ليس بِنِعْمَةٍ
وفي زِنَا الْمُسْلِمِ بِالْكِتَابِيَّةِ قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِحُذَيْفَةَ رضي اللَّهُ عنه حين أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً دَعْهَا
فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ وَقَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من أَشْرَكَ
بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ وَالذِّمِّيُّ مُشْرِكٌ على الْحَقِيقَةِ فلم
يَكُنْ مُحْصَنًا وما ذَكَرْنَا أَنَّ في اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ بِالْكَافِرَةِ
قُصُورًا فَلَا يَتَكَامَلُ مَعْنَى النِّعْمَةِ فَلَا يَتَكَامَلُ الزَّاجِرُ
وَقَوْلُهُ الزَّجْرُ يَحْصُلُ بِأَصْلِ الدِّينِ قُلْنَا نعم لَكِنَّهُ لَا
يَتَكَامَلُ إلَّا بِدِينِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ نِعْمَةٌ فَيَكُونُ الزِّنَا من
الْمُسْلِمِ وَضْعَ الْكُفْرَانِ في مَوْضِعِ الشُّكْرِ وَدِينُ الْكُفْرِ ليس
بِنِعْمَةٍ فَلَا يَكُونُ في كَوْنِهِ زَاجِرًا مِثْلُهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ رَجْمِ الْيَهُودِيَّيْنِ فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان قبل نُزُولِ
آيَةِ الْجَلْدِ فَانْتَسَخَ بها وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كان بَعْدَ نُزُولِهَا
وَنَسْخُ خَبَرِ الْوَاحِدِ أَهْوَنُ من نَسْخِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وَإِحْصَانُ كل وَاحِدٍ من الزَّانِيَيْنِ ليس بِشَرْطٍ
____________________
(7/38)
لِوُجُوبِ
الرَّجْمِ على أَحَدِهِمَا حتى لو كان أَحَدُهُمَا مُحْصَنًا وَالْآخَرُ غير
مُحْصَنٍ فَالْمُحْصَنُ مِنْهُمَا يُرْجَمُ وَغَيْرُ الْمُحْصَنِ يُجْلَدُ ثُمَّ
إذَا ظَهَرَ إحْصَانُ الزَّانِي بِالْبَيِّنَةِ أو بِالْإِقْرَارِ يُرْجَمُ
بِالنَّصِّ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا النَّصُّ فَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ وهو قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ لَا يَحِلُّ دَمُ امرىء مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى مَعَانٍ ثَلَاثٍ
كُفْرٌ بَعْدَ إيمَانٍ وَزِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ وَقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا وكان مُحْصَنًا
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فهوأن الْمُحْصَنَ إذَا تَوَفَّرَتْ عليه الْمَوَانِعُ من
الزِّنَا فإذا أَقْدَمَ عليه مع تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ صَارَ زِنَاهُ غَايَةً في
الْقُبْحِ فَيُجَازَى بِمَا هو غَايَةٌ في الْعُقُوبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ وهو
الرَّجْمُ لِأَنَّ الْجَزَاءَ على قَدْرِ الْجِنَايَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى تَوَعَّدَ نِسَاءَ النبي عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمُضَاعَفَةِ الْعَذَابِ إذَا أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
لِعِظَمِ جِنَايَتِهِنَّ لِحُصُولِهَا مع تَوَفُّرِ الْمَوَانِعِ فِيهِنَّ
لِعِظَمِ نِعَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَيْهِنَّ لِنَيْلِهِنَّ
صُحْبَةَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَمُضَاجَعَتَهُ فَكَانَتْ
جِنَايَتُهُنَّ على تَقْدِيرِ الْإِتْيَانِ غَايَةً في الْقُبْحِ فَأُوعِدْنَ
بِالْغَايَةِ من الْجَزَاءِ
كَذَا هَهُنَا
وَلَا يُجْمَعُ بين الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ
وقال بَعْضُ الناس يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ
وَلَنَا أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَجَمَ مَاعِزًا ولم يَجْلِدْهُ
وَلَوْ وَجَبَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَجَمَعَ
وَلِأَنَّ الزِّنَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ فَلَا يُوجِبُ إلَّا عُقُوبَةً وَاحِدَةً
وَالْجَلْدُ وَالرَّجْمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عُقُوبَةٌ على حِدَةٍ فَلَا
يَجِبَانِ لِجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ
وَالْحَدِيثُ مَحْمُولٌ على الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا في الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ
لَكِنْ في حَالَيْنِ فَيَكُونُ عَمَلًا بِالْحَدِيثِ
وإذا فُقِدَ شَرْطٌ من شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لَا يُرْجَمُ بَلْ يُجْلَدُ
لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِنَفْسِ الزِّنَا هو الْجَلْدُ بِآيَةِ الْجَلْدِ
وَلِأَنَّ زِنَا غير الْمُحْصَنِ لَا يَبْلُغُ غَايَةً في الْقُبْحِ فَلَا
تَبْلُغُ عُقُوبَتُهُ النِّهَايَةَ فيكتفي بِالْجَلْدِ وَهَلْ يُجْمَعُ بين
الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ اُخْتُلِفَ فيه قال أَصْحَابُنَا لَا يُجْمَعُ إلَّا
إذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ في الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فَيَجْمَعُ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ
جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ جَلَدَ وَغَرَّبَ وَكَذَا
رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ فَعَلَ كَذَا ولم يُنْكِرْ
عَلَيْهِمَا أَحَدٌ من الصَّحَابَةِ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلَنَا قَوْلُهُ عز وجل
{ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ
} وَالِاسْتِدْلَالُ بِهِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عز وجل أَمَرَ
بِجَلْدِ الزَّانِيَةِ وَالزَّانِي ولم يذكر التَّغْرِيبَ فَمَنْ أَوْجَبَهُ
فَقَدْ زَادَ على كِتَابِ اللَّهِ عز وجل وَالزِّيَادَةُ عليه نَسْخٌ وَلَا
يَجُوزُ نَسْخُ النَّصِّ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْجَلْدَ جَزَاءً
وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ مَأْخُوذٌ من الِاجْتِزَاءِ وهو
الِاكْتِفَاءُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا التَّغْرِيبَ لَا تَقَعُ الْكِفَايَةُ
بِالْجَلْدِ
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ ولأن التَّغْرِيبَ تَعْرِيضٌ لِلْمُغَرَّبِ على الزِّنَا
لِأَنَّهُ ما دَامَ في بَلَدِهِ يَمْتَنِعُ عن الْعَشَائِرِ وَالْمَعَارِفِ
حَيَاءً منهم وَبِالتَّغْرِيبِ يَزُولُ هذا الْمَعْنَى فَيُعَرَّى الدَّاعِي عن
الْمَوَانِعِ فَيُقَدَّمُ عليه وَالزِّنَا قَبِيحٌ فما أَفْضَى إلَيْهِ مِثْلُهُ
وَفِعْلُ الصَّحَابَةِ مَحْمُولٌ على أَنَّهُمْ رَأَوْا ذلك مَصْلَحَةً على
طَرِيقِ التَّعْزِيرِ
أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ نَفَى
رَجُلًا فَلَحِقَ بِالرُّومِ فقال لَا أَنْفِي بَعْدَهَا أَبَدًا
وَعَنْ سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال كَفَى بِالنَّفْيِ
فِتْنَةً فَدَلَّ أَنَّ فِعْلَهُمْ كان على طَرِيقِ التَّعْزِيرِ وَنَحْنُ بِهِ
نَقُولُ إنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفِيَ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ في التَّغْرِيبِ
وَيَكُونُ النَّفْيُ تَعْزِيرًا لَا حَدًّا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا إحْصَانُ الْقَذْفِ فَنَذْكُرُهُ في حَدِّ الْقَذْفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فَصْلٌ وَأَمَّا حَدُّ الشُّرْبِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الشُّرْبُ وهو شُرْبُ
الْخَمْرِ خَاصَّةً حتى يَجِبَ الْحَدُّ بِشُرْبِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَلَا
يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ على حُصُولِ السُّكْرِ منها
وَحَدُّ السُّكْرِ سَبَبُ وُجُوبِهِ السُّكْرُ الْحَاصِلُ بِشُرْبِ ما سِوَى
الْخَمْرِ من الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ الْمُسْكِرَةِ كَالسُّكَّرِ وَنَقِيعِ
الزَّبِيبِ وَالْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ من عَصِيرِ الْعِنَبِ أو التَّمْرِ
وَالْمُثَلَّثِ وَنَحْوِ ذلك
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهَا فَمِنْهَا الْعَقْلُ وَمِنْهَا الْبُلُوغُ
فَلَا حَدَّ على الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا يَعْقِلُ
وَمِنْهَا الْإِسْلَامُ
فَلَا حَدَّ على الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ بِالشُّرْبِ وَلَا
بِالسُّكْرِ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَمِنْهَا عَدَمُ الضَّرُورَةِ في شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا حَدَّ على من أُكْرِهَ
على شُرْبِ خَمْرٍ وَلَا على من أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ
لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ فَتَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَفِعْلُ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَةِ
وَكَذَا الشُّرْبُ لِضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهُ حَلَالٌ فلم
____________________
(7/39)
يَكُنْ
جِنَايَةً وَشُرْبُ الْخَمْرِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَ أَكْثَرِ
مَشَايِخِنَا فَلَا يَكُونُ جِنَايَةً وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ وَإِنْ كان حَرَامًا
لَكِنَّا نُهِينَا عن التعرض ( ( ( التعريض ) ) ) لهم وما يَدِينُونَ وفي إقَامَةِ
الْحَدِّ عليهم تَعَرُّضٌ لهم من حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهَا تَمْنَعُهُمْ من
الشُّرْبِ
وَعَنْ الْحَسَنِ بن زِيَادٍ أَنَّهُمْ إذَا شَرِبُوا وَسَكِرُوا يُحَدُّونَ
لِأَجْلِ السُّكْرِ لَا لِأَجْلِ الشُّرْبِ لِأَنَّ السُّكْرَ حَرَامٌ في
الْأَدْيَانِ كُلِّهَا
وما قَالَهُ الْحَسَنُ حَسَنٌ
وَمِنْهَا بَقَاءُ اسْمِ الْخَمْرِ لِلْمَشْرُوبِ وَقْتَ الشُّرْبِ في حَدِّ
الشُّرْبِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالشُّرْبِ تَعَلُّقٌ بِهِ حتى لو خُلِطَ
الْخَمْرُ بِالْمَاءِ ثُمَّ شُرِبَ نُظِرَ فيه إنْ كانت الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِيَّةِ يَزُولُ عِنْدَ غَلَبَةِ الْمَاءِ وَإِنْ
كانت الْغَلَبَةُ لِلْخَمْرِ أو كَانَا سَوَاءً يُحَدُّ
لِأَنَّ اسْمَ الْخَمْرِ بَاقٍ وَهِيَ عَادَةُ بَعْضِ الشَّرَبَةِ أَنَّهُمْ
يَشْرَبُونَهَا مَمْزُوجَةً بِالْمَاءِ
وَكَذَلِكَ من شَرِبَ دُرْدِيَّ الْخَمْرِ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ دُرْدِيَّ
الْخَمْرِ لَا يُسَمَّى خَمْرًا وَإِنْ كان لَا يَخْلُو عن أَجْزَاءِ الْخَمْرِ
فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى يَجِبَ الْحَدُّ على الذَّكَرِ
وَالْأُنْثَى
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ إلَّا أَنَّ حق ( ( ( حد ) ) ) الرَّقِيقِ
يَكُونُ على النِّصْفِ من حَدِّ الْحُرِّ وَلَا حق ( ( ( حد ) ) ) على من تُوجَدُ
منه رَائِحَةُ الْخَمْرِ
لِأَنَّ وُجُودَ رَائِحَةِ الْخَمْرِ لَا يَدُلُّ على شُرْبِ الْخَمْرِ لِجَوَازِ
أَنَّهُ تَمَضْمَضَ بها ولم يَشْرَبْهَا أو شَرِبَهَا عن إكْرَاهٍ أو مَخْمَصَةٍ
وَكَذَلِكَ من تَقَيَّأَ خَمْرًا لَا حَدَّ عليه لِمَا قُلْنَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْأَشْرِبَةُ التي تُتَّخَذُ من الْأَطْعِمَةِ كَالْحِنْطَةِ
وَالشَّعِيرِ وَالدُّخْنِ وَالذُّرَةِ وَالْعَسَلِ وَالتِّينِ وَالسُّكَّرِ
وَنَحْوِهَا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِهَا لِأَنَّ شُرْبَهَا حَلَالٌ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَإِنْ كان حَرَامًا لَكِنْ هِيَ حُرْمَةُ مَحَلِّ
الِاجْتِهَادِ فلم يَكُنْ شُرْبُهَا جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تَتَعَلَّقُ بها
عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ وَلَا بِالسُّكْرِ منها وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الشُّرْبَ إذَا
لم يَكُنْ حَرَامًا أَصْلًا فَلَا عِبْرَةَ بِنَفْسِ السُّكْرِ كَشُرْبِ الْبَنْجِ
وَنَحْوِهِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَسَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَذْفُ بِالزِّنَا
لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا وَفِيهَا إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ
فَيَجِبُ الْحَدُّ دَفْعًا لِلْعَارِ عنه
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ وُجُوبِهِ فأنوع ( ( ( فأنواع ) ) ) بَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْقَاذِفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَيْهِمَا جميعا وَبَعْضُهَا يرجع إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ
إلَى الْمَقْذُوفِ فيه وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْقَاذِفِ فَأَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا الْعَقْلُ
وَالثَّانِي الْبُلُوغُ حتى لو كان الْقَاذِفُ صَبِيًّا أو مَجْنُونًا لَا حَدَّ
عليه لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ الْقَذْفِ جِنَايَةً
وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً
وَالثَّالِثُ عَدَمُ إثْبَاتِهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِنْ أتى بِهِمْ لَا
حَدَّ عليه لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ
ثَمَانِينَ جَلْدَةً } عَلَّقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وُجُوبَ إقَامَةِ الْحَدِّ
بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِأَرْبَعَةِ شُهُودٍ
وَلَيْسَ الْمُرَادُ منه عَدَمَ الْإِتْيَانِ في جَمِيعِ الْعُمْرِ بَلْ عِنْدَ
الْقَذْفِ وَالْخُصُومَةِ إذْ لو حُمِلَ على الْأَبَدِ لَمَا أُقِيمَ حَدٌّ
أَصْلًا إذْ لَا يُقَامُ بَعْدَ الْمَوْتِ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ
لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا عن الْمَقْذُوفِ وإذا ظَهَرَ زِنَاهُ بِشَهَادَةِ
الْأَرْبَعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الِانْدِفَاعَ بِالْحَدِّ وَلِأَنَّ هذا شَرْطٌ
يَزْجُرُ عن قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ
وَأَمَّا حُرِّيَّةُ الْقَاذِفِ وَإِسْلَامُهُ وَعِفَّتُهُ عن فِعْلِ الزِّنَا
فَلَيْسَ بِشَرْطٍ فَيُحَدُّ الرَّقِيقُ وَالْكَافِرُ وَمَنْ لَا عِفَّةَ له عن
الزِّنَا وَالشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ لَا إحْصَانَ الْقَاذِفِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فَشَيْئَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ
يَكُونَ مُحْصَنًا رَجُلًا كان أو امْرَأَةً وَشَرَائِطُ إحْصَانِ الْقَذْفِ
خَمْسَةٌ الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عن
الزِّنَا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ بِقَذْفِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَالرَّقِيقِ
وَالْكَافِرِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ له عن الزِّنَا
أَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ من الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ فَكَانَ قَذْفُهُمَا بِالزِّنَا كَذِبًا مَحْضًا فَيُوجِبُ
التَّعْزِيرَ لَا الْحَدَّ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَرَطَ
الْإِحْصَانَ في آيَةِ الْقَذْفِ وَهِيَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَالْمُرَادُ من الْمُحْصَنَاتِ هَهُنَا
الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ عن الزِّنَا فَدَلَّ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ شَرْطٌ
وَلِأَنَّا لو أَوْجَبْنَا على قَاذِفِ الْمَمْلُوكِ الْجَلْدَ لَأَوْجَبْنَا
ثَمَانِينَ وهو لو أتى بِحَقِيقَةِ الزِّنَا لَا يُجْلَدُ إلَّا خَمْسِينَ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى الزِّنَا وَأَنَّهُ دُونَ
حَقِيقَةِ الزِّنَا
وَأَمَّا الْإِسْلَامُ وَالْعِفَّةُ عن الزِّنَا فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ }
وَالْمُحْصَنَاتُ الْحَرَائِرُ وَالْغَافِلَاتُ والعفائف ( ( ( العفائف ) ) ) عن
الزِّنَا وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعْلُومَةٌ فَدَلَّ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْعِفَّةَ
____________________
(7/40)
عن
الزِّنَا وَالْحُرِّيَّةِ شَرْطٌ وَدَلَّتْ هذه الْآيَةُ على أَنَّ الْمُرَادَ من
الْمُحْصَنَاتِ في هذه الْآيَةِ الْحَرَائِرُ لَا الْعَفَائِفُ لِأَنَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَمَعَ في هذه الْآيَةِ بين الْمُحْصَنَاتِ
وَالْغَافِلَاتِ في الذِّكْرِ وَالْغَافِلَاتُ الْعَفَائِفُ فَلَوْ أُرِيدَ
بِالْمُحْصَنَاتِ الْعَفَائِفُ لَكَانَ تَكْرَارًا وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا
يَجِبُ لِدَفْعِ الْعَارِ عن الْمَقْذُوفِ وَمَنْ لَا عِفَّةَ له عن الزِّنَا لَا
يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا وَكَذَا قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ من أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ يَدُلُّ على أَنَّ
الْإِسْلَامَ شَرْطٌ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنَّمَا وَجَبَ بِالْقَذْفِ دَفْعًا
لِعَارِ الزِّنَا عن الْمَقْذُوفِ وما في الْكَافِرِ من عَارِ الْكُفْرِ أَعْظَمُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ تَفْسِيرُ الْعِفَّةِ عن الزِّنَا هو إنْ لم يَكُنْ الْمَقْذُوفُ وطىء في
عُمْرِهِ وطأ حَرَامًا في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا وَلَا في نِكَاحٍ
فَاسِدٍ فَسَادًا مُجْمَعًا عليه في السَّلَفِ فَإِنْ كان فَعَلَ سَقَطَتْ
عِفَّتُهُ سَوَاءٌ كان الْوَطْءُ زِنًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ أو لم يَكُنْ بَعْدَ
أَنْ يَكُونَ على الْوَصْفِ الذي ذَكَرْنَا
وَإِنْ كان وطىء وطأ حَرَامًا لَكِنْ في الْمِلْكِ أو النِّكَاحِ حَقِيقَةً أو في
نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَكِنْ فَسَادًا هو مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ لَا تَسْقُطُ عِفَّتُهُ
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا وطىء امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ بِأَنْ
زُفَّتْ إلَيْهِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ لِوُجُودِ
الْوَطْءِ الْحَرَامِ في غَيْرِ مِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ لم
يَجِبْ الْحَدُّ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْمُبِيحِ من حَيْثُ الظَّاهِرُ على ما
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ إذَا وطىء جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ
وَبَيْنَ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ كُلَّ الْجَارِيَةِ وَكُلُّهَا ليس
مِلْكَهُ فَيُصَادِفُ مِلْكَ الْغَيْرِ لَا مَحَالَةَ فَكَانَ الْفِعْلُ زِنًا من
وَجْهٍ لَكِنْ درىء ( ( ( درئ ) ) ) الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ
وَكَذَلِكَ إذَا وطىء جَارِيَةَ أَبَوَيْهِ أو زَوْجَتِهِ أو جَارِيَةً
اشْتَرَاهَا وهو يَعْلَمُ أنها لِغَيْرِ الْبَائِعِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لِمَا
قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو وطىء جَارِيَةَ ابْنِهِ فَأَعْلَقَهَا أو لم يُعْلِقْهَا لِوُجُودِ
الْوَطْءِ الْمُحَرَّمِ في غَيْرِ مِلْكٍ حَقِيقَةً
وَلَوْ وطىء الْحَائِضَ أو النُّفَسَاءَ أو الصَّائِمَةَ أو الْمُحْرِمَةَ أو الْحُرَّةَ
التي ظَاهَرَ منها أو الْأَمَةَ الْمُزَوَّجَةَ لم تَسْقُطْ عِفَّتُهُ لِقِيَامِ
الْمِلْكِ أو النِّكَاحِ حَقِيقَةً وَأَنَّهُ مُحَلَّلٌ إلَّا أَنَّهُ مُنِعَ من
الْوَطْءِ لِغَيْرِهِ
وَكَذَا إذَا وطىء مُكَاتَبَتَهُ في قَوْلِهِمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن
أبي يُوسُفَ وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنه وهو قَوْلُ زُفَرَ تَسْقُطُ عِفَّتُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هذا وَطْءٌ حَصَلَ في غَيْرِ الْمِلْكِ لِأَنَّ عَقْدَ
الْكِتَابَةِ أَوْجَبَ زَوَالَ الْمِلْكِ في حَقِّ الْوَطْءِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَا يُبَاحُ له أَنْ يَطَأَهَا وَكَذَا الْمَهْرُ يَكُونُ لها لَا لِلْمَوْلَى
وَهَذَا دَلِيلُ زَوَالِ الْمِلْكِ في حَقِّ الْوَطْءِ
وَلَنَا أَنَّ الْوَطْءَ يُصَادِفُ الذَّاتَ وَمِلْكُ الذَّاتِ قَائِمٌ بَعْدَ
الْكِتَابَةِ فَكَانَ الْمِلْكُ الْمُحَلِّلُ قَائِمًا وَإِنَّمَا الزَّائِلُ
مِلْكُ الْيَدِ فَمُنِعَ من الْوَطْءِ لِمَا فيه من اسْتِرْدَادِ يَدِهَا على
نَفْسِهَا فَأَشْبَهَتْ الْجَارِيَةَ الْمُزَوَّجَةَ وَلَوْ تَزَوَّجَ مُعْتَدَّةَ
الْغَيْرِ أو مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ أو مَجُوسِيَّةً أو أُخْتَهُ من الرَّضَاعِ
سَقَطَتْ عِفَّتُهُ سَوَاءٌ عَلِمَ أو لم يَعْلَمْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي
اللَّهُ عنه وَعِنْدَهُمَا إذَا كان لَا يَعْلَمُ لَا تَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ إذَا لم يَعْلَمْ لَا يَكُونُ الْوَطْءُ حَرَامًا
بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَلَوْ كان حَرَامًا لَأَثِمَ وإذا لم يَكُنْ
حَرَامًا لم تَسْقُطْ الْعِفَّةُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حُرْمَةَ الْوَطْءِ هَهُنَا ثَابِتَةٌ
بِالْإِجْمَاعِ إلَّا أَنَّ الْإِثْمَ مُنْتَفٍ وَالْإِثْمُ ليس من لَوَازِمِ
الْحُرْمَةِ على ما عُرِفَ
وإذا كانت الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً بِيَقِينٍ سَقَطَتْ الْعِفَّةُ
وَلَوْ قَبَّلَ امْرَأَةً بِشَهْوَةٍ أو نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ ثُمَّ
تَزَوَّجَ بِابْنَتِهَا فَوَطِئَهَا أو تَزَوَّجَ بِأُمِّهَا فَوَطِئَهَا لَا
تَسْقُطُ عِفَّتُهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا
تَسْقُطُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ التَّقْبِيلَ أو النَّظَرَ أَوْجَبَ حُرْمَةَ
الْمُصَاهَرَةِ وأنها حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ فَتَسْقُطُ الْعِصْمَةُ كَحُرْمَةِ
الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هذه الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ مُجْمَعًا
عليها بَلْ هِيَ مَحِلُّ الِاجْتِهَادِ في السَّلَفِ فَلَا تَسْقُطُ الْعِفَّةُ
فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ ابْنَتَهَا أو
أُمَّهَا فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا النِّكَاحَ
مُجْمَعٌ على فَسَادِهِ فلم يَكُنْ مَحِلَّ الِاجْتِهَادِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَوَطِئَهَا سَقَطَتْ عِفَّتُهُ
لِأَنَّ فَسَادَ هذا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ عليه لَا اخْتِلَافَ فيه في السَّلَفِ
إذْ لَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ فيه بين الصَّحَابَةِ فَلَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِ
مَالِكٍ فيه
وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً وَحُرَّةً في عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فوطئهما ( ( ( فوطئها )
) ) أو تَزَوَّجَ أَمَةً على حُرَّةٍ فَوَطِئَهُمَا لم تَسْقُطْ عِفَّتُهُ لِأَنَّ
فَسَادَ هذا النِّكَاحِ ليس مُجْمَعًا عليه في السَّلَفِ بَلْ هو مَحَلُّ
الِاجْتِهَادِ فَالْوَطْءُ فيه لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْعِفَّةِ
وَلَوْ تَزَوَّجَ ذِمِّيٌّ امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ منه ثُمَّ أَسْلَمَ
فَقَذَفَهُ رَجُلٌ
إنْ كان قد دخل بها بَعْدَ الْإِسْلَامِ سَقَطَتْ عِفَّتُهُ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان الدُّخُولُ في حَالِ الْكُفْرِ لم تَسْقُطْ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا تَسْقُطُ
هَكَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْأَصْلِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ
ولم يذكر الْخِلَافَ وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ هذا النِّكَاحَ مُجْمَعٌ على
فَسَادِهِ
وَإِنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لِنَوْعِ
شُبْهَةٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَا حَدَّ على من قَذَفَ امْرَأَةً مَحْدُودَةً
____________________
(7/41)
في
الزِّنَا أو مَعَهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ له أَبٌ أو لَاعَنَتْ بِوَلَدٍ لِأَنَّ
إمارة الزِّنَا مَعَهَا ظَاهِرَةٌ فلم تَكُنْ عَفِيفَةً
فَإِنْ لَاعَنَتْ بِغَيْرِ الْوَلَدِ أو مع الْوَلَدِ لَكِنَّهُ لم يَقْطَعْ
النَّسَبَ
أو قَطَعَ لَكِنَّ الزَّوْجَ عَادَ وَأَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأُلْحِقَ النَّسَبُ
بِالْأَبِ حُدَّ لِأَنَّهُ لم يَظْهَرْ منها عَلَامَةُ الزِّنَا فَكَانَتْ
عَفِيفَةً
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمَقْذُوفُ مَعْلُومًا فَإِنْ كان مَجْهُولًا لَا
يَجِبُ الْحَدُّ
كما إذَا قال لِجَمَاعَةٍ كُلُّكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدًا
أو قال ليس فِيكُمْ زَانٍ إلَّا وَاحِدٌ
أو قال لِرَجُلَيْنِ أَحَدُكُمَا زَانٍ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ
وَلَوْ قال لِرَجُلَيْنِ أَحَدُكُمَا زَانٍ فقال له رَجُلٌ أَحَدُهُمَا هذا فقال
لَا لَا
حَدَّ لِلْآخَرِ
لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ بِصَرِيحِ الزِّنَا وَلَا بِمَا هو في مَعْنَى الصَّرِيحِ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ جَدُّكَ زَانٍ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ اسْمَ الْجَدِّ
يَنْطَلِقُ على الْأَسْفَلِ وَعَلَى الْأَعْلَى فَكَانَ الْمَقْذُوفُ مَجْهُولًا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أَخُوكَ زَانٍ فَإِنْ كان له إخْوَةٌ أو أَخَوَانِ سِوَاهُ
لَا حَدَّ على الْقَاذِفِ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَجْهُولٌ
وَإِنْ لم يَكُنْ له إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ إذَا حَضَرَ
وَطَالَبَ
لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ مَعْلُومٌ وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ وِلَايَةُ
الْمُطَالَبَةِ لِمَا نَذْكُرُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حَيَاةُ الْمَقْذُوفِ وَقْتَ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
الْحَدِّ على الْقَاذِفِ حتى يَجِبَ الْحَدُّ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ لِمَا نَذْكُرُ
في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
فصل وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا فَوَاحِدٌ وهو أَنْ لَا يَكُونَ
الْقَاذِفُ أَبِ الْمَقْذُوفِ وَلَا جَدَّهُ وَإِنْ عَلَا وَلَا أُمَّهُ وَلَا
جَدَّتَهُ وَإِنْ عَلَتْ فَإِنْ كان لَا حَدَّ عليه لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } وَالنَّهْيُ عن التَّأْفِيفِ نَصًّا نَهْيٌ عن
الضَّرْبِ دَلَالَةً
وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا
وَلِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا }
وَالْمُطَالَبُ بِالْقَذْفِ ليس من الْإِحْسَانِ في شَيْءٍ فَكَانَ مَنْفِيًّا
بِالنَّصِّ وَلِأَنَّ تَوْقِيرَ الْأَبِ وَاحْتِرَامَهُ وَاجِبٌ شَرْعًا وَعَقْلًا
وَالْمُطَالَبَةُ بِالْقَذْفِ لِلْجَدِّ تَرْكُ التَّعْظِيمِ وَالِاحْتِرَامِ
فَكَانَ حَرَامًا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ بِهِ فَنَوْعَانِ أَحَدُهُمَا
أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ بِصَرِيحِ الزِّنَا وما يَجْرِي مَجْرَى الصَّرِيحِ وهو
نَفْيُ النَّسَبِ فَإِنْ كان بالكنابة ( ( ( بالكناية ) ) ) لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
لِأَنَّ الْكِنَايَةَ مُحْتَمَلَةٌ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مع الشُّبْهَةِ فَمَعَ
الِاحْتِمَالِ أَوْلَى
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا قال لِرَجُلٍ يا زَانِي أو قال
زَنَيْتَ أو قال أنت زان ( ( ( زاني ) ) ) يُحَدُّ لِأَنَّهُ أتى بِصَرِيحِ
الْقَذْفِ بِالزِّنَا
وَلَوْ قال يا زانيء ( ( ( زانئ ) ) ) بِالْهَمْزِ أو زَنَأْتَ بِالْهَمْزِ
يُحَدُّ
وَلَوْ قال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ في الْجَبَلِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ
الْعَامَّةَ لَا تُفَرِّقُ بين الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ
وَكَذَا من الْعَرَبِ من يَهْمِزُ الْمُلَيَّنَ فَبَقِيَ مُجَرَّدُ النِّيَّةِ
فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَوْ قال زَنَأْتَ في الْجَبَلِ يُحَدُّ وَلَوْ قال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ في
الْجَبَلِ لَا يُصَدَّقُ في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَدَّقُ
وَلَوْ قال زَنَأْتَ على الْجَبَلِ وقال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ لَا يُصَدَّقُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الزِّنَا الذي هو فَاحِشَةٌ
مُلَيَّنٌ
يُقَالُ زنا يَزْنِي زنا وَالزِّنَا الذي هو صُعُودٌ مَهْمُوزٌ يُقَالُ زَنَأَ
يَزْنَأُ زنأ ( ( ( زنئا ) ) )
وقال الشَّاعِرُ وَارْقَ إلَى الْخَيْرَاتِ زنا ( ( ( زنئا ) ) ) في الْجَبَلْ
وَأَرَادَ بِهِ الصُّعُودَ إلَّا أَنَّهُ إذَا لم يَقُلْ عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ
حُمِلَ على الزِّنَا الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ في
الْفُجُورِ عُرْفًا وَعَادَةً وإذا قال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ فَقَدْ عَنَى
بِهِ ما هو مُوجِبُ اللَّفْظِ لُغَةً فَلَزِمَ اعْتِبَارُهُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ اسْمَ الزِّنَا يُسْتَعْمَلُ في الْفُجُورِ عُرْفًا
وَعَادَةً وَالْعَامَّةُ لَا تَفْصِلُ بين الْمَهْمُوزِ وَالْمُلَيَّنِ بَلْ
تَسْتَعْمِلُ الْمَهْمُوزَ مُلَيَّنًا وَالْمُلَيَّنَ مَهْمُوزًا فَلَا يُصَدَّقُ
في الصَّرْفِ عن الْمُتَعَارَفِ كما إذَا قال زَنَيْتَ في الْجَبَلِ وقال عَنَيْتُ
بِهِ الصُّعُودَ
أو زَنَأْتَ ولم يذكر الْجَبَلَ إلَّا أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ كَلِمَة { في } مَكَانَ
كَلِمَةِ على وَأَنَّهُ جَائِزٌ قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَلِأَصْلُبَنكُمْ في جُذُوعِ النَّخْلِ } أَيْ على جُذُوعِ النَّخْلِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من عَلَّلَ لَهُمَا بِأَنَّ الْمَهْمُوزَ منه يَحْتَمِلُ
مَعْنَى الْمُلَيَّنِ وهو الزِّنَا الْمَعْرُوفُ لِأَنَّ من الْعَرَبِ من يَهْمِزُ
الْمُلَيَّنَ فَيَتَعَيَّنُ مَعْنَى الْمُلَيَّنِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَهِيَ
حَالُ الْغَضَبِ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ مَقْصُورَةٌ فيها
وإذا قال زَنَأْتَ على الْجَبَلِ وقال عَنَيْتُ بِهِ الصُّعُودَ لم يُصَدَّقْ
لِأَنَّهُ لَا تُسْتَعْمَلُ كَلِمَةُ على في الصُّعُودِ فَلَا يُقَالُ صَعِدَ على
الْجَبَلِ وَإِنَّمَا يُقَالُ صَعِدَ في الْجَبَلِ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا ابْنَ الزَّانِي فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ كَأَنَّهُ قال
أَبُوكَ زَانِي
وَلَوْ قال يا ابْنَ الزَّانِيَةِ فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ كَأَنَّهُ قال أُمُّكَ
زَانِيَةٌ وَلَوْ قال يا ابْنَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ فَهُوَ قَاذِفٌ لِأَبِيهِ
وَأُمِّهِ كَأَنَّهُ قال أَبَوَاكَ زَانِيَانِ
وَلَوْ قال يا ابْنَ الزِّنَا أو يا وَلَدَ الزِّنَا كان قَذْفًا لِأَنَّ
مَعْنَاهُ في عُرْفِ الناس وَعَادَتِهِمْ إنك مَخْلُوقٌ من مَاءِ الزِّنَا
وَلَوْ قال يا ابْنَ الزَّانِيَتَيْنِ يَكُونُ قَذْفًا وَيُعْتَبَرُ إحْصَانُ
أُمِّهِ التي وَلَدَتْهُ لَا إحْصَانَ جَدَّتِهِ حتى لو كانت أُمُّهُ مُسْلِمَةً
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ كانت
____________________
(7/42)
جَدَّتُهُ
كَافِرَةً وَإِنْ كانت أُمُّهُ كَافِرَةً فَلَا حَدَّ عليه وَإِنْ كانت جَدَّتُهُ
مُسْلِمَةً لِأَنَّ أُمَّهُ في الْحَقِيقَةِ وَالِدَتُهُ وَالْجَدَّةُ تُسَمَّى
أُمًّا مَجَازًا وَكَذَلِكَ لو قال يا ابْنَ مِائَةِ زَانِيَةٍ أو يا ابْنَ أَلْفِ
زَانِيَةٍ يَكُونُ قَاذِفًا لِأُمِّهِ وَيُعْتَبَرُ في الْإِحْصَانِ حَالُ
الْأُمِّ لِمَا قُلْنَا وَيَكُونُ الْمُرَادُ من الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ عَدَدَ
الْمَرَّاتِ لَا عَدَدَ الْأَشْخَاصِ
أَيْ أُمُّكَ زَنَتْ مِائَةَ مَرَّةٍ أو أَلْفَ مَرَّةٍ
وَلَوْ قال يا ابْنَ الْقَحْبَةِ لم يَكُنْ قَاذِفًا لِأَنَّ هذا الِاسْمَ كما
يُطْلَقُ على الزَّانِيَةِ يُسْتَعْمَلُ على الْمُهَيَّأَةِ الْمُسْتَعِدَّةِ
لِلزِّنَا وَإِنْ لم تَزْنِ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ لو قال يا ابْنَ الدَّعِيَّةِ لِأَنَّ الدَّعِيَّةَ هِيَ الْمَرْأَةُ
الْمَنْسُوبَةُ إلَى قَبِيلَةٍ لَا نَسَبَ لها منهم
وَهَذَا لَا يَدُلُّ على كَوْنِهَا زَانِيَةً لِجَوَازِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا من
غَيْرِهِمْ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا زَانِي فقال الرَّجُلُ لَا بَلْ أنت الزَّانِي أو قال لَا
بَلْ أنت يُحَدَّانِ جميعا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَذَفَ صَاحِبَهُ
صَرِيحًا
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ يا زَانِيَةُ فقالت زَنَيْتُ بِكَ لَا حَدَّ على الرَّجُلِ
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ صَدَّقَتْهُ في الْقَذْفِ فَخَرَجَ قَذْفُهُ من أَنْ يَكُونَ
مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَتُحَدُّ الْمَرْأَةُ لِأَنَّهَا قَذَفَتْهُ بِالزِّنَا
نَصًّا ولم يُوجَدْ منه التَّصْدِيقُ وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ يا زَانِيَةُ فقالت
زَنَيْتُ مَعَكَ لَا حَدَّ على الرَّجُلِ وَلَا على الْمَرْأَةِ أَمَّا على
الرَّجُلِ فَلِوُجُودِ التَّصْدِيقِ منها إيَّاهُ وَأَمَّا على الْمَرْأَةِ
فَلِأَنَّ قَوْلَهَا زَنَيْتُ مَعَكَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ منه
زَنَيْتُ بِكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ زَنَيْتُ بِحَضْرَتِكَ فَلَا
يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ يا زَانِيَةُ فقالت
لَا بَلْ أنت حُدَّتْ الْمَرْأَةُ حَدَّ الْقَذْفِ وَلَا لِعَانَ على الرَّجُلِ
لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الزَّوْجَيْنِ قَذَفَ صَاحِبَهُ وَقَذْفُ الْمَرْأَةِ
يُوجِبُ حَدَّ الْقَذْفِ وَقَذْفُ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُدَّ
وفي الْبِدَايَةِ بِحَدِّ الْمَرْأَةِ إسْقَاطُ الْحَدِّ عن الرَّجُلِ لِأَنَّ
اللِّعَانَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ وَالْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ
لَا شَهَادَةَ له
وَنَظِيرُ هذا ما قالوا فِيمَنْ قال لِامْرَأَتِهِ يا زاينة ( ( ( زانية ) ) )
بِنْتُ الزَّانِيَةِ فَخَاصَمَتْ الْأُمُّ أَوَّلًا فَحُدَّ الزَّوْجُ حَدَّ
الْقَذْفِ سَقَطَ اللِّعَانُ لِأَنَّهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ
وَلَوْ خَاصَمَتْ الْمَرْأَةُ أَوَّلًا فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ
خَاصَمَتْ الْأُمُّ يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ
وَلَوْ قال لِامْرَأَتِهِ يا زَانِيَةُ فقالت زَنَيْتُ بِكَ لَا حَدَّ وَلَا
لِعَانَ
لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أنها أَرَادَتْ بِقَوْلِهَا زَنَيْتُ بِكَ أَيْ قبل
النِّكَاحِ وَيُحْتَمَلُ أنها أَرَادَتْ أَيْ ما مَكَّنْتُ من الْوَطْءِ غَيْرَكَ
فَإِنْ كان ذلك زِنًا فَهُوَ زِنًا لِأَنَّ هذا مُتَعَارَفٌ فَإِنْ أَرَادَتْ
الْأَوَّلَ لَا يَجِبُ اللِّعَانُ وَيَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ
بِالزِّنَا وَإِنْ أَرَادَتْ بِهِ الثَّانِي يَجِبُ اللِّعَانُ لِأَنَّ الزَّوْجَ
قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَهِيَ لم تُصَدِّقْهُ فِيمَا قَذَفَهَا بِهِ وَلَا حَدَّ
عليها فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في ثُبُوتِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يَثْبُتُ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ أَنْتِ زَانِيَةٌ فقالت الْمَرْأَةُ أنت أَزْنَى مِنِّي
يُحَدُّ الرَّجُلُ وَلَا تُحَدُّ الْمَرْأَةُ
أَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِصَرِيحِ الزِّنَا ولم يُوجَدْ منها
التَّصْدِيقُ
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّ قَوْلَهَا أنت أَزْنَى مِنِّي يُحْتَمَلُ أنها
أَرَادَتْ بِهِ النِّسْبَةَ إلَى الزِّنَا على التَّرْجِيحِ وَيُحْتَمَلُ أنها
أَرَادَتْ أنت أَقْدَرُ على الزِّنَا وَأَعْلَمُ بِهِ مِنِّي فَلَا يُحْمَلُ على
الْقَذْفِ مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال الإنسان ( ( ( لإنسان ) ) ) أنت أَزْنَى الناس أو أَزْنَى
الزُّنَاةِ أو أَزْنَى من فُلَانٍ لَا حَدَّ عليه لِمَا قُلْنَا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ فَرَّقَ بين قَوْلِهِ أَزْنَى الناس وَبَيْنَ
قَوْلِهِ أَزْنَى مِنِّي أو من فُلَانٍ فقال في الْأَوَّلِ يُحَدُّ وفي الثَّانِي
لَا يُحَدُّ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ قَوْلَهُ أنت أَزْنَى الناس أَمْكَنَ حَمْلُهُ على ما
يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ الصِّيغَةِ وهو التَّرْجِيحُ في وُجُودِ فِعْلِ الزِّنَا منه
لِتَحَقُّقِ الزِّنَا من الناس في الْجُمْلَةِ فَيُحْمَلُ عليه
وَقَوْلُهُ أنت أَزْنَى مِنِّي أو من فُلَانٍ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ على
التَّرْجِيحِ في وُجُودِ الزِّنَا لِجَوَازِ أَنَّهُ لم يُوجَدْ الزِّنَا منه أو
من فُلَانٍ فَيُحْمَلُ على التَّرْجِيحِ في الْقُدْرَةِ أو الْعِلْمِ فَلَا
يَكُونُ قَذْفًا بِالزِّنَا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ زَنَيْتَ وَفُلَانٌ مَعَكَ كان قَاذِفًا لَهُمَا لِأَنَّهُ
قَذَفَ أَحَدَهُمَا وَعَطَفَ الْآخَرَ عليه بِحَرْفِ الْوَاوِ وَأَنَّهَا
لِلْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَكَانَ مُخْبِرًا عن وُجُودِ الزِّنَا من كل وَاحِدٍ
مِنْهُمَا
رَجُلَانِ اسْتَبَّا فقال أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ ما أبي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي
بِزَانِيَةٍ لم يَكُنْ هذا قَذْفًا لِأَنَّ ظَاهِرَهُ نَفْيُ الزِّنَا عن أبيه
وَعَنْ أُمِّهِ إلَّا أَنَّهُ قد يكنى بهذا الْكَلَامِ عن نِسْبَةِ أَبُ صَاحِبِهِ
وَأُمِّهِ إلَى الزِّنَا لَكِنَّ الْقَذْفَ على سَبِيلِ الْكِنَايَةِ
وَالتَّعْرِيضِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أنت تَزْنِي لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ هذا اللَّفْظَ
يُسْتَعْمَلُ لِلِاسْتِقْبَالِ وَيُسْتَعْمَلُ لِلْحَالِ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا
مع الِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ لو قال أنت تَزْنِي وأنا أُضْرَبُ الْحَدَّ لِأَنَّ مِثْلَ هذا الْكَلَامِ
في عُرْفِ الناس لَا يَدُلُّ على قَصْدِ الْقَذْفِ وَإِنَّمَا يَدُلُّ على طَرِيقِ
ضَرْبِ الْمَثَلِ على الِاسْتِعْجَابِ أَنْ كَيْفَ تَكُونُ الْعُقُوبَةُ على
إنْسَانٍ وَالْجِنَايَةُ من غَيْرِهِ كما قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى }
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ ما رأيت زَانِيَةً خَيْرًا مِنْكِ أو قال لِرَجُلٍ ما رأيت
زَانِيًا خَيْرًا مِنْكَ لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّهُ ما جَعَلَ
____________________
(7/43)
هذا
الْمَذْكُورَ خَيْرَ الزُّنَاةِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ خَيْرًا من الزُّنَاةِ
وَهَذَا لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الزِّنَا منه
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ زنا بِكِ زَوْجُكِ قبل أَنْ يَتَزَوَّجَكِ فَهُوَ قَاذِفٌ
فإنه نَسَبَ زَوْجَهَا إلَى زِنًا حَصَلَ منه قبل التَّزَوُّجِ في كَلَامٍ
مَوْصُولٍ فَيَكُونُ قَذْفًا
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ وَطِئَكِ فُلَانٌ وطأ حَرَامًا أو جَامَعَكِ حَرَامًا أو
فَجَرَ بِكِ أو قال لِرَجُلٍ وَطِئْتَ فُلَانَةَ حَرَامًا أو بَاضَعْتَهَا أو
جَامَعْتَهَا حَرَامًا فَلَا حَدَّ عليه لِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْقَذْفُ
بِالزِّنَا بَلْ بِالْوَطْءِ الْحَرَامِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ
حَرَامًا وَلَا يَكُونُ زِنًا كَالْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَنَحْوِ ذلك
وَلَوْ قال لِغَيْرِهِ اذْهَبْ إلَى فُلَانٍ فَقُلْ له يا زَانِي أو يا ابْنَ
الزَّانِيَةِ لم يَكُنْ الْمُرْسِلُ قَاذِفًا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْقَذْفِ ولم
يَقْذِفْ وَأَمَّا الرَّسُولُ فَإِنْ ابْتَدَأَ فقال لَا على وَجْهِ الرِّسَالَةِ
يا زَانِي أو يا ابْنَ الزَّانِيَةِ فَهُوَ قَاذِفٌ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ
بَلَّغَهُ على وَجْهِ الرِّسَالَةِ بِأَنْ قال أَرْسَلَنِي فُلَانٌ إلَيْكَ
وَأَمَرَنِي أَنْ أقول ( ( ( أقل ) ) ) لك يا زَانِي أو يا ابْنَ الزَّانِيَةِ لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ بَلْ أَخْبَرَ عن قَذْفِ غَيْرِهِ وَلَوْ قال
لِآخَرَ أُخْبِرْتُ أَنَّكَ زَانٍ أو أُشْهِدْتُ على ذلك لم يَكُنْ قَاذِفًا
لِأَنَّهُ حَكَى خَبَرَ غَيْرِهِ بِالْقَذْفِ وَإِشْهَادَ غَيْرِهِ بِذَلِكَ فلم
يَكُنْ قَاذِفًا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا لُوطِيُّ لم يَكُنْ قَاذِفًا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ هذا
نسبة إلَى قَوْمِ لُوطٍ فَقَطْ وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَعْمَلُ عَمَلَهُمْ
وهو اللِّوَاطُ
وَلَوْ أَفْصَحَ وقال أنت تَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ وَسَمَّى ذلك لم يَكُنْ
قَاذِفًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ أَيْضًا وَعِنْدَهُمَا هو قَاذِفٌ بِنَاءً على
أَنَّ هذا الْفِعْلَ ليس بِزِنًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هو في
مَعْنَى الزِّنَا
وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في مَوْضِعِهَا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ يا زَانِي فقال له آخَرُ صَدَقْتَ يُحَدُّ الْقَاذِفُ وَلَا
حَدَّ على الْمُصَدِّقِ أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِوُجُودِ الْقَذْفِ الصَّرِيحِ منه
وَأَمَّا الْمُصَدِّقُ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ صَدَقْتَ قَذْفٌ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ
وَلَوْ قال صَدَقْتَ هو كما قُلْتَ يُحَدُّ لِأَنَّ هذا في مَعْنَى الصَّرِيحِ
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أَخُوك زَانٍ فقال الرَّجُلُ لَا بَلْ أنت يُحَدُّ الرَّجُلُ
لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِتَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ فَقَدْ قَذَفَ الْأَوَّلَ
بِالزِّنَا على سَبِيلِ التَّأْكِيدِ
وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَيُنْظَرُ إنْ كان لِلرَّجُلِ إخْوَةٌ أو أَخَوَانِ سِوَاهُ
فَلَا حَدَّ عليه وَإِنْ لم يَكُنْ له إلَّا أَخٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ
بِالْحَدِّ وَلَيْسَ لِهَذَا الْأَخِ الْمُخَاطَبِ أَنْ يُطَالِبَهُ لِمَا
ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ قال لَسْتَ لِأَبِيكَ فَهُوَ قَاذِفٌ لِأُمِّهِ سَوَاءٌ قال في غَضَبٍ أو
رِضًا لِأَنَّ هذا الْكَلَامَ لَا يُذْكَرُ إلَّا لِنَفْيِ النَّسَبِ عن الْأَبِ
فَكَانَ قَذْفًا لِأُمِّهِ
وَلَوْ قال ليس هذا أَبُوكَ أو قال لَسْتَ أنت ابْنَ فُلَانٍ لِأَبِيهِ أو قال أنت
ابن فُلَانٍ لِأَجْنَبِيٍّ إنْ كان في حَالِ الْغَضَبِ فَهُوَ قَذْفٌ وَإِنْ كان
في غَيْرِ حَالِ الْغَضَبِ فَلَيْسَ بِقَذْفٍ لِأَنَّ هذا الْكَلَامَ قد يُذْكَرُ
لِنَفْيِ النَّسَبِ وقد يُذْكَرُ لِنَفْيِ التَّشَبُّهِ في الْأَخْلَاقِ أَيْ
أَخْلَاقُكَ لَا تُشْبِهُ أَخْلَاقَ أَبِيكَ أو أَخْلَاقُكَ تُشْبِهُ أَخْلَاقَ
فُلَانٍ الْأَجْنَبِيِّ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الشَّكِّ وَالِاحْتِمَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا قال لِرَجُلٍ يا ابْنَ مُزَيْقِيَا أو يا ابْنَ مَاءِ السَّمَاءِ
أَنَّهُ يَكُونُ قَذْفًا في حَالَةِ الْغَضَبِ لَا في حَالَةِ الرِّضَا لِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ النَّسَبِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ
بِهِ الْمَدْحَ بِالتَّشْبِيهِ بِرَجُلَيْنِ من سَادَاتِ الْعَرَبِ فَعَامِرُ بن
حَارِثَةَ كان يُسَمَّى مَاءَ السَّمَاءِ لِصَفَائِهِ وَسَخَائِهِ وَعَمْرُو بن
عَامِرٍ كان يُسَمَّى الْمُزَيْقِيَا لِمَزْقِهِ الثِّيَابَ إذْ كان ذَا ثَرْوَةٍ
وَنَخْوَةٍ كان يَلْبَسُ كُلَّ يَوْمٍ ثَوْبًا جَدِيدًا فإذا أَمْسَى خَلَعَهُ
وَمَزَّقَهُ لِئَلَّا يَلْبَسَهُ غَيْرُهُ فَيُسَاوِيهِ فَيُحَكَّمُ الْحَالُ في
ذلك فَإِنْ كان في حَالِ الْغَضَبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ نَفْيَ
النَّسَبِ فَيَكُونُ قَذْفًا وَإِنْ كان في حَالِ الرِّضَا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ
أَرَادَ بِهِ الْمَدْحَ فلم يَكُنْ قَذْفًا
وَلَوْ قال لِرَجُلٍ أنت ابن فُلَانٍ لِعَمِّهِ أو لِخَالِهِ أو لِزَوْجِ أُمِّهِ
لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّ الْعَمَّ يُسَمَّى أَبًا وَكَذَلِكَ الْخَالُ وَزَوْجُ
الْأُمِّ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { قالوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ
إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } وَإِسْمَاعِيلُ كان عَمَّ يَعْقُوبَ عليه السلام وقد
سَمَّاهُ أَبَاهُ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ على الْعَرْشِ } وَقِيلَ
إنَّهُمَا أَبُوهُ وَخَالَتُهُ وإذا كانت الْخَالَةُ أُمًّا كان الْخَالُ أَبًا
وقال اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ ابْنِي من أَهْلِي } قِيلَ في التَّفْسِيرِ إنَّهُ
كان ابْنَ امْرَأَتِهِ من غَيْرِهِ
وَلَوْ قال لَسْتَ بِابْنٍ فلان ( ( ( لفلان ) ) ) لِجَدِّهِ لم يَكُنْ قَاذِفًا
لِأَنَّهُ صَادِقٌ في كَلَامِهِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْجَدَّ لَا يُسَمَّى أَبًا
حَقِيقَةً بَلْ مَجَازًا
وَلَوْ قال لِلْعَرَبِيِّ يا نَبَطِيُّ لم يَكُنْ قَذْفًا
وَكَذَلِكَ إذَا قال لَسْتَ من بَنِي فُلَانٍ لِلْقَبِيلَةِ التي هو منها لم
يَكُنْ قَاذِفًا عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وقال ابن أبي لَيْلَى يَكُونُ
قَذْفًا
وَالصَّحِيحُ قَوْلُ الْعَامَّةِ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ يا نَبَطِيُّ لم يَقْذِفْهُ
وَلَكِنَّهُ نَسَبَهُ إلَى غَيْرِ بَلَدِهِ كَمَنْ قال لِلْبَلَدِيِّ يا
رُسْتَاقِيُّ
وَكَذَلِكَ إذَا قال يا ابْنَ الْخَيَّاطِ أو يا ابْنَ الْأَصْفَرِ أو الْأَسْوَدِ
وَأَبُوهُ ليس كَذَلِكَ لم يَكُنْ قَاذِفًا بَلْ يَكُونُ كَاذِبًا
وَكَذَلِكَ إذَا قال يا ابْنَ الْأَقْطَعِ أو يا ابْنَ الْأَعْوَرِ وَأَبُوهُ ليس
كَذَلِكَ يَكُونُ كَاذِبًا لَا قَاذِفًا كما إذَا قال لِلْبَصِيرِ يا أَعْمَى
ثُمَّ الْقَذْفُ بِلِسَانِ الْعَرَبِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ وَيَجِبُ الْحَدُّ
لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هو النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا وَهَذَا يَتَحَقَّقُ
بِكُلِّ لِسَانٍ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَالثَّانِي
____________________
(7/44)
أَنْ
يَكُونَ الْمَقْذُوفُ بِهِ مُتَصَوَّرَ الْوُجُودِ من الْمَقْذُوفِ فَإِنْ كان لَا
يُتَصَوَّرُ لم يَكُنْ قَاذِفًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِآخَرَ زَنَى فخدك ( ( ( فخذك ) ) ) أو
ظَهْرُكَ أَنَّهُ لَا حَدَّ عليه
لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ من هذه الْأَعْضَاءِ حَقِيقَةً فَكَانَ
الْمُرَادُ منه الْمَجَازَ من طَرِيقِ النَّسَبِ كما قال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ
وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو يُكَذِّبُهُ
وَكَذَلِكَ لو قال زَنَيْتَ بِأُصْبُعِكَ لِأَنَّ الزِّنَا بالإصبع لَا
يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً
وَلَوْ قال زَنَى فَرْجُكَ يُحَدُّ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْفَرْجِ يَتَحَقَّقُ
كَأَنَّهُ قال زَنَيْتُ بِفَرْجِكَ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ زَنَيْتِ بِفَرَسٍ أو حِمَارٍ أو بَعِيرٍ أو ثَوْرٍ لَا
حَدَّ عليه لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ تَمْكِينَهَا من هذه
الْحَيَوَانَاتِ لِأَنَّ ذلك مُتَصَوَّرٌ حَقِيقَةً
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ جَعْلَ هذه الْحَيَوَانَاتِ عِوَضًا وَأُجْرَةً
على الزِّنَا
فَإِنْ أَرَادَ به الْأَوَّلَ لَا يَكُونُ قَذْفًا لِأَنَّهَا بِالتَّمْكِينِ منها
لَا تَصِيرُ مَزْنِيًّا بها لِعَدَمِ تَصَوُّرِ الزِّنَا من الْبَهِيمَةِ وَإِنْ
أَرَادَ بِهِ الثَّانِي يَكُونُ قَذْفًا
كما إذَا قال زَنَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ أو بِالدَّنَانِيرِ أو بِشَيْءٍ من
الْأَمْتِعَةِ فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ
وَلَوْ قال لها زَنَيْتِ بِنَاقَةٍ أو بِبَقَرَةٍ أو أَتَانٍ أو رَمَكَةٍ
فَعَلَيْهِ الْحَدُّ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ على التَّمْكِينِ فَيُحْمَلُ
على الْعِوَضِ
لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ قد يُسْتَعْمَلُ في الْأَعْوَاضِ وَلَوْ قال ذلك لِرَجُلٍ
لم يَكُنْ قَذْفًا في جَمِيعِ ذلك
سَوَاءٌ كان ذَكَرًا أو أُنْثَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ على حَقِيقَةِ
الْوَطْءِ وَوَطْؤُهَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ زِنًا فَلَا يَكُونُ قَذْفًا
وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ على الْعِوَضِ فَيَكُونُ قَذْفًا فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في
كَوْنِهِ قَذْفًا فَلَا يُجْعَلُ قَذْفًا مع الِاحْتِمَالِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من فَصَلَ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى فقال يَكُونُ قَذْفًا
في الذَّكَرِ لَا في الْأُنْثَى لِأَنَّ فِعْلَ الْوَطْءِ من الرَّجُلِ يُوجَدُ في
الْأُنْثَى فَلَا يُحْمَلُ على الْعِوَضِ وَلَا يُوجَدُ في الذَّكَرِ فَيُحْمَلُ
على الْعِوَضِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بين الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى
لِأَنَّ الْوَطْءَ يُتَصَوَّرُ في الصِّنْفَيْنِ في الْجُمْلَةِ
وَلَوْ قال لِامْرَأَةٍ زَنَيْتِ وَأَنْتِ مُكْرَهَةٌ أو مَعْتُوهَةٌ أو
مَجْنُونَةٌ أو نَائِمَةٌ لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّهُ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا في
حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ منها وُجُودُ الزِّنَا فيها فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا قَذْفًا
وَبِمِثْلِهِ لو قال لِأَمَةٍ أُعْتِقَتْ زَنَيْتِ وَأَنْتِ أَمَةٌ أو قال
لِكَافِرَةٍ أَسْلَمَتْ زَنَيْتِ وَأَنْتِ كَافِرَةٌ يَكُونُ قَذْفًا وَعَلَيْهِ
الْحَدُّ لِأَنَّ في الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قَذَفَهَا لِلْحَالِ بِالزِّنَا في
حَالٍ لَا يُتَصَوَّرُ منها وُجُودُ الزِّنَا فيها فَكَانَ كَلَامُهُ كَذِبًا لَا
قَذْفًا
وفي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ قَذَفَهَا لِلْحَالِ لِوُجُودِ الزِّنَا منها في
حَالٍ يُتَصَوَّرُ منها الزِّنَا وَهِيَ حَالُ الرِّقِّ وَالْكُفْرِ لِأَنَّهُمَا
لَا يَمْنَعَانِ وُقُوعَ الْفِعْلِ زِنًا وَإِنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِحْصَانَ
وَالْإِحْصَانُ يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ وَقْتَ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ السَّبَبُ
الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وقد وُجِدَ
وَلَوْ قال لِإِنْسَانٍ لَسْتَ لِأُمِّكَ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ
لِأَنَّهُ نفى النَّسَبِ من الْأُمِّ وَنَفْيُ النَّسَبِ من الْأُمِّ لَا
يُتَصَوَّرُ
أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّهُ وَلَدَتْهُ حَقِيقَةً
وَكَذَلِكَ لو قال له لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ لِأَنَّهُ نفى نَسَبِهِ عنهما وَلَا
يَنْتَفِي عن الْأُمِّ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ فَيَكُونُ كَذِبًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ
لَسْتَ لِأَبِيكَ لِأَنَّ ذلك ليس بِنَفْيٍ لِوِلَادَةِ الْأُمِّ بَلْ هو نَفْيُ
النَّسَبِ عن الْأَبِ وَنَفْيُ النَّسَبِ عن الْأَبِ يَكُونُ قَذْفًا لِلْأُمِّ
وَكَذَلِكَ لو قال له لَسْتَ لِأَبِيكَ وَلَسْتَ لِأُمِّكَ في كَلَامٍ مَوْصُولٍ
لم يَكُنْ قَذْفًا لِأَنَّ هذا وَقَوْلَهُ لَسْتَ لِأَبَوَيْكَ سَوَاءٌ
وَلَوْ قال له لَسْتَ لِآدَمَ أو لَسْتَ لِرَجُلٍ أو لَسْت لِإِنْسَانٍ لَا حَدَّ
عليه لِأَنَّهُ كَذِبٌ مَحْضٌ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْقِطَاعَ عن
هَؤُلَاءِ فَكَانَ كَذِبًا مَحْضًا لَا قَذْفًا فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال لِرَجُلٍ يا زَانِيَةُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ
قَذْفًا عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَكُونُ قَذْفًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْهَاءَ قد تَدْخُلُ صِلَةً زَائِدَةً في الْكَلَامِ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ خَبَرًا عن الْكُفَّارِ { ما أَغْنَى عَنِّي
مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } وَمَعْنَاهُ مَالِي وَسُلْطَانِي
وَالْهَاءُ زَائِدَةٌ فَيُحْذَفُ الزَّائِدُ فَيَبْقَى قَوْلُهُ يا زَانِي وقد
تَدْخُلُ في الْكَلَامِ لِلْمُبَالَغَةِ في الصِّفَةِ كما يُقَالُ عَلَّامَةُ
وَنَسَّابَةُ وَنَحْوُ ذلك فَلَا يَخْتَلُّ بِهِ مَعْنَى الْقَذْفِ يَدُلُّ عليه
أن حَذَفَهُ في نَعْتِ الْمَرْأَةِ لَا يُخِلُّ بِمَعْنَى الْقَذْفِ حتى لو قال
لِامْرَأَةٍ يا زَانِي يَجِبُ الْحَدُّ بِالْإِجْمَاعِ فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ في
نَعْتِ الرَّجُلِ
وَلَهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَيَلْغُو
وَدَلِيلُ عَدَمِ التَّصَوُّرِ أَنَّهُ قَذَفَهُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ وهو
التَّمْكِينُ لِأَنَّ الْهَاءَ في الزَّانِيَةِ هَاءُ التَّأْنِيثِ كَالضَّارِبَةِ
وَالْقَاتِلَةِ وَالسَّارِقَةِ وَنَحْوِهَا وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ من الرَّجُلِ
بِخِلَافِ ما إذَا قال لِامْرَأَةٍ يا زَانِي لِأَنَّهُ أتى بِمَعْنَى الِاسْمِ
وَحَذَفَ الْهَاءَ وَهَاءُ التَّأْنِيثِ قد تُحْذَفُ في الْجُمْلَةِ كَالْحَائِضِ
وَالطَّالِقِ وَالْحَامِلِ وَنَحْوِ ذلك وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْذُوفِ فيه وهو الْمَكَانُ فَهُوَ أَنْ
يَكُونَ الْقَذْفُ في دَارِ الْعَدْلِ فَإِنْ كان في دَارِ الْحَرْبِ أو في دَارِ
الْبَغْيِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّ الْمُقِيمَ لِلْحُدُودِ هُمْ الْأَئِمَّةُ
وَلَا وِلَايَةَ لِإِمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ على دَارِ الْحَرْبِ وَلَا على دَارِ
الْبَغْيِ
____________________
(7/45)
فَلَا
يَقْدِرُ على الْإِقَامَةِ فِيهِمَا فَالْقَذْفُ فِيهِمَا لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا
لِلْحَدِّ حين وُجُودِهِ فَلَا يُحْتَمَلُ الِاسْتِيفَاءَ بَعْدَ ذلك لِأَنَّ
الِاسْتِيفَاءَ لِلْوَاجِبِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى نَفْسِ الْقَذْفِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ
مُطْلَقًا عن الشَّرْطِ وَالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فَإِنْ كان مُعَلَّقًا
بِشَرْطٍ أو مُضَافًا إلَى وَقْتٍ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ لِأَنَّ ذِكْرَ الشَّرْطِ
أو الْوَقْتِ يَمْنَعُ وُقُوعَهُ قَذْفًا لِلْحَالِ وَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ أو
الْوَقْتِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ نَجَّزَ الْقَذْفَ كما في سَائِرِ التَّعْلِيقَاتِ
وَالْإِضَافَاتِ فَكَانَ قَاذِفًا تَقْدِيرًا مع انْعِدَامِ الْقَذْفِ حَقِيقَةً
فَلَا يَجِبُ الْحَدُّ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا قال رَجُلٌ من قال كَذَا وَكَذَا فَهُوَ زَانٍ أو
ابن الزَّانِيَةِ فقال رَجُلٌ أنا قلت أَنَّهُ لَا حَدَّ على المبتدىء ( ( (
المبتدئ ) ) ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْقَذْفَ بِشَرْطِ الْقَوْلِ وَكَذَلِكَ إذَا
قال لِرَجُلٍ إنْ دَخَلْتَ هذه الدَّارَ فَأَنْتَ زَانٍ أو ابن الزَّانِيَةِ
فَدَخَلَ لَا حَدَّ على الْقَائِلِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَا من قال لِغَيْرِهِ أنت زَانٍ أو ابن الزَّانِيَةِ غَدًا أو رَأْسَ شَهْرِ
كَذَا
فَجَاءَ الْغَدُ وَالشَّهْرُ لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ إضَافَةَ الْقَذْفِ إلَى
وَقْتٍ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْقَذْفِ في الْحَالِ وفي الْمَآلِ على مابينا
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فصل وَأَمَّا بَيَانُ ما تَظْهَرُ بِهِ الْحُدُودُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْحُدُودُ كُلُّهَا تَظْهَرُ بِالْبَيِّنَةِ
وَالْإِقْرَارِ لَكِنْ عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِهَا
أَمَّا شَرَائِطُ الْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ على الْحَدِّ فَمِنْهَا ما يَعُمُّ
الْحُدُودَ كُلَّهَا وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْكُلَّ فَالذُّكُورَةُ وَالْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ
شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ وَلَا كِتَابُ
الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي في الْحُدُودِ كُلِّهَا لِتَمَكُّنِ زِيَادَةِ شُبْهَةٍ
فيها ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَالْحُدُودُ لَا تَثْبُتُ مع
الشُّبُهَاتِ
وَلَوْ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ صَدَّقَهُ وَأَقَامَ على ذلك
رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ جَازَ وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ
وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هَهُنَا قَامَتْ على
إسْقَاطِ الْحَدِّ لَا على إثْبَاتِهِ وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ من إثْبَاتِ
الْحَدِّ لَا من إسْقَاطِهِ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا عَدَمُ التَّقَادُمِ
وَأَنَّهُ شَرْطٌ في حَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَلَيْسَ
بِشَرْطٍ في حَدِّ الْقَذْفِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الشَّاهِدَ إذَا عَايَنَ
الْجَرِيمَةَ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بين أَدَاءِ الشَّهَادَةِ حسبه لِلَّهِ تَعَالَى
لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز وجل { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } وَبَيْنَ
التَّسَتُّرِ على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من
سَتَرَ على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عليه في الْآخِرَةِ فلما لم
يَشْهَدْ على فَوْرِ الْمُعَايَنَةِ حتى تَقَادَمَ الْعَهْدُ دَلَّ ذلك على
اخْتِيَارِ جِهَةِ السِّتْرِ فإذا شَهِدَ بَعْدَ ذلك دَلَّ على أَنَّ الضَّغِينَةَ
حَمَلَتْهُ على ذلك فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ
لِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال أَيُّمَا قَوْمٍ
شَهِدُوا على حَدٍّ لم يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَتِهِ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عن
ضَغَنٍ وَلَا شَهَادَةَ لهم
ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
فَدَلَّ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه على أَنَّ مِثْلَ هذه
الشَّهَادَةِ شَهَادَةُ ضَغِينَةٍ وَأَنَّهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَلِأَنَّ
التَّأْخِيرَ وَالْحَالَةَ هذه يُوَرِّثُ تُهْمَةً وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُتَّهَمِ
على لِسَانِ رسول اللَّهِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَمَّةَ
لَا يَدُلُّ على الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ لِأَنَّ الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ
فَاحْتُمِلَ أَنَّ التَّأْخِيرَ كان لِتَأْخِيرِ الدَّعْوَى من الْمُدَّعِي
وَالدَّعْوَى لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ التَّأْخِيرُ
لِمَا قُلْنَا
وَيُشْكِلُ على هذا فَصْلُ السَّرِقَةِ فإن الدَّعْوَى هُنَاكَ شَرْطٌ وَمَعَ هذا
التَّقَادُمِ مَانِعٌ
وَاخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ مَشَايِخِنَا في الْجَوَابِ عن هذا الْإِشْكَالِ
فقال بَعْضُهُمْ إنَّ مَعْنَى الضَّغِينَةِ وَالتُّهْمَةِ حِكْمَةُ الْمَنْعِ من
قَبُولِ الشَّهَادَةِ
وَالسَّبَبُ الظَّاهِرُ هو كَوْنُ الْحَدِّ خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى
وَالْحُكْمُ يُدَارُ على السَّبَبِ الظَّاهِرِ لَا على الْحِكْمَةِ وقد وُجِدَ
السَّبَبُ الظَّاهِرُ في السَّرِقَةِ فَيُوجِبُ الْمَنْعَ من قَبُولِ الشَّهَادَةِ
وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْحِكْمَةِ
إلَّا إذَا كان وَجْهُ الْحِكْمَةِ خَفِيًّا لَا يُوقَفُ عليه إلَّا بِحَرَجٍ
فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَهُ وَتُجْعَلُ الْحِكْمَةُ مَوْجُودَةً
تَقْدِيرًا وَهَهُنَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عليه من غَيْرِ حَرَجٍ ولم تُوجَدْ في
السَّرِقَةِ لِمَا بَيَّنَّا فَيَجِبُ أَنْ تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ
التَّقَادُمِ
وقال بَعْضُهُمْ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ في السَّرِقَةِ لِأَنَّ
دَعْوَى السَّرِقَةِ بَعْدَ التَّقَادُمِ لم تَصِحَّ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ في
الِابْتِدَاءِ مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَدَّعِيَ السَّرِقَةَ وَيَقْطَعَ طَمَعَهُ عن
مَالِهِ احْتِسَابًا لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ أَخْذَ
الْمَالِ سَتْرًا على أَخِيهِ الْمُسْلِمِ
فلما أَخَّرَ دَلَّ تَأْخِيرُهُ على اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ وَالْإِعْرَاضِ
عن جِهَةِ الْحِسْبَةِ فلما شَهِدَ بَعْدَ ذلك فَقَدْ قَصَدَ الْإِعْرَاضَ عن
جِهَةِ السَّتْرِ فَلَا يَصِحُّ إعْرَاضُهُ ولم يُجْعَلْ قَاصِدًا جِهَةَ
الْحِسْبَةِ لِأَنَّهُ قد كان أَعْرَضَ عنها عِنْدَ اخْتِيَارِهِ جِهَةَ السَّتْرِ
فلم تَصِحَّ دَعْوَاهُ السَّرِقَةَ فلم تُقْبَلْ
____________________
(7/46)
الشَّهَادَةُ
على السَّرِقَةِ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ يَقِفُ على دَعْوَى صَحِيحَةٍ
فِيمَا تُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى فَبَقِيَ مُدَّعِيًا أَخْذَ الْمَالِ لَا غير
فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ حِسْبَةً إذْ التَّقَادُمُ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ
الشَّهَادَةِ على الْأَمْوَالِ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ
ليس بِمُخَيَّرٍ بين بَدَلِ النَّفْسِ وَبَيْنَ إقَامَةِ الْحَدِّ بِالدَّعْوَى
بَلْ الْوَاجِبُ عليه دَفْعُ الْعَارِ عن نَفْسِهِ وَدَعْوَى الْقَذْفِ فَلَا
يُتَّهَمُ بِالتَّأْخِيرِ فَكَانَتْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً منه
وَالشَّيْخُ مَنْصُورُ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشَارَ إلَى مَعْنًى
آخَرَ في شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ حَكَيْتُهُ بِلَفْظِهِ وهو أَنَّ عَادَةَ
السُّرَّاقِ الْإِقْدَامُ على السَّرِقَةِ في حال ( ( ( حالة ) ) ) الْغَفْلَةِ
وَانْتِهَازِ الْفُرْصَةِ في مَوْضِعِ الْخُفْيَةِ وَصَاحِبُ الْحَقِّ لَا
يَطَّلِعُ على من شَهِدَ ذلك وَلَا يَعْرِفُهُمْ إلَّا بِهِمْ وَبِخَبَرِهِمْ فإذا
كَتَمُوا أَثِمُوا وقد يَعْلَمُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ في غَيْرِ ذلك من
الْحُقُوقِ وَيَطْلُبُهَا إذَا احْتَاجَ إلَيْهَا فَكَانُوا في سَعَةٍ من
تَأْخِيرِهَا وإذا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ على السَّرِقَةِ بِالتَّقَادُمِ قُبِلَتْ
في حَقِّ الْمَالِ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا في حَقِّ الْحَدِّ لِتَمَكُّنِ
الشُّبْهَةِ فيها وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ مع الشُّبْهَةِ وَأَمَّا الْمَالُ
فَيَثْبُتُ مَعَهَا ثُمَّ التَّقَادُمُ إنَّمَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ في
الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ إذَا كان التَّقَادُمُ في التَّأْخِيرِ من غَيْرِ عُذْرٍ
ظَاهِرٍ فَأَمَّا إذَا كان لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ بِأَنْ كان الْمَشْهُودُ عليه في
مَوْضِعٍ ليس فيه حَاكِمٌ فَحُمِلَ إلَى بَلَدٍ فيه حَاكِمٌ فَشَهِدُوا عليه
جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ تَأَخَّرَتْ لِأَنَّ هذا مَوْضِعُ الْعُذْرِ فَلَا
يَكُونُ التَّقَادُمُ فيه مَانِعًا
ثُمَّ لم يُقَدِّرْ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلتَّقَادُمِ تَقْدِيرًا
وَفَوَّضَ ذلك إلَى اجْتِهَادِ كل حَاكِمٍ في زَمَانِهِ فإنه رُوِيَ عن أبي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال كان أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا
يُوَقِّتُ في التَّقَادُمِ شيئا وَجَهِدْنَا بِهِ أَنْ يُوَقِّتَ فَأَبَى
وأبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَدَّرَاهُ بِشَهْرٍ فَإِنْ كان
شَهْرًا أو أَكْثَرَ فَهُوَ مُتَقَادِمٌ وَإِنْ كان دُونَ شَهْرٍ فَلَيْسَ
بِمُتَقَادِمٍ لِأَنَّ الشَّهْرَ أَدْنَى الْأَجَلِ فَكَانَ ما دُونَهُ في حُكْمِ
الْعَاجِلِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ التَّأْخِيرَ قد يَكُونُ لِعُذْرٍ
وَالْأَعْذَارُ في اقْتِضَاءِ التَّأْخِيرِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَعَذَّرَ التَّوْقِيتُ
فيه مفوض ( ( ( ففوض ) ) ) إلَى اجْتِهَادِ الْقَاضِي فِيمَا يُعَدُّ إبْطَاءً وما
لَا يُعَدُّ
وإذا لم تُقْبَلْ شَهَادَةُ الشُّهُودِ بِزِنًا مُتَقَادِمٍ هل يُحَدُّونَ حَدَّ
الْقَذْفِ حَكَى الْحَسَنُ بن زِيَادٍ أَنَّهُمْ يُحَدُّونَ وَتَأْخِيرُهُمْ مَحْمُولٌ
على اخْتِيَارِ جِهَةِ السَّتْرِ فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عن كَوْنِهِ شَهَادَةً
فَبَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ
وقال الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عليهم الْحَدُّ
وَهَكَذَا ذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ أَنَّهُ لَا حَدَّ عليهم لِأَنَّ
تَأْخِيرَهُمْ وَإِنْ أَوْرَثَ تُهْمَةً وَشُبْهَةً في الشَّهَادَةِ فَأَصْلُ
الشَّهَادَةِ بَاقٍ فلما اُعْتُبِرَتْ الشُّبْهَةُ في إسْقَاطِ حَدِّ الزِّنَا عن
الْمَشْهُودِ عليه فَلَأَنْ تُعْتَبَرَ حَقِيقَةُ الشَّهَادَةِ لِإِسْقَاطِ حَدِّ
الْقَذْفِ عن الشُّهُودِ أَوْلَى
وَمِنْهَا قِيَامُ الرَّائِحَةِ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ في حَدِّ الشُّرْبِ
في قَوْلِهِمَا
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ليس بِشَرْطٍ وَالْحُجَجُ سَتَأْتِي في مَوْضِعِهَا
وَمِنْهَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ في الشُّهُودِ في حَدِّ الزِّنَا لِقَوْلِهِ عز
اسْمُهُ { وَاَللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ من نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا
عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
} وَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { لَوْلَا جاؤوا عليه بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }
وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحُجَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ
الْآخَرِ وهو الْإِقْرَارُ وَهُنَاكَ عَدَدُ الْأَرْبَعِ شَرْطٌ
كَذَا هَهُنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فإن عَدَدَ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعِ
لم يُشْتَرَطْ فيها فَكَذَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ من الشُّهُودِ وَلِأَنَّ
اشْتِرَاطَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ في الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ مَعْدُولًا بِهِ عن
الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ وَالنَّصُّ وَرَدَ في الزِّنَا خَاصَّةً فَإِنْ شَهِدَ على
الزِّنَا أَقَلُّ من أَرْبَعَةٍ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ
الْمَشْرُوطِ وَهَلْ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ قال أَصْحَابُنَا يُحَدُّونَ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ لم
يُحَدُّوا
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وقال الرَّابِعُ رَأَيْتُهُمَا في
لِحَافٍ وَاحِدٍ ولم يَزِدْ عليه أَنَّهُ يُحَدُّ الثَّلَاثَةُ عِنْدَنَا وَلَا
حَدَّ على الرَّابِعِ لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ إلَّا إذَا كان قال في الِابْتِدَاءِ
أَشْهَدُ أَنَّهُ قد زَنَى ثُمَّ فَسَّرَ الزِّنَا بِمَا ذَكَرَ فَحِينَئِذٍ
يُحَدُّ
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ
الشُّهُودِ كان قَصْدُهُمْ إقَامَةَ الشَّهَادَةِ حِسْبَةً لِلَّهِ تَعَالَى لَا
الْقَذْفَ فلم يَكُنْ جِنَايَةً فلم يَكُنْ قَذْفًا
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ ثَلَاثَةً شَهِدُوا على مُغِيرَةَ بِالزِّنَا فَقَامَ
الرَّابِعُ وقال رأيت أَقْدَامًا بَادِيَةً وَنَفَسًا عَالِيًا وَأَمْرًا
مُنْكَرًا وَلَا أَعْلَمُ ما وَرَاءَ ذلك
فقال سيدنا ( ( ( سي ) ) ) عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي لم
يَفْضَحْ رَجُلًا من أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وَحَدَّ الثَّلَاثَةَ وكان ذلك
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ الْكِرَامِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ
أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ من الشُّهُودِ
كَلَامُ قَذْفٍ حَقِيقَةً إذْ الْقَذْفُ هو النِّسْبَةُ إلَى الزِّنَا وقد وُجِدَ
من الشُّهُودِ حَقِيقَةً فَيَدْخُلُونَ تَحْتَ آيَةِ الْقَذْفِ إلَّا أَنَّا
اعْتَبَرْنَا تَمَامَ عَدَدِ الْأَرْبَعِ إذَا جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ فَقَدْ
قَصَدُوا إقَامَةَ الْحِسْبَةِ وَاجِبًا حَقًّا لِلَّهِ
____________________
(7/47)
تَعَالَى
فَخَرَجَ كَلَامُهُمْ عن كَوْنِهِ قَذْفًا وَصَارَ شَهَادَةً شَرْعًا فَعِنْدَ
النُّقْصَانِ بَقِيَ قَذْفًا حَقِيقَةً فَيُوجِبُ الْحَدَّ
وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ على الزِّنَا وَشَهِدَ رَابِعٌ على شَهَادَةِ غَيْرِهِ
تُحَدُّ الثَّلَاثَةُ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ صَارَتْ قَذْفًا لِنُقْصَانِ
الْعَدَدِ وَلَا حَدَّ على الرَّابِعِ لِأَنَّهُ لم يَقْذِفْ بَلْ حَكَى قَذْفَ
غَيْرِهِ
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ أَحَدَ الْأَرْبَعِ عَبْدٌ أو مُكَاتَبٌ أو صَبِيٌّ أو
أَعْمَى أو مَحْدُودٌ في قَذْفٍ حُدُّوا جميعا لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْعَبْدَ
لَيْسَتْ لَهُمَا أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ أَصْلًا وَرَأْسًا فَانْتُقِصَ
الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ في الْقَذْفِ
لَيْسَتْ لهم أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ أو إنْ كانت لهم أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ
تَحَمُّلًا وَسَمَاعًا فَقَصُرَتْ أَهْلِيَّتُهُمَا لِلشَّهَادَةِ فَانْتُقِصَ
الْعَدَدُ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا
وَسَوَاءٌ عُلِمَ ذلك قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ
وَإِنْ عُلِمَ ذلك بَعْدَ الْإِمْضَاءِ فَإِنْ كان الْحَدُّ جَلْدًا فَكَذَلِكَ
يُحَدُّونَ وَلَا يَضْمَنُونَ أَرْشَ الضَّرْبِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ في بَيْتِ الْمَالِ على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ الرُّجُوعِ
عن الشَّهَادَاتِ وَإِنْ كان رَجْمًا لَا يُحَدُّونَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ
كَلَامَهُمْ وَقَعَ قَذْفًا وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ الْمَقْذُوفُ سَقَطَ
الْحَدُّ وَتَكُونُ الدِّيَةُ في بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْخَطَأَ حَصَلَ من
الْقَاضِي وَخَطَأُ الْقَاضِي على بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِعَامَّةِ
الْمُسْلِمِينَ وَبَيْتُ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ
وَلَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ حُدَّ الثَّلَاثَةُ ولا عن الزَّوْجُ
امْرَأَتَهُ لِأَنَّ قَذْفَ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ لَا الْحَدَّ
فَانْتُقِصَ الْعَدَدُ في حَقِّ الْبَاقِينَ فَصَارَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا
فَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الشُّهُودَ الْأَرْبَعَةَ عَبِيدٌ أو كُفَّارٌ أو
مَحْدُودُونَ في قَذْفٍ أو عُمْيَانٌ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَإِنْ عُلِمَ
أَنَّهُمْ فُسَّاقٌ لَا يُحَدُّونَ وَالْفَرْقُ ما ذَكَرْنَا أَنَّ الْعَبْدَ
وَالْكَافِرَ لَا شَهَادَةَ لَهُمَا أَصْلًا وَالْأَعْمَى وَالْمَحْدُودُ في
الْقَذْفِ لَهُمَا شَهَادَةٌ سَمَاعًا وَتَحَمُّلًا لَا أَدَاءً فَكَانَ
كَلَامُهُمْ قَذْفًا
وَالْفَاسِقُ له شَهَادَةٌ على أَصْلِ أَصْحَابِنَا سَمَاعًا وإذا كان كَلَامُ
الْفَاسِقِ شَهَادَةً لَا قَذْفًا
فَلَا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عليه أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ الْأَرْبَعَةِ عَبْدٌ
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حتى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ لِمَا رُوِيَ عن
سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال الناس أَحْرَارٌ إلَّا في أَرْبَعٍ
الشَّهَادَةِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ وَالْحُدُودِ وَالْمَعْنَى فيه ما
ذَكَرْنَا في غَيْرِ مَوْضِعٍ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ الْمَجْلِسِ وهو أَنْ يَكُونَ الشُّهُودُ مُجْتَمِعِينَ في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَإِنْ جَاءُوا مُتَفَرِّقِينَ
يَشْهَدُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ
وَإِنْ كَثُرُوا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَلَامَهُمْ قَذْفٌ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا
يَخْرُجُ عن كَوْنِهِ قَذْفًا شَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونُوا مُجْتَمِعِينَ في
مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فإذا انْعَدَمَتْ هذه الشَّرِيطَةُ
بَقِيَ قَذْفًا فَيُوجِبُ الْحَدَّ حتى لو جَاءُوا مُجْتَمِعِينَ أو
مُتَفَرِّقِينَ وَقَعَدُوا في مَوْضِعِ الشُّهُودِ في نَاحِيَةٍ من الْمَسْجِدِ
ثُمَّ جَاءُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَشَهِدُوا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ
لِوُجُودِ اجْتِمَاعِهِمْ في مَجْلِسٍ وَاحِدٍ وَقْتَ الشَّهَادَةِ إذْ
الْمَسْجِدُ كُلُّهُ مَجْلِسٌ وَاحِدٌ وَإِنْ كَانُوا خَارِجِينَ من الْمَسْجِدِ
فَجَاءَ وَاحِدٌ منهم وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ وَشَهِدَ ثُمَّ جاء الثَّانِي
وَالثَّالِثُ وَالرَّابِعُ يُضْرَبُونَ الْحَدَّ وَإِنْ كَانُوا مِثْلَ رَبِيعَةَ
وَمُضَرَ
هَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال لو جاء
رَبِيعَةُ وَمُضَرُ فُرَادَى لَحَدَدْتُهُمْ عن آخِرِهِمْ وَإِنَّمَا قال ذلك
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ
عليه أَحَدٌ منهم فَيَكُونُ إجْمَاعًا منهم
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عليه بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ منه
الْوَطْءُ فَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يُتَصَوَّرُ منه كَالْمَجْبُوبِ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ وَيُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ
وَلَوْ كان الْمَشْهُودُ عليه خَصِيًّا أو عِنِّينًا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ
وَيُحَدُّ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا لِقِيَامِ الْآلَةِ بِخِلَافِ
الْمَجْبُوبِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ عليه بِالزِّنَا مِمَّنْ يَقْدِرُ على
دَعْوَى الشُّبْهَةِ فَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ كَالْأَخْرَسِ لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أَنَّهُ لو كان قَادِرًا لَادَّعَى شُبْهَةً
وَلَوْ كان الْمَشْهُودُ عليه بِالزِّنَا أَعْمَى قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ
الْأَعْمَى قَادِرٌ على دَعْوَى الشُّبْهَةِ لو كانت عِنْدَهُ شُبْهَةٌ
وَلَوْ شَهِدُوا بِالزِّنَا ثُمَّ قالوا تَعَمَّدْنَا النَّظَرَ إلَى فَرْجِهَا
لَا تُبْطَلُ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا بُدَّ له من
التَّحَمُّلِ وَلَا بُدَّ لِلتَّحَمُّلِ من النَّظَرِ إلَى عَيْنِ الْفَرْجِ
وَيُبَاحُ لهم النَّظَرُ إلَيْهَا لِقَصْدِ إقَامَةِ الْحِسْبَةِ كما يُبَاحُ
لِلطَّبِيبِ لِقَصْدِ الْمُعَالَجَةِ
وَلَوْ قالوا نَظَرْنَا مُكَرَّرًا بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ سَقَطَتْ
عَدَالَتُهُمْ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا اتِّحَادُ المشهود ( ( ( الشهود ) ) ) وهو أَنْ يُجْمِعَ الشُّهُودُ
الْأَرْبَعَةُ على فِعْلٍ وَاحِدٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى في مَكَانِ كَذَا
وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ زَنَى في مَكَان آخَرَ وَالْمَكَانَانِ مُتَبَايِنَانِ
بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَقَعَ فيها ( ( ( فيهما ) ) ) فِعْلٌ وَاحِدٌ عَادَةً
كَالْبَلَدَيْنِ وَالدَّارَيْنِ وَالْبَيْتَيْنِ لَا تُقْبَل شَهَادَتُهُمْ وَلَا
حَدَّ على الْمَشْهُودِ عليه لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
لِاخْتِلَافِ الْمَكَانَيْنِ وَلَيْسَ
____________________
(7/48)
على
أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ وَلَا حَدَّ على الشُّهُودِ أَيْضًا عِنْدَ
أَصْحَابِنَا وَعِنْدَ زُفَرَ يُحَدُّونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ عَدَدَ الشُّهُودِ قد اُنْتُقِصَ لِأَنَّ كُلَّ فَرِيقٍ
شَهِدَ بِفِعْلٍ غَيْرِ الذي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْآخَرُ وَنُقْصَانُ عَدَدِ
الشُّهُودِ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الشَّهَادَةِ قَذْفًا كما لو شَهِدَ ثَلَاثَةٌ
بِالزِّنَا
وَلَنَا أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لم يَخْتَلِفْ عِنْدَ الشُّهُودِ لِأَنَّ
عِنْدَهُمْ أَنَّ هذا زِنًا وَاحِدٌ وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ في
الْمَكَانِ فَثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ شُبْهَةُ اتِّحَادِ الْفِعْلِ فَيَسْقُطُ
الْحَدُّ
وَعَلَى هذا إذَا اخْتَلَفُوا في الزَّمَانِ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى بها
في يَوْمِ كَذَا وَاثْنَانِ في يَوْمٍ آخَرَ
وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى في هذه الزَّاوِيَةِ من الْبَيْتِ وَشَهِدَ
اثْنَانِ أَنَّهُ زَنَى في هذه الزَّاوِيَةِ الْأُخْرَى منه يُحَدُّ الْمَشْهُودُ
عليه لِجَوَازِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْفِعْلِ وَقَعَ في هذه الزَّاوِيَةِ من
الْبَيْتِ وَانْتِهَاؤُهُ في زَاوِيَةٍ أُخْرَى منه لِانْتِقَالِهِمَا منه
وَاضْطِرَابِهِمَا فلم يَخْتَلِفْ الْمَشْهُودُ بِهِ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ حتى
لو كان الْبَيْتُ كَبِيرًا لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ
الْبَيْتَيْنِ
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ أَنَّهُ
اسْتَكْرَهَهَا وَاثْنَانِ أنها طَاوَعَتْهُ لَا حَدَّ على الْمَرْأَةِ
بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالزِّنَا طَوْعًا ولم
تَثْبُتْ الطَّوَاعِيَةُ في حَقِّهَا
وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلَا حَدَّ عليه أَيْضًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ عن طَوْعٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ
الْأَرْبَعِ إلَّا أَنَّهُ تَفَرَّدَ اثْنَانِ منهم بِإِثْبَاتِ زِيَادَةِ
الْإِكْرَاهِ منه وَأَنَّهُ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ كما لو زنا بها
مُسْتَكْرَهَةً وَلِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ الْمَشْهُودَ قد
اخْتَلَفَ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُكْرَهِ غَيْرُ فِعْلِ من ليس بِمُكْرَهٍ فَقَدْ
شَهِدُوا بِفِعْلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ
الْأَرْبَعِ فَلَا يُحَدُّ الْمَشْهُودُ عليه وَلَا الشُّهُودُ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ خِلَافًا لِزُفَرَ
وقد مَرَّ الْكَلَامُ فيه في اخْتِلَافِهِمْ في الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
ثُمَّ الشُّهُودُ إذَا اسْتَجْمَعُوا شَرَائِطَ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ وَشَهِدُوا
عِنْدَ الْقَاضِي سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عن الزِّنَا ما هو وَكَيْف هو وَمَتَى زنا
وَأَيْنَ زنا وَبِمَنْ زنا أَمَّا السُّؤَالُ عن مَاهِيَّةِ الزِّنَا فَلِأَنَّهُ
يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ أَرَادُوا بِهِ غير الزِّنَا الْمَعْرُوفِ لِأَنَّ اسْمَ
الزِّنَا يَقَعُ على أَنْوَاعٍ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَالْيَدَانِ
تَزْنِيَانِ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذلك كُلَّهُ أو
يُكَذِّبُهُ
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الْكَيْفِيَّةِ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ
أَرَادُوا بِهِ الْجِمَاعَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لِأَنَّ ذلك يُسَمَّى جِمَاعًا
حَقِيقَةً أو مَجَازًا فإنه لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الزَّمَانِ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا
بِزِنًا مُتَقَادِمٍ وَالتَّقَادُمُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الْمَكَانِ فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ زنا في دَارِ
الْحَرْبِ أو في دَارِ الْبَغْيِ وَأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَأَمَّا السُّؤَالُ عن الْمَزْنِيِّ بها فَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ
الْمَوْطُوءَةُ مِمَّنْ لَا يَجِبُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا كَجَارِيَةِ الِابْنِ
وَغَيْرِ ذلك فإذا سَأَلَهُمْ الْقَاضِي عن هذه الْجُمْلَةِ فَوَصَفُوا سَأَلَ
الْمَشْهُودَ عليه أَهُوَ مُحْصَنٌ أَمْ لَا فَإِنْ أَنْكَرَ الْإِحْصَانَ
وَشَهِدَ على الْإِحْصَانِ رَجُلَانِ أو رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ على الِاخْتِلَافِ
سَأَلَ الشُّهُودَ عن الْإِحْصَانِ ما هو لِأَنَّ له شَرَائِطَ يَجُوزُ أَنْ
تَخْفَى على الشُّهُودِ فإذا وَصَفُوا قُضِيَ بِالرَّجْمِ
وَلَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةُ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ جَامَعَهَا أو بَاضَعَهَا صَارَ
مُحْصَنًا لِأَنَّ هذه اللَّفْظَ في الْعُرْفِ مُسْتَعْمَلٌ في الْوَطْءِ في
الْفَرْجِ
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ دخل بها صَارَ مُحْصَنًا وَهَذَا وَقَوْلُهُ جَامَعَهَا
سَوَاءٌ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هذا اللَّفْظَ يُسْتَعْمَلُ في الْوَطْءِ وَيُسْتَعْمَلُ في
الزِّفَافِ فَلَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ مع الِاحْتِمَالِ
وَلَهُمَا أَنَّ الدُّخُولَ بِالْمَرْأَةِ في عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ
يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ
قال اللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي في حُجُورِكُمْ من
نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } حَرَّمَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
الرَّبِيبَةَ بِشَرْطِ الدُّخُولِ بِأُمِّهَا فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ من
الدُّخُولِ هو الْوَطْءُ لِأَنَّهَا تُحَرَّمُ بِمُجَرَّدِ نِكَاحِ الْأُمِّ من
غَيْرِ وَطْءٍ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ الِاخْتِلَافَ على الْقَلْبِ فقال على قَوْلِ أبي
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا ما لم يُصَرِّحْ بِالْوَطْءِ
وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ مُحْصَنًا
وَلَوْ شَهِدُوا على الدُّخُولِ وكان له منها وَلَدٌ هو مُحْصَنٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَكَفَى بِالْوَلَدِ شَاهِدًا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمْ
وَأَمَّا شَرَائِطُ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ فَمِنْهَا مايعم الْحُدُودَ كُلَّهَا
وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَمِنْهَا الْبُلُوغُ فَلَا يَصِحُّ
إقْرَارُ الصَّبِيِّ في شَيْءٍ من الْحُدُودِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ لَا
بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ جِنَايَةً وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ
جِنَايَةً فَكَانَ إقْرَارُهُ كَذِبًا مَحْضًا
وَمِنْهَا النُّطْقُ وهو أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالْخِطَابِ وَالْعِبَارَةِ
دُونَ الْكِتَابِ وَالْإِشَارَةِ حتى إنَّ الْأَخْرَسَ لو كَتَبَ الْإِقْرَارَ في
كِتَابٍ أو أَشَارَ إلَيْهِ إشَارَةً مَعْلُومَةً لَا حَدَّ عليه لِأَنَّ
الشَّرْعَ عَلَّقَ وُجُوبَ الْحَدِّ بِالْبَيَانِ الْمُتَنَاهِي
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَقَرَّ
____________________
(7/49)
بِالْوَطْءِ
الْحَرَامِ لَا يُقَامُ عليه الْحَدُّ ما لم يُصَرِّحْ بِالزِّنَا وَالْبَيَانُ
لَا يَتَنَاهَى إلَّا بِالصَّرِيحِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةُ بِمَنْزِلَةِ
الْكِتَابَةِ فَلَا يُوجِبُ الْحَدَّ
وَأَمَّا الْبَصَرُ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُ
الْأَعْمَى في الْحُدُودِ كُلِّهَا كَالْبَصِيرِ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَمْنَعُ
مُبَاشَرَةَ سَبَبِ وُجُوبِهَا
وَكَذَا الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالذُّكُورَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى
يَصِحَّ إقْرَارُ الرَّقِيقِ وَالذِّمِّيِّ وَالْمَرْأَةِ في جَمِيعِ الْحُدُودِ
وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ من
أَسْبَابِ الْحُدُودِ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى
وَالْكَلَامُ في التَّصْدِيقِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا عَدَدُ الْأَرْبَعِ في
حَدِّ الزِّنَا خَاصَّةً وهو أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عليه الرَّحْمَةُ ليس بِشَرْطٍ ويكتفي بِإِقْرَارِهِ
مَرَّةً وَاحِدَةً
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا صَارَ حُجَّةً في الشَّرْعِ
لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فيه على جَانِبِ الْكَذِبِ
وهذا الْمَعْنَى عِنْدَ التَّكْرَارِ وَالتَّوَحُّدِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ
إخْبَارٌ وَالْخَبَرُ لَا يَزِيدُ رُجْحَانًا بِالتَّكْرَارِ وَلِهَذَا لم
يُشْتَرَطْ في سَائِرِ الْحُدُودِ بِخِلَافِ عَدَدِ الْمُثَنَّى في الشَّهَادَةِ
لِأَنَّ ذلك يُوجِبُ زِيَادَةَ ظَنٍّ عليه فيها إلَّا أَنَّ شَرْطَ الْعَدَدِ
الْأَرْبَعِ في بَابِ الزِّنَا تعبدا ( ( ( تعبد ) ) ) فَيَقْتَصِرُ على مَوْضِعِ
التَّعَبُّدِ
وَلَنَا أَنَّ الْقِيَاسَ ما قَالَهُ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ
بِالنَّصِّ وهو ما رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا جاء إلَى رسول اللَّهِ فَأَقَرَّ
بِالزِّنَا فَأَعْرَضَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ
هَكَذَا إلَى الْأَرْبَعِ
فَلَوْ كان الْإِقْرَارُ مَرَّةً مُظْهِرًا لِلْحَدِّ لَمَا أَخَّرَهُ رسول
اللَّهِ إلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ ما ظَهَرَ وُجُوبُهُ
لِلْإِمَامِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ
وَأَمَّا الْعَدَدُ في الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ بِالْإِجْمَاعِ
وَهَلْ يُشْتَرَطُ في الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ قال أبو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إن ( ( ( إنه ) ) ) كل ما يَسْقُطُ
بِالرُّجُوعِ فَعَدَدُ الْإِقْرَارِ فيه كَعَدَدِ الشُّهُودِ
وَذَكَرَ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ أن عِنْدَ أبي يُوسُفَ
يُشْتَرَطُ الْإِقْرَارُ مَرَّتَيْنِ في مَكَانَيْنِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ خَالِصُ حَقِّ
اللَّهِ تَعَالَى كَحَدِّ الزِّنَا فَتَلْزَمُ مُرَاعَاةُ الِاحْتِيَاطِ فيه
بِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ كما في الزِّنَا إلَّا أَنَّهُ يكتفي هَهُنَا
بِالْمَرَّتَيْنِ وَيُشْتَرَطُ الْأَرْبَعُ هُنَاكَ اسْتِدْلَالًا بِالْبَيِّنَةِ
لِأَنَّ السَّرِقَةَ وَالشُّرْبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ بِنِصْفِ ما
يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا وهو شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ
وَلَهُمَا أَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا يُشْتَرَطَ التَّكْرَارُ في الْإِقْرَارِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ إخْبَارٌ وَالْمُخْبَرُ لَا يَزْدَادُ بِتَكْرَارِ
الْخَبَرِ وَإِنَّمَا عَرَفْنَا عَدَدَ الْأَرْبَعِ في بَابِ الزِّنَا بِنَصٍّ
غَيْرِ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَيَقْتَصِرُ على مَوْرِدِ النَّصِّ
وَمِنْهَا عَدَدُ الْمَجَالِسِ فيه وهو أَنْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَجَالِسَ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْقَاضِي أو مَجَالِسُ
الْمُقِرِّ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَجَالِسُ الْمُقِرِّ
لِأَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اعْتَبَرَ اخْتِلَافَ مَجَالِسِ مَاعِزٍ
حَيْثُ كان يَخْرُجُ من الْمَسْجِدِ في كل مَرَّةٍ ثُمَّ يَعُودُ وَمَجْلِسُهُ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لم يَخْتَلِفْ وقد رُوِيَ عن أبي حَنِيفَةَ في
تَفْسِيرِ اخْتِلَافِ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ هو أَنْ يُقِرَّ مَرَّةً ثُمَّ
يَذْهَبُ حتى يَتَوَارَى عن بَصَرِ الْقَاضِي ثُمَّ يَجِيءُ فَيُقِرُّ ثُمَّ
يَذْهَبُ هَكَذَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بين يَدَيْ الْإِمَامِ فَإِنْ كان عِنْدَ
غَيْرِهِ لم يَجُزْ إقْرَارُهُ لِأَنَّ إقْرَارَ مَاعِزٍ كان عِنْدَ رسول اللَّهِ
وَلَوْ أَقَرَّ في غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي وَشَهِدَ الشُّهُودُ على إقْرَارِهِ
لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ إنْ كان مُقِرًّا فَالشَّهَادَةُ لَغْوٌ
لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْإِقْرَارِ لَا لِلشَّهَادَةِ وَإِنْ كان مُنْكِرًا
فَالْإِنْكَارُ منه رُجُوعٌ
وَالرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ حَقًّا لِلَّهِ عز وجل
صَحِيحٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا الصِّحَّةُ في الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ
وَالسُّكْرِ حتى لو كان سَكْرَانَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ
أَمَّا على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ السَّكْرَانَ من
صَارَ بِالشُّرْبِ إلَى حَالٍ لَا يَعْقِلُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا فَكَانَ
عَقْلُهُ زَائِلًا مَسْتُورًا حَقِيقَةً وَأَمَّا على أَصْلِهِمَا فَلِأَنَّهُ
إذَا غَلَبَ الْهَذَيَانُ على كَلَامِهِ فَقَدْ ذَهَبَتْ مَنْفَعَةُ الْعَقْلِ
وَلِهَذَا لم تَصِحَّ رِدَّتُهُ فَيُورِثُ ذلك شُبْهَةً في وُجُوبِ الْحَدِّ
وَلَيْسَ بِشَرْطٍ في الْإِقْرَارِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ لِأَنَّ الْقِصَاصَ
خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ وَلِلْعَبْدِ حَقٌّ في حَدِّ الْقَذْفِ فَيَصِحُّ مع
السُّكْرِ كَالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ
وإذا صَحَّا فَإِنْ دَامَ على إقْرَارِهِ تُقَامُ عليه الْحُدُودُ كُلُّهَا وَإِنْ
أنكر ( ( ( أنكره ) ) ) فَالْإِنْكَارُ منه رُجُوعٌ فَيَصِحُّ في الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ وهو حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ في حد ( ( ( حق ) ) )
الْقَطْعِ وَلَا يَصِحُّ في الْقَذْفِ وَالْقَتْلِ الْعَمْدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِقْرَارُ بِالزِّنَا مِمَّنْ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ
الزِّنَا منه فَإِنْ كان لَا يُتَصَوَّرُ كَالْمَجْبُوبِ لم يَصِحَّ إقْرَارُهُ
لِأَنَّ الزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ منه لِانْعِدَامِ
____________________
(7/50)
الْآلَةِ
وَيَصِحُّ إقْرَارُ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ لِتَصَوُّرِ الزِّنَا مِنْهُمَا
لِتَحَقُّقِ الْآلَةِ وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ إذَا أَقَرَّ في حَالِ
إفَاقَتِهِ فَهُوَ مِثْلُ الصَّحِيحِ لِأَنَّهُ في حَالِ إفَاقَتِهِ صَحِيحٌ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَزْنِيُّ بِهِ في الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا مِمَّنْ
يَقْدِرُ على دَعْوَى الشُّبْهَةِ فَإِنْ لم يَكُنْ بِأَنْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ
زَنَى بِامْرَأَةٍ خَرْسَاءَ أو أَقَرَّتْ امْرَأَةٌ أنها زَنَتْ بِأَخْرَسَ لم
يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّ من الْجَائِزِ أن لو كان يَقْدِرُ على النُّطْقِ
لَادَّعَى النِّكَاحَ أو أَنْكَرَ الزِّنَا ولم يَدَّعِ شيئا فيندرىء ( ( ( فيندرئ
) ) ) عنه الْحَدُّ لِمَا ذكر ( ( ( نذكر ) ) ) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَأَمَّا حَضْرَةُ الْمَزْنِيِّ بها في الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالشَّهَادَةِ
عليه فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ حتى لو أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أو
شَهِدَ عليه الشُّهُودُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَقُبِلَتْ
الشَّهَادَةُ وَيُقَامُ الْحَدُّ على الرَّجُلِ لِأَنَّ الْغَائِبَ بِالْغَيْبَةِ
ليس إلَّا الدَّعْوَى وأنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَلِهَذَا رُجِمَ مَاعِزٌ من غَيْرِ
شَرْطِ حُضُورِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ
وَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بها
ثُمَّ إذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ يَعْرِفُهَا
فَحَضَرَتْ الْمَرْأَةُ فَلَا يَخْلُو إمَّا إن حَضَرَتْ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ
على الرَّجُلِ وَإِمَّا إن حَضَرَتْ بَعْدَ الْإِقَامَةِ فَإِنْ حَضَرَتْ بَعْدَ
الْإِقَامَةِ فَإِنْ أَقَرَّتْ بِمِثْلِ ما أَقَرَّ بِهِ الرَّجُلُ تُحَدُّ
أَيْضًا كما حُدَّ الرَّجُلُ وَإِنْ أَنْكَرَتْ وَادَّعَتْ على الرَّجُلِ حَدَّ
الْقَذْفِ لَا يُحَدُّ الرَّجُلُ حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه
حَدَّانِ وقد أُقِيمَ أَحَدُهُمَا فَلَا يُقَامُ الْآخَرُ
وَإِنْ حَضَرَتْ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ على الرَّجُلِ فَإِنْ أَنْكَرَتْ الزِّنَا
وَادَّعَتْ النِّكَاحَ أو لم تَدَّعِ وَادَّعَتْ حَدَّ الْقَذْفِ على الرَّجُلِ أو
لم تَدَّعِ فَحُكْمُهُ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَالْعِلْمُ بِالْمَزْنِيِّ بها ليس بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ حتى لو قال
زَنَيْتُ بِامْرَأَةٍ وَلَا أَعْرِفُهَا صَحَّ إقْرَارُهُ وَيُحَدُّ وَالْعِلْمُ
بِالْمَشْهُودِ بِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الشَّهَادَةِ حتى لو شَهِدَ الشُّهُودُ على
رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَقَالُوا لَا نَعْرِفُهَا لَا تُقْبَلُ
شَهَادَتُهُمْ وَلَا يُقَامُ الْحَدُّ على الْمَشْهُودِ عليه
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُقِرَّ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ يَبْنِي الْأَمْرَ على
حَقِيقَةِ الْحَالِ خُصُوصًا في الزِّنَا فَكَانَ إقْرَارُهُ إخْبَارًا عن وُجُودِ
الزِّنَا منه حَقِيقَةً إلَّا أَنَّهُ لم يَعْرِفْ اسْمَ الْمَرْأَةِ وَنَسَبَهَا
وَذَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً
فَأَمَّا الشَّاهِدُ فإنه بِشَهَادَتِهِ بَنَى الْأَمْرَ على الظَّاهِرِ لَا على
الْحَقِيقَةِ لِقُصُورِ عِلْمِهِ عن الْوُصُولِ إلَى الْحَقِيقَةِ
فَقَوْلُهُمْ لَا نَعْرِفُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ يُورِثُ شُبْهَةً لِجَوَازِ أنها
امْرَأَتُهُ أو امْرَأَةٌ له فيها شُبْهَةُ حِلٍّ أو مِلْكٍ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا عَدَمُ التَّقَادُمِ فَهَلْ هو شَرْطٌ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالْحَدِّ
أَمَّا في حَدِّ الْقَذْفِ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ لِقَبُولِ
الشَّهَادَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ
وَكَذَلِكَ في حَدِّ الزِّنَا عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ وَعِنْدَ زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ كما في الشَّهَادَةِ
وَلَنَا الْفَرْقُ بين الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ وهو أَنَّ الْمَانِعَ في
الشَّهَادَةِ تَمَكُّنُ التُّهْمَةِ وَالضَّغِينَةِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ في
الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ
وَكَذَا في حَدِّ السَّرِقَةِ لِمَا قُلْنَا
وَأَمَّا في حَدِّ الشُّرْبِ فَشَرْطٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ
اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ بِنَاءً على أَنَّ قِيَامَ الرَّائِحَةِ شَرْطُ صِحَّةِ
الْإِقْرَارِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُمَا وَلِهَذَا لَا يَبْقَى مع التَّقَادُمِ
وَعِنْدَهُ ليس بِشَرْطٍ وَلَوْ لم يَتَقَادَمْ الْعَهْدُ وَلَكِنَّ رِيحَهَا لَا
يُوجَدُ منه لم يَصِحَّ الْإِقْرَارُ عِنْدَهُمَا خِلَافًا له
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ حَدَّ الشُّرْبِ ليس بِمَنْصُوصٍ
عليه في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا عُرِفَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ
وَإِجْمَاعُهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
ولم تثبت ( ( ( يثبت ) ) ) فَتْوَاهُ عِنْدَ زَوَالِ الرَّائِحَةِ فإنه رُوِيَ
أَنَّ رَجُلًا جاء بِابْنِ أَخٍ له إلَى عبد اللَّهِ بن مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه
فَاعْتَرَفَ عِنْدَهُ بِشُرْبِ الْخَمْرِ فقال له عبد اللَّهِ بِئْسَ وَلِيُّ
الْيَتِيمِ أنت لَا أَدَّبْتَهُ صَغِيرًا وَلَا سَتَرْت عليه كَبِيرًا
ثُمَّ قال رضي اللَّهُ عنه تَلْتِلُوهُ وَمَزْمِزُوهُ وَاسْتَنْكِهُوهُ فَإِنْ
وَجَدْتُمْ رَائِحَةَ الْخَمْرِ فَاجْلِدُوهُ وَأَفْتَى رضي اللَّهُ عنه
بِالْحَدِّ عِنْدَ وُجُودِ الرَّائِحَةِ ولم يَثْبُتْ فَتْوَاهُ عِنْدَ عَدَمِهَا
وإذا لم يَثْبُتْ فَلَا يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ بِدُونِهِ فَلَا يَجِبُ بِدُونِهِ
لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلَا إجْمَاعَ ثُمَّ إنَّمَا تُعْتَبَرُ
الرَّائِحَةُ إذَا لم يَكُنْ سَكْرَانَ فَأَمَّا إذَا كان سكران ( ( ( سكرانا ) )
) فَلَا لِأَنَّ السُّكْرَ أَدُلُّ على الشُّرْبِ من الرَّائِحَةِ وَلِذَلِكَ لو
جِيءَ بِهِ من مَكَان بَعِيدٍ لَا تَبْقَى الرَّائِحَةُ بِالْمَجِيءِ من مِثْلِهِ
عَادَةً يُحَدُّ وَإِنْ لم تُوجَدْ الرَّائِحَةُ لِلْحَالِ لِأَنَّ هذا مَوْضِعُ
الْعُذْرِ فَلَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ الرَّائِحَةِ فيه وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ
وإذا أَقَرَّ إنْسَانٌ بِالزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يُظْهِرَ
الْكَرَاهَةَ أو يَطْرُدَهُ
وَكَذَا في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ
هَكَذَا فُعِلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَاعِزٍ
وَكَذَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال اُطْرُدُوا
الْمُعْتَرِفِينَ أَيْ بِالزِّنَا فإذا أَقَرَّ أَرْبَعًا نُظِرَ في حَالِهِ
أَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ أَمْ بِهِ آفَةٌ
هَكَذَا قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِمَاعِزٍ أَبِكَ خَبَلٌ أَمْ بِكَ
جُنُونٌ وَبَعَثَ إلَى قَوْمِهِ فَسَأَلَهُمْ عن حَالِهِ فإذا عُرِفَ أَنَّهُ
صَحِيحُ الْعَقْلِ سَأَلَهُ عن مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَعَنْ كَيْفِيَّتِهِ وَعَنْ
مَكَانِهِ وَعَنْ الْمَزْنِيِّ بها لِمَا ذَكَرْنَا في الشَّهَادَةِ
____________________
(7/51)
وَلَا
يَسْأَلُهُ عن الزَّمَانِ لِأَنَّ السُّؤَالَ عن الزَّمَانِ لِمَكَانِ احْتِمَالِ
التَّقَادُمِ وَالتَّقَادُمُ في الْإِقْرَارِ وَإِنَّمَا يَقْدَحُ في الشَّهَادَةِ
وَيَجُوزُ أَنْ يَسْأَلَ عن الزَّمَانِ أَيْضًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ زَنَى في
حَالِ الصِّغَرِ فإذا بَيَّنَ ذلك كُلَّهُ سَأَلَهُ عن حَالِهِ أَهُوَ مُحْصَنٌ
أَمْ لَا لِأَنَّ حُكْمَ الزِّنَا يَخْتَلِفُ بِالْإِحْصَانِ وَعَدَمِهِ
فَإِنْ قال أنا مُحْصَنٌ سَأَلَهُ عن مَاهِيَّةِ الْإِحْصَانِ أَنَّهُ ما هو
لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عن اجْتِمَاعِ شَرَائِطِ لَا يَقْدِرُ عليها كُلُّ أَحَدٍ
فإذا بَيَّنَ رَجَمَهُ
وَأَمَّا عِلْمُ الْقَاضِي فَلَا يَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ
وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ حتى لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ من ذلك بِعِلْمِهِ لَكِنَّهُ
يَقْضِي بِالْمَالِ في السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِعِلْمِهِ في
الْأَمْوَالِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ أو
بَعْدَهُمَا بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَسَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ
مُعَايَنَةً بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَزْنِي وَيَشْرَبُ وَيَسْرِقُ أو بِسَمَاعِ
الْإِقْرَارِ بِهِ في غَيْرِ مَجْلِسِهِ الذي يَقْضِي فيه بين الناس فَإِنْ كان
إقْرَارُهُ في مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَزِمَهُ مُوجِبُ إقْرَارِهِ إذْ لو لم
يُقْبَلْ إقْرَارُهُ لَاحْتَاجَ الْقَاضِي إلَى أَنْ يَكُونَ معه جَمَاعَةٌ على
الْإِقْرَارِ في كل حَادِثَةٍ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ بِخِلَافِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَيَظْهَرُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ في زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ كَالْقِصَاصِ
وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْأَمْوَالِ بِلَا خِلَافٍ بين أَصْحَابِنَا وَإِنَّمَا
اخْتَلَفُوا في ظُهُورِ ذلك بِعِلْمِهِ في غَيْرِ زَمَانِ الْقَضَاءِ وَمَكَانِهِ
وقد ذَكَرْنَا جُمْلَةَ ذلك بِدَلَائِلِهِ في كِتَابِ آدَابِ الْقَاضِي
وَلَا يَظْهَرُ حَدُّ السَّرِقَةِ بِالنُّكُولِ لَكِنَّهُ يَقْضِي بِالْمَالِ
لِأَنَّ النُّكُولَ إمَّا بَدَلٌ وَإِمَّا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَلَا يَثْبُتُ بِالشُّبْهَةِ وَالْمَالُ
يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالثُّبُوتَ بِالشُّبْهَةِ
وَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَهَلْ هِيَ شَرْطُ ثُبُوتِ الْحَدِّ بِالشَّهَادَةِ
وَالْإِقْرَارِ فَلَا خِلَافَ في أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ في حَدِّ الزِّنَا
وَالشُّرْبِ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ عز وجل وَالْخُصُومَةُ لَيْسَتْ
بِشَرْطٍ في الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا تُقَامُ حِسْبَةً
لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَوَقَّفُ ظُهُورُهَا على دَعْوَى الْعَبْدِ وَلَا
خِلَافَ في حَدِّ السَّرِقَةِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فيها شَرْطُ الظُّهُورِ
بِالشَّهَادَةِ لِأَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ وَإِنْ كان حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى
خَالِصًا لَكِنْ هذا الْحَقُّ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ كَوْنِ الْمَسْرُوقِ
مِلْكًا لِلْمَسْرُوقِ منه وَلَا يَظْهَرُ ذلك إلَّا بِالْخُصُومَةِ وفي كَوْنِهَا
شَرْطَ الظُّهُورِ بِالْإِقْرَارِ خِلَافٌ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَلَا خِلَافَ أَيْضًا في أنها شَرْطُ الظُّهُورِ بِالشَّهَادَةِ على الْقَذْفِ
وَالْإِقْرَارِ بِهِ
أَمَّا على أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ
الْعَبْدِ فَيُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى كما في سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ
وَعِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ وَإِنْ كان هو الْمُغَلَّبُ فيه
لَكِنْ لِلْعَبْدِ فيه حَقٌّ لِأَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ بِصِيَانَةِ عِرْضِهِ عن
الْهَتْكِ فَيُشْتَرَطُ فيه الدَّعْوَى عن هذه الْجِهَةِ
وإذا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ في حَدِّ الْقَذْفِ شَرْطُ كَوْنِ النِّيَّةِ
وَالْإِقْرَارِ مُظْهِرَيْنِ فيه فَيَقَعُ الْكَلَامُ في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا
في بَيَانِ الْأَحْكَامِ التي تَتَعَلَّقُ بِالدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ
وَالثَّانِي في بَيَانِ من يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى الْأَفْضَلُ
لِلْمَقْذُوفِ أَنْ يَتْرُكَ الْخُصُومَةَ لِأَنَّ فيها إشَاعَةَ الْفَاحِشَةِ وهو
مَنْدُوبٌ إلَى تَرْكِهَا
وَكَذَا الْعَفْوُ عن الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ التي هِيَ حَقُّهَا من بَابِ
الْفَضْلِ وَالْكَرَامَةِ
وقد قال اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تعفوا ( ( ( تعفو ) ) ) أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى }
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ }
وإذا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي يُسْتَحْسَنُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ قبل
الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ أَعْرِضْ عن هذا لِأَنَّهُ نَدْبٌ إلَى السَّتْرِ
وَالْعَفْوِ
وَكُلُّ ذلك حَسَنٌ
فإذا لم يَتْرُكْ الْخُصُومَةَ وَادَّعَى الْقَذْفَ على الْقَاذِفِ فَأَنْكَرَ
وَلَا بَيِّنَةَ لِلْمُدَّعِي فَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى ما
قَذَفَهُ هل يَحْلِفُ
ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا
خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
وَذَكَرَ في أدب ( ( ( آداب ) ) ) الْقَاضِي أَنَّهُ يَحْلِفُ في ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ عِنْدَهُمْ
وإذا نَكِلَ يقضى عليه بِالْحَدِّ
وقال بَعْضُهُمْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْلِفَ فإذا نَكِلَ يقضى عليه بِالتَّعْزِيرِ
لَا بِالْحَدِّ
وَهَذِهِ الْأَقَاوِيلُ تَرْجِعُ إلَى أَصْلٍ وهو أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ حَدُّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَجْرِي فيه
الِاسْتِحْلَافُ كما في سَائِرِ حُقُوقِ الْعِبَادِ
وَأَمَّا على أَصْلِ أَصْحَابِنَا فَفِيهِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عز وجل وَحَقُّ
الْعَبْدِ فَمَنْ قال منهم إنَّهُ يَحْلِفُ وَيَقْضِي بِالْحَدِّ عِنْدَ
النُّكُولِ اعْتَبَرَ ما فيه من حَقِّ الْعَبْدِ فَأَلْحَقَهُ في التَّحْلِيفِ
بِالتَّعْزِيرِ
وَمَنْ قال منهم إنَّهُ لَا يَحْلِفُ أَصْلًا اعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى فيه لِأَنَّهُ الْمُغَلَّبُ فَأَلْحَقَهُ بِسَائِرِ حُقُوقِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْخَالِصَةِ وَالْجَامِعُ أَنَّ الْمَقْصُودَ من
الِاسْتِحْلَافِ هو النُّكُولُ وَأَنَّهُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه
الرَّحْمَةُ بَدَلٌ وَالْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ
وَعَلَى أَصْلِهِمَا إقْرَارٌ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ ليس بِصَرِيحِ
إقْرَارٍ بَلْ هو إقْرَارٌ بِطَرِيقِ السُّكُوتِ فَكَانَ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ بِدَلِيلٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَمَنْ قال منهم إنَّهُ يَحْلِفَ ويقضى عليه بِالتَّعْزِيرِ عِنْدَ النُّكُولِ
____________________
(7/52)
دُونَ
الْحَدِّ اعْتَبَرَ حَقَّ الْعَبْدِ فيه لِلِاسْتِحْلَافِ كَالتَّعْزِيرِ
وَاعْتَبَرَ حَقَّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِلْمَنْعِ من إقَامَةِ
الْحَدِّ عِنْدَ النُّكُولِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ
وَمِثْلُ هذا جَائِزٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ إنه يَجْرِي فيه الِاسْتِحْلَافُ وَلَا
يَقْضِي عِنْدَ النُّكُولِ بِالْحَدِّ وَلَكِنْ يَقْضِي بِالْمَالِ وَكَمَا قال
أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا الرَّحْمَةُ في الْقِصَاصِ في الطَّرَفِ
وَالنَّفْسِ إنَّهُ يَحْلِفُ وَعِنْدَ النُّكُولِ لَا يقضى بِالْقِصَاصِ بَلْ
بِالدِّيَةِ على ما عُرِفَ
وَإِنْ قال الْمُدَّعِي لي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ في الْمِصْرِ على قَذْفِهِ
يُحْبَسُ الْمُدَّعَى عليه الْقَذْفُ إلَى قِيَامِ الْحَاكِمِ من مَجْلِسِهِ
وَالْمُرَادُ من الْحَبْسِ الْمُلَازَمَةُ
أَيْ يُقَالُ لِلْمُدَّعِي لَازِمْهُ إلَى هذا الْوَقْتِ فَإِنْ أَحْضَرَ
الْبَيِّنَةَ فيه وَإِلَّا خُلِّيَ سَبِيلُهُ
وَلَا يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ
هذا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يُؤْخَذُ منه الْكَفِيلُ
وَهَذَا بِنَاءً على أَنَّ الْكَفَالَةَ في الْحُدُودِ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قال في الْكِتَابِ وَلَا كَفَالَةَ في
حَدٍّ وَلَا قِصَاصٍ
وَعِنْدَهُمَا يُكْفَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ
وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ في تَفْسِيرِ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ
مَعْنَاهُ لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ في الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ جَبْرًا
فَأَمَّا إذَا بَذَلَ من نَفْسِهِ وَأَعْطَى الْكَفِيلَ فَهُوَ جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ
وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْكِتَابِ يَدُلُّ على عَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَهُ لِأَنَّ
كَلِمَةَ النَّفْيِ إذَا دَخَلَتْ على الْأَفْعَالِ الشَّرْعِيَّةِ يُرَادُ بها
نَفْيُ الْجَوَازِ من الْأَصْلِ كما في قَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا
صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ وَنَحْوِ ذلك
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَبْسَ جَائِزٌ في الْحُدُودِ فَالْكَفَالَةُ أَوْلَى
لِأَنَّ مَعْنَى الْوَثِيقَةِ في الْحَبْسِ أَبْلَغُ منه في الْكَفَالَةِ فلما
جَازَ الْحَبْسُ فَالْكَفَالَةُ أَحَقُّ بِالْجَوَازِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَفَالَةَ شُرِعَتْ
لِلِاسْتِيثَاقِ وَالْحُدُودُ مَبْنَاهَا على الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ ما اسْتَطَعْتُمْ فَلَا
يُنَاسِبُهَا الِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ بِخِلَافِ الْحَبْسِ فإن الْحَبْسَ
لِلتُّهْمَةِ مَشْرُوعٌ
رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَبَسَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ
وقد ثَبَتَتْ التُّهْمَةُ في هذه الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ لي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ
في الْمِصْرِ فَجَازَ الْحَبْسُ فإذا أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ لَا
يَعْرِفُهُمَا الْقَاضِي أَيْ لم تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمَا بَعْدَ الْحَبْسِ فَلَا
خِلَافَ وَلَا يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ
وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا عَدْلًا حُبِسَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْبَسُ وَيُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَقَّ لَا يَظْهَرُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كان
عَدْلًا فَالْحَبْسُ من أَيْنَ بِخِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فإن سَبَبَ ظُهُورِ
الْحَقِّ قد وُجِدَ وهو كَمَالُ عَدَدِ الْحُجَّةِ إلَّا أَنَّ تَوَقُّفَ الظُّهُورِ
لِتَوَقُّفِ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَثَبَتَتْ الشُّبْهَةُ فَيُحْبَسُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ
وَإِنْ كان لَا يُوجِبُ الْحَقَّ فإنه يُوجِبُ التُّهْمَةَ وَحَبْسُ الْمُتَّهَمِ
جَائِزٌ
وَلَوْ قال الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لي أو بَيِّنَتِي غَائِبَةٌ أو خَارِجُ
الْمِصْرِ لَا يُحْبَسُ بِالْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فَإِنْ قَامَتْ
الْبَيِّنَةُ لِلْمَقْذُوفِ على الْقَذْفِ أو أَقَرَّ الْقَاذِفُ بِهِ فإن
الْقَاضِيَ يقول له أَقِمْ الْبَيِّنَةَ على صِحَّةِ قَذْفِكَ فَإِنْ أَقَامَ
أَرْبَعَةً من الشُّهُودِ على مُعَايَنَةِ الزِّنَا من الْمَقْذُوفِ أو على
إقْرَارِهِ بِالزِّنَا سَقَطَ الْحَدُّ عن الْقَاذِفِ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا
على الْمَقْذُوفِ وَإِنْ عَجَزَ عن إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُقِيمُ حَدَّ الْقَذْفِ
على الْقَاذِفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لم يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً }
وَإِنْ طَلَبَ التَّأْجِيلَ من الْقَاضِي وقال شُهُودِي غُيَّبٌ أو خَارِجُ
الْمِصْرِ لم يُؤَجِّلْهُ
وَلَوْ قال شُهُودِي في الْمِصْرِ أَجَّلَهُ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ وَلَازَمَهُ
الْمَقْذُوفُ وَيُقَالُ له ابْعَثْ أَحَدًا إلَى شُهُودِكَ فَأَحْضِرْهُمْ وَلَا
يُؤْخَذُ منه كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَعِنْدَهُمَا يُؤَجَّلُ يَوْمَيْنِ أو ثَلَاثَةً وَيُؤْخَذُ منه الْكَفِيلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في إخْبَارِهِ أَنَّ
له بَيِّنَةٌ في الْمِصْرِ وَرُبَّمَا لَا يُمْكِنُهُ الْإِحْضَارُ في ذلك
الْوَقْتِ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّأْخِيرِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَأَخْذِ
الْكَفِيلِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ حَقَّهُ عَسَى
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ في التَّأْجِيلِ إلَى آخِرِ
الْمَجْلِسِ الثَّانِي مَنْعًا من اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ وَهَذَا
لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ لِأَنَّ ذلك الْقَدْرَ
لَا يُعَدُّ تَأْجِيلًا وَلَا مَنْعًا من اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ بَعْدَ ظُهُورِهِ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا ادَّعَى أَنَّ له بَيِّنَةً
حَاضِرَةً في الْمِصْرِ ولم يَجِدْ أَحَدًا يَبْعَثُهُ إلَى الشُّهُودِ فإن
الْقَاضِيَ يَبْعَثُ معه من الشُّرَطِ من يَحْفَظْهُ وَلَا يَتْرُكْهُ حتى يُقِرَّ
فَإِنْ لم يَجِدْ ضُرِبَ الْحَدُّ
وَلَوْ ضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ أَقَامَ الْقَاذِفُ الْبَيِّنَةَ على صِدْقِ
مَقَالَتِهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَسَقَطَتْ بَيِّنَةُ الْجَلَدَاتِ وَلَا
تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ وَيُقَامُ حَدُّ الزِّنَا على الْمَقْذُوفِ كما لو
أَقَامَهَا قبل أَنْ يُضْرَبَ الْحَدَّ أَصْلًا وَلَوْ ضُرِبَ الْحَدَّ
بِتَمَامِهِ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ على زِنَا الْمَقْذُوفِ قُبِلَتْ
بَيِّنَتُهُ وَيَظْهَرُ أَثَرُ الْقَبُولِ في جَوَازِ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَأَنْ
لَا يَصِيرَ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لم يَكُنْ
____________________
(7/53)
مَحْدُودًا
في الْقَذْفِ حَقِيقَةً حَيْثُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْذُوفَ لم يَكُنْ مُحْصَنًا
لِأَنَّ من شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ الْعِفَّةُ عن الزِّنَا وقد ظَهَرَ زِنَاهُ
بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فلم يَصِرْ الْقَاذِفُ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ وَلَا
يَظْهَرُ أَثَرُ قَبُولِ هذه الشَّهَادَةِ في إقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا على
الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ قد تَقَرَّرَ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ على
الْقَاذِفِ
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فقال يا ابْنَ الزَّانِيَةِ ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ
أُمَّ الْمَقْذُوفِ أَمَةٌ أو نَصْرَانِيَّةٌ وَالْمَقْذُوفُ يقول هِيَ حُرَّةٌ
مُسْلِمَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ وَعَلَى الْمَقْذُوفِ إقَامَةُ
الْبَيِّنَةِ على الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ
وَكَذَلِكَ لو قَذَفَ إنْسَانًا في نَفْسِهِ ثُمَّ ادَّعَى الْقَاذِفُ أَنَّ
الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ
وَكَذَلِكَ لو قال الْقَاذِفُ أنا عَبْدٌ وَعَلَيَّ حَدُّ الْعَبْدِ وقال
الْمَقْذُوفُ أَنْت حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَاذِفِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ
وَإِنْ كان هو الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ دَارُ
الْأَحْرَارِ لَكِنَّ الظَّاهِرَ لَا يَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ على الْغَيْرِ فَلَا
بُدَّ من الْإِتْيَانِ بِالْبَيِّنَةِ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ فِيمَنْ قَذَفَ أُمَّ رَجُلٍ فَإِنْ كان الْقَاضِي
يَعْرِفُ أُمَّهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً جَلَدَ الْقَاذِفَ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ
وَالْإِسْلَامَ يَثْبُتَانِ بِالْبَيِّنَةِ فَعِلْمُ الْقَاضِي أَوْلَى لِأَنَّهُ
فَوْقَ الْبَيِّنَةِ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ من شَرَائِطِ
الْإِحْصَانِ وَالْإِحْصَانُ شَرْطُ الْوُجُوبِ وَالْقَاضِي يَقْضِي بِعِلْمِهِ
بِسَبَبِ وُجُوبِ هذا الْحَدِّ فَلَأَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ
أَوْلَى
فَإِنْ لم يَعْلَمْ الْقَاضِي حَبَسَهُ في السِّجْنِ حتى يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ
لِأَنَّهُ ظَهَرَ منه الْقَذْفُ وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ سَوَاءٌ كان
الْمَقْذُوفُ أُمَّهُ حُرَّةً أو أَمَةً فَجَازَ أَنْ يَسْتَوْثِقَ منه
بِالْحَبْسِ وَإِنْ لم تُقَمْ بَيِّنَتُهُ أَخَذَ منه كَفِيلًا أو أَخْرَجَهُ
وَأَخَذَ الْكَفِيلَ على مَذْهَبِهِ
فَأَمَّا على مَذْهَبِ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ
على ما بَيَّنَّا وَلَا يُعَزِّرُهُ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ من الْقَاضِي حُكْمٌ
بِإِبْطَالِ إحْصَانِ الْمَقْذُوفِ لِأَنَّ قَذْفَ الْمُحْصَنِ يُوجِبُ الْحَدَّ
لَا التَّعْزِيرَ وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِإِبْطَالِ الْإِحْصَانِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ على الْقَذْفِ وَاخْتَلَفَا في مَكَانِ الْقَذْفِ أو
زَمَانِهِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ في مَكَانِ كَذَا وَشَهِدَ
الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ في مَكَان آخَرَ أو شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قُذِفَ
يوم الْخَمِيسِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قُذِفَ يوم الْجُمُعَةِ قُبِلَتْ
شَهَادَتُهُمَا وَوَجَبَ الْحَدُّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه
وَعِنْدَهُمَا لَا تُقْبَلُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَذْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِأَنَّ
الْقَذْفَ في هذا الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ يُخَالِفُ الْقَذْفَ في مَكَان آخَرَ
وَزَمَانٍ آخَرَ فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَذْفٍ غَيْرِ الْقَذْفِ
الذي شَهِدَ بِهِ الْآخَرُ وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ فَلَا
يَثْبُتُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ اخْتِلَافَ مَكَانِ الْقَذْفِ
وَزَمَانِهِ لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ لِجَوَازِ أَنَّهُ كَرَّرَ
الْقَذْفَ الْوَاحِدَ في مَكَانَيْنِ وَزَمَانَيْنِ
لِأَنَّ الْقَذْفَ من بَابِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ مِمَّا يَحْتَمِلُ
التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ وَالْمُعَادُ عَيْنُ الْأَوَّلِ حُكْمًا وَإِنْ كان
غَيْرَهُ حَقِيقَةً فَكَانَ الْقَذْفُ وَاحِدًا فَقَدْ اجْتَمَعَ عليه شَهَادَةُ
شَاهِدَيْنِ
وَإِنْ اتَّفَقَا في الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَاخْتَلَفَا في الْإِنْشَاءِ
وَالْإِقْرَارِ بِأَنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهُ في هذا الْمَكَانِ يوم
الْجُمُعَةِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهُ في هذا الْمَكَانِ يوم
الْجُمُعَةِ لَا تُقْبَلُ وَلَا حَدَّ عليه في قَوْلِهِمْ جميعا اسْتِحْسَانًا
وَالْقِيَاسُ أَنْ تَقْبَلَ وَيُحَدُّ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ اخْتِلَافَ كَلَامِهِمَا في الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ
لَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْقَذْفِ كما إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِإِنْشَاءِ
الْبَيْعِ وَالْآخَرُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ أَنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا
كَذَا هذا
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِنْشَاءَ مع الْإِقْرَارِ أَمْرَانِ
مُخْتَلِفَانِ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْإِنْشَاءَ إثْبَاتُ أَمْرٍ لم يَكُنْ
وَالْإِقْرَارَ إخْبَارٌ عن أَمْرٍ كان فَكَانَا مُخْتَلِفَيْنِ حَقِيقَةً فَكَانَ
الْمَشْهُودُ بِهِ مُخْتَلِفًا وَلَيْسَ على أَحَدِهِمَا شاهدين ( ( ( شاهدان ) )
) فَلَا تُقْبَلُ
وَنَظِيرُهُ من قال لِامْرَأَتِهِ زَنَيْتِ قبل أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَعَلَيْهِ
اللِّعَانُ لَا الْحَدُّ
وَلَوْ قال لها قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا قبل أَنْ أَتَزَوَّجَكِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
لَا اللِّعَانُ لِأَنَّ قَوْلَهُ زَنَيْتُ إنْشَاءُ الْقَذْفِ فَكَانَ قَاذِفًا
لها لِلْحَالِ وَهِيَ لِلْحَالِ زَوْجَتُهُ وَقَذْفُ الزَّوْجِ يُوجِبُ اللِّعَانَ
لَا الْحَدَّ
وَقَوْلُهُ قَذَفْتُكِ بِالزِّنَا إقْرَارٌ منه بِقَذْفٍ كان منه قبل التَّزَوُّجِ
وَهِيَ كانت أَجْنَبِيَّةً قبل التَّزَوُّجِ وَقَذْفُ الْأَجْنَبِيَّةِ يُوجِبُ
الْحَدَّ لَا اللِّعَانَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا
فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى الْمَقْذُوفُ لَا يَخْلُو
إمَّا أَنْ يَكُونَ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مَيِّتًا
فَإِنْ كان حَيًّا فَلَا خُصُومَةَ لِأَحَدٍ سِوَاهُ وَإِنْ كان وَلَدَهُ أو
وَالِدَهُ وَسَوَاءٌ كان حَاضِرًا أو غَائِبًا لِأَنَّهُ إذَا كان حَيًّا وَقْتَ
الْقَذْفِ كان هو الْمَقْذُوفُ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ
فَكَانَ حَقُّ الْخُصُومَةِ له وَهَلْ تَجُوزُ الْإِنَابَةُ في هذه الْخُصُومَةِ
وهو التَّوْكِيلُ بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ
اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه عِنْدَهُمَا يَجُوزُ وقال أبو يُوسُفَ
____________________
(7/54)
لَا
يَجُوزُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في كِتَابِ الْوَكَالَةِ
وَلَا يَجُوزُ التَّوْكِيلُ فيه بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا خِلَافًا
لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنَّ حَضْرَةَ
الْمَقْذُوفِ بِنَفْسِهِ شَرْطُ جَوَازِ الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ ليس
بِشَرْطٍ وَتَقُومُ حَضْرَةُ الْوَكِيلِ مَقَامَ حَضْرَتِهِ على أَنَّ هذا
الْحَدَّ عِنْدَهُ حَدُّ الْمَقْذُوفِ على الْخُلُوصِ فَتَجْرِي فيه النِّيَابَةُ
في الْإِثْبَاتِ وَالِاسْتِيفَاءِ جميعا
وَلَنَا أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ
اسْتِيفَاءٌ مع الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنَّهُ لو كان حَاضِرًا لَصَدَّقَ
الْقَاذِفَ في قَذْفِهِ وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مع الشُّبُهَاتِ
وَلَوْ كان الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ ثُمَّ مَاتَ قبل الْخُصُومَةِ أو
بَعْدَهَا سَقَطَ الْحَدُّ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بِنَاءً على أَنَّ
حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُورَثُ وَسَتَأْتِي
الْمَسْأَلَةُ في مَوْضِعِهَا
هذا إذَا كان حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ
وَأَمَّا إذَا كان مَيِّتًا فَلَا خِلَافَ في أَنَّ لِوَلَدِهِ ذَكَرًا كان أو
أُنْثَى وَلِابْنِ ابْنِهِ وَبِنْتِ ابْنِهِ وَإِنْ سَفَلُوا وَلِوَالِدِهِ وَإِنْ
عَلَا أَنْ يُخَاصِمَ الْقَاذِفَ في الْقَذْفِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقَذْفِ هو
إلْحَاقُ الْعَارِ بِالْمَقْذُوفِ وَالْمَيِّتُ ليس بِمَحِلٍّ لِإِلْحَاقِ
الْعَارِ بِهِ فلم يَكُنْ مَعْنَى الْقَذْفِ رَاجِعًا إلَيْهِ بَلْ إلَى فُرُوعِهِ
وَأُصُولِهِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْعَارُ بِقَذْفِ الْمَيِّتِ لِوُجُودِ
الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ وَقَذْفُ الْإِنْسَانِ يَكُونُ قَذْفًا
لِأَجْزَائِهِ فَكَانَ الْقَذْفُ بِهِمْ من حَيْثُ الْمَعْنَى فَيَثْبُتُ لهم
حَقُّ الْخُصُومَةِ لِدَفْعِ الْعَارِ عن أَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ ما إذَا كان
الْمَقْذُوفُ حَيًّا وَقْتَ الْقَذْفِ ثُمَّ مَاتَ إنه ليس لِلْوَلَدِ
وَالْوَالِدِ حَقُّ الْخُصُومَةِ بَلْ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْقَذْفَ أُضِيفَ إلَيْهِ
وهو كان مَحِلًّا قَابِلًا لِلْقَذْفِ صُورَةً وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ
بِهِ فَانْعَقَدَ الْقَذْفُ مُوجِبًا حَقَّ الْخُصُومَةِ له خَاصَّةً فَلَوْ
انْتَقَلَ إلَى وَرَثَتِهِ لَانْتَقَلَ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ
وَهَذَا الْحَدُّ لَا يَحْتَمِلُ الْإِرْثَ لِمَا نَذْكُرُ فَسَقَطَ ضَرُورَةً
وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الأخوة وَالْأَخَوَاتِ وَالْأَعْمَامَ وَالْعَمَّاتِ
وَالْأَخْوَالَ وَالْخَالَاتِ لَا يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ
لِأَنَّ الْعَارَ لَا يَلْحَقُهُمْ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ وَالْبَعْضِيَّةِ
فَالْقَذْفُ لَا يَتَنَاوَلُهُمْ لَا صُورَةً وَلَا مَعْنًى وَكَذَا ليس لِمَوْلَى
الْعَتَاقَةِ وِلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْقَذْفَ لم يَتَنَاوَلْهُ صُورَةً
وَمَعْنًى بِإِلْحَاقِ الْعَارِ بِهِ
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في أَوْلَادِ الْبَنَاتِ أَنَّهُمْ
هل يَمْلِكُونَ الْخُصُومَةَ عِنْدَهُمَا يَمْلِكُونَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا
يَمْلِكُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ وَلَدَ الْبِنْتِ يُنْسَبُ إلَى أبيه لَا إلَى جَدِّهِ فلم
يَكُنْ مَقْذُوفًا مَعْنًى بِقَذْفِ جَدِّهِ
وَلَهُمَا أَنَّ مَعْنَى الْوِلَادِ مَوْجُودٌ وَالنِّسْبَةُ الْحَقِيقِيَّةُ
ثَابِتَةٌ بِوَاسِطَةِ أُمِّهِ فَصَارَ مَقْذُوفًا مَعْنًى فَيَمْلِكُ
الْخُصُومَةَ وَهَلْ يُرَاعَى فيه التَّرْتِيبُ بِتَقْدِيمِ الْأَقْرَبِ على
الْأَبْعَدِ قال أَصْحَابُنَا رضي الله عنهم الثَّلَاثَةُ لَا يُرَاعَى
وَالْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ سَوَاءٌ فيه حتى كان لِابْنِ الِابْنِ أَنْ يُخَاصِمَ
فيه مع قِيَامِ الِابْنِ الصُّلْبِيِّ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرَاعَى
فيه التَّرْتِيبُ وَتَثْبُتُ لِلْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ وَلَيْسَ لِلْأَبْعَدِ
حَقُّ الْخُصُومَةِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالْقَذْفِ لِإِلْحَاقِ الْعَارِ
بِالْمُخَاصِمِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَارَ الْأَقْرَبِ يَزِيدُ على الْأَبْعَدِ
فَكَانَ أَوْلَى بِالْخُصُومَةِ
وَلَنَا أَنَّ هذا الْحَقَّ ليس يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ على مَعْنَى أَنَّهُ
يَثْبُتُ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَرَثَةِ بَلْ يَثْبُتُ
لهم ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ الِانْتِقَالِ من الْمَيِّتِ إلَيْهِمْ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَيِّتَ بِالْمَوْتِ خَرَجَ عن احْتِمَالِ لُحُوقِ الْعَارِ
بِهِ فلم يَكُنْ ثُبُوتُ الْحَقِّ لهم بِطَرِيقِ الْإِرْثِ فَلَا يُرَاعَى فيه
الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَكَذَا لَا يُرَاعَى فيه إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ بَلْ
الشَّرْطُ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ عِنْدَ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ حتى لو كان
الْوَلَدُ أو الْوَالِدُ عَبْدًا أو ذِمِّيًّا فَلَهُ حَقُّ الْخُصُومَةِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ إحْصَانُ الْمُخَاصِمِ شَرْطٌ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ
وَلَا الْكَافِرِ أَنْ يُخَاصِمَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إثْبَاتَ حَقِّ الْخُصُومَةِ له لِصَيْرُورَتِهِ مَقْذُوفًا
مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْقَذْفِ إلَى الْمَيِّتِ وَلَوْ أُضِيفَ إلَيْهِ الْقَذْفُ
ابْتِدَاءً لَا يَجِبُ الْحَدُّ فَهَهُنَا أَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ الْحَدَّ لَا يَجِبُ لَعَيْنِ الْقَذْفِ بَلْ لِلُحُوقِ عَارٍ
كَامِلٍ بِالْمَقْذُوفِ وَإِنْ كان الْمَيِّتُ مُحْصَنًا فَقَدْ لَحِقَ الْوَلَدَ
عَارٌ كَامِلٌ فَلَا يُشْتَرَطُ إحْصَانُهُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَهُ لِلُحُوقِ عَارٍ
كَامِلٍ بِهِ وقد لَحِقَهُ بِدُونِهِ
وَلَوْ كان الْوَارِثُ قَتَلَهُ حتى حُرِمَ الْمِيرَاثَ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هذا الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْإِرْثِ
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلٌ أُمَّ ابْنِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ فَلَيْسَ لِلْوَلَدِ أَنْ
يُخَاصِمَ أَبَاهُ لِأَنَّ الْأَبَ لو قَذَفَ وَلَدَهُ وهو حَيٌّ مُحْصَنٌ ليس
لِلْوَلَدِ أَنْ يُخَاصِمَ أَبَاهُ تَعْظِيمًا له فَفِي قَذْفِ الْأُمِّ
الْمَيِّتَةِ أَوْلَى
وَكَذَلِكَ الْمَوْلَى إذَا قَذَفَ أُمَّ عَبْدِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ مَيِّتَةٌ
فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُخَاصِمَ مَوْلَاهُ في الْقَذْفِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ
مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَاتُ الْحُدُودِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ لَا
خِلَافَ في حَدِّ الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالسُّكْرِ وَالسَّرِقَةِ أَنَّهُ لَا
يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ وَالصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ بعدما ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ
لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا
يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ
وَكَذَا يَجْرِي
____________________
(7/55)
فيه
التَّدَاخُلُ حتى لو زنا مِرَارًا أو شَرِبَ الْخَمْرَ مِرَارًا أو سَكِرَ
مِرَارًا لَا يَجِبُ عليه إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من إقَامَةِ
الْحَدِّ هو الزَّجْرُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ في الثَّانِي
وَالثَّالِثِ احْتِمَالُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَكَانَ فيه احْتِمَالُ
عَدَمِ الْفَائِدَةِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ مع احْتِمَالِ عَدَمِ
الْفَائِدَةِ
وَلَوْ زنا أو شَرِبَ أو سَكِرَ أو سَرَقَ فَحُدَّ ثُمَّ زنا أو شَرِبَ أو سَرَقَ
يُحَدُّ ثَانِيًا لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لم يَحْصُلْ
وَكَذَا إذَا سَرَقَ سَرِقَاتٍ من أُنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ فَخَاصَمُوا جميعا
فَقُطِعَ لهم كان الْقَطْعُ عن السَّرِقَاتِ كُلِّهَا وَالْكَلَامُ في الضَّمَانِ
نَذْكُرُهُ في كِتَابِ السَّرِقَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ إذَا ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا لَا
يَجُوزُ الْعَفْوُ عنه وَالْإِبْرَاءُ وَالصُّلْحُ
وَكَذَلِكَ إذَا عَفَا الْمَقْذُوفُ قبل الْمُرَافَعَةِ أو صَالَحَ على مَالٍ فَذَلِكَ
بَاطِلٌ وَيُرَدُّ بدل ( ( ( به ) ) ) الصُّلْحُ وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بَعْدَ
ذلك
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِحُّ ذلك كُلُّهُ وهو إحْدَى
الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَكَذَا يَجْرِي فيه التَّدَاخُلُ عِنْدَنَا حتى لو قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا
بِكَلِمَةٍ أو قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ على حِدَةٍ لَا يَجِبُ عليه إلَّا
حَدٌّ وَاحِدٌ سَوَاءٌ حَضَرُوا جميعا أو حَضَرَ وَاحِدٌ
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِكَلَامٍ على
حِدَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ حَدٌّ على حِدَةٍ وَلَوْ ضُرِبَ الْقَاذِفُ
تِسْعَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ ضُرِبَ السَّوْطَ الْأَخِيرَ
فَقَطْ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُ يُضْرَبُ السَّوْطَ الْأَخِيرَ لِلْأَوَّلِ
وَثَمَانِينَ سَوْطًا آخر لِلثَّانِي
وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَحُدَّ ثُمَّ قَذَفَ آخَرَ يُحَدُّ لِلثَّانِي بِلَا
خِلَافٍ
وَكَذَا هذا الْحَدُّ لَا يُورَثُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَعِنْدَهُمْ يُورَثُ وَيُقْسَمُ بين الْوَرَثَةِ على فَرَائِضِ اللَّهِ عز
شَأْنُهُ في قَوْلٍ وفي قَوْلٍ يُقْسَمُ بين الْوَرَثَةِ إلَّا الزَّوْجَ
وَالزَّوْجَةَ
وَالْكَلَامُ في هذا الْفَرْعِ بِنَاءً على أَصْلٍ مُخْتَلِفٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُ وهو أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أو الْمُغَلَّبُ فيه حَقُّهُ وَحَقُّ الْعَبْدِ مَغْلُوبٌ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ هو حَقُّ الْعَبْدِ أو الْمُغَلَّبُ حَقُّ الْعَبْدِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هذا الْحَدِّ هو الْقَذْفُ وَالْقَذْفُ
جِنَايَةٌ على عِرْضِ الْمَقْذُوفِ بِالتَّعَرُّضِ وَعِرْضُهُ حَقُّهُ بِدَلِيلِ
أَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ حَقُّهُ وهو الْقِصَاصُ في الْعَمْدِ أو الدِّيَةُ في
الْخَطَأِ فَكَانَ الْبَدَلُ حَقَّهُ وَالْجَزَاءُ الْوَاجِبُ على حَقِّ
الْإِنْسَانِ حَقُّهُ كَالْقِصَاصِ وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فيه
الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى لَا تُشْتَرَطُ في حُقُوقِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
كَسَائِرِ الْحُقُوقِ إلَّا أَنَّهُ لم يُفَوَّضْ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْمَقْذُوفِ
لِأَجْلِ التُّهْمَةِ لِأَنَّ ضَرْبَ الْقَذْفِ أَخَفُّ الضَّرَبَاتِ في الشَّرْعِ
فَلَوْ فُوِّضَ إلَيْهِ إقَامَةُ هذا الْحَدِّ فَرُبَّمَا يُقِيمُهُ على وَجْهِ الشِّدَّةِ
لِمَا لَحِقَهُ من الْغَيْظِ بِسَبَبِ الْقَذْفِ فَفُوِّضَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى
الْإِمَامِ دَفْعًا لِلتُّهْمَةِ لَا لِأَنَّهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عز
شَأْنُهُ
وَلَنَا أَنَّ سَائِرَ الْحُدُودِ إنَّمَا كانت حُقُوقَ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى على الْخُلُوصِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ لِمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَهِيَ
دَفْعُ فَسَادٍ يَرْجِعُ إلَيْهِمْ وَيَقَعُ حُصُولُ الصِّيَانَةِ لهم فَحَدُّ
الزِّنَا وَجَبَ لِصِيَانَةِ الإبضاع عن التَّعَرُّضِ وَحَدُّ السَّرِقَةِ
وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ عن
الْقَاصِدِينَ وَحَدُّ الشُّرْبِ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَنْفُسِ وَالْأَمْوَالِ
وَالْأَبْضَاعِ في الْحَقِيقَةِ بِوَاسِطَةِ صِيَانَةِ الْعُقُولِ عن الزَّوَالِ
وَالِاسْتِتَارِ بِالسُّكْرِ وَكُلُّ جِنَايَةٍ يَرْجِعُ فَسَادُهَا إلَى الْعَامَّةِ
وَمَنْفَعَةُ جَزَائِهَا يَعُودُ إلَى الْعَامَّةِ كان الْجَزَاءُ الْوَاجِبُ بها
حَقَّ اللَّهِ عز شَأْنُهُ على الْخُلُوصِ تَأْكِيدًا لِلنَّفْعِ وَالدَّفْعِ كيلا
يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِ الْعَبْدِ وهو مَعْنَى نِسْبَةِ هذه الْحُقُوقِ إلَى اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ في حَدِّ الْقَذْفِ لِأَنَّ
مَصْلَحَةَ الصِّيَانَةِ وَدَفْعَ الْفَسَادِ يَحْصُلُ لِلْعَامَّةِ بِإِقَامَةِ
هذا الْحَدِّ فَكَانَ حَقَّ اللَّهِ عز شَأْنُهُ على الْخُلُوصِ كَسَائِرِ
الْحُدُودِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ شَرَطَ فيه الدَّعْوَى من الْمَقْذُوفِ وَهَذَا
لَا يَنْفِي كَوْنَهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ على الْخُلُوصِ كَحَدِّ
السَّرِقَةِ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ عز شَأْنُهُ وَإِنْ كانت الدَّعْوَى من
الْمَسْرُوقِ منه شَرْطًا ثُمَّ نَقُولُ إنَّمَا شُرِطَ فيه الدَّعْوَى وَإِنْ كان
خَالِصَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى عز اسْمُهُ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ يُطَالِبُ
الْقَاذِفَ ظَاهِرًا وغالبا دَفْعًا لِلْعَارِ عن نَفْسِهِ فَيَحْصُلُ ما هو
الْمَقْصُودُ من شَرْعِ الْحَدِّ كما في السَّرِقَةِ وَلِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ
تَجِبُ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ إمَّا صُورَةً وَمَعْنًى وَإِمَّا مَعْنًى لَا
صُورَةً لِأَنَّهَا تَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ جَبْرًا وَالْجَبْرُ لَا
يَحْصُلُ إلَّا بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بين الْحَدِّ وَالْقَذْفِ لَا
صُورَةً وَلَا مَعْنًى فَلَا يَكُونُ حَقَّهُ
وَأَمَّا حُقُوقُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَلَا يُعْتَبَرُ فيها
الْمُمَاثَلَةُ لِأَنَّهَا تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ
وَلَنَا أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْإِمَامِ بِالْإِجْمَاعِ وَلَوْ كان حَقَّ
الْمَقْذُوفِ لَكَانَ وِلَايَةَ الِاسْتِيفَاءِ له كما في الْقِصَاصِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْقَاذِفِ
____________________
(7/56)
وَحَقُّ
اللَّهِ تَعَالَى هو الذي يَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ بِالرِّقِّ لَا حَقَّ الْعَبْدِ
لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى تَجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ وَالْجَزَاءُ
يَزْدَادُ بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِهَا وَالْجِنَايَةُ
تَتَكَامَلُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتُنْتَقَصُ بِنُقْصَانِ حَالِهِ
فَأَمَّا حَقُّ الْعَبْدِ فإنه يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ وَلَا يَخْتَلِفُ
بِاخْتِلَافِ حَالِ الْجَانِي
وإذا ثَبَتَ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى خَالِصًا أو
الْمُغَلَّبُ فيه حَقُّهُ فَنَقُولُ لَا يَصِحُّ الْعَفْوُ عنه لِأَنَّ الْعَفْوَ
إنَّمَا يَكُونُ من صَاحِبِ الْحَقِّ وَلَا يَصِحُّ الصُّلْحُ وَالِاعْتِيَاضُ
لِأَنَّ الِاعْتِيَاضَ عن حَقِّ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَجْرِي فيه
الْإِرْثُ لِأَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَجْرِي في الْمَتْرُوكِ من مِلْكٍ أو حَقٍّ
لِلْمُوَرَّثِ على ما قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ من تَرَكَ مَالًا أو
حَقًّا فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ ولم يُوجَدْ شَيْءٌ من ذلك فَلَا يُوَرَّثُ وَلَا
يَجْرِي فيه التَّدَاخُلُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ منها فَمِقْدَارُ الْوَاجِبِ في
حَدِّ الزِّنَا إذَا لم يَكُنْ الزَّانِي مُحْصَنًا مِائَةُ جَلْدَةٍ إنْ كان
حُرًّا وَإِنْ كان مَمْلُوكًا فَخَمْسُونَ لِقَوْلِهِ عز شَأْنُهُ { فإذا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما على
الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ } وَلِأَنَّ الْعُقُوبَةَ على قَدْرِ الْجِنَايَةِ
وَالْجِنَايَةُ تَزْدَادُ بِكَمَالِ حَالِ الْجَانِي وَتَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِ
حَالِهِ وَالْعَبْدُ أَنْقَصُ حَالًا من الْحُرِّ لِاخْتِصَاصِ الْحُرِّ
بِنِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ أَنْقَصَ وَنُقْصَانُ
الْجِنَايَةِ يُوجِبُ نُقْصَانَ الْعُقُوبَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَثْبُتُ على
قَدْرِ الْعِلَّةِ
هذا أَمْرٌ مَعْقُولٌ إلَّا أَنَّ التَّنْقِيصَ بِالتَّنْصِيفِ في غَيْرِهِ من
الْمَقَادِيرِ ثَبَتَ شَرْعًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ { فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ ما على الْمُحْصَنَاتِ من الْعَذَابِ } وفي حَدِّ الشُّرْبِ وَالسُّكْرِ
وَالْقَذْفِ ثَمَانُونَ في الْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ في الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وفي
حَدِّ السَّرِقَةِ لَا يَخْتَلِفُ قَدْرُ الْوَاجِبِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ
لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَلَا يَخْتَلِفُ بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ في
شَيْءٍ من الْحُدُودِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرَائِطُ جَوَازِ إقَامَتِهَا فَمِنْهَا ما يَعُمُّ الْحُدُودَ
كُلَّهَا وَمِنْهَا ما يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ
أَمَّا الذي يَعُمُّ الْحُدُودَ كُلَّهَا فَهُوَ الْإِمَامَةُ وهو أَنْ يَكُونَ
الْمُقِيمُ لِلْحَدِّ هو الْإِمَامُ أو من وَلَّاهُ الْإِمَامُ وَهَذَا عِنْدَنَا
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هذا ليس بِشَرْطٍ وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ على
مَمْلُوكِهِ إذَا ظَهَرَ الْحَدُّ عِنْدَهُ بِالْإِقْرَارِ أَرْبَعًا عِنْدَنَا
وَمَرَّةً عِنْدَهُ وَبِالْمُعَايَنَةِ بِأَنْ رَأَى عَبْدَهُ زَنَى
بِأَجْنَبِيَّةٍ
وَلَوْ ظَهَرَ عِنْدَهُ بِالشُّهُودِ بِأَنْ شَهِدُوا عِنْدَهُ وَالْمَوْلَى من
أَهْلِ الْقَضَاءِ فَلَهُ فيه قَوْلَانِ
وَكَذَا في إقَامَةِ الْمَرْأَةِ الْحَدَّ على مَمْلُوكِهَا وَإِقَامَةِ
الْمُكَاتَبِ الْحَدَّ على عَبْدٍ من أَكْسَابِهِ له فيه قَوْلَانِ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ
أَنَّهُ قال أَقِيمُوا الْحُدُودَ على ما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَهَذَا نَصٌّ
وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال إذَا زَنَتْ أَمَةُ
أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ عَادَتْ
فَلْيَجْلِدْهَا فَإِنْ عَادَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ أَيْ بِحَبْلٍ
وَهَذَا أَيْضًا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ السُّلْطَانَ إنَّمَا مَلَكَ
الْإِقَامَةَ لِتَسَلُّطِهِ على الرَّعِيَّةِ وَتَسَلُّطُ الْمَوْلَى على
مَمْلُوكِهِ فَوْقَ تَسَلُّطِ السُّلْطَانِ على رَعِيَّتِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عليه بِالدَّيْنِ وَيَمْلِكُ عليه التَّصَرُّفَاتِ
وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ شيئا من ذلك فلما ثَبَتَ الْجَوَازُ لِلسُّلْطَانِ
فَالْمَوْلَى أَوْلَى وَلِهَذَا مَلَكَ إقَامَةَ التَّعْزِيرِ عليه كَذَا الْحَدُّ
وَلَنَا أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحُدُودِ ثَابِتَةٌ لِلْإِمَامِ بِطَرِيقِ
التَّعْيِينِ وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ له بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ
فَلَا يَثْبُتُ له وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ اسْتِدْلَالًا بِوِلَايَةِ إنْكَاحِ
الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ لِأَنَّهَا لَمَّا ثَبَتَتْ لِلْأَقْرَبِ لم تَثْبُتْ
لِمَنْ لَا يُسَاوِيهِ فِيمَا شُرِعَ له الْوِلَايَةُ وهو الْأَبْعَدُ
وَبَيَانُ ذلك أَنَّ وِلَايَةَ إقَامَةِ الْحَدِّ إنَّمَا ثَبَتَتْ لِلْإِمَامِ
لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ وَهِيَ صِيَانَةُ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ
وَأَعْرَاضِهِمْ لِأَنَّ الْقُضَاةَ يَمْتَنِعُونَ من التَّعَرُّضِ خَوْفًا من
إقَامَةِ الْحَدِّ عليهم وَالْمَوْلَى لَا يُسَاوِي الْإِمَامَ في هذا الْمَعْنَى
لِأَنَّ ذلك يَقِفُ على الْإِمَامَةِ وَالْإِمَامُ قَادِرٌ على الْإِقَامَةِ
لِشَوْكَتِهِ وَمَنَعَتِهِ وَانْقِيَادِ الرَّعِيَّةِ له قَهْرًا وَجَبْرًا وَلَا
يَخَافُ تَبِعَةَ الْجُنَاةِ وَأَتْبَاعِهِمْ لِانْعِدَامِ الْمُعَارَضَةِ
بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْإِمَامِ وَتُهْمَةُ الْمَيْلِ وَالْمُحَابَاةِ
وَالْتَوَانِي عن الْإِقَامَةِ مُنْتَفِيَةٌ في حَقِّهِ فَيُقِيمُ على وَجْهِهَا
فَيَحْصُلُ الْغَرَضُ الْمَشْرُوعُ له الْوِلَايَةُ بِيَقِينٍ
وَأَمَّا الْمَوْلَى فَرُبَّمَا يَقْدِرُ على الْإِقَامَةِ نَفْسِهَا وَرُبَّمَا
لَا يَقْدِرُ لِمُعَارَضَةِ الْعَبْدِ إيَّاهُ وَلِأَنَّهُ رَقَبَانِيٌّ مِثْلُهُ
يُعَارِضُهُ فَيَمْنَعُهُ عن الْإِقَامَةِ خُصُوصًا عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ على
نَفْسِهِ فَلَا يَقْدِرُ على الْإِقَامَةِ
وَكَذَا الْمَوْلَى يَخَافُ على نَفْسِهِ وَمَالِهِ من الْعَبْدِ الشِّرِّيرِ لو
قَصَدَ إقَامَةَ الْحَدِّ عليه أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ أَمْوَالِهِ وَيَقْصِدَ
إهْلَاكَهُ وَيَهْرُبَ منه فَيَمْتَنِعُ عن الْإِقَامَةِ
وَلَوْ قَدَرَ على الْإِقَامَةِ فَقَدْ يُقِيمُ
____________________
(7/57)
وقد
لَا يُقِيمُ لِمَا في الْإِقَامَةِ من نُقْصَانِ قِيمَتِهِ بِسَبَبِ عَيْبِ
الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ أو يَخَافُ سِرَايَةَ الْجَلَدَاتِ إلَى الْهَلَاكِ
وَالْمَرْءُ مَجْبُولٌ على حُبِّ الْمَالِ
وَلَوْ أَقَامَ فَقَدْ يُقِيمُ على الْوَجْهِ وقد لَا يُقِيمُ على الْوَجْهِ بَلْ
من حَيْثُ الصُّورَةُ فَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَوْلَى لَا
يُسَاوِي الْإِمَامَ في تَحْصِيلِ ما شُرِعَ له إقَامَةُ الْحَدِّ فَلَا
يُزَاحِمُهُ في الْوِلَايَةِ بِخِلَافِ التَّعْزِيرِ من وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَنَّ التَّعْزِيرَ هو التعيير ( ( ( التغيير ) ) ) وَالتَّوْبِيخُ وَذَلِكَ
غَيْرُ مُقَدَّرٍ فَقَدْ يَكُونُ بِالْحَبْسِ وقد يَكُونُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ
وَتَعْبِيسِ الْوَجْهِ وقد يَكُونُ بِضَرْبِ أَسْوَاطٍ على حَسَبِ الْجِنَايَةِ
وَحَالِ الْجَانِي لِمَا نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ وَالْمَوْلَى يُسَاوِي
الْإِمَامَ في هذا لِأَنَّهُ من بَابِ التَّأْدِيبِ فَلَهُ قُدْرَةُ التَّأْدِيبِ
وَالْعَبْدُ يَنْقَادُ لِمِثْلِهِ لِلْمَوْلَى وَلَا يُعَارِضُهُ فَالْمَوْلَى
أَيْضًا لَا يَمْتَنِعُ عن هذا الْقَدْرِ من الْإِيلَامِ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ
نُقْصَانًا في مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَلَا تعيينا ( ( ( تعييبا ) ) ) فيه
بِخِلَافِ الْحَدِّ
وَالثَّانِي أَنَّ في التَّعْزِيرِ ضَرُورَةً لَيْسَتْ في الْحَدِّ لِأَنَّ
أَسْبَابَ التَّعْزِيرِ مِمَّا يَكْثُرُ وُجُودُهَا فَيَحْتَاجُ الْمَوْلَى إلَى
أَنْ يُعَزِّرَ مَمْلُوكَهُ في كل يَوْمٍ وفي كل سَاعَةٍ
وفي الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ في كل حِينٍ وَزَمَانٍ حَرَجٌ عَظِيمٌ على
الْمَوَالِي فَفُوِّضَتْ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَى الْمَوَالِي شَرْعًا أو صَارَ
الْمَوْلَى مَأْذُونًا في ذلك من جِهَةِ الْإِمَامِ دَلَالَةً وَصَارَ نَائِبًا عن
الْإِمَامِ فيه وَلَا حَرَجَ في الْحَدِّ لِأَنَّهُ لَا يَكْثُرُ وُجُودُهُ
لِانْعِدَامِ كَثْرَةِ أَسْبَابِ وُجُوبِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خِطَابًا لِقَوْمٍ مَعْلُومِينَ
عُلِمَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ منهم من طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهُمْ
يُقِيمُونَ الْحُدُودَ من غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِثْلُ الْأَمِيرِ وَالسُّلْطَانِ
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذلك خِطَابًا لِلْأَئِمَّةِ في حَقِّ عَبِيدِهِمْ
وَالتَّخْصِيصُ لِلتَّرْغِيبِ في إقَامَةِ الْحَدِّ لِمَا أَنَّ الْأَئِمَّةَ
وَالسَّلَاطِينَ لَا يُبَاشِرُونَ الْإِقَامَةَ بِأَنْفُسِهِمْ عَادَةً بَلْ
يُفَوِّضُونَهَا إلَى الْحُكَّامِ وَالْمُحْتَسَبِينَ وقد يَجِيءُ منهم في ذلك
تَقْصِيرٌ وَيُحْتَمَلُ الْإِقَامَةُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ بِالسَّعْيِ لِرَفْعِ
ذلك إلَى الْإِمَامِ بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَتَخْصِيصُ الْمَوْلَى لِلتَّرْغِيبِ
لهم في الْإِقَامَةِ لِاحْتِمَالِ الْمَيْلِ وَالتَّقْصِيرِ في ذلك
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ من الْحَدِّ الْمَذْكُورِ في الحديث
التَّعْزِيرَ لِوُجُودِ مَعْنَى الْحَدِّ فيه وهو الْمَنْعُ فَلَا يَصِحُّ
الِاحْتِجَاجُ بِهِمَا مع الِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ على إقَامَةِ الْحُدُودِ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ
على اسْتِيفَاءِ الْجَمِيعِ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ أَسْبَابَ وُجُوبِهَا تُوجَدُ في
أَقْطَارِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يُمْكِنُهُ الذَّهَابُ إلَيْهَا وفي
الْإِحْضَارِ إلَى مَكَانِ الْإِمَامِ حَرَجٌ عَظِيمٌ فَلَوْ لم يَجُزْ
الِاسْتِخْلَافُ لَتَعَطَّلَتْ الْحُدُودُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا كان عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَجْعَلُ إلَى الْخُلَفَاءِ تَنْفِيذَ الْأَحْكَامِ
وَإِقَامَةَ الْحُدُودِ ثُمَّ الِاسْتِخْلَافُ نَوْعَانِ تَنْصِيصٌ وَتَوْلِيَةٌ
أَمَّا التَّنْصِيصُ فَهُوَ أَنْ يَنُصَّ على إقَامَةِ الْحُدُودِ فَيَجُوزُ
لِلْخَلِيفَةِ إقَامَتُهَا بِلَا شَكٍّ
وَأَمَّا التَّوْلِيَةُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ فَالْعَامَّةُ
هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً عَامَّةً مِثْلَ إمَارَةِ إقْلِيمٍ أو
بَلَدٍ عَظِيمٍ فَيَمْلِكُ الْمَوْلَى إقَامَةَ الْحُدُودِ وَإِنْ لم يَنُصَّ
عليها لِأَنَّهُ لَمَّا قَلَّدَهُ إمَارَةَ ذلك الْبَلَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهِ
الْقِيَامَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ مُعْظَمُ
مَصَالِحِهِمْ فَيَمْلِكُهَا
وَالْخَاصَّةُ هِيَ أَنْ يُوَلِّيَ رَجُلًا وِلَايَةً خَاصَّةً مِثْلَ جِبَايَةِ
الْخَرَاجِ وَنَحْوَ ذلك فَلَا يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ لِأَنَّ هذه
التَّوْلِيَةَ لم تَتَنَاوَلْ إقَامَةَ الْحُدُودِ
وَلَوْ اُسْتُعْمِلَ أَمِيرٌ على الْجَيْشِ الْكَبِيرِ فَإِنْ كان أَمِيرَ مِصْرٍ
أو مَدِينَةٍ فَغَزَا بِجُنْدِهِ فإنه يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحُدُودِ في
مُعَسْكَرِهِ لِأَنَّهُ كان يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ في بَلَدِهِ فإذا خَرَجَ
بِأَهْلِهِ أو بِبَعْضِهِمْ مَلَكَ عليهم ما كان يَمْلِكُ فِيهِمْ قبل الْخُرُوجِ
وَأَمَّا من أَخْرَجَهُ أَمِيرُ الْبَلَدِ غَازِيًا فما كان يَمْلِكُ إقَامَةَ
الْحَدِّ عليهم قبل الْخُرُوجِ وَبَعْدَ الْخُرُوجِ لم يُفَوِّضْ إلَيْهِ
الْإِقَامَةَ فَلَا يَمْلِكُ الْإِقَامَةَ وَالْإِمَامُ الْعَدْلُ له أَنْ يُقِيمَ
الْحُدُودَ وَيُنْفِذَ الْقَضَاءَ في مُعَسْكَرِهِ كما له أَنْ يَفْعَلَ ذلك في
الْمِصْرِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةً على جَمِيعِ دَارِ الْإِسْلَامِ ثَابِتَةً
وَكَذَا إذَا اُسْتُعْمِلَ قَاضِيًا له أَنْ يَفْعَلَ ذلك في الْمُعَسْكَرِ
لِأَنَّهُ نَائِبُ الْإِمَامِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الذي يَخُصُّ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ فَمِنْهَا الْبِدَايَةُ من
الشُّهُودِ في حَدِّ الرَّجْمِ إذَا ثَبَتَ بِالشَّهَادَةِ حتى لو امْتَنَعَ
الشُّهُودُ عن الْبِدَايَةِ أو مَاتُوا أو غَابُوا كلهم أو بَعْضُهُمْ لَا يُقَامُ
الرَّجْمُ على الْمَشْهُودِ عليه
وَهَذَا قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي
يُوسُفَ اسْتِحْسَانًا
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رِوَايَةٌ أُخْرَى أنها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقَامُ
الرَّجْمُ على الْمَشْهُودِ عليه وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وهو
الْقِيَاسُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّهُودَ فِيمَا وَرَاءَ الشَّهَادَةِ وَسَائِرَ الناس
سَوَاءٌ ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْبِدَايَةُ من أَحَدٍ منهم فَكَذَا من الشُّهُودِ
وَلِأَنَّ الرَّجْمَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْحَدِّ فَيُعْتَبَرُ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ
وهو الْجَلْدُ وَالْبِدَايَةُ من الشُّهُودِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فيه
كَذَا في الرَّجْمِ
وَلَنَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال يَرْجُمُ
الشُّهُودُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ الناس وَكَلِمَةُ ثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ
وكان ذلك بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي
____________________
(7/58)
اللَّهُ
عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه أَحَدٌ فَيَكُونُ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ في اعْتِبَارِ الشَّرْطِ احْتِيَاطًا في درىء ( ( ( درء ) ) ) الْحَدِّ
لِأَنَّ الشُّهُودَ إذَا بدؤا ( ( ( بدءوا ) ) ) بِالرَّجْمِ رُبَّمَا
اسْتَعْظَمُوا فِعْلَهُ فَيَحْمِلُهُمْ ذلك على الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَةِ
فَيَسْقُطُ الْحَدُّ عن الْمَشْهُودِ عليه بِخِلَافِ الْجَلْدِ لِأَنَّا إنَّمَا
عَرَفْنَا الْبِدَايَةَ شَرْطًا اسْتِحْسَانًا بِالْأَثَرِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ
عليه وَالْأَثَرُ وَرَدَ في الرَّجْمِ خَاصَّةً فَيَبْقَى أَمْرُ الْجَلْدِ على
أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلِأَنَّ الْجَلْدَ لَا يُحْسِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ فَفُوِّضَ
اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْأَئِمَّةِ بِخِلَافِ الرَّجْمِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَهْلِيَّةُ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِلشُّهُودِ عِنْدَ الْإِقَامَةِ في
الْحُدُودِ كُلِّهَا حتى لو بَطَلَتْ الْأَهْلِيَّةُ بِالْفِسْقِ أو الرِّدَّةِ أو
الْجُنُونِ أو الْعَمَى أو الْخَرَسِ أو حَدِّ الْقَذْفِ بِأَنْ فَسَقَ الشُّهُودُ
أو ارْتَدُّوا أو جُنُّوا أو عَمُوا أو خَرِسُوا أو ضُرِبُوا حَدَّ الْقَذْفِ كلهم
أو بَعْضُهُمْ لَا يُقَامُ الْحَدُّ على الْمَشْهُودِ عليه لِأَنَّ اعْتِرَاضَ
أَسْبَابِ الْجَرْحِ على الشَّهَادَةِ عِنْدَ إمْضَاءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ
اعْتِرَاضِهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِهِ وَاعْتِرَاضُهَا عِنْدَ الْقَضَاءِ يُبْطِلُ
الشَّهَادَةَ فَكَذَا عِنْدَ الْإِمْضَاءِ في بَابِ الْحُدُودِ عن الْقَضَاءِ
وَأَمَّا مَوْتُ الشُّهُودِ وَغِيبَتُهُمْ عِنْدَ الْإِقَامَةِ فَلَا يَمْنَعَانِ
من الْإِقَامَةِ في سَائِرِ الْحُدُودِ إلَّا الرَّجْمُ حتى لو مَاتُوا كلهم أو
غَابُوا كلهم أو بَعْضُهُمْ يُقَامُ الْحَدُّ على الْمَشْهُودِ عليه إلَّا
الرَّجْمَ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَسْبَابِ الْجَرْحِ لِأَنَّ أَهْلِيَّةَ
الشَّهَادَةِ لَا تُبْطَلُ بِالْمَوْتِ وَالْغَيْبَةِ بَلْ تَتَنَاهَى
وَتَتَقَرَّرُ وَتُخْتَمُ بها الْعَدَالَةُ على وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْجَرْحَ
وفي حَدِّ الرَّجْمِ إنَّمَا يَمْنَعَانِ الْإِقَامَةَ لَا لِأَنَّهُمَا
يُجَرِّحَانِ في الشَّهَادَةِ بَلْ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ من الشُّهُودِ شَرْطُ
جَوَازِ الْإِقَامَةِ ولم تُوجَدْ
وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في الشُّهُودِ إذَا كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أو
بِهِمْ مَرَضٌ لَا يَسْتَطِيعُونَ الرَّمْيَ أَنَّ الْإِمَامَ يَرْمِي ثُمَّ الناس
وَجَعَلَ قَطْعَ الْيَدِ أو الْمَرَضَ عُذْرًا في فَوَاتِ الْبِدَايَةِ ولم
يَجْعَلْ الْمَوْتَ عُذْرًا فيه وَإِنْ ثَبَتَ الرَّجْمُ بِالْإِقْرَارِ يَبْدَأُ
بِهِ الْإِمَامُ ثُمَّ الناس وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ في إقَامَةِ الْجَلَدَاتِ خَوْفُ الْهَلَاكِ لِأَنَّ
هذا الْحَدَّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا فَلَا يَجُوزُ الْإِقَامَةُ في
الْحَرِّ الشَّدِيدِ وَالْبَرْدِ الشَّدِيدِ لِمَا في الْإِقَامَةِ فِيهِمَا من
خَوْفِ الْهَلَاكِ وَلَا يُقَامُ على مَرِيضٍ حتى يَبْرَأَ لِأَنَّهُ يَجْتَمِعُ
عليه وَجَعُ الْمَرَضِ وَأَلَمُ الضَّرْبِ فَيُخَافُ الْهَلَاكُ وَلَا يُقَامُ على
النُّفَسَاءِ حتى يَنْقَضِيَ النِّفَاسُ لِأَنَّ النِّفَاسَ نَوْعُ مَرَضٍ
وَيُقَامُ على الْحَائِضِ لِأَنَّ الْحَيْضَ ليس بِمَرَضٍ وَلَا يُقَامُ على
الْحَامِلِ حتى تَضَعَ وَتَطْهُرَ من النِّفَاسِ لِأَنَّ فيه خَوْفَ هَلَاكِ
الْوَلَدِ وَالْوَالِدَةِ
وَيُقَامُ الرَّجْمُ في هذا كُلِّهِ إلَّا على الْحَامِلِ لِأَنَّ تَرْكَ
الْإِقَامَةِ في هذه الْأَحْوَالِ لِلِاحْتِرَازِ عن الْهَلَاكِ وَالرَّجْمُ حَدٌّ
مُهْلِكٌ فَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِرَازِ عن الْهَلَاكِ فيه إلَّا أَنَّهُ لَا
يُقَامُ على الْحَامِلِ لِأَنَّ فيه إهْلَاكَ الْوَلَدِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا
يُجْمَعُ الضَّرْبُ في عُضْوٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يُفْضِي إلَى تَلَفِ ذلك
الْعُضْوِ أو إلَى تَمْزِيقِ جِلْدِهِ وَكُلُّ ذلك لَا يَجُوزُ بَلْ يُفَرَّقُ
الضَّرْبُ على جَمِيعِ الْأَعْضَاءِ من الْكَتِفَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ
وَالْعَضُدَيْنِ وَالسَّاقَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْفَرْجَ
وَالرَّأْسَ لِأَنَّ الضَّرْبَ على الْفَرْجِ مُهْلِكٌ عَادَةً
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه مَوْقُوفًا عليه وَمَرْفُوعًا
إلَى رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال اتَّقِ وَجْهَهُ وَمَذَاكِيرَهُ وَالضَّرْبُ على
الْوَجْهِ يُوجِبُ الْمُثْلَةَ وقد نهى رسول اللَّهِ عن الْمُثْلَةِ وَالرَّأْسُ
مَجْمَعُ الْحَوَاسِّ وَفِيهِ الْعَقْلُ فَيُخَافُ من الضَّرْبِ عليه فَوَاتُ
الْعَقْلِ أو فَوَاتُ بَعْضِ الْحَوَاسِّ وَفِيهِ إهْلَاكُ الذَّاتِ من وَجْهٍ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا لَا يُضْرَبُ الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ
وَيُضْرَبُ الرَّأْسُ سَوْطًا أو سَوْطَيْنِ
أَمَّا الصَّدْرُ وَالْبَطْنُ فَلِأَنَّ فيه خَوْفَ الْهَلَاكِ وَأَمَّا الرَّأْسُ
فَلِقَوْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه اضْرِبُوا الرَّأْسَ فإن فيه
شَيْطَانًا
وَالْجَوَابُ أَنَّ الحديث وَرَدَ في قَتْلِ أَهْلِ الْحَرْبِ خُصُوصًا قَوْمًا
كَانُوا بالشأم يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رؤوسهم ثُمَّ تَفْرِيقُ الضَّرْبِ على
الْأَعْضَاءِ مَذْهَبُنَا
وقال الشَّافِعِيُّ عليه الرَّحْمَةُ يُضْرَبُ كُلُّهُ على الظَّهْرِ
وَهَذَا ليس بِسَدِيدٍ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هو الْجَلْدُ وَأَنَّهُ
مَأْخُوذٌ من ضَرْبِ الْجِلْدِ وَالضَّرْبُ على عُضْوٍ وَاحِدٍ مُمَزِّقٌ
لِلْجِلْدِ وَبَعْدَ تَمْزِيقِ الْجِلْدِ لَا يُمْكِنُ الضَّرْبُ على الْجِلْدِ
بَعْدَ ذلك وَلِأَنَّ في الْجَمْعِ على عُضْوٍ وَاحِدٍ خَوْفَ الْهَلَاكِ وَهَذَا
الْحَدُّ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ إقَامَةِ الْحُدُودِ فَأَمَّا حَدُّ الرَّجْمِ فَلَا
يَنْبَغِي أَنْ يُرْبَطَ الْمَرْجُومُ بِشَيْءٍ وَلَا أَنْ يُمْسَكَ وَلَا أَنْ
يُحْفَرَ له إذَا كان رَجُلًا بَلْ يُقَامُ قَائِمًا لِأَنَّ مَاعِزًا لم يُرْبَطْ
ولم يُمْسَكْ وَلَا حُفِرَ له
أَلَا يُرَى أَنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ هَرَبَ من أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى
أَرْضٍ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ
وَلَوْ رُبِطَ أو مُسِكَ أو حُفِرَ له لَمَا قَدَرَ على الْهَرَبِ
وَإِنْ كان الْمَرْجُومُ امْرَأَةً فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ حَفَرَ لها وَإِنْ
شَاءَ لم يَحْفِرْ
أَمَّا الْحَفْرُ فَلِأَنَّهُ أَسْتَرُ لها
وقد رُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَفَرَ لِلْمَرْأَةِ
الْغَامِدِيَّةِ
____________________
(7/59)
إلَى
ثَنْدُوَتِهَا وَأَخَذَ حَصَاةً مِثْلَ الْحِمَّصَةِ وَرَمَاهَا بها وَحَفَرَ
سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه لسراحة ( ( ( لشراحة ) ) ) الْهَمْذَانِيَّةِ
إلَى سُرَّتِهَا
وَأَمَّا تَرْكُ الْحَفْرِ فَلِأَنَّ الْحَفْرَ لِلسَّتْرِ وَهِيَ مَسْتُورَةٌ
بِثِيَابِهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَرَّدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا بَأْسَ
لِكُلِّ من رَمَى أَنْ يَتَعَمَّدَ مَقْتَلَهُ لِأَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ مُهْلِكٌ
فما كان أَسْرَعُ إلَى الْهَلَاكِ كان أَوْلَى إلَّا إذَا كان الرَّامِي ذَا
رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْمَرْجُومِ فَلَا يُسْتَحَبُّ له أَنْ يَتَعَمَّدَ
مَقْتَلَهُ لِأَنَّهُ قَطْعُ الرَّحِمِ من غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِأَنَّ غَيْرَهُ
يَكْفِيهِ وَيُغْنِيهِ
وقد رُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ
في قَتْلِ أبيه أبي عَامِرٍ وكان مُشْرِكًا فَنَهَاهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ عن ذلك وقال دَعْهُ يَكْفِيكَ غَيْرُكَ
وَأَمَّا حَدُّ الْجَلْدِ فَأَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا حَدُّ الزِّنَا ثُمَّ
حَدُّ الشُّرْبِ ثُمَّ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ جِنَايَةَ الزِّنَا أَعْظَمُ من
جِنَايَةِ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ
أَمَّا من جِنَايَةِ الْقَذْفِ فَلَا شَكَّ فيه لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَةٌ إلَى
الزِّنَا فَكَانَتْ دُونَ حَقِيقَةِ الزِّنَا
وَأَمَّا من جِنَايَةِ الشُّرْبِ فَلِأَنَّ قُبْحَ الزِّنَا ثَبَتَ شَرْعًا
وَعَقْلًا وَحُرْمَةُ نَفْسِ الشُّرْبِ ثَبَتَتْ شَرْعًا لَا عَقْلًا وَلِهَذَا
كان الزِّنَا حَرَامًا في الْأَدْيَانِ كُلِّهَا بِخِلَافِ الشُّرْبِ
وَكَذَا الْخَمْرُ يُبَاحُ عِنْدَ ضَرُورَةِ الْمَخْمَصَةِ وَالْإِكْرَاهِ
وَلَا يُبَاحُ الزِّنَا عِنْدَ الْإِكْرَاهِ وَغَلَبَةِ الشَّبَقِ
وَكَذَا وُجُوبُ الْجَلْدِ في الزِّنَا ثَبَتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
الْمَكْنُونِ
وَلَا نَصَّ في الشُّرْبِ وَإِنَّمَا اسْتَخْرَجَهُ الصَّحَابَةُ الْكِرَامُ رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ بِالِاجْتِهَادِ وَالِاسْتِدْلَالِ بِالْقَذْفِ فَقَالُوا إذَا
سَكِرَ هذي وإذا هذي افْتَرَى وَحَدُّ الْمُفْتَرِي ثَمَانُونَ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَلَّ شَأْنُهُ في حَدِّ الزِّنَا { وَلَا
تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاَللَّهِ } قِيلَ في التَّأْوِيلِ أَيْ بِتَخْفِيفِ الْجَلَدَاتِ وَإِنَّمَا كان
ضَرْبُ الْقَذْفِ أَخَفَّ الضَّرْبَيْنِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُودَهُ
ثَبَتَ بِسَبَبٍ مُتَرَدِّدٍ
لِأَنَّ الْقَاذِفَ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في قَذْفِهِ وَلَا حَدَّ
عليه
وَالثَّانِي أَنَّهُ انْضَافَ إلَيْهِ رَدُّ الشَّهَادَةِ على التَّأْبِيدِ
فَجَرَى فيه نَوْعُ تَخْفِيفٍ
وَيُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ على الْعِقَابَيْنِ وَلَا على الْأَرْضِ كما
يُفْعَلُ في زَمَانِنَا لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ بَلْ يُضْرَبُ قَائِمًا وَلَا يُمَدُّ
السَّوْطَ بَعْدَ الضَّرْبِ بَلْ يُرْفَعُ لِأَنَّ الْمَدَّ بَعْدَ الضَّرْبِ
بِمَنْزِلَةِ ضَرْبَةٍ أُخْرَى فَيَكُونُ زِيَادَةً على الْحَدِّ
وَلَا يَمُدُّ الْجَلَّادُ يَدَهُ إلَى ما فَوْقَ رَأْسِهِ لِأَنَّهُ يُخَافُ فيه
الْهَلَاكُ أو تَمْزِيقُ الْجِلْدِ
وَلَا يَضْرِبُ بِسَوْطٍ له ثَمَرَةٌ لِأَنَّ اتِّصَالَ الثَّمَرَةِ بِمَنْزِلَةِ
ضَرْبَةٍ أُخْرَى فَيَصِيرُ كُلُّ ضَرْبَةٍ بِضَرْبَتَيْنِ فَيَكُونُ زِيَادَةً
على الْقَدْرِ الْمَشْرُوعِ
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَلَّادُ عَاقِلًا بَصِيرًا بِأَمْرِ الضَّرْبِ
فَيَضْرِبُ ضَرْبَةً بين ضَرْبَتَيْنِ ليس بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِاَلَّذِي لَا
يُوجَدُ فيه مَسٌّ
وَيُجَرَّدُ الرَّجُلُ في حَدِّ الزِّنَا وَيُضْرَبُ على إزَارٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ
أَشَدُّ الْحُدُودِ ضَرْبًا
وَمَعْنَى الشِّدَّةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتَّجْرِيدِ
وفي حَدِّ الشُّرْبِ يُجَرَّدُ أَيْضًا في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ وَرُوِيَ
عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُجَرَّدُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ ضَرْبَ الشُّرْبِ أَخَفُّ من ضَرْبِ الزِّنَا فَلَا
بُدَّ من إظْهَارِ آيَةِ التَّخْفِيفِ وَذَلِكَ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّهُ قد جَرَى التَّخْفِيفُ فيه مَرَّةً في
الضَّرْبِ فَلَوْ خَفَّفَ فيه ثَانِيًا بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ لَا يَحْصُلُ
الْمَقْصُودُ من الْحَدِّ وهو الزَّجْرُ
وَلَا يُجَرَّدُ في حَدِّ الْقَذْفِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِسَبَبٍ
مُتَرَدِّدٍ مُحْتَمَلٌ فَيُرَاعَى فيه التَّخْفِيفُ بِتَرْكِ التَّجْرِيدِ كما
رُوعِيَ في أَصْلِ الضَّرْبِ بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ لِأَنَّ وُجُوبَهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ
لَا تَرَدُّدَ فيه
وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْزَعُ عنها ثِيَابُهَا إلَّا الْحَشْوُ وَالْفَرْوُ
في الْحُدُودِ كُلِّهَا لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ وَتُضْرَبُ قَاعِدَةً لِأَنَّ ذلك
أَسْتَرُ لها وَيُفَرَّقُ الضَّرْبُ في الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا لِمَا ذَكَرْنَا
لِأَنَّ الْجَمْعَ في عُضْوٍ وَاحِدٍ يَقَعُ إهْلَاكًا لِلْعُضْوِ أو تَمْزِيقًا
أو تَخْرِيقًا لِلْجِلْدِ وَكُلُّ ذلك ليس بِمَشْرُوعٍ فَيُفَرَّقُ على
الْأَعْضَاءِ كُلِّهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَذَاكِيرَ وَالرَّأْسَ وقد ذَكَرْنَا
ذلك فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَا يُقَامُ شَيْءٌ من ذلك في الْمَسْجِدِ لِمَا رُوِيَ عن ابْنِ عَبَّاسٍ رضي
اللَّهُ عنهما عن رسول اللَّهِ قال لَا تُقَامُ الْحُدُودُ في الْمَسَاجِدِ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ وَلِأَنَّ تَعْظِيمَ الْمَسْجِدِ وَاجِبٌ وفي إقَامَةِ
الْحُدُودِ فيه تَرْكُ تَعْظِيمِهِ
يُؤَيِّدُهُ أَنَّا نُهِينَا عن سَلِّ السُّيُوفِ في الْمَسَاجِدِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ
وَمَجَانِينَكُمْ وَبِيَاعَاتِكُمْ وَأَشْرِيَتِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ
تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَلَّ السَّيْفِ في تَرْكِ
التَّعْظِيمِ دُونَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فلما كُرِهَ ذلك فَلَأَنْ يُكْرَهَ هذا
أَوْلَى
وَلِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ في الْمَسْجِدِ لَا تَخْلُو عن تَلْوِيثِهِ
فَتَجِبُ صِيَانَةُ الْمَسْجِدِ عن ذلك وَيَنْبَغِي أَنْ تُقَامَ الْحُدُودُ
كُلُّهَا في ملأ من الناس لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عز اسْمُهُ {
وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ من الْمُؤْمِنِينَ } وَالنَّصُّ وَإِنْ
وَرَدَ في حَدِّ الزِّنَا لَكِنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فيه يَكُونُ وَارِدًا في
سَائِرِ الْحُدُودِ دَلَالَةً لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من الْحُدُودِ كُلِّهَا
وَاحِدٌ وهو زَجْرُ الْعَامَّةِ وَذَلِكَ
____________________
(7/60)
لَا
يَحْصُلُ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ الْإِقَامَةُ على رَأْسِ الْعَامَّةِ لِأَنَّ
الْحُضُورَ يَنْزَجِرُونَ بِأَنْفُسِهِمْ بِالْمُعَايَنَةِ وَالْغُيَّبَ
يَنْزَجِرُونَ بِإِخْبَارِ الْحُضُورِ فَيَحْصُلُ الزَّجْرُ لِلْكُلِّ
وَكَذَا فيه مَنْعُ الْجَلَّادِ من الْمُجَاوَزَةِ عن الْحَدِّ الذي جُعِلَ له
لِأَنَّهُ لو جَاوَزَ لَمَنَعَهُ الناس عن الْمُجَاوَزَةِ وَفِيهِ أَيْضًا دَفْعُ
التُّهْمَةِ وَالْمَيْلِ فَلَا يَتَّهِمُهُ الناس أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ عليه
بِلَا جُرْمٍ سَبَقَ منه
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ له
أَنْوَاعٌ منها الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ
وَالسُّكْرِ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في الرُّجُوعِ وهو
الْإِنْكَارُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ كَاذِبًا فيه فَإِنْ كان صَادِقًا في
الْإِنْكَارِ يَكُونُ كَاذِبًا في الْإِقْرَارِ وَإِنْ كان كَاذِبًا في
الْإِنْكَارِ يَكُونُ صَادِقًا في الْإِقْرَارِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في ظُهُورِ
الْحَدِّ
وَالْحُدُودُ لَا تُسْتَوْفَى مع الشهبات ( ( ( الشبهات ) ) )
وقد رُوِيَ أَنَّ مَاعِزًا لَمَّا أَقَرَّ بين يَدَيْ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم بِالزِّنَا لَقَّنَهُ الرُّجُوعَ فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَعَلَّك قَبَّلْتَهَا لَعَلَّك مَسَسْتَهَا وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ أَسَرَقْتِ قُولِي لَا ما أخالك سَرَقْتِ
وكان ذلك منه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تَلْقِينًا لِلرُّجُوعِ فَلَوْ لم
يَكُنْ مُحْتَمَلًا لِلسُّقُوطِ بِالرُّجُوعِ ما كان لِلتَّلْقِينِ مَعْنًى
وَهَذَا هو السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إذَا أَقَرَّ إنْسَانٌ عِنْدَهُ بِشَيْءٍ من
أَسْبَابِ الْحُدُودِ الْخَالِصَةِ أَنْ يُلَقِّنَهُ الرُّجُوعَ درءا ( ( ( درأ )
) ) لِلْحَدِّ كما فَعَلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ
وَسَوَاءٌ رَجَعَ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل الْإِمْضَاءِ أو بَعْدَ إمْضَاءِ
بَعْضِ الْجَلَدَاتِ أو بَعْضِ الرَّجْمِ وهو حَيٌّ بَعْدُ لِمَا قُلْنَا
ثُمَّ الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ قد يَكُونُ نَصًّا وقد يَكُونُ دَلَالَةً بِأَنْ
أَخَذَ الناس في رَجْمِهِ فَهَرَبَ ولم يَرْجِعْ أو أَخَذَ الْجَلَّادُ في
الْجَلْدِ فَهَرَبَ ولم يَرْجِعْ حتى لَا يُتَّبَعَ وَلَا يُتَعَرَّضَ له لِأَنَّ
الْهَرَبَ في هذه الْحَالَةِ دَلَالَةُ الرُّجُوعِ
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا هَرَبَ مَاعِزٌ ذُكِرَ ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم فقال هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ دَلَّ أَنَّ الْهَرَبَ دَلِيلُ
الرُّجُوعِ وَأَنَّ الرُّجُوعَ مُسْقِطٌ لِلْحَدِّ وَكَمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عن
الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا يَصِحُّ عن الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ حتى لو ثَبَتَ على
الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَرَجَعَ عن الْإِقْرَارِ بِالْإِحْصَانِ يَسْقُطُ عنه
الرَّجْمُ وَيُجْلَدُ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ الزِّنَا عِلَّةً
لِوُجُوبِ الرَّجْمِ فَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عنه كما يَصِحُّ عن الزِّنَا فَيَبْطُلُ
الْإِحْصَانُ وَيَبْقَى الزِّنَا فَيَجِبُ الْجَلْدُ
وَأَمَّا الرُّجُوعُ عن الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ فَلَا يُسْقِطُ الْحَدَّ لِأَنَّ
هذا الْحَدَّ حَقُّ الْعَبْدِ من وَجْهٍ وَحَقُّ الْعَبْدِ بعدما ثَبَتَ لَا
يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالرُّجُوعِ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ
وَمِنْهَا تَصْدِيقُ الْمَقْذُوفِ القاذف ( ( ( والقاذف ) ) ) في الْقَذْفِ
لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فَقَدْ ظَهَرَ صِدْقُهُ في الْقَذْفِ وَمِنْ
الْمُحَالِ أَنْ يُحَدَّ الصَّادِقُ على الصِّدْقِ وَلِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ
إنَّمَا وَجَبَ لِدَفْعِ عَارِ الزِّنَا وَشَيْنِهِ عن الْمَقْذُوفِ وَلَمَّا
صَدَّقَهُ في الْقَذْفِ فَقَدْ الْتَزَمَ الْعَارَ بِنَفْسِهِ فَلَا يَنْدَفِعُ
عنه بِالْحَدِّ فَيَسْقُطُ ضَرُورَةً
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ الْمُقِرَّ في إقْرَارِهِ بِالْقَذْفِ بِأَنْ
يَقُولَ له إنَّكَ لم تَقْذِفْنِي بِالزِّنَا لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَهُ بالقذف
فَقَدْ كَذَّبَ نَفْسَهُ في الدَّعْوَى وَالدَّعْوَى شَرْطُ ظُهُورِ هذا الْحَدِّ
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْذُوفِ حُجَّتَهُ على الْقَذْفِ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ
بِأَنْ يَقُولَ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْحَدِّ قبل الْإِمْضَاءِ شُهُودِي شَهِدُوا
بِزُورٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا في التَّكْذِيبِ فَثَبَتَ
الشُّبْهَةُ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الْحَدِّ مع الشُّبْهَةِ
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَزْنِيِّ بها الْمُقِرَّ بِالزِّنَا قبل إقَامَةِ
الْحَدِّ عليه بِأَنْ قال رَجُلٌ زَنَيْتُ بِفُلَانَةَ فَكَذَّبَتْهُ وَأَنْكَرَتْ
الزِّنَا وَقَالَتْ لَا أَعْرِفُكَ وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عن الرَّجُلِ وَهَذَا
قَوْلُهُمَا
وقال مُحَمَّدٌ لَا يَسْقُطُ
كَذَا ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاخْتِلَافَ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِهِ قَوْلَ أبي يُوسُفَ مع قَوْلِ مُحَمَّدٍ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ زِنَا الرَّجُلِ قد ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ وَامْتِنَاعُ
الظُّهُورِ في جَانِبِ الْمَرْأَةِ لِمَعْنًى يَخُصُّهَا وهو إنْكَارُهَا فَلَا
يَمْنَعُ الظُّهُورَ في جَانِبِ الرَّجُلِ
وَلَهُمَا أَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا بِالْفَاعِلِ وَالْمَحِلِّ فإذا لم
يَظْهَرْ في جَانِبِهَا امْتَنَعَ الظُّهُورُ في جَانِبِهِ
هذا إذَا أَنْكَرَتْ ولم تدع ( ( ( تدعي ) ) ) على الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ
فَإِنْ ادَّعَتْ على الرَّجُلِ حَدَّ الْقَذْفِ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ
وَيَسْقُطُ حَدُّ الزِّنَا لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عليه حَدَّانِ
هذا إذَا كَذَّبَتْهُ ولم تدع ( ( ( تدعي ) ) ) النِّكَاحَ
فَأَمَّا إذَا ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَالْمَهْرَ قبل إقَامَةِ الْحَدِّ عليه
يَسْقُطُ الْحَدُّ عن الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لم يَجِبْ عليها
لِلشُّبْهَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ صَادِقَةً في دَعْوَى النِّكَاحِ
فَتَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ في وُجُوبِ الْحَدِّ عليها
وإذا لم يَجِبْ عليها الْحَدُّ تَعَدَّى إلَى جَانِبِ الرَّجُلِ فَسَقَطَ عنه
وَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ لَا يَخْلُو عن عُقُوبَةٍ أو غَرَامَةٍ
وَإِنْ كان دَعْوَى النِّكَاحِ منها بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ على الرَّجُلِ لَا
مَهْرَ لها عليه لِأَنَّ الْوُجُوبَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ
الْحَدِّ ولم تُوجَدْ
وَعَلَى هذا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ
____________________
(7/61)
بِالزِّنَا
مع فُلَانٍ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ وَكَذَّبَهَا أو ادَّعَى النِّكَاحَ على
الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ
وَلَوْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا بِفُلَانَةَ فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ
الِاسْتِكْرَاهَ يُحَدُّ الرَّجُلُ بِالِاتِّفَاقِ فُرِّقَ بين هذا وَبَيْنَ
الْأَوَّلِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَرْأَةَ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنْكَرَتْ وُجُودَ
الزِّنَا فلم يَثْبُتْ الزِّنَا من جَانِبِهَا فَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ الْآخَرِ
وَهَهُنَا أَقَرَّتْ بالزناد ( ( ( بالزنا ) ) ) لَكِنَّهَا ادَّعَتْ الشُّبْهَةَ
لِمَعْنًى يَخُصُّهَا وهو كَوْنُهَا مُكْرَهَةً فَلَا يَتَعَدَّى إلَى جَانِبِ
الرَّجُلِ
وَالدَّلِيلُ على التَّفْرِقَةِ بَيْنَهُمَا أَنَّا لو تَيَقَّنَّا بِالْإِكْرَاهِ
يُقَامُ الْحَدُّ على الرَّجُلِ بِالْإِجْمَاعِ
وَلَوْ تَيَقَّنَّا بِالنِّكَاحِ في الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ
على الرَّجُلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا رُجُوعُ الشُّهُودِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ لِأَنَّ
رُجُوعَهُمْ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَيُورِثُ شُبْهَةً وَالْحُدُودُ
لَا تُسْتَوْفَى مع الشُّبُهَاتِ
وقد ذَكَرْنَا الْأَحْكَامَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِرُجُوعِ الشُّهُودِ في بَابِ
الْحُدُودِ كُلِّهِمْ أو بَعْضِهِمْ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ قبل الْإِمْضَاءِ
أو بعده بِمَا فيه من الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ في كِتَابِ الرُّجُوعِ عن الشَّهَادَاتِ
وَمِنْهَا بُطْلَانُ أَهْلِيَّةِ شَهَادَتِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل
الْإِمْضَاءِ بِالْفِسْقِ وَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ وَالْعَمَى وَالْخَرَسِ
وَحَدِّ الْقَذْفِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ
وَمِنْهَا مَوْتُهُمْ في حَدِّ الرَّجْمِ خَاصَّةً في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ الْبِدَايَةَ بِالشُّهُودِ شَرْطُ جَوَازِ الْإِقَامَةِ وقد فَاتَ
بِالْمَوْتِ على وَجْهٍ لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ فَسَقَطَ الْحَدُّ ضَرُورَةً
وَأَمَّا اعْتِرَاضُ مِلْكِ النِّكَاحِ أو مِلْكِ الْيَمِينِ فَهَلْ يُسْقِطُ
الْحَدَّ بِأَنْ زنا بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أو بِجَارِيَةٍ ثُمَّ
اشْتَرَاهَا عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه فيه ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ رَوَى
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عنه أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ
وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عنه أَنَّهُ يَسْقُطُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عنه أَنَّ اعْتِرَاضَ الشِّرَاءِ يَسْقُطُ وَاعْتِرَاضَ
النِّكَاحِ لَا يَسْقُطُ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلزَّوْجِ
بِالنِّكَاحِ بِدَلِيلِ أنها إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كان الْعُقْرُ لها
وَالْعُقْرُ بَدَلُ الْبُضْعِ
وَالْبَدَلُ إنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ كان له الْمُبْدَلُ فلم يَحْصُلْ اسْتِيفَاءُ
مَنَافِعِ الْبُضْعِ من مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ له فَلَا يُورِثُ شُبْهَةً وَبُضْعُ
الْأَمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى بِالشِّرَاءِ
أَلَا تَرَى أنها لو وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ كان الْعُقْرُ لِلْمَوْلَى فَحَصَلَ
الِاسْتِيفَاءُ من مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ له فَيُورِثُ شُبْهَةً فَصَارَ كَالسَّارِقِ
إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِلزَّوْجِ
بِالنِّكَاحِ في حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ فَحَصَلَ الِاسْتِيفَاءُ من مَحِلٍّ
مَمْلُوكٍ فَيَصِيرُ شُبْهَةً كَالسَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ
وَجْهُ رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَطْءَ حَصَلَ زِنًا مَحْضًا
لِمُصَادِفَتِهِ مَحِلًّا غير مَمْلُوكٍ له فَحَصَلَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ
وَالْعَارِضِ وهو الْمِلْكُ لَا يَصْلُحُ مُسْقِطًا لِاقْتِصَارِهِ على حَالَةِ
ثُبُوتِهِ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَالشِّرَاءِ وَكُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وُجِدَ لِلْحَالِ فَلَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِهِ إلَى
وَقْتِ وُجُودِ الْوَطْءِ فَبَقِيَ الْوَطْءُ خَالِيًا عن الْمِلْكِ فَبَقِيَ
زِنًا مَحْضًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ بِخِلَافِ السَّارِقِ إذَا مَلَكَ الْمَسْرُوقَ
لِأَنَّ هُنَاكَ وُجِدَ الْمُسْقِطُ وهو بُطْلَانُ وِلَايَةِ الْخُصُومَةِ لِأَنَّ
الْخُصُومَةَ هُنَاكَ شَرْطٌ وقد خَرَجَ الْمَسْرُوقُ منه من أَنْ يَكُونَ خَصْمًا
بِمِلْكِ الْمَسْرُوقِ لذلك ( ( ( ولذلك ) ) ) افْتَرَقَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ غَصَبَ جَارِيَةً فزنا ( ( ( فزنى ) ) ) بها فَمَاتَتْ رَوَى أبو يُوسُفَ
عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّ عليه الْحَدَّ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عنهما أَنَّ عليه الْقِيمَةَ وَلَا حَدَّ عليه
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ هذا أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ إلَّا بَعْدَ هَلَاكِ
الْجَارِيَةِ وَهِيَ بَعْدَ الْهَلَاكِ لَا تَحْتَمِلُ الْمِلْكَ فَلَا
يَمْلِكُهَا الْغَاصِبُ بِالضَّمَانِ فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ الضَّمَانَ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْهَلَاكِ وَإِنَّمَا
يَجِبُ في آخِرِ جُزْءٍ من أَجْزَاءِ الْحَيَاةِ وَهِيَ مُحْتَمَلَةٌ لملك ( ( (
للملك ) ) ) في ذلك الْوَقْتِ فَيَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ
وَلِأَنَّ حَيَاةَ الْمَحِلِّ تُشْتَرَطُ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ فيه مَقْصُودًا
بِمُبَادَلَةٍ مَقْصُودَةٍ وَالْمِلْكُ هَهُنَا يُثْبِتُ ضَرُورَةَ اسْتِحَالَةِ
اجْتِمَاعِ الْبَدَلِ وَالْمُبْدَلِ في مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ في عَقْدِ
الْمُبَادَلَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ له حَيَاةُ الْمَحِلِّ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ في
الْمَيِّتِ وأن ( ( ( وأنه ) ) ) يَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ
وَلَوْ غَصَبَ حُرَّةً فزنا ( ( ( فزنى ) ) ) بها فَمَاتَتْ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ
وَالدِّيَةُ لِأَنَّ مِلْكَ الضَّمَانِ في الْحُرَّةِ لَا يُوجِبُ مِلْكَ
الْمَضْمُونِ لِأَنَّ الْمَحِلَّ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ فَلَا يَمْتَنِعُ
وُجُوبُ الْحَدِّ بِخِلَافِ الْأَمَةِ
وَاَللَّهُ عز وجل أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ فَالْأَصْلُ في أَسْبَابِ
الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ أَنْ يُقَدَّمَ حَقُّ الْعَبْدِ في الِاسْتِيفَاءِ
على حَقِّ اللَّهِ عز وجل لِحَاجَةِ الْعَبْدِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِحَقِّهِ
وَتَعَالَى اللَّهُ تَعَالَى عن الْحَاجَاتِ
ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ لم يُمْكِنْ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَسْقُطُ
ضَرُورَةً وَإِنْ أَمْكَنَ اسْتِيفَاؤُهَا فَإِنْ كان في إقَامَةِ شَيْءٍ منها
إسْقَاطُ الْبَوَاقِي يُقَامُ ذلك دَرْءًا لِلْبَوَاقِي
____________________
(7/62)
لِقَوْلِهِ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ادْرَءُوا الْحُدُودَ ما اسْتَطَعْتُمْ وَإِنْ لم
يَكُنْ في إقَامَةِ شَيْءٍ منها إسْقَاطُ الْبَوَاقِي يُقَامُ الْكُلُّ جَمْعًا
بين الْحَقَّيْنِ في الِاسْتِيفَاءِ
وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ إذَا اجْتَمَعَ الْقَذْفُ وَالشُّرْبُ وَالسُّكْرُ
وَالزِّنَا من غَيْرِ إحْصَانٍ وَالسَّرِقَةُ بِأَنْ قَذَفَ إنْسَانًا بِالزِّنَا
وَشَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ من غَيْرِ الْخَمْرِ من الْأَشْرِبَةِ الْمَعْهُودَةِ
وَزَنَى وهو غَيْرُ مُحْصَنٍ وَسَرَقَ مَالَ إنْسَانٍ ثُمَّ أتى بِهِ إلَى
الْإِمَامِ بَدَأَ الْإِمَامُ بِحَدِّ الْقَذْفِ فَيَضْرِبُهُ لِأَنَّهُ حَقُّ
اللَّهِ عز وجل ( ( ( شأنه ) ) ) من وَجْهٍ وما سِوَاهُ حُقُوقُ الْعِبَادِ على
الْخُلُوصِ فَيُقَدَّمُ اسْتِيفَاؤُهُ ثُمَّ يَسْتَوْفِي حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى
لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا وَلَيْسَ في إقَامَةِ شَيْءٍ منها إسْقَاطُ
الْبَوَاقِي فَلَا يَسْقُطُ
ثُمَّ إذَا ضُرِبَ حَدَّ الْقَذْفِ يُحْبَسُ حتى يَبْرَأَ من الضَّرْبِ ثُمَّ
الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ في الْبِدَايَةِ إنْ شَاءَ بَدَأَ بِحَدِّ الزِّنَا
وَإِنْ شَاءَ بِحَدِّ السَّرِقَةِ وَيُؤَخِّرُ حَدَّ الشُّرْبِ عنهما لِأَنَّهُمَا
ثَبَتَا بِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَحَدُّ الشُّرْبِ لم يَثْبُتْ بِنَصِّ
الْكِتَابِ الْكَرِيمِ إنَّمَا ثَبَتَ بِإِجْمَاعٍ مَبْنِيٍّ على الِاجْتِهَادِ أو
على خَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الثَّابِتَ بِنَصِّ الْكِتَابِ آكَدُ
ثُبُوتًا وَلَا يَجْمَعُ ذلك كُلَّهُ في وَقْتٍ وَاحِدٍ بَلْ يُقَامُ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ ما بَرَأَ من الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بين الْكُلِّ
في وَقْتٍ وَاحِدٍ يُفْضِي إلَى الْهَلَاكِ
وَلَوْ كان من جُمْلَةِ هذه الْحُدُودِ حَدُّ الرَّجْمِ بِأَنْ زَنَى وهو مُحْصَنٌ
يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُرْجَمُ وَيُدْرَأُ عنه ما
سِوَى ذلك لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ في الِاسْتِيفَاءِ
وفي إقَامَةِ حَدِّ الرَّجْمِ إسْقَاطُ الْبَوَاقِي فَيُقَامُ دَرْءًا
لِلْبَوَاقِي لِأَنَّ الْحُدُودَ وَاجِبَةُ الدَّرْءِ ما أَمْكَنَ فَيُدْرَأُ
إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَحْتَمِلُ الدَّرْءَ
وَكَذَا لو كان مع هذه الْحُدُودِ قِصَاصٌ في النَّفْسِ يُبْدَأُ بِحَدِّ
الْقَذْفِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيُدْرَأُ ما سِوَى ذلك
وَإِنَّمَا بدىء بِحَدِّ الْقَذْفِ دُونَ الْقِصَاصِ الذي هو خَالِصُ حَقِّ
الْعَبْدِ لِأَنَّ في الْبِدَايَةِ بِالْقِصَاصِ إسْقَاطَ حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا سَبِيلَ
إلَيْهِ لِذَلِكَ يُبْدَأُ بِحَدِّ الْقَذْفِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا وَيَبْطُلُ ما
سِوَى ذلك لِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ بَعْدَ الْقَتْلِ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ
السَّرِقَةَ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ كان مع الْقِصَاصِ في النَّفْسِ قِصَاصٌ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُحَدُّ
حَدَّ الْقَذْفِ يقتص ( ( ( ويقتص ) ) ) فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَيُقْتَصُّ في
النَّفْسِ وَيُلْغَى ما سِوَى ذلك
وَلَوْ لم يَكُنْ في الْحُدُودِ حَدُّ الْقَذْفِ وَيُقْتَصُّ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ ثُمَّ يُقْتَصُّ في النَّفْسِ ويلغي ما سِوَى ذلك وَلَوْ اجْتَمَعَتْ
الْحُدُودُ الْخَالِصَةُ وَالْقَتْلُ يُقْتَصُّ وَيُلْغَى ما سِوَى ذلك لِأَنَّ
تَقْدِيمَ الْقِصَاصِ على الْحُدُودِ في الِاسْتِيفَاءِ وَاجِبٌ
وَمَتَى قُدِّمَ اسْتِيفَاؤُهُ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْحُدُودِ فَتَسْقُطُ
ضَرُورَةً
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ الْمَحْدُودِ فَالْحَدُّ إنْ كان رَجْمًا فإذا قُتِلَ
يُدْفَعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَصْنَعُونَ بِهِ ما يُصْنَعُ بِسَائِرِ الْمَوْتَى
فَيُغَسِّلُونَهُ وَيُكَفِّنُونَهُ وَيُصَلُّونَ عليه وَيَدْفِنُونَهُ
بهذا أَمَرَ رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا رُجِمَ مَاعِزًا
فقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اصْنَعُوا بِهِ ما تَصْنَعُونَ بِمَوْتَاكُمْ
وَإِنْ كان جَلْدًا فَحُكْمُ الْمَحْدُودِ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ في سَائِرِ
الْأَحْكَامِ من الشَّهَادَةِ وَغَيْرِهَا إلَّا الْمَحْدُودَ في الْقَذْفِ
خَاصَّةً في أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فإنه تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ على التَّأْبِيدِ حتى
لَا تُقْبَلَ وَإِنْ تَابَ إلَّا في الدِّيَانَاتِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وقد
ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ وَفُرُوعَهَا في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا التَّعْزِيرُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوَاضِعَ في بَيَانِ سَبَبِ
وُجُوبِ التَّعْزِيرِ وفي بَيَانِ شَرْطِ وُجُوبِهِ وفي بَيَانِ قَدْرِهِ وفي
بَيَانِ وَصْفِهِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
أَمَّا سَبَبُ وُجُوبِهِ فَارْتِكَابُ جِنَايَةٍ ليس لها حَدٌّ مُقَدَّرٌ في
الشَّرْعِ سَوَاءٌ كانت الْجِنَايَةُ على حَقِّ اللَّهِ كَتَرْكِ الصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ وَنَحْوِ ذلك أو على حَقِّ الْعَبْدِ بِأَنْ آذَى مُسْلِمًا بِغَيْرِ
حَقٍّ بِفِعْلٍ أو بِقَوْلٍ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ بِأَنْ قال له يا
خَبِيثُ يا فَاسِقُ يا سَارِقُ يا فَاجِرُ يا كَافِرُ يا آكِلَ الرِّبَا يا
شَارِبَ الْخَمْرِ وَنَحْوُ ذلك
فَإِنْ قال له يا كَلْبُ يا خِنْزِيرُ يا حِمَارُ يا ثَوْرُ وَنَحْوُ ذلك لَا يَجِبُ
عليه التَّعْزِيرُ لِأَنَّ في النَّوْعِ الْأَوَّلِ إنَّمَا وَجَبَ التَّعْزِيرُ
لِأَنَّهُ أَلْحَقَ الْعَارَ بِالْمَقْذُوفِ إذْ الناس بين مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ
فَعُزِّرَ دَفْعًا لِلْعَارِ عنه وَالْقَاذِفُ في النَّوْعِ الثَّانِي أَلْحَقَ
الْعَارَ بِنَفْسِهِ بِقَذْفِهِ غَيْرَهُ بِمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَيَرْجِعُ عَارُ
الْكَذِبِ إلَيْهِ لَا إلَى الْمَقْذُوفِ
فَصْلٌ وَأَمَّا شَرْطُ وُجُوبِهِ فَالْعَقْلُ فَقَطْ فَيُعَزَّرُ كُلُّ عَاقِلٍ
ارْتَكَبَ جِنَايَةً ليس لها حَدٌّ مُقَدَّرٌ سَوَاءٌ كان حُرًّا أو عَبْدًا ذَكَرًا
أو أُنْثَى مُسْلِمًا أو كَافِرًا بَالِغًا أو صَبِيًّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ
عَاقِلًا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ إلَّا الصَّبِيَّ الْعَاقِلَ
فإنه
____________________
(7/63)
يُعَزَّرُ
تَأْدِيبًا لَا عُقُوبَةً لِأَنَّهُ من أَهْلِ التَّأْدِيبِ
أَلَا تَرَى إلَى ما رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال مُرُوا
صِبْيَانَكُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا وَاضْرِبُوهُمْ عليها إذَا
بَلَغُوا عَشْرًا وَذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ لَا بِطَرِيقِ
الْعُقُوبَةِ لِأَنَّهَا تَسْتَدْعِي الْجِنَايَةَ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا
يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ وَالصَّبِيِّ الذي لَا
يَعْقِلُ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَلَا من أَهْلِ
التَّأْدِيبِ
فَصْلٌ وَأَمَّا قَدْرُ التَّعْزِيرِ فإنه إنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ ليس من
جِنْسِهَا ما يُوجِبُ الْحَدَّ كما إذَا قال لِغَيْرِهِ يا فَاسِقُ يا خَبِيثُ يا
سَارِقُ وَنَحْوُ ذلك فَالْإِمَامُ فيه بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ عَزَّرَهُ
بِالضَّرْبِ وَإِنْ شَاءَ بِالْحَبْسِ وَإِنْ شَاءَ بِالْكَهْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ
بِالْكَلَامِ
وَعَلَى هذا يُحْمَلُ قَوْلُ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه لِعُبَادَةَ بن
الصَّامِتِ يا أَحْمَقُ إن ذلك كان على سَبِيلِ التَّعْزِيرِ منه إيَّاهُ لَا على
سَبِيلِ الشَّتْمِ إذْ لَا يُظَنُّ ذلك من مِثْلِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ
عنه لَا بِأَحَدٍ فَضْلًا عن الصَّحَابِيِّ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من رَتَّبَ التَّعْزِيرَ على مَرَاتِبِ الناس فقال
التَّعَازِيرُ على أَرْبَعَةِ مَرَاتِبَ تَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ وَهُمْ
الدَّهَّاقُونَ وَالْقُوَّادُ وَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ وَهُمْ
الْعَلَوِيَّةُ وَالْفُقَهَاءُ وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ وَهُمْ السُّوقَةُ
وَتَعْزِيرُ الْأَخِسَّاءِ وَهُمْ السِّفْلَةُ فَتَعْزِيرُ أَشْرَافِ الْأَشْرَافِ
بِالْإِعْلَامِ الْمُجَرَّدِ وهو أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي أَمِينَهُ إلَيْهِ فيقول
له بَلَغَنِي أَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا وَتَعْزِيرُ الْأَشْرَافِ
بِالْإِعْلَامِ وَالْجَرِّ إلَى بَابِ الْقَاضِي وَالْخِطَابِ بِالْمُوَاجَهَةِ
وَتَعْزِيرُ الْأَوْسَاطِ الإعلام ( ( ( بالإعلام ) ) ) وَالْجَرِّ وَالْحَبْسِ
وَتَعْزِيرُ السَّفَلَةِ الإعلام ( ( ( بالإعلام ) ) ) وَالْجَرِّ وَالضَّرْبِ
وَالْحَبْسِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من التَّعْزِيرِ هو الزَّجْرُ وَأَحْوَالُ الناس
في الِانْزِجَارِ على هذه الْمَرَاتِبِ وَإِنْ وَجَبَ بِجِنَايَةٍ في جِنْسِهَا
الْحَدُّ لَكِنَّهُ لم يَجِبْ لِفَقْدِ شَرْطِهِ كما إذَا قال لِصَبِيٍّ أو
مَجْنُونٍ يا زَانِي أو لِذِمِّيَّةٍ أو أُمِّ وَلَدٍ يا زَانِيَةُ فَالتَّعْزِيرُ
فيه بِالضَّرْبِ وَيَبْلُغُ أَقْصَى غَايَاتِهِ وَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ
وفي رِوَايَةِ النَّوَادِرِ عنه تِسْعَةٌ وَسَبْعُونَ
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ عليه الرَّحْمَةُ مُضْطَرِبٌ
ذَكَرَهُ الْفَقِيهُ أبو اللَّيْثِ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ
لَا يَبْلُغُ التَّعْزِيرُ الْحَدَّ لِمَا رُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال من بَلَغَ حَدًّا في غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ من
الْمُعْتَدِينَ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَرَفَ الْحَدَّ
الْمَذْكُورَ في الحديث على الْأَحْرَارِ وَزَعَمَ أَنَّهُ الْحَدُّ الْكَامِلُ
لَا حَدَّ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّ ذلك بَعْضُ الْحَدِّ وَلَيْسَ بِحَدٍّ كَامِلٍ
وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ في كل بَابٍ وَلِأَنَّ
الْأَحْرَارَ هُمْ الْمَقْصُودُونَ في الْخِطَابِ وَغَيْرُهُمْ مُلْحَقٌ بِهِمْ
فيه
ثُمَّ قال في رِوَايَةٍ يُنْقَصُ منها سَوْطٌ وهو الْأَقْيَسُ لِأَنَّ تَرْكَ
التَّبْلِيغِ يَحْصُلُ بِهِ
وفي رِوَايَةٍ قال يُنْتَقَصُ منها خَمْسَةٌ
وَرُوِيَ ذلك أَثَرًا عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال
يُعَزَّرُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ
قال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَلَّدْتُهُ في نُقْصَانِ الْخَمْسَةِ
وَاعْتُبِرَتْ عنه أَدْنَى الْحُدُودِ وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ قال أَخَذْتُ كُلَّ
فرع ( ( ( نوع ) ) ) من بَابِهِ وَأَخَذْتُ التَّعْزِيرَ في اللَّمْسِ
وَالْقُبْلَةِ من حَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفَ بِغَيْرِ الزِّنَا من حَدِّ
الْقَذْفِ لِيَكُونَ إلْحَاقَ كل نَوْعٍ بِبَابِهِ وأبو حَنِيفَةَ صَرَفَهُ إلَى
حَدِّ الْمَمَالِيكِ وهو أَرْبَعُونَ لِأَنَّهُ ذَكَرَ حَدًّا مُنَكَّرًا
فَيَتَنَاوَلُ حَدًّا ما وَأَرْبَعُونَ حَدٌّ كَامِلٌ في الْمَمَالِيكِ
فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَلِأَنَّ في الْحَمْلِ على هذا الْحَدِّ أَخْذًا
بِالثِّقَةِ وَالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّ اسْمَ الْحَدِّ يَقَعُ على النَّوْعَيْنِ
فَلَوْ حَمَلْنَاهُ على ما قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ يَقَعُ الْأَمْنُ عن وَعِيدِ
التَّبْلِيغِ لِأَنَّهُ لَا يَبْلُغُ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ على ما قَالَهُ أبو
يُوسُفَ لَا يَقَعُ الْأَمْنُ عنه لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ حَدَّ
الْمَمَالِيكِ فَيَصِيرُ مُبَلِّغًا غير الْحَدَّ فَيَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ فَكَانَ
الِاحْتِيَاطُ فِيمَا قَالَهُ أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى الْمُوَفِّقُ
فَصْلٌ وَأَمَّا صِفَتُهُ فَلَهُ صِفَاتٌ منها أَنَّهُ أَشَدُّ الضَّرْبِ
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ في الْمُرَادِ بِالشِّدَّةِ الْمَذْكُورَةِ
قال بَعْضُهُمْ أُرِيدَ بها الشِّدَّةُ من حَيْثُ الْجَمْعِ وَهِيَ أَنْ يَجْمَعَ
الضَّرَبَاتِ فيه على عُضْوٍ وَاحِدٍ وَلَا يُفَرِّقُ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
وقال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منها الشِّدَّةُ في نَفْسِ الضَّرْبِ وهو الْإِيلَامُ
ثُمَّ إنَّمَا كان أَشَدَّ الضَّرْبِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ شُرِعَ
لِلزَّجْرِ الْمَحْضِ ليس فيه مَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
فإن مَعْنَى الزَّجْرِ فيها يَشُوبُهُ مَعْنَى التَّكْفِيرِ لِلذَّنْبِ
قال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا فإذا
تَمَحَّضَ التَّعْزِيرُ لِلزَّجْرِ فَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَشَدَّ أَزْجَرُ فَكَانَ
في تَحْصِيلِ ما شُرِعَ له أَبْلَغُ
وَالثَّانِي أَنَّهُ قد نَقَصَ عن عَدَدِ الضَّرَبَاتِ فيه فَلَوْ لم يُشَدِّدْ في
الضَّرْبِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ منه وهو الزَّجْرُ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ
____________________
(7/64)
وَالصُّلْحَ
وَالْإِبْرَاءَ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ خَالِصًا فَتَجْرِي فيه هذه
الْأَحْكَامُ كما تَجْرِي في سَائِرِ الْحُقُوقِ لِلْعِبَادِ من الْقِصَاصِ
وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ يُوَرَّثُ كَالْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ لِمَا قُلْنَا
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَبْدِ لَا تَحْتَمِلُ
التَّدَاخُلَ بِخِلَافِ الْحُدُودِ وَيُؤْخَذُ فيه الْكَفِيلُ إلَّا أَنَّهُ لَا
يُحْبَسُ لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ
أَمَّا التَّكْفِيلُ فَلِأَنَّ التَّكْفِيلَ لِلتَّوْثِيقِ
وَالتَّعْزِيرُ حَقٌّ العبد ( ( ( للعبد ) ) ) فَكَانَ التَّوْثِيقُ مُلَائِمًا له
بِخِلَافِ الْحُدُودِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا عَدَمُ الْحَبْسِ فَلِأَنَّ الْحَبْسَ يَصْلُحُ تَعْزِيرًا في نَفْسِهِ
فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا قبل تَعْدِيلِ الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ أَنَّهُ
يُحْبَسُ فيها لِتَعْدِيلِ الشُّهُودِ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَصْلُحُ حَدًّا
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ فَنَقُولُ إنَّهُ يَظْهَرُ بِهِ سَائِرُ
حُقُوقِ الْعِبَادِ من الْإِقْرَارِ وَالْبَيِّنَةِ وَالنُّكُولِ وَعِلْمِ
الْقَاضِي وَيُقْبَلُ فيه شَهَادَةُ النِّسَاءِ مع الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةُ على
الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كما في سَائِرِ حُقُوقِ
الْعِبَادِ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُقْبَلُ فيه
شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ على
الْخُلُوصِ فَيَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ حُقُوقُ الْعِبَادِ وَلَا يُعْمَلُ فيه
الرُّجُوعُ كما لَا يُعْمَلُ في الْقِصَاصِ وَغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
كِتَابُ السَّرِقَةِ يُحْتَاجُ لِمَعْرِفَةِ مَسَائِلِ السَّرِقَةِ إلَى
مَعْرِفَةِ رُكْنِ السَّرِقَةِ وَإِلَى مَعْرِفَةِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وَإِلَى
مَعْرِفَةِ ما يَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي وَإِلَى مَعْرِفَةِ
حُكْمِ السَّرِقَةِ
فَصْلٌ أَمَّا رُكْنِ السَّرِقَةِ فَهُوَ الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إلَّا من اسْتَرَقَ السَّمْعَ } سَمَّى
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْذَ الْمَسْمُوعِ على وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ
اسْتِرَاقًا وَلِهَذَا يُسَمَّى الْأَخْذُ على سَبِيلِ الْمُجَاهَرَةِ مُغَالَبَةً
أو نُهْبَةً أو خِلْسَةً أو غَصْبًا أو انْتِهَابًا وَاخْتِلَاسًا لَا سَرِقَةً
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ سُئِلَ عن الْمُخْتَلِسِ
وَالْمُنْتَهِبِ فقال تِلْكَ الدُّعَابَةُ لَا شَيْءَ فيها
وَرُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ على
نَبَّاشٍ وَلَا مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ ثُمَّ الْأَخْذُ على وَجْهِ
الِاسْتِخْفَاءِ نَوْعَانِ مُبَاشَرَةٌ وَتَسَبُّبٌ
أَمَّا الْمُبَاشَرَةُ فَهُوَ أَنْ يَتَوَلَّى السَّارِقُ أَخْذَ الْمَتَاعِ
وَإِخْرَاجَهُ من الْحِرْزِ بِنَفْسِهِ حتى لو دخل الْحِرْزَ وَأَخَذَ مَتَاعًا
فَحَمَلَهُ أو لم يَحْمِلْهُ حتى ظَهَرَ عليه وهو في الْحِرْزِ قبل أَنْ
يُخْرِجَهُ فَلَا قَطْعَ عليه لِأَنَّ الْأَخْذَ إثْبَاتُ الْيَدِ وَلَا يَتِمُّ
ذلك إلَّا بِالْإِخْرَاجِ من الْحِرْزِ ولم يُوجَدْ
وَإِنْ رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ ثُمَّ ظَهَرَ عليه قبل أَنْ يَخْرُجَ هو من
الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ عليه لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عليه عِنْدَ
الْخُرُوجِ من الْحِرْزِ فَإِنْ لم يَظْهَرْ عليه حتى خَرَجَ وَأَخَذَ ما كان
رَمَى بِهِ خَارِجَ الْحِرْزِ يُقْطَعُ
وَرُوِيَ عن زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْأَخْذَ من الْحِرْزِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ
منه وَالرَّمْيُ ليس بِإِخْرَاجٍ وَالْأَخْذُ من الْخَارِجِ ليس أَخْذًا من
الْحِرْزِ فَلَا يَكُونُ سَرِقَةً
وَلَنَا أَنَّ الْمَالَ في حُكْمِ يَدِهِ ما لم تَثْبُتْ عليه يَدُ غَيْرِهِ
فَقَدْ وُجِدَ منه الْأَخْذُ وَالْإِخْرَاجُ من الْحِرْزِ
وَلَوْ رَمَى بِهِ إلَى صَاحِبٍ له خَارِجَ الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ الْمَرْمِيُّ
إلَيْهِ فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَمَّا الْخَارِجُ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْأَخْذُ من الْحِرْزِ
وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَلِأَنَّهُ لم يُوجَدْ منه الْإِخْرَاجُ من الْحِرْزِ
لِثُبُوتِ يَدِ الْخَارِجِ عليه
وَلَوْ نَاوَلَ صَاحِبًا له مُنَاوَلَةً من وَرَاءِ الْجِدَارِ ولم يَخْرُجَ هو
فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَعِنْدَهُمَا يُقْطَعُ الدَّاخِلُ وَلَا يُقْطَعُ الْخَارِجُ إذَا كان الْخَارِجُ
لم يُدْخِلْ يَدَهُ إلَى الْحِرْزِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الدَّاخِلَ لَمَّا نَاوَلَ صَاحِبَهُ فَقَدْ أَقَامَ
يَدَ صَاحِبِهِ مُقَامَ يَدِهِ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ وَالْمَالُ في يَدِهِ
وَجْهُ قَوْلِهِ على نَحْوِ ما ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
أَنَّهُ لَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِ الْقَطْعِ على الْخَارِجِ لِانْعِدَامِ فِعْلِ
السَّرِقَةِ منه وهو الْأَخْذُ من الْحِرْزِ وَلَا سَبِيلَ إلَى إيجَابِهِ على
الدَّاخِلِ لِانْعِدَامِ ثُبُوتِ يَدِهِ عليه حَالَةَ الْخُرُوجِ من الْحِرْزِ
لِثُبُوتِ يَدِ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ ما إذَا رَمَى بِهِ إلَى السِّكَّةِ ثُمَّ
خَرَجَ وَأَخَذَهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لم تَثْبُتْ عليه يَدُ غَيْرِهِ فَهُوَ في
حُكْمِ يَدِهِ فَكَأَنَّهُ خَرَجَ بِهِ حَقِيقَةً
وَإِنْ كان الْخَارِجُ أَدْخَلَ يَدَهُ في الْحِرْزِ فَأَخَذَهُ من يَدِ
الدَّاخِلِ فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وقال
____________________
(7/65)
أبو
يُوسُفَ أَقْطَعُهُمَا جميعا
أَمَّا عَدَمُ وُجُوبِ الْقَطْعِ على الدَّاخِلِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِعَدَمِ الْإِخْرَاجِ من الْحِرْزِ
يُحَقِّقُهُ أَنَّهُ لو أَخْرَجَ يَدَهُ وَنَاوَلَ صَاحِبًا له لم يُقْطَعْ
فَعِنْدَ عَدَمِ الْإِخْرَاجِ أَوْلَى وَالْوُجُوبُ عليه على أَصْلِ أبي يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا في الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في الْخَارِجِ فَمَبْنِيٌّ على مَسْأَلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ
أَنَّ السَّارِقَ إذَا نَقَبَ مَنْزِلًا وَأَدْخَلَ يَدَهُ فيه وَأَخْرَجَ
الْمَتَاعَ ولم يَدْخُلْ فيه هل يُقْطَعُ ذَكَرَ في الْأَصْلِ وفي الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ ولم يَحْكِ خِلَافًا
وقال أبو يُوسُفَ في الْإِمْلَاءِ أَقْطَعُ وَلَا أُبَالِي دخل الحرلإ ( ( ( الحرز
) ) ) أو لم يَدْخُلْ وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا نَقَبَ وَدَخَلَ وَجَمَعَ
الْمَتَاعَ عِنْدَ النَّقْبِ ثُمَّ خَرَجَ وَأَدْخَلَ يَدَهُ فَرَفَعَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الرُّكْنَ في السَّرِقَةِ هو الْأَخْذُ من الْحِرْزِ
فَأَمَّا الدُّخُولُ في الْحِرْزِ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو
أَدْخَلَ يَدَهُ في الصُّنْدُوقِ أو في الْجَوَالِقِ وَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ
يُقْطَعُ وَإِنْ لم يُوجَدْ الدُّخُولُ
وَلَهُمَا ما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ قال إذَا كان
اللِّصُّ ظَرِيفًا لم يُقْطَعْ
قِيلَ وَكَيْفَ يَكُونُ ظَرِيفًا قال يُدْخِلُ يَدَهُ إلَى الدَّارِ وَيُمْكِنُهُ
دُخُولُهَا ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَلِأَنَّ هَتْكَ الْحِرْزِ على سَبِيلِ الْكَمَالِ شَرْطٌ لِأَنَّ بِهِ
تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ وَلَا يَتَكَامَلُ الْهَتْكُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فيه
الدُّخُولُ إلَّا بِالدُّخُولِ ولم يُوجَدْ بِخِلَافِ الْأَخْذِ من الصُّنْدُوقِ
وَالْجَوَالِقِ لِأَنَّ هَتْكَهُمَا بِالدُّخُولِ مُتَعَذَّرٌ فَكَانَ الْأَخْذُ
بِإِدْخَالِ الْيَدِ فيها هَتْكًا مُتَكَامِلًا فَيُقْطَعُ
وَلَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ من بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ إلَى
السَّاحَةِ لَا يُقْطَعُ ما لم يَخْرُجْ من الدَّارِ لِأَنَّ الدَّارَ مع
اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا قِيلَ لِصَاحِبِ الدَّارِ احْفَظْ هذه الْوَدِيعَةَ في
هذا الْبَيْتِ فَحَفِظَ في بَيْتٍ آخَرَ فَضَاعَتْ لم يَضْمَنْ
وَكَذَا إذَا أَذِنَ لِإِنْسَانٍ في دُخُولِ الدَّارِ فَدَخَلَهَا فَسَرَقَ من
الْبَيْتِ لَا يُقْطَعُ وَإِنْ لم يَأْذَنْ له بِدُخُولِ الْبَيْتِ
دَلَّ أَنَّ الدَّارَ مع اخْتِلَافِ بُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فلم يَكُنْ
الْإِخْرَاجُ إلَى صَحْنِ الدَّارِ إخْرَاجًا من الْحِرْزِ بَلْ هو نَقْلٌ من
بَعْضِ الْحِرْزِ إلَى الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ النَّقْلِ من زَاوِيَةٍ إلَى
زَاوِيَةٍ أُخْرَى
هذا إذَا كانت الدَّارُ مع بُيُوتِهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَمَّا إذَا كان كُلُّ
مَنْزِلٍ فيها لِرَجُلٍ فَأَخْرَجَ الْمَتَاعَ من الْبَيْتِ إلَى السَّاحَةِ
يُقْطَعُ لِأَنَّ كُلَّ بَيْتٍ حِرْزٌ على حِدَةٍ فَكَانَ الْإِخْرَاجُ منه
إخْرَاجًا من الْحِرْزِ
وَكَذَلِكَ إذَا كان في الدَّارِ حُجَرٌ وَمَقَاصِيرُ فَسَرَقَ من مقصورة ( ( (
مقصور ) ) ) منها وَخَرَجَ بِهِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ قُطِعَ لِأَنَّ كُلَّ
مَقْصُورَةٍ منها حِرْزٌ على حِدَةٍ فَكَانَ الْإِخْرَاجُ منها إخْرَاجًا من
الْحِرْزِ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ الْمُخْتَلِفَةِ في مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ
وَلَوْ نَقَبَ رَجُلَانِ وَدَخَلَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَخْرَجَ الْمَتَاعَ فلما
خَرَجَ بِهِ إلَى السِّكَّةِ حَمَلَاهُ جميعا يُنْظَرُ إنْ عُرِفَ الدَّاخِلُ
مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ قُطِعَ لِأَنَّهُ هو السَّارِقُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ
وَالْإِخْرَاجِ منه وَيُعَزَّرُ الْخَارِجُ لِأَنَّهُ أَعَانَهُ على الْمَعْصِيَةِ
وَهَذِهِ مَعْصِيَةٌ ليس فيها حَدٌّ مُقَدَّرٌ فَيُعَزَّرُ
وَإِنْ لم يُعْرَفْ الدَّاخِلُ مِنْهُمَا لم يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ
من عليه الْقَطْعُ مَجْهُولٌ وَيُعَزَّرَانِ
أَمَّا الْخَارِجُ فَلِمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا الدَّاخِلُ فَلِارْتِكَابِهِ
جِنَايَةً لم يُسْتَوْفَ فيها الْحَدُّ لِعُذْرٍ فَتَعَيَّنَ التَّعْزِيرُ
وَلَوْ نَقَبَ بَيْتَ رَجُلٍ وَدَخَلَ عليه مُكَابَرَةً لَيْلًا حتى سَرَقَ منه
مَتَاعَهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ إنْ لم يُوجَدَ الْأَخْذُ على سَبِيلِ
الِاسْتِخْفَاءِ من الْمَالِكِ فَقَدْ وُجِدَ من الناس لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا
يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ لِكَوْنِهِ وَقْتَ نَوْمٍ وَغَفْلَةٍ فَتَحَقَّقَتْ
السَّرِقَةُ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَأَمَّا التَّسَبُّبُ فَهُوَ أَنْ يَدْخُلَ جَمَاعَةٌ من اللُّصُوصِ مَنْزِلَ
رَجُلٍ وَيَأْخُذُوا مَتَاعًا وَيَحْمِلُوهُ على ظَهْرِ وَاحِدٍ وَيُخْرِجُوهُ من
الْمَنْزِلِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُقْطَعَ إلَّا الْحَامِلُ خَاصَّةً وهو قَوْلُ
زُفَرَ
وفي الِاسْتِحْسَانِ يُقْطَعُونَ جميعا
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ من
الْحِرْزِ وَذَلِكَ وُجِدَ منه مُبَاشَرَةً فَأَمَّا غَيْرُهُ فَمُعِينٌ له
وَالْحَدُّ يَجِبُ على الْمُبَاشِرِ لَا على الْمُعِينِ كَحَدِّ الزِّنَا
وَالشُّرْبِ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِخْرَاجَ حَصَلَ من الْكُلِّ مَعْنًى لِأَنَّ
الْحَامِلَ لَا يَقْدِرُ على الْإِخْرَاجِ إلَّا بِإِعَانَةِ الْبَاقِينَ
وَتَرَصُّدِهِمْ لِلدَّفْعِ فَكَانَ الْإِخْرَاجُ من الْكُلِّ من حَيْثُ
الْمَعْنَى
وَلِهَذَا أُلْحِقَ الْمُعِينُ بِالْمُبَاشِرِ في قَطْعِ الطَّرِيقِ وفي
الْغَنِيمَةِ
كَذَا هذا وَلِأَنَّ الْحَامِلَ عَامِلٌ لهم فَكَأَنَّهُمْ حَمَلُوا الْمَتَاعَ
على حِمَارٍ وَسَاقُوهُ حتى أَخْرَجُوهُ من الْحِرْزِ وَلِأَنَّ السَّارِقَ لَا
يَسْرِقُ وَحْدَهُ عَادَةً بَلْ مع أَصْحَابِهِ
وَمِنْ عَادَةِ السُّرَّاقِ أَنَّهُمْ كلهم لَا يَشْتَغِلُونَ بِالْجَمْعِ وَالْإِخْرَاجِ
بَلْ يَرْصُدُ الْبَعْضُ فَلَوْ جُعِلَ ذلك مَانِعًا من وُجُوبِ الْقَطْعِ
لَانْسَدَّ بَابُ الْقَطْعِ وَانْفَتَحَ بَابُ السَّرِقَةِ
وَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلِهَذَا أُلْحِقَتْ الْإِعَانَةُ بِالْمُبَاشَرَةِ في بَابِ
قَطْعِ الطَّرِيقِ
كَذَا هذا
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ
وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ
منه
____________________
(7/66)
وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فيه وهو الْمَكَانُ
أَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى السَّارِقِ فَأَهْلِيَّةُ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَهِيَ
الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَلَا يُقْطَعُ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لِمَا رُوِيَ عن
النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال رُفِعَ الْقَلَمُ عن ثَلَاثَةٍ عن
الصَّبِيِّ حتى يَحْتَلِمَ
وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يُفِيقَ وَعَنْ النَّائِمِ حتى يَسْتَيْقِظَ أَخْبَرَ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عنهما وفي إيجَابِ
الْقَطْعِ إجْرَاءُ الْقَلَمِ عَلَيْهِمَا
وَهَذَا خِلَافُ النَّصِّ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً
وَفِعْلُهُمَا لَا يُوصَفُ بِالْجِنَايَاتِ وَلِهَذَا لم يَجِبْ عَلَيْهِمَا
سَائِرُ الْحُدُودِ
كَذَا هذا
وَيَضْمَنَانِ السَّرِقَةَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ
ضَمَانِ الْمَالِ
وَإِنْ كان السَّارِقُ يُجَنُّ مُدَّةً وَيُفِيقُ أُخْرَى فَإِنْ سَرَقَ في حَالِ
جُنُونِهِ لم يُقْطَعْ وَإِنْ سَرَقَ في حَالِ الْإِفَاقَةِ يُقْطَعْ
وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ يَدْرَأُ عَنْهُمْ
الْقَطْعَ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ هو الذي
تَوَلَّى إخْرَاجَ الْمَتَاعِ درىء ( ( ( درئ ) ) ) عَنْهُمْ جميعا وَإِنْ كان
وَلِيَهُ غَيْرُهُمَا قُطِعُوا جميعا إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِخْرَاجَ من الْحِرْزِ هو الْأَصْلُ في السَّرِقَةِ
وَالْإِعَانَةُ كَالتَّابِعِ فإذا وَلِيَهُ الصَّبِيُّ أو الْمَجْنُونُ فَقَدْ أتى
بِالْأَصْلِ فإذا لم يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْأَصْلِ كَيْفَ يَجِبُ بِالتَّابِعِ
فإذا وَلِيَهُ بَالِغٌ عَاقِلٌ فَقَدْ حُصِلَ الْأَصْلُ منه فَسُقُوطُهُ عن
التَّبَعِ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عن الْأَصْلِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رحمهم ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ أَنَّ
السَّرِقَةَ وَاحِدَةٌ وقد حَصَلَتْ مِمَّنْ يَجِبُ عليه الْقَطْعُ وَمِمَّنْ لَا
يَجِبُ عليه الْقَطْعُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ على أَحَدٍ كَالْعَامِدِ مع الخاطىء
إذَا اشْتَرَكَا في الْقَطْعِ أو في الْقَتْلِ
وَقَوْلُهُ الْإِخْرَاجُ أَصْلٌ في السَّرِقَةِ مُسَلَّمٌ لَكِنَّهُ حَصَلَ من
الْكُلِّ مَعْنًى لِاتِّحَادِ الْكُلِّ في مَعْنَى التَّعَاوُنِ على ما بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ فَكَانَ إخْرَاجُ غَيْرِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ كَإِخْرَاجِ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ ضَرُورَةَ الِاتِّحَادِ
وعلى هذا الْخِلَافِ إذَا كان فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْمَسْرُوقُ منه
أَنَّهُ لَا قَطْعَ على أَحَدٍ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ
يُدْرَأُ عن ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَيَجِبُ على الْأَجْنَبِيِّ وَلَا خِلَافَ
في أَنَّهُ إذَا كان فِيهِمْ شَرِيكُ الْمَسْرُوقِ منه أَنَّهُ لَا قَطْعَ على
أَحَدٍ
فَأَمَّا الذُّكُورَةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِثُبُوتِ الْأَهْلِيَّةِ فَتُقْطَعُ
الْأُنْثَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى عز شَأْنُهُ { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ فَيُقْطَعُ الْعَبْدُ
وَالْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَأُمُّ الْوَلَدِ لِعُمُومِ الْآيَةِ
الشَّرِيفَةِ
وَيَسْتَوِي الْآبِقُ وَغَيْرُهُ لِمَا قُلْنَا
وَذُكِرَ في الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدًا لِعَبْدِ اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ
رضي اللَّهُ عنهما سَرَقَ وهو آبِقٌ فَبَعَثَ بِهِ عبد اللَّهِ إلَى سَعِيدِ بن
الْعَاصِ رضي اللَّهُ عنه لِيَقْطَعَ يَدَهُ فَأَبَى سَعِيدٌ أَنْ يَقْطَعَ يَدَهُ
وقال لَا تقطع ( ( ( نقطع ) ) ) يَدَ الْآبِقِ إذَا سَرَقَ فقال عبد اللَّهِ في
أَيِّمَا كِتَابِ اللَّهِ تعالى عز شَأْنُهُ وَجَدْتَ هذا إن الْعَبْدَ الْآبِقَ
إذَا سَرَقَ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ فَأَمَرَ بِهِ عبد اللَّهِ رضي اللَّهُ عنه
فَقُطِعَتْ يَدُهُ
وَلِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْحُرِّيَّةَ لَيْسَتْ من شَرَائِطِ سَائِرِ الْحُدُودِ
فَكَذَا هذا الْحَدُّ وَكَذَا الْإِسْلَامُ ليس بِشَرْطٍ فَيُقْطَعُ الْمُسْلِمُ
وَالْكَافِرُ لِعُمُومِ آيَةِ السَّرِقَةِ
فَصْلٌ وَأَمَّا ما يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَكُونَ
مَالًا مُطْلَقًا لَا قُصُورَ في مَالِيَّتِهِ وَلَا شُبْهَةَ وهو أَنْ يَكُونَ
مِمَّا يَتَمَوَّلُهُ الناس وَيَعُدُّونَهُ مَالًا لِأَنَّ ذلك يُشْعِرُ
بِعِزَّتِهِ وَخَطَرِهِ عِنْدَهُمْ وما لَا يَتَمَوَّلُونَهُ فَهُوَ تَافِهٌ
حَقِيرٌ وقد رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لم
تَكُنِ الْيَدُ تُقْطَعُ على عَهْدِ رسول اللَّهِ في الشَّيْءِ التَّافِهِ
وَهَذَا منها بَيَانُ شَرْعٍ مُتَقَرِّرٍ وَلِأَنَّ التَّفَاهَةَ تُخَلُّ في
الْحِرْزِ لِأَنَّ التَّافِهَ لَا يُحْرَزُ عَادَةً أو لَا يُحْرَزُ إحْرَازَ
الْخَطَرِ وَالْحِرْزُ الْمُطْلَقُ شَرْطٌ على ما نَذْكُرُ
وَكَذَا تُخَلُّ في الرُّكْنِ وهو الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ لِأَنَّ
أَخْذَ التَّافِهِ مِمَّا لَا يستخفى منه فَيَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ وَالشُّبْهَةُ
في الرُّكْنِ وَالشُّبْهَةُ في بَابِ الْحُدُودِ مُلْحَقَةٌ بِالْحَقِيقَةِ
وَيَخْرُجُ على هذا مَسَائِلُ إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ
الْحُرَّ ليس بِمَالٍ
وَلَوْ سَرَقَ صَبِيًّا عَبْدًا لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَعْقِلُ يُقْطَعُ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْعَبْدَ ليس بِمَالٍ مَحْضٍ بَلْ هو مَالٌ من وَجْهٍ آدَمِيٌّ
من وَجْهٍ فَكَانَ مَحَلُّ السَّرِقَةِ من وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَلَا تَثْبُتُ
الْمَحَلِّيَّةُ بِالشَّكِّ فَلَا يُقْطَعُ كَالصَّبِيِّ الْعَاقِلِ
وَلَنَا أَنَّهُ مَالٌ من كل وَجْهٍ لِوُجُودِ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ فيه على
الْكَمَالِ وَلَا يَدَ له على نَفْسِهِ فَيَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ
كَالْبَهِيمَةِ وَكَوْنُهُ آدَمِيًّا لَا يَنْفِي كَوْنَهُ مَالًا فَهُوَ آدَمِيٌّ
من كل وَجْهٍ وَمَالٌ من كل وَجْهٍ لِعَدَمِ التَّنَافِي فَيَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ
بِسَرِقَتِهِ من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ لَا من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ بِخِلَافِ
الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ وَإِنْ كان مَالًا من كل وَجْهٍ لَكِنَّهُ في يَدِ نَفْسِهِ
فَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ يَدِ غَيْرِهِ عليه لِلتَّنَافِي فَلَا يَتَحَقَّقُ فيه
رُكْنُ السَّرِقَةِ وهو الْأَخْذُ
وَلَوْ سَرَقَ مَيْتَةً أو جِلْدَ مَيْتَةٍ لم يُقْطَعْ لِانْعِدَامِ الْمَالِ
____________________
(7/67)
وَلَا
يُقْطَعُ في التِّبْنِ وَالْحَشِيشِ وَالْقَصَبِ وَالْحَطَبِ لِأَنَّ الناس لَا
يَتَمَوَّلُونَ هذه الْأَشْيَاءَ وَلَا يضنون ( ( ( يظنون ) ) ) بها لِعَدَمِ
عِزَّتِهَا وَقِلَّةِ خَطَرِهَا عِنْدَهُمْ بَلْ يَعُدُّونَ الضنة ( ( ( الظنة ) )
) بها من بَابِ الْخُسَاسَةِ فَكَانَتْ تَافِهَةً
وَلَا قَطْعَ في التُّرَابِ وَالطِّينِ وَالْجَصِّ وَاللَّبِنِ وَالنُّورَةِ
وَالْآجُرِّ وَالْفَخَّارِ وَالزُّجَاجِ لِتَفَاهَتِهَا
فَرَّقَ بين التُّرَابِ وَبَيْنَ الْخَشَبِ حَيْثُ سَوَّى في التُّرَابِ بين
الْمَعْمُولِ منه وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ
وَفَرَّقَ في الْخَشَبِ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ في الْخَشَبِ أَخْرَجَتْهُ عن حَدِّ
التَّفَاهَةِ وَالصَّنْعَةَ في التُّرَابِ لم تُخْرِجْهُ عن كَوْنِهِ تَافِهًا
يُعْرَفُ ذلك بِالرُّجُوعِ إلَى عُرْفِ الناس وَعَادَاتِهِمْ
وَمِنْ أَصْحَابِنَا من فَصَّلَ في الْجَوَابِ في الزُّجَاجِ بين الْمَعْمُولِ
وَغَيْرِ الْمَعْمُولِ كما في الْخَشَبِ
وَمِنْهُمْ من سَوَّى بَيْنَهُمَا وهو الصَّحِيحُ لِأَنَّ الزُّجَاجَ بِالْعَمَلِ
لم يَخْرُجْ عن حَدِّ التَّفَاهَةِ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْكَسْرُ
بِخِلَافِ الْخَشَبِ وَلَا يُقْطَعُ في الْخَشَبِ إلَّا إذَا كان مَعْمُولًا
بِأَنْ صَنَعَ منه أَبْوَابًا أو آنِيَةً وَنَحْوَ ذلك ما خَلَا السَّاجَ
وَالْقَنَا وَالْأَبَنُوسَ وَالصَّنْدَلَ لِأَنَّ غير الْمَصْنُوعِ من الْخَشَبِ
لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً فَكَانَ تَافِهًا وَبِالصَّنْعَةِ يَخْرُجُ عن
التَّفَاهَةِ فَيَتَمَوَّلُ
وَأَمَّا السَّاجُ وَالْأَبَنُوسُ وَالصَّنْدَلُ فَأَمْوَالٌ لها عِزَّةٌ وَخَطَرٌ
عِنْدَ الناس فَكَانَتْ أَمْوَالًا مُطْلَقَةً
وَأَمَّا الْعَاجُ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ إلَّا في
الْمَعْمُولِ منه
وَقِيلَ هذا الْجَوَابُ في الْعَاجِ الذي هو من عَظْمِ الْجَمَلِ فَلَا يُقْطَعُ
إلَّا في الْمَعْمُولِ منه
لِأَنَّهُ لَا يَتَمَوَّلُ لِتَفَاهَتِهِ وَيُقْطَعُ في الْمَعْمُولِ لِخُرُوجِهِ
عن حَدِّ التَّفَاهَةِ بِالصَّنْعَةِ كَالْخَشَبِ الْمَعْمُولِ
فَأَمَّا ما هو من عَظْمِ الْفِيلِ فَلَا يُقْطَعُ فيه أَصْلًا سَوَاءٌ كان مَعْمُولًا
أو غير مَعْمُولٍ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ اخْتَلَفُوا في مَالِيَّتِهِ حتى حَرَّمَ
بَعْضُهُمْ بَيْعَهُ وَالِانْتِفَاعَ بِهِ فَأَوْجَبَ ذلك قُصُورًا في
الْمَالِيَّةِ
وَلَا قَطْعَ في قَصَبِ النُّشَّابِ فَإِنْ كان اتَّخَذَ منه نُشَّابًا قُطِعَ
لِمَا قُلْنَا في الْخَشَبِ وَلَا قَطْعَ في الْقُرُونِ مَعْمُولَةً كانت أو غير
مَعْمُولَةٍ
وقال أبو يُوسُفَ إنْ كانت مَعْمُولَةً وَهِيَ تُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ
قِيلَ إنَّ اخْتِلَافَ الْجَوَابِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَمَوْضُوعُ
الْمَسْأَلَةِ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في قُرُونِ الْمَيْتَةِ
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُطْلَقٍ لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ في مَالِيَّتِهَا
وَجَوَابُ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ في قُرُونِ الْمُذَكَّى فلم يُوجِبْ
الْقَطْعَ في غَيْرِ الْمَعْمُولِ منها لِأَنَّهَا من أَجْزَاءِ الْحَيَوَانِ
وَأَوْجَبَ في الْمَعْمُولِ كما في الْخَشَبِ الْمَعْمُولِ
وَعَنْ مُحَمَّدٍ في جُلُودِ السِّبَاعِ الْمَدْبُوغَةِ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فيها
فَإِنْ جُعِلَتْ مُصَلَّاةً أو بِسَاطًا قُطِعَ لِأَنَّ غير الْمَعْمُولِ منها من
أَجْزَاءِ الصَّيْدِ وَلَا قَطْعَ في الصَّيْدِ فَكَذَا في أَجْزَائِهِ
وَبِالصَّنْعَةِ صَارَتْ شيئا آخَرَ فَأَشْبَهَ الْخَشَبَ الْمَصْنُوعَ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ مُحَمَّدًا لم يَعْتَدَّ بِخِلَافِ من يقول من
الْفُقَهَاءِ إنَّ جُلُودَ السِّبَاعِ لَا تَطْهُرُ بالذكاة ( ( ( بالزكاة ) ) )
وَلَا بِالدِّبَاغِ
وَلَا قَطْعَ في الْبَوَارِي لِأَنَّهَا تَافِهَةٌ لِتَفَاهَةِ أَصْلِهَا وهو
الْقَصَبُ وَلَا قَطْعَ في سَرِقَةِ كَلْبٍ وَلَا فَهْدٍ وَلَا في سَرِقَةِ
الْمَلَاهِي من الطَّبْلِ وَالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ وَنَحْوِهَا
لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يَتَمَوَّلُ أو في مَالِيَّتِهَا قُصُورٌ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على كَاسِرِ الْمَلَاهِي عِنْدَ أبي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَلَا على قَاتِلِ الْكَلْبِ وَالْفَهْدِ عِنْدَ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ
وَلَوْ سَرَقَ مُصْحَفًا أو صَحِيفَةً فيها حَدِيثٌ أو عَرَبِيَّةٌ أو شِعْرٌ
فَلَا قَطْعَ
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ إذَا كان يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِأَنَّ الناس
يَدَّخِرُونَهَا وَيَعُدُّونَهَا من نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ
وَلَنَا أَنَّ الْمُصْحَفَ الْكَرِيمَ يُدَّخَرُ لَا لِلتَّمَوُّلِ بَلْ
لِلْقِرَاءَةِ وَالْوُقُوفِ على ما يَتَعَلَّقُ بِهِ مَصْلَحَةُ الدِّينِ
وَالدُّنْيَا وَالْعَمَلِ بِهِ
وَكَذَلِكَ صَحِيفَةُ الحديث وَصَحِيفَةُ الْعَرَبِيَّةِ وَالشِّعْرِ يُقْصَدُ بها
مَعْرِفَةُ الْأَمْثَالِ وَالْحِكَمِ لَا التَّمَوُّلِ
وَأَمَّا دَفَاتِرُ الْحِسَابِ فَفِيهَا الْقَطْعُ إذَا بَلَغَتْ قِيمَتُهَا
نِصَابًا لِأَنَّ ما فيها لَا يَصْلُحُ مَقْصُودًا بِالْأَخْذِ فَكَانَ
الْمَقْصُودُ هو قَدْرُ الْبَيَاضِ من الْكَاغَدِ
وَكَذَلِكَ للدفاتر ( ( ( الدفاتر ) ) ) الْبِيضُ إذَا بَلَغَتْ نِصَابًا لِمَا
قُلْنَا
وعلى هذا يَخْرُجُ ما قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنَّ
كُلَّ ما يُوجَدُ جِنْسُهُ تَافِهًا مُبَاحًا في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ
فيه لِأَنَّ كُلَّ ما كان كَذَلِكَ فَلَا عِزَّ له وَلَا خَطَرَ فَلَا يتموله ( (
( يتمول ) ) ) الناس فَكَانَ تَافِهًا وَالِاعْتِمَادُ على مَعْنَى التَّفَاهَةِ
دُونَ الْإِبَاحَةِ لِمَا نَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَعَنْ أبي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا قَطْعَ في عَفْصٍ وَلَا إهْلِيلَجَ وَلَا
أُشْنَانٍ وَلَا فَحْمٍ لِأَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مُبَاحَةُ الْجِنْسِ في دَارِ
الْإِسْلَامِ وَهِيَ تَافِهَةٌ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ في الْعَفْصِ وَالْإِهْلِيلَجِ
وَالْأَدْوِيَةِ الْيَابِسَةِ
وَلَا قَطْعَ في طَيْرٍ وَلَا صَيْدٍ وَحْشِيًّا كان أو غَيْرَهُ لِأَنَّ
الطَّيْرَ لَا يَتَمَوَّلُ عَادَةً
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنهما
أَنَّهُمَا قَالَا لَا قَطْعَ في الطَّيْرِ ولم يُنْقَلْ عن غَيْرِهِمَا خِلَافَ
ذلك فَيَكُونُ إجْمَاعًا وَكَذَلِكَ ما عُلِمَ من الْجَوَارِحِ فَصَارَ صَيُودًا
فَلَا قَطْعَ على سراقة لِأَنَّهُ وَإِنْ عُلِمَ فَلَا يُعَدُّ مَالًا
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ
____________________
(7/68)
النَّبَّاشُ
أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فِيمَا أَخَذَ من الْقُبُورِ في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا من حِرْزٍ مِثْلِهِ فَيُقْطَعُ كما لو
أَخَذَ من الْبَيْتِ وَلَهُمَا أَنَّ الْكَفَنَ ليس بِمَالٍ لِأَنَّهُ لَا
يُتَمَوَّلُ بِحَالٍ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَنْفِرُ عنه أَشَدَّ
النِّفَارِ فَكَانَ تَافِهًا وَلَئِنْ كان مَالًا فَفِي مَالِيَّتِهِ قُصُورٌ
لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِثْلَ ما يُنْتَفَعُ بِلِبَاسِ الْحَيِّ
وَالْقُصُورُ فَوْقَ الشبه ( ( ( الشبهة ) ) ) ثُمَّ الشُّبْهَةُ تَنْفِي وُجُوبَ
الْحَدِّ فَالْقُصُورُ أَوْلَى رَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ قال أُخِذَ نَبَّاشٌ في
زَمَنِ مَرْوَانَ بِالْمَدِينَةِ فَأَجْمَعَ أَصْحَابُ رسول اللَّهِ وَهُمْ
مُتَوَافِرُونَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ سَرِقَةُ ما لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ وَلَا يَبْقَى من
سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ بَلْ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ أَنَّهُ لَا قَطْعَ فيه
لِأَنَّ ما لَا يَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ لَا يُعَدُّ مَالًا فَلَا قَطْعَ في
سَرِقَةِ الطَّعَامِ الرَّطْبِ وَالْبُقُولِ وَالْفَوَاكِهِ الرَّطْبَةِ في
قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ حَقِيقَةً مُبَاحُ الِانْتِفَاعِ
بِهِ شَرْعًا على الْإِطْلَاقِ فَكَانَ مَالًا فَيُقْطَعُ كما في سَائِرِ
الْأَمْوَالِ
وَلَهُمَا أَنَّ هذه الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ عَادَةً وَإِنْ كانت
صَالِحَةً لِلِانْتِفَاعِ بها في الْحَالِ لِأَنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ الِادِّخَارَ
وَالْإِمْسَاكَ إلَى زَمَانِ حُدُوثِ الْحَوَائِجِ في الْمُسْتَقْبَلِ فَقَلَّ
خَطَرُهَا عِنْدَ الناس فَكَانَتْ تَافِهَةً وَلَوْ سَرَقَ تَمْرًا من نَخْلٍ أو
شَجَرٍ آخَرَ مُعَلَّقًا فيه فَلَا قَطْعَ عليه وَإِنْ كان عليه حَائِطٌ
اسْتَوْثَقُوا منه وَأَحْرَزُوهُ أو هُنَاكَ حَائِطٌ لِأَنَّ ما على رَأْسِ
النَّخْلِ لَا يُعَدُّ مَالًا وَلِأَنَّهُ ما دَامَ على رَأْسِ الشَّجَرِ لَا
يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهُ فَيَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ
وقد رُوِيَ عن النبي عليه السلام ( ( ( وسلم ) ) ) أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في
ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ قال مُحَمَّدٌ الثَّمَرُ ما كان في الشَّجَرِ
وَالْكَثَرُ الْجُمَّارُ فَإِنْ كان قد جَذَّ الثَّمَرَ وَجَعَلَهُ في جرين ( ( (
الجرين ) ) ) ثُمَّ سُرِقَ فَإِنْ كان قد اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ قُطِعَ لِأَنَّهُ
صَارَ مَالًا مُطْلَقًا قَابِلًا لِلِادِّخَارِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رسول اللَّهِ
حَيْثُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ حتى يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فإذا
آوَاهُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَفِيهِ الْقَطْعُ لِأَنَّهُ لَا يُؤْوِيهِ
الْجَرِينُ ما لم يَسْتَحْكِمْ جَفَافُهُ عَادَةً فإذا اسْتَحْكَمَ جَفَافُهُ لَا
يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَكَانَ مَالًا مُطْلَقًا
وَكَذَلِكَ الْحِنْطَةُ إذَا كانت في سُنْبُلِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَرِ
الْمُعَلَّقِ في الشَّجَرِ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ ما دَامَتْ في السُّنْبُلِ لَا
تُعَدُّ مَالًا وَلَا يَسْتَحْكِمُ جَفَافُهَا أَيْضًا
وَأَمَّا الْفَاكِهَةُ الْيَابِسَةُ التي تَبْقَى من سَنَةٍ إلَى سَنَةٍ
فَالصَّحِيحُ من الرِّوَايَةِ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ
فِيمَا يَتَمَوَّلُ الناس إيَّاهَا لِقَبُولِهَا الِادِّخَارَ فَانْعَدَمَ مَعْنَى
التَّفَاهَةِ الْمَانِعَةِ من وُجُوبِ الْقَطْعِ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ سَوَّى بين رَطْبِ الْفَاكِهَةِ وَيَابِسِهَا وَلَيْسَتْ
بِصَحِيحَةٍ
وَلَوْ سَرَقَ من الْحَائِطِ نَخْلَةً بِأَصْلِهَا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ أَصْلَ
النَّخْلَةِ مِمَّا لَا يُتَمَوَّلُ فَكَانَ تَافِهًا
وَرَوَيْنَا عن النبي أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ وَقِيلَ في
تَفْسِيرِ الكثر ( ( ( ذلك ) ) ) إنَّهُ النَّخْلُ الصِّغَارُ
وَيُقْطَعُ في الْحِنَّاءِ وَالْوَسْمَةِ لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ
الْفَسَادُ فلم يَخْتَلَّ مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَلَا قَطْعَ في اللَّحْمِ
الطَّرِيِّ وَالصَّفِيقِ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ
وَكَذَلِكَ لَا قَطْعَ في السَّمَكِ طَرِيًّا كان أو مَالِحًا لِأَنَّ الناس لَا
يَعُدُّونَهُ مَالًا لِتَفَاهَتِهِ وَلِتَسَارُعِ الْفَسَادِ إلَى الطَّرِيِّ منه
وَلِمَا أَنَّهُ يُوجَدُ جِنْسُهُ مُبَاحًا في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَلَا قَطْعَ في اللَّبَنِ لِأَنَّهُ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَكَانَ
تَافِهًا
وَيُقْطَعُ في الْخَلِّ وَالدِّبْسِ لِعَدَمِ التَّفَاهَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِمَا الْفَسَادُ وَلَا قَطْعَ في
عَصِيرِ الْعِنَبِ وَنَقِيعِ الزَّبِيبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ لِأَنَّهُ
يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْفَسَادُ فَكَانَ تَافِهًا كَاللَّبَنِ وَلَا قَطْعَ في
الطِّلَاءِ وهو الْمُثَلَّثُ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ في إبَاحَتِهِ وفي كَوْنِهِ
مَالًا فَكَانَ قَاصِرًا في مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَكَذَلِكَ الْمَطْبُوخُ
أَدْنَى طَبْخَةً من نَقِيعِ الزَّبِيبِ وَنَبِيذِ التَّمْرِ لِاخْتِلَافِ
الْفُقَهَاءِ في إبَاحَةِ شُرْبِهِ
وَأَمَّا الْمَطْبُوخُ أَدْنَى طَبْخَةً من عَصِيرِ الْعِنَبِ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ
لَا قَطْعَ فيه لِأَنَّهُ حَرَامٌ فلم يَكُنْ مَالًا
وَيُقْطَعُ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لِأَنَّهُمَا من أَعَزِّ الْأَمْوَالِ وَلَا
تَفَاهَةَ فِيهِمَا بِوَجْهٍ
وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ واللآلىء ( ( ( واللآلئ ) ) ) لِمَا قُلْنَا
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْوِيلَ في هذا الْبَابِ في مَنْعِ وُجُوبِ
الْقَطْعِ على مَعْنَى التَّفَاهَةِ وَعَدَمِ الْمَالِيَّةِ لَا على إبَاحَةِ
الْجِنْسِ لِأَنَّ ذلك مَوْجُودٌ في الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ
واللآلىء ( ( ( واللآلئ ) ) ) وَغَيْرِهَا
وَيُقْطَعُ في الْحُبُوبِ كُلِّهَا وفي الْأَدْهَانِ وَالطِّيبِ كَالْعُودِ
وَالْمِسْكِ وما أَشْبَهَ ذلك لِانْعِدَامِ مَعْنَى التَّفَاهَةِ وَيُقْطَعُ في
الْكَتَّانِ وَالصُّوفِ وَالْخَزِّ وَنَحْوِ ذلك وَيُقْطَعُ في جَمِيعِ
الْأَوَانِي من الصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ النُّحَاسَ نَفْسَهُ أو الْحَدِيدَ نَفْسَهُ أو الرَّصَاصَ
لِعِزَّةِ هذه الْأَشْيَاءِ وَخَطَرِهَا في أَنْفُسِهَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُتَقَوِّمًا مُطْلَقًا فَلَا يُقْطَعُ في سَرِقَةِ
الْخَمْرِ من مُسْلِمٍ مُسْلِمًا كان السَّارِقُ أو ذِمِّيًّا لِأَنَّهُ لَا
قِيمَةَ لِلْخَمْرِ في حَقِّ الْمُسْلِمِ وَكَذَا الذِّمِّيُّ إذَا سَرَقَ من
ذِمِّيٍّ خَمْرًا أو خِنْزِيرًا لَا يُقْطَعُ
____________________
(7/69)
لِأَنَّهُ
وَإِنْ كان مُتَقَوِّمًا عِنْدَهُمْ فَلَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ عِنْدَنَا فلم يَكُنْ
مُتَقَوِّمًا على الْإِطْلَاقِ وَلَا يُقْطَعُ في الْمُبَاحِ الذي ليس بِمَمْلُوكٍ
وَإِنْ كان مَالًا لِانْعِدَامِ تَقَوُّمِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا في نَفْسِهِ فَلَا يُقْطَعُ في سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ
التي لَا يَمْلِكُهَا أَحَدٌ وَإِنْ كانت من نَفَائِسِ الْأَمْوَالِ من الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ الْمُسْتَخْرَجَةِ من مَعَادِنِهَا لِعَدَمِ
الْمَالِكِ
وَعَلَى هذا أَيْضًا يَخْرُجُ النَّبَّاشُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
أَنَّهُ لَا يُقْطَع لِأَنَّ الْكَفَنَ ليس بِمَمْلُوكٍ
لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ على مِلْكِ الْمَيِّتِ وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ على مِلْكِ الْوَرَثَةِ
لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَيِّتَ ليس من أَهْلِ الْمِلْكِ وَلَا
وَجْهَ لِلثَّانِي لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ مُؤَخَّرٌ عن حَاجَةِ الْمَيِّتِ
إلَى الْكَفَنِ كما هو مُؤَخَّرٌ عن الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ فلم يَكُنْ
مَمْلُوكًا أَصْلًا
وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ لِلسَّارِقِ فيه مِلْكٌ وَلَا تَأْوِيلُ الْمِلْكِ أو
شُبْهَتُهُ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ أو ما فيه تَأْوِيلُ الْمِلْكِ أو الشُّبْهَةَ
لَا يُحْتَاجُ فيه إلَى مُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ
السَّرِقَةِ وهو الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ وَالِاسْتِسْرَارِ على
الْإِطْلَاقِ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةُ السَّرِقَةِ قال اللَّهُ في آيَةِ
السَّرِقَةِ { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا من اللَّهِ } فَيَسْتَدْعِي كَوْنَ
الْفِعْلِ جِنَايَةً مَحْضَةً
وَأَخْذُ الْمَمْلُوكِ لِلسَّارِقِ لَا يَقَعُ جِنَايَةً أَصْلًا فَالْأَخْذُ
بِتَأْوِيلِ الْمِلْكِ أو الشُّبْهَةِ لَا يَتَمَحَّضُ جِنَايَةً فَلَا يُوجِبُ
الْقَطْعَ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لَا قَطْعَ على من سَرَقَ ما أَعَارَهُ من إنْسَانٍ أو
آجَرَهُ منه لِأَنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ وَلَا على من سَرَقَ رَهْنَهُ من
بَيْتِ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ له وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْمُرْتَهِنِ
حَقُّ الْحَبْسِ لَا غَيْرُ
وَلَوْ كان الرَّهْنُ في يَدِ الْعَدْلِ فَسَرَقَهُ الْمُرْتَهِنُ أو الرَّاهِنُ
فَلَا قَطْعَ على وَاحِدٍ مِنْهُمَا
أَمَّا الرَّاهِنُ فَلِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ
بِأَخْذِهِ وَإِنْ مُنِعَ من الْأَخْذِ كما لَا يَجِبُ الْحَدُّ عليه بِوَطْئِهِ
الْجَارِيَةَ الْمَرْهُونَةَ وَإِنْ مُنِعَ من الْوَطْءِ
وَأَمَّا الْمُرْتَهِنُ فَلِأَنَّ يَدَ الْعَدْلِ يَدُهُ من وَجْهٍ لِأَنَّ
مَنْفَعَةَ يَدِهِ عَائِدَةٌ إلَيْهِ لِأَنَّهُ يُمْسِكُهُ لِحَقِّهِ فَأَشْبَهَ
يَدَ الْمُودَعِ
وَلَا على من سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ منه
لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُهُمَا على الشُّيُوعِ فَكَانَ بَعْضُ الْمَأْخُوذِ
مِلْكُهُ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَخْذِهِ فَلَا يَجِبُ بِأَخْذِ الْبَاقِي
لِأَنَّ السَّرِقَةَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَا على من سَرَقَ من بَيْتِ الْمَالِ
الْخُمُسَ لِأَنَّ له فيه مِلْكًا وَحَقًّا
وَلَوْ سَرَقَ من عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لم يَكُنْ عليه دَيْنٌ فَلَا
قَطْعَ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى
وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ يُحِيطُ بِهِ وَبِمَا في يَدِهِ لَا يُقْطَعُ أَيْضًا
أَمَّا على أَصْلِهِمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُ الْمَوْلَى وَعَلَى
أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لم يَكُنْ مِلْكَهُ فَلَهُ فيه ضَرْبُ
اخْتِصَاصٍ يُشْبِهُ الْمِلْكَ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَمْلِكُ اسْتِخْلَاصَهُ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ من
مَالٍ آخَرَ فَكَانَ في مَعْنَى الْمِلْكِ
وَلِهَذَا لو كان الْكَسْبُ جَارِيَةً لم يَجُزْ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَيُورِثَ
شُبْهَةً أو نَقُولُ إذَا لم يَمْلِكْهُ الْمَوْلَى وَلَا الْمَأْذُونُ يَمْلِكُهُ
أَيْضًا لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَمْلُوكٌ لَا يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَالْغُرَمَاءُ لَا
يَمْلِكُونَ أَيْضًا فَهَذَا مَالُ مَمْلُوكٍ لَا مَالِكٍ له مُعِينٌ فَلَا يَجِبُ
الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ كَمَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَكَمَالِ الْغَنِيمَةِ
وَلَوْ سَرَقَ من مُكَاتَبِهِ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ كَسْبَ مكاتبته ( ( ( مكاتبه )
) ) مِلْكُهُ من وَجْهٍ أو فيه شُبْهَةُ الْمِلْكِ له
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان جَارِيَةً لَا يَحِلُّ له أَنْ يَتَزَوَّجَهَا
وَالْمِلْكُ من وَجْهٍ أو شُبْهَةُ الْمِلْكِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ مع ما
أَنَّ هذا مِلْكٌ مَوْقُوفٌ على الْمُكَاتَبِ وَعَلَى مَوْلَاهُ في الْحَقِيقَةِ
لِأَنَّهُ إنْ أَدَّى تَبَيَّنَ أَنَّهُ كان مِلْكَ الْمَوْلَى فَتَبَيَّنَ
أَنَّهُ أَخَذَ مَالَ نَفْسِهِ وَإِنْ عَجَزَ فَرُدَّ في الرِّقِّ تَبَيَّنَ
أَنَّهُ كان مِلْكَ الْمُكَاتَبِ فَكَانَ الْمِلْكُ مَوْقُوفًا لِلْحَالِ
فَيُوجِبُ شُبْهَةً فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ كَأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ إذَا
سَرَقَ ما شَرَطَ فيه الْخِيَارَ وَلَا قَطْعَ على من سَرَقَ من وَلَدِهِ لِأَنَّ
له في مَالِ وَلَدِهِ تَأْوِيلَ الْمِلْكِ أو شُبْهَةَ الْمِلْكِ لِقَوْلِهِ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أنت وَمَالُك لِأَبِيك فَظَاهِرُ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ
بلام التَّمْلِيكِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْمِلْكِ له من كل وَجْهٍ إلَّا أَنَّهُ لم
يَثْبُتْ لِدَلِيلٍ وَلَا دَلِيلَ في الْمِلْكِ من وَجْهٍ فَيَثْبُتُ أو يَثْبُتُ
لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ وَكُلُّ ذلك يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ لِأَنَّهُ يُورِثُ
شُبْهَةً في وُجُوبِهِ
وَأَمَّا السَّرِقَةُ من سَائِرِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا تُوجِبُ
الْقَطْعَ أَيْضًا لَكِنْ لِفَقْدِ شَرْطٍ آخَرَ نَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ دخل لِصٌّ دَارَ رَجُلٍ فَأَخَذَ ثَوْبًا فَشَقَّهُ في
الدَّارِ نِصْفَيْنِ ثُمَّ أَخْرَجَهُ وهو يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مَشْقُوقًا
يُقْطَعُ في قَوْلِهِمَا وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ وَلَوْ
أَخَذَ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا مَذْبُوحَةً لَا يُقْطَعُ
بِالْإِجْمَاعِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ السَّارِقَ وُجِدَ منه سَبَبُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ قبل
الْإِخْرَاجِ وهو الشَّقُّ لِأَنَّ ذلك سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَوُجُوبُ
الضَّمَانِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ من وَقْتِ وُجُودِ السَّبَبِ على أَصْلِ
أَصْحَابِنَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ وَلِهَذَا لم يُقْطَعْ إذَا كان
الْمَسْرُوقُ شَاةً فَذَبَحَهَا ثُمَّ أَخْرَجَهَا كَذَا هذا
وَلَهُمَا أَنَّ السَّرِقَةَ تَمَّتْ في مِلْكِ
____________________
(7/70)
الْمَسْرُوقِ
منه فَيُوجِبُ الْقَطْعَ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّ الثَّوْبَ الْمَشْقُوقَ
لَا يَزُولُ عن مِلْكِهِ ما دام مُخْتَارًا لِلْعَيْنِ وَإِنَّمَا يَزُولُ عِنْدَ
اخْتِيَارِ الضَّمَانِ فَقَبْلَ الِاخْتِيَارِ كان الثَّوْبُ على مِلْكِهِ فَصَارَ
سَارِقًا ثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَيُقْطَعُ وَهَكَذَا
نَقُولُ في الشَّاةِ أن السَّرِقَةَ تَمَّتْ في مِلْكِ الْمَسْرُوقِ منه إلَّا
أنها تَمَّتْ في اللَّحْمِ وَلَا قَطْعَ في اللَّحْمِ
وَقَوْلُهُ وَجَبَ الضَّمَانُ عليه بِالشَّقِّ قُلْنَا قبل الِاخْتِيَارِ
مَمْنُوعٌ فإذا اخْتَارَ تَضْمِينَ السَّارِقِ وسلم الثَّوْبَ إلَيْهِ لَا
يُقْطَعُ لِأَنَّهُ عِنْدَ اخْتِيَارِ الضَّمَانِ مَلَكَهُ من حِينِ وُجُودِ
الشَّقِّ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْرَجَ مِلْكَ نَفْسِهِ عن الْحِرْزِ فَلَا قَطْعَ
عليه
وَحُكِيَ عن الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ
قال مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ شَقَّ الثَّوْبَ عَرْضًا فَأَمَّا لو شَقَّهُ
طُولًا فَلَا قَطْعَ لِأَنَّهُ بِالشَّقِّ طُولًا خَرَقَهُ خَرْقًا مُتَفَاحِشًا
فَيَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ
وَذَكَرَ ابن سِمَاعَةَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا خَرَقَ الثَّوْبَ تَخْرِيقًا
مُسْتَهْلَكًا وَقِيمَتُهُ بَعْدَ تَخْرِيقِهِ عَشَرَةٌ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عليه
في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رحمه ( ( ( رحمهما ) ) ) اللَّهُ وَهَذَا
يُؤَيِّدُ قَوْلَ الْفَقِيهِ أبي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
لِأَنَّ التَّخْرِيقَ إذَا وَقَعَ اسْتِهْلَاكًا أَوْجَبَ اسْتِقْرَارَ الضَّمَانِ
وَذَلِكَ يُوجِبُ مِلْكَ الْمَضْمُونِ وإذا لم يَقَعْ اسْتِهْلَاكًا كان وُجُوبُ
الضَّمَانِ فيه مَوْقُوفًا على اخْتِيَارِ الْمَالِكِ فَلَا يَجِبُ قبل
الِاخْتِيَارِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَضْمُونَ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من غَرِيمٍ له عليه
عَشَرَةٌ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَأْخُوذَ بِنَفْسِ الْأَخْذِ
فَصَارَ قِصَاصًا بِحَقِّهِ فلم يَبْقَ في حَقِّ هذا الْمَالِ سَارِقًا فَلَا
يُقْطَعُ
وَلَوْ كان الْمَسْرُوقُ من خِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَا
يَمْلِكُهُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ بَلْ بِالِاسْتِبْدَالِ وَالْبَيْعِ فَكَانَ
سَارِقًا مِلْكَ غَيْرِهِ فَيُقْطَعُ كَالْأَجْنَبِيِّ إلَّا إذَا قال أَخَذْتُهُ
لِأَجْلِ حَقِّي على ما نَذْكُرُ
وَهَهُنَا جِنْسٌ من الْمَسَائِلِ يُمْكِنُ تَخْرِيجُهَا إلَى أَصْلٍ آخَرَ هو
أُولَى بِالتَّخْرِيجِ عليه وَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ
منها أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا ليس لِلسَّارِقِ فيه حَقُّ الْأَخْذِ وَلَا
تَأْوِيلُ الْأَخْذِ وَلَا شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ لِأَنَّ الْقَطْعَ عُقُوبَةٌ
مَحْضَةٌ فَيَسْتَدْعِي جِنَايَةً مَحْضَةً وَأَخْذُ غَيْرِ الْمَعْصُومِ لَا
يَكُونُ جِنَايَةً أَصْلًا وما فيه تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ أو شُبْهَةُ التَّنَاوُلِ
لَا يَكُونُ جِنَايَةً مَحْضَةً فَلَا تُنَاسِبُهُ الْعُقُوبَةُ الْمَحْضَةُ
وَلِأَنَّ ما ليس بِمَعْصُومٍ يُؤْخَذُ مُجَاهَرَةً لَا مُخَافَتَةً فَيَتَمَكَّنُ
الْخَلَلُ في رُكْنِ السَّرِقَةِ
وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ لَا قَطْعَ في سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ التي لَا
يَمْلِكُهَا أَحَدٌ وَلَا في الْمُبَاحِ الْمَمْلُوكِ وهو مَالُ الْحَرْبِيِّ في
دَارِ الْحَرْبِ
وَأَمَّا مَالُ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا قَطْعَ
فيه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَرَقَ مَالًا مَعْصُومًا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ
اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِالْأَمَانِ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ وَلِهَذَا كان
مَضْمُونًا بِالْإِتْلَافِ كَمَالِ الذِّمِّيِّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هذا مَالٌ فيه شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ لِأَنَّ
الْحَرْبِيَّ الْمُسْتَأْمَنَ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا دخل دَارَ
الْإِسْلَامِ لِيَقْضِيَ بَعْضَ حَوَائِجِهِ ثُمَّ يَعُودَ عن قَرِيبٍ فَكَوْنُهُ
من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ يُورِثُ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ في مَالِهِ وَلِهَذَا
أَوْرَثَ شُبْهَةَ الْإِبَاحَةِ في دَمِهِ حتى لَا يُقْتَلَ بِهِ الْمُؤْمِنُ
قِصَاصًا وَلِأَنَّهُ كان مُبَاحًا وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ بِعَارِضِ
أَمَانٍ هو على شَرَفِ الزَّوَالِ فَعِنْدَ الزَّوَالِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعِصْمَةَ
لم تَكُنْ على الْأَصْلِ الْمَعْهُودِ إنَّ كُلَّ عَارِضٍ على أَصْلٍ إذَا زَالَ
يُلْحَقُ بِالْعَدَمِ من الْأَصْلِ كَأَنَّهُ لم يَكُنْ فَيُجْعَلَ كَأَنَّ
الْعِصْمَةَ لم تَكُنْ ثَابِتَةً بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُ من أَهْلِ دَارِ
الْإِسْلَامِ وقد اسْتَفَادَ الْعِصْمَةَ بِأَمَانٍ مُؤَبَّدٍ فَكَانَ مَعْصُومَ
الدَّمِ وَالْمَالِ عِصْمَةً مُطْلَقَةً ليس فيها شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ
وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ
الْمَالِ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَبْدِ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَسْقُطُ
بِالشُّبُهَاتِ
وَكَذَا لَا قَطْعَ على الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ في سَرِقَةِ مَالِ
الْمُسْلِمِ أو الذِّمِّيِّ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
لِأَنَّهُ أَخَذَهُ على اعتقاد ( ( ( اعتقاده ) ) ) الْإِبَاحَةَ وَلِذَا لم
يَلْتَزِمْ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ
وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْطَعُ وَالْخِلَافُ فيه كَالْخِلَافِ في حَدِّ الزِّنَا
وَلَا يُقْطَعُ الْعَادِلُ في سَرِقَةِ مَالِ الْبَاغِي لِأَنَّ مَالَهُ ليس
بِمَعْصُومٍ في حَقِّهِ كَنَفْسِهِ وَلَا الْبَاغِي في سَرِقَةِ مَالِ الْعَادِلِ
لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عن تَأْوِيلٍ وَتَأْوِيلُهُ وَإِنْ كان فَاسِدًا لَكِنَّ
التَّأْوِيلَ الْفَاسِدَ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَيْهِ مُلْحَقٌ
بِالتَّأْوِيلِ الصَّحِيحِ في مَنْعِ وُجُوبِ الْقَطْعِ
وَلِهَذَا أُلْحِقَ بِهِ في حَقِّ مَنْعِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَالْحَدِّ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا تُخَرَّجُ السَّرِقَةُ من الْغَرِيمِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان سَرَقَ منه
من جِنْسِ حَقِّهِ وَإِمَّا إنْ كان سَرَقَ منه خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ فَإِنْ
سَرَقَ جِنْسَ حَقِّهِ بِأَنْ سَرَقَ منه عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَلَهُ عليه عَشَرَةٌ
فَإِنْ كان دَيْنُهُ عليه حَالًا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْأَخْذَ مُبَاحٌ له
لِأَنَّهُ ظَفَرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَمَنْ له الْحَقُّ إذَا ظَفَرَ بِجِنْسِ
حَقِّهِ يُبَاحُ له أَخْذُهُ وإذا أَخَذَهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ منه أَكْثَرَ من مِقْدَارِ حَقِّهِ لِأَنَّ
____________________
(7/71)
بَعْضَ
الْمَأْخُوذِ حَقُّهُ علي للشيوع ( ( ( الشيوع ) ) ) وَلَا قَطْعَ فيه فَكَذَا في
الْبَاقِي كما إذَا سَرَقَ مَالًا مُشْتَرَكًا وَإِنْ كان دَيْنُهُ مُؤَجَّلًا
فَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وفي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا كان مُؤَجَّلًا فَلَيْسَ له حَقُّ
الْأَخْذِ قبل حُلُولِ الْأَجَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْغَرِيمِ أَنْ
يَسْتَرِدَّهُ منه فَصَارَ كما لو سَرَقَهُ أَجْنَبِيٌّ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ إنْ لم يَثْبُتْ قبل حِلِّ
الْأَجَلِ فَسَبَبُ ثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ قَائِمٌ وهو الدَّيْنُ لِأَنَّ
تَأْثِيرَ التَّأْجِيلِ تَأْخِيرِ في الْمُطَالَبَةِ لَا في سُقُوطِ الدَّيْنِ
فَقِيَامُ سَبَبِ ثُبُوتِهِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ
وَإِنْ سَرَقَ خِلَافَ جِنْسِ حَقِّهِ بِأَنْ كان عليه دَرَاهِمُ فَسَرَقَ منه
دَنَانِيرَ أو عُرُوضًا قُطِعَ
هَكَذَا أَطْلَقَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَذَكَرَ في كِتَابِ السَّرِقَةِ أَنَّهُ إذَا سَرَقَ الْعَرُوضَ ثُمَّ قال
أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي لَا يَقْطَعُ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ
على الْمُطْلَقِ
وهو ما إذَا سَرَقَ ولم يَقُلْ أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي لِأَنَّهُ إذَا لم يَقُلْ
فَقَدْ أَخَذَ مَالًا ليس له حَقُّ أَخْذِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ قِصَاصًا إلَّا بِالِاسْتِبْدَالِ وَالتَّرَاضِي
ولم يَتَأَوَّلْ الْأَخْذَ أَيْضًا فَكَانَ أَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا
شُبْهَةِ حَقٍّ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّهُ لَا يُعِيدُ بِخِلَافِ قَوْلِ من يقول من
الْفُقَهَاءِ إنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ إذَا ظَفَرَ بِخِلَافِ جِنْسِ حَقِّهِ أَنْ
يَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ قَوْلٌ لم يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ من السَّلَفِ فَلَا يُعْتَبَرُ
خِلَافًا مُؤْذِنًا لِلشُّبْهَةِ
وإذا قال أَخَذْتُ لِأَجْلِ حَقِّي فَقَدْ أَخَذَهُ مُتَأَوِّلًا لِأَنَّهُ
اعْتَبَرَ الْمَعْنَى وَهِيَ الْمَالِيَّةُ لَا الصُّورَةُ وَالْأَمْوَالُ كُلُّهَا
في مَعْنَى الْمَالِيَّةِ مُتَجَانِسَةٌ فَكَانَ أَخْذًا عن تَأْوِيلٍ فَلَا
يُقْطَعُ
وَلَوْ أَخَذَ صِنْفًا من الدَّرَاهِمِ أَجْوَدَ من حَقِّهِ أو أَرْدَأَ لم
يُقْطَعْ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ من جِنْسِ حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ وَإِنَّمَا
خَالَفَهُ من حَيْثُ الْوَصْفُ
أَلَا يرى أَنَّهُ لو رضي بِهِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَلَا يَكُونُ
مُسْتَبْدِلًا حتى يَجُوزَ في الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مع أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ
بِبَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ وإذا كان الْمَأْخُوذُ من جِنْسِ
حَقِّهِ من حَيْثُ الْأَصْلُ تَثْبُتُ شُبْهَةُ حَقِّ الْأَخْذِ فَيَلْحَقُ
بِالْحَقِيقَةِ في بَابِ الْحَدِّ كما في الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ
وَلَوْ سَرَقَ حُلِيًّا من فِضَّةٍ وَعَلَيْهِ دَرَاهِمُ أو حُلِيًّا من ذَهَبٍ
وَعَلَيْهِ دَنَانِيرُ يُقْطَعُ لِأَنَّ هذا لَا يَصِيرُ قِصَاصًا من حَقِّهِ
إلَّا بِالْمُرَاضَاةِ وَيَكُونُ ذلك بَيْعًا وَاسْتِبْدَالًا فَأَشْبَهَ
الْعُرُوضَ وَإِنْ كان السَّارِقُ قد اسْتَهْلَكَ الْعُرُوضَ أو الْحُلِيَّ ووجب (
( ( ووجبت ) ) ) عليه قِيمَتُهُ
وهو مِثْلُ الذي عليه من الْعَيْنِ فإن هذا يُقْطَعُ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقَاصِدَ
إنَّمَا تَقَعُ بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَلَا يُوجِبُ سِوَى الْقَطْعِ
وَلَوْ سَرَقَ مُكَاتَبٌ أو عَبْدٌ من غَرِيمِ مَوْلَاهُ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ ليس
له حَقُّ قَبْضِ دَيْنِ الْمَوْلَى من غَيْرِ أَمْرِهِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ
حتى لو كان الْمَوْلَى وَكَّلَهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يُقْطَعُ لِثُبُوتِ حَقِّ
الْقَبْضِ له بِالْوَكَالَةِ فَصَارَ كَصَاحِبِ الدَّيْنِ وَلَوْ سَرَقَ من
غَرِيمِ مُكَاتَبِهِ أو من غَرِيمِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ لم يَكُنْ على
الْعَبْدِ دَيْنٌ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ ذلك مِلْكُ مَوْلَاهُ فَكَانَ له حَقُّ
أَخْذِهِ وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ قُطِعَ لِأَنَّهُ ليس له حَقُّ الْقَبْضِ فَصَارَ
كَالْأَجْنَبِيِّ
وَلَوْ سَرَقَ من غَرِيمِ أبيه أو وَلَدِهِ يُقْطَعُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ له فيه
وَلَا في قَبْضِهِ إلَّا إذَا كان غَرِيمُ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يُقْطَعُ
لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ له كما في دَيْنِ نَفْسِهِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا أَيْضًا يُخَرَّجُ سَرِقَةُ الْمُصْحَفِ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ لَا قَطْعَ فيه لِأَنَّ له تَأْوِيلُ الْأَخْذِ إذْ الناس لَا يَضِنُّونَ
بِبَذْلِ الْمَصَاحِفِ الشَّرِيفَةِ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَادَةً
فَأَخَذَهُ الْآخِذُ مُتَأَوِّلًا وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ الْبَرْبَطِ وَالطَّبْلِ
وَالْمِزْمَارِ وَجَمِيعِ آلَاتِ الْمَلَاهِي لِأَنَّ آخِذَهَا يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ
بأخذها ( ( ( يأخذها ) ) ) منع ( ( ( لمنع ) ) ) الْمَالِكِ عن الْمَعْصِيَةِ
وَنَهْيِهِ عن الْمُنْكَرِ
وَذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا
وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ شِطْرَنْجٍ ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ صَلِيبٍ أو صَنَمٍ من فِضَّةٍ من حِرْزٍ لِأَنَّهُ
يَتَأَوَّلُ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلْكَسْرِ
وَأَمَّا الدَّرَاهِمُ التي عليها التَّمَاثِيلُ فَيُقْطَعُ فيها لِأَنَّهَا لَا
تُعْبَدُ عَادَةً فَلَا تَأْوِيلَ له في الْأَخْذِ لِلْمَنْعِ من الْعِبَادَةِ
فَيُقْطَعُ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا قُطِعَ سَارِقٌ في مَالٍ ثُمَّ سَرَقَهُ منه
سَارِقٌ آخَرُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ ليس بِمَعْصُومٍ في
حَقِّ الْمَسْرُوقِ منه وَلَا مُتَقَوِّمٍ في حَقِّهِ لِسُقُوطِ عِصْمَتِهِ
وَتَقَوُّمُهُ في حَقِّهِ بِالْقَطْعِ وَلِأَنَّ كَوْنَ يَدِ الْمَسْرُوقِ منه
يَدًا صَحِيحَةً شُرِطَ وُجُوبُ الْقَطْعِ وَيَدُ السَّارِقِ لَيْسَتْ يَدًا
صَحِيحَةً لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَوْ سَرَقَ مَالًا فَقُطِعَ فيه فَرَدَّهُ إلَى الْمَالِكِ ثُمَّ عَادَ
فَسَرَقَهُ منه ثَانِيًا فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَرْدُودَ لَا
يَخْلُو إمَّا إن كان على حَالِهِ لم يَتَغَيَّرْ وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ
الْمَالِكُ فيه ما يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ فَإِنْ كان على حَالِهِ لم يُقْطَعْ
اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ أَنْ يُقْطَعَ وهو رِوَايَةُ الْحَسَنِ عن أبي يُوسُفَ
وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ
أَمَّا الْكَلَامُ مع الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمَبْنِيٌّ على أَنَّ
الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ لِلْمَسْرُوقِ حَقًّا لِلْعَبْدِ قد سَقَطَتْ عِنْدَ
السَّرِقَةِ الْأُولَى لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ على أَصْلِنَا وَعَلَى
أَصْلِهِ لم تَسْقُطْ بَلْ بَقِيَتْ على ما كانت وَسَنَذْكُرُ
____________________
(7/72)
تَقْرِيرَ
هذا الْأَصْلِ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَأَمَّا الْكَلَامُ مع أبي يُوسُفَ وَجْهُ ما روي أَنَّ الْمَحَلَّ وَإِنْ
سَقَطَتْ قِيمَتُهُ الثَّابِتَةُ حَقًّا لِلْمَالِكِيَّةِ في السَّرِقَةِ
الْأُولَى فَقَدْ عَادَتْ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ أَلَا تَرَى أنها عَادَتْ في
حَقِّ الضَّمَانِ حتى لو أَتْلَفَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ فَكَذَا في حَقِّ
الْقَطْعِ
وَلَنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ وَإِنْ عَادَتْ بِالرَّدِّ لَكِنْ مع شُبْهَةِ
الْعَدَمِ لِأَنَّ السُّقُوطَ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ الْقَطْعِ وَأَثَرُ الْقَطْعِ
قَائِمٌ بَعْدَ الرَّدِّ فَيُورِثُ شُبْهَةً في الْعِصْمَةِ وَلِأَنَّهُ سَقَطَ
تَقَوُّمُ الْمَسْرُوقِ في حَقِّ السَّارِقِ بِالْقَطْعِ في السَّرِقَةِ الْأُولَى
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَتْلَفَهُ لَا يَضْمَنُ وَأَثَرُ الْقَطْعِ بَعْدَ
الرَّدِّ قَائِمٌ فَيُورِثُ شُبْهَةَ عَدَمِ التَّقَوُّمِ في حَقِّهِ فَيَمْنَعُ
وُجُوبَ الْقَطْعِ وَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَا
يَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ لِمَا بَيَّنَّا
هذا إذَا كان الْمَرْدُودُ على حَالِهِ لم يَتَغَيَّرْ
فَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ الْمَالِكُ فيه حَدَثًا يُوجِبُ تَغَيُّرَهُ عن حَالِهِ
ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ الْأَوَّلُ
فَالْأَصْلُ فيه أَنَّهُ لو فَعَلَ فيه ما لو فَعَلَهُ الْغَاصِبُ في الْمَغْصُوبِ
لَأَوْجَبَ انْقِطَاعَ حَقِّ الْمَالِكِ يُقْطَعُ وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ إذَا
فَعَلَ ذلك فَقَدْ تَبَدَّلَتْ الْعَيْنُ وَتَصِيرُ في حُكْمِ عَيْنٍ أُخْرَى وإذا
لم يَفْعَلْ لم تَتَبَدَّلْ
وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ ما إذَا سَرَقَ غَزْلًا فَقُطِعَ فيه وَرُدَّ إلَى
الْمَالِكِ فَنَسَجَهُ ثَوْبًا فَعَادَ فَسَرَقَهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ
لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ قد تَبَدَّلَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو كان مَغْصُوبًا لَا
يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبَ خَزٍّ فَقُطِعَ فيه وَرُدَّ إلَى
الْمَالِكِ فَنَقَضَهُ فَسَرَقَ النَّقْضَ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ الْعَيْنَ لم
تَتَبَدَّلْ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو فَعَلَهُ الْغَاصِبُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ
وَلَوْ نَقَضَهُ الْمَالِكُ ثُمَّ غَزَلَهُ غَزْلًا ثُمَّ سَرَقَهُ السَّارِقُ لم
يُقْطَعْ لِأَنَّ هذا لو وُجِدَ من الْغَاصِبِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَغْصُوبِ
منه فَيَدُلُّ على تَبَدُّلِ الْعَيْنِ
وَلَوْ سَرَقَ بَقَرَةً فَقُطِعَ فيها وَرَدَّهَا على الْمَالِكِ فَوَلَدَتْ
وَلَدًا ثُمَّ سَرَقَ الْوَلَدَ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْوَلَدَ عَيْنٌ أُخْرَى لم
يُقْطَعْ فيها فَيُقْطَعُ بِسَرِقَتِهَا وَعَلَى هذا يُخَرَّجُ جِنْسُ هذه
الْمَسَائِلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا مُطْلَقًا خَالِيًا عن شُبْهَةِ الْعَدَمِ
مَقْصُودًا بِالْحِرْزِ وَالْأَصْلُ في اعْتِبَارِ شَرْطِ الْحِرْزِ ما رُوِيَ في الموطأ
عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ
مُعَلَّقٍ وَلَا في حَرِيسَةِ جَبَلٍ فإذا آوَاهُ الْمُرَاحُ أو الْجَرِينُ
فَالْقَطْعُ فِيمَا بَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ وَرُوِيَ عنه عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ في ثَمَرٍ وَلَا كَثَرٍ حتى يُؤْوِيَهُ
الْجَرِينُ فإذا أواه الْجَرِينُ فَفِيهِ الْقَطْعُ عَلَّقَ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ الْمُرَاحِ
وَالْمُرَاحُ حِرْزُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَالْجَرِينُ حِرْزُ
الثَّمَرِ فَدَلَّ أَنَّ الْحِرْزَ شَرْطٌ وَلِأَنَّ رُكْنَ السَّرِقَةِ هو
الْأَخْذُ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ وَالْأَخْذُ من غَيْرِ حِرْزٍ لَا
يَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِخْفَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ رُكْنُ السَّرِقَةِ ولأن
الْقَطْعَ وَجَبَ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ على أَرْبَابِهَا قَطْعًا لِأَطْمَاعِ
السُّرَّاقِ عن أَمْوَالِ الناس وَالْأَطْمَاعُ إنَّمَا تَمِيلُ إلَى ما له خَطَرٌ
في الْقُلُوبِ وَغَيْرُ الْمُحَرَّزِ لَا خَطَرَ له في الْقُلُوبِ عَادَةً فَلَا
تَمِيلُ الْأَطْمَاعُ إلَيْهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الصِّيَانَةِ بِالْقَطْعِ وَبِهَذَا
لم يُقْطَعْ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ وما ليس بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ مُحْتَمَلِ
الِادِّخَارَ ثُمَّ الْحِرْزُ نَوْعَانِ حِرْزٌ بِنَفْسِهِ وَحِرْزٌ بِغَيْرِهِ
أَمَّا الْحِرْزُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كُلُّ بُقْعَةٍ مُعَدَّةٍ لِلْإِحْرَازِ
مَمْنُوعَةِ الدُّخُولِ فيها إلَّا بِالْإِذْنِ كَالدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ
وَالْخِيَمِ وَالْفَسَاطِيطِ وَالْخَزَائِنِ وَالصَّنَادِيقِ
وَأَمَّا الْحِرْزُ بِغَيْرِهِ فَكُلُّ مَكَان غَيْرُ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ
يُدْخَلُ إلَيْهِ بِلَا إذْنٍ وَلَا يُمْنَعُ منه كَالْمَسَاجِدِ وَالطُّرُقِ
وَحُكْمُهُ حُكْمُ الصَّحْرَاءِ إنْ لم يَكُنْ هُنَاكَ حَافِظٌ وَإِنْ كان هُنَاكَ
حَافِظٌ فَهُوَ حِرْزٌ لِهَذَا سُمِّيَ حِرْزًا بِغَيْرِهِ حَيْثُ وَقَفَ
صَيْرُورَتُهُ حِرْزًا على وُجُودِ غَيْرِهِ وهو الْحَافِظُ
وما كان حِرْزًا بِنَفْسِهِ لَا يُشْتَرَطُ فيه وُجُودُ الْحَافِظِ
لِصَيْرُورَتِهِ حِرْزًا وَلَوْ وُجِدَ فَلَا عِبْرَةَ بِوُجُودِهِ بَلْ وُجُودُهُ
وَالْعَدَمُ سَوَاءٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ من الْحِرْزَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ على
حِيَالِهِ بِدُونِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ عليه السلام عَلَّقَ الْقَطْعَ بِإِيوَاءِ
الْمُرَاحِ وَالْجَرِينِ من غَيْرِ شَرْطِ وُجُودِ الْحَافِظِ
وَرُوِيَ أَنَّ صَفْوَانَ رضي اللَّهُ عنه كان نَائِمًا في الْمَسْجِدِ
مُتَوَسِّدًا بِرِدَائِهِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ من تَحْتِ رَأْسِهِ فَقَطَعَهُ رسول
اللَّهِ ولم يَعْتَبِرْ الْحِرْزَ بِنَفْسِهِ فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من
نَوْعَيْ الْحِرْزِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ فإذا سَرَقَ من النَّوْعِ الْأَوَّلِ
يُقْطَعُ سَوَاءٌ كان ثَمَّةَ حَافِظٌ أو لَا لِوُجُودِ الْأَخْذِ من الْحِرْزِ
وَسَوَاءٌ كان مُغْلَقَ الْبَابِ أو لَا بَابَ له بَعْدَ أَنْ كان مَحْجُوزًا
بِالْبِنَاءِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يُقْصَدُ بِهِ الْإِحْرَازُ كَيْفَ ما كان وإذا
سَرَقَ من النَّوْعِ الثَّانِي يُقْطَعُ إذَا كان الْحَافِظُ قَرِيبًا منه في
مَكَان يُمْكِنُهُ حِفْظُهُ وَيُحْفَظُ في مِثْلِهِ الْمَسْرُوقُ عَادَةً
وَسَوَاءٌ كان الْحَافِظُ مُسْتَيْقِظًا في ذلك الْمَكَانِ أو نَائِمًا لِأَنَّ
الْإِنْسَانَ يَقْصِدُ الْحِفْظَ في الْحَالَيْنِ جميعا وَلَا يُمْكِنُ الْأَخْذُ
إلَّا بِفِعْلِهِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ عليه الصلاة ( ( ( وسلم ) ) ) والسلام قَطَعَ سَارِقَ
صَفْوَانَ وَصَفْوَانُ كان نَائِمًا وَلَوْ أُذِنَ لِإِنْسَانٍ بِالدُّخُولِ في
دَارِهِ فَسَرَقَ الْمَأْذُونُ له بِالدُّخُولِ شيئا منها لم يُقْطَعْ
____________________
(7/73)
وَإِنْ
كان فيها حَافِظٌ أو كان صَاحِبُ الْمَنْزِلِ نَائِمًا عليه لِأَنَّ الدَّارَ
حِرْزٌ بِنَفْسِهَا لَا بِالْحَافِظِ وقد خَرَجَتْ من أَنْ تَكُونَ حِرْزًا
بِالْإِذْنِ فَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْحَافِظِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا أُذِنَ له
بِالدُّخُولِ فَقَدْ صَارَ في حُكْمِ أَهْلِ الدَّارِ فإذا أَخَذَ شيئا فَهُوَ
خَائِنٌ
وقد رُوِيَ عن رسول اللَّهِ أَنَّهُ قال لَا قَطْعَ على خَائِنٍ وَكَذَلِكَ لو
سَرَقَ من بَعْضِ بُيُوتِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ في دُخُولِهَا وهو مُقْفَلٌ أو من
صُنْدُوقٍ في الدَّارِ أو من صُنْدُوقٍ في بَعْضِ الْبُيُوتِ وهو مُقْفَلٌ عليه
إذَا كان الْبَيْتُ من جُمْلَةِ الدَّارِ الْمَأْذُونِ في دُخُولِهَا لِأَنَّ الدَّارَ
الْوَاحِدَةَ حِرْزٌ وَاحِدٌ وقد خَرَجَتْ بِالْإِذْنِ له من أَنْ تَكُونَ حِرْزًا
في حَقِّهِ فَكَذَلِكَ بُيُوتُهَا
وما رُوِيَ أَنَّ أَسْوَدَ بَاتَ عِنْدَ سَيِّدِنَا أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي
اللَّهُ عنه فَسَرَقَ حُلِيًّا لهم فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَسْرُوقًا من دَارِ
النِّسَاءِ لَا من دَارِ الرِّجَالِ وَالدَّارَانِ الْمُخْتَلِفَانِ إذَا أُذِنَ
بِالدُّخُولِ في إحْدَاهُمَا لَا تَصِيرُ الْأُخْرَى مَأْذُونًا بِالدُّخُولِ فيها
وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ أَنَّهُ قال في رَجُلٍ كان في حَمَّامٍ أو خَانٍ
وَثِيَابُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ فَسَرَقَهَا سَارِقٌ أنه لَا قَطْعَ عليه سَوَاءٌ كان
نَائِمًا أو يَقْظَانًا وَإِنْ كان في صَحْرَاءَ وَثَوْبُهُ تَحْتَ رَأْسِهِ
قُطِعَ
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ سَرَقَ من رَجُلٍ وهو معه في
الْحَمَّامِ أو سَرَقَ من رَجُلٍ وهو معه في سَفِينَةٍ أو نَزَلَ قَوْمٌ في خَانٍ
فَسَرَقَ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ أَنَّهُ لَا قَطْعَ على السَّارِقِ وَكَذَلِكَ
الْحَانُوتُ لِأَنَّ الْحَمَّامَ وَالْخَانَ وَالْحَانُوتَ كُلُّ وَاحِدٍ حِرْزٌ
بِنَفْسِهِ فإذا أُذِنَ لِلنَّاسِ في دُخُولِهِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ حِرْزًا
فَلَا يُعْتَبَرُ فيه الْحَافِظُ فَلَا يَصِيرُ حِرْزًا بِالْحَافِظِ
وَلِهَذَا قالوا إذَا سَرَقَ من الْحَمَّامِ لَيْلًا يُقْطَعُ
لِأَنَّ الناس لم يُؤْذَنُوا بِالدُّخُولِ فيه لَيْلًا
فَأَمَّا الصَّحْرَاءُ أو الْمَسْجِدُ وَإِنْ كان مَأْذُونَ الدُّخُولِ إلَيْهِ
فَلَيْسَ حِرْزًا بِنَفْسِهِ بَلْ بِالْحَافِظِ ولم يُوجَدْ الْإِذْنُ من
الْحَافِظِ فَلَا يَبْطُلُ مَعْنَى الْحِرْزِ فيه
وَقَالُوا في السَّارِقِ من الْمَسْجِدِ إذَا كان ثَمَّةَ حَافِظٌ يُقْطَعُ وَإِنْ
لم يَخْرُجْ من الْمَسْجِدِ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ ليس بِحِرْزٍ بِنَفْسِهِ بَلْ
بِالْحَافِظِ فَكَانَتْ الْبُقْعَةُ التي فيها الْحَافِظُ هِيَ الْحِرْزُ لَا
كُلُّ الْمَسْجِدِ فإذا انْفَصَلَ منها فَقَدْ انْفَصَلَ من الْحِرْزِ فَيُقْطَعُ
فَأَمَّا الدَّارُ فَإِنَّمَا صَارَتْ حِرْزًا بِالْبِنَاءِ فما لم يَخْرُجْ منها
لم يُوجَدْ الِانْفِصَالُ من الْحِرْزِ وَرُوِيَ عن مُحَمَّدٍ في رَجُلٍ سَرَقَ في
السُّوقِ من حَانُوتٍ فَتَخَرَّبَ الْحَانُوتُ وَقَعَدَ لِلْبَيْعِ وَأُذِنَ
لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فيه أَنَّهُ لم يُقْطَعْ
وَكَذَلِكَ لو سُرِقَ منه وهو مُغْلَقٌ على شَيْءٍ لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لَمَّا
أُذِنَ لِلنَّاسِ بِالدُّخُولِ فيه فَقَدْ أُخْرِجَ الْحَانُوتُ من أَنْ يَكُونَ
حِرْزًا في حَقِّهِمْ
وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ من بَيْتِ قُبَّةٍ أو صُنْدُوقٍ فيه مُقْفَلٌ لِأَنَّ الْحَانُوتَ
كُلَّهُ حِرْزٌ وَاحِدٌ كَالدَّارِ على ما مَرَّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قال في رَجُلٍ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ
وَمَعَهُ جُوَالِقُ وَضَعَهُ وَنَامَ عِنْدَهُ يَحْفَظُهُ فَسَرَقَ منه رَجُلٌ
شيئا أو سَرَقَ الْجُوَالِقَ فَإِنِّي أَقْطَعُهُ لِأَنَّ الْجَوَالِقَ بِمَا فيها
مُحْرَزٌ بِالْحَافِظِ فَيَسْتَوِي أَخْذُ جَمِيعِهِ وَأَخْذُ بَعْضِهِ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ فُسْطَاطًا مَلْفُوفًا قد وَضَعَهُ وَنَامَ عِنْدَهُ
يَحْفَظُهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَإِنْ كان مَضْرُوبًا لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُ إذَا
كان مَلْفُوفًا كان مُحْرَزًا بِالْحَافِظِ كَالْبَابِ الْمَقْلُوعِ إذَا كان في
الدَّارِ فَسَرَقَهُ سَارِقٌ
وإذا كان الْفُسْطَاطُ مَضْرُوبًا كان حِرْزًا بِنَفْسِهِ فإذا سَرَقَهُ فَقَدْ
سَرَقَ نَفْسَ الْحِرْزِ وَنَفْسُ الْحِرْزِ ليس في الْحِرْزِ فَلَا يُقْطَعُ
كَسَارِقِ بَابِ الدَّارِ
وَلَوْ كان الْجَوَالِقُ على ظَهْرِ دَابَّةٍ فَشَقَّ الْجَوَالِقَ وَأَخْرَجَ
الْمَتَاعَ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْجُوَالِقَ حِرْزٌ لِمَا فيه وَإِنْ أَخَذَ
الْجَوَالِقَ كما هو ( ( ( هي ) ) ) لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ الْجَمَلَ مع الْجَوَالِقِ لِأَنَّ الْحِمْلَ لَا يُوضَعُ
على الْجَمَلِ لِلْحِفْظِ بَلْ لِلْحَمْلِ لِأَنَّ الْجَمَلَ ليس بِمُحْرِزٍ
وَإِنْ رَكِبَهُ صَاحِبُهُ فلم يَكُنْ الْجَمَلُ حِرْزًا لِلْجَوَالِقِ فإذا
أَخَذَ الْجَوَالِقَ فَقَدْ أَخَذَ نَفْسَ الْحِرْزِ
وَلَوْ سَرَقَ من الْمَرَاعِي بَعِيرًا أو بَقَرَةً أو شاتا ( ( ( شاة ) ) ) لم
يُقْطَعْ سَوَاءٌ كان الرَّاعِي مَعَهَا أو لم يَكُنْ
وَإِنْ سَرَقَ من الْعَطَنِ أو الْمُرَاحِ الذي يَأْوِي إلَيْهِ يُقْطَعُ إذَا كان
مَعَهَا حَافِظٌ أو ليس مَعَهَا حَافِظٌ غير أَنَّ الْبَابَ مُغْلَقٌ فَكَسَرَ
الْبَابَ ثُمَّ دخل فَسَرَقَ بَقَرَةً قَادَهَا قَوْدًا حتى أَخْرَجَهَا أو
سَاقَهَا سَوْقًا حتى أَخْرَجَهَا أو رَكِبَهَا حتى أَخْرَجَهَا لِأَنَّ
الْمَرَاعِيَ لَيْسَتْ بِحِرْزٍ لِلْمَوَاشِي وَإِنْ كان الرَّاعِي مَعَهَا
لِأَنَّ الْحِفْظَ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا من الرَّعْيِ وَإِنْ كان قد يَحْصُلُ
بِهِ لِأَنَّ الْمَوَاشِيَ لَا تُجْعَلُ في مَرَاعِيهَا لِلْحِفْظِ بَلْ
لِلرَّعْيِ فلم يُوجَدْ الْأَخْذُ من حِرْزٍ بِخِلَافِ الْعَطَنِ أو الْمُرَاحِ
فإن ذلك يُقْصَدُ بِهِ الْحِفْظُ وَوُضِعَ له فَكَانَ حِرْزًا
وقال عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في حَرِيسَةِ الْجَبَلِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهَا
وَجَلَدَاتٌ نَكَالًا فإذا أَوَاهَا الْمُرَاحُ وَبَلَغَتْ قِيمَتُهَا ثَمَنَ
الْمِجَنِّ فَفِيهَا الْقَطْعُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَلَا يُقْطَعُ عَبْدٌ في سَرِقَةٍ من مَوْلَاهُ مُكَاتَبًا كان الْعَبْدُ أو
مُدَبَّرًا أو تَاجِرًا عليه دَيْنٌ أو أُمُّ وَلَدٍ سَرَقَتْ من مَالِ مَوْلَاهَا
لِأَنَّ هَؤُلَاءِ مَأْذُونُونَ بِالدُّخُولِ في بُيُوتِ سَادَاتِهِمْ
لِلْخِدْمَةِ فلم
____________________
(7/74)
يَكُنْ
بَيْتُ مَوْلَاهُمْ حِرْزًا في حَقِّهِمْ
وَذَكَرَ في الْمُوَطَّأِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بن سَيِّدِنَا عُمَرَ
وَالْحَضْرَمِيَّ جَاءَا إلَى عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه بِعَبْدٍ له فقال اقْطَعْ
هذا فإنه سَرَقَ فقال وما سَرَقَ قال مِرْآةً لِامْرَأَتِي ثَمَنُهَا سِتُّونَ
دِرْهَمًا فقال سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه أَرْسِلْهُ ليس عليه قَطْعٌ
خَادِمُكُمْ سَرَقَ مَتَاعَكُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ عليه مُنْكِرٌ
فَيَكُونَ إجْمَاعًا
وَلَا قَطْعَ على خَادِمِ قَوْمٍ سَرَقَ مَتَاعَهُمْ وَلَا على ضَيْفٍ سَرَقَ
متاعا ( ( ( متاع ) ) ) من أَضَافَهُ وَلَا على أَجِيرٍ سَرَقَ من مَوْضِعٍ أُذِنَ
له في دُخُولِهِ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِالدُّخُولِ أَخْرَجَ الْمَوْضِعَ من أَنْ
يَكُونَ حِرْزًا في حَقِّهِ وَكَذَا الْأَجِيرُ إذَا أَخَذَ الْمَتَاعَ
الْمَأْذُونَ له في أَخْذِهِ من مَوْضِعٍ لم يَأْذَنْ له بِالدُّخُولِ فيه لم
يُقْطَعْ لِأَنَّ الْإِذْنَ بِأَخْذِ الْمَتَاعِ يُورِثُ شُبْهَةَ الدُّخُولِ في
الْحِرْزِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ بِالْأَخْذِ فَوْقَ الْإِذْنِ بِالدُّخُولِ وَذَا
يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَهَذَا أَوْلَى
وَلَوْ سَرَقَ الْمُسْتَأْجِرُ من الْمُؤَاجِرِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا في
مَنْزِلٍ على حِدَةٍ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ في الْحِرْزِ
وَأَمَّا الْمُؤَاجِرُ إذَا سَرَقَ من الْمُسْتَأْجِرِ فَكَذَلِكَ يُقْطَعُ في
قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحِرْزَ مِلْكُ السَّارِقِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في
دَرْءِ الْحَدِّ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً في إبَاحَةِ الدُّخُولِ فَيَخْتَلُّ
الْحِرْزُ فَلَا قَطْعَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ مَعْنَى الْحِرْزِ لَا تَعَلُّقَ له
بِالْمِلْكِ إذْ هو اسْمٌ لِمَكَانٍ مُعَدٍّ لِلْإِحْرَازِ يُمْنَعُ من الدُّخُولِ
فيه إلَّا بِالْإِذْنِ وقد وُجِدَ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ مَمْنُوعٌ عن الدُّخُولِ
في الْمَنْزِلِ الْمُسْتَأْجَرِ من غَيْرِ إذْنٍ فَأَشْبَهَ الْأَجْنَبِيَّ
وَلَا قَطْعَ على من سَرَقَ من ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كان
بَيْنَهُمَا وِلَادٌ أو لَا
وقال الشَّافِعِيُّ في الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ كَذَلِكَ فَأَمَّا في
غَيْرِهِمْ فَيُقْطَعُ وهو على اخْتِلَافِ الْعِتْقِ وَالنَّفَقَةِ وقد ذَكَرْنَا
الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ الْعَتَاقِ
وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدْخُلُ في مَنْزِلِ
صَاحِبِهِ بِغَيْرِ إذْنٍ عَادَةً وَذَلِكَ دَلَالَةُ الْإِذْنِ من صَاحِبِهِ
فَاخْتَلَّ مَعْنَى الْحِرْزِ وَلِأَنَّ الْقَطْعَ بِسَبَبِ السَّرِقَةِ فِعْلٌ
يُفْضِي إلَى قَطْعِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ حَرَامٌ وَالْمُفْضِي إلَى الْحَرَامِ
حَرَامٌ
وَلَوْ سَرَقَ جَمَاعَةٌ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من الْمَسْرُوقِ لَا
يُقْطَعُ وَاحِدٌ منهم عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ
ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَيُقْطَعُ سِوَاهُ وَالْكَلَامُ على نَحْوِ الْكَلَامِ
فِيمَا تَقَدَّمَ فِيمَا إذَا كان فِيهِمْ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ وقد ذَكَرْنَاهُ
فِيمَا تَقَدَّمَ
وَلَوْ سَرَقَ من ذِي رَحِمٍ غَيْرِ مَحْرَمٍ يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ
الْمُبَاسَطَةَ بِالدُّخُولِ من غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ غَيْرُ ثَابِتَةٍ في هذه
الْقَرَابَةِ عَادَةً
وَكَذَا هذه الْقَرَابَةُ لَا تَجِبُ صِيَانَتُهَا عن الْقَطِيعَةِ وَلِهَذَا لم
يَجِبْ في الْعِتْقِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذلك
وَلَوْ سَرَقَ من ذِي رحم مَحْرَمٍ لَا رَحِمَ له بِسَبَبِ الرَّضَاعِ فَقَدْ قال
أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْطَعُ الذي سَرَقَ مِمَّنْ
يَحْرُمُ عليه من الرَّضَاعِ كَائِنًا من كان
وقال أبو يُوسُفَ إذَا سَرَقَ من أُمِّهِ من الرَّضَاعِ لَا يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْمُبَاسَطَةَ بَيْنَهُمَا في الدُّخُولِ ثَابِتَةٌ
عُرْفًا وَعَادَةً فإن الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ في مَنْزِلِ أُمِّهِ من الرَّضَاعِ
من غَيْرِ إذْنٍ كما يَدْخُلُ في مَنْزِلِ أُمِّهِ من النَّسَبِ بِخِلَافِ
الْأُخْتِ من الرَّضَاعِ
وَلَهُمَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالرَّضَاعِ ليس إلَّا الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ
وإنها لَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ كما لو سَرَقَ من أُمِّ مَوْطُوءَتِهِ
وَلِهَذَا يُقْطَعُ في الْأُخْتِ من الرَّضَاعِ
وَلَوْ سَرَقَ من امْرَأَةِ أبيه أو من زَوْجِ أُمِّهِ أو من حَلِيلَةِ ابْنِهِ أو
من ابْنِ امْرَأَتِهِ أو بِنْتِهَا أو أُمِّهَا يُنْظَرُ إنْ سَرَقَ مَالَهُمْ من
مَنْزِلِ من يُضَافُ السَّارِقُ إلَيْهِ من أبيه وَأُمِّهِ وَابْنِهِ
وَامْرَأَتِهِ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ في
مَنْزِلِ هَؤُلَاءِ فلم يَكُنْ الْمَنْزِلُ حِرْزًا في حَقِّهِ
وَإِنْ سَرَقَ من مَنْزِلٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَا فيه لم يُقْطَعْ بِالْإِجْمَاعِ
وَإِنْ كان لِكُلِّ وَاحِدٍ منها ( ( ( منهما ) ) ) مَنْزِلٌ على حِدَةٍ
اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ لَا يُقْطَعُ
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ إذَا سَرَقَ من غَيْرِ مَنْزِلِ السَّارِقِ أو مَنْزِلِ
أبيه أو ابْنِهِ
وَذَكَرَ الْقَاضِي في شَرْحِ مُخْتَصَرِ الطَّحَاوِيِّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مع
قَوْلِ أبي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تعالى
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَانِعَ هو الْقَرَابَةُ وَلَا قَرَابَةَ بين السَّارِقِ
وَبَيْنَ الْمَسْرُوقِ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عن صَاحِبِهِ
فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ كما لو سَرَقَ من أَجْنَبِيٍّ آخَرَ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ في الْحِرْزِ شُبْهَةً لِأَنَّ حَقَّ
التَّزَاوُرِ ثَابِتٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَرِيبِهِ لِأَنَّ كَوْنَ الْمَنْزِلِ
لِغَيْرِ قَرِيبِهِ لَا يَقْطَعُ التَّزَاوُرَ وَهَذَا يُورِثُ شُبْهَةَ إبَاحَةِ
الدُّخُولِ لِلزِّيَارَةِ فَيَخْتَلُّ مَعْنَى الْحِرْزِ
وَلَا قَطْعَ على أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ إذَا سَرَقَ من مَالِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ سَرَقَ
من الْبَيْتِ الذي هُمَا فيه أو من بَيْتٍ آخَرَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
يَدْخُلُ في مَنْزِلِ صَاحِبِهِ وَيَنْتَفِعُ بِمَالِهِ عَادَةً وَذَلِكَ يُوجِبُ
خَلَلًا في الْحِرْزِ وفي الْمِلْكِ أَيْضًا
وَهَذَا عِنْدَنَا
وقال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا سَرَقَ من الْبَيْتِ الذي هُمَا فيه لَا
يُقْطَعُ وَإِنْ سَرَقَ من بَيْتٍ آخَرَ يُقْطَعُ وَالْمَسْأَلَةُ مَرَّتْ في
كِتَابِ الشَّهَادَةِ
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ من عبد صَاحِبِهِ أو أَمَتِهِ أو
مُكَاتَبِهِ أو سَرَقَ عبد أَحَدِهِمَا أو أَمَتُهُ أو مُكَاتَبُهُ من صَاحِبِهِ
____________________
(7/75)
أو
سَرَقَ خَادِمُ أَحَدِهِمَا من صَاحِبِهِ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ في
الدُّخُولِ في الْحِرْزِ
وَلَوْ سَرَقَتْ امْرَأَةٌ من زَوْجِهَا أو سَرَقَ رَجُلٌ من امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا
قبل الدُّخُولِ بها فَبَانَتْ بِغَيْرِ عِدَّةٍ لم يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
لِأَنَّ الْأَخْذَ حين وُجُودِهِ لم يَنْعَقِدْ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ لِقِيَامِ
الزَّوْجِيَّةِ فَلَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الْإِبَانَةِ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ
طَارِئَةٌ وَالْأَصْلُ أَنْ لَا يُعْتَبَرَ الطارىء مُقَارَنًا في الْحُكْمِ لِمَا
فيه من مُخَالَفَةِ الْحَقِيقَةِ إلَّا إذَا كان في الِاعْتِبَارِ إسْقَاطُ
الْحَدِّ وَقْتَ الِاعْتِبَارِ
وفي الِاعْتِبَارِ هَهُنَا إيجَابُ الْحَدِّ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَلَوْ سَرَقَ من مُطَلَّقَتِهِ وَهِيَ في الْعِدَّةِ أو سَرَقَتْ مُطَلَّقَتُهُ
وَهِيَ في الْعِدَّةِ لم يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا سَوَاءٌ كان الطَّلَاقُ
رَجْعِيًّا أو بَائِنًا أو ثَلَاثًا لِأَنَّ النِّكَاحَ في حَالِ قِيَامِ
الْعِدَّةِ قَائِمٌ من وَجْهٍ أو أَثَرُهُ قَائِمٌ وهو الْعِدَّةُ وَقِيَامُ
النِّكَاحِ من كل وَجْهٍ يَمْنَعُ الْقَطْعَ فَقِيَامُهُ من وَجْهٍ أو قِيَامُ
أَثَرِهِ يُورِثُ شُبْهَةً
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ من امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهَذَا لَا
يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن تَزَوَّجَهَا قبل أَنْ يقضي عليه
بِالْقَطْعِ وَإِمَّا إن تَزَوَّجَهَا بَعْدَمَا قُضِيَ عليه بِالْقَطْعِ فَإِنْ
تَزَوَّجَهَا قبل أَنْ يُقْضَى عليه بِالْقَطْعِ لم يُقْطَعْ بِلَا خِلَافٍ
لِأَنَّ هذا مَانِعٌ طَرَأَ على الْحَدِّ وَالْمَانِعُ الطارىء في الْحَدِّ
كَالْمُقَارَنِ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَصِيرُ طَرَيَان
الزَّوْجِيَّةِ شُبْهَةً مَانِعَةً من الْقَطْعِ كَقِرَانِهَا
وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بعدما قُضِيَ بِالْقَطْعِ لم يُقْطَعْ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى
وقال أبو يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ الْقَائِمَةَ عِنْدَ السَّرِقَةِ إنَّمَا
تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ بِاعْتِبَارِ الشُّبْهَةِ وَهِيَ شُبْهَةُ عَدَمِ
الْحِرْزِ أو شُبْهَةُ الْمِلْكِ فَالطَّارِئَةُ لو اُعْتُبِرَتْ مَانِعَةً
لَكَانَ ذلك اعْتِبَارَ الشُّبْهَةِ وَإِنَّهَا سَاقِطَةٌ في بَابِ الْحُدُودِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِمْضَاءَ في بَابِ الْحُدُودِ من
الْقَضَاءِ فَكَانَتْ الشُّبْهَةُ الْمُعْتَرِضَةُ على الْإِمْضَاءِ
كَالْمُعْتَرِضَةِ على الْقَضَاءِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قَذَفَ رَجُلًا بِالزِّنَا وَقُضِيَ عليه بِالْحَدِّ
ثُمَّ إنَّ الْمَقْذُوفَ زَنَى قبل إقَامَةِ الْحَدِّ على الْقَاذِفِ سَقَطَ
الْحَدُّ عن الْقَاذِفِ وَجَعَلَ الزِّنَا الْمُعْتَرِضَ على الْحَدِّ
كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ الْقَذْفِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الطارىء على الْحُدُودِ قبل
الْإِمْضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ قبل الْقَضَاءِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ في الطَّرَّارِ إذَا طَرَّ الصُّرَّةَ من
خَارِجِ الْكُمِّ أَنَّهُ لَا قَطْعَ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَإِنْ أَدْخَلَ يَدَهُ في الْكُمِّ فَطَرَّهَا يُقْطَعُ
وقال أبو يُوسُفَ هذا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَيُقْطَع
وَبِتَفْصِيلِ الْكَلَامِ فيه يَرْتَفِعُ الْخِلَافُ وَيَتَّفِقُ الْجَوَابُ
وهو أَنَّ الطَّرَّ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَطْعِ وَإِمَّا أَنْ
يَكُونَ بِحَلِّ الرِّبَاطِ
وَالدَّرَاهِمُ لَا تَخْلُو إمَّا إن كانت مَصْرُورَةً على ظَاهِرِ الْكُمِّ
وَإِمَّا إن كانت مَصْرُورَةً في بَاطِنِهِ فَإِنْ كان الطَّرُّ بِالْقَطْعِ
وَالدَّرَاهِمُ مَصْرُورَةٌ على ظَاهِرِ الْكُمِّ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ الْحِرْزَ
هو الْكُمُّ وَالدَّرَاهِمُ بَعْدَ الْقَطْعِ تَقَعُ على ظَاهِرِ الْكُمِّ فلم
يُوجَدْ الْأَخْذُ من الْحِرْزِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وَإِنْ كانت مَصْرُورَةً في دَاخِلِ الْكُمِّ يُقْطَعُ لِأَنَّهَا بَعْدَ
الْقَطْعِ تَقَعُ في دَاخِلِ الْكُمِّ فَكَانَ الطَّرُّ أَخْذًا من الْحِرْزِ وهو
الْكُمُّ فَيُقْطَعُ
وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَإِنْ كان الطَّرُّ بِحَلِّ الرِّبَاطِ يُنْظَرُ إنْ كان بِحَالٍ لو حَلَّ
الرِّبَاطَ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ على ظَاهِرِ الْكُمِّ بِأَنْ كانت الْعُقْدَةُ
مَشْدُودَةً من دَاخِلِ الْكُمِّ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا من غَيْرِ
حِرْزٍ وهو تَفْسِيرُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كان إذَا
حَلَّ تَقَعُ الدَّرَاهِمُ في دَاخِلِ الْكُمِّ وهو يَحْتَاجُ إلَى إدْخَالِ
يَدِهِ في الْكُمِّ لِلْأَخْذِ يُقْطَعُ لِوُجُودِ الْأَخْذِ من الْحِرْزِ وهو
تَفْسِيرُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَلَى هذا الْأَصْلِ يَخْرُجُ النَّبَّاشُ على أَصْلِ أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْقَبْرَ ليس بِحِرْزٍ
بِنَفْسِهِ أَصْلًا إذْ لَا تُحْفَظُ الْأَمْوَالُ فيه عَادَةً
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو سَرَقَ منه الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يُقْطَعُ
وَلَا حَافِظَ لِلْكَفَنِ لِيُجْعَلَ حِرْزًا بِالْحَافِظِ فلم يَكُنْ الْقَبْرُ
حِرْزًا بِنَفْسِهِ وَلَا بِغَيْرِهِ أو فيه شُبْهَةُ عَدَمِ الْحِرْزِ لِأَنَّهُ
إنْ كان حِرْزَ مِثْلِهِ فَلَيْسَ حِرْزًا لِسَائِرِ الْأَمْوَالِ فَتَمَكَّنَتْ
الشُّبْهَةُ في كَوْنِهِ حِرْزًا فَلَا يُقْطَعُ
ثُمَّ اُخْتُلِفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ في كل شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ أو حِرْزُ
نَوْعِهِ
قال بَعْضُ مَشَايِخِنَا إنَّهُ يُعْتَبَرُ في كل شَيْءٍ حِرْزُ مِثْلِهِ
كَالْإِصْطَبْلِ لِلدَّابَّةِ وَالْحَظِيرَةِ لِلشَّاةِ حتى ( ( ( حق ) ) ) لو
سَرَقَ اللُّؤْلُؤَةَ من هذه الْمَوَاضِعِ لَا يُقْطَعُ
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ في مُخْتَصَرِهِ عن أَصْحَابِنَا أَنَّ ما كان حرزا ( ( (
حرز ) ) ) لنوع ( ( ( النوع ) ) ) يَكُونُ حِرْزًا لِلْأَنْوَاعِ كُلِّهَا
وَجَعَلُوا سُرَيْجَةَ الْبَقَّالِ حِرْزًا لِلْجَوَاهِرِ فَالطَّحَاوِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ
وقال حِرْزُ الشَّيْءِ هو الْمَكَانُ الذي يُحْفَظُ فيه عَادَةً وَالنَّاسُ في
الْعَادَاتِ لَا يُحْرِزُونَ الْجَوَاهِرَ في الْإِصْطَبْلِ وَالْكَرْخِيُّ
رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ لِأَنَّ حِرْزَ الشَّيْءِ ما يَحْرُزُ
ذلك الشَّيْءَ حَقِيقَةً وَسُرَيْجَةُ الْبَقَّالِ تَحْرُزُ الدَّرَاهِمَ
وَالدَّنَانِيرَ وَالْجَوَاهِرَ حَقِيقَةً فَكَانَتْ حِرْزًا لها
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ نِصَابًا وَالْكَلَامُ في هذا الشَّرْطِ يَقَعُ في
ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ أَحَدُهَا في أَصْلِ النِّصَابِ أَنَّهُ شَرْطٌ أَمْ لَا
وَالثَّانِي في بَيَانِ
____________________
(7/76)
قَدْرِهِ
وَالثَّالِثُ في بَيَانِ صِفَاتِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه قال عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إنَّهُ شَرْطٌ
فَلَا قَطْعَ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ
وحكى عن الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيُقْطَعُ
في الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وهو قَوْلُ الْخَوَارِجِ
وَاحْتَجُّوا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } من غَيْرِ شَرْطِ النِّصَابِ
وَرُوِيَ عن النبي أَنَّهُ قال لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْحَبْلَ
فَتُقْطَعُ يَدُهُ وَيَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحِبَالِ ما لَا يُسَاوِي دَانَقًا وَالْبَيْضَةُ لَا
تُسَاوِي حَبَّةً
وَلَنَا دَلَالَةُ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ من الصَّحَابَةِ أَمَّا دَلَالَةُ
النَّصِّ فَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَوْجَبَ الْقَطْعَ على
السَّارِقِ وَالسَّارِقَةِ وَالسَّارِقُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ من مَعْنًى وهو
السَّرِقَةُ وَالسَّرِقَةُ اسْمٌ لِلْأَخْذِ على سَبِيلِ الِاسْتِخْفَاءِ
وَمُسَارَقَةِ الْأَعْيُنِ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْحَاجَةُ في الِاسْتِخْفَاءِ
فِيمَا له خَطَرٌ وَالْحَبَّةُ لَا خَطَرَ لها فلم يَكُنْ أَخْذُهَا سَرِقَةً
فَكَانَ إيجَابُ الْقَطْعِ على السَّارِقِ اشْتِرَاطًا لِلنِّصَابِ دَلَالَةً
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فإن الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عليهم أَجْمَعُوا على
اعْتِبَارِ النِّصَابِ وَإِنَّمَا جَرَى الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ في التَّقْدِيرِ
وَاخْتِلَافُهُمْ في التَّقْدِيرِ إجْمَاعٌ منهم على أَنَّ أَصْلَ النِّصَابِ
شَرْطٌ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ ما رَوَوْا من الحديث غَيْرُ ثَابِتٍ أو مَنْسُوخٌ
أو يُحْمَلُ الْمَذْكُورُ على حَبْلٍ له خَطَرٌ كَحَبْلِ السَّفِينَةِ وَبَيْضَةٍ
خَطِيرَةٍ كَبَيْضَةِ الْحَدِيدِ تَوْفِيقًا بين الدَّلَائِلِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ في قَدْرِ النِّصَابِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فيه أَيْضًا
قال أَصْحَابُنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَلَا
قَطْعَ في أَقَلِّ من عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ وابن أبي لَيْلَى بِخَمْسَةٍ
وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ
بِثَلَاثِينَ
وقال الشَّافِعِيُّ بِرُبْعِ دِينَارٍ حتى لو سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ إلَّا
حَبَّةً وهو مع نُقْصَانِهِ يُسَاوِي عَشَرَةً لَا يُقْطَعُ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا
يُقْطَعُ
وَلَوْ سَرَقَ رُبُعَ دِينَارٍ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً لم يُقْطَعْ عِنْدَنَا
وَعِنْدَهُ يُقْطَعُ وَقِيمَةُ الدِّينَارِ عِنْدَنَا عَشَرَةٌ وَعِنْدَهُ اثْنَا
عَشَرَ على ما نُبَيِّنُ في كِتَابِ الدِّيَاتِ
احْتَجَّ من اعْتَبَرَ الْخَمْسَةَ بِمَا رُوِيَ عن النبي عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا تُقْطَعُ الْخَمْسَةُ إلَّا بِخَمْسَةٍ
وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عن سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ
عنها عن النبي أَنَّهُ قال تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ في رُبُعِ دِينَارٍ
فَصَاعِدًا
وَرُوِيَ عن سَيِّدِنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ وَهِيَ قِيمَةُ
رُبُعِ دِينَارٍ عِنْدَهُ لِأَنَّ الدِّينَارَ على أَصْلِهِ مُقَوَّمٌ بِاثْنَيْ
عَشَرَ دِرْهَمًا
وَلَنَا ما رَوَى مُحَمَّدٌ في الْكِتَابِ بِإِسْنَادِهِ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ
عن أبيه عن جَدِّهِ عبد اللَّهِ بن عَمْرِو بن الْعَاصِ عنه عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ كان لَا يَقْطَعُ إلَّا في ثَمَنِ مِجَنٍّ وهو يَوْمَئِذٍ
يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وفي رِوَايَةٍ عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ قال قال رسول اللَّهِ
لَا تقطع ( ( ( قطع ) ) ) فِيمَا دُونَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنه عن النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
أَنَّهُ قال لَا تُقْطَعُ الْيَدُ إلَّا في دِينَارٍ أو في عَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنه عن رسول اللَّهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ إلَّا في ثَمَنِ الْمِجَنِّ
وكان يُقَوَّمُ يَوْمَئِذٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ
وَعَنْ ابْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أَنَّهُ قال ما قُطِعَتْ يَدٌ على عَهْدِ رسول
اللَّهِ إلَّا في ثَمَنِ الْمِجَنِّ وكان يُسَاوِي يَوْمَئِذٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ في الْأَصْلِ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أَمَرَ
بِقَطْعِ يَدِ سَارِقِ ثَوْبٍ بَلَغَتْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَمَرَّ بِهِ
سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رضي اللَّهُ عنه فقال إنَّ هذا لَا يُسَاوِي إلَّا
ثَمَانِيَةً فَدَرَأَ سَيِّدُنَا عُمَرُ الْقَطْعَ عنه
وَعَنْ سَيِّدِنَا عُمَرَ وَسَيِّدِنَا عُثْمَانَ وَسَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ رضي اللَّهُ عنهم مِثْلُ مَذْهَبِنَا وَالْأَصْلُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ
انقعد ( ( ( انعقد ) ) ) على وُجُوبِ الْقَطْعِ في الْعَشَرَةِ وَفِيمَا دُونَ
الْعَشَرَةِ
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ لِاخْتِلَافِ الْأَحَادِيثِ فَوَقَعَ الِاحْتِمَالُ في
وُجُوبِ الْقَطْعِ فَلَا يَجِبُ مع الِاحْتِمَالِ
وإذا عُرِفَ أَنَّ النِّصَابَ شَرْطُ وُجُوبِ الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ فَإِنْ
وُجِدَ ذلك الْقَدْرُ في أَخْذِ سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ قُطِعَ لِوُجُودِ الشَّرْطِ
وهو كَمَالُ النِّصَابِ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ السَّرِقَةُ لم يُقْطَعْ لِفَقْدِ
الشَّرْطِ
وَعَلَى هذا مَسَائِلُ إذَا دخل رَجُلٌ دَارَ الرَّجُلِ فَسَرَقَ من بَيْتٍ فيها
دِرْهَمًا فَأَخْرَجَهُ إلَى صَحْنِهَا ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا من
الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَخَذَ دِرْهَمًا من الْبَيْتِ فَأَخْرَجَهُ
فلم يَزَلْ بفعل ( ( ( يفعل ) ) ) ذلك حتى أَخَذَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ
أَخْرَجَ الْعَشَرَةَ من الدَّارِ قُطِعَ لِأَنَّ هذه سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ
الدَّارَ مع صَحْنِهَا وَبُيُوتِهَا حِرْزٌ وَاحِدٌ فما دَامَ في الدَّارِ لم
يُوجَدْ الْإِخْرَاجُ من الْحِرْزِ فإذا أَخْرَجَ من الدَّارِ جُمْلَةً فَقَدْ
وُجِدَ إخْرَاجُ نِصَابٍ من الْحِرْزِ فَيَجِبُ الْقَطْعُ
وَلَوْ كان خَرَجَ في كل مَرَّةٍ من الدَّارِ ثُمَّ عَادَ حتى فَعَلَ ذلك عَشْرَ
مَرَّاتٍ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ هذه سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ فِعْلٍ منه إخْرَاجٌ من
الْحِرْزِ فَكَانَ
____________________
(7/77)
كُلُّ
فِعْلٍ منه مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ وإنه سَرِقَةُ ما دُونَ النِّصَابِ فَلَا
يُوجِبُ الْقَطْعَ
وَكَذَلِكَ جَمَاعَةٌ دَخَلُوا دَارًا وَأَخْرَجُوا من بَيْتٍ من بُيُوتِهَا
الْمَتَاعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى إلَى صَحْنِ الدَّارِ ثُمَّ أَخْرَجُوهُ من
الصَّحْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً يُقْطَعُونَ إذَا كان ما أَخْرَجُوا يَخُصُّ كُلَّ
وَاحِدٍ منهم عَشَرَةَ دَرَاهِمَ
وَإِنْ تَفَرَّقَ الْإِخْرَاجُ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ
الْإِخْرَاجَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ سَرِقَةٌ وَاحِدَةٌ فإذا تَفَرَّقَ فَهُوَ
سَرِقَاتٌ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُعْتَبَرًا بِنَفْسِهِ
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من مَنْزِلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
بِأَنْ سَرَقَ منه دِرْهَمًا أو تِسْعَةً لم يُقْطَعْ لِأَنَّهُمَا سَرِقَتَانِ
مُخْتَلِفَتَانِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ من الْمَنْزِلَيْنِ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهِ
فَهَتْكُ أَحَدِهِمَا بِمَا دُونَ النِّصَابِ لَا يُعْتَبَرُ في هَتْكِ الْآخَرِ
فَيَبْقَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعْتَبَرًا في نَفْسِهِ
وَلَوْ سَرَقَ رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لِعَشْرَةِ أَنْفُسٍ في مَوْضِعٍ وَاحِدٍ
قُطِعَ
وَإِنْ تَفَرَّقَ مُلَّاكُهَا يُعْتَبَرُ في ذلك حَالُ السَّارِقِ
وَالسَّارِقُ وَاحِدٌ فَكَانَ النِّصَابُ كَامِلًا وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ حَالُ
السَّارِقِ دُونَ الْمَسْرُوقِ منه لِأَنَّ كَمَالَ النِّصَابِ شَرْطُ وُجُوبِ
الْقَطْعِ وَالْقَطْعُ عليه
فَيُعْتَبَرُ جَانِبُ من عليه وَلَا يُعْتَبَرُ جَانِبُ الْمَسْرُوقِ منه لِأَنَّ
الْحُكْمَ لم يَجِبْ له بَلْ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَإِنْ كان عَشْرَةُ أَنْفُسٍ في دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ في بَيْتٍ على حِدَةٍ
فَسَرَقَ من كل وَاحِدٍ منهم دِرْهَمًا يُقْطَعُ إذَا خَرَجَ بِالْجَمِيعِ من
الدَّارِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الدَّارَ حِرْزٌ وَاحِدٌ وقد أَخْرَجَ منها
نِصَابًا كَامِلًا فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً وَإِنْ اخْتَلَفَ الْمَسْرُوقُ
منه
وَلَوْ كانت الدَّارُ عَظِيمَةً فيها حُجُرٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ حُجْرَةٌ فَسَرَقَ من
كل حُجْرَةٍ أَقَلَّ من عَشَرَةٍ لم يُقْطَعْ لِأَنَّ ذلك سَرِقَاتٌ إذْ كُلُّ
حُجْرَةٍ حِرْزٌ بِانْفِرَادِهَا وَالسَّرِقَاتُ إذَا اخْتَلَفَتْ يُعْتَبَرُ في
كل وَاحِدٍ منهما كَمَالُ النِّصَابِ ولم يُوجَدْ
وَلَوْ سَرَقَ عَشْرَةُ أَنْفُسٍ من رَجُلٍ وَاحِدٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لم
يُقْطَعُوا بِخِلَافِ الْوَاحِدِ إذَا سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من عَشْرَةِ
أَنْفُسٍ أَنَّهُ يُقْطَعُ إذَا كانت الدَّرَاهِمُ في حِرْزٍ وَاحِدٍ لِمَا
بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ السَّارِقِ لَا جَانِبُ الْمَسْرُوقِ منه
فَكَانَتْ السَّرِقَةُ وَاحِدَةً فَيُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ في حَقِّ
السَّارِقِ لَا في حَقِّ الْمَسْرُوقِ منه وَسَوَاءٌ كانت الدَّرَاهِمُ
مُجْتَمَعَةً أو مُتَفَرِّقَةً بَعْدَ أَنْ كان الْحِرْزُ وَاحِدًا حتى لو سَرَقَ
عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مُتَفَرِّقًا من كل كِيسٍ دِرْهَمًا من عَشْرَةِ أَنْفُسٍ من
مَنْزِلٍ وَاحِدٍ يُقْطَعُ لِأَنَّ الْحِرْزَ وَاحِدٌ فإذا أَخْرَجَهَا منه فَقَدْ
خَرَجَ بِنِصَابٍ كَامِلٍ من السَّرِقَةِ فَيُقْطَعُ
وَلَوْ سَرَقَ ثَوْبًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ فَوَضَعَهُ على بَابِ
الدَّارِ ثُمَّ دخل فَأَخَذَ ثَوْبًا آخَرَ يُسَاوِي تِسْعَةً فَأَخْرَجَهُ لم
يُقْطَعْ لِأَنَّهُ لم يَبْلُغْ الْمَأْخُوذُ في كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصَابًا
فَلَا يُقْطَعُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا صِفَاتُ النِّصَابِ فَمِنْهَا أَنْ تَكُونَ الدَّرَاهِمُ الْمَسْرُوقَةُ
جِيَادًا حتى لو سَرَقَ عَشَرَةً زُيُوفًا أو نَبَهْرَجَةً أو سَتُّوقَةً لَا
يُقْطَعُ إلَّا أَنْ تَكُونَ كَثِيرَةً تَبْلُغُ قِيمَةَ عَشَرَةٍ جِيَادٍ وَكَذَلِكَ
الْمَسْرُوقُ من غَيْرِ الدَّرَاهِمِ إذَا كان لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ قِيمَةَ
عَشَرَةِ دَرَاهِمَ جيادا ( ( ( جياد ) ) ) لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ
الدَّرَاهِمِ في الْأَحَادِيثِ يَنْصَرِفُ إلَى الْجِيَادِ
وَمِنْهَا أَنْ يَعْتَبِرَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَزْنَ سَبْعَةٍ كَذَا قالوا
لِأَنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَقَعُ على ذلك أَلَا تَرَى
أَنَّهُ قُدِّرَ بِهِ النِّصَابُ في الزَّكَوَاتِ وَالدِّيَاتِ وَكَذَا الناس
أَجْمَعُوا على هذا في وَزْنِ الدَّرَاهِمِ وَلِأَنَّ هذا أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ
لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ على عَهْدِ رسول اللَّهِ كانت صِغَارًا وَكِبَارًا فإذا
جُمِعَ صَغِيرٌ وَكَبِيرٌ كَانَا دِرْهَمَيْنِ من وَزْنِ سَبْعَةٍ فَكَانَ هذا
الْوَزْنُ هو أَوْسَطُ الْمَقَادِيرِ فَاعْتُبِرَ بِهِ لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ خَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا وَهَلْ يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ
مَضْرُوبَةً ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ عَشَرَةَ
دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً وَهَكَذَا رَوَى بِشْرٌ عن أبي يُوسُفَ وابن سِمَاعَةَ عن
مُحَمَّدٍ حتى لو كان تِبْرًا قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَضْرُوبَةً لَا
يُقْطَعُ
وَرَوَى الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ عليهم الرَّحْمَةُ أَنَّ السَّارِقَ إذَا
سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِمَّا يَجُوزُ بين الناس وَيَرُوجُ في
مُعَامَلَاتِهِمْ قُطِعَ
وَهَذَا يَدُلُّ على أَنَّ كَوْنَهَا مَضْرُوبَةً ليس بِشَرْطٍ بَلْ يُقْطَعُ في
الْمَضْرُوبَةِ وَغَيْرِهَا إذَا كان مِمَّا يَجُوزُ بين الناس وَيَرُوجُ في
مُعَامَلَاتِهِمْ
لَهُمَا أَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ أو تَقْوِيمَ
الْمِجَنِّ وَقَعَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّرَاهِمُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبَةِ
وَالتِّبْرُ ليس بِمَضْرُوبٍ وَلَا في مَعْنَى الْمَضْرُوبِ في الْمَالِيَّةِ
أَيْضًا لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عنه في الْقِيمَةِ فَأَشْبَهَ نُقْصَانَ الْوَزْنِ
وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْجَوَازَ وَالرَّوَاجَ في
مُعَامَلَاتِ الناس فَأَجْرَى بِهِ التَّعَامُلَ بين الناس يَسْتَوِي في نِصَابِهِ
الْمَضْرُوبُ وَالصَّحِيحُ وَالْمُكَسَّرُ كما في نِصَابِ الزَّكَاةِ فما قَالَهُ
أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ وما قَالَهُ أبو يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٌ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ في بَابِ الْحُدُودِ
ثُمَّ كَمَالُ النِّصَابِ في قِيمَةِ الْمَسْرُوقِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ السَّرِقَةِ
لَا غَيْرُ أَمْ وَقْتَ السَّرِقَةِ وَالْقَطْعِ جميعا وَفَائِدَةُ هذا تَظْهَرُ
فِيمَا
____________________
(7/78)
إذَا
كانت قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ كَامِلَةً وَقْتَ السَّرِقَةِ ثُمَّ نَقَصَتْ أَنَّهُ
هل يَسْقُطُ الْقَطْعُ فَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ نُقْصَانَ الْمَسْرُوقِ
لَا يَخْلُو إمَّا إن كان نُقْصَانُ الْعَيْنِ بِأَنْ دخل الْمَسْرُوقَ عَيْبٌ أو
ذَهَبَ بَعْضُهُ
وَإِمَّا إن كان نُقْصَانُ السِّعْرِ فَإِنْ كان نُقْصَانُ الْعَيْنِ يُقْطَعُ
السَّارِقُ وَلَا يُعْتَبَرُ كَمَالُ النِّصَابِ وَقْتَ الْقَطْعِ بَلْ وَقْتَ
السَّرِقَةِ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ نُقْصَانَ عَيْنِهِ هَلَاكُ بَعْضِهِ وَهَلَاكُ
الْكُلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَهَلَاكُ الْبَعْضِ أَوْلَى وَإِنْ كان
نُقْصَانُ السِّعْرِ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ في
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ في الْوَقْتَيْنِ جميعا
وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُقْطَعُ وَهَكَذَا ذَكَرَ
الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِخْرَاجِ
من الْحِرْزِ وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ دُونَ نُقْصَانِ الْعَيْنِ
لِأَنَّ ذلك لَا يُؤَثِّرُ في الْمَحِلِّ وَهَذَا يُؤَثِّرُ فيه ثُمَّ نُقْصَانُ
الْعَيْنِ لم يُؤَثِّرْ في إسْقَاطِ الْقَطْعِ فَنُقْصَانُ السِّعْرِ أَوْلَى
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ على ما ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الْفَرْقُ بين النُّقْصَانَيْنِ
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ نُقْصَانَ السِّعْرِ يُورِثُ شُبْهَةَ نُقْصَانٍ
في الْمَسْرُوقِ وَقْتَ السَّرِقَةِ لِأَنَّ الْعَيْنَ بِحَالِهَا قَائِمَةٌ لم
تَتَغَيَّرْ وَتَغَيُّرُ السِّعْرِ ليس بِمَضْمُونٍ على السَّارِقِ أَصْلًا
فَيُجْعَلَ النُّقْصَانُ الطارىء كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّرِقَةِ بِخِلَافِ
نُقْصَانِ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَغَيُّرَ الْعَيْنِ إذْ هو هَلَاكُ بَعْضِ
الْعَيْنِ وهومضمون عليه في الْجُمْلَةِ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُ وُجُودِهِ
وَقْتَ السَّرِقَةِ
وَكَذَا إذَا سَرَقَ في بَلَدٍ فَأَخَذَ في بَلَدٍ آخَرَ وَالْقِيمَةُ فيه
أَنْقَصُ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ حتى تَكُونَ
الْقِيمَةُ جميعا في السِّعْرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى رِوَايَةِ
الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ السَّرِقَةِ لَا
غَيْرُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْمَسْرُوقُ الذي يُقْطَعُ فيه في الْجُمْلَةِ مَقْصُودًا
بِالسَّرِقَةِ لَا تَبَعًا لِمَقْصُودٍ وَلَا يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ
في قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هذا ليس بِشَرْطٍ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالسَّرِقَةِ إذَا كان مِمَّا يُقْطَعُ
فيه لو انْفَرَدَ وَبَلَغَ نِصَابًا بِنَفْسِهِ يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ لم
يَبْلُغْ بِنَفْسِهِ نِصَابًا إلَّا بِالتَّابِعِ يَكْمُلُ النِّصَابُ بِهِ
فَيُقْطَعُ
وَكَذَلِكَ إذَا كان واحد ( ( ( واحدا ) ) ) مِنْهُمَا مَقْصُودًا وَلَا يَبْلُغُ
بِنَفْسِهِ نِصَابًا يَكْمُلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَيُقْطَعُ وَإِنْ كان
الْمَقْصُودُ بِالسَّرِقَةِ مِمَّا لَا يُقْطَعُ فيه لو انْفَرَدَ لَا يُقْطَعُ
وَإِنْ كان معه غَيْرُهُ مِمَّا يَبْلُغُ نِصَابًا إذَا لم يَكُنْ الْغَيْرُ
مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ بَلْ يَكُونُ تَابِعًا في قَوْلِهِمَا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْطَعُ إذَا كان ذلك الْغَيْرُ نِصَابًا كَامِلًا
وَبَيَانُ هذه الْجُمْلَةِ في مَسَائِلَ إذَا سَرَقَ إنَاءً من ذَهَبٍ أو فِضَّةٍ
فيه شَرَابٌ أو مَاءٌ أو لَبَنٌ أو مَاءُ وَرْدٍ أو ثَرِيدٌ أو نَبِيذٌ أو غَيْرُ
ذلك مِمَّا لَا يُقْطَعُ فيه لو انْفَرَدَ لم يُقْطَعْ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي
يُوسُفَ يُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ ما في الْإِنَاءِ إذَا كان مِمَّا لَا يُقْطَعُ فيه
الْتَحَقَ بِالْعَدَمِ فَيُعْتَبَرُ أَخَذُ الْإِنَاءِ على الِانْفِرَادِ
فَيُقْطَعُ فيه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ من هذه السَّرِقَةِ ما في الْإِنَاءِ
وَالْإِنَاءُ تَابِعٌ أَلَا يَرَى أَنَّهُ لو قَصَدَ الْإِنَاءَ بِالْأَخْذِ
لَأَبْقَى ما فيه وما في الْإِنَاءِ لَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ فإذا لم
يَجِبْ الْقَطْعُ بِالْمَقْصُودِ لَا يَجِبُ بِالتَّابِعِ
وَإِلَى هذا أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في الْكِتَابِ فقال إنَّمَا
أَنْظُرُ إلَى ما في جَوْفِهِ فَإِنْ كان ما في جَوْفِهِ لَا يُقْطَعُ فيه لم
أَقْطَعْهُ وَلَوْ سَرَقَ ما في الْإِنَاءِ في الدَّارِ قبل أَنْ يُخْرِجَ
الْإِنَاءَ منها ثُمَّ أَخْرَجَ الْإِنَاءَ فَارِغًا منه قُطِعَ لِأَنَّهُ لَمَّا
سَرَقَ ما فيه في الدَّارِ عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُ هو الْإِنَاءُ وَالْمَقْصُودُ
بِالسَّرِقَةِ إذَا كان مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَبَلَغَ نِصَابًا
يُقْطَعُ
وَعَلَى هذا الْخِلَافِ إذَا سَرَقَ صَبِيًّا حُرًّا لَا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ
وَعَلَيْهِ حُلِيٌّ
وَإِنْ كان يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ له يَدًا
على نَفْسِهِ وَعَلَى ما عليه من الْحُلِيِّ فَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ سَرِقَةً بَلْ
يَكُونُ خِدَاعًا فَلَا يُقْطَعُ
وَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ عَبْدًا صَبِيًّا يُعَبِّرُ عن نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ
حُلِيٌّ أو لم يَكُنْ لَا يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ كان لَا يُعَبِّرُ عن
نَفْسِهِ يُقْطَعُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ بِنَاءً على
أَنَّ سَرِقَةَ مِثْلِ هذا الْعَبْدِ يُوجِبُ الْقَطْعَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ
لَا يُوجِبُ
وَالْمَسْأَلَةُ قد مَرَّتْ
وَلَوْ سَرَقَ كَلْبًا أو غَيْرَهُ من السِّبَاعِ في عُنُقِهِ طَوْقٌ لم يُقْطَعْ
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ مُصْحَفًا مُفَضَّضًا أو مُرَصَّعًا بِيَاقُوتٍ لم يُقْطَعْ
عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أبي يُوسُفَ يُقْطَعُ لِمَا ذَكَرْنَا
وَلَوْ سَرَقَ كُوزًا قِيمَتُهُ تِسْعَةُ دَرَاهِمَ وَفِيهِ عَسَلٌ يُسَاوِي
دِرْهَمًا يُقْطَعُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ما فيه من الْعَسَلِ وَالْكُوزُ تَبَعٌ
فَيَكْمُلُ نِصَابُ الْأَصْلِ بِهِ
وَكَذَلِكَ لو سَرَقَ حِمَارًا يُسَاوِي تِسْعَةً وَعَلَيْهِ إكَافٌ يُسَاوِي
دِرْهَمًا يُقْطَعُ لِمَا قُلْنَا
وَلَوْ سَرَقَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ من ثَوْبٍ وَالثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً
يُنْظَرُ إنْ كان ذلك الثَّوْبُ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلدَّرَاهِمِ بِأَنْ تُشَدَّ
فيه الدَّرَاهِمُ عَادَةً بِأَنْ كانت خِرْقَةً وَنَحْوَهَا يُقْطَعُ لِأَنَّ
الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ هو ما فيه وَإِنْ كان لَا يَصْلُحُ بِأَنْ كان ثَوْبَ
كِرْبَاسَ فَإِنْ كان تَبْلُغُ قِيمَةُ الثَّوْبِ
____________________
(7/79)
نِصَابًا
بِأَنْ كان يُسَاوِي عَشَرَةً يُقْطَعُ بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّ الثَّوْبَ مَقْصُودٌ
بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ وَإِنْ كان لَا يَبْلُغُ نِصَابًا قال أبو حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ
وَذَكَرَ في الْأَصْلِ أَنَّ اللِّصَّ إنْ كان يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ يُقْطَعْ
وَإِنْ كان لايعلم لَا يُقْطَعُ
وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي حَنِيفَةَ وهو قَوْلُ أبي يُوسُفَ وَرُوِيَ
عنه أَنَّهُ يُقْطَعُ عَلِمَ بها أو لم يَعْلَمْ ووجه ( ( ( ووجهه ) ) ) أَنَّ
الْعِلْمَ بِالْمَسْرُوقِ ليس بِشَرْطٍ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ بَلْ الشَّرْطُ أَنْ
يَكُونَ نِصَابًا وقد وُجِدَ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا كان يَعْلَمُ بِالدَّرَاهِمِ كان
مَقْصُودُهُ بِالْأَخْذِ الدَّرَاهِمَ وقد بَلَغَتْ نِصَابًا فَيُقْطَعُ وإذا كان
لَا يَعْلَمُ بها كان مَقْصُودُهُ الثَّوْبَ وَأَنَّهُ لم يَبْلُغْ النِّصَابَ
فَلَا يُقْطَعُ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِأَبِي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ مِثْلَ
هذا الثَّوْبِ إذَا كان مِمَّا لَا تُشَدُّ بِهِ الدَّرَاهِمُ عَادَةً كان
مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ وَإِنْ لم يَبْلُغْ نِصَابًا فلم يَجِبْ فيه
الْقَطْعُ فَكَذَا فِيمَا فيه لِأَنَّهُ تَابِعٌ له وَلَوْ سَرَقَ جوالق ( ( (
جوالقا ) ) ) أو جِرَابًا فيه مَالٌ كَثِيرٌ قُطِعَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
بِالسَّرِقَةِ هو الْمَظْرُوفُ لَا الظَّرْفُ وَالْمَقْصُودُ مِمَّا يَجِبُ الْقَطْعُ
بِسَرِقَتِهِ فَيُقْطَعُ
وَكَذَا إذَا كان الثَّوْبُ لَا يُسَاوِي عَشَرَةً وَفِيهِ مَالٌ عَظِيمٌ عَلِمَ
بِهِ اللِّصُّ يُقْطَعُ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْمَالِ الْكَثِيرِ
وَلَا يَصْلُحُ وِعَاءً لِلْيَسِيرِ فَفِيمَا صَلَحَ وِعَاءً له يُعْتَبَرُ ما فيه
لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّ مَقْصُودَهُ ما فيه وَفِيمَا لَا يَصْلُحُ
يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ مَقْصُودًا بِالسَّرِقَةِ وما فيه تَابِعًا له وَلَا قَطْعَ
في الْمَقْصُودِ لِنُقْصَانِ النِّصَابِ فَكَذَا في التَّابِعِ لِأَنَّ التَّبَعَ
حُكْمُهُ حُكْمُ الْأَصْلِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ منه فَهُوَ أَنْ يَكُونَ له يَدٌ
صَحِيحَةٌ وهو يَدُ الْمِلْكِ أو يَدُ الْأَمَانَةِ كَيَدِ الْمُودِعِ
وَالْمُسْتَعِيرِ وَالْمُضَارِبِ وَالْمُبْضِعِ أو يَدُ الضَّمَانِ كَيَدِ
الْغَاصِبِ وَالْقَابِضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنِ فَيَجِبُ
الْقَطْعُ على السَّارِقِ من هَؤُلَاءِ أَمَّا من الْمَالِكِ فَلَا شَكَّ فيه
وَكَذَا من أَمِينِهِ لِأَنَّ يَدَ أَمِينِهِ يَدُهُ فَالْأَخْذُ منه كَالْأَخْذِ
من الْمَالِكِ فَأَمَّا من الْغَاصِبِ فإن مَنْفَعَةَ يَدَهُ عَائِدَةً إلَى
الْمَالِكِ إذْ بها يَتَمَكَّنُ من الرَّدِّ على الْمَالِكِ لِيَخْرُجَ عن
الْعُهْدَةِ فَكَانَتْ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ من وَجْهٍ وَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ
مَضْمُونٌ على الْغَاصِبِ وَضَمَانُ الْغَصْبِ عِنْدَنَا ضَمَانُ مِلْكٍ
فَأَشْبَهَ يَدَ الْمُشْتَرِي وَالْمَقْبُوضُ على سَوْمِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ على
الْقَابِضِ وَالْمَرْهُونُ مَضْمُونٌ على الْمُرْتَهِنِ بِالدَّيْنِ فَيَجِبُ
الْقَطْعُ على السَّارِقِ منهم وَهَلْ يَسْتَوْفِي بِخُصُومَتِهِمْ حَالَ غِيبَةِ
الْمَالِكِ فيه خِلَافٌ نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ على السَّارِقِ من السَّارِقِ لِأَنَّ يَدَ السَّارِقِ
لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ إذْ لَيْسَتْ يَدَ مِلْكٍ وَلَا يَدَ أَمَانَةٍ وَلَا
يَدَ ضَمَانٍ فَكَانَ الْأَخْذُ منه كَالْأَخْذِ من الطَّرِيقِ وَإِنْ كان
الْقَطْعُ درىء ( ( ( درئ ) ) ) عن الْأَوَّلِ قُطِعَ الثَّانِي لِأَنَّهُ إذَا
درىء ( ( ( درئ ) ) ) عنه الْقَطْعُ صَارَتْ يَدُهُ يَدَ ضَمَانٍ وَيَدُ
الضَّمَانِ يَدٌ صَحِيحَةٌ كَيَدِ الْغَاصِبِ وَنَحْوِهِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَسْرُوقِ فيه وهو الْمَكَانُ فَهُوَ أَنْ
تَكُونَ السَّرِقَةُ في دَارِ الْعَدْلِ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ في دَارِ
الْحَرْبِ وَدَارِ الْبَغْيِ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ في دَارِ الْحَرْبِ
وَلَا على دَارِ الْبَغْيِ فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لَا تَنْعَقِدُ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ
وَبَيَانُ هذا في مَسَائِلِ التُّجَّارِ أو الْأَسَارَى من أَهْلِ الْإِسْلَامِ في
دَارِ الْحَرْبِ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لَا يَقْطَعُهُ الْإِمَامُ لِأَنَّهُ لَا يَدَ
لِلْإِمَامِ في دَارِ الْحَرْبِ فَالسَّرِقَةُ الْمَوْجُودَةُ فِيهِمَا لم
تَنْعَقِدْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْقَطْعِ فَلَا تستوفى في دَارِ الْإِسْلَامِ
وَكَذَلِكَ التُّجَّارُ من أَهْلِ الْعَدْلِ في مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ أو
الْأَسَارَى في أَيْدِيهِمْ إذَا سَرَقَ بَعْضُهُمْ من بَعْضٍ ثُمَّ خَرَجُوا إلَى
أَهْلِ الْعَدْلِ فَأَخَذَ السَّارِقُ لم يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ لِأَنَّ
السَّرِقَةَ وُجِدَتْ في مَوْضِعٍ لَا يَدَ لِلْإِمَامِ عليه فَأَشْبَهَتْ السَّرِقَةَ
في دَارِ الْحَرْبِ
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ من أَهْلِ الْبَغْيِ جاء لِلْإِمَامِ تَائِبًا وقد سَرَقَ من
أَهْلِ الْبَغْيِ لم يَقْطَعْهُ لِمَا قُلْنَا
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ من أَهْلِ الْعَدْلِ أَغَارَ على مُعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ
فَسَرَقَ منهم لم يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ لِأَنَّ السَّرِقَةَ لم تَنْعَقِدْ
مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِعَدَمِ وَلَايَةِ الِاسْتِيفَاءِ فيه وَلِأَنَّهُ أَخَذَ
عن تَأْوِيلٍ لِأَنَّ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَأْخُذُوا أَمْوَالَ أَهْلِ
الْبَغْيِ وَيَحْبِسُونَهَا عِنْدَهُمْ حتى يَتُوبُوا فَكَانَ في الْعِصْمَةِ
شُبْهَةُ الْعَدَمِ
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ من أَهْلِ الْبَغْيِ إذَا سَرَقَ من مُعَسْكَرِ أَهْلِ
الْعَدْلِ وَعَادَ إلَى مُعَسْكَرِهِ ثُمَّ أَخَذَ بَعْدَ ذلك لم يُقْطَعْ
لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ إبَاحَةَ أَمْوَالِنَا وَلَهُمْ مَنَعَةٌ فَكَانَ
أَخْذُهُ عن تَأْوِيلٍ فَلَا يُقْطَعُ بِالسَّرِقَةِ كما لَا يَضْمَنُ
بِالْإِتْلَافِ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا من أَهْلِ الْعَدْلِ سَرَقَ من إنْسَانٍ مَالًا وهو يَشْهَدُ
عليه بِالْكُفْرِ وَيَسْتَحِلُّ دَمَهُ وَمَالَهُ يُقْطَعُ لِأَنَّ مُجَرَّدَ
اعْتِقَادِ الْإِبَاحَةِ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَلِأَنَّا لو اعْتَبَرْنَا ذلك
لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ
____________________
(7/80)
لِأَنَّ
كُلَّ سَارِقٍ لَا يَعْجِزُ عن إظْهَارِ ذلك فَيَسْقُطَ الْقَطْعُ عن نَفْسِهِ
وَهَذَا قَبِيحٌ فما يُؤَدِّي إلَيْهِ مِثْلُهُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما تَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ عِنْدَ الْقَاضِي فَنَقُولُ
وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي
تَظْهَرُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةُ
وَالثَّانِي الْإِقْرَارُ أَمَّا الْبَيِّنَةُ فظهر ( ( ( فتظهر ) ) ) بها
السَّرِقَةُ إذَا اُسْتُجْمِعَتْ شَرَائِطُهَا لِأَنَّهَا خَبَرٌ يُرَجَّحُ فيه
جَنَبَةُ الصِّدْقِ على جَنَبَةِ الْكَذِبِ فَيَظْهَرُ الْمُخْبَرُ بِهِ
وَشَرَائِطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ في بَابِ السَّرِقَةِ بَعْضُهَا يَعُمُّ الْبَيِّنَاتِ
كُلَّهَا وقد ذَكَرْنَا ذلك في كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ
أَبْوَابَ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وهو الذُّكُورَةُ وَالْعَدَالَةُ
وَالْأَصَالَةُ فَلَا تُقْبَلُ فيها شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَلَا شَهَادَةُ
الْفُسَّاقِ وَلَا الشَّهَادَةُ على الشَّهَادَةِ لِأَنَّ في شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ
زِيَادَةَ شُبْهَةٍ لَا ضَرُورَةَ إلَى تَحَمُّلِهَا فِيمَا يُحْتَالُ لِدَفْعِهِ
وَيُحْتَاطُ لِدَرْئِهِ
وَكَذَا عَدَمُ تَقَادُمِ الْعَهْدِ إلَّا في حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ حتى لو
شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ بَعْد حِينٍ لم تُقْبَلْ وَلَا يُقْطَعُ وَيَضْمَنُ
الْمَالَ
وَالْأَصْلُ أَنَّ التَّقَادُمَ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ على الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ وَلَا يُبْطِلُهَا على حَدِّ الْقَذْفِ وَلَا يُبْطِلُ الْإِقْرَارَ
أَيْضًا
وَالْفَرْقُ ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْحُدُودِ وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ
لِأَنَّ التَّقَادُمَ إنَّمَا يَمْنَعُ من الشَّهَادَةِ على الْحُدُودِ
الْخَالِصَةِ لِلشُّبْهَةِ وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَا
تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ وَبَعْضُهَا يَخُصُّ أَرْبَابَ الْأَمْوَالِ
وَالْحُقُوقِ وهو الْخُصُومَةُ وَالدَّعْوَى مِمَّنْ له يَدٌ صَحِيحَةٌ حتى لو
شَهِدُوا أَنَّهُ سَرَقَ من فُلَانٍ الْغَائِبِ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ ما لم
يَحْضُرْ الْمَسْرُوقُ منه وَيُخَاصِمُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كَوْنَ الْمَسْرُوقِ
مِلْكًا لِغَيْرِ السَّارِقِ شَرْطٌ لِكَوْنِ الْفِعْلِ سَرِقَةً وَلَا يَظْهَرُ
ذلك إلَّا بِالْخُصُومَةِ فإذا لم تُوجَدْ الْخُصُومَةُ لم تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ
وَلَكِنْ يُحْبَسُ السَّارِقُ لِأَنَّ إخْبَارَهُمْ أَوْرَثَ تُهْمَةً وَيَجُوزُ
الْحَبْسُ بِالتُّهْمَةِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ حَبَسَ رَجُلًا
بِالتُّهْمَةِ وَهَلْ يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ
الْقَائِمَةِ على سَرِقَةِ عَبْدِهِ مَالَ إنْسَانٍ وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ
اُخْتُلِفَ فيه
قال أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ يُشْتَرَطُ حتى لو كان مَوْلَاهُ غَائِبًا لم
تُقْبَلْ الْبَيِّنَةُ وهو إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَةً أُخْرَى أَنَّهُ لَا
يُشْتَرَطُ ويقضي عليه بِالْقَطْعِ وَإِنْ كان مَوْلَاهُ غَائِبًا
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَجِبُ على الْعَبْدِ
بِالسَّرِقَةِ من حَيْثُ إنَّهُ آدَمِيٌّ مُكَلَّفٌ لَا من حَيْثُ إنَّهُ مَالٌ
مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى
وَمِنْ هذا الْوَجْهِ الْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عنه فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ
حَضْرَتِهِ كما لَا تُشْتَرَطُ حَضْرَةُ سَائِرِ الْأَجَانِبِ وَلِهَذَا لو أَقَرَّ
بِالسَّرِقَةِ نَفَذَ إقْرَارُهُ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّ هذه الْبَيِّنَةَ تَتَضَمَّنُ
إتْلَافَ مِلْكِ الْمَوْلَى فَلَا يُقْضَى بها مع غِيبَةِ الْمَوْلَى
كَالْبَيِّنَةِ الْقَائِمَةِ على مِلْكِ شَيْءٍ من رَقَبَةِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ
من الْجَائِزِ أَنَّهُ لو كان حضارا ( ( ( حاضرا ) ) ) لَادَّعَى شُبْهَةً
مَانِعَةً من قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَالْحُدُودُ تُدْرَأُ ما أَمْكَنَ بِخِلَافِ
الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ بعدما وَقَعَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى
رَدَّهُ بِوَجْهٍ فلم تَتَمَكَّنْ فيه شُبْهَةٌ وَلَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ
بِالنُّكُولِ حتى لو ادَّعَى على رَجُلٍ سَرِقَةً فَأَنْكَرَ فاستحلف ( ( (
فاستخلف ) ) ) فَنَكَلَ لَا يُقْضَى عليه بِالْقَطْعِ وَيُقْضَى بِالْمَالِ لِأَنَّ
النُّكُولَ إمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى الْبَدَلِ وَالْقَطْعُ مِمَّا لَا
يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ وَالْإِبَاحَةَ وَالْمَالُ مما يَحْتَمِلُ الْبَدَلَ
وَالْإِبَاحَةَ وَإِمَّا أَنْ يَجْرِيَ مَجْرَى إقْرَارٍ فيه شُبْهَةُ الْعَدَمِ
لِكَوْنِهِ إقْرَارًا من طَرِيقِ السُّكُوتِ لَا صَرِيحًا وَالشُّبْهَةُ تَمْنَعُ
وُجُوبَ الْحَدِّ وَلَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْمَالِ
وَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَتَظْهَرُ بِهِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ
أَيْضًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ
بِالْإِضْرَارِ بِنَفْسِهِ فَتَظْهَرَ بِهِ السَّرِقَةُ كما تَظْهَرُ
بِالْبَيِّنَةِ بل ( ( ( وبل ) ) ) أَوْلَى لِأَنَّ الْمَرْءَ قد يُتَّهَمُ في
حَقِّ غَيْرِهِ ما لَا يُتَّهَمُ في حَقِّ نَفْسِهِ وَسَوَاءٌ كان الذي أَقَرَّ
بِالسَّرِقَةِ عَبْدًا مَأْذُونًا أو مَحْجُورًا بَعْدَ أَنْ كان من أَهْلِ
وُجُوبِ الْقَطْعِ عليه وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ
بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ عَشْرَةِ
دَرَاهِمَ لَا يَخْلُو إمَّا إن كان مَأْذُونًا أو مَحْجُورًا وَالْمَالُ قَائِمٌ
أو هَالِكٌ فَإِنْ كان مَأْذُونًا يُقْطَعُ ثُمَّ إنْ كان الْمَالُ هَالِكًا أو
مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عليه سَوَاءٌ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ في إقْرَارِهِ أو
كَذَّبَهُ لِأَنَّ الْقَطْعَ مع الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا
وَإِنْ كان الْمَالُ قَائِمًا فَهُوَ لِلْمَسْرُوقِ منه
وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ
وقال زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْطَعُ من غَيْرِ تَصْدِيقِ الْمَوْلَى
وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ منه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ يَتَضَمَّنُ إتْلَافَ مَالِ الْمَوْلَى
لِأَنَّ ما في يَدِ الْعَبْدِ مَالُ مَوْلَاهُ فَلَا يُقْبَلُ من غَيْرِ تَصْدِيقِ
الْمَوْلَى
وَلَنَا أَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ في هذا الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْمَوْلَى
إنْ كان يَتَضَرَّرُ بِهِ فَضَرَرُ الْعَبْدِ أَعْظَمُ فلم يَكُنْ مُتَّهَمًا في
إقْرَارِهِ فَيُقْبَلَ وَلِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى في يَدِ الْعَبْدِ في
حَقِّ الْقَطْعِ كما لَا مِلْكَ له في نَفْسِهِ في حَقِّ الْقَتْلِ فَكَانَ
الْعَبْدُ فيه مُبْقًى على أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ كَالْحُرِّ
وَبِهِ
____________________
(7/81)
تَبَيَّنَ
أَنَّ إقْرَارَهُ لم يَتَضَمَّنْ إبْطَالَ حَقِّ الْمَوْلَى في حَقِّ الْقَطْعِ
لِعَدَمِ الْحَقِّ له في حَقِّهِ
وَإِنْ كان مَحْجُورًا تُقْطَعْ يَدُهُ ثُمَّ إنْ كان الْمَالُ هَالِكًا أو
مُسْتَهْلَكًا لَا ضَمَانَ عليه كَذَّبَهُ مَوْلَاهُ أو صَدَّقَهُ وَإِنْ كان
قَائِمًا فَإِنْ صَدَّقَهُ مَوْلَاهُ تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ
منه وَإِنْ كَذَّبَهُ بِأَنْ قال هذا مَالِي اخْتَلَفَ فيه أَصْحَابُنَا
الثَّلَاثَةُ
قال أبو حَنِيفَةَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَسْرُوقِ منه
وقال أبو يُوسُفَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى وَلَا ضَمَانَ على
الْعَبْدِ في الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ
وقال مُحَمَّدٌ لَا تُقْطَعُ يَدُهُ وَالْمَالُ لِلْمَوْلَى وَيَضْمَنُ مثله
لِلْمُقَرِّ له بَعْدَ الْعِتْقِ
وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِالْمَالِ لَا يَصِحُّ
لِأَنَّ ما في يَدِهِ مِلْكُ مَوْلَاهُ ظَاهِرًا وَغَالِبًا وإذا لم يَنْفُذْ
إقْرَارُهُ بِالْمَالِ بَقِيَ الْمَالُ على حُكْمِ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا قَطْعَ
في مَالِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمَالِ
جَائِزٌ وإذاجاز إقْرَارُهُ بِالْمَالِ لِغَيْرِهِ تَثْبُتُ السَّرِقَةُ منه
فَيُقْطَعُ
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحَدِّ جَائِزٌ وَإِنْ كان لَا
يَجُوزُ بِالْمَالِ إذْ ليس من ضَرُورَةِ جَوَازِ إقْرَارِهِ في حَقِّ الْحَدِّ
جَوَازُهُ في الْمَالِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو قال سَرَقْت هذا الْمَالَ الذي في يَدِ زَيْدٍ من عمر ( (
( عمرو ) ) ) ويقبل ( ( ( يقبل ) ) ) إقْرَارُهُ في الْقَطْعِ وَلَا يُقْبَلُ في
الْمَالِ
كَذَا هذا
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ
بِالْحَدِّ جَائِزٌ لِمَا ذَكَرْنَا في الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فَلَزِمَهُ
الْقَطْعُ فَبَعْدَ ذلك لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُقْطَعَ في الْمَالِ الْمُقِرِّ
بِهِ بِعَيْنِهِ وَيُرَدَّ الْمَسْرُوقُ إلَى الْمَوْلَى وَإِمَّا أَنْ يُقْطَعَ
في مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ
في مَالٍ مَحْكُومٍ بِهِ لِمَوْلَاهُ لَا يَجُوزُ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْطَعَ في
مَالٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ صَادَفَ مَالًا مُعَيَّنًا
فَتَعَيَّنَ أَنْ يُقْطَعَ في الْمَالِ الْمُقِرِّ بِهِ بِعَيْنِهِ وَيُرَدَّ
الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ منه
هذا إذَا كان الْعَبْدُ بَالِغًا عَاقِلًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَأَمَّا إذَا كان
صَبِيًّا عَاقِلًا فَلَا قَطْعَ عليه لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْخِطَابِ
بِالشَّرَائِعِ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان مَأْذُونًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ
فَإِنْ كان قَائِمًا يُرَدُّ عليه وَإِنْ كان هَالِكًا يَضْمَنْ وَإِنْ كان
مَحْجُورًا لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَوْلَى فَإِنْ كَذَّبَهُ
فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى إنْ كان قَائِمًا وَإِنْ هَالِكًا لَا ضَمَانَ عليه لَا في
الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعَتَاقِ
وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِسَرِقَةِ ما دُونَ الْعَشَرَةِ لايقطع لِأَنَّ
النِّصَابَ شَرْطٌ ثُمَّ يُنْظَرُ إنْ كان مَأْذُونًا يَصِحَّ إقْرَارُهُ
وَيُرَدُّ الْمَالُ إلَى الْمَسْرُوقِ منه وَإِنْ كان هَالِكًا يَضْمَنْ سَوَاءٌ
كان الْعَبْدُ مُخَاطَبًا أو لم يَكُنْ وَإِنْ كان مَحْجُورًا فَإِنْ صَدَّقَهُ
مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْمَالُ لِلْمَوْلَى وَيَضْمَنُ
الْعَبْدُ بَعْدَ الْعِتْقِ إنْ كان مُخَاطَبًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كان
صَغِيرًا لَا ضَمَانَ عليه
وَالْأَصْلُ في جِنْسِ هذه الْمَسَائِلِ أَنَّ كُلَّ ما لَا يَصِحُّ إقْرَارُ
الْمَوْلَى على عَبْدِهِ يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ فيه ثُمَّ الْمَوْلَى إذَا
أَقَرَّ على عَبْدِهِ بِالْقِصَاصِ أو حَدِّ الزِّنَا أو حَدِّ الْقَذْفِ أو
السَّرِقَةِ أو الْقَطْعِ في السَّرِقَةِ لَا يَصِحُّ فإذا أَقَرَّ الْعَبْدُ
بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ يَصِحُّ
وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى على عَبْدِهِ بِالْجِنَايَةِ فِيمَا دُونَ
النَّفْسِ فِيمَا يَجِبُ فيه الدَّفْعُ أو الْفِدَاءُ فإنه يُنْظَرُ إنْ لم يَكُنْ
عليه دَيْنٌ صَحَّ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ فيها
مَسْلَكُ الْأَمْوَالِ فَكَأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ
وَلَوْ أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ يَصِحُّ كَذَا هذا
وَإِنْ كان عليه دَيْنٌ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لو أَقَرَّ عليه بِالدَّيْنِ
وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يَصِحُّ كَذَا إذَا أَقَرَّ عليه بِالْجِنَايَةِ وَاَللَّهُ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَعَدَمُ التَّقَادُمِ في الْإِقْرَارِ ليس بِشَرْطٍ لِجَوَازِهِ فَيَجُوزُ
سَوَاءٌ تَقَادَمَ عَهْدُ السَّرِقَةِ أو لَا بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ وَالْفَرْقُ
ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ الْحُدُودِ
وَاخْتُلِفَ في الْعَدَدِ في هذا الْإِقْرَارِ أَنَّهُ هل هو شَرْطٌ قال أبو
حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ليس بِشَرْطٍ وَيَظْهَرُ
بِالْإِقْرَارِ مَرَّةً وَاحِدَةً
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَرْطٌ فَلَا يُقْطَعُ ما لم يُقِرَّ
مَرَّتَيْنِ في مَكَانَيْنِ
وَالدَّلَائِلُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ الْحُدُودِ وَكَذَا اُخْتُلِفَ في دَعْوَى
الْمَسْرُوقِ منه أنها هل هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْإِقْرَارِ مُظْهِرًا لِلسَّرِقَةِ
كما هِيَ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ مُظْهِرَةً لها
قال أبو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَرْطٌ حتى لو أَقَرَّ
السَّارِقُ أَنَّهُ سَرَقَ مَالَ فُلَانٍ الْغَائِبِ لم يُقْطَعْ ما لم يَحْضُرْ
الْمَسْرُوقُ منه وَيُخَاصَمُ عِنْدَهُمَا
وقال أبو يُوسُفَ الدَّعْوَى في الْإِقْرَارِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ وَيُقْطَعُ حَالَ
غَيْبَةِ الْمَسْرُوقِ منه
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالسَّرِقَةِ إقْرَارٌ على نَفْسِهِ
وَالْإِنْسَانُ يُصَدَّقُ في الْإِقْرَارِ على نَفْسِهِ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ
وَلِهَذَا لو أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَهِيَ غَائِبَةٌ قبل إقْرَارِهِ وحد
( ( ( حد ) ) ) كَذَا هذا
وَلَهُمَا ما رُوِيَ أَنَّ سَمُرَةَ رضي اللَّهُ عنه قال لِلنَّبِيِّ عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إنِّي سَرَقْت لِآلِ فُلَانٍ فَأَنْفَذَ إلَيْهِمْ رسول
اللَّهِ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا إنَّا فَقَدْنَا بَعِيرًا لنا في لَيْلَةِ كَذَا
فَقَطَعَهُ فَلَوْلَا أَنَّ الْمُطَالَبَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ
بِالْإِقْرَارِ لم يَكُنْ لِيَسْأَلَهُمْ بَلْ كان يَقْطَعُ السَّارِقَ وَلِأَنَّ
كُلَّ من في يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ
فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ لم يُحْكَمْ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عنه حتى
يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ له وَالْغَائِبُ يَجُوزُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فيه وَيَجُوزُ
أَنْ يُكَذِّبَهُ فَبَقِيَ على حُكْمِ
____________________
(7/82)
مِلْكِ
السَّارِقِ فَلَا يُقْطَعُ وَلِأَنَّ في ظُهُورِ السَّرِقَةِ بهذا الْإِقْرَارِ
شُبْهَةَ الْعَدَمِ لِاحْتِمَالِ التَّكْذِيبِ من الْمَسْرُوقِ منه فإنه
يُحْتَمَلُ أَنْ يَحْضُرَ فَيُكَذِّبُهُ في إقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ
بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ غَائِبَةٍ أَنَّهُ يُحَدُّ الْمُقِرُّ
وَإِنْ كان يُحْتَمَلُ أَنْ تَحْضُرَ الْمَرْأَةُ فَتَدَّعِي شُبْهَةً لِأَنَّ
هُنَاكَ لو كانت حَاضِرَةً وَادَّعَتْ الشُّبْهَةَ يَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَجْلِ
الشُّبْهَةِ فَلَوْ سَقَطَ عِنْدَ غَيْبَتِهَا لَسَقَطَ لِشُبْهَةِ الشُّبْهَةِ
وَأَنَّهَا غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ في دَرْءِ الْحَدِّ وَهَهُنَا بِخِلَافِهِ لِأَنَّ
الْمَسْرُوقَ منه لو كان حَاضِرًا وَكَذَّبَ السَّارِقَ في إقْرَارِهِ
بِالسَّرِقَةِ منه لم يُقْطَعْ لَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ بَلْ لِانْعِدَامِ
فِعْلِ السَّرِقَةِ فلم يَكُنْ السُّقُوطُ حَالَ الْغَيْبَةِ اعْتِبَارَ شُبْهَةِ
الشُّبْهَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قال مُحَمَّدٌ لو قال سَرَقْت هذه الدَّرَاهِمَ وَلَا أَدْرِي لِمَنْ هِيَ أو قال
سَرَقْتهَا وَلَا أُخْبِرُك من صَاحِبُهَا لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ جَهَالَةَ
الْمَسْرُوقِ منه فَوْقَ غَيْبَتِهِ ثُمَّ الْغَيْبَةُ لَمَّا مَنَعَتْ الْقَطْعَ
على أَصْلِهِ فَالْجَهَالَةُ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْخُصُومَةَ لَمَّا كانت شَرْطًا
فإذا كان الْمَسْرُوقُ منه مجهلا ( ( ( مجهولا ) ) ) لا تَتَحَقَّقُ الْخُصُومَةُ
فَلَا يُقْطَعُ
وإذا عُرِفَ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْقَطْعِ بِالْبَيِّنَةِ على الِاتِّفَاقِ وَبِالْإِقْرَارِ على الِاخْتِلَافِ
فَلَا بُدَّ من بَيَانِ من يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا يَمْلِكُهَا
فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ من كان له يَدٌ
صَحِيحَةٌ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَمَنْ لَا فَلَا فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُخَاصِمَ
السَّارِقَ إذَا سَرَقَ منه لَا شَكَّ فيه لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ يَدٌ صَحِيحَةٌ
وَأَمَّا الْمُودِعُ وَالْمُسْتَعِيرُ وَالْمُضَارِبُ وَالْمُبْضِعُ وَالْغَاصِبُ
وَالْقَابِضُ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنُ فَلَا خِلَافَ بين
أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ في أَنَّ لهم أَنْ يُخَاصِمُوا السَّارِقَ
وَتُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ في حَقِّ ثُبُوتِ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ
وَالْإِعَادَةِ إلَى أَيْدِيهِمْ وَأَمَّا في حُقُوقِ الْقَطْعِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ
أَصْحَابِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَيُقْطَعُ السَّارِقُ
بِخُصُومَتِهِمْ وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُعْتَبَرُ خُصُومَتُهُمْ
في حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا يُقْطَعُ السَّارِقُ بِخُصُومَةِ هَؤُلَاءِ وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِخُصُومَةِ غَيْرِ الْمَالِكِ
أَصْلًا لَا في حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا في حَقِّ وَلَايَةِ الِاسْتِرْدَادِ
وَوَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ يَدَ هَؤُلَاءِ لَيْسَتْ بِيَدٍ
صَحِيحَةٍ في الْأَصْلِ أَمَّا يَدُ الْمُرْتَهِنِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا يَدُ
حِفْظٍ لَا أَنَّهُ يَثْبُتُ له وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ لِضَرُورَةِ الْإِعَادَةِ
إلَى يَدِ الْحِفْظِ لِيَتَمَكَّنَ من التَّسْلِيمِ من الْمَالِكِ وَكَذَلِكَ يَدُ
الْغَاصِبِ وَالْقَابِضِ على سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُرْتَهِنِ يَدُهُمْ يَدُ
ضَمَانٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ وَإِنَّمَا ثبت ( ( ( يثبت ) ) ) لهم وَلَايَةُ
الْخُصُومَةِ لِإِمْكَانِ الرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فَكَانَ ثُبُوتُ وَلَايَةِ
الْخُصُومَةِ لهم بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ وَالثَّابِتُ بِضَرُورَةٍ يَكُونُ
عَدَمًا فِيمَا وَرَاءَ مَحِلِّ الضَّرُورَةِ لِانْعِدَامِ عِلَّةِ الثُّبُوتِ
وَهِيَ الضَّرُورَةُ فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ مُنْعَدِمَةً في حَقِّ الْقَطْعِ
وَلَا قَطْعَ بِدُونِ الْخُصُومَةِ وَلِهَذَا لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ السَّارِقِ
كَذَا هذا
وَلَنَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ صَيْرُورَةِ للبينة ( ( ( البينة ) ) ) حُجَّةً
مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَتَحَقَّقُ
سَرِقَةً ما لم يُعْلَمْ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ وَإِنَّمَا
يُعْلَمُ ذلك بِالْخُصُومَةِ فَكَانَتْ الْخُصُومَةُ شَرْطُ كَوْنِ الْبَيِّنَةِ
مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ وَكَوْنُهَا مُظْهِرَةً لِلسَّرِقَةِ ثَبَتَ بِخُصُومَةِ
هَؤُلَاءِ وإذا ظَهَرَتْ السَّرِقَةُ يُقْطَعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } بِخِلَافِ السَّارِقِ أَنَّهُ لَا
يُقْطَعُ بِخُصُومَتِهِ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ لِمَا نَذْكُرُ على
أَنَّ عَدَمَ الْقَطْعِ هُنَاكَ لِخَلَلٍ في مِلْكِ الْمَسْرُوقِ لِمَا بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ وَهَهُنَا لَا خَلَلَ في الْعِصْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ لَا يُقْطَعُ بِخُصُومَةِ الْمَالِكِ وَهَهُنَا يُقْطَعُ
وَلَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ وَغَابَ الْمُرْتَهِنُ هل له أَنْ يُخَاصِمَ السَّارِقَ
وَيَقْطَعَهُ ذَكَرَ في الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ له ذلك وَرَوَى ابن سِمَاعَةَ
عن مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ليس له ذلك
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ أَنَّ وَلَايَةَ الْخُصُومَةِ لِلْمَسْرُوقِ منه
وَالْمَالِكُ ليس بِمَسْرُوقٍ منه لِأَنَّ السَّارِقَ لم يَسْرِقْ منه وَإِنَّمَا
سَرَقَ من غَيْرِهِ فلم يَكُنْ له وَلَايَةُ الْخُصُومَةِ
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ أَنَّ الْخُصُومَةَ في بَابِ السَّرِقَةِ إنَّمَا شُرِطَتْ
لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَسْرُوقَ مِلْكُ غَيْرِ السَّارِقِ وَهَذَا يَحْصُلُ
بِخُصُومَةِ المال ( ( ( المالك ) ) ) فَتَصِحُّ خُصُومَتُهُ كما تَصِحُّ
خُصُومَةُ الْمُرْتَهِنِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ يَدُ نِيَابَةٍ
فلما صَحَّتْ الْخُصُومَةُ بِيَدِ النِّيَابَةِ فَيَدُ الْأَصَالَةِ أَوْلَى
وَلَوْ حَضَرَ الْمَغْصُوبُ منه وَغَابَ الْغَاصِبُ ذَكَرَ في الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ أَنَّ له أَنْ يُخَاصِمَ وَيُطَالِبَ بِالْقَطْعِ ولم يذكر ابن
سِمَاعَةَ في الْغَصْبِ خِلَافًا وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ
يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْخِلَافُ فِيهِمَا وَاحِدًا وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ أَنْ
يُخَاصِمَ السَّارِقَ فَيَقْطَعَهُ لِأَنَّهُ ليس له حَقُّ الْقَبْضِ قبل قَضَاءِ
الدَّيْنِ فَلَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ حتى لو قَضَى الدَّيْنَ له أَنْ
يُخَاصِمَ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وَلَايَةُ الْقَبْضِ بِالْفِكَاكِ
قال الْقُدُورِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعَلَى قِيَاسِ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ
لَا يَثْبُتُ لِلرَّاهِنِ وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ مع غَيْبَةِ الْمُرْتَهِنِ كما
في الْمُودِعِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ أَقْوَى من يَدِ
الْمُودِعِ لِأَنَّ يَدَ الْمُرْتَهِنِ لِنَفْسِهِ وَيَدَ الْمُودِعِ لِغَيْرِهِ
وَلَوْ هَلَكَ الرَّهْنُ
____________________
(7/83)
في
يَدِ السَّارِقِ كان لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَقْطَعَهُ وَلَا سَبِيلَ لِلرَّاهِنِ
عليه لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ كان له وَلَايَةُ الْقَطْعِ قبل الْهَلَاكِ وَهَلَاكُ
الْمَحِلِّ لَا يُسْقِطُ الْقَطْعَ فَيُثْبِتَ الْوَلَايَةَ فَأَمَّا الرَّاهِنُ
فلم يَبْقَ له حَقٌّ في الْمَرْهُونِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَقَطَ عنه الدَّيْنُ
بِهَلَاكِهِ فَلَا تَثْبُتُ له وَلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ
وَأَمَّا السَّارِقُ فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ
بِمَضْمُونَةٍ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ وَلَا يَدِ ضَمَانٍ وَلَا يَدِ
أَمَانَةٍ فَصَارَ الْأَخْذُ من يَدِهِ كَالْأَخْذِ من الطَّرِيقِ فلم يَكُنْ له
أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ بِالْقَطْعِ وَلَا لِلْمَالِكِ أَيْضًا وَلَايَةُ
الْمُخَاصَمَةِ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ من الْيَدِ الصَّحِيحَةِ شَرْطُ وُجُوبِ
الْقَطْعِ ولم يُوجَدْ فَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ فَلَا تَثْبُتُ له وَلَايَةُ
الْمُطَالَبَةِ وَهَلْ لِلسَّارِقِ الْأَوَّلِ أَنْ يُطَالِبَ الثَّانِيَ بِرَدِّ
الْمَسْرُوقِ إلَى يَدِهِ قالوا فيه رِوَايَتَانِ في رِوَايَةٍ له ذلك وفي
رِوَايَةٍ ليس له ذلك
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُولَى على نَحْوِ ما بَيَّنَّا أَنَّ الْمَسْرُوقَ منه لم
تَكُنْ له يَدٌ صَحِيحَةٌ فَصَارَ الْأَخْذُ منه كَالْأَخْذِ من الطَّرِيقِ
سَوَاءٌ
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ من الْجَائِزِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَالِكُ
الضَّمَانَ وَيَتْرُكَ الْقَطْعَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَرِدَّهُ من يَدِهِ
فَيَدْفَعُ إلَيْهِ فَيَتَخَلَّصُ عن الضَّمَانِ كمافي الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ على
ما مَرَّ وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ عليه الرَّحْمَةُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ
ما لم يُقْطَعْ فَلَهُ ذلك
وَأَمَّا بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَيْسَ له ذلك لِأَنَّ قبل الْقَطْعِ يُحْتَمَلُ
اخْتِيَارُ الضَّمَانِ وَبَعْدَهُ لَا
قال وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ له ذلك بَعْدَ الْقَطْعِ أَيْضًا لِأَنَّ الضَّمَانَ
إنْ لم يَجِبْ عليه في الْقَضَاءِ فَهُوَ وَاجِبٌ عليه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
اللَّهِ تَعَالَى فَيَحْتَاجُ إلَى الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَخَلَّصَ عن الضَّمَانِ
الْوَاجِبِ عليه فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا
تَظْهَرُ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَطْعِ بِعِلْمِ الْقَاضِي سَوَاءٌ
اسْتَفَادَهُ قبل زَمَانِ الْقَضَاءِ أو في زَمَانِ الْقَضَاءِ لِمَا ذَكَرْنَا في
كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ السَّرِقَةِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ
لِلسَّرِقَةِ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ وَالْآخَرُ
يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ
أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَالْقَطْعُ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَلِمَا
رَوَيْنَا من الْأَخْبَارِ وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ فَالْكَلَامُ في هذا
الْحُكْمِ يَقَعُ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ صِفَاتِ هذا الْحُكْمِ
وفي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ
وفي بَيَانِ من يُقِيمُهُ
وفي بَيَانِ ما يَسْقُطُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ
وفي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ أو عَدَمِ الثُّبُوتِ أَصْلًا
لِمَانِعٍ من الشُّبْهَةِ
أَمَّا صِفَاتُ هذا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنْ يَبْقَى وُجُوبُ ضَمَانِ
الْمَسْرُوقِ عِنْدَنَا فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ وَالْقَطْعُ في سَرِقَةٍ
وَاحِدَةٍ وَلَقَبُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الضَّمَانَ وَالْقَطْعَ هل يَجْتَمِعَانِ
في سَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ حتى لو هَلَكَ الْمَسْرُوقُ في
يَدِ السَّارِقِ بَعْدَ الْقَطْعِ أو قَبْلَهُ لَا ضَمَانَ عليه وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ
رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُقْطَعُ وَيَضْمَنُ ما اسْتَهْلَكَهُ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ وُجِدَ من السَّارِقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْقَطْعِ
وَالضَّمَانِ فَيَجِبَانِ جميعا وَإِنَّمَا قُلْنَا ذلك لِأَنَّهُ وُجِدَ منه
السَّرِقَةُ وأنها سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ لِأَنَّهَا جِنَايَةُ
حَقَّيْنِ حَقُّ اللَّهِ عز وجل وَحَقُّ الْمَسْرُوقِ منه
أَمَّا الْجِنَايَةُ على حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَهَتْكُ حُرْمَةِ
حِفْظِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذْ الْمَالُ حَالَ غَيْبَةِ الْمَالِكِ
مَحْفُوظٌ بِحِفْظِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَأَمَّا الْجِنَايَةُ على حَقِّ الْعَبْدِ فإتلاف ( ( ( فبإتلاف ) ) ) مَالِهِ
فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ على حَقَّيْنِ فَكَانَتْ مَضْمُونَةً بِضَمَانَيْنِ
فَيَجِبُ ضَمَانُ الْقَطْعِ من حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ على حَقِّ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَضَمَانُ الْمَالِ من حَيْثُ إنَّهَا جِنَايَةٌ على حَقِّ
الْعَبْدِ كَمَنْ شَرِبَ خَمْرَ الذِّمِّيِّ أَنَّهُ يَجِبُ عليه الْحَدُّ حَقًّا
لِلَّهِ تَعَالَى وَالضَّمَانُ حَقًّا لِلْعَبِيدِ
وَكَذَا قَتْلُ الْخَطَأِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى
وَالدِّيَةَ حَقًّا لِلْعَبْدِ كَذَا هذا وَالدَّلِيلُ عليه أَنَّ الْمَسْرُوقَ لو
كان قَائِمًا يَجِبُ رَدُّهُ على الْمَالِكِ فَدَلَّ أَنَّهُ بَقِيَ مَعْصُومًا
حَقًّا لِلْمَالِكِ
وَلَنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْمَعْقُولُ أَمَّا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ
فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْآيَةِ من
وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى الْقَطْعَ
جَزَاءً وَالْجَزَاءُ يُبْنَى على الْكِفَايَةِ فَلَوْ ضَمَّ إلَيْهِ الضَّمَانُ
لم يَكُنْ الْقَطْعُ كَافِيًا فلم يَكُنْ جَزَاءً تَعَالَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عز
شَأْنُهُ عن الْخُلْفِ في الْخَبَرِ
وَالثَّانِي أَنَّهُ جَعَلَ الْقَطْعَ كُلَّ الْجَزَاءِ لِأَنَّهُ عز شَأْنُهُ
ذَكَرَهُ ولم يذكر غَيْرَهُ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ لَصَارَ الْقَطْعُ
بَعْضَ الْجَزَاءِ فَيَكُونُ نَسْخًا لِنَصِّ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ
وَأَمَّا السُّنَّةُ فما رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عبد الرحمن بن عَوْفٍ رضي اللَّهُ
عنه عن رسول اللَّهِ قال إذَا قُطِعَ السَّارِقُ فَلَا غُرْمَ عليه وَالْغُرْمُ في
اللُّغَةِ ما يَلْزَمُ أَدَاؤُهُ
وَهَذَا نَصٌّ في الْبَابِ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا بِنَاءٌ وَالْآخَرُ
ابْتِدَاءٌ أَمَّا وَجْهُ الْبِنَاءِ فَهُوَ أَنَّ الْمَضْمُونَاتِ عِنْدَنَا
تُمْلَكُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ أو اخْتِيَارِهِ من وَقْتِ الْأَخْذِ فَلَوْ
ضَمَّنَّا السَّارِقَ
____________________
(7/84)
قِيمَةَ
الْمَسْرُوقِ أو مثله لَمَلَكَ الْمَسْرُوقَ من وَقْتِ الْأَخْذِ فَتَبَيَّنَّ
أَنَّهُ قُطِعَ في مِلْكِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ
وَأَمَّا وَجْهُ الِابْتِدَاءِ فما قَالَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا وهو أَنَّ
الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِأَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ ثَبَتَتْ عِصْمَتُهُ حَقًّا
لِلْمَالِكِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَضْمُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِيَكُونَ
اعْتِدَاءً بِالْمِثْلِ في ضَمَانِ الْعُدْوَانَات وَالْمَضْمُونُ حَالَةَ
السَّرِقَةِ خَرَجَ من أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ بِدَلَالَةِ
وُجُوبِ الْقَطْعِ وَلَوْ بَقِيَ مَعْصُومًا حَقًّا لِلْمَالِكِ لَمَا وَجَبَ إذْ
الثَّابِتُ حَقًّا للعبد يثبت لِلْعَبْدِ يَثْبُتُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ وَحَاجَةُ
السَّارِقِ كَحَاجَةِ الْمَسْرُوقِ منه فَتَتَمَكَّنُ فيه شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ
وَإِنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقَطْعِ وَالْقَطْعُ وَاجِبٌ فَيَنْتَفِي
الضَّمَانُ ضَرُورَةً إلَّا أَنَّهُ وَجَبَ رَدُّ الْمَسْرُوقِ حَالَ قِيَامِهِ
لِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ يَقِفُ على الْمِلْكِ على الْعِصْمَةِ
أَلَا تَرَى أَنَّ من غَصَبَ خَمْرَ الْمُسْلِمِ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ
لِقِيَامِ مِلْكِهِ فيها وَلَوْ هَلَكَتْ في يَدِ الْغَاصِبِ لَا ضَمَانَ عليه
لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فلم يَكُنْ من ضَرُورَةِ سُقُوطِ الْعِصْمَةِ الثَّابِتَةِ
حَقًّا لِلْعَبْدِ زَوَالُ مِلْكِهِ عن الْمَحِلّ وَهَهُنَا الْمِلْكُ قَائِمٌ
فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ إلَيْهِ وَالْعِصْمَةُ زَائِلَةٌ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
بِالْهَلَاكِ
وَيُخَرَّجُ على هذا الْأَصْلِ مَسَائِلُ إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ والمسروق (
( ( المسروق ) ) ) بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَضْمَنُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى
الْحَسَنُ عن أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَضْمَنُ
وَجْهُ هذه الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَسْرُوقَ بَعْدَ الْقَطْعِ بَقِيَ على مِلْكِ
الْمَسْرُوقِ منه
أَلَا تعرى أَنَّهُ يَجِبُ رَدُّهُ على الْمَالِكِ وَقَبْضُ السَّارِقِ ليس
بِقَبْضٍ مَضْمُونٍ فَكَانَ الْمَسْرُوقُ في يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَانَةِ
فإذا اسْتَهْلَكَهَا ضَمِنَ
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ عِصْمَةَ الْمَحِلِّ الثاتبة ( ( ( الثابتة ) )
) حَقًّا لِلْمَالِكِ قد سَقَطَتْ في حَقِّ السَّارِقِ لِضَرُورَةِ إمْكَانِ
إيجَابِ الْقَطْعِ فَلَا يَعُودُ إلَّا بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ فلم يَكُنْ
مَعْصُومًا قَبْلَهُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا
وَلَوْ اُسْتُهْلِكَ رَجُلٌ آخَرُ يَضْمَنُهُ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ إنَّمَا
سَقَطَتْ في حَقِّ السَّارِقِ لَا في حَقِّ غَيْرِهِ فَيَضْمَنُ وَلَوْ سَقَطَ
الْقَطْعُ لِشُبْهَةٍ ضَمِنَ لِأَنَّ الْمَانِعَ من الضَّمَانِ هو الْقَطْعُ وقد
زَالَ الْمَانِعُ
وَلَوْ بَاعَ السَّارِقُ الْمَسْرُوقَ من إنْسَانٍ أو ملكت ( ( ( ملكه ) ) ) منه
بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ فَإِنْ كان قَائِمًا فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ
لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ وَلِلْمَأْخُوذِ منه أَنْ يَرْجِعَ على السَّارِقِ
بِالثَّمَنِ الذي دَفَعَهُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا على
السَّارِقِ في عَيْنِ الْمَسْرُوقِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ عليه بِثَمَنِ الْمَسْرُوقِ
لَا بِقِيمَتِهِ لِيُوجِبَ ذلك مِلْكَ الْمَسْرُوقِ لِلسَّارِقِ
وَإِنْ كان هَلَكَ في يَدِهِ فَلَا ضَمَانَ على السَّارِقِ وَلَا على الْقَابِضِ
هَكَذَا رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ
أَمَّا السَّارِقُ فَلِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ
وَأَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّهُ لو ضَمِنَهُ الْمَالِكُ لَكَانَ له أَنْ
يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ على السَّارِقِ فَيَصِيرُ كَأَنَّ الْمَالِكَ ضَمِنَ
السَّارِقَ وَقَطْعُهُ يَنْفِي الضَّمَانَ عنه
وَإِنْ كان اسْتَهْلَكَهُ الْقَابِضُ كان لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْقِيمَةَ
لِأَنَّهُ قَبَضَ مَالَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَهَلَكَ في يَدِهِ وَلِلْمُشْتَرِي
أَنْ يَرْجِعَ على السَّارِقِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالثَّمَنِ ليس
بِتَضْمِينٍ
وَلَوْ اغْتَصَبَهُ إنْسَانٌ من السَّارِقِ فَهَلَكَ في يَدِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ
فَلَا ضَمَانَ لِلسَّارِقِ وَلَا لِلْمَسْرُوقِ منه
أَمَّا السَّارِقُ فَلِأَنَّهُ ليس بِمَالِكٍ وَأَمَّا الْمَالِكُ فَلِأَنَّ
الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ له حَقًّا قد بَطَلَتْ
قال الْقُدُورِيُّ وكان لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ الْغَاصِبَ لِأَنَّهُ لو
ضَمِنَ لَا يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ على السَّارِقِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَرَقَ ثَوْبًا فَخَرَقَهُ في الدَّارِ خَرْقًا
فَاحِشًا ثُمَّ أَخْرَجَهُ وهو يُسَاوِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لَا يُقْطَعُ لِأَنَّ
الْخَرْقَ الْفَاحِشَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَأَنَّهُ يُوجِبُ مِلْكَ
الْمَضْمُونِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْقَطْعَ وَإِنْ خَرَقَهُ عَرْضًا فَقَدْ مَرَّ
الِاخْتِلَافُ فيه
وَمِنْهَا أَنْ يَجْرِيَ فيه التَّدَاخُلُ حتى إنَّهُ لو سَرَقَ سَرِقَاتٍ
فَرَفَعَ فيها كُلِّهَا فَقُطِعَ أو رَفَعَ في بَعْضِهَا فَقُطِعَ فِيمَا رَفَعَ
فَالْقَطْعُ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا وَلَا يُقْطَعُ في شَيْءٍ منها بَعْدَ ذلك
لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُدُودِ إذَا اجْتَمَعَتْ وإنها من جِنْسٍ وَاحِدٍ يكتفي
فيها بِحَدٍّ وَاحِدٍ كما في الزِّنَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ من إقَامَةِ
الْحَدِّ هو الزَّجْرُ وَالرَّدْعُ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ
الْوَاحِدِ فَكَانَ في إقَامَةِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ شُبْهَةُ عَدَمِ
الْفَائِدَةِ فَلَا يُقَامُ
وَلِهَذَا يُكْتَفَى في بَابِ الزِّنَا بِالْإِقَامَةِ لِأَوَّلِ حَدٍّ
كَذَا هذا
وَلِأَنَّ مَحِلَّ الْإِقَامَةِ قد فَاتَ إذْ مَحِلُّهَا الْيَدُ الْيُمْنَى
لِأَنَّ كُلَّ سَرِقَةٍ وُجِدَتْ ما أَوْجَبَتْ إلَّا قَطْعَ الْيَدِ الْيُمْنَى
فإذا قُطِعَتْ في وَاحِدَةٍ منها فَقَدْ فَاتَ مَحِلُّ الْإِقَامَةِ وَصَارَ كما
لو ذَهَبَتْ الْيَدُ الْيُمْنَى بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
وَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَلَا خِلَافَ بين أَصْحَابِنَا رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
في أَنَّهُ إذَا حَضَرَ أَصْحَابُ السَّرِقَاتِ وَخَاصَمُوا فيها فَقُطِعَ
بِمُخَاصَمَتِهِمْ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ على السَّارِقِ في السَّرِقَاتِ كُلِّهَا
لِأَنَّ مُخَاصَمَةَ الْمَسْرُوقِ منه بِالْقَطْعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عن
الضَّمَانِ عِنْدَنَا فإذا خَاصَمُوا جميعا فَكَأَنَّهُمْ أبرؤوا ( ( ( أبرءوا ) )
)
وَأَمَّا إذَا خَاصَمَ وَاحِدٌ في سَرِقَةٍ فَقُطِعَ فَلَا ضَمَانَ على السَّارِقِ
فِيمَا خُوصِمَ بِإِجْمَاعٍ بين أَصْحَابِنَا
____________________
(7/85)
رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَمَّا فِيمَا لم يُخَاصَمْ فيه فَقَدْ اخْتَلَفُوا قال أبو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عليه في شَيْءٍ من السَّرِقَاتِ خَاصَمُوا
أو لم يُخَاصِمُوا
وقال أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَضْمَنُ في السَّرِقَاتِ
كُلِّهَا إلَّا فِيمَا خُوصِمَ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَسْرُوقَ منه مُخَيَّرٌ بين أَنْ يَدَّعِيَ الْمَالَ
يستوفي ( ( ( ليستوفي ) ) ) حَقَّهُ وهو الضَّمَانُ وَبَيْنَ أَنْ يَدَّعِيَ
السَّرِقَةَ لِيَسْتَوْفِيَ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وهو الْقَطْعُ
وَلَا ضَمَانَ له فَكَانَ سُقُوطُ الضَّمَانِ مَبْنِيًّا على دَعْوَى السَّرِقَةِ
وَالْخُصُومَةِ فيها فَمَنْ خَاصَمَ منهم فَقَدْ وُجِدَ منه ما يُوجِبُ سُقُوطَ
الضَّمَانِ وَمَنْ لم يُخَاصِمْ لم يُوجَدْ منه الْمُسْقِطُ فَيَبْقَى حَقُّهُ في
الضَّمَانِ كما كان
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّافِيَ لِلضَّمَانِ هو الْقَطْعُ
وَالْقَطْعُ وَقَعَ لِلسَّرِقَاتِ كُلِّهَا فَيَنْفِي الضَّمَانَ في السَّرِقَاتِ
كُلِّهَا
هذا إذَا كان الْمَسْرُوقُ هَالِكًا أَمَّا إذَا كان قَائِمًا رُدَّ كُلُّ
مَسْرُوقٍ إلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَنْفِي الضَّمَانَ لَا الرَّدَّ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْعَفْوَ حتى لو أَمَرَ الْإِمَامُ بِقَطْعِ
السَّارِقِ فَعَفَا عنه الْمَسْرُوقُ منه كان عَفْوُهُ بَاطِلًا لِأَنَّ صِحَّةَ
الْعَفْوِ يَعْتَمِدُ كَوْنَ الْمَعْفُوِّ عنه حَقًّا لِلْعَافِي وَالْقَطْعُ
خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فيه فَلَا
يَصِحُّ عَفْوُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هذا الْحُكْمِ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ
أَحَدُهُمَا في بَيَانِ أَصْلِ الْمَحِلِّ وَمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فيه
وَالثَّانِي في بَيَانِ مَوْضِعِ إقَامَةِ الْحُكْمِ منه
أَمَّا الْأَوَّلُ فَأَصْلُ الْمَحِلِّ عِنْدَ أَصْحَابِنَا طَرَفَانِ فَقَطْ
وَهُمَا الْيَدُ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى فنقطع ( ( ( فتقطع ) ) )
الْيَدُ الْيُمْنَى في السَّرِقَةِ الْأُولَى وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُسْرَى في
السَّرِقَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا يُقْطَعُ بَعْدَ ذلك أَصْلًا وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ
السَّرِقَةَ وَيُعَزَّرُ وَيُحْبَسُ حتى يُحْدِثَ تَوْبَةً عِنْدَنَا وَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَطْرَافُ الْأَرْبَعَةُ مَحِلُّ الْقَطْعِ على
التَّرْتِيبِ فَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى في الْمَرَّةِ الْأُولَى وَتَقْطَعُ
الرِّجْلُ الْيُسْرَى في الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ وَتُقْطَعُ الْيَدُ الْيُسْرَى
في الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ وَتُقْطَعُ الرِّجْلُ الْيُمْنَى في السَّرِقَةِ
الرَّابِعَة
احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } وَالْأَيْدِي اسْمُ جَمْعٍ
وَالِاثْنَانِ فما فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ على لِسَانِ رسول اللَّهِ
وقال اللَّهُ تَعَالَى { إنْ تَتُوبَا إلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا }
وَأَنَّهُ لم يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إلَّا قَلْبٌ وَاحِدٌ إلَّا أَنَّ
التَّرْتِيبَ في قَطْعِ الْأَيْدِي ثَبَتَ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهَذَا لَا يُخْرِجُ
الْيَدَ الْيُسْرَى من أَنْ تَكُونَ مَحِلًّا لِلْقَطْعِ في الْجُمْلَةِ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا أَبَا بَكْرٍ رضي اللَّهُ عنه قَطَعَ سَارِقَ حُلِيِّ
أَسْمَاءَ وكان أَقْطَعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ
وَلَنَا ما رُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عَلِيًّا رضي اللَّهُ عنه أُتِيَ بِسَارِقٍ
فَقَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّانِيَةَ وقد سَرَقَ فَقَطَعَ رِجْلَهُ
ثُمَّ أُتِيَ بِهِ الثَّالِثَةَ وقد سَرَقَ فقال لَا أَقْطَعُهُ إنْ قَطَعْت
يَدَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَأْكُلُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَتَمَسَّحُ وَإِنْ قَطَعْت
رِجْلَهُ بِأَيِّ شَيْءٍ يَمْشِي إنِّي لَأَسْتَحْيِ من اللَّهِ فَضَرَبَهُ
بِخَشَبَةٍ وَحَبَسَهُ
وَرُوِيَ أَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رضي اللَّهُ عنه أُتِيَ بِسَارِقٍ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ قد سَرَقَ نِعَالًا يُقَالُ له سَدُومُ وَأَرَادَ أَنْ
يَقْطَعَهُ فقال له سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه إنَّمَا عليه قَطْعُ يَدٍ
وَرِجْلٍ
فَحَبَسَهُ سَيِّدُنَا عُمَرُ رضي اللَّهُ عنه ولم يَقْطَعْهُ
وَسَيِّدُنَا عُمَرُ وَسَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنهما لم يَزِيدَا في
الْقَطْعِ على قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلِ الْيُسْرَى وكان ذلك
بِمَحْضَرٍ من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ولم يُنْقَلْ أَنَّهُ أَنْكَرَ
عَلَيْهِمَا مُنْكِرٌ فَيَكُونَ إجْمَاعًا من الصَّحَابَةِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وَلَنَا أَيْضًا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ
أَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ فَهِيَ أَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّ الْيَدَ
الْيُمْنَى إذَا كانت مَقْطُوعَةً لَا يُعْدَلُ إلَى الْيَدِ الْيُسْرَى بَلْ إلَى
الرِّجْلِ الْيُسْرَى وَلَوْ كان لِلْيَدِ الْيُسْرَى مَدْخَلًا في الْقَطْعِ
لَكَانَ لَا يُعْدَلُ إلَّا إلَيْهَا لِأَنَّهَا مَنْصُوصٌ عليها وَلَا يُعْدَلُ
عن الْمَنْصُوصِ عليه إلَى غَيْرِهِ فَدَلَّ الْعُدُولُ إلَى الرِّجْلِ الْيُسْرَى
لَا إلَيْهَا على أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لها في الْقَطْعِ بِالسَّرِقَةِ أَصْلًا
وَهَذَا النَّوْعُ من الِاسْتِدْلَالِ ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَهُوَ أَنَّ في قَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى تَفْوِيتَ
جِنْسِ مَنْفَعَةٍ من مَنَافِعِ النَّفْسِ أَصْلًا وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ
لِأَنَّهَا تَفُوتُ بِقَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى بَعْدَ قَطْعِ الْيُمْنَى
فَتَصِيرُ النَّفْسُ في حَقِّ هذه الْمَنْفَعَةِ هَالِكَةً فَكَانَ قَطْعُ الْيَدِ
الْيُسْرَى إهْلَاكَ النَّفْسِ من وَجْهٍ وَكَذَا قَطْعُ الرِّجْلِ الْيُمْنَى
بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ لِأَنَّ
مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ تَفُوتُ بِالْكُلِّيَّةِ فَكَانَ قَطْعُ الرِّجْلِ
الْيُمْنَى إهْلَاكَ النَّفْسِ من كل وَجْهٍ وَإِهْلَاكُ النَّفْسِ من كل وَجْهٍ
لَا يَصْلُحُ حَدًّا في السَّرِقَةِ
كَذَا إهْلَاكُ النَّفْسِ من وَجْهٍ
لِأَنَّ الثَّابِتَ من وَجْهٍ مُلْحَقٌ بِالثَّابِتِ من كل وَجْهٍ في الْحُدُودِ
احْتِيَاطًا وَلَا حُجَّةَ له في الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ
رضي اللَّهُ عنه قَرَأَ < فَاقْطَعُوا أيدي ( ( ( أيمانهما ) ) ) لهما >
وَلَا يُظَنُّ بمثله أَنْ يَقْرَأَ ذلك من تِلْقَاءِ نَفْسِهِ بَلْ سَمَاعًا من
رسول اللَّهِ فَخَرَجَتْ قِرَاءَتُهُ مَخْرَجَ التَّفْسِيرِ لِمُبْهَمِ الْكِتَابِ
الْعَزِيزِ
وَهَكَذَا رُوِيَ عن عبد اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما في قَوْلِهِ عز
وجل { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أَنَّهُ قال
____________________
(7/86)
أَيْمَانَهُمَا
وَهَكَذَا رُوِيَ عن الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ لَا قَطْعَ فَقَدْ رَوَى الزُّهْرِيُّ في الْمُوَطَّأِ عن
سَيِّدَتِنَا عَائِشَةَ رضي اللَّهُ عنها أنها قالت لَمَّا كان الذي سَرَقَ
حُلِيَّ أَسْمَاءَ أَقْطَعَ الْيَدِ الْيُمْنَى فَقَطَعَ سَيِّدُنَا أبو بَكْرٍ
رضي اللَّهُ عنه رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَكَانَتْ تُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ
الْيَدِ وَالرِّجْلِ ثُمَّ إنَّمَا تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى في الْكَرَّةِ
الْأُولَى إذَا كانت الْيَدُ الْيُسْرَى صَحِيحَةً يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بها
بَعْدَ قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى وَالرِّجْلُ الْيُمْنَى صَحِيحَةٌ يُمْكِنُهُ
الِانْتِفَاعُ بها بَعْدَ قَطْعِ الرِّجْلِ الْيُسْرَى فَإِنْ كانت الْيَدُ
الْيُسْرَى مَقْطُوعَةً أو شَلَّاءَ أو مَقْطُوعَةَ الْإِبْهَامِ أو أُصْبُعَيْنِ
سِوَى الْإِبْهَامِ لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى
لِأَنَّ الْقَطْعَ في السَّرِقَةِ شُرِعَ زَاجِرًا لَا مُهْلِكًا فإذا لم تَكُنْ
الْيَدُ الْيُسْرَى يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بها فَقَطْعُ الْيَدِ الْيُمْنَى
يَقَعُ تَفْوِيتًا لِجِنْسِ الْمَنْفَعَةِ وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ أَصْلًا
فَيَقَعُ إهْلَاكًا لِلنَّفْسِ من وَجْهٍ فَلَا تُقْطَعُ وَلَا يَقْطَعُ رِجْلَهُ
الْيُسْرَى أَيْضًا لِأَنَّهُ يَذْهَبُ أَحَدُ الشِّقَّيْنِ على الْكَمَالِ
فَيُهْلِكُ النَّفْسَ من وَجْهٍ
وَلَوْ كانت الْيَدُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةَ أُصْبُعٍ وَاحِدَةٍ سِوَى
الْإِبْهَامِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَتَضَمَّنُ
فَوَاتَ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ
وَكَذَا إنْ كانت الرِّجْلُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً أو شَلَّاءَ أو بها عَرَجٌ
يَمْنَعُ الْمَشْيَ عليها لَا تُقْطَعُ الْيَدُ الْيُمْنَى لِمَا فيه من فَوَاتِ
الشِّقِّ وَلَا رِجْلُهُ الْيُسْرَى وَإِنْ كانت صَحِيحَةً لِأَنَّهُ يَبْقَى
بِلَا رِجْلَيْنِ فَيَفُوتُ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ
وَلَوْ كانت رِجْلُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةَ الْأَصَابِعِ كُلِّهَا فَإِنْ كان
يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ وَالْمَشْيَ عليها تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى لِأَنَّ
الْجِنْسَ لَا يَفُوتُ
وَإِنْ كان لَا يَسْتَطِيعُ لَا يُقْطَعُ لِفَوَاتِ الشِّقِّ
وَلَوْ كانت يَدَاهُ صَحِيحَتَيْنِ وَلَكِنَّ رِجْلَهُ الْيُسْرَى مَقْطُوعَةٌ أو
شَلَّاءُ أو مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أو الْأَصَابِعِ تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى
لِأَنَّ جِنْسَ الْمَنْفَعَةِ لَا يَفُوتُ وَلَا فيه فَوَاتُ الشِّقِّ أَيْضًا
وَلَوْ سَرَقَ وَيُمْنَاهُ شَلَّاءُ أو مَقْطُوعَةُ الْإِبْهَامِ أو الْأَصَابِعِ
لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } أَيْ
أَيْمَانَهُمَا من غَيْرِ فَصْلٍ بين يَمِينٍ وَيَمِينٍ وَلِأَنَّهَا لو كانت
سَلِيمَةً تُقْطَعُ فَالنَّاقِصَةُ الْمَعِيبَةُ أَوْلَى بِالْقَطْعِ ثُمَّ
فَرَّقَ بين الْقَطْعِ في السَّرِقَةِ وَبَيْنَ الْإِعْتَاقِ في الْكَفَّارَةِ
حَيْثُ جَعَلَ فَوَاتَ أصبعين سِوَى الْإِبْهَامِ من الْيَدِ الْيُسْرَى
نُقْصَانًا مَانِعًا من قَطْعِ الْيَدِ الْيُمْنَى ولم يُجْعَلْ فَوَاتُ أصبعين
نُقْصَانًا مَانِعًا من جَوَازِ الْإِعْتَاقِ ما لم يَكُنْ ثَلَاثًا
وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقَطْعَ حَدٌّ فَهَذَا الْقَدْرُ من النُّقْصَانِ
يُورِثُ شُبْهَةً بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ قال الْحَاكِمُ لِلْحَدَّادِ اقْطَعْ يَدَ السَّارِقِ فَقَطَعَ الْيَدَ
الْيُسْرَى فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ قال اقْطَعْ يَدَهُ مُطْلَقًا
وَإِمَّا أَنْ قَيَّدَهُ فقال اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَإِنْ أَطْلَقَ فقال له
اقْطَعْ يَدَهُ فَقَطَعَ الْيُسْرَى لَا ضَمَانَ عليه لِلْحَالِ لِأَنَّهُ فَعَلَ
ما أُمِرَ بِهِ حَيْثُ أَمَرَهُ بِقَطْعِ الْيَدِ وقد قَطَعَ الْيَدَ وَإِنْ
قَيَّدَ فقال اقْطَعْ يَدَهُ الْيُمْنَى فَقَطَعَ الْيُسْرَى فَإِنْ أَخْرَجَ
السَّارِقُ يَدَهُ وقال هذا هو يَمِينِي فَلَا ضَمَانَ عليه أَيْضًا لِأَنَّهُ
قَطَعَ بِأَمْرِهِ فَلَا يَضْمَنُ كَمَنْ قال لِآخَرَ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ
لَا ضَمَانَ عليه كَذَا هذا وَإِنْ لم يُخْرِجْ السَّارِقُ يَدَهُ ولم يَقُلْ ذلك
وَلَكِنَّهُ قَطَعَ الْيُسْرَى خَطَأً لَا ضَمَانَ عليه عِنْدَ أَصْحَابِنَا رضي
اللَّهُ عَنْهُمْ وَعِنْدَ زُفَرَ رضي اللَّهُ عنه يَضْمَنُ لِأَنَّ الْخَطَأَ في
حُقُوقِ الْعِبَادِ ليس بِعُذْرٍ
وَلَنَا أَنَّ هذا خَطَأٌ في الِاجْتِهَادِ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْيَسَارَ مَقَامَ
الْيَمِينِ بِاجْتِهَادِهِ مُتَمَسِّكًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْيَمِينِ
وَالْيَسَارِ فَكَانَ هذا خَطَأً من الْمُجْتَهِدِ في الِاجْتِهَادِ وَأَنَّهُ
مَوْضُوعٌ
وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ في هذا الْخَطَأِ لَا فِيمَا إذَا أَخْطَأَ فَظَنَّ
الْيَسَارَ يَمِينًا مع اعْتِقَادِ وُجُوبِ قَطْعِ الْيَمِينِ ما مع أَنَّ عِنْدَ
أبي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَضْمَنُ هُنَاكَ أَيْضًا على ما نُبَيِّنُ
وَإِنْ قَطَعَ الْيُسْرَى عَمْدًا لَا ضَمَانَ عليه أَيْضًا عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ
لَهُمَا أَنَّهُ تَعَمَّدَ الظُّلْمَ بِإِقَامَةِ الْيَسَارِ مَقَامَ الْيَمِينِ
فلم يَكُنْ مَعْذُورًا فَيَضْمَنُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ أَتْلَفَ وَأَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا
أَتْلَفَ فَلَا يَضْمَنُ كَرَجُلَيْنِ شَهِدَا على رَجُلٍ بِبَيْعِ عَبْدٍ
قِيمَتُهُ أَلْفٌ بِأَلْفَيْنِ ثُمَّ رَجَعَا أَنَّهُمَا لَا يَضْمَنَانِ لِمَا
قُلْنَا
كَذَا هذا
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ أَخْلَفَ خَيْرًا مِمَّا أَتْلَفَ لِأَنَّهُ لَمَّا
قَطَعَ الْيُسْرَى فَقَدْ سَلِمَتْ له الْيُمْنَى لِأَنَّهَا لَا تُقْطَعُ بَعْدَ
ذلك لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى على أَطْرَافِهِ الْأَرْبَعَةِ وَالْيُمْنَى خَيْرٌ من
الْيُسْرَى
ثُمَّ على قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ هل يَكُونُ هذا الْقَطْعُ وهو قَطْعُ
الْيُسْرَى قَطْعًا من السَّرِقَةِ حتى إذَا هَلَكَ الْمَالُ في يَدِ السَّارِقِ
أو اسْتَهْلَكَهُ لَا يضمنه ( ( ( يضمن ) ) )
أو لَا يَكُونُ من السَّرِقَةِ حتى يَضْمَنَ
اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فيه
قال بَعْضُهُمْ يَكُونُ وقال بَعْضُهُمْ لَا يَكُونُ
هذا كُلُّهُ إذَا قَطَعَ الْحَدَّادُ بِأَمْرِ الْحَاكِمِ
فَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ إذَا قَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَإِنْ كان خَطَأً تَجِبُ
الدِّيَةُ وَإِنْ كان عَمْدًا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَسَقَطَ عنه الْقَطْعُ في
الْيَمِينِ لِأَنَّهُ لو قَطَعَ يُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النَّفْسِ من وَجْهٍ على
ما بَيَّنَّا
____________________
(7/87)
وَيُرَدُّ
عليه الْمَسْرُوقُ إنْ كان قَائِمًا وَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ في الْهَلَاكِ لِأَنَّ
الْمَانِعَ من الضَّمَانِ هو الْقَطْعُ وقد سَقَطَ
وَلَوْ وَجَبَ عليه قَطْعُ الْيَدِ الْيَمِينِ في السَّرِقَةِ فلم تُقْطَعْ حتى
قَطَعَ قَاطِعٌ يَمِينَهُ فَهَذَا على وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قبل
الْخُصُومَةِ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَعْدَهَا فَإِنْ كان قبل الْخُصُومَةِ
فَعَلَى قَاطِعِهِ الْقِصَاصُ إنْ كان عَمْدًا وَالْأَرْشُ إنْ كان خَطَأً
وَتُقْطَعُ رِجْلُهُ الْيُسْرَى في السَّرِقَةِ كَأَنَّهُ سَرَقَ وَلَا يَمِينَ له
وَإِنْ كان بَعْدَ الْخُصُومَةِ فَإِنْ كان قبل الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ
إلَّا أَنَّا هَهُنَا لَا نَقْطَعُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى لِأَنَّهُ لَمَّا خُوصِمَ
كان الْوَاجِبُ في الْيَمِينِ وقد فَاتَتْ فَسَقَطَ الْوَاجِبُ كما لو ذَهَبَ
بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ
وَإِنْ كان بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلَا ضَمَانَ على الْقَاطِعِ لِأَنَّهُ احْتَسَبَ
لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَكَانَ قَطْعُهُ عن
السَّرِقَةِ حتى لَا يَجِبُ الضَّمَانُ على السَّارِقِ فِيمَا هَلَكَ من مَالِ
السَّرِقَةِ في يَدِهِ أو اُسْتُهْلِكَ
وَأَمَّا الْمَوْضِعُ الذي يُقْطَعُ من الْيَدِ الْيُمْنَى فَهُوَ مَفْصِلُ
الزَّنْدِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ رضي اللَّهُ عَنْهُمْ
وقال بَعْضُهُمْ تُقْطَعُ الْأَصَابِعُ وقال الْخَوَارِجُ تُقْطَعُ من الْمَنْكِبِ
لِظَاهِرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }
وَالْيَدُ اسْمٌ لِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالصَّحِيحُ قَوْلُنَا لِمَا رُوِيَ
أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ من مَفْصِلِ الزَّنْدِ
فَكَانَ فِعْلُهُ بَيَانًا لِلْمُرَادِ من الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ كَأَنَّهُ نَصَّ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فقال فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا من مَفْصِلِ الزَّنْدِ
وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْأُمَّةُ من لَدُنْ رسول اللَّهِ إلَى يَوْمِنَا هذا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا بَيَانُ من يُقِيمُ هذا الْحُكْمُ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ الْإِمَامُ أو من
وَلَّاهُ لِأَنَّ هذا حَدٌّ والمتولى لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ الْأَئِمَّةُ أو من
وَلَّوْهُمْ من الْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ
وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَوْلَى يَمْلِكُ
إقَامَةَ الْحَدِّ على مَمْلُوكِهِ
وَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ اسْتَوْفَيْنَاهُ في كِتَابِ الْحُدُودِ
وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ الْحَدَّ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَنَقُولُ ما يُسْقِطُهُ
بَعْدَ وُجُوبِهِ أَنْوَاعٌ منها تَكْذِيبُ الْمَسْرُوقِ منه السَّارِقَ في
إقْرَارِهِ بِالسَّرِقَةِ بِأَنْ يَقُولَ له لم تَسْرِقْ مِنِّي
وَمِنْهَا تَكْذِيبُهُ الْبَيِّنَةَ بِأَنْ يَقُولَ شَهِدَ شُهُودِي بِزُورٍ
لِأَنَّهُ إذَا كَذَبَ فَقَدْ بَطَلَ الْإِقْرَارُ وَالشَّهَادَةُ فَسَقَطَ الْقَطْعُ
وَمِنْهَا رُجُوعُ السَّارِقِ عن الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ فَلَا يُقْطَعُ
وَيَضْمَنُ الْمَالَ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُقْبَلُ في الْحُدُودِ وَلَا يُقْبَلُ في
الْمَالِ لِأَنَّهُ يُورِثُ شُبْهَةً في الْإِقْرَارِ وَالْحَدُّ يَسْقُطُ
بِالشُّبْهَةِ وَلَا يُسْقِطُ الْمَالَ
رَجُلَانِ أَقَرَّا بِسَرِقَةِ ثَوْبٍ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ قال
أَحَدُهُمَا الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لم نَسْرِقْهُ أو قال هذا لي درىء ( ( ( درئ ) )
) الْقَطْعُ عنهما لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا بِالسَّرِقَةِ فَقَدْ ثَبَتَتْ
الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا في السَّرِقَةِ ثُمَّ لَمَّا أَنْكَرَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ
رَجَعَ عن إقْرَارِهِ فَبَطَلَ الْحَدُّ عنه بِرُجُوعِهِ فَيُورِثُ شُبْهَةً في
حَقِّ الشَّرِيكِ لِاتِّحَادِ السَّرِقَةِ
وَلَوْ قال أَحَدُهُمَا سَرَقْنَا هذا الثَّوْبَ من فُلَانٍ فَكَذَّبَهُ الْآخَرُ
وقال كَذَبْت لم نَسْرِقْهُ قُطِعَ الْمُقِرُّ وَحْدَهُ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وقال أبو يُوسُفَ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا
وَجْهُ قَوْلِ أبي يُوسُفَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُمَا على
الشَّرِكَةِ فإذا لم تَثْبُتْ في حَقِّ شَرِيكِهِ بِإِنْكَارِهِ يُؤَثِّرُ ذلك في
حَقِّ صَاحِبِهِ ضَرُورَةَ اتِّحَادِ السَّرِقَةِ
وَهَذَا بِخِلَافِ ما إذَا أَقَرَّ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ فَأَنْكَرَتْ أنه
يُحَدُّ الرَّجُلُ على أَصْلِهِ لِأَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لَا يُؤَثِّرُ في
إقْرَارِ الرَّجُلِ إذْ ليس من ضَرُورَةِ عَدَمِ الزِّنَا من جَانِبِهَا عَدَمُهُ
من جَانِبِهِ كما لو زنا بِصَبِيَّةٍ أو مَجْنُونَةٍ
بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ لِأَنَّ ذلك وُجِدَ من أَحَدِهِمَا على
وَجْهِ الشَّرِكَةِ فَعَدَمُ السَّرِقَةِ من أَحَدِهِمَا يُؤَثِّرُ في حَقِّ
الْآخَرِ
وَجْهُ قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ في السَّرِقَةِ
إقْرَارٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ من كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا
أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّرِقَةَ لم يَثْبُتْ منه فِعْلُ السَّرِقَةِ وَعَدَمُ
الْفِعْلِ منه لَا يُؤَثِّرُ في وُجُودِ الْفِعْلِ من صَاحِبِهِ فَبَقِيَ إقْرَارُ
صَاحِبِهِ على نَفْسِهِ بِالسَّرِقَةِ فَيُؤْخَذُ بِهِ بِخِلَافِ إقْرَارِ
الرَّجُلِ على نَفْسِهِ بِالزِّنَا بِامْرَأَةٍ وَهِيَ تَجْحَدُ أنه لَا يَجِبُ
الْحَدُّ على الرَّجُلِ على أَصْلِهِ لِأَنَّ الزِّنَا لَا يَقُومُ إلَّا
بِالرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فإذا أَنْكَرَتْ لم يَثْبُتْ منها فَلَا يُتَصَوَّرُ
الْوُجُودُ من الرَّجُلِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالسَّرِقَةِ على ما بَيَّنَّا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَمِنْهَا رَدُّ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ إلَى الْمَالِكِ قبل الْمُرَافَعَةِ
عِنْدَهُمَا وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عن أبي يُوسُفَ
وَرُوِيَ عنه أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ وَلَا خِلَافَ في أَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ
الْمُرَافَعَةِ لَا يُسْقِطُ الْحَدَّ
وَجْهُ رِوَايَةِ أبي يُوسُفَ أَنَّ السَّرِقَةَ حين وُجُودِهَا انْعَقَدَتْ
مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ فَرَدُّ الْمَسْرُوقِ بَعْدَ ذلك لَا يُخِلُّ بِالسَّرِقَةِ
الْمَوْجُودَةِ فَلَا يَسْقُطُ الْقَطْعُ الْوَاجِبُ كما لو رَدَّهُ بَعْدَ
الْمُرَافَعَةِ
وَلَهُمَا أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ لِظُهُورِ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ
لِلْقَطْعِ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ وَلَمَّا رُدَّ الْمَسْرُوقُ على
الْمَالِكِ فَقَدْ بَطَلَتْ الْخُصُومَةُ بِخِلَافِ ما بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ
لِأَنَّ الشَّرْطَ وُجُودُ الْخُصُومَةِ لَا بَقَاؤُهَا وقد وُجِدَتْ
وَمِنْهَا مِلْكُ السَّارِقِ الْمَسْرُوقَ قبل الْقَضَاءِ نَحْوُ ما إذَا وَهَبَ
الْمَسْرُوقُ منه
____________________
(7/88)
الْمَسْرُوقَ
من السَّارِقِ قبل الْقَضَاءِ
وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْأَمْرَ لَا يَخْلُو إمَّا إن وَهَبَهُ منه قبل
الْقَضَاءِ وَإِمَّا إن وَهَبَهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ فَإِنْ
وَهَبَهُ قبل الْقَضَاءِ يَسْقُطُ الْقَطْعُ بِلَا خِلَافٍ وَإِنْ وَهَبَهُ بَعْدَ
الْقَضَاءِ قبل الْإِمْضَاءِ يَسْقُطُ عِنْدَهُمَا وقال أبو يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ
وهو قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
احْتَجَّ أبو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ سَارِقَ رِدَاءِ صَفْوَانَ أُخِذَ
فَأُتِيَ بِهِ إلَى رسول اللَّهِ فَأَمَرَ رسول اللَّهِ أَنْ يُقْطَعَ يَدُهُ فقال
صَفْوَانُ يا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لم أُرِدْ هذا هو عليه صَدَقَةٌ فقال عليه
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهَلَّا قبل أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ فَدَلَّ أَنَّ
الْهِبَةَ قبل الْقَضَاءِ تُسْقِطُ وَبَعْدَهُ لَا تُسْقِطُ وَلِأَنَّ وُجُوبَ
الْقَطْعِ حُكْمٌ مُعَلَّقٌ بِوُجُودِ السَّرِقَةِ وقد تَمَّتْ السَّرِقَةُ
وَوَقَعَتْ مُوجِبَةً لِلْقَطْعِ لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَطَرَيَانُ
الْمِلْكِ بَعْدَ ذلك لَا يُوجِبُ خَلَلًا في السَّرِقَةِ الْمَوْجُودَةِ فَبَقِيَ
الْقَطْعُ وَاجِبًا كما كان كما لو رُدَّ الْمَسْرُوقُ على الْمَالِكِ بَعْدَ
الْقَضَاءِ بِخِلَافِ ما قبل الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطُ ظُهُورِ
السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ عِنْدَ الْقَاضِي وقد بَطَلَ حَقُّ
الْخُصُومَةِ
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطٌ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ في الْهِبَةِ
وَالْمِلْكُ في الْهِبَةِ يَثْبُتُ من وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَظْهَرُ الْمِلْكُ له
من ذلك الْوَقْتِ من كل وَجْهٍ أو من وَجْهٍ وَكَوْنُ الْمَسْرُوقِ مِلْكًا
لِلسَّارِقِ على الْحَقِيقَةِ أو الشُّبْهَةِ يَمْنَعُ من الْقَطْعِ وَلِهَذَا لم
يُقْطَعْ قبل الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ في بَابِ
الْحُدُودِ إمْضَاؤُهَا فما لم يَمْضِ فَكَأَنَّهُ لم يُقْضَ وَلَوْ كان لم يُقْضَ
أَلَيْسَ أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ فَكَذَا إذَا لم يَمْضِ وَلِأَنَّ الطارىء في بَابِ
الْحُدُودِ مُلْحَقٌ بِالْمُقَارَنِ إذَا كان في الْإِلْحَاقِ إسْقَاطُ الْحَدِّ
وَهَهُنَا فيه إسْقَاطُ الْحَدِّ فَيَلْحَقُ بِهِ
وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا حُجَّةَ له فيه لِأَنَّ الْمَرْوِيَّ قَوْلُهُ هو عليه
صَدَقَةٌ وَقَوْلُهُ هو يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْمَسْرُوقَ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ الْقَطْعَ وَهِبَةُ الْقَطْعِ لَا تُسْقِطُ
الْحَدَّ يَدُلُّ عليه أَنَّهُ رُوِيَ في بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قال
وَهَبْت الْقَطْعَ وَكَذَا يُحْتَمَلُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عليه بِالْمَسْرُوقِ أو
وَهَبَهُ منه وَلَكِنَّهُ لم يَقْبِضْهُ وَالْقَطْعُ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالْهِبَةِ
مع الْقَبْضِ
وَعَلَى هذا إذَا بَاعَ الْمَسْرُوقُ من السَّارِقِ قبل الْقَضَاءِ أو بَعْدَهُ
على الِاتِّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ وَلَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالنِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ
الِاسْتِنَادَ إلَى وَقْتِ الْوَطْءِ فَلَا تَثْبُتُ الشُّبْهَةُ في الزِّنَا
فَيُحَدُّ
وَأَمَّا حُكْمُ السُّقُوطِ بَعْدَ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ وهو الشُّبْهَةُ
وَغَيْرُهَا فَدُخُولُ الْمَسْرُوقِ في ضَمَانِ السَّارِقِ حتى لو هَلَكَ في
يَدِهِ بِنَفْسِهِ أو اسْتَهْلَكَهُ السَّارِقُ يَضْمَنُ لِأَنَّ الْمَانِعَ من
الضَّمَانِ هو الْقَطْعُ فإذا سَقَطَ الْقَطْعُ زَالَ الْمَانِعُ فَيَضْمَنُ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَالثَّانِي وُجُوبُ رَدِّ عَيْنِ الْمَسْرُوقِ على صَاحِبِهِ إذَا كان قَائِمًا
بِعَيْنِهِ وَجُمْلَةُ الْكَلَامِ فيه أَنَّ الْمَسْرُوقَ في يَدِ السَّارِقِ لَا
يَخْلُو إمَّا إن كان على حَالِهِ لم يَتَغَيَّرْ وَإِمَّا إن أَحْدَثَ السَّارِقُ
فيه حَدَثًا فَإِنْ كان على حَالِهِ رَدَّهُ على الْمَالِكِ لِمَا رُوِيَ عن النبي
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قال على الْيَدِ ما أَخَذَتْ حتى تَرُدَّهُ
وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قال من وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ
فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَدَّ رِدَاءَ
صَفْوَانَ رضي اللَّهُ عنه عليه وَقَطَعَ السَّارِقَ فيه
وَكَذَلِكَ إنْ كان السَّارِقُ قد مَلَّكَ الْمَسْرُوقَ رَجُلًا بِبَيْعٍ أو
هِبَةٍ أو صَدَقَةٍ أو تَزَوَّجَ امْرَأَةً عليه أو كان السَّارِقُ امْرَأَتَهُ
فَاخْتَلَعَتْ من نَفْسِهَا بِهِ وهو قَائِمٌ في يَدِ الْمَالِكِ فَلِصَاحِبِهِ
أَنْ يَأْخُذَهُ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ إذْ السَّرِقَةُ لَا تُوجِبُ زَوَالَ
الْمِلْكِ عن الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ فَكَانَ تَمْلِيكُ السَّارِقِ بَاطِلًا
وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي على السَّارِقِ بِالثَّمَنِ الذي اشْتَرَاهُ بِهِ لِمَا
مَرَّ فَإِنْ كان قد هَلَكَ في يَدَيْ الْقَابِضِ وكان الْبَيْعُ قبل الْقَطْعِ أو
بَعْدَهُ فَلَا ضَمَانَ لَا على السَّارِقِ وَلَا على الْقَابِضِ لِمَا بَيَّنَّا
فِيمَا تَقَدَّمَ
وَإِنْ أَحْدَثَ السَّارِقُ فيه حَدَثًا لَا يَخْلُو إمَّا إن أَحْدَثَ حَدَثًا
أَوْجَبَ النُّقْصَانَ وَإِمَّا إنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ
فَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ النُّقْصَانَ يُقْطَعْ وَتُسْتَرَدَّ الْعَيْنُ
على الْمَالِكِ وَلَيْسَ عليه ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِأَنَّ نُقْصَانَ
الْمَسْرُوقِ هَلَاكُ بَعْضِهِ
وَلَوْ هَلَكَ كُلُّهُ يُقْطَعُ وَلَا ضَمَانَ عليه كَذَا إذَا هَلَكَ الْبَعْضُ
وَيَرُدُّ الْعَيْنَ لِأَنَّ الْقَطْعَ لَا يَمْنَعُ الرَّدَّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ
لَا يَمْنَعُ رَدَّ الْكُلِّ فَكَذَا الْبَعْضِ
وَإِنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ فَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ
السَّارِقَ إذَا أَحْدَثَ في الْمَسْرُوقِ حَدَثًا لو أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ في
الْمَغْصُوبِ لَا يُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَسْرُوقِ منه
وَإِلَّا فَلَا إلَّا أَنَّ في بَابِ الْغَصْبِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ لِلْمَالِكِ
مِثْلَ الْمَغْصُوبِ أو قِيمَتَهُ وَهَهُنَا لَا يَضْمَنُ السَّارِقُ لِمَانِعٍ
وهو الْقَطْعُ
إذَا عُرِفَ هذا فَنَقُولُ السَّارِقُ إذَا قَطَعَ الثَّوْبَ الْمَسْرُوقَ
وَخَاطَهُ قَمِيصًا انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ لو فَعَلَهُ الْغَاصِبُ
لَانْقَطَعَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ منه
كَذَا إذَا فَعَلَهُ السَّارِقُ وَلَا
____________________
(7/89)
ضَمَانَ
على السَّارِقِ لِمَا بَيَّنَّا وَلَوْ صَبَغَهُ أَحْمَرَ أو أَصْفَرَ فَكَذَلِكَ
لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ على الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ
وفي قَوْلِهِمَا يَأْخُذُ الْمَالِكُ الثَّوْبَ وَيُعْطِيهِ ما زَادَ الصَّبْغُ
فيه
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ لو وُجِدَ هذا من الْغَاصِبِ لَخُيِّرَ الْمَالِكُ بين
أَنْ يَضْمَنَ الْغَاصِبُ قِيمَةَ الثَّوْبِ وَبَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ
وَيُعْطِيَهُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه إلَّا أَنَّ التَّضْمِينَ هَهُنَا
مُتَعَذَّرٌ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَتَعَيَّنَ الْوَجْهُ الْآخَرُ وهو أَنْ
يَأْخُذَ الثَّوْبَ وَيُعْطِيَهُ ما زَادَ الصَّبْغُ فيه إذْ الْغَصْبُ
وَالسَّرِقَةُ لَا يَخْتَلِفَانِ في هذا الْبَابِ إلَّا في الضَّمَانِ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ الْفَرْقُ بين الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ هَهُنَا وهو أَنَّ
حَقَّ الْمَغْصُوبِ منه إنَّمَا لم يَنْقَطِعْ عن الثَّوْبِ بِالصَّبْغِ لِأَنَّ
أَصْلَ الثَّوْبِ مِلْكُهُ وهو مُتَقَوِّمٌ وَلِلْغَاصِبِ فيه حَقٌّ مُتَقَوِّمٌ
أَيْضًا إلَّا أَنَّا أَثْبَتْنَا الْخِيَارَ لِلْمَالِكِ لَا لِلْغَاصِبِ لِأَنَّ
الْمَالِكَ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْغَاصِبَ صَاحِبُ وَصْفٍ وَهَهُنَا حَقُّ
السَّارِقِ في الصَّبْغِ مُتَقَوِّمٌ وَحَقُّ الْمَالِكِ في أَصْلِ الثَّوْبِ ليس
بِمُتَقَوِّمٍ في حَقِّ السَّارِقِ لِأَجْلِ الْقَطْعِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو أَتْلَفَهُ السَّارِقُ لَا ضَمَانَ عليه فَاعْتُبِرَ حَقُّ
السَّارِقِ وَجُعِلَ حَقُّ الْمَالِكِ في الْأَصْلِ تَبَعًا لَحَقِّهِ في الْوَصْفِ
وَتَعَذَّرَ تَضْمِينُهُ لِضَرُورَةِ الْقَطْعِ فَيَكُونُ له مَجَّانًا وَلَكِنْ
لَا يَحِلُّ له أَنْ يَنْتَفِعَ بهذا الثَّوْبِ بِوَجْهٍ من الْوُجُوهِ
كَذَا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الثَّوْبَ على مِلْكِ
الْمَسْرُوقِ منه إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَتَضْمِينُهُ في الْحُكْمِ
وَالْقَضَاءِ فما لم يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَا يَحِلُّ له الِانْتِفَاعُ بِهِ
لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِوَجْهٍ مَحْظُورٍ من غَيْرِ بَدَلٍ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ
الضَّمَانِ فَلَا يُبَاحُ له الِانْتِفَاعُ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَالُ
إنْسَانٍ في يَدِ غَيْرِهِ على وَجْهٍ يَخْرُجُ من أَنْ يَكُونَ وَاجِبُ الرَّدِّ
وَالضَّمَانُ إلَيْهِ من طَرِيقِ الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ لَكِنْ لَا يَحِلُّ له
الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
كَالْمُسْلِمِ إذَا دخل دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَخَذَ شيئا من أَمْوَالِهِمْ
لَا يُحْكَمُ عليه بِالرَّدِّ وَيَلْزَمُهُ ذلك فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ
جَلَّ جَلَالُهُ
وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْعَادِلِ ثُمَّ تَابَ لَا يُحْكَمُ
عليه بِالضَّمَانِ وَيُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى وَكَذَلِكَ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ شيئا من مَالِنَا ثُمَّ
أَسْلَمَ لَا يُحْكَمُ عليه بِالرَّدِّ وَيُفْتَى بِذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَكَذَلِكَ السَّارِقُ إذَا اسْتَهْلَكَ
الْمَسْرُوقَ لَا يُقْضَى عليه بِالضَّمَانِ وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا
بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكَذَا قَاطِعُ الطَّرِيقِ إذَا قَتَلَ
إنْسَانًا بِعَصًا ثُمَّ جاء تَائِبًا بَطَلَ عنه الْحَدُّ وَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ
الدِّيَةِ إلَى وَلِيِّ الْقَتِيلِ
وَلَوْ قَتَلَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا بِعَصًا ثُمَّ أَسْلَمَ لَا يُفْتَى بِدَفْعِ
الدِّيَةِ إلَى الْوَلِيِّ بِخِلَافِ الْبَاغِي وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ وَالْفَرْقُ
أَنَّ الْقَتْلَ من الْحَرْبِيِّ لم يَقَعْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِأَنَّ
عِصْمَةَ الْمَقْتُولِ لم تَظْهَرْ في حَقِّهِ فَلَا يُجَبُّ بِالْإِسْلَامِ
لِأَنَّهُ يَجُبُّ ما قَبْلَهُ وقال اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لهم ما قد سَلَفَ } بِخِلَافِ قَاطِعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّ
فِعْلَهُ وَقَعَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ
بِالضَّمَانِ لِمَانِعٍ وهو ضَرُورَةُ إقَامَةِ الْحَدِّ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ
إذَا لم يَجِبْ لِشُبْهَةٍ يُحْكَمُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَثَرُ الْمَانِعِ في
الْحُكْمِ وَالْقَضَاءِ لَا في الْفَتْوَى وَكَذَا فِعْلُ الْبَاغِي وَقَعَ
سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَكِنْ لم يُحْكَمْ بِالْوُجُوبِ لِمَانِعٍ وهو
عَدَمُ الْفَائِدَةِ لِقِيَامِ الْمَنَعَةِ وَهَذَا الْمَانِعُ يَخُصُّ الْحُكْمَ
وَالْقَضَاءَ فَكَانَ الْوُجُوبُ ثَابِتًا عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
فَيُقْضَى بِهِ
وَعَلَى هذا يَخْرُجُ ما إذَا سَرَقَ نَقْرَةَ فِضَّةٍ فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ
أَنَّهُ يُقْطَعُ وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ على صَاحِبِهَا في قَوْلِ أبي حَنِيفَةَ
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ عن الدَّرَاهِمِ بِنَاءً على أَنَّ هذا
الصُّنْعَ لَا يَقْطَعُ حَقَّ الْمَالِكِ في بَابِ الْغَصْبِ عِنْدَهُ
وَعِنْدَهُمَا يَنْقَطِعُ وَلَوْ سَرَقَ حَدِيدًا أو صُفْرًا أو نُحَاسًا أو ما
أَشْبَهَ ذلك فَضَرَبَهَا أَوَانِيَ يُنْظَرُ إنْ كان بَعْدَ الصِّنَاعَةِ
وَالضَّرْبِ تُبَاعُ وَزْنًا فَهُوَ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا وَإِنْ كان
تُبَاعُ عَدَدًا فَيُقْطَعُ حَقُّ الْمَالِكِ بِالْإِجْمَاعِ كما في الْغَصْبِ
وَعَلَى هذا إذَا سَرَقَ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا وَغَيْرَ ذلك من هذا الْجِنْسِ
وَسَنَذْكُرُ جُمْلَةَ ذلك في كِتَابِ الْغَصْبِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
وَاَللَّهُ أَعْلَم بِالصَّوَابِ
كِتَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ على نَحْوِ الْكَلَامِ
في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَذَلِكَ في أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ في بَيَانِ رُكْنِ
قَطْعِ الطَّرِيقِ وفي بَيَانِ شَرَائِطِ الرُّكْنِ وفي بَيَانِ ما يَظْهَرُ بِهِ
قَطْعُ الطَّرِيقِ عِنْدَ الْقَاضِي وفي بَيَانِ حُكْمِ قَطْعِ الطَّرِيقِ
فَصْلٌ أَمَّا رُكْنَهُ فَهُوَ الْخُرُوجُ على الْمَارَّةِ لِأَخْذِ الْمَالِ على
سَبِيلِ الْمُغَالَبَةِ على وَجْهٍ يَمْتَنِعُ الْمَارَّةُ عن الْمُرُورِ
وَيَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ سَوَاءٌ كان الْقَطْعُ من جَمَاعَةٍ أو من وَاحِدٍ بَعْدَ
أَنْ يَكُونَ له قُوَّةُ الْقَطْعِ وَسَوَاءٌ كان الْقَطْعُ بِسِلَاحٍ أو غَيْرِهِ
من الْعَصَا
____________________
(7/90)
وَالْحَجَرِ
وَالْخَشَبِ وَنَحْوِهَا لِأَنَّ انْقِطَاعَ الطَّرِيقِ يَحْصُلُ بِكُلٍّ من ذلك
وَسَوَاءٌ كان بِمُبَاشَرَةِ الْكُلِّ أو التَّسْبِيبِ من الْبَعْضِ
بِالْإِعَانَةِ وَالْأَخْذِ لِأَنَّ الْقَطْعَ يَحْصُلُ بِالْكُلِّ كما في
السَّرِقَةِ وَلِأَنَّ هذا من عَادَةِ الْقُطَّاعِ أَعْنِي الْمُبَاشَرَةَ من
الْبَعْضِ وَالْإِعَانَةَ من الْبَعْضِ بِالتَّسْمِيرِ لِلدَّفْعِ فَلَوْ لم
يَلْحَقْ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ في سَبَبِ وُجُوبِ الْحَدِّ لَأَدَّى ذلك
إلَى انْفِتَاحِ بَابِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَانْسِدَادِ حُكْمِهِ وَأَنَّهُ قَبِيحٌ
وَلِهَذَا أُلْحِقَ التَّسَبُّبُ بِالْمُبَاشَرَةِ في السَّرِقَةِ
كَذَا هَهُنَا
فَصْلٌ وَأَمَّا الشَّرَائِطُ فَأَنْوَاعٌ بَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْقَاطِعِ
خَاصَّةً وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عليه خَاصَّةً وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا وَبَعْضُهَا يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ له وَبَعْضُهَا
يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فيه
أَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى القاضع ( ( ( القاطع ) ) ) خَاصَّةً فَأَنْوَاعٌ منها
أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ بَالِغًا فَإِنْ كان صَبِيًّا أو
مَجْنُونًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْحَدَّ عُقُوبَةٌ فَيَسْتَدْعِي
جِنَايَةً وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِكَوْنِهِ جِنَايَةً
وَلِهَذَا لم يَتَعَلَّقْ بِهِ الْقَطْعُ في السَّرِقَةِ
كَذَا هذا
وَلَوْ كان في الْقُطَّاعِ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ فَلَا حَدَّ على أَحَدٍ في
قَوْلِهِمَا
وقال أبو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كان الصَّبِيُّ هو الذي يَلِي الْقَطْعَ
فَكَذَلِكَ وَإِنْ كان غَيْرُهُ حد حَدَّ الْعُقَلَاءَ الْبَالِغِينَ
وقد ذَكَرْنَا الْمَسْأَلَةَ في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا الذُّكُورَةُ في ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ حتى لو كانت في الْقُطَّاعِ
امْرَأَةٌ فَوُلِّيَتْ الْقِتَالَ وَأَخْذَ الْمَالِ دُونَ الرِّجَالِ لَا يُقَامُ
الْحَدُّ عليها في الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وقال النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ في قَطْعِ
الطَّرِيقِ سَوَاءٌ وَعَلَى قِيَاسِ قَوْله تَعَالَى يُقَامُ الْحَدُّ عليها
وَعَلَى الرِّجَالِ
وَجْهُ ما ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ هذا حَدٌّ يَسْتَوِي في وُجُوبِهِ
الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى كَسَائِرِ الْحُدُودِ وَلِأَنَّ الْحَدَّ إنْ كان هو
الْقَطْعُ فَلَا يُشْتَرَطُ في وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ وَالْأُنُوثَةُ كَسَائِرِ
الْحُدُودِ فَلَا يُشْتَرَطُ في وُجُوبِهِ الذُّكُورَةُ كَحَدِّ السَّرِقَةِ
وَإِنْ كان هو الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ كَحَدِّ الزِّنَا وهو الرَّجْمُ إذَا كانت
مُحْصَنَةً
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ أَنَّ رُكْنَ الْقَطْعِ وهو الْخُرُوجُ على
الْمَارَّةِ على وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُغَالَبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ من
النِّسَاءِ عَادَةً لِرِقَّةِ قُلُوبِهِنَّ وَضَعْفِ بِنْيَتِهِنَّ فَلَا يَكُنَّ
من أَهْلِ الْحِرَابِ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلْنَ في دَارِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ
السَّرِقَةِ لِأَنَّهَا أَخْذُ الْمَالِ على وَجْهِ الِاسْتِخْفَاءِ وَمُسَارَقَةِ
الْأَعْيُنِ وَالْأُنُوثَةُ لَا تَمْنَعُ من ذلك
وَكَذَا أَسْبَابُ سَائِرِ الْحُدُودِ تَتَحَقَّقُ من النِّسَاءِ كما تَتَحَقَّقُ
من الرِّجَالِ
وَأَمَّا الرِّجَالُ الَّذِينَ مَعَهَا فَلَا يُقَامُ عليهم الْحَدُّ في قَوْلِ
أبي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ سَوَاءٌ بَاشَرُوا مَعَهَا أو لم
يُبَاشِرُوا
فَرَّقَ أبو يُوسُفَ بين الصَّبِيِّ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ حَيْثُ قال إذَا بَاشَرَ
الصَّبِيُّ لَا حَدَّ على من لم يُبَاشِرْ من الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ وإذا
بَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ تُحَدُّ كالرجال ( ( ( الرجال ) ) )
وَوَجْهُ الْفَرْقِ له أَنَّ امْتِنَاعَ الْوُجُوبِ على الْمَرْأَةِ ليس لِعَدَمِ
الْأَهْلِيَّةِ لِأَنَّهَا من أَهْلِ التَّكْلِيفِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَعَلَّقُ سَائِرُ الْحُدُودِ بِفِعْلِهَا بَلْ لِعَدَمِ
الْمُحَارَبَةِ منها أو نُقْصَانِهَا عَادَةً وَهَذَا لم يُوجَدْ في الرِّجَالِ
فَلَا يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْحَدِّ عليهم وَامْتِنَاعُ الْوُجُوبِ على الصَّبِيِّ
لِعَدَمِ أَهْلِيَّةِ الْوُجُوبِ لِأَنَّهُ ليس من أَهْلِ الْإِيجَابِ عليه
وَلِهَذَا لم يَجِبْ عليه سَائِرُ الْحُدُودِ فإذا انْتَفَى الْوُجُوبُ عليه وهو
أَصْلٌ امْتَنَعَ التَّبَعُ ضَرُورَةً
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وهو قَطْعُ الطَّرِيقِ
وقد حَصَلَ مِمَّنْ يَجِبُ عليه وَمِمَّنْ لَا يَجِبُ عليه فَلَا يَجِبُ أَصْلًا
كما إذَا كان فِيهِمْ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَأَمَّا الْحُرِّيَّةُ فَلَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِعُمُومِ قَوْلِهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا } الْآيَةُ من غَيْرِ فَصْلٍ بين الْحُرِّ
وَالْعَبْدِ
وَلِأَنَّ الرُّكْنَ وهو قَطْعُ الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ من الْعَبْدِ حَسْبَ
تَحَقُّقِهِ من الْحُرِّ فَيَلْزَمُهُ حُكْمُهُ كما يَلْزَمُ الْحُرَّ
وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ عليه خَاصَّةً فَنَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا أو ذِمِّيًّا فَإِنْ كان حَرْبِيًّا
مُسْتَأْمَنًا لَا حَدَّ على الْقَاطِعِ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ
الْمُسْتَأْمَنِ ليس بِمَعْصُومٍ مطلق ( ( ( مطلقا ) ) ) بَلْ في عِصْمَتِهِ
شُبْهَةُ الْعَدَمِ لِأَنَّهُ من أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَإِنَّمَا الْعِصْمَةُ
بِعَارِضِ الْأَمَانِ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةِ الْعَوْدِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ
فَكَانَ في عِصْمَتِهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الْحَدُّ
بِالْقَطْعِ عليه كما لَا يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ
لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ أَفَادَ له عِصْمَةَ مَالِهِ على التَّأْبِيدِ
فَتَعَلَّقَ الْحَدُّ بِأَخْذِهِ كما يَتَعَلَّقُ بِسَرِقَتِهِ
وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ يَدُهُ صَحِيحَةً بِأَنْ كانت يَدَ مِلْكٍ أو يَدَ
أَمَانَةٍ أو يَدَ ضَمَانٍ فَإِنْ لم تَكُنْ صَحِيحَةً كَيَدِ السَّارِقِ لَا
حَدَّ على الْقَاطِعِ كما لَا حَدَّ على السَّارِقِ على ما مَرَّ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَيْهِمَا جميعا فَوَاحِدٌ وهو أَنْ لَا يَكُونَ
في الْقُطَّاعِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدٍ من الْمَقْطُوعِ عليهم
____________________
(7/91)
فَإِنْ
كان لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا تَبَسُّطًا في الْمَالِ وَالْحِرْزِ
لِوُجُودِ الْإِذْنِ بِالتَّنَاوُلِ عَادَةً فَقَدْ أَخَذَ مَالًا لم يُحْرِزْهُ
عنه الْحِرْزُ الْمَبْنِيُّ في الْحَضَرِ وَلَا السُّلْطَانُ الْجَارِي في
السَّفَرِ فَأَوْرَثَ ذلك شُبْهَةً في الْأَجَانِبِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ وهو
قَطْعُ الطَّرِيقِ وكان الْجَصَّاصُ يقول جَوَابُ الْكِتَابِ مَحْمُولٌ على ما
إذَا كان الْمَأْخُوذُ مُشْتَرَكًا بين الْمَقْطُوعِ عليهم وفي الْقُطَّاعِ من هو
ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ من أَحَدِهِمْ فَأَمَّا إذَا كان لِكُلِّ وَاحِدٍ منهم مَالٌ
مُفَرَّزٌ يَجِبُ الْحَدُّ على الْبَاقِينَ وَجَوَابُ الْكِتَابِ مُطْلَقٌ عن هذا
التَّفْصِيلِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ له فما ذُكِرَ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ وهو أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مَالًا مُتَقَوِّمًا مَعْصُومًا ليس
فيه لِأَحَدٍ حَقُّ الْأَخْذِ وَلَا تَأْوِيلُ التَّنَاوُلِ وَلَا تُهْمَةُ
التَّنَاوُلِ مَمْلُوكًا لَا مِلْكَ فيه لِلْقَاطِعِ وَلَا تَأْوِيلَ الْمِلْكِ
وَلَا شُبْهَةَ الْمِلْكِ مُحَرَّزًا مُطْلَقًا بِالْحَافِظِ ليس فيه شُبْهَةُ
الْعَدَمِ نِصَابًا كَامِلًا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أو مُقَدَّرًا بها حتى لو كان
الْمَالُ الْمَأْخُوذُ لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ من الْقُطَّاعِ عَشَرَةً لَا
حَدَّ عليهم وقد ذَكَرْنَا دَلَائِلَ هذه الشَّرَائِطِ وَالْمَسَائِلِ التي
تُخَرَّجُ عليها في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَشَرَطَ الْحَسَنُ بن زِيَادٍ في نِصَابِ
قَطْعِ الطَّرِيقِ أَنْ يَكُونَ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا
وقال عِيسَى بن زِيَادٍ إنْ قَتَلُوا قُتِلُوا وَإِنْ كان ما أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ
منهم أَقَلَّ من عَشَرَةٍ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّرَ نِصَابَ السَّرِقَةِ بِعَشَرَةٍ
وَالْوَاجِبُ فيها قَطْعُ طَرَفِ الْوَاحِدِ وَهَهُنَا يُقْطَعُ طَرَفَانِ
فَيُشْتَرَطُ نِصَابَانِ وَذَلِكَ عِشْرُونَ
وَجْهُ قَوْلِ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّا أَجْمَعْنَا على أَنَّهُمْ لو
قَتَلُوا ولم يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا قُتِلُوا فإذا أَخَذُوا شيئا من
الْمَالِ وَإِنْ قَلَّ أَوْلَى أَنْ يُقْتَلُوا
وَلَنَا الْفَرْقُ بين النَّوْعَيْنِ وهو أَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوا ولم
يَأْخُذُوا الْمَالَ أَصْلًا عُلِمَ أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْقَتْلُ لَا الْمَالُ
وَالْقَتْلُ جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ في نَفْسِهَا فَيُجَازَى بِعُقُوبَةٍ
مُتَكَامِلَةٍ وَهِيَ الْقَتْلُ وَلَمَّا أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا دَلَّ
أَنَّ مَقْصُودَهُمْ الْمَالُ وَإِنَّمَا قَتَلُوا لِيَتَمَكَّنُوا من أَخْذِ
الْمَالِ وَأَخْذُ الْمَالِ لَا يَتَكَامَلُ جِنَايَةً إلَّا إذَا كان
الْمَأْخُوذُ نِصَابًا كما في السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الذي يَرْجِعُ إلَى الْمَقْطُوعِ فيه وهو الْمَكَانُ فَنَوْعَانِ
أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ قَطْعُ الطَّرِيقِ في دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنْ كان في
دَارِ الْحَرْبِ لَا يَجِبُ الْحَدُّ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّيَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ
هو الْإِمَامُ وَلَيْسَ له وَلَايَةٌ في دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَقْدِرُ على
الْإِقَامَةِ فَالسَّبَبُ حين وُجُودِهِ لم يَنْعَقِدْ سَبَبًا لِلْوُجُوبِ
لِعَدَمِ الْوَلَايَةِ فَلَا يَسْتَوْفِيهِ في دَارِ الْإِسْلَامِ وَلِهَذَا لَا
يستوفى سَائِرَ الْحُدُودِ في دَارِ الْإِسْلَامِ إذَا وَجَدَ أَسْبَابَهَا في
دَارِ الْحَرْبِ
كَذَا هذا
وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ في غَيْرِ مِصْرٍ فَإِنْ كان في مِصْرٍ لَا يَجِبُ
الْحَدُّ سَوَاءٌ كان الْقَطْعُ نَهَارًا أو لَيْلًا وَسَوَاءٌ كان بِسِلَاحٍ أو
غَيْرِهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وهو قَوْلُهُمَا وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبَ وهو
قَوْلُ أبي يُوسُفَ
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قد تَحَقَّقَ وهو قَطْعُ الطَّرِيقِ
فَيَجِبُ الْحَدُّ كما لو كان في غَيْرِ مِصْرٍ
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْقَطْعَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الِانْقِطَاعِ
وَالطَّرِيقُ لَا يَنْقَطِعُ في الْأَمْصَارِ وَفِيمَا بين الْقُرَى لِأَنَّ
الْمَارَّةَ لَا تَمْتَنِعُ عن الْمُرُورِ عَادَةً فلم يُوجَدْ السَّبَبُ
وَقِيلَ إنَّمَا أَجَابَ أبو حَنِيفَةَ عليه الرَّحْمَةُ على ما شَاهَدَهُ في
زَمَانِهِ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ
فَالْقُطَّاعُ ما كَانُوا يَتَمَكَّنُونَ من مُغَالَبَتِهِمْ في الْمِصْرِ
وَالْآنَ تَرَكَ الناس هذه الْعَادَةَ فَتُمْكِنُهُمْ الْمُغَالَبَةُ فَيَجْرِي
عليهم الْحَدُّ وَعَلَى هذا قال أبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قَطَعَ
الطَّرِيقَ بين الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ أنه لَا يَجْرِي عليه الْحَدُّ لِأَنَّ
الْغَوْثَ كان يَلْحَقُ هذا الْمَوْضِعَ في زَمَانِهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْمِصْرِ
وَالْآنَ صَارَ مُلْتَحِقًا بِالْبَرِّيَّةِ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ
فَيَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ
وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمِصْرِ مَسِيرَةُ سَفَرٍ فَإِنْ
كان أَقَلَّ من ذلك لم يَكُونُوا قُطَّاعَ الطَّرِيقِ
وَهَذَا على قَوْلِهِمَا فَأَمَّا على قَوْلِ أبي يُوسُفَ فَلَيْسَ بِشَرْطٍ
وَيَكُونُونَ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ
وَالْوَجْهُ ما بَيَّنَّا فَيَجِبُ الْحَدُّ
وَرُوِيَ عن أبي يُوسُفَ في قُطَّاعِ الطَّرِيقِ في الْمِصْرِ إنْ قَاتَلُوا
نَهَارًا بِسِلَاحٍ يُقَامُ عليهم الْحَدُّ وَإِنْ خَرَجُوا بِخَشَبٍ لهم لم
يُقَمْ عليهم لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ فَلَا يَلْحَقُ الْغَوْثَ
وَالْخَشَبُ يَلْبَثُ فَالْغَوْثُ يَلْحَقُ
وَإِنْ قَاتَلُوا لَيْلًا بِسِلَاحٍ أو بِخَشَبٍ يُقَامُ عليهم الْحَدُّ لِأَنَّ
الْغَوْثَ قَلَّمَا يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ فَيَسْتَوِي فيه السِّلَاحُ وَغَيْرُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَلَوْ أَشْهَرَ على رَجُلٍ سِلَاحًا نَهَارًا أو لَيْلًا في غَيْرِ مِصْرٍ أو في
مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عليه عَمْدًا فَلَا شَيْءَ عليه
وَكَذَلِكَ إنْ شُهِرَ عليه عَصًا لَيْلًا في غَيْرِ مِصْرٍ أو في مِصْرٍ وَإِنْ
كان نَهَارًا في مِصْرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْهُورُ عليه يُقْتَلْ بِهِ
وَالْأَصْلُ في هذا أَنَّ من قَصَدَ قَتْلَ
____________________
(7/92)
إنْسَانٍ
لَا يَنْهَدِرُ دَمُهُ وَلَكِنْ يُنْظَرُ إنْ كان الْمَشْهُورُ عليه يُمْكِنُهُ
دَفْعُهُ عن نَفْسِهِ بِدُونِ الْقَتْلِ لَا يُبَاحُ له الْقَتْلُ وَإِنْ كان لَا
يُمْكِنُهُ الدَّفْعُ إلَّا بِالْقَتْلِ يُبَاحُ له الْقَتْلُ لِأَنَّهُ من
ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ فَإِنْ شَهَرَ عليه سَيْفَهُ يُبَاحُ له أَنْ يَقْتُلَهُ
لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ على الدَّفْعِ إلَّا بِالْقَتْلِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لو اسْتَغَاثَ الناس لَقَتَلَهُ قبل أَنْ يَلْحَقَهُ
الْغَوْثُ إذْ السِّلَاحُ لَا يَلْبَثُ فَكَانَ الْقَتْلُ من ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ
فَيُبَاحُ قَتْلُهُ فإذا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مُبَاحَ الدَّمِ فَلَا
شَيْءَ عليه
وَكَذَا إذَا شهر ( ( ( أشهر ) ) ) عليه الْعَصَا لَيْلًا لِأَنَّ الْغَوْثَ لَا
يَلْحَقُ بِاللَّيْلِ عَادَةً سَوَاءٌ كان في الْمَفَازَةِ أو في الْمِصْرِ
وَإِنْ أَشْهَرَ عليه نَهَارًا في الْمِصْرِ لَا يُبَاحُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُهُ دَفْعُ شَرِّهِ بِالِاسْتِغَاثَةِ بِالنَّاسِ
وَإِنْ كان في الْمَفَازَةِ يُبَاحُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ
الِاسْتِغَاثَةُ فَلَا يَنْدَفِعُ شَرُّهُ إلَّا بِالْقَتْلِ فَيُبَاحُ له
الْقَتْلُ
وَرَوَى أبو يُوسُفَ عن أبي حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنهما أَنَّهُ لو قَصَدَ
قَتْلَهُ بِمَا لو قَتَلَهُ بِهِ لَوَجَبَ عليه الْقِصَاصُ فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ
قَتْلُهُ لَا يَجِبُ عليه الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ يُبَاحُ قَتْلُهُ إذْ لو لم يُبَحْ
لَقَتَلَهُ الْقَاصِدُ وإذا قَتَلَهُ يُقْتَلُ بِهِ قِصَاصًا فَكَانَ فيه إتْلَافُ
نَفْسَيْنِ
فإذا أُبِيحَ قَتْلُهُ كان فيه إتْلَافُ أَحَدِهِمَا فَكَانَ أَهْوَنَ
وَلَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لو قَتَلَهُ بِهِ لَكَانَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لَا
يُبَاحُ لِلْمَقْصُودِ قَتْلُهُ أَنْ يَقْتُلَ الْقَاصِدَ فَإِنْ قَتَلَهُ يَجِبْ
عليه الْقِصَاصُ لِأَنَّهُ ليس في تَرْكِ الْإِبَاحَةِ هَهُنَا إتْلَافُ نَفْسٍ
فَلَا يُبَاحُ فإذا قَتَلَهُ فَقَدْ قَتَلَ شَخْصًا مَعْصُومَ الدَّمِ على
الْأَبَدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَظْهَرُ بِهِ الْقَطْعُ عِنْدَ الْقَاضِي فَاَلَّذِي
يَظْهَرُ بِهِ الْبَيِّنَةُ أو الْإِقْرَارُ عَقِيبَ خُصُومَةٍ صَحِيحَةٍ وَلَا
يَظْهَرُ بِعِلْمِ الْقَاضِي على ما ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ فَلَهُ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا
يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ
وَالْآخَرُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ
أَمَّا الذي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَهُوَ وُجُوبُ الْحَدِّ وَالْكَلَامُ في هذا
الْحُكْمِ في مَوَاضِعَ في بَيَانِ أَصْلِ هذا الْحُكْمِ وفي بَيَانِ صِفَاتِهِ
وفي بَيَانِ مَحِلِّ إقَامَتِهِ وفي بَيَانِ من يُقِيمُهُ وفي بَيَانِ ما
يُسْقِطُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وفي بَيَانِ حُكْمِ السُّقُوطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ أو
عَدَمِ الثُّبُوتِ لِمَانِعٍ
أَمَّا أَصْلُ الْحُكْمِ الذي يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ فَلَنْ يُمْكِنَ الْوُصُولُ
إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ
يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ قَطْعُ
الطَّرِيقِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِأَخْذِ الْمَالَ لَا غَيْرُ
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِهِمَا
جميعا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالتَّخْوِيفِ من غَيْرِ أَخْذٍ وَلَا قَتْلٍ فَمَنْ
أَخَذَ الْمَالَ ولم يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ من خِلَافٍ
وَمَنْ قَتَلَ ولم يَأْخُذْ الْمَالَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ قال
أبو حَنِيفَةَ رضي اللَّهُ عنه الْإِمَامُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ يَدَهُ
وَرِجْلَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أو صَلَبَهُ وَإِنْ شَاءَ لم يقطعه ( ( ( يقطه ) ) )
وَقَتَلَهُ أو صَلَبَهُ
وَقِيلَ إنَّ تَفْسِيرَ الْجَمْعِ بين الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ هو أَنْ يَقْطَعَهُ الْإِمَامُ وَلَا يَحْسِمُ مَوْضِعَ
الْقَطْعِ بَلْ يَتْرُكُهُ حتى يَمُوتَ وَعِنْدَهُمَا يُقْتَلُ وَلَا يُقْطَعُ
وَمَنْ أَخَافَ ولم يَأْخُذْ مَالًا وَلَا قَتَلَ نَفْسًا يُنْفَى
وقال مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ في قَاطِعِ الطَّرِيق مُخَيَّرٌ بين الْأَجْزِيَةِ
الْمَذْكُورَةِ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ عز وجل { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أو
يُصَلَّبُوا أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ أو يُنْفَوْا من
الْأَرْضِ } احْتَجَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ
وهو أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ الْأَجْزِيَةَ فيها بِحَرْفِ ( أو
) وإنها لِلتَّخْيِيرِ كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ
الصَّيْدِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ هذا الْحَرْفِ إلَّا حَيْثُ قام
الدَّلِيلُ بِخِلَافِهَا
وَلَنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إجْرَاءُ الْآيَةِ على ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ في
مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ على قَدْرِ الْجِنَايَةِ يَزْدَادُ
بِزِيَادَةِ الْجِنَايَةِ وَيَنْتَقِصُ بِنُقْصَانِهَا
هذا هو مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالسَّمْعِ أَيْضًا
قال اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا }
فَالتَّخْيِيرُ في الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ بِالْجَزَاءِ في الْجَزَاءِ الذي هو
جَزَاءٌ في الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ وفي الْجِنَايَةِ الْكَامِلَةِ بِالْجَزَاءِ
الذي هو جَزَاءٌ في الْجِنَايَةِ الْقَاصِرَةِ خِلَافُ الْمَشْرُوعِ
يُحَقِّقُهُ أَنَّ الْأُمَّةَ اجْتَمَعَتْ على أَنَّ الْقُطَّاعَ لو أَخَذُوا
الْمَالَ وَقَتَلُوا لَا يُجَازُونَ بِالنَّفْيِ وَحْدَهُ وَإِنْ كان ظَاهِرُ
الْآيَةِ يَقْتَضِي التَّخْيِيرَ بين الْأَجْزِيَةِ الأربعة ( ( ( الأربع ) ) )
دَلَّ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ على أَنَّ
التَّخْيِيرَ الْوَارِدَ في الْأَحْكَامِ الْمُخْتَلِفَةِ من حَيْثُ الصُّورَةُ
بِحَرْفِ التَّخْيِيرِ إنَّمَا يَجْرِي على ظَاهِرِهِ إذَا كان سَبَبُ الْوُجُوبِ
وَاحِدًا كما في كَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَكَفَّارَةِ جَزَاءِ الصَّيْدِ
أَمَّا إذَا كان مُخْتَلِفًا فَيُخَرَّجُ مَخْرَجَ بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ في
نَفْسِهِ كما في قَوْله تَعَالَى { قُلْنَا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إمَّا أَنْ
تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } إنَّ ذلك ليس لِلتَّخْيِيرِ
بين الْمَذْكُورِينَ بَلْ لِبَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلٍّ في نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ
سَبَبِ الْوُجُوبِ وَتَأْوِيلُهُ إمَّا أَنْ تُعَذِّبَ من ظَلَمَ أو تَتَّخِذَ
الْحُسْنَ فِيمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ { أَمَّا من ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } الْآيَةُ {
وَأَمَّا من آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى }
____________________
(7/93)
الْآيَةُ
وَقَطْعُ الطَّرِيقِ مُتَنَوِّعٌ في نَفْسِهِ وَإِنْ كان مُتَّحِدًا من حَيْثُ
الذَّاتُ
قد يَكُونُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ وقد يَكُونُ بِالْقَتْلِ لَا غَيْرُ وقد
يَكُونُ بِالْجَمْعِ بين الْأَمْرَيْنِ وقد يَكُونُ بِالتَّخْوِيفِ لَا غَيْرُ
فَكَانَ سَبَبُ الْوُجُوبِ مُخْتَلِفًا فَلَا يُحْمَلُ على التَّخْيِيرِ بَلْ على
بَيَانِ الْحُكْمِ لِكُلِّ نَوْعٍ أو يُحْتَمَلُ هذا وَيُحْتَمَلُ ما ذَكَرْتُمْ
فَلَا يَكُونُ حُجَّةً مع الِاحْتِمَالِ وإذا لم يُمْكِنْ صُرِفَتْ الْآيَةُ
الشَّرِيفَةُ إلَى ظَاهِرِ التَّخْيِيرِ في مُطْلَقِ الْمُحَارِبِ
فأما أَنْ يُحْمَلَ على التَّرْتِيبِ وَيُضْمَرَ في كل حُكْمٍ مَذْكُورٍ نَوْعٌ من
أَنْوَاعِ قَطْعِ الطَّرِيقِ كَأَنَّهُ قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ
فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أو يُصَلَّبُوا } إنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا أو
تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ إنْ أَخَذُوا الْمَالَ لَا
غَيْرُ أو يُنْفَوْا من الْأَرْضِ إنْ أَخَافُوا
هَكَذَا ذَكَرَ سَيِّدُنَا جِبْرِيلُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِرَسُولِ
اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لَمَّا قَطَعَ أبو بُرْدَةَ رضي اللَّهُ عنه
بِأَصْحَابِهِ الطَّرِيقَ على أُنَاسٍ جَاءُوا يُرِيدُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ من
قَتَلَ قُتِلَ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ ولم يَقْتُلْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ من
خِلَافٍ وَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ صُلِبَ وَمَنْ جاء مُسْلِمًا هَدَمَ
الْإِسْلَامُ ما كان قَبْلَهُ من الشِّرْكِ وَإِلَى هذا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ عبد
اللَّهِ بن عَبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهما وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيّ وإماأن
يُعْمَلَ بِظَاهِرِ التَّخْيِيرِ بين الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ لَكِنْ في
مُحَارِبٍ خَاصٍّ وهو الذي أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ فَكَانَ الْعَمَلُ بِظَاهِرِ
التَّخْيِيرِ على هذا الْوَجْهِ أَقْرَبَ من ظَاهِرِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى جَمَعَ بين الْقَتْلِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ في الذِّكْرِ
بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الْأَرْضِ فَسَادًا } فَالْمُحَارَبَةُ هِيَ
الْقَتْلُ وَالْفَسَادُ في الْأَرْضِ هو قَطْعُ الطَّرِيقِ فَأَوْجَبَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَحَدَ الْأَجْزِيَةِ من الْفِعْلَيْنِ بِمَا ذَكَرَ وَفِيهِ عَمَلٌ
بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ وَعَمَلٌ بِحَقِيقَةِ ما أُضِيفَ إلَيْهِ
الْجَزَاءُ وهو ما ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الْمُحَارَبَةِ وَالسَّعْيِ
في الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ
إلَى هذا التَّأْوِيلِ يَذْهَبُ الْحَسَنُ وابن الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ
رضي اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ أبو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا
بِالتَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ وهو تَأْوِيلُ التَّرْتِيبِ في الْمُحَارِبِ إذَا
أَخَذَ الْمَالَ
وَقِيلَ إنَّهُ يُقْتَلُ لَا غَيْرُ
لِأَنَّ سَيِّدَنَا جِبْرِيلَ عليه السلام ذَكَرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّهُ
عليه وسلم على ما مَرَّ
وَحَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لم يُعْرَفْ إلَّا بهذا النَّصِّ وَلِأَنَّ أَخْذَ
الْمَالِ وَالْقَتْلَ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ جِنَايَةُ قَطْعِ الطَّرِيقِ
فَلَا يُقَابَلُ إلَّا بِعُقُوبَةٍ وَاحِدَةٍ وَالْقَتْلُ وَالْقَطْعُ
عُقُوبَتَانِ على أَنَّهُمَا إنْ كَانَتَا جِنَايَتَيْنِ يَجِبُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ
مِنْهُمَا جَزَاءٌ عِنْدَ الِانْفِرَادِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لَكِنَّهُمَا
إذَا اجْتَمَعَا يَدْخُلُ ما دُونَ النَّفْسِ في النَّفْسِ كَالسَّارِقِ إذَا زَنَى
وهو مُحْصَنٌ وَكَمَنْ زنا وهو غَيْرُ مُحْصَنٍ ثُمَّ أُحْصِنَ فَزَنَى أَنَّهُ
يُرْجَمُ لَا غَيْرُ كَذَا هَهُنَا وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في إقَامَةِ
الْقَطْعِ لِأَنَّ ما هو الْمَقْصُودُ من الْحَدِّ وهو الزَّجْرُ وما هو غَيْرُ
مَقْصُودٍ بِهِ وهو التَّكْفِيرُ يَحْصُلُ بِالْقَتْلِ وَحْدَهُ فَلَا يُفِيدُ
الْقَطْعُ فَلَا يُشْرَعُ وأبو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِالتَّأْوِيلِ
الثَّانِي وهو التَّخْيِيرُ بين الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ في الْمُحَارِبِ الذي
جَمَعَ بين أَخْذِ الْمَالِ وَالْقَتْلِ وهو أَحَقُّ التَّأْوِيلَيْنِ لِلْآيَةِ
لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ فيه عَمَلًا بِحَقِيقَةِ حَرْفِ التَّخْيِيرِ وَبِحَقِيقَةِ
ما أُضِيفَ إلَيْهِ الْجَزَاءُ وهو الْمُحَارَبَةُ وَالسَّعْيُ في الْأَرْضِ
بِالْفَسَادِ فَكَانَ أَقْرَبَ إلَى ظَاهِرِ الْآيَةِ
وَإِنَّمَا عَرَفْنَا حُكْمَ أَخْذِ الْمَالِ وَحْدَهُ وَحُكْمَ الْقَتْلِ
وَحْدَهُ لَا بِهَذِهِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَلَكِنْ بِحَدِيثِ سَيِّدِنَا
جِبْرِيلَ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أو غَيْرِهِ أو بِالِاسْتِدْلَالِ
بِحَالَةِ الِاجْتِمَاعِ وهو أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْجَمْعُ بين الْمُوجِبَيْنِ
عِنْدَ وُجُودِ الْقَطْعَيْنِ يَجِبُ الْقَبُولُ بِإِفْرَادِ كل وَاحِدٍ مِنْهُمَا
عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّهُ يقول في تَأْوِيلِ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ بِالتَّرْتِيبِ فَيُوجِبُ الصَّلْبَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ
وَالْقَطْعَ بِالِاسْتِدْلَالِ بِحَالَةِ الِانْفِرَادِ أَنَّهُ يَجِبُ على كل
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَجِبُ أَنْ يُجْمَعَ إلَّا أَنَّ في
بَعْضِ الْمَوَاضِعِ قام دَلِيلُ إسْقَاطِ الْأَخَفِّ ولم يَقُمْ هَهُنَا بَلْ قام
دَلِيلُ الْوُجُوبِ لِأَنَّ مَبْنَى هذا الْبَابِ على التَّغْلِيظِ
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُجْمَعُ بين قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ في أَخْذِ الْمَالِ
وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا في أَخْذِ الْمَالِ في الْمِصْرِ وَكَذَلِكَ يُصْلَبُ
في الْقَتْلِ وَحْدَهُ هَهُنَا ولم يَجِبْ أَنْ يُصْلَبَ في غَيْرِهِ من الْقَتْلِ
في الْمِصْرِ فَكَذَا جَازَ أَنْ يُجْمَعَ بين الْمُوجِبَيْنِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ
النَّوْعَيْنِ هَهُنَا دُونَ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
____________________
(7/94)
وَتَعَالَى
أَعْلَمُ
وَأَمَّا كَيْفِيَّةُ الصَّلْبِ فَقَدْ رُوِيَ عن أبي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
أَنَّهُ يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يُطْعَنُ بِرُمْحٍ حتى يَمُوتَ وَكَذَا ذَكَرَ
الْكَرْخِيُّ وَعَنْ أبي عُبَيْدٍ أَنَّهُ يُقْتَلُ ثُمَّ يُصْلَبُ وَكَذَا ذَكَرَ
الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لأن الطلب ( ( ( الصلب ) ) ) حَيًّا من بَابِ
الْمُثْلَةِ وقد نهى النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عن الْمُثْلَةِ
وَالصَّحِيحُ هو الْأَوَّلُ لِأَنَّ الصَّلْبَ في هذا الْبَابِ شُرِعَ لِزِيَادَةٍ
في الْعُقُوبَةِ تَغْلِيظًا وَالْمَيِّتُ ليس من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَلِأَنَّهُ
لو جَازَ أَنْ يُقَالَ يُصْلَبُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ تُقْطَعُ
يَدُهُ وَرِجْلُهُ من خِلَافٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ فَكَذَا هذا
وَالْمُرَادُ في الْمُثْلَةِ في الحديث قَطْعُ بَعْضِ الْجَوَارِحِ كَذَا قَالَهُ
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَقِيلَ إذَا صَلَبَهُ الْإِمَامُ تَرَكَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ عِبْرَةً
لِلْخَلْقِ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِهِ لِأَنَّهُ بَعْدَ
الثَّلَاثِ يَتَغَيَّرُ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الناس
وَأَمَّا النَّفْيُ في قَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أو يُنْفَوْا من الْأَرْضِ
} فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فيه
قال بَعْضُهُمْ الْمُرَادُ منه وَيُنْفَوْا من الْأَرْضِ بِحَذْفِ الْأَلِفِ
وَمَعْنَاهُ وَيُنْفَوْا من الْأَرْضِ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ إذ هو النَّفْيُ من
وَجْهِ الْأَرْضِ حَقِيقَةً
وَهَذَا على قَوْلِ من تَأَوَّلَ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ في الْمُحَارِبِ الذي
أَخَذَ الْمَالَ
وَقِيلَ إنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ مُخَيَّرًا بين الْأَجْزِيَةِ الثَّلَاثَةِ
وَالنَّفْيِ من الْأَرْضِ ليس غَيْرُ وَاحِدٍ من هذه الثَّلَاثَةِ في التَّخْيِيرِ
لِأَنَّ بِالْقَتْلِ وَالصَّلْبِ يَحْصُلُ النَّفْيُ فَكَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ
يُجْعَلَ النَّفْيُ مُشَارِكًا الْأَجْزِيَةَ الثَّلَاثَةَ في التَّخْيِيرِ
لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُ الْقَتْلَ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِكَثِيرٍ
وَقِيلَ نَفْيُهُ أَنْ يُطْرَدَ حتى يَخْرُجَ من دَارِ الْإِسْلَامِ وهو قَوْلُ
الْحَسَنِ
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في رِوَايَةٍ أَنَّ نَفْيَهُ
طَلَبُهُ
وَبِهِ قال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أنه يُطْلَبُ في كل بَلَدٍ
وَالْقَوْلَانِ لَا يَصِحَّانِ لِأَنَّهُ إنْ طُلِبَ في الْبَلَدِ الذي قَطَعَ الطَّرِيقَ
وَنُفِيَ عنه فَقَدْ ألقي ضَرَرَهُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَإِنْ طُلِبَ من كل بَلَدٍ
من بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَنُفِيَ عنه يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ وَفِيهِ تَعْرِيضٌ
له على الْكُفْرِ وَجَعْلُهُ حَرْبًا لنا
وَهَذَا لَا يَجُوزُ
وَعَنْ النَّخَعِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ في رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يُحْبَسُ حتى
يُحْدِثَ تَوْبَةً وَفِيهِ نَفْيٌ عن وَجْهِ الْأَرْضِ مع قِيَامِ الْحَيَاةِ
إلَّا عن الْمَوْضِعِ الذي حُبِسَ فيه
وَمِثْلُ هذا في عُرْفِ الناس يُسَمَّى نَفْيًا عن وَجْهِ الْأَرْضِ وَخُرُوجًا عن
الدُّنْيَا
كما أُنْشِدَ لِبَعْضِ الْمَحْبُوسِينَ خَرَجْنَا من الدُّنْيَا وَنَحْنُ من
أَهْلهَا فَلَسْنَا من الْأَحْيَاءِ فيها وَلَا الْمَوْتَى إذَا جَاءَنَا
السَّجَّانُ يَوْمًا لِحَاجَةٍ عَجِبْنَا وَقُلْنَا جاء هذا من الدُّنْيَا فَصْلٌ
وَأَمَّا صِفَاتُ هذا الْحُكْمِ فَأَنْوَاعٌ منها أَنَّهُ يَنْفِي وُجُوبَ ضَمَانِ
الْمَالِ وَالْجِرَاحَاتِ عَمْدًا كانت الْجِرَاحَةُ أو خَطَأً
أَمَّا الْمَالُ فَلِأَنَّهُ لَا يُجْمَعُ بين الْحَدِّ وَالضَّمَانِ عِنْدَنَا
وَأَمَّا الْجِرَاحَاتُ إذَا كانت خَطَأً فَلِأَنَّهَا تُوجِبُ الضَّمَانَ
وَإِنْ كانت عَمْدًا فَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْلَكُ بها
مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلَا يَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِ فَكَذَا ضَمَانُ
الْجِرَاحَاتِ
وقد ذَكَرْنَا ما يَتَعَلَّقُ من الْمَسَائِلِ بهذا الْأَصْلِ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا أَنْ يَجْرِيَ فيها التَّدَاخُلُ حتى لو قَطَعَ قِطْعَاتٍ فَرُفِعَ في
بَعْضِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ فِيمَا رُفِعَ فيه كان ذلك لِلْقِطْعَاتِ
كُلِّهَا كما في السَّرِقَةِ إلَّا أَنَّ ثَمَّةَ التَّدَاخُلَ لِاحْتِمَالِ
عَدَمِ الْفَائِدَةِ مع بَقَاءِ مَحِلِّ الْقَطْعِ وهو الرِّجْلُ الْيُسْرَى
وَهَهُنَا التَّدَاخُلُ لِعَدَمِ الْمَحِلِّ وَالْكَلَامُ في الضَّمَانِ فِيمَا لم
يُخَاصَمْ فيه ما هو الْكَلَامُ في السَّرِقَةِ
أَنَّهُ إذَا كان الْمَالُ قَائِمًا يَرُدُّهُ وَإِنْ كان هَالِكًا فَعَلَى
الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُحْتَمَلُ العفة ( ( ( العفو ) ) ) وَالْإِسْقَاطُ
وَالْإِبْرَاءُ وَالصُّلْحُ عنه فَكُلُّ ما وَجَبَ على قَاطِعِ الطَّرِيقِ من
قَتْلٍ أو قَطْعٍ أو صَلْبٍ يُسْتَوْفَى منه سَوَاءٌ عَفَا الْأَوْلِيَاءُ
وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ عن ذلك أو لم يعفوا ( ( ( يعفو ) ) ) وسواء أَبْرَءُوا
منه أو صَالَحُوا عليه وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَيْضًا إذَا ثَبَتَ ذلك عِنْدَهُ
تَرْكُهُ وَإِسْقَاطُهُ وَالْعَفْوُ عنه
لِأَنَّ الْوَاجِبَ حَدٌّ وَالْحُدُودُ حُقُوقُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
فَلَا يَعْمَلُ فيها الْعَبْدُ وَلَا صُلْحُهُ وَلَا الْإِبْرَاءُ عنها
فَصْلٌ وَأَمَّا مَحِلُّ إقَامَةِ هذا الْحُكْمِ فَنَقُولُ مَحِلُّ إقَامَةِ هذا
الْحُكْمِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْحُكْمِ فَإِنْ كان الْحُكْمُ هو الْقَتْلُ
بِأَنْ قَتَلَ أو أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ أو الْحَبْسُ بِأَنْ لم يَأْخُذْ
الْمَالَ ولم يَقْتُلْ وَلَكِنَّهُ خَوَّفَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ إقَامَتِهِ
النَّفْسُ
وَإِنْ كان الْحُكْمُ هو الْقَطْعُ بِأَنْ أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ فَمَحِلُّ
إقَامَتِهِ الْيَدُ اليمين ( ( ( اليمنى ) ) ) وَالرِّجْلُ الْيُسْرَى لِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { أو تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ من خِلَافٍ }
وَيُعْتَبَرُ في ذلك سَلَامَةُ الْيَدِ الْيُسْرَى وَالرِّجْلِ الْيُمْنَى على ما
ذَكَرْنَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ فِعْلِ الْحَدَّادِ إذَا قَطَعَ الْيَدَ الْيُسْرَى مَكَانَ
الْيُمْنَى مُتَعَمِّدًا أو مُخْطِئًا وَحُكْمُ فِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ إذَا قَطَعَ
الْيَدَ الْيُسْرَى خَطَأً أو عَمْدًا هَهُنَا
____________________
(7/95)
مِثْلُ
الْحُكْمِ في السَّرِقَة وقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَامَ فيه في كِتَابِ
السَّرِقَةِ
وَكَذَا مَحِلُّ الْقَطْعِ من الْيَدِ الْيُمْنَى هو الْمَفْصِلُ كما في
السَّرِقَةِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يُقِيمُ هذا الْحُكْمَ فَاَلَّذِي يُقِيمُهُ
الْإِمَامُ أو من وَلَّاهُ الْإِمَامُ الْإِقَامَةَ
ليس إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَلَا إلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ شَيْءٌ بَلْ يُقِيمُهُ
الْإِمَامُ طَالَبَ الْأَوْلِيَاءُ وَأَرْبَابُ الْأَمْوَالِ بِالْإِقَامَةِ أو لم
يُطَالِبُوا وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الْمَوْلَى يَمْلِكُ إقَامَةَ الْحَدِّ على مَمْلُوكِهِ من غَيْرِ تَوْلِيَةِ
الْإِمَامِ وَالْكَلَامُ في هذا الْفَصْلِ على الِاسْتِقْصَاءِ ذَكَرْنَاهُ في
كِتَابِ الْحُدُودِ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُسْقِطُ هذا الْحُكْمَ بَعْدَ وُجُوبِهِ فَالْمُسْقِطُ
له بَعْدَ الْوُجُوبِ أَشْيَاءُ ذَكَرْنَاهَا في كِتَابِ السَّرِقَةِ منها
تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عليه الْقَاطِعَ في إقْرَارِهِ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ
أَنَّهُ لم يَقْطَعْ عليه الطَّرِيقَ
وَمِنْهَا رُجُوعُ الْقَاطِعِ عن إقْرَارِهِ يقطع ( ( ( بقطع ) ) ) الطَّرِيقِ
وَمِنْهَا تَكْذِيبُ الْمَقْطُوعِ عليه الْبَيِّنَةَ
وَمِنْهَا مِلْكُ الْقَاطِعِ الْمَقْطُوعَ له وهو الْمَالُ قبل التَّرَافُعِ أو
بَعْدَهُ على التَّفْصِيلِ على الِاخْتِلَافِ الذي ذَكَرْنَاهُ في كِتَابِ
السَّرِقَةِ
وَمِنْهَا تَوْبَةُ الْقَاطِعِ قبل أَنْ يَقْدِرَ عليه لِقَوْلِهِ تَعَالَى {
إلَّا الَّذِينَ تَابُوا من قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم فَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أَيْ رَجَعُوا عَمَّا فَعَلُوا فَنَدِمُوا على ذلك
وَعَزَمُوا على أَنْ لَا يفعلون ( ( ( يفعلوا ) ) ) مثله في الْمُسْتَقْبَلِ
فَدَلَّتْ هذه الْآيَةُ الشَّرِيفَةُ على أَنَّ قَاطِعَ الطَّرِيقِ إذَا تَابَ قبل
أَنْ يُظْفَرَ بِهِ يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ وَتَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ على
صَاحِبِهِ إنْ كان أَخَذَ الْمَالَ لَا غَيْرُ مع الْعَزْمِ على أَنْ لَا يَفْعَلَ
مثله في الْمُسْتَقْبَلِ وَيَسْقُطُ عنه الْقَطْعُ أَصْلًا وَيَسْقُطُ عن
الْقَتْلُ حَدًّا
وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ الْمَالَ وَقَتَلَ حتى لم يَكُنْ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَقْتُلَهُ وَلَكِنْ يَدْفَعُهُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ لِيَقْتُلُوهُ
قِصَاصًا إنْ كان الْقَتْلُ بِسِلَاحٍ على ما نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى
وَإِنْ لم يَأْخُذْ الْمَالَ ولم يَقْتُلْ فَتَوْبَتُهُ النَّدَمُ على ما فَعَلَ
وَالْعَزْمُ على تَرْكِ مِثْلِهِ في الْمُسْتَقْبَلِ وهو أَنْ يَأْتِيَ الْإِمَامَ
عن طَوْعٍ وَاخْتِيَارٍ وَيُظْهِرَ التَّوْبَةَ عِنْدَهُ وَيَسْقُطُ عنه الْحَبْسُ
لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلتَّوْبَةِ وقد تَابَ فَلَا مَعْنًى لِلْحَبْسِ
وَكَذَلِكَ السَّرِقَةُ الصُّغْرَى إذَا تَابَ السَّارِقُ قبل أَنْ يُظْفَرَ بِهِ
وَرَدَّ الْمَالَ إلَى صَاحِبِهِ يَسْقُطُ عنه الْقَطْعُ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ
أنها لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُصُومَةَ شَرْطٌ في السَّرِقَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى
لِأَنَّ مَحِلَّ الْجِنَايَةِ خَالِصُ حَقِّ الْعِبَادِ وَالْخُصُومَةُ تَنْتَهِي
بِالتَّوْبَةِ وَالتَّوْبَةُ تَمَامُهَا بِرَدِّ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ فإذا
وَصَلَ الْمَالُ إلَى صَاحِبِهِ لم يَبْقَ له حَقُّ الْخُصُومَةِ مع السَّارِقِ
بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُدُودِ فإن الْخُصُومَةَ فيها لَيْسَتْ بِشَرْطٍ
فَعَدَمُهَا لَا يَمْنَعُ من إقَامَةِ الْحُدُودِ وفي حَدِّ الْقَذْفِ إنْ كانت
شَرْطًا لَكِنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِالتَّوْبَةِ لِأَنَّ بُطْلَانَهَا بِرَدِّ
الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ ولم يُوجَدْ
وقد رُوِيَ عن سَيِّدِنَا عَلِيٍّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّهُ كَتَبَ إلَيْهِ
عَامِلُهُ بِالْبَصْرَةِ إن حَارِثَةَ بن زَيْدٍ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وَسَعَى في الْأَرْضِ فَسَادًا
فَكَتَبَ إلَيْهِ سَيِّدُنَا عَلِيٌّ رضي اللَّهُ عنه أَنَّ حَارِثَةَ قد تَابَ
قبل أَنْ تَقْدِرَ عليه فَلَا تَتَعَرَّضْ له إلَّا بِخَيْرٍ
هذا إذَا تَابَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ قبل الْقُدْرَةِ عليه فَأَمَّا إذَا تَابَ
بعدما قُدِرَ عليه بِأَنْ أَخَذَ ثُمَّ تَابَ لَا يَسْقُطُ عنه الْحَدُّ لِأَنَّ
التَّوْبَةَ عن السَّرِقَةِ إذَا أَخَذَ الْمَالَ بِرَدِّ الْمَالِ على صَاحِبِهِ
وَبَعْدَ الْأَخْذِ لَا يَكُونُ رَدُّ الْمَالِ بَلْ يَكُونُ اسْتِرْدَادًا منه
جَبْرًا فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ وإذا لم يَأْخُذْ الْمَالَ فَهُوَ بَعْدَ
الْأَخْذِ مُتَّهَمٌ في إظْهَارِ التَّوْبَةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ تَوْبَتُهُ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا حُكْمُ سُقُوطِ الْحَدِّ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَحُكْمُ عَدَمِ
الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ
بَعْدَ التَّوْبَةِ قبل أَنْ يُقْدَرَ عليهم فَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ لَا
غَيْرُ رَدُّوهُ على صَاحِبِهِ إنْ كان قَائِمًا وَإِنْ كان هَالِكًا أو
مُسْتَهْلَكًا فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَإِنْ كَانُوا قَتَلُوا لَا غَيْرُ
يُدْفَعُ من قَتَلَ منهم بِسِلَاحٍ إلَى الْأَوْلِيَاءِ لِيَقْتُلُوهُ أو يعفو ( (
( يعفوا ) ) ) عنه
وَمَنْ قَتَلَ بِعَصًا أو حَجَرٍ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ لِوَرَثَةِ
الْمَقْتُولِ وَإِنْ كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا فَحُكْمُ أَخْذِ
الْمَالِ وَالْقَتْلِ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ ما هو حُكْمُهُمَا عِنْدَ
الِانْفِرَادِ وقد ذَكَرْنَاهُ
وَإِنَّمَا كان كَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَدَّ إذَا سَقَطَ بِالتَّوْبَةِ قبل
الْقُدْرَةِ صَارَ حُكْمُ الْقَتْلِ وَأَخْذُ الْمَالِ وَهَلَاكُهُ
وَاسْتِهْلَاكُهُ ما هو حُكْمُهَا في غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ما قُلْنَا وَإِنْ
كَانُوا أَخَذُوا الْمَالَ وَجَرَحُوا أو أَخَذُوا الْمَالَ وَقَتَلُوا وَجَرَحُوا
قَوْمًا أو جَرَحُوا قَوْمًا ولم يَكُنْ منهم أَخْذٌ وَلَا قَتْلٌ فَحُكْمُ
الْقَتْلِ وَالْمَالِ ما ذَكَرْنَا وَالْجِرَاحَاتُ فيها الْقِصَاصُ فِيمَا
يَقْدِرُ
____________________
(7/96)
فيه
على الْقِصَاصِ وَالْأَرْشُ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عليه لِأَنَّ عِنْدَ سُقُوطِ
الْحَدِّ صَارَ كَأَنَّ الْجِرَاحَةَ حَصَلَتْ من غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَلَوْ
كان كَذَلِكَ كان حُكْمُهُ ما ذَكَرْنَا فَكَذَا هذا
وَكَذَلِكَ إنْ قُدِرَ عليهم قبل التَّوْبَةِ ولم يَكُنْ منهم قَتْلٌ وَلَا أَخْذُ
مَالٍ وقد أَخَافُوا قَوْمًا بِجِرَاحَاتٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يُسْتَطَاعُ
فيه الِاقْتِصَاصُ
وَالدِّيَةُ فِيمَا لَا يُسْتَطَاعُ فَيُودَعُونَ السِّجْنَ لِأَنَّ الْحَبْسَ
وَجَبَ عليهم تَعْزِيرًا لَا حَدًّا وَالتَّعْزِيرُ لَا تَدْخُلُ فيه الْجِرَاحَةُ
بِخِلَافِ ما إذَا قُدِرَ عليهم قبل التَّوْبَةِ وقد قَتَلُوا أو أَخَذُوا
الْمَالَ أو جَمَعُوا بَيْنَهُمَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ فيه الْحَدُّ فَيَدْخُلُ فيه
الْجِرَاحَةُ
وَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ بِالرُّجُوعِ عن الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ
عن الْإِقْرَارِ يَصِحُّ في حَقِّ سُقُوطِ الْحَدِّ وَلَا يَصِحُّ في حَقِّ
ضَمَانِ الْمَالِ وَالْقِصَاصِ فَبَقِيَ إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا في حَقِّهِمَا
وَأَمَّا إذَا كان السُّقُوطُ بِتَكْذِيبِ الْحُجَّةِ من الْإِقْرَارِ أو
الْبَيِّنَةِ لَا شَيْءَ عليهم لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ لم يَثْبُتْ لِأَنَّ
ثُبُوتَهُ بِالْحُجَّةِ وقد بَطَلَتْ أَصْلًا وَرَأْسًا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ عن
الْإِقْرَارِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ في حَقِّهِ
إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بَعْدَ الرُّجُوعِ في حَقِّ الْحَدِّ
دَرْءًا لِلْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ فَبَقِيَ مُعْتَبَرًا في حَقِّ ضَمَانِ الْمَالِ
وَالْقِصَاصِ فَهُوَ الْفَرْقُ
وَعَلَى هذا حُكْمُ عَدَمِ الْوُجُوبِ لِمَانِعٍ بِأَنْ فَاتَ شَرْطٌ من شَرَائِطِ
وُجُوبِ الْحَدِّ نحو نُقْصَانِ النِّصَابِ بِأَنْ كان الْمَأْخُوذُ من الْمَالِ
لَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ منهم عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَهُ إنْ
كان قَائِمًا وَيَضْمَنُونَ إنْ كان هَالِكًا أو مُسْتَهْلَكًا وَمَنْ قَتَلَ منهم
فَإِنْ كان بِسِلَاحٍ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَإِنْ كان بِعَصًا أو حَجَرٍ فَعَلَى
عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ
وَمَنْ جَرَحَ يُقْتَصُّ منه فِيمَا يُمْكِنُ الْقِصَاصُ وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ
يَجِبُ الْأَرْشُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْحَدَّ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُهُ فَقَدْ
حَصَلَ الْأَخْذُ وَالْقَتْلُ وَالْجِرَاحَةُ من غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ
وَحُكْمُهَا في غَيْرِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ما قُلْنَا
وَكَذَلِكَ إذَا كان في الْمُحَارِبِينَ صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ حتى امْتَنَعَ
وُجُوبُ الْحَدِّ يُدْفَعُ كُلُّ بَالِغٍ عَاقِلٍ قَتَلَ منهم بِسِلَاحٍ إلَى
الْأَوْلِيَاءِ فَيَقْتُلُونَ أو يَعْفُونَ وَإِنْ كان الذي وَلِيَ الْقَتْلَ منهم
صَبِيٌّ أو مَجْنُونٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَإِنْ قَتَلَ بِسِلَاحٍ
لِأَنَّ الصَّبِيَّ وَالْمَجْنُونَ لَيْسَا من أَهْلِ وُجُوبِ الْقِصَاصِ
عَلَيْهِمَا فَكَانَ عَمْدُهُمَا خَطَأً وَإِنْ كَانَا أَخَذَا الْمَالَ ضَمِنَا
لِأَنَّهُمَا من أَهْلِ وُجُوبِ ضَمَانِ الْمَالِ
وَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْحَدِّ على الْقُطَّاعِ لِمَعْنًى من
الْمَعَانِي رَجَعُوا في ذلك إلَى حُكْمِ غَيْرِ الْقُطَّاعِ وَاَللَّهُ سبحانه
وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا الْحُكْمُ الذي يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ فَهُوَ وُجُوبُ الرَّدِّ
إنْ كان قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ أَيْنَمَا وَجَدَهُ
سَوَاءٌ وَجَدَهُ في يَدِ الْمُحَارِبِ أو في يَدِ من مَلَّكَهُ الْمُحَارِبُ
بِبَيْعٍ أو هِبَةٍ أو غَيْرِ ذلك وَلَوْ تَغَيَّرَ الْمَالُ إلَى الزِّيَادَةِ أو
النُّقْصَانِ فَقَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَهُ في كِتَابِ السَّرِقَةِ وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
كِتَابُ السِّيَرِ وقد يُسَمَّى كِتَابَ الْجِهَادِ وَالْكَلَامُ في هذا الْكِتَابِ
في مَوَاضِعَ في بَيَانِ مَعْنَى السِّيَرِ وَالْجِهَادِ لُغَةً وَشَرْعًا وفي
بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْجِهَادِ وفي بَيَانِ من يُفْتَرَضُ عليه الْجِهَادُ وفي
بَيَانِ ما يَنْدُبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ أو السَّرِيَّةِ
إلَى الْجِهَادِ وفي بَيَانِ ما يَجِبُ على الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَ
شُهُودِ الْوَقْعَةِ وفي بَيَانِ من يَحِلُّ قَتْلُهُ من الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا
يَحِلُّ وفي بَيَانِ من يَجُوزُ تَرْكُهُ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ في دَارِ
الْحَرْبِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ
وفي بَيَانِ ما يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وما لَا يُكْرَهُ وفي
بَيَانِ ما يَعْتَرِضُ من الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْقِتَالِ وفي بَيَانِ
حُكْمِ الْغَنَائِمِ وما يَتَّصِلُ بها
وفي بَيَانِ حُكْمِ اسْتِيلَاءِ الْكَفَرَةِ على أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وفي
بَيَانِ أَحْكَامٍ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارَيْنِ
وفي بَيَانِ أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّينَ
وفي بَيَانِ أَحْكَامِ الْغُزَاةِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَالسِّيَرُ جَمْعُ سِيرَةٍ وَالسِّيرَةُ في اللُّغَةِ
تُسْتَعْمَلُ في مَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا الطَّرِيقَةُ يُقَالُ هُمَا على سِيرَةٍ
وَاحِدَةٍ أَيْ طَرِيقَةٍ وَاحِدَةٍ
وَالثَّانِي الهيأة ( ( ( الهيئة ) ) ) قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {
سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى } أَيْ هيأتها ( ( ( هيئتها ) ) ) فَاحْتَمَلَ
تَسْمِيَةُ هذا الْكِتَابِ كِتَابَ السِّيَرِ لِمَا فيه من بَيَانِ طُرُقِ
الْغُزَاةِ وهيآتهم ( ( ( وهيئاتهم ) ) ) مِمَّا لهم وَعَلَيْهِمْ
وَأَمَّا الْجِهَادُ في اللُّغَةِ فَعِبَارَةٌ عن بَذْلِ الْجُهْدِ بِالضَّمِّ وهو
الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ أو عن الْمُبَالَغَةِ في الْعَمَلِ من الْجَهْدِ بِالْفَتْحِ
وفي عُرْفِ الشَّرْعِ يُسْتَعْمَلُ في بَذْلِ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ بِالْقِتَالِ
في سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَاللِّسَانِ أو غَيْرِ ذلك أو
الْمُبَالَغَةِ في ذلك
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ فَالْأَمْرُ فيه لَا
يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ
إمَّا إنْ كان النَّفِيرُ عَامًّا وَإِمَّا إنْ لم يَكُنْ فَإِنْ لكم يَكُنْ
النَّفِيرُ عَامًّا فَهُوَ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَمَعْنَاهُ أَنْ يُفْتَرَضَ على
جَمِيعِ من هو من أَهْلِ الْجِهَادِ لَكِنْ إذَا قام بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عن
الْبَاقِينَ لِقَوْلِهِ عز وجل { فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ
وَأَنْفُسِهِمْ على الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى }
____________________
(7/97)
وَعَدَ
اللَّهُ عز وجل الْمُجَاهِدِينَ وَالْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى
وَلَوْ كان الْجِهَادُ فَرْضَ عَيْنٍ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَمَا وَعَدَ
الْقَاعِدِينَ الْحُسْنَى لِأَنَّ الْقُعُودَ يَكُونُ حَرَامًا
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وما كان الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ من كل فِرْقَةٍ منهم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا في
الدِّينِ } الْآيَةَ وَلِأَنَّ ما فُرِضَ له الْجِهَادُ وهو الدَّعْوَةُ إلَى
الْإِسْلَامِ وَإِعْلَاءُ الدِّينِ الْحَقِّ وَدَفْعُ شَرِّ الْكَفَرَةِ
وَقَهْرِهِمْ يَحْصُلُ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ
وَكَذَا النبي عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كان يَبْعَثُ السَّرَايَا
وَلَوْ كان فَرْضَ عَيْنٍ في الْأَحْوَالِ كُلِّهَا لَكَانَ لَا يُتَوَهَّمُ منه
الْقُعُودُ عنه في حَالٍ وَلَا أَذِنَ غَيْرَهُ بِالتَّخَلُّفِ عنه بِحَالٍ وإذا
كان فَرْضًا على الْكِفَايَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُخَلِّيَ ثَغْرًا
من الثُّغُورِ من جَمَاعَةٍ من الْغُزَاةِ فِيهِمْ غنا ( ( ( غنى ) ) )
وَكِفَايَةٌ لِقِتَالِ الْعَدُوِّ فإذا قَامُوا بِهِ يَسْقُطُ عن الْبَاقِينَ
وَإِنْ ضَعُفَ أَهْلُ ثَغْرٍ عن مُقَاوَمَةِ الْكَفَرَةِ وَخِيفَ عليهم من
الْعَدُوِّ فَعَلَى من وَرَاءَهُمْ من الْمُسْلِمِينَ الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ
أَنْ يَنْفِرُوا إلَيْهِمْ وَأَنْ يَمُدُّوهُمْ بِالسِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ
وَالْمَالِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ فُرِضَ على الناس كُلِّهِمْ مِمَّنْ هو من
أَهْلِ الْجِهَادِ لَكِنَّ الْفَرْضَ يَسْقُطُ عَنْهُمْ بِحُصُولِ الْكِفَايَةِ
بِالْبَعْضِ فما لم يَحْصُلْ لَا يَسْقُطُ وَلَا يُبَاحُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَخْرُجَ
إلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَلَا الْمَرْأَةُ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا لِأَنَّ
خِدْمَةَ الْمَوْلَى وَالْقِيَامَ بِحُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ كُلُّ ذلك فَرْضُ
عَيْنٍ فَكَانَ مُقَدَّمًا على فَرْضِ الْكِفَايَةِ
وَكَذَا الْوَلَدُ لَا يَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ وَالِدَيْهِ أو أَحَدِهِمَا إذَا
كان الْآخَرُ مَيِّتًا لِأَنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ فَرْضُ عَيْنٍ فَكَانَ
مُقَدَّمًا على فَرْضِ الْكِفَايَةِ
وَالْأَصْلُ إن كُلَّ سَفَرٍ لَا يُؤْمَنُ فيه الْهَلَاكُ وَيَشْتَدُّ فيه
الْخَطَرُ لَا يخل ( ( ( يحل ) ) ) لَلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ بِغَيْرِ
إذْنِ وَالِدِيهِ لِأَنَّهُمَا يُشْفِقَانِ على وَلَدِهِمَا فَيَتَضَرَّرَانِ
بِذَلِكَ
وَكُلُّ سَفَرٍ لَا يَشْتَدُّ فيه الْخَطَرُ يَحِلُّ له أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهِ
بِغَيْرِ إذْنِهِمَا إذ لم يُضَيِّعْهُمَا لِانْعِدَامِ الضَّرَرِ
وَمِنْ مَشَايِخِنَا من رَخَّصَ في سَفَرِ التَّعَلُّمِ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا
لِأَنَّهُمَا لَا يَتَضَرَّرَانِ بِذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعَانِ بِهِ فَلَا
يَلْحَقُهُ سِمَةُ الْعُقُوقِ
هذا إذَا لم يَكُنْ النَّفِيرُ عَامًّا فَأَمَّا إذَا عَمَّ النَّفِيرُ بِأَنْ
هَجَمَ الْعَدُوُّ على بَلَدٍ فَهُوَ فَرْضُ عَيْنٍ يُفْتَرَضُ على كل وَاحِدٍ من
آحَادِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ هو قَادِرٌ عليه لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
{ انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } قِيلَ نَزَلَتْ في النَّفِيرِ
وَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ما كان لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ
حَوْلَهُمْ من الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عن رسول اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا
بِأَنْفُسِهِمْ عن نَفْسِهِ } وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ على الْكُلِّ قبل عُمُومِ
النَّفِيرِ ثَابِتٌ لِأَنَّ السُّقُوطَ عن الْبَاقِينَ بِقِيَامِ الْبَعْضِ بِهِ
فإذا عَمَّ النَّفِيرُ لَا يَتَحَقَّقُ الْقِيَامُ بِهِ إلَّا بِالْكُلِّ فَبَقِيَ
فَرْضًا على الْكُلِّ عَيْنًا بِمَنْزِلَةِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَيَخْرُجُ
الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَالْمَرْأَةُ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا
لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ في حَقِّ الْعِبَادَاتِ الْمَفْرُوضَةِ
عَيْنًا مُسْتَثْنَاةً عن مِلْكِ الْمَوْلَى وَالزَّوْجِ شَرْعًا كما في الصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ
وَكَذَا يُبَاحُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَخْرُجَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدَيْهِ لِأَنَّ
حَقَّ الْوَالِدَيْنِ لَا يَظْهَرُ في فُرُوضِ الْأَعْيَانِ كَالصَّوْمِ
وَالصَّلَاةِ
وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يُفْتَرَضُ عليه فَنَقُولُ إنَّهُ لَا يُفْتَرَضُ
إلَّا على الْقَادِرِ عليه فَمَنْ لَا قُدْرَةَ له لَا جِهَادَ عليه
لِأَنَّ الْجِهَادَ بَذْلُ الْجُهْدِ وهو الْوُسْعُ وَالطَّاقَةُ بِالْقِتَالِ أو
الْمُبَالَغَةُ في عَمَلِ الْقِتَالِ
وَمَنْ لَا وُسْعَ له كَيْفَ يَبْذُلُ الْوُسْعَ وَالْعَمَلَ فَلَا يُفْرَضُ على
الْأَعْمَى وَالْأَعْرَجِ وَالزَّمِنِ وَالْمُقْعَدِ وَالشَّيْخِ الْهَرِمِ
وَالْمَرِيضِ وَالضَّعِيفِ وَاَلَّذِي لَا يَجِدُ ما يُنْفِقُ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ليس على الْأَعْمَى حَرَجٌ } الْآيَةَ
وقال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عز من قَائِلٍ { ليس على الضُّعَفَاءِ وَلَا على
الْمَرْضَى وَلَا على الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إذَا
نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ } فَقَدْ عَذَرَ اللَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ هَؤُلَاءِ
بِالتَّخَلُّفِ عن الْجِهَادِ وَرَفَعَ الْحَرَجَ عَنْهُمْ
وَلَا جِهَادَ على الصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ لِأَنَّ بِنْيَتَهُمَا لَا تَحْتَمِلُ
الْحَرْبَ عَادَةً
وَعَلَى هذا الْغُزَاةُ إذَا جَاءَهُمْ جَمْعٌ من الْمُشْرِكِينَ ما لَا طَاقَةَ
لهم بِهِ وَخَافُوهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُمْ فَلَا بَأْسَ لهم أَنْ يَنْحَازُوا إلَى
بَعْضِ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ أو إلَى بَعْضِ جُيُوشِهِمْ
وَالْحُكْمُ في هذا الْبَابِ لِغَالِبِ الرَّأْيِ وَأَكْبَرِ الظَّنِّ دُونَ
الْعَدَدِ
فَإِنْ غَلَبَ على ظَنِّ الْغُزَاةِ أَنَّهُمْ يُقَاوِمُونَهُمْ يَلْزَمُهُمْ الثَّبَاتُ
وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ عَدَدًا منهم وَإِنْ كان غَالِبُ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ
يَغْلِبُونَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَنْحَازُوا إلَى الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَعِينُوا
بِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا من الْكَفَرَةِ
وَكَذَا الْوَاحِدُ من الْغُزَاةِ ليس معه سِلَاحٌ مع اثْنَيْنِ منهم مَعَهُمَا
سِلَاحٌ أو مع وَاحِدٍ منهم من الكفر ( ( ( الكفرة ) ) ) وَمَعَهُ سِلَاحٌ لَا
بَأْسَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ
وَالْأَصْلُ فيه قَوْلُهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ
بِغَضَبٍ من اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ }
____________________
(7/98)
اللَّهُ
عز شَأْنُهُ نهى الْمُؤْمِنِينَ عن تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ عَامًّا بِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ
كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ } وَأَوْعَدَ عليهم بِقَوْلِهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا
مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ من
اللَّهِ } الْآيَةَ لِأَنَّ في الْكَلَامِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا
مَعْنَاهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمْ الْأَدْبَارَ
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ من اللَّهِ ثُمَّ
اسْتَثْنَى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من ( ( ( ومن ) ) ) يُوَلِّي دُبُرَهُ لِجِهَةٍ
مَخْصُوصَةٍ فقال عز من قَائِلٍ { إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أو مُتَحَيِّزًا
إلَى فِئَةٍ } وَالِاسْتِثْنَاءُ من الْحَظْرِ إبَاحَةٌ فَكَانَ الْمَحْظُورُ
تَوْلِيَةً مَخْصُوصَةً وَهِيَ أَنْ يُوَلِّيَ دُبُرَهُ غير محرف ( ( ( متحرف ) )
) لِقِتَالٍ وَلَا مُتَحَيِّزٍ إلَى فِئَةٍ فَبَقِيَتْ التَّوْلِيَةُ إلَى جِهَةِ
التَّحَرُّفِ وَالتَّحَيُّزِ مُسْتَثْنَاةً من الْحَظْرِ فَلَا تَكُونُ
مَحْظُورَةً وَنَظِيرُ هذه الْآيَةِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { من كَفَرَ
بِاَللَّهِ من بَعْدِ إيمَانِهِ إلَّا من أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ من شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ من
اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أنه على التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ على ما
نَذْكُرُهُ في كِتَابِ الْإِكْرَاهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ تَبَيَّنَ
أَنَّ الْآيَةَ الشَّرِيفَةَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ
وَكَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { إنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ } وَقَوْلُهُ { وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا } ليس بِمَنْسُوخٍ
لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ لِلتَّحَيُّزِ إلَى فِئَةٍ خَصَّ فيها فلم تَكُنْ
الْآيَتَانِ مَنْسُوخَتَيْنِ
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَالدَّلِيلُ عليه قَوْلُهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلَّذِينَ فَرُّوا إلَى
الْمَدِينَةِ وهو فيها أَنْتُمْ الْكَرَّارُونَ أنا فِئَةُ كل مُسْلِمٍ أَخْبَرَ
عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْمُتَحَيِّزَ إلَى فِئَةٍ كَرَّارٌ وَلَيْسَ
بِفَرَّارٍ من الزَّحْفِ فَلَا يَلْحَقُهُ الْوَعِيدُ
وَعَلَى هذا إذَا كانت الْغُزَاةُ في سَفِينَةٍ فَاحْتَرَقَتْ السَّفِينَةُ
وَخَافُوا الْغَرَقَ حَكَّمُوا فيه غَالِبَ رَأْيِهِمْ وَأَكْبَرَ ظَنِّهِمْ
فَإِنْ غَلَبَ على رَأْيِهِمْ أَنَّهُمْ لو طَرَحُوا أَنْفُسَهُمْ في الْبَحْرِ
لينجو ( ( ( لينجوا ) ) ) بِالسِّبَاحَةِ وَجَبَ عليهم الطرح ( ( ( الطرق ) ) )
لِيَسْبَحُوا فَيَتَحَيَّزُوا إلَى فِئَةٍ وَإِنْ اسْتَوَى جَانِبَا الْحَرْقِ
وَالْغَرَقِ بِأَنْ كان إذَا قَامُوا حُرِّقُوا وإذا طَرَحُوا غَرِقُوا فَلَهُمْ
الْخِيَارُ عِنْدَ أبي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وقال
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لهم أَنْ يَطْرَحُوا أَنْفُسَهُمْ في
الْمَاءِ
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُمْ لو أَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ في الْمَاءِ لَهَلَكُوا
وَلَوْ أَقَامُوا في السَّفِينَةِ لَهَلَكُوا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُمْ لو طَرَحُوا
لَهَلَكُوا بِفِعْلِ أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ صَبَرُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ
فَكَانَ الصَّبْرُ أَقْرَبَ إلَى الْجِهَادِ فَكَانَ أُولَى
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ اسْتَوَى الْجَانِبَانِ في الْإِفْضَاءِ إلَى
الْهَلَاكِ فَيَثْبُتُ لهم الْخِيَارُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْهَلَاكُ
بِالْغَرَقِ أَرْفَقَ قَوْلُهُ لو أَقَامُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ قلنا
( ( ( وقلنا ) ) ) وَلَوْ طَرَحُوا لَهَلَكُوا بِفِعْلِ الْعَدُوِّ أَيْضًا إذْ
الْعَدُوُّ هو الذي أَلْجَأَهُمْ إلَيْهِ فَكَانَ الْهَلَاكُ في الْحَالَيْنِ
مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْعَدُوِّ ثُمَّ قد يَكُونُ الْهَلَاكُ بِالْغَرَقِ
أَسْهَلَ فَيَثْبُتُ لهم الْخِيَارُ
وَلَوْ طُعِنَ مُسْلِمٌ بِرُمْحٍ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْشِيَ إلَى من طَعَنَهُ من
الْكَفَرَةِ حتى يُجْهِزَهُ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالْمَشْيِ إلَيْهِ بَذْلَ
نَفْسِهِ لِإِعْزَازِ دِينِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَتَحْرِيضَ
الْمُؤْمِنِينَ على أَنْ لَا يَبْخَلُوا بِأَنْفُسِهِمْ في قِتَالِ أَعْدَاءِ
اللَّهِ فَكَانَ جَائِزًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُنْدَبُ إلَيْهِ الْإِمَامُ عِنْدَ بَعْثِ الْجَيْشِ
أو السَّرِيَّةِ إلَى الْجِهَادِ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّهُ
يُنْدَبُ إلَى أَشْيَاءَ منها أَنْ يُؤَمِّرَ عليهم أَمِيرًا لِأَنَّ النبي صلى
الله عليه وسلم ما بَعَثَ جَيْشًا إلَّا وَأَمَّرَ عليهم أَمِيرًا لأن الْحَاجَةَ
إلَى الْأَمِيرِ مَاسَةٌ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ من تَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ
وَسِيَاسَةِ الرَّعِيَّةِ وَلَا يَقُومُ ذلك إلَّا بِالْأَمِيرِ لِتَعَذُّرِ
الرُّجُوعِ في كل حَادِثَةٍ إلَى الْإِمَامِ
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الذي يُؤَمَّرُ عليهم عَالِمًا بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ
عَدْلًا عَارِفًا بِوُجُوهِ السِّيَاسَاتِ بَصِيرًا بِتَدَابِيرِ الْحُرُوبِ
وَأَسْبَابِهَا لِأَنَّهُ لو لم يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَحْصُلُ ما
يُنْصَبُ له الْأَمِيرُ
وَمِنْهَا أَنْ يُوصِيَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ عز شَأْنُهُ في خَاصَّةِ نَفْسِهِ
وَبِمَنْ معه من الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا
كَذَا رُوِيَ عن رسول اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم أَنَّهُ كان إذَا بَعَثَ
جَيْشًا أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في نَفْسِهِ خَاصَّةً
وَبِمَنْ معه من الْمُؤْمِنِينَ خَيْرًا وَلِأَنَّ الْإِمَارَةَ أَمَانَةٌ
عَظِيمَةٌ فَلَا يَقُومُ بها إلَّا الْمُتَّقِي وإذا أَمَّرَ عليهم يُكَلِّفُهُمْ
طَاعَةَ الْأَمِيرِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَنْهَاهُمْ عنه لِقَوْلِ اللَّهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } وقال عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَلَوْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ
أَجْدَعُ ما حَكَمَ فِيكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّهُ نَائِبُ
الْإِمَامِ وَطَاعَةُ الْإِمَامِ لَازِمَةٌ كَذَا طَاعَتُهُ لِأَنَّهَا طَاعَةُ
الْإِمَامِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُمْ
____________________
(7/99)
بِمَعْصِيَةٍ
فَلَا تَجُوزُ طَاعَتُهُمْ إيَّاهُ فيها لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ وَلَوْ أَمَرَهُمْ بِشَيْءٍ لَا
يَدْرُونَ أَيَنْتَفِعُونَ بِهِ أَمْ لَا فَيَنْبَغِي لهم أَنْ يُطِيعُوهُ فيه
إذَا لم يَعْلَمُوا كَوْنَهُ مَعْصِيَةً لِأَنَّ اتِّبَاعَ الْإِمَامِ في مَحَلِّ
الِاجْتِهَادِ وَاجِبٌ كَاتِّبَاعِ الْقُضَاةِ في مَوَاضِعِ الِاجْتِهَادِ
وَاَللَّهُ تَعَالَى عز شَأْنُهُ أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَجِبُ على الْغُزَاةِ الِافْتِتَاحُ بِهِ حَالَةَ
الْوَقْعَةِ وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ فَنَقُولُ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ إنَّ
الْأَمْرَ فيه لَا يَخْلُو من أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا إن كانت الدَّعْوَةُ قد
بَلَغَتْهُمْ وَإِمَّا إن كانت لم تَبْلُغْهُمْ فَإِنْ كانت الدَّعْوَةُ لم
تَبْلُغْهُمْ فَعَلَيْهِمْ الِافْتِتَاحُ بِالدَّعْوَةِ إلَى الْإِسْلَامِ
بِاللِّسَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ
رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ } وَلَا يَجُوزُ لهم الْقِتَالُ قبل الدَّعْوَةِ لِأَنَّ الْإِيمَانَ
وَإِنْ وَجَبَ عليهم قبل بُلُوغِ الدَّعْوَةِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْلِ فَاسْتَحَقُّوا
الْقَتْلَ بِالِامْتِنَاعِ لَكِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَرَّمَ
قِتَالَهُمْ قبل بَعْثِ الرَّسُولِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبُلُوغِ
الدَّعْوَةِ إيَّاهُمْ فَضْلًا منه وَمِنَّةً قَطْعًا لِمَعْذِرَتِهِمْ
بِالْكُلِّيَّةِ وَإِنْ كان لَا عُذْرَ لهم في الْحَقِيقَةِ لِمَا أَقَامَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من الدَّلَائِلِ الْعَقْلِيَّةِ التي لو تَأَمَّلُوهَا
حَقَّ التَّأَمُّلِ وَنَظَرُوا فيها لَعَرَفُوا حَقَّ اللَّهِ تَبَارَكَ
وَتَعَالَى عليهم لَكِنْ تَفَضَّلَ عليهم بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عليهم أجْمَعِينَ لِئَلَّا يَبْقَى لهم شُبْهَةُ عُذْرٍ { لقالوا ( (
( فيقولوا ) ) ) رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ
آيَاتِكَ } وَإِنْ لم يَكُنْ لهم أَنْ يَقُولُوا ذلك في الْحَقِيقَةِ لِمَا
بَيَّنَّا وَلِأَنَّ الْقِتَالَ ما فُرِضَ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلدَّعْوَةِ إلَى
الْإِسْلَامِ وَالدَّعْوَةُ دَعْوَتَانِ دَعْوَةٌ بِالْبَنَانِ وَهِيَ الْقِتَالُ
وَدَعْوَةٌ بِالْبَيَانِ وهو اللِّسَانُ وَذَلِكَ بِالتَّبْلِيغِ وَالثَّانِيَةُ
أَهْوَنُ من الْأُولَى لِأَنَّ في الْقِتَالِ مُخَاطَرَةَ الرُّوحِ وَالنَّفْسِ
وَالْمَالِ وَلَيْسَ في دَعْوَةِ التَّبْلِيغِ شَيْءٌ من ذلك فإذا احْتَمَلَ
حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِأَهْوَنِ الدَّعْوَتَيْنِ لَزِمَ الِافْتِتَاحُ بها
هذا إذَا كانت الدَّعْوَةُ لم تَبْلُغْهُمْ فَإِنْ كانت قد بَلَغَتْهُمْ جَازَ لهم
أَنْ يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ من غَيْرِ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِمَا بَيَّنَّا
أَنَّ الْحُجَّةَ لَازِمَةٌ وَالْعُذْرُ في الْحَقِيقَةِ مُنْقَطِعٌ وَشُبْهَةُ
الْعُذْرِ انْقَطَعَتْ بِالتَّبْلِيغِ مَرَّةً لَكِنْ مع هذا الْأَفْضَلُ أَنْ لَا
يَفْتَتِحُوا الْقِتَالَ إلَّا بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ لِرَجَاءِ
الْإِجَابَةِ في الْجُمْلَةِ
وقد رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم لم يَكُنْ يُقَاتِلُ
الْكَفَرَةَ حتى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فِيمَا كان دَعَاهُمْ غير مَرَّةٍ
دَلَّ أَنَّ الِافْتِتَاحَ بِتَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَفْضَلُ ثُمَّ إذَا
دَعَوْهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنْ أَسْلَمُوا كَفُّوا عَنْهُمْ الْقِتَالَ
لِقَوْلِهِ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى
يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فإذا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ
وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا
وَقَوْلِهِ عليه السلام من قال لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي
دَمَهُ وَمَالَهُ فَإِنْ أَبَوْا الْإِجَابَةَ إلَى الْإِسْلَامِ دَعَوْهُمْ إلَى
الذِّمَّةِ إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ لِمَا نَذْكُرُهُ إنْ
شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدُ فَإِنْ أَجَابُوا كَفُّوا عَنْهُمْ لِقَوْلِهِ عليه
السلام فَإِنْ قَبِلُوا عَقْدَ الذِّمَّةِ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ لهم ما
لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ ما على الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ أَبَوْا اسْتَعَانُوا
بِاَللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على قِتَالِهِمْ وَوَثَّقُوا بِعَهْدِ اللَّهِ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى النَّصْرَ لهم بَعْدَ أَنْ بَذَلُوا جُهْدَهُمْ
وَاسْتَفْرَغُوا وُسْعَهُمْ وَثَبَتُوا وَأَطَاعُوا اللَّهَ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى وَرَسُولَهُ صلى اللَّهُ عليه وسلم وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا على ما
قال تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ فِئَةً
فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ
وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مع الصَّابِرِينَ } وَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ وَإِنْ
لم يبدؤوا ( ( ( يبدءوا ) ) ) بِالدَّعْوَةِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } وَسَوَاءٌ كان في
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ أو في غَيْرِهَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقِتَالِ في
الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ السَّيْفِ وَغَيْرِهَا من
آيَاتِ الْقِتَالِ
وَلَا بَأْسَ بِالْإِغَارَةِ وَالْبَيَاتِ عليهم وَلَا بَأْسَ بِقَطْعِ
أَشْجَارِهِمْ الْمُثْمِرَةِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ وَإِفْسَادِ زُرُوعِهِمْ
لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { ما قَطَعْتُمْ من لِينَةٍ أو تَرَكْتُمُوهَا
قَائِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }
أَذِنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِقَطْعِ النَّخِيلِ في صَدْرِ الْآيَةِ
الشَّرِيفَةِ وَنَبَّهَ في آخِرِهَا أَنَّ ذلك يَكُونُ كَبْتًا وَغَيْظًا
لِلْعَدُوِّ بِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى { وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ }
وَلَا بَأْسَ بِإِحْرَاقِ حُصُونِهِمْ بِالنَّارِ وَإِغْرَاقِهَا بِالْمَاءِ
وَتَخْرِيبِهَا وَهَدْمِهَا عليهم وَنَصْبِ الْمَنْجَنِيقِ عليها لِقَوْلِهِ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي
الْمُؤْمِنِينَ } وَلِأَنَّ كُلَّ ذلك من بَابِ الْقِتَالِ لِمَا فيه من قَهْرِ
الْعَدُوِّ وَكَبْتِهِمْ وَغَيْظِهِمْ وَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْأَمْوَالِ لِحُرْمَةِ
أَرْبَابِهَا وَلَا حُرْمَةَ لِأَنْفُسِهِمْ حتى يُقْتَلُونَ فَكَيْفَ
لِأَمْوَالِهِمْ وَلَا بَأْسَ بِرَمْيِهِمْ بِالنِّبَالِ وَإِنْ عَلِمُوا أَنَّ
فِيهِمْ مُسْلِمِينَ من الْأَسَارَى وَالتُّجَّارِ لِمَا فيه من الضَّرُورَةِ إذْ
حُصُونُ الْكَفَرَةِ قَلَّمَا تَخْلُو من مُسْلِمٍ أَسِيرٍ أو تَاجِرٍ
فَاعْتِبَارُهُ يُؤَدِّي إلَى انْسِدَادِ بَابِ
____________________
(7/100)
الْجِهَادِ
وَلَكِنْ يَقْصِدُونِ بِذَلِكَ الْكَفَرَةَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ في الْقَصْدِ إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَكَذَا إذَا تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ
إلَيْهِمْ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ لَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْكُفَّارَ
دُونَ الْأَطْفَالِ فَإِنْ رَمَوْهُمْ فَأَصَابَ مُسْلِمًا فَلَا دِيَةَ وَلَا
كَفَّارَةَ
وقال الْحَسَنُ بن زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وهو
أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ أَنَّ دَمَ الْمُسْلِمِ مَعْصُومٌ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ
يُمْنَعَ من الرَّمْيِ إلَّا أَنَّهُ لم يُمْنَعْ لِضَرُورَةِ إقَامَةِ الْفَرْضِ
فَيَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَالضَّرُورَةُ في رَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لَا
في نَفْيِ الضَّمَانِ كَتَنَاوُلِ مال ( ( ( ماء ) ) ) الْغَيْرِ حَالَةَ
الْمَخْمَصَةِ أنه رَخَّصَ له التَّنَاوُلَ لَكِنْ يَجِبُ عليه الضَّمَانُ لِمَا
ذَكَرنَا كَذَلِكَ ههنا
وَلَنَا أَنَّهُ كما مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى دَفْعِ الْمُؤَاخَذَةِ لِإِقَامَةِ
فَرْضِ الْقِتَالِ مَسَّتْ الضَّرُورَةُ إلَى نَفْيِ الضَّمَانِ أَيْضًا لِأَنَّ
وُجُوبَ الضَّمَانِ يَمْنَعُ من إقَامَةِ الْفَرْضِ لِأَنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ منه
خَوْفًا من لُزُومِ الضَّمَانِ
وَإِيجَابِ ما يَمْنَعُ من إقَامَةِ الْوَاجِبِ مُتَنَاقِضٌ وَفَرْضُ الْقِتَالِ
لم يَسْقُطْ
دَلَّ أَنَّ الضَّمَانَ سَاقِطٌ بِخِلَافِ حَالَةِ الْمَخْمَصَةِ
لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ من التَّنَاوُلِ
لِأَنَّهُ لو لم يَتَنَاوَلْ لَهَلَكَ
وَكَذَا حَصَلَ له مِثْلُ ما يَجِبُ عليه فَلَا يَمْنَعُ من التَّنَاوُلِ فَلَا
يُؤَدِّي إلَى التَّنَاقُضِ
وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِالْكُفَّارِ على قِتَالِ
الْكُفَّارِ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ غَدْرُهُمْ
إذْ الْعَدَاوَةُ الدِّينِيَّةُ تَحْمِلُهُمْ عليه إلَّا إذَا اُضْطُرُّوا
إلَيْهِمْ
وَاَللَّهُ تعالى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَحِلُّ قَتْلُهُ من الْكَفَرَةِ وَمَنْ لَا يَحِلُّ
فَنَقُولُ الْحَالُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ حَالَ الْقِتَالِ أو حَالَ ما
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ
وَهِيَ ما بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ
أَمَّا حَالَ الْقِتَالِ فَلَا يَحِلُّ فيها قَتْلُ امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا
شَيْخٍ فَانٍ وَلَا مُقْعَدٍ وَلَا يَابِسِ الشِّقِّ
وَلَا أَعْمَى وَلَا مَقْطُوعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ من خِلَافٍ وَلَا مَقْطُوعِ
الْيَدِ الْيُمْنَى وَلَا مَعْتُوهٍ وَلَا رَاهِبٍ في صَوْمَعَةٍ وَلَا سَائِحٍ في
الْجِبَالِ لَا يُخَالِطُ الناس وَقَوْمٍ في دَارٍ أو كَنِيسَةٍ تَرَهَّبُوا
وَطَبَقَ عليهم الْبَابُ
أَمَّا الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ فَلِقَوْلِ النبي صلى الله عليه وسلم لَا
تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلَا وَلَيَدًا وَرُوِيَ أَنَّهُ عليه الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ رَأَى في بَعْضِ غَزَوَاتِهِ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَأَنْكَرَ ذلك
وقال صلى الله عليه وسلم هَاهْ ما أُرَاهَا قَاتَلَتْ فَلِمَ قُتِلَتْ وَنَهَى عن
قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ
وَلِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من أَهْلِ الْقِتَالِ فَلَا يُقْتَلُونَ
وَلَوْ قَاتَلَ وَاحِدٌ منهم قُتِلَ
وَكَذَا لو حَرَّضَ على الْقِتَالِ أو دَلَّ على عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ أو كان
الْكَفَرَةُ يَنْتَفِعُونَ بِرَأْيِهِ أو كان مُطَاعًا وَإِنْ كان امْرَأَةً أو
صَغِيرًا لِوُجُودِ الْقِتَالِ من حَيْثُ الْمَعْنَى وقد رُوِيَ أَنَّ رَبِيعَةَ
بن رَفِيعٍ السُّلَمِيَّ رضي اللَّهُ عنه أَدْرَكَ دُرَيْدَ بن الصِّمَّةِ يوم
حُنَيْنٌ فَقَتَلَهُ وهو شَيْخٌ كَبِيرٌ كَالْقَفَّةِ لَا ينتفع ( ( ( ينفع ) ) )
إلَّا بِرَأْيِهِ فَبَلَغَ ذلك رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم ولم
يُنْكِرْ عليه
وَالْأَصْلُ فيه أَنَّ كُلَّ من كان من أَهْلِ الْقِتَالِ يَحِلُّ قَتْلُهُ
سَوَاءٌ قَاتَلَ أو لم يُقَاتِلْ وَكُلُّ من لم يَكُنْ من أَهْلِ الْقِتَالِ لَا
يَحِلُّ قَتْلُهُ إلَّا إذَا قَاتَلَ حَقِيقَةً أو مَعْنًى بِالرَّأْيِ
وَالطَّاعَةِ وَالتَّحْرِيضِ وَأَشْبَاهِ ذلك على ما ذَكَرْنَا
فَيُقْتَلُ الْقِسِّيسُ وَالسَّيَّاحُ الذي يُخَالِطُ الناس وَاَلَّذِي يُجَنُّ
وَيُفِيقُ وَالْأَصَمُّ وَالْأَخْرَسُ وَأَقْطَعُ الْيَدِ الْيُسْرَى وَأَقْطَعُ
إحْدَى الرِّجْلَيْنِ وَإِنْ لم يُقَاتِلُوا لِأَنَّهُمْ من أَهْلِ الْقِتَالِ
وَلَوْ قُتِلَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ فَلَا
شَيْءَ فيه من دِيَةٍ وَلَا كَفَّارَةٍ إلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ
لِأَنَّ دَمَ الْكَافِرِ لَا يَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْأَمَانِ ولم يُوجَدْ وَأَمَّا
حَالَ ما بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ وَهِيَ ما بَعْدَ الْأَسْرِ وَالْأَخْذِ
فَكُلُّ من لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ في حَالِ الْقِتَالِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ بَعْدَ
الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ وَكُلُّ من يَحِلُّ قَتْلُهُ في حَالِ الْقِتَالِ إذَا
قَاتَلَ حَقِيقَةً أو مَعْنًى يُبَاحُ قَتْلُهُ بَعْدَ الْأَخْذِ وَالْأَسْرِ
إلَّا الصَّبِيَّ وَالْمَعْتُوهَ الذي لَا يَعْقِلُ فإنه يُبَاحُ قَتْلُهُمَا في
حَالِ الْقِتَالِ إذَا قَاتَلَا حَقِيقَةً وَمَعْنًى وَلَا يُبَاحُ قَتْلُهُمَا
بَعْدَ الْفَرَاغِ من الْقِتَالِ إذَا أُسِرَا وَإِنْ قَتَلَا جَمَاعَةً من
الْمُسْلِمِينَ في الْقِتَالِ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْأَسْرِ بِطَرِيقِ
الْعُقُوبَةِ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِ الْعُقُوبَةِ فَأَمَّا الْقَتْلُ في
حَالَةِ الْقِتَالِ فَلِدَفْعِ شَرِّ الْقِتَالِ وقد وُجِدَ الشَّرُّ مِنْهُمَا
فَأُبِيحَ قَتْلُهُمَا لِدَفْعِ الشَّرِّ وقد انْعَدَمَ الشَّرُّ بِالْأَسْرِ
فَكَانَ الْقَتْلُ بَعْدَهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَهُمَا لَيْسَا من أَهْلِهَا
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يبتدىء أَبَاهُ الْكَافِرَ الْحَرْبِيَّ بِالْقَتْلِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } أَمَرَ
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمُصَاحَبَةِ الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ
بِالْمَعْرُوفِ وَالِابْتِدَاءُ بِالْقَتْلِ ليس من الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ
وَرُوِيَ أَنَّ حَنْظَلَةَ رضي اللَّهُ عنه غَسِيلَ الْمَلَائِكَةِ عليهم
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللَّهُ عليه وسلم في
قَتْلِ أبيه فَنَهَاهُ عليه الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ
بِإِحْيَائِهِ بِالنَّفَقَةِ عليه فَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فيه إفْنَاؤُهُ يَكُونُ
مُتَنَاقِضًا فَإِنْ قَصَدَ الْأَبُ قَتْلَهُ
____________________
(7/101)
يَدْفَعْهُ
عن نَفْسِهِ وَإِنْ أتى ذلك على نَفْسِهِ وَلَا يُكْرَهُ ذلك لِأَنَّهُ من
ضَرُورَاتِ الدَّفْعِ وَلَكِنْ لَا يَقْصِدُ بِالدَّفْعِ الْقَتْلَ لِأَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ إلَى الْقَصْدِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ من يَسَعُ تَرْكُهُ في دَارِ الْحَرْبِ مِمَّنْ لَا
يَحِلُّ قَتْلُهُ وَمَنْ لَا يَسَعُ فَالْأَمْرُ فيه لَا يَخْلُو من أَحَدِ
وَجْهَيْنِ إما إذَا كان الْغُزَاةُ قَادِرِينَ على عَمَلِ هَؤُلَاءِ
وَإِخْرَاجِهِمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وإما إنْ لم يَقْدِرُوا عليه فَإِنْ
قَدِرُوا على ذلك فَإِنْ كان الْمَتْرُوكُ مِمَّنْ يُولَدُ له وَلَدٌ لَا يَجُوزُ
تَرْكُهُمْ في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ في تَرْكِهِمْ في دَارِ الْحَرْبِ عَوْنًا
لهم على الْمُسْلِمِينَ بِاللِّقَاحِ وَإِنْ كان مِمَّنْ لَا يُولَدُ له وَلَدٌ
كَالشَّيْخِ الْفَانِي الذي لَا قِتَالَ عِنْدَهُ وَلَا لِقَاحَ فَإِنْ كان ذَا
رَأْيٍ وَمَشُورَةٍ فَلَا يُبَاحُ تَرْكُهُ في دَارِ الْحَرْبِ لِمَا فيه من
الْمَضَرَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِينُونَ على الْمُسْلِمِينَ
بِرَأْيِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ له رَأْيٌ فَإِنْ شاؤوا تَرَكُوهُ فإنه لَا مَضَرَّةَ
عليهم في تَرْكِهِ وَإِنْ شاؤوا أَخْرَجُوهُ لِفَائِدَةِ الْمُفَادَاةِ على قَوْلِ
من يَرَى مُفَادَاةَ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ
وَعَلَى قَوْلِ من لَا يَرَى لَا يُخْرِجُونَهُمْ لِمَا أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ في
إخْرَاجِهِمْ وَكَذَلِكَ الْعَجُوزُ التي لَا يُرْجَى وَلَدُهَا وَكَذَلِكَ
الرُّهْبَانُ وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ إذَا كَانُوا حُضُورًا لَا يَلْحَقُونَ
وَإِنْ لم يَقْدِرْ الْمُسْلِمُونَ على حَمْلِ هَؤُلَاءِ وَنَقْلِهِمْ إلَى دَارِ
الْإِسْلَامِ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ وَيُتْرَكُونَ في دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ
الشَّرْعَ نهى عن قَتْلِهِمْ وَلَا قُدْرَةَ على نَقْلِهِمْ فَيُتْرَكُونَ
ضَرُورَةً
وَأَمَّا الْحَيَوَانُ وَالسِّلَاحُ إذَا لم يَقْدِرُوا على الْإِخْرَاجِ إلَى
دَارِ الْإِسْلَامِ أَمَّا الْحَيَوَانُ فَيُذْبَحُ ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ
لِئَلَّا يُمْكِنَهُمْ الِانْتِفَاعُ بِهِ وَأَمَّا السِّلَاحُ فما يُمْكِنُ
إحْرَاقُهُ بِالنَّارِ يُحْرَقُ وما لَا يَحْتَمِلُ الْإِحْرَاقَ كَالْحَدِيدِ
وَنَحْوِهِ فَيُدْفَنُ بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَجِدُوهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يُكْرَهُ حَمْلُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وما لَا يُكْرَهُ
فَنَقُولُ ليس لِلتَّاجِرِ أَنْ يَحْمِلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ما يَسْتَعِينُ
بِهِ أَهْلُ الْحَرْبِ على الْحَرْبِ من الْأَسْلِحَةِ وَالْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ
من أَهْلِ الذِّمَّةِ وَكُلِّ ما يُسْتَعَانُ بِهِ في الْحَرْبِ لِأَنَّ فيه
إمْدَادَهُمْ وَإِعَانَتَهُمْ على حَرْبِ الْمُسْلِمِينَ
قال اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا على الْإِثْمِ
وَالْعُدْوَانِ } فَلَا يُمَكَّنُ من الْحَمْلِ
وَكَذَا الْحَرْبِيُّ إذَا دخل دَارَ الْإِسْلَامِ لَا يُمَكَّنُ من أَنْ
يَشْتَرِيَ السِّلَاحَ
وَلَوْ اشْتَرَى لَا يُمَكَّنُ من أَنْ يُدْخِلَهُ دَارَ الْحَرْبِ لِمَا قُلْنَا
إلَّا إذَا كان دخل ( ( ( داخل ) ) ) دَارِ الْإِسْلَامِ بِسِلَاحٍ
فَاسْتَبْدَلَهُ فَيُنْظَرُ في ذلك إنْ كان الذي اسْتَبْدَلَهُ خِلَافَ جِنْسِ
سِلَاحِهِ بِأَنْ اُسْتُبْدِلَ الْقَوْسُ بِالسَّيْفِ وَنَحْوُ ذلك لَا يُمَكَّنُ
من ذلك أَصْلًا
وَإِنْ كان من جِنْسِ سِلَاحِهِ فَإِنْ كان مثله أو أَرْدَأَ منه يُمَكَّنُ منه
وَإِنْ كان أَجْوَدَ منه لَا يُمَكَّنُ منه لِمَا قُلْنَا وَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ
الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالطَّعَامِ وَنَحْوِ ذلك إلَيْهِمْ لِانْعِدَامِ
مَعْنَى الْإِمْدَادِ وَالْإِعَانَةِ
وَعَلَى ذلك جَرَتْ الْعَادَةُ من تُجَّارِ الأمصار ( ( ( الأعصار ) ) ) أَنَّهُمْ
يَدْخُلُونَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ من غَيْرِ ظُهُورِ الرَّدِّ
وَالْإِنْكَارِ عليهم إلَّا أَنَّ التَّرْكَ أَفْضَلُ لِأَنَّهُمْ يَسْتَخِفُّونَ
بِالْمُسْلِمِينَ وَيَدْعُونَهُمْ إلَى ما هُمْ عليه فَكَانَ الْكَفُّ
وَالْإِمْسَاكُ عن الدُّخُولِ من بَابِ صِيَانَةِ النَّفْسِ عن الْهَوَانِ
وَالدِّينِ عن الزَّوَالِ فَكَانَ أَوْلَى
وَأَمَّا الْمُسَافَرَةُ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُنْظَرُ
في ذلك إنْ كان الْعَسْكَرُ عَظِيمًا مَأْمُونًا عليه لَا بَأْسَ بِذَلِكَ
لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ
وإذا كان الْعَسْكَرُ عَظِيمًا يَقَعُ الْأَمْنُ عن الْوُقُوعِ في أيد ( ( ( أيدي
) ) ) الْكَفَرَةِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ وَإِنْ لم يَكُنْ مَأْمُونًا عليه
كَالسَّرِيَّةِ يُكْرَهُ الْمُسَافَرَةُ بِهِ لِمَا فيه من خَوْفِ الْوُقُوعِ في
أَيْدِيهِمْ وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ فَكَانَ الدُّخُولُ بِهِ في دَارِ الْحَرْبِ
تَعْرِيضًا لِلِاسْتِخْفَافِ بِالْمُصْحَفِ الْكَرِيمِ
وما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نهى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ
الْعَظِيمِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ مَحْمُولٌ على الْمُسَافَرَةِ في هذه
الْحَالَةِ
وَكَذَلِكَ حُكْمُ إخْرَاجِ النِّسَاءِ مع أَنْفُسِهِمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ على
هذا التَّفْصِيلِ إنْ كان ذلك في جَيْشٍ عَظِيمٍ مَأْمُونٍ عليه غَيْرُ مَكْرُوهٍ
لِأَنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى الطَّبْخِ وَالْغُسْلِ وَنَحْوِ ذلك وَإِنْ كانت
سَرِيَّةً لَا يُؤْمَنُ عليها يُكْرَهُ إخْرَاجُهُنَّ لِمَا قُلْنَا وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ
فَصْلٌ وَأَمَّا بَيَانُ ما يَعْتَرِضُ من الْأَسْبَابِ الْمُحَرِّمَةِ
لِلْقِتَالِ فَنَقُولُ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ
الْأَسْبَابُ الْمُعْتَرِضَةُ الْمُحَرِّمَةُ لِلْقِتَالِ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ
الْإِيمَانُ وَالْأَمَانُ وَالِالْتِجَاءُ إلَى الْحَرَمِ
أَمَّا الْإِيمَانُ فَالْكَلَامُ فيه في مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا في بَيَانِ ما
يُحْكَمُ بِهِ بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا
وَالثَّانِي في بَيَانِ حُكْمِ الْإِيمَانِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَنَقُولُ الطُّرُقُ التي يُحْكَمُ بها بِكَوْنِ الشَّخْصِ مُؤْمِنًا
ثَلَاثَةٌ نَصٌّ وَدَلَالَةٌ وَتَبَعِيَّةٌ
أَمَّا النَّصُّ فَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ بِالشَّهَادَةِ أو بِالشَّهَادَتَيْنِ أو
يَأْتِيَ بِهِمَا مع التبري ( ( ( التبرؤ ) ) ) مِمَّا هو عليه صَرِيحًا وَبَيَانُ
هذه الْجُمْلَةِ أَنَّ الْكَفَرَةَ أَصْنَافٌ أَرْبَعَةٌ صِنْفٌ منهم يُنْكِرُونَ
الصَّانِعَ أَصْلًا وَهُمْ الدَّهْرِيَّةُ الْمُعَطِّلَةُ وَصِنْفٌ منهم ==
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق